المجلد الأول
مقدمات
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
بقلم محمد أيمن الشبراوي:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاْ} [النساء: 1] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70, 71] .
فقد قدمت إلي "دار الحديث" بالقاهرة كتاب "سير أعلام النبلاء" لمؤرخ الإسلام الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، المولود سنة ثمان وأربعين وسبعمائة "673هـ-748هـ". وطلبت مني تحقيقه وخدمته الخدمة العلمية اللائقة بهذا السفر العظيم لتيسير النفع به، وتقريبه إلى جماهير القراء.
ولما كان دأبي وديدني أن لا أشرع في القيام بأي عمل من الأعمال الدنيوية أو الدينية إلا بعد القيام بأداء صلاة الاستخارة؛ فقد استخرت الله -سبحانه وتعالى- لخدمة هذا الكتاب، وكان أن شرح الله صدري للقيام بهذا العمل، ويسر لي سبل تحقيقه وخدمته حتى أنهيت هذا الكتاب في فترة زمنية ليست بالكبيرة نافت على السنة كنت أواصل فيها الليل بالنهار لإنجاز(1/5)
هذا العمل على النحو الذي يرضي جماهير العلماء وطلاب العلم بله المثقفين على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم العلمية. وكان ذلك كله بتيسير من المولى الكريم المنان سبحانه وتعالى، ثم بتذليل أصحاب "دار الحديث" السبل لتيسير إخراجه للناس.
وهذا السفر العظيم الذي نقدمه لجماهير القراء يعد من أعظم كتب التراجم التي تناولت كافة العصور إلى عصر المؤلف. وقد ترجم لكثير من الأعلام في مشارق الأرض ومغاربها.
وشملت تراجم الخلفاء، والملوك، والأمراء، والوزراء, والأطباء، والمحدثين، والفقهاء, والنحاة، والشعراء، والزهاد، والفلاسفة، والمتكلمين إلا أنه قد عني بالمحدثين، وآثرهم على غيرهم لأنه كان عظيم الإكبار والإجلال لهم فهم حملة العلم النبوي، وحراسه الذين يميزون بين صحيح الأحاديث من ضعيفها، ومقبولها من مردودها، فضلا عن أن الكثير منهم من رواة الأحاديث، ودراسة أحوالهم، وبيان مواليدهم ووفياتهم، وشيوخهم وتلامذتهم، وآراء العلماء فيهم مما يترتب عليه دراسة أحوال الأسانيد والحكم عليها بالصحة أو بالضعف، ونحو ذلك.
وقد بلغت عدد التراجم للمترجمين في كتابه "5964" ترجمة. وقد كرر بعض هذه التراجم. وقد ترجم فيه للأعلام منذ بزوغ فجر الإسلام إلى سنة "739هـ". وقد قسم كتابه إلى خمس وثلاثين طبقة. ولم يسر فيه على نسق واحد، فقد استوعبت الطبقة الأخيرة الخامسة والثلاثون ستة وثمانين عاما. بينما كان متوسط الطبقات بين خمسة عشر وستة عشر عاما. وبلغت بعض الطبقات تسع سنوات فقط مثل الطبقة السادسة عشرة. وقد ترجم الذهبي لبعض الملوك والأمراء وإخوتهم وأولادهم وذراريهم في موضع واحد وإن لم يكونوا من نفس طبقاتهم ليجعل القارئ متابعا للأحداث التي عادة ما تكون متصلة. وقد اتبع الذهبي أسلوبا خاصا في صياغة الترجمة؛ فبدأ باسم المترجم ولقبه وكنيته ونسبته، ثم يذكر تاريخ مولده.
ويذكر شيوخه وتلامذته ويذكر مؤلفاته وآثاره العلمية. ثم يذكر مكانته العلمية من خلال أقوال أهل العلم فيه، ثم يذكر تاريخ وفاته. وربا يذكر عدة نقولات في تاريخ الوفاة ويرجح بينها. كما يذكر في آخر الترجمة من مات مع المترجم له في نفس السنة من الأعلام.
وفي كثير من التراجم يذكر الذهبي -رحمه الله- بعض الأحاديث التي وردت من طريق صاحب الترجمة كما يورد بعض أعمال الملوك والخلفاء والأمراء والولاة من فتوحات وغيرها من أعمال. كما يورد نماذج من أشعار الشعراء، ومختارات نثرية من كلام الأدباء. وقد أطال(1/6)
الذهبي تراجم بعض هؤلاء الأعلام حسب قيمتهم وشهرتهم بين العلماء أو منزلتهم ومكانتهم بين الناس الذين هم من بابته1.
وقد أفرد الذهبي الجزأين الأول والثاني للسيرة النبوية، وتراجم الخلفاء الراشدين، ولم يعد صياغتهما بل أحال على كتابه "تاريخ الإسلام" لتؤخذ منه، وتجعل مع كتاب سير أعلام النبلاء.
إن هذا الكتاب العظيم الذي ألفه الحافظ الذهبي وختم به حياته لحقيق بالإكبار والإجلال من كل العلماء المنصفين في مختلف مجالات العلم والمعرفة؛ فجزاه الله عن العلم والعلماء أعظم الأجر والثواب.
وحقيق بأمة فيها هذا الحشد الهائل من العلماء، والمؤرخين، والشعراء أن ينظر إليها بعين الإكبار والإجلال. إنها أمة عظيمة أنجبت علماء أضاءوا بعلمهم الطريق للبشرية، فلا جرم أن يكون هؤلاء العلماء مفخرة للعرب والمسلمين في مختلف العصور والدهور.
ونظرا لهذه المكانة السامقة التي تبوأها الكتاب في المكتبة الإسلامية، فقد وضعت مقدمة ضافية تكون بين يدي هذا الكتاب العظيم تبين:
أولا: نشأة الذهبي وبيئته السياسية والدينية والعلمية.
ثانيا: رحلاته في طلب العلم.
ثالثا: شيوخه.
رابعا: تلامذته.
خامسا: منزلته العلمية، وأقوال العلماء فيه.
سادسا: من آراء الحافظ في العقيدة والفقه والحديث.
سابعا: تصانيفه وآثاره العلمية.
ثامنا: منهجه في كتابه.
__________
1 قال ابن السكيت وغيره: البابة عند العرب: الوجه، والبابات: الوجوه. والمعنى: من الوجه الذي يريده ويصلح له.(1/7)
تاسعا: أهمية كتاب السير بين كتب التراجم.
عاشرا: وفاته.
حادي عشر: نبذة عن محقق الكتاب.
ثاني عشر: منهجنا في تحقيق الكتاب.
الله -عز وجل- أسأل بأني أشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كفوا أحد أن يتقبل مني هذا العمل وسائر أعمالي خالصة لوجهه، وألا يجعل لأحد سواه فيها شيئا، وأن يجعلها ثقيلة ثقيلة في ميزان حسناتي. اللهم لا تعذب لسانا يخبر عنك، ولا عينا تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدما تمشي إلى خدمتك، ولا يدا تكتب حديث رسولك فبعزتك لا تدخلني النار، فقد علم أهلها أني كنت أذب عن دنيك. وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
مصر, المنوفية, قويسنا
في سحر ليلة تاسوعاء من محرم "1427هـ"
الموافق يوم 8 فبراير 2006م
كتبه
محمد أيمن الشبراوي
عفا الله عنه بكرمه ومنه(1/8)
أولا: نشأة الذهبي وبيئته السياسية والدينية والعلمية:
بعد سقوط الشام في قبضة هولاكو التتري، وخيانة ملوك الأيوبيين بمعاونتهم للتتار، كان ذلك فصل الختام لدولة الأيوبيين، وإعلانا لتنازلهم عن حقوقهم في الملك بعد أن تقاعسوا عن حماية ذلك الملك، وصار منطق الأحداث يحتم أن تزول دولة بني أيوب ليرثهم في ملكهم إما التتار وإما المماليك، حسبما تقرر المعركة المنتظرة بين هاتين القوتين.
وفي الوقت الذي أثبتت الأحداث ضعف الأيوبيين وعجزهم عن حماية المسلمين في بلاد الشام من خطر التتار؛ إذ بالمماليك يظهرون على المسرح لينزلوا بالتتار ضربة كبرى في موقعة عين جالوت سنة "1260م"، وبذلك ظهر المماليك في صورة القوى الكبرى في الشرق التي استطاعت أن تحمي كيان أهل مصر والشام من ذلك الخطر الوثني الرهيب.
ولا شك في أن فشل الأيوبيين في صد خطر التتار، ونجاح المماليك في القضاء على ذلك الخطر، جاء بمثابة فصل الخطاب بين المماليك والأيوبيين، وخاتمة لحركة التنافس بين هاتين القوتين على مسرح الشام، بعد أن صار من الواضح أن قوة الأيوبيين المتداعية لن تستطيع بحال الصمود في وجه قوة التتار.
وكان أن استطاعت جيوش المماليك بعد عين جالوت إجلاء التتار عن دمشق, وحماة، وحلب ومطاردتهم حتى أطراف بلاد الشام. ومعنى ذلك أن نفوذ المماليك امتد إلى بلاد الشام فجأة بعد عين جالوت.
وبعد أن استقر للماليك الأوضاع في مصر والشام حرصوا على أن يظهروا أمام أهل مصر والشام في صورة حماة المسلمين وزعمائهم في حركة الجهاد ضد الصليبيين. ولم يلبث سلاطين المماليك أن استأنفوا سياسة الأيوبيين بحيث أنه لم يكد يمضي على قيام دولة المماليك نحوا من أربعين سنة حتى تم طرد الصليبيين نهائيا من بلاد الشام، وبذلك أصبحت لا توجد قوة تهيمن على بلاد الشام غير قوة المماليك.
وقسم بلاد الشام من الناحية الإدارية إلى ستة أقسام تسمى النيابات تخضع للحكومة المركزية في القاهرة. وهذه النيابات هي نيابة دمشق، ونيابة حلب، ونيابة طرابلس، ونيابة حماة، ونيابة صفد، ونيابة الكرك. وقد كان هذا التقسيم ضروريا؛ لأنه يتفق مع طبيعة بلاد الشام الجغرافية.(1/9)
وكان في كل نيابة من نيابات الشام أربعة قضاة يمثلون المذاهب الأربعة، مثلما كان الحال تماما في مصر منذ أيام الظاهر بيبرس هذا فضلا عن الوظائف الأخرى المتعددة التي وجدت في كل نيابة من نيابات الشام والتي كان بعضها يتعلق بأرباب السيوف. والبعض الآخر يتعلق بأرباب القلم، والقسم الثالث يشغل الوظائف الدينية.
وعلى الرغم مما يتمتع به نواب النيابات الشامية من سلطان ونفوذ كبير إلا أنهم كانوا متابعين لسلطنة المماليك في القاهرة، وظل سلطان المماليك هو القوة الكبرى التي تسيطر على مصر والشام وتشرف إشرافا تاما على سير الأمور في مختلف أرجاء الدولة المماليكية الواسعة.
ووجدت ببلاد الشام على عصر سلاطين المماليك عصبيات عنصرية مثل الأكراد والتركمان والأرمن كما وجدت ببلاد الشام في ذلك العصر عصبيات عديدة مذهبية ودينية.
من هذه العصبيات والطوائف: طائفة الكسروانيين، وهم أهل جبال كسروان، وكانوا من النصيرية والعلويين والمتأولة، وكانوا يقفون موقفا عدائيا من المماليك أثناء الصراع بين المماليك والصليبيين بالشام. ومن هذه العصبيات والطوائف: طائفة التنوخيين، وهم عشائر اعتنقت الدرزية وانتشروا في جهات متفرقة في لبنان، وظلوا يتأرجحون بين الولاء للصليبيين حينا وللمسلمين أحيانا كما تأرجحوا بين الولاء للمماليك من ناحية وخصوم المماليك من أيوبيين وتتار من ناحية أخرى. ومنهم طائفة الشهابيين الدروز الذين اشتركوا بنجاح في قتال الصليبيين ثم التتار أثناء إغارتهم على بلاد الشام.
ومنهم طائفة الإسماعيلية ويعرفون أيضا باسم الباطنية، وقد قاموا بدور مشهور في تاريخ بلاد الشام على عصر الحروب الصليبية، ولم يتورعوا عن اغتيال كثير من الشخصيات الإسلامية والصليبية سواء. ولم يرض المماليك عن الباطنية بسبب شذوذهم المذهبي من ناحية، ثم بسبب موقفهم المائع بين الصليبيين والمسلمين من ناحية أخرى لذلك فرض السلطان الظاهر بيبرس ضرائب باهظة على الهدايا التي اعتاد أن يبعث بها الصليبيون إلى شيخ الباطنية، وذلك إفسادا لنواميس الإسماعيلية، وتعجيزا لمن اكتفى شرهم بالهدية. كما كانت طائفة الإسماعيلية تدفع الجزية للسلطان الظاهر بيبرس، وكانوا يضيقون ذرعا بما يحملونه إلى بيت المال من هذه الجزية. وكانوا يطلبون إنقاص هذا المال الذي يدفعونه. وكانت العلاقة سيئة بين السلطان وطائفة الإسماعيلية، ولكن ما لبث السلطان الظاهر أن استولى على حصون(1/10)
الإسماعيلية ببلاد الشام واحدا بعد آخر حتى انتهى أمرهم ببلاد الشام، وأقطعهم السلطان بدلا من قلاعهم الشامية بعض الجهات في مصر ليعيشوا فيها.
لم تكن الشام في عصر المماليك مجرد إقليم الدولة، وإنما كان أهم من ذلك بكثير. لقد كانت بلاد الشام الجناح الأيمن الذي بدونه يتعذر على دولة المماليك الاحتفاظ بكيانها وتوازنها والثبات في وجه الأخطار الأسيوية الضخمة التي هددت تلك الدولة حينا من جانب الأيوبيين والتتار والصليبيين، وأحيانا من جانب الأرمن والتركمان ثم العثمانيين.
وهكذا أدرك سلاطين المماليك منذ أن أقاموا دولتهم في مصر أنه لا بقاء لهم ولا لدولتهم إلا في ظل وحدة تربط بين الشام ومصر تحت حكمهم، وتضمن لهم مراقبة التيارات العديدة التي يمكن أن تؤثر في كيانهم1.
لقد استطاعت دولة المماليك التي قامت في مصر والشام سنة "1250م" أن تثبت أنها أعظم قوة معاصرة في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، فنظر إليها حكام وشعوب الدول الإسلامية والعربية نظرة إكبار وإجلال، في حين نظرت إليها القوى الأخرى -خارج المحيطين العربي والإسلامي- نظرة خوف واحترام. وحسب دولة المماليك أنها استطاعت أن تواجه الأخطار الخارجية التي هددت الوطن العربي في الشرق في شجاعة وبأس فحمت الشام ومصر من خطر التتار، وطردت الصليبيين كلية من أرض الشام بل لاحقتهم في مراكزهم القريبة مثل أرمينية الصغرى، وقبرص، ورودس هذا فضلا عن أن نجاح سلاطين المماليك في إحياء الخلافة العباسية في مصر بعد سقوطها في بغداد جعل لهم ولدولتهم مكانة مرموقة في العالم الإسلامي أجمع، إذ جعلهم يبدون في صورة الزعماء الحقيقيين للعالم الإسلامي أجمع بوصفهم حماة الخلافة المتمتعين ببيعتها2.
ذلك هو الواقع السياسي في تلك الحقبة من الزمن في الشام ومصر.
ولا جرم أن النشاط العلمي في عصر المماليك قد ازدهر، وشجع بعض سلاطين المماليك العلم والعلماء. وقد وصف ابن تغري بردي السلطان الظاهر بيبرس بأنه كان يميل إلى التاريخ وأهله ميلا زائدا ويقول: "سماع التاريخ أعظم من التجارب"3.
__________
1 العصر المماليكي في مصر والشام. الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور "ص200-222".
2 المصدر السابق "ص233".
3 النجوم الزاهرة لابن تغري بردي "ج7 ص182".(1/11)
لقد رعى سلاطين المماليك النشاط العلمي، فأنشئوا المدارس، فضلا عن المؤسسات الأخرى التي قامت أحيانا بوظيفة المدارس مثل المساجد. والمعروف أن السلطان صلاح الدين عني عناية خاصة بإنشاء المدارس وأنشأ بعض المدارس الشهيرة مثل المدرسة الناصرية والمدرسة الصلاحية والمدرسة القمحية. ولكن إذا كان صلاح الدين وخلفاؤه من بني أيوب قد استهدفوا من إنشاء المدارس أن تكون قبل كل شيء مراكز لنشر المذهب السني ومحاربة العقيدة الشيعية في البلاد؛ فإن سلاطين المماليك أكثروا من إنشاء المدارس إظهارا لشعور التقوى والزلفى من ناحية، وليتخذوا من المدرسة أداة تضمن بقاء الحكم في أيديهم، وتساعدهم على تدعيم مراكزهم في أعين الشعب.
ومن المدارس العديدة التي أسسها سلاطين الممالك المدرسة الظاهرية نسبة إلى السلطان الظاهر بيبرس الذي وضع أساسها سنة "1261م". وألحق بتلك المدرسة خزانة كتب جليلة تشتمل على مجموعة ضخمة من المراجع في مختلف العلوم. كما أنشأ المماليك مدارس كثيرة في بقاع كثيرة في مصر والشام والحجاز.
ولقد كان النشاط الديني في عصر المماليك موجها لخدمة المذهب السني ومحاربة المذهب الشيعي. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها صلاح الدين الأيوبي ومن خلفه من سلاطين بني أيوب لمحاربة الشيعة والتشيع في مصر إلا أن الكثير من آثار المذهب الشيعي ظلت قائمة في عصر المماليك.
وقد لجأ سلاطين المماليك إلى استخدام العنف أحيانا لكبت الشيعة. وأمر السلطان الظاهر بيبرس "1267م-665هـ" باتباع المذاهب السنية الأربعة وتحريم ما عداها كما أمر بألا يولى قاض ولا تقبل شهادة أحد، ولا يرشح لإحدى وظائف الخطابة أو الإمامة أو التدريس ما لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب1.
وفي عصر سلاطين المماليك انتشر التصوف انتشارا واسعا واتسع نطاقه، فساد الجهل والاعتقاد بالخرافات والترهات، وانتشرت الشركيات فذبحت الذبائح عند القبور، وقدمت النذور لأصحابها. واهتم المماليك بهؤلاء الصوفية، وكان لهم اعتقاد فيهم، فكان للظاهر بيبرس المتوفي سنة "676هـ" شيخ اسمه الخضر بن أبي بكر بن موسى العدوى، كان صاحب
__________
1 الدرر الكامنة لابن حجر "ج2 ص46".(1/12)
حال، ونفس مؤثرة، وهمة إبليسية، وحال كاهني، وكان الظاهر بيبرس يعظمه، ويزوره أكثر من مرة في الأسبوع، ويطلعه على أسراره، ويستصحبه في أسفاره لاعتقاده التام به1.
وانتشرت الخرافات والخزعبلات والأباطيل، وساد تقديس هؤلاء المخرفين من الأشياخ.
في هذه البيئة ولد الحافظ ومؤرخ الإسلام شَمْس الدِّيْنِ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ عُثْمَانَ بن قايماز سنة ثلاث وسبعين وستمائة. وأصله تركماني، من أسرة تركمانية تنتهي بالولاء إلى بني تيم.
وقد نشأ الذهبي -رحمه الله- في عائلة علمية متدينة؛ فوالده أحمد بن عثمان بن قايماز ابن الشيخ عبد الله التركماني، الفارقي الأصل -وهي من أشهر مدن ديار بكر- ثم الدمشقي، شهاب الدين الذهبي. قال الحافظ في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 75-76":
والدي أحسن الله جزاءه ولد سنة إحدى وأربعين وستمائة تقريبا "641هـ-1243م" وبرع في دق الذهب وحصل منه ما أعتق منه خمس رقاب، وسمع الصحيح في سنة ست وستين وستمائة "666هـ-1267م" من المقداد القيسي، وحج في أواخر عمره. وكان يقوم من الليل، وتوفي في آخر جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وستمائة "697هـ-15 مارس 1298م" ليلة الجمعة وصلى عليه الخلق يؤمهم قاضي القضاة ابن جماعة.
وكان جده عثمان بن قايماز بن عبد الله التركماني الفارقي ثم الدمشقي نجارا. قال الحافظ الذهبي عنه في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 436":
رجل أمي حسن اليقين بالله -والله يغفر له- سمعت الشيخ أبا الحسن بن العطار يقول لي: كان جدك الفخر يسأل الله أن يتوفاه ليلة الجمعة، فأعطاه الله ذلك. قلت -أي الحافظ الذهبي: شهدت دفنه بسفح قاسيون عقيب الجمعة في سنة ثلاث وثمانين "683هـ-1284م". وكان يرحمه الله يدميني في النطق بالراء فيقول: قل "جرة برا جرة جوا" وكثيرا ما كنت أسمعه يقول: يا مدبري ولم أدر. مات في عشر السبعين، ومات أبوه الحاج قايماز في سنة إحدى وستين وستمائة "661هـ-1263م" وقد أضر ودخل في الهرم وجاوز المائة بيسير.
وأما خاله, وقد كان من مشايخه الذي أوردهم في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 27-
__________
1 تاريخ الإسلام للذهبي.(1/13)
28" وقال: علي بن سنجر بن عبد الله الموصلي ثم الدمشقي الذهبي، الحاج المبارك أبو إسماعيل خالي. مولده سنة ثمان وخمسين وستمائة "658هـ1260م".
وسمع بإفادة مؤدبه ابن الخباز من أبي بكر الأنماطي، وبهاء الدين أيوب الحنفي، وست العرب الكندية وسمع معي ببعلبك من التاج عبد الخالق وجماعة. وكان ذا مروءة وكد على عياله وخوف من الله. توفي في الثَّالِثَ وَالعِشْرِيْنَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلاَثِيْنَ وسبعمائة "736هـ1336م".
وكان زوج خالته فاطمة، وهو من شيوخه الذين أوردهم في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 68" فقال -رحمه الله: أحمد بن عبد الغني بن عبد الكافي بن عبد الوهاب بن محمد بن أبي الفضل الأنصاري الذهبي ابن الحرستاني. مات بمصر سنة سبعمائة "700هـ-1300م" في عشر الستين، وهو زوج خالتي فاطمة، وكان حافظا للقرآن كثير التلاوة.
وكانت عمته وهي من شيوخه التي أوردها في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 284-285": قال الحافظ -رحمه الله: ست الأهل بنت عثمان بن قايماز بن عبد الله، أم محمد، مولدها في ذي القعدة سنة ثلاثة وخمسين وستمائة "653هـ-1255م"، وهي أمي من الرضاعة.
أجاز لها ابن أبي اليسر, وجمال الدين بن مالك، وزهير بن عمر الزرعي، وجماعة.
وسمعت من عمر بن القواس، وغيره.
أقعدت مدة وتوفيت سنة تسع وعشرين في شعبان "729هـ-1329م".
وكان شيخه ومؤدبه كما قال في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 52-53":
علي بن محمد الحلبي علاء الدين البصبص، مؤدبي. كان من أحسن الناس خطا وأخبرهم بتعليم الصبيان. أقمت في مكتبه أعوام، وتعلم عنده خلائق، ولم يكن في دينه بذاك. مات في حدود سنة تسعين وستمائة "690هـ-1291م" عن نحو من ثمانين سنة.
وأنشده مؤدبه علي بن محمد في سنة اثنين وثمانين وستمائة "682هـ-1291م" شعرا لأبي محمد القاسم بن علي الحريري.
ثم اتجه الذهبي بعد ذلك إلى شيخ آخر، قال في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 339-(1/14)
340": مسعود بن عبد الله الأغزازي المقرئ الصالح. لقنني جميع القرآن ثم جردت عليه نحوا من أربعين ختمة، وقال لي: إنه قرأ لأبي عمر على الشيخ زين الدين الزواوي. وكان خيرا متواضعا، لقن خلقا. وكان إمام مسجد بالشاغور. مات في سنة عشرين وستمائة [620هـ-1223م] وله ست وثمانون سنة.
ذلكم هي البيئة العلمية التي نشأ الحافظ الذهبي -رحمه الله- في أحضانها وترعرع فيها وشرب منها حتى اشتد عوده.
لقد بدأ الذهبي -رحمه الله- في طلب العلم في سن الثانية عشرة، فتعلم القراءات.
قال -رحمه الله- في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 135" عن شيخه الذي درس عليه القراءات: إبراهيم بن داود بن ظافر بن ربيعة، شيخنا جمال الدين أبو إسحاق العسقلاني ثم الدمشقي الفاضلي الشافعي شيخ القراء.
مولده في صفر سنة اثنتين وعشرين وستمائة "622هـ-1125م" وسمع من ابن الزبيدي، وابن اللتي، والإربلي، ومن بعدهم، وصحب الشيخ علم الدين السخاوي مدة وجمع عليه بالسبع سبع ختم وانتفع به وتصدر للإقراء بالتربة الصالحية بعد ابن أبي زهران ثم حصل له فالج فكان يقرئ بمنزله، فقصدته في سنة إحدى وتسعين وستمائة "691هـ-1291م" أنا، وابن بضحان، وابن غدير، وشمس الدين الزنجبيلي. وشرع كل منا في الجمع الكبير -وهي القراءة الجامعة للروايات السبع- فانتهيت عليه إلى أواخر القصص، وأجاز لي مروياته، وأنشدنا أشياء منها نونية السخاوي. وسمعت منه بعض شرح الشاطبية بسماعه من السخاوي.
كما قرأ أيضا الجمع الكبير على شيخه إبراهيم بن غالي بن شاور البدوي الحميري الشافعي المتوفى سنة "708هـ" كما ذكر في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 148-149".
كما قرأ أيضا القراءات السبع على شيخه أبي عبد الله بن جبريل المصري قال الحافظ الحسيني في "ذيل تذكرة الحفاظ" "ص36": وقد جمع القراءات السبع على الشيخ أبي عبد الله بن جبريل المصري نزيل دمشق، فقرأ عليه ختمة جامعة لمذاهب القراء السبعة بما اشتمل عليه كتاب التيسير لأبي عمرو الداني، وكتاب حرز الأماني لأبي القاسم الشاطبي.
لقد أصبح الحافظ الذهبي وهو لم يتجاوز العشرين من عمره عالما في القراءات، فأجازه(1/15)
شيخ القراءات محمد بن أحمد بن خليل بن سعادة، قاضي القضاة شهاب الدين أبو عبد الله الدمشقي الشافعي. فقال في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 144" عنه: هو إمام بارع متفنن مصنف حاو للفضائل. ولد سنة ست وعشرين وستمائة "626هـ1229م" وسمع من ابن اللتي، والسخاوي، وابن الصلاح، وغيرهم وأجاز له خلق كثير جلست بين يديه وسألني عن غير ما مسألة من القراءات، فمن الله وأجبته، وشهد في إجازتي من الحاضرين وأجاز لي مروايته. مات في رمضان سنة ثلاث وتسعين وستمائة "693هـ-1294م".
واستمر الحافظ -رحمه الله- في دراسة علم القراءات، فتعلم من شيخه محمد بن جوهر ابن محمد بن مالك المقرئ المجود، أبي عبد الله التلعفري الصوفي الملقن المولود سنة خمس عشرة وستمائة "615هـ-1218م". وكان قد جود القرآن على أبي إسحاق بن وثيق الأندلسي كما صنف مقدمة في التجويد كتبها الحافظ الذهبي عنه في سنة إحدى وتسعين وستمائة "691هـ-1296م" كما درس القراءات السبع على شيخه محمد بن منصور بن موسى الإمام المقرئ النحوي شمس الدين أبي عبد الله الحلبي الحاضري الشافعي، أحد المتصدرين بالعادلية وبالجامع الأموي.
قال الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 290-291": قرأ بجماعة، كتب على الكمال الضرير، والدهان. ولازم ابن مالك، وأخذ عنه جملة من العربية. قرأت عليه بالسبع أنا وابن غدير. مات في صفر سنة سبعمائة "700هـ-1301م" وقد قارب السبعين.
لقد أصبح الحافظ الذهبي عالما في القراءات، فترى الحافظ الإمام المقرئ محمد بن عبد العزيز الدمياطي ينزل له عن حلقته. قال الحافظ في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 218":
أكملت على شيخنا الإمام المقرئ محمد بن عبد العزيز الدمياطي القراءات أنا، وابن غدير، والشيخ بدر الدين. وكان حسن الأخلاق طويل الروح، نزل لي عن حلقته في مرضه الذي مات فيه سنة "693هـ-1293م".
وطلب الحافظ الذهبي -رحمه الله- الحديث وله ثماني عشرة سنة فسمع بدمشق من عمر ابن القواس، وأحمد بن هبة الله بن عساكر، ويوسف بن أحمد الغسولي، وغيرهم.
وببعلبك من عبد الخالق بن علوان، وزينب بنت عمر بن كندي، وغيرهما.
وبمصر من الأبرقوهي، وعيسى بن عبد المنعم بن شهاب، وشيخ الإسلام ابن دقيق العيد، والحافظين أبي محمد الدمياطي، وأبي العباس بن الظاهري، وغيرهم.(1/16)
ولما دخل إلى شيخ الإسلام ابن دقيق العيد، وكان المذكور شديد التحري في الإسماع، قال له: من أين جئت؟ قال: من الشام، قال: بم تعرف؟ قال: بالذهبي, قال: من أبو طاهر الذهبي؟ فقال له: المخلص، فقال: أحسنت، فقال: من أبو محمد الهلالي؟ قال: سفيان بن عيينة، قال: أحسنت، اقرأ، ومكنه من القراءة عليه حينئذ إذ رآه عارفا بالأسماء.
وسمع بالإسكندرية من أبي الحسن علي بن أحمد الغرافي، وأبي الحسن يحيى بن أحمد بن الصواف، وغيرهما.
وبمكة من التوزري وغيره.
وبحلب من سنقر الزيني وغيره.
وبنابلس من العماد بن بدران.
وأجاز له أبو زكريا ابن الصيرفي، وابن أبي الخير، والقطب ابن عصرون، والقاسم بن الإربلي.
وفي شيوخه كثرة، فلا نطيل بتعدادهم.
وسمع منه الجمع الكثير، وما زال يخدم هذا الفن إلى أن رسخت فيه قدمه، وتعب الليل والنهار وما تعب لسانه وقلمه، وضربت باسمه الأمثال، وسار اسمه مسير الشمس، إلا أنه لا يتقلص إذا نزل المطر، ولا يدبر إذا أقبلت الليالي.
وأقام بدمشق يرحل إليه من سائل البلاد، وتناديه السؤالات من كل ناد، وهو بين أكنافها كنف لأهلها، وشرف تفتخر وتزهى به الدنيا وما فيها, طورا تراها ضاحكة عن تبسم أزهارها وقهقهة غدرانها، وتارة تلبس ثوب الوقار والفخار، بما اشتملت عليه من إمامها المعدود في سكانها1.
وقال الحافظ السيوطي في "ذيله على تذكرة الحفاظ" "ص347-348": طلب الحديث وله ثماني عشرة سنة، فسمع الكثير، ورحل وعنى بهذا الشأن، وتعب فيه، وخدمه إلى أن رسخت فيه قدمه، وتلا بالسبع, وأذعن له الناس حكى عن شيخ الإسلام أبي الفضل ابن حجر أنه قال: شربت ماء زمزم لأصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ ... والذي أقوله: إن
__________
1 طبقات الشافعية للسبكي "9/ 102-103".(1/17)
المحدثين عيال الآن في الرجال وغيرها من فنون الحديث على أربعة: المزي، والذهبي، والعراقي، وابن حجر.
ثانيا: رحلاته في طلب العلم
رحل الحافظ الذهبي -رحمه الله- وسمع الكثير من المشايخ كما ذكر في "معجم شيوخه الكبير"، وغيره من كتبه؛ فرحل إلى بعلبك، وطرابلس، والكرك، ومصر، وبلبيس، والإسكندرية، ومكة، وغيرها فرحل إلى بعلبك، وسمع من شيخه سعد بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بن يَحْيَى بنِ عبد الصمد، أبي القاسم العلوي الحسيني كما قال في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 264".
كما سمع ببعلبك أيضا من خاله أبي إسماعيل علي بن سنجر بن عبد الله الموصلي ثم الدمشقي الذهبي المتوفى سنة "436هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 27-28".
وسمع من عمر بن يحيى بن أبي بكر بن طرخان أبي حفص المعري ثم البعلبكي المتوفى سنة "699هـ" كما قال في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 81-82".
كما سمع من عبد القادر بن أبي الحسن علي بن محمد بن الحسين اليونيني البعلي الحنبلي، كما في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 407".
كما رحل الحافظ إلى طرابلس، وسمع من شيخه علي بن سليم بن ربيعة الأنصاري الأذرعي القاضي ضياء الدين، أبي الحسن الشافعي المتوفى سنة "731هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 27".
وسمع من شيخه علي بن محمد بن سليمان بن حمائل المقدسي ثم الدمشقي المتوفى سنة "737هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 41".
ومن الشيخة فاطمة بنت محمد بن طرخان الصالحية، أم محمد المتوفاة سنة "729هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 113".
كما سافر -رحمه الله- إلى الكرك، وسمع من شيخه عبد الحميد بن محمد بن عبد الحميد الحنبلي، وقال الحافظ الذهبي: قرأت عليه بالكرك شيئا من صحيح مسلم عن ابن عبد الدائم، وكان شابا فاضلا مات بمصر سنة بضع وسبعمائة. قاله في "معجم شيوخه الكبير "1/ 351".(1/18)
وسمع أيضا من شيخه عمر بن عبيد الله بن الجمال أبي حمزة أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي، المتوفى سنة "733هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 77"، وسمع من شيوخ آخرين ذكرهم في "معجم شيوخه الكبير"، وتذكرة الحفاظ.
ورحل إلى مصر، وسمع بالقاهرة من الحافظ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن شرف الدمياطي، المتوفى سنة "705هـ" كما في تذكرة الحفاظ "4/ ص1477-1479"، و"معجم شيوخه الكبير" "1/ 424"، ومن أَحْمَدُ بنُ إِسْحَاقَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ المُؤَيَّدِ بن علي الأبرقوهي، المتوفى سنة "701هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 37-38".
ومن عبد الرحيم بن عبد المحسن بن ضرغام، وغيره كما في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 69". ورحل إلى الإسكندرية، وسمع من كثير مشايخها من أبرزهم تاج الدين أبي الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ عَبْدِ المُحْسِنِ الهاشمي الحسيني الواسطي الغرافي ثم الإسكندراني، شيخ دار الحديث النبيهية بالإسكندرية المتوفى سنة "704هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 12-13".
وسمع من يحيى بن أحمد بن عبد العزيز بن عبيد الله بن علي بن عبد الباقي الصواف الجذامي الإسكندراني المالكي، المتوفى سنة "705هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 367، 393" ومن عبد الرحمن بن مكي كما في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 32".
ومن عبد الرحمن بن مخلوف بن عبد الرحمن بن جماعة بن رجاء بن أبي القاسم الربعي الإسكندراني المتوفى سنة "722هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 382-383".
ومن عبد الرحمن بن عبد الحليم الدكالي سحنون، المتوفى سنة "695هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 362-363".
كما رحل الحافظ -رحمه الله- إلى بلبيس، وسمع من عدد من علمائها. فسمع من سليمان بن داود بن سليمان بن حمد بن كسا، وهو من أهل بلبيس, ويكنى أبا الربيع "618هـ-697هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 269".
وقد حج الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- سنة "698هـ" كما ذكر في كتابه "تاريخ الإسلام". وسمع من جملة من العلماء بمكة، وعرفة، ومنى، وغيرها. فسمع بعرفة وغيرها من شيخه عبد السلام بن عبد الخالق بن علوان، أبي سعيد البعلبكي المتوفى سنة "703هـ".(1/19)
وقال الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 392": قرأت عليه بعرفة وغيرها مجلس البطاقة. وسمع بمكة من عثمان بن محمد بن عثمان بن أبي بكر التوزري، ثم المصري المالكي المقرئ المحدث المتوفى سنة "713هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 437".
ورحل إلى نابلس وسمع من جملة من علمائها من أبرزهم علي بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنُ عَبْدِ المُنْعِمِ بنِ نِعْمَةَ بنِ سُلْطَانَ بن سرور أبي الحسن المقدسي, شيخ أهل نابلس، المتوفى سنة "702هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 69"، و"2/ 31-32".
وسمع من الإمام عِمَادِ الدِّيْنِ عَبْدِ الحَافِظِ بنِ بَدْرَانَ بنِ شبل بن فرخان النابلسي الحنبلي المتوفى سنة "698هـ" كما ذكره الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 347"، وكما في "ذيل تذكرة الحفاظ" "ص34".
وسمع من السيف، وهو أبو بكر بن أحمد بن عبد الرحمن بن الغابر النابلسي الحنبلي المتوفى سنة "699هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 281".
ثالثا: شيوخه
من الشيوخ الذين عول عليهم الحافظ الذهبي -رحمه الله- وتخرج بهم وعدتهم ستة وثلاثون شيخا كل واحد منهم إمام حافظ ثقة مشهود له بالإتقان ذكرهم الحافظ الذهبي في نهاية كتابه القيم "تذكرة الحفاظ" "4/ ص1500-1508" فقال -رحمه الله تعالى:
1- ولقد انتفعت وتخرجت بشيخنا الإمام المحدث الحافظ الشهيد أبي الحسين علي بن الشيخ الفقيه ببعلبك ولزمته نيفا وسبعين يوما وأكثرت عنه، كان عارفا بقوانين الرواية حسن الدراية جيد المشاركة في الألفاظ والرجال، وانتقل إلى الله -تعالى- في رمضان سنة إحدى وسبعمائة عن إحدى وثمانين سنة، روى لنا عن ابن الزبيدي، وابن اللتي، ومكرم، وجعفر، وأبي نصر بن الشيرازي، وخلق، وكان صاحب رحلة وأصول وأجزاء وكتب ومحاسن. تذكرة الحفاظ "4/ ص1500".
2- ولزمت الشيخ الإمام المحدث مفيد الجماعة أبا الحسن علي بن مسعود بن نفيس الموصلي وسمعت منه جملة، وكان دينا خيرا متصوفا متعففا قرأ ما لا يوصف كثرة، وحصل أصولا كثيرة كان يجوع ويبتاعها، وسمع بمصر والشام عاش سبعين سنة، مات سنة أربع وسبعمائة، ظهر له نصف جزء سمعه من أبي القاسم بن رواحة. تذكرة الحفاظ "4/ ص1500".(1/20)
3- وسمعت من مفيد الطلبة المحدث الإمام المتقن اللغوي صفي الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ثم القرافي الصوفي، قرأ الكثير على المشايخ وكان فصيحا فاضلا كتب شيئا كثيرا وعني بهذا الشأن وبرع في علم اللسان وصنف، روى لنا عن النجيب الحراني، والكمال بن عبد، ومات في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة عن بضع وسبعين سنة رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1500-1501".
4- وسمعت الصحيح بقراءة الإمام العالم الإمام الخطيب البليغ النحوي محدث الشام شرف الدين أحمد بن إبراهيم بن سباع الفزاري الشافعي، وكان فصيحا مفوها عديم اللحن عذب القراءة له أنسة بالأسماء ومعرفة بالألفاظ، ويد في العربية وتواضع وكيس، مات سنة خمس وسبعمائة عن خمس وسبعين سنة رحمه الله تعالى، روى لنا عن السخاوي -وهو أبو الحسن علي بن محمد السخاوي- وجماعة وقرأ الكثير. تذكرة الحفاظ "4/ ص1501".
5- وسمعت الكثير بقراءة الإمام العالم الحافظ مفيد الآفاق مؤرخ العصر علم الدين أبي محمد القاسم بن محمد بن يوسف ابن الأحفظ زكي الدين البرزالي، وبفصاحته وحسن أدائه للحديث يضرب المثل مع الفضيلة والإتقان والتواضع، وحسن البشر، وكثرة الأصول، ولد سنة خمس وستين -يعني بعد الستمائة- وأجاز له ابن عبد الدائم وطبقته وسمع من الشيخ شمس الدين وطبقته، وله في الطلب بضع وخمسون سنة، ومعجمه في مجلدات كبار. توفي محرما في رابع ذي الحجة الحرام سنة تسع وثلاثين -يعني بعد السبعمائة- رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1501".
6- وسمعت مع الشيخ الإمام الفقيه المحدث النحوي بقية السلف شَمْسِ الدِّيْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ أبي الفتح البعلبكي الحنبلي، وكان عالما بالفقه والنحو، وله اعتناء بالمعاني وبالرجال، سمع الكثير وكتب الأجزاء، وخرج وأفاد. روى لنا عن الفقيه اليونيني وابن عبد الدائم وطائفة، توفي سنة تسع وسبعمائة بالقاهرة غريبا، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1501".
7- وسمعت مع الإمام المحدث العابد مفيد الجماعة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن سامة، وكان معنيا بهذا الشأن، فصيح القراءة، كثير الشيوخ، واسع الرحلة خيرا متواضعا، روى لنا عن ابن عبد الدائم، وسمع من أصحاب ابن طبرزذ وهلم جرا، مات في سنة ثمان وسبعمائة عن ست وأربعين سنة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1501-1502".(1/21)
8- وسمعت بمصر وعرفة مع الشيخ الإمام العالم المقرئ الحافظ المحدث مفيد الديار المصرية وشيخها قطب الدين عبد الكريم بن عبد النور بن منير الحلبي ثم المصري أحد من جرد العناية ورحل وتعب وحصل وكتب وأخذ عن أصحاب ابن طبرزذ فمن بعدهم، وصنف التصانيف، وظهرت فضائله مع حسن السمت والتواضع والتدين وملازمة العلم، مولده سنة أربع وتسعين وستمائة. وتوفي في رجب سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1502".
9- وسمعت من الشيخ العلامة الفرضي المحدث الصالح شمس الدين أبي العلاء محمد بن أبي بكر البخاري الحنفي، وَكَانَ أَحَدَ مَنْ عُنِيَ بِهَذَا الشَّأْنِ وَرَحَلَ وكتب وألف، سمعت منه ووقف أجزاءه بالخانقاه. سمع من أبي الدثنة وطبقته ببغداد، ومن الفخر وطبقته بدمشق ومن ابن خطيب المزة بمصر وسمع بالحرمين وبخارى وماردين وخراسان، وكان عالما متقنا أنيق الكتابة، مات بماردين سنة سبعمائة عن ست وخمسين سنة, رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ 1502".
10- وسمعت مع الإمام المفيد المحدث العدل الكبير شمس الدين محمد بن إبراهيم بن غنائم المهندس الصالحي الحنفي الشروطي ابن المهندس، وقد سمع الكثير من أصحاب ابن طبرزذ، وكتب العالي والنازل، ثم ارتحل بأخرة إلى مصر، ونسخ الكتب الكبار، وانتقى على جماعة، سمعنا منه، مولده في سنة خمس وستين وستمائة، ومات في شوال سنة ثلاث وثلاثين -أي وسبعمائة- رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1502".
11- وسمعت من الشيخ الإمام المحدث المفيد المقرئ بقية السلف شيخ الحرم فخر الدين عثمان بن محمد بن عثمان التوزري ثم المصري المالكي، كان قارئ الطلبة بمصر دهرا، قرأ الكتب المطولة، وحصل الأصول، وتلا بالسبع على ابن وثيق، والكمال ابن شجاع، سمع من ابن الجميزي، والسبط، فمن بعدهما حتى أنه أخذ عن ألف شيخ، توفي في ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وسبعمائة بمكة عن ثلاث وثمانين سنة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1502-1503".
12- وسمعت من الشيخ العلامة المحدث الحافظ الأديب البارع فتح الدين أبي الفتح محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري الأندلسي الأصلي المصري، صاحب التصانيف، ولد سنة إحدى وسبعين في آخرها وسمع من العز، وغازي، وخلائق، ولحق بدمشق ابن(1/22)
المجاور، ومحمد بن مؤمن، وابن الواسطي وكتب بخطه المنسوب كثيرا، وهو على حاله ثبت فيما ينقله بصير بما يحرره لم أسمع منه شيئا، توفي فجاءة في شعبان في حادي عشرة سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ 1503".
13- وسمعت الكثير مع الشيخ المحدث العالم المفيد شهاب الدين أبي العباس أحمد ابن مظفر ابن النابلسي سبط الحافظ زين الدين خالد، مولده خمس وسبعين، وسمع من زينب بنت مكي، والفخر البعلي، وابن بلبان، وابن الواسطي، والتاج عبد الخالق فمن بعدهم، وأفادني أشياء, وكتبت عنه وشيوخه فوق السبعمائة شيخ، وله حظ من زعارة ونفور من الناس، والله يسامحه فعليه مأخذ لذلك لكنه متثبت متقن، مات في دمشق في ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1503".
14- وسمعت من الشيخ الأديب العلامة البليغ المحدث المفيد علاء الدين علي بن مظفر بن إبراهيم الكندي الدمشقي كاتب ابن وداعة، ولد على رأس الأربعين وست مائة، وتلا بالسبع على العلم أبي القاسم، وسمع من ابن أبي الحسن، وإبراهيم بن خليل، وابن عبد الدائم، وخلق وكتب الأجزاء، وحصل، ثم تعانى الإنشاء، وخدم، وكان قليل الدين متهاونا بالصلاة، في عقيدته مقال إلا أنه متثبت فيما ينقله علقت عنه، توفي سنة عشرة وسبعمائة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1503-1504".
15- وسمعت من الشيخ المحدث المفيد الفاضل نجم الدين إسماعيل بن إبراهيم بن سالم بن ركاب الأنصاري ابن الخباز المؤدب المفيد أحد من أفنى عمره في الرواية والكتابة، وأخذ عمن دب ودرج, وحصل الأصول, روى لنا عن الشيخ الضياء، وعبد الحق بن خلف، وخطه رديء سقيم، وفهمه بطيء، والله يسامحه مات سنة ثلاث وسبعمائة عن أربع وسبعين سنة. تذكرة الحفاظ "4/ 1504".
16- وسمعت من الشيخ العالم المحدث شهاب الدين أحمد بن النضر بن بناء بن الدقوقي المصري، وكان ممن نسخ الكثير وعنى بالسماع ولم ينجب، حدثنا عن ابن رواح، مات في سنة خمس وتسعين وستمائة وهو في عشر الثمانين، رحمه الله. تذكرة الحفاظ "4/ ص1504".
17- وسمعت من الشيخ الإمام المحدث المفيد بقية المشايخ ضياء الدين عيسى بن يحيى بن أحمد السبتي، مات في سنة ست وتسعين -أي وستمائة- عن ثلاث وثمانين سنة، عني(1/23)
بهذا الشأن مدة مديدة، وسمع بقراءته من ابن المجتلي وابن الصفراوي، وابن المقير، وطبقتهم. وليس بالمكثر ولا الماهر، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1504".
18- وسمعت من الشيخ الإمام المحدث المفيد شرف الدين حسن بن علي بن عيسى اللخمي بن الصيرفي, وكان قد طلب وحمل عن ابن رواح، والساوي، وابن قميرة. مات في أواخر سنة تسع وتسعين وستمائة. تذكرة الحفاظ "4/ ص1504".
19- وسمعت من الشيخ العالم المحدث المفتي بقية السلف أبي الحسن علي بن إبراهيم ابن داود بن العطار الدمشقي الشافعي، صاحب الشيخ محيي الدين النواوي، وهو الذي استجاز لي ولأبي من ابن الصيرفي، وابن أبي الخير، وعدة. وكان صاحب معرفة حسنة، وأجزاء وأصول، خرجت له معجما في مجلد. مات في سنة أربع وعشرين وسبعمائة عن سبعين سنة مرض بالفالج سنين، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1504-1505".
20- وسمعت من الفقيه البارع المحدث الأديب نجم الدين موسى بن إبراهيم الشعراوي الحنبلي الشاهد، وكان قد قرأ الكتب الكبار، ودار على الشيوخ ونسخ الفوائد، وسمع من الحافظ الضياء، وإسماعيل بن مظفر، وقرأ على ابن عبد الدائم، وابن أبي عمر، وكان صاحب نوادر ودعابة وفضائل إلا أنه كان يدمج الإسناد ويهيمنه، مات سنة اثنتين وسبعمائة، وله ثمان وسبعون سنة. تذكرة الحفاظ "4/ ص1505".
21- وسمعت من المحدث العالم العدلي المفيد كاتب الحكم شرف الدين يعقوب بن أحمد بن الصابوني روى عن أحمد بن علي الدمشقي، والنجيب، وابن علاق، وابن أبي الخير، وخلق. ونسخ الأجزاء، وساد في الشروط. مات بمصر في سنة عشرين وسبعمائة عن ست وسبعين سنة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1505".
22- وسمعت من قاضي القضاة الإمام القدوة الزاهد المحدث شمس الدين محمد بن مسلم بن مالك، وسمعت بقراءة جماعة أجزاء، وكان إماما في الفقه والنحو من قضاة العدل، توفي في سنة ست وعشرين وسبعمائة عن خمس وستين سنة بالمدينة النبوية شرفها الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1505".
23- وسمعت من الفقيه المحدث الزاهد البركة أبي الحسن علي بن محمد التركي الختني الشافعي، وقد تفقه وسمع الكثير وكتب الأجزاء، سمع من الفخر علي، وطبقته. ومات كهلا سنة سبع عشرة وسبعمائة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1505".(1/24)
24- وسمعت من الإمام المحدث الأوحد الأكمل فخر الإسلام صدر الدين إبراهيم بن محمد بن المؤيد بن حمويه الخراساني الجويني شيخ الصوفية، قدم علينا طالب حديث، وروى لنا عن رجلين من أصحاب المؤيد الطوسي، وكان شديد الاعتناء بالرواية وتحصيل الأجزاء، حسن القراءة مليح الشكل مهيبا دينا صالحا، وعلى يده أسلم غازان الملك. مات سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة وله ثمان وسبعون سنة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1506".
25- وسمعت من الشيخ العالم المحدث الصادق المرتضى شمس الدين محمد بن محمد بن حسن بن نباتة المصري، وله عناية تامة بهذا الشأن ومعرفة كتب الأجزاء وحصل، وروى عن غازي والعز الحراني، وابن خطيب المزة، والطبقة، ومحاسنه كثيرة، وتواضعه حسن، وديانته متينة، ولد سنة ست وستين -أي بعد الستمائة- ومات سنة خمسين وسبعمائة كما في الدرر الكامنة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1506".
26- وسمعت من الإمام المحدث الصادق مفيد الجماعة محب الدين عبد الله بن أحمد ابن المحب المقدسي الحنبلي، ولد سنة اثنتين وثمانين وستمائة، وسمع من ابن البخاري وطبقته، ثم طلب بنفسه، وكتب الكثير، وقرأ العالي والنازل، وأفاد الخاصة والعامة، وقد ألقى له المحبة في النفوس لخيره وإخلاصه وصلاحه وفضله، تُوُفِّيَ فِي رَبِيْعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلاَثِيْنَ وسبعمائة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1506".
27- وسمعت من الشيخ المحدث العالم الرئيس زين الدين عمر بن حسن بن عمر بن حبيب الدمشقي نزيل حلب ومحتسبها، ولد سنة ثلاث وستين وستمائة وسمع من ابن بلبان، وابن شيبان، وابن البخاري وفي الرحلة من ابن حمدان، والأبرقوهي وكان ذكيا كتب وتعب خرجت له معجما عن أزيد من خمسمائة نفس، مات غريبا بمراغة في سنة ست وعشرين وسبعمائة، رحمه الله. تذكرة الحفاظ "4/ ص1506".
28- وسمعت من المحدث العالم فخر الدين عثمان بن بلبان المقاتلي، سمع الكثير ورحل وكتب وتعب، وكان مزجي البضاعة، لكنه له ذكاء وفهم وعناية بالرواية. مات بمصر سنة سبع عشرة وسبعمائة وله اثنتان وأربعون سنة. روى عن عمر بن القواس وجماعة، رحمة الله عليهم. تذكرة الحفاظ "4/ ص1507".(1/25)
29- وسمعت من المحدث المفتي الفاضل فخر الدين عبد الرحمن بن محمد بن الفخر البعلبكي الحنبلي، سمع من ابن البخاري، وابن الواسطي، ثم طلب بنفسه، وجمع وخرج وقرأ الكثير، وقرأ على كراسي عدة. وكان دينا صينا عالما مات سنة اثنتين وثلاثين -أي وسبعمائة- عن بضع وأربعين سنة رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1507".
30- وسمعت من العلامة ذي الفنون وفخر الحفاظ قاضي القضاة تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي، صاحب التصانيف، ولد سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وسمع من ابن الصواف، والدمياطي وبدمشق من أبي جعفر ابن الموازيني، والطبقة، "وكان جم الفضائل حسن الديانة صادق اللهجة، قوي الذكاء من أوعية العلم. مات سنة ست وخمسين وسبعمائة"1. تذكرة الحفاظ "4/ ص1507".
31- وسمعت من الشيخ الإمام المحدث مفيد الطلبة أمين الدولة محمد بن إبراهيم بن محمد الواني الدمشقي، رئيس المؤذنين وابن رئيسهم سمع من ابن الفراء وأبي الفضل بن عساكر، وله في طلب الحديث رحلة في سنة سبعمائة، مولده سنة أربع وثمانين وستمائة وتوفي سنة خمس وثلاثين وسبعمائة. تذكرة الحفاظ "4/ ص 1507".
32- وسمعت من الإمام المفتي المحدث صلاح الدين أبي سعيد خليل بن كيكلدي العلائي، سمع من القاضي تقي الدين سليمان وطبقته فأكثر وحصل وخرج وصنف، مولده سنة أربع وتسعين وستمائة "وتوفي سنة إحدى وستين وسبعمائة"2, وهو عالم بيت المقدس اليوم. تذكرة الحفاظ "4/ ص1507-1508".
33- وسمعت من الإمام الفقيه المحدث الزاهد القدوة بهاء الدين أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّدِ بنِ أبي بكر بن خليل المكي الشافعي قرأ الفقه والقراءات والأصول، والنحو، وعني بالحديث، ورحل إلى دمشق، وحلب، سمع بيبرس العديمي، والدشتي، والقاضي.
مولده في سنة أربع وتسعين وستمائة. سكن مصر وله جهات، ثم تزهد وتوحد وتعبد بالثغر. تذكرة الحفاظ "4/ ص1508".
__________
1 ما بين الحاجزين مدرج ليس من كلام الذهبي لأنه توفي سنة "748هـ" فأما ذكر الوفاة فحتما. وأما ما قبله فلقوله: "وكان" والله أعلم.
2 ما بين الحاجزين ملحق بعد المؤلف.(1/26)
34- وسمعت من الفقيه المفتي المحدث ذي الفضائل عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي الشافعي. ولد بعد السبعمائة أو فيها وسمع من ابن الشحنة، وابن الزراد، وطائفة وله عناية بالرجال، والمتون، والتفقه، خرج وألف وناظر وصنف وفسر وتقدم.
"توفي سنة 777"1. تذكرة الحفاظ "4/ ص1508".
35- وسمعت من المحدث العالم المفيد تقي الدين محمد ابن شيخنا سعد الدين بن سعد سمع من القاضي, وأبيه، وأبي بكر بن عبد الدائم، وخلق، وكتب، ورحل، وخرج وتميز "توفي سنة 757"2. تذكرة الحفاظ "4/ ص1508".
36- وسمعت من الإمام الأوحد الحافظ ذي الفنون شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي، ولد سنة خمس أو ست وسبعمائة، وسمع من القاضي، وابن عبد الدائم، والمطعم، واعتنى بالرجال، والعلل وبرع، وجمع وتصدى للإفادة، والاشتغال في القراءات، والحديث والفقه والأصول والنحو وله توسع في العلوم، وذهن سيال، توفي في شهر جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وسبعمائة، رحمة الله عليهم أجمعين. تذكرة الحفاظ "4/ ص1508".
وقد أفاد الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- من شيخه جمال الدين أبي الحجاج يوسف بن الزكي بن عبد الرحمن بن يوسف القضاعي المزي في سماع الحديث، وفي النظر، وفي العلم. كما أفاد من شيخه شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بنِ عَبْدِ السَّلاَم بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ أبي القاسم بن تيمية الحراني، وسمع الحافظ الذهبي منه جملة من مصنفاته، وجزء ابن عرفة، وغير ذلك.
وقد أفاد الذهبي من شيوخ كثيرين ذكرهم في كتابه "معجم شيوخه الكبير"، وغيره من مؤلفاته ربوا على الألف شيخ. وقد أجازه كثير منهم في الصغر وفي الكبر. وقد كان لرفقته ابن تيمية والحافظ المزي، ولقياه كثير من شيوخ وعلماء الحديث عظيم الأثر في بناء شخصيته العلمية القوية التي ارتبطت بالحديث النبوي والمحدثين ارتباطا وثيقا؛ فكان له الأثر النافع في مؤلفاته خاصة التراجم التي كانت من أكثر مؤلفاته وأعماله التي أثرت المكتبة الإسلامية وكان من بعده من أهل العلم وطلابه عيال عليها.
__________
1 و2 ما بين الحاجزين ملحق بعد المؤلف.(1/27)
رابعا: تلامذته:
وقد تلقى عن الحافظ الذهبي -رحمه الله- كثير من العلماء الحفاظ المشهود لهم بالفضل في حياة الذهبي، وانتفعوا به كما جاء في أقوالهم:
1- فمنهم قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الشافعي. المتوفى سنة "771هـ" كان إماما بارعا مفتنا في سائر العلوم، وله تصانيف شتى. قال في كتابه "طبقات الشافعية الكبرى" "1/ 101": "أستاذنا أبو عبد الله التركماني الذهبي بصر لا نظير له، وكنز هو الملجأ إذا نزلت المعضلة إمام الوجود حفظا، وذهب العصر معنى ولفظا، وشيخ الجرح والتعديل، ورجل الرجال فِي كل سَبِيل، كَأَنَّمَا جمعت الْأمة فِي صعيد واحد فنظرها ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها وهو الذي خرجنا في هذه الصناعة وأدخلنا في عداد الجماعة جزاه الله عنا أفضل الجزاء وجعل حظه من غرفات الجنان متوفر الأجزاء، وسعده بداره طالعا في سماء العلوم, يذعن له الكبير والصغير من الكتب، والعالي والنازل من الأجزاء".
وقال العلامة ابن العماد الحنبلي في "شذرات الذهب" "6/ 221": "قدم دمشق مع والده في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وسمع بها من جماعة، وقرأ على الحافظ المزي ولازم الذهبي وتخرج به".
2- ومنهم العلامة قاضي القضاة كمال الدين محمد بن علي بن عبد الواحد الزملكاني الدمشقي الشافعي المتوفى سنة "727هـ". كان إماما علامة بصيرا بمذهبه وأصوله، قوي العربية صحيح الذهن فصيحا أديبا ناظما ناثرا، وله مصنفات كثيرة، وقد أفتى وله نيف وعشرون سنة.
وقد قال -رحمه الله- بعد أن طالع كتاب الحافظ الذهبي "تاريخ الإسلام": هذا كتاب عليم اجتمعت به وأخذت عنه وقرأت عليه كثيرا من تصانيفه، ولم أجد عنده جمود المحدثين، ولا كودنة1 النقلة، بل فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس، ومذاهب الأئمة من السلف والخلف وأرباب المقالات.
__________
1 كودنة: بلادة.(1/28)
3- ومنهم الشيخ الحافظ تقي الدين محمد بن جمال الدين رافع بن هجرس بن محمد بن شافع السلامي المصري الشافعي المتوفى سنة "774هـ" بدمشق عن ستين سنة، وكان -رحمه الله- إماما في الحديث رحل البلاد وقد سمع من الحافظ الذهبي، رحمه الله.
4- ومنهم الشيخ الإمام البارع الأديب المفتن صلاح الدين أبو الصفاء خليل بن الأمير عز الدين أيبك بن عبد الله الألبكي الصفدي، الشاعر المشهور، المتوفى سنة "764هـ" بدمشق، وكان إماما بارعا كاتبا ناثرا شاعرا، وديوان شعره مشهور بأيدي الناس وهو من المكثرين. وله مصنفات كثيرة في التاريخ والأدب والبديع وغير ذلك. قال في تاريخه المسمى "الوافي بالوفيات" "2/ 163": الشيخ الإمام العلامة الحافظ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي: حافظ لا يجارى، ولافظ لا يبارى ... جمع الكثير ونفع الجم الغفير. وقد سمع من الحافظ -رحمه الله- وانتفع به.
5- ومنهم الحافظ الناقد ذو التصانيف شمس الدين أبو المحاسن محمد بن علي بن الحسن بن حمزة بن محمد بن ناصر الحسيني الدمشقي الشافعي، والمولود بدمشق سنة "715هـ" والمتوفى بدمشق في يوم الأحد سلخ شعبان سنة "765هـ". وقد سمع من الحافظ الذهبي وانتفع به أيما انتفاع، وله مؤلفات وتصانيف كثيرة.
6- ومنهم الإمام العالم الحافظ المؤرخ علم الدين أبي محمد القاسم بن محمد بن يوسف ابن الحافظ زكي الدين البرزالي، المولود سنة "665هـ"، والمتوفى سنة "739هـ" وهو محرم كان فصيحا أديبا يضرب به المثل مع فضله وتواضعه. وقد سمع من الحافظ الذهبي -رحمه الله- وانتفع به.
7- ومنهم الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي الدمشقي المتوفى سنة "774هـ" صاحب المؤلفات الكثيرة أعظمها تفسيره المشهور المعروف، وكتاب البداية والنهاية وقد نشأ بدمشق وسمع من الحافظ الذهبي، وكثير من علمائها وصفه الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير" بالفقيه المفتي المحدث ذي الفضائل. وقال: خرج وألف وناظر وصنف وفسر، وكان من شيوخ الحافظ الذهبي، رحمه الله، وقد سمع منه أيضا.
8- ومنهم الإمام المفتي الحافظ صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي العلائي، المولود "694هـ"، والمتوفى سنة "761هـ" له مصنفات كثيرة من أبرزها كتاب "جامع التحصيل في أحكام المراسيل"، وهو من أجمع وأحسن ما ألف في موضع الحديث المرسل. وهو من(1/29)
شيوخ الحافظ الذهبي -رحمه الله- الذين ذكرهم في "معجم شيوخه" ومن تلامذته الذين سمعوا منه، وأخذوا عنه، وانتفعوا به. وتولى تدريس الحديث بالناصرية، والأسدية، ودار الحديث الحمصية، كما ولي التدريس في المدرسة الصلاحية بالقدس، ثم أضيف إليه تدريس الحديث بالتنكزية، كما تولى مشيخة دار الحديث السيفية.
9- ومنهم العلامة الحافظ محمد بن عبد الكريم الموصلي الأطرابلسي الشافعي المتوفى سنة "764هـ" قال الحافظ ابن ناصر الدين في "الرد الوافر" "ص66": لما قدم الحافظ محمد بن محمد بن عبد الكريم دمشق سنة "734هـ" إلى الحج، قال في الحافظ الذهبي -رحمه الله:
ما زلت بالسمع أهواكم وما ذكرت ... أخباركم قط إلا ملت من طرب
وليس من عجب أن ملت نحوكم ... فالناس بالطبع قد مالوا إلى الذهب
وقد تخرج بالحافظ الذهبي -رحمه الله- حفاظ كثيرون، لذا قال تلميذه الحافظ الحسيني في "ذيله على تذكرة الحفاظ" "ص36": وحمل عنه الكتاب والسنة خلائق.
خامسا: ثناء أهل العلم عليه
كان الحافظ الذهبي -رحمه الله- أمة وحده في الحديث، والفقه، والعقيدة، وسائر العلوم الشرعية، وأثنى عليه كل من رآه ثناء حسنا نسوق بعضا منه:
قال الصفدي: في "الوافي بالوفيات" "2/ 163":
الشيخ الإمام العلامة شمس الدين أبو عبد الله الذهبي حافظ لا يجارى، ولافظ لا يبارى أتقن الحديث ورجاله ونظر علله وأحواله، وعرف تراجم الناس، وأزال الإبهام في تواريخهم والإلباس، ذهن يتوقد ذكاؤه، ويصح إلى الذهبي نسبته وانتماؤه، جمع الكثير ونفع الجم الغفير، وأكثر من التصنيف ووفر بالاختصار مؤنة التطويل في التأليف، وقف الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني -رحمه الله- على تاريخه الكبير المسمى بـ"تاريخ الإسلام" جزءا بعد جزء إلى أن أنهى مطالعته، وقال: هذا كتاب عليم، اجتمعت به، وأخذت عنه، وقرأت عليه كثيرا من تصانيفه، ولم أجد عنده جمود المحدثين، ولا كودنة1 النقلة، بل هو
__________
1 كودنة: بلادة.(1/30)
فقيه النظر له دربة بأقوال الناس ومذاهب الأئمة من السلف وأرباب المقالات، وأعجبني منه ما يعاينه في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثا يورده حتى يتبين ما فيه من ضعف متن، أو ظلام إسناد، أو طعن في رواته، وهذا لم أر غيره يراعي هذه الفائدة فيما يورده.
وقال الحافظ أبو المحاسن الحسيني الدمشقي في "ذيله على تذكرة الحفاظ" "ص35-36":
مصنفاته ومختصراته وتخريجاته تقارب المائة، وقد سار بجملة منها الركبان في أقطار البلدان، وكان أحد الأذكياء المعدودين والحفاظ المبرزين، ولي مشيخة الظاهرية قديما، ومشيخة النفيسية، والفاضلية، والتنكزية، وأم الملك الصالح، ولم يزل يكتب وينتقي ويصنف حتى أضر في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة بدمشق، ودفن بمقبرة الباب الصغير رحمه الله تعالى، وكان قد جمع القراءات السبع على الشيخ أبي عبد الله بن جبريل المصري نزيل دمشق فقرأ عليه ختمة جامعة لمذاهب القراء السبعة بما اشتمل عليه كتاب التيسير لأبي عمرو الداني، وكتاب حرز الأماني لأبي القاسم الشاطبي، وحمل عنه الكتاب والسنة خلائق والله -تعالى- يغفر له.
وقال الحافظ ابن حجر: شربت ماء زمزم لأصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ.
وقال الحافظ السيوطي في "ذيله على تذكرة الحفاظ" "ص347-348":
الإمام الحافظ محدث العصر وخاتمة الحفاظ ومؤرخ الإسلام وفرد الدهر والقائم بأعباء هذه الصناعة شَمْس الدِّيْنِ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ عُثْمَانَ بن قايماز التركماني ثم الدمشقي المقرئ ولد سنة ثلاث وسبعين وستمائة وطلب الحديث وله ثماني عشرة سنة، فسمع الكثير ورحل، وعني بهذا الشأن وتعب فيه وخدمه إلى أن رسخت فيه قدمه، وتلا بالسبع، وأذعن له الناس. والذي أقوله إن المحدثين عيال الآن في الرجال وغيرها من فنون الحديث على أربعة: المزي، والذهبي، والعراقي، وابن حجر.
وقال تاج الدين السبكي في "الطبقات" "9/ 100-101 و103":
اشتمل عصرنا على أربعة من الحفاظ بينهم عموم وخصوص: المزي، والبرزالي، والذهبي والشيخ الإمام الوالد، لا خامس لهم في عصرنا فأما أستاذنا أبو عبد الله(1/31)
التركماني الذهبي بصر لا نظير له، وكنز هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، إمام الوجود حفظا، وذهب العصر معنى ولفظا، وشيخ الجرح والتعديل ورجل الرجال فِي كل سَبِيل، كَأَنَّمَا جمعت الْأمة فِي صعيد واحد فنظرها ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها وكان محط رحال تغيبت، ومنتهى رغبات من تغيبت. تعمل المطي إلى جواره، وتضرب البزل المهاري أكبادها فلا تبرح أو تنبل نحو داره. وهو الذي خرجنا في هذه الصناعة وأدخلنا في عداد الجماعة، جزاه الله عنا أفضل الجزاء، وجعل حظه من غرفات الجنات موفر الأجزاء، وسعده بدرا طالعا في سماء العلوم، يذعن له الكبير والصغير من الكتب، والعالي والنازل من الأجزاء. وسمع منه الجمع الكثير، وما زال يخدم هذا الفن إلى أن رسخت فيه قدمه، وتعب الليل والنهار وما تعب لسانه وقلمه، وضربت باسمه الأمثال، وسار اسمه مسير الشمس، إلا أنه لا يتقلص إذا نزل المطر، ولا يدبر إذا أقبلت الليال.
وأقام بدمشق يرحل إليه من سائر البلاد، وتناديه السؤالات من كل ناد، وهو بين أكنافها كنف لأهليها، وشرف تفتخر وتزهى به الدنيا وما فيها، طورا تراها ضاحكة عن تبسم أزهارا، وقهقهة غدرانها، وتارة تلبس ثوب الوقار والفخار، بما اشتملت عليه من إمامها المعدود في سكانها.
وقال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير الدمشقي في "البداية والنهاية" "14/ 243":
الشيخ الحافظ الكبير مؤرخ الإسلام، وشيخ المحدثين شَمْس الدِّيْنِ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عثمان الذهبي وقد ختم به شيوخ الحديث وحفاظه رحمه الله.
وقال ابن ناصر الدين الدمشقي في "الرد الوافر" "ص65" وما بعدها:
الشيخ الإمام الحافظ الهمام مفيد الشام، ومؤرخ الإسلام، ناقد المحدثين، وإمام المعدلين والمجرحين، شَمْس الدِّيْنِ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ عُثْمَانَ بن قايماز بن عبد الله التركماني الفارقي الدمشقي ابن الذهبي الشافعي ... كان آية في نقد الرجال، عمدة في الجرح والتعديل، عالما بالتفريع والتأصيل، إماما في القراءات، فقيها في النظريات، له دربة بمذاهب الأئمة وأرباب المقالات، قائما بين الخلف بنشر السنة ومذهب السلف وله المصنفات المفيدة، والمختصرات الحسنة، والمصنفات السديدة، وقال شيخه وتلميذه علم الدين البرزالي المتوفى سنة "739هـ":(1/32)
رجل فاضل، صحيح الذهن، اشتغل ورحل، وكتب الكثير، وله تصانيف واختصارات مفيدة، وله معرفة بشيوخ القراءات.
سادسا: من آرائه في العقيدة، والفقه، والحديث
لقد كان الذهبي -رحمه الله تعالى- واسع العلم جدا غزير المعرفة في كل العلوم الشرعية من عقيدة، وفقه، وحديث وقراءات، وأصول، وغيرها؛ يظهر ذلك من خلال مؤلفات الكثيرة المتنوعة التي تتركز على الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وفهمها على النحو الذي فهمه السلف الصالح، وترك ما يخالفها، وتنقية السنة المشرفة من الزغل الدخيل الذي وضعه الأفاكون وانتحله المبطلون وتجديد ما اندرس من معالم الدين القويم، وتحذير المسلمين من خرافات وترهات الصوفية التي شوهت جمال الدين وبهاءه, ونبذ التقليد الأعمى المقيت الخالي عن الدليل.
ولقد أبان الحافظ الذهبي -رحمه الله- منهج أهل السنة والجماعة، وأبان الصراط المستقيم الذي يعد وسطا بين المغالين من أهل التنطع والتشدد من الخوارج وبين المفرطين والمضيعين لهدى وسنن خير المرسلين من أهل الإرجاء وغيرهم.
لقد دعا الحافظ -رحمه الله- إلى إثبات صفات الله تعالى كما جاءت عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم دون تأويل أو تكييف أو تمثيل، يظهر ذلك من ردوده على أصحاب الأقوال الشاذة من الفرق والنحل التي تنكبت طريق خير المرسلين وصحابته الغر الميامين بعدم إمرار صفات الله كما جاءت، وهذا مبثوث في أقواله التي ذكرناها وحرصنا على أن ننقلها كما هي ليقف القارئ الكريم على علمه الجم الغزير، ومنافحته عن عقيدة أهل السنة والجماعة برد شبه الزيغ والارتياب لهاتيك الفرق التي تنكبت الطريق.
لقد كان الحافظ -رحمه الله تعالى- رأسا في معرفة الحلال والحرام، وهذا واضح جلي من بيانه وردوده في كثير من المسائل التي نقلناها من كلامه المبثوث في هذا الكتاب ليعلم القارئ الكريم أن الحافظ -رحمه الله- كان راسخ القدم في علم الفقه، وأنه وصل فيه إلى مرتبة سنية ودرجة علية قل أن يصل إليها عالم من علماء زماننا، وهذا واضح في فتاويه الدقيقة السديدة، والتي لو عرضت على فقهاء زماننا لضلوا عن الحق وأخطئوه.
لقد كان الحافظ -رحمه الله تعالى- رأسا في علم التراجم والتاريخ سبق فيه من سلف، ولم يستطع اللحاق به من خلف؛ فترجم لكثير من الملوك، والأمراء، والوزراء، والأطباء،(1/33)
والمحدثين، والفقهاء، والنحاة والشعراء، وأبان -رحمه الله- زيغ وضلال بعض من ترجم لهم وانحرافهم عن سبيل الهدى والرشاد الذي كان عليه سيد الأولين صلى الله عليه وسلم وصحابته المكرمين فترك الحق واضحا جليا يتضح هذا من النقولات التي نقلناها من كلامه المبثوث في كتابه هذا وسائر كتبه؛ ليعلم القارئ الكريم أن الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- كان أمة وحده في علم الاعتقاد، والحديث, والفقه, والاجتهاد. ولا غرو فقد تخرج من مدرسة شيخه العلامة عماد الدين إسماعيل بن كثير، والحافظ العلامة صلاح الدين أبي سعيد خليل بن كيكلدي العلائي، وغيرهم من أعلام الهدى ومصابيح الدجى الذين ملئوا الدنيا علما وسارت بتآليفهم الركبان في مشارق الأرض ومغاربها.
ولقد آثرت وأنا أبين آراءه العقدية والفقهية والحديثية أن أنقل كلامه بنصه وردوده على أهل الزيغ والارتياب ليعلم القارئ الكريم المنزلة السامقة التي وصل إليها علم هذا الرجل العظيم، وليكون منهجا تعليميا للعلماء وطلاب العلم في بيان طرق أهل الزيغ والضلال في طرح أفكارهم الزائفة الضالة وطريقة رد هذا الحافظ العلامة لهذا الزيغ والضلال، وإقامته للحق بنيانا لا يندرس على أنقاض أباطيل أهل الضلال مشفوعا بالأدلة الدامغة والبراهين الساطعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحجج التي نسف بها حجج أهل الضلال.
لقد آثرت أن أنقل كلام أهل الزيغ والضلال بقضه وقضيضه ليقف القارئ الكريم على الأباطيل والأراجيف التي يبثها هؤلاء المنحرفون الذين تنكبوا طريق الهدى ليفيد العلماء وطلاب العلم في معرفة شبههم وزيغهم وضلالهم، فيكونوا على وعي وبصيرة بالمناهج الضالة الفاسدة الآسنة التي تعكر صفو الدين وبهاءه، وليرى العلماء وطلاب العلم علم هذا الحافظ الجليل الذي ينسف به هاتيك الترهات والأباطيل التي يبثها أهل الزيغ والضلال.
إن قلوب المحبين للحق ستحيا بقراءة آراء هذا الحافظ الجليل في العقيدة، والفقه، والحديث وردوده على أهل الزيغ والضلال التي أرسى بها قواعد الإسلام وأوضح بها مشكلات الأحكام، فصارت نبراسا منيرا يستضيء به كل من يدين بدين الإسلام، فدونك أيها القارئ الكريم أقوال هذا الحافظ النحرير وردوده على أقوال وأفكار أهل الزيغ والضلال.
قال الذهبي -رحمه الله تعالى- في موضوع الفتنة التي حدثت بين الصحابة الكرام قال في كتابه "السير" "3/ 27":(1/34)
لَمَّا خَرَجَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ لِلطَّلَبِ بِدَمِ عثمان وقال طلحة لعلقمة بن وقاص الليثي: يَا عَلْقَمَةَ! لاَ تَلُمْنِي، كُنَّا أَمْسِ يَداً واحدة على من سوانا، فأصبحنا اليوم جيلين من حديد، يزحف أحدنا إلى صاحبه، ولكنه كَانَ مِنِّي شَيْءٌ فِي أَمْرِ عُثْمَانَ، مِمَّا لا أرى كفارته إلا سفك دمي، وطلبه دمي" أخرجه الحاكم "3/ 372".
فكيف عقب الذهبي -رحمه الله تعالى- على قول طلحة؟! لقد أجاب بإجابة عالم بصير يستشفي بها من وساوس الصدور فقال رحمه الله تعالى:
قُلْتُ: الَّذِي كَانَ مِنْهُ فِي حَقِّ عُثْمَانَ تَمَغْفُلٌ وَتَأْليبٌ، فَعَلَهُ بِاجْتِهَادٍ، ثُمَّ تَغَيَّرَ عِنْدَمَا شَاهَدَ مَصْرَعَ عُثْمَانَ، فَنَدِمَ عَلَى تَرْكِ نُصْرَتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ طَلْحَةُ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ عَلِيّاً، أَرْهَقَهُ قَتَلَةُ عُثْمَانَ، وَأَحْضَرُوهُ حَتَّى بايع".
ولما قتل مروان بن الحكم طلحة بن عبيد الله بسهم وقع في ركبته، عقب الذهبي -رحمه الله- "3/ 28" بقوله:
"قُلْتُ: قَاتِلُ طَلْحَةَ فِي الوِزْرِ، بِمَنْزِلَةِ قَاتِلِ علي".
ثم قال الذهبي في آخر ترجمة طلحة بن عبيد الله "3/ 31":
"أَعْجَبُ مَا مَرَّ بِي قَوْلُ ابْنِ الجَوْزِيِّ فِي كَلاَمٍ لَهُ عَلَى حَدِيْثٍ قَالَ: وَقَدْ خلف طلحة ثلاثمئة حمل من الذهب! ".
يقول محمد أيمن الشبراوي عفا الله عنه: تعجب الذهبي من قول ابن الجوزي إشارة منه إلى كذب هذا القول، ولكنه كان لطيف العبارة -رحمه الله تعالى- خاصة مع علماء الحديث الذي كان عظيم الإكبار لهم.
وثمة بصمات قوية تشير إلى براعته الفائقة في علم الحديث فقال -رحمه الله- في "السير" "3/ 54-55" حين علق على حديث دخول عبد الرحمن بن عوف الجنة حبوا؛ قال: وهو حديث منكر، وقال: إسناده واه. ثم عرج على المتن بقوله "3/ 55": وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَوْ تَأَخَّرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ رِفَاقِهِ لِلْحِسَابِ، وَدَخَلَ الجَنَّةَ حَبْواً عَلَى سَبِيْلِ الاسْتِعَارَةِ، وَضَرْبِ المَثَلِ، فَإِنَّ مَنْزِلَتَهُ فِي الجَنَّةِ ليست بدون منزلة علي والزبير، رضي الله عن الكل.
ثم عرج على مناقب عبد الرحمن بن عوف "3/ 55" فقال: "وَمِنْ مَنَاقِبِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِدَ لَهُ بِالجَنَّةِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ بدر الذين قيل فيهم: $"اعْمَلُوا مَا شِئْتُم" وَمِنْ أَهْلِ هَذِهِ الآيَةِ(1/35)
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفَتْحُ: 18] ، وَقَدْ صَلَّى رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وراءه.
وتراه أخي القارئ ينافح عن عبد الرحمن بن عوف في اتهامه بأنه حابى عثمان بن عفان في اختياره خليفة للمسلمين؛ فقال -رحمه الله تعالى- في أوجز عبارة وأخصر بيان في كتابه "السير" "3/ 62": "من أفضل أعمال عبد الرحمن بن عوف عَزْلُهُ نَفْسَهُ مِنَ الأَمْرِ وَقْتَ الشُّورَى، وَاخْتِيَارُهُ لِلأُمَّةِ مَنْ أَشَارَ بِهِ أَهْلُ الحِلِّ وَالعَقْدِ، فَنَهَضَ فِي ذَلِكَ أَتَمَّ نُهُوضٍ عَلَى جَمْعِ الأُمَّةِ عَلَى عُثْمَانَ، وَلَوْ كَانَ مُحَابِياً فِيْهَا لأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ، أَوْ لَوَلاَّهَا ابْنَ عمَّه، وَأَقْرَبَ الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص".
فالله الله يا ذهبي فلقد كنت ذا عقل راجح، وفكر ناضح، وفقه متين في الدين.
وتراهُ يُنافحُ عن سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- فيجيبُ عن سؤال هام وهو: هل شارك رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَهْلُ الجاهلية في أفعالهم قبل البعثة؟! فيُجلِّى شمائل الرسول قبل البعثة وبعدها فيقول -رحمه الله- في كتابه "السير" "3/ 88":
ما زَالَ المُصْطَفَى مَحْفُوظاً مَحْرُوْساً قَبْلَ الوَحْيِ وَبَعْدَهُ، ولو احتمل جواز أكله مما ذُبح على النُّصُب، فَبِالضَّرُوْرَةِ نَدْرِي أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ ذَبَائِحِ قُرَيْشٍ قَبْلَ الوَحْيِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الإِبَاحَةِ، وَإِنَّمَا تُوْصَفُ ذَبَائِحُهُمْ بِالتَّحْرِيْمِ بَعْدَ نُزُوْلِ الآيَةِ، كَمَا أَنَّ الخَمْرَةَ كَانَتْ عَلَى الإِبَاحَةِ إِلَى أَنْ نَزَلَ تَحْرِيْمُهَا بِالمَدِيْنَةِ بَعْدَ يَوْمِ أُحُدٍ، وَالَّذِي لاَ رَيْبَ فِيْهِ أَنَّهُ كَانَ مَعْصُوْماً قَبْلَ الوَحْيِ وَبَعْدَهُ وَقَبْلَ التَّشْرِيْعِ مِنَ الزِّنَى قطعًا، ومن الخيانة، ومن الغدر، وَالكَذِبِ، وَالسُّكْرِ. وَالسُّجُوْدِ لِوَثَنٍ، وَالاسْتِقْسَامِ بِالأَزْلاَمِ، وَمِنَ الرَّذَائِلِ، وَالسَّفَهِ، وَبَذَاءِ اللِّسَانِ، وَكَشْفِ العَوْرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ يَطُوْفُ عُرْيَاناً، وَلاَ كَانَ يَقِفُ يَوْمَ عَرَفَةَ مَعَ قَوْمِهِ بِمُزْدَلِفَةَ، بَلْ كَانَ يَقِفُ بِعَرَفَةَ. وبكلِّ حَالٍ لَوْ بَدَا مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، لَمَا كَانَ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ، لأَنَّهُ كَانَ لاَ يَعْرِفُ، وَلَكِنَّ رُتْبَةَ الكَمَالِ تَأْبَى وُقُوْعَ ذَلِكَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليمًا.
الله الله يا ذهبي فما أبرع هذا الكلام، وما أحسن هذا الفهم الذي يدُلُّ على عقل راجح، وفقه متين في الدين.
وتراهُ يبين فضل سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل أحد العشرة المبشرين بالجنة، ويبين عدل عمر بن الخطاب ونزاهته فيقول في "السير" "3/ 91": لم يكن سعيد مُتَأَخِّراً عَنْ رُتْبَةِ أَهْلِ(1/36)
الشُّوْرَى فِي السَّابِقَةِ وَالجَلاَلَةِ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِئَلاَّ يَبْقَى لَهُ فِيْهِ شَائِبَةُ حَظٍّ، لأَنَّهُ خَتَنُهُ وَابْنُ عَمَّه، وَلَوْ ذَكَرَهُ فِي أَهْلِ الشُّوْرَى لَقَالَ الرَّافِضِيُّ: حَابَى ابْنَ عَمَّه، فَأَخْرَجَ مِنْهَا وَلَدَهُ وَعَصَبَتَهُ، فَكَذَلِكَ فليكن العمل لله.
وتراهُ يُبيِّنُ فضل العشرة المبشرين بالجنة، وينعى على الرافضة الذين رفضوا التسعة، واعترفوا بفضل عليٍّ حَسْب، ويبين ذلك في أوضح بيان فيقول في "السير" "3/ 93": فَهَذَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ سِيْرَةِ العَشَرَةِ، وَهُمْ أَفْضَلُ قُرَيْشٍ، وَأَفْضَلُ السَّابِقِيْنَ المُهَاجِرِيْنَ، وَأَفْضَلُ البَدْرِيِّيْنَ، وَأَفْضَلُ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، وَسَادَةُ هَذِهِ الأمَّة فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَأَبْعَدَ اللهُ الرَّافِضَةَ مَا أَغْوَاهُمْ، وَأَشَدَّ هَوَاهُمْ، كَيْفَ اعْتَرَفُوا بِفَضْلِ وَاحِدٍ مِنْهُم، وَبَخَسُوا التِّسْعَةَ حَقَّهُمْ! وَافْتَرَوْا عَلَيْهِمْ بِأنَّهُمْ كَتَمُوا النص عَلِيٍّ أَنَّهُ الخَلِيْفَةُ؟ فَوَاللهِ مَا جَرَى مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَأَنَّهُمْ زَوَّرُوا الأَمْرَ عَنْهُ بِزَعْمِهِمْ، وَخَالَفُوا نَبِيَّهُمْ، وَبَادَرُوا إِلَى بَيْعَةِ رَجُلٍ مِنْ بني تيم، يتجر ويتكسب، لاَ لِرَغْبَةٍ فِي أَمْوَالِهِ، وَلاَ لِرَهْبَةٍ مِنْ عَشِيْرَتِهِ وَرِجَالِهِ، وَيْحَكَ أَيَفْعَلُ هَذَا مَنْ لَهُ مسْكَةُ عَقْلٍ؟! وَلَوْ جَازَ هَذَا عَلَى وَاحِدٍ لَمَا جَازَ عَلَى جَمَاعَةٍ، وَلَوْ جَازَ وُقُوْعُهُ مِنْ جَمَاعَةٍ، لاَسْتَحَالَ وُقُوْعُهُ وَالحَالَةُ هَذِهِ مِنْ أُلُوْفٍ مِنْ سَادَةِ المُهَاجِرِيْنَ وَالأَنْصَارِ، وَفُرْسَانِ الأُمَّةِ، وَأَبْطَالِ الإِسْلاَمِ، لَكِنْ لاَ حِيْلَةَ فِي بُرْء الرَّفْضِ، فَإِنَّهُ دَاءٌ مُزْمِنٌ، وَالهُدَى نُوْرٌ يَقْذِفُهُ اللهُ فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ، فَلاَ قُوَّةَ إلا بالله.
وتراه يُنافح عن مسطح بن أثاثة بأوجز عبارة وأخصر بيان؛ فقال في "السير" "3/ 120": إياك يا جري أن تنظر إلى مسطح بن أثاثة هذا البدري شذرًا لِهَفْوَةٍ بَدَتْ مِنْهُ، فَإِنَّهَا قَدْ غُفِرَتْ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِيَّاك يَا رَافِضِيُّ أَنْ تُلَوِّحَ بِقَذْفِ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ بَعْدَ نُزُوْلِ النَّصِّ في براءتها، فتجب لك النار.
ويبين أن ضمة القبر لسعد بن معاذ ليست من عذاب القبر بأوجز بيان، فقال في "السير" "3/ 178":
إن ضمة القبر لسعد بن معاذ لَيْسَتْ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ يَجِدُهُ المُؤْمِنُ، كَمَا يَجِدُ أَلَمَ فَقْدِ وَلَدِهِ وَحَمِيْمِهِ فِي الدُّنْيَا، وَكَمَا يَجِدُ مِنْ أَلَمِ مَرَضِهِ، وَأَلَمِ خُرُوْجِ نَفْسِهِ، وَأَلَمِ سُؤَالِهِ فِي قَبْرِهِ وَامْتِحَانِهِ، وَأَلَمِ تَأَثُّرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَأَلَمِ قِيَامِهِ مِنْ قَبْرِهِ، وَأَلَمِ الموقف وهوله، وألم الورود وعلى النَّارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ الأَرَاجِيْفُ كُلُّهَا قَدْ تَنَالُ العَبْدَ، وَمَا هِيَ مِنْ(1/37)
عذاب القبر، ولا من عذاب جهنم، وَلَكِنَّ العَبْدَ التَّقِيَّ يَرْفُقُ اللهُ بِهِ فِي بَعْضِ ذَلِكَ أَوْ كُلِّهِ، وَلاَ رَاحَةَ لِلْمُؤْمِنِ دُوْنَ لِقَاءِ رَبِّهِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم: 39] .
وَقَالَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر: 18] ، فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى العَفْوَ وَاللُّطْفَ الخَفِيَّ، وَمَعَ هَذِهِ الهَزَّاتِ، فَسَعْدٌ مِمَّنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أهل الجنة، وأنه مِنْ أَرْفَعِ الشُّهَدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَأَنَّكَ يَا هَذَا تَظُنُّ أَنَّ الفَائِزَ لاَ يَنَالُهُ هَوْلٌ فِي الدَّارَيْنِ، وَلاَ رَوْعٌ، وَلاَ أَلَمٌ، وَلاَ خَوْفٌ، سَلْ رَبَّكَ العَافِيَةَ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا في زمرة سعد.
ويسرد الأحداث ويبينها حسب ترتيب وقوعها، فقال في "السير" "3/ 430": كان تزويجه -صلى الله عليه وسلم- بعائشة إِثْرَ وَفَاةِ خَدِيْجَةَ، فَتَزَوَّجَ بِهَا وَبِسَوْدَةَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ دَخَلَ بِسَوْدَةَ، فَتَفَرَّدَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَعْوَامٍ حَتَّى بَنَى بِعَائِشَةَ فِي شَوَّالٍ، بعد وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَمَا تَزَوَّجَ بِكْراً سِوَاهَا، وَأَحَبَّهَا حُبّاً شَدِيْداً كَانَ يَتَظَاهَرُ بِهِ، بِحَيْثُ إِنَّ عَمْرَو بنَ العَاصِ -وَهُوَ مِمَّنْ أَسْلَمَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الهِجْرَةِ- سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أحبُّ إِلَيْكَ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ: "عَائِشَةُ". قَالَ: فَمِنَ الرِّجَالِ؟ قال: "أبوها" 1.
ويتكلم من غيرة عائشة من خديجة دون سائر أزواجه بأسلوب الفقيه الحاذق، فيقول في "السير" "3/ 446": من أعجب شيء أن تغار عائشة -رضي الله عنها- من خديجة وهي امْرَأَةٍ عَجُوْزٍ، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ تَزَوُّجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَائِشَةَ بِمُدَيْدَةٍ، ثُمَّ يَحْمِيْهَا اللهُ مِنَ الغَيْرَةِ مِنْ عدَّة نِسْوَةٍ يُشَارِكْنَهَا فِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهَذَا مِنْ أَلْطَافِ اللهِ بِهَا وَبِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِئَلاَّ يَتَكَدَّرَ عَيْشُهُمَا، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا خَفَّفَ أَمْرَ الغَيْرَةِ عَلَيْهَا حُبُّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهَا، وَمَيْلُهُ إِلَيْهَا، فَرَضِيَ الله عنها وأرضاها.
وتراه يبين مسألة رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- لربه في اليقظة والمنام بأخصر عبارة وأوجز بيان؛ فيقول في "السير" "3/ 447": لم يَأْتِنَا نَصٌّ جَلِيٌّ بِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى اللهَ تَعَالَى بِعَيْنَيْهِ، وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ مِمَّا يَسَعُ المَرْءَ المُسْلِمَ فِي دِيْنِهِ السُّكُوتُ عَنْهَا، فأمَّا رُؤْيَةُ المَنَامِ: فَجَاءتْ مِنْ وُجُوْهٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُسْتَفِيْضَةٍ. وأمَّا رُؤْيَةُ اللهِ عِيَاناً فِي الآخِرَةِ: فأمرٌ مُتَيَقَّنٌ تَوَاتَرَتْ بِهِ النُّصُوْصُ، جمع أحاديثها: الدارقطني، والبيهقي، وغيرهما.
ويبين لفظة يا حميراء الواردة، ويبين أنه حديث موضوع بأنصع بيان، فيقول في "السير"
__________
1 صحيح: خرجته في الجزء الثالث في الكتاب بتعليقنا رقم "915" فراجعه ثمت.(1/38)
"3/ 447-448": قِيْلَ: إِنَّ كُلَّ حَدِيْثٍ فِيْهِ: يَا حُمَيْرَاءُ، لم يصح، وأوهى ذلك تَشْمِيْسُ المَاءِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهَا: "لَا تَفْعَلِي يَا حُمَيْرَاءُ، فَإِنَّهُ يُوْرِثُ البَرَصَ". فَإِنَّهُ خَبَرٌ مَوْضُوْعٌ. وَالحَمْرَاءُ فِي خِطَابِ أَهْلِ الحِجَازِ: هِيَ البَيْضَاءُ بِشُقْرَةٍ، وَهَذَا نَادِرٌ فِيْهِم، وَمِنْهُ فِي الحَدِيْثِ: رَجُلٌ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مِنَ المَوَالِي، يُرِيْدُ القَائِلُ: أَنَّهُ فِي لَوْنِ المَوَالِي الَّذِيْنَ سُبُوا مِنْ نَصَارَى الشَّامِ وَالرُّوْمِ وَالعَجَمِ.
ثُمَّ إِنَّ العَرَبَ إِذَا قَالَتْ: فُلاَنٌ أَبْيَضُ، فَإِنَّهُمْ يُرِيْدُوْنَ الحِنْطِيَّ اللَّوْنِ بِحِلْيَةٍ سَوْدَاءَ، فَإِنْ كَانَ فِي لَوْنِ أَهْلِ الهِنْدِ، قَالُوا: أَسْمَرُ، وَآدَمُ، وَإِنْ كَانَ فِي سَوَادِ التِّكْرُوْرِ، قَالُوا: أَسْوَدُ وَكَذَا كُلُّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ السَّوَادُ، قَالُوا: أَسْوَدُ أَوْ شَدِيْدُ الأُدْمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قُوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعثتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ". فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ بَنِي آدَمَ لاَ يَنْفَكُّوْنَ عَنْ أَحَدِ الأَمْرَيْنِ، وكل لَوْنٍ بِهَذَا الاعْتِبَارِ يَدُوْرُ بَيْنَ السَّوَادِ وَالبَيَاضِ الذي هو الحمرة.
ويبينُ طريقة السَّلَف في الجمع بين التجارة والعبادة فيقول في "السير" "4/ 15": الأفضل الجمع بين التجارة، أمَّا ترك التجارة، ولزوم العبادة، فهو طَرِيْقُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَف وَالصُّوْفِيَّةِ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّ أَمْزِجَةَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ، فَبَعْضُهُمْ يَقْوَى عَلَى الجَمْعِ كالصِّدِّيق، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، وَكَمَا كَانَ ابْنُ المُبَارَكِ، وَبَعْضُهُمْ يَعْجزُ وَيَقْتَصِرُ عَلَى العِبَادَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقْوَى فِي بِدَايَتِهِ، ثُمَّ يَعْجِزُ، وَبِالعَكْسِ، وكلٌّ سَائِغٌ، وَلَكِنْ لاَ بد من النَّهضة بحقوق الزَّوجة والعيال.
ويُبينُ بأسلوب النَّاقد الحاذق بسبب كراهية الشيعة لأبي موسى في أوجز عبارة فيقول في "السير" "4/ 47": لا رَيْبَ أنَّ غُلاَةَ الشِّيْعَةِ يُبْغِضُوْنَ أَبَا مُوْسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِكَوْنِهِ مَا قَاتَلَ مَعَ عَلِيٍّ، ثُمَّ لَمَّا حَكَّمَهُ عليٌّ عَلَى نَفْسِهِ عَزَلَهُ، وَعَزَلَ مُعَاوِيَةَ، وَأَشَارَ بِابْنِ عُمَرَ، فَمَا انتظم من ذلك حال.
ويبين كتابة المصحف من زيد بن ثابت بأمر أبي بكر، ثم بأمر عثمان بعبارة وجيزة وأسلوب حاذق؛ فيقول في "السير" "4/ 73-74": من جلالة زيد بن ثابت أَنَّ الصِّدِّيْقَ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي كِتَابَةِ القُرْآنِ العَظِيْمِ فِي صُحُفٍ، وَجَمْعِهِ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ، وَمِنَ الأَكْتَافِ، وَالرِّقَاعِ، وَاحْتَفَظُوا بِتِلْكَ الصُّحُفِ مُدَّةً، فَكَانَتْ عِنْدَ الصِّدِّيْقِ، ثُمَّ تَسَلَّمَهَا الفَارُوْقُ، ثُمَّ كَانَتْ بَعْدُ عِنْدَ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ حَفْصَةَ إِلَى أَنْ نَدَبَ عُثْمَانُ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ، وَنَفَراً من قريش إلى كتابة هذا(1/39)
المُصْحَفِ العُثْمَانِيِّ الَّذِي بِهِ الآنَ فِي الأَرْضِ أَزْيَدُ مِنْ أَلْفَيْ أَلْفِ نُسْخَةٍ، وَلَمْ يَبْقَ بأيدي الأمه قرآن سواه، ولله الحمد.
ويقول في "السير" "4/ 168":
يجوز كِتْمَانِ بَعْضِ الأَحَادِيْثِ الَّتِي تُحَرِّكُ فِتْنَةً فِي الأُصُوْلِ أَوِ الفُرُوْعِ، أَوِ المَدْحِ وَالذَّمِّ، أَمَا حَدِيْثٌ يَتَعَلَّقُ بِحِلٍّ أَوْ حَرَامٍ؛ فَلاَ يَحِلُّ كتمانه بوجه، فإنه من البينات والهدى.
وقال في "السير" "4/ 170-171":
كان عمر يَقُوْلُ: أَقِلُّوا الحَدِيْثَ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَزَجَرَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنْ بَثِّ الحَدِيْثِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ لِعُمَرَ وغيره.
فَبِاللهِ عَلَيْكَ إِذَا كَانَ الإِكْثَارُ مِنَ الحَدِيْثِ فِي دَوْلَةِ عُمَرَ كَانُوا يُمْنَعُوْنَ مِنْهُ مَعَ صِدْقِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ، وَعَدَمِ الأَسَانِيْدِ، بَلْ هُوَ غَضٌّ لم يشب، فما ظَنُّكَ بِالإِكْثَارِ مِنْ رِوَايَةِ الغَرَائِبِ وَالمَنَاكِيْرِ فِي زَمَانِنَا، مَعَ طُوْلِ الأَسَانِيْدِ، وَكَثْرَةِ الوَهْمِ وَالغَلَطِ، فَبِالحَرِيِّ أَنْ نَزْجُرَ القَوْمَ عَنْهُ. فَيَا لَيْتَهُمْ يَقْتَصِرُوْنَ عَلَى رِوَايَةِ الغَرِيْبِ وَالضَعِيْفِ، بَلْ يَرْوُوْنَ -وَاللهِ- المَوْضُوْعَاتِ, وَالأَبَاطِيْلَ، وَالمُسْتَحِيْلَ فِي الأُصُوْلِ، وَالفُرُوْعِ وَالمَلاَحِمِ وَالزُّهْدِ؛ نَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.
فَمَنْ رَوَى ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِبُطْلاَنِهِ، وَغَرَّ المُؤْمِنِيْنَ، فَهَذَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، جَانٍ عَلَى السُّنَنِ وَالآثَارِ، يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَنَابَ وَأَقْصَرَ، وَإِلاَّ فَهُوَ فَاسِقٌ، كَفَى بِهِ إِثْماً أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَتَوَرَّعْ، وَلْيَسْتَعِنْ بِمَنْ يُعينُه عَلَى تَنْقِيَةِ مَرْوِيَّاتِهِ -نَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ- فَلَقَدْ عمَّ البلاءُ، وَشَمَلَتِ الغَفْلَةُ، وَدَخَلَ الدَّاخِلُ عَلَى المُحَدِّثِيْنَ الَّذِيْنَ يَرْكَنُ إِلَيْهِمُ المُسْلِمُوْنَ، فَلاَ عُتْبَى عَلَى الفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الكَلاَمِ.
ثم تراه يُنافحُ عن الحافظ أبي هريرة -رضي الله عنه- بأوضح حجة وأنصع بيان فيقول في "السير" "4/ 174":
قِيْلَ لابْنِ عُمَرَ: هَلْ تُنْكِرُ مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ شَيْئاً؟ فَقَالَ: لاَ، وَلَكِنَّهُ اجْترَأَ وجَبُنَّا فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَا ذَنْبِي إِنْ كُنْتُ حَفِظْتُ، وَنَسُوْا.
قَالَ يَزِيْدُ بنُ هَارُوْنَ: سَمِعْتُ شُعْبَةَ يَقُوْلُ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يدلس!
قلت -أي الحافظ الذهبي- تَدْلِيْسُ الصَّحَابَةِ كَثِيْرٌ، وَلاَ عَيْبَ فِيْهِ، فَإِنَّ تَدْلِيْسَهُمْ عَنْ صَاحِبٍ أَكْبَرَ مِنْهُمْ، وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عدول.(1/40)
الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُوْرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ قَالَ: مَا كَانُوا يَأْخُذُوْنَ مِنْ حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلاَّ مَا كَانَ حَدِيْثَ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ.
قُلْتُ -أي الذهبي: هَذَا لاَ شَيْءَ، بَلْ احْتَجَّ المُسْلِمُوْنَ قَدِيْماً وَحَدِيْثاً بِحَدِيْثِهِ لِحِفْظِهِ، وَجَلاَلَتِهِ، وَإِتْقَانِهِ، وَفِقْهِهِ، وَنَاهِيْكَ أَنَّ مِثْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَتَأَدَّبُ مَعَهُ، وَيَقُوْلُ: أفت يا أبا هريرة. وانظر إلى هذا العلامة البارع كيف يحسب عمر أحد الصحابة الأعلام، فقال "4/ 230":
كان عمرو بن العاص أَكْبَرَ مِنْ عُمَرَ بِنَحْوِ خَمْسِ سِنِيْنَ، كَانَ يَقُوْلُ: أَذْكُرُ اللَّيْلَةَ الَّتِي وُلِدَ فِيْهَا عُمَرُ، وَقَدْ عَاشَ بَعْدَ عُمَرَ عِشْرِيْنَ عَاماً، فَيُنْتِجُ هَذَا أَنَّ مَجْمُوْعَ عُمُرِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُوْنَ سَنَةً، ما بلغ التسعين -رضي الله عنه.
وتراه يفسر سبب النهي عن كتابة غير القرآن ثم الإذن في الكتابة بأوجز عبارة، وأخصر بيان بأسلوب العالم الحاذق؛ قال -طيب الله ثرى قبره وأظله بسحائب مغفرته- في كتابه العظيم "السير" "4/ 232-233":
كتب عبد الله بن عمرو بن العاص بِإِذْنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَرْخِيْصِهِ لَهُ فِي الكِتَابَةِ بَعْدَ كَرَاهِيَتِهِ لِلصَّحَابَةِ أَنْ يَكْتُبُوا عَنْهُ سِوَى القُرْآنِ وَسَوَّغَ ذَلِكَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ بَعْدَ اختلاف الصحابة -رضي الله عنه- على الجواز والاستحباب لتقييد العلم بالكتابة.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ كَانَ أَوَّلاً لِتَتَوَفَّرَ هِمَمُهُم عَلَى القُرْآنِ، وَحْدَهُ، وَلِيَمْتَازَ القُرْآنُ بِالكِتَابَةِ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ السُّنَنِ النَّبَوَيَّةِ، فَيُؤْمَنُ اللَّبْسُ، فَلَمَّا زَالَ المَحْذُوْرُ وَاللَّبْسُ، وَوَضَحَ أَنَّ القُرْآنَ لاَ يَشْتَبِهُ بِكَلاَمِ النَّاسِ، أُذِنَ فِي كِتَابَةِ العِلْمِ والله أعلم.
وقال في "السير" "4/ 235-236":
صحَّ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نازل عبد الله بن عمرو بن العاص في قراءة القرآن إِلَى ثَلاَثِ لَيَالٍ، ونهاهُ أَنْ يقرأهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ، وَهَذَا كَانَ فِي الَّذِي نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا القَوْلِ نَزَلَ مَا بَقِيَ مِنَ القُرْآنِ. فَأَقَلُّ مَرَاتِبِ النَّهْيِ أَنْ تُكْرَهَ تِلاَوَةُ القُرْآنِ كُلِّهِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ، فَمَا فَقِهَ وَلاَ تَدَبَّرَ مَنْ تَلاَ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ تلا فِي أُسْبُوْعٍ، وَلاَزَمَ ذَلِكَ. لَكَانَ عَمَلاً فَاضِلاً، فالدين اليسر، فَوَاللهِ إِنَّ تَرْتِيْلَ سُبُعِ القُرْآنِ فِي تَهَجُّدِ قِيَامِ اللَّيْلِ مَعَ المُحَافَظَةِ عَلَى النَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ، وَالضُّحَى، وَتَحِيَّةِ المَسْجِدِ، مَعَ الأَذْكَارِ المَأْثُوْرَةِ الثَّابِتَةِ، وَالقَوْلِ عِنْدَ النَّوْمِ وَاليَقَظَةِ، ودُبُر المَكْتُوبَةِ وَالسَّحَرِ، مَعَ النَّظَرِ فِي العِلْمِ النَّافِعِ وَالاشْتِغَالِ بِهِ مُخْلَصاً للهِ، مَعَ الأَمْرِ(1/41)
بِالمَعْرُوْفِ، وَإِرْشَادِ الجَاهِلِ وَتَفْهِيْمِهِ، وَزَجْرِ الفَاسِقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مَعَ أَدَاءِ الفَرَائِضِ فِي جَمَاعَةٍ بِخُشُوْعٍ وَطُمَأْنِيْنَةٍ وَانْكِسَارٍ وَإِيْمَانٍ، مَعَ أَدَاءِ الوَاجِبِ، وَاجْتِنَابِ الكَبَائِرِ وَكَثْرَةِ الدُّعَاءِ وَالاسْتِغْفَارِ، وَالصَّدَقَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالتَّوَاضُعِ، وَالإِخْلاَصِ فِي جَمِيْعِ ذَلِكَ، لَشُغْلٌ عَظِيْمٌ جَسِيْمٌ، وَلَمَقَامُ أَصْحَابِ اليَمِيْنِ وَأَوْلِيَاءِ اللهِ المُتَّقِيْنَ، فَإِنَّ سَائِرَ ذَلِكَ مَطْلُوْبٌ. فَمَتَى تَشَاغَلَ العَابِدُ بِخِتْمَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَقَدْ خَالَفَ الحَنِيْفِيَّةَ السَّمْحَةَ، وَلَمْ يَنْهَضْ بِأَكْثَرِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلاَ تَدَبَّرَ مَا يَتْلُوْهُ.
هَذَا السَّيِّدُ العَابِدُ الصَّاحِبُ كَانَ يَقُوْلُ لَمَّا شَاخَ: لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَذَلِكَ قَالَ لَهُ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- فِي الصَّوْمِ، وما زال يناقصه حَتَّى قَالَ لَهُ: "صُمْ يَوْماً، وَأَفْطِرْ يَوْماً، صَوْمَ أَخِي دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ". وَثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ" وَنَهَى -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ. وَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بِنَوْمِ قِسْطٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَقَالَ: "لَكِنِّي أَقُوْمُ وَأَنَامُ، وَأَصُوْمُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَآكُلُ اللَّحْمَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مني".
وكلُّ من لم يلزم نَفْسَهُ فِي تَعَبُّدِهِ وَأَوْرَادِهِ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، يَنْدَمُ وَيَتَرَهَّبُ وَيَسُوْءُ مِزَاجُهُ وَيَفُوْتُهُ خَيْرٌ كَثِيْرٌ مِنْ متابعة سنة نبيه الرءوف الرحيم بالمؤمنين، والحريص عَلَى نَفْعِهِم، وَمَا زَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعَلِّماً لِلأُمَّةِ أَفْضَلَ الأَعْمَالِ، وَآمِراً بِهَجْرِ التَّبَتُّلِ وَالرَّهْبَانِيَّةِ الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ بِهَا، فَنَهَى عَنْ سَرْدِ الصَّوْمِ، وَنَهَى عَنِ الوِصَالِ، وَعَنْ قِيَامِ أَكْثَرِ اللَّيْلِ إِلاَّ فِي العَشْرِ الأَخِيْرِ، وَنَهَى عَنِ العُزْبَةِ لِلْمُسْتَطِيْعِ، وَنَهَى عَنْ تَرْكِ اللحم، إلى غير ذلك من الأوامر وَالنَّوَاهِي. فَالعَابِدُ بِلاَ مَعْرِفَةٍ لِكَثِيْرٍ مِنْ ذَلِكَ مَعْذُوْرٌ مَأْجُوْرٌ، وَالعَابِدُ العَالِمُ بِالآثَارِ المُحَمَّدِيَّةِ، المُتَجَاوِزِ لَهَا مَفْضُوْلٌ مَغْرُوْرٌ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ. أَلْهَمَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ حسن المتابعة وجنبنا الهوى والمخالفة.
وأورد في "السير" "5/ 391":
أيوب، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: إِنَّمَا أَنْزَل اللهُ مُتَشَابِهَ القرآن ليُضَلَّ به.
فتعقبه الحافظ الذهبي بقوله: قُلْتُ: هَذِهِ عِبَارَةٌ رَدِيْئَةٌ، بَلْ إِنَّمَا أَنْزَلَهُ اللهُ -تَعَالَى- لِيَهْدِيَ بِهِ المُؤْمِنِيْنَ، وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِيْنَ، كَمَا أَخْبَرَنَا -عَزَّ وَجَلَّ- في سورة البقرة.(1/42)
وقال في "السير" "6/ 587":
مِنْ أُصُوْلِ أَهْلِ القَدَرِ، فَإِنَّ عِنْدَهُم لاَ نَجَاةَ إِلاَّ بِعَمَلٍ، فَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ، فَيَحُضُّونَ عَلَى الاجْتِهَادِ فِي العَمَلِ، وَلَيْسَ بِهِ النَّجَاةُ وحده دون رحمة الله.
وقال في "السير" "5/ 392":
قَالَ مُصْعَبُ بنُ عَبْدِ اللهِ الزُّبَيْرِيُّ: كَانَ عِكْرِمَةُ يَرَى رَأْيَ الخَوَارِجِ، فَطَلَبَهُ مُتَوَلِّي المَدِيْنَةِ، فَتَغَيَّبَ عِنْدَ دَاوُدَ بنِ الحُصَيْنِ حَتَّى مَاتَ عنده.
فعقب الحافظ الذهبي -رحمه الله- بقوله: قُلْتُ: وَلِهَذَا يَنْفَرِدُ عَنْهُ دَاوُدُ بِأَشْيَاءَ تُسْتَغْرَبُ، وَكَثِيْرٌ مِنَ الحُفَّاظِ عَدُّوا تِلْكَ الإِفْرَادَاتِ مَنَاكِيْرَ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا انْفَرَدَ بِهَا مِثْلُ ابْنِ إسحاق ونحوه. وقال في "المسير" "5/ 486":
عمرو بن شعيب ثقة في نفسه، وروايته عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ إِمَّا مُنْقَطِعَةٌ أَوْ مُرْسَلَةٌ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّ بَعْضَهَا مِنْ قَبِيْلِ المُسْنَدِ المُتَّصِلِ، وَبَعْضُهَا يَجُوْزُ أَنْ تَكُوْنَ رِوَايَتُهُ وِجَادَةً أَوْ سَمَاعاً، فَهَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ وَاحْتِمَالٍ، وَلَسْنَا مِمَّنْ نَعُدُّ نُسْخَةَ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ مِنْ أَقْسَامِ الصَّحِيْحِ الَّذِي لاَ نِزَاعَ فِيْهِ مِنْ أَجْلِ الوِجَادَةِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنَّ فِيْهَا مَنَاكِيْرَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَأَمَّلَ حَدِيْثُهُ، وَيَتَحَايَدَ مَا جَاءَ مِنْهُ مُنْكَراً، وَيُرْوَى مَا عَدَا ذَلِكَ فِي السُّنَنِ وَالأَحْكَامِ مُحَسِّنِيْنَ لإِسْنَادِهِ، فَقَدِ احْتَجَّ بِهِ أَئِمَّةٌ كِبَارٌ، وَوَثَّقُوْهُ فِي الجملة، وتوقف آخَرُوْنَ قَلِيْلاً، وَمَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَداً تَرَكَهُ.
وقال في "السير" "4/ 207":
كَانَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ صفِّين مَا هو أبلغ من السَّب، فَإِنْ صحَّ شيءٌ، فَسَبِيْلُنَا الكَفُّ وَالاسْتِغْفَارُ لِلصَّحَابَةِ، وَلاَ نُحِبُّ مَا شَجَرَ بَيْنَهُم، وَنَعُوْذُ بِاللهِ منه، ونتولى أمير المؤمنين عليًا.
وقال "6/ 106":
كان النَّاسُ فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ بَعْدَ وَقْعَةِ صِفِّيْنَ عَلَى أَقسَامٍ: أَهْلُ سُنَّةٍ: وَهُم أُوْلُو العِلْمِ، وَهُم مُحِبُّوْنَ لِلصَّحَابَةِ، كَافُّوْنَ عَنِ الخَوضِ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُم؛ كسَعْدٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمُحَمَّدِ بنِ مسلمة، وَأُمَمٍ. ثُمَّ شِيْعَةٌ: يَتَوَالَوْنَ، وَيَنَالُوْنَ مِمَّنْ حَارَبُوا عَلِيّاً، وَيَقُوْلُوْنَ: إِنَّهُم مُسْلِمُوْنَ بُغَاةٌ ظَلَمَةٌ. ثُمَّ نَوَاصِبُ: وَهُمُ الَّذِيْنَ حَارَبُوا عَلِيّاً يَوْمَ صِفِّيْنَ، وَيُقِرُّوْنَ بِإِسْلاَمِ عليٍّ وَسَابِقِيْه، وَيَقُوْلُوْنَ: خَذَلَ الخَلِيْفَةَ عُثْمَانَ. فَمَا عَلِمتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ شِيْعِيّاً كَفَّرَ مُعَاوِيَةَ وَحِزْبَهُ، وَلاَ نَاصِبِيّاً كَفَّرَ عَلِيّاً وَحِزْبَهُ بَلْ دَخَلُوا فِي سبٍّ وَبُغْضٍ، ثُمَّ صار اليوم شيعة زماننا يكفرون(1/43)
الصحابة، ويبرءون مِنْهُم جَهلاً وَعُدوَاناً، وَيَتَعَدُّوْنَ إِلَى الصِّدِّيْقِ قَاتَلَهُمُ اللهُ. وَأَمَّا نَوَاصِبُ وَقْتِنَا فَقَلِيْلٌ، وَمَا عَلِمتُ فيهم من يكفر عليا ولا صحابيا.
وقال في "السير" "7/ 57-58":
مَنْ سَكَتَ عَنْ تَرحُّمِ مِثْلِ الشَّهِيْدِ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عُثْمَانَ، فَإِنَّ فِيْهِ شَيْئاً مِنْ تَشَيُّعٍ، فَمَنْ نَطَقَ فِيْهِ بِغَضٍّ وَتَنَقُّصٍ، وَهُوَ شِيْعِيٌّ جَلْدٌ يُؤَدَّبُ، وَإِنْ تَرَقَّى إِلَى الشَّيْخَيْنِ بِذَمٍّ، فَهُوَ رَافِضِيٌّ خَبِيْثٌ، وَكَذَا مَنْ تَعرَّضَ لِلإِمَامِ عَلِيٍّ بِذَمٍّ، فَهُوَ نَاصِبِيٌّ يُعَزَّرُ، فَإِنْ كَفَّرَهُ فَهُوَ خَارِجِيٌّ مَارِقٌ، بَلْ سَبِيْلُنَا أَنْ نَستغفِرَ للكل، ونحبهم، ونكف عما شجر بينهم.
ثم قال في "السير" "7/ 252":
التشيع الذي لا محذوف فِيْهِ إِنْ شَاءَ اللهُ إِلاَّ مِنْ قَبِيْلِ الكَلاَمِ فِيْمَنْ حَارَبَ عَلِيّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ قَبِيْحٌ يُؤَدَّبُ فَاعِلُهُ وَلاَ نَذكُرُ أَحَداً مِنَ الصَّحَابَةِ إِلاَّ بِخَيْرٍ، وَنتَرَضَّى عَنْهُم، وَنَقُوْلُ هُم طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ بَغَتْ عَلَى الإِمَامِ عَلِيٍّ، وَذَلِكَ بِنصِّ قَوْلِ المُصْطَفَى صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ لِعَمَّارٍ: "تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ" 1. فنسأل الله أن يرضى عن الجميع وَأَلاَّ يَجعَلَنَا مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ غِلٌّ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَلاَ نَرتَابُ أَنَّ عَلِيّاً أَفْضَلُ مِمَّنْ حَارَبَه، وأنه أولى بالحق رضي الله عنه.
وقال في "السير" "6/ 210":
هشام بن عروة حُجَّةٌ مُطْلَقاً، وَلاَ عِبرَةَ بِمَا قَالَهُ الحَافِظُ أَبُو الحَسَنِ بنُ القَطَّانِ مِنْ أَنَّهُ هُوَ وَسُهَيْلُ بنُ أَبِي صَالِحٍ اخْتَلَطَا وَتَغَيَّرَا، فَإِنَّ الحَافِظَ قَدْ يَتَغَيَّرُ حِفْظُه إِذَا كَبِرَ، وَتَنْقُصُ حِدَّةُ ذِهْنِهِ، فَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْخُوْخَتِه كَهُوَ في شَبِيْبَتِه، وَمَا ثَمَّ أَحَدٌ بِمَعْصُوْمٍ مِنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا هَذَا التَّغَيُّرُ بِضَارٍّ أَصْلاً، وَإِنَّمَا الَّذِي يَضُرُّ الاخْتِلاَطُ، وَهِشَامٌ فَلَمْ يَختَلِطْ قَطُّ، هَذَا أَمْرٌ مَقْطُوْعٌ بِهِ، وَحَدِيْثُه مُحْتَجٌّ بِهِ في "الموطأ، وَ"السُّنَنِ" فَقَوْلُ ابْنِ القَطَّانِ: إِنَّهُ اخْتُلِطَ، قَوْلٌ مَرْدُوْدٌ مَرذُولٌ فَأَرِنِي إِمَاماً مِنَ الكِبَارِ سَلِمَ مِنَ الخَطَأِ وَالوَهمِ.
فَهَذَا شُعْبَةُ، وَهُوَ فِي الذِّرْوَةِ، لَهُ أَوهَامٌ، وَكَذَلِكَ مَعْمَرٌ، وَالأَوْزَاعِيُّ، ومالك، رحمة الله عليهم.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2915" "70"، وأحمد "5/ 306 و307" وراجع تخريجنا له في المصدر المشار إليه
.(1/44)
وقال الحافظ في "السير" "3/ 226":
لم يصح الخبر الذي أعلم فِيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العَبَّاس أن الخلافة تئول إلى ولده, وَلَكِنَّ آلَ العَبَّاسِ كَانَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُم، وَيُحِبُّوْنَ آل علي، ويودون أن الأمر يئول إِلَيْهِم، حُبّاً لآلِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبُغْضاً فِي آلِ مَرْوَانَ بنِ الحَكَمِ، فَبَقُوا يَعْمَلُوْنَ عَلَى ذَلِكَ زَمَاناً حَتَّى تَهَيَّأَتْ لَهُمُ الأَسبَابُ، وَأَقبَلَتْ دَوْلَتُهُم، وَظَهَرَتْ مِنْ خراسان.
ثم قال الحافظ -رحمه الله: فَرِحنَا بِمَصِيْرِ الأَمْرِ إِلَيْهِم، وَلَكِنْ -وَاللهِ- سَاءنَا مَا جَرَى؛ لِمَا جَرَى مِنْ سُيُولِ الدِّمَاءِ، وَالسَّبْيِ وَالنَّهْبِ فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ فالدولة العادلة مَعَ الأَمنِ وَحَقنِ الدِّمَاءِ وَلاَ دَوْلَةً عَادلَةً تُنتَهَكُ دُوْنَهَا المَحَارِمُ وَأَنَّى لَهَا العَدْلُ؟ بَلْ أَتَتْ دَوْلَةً أَعْجَمِيَّةً خُرَاسَانِيَّةً جَبَّارَةً، مَا أَشْبَهَ الليلة بالبارحة.
وقال في "السير" "6/ 267":
لا ريب أن ابن إسحاق في "مغازية" قد كثَّرَ وَطوَّلَ بِأَنْسَابٍ مُسْتَوْفَاةٍ، اخْتصَارُهَا أَملحُ، وَبأَشعَارٍ غَيْرِ طَائِلَةٍ، حَذفُهَا أَرْجَحُ، وَبآثَارٍ لَمْ تُصحَّحْ، مَعَ أَنَّهُ فَاتَهُ شَيْءٌ كَثِيْرٌ مِنَ الصَّحِيْحِ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، فَكِتَابُهُ مُحْتَاجٌ إِلَى تَنقِيحٍ وَتَصْحِيْحٍ وَرِوَايَةِ مَا فَاتَهُ. وَأَمَّا "مَغَازِي مُوْسَى بنِ عُقْبَةَ"، فَهِي فِي مُجَلَّدٍ لَيْسَ بِالكَبِيْرِ، سَمِعنَاهَا، وَغَالِبُهَا صَحِيْحٌ وَمُرْسَلٌ جَيِّدٌ، لَكِنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ، تَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ، وَتَتِمَّةٍ.
وَقَدْ أَحْسَنَ فِي عَملِ ذَلِكَ الحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ البَيْهَقِيُّ فِي تَألِيْفِهِ المُسَمَّى بِكِتَابِ "دَلاَئِلِ النُّبُوَّةِ".
وَقَدْ لَخَّصتُ أَنَا التَّرجمَةَ النَّبوِيَّةَ، وَالمَغَازِي المَدَنِيَّةَ فِي أَوَّلِ "تَارِيْخِي الكَبِيْرِ"، وَهُوَ كَامِلٌ فِي مَعنَاهُ إن شاء الله.
فما أعظم الذهبي هذا الناقد الحاذق.
وقال في "السير" "6/ 411":
قَالَ الوَلِيْدُ بنُ مُسْلِمٍ: سَأَلْتُ الأَوْزَاعِيَّ، وَسَعِيْدَ بنَ عَبْدِ العَزِيْزِ, وَابْنَ جُرَيْجٍ: لِمَنْ طَلبتُمُ العلم؟ كلهم يقول: لنفسي غير ابن جريج، فإنه قال: طلبته للناس.
فعقب الذهبي الناقد البصير بقوله: قُلْتُ: مَا أَحْسَنَ الصِّدْقَ وَاليَوْمَ تَسْألُ الفَقِيْهَ الغَبِيَّ: لِمَنْ طَلبتَ العِلْمَ؟ فَيُبَادِرُ، وَيَقُوْلُ: طَلبتُهُ للهِ، وَيَكْذِبُ، إِنَّمَا طَلبَهُ لِلدُّنْيَا وَيَا قِلَّةَ ما عرف منه.(1/45)
وقال أيضا في "السير" "6/ 570":
قَالَ عَوْنُ بنُ عُمَارَةَ: سَمِعْتُ هِشَاماً الدَّسْتُوَائِيَّ يَقُوْلُ: وَاللهِ مَا أَسْتَطِيْعُ أَنْ أَقُوْلَ إِنِّي ذَهَبتُ يَوْماً قَطُّ أَطْلُبُ الحَدِيْثَ، أُرِيْدُ بِهِ وجه الله عز وجل.
فعقب الذهبي الناقد "6/ 570-571" بقوله:
قُلْتُ: وَاللهِ وَلاَ أَنَا، فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يطلبون العلم لله، قنبلوا، وَصَارُوا أَئِمَّةً يُقتَدَى بِهِم، وطَلَبَهُ قَوْمٌ مِنْهُم أَوَّلاً لاَ للهِ، وَحَصَّلُوْهُ ثُمَّ اسْتَفَاقُوا، وَحَاسَبُوا أَنْفُسَهُم، فَجَرَّهُمُ العِلْمُ إِلَى الإِخْلاَصِ فِي أَثنَاءِ الطَّرِيْقِ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُ: طَلَبْنَا هَذَا العِلْمَ وَمَا لَنَا فِيْهِ كَبِيْرُ نِيَّةٍ، ثُمَّ رَزَقَ اللهُ النِّيَّةَ بَعْدُ. وَبَعْضُهُم يَقُوْلُ: طَلَبْنَا هَذَا العِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ فَأَبَى أَنْ يَكُوْنَ إِلاَّ للهِ، فَهَذَا أَيْضاً حَسَنٌ, ثُمَّ نَشَرُوْهُ بنية صالحة.
وقوم طلبوه بنية لأَجْلِ الدُّنْيَا، وَلِيُثْنَى عَلَيْهِم، فَلَهُم مَا نَوَوْا. قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: "مَنْ غَزَا يَنْوِي عِقَالاً، فَلَهُ مَا نَوَى". وَترَى هَذَا الضَّربَ لَمْ يستضيئوا بِنُوْرِ العِلْمِ، وَلاَ لَهُم وَقْعٌ فِي النُّفُوْسِ، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العلم، وَإِنَّمَا العَالِمُ مَنْ يَخشَى اللهَ تَعَالَى.
وَقَوْمٌ نَالُوا العِلْمَ، وَوُلُّوا بِهِ المَنَاصِبَ فَظَلَمُوا, وَتَرَكُوا القيد بِالعِلْمِ، وَرَكِبُوا الكَبَائِرَ وَالفَوَاحِشَ، فَتَبّاً لَهُم، فَمَا هَؤُلاَءِ بِعُلَمَاءَ!
وَبَعْضُهُم لَمْ يَتَقِّ اللهَ فِي عِلْمِهِ، بَلْ رَكِبَ الحِيَلَ، وَأَفْتَى بِالرُّخَصِ، وَرَوَى الشَّاذَّ مِنَ الأَخْبَارِ.
وَبَعْضُهُم اجْتَرَأَ عَلَى اللهِ وَوَضَعَ الأَحَادِيْثَ، فَهَتَكَهُ اللهُ وَذَهَبَ عِلْمُهُ، وَصَارَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ وَهَؤُلاَءِ الأَقسَامُ كُلُّهُم رَوَوْا مِنَ العِلْمِ شَيْئاً كَبِيْراً، وَتَضَلَّعُوا مِنْهُ فِي الجُمْلَةِ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِم خَلْفٌ باَنَ نَقْصُهُم فِي العِلْمِ وَالعَمَلِ, وَتَلاَهُم قَوْمٌ انْتَمَوْا إِلَى العِلْمِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُتْقِنُوا مِنْهُ سِوَى نَزْرٍ يَسِيْرٍ، أَوْهَمُوا بِهِ أَنَّهُم عُلَمَاءُ فُضَلاَءُ، وَلَمْ يَدُرْ فِي أَذهَانِهِم قَطُّ أَنَّهُم يَتَقَرَّبُوْنَ بِهِ إِلَى اللهِ؛ لأَنَّهُم مَا رَأَوْا شَيْخاً يُقْتَدَى بِهِ فِي العِلْمِ فَصَارُوا هَمَجاً رَعَاعاً، غَايَةُ المُدَرِّسِ مِنْهُم أَنْ يُحَصِّلَ كُتُباً مُثَمَّنَةً، يَخْزُنُهَا، وَيَنْظُرُ فِيْهَا يَوْماً مَا، فَيُصَحِّفُ مَا يُوْرِدُهُ، وَلاَ يُقَرِّرُهُ. فَنَسْأَلُ اللهَ النَّجَاةَ وَالعَفْوَ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُم: مَا أَنَا عَالِمٌ، وَلاَ رأيت عالما.(1/46)
وقال الحافظ في "السير" "7/ 73":
عَلاَمَةُ المُخْلِصِ الَّذِي قَدْ يُحبُّ شُهرَةً، وَلاَ يَشعُرُ بِهَا، أَنَّهُ إِذَا عُوتِبَ فِي ذَلِكَ، لا يحرد ولا يبرئ نفسهن بَلْ يَعترِفُ، وَيَقُوْلُ: رَحِمَ اللهُ مَنْ أَهدَى إِلَيَّ عُيُوبِي، وَلاَ يَكُنْ مُعجَباً بِنَفْسِهِ؛ لاَ يشعر بعيوبها، بل لا يشعر أنه يشعر، فإن هذا داء مزمن.
وقال في "السير" "6/ 480":
قال عَبْدُ الرَّزَاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: إِنَّ الرَّجُلَ يَطلُبُ العِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ، فَيَأْبَى عليه العلم حتى يكون لله.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: نَعَمْ يَطلُبُهُ أَوَّلاً، وَالحَامِلُ لَهُ حُبُّ العِلْمِ، وَحُبُّ إِزَالَةِ الجَهْلِ عَنْهُ، وَحُبُّ الوَظَائِفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُن عَلِمَ وُجُوبَ الإِخْلاَصِ فِيْهِ، وَلاَ صِدْقَ النِّيَّةِ، فَإِذَا عَلِمَ، حَاسَبَ نَفْسَهُ، وَخَافَ مِنْ وَبَالِ قَصدِهِ، فَتَجِيئُه النِّيَّةُ الصَّالِحَةُ كُلُّهَا، أَوْ بَعْضُهَا، وَقَدْ يَتُوبُ مِنْ نِيَّتِهِ الفَاسِدَةِ وَيَندَمُ. وَعَلاَمَةُ ذَلِكَ: أَنَّهُ يُقْصِرُ مِنَ الدَّعَاوَى وَحُبِّ المُنَاظَرَةِ، وَمَنْ قَصْدِ التَّكَثُّرِ بِعِلْمِهِ، وَيُزْرِي عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ تَكَثَّرَ بِعِلْمِهِ، أَوْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْ فُلاَنٍ، فَبُعْداً له.
وقال في "السير" "6/ 437-438":
رَوَى مِسْعَرٌ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: ذِكْرُ الناس داء، وذكر الله دواء.
وتعقبه الذهبي بقوله: إِيْ وَاللهِ، فَالعجَبُ مِنَّا، وَمِنْ جَهلِنَا، كَيْفَ نَدَعُ الدَّوَاءَ، وَنقتحِمُ الدَّاءَ؟ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البَقَرَةُ: 152] ، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العَنْكَبُوْتُ: 45] ، وَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرَّعْدُ: 28] ، وَلَكِنْ لاَ يَتَهَيَّأُ ذَلِكَ إِلاَّ بِتوفِيْقِ اللهِ، وَمَنْ أَدْمَنَ الدُّعَاءَ، وَلاَزَمَ قَرْعَ البَابِ، فُتِحَ لَهُ.
وقال الحافظ الذهبي عن أبي الفرج بن الجوزي: ما علمت أن أحدا صنف ما صنف هذا الرجل. وقال يوما في مناجاته: إلهي لا تعذب لسانا يخبر عنك، ولا عينا تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدما تمشي إلى خدمتك، ولا يدا تكتب حديث رسولك فبعزتك لا تدخلني النار، فقد علم أهلها أني كنت أذب عن دينك. نقله عن الذهبي ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب "4/ 331".(1/47)
وقال الذهبي في "السير" "6/ 412":
كان ابْنُ جُرَيْجٍ يَرْوِي الرِّوَايَةَ بِالإِجَازَةِ، وَبِالمُنَاوَلَةِ، وَيَتوسَّعُ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ الدَّاخلُ فِي رِوَايَاتِه عَنِ الزُّهْرِيِّ، لأَنَّهُ حَملَ عَنْهُ مُنَاوَلَةً، وَهَذِهِ الأَشْيَاءُ يَدْخُلُهَا التَّصحِيْفُ، وَلاَ سِيَّمَا فِي ذَلِكَ العَصْرِ، لَمْ يَكُنْ حَدَثَ فِي الخط بعد شكل ولا نقط.
ثم قال: قَالَ أَبُو غَسَّانَ زُنَيْجٌ: سَمِعْتُ جَرِيْراً الضَّبِّيَّ يَقُوْلُ: كَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَرَى المُتْعَةَ، تَزَوَّجَ بِسِتِّيْنَ امْرَأَةً! وَقِيْلَ: إِنَّهُ عَهدَ إِلَى أَوْلاَدِه في أسمائهن، لئلا يغلط أحد منهم يتزوج واحدة مما نكح أبوه بالمتعة!
ثم قال: في "السير" "6/ 413":
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الحَكَمِ، سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: اسْتمتَعَ ابْنُ جُرَيْجٍ بِتِسْعِيْنَ امْرَأَةً، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَحتقِنُ فِي اللَّيْلِ بأوقية شيرج، طلبا للجماع.
وقال -رحمه الله- "6/ 496":
لَسْنَا نَدَّعِي فِي أَئِمَّةِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيْلِ العِصْمَةَ مِنَ الغَلَطِ النَّادِرِ، وَلاَ مِنَ الكَلاَمِ بنَفَسٍ حَادٍّ فِيْمَنْ بَيْنَهُم وَبَيْنَهُ شَحنَاءُ وَإِحْنَةٌ، وَقَدْ علم أن كثير مِنْ كَلاَمِ الأَقْرَانِ بَعْضِهِم فِي بَعْضٍ مُهدَرٌ، لاَ عِبْرَةَ بِهِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا وَثَّقَ الرجل جماعة يلوح على قولهم الإنصاف. ومحمد بن إسحاق ومالك بن أنس كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ نَالَ مِنْ صَاحِبِه، لَكِنْ أَثَّرَ كَلاَمُ مَالِكٍ فِي مُحَمَّدٍ بَعْضَ اللِّيْنِ، وَلَمْ يُؤثِّرْ كَلاَمُ مُحَمَّدٍ فِيْهِ وَلاَ ذَرَّةٍ، وارتفع مالك، وصار كالنجم، والآخر فَلَهُ ارْتفَاعٌ بِحَسْبِهِ, وَلاَ سِيَّمَا فِي السِّيَرِ، وَأَمَّا فِي أَحَادِيْثِ الأَحكَامِ، فَيَنحَطُّ حَدِيْثُه فِيْهَا عَنْ رُتْبَةِ الصِّحَّةِ إِلَى رُتْبَةِ الحَسَنِ إِلاَّ فِيْمَا شَذَّ فِيْهِ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ مُنْكَراً هَذَا الذي عندي في حاله، والله أعلم.
وقال في "السير" "6/ 518":
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الحَكَمِ: سمعت الشافعي يقول: قال حجاج ابن أَرْطَاةَ: لاَ تَتُمُّ مُرُوءةُ الرَّجُلِ حَتَّى يَترُكَ الصلاة في الجماعة.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: لَعَنَ اللهُ هَذِهِ المُرُوءةَ، مَا هِيَ إِلاَّ الحُمْقُ وَالكِبْرُ كَيْلاَ يُزَاحِمُه السُّوْقَةُ وَكَذَلِكَ تَجدُ رُؤَسَاءَ وَعُلَمَاءَ يُصَلُّونَ فِي جَمَاعَةٍ فِي غَيْرِ صَفٍّ، أَوْ تُبسَطُ لَهُ سُجَّادَةٌ كَبِيْرَةٌ حَتَّى لاَ يَلتَصِقَ بِهِ مُسْلِمٌ، فَإِنَّا للهِ.(1/48)
وقال في "السير" "6/ 530":
كَرِهَ طَائِفَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ قِرَاءةَ حَمْزَةَ، لِمَا فِيْهَا مِنَ السَّكْتِ، وَفَرطِ المَدِّ وَاتِّبَاعِ الرَّسمِ والإضجاع -أي الإمالة- وَأَشْيَاءَ ثُمَّ اسْتَقَرَّ اليَوْمَ الاتِّفَاقُ عَلَى قَبُولِهَا وبعضٌ كان حمزة لا يراه.
وقال "6/ 562":
محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب أَقدَمُ لُقْيَا لِلْكِبَارِ مِنْ مَالِكٍ وَلَكِنَّ مَالِكاً أَوسَعُ دَائِرَةً فِي العِلْمِ وَالفُتْيَا وَالحَدِيْثِ وَالإِتقَانِ منه بكثير.
ثم قال "6/ 563": قَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: بَلَغَ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّ مَالِكاً لَمْ يَأْخُذْ بِحَدِيْثِ: "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ". فَقَالَ: يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ أَوْرَعُ وَأَقْوَلُ بالحق من مالك.
فتعقبه الذهبي "6/ 564" بقوله:
قُلْتُ: لَوْ كَانَ وَرِعاً كَمَا يَنْبَغِي، لَمَا قَالَ هَذَا الكَلاَمَ القَبِيْحَ فِي حَقِّ إِمَامٍ عَظِيْمٍ، فَمَالِكٌ إِنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ بِظَاهِرِ الحَدِيْثِ لأَنَّهُ رَآهُ مَنْسُوْخاً وَقِيْلَ: عَمِلَ بِهِ، وَحَمَلَ قَوْلَه: "حَتَّى يَتَفَرَّقَا" عَلَى التَّلَفُّظِ بِالإِيجَابِ وَالقَبُولِ، فَمَالِكٌ فِي هَذَا الحَدِيْثِ، وَفِي كُلِّ حَدِيْثٍ لَهُ أَجْرٌ وَلاَ بُدَّ، فَإِنْ أَصَابَ، ازْدَادَ أَجراً آخَرَ، وَإِنَّمَا يَرَى السَّيْفَ عَلَى مَنْ أخطأ في اجتهاده الحرورية -أي الخوارج- وَبِكُلِّ حَالٍ: فَكَلاَمُ الأَقْرَانِ بَعْضِهِم فِي بَعْضٍ لاَ يُعَوَّلُ عَلَى كَثِيْرٍ مِنْهُ، فَلاَ نَقَصَتْ جَلاَلَةُ مَالِكٍ بِقَوْلِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِيْهِ، وَلاَ ضَعَّفَ العُلَمَاءُ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ بِمَقَالَتِهِ هَذِهِ، بَلْ هُمَا عَالِمَا المَدِيْنَةِ فِي زَمَانِهِمَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَلَمْ يُسنِدْهَا الإِمَامُ أَحْمَدُ، فلعلها لم تصح.
وقال في "السير" "8/ 276-278":
كَلاَمُ الأَقْرَانِ إِذَا تَبَرْهَنَ لَنَا أَنَّهُ بِهَوَىً وَعَصَبِيَّةٍ، لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، بَلْ يُطْوَى وَلاَ يُرْوَى, كَمَا تَقَرَّرَ عَنِ الكَفِّ عَنْ كَثِيْرٍ مِمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَقِتَالِهِم رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْنَ، وَمَا زَالَ يَمُرُّ بِنَا ذَلِكَ فِي الدَّوَاوينِ، وَالكُتُبِ، وَالأَجْزَاءِ، وَلَكِنْ أَكْثَرُ ذَلِكَ مُنْقَطِعٌ، وضَعِيْفٌ وَبَعْضُهُ كَذِبٌ وَهَذَا فِيْمَا بِأَيْدِيْنَا وَبَيْنَ عُلُمَائِنَا, فَيَنْبَغِي طَيُّهُ وَإِخْفَاؤُهُ، بَلْ إِعْدَامُهُ، لِتَصْفُوَ القُلُوْبُ وَتَتَوَفَّرَ عَلَى حُبِّ الصَّحَابَةِ وَالتَّرَضِّي عَنْهُمُ، وَكُتْمَانُ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ عَنِ العَامَّةِ، وَآحَادِ(1/49)
العُلَمَاءِ، وَقَدْ يُرَخَّصُ فِي مُطَالعَةِ ذَلِكَ خَلْوَةً لِلْعَالِمِ المُنْصِفِ، العَرِيِّ مِنَ الهَوَى، بِشَرْطِ أَنْ يستغفر لهم، كما علمنا الله -تعالى- حيث يقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشرُ: 10] ، فَالقَوْمُ لَهُم سَوَابِقُ وأعمال مكفرة لما وقع بينهم، وَجِهَادٌ مَحَّاءٌ، وَعُبَادَةٌ مُمَحِّصَةٌ، وَلَسْنَا مِمَّنْ يَغْلُو فِي أَحَدٍ مِنْهُم، وَلاَ نَدَّعِي فِيْهِم العِصْمَةَ، نَقْطَعُ بِأَنَّ بَعْضَهُم أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَنَقْطَعُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَفْضَلُ الأُمَّةِ، ثُمَّ تَتِمَّةُ العَشْرَةِ المَشْهُوْدِ لَهُم بِالجَنَّةِ، وَحَمْزَةُ، وَجَعْفَرٌ وَمُعَاذٌ وَزَيْدٌ، وَأُمَّهَاتُ المُؤْمِنِيْنَ، وَبنَاتُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْلُ بَدْرٍ مَعَ كَوْنِهِم عَلَى مَرَاتِبَ ثُمَّ الأَفْضَلُ بَعْدَهُم مِثْلَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَسَلْمَانَ الفَارِسِيِّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَائِرِ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، الَّذِيْنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم بِنَصِّ آيَةِ سُوْرَةِ الفَتْحِ ثُمَّ عُمُوْمُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ كخَالِدِ بنِ الوَلِيْدِ وَالعَبَّاسِ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، وَهَذِهِ الحَلْبَةُ, ثُمَّ سَائِرُ مَنْ صَحِبَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاهَدَ مَعَهُ أَوْ حَجَّ مَعَهُ أَوْ سَمِعَ مِنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُ أَجْمَعِيْنَ- وَعَنْ جَمِيْعِ صَوَاحِبِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُهَاجِرَاتِ وَالمَدَنِيَّاتِ وَأَمِّ الفَضْلِ وَأَمِّ هَانِئٍ الهَاشِمِيَّةِ, وَسَائِرِ الصَّحَابِيَّاتِ.
فَأَمَّا مَا تَنْقُلُهُ الرَّافِضَةُ، وَأَهْلُ البِدَعِ فِي كُتُبِهِم مِنْ ذَلِكَ فَلاَ نُعَرِّجُ عَلَيْهِ وَلاَ كرَامَةَ، فَأَكْثَرُهُ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ فَدَأْبُ الرَّوَافِضِ رِوَايَةُ الأَبَاطِيْلِ، أوْ ردِّ مَا فِي الصحاح والمسانيد ومتى إفاقة من به سكر؟! ثُمَّ قَدْ تَكَلَّمَ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعِيْنَ بَعْضُهُم فِي بَعْضٍ وَتحَارَبُوا، وَجَرَتْ أُمُورٌ لاَ يُمْكِنُ شَرْحُهَا فَلاَ فَائِدَةَ فِي بَثِّهَا، وَوَقَعَ فِي كُتُبِ التَّوَارِيْخِ، وَكُتُبِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ أُمُورٌ عَجِيْبَةٌ، والعاقل خصم نفسه، ومن حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيْهِ، وَلُحُومُ العُلَمَاءِ مَسْمُومَةٌ، وَمَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ لِتَبْيِينِ غَلَطِ العَالِمِ، وَكَثْرَةِ وَهْمِهِ، أَوْ نَقْصِ حِفْظِهِ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ، بَلْ لِتَوضيحِ الحَدِيْثِ الصَّحِيْحِ مِنَ الحَسَنِ وَالحَسَنِ مِنَ الضَّعيفِ.
وإمامنا الشافعي فَبِحَمْدِ اللهِ ثَبْتٌ فِي الحَدِيْثِ، حَافِظٌ لِمَا وَعَى, عَدِيْمُ الغَلَطِ، مَوْصُوفٌ بِالإِتْقَانِ, مَتِيْنُ الدِّيَانَةِ فَمَنْ نَالَ مِنْهُ بِجَهْلٍ وَهوَىً, مِمَّنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُنَافسٌ لَهُ, فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَمَقَتَتْهُ العلماء, ولاح لكل حافظ تخامله, وَجَرَّ النَّاسَ بِرِجْلِهِ، وَمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ، وَاعْتَرفَ بإمامته وإتقانه، وهم أهل الحل والعقد, قَدِيْماً وَحَدِيْثاً, فَقَدْ أَصَابُوا، وَأَجْمَلُوا, وَهُدُوا, وَوُفِّقُوا.
وَأَمَّا أَئمَّتُنَا اليَوْمَ، وَحُكَّامُنَا، فَإِذَا أَعْدَمُوا مَا وُجِدَ مِنْ قَدْحٍ بِهوَىً فَقَدْ يُقَالُ: أَحْسَنُوا وَوُفِّقُوا وَطَاعَتُهُم فِي ذَلِكَ مُفْتَرَضَةً، لِمَا قَدْ رَأَوهُ مِنْ حَسْمِ مَادَةِ البَاطِلِ وَالشَّرِّ.(1/50)
وبِكُلِّ حَالٍ فَالجُهَّالُ وَالضُّلاَّلُ، قَدْ تَكَلَّمُوا فِي خِيَارِ الصَّحَابَةِ، وَفِي الحَدِيْثِ الثَّابتِ: "لاَ أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذَىً يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلداً، وَإِنَّهُ لَيَرْزُقُهُم وَيُعَافِيَهُمْ" 1.
وَقَدْ كُنْتُ وَقَفْتُ عَلَى بَعْضِ كَلاَمِ المغَارِبَةِ فِي الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- فَكَانَتْ فَائِدتِي مِنْ ذَلِكَ تَضْعِيفُ حَالِ مَنْ تَعَرَّضَ إِلَى الإِمَامِ، وَللهِ الحَمْدُ.
وَلاَ رَيْبَ أَنَّ الإِمَامَ لَمَّا سَكَنَ مِصْرَ، وَخَالَفَ أَقْرَانَهُ مِنَ المَالِكيَّةِ، وَوَهَّى بَعْضَ فُرُوْعِهِم بِدَلاَئِلِ السُّنَّةِ، وَخَالَفَ شَيْخَهُ فِي مَسَائِلَ, تَأَلَّمُوا مِنْهُ، وَنَالُوا مِنْهُ، وَجَرَتْ بَيْنَهُم وَحْشَةٌ، غَفَرَ اللهُ لِلْكُلِّ. وَقَدِ اعتَرَفَ الإِمَامُ سُحْنُوْنُ، وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ فِي الشَّافِعِيِّ بِدْعَةٌ فَصَدَقَ وَاللهِ، فَرَحِمَ اللهُ الشَّافِعِيَّ وَأَيْنَ مِثْلُ الشَّافِعِيِّ وَاللهِ فِي صِدْقِهِ, وَشَرَفِهِ, وَنُبلِهِ, وَسَعَةِ عِلْمِهِ, وَفَرْطِ ذَكَائِهِ, وَنَصْرِهِ لِلْحَقِّ, وَكَثْرَةِ مَنَاقبِهِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
وقال في "السير" "8/ 278-279":
قَالَ الحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيْبُ فِي مَسْأَلَةِ الاحْتِجَاجِ بِالإِمَامِ الشَّافِعِيِّ, فِيْمَا قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الفَضْلِ بنِ عَسَاكِرَ، عَنْ عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا يُوْسُفُ بنُ أَيُّوْبَ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا الخَطِيْبُ قَالَ: سَأَلَنِي بَعْضُ إِخْوَانِنَا بَيَانَ عِلَّةِ تَرْكِ البُخَارِيِّ الرِّوَايَةَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي "الجَامِعِ"؟ وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى رَأْي أبي حنيفة ضعف أحاديث الشافعي، واعترض باعتراض البُخَارِيِّ عَنْ رِوَايتِهِ، وَلَوْلاَ مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ فِيْمَا يَعْلَمُوْنَهُ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ، لَكَانَ أَوْلَى الأَشْيَاءِ الإِعْرَاضُ عَنِ اعتِرَاضِ الجُهَّالِ، وَتَرْكُهُمْ يَعْمَهُونَ. وَذَكَرَ لِي مَنْ يُشَارُ إِلَيْهِ خُلُوَّ كِتَابِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهُ مِنْ حَدِيْثِ الشَّافِعِيِّ فَأَجَبْتُهُ بما فتح الله علي: وَمثلُ الشَّافِعِيِّ مَنْ حُسِدَ، وَإِلَى سَتْرِ مَعَالِمِهِ قُصِدَ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتَمَّ نُورَهُ، وَيُظْهِرَ مِنْ كُلِّ حَقٍّ مَسْتُورَهُ، وَكَيْفَ لاَ يُغْبَطُ مَنْ حَازَ الكَمَالَ، بِمَا جَمَعَ اللهُ لَهُ مِنَ الخِلاَلِ اللَّوَاتِي لاَ يُنْكِرُهَا إِلاَّ ظَاهِرُ الجَهْلِ، أَوْ ذَاهِبُ العَقْلِ. ثُمَّ أَخَذَ الخَطِيْبُ يُعَدِّدُ عُلُوْمَ الإِمَامِ وَمنَاقبَهِ، وَتَعْظِيْمَ الأَئِمَّةِ لَهُ وَقَالَ:
أَبَى اللهُ إِلاَّ رَفْعَهُ وَعُلُوَّهُ ... وليس بما يُعْلِيهِ ذُو العَرْشِ وَاضِعُ
إِلَى أَنْ قَالَ: وَالبُخَارِيُّ هَذَّبَ مَا فِي "جَامِعِهِ" غَيْرَ أَنَّهُ عَدَلَ عَنْ كَثِيْرٍ مِنَ الأُصُوْلِ، إِيثَاراً لِلإِيجَازِ.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "6099"، ومسلم "2804"، وقد خرجته بإسهاب في الموضع المشار إليه فراجعه ثمت.(1/51)
قَالَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ مَعْقِلٍ: سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: مَا أَدْخَلْتُ فِي كتَابِيَ "الجَامِعَ" إِلاَّ مَا صَحَّ، وَتَرَكْتُ مِنَ الصِّحَاحِ لِحَالِ الطُّولِ.
فَتَرْكُ البُخَارِيِّ الاحْتِجَاجَ بِالشَّافِعِيِّ، إِنَّمَا هُوَ لاَ لِمَعْنَى يُوْجِبُ ضَعْفَهُ، لَكِن غَنِيَ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، إِذْ أَقدَمُ شُيُوْخِ الشَّافِعِيِّ: مَالِكٌ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ، وَدَاوُدُ العَطَّارُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَالبُخَارِيُّ لَمْ يُدْرِكِ الشَّافِعِيَّ بَلْ لَقِيَ مَنْ هُوَ أَسنُّ مِنْهُ كعُبَيْدِ اللهِ بنِ مُوْسَى، وَأَبِي عَاصِمٍ، مِمَّنْ رَوَوا عَنِ التَّابِعِيْنَ، وَحَدَّثَهُ عَنْ شُيُوْخِ الشَّافِعِيِّ عِدَّةٌ فَلَمْ يرَ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ مَالِكٍ.
فَإِنْ قِيْلَ: فَقَدْ رَوَى عَنِ المُسْنَدِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ عَمْرٍو، عَنِ الفَزَارِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، فَلاَ شَكَّ أَنَّ البُخَارِيَّ سَمِعَ هَذَا الخَبَرَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهُوَ فِي "المُوَطَّأِ" فَهَذَا يَنْقُضُ عَلَيْكَ؟!
قُلْنَا: إِنَّهُ لَمْ يَرْوِ حَدِيْثاً نَازِلاً وَهُوَ عِنْدَهُ عَالٍ، إِلاَّ لِمَعْنَى مَا يَجِدُهُ فِي العَالِي، فَأَمَّا أَنْ يُورِدَ النَّازلَ وَهُوَ عِنْدَهُ عَالٍ لاَ لِمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِ، وَلاَ عَلَى وَجْهِ المتَابعَةِ لِبَعْضِ مَا اخْتُلِفَ فِيْهِ، فَهَذَا غَيْرُ مَوْجُوْدٍ فِي الكِتَابِ، وَحَدِيْثُ الفَزَارِيِّ فِيْهِ بَيَانُ الخَبَرِ، وَهُوَ مَعْدُوْمٌ فِي غَيْرِهِ، وَجَوَّدَهُ الفَزَارِيُّ بِتَصْرِيْحِ السَّمَاعِ.
ثُمَّ سَرَدَ الخَطِيْبُ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ عِدَّةٍ، قَالَ: وَالبُخَارِيُّ يَتَّبِعُ الأَلْفَاظَ بِالخَبَرِ فِي بَعْضِ الأَحَادِيْثَ وَيُرَاعِيهَا وَإِنَّا اعْتَبَرْنَا رِوَايَاتِ الشَّافِعِيِّ الَّتِي ضَمَّنَهَا كُتُبَهُ، فَلَمْ نَجِدْ فِيْهَا حَدِيْثاً وَاحِداً عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ أَغْرَبَ بِهِ، وَلاَ تَفَرَّدَ بِمَعْنَى فِيْهِ يُشْبِهُ مَا بَيَّنَّاهُ. وَمثلُ ذَلِكَ القَوْلِ فِي تَرْكِ مُسْلِمٍ إِيَّاهُ لإِدرَاكِهِ مَا أَدْرَكَ البُخَارِيُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا أَبُو دَاوُدَ، فَأَخْرَجَ فِي "سُنَنِهِ" لِلشَّافِعِيِّ غَيْرَ حَدِيْثٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وابن أبي حاتم.
ثم سرد الخطيب فضلا فِي ثَنَاءِ مَشَايخِهِ وَأَقْرَانِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَرَدَ أَشْيَاءَ فِي غَمْزِ بَعْضِ الأَئِمَّةِ فَأَسَاءَ مَا شاء -أعني غامزه.
وقال في "السير" "11/ 300-301":
قال الشيخ محيي الدين النواوي: لابن المنذر مِنَ التَّحْقِيْقِ فِي كُتُبِه مَا لاَ يُقَارِبُهُ فِيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ فِي نِهَايَةٍ مِنَ التَّمكُّنِ مِنْ مَعْرِفَة الحَدِيْثِ، وَلَهُ اخْتِيَارٌ فَلاَ يَتَقيَّدُ فِي الاخْتِيَارِ بِمَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ، بَلْ يَدُورُ مَعَ ظهور الدليل.(1/52)
وعقب الحافظ الذهبي بقوله: قُلْتُ: مَا يَتَقَيَّدُ بِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ إِلاَّ مَنْ هُوَ قَاصِرٌ فِي التَّمَكُّنِ مِنَ العِلْمِ، كَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ زَمَانِنَا، أَوْ مَنْ هُوَ مُتَعَصِّبٌ وَهَذَا الإمام مِنْ حَمَلَةِ الحُجَّةِ، جَارٍ فِي مِضْمَارِ ابْنِ جَرِيْرٍ، وَابْنِ سُرَيْجٍ وَتِلْكَ الحَلَبَةِ رَحِمَهُمُ اللهُ.
وقال في "السير" "7/ 176-178":
من التزم بتقليد إمام، فإن لَهُ مُخَالَفَةُ إِمَامِهِ إِلَى إِمَامٍ آخَرَ، حُجَّتُهُ فِي تِلْكَ المَسْأَلَةِ أَقوَى، لاَ بَلْ عَلَيْهِ اتباع الدليل فيما تبرهن له، ولا كَمَنْ تَمَذْهَبَ لإِمَامٍ، فَإِذَا لاَحَ لَهُ مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ، عَمِلَ بِهِ مِنْ أَيِّ مَذْهَبٍ كَانَ، وَمَنْ تَتَبَّعَ رُخَصَ المَذَاهِبِ، وَزَلاَّتِ المُجْتَهِدِيْنَ، قد رَقَّ دِيْنُهُ، كَمَا قَالَ الأَوْزَاعِيُّ أَوْ غَيْرُهُ: مَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ المَكِّيِّيْنَ فِي المُتْعَةِ، وَالكُوْفِيِّيْنَ فِي النَّبِيذِ، وَالمَدَنِيِّينَ فِي الغِنَاءِ، وَالشَّامِيِّينَ فِي عصمة الخلفاء، وَنِكَاحِ التَّحْلِيْلِ بِمَنْ تَوسَّعَ فِيْهِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلانحِلاَلِ، فَنَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ وَالتَّوفِيْقَ.
وَلَكِنْ شَأْنُ الطَّالِبِ أَنْ يَدْرُسَ أَوَّلاً مُصَنَّفاً فِي الفِقْهِ، فَإِذَا حَفِظَهُ، بَحَثَهُ وَطَالَعَ الشُّرُوحَ، فَإِنْ كَانَ ذَكِيّاً فَقِيْهَ النَّفْسِ وَرَأَى حُجَجَ الأَئِمَّةِ فَلْيُرَاقِبِ اللهَ وَلْيَحْتَطْ لِدِيْنِهِ، فَإِنَّ خَيْرَ الدين الورع، ومن ترك الشبهات فَقَدِ اسْتَبرَأَ لِدِيْنِهِ وَعِرْضِهِ وَالمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ.
فَالمُقَلَّدُوْنَ صحَابَةُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرْطِ ثُبُوْتِ الإِسْنَادِ إِلَيْهِم، ثُمَّ أَئِمَّةُ التَّابِعِيْنَ كَعَلْقَمَةَ، وَمَسْرُوْقٍ, وَعَبِيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ, وَسَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ, وَأَبِي الشَّعْثَاءِ, وَسَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، وَعُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ, وَعُرْوَةَ, وَالقَاسِمِ, وَالشَّعْبِيِّ, وَالحَسَنِ، وَابْنِ سِيْرِيْنَ، وَإِبْرَاهِيْمَ النَّخَعِيِّ. ثُمَّ كَالزُّهْرِيِّ, وَأَبِي الزِّنَادِ, وَأَيُّوْبَ السِّخْتِيَانِيِّ, وَرَبِيْعَةَ, وَطَبَقَتِهِم.
ثم كأبي حنيفة ومالك والأوزارعي وَابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ وَابْنِ أَبِي عَرُوْبَةَ وَسُفْيَانَ الثوري والحمادين وشعبة والليثي وَابْنِ المَاجِشُوْنِ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ثُمَّ كَابْنِ المُبَارَكِ، وَمُسْلِمٍ الزَّنْجِيِّ وَالقَاضِي أَبِي يُوْسُفَ والهِقْل بنِ زِيَادٍ وَوَكِيْعٍ وَالوَلِيْدِ بنِ مُسْلِمٍ, وَطَبَقَتِهِم.
ثُمَّ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالبُوَيْطِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ بنِ أَبِي شَيْبَةَ ثم كالمزني وأبي بكر بن الأَثْرَمِ وَالبُخَارِيِّ وَدَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدِ بنِ نَصْرٍ المَرْوَزِيِّ وَإِبْرَاهِيْمَ الحَرْبِيِّ، وَإِسْمَاعِيْلَ القَاضِي.(1/53)
ثُمَّ كَمُحَمَّدِ بنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ بنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي عَبَّاسٍ بنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي بَكْرٍ بنِ المُنْذِرِ, وَأَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الخَلاَّلِ.
ثُمَّ مِنْ بَعْدِ هَذَا النَّمَطِ تناقص الاجتهاد، ووضعت المختصرات، وأخذ الفُقَهَاءُ إِلَى التَّقْلِيْدِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي الأَعْلَمِ، بَلْ بِحَسبِ الاتِّفَاقِ، وَالتَّشَهِّي، وَالتَّعْظِيْمِ، وَالعَادَةِ، وَالبَلَدِ. فَلَو أَرَادَ الطَّالِبُ اليَوْمَ أَنْ يَتَمَذْهَبَ فِي المَغْرِبِ لأَبِي حَنِيْفَةَ، لَعَسُرَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَذْهَبَ لابْنِ حَنْبَلٍ بِبُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ، لَصَعُبَ عَلَيْهِ، فَلاَ يَجِيْءُ مِنْهُ حَنْبَلِيٌّ، وَلاَ مِنَ المَغْرِبِيِّ حَنَفِيٌّ, وَلاَ مِنَ الهِنْدِيِّ مَالِكِيٌّ وَبِكُلِّ حَالٍ: فَإِلَى فِقْهِ مَالِكٍ المُنْتَهَى، فَعَامَّةُ آرَائِهِ مُسَدَّدَةٌ، وَلَو لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ حَسمُ مَادَةِ الحِيَلِ، وَمُرَاعَاةُ المَقَاصِدِ لَكَفَاهُ.
وَمَذْهَبُهُ قَدْ مَلأَ المَغْرِبَ وَالأَنْدَلُسَ، وَكَثِيْراً مِنْ بِلاَدِ مِصْرَ، وَبَعْضَ الشَّامِ، وَالِيَمَنَ، وَالسُّوْدَانَ، وَبِالبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ، وَالكُوْفَةِ، وَبَعْضِ خُرَاسَانَ.
وَكَذَلِكَ اشْتُهِرَ مَذْهَبُ الأَوْزَاعِيِّ مُدَّةً وَتَلاَشَى أَصْحَابُهُ، وَتَفَانَوْا. وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَمَّيْنَا وَلَمْ يَبْقَ اليَوْمَ إِلاَّ هَذِهِ المَذَاهِبُ الأَرْبَعَةُ. وَقَلَّ مَنْ يَنهَضُ بِمَعْرِفَتِهَا كَمَا يَنْبَغِي، فَضْلاً عَنْ أَنْ يَكُوْنَ مجتهدا وانقطع أتباع ثَوْرٍ بَعْدَ الثَّلاَثِ مائَةٍ، وَأَصْحَابُ دَاوُدَ إِلاَّ القليل، وبقى مذهب جرير إلى ما بعد الأربعمائة.
وَللزَّيْدِيَّةِ مَذْهَبٌ فِي الفُرُوْعِ بِالحِجَازِ وَبِاليَمَنِ، لَكِنَّهُ مَعْدُوْدٌ فِي أَقْوَالِ أَهْلِ البِدَعِ، كَالإِمَامِيَّةِ، وَلاَ بَأْسَ بِمَذْهَبِ دَاوُدَ، وَفِيْهِ أَقْوَالٌ حَسَنَةٌ، وَمُتَابَعَةٌ لِلنُّصُوصِ، مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ العُلَمَاءِ لاَ يَعتَدُّونَ بِخِلاَفِهِ، وَلَهُ شُذُوْذٌ فِي مَسَائِلَ شَانَتْ مذهبه.
وأما القاضي عياض، فَذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقلِيْدِهِم إِجْمَاعاً، فإنه سمى المذاهب الأربعة والسفيانية والأوزاعية، والداودية. ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: فَهَؤُلاَءِ الَّذِيْنَ وَقَعَ إِجْمَاعُ النَّاسِ عَلَى تَقْلِيْدِهِم، مَعَ الاخْتِلاَفِ فِي أَعْيَانِهِم، وَاتِّفَاقِ العُلَمَاءِ عَلَى اتِّبَاعِهِم، وَالاقْتِدَاءِ بِمَذَاهِبِهِم، وَدَرْسِ كُتُبِهِم، وَالتَّفَقُّهِ عَلَى مَآخِذِهِم، وَالتَّفْرِيْعِ عَلَى أُصُوْلِهِم، دُوْنَ غَيْرِهِم مِمَّنْ تَقَدَّمَهُم أَوْ عَاصَرَهُم؛ لِلْعِلَلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَصَارَ النَّاسُ اليَوْمَ فِي الدُّنْيَا إلى خمسة مذاهب، فالخامس: هو مذهب الداودية. حق عَلَى طَالِبِ العِلْمِ أَنْ يَعْرِفَ أَوْلاَهُم بِالتَّقْلِيْدِ، لِيَحصَلَ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَهَا نَحْنُ نُبَيِّنُ أَنَّ مَالِكاً -رَحِمَهُ اللهُ- هُوَ ذَلِكَ؛ لِجَمعِهِ أَدَوَاتِ الإِمَامَةِ، وَكَونِهِ أَعْلَمَ القَوْمِ.(1/54)
ثُمَّ وَجَّهَ القَاضِي دَعوَاهُ، وَحَسَّنَهَا، وَنَمَّقَهَا وَلَكِنْ مَا يَعْجِزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ حَنَفِيٍّ، وَشَافِعِيٍّ، وحنبلي، وداودي عَنِ ادِّعَاءِ مِثْلِ ذَلِكَ لِمَتْبُوعِه، بَلْ ذَلِكَ لِسَانُ حَالِه، وَإِنْ لَمْ يَفُهْ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: وَعِنْدنَا -وَللهِ الحَمْدُ- لِكُلِّ إِمَامٍ مِنَ المَذْكُوْرِيْنَ مَنَاقِبُ تَقْضِي لَهُ بِالإِمَامَةِ.
فعقب الذهبي بقوله: قلت: ولكن مالكا هَذَا الإِمَامَ الَّذِي هُوَ النَّجمُ الهَادِي قَدْ أَنْصَفَ، وَقَالَ قَوْلاً فَصْلاً، حَيْثُ يَقُوْلُ: كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِه، وَيُتْرَكُ إِلاَّ صَاحِبَ هَذَا القَبْرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلاَ رَيْبَ أَنَّ كُلَّ مِنْ أَنِسَ مِنْ نَفْسِهِ فِقهاً، وَسَعَةَ عِلْمٍ، وَحُسْنَ قَصدٍ، فَلاَ يَسَعُهُ التزام بِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ فِي كُلِّ أَقْوَالِه، لأَنَّهُ قَدْ تبرهن له مذهب الغير فِي مَسَائِلَ وَلاَحَ لَهُ الدَّلِيْلُ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ، فَلاَ يُقَلِّدُ فِيْهَا إِمَامَهُ، بَلْ يَعْمَلُ بما تبرهن ويقل الإِمَامَ الآخَرَ بِالبُرْهَانِ، لاَ بِالتَّشَهِّي وَالغَرَضِ. لِكَنَّهُ لاَ يُفْتِي العَامَّةَ إِلاَّ بِمَذْهَبِ إِمَامِه، أَوْ لِيَصمُتْ فِيْمَا خَفِيَ عَلَيْهِ دَلِيْلُهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: العِلْمُ يَدُوْرُ عَلَى ثَلاَثَةٍ: مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ عيينة.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: بَلْ وَعَلَى سَبْعَةٍ مَعَهُم وَهُمُ: الأَوْزَاعِيُّ، والثوري، ومعمر، وأبو حنيفة، وشعبة، والحمادان.
وقال في "السير" "10/ 273-274":
للعلماء قولان في الاعتداد بخلاف داود بن علي الظاهري، فَمَنْ اعتَدَّ بِخِلاَفِهِم قَالَ: مَا اعْتِدَادُنَا بِخِلاَفِهِم لأَنَّ مُفْرَدَاتِهِم حُجَّةٌ، بَلْ لِتُحكَى فِي الجُمْلَةِ، وَبَعْضُهَا سَائِغٌ، وَبَعْضُهَا قَوِيٌّ، وَبَعْضُهَا سَاقِطٌ، ثُمَّ مَا تَفَرَّدُوا بِهِ هُوَ شَيْءٌ مِنْ قَبِيْلِ مُخَالَفَةِ الإِجْمَاعِ الظَّنِّي، وَتَنْدُرُ مُخَالَفَتُهُم لإِجْمَاعٍ قَطْعِي، وَمَنْ أَهْدَرَهُم، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِهِم، لَمْ يَعُدَّهُم فِي مَسَائِلِهِم المُفْرِدَةِ خَارِجِيْنَ بِهَا مِنَ الدِّيْنِ، وَلاَ كَفَّرَهُم بِهَا، بَلْ يَقُوْلُ: هَؤُلاَءِ فِي خير العَوَامِّ، أَوْ هُم كَالشِّيْعَةِ فِي الفُرُوْعِ، وَلاَ نَلْتَفِتُ إِلَى أَقْوَالِهِم، وَلاَ نَنْصِبُ مَعَهُم الخِلاَفَ، وَلاَ يُعْتَنَى بِتَحْصِيْلِ كُتُبِهِم، وَلاَ نَدُلُّ مُسْتَفْتِياً من العامة عليهم، وإذا تظاهروا بِمَسْأَلَةٍ مَعْلُوْمَةِ البُطْلاَنِ، كَمَسْحِ الرِّجِلَيْنِ أَدَّبْنَاهُم، وَعَزَّرْنَاهُم، وَأَلزَمْنَاهُم بِالغَسْلِ جَزْماً.
قَالَ الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الإِسْفَرَايِيْنِيُّ: قَالَ الجُمْهُوْرُ: إِنَّهُم يَعْنِي نُفَاةَ القِيَاسِ -لاَ يَبْلُغُونَ رُتْبَةَ الاجتِهَادِ، وَلاَ يَجُوْزُ تَقْلِيْدُهُم القضاء.(1/55)
وَنَقَلَ الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُوْرٍ البَغْدَادِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ بنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَطَائِفَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ اعتِبَارَ بِخِلاَفِ دَاوُدَ، وَسَائِرِ نُفَاةِ القِيَاسِ فِي الفُرُوْعِ دُوْنَ الأُصُوْلِ.
وَقَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ أَبُو المَعَالِي: الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ التَّحْقِيْقِ: أَنَّ مُنْكِرِي القِيَاس لاَ يُعَدُّوْنَ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ، وَلاَ مِنْ حَمَلَةِ الشَّرِيْعَةِ، لأَنَّهُم مُعَانِدُوْنَ مُبَاهِتُوْنَ فِيمَا ثَبَتَ اسْتفَاضَةً وَتَوَاتُراً، لأَنَّ مُعْظَمَ الشَّرِيْعَةِ صَادِرٌ عَنِ الاجتِهَادِ، وَلاَ تَفِي النصوص بعشر معشارها، وهؤلاء ملتحقون بالعوام.
فعقب الذهبي "10/ 274" بقوله:
قُلْتُ: هَذَا القَوْلُ مِنْ أَبِي المعَالِي أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَهُم فَأَدَّاهُم اجتِهَادُهُم إِلَى نَفِي القول بالقول بِالقِيَاسِ، فَكَيْفَ يُرَدُّ الاجتِهَادُ بِمِثْلِهِ، وَنَدْرِي بِالضَّرُوْرَةِ أَنَّ دَاوُدَ كَانَ يُقْرِئُ مَذْهَبَهُ، وَيُنَاظِرُ عَلَيْهِ، وَيُفْتِي بِهِ فِي مِثْلِ بَغْدَادَ، وَكَثْرَةِ الأَئِمَّةِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، فَلَم نَرَهُم قَامُوا عَلَيْهِ، وَلاَ أَنْكَرُوا فَتَاويه وَلاَ تَدْرِيسَهُ وَلاَ سَعَوا فِي مَنْعِهِ مِنْ بَثِّهِ وَبَالحَضْرَةِ مِثْلُ إِسْمَاعِيْلَ القَاضِي شيخ المالكية، وَابْنَي الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَبِي العَبَّاسِ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ البِرْتِيِّ شَيْخِ الحَنَفِيَّةِ، وَأَحْمَدَ بنِ أَبِي عمران القاضي، ومثل عالم بَغْدَادَ إِبْرَاهِيْمَ الحَرْبِيِّ، بَلْ سَكَتُوا لَهُ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ قَاسِمُ بنُ أَصْبَغَ: ذَاكَرْتُ الطَّبرِيَّ -يَعْنِي ابْنَ جَرِيْرٍ وَابْنَ سُرَيْجٍ، فَقُلْتُ لَهُمَا: كِتَابُ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي الفِقَهِ أَيْنَ هُوَ عِنْدَكُمَا؟ قَالاَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلاَ كِتَابُ أَبِي عُبَيْدٍ، فَإِذَا أَرَدْتَ الفِقْهَ فَكُتُبُ الشَّافِعِيِّ، وَدَاوُدَ، ونظرائهما.
وقال الذهبي "1/ 275" قُلْتُ:
لاَ رَيْبَ أَنَّ كُلَّ مسَأَلَةٍ انْفَرَدَ بها داود وقطع ببطلان قوله فيها، فإنه هَدْرٌ، وَإِنَّمَا نَحْكِيهَا للتَّعَجُّبِ، وَكُلَّ مسَأَلَةٍ لَهُ عَضَدَهَا نَصٌّ وَسَبَقَهُ إِلَيْهَا صَاحِبٌ أَوْ تَابِعٌ، فهي من مسائل الخلاف فلا تهدر.
وقال -رحمه الله- في "السير" "5/ 393":
اليَمِيْنَ بِالطَّلاَقِ فِي الغَضَبِ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ فلا يقع بذلك طلاق.
وقال في "السير" "11/ 171-172":
حَكَى أَبُو عَلِيٍّ التَّنُوْخِيّ فِي "النشوَار" لَهُ، عَنْ عُثْمَانَ بنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ منجو القَائِد قَالَ: حَدَّثَنِي غُلاَمٌ لاِبْنِ المزوّق قَالَ: اشْتَرَى مَوْلاَيَ جَارِيَة، فَزَوَّجَنِيْهَا،(1/56)
فَأَحْبَبْتُهَا وَأَبْغَضَتْنِي حَتَّى ضَجِرْتُ، فَقُلْتُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقُ ثَلاَثاً، لاَ تُخَاطِبِيْنِي بِشَيْءٍ إِلاَّ قُلْتُ لَكِ مثلَه، فَكَم أَحتملُكِ؟! فَقَالَتْ فِي الحَال: أَنْتَ طَالِقٌ ثَلاَثاً فَأُبْلِسْتُ فَدُلِلْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ جَرِيْرٍ، فَقَالَ لِي: أَقِمْ مَعَهَا بَعْدَ أَنْ تَقُولُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً إِنْ طَلَّقْتُكِ. فَاسْتَحْسَنَ هَذَا الجَوَاب وَذكرَهُ شَيْخُ الحَنَابِلَة ابْنُ عَقِيْلٍ وَقَالَ: وَلَهُ جَوَابٌ آخر: أَنْ يَقُوْلَ كَقَوْلِها سوَاء: أنتَ طَالِقٌ ثَلاَثاً -بِفَتْح التَّاء- فَلاَ يَحْنَث.
وَقَالَ أَبُو الفَرَجِ ابْنُ الجوزي: وما كان يلزمها أن يقول لها ذلك عَلَى الْفَوْر، فَلَهُ التَّمَادِي إِلَى قَبْلِ المَوْت.
فكيف عقب العلامة الذهبي على هذه الواقعة؟! لقد عقب بجواب ينبئ عن حذقه ورسوخ قدمه في علم الفقه فقال -رحمه الله تعالى- "11/ 172":
قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً، وَقَصَدَ الاسْتفهَام أَوْ عَنَى أَنَّهَا طَالِقٌ مِنْ وَثَاق، أَوْ عَنَى الطَّلْقَ لَمْ يَقَعْ طلاَقٌ فِي بَاطِن الأَمْر.
وَله جَوَابٌ آخر عَلَى قَاعدَة مُرَاعَاة سَبَب اليَمِين وَنيَّة الحَالف، فَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُوْلَ لَهَا مَا قَالَتْهُ، إِذْ مِنَ المَعْلُوْم بِقَرِيْنَةِ الحَال اسْتثنَاءُ ذَلِكَ قطعاً، لأَنَّه مَا قَصَدَ إِلاَّ أَنَّهَا إِذَا قَالَتْ لَهُ مَا يُؤذيه أَنْ يُؤذيهَا بِمِثْلِهِ، وَلَوْ جَاوبهَا بِالطَّلاَقِ لَسُرَّتْ هِيَ، وَلتَأَذَّى هُوَ، كَمَا اسْتُثْنِي مِنْ عُموم قَوْله تَعَالَى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النَّمْل: 23] ، بقرينَة الحَال أَنَّهَا لَمْ تؤت لحية ولا إِحليلاً. وَمِنَ المَعْلُوْم اسْتثنَاؤُهُ بِالضَّرورَة الَّتِي لَمْ يَقْصِدْهَا الحَالفُ قَطُّ لَوْ حلف: لاَ تقولِي لِي شَيْئاً إِلاَّ قُلْتُ لَكِ مثلَه، أَنَّهَا لَوْ كَفَرَتْ وَسَبَّتِ الأَنْبِيَاءَ فَلَمْ يُجَاوِبْهَا بِمثلِ ذَلِكَ لأَحسنَ. ثمَّ يَقُوْلُ طَائِفَةٌ مِنَ الفُقَهَاء: إِنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ -وَالعيَاذُ بِاللهِ- قَصَدَ دُخُوْلَ ذَلِكَ فِي يمِينِهِ.
وَأَمَّا على مذهب داود بن علي الظاهري، وَابْنِ حَزْمٍ، وَالشِّيْعَة، وَغَيْرهم، فَلاَ شَيْء عَلَيْهِ، وَرأَوا الحلفَ وَالأَيْمَان بِالطَّلاَق مِنْ أَيْمَان اللَّغْوِ، وَأَنَّ اليَمِين لاَ تنعقدُ إِلاَّ بِاللهِ.
وذهبَ إمام في زماننا إلى مَنْ حَلَفَ عَلَى حضٍّ أَوْ مَنْعٍ بِالطَّلاَق، أَوِ العِتَاق، أَوِ الحَجِّ، وَنحو ذَلِكَ فَكَفَّارَتُهُ كفارة يمين، ولا طلاق عليه.
هكذا أجاب العلامة الحاذق على هذه الواقعة المشكلة فرحم الله إمامنا العلامة الحافظ الذهبي.(1/57)
وقال في "السير" "12/ 504":
رُبَّمَا آل الأَمْرُ بِالمَعْرُوف بصَاحِبه إِلَى الغضبِ وَالحِدَّة، فيقعُ فِي الهِجْرَان المُحَرَّمُ، وَرُبَّمَا أَفضَى إلى التكفير وَالسَّعْي فِي الدَّمِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو عَبْدِ الله بن مندة وَافرَ الجَاهِ وَالحُرمَةِ إِلَى الغَايَة بِبَلَدِهِ، وَشَغَّب عَلَى أَحْمَدَ بنِ عَبْدِ اللهِ الحَافِظِ، بِحيث أن أحمد اختفى.
وقال في "السير" "15/ 167-168":
الإِمَام إِذَا كَانَ لَهُ عقل جَيِّد، وَدين مَتِين صلح بِهِ أَمر المَمَالِك، فَإِنْ ضعف عَقْله، وَحسنت ديَانتُه حَمله الدِّيْنُ عَلَى مشَاورَة أَهْل الْحزم، فَتسددت أُمُوْرُه، وَمشت الأَحْوَال، وَإِنْ قل دينه، ونبل رأيه، تعبت البِلاَد وَالعبَاد، وَقَدْ يَحمله نبل رَأْيه عَلَى إِصْلاَح ملكه وَرعيته لِلدُّنْيَا، لاَ لِلتَّقْوَى، فَإِنْ نَقص رَأْيه، وَقل دينه وَعَقْله، كثر الفسَاد، وضاعت الرعية، وتعبوا به، إلا أنه يَكُوْنَ فِيْهِ شجَاعَة، وَلَهُ سطوَة وَهَيْبَة فِي النُّفُوْس، فَيْنجبر الحَال، فَإِنْ كَانَ جَبَاناً، قَلِيْلَ الدِّيْنِ، عَدِيْمَ الرَّأْي، كَثِيْر الْعَسْف، فَقَدْ تَعرَّض لبلاَء عَاجِل، وَرُبَّمَا عُزل وَسُجن إِنْ لَمْ يُقتل، وَذَهَبت عَنْهُ الدُّنْيَا، وَأَحَاطت بِهِ خطَايَاهُ، وَنَدِمَ -وَاللهِ- حَيْثُ لاَ يُغنِي النّدم.
وَنَحْنُ آيِسُوْنَ اليَوْمَ مِنْ وُجُوْد إِمَام رَاشِد مِنْ سَائِر الوُجُوه! فَإِنْ يَسَّر اللهُ لِلأَئِمَّةِ بِإِمَامٍ فِيْهِ كَثْرَةُ مَحَاسِن وَفِيْهِ مَسَاوِئ قَلِيْلَة، فَمَنْ لَنَا بِهِ، اللَّهُمَّ فَأَصلح الرَّاعِي وَالرَّعِيَّة، وَارحمْ عبادك ووفقهم، وأيد سلطانهم وأعنه بتوفيقك. هكذا يرسم العلامة الذهبي سياسة الحاكم الراشد الذي يتقي الله، فينصلح به حال البلاد والعباد.
وقال في "السير" "6/ 579":
قال أبو أسامة: سمعت مسعر بن كدام يقول: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟
فعقب الذهبي عليه بقوله: قُلْتُ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيْهَا: هَلْ طَلَبُ العِلْمِ أَفْضَلُ أَوْ صَلاَةُ النَّافِلَةِ وَالتِّلاَوَةُ وَالذِّكرُ؟ فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُخلِصاً للهِ فِي طَلَبِ العِلمِ، وَذِهنُه جَيِّدٌ، فَالعِلْمُ أَوْلَى، وَلَكِنْ مَعَ حَظٍّ مِنْ صَلاَةٍ وَتَعَبُّدٍ، فَإِنْ رَأَيتَه مُجِدّاً في طلب لاَ حظَّ لَهُ فِي القُرُبَاتِ، فَهَذَا كَسلاَنُ مَهِيْنٌ، وَلَيْسَ هُوَ بِصَادِقٍ فِي حُسنِ نِيَّتِه، وأما من كان طلب الحَدِيْثَ وَالفِقْهَ غِيَّةً وَمَحبَّةً نَفْسَانِيَّةً، فَالعِبَادَةُ فِي حَقِّه أَفْضَلُ، بَلْ مَا بَيْنَهُمَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَهَذَا تَقسِيْمٌ فِي الجُمْلَةِ، فَقَلَّ -وَاللهِ- مَنْ رَأَيتُه مُخلِصاً فِي طَلَبِ العِلْمِ. دَعْنَا مِنْ هَذَا كُلِّه، فَلَيْسَ طَلَبُ الحَدِيْثِ اليَوْمَ عَلَى(1/58)
الوَضعِ المُتَعَارَفِ مِنْ حَيِّزِ طَلَبِ العِلْمِ، بَلْ اصْطِلاَحٌ وَطَلَبُ أَسَانِيْدَ عَالِيَةٍ، وَأَخْذٌ عَنْ شَيْخٍ لاَ يَعِي، وَتَسمِيْعٌ لِطِفلٍ يَلْعَبُ وَلاَ يَفْهَمُ، أَوْ لِرَضِيعٍ يَبْكِي، أَوْ لِفَقِيْهٍ يَتَحَدَّثُ مَعَ حدث، أو آخر ينسخ وفاضله مَشْغُوْلٌ عَنِ الحَدِيْثِ بِكِتَابَةِ الأَسْمَاءِ أَوْ بِالنُّعَاسِ، وَالقَارِئُ إِنْ كَانَ لَهُ مُشَارَكَةٌ، فَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الفَضِيْلَةِ أَكْثَرَ مِنْ قِرَاءةِ مَا فِي الجُزْءِ، سَوَاءٌ تَصَحَّفَ عَلَيْهِ الاسْمُ، أَوِ اخْتَبَطَ المَتْنُ، أَوْ كَانَ مِنَ المَوْضُوْعَاتِ. فَالعِلْمُ عَنْ هَؤُلاَءِ بِمَعْزِلٍ، وَالعَمَلُ لاَ أَكَادُ أَرَاهُ، بَلْ أرى أمورا سيئة، نسأل الله العفو.
وهكذا يرسم الحافظ الذهبي طريق الإخلاص في طلب العلم، ويوضح بأوجز عبارة وأخصر بيان أولوية طلب العلم على صلاة النافلة والتعبد لمن امتلأ قلبه بالإخلاص، وكانت نيته لله سبحانه. في طلب الحديث.
وقال "7/ 447":
النَّبِيْذُ الَّذِي هُوَ نَقِيْعُ التَّمْرِ، وَنَقِيْعُ الزَّبِيْبِ، ونحو ذلك وَالفُقَاعُ حَلاَلٌ شُرْبُهُ، وَأَمَّا نَبِيْذَ الكُوْفِيِّيْنَ الَّذِي يُسْكِرُ كَثِيْرُهُ، فَحَرَامٌ الإِكْثَارُ مِنْهُ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ, وَسَائِرِ العُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ يُحْرَمُ يَسِيْرُهُ عَنْدَ الجُمْهُوْرِ، ويتخرص فيه الكوفيون، وفي تحريمه عدة أحاديث.
وقال في "السير" "7/ 258":
روى أَبُو عُمَرَ الضَّرِيْرُ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى هَمَّامِ بنِ يَحْيَى، وَهُوَ مَرِيْضٌ أَعُوْدُهُ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَوَانَةَ ادْعُ اللهَ أَنْ لاَ يُمِيْتَنِي حَتَّى يَبلُغَ وَلَدِي الصِّغَارُ.
فَقُلْتُ: إِنَّ الأَجَلَ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ فقال لي: أنت بعد في ضلالك.
فعقب الحافظ الذهبي بقوله: قُلْتُ بِئْسَ المَقَالُ هَذَا، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ سَابِقٍ، وَلَكِنْ وَإِنْ كَانَ الأَجَلُ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ بِطُوْلِ البَقَاءِ قَدْ صَحَّ. دَعَا الرَّسُوْلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادمِهِ أَنَسٍ بِطُوْلِ العُمُرِ، وَاللهُ يَمحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ. فَقَدْ يَكُوْنُ طُوْلُ العُمُرِ فِي عِلْمِ اللهِ مَشْرُوطاً بِدُعَاءٍ مُجَابٍ، كَمَا أَنَّ طَيَرَانَ العُمُرِ قَدْ يَكُوْنُ بِأَسبَابٍ جَعَلَهَا مِنْ جَوْرٍ وَعَسْفٍ، وَ"لاَ يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدعاء"، والكتاب الأول فلا يتغير.
وقال في "السير" "10/ 385":
قال محمد بن إسماعيل الترمذي: مَنْ شَبَّهَ اللهُ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَنْكَرَ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَيْسَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلاَ رسوله تشبيها.(1/59)
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: أَرَادَ أَنَّ الصِّفَاتِ تَابِعَةٌ لِلمَوْصُوْفِ، فَإِذَا كَانَ المَوْصُوْفُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشُّوْرَى: 11] ، وفي ذاته المقدسة، فكذلك صفاته لا مثل لها، إذ فَرْقَ بَيْنَ القَوْلِ فِي الذَّاتِ وَالقَوْلِ فِي الصفات، هذا هو مذهب السلف.
وقال في "السير" "9/ 27":
قال نعيم بن حماد: مَنْ شَبَّهَ اللهُ بِخَلْقِهِ، فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَنْكَرَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، فَقَدْ كَفَرَ، وَلَيْسَ فِيْمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلاَ رسوله تشبيه.
فعقب الحافظ الذهبي بقوله: قُلْتُ: هَذَا الكَلاَمُ حَقٌّ، نَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ التَّشْبِيْهِ، وَمِنْ إِنْكَارِ أَحَادِيْثِ الصِّفَاتِ، فَمَا يُنْكِرُ الثَّابِتَ مِنْهَا مَنْ فَقُهَ، وَإِنَّمَا بَعْدَ الإِيْمَانِ بها هنا مقامان مذموم تَأْوِيْلُهَا وَصَرْفُهَا عَنْ مَوْضُوْعِ الخِطَابِ، فَمَا أَوَّلَهَا السَّلَفُ، وَلاَ حَرَّفُوا أَلفَاظَهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا، بَلْ آمَنُوا بِهَا، وَأَمَرُّوْهَا كَمَا جَاءتْ.
المَقَامُ الثَّانِي: المُبَالغَةُ فِي إِثْبَاتِهَا، وَتَصَوُّرُهَا مِنْ جِنْسِ صِفَاتِ البَشَرِ، وَتَشَكُّلُهَا فِي الذِّهْنِ، فَهَذَا جَهْلٌ وَضَلاَلٌ، إنما الصِّفَةُ تَابِعَةٌ لِلْمَوْصُوفِ، فَإِذَا كَانَ المَوْصُوفُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ نَرَهُ، وَلاَ أَخْبَرَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ عاينه مع قول لنا في تنزيل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشُّوْرَى: 11] ، فَكَيْفَ بَقِيَ لأَذْهَانِنَا مَجَالٌ فِي إِثْبَاتِ كَيْفِيَّةِ البَارِئِ -تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ- فكَذَلِكَ صِفَاتُهُ المُقَدَّسَةُ، نُقِرُّ بِهَا ونعتقد أنها حقن وَلاَ نُمَثِّلُهَا أَصْلاً وَلاَ نَتَشَكَّلُهَا.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَخْلَدٍ العَطَّارُ، حَدَّثَنَا الرَّمَادِيُّ، سَأَلْتُ نُعَيْمَ بنَ حَمَّادٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحَدِيْدُ: 4] ، قَالَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ بِعِلْمِهِ، أَلاَ تَرَى قَوْلَهُ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] .
وقال "7/ 379":
الجَهْمِيَّةُ يَقُوْلُوْنَ: إِنَّ البَارِي -تَعَالَى- فِي كُلِّ مَكَانٍ, وَالسَّلَفُ يَقُوْلُوْنَ: إِنَّ عِلْمَ البَارِي فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحَدِيْدُ: 4] ، يَعْنِي بِالعِلْمِ، وَيَقُوْلُوْنَ: إِنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ اسْتَوَى، كَمَا نَطَقَ بِهِ القُرْآنُ وَالسُّنَّةُ.
قال الأَوْزَاعِيُّ، وَهُوَ إِمَام وَقْتِهِ: كُنَّا -وَالتَّابِعُوْنَ مُتَوَافِرُوْنَ- نَقُوْلُ إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَوْقَ عَرْشِه، وَنُؤمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ، وَمَعْلُوْمٌ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِنَ الطَّوَائِفِ أَنَّ مَذْهَبَ(1/60)
السَّلَفِ إِمرَارُ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيْثِهَا كَمَا جَاءتْ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلاَ تَحرِيْفٍ، وَلاَ تَشْبِيْهٍ وَلاَ تَكْيِيفٍ، فَإِنَّ الكَلاَمَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الكَلاَمِ فِي الذَّاتِ المُقَدَّسَةِ، وَقَدْ عَلِمَ المسلمون أن ذات الباري موجودة، لاَ مِثْلَ لَهَا، وَكَذَلِكَ صِفَاتُهُ -تَعَالَى- مَوْجُوْدَةٌ، لا مثل لها.
وقال في "السير" "9/ 122":
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ: سَمِعْتُ أَبَا مَعْمَرٍ الهُذَلِيَّ يَقُوْلُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ لاَ يَتَكَلَّمُ، وَلاَ يَسْمَعُ، وَلاَ يُبْصِرُ، وَلاَ يَرْضَى، وَلاَ يَغْضَبُ، فَهُوَ كَافِرٌ، إِنْ رَأَيتُمُوهُ وَاقِفاً عَلَى بِئْرٍ، فَأَلْقُوْهُ فِيْهَا، بِهَذَا أَدِيْنُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَعَنْ أَبِي مَعْمَرٍ القَطِيْعِيِّ قَالَ: آخِرُ كَلاَمِ الجَهْمِيَّةِ: أَنَّهُ ليس في السماء إله!
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: بَلْ قَوْلُهُم: إِنَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي السَّمَاءِ وَفِي الأَرْضِ، لاَ امْتِيَازَ لِلسَّمَاءِ وَقَوْلُ عُمُومِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ فِي السَّمَاءِ، يُطلِقُوْنَ ذَلِكَ وِفقَ مَا جَاءتِ النُّصُوْصُ بإِطْلاَقِهِ وَلاَ يَخُوضُونَ فِي تَأْوِيْلاَتِ المُتَكَلِّمِيْنَ، مَعَ جَزْمِ الكُلِّ بَأَنَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] .
وقال في "السير" "11/ 230" قَالَ الحَاكِمُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ صَالِحِ بنِ هَانِئ، سَمِعْتُ ابْنَ خُزَيْمَةَ يَقُوْلُ: مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ اللهَ عَلَى عَرشِه قَدِ اسْتوَى فَوْقَ سَبعِ سَمَاوَاتِه، فَهُوَ كَافِرٌ حَلاَلُ الدَّمِ، وكان ماله فيئا.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: مَنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ تَصْدِيْقاً لِكِتَابِ اللهِ، وَلأَحَادِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنَ بِهِ مُفَوِّضاً مَعْنَاهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ. وَلَمْ يَخُضْ فِي التَّأْوِيْلِ وَلاَ عَمَّقَ، فَهُوَ المُسْلِمُ المُتَّبِعُ، وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ, فَلَمْ يَدْرِ بثبوت ذلك في الكتاب والسنة، فهو مُقَصِّرٌ وَاللهِ يَعْفُو عَنْهُ، إِذْ لَمْ يُوجِبِ اللهُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حِفظَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ أَنكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ العِلْمِ، وَقَفَا غَيْرَ سَبِيْلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَتَمَعقَلَ عَلَى النص، فأمره إلى الله، ونعوذ بِاللهِ مِنَ الضَّلاَلِ وَالهَوَى.
وَكَلاَمُ ابْنِ خُزَيْمَةَ هَذَا -وَإِنْ كَانَ حَقّاً- فَهُوَ فَجٌّ، لاَ تحتمله نفوس كثير من متأخري العلماء.
وقال في "السير" "10/ 399":
من كلام عثمان بن سعيد الدارمي -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِ "النَّقْضِ" لَهُ: اتفَقَتِ الكَلِمَةُ مِنَ المُسْلِمِيْنَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- فَوْقَ عرشه، فوق سماواته.(1/61)
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: أَوْضَحُ شَيْءٍ فِي هَذَا البَابِ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، فَلْيُمَرَّ كَمَا جَاءَ، كَمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ مِنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ، وَيُنَهَى الشَّخْصُ عَنِ المُرَاقَبَةِ، وَالجِدَالِ وَتَأْوِيْلاَتِ المُعْتَزِلَةِ {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} [آل عمران: 53] .
وقال في "السير" "9/ 313":
ورد عن إسحاق بن راهويه: أَنَّ بَعْضَ المُتَكَلِّمِيْنَ قَالَ لَهُ: كَفَرْتَ بِرَبٍّ يَنْزِلُ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ فَقَالَ: آمَنتُ برب يفعل ما يشاء.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ هَذِهِ الصِّفَاتُ مِنَ الاسْتِوَاءِ وَالإِتيَانِ وَالنُّزُوْلِ، قَدْ صَحَّتْ بِهَا النُّصُوْصُ, وَنَقَلَهَا الخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهَا بِرَدٍّ وَلاَ تَأْوِيْلٍ، بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ تَأَوَّلَهَا مَعَ إِصْفَاقِهِم عَلَى أَنَّهَا لاَ تُشبِهُ نُعُوْتَ المَخْلُوْقِيْنَ، وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلاَ تَنْبَغِي المُنَاظَرَةُ وَلاَ التَّنَازُعُ فِيْهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مُحاولَةً لِلرَّدِّ عَلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ، أَوْ حَوماً عَلَى التكييف أو التعطيل.
وقال في "السير" "11/ 243": قال أبو العباس السراج: مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْجَبُ، وَيَضْحَكُ، وَيَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُوْلُ: "مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ"، فَهُوَ زِنْدِيْقٌ، كَافِرٌ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقه، وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلاَ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ المُسْلِمِيْنَ.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: لاَ يُكفَّرُ إِلَّا إِنْ عَلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ، فَإِنْ جَحَدَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَذَا مُعَانِدٌ -نَسْأَلُ اللهَ الهُدَى- وَإِنِ اعْتَرَفَ إِنَّ هَذَا حَقٌّ، وَلَكِنْ لاَ أَخُوضُ فِي مَعَانِيهِ، فَقَدْ أَحسَنَ، وَإِنْ آمن، وأول ذلك كله، أو تأول بعضه، فهو طريقه معروفة.
وقال في "السير" "8/ 508":
عن العَبَّاسُ الدُّوْرِيُّ سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ القَاسِمَ بنَ سلام -وذكر الباب يُرْوَى فِيْهِ الرُّؤْيَةُ، وَالكُرْسِيُّ مَوْضِعَ القَدَمَيْنِ1، وَضَحِكُ رَبِّنَا، وَأَيْنَ كَانَ رَبُّنَا2 -فَقَالَ: هَذِهِ أَحَادِيْثُ صِحَاحٌ، حَمَلَهَا أَصْحَابُ الحَدِيْثِ وَالفُقَهَاءُ بَعْضُهُم عَنْ بَعْضٍ، وَهِيَ عِنْدَنَا حَقٌّ لاَ نَشُكُّ فِيْهَا،
__________
1 حسن: راجع تخريجنا له في الجزء الثامن بتعليقنا رقم "588".
2 حسن: راجع تخريجنا له في الجزء الثامن بتعليقنا رقم "589".(1/62)
وَلَكِن إِذَا قِيْلَ: كَيْفَ يَضْحَكُ؟ وَكَيْفَ وَضَعَ قَدَمَهُ؟ قُلْنَا: لاَ نُفَسِّرُ هَذَا، وَلاَ سَمِعْنَا أحدا يفسره.
فعقب الذهبي "8/ 508-509" بقوله:
قُلْتُ: قَدْ فَسَّرَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ المُهِمَّ مِنَ الأَلْفَاظِ وَغَيْرَ المُهِمِّ، وَمَا أَبْقَوْا مُمْكِناً، وَآيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيْثُهَا لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتَأْوِيْلِهَا أَصْلاً، وَهِيَ أَهَمُّ الدِّيْنِ، فَلَو كَانَ تَأْوِيْلُهَا سَائِغاً أَوْ حَتْماً، لَبَادَرُوا إِلَيْهِ، فَعُلِمَ قَطْعاً أَنَّ قِرَاءتَهَا وإمرارها على ما جاءت هو الحق، ولا تَفْسِيْرَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، فَنُؤْمِنُ بِذَلِكَ، وَنَسْكُتُ اقتداء بالسلف، معتقدين أنها صفات الله -تعالى- استأثر الله بعلم حقائقها، ولأنها لاَ تُشْبِهُ صِفَاتِ المَخْلُوْقِينَ، كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ المُقَدَّسَةَ لاَ تُمَاثِلُ ذَوَاتِ المَخْلُوْقِينَ، فَالكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَطَقَ بِهَا، وَالرَّسُوْلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَّغَ، وَمَا تَعَرَّضَ لِتَأْوِيْلٍ مَعَ كَوْنِ البَارِي قَالَ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلُ: 44] ، فَعَلَيْنَا الإِيْمَانُ وَالتَّسْلِيْمُ لِلنُّصُوْصِ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صرَاط مُسْتَقِيْم.
وقال في "السير" "12/ 186":
قال أَبُو إِسْمَاعِيْلَ الأَنْصَارِيُّ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ عَمَّارٍ الوَاعِظَ، وَقَدْ سأَلتُهُ عَنِ ابْنِ حبَّانَ، فَقَالَ: نَحْنُ أَخرجنَاهُ مِنْ سِجِسْتَانَ، كَانَ لَهُ علمٌ كَثِيْرٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَبِيْرُ دينٍ، قَدِمَ علينا، فأنكر الحد لله، فأخرجناه".
فعقب الذهبي "12/ 186" بقوله:
قُلْتُ: إِنكَارُكُم عَلَيْهِ بدعَةٌ أَيْضاً، وَالخوضُ فِي ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَأْذنْ بِهِ اللهُ، وَلاَ أتى نص بإثبات ذلك ولا نفيه، وَ "مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيْهِ" 1، وَتَعَالَى اللهُ أَنْ يُحدَّ أَوْ يُوصفَ إِلاَّ بِمَا وَصفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ علمه رُسلَهُ بِالمعنَى الَّذِي أَرَادَ بِلاَ مِثْل وَلاَ كَيْف {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشُّوْرَى: 11] .
وقال "7/ 219":
قال أبو عبيد: ما أدركنا أحدا يفسر أحاديث الصفات، ونحن لا نفسرها.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: قَدْ صَنَّفَ أَبُو عُبَيْدٍ كِتَابَ "غَرِيْبِ الحَدِيْثِ" وَمَا تَعرَّضَ لأَخْبَارِ الصِّفَاتِ الإِلَهِيَّةِ بِتَأْوِيلٍ أَبَداً، وَلاَ فَسَّرَ مِنْهَا شَيْئاً، وَقَدْ أَخَبَرَ بأنه ما لحق أحدا يفسرها,
__________
1 صحيح: راجع تخريجنا له في الجزء الثاني عشر بتعليقنا رقم "247".(1/63)
فَلَو كَانَ -وَاللهِ- تَفْسِيْرُهَا سَائِغاً، أَوْ حَتماً، لأَوْشَكَ أَنْ يَكُوْنَ اهْتِمَامُهُم بِذَلِكَ فَوْقَ اهْتِمَامِهِم بِأَحَادِيْثِ الفُرُوْعِ وَالآدَابِ، فَلَمَّا لَمْ يَتعَرَّضُوا لَهَا بِتَأْوِيلٍ وَأَقَرُّوهَا عَلَى مَا وَرَدَتْ عَلَيْهِ، عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الحَقُّ الَّذِي لاَ حَيْدَةَ عنه.
وقال في "السير" "7/ 209":
كَانَتِ الأَهوَاءُ وَالبِدَعُ خَامِلَةً فِي زَمَنِ اللَّيْثِ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَالسُّنَنُ ظَاهِرَةٌ عَزِيْزَةٌ، فَأَمَّا فِي زَمَنِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، فَظَهَرَتِ البِدعَةُ، وَامْتُحِنَ أَئِمَّةُ الأَثَرِ وَرَفَعَ أَهْلُ الأَهوَاءِ رءوسهم بدخول الدولة معهم، فاحتاج العلاء إِلَى مُجَادَلَتِهِم بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ، واحتج عليهم العلماء أيضا بالمعقول، فكان الجِدَالَ، وَاشتَدَّ النِزَاعُ، وَتَوَلَّدَتِ الشُّبَهُ، نَسْأَلُ اللهَ العافية.
هذه هي عقيدة شيخ الإسلام العلامة الحافظ الذهبي -رحمه الله- في صفات الله -عز وجل، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة التي كان عليها سلف الأمة الصحابة- رضي الله عنهم- ومن تابعهم خير القرون. وها هو يرد على من قال أن الإيمان مخلوق والقرآن مخلوق، يرد على هذه الأقوال المنحرفة بأنصع بيان وأشفى حجة:
قال في "السير" "10/ 215":
وَرد عَليَّ كِتَابٌ مِنْ نَاحِيَة شيرَازَ أَنَّ فضلك الصائغ قَالَ بنَاحِيَتهِم: إِنَّ الإِيْمَان مَخْلُوْق فَبلغنِي أَنَّهُم أخرجوه من البلد بأعوان.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْفُضُول، وَالسكوتُ أَوْلَى، وَالَّذِي صَحَّ عَنِ السَّلَفِ وَعُلَمَاءِ الأَثر أَنَّ الإِيْمَان قَوْلٌ وَعملٌ، وَبلاَ رَيْبٍ أَنَّ أَعْمَالنَا مَخْلُوْقَةٌ، لِقَوْلِهِ -تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصَّافَاتُ: 96] ، فصحَّ أَنَّ بَعْض الإِيْمَان مَخْلُوْقٌ.
وَقولُنَا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، فَمِنْ إِيْمَاننَا، فَتَلَفُّظنَا بِهَا أَيْضاً مِنْ أَعْمَالنَا. وَأَمَّا مَاهِيَّةُ الكَلِمَةِ المَلْفُوْظَةِ، فَهِيَ غَيْرُ مَخْلُوْقَةٍ، لأَنَّهَا مِنَ القُرْآن، أعاذنا الله من الفتن والهوى.
وقال "10/ 271-272":
قَالَ أَحْمَدُ بنُ كَامِلٍ القَاضِي، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ الوَرَّاقُ: أَنَّهُ كَانَ يُورق عَلَى دَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ، وَأَنَّهُ سَمِعَهُ يُسْأَلُ عَنِ القُرَآنِ، فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي فِي اللَّوْحِ المَحْفُوْظِ: فَغَيْرُ مَخْلُوْقٍ، وَأَمَّا الَّذِي هُوَ بَيْنَ النَّاسِ فمخلوق.(1/64)
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: هَذِهِ التَّفرِقَةُ وَالتَّفْصِيلُ مَا قَالَهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ، فِيمَا عَلِمْتُ، وَمَا زَالَ المُسْلِمُوْنَ عَلَى أَنَّ القُرَآنَ العَظِيْمَ كَلاَمُ اللهِ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيْلُهُ، حَتَّى أَظْهَرَ المَأْمُوْنَ القَوْلَ: بِأَنَّهُ مَخْلُوْقٌ، وَظَهَرَتْ مَقَالَةُ المُعْتَزِلَةِ، فَثَبَتَ الإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وَأَئِمَةُ السُّنَّةِ عَلَى القَوْلِ: بِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، إِلَى أَنْ ظَهَرَتْ مَقَالَةُ حُسَيْنِ بنِ عَلِيٍّ الكرابيسي، وهي: أن القرآن كلام غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، وَأَنَّ أَلْفَاظَنَا بِهِ مَخْلُوْقَةٌ، فَأَنْكَرَ الإِمَامُ أَحْمَدُ ذَلِكَ، وَعَدَّهُ بِدْعَةً، وَقَالَ: مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ، يُرِيْدُ بِهِ القُرْآنَ فهو جهمي. وقال أيضا: مَنْ قَالَ: لَفْظي بِالقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. فَزَجَرَ عَنِ الخَوْضِ فِي ذَلِكَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَأَمَّا دَاوُدُ فَقَالَ: القُرْآنُ مُحْدَثٌ فَقَامَ عَلَى دَاوُدَ خَلْقٌ مِن أَئِمَّةِ الحَدِيْثِ، وَأَنْكَرُوا قَولَهُ وَبَدَّعُوْهُ، وَجَاءَ مِنْ بَعْدِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، فَقَالُوا: كَلاَمُ اللهِ مَعْنَىً قَائِمٌ بِالنَّفْسِ، وَهَذِهِ الكُتُبُ المُنْزَلَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَدَقَّقُوا وَعَمَّقُوا، فَنَسْأَلُ اللهَ الهُدَى وَاتِّبَاعَ الحَقِّ، فَالقُرْآنُ العَظِيْمُ، حُرُوْفُهُ وَمَعَانِيهُ وَأَلفَاظُهُ كَلاَمُ رَبِّ العَالِمِيْنَ، غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، وَتَلَفُّظُنَا بِهِ وَأَصْوَاتُنَا بِهِ مِنْ أَعْمَالنَا المَخْلُوْقَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زَيِّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُم".
وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ المَلْفُوْظُ لاَ يَسْتَقِلُّ إِلاَّ بِتَلَفُّظِنَا، وَالمَكْتُوْبُ لاَ يَنْفَكُّ عَنْ كِتَابةٍ، وَالمَتْلُو لاَ يُسْمَعُ إِلاَّ بِتِلاَوَةِ قال، صَعُبُ فَهْمُ المَسْأَلَةِ وَعَسُرَ إِفْرَازُ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ المَلْفُوْظُ مِنَ اللَّفْظِ الَّذِي يُعْنَى بِهِ التَّلَفُّظُ، فَالذِّهِنُ يَعْلَمُ الفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ هَذَا، وَالخَوْضُ فِي هَذَا خَطِرٌ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ فِي الدِّيْنِ- وَفِي المَسْأَلَةِ بُحُوْثٌ طَوِيْلَةٌ، الكَفُّ عَنْهَا أَوْلَى، وَلاَ سِيَّمَا فِي هَذِهِ الأزمنة المزمنة.
وقال في "السير" "7/ 138":
نَهَى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أَنْ يُبْنَى عَلَى القُبُوْرِ، وَلَو انْدَفَنَ النَّاسُ فِي بُيُوْتِهِم، لَصَارَتِ المَقْبَرَةُ وَالبُيُوْتُ شَيْئاً وَاحِداً، وَالصَّلاَةُ فِي المَقْبَرَةِ فمنهي عنها نهي كراهة أَوْ نَهْيَ تَحْرِيْمٍ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: "أَفْضَلُ صَلاَةِ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ المَكْتُوبَةَ" 1.
فَنَاسَبَ ذَلِكَ أَلاَ تُتَّخَذَ المَسَاكِنُ قُبُوراً.
وَأَمَّا دَفْنُهُ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلاَمُهُ- فَمُخْتَصٌّ بِهِ، كَمَا خُصَّ بِبَسطِ قَطِيْفَةٍ تَحْتَه فِي لَحْدِهِ، وَكمَا خُصَّ بِأَنْ صَلُّوا عَلَيْهِ فُرَادَى بِلاَ إِمَامٍ، فَكَانَ هُوَ إمامهم حيا وميتا في
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "731"، ومسلم "781" وقد خرجته في المصدر المشار إليه.(1/65)
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَكَمَا خُصَّ بِتَأْخَيْرِ دَفْنِهِ يَوْمَيْنِ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيْرُ أُمَّتِهِ، لأَنَّهُ هُوَ أُمِنَ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ، بِخِلاَفِنَا، ثُمَّ إِنَّهُم أَخَّرُوْهُ حَتَّى صَلُّوا كُلُّهُم عَلَيْهِ، دَاخِلَ بَيْتِهِ، فَطَالَ لِذَلِكَ الأَمْرُ، وَلأَنَّهُم تَرَدَّدُوا شَطْرَ اليَوْمِ الأَوَّلِ فِي مَوْتِهِ، حَتَّى قَدِمَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ مِنَ السُّنْحِ، فهذا كان سبب التأخير.
ويرد الحافظ -رحمه الله- ببيان ناصع وجواب ساطع على ترهات الصوفية وأباطيلهم وعلى أهل الحلول والاتحاد منهم:
قال في "السير" "9/ 550":
مَتَى رَأَيْتَ الصُّوْفِيَّ مُكِبّاً عَلَى الحَدِيْثِ، فَثِقْ بِهِ، وَمَتَى رَأَيْتَهُ نَائِياً عَنِ الحَدِيْثِ، فَلاَ تَفرَحْ بِهِ، لاَ سيِّمَا إِذَا انْضَافَ إِلَى جَهلِهِ بِالحَدِيْثِ عُكُوفٌ عَلَى تُرَّهَاتِ الصُّوْفِيَّةِ، وَرُمُوْزِ البَاطِنِيَّةِ نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ كَمَا قَالَ ابْنُ المُبَارَكِ:
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّيْنَ إِلاَّ المُلُوْكُ ... وَأَحْبَارُ سوء ورهبانها
وقال في "السير" "11/ 211":
قال السلمي: وحكي عن الحلاج أَنَّهُ رُؤيَ وَاقفاً فِي الموقفِ، وَالنَّاسُ فِي الدُّعَاءِ وَهُوَ يَقُوْلُ: أُنزِّهك عَمَّا قَرَفَكَ بِهِ عبَادُك، وَأَبرأُ إِلَيْكَ مِمَّا وَحَّدكَ بِهِ الموحِّدُوْنَ!!
فعقب الذهبي -رحمه الله- "11/ 211-212" بقوله:
قُلْتُ: هَذَا عينُ الزَّنْدَقَةِ، فَإِنَّهُ تَبَرَّأَ مِمَّا وَحَّدَ اللهَ بِهِ الموحِّدُوْنَ الَّذِيْنَ هُمُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابعُوْنَ وَسَائِرُ الأُمَّةِ، فَهَلْ وَحَّدُوهُ تَعَالَى إِلاَّ بِكلمَةِ الإِخْلاَصِ التِي قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَالَهَا مِنْ قَلْبِهِ، فقد حرم ماله ودمه". وَهِيَ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ومحمدا رَسُوْلُ اللهِ، فَإِذَا برِئَ الصُّوْفِيُّ مِنْهَا، فَهُوَ ملعُوْنٌ زِنْدِيْقٌ، وَهُوَ صُوفِيُّ الزَّيِّ وَالظَّاهِرِ، مُتستِّرٌ بِالنَّسَبِ إِلَى العَارفينَ، وَفِي البَاطنِ فَهُوَ مِنْ صُوفيَّةِ الفَلاَسِفَةِ أَعدَاءِ الرُّسُلِ، كَمَا كَانَ جَمَاعَةٌ فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منتسبُوْنَ إِلَى صُحْبَتِهِ وَإِلَى ملَّتِهِ، وَهُم فِي البَاطنِ مِنْ مَرَدَةِ المُنَافقينَ، قَدْ لاَ يَعْرِفُهُم نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يَعْلَمُ بِهِم قَالَ الله -تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التَّوبَةُ: 101] ، فَإِذَا جَازَ عَلَى سَيِّدِ البشرِ أَنْ لاَ يَعْلَمَ ببَعْضِ المُنَافِقينَ وَهُم مَعَهُ فِي المَدِيْنَةِ سنوَاتٍ، فَبِالأَوْلَى أَنْ يَخفَى حَالُ جَمَاعَةٍ مِنَ المُنَافِقينَ الفَارغينَ عَنْ دينِ الإِسْلاَمِ بَعْدَهُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- عَلَى العُلَمَاءِ مِنْ أُمَّتِه، فَمَا يَنْبَغِي لَكَ يَا فَقِيْهُ أَنْ تُبَادرَ إِلَى(1/66)
تكفير المسلم. إلا ببرهان قطعي، كا لاَ يسوَغُ لَكَ أَنْ تعتقدَ العِرفَانَ وَالوِلاَيَةَ فِيْمَنْ قَدْ تَبرهنَ زَغَلُهُ، وَانْهَتَكَ بَاطنُهُ وَزَنْدَقَتُه، فَلاَ هَذَا وَلاَ هَذَا، بَلِ العَدلُ أَنَّ مَنْ رَآهُ المُسْلِمُوْنَ صَالِحاً مُحسِناً، فَهُوَ كَذَلِكَ، لأنهم شهداء لله فِي أَرضِهِ، إِذِ الأُمَّةُ لاَ تَجتمعُ عَلَى ضَلاَلَةٍ، وَأَنَّ مَنْ رَآهُ المُسْلِمُوْنَ فَاجراً أَوْ مُنَافقاً أَوْ مُبْطِلاً، فَهُوَ كَذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ كان طائفة من الأمة تضلله، وأن طائفة مِنَ الأُمَّةِ تُثْنِي عَلَيْهِ وَتبجِّلُهُ، وَطَائِفَةٌ ثَالثَةٌ تقِفُ فِيْهِ وَتتورَّعُ مِنَ الحطِّ عَلَيْهِ، فَهُوَ مِمَّنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَضَ عَنْهُ، وَأَنْ يفوَّضَ أَمرُه إِلَى اللهِ، وَأَنَّ يُسْتَغْفَرَ لَهُ فِي الجُمْلَةِ؛ لأَنَّ إِسْلاَمَهُ أَصْليٌّ بيقينٍ, وضلالُه مشكوكٌ فِيْهِ، فَبِهَذَا تَسْتريحُ، وَيصفُو قَلْبُكَ مِنَ الغِلِّ لِلْمُؤْمِنينَ.
ثمَّ اعْلمْ أَنَّ أَهْلَ القِبْلَةِ كلَّهُم، مُؤْمِنَهُم وَفَاسقَهُم, وَسُنِّيَهُم وَمُبْتَدِعَهُم -سِوَى الصَّحَابَةِ- لَمْ يُجمعُوا عَلَى مُسْلِمٍ بِأَنَّهُ سَعِيْدٌ نَاجٍ، وَلَمْ يُجمعُوا عَلَى مُسْلِمٍ بِأَنَّهُ شقيٌّ هَالكٌ, فَهَذَا الصِّدِّيقُ فردُ الأُمَّةِ، قَدْ علمتَ تَفَرُّقَهُم فِيْهِ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ، وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ، وَكَذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ, وَكَذَلِكَ الحجَّاجُ، وَكَذَلِكَ المَأْمُوْنُ، وَكَذَلِكَ بشرٌ المَرِيسِيُّ، وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وَالشَّافِعِيُّ, وَالبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَهَلُمَّ جَرّاً مِنَ الأَعيَانِ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَى يَوْمكَ هَذَا، فَمَا مِنْ إِمَامٍ كَامِلٍ فِي الخَيْرِ، إِلاَّ وَثَمَّ أُنَاسٌ مِنْ جهلَةِ المُسْلِمِيْنَ وَمُبْتَدِعِيهِم يذمُّونَه، وَيحطُّونَ عَلَيْهِ، وما من رأس في البدعَةِ وَالتَّجَهُّمِ وَالرَّفضِ إِلاَّ وَلَهُ أُنَاسٌ يَنْتصرُوْنَ لَهُ, وَيَذُبُّونَ عَنْهُ، وَيدينُوْنَ بِقَولِه بِهوَىً وَجهلٍ، وَإِنَّمَا العِبْرَةُ بِقَولِ جُمْهُوْرِ الأُمَّةِ الخَالينَ مِنَ الهوَى وَالجَهْلِ، المتَّصِفِينَ بِالوَرَعِ وَالعِلْمِ.
فَتَدبّرْ -يَا عَبْدَ اللهِ- نحْلَةَ الحَلاَّجِ الَّذِي هُوَ مِنْ رءوس القرَامِطَةِ، وَدعَاةِ الزَّنْدَقَةِ، وَأَنِصْفْ وَتَوَرَّعْ وَاتَّقِ ذَلِكَ، وَحَاسِبْ نَفْسكَ فَإِنْ تبرهَنَ لَكَ أَنَّ شَمَائِلَ هَذَا المَرْءِ شَمَائِلُ عدوٍّ لِلإِسْلاَمِ، مُحبٍّ للرِّئاسَةِ، حريصٍ عَلَى الظُهُوْرِ بباطلٍ وَبحقٍّ، فَتبرَّأْ مِنْ نِحْلتِه، وَإِنْ تبرهنَ لَكَ -وَالعيَاذُ بِاللهِ- أَنَّهُ كَانَ وَالحَالَةِ هَذِهِ مُحقّاً هَادِياً مهدِيّاً فَجِدِّدْ إِسْلاَمَكَ، وَاسْتغثْ بربِّكَ أَنْ يُوَفِّقَكَ لِلْحقِّ، وَأَنْ يُثَبِّتَ قَلْبَكَ عَلَى دِيْنِهِ، فَإِنَّمَا الهُدَى نُورٌ الله يقذِفُهُ اللهُ فِي قلبِ عبدِه المُسْلِمِ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، وَإِن شككتَ وَلَمْ تَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ، وَتبرَّأَتَ مِمَّا رُمِي بِهِ، أَرحتَ نَفْسكَ، ولم يسألك الله عنه أصلا.
وقال في "السير" "12/ 17-18":
سئل عبد الله بن منازل الزاهد عن شيخ الصوفية أبي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ شَيْبَان القِرْمِيْسِينِيُّ زَاهدُ الجَبَل، فَقَالَ: هُوَ حُجَّةٌ الله عَلَى الفُقَرَاء، وَأَهْلِ المعاملات والآداب.(1/67)
وَعَنْ إِبْرَاهِيْمَ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يتعطَّل ويتبطل، فليلزم الرخص.
وَقَالَ: عِلْمُ الفَنَاء وَالبَقَاء يَدُور عَلَى إِخْلاَص الوَحْدَانيَّة، وَصحَّةِ العبوديَّة، وَمَا كَانَ غَيْرَ هَذَا فهو من المغالطة والزندقة.
فعقب الذهبي -رحمه الله تعالى- "12/ 18" بقوله:
قُلْتُ: صَدَقتَ وَاللهِ، فَإِنَّ الفَنَاء وَالبَقَاء مِنْ تُرَّهَات الصُّوْفِيَّة, أَطْلَقَهُ بَعْضهُم، فَدَخَلَ مِنْ بَابه كل إلحادي وكل زِنْدِيْق، وَقَالُوا: مَا سِوَى الله بَاطِلٌ فَانٍ، وَاللهِ تَعَالَى هُوَ البَاقِي، وَهُوَ هَذِهِ الكَائِنَات، وَمَا ثَمَّ شَيْء غَيْره.
ويَقُوْلُ شَاعرهُم:
وَمَا أَنْتَ غَيْرَ الكُون ... بَلْ أَنْتَ عَيْنُه
ويَقُوْلُ آخر:
وَمَا ثَمَّ إِلاَّ اللهُ لَيْسَ سِوَاهُ
فَانظر إِلَى هَذَا الْمُرُوق وَالضَّلاَل، بَلْ كُلُّ مَا سِوَى الله محدَثٌ مَوْجُود، قَالَ الله -تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59] .
وإنما أراد قدماء الصوفية الفناء نسيَانَ المخلوقَات، وَتركَهَا، وَفنَاء النَّفس عَنِ التَّشَاغُل بِمَا سِوَى الله، وَلاَ يُسَلَّمُ إِلَيْهِم هَذَا أَيْضاً، بَلْ أَمرنَا اللهُ وَرَسُوْلُه بِالتَّشَاغل بِالمخلوقَات ورؤيتها والإقبال عليها، وتعظيم خالقها قال تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] ، وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101] ، وقال عليه السلام: "حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاء وَالطِّيب" 1.
وَقَالَ: "كَأَنَّك علمتَ حُبَّنَا لِلْحم".
وَكَانَ يحِبُّ عَائِشَة وَيحبُّ أَباهَا، ويحب أسامة، ويحب سبطيه، ويحب الحلواء
__________
1 حسن: أخرجه النسائي "7/ 61"، وأحمد "3/ 28"، وقد خرجته في الجزء الثاني عشر بتعليقنا رقم "19" فراجعه ثمت.(1/68)
وَالعَسَل، وَيحبّ جَبَل أُحُد، وَيحبُّ وَطَنه، وَيحبُّ الأَنْصَار، إِلَى أَشيَاء لاَ تحصَى مِمَّا لاَ يغني المؤمن عنها قط.
وقال في "السير" "12/ 28":
قال الحَافِظ شَيْخُ الإِسْلاَمِ أَبُو سَعِيْدٍ بنُ الأَعْرَابِيِّ البصري الصوفي: عِلْمُ المعْرفَة غَيْرُ محصورٍ لاَ نهَايَة لَهُ وَلاَ لوُجُوده، وَلاَ لِذَوْقِهِ إِلَى أَنْ قَالَ -وَلَقَدْ أَحسن فِي المَقَال: فَإِذَا سَمِعْتُ الرَّجُل يَسْأَل عَنِ الجَمْع أَوِ الفَنَاء، أَوْ يُجِيْب فِيْهِمَا، فَاعلمْ أَنَّهُ فَارغٌ، لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ إِذْ أَهلُهمَا لاَ يَسْأَلُوْنَ عَنْهُ لِعْلمهم أنه لا يدرك بالوصف.
فعقب الذهبي -رحمه الله- "12/ 28-29":
قُلْتُ: إِي وَاللهِ، دقَّقُوا وَعمَّقُوا، وَخَاضُوا فِي أسرار عظيمة، ما مَعَهُم عَلَى دَعْوَاهُم فِيْهَا سِوَى ظنٍّ وَخيَالٍ، ولا الوجود لتِلْك الأَحْوَال مِنَ الفَنَاء وَالمحو وَالصَّحو وَالسُّكر إلا مجرد خطرات ووساوس، وما تفوه بعبارتهم صِدِّيْق وَلاَ صَاحِبٌ، وَلاَ إِمَامٌ مِنَ التَّابِعِيْنَ. فإن طالبتهم بدعاويهم مقتول, وَقَالُوا: مَحْجُوب، وَإِن سَلَّمت لَهُم قِيَادك تخبَّط مَا مَعَكَ مِنَ الإِيْمَان، وَهبَطَ بِك الحَال عَلَى الحَيْرَة وَالمُحَال، وَرَمَقْت العُبَّاد بِعَين المَقْت، وَأَهْل القُرْآن، وَالحَدِيْثِ بِعَين البُعْد، وَقُلْتَ: مسَاكين محجوبُوْنَ فلاَ حَوْلَ وَلاَ قوَّة إِلاَّ بِاللهِ.
فَإِنَّمَا التَّصَوُّف وَالتَأَلُّه وَالسُّلوك وَالسَّيْر وَالمَحَبَّة مَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرِّضَا عَنِ اللهِ، وَلزوم تَقْوَى الله، وَالجِهَادِ فِي سَبِيْل الله، وَالتَأَدُّب بآدَاب الشَّريعَة مِنَ التِّلاَوَة بترتيلٍ وَتدبُّرٍ وَالقِيَامِ بخَشْيَةٍ وَخشوعٍ، وَصَوْمِ وَقتٍ، وَإِفطَار وَقت، وَبَذْلَ المَعْرُوْف، وَكَثْرَة الإِيثَار، وَتَعْلِيم العَوَام، وَالتَّوَاضع لِلْمُؤْمِنين, وَالتعزُّز عَلَى الكَافرين، وَمَعَ هَذَا فَالله يَهْدِي مَنْ يَشَاء إِلَى صرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ.
وَالعَالِمُ إِذَا عَرِيَ مِنَ التَّصوف وَالتَألُّه، فَهُوَ فَارغ، كَمَا أَنَّ الصُّوْفِيّ إِذَا عَرِيَ مِنْ عِلْمِ السُّنَّة، زَلَّ سوَاءِ السَّبيل.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ مِنْ عُلَمَاء الصُّوْفِيَّة، فترَاهُ لاَ يَقْبَلُ شَيْئاً مِنِ اصطلاحات القوم إلا بحجة.(1/69)
وقال في "السير" "12/ 116":
قال الخلدي شَيْخ الصُّوْفِيَّة أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدِ بن نصير: مضيتُ إِلَى عَبَّاس الدُّوْرِيّ، وَأَنَا حَدَث، فكتبتُ عَنْهُ مَجْلِساً، وَخَرَجْتُ فلقينِي صُوفيٌ، فَقَالَ: أَيشٍ هَذَا؟ فَأَريتُه فَقَالَ: وَيْحَك، تَدَعُ عِلْمَ الخِرَق، وَتَأَخذُ عِلْم الوَرَق! ثُمَّ خرَّق الأَورَاق، فَدَخَلَ كَلاَمُه فِي قلبِي, فَلم أَعدْ إِلَى عَبَّاس، ووقفت بعرفة ستا وخمسين وقفة.
فعقب الذهبي بقوله: ماذا إِلاَّ صُوفيٌّ جَاهِلٌ يمزِّق الأَحَادِيْثَ النَّبويَة، وَيحُضُّ على أمر مجهول، ما أحوجه إلى العلم.
وقال في "السير" "9/ 336":
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: أَملَى عَلَيَّ أَحْمَدُ بنُ عَاصِمٍ الحَكِيْمُ: النَّاسُ ثَلاَثُ طَبَقَاتٍ: مَطْبُوْعٌ غَالِبٌ، وهم المؤمنون فإذا غفلوا، ذكوا، وَمَطْبُوْعٌ مَغْلُوْبٌ، فَإِذَا بُصِّرُوا، أَبْصَرُوا وَرَجَعُوا بِقُوَّةِ العَقْلِ، وَمَطْبُوْعٌ مَغْلُوْبٌ غَيْرُ ذِي طِبَاعٍ، وَلاَ سبيل إلى رد هذا بالمواعظ.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: فَمَا الظَّنُّ إِذَا كَانَ وَاعِظُ النَّاسِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ عَبْدَ بَطْنِهِ وَشَهْوَتِهِ، وَلَهُ قَلْبٌ عَرِيٌّ مِنَ الحُزْنِ وَالخَوْفِ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ فِسْقٌ مَكِيْنٌ، أَوِ انْحَلاَلٌ مِنَ الدِّيْنِ، فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يفضحه الله تعالى.
وقال في "السير" "9/ 349":
قال أحمد بن حنبل في هشام بن عمار: أنه طياش لأنه بلغه أَنَّهُ قَالَ فِي خُطبَتِهِ: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي تجلى لخلقه بخلقه".
فعقب الذهبي بقوله: هذه الكلمة لا ينبغي إِطْلاَقُهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَعْنَىً صَحِيْحٌ، لَكِنْ يَحْتَجُّ بِهَا الحُلُوْلِيُّ وَالاتِّحَادِيُّ، وَمَا بَلَغَنَا أَنَّه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تَجَلَّى لِشَيْءٍ إِلاَّ بَجَبَلِ الطُّورِ فَصَيَّرَهُ دَكّاً. وَفِي تَجَلِّيْهِ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتِلاَفٌ أَنكَرَتْهُ عَائِشَةُ وَأَثْبَتَهُ ابْنُ عباس.
وقال في "السير" "10/ 50":
قال ابن عيينة: غضب الله داء لا دواء له.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: دواؤُهُ كَثْرَةُ الاسْتِغْفَارِ بِالأَسحَارِ، وَالتَّوبَةُ النَّصوحُ.
ويبين الحافظ الذهبي فساد مذهب الفلاسفة ويحذر من كتبهم بأوجز عبارة وأخصر بيان:(1/70)
قال في "السير" "14/ 270":
قد ألف أبو حامد محمد بن محمد الشافعي الغزالي فِي ذَمِّ الفَلاَسِفَة كِتَاب "التهَافت" وَكَشَفَ عوَارهُم، وَوَافقهُم فِي موَاضِع ظنّاً مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ حقٌّ, أَوْ مُوَافِقٌ لِلملَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِالآثَار وَلاَ خِبْرَةٌ بِالسُّنَنِ النَّبويَّة القَاضِيَة عَلَى العَقْل، وَحُبِّبَ إِلَيْهِ إِدمَانُ النَّظَر فِي كِتَاب "رَسَائِلِ إِخْوَانِ الصَّفَا" وَهُوَ دَاءٌ عُضَال، وَجَرَبٌ مُرْدٍ، وَسُمٌّ قَتَّالٌ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَبَا حَامِد مِنْ كِبَارِ الأَذكيَاء، وَخيَارِ المُخلِصينَ، لَتَلِفَ, فَالحِذَارَ الحِذَارَ مِنْ هَذِهِ الكُتُب وَاهرُبُوا بدينكُم من شبه الأوائل، وإلا وَقعتُم فِي الحَيْرَةِ فَمَنْ رَام النَّجَاةَ وَالفوز فَليلزمِ العُبُوديَّة وَليُدْمِنِ الاسْتغَاثَةَ بِاللهِ وَليبتهِلْ إِلَى مَوْلاَهُ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الإِسْلاَمِ، وَأَنْ يُتوفَّى عَلَى إِيْمَانِ الصَّحَابَة, وَسَادَةِ التَّابِعِيْنَ، وَاللهُ الْمُوفق، فَبِحُسْنِ قَصْدِ العَالِمِ يُغْفَرُ لَهُ وَيَنجُو، إِنْ شاء الله.
وقال في "السير" "12/ 185":
قَالَ أَبُو إِسْمَاعِيْلَ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ مؤلف كتاب "ذم الكلام": سمعت عبد الصمد بنِ مُحَمَّدٍ, سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: أَنكرُوا عَلَى أبي حاتم ابن حِبَّانَ قولَهُ: "النُّبُوَّةُ": "العِلْمُ وَالعملُ"، فحكمُوا عَلَيْهِ بالزندقة، وهجر، وكتب فيه إلى الخليفة، فكتب بقتله.
فعقب الذهبي -رحمه الله- "12/ 185-186" بقوله:
قُلْتُ: هَذِهِ حِكَايَةٌ غريبَةٌ، وَابنُ حِبَّانَ فَمِنْ كبارِ الأَئِمَةِ، وَلَسْنَا نَدَّعِي فِيْهِ العِصْمَةَ مِنَ الخَطَأِ، لَكِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ الَّتِي أَطلقَهَا، قَدْ يُطلقُهَا المُسْلِمُ، وَيُطلقُهَا الزِّنديقُ الفيلسوفُ، فَإِطلاَقُ المُسْلِمِ لها لا ينبغي، لكن يعتذر عنه، فتقول: لَمْ يُردْ حصرَ المبتدأِ فِي الخَبَرِ، وَنظيرُ ذَلِكَ قولُهُ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: "الحَجُّ عَرَفَةٌ". وَمعلومٌ أَنَّ الحَاجَّ لاَ يصيرُ بِمُجَرَّدِ الوُقُوْفِ بِعَرَفَةِ حَاجّاً، بَلْ بَقِيَ عَلَيْهِ فروضٌ وَواجبَاتٌ، وَإِنَّمَا ذكرَ مُهمَّ الحَجِّ. وَكَذَا هَذَا ذكرَ مُهمَّ النُّبُوَّةِ، إِذْ مِنْ أَكملِ صفَاتِ النَّبِيِّ كمَالُ العِلْمِ وَالعملِ، فَلاَ يَكُون أَحدٌ نَبِيّاً إِلاَّ بوجودِهِمَا، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ برَّزَ فِيْهِمَا نَبِيّاً، لأَنَّ النُّبُوَّةَ مَوْهِبَةٌ مِنَ الحَقِّ تَعَالَى، لاَ حِيْلَةَ للعبدِ فِي اكتسَابِهَا، بَلْ بِهَا يتولَّدُ العِلْمُ اللَّدُنِّيُّ وَالعملُ الصَّالِحُ.
وَأَمَّا الفيلسوفُ فَيَقُوْلُ: النُّبُوَّةُ مكتسبَةٌ يُنْتجُهَا العِلْمُ وَالعملُ، فَهَذَا كفرٌ، وَلاَ يريدُهُ أَبُو حَاتِمٍ أَصلاًَ، وَحَاشَاهُ، وَإِنْ كَانَ فِي تقَاسيمِهِ مِنَ الأَقوَالِ، وَالتَّأَويلاَتِ البعيدة، والأحاديث المنكرة، وعجائب، وَقَدِ اعترفَ أَنَّ "صحيحَهُ" لاَ يقدرُ عَلَى الكشفِ مِنْهُ إِلاَّ مَنْ حِفْظَهُ، كمنْ عِنْدَهُ مصحفٌ لاَ يقدرُ عَلَى مَوْضِعِ آيَةٍ يريدُهَا منه إلا من يحفظه.(1/71)
وقال في "السير" "11/ 321":
قال واعظ بلخ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ الفَضْلِ بنِ العباس البلخي: ذَهَابُ الإِسْلاَمِ مِنْ أَرْبَعَةٍ لاَ يَعْملُوْنَ بِمَا يَعْلَمُوْنَ، وَيَعْمَلُوْنَ بِمَا لاَ يَعْلَمُوْنَ، وَلاَ يَتَعَلَّمُوْنَ مَا لاَ يَعلَمُوْنَ، وَيَمنَعُوْنَ النَّاسَ مِنَ العِلْمِ.
فعقب الذهبي -رحمه الله- بقوله: قلت: هذه نعوت رءوس العَرَبِ وَالتُّركِ وَخَلْقٍ مِنْ جَهَلَةِ العَامَّةِ، فَلَو عَمِلُوا بِيَسِيْرِ مَا عَرَفُوا، لأَفلَحُوا وَلَوْ وَقَفُوا عن العمل بالبدعة، لَوُفِّقُوا، وَلَوْ فَتَّشُوا عَنْ دِيْنِهِم وَسَأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ -لاَ أَهْلَ الحِيَلِ وَالمَكْرِ- لَسَعِدُوا، بَلْ يُعرِضُونَ عَنِ التَّعَلُّمِ تِيْهاً وَكَسَلاً، فَوَاحِدَةٌ مِن هَذِهِ الخِلاَلِ مُرْدِيَةٌ، فَكَيْفَ بِهَا إِذَا اجْتَمَعَتْ؟! فَمَا ظَنُّكَ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا كِبْرٌ، وَفُجُورٌ، وَإِجرَامٌ وَتَجَهْرُمٌ عَلَى اللهِ؟! نَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.
وقال في "السير" "11/ 393":
قال زاهر بن أحمد السرخسي: لَمَّا قَرُبَ حُضُوْرُ أَجل أَبِي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ فِي دَارِي بِبَغْدَادَ، دعَانِي فَأَتَيْتُه، فَقَالَ: اشهدْ عليَّ أَنِّي لاَ أَكفِّر أَحَداً مِنْ أَهْلِ القِبْلَة، لأَنَّ الكلَّ يُشيَرَوْنَ إِلَى معبودٍ وَاحِد، وإنما هذا كله اختلاف العبادات.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: وَبنحو هَذَا أَدين، وَكَذَا كَانَ شَيْخُنَا ابْنُ تيمِيَّة فِي أَوَاخِرِ أَيَّامه يَقُوْلُ: أَنَا لاَ أَكفر أَحَداً مِنَ الأُمَّة، وَيَقُوْلُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ يُحَافِظُ عَلى الْوضُوء إِلاَّ مُؤْمِنٌ" 1، فَمَنْ لاَزَمَ الصَّلَوَاتِ بوضوء فهو مسلم.
هذه هي عقيدة الحافظ العلامة شمس الدين الذهبي رحمه الله، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة التي كان عليها سلف الأمة الصحابة العظماء ومن تابعهم رضي الله عنهم أجمعين. ثم يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلي -وكذا سائر الأنبياء- وأنه عاش أميا ومات أميا.
قال في "السير" "7/ 570":
النبي صلى الله عليه وسلم لا يَبْلَى، وَلاَ تَأْكلُ الأَرْضُ جَسَدَهُ، وَلاَ يَتَغَيَّرُ رِيْحُهُ، بَلْ هُوَ الآنَ -وَمَا زَالَ- أَطْيَبُ رِيْحاً مِنَ المِسْكِ وَهُوَ حَيٌّ فِي لَحْدِهِ، حَيَاةَ مِثْلِهِ فِي البَرزَخِ الَّتِي هِيَ أَكمَلُ مِنْ حَيَاةِ سَائِرِ النَّبِيِّينَ، وَحَيَاتُهُم بِلاَ رَيْبٍ أَتَمُّ وَأَشرَفُ مِنْ حَيَاةِ الشُّهدَاءِ الَّذِيْنَ هُم بنص الكتاب: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ
__________
1 صحيح: راجع تخريجنا له في الجزء الحادي عشر بتعليقنا رقم "440".(1/72)
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آلُ عِمْرَانَ: 169] ، وَهَؤُلاَءِ حَيَاتُهُم الآنَ الَّتِي فِي عَالِمِ البَرْزَخِ حَقٌّ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ حَيَاةَ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلاَ حَيَاةَ أَهْلِ الجَنَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَهُم شِبْهٌ بِحَيَاةِ أَهْلِ الكَهْفِ. وَمِنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ آدَمَ وَمُوْسَى لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ مُوْسَى، وَحَجَّهُ آدَمُ بِالعِلْمِ السَّابِقِ، كَانَ اجْتِمَاعُهُمَا حَقّاً، وَهُمَا فِي عَالِمِ البَرْزَخِ، وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أخبر أنه رأى في السموات آدم، وموسى، وإبراهيم، وإدريس، وعيسى، صلى الله وسلم عليهم، وطالت محاورته مع مُوْسَى، هَذَا كُلُّه حَقٌّ، وَالَّذِي مِنْهُم لَمْ يَذُقِ المَوْتَ بَعْدُ، هُوَ عِيْسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
فما زال نبينا طَيِّباً مُطَيَّباً، وَإِنَّ الأَرْضَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا أَكلُ أَجْسَادِ الأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا شَيْءٌ سَبِيْلُهُ التَّوقِيْفُ، وَمَا عَنَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- لَمَّا قَالُوا لَهُ بِلاَ عِلْمٍ: وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْك وَقَدْ أَرَمْتَ؟ يَعْنِي: قَدْ بَلِيتَ. فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ حَرَّمَ على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء".
وقال في "السير" "11/ 116":
عَنْ عَوْنِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِيْهِ قَالَ: مَا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قرأَ وَكَتَبَ1.
فعقب الذهبي "11/ 116-118" بقوله:
قُلْتُ: لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ شَيْئاً, إِلاَّ مَا فِي "صَحِيْح البُخَارِيِّ" مِنْ أَنَّهُ يَوْمَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَة كَتَبَ اسْمَهُ "مُحَمَّد بن عَبْدِ اللهِ"2.
وَاحتجَّ بِذَلِكَ القَاضِي أَبُو الوَلِيْدِ البَاجِي، وَقَامَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاء الأَنْدَلُس بِالإِنْكَار، وَبدَّعُوهُ حَتَّى كَفَّرَهُ بَعْضهُم. وَالخَطْبُ يَسِيْر، فَمَا خَرَجَ عَنْ كَونه أُمِّياً بِكِتَابَةِ اسْمه الكَرِيْم، فجَمَاعَةٌ مِنَ المُلُوك مَا عَلِمُوا مِنَ الكِتَابَة سِوَى مُجَرَّد العلاَمَة، وَمَا عدَّهُمُ النَّاسُ بِذَلِكَ كَاتِبِين، بَلْ هُم أُمِّيُّون، فَلاَ عِبْرَةَ بِالنَادرِ، وَإِنَّمَا الحكمُ للغَالِب, وَاللهُ -تَعَالَى- فَمَنْ حِكْمَتِهِ لَمْ يُلْهِم نَبِيَّه تَعَلُّمَ الكِتَابَة، وَلاَ قِرَاءة الكُتُبِ حَسْماً لمَادَةِ المُبْطِلِيْن، كَمَا قَالَ -تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [الْعَنْكَبُوت: 48] ، وَمَعَ هَذَا فَقَدِ افتَرَوْا وَقَالُوا: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [الفرقان: 5] ، فانظر إلى قحة
__________
1 ضعيف: في إسناده مجالد، وهو ابن سعيد، أجمعوا على ضعفه.
2 صحيح: أخرجه البخاري "2698"، ومسلم "1783" من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.(1/73)
المعَانِدِ، فَمَنِ الَّذِي كَانَ بِمَكَّةَ وَقتَ المَبْعثَ يَدْرِي أَخْبَارَ الرُّسْلِ وَالأُمم الخَاليَة؟ مَا كَانَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَصلاً. ثُمَّ مَا المَانعُ مِنْ تعلُّم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابَةَ اسْمِهِ وَاسمِ أَبِيْهِ مَعَ فرط ذكَائِه، وَقوَةِ فَهمِه، وَدوَام مُجَالسته لِمَنْ يَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيْهِ الوَحْيَ وَالكُتُبَ إِلَى مُلُوْك الطوَائِف، ثم هذا خاتمه في يده، وَنَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ1.
فَلاَ يَظنُّ عَاقلٌ أَنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- مَا تعقَّلَ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّه يَقْتَضِي أَنَّهُ عرف كِتَابَة اسْمِه وَاسمِ أَبِيْهِ، وَقَدْ أَخبر اللهُ بِأَنَّهُ -صلوَات الله عَلَيْهِ- مَا كَانَ يَدْرِي مَا الكِتَاب ثُمَّ علمه الله ما لم يكن يعلم، ثم الكتاب صِفَةُ مَدْحٍ، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [الْعلق: 4-5] ، فَلَمَّا بلَّغَ الرِّسَالَة، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دين الله أَفواجاً، شَاءَ اللهُ لنبيِّه أَنْ يَتَعَلَّم الكِتَابَة النَّادرَة الَّتِي لاَ يَخْرُج بِمثلِهَا عَنْ أَنْ يَكُوْنَ أُمِياً، ثُمَّ هُوَ القَائِلُ: "إِنَّا أُمَّةٌ أُمَيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ" 2. فصدقَ إِخبارُهُ بذلك، إذا الحُكم للغَالِب، فنفَى عَنْهُ وَعَنْ أُمته الكِتَابَة وَالحِسَاب لِندُور ذَلِكَ فِيهِم وَقِلَّته، وَإِلاَّ فَقَدْ كَانَ فِيهِم كُتَّابُ الوَحِي وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ فِيهِم مَنْ يَحسُب، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإِسرَاء: 12] .
وَمِنْ عِلمهُم الفَرَائِضُ، وَهِيَ تَحتَاجُ إِلَى حِسَاب وَعَوْل، وَهُوَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فينفي عَنِ الأُمَّةِ الحِسَاب، فعَلمنَا أَنَّ المنفيَّ كمَالُ علم ذَلِكَ وَدقَائِقه الَّتِي يَقُوْم بِهَا القِبْطُ وَالأَوَائِل، فَإِنَّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ دين الإِسْلاَم وَلله الْحَمد.
فَإِنَّ القِبْطَ عَمَّقُوا فِي الحسَاب وَالجَبْر، وَأَشيَاء تُضيِّعُ الزَّمَان وَأَربَابُ الهَيْئَة تكلَّمُوا فِي سَير النُّجُوْم وَالشَّمْس وَالقَمَر، وَالكسوف وَالقِرَان3 بِأُمُور طَوِيْلَة لَمْ يَأْتِ الشَّرْعُ بِهَا، فَلَمَّا ذكر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّهُور وَمعرفَتَهَا بَيَّنَ أَنَّ معرفَتَهَا لَيْسَتْ بِالطُّرق الَّتِي يَفْعَلهَا المنَجِّم وَأَصْحَابُ التَّقْوِيم، وَأَنَّ ذَلِكَ لاَ نعبأُ بِهِ فِي ديننَا، وَلاَ نحسُبُ الشهرَ بِذَلِكَ أَبَداً، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الشهرَ بِالرُّؤْيَة فَقط، فَيَكُوْن تِسْعاً وَعِشْرِيْنَ، أَوْ بتكملَة ثَلاَثِيْنَ، فَلاَ نَحتَاجُ مَعَ الثَّلاَثِيْنَ إِلَى تكلُّف رؤية.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "5875"، ومسلم "2092" "56" وقد خرجته في الجزء الحادي عشر بتعليقنا رقم "106".
2 صحيح: أخرجه البخاري "1913"، ومسلم "1080" "15" وقد خرجته في الجزء الحادي عشر بتعليقنا رقم "107" فراجعه ثمت.
3 القران: يعني قران الكواكب.(1/74)
وَأَمَّا الشِّعْرُ فنزَّهَهُ الله تَعَالَى عَنِ الشِّعرِ قَالَ -تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] ، فَمَا قَالَ الشِّعر مَعَ كَثْرَتِهِ وَجُوْدَتِهِ فِي قُرَيْش، وَجَرَيَان قرَائِحِهِم بِهِ، وَقَدْ يقعُ شَيْءٌ نَادرٌ فِي كَلاَمهِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- مَوزُوناً، فَمَا صَارَ بِذَلِكَ شَاعِراً قَطُّ، كَقَوْلِه:
أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ
وَقَوْله:
هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيْتِ ... وَفِي سَبِيْلِ الله ما لقيت
وَمِثلُ هَذَا قَدْ يقعُ فِي كتب الفِقْه وَالطِّبِّ وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَقَع اتِّفَاقاً، وَلاَ يقصِدُهُ المُؤلِّف وَلاَ يشعرُ بِهِ، أَفَيَقُوْلُ مُسْلِمٌ قَطُّ: إِنَّ قوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] ، هُوَ بَيْت؟! مَعَاذَ اللهِ وَإِنَّمَا صَادَفَ وَزناً فِي الجُمْلَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وقال في "السير" "13/ 208":
المشركُون وَالكتَابيُّون وَغَيْرُهُم عَرَفُوا اللهَ -تَعَالَى- بِمعنَى أنهم لم يحجدوه، وَعَرَفُوا أَنَّهُ خَالِقُهُم، قَالَ -تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزُّخرف: 87] ، وَقَالَ: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إِبْرَاهِيْم: 10] فَهَؤُلاَءِ لَمْ يُنْكِرُوا البَارِئَ، وَلاَ جحدوا الصَّانعَ، بَلْ عَرَفُوهُ، وَإِنَّمَا جَهِلُوا نُعُوتَهُ المُقَدَّسَة، وقالوا عليه ما لا يعلمون، والمؤمن يعرف رَبَّهُ بِصِفَاتِ الكَمَال، وَنفَى عَنْهُ سمَاتِ النَّقْصِ فِي الجُمْلَةِ، وآمن بِرَبِّهِ، وَكفَّ عَمَّا لاَ يعلَمُ، فَبهَذَا يتبيَّنُ لَكَ أَنَّ الكَافِر عَرَفَ اللهَ مِنْ وَجْهٍ، وَجَهِلَهُ مِنْ وُجُوه، وَالنبيُّون عرفُوا اللهَ تَعَالَى، وَبَعْضُهُم أَكملُ مَعْرِفَةً لله، وَالأَوْلِيَاءُ فَعَرفُوهُ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً، وَلَكِنَّهَا دُوْنَ مَعْرِفَةِ الأَنْبِيَاء، ثُمَّ المُؤْمِنُوْنَ العَالِمُوْنَ بعدَهُم، ثُمَّ الصَّالِحُوْنَ دونَهُم. فَالنَّاسُ فِي مَعْرِفَةِ رَبِّهم مُتَفَاوِتُوْنَ، كَمَا أَنَّ إِيْمَانَهُم يَزِيْدُ وَيَنْقُص، بَلْ وَكَذَلِكَ الأُمَّةُ فِي الإِيْمَانِ بِنَبِيِّهم وَالمعرفَةِ لَهُ عَلَى مرَاتب، فَأَرفعُهُم فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مثلاً، ثم عدد مِنَ السَّابِقِيْن، ثُمَّ سَائِر الصَّحَابَة, ثُمَّ عُلَمَاءُ التَّابِعِيْنَ، إِلَى أَنْ تَنْتَهِي المعرفَةُ بِهِ وَالإِيْمَانُ بِهِ إِلَى أَعْرَابِيٍّ جَاهِلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْ نسَاء القرى، ودون كذلك وذلك القول في معرفة الناس لدين الإسلام.
وقال في "السير" "8/ 145":
قال هَارُوْنُ بنُ عَبْدِ اللهِ الحَمَّالُ: مَا رَأَيْتُ أَخْشَعَ للهِ مِنْ وَكِيْعٍ، وَكَانَ عَبْدُ المَجِيْدِ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ أَبِي رَوَّادٍ أخشع منه.(1/75)
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: خُشُوْعُ وَكِيْعٍ مَعَ إِمَامَتِهِ فِي السُّنَّةِ، جعله مقدما، بخلاف خشوع هذا المرجئ -عبد المجيد عبد العزيز عَفَا اللهُ عَنْهُ- أَعَاذنَا اللهُ وَإِيَّاكُم مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، وَقَدْ كَانَ عَلَى الإِرْجَاءِ عَدَدٌ كَثِيْرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ، فَهَلاَّ عُدَّ مَذْهَباً، وَهُوَ قَوْلُهُم: أَنَا مُؤْمِنٌ حَقّاً عِنْد اللهِ السَّاعَةَ مَعَ اعْتِرَافِهِم بِأَنَّهُم لاَ يَدْرُوْنَ بِمَا يموت عليهم المُسْلِمُ مِنْ كُفْرٍ أَوْ إِيْمَانٍ، وَهَذِهِ قَوْلَةٌ خَفِيْفَةٌ, وَإِنَّمَا الصَّعْبُ مِنْ قَوْلِ غُلاَةِ المُرْجِئَةِ: إِنَّ الإِيْمَانَ هُوَ الاعتِقَادُ بِالأَفْئِدَةِ، وَإِنَّ تَارِكَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، وَشَارِبَ الخَمْرِ، وَقَاتِلَ الأَنْفُسِ، وَالزَّانِيَ، وَجَمِيْعَ هَؤُلاَءِ يَكُوْنُوْن مُؤْمِنِيْنَ كَامِلِي الإِيْمَانِ، وَلاَ يَدْخُلُوْنَ النَّارَ وَلاَ يُعَذَّبُوْنَ أَبَداً. فَرَدُّوا أَحَادِيْثَ الشَّفَاعَةِ المُتَوَاتِرَةَ، وَجَسَّرُوا كُلَّ فَاسِقٍ وَقَاطِعِ طَرِيْقٍ على الموبقات نعوذ بالله من الخذلان.
وقال الذهبي في "السير" "11/ 312":
كل من أحب الشيخين فليس بغال، بلى مَنْ تَعَرَّضَ لَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ تَنَقُّصٍ فَإِنَّهُ رَافِضِيٌّ غَالٍ، فَإِنْ سَبَّ، فَهُوَ مِنْ شِرَارِ الرَّافِضَةِ، فَإِنْ كَفَّرَ، فَقَدْ بَاءَ بِالكُفْرِ، وَاسْتَحَقَّ الخزي.
وقال في "السير" "12/ 419":
لَيْسَ تَفْضِيْلُ عَلِيٍّ بِرَفضٍ، وَلاَ هُوَ ببدعَةٌ، بَلْ قَدْ ذَهبَ إِلَيْهِ خَلقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ والتابعين، فكل من عثمان وعلي ذي فضل وسابقة وجهاد، وهما مُتَقَارِبَانِ فِي العِلْمِ وَالجَلاَلَة، وَلعلَّهُمَا فِي الآخِرَةِ مُتسَاويَانِ فِي الدَّرَجَةِ، وَهُمَا مِنْ سَادَةِ الشُّهَدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَلَكِنَّ جُمُهورَ الأُمَّةِ عَلَى تَرَجيْحِ عُثْمَانَ عَلَى الإِمَامِ عَلِيٍّ، وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ وَالخَطْبُ فِي ذَلِكَ يسيرٌ، وَالأَفضَلُ مِنْهُمَا -بِلاَ شكٍّ- أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، مَنْ خَالفَ فِي ذَا فَهُوَ شِيعِيٌّ جَلدٌ، وَمَنْ أَبغضَ الشَّيْخَيْنِ وَاعتقدَ صِحَّةَ إِمَامَتِهِمَا فَهُوَ رَافضيٌّ مَقِيتٌ، وَمَنْ سَبَّهُمَا وَاعتقدَ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِإِمَامَيْ هُدَى فَهُوَ من غلاة الرافضة، أبعدهم الله.
وقال في "السير" "13/ 231":
قَالَ ابْنُ حَزْم: الإِمَامِيَّةُ كُلُّهُم عَلَى أَنَّ القُرْآن مُبَدَّلٌ، وَفِيْهِ زيَادَةٌ وَنقصٌ سِوَى المُرْتَضَى، فَإِنَّهُ كَفَّر مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ صَاحِباهُ أبو يعلى الطوسي، وأبو القاسم الرازي.
فعقب الذهبي بقوله: وفي تواليف المرتضى -أبي طالب علي بن حسين بن موسى- سَبُّ أَصْحَابِ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ علمٍ لاَ ينفع.(1/76)
هكذا يتبرأ الحافظ -رحمه الله- من سب الصحابة الكرام، وممن بدل القرآن، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وما كان عليه سلف الأمة قد أبانها الحافظ في أقواله المبثوثة في هذا الكتاب العظيم وفي ردوده على أهل الزيغ والضلال بيانا ساطعا يستضيء به كل باحث عن الحق.
لقد كان الحافظ الذهبي -رحمه الله- رأسا في علوم الحديث، وألف فيها كتبا كثيرة اعتمد عليها كثير من العلماء إلى يومنا هذا، وكانت له آراء حديثية هامة تهم كل عامل ومشتغل بهذا العلم الشريف، هذه الأقوال والآراء مبثوثة في كتابه "السير"، وسائر كتبه، نذكر بعض هذه الأقوال والآراء ليستضيء بها كل مشتغل بهذا العلم الجليل، وليقف القارئ على هذه المكانة السنية التي تبوأها هذا الحافظ الجليل حتى أصبح يشار إليه بالبنان بين أكابر علماء الحديث، فدونك أيها القارئ الكريم هذه الأقوال والآراء:
قال في "السير" "7/ 115":
قال جماعة سليمان بن حرب: سمعت حماد بن زيد يَقُوْلُ فِي قَوْلِهِ: {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحُجُرَاتُ: 2] قَالَ: أَرَى رَفْعَ الصَّوْتِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَرَفعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، إِذَا قُرِئَ حَدِيْثُهُ وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تنصت له، كما تنصت للقرآن يعمر.
وقال في "السير" "9/ 7":
يَنْبَغِي لِلْمُحَدِّثِ أَنْ لاَ يُشْهِرَ الأَحَادِيْثَ الَّتِي يَتَشَبَّثُ بِظَاهِرِهَا أَعدَاءُ السُّنَنِ مِنَ الجَهْمِيَّةِ، وَأَهْلِ الأَهْوَاءِ، وَالأَحَادِيْثَ الَّتِي فِيْهَا صِفَاتٌ لَمْ تَثْبُتْ، فَإِنَّكَ لَنْ تُحَدِّثَ قَوْماً. بِحَدِيْثٍ لاَ تَبْلُغُهُ عُقُوْلُهُم، إِلاَّ كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِم، فَلاَ تَكْتُمِ العِلْمَ الَّذِي هُوَ عِلْمٌ، وَلاَ تَبْذُلْهُ لِلْجَهَلَةِ الَّذِيْنَ يَشْغَبُوْنَ عَلَيْكَ، أَوِ الَّذِيْنَ يَفْهَمُونَ مِنْهُ ما يضرهم.
وقال في "السير" "9/ 22":
قَالَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُوْنَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُوْنَ. وَقَدْ صحَّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَتَمَ حَدِيْثاً كَثِيْراً مِمَّا لاَ يَحْتَاجُهُ المُسْلِمُ فِي دِيْنِهِ، وَكَانَ يَقُوْلُ: لَوْ بَثَثْتُهُ فِيْكُم لَقُطِعَ هَذَا البُلْعُومُ. وَلَيْسَ هذا من باب كتمان العلم فِي شَيْءٍ، فَإِنَّ العِلْمَ الوَاجِبَ يَجِبُ بَثُّهُ وَنَشْرُهُ، وَيَجِبُ عَلَى الأُمَّةِ حِفْظُهُ، وَالعِلْمُ الَّذِي فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ مِمَّا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ يَتَعَيَّنُ نقله ويتأكد(1/77)
نشرهن وَيَنْبَغِي لِلأُمَّةِ نَقْلُهُ، وَالعِلْمُ المُبَاحُ لاَ يَجِبُ بَثُّهُ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ فِيْهِ إِلاَّ خَوَاصُّ العُلَمَاءِ.
وَالعِلْمُ الَّذِي يَحْرُمُ تَعَلُّمُهُ وَنَشْرُهُ: عِلْمُ الأَوَائِلِ، وَإِلَهِيَّاتُ الفَلاَسِفَةِ، وَبَعْضُ رِيَاضَتِهِم -بَلْ أَكْثَرُهُ- وَعِلْمُ السِّحْرِ، وَالسِّيْمِيَاءُ، وَالكِيْمِيَاءُ، وَالشَّعْبَذَةُ، وَالحِيَلُ، وَنَشْرُ الأَحَادِيْثِ المَوْضُوْعَةِ، وَكَثِيْرٌ مِنَ القَصَصِ البَاطِلَةِ أو المنكرة، وسيرة البطال المختلفة، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَرَسَائِلُ إِخْوَانِ الصَّفَا، وَشِعْرٌ يُعَرَّضُ فِيْهِ إِلَى الجَنَابِ النَّبَوِيِّ، فَالعُلُوْمُ البَاطِلَةُ كَثِيْرَةٌ جِدّاً فَلْتُحْذَرْ، وَمَنِ ابْتُلِيَ بِالنَّظَرِ فِيْهَا لِلْفُرْجَةِ وَالمَعْرِفَةِ مِنَ الأَذْكِيَاءِ فَلْيُقَلِّلْ مِنْ ذَلِكَ، وَلْيُطَالِعْهُ وَحْدَهُ وَلْيَسْتَغْفِرِ اللهَ تَعَالَى وَلْيَلْتَجِئْ إِلَى التَّوْحِيْدِ، وَالدُّعَاءِ بِالعَافِيَةِ فِي الدِّيْنِ، وَكَذَلِكَ أَحَادِيْثُ كَثِيْرَةٌ مَكْذُوْبَةٌ وَرَدَتْ فِي الصِّفَاتِ، لاَ يَحِلُّ بَثُّهَا إلا للتحذير مِنِ اعْتِقَادِهَا، وَإِنْ أَمْكَنَ إِعْدَامُهَا، فَحَسَنٌ، اللَّهُمَّ فَاحْفَظْ عَلَيْنَا إِيْمَانَنَا وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ.
وقال في "السير" "7/ 458":
أَكْثَرَ الأَئِمَّةُ عَلَى التَّشَدِيْدِ فِي أَحَادِيْثِ الأَحكَامِ، والترخيص قليلا، لا كل الترخيص في الفضائل والرقاق، فَيَقْبَلُوْنَ فِي ذَلِكَ مَا ضَعُفَ إِسْنَادُهُ لاَ مَا اتُّهِم رُوَاتُهُ، فَإِنَّ الأَحَادِيْثَ المَوْضُوْعَةَ وَالأَحَادِيْثَ الشَّدِيْدَةَ الوَهنِ، لاَ يَلْتَفِتُوْنَ إِلَيْهَا، بَلْ يَرْوُونَهَا لِلتَّحذِيرِ مِنْهَا، وَالهَتْكِ لِحَالِهَا، فَمَنْ دَلَّسَهَا، أَوْ غطى تباينها، فَهُوَ جَانٍ عَلَى السُّنَّةِ، خَائِنٌ للهِ وَرَسُوْلِه، فَإِنْ كَانَ يَجْهَلُ ذَلِكَ، فَقَدْ يُعْذَرُ بِالجَهْلِ، وَلَكِنْ سَلُوا أَهْلَ الذِّكرِ إِنْ كُنْتُم لاَ تعلمون.
وقال في "السير" "12/ 168":
كان الحفاظ يطلقون لفظة "ثقة" على الشيخ الذي سماعه بقرَاءةِ مُتْقِنٍ، وَإِثْبَاتِ عدلٍ، وَترخَّصُوا فِي تسمِيته بِالثِّقَةِ، وَإِنَّمَا الثِّقَةُ فِي عُرفِ أَئِمَّةِ النَّقْدِ كَانَتْ تقعُ عَلَى العَدْلِ فِي نَفْسِهِ، المُتْقِنُ لِمَا حَمَلَهُ، الضَابطُ لِمَا نقلَ، وَلَهُ فَهْمٌ ومعرفة بالفن، فتوسع المتأخرون.
وقال في "السير" "10/ 341":
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ بَرَكَةَ الحَلَبِيّ: سَمِعْتُ عُثْمَان بن خُرَّزَاذ يَقُوْلُ: يحتَاجُ صَاحِب الحَدِيْثِ إِلَى خَمْسٍ، فَإِن عَدِمَتْ وَاحِدَةٌ فَهِيَ نقصٌ، يحتَاجُ إِلَى عقلٍ جَيِّدٍ، وَدينٍ، وَضَبطٍ، وَحذَاقَةٍ بِالصِّنَاعَة، مع أمانة تعرف منه.(1/78)
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: الأَمَانَةُ جُزء مِنَ الدِّين، وَالضَّبْطُ دَاخلٌ فِي الحِذْق، فَالَّذِي يحتَاج إِلَيْهِ الحَافِظُ أَن يَكُون تقياً ذكياً، نَحْوِيّاً لُغَوِيّاً زكياً حَيِيّاً، سَلَفياً، يَكْفِيهِ أَنْ يَكتبَ بِيَدِهِ مائَتَي مُجَلَّد، ويحصل من الدواوين المعتبرة خمسمائة مجلَّد، وَأَنَّ لاَ يَفْتُر مِنْ طَلَب العِلْم إِلَى المَمَات، بنيَّةٍ خَالصَةٍ وَتواضُعٍ، وَإِلاَّ فَلاَ يتعن.
وقال في "السير" "9/ 129-130":
نحن لاَ نَدَّعِي العِصْمَةَ فِي أَئِمَّةِ الجَرحِ وَالتَّعدِيلِ، لَكِنْ هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ صَوَاباً، وَأَنْدَرُهُمْ خَطَأً، وَأَشَدُّهُم إِنصَافاً، وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ التَّحَامُلِ، وَإِذَا اتَّفَقُوا عَلَى تَعدِيلٍ أَوْ جَرْحٍ، فَتَمَسَّكْ بِهِ، وَاعضُضْ عَلَيْهِ بِنَاجِذَيْكَ، وَلاَ تَتَجَاوَزْهُ، فَتَنْدَمَ، وَمَنْ شَذَّ مِنْهُم، فَلاَ عِبْرَةَ بِهِ، فَخَلِّ عَنْكَ العَنَاءَ، وَأَعطِ القَوسَ بَارِيَهَا، فَوَاللهِ لَوْلاَ الحُفَّاظُ الأَكَابِرُ، لَخَطَبَتِ الزَّنَادِقَةُ عَلَى المَنَابِرِ، وَلَئِنْ خَطَبَ خَاطِبٌ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ، فَإِنَّمَا هُوَ بِسَيفِ الإِسْلاَمِ، وَبِلِسَانِ الشَّرِيعَةِ، وَبِجَاهِ السُّنَّةِ، وَبِإِظهَارِ مُتَابَعَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الخذلان.
وقال في "السير" "10/ 104":
من نظر في كلام البخاري فِي الجرحِ وَالتعديلِ عَلِمَ وَرعَهُ فِي الكَلاَمِ فِي النَّاسِ، وَإِنصَافَهُ فِيْمَنْ يُضَعِّفُهُ، فَإِنَّهُ أَكْثَر مَا يَقُوْلُ: مُنْكَرُ الحَدِيْثِ، سَكَتُوا عَنْهُ، فِيْهِ نظرٌ، وَنَحْو هَذَا. وَقَلَّ أَنْ يَقُوْلَ: فُلاَنٌ كَذَّابٌ، أَوْ كَانَ يَضَعُ الحَدِيْثَ حَتَّى إِنَّهُ قَالَ: إِذَا قُلْتُ: فُلاَنٌ فِي حَدِيْثِهِ نَظَرٌ، فهو منهم وَاهٍ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لاَ يُحَاسبُنِي اللهُ أَنِّي اغتبْتُ أَحَداً، وَهَذَا هُوَ وَاللهِ غَايَةُ الوَرَعِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ الوَرَّاقُ: سَمِعْتُهُ -يَعْنِي: البُخَارِيَّ- يَقُوْلُ: لاَ يَكُوْنُ لِي خصمٌ فِي الآخِرَةِ، فَقُلْتُ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَنْقِمُونَ عَلَيْكَ فِي كِتَابِ "التَّارِيْخ" وَيَقُوْلُوْنَ: فِيْهِ اغتيَابُ النَّاسِ، فَقَالَ: إِنَّمَا روينَا ذَلِكَ رِوَايَةً لَمْ نَقُلْهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِئْسَ مَوْلَى العَشِيْرَةِ" يَعْنِي حَدِيْث عَائِشَةَ1. وسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: مَا اغتبْتُ أَحَداً قَطُّ مُنْذُ عَلِمتُ أَنَّ الغِيبَةَ تَضُرُّ أهلها. وقال الحافظ في "الميزان" "1/ 6": نقل ابن القطان أن البخاري قال: كل من قلت فيه: منكر الحديث فلا تحل الرواية عنه.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "6/ 38"، والحميدي "249"، والبخاري "6054"، "6131"، ومسلم "2591" "73" وغيرهم وقد خرجته في الموضع المشار إليه، فراجعه ثمت.(1/79)
وقال في "السير" "7/ 583":
كان يحيى بن سعيد القطان مُتَعَنِّتاً فِي نَقدِ الرِّجَالِ، فَإِذَا رَأَيْتَهُ قَدْ وَثَّقَ شَيْخاً، فَاعْتمِدْ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا لَيَّنَ أَحَداً، فَتَأَنَّ فِي أَمرِهِ حَتَّى تَرَى قَوْلَ غَيْرِهِ فِيْهِ، فَقَدْ لَيَّنَ مِثْلَ إِسْرَائِيْلَ، وَهَمَّامٍ، وَجَمَاعَةٍ احْتَجَّ بِهِمُ الشَّيْخَانِ، وَلَهُ كِتَابٌ فِي "الضُّعفَاءِ" لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، يَنْقُلُ مِنْهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ، وَيَقعُ كَلاَمُهُ فِي سُؤَالاَتِ عَلِيٍّ، وأبي حفص الصيرفي، وابن معين له.
وقال في "الميزان" "1/ 61":
لا يلتفت إلى قول الأزدي، فإن في لسانه في الجرح رهقا.
وقال الذهبي في "الميزان": لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف، ولا على تضعيف ثقة.
وقال في "السير" "8/ 365":
كُلُّ تَغَيُّرٍ يُوْجَدُ فِي مَرَضِ المَوْتِ، فَلَيْسَ بِقَادِحٍ فِي الثِّقَةِ، فَإِنَّ غَالِبَ النَّاسِ يَعْتَرِيْهِم فِي المَرَضِ الحَادِّ نَحْوُ ذَلِكَ، وَيَتِمُّ لَهُمْ وَقْتَ السِّيَاقِ وَقَبْلَهُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا المَحْذُوْرُ أَنْ يَقَعَ الاخْتِلاَطُ بِالثِّقَةِ، فَيُحَدِّثُ فِي حَالِ اخْتِلاَطِهِ بِمَا يَضْطَرِبُ فِي إِسْنَادِهِ، أَوْ متنه، فيخالف فيه.
وقال في "السير" "9/ 314":
كل أحد يتعلل قبل موته غَالِباً وَيَمْرَضُ، فَيَبْقَى أَيَّامَ مَرَضِهِ مُتَغَيَّرَ القُوَّةِ الحَافِظَةِ، وَيَمُوْتُ إِلَى رَحْمَةِ اللهِ عَلَى تَغَيُّرِهِ، ثُمَّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَسِيْرٍ يَخْتَلِطُ ذِهنُهُ، وَيَتَلاَشَى عِلْمُهُ، فَإِذَا قَضَى زَالَ بِالمَوْتِ حِفْظُهُ، فَكَانَ مَاذَا؟ أَفَبِمِثْلِ هَذَا يُلَيَّنُ عَالِمٌ قَطُّ؟ كَلاَّ والله.
وقال الحافظ في "السير" "7/ 115":
المدلس دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آلُ عِمْرَانَ: 188] ، قُلْتُ: وَالمُدَلِّسُ فِيْهِ شَيْءٌ مِنَ الغِشِّ, وَفِيْهِ عَدَمُ نُصحٍ لِلأُمَّةِ، لاَ سِيَّمَا إِذَا دَلَّسَ الخَبَرَ الوَاهِي يُوْهِمُ أَنَّهُ صَحِيْحٌ، فَهَذَا لاَ يَحِلُّ بِوَجْهٍ، بِخِلاَفِ بَاقِي أَقسَامِ التَّدْلِيسِ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ عبد الوارث بن سعيد: التدليس ذل.
وقال في "السير" "9/ 313":
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الحَاكِمُ: إِسْحَاقُ، وَابْنُ المبارك، ومحمد ابن يحيى هؤلاء دفنوا كتبهم.(1/80)
فعقب الذهبي "9/ 314" بقوله:
قُلْتُ: هَذا فَعَلَهُ عِدَّةٍ مِنَ الأَئِمَّةِ، وَهُوَ دَالٌّ أَنَّهُم لاَ يَرَوْنَ نَقْلَ العِلْمِ وِجَادَةً فَإِنَّ الخَطَّ قد يَتَصَحَّفُ عَلَى النَّاقِلِ، وَقَدْ يُمكِنُ أَنْ يُزَادَ فِي الخَطِّ حَرْفٌ، فَيُغَيِّرُ المَعْنَى، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا اليَوْمَ فَقَدْ اتَّسَعَ الخَرقُ, وَقَلَّ تَحْصِيْلُ العِلْمِ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ، بَلْ وَمِنَ الكُتُبِ غَيْرِ المَغْلُوْطَةِ، وَبَعْضُ النَّقَلَةِ للمسائل قد لا يحسن أن يتهجى.
وقال في "السير" "9/ 326":
قال مطين: أوصى أبو كريب محمد بن العلاء بكتبه أن تدفن فدفنت.
فعقب الذهبي "9/ 327" بقوله:
قُلْتُ: فَعَلَ هَذَا بِكُتُبِه مِنَ الدَّفْنِ وَالغَسلِ وَالإِحرَاقِ عِدَّةٌ مِنَ الحُفَّاظِ خَوْفاً مِنْ أَنْ يَظْفَرَ بِهَا مُحَدِّثٌ قَلِيْلُ الدِّيْنِ، فَيُغَيِّرَ فِيْهَا، ويزيد فيها, فينسب ذلك إلى الحفاظ، أَوْ أَنَّ أُصُوْلَه كَانَ فِيْهَا مَقَاطِيعُ وَوَاهِيَاتٌ مَا حَدَّثَ بِهَا أَبَداً، وَإِنَّمَا انْتَخَبَ مِنْ أُصُوْلِه مَا رَوَاهُ وَمَا بَقِيَ، فَرَغِبَ عَنْهُ، وَمَا وَجَدُوا لِذَلِكَ سِوَى الإِعدَامِ فَلِهَذَا وَنَحْوِهِ دفن -رحمه الله- كتبه.
وقال في "السير" "6/ 594":
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ قال: دخلنا على شعيب بن أبي حمزة حَتَّى احْتُضِرَ، فَقَالَ: هَذِهِ كُتُبِي، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهَا فَلْيَأْخُذْهَا وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِضَ، فَلْيَعرِضْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَ, فَلْيَسْمَعْهَا مِنِ ابني، فإنه سمعها مني.
فعقب عليه الذهبي "6/ 595" بقوله:
قُلْتُ: فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ عَامَّةَ مَا يَرْوِيْهِ أَبُو اليَمَانِ عَنْهُ بِالإِجَازَةِ، وَيُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ: بِأَخْبَرَنَا، وَرِوَايَاتُ أَبِي اليَمَانِ عَنْهُ ثَابِتَةٌ فِي "الصَّحِيْحَيْنِ"، وَذَلِكَ بِصِيغَةِ: أَخْبَرَنَا وَمَنْ رَوَى شَيْئاً مِنَ العِلْمِ بِالإِجَازَةِ عَنْ مِثْلِ شُعَيْبِ بنِ أَبِي حَمْزَةَ فِي إِتقَانِ كُتُبِهِ وَضَبطِهِ، فَذَلِكَ حُجَّةٌ عِنْدَ المُحَقِّقِيْنَ، مَعَ اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُوْنَ الرَّاوِي بِالإِجَازَةِ ثِقَةً، ثَبْتاً أَيْضاً، فَمَتَى فُقِدَ ضُبِطَ الكِتَابُ المُجَازُ، وَإِتْقَانُهُ، وَتحَرِيْرُهُ، أَوْ إِتقَانُ المُجِيْزِ أَوِ المُجَازُ لَهُ، انحَطَّ المَروِيُّ عن رتبة الاحتجاج به. ومتى فقد الصِّفَاتُ كُلُّهَا، لَمْ تَصِحَّ الرِّوَايَةُ عِنْدَ الجُمْهُوْرِ.
وَشُعَيْبٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فَقَدْ كَانَتْ كُتُبُهُ نِهَايَةً فِي الحُسْنِ، وَالإِتقَانِ، وَالإِعْرَابِ، وَعَرَفَ(1/81)
هُوَ مَا يُجِيْزُ وَلِمَنْ أَجَازَ، بَلْ رِوَايَةُ كُتُبِهِ بِالوِجَادَةِ كَافٍ فِي الحُجَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي اليَمَانِ عَنْهُ بِذَلِكَ دَلِيْلٌ عَلَى إِطْلاَقِ: أَخْبَرَنَا فِي الإِجَازَةِ كَمَا يَتَعَانَاهُ فُضَلاَءُ المُحَدِّثِيْنَ بِالمَغْرِبِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّدْلِيسِ، فَإِنَّهُ يُوهِمُ أنه بالسماع. والله أعلم.
وقال في "السير" "6/ 571":
القَدَرِيُّ، وَالمُعْتَزِلِيُّ، وَالجَهْمِيُّ، وَالرَّافِضِيُّ إِذَا عُلِمَ صِدْقُهُ فِي الحَدِيْثِ وَتَقْوَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ دَاعِياً إِلَى بِدْعَتِهِ، فَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ العُلَمَاءِ قَبُولُ رِوَايَتِهِ، وَالعَمَلِ بِحَدِيْثِهِ، وَتَرَدَّدُوا فِي الدَّاعِيَةِ، هَلْ يُؤْخَذُ عَنْهُ؟ فَذَهَبَ كَثِيْرٌ مِنَ الحُفَّاظِ إِلَى تَجَنُّبِ حَدِيْثِهِ، وَهُجْرَانِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُم: إِذَا عَلِمْنَا صِدْقَهُ، وَكَانَ دَاعِيَةً، وَوَجَدْنَا عِنْدَهُ سُنَّةً تَفَرَّدَ بِهَا، فَكَيْفَ يَسُوغُ لَنَا تَرْكُ تِلْكَ السُّنَّةِ؟
فَجَمِيْعُ تَصَرُّفَاتِ أَئِمَّةِ الحَدِيْثِ تُؤْذِنُ بِأَنَّ المُبتَدِعَ إِذَا لَمْ تُبِحْ بِدعَتُه خُرُوْجَه مِنْ دَائِرَةِ الإِسْلاَمِ، وَلَمْ تُبِحْ دَمَهُ، فَإِنَّ قَبُولَ مَا رَوَاهُ سَائِغٌ. وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ لَمْ تَتَبَرْهَنْ لِي كَمَا يَنْبَغِي، وَالَّذِي اتَّضَحَ لِي مِنْهَا: أَنَّ مَنْ دخل في بدعة, ولم يعد من رءوسها، وَلاَ أَمْعَنَ فِيْهَا، يُقْبَلُ حَدِيْثُه، كَمَا مَثَّلَ الحافظ أبو زكريا يحيى بن معين بقتادة، وَهِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَسَعِيْدُ بنُ أَبِي عَرُوْبَةَ، وَعَبْدُ الوارث، وغيرهم، وهم يقولون بالقدر وهم ثقات، وحديثهم في كتب الإسلام لصدقهم وحفظهم.
وقال في "السير" "12/ 385":
كان أَبُو القَاسِمِ عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ عَبْدِ اللهِ الداركي الشافعي يُتَّهَمُ بِالاِعْتِزَالِ وَكَانَ رُبَّمَا يَخْتَارُ فِي الفَتْوَى، فيُقَال لَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَقُوْلُ: وَيْحَكمْ! حَدَّثَ فُلاَنٌ عَنْ فُلاَنٍ، عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا وَكَذَا، وَالأَخْذُ بِالحَدِيْثِ أَوْلَى مِنَ الأَخْذِ بِقَولِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيْفَةَ.
فعقب الذهبي -رحمه الله- بقوله: هَذَا جَيِّدٌ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ بِذَلِكَ الحَدِيْثِ إِمَامٌ مِنْ نُظَرَاءِ الإِمَامَيْنِ مِثْلُ مَالِكٍ، أَوْ سُفْيَانَ، أَوِ الأَوْزَاعِيِّ، وَبأَنْ يَكُونَ الحَدِيْثُ ثَابِتاً سَالِماً مِنْ عِلَّةٍ، وَبأَنْ لاَ يَكُونَ حُجَّةُ أَبِي حَنِيْفَةَ وَالشَّافِعِيِّ حَدِيْثاً صحيحاً معَارضاً للآخَرِ. أَمَّا مَنْ أَخَذَ بِحَدِيْثٍ صَحِيْحٍ وَقَدْ تنكَّبَهُ سَائِرُ أَئِمَّةِ الاِجتهَادِ، فَلاَ كَخَبَرِ: "فَإِنْ شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ"، وَكَحَدِيْثِ: "لعن الله السارق، يسرق البيضة، فتقطع يده".
وقال في السير "السير" "11/ 83":
قَالَ أَبُو سَعِيْدٍ بنُ يُوْنُسَ فِي "تَارِيْخِهِ" كَانَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ إِمَاماً حَافِظاً ثبتا.(1/82)
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: هَذَا أَصحُّ، فَإِنَّ ابْنَ يُوْنُسَ حَافِظٌ يَقِظٌ، وَقَدْ أَخَذَ عَنِ النَّسَائِيِّ، وَهُوَ بِهِ عارف. ولم يكن أحد في رأس الثلاثمائة أحفظ من النسائي، وهو أَحْذَقُ بِالحَدِيْثِ وَعِلَلِهِ وَرِجَالِهِ مِنْ مُسْلِمٍ، وَمِنْ أَبِي دَاوُدَ، وَمِنْ أَبِي عِيْسَى، وَهُوَ جَارٍ فِي مِضْمَارِ البُخَارِيِّ, وَأَبِي زُرْعَةَ إِلاَّ أَنَّ فِيْهِ قَلِيْلَ تَشَيُّعٍ وَانحِرَافٍ عَنْ خُصُومِ الإِمَامِ عَلِيٍّ كمُعَاوِيَةَ، وَعَمْرو، وَاللهِ يُسَامِحُهُ.
وَقَدْ صَنَّفَ "مُسْنَدَ عَلِيٍّ" وَكِتَاباً حَافِلاً فِي الكُنَى، وَأَمَّا كِتَاب: "خَصَائِص عَلِيٍّ" فَهُوَ دَاخِلٌ فِي "سُنَنِهِ الكبير"، وكذلك كتاب "عمل اليوم والليلة"، وهو مجلد، وهو جملة من "السُّنَنِ الكَبِيْرِ" فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَلَهُ كِتَابِ "التَّفْسِيْرِ" فِي مُجَلَّدٍ، وَكِتَابِ "الضُّعَفَاءِ"، وَأَشيَاء وَالَّذِي وقع لنا من "سننه" هو الكتاب "المجتبى" مِنْهُ، انتِخَابِ أَبِي بَكْرٍ بنِ السُّنِّيّ، سَمِعْتُهُ مَلَفَّقاً مِنْ جَمَاعَةٍ سَمِعُوهُ مِنِ ابْنِ بَاقَا بِرِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ المَقْدِسِيِّ سَمَاعاً لِمُعْظَمِهِ، وَإِجَازَةً لِفَوْتِ لَهُ مُحَدَّدٍ فِي الأَصْلِ. قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ حَمَدٍ الدوني، قال أخبرني القاضي أحمد بن الحسين الكار حدثنا ابن السني، عنه.
وقال في "السير" "8/ 363-364":
مَا فَوْقَ عَفَّانَ أَحَدٌ فِي الثِّقَةِ، وَقَدْ تَنَاكَدَ الحَافِظُ ابْنُ عَدِيٍّ بِإِيْرَادِهِ فِي كِتَابِ "الكَامِلِ" لكِنَّهُ أَبْدَى أَنَّهُ ذَكَرَهُ لِيَذُبَّ عَنْهُ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيْمَ بنَ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بنَ حَرْبٍ يَقُوْلُ: أَتُرَى عَفَّانُ كَانَ يَضْبِطُ عَنْ شُعْبَةَ، وَاللهِ لَوْ جَهَدَ جَهْدَهُ أَنْ يَضْبِطَ عَنْهُ حَدِيْثاً وَاحِداً مَا قَدَرَ عليه، كان بطيئا رديء الفهم.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَفَّانُ أَشْهَرُ وَأَوْثَقُ مِنْ أَنْ يُقَالَ فِيْهِ شَيْءٌ، وَلاَ أَعْلَمُ لَهُ إِلاَّ أَحَادِيْثَ مَرَاسِيْلَ عَنْ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ، وَصَلَهَا، وَأَحَادِيْثَ مَوْقُوْفَةً رَفَعَهَا، وَهَذَا مِمَّا لاَ يَنْقُصُهُ، فَإِنَّ الثِّقَةَ قَدْ يَهِمُ، وَعَفَّانُ كَانَ قَدْ رَحَلَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بنُ صَالِحٍ مِنْ مِصْرَ كَانَتْ رِحْلَتُهُ إِلَيْهِ خَاصَّةً دون غيره.
وقال في تذكرة الحافظ "ص979": كلمة المفيد أول ما استعملت لقبا في هذا الوقت قبل الثلاثمائة، والحافظ أعلى من المفيد في العرف، كما أن الحجة فوق الثقة.
وقال في "السير" "10/ 512":
ما زلنا نَسْمَعُ بِهَذَا "التَّفْسِيْر" الكَبِيْر لأَحْمَدَ عَلَى أَلْسِنَة الطَّلَبَة وَعُمْدَتَهُم حِكَايَةُ ابْنِ المُنَادِي(1/83)
هَذِهِ، وَهُوَ كَبِيْرٌ قَدْ سَمِعَ مِنْ جَدِّهِ وَعَبَّاس الدُّوْرِيّ، وَمن عَبْد اللهِ بن أَحْمَدَ، لَكِنْ مَا رأَينَا أَحَداً أَخْبَرَنَا عَنْ وَجودِ هذا "التفسير"، ولا بعضه أو كُرَّاسَة مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَجود، أَوْ لِشَيْءٍ مِنْهُ لَنَسَخُوهُ، وَلاعتَنَى بِذَلِكَ طلبَةُ العِلْم، وَلَحَصَّلُّوا ذَلِكَ، وَلنُقِل إِلَيْنَا، وَلاشْتُهِرَ، وَلَتَنَافَسَ أَعيَانُ البَغْدَادِيِّيْنَ فِي تَحصِيله، وَلَنَقَل مِنْهُ ابْنُ جَرِيْر فَمَنْ بَعْدَهُ فِي تفَاسيرِهِم، وَلاَ -وَاللهِ- يَقْتَضِي أَنْ يَكُوْنَ عِنْد الإِمَام أَحْمَد فِي التَّفْسِيْر مائَة أَلْف وَعِشْرُوْنَ أَلف حَدِيْث، فَإِنَّ هَذَا يَكُون فِي قدر "مُسْنَده" بَلْ أَكْثَر بِالضَّعْف، ثُمَّ الإِمَام أَحْمَد لَوْ جَمَعَ شَيْئاً فِي ذَلِكَ، لكَانَ يَكُوْنُ مُنَقَّحاً مهذَّباً عَنِ المشَاهير، فَيَصْغُر لِذَلِكَ حَجْمه، وَلكَانَ يَكُوْنُ نَحْواً مِنْ عَشْرَة آلاَف حَدِيْث بِالجَهْد، بَلِ أَقلّ.
ثُمَّ الإِمَام أَحْمَد كَانَ لاَ يرَى التَّصْنِيْف، وَهَذَا كِتَاب "المُسْنَد" لَهُ لَمْ يصنِّفه هُوَ، وَلاَ رتَّبه، وَلاَ اعتنَى بتَهْذِيْبه، بَلْ كَانَ يَرْوِيْهِ لولده نسخا وأجزاء ويأمره: أن أضع هَذَا فِي مُسْنَدِ فُلاَن، وَهَذَا فِي مُسْنَد فُلاَن، وَهَذَا التَّفْسِيْر لاَ وُجود لَهُ، وَأَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، فَبغدَاد لَمْ تَزَل دَارَ الخُلَفَاء، وَقُبَّةَ الإِسْلاَم، وَدَارَ الحَدِيْث, وَمحلَّةَ السُّنَن، وَلَمْ يَزَلْ أَحْمَد فِيْهَا مُعَظَّماً فِي سَائِرِ الأَعصَار، وَلَهُ تَلاَمِذَةٌ كِبَار، وَأَصْحَابُ أَصْحَابٍ، وهلم جرا إلى الأمس حِيْنَ اسْتبَاحَهَا جَيْشُ المَغُول، وَجَرَت بِهَا مِنَ الدِّمَاء سُيول، وَقَدِ اشْتُهِرَ بِبَغْدَادَ "تَفْسِيْر" ابْن جَرِيْرٍ، وَتَزَاحَمَ عَلَى تَحْصِيله العُلَمَاء، وَسَارَتْ بِهِ الرُّكْبَان، وَلَمْ نعرِف مثلَه فِي مَعْنَاهُ، وَلاَ أُلِّف قبلَه أَكبَرُ مِنْهُ، وَهُوَ فِي عِشْرِيْنَ مُجَلَّدَةً، وَمَا يحْتَمل أَنْ يَكُوْنَ عِشْرِيْنَ أَلْف حَدِيْث، بَلْ لَعَلَّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلف إِسْنَادٍ، فخذه، فعده إن شئت.
وقال في "السير" "7/ 116":
لاَ أَعْلَمُ بَيْنَ العُلَمَاءِ نِزَاعاً فِي أَنَّ حَمَّادَ بنَ زَيْدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ، وَمِنْ أتقن الحفاظ وأعدمهم غلظا على سعة ما روى رحمه الله.
وقال في "السير" "7/ 107":
كان حماد بن سلمة بَحْراً مِنْ بُحُورِ العِلْمِ، وَلَهُ أَوهَامٌ فِي سَعَةِ مَا رَوَى، وَهُوَ صَدُوْقٌ، حُجَّةٌ -إِنْ شَاءَ اللهُ- وَلَيْسَ هُوَ فِي الإِتقَانِ كَحَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، وَتَحَايدَ البُخَارِيُّ إِخرَاجَ حَدِيْثِهِ، إِلاَّ حَدِيْثاً خَرَّجَه فِي الرِّقَاقِ، فَقَالَ: قَالَ لِي أَبُو الوَلِيْدِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُبَيٍّ، وَلَمْ يَنحَطَّ حَدِيْثُه عَنْ رُتْبَةِ الحَسَنِ. وَمُسْلِمٌ رَوَى لَهُ فِي الأُصُوْلِ، عَنْ ثَابِتٍ وَحُمَيْدٍ، لِكَوْنِهِ خَبِيْراً بهما.(1/84)
وقد عقد الحافظ فصلا في غاية الأهمية في التمييز بين الحمادين، حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، والسفيانين سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة لن يجده الباحث في مكان غير هذا الكتاب، فقال -رحمه الله- في السير" "7/ 118":
فَصْلٌ: اشْتَرَكَ الحَمَّادَانِ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ كَثِيْرٍ مِنَ المَشَايِخِ، وَرَوَى عَنْهُمَا جَمِيْعاً جَمَاعَةٌ مِنَ المُحَدِّثِيْنَ فَرُبَّمَا رَوَى الرَّجُل مِنْهُم عَنْ حَمَّادٍ، لَمْ يَنْسِبْهُ، فَلاَ يُعْرَفُ أَيُّ الحَمَّادَيْنِ هُوَ إلا بقرينة، فإن عرى السند عن القَرَائِنِ، وَذَلِكَ قَلِيْلٌ لَمْ نَقطَعْ بِأَنَّهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَلاَ أَنَّهُ ابْنُ سَلَمَةَ، بَلْ نَتَرَدَّدُ، أَوْ نُقدِّرُه ابْنَ سَلَمَةَ، وَنَقُوْلُ: هَذَا الحَدِيْثُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، إِذْ مُسْلِمٌ قَدِ احْتَجَّ بِهِمَا جَمِيْعاً.
فَمِنْ شُيُوْخِهِمَا مَعاً: أَنَسُ بنُ سِيْرِيْنَ، وَأَيُّوْبُ، وَالأَزْرَقُ بنُ قَيْسٍ، وَإِسْحَاقُ بنُ سُوَيْدٍ، وَبُرْدُ بنُ سِنَانٍ، وَبِشْرُ بنُ حَرْبٍ، وَبَهْزُ بنُ حَكِيْمٍ، وَثَابِتٌ، وَالجَعْدُ أَبُو عُثْمَانَ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيْلُ، وَخَالِدٌ الحَذَّاءُ، وَدَاوُدُ بنُ أَبِي هِنْدٍ، وَالجُرَيْرِيُّ، وَشُعَيْبُ بنُ الحَبْحَابِ، وَعَاصِمُ بنُ أبي النجود، وابن عون، وعبيد الله بن أبي بكر بن أنس، وَعُبَيْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وَعَطَاءُ بنُ السَّائِبِ، وَعَلِيُّ بنُ زَيْدٍ، وَعَمْرُو بنُ دِيْنَارٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ زِيَادٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ وَاسِعٍ، وَمَطَرٌ الوَرَّاقُ، وَأَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ, وَهِشَامُ بنُ عُرْوَةَ، وَهِشَامُ بنُ حَسَّانٍ، وَيَحْيَى بنُ سَعِيْدٍ الأَنْصَارِيُّ، وَيَحْيَى بنُ عَتِيْقٍ، وَيُوْنُسُ بنُ عُبَيْدٍ.
وَحَدَّثَ عَنِ الحَمَّادَيْنِ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ، وَوَكِيْعٌ، وَعَفَّانُ، وَحَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ، وَسُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ وَشَيْبَانُ، وَالقَعْنَبِيُّ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ مُعَاوِيَةَ الجُمَحِيُّ، وَعَبْدُ الأَعْلَى بنُ حَمَّادٍ، وَأَبُو النُّعْمَانِ عَارِمٌ، وَمُوْسَى بن إسماعيل -لكن ماله عَنْ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ سِوَى حَدِيْثٍ وَاحِدٍ- وَمُؤَمَّلُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ، وَهُدْبَةُ، وَيَحْيَى بنُ حَسَّانٍ، وَيُوْنُسُ بنُ مُحَمَّدٍ المُؤَدِّبُ، وَغَيْرُهُم.
وَالحُفَّاظُ المُخْتَصُّوْنَ بِالإِكثَارِ، وَبِالرِّوَايَةِ عَنْ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ: بَهْزُ بنُ أَسَدٍ، وَحِبَّانُ بنُ هِلاَلٍ، وَالحَسَنُ الأَشْيَبُ، وَعُمَرُ بنُ عَاصِمٍ.
وَالمُخْتَصُّوْنَ بِحَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، الَّذِيْنَ مَا لَحِقُوا ابْنَ سَلَمَةَ، فَهُم أَكْثَرُ وَأَوضَحُ: كَعَلِيِّ بنِ المَدِيْنِيِّ، وَأَحْمَدَ بنِ عَبْدَةَ، وَأَحْمَدَ بنِ المِقْدَامِ، وَبِشْرِ بنِ مُعَاذٍ العَقَدِيِّ، وَخَالِدِ بنِ خِدَاشٍ، وَخَلَفِ بنِ هِشَامٍ، وَزَكَرِيَّا بنِ عَدِيٍّ، وَسَعِيْدِ بنِ مَنْصُوْرٍ، وَأَبِي الرَّبِيْعِ الزهراني، والقواريري، وعمرو بن عوف، وَقُتَيْبَةَ بنِ سَعِيْدٍ، وَمُحَمَّدِ بنِ أَبِي بَكْرٍ المُقَدَّمِيِّ, وَلُوَيْنَ، وَمُحَمَّدِ بنِ عِيْسَى بنِ الطَّبَّاعِ، وَمُحَمَّدِ بنِ عُبَيْدِ بنِ حِسَابٍ، وَمُسَدَّدٍ، وَيَحْيَى بنِ حَبِيْبٍ، وَيَحْيَى بنِ يَحْيَى التَّمِيْمِيِّ، وَعِدَّةٍ من أقرانهم(1/85)
فَإِذَا رَأَيتَ الرَّجُلَ مِنْ هَؤُلاَءِ الطَّبَقَةِ قَدْ رَوَى عَنْ حَمَّادٍ وَأَبْهَمَهُ، عَلِمتَ أَنَّهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَأَنَّ هَذَا لَمْ يُدرِكْ حَمَّادَ بنَ سَلَمَةَ، وَكَذَا إِذَا رَوَى رَجُلٌ مِمَّنْ لَقِيَهُمَا، فَقَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، وَسَكَتَ، نَظَرَتَ فِي شَيْخِ حَمَّادٍ مَنْ هُوَ؟ فَإِنْ رَأَيتَهُ مِنْ شُيُوْخِهِمَا عَلَى الاشْتِرَاكِ، تَردَّدْتَ، وَإِنْ رَأَيتَه مِنْ شُيُوْخِ أَحَدِهِمَا عَلَى الاخْتِصَاصِ وَالتَّفرُّدِ، عَرَفْتَه بِشُيُوْخِه المُخْتَصِّيْنَ بِهِ، ثُمَّ عَادَةُ عَفَّانَ لاَ يَرْوِي عَنْ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ إِلاَّ وَيَنسِبُهُ, وَرُبَّمَا رَوَى عَنْ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ فَلاَ يَنسِبُهُ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ، وَهُدْبَةُ بنُ خَالِدٍ، فَأَمَّا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ، فَعَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ عَارِمٌ يَفْعَلُ، فَإِذَا قَالاَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، فَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ, وَمَتَى قَالَ مُوْسَى التَّبُوْذَكِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، فَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ، فَهُوَ راويته وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَيَقَعُ مِثْلُ هَذَا الاشْتِرَاكِ سَوَاءً فِي السُّفْيَانَيْنِ, فَأَصْحَابُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كِبَارٌ قُدَمَاءُ، وَأَصْحَابُ ابْنِ عُيَيْنَةَ صِغَارٌ، لَمْ يُدْرِكُوا الثَّوْرِيَّ، وَذَلِكَ أَبْيَنُ، فَمَتَى رَأَيتَ القَدِيْمَ قَدْ رَوَى، فقال حدثنا سفيان، وأبهم، فهو الثوري، هم كَوَكِيْعٍ وَابْنِ مَهْدِيٍّ وَالفِرْيَابِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ. فَإِنَّ رَوَى وَاحِدٌ مِنْهُم عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بَيَّنَهُ، فَأَمَّا الَّذِي لَمْ يَلْحَقِ الثَّوْرِيَّ، وَأَدْرَكَ ابْنَ عُيَيْنَةَ، فَلاَ يَحْتَاجُ أَنْ يَنْسِبَهُ، لِعَدَمِ الإِلْبَاسِ فعليك بمعرفة طبقات الناس.
وقال في "السير" "10/ 374":
عن ابْنِ مَاجَهْ قَالَ: عَرَضْتُ هَذِهِ "السُّنَنَ" عَلَى أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، فَنَظَر فِيْهِ، وَقَالَ: أَظُنُّ إِنْ وَقَعَ هَذَا فِي أَيْدِي النَّاسِ تَعَطَّلَتْ هَذِهِ الجَوَامِعُ، أَوْ أَكْثَرُهَا، ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّ لاَ يَكُونُ فِيْهِ تَمَامُ ثَلاَثِيْنَ حَدِيْثاً، مِمَّا في إسناده ضعف، أو نحو ذا.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: قَدْ كَانَ ابْنُ مَاجَهْ حَافِظاً نَاقِداً صادقا، واسع العلم، وغنما غَضَّ مِنْ رُتْبَةِ "سُنَنِهِ" مَا فِي الكِتَابِ مِنَ المَنَاكِيْرِ، وَقَلِيْلٌ مِنَ المَوْضُوْعَاتِ، وَقَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ -إِنْ صَحَّ- فَإِنَّمَا عَنَى بِثَلاَثِيْنَ حَدِيْثاً؛ الأحاديث المطروحة السَّاقِطَةِ، وَأَمَّا الأَحَادِيْث الَّتِي لاَ تَقُوْمُ بِهَا حجة فكثيرة، لعلها نحو الألف.
وقال في "السير" "10/ 179":
لَيْسَ فِي "صَحِيْحِ مُسْلِمٍ" مِنَ العوَالِي إِلاَّ مَا قلَّ، كَالقَعْنَبِيّ عَنْ أَفلح بن حُمَيْد، ثُمَّ حَدِيْث حَمَّاد بن سَلَمَةَ، وَهَمَّام، وَمَالِك، وَاللَّيْث، وَلَيْسَ فِي الكِتَاب حَدِيْث عَال لشُعْبَة، ولا للثوري، ولا لإسرائيل، وهو كِتَاب نَفِيس كَامِل فِي مَعْنَاهُ، فَلَمَّا رَآهُ الحافظ أُعجبُوا بِهِ، وَلَمْ(1/86)
يَسْمَعُوهُ لِنُزُولِهِ، فعمدُوا إِلَى أَحَادِيْث الكِتَاب، فسَاقوهَا مِنْ مرويَّاتِهم عَالِيَة بدرجَة وَبِدَرَجَتَيْنِ، وَنَحْو ذَلِكَ, حَتَّى أَتَوا عَلَى الجَمِيْع هَكَذَا، وَسَمَّوهُ: "الْمُسْتَخْرج عَلَى صَحِيْح مُسْلِم". فعلَ ذَلِكَ عِدَّة مِنْ فُرْسَان الحَدِيْث، مِنْهُم: أَبُو بكر مُحَمَّد بن محمد بن رجاء، وأبو عوانة يعقوب بن إِسْحَاقَ الإِسْفَرَايِيْنِي -وَزَاد فِي كِتَابِهِ متوناً مَعْرُوْفَة بَعْضهَا لَيِّنٌ- وَالزَّاهِدُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بن حمدون الحِيْرِيّ، وَأَبُو الوَلِيْدِ حَسَّان بن مُحَمَّدٍ الفَقِيْه، وَأَبُو حَامِدٍ أَحْمَد بن مُحَمَّدٍ الشَّاركِي الهَرَوِيّ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ زَكَرِيَّا الجوزقِي، وَالإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ المَاسَرْجِسِي، وَأَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَد بن عَبْدِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ الأصبهاني، وآخرون لا يحضرني ذكرهم الآن.
وقال في "السير" "10/ 181":
مسلم بن الحجاج -لحدة في خلقه- انحرف عَنِ البُخَارِيّ، وَلَمْ يَذْكُر لَهُ حَدِيْثاً، وَلاَ سَمَّاهُ فِي "صَحِيْحِهِ"، بَلِ افتَتَح الكِتَاب بِالحط عَلَى مَنْ اشْترط اللُّقِي لِمَنْ رَوَى عَنْهُ بصيغَة: عَنْ، وَادَّعَى الإِجْمَاع فِي أَنَّ المعَاصرَة كَافيَةٌ، وَلاَ يتَوَقَّف فِي ذَلِكَ عَلَى العِلْم بِالتقَائِهِمَا، وَوبخ مِنِ اشْترط ذَلِكَ. وَإِنَّمَا يَقُوْلُ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللهِ البُخَارِيّ، وَشَيْخه عَلِيّ بن المَدِيْنِيِّ، وَهُوَ الأَصوب الأَقْوَى. وَلَيْسَ هَذَا موضع بسط هذه المسألة.
وقال في "السير" "10/ 182":
قال الحَاكِمُ: أَرَادَ مُسْلِم أَنْ يخرج "الصَّحِيْح" عَلَى ثَلاَثَة أَقسَام، وَعَلَى ثَلاَث طَبَقَات مِنَ الرُّوَاة، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا فِي صَدْر خطبَته، فَلَمْ يقدّر لَهُ إِلاَّ الفرَاغ مِنَ الطَّبَقَة الأُوْلَى، وَمَاتَ ثُمَّ ذكر الحَاكِم مَقَالَة هِيَ مُجَرّد دعوَى. فَقَالَ: إِنَّهُ لاَ يَذْكُر مِنَ الأَحَادِيْث إِلاَّ مَا رَوَاهُ صحَابِي مَشْهُوْر لَهُ رَاويَان ثِقَتَانِ فَأَكْثَر ثُمَّ يَرْوِيْهِ عَنْهُ أَيْضاً رَاويَان ثِقَتَانِ فَأَكْثَر، ثُمَّ كَذَلِكَ مِنْ بَعْدهُم.
فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الجَيَّانِي: المرَاد بِهَذَا أَنَّ هَذَا الصَّحَابِيّ أَوْ هَذَا التَّابِعِيّ قَدْ رَوَى عَنْهُ رَجُلاَنِ، خَرَجَ بِهِمَا عَنْ حدّ الجهَالَة.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَالَّذِي تَأَوّله الحَاكِم عَلَى مُسْلِم من اخترام المنيَة لَهُ قَبْل اسْتيفَاء غَرَضه إِلاَّ مِنَ الطَّبَقَة الأُوْلَى، فَأَنَا أَقُوْل: إِنَّك إِذَا نظرت فِي تَقْسِيم مُسْلِم فِي كِتَابِهِ الحَدِيْث عَلَى ثَلاَث طَبَقَات مِنَ النَّاس عَلَى غَيْر تكرَار، فَذَكَرَ أَنَّ الْقسم الأَوّل حَدِيْث الحُفَّاظ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا انقضَى هَذَا، أَتبعته بأَحَادِيْث مَنْ لَمْ يُوصف بِالحذق وَالإِتْقَان. وَذكر أَنَّهُم لاَحقُوْنَ بالطبقة(1/87)
الأُوْلَى، فَهَؤُلاَءِ مَذْكُوْرُوْنَ فِي كِتَابِهِ لِمَنْ تدبر الأَبْوَاب. وَالطَّبَقَة الثَّانِيَة: قَوْم تَكَلَّمَ فِيْهِم قَوْم، وَزكَّاهُم آخرُوْنَ، فَخَرَجَ حَدِيْثهُم عَمَّنْ ضعّف أَوِ اتهُم بِبدعَة، وَكَذَلِكَ فعل البُخَارِيّ.
ثُمَّ قَالَ القَاضِي عِيَاض: فعِنْدِي أَنَّهُ أَتَى بطَبَقَاتِهِ الثَّلاَث في كتابه، وطرح الطبقة الرابعة.
فعقب الذهبي "10/ 182-183" بقوله:
قُلْتُ: بَلْ خَرَّجَ حَدِيْث الطَّبَقَة الأُوْلَى، وَحَدِيْث الثَّانِيَة إِلاَّ النَّزْر القَلِيْل مِمَّا يَسْتَنكره لأَهْلِ الطَّبَقَة الثَّانِيَة. ثُمَّ خَرَجَ لأَهْلِ الطَّبَقَة الثَّالِثَة أَحَادِيْث لَيْسَتْ بِالكَثِيْرَة فِي الشوَاهد وَالاعتبَارَات وَالمتَابعَات، وَقلَّ أَن خَرَّجَ لَهُم فِي الأُصُوْل شَيْئاً، وَلَوِ اسْتوعبت أَحَادِيْث أَهْل هَذِهِ الطَّبَقَة فِي "الصَّحِيْحِ", لجَاءَ الكِتَاب فِي حجم مَا هُوَ مَرَّةً أُخْرَى، وَلنزل كِتَابهُ بِذَلِكَ الاسْتيعَاب عَنْ رُتْبَة الصّحَّة، وَهُم كعَطَاء بن السَّائِبِ، وَلَيْث, وَيَزِيْد بن أَبِي زِيَادٍ, وَأَبَان بن صمعَة، وَمُحَمَّد بن إِسْحَاقَ وَمُحَمَّد بن عَمْرِو بنِ عَلْقَمَةَ وَطَائِفَة أَمْثَالهم فَلَمْ يخرج لَهُم إِلاَّ الحَدِيْث بَعْد الحَدِيْث إِذَا كَانَ لَهُ أَصْل وَإِنَّمَا يَسُوق أَحَادِيْث هَؤُلاَءِ وَيُكثر مِنْهَا أَحْمَد في "مسنده"، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيّ وَغَيْرهُم فَإِذَا انحطُوا إِلَى إِخْرَاج أَحَادِيْث الضُّعَفَاء الَّذِيْنَ هُم أَهْل الطَّبَقَة الرابعة، اختاروا منها، لم يَسْتَوعبُوهَا عَلَى حسب آرَائِهِم وَاجْتِهَادَاتهم فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَهْل الطَّبَقَة الخَامِسَة، كمن أُجمع عَلَى اطرَاحه وَتركه لعدم فَهمه وَضَبطه، أَوْ لِكَوْنِهِ مُتهماً، فَينْدر أَنْ يخرّج لَهُم أَحْمَد، وَالنَّسَائِيّ. وَيورد لَهُم أَبُو عِيْسَى فَيُبَيِّنهُ بِحَسب اجْتِهَاده، لَكِنَّه قَلِيْل. وَيورد لَهُم ابْن مَاجَهْ أَحَادِيْث قَلِيْلَة وَلاَ يبين وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقلّ مَا يُورد مِنْهَا أَبُو دَاوُدَ فَإِنْ أَورد بَيْنَهُ فِي غَالِب الأَوقَات.
وَأَمَّا أَهْل الطَّبَقَة السَّادِسَة: كغلاَة الرَّافِضَة، وَالجَهْمِيَّة الدعَاة، وَكَالكَذَّابين وَالوضَّاعِين، وَكَالمَتْرُوْكِيْنَ المهتوكين، كعمر بن الصبح, ومحمد بن المصلوب, ونوح بن أبي مريم، وأحمد ابن الجُويبارِي, وَأَبِي حُذَيْفَةَ البُخَارِيّ، فَمَا لَهُم فِي الكُتُب حَرْف مَا عدَا عُمَر, فَإِنَّ ابْنَ مَاجَهْ خَرَّجَ لَهُ حَدِيْثاً وَاحِداً1 فَلَمْ يُصب. وكذا خرج ابن ماجه للواقدي حديث واحدا، فدلس اسمه وأبهمه2.
__________
1، 2 راجع تعليقنا رقم "186"، "187" في الجزء العاشر "ص183".(1/88)
وقال في "السير" "9/ 284":
في الصحيحين أحاديث قليلة فِي "المُسْنَدِ"، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: لاَ تَرِدُ على قولهن فَإِنَّ المُسْلِمِيْنَ مَا اخْتَلَفُوا فِيْهَا ثُمَّ مَا يَلزَمُ مِنْ هَذَا القَوْلِ: أَنَّ مَا وُجِدَ فِيْهِ أَنْ يَكُوْنَ حُجَّةً، فَفِيْهِ جُمْلَةٌ مِنَ الأحاديث الضعيفة ما يَسُوغُ نَقلُهَا، وَلاَ يَجِبُ الاحْتِجَاجُ بِهَا، وَفِيْهِ أَحَادِيْثُ مَعْدُوْدَةٌ شِبْهُ مَوْضُوْعَةٍ، وَلَكِنَّهَا قَطْرَةٌ فِي بَحرٍ وَفِي غُضُوْنِ "المُسْنَدِ" زِيَادَاتٌ. جَمَّةٌ لِعَبْدِ الله بن أحمد.
وقال الحافظ في "السير" "14/ 276":
كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي فيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كَثِيْر لَوْلاَ مَا فِيْهِ مِنْ آدَاب وَرسوم وزهد من طرائف الحكمَاء وَمُنحَرِفِي الصُّوْفِيَّة، نَسْأَل اللهَ عِلْماً نَافِعاً، تَدْرِي مَا العِلْمُ النَّافِع؟ هُوَ مَا نَزل بِهِ القُرْآنُ، وَفسَّره الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلاً وَفعلاً، وَلَمْ يَأْت نَهْي عَنْهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" 1 فَعَلَيْك يَا أَخِي بتدبُّر كِتَاب اللهِ، وَبإِدمَان النَّظَر فِي "الصَّحِيْحَيْنِ" و"سنن النسائي"، و"رياض النواوي" و"أذكاره"، تُفْلِحْ وَتُنْجِحْ، وَإِيَّاكَ وَآرَاءَ عُبَّادِ الفَلاَسِفَة، وَوظَائِفِ أهل الرياضات، وجوع الرهبان، وخطاب طيش رءوس أَصْحَابِ الخلوَات، فُكُلُّ الخَيْر فِي مُتَابعَة الحنِيفِيَة السَّمحَة، فَواغوثَاهُ بِاللهِ. اللَّهُمَّ اهدِنَا إِلَى صرَاطك المستقيم.
وقال في "السير" "14/ 277":
قَالَ أَبُو الفَرَجِ ابْن الجَوْزِيّ: صَنَّفَ أَبُو حَامِدٍ "الإِحيَاء" وَملأَه بِالأَحَادِيْث البَاطِلَة، وَلَمْ يَعلم بطلاَنهَا، وَتَكلّم عَلَى الْكَشْف وَخَرَجَ عَنْ قَانُوْنِ الفِقْه وَقَالَ: إِنَّ المُرَادَ بِالكَوْكَب وَالقَمَر وَالشَّمْس اللوَاتِي رَآهن إِبْرَاهِيْم أَنوَار هِيَ حُجُبُ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يُرد هَذِهِ المَعْرُوْفَات! وَهَذَا مِنْ جنس كَلاَمِ البَاطِنِيَّة، وَقَدْ ردَّ ابْنُ الجَوْزِيّ عَلَى أَبِي حَامِد فِي كِتَابِ "الإِحيَاء" وبين خطأ في مجلدات، سماه كتاب "الأحياء".
وقال في "السير" "12/ 187":
قَرَأْتُ بخطِّ الحَافِظِ الضِّيَاءِ فِي جُزءٍ علَّقَهُ مآخِذَ عَلَى كِتَابِ ابْنِ حِبَّانَ فَقَالَ فِي حديث أنس
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "5063"، ومسلم "1401"، والنسائي "6/ 60"، وأحمد "3/ 241، 259، 285" من حديث أنس بن مالك.(1/89)
فِي "الوصَالِ"1: فِيْهِ دليلٌ عَلَى أَنَّ الأَخبارَ الَّتِي فِيْهَا وضعُ الحَجَرِ عَلَى بطنِهِ مِنَ الجوع كلها بواطيل، وإنما معناها الحجر، وَهُوَ طرفُ الرِّدَاءِ، إِذ اللهُ يُطعمُ رسولَهُ، وما يغني الحجر من الجوع2.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: فَقَدْ سَاقَ فِي كِتَابِهِ حَدِيْثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي خُرُوْجِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنَ الجوعِ، فلقِيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ. فَقَالَ: "أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا" فدلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُطعَمُ وَيُسقَى فِي الوصَالِ خَاصَّةً.
وَقَالَ فِي حَدِيْثِ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: "أَصُمْتَ مِنْ سررِ شَعْبَانَ شَيْئاً؟ ". قَالَ: لاَ قَالَ: "إِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمِينِ" 3 فَهَذِهِ لفظَةُ استخبار، يريد الإعلام ينفي جواز ذلك كالمنكر عَلَيْهِ لَوْ فعلَهُ، كقولِهِ لعَائِشَةٍ: "تَسْتُرينَ الجُدُرَ" 4، وَأَمْرُهُ بصومِ يَوْمَينِ مِنْ شَوَّالٍ، أَرَادَ بِهِ انتهَاءَ السّرَارِ. وَذَلِكَ فِي الشّهرِ الكَاملِ وَالسّرَارُ في الشهر الناقص يوم واحد.
ثم قال "12/ 188": قُلْنَا لَوْ كَانَ مُنْكراً عَلَيْهِ لمَا أَمرَهُ بالقضاء.
وقال في "السير" "7/ 599":
وهم أَبُو حَاتِمٍ حَيْثُ حَكَى أَنَّ البُخَارِيَّ تَكَلَّمَ فِي أَبِي تُمَيْلَةَ، وَمَشَى عَلَى ذَلِكَ أَبُو الفَرَجِ ابْنُ الجَوْزِيِّ. وَلَمْ أَرَ ذِكْراً لأَبِي تُمَيْلَةَ فِي كِتَابِ "الضُّعَفَاءِ" لِلْبُخَارِيِّ، لاَ فِي الكَبِيْرِ وَلاَ الصَّغِيْرِ. ثُمَّ إِنَّ البُخَارِيَّ قَدِ احْتَجَّ بِأَبِي تُمَيْلَةَ، وَقَدْ كَانَ مُحَدِّثَ مَرْوَ مع الفضل بن موسى السيناني.
وقال في "السير" "8/ 15":
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ: سَمِعْتُ ابْنَ وَهْبٍ يَقُوْلُ: نَذَرتُ أَنِّي كلما
__________
1 هو: ما ورد عن أنس -رضي الله عنه- قال: واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شهر رمضان فواصل ناس من المسلمين فبلغه ذلك فقال: لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا، يدع المتعمقون تعمقهم، إنكم لستم مثلي، "أو قال" إني لست مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني" أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة، والبخاري "7241"، ومسلم "1107"، وراجع تخريجنا له في الموضع المشار إليه.
2 قد ثبت وضع صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه من الجوع عند البخاري "4101"، وأحمد "3/ 300" من حديث جابر بن عبد الله.
3 صحيح: أخرجه البخاري "1983" ومسلم "1161" من حديث عمران بن حصين.
4 صحيح: أخرجه أحمد "6/ 247"، ومسلم "2107".(1/90)
اغْتَبْتُ إِنْسَاناً أَنْ أَصُوْمَ يَوْماً، فَأَجْهَدَنِي، فَكُنْتُ أَغْتَابُ وَأَصُوْمُ، فَنَوَيْتُ أَنِّي كُلَمَّا اغْتَبتُ إِنْسَاناً أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ، فَمِنْ حُبِّ الدَّرَاهِمِ تَرَكتُ الغيبة.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: هَكَذَا -وَاللهِ- كَانَ العُلَمَاءُ، وَهَذَا هُوَ ثَمَرَةُ العِلْمِ النَّافِعِ وَعَبْدُ اللهِ حُجَّةٌ مُطْلَقاً، وَحَدِيْثُهُ كَثِيْرٌ فِي الصِّحَاحِ، وَفِي دَوَاوِيْنِ الإِسْلاَمِ، وَحَسْبُكَ بِالنَّسَائِيِّ وَتَعَنُّتِهِ فِي النَّقْدِ حَيْثُ يَقُوْلُ: وَابْنُ وَهْبٍ ثِقَةٌ، مَا أَعْلَمُهُ رَوَى عَنِ الثقات حديثا منكرا.
ثم قال الذهبي "8/ 15-16":
قُلْتُ: أَكْثَرَ فِي تَوَالِيْفِهِ مِنَ المَقَاطِيْعِ وَالمُعْضَلاَتِ، وَأَكْثَرَ عَنِ ابْنِ سَمْعَانَ وَبَابتِهِ، وَقَدْ تَمَعْقَلَ بَعْضُ الأَئِمَّةِ عَلَى ابْنِ وَهْبٍ فِي أَخذِهِ لِلْحَدِيْثِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتَرَخَّصُ فِي الأَخذِ، وَسَوَاءٌ تَرَخَّصَ وَرَأَى ذَلِكَ سَائِغاً، أَوْ تَشَدَّدَ، فَمَنْ يَرْوِي مائَةَ أَلْفِ حَدِيْثٍ، وَيَنْدُرُ المُنْكَرُ فِي سَعَةِ مَا رَوَى فَإِلَيْهِ المُنْتَهَى فِي الإِتْقَانِ.
وقال في "السير" "13/ 365":
تصانيف البَيْهَقِيّ عَظِيْمَةُ الْقدر، غزِيْرَةُ الفَوَائِد، قلَّ مَنْ جَوَّد تَوَالِيفَهُ مِثْل الإِمَام أَبِي بَكْرٍ، فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَعتَنِي بِهَؤُلاَءِ سِيمَا "سُننَه الكَبِيْر" وَقَدْ قَدِمَ قَبْلَ مَوْته بِسَنَة أَوْ أَكْثَر إِلَى نَيْسَابُوْرَ، وَتَكَاثر عَلَيْهِ الطلبَةُ، وَسَمِعُوا مِنْهُ كُتُبهُ، وَجُلِبَتْ إِلَى العِرَاقِ وَالشَّام وَالنَّوَاحِي، وَاعْتَنَى بِهَا الحَافِظُ أَبُو القَاسِمِ الدِّمَشْقِيّ وَسَمِعَهَا مِنْ أَصْحَابِ البَيْهَقِيّ، وَنقلَهَا إِلَى دِمَشْقَ هُوَ وَأَبُو الحَسَنِ المُرَادِيّ.
وَبَلَغَنَا عَنْ إِمَام الحَرَمَيْنِ أَبِي المَعَالِي الجُوَيْنِيّ قَالَ: مَا مِنْ فَقِيْهٍ شَافعِيٍّ إِلاَّ وَللشَافعِيّ عَلَيْهِ مِنَّةٌ إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ البَيْهَقِيّ، فَإِنَّ المِنَّةَ لَهُ عَلَى الشَّافِعِيّ لِتَصَانِيْفه في نصرة مذهبه.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: أَصَاب أَبُو المَعَالِي، هَكَذَا هُوَ، وَلَوْ شَاءَ البَيْهَقِيّ أَنْ يَعمل لِنَفْسِهِ مَذْهَباً يَجتهد فِيْهِ, لَكَانَ قَادِراً عَلَى ذَلِكَ، لسعَة علُوْمه، وَمَعْرِفَته بِالاخْتِلاَف، وَلِهَذَا ترَاهُ يُلوِّح بِنَصْر مَسَائِل مما صح فيها الحديث.(1/91)
سابعا تصانيفه
صنف -رحمه الله- تصانيف كثيرة في مختلف العلوم، واختصر كثيرا من تآليف المتقدمين والمتأخرين، وكتب علما كثيرا. وقد سار بجملة من هذه المصنفات الركبان في أقطار البلدان، فمن هذه المصنفات:
1- تاريخ الإسلام، وهو مطبوع متداول.
2- سير أعلام النبلاء، وهو هذا الذي بين يديك.
3- دول الإسلام. وهو مطبوع بحيدر أباد.
4- الإشارة إلى وفيات الأعيان، والمنتقى من تاريخ الإسلام.
5- الإعلام بوفيات الأعلام.
6- العباب في التاريخ.
7- العبر في خبر من غبر، وهو مطبوع بالكويت بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد، والدكتور فؤاد السيد.
8- تجريد أسماء الصحابة، وهو مطبوع بحيدر أباد، وطبقات أخرى.
9- تذكرة الحفاظ.
10- المعين في طبقات المحدثين. وهو مطبوع بتحقيق الدكتور محمد زينهم البدوي وطبعة أخرى بتحقيق الدكتور همام سعيد.
11- الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة. وهو مطبوع متداول.
12- الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم. وهو مطبوع بالقاهرة.
13- ميزان الاعتدال في نقد الرجال. وهو مطبوع متداول.
14- المغني في الضعفاء. وهو مطبوع متداول.
15- المشتبه في معرفة ما يشتبه ويتصحف من الأسماء والأنساب والكنى والألقاب مما اتفق وضعا واختلف نطقا، وهو مطبوع متداول.(1/92)
16- أخبار قضاة دمشق.
17- معجم الشيوخ الكبير وهو مطبوع بمكتبة الصديق بالطائف.
18- معجم شيوخه الأوسط.
19- معجم شيوخه الصغير.
20- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار. وهو مطبوع بالقاهرة.
21- المرتجل في الكنى. أورده كارل بروكلمان في "تاريخ الأدب العربي" "2/ 59".
22- هالة البدر في عدد أهل بدر.
23- ترجمة السلفي -وهو المحدث أبو طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني المتوفى سنة "576هـ".
24- ترجمة الشافعي.
25- ترجمة مالك بن أنس.
26- ترجمة الشيخ الموفق. وهو أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ قدامة المقدسي، صاحب كتاب "المغني" المتوفى سنة "620هـ".
27- كسر وثن رتن -وهو رتن الهندي، شيخ دجال كذاب ظهر بعد الستمائة فادعى الصحبة ومات سنة اثنتين وثلاثين وستمائة.
28- بيان زغل العلم والطلب. وهو مطبوع متداول.
29- جزء في فضل آية الكرسي.
30- كتاب في أحاديث الصفات.
31- جزء في الشفاعة.
32- كتاب العرش -أورده كارل بروكلمان في "تاريخ الأدب العربي" "1/ 47".
33- العلو للعلي الغفار. وهو مطبوع متداول.
34- الكبائر. وهو مطبوع متداول.(1/93)
35- مسألة دوام النار.
36- مسألة الغيبة.
37- مسألة الوعيد.
38- كتاب اللباس.
39- كتاب الوتر.
40- كتاب تحريم أدبار النساء.
41- جزء في صلاة التسبيح.
42- جزء في دعاء المكروب.
43- التعزية الحسنة بالأعزة.
44- كشف الكربة عند فقد الأحبة.
45- الموقظة في علم مصطلح الحديث. وهو مطبوع متداول.
46- منية الطالب لأعز المطالب.
47- طرق أحاديث النزول.
48- كتاب الزيادة المضطربة.
49- العذب السلسل في الحديث المرسل.
50- كتاب التمسك بالسنة. وهو مما اختصره من كتب المتقدمين.
51- التلخيص من كتاب المستدرك على الصحيحين للحافظ أبي عبد الله الحاكم، رحمه الله وهو مطبوع بهامش مستدرك الحاكم.
52- مختصر سنن البيهقي الكبرى. وهو مطبوع.
53- مختصر المحلى.
54- مختصر الزهد للبيهقي.
55- مختصر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.(1/94)
56- مختصر سلاح المؤمن في الأدعية المأثورة لابن الإمام وهو أبو الفتح محمد بن محمد بن علي المصري المتوفى سنة "745هـ".
57- مختصر الفاروق في الصفات لشيخ الإسلام الأنصاري.
58- مختصر القدر للبيهقي.
59- مختصر المدخل إلى كتاب السنن للبيهقي.
60- مختصر وفيات الأعيان لابن خلكان.
61- مختصر الضعفاء لابن الجوزي.
62- مختصر تاريخ دمشق.
63- كتاب النبلاء في شيوخ السنة وهو مختصر من كتاب "المعجم المشتمل على أسماء شيوخ الأئمة النبل" لابن عساكر.
64- المنتقى من مسند عبد بن حميد.
65- المنتقى من مسند أبي عوانة.
66- منتقى الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر.
ثامنا منهجه في كتابه
قسم الحافظ كتاب السير إلى خمس وثلاثين طبقة في أربعة عشر مجلدا، ولم يسر فيه على نسق واحد، فالطبقة الثالثة والثلاثون تمتد من سنة "618هـ" وهي سنة وفاة ابن راجح الجماعيلي الحنبلي إلى سنة "635هـ" وهي سنة وفاة مكرم بن محمد بن حمزة بن أبي الصقر.
فاستوعبت هذه الطبقة سبعة عشر عاما.
وأما الطبقة الرابعة والثلاثون فبدأت من سنة "636هـ" وهي سنة وفاة أبي الفضل جعفر ابن علي الهمداني إلى سنة "652هـ" وهي سنة وفاة ابن علان القيس الدمشقي. وقد استوعبت ستة عشر عاما.
أما الطبقة الخامسة والثلاثون فبدأت من سنة "653هـ" وهي سنة وفاة إسماعيل بن حامد القوصي إلى سنة "739هـ". وهي سنة رؤية الحافظ الذهبي -رحمه الله- لقليج قان ولد المعز عند قاضي القضاة تقي الدين السبكي. فاستوعبت هذه الطبقة ستة وثمانين عاما بينما امتدت(1/95)
الطبقة التاسعة عشرة من سنة "334هـ" وهي سنة وفاة الوَزِيْرُ العَادلُ عَلِيُّ بنُ عِيْسَى بنِ دَاوُدَ بنِ الجَرَّاحِ، وحتى سنة "343هـ"، وهي سنة وفاة أبي العباس محمد بن إسحاق الضبعي، فاستوعبت هذه الطبقة تسع سنوات حسب.
وقد تناولت هذه الطبقات الخمس والثلاثون جميع العصور من أول عصر الصحابة إلى عصر المؤلف.
وقد بلغت عدد تراجم المترجمين "5964" ترجمة، وقد كرر بعض هذه التراجم، وقد ترجم فيها لجميع الأعلام في مشارق الأرض ومغاربها من ملوك، وخلفاء، وأمراء، ووزراء، وأطباء ومحدثين وفقهاء ونحاة وشعراء وزهاد وفلاسفة ومتكلمين غير أن اهتمامه الأكبر كان بالمحدثين الذي عني بهم أيما عناية فقد كان رحمه الله شديد الإجلال والإكبار لهم، ولا غرو فهم الذين ينافحون عن السنة المشرفة، ومعرفة تراجم هؤلاء المحدثين وبيان شيوخهم وتلامذتهم، كلام العلماء عليهم جرحا وتعديلا مما يساعد في دراسة الأسانيد، والحكم عليها بما يليق بها من صحة أو ضعف ونحوه.
كما جعل الحافظ الصحابة طبقة واحدة، لكنه قسم الصحابة إلى قسمين؛ قسم كبار الصحابة، وقسم لصغار الصحابة، لكنه وضع تراجم العشرة المبشرين بالجنة في مقدمة تراجم الصحابة. ولم يرتب بقية الصحابة تبعا للحوادث الزمنية؛ فجعل الحافظ الذهبي تراجم أمهات المؤمنين وبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضع متتالية -ليكون القارئ على علم بسيرهم- لكنه وضع ترجمة أم المؤمنين سودة بنت زمعة التي تزوجها رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ خديجة -رضي الله عنها- وضعها بعد ترجمة جويرية، ووضع ترجمة عائشة في إثر ترجمة خديجة -رضي الله عنهما- فلم يرتب التراجم على الأحداث الزمنية، ولم يسر على نسق خاص في ترتيب تراجم الصحابة، رضي الله عنهم.
وقسم الحافظ رحمه الله تعالى التابعين إلى ست طبقات طبقة كبراء التابعين، وتبدأ من مَرْوَانَ بنِ الحَكَمِ بنِ أَبِي العَاصِ بنِ أمية المتوفى سنة "65هـ" وتنتهي في سنة "93هـ" وهي السنة التي توفي فيها صفوان بن محرز.
ثم الطبقة الثانية من التابعين؛ وتبدأ بأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، والمتوفى سنة "94هـ" والتي امتدت إلى سنة "107هـ"، وهي السنة التي مات فيها الشاعر الفحل كثير عزة.(1/96)
ثم الطبقة الثالثة من التابعين؛ والتي بدأها بمعاوية بن قرة، المتوفى سنة "113هـ"، والتي امتدت إلى سنة "127هـ" والتي مات فيها أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي.
أما الطبقة الرابعة من التابعين؛ والتي بدأها بمنصور بن المعتمر، المتوفى سنة "133هـ"، وامتدت إلى سنة "150هـ" والتي توفي فيها حبيب المعلم.
ثم الطبقة الخامسة من التابعين؛ والتي بدأها بجعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، والمتوفى سنة "128هـ", وامتدت إلى سنة "156هـ"، والتي توفي فيها عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ زِيَادِ بنِ أَنْعُمَ الإِفْرِيْقِيُّ.
أما الطبقة السادسة من التابعين؛ وهي طبقة صغار التابعين، والتي بدأها بسعيد بن أبي عروبة، والمتوفى في سنة "156هـ"، وامتدت إلى سنة "161هـ"، وهي السنة التي توفي فيها يزيد بن إبراهيم التستري، أبو سعيد البصري.
والملاحظ أنه لم يرتب التراجم في الطبقات على سنة الوفاة، فتراه مثلا ينهي الطبقة الرابعة بحبيب المعلم المتوفى سنة "150هـ", ويبدأ الطبقة الخامسة بجعفر بن محمد بنِ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ بنِ عَلِيِّ بنِ أبي طالب المتوفى سنة "128هـ".
وقد جمع الحافظ -رحمه الله- بين الإخوة والأقارب في طبقة واحدة، جمع في الطبقة الثانية من التابعين بين أَبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ المتوفى سنة "104هـ"، وأخيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، المتوفى سنة "96هـ" لكنه وضع ترجمة أبي سلمة بن عبد الرحمن قبل ترجمة أخيه إبراهيم بن عبد الرحمن، وبين وفاتيهما ثماني سنوات، وكان الأولى أن يقدم إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الذي توفي قبل أخيه أَبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، والذي تأخر عنه في الوفاة، فلم يراع سنة الوفاة بينهما.
كما في الطبقة الثامنة والعشرين بين أخوين، وهما الملك شهاب الدين أبي القاسم محمود بن تاج الملوك بوري بن الأتابك طغتكين الذي قتل في سنة "533هـ"، وأخيه جمال الدين أبي المظفر محمد الذي توفي بعد أخيه بعشرة أشهر.
كما يجمع الحافظ بين الآباء والأبناء في طبقة واحدة، وإن تباعدت سني وفاتهم، ففي الطبقة الثلاثين وضع ترجمة قاضي القضاة أبي طَالِبٍ رَوْحُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أحمد الحديثي البغدادي المتوفى سنة "570هـ" وأعقبه بابنه أبي المعالي عبد الملك بن روح، المتوفى(1/97)
سنة "570هـ"، وبين قاضي القضاة كمال الدين أبي الفضل مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ القَاسِمِ بنِ مظفر بن الشهرزوري الموصلي، المتوفى سنة "572هـ" وابنه قاضي القضاة أبي حامد محمد، المتوفى سنة "586هـ" مع التباعد بين سنتي وفاتيهما.
وفي الطبقة الثلاثين أيضا جمع بين أبي المَحَامِدِ حَمَّادُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ إِسْمَاعِيْلَ بنِ الصفاري، المتوفى سنة "576هـ"، وأبيه العلامة ركن الدين أبي إسحاق إبراهيم، ولم يذكر له الحافظ سنة وفاة. وقد وضع ترجمتيهما متتاليتين.
وفي الطبقة الثلاثين أيضا جمع بين السلطان صلاح الدين يوسف بن نَجْمِ الدِّيْنِ أَيُّوْبَ بنِ شَاذِي بنِ مَرْوَانَ، المتوفى سنة "589هـ"، وجمعه مع بنيه في تراجم متتالية، وهم أبو الفتح عماد الدين عثمان بنُ السُّلْطَانِ صَلاَحِ الدِّيْنِ يُوْسُفَ بنِ أَيُّوْبَ، المتوفى سنة "595هـ"، وابنه الفاضل أبو الحسن علي بن يوسف، المتوفى سنة "622هـ"، وابنه الظاهر سلطان حلب، غياث الدين أبو منصور، غَازِي ابْنِ السُّلْطَانِ صَلاَحِ الدِّيْنِ يُوْسُفَ بنِ أيوب، المتوفى سنة "613هـ". وقد جمع الحافظ بينهم مع تباعد سني وفاتهم ووفاة أبيهم السلطان صلاح الدين.
ثم ذكر الحافظ أخا السلطان صلاح الدين في نفس الطبقة، وهو صاحب اليمن سَيْفُ الإِسْلاَمِ، طُغْتِكِيْنُ بنُ أَيُّوْبَ بنِ شَاذِي، المتوفى في شوال سنة "593هـ".
لقد كان الذهبي ذا علم ثر في كتابة التراجم، ولا غرو فهو الذي ألف تاريخ الإسلام الذي حوى تراجم كثيرة، وتذكرة الحفاظ، والعبر، وميزان الاعتدال، وغيرها من كتب التراجم، فكان -رحمه الله- موسوعة معرفية في هذا العلم، وكان من بعده من العلماء وطلاب العلم عيال على هذه الكتب التي أثرت المكتبة الإسلامية، وأغنت العلماء في مجال طالما يحتاجون إليه في دراساتهم الحديثية والتاريخية. ولطالما بحثت عن ترجمة لأحد العلماء أو رواة الأحاديث فلم أجدها في كتب متداولة، وأقف على طلبتي في "السير"، فلا ريب أنه كتاب واسع استوعب كثيرا من تراجم الأعلام؛ ملوك وخلفاء وأمراء وولاة ووزراء وأطباء ومحدثين وفقهاء ونحاة، وشعراء، وزهاد، وفلاسفة ومتكلمين في مشارق الأرض ومغاربها لكنه عني أيما عناية بتراجم المحدثين الذين كان عظيم الإجلال والإكبار لهم، فهم الذين يحمون بيضة الإسلام، وينافحون عن حياض السنة المشرفة المصدر الثاني للتشريع، ودراسة تراجم هؤلاء المحدثين، ومعرفة شيوخهم وتلامذتهم وكلام العلماء عليهم جرحا وتعديلا مما يعوزه كل دارس للأسانيد؛ لكي يقف على درجة من صحة أو ضعف وغيره.(1/98)
وقد اعتنى الحافظ الذهبي -رحمه الله- بنقد المترجمين، والرد على بعض الأخطاء والانحرافات العقدية والفقهية والحديثية يراه القارئ الكريم في ردوده المبثوثة في تراجم الكتاب. وقد ذكرت مبحثا خاصا في هذه التقدمة لآرائه العقدية والفقهية والحديثية، وذكرت بعضا من أقوال المترجمين وتعقب الحافظ الذهبي لهم، ورده عليهم بالأدلة النقلية والعقلية التي يقيم بها الحجة ساطعة على مخالفيه مما يدل على رسوخ قدمه في العلوم الشرعية وتمكنه فيها.
وقد اعتنى الحافظ أيضا بنقد المترجمين من رواة الأحاديث فيورد كلام علماء الجرح والتعديل في الرجل المترجم له، وقد يرجح رأيا على آخر في الرجل ويدلل عليه؛ فيقول الحافظ -رحمه الله- في "السير" "6/ 563": قَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: بَلَغَ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّ مَالِكاً لَمْ يَأْخُذْ بِحَدِيْثِ "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ" فَقَالَ: يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ أَوْرَعُ وَأَقْوَلُ بالحق من مالك.
فتعقبه الذهبي "6/ 564" بقوله:
قُلْتُ: لَوْ كَانَ وَرِعاً كَمَا يَنْبَغِي، لَمَا قَالَ هَذَا الكَلاَمَ القَبِيْحَ فِي حَقِّ إِمَامٍ عَظِيْمٍ، فَمَالِكٌ إِنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ بِظَاهِرِ الحَدِيْثِ، لأَنَّهُ رَآهُ مَنْسُوْخاً. وَقِيْلَ: عَمِلَ بِهِ، وَحَمَلَ قَوْلَه: "حَتَّى يَتَفَرَّقَا" عَلَى التَّلَفُّظِ بِالإِيجَابِ وَالقَبُولِ، فَمَالِكٌ فِي هَذَا الحَدِيْثِ، وَفِي كُلِّ حَدِيْثٍ لَهُ أَجْرٌ وَلاَ بُدَّ، فَإِنْ أَصَابَ، ازْدَادَ أَجراً آخَرَ، وَإِنَّمَا يَرَى السَّيْفَ عَلَى مَنْ أخطأ في اجتهاد الحرورية -أي الخوارج- وَبِكُلِّ حَالٍ: فَكَلاَمُ الأَقْرَانِ بَعْضِهِم فِي بَعْضٍ لاَ يُعَوَّلُ عَلَى كَثِيْرٍ مِنْهُ، فَلاَ نَقَصَتْ جَلاَلَةُ مَالِكٍ بِقَوْلِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِيْهِ، وَلاَ ضَعَّفَ العُلَمَاءُ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ بِمَقَالَتِهِ هَذِهِ، بَلْ هُمَا عَالِمَا المَدِيْنَةِ فِي زَمَانِهِمَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَلَمْ يُسنِدْهَا الإِمَامُ أَحْمَدُ، فلعلها لم تصح.
وقال في "السير" "6/ 567":
قَالَ عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ: قُلْتُ لِيَحْيَى: مَا حَالُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِي الزُّهْرِيِّ؟ فَقَالَ: ابْنُ أبي ذئب ثقة.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: هُوَ ثِقَةٌ مَرْضِيٌّ، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عُثْمَانَ بنِ أَبِي شَيْبَةَ: سَأَلْتُ عَلِيّاً عَنْهُ، فَقَالَ: كَانَ عِنْدَنَا ثِقَةً، وَكَانُوا يُوَهِّنُوْنَهُ فِي أَشْيَاءَ رَوَاهَا عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَسُئِلَ عَنْهُ أحمد، فوثقه، ولم يرضه في الزهري.(1/99)
وتراه يرجح بين راو حافظ، وراو آخر من معاصريه، فقال في "السير" "7/ 107": كان حماد بن سلمة بَحْراً مِنْ بُحُورِ العِلْمِ، وَلَهُ أَوهَامٌ فِي سَعَةِ مَا رَوَى، وَهُوَ صَدُوْقٌ، حُجَّةٌ -إِنْ شَاءَ اللهُ- وَلَيْسَ هُوَ فِي الإِتقَانِ كَحَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، وَتَحَايدَ البُخَارِيُّ إِخرَاجَ حَدِيْثِهِ إِلاَّ حَدِيْثاً خَرَّجَه فِي الرِّقَاقِ، فَقَالَ: قَالَ لِي أَبُو الوَلِيْدِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُبَيٍّ. وَلَمْ يَنحَطَّ حَدِيْثُه عَنْ رُتْبَةِ الحَسَنِ. وَمُسْلِمٌ رَوَى لَهُ فِي الأُصُوْلِ، عَنْ ثَابِتٍ وَحُمَيْدٍ، لِكَوْنِهِ خَبِيْراً بهما.
ثم عقد الحافظ الذهبي -رحمه الله- فصلا في "السير" "7/ 118" وهو في غاية الأهمية لكل علماء الحديث وطلابه في التمييز بين الحمادين: حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وفي التمييز بين السفيانين: سفيان الثوري وسفيان بن عيينة. وهذا يبين سعة علمه -رحمه الله- وعلو كعبه في علوم الحديث.
كما انتقد الحافظ -رحمه الله- بعض علماء الجرح والتعديل في توثيق الرجال وتجريحهم فقال -رحمه الله- في "السير" "7/ 583": كان يحيى بن سعيد القطان مُتَعَنِّتاً فِي نَقدِ الرِّجَالِ، فَإِذَا رَأَيْتَهُ قَدْ وَثَّقَ شَيْخاً، فَاعْتمِدْ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا لَيَّنَ أَحَداً فَتَأَنَّ فِي أَمرِهِ حَتَّى تَرَى قَوْلَ غَيْرِهِ فِيْهِ، فَقَدْ لَيَّنَ مِثْلَ إِسْرَائِيْلَ، وَهَمَّامٍ وجماعة احتج بهم الشيخان.
وقال في "الميزان" "1/ 61":
لا يلتفت إلى قول الأزدي، فإن في لسانه في الجرح رهقا.
وقال في "السير" "7/ 599":
وهم أَبُو حَاتِمٍ حَيْثُ حَكَى أَنَّ البُخَارِيَّ تَكَلَّمَ فِي أَبِي تُمَيْلَةَ، وَمَشَى عَلَى ذَلِكَ أَبُو الفَرَجِ ابْنُ الجَوْزِيِّ. وَلَمْ أَرَ ذِكْراً لأَبِي تُمَيْلَةَ فِي كِتَابِ "الضُّعَفَاءِ" لِلْبُخَارِيِّ لاَ فِي الكَبِيْرِ وَلاَ الصَّغِيْرِ. ثُمَّ إِنَّ البُخَارِيَّ قَدِ احْتَجَّ بِأَبِي تُمَيْلَةَ، وَقَدْ كَانَ مُحَدِّثَ مَرْوَ مع الفضل ابن موسى السيناني.
ويبين الحافظ -رحمه الله- متن يرد حديث المختلط، فيقول -رحمه الله تعالى- في "السير" "8/ 365": كُلُّ تَغَيُّرٍ يُوْجَدُ فِي مَرَضِ المَوْتِ، فَلَيْسَ بِقَادِحٍ فِي الثِّقَةِ، فَإِنَّ غَالِبَ النَّاسِ يَعْتَرِيْهِم فِي المَرَضِ الحَادِّ نَحْوُ ذَلِكَ، وَيَتِمُّ لَهُمْ وَقْتَ السِّيَاقِ وَقَبْلَهُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا المَحْذُوْرُ أَنْ يَقَعَ الاخْتِلاَطُ بِالثِّقَةِ، فَيُحَدِّثُ فِي حَالِ اخْتِلاَطِهِ بِمَا يَضْطَرِبُ فِي إِسْنَادِهِ، أَوْ متنه، فيخالف فيه.(1/100)
وانتقد -رحمه الله- أحاديث في "المسند" لم ترد في "الصحيحين" فقال في "السير" "9/ 284": فِي الصَّحِيْحَيْنِ أَحَادِيْثُ قَلِيْلَةٌ لَيْسَتْ فِي "المُسْنَدِ"، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: لاَ تَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ، فَإِنَّ المُسْلِمِيْنَ مَا اخْتَلَفُوا فِيْهَا، ثُمَّ مَا يَلزَمُ مِنْ هَذَا القَوْلِ: أَنَّ مَا وُجِدَ فيه أن يكون حجة، فيه جُمْلَةٌ مِنَ الأَحَادِيْثِ الضَّعِيفَةِ مِمَّا يَسُوغُ نَقلُهَا، وَلاَ يَجِبُ الاحْتِجَاجُ بِهَا، وَفِيْهِ أَحَادِيْثُ مَعْدُوْدَةٌ شِبْهُ مَوْضُوْعَةٍ، وَلَكِنَّهَا قَطْرَةٌ فِي بَحرٍ. وَفِي غُضُوْنِ "المُسْنَدِ" زِيَادَاتٌ جَمَّةٌ لِعَبْدِ اللهِ بنِ أحمد.
وينتقد الأحاديث التي وردت في كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي؛ فقال في "السير" "14/ 276": كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي فيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كَثِيْر لَوْلاَ مَا فِيْهِ مِنْ آدَاب، وَرسوم، وَزُهْد مِنْ طرَائِق الحكمَاء، وَمُنحَرِفِي الصُّوْفِيَّة، نَسْأَل الله علما نافعا.
وتراه ينتقد أحاديث سنن ابن ماجه؛ فقال في "السير" "10/ 374": قَدْ كَانَ ابْنُ مَاجَهْ حَافِظاً نَاقِداً صَادِقاً، واسع العلم، وإنما غَضَّ مِنْ رُتْبَةِ "سُنَنِهِ" مَا فِي الكِتَابِ من المناكير، وقليل من الموضوعات. وفيه أحاديث لا تقوم بها حجة نحو الألف.
وكثيرا ما يورد الحافظ -رحمه الله تعالى- في تراجم علماء الحديث ورواته أحاديث رووها بأسانيد لأنفسهم، فيعقب الحافظ عليها فيقول مثلا: إسناده واه، أو إسناده ضعيف، أو إسناده صحيح، ونحو ذلك. وقد وقع هذا كثيرا في تراجم رواة الأحاديث ولا يترك الحافظ هاتيك الأحاديث دون نقد لها، أو حكم على أسانيدها فكثير ما يقول: هذا حديث صحيح، أو ضعيف، أو موضوع.
وهذا وفق ما يراه من حال هاتيك الأحاديث التي سبر حالها فقال -رحمه الله- في "السير": في "3/ 447-448": قِيْلَ: إِنَّ كُلَّ حَدِيْثٍ فِيْهِ يَا حُمَيْرَاءُ, لم يصح، وأوهى ذلك تَشْمِيْسُ المَاءِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا: "لَا تَفْعَلِي يَا حُمَيْرَاءُ، فَإِنَّهُ يورث البرص". فإنه خبر موضوع.
لذا فقد قال الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني -رحمه الله: أعجبني منه ما يعانيه في تصانيف من أنه لا يتعدى حديثا يورده حتى يتبين ما فيه من ضعف متن، أو ظلام إسناد، أو طعن في رواته، وهذا لم أر غيره يراعى هذه الفايدة فيما يورده. وأورد هذا الحافظ صلاح الدين الصفدي، تلميذ الذهبي في كتابه "الوافي بالوفيات" "2/ 163".(1/101)
ويبين بلسان وقلم الناقد الحاذق أن كلام الأقران بعضهم في بعض غير مقبول، فيقول -رحمه الله- في "السير" "6/ 496": لَسْنَا نَدَّعِي فِي أَئِمَّةِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيْلِ العِصْمَةَ مِنَ الغَلَطِ النَّادِرِ. وَلاَ مِنَ الكَلاَمِ بنَفَسٍ حَادٍّ فِيْمَنْ بَيْنَهُم وَبَيْنَهُ شَحنَاءُ وَإِحْنَةٌ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ كَثِيْراً مِنْ كَلاَمِ الأَقْرَانِ بَعْضِهِم فِي بَعْضٍ مُهدَرٌ، لاَ عِبْرَةَ بِهِ، وَلاَ سيما إذا وثق الرجل جماعة يلوح على قولهم الإنصاف.
ومحمد بن إسحاق، ومالك بن أنس كل منهما قد نال من صاحبه، لكنه أَثَّرَ كَلاَمُ مَالِكٍ فِي مُحَمَّدٍ بَعْضَ اللِّيْنِ، وَلَمْ يُؤثِّرْ كَلاَمُ مُحَمَّدٍ فِيْهِ وَلاَ ذَرَّةٍ، وارتفع مالك، وصار كالنجم، والآخر فَلَهُ ارْتفَاعٌ بِحَسْبِهِ، وَلاَ سِيَّمَا فِي السِّيَرِ، وَأَمَّا فِي أَحَادِيْثِ الأَحكَامِ، فَيَنحَطُّ حَدِيْثُه فِيْهَا عَنْ رُتْبَةِ الصِّحَّةِ إِلَى رُتْبَةِ الحَسَنِ، إِلاَّ فيما شذ فيه، فإنه يعد منكرا.
هكذا يبين قلمه ولسانه عن موهبة نقدية تنبئ عن علم ثر في الجرح والتعديل، وسائر علوم الحديث، وهي انتقادات منصفة ليس فيها حيف أو انحراف عن الجادة.
وقد أطال الحافظ -رحمه الله- بعض تراجم الأعلام وقصر بعضا آخر، وذلك حسب حال المترجم ومنزلته العلمية أو الأدبية أو الاجتماعية، وقد اتبع منهجا خاصا في صياغة الترجمة فيذكر لقب المترجم وكنيته واسمه ونسبته، ثم يذكر تاريخ ولادته، وشيوخه، وتلاميذه، كما يذكر مؤلفاته وآثاره العلمية، ثم يذكر مكانته العلمية من خلال أقوال العلماء فيه، ثم يذكر تاريخ الوفاة، وربما يذكر عدة أقوال في تاريخ وفاة المترجم، ويرجح بينها. ويذكر من مات مع هذا المترجم في هذه السنة من الأعلام.
تاسعا: أهمية كتاب السير بين كتب التراجم:
لا جرم أن كتاب سير أعلام النبلاء من أعظم كتب التراجم التي حوت قدرا كبيرا من تراجم الأعلام في مشارق الأرض ومغاربا خلفاء، وملوك وأمراء ووزراء وأطباء، ومحدثين وفقهاء ونحاة وشعراء وزهاد وفلاسفة ومتكلمين أوعب فيها الحافظ -رحمه الله تعالى- تراجم حقبة كبيرة من الزمن ربت على السبعمائة عام من عصر الصحابة -رضي الله عنهم- إلى عصره الذي عاش فيه، وهي موسوعة معرفية هامة ينهل منها كل المتخصصين في التاريخ، والحديث، والنحو والشعر والفلسفة وعلم الكلام، وغيرها من المعارف.(1/102)
وهذا الكتاب الفذ يعد تصويرا صادقا لا كانت عليه الأمة الإسلامية من تقدم وازدهار في كافة العلوم المعرفية، فهؤلاء هم علماء الأمة ومؤرخوها وشعراؤها الذين لا يزالون مفخرة للعرب والمسلمين في مختلف العصور، فما وجد هذا الحشد الهائل من العلماء، والمؤرخين، والنحاة والشعراء وغيرهم في أمة من الأمم.
وهؤلاء هم الملوك والأمراء الذين فتحوا البلاد، ونافحوا عن المقدسات، قد سطر التاريخ بطولاتهم بأحرف من نور يستضيء بسيرتهم أبناء الأمة الإسلامية من ملوك ورؤساء وعلماء فلا جرم أن يكونوا مفخرة للعرب والمسلمين في مختلف الدهور والعصور.
إن هذا الكتاب الفذ بهذا الحشد الهائل من العلماء، والمؤرخين، والشعراء لخير شاهد على أن أمة أنجبت هذا الحشد الكبير لهي أمة تقدس العلم والمعرفة، وهي حقيقة بأن ينظر إليها بعين الإجلال والإكبار.
ولا جرم أن هذا الكتاب بهذا الحجم الضخم من التراجم سيكون مقصد كل متعلم وباحث عن المعرفة فإذا أراد التوسع في سيرة أي علم من الأعلام فسيجد طلبته ومقصده في هذا الكتاب، وإذا لم يجد ترجمة في الكتب المتداولة فسيجدها في هذا الكتاب العظيم.
إن هذا الكتاب العظيم بهذه التراجم الكثيرة، والتي توسع فيها عن تراجم "تاريخ الإسلام" بأخباره الكثيرة، ومادته العلمية الثرة لهو حقيق بإجلال وإكبار كل العلماء على مختلف تخصصاتهم العلمية. فرحم الله عالمنا الحافظ الذهبي الذي ختم حياته بهذا المؤلف العظيم رحمة واسعة، وحشرنا في زمرته إنه سميع مجيب كريم جواد.
عاشرا وفاته:
قال تلميذه الأديب العلامة الشيخ صلاح الدين أبو الصفاء الصدفي في كتابه "الوافي بالوفيات" "2/ 165": أخبرني العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي قال: عدت الحافظ شم الدين الذهبي ليلة مات، فقلت له: كيف تجدك؟ قال: في السياق. وكان قد أضر -رحمه الله تعالى- قبل موته بأربع سنين أو أكثر بماء نزل في عينيه، فكان يتأذى ويغضب إذا قيل له: لو قدحت هذه لرجع إليك بصرك. ويقول: ليس هذا بماء، وأنا أعرف بنفسي؛ لأنني ما زال بصري ينقص قليلا قليلا إلى أن تكامل عدمه. ثم سأله: أدخل وقت المغرب؟ فقال له الوالد: ألم تصل العصر؟ فقال: بلى ولكن لم أصل المغرب إلى الآن، ثم(1/103)
سأله الشيخ تقي الدين علي السبكي -رحمه الله- عن الجمع بين المغرب والعشاء تقديما، فأفتاه بذلك، ففعله، ومات بعد العشاء قبل نصف الليل1 ليلة الإثنين ثالث ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة بدمشق، بالمدرسة المنسوبة لأم الصالح، في قاعة سكنه، وصلي عليه يوم الإثنين صلاة الظهر في جامع دمشق، ودفن بباب الصغيرة وحضر الصلاة عليه تلميذه تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي السكبي- صاحب "طبقات الشافعية الكبرى"- وقال في "الطبقات" "9/ 106": أنشدنا شيخنا الذهبي، من لفظه لنفسه2:
تولى شباب كأن لم يكن ... وأقبل شيب علينا تولى
ومن عاين المنحنى والنقى ... فما بعد هذين إلا المصلى
ثم قال الشيخ عبد الوهاب بن علي السبكي تاج الدين: وأنشدنا لنفسه، وأرسلها معي إلى الوالد رحمه الله، وهي فيما أراه آخر شعر قاله، لأن ذلك كان في مرض موته، قبل موته بيومين أو ثلاثة.
قال الحافظ الذهبي -رحمه الله- في آخر شعر قاله- يمدح به تقي الدين علي السبكي، والد تاج الدين عبد الوهاب صاحب الطبقات:
تقي الدين يا قاضي الممالك ... ومن نحن العبيد وأنت مالك
بلغت المجد في دين ودنيا ... ونلت من العلوم مدى كمالك
ففي الأحكام أقضانا علي ... وفي الخدام مع أنس بن مالك
وكابن معين في حفظ ونقد ... وفي الفتيا كسفيان ومالك
وفخر الدين في جدل وبحث ... وفي النحو المبرد وابن مالك
وتسكن عند رضوان قريبا ... كما زحزحت عن نيران مالك
تشفع في أناس في فراء ... لتكسوهم ولو من رأس مالك
لتعطى في اليمين كتاب خير ... ولا تعطى كتابك في شمالك
ورثاه تقي الدين علي السكبي، فقال:
__________
1 طبقات الشافعية للسبكي "9/ 105-106".
2 البيتان في: شذرات الذهب "6/ 155"، وذيول تذكرة الحفاظ "37".(1/104)
لما قضى شيخنا وعالمنا ... ومات في التاريخ والنسب
قلت عجيب وحق ذا عجبا ... كيف تخطى البلى إلى الذهب
ورثاه صلاح الدين الصفدي، فقال:
أشمس الدين غبت وكل شمس ... يغيب وزال عنا ظل فضلك
وكم ورخت أنت وفاة شخص ... وما ورخت قط وفاة مثلك
ورثاه تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي بقصيدة مطلعها:
من للحديث وللسارين في الطلب ... من بعد موت الإمام الحافظ الذهبي
من للرواية للأخبار ينشرها ... بين البرية من عجم ومن عرب
من للدراية والآثار يحفظها ... بالنقد من وضع أهل الغي والكذب
من للصناعة يدري حل معضلها ... حتى يريك جلاء الشك والريب
من للجماعة أهل العلم تلبسهم ... أعلامه الغر من أبرادها القشب
من للتخاريج يبديها ويدخل في ... أبوابها فاتحا للمقفل الأشب
من في القراءات بين الناس نافعهم ... وعاصم ركنها في الججفل اللجب
من للخطابة لما لاح يرفل في ... ثوب السواد كبدر لاح في سحب1
ومن هذه القصيدة:
وإن تغب ذات شمس الدين لا عجب ... فأي شمس رأيناها ولم تغب
هو الإمام الذي روت روايته ... وطبق الأرض من طلابه النجب
مهذب القول لاعي ولجلجة ... مثبت النقل سامي القصد والحسب
ثبت صدوق خبير حافظ يقظ ... في النقل أصدق أنباء من الكتب
كالزهر في حسب والزهر في نسب ... والنهر في حدب والدهر في رتب2
__________
1 طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي "9/ 109".
2 طبقات الشافعية الكبرى "9/ 110-111".(1/105)
وقد ترك الذهبي أولادا ثلاثة كانوا من العلماء، وهم:
1- ابنته أم سلمة: سمعت مع أبيها من عيسى بن عبد الرحمن بن معالي بن حمد، أبي محمد الصالحي السمسار ومطعم الأشجار، المتوفى سنة "719هـ1320م"، قال الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 86": "قلت: وسمعه معي ولداي عبد الله وأم سلمى". وقد أجاز لها ولوالدها شيخ المستنصرية الإمام العالم المحدث الصادق الخير رشيد الدِّيْنِ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ أَبِي القاسم البغدادي، المتوفى سنة "707هـ-1307م" كما قال الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 204" أجاز لنا مروياته غير مرة أولها في سنة خمس وتسعين وستمائة "695هـ-1296م" وأجاز لبنتي أم سلمة وقد كان انفرد بأجزاء عوالي الأول الكبير من المخلصات، وجزء ابن كرامة، وتاسع الجعديات، والأطعمة للدارمي، والأول من عوالي ابن البطر، وجزء ابن محمش، وجزء ابن بالويه، والخامس والسادس من حديث ابن صاعد، وجزء ابن المنذر، ودرجات التائبين، ولمع ابن السراج في التصوف.
2- ابنه أبو هريرة، عبد الرحمن: قرأ هو ووالده على عمة الحافظ الذهبي: ست الأهل بنت عثمان بن قايماز بن عبد الله، أم محمد المتوفاة سنة "729هـ1329م" كما قال الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 285".
وسمع هو ووالده الحافظ الذهبي من عبد المحسن بن إبراهيم بن خولان الصالحي، المتوفى سنة "722هـ" كما قال في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 416".
وسمع مع أبيه من فاطمة بنت الإمام القدوة عز الدين إِبْرَاهِيْمُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ الصالحية الحنبلية، قال الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 102": "روت لنا نسخة أبي مسهر، وجزء الفراتي، سمعهما معي ابني عبد الرحمن".
وسمع مع أبيه من محمد بن أحمد الزراد الحريري الصالحي، المتوفى سنة "726هـ-1326م". قال الحافظ في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 170": سمعت منه مع ولدي عبد الرحمن جزء ابن عرفة، وجزء ابن فيل، والبطاقة والجمعة ونسخة إبراهيم بن سعد، وجزء الفراتي، ونسخة أبي مسهر، وجزء الكسائي، ومعه من الذكر لابن فارس، وفضائل معاوية، وفوائد نصر، وجزء ابن الفرات، والعلم لأبي خيثمة.(1/106)
وأجاز له الشيخ محمد بنُ عَبْدِ الحَمِيْدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ خلف، أبو الفضل القرشي المصري المؤدب، المتوفى سنة "716هـ-1316م" كما قال الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 206".
وسمع مع والده من الشيخ محمد بن علي بن سالم بن رضوان المزي، أبي عبد الله المؤذن النجار، المتوفى سنة "722هـ-1322م"، قال الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 238-239":
سمعت منه مع ابني عبد الرحمن جزء ابن فيل، ونسخة إبراهيم بن سعد، والجمعة، وجزء البطاقة.
توفي ابنه أبو هريرة عبد الرحمن سنة "799هـ" كما قال الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" "2/ 449". وعاش نيفا وثمانين سنة كما في "معجم الشيوخ الكبير" "1/ 416".
3- ابنه أبو الدرداء عبد الله: سمع مع أبيه من الشيخ عيسى بن عبد الرحمن بن معالي بن حمد، أبي محمد الصالحي السمسار في العقار ومطعم الأشجار، المتوفى سنة "719هـ-1320م" كما قال الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 86":
قلت: وسمعه معي ولداي عبد الله وأم سلمى. مات عبد الله بن الحافظ الذهبي في ذي الحجة سنة "754هـ" كما قال الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" "2/ 392".(1/107)
حادي عشر:
ترجمة موجزة عن محقق الكتاب محمد أيمن الشبراوي، عفا الله عنه.
مولده ونسبه ونشأته:
هو أبو يعلى القويسني السلفي، محمد أيمن بن عبد الله بن حسن بن محمد الشبراوي.
ولد سنة "1376هـ-1955م" في مدينة الجيزة المصرية التي كان يعمل بها والده موظفا بالبريد. وهو منسوب إلى مدينة قويسنا بمحافظة المنوفية المصرية.
مشايخه:
1- الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، محدث اليمن وعالمها، المتوفى في جمادى الأولى سنة "1422هـ" له مصنفات مشهورة في علم الحديث.
2- العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، رحمه الله تعالى، والمتوفى في رجب "1420هـ"، وهو محدث الشام، له مصنفات وتآليف مشهورة كثيرة منها سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، وكتاب إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، وكتب كثيرة.
3- الأديب الشيخ محمد بن إبراهيم شقرة، ومدير المسجد الأقصى بوزارة الأوقاف الأردنية، وإمام مسجد صلاح الدين -عمان الأردن.
تلامذته:
تتلمذ على يده كثير من طلبة العلم في علم الحديث الذي شرح أصوله مرات عديدة، كما شرح أصول الفقه لبعض طلاب العلم. وقرأ عليه تلامذة كثيرون في مصر وخارجها. منهم من كان يبحث في الدراسات العليا في كلية الشريعة قسم الحديث، وأفاد كثيرا من طلاب العلم في بحوثهم وفي رسائلهم في الماجستير والدكتوراة خاصة في علم الحديث الذي حاز فيه قصب السبق، ولم ير فيه مثل نفسه تحت أديم سماء مصر.(1/108)
مصنفاته:
له مصنفات كثيرة، وتحقيقات، وفهارس علمية لكثير من كتب السنة طبع أغلبها بلبنان ومصر، من هذه الكتب:
1- الأرائك المصنوعة في الأحاديث الضعيفة والموضوعة، تأليف له في ثلاث مجلدات، كل مجلد يتضمن أربعمائة حديث، والمجلدات الثلاث تتضمن "1200" حديث كلها أحاديث مشهورة تدور على ألسنة الخطباء والوعاظ والمتكلمين في إذاعات القرآن الكريم، وقد استوعب طرق هذه الأحاديث، وتكلم على هذه الطرق جرحا وتعديلا بإسهاب، وحكم على كل حديث بما يليق بحاله، وليس فيها حديث واحد ذكره الشيخ الألباني إلا عدة أحاديث يسيرة انتقدها عليه من مخالفة في حكم، أو زيادة علة أغفل الكلام عليها الشيخ الألباني -رحمه الله- أو زيادة مصادر عزو لم يعز إليها الشيخ رحمه الله. وقد طبع المجلد الأول من هذه المجلدات الثلاث بمكتبة الدعوة بالأزهر سنة "1420هـ-2000م"، يسر الله طبع بقية هذه المجلدات، وأكثر النفع بها، وجعلها في ميزان حسناته بكرمه ومنه إنه سميع مجيب كريم جواد.
2- أين الله؟ هل هو في كل مكان؟! هي رسالة ألفها في إثبات علو الله تعالى على عرشه فوق سماواته، وضمنه مقدمة، وأربعة فصول وخاتمة ورد فيها على ثمان شبه من شبه القائلين بأن الله في كل مكان تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وكل هذه الشبه مما تلهج بها ألسنة الخالفين المخالفين. وقد دحض هذه الشبه بالدليل. وهو مطبوع متداول.
3- داء الرياء القاتل وعلاجه الناجع، كتاب ألفه في بيان داء الرياء، وعلاماته، وأنواعه، ودوافعه وعلاجه من اثني عشر طريقة، وهو مطبوع متداول.
4- النفاق وأثره السيئ في الأمة، كتاب ألفه ليقف المسلمون على خطورة هذا الداء العضال وقسمه إلى مقدمة وخمسة مباحث تضمنت: معنى النفاق لغة وشرعا، وصفات المنافقين، وأخطار النفاق والمنافقين، وكيف يعامل المؤمنون المنافقين، والعلاج الناجع للنفاق، وأتبع هذه المباحث الخمسة بخاتمة تعد زبدة البحث وخلاصته. وهو مطبوع متداول.(1/109)
5- أحكام الصيام، أوعب فيه جميع أحكام الصيام، ورد فيه على شبه القائلين بإخراج زكاة الفطر نقودا، ودحض حجتهم من ستة وجوه، وهو مطبوع بدار العقيدة بالإسكندرية.
6- الشقاء والسعادة في ضوء الكتاب والسنة، كتاب ألفه لبيان حقيقة السعادة ومصادرها، والشقاء وأسبابه، وقد قسمه إلى مقدمة، وأربعة مباحث تتضمن: معنى السعادة لغة وشرعا، وأسباب وهمية لحصول السعادة، وأسباب الشقاء وعدم السعادة، وأسباب السعادة وذيله بخاتمة, وهو مطبوع بدار العقيدة بالإسكندرية.
7- بغية المستفيد في تحقيق وتخريج تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد، وهو مطبوع في مجلد كبير ضخم مع كتاب تيسير العزيز الحميد. ط. عالم الكتب بيروت - لبنان سنة "1419هـ-1999م".
8- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية لابن تيمية، ط. دار الحديث، ويقع في ثمانية أجزاء، وفي أربع مجلدات. خرج فيها أحاديثه، وعلق عليه بتعليقات نافعة، وقدم له بمقدمة ضافية، تكلم فيها بإسهاب عن سبعة عشر أصلا من أصول الشيعة الإمامية، وتعد هذه المقدمة مرجعا لمن أراد معرفة أصول الشيعة الإمامية.
9- تراجم الخلفاء الراشدين، تأليف محمد رضا. قدم فيه للكتاب وخرج فيه ما ورد فيه من أحاديث تخريجا علميا دقيقا، وصدر كل حديث بما يناسبه من حكم، وضبط نصه، وعلق عليه بما يفيد العامة بله الخاصة من العلماء وطلاب العلم، وهو مطبوع بدار الحديث بالقاهرة سنة "1425هـ-2004م".
10- سير أعلام النبلاء، للحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، خرج فيه جميع أحاديث الكتاب الذي يقع في ستة عشر مجلدا، غير الفهارس العلمية الدقيقة له، وقد حكم على كل حديث بما يناسبه من صحة، أو ضعف، وغيره. وذكر مصادر كل ترجمة من تراجم الكتاب التي بلغت "5964" ترجمة، ترجم فيها الذهبي لجميع الأعلام في مشارق الأرض ومغاربها من ملوك، وخلفاء، وأمراء، ووزراء، وأطباء، ومحدثين، وفقهاء ونحاة، وشعراء، وزهاد, وفلاسفة، ومتكلمين.
وقدم للكتاب بمقدمة ضافية تعد مرجعا كبيرا، وترجمة واسعة للحافظ الذهبي رحمه(1/110)
الله، تضمنت نشأة الذهبي، وبيئته السياسية، والدينية، والعلمية، ورحلاته في طلب العلم، وشيوخه، وتلامذته، ومنزلته العلمية، وأقوال العلماء فيه، وآراءه وأقواله في العقيدة والفقه والحديث، وتصانيفه وآثاره العلمية، ومنهجه في كتابه السير، وأهمية كتاب السير بين كتب التراجم، وبيان تاريخ وفاته، ومن ترك من أولاد. فجاءت ترجمة ضافية لا يستغني عنها كل باحث أو طالب علم. وهو هذا الكتاب الذي بين يديك أخي القارئ غفر الله لمؤلفه، ومحققه، ومن قام على طبعه ونشره وهو مطبوع بدار الحديث بالقاهرة سنة "1427-2006م".
11- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، تأليف الحافظ السيوطي، حققه وخرج أحاديثه. ط. دار الحديث القاهرة سنة "1423هـ-2002م".
12- الجواب الباهر في زوار المقابر، لابن تيمية، خرج أحاديثه، وعلق عليه. ط. دار الجيل, بيروت, لبنان سنة "1417هـ-1997م".
13- مكان رأس الحسين، لابن تيمية، خرج أحاديثه وعلق عليه. ط. دار الجيل، بيروت, لبنان سنة "1417هـ-1997م".
14- السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لابن تيمية. ط. دار الكتب العلمية, بيروت, لبنان سنة "1409هـ-1998م" خرج أحاديثه وعلق عليه.
15- شرح العقيدة الواسطية، لابن تيمية شرح الشيخ خليل هراس، خرج أحاديثه، وعلق عليه، وقدم له بمقدمة هامة، وشرح ما فيه من غريب الألفاظ، وزور له فهارس علمية شاملة أوعبت كل ما في الكتاب.
16- فتح المغيث بترتيب ما في سنن النسائي من الأثر والحديث. ط. دار الجيل بيروت, لبنان سنة "1411هـ-1991م". وط. دار الكتب العلمية, بيروت, لبنان سنة "1408هـ-1988م".
17- فهرس مسند الحميدي. مطبوع مع مسند الحميدي بدار الكتب العلمية سنة "1408هـ-1988م".
18- هداية المحتار إلى ترتيب كشف الأستار عن زوائد البزار، ط. دار الجيل بيروت لبنان سنة "1411هـ-1991م". وط. دار الكتب العلمية سنة "1408هـ-1988م"(1/111)
19- السرر الموضوعة في ترتيب اللآلئ المصنوعة. ط. دار الجيل, بيروت, لبنان سنة "1417هـ-1997م".
20- الروض الباسم في ترتيب السنة لابن أبي عاصم. ط. دار الجيل, بيروت, لبنان سنة "1417هـ-1997م".
21- فهارس صحيح ابن خزيمة. ط. دار الكتب العلمية, بيروت, لبنان سنة "1408هـ-1988م".
22- فهرس تفسير ابن كثير. دار الجيل بيروت لبنان. وقد أعده بطريقتين فرتبه على أوائل أطراف الأحاديث، ورتبه على مسانيد الرواة، وأحال فيها القارئ إلى رقم الآية، واسم السورة التي يوجد بها الحديث، لينتفع كل من يتملك أي طبعة من تفسير ابن كثير.
وكتب أخرى كثيرة تخرج له قريبا قريبا تقبل الله منه بأسمائه وصفاته، وجعلها في ميزان حسناته ثقيلة ثقيلة، وأكثر النفع بها بكرمه ومنه وسعة فضله, وجزى الله خيرا كل من ساهم في نشرها بالقول أو الفعل.(1/112)
ثاني عشر: منهجنا في تحقيق الكتاب:
1- عولت في تحقيق هذا الكتاب على النسخة الخطية الموجودة في دار الكتب المصرية بالقاهرة المحروسة تحت رقم عام "12195" حديث، والمصورة عن الأصل الموجود بمكتبة أحمد الثالث باستنبول رقم "2910-13"، وتقع في إحدى عشر مجلدا, وقد بلغت عدد لوحات كل مجلد من هذه المجلدات الإحدى عشرة على التوالي:
"252، 285، 293، 293، 292، 292، 288، 289، 290, 288، 319" لوحة عن نسخة مكتبة أحمد الثالث باستانبول. وكل لوحة تحتوي على صفحتين، متقابلتين. ومتوسط سطور كل صفحة "24" أو"25" سطرا، وعدد كلمات السطر "14" كلمة. وكتب على هذه الأجزاء تاريخ نسخها؛ فالجزء الرابع كتب عليه: تم الفَرَاغُ مِنْ نَسْخِهِ فِي سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلاَثِيْنَ وسبعمائة. وأما الجزء العاشر فكتب عليه: كان الفرَاغُ
مِنْهُ لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ شهر رجب سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. وأما الجزء الحادي عشر فقد كتب عليه: تم الفراغ من نسخه لَيْلَةَ الاثْنَيْن لِثِنْتَي عَشْرةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ شهر ذي الحجة سنة "741هـ", وَهِيَ أَولُ نُسْخَةٍ نُسخت مِنْ خطِّ المُصَنِّفِ. وأما الجزء الثاني عشر فكتب على الصفحة الأخيرة منه: كان الفَراغُ مِن كِتَابَتِه لَيلةَ الجُمعةِ لِثَلاثٍ بَقِينَ من جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة والحمد لله وحده وصلواته وسلامه عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيْماً.
أما الجزء الثالث عشر فقد كتب ناسخه على الصفحة الأخيرة: تَمَّ الجُزءُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ سِيَرِ أَعلاَمِ النُّبَلاَءِ للشَيْخِ الإِمَامِ العَالِمِ العَاملِ الحُجَّة النَّاقِدِ البَارِعِ جَامِعِ أَشْتَاتِ الفُنُوْنِ مُؤَرِّخِ الإِسْلاَمِ شَمْسِ الدِّيْنِ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ عُثْمَانَ الذَّهَبِيِّ فَسَحَ اللهُ فِي مُدَّتَه وَهِيَ أَوَّلُ نُسْخَةٍ نُسِخَتْ مِنْ خَطِّ المُصَنِّفِ وَقُوْبِلَتْ عَلَى حَسَبِ الإِمْكَانِ وَكَانَ الفرَاغُ مِنْهُ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ سَنَةَ ثلاث وأربعين وسبعمائة والحمد لله وحده وصلى الله على محمد.
فالواضح أن هذه النسخة كتبت في حياة المؤلف من نسخة مكتوبة بخطه، والخط في جميع الأجزاء واحد، لكنه لم يبين اسم الناسخ كما هو معتاد في كتابة الناسخ لاسمه حين الفراغ من النسخ. لكن بوجه عام فالنسخة مكتوبة بخط جيد مقروء، وفي بعض صفحاتها تضبيب طولي، وهو نادر فيها مما لا يكاد يخلو منه مخطوط. وقد اعتمدت على بعض النسخ المطبوعة وكان أضبطها طبعة مؤسسة الرسالة.(1/113)
2- رجعت إلى كتب السنن والمسانيد والمعاجم وبعض المصادر التي أخذ عنها المؤلف، وعارضت عليها، ما أورده من أحاديث وآثار وأقوال، وهو شيء كثير، وعدد كبير، وقد أصلحت ما وقع فيه من خطأ.
3- ضبطت النص ونسقته تنسيقا يعين على قراءته، وفهمه، وضبطت ما أشكل من أسماء الرواة والأعلام وكناهم، كما ضبطت المواضع والبلدان والمبهمات والغريب حتى تقرأ على نحو صحيح صائب معتمدا على أوثق وأفضل المصادر التي بينت ذلك أفضل بيان.
4- نبهت على ما ظهر لي من تصحيفات وقعت في الطبعة المذكورة التي اعتمدت عليها.
5- قمت بدراسة الأحاديث والآثار التي ذكرها المؤلف، وصدرت كل حديث بما يناسبه من صحة أو ضعف وغيره، وقد أحيل القارئ إلى مراجعة الحديث والكلام عليه بإسهاب في بعض كتبي مثل: الأرائك المصنوعة في الأحاديث الضعيفة والموضوعة، أو بغية المستفيد في تحقيق وتخريج تيسير العزيز الحميد، أو منهاج السنة النبوية لابن تيمية بتخريجنا وتعليقنا، أو الجواب الباهر في زوار المقابر بتخريجنا وتعليقنا، وغيرها من كتبي.
6- ذكرت مصادر ترجمة كل علم من الأعلام ليرجع إليها من رام زيادة، وقد قصدت فيها استيعاب المصادر، وذلك حسب ما تيسر لي منها.
7- شرحت الغوامض من المصطلحات والمبهمات والغريب، وعرفت ببعض الأماكن والبلدان، كما عرفت ببعض الأعلام من أصحاب النحل، أو ممن وردوا بالأسانيد، ليكون الكتاب سهلا ميسورا أمام القارئ.
8- قدمت للكتاب بمقدمة ضافية بينت فيها: نشأة الذهبي وبيئته السياسية والدينية والعلمية، ورحلاته في طلب العلم، وشيوخه، وتلامذته، ومنزلته العلمية وأقوال العلماء فيه، وآراءه في العقيدة والفقه والحديث، وتصانيفه وآثاره العلمية، ومنهجه في كتابه. كما بينت أهمية كتاب السير بين كتب التراجم، وبينت تاريخ وفاته، ومن ترك من أولاد، فجاءت ترجمة ضافية للحافظ الذهبي لا يستغني عنها أي باحث أو طالب علم.(1/114)
9- زورت فهرسا لكل جزء بأسماء المترجمين على ترتيب المؤلف، وفهرسا آخر على نسق حروف المعجم، ثم زورت فهرسا عاما لجميع أجزاء الكتاب يشتمل على فهرس بجميع المترجمين على حروف المعجم، وفهرس للأحاديث والآثار، وفهرس للأشعار الواردة في الكتاب وقد بذلت الجهد والوسع في تحقيق هذا الكتاب العظيم على النحو الذي يرضي جماهير العلماء وطلاب العلم. أسأل الله عز وجل بأسمائه وصفاته أن ينفع بهذا الكتاب مؤلفه، ومحققه، وناشره وكل من ساعد على نشره أو الإفادة منه بالقول أو الفعل. وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم صلاة وتسليما ملء السموات وملء الأرض وملء ما شاء من شيء بعد.
كتبه: أبو يعلى
محمد أيمن الشبراوي
عفا الله عنه بكرمه ومنه(1/115)
صور المخطوطة(1/117)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
من مولده -صلى الله عليه وسلم- إلى هجرته الشريفة:
ذكر نسب سيد البشر:
محمد رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو القاسم سيد المرسلين وخاتم النبيين.
هو مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ واسم عبد المطلب شيبة, ابن هاشم واسمه عمرو, ابن عبد مناف واسمه المغيرة، ابن قصي واسمه زيد بنِ كِلاَبِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ بنِ غَالِبِ بنِ فِهْرِ بنِ مَالِكِ بن النضر بن كنانة بن خزيمة ابن مدركة، واسمه عامر بنِ إِلْيَاسَ بنِ مُضَرَ بنِ نِزَارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عدنان، وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم -صلى الله عليهما وعلى نبينا وسلم- بإجماع الناس.
لكن اختلفوا فيما بين عدنان وبين إسماعيل من الآباء1، فقيل: بينهما تسعة آباء، وقيل: سبعة، وقيل مثل ذلك عن جماعة. لكن اختلفوا في أسماء بعض الآباء، وقيل: بينهما خمسة عشر أبا، وقيل: بينهما أربعون أبا وهو بعيد وقد ورد عن طائفة من العرب ذلك.
وأما عروة بن الزبير، فقال: ما وجدنا من يعرف ما وراء عدنان ولا قحطان إلا تخرصا.
وعن ابن عباس قال: بين معد بن عدنان وبين إسماعيل ثلاثون أبا، قاله هشام ابن الكلبي النسابة، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، ولكن هشام وأبوه متروكان2.
وجاء بهذا الإسناد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا انتهى إلى عدنان أمسك ويقول:
__________
1 النسب ما بين عدنان إلى اسماعيل بن إبراهيم مختلف فيه، وأما من النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدنان فمتفق عليه. وروى الطبراني بإسناد جيد عن عائشة قالت: "استقام نسب الناس إلى معد بن عدنان" كذا قال الحافظ في "الفتح" "6/ 528-529".
2 هشام بن محمد بن السائب الكلبي، أبو المنذر الأخباري النسابة العلامة، روى عن أبيه أبي النضر الكلبي المفسر. قَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: إِنَّمَا كَانَ صَاحِبَ سَمَرٍ وَنَسَبٍ، مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَداً يُحَدِّثُ عنه. وقال الدارقطني وغيره: متروك. وقال ابن عساكر: رافضي، ليس بثقة، وأما أبوه؛ فهو محمد بن السائب الكلبي، أبو النضر الكوفي المفسر النسابة الأخباري. قال البخاري: أبو النضر الكلبي تركه يحيى وابن مهدي، وقال الدارقطني وجماعة: متروك، وقال الجوزجاني وغيره كذاب. لذا فالأثر ضعيف جدا.(1/143)
"كذب النسابون" قال الله تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38] 1.
وقال أبو الأسود يتيم عروة: سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة، وكان من أعلم قريش بأنسابها وأشعارها يقول: ما وجدنا أحدا يعلم ما وراء معد بن عدنان في شعر شاعر ولا علم عالم2.
قال هشام ابن الكلبي: سمعت من يقول: إن معدا كان على عهد عيسى ابن مريم، عليه السلام.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بنُ عَبْدِ البَرِّ: كَانَ قوم من السلف منهم عبد الله بن مسعود، ومحمد بن كعب القرظي، وعمرو بن ميمون الأودي إذا تلوا: {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9] ، قالوا: كذب النسابون. قال أبو عمر: ومعنى هذا عندنا على غير ما ذهبوا إليه، وإنما المعنى فيها والله أعلم: تكذيب من ادعى إحصاء بني آدم. وأما أنساب العرب فإن أهل العلم بأيامها وأنسابها قد وعوا وحفظوا جماهيرها وأمهات قبائلها، واختلفوا في بعض فروع ذلك.
والذي عليه أئمة هذا الشأن أنه: عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور ابن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل ابن آزر، واسمه تارح، ابن ناحور بن ساروح بن راعو بن فالخ بن عيبر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام بن لامك بن متوشلخ ابن خنوخ، وهو إدريس عليه السلام بن يرد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شيث بن آدم أبي البشر عليه السلام قال: وهذا الذي اعتمده محمد بن إسحاق في السيرة3، وقد اختلف أصحاب ابن إسحاق عليه في بعض الأسماء.
__________
1 ضعيف جدا: أخرجه ابن سعد "1/ 65"، وفيه هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأبوه، وهما متروكان كما علمت.
وفيه أبو صالح باذام، مولى أم هانئ، فإنه ضعيف، مدلس فهذه ثلاث علل في هذا الإسناد.
2 حسن: أخرجه ابن سعد "1/ 58" في طبقاته قال: أخبرنا خالد بن خداش، أخبرنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الأسود قال: سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة يقول ... فذكره.
قلت: إسناده حسن، عبد الله بن لهيعة، صدوق، وقد روى عنه عبد الله بن وهب، وهو من أعدل من روى عنه، فأمنا شرا اختلاطه. وأبو الأسود، يتيم عروة، هو محمد بن عبد الرحمن النوفلي، الأسدي المدني، ثقة، من صغار التابعين، روى له الجماعة.
3 ذكره ابن هشام في "السيرة" "1/ 21" ط، دار الحديث بتحقيق جمال ثابت، ومحمد محمود، وسيد إبراهيم ووقع في هذه الطبقة "ابن ساروغ" بدل "ابن ساروح". وأثبته المحققون كما في "المنتظم" "1/ 258".(1/144)
قال ابن سعد: الأمر عندنا الإمساك عما وراء عدنان إلى إسماعيل1.
وروى سلمة الأبرش، عن ابن إسحاق هذا النسب إلى يشجب سواء، ثم خالفه فقال: يشجب بن يانش بن ساروغ بن كعب بن العوام بن قيذار بن نبت بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهم السلام.
وقال ابن إسحاق: يذكرون أن عمر إسماعيل مائة وثلاثون سنة، وأنه دفن في الحجر مع أمه هاجر.
وقال عبد الملك بن هشام: حدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسي، عن شيبان بن زهير، عن قتادة، قال: إبراهيم خليل الله هو ابن تارح بن ناحور بن أشرع بن أرغو بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لامك بن متوشلخ بن هنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قاين بن أنوش بن شيث بن آدم.
وَرَوَى عَبْدُ المُنْعِمِ بنُ إِدْرِيْسَ، عَنْ أَبِيْهِ، عن وهب بن منبه، أنه وجد نسب إبراهيم -عليه السلام- في التوراة: إبراهيم بن تارح بن ناحور بن شروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن متشالخ بن خنوخ، وهو إدريس بن يارد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم2.
وقال ابن سعد: حدثنا هشام ابن الكلبي، قال: علمني أبي وأنا غلام نسب النبي صلى الله عليه وسلم محمد، الطيب المبارك ولد عبد الله بن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد بنِ هَاشِمٍ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بنُ عَبْدِ مَنَافٍ، واسمه المغيرة بن قصي، واسمه زيد بنِ كِلاَبِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ بنِ غَالِبِ بنِ فِهْرِ بنِ مَالِكِ بنِ النَّضْرِ بنِ كِنَانَةَ بنِ خُزَيْمَةَ بنِ مدركة بنِ إِلْيَاسَ بنِ مُضَرَ بنِ نِزَارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عدنان3.
__________
1 ذكره ابن سعد في "الطبقات" "1/ 58" وقال: الأمر عندنا على الانتهاء إلى معد بن عدنان، ثم الإمساك عما وراء ذلك إلى إسماعيل بن إبراهيم.
2 ضعيف جدا: فيه عبد المنعم بن إدريس اليماني، مشهور قصاص، ليس يعتمد عليه، تركه غير واحد؛ وأفصح أحمد بن حنبل فقال: كان يكذب على وهب بن منبه وقال البخاري: ذاهب الحديث. وقال ابن حبان: يضع الحديث على أبيه وعلى غيره.
3 ضعيف جدا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 55-56"، آفته هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأبوه؛ فهما متروكان كما أسلفنا الكلام عليهما قريبا.(1/145)
قال أبي: وبين معد وإسماعيل نيف وثلاثون أبا، وكان لا يسميهم ولا ينفذهم.
قلت: وسائر هذه الأسماء أعجمية، وبعضها لا يمكن ضبطه بالخط إلا تقريبا.
وقد قيل في قوله تعالى: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13] ، فصيلة النبي صلى الله عليه وسلم بنو عبد المطلب أعمامه وبنو أعمامه، وأما فخذه فبنو هاشم. قال: وبنو عبد مناف بطنه، وقريش عمارته، وبنو كنانة قبيلته، ومضر شعبته.
قال الأوزاعي: حدثني شداد أبو عمار، قال: حدثني وَاثِلَةَ بنِ الأَسْقَعِ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى هاشما من قريش، واصطفاني من بني هاشم" رواه مسلم1.
وأمه آمنة بنت وهب بن عَبْدِ مَنَافٍ بنِ زُهْرَةَ بنِ كِلاَبِ، فهي أقرب نسبا إلى كلاب من زوجها عبد الله برجل.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "4/ 107"، ومسلم "2276"، والترمذي "3605"، "3606" من طرق عن الأوزاعي، به.(1/146)
مولده المبارك صلى الله عليه وسلم:
أخبرنا أبو المعالي أحمد بن إسحاق، قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ أَبِي الفَتْحِ، وَالفَتْحُ بنُ عَبْدِ اللهِ، قَالاَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ الفقيه، قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد ابن النقور، قال: أخبرنا علي بن عمر الحربي، قال: حدثنا أحمد بن الحسن الصوفي، قال: حدثنا يحيى ابن معين، قال: حدثنا حجاج بن محمد، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ولد عام الفيل"1. صحيح.
وقال ابن إسحاق: حدثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن أبيه، عن جده قيس بن مخرمة بن عبد المطلب، قال: "ولدت أَنَا وَرَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الفيل. كنا لِدَّينِ"2 أخرجه الترمذي، وإسناده حسن.
وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي: حدثنا سليمان النوفلي، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم، قَالَ: وُلِدَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الفيل، وكانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة، وبني البيت على رأس خمس وعشرين سنة من الفيل. وتنبأ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رأس أربعين سنة من الفيل.
__________
1 حسن لغيره: أخرجه ابن سعد "1/ 101"، والبزار "226" كشف الأستار، والحاكم "2/ 603"، والطبراني في "الكبير" "12/ 12432"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "1/ 75-76" من طريق حجاج بن محمد، به.
قلت: إسناده ضعيف، فيه محمد بن إسحاق، مدلس، وقد عنعنه لكن الحديث يرتقي للحسن لغيره بالطريقين الآتيين كما في التعليق الآتي.
2 حسن لغيره: أخرجه أحمد "4/ 215"، والترمذي "3619"، والحاكم "2/ 603"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "1/ 76-77"، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" "85" من طرق عن ابن إسحاق، عن المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة به.
قلت: إسناده ضعيف، آفته المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة المطلبي، فإنه مجهول، لذا قال الحافظ في "التقريب": مقبول أي عند المتابعة، وقد توبع وأما محمد بن إسحاق فقد صرح بالتحديث عند الترمذي وغيره. وأخرجه ابن سعد "1/ 101" من طريق حكيم بن محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن قيس بن مخرمة به.
قلت: إسناده ضعيف، آفته محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، فإنه مجهول؛ لذا قال الحافظ في "التقريب": "مقبول" أي عند المتابعة، وقد توبع بالطريق الأول، فالحديث حسن. بمجموع الطريقين.
أما حكيم بن محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة فهو صدوق كما قال الحافظ في "التقريب" وقيس ابن مخرمة هو ابن المطلب بن عبد مناف المطلبي المكي, صحابي، كان أحد المؤلفة, ثم حسن إسلامه.(1/147)
وقال شباب العصفري1: حدثنا يحيى بن محمد، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، قال: حدثني الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث، قال: سمعت قباث بن أشيم يقول: "أنا أَسَنُّ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أكبر مني، وقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله، وولد رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الفيل" يحيى هو أبو زكير، وشيخه متروك الحديث.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة، وكان بين مبعثه وبين أصحاب الفيل سبعون سنة كذا قال.
وقد قال إبراهيم بن المنذر وغيره: هذا وهم لا يشك فيه أحد من علمائنا. إن رسول الله ولد عام الفيل وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل.
وقال يَعْقُوْبُ القُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بنِ أَبِي المُغِيْرَةِ، عن ابن أبزى، قال: كان بين الفيل وبين مولد رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشرُ سنين. وهذا قول منقطع.
وأضعف منه ما روى محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وهو ضعيف قال: حدثنا عقبة بن مكرم، قال: حدثنا السيب بن شريك، عن شعيب بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: حمل بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عاشوراء المحرم وولد يوم الإثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل2. وهذا حديث ساقط كما ترى.
وأوهى منه ما يروى عن الكلبي -وهو متهم ساقط- عن أبي صالح باذام، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وُلِدَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الفيل بخمس عشرة سنة قد تقدم ما يبين كذب هذا القول عن ابن عباس بإسناد صحيح.
قال خليفة بن خياط: المجمع عليه أنه ولد عام الفيل.
وقال الزبير بن بكار: حدثنا محمد بن حسن عن عبد السلام بن عبد الله عن معروف بن خربوذ، وغيره من أهل العلم، قالوا: وُلِدَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الفيل، وسميت قريش "آل الله" وعظمت في العرب. ولد لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، وقيل: من رمضان يوم الإثنين حين طلع الفجر.
__________
1 شباب العصفري، هو خَلِيْفَةُ بنُ خَيَّاطِ بنِ خَلِيْفَةَ بنِ خَيَّاطٍ الإمام الحافظ العلامة الأخباري، أبو عمرو العُصْفُرِيُّ البَصْرِيُّ، وَيُلَقَّبُ بِشَبَابٍ، صَاحِبُ "التَّارِيْخِ" وَكِتَابِ "الطبقات"، وغير ذلك. ترجم له المصنف في كتابه هذا "السير" برقم ترجمة عام "1918"، وبتعليقنا رقم "401" في المجلد السابع فراجعها ثمت إذا رمت زيادة.
2 ضعيف جدا: وفيه أيضا المسيب بن شريك قال أحمد: تركه الناس وقال مسلم وجماعة: متروك.(1/148)
وقال أبو قتادة الأنصاري: سأل أعرابي رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ما تقول في صوم يوم الإثنين؟ قال: "ذاك يوم ولدت فيه وفيه أوحي إليّ" 1. أخرجه مسلم.
وقال عُثْمَانَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الوَقَّاصِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن سعيد بن المسيب وغيره، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولد في ليلة الإثنين من ربيع الأول عند ابهرار النهار2.
وروى ابن إسحاق قال: حدثني صَالِحُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، عن يَحْيَى بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أسعد بن زرارة، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ شِئْتُ مِنْ رِجَالِ قَوْمِي، عن حسان بن ثابت، قال: إني والله لغلام يفعة، إذ سمعت يهوديا وهو على أطمة3 يثرب يصرخ: يا معشر يهود، فلما اجتمعوا إليه، قالوا: ويلك ما لك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي يبعث به الليلة.
وقال ابْنِ لَهِيْعَةَ عَنْ خَالِدِ بنِ أَبِي عِمْرَانَ، عن حنش عن ابن عباس قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ونبئ يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الإثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين وفتح مكة يوم الاثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الإثنين، وتوفي يوم الإثنين4.
رواه أحمد في مسنده، وأخرجه الفسوي في تاريخه.
وقال شيخنا أبو محمد الدمياطي في "السيرة" من تأليفه، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ، قَالَ: وُلِدَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يَوْم الإثنين لعشر ليال خلون من ربيع الأول، وكان قدوم أصحاب الفيل قبل ذلك في النصف من المحرم5.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1162" "197" من طريق محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن غيلان بن جرير، سمع عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة الأنصاري به.
2 ضعيف: لإرساله.
3 الأطم بالضم: الأبنية المرتفعة كالحصون. وجمعه آطام.
4 ضعيف: أخرجه أحمد "1/ 277"، والطبراني "12984"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "7/ 233، 234" من طريق عبد الله بن لهيعة، به.
قلت: إسناده ضعيف، آفته عبد الله بن لهيعة، أجمعوا على ضعفه لسوء حفظه بعد احتراق كتبه. لكن يغني عنه حديث أبي قتادة الأنصاري المتقدم وفيه: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن صوم يوم الإثنين؟ قال: "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أنزل علي فيه".
ويغني عنه أيضا ما رواه البخاري "1387" عن عائشة أن أبا بكر قال لها في أي يوم تُوُفِّيَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: يوم الإثنين. قال: فأي يوم هذا؟ قالت: يوم الإثنين.
5 ضعيف: لإرساله، أبو جعفر محمد بن علي، هو أَبُو جَعْفَرٍ البَاقِرُ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ بنِ عَلِيِّ بنِ أبي طالب من صغار التابعين، فبينه وَبَيْنَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفاوز تنقطع دونها أعناق المطي.(1/149)
وقال أبو معشر نجيح: ولد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.
قال الدمياطي: والصحيح قول أبي جعفر، قال: ويقال: إنه ولد في العشرين من نيسان.
وقال أبو أحمد الحاكم: ولد بعد الفيل بثلاثين يوما. قاله بعضهم. قال: وقيل: بعده بأربعين يوما.
قلت: لا أبعد أن الغلط وقع من هنا على من قال ثلاثين عاما أو أربعين عاما فكأنه أراد أن يقول يوما فقال عاما.
وقال الوليد بن مسلم، عن شعيب بن أبي حمزة، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس أن عبد المطلب: ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه، وصنع له مأدبة وسماه محمدا1.
وهذا أصح مما رواه ابن سعد: أخبرنا يونس بن عطاء المكي، قال: حدثنا الحكم بن أبان العدني، قال حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم مختونا مسرورا، فأعجب ذلك عبد المطلب وحظي عنده وقال: ليكونن لابني هذا شأن2.
تابعه سليمان بن سلمة الخبائري، عن يونس، لكن أدخل فيه بين يونس والحكم: عثمان ابن ربيعة الصدائي.
قال شيخنا الدمياطي: ويروى عن أبي بكرة، قال: ختن جبريل رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا طهر قلبه3.
قلت: هذا منكر.
__________
1 ضعيف: فيه الوليد بن مسلم مدلس يدلس تدليس التسوية وقد عنعنه.
2 منكر: أخرجه ابن سعد "1/ 103" قال أخبرنا يونس بن عطاء المكي، به.
وأورده ابن كثير في "البداية والنهاية" "2/ 269-270" ثم قال في إثره بعد أن ذكر طرقا له: "وقد ادعى بعضهم صحته لما ورد له من الطرق حتى زعم بعضهم أنه متواتر! وفي هذا كله نظر.
ومعنى مختونا: أي مقطوع الختان. ومسرورا: أي مقطوع السرة من بطن أمه.
3 منكر: أورده الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" "2/ 270" ط. دار الحديث وقال: قد روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن عيينة البصري، حدثنا علي بن محمد المدائني السلمي، حدثنا سلمة بن محارب بن مسلم بن زيادة، عن أبيه، عن أبي بكرة: أن جبريل ختن النبي صلى الله عليه وسلم حين طهر قلبه".
وقال ابن كثير في إثره: وهذا غريب جدا.(1/150)
أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وكنيته:
الزهري, عن محمد بن جبير بن مطعم, عن أبيه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: "إن لي اسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب" 1. قال الزهري: والعاقب: الذي ليس بعده نبي.
متفق عليه وقال الزهري: وقد سماه الله رءوفا رحيما.
وقال حماد بن سلمة، عن جعفر بن أبي وحشية، عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر، وأنا الماحي، والخاتم، والعاقب" 2. وهذا إسناد قوي حسن.
وجاء بلفظ آخر، قال: "أنا أحمد، ومحمد، والمقفى، والحاشر، ونبي الرحمة، ونبي الملحمة" 3.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قال: حدثني خَالِدِ بنِ يَزِيْدَ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ أَبِي هلال عن عقبة بن مسلم عن نافع بن جبير بن مطعم: أنه دخل على عبد الملك بن مروان فقال له: أتحصي أسماء رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كان جبير يعدها؟ قال: نعم هي ستة: محمد، وأحمد، وخاتم وحاشر وعاقب وماحي.
فأما حاشر فبعث مع الساعة نذيرا لكم، وأما عاقب فإنه عقب الأنبياء وأما ماحي فإن الله محا به سيئات من اتبعه.
__________
1 صحيح: أخرجه عبد الرزاق "19657"، والحميدي "555"، وابن أبي شيبة "11/ 457"، وأحمد "4/ 80 و84"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 105"، والبخاري "3532"، "4896"، ومسلم "2354"، والترمذي "2840"، وفي "الشمائل" "359" والدارمي "2/ 317-318" والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" "2/ 50"، والآجري في "الشريعة" "ص462"، والطبراني في "الكبير" "1520-1530"، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" "19"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "1/ 152-153 و153 و154"، والبغوي "3629" و"3630" من طرق عن الزهري، به.
2 صحيح: أخرجه أحمد "4/ 81 و84" من طريق حماد بن سلمة به.
3 صحيح: أخرجه أحمد "4/ 404" من طريق المسعودي، ومسلم "2355" من طريق الأعمش كلاهما عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عن أبي موسى الأشعري قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: "أنا محمد وأحمد والمقفى والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة".
وقوله: "المقفى" قال شمر: هو بمعنى العاقب. وقال ابن الأعرابي: هو المتبع للأنبياء. يقال: قفوته أقفوه وقفيته أقفيه، إذا اتبعته وقافية كل شيء آخره.(1/151)
وقال عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى الأشعري، قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: "أنا محمد، وأحمد، والحاشر، والمقفى، ونبي التوبة، والملحمة" رواه مسلم1.
وقال وَكِيْعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ, عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، قال: "أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة" 2.
ورواه زياد بن يحيى الحساني، عن سعير بن الخمس، عن الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ موصولا.
وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
وقال وكيع، عن إسماعيل الأزرق، عن ابن عمر، عن ابن الحنفية، قال: يس محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن بعضهم، قَالَ: لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فِي القرآن خمسة أسماء: محمد، وأحمد، وعبد الله، ويس، وطه.
وقيل: طه، لغة لعك، أي: يا رجل، فإذا قلت لعكي: يا رجل لم يلتفت، وإذا قلت له: طه التفت إليك نقل هذا الكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ والكلبي متروك.
فعلى هذا القول لا يكون طه من أسمائه.
وقد وصفه الله تعالى في كتابه فقال: رسولا، ونبيا أميا وشاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا، ورءوفا رحيما، ومذكرا، ومدثرا ومزملا وهاديا، إلى غير ذلك.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2355". وراجع تخريجنا السابق.
2 حسن لغيره: أخرجه ابن سعد "1/ 192" أخبرنا وسميع بن الجراح، به.
وله شاهد عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "إنما أنا رحمة مهداة".
أخرجه البزار "2369" كشف الأستار، والطبراني في "الصغير" "1/ 95"، و"الأوسط" "2981"، وابن الأعرابي في "معجمه"، والحاكم "1/ 35"، والقضاعي في "الشهاب" "1160" من طريق أبي الخطاب زياد بن يحيى، عن مالك بن سعير، عن الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، به. ومالك بن سعير، صدوق فالإسناد حسن.(1/152)
ومن أسمائه: الضحوك، والقتال. جاء في بعض الآثار عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا الضحوك أنا القتال".
وقال ابن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق1، وفي التوراة فيما بلغنا أنه حرز للأميين، وأن اسمه المتوكل2.
ومن أسمائه: الأمين. وكانت قريش تدعوه به قبل نبوته. ومن أسمائه: الفاتح، وقثم.
وقال علي بن زيد بن جدعان: تذاكروا أحسن بيت قالته العرب، فقالوا: قول أبي طالب في النبي صلى الله عليه وسلم:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وقال عاصم بن أبي النجود، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة، فقال: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا نبي الرحمة، ونبي التوبة، والمقفى، وأنا الحاشر، ونبي الملحمة" 3 قالك المقفى الذي ليس بعده نبي. رواه الترمذي في "الشمائل" وإسناده حسن، وقد رواه حماد بن سلمة، عن عاصم، فقال: عن زر، عن حذيفة نحوه.
ويروى بإسناد واه عن أبي الطفيل، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لي عشرة أسماء، فذكر منها الفاتح، والخاتم.
قلت: وأكثر ما سقنا من أسمائه صفات له لا أسماء أعلام، وقد تواتر أن كنيته أبو القاسم.
__________
1 صحيح: أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ "6594", وَمُسْلِمٌ "2643" مِنْ طَرِيْقِ الأَعْمَشِ، عَنْ زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود، به.
2 صحيح: أخرجه أحمد "2/ 174"، والبخاري "2125" من طريق فليح حدثنا هلال، عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قلت: أخبرني عن صفَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التوراة، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للاميين، أنت عبدي ورسولي, سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح بها أعين عمي وآذان صم وقلوب غلف".
3 حسن: أخرجه الترمذي في "الشمائل" "360". وعاصم بن أبي النجود صدوق حسن الحديث.(1/153)
قال ابْنِ سِيْرِيْنَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو القَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تسموا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي". متفق عليه1.
وقال محمد بن عَجْلاَنَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لا تجمعوا اسمي، وكنيتي، أنا أبو القاسم، الله يعطي وأنا أقسم" 2.
وقال ابن لهيعة، عن عقيل، عن الزهري، عن أنس، قال: لما ولد إِبْرَاهِيْمَ ابْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مارية كاد يقع في نفسه منه، حتى أتاه جبريل -عليه السلام- فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم. ابن لهيعة ضعيف.
__________
1 صحيح: أخرجه عبد الرزاق "19866"، وابن أبي شيبة "8/ 671"، وأحمد "2/ 248، 260، 270، 392، 491، 499"، والبخاري "3539"، "6188"، ومسلم "2134"، وأبو داود "4965"، وابن ماجه "3735"، والدارمي "2/ 291-292"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 295"، وفي "تاريخ أصبهان" "2/ 143"، والبيهقي في "السنن" "9/ 308"، وفي "الآداب" "613"، والبغوي "3363" من طرق عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيْرِيْنَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ به.
وورد عن أنس بن مالك: عند أحمد "3/ 114، 121، 189"، وابن أبي شيبة "8/ 671"، والبخاري "2120"، "3537"، وفي "الأدب المفرد" "837"، "845"، ومسلم "2131"، والترمذي "2844"، وأبو يعلى "3787"، "3811"، والبيهقي "9/ 308، 309"، والبغوي "3364" من طرق عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك به.
2 حسن: أخرجه أحمد "2/ 433"، والبخاري في "الأدب المفرد" "844"، والترمذي "2841" من طريق محمد بن عجلان به.
قلت: إسناده حسن, محمد بن عجلان صدوق كما قال الحافظ في "التقريب".(1/154)
ذكر ما ورد في قصة سطيح, وخمود النيران ليلة المولد وانشقاق الإيوان:
قال ابن أبي الدنيا وغيره: حدثنا علي بن حرب الطائي، قال: أخبرنا أبو أيوب يعلى بن عمران البجلي، قال: حدثني مخزوم بن هانئ المخزومي، عن أبيه، وكان قد أتت عليه مائة وخمسون سنة، قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى1، وسقطت منه أربع عشرة شرفة, وغاضت بحيرة ساوة2، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى الموبذان3 إبلا صعابا تقود خيلا عرابا4 قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى أفزعه ما رأى من شأن إيوانه فصبر عليه تشجعا، ثم رأى أن لا يستر ذلك عن وزرائه ومرازبته5، فلبس تاجه وقعد على سريره وجمعهم، فلما اجتمعوا عنده، قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ قالوا: لا إلا أن يخبرنا الملك، فبينا هم على ذلك أورد عليهم كتاب بخمود النار، فازداد غما إلى غمه، فقال الموبذان: وأنا قد رأيت -أصلح الله الملك- في هذه الليلة رؤيا، ثم قص عليه رؤياه فقال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون في ناحية العرب، وكان أعلمهم في أنفسهم فكتب كسرى عند ذلك: "من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، أما بعد، فوجه إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه. فوجه إليه بعبد المسيح بن حيان ابن بقيلة الغساني، فلما قدم، عليه قال له: هل لك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليسألني الملك فإن كان عندي علم وإلا أخبرته بمن يعلمه فأخبره بما رأى، فقال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح، قال: فائته فسله عما سألتك وائتني بجوابه، فركب حتى أتى على سطيح وقد أشفى على الموت، فسلم عليه وحياه فلم يحر سطيح جوابا، فأنشأ عبد المسيح يقول:
__________
1 ارتجس إيوان كسرى: أي اضطرب وتحرك حركة سمع لها صوت.
2 غاضت بحيرة ساوة: أي غار ماؤها وذهب.
3 الموبذان: قاضي القضاة.
4 الخيل العراب المعربة: قال الكسائي: المعرب من الخيل: الذي ليس فيه عرق هجين. والأنثى معربة؛ وإبل عراب كذلك، وقد قالوا: خيل أعرب، وإبل أعرب.
5 المرازبة: من الفرس معرب، الواحد مرزبان بضم الزاي، وهو الفارس الشجاع، المقدم على القوم دون الملك.(1/155)
أصم أم يسمع غطريف1 اليمن ... أم فاد فازلم2 به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن ... أتاك شيخ الحي من آل سنن
وأمه من آل ذئب بن حجن ... أزرق بهم الناب صرار الأذن
أبيض فضفاض الرداء والبدن ... رسول قيل العجم يسرى للوسن
يجوب في الأرض علنداة3 شجن4 ... ترفعني وجن5 وتهوي بي وجن
لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن ... كأنما حثحث من حضنى ثكن6
حتى أتى عاري الحآجي والقطن ... تلفه في الريح بوغاء7 الدمن8
فقال سطيح: عبد المسيح، جاء إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نار فارس, فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه، وسار عبد المسيح إلى رحله، وهو يقول:
شمر فإنك ماضي الهم شمير ... لا يفزعنك تفريق وتغيير
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير
__________
1الغطريف والغطارف: السيد الشريف السخي الكثير الخير.
2 أزلم: أي ذهب مسرعا.
3 العلنداة: الناقة من الإبل العظيمة الطويلة.
4 شجن: أي ناقة متداخلة الخلق كأنها شجرة متشجنة أي متصلة الأغصان بعضها ببعض ويروى: شزن بالزاي.
5 الوجن: الأرض الغليظة الصلبة.
6 حثحث من حضنى ثكن: جاء في حديث سطيح ومعناه: أي حث وأسرع يقال حثه على الشيء وحثحثه. وثكن: جبل معروف، وقيل: جبل حجازي بفتح الثاء والكاف.
7 البوغاء: التراب عامة. وقيل: هي التربة الرخوة التي كأنها ذريرة.
8 الدمن: البعر.(1/156)
فربما ربما أضحضوا بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وسابور
والناس أولاد علات فمن علموا ... أن قد أقل فمحقور ومهجور
وهم بنو الأم إما إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشر مصفودان في قرن ... فالخير متبع والشر محذور
فلما قدم على كسرى أخبره بقول سطيح، فقال كسرى: إلى متى يملك منا أربعة عشر ملكا تكون أمور، فملك منهم عشرة أربع سنين، وملك الباقون إلى آخر خلافة عثمان -رضي الله عنه- هذا حديث منكر غريب.
وبإسنادي إلى البكائي، عن ابن إسحاق، قال كان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة, فرأى رؤيا هالته وفظع منها، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني فأخبروني بها وبتأويلها.
قالوا: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها. قال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها، إنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها. فقيل له: إن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق فإنه ليس أحد أعلم منهما، فبعث إليهما فقدم سطيح قبل شق، فقال له: رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تهمة1، فأكلت منها كل ذات جمجمة. قال: ما أخطأت منها شيئا، فما تأويلها؟
فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش.
فقال الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن أفي زمانه أم بعده؟
قال: بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين، قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يقتلون ويخرجون هاربين.
قال: من يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن. قال: أفيدوم ذلك؟ قال: بل ينقطع بنبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي. قال: وممن هو؟ قال: من ولد فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر
__________
1 التهمة: حكى ابن قتيبة في "غريب الحديث" عن الزيادي، عن الأصمعي أن التهمة الأرض المنصوبة إلى البحر، قال: وكأنها مصدر من تهامة.(1/157)
الدهر. قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرني؟ قال: نعم والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.
ثم قدم عليه شق، فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان. قال: نعم رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة. فلما قال ذلك عرف أنهما قد اتفقا فوقع في نفسه فجهز أهل بيته إلى العراق، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة، فمن بقية ولد ربيعة بن نصر: النعمان بن المنذر، فهو في نسب اليمن: النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر.(1/158)
باب: منه
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "خرجت من لدن آدم من نكاح غير سفاح" 1.
هذا حديث ضعيف، فيه متروكان: الواقدي، وأبو بكر بن أبي سبرة.
وورد مثله عن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين, عن أبيه، عن جده، عن علي بن الحسين، عن علي، وهو منقطع إن صح عن جعفر بن محمد، ولكن معناه صحيح.
وقال خَالِدٍ الحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ شَقِيْقٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي الجَدْعَاءِ، قَالَ قُلْتُ: يَا رسول الله، متى كنت نبيا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد".
وقال منصور بن سعد، وإبراهيم بن طهمان واللفظ له: قال: حدثنا بُدَيْلِ بنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ شَقِيق، عَنْ مَيْسَرَة الفجر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم متى كنت نبيا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد" 2.
وقال الترمذي: حدثنا الوليد بن شجاع، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيْرٍ، عَنْ أَبِي سلمة, عن أبي هريرة: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوة؟ قال: "بين خلق آدم ونفخ الروح فيه" قال الترمذي: حسن غريب.
__________
1 حسن لغيره: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" من حديث ابن عباس، وفيه متروكان كما قال المصنف.
وورد من طريق علي بن أبي طالب مرفوعا بلفظ: "خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء".
أخرجه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" "ص136"، والسهمي في "تاريخ جرجان "ص318-319"، والطبراني في "الأوسط" "4728"، وفيه محمد بن جعفر بن محمد بن علي، تكلم فيه كما قال الذهبي في "الميزان".
وورد من حديث أبي جعفر الباقر مرسلا: أخرجه البيهقي "7/ 190"، وعبد الرزاق في "المصنف" وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور". وهو مرسل يشهد لحديث علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
2 صحيح: أخرجه أحمد "5/ 59"، وفي "السنة" "ص111" حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا منصور بن سعد، عَنْ بديل، عَنْ عَبْد اللهِ بن شَقِيق، به.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" "410"، وأبو نعيم في "الحلية" "9/ 53" من طرق عن ابن مهدي، به.
وأخرجه ابن أبي عاصم "411" ثنا هدبة بن خالد، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ خَالِدٍ الحَذَّاءِ، عن عبد الله بن شقيق، عن رجل قال: قلت: يا رسول الله متى بعثت نبيا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد".(1/159)
قلت: لولا لين في الوليد بن مسلم لصححه الترمذي.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ثَوْرُ بنُ يَزِيْدَ، عَنْ خَالِدِ بنِ مَعْدَانَ، عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأن نورا خرج منها أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام".
وروينا بإسناد حسن -إن شاء الله- عن العرباض بن سارية أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: "إني عبد الله وخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم عن ذلك: دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى لي، ورؤيا أمي التي رأت" 1. وإن أَمْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام.
ورواه الليث، وابن وهب، عن معاوية بن صالح، سمع سعيد بن سويد يحدث عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض، فذكره.
ورواه أبو بكر بن أبي مريم الغساني، عن سعيد بن سويد، عن العرباض نفسه.
وقال فرج بن فَضالة: حدثنا لقمان بن عامر، قال: سمعت أبا أمامة، قال قلت: يا رسول الله، ما كان بدء أمرك؟ قال: "دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام". رواه أحمد في "مسنده"2 عن أبي النضر، عن فرج.
قوله: "لمنجدل" أي ملقى، وأما دعوة إبراهيم فقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] ، وبشارة عيسى قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدْ} [الصف: 6] .
وقال أبو ضمرة: حدثنا جعفر بن محمد، عَنْ أَبِيْهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "قسم الله الأرض نصفين فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف على ثلاثة فكنت في خير ثلث منها، ثم اختار العرب من الناس، ثم اختار قريشا من العرب، ثم اختار بني هاشم من قريش ثم
__________
1 حسن: أخرجه أحمد "4/ 128" من حديث العرباض بن سارية السلمي، به.
2 حسن: أخرجه أحمد "5/ 262" حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج، به.
قلت: إسناده حسن، فرج بن فضالة، هو ابن النعمان التنوخي الشامي، قال أبو حاتم: صدوق لا يحتج به. وقال ابن معين صالح الحديث. وضعفه النسائي والدارقطني. ولقمان بن عامر، صدوق ويشهد له الطريق السابق.(1/160)
اختار بني عبد المطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبد المطلب". هذا حديث مرسل.
وروى زَحْرَ بنَ حِصْنٍ، عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بنِ منهب، قال: سمعت جدي خريم بن أوس بن حارثة يَقُوْلُ: هَاجَرْتُ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوْكٍ، فَسَمِعْتُ العَبَّاسَ، يَقُوْلُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ إِنِّي أُرِيْدُ أَنْ أمتدحك فقال: "لا يفضض الله فاك". فقال:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلاَلِ وَفِي ... مُسْتَوْدَعٍ حيث يخصف الورق
ثُمَّ هَبَطْتَ البِلاَدَ لاَ بَشَرٌ ... أَنْتَ وَلاَ مُضْغَةٌ وَلاَ عَلَقُ
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِيْنَ وَقَدْ ... أَلْجَمَ نَسْراً وَأَهْلَهُ الغَرَقُ
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ ... إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
حَتَّى احْتَوَى بَيْتُكَ المُهَيْمِنُ مِنْ ... خِنْدِفَ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ
وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْـ ... ـأَرْضُ وَضَاءتْ بِنُورِكَ الأُفُقُ
فَنَحْنُ فِي ذلك الضياء وفي النْـ ... ـنُور وسبل الرشاد نخترق
الظلال: ظلال الجنة قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] ، والمستودع: هو الموضع الذي كان فيه آدم وحواء يخصفان عليهما من الورق، أي: يضمان بعضه إلى بعض يتستران به، ثم هبطت إلى الدنيا في صلب آدم، وأنت لا بشر ولا مضغة.
وقوله: "تركب السفين" يعني: في صلب نوح. وصالب لغة غريبة في الصلب، ويجوز في الصلب الفتحتان كسقم وسقم.
والطبق: القرن، أي: كلما مضى عالم وقرن جاء قرن، ولأن القرن يطبق الأرض بسكناه بها. ومنه قوله -عليه السلام- في الاستسقاء: "اللهم اسقنا غيثا مغيثا طبقا غدقا" 1، أي: يطبق الأرض. وأما قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19] ، أي: حالا بعد حال.
والنطق: جمع نطاق وهو ما يشد به الوسط ومنه المنطقة. أي: أنت أوسط قومك نسبا. وجعله في علياء وجعلهم تحته نطاقا. وضاءت: لغة في أضاءت.
__________
1 صحيح: أخرجه أبو داود "1169" من حديث جابر بن عبد الله، به.(1/161)
وأرضعته ثويبة:
وأرضعته ثويبة جارية أبي لهب عمه، مع عمه حمزة، ومع أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، رضي الله عنهما.
قال شعيب، عن الزهري، عن عروة: إن زينب بنت أبي سلمة وأمها أخبرته، أن أم حبيبة أخبرتهما، قالت: قلت: يا رسول الله! انكح أختي بنت أبي سفيان. قال: "أوتحبين ذلك؟ ". قلت: لست لك بمخلية وأحب إلي من شركني في خير أختي. قال: "إن ذلك لا يحل لي". فقلت: يا رسول الله إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة. فقال: "والله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن". أخرجه البخاري1.
وقال عروة في سياق البخاري: ثويبة مولاة أبي لهب، أعتقها، فأرضعت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا مَاتَ أبو لهب رآه بعض أهله في النوم بشر حيبة، يعني: حالة فقال له: ماذا لقيت؟ قال: لم ألق بعدكم رخاء غير أني أسقيت في هذه مني بعتاقتي ثويبة. وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها.
ثم أرضعته حليمة السعدية:
ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، وأخذته معها إلى أرضها، فأقام معها في بني سعد نحو أربع سنين، ثم ردته إلى أمه.
قال يحيى بن أبي زائدة: قال محمد بن إسحاق عن جهم بن أبي جهم، عن عبد الله جعفر، عن حليمة بنت الحارث أَمْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السعدية، قالت: خرجت في نسوة نلتمس الرضعاء بمكة على أتان لي قمراء2 قد أذمت بالركب3، وخرجنا في سنة شهباء4 لم تبق شيئا، ومعنا شارف5 لنا، والله إن تبض6 علينا بقطرة، ومع صبي لي لن ننام ليلنا
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "5101"، ومسلم "1449"، وأبو داود "2056".
2 قمراء: القمرة: لون إلى الخضرة، وقيل: بياض فيه كدرة.
3 أذمت بالركب: أي حبستهم لضعفها وانقطاع سيرها.
4 سنة شهباء: إذا كانت مجدبة، بيضاء من الجدب، لا يرى فيها خضرة؛ وقيل الشهباء: التي ليس فيها مطر.
5 الشارف: الناقة التي قد أسنت. وقال ابن الأعرابي: الشارف: الناقة الهمة والجمع شرف، وشوارف.
6 تبض: أي ترشح.(1/162)
مع بكائه، فلما قدمنا مكة لم يبق منا امرأة إلا عرض عَلَيْهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتأباه، وإنما كنا نرجو كرامة رضاعه من أبيه، وكان يتيما، فلم يبق من صواحبي امرأة إلا أخذت صبيا، غيري. فقلت لزوجي: لأرجعن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فأتيته فأخذته، فقال زوجي: عسى الله أن يجعل فيه خيرا. قالت: فوالله ما هو إلا أن جعلته في حجري فأقبل عليه ثديي بما شاء من اللبن، فشرب وشرب أخوه حتى رويا، وقام زوجي إلى شارفنا من الليل، فإذا بها حافل، فحلب وشربنا حتى روينا، فبتنا شباعا رواء، وقد نام صبياننا، قال أبوه: والله يا حليمة ما أراك إلا قد أصبت نسمة مباركة، ثم خرجنا، فوالله لخرجت أتاني أمام الركب قد قطعتهن حتى ما يتعلق بها أحد، فقدمنا منازلنا من حاضر بني سعد بن بكر، فقدمنا على أجدب أرض الله، فوالذي نفسي بيده إن كانوا ليسرحون أغنامهم ويسرح راعي غنمي، فتروح غنمي بطانا لبنا حفلا، وتروح أغنامهم جياعا، فيقول لرعاتهم: ويلكم ألا تسرحون حيث يسرح راعي حليمة؟ فيسرحون في الشعب الذي يسرح فيه راعينا، فتروح أغنامهم جياعا ما بها من لبن، وتروح غنمي لبنا حفلا.
شق الصدر:
فكان صلى الله عليه وسلم يشب في يومه شباب الصبي في الشهر، ويشب في الشهر شباب الصبى في سنة، قالت: فقدمنا على أمه فقلنا لها: ردي علينا ابني فإنا نخشى عليه وباء مكة قالت: ونحن أضن شيء به مما رأينا من بركته، قالت: ارجعا به، فمكث عندنا شهرين فبينا هو يلعب وأخوه خلف البيوت يرعيان بهما لنا، إذ جاء أخوه يشتد، فقال: أدركا أخي قد جاءه رجلان فشقا بطنه، فخرجنا نشتد، فأتيناه وهو قائم منتقع اللون، فاعتنقه أبوه وأنا، ثم قال: ما لك يا بني؟ قال: "أتاني رجلان فأضجعاني ثم شقا بطني فوالله ما أدري ما صنعا". فرجعنا به. قالت: يقول أبوه: يا حليمة ما أرى هذا الغلام إلا قد أصيب، فانطلقي فلنرده إلى أهله. فرجعنا به إليها، فقالت: ما ردكما به؟ فقلت: كفلناه وأدينا الحق، ثم تخوفنا عليه الأحداث.
فقالت: والله ما ذاك بكما، فأخبراني خبركما، فما زالت بنا حتى أخبرناها. قالت:
فتخوفتما عليه؟ كلا والله إن لابني هذا شأنا إني حملت به فلم أحمل حملا قط كان أخف منه ولا أعظم بركة، ثم رأيت نورا كأنه شهاب خرج مني حين وضعته أضاءت لي أعناق الإبل ببصرى، ثم وضعته فما وقع كما يقع الصبيان، وقع واضعا يديه بالأرض رافعا رأسه إلى السماء، دعاه، والحقا شأنكما1. هذا حديث جيد الإسناد.
__________
1 ضعيف: أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية لابن هشام "1/ 122-124" ط. دار الحديث =(1/163)
قال أبو عاصم النبيل: أخبرني جعفر بن يحيى، قال: أخبرنا عمارة بن ثوبان أن أبا الطفيل أخبره، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقبلت إليه امرأة حتى دنت منه، فبسط لها رداءه فقلت: من هذه؟ فقالوا: أمه التي أرضعته. أخرجه أبو داود1.
قال مسلم: حدثنا شيبان، قال: حدثنا، حماد، قال: حدثنا ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق قلبه، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه، يعني مرضعته، فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه منتقع اللون.
قال أنس: قد كنت أرى أثر المخيط في صدره2.
وقال بَقِيَّةُ، عَنْ بَحِيْرِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَمْرو السلمي، عن عتبة بن عبد، فذكر نحوا من حديث أنس. وهو صحيح أيضا، وزاد فيه: "فرحلت -يعني ظئره3- بعيرا، فحملتني على الرحل، وركبت خلفي حتى بلغنا إلى أمي فقالت: أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيت، فلم يعرها ذلك، وقالت: إني رأيت خرج مني نور أضاء منه قصور الشام.
وقال سليمان بن المغيرة، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أتيت وأنا في أهلي، فانطلق بي إلى زمزم فشرح صدري، ثم أتيت بطست من ذهب ممتلئة حكمة وإيمانا فحشى بها صدري -قال أنس: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرينا أثره- فعرج بي الملك إلى السماء الدنيا" وذكر حديث المعراج.
__________
= قال: قال ابن إسحاق: وحدثني جهم بن أبي جهم مولى الحارث بن حاطب الجمحي، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرِ بنِ أَبِي طَالِبٍ، أو عمن حدثه عنه قال: كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية أَمْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أرضعته ... " فذكره في حديث طويل.
قلت: إسناده ضعيف، آفته جهم بن أبي جهم. قال المصنف: لا يعرف.
1 ضعيف: أخرجه أبو داود "5144"، وفيه عمارة بن ثوبان، حجازي, مستور، وفيه جعفر بن يحيى بن ثوبان، مجهول أيضا لذا قال الحافظ في "التقريب" "مقبول" أي عند المتابعة.
2 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 121، 149، 288", ومسلم "162" "261"، وأبو يعلى "3374" و"3507" وأبو نعيم في "الدلائل" "168"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 146"، والبغوي "3708" من طرق عن حماد بن سلمة، به. وقوله: "لأمَهُ": معناه جمعه وضم بعضه إلى بعض.
3 ظئره: المرضعة غير ولدها، ويقع على الذكر والأنثى.(1/164)
وقد روى نحوه شريك بن أبي نمر، عن أنس، عن أبي ذر وكذلك رواه الزهري، عن أنس، عن أبي ذر أيضا. وأما قتادة فرواه عن أنس، عن مالك بن صعصعة، نحوه.
وإنما ذكرت هذا ليعرف أن جبريل شرح صدره مرتين: في صغره ووقت الإسراء به.
وفاة والده:
وتوفي "عبد الله" أبوه، وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهرا. وقيل: أقل من ذلك.
وقيل: وهو حمل توفي بالمدينة غريبا، وكان قدمها ليمتار تمرا، وقيل: بل مر بها مريضا راجعا من الشام، فروى محمد بن كعب القرظي وغيره: أن عبد الله بن عبد المطلب خرج إلى الشام إلى غزة في عير تحمل تجارات، فلما قفلوا مروا بالمدينة وعبد الله مريض، فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضا مدة شهر، فبلغ ذلك عبد المطلب، فبعث إليه الحارث وهو أكبر ولده؛ فوجده قد مات؛ ودفن في دار النابغة أحد بني النجار؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ حمل، على الصحيح. وعاش عبد الله خمسا وعشرين سنة، قال الواقدي: وذلك أثبت الأقاويل في سنة وفاته.
وترك عبد الله من الميراث أم أيمن وخمسة أجمال وغنما، فورث ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وفاة أمه وكفالة جده وعمه:
وتوفيت أمه "آمنة" بالأبواء وهي راجعة به -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بني عدي ابن النجار، وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم. وقيل: ابن أربع سنين. فلما مات ودفنت، حملته أم أيمن مولاته إلى مكة إلى جده، فكان في كفالته إلى أن توفي جده، وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، فأوصى به إلى عمه أبي طالب.
قال عمرو بن عون: أخبرنا خالد بنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ دَاوُدَ بنِ أَبِي هند، عن عباس بن عبد الرحمن، عن كندير بن سعيد، عن أبيه، قال: حججت في الجاهلية، فإذا رجل يطوف بالبيت ويرتجز يقول:
رب رد إليّ راكبي محمدا ... يا رب رده واصطنع عندي يدا
قلت: من هذا؟ قال: عبد المطلب، ذهبت إبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها، ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها، وقد احتبس عليه فما برحت حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل. فقال: يا بني لقد حزنت عليك حزنا؛ لا تفارقني أبدا.(1/165)
وقال خارجة بن مصعب، عن بَهْزُ بنُ حَكِيْمِ بنِ مُعَاوِيَةَ بن حَيْدَةَ، عن أبيه، عن جده، أن حيدة بن معاوية اعتمر في الجاهلية1، فذكر نحوا من حديث كندير عن أبيه.
وقال إبراهيم بن محمد الشافعي، عن أبيه، عن أبان بن الوليد، عن أبان بن تغلب، قال: حدثني جلهمة بن عرفطة، قال: إني لبالقاع من نمرة، إذ أقبلت عير من أعلى نجد، فلما حاذت الكعبة إذا غلام قد رمى بنفسه عن عجز بعير، فجاء حتى تعلق بأستار الكعبة، ثم نادى يا رب البنية أجرني؛ وإذا شيخ وسيم قسيم عليه بهاء الملك ووقار الحكماء، فقال: ما شأنك يا غلام، فأنا من آل الله وأجير من استجار به؟ قال: إن أبي مات وأنا صغير، وإن هذا استعبدني، وقد كنت أسمع أن لله بيتا يمنع من الظلم، فلما رأيته استجرت به. فقال له القرشي: قد أجرتك يا غلام، قال: وحبس الله يد الجندعي إلى عنقه. قال جلهمة: فحدثت بهذا الحديث عمرو بن خارجة وكان قعدد2 الحي، فقال: إن لهذا الشيخ ابنا يعني أبا طالب. قال: فهويت رحلي نحو تهامة، أكسع بها الجدود، وأعلوا بها الكذان3، حتى انتهيت إلى المسجد الحرام، وإذا قريش عزين4، قد ارتفعت لهم ضوضاء يستسقون، فقائل منهم يقول: اعتمدوا اللات والعزى؛ وقائل يقول: اعتمدوا لمناة الثالثة الأخرى. وقال شيخ وسيم قسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم -عليه السلام- وسلالة إسماعيل؟ قالوا له: كأنك عنيت أبا طالب. قال: إيهًا. فقاموا بأجمعهم، وقمت معهم فدققنا عليه بابه، فخرج إلينا رجل حسن الوجه مصفر، عليه إزار قد اتشح به، فثاروا إليه فقالوا: يا أبا طالب أقحط الوادي، وأجدب العباد فهلم فاستسق؛ فقال: رويدكم زوال الشمس وهبوب الريح؛ فلما زاغت الشمس أو كادت، خرج أبو طالب معه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة؛ فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بأصبعه الغلام، وبصبصت الأغيلمة حوله وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي، وأخصب النادي والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب:
__________
1 ضعيف جدا: آفته خارجة بن مصعب, أبو الحجاج السرخسي الفقيه، وهاه أحمد.
وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال أيضا: كذاب وقال البخاري: تركه ابن المبارك، ووكيع.
2 قعدد: القريب من الجد الأكبر.
3 الكذان: الحجارة التي ليست بصلبة، وهي حجارة كأنها المدر فيها رخاوة، وربما كانت نخرة.
4 عزين: متفرقين واحدها عزة.(1/166)
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل
يطيف به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفضائل
وميزان عدل لا يخيس شعيرة ... ووزان صدق وزنه غير عائل
وقال عبد الله بن شبيب وهو ضعيف: حدثنا أحمد بن محمد الأزرقي، قال: حدثني سعيد بن سالم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: كنا مع عطاء، فقال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت أبي يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامة، وأحسنهم وجها، ما رآه أحد قط إلا أحبه، وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره، ولا يجلس عليه معه أحد، وكان الندي من قريش حرب بن أمية فمن دونه يجلسون حوله دون المفرش؛ فَجَاءَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو غلام لم يبلغ فجلس على المفرش، فجبذه رجل فبكى؛ فقال عبد المطلب -وذلك بعدما كف بصره: ما لابني يبكي؟ قالوا له: إنه أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه، فقال: دعوا ابني يجلس عليه، فإنه يحس من نفسه شرفا، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده1. قال: ومات عبد المطلب، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن ثمان سنين، وكان خلف جنازة عبد المطلب يبكي حتى دفن بالحجون2.
وقد رعى الغنم:
فروى عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "ما من نبي إلا وقد رعى الغنم". قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: "نعم، كنت أرعاها بالقراريط لأهل مكة". رواه البخاري3.
وقال أبو سلمة، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمر الظهران نجتني الكباث، فقال: "عليكم بالأسود منه فإنه أطيب". قلنا: وكنت ترعى الغنم يا رسول الله؟ قال: "نعم وهل من نبي إلا قد رعاها". متفق عليه4.
__________
1 ضعيف جدا: آفته عبد الله بن شبيب، أبو سعيد الربعي، أخباري علامة، لكنه واه. قال أبو أحمد الحاكم: ذاهب الحديث. وقال ابن حبان: يقلب الأخبار ويسرقها.
2 الحجون: موضع بمكة ناحية من البيت وقال الجوهري: الحجون، بفتح الحاء، جبل بمكة وهي مقبرة.
3 صحيح: أخرجه البخاري "2262" حدثنا أحمد بن محمد المكي حدثنا عمرو بن يحيى، به.
قوله: "قراريط": جمع قيراط، وهو جزء من الدينار أو الدرهم.
4 صحيح: أخرجه البخاري " 3406"، ومسلم "2050" وقوله: الكباث: بالفتح. قال ابن سيدة: نضيج ثمر الأراك؛ وقيل: هو ما لم ينضج منه؛ وقيل: هو حمله إذا كان متفرقا، واحدته: كباثة.(1/167)
سفره مع عمه إن صح:
قال قراد أبو نوح: حَدَّثَنَا يُوْنُسُ بنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ أَبِي مُوْسَى الأَشْعَرِيِّ، عن أبيه، قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه محمد صلى الله عليه وسلم وأشياخ من قريش؛ فلما أشرفوا على الراهب نزلوا فخرج إليهم، وكان قبل ذلك لا يخرج إليهم، فجعل يتخللهم وهم يحلون رحالهم؛ حتى جاء فأخذ بيده صلى الله عليه وسلم فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال أشياخ قريش: وما علمك بهذا؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني لأعرفه بخاتم النبوة، أسفل "عرصوف"1 كتفه مثل التفاحة. ثم رجع فصنع لهم طعاما؛ فلما أتاهم به كان صلى الله عليه وسلم في رعية الإبل، قال: فأرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه -يعني إلى فيء شجرة- فلما جلس مال فيء الشجرة عليه, فقال: انظروا فيء الشجرة مال عليه, قال: فبينا هو قائم عليه يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم لو رأوه عرفوه بصفته فقتلوه؛ فالتفت فإذا بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم الراهب، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا قد بعث إليه ناس، وإنا أخبرنا فبعثنا إلى طريقك هذا؛ قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. قال: فتابعوه وأقاموا معه، قال: فأتاهم فقال: أنشدكم بالله أيكم وليه؟ قال أبو طالب: أنا؛ فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالا، وزوده الراهب من الكعك والزيت.
تفرد به قراد، واسمه عبد الرحمن بن غزوان، ثقة، احتج به البخاري والنسائي؛ ورواه الناس عن قراد، وحسنه الترمذي. وهو حديث منكر جدا؛ وأين كان أبو بكر؟ كان ابن عشر سنين، فإنه أصغر مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنتين ونصف؛ وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث، ولم يكن ولد بعد؛ وأيضا، فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن يميل فيء الشجرة؟ لأن ظل الغمامة يعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها، ولم نر النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أبا طالب قط بقول الراهب، ولا تذاكرته قريش، ولا حكته أولئك الأشياخ، مع
__________
1 في الأصل: "غرضوف" بالغين والضاد المعجمتين، وهو تصحيف، والصواب: بالعين والصاد المهملتين. والعرصوف والعرصاف: العقب المستطيل، وأكثر ما يعنى به عقب المتنين والجنبين. والمراد: أسفل العظم المستطيل الذي يشد رأسا الكتفين.(1/168)
توفر هممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك، فلو وقع لاشتهر بينهم أيما اشتهار، ولبقي عنده صلى الله عليه وسلم حس من النبوة؛ ولما أنكر مجيء الوحي إليه، أولا بغار حراء وأتى خديجة خائفا على عقله، ولما ذهب إلى شواهق الجبال ليرمي نفسه صلى الله عليه وسلم. وأيضا فلو أثر هذا الخوف في أبي طالب ورده، كيف كنت تطيب نفسه أن يمكنه من السفر إلى الشام تاجرا لخديجة؟
وفي الحديث ألفاظ منكرة، تشبه ألفاظ الطرقية، مع أن ابن عائذ روى معناه في مغازيه دون قوله: "وبعث معه أبو بكر بلالا" إلى آخره، فقال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني أبو داود سليمان بن موسى، فذكره بمعناه.
وقال ابن إسحاق في "السيرة": إن أبا طالب خرج إلى الشام تاجرا في ركب، ومعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، فلما نزلوا بصرى، وبها بحيرا الراهب في صومعته، وكان أعلم أهل النصرانية؛ ولم يزل في تلك الصومعة قط راهب يصير إليه علمهم عن كتاب فيهم فيما يزعمون، يتوارثونه كابرا؛ عن كابر قال: فنزلوا قريبا من الصومعة، فصنع بحيرا طعاما، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين القوم، فنزل بظل شجرة، فنزل بحيرا من صومعته، وقد أمر بذلك الطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فجاءوه فقال رجل منهم: يا بحيرا ما كنت تصنع هذا، فما شأنك؟ قال: نعم، ولكنكم ضيف، وأحببت أن أكرمكم، فاجتمعوا، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لصغره في رحالهم. فلما نظر بحيرا فيهم ولم يره، قال: يا معشر قريش لا يتخلف أحد عن طعامي هذا. قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا. قال: فلا تفعلوا، ادعوه. فقال رجل: واللات والعزى إن هذا للؤم بنا، يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا، ثم قام واحتضنه، وأقبل به فلما رآه بحيرا جعل يلحظه شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا شبعوا وتفرقوا قام بحيرا، فقال: يا غلام أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، فزعموا أنه قال: لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا قط. فقال له: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فجعل يسأله عن أشياء من حاله، فتوافق ما عنده من الصفة. ثم نظر فيه أثر خاتم النبوة، فأقبل على أبي طالب، فقال: ما هو منك؟ قال: ابني. قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حيا. قال: فإنه ابن أخي. قال: ارجع به واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفته ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك شأن. فخرج به أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته. وذكر الحديث.
وقال معتمر بن سليمان: حدثني أبي، عن أبي مجلز: أن أبا طالب سافر إلى الشام ومعه(1/169)
محمد، فنزل منزلا، فأتاه راهب، فقال: فيكم رجل صالح، ثم قال: أين أبو هذا الغلام؟ قال أبو طالب: ها أنذا وليه. قال: احتفظ به ولا تذهب به إلى الشام، إن اليهود قوم حسد، وإني أخشاهم عليه. فرده.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ، قال: حدثني عبد الله بن جعفر وجماعة، عن داود بن الحصين، أن أبا طالب خرج تاجرا إلى الشام، ومعه محمد، فنزلوا ببحيرا ... الحديث.
وروى يونس عن ابن شهاب حديثا طويلا فيه: فلما ناهز الاحتلام، ارتحل به أبو طالب تاجرا، فنزل تيماء فرآه حبر من يهود تيماء، فقال لأبي طالب: ما هذا الغلام؟ قال: هو ابن أخي، قال: فوالله إن قدمت به الشام لا تصل به إلى أهلك أبدا، لتقتلنه اليهود إنه عدوهم.
فرجع به أبو طالب من تيماء إلى مكة.
قال ابن إسحاق: كأن رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِيمَا ذكر لي- يحدث عما كان الله تعالى يحفظه به في صغره، قال: "لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب الغلمان به، كلنا قد تعرى وجعل إزاره على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراها، لكمة وجيعة، وقال: شد عليك إزارك، فأخذته فشددته، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي".
قال ابن إسحاق: وهاجت حرب الفجار ولرسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون سنة، سميت بذلك لما استحلت كنانة وقيس عيلان في الحرب من المحارم بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت أنبل على أعمامي". أي أرد عنهم نبل عدوهم إذا رموهم. وكان قائد قريش حرب بن أمية.(1/170)
شأن خديجة:
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خُوَيْلِدِ بنِ أَسَدِ بنِ عَبْدِ العُزَّى بنِ قصي وهي أقرب منه صلى الله عليه وسلم إلى قصي برجل، كانت، امرأة تاجرة ذات شرف ومال، وكانت تستأجر الرجال في مالها، وكانت قريش تجارا، فَعَرَضَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يخرج في مال لها إلى الشام، ومعه غلام اسمه ميسرة، فخرج إلى الشام، فنزل تحت شجرة بقرب صومعة، فأطل الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا؟ فقال: رجل من قريش، قال: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي. ثم باع النبي صلى الله عليه وسلم تجارته وتعوض ورجع، فكان ميسرة -فيما يزعمون- إذا اشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير.
روى قصة خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الشام تاجرا، المحاملي، عن عبد الله بن شبيب وهو واه، قال: حدثنا أبو بكر بن شيبة، قال: حدثني عمر بن أبي بكر العدوي، قال: حدثني بن شيبة، قال: حدثتني عميرة بنت عَبْدِ اللهِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ، عَنْ أم سعد بنت سعد بن الربيع، عن نفيسة بنت منية أخت يعلى، قالت: لَمَّا بَلَغَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خمسا وعشرين سنة. فذكر الحديث بطوله، وهو حديث منكر. قال: فلما قدم مكة باعت خديجة ما جاء به فأضعف أو قريبا. وحدثها ميسرة عن قول الراهب، وعن الملكين، وكانت لبيبة حازمة، فبعثت إليه تقول: يابن عمي، إني قد رغبت فيك لقرابتك وأمانتك وصدق وحسن خلقك، ثم عرضت عليه نفسها، فقال ذلك لأعمامه، فجاء معه حمزة عمه حتى دخل على خويلد فخطبها منه، وأصدقها النبي صلى الله عليه وسلم عشرين بكرة، فلم يتزوج عليها حتى ماتت، وتزوجها وعمره خمس وعشرون سنة.
وقال أحمد في "مسنده": حدثنا أبو كامل، قال: حدثنا حماد، عَنْ عَمَّارِ بنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عباس -فيما يحسب حماد: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر خديجة، وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه، فصنعت هي طعاما وشرابا، فدعت أبها وزمرا من قريش، فطعموا وشربوا حتى ثملوا، فقالت لأبيها: إن محمدا يخطبني فزوجني إياه، فزوجها إياه، فخلقته وألبسته حلة كعادتهم، فلما صحا نظر، فإذا هو مخلق، فقال: ما شأني؟ فقالت: زوجتني محمدا. فقال: وأنا أزوج يتيم أبي طالب! لا لعمري، فقالت: أما تستحيي؟ تريد أن تسفه نفسك عند قريش بأنك كنت سكران، فلم تزل به حتى رضي1.
__________
1 ضعيف: أخرجه أحمد "1/ 312". شك أحمد بن حنبل في وصله فقد قال الرواة عنه: "فيما يحسب حماد" ولم يجزم, وقد دلسه حماد. =(1/171)
وقد روى طرفا منه الأعمش، عن أبي خالد الوالبي، عن جابر بن سمرة أو غيره.
وأولاده كلهم من خديجة سوى إبراهيم، وهم: القاسم، والطيب, والطاهر، وماتوا صغارا رضعا قبل المبعث، ورقية، وزينب، وأم كلثوم, وفاطمة -رضي الله عنهم- فرقية، وأم كلثوم زوجتا عثمان بن عفان، وزينب زوجة أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، وفاطمة زوجة علي، رضي الله عنهم أجمعين.
بنيان الكعبة:
قال ابن إسحاق: فلما بلغ صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها, وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة فتحطمت، فأخذوا خشبها وأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة نجار قبطي، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها, وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم، فتشرف على جدار الكعبة، فكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت1 وكشت2 وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينا هي يوما تشرف على جدار الكعبة بعث الله إليها طائرا فاختطفها، فذهب بها,
__________
= وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 73" من طريق مسلم بن إبراهيم، قال حدثنا حماد بن سلمة, عن علي بن زيد، عَنْ عَمَّارِ بنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عباس أن أبا خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهو -أظنه قال- سكران، فالحديث مداره على علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
وأخرجه الطبراني "12838" من طريق سليمان بن جرير، عن حماد بن سلمة، به.
وأخرج ابن سعد في "الطبقات" "1/ 132" قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ، عن محمد بن عبد الله بن سلم، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم، وعن ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ وعن ابْنُ أَبِي حَبِيْبَةَ عَنْ دَاوُدَ بنِ الحُصَيْنِ، عن عكرمة، عن ابن عباس قالوا: إن عمها عمرو بن أسد زوجها رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ أَبَاهَا مَاتَ قبل الفجار.
والصواب أن أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجار، وأن عمها عمرو بن أسد زوجها رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا ما قاله الزبير بن بكار وغيره. وذكره السهيلي في "الروض الأنف" "1/ 213". وقاله ابن الأثير في "أسد الغابة" "7/ 81", وقاله أيضا المبرد، وغيره. وقوله: "خلقته": أي طيبته.
1 احزألت: أي رفعت ذنبها.
2 كشت: كشت الأفعى تكش كشا وكشيشا: وهو صوت جلدها إذا حكت بعضها ببعض وقيل الكشيش للأنثى من الأساود. وقيل: الكشيش للأفعى.
وقيل: الكشيش صوت تخرجه الأفعى من فيها؛ عن كراع، وقيل: كشيش الأفعى صوتها من جلدها لا من فمها فإن ذلك فحيحها.(1/172)
قال: فاستبشروا بذلك، ثم هابوا هدمها. فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم لا نريد إلا خيرا. ثم هدم من ناحية الركنين، وهدموا حتى بلغوا أساس إبراهيم -عليه السلام- فإذا حجارة خضر آخذ بعضها ببعض. ثم بنوا، فلما بلغ البنيان موضع الركن، يعني الحجر الأسود، اختصموا فيمن يضعه، وحرصت كل قبيلة على ذلك حتى تحاربوا ومكثوا أربع ليال. ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتناصفوا فزعموا أن أبا أمية بن المغيرة, وكان أسن قريش، قال: اجعلوا بينكم فيما تختلفون أول من يدخل من باب المسجد، ففعلوا، فكان أول من دخل عليهم رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا به، فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر فقال: "هاتوا لي ثوبا". فأتوا به، فأخذ الركن بيده فوضعه في الثوب، ثم قال: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا". ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو صلى الله عليه وسلم بيده وبنى عليه.
وقال ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة فاحترقت، فهدموها حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن: أي القبائل تضعه؟ قالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا. فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة، حكموه، فأمر بالركن فوضع في ثوب, ثم أخذ سيد كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه، ثم طفق لا يزداد على السن إلا رضا حتى دعوه الأمين، قبل أن ينزل عليه وحي، وطفقوا لا ينحرون جزورا إلا التمسوه فيدعو لهم فيها.
ويروى عن عروة ومجاهد وغيرهما: أن البيت بني قبل المبعث بخمس عشرة سنة.
وقال داود بن عبد الرحمن العطار: حدثنا ابن خثيم، عن أبي الطفيل، قال: قلت له: يا خال، حدثني عن شأن الكعبة قبل أن تبنيها قريش. قال: كان برضم يابس ليس بمدر تنزوه العناق، وتوضع الكسوة على الجدر ثم تدلى، ثم إن سفينة للروم أقبلت، حتى إذا كانت بالشعيبة انكسرت، فسمعت بها قريش فركبوا إليها وأخذوا خشبها، ورومي يقال له: بلقوم نجار بان، فلما قدموا مكة، قالوا: لو بنينا بيت ربنا -عز وجل- فاجتمعوا لذلك ونقلوا الحجارة من أجياد الضواحي، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل إذ انكشفت نمرته فنودي: يا محمد عورتك، فذلك أول ما نودي، والله أعلم. فما رؤيت له عورة بعد.
وقال أبو الأحوص، عن سماك بن حرب: إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم بنى البيت -وذكر الحديث- إلى أن قال: فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته جرهم، فمر عليه الدهر فانهدم فبنته قريش. وذكر في الحديث وضع النبي صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود مكانه.(1/173)
وقال يونس، عن ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ, قَالَتْ: ما زلنا نسمع أن إسافا ونائلة -رجل وامرأة من جرهم- زنيا في الكعبة فمسخا حجرين.
وقال موسى بن عقبة: إنما حمل قريشا على بناء الكعبة أن السيل كان يأتي من فوقها من فوق الردم الذي صنعوه فأخربه، فخافوا أن يدخلها الماء، وكان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة، فأرادوا أن يشيدوا بناءها وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاءوا، فأعدوا لذلك نفقة وعمالا.
وقال زكريا بن إسحاق: حدثنا عمرو بن دينار أنه سمع جابرا يقول: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينقل الحجارة للكعبة مع قريش وعليه إزار، فقال له عمه العباس: يابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكب دون الحجارة، ففعل ذلك، فسقط مغشيا عليه، فما رؤي بعد ذلك اليوم عريانا. متفق عليه1. وأخرجاه أيضا من حديث ابن جريج.
وقال معمر، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُثْمَانَ بنِ خُثَيْمٍ، عن أبي الطفيل، قال: لما بنى البيت كان الناس ينقلون الحجارة والنبي صلى الله عليه وسلم معهم، فأخذ الثوب فوضعه على عاتقه فنودي: "لا تكشف عورتك" فألقى الحجر ولبس ثوبه. رواه أحمد في "مسنده"2.
وقال عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي: حَدَّثَنَا عَمْرُو بنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عن أبيه، قال: كنت أنا وابن أخي ننقل الحجارة على رقابنا وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس اتزرنا فبينا هو أمامي خر على وجهه منبطحا، فجئت أسعى وألقيت حجري، وهو ينظر إلى السماء، فقلت: ما شأنك؟ فقام وأخذ إزاره وقال: "نهيت أن أمشي عريانا". فكنت أكتمها الناس مخافة أن يقولوا مجنون. رواه قيس بن الربيع بنحوه، عن سماك.
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ بنِ أَبِي هند، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا تشاجروا في الحجر أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فكان أول من دخل النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد جاء الأمين.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "1582"، ومسلم "340" "77".
2 حسن: أخرجه أحمد "5/ 455" حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، به.
قلت: إسناده حسن، فيه عبد الله بن عثمان بن خثيم، صدوق كما قال الحافظ في "التقريب".(1/174)
مسلم الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، قال: جلس رجال من قريش فتذاكروا بنيان الكعبة، فقالوا: كانت مبنية برضم يابس، وكان بابها بالأرض، ولم يكن لها سقف، وإنما تدلى الكسوة على الجدر، وتربط من أعلى الجدر من بطنها، وكان في بطن الكعبة عن يمين الداخل جب يكون فيه ما يهدي للكعبة منذ زمن جرهم، وذلك أنه عدا على ذلك الجب قوم من جرهم فسرقوا ما به، فبعث الله تلك الحية فحرست الكعبة، وما فيها خمسمائة سنة إلى أن بنتها قريش، وكان قرنا الكبش معلقين في بطنها مع معاليق من حلية. إلى أن قال: حتى يطيق الحجر منها ثلاثون رجلا يحرك الحجر منها، فترتج جوانبها، قد تشبك بعضها ببعض، فأدخل الوليد بن المغيرة عتلة بين إصبعين حجرين فانفلقت منه فلقة، فأخذها رجل فنزت من يده حتى عادت في مكانها، وطارت من تحتها برقة كادت أن تخطف أبصارهم، ورجفت مكة بأسرها، فأمسكوا. إلى أن قال: وقلت النفقة عن عمارة البيت، فأجمعوا على أن يقصروا عن القواعد ويحجروا ما يقدرون ويتركوا بقيته في الحجر، ففعلوا ذلك وتركوا ستة أذرع وشبرا، ورفعوا بابها وكسوها بالحجارة حتى لا يدخلها السيل ولا يدخلها إلا من أرادوا، وبنوها بساف من حجارة وساف من خشب، حتى انتهوا إلى موضع الركن فتنافسوا في وضعه. إلى أن قال: فرفعوها بمدماك حجارة ومدماك خشب، حتى بلغوا السقف، فقال لهم باقوم النجار الرومي: أتحبون أن تجعلوا سقفها مكنسا أو مسطحا؟ قالوا: بل مسطحا. وجعلوا فيه ست دعائم في صفين, وجعلوا ارتفاعها من ظاهرها ثمانية عشر ذراعا وقد كانت قبل تسعة أذرع، وجعلوا درجة من خشب في بطنها يصعد منها إلى ظهرها، وزوقوا سقفها وحيطانها من بطنها ودعائمها، وصوروا فيها الأنبياء والملائكة والشجر، وصوروا إبراهيم يستقسم بالأزلام، وصوروا عيسى وأمه، وكانوا أخرجوا ما في جب الكعبة من حلية ومال وقرني الكبش، وجعلوه عند أبي طلحة العبدري، وأخرجوا منها هبل، فنصب عند المقام حتى فرغوا فأعادوا جميع ذلك ثم ستروها بحبرات يمانية.
وفي الحديث عن أبي نجيح، عن أبيه، عن حويطب بن عبد العزى وغيره: فلما كان يوم الفتح دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى البيت, فأمر بثوب فبل بماء وأمر بطمس تلك الصور، ووضع كفيه على صورة عيسى وأمه وقال: "امحوا الجميع إلا ما تحت يدي". رواه الأزرقي.
ابن جريج, قال: سأل سليمان بن موسى الشامي عطاء بن أبي رباح، وأنا أسمع: أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى؟ قال: نعم أدركت تمثال مريم مزوقا في حجرها عيسى قاعد، وكان في البيت ستة أعمدة سواري، وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الذي يلي(1/175)
الباب: فقلت لعطاء: متى هلك؟ قال: في الحريق زمن ابن الزبير، قلت: أعلى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعني كان؟ قال: لا أدري، وإني لأظنه قد كان على عهده.
قال داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج: ثم عاودت عطاء بعد حين فقال: تمثال عيسى وأمه في الوسطى من السواري.
قال الأزرقي: حدثنا داود العطار، عن عمرو بن دينار، قال: أدركت في الكعبة قبل أن تهدم تمثال عيسى وأمه، قال داود: فأخبرني بعض الحجبة عن مسافع بن شيبة: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يا شيبة امح كل صورة إلا ما تحت يدي". قال: فرفع يده عن عيسى ابن مريم وأمه.
قال الأزرقي، عن سعيد بن سالم: حدثني يزيد بن عياض بن جعدبة، عن ابن شهاب: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الكعبة وفيها صورة الملائكة، فرأى صورة إبراهيم فقال: "قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام". ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها فقال: "امحو ما فيها إلا صورة مريم". ثم ساقه الأزرقي بإسناد آخر بنحوه، وهو مرسل، لكن قول عطاء وعمرو ثابت، وهذا أمر لم نسمع به إلى اليوم.
أخبرنا سليمان بن حمزة، قال: أخبرنا محمد بن عبد الواحد، قال: أخبرنا محمد بن أحمد، أن فاطمة بنت عبد الله أخبرتهم، قالت: أخبرنا ابن بريدة، قال: أخبرنا الطبراني، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن خثيم، عن أبي الطفيل، قال: كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم، ليس فيها مدر، وكانت قدر ما نقتحمها، وكانت غير مسقوفة، إنما توضع ثيابها عليها، ثم تسدل عليها سدلا، وكان الركن الأسود موضوعا على سورها باديا، وكانت ذات ركنين كهيئة الحلقة، فأقبلت سفينة من أرض الروم فانكسرت بقرب جدة، فخرجت قريش ليأخذوا خشبها، فوجدوا رجلا روميا عندها، فأخذوا الخشب، وكانت السفينة تريد الحبشة، وكان الرومي الذي في السفينة نجارا، فقدموا به وبالخشب، فقالت قريش: نبني بهذا الذي في السفينة بيت ربنا، لما أرادوا هدمه إذا هم بحية على سور البيت، مثل قطعة الجائز سوداء الظهر، بيضاء البطن، فجعلت كلما دنا أحد إلى البيت ليهدم أو يأخذ من حجارته، سعت إليه فاتحة فاها، فاجتمعت قريش عند المقام فعجوا إلى الله وقالوا: ربنا لم ترع، أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإن كنت ترضى بذلك، وإلا فما بدا لك فافعل. فسمعوا خوارا في السماء، فإذا هم بطائر أسود الظهر، أبيض البطن، والرجلين، أعظم من النسر، فغرز مخلابه في رأس الحية، حتى انطلق بها يجرها، ذنبها أعظم من كذا وكذا ساقطا، فانطلق بها نحو أجياد، فهدمتها قريش، وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي، تحملها قريش على رقابها، فرفعوا في السماء عشرين ذراعا، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل(1/176)
حجارة من أجياد، وعليه نمرة، فضاقت عليه النمرة، فذهب يضعها على عاتقه، فبرزت عورته من صغر النمرة، فنودي: يا محمد، خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد ذلك. وكان بين بنيان الكعبة، وبين ما أنزل عليه خمس سنين. هذا حديث صحيح.
وقد روى نحوه داود العطار، عن ابن خثيم.
ورواه محمد بن كثير المصيصي، عن عبد الله بن واقد، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُثْمَانَ بنِ خُثَيْمٍ، عن نافع بن سرجس، قال: سألت أبا الطفيل، فذكر نحوه.
وقال عبد الصمد بن النعمان: حدثنا ثابت بن يزيد، قال: حدثنا هلال بن خباب، عن مجاهد، عن مولاه، أنه حدثه أنه كان فيمن يبني الكعبة في الجاهلية، قال: ولى حجر أنا نحته بيدي أعبده من دون الله، فأجيء باللبن الخاثر الذي أنفسه على نفسي فأصبه عليه، فيجيء الكلب فيلحسه، ثم يشغر فيبول، فبنينا حتى بلغنا الحجر، وما يرى الحجر منا أحد، فإذا هو وسط حجارتنا، مثل رأس الرجل، يكاد يتراءى منه وجه الرجل، فقال بطن من قريش: نحن نضعه، وقال آخرون: بل نحن نضعه. فقالوا: اجعلوا بينكم حكما. قالوا: أول رجل يطلع من الفج، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتاكم الأمين، فقالوا له، فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم، فأخذوا بنواحيه معه، فوضعه هو. اسم مولى مجاهد: السائب بن عبد الله.
وقال إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن جاهد عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، قَالَ: كَانَ البيت قبل الأرض بألفي سنة {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق: 3] ، قال: من تحته مدا. وروى نحوه عن منصور، عن مجاهد.
ما عصمه الله به من أمر الجاهلية:
ومما عصم الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من أمر الجاهلية أن قريشا كانوا يسمون الحمس، يعني الأشداء الأقوياء، وكانوا يقفون في الحرم بمزدلفة، ولا يقفون مع الناس بعرفة، يفعلون رياسة وبأوا1، وخالفوا بذلك شعائر إبراهيم عليه السلام في جملة ما خالفوا. فروى البخاري ومسلم من حديث جبير بن مطعم، قال: أضللت بعيرا لي يوم عرفة، فخرجت أطلبه بعرفة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفا مع الناس بعرفة، فقلت: هذا من الحمس، فما شاء ههنا؟ 2.
__________
1 بأوا: كبرا
2 صحيح: أخرجه البخاري "1664"، ومسلم "1220" من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو، حدثنا محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، به.(1/177)
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن الحنفية، عن أبيه، عن جده، سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: "ما هممت بقبيح مما يهم به أهل الجاهلية إلا مرتين، عصمني الله، قلت ليلة لفتى من قريش: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما تسمر الفتيان. قال: نعم، فخرجت حتى جئت أدنى دار من دور مكة، فسمعت غناء وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج، فلهوت بذلك حتى غلبتني عيني، فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، ثم فعلت ليلة أخرى مثل ذلك فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمله أهل الجاهلية، حتى أكرمني الله بنبوته"1.
وروى مسعر، عن العباس بن ذريح، عن زياد النخعي، قال: حدثنا عمار بن ياسر أنهم سألوا رسول الله صلى لله عليه وسلم: هل أتيت في الجاهلية شيئا حراما؟ قال: "لا، وقد كنت معه على ميعادين، أما أحدهما فحال بيني وبينه سامر قومي، والآخر غلتني عيني"2 أو كما قال.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ، قال: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ حسين
__________
1 منكر: أخرجه الحاكم "4/ 245"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 33-34" من طريق محمد بن إسحاق، به.
وقال الحاكم في إثره: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "التلخيص" وقال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" "2/ 292" ط. دار الحديث:
"وهذا حديث غريب جدا، وقد يكون عن علي نفسه، ويكون قوله في آخره: "حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته". مقحما والله أعلم". ا. هـ.
قلت: كذا قال الحافظ ابن كثير، ولعل قوله هو الصواب، فمتن الحديث تمجه العقول والأفهام التي ما فتئت تستروح بالنظر في دواوين السنة الصحيحة بله الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنكرة التي بينها العلماء فكل من له اطلاع لا جرم أنه يشمئز قلبه ويمج عقله ما ورد يه. ولقد أبعد الحاكم والذهبي النجعة بتصحيحهما هذا الحديث على شرط مسلم، وهذا من تساهلهما والله تعالى أعلى وأعلم.
2 منكر: فيه زياد بن عبد الله النخعي، قال الدارقطني: مجهول، تفرد عنه عباس بن ذريح. وأورده ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" "1/ ق2/ 536" ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. ومتن الحديث منكر يمجه كل من له اطلاع ونظر في دواوين السنة المشرفة. وكيف يكون ذلك وقد نزع الله منه حظ الشيطان في حادثة شق الصدر، والتي تكررت مرات عديدة ليكون قلبه مؤهلا لاستقبال الوحي الإلهي دون تشويش ووسوسة شيطانية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] .(1/178)
ابن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: حدثتني أم أيمن، قالت: كان بوانة صنما تحضره قريش، تعظمه وتنسك له النساك، ويحلقون رءوسهم عنده، ويعكفون عنده يوما في السنة، وكان أبو طالب يكلم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يحضر ذلك العيد، فيأبى، حتى رأيت أبا طالب غضب، ورأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن: إنا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله، ثم رجع إلينا مرعوبا، فقلن: ما دهاك؟ قال: "إني أخشى أن يكون بي لمم". فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان، وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيت؟ قال: "إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح: وراءك يا محمد لا تمسه". قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى نبئ1.
وقال أبو أسامة: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: كان صنم من نحاس يقال له: إساف أو نائلة يتمسح المشركون به إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت بِهِ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تمسه" قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي: لأمسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تنه؟ ". هذا حديث حسن. وقد زاد فيه بعضهم عن محمد بن عمرو بإسناده: قال زيد: فوالله ما استلم صنما حتى أكرمه الله بالذي أنزل عليه.
وقال جرير بن عبد الحميد، عن سفيان الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَقِيْلٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه، وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله، فقال: كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الأصنام قبيل؟ قال: فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم. تفرد به جرير، وما أتى به عنه سوى شيخ البخاري عثمان بن أبي شيبة. وهو منكر.
وقال إِبْرَاهِيْمُ بنُ طَهْمَانَ: أَخْبَرَنَا بُدَيْلُ بنُ مَيْسَرَةَ, عن عبد الكريم، عن عبد الله بن شقيق، عن أبيه، عن عبد الله بن أبي الحمساء، قال: بَايَعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيعا قبل أن يبعث، فبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك. قال: فنسيت يومي والغد, فأتيته
__________
1 ضعيف جدا: فيه ثلاث علل: الأولى: محمد بن عمر الواقدي، متروك. والثانية: أبو بكر بن أبي سبرة، متروك أيضا. والعلة الثالثة: الحُسَيْنِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عباس بن عبد المطلب، ضعيف كما قال الحافظ في "التقريب".(1/179)
في اليوم الثالث، فوجدته في مكانه، فقال: "يا فتى لقد شققت علي، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك" أخرجه أبو داود1.
وأخبرنا الخضر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: أخبرنا أبو محمد بن البن، قال: أخبرنا جدي، قال: أخبرنا أبو القاسم علي بن أبي العلاء، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي نصر، قال: أخبرنا علي بن أبي العقب، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم, قال: حدثنا محمد بن عائذ, قال: حدثني الوليد، قال: أخبرني معاوية بن سلام، عن جده أبي سلام الأسود، عمن حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بينا أنا بأعلى مكة، إذا براكب عليه سواد فقال: هل بهذه القرية رجل يقال له: أحمد؟ فقلت: ما بها أحمد ولا محمد غيري, فضرب ذراع راحلته فاستناخت، ثم أقبل حتى كشف عن كتفي حتى نظر إلى الخاتم الذي بين كتفي فقال: أنت نبي الله؟ قلت: ونبي أنا؟ قال: نعم. قلت: بم أبعث؟ قال: بضرب أعناق قومك، قال: فهل من زاد؟ فخرجت حتى أتيت خديجة فأخبرتها، فقالت: حريا أو خليقا أن لا يكون ذلك، فهي أكبر كلمة تكلمت بها في أمري، فأتيته بالزاد فأخذه وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى زودني نبي الله صلى الله عليه وسلم طعاما، وحمله لي في ثوبه"2.
__________
1 ضعيف: أخرجه أبو داود "4996" حدثنا محمد بن يحيى بن فارس النيسابوري، حدثنا محمد بن سنان، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن بديل، به.
قلت: إسناده ضعيف، آفته عبد الكريم وهو ابن عبد الله بن شقيق العقيلي، مجهول؛ لذا قال الحافظ في "التقريب": أي عند المتابعة وليس ثمة من تابعه.
ووقع في الإسناد وهم؛ وهو إيراد شقيق العقيلي في إسناد الحديث. والصواب "عَبْدِ اللهِ بنِ شَقِيْقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن أبي الحمساء" لذا قال الحافظ في "التقريب": "شقيق العقيلي، جاء في رواية موهومة". فالصواب ذكر الإسناد بدون إيراد شقيق والد عبد الله والله تعالى أعلم.
2 في إسناده مجاهيل.(1/180)
ذكر زيد بن عمرو بن نفيل، رحمه الله:
قال موسى بن عقبة: أخبرني سالم أنه سمع أباه يُحَدِّثُ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل أسفل بلدح، وذلك قبل الوحي، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سُفْرَةً فِيْهَا لَحْمٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ وَقَالَ: لا آكل مما يذبحون على أنصابهم، أَنَا لاَ آكُلُ إِلاَّ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ الله عليه. رواه البخاري؛ وزاد في آخره: فكان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل من السماء الماء، وَأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ تَذْبَحُوْنَهَا عَلَى غير اسم الله؟ إنكارا لذلك وإعظاما له. ثم قال البخاري: قال موسى: حدثني سالم بن عبد الله، ولا أعلم إلا يحدث به عن ابن عمر: أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم، قال: إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيعه، فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد فلقي عالما من النصارى، فذكر له مثله فقال: لن تكون على ديننا، حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ما أفر إلا من لعنة الله، فقال له كما قال اليهودي، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم. وهكذا أخرجه البخاري.
وقال عَبْدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَيَحْيَى بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يوما حارا وَهُوَ مُرْدِفِي إِلَى نُصُبٍ مِنَ الأَنْصَابِ، وَقَدْ ذَبَحْنَا لَهُ شَاةً فَأَنْضَجْنَاهَا، فَلَقِيَنَا زَيْدُ بنُ عمرو بن نفيل، فحيا كل واحد منهما صاحبه بتحية الجاهلية، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا زَيْدُ مَا لِي أَرَى قَوْمَكَ قَدْ شَنِفُوا لَكَ؟ قَالَ: وَاللهِ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ ذلك لبغير نائلة ترة لِي فِيْهِم, وَلَكِنِّي خَرَجْتُ أَبْتَغِي هَذَا الدِّيْنَ حتى أقدم عَلَى أَحْبَارِ فَدَكٍ فَوَجَدْتُهُم يَعْبُدُوْنَ اللهَ وَيُشْرِكُوْنَ به فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فقدمت الشام فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فخرجت فقال لي شيخ منهم: إنك تسأل عَنْ دِيْنٍ مَا نَعْلَمُ أَحَداً يَعْبُدُ اللهَ به إلا شيخ بالجزيرة، فأتيته، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أهل بيت الله، قال: من أهل الشوك والقرظ؟ إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ قَدْ ظَهَرَ بِبِلاَدِكَ، قَدْ بعث نبي قد طَلَعَ نَجْمُهُ، وَجَمِيْعُ مَنْ رَأَيْتَهُم فِي ضَلاَلٍ. قَالَ: فَلَمْ أُحِسَّ بِشَيْءٍ، قَالَ: فَقَرَّبَ إِلَيْهِ السُّفْرَةَ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: شاة ذبحت للنصب قال: ما كنت لآكل مما لم يذكر اسم الله عليه قال: فتفرقا. وذكر باقي الحديث.(1/181)
وقال الليث، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ زَيْدَ بنَ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ قَائِماً مُسْنِداً ظَهْرَهُ إِلَى الكَعْبَةِ يَقُوْلُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ والله ما منكم أَحَدٌ عَلَى دِيْنِ إِبْرَاهِيْمَ غَيْرِيْ. وَكَانَ يُحْيِي الموءودة، يَقُوْلُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: "مه! لا تقتلها أنا أكفيك مئونتها". فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لأَبِيْهَا: "إِنْ شِئْتَ دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مئونتها". هذا حديث صحيح.
وقال مُحَمَّدُ بنُ عَمْرِوٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أسامة بن زيد، عن أبيه، أن زيد بن عمرو بن نفيل مات، ثم أنزل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده". إسناده حسن.
أنبئت عن أبي الفخر أسعد، قال: أخبرتنا فاطمة، قالت: أخبرنا ابن ريذة، قال: أخبرنا الطبراني، قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز، قال: أخبرنا عبد الله بن رجاء، قال: أخبرنا المَسْعُوْدِيِّ، عَنْ نُفَيْلِ بنِ هِشَامِ بنِ سَعِيْدِ بنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خرج أبي وورقة بن نوفل يطلبان الدين حتى مرا بالشام، فأما ورقة فتنصر، وأما زيد فقيل له: إن الذي تطلب أمامك، فانطلق حتى الموصل، فإذا هو براهب، فقال: من أين أقبل صاحب الراحلة، قال: من بيت إبراهيم، قال: ما تطلب؟ قال: الدين، فعرض عليه النصرانية، فأبى أن يقبل وهو يقول: لبيك حقا، تعبدا ورقا، البر أبغي لا الخال، وما مهجر كمن قال:
عذت بما عاذ به إبراهيم ... مستقبل القبلة وهو قائم
أنفي لك اللهم عان راغم ... مهما تجشمني فإني جاشم
ثم يخر فيسجد للكعبة. قال: فمر زيد بالنبي صلى الله عليه وسلم وبزيد بن حارثة، وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعياه فقال: يابن أخي لاَ آكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، قَالَ: فما رؤي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل مما ذبح على النصب من يومه ذاك حتى بعث.
قال: وجاء سعيد بن زيد إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رسول الله إن زيدا كان كما رأيت، أو كما بلغك، فاستغفر له؟ قال: "نعم، فاستغفروا له، فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده".
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: كانت قريش حين بنوا الكعبة يتوافدون على كسوتها كل عام تعظيما لحقها، وكانوا يطوفون بها، ويستغفرون الله عندها، ويذكرونه مع تعظيم الأوان والشرك في ذبائحهم ودينهم كله.(1/182)
وقد كَانَ نَفَرَ مِنْ قُرَيْشٍ: زَيْدُ بنُ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ، وَوَرَقَةُ بنُ نَوْفَلٍ، وَعُثْمَانُ بنُ الحويرث بن أسد، وهو ابن عم ورقة، وعبيد الله بن جحش بن رئاب، وأمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم حَضَرُوا قُرَيْشاً عِنْدَ وَثَنٍ لَهُم كَانُوا يَذْبَحُوْنَ عِنْدَهُ لِعِيْدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا خَلاَ بعض أولئك النفر إلى بعض وقالوا: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: تَعْلَمُنَّ وَاللهِ مَا قَوْمُكُمْ عَلَى شيء, لقد أخطئوا دين إبراهيم وخالفوه، وما وثن يعبد لا يضر ولا ينفع، فابغوا لأنفسكم، فَخَرَجُوا يَطْلُبُوْنَ وَيَسِيْرُوْنَ فِي الأَرْضِ يَلْتَمِسُوْنَ أَهْلَ الكتاب من اليهود والنصارى والملل كلها، يتبعون الحنفية دين إبراهيم، فأما ورقة فتنصر، ولم يكن منهم أعدل شأنا من زيد بن عمرو، اعتزل الأوثان وفارق الأديان إلا دين إبراهيم.
وقال الباغندي: حدثنا أبو سعيد الأشج, قال: حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ, قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَخَلْتُ الجَنَّةَ فَرَأَيْتُ لِزَيْدِ بنِ عمرو بن نفيل دوحتين".
وقال البكائي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي هِشَامٌ، عَنْ أَبِيْهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ زَيْدَ بنَ عَمْرِو بنِ نفيل شَيْخاً كَبِيْراً مُسنِداً ظَهْرَهُ إِلَى الكَعْبَةِ، وَهُوَ يقول: يا معشر قريش، والذي نفسي بيده! ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ثم يسجد على راحلته".
قال ابن إسحاق: فقال زيد في فراق دين قومه:
أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الجلد الصبور
في أبيات.
قال ابن إسحاق: وكان الخطاب بن نفيل عمه وأخوه لأمه يعاتبه ويؤذيه حتى أخرجه إلى أعلى مكة، فنزل حراء مقابل مكة، فإذا دخل مكة سرا آذوه وأخرجوه، كراهية أن يفسد عليهم دينهم، وأن يتابعه أحد. ثم خرج يطلب دين إبراهيم، فجال الشام والجزيرة، إلى أن قال ابن إسحاق: فرد إلى مكة حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه.(1/183)
باب:
أخبرتنا ست الأهل بنت علوان، قالت: أخبرنا البهاء عبد الرحمن، قال: أخبرنا منوجهر بن محمد، قال: أخبرنا هبة الله بن أحمد، قال: حدثنا الحسين بن علي بن بطحا، قال: أخبرنا محمد بن الحسين الحراني، قال: أخبرنا محمد بن سعيد الرسعني، قال: أخبرنا المعافى بن سليمان, قال: حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ هِلاَلِ بن عَلِيٍّ، عَنْ عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص, فقلت: أخبرني عن صفَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التوراة فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] ، وحرزا للاميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب بالاسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله الا الله، فيفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا. قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار فسألته، فما اختلفا في حرف، إلا أن كعبا يقول بلغته: أعينا عمومى وآذانا صمومى وقلوبا غلوفى. أخرجه البخاري عن العوقي، عن فليح.
وقد رواه سعيد بن أبي هلال، عن هلال بن أسامة، عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن سلام، فذكره نحوه. ثم قال عطاء: وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعب الأحبار يقول مثل ما قال ابن سلام.
قلت: وهذا أصح فإن عطاء لم يدرك كعبا.
وروى نحوه أبو غسان مُحَمَّدُ بنُ مُطَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ, أن عبد الله بن سلام قال: صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة، وذكر الحديث.
وروى عطاء بن السائب، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ، عَنْ أبيه، قال: إن الله ابتعث نبيه لإدخال رجل الجنة، فدخل الكنيسة، فإذا هو بيهود، وإذا بيهودي يقرأ التوراة، فلما أتوا على صفة النبي صلى الله عليه وسلم أمسكوا، وفي ناحية الكنيسة رجل مريض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما لكم أمسكتم؟ " قال المريض: أتوا على صفة نبي فأمسكوا، ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة فقرأ حتى أتى على صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، فقال هذه صفتك وأمتك أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ(1/184)
إلا الله، وأنك رَسُوْلَ اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لوا أخاكم". أخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده"1.
أخبرنا جماعة عن ابن اللتي أن أبا الوقت أخبره، قال: أخبرنا الداوودي، قال: أخبرنا ابن حمويه، قال: أخبرنا عيسى السمرقندي، قال: أخبرنا الدارمي، قال: أخبرنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا معن بن عيسى، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي فروة، عن ابن عباس أنه سأل كعبا: كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: نجده محمد بن عبد الله، يولد بمكة، ويهاجر إلا طابة، ويكون ملكه بالشام، وليس بفحاش ولا سخاب في الأسواق، ولا يكافئ بالسيئة السيئة, ولكن يعفو ويغفر، أمته الحمادون، يحمدون الله في كل سراء، ويكبرون الله على كل نجد، يوضئون أطرافهم، ويأتزرون في أوساطهم، يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم، دويهم في مساجدهم كدوي النحل، يسمع مناديهم في جو السماء. قلت: يعني الأذان.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي محمد بن ثابت بن شرحبيل، عن أم الدرداء، قالت: قلت لكعب الحبر: كيف تجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة. فذكر نحو حديث عطاء.
__________
1 ضعيف: أخرجه أحمد "1/ 416"، والطبراني في "الكبير" "10295"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "6/ 272-273" من طريق حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بنِ السَّائِبِ، به.
قلت: إسناده ضعيف، لانقطاعه بين أَبِي عُبَيْدَةَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ، وأبيه، فإنه لم يسمع منه.
وقد روى حماد بن سلمة عن عطاء قبل الاختلاط فانتفت هذه العلة، وبقيت علة الانقطاع بين أبي عبيدة وأبيه عبد الله بن مسعود.(1/185)
قصة سلمان الفارسي:
قال ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بنُ عُمَرَ، عَنْ مَحْمُوْدِ بنِ لَبِيْدٍ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مِنْ أهل فارس من أهل أصبهان، من قرية يقال لها: جي، وكان أبي دهقان أرضه, وكان يحبني حبا شديدا، لم يحبه شيئا من ماله ولا ولده، فما زال به حبه إياي حتى حبسني في البيت كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها، فلا أتركها تخبو ساعة، فكنت لذلك لا أعلم من أمر الناس شيئا إلا ما أنا فيه، حتى بنى أبي بنيانا له، وكانت له ضيعة فيها بعض العمل، فدعاني فقال: أي بني، إنه قد شغلني ما ترى من بنياني عن ضيعتي هذه، ولا بد لي من اطلاعها، فانطلق إليها فمرهم بكذا وكذا، ولا تحتبس علي فإنك إن احتبست عني شغلني ذلك عن كل شيء. فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة للنصارى، فسمعت أصواتهم فقلت: ما هذا؟ قالوا: النصارى، فدخلت فأعجبني حالهم، فوالله ما زلت جالسا عندهم حتى غربت الشمس، وبعث أبي في طلبي في كل وجه حتى جئته حين أمسيت، ولم أذهب إلى ضعيفته فقال: أين كنت؟ قلت: مررت بالنصارى، فأعجبني صلاتهم ودعاؤهم، فجلست أنظر كيف يفعلون. قال: أي بني دينك ودين آبائك خير من دينهم. فقلت: لا والله ما هو بخير من دينهم، هؤلاء قوم يعبدون الله، ويدعونه ويصلون له، ونحن نعبد نارا نوقدها بأيدينا، إذا تركناها ماتت. فخاف فجعل في رجلي حديدا وحبسني، فبعثت إلى النصارى فقلت: أين أصل هذا الدين الذي أراكم عليه؟ فقالوا: بالشام فقلت: فإذا قدم عليكم من هناك ناس فآذنوني. قالوا: نفعل فقدم عليهم ناس من تجارهم فآذنوني بهم, فطرحت الحديد من رجلي ولحقت بهم، فقدمت معهم الشام، فقلت: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّيْنِ؟ قَالُوا: الأُسْقُفُ صاحب الكنيسة. فجئته فقلت: إني قد أحببت أن أكون معك في كنيستك، وأبعد الله فيها معك، وأتعلم منك الخير. قال: فكن معي قال: فكنت معه، فكان رجل سوء، يأمر بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوها له اكتنزها ولم يعطها المساكين، فأبغضته بغضا شديدا، لما رأيت من حاله، فلم ينشب أن مات، فلما جاءوا ليدفنوه قلت لهم: هذا رجل سوء، كان يأمركم بالصدقة ويكتنزها. قالوا: وما علامة ذلك؟ قلت: أنا أخرج إليكم كنزه، فأخرجت لهم سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فلما رأوا ذلك قالوا: والله لا يدفن أبدا، فصلبوه ورموه بالحجارة، وجاءوا برجل فجعلوه مكانه، ولا والله يا ابن عباس، ما رأيت رجلا قط لاَ يُصَلِّي الخَمْسَ، أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، وأشد اجتهادا، ولا أزهد في الدنيا، ولا أدأب ليلا ونهارا، وما أَعْلَمُنِي أَحَبَبْتُ شَيْئاً قَطُّ قَبْلَهُ حُبَّهُ، فَلَمْ أزل معه حتى حضرته الوفاة، فقلت: قَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللهِ فَمَاذَا تَأْمُرُنِي؟ وَإِلَى(1/186)
من توصيني؟ قال لي: أي بني، والله ما أعلمه إلا بالموصل، فأته فَإِنَّكَ سَتَجِدُهُ عَلَى مِثْلِ حَالِي.
فَلَمَّا مَاتَ لَحِقْتُ بِالمَوْصِلِ، فَأَتَيْتُ صَاحِبَهَا فَوَجَدْتُهُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ مِنَ الاجْتِهَادِ وَالزُّهْدِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ فلانا أوصى بي إليك. قَالَ: فَأَقِمْ أَيْ بُنَيَّ، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ عَلَى مِثْلِ أَمْرِ صَاحِبِهِ حَتَّى حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، فَقُلْتُ: إِنَّ فُلاَناً أَوْصَى بِي إِلَيْكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا تَرَى، فَإِلَى مَنْ توصيني؟ قال: والله ما أعلمه إِلاَّ رَجُلاً بِنَصِيْبِيْنَ. فَلَمَّا دَفَنَّاهُ لَحِقْتُ بِالآخَرِ، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِم، حَتَّى حَضَرَهُ الموت فأوصى بي إلى رجل من عَمُّوْرِيَةَ بِالرُّوْمِ، فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِم، فأقمت عنده واكتسبت حتى كانت لي غنيمة وبقيرات، ثم احتضر فكلمته، فقال: أَيْ بُنَيَّ وَاللهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ أَحَدٌ على مثل ما كنا عليه، وَلَكِنْ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ مِنَ الحرم، مهاجره بين حرتين؛ أَرْضٍ سَبْخَةٍ ذَاتِ نَخْلٍ، وَإِنَّ فِيْهِ عَلاَمَاتٍ لاَ تَخْفَى، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، يَأْكُلُ الهَدِيَّةَ وَلاَ يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، فَإِنِ اسْتَطْعَتَ أَنْ تَخْلُصَ إِلَى تِلْكَ البِلاَدِ فَافْعَلْ، فَإِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُهُ.
فَلَمَّا وَارَيْنَاهُ أَقَمْتُ حَتَّى مَرَّ بِي رِجَالٌ مِنْ تُجَّارِ العَرَبِ مِنْ كَلْبٍ، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب، وأنا أعطيكم غنيمتي هذه وبقراتي؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَأَعْطَيْتُهُم إِيَّاهَا وَحَمَلُوْنِي، حَتَّى إِذَا جاءوا بِي وَادِيَ القُرَى ظَلَمُوْنِي فَبَاعُوْنِي عَبْداً مِنْ رَجُلٍ يَهُوْدِيٍّ بِوَادِي القُرَى، فَوَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّخْلَ، وَطَمِعْتُ أَنْ يَكُوْنَ البَلَدَ الَّذِي نَعَتَ لِي صَاحِبِي، ومَا حَقَّتْ عِنْدِي حَتَّى قَدِمَ رجل من بني قريظة فابتاعني، فَخَرَجَ بِي حَتَّى قَدِمْنَا المَدِيْنَةَ، فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُ نَعْتَهَا فَأَقَمْتُ في رقي.
وبعث الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ لاَ يُذْكَرُ لِي شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، مَعَ مَا أَنَا فيه من الرق، حتى قدم قباء، وأنا أعمل لصاحبي في نخله، فوالله إني لفيها، إذ جاء ابْنُ عَمٍّ لَهُ فَقَالَ: يَا فُلاَنُ، قَاتَلَ الله بني قيلة، والله إنهم الآن مُجْتَمِعُوْنَ عَلَى رَجُلٍ جَاءَ مِنْ مَكَّةَ، يَزْعُمُوْنَ أَنَّهُ نَبِيٌّ. فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ سَمِعْتُهَا فَأَخَذَتْنِي العُرَوَاءُ -يَقُوْلُ الرِّعْدَةُ- حَتَّى ظَنَنْتُ لأَسْقُطَنَّ عَلَى صَاحِبِي، وَنَزَلْتُ أَقُوْلُ: مَا هَذَا الخَبَرُ؟ فَرَفَعَ مَوْلاَيَ يَدَهُ فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيْدَةً، وقال: مالك وَلِهَذَا، أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ. فَقُلْتُ: لاَ شَيْءَ، إِنَّمَا سَمِعْتُ خَبَراً فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ وَكَانَ عِنْدِي شَيْءٌ مِنْ طَعَامٍ، فَحَمَلْتُهُ وَذَهَبْتُ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِقُبَاءَ فَقُلْتُ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَأَنَّ مَعَكَ أَصْحَاباً لَكَ غُرَبَاءَ، وقد كان عندي شيء للصدقة، فرأيتكم أحق من بهذه البلاد فهاكها فكل منه، فَأَمْسَكَ وَقَالَ لأَصْحَابِهِ: "كُلُوا". فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هذه واحدة، ثم(1/187)
رجعت وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجمعت شيئا ثم جئته به، فقلت: هذا هدية، فأكل وأكل أصحابه، فقلت: هذه خلتان، ثم جئته وَهُوَ يَتْبَعُ جِنَازَةً وَعَلَيَّ شَمْلَتَانِ لِي، وَهُوَ في أصحابه، فاستدرت لأنظر إلى الخاتم، فلما رآني استدبرته عرف أني أستثبت شيئا وصف لي، فوضع رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه، كما وصف لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال: تحول يا سلمان هكذا. فتحولت، فجلست بين يديه، وأحب أن يسمع أصحابه حديثي عنه، فحدثته يابن عباس كما حدثتك. فلما فرغت قال: "كاتب يا سلمان". فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له وأربعين أوقية، فأعانني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل ثلاثين ودية1 وعشرين ودية وعشر, فَقَالَ لِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فقر لها 2، فإذا فرغت فآذني حتى أكون أنا الذي أضعها بيدي". ففقرتها وأعانني أصحابي، يقول: حفرت لها حيث توضع حتى فرغنا منها، وخرج معي، فكنا نحمل إليه الودي فيضعه بيده ويسوس عليها، فوالذي بعثه ما مات منها ودية واحدة وبقيت علي الدراهم، فأتاه رجل من بعض المعادن بمثل البيضة من الذهب فقال: "أين الفارسي؟ " فدعيت له فقال: "خذ هذه فأد بها ما عليك". قلت: يا رسول الله! وأين تقع هذه مما عليّ؟ قال: "فإن الله سيؤدي بها عنك". فوالذي نفس سلمان بيده، لوزنت لهم منها أربعين أوقية فأديتها إليهم وعتق سلمان. وحبسني الرق حتى فاتتني بدر وأحد، ثم شهدت الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد.
قوله: قطن النار: جمع قاطن، أي: مقيم عندها، أو هو مصدر، كرجل صوم وعدل.
وقال يونس بن بكير وغيره، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عُمَرَ بنَ عَبْدِ العَزِيْزِ، قال: وجهت هذا من حديث سلمان, قال: حدثت عن سلمان: أن صاحب عمورية قال له لما احتضر: ائت غيضتين من أرض الشام، فإن رجلا يخرج من إحداهما إلى الأخرى في كل سنة ليلة، يعترضه ذوو الأسقام، فلا يدعو لأحد به مرض إلا شفي، فسله عن هذا الدين دين إبراهيم، فخرج حتى أقمت بها سنة، حتى خرج تلك الليلة، وإنما كان يخرج مستجيزا، فخرج وغلبني عليه الناس، حتى دخل في الغيضة، حتى ما بقي إلا منكبه، فأخذت به فقلت: رحمك الله! الحنيفية دين إبراهيم؟ فقال: تسأل عن شيء ما سأل عنه الناس اليوم، قد أَظَلَّكَ نَبِيٌّ يَخْرُجُ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا البَيْتِ بهذا الحرم،
__________
1 الودي: بتشديد الياء: صغار النخل، الواحدة: ودية.
2 فقر لها: احفر لها موضعا تغرس فيه.(1/188)
ويبعث بسفك الدم. فلما ذكر ذلك سلمان لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَئِنْ كُنْتَ صَدَقْتَنِي يَا سَلْمَانُ لَقَدْ رَأَيْتَ حواري عيسى ابن مريم"1.
وقال مسلمة بن علقمة المازني: حدثنا داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب، عن سلامة العجلي، قال: جاء ابْنُ أُخْتٍ لِي مِنَ البَادِيَةِ يُقَالُ لَهُ: قدامة، فقال: أحب أن ألقى سلمان الفارسي فأسلم عليه، فخرجنا إليه فوجدناه بِالمَدَائِنِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى عِشْرِيْنَ أَلْفاً، وَوَجَدْنَاهُ على سرير يسف خوصا فسلمنا عليه، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ هَذَا ابْنُ أخت لي قدم علي من البادية، فَأَحَبَّ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْكَ. قَالَ: وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. قُلْتُ: يَزْعُمُ أَنَّهُ يُحِبُّكَ. قال: أحبه الله. فتحدثنا وقلنا: يا أبا عبد الله، ألا تحدثنا عن أصلك؟ قال: أما أصلي فأنا من أهل رامهرمز، كنا قوما مجوسا، فأتى رجل نصراني من أهل الجَزِيْرَةِ كَانَتْ أُمُّهُ مِنَّا، فَنَزَلَ فِيْنَا وَاتَّخَذَ فينا ديرا وكنت من كتاب الفَارِسِيَّةِ، فَكَانَ لاَ يَزَالُ غُلاَمٌ مَعِي فِي الكتاب يجيء مضروبا يبكي، قد ضربه أبواه، فَقُلْتُ لَهُ يَوْماً: مَا يُبْكِيْكَ؟ قَالَ: يَضْرِبُنِي أبواي. قلت: ولم يضربانك؟ فقال: آتي صاحب هَذَا الدَّيْرَ، فَإِذَا عَلِمَا ذَلِكَ ضَرَبَانِي، وَأَنْتَ لَوْ أَتَيْتَهُ سَمِعْتَ مِنْهُ حَدِيْثاً عَجَباً. قُلْتُ فَاذْهَبْ بِي مَعَكَ، فَأَتَيْنَاهُ، فَحَدَّثَنَا عَنْ بَدْءِ الخلق وعن الجنة والنار، فحدثنا بأحاديث عجب، فكنت أختلف إليه معه، وفطن لَنَا غِلْمَانٌ مِنَ الكُتَّابِ، فَجَعَلُوا يَجِيْئُوْنَ مَعَنَا، فلما رأى ذلك أهل القرية أتوه، فقالوا: يَا هَنَاة إِنَّكَ قَدْ جَاوَرْتَنَا فَلَمْ تَرَ من جوارنا إِلاَّ الحَسَنَ، وَإِنَّا نَرَى غِلْمَانَنَا يَخْتَلِفُوْنَ إِلَيْكَ، ونحن نخاف أن تفسدهم علينا، اخْرُجْ عَنَّا. قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ لِذَلِكَ الغُلاَمِ الذي كان يأتيه: اخرج معي. قال: لا أستطيع ذلك. قُلْتُ: أَنَا أَخْرُجُ مَعَكَ، وَكُنْتُ يَتِيْماً لاَ أب لي، فخرجت معه، فأخذنا جبل رامهرمز، فجعلنا نمشي ونتوكل، ونأكل من ثمر الشجر، فقدمنا نصيبين، فقال لي صاحبي: يا سلمان، إن ههنا قوما هم عباد أهل الأرض، فأنا أحب أن ألقاهم. قال: فجئناهم يوم الأحد، وقد اجتمعوا، فسلم عليها صاحبي، فَحَيَّوْهُ وَبَشُّوا بِهِ، وَقَالُوا: أَيْنَ كَانَتْ غَيْبَتُكَ؟ فتحدثنا، ثم قال: قم يا سلمان، فقلت: لاَ، دَعْنِي مَعَ هَؤُلاَءِ. قَالَ: إِنَّكَ لاَ تطيق ما يطيقون، هؤلاء يصومون من الأَحَدَ إِلَى الأَحَدِ، وَلاَ يَنَامُوْنَ هَذَا اللَّيْلَ. وَإِذَا فِيْهِم رَجُلٌ مِنْ أَبْنَاءِ المُلُوْكِ تَرَكَ المُلْكَ وَدَخَلَ فِي العِبَادَةِ، فَكُنْتُ فِيْهِم حَتَّى أَمْسَيْنَا، فَجَعَلُوا يَذْهَبُوْنَ وَاحِداً وَاحِداً إِلَى غَارِهِ الذي يكون فيه، فلما أمسينا قال ذاك الرجل الذي من أبناء الملوك: هذا الغلام ما تضيعوه ليأخذه رجل منكم. فقالوا: خذه أنت، فقال لي: هلم فذهب بي إلى غاره، وقال لي: هذا
__________
1 ضعيف: لإبهام من روى عن عمر بن عبد العزيز، والانقطاع بل الإعضال بين عمر بن عبد العزيز، وسلمان فبينهما مفاوز تنقطع لها أعناق المطي.(1/189)
خبز وهذا أدم فكل إِذَا غَرِثْتَ، وَصُمْ إِذَا نَشِطْتَ، وَصَلِّ مَا بدا لك، ونم إذا كسلت. ثم قام في صلاته فلم يكلمني، فأخذني الغم تلك السبعة الأيام لا يكلمني أحد، حتى كان الأحد، وانصرف إلي، فذهبنا إلى مكانهم الذي يجتمعون فيه في الأحد، فكانوا يفطرون فيه، ويلقى بعضهم بعضا ويسلم بعضهم على بعض، ثم لا يلتقون إلى مثله، قال: فرجعنا إلى منزلنا فقال لي مثل ما قال أول مرة، ثم لم يكلمني إلى الأحد الآخر، فحدثت نفسي بالفرار فقلت: اصبر أحدين أو ثلاثة فلما كان الأحد واجتمعوا، قال لهم: إني أريد بيت المقدس. فقالوا: ما تريد إلى ذلك؟ قال: لا عهد لي به. قالوا: إنا نخاف أن يحدث بك حدث فيليك غيرنا. قال: فلما سمعته يذكر ذاك خرجت، فخرجنا أنا وهو، فَكَانَ يَصُوْمُ مِنَ الأَحَدِ إِلَى الأَحَدِ، وَيُصَلِّي الليل كله، ويمشي بالنهار، فإذا نزلنا قام يصلي، فأتينا بيت المقدس، وعلى الباب مقعد يسأل فَقَالَ: أَعْطِنِي. قَالَ: مَا مَعِي شَيْءٌ. فَدَخَلْنَا بيت المقدس، فلما رأوه بشوا إليه واستبشروا به، فقال لهم: غلامي هذا فاستوصوا به، فانطلقوا بي فَأَطْعَمُوْنِي خُبْزاً وَلَحْماً، وَدَخَلَ فِي الصَّلاَةِ، فَلَمْ ينصرف إلى الأحد الآخر، ثم انصرف. فقال: يا سلمان إني أريد أن أضع رأسي، فإذا بلغ الظل مكان كذا فأيقظني. فبلغ الظل الذي قال، فلم أوقظه مأواة له مما دأب من اجتهاده ونصبه، فاستيقظ مذعورا، فقال: يا سلمان، ألم أكن قلت لك: إذا بلغ الظل مكان كذا فأيقظني؟ قلت: بلى، ولكن إنما منعني مأواة لك من دأبك. قال: ويحك إني أكره أن يفوتني شيء من الدهر لم أعمل لله فيه خيرا، ثم قال: اعلم أن أفضل دين اليَوْمَ النَّصْرَانِيَّةُ قُلْتُ: وَيَكُوْنُ بَعْدَ اليَوْمِ دِيْنٌ أفضل من النصرانية -كَلِمَةٌ أُلْقِيَتْ عَلَى لِسَانِي- قَالَ: نَعَمْ، يُوْشَكُ أن يبعث نبي يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة، فإذا أدركته فاتبعه وصدقه. قلت: وإن أمرني أن أدع النصرانية؟ قال: نعم فإنه نبي لا يأمر إلا بحق ولا يقول إلا حقا، والله لو أدركته ثم أمرني أن أقع في النار لوقعتها.
ثم خرجنا من بيت المقدس، فمررنا على ذلك المقعد، فقال له: دخلت فلم تعطني، وهذا تخرج فأعطني، فالتفت فلم ير حوله أحدا، قال: أعطني يدك. فأخذه بيده، فقال: قم بإذن الله، فقام صحيحا سويا، فتوجه نحو أهله فأتبعته بصري تعجبا مما رأيت، وخرج صاحبي مسرعا وتبعته، فتلقاني رفقة من كلب، فسبوني فحملوني على بعير وشدوني وثاقا، فتداولني البياع حتى سقطت إلى المدينة، فاشتراني رجل من الأنصار، فجعلني في حائط له ومن ثم تعلمت عمل الخوص، أشتري بدرهم خوصا فأعمله فأبيعه بدرهمين، فأنفق درهما، أحب أن آكل من عمل يدي. وهو يومئذ أمير على عشرين ألفا. قال: فبلغنا ونحن بالمدينة أن(1/190)
رَجُلاً قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أرسله، فمكثنا ما شاء الله أن نمكث، فهاجر إلينا، فقلت: لأجربنه، فذهبت فاشتريت لحم جزور بدرهم، ثم طبخته، فجعلت قصعة من ثريد، فاحتملتها حتى أتيته بها على عاتقي حتى وضعتها بين يديه. فقال: "أصدقة أم هدية؟ " قلت: صدقة فقال لأصحابه: "كلوا بسم الله". وأمسك ولم يأكل، فمكثت أياما، ثم اشتريت لحما فأصنعه أيضا وأتيته به، فقال: "ما هذه؟ " قلت: هدية. فقال لأصحابه: "كلوا بسم الله" وأكل معهم. قال: فنظرت فرأيت بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة، فأسلمت، ثم قلت له: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَيُّ قَوْمٍ النَّصَارَى؟ قَالَ: "لا خير فيهم". ثم سألته بعد أيام قَالَ: "لاَ خَيْرَ فِيْهِم وَلاَ فِيْمَنْ يُحِبُّهُم". قلت في نفسي: فأنا وَاللهِ أُحِبُّهُم، قَالَ: وَذَاكَ حِيْنَ بَعَثَ السَّرَايَا وَجَرَّدَ السَّيْفَ، فَسَرِيَّةٌ تَدْخُلُ وَسرِيَّةٌ تَخْرُجُ، وَالسَّيْفُ يقطر. قلت يحدث بي الآن أني أحبهم، فيبعث فَيَضْرِبَ عُنُقِي، فَقَعَدْتُ فِي البَيْتِ، فَجَاءنِي الرَّسُوْلُ ذات يوم فقال: يا سلمان أجب.
قلت: هذا والله الذي كنت أحذر. فانتهيت إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتبسم وقال: "أبشر يا سلمان فَقَدْ فَرَّجَ اللهُ عَنْكَ". ثُمَّ تَلاَ عَلَيَّ هؤلاء الآيات: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} ، إلى قوله: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القَصَصُ: 52-54] ، قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَقَدْ سَمِعْتُهُ يقول: لَوْ أَدْرَكْتُهُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَقَعَ فِي النَّارِ لوقعتها.
هذا حديث منكر غريب، والذي قبله أصح، وقد تفرد مسلمة بهذا، وهو ممن احتج به مسلم، ووثقه ابن معين، وأما أحمد بن حنبل فضعفه، رواه قيس بن حفص الدارمي شيخ البخاري عنه.
وقال عبد الله بن عبد القدوس: حدثنا عبيد المكتب، قال: أخبرنا أبو الطفيل، قال: حدثني سلمان، قال: كنت مِنْ أَهْلِ جَيٍّ، وَكَانَ أَهْلُ قَرْيَتِي يَعْبُدُوْنَ الخيل البلق، فكنت أَعْرِفُ أَنَّهُم لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، فَقِيْلَ لِي: إن الدين الذي تطلب بالمغرب، فخرجت حتى أتيت الموصل، فسألت عن أفضل رجل بها، فدللت على رجل في صومعة، ثم ذكر نحوه. كما قال الطبراني، قال: وقال في آخره: فقلت لصاحبي: بعني نفسي. قال: على أن تنبت لي مائة نخلة، فإذا نبتن جِئْنِي بِوَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. فَأَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته، فقال: اشتر نفسك بالذي سألك، وائتني بدلو من ماء النهر التي كنت تسقي منها ذلك النخل. قال: فدعا لي، ثم سقيتها، فوالله لقد غرست مائة فما غادرت منها نخلة إلا نبتت، فَأَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته أن النخل قد نبتن، فَأَعْطَانِي قِطْعَةً مِنْ ذَهَبٍ، فَانْطَلَقْتُ بِهَا فَوَضَعْتُهَا في كفة(1/191)
الميزان، ووضع في الجانب الآخر نواة، قال: فوالله ما استعلت القطعة الذهب من الأرض، قال: وجئت إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته، فأعتقني1.
علي بن عاصم، قال: أخبرنا حَاتِمُ بنُ أَبِي صَغِيْرَةَ، عَنْ سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ صُوْحَانَ، أَنَّ رَجُلَيْنِ من أهل الكوفة كانا صديقين ولهما إخاء، وقد أحبا أن يسمعا حديثك كيف كان أول إسلامك؟ قال: فقال سلمان: كنت يتيما من رامهرمز، وكان ابن دهقان2 رامهرمز يَخْتَلِفُ إِلَى مُعَلِّمٍ يُعَلِّمُهُ، فَلَزِمْتُهُ لأَكُوْنَ فِي كَنَفِهِ، وَكَانَ لِي أَخٌ أَكْبَرُ مِنِّي، وَكَانَ مستغنيا في نفسه، وكنت غلاما فقيرا، فكان إذا قام من مجلسه تفرق من يحفظه فإذا تفرقوا خرج فتقنع بثوبه، ثم يصعد الجبل متنكرا، فقلت: لم لا تذهب بي معك؟ فقال: أَنْتَ غُلاَمٌ وَأَخَافُ أَنْ يَظْهَرَ مِنْكَ شَيْءٌ. قُلْتُ: لاَ تَخَفْ. قَالَ: فَإِنَّ فِي هَذَا الجبل قوما في برطيل، لهم عبادة يزعمون أنا عبدة النيران، وأنا على غير دين فأستأذن لك. قال: فاستأذنهم ثم واعدني وقال: اخرج في وقت كذا، ولا يعلم بك أحد، فإن أبي إن علم بهم قتلهم. قال: فصعدنا إليهم. قال علي -وأراه قَالَ- وَهُمْ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ. قَالَ: وَكَأَنَّ الروح قد خرجت مِنْهُمْ مِنَ العِبَادَةِ يَصُوْمُوْنَ النَّهَارَ، وَيَقُوْمُوْنَ اللَّيْلَ، يأكلون الشجر وما وجدوا، فقعدنا إليهم فذكرنا الحديث بطوله، وفيه: أن الملك شعر بهم، فخرجوا، وصحبهم سلمان إلى الموصل، واجتمع بعابد من بقايا أهل الكتاب، فذكر من عبادته وجوعه شيئا مفرطا، وأنه صحبه إلى بيت المقدس، فرأى مقعدا فأقامه، فحملت على المقعد أثاثه ليسرع إلى أهله، فانملس مني صاحبي، فتبعت أثره، فلم أظفر به، فأخذني ناس من كلب وباعوني، فاشترتني امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَجَعَلَتْنِي فِي حَائِطٍ لَهَا وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتراني أبو بكر فأعتقني.
وهذا الحديث يشبه حديث مسلمة المازني، لأن الحديثين يرجعان إلى سماك، ولكن قال
__________
1 منكر: أخرجه الحاكم "3/ 603" من طريق سعيد بن سليمان الواسطي، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، به.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد!! ورده الحافظ الذهبي في "التلخيص" بقوله: "قلت: ابن عبد القدوس ساقط".
قلت: الحديث منكر كما قال المصنف في ترجمة سلمان في "السير"، وفيه عبد الله بن عبد القدوس، كوفي رافضي، كان خشبيا. قال يحيى: ليس بشيء، رافضي خبيث. وقال النسائي وغيره: ليس بثقة. وأما عبيد المكتب، فهو عبيد بن مهران، الكوفي, المكتب، وهو ثقة.
2 الدهقان: فارس معرب، وهو بكسر الدال وضمها: رئيس القرية ومقدم التناء وأصحاب الزراعة. ونونه أصلية، لقولهم تدهقن الرجل، وله دهقنة بموضع كذا، وقيل النون زائدة، وهو من الدهق: الامتلاء.(1/192)
هنا عن زيد بن صوحان، فهو منقطع، فإنه لم يدرك زيد بن صوحان، وعلي بن عاصم ضعيف كثير الوهم، والله أعلم.
عمرو العنقزي: أخبرنا إِسْرَائِيْلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي قُرَّةَ الكِنْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: كَانَ أَبِي مِنَ الأساورة فأسلمني الكتاب، فكنت أختلف ومعي غلامان، فإذا رجعا دخلا على راهب أو قس، فدخلت مَعَهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا، أَلَمْ أَنْهَكُمَا أَنْ تُدْخِلاَ علي أَحَداً. فَكُنْتُ أَخْتَلِفُ حَتَّى كُنْتُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُمَا، فَقَالَ لِي: يَا سَلْمَانُ، إِنِّي أُحِبُّ أن أخرج من هذه الأرض. قلت: وأنا مَعَكَ فَأَتَى قَرْيَةً فَنَزَلَهَا, وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا حُضِرَ قَالَ: احْفِرْ عِنْدَ رَأْسِي، فحفرت فَاسْتَخْرَجْتُ جَرَّةً مِنْ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: ضَعْهَا عَلَى صدري، فَجَعَلَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهِ وَيَقُوْلُ: وَيْلٌ لِلْقَنَّائِيْنَ! قَالَ: وَمَاتَ فَاجْتَمَعَ القِسِّيْسُوْنَ وَالرُّهْبَانُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَحْتَمِلَ المَالَ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ عَصَمَنِي، فقلت للرهبان، فوثب شباب مِنْ أَهْلِ القَرْيَةِ، فَقَالُوا: هَذَا مَالُ أَبِيْنَا كانت سريته تختلف إليه، فقلت لأولئك: دُلُّوْنِي عَلَى عَالِمٍ أَكُوْنُ مَعَهُ.
قَالُوا: مَا نَعْلَمُ أَحَداً أَعْلَمَ مِنْ رَاهِبٍ بِحِمْصَ. فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ إِلاَّ طَلَبُ العِلْمِ. قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَداً أَعْلَمَ مِنْ رَجُلٍ يَأْتِي بَيْتَ المَقْدِسِ كُلَّ سنة في هذا الشهر. فانطلقت فوجدت حماره واقفا، فخرج فقصصت عليه، فقال: اجلس ههنا حتى أرجع إليك. فذهب فلم يرجع إلى العام المقبل، فقال: وإنك لههنا بَعْدُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَداً فِي الأَرْضِ أَعْلَمَ مِنْ رَجُلٍ يَخْرُجُ بِأَرْضِ تَيْمَاءَ وَهُوَ نَبِيٌّ وَهَذَا زَمَانُهُ، وَإِنِ انْطَلَقْتَ الآنَ وَافَقْتَهُ، وَفِيْهِ ثَلاَثٌ: خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، ولا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية. وذكر الحديث.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ: حَدَّثَنَا يَزِيْدُ بنُ أَبِي حَبِيْبٍ، قال: حدثني السلم بن الصلت، عن أبي الطفيل، عن سلمان، قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ جَيٍّ مَدِيْنَةِ أَصْبَهَانَ، فَأَتَيْتُ رَجُلاً يَتَحَرَّجُ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، فَسَأَلْتُهُ: أَيُّ الدِّيْنِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُ أحدا غير راهب بالموصل، فذهبت إليه. وذكر الحديث، وفيه: فأتيت حجازيا، فقلت: تحملني إلى المدينة؟ قال: ما تعطيني؟ قلت: أنا لَكَ عَبْدٌ. فَلَمَّا قَدِمْتُ جَعَلَنِي فِي نَخْلِهِ، فَكُنْتُ أَسْتَقِي كَمَا يَسْتَقِي البَعِيْرُ حَتَّى دَبِرَ ظهري وصدري من ذلك، ولا أجد أحدا يَفْقَهُ كَلاَمِي، حَتَّى جَاءتْ عَجُوْزٌ فَارِسِيَّةٌ تَسْتَقِي، فقلت لها: أين هذا الرجل الذي خرج؟ فدلتني عليه، فجمعت تمرا وجئت فقربته إليه. وذكر الحديث.(1/193)
ذكر مبعثه صلى الله عليه وسلم:
قال الزهري، عن عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحي الرُّؤْيَا الصالحة ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه، أي: يتعبد الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: "فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني الثانية فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ". حتى بلغ إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] ، قَالَتْ: فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ1 حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيْجَةَ فَقَالَ: "زَمِّلُوْنِي" 2. فَزَمَّلُوْهُ حَتَّى ذَهَبَ عنه الروع فقال: "يا خديجة ما لي! ". وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ وَقَالَ: "قَدْ خَشِيْتُ [عَلَى نَفْسِي] ". فَقَالَتْ لَهُ: كَلاَّ أَبْشِرْ فَوَاللهِ لاَ يُخْزِيْكَ الله إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الحَدِيْثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ [وتكسب المعدوم، وتقري الضيف] ، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة إِلَى ابْنِ عَمِّهَا وَرقَةَ بنِ نَوْفَلِ بنِ أسد بن عبد العزى، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الخط العربي، فكتب بِالعَرَبِيَّةِ مِنَ الإِنْجِيْلِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخاً قَدْ عَمِيَ. فَقَالَتْ: اسْمَعْ من ابن أخيك. فقال: يابن أخي ما ترى؟ فأخبره، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعا حين يخرجك قومك، قال: "أومخرجي هم"؟. قال: نعم، إنه لم يأت أحد بما جئت به إلا عودي وأوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي3.
فروى الترمذي، عن أبي موسى الأنصاري، عن يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَبْدِ الرحمن، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ورقة، فقالت له خديجة: إنه -يا رسول الله- كان صدقك، وإنه مات قبل أن تظهر. فقال: "رأيته في المنام عليه ثياب بيض، ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك".
__________
1 بوادره: جمع بادرة، وهي لحمة بين المنكب والعتق، وتبدر عند الغضب.
2 زملوني: أي غطوني.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3"، ومسلم "160" من طريق ابن شهاب به.
ووقع عند مسلم: "وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب".
ووقع عند البخاري: "وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب".
تنبيه: ما وضعته بين معكوفين سقط استدركته من صحيح مسلم فاللفظ له.(1/194)
وجاء من مراسيل عُرْوَةَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "رأيت لورقة جنة أو جنتين".
وقال الزهري، عن عروة، عن عائشة: "وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا، وغدا مرارا يتردى من شواهق الجبال، وكلما أوفى بذروة ليلقي نفسه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال مثل ذلك. رواه أحمد في "مسنده" والبخاري1.
وقال هشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة، فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين. رواه البخاري2.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، قال: أنزل على رسول الله صلى الله وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، فمكث بمكة عشرا وبالمدينة عشرا.
وقال محمد بن أبي عدي، عن دَاوُدُ بنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة، ومات وهو ابن ثلاث وستين.
أخبرنا أبو المعالي الأبرقوهي، قال: أخبرنا عبد القوي بن الجباب، قال: أخبرنا عبد الله بن رفاعة، قال: أخبرنا علي بن الحسن الخلعي، قال: أخبرنا أبو محمد بن النحاس، قال: أخبرنا عبد الله بن الورد، قال: أخبرنا عبد الرحيم بن عبد الله البرقي، قال: حدثنا عبد الملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق، قال: كانت الأحبار والرهبان وكهان العرب قد تحدثوا بأمر محمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب من زمانه، أما أهل الكتاب فعمَّا وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه، وما كان عهد إليهم أنبياؤهم من شأنه
__________
1 مرسل: أخرجه أحمد "6/ 233"، والبخاري "6982"، فهو من بلاغات الزهري كما وقع في رواية من أخرجاه: "وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال". وقال الحافظ في "الفتح" "12/ 359": "ومعنى الكلام أن في جملة ما وصل إلينا من خَبَرَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه القصة هو من بلاغات الزهري وليس موصولا".
قلت: وهو مدرج في الحديث.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3851" و"3902" من طريق هشام، به.(1/195)
وأما الكهان فأتتهم الشياطين بما استرقت من السمع، وأنها قد حجبت عن استراق السمع ورميت بالشهب. قال الله تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] ، فلما سمعت الجن القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك، لئلا يشكل الوحي بشيء من خبر السماء فيلتبس الأمر فآمنوا وصدقوا وولوا إلى قومهم منذرين.
حدثني يعقوب بن عتبة أنه بلغه أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم ثقيف، فجاءوا إلى عمرو بن أمية وكان أدهى العرب، فقالوا: ألا ترى ما حدث؟ قال: بلى، فانظروا فإن كان معالم النجوم التي يهتدى بها وتعرف بها الأنواء هي التي يرمى بها، فهي والله طي الدنيا وهلاك أهلها، وإن كانت نجوما غيرها، وهي ثابتة على حالها، فهذا أمر أراد الله به هذا الخلق فما هو.
قلت: روى حديث يعقوب بنحوه حصين، عن الشعبي، لكن قال: فأتوا عبد ياليل بن عمرو الثقفي، وكان قد عمي.
وقد جاء غير حديث بأسانيد واهية أن غير واحد من الكهان أخبره رئية من الجن بأسجاع ورجز، فيها ذكر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وسمع من هواتف الجان من ذلك أشياء.
وبالإسناد إلى ابن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه، قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه لنا، أنا كنا نسمع من يهود، وكنا أصحاب أوثان، وهم أهل كتاب، وكان لا يزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم قالوا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجبناه حين دعانا، وعرفنا ما كان يتوعدونا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به، ففي ذلك نزل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] ، الآيات.
حدثني صَالِحُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، عن محمود بن لبيد، عن سلمة بن سلامة بن وقش، قال: كان لنا جار يهودي، فخرج يوما حتى وقف على بني عبد الأشهل، وأنا يومئذ أحدثهم سنا، فذكر القيامة والحساب والميزان والجنة والنار، قال ذلك لقوم أصحاب أوثان لا يرون بعثا بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، أوترى هذا كائنا أن الناس يبعثون! قال: نعم. قالوا: فما آية ذلك؟ قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار إلى مكة واليمن. قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إليَّ وأنا حدث فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره(1/196)
يدركه، قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا له: ويحك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت! قال: بلى، ولكن ليس به.
حدثني عاصم بن عمر، عن شيخ من بني قريظة، قال لي: هل تدري عم كان الإسلام لثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، نفر من إخوة بني قريظة، كانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا سادتهم في الإسلام؟ قلت: لا والله، قال: إن رجلا من يهود الشام يقال له: ابن التيهان قدم علينا قبل الإسلام بسنين، فحل بين أظهرنا، والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا فكان إذا قحط عنا المطر يأمرنا بالصدقة ويستسقي لنا، فوالله ما يبرح من مجلسه حتى نسقى، قد فعل ذلك غير مرتين ولا ثلاث، ثم حضرته الوفاة، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير، إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: أنت أعلم. قال: إنما قدمت أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه، وهذه البلدة مهاجره، كنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، إنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم وحاصر خيبر قال هؤلاء الفتية، وكانوا شبابا أحداثا: يا بني قريظة، والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن التيهان. قالوا: ليس به فنزل هؤلاء وأسلموا وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهاليهم.
وبه، قال ابن إسحاق: وكانت خديجة قد ذكرت لعمها ورقة بن نوفل، وكان قد قرأ الكتب وتنصر، ما حدثها ميسرة من قول الراهب وإظلال الملكين، فقال: لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة، وقد عرفت أن لهذه الأمة نبيا ينتظر زمانه، قال: وجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول: حتى متى؟ وقال:
لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبرتا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدا سيسود قوما ... ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا(1/197)
فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا
فيا ليتني إذا ما كنت ذاكم ... شهدت فكنت أولهم ولوجا
فإن يبقوا وأبق تكن أمور ... يضج الكافرون لا ضجيجا
وقال سليمان بن معاذ الضبي، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إن بمكة لحجرا يسلم عليّ ليالي بعثت إني لأعرفه الآن" 1. رواه أبو داود.
وقال يحيى بن أبي كثير: حدثنا أبو سلمة، قال: سألت جابرا: أي القرآن أنزل أول {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، أو {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ؟ فقال: ألا أحدثكم بما حدثني بِهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: "إني جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وشمالي، فلم أر شيئا، ثم نظرت إلى السماء، فإذا هو على عرش في الهواء -يعني الملك- فأخذني رجفة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثروني، ثم صبوا عليّ الماء، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} " 2. [المدثر: 1، 2] .
وقال الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدث عن فترة الوحي، قال: "بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه رعبا، فرجعت، فقلت: زملوني فدثروني، ونزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ". [المدثر: 1-5] ، وهي الأوثان. متفق عليه3. وهو نص في {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} نزلت بعد فترة الوحي الأول، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فكان الوحي الأول للنبوة والثاني للرسالة.
__________
1 حسن: أخرجه الطيالسي "1907"، وأحمد "5/ 89، 95، 105"، وابن أبي شيبة "11/ 464". ومسلم "2277"، والترمذي "3624"، والدارمي "1/ 21"، والطبراني في "الكبير" "1907" و"1961" و"1965" و"2028"، وفي "الأوسط" "2033"، وفي "الصغير" "167"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 153"، والبغوي "3709" من طرق عن سماك بن حرب، به.
قلت: إسناده حسن، سماك بن حرب، صدوق كما قال الحافظ في "التقريب".
2 صحيح: أخرجه البخاري "4924" حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا عبد الصمد، حدثنا حرب، حدثنا يحيى، به.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4"، ومسلم "161" "255" من طريق ابن شهاب، به.(1/198)
فأول من آمن به خديجة رضي الله عنها:
قال عز الدين أبو الحسن ابن الأَثِيْرِ: خَدِيْجَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللهِ أَسْلَمَ بِإِجْمَاعِ المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمُوْسَى بنُ عُقْبَةَ، وَابْنُ إسحاق، والواقدي، وسعيد بن يحيى الأموي، وغيرهم: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَرَسُوْلِهِ: خَدِيْجَةُ، وَأَبُو بكر، وعليّ.
وقال حسان بن ثابت وجماعة: أبو بكر أول من أسلم.
وقال غير واحد: بل علي.
وعن ابن عباس: فيهما قولان، لكن أسلم علي وله عشر سنين أو نحوها على الصحيح، وقيل: وله ثمان سنين، وقيل: تسع، وقيل: اثنتا عشرة، وقيل: خمس عشرة، وهو قول شاذ، فإن ابنه محمدا، وأبا جعفر الباقر، وأبا إسحاق السبيعي وغيرهم، قالوا: توفي وله ثلاث وستون سنة. فهذا يقضي بأنه أسلم وله عشر سنين، حتى إن سفيان بن عيينة روى عن جعفر الصادق، عن أبيه، قال: قتل علي وله ثمان وخمسون سنة.
وقال ابن إسحاق: أول ذكر آمن بالله علي -رضي الله عنه- وهو ابن عشر سنين، ثم أسلم زَيْدٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أسلم أبو بكر.
وقال الزهري: كانت خديجة أول من آمن بالله، وقبل الرسول رسالة ربه وانصرف إلى بيته، وجعل لا يمر على شجرة ولا صخرة إلا سلمت عليه، فلما دخل على خديجة قال: "أرأيتك الذي كنت أحدثك أني رأيته في المنام، فإنه جبريل استعلن لي، أرسله إليّ ربي". وأخبرها بالوحي. فقالت: أبشر، فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا، فاقبل الذي جاءك من الله فإنه حق، ثم انطلقت إلى عداس غلام عتبة بن ربيعة، وكان نصرانيا من أهل نينوى فقالت: أذكرك الله إلا ما أخبرتني، هل عندك علم من جبريل؟ فقال عداس: قدوس قدوس. قالت: أخبرني بعلمك فيه. قال: فإنه أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى، وعيسى -عليهما السلام- فرجعت من عنده إلى ورقة. فذكر الحديث.
وقد رواه ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بن الزبير بنحو منه، وزاد: ففتح جبريل عينا من ماء فتوضأ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فوضأ وجه ويديه إلى المرفقين، ومسح رأسه ورجليه إلى الكعبين، ثم نضح فرجه، وسجد سجدتين مواجه البيت، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل يفعل.(1/199)
من معجزاته الأول:
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدِ المَلِكِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي، عن بعض أهل العلم، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة، كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه، وكان يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة ينسك فيه.
وقال سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث". أخرجه مسلم1.
وقال الوليد بن أبي ثورة وغيره، عن إسماعيل السدي، عن عباد بن عبد الله، عن علي -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. أخرجه الترمذي2، وقال: غريب.
وقال يوسف بن يعقوب القاضي: حدثنا أبو الربيع، قال: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من مكة، قد خضبه أهل مكة بالدماء، قال: ما لك؟ قال: "خضبني هؤلاء بالدماء وفعلوا وفعلوا". قال: تريد أن أريك آية؟ قال: "نعم". قال: ادع تلك الشجرة. فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت تخط الأرض حتى قامت بين يديه، قال: مرها فلترجع إلى مكانها قال: ارجعي إلى مكانك فرجعت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسبي". هذا حديث صحيح3.
وقال ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان، قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد الله عن كيف كان بدء ما ابتدئ بِهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من
__________
1 حسن: تقدم تخريجنا له قريبا برقم تعليق "92".
2 ضعيف: أخرجه الترمذي "3626" حدثنا عباد بن يعقوب الكوفي، حدثنا الوليد بن أبي ثور، عن السدي، عن عباد بن أبي يزيد، عن علي بن أبي طالب، به.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
قلت: يشير الترمذي إلى ضعف الحديث بقوله: "حديث غريب" وهذا مشهور في اصطلاحه يعرفه الأصاغر بله الأكابر من طلاب علم الحديث، وفي الإسناد علتان:
الأولى: الوليد بن عبد الله بن أبي ثور الهمداني الكوفي، ضعيف. والعلة الثانية: عباد بن أبي يزيد، أو ابن يزيد الكوفي، مجهول. أما السدي، فهو إسماعيل بن عبد الرحمن السدي صدوق يهم.
3 صحيح: أخرجه ابن ماجه "4028".(1/200)
النبوة حين جاءه جبريل. فقال عبيد بن عمير: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تتحنث به قريش في الجاهلية. والتحنث التبرر.
قال ابن إسحاق: فكان يجاور ذلك في كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره، كان أول ما يبدأ به الكعبة، فيطوف ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله كرامته، وذلك الشهر رمضان، خرج صلى الله عليه وسلم إلى حراء ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته، جاءه جبريل بأمر الله تعالى. قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال اقرأ. قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتني1 به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: وما أقرأ؟ فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: وما أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] ، فقرأتها ثم انتهى عني، وهببت من نومي، فكأنما كتبت في قلبي كتابا". في هذا المكان زيادة، زادا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، وهي: "ولم يكن في خلق الله أحد أبغض إليّ من شاعر أو مجنون فكنت لا أطيق أنظر إليهما، فقلت: إن الأبعد -يعني نفسه- لشاعر أو مجنون، ثم قلت: لا تحدث عني قريش بهذا أبدا، لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي فلأستريحن، فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل، سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، فقال: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. فوقفت أنظر إليه، فما أتقدم ولا أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك. ثم انصرف عني، فانصرفت إلى أهلي، حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا أعلى مكة ورجعوا. ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يابن عمي واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة".
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عمها، وكان قد تنصر وقرأ الكتب، فأخبرته بما رأى وسمع، فقال ورقة: قدوس، والذي نفسي بيده لئن كنت
__________
1 الغت والغط سواء، كأنه أراد عصرني عصرا شديدا حتى وجدت منه المشقة كما يجد من يغمس في الماء قهرا.(1/201)
صدقت يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته بقول ورقة، فلما قضى جواره طاف الكعبة، فلقيه ورقة وهو يطوف فقال: أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره، فقال: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذنه ولتخرجنه ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه.
وقال موسى بن عقبة في "مغازيه": كان صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا أول ما رأى أن الله أراه رؤيا في المنام، فشق ذلك عليه، فذكرها لخديجة، فعصمها الله وشرح صدرها بالتصديق، فقالت: أبشر. ثم أخبرها أنه رأى بطنه شق ثم طهر وغسل ثم أعيد كما كان، قالت: هذا والله خير فأبشر. ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة، فأجلسه في مجلس كريم معجب كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك1 فيه الياقوت واللؤلؤ، فبشره برسالة الله -عز وجل- حتى اطمأن.
الذي فيها من شق بطنه يحتمل أن يكون أخبرها بما تم له في صغره ويحتمل أن يكون شق مرة أخرى، ثم شق مرة ثالثة حين عرج به إلى السماء.
وقال ابن بكير عن ابن إسحاق، فأنشد ورقة:
إن يك حقا يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيانا فأحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال معهما ... من الله وحي يشرح الصدر منزل
يفوز به من فاز فيها بتوبة ... ويشقى به العاني الغوي المظلل
فسبحان من تهوى الرياح بأمره ... ومن هو في الأيام ما شاء يفعل
ومن عرشه فوق السماوات كلها ... وأقضاؤه في خلقه لا تبدل
وقال ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي حَكِيْمٍ أن خديجة قَالَتْ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي ابن عم، إن استطعت أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك. قال: "نعم" قال: فَلَمَّا جَاءهُ قَالَ: "يَا خَدِيْجَةُ هَذَا جِبْرِيْلُ". قالت: ابن عم قم فاجلس على فخذي اليسرى، فقام فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: "نعم". قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى. فتحول فقعد على فخذها، قالت: هل تراه؟ قال: "نعم". قالت: فاجلس في
__________
1 الدرنوك: ستر له خمل، وجمعه درانك.(1/202)
حجري. ففعل، قالت: هل تراه؟ قال: "نعم". فتحسرت فألقت خمارها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: "لا". قالت: اثبت وأبشر فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان. قال: وحدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث فقال: قد سمعت أمي فاطمة بنت حسين تحدث هذا الحديث، عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول: أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها فذهب عند ذلك جبريل، فقالت: إن هذا لملك وما هو بشيطان.
وقال أبو صالح: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قال: أخبرني محمد بن عباد بن جعفر المخزومي أنه سمع بعض علمائهم يقول: كان أول ما أنزل الله على نبيه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] ، فقالوا: هذا صدرها الذي أنزل عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حراء، ثم أنزل آخرها بعد بما شاء الله.
وقال ابن إسحاق: ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في رمضان، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [القدر: 1] ، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] .
قال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: همز جبريل بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت عين، فتوضأ جبريل ومحمد عليهما السلام ثم صلى ركعتين ورجع، قد أقر الله عينه، وطابت نفسه، فأخذ بيد خديجة، حتى أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم صلى ركعتين هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سرا، ثم إن عليا جاء بعد ذلك بيوم فوجدهما يصليان فقال علي: ما هذا يا محمد؟ فقال: "دين اصطفاه الله لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده وكفر باللات والعزى". فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب. وكره رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يفشي عليه سره قبل أن يستعلن عليه أمره، فقال له: "يا علي! إن لم تسلم فاكتم". فمكث علي تلك الليلة ثم أوقع الله في قلبه الإسلام، فأصبح فجاء إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبقي يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم إسلامه.
وأسلم زيد بن حارثة فمكثا قريبا من شهر، يختلف علي إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مما أنعم الله على علي أنه كان فِي حَجْرِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الإسلام.
وقال سلمة بن الفضل، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أصابت قريشا أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس عمه -وكان موسرا: "إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى،(1/203)
فانطلق لنخفف عنه من عياله". فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم عليا، فضمه إليه، فلم يزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي وآمن به.
وقال الدراوردي، عن عمر بن عبد الله، عن محمد بن كعب القرظي، قال: إن أول من أسلم خديجة، وأول رجلين أسلما أبو بكر وعلي، وإن أبا بكر أول من أظهر الإسلام، وإن عليا كان يكتم الإسلام فرقا من أبيه، حتى لقيه أبوه فقال: أسلمت؟ قال: نعم، قال: وازر ابن عمك وانصره. وقال: أسلم علي قبل أبي بكر.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ الحصين التميمي أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر، ما عتم منه حين ذكرته وما تردد فيه".
وقال إسرائيل، عن ابن إسحاق، عن أبي ميسرة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا برز، سمع من يناديه، يا محمد، فإذا سمع الصوت انطلق هاربا، فأسر ذلك إلى أبي بكر، وكان نديما له في الجاهلية.(1/204)
إسلام السابقين الأولين:
قال ابن إسحاق: ذكر بعض أهل العلم أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا حضرت الصلاة، خرج إلى شعاب مكة ومعه علي فيصليان فإذا أمسيا رجعا، ثم إن أبا طالب عبر عليهما وهما يصليان، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يابن أخي ما هذا؟ قال: "أي عم هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين إبراهيم، بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني وأعانني". فقال أبو طالب: أي ابن أخي لا أستطيع أن أفارق دين آبائي، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت، ولم يكلم عليا بشيء يكره، فزعموا أنه قال: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فاتبعه. ثم أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول ذكر أسلم، وصلى بعد علي، رضي الله عنهما.
وكان حكيم بن حزام قدم من الشام برقيق، فدخلت عليه خديجة بنت خويلد فقال: اختاري أي هؤلاء الغلماء شئت فهو لك، فاختارت زيدا، فأخذته، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فاستوهبه، فوهبته له، فأعتقه وتبناه قبل الوحي، ثم قدم أبوه حارثة لموجدته عليه وجزعه فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ شئت فأقم عندي، وإن شئت فانطلق مع أبيك". قال: بل أقيم عندك، وكان يدعى زيد بن محمد، فلما نزلت {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] ، قال: أنا زيد بن حارثة.
قال ابن إسحاق: وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وكان تاجرا ذا خلق ومعروف، فجعل لما أسلم يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه، ممن يغشاه، ويجلس إليه، فأسلم بدعائه: عثمان، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، فجاء بهم إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أسلموا وصلوا، فكان هؤلاء النفر الثمانية أول من سبق بالإسلام وصلوا وصدقوا.
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله المخزومي، وَالأَرْقَمُ بنُ أَبِي الأَرْقَمِ بنِ أَسَدِ بنِ عَبْدِ الله المخزومي، وعثمان بن مظعون الجمحي، وأخواه قدامة وعبد الله، وعبيدة بنُ الحَارِثِ بنِ المُطَّلِبِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ المُطَّلِبِيُّ، وَسَعِيْدُ بنُ زَيْدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ العدوي، وامرأته فاطمة أخت عمر بن الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر، وخباب بن الأرت حَلِيْفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَعُمَيْرُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ أخو سعد، وعبد الله بن مسعود، وَسَلِيْطُ بنُ عَمْرِو بنِ عَبْدِ شَمْسٍ العَامِرِيُّ، وأخوه حاطب، وَعَيَّاشُ بنُ أَبِي رَبِيْعَةَ بنِ المُغِيْرَةِ المَخْزُوْمِيُّ، وامرأته أسماء, وخنيس بن حذافة السهمي، وعامر(1/205)
ابن ربيعة حليف آل الخطاب، وعبد الله وأبو أحمد ابنا جحش بن رئاب الأسدي، وجعفر بن أبي طالب، وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَحَاطِبُ بنُ الحَارِثِ الجمحي، وامرأته فاطمة بنت المجلل، وأخوه خطاب، وامرأته فكيهة بنت يسار، ومعمر بن الحارث أخوهما، والسائب بن عُثْمَانَ بنِ مَظْعُوْنٍ، وَالمُطَّلِبُ بنُ أَزْهَرَ بنِ عبد عوف العدوي الزهري، وامرأته رملة بنت أبي عوف، والنحام وهو نعيم بن عبد الله بن أسد العدوي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وَخَالِدُ بنُ سَعِيْدِ بنِ العَاصِ بنِ أُمَيَّةَ، وامرأته أمينة بنت خلف، وحاطب بن عمرو، وأبو حذيفة مهشم ابن عتبة بن ربيعة، وواقد بن عبد الله حَلِيْفُ بَنِي عَدِيٍّ، وَخَالِدٌ، وَعَامِرٌ، وَعَاقِلٌ، وَإِيَاسٌ بنو البكير حلفاء بني عدي، وعمار بن ياسر حليف بني مخزوم، وصهيب بن سنان النمري حليف بني تميم.
وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثني الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان الوالبي، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، قال: قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل الموسم، أفيهم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة: قلت: نعم أنا. فقال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، مخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخل وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه. قال طلحة: فوقع في قلبي، فأسرعت إلى مكة، فقلت: هل من حدث؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين تنبأ، وقد تبعه ابن أبي قحافة، فدخلت عليه فقلت: اتبعت هذا الرجل؟ قال: نعم، فانطلق فاتبعه. فأخبره طلحة بما قال الراهب، فخرج به حتى دخلا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية فشدهما في حبل واحد، ولم تمنعهما بنو تيم، وكان نوفل يدعى "أسد قريش"، فلذلك سمي أبو بكر وطلحة: القرينين.
وقال إسماعيل بن مجالد، عَنْ بَيَانِ بنِ بِشْرٍ، عَنْ وَبَرَةَ، عَنْ همام، قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: رَأَيتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَعَهُ إِلاَّ خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بكر. أخرجه البخاري1.
قلت: ولم يذكر عليا لأنه كان صغيرا ابن عشر سنين.
وقال العباس بن سالم، وَيَحْيَى بنُ أَبِي كَثِيْرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عن عمرو بن عبسة، قال:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3660" حدثنا أحمد بن أبي الطيب، حدثنا إسماعيل بن مجالد، به.(1/206)
أَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بمكة مستخفيا، فَقُلْتُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: "نَبِيٌّ". قُلْتُ: وَمَا النبي؟ قال: "رسول الله" قلت: الله أرسلك؟ قال: "نعم". قلت: بم أرسلك؟ قال: "بأن يعبد الله وتكسر الأوثان وتوصل الأرحام". قلت: نعم ما أرسلك به، فمن تبعك؟ قال: "حر وعبد". يعني أبا بكر وبلال، فكان عمرو يقول: لقد رأيتني وأنا رابع أو ربع، فأسلمت وقلت: أتبعك يا رسول الله، قال: "لا، ولكن الحق بقومك، فإذا أخبرت بأني قد خرجت فاتبعني" أخرجه مسلم1.
وقال هاشم بن هاشم، عن ابن المسيب، أنه سمع سعد بن أبي وقاص يقول: لقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام. أخرجه البخاري2.
وقال زائدة، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلاَمَهُ سبعة: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وعمار وأمه، وصهيب، وبلال، والمقداد. تفرد به يحيى بن أبي بكير.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن سعيد بن زيد، قال: والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي وأخته على الإسلام، قبل أن يسلم عمر, ولو أن أحدا ارفض للذي صنعتم بعثمان لكان. أخرجه البخاري3.
وقال الطيالسي في "مسنده": حدثنا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، قال: كنت يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط بمكة فأتى عليَّ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر، وقد فرا من المشركين فقالا: "يا غلام هل عندك لبن تسقينا"؟ قلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما. فقالا: "هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل". قلت: نعم، فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الضرع فدعا، فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة منقعرة، فحلب فيها، ثم شربا وسقياني، ثم قال للضرع: "اقلص". فقلص فلما كان بعد، أَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: علمني من هذا القول الطيب، يعني القرآن فقال: "إنك غلام معلم". فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد4.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "832"، والنسائي "1/ 283-284"، وابن ماجه "1364".
2 صحيح: أخرجه البخاري "3727" حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْمُ بنُ مُوْسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زائدة، حدثنا هَاشِمِ بنِ هَاشِمِ بنِ عُتْبَةَ بنِ أَبِي وقاص، به.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3862" وتمامه: " ... ولو أن أحدا ارفض للذي صنعتم بعثمان لكان محقوقا أن يرفض" وقوله: ارفض: أي زال من مكانه.
4 حسن: أخرجه أحمد "1/ 379، 462"، والطبراني في "الكبير" "8456" وعاصم هو ابن النجود، صدوق، حسن الحديث.(1/207)
فصل: في دعوة النبي صلى الله عليه وسله عشيرته إلى الله وما لقى من قومه
وقال جرير، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة، قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، دعا النبي صلى الله عليه وسلم قريشا، فاجتمعوا فعم وخص، فقال: "يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها". أخرجه مسلم1 عن قتيبة وزهير، عن جرير، واتفقا عليه من حديث الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة.
وقال سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن قبيصة بن المخارق، وزهير بن عمرو، قالا: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رضمة من جبل، فعلاها ثم نادى: "يا بني عبد مناف، إني نذير، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله، فخشي أن يسبقوه فهتف: يا صباحاه" 2. أخرجه مسلم.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل، واستكتمني اسمه، عن ابن عباس، عن علي، قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عرفت أني إن بادأت قومي رأيت منهم ما أكره، فصمت عليها، فجاءني جبريل فقال: يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك". قال علي: فدعاني فقال: "يا علي إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره، فصمت، ثم جاءني جبريل فقال: إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك، فاصنع لنا يا علي رجل شاة على صاع من طعام وأعد لنا عس لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب". ففعلت, فاجتمعوا له، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون، فيهم أعمامه أبو طالب، وحمزة والعباس، وأبو لهب، فقدمت إليهم تلك الجفنة فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حذية، فشقها بأسنانه، ثم رمى بها في نواحيها وقال: "كلوا باسم الله". فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما نرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل منهم يأكل
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4771"، ومسلم "204".
2 صحيح: أخرجه مسلم "207".(1/208)
مثلها، ثم قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسقهم يا علي". فجئت بذلك القعب، فشربوا منه حتى نهلوا جميعا، وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بدره أبو لهب فقال: لهدما سحركم صاحبكم. فتفرقوا ولم يكلمهم، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الغد: "عد لنا يا علي بمثل ما صنعت بالأمس". ففعلت وجمعتهم، فصنع رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا صنع بالأمس، فأكلوا حتى نهلوا، وشربوا من ذلك القعب حتى نهلوا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة".
قال أحمد بن عبد الجبار العطاردي: بلغني أن ابن إسحاق إنما سمعه من عبد الغفار بن القاسم أبي مريم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: فكان بين ما أخفى النبي صلى الله عليه وسلم أمره إلى أن أمر بإظهاره ثلاث سنين.
وقال الأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، ورهطك منهم المخلصين خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صعد الصفا فهتف؛ يا صباحاه. قالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي". قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب: تبا لك، ألهذا جمعتنا، ثم قام، فنزلت: "تبت يدا أبي لهب وقد تب". كذا قرأ الأعمش. متفق عليه1 إلا "وقد تب" فعند بعض أصحاب الأعمش، وهي في صحيح مسلم.
وقال ابن عيينة: حدثنا الوليد بن كثير، عن ابن تدرس، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: لما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] ، أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب، ولها ولولة، وفي يدها فهر وهي تقول:
مذمما أبينا ... ودينه قلينا
وأمره عصينا
والنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقال أبو بكر: يا رسول الله قد أقبلت وأخاف أن تراك. قال:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4971"، ومسلم "208" "355".(1/209)
إنها لن تراني، وقرأ قرآنا فاعتصم به وقرأ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] ، فوقفت على أبي بكر، ولم تر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أخبرت أن صاحبك هجاني, فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك، فولت وهي تقول قد علمت قريش أني ابنة سيدها.
روى نحوه علي بن مسهر، عن سعيد بن كثير، عن أبيه، عن أسماء.
وقال أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "انظروا قريشا كيف يصرف الله عني شتمهم ولعنهم، يشتمون مذمما ويلعنون مذمما، وأنا محمد". أخرجه البخاري1.
وقال ابن إسحاق: وفشا الإسلام بمكة ثم أمر الله رسوله فقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ، وقال: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89] قال: وكان أصحاب رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر بشعب، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون فناكروهم وعابوا عليهم وقاتلوهم، فضرب سعد رجلا من المشركين بلحي بعير فشجه، فكان أول دم في الإسلام، فلما بادأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه وصدع بالإسلام، لم يبعد منه ولم يردوا عليه -فيما بلغني- حتى عاب آلهتهم، فأعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته، فحدب عليه عمه أبو طالب، ومنعه وقام دونه، فلما رأت قريش أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه، ورأوا أن عمه يمنعه مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وقالوا: إما أن تكفه عن آلهتنا وعن الكلام في ديننا، وإما أن تخلي بيننا وبينه. فقال لهم قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا. ثم بعد ذلك تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحض بعضهم بعضا عليه، ومشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا: إن لك نسبا وشرفا فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله ما نصبر على شتم آلهتنا وتسفيه أحلامنا حتى تكفه أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين. ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوته لهم، ولم يطلب نفسا أن يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا أن يخذله.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ طَلْحَةَ بنِ يَحْيَى بن عبيد الله، عن موسى بن طلحة قال: أخبرني عقيل بن أبي طالب، قال: جاءت قريش إلى أبي طالب، فقالوا: إن ابن أخيك هذا
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3533".(1/210)
قد آذانا في نادينا ومسجدنا، فانهه عنا، فقال: يا عقيل انطلق فائتني بمحمد. فانطلقت إليه فاستخرجته من حفش أو كبس -يقول: بيت صغير- فلما أتاهم قال أبو طالب: إن بني عمك هؤلاء قد زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم فانته عن أذاهم. فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء، فقال: "أترون هذه الشمس"؟ قالوا: نعم، قال: "فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة". فقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخي قط فارجعوا. رواه البخاري في "التاريخ" عن أبي كريب، عن يونس1.
وقال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة أن قريشا حين قالت لأبي طالب ما قالوا، بَعَثَ إِلَيَّ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يابن أخي إن قومك قد جاءوا إليَّ فقالوا: كذا وكذا، فأبق عليَّ وعلى نفسك, ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قد بدا لعمه بداء وأنه خاذله ومسلمه، فقال: "يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته". ثم استعبر رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يابن أخي. فأقبل إليه فقال: اذهب فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك أبدا2.
قال ابن إسحاق فيما رواه عنه يونس: ثم قال أبو طالب في ذلك شعرا.
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
فامض لأمرك ما عليك غضاضة ... أبشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ... فلقد صدقت وكنت قدما أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا
وقال الحارث بن عبيد: حدثنا الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يحرس حتى نزلت: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] ، فأخرج رأسه من القبة فقال لهم: "أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله".
وقال محمد بن عمرو بن علقمة عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة بن عباد الدؤلي، قال:
__________
1 حسن: أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" "4/ 1/ 51"، وابن عساكر "11/ 363/ 1" و"19 /11 /201" من طريق يونس بن بكير، به.
2 ضعيف: أخرجه ابن إسحاق كما في سيرة هشام "1/ 186" ط. دار الحديث, وإسناده ضعيف لإعضاله، يعقوب بن عتبة من ثقات أتباع التابعين، مات سنة "128هـ".(1/211)
رأيت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُوْقِ ذِي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه، وهو يقول: لا يغرنكم عن دينكم ودين آبائكم. قلت: من هذا؟ قالوا: أبو لهب.
وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيْهِ, عن ربيعة بن عباد من بني الديل، وكان جاهليا فأسلم، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذي المجاز1، وهو يمشي بين ظهراني الناس يقول: "يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا" 2. ووراءه أبو لهب. فذكر الحديث. قال ربيعة: وأنا يومئذ أزفر القربة لأهلي.
وقال شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن رجل من كنانة، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسوق ذي المجاز، وهو يقول: "قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا". وإذا خلفه رجل يَسفي عليه التراب، فإذا هو أبو جهل ويقول: لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى. إسناده قوي.
وقال المعتمر بن سليمان، عن أبيه: حدثني نُعَيْمِ بنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه. فَأُتِيَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي ليطأ على رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقيل له: ما لك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا". أخرجه مسلم3.
وقال عكرمة، عن ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن عنقه. فبلغ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "لَوْ فعل لأخذته الملائكة عيانا". أخرجه البخاري4.
وقال محمد بن إسحاق: ثم إن قريشا أتوا أبا طالب فقالوا: يا أبا طالب هذا عمارة بن
__________
1 ذو المجاز: موضع سوق لمكة في الجاهلية بعرفة على فرسخ منها، كانت تقام إذا أهل هلال ذي الحجة وتستمر إلى يوم التروية، وهو الثامن من ذي الحجة كما في "معجم البلدان" "5/ 55".
2 حسن: أخرجه أحمد "3/ 492". فيه عبد الرحمن بن أبي الزناد، عبد الله بن ذكوان، صدوق كما قال الحافظ في "التقريب" وبقية رجاله ثقات.
3 صحيح: أخرجه مسلم "2797".
4 صحيح: أخرجه البخاري "4958" حدثنا يحيى, حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، به.(1/212)
الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصرته واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك نقتله، فإنما رجل كرجل. فقال: بئس والله ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدا. فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وشهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا. فقال: والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ، فاصنع ما بدا لك. فحقب الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، فقال أبو طالب:
ألا قل لعمرو والوليد ومطعم ... ألا ليت حظي من حياطتكم بكر1
من الخور حبحاب2 كثير رغاؤه ... يرش على الساقين من بوله قطر
أرى أخوينا من أبينا وأمنا ... إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر
أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا ... هما نبذانا مثلما ينبذ الجمر
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي شيخ من أهل مصر، منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة طويلة جرت بين المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قام عنهم قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وسب آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر، فإذا سجد فضخت به رأسه فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم. فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا وجلس، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقام يصلي بين الركنين الأسود واليماني، وكان يصلي إلى الشام، وجلست قريش في أنديتها ينظرون، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع مرعوبا منتقعا لونه، قد يبست يداه على حجره، حتى قذف به من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ فقال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته3 ولا أنيابه لفحل قط، فهم أن يأكلني.
__________
1 البكر: الفتي من الناس. والبكرة بمنزلة الفتاة، والقلوص بمنزلة الجارية.
2 الحبحاب: الصغير الجسم، المتداخل العظام.
3 القصرة: بالتحريك: أصل العنق. قال اللحياني: إنما يقال لأصل العنق: قصرة إذا غلظت، والجمع قصر.(1/213)
قال ابن إسحاق: فذكر لي أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ذاك جبريل -عليه السلام- لو دنا مني لأخذه.
وقال المحاربي وغيره، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: مر أبو جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فقال: ألم أنهك عن أن تصلي يا محمد؟ لقد علمت ما بهذا أحد أكثر ناديا مني. فانتهره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال جبريل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 17، 18] ، والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب.
وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم، قال: أخبرنا محمد بن علي الصنعاني بمكة، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوْبَ، عن عكرمة، عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأ عليه القرآن، فكأن رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم؟ قال: ليعطوك فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله. قال: قد علمت أني من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر لها، أو أنك كاره له. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيدته مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فيه. فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] ، يعني الآيات. هكذا رواه الحاكم موصولا. ورواه معمر، عن عباد بن منصور، عن عكرمة مرسلا. ورواه مختصرا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة مرسلا.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا. قالوا: فقل وأقم لنا رأيا. قال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع. قالوا: نقول كاهن. فقال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن وسحره. فقالوا: نقول مجنون. فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون، وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قال: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر.
قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا(1/214)
عقده. فقالوا: ما تقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله حلاوة وإن أصله لغدق وإن فرعه لجني، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن نقول ساحر يفرق بين المرء وبين ابنه وبين المرء وبين أخيه وبين عشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه. فأنزل في الوليد: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلى قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 11-26] ، وأنزل الله في الذين كانوا معه: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91] ، أي: أصنافا، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] .
وقال ابن بكير، عن ابن إسحاق، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قام النضر بن الحارث بن كلدة العبدري، فقال: يا معشر قريش، إنه والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم، قلتم ساحر، لا والله ما هو بساحر، ولا بكاهن، ولا بشاعر، قد رأينا هؤلاء وسمعنا كلامهم، فانظروا في شأنكم. وكان النضر من شياطين قريش، ممن يُؤْذِي رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وينصب له العداوة.
وقال محمد بن فضيل: حدثنا الأجلح، عن الذيال بن حرملة، عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ أبو جهل والملأ من قريش: لقد انتشر علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر، فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره. فقال عتبة: لقد سمعت بقول السحرة والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علماء، وما يخفى عليّ إن كان كذلك. فأتاه، فلما أتاه قال له عتبة: يا محمد أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فلم يجبه، قال: فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا لك ألويتنا، فكنت رأسنا ما بقيت, وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك، وَرَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ، فلما فرغ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بسم الله الرحمن الرحيم {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". [فصلت: 2] ، فقرأ حتى بلغ {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ، فأمسك عتبة على فيه، وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه. فأتوه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك صبوت، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك ما يغنيك(1/215)
عن طعام محمد. فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته، فقص عليهم القصة، فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، قرأ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ". [فصلت: 1-3] ، حتى بلغ {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ، فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب. رواه يحيى بن معين عنه.
وقال داود بن عمرو الضبي: حدثنا المثنى بن زرعة، عن محمد بن إسحاق، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أتى أصحابه فقال لهم: يا قوم أطيعوني في هذا اليوم واعصوني فيما بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي قط كلاما مثله، وما دريت ما أرد عليه.
قال ابن إسحاق: حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، لما أسلم حمزة قالوا له: يا أبا الوليد كلم محمدا. فأتاه فقال: يابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به بينهم، وسفهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم، فاسمع مني. قال: قل يا أبا الوليد. قال: إن كنت تريد مالا جمعنا لك، حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك وملكناك، وإن كان الذي يأتيك رئيا طلبنا لك الطب. حتى إذا فرغ قال: فاسمع مني. قال: أفعل. قال:
{حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 1-3] ، ومضى، فأنصت عتبة، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة سجد، ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك". فقام إلى أصحابه، فقال بعضهم: نحلف والله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس قالوا: ما وراءك؟ قال: ورائي أني سمعت قولا، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله بلسانه. قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري. قال: حدثت أن أبا جهل، وأبا سفيان, والأخنس بن شريق خرجوا ليلة يلتمسون يتسمعون مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي في جوف بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلسا، وكلا لا يعلم بمكان صاحبه، فلما أصبحوا تفرقوا(1/216)
فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقالوا: لا نعود فلو رآنا بعض السفهاء لوقع في نفسه شيء، ثم عادوا لمثل ليلتهم، فلما تفرقوا تلاقوا فتلاوموا كذلك، فلما كان في الليلة الثالثة وأصبحوا جمعتهم الطريق فتعاهدوا أن لا يعودوا، ثم إن الأخنس بن شريق أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها. فقال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. ثم أتى أبا جهل فقال: ما رأيك؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. فقام الأخنس عنه.
وقال يونس بن بكير، عَنْ هِشَامِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عن المغيرة بن شعبة، قال: إن أول يوم عرفت رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّيْ أمشي أنا وأبو جهل، إذ لَقِيْنَا رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لأبي جهل: "يا أبا الحكم هلم إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله". فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا، هل تريد إلا أن نشهد أن قد بلغت، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حقا ما اتبعتك. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عليَّ فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، فقالوا: ففينا الندوة، قلنا: نعم، ثم قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم، وقالوا: فينا السقاية، فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي. والله لا أفعل.
وقال ابن إسحاق: ثم إن قريشا وثبت كل قبيلة على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، فمنع الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب، فقام أبو طالب فدعا بني هاشم وبني عبد المطلب إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه، إلا ما كان من الخاسر أبي لهب، فجعل أبو طالب يمدحهم ويذكر قديمهم، ويذكر فضل محمد صلى الله عليه وسلم، وقال في ذلك أشعارا، ثم إنه لما خشي دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، لما انتشر ذكره قال قصيدته التي منها:
ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل
أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملح بباطل(1/217)
وفيها يقول:
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم نحوكم غير عزل ... ببيض حديث عهدها بالصياقل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في رحمة وفواضل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد ... وإخوته دأب المحب المواصل
فمن مثله في الناس أي مؤمل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل
حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إلها ليس عنه بغافل
فوالله لولا أن أجيء بسبة ... تجر على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جدا غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد ذو أرومة ... يقصر عنها سورة المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... عقوبة شر عاجلا غير آجل
فلما انتشر ذكر رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين العرب ذكر بالمدينة، ولم يكن حي من العرب أعلم بِأَمْرِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ ذكر، وقبل أن يذكر، من الأوس والخزرج, وذلك لما كانوا يسمعون من الأحبار، وكانوا حلفاء يعني اليهود في بلادهم. وكان أبو قيس بن الأسلت يحب قريشا, وكان لهم صهرا، وعنده أرنب ابنة أسد بن عبد العزى, وكان يقيم بمكة السنين بزوجته، فقال:
أيا راكبا إما عرضت فبلغن ... مغلغلة عني لؤي بن غالب
رسول امرئ قد راعه ذات بينكم ... على النأي محزون بذلك ناصب
أعيذكم بالله من شر صنعكم ... وشر تباغيكم ودس العقارب
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... هي الغول للأقصين أو للأقارب(1/218)
أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم ... لنا غاية قد نهتدي بالذوائب
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء مصدق ... غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم ... جنود المليك بين ساف وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب ... إلى أهله ملجيش غير عصائب
أبو يكسوم: ملك أصحاب الفيل.
وقال ابن إسحاق: فحدثني يَحْيَى بنُ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت أصابت قريش مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا كانوا يظهرون من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر, فذكروا رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، قد سفه أحلامنا، وسب آلهتنا, وفعل وفعل. فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستلم الركن وطاف بالبيت، فلما مر غمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجهه، فلما مر الثانية غمزوه، فلما مر الثالثة غمزوه، فوقف, فقال: "أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح". قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما فيهم رجل إلا كأن على رأسه طائرا واقع، حتى إن أشدهم فيه وطأة ليرفؤه1 بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا. فانصرف صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر، وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه. فبينا هم في ذلك، إذ طلع النبي صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ فيقول: "نعم". فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه، فقام أبو بكر دونهم يبكي ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] ، ثم انصرفوا عنه، فحدثني بعض آل أبي بكر، أن أم كلثوم بنت أبي بكر قالت: لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه مما جذبوه بلحيته، وكان كثير الشعر.
__________
1 يرفؤه: أي يسكنه من الرعب.(1/219)
إسلام أبي ذر، رضي الله عنه:
وقال سُلَيْمَانُ بنُ المُغِيْرَةِ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بنُ هِلاَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَرَجْنَا مِنْ قَوْمِنَا غِفَارَ، وَكَانُوا يُحِلُّوْنَ الشَّهْرَ الحَرَامَ، فَخَرَجْتُ أنا وأخي أنيس وأمنا، فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مال وهيئة فأكرمنا, فَحَسَدَنَا قَوْمُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ عَنْ أهلك خالف إليهم أنيس. فجاء خالنا فنثا1 علينا ما قيل له. فقلت له: أَمَّا مَا مَضَى مِنْ مَعْرُوْفِكَ، فَقَدْ كَدَّرْتَهُ ولا جماع لك فيما بعد، فقربنا صرمتنا2 فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا ثوبه، فجعل يبكي، فانطلقنا فنزلنا بِحَضْرَةِ مَكَّةَ، فَنَافَرَ3 أُنَيْسٌ عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مثلها، فأتينا الكاهن فخير4 أنيسا، فأتانا بصرمتنا ومثلها معها. قال: وقد صليت يابن أَخِي قَبْلَ أَنْ أَلْقَى رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاَثٍ سنين، فقلت: لمن؟ قال لله. قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني اللهُ أُصَلِّي عِشَاءً, حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخر الليل ألقيت كأني خفاء -يعني الثوب- حتى تعلوني الشمس. فَقَالَ أُنَيْسٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِي حتى آتيك. فأتى مكة فراث -أي أبطأ- عليَّ، ثم أتاني فقلت ما حبسك؟ قال: لقيت رجلا بمكة يزعم أن الله أرسله على دينك. قلت: ما يقول الناس؟ قال: يقولون: إنه شاعر، وساحر، وكاهن، وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ. فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولو وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ, فَمَا يَلْتَئِمُ على لسان أحد بعدي أنه شعر، ووالله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون قال: قلت له: هل أنت كافيني حتى أنطلق فأنظر؟ قال: نعم، وكن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنفوا له وتجهموا. فأتيت مكة، فتضعفت رجلا، فقلت: أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إلى الصَّابِئُ. قَالَ: فَمَالَ عليَّ أَهْلُ الوَادِي بِكُلِّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ، حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيّاً عليَّ، فَارْتَفَعْتُ حِيْنَ ارْتَفَعْتُ، كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ، فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، فدخلت بين الكعبة وأستارها، ولقد لبثت يابن أخي ثلاثين من بين ليلة ويوم، وما لِي طَعَامٌ إِلاَّ مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تكسرت عكن بطني5، وما
__________
1 نثا: أي أشاع وأذاع وأفشى.
2 صرمتنا: قطعة من الإبل. وتطلق أيضا على القطعة من الغنم.
3 نافر: أي فاخر. والمنافرة: المفاخرة والمحاكمة.
4 خير: قال ابن الأثير: فضل وغلب.
5 عكن بطني: الأطواء في البطن من السمن. وواحدة العكن عكنة، وتعكن البطن: صار ذا عكن.(1/220)
وجدت على كبدي سخفة جوع1. فبينما أهل مكة، في قمراء إضحيان، قد ضرب الله على أصمخة أهل مكة فما يطوف بالبيت أحد غير امرأتين، فأتتا عليَّ، وهما تدعوان إِسَافاً وَنَائِلَةَ، فَأَتَتَا عَلَيَّ فِي طَوَافِهِمَا، فَقُلْتُ: أنكحا أحدهما الأخرى. قال: فما تناهتا عن قولهما -وفي لفظ: فما ثناهما ذلك عما قالتا- فَأَتَتَا عَلَيَّ فَقُلْتُ: هَنٌ مِثْلُ الخَشَبَةِ، غَيْرَ أني لا أكنى. فانطلقتا تولولان، وتقولان: لو كان ههنا أحد من أنفارنا. فاستقبلهما رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر، وهما هابطان من الجبل، فقالا لهما: مَا لَكُمَا؟ قَالَتَا: الصَّابِئُ بَيْنَ الكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا. قالا: ما قال لكما؟ قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم. فَجَاءَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبه، فاستلم الحجر، ثم طافا، فلما قضى صلاته أتيته، فكنت أول من حياه بتحية الإسلام. فقال: "وعليك ورحمة الله". ثم قال: "ممن أنت؟ " قلت: من غفار، فأهوى بيده فوضعها على جبينه فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَرِهَ أَنِّي انْتَمَيْتُ إِلَى غفار، فأهويت لآخذ بيده، فقدعني صاحبه، وكان أعلم به مني, ثم رفع رأسه، فقال: "متى كنت ههنا؟ " قلت: قد كنت ههنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوما. قَالَ: "فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟ " قُلْتُ: مَا كَانَ لي طعام إلا ماء زمزم. فقال: "إنها مباركة، إنها طعام طعم، وشفاء سقم". فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة. ففعل، فانطلقا، وانطلقت معهما، حتى فتح أَبُو بَكْرٍ بَاباً، فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زبيب الطائف، فكان ذلك أول طعام أكلته بها. قال: فغبرت ما غبرت ثم أَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "إني قد وجهت إلى أرض ذات نخل لا أحسبها إِلاَّ يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ وَيَأْجُرَكَ فِيْهِم؟ ". فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسا فقال لي: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. ثم أتينا أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما. فأسلمت، ثم احتملا حتى أتينا قومنا غفار، فأسلم نصفهم قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِيْنَةَ، وكان يؤمهم خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري، وكان سيدهم يومئذ، وقال بقيتهم: إذا قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسلمنا، فقدم المدينة فأسلم بقيتهم. وَجَاءتْ أَسْلَمُ فَقَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ إِخْوَانُنَا، نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، فَأَسْلَمُوا فَقَالَ: "غِفَارُ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللهُ". أخرجه مسلم2 عن هدبة، عن سليمان.
وفي الصحيحين من حديث مثنى بن سعيد، عن أبي جمرة الضبعي، أن ابن عباس
__________
1 سخفة جوع: يعني رقته وهزاله. والسخف بالفتح: رقة العيش, وبالضم: رقة العقل، وقيل هي الخفة التي تعتري الإنسان إذا جاع من السخف وهي الخفة في العقل وغيره.
2 صحيح: أخرجه مسلم "2473" في آخر حديث طويل.(1/221)
حدثهم بإسلام أبي ذر، قال: أرسلت أخي فرجع وقال: رأيت رجلا يأمر بالخير. فلم يشفني, فأتيت مكة، فجعلت لا أعرفه، وأشرب من زمزم، فمر بي عليٌّ، فقال: كأنك غَرِيْبٌ. قُلتُ: نَعَمْ قَالَ: انْطَلِقْ إِلَى المَنْزِلِ فانطلقت معه، فلم أسأله، فلما أصبحنا، جئت المسجد، ثم مر بي عليٌّ، فقال: أما آن لك أن تعود؟ قلت: لا. قال: ما أمرك؟ قلت: إن كتمت عليَّ أخبرتك, ثم قلت: بلغنا أنه خرج نبي. قال: قد رشدت فاتبعني. فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: اعرض عليَّ الإسلام. فعرضه عليَّ، فأسلمت، فقال: اكتم إسلامك وارجع إلى قومك. قلت: والله لأصرخن بها بين أظهرهم، فجاء في المسجد, فقال: يا معاشر قريش أشهد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ. فَقَالُوا: قُوْمُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئ فَقَامُوا، فَضُرِبْتُ لأَمُوْتَ، فَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عليَّ وقال: تقتلون، ويلكم رجلا من بني غِفَارَ، وَمَتْجَرُكُم وَمَمَرُّكُم عَلَى غِفَارَ؟! فَأَطْلَقُوا عَنِّي. ثم فعلت من الغد كذلك، وأدركني العباس أيضا1.
وقال النضر بن محمد اليمامي: حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زميل سماك بن الوليد، عَنْ مَالِكِ بنِ مَرْثَدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ أبي ذر قال: كنت ربع الإسلام، أسلم قبل ثلاثة نفر، أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عبده ورسوله، فرأيت الاستبشار في وجهه.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3681"، ومسلم "2474".(1/222)
إسلام حمزة، رضي الله عنه:
وقال ابن إسحاق: حدثني رجل من أسلم، كان واعية، أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه، فلم يكلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبد الله بن جدعان، تسمع، ثم انصرف عنه، فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة, فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحا قوسه، راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص، وكان إذا رجع من قنصه بدأ بالطواف بالكعبة، وكان أعز فتى في قريش، وأشده شكيمة، فلما مر بالمولاة قالت له: يا أبا عمارة ما لقي ابن أخيك آنفا من أبي الحكم، وجده ههنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه، ولم يكلمه محمد. فاحتمل حمزة الغضب، لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى مغذا لأبي جهل، فلما رآه جالسا في القوم أقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس، فضربه بها، فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه! فأنا على دينه أقول ما يقول، فرد على ذلك إن استطعت، فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فوالله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا، وتم حمزة على إسلامه، فلما أسلم، عرفت قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد عز وامتنع، وأن حمزة -رضي الله عنه- سيمنعه، فكفوا بعض الشيء.(1/223)
إسلام عمر, رضي الله عنه:
قال عبد بن حميد وغيره: حدثنا أبو عامر العقدي، قال: حدثنا خارجة بن عبد الله بنُ زَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام" 1. وروى نحوه عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ دِيْنَارٍ، عَنِ ابْنِ عمر.
وقال مُبَارَك بن فَضَالَة، عَنْ عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اللهم أعز الدين بعمر".
وقال عبد العزيز الأويسي: حدثنا الماجشون بن أبي سلمة، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة".
قال إسماعيل بن أبي خالد: حدثنا قيس، قال ابن مسعود: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
أخرجه البخاري2.
وقال أحمد في "مسنده": حدثنا أبو المغيرة، قال: حدثنا صفوان, قال: حدثنا شريح بن عبيد قال: قال عمر: خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن، فقلت: هذا والله شاعر، كما قالت قريش، فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40، 41] الآيات، فوقع في قلبي الإسلام كل موقع3.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن يعلى الأسلمي، عن عبد الله بن المؤمل، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ أول إسلام عمر أن عمر قال: ضرب أختي المخاض ليلا،
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "2/ 95"، وفي "فضائل الصحابة" "312"، وابن سعد "3/ 267" والترمذي "3681"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 215-216" من طريق أبي عامر العقدي، به.
2 صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة "12/ 22-23"، وابن سعد "3/ 270"، وعبد الله في زيادته على "فضائل الصحابة" "368" و"372"، والبخاري "3684"، والطبراني "8821" و"8822"، والحاكم "3/ 84"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 211"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 215" من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد، به.
3 ضعيف: أخرجه أحمد "1/ 17"، وهو ضعيف لانقطاعه بين شريح بن عبيد، وعمر بن الخطاب، فإنه لم يدركه.(1/224)
فخرجت من البيت، فدخلت في أستار الكعبة في ليلة قرة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل الحجر، وعليه تبان1، فصلى ما شاء الله، ثم انصرف، فسمعت شيئا لم أسمع مثله، فخرج، فاتبعته فقال: "من هذا؟ " قلت: عمر. قال: "يا عمر ما تدعني ليلا ولا نهارا"، فخشيت أن يدعو عليَّ فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وأنك رسول الله. فقال: "يا عمر أسره". قلت: لا والذي بعثك بالحق لأعلننه، كما أعلنت الشرك.
وقال محمد بن عبيد الله ابن المنادى: حدثنا إسحاق الأزرق، قال: حدثنا القاسم بن عثمان البصري، عن أنس بن مالك، قال: خرج عمر -رضي الله عنه- متقلدا السيف، فلقيه رجل من بني زهرة فقال له: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدا. قال: فكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة، وقد قتلت محمدا؟ فقال: ما أراك إلا قد صبوت. قال: أفلا أدلك على العجب، إن ختنك وأختك قد صبوا وتركا دينك. فمشى عمر فأتاهما، وعندهما خباب، فلما سمع بحس عمر توارى في البيت، فدخل فقال: ما هذه الهينمة؟ وكانوا يقرءون "طه"، قالا: ما عدا حديثا تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما؟ فقال له ختنه: يا عمر إن كان الحق في غير دينك. فوثب عليه فوطئه وطئا شديدا, فجاءت أخته لتدفعه عن زوجها، فنفحها نفحة بيده فدمّى وجهها، فقالت وهي غضبى: وإن كان الحق في غير دينك إني أشهد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عبده ورسوله. فقال عمر: أعطوني الكتاب الذي هو عندكم فأقرؤه، وكان عمر يقرأ الكتاب، فقالت أخته: إنك رجس، وإنه لا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ، فقام فتوضأ، ثم أخذ الكتاب فقرأ: {طه} حتى انتهى إلى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 1-14] ، فقال عمر: دلوا على محمد، فلما سمع خباب قول عمر خرج فقال: أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الدار التي في أصل الصفا. فانطلق عمر حتى أتى الدار وعلى بابها حمزة، وطلحة، وناس، فقال حمزة: هذا عمر، إن يرد الله به خيرا يسلم وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا. قال: والنبي صلى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه، فخرج حتى أتى عمر، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف فقال: "ما أنت منته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة؟ فهذا عمر! اللهم أعز الإسلام بعمر". فقال عمر: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَأَنَّكَ عبد الله ورسوله.
__________
1 تبان: سروال صغير يستر العورة المغلظة فقط، ويكثر لبسه الملاحون.(1/225)
وقد رواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، وقال فيه: زوج أخته سعيد بن زيد بن عمرو.
وقال ابن عيينة، عن عمرو، عن ابن عمر، قال: إني لعلى سطح، فرأيت الناس مجتمعين على رجل وهم يقولون: صبأ عمر، صبأ عمر. فجاء العاص بن وائل عليه قباء ديباج، فقال: إن كان عمر قد صبأ فمه أنا له جار. قال فتفرق الناس عنه. قال: فعجبت من عزه. أخرجه البخاري1 عن ابن المديني، عنه.
قال البكائي, عن ابن إسحاق: حدثني نافع، عن ابن عمر، قال: لما أسلم عمر، قال: أي قريش أثقل للحديث؟ قيل: جميل بن معمر الجمحي. فغدا عليه، قال ابن عمر: وغدوت أتبع أثره وأنا غلام أعقل، حتى جاءه، فقال: أعلمت أني أسلمت؟ فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه، حتى قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، ألا إن ابن الخطاب قد صبأ قال: يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني أسلمت. وثاروا إليه فما برح يقاتلهم، ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم. قال: وطلح2 فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا. فبينا هو على ذلك إذ أقبل شيخ عليه حلة حبرة، وقميص موشى، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر. قال: فمه! رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون! أترون بني كعب بن عدي يسلمون! خلوا عنه. قال: فوالله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه، فقلت لأبي بعد أن هاجر: يا أبة، من الرجل الذي زجر القوم عنك؟ قال: العاص بن وائل.
أخرجه ابن حبان، من حديث جرير بن حازم، عن ابن إسحاق.
وقال إسحاق بن إبراهيم الحنيني، عن أسامة بنُ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جده، قال: قال لنا عمر: كنت أشد الناس عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبينا أنا في يوم حار بالهاجرة، في بعض طريق مكة، إذ لقيني رجل فقال: عجبا لك يابن الخطاب، إنك تزعم أنك وأنك، وقد دخل علينا الأمر في بيتك. قلت: وما ذاك؟ قال: أختك قد أسلمت. فرجعت مغضبا حتى قرعت الباب، وَقَدْ كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا أسلم الرجل والرجلان ممن لا شيء له ضمهما إلى من في
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3865" حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، به.
2 طلح: أي أعيا، يقال: طلح يطلح طلوحا فهو طليح.(1/226)
يده سعة فينالان من فضل طعامه، وقد كان ضم إلى زوج أختي رجلين, فلما قرعت الباب قيل: من هذا؟ قلت: عمر. فتبادروا فاختفوا مني, وقد كانوا يقرءون صحيفة بين أيديهم وتركوها أو نسوها، فقامت أختي تفتح الباب، فقلت: يا عدوة نفسها، أصبوت. وضربتها بشيء في يدي على رأسها، فسال الدم وبكت، فقالت: يابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد صبوت. قال: ودخلت حتى جلست على السرير، فنظرت إلى الصحيفة فقلت: ما هذا؟ ناولنيها. قالت: لست من أهلها، أنت لا تطهر من الجنابة، وهذا كتاب لا يمسه إلا المطهرون. فما زلت بها حتى ناولتنيها، ففتحتها، فإذا فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم", فكلما مررت باسم من أسماء الله عز وجل ذعرت منه فألقيت الصحيفة ثم رجعت إلى نفسي فتناولتها، فإذا فيها: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فذعرت، فقرأت إلى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحديد: 1-7] ، فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ. فخرجوا متبادرين وكبروا، وقالوا: أبشر فَإِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا يوم الإثنين فقال: "اللهم أعز دينك بأحب الرجلين إليك إما أبو جهل وإما عمر". ودلوني عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بيت بأسفل الصفا، فخرجت حتى قرعت الباب، فقالوا: من؟ قلت: ابن الخطاب، وقد علموا شدتي عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما اجترأ أحد يفتح الباب، حتى قال: "افتحوا له". ففتحوا لي، فأخذ رجلان بعضدي، حتى أتيا بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "خلوا عنه". ثم أخذ بمجامع قميصي وجذبني إليه، ثم قال: "أسلم يابن الخطاب, اللهم اهده". فتشهدت، فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بفجاج مكة، وكانوا مستخفين, فلم أشأ أن أرى رجلا يضرب ويضرب إلا رأيته، ولا يصيبني من ذلك شيء، فجئت خالي وكان شريفا، فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب وقد صبوت. قال: لا تفعل. ثم دخل وأجاف الباب دوني. فقلت: ما هذا شيء. فذهبت إلى رجل من عظماء قريش، فناديته، فخرج إليّ، فقلت مثل مقالتي لخالي، وقال لي مثل ما قال خالي، فدخل وأجاف الباب دوني, فقلت: ما هذا شيء، إن المسلمين يضربون وأنا لا أضرب، فقال لي رجل: أتحب أن يعلم بإسلامك؟ قلت: نعم. قال: فإذا جلس الناس في الحجر فأت فلانا -لرجل لم يكن يكتم السر- فقل له فيما بينك وبينه: إني قد صبوت، فإنه قلما يكتم السر. فجئت، وقد اجتمع الناس في الحجر، فقلت فيما بيني وبينه: إني قد صبوت. قال: أوقد فعلت؟ قلت: نعم. فنادى بأعلى صوته: إن ابن الخطاب قد صبأ، فبادروا إليَّ، فما زلت أضربهم ويضربوني، واجتمع عليَّ الناس، قال خالي: ما هذه الجماعة؟ قيل: عمر قد صبأ، فقام على الحجر، فأشار بكمه: ألا إني قد أجرت ابن أختي،(1/227)
فتكشفوا عني، فكنت لا أشاء أن أرى رجلا من المسلمين يضرِب ويضرَب إلا رأيته، فقلت: ما هذا شيء حتى يصيبني, فأتيت خالي فقلت: جوارك رد عليك، فما زلت أضرِب وأضرَب حتى أعز الله الإسلام.
ويروى عن ابن عباس بإسناد ضعيف، قال: سألت عمر، لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، فخرجت إلى المسجد، فأسرع أبو جهل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسبه، فأخبر حمزة، فأخذ قوسه وجاء إلى المسجد، إلى حلقة قريش التي فيها أبو جهل، فاتكأ على قوسه مقابل أبي جهل، فنظر إليه، فعرف أبو جهل الشر في وجهه، فقال: ما لك يا أبا عمارة, فرفع القوس فضرب بها أخدعيه، فقطعه فسالت الدماء، فأصلحت ذلك قريش مخافة الشر، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، فانطلق حمزة فأسلم. وخرجت بعده بثلاثة أيام، فإذا فلان المخزومي فقلت: أرغبت عن دين آبائك واتبعت دين محمد؟ قال: إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقا مني، قلت: ومن هو؟ قال: أختك وختنك. فانطلقت فوجدت همهمة، فدخلت فقلت: ما هذا؟ فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس ختني ضربته وأدميته، فقامت إليَّ أختي فأخذت برأسه، وقالت: قد كان ذلك على رغم أنفك. فاستحييت حين رأيت الدماء، فجلست وقلت: أروني هذا الكتاب. فقالت: إنه لا يمسه إلا المطهرون. فقمت فاغتسلت، فأخرجوا إليَّ صحيفة فيها: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قلت: أسماء طيبة طاهرة. {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} إلى قوله: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [ط: 1-8] ، فتعظمت في صدري، وقلت: مِنْ هذا فرت قريش. فأسلمت، وقلت: أين رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: فإنه في دار الأرقم. فأتيت فضربت الباب، فاستجمع القوم، فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر.
قال: وعمر! افتحوا له الباب، فإن أقبل قبلنا منه، وإن أدبر قتلناه. فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فخرج فتشهد عمر، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد. قلت: يا رسول الله ألسنا على الحق؟ قال: "بلى". قلت: ففيم الاختفاء. فخرجنا صفين أنا في أحدهما، وحمزة في الآخر، حتى دخلنا المسجد، فنظرت قريش إليَّ وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة شديدة, فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم "الفاروق" يومئذ، وفرق بين الحق والباطل.
وقال الوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ، عَنِ الزهري، عن ابن المسيب، قال: أسلم عمر بعد أربعين رجلا وعشر نسوة، فلما أسلم ظهر الإسلام بمكة.(1/228)
وقال الواقدي: حدثنا معمر، عن الزهري أن عمر أسلم بعد أن دخل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَارَ الأَرْقَمِ، وبعد أربعين أو نيف وأربعين من رجال ونساء، فلما أسلم نزل جبريل فقال: يا محمد استبشر أهل السماء بإسلام عمر.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من الصحابة إلى الحبشة. فحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر ابن ربيعة، عن أمه ليلى، قالت: كان عمر من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما تهيأنا للخروج إلى الحبشة، جاءني عمر، وأنا على بعير، نريد أن نتوجه، فقال: إلى أين يا أم عبد الله؟ فقلت: قد آذيتمونا في ديننا، فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذى في عبادة الله. فقال: صحبكم الله، ثم ذهب، فجاء زوجي عامر بن ربيعة فأخبرته بما رأيت من رقة عمر بن الخطاب، فقال: ترجين أن يسلم؟ قلت: نعم. قال: فوالله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب. يعني من شدته على المسلمين.
قال يونس، عن ابن إسحاق: والمسلمون يومئذ بضع وأربعون رجلا، وإحدى عشرة امرأة.(1/229)
الهجرة الأولى إلى الحبشة ثم الثانية:
قال يعقوب الفسوي في "تاريخه": حدثني العباس بن عبد العظيم، قال: حدثني بشار بن موسى الخفاف، قال: حدثنا الحسن بن زياد البرجمي -إمام مسجد محمد بن واسع- قال: حدثنا قتادة, قال: أول من هاجر إلى الله بأهله عثمان بن عفان. قال: سمعت النضر بن أنس يقول: سمعت أبا حمزة يعني أنس بن مالك، يقول: خرج عثمان برقية بِنْتِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحبشة، فأبطأ خبرهم، فقدمت امرأة من قريش, فقالت: يا محمد قد رأيت ختنك ومعه امرأته، فقال: "على أي حال رأيتهما؟ " قالت: رأيته حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة، وهو يسوقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صحبهما الله، إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط".
ورواه يحيى بن أبي طالب، عن بشار.
عن عبد الله بن إدريس، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثني الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وعروة، وعبد الله بن أبي بكر، وصلت الحديث عن أبي بكر، عن أم سلمة, قالت: لما أمرنا بالخروج إلى الحبشة، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رأى ما يصيبنا من البلاء: "الحقوا بأرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، فأقيموا ببلاده حتى يجعل الله مخرجا مما أنتم فيه". فقدمنا عليه فاطمأننا في بلاده ... الحديث.
قال البغوي في تاسع "المخلصيات": وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بنِ إِسْحَاقَ، عن عمرو بن العاص بعض هذا الحديث.
وقال البكائي: قال ابن إسحاق: فَلَمَّا رَأَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانة من الله، ومن عمه، وأنه لا يقدر أن يمنعهم من البلاء، قال لهم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة, فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه" فخرج عند ذلك المسلمون مخافة الفتنة، وفرارا بدينهم إلى الله. فخرج عثمان بزوجته، وأبو حذيفة ولد عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو فولدت له بالحبشة محمدا، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير العبدري، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وزوجته أم سلمة أم المؤمنين، وعثمان بن مظعون الجمحي، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب، وامرأته ليلى بنت(1/230)
أبي حثمة العدوية، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى العامري، وسهيل بن بيضاء، وهو سهيل بن وهب الحارثين, فكانوا أول من هاجر إلى الحبشة.
قال: ثم خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون إلى الحبشة. ثم سمى ابن إسحاق جماعتهم، وقال: فكان جميع من لحق بأرض الحبشة، أو ولد بها، ثلاثة وثمانين رجلا، فعبدوا الله وحمدوا جوار النجاشي, فقال عبد الله بن الحارث بن قيس السهمي:
يا راكبا بلغن عني مغلغلة ... من كان يرجو بلاغ الله والدين
كل امرئ من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور ومفتون
أنا وجدنا بلاد الله واسعة ... تنجي من الذل والمخزاة والهون
فلا تقيموا على ذل الحياة وخز ... ي في الممات وعيب غير مأمون
إنا تبعنا نبي الله واطرحوا ... قول النبي وعالوا في الموازين
فاجعل عذابك في القوم الذي بغوا ... وعائذ بك أن يعلوا فيطغوني
وقال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف ابن عمه، وكان يؤذيه:
أتيم بن عوف والذي جاء بغضة ... ومن دونه الشرمان والبرك أكتع
أأخرجتني من بطن مكة أيمنا ... وأسكنتني في سرح بيضاء نقذع
تريش نبالا لا يواتيك ريشها ... وتبري نبالا ريشها لك أجمع
وحاربت أقواما كراما أعزة ... وأهلكت أقواما بهم كنت تفزع
ستعلم إن نابتك يوما ملمة ... وأسلمك الأرياش ما كنت تصنع
وقال موسى بن عقبة: ثم إن قريشا ائتمروا واشتد مكرهم، وهموا بقتل رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إخراجه، فعرضوا على قومه أن يعطوهم ديته ويقتلوه، فأبوا حمية. وَلَمَّا دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم شعب بني عبد المطلب، أمر أصحابه بالخروج إلى الحبشة فخرجوا مرتين؛ رجع الذين خرجوا في المرة الأولى حين أنزلت سورة "النجم"، وكان المشركون يقولون: لو كان محمد يذكر آلهتنا بخير قررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من حالفه من اليهود والنصارى بمثل ما يذكر به آلهتنا من الشتم، والشر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى هداهم، فأنزلت: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20] ، فألقى الشيطان عندها كلمات "وإنهن الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن ترتجى" فوقعت في قلب كل مشرك بمكة, وذلت بها(1/231)
ألسنتهم وتباشروا بها. وقالوا: إن محمدا قد رجع إلى ديننا. فلما بلغ آخر النجم سجد صلى الله عليه وسلم وسجد كل من حضر من مسلم أو مشرك، غير أن الوليد بن المغيرة كان شيخا كبيرا رفع ملء كفيه ترابا فسجد عليه، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود، بسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، عجب المسلمون بسجود المشركين معهم، ولم يكن المسلمون سمعوا ما ألقى الشيطان، وأما المشركون فاطمأنوا إلى رسول الله صلى الله عله وسلم وأصحابه، لما ألقى في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وحدثهم الشيطان أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قرأها في السجدة، فسجدوا تعظيما لآلهتهم.
وفشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان، حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين؛ عثمان بن مظعون وأصحابه، وحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا، وأن المسلمين قد آمنوا بمكة، فأقبلوا سراعا، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأنزلت: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] الآيات، فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم1.
وكان عثمان بن مظعون وأصحابه، فيمن رجع، فلم يستطيعوا أن يدخلوا مكة إلا بجوار، فأجار الوليد بن المغيرة عثمان بن مظعون، فلما رأى عثمان ما يلقى أصحابه من البلاء، وعذب طائفة منهم بالسياط والنار، وعثمان معافى لا يعرض له، استحب البلاء، فقال للوليد: يا عم قد أجرتني، وأحب أن تخرجني إلى عشيرتك فتبرأ مني. فقال: يابن أخي لعل أحدا آذاك أو شتمك؟ قال: لا والله ما اعترض لي أحد ولا آذاني. فلما أبى إلا أن يتبرأ منه أخرجه إلى المسجد، وقريش فيه، كأحفل ما كانوا، ولبيد بن ربيعة الشاعر ينشدهم، فأخذ الوليد بيد عثمان وقال: إن هذا قد حملني على أن أتبرأ من جواره، وإني أشهدكم أني بريء منه، إلا أن يشاء. فقال عثمان: صدق، أنا والله أكرهته على ذلك، وهو مني بريء. ثم جلس مع القوم فنالوا منه.
__________
1 حديث باطل: أرسله الزهري، قال ابن كثير في "تفسيره" "3/ 239": قد ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح والله أعلم. ثم قال ابن كثير في تفسيره "3/ 240" بعد أن ساق مرسل الزهري: قلت: وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات والله أعلم.
قلت: وهذا مما يؤيد بطلان هذه القصة لانقطاعها مع مخالفة ذلك لعصمة الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولولا ضيق المقام لأوعبنا طرقها، ولبينا وهاء هذه الطرق وبطلانها إذ كيف يقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم.(1/232)
قال موسى: وخرج جعفر بن أبي طالب وأصحابه فرارا بدينهم إلى الحبشة، فبعثت قُرَيْشٌ عَمْرَو بنَ العَاصِ، وَعُمَارَةَ بنَ الوَلِيْدِ ابن المغيرة، وأمروهما أن يسرعا ففعلا، وأهدوا للنجاشي فرسا وجبة ديباج، وأهدوا لعظماء الحبشة هدايا، فقبل النجاشي هديتهم، وأجلس عمرا على سريره، فقال: إن بأرضك رجالا منا سفهاء ليسوا على دينك ولا ديننا، فادفعهم إلينا. فقال: حتى أكلمهم وأعلم على أي شيء هم. فقال عمرو: هم أصحاب الرجل الذي خرج فينا، وإنهم لا يشهدون أن عيسى ابن الله، ولا يسجدون لك إذا دخلوا. فأرسل النجاشي إلى جعفر وأصحابه، فلم يسجد له جعفر ولا أصحابه وحيوه بالسلام، فقال عمرو: ألم نخبرك خبر القوم. فقال النجاشي: حدثوني أيها الرهط، ما لكم لا تحيوني كما يحييني من أتاني من قومكم؟ وأخبروني ما تقولون في عيسى وما دينكم؟ أنصارى أنتم؟ قالوا: لا. قال: أفيهود أنتم؟ قالوا: لا. قال: فعلى دين قومكم؟ قالوا: لا. قال: فما دينكم؟ قالوا: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قالوا: نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا. قال: من جاءكم بهذا؟ قالوا: جاءنا به رجل منا قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله كما بعث الرسل إلى من كان قبلنا، فأمرنا بالبر والصدقة والوفاء والأمانة، ونهانا أن نعبد الأوثان، وأمرنا أن نعبد الله، فصدقناه، وعرفنا كلام الله، فعادانا قومنا وعادوه وكذبوه، وأرادونا على عبادة الأصنام، ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا. فقال النجاشي: والله إن خرج هذا الأمر إلا من المشكاة التي خرج منها أمر عيسى. قال: وأما التحية فإن رسولنا أخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام، فحييناك بها، وأما عيسى فهو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه وابن العذراء البتول. فخفض النجاشي يده إلى الأرض، وأخذ عودا فقال: والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود. فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعت هذا الحبشة لتخلعنك. فقال: والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا، وما أطاع الله الناس فيَّ حين رد إليَّ ملكي، فأنا أطيع الناس في دين الله! معاذ الله من ذلك. وكان أبو النجاشي ملك الحبشة، فمات والنجاشي صبي، فأوصى إلى أخيه أن إليك ملك قومك حتى يبلغ ابني، فإذا بلغ فله الملك. فرغب أخوه في الملك، فباع النجاشي لتاجر، وبادر بإخراجه إلى السفينة، فأخذ الله عمه قعصا1 فمات، فجاءت الحبشة بالتاجر، وأخذوا النجاشي فملكوه، وزعموا أن التاجر قال: ما لي بد من غلامي أو مالي. قال النجاشي: صدق، ادفعوا إليه ماله. قال: فقال النجاشي حين كلمه جعفر: ردوا إلى هذا هديته -يعني عمرا- والله لو رشوني على هذا دبر
__________
1 قعصه وأقعصته: إذا قتلته قتلا سريعا.(1/233)
ذهب -والدبر بلغته الجبل- ما قبلته، وقال لجعفر وأصحابه: امكثوا آمنين، وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق. وألقى الله العداوة بين عمرو وعمارة بن الوليد في مسيرهما، فمكر به عمرو وقال: إِنَّكَ رَجُلٌ جَمِيْلٌ، فَاذْهَبْ إِلَى امْرَأَةِ النَّجَاشِيِّ فَتَحَدَّثْ عِنْدَهَا إِذَا خَرَجَ زَوْجُهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ عَوْنٌ لَنَا فِي حَاجَتِنَا. فَرَاسَلَهَا عُمَارَةُ حَتَّى دخل عليها، فلما دخل عليها انطلق عمرو إلى النجاشي، فقال: إن صاحبي هذا صاحب نساء، وإنه يريد أهلك فاعلم علم ذلك. فبعث النجاشي، فإذا عمارة عند امرأته، فأمر به فنفخ في إحليله شحوة ثم ألقي في جزيرة من البحر فجن، وصار مع الوحش، ورجع عمرو خائب السعي.
وقال البكائي قال ابن إسحاق: حدثني الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أم سلمة، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الحَبَشَةِ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِيْنِنَا، وَعَبَدْنَا الله تعالى، لا نؤذي، ولا نسمع ما نكره، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشاً ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إلى النجاشي رجلين جلدين, وأن يهدوا للنجاشي، فبعثوا بالهدايا مع عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص. وذكر القصة بطولها، وستأتي إن شاء الله، رواها جماعة، عن ابن إسحاق.
وذكر الواقدي أن الهجرة الثانية كانت سنة خمسة من المبعث.
وقال حُدَيْجُ بنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عتبة، عن ابن مسعود، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ونحن ثمانون رجلا، ومعنا جعفر، وعثمان بن مظعون، وبعثت قريش عمارة، وعمرو بن العاص، وبعثوا معهما بهدية إلى النجاشي، فلما دخلا عليه سجدا له، وبعثا إليه بالهدية، قالا: إن ناسا من قومنا رغبوا عن ديننا، وقد نزلوا أرضك. فبعث إليهم، فقال لنا جعفر: أنا خطيبكم اليوم. قال: فاتبعوه حتى دخلوا على النجاشي، فلم يسجدوا له، فقال: وما لكم لم تسجدوا للملك؟ فقال: إن الله قد بعث إلينا نبيه, فأمرنا أن لا نسجد إلا لله. فقال النجاشي: وما ذاك؟ قال عمرو: إنهم يخالفونك في عيسى. قال: فما تقولون في عيسى وأمه؟ قال: نقول كما قال الله، هو رُوْحُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى العَذْرَاءِ البَتُوْلِ1، التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها2 ولد. فتناول النجاشي عودا، فقال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما تزيدون على ما يقول هؤلاء ما يزن هذا،
__________
1 البتول: المنقطعة عن الرجال، لا شهوة لها فيهم، وبها سميت مريم أم المسيح -عليهما السلام، وسميت فاطمة البتول لانقطاعها عن نساء زمانها فضلا ودينا وحسبا، وقيل: لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى.
2 ولم يفرضها: من الافتراض، والفرض: القطع، أي: لم يؤثر فيها ولد قبل المسيح.(1/234)
فمرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، وأنا أشهد أنه نبي، ولوددت أني عنده فأحمل نعليه -أو قال أخدمه- فانزلوا حيث شئتم من أرضي. فجاء ابن مسعود فشهد بدرا. رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن حديج1.
وقال عبيد الله بن موسى: أخبرنا إِسْرَائِيْلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَنْطَلِقَ مَعَ جَعْفَرٍ إلى الحبشة. وساق كحديث حديج.
ويظهر لي أن إسرائيل وهم فيه، دخل عليه حديث في حديث، وإلا أين كان أبو موسى الأشعري ذلك الوقت.
رجعنا إلى تمام الحديث الذي سقناه عن أم سلمة قالت: فلم يبق بطريق من بطارقة النجاشي إلا دفعا إليه هدية، قبل أن يكلما النجاشي, وأخبرا ذلك البطريق بقصدهما، ليشير على الملك بدفع المسلمين إليهم، ثم قربا هدايا النجاشي فقبلها، ثم كلماه فقالا: أيها الملك إنه قدم إلى بلادك مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِيْنَ قَوْمِهِم، وَلَمْ يدخلوا في دينك، جاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن، ولا أنت، فقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من أقاربهم لتردهم عليهم، فَهُمْ أَعْلَى بِهِم عَيْناً، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عليهم. قالت: ولم يكن أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي، فقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك، قَوْمَهُم أَعْلَى بِهِم عَيْناً، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عليهم من دينهم، فأسلمهم إليهما. فغضب ثم قال: لاها الله إذن لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جَاوَرُوْنِي، وَنَزَلُوا بِلاَدِي، وَاخْتَارُوْنِي عَلَى مَنْ سِوَايَ، حتى أدعوهم فأسألهم عما تقولان. فأرسل إلى الصحابة فدعاهم، فلما جاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم، سألهم فقال: ما دينكم؟ فكان الذي كلمه جعفر، فقال: أيها الملك، كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ المَيْتَةَ، وَنَأْتِي الفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيْءُ الجِوَارَ، وَيَأْكُلُ القَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيْفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ, حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُوْلاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ
__________
1 ضعيف: أخرجه الطيالسي "346"، وأحمد "1/ 461"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 298" من طريق حديج بن معاوية، به.
وأورده الهيثمي في "المجمع" "6/ 24" وقال: "رواه الطبراني، وفيه حديج بن معاوية، وثقه أبو حاتم، وقال: في بعض حديثه ضعف، وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله ثقات".
قلت: إسناده ضعيف، فيه علتان: الأولى: حديج بن معاوية، ضعفه ابن معين والنسائي. وقال البخاري يتكلمون في بعض حديثه. الثانية: أبو إسحاق، هو عمرو بن عبد الله السبيعي، مدلس، وقد عنعنه.(1/235)
لنوحده ونعبده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة، وأمرنا بالصدق والأمانة وصلة الرحم -وعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وَاتَّبَعْنَاهُ، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُوْنَا، وَفَتَنُوْنَا عَنْ ديننا، وضيقوا علينا، فخرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، وَرَجَوْنَا أَنْ لاَ نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا المَلِكُ. قالت: فقال: وهل مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ مِنْ شيء؟ قال جعفر: نعم، وقرأ عليه صدرا من {كهيعص} [مريم: 1] ، فبكى والله النجاشي، حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا، وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوْسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكاد. قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو: والله لآتينهم غدا بما أستأصل به خضراءهم. فقال له ابن أَبِي رَبِيْعَةَ، وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِيْنَا: لاَ تفعل، فإن لهم أرحاما. قَالَ: وَاللهِ لأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُم يَزْعُمُوْنَ أَنَّ عِيْسَى عبد. ثم غدا عليه، فقال له ذلك، فطلبنا، قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا، فَاجْتَمَعَ القَوْمُ، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول, والله، ما قال الله، كائنا في ذلك مَا كَانَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول: هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ، وَرُوْحُهُ، وَكَلِمَتُهُ، أَلْقَاهَا إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عُوْداً ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيْسَى مَا قلت هذا العود. فتناخرت بطارقته حوله، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ، وَاللهِ، اذْهَبُوا فَأَنْتُم سُيُوْمٌ بأرضى -والسيوم: الآمنون- مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دبرا من ذهب، وأني آذيت رجلا منكم، ردوا هداياهما فلا حاجة لي فيها، فَوَاللهِ مَا أَخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِيْنَ رَدَّ عليَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيْهِ، وَمَا أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به. قالت: فإنا على ذلك، إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا حزنًا حزنا قط كان أشد علينا من حزن حزناه عند ذلك، تخوفا أن يظهر ذلك الرجل عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَأْتِي رَجُلٌ لاَ يَعْرِفُ مِنْ حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. فسار إليه النجاشي، وكان بينهما عَرْضُ النِّيْلِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يحضر الوقعة، ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير: أنا، فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً، فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها يلتقي القوم، ثم انطلق حتى حضرهم، ودعونا الله تعالى للنجاشي، فإنا لعلى ذلك، إذ طلع الزبير يسعى فلمع بثوبه، وهو يقول: ألا أبشروا، فقد ظهر النجاشي، وقد أهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده.(1/236)
قال الزهري: فحدثت عروة بن الزبير هذا الحديث فقال: هل تدري ما قوله: ما أخذ الله مني الرشوة إلى آخره؟ قلت: لا. قال: فإن عائشة أم المؤمنين حَدَّثَتْنِي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَلِكَ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ إِلاَّ النَّجَاشِيُّ، وَكَانَ لِلنَّجَاشِيِّ عم من صلبه اثنا عشر رجلا، فقالت الحبشة: لو أنا قتلنا هذا وَمَلَّكْنَا أَخَاهُ، فَإِنَّهُ لاَ وَلَدَ لَهُ غَيْرَ هذا الغلام، ولأخيه اثنا عشر ولدا، فتوارثوا ملكه من بعده بقيت الحبشة بعد دَهْراً، فَعَدَوْا عَلَى أَبِي النَّجَاشِيِّ فَقَتَلُوْهُ، وَمَلَّكُوا أخاه.
فمكثوا حينا، ونشأ النجاشي مع عمه، فكان لبيبا حازما فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ عَمِّهِ، وَنَزَلَ مِنْهُ بِكُلِّ مَنْزِلَةٍ، فَلَمَّا رَأَتِ الحَبَشَةُ مَكَانَهُ مِنْهُ قَالَتْ بينها: والله لقد غلب هذا على عمه، وإنا لنتخوف أن يملكه علينا، وإن ملك ليقتلنا بأبيه، فكلموا الملك، فقال: ويلكم، قتلت أباه بالأمس، وأقتله اليوم! بل أخرجه من بلادكم. قالت: فخرجوا به فباعوه لتاجر بستمائة درهم، فقذفه في سفينة وانطلق به، حتى إذا كان آخر النهار، هاجت سحابة، فَخَرَجَ عَمُّهُ يَسْتَمْطِرُ تَحْتَهَا، فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَقَتَلَتْهُ، ففزعت الحبشة إلى ولده، فإذا هو محمق ليس في ولده خير، فمرج الأمر، فقالوا: تعلموا، وَاللهِ أَنَّ مَلِكَكُمُ الَّذِي لاَ يُقِيْمُ أَمْرَكُمْ غيره للذي بعتموه غدوة.
فخرجوا في طلبه فأدركوه، وأخذوه من التاجر، ثم جاءوا بِهِ فَعَقَدُوا عَلَيْهِ التَّاجَ، وَأَقْعَدُوْهُ عَلَى سَرِيْرِ ملكه، فجاء التاجر فقال: مالي. قالوا: لا نعطيك شيئا، فكلمه، فأمرهم فقال: أعطوه دراهمه أو عبده. قالوا: بل نعطيه دراهمه، فكان ذلك أول ما خبر من عدله، رضي الله عنه.
وروى يزيد بن رومان، عن عروة، قال: إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان، رضي الله عنه.
أخبرنا إبراهيم بن حمد، وجماعة، قالوا: أخبرنا ابن ملاعب، قال: حدثنا الأرموي، قال: أخبرنا جابر بن ياسين، قال: أخبرنا المخلص، قال: حدثنا البغوي، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ أَبَانٍ، قال: حدثنا أسد بن عمرو البجلي، عن مجالد، عن الشعبي، عن عبد الله بن جعفر, عن أبيه، قال: بعثت قريش عمرا وعمارة بهدية إلى النجاشي ليؤذوا المهاجرين، وذكر الحديث، فقال النجاشي: أعبيد هم لكم؟ قالوا: لا. قال: فلكم عليهم دين؟ قالوا: لا. قال: فخلوهم فقال عمرو: إنهم يقولون في عيسى غير ما تقول فأرسل إلينا، وكانت الدعوة الثانية أشد علينا، فقال: ما يقول صاحبكم فِي عِيْسَى؟ قَالَ: يَقُوْلُ هُوَ رُوْحُ اللهِ وكلمته ألقاها إلى عذراء بتول. فقال: ادعوا لي فلانا القس، وفلانا الراهب، فأتاه أناس منهم، فقال: ما تقولون في عيسى؟ قالوا: أنت أعلمنا. قال: وأخذ شيئا من(1/237)
الأرض، فقال: ما عدا عيسى ما قال هؤلاء مثل هذا. ثم قال: أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم.
فنادى: من آذى أحدا منهم فأغرمه أربعة دراهم، ثم قال: أيكفيكم؟ قلنا: لا. فأضعفها، قال: فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر أخبرناه، قال فرودنا وحملنا، ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ بِمَا صَنَعْتُ إِلَيْكُم، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وأنه رسول الله، وقل له يستغفر لي. فأتينا المدينة، فتلقاني النبي صلى الله عليه وسلم فاعتنقني وقال: "ما أدري أنا بقدوم جعفر أفرح أم بفتح خيبر؟ "، وقال: "اللهم اغفر للنجاشي". ثلاث مرات، وقال المسلمون: آمين1.
__________
1 ضعيف: أخرجه الطبراني في "الكبير" "2/ 1478" من طريق أبي كريب، قال، حدثنا أسد بن عمرو الكوفي، به.
وأورده الهيثمي في "المجمع" "6/ 30" وقال: "رواه الطبراني من طريق أسد بن عمرو، عن مجالد وكلاهما ضعيف، وقد وثقا".
قلت: إسناده ضعيف، فيه علتان: أسد بن عمرو، أبو المنذر البجلي، قال يزيد بن هارون: لا يحل الأخذ عنه. وقال يحيى: كذوب ليس بشيء. وقال البخاري: ضعيف.
وقال ابن حبان: كان يسوي الحديث على مذهب أبي حنيفة. والعلة الثانية: مجالد بن سعيد، قال النسائي: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال البخاري: كان يحيى بن سعيد يضعفه.(1/238)
إسلام ضماد:
داود بن أبي هند، عن عمرو بن سعيد، عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: قدم ضماد مكة، وهو من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الرياح، فسمع سفهاء من سفهاء الناس يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: آتي هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي. قال: فلقيت محمدا فقلت: إني أرقي من هذه الرياح، وإن الله يشفي على يدي من يشاء، فهلم. فقال محمد: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ له". "ثلاث مرات"، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد. فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات ولقد بلغن قاموس البحر، فهلم يدك أبايعك على الإسلام. فبايعه رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ له: "وعلى قومك". فقال: وعلى قومي. فَبُعِثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً، فمروا بقوم ضماد، فقال صاحب الجيش للسرية: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل منهم: أصبت منهم مطهرة. فقال: ردوها عليهم فإنهم قوم ضماد. أخرجه مسلم1.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "868" من طريق عبد الأعلى "وهو أبو همام" حدثنا داود به.(1/239)
إسلام الجن:
قال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29] ، وقال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وأنزل فيهم سورة الجن.
وقال أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: ما قرأ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ, وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. قال: فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله وهو بنخلة، عامدا إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم فقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} ، فأنزلت: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن: 1] ، متفق عليه1.
ويحمل قول ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ما قرأ على الجن ولا رآهم، يعني أول ما سمعت الجن القرآن، ثم إن داعي الجن أتى النبي صلى الله عليه وسلم كما في خبر ابن مسعود، وابن مسعود قد حفظ القصتين، فقال سفيان الثوري عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قال: هبطوا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه أنصتوا، قالوا: صه، وكانوا سبعة أحدهم زوبعة، فأنزل الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] .
وقال مسعر، عن معن، قال: حدثنا أبي، قال: سألت مسروقا: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك، يعني ابن مسعود: أنه آذنته بهم شجرة. متفق عليه2.
وقال داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، قال: قلت لابن مسعود: هل صحب
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "773"، ومسلم "449".
2 صحيح: أخرجه البخاري "3859"، ومسلم "450" "153" من طريق أبي أسامة، عن مسعر، به.(1/240)
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الجن منكم أحد؟ فقال: ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة، فقلنا اغتيل، استطير، ما فعل؟ فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح -أو قال: في السحر- إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله، فذكروا الذي كانوا فيه، فقال: "إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم". فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. رواه مسلم1.
وقد جاء ما يخالف هذا، فقال عبد الله بن صالح: حدثني الليث، قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو عثمان بن سنة الخزاعي من أهل الشام، أنه سمع ابن مسعود يقول: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه، وهو بمكة: "من أحب منكم أن يحضر الليل أمر الجن فليفعل". فلم يحضر منهم أحد غيري حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام، فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة، حالت بيني وبينه، حتى سمعت ما أسمع صوته، ثم انطلقوا وطفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب، ذاهبين، حتى ما بقي منهم رهط، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر، فانطلق فتبرز، ثم أتاني فقال: "ما فعل الرهط؟ " فقلت: هم أولئك يا رسول الله، فأخذ عظما وروثا فأعطاهم إياه زادا، ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم أو بروث. أخرجه النسائي من حديث يونس.
وقال سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، أن ابن مسعود أبصر زطًّا1 في بعض الطريق فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء الزط، قال: ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن، وكانوا مستثفرين يتبع بعضهم بعضًا. صحيح.
يقال: استثفر الرجل بثوبه، إذا أخذ ذيله من بين فخذيه إلى حجزته فغرزه. وكذا يقال في الكلب، إذا جعل ذنبه بين فخذيه، ومنه قوله للحائض: استثفري.
وقال عثمان بن عمرو بن فارس، عن مستمر بن الريان، عن أبي الجوزاء، عن ابن مسعود، قال: انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، حتى أتى الحجون فخط عليَّ خطًّا، ثم تقدم إليهم، فازدحموا عليه، فقال سيد لهم يقال له وردان: إني أنا أرحلهم عنك، فقال: إني لن يجيرني من الله أحد.
وقال زهير بن محمد التميمي، عن ابن المنكدر، عن جابر، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "450" "150" حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، عن داود، به.
2 الزط: جنس من السودان والهند.(1/241)
"الرحمن"، ثم قال: "ما لي أراكم سكوتًا؟ لَلْجن كانوا أحسن ردًّا منكم، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] ، إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد". زهير ضعيف.
وقال عَمْرُو بنُ يَحْيَى بنِ سَعِيْدِ بنِ عَمْرٍو بن العاص، عن جده سعيد، قال: كان أبو هريرة يَتْبَعُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإداوة لوضوئه. فذكر الحديث، وفيه: "أتاني جن نصيبين فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بروثة، ولا بعظم إلا وجدوا طعامًا". أخرجه البخاري1. ويدخل هذا الباب في باب شجاعته صلى الله عليه وسلم وقوة قلبه.
ومنه حديث مُحَمَّدِ بنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ عفريتًا من الجن تفلَّتَ عليَّ البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] ، فرددته خاسئًا". وفي لفظ: "فأخذته فذغته". يعني خنقته، متفق عليه2.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3860" حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد به.
2 صحيح: أخرجه أحمد "2/ 298" والبخاري "4808"، ومسلم "541"، والبيهقي "2/ 219"، والبغوي "746" من طرق عن شعبة، عن محمد بن زياد، به.(1/242)
فصل: فيما ورد من هواتف الجان وأقوال الكهان
قال ابن وهب: أخبرنا عمر بن محمد، قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن أبيه، قال: ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء قط إني لأظنه كذا، إلا كان كما يظن، فبينا عمر جالس إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، على الرجل، فَدُعيَ له، فقال له عمر: لقد أخطأ ظني أو أنك على دينك في الجاهلية، أو لقد كنت كاهنهم. فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم، قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني. فقال: كنت كاهنهم في الجاهلية. فقال: ما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينا أنا جالس جاءتني أعرف فيها الفزع قالت:
ألم تر الجن وإبلاسها ... ويأسها بعد وإبلاسها
ولحوقها بالقلاص وأحلاسها ... وإياسها من أنساكها
قال عمر: صدق، بينا أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ منه صارخ لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول: لا إله إلا الله. فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله. قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، فأعاد قوله، قال: فقمت فما نشبت أن قيل هذا نبي1. أخرجه البخاري عن رجل عنه هكذا. وظاهره أن عمر بنفسه سمع الصارخ من العجل، وسائر الروايات تدل على أن الكاهن هو الذي سمع.
فروى يحيى بن أيوب، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن سليمان، عن محمد بن عبد الله بن عمرو، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَيْنَمَا رجل مار، فقال عمر: قد كنت مرة ذا فراسة، وليس لي رئي، ألم يكن قد كان هذا الرجل ينظر ويقول في الكهانة، ادعوه لي، فدعوه، فقال عمر: من أين قدمت؟ قال: من الشام. قال: فأين تريد؟ قال: أردت هذا البيت، ولم أكن أخرج حتى آتيك. قال: هل كنت تنظر في الكهانة؟ قال: نعم. قال: فحدثني. قال: إني ذات ليلة بواد، إذ سمعت صائحا يقول: يا جليح، خبر نجيح، رجل يصيح، يقول: لا إله إلا الله، الجن وإياسها، والإنس وإبلاسها، والخيل وأحلاسها، فقلت: من هذا؟ إن هذا لخبر يئست منه الجن، وأبلست منه الإنس، وأعلمت فيه الخيل، فما حال الحول حتى بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3866" حدثنا يحيى بن سليمان، قال حدثني ابن وهب، به.(1/243)
ورواه الوليد بن مزيد العذري، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ يَزِيْدَ بنِ جَابِرٍ، عن ابن مسكين الأنصاري، قال: بينا عمر جالس. وهذا منقطع. ورواه حجاج بن أرطاة، عن مجاهد. ويروى عن ابن كثير أحد القراء، عن مجاهد موقوفا.
ويشبه أن يكون هذا الكاهن هو سواد بن قارب المذكور في حديث أحمد بن موسى الحمار الكوفي، قال: حدثنا زياد بن يزيد القصري، قال: حدثنا محمد بن تراس الكوفي، قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عن البراء، قال: بينا عمر يخطب إذ قال: أفيكم سواد بن قارب؟ فلم يجبه أحد تلك السنة، فلما كانت السنة المقبلة قال: أفيكم سواد بن قارب؟ قالوا: وما سواد بن قارب؟ قال: كان بدء إسلامه شيئا عجبا، فبينا نحن كذلك، إذ طلع سواد بن قارب، فقال له: حدثنا ببدء إسلامك يا سواد، قال: كنت نازلا بالهند، وكان لي رئي من الجن، فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ جاءني في منامي ذلك، قال: قم فافهم واعقل إن كنت تعقل، قد بعث رسول من لؤي بن غالب, ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وأنجاسها ... وشدها العيس بأحلاسا
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... وآسم بعينيك إلى راسها
يا سواد! إن الله قد بعث نبيا فانهض إليه تهتد وترشد، فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني، ثم قال:
عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ليس قداماها كأذنابها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى نابها
فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فأنبهني، ثم قال:
عجبت للجن وتخبارها ... وشدها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ليس ذوو الشر كأخيارها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... ما مؤمنو الجن ككفارها
فوقع في قلبي حب الإسلام، وشددت رحلي، حَتَّى أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا هو بالمدينة، والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني قال: "مرحبا بسواد بن قارب، قد علمنا ما جاء بك". قلت: يا رسول الله قد قلت شعرا فاسمعه مني:(1/244)
أتاني رئي بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك نبي من لؤي بن غالب
فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت ... بي الذغلب الوجناء عند السباسب1
فأشهد أن الله لا شيء غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين شفاعة ... إلى الله يابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
فَضَحِكَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لي: "أفلحت يا سواد! " فقال له عمر: هل يأتيك رئيك الآن؟ قال: منذ قرأت القرآن لم يأتني، ونعم العوض كتاب الله من الجن.
هذا حديث منكر بالمرة، ومحمد بن تراس وزياد مجهولان لا تقبل روايتهما، وأخاف أن يكون موضوعا على أبي بكر بن عياش، ولكن أصل الحديث مشهور.
وقد قال أبو يعلى الموصلي، وعلي بن شيبان: حدثنا يحيى بن حجر الشامي، قال: حدثنا علي بن منصور الأبناوي، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الوقاصي، عن محمد بن كعب القرظي، قال: بينما عمر جالس إذ مر به رجل، فقال قائل: أتعرف هذا؟ قال: ومن هو؟ قال: سواد بن قارب، فأرسل إليه عمر فقال: أنت سواد بن قارب؟ قال: نعم. قال: أنت الذي أتاه رئيه بظهور النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نِعْمَ. قال: فأنت على كهانتك. فغضب وقال: ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت. قال عمر: سبحان الله ما كنا عليه من الشرك أعظم، قال: فأخبرني بإتيانك رئيك بظهور رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان، إذ أتاني فضربني برجله، وقال: قم يا سواد بن قارب اسمع مقالتي واعقل، إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى عبادة الله، ثم ذكر الشعر قريبا مما تقدم، ثم أنشأ عمر يقول: كنا يوما في حي من قريش يقال لهم: آل ذريح, وقد ذبحوا عجلا، والجزار يعالجه
__________
1 الذعلب الوجناء والذعلبة: الناقة السريعة، شبهت بالذعلبة، وهي النعامة لسرعتها. وجمع الذعلبة الذعاليب.
والسباسب والبسابس: القفار، واحدها سبسب وبسبس قاله أبو عبيد. وقال أبو خيرة: السبسب: الأرض الجدبة.(1/245)
إذ سمعنا صوتا من جوف العجل ولا نرى شيئا هو يقول: يا آل ذريح، أمر نجيح، صائح يصيح، بلسان فصيح، يشهد أن لا إله إلا الله.
أبو عبد الرحمن اسمه عثمان بن عبد الرحمن، متفق على تركه، وعلي بن منصور فيه جهالة، مع أن الحديث منقطع.
وقد رواه الحسن بن سفيان، ومحمد بن عبد الوهاب الفراء، عن بشر بن حجر أخي يحيى بن حجر، عن علي بن منصور، عن عثمان بن عبد الرحمن، بنحوه.
وقال ابن عدي في "كامله": حدثنا الوليد بن حماد، بالرملة، قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، قال: حدثنا الحكم بن يعلى المحاربي، قال: حدثنا أبو معمر عباد بن عبد الصمد، قال: سمعت سعيد بن جبير، يقول: أخبرني سواد بن قارب قال: كنت نائما على جبل من جبال الشراة، فأتاني آت فضربني برجله وقال: قم يا سواد أتى رسول من لؤي بن غالب، فذكر الحديث.
كذا فيه سعيد يقول: أخبرني سواد، وعباد ليس بثقة يأتي بالطامات.
وقال معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين، قال: أول ما سمع بالمدينة أن امرأة من أهل يثرب تدعى فطيمة، كان لها تابع من الجن، فجاء يوما فوقع على جدارها، فقالت: ما لك لا تدخل؟ فقال: إنه قد بعث نبي يحرم الزنى. فحدثت بذلك المرأة عن تابعها من الجن، فكان أول خبر تحدث به بالمدينة.
وقال يحيى بن يوسف الزمي: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَقِيْلٍ، عن جابر، قال: أول خبر قدم عن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن امرأة كان لها تابع، فجاء في صورة طائر حتى وقع على حائط دراهم، فقالت له المرأة: انزل. قال: لا. إنه قد بعث بمكة نبي يحرم الزنى، قد منع منا القرار.
في الباب عدة أحاديث عامتها واهية الأسانيد.(1/246)
انشقاق القمر:
قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [القمر: 1-3] ، قال: شيبان، عن قتادة، عن أنس: إن أهل مكة سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين. أخرجاه1 من حديث شيبان، لكن لم يقل البخاري مرتين.
وقال معمر، عن قتادة، عن أنس مثله، وزاد: "فانشق فرقتين". وللبخاري نحو منه، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة. وأخرجاه من حديث شعبة عن قتادة.
وقال ابن عيينة وغيره: عَنِ ابْنِ أَبِي نُجِيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ أبي معمر، عن ابن مسعود، قال: رأيت القمر منشقا شقتين بمكة، قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء، فقالوا: سحر القمر.
لفظ عبد الرزاق، عن ابن عيينة، وأراد "قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم" يعني إلى المدينة.
أخرجاه من حديث ابن عيينة، ولفظه: انشق القمر عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شقتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا" 2.
وأخرجاه عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن الأعمش، قال: حدثنا إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله، قال: انفلق القمر، وَنَحْنُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فصارت فلقة من وراء الجبل، وفلقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا". وأخرجاه من حديث شعبة، عن الأعمش.
وقال أبو داود الطيالسي في "مسنده": حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوْقٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قال: انشق القمر عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فجاء السفار فقالوا: ذلك صحيح.
وقال هشيم، عن مغيرة، نحوه.
وقال بَكْرُ بنُ مُضَرَ، عَنْ جَعْفَرِ بنِ رَبِيْعَةَ، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4867"، ومسلم "2802".
2 صحيح: أخرجه البخاري "4864" و"4865"، ومسلم "2800".(1/247)
ابن عتبة، عن ابن عباس أنه قال: إن القمر انشق على زَمَانِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. متفق عليه من حديث بكر1.
وقال شُعْبَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِد، عَنِ ابْنِ عمر، في قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] ، قال: قد كان ذلك عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انشق فلقتين، فلقة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ اشهد". أخرجه مسلم2.
وقال ابراهيم بن طهمان، وهشيم، عن حصين، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، قال: انشق القمر، ونحن بمكة عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكذا رواه أبو كدينة، والمفضل بن يونس، عن حصين. ورواه محمد بن كثير، عن أخيه سليمان بن كثير، عن حصين، عن محمد بن جبير، عن أبيه. والأول أصح.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4866"، ومسلم "2803".
2 صحيح: أخرجه مسلم "2801".(1/248)
باب: ويسألونك عن الروح
قال يحيى بن أبي زائدة, عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل. فقالوا: سلوه عن الروح، فنزلت: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [الإسراء: 85] ، قالوا: نحن لم نؤت من العلم إلا قليلا؟ وقد أوتينا التوراة فيها حكم الله، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا. قال: فنزلت: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109] ، وهذا إسناد صحيح1.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، قال: حدثني رجل من أهل مكة، عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أن مشركي قريش، بعثوا النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم أمره ببعض قوله، فقالت لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم، فإنه كان لهم حديث عجب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها وما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ما هو. فقدما مكة، فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فجاءوا رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يا محمد أخبرنا، وسألوه، فقال: "أخبركم غدا"، ولم يستثن، فانصرفوا عنه، فمكث خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا، ولم يأته جبريل، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا غدا واليوم خمس عشر. وأحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي، ثم جاءه جبريل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه، وخبر الفتية والرجل الطواف، وقال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] 2.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "1/ 255"، والترمذي "3140"، وأبو يعلى "2501"، والحاكم "2/ 531"، والبيهقي في "دلائل" "2/ 269" من طريق يحيى بن أبي زائدة به.
2 ضعيف: لأجل الرجل المبهم في الإسناد.(1/249)
وأما حديث ابن مسعود1، فيدل على أن سؤال اليهود عن الروح كان بالمدينة.
ولعله صلى الله عليه وسلم سئل مرتين.
وقال جرير بن عبد الحميد، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ جَعْفَرِ بنِ إِيَاسٍ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: سأل أهل مكة رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فيها. فقال الله: إن شئت آتيناهم ما سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من كان قبلهم، وإن شئت أن أستأني بهم. لعلنا نستحيي منهم، وأنزل الله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59] ، حديث صحيح2. ورواه سلمة بن كهيل، عن عمران، عن ابن عباس، وروي عن أيوب، عن سعيد بن جبير.
__________
1 حديث ابن مسعود: أخرجه البخاري "4721"، ومسلم "2794" حَدَّثَنَا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أبي، حدثنا الأعمش، حدثني إِبْرَاهِيْمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: بينما أنا أمشي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حرث وهو متكئ على عسيب، إذ مر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. فقالوا: ما رابكم إليه؟ لا يستقبلكم بشيء تكرهونه. فقالوا: سلوه. فقام إليه بعضهم فسأله عن الروح. قال: فأسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئا. فعلمت أنه يوحى إليه, قال: فقمت مكاني. فلما نزل الوحي قال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .
2 صحيح على شرط الشيخين: أخرجه أحمد "1/ 258"، والبزار "2225" كشف الأستار، والنسائي في "الكبرى" "11290"، وابن جرير في "تفسيره" "15/ 108"، والحاكم "2/ 362"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 271" من طرق عن جرير بن عبد الحميد، به.(1/250)
ذكر أذية المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين:
الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيْرٍ، قَالَ: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، قال: حدثني عروة، قال: سألت عبد الله بن عمرو قلت: حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أقبل عقبة بن أبي معيط والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة، فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه، فدفعه عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] أخرجه البخاري1.
ورواه ابن إسحاق، عن يحيى بنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ.
ورواه سليمان بن بلال، وعبدة2، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عمرو بن العاص. وهذه علة ظاهرة، لكن رواه محمد بن فليح، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ أَبِيْه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، فهذا ترجيح للأول.
وقال سفيان، وشعبة، واللفظ له، قال: حدثنا أبو إسحاق، قال: سمعت عمرو بن ميمون يحدث عن عبد الله، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش، وثم سلى بعير، فقالوا: من يأخذ سلى هذا الجزور فيقذفه على ظهره. فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهره صلى الله عليه وسلم، وجاءت فاطمة فأخذته عن ظهره، ودعت على من صنع ذلك، قال عبد الله: فما رَأَيتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا عليهم إلا يومئذ فقال: "اللهم عليك الملأ من قريش، اللهم عليك أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف" -أو أبي ابن خلف، شك شعبة، ولم يشك سفيان أنه أمية- قال عبد الله: فقد رأيتهم قتلوا يوم بدر وألقوا في القليب، غير أن أمية كان رجلا بادنا، فتقطع قبل أن يبلغ به البئر. أخرجاه3 من حديث شعبة، ومن حديث سفيان.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4815" حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الاوزاعي، به.
2 هو عبدة بن سليمان الكلابي، أبو محمد الكوفي، قيل: اسمه عبد الرحمن، وعبدة لقب، وكلاب إخوة رؤاس من قيس عيلان، وقال محمد بن سعد: عبدة بن سليمان بن حاجب بن زرارة بن عبد الرحمن بن صرد بن سمير بن مليل بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي بَكْرٍ بنِ كلاب. والذي أدرك الإسلام وأسلم صرد.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3854"، ومسلم "1794" من طريق أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي، عن ابن مسعود، به.(1/251)
وقال مسلم1: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ أَبَانٍ، قال: أخبرنا عبد الرحيم بن سليمان، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، قال: بينما رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال: أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلى2 جزور فيضعه على كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقاهم3، فأخذه فوضعه بين كتفيه، فضحكوا وجعل بعضهم يميل إلى بعض، وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة طرحته، والنبي صلى الله عليه وسلم ما يرفع رأسه، فجاءت فاطمة، وهي جويرية فطرحته عنه وسبتهم، فلما قضى صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا، ثم قال: "اللهم عليك بقريش" ثلاثا، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته، ثم قال: "اللهم عليك بأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط". وذكر السابع ولم أحفظه.
فوالذي بعث محمدا بالحق، لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر4.
وقال زائدة، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قال: إن أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلاَمَهُ سَبْعَةٌ: رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلاَلٌ، وَالمِقْدَادُ. فَأَمَّا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ اللهُ بعمه أبي طالب. وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللهُ بِقَوْمِهِ. وَأَمَّا سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد، وأوقفوهم في الشم، فما من أَحَدٌ إِلاَّ وَقَدْ وَاتَاهُم عَلَى مَا أَرَادُوا غير بِلاَلٌ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَعْطَوْهُ الوِلْدَانَ فَجَعَلُوا يَطُوْفُوْنَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُوْلُ: أَحَدٌ أحد. حديث صحيح.
وقال هشام الدستوائي، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بعمار وأهله، وهم يعذبون، فقال: "أبشروا آل عمار فإن موعدكم الجنة".
وقال الثوري، عن منصور، عن مجاهد، قال: كان أول شهيد في الإسلام أم عمار سمية، طعنها أبو جهل بحربة في قبلها.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1794" "107".
2 سلا: هو اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة وسائر الحيوان. وهي من الآدمية المشيمة.
3 أي بعثته نفسه الخبيثة من دونه فأسرع السير، وهو عقبة بن أبي معيط كما صرح به مسلم في الرواية الثانية "1794" "108".
4 القليب: هي البئر التي لم تطو. وإنما ضعوا في القليب تحقيرا لهم، ولئلا يتأذى الناس برائحتهم، وليس هو دفنا، لأن الحربي لا يجب دفنه.(1/252)
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ أبا بكر أعتق ممن كان يعذب في الله سبعة، فذكر منهم الزنيرة، قال: فذهب بصرها، وكانت ممن يعذب في الله على الإسلام، فتأبى إلا الإسلام، فقال المشركون: ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كلا والله، ما هو كذلك. فرد الله عليها بصرها.
وقال إسماعيل بن أبي خالد وغيره: حدثنا قيس، قال: سمعت خبابا يقول: أَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد برده في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: "إن كان من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عز وجل" 1. متفق عليه، وزاد البخاري من حديث بيان بن بشر: "والذئب على غنمه".
وقال البكائي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير, قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم، يجيعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر على أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولون له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له: أهذا الجعل إلهك من دون الله، فيقول: نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده.
وحدثني الزبير بن عكاشة، أنه حدث، أن رجالا من بني مخزوم مشوا إلى هشام بن الوليد، حين أسلم أخوه الوليد بن الوليد، وكانوا قد أجمعوا أن يأخذوا فتية منهم كانوا قد أسلموا، منهم سلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، قال: فقالوا له وخشوا "شرهم"2: إنا قد أردنا أن تعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي قد أحدثوا، فإنا نأمن بذلك في "غيرهم"2. قال: هذا فعليكم به فعاتبوه، يعني أخاه الوليد، ثم إياكم ونفسه، وقال:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3852"، وأبو داود "2649" من طريق إسماعيل، به.
2 في الأصل: "شره"، والصواب: "شرهم"، والتصويب من سيرة ابن هشام "1/ 226" ط. دار الحديث. وكذا وقع: "غيره"، والصواب: "غيرهم".(1/253)
ألا لا تقتلن أخي عييش ... فيبقى بيننا أبدا تلاحي
احذروا على نفسه، فأقسم بالله لئن قتلتموه لأقتلن أشرفكم رجلا، [قال: فقالوا: اللهم العنه، ومن يغزر بهذا الخبيث، فوالله لو أصيب في أيدينا لقتل أشرفنا رجلا. قال: فتركوه ونزعوا عنه] 1.
فتركوه، فكان ذلك مما دفع الله به عنه.
وقال عمرو بن دينار، فيما رواه عنه ابن عيينة: لما قدم عمرو بن العاص من الحبشة جلس في بيته فقالوا: ما شأنه، ما له لا يخرج؟ فقال: إن أصحمة يزعم أن صاحبكم نبي.
ويروى عن ابن إسحاق، من طريق محمد بن حميد الرازي، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام، وذلك مع عمرو بن أمية الضمري، وأن النجاشي كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من النجاشي أصحمة بن أبجر، سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، أشهد أنك رسول الله، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك أريحا ابني، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت، يا رسول الله.
قال يونس، عن ابن إسحاق: كان اسم النجاشي مصحمة، وهو بالعربية عطية، وإنما النجاشي اسم الملك، كقولك كسرى وهرقل.
وفي حديث جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى على أصحمة النجاشي، وأما قوله: "مصحمة" فلفظ غريب.
__________
1 ما بين المعكوفين سقط في النص، استدركناه من سيرة ابن هشام. ط. دار الحديث "1/ 226".(1/254)
ذكر شعب أبي طالب والصحيفة:
قال موسى بن عقبة، عن الزهري، قال: ثم إنهم اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا، حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية. فلما رأى أبو طالب عملهم جمع بني أبيه وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانا، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوه أجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم، حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق، لا يقبلوا من بني هاشم أبدا صلحا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل.
فلبث بنو هاشم في شعبهم، يعني ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء، وقطعوا عنهم الأسواق، وكان أبو طالب إذا نام الناس أَمْرُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد مكرا به واغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته فاضطجع عَلَى فِرَاشِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فراش ذلك فينام عليه. فلما كان رأس ثلاث سنين، تلاوم رجال من بني عبد مناف، ومن بني قصي، ورجال أمهاتهم من نساء بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه.
وبعث الله على صحيفتهم الأرضة، فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق، ويقال: كانت معلقة في سقف البيت، فلم تترك اسما لله إلا لحسته، وبقي ما كان فيها من شرك أو ظلم، فأطلع الله رسوله على ذلك، فأخبر به أبا طالب، فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبني. فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب، حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش، فأنكروا ذلك، فقال أبو طالب: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فائتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح. فأتوا بها وقالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم، فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد، جعلتموه خطرا للهلكة.
قال أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف، إن ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني، أن الله برئ من هذه الصحيفة، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم، فإن كان كما قال، فأفيقوا، فوالله لا نسلمه أبدا حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي قال باطلا، دفعناه إليكم، فرضوا وفتحوا الصحيفة، فلما رأتها قريش كالذي قال(1/255)
أبو طالب، قالوا: والله إن كان هذا قط إلا سحرا من صاحبكم، فارتكسوا وعادوا لكفرهم، فقال بنو عبد المطلب: إن أولى بالكذب والسحر غيرنا، فكيف ترون، وإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد الصحيفة، وهي في أيديكم، أفنحن السحرة أم أنتم؟ فقال أبو البختري، ومطعم بن عدي، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة، وزمعة بن الأسود، وهشام بن عمرو -وكانت الصحيفة عنده، وهو من بني عامر بن لؤي- في رجال من أشرافهم: نحن برآء مما في هذه الصحيفة. فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل.
وذكر نحو هذه القصة ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ.
وذكر ابن إسحاق نحوا من هذا، وقال: حدثني حسين بن عبد الله أن أبا لهب -يعني حين فارق قومه من الشعب- لقي هندا بنت عتبة بن ربيعة، فقال لها: هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقها؟ قالت: نعم فجزاك الله خيرا أبا عتبة.
وأقام بنو هاشم سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا، لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفى به. وقد كان أبو جهل فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام بن خويلد، ومعه غلام يحمل قمحا، يريد به عمته خديجة -رضي الله عنها- وهي في الشعب فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم، والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة. فجاءه أبو البختري بن هشام، فقال: ما لك وله! قال: يحمل الطعام إلى بني هاشم! قال: طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها بطعامها، خل سبيل الرجل. فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ له أبو البختري لحي بعير، فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا، وحمزة يرى ذلك، يكرهون أن يبلغ ذَلِكَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُه، فيشمتوا بهم، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا، سرا وجهرا.
وقال موسى بن عقبة: فلما أفسد الله الصحيفة، خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورهطه، فعاشوا وخالطوا الناس.(1/256)
باب: إنا كفيناك المستهزئين
قال الثوري، عن جعفر بن إياس، عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قول الله -عز وجل: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر: 95] ، قال: المستهزئون: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، وأبو زمعة الأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العزى، والحارث بن عيطل السهمي، والعاص بن وائل، فأتاه جبريل فشكاهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه، فأراه الوليد، وأومأ جبريل إلى أبجله1 فقال: "ما صنعت"؟ قال: كفيته. ثم أراه الأسود، فأومأ جبريل إلى عينيه، فقال: "ما صنعت"؟ قال: كفيته. ثم أراه أبا زمعة، فأومأ إلى رأسه، فقال: "ما صنعت"؟ قال: كفيته، ثم أراه الحارث، فأومأ إلى رأسه أو بطنه، وقال: كفيته. ومر به العاص فأومأ إلى أخمصه، وقال: كفيته. فأما الوليد، فمر برجل من خزاعة، وهو يريش نبلا له فأصاب أبجله فقطعها، وأما الأسود فعمي، وأما ابن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه، حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها، وأما العاص فدخل في رأسله شبرقة2، حتى امتلأت فمات منها، وقال غيره: إن ركب إلى الطائف حمارا فربظ به على شوكة، فدخلت في أخمصه فمات منها. حديث صحيح.
__________
1 الأبجل: عرق في باطن الذراع، وهو من الفرس والبعير بمنزلة الأكحل من الإنسان وقيل: هو عرق غليظ في الرجل فيما بين العصب والعظم.
2 شبرقة: الشبرق: نبت حجازي يؤكل وله شوك، وإذا يبس سمي الضريع.(1/257)
دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش بالسِّنَة:
قال الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوْقٍ، قَالَ: بينما رجل يحدث في المسجد، إذ قال فيما يقول: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ، قال: دخان يكون يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكمة، فقمنا فدخلنا على عبد الله بن مسعود فأخبرناه، فقال: أيها الناس من علم منكم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، إن من العلم أن يقول العالم لما لا يعلم الله أعلم، قال الله لرسوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] . وسأحدثكم عن الدخان: إن قريشا لما استعصت عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبطئوا عن الإسلام قال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف". فأصابتهم سنة فحصت كل شيء حتى أكلوا الجيف والميتة، حتى إن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، ثم دعوا فكشف عنهم، يعني قولهم: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12] ، ثم قرأ عبد الله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] ، قال: فعادوا فكفروا فأخروا إلى يوم بدر {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16] ، قال عبد الله: يوم بدر فانتقم منهم. متفق عليه1.
وقال علي بن ثابت الدهان -وقد توفي سنة تسع عشرة ومائتين: أخبرنا أسباط بن نصر، عن منصور، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوْقٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قال: لما رَأَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الناس إدبارا قال: "اللهم سبع كسبع يوسف". فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام، فجاءه أبو سفيان وغيره، فقال: إنك تزعم أنك بعثت رحمة، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، فدعا فسقوا الغيث.
قال ابن مسعود: مضت آية الدخان، وهو الجوع الذي أصابهم، وآية الروم، والبطشة الكبرى، وانشقاق القمر. وأخرجا من حديث الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوْقٍ، قَالَ عبد الله: خمس قد مضين: اللزام2، والروم، والدخان، والقمر، والبطشة3.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4822"، ومسلم "2798" من طريق الأعمش به.
2 اللزام: الفيصل جدا. وقوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77] ، أي: عذابا لازما لكم؛ قال الزجاج: قال أبو عبيدة: فيصلا. قالوا: وهو ما جرى عليهم يوم بدر من القتل والأسر، وهي البطشة الكبرى.
3 صحيح: أخرجه مسلم "2798" "41".(1/258)
وقال أيوب وغيره، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: جاء أبو سفيان إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستغيث من الجوع، لأنهم لم يجدوا شيئا، حتى أكلوا العِلهز1 بالدم، فنزلت: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] .
__________
1 العلهز: هو شيء يتخذونه في سني المجاعة، يخلطون الدم بأوبار الإبل ثم يشوونه بالنار ويأكلونه. وقيل غير ذلك.(1/259)
ذكر الروم:
وقال أبو إسحاق الفزاري، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: كان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم، لأنهم أهل أوثان، فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أما إنهم سيظهرون". فذكر أبو بكر لهم ذلك، فقالوا: اجعل بيننا وبينكم أجلا، فجعل بينهم أجلَ خمسِ سنين فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "ألا جعلته -أراه قال- دون العشرة"، قال: فظهرت الروم بعد ذلك. فذلك قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 2-4] .
قال سفيان الثوري: وسمعت أنهم ظهروا يوم بدر.
وقال الحسين بن الحسن بن عطية العوفي: حدثني أبي، عن جدي، عن ابن عباس: {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1، 2] قال: قد مضى ذلك وغلبتهم فارس، ثم غلبتهم الروم بعد ذلك، ولقي نبي الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب، والتقت الروم وفارس، فنصر الله النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين، ونصر الروم على مشركي العجم، ففرح المؤمنون بنصر الله إياهم ونصر أهل الكتاب.
قال عطية: فسألت أبا سعيد الخدري عن ذلك، فقال: التقينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن ومشركو العرب، والتقت الروم وفارس، فنصرنا الله على المشركين، ونصر الله أهل الكتاب على المجوس، ففرحنا بنصرنا ونصرهم1.
وقال الليث: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، قال: لما نزلت هاتان الآيتان -يعني أول الروم- ناحب أبو بكر بعض المشركين -يعني راهن قبل أن يحرم القمار- على شيء، إن لم تغلب فارس في سبع سنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم فعلت؟ فكل ما دون العشر بضع". فكان ظهور فارس على الروم في سبع
__________
1 ضعيف: أخرجه الترمذي "2935" و"3192" من طريق المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن سليمان الأعمش، عن عطية، به.
وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
قلت: إسناده ضعيف، آفته عطية العوفي، فإنه ضعيف.(1/260)
سنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم فعلت"؟ فكان ظهور فارس على الروم في تسع سنين، ثم أظهر الله الروم عليهم زمن الحديبية، ففرح بذلك المسلمون.
وقال ابن أبي عروبة، عن قتادة {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم: 3] ، قال: غلبهم أهل فارس على أدنى الشام، قال: فصدق المسلمون ربهم، وعرفوا أن الروم سيظهرون بعد، فاقتمروا هم والمشركون على خمس قلائص، وأجلوا بينهم خمس سنين، فولي قمار المسلمين أبو بكر، وولي قمار المشركين أبي بن خلف، وذلك قبل أن ينهى عن القمار، فجاء الأجل، ولم تظهر الروم، فسأل المشركون قمارهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تكونوا أحقاء أن تؤجلوا أجلا دون العشر، فإن البضع ما بين الثلاث إلى العشر, فزايدوهم ومدوهم في الأجل". ففعلوا، فأظهر الله الروم عند رأس السبع من قمارهم الأول، وكان ذلك مرجعهم من الحديبية، وفرح المسلمون بذلك.
وقال الوليد بن مسلم: حدثنا أسيد الكلابي، أنه سمع العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه، قال: رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم، وظهورهم على الشام والعراق، كل ذلك في خمس عشرة سنة.(1/261)
ثم توفي عمه أبو طالب وزوجته خديجة:
يقال في قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26] أنها نزلت في أبي طالب ونزل فيه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] .
قال سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} قال: نزلت في أبي طالب، كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عنه.
ورواه حمزة الزيات، عن حبيب، فقال: عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وقال مَعْمَرٌ، عَنِ الزُهْرِيِّ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا عم قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله". فقالا: أي أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب! قال: فكان آخر كلمة أن قال: على ملة عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك". فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113، 114] الآيتين، ونزلت: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] ، أخرجه مسلم1.
وللبخاري مثله من حديث شعيب بن أبي حمزة.
وقد حكى عن أبي طالب، واسمه عبد مناف، ابنه علي، وأبو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ابن عون، عن عمرو بن سعيد، أن أبا طالب، قال: كنت بذي المجاز مع ابن أخي، فعطشت، فشكوت إليه، فأهوى بعقبه إلى الأرض، فنبع الماء فشربت.
وعن بعض التابعين، قال: لم يكن أحد يسود في الجاهلية إلا بمال، إلا أبو طالب وعتبة بن ربيعة.
قلت: ولأبي طالب شعر جيد مدون في السيرة وغيرها.
وفي "مسند أحمد" من حديث يَحْيَى بنُ سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عن حبة العرني، قال: رأيت عليا ضحك على المنبر حتى بدت نواجذه، ثم ذكر قول أبي طالب، ظهر علينا أبو
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4675"، ومسلم "24".(1/262)
طالب وَأَنَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نصلي ببطن نخلة فقال: ماذا تصنعان يابن أخي؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقال: ما بالذي تصنعان من بأس، ولكن الله لا تعلوني استى أبدا، فضحكت تعجبا من قول أبي1.
وروى معتمر بن سليمان، عن أبيه أن قريشا أظهروا لبني عبد المطلب العداوة والشتم، فجمع أبو طالب رهطه، فقاموا بين أستار الكعبة يدعون الله على من ظلمهم، وقال أبو طالب: إن أبى قومنا إلا البغي علينا فعجل نصرنا، وحل بينهم، وبين الذي يريدون من قتل ابن أخي، ثم دخل بآله الشعب.
ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس، قال: لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب قال: "أي عم، قل: لا إله إلا الله أستحل لك بها الشفاعة". قال: يابن أخي، والله لولا أن تكون سبة على أهل بيتك، يرون أني قلتها جزعا من الموت، لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها، فلما ثقل أبو طالب رؤي يحرك شفتيه، فأصغى إليه أخوه العباس ثم رفع عنه فقال: يا رسول الله! قد والله قالها، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لم أسمع".
قلت: هذا لا يصح، ولو كان سمعه العباس يقولها لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هل نفعت عمك بشيء، ولما قال علي بعد موته، يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات. صح أن عمرو بن دينار روى عن أبي سعيد بن رافع، قال: سألت ابن عمر: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] ، نزلت في أبي طالب؟ قال: نعم.
زيد بن الحباب، قال: حدثنا حماد، عن ثابت، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، عن العباس، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما ترجو لأبي طالب؟ قال: "كل الخير من ربي".
أيوب، عن ابن سيرين، قال: لما اختصر أبو طالب دعا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يابن أخي إذا أنا مت فأت أَخْوَالَكَ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَإِنَّهُم أَمنَعُ النَّاسِ لما في بيوتهم.
قال عروة بن الزبير: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما زالت قريش كاعة عني حتى مات عمي.
كاعة: جمع كائع، وهو الجبان، يقال: كع: إذا جبن وانقبض.
__________
1 ضعيف جدا: أخرجه الطيالسي "188"، وأحمد "1/ 99"، والبزار "751"، وأبو يعلى "447" من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، به.
قلت: إسناده ضعيف جدا، فيه علتان: الأولى: يحيى بن سلمة بن كهيل، متروك الحديث، وفي حديثه عن أبيه مناكير. والعلة الثانية: حبة العرني، ضعيف.(1/263)
وقال يزيد بن كيسان: حدثني أبو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لعمه: "قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة". فقال: لولا أن تعيرني قريش، يقولون: إنما حمله عليه الجزع لأقررت بها عينك. فأنزل الله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية. أخرجه مسلم1.
وقال أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ الحَارِثِ بنِ نَوْفَلٍ، عَنْ العباس أنه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: "نعم. هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" 2. أخرجاه وكذلك رواه السفيانان، عن عبد الملك.
وقال الليث، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يقول -وذكر عنده عمه أبو طالب فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه" 3. أخرجاه.
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي عثمان، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أهون أهل النار عذابا أبو طالب منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه". مسلم4.
وقال الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا مات أبو طالب أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنَّ عَمَّكَ الشيخ الضال قد مات. قال: "اذهب فوار أباك ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني". فأتيته فأمرني فاغتسلت، ثم دعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء5. ورواه الطيالسي في "مسنده" عن شعبة.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "25".
2 صحيح: أخرجه البخاري "3883"، ومسلم "209" "357" من طريق عبد الملك بن عمير، به.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3885"، ومسلم "210" "360" من طريق ليث، به.
4 صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة "13/ 157-158"، وأحمد "1/ 290"، ومسلم "212"، وأبو عوانة "1/ 98"، والحاكم "4/ 581"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 348" من طرق عن حماد بن سلمة، به.
5 ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة "3/ 269"، "12/ 67"، وأحمد "1/ 131"، وابن سعد "1/ 124"، وأبو داود "3214"، والنسائي في "المجتبى" "4/ 79"، وفي "الكبرى" "195"، وفي "الخصائص" "149"، والدارقطني في "العلل" "4/ 146"، والبيهقي في "السنن" "3/ 398"، وفي "الدلائل" "2/ 348-349" من طرق عن سفيان الثوري، به.(1/264)
عن أبي إسحاق فزاد بعد اذهب فواره: "فقلت: إنه مات مشركا" قال: "اذهب فواره" وفي حديث تصريح السماع من ناجية قال: شهدت عليا يقول: وهذا حديث حسن متصل.
وقال عبد الله بن إدريس: حدثنا محمد بن إسحاق، عمن حدثه، عن عروة بن الزبير، عن عبد الله بن جعفر، قال: لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من قريش، فألقى عليه ترابا، فرجع إلى بيته، فأتت بنته تمسح عن وجهه التراب وتبكي فجعل يقول: "أي بنية لا تبكين، فإن الله مانع أباك"، ويقول ما بين ذلك: "ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب". غريب مرسل.
وروي عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عارض جنازة أبي طالب، فقال: "وصلتك رحم يا عم وجزيت خيرا" تفرد به إبراهيم بن عبد الرحمن الخوارزمي.
وهو منكر الحديث يروي عنه عيسى غنجار، والفضل السيناني.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس، قال: لما أُتِيَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا طالب في مرضه قال: "أي عم، قل: لا إله إلا الله أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة". فقال: يابن أخي والله لولا أن تكون سبة عليك وعلى أهل بيتك من بعدي يرون أني قلتها جزعا حين نزل بي الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها، فلما ثقل أبو طالب رؤي يحرك شفتيه، فأصغى إليه العباس ليستمع قوله، فرفع العباس عنه، فقال: يا رسول الله، قد والله قال الكلمة التي سألته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لم أسمع".
إسناده ضعيف لأن فيه مجهولا، وأيضا، فكان العباس ذلك الوقت على جاهليته، ولهذا إن صح الحديث لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم روايته وقال له: لم أسمع، وقد تقدم أنه بعد إسلامه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك، فلو كان العباس عنده علم من إسلام أخيه أبي طالب لما قال هذا، ولما سكت عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هو في ضحضاح من النار"، ولقال: إني سمعته يقول: لا إله إلا الله، ولكن الرافضة قوم بهت.
__________
= وأخرجه الشافعي في "مسنده" "1/ 207"، والطيالسي "120"، وأحمد "1/ 97"، والنسائي "1/ 110"، وابن الجارود "550"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 248" من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، به.
قلت: إسناده ضعيف، فيه علتان: الأولى: أبو إسحاق، هو السبيعي، مدلس، مشهور بالتدليس، وقد عنعنه. الثانية: ناجية بن كعب، هو الأسدي، مجهول.(1/265)
وقال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأبا طالب ماتا في عام واحد فتتابعت عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المصائب بهلاكهما.
وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام، كان يسكن إليها.
وذكر الواقدي أنهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وأنهما توفيا في ذلك العام، وتوفيت خديجة قبل أبي طالب بخمسة وثلاثين يوما.
وذكر أبو عبد الله الحاكم أن موتها كان بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام، وكذا قال غيره.
وهي خديجة بنت خُوَيْلِدِ بنِ أَسَدِ بنِ عَبْدِ العُزَّى بنِ قصي الأسدية.
قال الزبير بن بكار: كانت تدعى في الجاهلية الطاهرة، وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم العامرية. وكانت خديجة تحت أبي هالة بن زرارة التميمي، واختلف في اسم أبي هالة، ثم خلف عليها بعده عتيق بن عائذ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ مَخْزُوْمٍ، ثم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن إسحاق: بل تزوجها أبو هالة بعد عتيق. وكانت وزيرة صدق على الإسلام.
وعن عَائِشَةَ، قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ خَدِيْجَةُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصلاة، وقيل: كان موتها في رمضان، ودفنت بالحجون، وقيل: إنها عاشت خمسا وستين سنة.
وقال الزبير: تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها أربعون سنة، وأقامت معه أربعا وعشرين سنة.
قال مروان بن معاوية الفزاري، عَنْ وَائِلِ بنِ دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ البَهِيِّ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا كان خَدِيْجَةَ لَمْ يَكَدْ يَسْأَمُ مِنْ ثَنَاءٍ عَلَيْهَا، واستغفار لها، فذكرها يوما، فاحتملتني الغَيْرَةُ، فَقُلْتُ: لَقَدْ عَوَّضَكَ اللهُ مِنْ كَبِيْرَةِ السن، فَرَأَيْتُهُ غَضِبَ غَضَباً أُسْقِطْتُ فِي خَلَدَي، وَقُلْتُ في نفسي: اللهم إنك إِنْ أَذْهَبْتَ غَضَبَ رَسُوْلِكَ عَنِّي لَمْ أَعُدْ إلى ذكرها بِسُوْءٍ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَقِيْتُ قَالَ: "كَيْفَ قُلْتِ! وَاللهِ لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، وصدقتني إذ كذبني النَّاسُ، وَرُزِقْتُ مِنْهَا الوَلَدَ، وَحُرِمْتُمُوْهُ مِنِّي". قَالَتْ: فغدا وراح عليَّ بها شهرا.
وقال هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قالت: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيْجَةَ، مِمَّا كُنْتُ أَسْمَعُ مِنْ ذِكْرِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا، وَمَا تَزَوَّجَنِي إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِهَا بِثَلاَثِ(1/266)
سِنِيْنَ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيْهِ ولا نصب1.
متفق عليه.
وقال الزهري: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة2.
وقال ابن فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُوْلُ: أَتَى جِبْرِيْلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَذِهِ خَدِيْجَةُ، أَتَتْكَ معها إناء فيه إدام طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لاَ صَخَبَ فِيْهِ ولا نصب3. متفق عليه.
وقال عبد الله بن جعفر: سمعت عليا رضي الله عنه يَقُوْلُ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: "خَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وخير نسائها مريم بنت عمران" 4. أخرجه مسلم.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3816"، ومسلم "2435".
2 ضعيف جدا: لإعضاله، فبين الزهري وخديجة رضي الله عنها مفاوز تنقطع دونها أعناق المطي.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3820"، ومسلم "2432".
4 صحيح: أخرجه البخاري "3815"، ومسلم "2430".(1/267)
ذكر الاسراء برسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَسْجِدِ الأقصى:
قال موسى بن عقبة، عن الزهري: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس قبل الهجرة بسنة.
وكذا قال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ.
وقال أبو إسماعيل الترمذي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن الضحاك الزبيدي بن زبريق، قال: حدثا عمرو بن الحارث، عن عبد الله بن سالم، عن الزبيدي محمد بن الوليد، قال: حدثنا الوليد بن عبد الرحمن، أن جبير بن نفير قال: حدثنا شداد بن أوس، قال: قلنا يا رسول الله كيف أسري بك؟ قال: "صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتما، فأتاني جبريل بدابة بيضاء فوق الحمار ودون البغل، فقال: اركب، فاستصعب عليّ، فرازها1 بأذنها، ثم حملني عليها، فانطلقت تهوي بنا، يقع حافرها حيث أدرك طرفها، حتى بلغنا أرضا ذات نخل، فأنزلني فقال: صل. فصليت، ثم ركبنا، فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بيثرب، صليت بطيبة. فانطلقت تهوي بنا، يقع حافرها حيث أدرك طرفها، ثم بلغنا أرضا، فقال: انزل فصل. ففعلت، ثم ركبنا. قال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال صليت بمدين عند شجرة موسى -عليه السلام- ثم انطلقت تهوي بنا، يقع حافرها حيث أدرك طرفها، ثم بلغنا أرضا بدت لنا قصور، فقال: انزل، فصليت وركبنا. فقال لي: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى. ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني، فأتى قبلة المسجد فربط فيه دابته، ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر، فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين لبن وعسل، أرسل إليَّ بهما جميعا، فعدلت بينهما، ثم هداني الله فأخذت اللبن، فشربت حتى قرعت2 به جبيني، وبين يدي شيخ متكئ على مثراة له، فقال: أخذ صاحبك الفطرة إنه ليهدى. ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي الذي في المدينة فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابي"3. قلت: يا رسول الله، كيف وجدتها؟ قال: "مثل الحمأة4 السخنة. ثم انصرف بي، فمررنا بعير لقريش،
__________
1 رازها: أي اختبرها.
2 قرعت: أي ضربه، يعني أنه شرب جميع ما فيه.
3 الزرابي: واحدتها الزربية: وهي الطنفسة، وقيل: البساط ذو الخمل. وتكسر زايها وتفتح وتضم.
4 الحمأة والحمأ: اللين الأسود المنتن. قال أبو عبيدة: واحدة الحمإ حمأة كقصبة، واحدة القصب.(1/268)
بمكان كذا وكذا، قد ضلوا بعيرا لهم، قد جمعه فلان، فسلمت عليهم، فقال بعضهم: هذا صوت محمد. ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة، فأتاني أبو بكر فقال: أين كنت الليلة، فقد التمستك في مظانك؟ قلت: علمت أني أتيت بيت المقدس الليلة، فقال: يا رسول الله إنه مسيرة شهر، فصفه لي. قال: ففتح لي صراط كأني أنظر إليه، لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه. قال: أشهد أنك رسول الله. فقال المشركون: انظروا إلى ابن أبي كبشة، يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة. فقال: إني مررت بعير لكم، بمكان كذا، وقد أضلوا بعيرا لهم، فجمعه فلان، وإن مسيرهم ينزلون بكذا، ثم كذا، ويأتونكم يوم كذا، يقدمهم جمل آدم، عليه مسح أسود، وغرارتان سوداوان. فلما كان اليوم، أشرف الناس ينظرون حتى كان قريبا من نصف النهار، حين أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل"1.
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح.
قلت: ابن زبريق تكلم فيه النسائي. وقال أبو حاتم: شيخ.
قال حماد بن سلمة: حدثنا أبو حمزة، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "أتيت بالبراق فركبته خلف جبريل، فسار بنا، فكان إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه، فسار بنا في أرض فيحاء طيبة، فأتينا على رجل قائم يصلي، فقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: أخوك محمد، فرحب ودعا بالبركة، وقال: سل لأمتك اليسر". ثم سار, فذكر أنه مر على موسى وعيسى، قال: "ثم أتينا على مصابيح فقلت: ما هذا؟ قال: هذه شجرة أبيك إبراهيم، تحب أن تدنو منها؟ قلت: نعم. فدنونا منها، فرحب بي، ثم مضينا حتى أتينا بيت المقدس, ونشر لي الأنبياء من سمى الله ومن لم يسم، وصليت بهم إلا هؤلاء النفر الثلاثة: موسى، وعيسى، وإبراهيم، فربطت الدابة بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فقربت لي الأنبياء، من سمى الله منهم، ومن لم يسم، فصليت بهم".
هذا حديث غريب، وأبو حمزة هو ميمون، ضعف.
وقال يُوْنُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أُتِيَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
1 ضعيف: أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 357"، وآفته إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيري الحمصي، قال أبو داود: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة. وكذبه محدث حمص محمد بن عوف الطائي.(1/269)
ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك. متفق عليه1.
قرأت على القاضي سليمان بن حمزة، أخبركم محمد بن عبد الواحد الحافظ, قال: أخبرنا الفضل بن الحسين، قال: أخبرنا علي بن الحسن الموازيني، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، قال: أخبرنا يوسف القاضي, قال: أخبرنا أبو يعلى التميمي، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الوساوسي, قال: حدثنا ضمرة، عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني، عن أبي صالح مولى أم هانئ، عن أم هانئ، قَالَتْ: دَخَلَ عليَّ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغَلَس2 وأنا على فراشي فقال: "شعرت أني نمت الليلة في المسجد الحرام، فأتى جبريل فذهب بي إلى باب المسجد، فإذا دابة أبيض، فوق الحمار، ودون البغل، مضطرب الأذنين, فركبته، وكان يضع حافره مد بصره، إذا أخذ بي في هبوط طالت يداه، وقصرت رجلاه، وإذا أخذ بي في صعود طالت رجلاه وقصرت يداه، وجبريل لا يفوتني، حتى انتهينا إلى بيت المقدس، فأوثقه بالحلقة التي كانت الأنبياء توثق بها، فنشر لي رهط من الأنبياء، فيهم إبراهيم، وموسى، وعيسى، فصليت بهم وكلمتهم، وأتيت بإناءين أحمر وأبيض، فشربت الأبيض فقال لي جبريل: شربت اللبن وتركت الخمر، لو شربت الخمر لارتدت أمتك. ثم ركبته إلى المسجد الحرام، فصليت به الغداة". قالت: فتعلقت بردائه، وقلت: أنشدك الله يابن عم أن تحدث بهذا قريشا فيكذبك من صدقك. فضرب بيده على ردائه فانتزعه من يدي، فارتفع عن بطنه، فنظرت إلى عكنه فوق إزاره وكأنه طي القراطيس، وإذا نور ساطع عند فؤاده، يكاد يختطف بصري، فخررت ساجدة، فلما رفعت رأسي إذا هو قد خرج، فقلت لجاريتي نبعة: ويحك اتبعيه فانظري. فلما رجعت أخبرتني أنه انتهى إلى قريش في الحطيم، فيهم المطعم بن عدي، وعمرو بن هشام، والوليد بن المغيرة، فقص عليهم مسراه، فقال عمرو كالمستهزئ: صفهم لي. قال: "أما عيسى ففوق الربعة، عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد الشعر، تعلوه صهبة، كأنه عروة بن مسعود الثقفي، وأما موسى فضخم، آدم، طوال، كأنه من رجال شنوءة كثير الشعر، غائر العينين، متراكب الأسنان، مقلص الشفتين، خارج اللثة، عابس، وأما إبراهيم، فوالله لأشبه الناس بي خَلْقا وخُلُقا". فضجوا وأعظموا ذلك، فقال المطعم: كل
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3394" و"4709" و"5576"، ومسلم "168"، والنسائي "8/ 312"، والبيهقي في "السنن" "8/ 286"، وفي "دلائل النبوة" "2/ 357" من طرق عن الزهري، به.
2 الغلس: ظلام آخر الليل.(1/270)
أمرك كان قبل اليوم أممًا، غير قولك اليوم، أنا أشهد أنك كاذب! نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس شهرا، أتيته في ليلة!
وذكر باقي الحديث، وهو حديث غريب، الوساوسي ضعيف تفرد به.
وقال مسلم: حدثنا محمد بن رافع، قال: حدثنا حجين بن المثنى، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عبد الله بن الفضل الهاشمي، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي، فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربا ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي، أنظر إليه، ما يسألونني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعد، كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي, أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم -يعني نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل: يا محمد هذا مالك صاحب النار، فسلم عليه, فالتفت إليه, فبدأني بالسلام" 1.
وقد رواه أبو سلمة أيضا، عن جابر مختصرا.
قال الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة، قال: سمعت جابر بن عبد الله يحدث، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يقول: "لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه". أخرجاه2.
وقال إِبْرَاهِيْمَ بنِ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بنِ كَيْسَانَ، عن ابن شهاب: سمعت ابن المسيب يقول: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين انتهى إلى بيت المقدس لقي فيه إبراهيم وموسى، وعيسى، ثم أخبر أنه أسري به، فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه. وذكر الحديث وهذا مرسل.
وقال محمد بن كثير المصِّيصي: حدثنا مَعْمر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن آمن، وسعوا إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك في صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "172" "278" حدثني زهير بن حرب، حدثنا حجين بن المثنى، به.
2 صحيح: أخرجه عبد الرزاق "5/ 329"، وأحمد "3/ 377 و377-378"، والبخاري "3886" و"4710"، ومسلم "170"، والترمذي "3132"، وأبو عوانة "1/ 124 و125 و131", وابن منده "738" و"739"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 359"، والبغوي "3762" من طريق الزهري، به.(1/271)
بيت المقدس! قال: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن قال ذلك لقد صدق. قالوا: وتصدقه! قال: نعم إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سمي أبو بكر الصديق.
وقال معتمر بن سليمان التيمي، عن أبيه، سمع أنسا يقول: حدثني بعض أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ به مر على موسى وهو يصلي في قبره. وذكر الحديث.
وقال عبد العزيز بن عمران بن مقلاص الفقيه، ويونس، وغيرهما: حدثنا ابن وهب قال: حدثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بنِ هَاشِمِ بنِ عُتْبَةَ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عن أنس بن مالك، قال: لما جاء جبريل -عليه السلام- إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبراق، كأنها أمرت ذنبها، فقال لها جبريل: مه يا براق! فوالله إن ركبك مثله. وسار رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هو بعجوز على جانب الطريق، فقال: "ما هذه يا جبريل؟ " قال له: سر يا محمد، فسار ما شاء الله أن يسير فإذا شيء يدعوه متنحيا عن الطريق يقول: هلم يا محمد، فقال جبريل: سر يا محمد. فسار ما شاء الله أن يسير، قال: فلقيه خلق من الخلق فقالوا: السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر فرد السلام، فانتهى إلى بيت المقدس، فعرض عليه الماء، والخمر، واللبن، فتناول اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو شربت الماء لغرقت أمتك وغرقت، ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك. ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء، فأمهم رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الليلة، ثم قال له جبريل: أما العجوز فلم يبق من الدنيا إلى ما بقي من عمر تلك العجوز، وأما الذي أراد أن تميل إليه، فذاك عدو الله إبليس، أراد أن تميل إليه، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم، وموسى، وعيسى.
أنبئنا عن ابن كليب، عن ابن بيان، قال: أخبرنا بشر ابن القاضي، قال: حدثنا محمد بن الحسن اليقطيني، قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، قال: حدثنا أبو عمر ابن النحاس، قال: حدثنا الوليد، قال: حدثني الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيْرٍ، عَنْ أَبِي سلمة قال: رؤي عبادة بن الصامت على حائط بيت المقدس يبكي فقيل: ما يبكيك؟ فقال: من ههنا حدثنا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رأى ملكا يقلب جمرا كالقطف. إسناده جيد.
وقال النضر بن شميل، وروح، وغندر: أخبرنا عوف، قال: حدثنا زرارة بن أوفى، قال: قال ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لما كانت ليلة أسري بي، ثم أصبحت بمكة، فظعت بأمري، وعلمت بأن الناس يكذبوني". قال: فقعد معتزلا حزينا، فمر به أبو جهل، فجاء فجلس فقال كالمستهزئ: هل كان من شَيْءٌ؟ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "نعم". قال: ما(1/272)
هو؟ قال: "إني أسري بي الليلة" قال: إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس". قال: ثم أصبحت بين أظهرنا! قال: "نعم". قال: فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث، فدعا قومه، فقال: أرأيت إن دعوت إليك قومك أتحدثهم بما حدثتني؟ قال: "نعم". فدعا قومه فقال: يا معشر بني كعب بن لؤي هلم، فانتقضت المجالس، فجاءوا حتى جلسوا إليهما، فقال: حدثهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أسري بي الليلة". قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس". قالوا: ثم أصبحت بين ظهرينا! قال: "نعم". قال: فمن بين مصفر وواضع يده على رأسه مستعجب للكذب، زعم, قال: وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد فقال: هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذهبت أنعت، فما زلت حتى التبس علي بعض النعت"، قال: فجيء بالمسجد حتى وضع دون دار عقيل أو عقال قال: فنعته وأنا أنظر إليه. فقالوا: أما النعت فقد والله أصاب ورواه هوذة، عن عوف.
مسلم بن إبراهيم: قال: حدثنا الحارث بن عبيد، قال: حدثنا أبو عمران، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "بينما أنا قاعد ذات يوم، إذا دخل جبريل، فوكز بين كتفي، فقمت إلى شجرة فيها مثل وكري الطائر، فقعد في واحدة، وقعدت في أخرى، فارتفعت حتى سدت الخافقين، فلو شئت أن أمس السماء لمسست، وأنا أقلب طرفي فالتفت إلى جبريل، فإذا هو لاطئ، فعرفت فضل علمه بالله، وفتح لي باب السماء ورأيت النور الأعظم، ثم أوحى الله إليَّ ما شاء أن يوحى".
إسناده جيد حسن، والحارث من رجال مسلم.
سعيد بن منصور: حدثنا أبو معشر، عن أبي وهب مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أسري به، قال: "يا جبريل إن قومي لا يصدقوني" قال: يصدقك أبو بكر وهو الصديق.
رواه إسحاق بن سليمان، عن يزيد بن هارون، قال: أخبرنا مسعر، عن أبي وهب هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: فحدثهم صلى الله عليه وسلم بعلامة بيت المقدس، فارتدوا كفارا، فضرب الله رقابهم مع أبي جهل. وقال أبو جهل: يخوفنا محمد بشجرة الزقوم، هاتوا تمرا وزبدا، فتزقموا ورأى الدجال في صورته رؤيا عين، ليس برؤيا منام، وعيسى، وموسى، وإبراهيم. وذكر الحديث.
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أتي بالبراق، وهو(1/273)
دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل، فلم يزايلا ظهره هو وجبريل، حتى انتهيا به إلى بيت المقدس، فصعد به جبريل إلى السماء، فاستفتح جبريل، فأراه الجنة والنار، ثم قال لي: هل صلى في بيت المقدس؟ قلت: نعم. قال: اسمك يا أصلع. قلت: زر بن حبيش. قال: فأين تجده صلاها؟ فتأولت الآية: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] قال: فإنه لو صلى لصليتم كما تصلون في المسجد الحرام قلت: لحذيفة: أربط الدابة بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء؟ قال: أكان يخاف أن تذهب منه وقد أتاه الله بها. كأن حذيفة لم يبلغه أنه صلى في المسجد الأقصى, ولا ربط البراق بالحلقة.
وقال ابن عيينة، عن عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] قال: هي رؤيا عين أريها رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أسرى به.
{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء: 60] قال: هي شجرة الزقوم. أخرجه البخاري1.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3888" حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان به.(1/274)
ذكر معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء:
قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 5-11] ، وقال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 13، 14] ، تفسير ذلك: قال زائدة وغيره، عن أبي إسحاق الشيباني، قال: سألت زر بن حبيش عن قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} فقال: حدثنا عبد الله بن مسعود، أنه رأى جبريل له ستمائة جناح أخرجاه1.
وروى شعبة، عن الشيباني هذا، لكن قال: سألته عن قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النَّجْمُ: 18] ، فذكر أنه رأى جبريل له ستمائة جناح.
وقال البخاري: قبيصة: حدثنا سفيان، عَنِ الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال: رأى رفرفا أخضر قد ملأ الأفق2.
وقال حماد بن سلمة: حدثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: رأيت جبريل عند سدرة، عليه ستمائة جناح، ينفض من ريشه التهاويل الدر والياقوت. عاصم بن بهدلة القارئ، ليس بالقوي.
وقال مالك بن مغول، عن الزبير بن عدي، عن طلحة بن مصرف، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة -كذا قال- وإليها ينتهي ما يصعد به، حتى يقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، حتى يقبض منها {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] ، قال: غشيها فراش من ذهب، وأعطي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَواتُ الخمس، وخواتيم سورة البقرة, وغفر لمن لا يشكر بالله من أمته المقحمات3. أخرجه مسلم.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3232"، ومسلم "174" من طريق أبي إسحاق الشيباني به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4858" حدثنا قبيصة، به.
وأخرجه البخاري "3233" حدثنا حفص بن عمر، شعبة عن الأعمش به.
3 صحيح: أخرجه مسلم "173" حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أبو أسامة، حدثنا مالك بن مغول، به. وقوله "المقحمات": معناه الذنوب العظام الكبائر التي تهلك أصحابها وتوردهم النار وتقحمهم فيها والتقحم: الوقوع في المهالك. والمعنى: من مات من هذه الأمة غير مشرك بالله غفر له المقحمات.(1/275)
وقال إِسْرَائِيْلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ يَزِيْدَ، عَنْ عَبْدِ الله {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] ، قَالَ: رَأَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل عليه حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض.
وقال عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] ، قال: رأى جبريل -عليه السلام- أخرجه مسلم1.
وقال زكريا بن أبي زائدة، عن ابن أشوع، عن الشعبي، عن مسروق، قال: قلت لعائشة: فأين قوله تعالى: {دَنَا فَتَدَلَّى} ؟ قالت: إنما ذاك جبريل، كان يأتيه في صورة الرجل، وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسد أفق السماء. متفق عليه2.
وقال ابن لهيعة: حدثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة أن نبي الله -عليه السلام- كان أول شأنه يرى المنام، فكان أول ما رأى جبريل بأجياد، أنه خرج لبعض حاجته، فصرخ به: يا محمد يا محمد فنظر يمينا وشمالا فلم ير شيئا، ثم نظر، فلم ير شيئا، فرفع بصره، فإذا هو ثانيا إحدى رجليه على الأخرى في الأفق، فقال: يا محمد جبريل جبريل، يسكنه، فهرب حتى دخل في الناس، فنظر فلم ير شيئا، ثم رجع فنظر فرآه، فذلك قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1-2] .
محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن ابن عباس {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} قال: دنا ربه منه فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى قال ابن عباس: قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم. إسناده حسن.
أخبرنا التاج عبد الخالق، قال: أخبرنا ابن قدامة، قال: أخبرنا أبو زرعة، قال: أخبرنا المقدمي، قال: أخبرنا القاسم بن أبي المنذر، قال: حدثنا ابن سلمة، قال: أخبرنا ابن ماجة، قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حدثنا الحسن بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي الصلت، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أتيت ليلة أسري بي على قوم، بطونهم كالبيوت، فيها الحيات، ترى من خارج بطونهم، فقلت: من هؤلاء
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "175" حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا علي بن مسهر، عن عبد الملك، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4855"، ومسلم "177" من طريق الشعبي، عن مسروق؛ به.(1/276)
يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا" رواه أحمد في "مسنده"1 عن الحسن، وعفان، عن حماد وزاد فيه: "رأيت ليلة أسري بي لما انتهينا إلى السماء السابعة". أبو الصلت مجهول.
أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن المرداوي، قال: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ الفَقِيْهُ، قال: أخبرنا هبة الله بن الحسن بن هلال، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ عَلِيِّ بنِ زِكْرِيّ سنة أربع وثمانين وأربعمائة, قال: أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله، قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن عمرو، قال: حدثنا سعدان بن نصر، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عون، قال: أنبأنا القاسم بن محمد، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ الفِرْيَةَ عَلَى اللهِ، وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيْلَ مَرَّتَيْنِ فِي صُوْرَتِهِ وَخَلْقِهِ، سَادّاً مَا بَيْنَ الأُفُق. أَخرجه البُخَارِيُّ2 عَنْ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي الثَّلْجِ، عن الأنصاري.
قلت: قد اختلف الصحابة -رضي الله عنهم- في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه، فأنكرتها عائشة، وأما الروايات عن ابن مسعود، فإنما فيها تفسير ما في النجم، وليس في قوله ما يدل على نفي الرؤية لله. وذكرها في الصحيح وغيره.
وقال يونس، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ أبو ذر يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل -عليه السلام- ففرج صدري, ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا ثم أفرغها في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فقال لخازنها: افتح، قال: من هذا؟ قال: جبريل قال: هل معك أحد؟ قال: نعم محمد. قال: أرسل إليه؟ قال: نعم ففتح، فلما علونا السماء الدنيا، إذا رجل عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح، والابن الصالح. قلت: يا جبريل من هذا؟ [قال هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى] 3
__________
1 ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة "14/ 307"، وأحمد "2/ 363"، وابن ماجه "2273" من طريق حماد ابن سلمة، عن علي بن زيد، به.
قلت: إسناده ضعيف، فيه علتان: الأولى: علي بن زيد، هو ابن جدعان، ضعيف لسوء حفظه والثانية: أبو الصلت, مجهول.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3234" حدثنا محمد بن عَبْدُ اللهِ بنُ إِسْمَاعِيْلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عبد الله الأنصاري، به.
3 في الأصل: عبارة وقع بها سقط وتكرار لبعض الألفاظ صوبناه من حديث مسلم "163".(1/277)
ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح. فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا، ففتح".
قال أنس: فذكر أنه وجد في السموات: آدم، وإدريس، وعيسى، وموسى، وإبراهيم، ولم يثبت -يعني أبا ذر- كيف منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السادسة، فلما مر جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بإدريس، قال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قال: ثم مر، "قلت: من هذا؟ قال: إدريس، قال: ثم مررت بموسى فقال: مرحبا بالنبي الصالح، والأخ الصالح. قلت: من هذا؟ قال: موسى. ثم مررت بعيسى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قلت: من هذا؟ قال: عيسى. ثم مررت بإبراهيم، فقال: مرحبا بالنبي الصالح، والابن الصالح. قلت: من هذا؟ قال: إبراهيم".
قال ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يَقُوْلاَنِ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام" 1.
قال ابن شهاب: قال ابن حزم، وأنس بن مالك: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ففرض الله -عز وجل- على أمتي خمسين صلاة، قال: فرجعت بذلك حتى أمر بموسى، فقال: ماذا فرض ربك على أمتك؟ قلت: فرض عليهم خمسين صلاة. قال موسى: فراجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك. قال: فراجعت ربي، فوضع عني شطرها، فرجعت إلى موسى فأخبرته، قال: فراجع ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعت ربي فقال: هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي. فرجعت إلى موسى فقال: ارجع إلى ربك. فقلت: قد استحييت من ربي. قال: ثم انطلق بي حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال: ثم دخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ 2 اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك".
أخبرنا بهذا الحديث يحيى بن أحمد المقرئ بالإسكندرية، ومحمد بن حسين الفوى بمصر، قالا: أخبرنا محمد بن عماد، قال: أخبرنا عبد الله بن رفاعة، قال: أخبرنا علي بن الحسن الشافعي، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عمر البزار، قال: حدثنا أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرٍو، المَدِيْنِيّ، قال: حدثنا أبو موسى يونس بن عبد الأعلى الصدفي، قال:
__________
1- صحيح: أخرجه مسلم "163" حدثني حرملة بن يحيى التجيبي، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس، عن ابن شهاب، به.
وصريف الأقلام: تصويتها حال الكتابة، قال الخطابي: هو صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه وما ينسخونه من اللوح المحفوظ.
2 جنابذ: هي القباب. واحدتها جنبذة. والحديث عند مسلم "163".(1/278)
حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، فذكره. رواه مسلم1 عن حرملة، عن ابن وهب. وروى النسائي شطره الثاني من قول ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس، وأبا حبة، إلى آخره، عن يونس، فوافقناه بعلو.
وقد أخرجه البخاري من حديث الليث، عن يونس وتابعه عقيل، عن الزهري.
وقال همام: سمعت قادة يحدث، عن أنس، أن مالك بن صعصعة حدثه، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثهم عن ليلة أسري به، قال: "بينما أنا في الحطيم" وربما قال قتادة: في الحجر "مضطجعا إذ أتاني آت" فجعل يقول لصاحبه الأوسط بين الثلاثة قال: فأتاني وقد سمعت قتادة يقول: "فشق ما بين هذه إلى هذه"، قال قتادة: قلت لجارود، وهو إلى جنبي: ما يعني؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته؟ قال: "فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيمانا، فغسل قلبي، ثم حشي، ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل، وفوق الحمار أبيض" فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال: نعم. "يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم قال: مرحبا به ونعم المجيء جاء. ففتح له، فلما خلصت فإذا آدم فيها، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه. فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح، والنبي الصالح، ثم صعد حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال جبريل: قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ [قال: نعم قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء. ففتح. فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة. قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي] 2 حتى السماء الرابعة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء. قال: ففتح، فلما خلصت فإذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت ورد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي
__________
1 صحيح: راجع تعليقنا السابق.
2 سقط من الأصل استدركناه من حديث البخاري "3887" حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بنُ يحيى به.(1/279)
الصالح. ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء. قال: ففتح، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح, فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء. قال: ففتح، فلما خلصت فإذا موسى -عليه السلام- فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، قال: فلما جاوزت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأنه غلام بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي. ثم صعد حتى أتى السماء السابعة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم فقال: مرحبا به ونعم المجيء جاء. ففتح فلما خلصت فإذا إبراهيم -عليه السلام- قال: هذا [أبوك] 1 فسلم عليه فسلمت عليه، فرد، وقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم رفعت إلى سدرة المنتهى. فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، فقال: هذه سدرة المنتهى. وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران. فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات. ثم رفع البيت المعمور، [ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل] 2، فأخذت اللبن. فقال: هذه الفطرة التي أنت عليها وأمتك. قال: ثم فرضت عليَّ الصلاة، خمسون صلاة في كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمسين صلاة في كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فإني قد خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، قال: فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى، فقال: بما أمرت؟ قلت: بأربعين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيعها فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فرجعت فوضع عني عشرا أخر، ثم رجعت إلى موسى". فذكر الحديث إلى أن قال: "إن أمتك لا تستطيع بخمس صلوات كل يوم، وإني خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قلت: قد سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. فلما نفرت ناداني مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي". أخرجه البخاري، عن هدبة عنه3.
__________
1 في الأصل: [هذا إبراهيم] ، والصواب: [هذا أبوك] ، كما في البخاري "3887" عن هدبة، به.
2 ما بين المعكوفين سقط في الأصل، وما أثبتناه من رواية البخاري "3887" عن هدبة بن خالد، به.
3 أخرجه البخاري "3887" حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بنُ يحيى، به.(1/280)
وقال مُعَاذُ بنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، قال: حدثنا أنس، عن مالك بن صَعْصَعَةَ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فذكر نحوه، وزاد فيه: فأتيت بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فشق من النحر إلى مراق البطن، فغسل بماء زمزم، ثم ملئ حكمة وإيمانا. أخرجه مسلم بطوله.
وقال سَعِيْدُ بنُ أَبِي عَرُوْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنس، عن مالك بن صعصعة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بينما أنا عند البيت، بين النائم واليقظان، إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين. قال: فأتيت فانطلق بي، ثم أتيت بسطت من ذهب فيه من ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا". قال قتادة: قلت لصاحبي: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطني. "فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، وحشي". أو قال: كنز إيمانا وحكمة -شك سعيد- "ثم أتيت بدابة أبيض يقال له البراق، فوق الحمار ودون البغل، يقع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه ومعي صاحبي لا يفارقني، فانطلقنا حتى أتينا السماء الدنيا".
وساق الحديث كحديث همام، إلى قوله: البيت المعمور فزاد: "يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، حتى إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم".
قلت: وهذه زيادة رواها همام في حديثه، وهو أتقن من ابن أبي عروبة، فقال: قال قتادة، فحدثنا الحسن، عن أبي هريرة أنه رأي البيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه. ثم رجع إلى حديث أنس، وفي حديث ابن أبي عروبة: "في سدرة المنتهى" إن ورقها مثل آذان الفيلة، ولفظه: "ثم أتيت على موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمسين صلاة، قال: إني قد بلوت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة وإن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك. فرجعت، فحط عني خمس صلوات، فما زلت أختلف بين ربي وبين موسى كلما أتيت عليه، قال لي مثل مقالته، حتى رجعت بخمس صلوات، كل يوم، فلما أتيت على موسى قال كمقالته، قلت: لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. فنوديت أن قد أمضيت، وخففت عن عبادي، وجعلت بكل حسنة عشر أمثالها". أخرجه مسلم.
وقد رواه ثابت البناني، وشريك بن أبي نمر، عن أنس، فلم يسنده لهما، لا عن أبي ذر، ولا عن مالك بن صعصعة، ولا بأس بمثل ذلك، فإن مرسل الصحابي حجة.
قال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض، فركبته حتى أتينا ببيت المقدس، فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت(1/281)
فصليت فأتاني بإناءين خمر ولبن، فاخترت اللبن، فقال: أصبت الفطرة. ثم عرج بي إلى السماء الدنيا، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: أنا جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل، ففتح لنا، فإذا بآدم".
فذكر الحديث وفيه: "فإذا بيوسف، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحب بي ودعا لي بخير". إلى أن قال لما فتح له السماء السابعة: "فإذا بإبراهيم -عليه السلام- وإذا هو مستند إلى البيت المعمور، فرحب بي، ودعا لي بخير، فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، فإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت. فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، قال: فدنا فتدلى وأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليّ في كل يوم خمسون صلاة، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، قال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك؛ فإني قد بلوت بني إسرائيل وجربتهم وخبرتهم. قال: فرجعت فقلت: أي رب خفف عن أمتي. فحط عني خمسا، فرجعت حتى انتهيت إلى موسى، فقال: ما فعلت؟ قلت: قد حط عني خمسا، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك. فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى حتى قال: هي خمس صلوات في كل يوم وليلة، بكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة" 1. أخرجه مسلم دون قوله: فدنا فتدلى، وذلك ثابت في رواية حجاج بن منهال، وهو ثبت في حماد بن سلمة.
وقال سليمان بن بلال، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، قال: سمعت أنسا يقول، وذكر حديث الإسراء، وفيه: ثم عرج به إلى السماء السابعة، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى2. أخرجه البخاري، عن عبد العزيز بن عبد الله، عن سليمان.
وقال شيبان، عن قتادة، عن أبي العالية، قال: حدثنا ابن عباس، قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي موسى -عليه السلام- رجلا طوالا جعدا، كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس". قال: ورأى مالكا خازن النار والدجال في آيات أراهن الله إياه قال: {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة: 23] ، فكان قتادة يفسرها أَنَّ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لقي موسى. أخرجه مسلم.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "162" "259".
2 صحيح: أخرجه البخاري "7517".(1/282)
وفي الصحيحين، من حَدِيْثِ سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أسري به: "لقيت موسى وعيسى -ثم نعتهما- ورأيت إبراهيم، وأنا أشبه ولده به" 1.
وقال مروان بن معاوية الفزاري، عن قنان النهمي، قال: حدثنا أبو ظبيان الجنبي، قال: كنا جلوسا عند أبي عبيدة بن عبد الله ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، فقال محمد لأبي عبيدة: حدثنا عن أبيك ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو عبيدة: لا، بل حدثنا أنت عن أبيك. قال: لو سألتني قبل أن أسألك لفعلت. فأنشأ أبو عبيدة يحدث، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أتاني جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل، فحملني عليه، فانطلق يهوي بنا، كلما صعد عقبة استوت رجلاه مع يديه، وإذا هبط استوت يداه مع رجليه، حتى مررنا برجل طوال سبط آدم، كأنه من رجال أزد شنوءة، وهو يقول ويرفع صوته ويقول: أكرمته وفضلته، فدفعنا إليه، فسلمنا، فرد السلام، فقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: هذا أحمد. قال: مرحبا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته. قال: ثم اندفعنا، فقلت: من هذا يا جبريل؟ قال: موسى. قلت: ومن يعاتب؟ قال: يعاتب ربه فيك. قلت: ويرفع صوته على ربه! قال: إن الله قد عرف له حدته. قال: ثم اندفعنا حتى مررنا بشجرة كأن ثمرها السرج وتحتها شيخ وعياله، فقال لي جبريل: اعمد إلى أبيك إبراهيم، فسلمنا عليه فرد السلام وقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: ابنك أحمد. فقال: مرحبا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته، يا بني إنك لاق ربك الليلة، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل. قال: ثم اندفعنا حتى انتهينا إلى المسجد الأقصى، فنزلت فربطت الدابة بالحلقة التي في باب المسجد التي كانت الأنبياء تربط بها، ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد، ثم أتيت بكأسين من عسل ولبن، فأخذت اللبن فشربته، فضرب جبريل منكبي، وقال: أصبت الفطرة ورب محمد. ثم أقيمت الصلاة، فأممتهم، ثم انصرفنا فأقبلنا". هذا حديث حسن غريب.
فإن قيل: فقد صح عن ثابت، وسليمان التيمي، عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر، هو قائم يصلي في قبره"، وقد صح عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى يصلي، وذكر إبراهيم، وعيسى قال: فحانت الصلاة فأممتهم". ومن حديث ابن المسيب أنه لقيهم في بيت المقدس، فكيف الجمع بين هذه الأحاديث وبين ما تقدم، من أن رأى هؤلاء الأنبياء في السموات، وأنه راجع موسى؟
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3437"، ومسلم "168".(1/283)
فالجواب: أنهم مثلوا له، فرآهم غير مرة، فرأى موسى في مسيرة قائما يصلي في قبره، ثم رآه ببيت المقدس، ثم رآه في السماء السادسة هو وغيره، فعرج بهم، كما عرج بنبينا صلوات الله على الجميع وسلامه، والأنبياء أحياء عند ربهم كحياة الشهداء عند ربهم، وليست حياتهم كحياة أهل الدنيا، ولا حياة أهل الآخرة، بل لون آخر، كما ورد أن حياة الشهداء بأن جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُم فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تسرح في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فهم أحياء عند ربهم بهذا الاعتبار كما أخبر سبحانه وتعالى، وأجسادهم في قبورهم. وهذه الأشياء أكبر من عقول البشر، والإيمان بها واجب كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الفَضْلِ أَحْمَدُ بنُ هبَةِ اللهِ، قال: أخبرنا أَبُو رَوْحٍ عَبْدُ المُعِزِّ بنُ مُحَمَّدٍ كِتَابَةً، أن تميم بن أبي سعيد الجرجاني أخبرهم، قال: أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الرحمن، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حمدان، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: حدثنا هدبة بن خالد، قال: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِرَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ يَا جِبْرِيْلُ؟ قَالَ: هَذِهِ مَاشِطَةُ بِنْتِ فِرْعُوْنَ، كَانَتْ تُمَشِّطُهَا، فوقع المشط من يدها، فقالت: باسم الله. قالت بنت فِرْعُوْنَ: أَبِي. قَالَتْ: رَبِّي وَرَبُّ أَبِيْكِ. قَالَتْ: أَقُوْلُ لَهُ إِذاً. قَالَتْ: قُوْلِي لَهُ. قَالَ لَهَا: أَوَلَكِ رَبٌّ غَيْرِي! قَالَتْ: رَبِّي وَرَبُّكَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قَالَ: فَأَحْمَى لَهَا بَقَرَةً مِنْ نُحَاسٍ، فَقَالَتْ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي. قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا لِمَا لَكِ عَلَيْنَا مِنَ الحَقِّ. فألقى ولدها في البقرة، واحدا وَاحِداً وَاحِداً، فَكَانَ آخِرَهُم صَبِيٌّ، فَقَالَ: يَا أُمَّه اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الحَقِّ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَرْبَعَةٌ تَكَلَّمُوا وَهُم صِبْيَانٌ: ابْنُ مَاشِطَةِ بنت فرعون، وصبي جريج، وعيسى ابن مريم، والرابع لا أحفظه. هذا حديث حسن.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ، عن أبي بكر بن أبي سبرة وغيره، قالوا: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يريه الجنة والنار، فلما كان ليلة السبت لسبع عشرة خلت من رمضان، قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم في بيته أتاه جبريل بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظرا، فعرج به إلى السموات سماء سماء، فلقي فيها الأنبياء، وانتهى إلى سدرة المنتهى.
قال ابن سعد: وأخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أسامة بن زيد، الليثي، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده. قال محمد بن عمر: وحدثنا موسى بن يعقوب الزمعي، عن(1/284)
أبيه، عن جده، عن أم سلمة. وحدثنا موسى بن يعقوب، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. وحدثني إسحاق بن حازم، عن وهب بن كيسان، عن أبي مرة، عن أم هانئ.
وحدثني عبد الله بن جعفر، عن زكريا بن عمرو، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، دخل حديث بعضهم في بعض، قالوا: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة من شعب أبي طالب إلى بيت المقدس، وساق الحديث إلى أن قال: وقال بعضهم في الحديث: فتفرقت بنو عبد المطلب يطلبونه حين فقد يلتمسونه، حتى بلغ العباس ذا طوى، فجعل يصرخ: يا محمد يا محمد، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لبيك". فقال: يابن أخي عنيت قومك منذ الليلة، فأين كنت؟ قال: "أتيت من بيت المقدس". قال: في ليلتك! قال: "نعم". قال: هل أصابك إلا خير؟ قال: "ما أصابني إلا خير".
وقالت أم هانئ: ما أسري به إلا من بيتنا: نام عندنا تلك الليلة بعد ما صلى العشاء، فلما كان قبل الفجر أنبهناه للصبح، فقام، فلما صلى الصبح قال: "يا أم هانئ جئت بيت المقدس، فصليت فيه، ثم صليت الغداة معكم". فقالت: لا تحدث الناس فيكذبونك، قال: "والله لأحدثنهم". فأخبرهم فتعجبوا، وساق الحديث.
فرق الواقدي، كما رأيت، بين الإسراء والمعراج، وجعلهما في تاريخين.
وقال عبد الوهاب بن عطاء: أخبرنا راشد أبو محمد الحماني، عَنْ أَبِي هَارُوْنَ العَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم أنه قال له أصحابه: يا رسول الله أخبرنا عن ليلة أسري بك فيها، فقرأ أول {سُبْحَانَ} وقال: "بينا أنا نائم عشاء في المسجد الحرام، إذ أتاني آت فأيقظني، فاستيقظت، فلم أر شيئا، ثم عدت في النوم، ثم أيقظني، فاستيقظت، فلم أر شيئا، ثم نمت، فأيقظني، فاستيقظت، فلم أر شيئا، فإذا أنا بهيئة خيال فأتبعته بصري، حتى خرجت من المسجد، فإذا أنا بدابة أدنى شبهه بدوابكم هذه بغالكم، مضطرب الأذنين، يقال له البراق، وكانت الأنبياء تركبه قبلي، يقع حافره مد بصره، فركبته، فبينا أنا أسير عليه إذ دعاني داع عن يميني: يا محمد انظرني أسألك. فلم أجبه، فسرت، ثم دعاني داع عن يساري: يا محمد انظرني أسألك. فلم أجبه، ثم إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها، وعليها من كل زينة، فقالت: يا محمد انظرني أسألك. فلم ألتفت إليها، حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتي بالحلقة، فأتاني جبريل بإناءين: خمر ولبن، فشربت اللبن، فقال: أصبت الفطرة. فحدثت جبريل عن الداعي الذي عن يميني، قال: ذاك داعي اليهود، لو أجبته لتهودت أمتك، والآخر داعي النصارى، لو أجبته لتنصرت أمتك، وتلك المرأة الدنيا، لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة. ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلينا(1/285)
ركعتين، ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، فلم تر الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيتم الميت حيث يشق بصره طامحا إلى السماء، فإنما يفعل ذلك عجبه به، فصعدت أنا وجبريل، فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل، وهو صاحب سماء الدنيا، وبين يديه سبعون ألف ملك، مع كل ملك جنده مائة ألف ملك، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوْ} [المدثر: 31] ، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أو قد بعث إليه؟ قال: نعم. فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته، تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته من الفجار، فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سجين.
ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأخونة - يعني بالخوان المائدة- عليها لحم مشرح، ليس يقربها أحد، وإذا أنا بأخونة أخرى، عليها لحم قد أروح، ونتن، وعندها أناس يأكلون منها: قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون الحرام. قال: ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خر يقول: اللهم لا تقم الساعة، وهم على سابلة آل فرعون، فتجيء السابلة فتطؤهم، فسمتهم يضجون إلى الله، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك الذين يأكلون الربا. ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل، فتفتح أفواههم ويلقمون الجمر، ثم يخرج من أسافلهم فيضجون، قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما. ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بنساء يعلقن بثديهن، فسمعتهن يضججن إلى الله، قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الزناة من أمتك. ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم، فيلقمون، فيقال له: كل ما كنت تأكل من لحم أخيك، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون. ثم صعدت إلى السماء الثانية فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله، قد فضل على الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب، قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أخوك يوسف، ومعه نفر من قومه. فسلمت عليه وسلم علي، ثم صعدت إلى السماء الثالثة، فإذا أنا بيحيى وعيسى ومعهما نفر من قومهما. ثم صعدت إلى الرابعة، فإذا أنا بإدريس، ثم صعدت إلى السماء الخامسة، فإذا أنا بهارون ونصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء، تكاد لحيته تصيب سرته من طولها، قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا المحبب في قومه، هذا هارون بن عمران، ومعه نفر من قومه. فسلمت عليه، ثم صعدت إلى السماء السادسة، فإذا أنا بموسى رجل آدم كثير الشعر، لو كان عليه قميصان لنفذ شعره دون القميص، وإذا هو يقول: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا، بل هذا أكرم على الله مني. قلت: من هذا؟ قال: موسى(1/286)
ثم صعدت السابعة، فإذا أنا بإبراهيم، ساند ظهره إلى البيت المعمور، فدخلته ودخل معي طائفة من أمتي، عليهم ثياب بيض، ثم دفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا كل ورقة منها تكاد أن تغطي هذه الأمة، وإذا فيها عين تجري، يقال لها سلسبيل، فيشق منها نهران، أحدهما الكوثر والآخر نهر الرحمة، فاغتسلت فيه، فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، ثم إني دفعت إلى الجنة، فاستقبلتني جارية، فقلت: لمن أنت؟ قالت: لزيد بن حارثة. ثم عرضت علي النار، ثم أغلقت، ثم إني دفعت إلى سدرة المنتهى فتغشى لي، وكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى، قال: ونزل على كل ورقة ملك من الملائكة، وفرضت علي الصلاة خمسين، ثم دفعت إلى موسى" -فذكر مراجعته في التخفيف. أنا اختصرت ذلك وغيره إلى أن قال- فقلت: "رجعت إلى ربي حتى استحييته".
ثم أصبح بمكة يخبرهم بالعجائب، فقال: إني أتيت البارحة بيت المقدس، وعرج بي إلى السماء، ورأيت كذا، ورأيت كذا، فقال أبو جهل: ألا تعجبون مما يقول محمد، وذكر الحديث.
هذا حديث غريب عجيب حذفت نحو النصف منه، رواه يحيى بن أبي طالب، عن عبد الوهاب، وهو صدوق، عن راشد الحماني، وهو مشهور، روى عنه حماد بن زيد، وابن المبارك، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، عن أبي هارون عمارة بن جوين العبدي، وهو ضعيف شيعي. وقد رواه عن أبي هارون أيضا هشيم، ونوح بن قيس الحداني بطوله نحوه، حدث به عنهما قتيبة بن سعيد. ورواه سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن روح بن القاسم، عن أبي هارون العبدي بطوله. ورواه أسد بن موسى، عن مبارك بن فضالة. ورواه عبد الرزاق، عن معمر. والحسن بن عرفة، عن عمار بن محمد، كلهم عن أبي هارون، وبسياق مثل هذا الحديث صار أبو هارون متروكا.
عَمْرُو بنُ دِيْنَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عباس: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] ، قال: رأي عين.
ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أسري بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على فراشه.
معمر عن قتادة عن الحسن، قال: أسري بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على فراشه.
وقال إبراهيم بن حمزة الزبيري: حدثنا حاتم بن إسماعيل، قال: حدثني عيسى بن ماهان، عَنِ الرَّبِيْعِ بنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي العَالِيَةِ، عن أبي هريرة. "ح". وقال هاشم بن القاسم،(1/287)
ويونس بن بكير، وحجاج الأعور: حدثنا أبو جعفر الرازي، وهو عيسى بن ماهان، عَنِ الرَّبِيْعِ بنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي العَالِيَةِ، عن أبي هريرة أو غيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] ، قال: أتي بفرس فحمل عليه، خطوه منتهى بصره، فسار وسار معه جبريل، فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المهاجرون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة بسبع مائة ضعف {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] ، ثم أتى على قوم ترضخ رءوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت! قال: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة. ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام عن الضريع والزقوم، ورضف جهنم، قال: يا جبريل ما هؤلاء؟ قال: الذين لا يؤدون الزكاة. ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها شيء إلا قصعته، يقول الله تعالى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف: 86] ، ثم مر على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يريد أن يزيد عليها، قال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا رجل من أمتك عليه أمانة، لا يستطيع أداءها، وهو يزيد عليها. ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت. قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة.
ثم نعت الجنة والنار، إلى أن قال: ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فدخل وصلى، ثم أتى أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم.
وذكر حديثا طويلا في ثلاث ورقات كبار. تفرد به أبو جعفر الرازي، وليس هو بالقوي، والحديث منكر يشبه كلام القصاص، إنما أوردته للمعرفة لا للحجة.
وروى في المعراج إسحاق بن بشير، وليس بثقة، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عباس حديثا.
وقال مَعْمر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلاَة عَلَى النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم بمكة ركعتين ركعتين، فلما خرج إلى المدينة فرضت أربعا، وأقرت صلاة السفر ركعتين1 أخرجه البخاري. آخر الإسراء.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3935".(1/288)
زواجه صلى الله عليه وسلم بعائشة وسودة أمي المؤمنين:
قال هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم متوفى خديجة، قبل الهجرة، وَأَنَا ابْنَةُ سِتٍّ، وَأُدْخِلْتُ عَلَيْهِ وَأَنَا ابْنَةُ تسع سنين جَاءنِي نِسْوَةٌ وَأَنَا أَلْعَبُ عَلَى أُرْجُوْحَةٍ، وَأَنَا مُجَمَّمَةٌ1، فَهَيَّأْنَنِي وَصَنَعْنَنِي، ثُمَّ أَتَيْنَ بِي إِلَيْهِ. قال عروة: ومكثت عنده تسع سنين2. وهذا حديث صحيح.
وقال أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين، فلبث سَنَتَيْنِ أَوْ قَرِيْباً مِنْ ذَلِكَ، وَنَكَحَ عَائِشَةَ وهي بنت ست سنين، ثم بنى بها وهي ابنة تسع. أخرجه البخاري3 هكذا مرسلا.
وقال هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "رأيتك في المنام مرتين، أرى أن رجلا يحملك في سرقة 4 حرير فيقول: هذه امرأتك، فأكشف فأراك فأقول: إن كان هذا من عند الله يمضه". متفق عليه5.
وقال عبد الله بن إِدْرِيْسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ حَاطِبٍ، قَالَ: قَالَتْ عائشة رضي الله عنها: لَمَّا مَاتَتْ خَدِيْجَةُ جَاءتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيْمٍ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: أَلاَ تَزَوَّجُ؟ قَالَ: "وَمَنْ"؟ قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْراً وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّباً. قَالَ: "مَنِ البِكْرُ ومن الثيب"؟ فقالت: أَمَّا البِكْرُ فَعَائِشَةُ ابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللهِ إِلَيْكَ. وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، قَدْ آمَنَتْ بِكَ وَاتَّبَعَتْكَ. قَالَ: "اذْكُرِيْهِمَا عَلَيَّ". قَالَتْ: فَأَتَيْتُ أُمَّ رُوْمَانَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ رُوْمَانَ مَاذَا أَدْخَلَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ! قَالَتْ: مَاذَا؟ قَالَتْ: رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ عَائِشَةَ. قَالَتْ: انْتَظِرِي فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ آتٍ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَذَكَرَتْ ذلك له. فقال: أوتصلح لَهُ وَهِيَ ابْنَةُ أَخِيْهِ؟ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَخُوْهُ وَهُوَ أخي وابنته تصلح لي". قالت: وقام أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَتْ لِي أُمُّ رُوْمَانَ: إِنَّ المطعم بن عدي قد كان ذَكَرَهَا عَلَى ابْنِهِ، وَوَاللهِ مَا أُخْلِفُ وَعْداً قط، تعني أبا بكر. قَالَتْ: فَأَتَى أَبُو بَكْرٍ المُطْعِمَ فَقَالَ: مَا تقول في أمر هذه الجارية. قالت:
__________
1 الجمة من شعر الرأس: ما سقط على المنكبين.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3896"، ومسلم "1422" من طريق أبي أسامة، عن هشام، به.
3 صحيح: راجع تخريجنا السابق.
4 سرقة حرير: أي قطعة من جيد الحرير، وجمعها سرق.
5 صحيح: أخرجه البخاري "3895"، ومسلم "2478" من طريق هشام بن عروة، به.(1/289)
فأقبل على امرأته فقال لها: مَا تَقُوْلِيْنَ؟ فَأَقْبَلَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليك تصبئه وتدخله فِي دِيْنِكَ. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: ما تقول أنت؟ فقال: إِنَّهَا لَتَقُوْلُ مَا تَسْمَعُ. فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ مِنَ المَوْعِدِ شَيْءٌ، فَقَالَ لَهَا: قُوْلِي لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فليأت. فَجَاءَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فملكها، قالت: ثم انطلقت إلى سودة بنت زمعة، وأبوها شيخ كبير قد جلس عن الموسم فحييته بتحية أهل الجاهلية وقلت: أنعم صباحا. قال: من أنت؟ قلت: خولة بنت حكيم. فرحب بي وقال ما شاء الله أن يقول، قلت: مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ يذكر سودة بنت زمعة. قال: كفؤ كريم، ماذا تقول صاحبتك؟ قلت: تحب ذلك. قال: قولي له فليأت. قالت فَجَاءَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فملكها. قالت: وقدم عبد بن زمعة فجعل يحثو على رأسه التراب، فقال بعد أن أسلم: إني لسفيه يوم أحثو على رأسي التراب أن تَزَوَّجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سودة. إسناده حسن.(1/290)
عرض نفسه صلى الله عليه وسلم على القبائل:
قال إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر، قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعرِضُ نَفْسَه عَلَى النَّاسِ بِالمَوْقِفِ فَيَقُوْلُ: "هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشاً قَدْ مَنَعُوْنِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّي" أخرجه أبو داود1 عن محمد بن كثير، عن إسرائيل، وهو على شرط البخاري.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحدا منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذاك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزوني مما يراد بي من الفتك، حتى أبلغ رسالات ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء. فلم يقبله أحد ويقولون: قومه أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه، ولفظوه، فكان ذلك مما ذخر الله للأنصار.
وتوفي أبو طالب، وابتلي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ ما كان، فعمد لثقيف بالطائف، رجاء أن يؤوه، فوجد ثلاثة نفر منهم، هم سادة ثقيف: عبد ياليل، وحبيب، ومسعود بنو عمرو، فعرض عليهم نفسه، وشكا إليهم البلاء، وما انتهك منه قومه. فقال أحدهم: أنا أسرق أستار الكعبة إن كان الله بعثك قط. وقال الآخر: أعجز على الله أن يرسل غيرك. وقال الآخر: والله لا أكلمك بعد مجلسك هذا، والله لئن كنت رسول الله لأنت أعظم شرفا وحقا من أن أكلمك، ولئن كنت تكذب على الله، لأنت أشر من أكلمك. وتهزؤوا به، وأفشوا في قومهم الذي راجعوه به، وقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، ودموا رجليه، فخلص منهم وهما تسيلان الدماء، فعمد إلى حائط من حوائطهم، واستظل في ظل سمرة حبلة منه، وهو مكروب موجع، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة، وشيبة أخوه، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عدواتهما، فلما رأياه أرسلا إليه غلاما لهما يدعى عداسا، وهو نصراني من أهل نينوى، معه عنب، فلما جاء عداس، قَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أي أرض أنت يا عداس"؟ قال: من أهل نينوى، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى"؟ فقال: وما يدريك من يونس بن متى؟ قال: "أنا رسول الله، والله أخبرني خبر يونس" فلما أخبره خر عداس ساجدا
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 390"، وأبو داود "3734".(1/291)
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يقبل قدميه وهما تسيلان الدماء، فلما أبصر عتبة، وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا، فلما أتاهما قالا: ما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه؟ قال: هذا رجل صالح، أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى، فضحكا به، وقالا: لا يفتنك عن نصرانيتك، فإنه رجل خداع. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة.
وقال يونس بن يزيد، عن الزهري: أخبرني عروة، أن عائشة حدثته، أنها قَالَتْ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟ قال: "ما لقيت من قومك كان أشد منه، يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب1، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا هو جبريل، فناداني: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. ثم ناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قومك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني بما شئت، إن شئت يطبق عليهم الأخشبين"2. فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلْ أرجو أن يخرج الله من أسرارهم -أو قال: من أصلابهم- من يعبد الله لا يشرك به شيئا" 3. أخرجاه.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، وهم يومئذ سادتهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمر، وأخواه مسعود، وحبيب، وعند أحدهم امرأة من قريش من جمح، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله من يرسله غيرك؟ وقال الآخر: والله لا أكلمك.
وذكره كما في حديث ابن شهاب، وفيه زياد وهي: فلما اطمأن صلى الله عليه وسلم قال فيما ذكر لي: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور
__________
1 قرن الثعالب: موضع على مسافة يوم وليلة من مكة.
2 الأخشبان: الجبلان المطيفان بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان. والأخشب: كل جبل خشن غليظ الحجارة.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3231"، ومسلم "1795".(1/292)
وجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك" 1.
وحدثني حُسَيْنُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عباس، قال: سمعت ربيعة بن عباد يحدث أبي، قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على القبائل من العرب، يقول: "يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوه لا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه، وأن تؤمنوا وتصدقوني وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به". قال: وخلفه رجل أحول وضيء، له غديرتان، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله قال: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الحي من بني مالك بن أقيش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه. فقلت لأبي: من هذا؟ قال: هذا عمه عبد العزى أبو لهب.
وحدثني ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم أتى كندة في منازلهم، وفيهم سيد لهم يقال له مليح، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه.
وحدثني مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ حصين، أنه أتى كلبا في منازلهم، إلى
__________
1 ضعيف: أخرجه ابن إسحاق في "المغازي" -كما في "سيرة ابن هشام"، "2/ 47-48" ومن طريقه الطبري في "تاريخه"، "1/ 554" قال حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي مرسلا.
قلت: إسناده ضعيف لإرساله، محمد بن كعب القرظي، تابعي من الطبقة الثالثة، ولد سنة أربعين على الصحيح، ووهم من قال ولد فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد قال البخاري: إن أباه كان ممن لم ينبت يوم قريظة فترك.
وأخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي"، "1901"، والطبراني في "الكبير" مختصرا من طريق ابن إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عبد الله بن جعفر قال: لما توفي أبو طالب خرج ماشيا على قدميه إلى الطائف، فدعاهم إلى الله، فلم يجيبوه، فأتى ظل شجرة، فصلى ركعتين ثم قال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي". الحديث مع تغيير يسير في بعض ألفاظه.
وقال الهيثمي في "المجمع"، "6/ 35": "وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات".
قلت: فالحديث يرسف في أغلال الضعف، ولا فكاك له؛ فمداره على ابن إسحاق، وقد انفرد به، ولم يرو من غير طريقه.
وقوله "يتجهمني": أي يلقاني بالغلظة والوجه الكريه.
وقد ذكرت الحديث في كتابنا "الأرائك المصنوعة في الأحاديث الضعيفة والموضوعة" المجلد الأول حديث رقم "205"ط. مكتبة الدعوة بالأزهر فراجعه ثمت إن شئت يسر الله طبع بقية مجلدات هذا الكتاب، وأكثر النفع به، وجعله في ميزان حسناتنا وسائر أعمالنا بكرمه ومنه.(1/293)
بطن منهم يقال له: بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول: يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم، فدعاهم إلى الله فلم يقبلوا.
وحدثني بعض أصحابنا أنه أتى بني حنيفة في منازلهم، ودعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح ردا منهم.
وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: "الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء". قال: أفنهدف نحورنا للعرب دونك؟ فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه.
وقال يونس بن بكير، عن إسحاق: حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا، وكان سويد يسميه قومه فيهم "الكامل" لسنه وجلده وشعره، فتصدى لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعاه إلى الله، فقال سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي. فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا الذي معك"؟ قال: مجلة لقمان، يعني: حكمة لقمان، قال: "اعرضها". فعرضها عليه، فقال: "إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل منه، قرآن أنزله الله علي". فتلا عليه القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا لقول حسن. ثم انصرف فقدم المدينة على قومها، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فكان رجال من قومه يقولون: إنا لنرى أنه قتل وهو مسلم، وكان قتله يوم بعاث.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق، قال: وسويد الذي يقول:
ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفرى
مقالته كالشهد ما كان شاهدا ... وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
يسرك باديه وتحت أديمه ... تميمة غش تبترى عقب الظهر
تبين لك العينان ما هو كاتم ... من الغل والبغضاء بالنظر الشزر
فرشني بخير طالما قد بريتني ... وخير الموالي من يريش ولا يبري(1/294)
حديث يوم بعاث 1:
قال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد، قال: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقال لهم: "هل لكم إلى خير مما جئتم له"؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: "أنا رسول الله بعثني الله إلى العباد". ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس، وكان غلاما حدثا: يا قوم هذا والله خير مما جئتم له. فيأخذ أبو الحيسر حفنة من الحصباء، فضرب بها وجه إياس، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا. فسكت، وقام النبي صلى الله عليه وسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومي أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، وكانوا لا يشكون أنه مات مسلما. وقد كان استشعر من الإسلام في ذلك المجلس، حين سَمِعَ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سمع.
وقال هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قالت: كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله، فقدم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِيْنَةَ، وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم -يعني: وجرحوا- قدمه الله لرسوله في دخولهم في الإسلام. أخرجه البخاري2.
__________
1 بعاث، بضم الباء، يوم مشهور كان فيه حرب بين الأوس والخزرج، وبعاث اسم حصن للأوس، وبعضهم يقوله بالغين المعجمة، وهو تصحيف.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3777" حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، به.
وقوله "سرواتهم": بفتح المهملة والراء والواو أي خيارهم.(1/295)
ذكر مبدأ خبر الأنصار والعقبة الأولى:
قال أحمد بن المقدام العجلي: حدثنا هشام بن محمد الكلبي، قال: حدثنا عبد الحميد بن أبي عيسى بن خير، عن أبيه، قال: سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس:
فَإِنْ يَسْلَمِ السَّعْدَانِ يُصْبِحْ مُحَمَّدٌ ... بِمَكَّةَ لاَ يخشى خلاف المخالف
فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان؟ سعد بن بكر، سعد تميم؟ فلما كان في الليلة الثانية سمعوا الهاتف يقول:
أيا سَعْدَ الأَوْسِ كُنْ أَنْتَ نَاصِراً ... وَيَا سَعْدُ سعد الخزرجين الغطارف
أَجِيْبَا إِلَى دَاعِي الهُدَى وَتَمَنَّيَا ... عَلَى اللهِ فِي الفِرْدَوْسِ مُنْيَةَ عَارِفِ
فَإِنَّ ثَوَابَ اللهِ لِلطَّالِبِ الهُدَى ... جِنَانٌ مِنَ الفِرْدَوْسِ ذَاتُ رَفَارِفِ
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ وَاللهِ سَعْدُ بنُ معاذ، وسعد بن عبادة.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: لما أراد الله إظهار دينه، وإعزاز نبيه، خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الموسم الذي لقيه فيه الأنصار، فعرض نفسه على القبائل، كما كان يصنع، فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما لقيهم قال: "من أنتم"؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال: "أمن موالي يهود"؟ قالوا: نعم. قال: "أفلا تجلسون أكلمكم"؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وكان مما صنع الله به في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا أهل شرك وأوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيا مبعوث الآن، قد أظل زمانه، نتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي تواعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه. فأجابوه وأسلموا، وقالوا: إنا تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك, ونعرض عليهم الذي أجبناك به، إن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا.
قال ابن إسحاق: وهم فيما ذكر ستة من الخزرج: أسعد بن زرارة، وعوف بن عفراء، ورافع بن مالك الزرقي، وقطبة بن عامر السلمي، وعقبة بن عامر. رواه جرير بن حازم عن(1/296)
ابن إسحاق، فقال بدل عقبة: معوذ بن عفراء، وجابر بن عبد الله أحد بني عدي بن غنم.
فلما قدموا المدينة ذكروا لقومهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام، وفشا فيهم ذكر رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة، وهي "العقبة الأولى"، فبايعوا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب، وهم أسعد بن زرارة، وعوف، ومعوذ ابنا الحارث وهما ابن عفراء، وذكوان بن عبد قيس، ورافع بن مالك، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة البلوي، وعباس بن عبادة بن نضلة، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وهم من الخزرج، وأبو الهيثم ابن التيهان، وعويم بن ساعدة، وهما من الأوس.
وقال يونس وجماعة، عن ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيْدُ بنُ أَبِي حَبِيْبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بنِ عبد الله اليزني، عن أبي عبد الله الصنابحي عبد الرحمن بن عسيلة، قال: حدثني عبادة بن الصامت، قَالَ: بَايَعنَا رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ العقبة الأولى، ونحن اثنا عشر رجلا، فبايعناه بيعة النساء على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، وذلك قبل أن تفترض الحرب، فإن وفيتم بذلك فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئا فأمركم إلى الله، إن شاء غفر، وإن شاء عذب.
أخرجاه عن قتيبة، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب. أخبرنا الخضر بن عبد الرحمن، وإسماعيل بن أبي عمرو، قالا: أَخْبَرَنَا الحَسَنُ بنُ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ بنِ الحَسَنِ بن البن، قال: أخبرنا جدي أبو القاسم الحسين، قال: أَخْبَرَنَا أَبُو القَاسِمِ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي العلاء سنة تسع وسبعين وأربعمائة، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عثمان المعدل، قال: أخبرنا علي بن يعقوب، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم القرشي، قال: أخبرنا محمد بن عائذ، قال: أخبرني إِسْمَاعِيْلُ بنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُثْمَانَ بنِ خُثَيْمٍ، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن عبادة بن الصامت، قَالَ: بَايَعنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله عز وجل، لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع أنفسنا وأزواجنا، ولنا الجنة. رواه زهير بن معاوية، عن ابن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، أن عبادة قال نحوه. خالفه داود بن عبد الرحمن العطار ويحيى بن سليم، فرويا عن ابن خثيم هذا المتن بإسناد آخر، وهو عن أبي الزبير عن جابر. وسيأتي.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: فلما انصرف القوم, بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصعب بن(1/297)
عمير العبدري يقرئهم ويفقههم في الدين، فنزل على أسعد بن زرارة، فحدثني عاصم ابن عمر أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض.
قال ابن إسحاق: وكان يسمى مصعب بالمدينة المقرئ.
وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ، قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فكنت إذا خَرَجْتُ بِهِ إِلَى الجُمُعَةِ، فَسَمِعَ الأَذَانَ صَلَّى على أبي أمامة أسعد بن زرارة، واستغفر، فقلت: يا أبه مالك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة! قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، كَانَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بنا بالمدينة في هزم مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ يُقَالُ لَهُ نَقِيْعُ الخضمات. قلت: وكم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: فلما حضر الموسم حج نفر من الأنصار، منهم معاذ بن عفراء، وأسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وذكوان، وعبادة بن الصامت، وأبو عبد الرحمن بن تغلب، وأبو الهيثم بن التيهان، وعويم بن ساعدة، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهم خبره، وقرأ عليهم القرآن، فأيقنوا به واطمأنوا، وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب، فصدقوه، ثم قالوا: قد علمت الذي كان بين الأوس والخزرج من سفك الدماء، ونحن حراص على ما أرشدك الله به، مجتهدون لك بالنصيحة, وإنا نشير عليك برأينا، فامكث على اسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنذكر لهم شأنك, وندعوهم إلى الله، فلعل الله يصلح ذات بينهم، ويجمع لهم أمرهم فنواعدك الموسم من قابل. فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجعوا إلى قومهم فدعوهم سرا وتلوا عليهم القرآن، حتى قل دار من الأنصار إلا قد أسلم فيها ناس، ثم بعثوا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذ بن عفراء، ورافع بن مالك أن ابعث إلينا رجلا من قبلك يفقهنا. فبعث مصعب بن عمير، فنزل في بني تميم على أسعد يدعو الناس سرا، ويفشو فيهم الإسلام ويكثر، ثم أقبل مصعب وأسعد، فجلسا عند بئر بني مرق، وبعثا إلى رهط من الأنصار، فأتوهما مستخفين، فأخبر بذلك سعد بن معاذ -ويقول بعض الناس: بل أسيد بن حضير -فأتاهم في لأمته معه الرمح، حتى وقف عليهم، فقال لأبي أمامة أسعد: علام أتيتنا في دورنا بهذا الوحيد الغريب الطريد، يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه، لا أراك بعدها تسيء من جوارنا. فقاموا، ثم إنهم عادوا مرة أخرى لبئر بني مرق، أو قريبا منها، فذكروا لسعد بن معاذ الثانية فجاءهم، فتواعدهم وعيدا دون وعيده الأول، فقال له أسعد: يابن خالة، اسمع من قوله، فإن سمعت حقا فأجب إليه، وإن سمعت منكرا فاردده بأهدى منه، فقال: ماذا يقول؟ فقرأ عليه مصعب: {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا(1/298)
عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 1-3] ، فقال سعد: ما أسمع إلا ما أعرفه. فرجع سعد وقد هداه الله، ولم يظهر لهما إسلامه، حتى رجع إلى قومه فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام، وأظهر لهم إسلامه وقال: من شك منكم فيه فليأت بأهدى منه، فوالله لقد جاء أمر لتحزَّنَّ منه الرقاب. فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلام سعد بن معاذ، إلا من لا يذكر.
ثم إن بني النجار أخرجوا مصعب بن عمير، واشتدوا على أسعد، فانتقل مصعب إلى سعد بن معاذ يدعو آمنا ويهدي الله به. وأسلم عمرو بن الجموح، وكسرت أصنامهم، وكان المسلمون أعز من بالمدينة، وكان مصعب أول من جمع الجمعة بالمدينة، ثم رجع إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هكذا قال ابن شهاب: إن مصعبا أول من جمع بالمدينة.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن المغيرة بن معيقيب، وَعَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ، أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير، يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر، وقالا: على بئر مرق، فاجتمع إليهما ناس، وكان سعد وأسيد بن حضير سيدي بني عبد الأشهل، فلما سمعا به قال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فلولا، أسعد بن زرارة ابن خالتي كفيتك ذلك. فأخذ أسيد حربته، ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أكلمه. قال: فوقف عليهما، فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كان لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره. قال: أنصف. ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما بلغنا: والله لعرفنا في وجه الإسلام، قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي. فقام فاغتسل وأسلم وركع ركعتين ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه من قومه أحد، وسأرسله إليكما. ثم انصرف إلى سعد بن معاذ وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما رآه سعد مقبلا قال: أقسم بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ولى به، ثم قال له: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فما رأيت بهما بأسا، وقد تهيبتهما فقالا: لا نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك. فقام سعد مغضبا مبادرا متخوفا، فأخذ الحربة، وقال: والله ما أراك أغنيت عنا شيئا. ثم خرج إليهما، فلما رآهما سعد مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما،(1/299)
فوقف عليهما متبسما. ثم قال لأسعد: يا أبا أمامة، والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت مني هذا، أتغشانا في دارينا بما نكره! وقد قال أسعد لمصعب: أي مصعب جاءك والله سيد من وراءه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان. فقال: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره. قال: أنصفت. فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، فعرفنا في وجهه، والله، الإسلام قبل أن يتكلم به، لإشراقه وتسهله. ثم فعل كما عمل أسيد، وأسلم، وأخذ حربته، وأقبل عامدا إلى نادي قومه، ومعه أسيد, فلما رآه قومه، قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعرفون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا. فوالله ما أمسى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلاَ امرأة إلا مسلما ومسلمة، ورجع مصعب وأسعد إلى منزلهما، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء ومسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف، وتلك أوس الله وهم من الأوس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت، وهو صيفي، وكان شاعرا لهم وقائدا، يستمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام، فلم يزل على ذلك حتى مضت أحد والخندق.(1/300)
العقبة الثانية:
قال يحيى بن سليم الطائفي، وداود العطار, وهذا لفظه: حدثنا ابن خثيم، عن أبي الزبير المكي، عن جابر بنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبث عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في المواسم: مجنة وعكاظ، ومنى، يقول: "من يؤويني وينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة"؟ فلا يجد، حتى إن الرجل يرحل صاحبه من مضر أو اليمن، فيأتيه قومه أو ذو رحمه يقول: احذر فتى قريش لا يفتنك، يمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عز وجل، يشيرون إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله له من يثرب، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من يثرب إلا وفيها رهط يظهرون الإسلام. ثم ائتمرنا واجتمعنا سبعين رجلا منا، فقلنا: حتى متى نذر رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف في جبال مكة ويخاف. فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدنا شعب العقبة، فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين، حتى توافينا عنده، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: "على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله، لا تأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة". فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر السبعين، إلا أنا، فقال: رويدا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة، فذروه فهو أعذر لكم عند الله عز وجل. قلنا: أمط يدك يا أسعد، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، فقمنا إليه نبايعه رجلا رجلا، يأخذ علينا شرطه، ويعطينا على ذلك الجنة.
زاد في وسطه يحيى بن سليم: فقال له عمه العباس: يابن أخي لا أدري ما هذا القوم الذين جاءوك، إني ذو معرفة بأهل يثرب. قال: فاجتمعا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس في وجوهنا، قال: هؤلاء قوم لا أعرفهم أحداث، فقلنا: علام نبايعك.
وقال أبو نعيم: حدثنا زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم معه عمه العباس، إلى السبعين من الأنصار، عند العقبة تحت الشجرة، قال: ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة، فإن عليكم من المشركين عينا. فقال أسعد: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك، ثم(1/301)
أخبرنا ما لنا على الله. قال: "أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم". قَالُوا: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ: "لكم الجنة". قالوا: فلك ذلك.
وقال أبو نعيم: حدثنا زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم معه عمه العباس، إلى السبعين من الأنصار، عند العقبة تحت الشجرة، قال: ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة، فإن عليكم من المشركين عينا. فقال أسعد: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك، ثم أخبرنا ما لنا على الله. قال: "أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا, وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم". قَالُوا: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ: "لكم الجنة". قالوا: فلك ذلك.
ورواه أحمد بن حنبل، عَنْ يَحْيَى بنِ زَكَرِيَّا بن أَبِي زَائِدَةَ، قال: أخبرنا مجالد، عن الشعبي، عن أبي مسعود الأنصاري بنحوه، قال: وكان أبو مسعود أصغرهم سنا.
وقال ابن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر، أن العباس بن عبادة بن نضلة أخا بني سالم قال: يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِنَّكُم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنها إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل، تركتموه وأسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم مستضلعون به وافون له، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قال عاصم: فوالله ما قال العباس هذه المقالة إلا ليشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بها العقد.
وقال ابن أبي بكر: ما قالها إلا ليؤخر بها أمر القوم تلك الليلة، ليشهد أمرهم عبد الله بن أبي، فيكون أقوى. قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله؟ قال: "الجنة". قالوا: ابسط يدك.
وبايعوه، فقال عباس بن عبادة: إن شئت لنملين عليهم غدا بأسيافنا، فقال: "لم أؤمر بذلك".
وقال الزهري -ورواه ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ- وقاله موسى بن عقبة، وهذا لفظه: إن العام المقبل حج من الأنصار سبعون رجلا، أربعون من ذوي أسنانهم وثلاثون من شبانهم، أصغرهم أبو مسعود عقبة بن عمرو، وجابر بن عبد الله، فلقوه بالعقبة، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه العباس، فلما أخبرهم بما خصه الله من النبوة والكرامة، ودعاهم إلى الإسلام وإلى البيعة أجابوه، وقالوا: اشترط علينا لربك ولنفسك ما شئت. فقال: "أشترط لربي أن لا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم". فلما طابت بذلك أنفسهم من الشرط أخذ عليهم العباس المواثيق لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالوفاء، وعظم(1/302)
العباس الذي بينهم وَبَيْنَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر أن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد بن عدي بن النجار. وذكر الحديث بطوله.
قال عروة: فجميع من شهد العقبة من الأنصار سبعون رجلا وامرأة وقال ابن إسحاق: سبعون رجلا وامرأتان، إحداهما أم عمارة وزوجها وابناهما.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: فحدثني معبد بن كعب بن مالك بن القين، عن أخيه عبيد الله، عن أبيه كعب رضي الله عنه قال: خرجنا في الحجة التي بايعنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة مع مشركي قومنا، ومعنا البراء بن معرور كبيرنا وسيدنا، حتى إذا كنا بظاهر البيداء، قال: يا هؤلاء تعلمون أني قد رأيت رأيا، والله ما أدري توافقوني عليه أم لا؟ فقلنا: وما هو يا أبا بشر؟ قال: إني قد أردت أن أصلي إلى هذه البنية ولا أجعلها مني بظهر. فقلنا: لا والله لا تفعل، والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام. قال: فإني والله لمصل إليها. فكان إذا حضرت الصلاة توجه إلى الكعبة، وتوجهنا إلى الشام, حتى قدمنا مكة، فقال لي البراء: يابن أخي انطلق بنا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى أسأله عما صنعت، فلقد وجدت في نفسي بخلافكم إياي. قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليبه وسلم فلقينا رجلا بالأبطح، فقلنا: هل تدلنا على محمد؟ قال: وهل تعرفانه إن رأيتماه؟ قلنا: لا والله. قال: فهل تعرفان العباس؟ فقلنا: نعم، وقد كنا نعرفه، كان يختلف إلينا بالتجارة، فقال: إذا دخلتما المسجد فانظرا العباس، فهو الرجل الذي معه. قال: فدخلنا المَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعباس ناحية المسجد جالسين، فسلمنا، ثم جلسنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تعرف هذين يا أبا الفضل؟ قال: نعم، هَذَا البَرَاءُ بنُ مَعْرُوْرٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَهَذَا كعب بن مالك، فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشاعر"؟ قال: نعم. فقال له البراء: يا رسول الله إني قد كنت رأيت في سفري هذا رأيا، وقد أحببت أن أسألك عنه. قال: وما ذاك؟ قال: رَأَيْتُ أَنْ لاَ أَجْعَلَ هَذِهِ البَنِيَّةَ مِنِّي بظهر فصليت إليها. فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا". فرجع إلى قِبْلَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأهله يقولون: قد مات عليها، ونحن أعلم به، قد رجع إلى قِبْلَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلى معنا إلى الشام.
ثُمَّ وَاعَدَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم العقبة، أوسط أيام التشريق، ونحن سبعون رجلا للبيعة، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، وإنه لعلى شركه، فأخذناه فقلنا: يا أبا جابر والله إنا لنرغب بك أن تموت على ما أنت عليه، فتكون لهذه النار غدا حطبا، وإن الله قد بعث رسولا يأمر بتوحيده وعبادته، وقد أسلم رجال من قومك، وقد وَاعَدَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للبيعة. فأسلم وطهر ثيابه، وحضرها معنا فكان نقيبا، فلما كانت الليلة التي وعدنا فيها رسول(1/303)
الله صلى الله عليه وسلم بمنى أول الليل مع قومنا، فلما استثقل الناس من النوم تسللنا من فرشنا تسلل القطا، حتى اجتمعنا بالعقبة، فَأُتِيَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمه العباس، ليس معه غيره، أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، فكان أول متكلم، فقال: يا معشر الخزرج إن محمدا منا حيث قد علمتم، وهو في منعة من قومه وبلاده، قد منعناه ممن هو على مثل رأينا منه، وقد أبى إلا الانقطاع إليكم، وإلى ما دعوتموه إليه، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه، فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم تخشون من أنفسكم خذلانا فاتركوه في قومه، فإنه في منعة من عشيرته وقومه. فقلنا: قد سمعنا ما قلت، تكلم يا رسول الله. فتكلم ودعا إلى الله، وتلا القرآن، ورغب في الإسلام، فأجبناه بالإيمان والتصديق له، وقلنا له: خذ لربك ولنفسك. فقال: إني أبايعكم على أن تمنعوني مما منعتم منه أبناءكم ونساءكم. فأجابه البراء بن معرور فقال: نعم والذي بعثك بالحق نمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر. فعرض في الحديث أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين أقوام حبالا، وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن الله أظهرك ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فقال: "بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم". فقال له البراء بن معرور: ابسط يدك يا رسول الله نبايعك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا". فأخرجوهم له، فكان نقيب بني النجار: أسعد بن زرارة، ونقيب بني سلمة: البراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، ونقيب بني ساعدة: سعد بن عبادة، والمنذر ابن عمرو، ونقيب بني زريق: رافع بن مالك، ونقيب بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع، ونقيب بني عوف بن الخزرج: عبادة بن الصامت -وبعضهم جعل بدل عبادة بن الصامت خارجة بن زيد- ونقيب بني عمرو بن عوف: سعد بن خيثمة، ونقيب بني عبد الأشهل -وهم من الأوس- أسيد بن حضير، وأبو الهيثم بن التيهان، قال: فأخذ البراء بِيَدِ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ عليها، وكان أول من بايع، وتتابع الناس فبايعوا، فصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ -والله- صوت سمعته قط، فقال: يا أهل الجباجب هل لكم من مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب، أما والله لأفرغن لك، ارفضوا إلى رحالكم". فقال العباس بن عبادة أخو بني سالم: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا. فقال: "إنا لم نؤمر بذلك" فرحنا إلى رحالنا فاضطجعنا، فلما أصبحنا، أقبلت جلة من قريش فيهم الحارث بن هشام، فتى شاب وعليه نعلان له جديدتان، فقالوا: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا لتستخرجوه من بين أظهرنا، وإنه والله ما من العرب أحد أبغض(1/304)
إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. فانبعث من هناك من قومنا من المشركين يحلفون لهم بالله، ما كان من هذا من شيء، وما فعلناه. فلما تثور القوم لينطلقوا قلت كلمة كأني أشركهم في الكلام: يا أبا جابر -يريد عبد الله بن عمرو- أنت سيد من سادتنا وكهل من كهولنا، لا تستطيع أن تتخذ مثل نعلي هذا الفتى من قريش. فسمعه الحارث، فرمى بهما إليّ وقال: والله لتلبسنهما. فقال أبو جابر: مهلا أحفظت لعمر الله الرجل -يقول: أخجلته- اردد عليه نعليه. فقلت: لا والله لا أردهما، فأل صالح إني لأرجو أن أسلبه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: ثم انصرفوا عنهم فأتوا عبد الله بن أبي يعني ابن سلول فسألوه، فقال: إن هذا الأمر جسيم وما كان قومي ليتفوتوا عليّ بمثله.
فانصرفوا عنه.
وقال ابن إدريس، عن ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم: "ابعثوا منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم". فقال أسعد بن زرارة: نعم يا رسول الله، قال: فأنت نقيب على قومك، ثم سمى النقباء كرواية معبد بن مالك.
وقال ابن وهب: حدثني مالك، قال: حدثني شيخ من الأنصار أن جبريل -عليه السلام- كان يشير للنبي صلى الله عليه وسلم إلى من يجعله نقيبا. قال مالك: كنت أعجب كيف جاء من قبيلة رجل، ومن قبيلة رجلان، حتى حدثني هذا الشيخ أن جبريل كان يشير إليهم يوم البيعة، قال مالك: وهم تسعة نقباء من الخزرج، وثلاثة من الأوس.
وقال: ابن إسحاق:
تسمية من شهد العقبة:
قلت: تركت النقباء لأنهم قد تقدموا.
فمن الأوس: سلمة بن سلامة بن وقش.
مومن بني حارثة: ظهير بن رافع، وأبو بردة بن نيار، وبهير بن الهيثم.
ومن بني عمرو بن عوف: رفاعة بن عبد المنذر -وعده ابن إسحاق نقيبا عوض أبي الهيثم بن التيهان- وعبد الله بن جبير بن النعمان أمير الرماة يوم أحد ويومئذ استشهد، ومعن بن عدي قتل يوم اليمامة، وعويم بن ساعدة.
فجميع من شهد العقبة من الأوس أحد عشر رجلا.(1/305)
ومن الخزرج من بني النجار: أبو أيوب خالد بن زيد, ومعاذ بن عفراء وأخوه عوف، وعمارة بن حزم، وقتل يوم اليمامة.
ومن بني عمرو بن مبذول: سهل بن عتيك، بدري.
ومن بني عمرو بن النجار، وهم بنو حديلة: أوس بن ثابت، وأبو طلحة زيد بن سهل.
ومن بني مازن بن النجار: قيس بن أبي صعصعة، وعمرو بن غزية.
ومن بلحارث بن الخزرج: خارجة بن زيد، استشهد يوم أحد، وبشير بن سعد، وعبد الله بن زيد صاحب النداء، وخلاد بن سويد، استشهد يوم قريظة، وأبو مسعود عقبة بن عمرو.
ومن بني بياضة: زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو، وخالد بن قيس.
ومن بني زريق: ذكوان بن عبد قيس، وكان خرج إلى مكة، فكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقال له: مهاجري أنصاري، واستشهد يوم أحد، وعباد بن قيس، والحارث بن قيس.
ومن بني سلمة: بشر بن البراء بن معرور ابن أحد النقباء، وسنان ابن صيفي, والطفيل ابن النعمان، واستشهد يوم الخندق، ومعقل بن المنذر، ومسعود بن يزيد, والضحاك بن حارثة، ويزيد بن حرام، وجبار بن صخر، والطفيل بن مالك.
ومن بني غنم بن سواد: سليم بن عمرو، وقطبة بن عامر، ويزيد بن عامر، وأبو اليسر كعب بن عمرو، وصيفي بن سواد.
ومن بني نابي بن عمرو: ثعلبة بن غنمة، وقتل بالخندق، وأخوه عمرو، وعبس بن عامر، وعبد الله بن أنيس، وخالد بن عدي.
ومن بني حرام: جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ حرام، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، وثابت بن الجذع، استشهد بالطائف، وعمير بن الحارث، وخديج بن سلامة, ومعاذ بن جبل.
ومن بني عوف بن الخزرج: العباس بن عبادة، استشهد يوم أحد، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة البلوي حليف لهم، وعمرو بن الحارث.
ومن بني سالم بن غنم بن عوف: رفاعة بن عمرو، وعقبة بن وهب.
ومن بني ساعدة: النقيبان سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو الذي كان أميرا يوم بئر معونة فاستشهد.(1/306)
وأما المرأتان: فأم منيع أسماء بنت عمرو بن عدي، وأم عمارة نسيبة بنت كعب، حضرت ومعها زوجها زيد بن عاصم بن كعب، وابناها حبيب وعبد الله، وحبيب هو الذي مثل به مسيلمة الكذاب وقطعه عضوا عضوا.
قال ابن إسحاق: فلما تفرق الناس عن البيعة، فتشت قريش من الغد عن الخبر والبيعة، فوجدوه حقا، فانطلقوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة، وهرب منذر بن عمرو، فشدوا يدي سعد إلى عنقه بنسعة، وكان ذا شعر كثير، فطفقوا يجبذونه بجمته ويصكونه ويلكزونه، إلى أن جاء مطعم بن عدي، والحارث بن أمية، وكان سعد يجبرهما إذا قدما المدينة فأطلقاه من أيديهم وخليا سبيله.
قال: وكان معاذ بن عمرو بن الجموح قد شهد العقبة، وكان أبوه من سادة بني سلمة، وقد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له مناف، فلما أسلم فتيان بني سلمة: معاذ بن جبل، وابنه معاذ بن عمرو وغيرهما، كانوا يدخلون بالليل على صنمه فيأخذونه ويطرحونه في بعض الحفر، وفيها عذر الناس، منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم من عدا على إلهنا في هذه الليلة! ثم يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه، ثم قال: أما والله لو أعلم من يصنع بك هذا لأخزيته. فإذا أمسى ونام فعلوا به مثل ذلك، وفعل مرات، وفي الآخر علق عليه سيفه، ثم قال: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع، وهذا السيف معك. فلما كان الليل أخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فعلقوه وربطوه به وألقوه في جب عذره، فغدا عمرو فلم يجده، فخرج يتبعه حتى وجدوه في البئر منكسا مقرونا بالكلب، فلما رآه أبصر شأنه، وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه،
وقال:
تالله لَوْ كُنْتَ إِلَهاً لَمْ تَكُنْ ... أَنْتَ وَكَلْبٌ وسط بئر في قرن
أف لمصرعك إلا مستدن ... الآن فتشناك عن سوء الغبن
الحمد لله العلي ذي المنن ... الواهب الرزق وديان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن ... أكون في ظلمة قبر مرتهن(1/307)
ذكر أول من هاجر إلى المدينة:
عقيل وغيره، وعن الزهري عن عروة، عَنْ عَائِشَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم للمسلمين بمكة: "قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين". وهما الحرتان. فهاجر من هاجر قبل المدينة عند ذلك، ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين، وتجهز أبو بكر مهاجرا، فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي". فقال أبو بكر: وترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: "نعم". فحبس أبو بكر نفسه عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليصحبه، وعلف راحلتين عنده ورق السمر أربعة أشهر. أخرجه البخاري1.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق، قال: فلما أذن الله لنبيه في الحرب وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة، أَمْرُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قومه بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بالأنصار، فخرجوا أرسالا، فكان أول من هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد إلى المدينة، هاجر إليها قبل العقبة الكبرى بسنة، وقد كان قدم من الحبشة مكة، فآذته قريش، وبلغه أن جماعة من الأنصار قد أسلموا، فهاجر إلى المدينة.
فعن أم سلمة، قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج رحل لي بعيره، ثم حملني وابني عليه، ثم خرج بي يقودني. فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد! فنزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه، وغضب عند ذلك رهط أبي سلمة، فقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.
فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، فانطلق زوجي إذ فرقوا بيننا، فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فلا أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبا منها. حتى مر بي رجل من بني عمي فرحمني، فقال: ألا تحرجون من هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين ولدها؟ فقالوا لي: الحقي بزوجك. قالت: ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني. فارتحلت بعيري، ثم وضعت سلمة في حجري، وخرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله، قلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة العبدري، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أوما معك أحد؟ قالت: لا والله إلا الله وبني هذا. قال: والله
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3905" حدثنا يحيى بن بكير، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، به في حديث طويل.(1/308)
ما لك من مترك. فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلا من العرب، أرى أنه أكرم منه، كان أبدا إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحط عنه، ثم قيده في الشجرة, ثم تنحى إلى الشجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله، ثم استأخر عني وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقادني حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه القرية، ثم انصرف راجعا.
ثم كان أول من قدمها بعد أبي سلمة: عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب مع امرأته، ثم عبد الله بن جحش حليف بني أمية، مع امرأته وأخيه أبي أحمد، وكان أبو أحمد ضرير البصر، وكان يمشي بمكة بغير قائد، وكان شاعرا، وكانت عنده الفرعة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب، فنزل هؤلاء بقباء على مبشر بن عبد المنذر.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: فلما اشتدوا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، أَمْرُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بالهجرة، فخرجوا رسلا رسلا، فخرج منهم قبل مخرج رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبُو سلمة وامرأته، وعامر بن ربيعة، وامرأته أم عبد الله بنت أبي حثمة، ومصعب بن عمير، وعثمان بن مظعون، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعبد الله بن جحش، وعثمان بن الشريد، وعمار بن ياسر, ثم خرج عمر وعياش بن أبي ربيعة وجماعة، فطلب أبو جهل والحارث بن هشام عياشا، وهو أخوهم لأمهم، فقدموا المدينة فذكروا له حزن أمه، وأنها حلفت لا يظلها سقف، وكان بها برا، فرق لها وصدقهم، فلما خرجا به أوثقاه وقدما به مكة، فلم يزل بها إلى قبل الفتح.
قلت: وهو الذي كان يدعو له النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي القُنُوت: "اللهم أنج سلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة". الحديث1.
قال ابن شهاب: وخرج عبد الرحمن بن عوف، فنزل على سعد بن الربيع، وخرج عثمان، والزبير، وطلحة بن عبيد الله، وطائفة ومكث ناس من الصحابة بمكة، حتى قدموا المدينة بعد مقدمه، منهم: سعد بن أبي وقاص، على اختلاف فيه.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "2932" حدثنا قبيصة حدثنا سفيان، عن ابن ذكوان، عن الأعرج، عن أبي هريرة، به مرفوعا وتمامه: "اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم سنين كسني يوسف".(1/309)
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني نافع، عن ابن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب، قال: لما اجتمعنا للهجرة اتعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل، وقلنا: الميعاد بيننا التناضب من أضاة بني غفار، فمن أصبح منكم لم يأتها فقد حبس. فأصبحت عندها أنا وعياش، وحبس هشام وفتن فافتتن وقدمنا المدينة فكنا نقول: ما الله بقابل من هؤلاء توبة, قوم عرفوا الله وآمنوا به وصدقوا رسوله، ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم في الدنيا فأنزلت: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] ، فكتبتها بيدي كتابا، ثم بعثت بها إلى هشام، فقال هشام بن العاص: فلما قدمت عليَّ خرجت بها إلى ذي طوى أصعد فيها النظر وأصوِّبه لأفهمها، فقلت: اللهم فهمنيها، فعرفت إنما أنزلت فينا لما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، فرجعت فجلست على بعيري، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقتل هشام بأجنادين.
وقال عبد العزيز الدراوردي، عَنْ عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قال: قدمنا من مكة فنزلنا العصبة عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة، وسالم مولى أبي حذيفة، فكان يؤمهم سالم، لأنه كان أكثرهم قرآنا.
وقال إسرائيل، عن أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قدم علينا مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، فَقُلْنَا لَهُ: مَا فَعَلَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: هو مكانه وأصحابه على أثري ثم أتى بعد عمرو بن أم مكتوم الأعمى أخو بني فهر، ثم عمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وبلال، ثم أتانا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، ثم أَتَانَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر معه، فلم يقدم عَلَيْنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قرأت سورا من المفصل1. أخرجه مسلم.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ, عَنْ عُرْوَةَ قال: ومكث رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الحج بقية ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وإن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم، على أن يأخذوا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِمَّا أن يقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه، فأخبره الله بمكرهم في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] ، الآية, فخرج رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر تحت الليل قِبَل الغار بثور، وعمد عليٌّ فرقد عَلَى فِرَاشِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يواري عنه العيون.
وكذا قال موسى بن عقبة، وزاد: فباتت قريش يختلفون ويأتمرون أيهم يجثم على صاحب الفراش فيوثقه، إلى أن أصبحوا، فإذا هم بعلي -رضي الله عنه- فسألوه عن
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3924" و"3925"، ولم يخرجه مسلم.(1/310)
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم أنه لا علم له به، فعلموا عند ذلك أنه قد خرج فارا منهم، فركبوا في كل وجه يطلبونه.
وكذا قال ابن إسحاق، وقال: لما أيقنت قريش أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد بويع، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من أصحابه أن يلحقوا بإخوانهم بالمدينة، توامروا فيما بينهم فقالوا: الآن، فأجمعوا في أمر محمد فوالله لكأنه قد كر عليكم بالرجال، فأثبتوه أو اقتلوه أو أخرجوه.
فاجتمعوا له في دار الندوة ليقتلوه، فلما دخلوا الدار اعترضهم الشيطان في صورة رجل جميل في بَتٍّ له فقال: أأدخل؟ قالوا: من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل نجد، سمع بالذي اجتمعتم له، فأراد أن يحضره معكم فعسى أن لا يعدمكم منه نصح ورأي. قالوا: أجل فادخل. فلما دخل قال بعضهم لبعض: قد كان من الأمر ما قد علمتم، فأجمعوا رأيا في هذا الرجل، فقال قائل: أرى أن تحبسوه. فقال النجدي: ماذا برأي، والله لئن فعلتم ليخرجن رأيه وحديثه إلى من وراءه من أصحابه، فأوشك أن ينتزعوه من أيديكم، ثم يغلبونكم على ما في أيديكم من أمركم. فقال قائل منهم: بل نخرجه فننفيه, فإذا غيب عنا وجهه وحديثه ما نبالي أين وقع؟ قال النجدي: ماذا برأي، أما رأيتم حلاوة منطقه، وحسن حديثه، وغلبته على من يلقاه، ولئن فعلتم ذلك ليدخل على قبيلة من قبائل العرب فأصفقت معه على رأيه، ثم سار بهم إليكم حتى يطأكم بهم. فقال أبو جهل: والله إن لي فيه لرأيا، ما أراكم وقعتم عليه، قالوا: وما هو؟ قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة من قريش غلاما جلدا نهدا نسيبا وسيطا، ثم تعطوهم شفارا صارمة، فيضربوه ضربة رجل واحد، فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل، فلم تدر عبد مناف بعد ذلك ما تصنع، ولم يقووا على حرب قومهم، وإنما غايتهم عند ذلك أن يأخذوا العقل فتدونه لهم. قال النجدي: لله در هذا الفتى، هذا الرأي وإلا فلا شيء، فتفرقوا على ذلك واجتمعوا له، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وأمر أن لا ينام على فراشه تلك الليلة، فلم يبت موضعه، بل بيَّتَ عليا في مضجعه. رواه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، عن أبيه.
حدثنا ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس "ح". قال ابن إسحاق: وحدثني الكلبي عن باذان مولى أم هانئ, عن ابن عباس، فذكر معنى الحديث، وزاد فيه: وأذن الله عند ذلك بالخروج، وأنزل عليه بالمدينة "الأنفال" يذكر نعمته عليه وبلاءه عنده {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} [الأنفال: 30] .(1/311)
سياق خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا:
قال عقيل: قال ابن شهاب: وأخبرني عروة أن عائشة زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِيْنَانِ الدِّيْنَ، ولم يمر علينا يوم إلا ويأتينا فِيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طرفي النهار بكرة وعشيا, فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة, قال: أين تريد يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي، فأريد أن أسبح في الأرض وأعبد ربي. قال: إن مثلك لا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق, وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلادك. وارتحل ابن الدغنة مع أبي بكر، فطاف في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرُج مثله ولا يخرَج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وقالوا له: مر أبا بكر يعبد ربه في داره, فليصل وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن أبناؤنا ونساؤنا. فقال ذلك لأبي بكر، فلبث يعبد ربه ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر، فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز، فيصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر لا يكاد يملك دمعه حين يقرأ، فأفزع ذلك أشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك، وابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وإنا قد خشينا أن يفتن أبناؤنا ونساؤنا، فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك جوارك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. قال أبو بكر: أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: "قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين". وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة وتجهز أبو بكر مهاجرا فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي". قال: هل ترجو بأبي أنت ذلك؟ قال: "نعم". فحبس أبو بكر نفسه عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر. فبينا نحن جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة، قيل لأبي بكر: هذا رسول الله مقبلا متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا(1/312)
فيها. فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، أما والله إن جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء واستأذن، فأذن له فدخل، فقال لأبي بكر: "أخرج من عندك". قال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله. فقال: "اخرج فقد أذن لي في الخروج". قال: فخذ مني إحدى راحلتي. قال: "بالثمن". قالت عائشة: فجهزتهما أحث الجهاز، فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فأوكت به الجراب، فبذلك كانت تسمى "ذات النطاقين"، ثم لحق رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر بغار في جبل يقال له ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب لقن ثقف، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح في قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكيدون به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة، ويريح عليهما حين تذهب ساعة من الليل، فيبيتان في رسل منحتهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث. واستأجر رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا، قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل، وهو على جاهليته، فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث، فارتحلا، وانطلق عامر بن فهيرة والدليل الديلي، فأخذ بهما في طريق الساحل. أخرجه البخاري1.
عن عمر -رضي الله عنه- قال: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر، خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هاربا من أهل مكة ليلا، فتبعه أبو بكر، فجعل يمشي مرة أمامه، ومرة خلفه يحرسه، فمشي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته حتى حفيت رجلاه، فلما رآهما أبو بكر حمله على كاهله، حتى أتى به فم الغار، وكان فيه خرق فيه حيات، فخشي أبو بكر أن يخرج منهن شيء يُؤْذِي رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فألقمه قدمه، فجعلن يضربنه ويلسعنه -الحيات والأفاعي- ودموعه تتحدر، ورسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ، وأما يومه، فلما ارتدت العرب قلت: يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم، فقال: جبار في الجاهلية خوار في الإسلام، بم أتألفهم أبشعر مفتعل أم بقول مفترى! وذكر الحديث.
وهو منكر، سكت عنه البيهقي، وساقه من حديث يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي، قال: حدثني فرات بن السائب، عن ميمون، عن ضبة بن محصن، عن عمر. وآفته من هذا الراسبي فإنه ليس بثقة، مع كونه مجهولا، ذكره الخطيب في تاريخه فغمزه.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3905".(1/313)
وقال الأسود بن عامر: حدثنا إسرائيل، عن الأسود، عن جندب، قال: كان أَبُو بَكْرٍ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في الغار، فأصاب يده حجر فقال:
إن أَنْتِ إِلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيْتِ ... وَفِي سَبِيْلِ اللهِ ما لقيت
الأسود: هو ابن قيس، سمع من جندب البجلي، واحتجا به في الصحيحين.
وقال همام: حدثنا ثابت، عن أنس أن أبا بكر حدثه، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم ينظر إلى تحت قدميه لأبصرنا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما". متفق عليه1.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ أنهم ركبوا في كل وجه يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم، وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم به، ويجعلون لهم الجعل العظيم إلى أن قال: فأجاز بهما الدليل أسفل مكة، ثم مضى بهما حتى جاء الساحل أسفل من عسفان ثم سلك في أمج، ثم أجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قديدا، ثم سلك في الخرار، ثم أجاز على ثنية المرة، ثم سلك نقعا، مدلجة ثقيف، ثم استبطن مدلجة محاج، ثم بطن مرجح ذي العصوين، ثم أجاز القاحة، ثم هبط للعرج، ثم أجاز في ثنية الغابر عن يمين ركوبة، ثم هبط بطن رئم ثم قدم قباء من قبل العالية.
وقال مسلم بن إبراهيم: حدثنا عون بن عمرو القيسي, قال: سمعت أبا مصعب المكي، قال: أدركت المغيرة بن شعبة وأنس بن مالك وزيد بن أرقم، فسمعتهم يتحدثون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله بشجرة فنبتت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته، وأمر الله العنكبوت فنسجت فسترته، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقعتا بفم الغار، وأقبل فتيان قريش بعصيهم وسيوفهم، فجاء رجل ثم رجع إلى الباقين فقال: رأيت حمامتين بفم الغار، فعلمت أنه ليس فيه أحد.
وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: اشترى أبو بكر من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمله إلى رحلي، فقال له عازب: لا حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما، والمشركون يطلبونكما.
قال: أدلجنا من مكة ليلا، فأحيينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصري هل أرى من ظل نأوي إليه، فإذا صخرة فانتهيت إليها، فإذا بقية ظل لها فسويته، ثم
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3653"، ومسلم "2381".(1/314)
فرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة، ثم قلت: اضطجع يا رسول الله. فاضطجع, ثم ذهبت أنفض ما حولي هل أرى من الطلب أحدا، فإذا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة, ويريد منها الذي أريد، يعني الظل، فسألته: لمن أنت؟ فقال: لرجل من قريش، فسماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم. قلت: هل أنت حالب لي؟ قال: نعم. فأمرته، فاعتقل شاة من غنمه، وأمرته أن ينفض ضرعها من التراب، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا، فضرب إحداهما على الأخرى، فحلب لي كثبة من لبن، وقد رويت معي لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة، على فمها خرقة، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فَأَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوافيته وقد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله. فشرب حتى رضيت، ثم قلت: قد آن الرحيل. قال: فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله. قال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ، فلما أن دنا منا، وكان بيننا وبينه قيد رمحين أو ثلاثة، قلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله. وبكيت، فقال: "ما يبكيك"؟ قلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكني إنما أبكي عليك. فدعا عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "اللهم اكفناه بما شئت". فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها، فوثب عنها، ثم قال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهما، فإنك ستمر بإبلي وغنمي بمكان كذا وكذا، فخذ منها حاجتك، فقال رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ حاجة لنا في إبلك وغنمك". ودعا له، فانطلق راجعا إلى أصحابه، ومضى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا معه حتى قدمنا المدينة ليلا1. أخرجاه من حديث زهير بن معاوية، سمعت أبا إسحاق، قال سمعت البراء. وأخرج البخاري حديث إسرائيل، عن عبد الله بن رجاء، عنه.
وقال عقيل، عن الزهري: أخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي أن أباه أخبره، أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون فِي رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر دية كل واحد منهما في قتله أو أسره، فبينا أنا جالس في مجلس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم، حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم، ولكن رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا باغين، ثم قلَّ ما لبثتُ في المجلس حتى قمت فدخلت بيتي، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي فتهبطها من وراء أكمة فتحبسها عليَّ، فأخذت برمحي
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3615"، ومسلم "3014".(1/315)
وخرجت من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض، وخفضت عالية الرمح حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي، حتى إذا دنوت منهم عثرت بي فرسي فخررت, فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها أضرهم أو لا أضرهم، فخرج الذي أكره: لا أضرهم، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، فرفعتها تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر التلفت, ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغت الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يداها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره "لا أضرهم"، فناديتهما بالأمان، فوقفا لي وركبت فرسي حتى جئتهما، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهما، أنه سيظهر رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ له: إن قومك قد جعلوا فيكما الدية، وأخبرتهما أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزءوني شيئا، ولم يسألني، إلا أن قال: "أخف عنا". فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة آمن به، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب في رقعة من أدم مضى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه البخاري1.
وقال موسى بن عقبة: حدثنا ابن شهاب الزهري، قال: حدثني عبد الرحمن بن مالك بن جعشم المدلجي أن أباه أخبره، أن أخاه سراقة بن جعشم أخبره، ثم ساق الحديث، وزاد فيه: وأخرجت سلاحي ثم لبست لأمتي، وفيه: فكتب لي أبو بكر، ثم ألقاه إلي فرجعت فسكت، فلم أذكر شيئا مما كان حتى فتح الله مكة، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين خرجت لألقاه ومعي الكتاب، فدخلت بين كتيبة من كتائب الأنصار، فطفقوا يقرعونني بالرماح ويقولون: إليك إليك، حتى دنوت مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على ناقته، أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة، فرفعت يدي بالكتاب فقلت: يا رسول الله هذا كتابك. فقال: "يوم وفاء وبر ادن". قال: فأسلمت، ثم ذكرت شيئا أسأل عنه رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابن شهاب: سأله عن الضالة وشيء آخر، قال: فانصرفت وسقت إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدقتي.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثت عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: لما خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر، أتى نفر من قريش، فيهم أبو جهل، فوقفوا على باب أبي بكر، فَخَرَجتُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوْكِ؟ قُلْتُ: لاَ أدري والله أين أبي، فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشا خبيثا- فلطمني على خدي لطمة طرح منها قرطي.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3906".(1/316)
وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: لما خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه، خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم، فانطلق به معه، فدخل علينا جدي أبو قحافة -وقد ذهب بصره- فقال: والله إني لأراه فجعكم بماله مع نفسه. قالت: قلت: كلا يا أبه، قد ترك لنا خيرا كثيرا. قالت: فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة من البيت كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: ضع يدك على هذا المال فوضع يده عليه فقال: لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن, وفي هذا بلاغ لكم، قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني أردت أن أسكن الشيخ.
وحدثني الزهري، أن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم حدثه، عن أبيه، عن عمه سراقة بن مالك بن جعشم، قال: لما خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة مهاجرا، جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده، قال: فبينا أنا جالس، أقبل رجل منا فقال: والله لقد رأيت ركبا ثلاثة مروا علي آنفا، إني لأراهم محمدا وأصحابه، فأومأت إليه، يعني أن اسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم، قال: لعله، فمكثت قليلا، ثم قمت فدخلت بيتي، فذكر نحو ما تقدم.
قال: وحدثت عن أسماء بنت أبي بكر قالت: فمكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وَجْهِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وإن الناس ليتبعونه، ويسمعون صوته، حتى خرج من أعلى مكة، وهو يَقُوْلُ:
جَزَى اللهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروحا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت: فعرفنا حيث وَجْهِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ وجهه إلى المدينة.
قلت: قد سقت خبر أم معبد بطوله في صفته صلى الله عليه وسلم، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وقال يحيى بن زكريا بن أبي زائدة: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الرحمن ابن الأصبهاني، قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بكر الصديق قال: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ مكة، فانتهينا إلى حي من أحياء العرب، فَنَظَرَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيت متنحيا، فقصد إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة، فقالت: يا عبدي الله(1/317)
إنما أنا امرأة وليس معي أحد، فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى. قال: فلم يجبها، وذلك عند المساء، فجاء ابن لها بأعنز له يسوقها، فقالت له: يا بني انطلق بهذه العنز والشفرة إليهما فقل: اذبحا هذه وكلا وأطعمانا، فلما جاء قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انطلق بالشفرة وجئني بالقدح" قال: إنها قد عزبت وليس لها لبن. قال: "انطلق". فانطلق فجاء بقدح، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها، ثم حلب حتى ملأ القدح، ثم قال: "انطلق به إلى أمك". فشربت حتى رويت، ثم جاء به فقال: "انطلق بهذه وجئني بأخرى".
ففعل بها كذلك، ثم سقى أبا بكر، ثم جاء بأخرى، ففعل بها كذلك، ثم شرب صلى الله عليه وسلم، قال: فبتنا ليلتنا ثم انطلقنا، فكانت تسميه "المبارك"، وكثر غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر فرآه ابنها فعرفه فقال: يا أمه إن هذا الرجل الذي كان مع المبارك. فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك؟ قال: وما تدرين من هو! قالت: لا، قال: هو النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأدخلني عليه، فأدخلها عليه فأطعمها وأعطاها.
رواه محمد بن عمران بن أبي ليلى، وأسد بن موسى، عن يحيى، وإسناده نظيف لكن منقطع بين أبي بكر، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
أوس بن عبد الله بن بريدة: أخبرنا الحسين بنُ وَاقِدٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يتفاءل، وكانت قريش قد جعلت مائة من الإبل لمن يرده عليهم، فركب بريدة في سبعين من بني سهم، فلقي نبي الله ليلا فقال له: "من أنت"؟ قال: بريدة. فالتفت إلى أبي بكر فقال: "برد أمرنا وصلح". ثم قال: "وممن"؟ قال: من أسلم. قال لأبي بكر: "سلمنا". ثم قال: "ممن"؟ قال: من بني سهم. قال: "خرج سهمك". فأسلم بريدة والذين معه جميعا، فلما أصبحوا قال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء، فحل عمامته ثم شدها في رمح، ثم مشى بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: يا نبي الله تنزل عليَّ. قال: إن ناقتي مأمورة فسار حتى وقفت على باب أبي أيوب فبركت. قلت: أوس متروك.
وقال الحافظ أبو الوليد الطيالسي: حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط، قال: حدثنا أبي، عن قيس بن النعمان، قال: لما انطلق النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مستخفيين مروا بعبد يرعى غنما فاستسقياه اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا عناقا حملت أول الشتاء، وقد أخدجت وما بقي لها لبن. فقال: "ادع بها". فدعا بها، فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال: الراعي: بالله من أنت، فوالله ما رأيت مثلك قط؟ قال: "أتكتم علي حتى أخبرك"؟. قال: نعم. قال: "فإني محمد رسول الله". فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه(1/318)
صابئ؟ قال: "إنهم ليقولون ذلك". قال: فأشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك. قال: "إنك لن تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فائتنا".
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فحدثني مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بن الزبير، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عُوَيْمِ بنِ سَاعِدَةَ، عن رجال من قومه، قالوا: لما بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، كنا نخرج كل غداة فنجلس له بظاهر الحرة، نلجأ إلى ظل الجدر حتى تغلبنا عليه الشمس, ثم نرجع إلى رحالنا، حتى إذا كان اليوم الذي جاء فِيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا رجعنا جَاءَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرآه رجل من اليهود، فنادى: يا بني قيلة هذا جدكم قد جاء، فخرجنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أناخ إلى ظل هو وأبو بكر، والله ما ندري أيهما أسن، هما في سن واحدة، حتى رأينا أبا بكر ينحاز له عن الظل، فعرفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقد قال قائل منهم: إن أبا بكر قام فأظل رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه، فعرفناه.
وقال محمد بن حمير، عن إبراهيم بن أبي عبلة: حدثني عقبة بن وساج، عَنْ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قدم، يعني المدينة، وليس في أصحابه أشمط غير أبي بكر، فغفلها بالحناء والكتم1 أخرجه البخاري، من حديث محمد بن حمير.
وقال شعبة: أنبأنا أبو إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: أول من قدم علينا من الصحابة مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وكانا يقرئان القرآن، ثم جاء عمار، وبلال، وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، ثم جَاءَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء قط فرحهم به، حتى رأيت الولائد والصبيان يسعون في الطرق يقولون: جَاءَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا قدم المدينة حتى تعلمت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] في مثلها من المفصل. خ2.
وقال إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء، في حديث الرحل، قال أبو بكر: ومضى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا معه، حتى قدمنا المدينة ليلا، فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أنزل الليلة على بني النجار أخوال بني عبد المطلب أكرمهم بذلك". وقدم الناس حين قدمنا المدينة، في الطريق وعلى البيوت، والغلمان والخدم يقولون: جاء رسول الله،
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3919".
2 صحيح: تقدم تخريجنا له قريبا برقم "218".(1/319)
جَاءَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله أكبر جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح انطلق فنزل حيث أمر. متفق عليه.
وقال هاشم بن القاسم: حدثنا سليمان -هو ابن المغيرة- عن ثابت، عن أنس، قال: إني لأسعى في الغلمان يقولون: "جاء محمد"، وأسعى ولا أرى شيئا، ثم يقولون: "جاء محمد"، فأسعى، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر فكمنا في بعض جدار المدينة، ثم بعثا رجلا من أهل البادية ليؤذن بهما الأنصار، قال: استقبلهما زهاء خمس مائة من الأنصار، حتى انتهوا إليهما، فقالوا: انطلقا آمنين مطاعين. فأقبل رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة، حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو؟ أيهم هو؟ قال: فما رأينا منظرا شبها به يومئذ. صحيح.
وقال الوليد بن محمد الموقري وغيره، عن الزهري، قال: فأخبرني عروة أن الزبير كان في ركب تجار بالشام، فقفلوا إلى مكة، فعارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بثياب بياض، وسمع المسلمون بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه، حتى يردهم نحر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظاره، فلما أووا إلى بيوتهم، أوفى رجل من يهود أطما من آطامهم لشأنه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العريب هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ اليمين، حتى نزل في بني عمرو بن عوف من الأنصار، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر يذكر الناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبه أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرفوا رسول الله عند ذلك، فلبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة.
وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، فصلى فيه، ثم ركب راحلته فسار، فمشى معه الناس، حتى بركت بالمدينة عند مسجده صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر لسهل وسهيل، غلامين يتيمين أخوين في حجر أسعد بن زرارة من بني النجار، فقال حين بركت به راحلته: "هذا إن شاء الله المنزل". ثم دعا الغلامين فساومهما المربد ليتخذه مسجدا، فقال: بل نهبه لك. فأبى حتى ابتاعه وبناه.
وقال عبد الوارث بن سعيد وغيره: حدثنا أبو التياح، عن أنس، قال: لما قدم(1/320)
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة نزل في علوم المدينة في بني عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار، فجاءوا متقلدين سيوفهم، فكأني أنظر إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب. متفق عليه.
وقال عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم المدينة مر على عبد الله بن أبي وهو جالس على ظهر الطريق، فوقف عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر أن يدعوه إلى المنزل، وهو يومئذ سيد أهل المدينة في أنفسهم، فقال عبد الله: انظر الذين دعوك فأتهم، فعمد إلى سعد بن خيثمة، فنزل عليه في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال، واتخذ مكانه مسجدا فكان يصلي فيه، ثم بناه بنو عمرو، فهو الذي أسس على التقوى والرضوان.
ثم إنه ركب يوم الجمعة، فمر على بني سالم، فجمع فيهم, وكانت أول جمعة صلاها حين قدم المدينة، واستقبل بيت المقدس، فلا أبصرته اليهود صلى قبلتهم طمعوا فيه للذي يجدونه مكتوبا عندهم، ثم ارتحل فاجتمعت له الأنصار يعظمون دين الله بذلك، يمشون حول نَاقَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لاَ يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة، فقال: "خلوا سبيل الناقة، فإنما أنزل حيث أنزلني الله". حتى انتهى إلى دار أبي أيوب في بني غنم، فبركت على الباب، فنزل، ثم دخل دار أبي أيوب، فنزل عليه حتى ابتنى مسجده ومسكنه في بني غنم، وكان المسجد موضعا للتمر لابني أخي أسعد بن زرارة، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطى ابني أخيه مكانه نخلا له في بني بياضة، فقالوا: نعطيه رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ نأخذ له ثمنا، وبنى النبي صلى الله عليه وسلم لحمزة ولعلي ولجعفر، وهم بأرض الحبشة، وجعل مسكنهم في مسكنه، وجعل أبوابهم في المسجد مع بابه، ثم إنه بدا له، فصرف باب حمزة وجعفر. كذا قال: وهم بأرض الحبشة، وإنما كان علي بمكة. رواه ابن عائذ، عن محمد بن شعيب، عنه.
وقال موسى بن عقبة: يقال: لما دنا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر من المدينة، وقدم طلحة بن عبيد الله من الشام، خرج طلحة عامدا إلى مكة، لما ذكر لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر، خرج إما متلقيا لهما، وإما عامدا عمده بمكة، ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام، فلما لقيه أعطاه الثياب، فلبس رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر منها.
وقال الوليد بن مسلم، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ يَزِيْدَ، عَنْ أَبِي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه: قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة يوم الإثنين، لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فأقام بالمدينة عشر سنين.(1/321)
وقال ابن إسحاق: المعروف أنه قدم المدينة يوم الإثنين لثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، قال: ومنهم من يقول لليلتين مضتا منه. رواه يونس وغيره، عن ابن إسحاق.
وقال عبد الله بن إدريس: حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عويم، قال: أخبرني بعض قومي، قَالَ: قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الإثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، فأقام بقباء بقية يومه وثلاثة أيام, وخرج يوم الجمعة على ناقته القصواء، وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه لبث فيهم ثماني عشرة ليلة.
وقال زكريا بن إسحاق: حدثنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشرة، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين. متفق عليه.
وقال سفيان بن عيينة: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عجوز لهم، قالت: رأيت ابن عباس يختلف إلى صرمة بن قيس الأنصاري, كان يروي هذه الأبيات:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو ألفى صديقا مواتبا
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا واطمأنت به النوى ... وأصبح مسرورا بطيبة راضيا
وأصبح ما يخشى ظلامه ظالم ... بعيد ولا يخشى من الناس راعيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغي والتآسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم ... جميعا وإن كان الحبيب المواسيا
ونعلم أن الله لا شيء غيره ... وأن كتاب الله أصبح هاديا
وقال عَبْدُ الوَارِثِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ صُهَيْبٍ، عَنِ أَنَسٍ قَالَ: أقبل نبي اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَدِيْنَةِ، وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف -يريد دخول الشيب في لحيته دونه لا في السن- قال أنس: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا رجل يهديني السبيل. فيحسب الحاسب أنه يعني الطريق، وإنما يعني طريق الخير. فإذا هو بفارس قد لحقهم، فقال: يا نبي الله هذا فارس قد لحق، فقال: "اللهم اصرعه" فصرعه فرسه، ثم قامت تحمحم. فقال: يا نبي الله مرني بم شئت. قال: "تقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا" قال: فكان أول النهار جاهدا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآخر النهار مسلحة له، فَنَزَلَ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جانب الحرة، وأرسل إلى الأنصار، فجاءوا رسول الله، فسلموا عليهما. فقالوا: اركبا آمنين مطاعين. فركبا وحفوا(1/322)
حولهما بالسلاح، فقيل في المدينة: جاء رسول الله، جاء رسول الله وأقبل حتى نزل إلى جانب بيت أبي أيوب، قال: فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله، يخترف لهم منه، فعجل أن يضع التي يخترف فيها فجاءه وهي معه، فسمع من نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي بيوت أهلنا أقرب"؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله هذه داري، قال: "اذهب فهيء لنا مقيلا" فذهب فهيأ لهما مقيلا، ثم جاء فقال: يا نبي الله قد هيأت لكما مقيلا، قوما على بركة الله فقيلا.
فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم، جاء عبد الله بن سلام، فقال: أشهد أنك رسول الله حقا، وأنك جئت بحق، ولقد علمت يهود أني سيدهم وأعلمهم. وذكر الحديث1 أخرجه البخاري.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3911".(1/323)
السنة الأولى من الهجرة:
روى البخاري في صحيحه1 من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة أن المسلمين بالمدينة سمعوا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانوا يغدون إلى الحرة ينتظرونه، حتى يردهم حر الشمس، فانقلبوا يوما، فأوفى يهودي على أطم فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فأخبرني عُرْوَةَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام فكسا الزبير -رضي الله عنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض.
قال: فلم يملك اليهودي أن صاح، يا معشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون. فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوه بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف يوم الإثنين مع ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس فطفق من لم يعرف رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أبي بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر يظله بردائه، فعرف الناس عند ذَلِكَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس مسجدهم. ثم ركب راحلته وسار حوله الناس يمشون، حتى بركت به مكان المسجد، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين -وكان مربدا لسهل وسهيل- فدعاهما فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله. ثم بناه مسجدا، وكان ينقل اللبن معهم ويقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
ويقول:
اللهم إن الأجر أجر الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره
وخرج البخاري من حديث أبي إسحاق عن البراء حديث الهجرة بطوله.
وخرج من حديث عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ صُهَيْبٍ عَنِ أَنَسٍ قَالَ: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر. وأبو بكر شيخ يعرف، والنبي صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا بين يديك؟ فيقول: رجل يهديني الطريق، وإنما يعني طريق الخير إلى أن قال:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3906" من طريق ابن شهاب، به.
وقال الحافظ في "الفتح": هو موصول بإسناد حديث عائشة، وقد أفرده البيهقي في "الدلائل" وقبله الحاكم في "الإكليل" من طريق ابن إسحاق "حدثني محمد بن مسلم هو الزهري، به" وكذلك أورده الإسماعيلي منفردا من طريق معمر والمعافى في الجليس من طريق صالح بن كيسان كلاهما عن الزهري.(1/324)
فَنَزَلَ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جانب الحرة، ثم بعث إلى الأنصار، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين. فركبا، وحفوا دونهما بالسلاح. فقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله، فأقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب، وذكر الحديث.
وروينا بإسناد حسن، عن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه قَالَ: قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم المدينة يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فأقام في المدينة عشر سنين.
وقال محمد بن إسحاق: فقدم ضحى يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، فأقام في بني عمرو بن عوف؛ فيما قيل؛ يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، ثم ظعن يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلاها بمن معه. وكان مكان المسجد؛ مربدا لغلامين يتيمين، وهما سهل وسهيل ابنا رافع بن عمرو من بني النجار فيما قال موسى بن عقبة، وكانا في حجر أسعد بن زرارة.
وقال ابن إسحاق: كان المربد لسهل وسهيل ابني عمرو، وكانا في حجر معاذ بن عفراء.
وغلط ابن مندة فقال: كان لسهل وسهيل ابني بيضاء، وإنما ابنا بيضاء من المهاجرين.
وأسس رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامته ببني عمرو بن عوف مسجد قباء. وصلى الجمعة في بني سالم في بطن الوادي. فخرج معه رجال منهم، وهم: العباس بن عبادة، وعتبان بن مالك، فسألوه أن ينزل عندهم ويقيم فيهم، فقال: "خلوا الناقة فإنها مأمورة". وسار والأنصار حوله حتى أتى بني بياضة، فتلقاه زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو، فدعوه إلى النزول فيهم، فقال: "دعوها فإنها مأمورة". فأتى دور بني عدي بن النجار؛ وهم أخوال عبد المطلب؛ فتلقاه سليط بن قيس، ورجال من بني عدي، فدعوه إلى النزول والبقاء عندهم، فقال: "دعوها فإنها مأمورة". ومشى حتى أتى دور بني مالك بن النجار، فبركت الناقة في موضع المسجد، وهو مربد تمر لغلامين يتيمين. وكان فيه نخل وخرب، وقبور للمشركين. فلم ينزل عن ظهرها، فقامت ومشت قليلا، وهو صلى الله عليه وسلم لا يهيجها، ثم التفت فكرت إلى مكانها وبركت فيه، فنزل عنها فأخذ أبو أيوب الأنصاري رحلها فحمله إلى داره. ونزل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ من دار أبي أيوب. فلم يزل ساكنا عند أبي أيوب حتى بنى مسجده وحُجَرَه في المربد. وكان قد طلب شراءه فأبت بنو النجار من بيعه، وبذلوه لله وعوضوا اليتيمين. فأمر بالقبور فنبشت، وبالخرب فسويت. وبنى عضادتيه بالحجارة، وجعل سواريه من جذوع النخل، وسقفه بالجريد, وعمل فيه المسلمون حسبة.(1/325)
فمات أبو أمامة أسعد بن زرارة الأنصاري تلك الأيام بالذبحة. وكان من سادة الأنصار ومن نقبائهم الأبرار. ووجد النبي صلى الله عليه وسلم وجدا لموته، وكان قد كواه. ولم يجعل على بني النجار بعده نقيبا وقال: أنا نقيبكم. فكانوا يفخرون بذلك.
وكانت يثرب لم تمصر، وإنما كانت قرى مفرقة: بنو مالك بن النجار في قرية، وهي مثل المحلة، وهي دار بني فلان. كما الحديث: "خير دور الأنصار دار بني النجار" 1.
وكان بنو عدي بن النجار لهم دار، وبنو مازن بن النجار كذلك، وبنو سالم كذلك، وبنو ساعدة كذلك، وبنو الحارث بن الخزرج كذلك، وبنو عمرو بن عوف كذلك، وبنو عبد الأشهل كذلك وسائر بطون الأنصار كذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي كل دور الأنصار خير" 2.
وأمر -عليه السلام- بأن تبنى المساجد في الدور. فالدار -كما قلنا- هي القرية. ودار بني عوف هي قباء. فوقع بناء مسجده صلى الله عليه وسلم في بني مالك بن النجار، وكانت قرية صغيرة.
وخرج البخاري من حديث أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل في بني عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة. ثم أرسل إلى بني النجار فجاءوا.
وآخى في هذه المدة بين المهاجرين والأنصار. ثم فرضت الزكاة. وأسلم الحبر عبد الله بن سلام، وأناس من اليهود، وكفر سائر اليهود.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "5/ 424-425"، والبخاري "1481" و"3791"، ومسلم "ص1786"، "1392"، "12" من طريق عمرو بن يحيى, عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبي حميد الساعدي، به.
2 صحيح: راجع تخريجنا السابق فهو جزء من هذا الحديث.(1/326)
قصة إسلام ابن سلام:
قال عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ صُهَيْبٍ، عَنِ أَنَسٍ، قَالَ: جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله حقا. ولقد علمت يهود أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَابْنُ سَيِّدِهِمْ، وَأَعْلَمُهُمْ وَابْنُ أَعْلَمِهِمْ، فادعهم فَسَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أسلمت. فأرسل إليهم فأتوا، فقال لهم: "يا معشر يهود، ويلكم اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله فأسلموا". قالوا: ما نعلمه، فأعاد ذلك عليهم ثلاثا. ثم قال: "فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام"؟ قالوا: ذلك سَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا، وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا. قَالَ: "أفرأيتم إن أسلم"؟ قالوا: حاش لله، ما كان ليسلم. قال: "يابن سلام اخرج عليهم". فخرج عليهم، فقال: ويلكم اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُوْنَ أَنَّهُ رَسُوْلُ اللهِ حَقّاً، قَالُوا: كَذَبْتَ. فَأَخْرَجَهُمْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه البخاري بأطول منه1.
وأخرج من حديث حميد عن أنس، قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في أرض، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إِلاَّ نَبِيٌّ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: "أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيْلُ آنفاً". قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّ اليهود من الملائكة. قال: ثم قرأ: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 97] ، "أما أول أشراط الساعة، فنار تخرج على الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وغذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة نزع إلى أمه". فتشهد وقال: إِنَّ اليَهُوْدَ قَوْمٌ بُهْتٌ، وَإِنَّهُم إِنْ يَعْلَمُوا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني. فجاءوا، فقال: "أي رجل عبد الله بن سلام فيكم" قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. قال: "أرأيتم إن أسلم"؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُوْلُ اللهِ. فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شرنا، وتنقصوه. قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله2.
وقال عوف الأعرابي، عَنْ زُرَارَةُ بنُ أَوْفَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ سلام قال: لما قدم رسول
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3911" حدثني محمد، حدثني عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، به.
2 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 108"، والبخاري "3329" و"3938" و"4480"، والبيهقي في "دلائل النبوة"، "2/ 528-529"، والبغوي في "شرح السنة" "3769" من طرق عن حميد، به.(1/327)
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِيْنَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قبله، قالوا: قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فجئت لأنظر، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كذاب. فكان أول شيء سمعته منه أن قال: "أيها الناس، أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجنة بسلام" 1. صحيح.
وروى أَسْبَاطُ بنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مالك، وأبي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابن مسعود وعن ناس مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] ؛ قال: كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم وكانوا يجدون محمدا في التوراة، فيسألون الله أن يبعثه فيقاتلون معه العرب. فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "5/ 451"، والترمذي "2485"، وابن ماجه "1334"، "3251"، والدارمي "1/ 340"، والحاكم "3/ 13" من طرق عن عوف بن أبي جميلة، به.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.
قلت: وهو كما قالا.
وقوله: "انجفل الناس قبله" أي ذهبوا إليه مسرعين.(1/328)
قصة بناء المسجد:
قال أبو التياح، عن أنس: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملأ بني النجار فجاءوا فقال: "يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا". قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. فكان فيه ما أقول لكم: كان فيه قبور المشركين، وكان فيه خرب ونخل. فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع. فصفوا النخل قبلة، وجعلوا عضادتيه حجارة، وجعلوا ينقلون الصخر، وهم يرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، ويقولون:
اللهم لا خير إلا خير الآخره ... فانصر الأنصار والمهاجره
متفق عليه1. وفي رواية: فاغفر للأنصار.
وقال موسى بن عقبة, عن ابن شهاب، في قصة بناء المسجد: فطفق هو وأصحابه ينقلون اللبن، ويقول وهو ينقل اللبن معهم:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
ويقول:
اللهم لا خير إلا خير الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره
قال ابن شهاب: فتمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعر رجل من المسلمين لم يسم في الحديث. ولم يبلغني في الحديث أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمثل ببيت شعر غير هذه الأبيات.
ذكره البخاري في صحيحه.
وقال صالح بن كيسان: حدثنا نافع أن عبد الله أخبره أن المسجد كان عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل. فلم يزد فيه أبو بكر شيئا. وزاد فيه عمر، وبناه على بنيانه فِي عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا. وغيره
__________
1 صحيح: أخرجه الطيالسي "2085"، وأحمد "3/ 211-212"، والبخاري "428" و"1868" و"2106" و"2771" و"2774" و"2779" و"3932"، ومسلم "524" "9"، وأبو داود "453"، والنسائي "2/ 39-40"، والبيهقي "2/ 438"، والبغوي "3765" من طرق عن عبد الوارث بن سعيد، عن أبي التياح، به.(1/329)
عثمان، فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج. أخرجه البخاري1.
وقال حماد بن سلمة، عن أبي سنان، عن يعلى بن شداد، عن عبادة، أن الأنصار جمعوا مالا، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابن بهذا المسجد وزينه، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد؟ فقال: "ما بي رغبة عن أخي موسى، عريش كعريش موسى".
وروي عن الحسن البصري في قوله: "كعريش موسى"؛ قال: إذا رفع يده بلغ العريش، يعني السقف.
وقال عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق بن علي، عن أبيه قال: بنيت مع النبي صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة، فكان يقول: قربوا اليمامي من الطين، فإنه من أحسنكم له بناء.
وقال أبو سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا أخرجه مسلم بأطول منه2.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة". صحيح3.
وقال أبو سعيد: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنتين؛ يعني في بناء المسجد،
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "446" حدثنا علي بن عبد الله، قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال حدثني أبي، عن صالح بن كيسان، به.
2 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 8 و89"، ومسلم "1398"، والترمذي "3099"، والنسائي "2/ 36"، والحاكم "1/ 487" و"2/ 334" من حديث أبي سعيد الخدري، به.
3 صحيح: ورد من حديث أبي هريرة, وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص, وجبير بن مطعم، وَجَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ الزبير، رضي الله عنهم جميعا.
فمن حديث أبي هريرة: أخرجه مسلم "1394"، والدارمي "1/ 330"، وأحمد "2/ 528" من طرق عنه، به مرفوعا وإسناده صحيح.
وأما حديث ابن عمر: فقد أخرجه مسلم "1395" والدارمي "1/ 330" من طريق عبيد الله، عن نافع، عنه، به. وإسناده صحيح.
وأما حديث سعد بن أبي وقاص: فهو عند أحمد "1/ 184". وأجتزئ بما ذكرت لعدم الإطالة، وقد خرجت الحديث بإسهاب في كتاب "الجواب الباهر في زوار المقابر" ط. دار الجيل بيروت لبنان "ص23".(1/330)
فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل ينفض عنه التراب ويقول: "ويح عمار، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوْهُم إِلَى الجَنَّةِ وَيدْعُوْنَهُ إلى النار". أخرجه البخاري1 دون قوله: "تقتله الفئة الباغية"، وهي زيادة ثابتة الإسناد.
ونافق طائفة من الأوس والخزرج، فأظهروا الإسلام مداراة لقومهم. فممن ذكر منهم: من أهل قباء: الحارث بن سويد بن الصامت، وكان أخوه خلاد رجلا صالحا، وأخوه الجلاس، دون خلاد في الصلاح.
ومن المنافقين: نبتل بن الحارث، وبجاد بن عثمان، وأبو حبيبة ابن الأزعر أحد من بنى مسجد الضرار، وجارية بن عامر، وابناه: زيد ومجمع -وقيل: لم يصح عن مجمع النفاق، وإنما ذكر فيهم لأن قومه جعلوه إمام مسجد الضرار- وعباد بن حنيف، وأخواه سهل وعثمان من فضلاء الصحابة.
ومنهم: بشر، ورافع، ابنا زيد، ومربع، وأوس، ابنا قيظي، وحاطب بن أمية، ورافع بن وديعة، وزيد بن عمرو، وعمرو بن قيس؛ ثلاثتهم من بني النجار، والجد بن قيس الخزرجي؛ من بني جشم، وعبد الله بن أبي بن سلول، من بني عوف بن الخزرج، وكان رئيس القوم.
وممن أظهر الإيمان من اليهود ونافق بعد: سعد بن حنيف، وزيد بن اللصيت، ورافع بن حرملة، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وكنانة بن صوريا.
ومات فيها: البراء بن معرور السلمي أحد نقباء العقبة -رضي الله عنه- وهو أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وكان كبير الشأن.
وتلاحق المهاجرون الذين تأخروا بمكة بالنبي صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلا محبوس أو مفتون، ولم
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 90-91"، والبخاري "447" و"2812" من طريق خَالِدٍ الحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عن أبي سعيد، به.
وأخرجه أحمد "3/ 5"، والطيالسي "2168" من طريق داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، به.
وأخرجه أحمد "3/ 28" وابن سعد "3/ 252" من طريق شعبة, عن عمرو بن دينار، عن هشام، عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ: "وَيْحَ ابْنِ سُمَيَّةَ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوْهُم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار".
وقد خرجت الحديث بإسهاب في عدة مواضع من كتاب "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" منها تعليق رقم "186" بالجزء الرابع, وغيره من مواضع فراجعه ثمت إن شئت زيادة.(1/331)
يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها، إلا أوس الله، وهم حي من الأوس؛ فإنهم أقاموا على شركهم.
ومات فيها: الوليد بن المغيرة المخزومي والد خالد، والعاص بن وائل السهمي والد عمرو بمكة على الكفر.
وكذلك: أبو أحيحة سعيد بن العاص الأموي توفي بماله بالطائف.
وفيها: أرِيَ الأذان عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب، فشرع الأذان على ما رأيا.
وفي شهر رمضان عقد النبي صلى الله عليه وسلم لواء لحمزة بن عبد المطلب يعترض عيرا لقريش. وهو أول لواء عقد في الإسلام.
وفيها: بعث النبي صلى الله عليه وسلم حارثة وأبا رافع إلى مكة لينقلا بناته وسودة أم المؤمنين.
وفي ذي القعدة عقد لواء لسعد بن أبي وقاص، ليغير على حي من بني كنانة أو بني جهينة. ذكره الواقدي.
وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيْدَ بنِ رُوْمَانَ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِيْنَةَ، فكان أول راية عقدها راية عبيدة بن الحارث.
وفيها: آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ المهاجرين والأنصار، على المواساة والحق.
وقد روى أبو داود الطيالسي، عن سليمان بن معاذ، عَنْ سِمَاكٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين والأنصار، وورث بعضهم من بعض، حتى نزلت: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] 1.
والسبب في قلة من توفي في هذا العام وما بعده من السنين، أن المسلمين كانوا قليلين بالنسبة إلى من بعدهم فإن الإسلام لم يكن إلا ببعض الحجاز، أو من هاجر إلى الحبشة. وفي خلافة عمر -رضي الله عنه- بل وقبلها انتشر الإسلام في الأقاليم، فبهذا يظهر لك سبب قلة من توفي في صدر الإسلام، وسبب كثرة من توفي في زمان التابعين فمن بعدهم.
__________
1 ضعيف: أخرجه الطيالسي "2676" حدثنا سليمان، به.
قلت: إسناده ضعيف، فيه علتان: الأولى: سليمان، بن قرم بن معاذ، أبو داود البصري النحوي، سيئ الحفظ. والعلة الثانية: سماك، هو ابن حرب، صدوق، لكن روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بأخرة.(1/332)
وكان في هذا القرب أبو قيس بن الأسلت بن جشم بن وائل الأوسي الشاعر، وكان يعدل بقيس بن الخطيم في الشجاعة والشعر، وكان يحض الأوس على الإسلام، وكان قبل الهجرة يتأله ويدعي الحنيفية، ويحض قريشا على الإسلام، فقال قصيدته المشهورة التي أولها:
أيا راكبا إما عرضت فبلغن ... مغلغلة عني لؤي بن غالب
أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتمو ... لنا قادة قد يقتدى بالذوائب
روى الواقدي عن رجاله قالوا: خرج ابن الأسلت إلى الشام، فتعرض آل جفنة فوصلوه، وسأل الرهبان فدعوه إلى دينهم فلم يرده، فقال له راهب: أنت تريد دين الحنيفية، وهذا وراءك من حيث خرجت. ثم إنه قدم مكة معتمرا، فلقي زيد بن عمرو بن نفيل، فقص عليه أمره، فكان أبو قيس بعد يقول: ليس أحد على دين إبراهيم إلا أنا وزيد. فلما قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة؛ وقد أسلمت الخزرج والأوس، إلا ما كان من أوس الله فإنها وقفت مع ابن الأسلت، وكان فارسها وخطيبها، وشهد يوم بعاث، فقيل له: يا أبا قيس، هذا صاحبك الذي كنت تصف. قال: رجل قد بعث بالحق. ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعرض عليه شرائع الإسلام، فقال: ما أحسن هذا وأجمله، أنظر في أمري. وكاد أن يسلم، فلقيه عبد الله ابن أبي، فأخبره بشأنه فقال: كرهت والله حرب الخزرج. فغضب وقال: والله لا أسلم سنة. فمات قبل السنة.
فروى عن ابْنُ أَبِي حَبِيْبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بنِ الحُصَيْنِ، عن أشياخه أنهم كانوا يقولون: لقد سمع يوحد عند الموت، والله أعلم.(1/333)
سنة اثنتين من الهجرة:
غزوة الأبواء:
في صفرها غزوة الأبواء، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة غازيا، واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ ودان يريد قريشا وبني ضمرة، فوادع بني ضمرة بن عبد مناة بن كنانة، وعقد ذلك معه سيدهم مخشي بن عمرو، ثم رجع إلى المدينة. وودان على أربع مراحل.
بعث حمزة:
ثم في أحد الربيعين بعث عمه حمزة في ثلاثين راكبا من المهاجرين إلى سيف البحر من ناحية العيص، فلقي أبا جهل في ثلاث مائة. وقال الزهري: في مائة وثلاثين راكبا. وكان مجدي بن عمرو الجهني وقومه حلفاء الفريقين جميعا، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني.
بعث عبيدة:
وبعث في هذه المدة عُبَيْدَةُ بنُ الحَارِثِ بنِ المُطَّلِبِ بنِ عَبْدِ مناف، في ستين راكبا أو نحوهم من المهاجرين، فنهض حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقي بها جمعا من قريش، عليهم عكرمة بن أبي جهل، وقيل مكرز بن حفص، فلم يكن بينهم قتال. إلا أن سعد بن أبي وقاص كان في ذلك البعث، فرمى بسهم، فكان أول سهم رمي في سبيل الله.
وفر من الكفار يومئذ إلى المسلمين: المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان المازني حليف بني عبد مناف، وكان مسلمين, ولكنهما خرجا ليتوصلا بالمشركين.(1/334)
غزوة بواط، وغزوة العشيرة
غزوة بواط:
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول غازيا، فاستعمل على المدينة السائب أخا عثمان بن مظعون، حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ثم رجع ولم يلق حربا.
غزوة العشيرة:
وخرج غازيا في جمادى الأولى, واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، حتى بلغ العشيرة، فأقام هناك أياما، ووادع بني مدلج. ثم رجع فأقام بالمدينة أياما. والعشيرة من بطن ينبع.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن محمد بن خشيم عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثني أبوك محمد بن خثيم المحاربي، عن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع. فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بها شهرا، فصالح بها بني مدلج، فقال لي علي: هل لك يا أبا اليقظان أن نأتي هؤلاء؛ نفرا من بني مدلج يعملون في عين لهم؛ ننظر كيف يعملون؟ فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة، ثم غشينا النوم فنمنا، فوالله ما أهبنا إِلاَّ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدمه، فجلسنا، فيومئذ قال لعلي: "يا أبا تراب". لما عليه من التراب.(1/334)
بدر الأولى:
وخرج في جمادى الآخرة في طلب كرز بن جابر الفهري، وكان قد أغار على سرح المدينة، فبلغ صلى الله عليه وسلم وادي سَفَوان من ناحية بدر، فلم يلق حربا، وسميت بدرا الأولى، ولم يدرك كُرْزا.
سرية سعد بن أبي وقاص:
وبعث سعد بن أبي وقاص في ثمانية من المهاجرين، فبلغ الخوار، ثم رجع إلى المدينة.
بعث عبد الله بن جحش:
قال عروة: ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم -في رجب- عبد الله بن جحش الأسدي، ومعه ثمانية، وكتب معه كتابا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين. فلما قرأ الكتاب وجده: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بين نخلة والطائف، فترصد لنا قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم. فلما نظر عبد الله في الكتاب قال لأصحابه: قد أَمَرَنِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أمضي إلى نخلة، ونهاني أن أستكره أحدا منكم. فمن كان يريد الشهادة فلينطلق، ومن كره الموت فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله. فمضى ومضى معه الثمانية، وهم: أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله التميمي، وسهيل بن بيضاء الفهري، وخالد بن البكير.
فسلك بهم على الحجاز، حتى إذا كان بمعدن فوق الفُرْع يقال له بحران، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما، فتخلفا في طلبه. ومضى عبد الله بمن بقي حتى نزل بنخلة. فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأدما، وفيها عمرو بن الحضرمي وجماعة. فلما رآهم القوم هابوهم. فأشرف لهم عكاشة؛ وكان قد حلق رأسه؛ فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عمار لا بأس عليكم منهم.(1/335)
وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر رجب، فقالوا: والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام. وترددوا, ثم أجمعوا على قتلهم وأخذ تجارتهم، فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي فقتله، واستأسروا عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله.
وأقبل ابن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا المدينة وعزلوا خمس ما غنموا للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل القرآن كذلك. وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن الحضرمي، فنزلت: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] ، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم الفداء في الأسيرين فأما عثمان فمات بمكة كافرا، وأما الحكم فأسلم واستشهد ببئر معونة.
وصرفت القبلة في رجب، أو قريبا منه، والله أعلم.(1/336)
غزوة بدر الكبرى: من السيرة لابن إسحاق، رواية البكائي
قال ابن إسحاق: سمع النبي صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان بن حرب قد أقبل من الشام في عير لقريش وتجارة عظيمة، فيها ثلاثون أو أربعون رجلا من قريش، منهم: مخرمة بن نوفل، وَعَمْرُو بنُ العَاصِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها". فانتدب الناس، فخف بعضهم, وثقل بعض، ظنا منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلقى حربا. واستشعر أبو سفيان فجهز منذرا إلى قريش يستنفرهم إلى أموالهم. فأسرعوا الخروج، ولم يتخلف من أشرافهم أحد، إلا أن أبا لهب قد بعث مكانه العاص أخا أبي جهل. ولم يخرج أحد من بني عدي بن كعب. وكان أمية بن خلف شيخا جسيما فأجمع القعود. فأتاه عقبة بن أبي معيط -وهو في المسجد- بمجمرة وبخور وضعها بين يديه، وقال: أبا علي، استجمر! فإنما أنت من النساء. قال: قبحك الله، ثم تجهز وخرج معهم. وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثامن رمضان، واستعمل على المدينة عمرو بن أم مكتوم على الصلاة. ثم رد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير. وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان؛ إحداهما مع علي، والأخرى مع رجل أنصاري. وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ.
فكان مع المسلمين سبعون بعيرا يعتقبونها، وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي، ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيرا. وكان أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا. فلما قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الصفراء بعث اثنين يتجسسان أمر أبي سفيان. وأتاه الخبر بخروج نفير قريش، فاستشار الناس، فقالوا خيرا. وقال المقداد بن عمرو: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو(1/336)
إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم له خيرا ودعا له.
وقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك. فسر رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَه، وقال: "سيروا وأبشروا، فإن ربي قد وعدني إحدى الطائفتين: إما العير وإما النفير".
وسار حتى نزل قريبا من بدر. فلما أمسى بعث عليا والزبير وسعدا في نفر إلى بدر يلتمسون الخبر. فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم وأبو يسار من مواليهم، فأتوا بهما النبي صلى الله عليه وسلم. فسألوهما فقالا: نحن سقاة لقريش. فكره الصحابة هذا الخبر ورجوا أن يكونوا سقاة للعير. فجعلوا يضربونهما، فإذا آلمهما الضرب قالا: نحن من عير أبي سفيان. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فلما سلم قال: "إذا صدقا ضربتموهما، وإذا كذبا تركتموهما". ثم قال: "أخبراني أين قريش"؟ قالا: هم وراء هذا الكثيب. فسألهما: "كم ينحرون كل يوم"؟ قالا: عشرا من الإبل أو تسعا: فقال: "القوم ما بين التسعمائة إلى الألف".
وأما اللذان بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم يتجسسان، فأناخا بقرب ماء بدر واستقيا في شنهما، ومجدي بن عمرو بقربهما لم يفطنا به، فسمعا جاريتين من حواري الحي تقول إحداهما للأخرى: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أقضيك. فصرفهما مجدي، وكان عينا لأبي سفيان. فرجعا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ. ولما قرب أبو سفيان من بدر تقدم وحده حتى أتى ماء بدر فقال لمجدي: هل أحسست أحدا؟ فذكر له الراكبين، فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب. فرجع سريعا فصرف العير عن طريقها، وأخذ طريق الساحل فنجى، وأرسل يخبر قريشا أنه قد نجا فارجعوا. فأبى أبو جهل، وقال: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر، ونقيم عليه ثلاثا، فتهابنا العرب أبدا.
ورجع الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ببني زهرة كلهم، وكان فيهم مطاعا.
ثم نزلت قريش بالعدوة القصوى من الوادي.
وسبق النبي صلى الله عليه وسلم إلى ماء بدر، ومنع قريشا من السبق إلى الماء مطر عظيم لم يصب المسلمين منه إلا ما لبد لهم الأرض. فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة فقال الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: "بل هو الرأي والحرب(1/337)
بالنّاس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي، قال: قد فعلت، أنت علي بذلك، إنما هو حليفي فعلي عقله وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية -والحنظلية أم أبي جهل- فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة خطيبا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا, والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه الرجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه وابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
قال حكيم: فأتيت أبا جهل فوجدته قد شد درعا من جرابها فهو يهيؤها فقلت له: يا أبا الحكم، إن عتبة قد أرسلني بكذا وكذا. فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه. كلا، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه قد تخوفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك. فقام عامر فكشف رأسه وصرخ: واعمراه، واعمراه. فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوسقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس رأي عتبة الذي دعاهم إليه.
فلما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ والله سحره، قال: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره. ثم التمس عتبة بيضة لرأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته، فاعتجر على رأسه ببرد له.
وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي -وكان شرسا سيئ الخلق- فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه. وأتاه فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- فالتقيا فضربه حمزة فقطع ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما. ثم جاء إلى الحوض حتى اقتحم فيه ليبر يمينه، واتبعه حمزة فقتله في الحوض.
ثم إن عتبة بن ربيعة خرج للمبارزة بين أخيه شيبة، وابنه الوليد بن عتبة، ودعوا للمبارزة، فخرج إليه عوف ومعوذ ابنا عفراء وآخر من الأنصار. فقالوا: من أنتم؟ قالوا: من الأنصار. قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا عبيدة بن الحارث، ويا حمزة، ويا علي". فلما دنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ فتسموا لهم. فقال: أكفاء كرام فبارز عبيدة -وكان أسن القوم- عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله. وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله. واختلف عتبة(1/338)
بالنّاس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي، قال: قد فعلت، أنت علي بذلك، إنما هو حليفي فعلي عقله وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية -والحنظلية أم أبي جهل- فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة خطيبا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا, والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه الرجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه وابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
قال حكيم: فأتيت أبا جهل فوجدته قد شد درعا من جرابها فهو يهيؤها فقلت له: يا أبا الحكم، إن عتبة قد أرسلني بكذا وكذا. فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه. كلا، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه قد تخوفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك. فقام عامر فكشف رأسه وصرخ: واعمراه، واعمراه. فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوسقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس رأي عتبة الذي دعاهم إليه.
فلما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ والله سحره، قال: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره. ثم التمس عتبة بيضة لرأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته، فاعتجر على رأسه ببرد له.
وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي -وكان شرسا سيئ الخلق- فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه. وأتاه فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- فالتقيا فضربه حمزة فقطع ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما. ثم جاء إلى الحوض حتى اقتحم فيه ليبر يمينه، واتبعه حمزة فقتله في الحوض.
ثم إن عتبة بن ربيعة خرج للمبارزة بين أخيه شيبة، وابنه الوليد بن عتبة، ودعوا للمبارزة، فخرج إليه عوف ومعوذ ابنا عفراء وآخر من الأنصار. فقالوا: من أنتم؟ قالوا: من الأنصار. قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا عبيدة بن الحارث، ويا حمزة، ويا علي". فلما دنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ فتسموا لهم. فقال: أكفاء كرام فبارز عبيدة -وكان أسن القوم- عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله. وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله. واختلف عتبة(1/339)
وعبيدة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه. وكر علي وحمزة على عتبة فدففا عليه.
واحتملا عبيدة إلى أصحابهما.
والصحيح كما سيأتي إنما بارز حمزة عتبة، وعلي شيبة, والله أعلم. ثم تزاحف الجمعان. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم وقال: "انضحوهم عنكم بالنبل". وهو صلى الله عليه وسلم في العريش، ومعه أبو بكر، وذلك يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة رمضان.
قال سفيان، عن قتادة: إن وقعة بدر صبيحة يوم الجمعة سابع عشر رمضان. وقال قرة بن خالد: سألت عبد الرحمن بن القاسم عن ليلة القدر، فقال: كان زيد بن ثابت يعظم سابع عشرة ويقول: هي وقعة بدر. وكذلك قال إسماعيل السدي وغيره في تاريخ يوم بدر، وقاله عروة بن الزبير، ورواه خالد بن عبد الله الواسطي عن عمرو بن يحيى عَنْ عَامِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أبيه عن عامر بن ربيعة قال: كانت صبيحة بدر سبع عشرة من رمضان؛ لكن روى قتيبة عن جرير عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ ابن مسعود في ليلة القدر قال: تحروها لإحدى عشرة بقين، صبيحتها يوم بدر، كذا قال ابن مسعود1 والمشهور ما قبله.
ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف بنفسه، ورجع إلى العريش ومعه أبو بكر فقط، فجعل يناشد ربه ويقول: "يا رب إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد في الأرض". وأبو بكر يقول: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك. ثم خفق صلى الله عليه وسلم فانتبه وقال: "أبشر يا أبا بكر، أتاك النصر، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثنايا النقع".
فرمي مهجع -مولى عمر- بسهم، فكان أول قتيل في سبيل الله. ثم رمي حارثة بن سراقة النجاري بسهم وهو يشرب من الحوض، فقتل.
ثم خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الناس يحرضهم على القتال، فقاتل عمير بن الحمام حتى قتل، ثم قاتل عوف ابن عفراء -وهي أمه- حتى قتل.
ثم أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رمى المشركين بحفنة من الحصباء وقال: "شاهت الوجوه". وقال لأصحابه: "شدوا عليهم". فكانت الهزيمة، وقتل الله من قتل من صناديد الكفر: فقتل سبعون وأسر مثلهم.
__________
1 الصواب ما رواه ابن عمر مرفوعا بلفظ: "ليلة القدر التمسوها في العشر الأواخر، وإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن عن السبع البواقي" أخرجه الطيالسي "1912"، وأحمد "2/ 44 و75 و91"، ومسلم "1165" "209". وروى مسلم "1165" "210" "211" عن ابن عمر مرفوعا: "من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر".(1/340)
ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى العريش، وقام سعد بن معاذ على الباب بالسيف في نفر من الأنصار، يخافون عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كرة العدو.
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: "إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث فلا يقتله، ومن لقي العباس فلا يقتله فإنه إنما خرج مستكرها". فقال أبو حذيفة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف. فبلغت رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لعمر: "يا أبا حفص أيضرب وجه عَمِّ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيف"؟. فقال عمر: دعني فلأضرب عنق هذا المنافق. فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا آمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا، إلا أن تكفرها عني الشهادة. فاستشهد يوم اليمامة.
وكان أبو البختري أكف القوم عن رسول الله، وقام في نقض الصحيفة، فلقيه المجذر بن ذياد البلوي حليف الأنصار. فَقَالَ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نهانا عن قتلك. فقال: وزميلي جنادة الليثي؟ فقال المجذر: لا والله ما أمرنا إلا بك وحدك. فقال: لأموتن أنا وهو، لا يتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة. فاقتتلا، فقتله المجذر. ثم أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر، فآتيك به، فأبى إلا أن يقاتلني.
وعن عبد الرحمن بن عوف: كان أمية بن خلف صديقا لي بمكة، قال: فمررت به ومعي أدراع قد استلبتها، فقال لي: هل لك فيَّ، فأنا خير لك من الأدراع؟ قلت: نعم، ها الله إذًا.
وطرحت الأدراع، فأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط. أما لكم حاجة في اللبن؟ يعني: من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن. ثم جئت أمشي بهما، قال لي أمية:
من الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قلت: حمزة قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل.
فوالله إني لأقودهما، إذ رآه بلال؛ وكان يعذب بلالا بمكة، فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف؟ لا نجوت إن نجا. قلت: أي بلال، أبأسيري؟ قال: لا نجوت إن نجا. قال: أتسمع يابن السوداء ما تقول؟ ثم صرخ بلال بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال: فأحاطوا بنا، وأنا أذب عنه. فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنه فوقع، فصاح أمية صيحة عظيمة، فقلت: انج بنفسك، ولا نجاء، فوالله ما أغني عنك شيئا.
فهبروهما بأسيافهم، فكان يقول: رحم الله بلالا، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري.
وعن ابن عباس، عن رجل من غفار، قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل(1/341)
يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الدائرة على من تكون، فننتهب مع من ينتهب.
فبينا نحن في الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعت فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم1، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت.
رواه عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ، عمن حدثه، عن ابن عباس.
وروى الذي بعده ابن حزم عمن حدثه من بني ساعدة عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قال:
لو كان معي بصري وكنت ببدر لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة.
قال ابن إسحاق: فحدثني أبي، عن رجال، عن أبي داود المازني، قَالَ: إِنِّي لأَتْبَعُ رَجُلاً مِنَ المُشْرِكِيْنَ يَوْمَ بدر لأضربه بالسيف، إذ وقع رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أنه قتله غيري.
وعن ابن عباس قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
وأما أبو جهل بن هشام فاحتمى في مثل الحرجة -وهو الشجر الملتف- وبقي أصحابه يقولون: أبو الحكم لا يوصل إليه. قال معاذ بن عمرو بن الجموح: فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت2 قدمه بنصف ساقه. فوالله ما أشبهها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها. فضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي, فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عَامَّةَ يَوْمِي، وَإِنِّي لأَسْحَبُهَا خَلْفِي. فَلَمَّا آذَتْنِي وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها. قال: ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى زَمَنِ عُثْمَانَ.
ثم مر بأبي جهل معوذ ابن عَفْرَاءَ، فَضَرَبَهُ حَتَّى أَثْبَتَهُ, وَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ، وقاتل مُعَوِّذُ حَتَّى قُتِلَ، وَقُتِلَ أَخُوْهُ عَوْفٌ قَبْلَهُ، واسم أبيهما: الحارث بن رفاعة بن الحارث الزرقي.
ثم مر عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتماسه، وقال فيما بلغنا: "إن خفي عليكم في القتلى فانظروا إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان، ونحن غلامان؛ وكنت أشف 3 منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبته
__________
1 حيزوم: اسم فرس جبريل، عليه السلام. وقال الجوهري: حيزوم اسم فرس من خيل الملائكة.
2 أطنت: أي قطعت.
3 أشف منه: أي أكبر منه قليلا.(1/342)
فجحش 1 فيها". قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق، فوضعت رجلي على عنقه. وقد كان ضبث2 بي مرة بمكة، فآذاني ولكزني. فقلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا أخزاني، وهل فوق رجل قتلتموه؟ أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قلت: لله ولرسوله، ثم قال: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا. قال: فاحتززت رأسه وجئت بِهِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ الله! هذا رأس عدو الله أبي جهل. قال: "آلله الذي لا إله غيره"؟. قلت: نعم. وألقيت رأسه بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم أمر بالقتلى أن يطرحوا في قليب هناك. فطرحوا فيه إلا ما كان من أمية بن خلف، فإنه انتفخ في درعه فملأها، فذهبوا ليخرجوه فتزايل، فأقروه به، وألقوا عليه التراب فغيبوه.
فلما ألقوا في القليب، وقف عليهم النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا". فقالوا: يا رسول الله أتنادي قوما قد جيفوا؟ فقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا".
وفي رواية: فناداهم في جوف الليل: "يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام". فعدد من كان في القليب.
زاد ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم؛ كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس".
وعن أنس: لما سحب عتبة بن ربيعة إلى القليب نَظَرَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجه أبي حذيفة ابنه، فإذا هو كئيب متغير. فقال: "لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء"؟. قال: لا والله ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف منه رأيا وحلما، فكنت أرجو أن يسلم، فلما رأيت ما أصابه وما مات عليه أحزنني ذلك. فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ خيرا.
وكان الحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج قد أسلموا، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبسهم آباؤهم وعشائرهم، وفتنوهم عن الدين فافتتنوا -نعوذ بالله من فتنة الدين-
__________
1 جحش: أي انخدش جلده وانسحج "أي انقشر".
2 ضبث بي: أي قبض علي. يقال ضبثت على الشيء إذا قبضت عليه.(1/343)
ثم ساروا مع قومهم يوم بدر، فقتلوا جميعا. وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] .
وعن عبادة بن الصامت قال: فينا أهل بدر نزلت الأنفال حين تنازعنا في الغنيمة وساءت فيها أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسوله، فقسمه بين المسلمين على السواء. ثم بعث النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدِ اللهِ بنِ رواحة، وزيد بن حارثة، بشيرين إلى المدينة. قال أسامة: أتانا الخبر حين سوينا على رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبرها، كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان.
ثم قفل رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ الأسارى؛ فيهم: عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث. فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل، فلما أتى الروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بالفتح، فقال لهم سلمة بن سلامة: ما الذي تهنئونا به؟ فوالله إن لقينا إلا عجائز ضلعا كالبدن المعقلة فنحرناها. فتبسم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "أي ابن أخي، أولئك الملأ". يعني الأشراف والرؤساء.
ثم قتل النضر بن الحارث العبدري بالصفراء، وقتل بعرق الظبية عقبة بن أبي معيط، فقال عقبة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله: فمن للصبية يا محمد؟ قال: النار. فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وقيل: علي.
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بنِ السَّائِبِ، عن الشعبي قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة قال: أتقتلني يا محمد من بين قريش؟ قال: "نعم، أتدرون ما صنع هذا بي؟ جاء وأنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على عنقي وغمزها، فما رفع حتى ظننت أن عيني ستندران، وجاء مرة أخرى بسلى شاة فألقاه على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي".
واستشهد يوم بدر:
مهجع وَذُوْ الشِّمَالَيْنِ عُمَيْرُ بنُ عَبْدِ عَمْرٍو الخُزَاعِيُّ، وعاقل بن البكير، وصفوان بن بيضاء، وعمير بن أبي وقاص أخو سعد، وعبيدة بنُ الحَارِثِ بنِ المُطَّلِبِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ المطلبي الذي قطع رجله عتبة، مات بعد يومين بالصفراء. وهؤلاء من المهاجرين.
وعمير بن الحمام، وابنا عفراء، وحارثة بن سراقة، ويزيد بن الحارث فُسحُم، وَرَافِعُ بنُ المُعَلَّى الزُّرَقِيُّ، وَسَعْدُ بنُ خَيْثَمَةَ الأَوْسِيُّ، وَمُبَشِّرُ بنُ عَبْدِ المُنْذِرِ أَخُو أبي لبابة.
فالجملة أربعة عشر رجلا.
وقتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وهما ابنا أربعين ومائة سنة. وكان شيبة أكبر بثلاث سنين.(1/344)
قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش: الحسمان بن عبد الله الخزاعي.
فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة، وشيبة, وأبو جهل، وأمية، وزمعة بن الأسود، ونبيه، ومنبه، وأبو البختري بن هشام. فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا فسلوه عني. فقالوا: ما فعل صفوان؟ قال: ها هو ذاك جالسا، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
وعن أبي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كُنْتُ غُلاَماً لِلعَبَّاسِ وَكَانَ الإِسْلاَمُ قَدْ دَخَلَنَا أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه ويكره الخلاف ويكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه. وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر بمصاب قريش كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزة, وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أنحت الأقداح في حجرة زمزم، فإني لجالس أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل، وقد سرنا الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب1 الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري. فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أَبُو سُفْيَانَ بنُ الحَارِثِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ قد قدم. فقال أبو لهب: إليَّ، فعندك الخبر. قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال: يابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسرونا، وايم الله ما لمت الناس، لقينا "رجالا بيضا"2 على خيل بلق3 بين السماء والأرض، والله ما تليق4 شيئا ولا يقوم لها شيء.
قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة قال: وثاورته، فحملني وضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلا ضعيفا. فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة, فلقت في رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده؟ فقام موليا ذليلا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال, حتى رماه الله بالعدسة فقتلته. وكانت قريش تتقي هذه العدسة كما يتقى الطاعون، حتى قال رجل من قريش لابنيه: ويحكما؟ ألا تستحيان أن أباكما
__________
1 الطنب: الطرف والناحية.
2 في الأصل: "رجال بيض"، وهو خطأ نحوي، والصواب: "رجالا بيضا" وهو ما أثبتناه.
3 البلق: سواد وبياض، وكذلك البلقة، بالضم. قال ابن سيده: البلق والبلقة مصدر الأبلق ارتفاع التحجيل إلى الفخذين.
4 ما تليق شيئا: أي لم يلق شيئا إلا قطعه حسامه.(1/345)
قد أنتن في بيته ألا تدفنانه؟ فقالا: نخشى عدوى هذه القرحة. فقال: انطلقا فأنا أعينكما فوالله ما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد. ثم احتملوه إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدار، ثم رضموا عليه الحجارة.
رواه محمد بن إسحاق من طريق يونس بن بكير عنه بمعناه. قال: حدثني الحُسَيْنِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: حدثني أبو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروى عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: ناحت قريش على قتلاها ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم.
وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة، وعقيل، والحارث فكان يحب أن يبكي عليهم.
قال ابن إسحاق: ثم بعثت قريش في فداء الأسارى، فقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو، فقال عمر: دعني يا رسول الله أنزع ثنيتي سهيل يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا، فقال: "لا أمثل به فيمثل الله بي، وعسى أن يقوم مقاما لا تذمه". فقام في أهل مكة بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنحو من خطبة أبي بكر الصديق، وحسن إسلامه.
وانسل المطلب بن أبي وداعة، ففدى أباه بأربعة آلاف درهم، وانطلق به.
وبعثت زينب بِنْتِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فداء زوجها أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص. فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ رَقَّ لَهَا, وَقَالَ: "إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيْرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا". قَالُوا: نَعَمْ، يا رسول الله. وَأَطْلَقُوْهُ.
فَأَخَذَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْلِيَ سَبِيْلَ زَيْنَبَ, وَكَانَتْ مِنَ المُسْتَضْعَفِيْنَ مِنَ النِّسَاءِ، وَاسْتَكْتَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ذلك, وبعث زيد بن حارثة ورجلا من الانصار، فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحبانها حتى تأتياني بها. وَذَلِكَ بَعْد بَدْرٍ بِشَهْرٍ.
فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو العَاصِ مَكَّةَ أَمَرَهَا بِاللُّحُوْقِ بِأَبِيْهَا، فَتَجَهَّزَتْ فَقَدَّمَ أخو زوجها كنانة بن الربيع بعيرا، فركبته وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارا يقودها. فتحدث بذلك رجال، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهَا، فَبَرَكَ كِنَانَةُ وَنَثَرَ كِنَانَتَهُ لما أدركوها لذي طُوَى، فَرَوَّعَهَا هَبَّارُ بنُ الأَسْوَدِ بِالرُّمْحِ. فَقَالَ كنانة: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما. فتكركر الناس عنه وأتى أبو سفيان في جلة من قريش، فقال: أيها الرجل كف عَنَّا نَبْلَكَ حَتَّى نُكَلِّمَكَ. فَكَفَّ فَوَقَفَ(1/346)
عليه أبو سفيان فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تُصِبْ، خَرَجْتَ بِالمَرْأَةِ عَلَى رءوس النَّاسِ عَلاَنِيَةً، وَقَدْ عَرَفْتَ مُصِيْبَتَنَا وَنَكْبَتَنَا وَمَا دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه علانية أن ذلك على ذل أصابنا، وأن ذلك منا وهن وضعف، وَلَعَمْرِي مَا بِنَا بِحَبْسِهَا عَنْ أَبِيْهَا مِنْ حاجة، ولكن ارجع بالمرأة، حتى إذا هدأت الأَصْوَاتُ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّا رَدَدْنَاهَا، فَسُلَّهَا سِرّاً وألحقها بأبيها. قال: ففعل، ثم خرج بها ليلا، بَعْدَ لَيَالٍ، فَسَلَّمَهَا إِلَى زَيْدٍ وَصَاحِبِهِ، فَقَدِمَا بها على النبي صلى الله عليه وسلم فأقامت عنده.
فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ الفَتْحِ، خَرَجَ أَبُو العَاصِ تاجرا إلى الشام بماله، وبمال كَثِيْرٍ لقُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَجَعَ لَقِيَتْهُ سَرِيَّةٌ فَأَصَابُوا ما معه، وأعجزهم هاربا، فقدموا بما أصابوا. وأقبل أبو العاص فِي اللَّيْلِ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ، فَاسْتَجَارَ بها فأجارته، وجاء في طلب ماله. فلما خرج صلى الله عليه وسلم إلى الصبح وكبر وكبر الناس معه، صَرَخَتْ زَيْنَبُ مِنْ صُفَّةِ النِّسَاءِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَبَا العَاصِ بنَ الرَّبِيْعِ.
وَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّرِيَّةِ الَّذِيْنَ أَصَابُوا مَالَهُ فَقَالَ: "إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ أَصَبْتُمْ لَهُ مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فَإِنَّا نُحِبَّ ذَلِكَ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَهُوَ فَيْءُ الله الذي أفاء عليكم، فَأَنْتُم أَحَقُّ بِهِ". قَالُوا: بَلْ نَرُدُّهُ فَرَدُّوْهُ كُلَّهُ. ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَأَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي مَالٍ مَالَهُ. ثُمَّ قَالَ: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما. قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، وَاللهِ مَا منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ أَكْلَ أَمْوَالِكُم.
ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ على النكاح الأول، لم يحدث شيئا.
ومن الأسارى: الوليد بن الوليد بن المغيرة المخزومي، أسره عبد الله بن جحش، وقيل: سليط المازني.
وقدم في فدائه أخواه: خالد بن الوليد، وهشام بن الوليد، فافتكاه بأربعة آلاف درهم، وذهبا به.
فلما افتدي أسلم، فقيل له في ذلك فقال: كرهت أن يظنوا بي أني جزعت من الأسر، فحبسوه بمكة، وكان رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعُو له في القنوت، ثم هرب ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، وتوفي قديما؛ لعل فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فبكته أم سلمة، وهي بنت عمه:(1/347)
يا عين فابكي للوليـ ... ـد بن الوليد بن المغيره
قد كان عيثا في السنيـ ... ـن ورحمة فينا وميره1
ضخم الدسيعة2 ماجدا ... يسمو إلى طلب الوتيره
مثل الوليد بن الوليد ... أبي الوليد كفى العشيره
ومن الأسرى: أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي. كان محتاجا ذا بنات، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: قد عرفت أني لا مال لي، وأني ذو حاجة وعيال، فامنن عليَّ. فمن عليه، وشرط عليه أن لا يظاهر عليه أحدا.
وقال عروة بن الزبير: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية، بعد مصاب أهل بدر بيسير، في الحجر، وكان عمير من شياطين قريش، وممن يؤذي المسلمين، وكان ابنه وهيب في الأسرى، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: "والله ما في العيش بعدهم خير"3. فقال عمير: صدقت، والله لولا دين عليّ ليس عندي له قضاء، وعيال أخشى عليهم، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي فيهم علة؛ ابني أسير في أيديهم. فاغتنمها صفوان فقال: عليّ دينك وعيالك. قال: فاكتم عليّ. ثم شحذ سيفه وسمه، ومضى إلى المدينة.
فبينا عمر في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، إذ نظر عمر إلى عمير حين أناخ على باب المسجد متوشحا بالسيف. فقال: هذا الكلب عدو الله عمير، قال: وهو الذي حزرنا يوم بدر. ثم دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هذا عمير. قال: أدخله عليّ. فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه، فلببه به، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله فاجلسوا عنده واحذروا عليه هذا الخبيث. ثم دخل به, فقال عليه السلام: "أرسله يا عمر، ادن يا عمير". فدنا، ثم قال: أنعموا صباحا، قال: "فما جاء بك"؟. قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم. قال: "فما بال السيف في عنقك"؟. قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت شيئا؟ قال: "اصدقني ما الذي جئت له". قال: ما جئت إلا لذلك. قال: "بلى، قعدت أنت وصفوان في الحجر". وقص له ما قالا. فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَأَنَّكَ رسوله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتينا به من خبر السماء، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا
__________
1 الميرة: الطعام.
2 الدسيعة: مائدة الرجل إذا كانت كريمة.
3 وقع في الأصل "والله أنَّ في العيش بعدهم لخير"، والصواب: ما أثبتناه وهو ما يقتضيه السياق.(1/348)
وصفوان فوالله لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام. فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن وأطلقوا له أسيره". ففعلوا.
ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله ورسوله، لعل الله أن يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم. فأذن له ولحق بمكة. وكان صفوان يعد قريشا يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكبا فأخبره عن إسلامه، فحلف لا يكلمه أبدا ولا ينفعه بشيء أبدا. ثم أقام يدعو إلى الإسلام، ويؤذي المشركين، فأسلم على يديه ناس كثير.
بقية أحديث غزوة بدر:
وهي كالشرح لما قدمناه، منها:
قال إسرائيل: عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مَسْعُوْدٍ، قَالَ: انْطَلَقَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِراً: فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ -وَكَانَ أُمَيَّةُ ينزل عليه إذا سافر إلى الشام- فقال لسعد: انْتَظِرْ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ وَغَفِلَ النَّاسُ فطف قال: فبينما هو يَطُوْفُ إِذْ أَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: مَنِ أنت. قال: سعد. قال: أتطوف آمنا وقد آويتم محمدا وأصحابه، وتلاحيا. فقال أمية لسعد: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الحَكَمِ فَإِنَّهُ سيد أهل الوادي. فقال: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن عليك متجرك بالشام. وجعل أُمَيَّةُ يَقُوْلُ: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ. فَغَضِبَ وَقَالَ: دعنا منكم، فَإِنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ، قَالَ: إِيَّايَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قال: والله ما يكذب محمد فكاد أن يحدث، فرجع فقال لامرأته: أتعلمين ما قال أخي اليثربي؟ قالت: وما قال؟ قال: زعم أن محمدا يزعم أنه قاتلي. قالت: فوالله ما يكذب. فلما خرجوا لبدر وجاء الصريخ قالت له امرأته: أما علمت ما قال اليثربي! قال: فإني إذن لا أخرج. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّكَ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الوَادِي فَسِرْ مَعَنَا يَوْماً أَوْ يَوْمَيْنِ. فسار معهم، فقتل. أخرجه البخاري1.
وأخرجه أيضا من حديث إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي، عن أبيه، عن جده، وفيه: فلما استنفر أبو جهل الناس وقال: أدركوا عيركم، كره أمية أن يخرج، فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس تخلفت -وأنت سيد أهل الوادي- تخلفوا
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3632" حدثني أحمد بن إسحاق، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بنُ مُوْسَى، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيْلُ، به.(1/349)
معك فلم يزل به حتى قال: إذ غلبتني فوالله لأشترين أجود بعير مكة. ثم قال: يا أم صفوان جهزيني فما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا. فلما خرج أخذ لا ينزل منزلا إلا عقل بعيره، فلم يزل بذاك حتى قتله الله ببدر. البخاري1.
وذكر الزهري قال: إنما خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن خرج من أصحابه يريدون عير قريش التي قدم بها أبو سفيان من الشام، حتى جمع الله بين الفئتين من غير ميعاد. قال الله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال: 42] .
رؤيا عاتكة:
قال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس.
"ح" قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة، قالا:
رأت عاتكة بنت عبد المطلب فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو الغفاري على قريش مكة بثلاث ليال، رؤيا، فأصبحت عاتكة فأعظمتها، فبعثت إلى أخيها العباس فقالت له: يا أخي لقد رأيت الليلة رؤيا ليدخلن منها على قومك شر وبلاء. فقال: وما هي؟ قالت: رأيت فيما يرى النائم أن رجلا أقبل على بعير له فوقف بالأبطح فقال: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، فاجتمعوا إليه، ثم أرى بعيره دخل به المسجد واجتمع الناس إليه. ثم مثل به بعيره فإذا هو على رأس الكعبة، فقال: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث. ثم أرى بعيره مثل به على رأس أبي قبيس، فقال: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث. ثم أخذ صخرة فأرسلها من رأس الجبل فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت في أسفله ارفضت2 فما بقيت دار من دور قومك ولا بيت إلا دخل فيه بعضها.
فقال العباس: والله إن هذه لرؤيا، فاكتميها. فقالت: أنت فاكتمها، لئن بلغت هذه قريشا ليؤذننا. فخرج العباس من عندها، فلقي الوليد بن عتبة -وكان له صديقا- فذكرها له واستكتمه، فذكرها الوليد لأبيه، فتحدث بها، ففشا الحديث، فقال العباس: والله إني لغاد
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3950" حدثني أحمد بن عثمان، حدثنا شريح بن مسلمة، حدثنا إبراهيم بن يوسف، به.
2 ارفضت: أي تفرقت.(1/350)
إلى الكعبة لأطوف بها، فإذا أبو جهل في نفر يتحدثون عن رؤيا عاتكة، فقال أبو جهل: يا أبا الفضل تعال. فجلست إليه فقال: متى حدثت هذه النبية فيكم؟ ما رضيتم يا بني عبد المطلب أن ينبأ رجالكم حتى تنبأ نساؤكم، سنتربص بكم هذه الثلاث التي ذكرت عاتكة، فإن كان حقا فسيكون، وإلا كتبنا عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب.
قال: فوالله ما كان إليه مني من كبير، إلا أني أنكرت ما قالت، وقلت: ما رأت شيئا ولا سمعت بهذا، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلى أتتني فقلن: صبرتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، فلم يكن عندك في ذلك غير. فقلت: قد والله صدقتن وما كان عندي في ذلك من غير إلا أني أنكرت، ولا تعرضن له، فإن عاد لأكفينه.
فغدوت في اليوم الثالث أتعرض له ليقول شيئا فأشاتمه، فوالله إني لمقبل نحوه، وكان رجلا حديد الوجه، حديد النظر، حديد اللسان، إذ ولى نحو باب المسجد يشتد، فقلت في نفسي: اللهم العنه، كل هذا فرقا أن أشاتمه. وإذا هو قد سمع ما لم أسمع، صوت ضمضم بن عمرو، وهو واقف بعيره بالأبطح؛ قد حول رحله وشق قميصه وجدع بعيره؛ يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان، قد عرض لها محمد، فالغوث الغوث! فشغله ذلك عني، وشغلني عنه، فلم يكن إلا الجهاز حتى خرجنا، فأصاب قريشا ما أصابهم يوم بدر، فقالت عاتكة:
ألم تكن الرؤيا بحق وجاءكم ... بتصديقها فل من القوم هارب
فقلتم ولم أكذب كذبت وإنما ... يكذبنا بالصدق من هو كاذب
وقال أبو إسحاق: سمعت البراء يقول: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر. وكنا -أصحاب محمد- نتحدث أن عدة أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر، كعدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، وما جازه إلا مؤمن. أخرجه البخاري1.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3955" و"3956" من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر، وكان المهاجرون يوم بدر نيفا على ستين، والأنصار نيفا وأربعين ومائتين. وأخرجه البخاري "3957" حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق قال سمعت البراء -رضي الله عنه- يقول: حدثني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا أنهم كانوا عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر: بضعة عشر وثلاثمائة. قال البراء: لا والله ما جاوز النهر إلا مؤمن. وأخرجه البخاري "3958" حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، به.(1/351)
وقال: سمعت البراء يقول: كان المهاجرون يوم بدر نيفا وثمانين. أخرجه البخاري1.
وقال ابن لهيعة: حدثني يزيد بن أبي حبيب، حدثني أسلم أبو عمران أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول: قَالَ لَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ونحن بالمدينة: "هل لكم أن نخرج فنلقى العير لعل الله يغنمنا"؟. قلنا: نعم. فخرجنا، فلما سرنا يوما أو يومين أمرنا أن نتعاد، ففعلنا، فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، فأخبرناه بعدتنا، فسر بذلك وحمد الله، وقال: "عدة أصحاب طالوت".
وقال ابن وهب: حَدَّثَنِي حُيَيُّ بنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يوم بدر بثلاثمائة وخمسة عشر من المقاتلة كما خرج طالوت فدعا لهم رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ خرج فقال: "اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم". ففتح الله لهم، فانقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين، واكتسوا وشبعوا.
وقال أبو إسحاق، عن البراء، قال: لم يكن يوم بدر فارس غير المقداد.
وقال أبو إسحاق، عن حارثة بن مضرب: إن عليا قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما منا أحد إلا وهو نائم إِلاَّ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح، ولقد رأيتنا وما منا أحد فارس يومئذ إلا المقداد. رواه شعبة عنه.
ومن وجه آخر عن علي، قال: ما كان معنا إلا فرسان. فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود.
وعن إِسْمَاعِيْلَ بنَ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ البَهِيِّ، قَالَ: كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم فارسان، الزبير على الميمنة، والمقداد على الميسرة.
وقال عروة: كان عَلَى الزُّبَيْرِ يَوْمَ بَدْرٍ عمَامَةٌ صَفْرَاءُ، فَنَزَلَ جبريل على سيما الزبير.
__________
1 الذي رواه البخاري "3956" عن البراء قال: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر، وكان المهاجرون يوم بدر نيفا على ستين، والأنصار نيفا وأربعين ومائتين.
وقال الحافظ في "الفتح": وقد وقع عند الحاكم من طريق عبد الملك بن إبراهيم الجسري، عن شعبة في هذا الحديث: "إن المهاجرين كانوا نيفا وثمانين" وهو خطأ في هذه الرواية لإطباق أصحاب شعبة على ما وقع في البخاري -أي في الحديث "3956"- وفيه "نيفا على ستين".(1/352)
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قال: كنا يوم بدر نتعاقب ثلاثة على بعير، فكان علي وأبو لبابة زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان إذا حانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولان له: اركب حتى نمشي فيقول: "إني لست بأغنى عن الأجر منكما، ولا أنتما بأقوى على المشي مني".
المشهور عند أهل المغازي: مرثد بن أبي مرثد الغنوي بدل أبي لبابة، فإن أبا لبابة رده النبي صلى الله عليه وسلم واستخلفه على المدينة.
وقال معمر: سمعت الزهري يقول: لم يشهد بدرا إلا قرشي أو أنصاري أو حليف لهما.
وعن الحسن، قال: كان فيهم اثنا عشر من الموالي.
وقال عمرو العنقزي: حدثنا إسرائيل، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بنِ مُضَرِّبٍ، عن علي عنه قال: أخذنا رجلين يوم بدر، أحدهما عربي والآخر مولى، فأفلت العربي وأخذنا المولى؛ مولى لعقبة بن أبي معيط؛ فقلنا: كم هم؟ قال: كثير عددهم شديد بأسهم, فجعلنا نضربه، حتى انتهينا بِهِ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأبى أن يخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم ينحرون من الجزر"؟. فقال: في كل يوم عشرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القوم ألف، لكل جزور مائة".
وقال يونس، عن ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بكر، أن سعد بن معاذ قَالَ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: إلا نبني لك عريشا، فتكون فيه، وننيخ لك ركائبك ونلقى عدونا، فإن أظهرنا الله عليهم فذاك، وإن تكن الأخرى فتجلس على ركائبك وتلحق بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو علموا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، ويوادونك وينصرونك. فأثنى عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيرا ودعا له. فبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش، فكان فيه وأبو بكر ما معهما غيرهما.
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إسرائيل، عن مخارق، عن طارق بن شهاب، سمع ابن مسعود يقول: شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه كان أحب إلي مما عدل به: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَدْعُو على المشركين فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك، قال: فَرَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشرق لذلك، وسره1.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3952" و"4609" حدثنا أبو نعيم، حدثنا إسرائيل، به.(1/353)
وقال مسلم وأبو داود: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ندب أصحابه فانطلق إلى بدر، فإذا هم بروايا قريش, فيها عبد أسود لبني الحجاج، فأخذه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يسألونه: أين أبو سفيان؟ فيقول: والله ما لي بشيء من أمره علم، ولكن هذه قريش قد جاءت، فيهم أبو جهل، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأمية بن خلف. قال: فإذا قال لهم ذلك ضربوه، فيقول: دعوني دعوني أخبركم. فإذا تركوه قال كقوله سواء، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يسمع ذلك فلما انصرف، قال: "والذي نفسي بيده إنكم لتضربونه إذا صدقكم وتدعونه إذا كذبكم، هذه قريش قد أقبلت لتمنع أبا سفيان".
قال أنس: وَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا مصرع فلان غدا". ووضع يده على الأرض, "وهذا مصرع فلان" , ووضع يده على الأرض، "وهذا مصرع فلان"، ووضع يده على الأرض.
قال: والذي نفسي بيده ما جاوز أحد منهم عن موضع يده صلى الله عليه وسلم قال: فأمر بهم رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بأرجلهم، فسحبوا فألقوا في قليب بدر1. صحيح.
وقال حماد أيضا، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة -كذا قال، والمعروف ابن معاذ- فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أَنْ نُخِيْضَهَا البَحْرَ لأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا. قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدرا وساق الحديث المذكور قبل هذا. أخرجه مسلم2.
ورواه أيضا من حديث سليمان بن المغيرة أخصر منه عن ثابت، عن أنس: حدثنا عمر، قَالَ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليخبرنا عن مصارع القوم بالأمس: هذا مصرع فلان إن شاء الله غدا، هذا مصرع فلان إن شاء الله غدا. فوالذي بعثه بالحق، ما أخطئوا تلك الحدود، وجعلوا يصرعون حولها، ثم ألقوا في القليب.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 219-220 و257-258"، ومسلم "1779"، وأبو داود "2681" من طرق عن حماد بن سلمة، به.
2 صحيح: أخرجه مسلم "1779" حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، به.
وقوله: "أن نخيضها البحر لأخضناها": يعني الخيل. أي لو أمرتنا بإدخال خيولنا في البحر وتمشيتنا إياها فيه لفعلنا.
برك الغماد: موضع من وراء مكة بخمس ليال بناحية الساحل. وقيل: بلدتان وقال القاضي عياض وغيره: هو موضع بأقاصي هجر.(1/354)
وجاء النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا". فقلت: يا رسول الله أتكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ فقال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ".
وقال شعبة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إِلاَّ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت سمرة يصلي ويبكي، حتى أصبح.
وقال أبو عَلِيٍّ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ المَجِيْدِ الحَنَفِيِّ: حدثنا عُبَيْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ مَوْهبٍ، قال: أخبرني إسماعيل بن عون بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عُمَرَ بنِ علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن علي، قال: لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال، ثم جئت لأنظر إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما فعل، فجئت فإذا هو ساجد يقول: يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم، لا يزيد عليها. فرجعت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول أيضا. غريب.
وقال الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ, عَنِ عبد الله، قال: ما سمعت مناشدا ينشد حقا أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر, جعل يقول: "اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد". ثم التفت وكأن شق وجهه القمر؛ فقال: "كأنما أنظر إلى مصارع القوم عشية".
وقال خالد, عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وهو في قبته يوم بدر: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا". فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك؛ وهو في الدرع. فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القَمَرُ: 45، 46] ، أخرجه البخاري.
وقال عكرمة بن عمار: حدثني أبو زميل سماك الحنفي، قال: حدثني ابن عباس، عن عمر، قال: لما كان يوم بدر نَظَرَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المشركين وهم ألف, وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا. فاستقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه فقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] ، فأمده الله بالملائكة فحدثني ابن(1/355)
عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس: أقدم حيزوم. إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري، فحدث ذَلِكَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة". فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين. أخرجه مسلم1.
وقال سلامة بن روح، عن عقيل، حدثني ابن شهاب قال: قال أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ أبو أسيد الساعدي بعدما ذهب بصره: يابن أخي، والله لو كنت أنا وأنت ببدر، ثم أطلق الله لي بصري لأريتك الشعب الذي خرجت علينا منه الملائكة، غير شك ولا تمار.
وقال الوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَبِيْبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس. وحدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم، عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يا أبا بكر أبشر هذا جبريل معتجر بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء والأرض. فلما نزل إلى الأرض، تغيب عني ساعة ثم طلع، على ثناياه النقع يقول: أتاك نصر الله إذ دعوته".
وقال عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يوم بدر: "هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب". أخرجه البخاري2.
وقال موسى بن يعقوب الزمعي: حدثني أبو الحويرث، قال: حدثني محمد بن جبير بن مطعم أنه سمع عليا -رضي الله عنه- خطب الناس فقال: بينما أنا أمتح3 من قليب بدر إذ جاءت ريح شديدة لم أر مثلها ثم ذهبت، ثم جاءت ريح شديدة كالتي قبلها، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة, وكانت الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة، وجاءت ريح ثالثة كان فيها إسرافيل في ألف. فلما هزم الله أعداءه حملني رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فرسه, فجرت بي، فوقعت على عقبي، فدعوت الله فأمسكت، فلما استويت عليها طعنت بيدي هذه في القوم حتى اختضب هذا، وأشار إلى إبطه. غريب، وموسى فيه ضعف.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1763" حدثنا هناد بن السري، حدثنا ابن المبارك، عن عكرمة بن عمار، به. قوله "خطم أنفه": الخط الأثر على الأنف.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3995" و"4041" حدثني إبراهيم بن موسى، أخبرنا عبد الوهاب، حدثنا خالد، عن عكرمة، به.
3 أمتح: أستقي من البئر بالدلو من أعلى البئر.(1/356)
وقوله: "حملني على فرسه" لا يعرف إلا من هذا الوجه.
وقال يحيى بن بكير: حدثني محمد بن يحيى بن زكريا الحميري، قال: حدثنا العلاء بن كثير، قال: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ المسور بن مخرمة، قال: حدثني أبو أمامة بن سهل، قال: قال أبي: يا بني لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
وقال ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لاَ أَتَّهِمُ، عَنِ مقسم، عن ابن عباس، قال: كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها في ظهورهم ويوم حنين عمائم حمرا، ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا.
وجاء في قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] ؛ ذكر الواقدي، عن إبراهيم بن أبي حبيبة؛ حدثه عن داود بن الحصين، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الملك يتصور في صورة من يعرفون من الناس، يثبتونهم، فيقول: إني قد دنوت منهم فسمعتهم يقولون: لو حملوا علينا ما ثبتنا. إلى غير ذلك من القول.
وقال إِسْرَائِيْلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ، عَنْ علي، قال: لما قدمنا المدينة، أصبنا من ثمارها فاجتويناها وأصابنا بها وعك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخبر عن بدر. فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا، سَارَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر -وهي بئر- فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها رجلين: رجلا من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط. أما القرشي فانفلت، وأما مولى عقبة فأخذناه فجعلنا نقول له: كم القوم؟ فيقول: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم. فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه، حتى انتهوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: "كم القوم"؟ قال: هم كثير عددهم شديد بأسهم، فجهد أن يخبره كم هم فأبى, ثم سأله: "كم ينحرون كل يوم من الجزور"؟ فقال: عشرة. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "القوم ألف، كل جزور بمائة وتبعها".
ثم إنه أصابنا من الليل طش1 من مطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف2 نستظل تحتها. وبات رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعُو ربه ويقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في
__________
1 الطش: الضعيف القليل.
2 الجحفة: الترس وجمعها حجف، قيل: هي من الجلود خاصة، وقيل: هي من جلود الإبل مقورة.(1/357)
الأرض". فلما طلع الفجر نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة جامعة". فجاء الناس من تحت الشجر والحجف والجرف1 فصلى بِنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحض على القتال، ثم قال: "إن جمع قريش عند هذه الضلع الحمراء من الجبل". فلما دنا القوم منا وضايقناهم إذا رجل منهم يسير في القوم على جمل أحمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي ناد لي حمزة -وكان أقربهم من المشركين- من صاحب الجمل الأحمر؟ وماذا يقول لهم"؟. ثم قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن يك في القوم أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر". فجاء حمزة فقال: هو عتبة بن ربيعة، وهو ينهى عن القتال ويقول: يا قوم إني أرى أقواما مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير، يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا: جبن عتبة. وقد تعلمون أني لست بأجبنكم. فسمع بذلك أبو جهل فقال: أنت تقول هذا؟ والله لو غيرك يقول هذا لأعضضته. قد ملئت جوفك رعبا، فقال: إياي تعني يا مصفر استه؟ ستعلم اليوم أينا أجبن؟
فبرز عتبة وابنه الوليد وأخوه حمية، فقال: من يبارز؟ فخرج من الأنصار شببة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن يبارزنا من بني عمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا علي، قم يا حمزة، قم يا عبيدة بن الحارث". فقتل الله عتبة، وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة. فقتلنا منهم سبعين وأسرنا سبعين، فجاء رجل من الأنصار قصير برجل من بني هاشم أسيرا فقال الرجل: إن هذا والله ما أسرني، ولقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق, ما أراه في القوم. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله فقال: "اسكت، فقد أيدك الله بملك كريم". قال: فأسر من بني عبد المطلب: العباس، وعقيل، ونوفل بن الحارث.
وقال إسحاق بن منصور السلولي: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيْلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنِ عبد الله، قال: لقد قلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. فأسرنا رجلا, فقلت: كم كنتم؟ قال: ألفا.
وقال سليمان بن المغيرة، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم بدر: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض". قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله عرضها السموات والأرض؟ فقال: "نعم". قال: بخ بخ! قال: "ما يحملك على قولك: بخ بخ"؟. قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: "فإنك من أهلها". فأخرج
__________
1 الجرف: موضع الخصب والكلأ الملتف، وهي أماكن رعي الإبل.(1/358)
تميرات من قرنه1 فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى بهن، ثم قاتل حتى قتل. أخرجه مسلم2.
وقال عبد الرحمن بن الغسيل، عن حمزة بن أبي أسيد, عَنْ أَبِيْهِ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حين اصطففنا يوم بدر: إذا أكثبوهم؛ يعني: إذا غشوكم، فارموهم بالنبل، واستبقوا نبلكم. أخرجه البخاري3.
وروى عُمَرُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ عروة بن الزبير، قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعار المهاجرين يوم بدر: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله. وسمى خيله: خيل الله.
أخبرنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الخَالِقِ بنُ عَبْدِ السَّلاَمِ، وابنة عمه ست الأهل بنت علوان -سنة ثلاث وتسعين- وآخرون قالوا: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الفقيه، قال: أنبأتنا شهدة بنت أحمد، قالت: أخبرنا الحسين بن طلحة، قال: أخبرنا أبو عمر بعد الواحد بن مهدي، قال: حدثنا الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمود بن خداش، قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا أبو هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد، قال: سمعت أبا ذر -رضي الله عنه- يقسم قسما: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] ، أنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث -رضي الله عنهم- وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة4.
أخرجه البخاري عن يعقوب الدورقي وغيره، ومسلم عن عمرو بن زرارة، عن هشيم، عن أبي هاشم يحيى بن دينار الرماني الواسطي، عن أبي مجلز لاحق بن حميد السدوسي البصري. وهو من الأبدال العوالي.
وعبيدة بنُ الحَارِثِ بنِ المُطَّلِبِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ بنِ قُصَيِّ المطلبي، أمه ثقفية, وكان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، أسلم هو وأبو سلمة بن عبد الأسد وعثمان بن مظعون في وقت.
__________
1 قرنه: أي جعبة النشاب.
2 صحيح: أخرجه مسلم "1901" من طريق هاشم بن القاسم، حدثنا سليمان بن المغيرة به.
3 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 498"، والبخاري "3984" و"3985"، وأبو داود "2663" من طريق أبي أحمد الزبيري، حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل، به.
4 صحيح: أخرجه البخاري "4743" قال حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا هشيم، أخبرنا أبو هاشم، به. وأخرجه البخاري "4744" من طريق معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي، قال: حدثنا أبو مجلز، به.(1/359)
وهاجر هو وأخواه الطفيل والحصين. وكان عبيدة كبير المنزلة عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مربوعا مليحا، توفي بالصفراء. وهو الذي بارز عتبة بن ربيعة، فاختلفا ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، كما تقدم. وقد جهزه النبي صلى الله عليه وسلم في ستين راكبا من المهاجرين أمره عليهم؛ فكان أول لواء عقده النبي صلى الله عليه وسلم لواء عبيدة، فالتقى بقريش وعليهم أبو سفيان عند ثنية المرة، فكان أول قتال في الإسلام. قاله محمد بن إسحاق.
وقال ابن إسحاق وغيره عن الزهري، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ صُعَيْرِ أن المستفتح يوم بدر أبو جهل، قال لما التقى الجمعان: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة.
فقتل، ففيه أنزلت: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19] .
وقال معاذ بن معاذ: حدثنا شعبة، عن عبد الحميد صاحب الزيادي، سمع أنسا يقول: قال أبو جهل: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، [الأنفال: 32] ، فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 32] ، فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] ، متفق عليه1.
وعن ابن عباس في قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 34] ، قال: يوم بدر بالسيف قاله عبد الله بن صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بن أبي طلحة، عنه.
وبه عنه في قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} [الأنفال: 7] ، قال: أقبلت عير أهل مكة تريد الشام -كذا قال- فبلغ أهل المدينة ذلك, فخرجوا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون العير. فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا السير، فسبقت العير رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الله وعدهم إحدى الطائفتين. وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم، وأيسر شوكة وأحضر مغنما.
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد القوم، فكره المسلمون مسيرهم لشوكة القوم، فَنَزَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالمُسْلِمُوْنَ، وبينهم وبين الماء رملة دعصة، فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم القنط يوسوسهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم كذا. فأنزل الله عليهم مطرا شديدا، فشرب المسلمون وتطهروا، فأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وصار الرمل؛ يعني ملبدا. وأمدهم الله بألف من الملائكة.
وجاء إبليس في جند من الشياطين، معه رايته في صورة رجال بني مدلج، والشيطان في
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4648" و"1649"، ومسلم "2796" من طريق عُبَيْدُ اللهِ بنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شعبة، به.(1/360)
صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال للمشركين: {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال: 48] ، فلما اصطف القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره.
ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: "يا رب إنك إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا". فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب. فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه، فولوا مدبرين, وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين نزع يده وولى مدبرا وشيعته. فقال الرجل: يا سراقة، أما زعمت أنك لنا جار؟ قال: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال: 48] .
وقال يوسف بن الماجشون: أخبرنا صَالِحُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: إِنِّي لواقف يوم بدر في الصف, فنظرت عن يمين وشمالي، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلاَمَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ حَدِيْثَةٌ أَسْنَانُهُمَا. فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُوْنَ بَيْنَ أَضْلُعٍ1 مِنْهُمَا. فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمّ أَتَعْرِفُ أَبَا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتك إليه؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوْتَ الأَعْجَلُ مِنَّا.
فتعجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لي مِثْلَهَا. فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ يَجُوْلُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلاَ تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه. فابتدراه بسيفيهما فضرباه حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ. فَقَالَ: "هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا"؟ قالا: لا. قال: فنظر في السيفين، فقال: "كلاهما قَتَلَهُ". وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بنِ عَمْرٍو، وَالآخَرُ معاذ بن عفراء. متفق عليه2.
وقال زهير بن معاوية: حدثنا سليمان التيمي، قال: حدثني أنس، عنه قال: قال رسول
__________
1 الأضلع: الشديد القوي الأضلاع.
2 صحيح: أخرجه أحمد "1/ 192-193"، والبخاري "3141" و"3964"، ومسلم "1752" والطحاوي "3/ 227-228"، وأبو يعلى "866"، والحاكم "3/ 425"، والبيهقي "6/ 305-306 و306" من طريق أبي سلمة يوسف بن يعقوب الماجشون، عن صَالِحُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، به.
وأخرجه البزار "1013" من طريق أبي سلمة، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن صالح، به.
وأخرجه بنحوه البخاري "3988" من طريق سعد بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، به.
وقوله: "سوادي سواده": أي شخصي شخصه.(1/361)
الله صلى الله عليه وسلم: من ينظر ما صنع أبو جهل؟ فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد. قال: أنت أبو جهل؟ فأخذ بلحيته. فقال: هل فوق رجل قتلتموه، أو قتله قومه؟ أخرجه البخاري ومسلم1.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس, عن عبد الله أنه أتى أبا جهل فقال: قد أخزاك الله. فقال: هل أعمد من رجل قتلتموه؟ أخرجه البخاري2.
وقال عثام بن علي: حدثنا الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنِ عبد الله، قال: انتهيت إلى أبي جهل وهو صريع، وعليه بيضة, ومعه سيف جيد، ومعي سيف رث.
فجعلت أنقف رأسه بسيفين وأذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة، حتى ضعفت يده، فأخذت سيفه, فرفع رأسه فقال: على من كانت الدبرة، لنا أو علينا؟ ألست رويعينا بمكة؟ قال: فقتلته. ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم, فقلت: قتلت أبا جهل. فَقَالَ: "اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ"؟. فاستحلفني ثلاث مرار. ثم قام معي إليهم, فدعا عليهم.
وروي نحوه عن سفيان الثوري, عن أبي إسحاق وفيه: فاستحلفني وقال: "الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده, ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق فأرنيه". فانطلقت فأريته. فقال: "هذا فرعون هذه الأمة".
وروي عن أبي إِسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بلغه قتله خر ساجدا.
وقال الواقدي: وَقَفَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مصرع ابني عفراء فقال: "يرحم الله ابني عفراء، فهما شركاء في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر". فقيل: يا رسول الله، ومن قتله معهما؟ قال: "الملائكة، وابن مسعود قد شرك في قتله".
__________
1 صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة "14/ 373"، وأحمد "3/ 115 و129 و236"، والبخاري "3962" و"3963" و"4020"، ومسلم "1800"، وأبو يعلى "4063" و"4074"، وأبو عونة "4/ 228 و228-229"، والبيهقي في "السنن" "9/ 92"، وفي "الدلائل" "3/ 86" من طرق عن سليمان التيمي، به.
ابنا عفراء: هما معاذ ومعوذ، وعفراء أمهما.
وهل فوق رجل قتلتموه: أي لا عار علي في قتلكم إياي.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3961" حدثنا ابن نمير، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إسماعيل، به.
وقوله: "هل أعمد من رجل قتلتموه": أعمد بالمهملة أفعل تفضيل من عمد أي هلك، يقال عمد البعير عمدا بالتحريك إذا ورم سنامه من عض القتب فهو عميد، ويكنى بذلك عن الهلاك، وقيل غير ذلك.
وقيل معنى أعمد أعجب، وقيل بمعنى أغضب، وقيل معناه هل زاد على سيد قتله قومه قاله أبو عبيدة.(1/362)
وقال أبو نعيم: حدثنا سلمة بن رجاء، عن الشعثاء؛ امرأة من بني أسد، قالت: دخلت على عبد الله بن أبي أوفى، فرأيته صلى الضحى ركعتين، فقالت له امرأته: إنك صليت ركعتين. فَقَالَ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى الضحى ركعتين حين بشر بالفتح، وحين جيء برأس أبي جهل.
وقال مجالد، عن الشعبي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني مررت ببدر, فرأيت رجلا يخرج من الأرض، فيضربه رجل بمقمعة حتى يغيب في الأرض، ثم يخرج، فيفعل به مثل ذلك مرارا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة".
وقال البخاري ومسلم من حديث ابن أبي عروبة، عن قتادة قال: ذكر لنا أنس، عن أبي طلحة أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث. وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال. فلما كان ببدر اليوم الثالث، أمر براحلته فشد عليها، ثم مشى ما تبعه أصحابه، فقالوا: ما نراه إلا ينطلق لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركى فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً، فَهَلْ وجدتم ما وعد ربكم حق ا"؟. فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم".
قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندامة1. صحيح.
وقال هشام، عَنْ أَبِيْهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وقف على قليب بدر فقال: إنهم ليسمعون ما أقول. قال عروة: فبلغ عائشة فقالت: ليس هكذا قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما قال: إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق، إنهم قد تبوءوا مقاعدهم من جهنم، إن الله يقول: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] ، {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22، 23] ، أخرجه البخاري2.
ما روت عائشة لا ينافي ما روى ابن عمر وغيره، فإن علمهم لا يمنع من سماعهم قوله -عليه السلام- وأما إنك لا تسمع الموتى، فحق لأن الله أحياهم ذلك الوقت كما يحيي الميت لسؤال منكر ونكير.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3065" و"3976"، ومسلم "2875" من طريق سعيد بن أبي عروبة، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3980" و"3981" حدثنا عثمان، حدثنا عبدة، عن هشام به.(1/363)
وقال عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28] ، قال: هم كفار من قريش {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] ؛ قال: النار يوم بدر. أخرجه البخاري1.
وقال إِسْرَائِيْلُ، عَنْ سِمَاكٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من القتلى قيل له: عليك العير ليس دونها شيء. فناداه العباس وهو في الوثاق: إنه لا يصلح لك. قال: لم؟ قال: لأن الله -عز وجل- وعدك إحدى الطائفتين، وقد أنجز لك ما وعدك. هذا إسناد صحيح، رواه جعفر بن محمد بن شاكر، عن أبي نعيم، عنه.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي خبيب بن عبد الرحمن قال: ضرب خبيب بن عدي يوم بدر فمال شقه، فتفل عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأمه ورده، فانطبق.
أحمد بن الأزهر: حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ جَعْفَرِ بنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أبي عمران الجوني، عن أنس أو غيره قال: شهد عمير بن وهب الجمحي بدرا كافرا، وكان في القتلى. فمر به رجل فوضع سيفه في بطنه، فخرج من ظهره. فلما برد عليه الليل لحق بمكة فصح. فاجتمع هو وصفوان بن أمية فقال: لولا عيالي ودَيني لكنت الذي أقتل محمدا. فقال صفوان: وكيف تقتله؟ قال: أنا رجل جريء الصدر جواد لا ألحق، فأضربه وألحق بالجبل فلا أدرك. قال: عيالك في عيالي ودَينك عليَّ. فانطلق فشحذ سيفه وسمه، وأتى المدينة، فرآه عمر فقال للصحابة: احفظوا أنفسكم فإني أخاف عميرا إنه رجل فاتك، ولا أدر ما جاء به. فأطاف المسلمون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عمير، متقلدا سيفه، إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أنعم صباحا. قال: "ما جاء بك يا عمير"؟. قال: حاجة. قال: "فما بال السيف"؟. قال: قد حملناها يوم بدر فما أفلحت ولا أنجحت. قال: "فما قولك لصفوان وأنت في الحجر"؟. وأخبره بالقصة فقال عمير: قد كنت تحدثنا عن خبر السماء فنكذبك، وأراك تعلم خبر الأرض. أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَأَنَّكَ رسول الله، بأبي أنت وأمي، أعطني منك علما يعلم أهل مكة أني أسلمت. فأعطاه، فقال عمر: لقد جاء عمير وإنه لأضل من خنزير، ثم رجع وهو أحب إليَّ من ولدي.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، قال: حدثنا عكاشة الذي قاتل بسيفه يوم بدر حتى انقطع في يده، فَأُتِيَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعطاه جذلا من حطب، فقال: "قاتل بهذا". فلما أخذه هزه فعاد سيفا في يده، طويل القامة شديد المتن أبيض الحديدة. فقاتل بها، حتى فتح الله على رسوله،
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3977" حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، به.(1/364)
ثم لم يزل عنده يشهد به المَشَاهِدَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، حتى قتل في قتال أهل الردة وهو عنده، وكان ذلك السيف يسمى القوي.
هكذا ذكره ابن إسحاق بلا سند.
وقد رواه الواقدي، قال: حدثني عمر بن عثمان الجحشي، عن أبيه، عن عمته، قالت: قال عكاشة بن محصن: انقطع سيفي يوم بدر، فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا، فإذا هو سيف أبيض طويل. فقاتلت به.
وقال الواقدي: حدثني أسامة بن زيد الليثي، عن داود بن الحصين، عن جماعة، قالوا: انكسر سيف سلمة بن أسلم يوم بدر، فبقي أعزل لا سلاح معه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيبا كان في يده من عراجين، فقال: اضرب به. فإذا هو سيف جيد. فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد.(1/365)
ذكر غزوة بدر: من مغازي موسى بن عقبة فإنها من أصح المغازي
قد قال إبراهيم بن المنذر الحزامي: حدثني مطرف ومعن وغيرهما أن مالكا إذا سئل عن المغازي قال: عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة، فإنه أصح المغازي.
قال محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة قال: قال ابن شهاب "ح" وقال إسماعيل بن أبي أويس: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة -وهذا لفظه- عن عمه موسى بن عقبة، قال: مكث رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قتل ابن الحضرمي شهرين، ثم أقبل أبو سفيان في عير لقريش، ومعه سبعون راكبا من بطون قريش؛ منهم: مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص، وكانوا تجارا بالشام، ومعهم خزائن أهل مكة، ويقال: كانت عيرهم ألف بعير. ولم يكن لقريش أوقية فما فوقها إلا بعثوا بها مع أبي سفيان؛ إلا حويطب بن عبد العزى، فلذلك تخلف عن بدر فلم يشهدها. فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد كانت الحرب بينهم قبل ذاك، فبعث عدي ابن أبي الزغباء الأنصاري، وبسبس بن عمرو، إلى العير، عينا له، فسارا، حتى أتيا حيا من جهينة، قريبا من ساحل البحر، فسألوهم عن العير، فأخبروهما بخبر القوم. فرجعا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبراه. فاستنفر المسلمين للعير، في رمضان.
قدم أبو سفيان على الجهنيين وهو متخوف من المسلمين, فسألهم فأخبروه خبر الراكبين، فقال أبو سفيان: خذوا من بعر بعيريهما. ففته فوجد النوى فقال: هذه علائف أهل يثرب.
فأسرع وبعث رجلا من بني غفار يقال له، ضمضم بن عمرو، إلى قريش أن انفروا فاحموا عيركم من محمد وأصحابه. وكانت عاتكة قد رأت قبل قدوم ضمضم؛ فذكر رؤيا عاتكة،(1/365)
إلى أن قال: فقدم ضمضم فصاح: يا آل غالب بن فهر انفروا فقد خرج محمد وأهل يثرب يعترضون لأبي سفيان. ففزعوا، وأشفقوا من رؤيا عاتكة، ونفروا على كل صعب وذلول، وقال أبو جهل: أيظن محمد أن يصيب مثل ما أصاب بنخلة؟ سيعلم أنمنع عيرنا أم لا؟
فخرجوا بخمسين وتسعمائة مقاتل، وساقوا مائة فرس, ولم يتركوا كارها للخروج. فأشخصوا العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وطالب بن أبي طالب، وأخاه عقيلا، إلى أن نزلوا الجحفة.
فوضع جهيم بن الصلت بن مخرمة المطلبي رأسه فأغفى، ثم نزع فقال لأصحابه: هل رأيتم الفارس الذي وقف علي آنفا. قالوا: لا، إنك مجنون فقال: قد وقف عليَّ فارس فقال: قتل أبو جهل وعتبة وشيبة وزمعة وأبو البختري وأمية بن خلف، فعد جماعة. فقالوا: إنما لعب بك الشيطان. فرفع حديثه إلى أبي جهل، فقال: قد جئتمونا بكذب بني عبد المطلب مع كذب بني هاشم، سترون غدا من يقتل.
وَخَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طلب العير، فسلك على نقب بني دينار، ورجع حين رجع من ثنية الوداع، فنفر في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وأبطأ عنه كثير من أصحابه وتربصوا. وكانت أول وقعة أعز الله فيها الإسلام.
فخرج في رمضان ومعه المسلمون على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد.
وكان زميل رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بن أبي طالب، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، ليس مع الثلاثة إلا بعير واحد فساروا، حتى إذا كانوا بعرق الظبية لقيهم راكب من قبل تهامة، فسألوه عن أبي سفيان فقال: لا علم لي به. فقالوا: سلم عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم. وأشاروا إليه فقال له: أنت رسول الله؟ قال: "نعم". قال: إن كنت رسول الله فحدثني بما في بطن ناقتي هذه فغضب سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري، فقال: وقعت على ناقتك فحملت منك. فكره رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قال سلمة فأعرض عنه.
ثم سار لا يلقاه خبر ولا يعلم بنفرة قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علينا. فقال أبو بكر: أنا أعلم بمسافة الأرض، أخبرنا عدي بن أبي الزغباء: أن العير كانت بوادي كذا.
وقال عمر: يا رسول الله، إنها قريش وعزها، والله ما ذلت منذ عزت ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك.
فقال: "أشيروا عليَّ".(1/366)
قال المقداد بن عمرو: إنا لا نقول لك كما قال أصحاب موسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون.
فقال: "أشيروا عليَّ".
فلما رأى سعد بن معاذ كثرة استشارته ظن سعد أنه يستنطق الأنصار شفقا أن لا يستحوذوا معه، أو قال: أن لا يستجلبوا معه على ما يريد، فقال: لعلك يا رسول الله تخشى أن لا تكون الأنصار يريدون مواساتك، ولا يرونها حقا عليهم، إلا بأن يروا عدوا في بيوتهم وأولادهم ونسائهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذته منا أحب إلينا مما تركته علينا، فوالله لو سرت حتى تبلغ البرك من غمد ذي يمن لسرنا معك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيروا على اسم الله -عز وجل- فإني قد أريت مصارع القوم. فعمد لبدر.
وخفض أبو سفيان فلصق بساحل البحر، وأحرز ما معه، فأرسل إلى قريش، فأتاهم الخبر بالجحفة. فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نقدم بدرا فنقيم بها. فكره ذلك الأخنس بن شريق وأشار بالرجعة، فأبوا وعصوه، فرجع ببني زهرة فلم يحضر أحد منهم بدرا. وأرادت بنو هاشم الرجوع فمنعهم أبو جهل.
ونزل رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أدنى شيء من بدر, ثم بعث عليا والزبير وجماعة يكشفون الخبر، فوجدوا وارد قريش عند القليب، فوجدوا غلامين فأخذوهما فسألوهما عن العير، فطفقا يحدثانهم عن قريش، فضربوهما. وذكر الحديث، إلى أن قال: فَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أشيروا عليَّ في المنزل.
فقام الحباب بن المنذر السلمي: أنا يا رسول الله عالم بها وبقلبها؛ إن رأيت أن تسير إلى قليب منها قد عرفتها كثيرة الماء عذبة، فتنزل عليها وتسبق القوم إليها ونغوِّر ما سواها.
فقال: سيروا، فإن الله قد وعدكم إحدى الطائفتين.
فوقع في قلوب ناس كثير الخوف, فتسارع المسلمون والمشركون إلى الماء، فأنزل الله تلك الليلة مطرا واحدا؛ فكان على المشركين بلاء شديدا منعهم أن يسيروا، وكان على المسلمين ديمة خفيفة لبد لهم الأرض، فسبقوا إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل، فاقتحم القوم في القليب فماحوها1 حتى كثر ماؤها، وصنعوا حوضا عظيما، ثم غوروا ما سواه من المياه.
__________
1 قال الأزهري عن الليث: الميح في الاستقاء أن ينزل الرجل إلى قرار البئر إذا قل ماؤها، فيملأ الدلو بيده يميح فيها بيده ويميح أصحابه.(1/367)
ويقال: كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسان؛ على أحدهما: مصعب بن عمير، وعلى الآخر: سعد بن خيثمة. ومرة الزبير بن العوام، والمقداد.
ثم صف رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الحياض، فلما طلع المشركون قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فيما زعموا: "اللهم هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك". واستنصر المسلمون الله واستغاثوه، فاستجاب الله لهم.
فنزل المشركون وتعبئوا للقتال، ومعهم إبليس في صورة سراقة المدلجي يحدثهم أن بني كنانة وراءه قد أقبلوا لنصرهم.
قال: فسعى حكيم بن حزام إلى عتبة بن ربيعة فقال: هل لك أن تكون سيد قريش ما عشت؟ قال: فأفعل ماذا؟ قال: تجير بين الناس وتحمل دية بن الحضرمي، وبما أصاب محمد في تلك العير، فإنهم لا يطلبون من محمد غير هذا. قال عتبة: نعم قد فعلت، ونعما قلت، فاسع في عشيرتك فأنا أتحمل بها. فسعى حكيم في أشراف قريش بذلك.
وركب عتبة جملا له، فسار عليه في صفوف المشركين فقال: يا قوم أطيعوني ودعوا هذا الرجل؛ فإن كان كاذبا ولى قتله غيركم من العرب فإن فيهم رجالا لكم فيهم قرابة قريبة، وإنكم إن تقتلوهم لا يزال الرجل ينظر إلى قاتل أخيه أو ابنه أو ابن أخيه أو ابن عمه، فيورث ذلك فيكم إحنا وضغائن. وإن كان هذا الرجل ملكا كنتم في ملك أخيكم. وإن كان نبيا لم تقتلوا النبي فتسبوا بهز ولن تخلصوا إليهم حتى يصيبوا أعدادكم، ولا آمن أن تكون لهم الدبرة عليكم.
فحسده أبو جهل على مقالته: وأبى الله إلا أن ينفذ أمره, وعتبة يومئذ سيد المشركين.
فعمد أبو جهل إلى ابن الحضرمي -وهو أخو المقتول- فقال: هذا عتبة يخذل بين الناس، وقد تحمل بدية أخيك، يزعم أنك قابلها، أفلا تستحيون من ذلك أن تقبلوا الدية؟ وقال لقريش: إن عتبة قد علم أنكم ظاهرون على هذا الرجل ومن معهن وفيهم ابنه وبنو عمه، وهو يكره صلاحكم وقال لعتبة: انتفخ سحرك1. وأمر النساء أن يعولن عمرا، فقمن يصحن: واعمراه واعمراه؛ تحريضا على القتال.
__________
1 يقال للجبان الذي ملأ الخوف جوفه انتفخ سحرك وهو الرئة حتى رفع القلب إلى الحلقوم، ومنه قوله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] ، وكذلك قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر: 18] ؛ كل هذا يدل على أن انتفاخ السحر مثل لشدة الخوف وتمكن الفزع، وأنه لا يكون من البطنة.(1/368)
وقام رجال فتكشفوا؛ يعيرون بذلك قريشا، فأخذت قريش مصافها للقتال. فذكر الحديث إلى أن قال: فأسر نفر ممن أوصى بهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لا يقتلوهم إلا أبا البختري, فإنه أبى أن يستأسر, فذكروا له أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمرهم أن لا يقتلوه إن استأسر، فأبى. ويزعم ناس أن أبا اليسر قتل أبا البختري, ويأبى عظم الناس إلا أن المجذر هو الذي قتله. بل قتله أبو داود المازني.
قال: ووجد ابن مسعود أبا جهل مصروعا, بينه وبين المعركة غير كثير, مقنعا في الحديد واضعا سيفه على فخذيه ليس به جرح, ولا يستطيع أن يحرك منه عضوا، وهو منكب ينظر إلى الأرض. فلما رآه ابن مسعود أطاف حوله ليقتله وهو خائف أن يثور إليه، وأبو جهل مقنع بالحديد، فلما أبصره لا يتحرك ظن أنه مثبت جراحا، فأراد أن يضربه بسيفه، فخشي أن لا يغني سيفه شيئا, فأتاه من ورائه, فتناول قائم سيفه فاستله وهو منكب، فرفع عبد الله سابغة البيضة عن قفاه فضربه، فوقع رأسه بين يديه ثم سلبه. فلما نظر إليه إذا هو ليس به جراح، وأبصر في عنقه خدرا, وفي يديه وفي كتفيه كهيئة آثار السياط، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك ضرب الملائكة.
قال: وأذل الله بوقعة بدر رقاب المشركين والمنافقين, فلم يبق بالمدينة منافق ولا يهودي إلا وهو خاضع عنقه لوقعة بدر. وكان ذلك يوم الفرقان؛ يوم فرق الله بين الشرك والإيمان.
وقالت اليهود: تيقنا أنه النبي الذي نجد نعته في التوراة, والله لا يرفع راية بعد اليوم إلا ظهرت.
وأقام أهل مكة على قتلاهم النوح بمكة شهرا.
ثم رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المدينة، فدخل من ثنية الوداع.
ونزل القرآن فعرفهم الله نعمته فيما كرهوا من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فقال: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] ، وثلاث آيات معها.
ثم ذكر موسى بن عقبة الآيات التي نزلت في سورة الأنفال في هذه الغزوة وآخرها.
وقال رجال ممن أسر: يا رسول الله، إنا كنا مسلمين، وإنما أخرجنا كرها، فعلام يؤخذ منا الفداء؟ فنزلت: {قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70] .(1/369)
حذفت من هذه القصة كثيرا مما سلف من الأحاديث الصحيحة استغناء بما تقدم.
وقد ذكر هذه القصة -بنحو قول موسى بن عقبة- ابْنُ لَهِيْعَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، ولم يذكر أبا داود المازني في قتل أبي البختري، وزاد يسيرا.
وقال هو وابن عقبة: إن عدد من قتل من المسلمين ستة من قريش، وثمانية من الأنصار.
وقتل من المشركين تسعة وأربعون رجلا، وأسر تسعة وثلاثون رجلا. كذا قالا.
وقال ابن إسحاق: استشهد أربعة من قريش وسبعة من الأنصار. وقتل من المشركين بضعة وأربعون، وكانت الأسارى أربعة وأربعين أسيرا.
وقال الزهري عن عروة: هزم المشركون وقتل منهم زيادة على سبعين، وأسر مثل ذلك.
ويشهد لهذا القول حديث البراء الذي في البخاري؛ قال: أصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين يوم بدر أربعين ومائة؛ سبعين أسيرا وسبعين قتيلا، وأصابوا منا يوم أحد سبعين.
وقال حماد بن سلمة، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خلف عثمان وأسامة بن زيد على بنته رقية أيام بدر. فجاء زيد بن حارثة على العضباء، نَاقَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبشارة. قال أسامة: فسمعت الهيعة، فخرجت فإذا أبي قد جاء بالبشارة، فوالله ما صدقت حتى رأينا الأسارى، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بسهمه.
وقال عبدان بن عثمان: حدثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عبد الرحمن -رجل من أهل صنعاء- قال: أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا عليه وهو في بيت، عليه خلقان جالس على التراب. قال جعفر: فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال فقال: أبشركم بما يسركم؛ إنه جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله قد نصر نبيه صلى الله عليه وسلم وأهلك عدوه، وأسر فلان وفلان، التقوا بواد يقال له بدر، كثير الأراك، كأني أنظر إليه، كنت أرعى به لسيدي -رجل من بني ضمرة- إبله. فقال له جعفر: ما بالك جالس على التراب، ليس تحتك بساط، وعليك هذه الأخلاق؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى -عليه السلام- أن حقا على عباد الله أن يحدثوا تواضعا عندما أحدث لهم من نعمته. فلما أحدث الله لي نصر نبيه أحدثت له هذا التواضع.
ذكر مثل هذه الحكاية الواقدي في مغازيه بلا سند.(1/370)
في غنائم بدر والأسرى:
قال خالد الطحان، عن داود، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بدر: "من فعل كذا وكذا، فله من النفل كذا وكذا". قال: فتقدم الفتيان، ولزم المشيخة الرايات. فلما فتح الله عليهم قالت المشيخة: كنا ردءا لكم، لو انهزمتم، فئتم إلينا، فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى. فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا، فأنزل الله -تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} إلى قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 1-5] ، يقول: فكان ذلك خيرا لهم. فكذلك أيضا: أطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم. أخرجه أبو داود.
ثم ساقه من وجه آخر عن داود بإسناده. وقال: فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسواء.
وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر.
وقال عمر بن يونس: حدثني عكرمة بن عمار، قال: حدثني أبو زميل، قال: حدثني ابن عباس، قال: حدثني عمر قال: لما كان يوم بدر، فذكر القصة.
قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما ترون في هؤلاء"؟. فقال أبو بكر: هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يابن الخطاب"؟. قلت: لا والله يا رسول الله لا أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم؛ فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان؛ نسيب لعمر؛ فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت: فلما كان من الغد جئت، فَإِذَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر يبكيان, قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكيان، فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما. فقال: "أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة"؛ شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 67-69] ، فأحل الله لهم الغنيمة. أخرجه مسلم1.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1763" من طريق ابن المبارك، عن عكرمة بن عمار، به في حديث طويل.(1/371)
وقال جرير، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، عَنْ أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه قال: لما كان يوم بدر قال لهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا تقولون في هؤلاء الأسارى"؟. فقال عبد الله بن رواحة: أنت في واد كثير الحطب فأضرم نارا ثم ألقهم فيها. فقال العباس: قطع الله رحمك. فقال عمر: قادتهم ورءوسهم قاتلوك وكذبوك، فاضرب أعناقهم. فقال أبو بكر: عشيرتك وقومك.
ثم دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبعض حاجته. فقالت طائفة: القول ما قال عمر. فخرج رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "ما تقولون في هؤلاء إن مثل هؤلاء كمثل إخوة لهم كانوا من قبلهم؛ قال نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] ، وقال موسى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] ، وقال إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ، وقال عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] الآية، وأنتم قوم بكم عيلة، فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو بضربة عنق". فقلت: إلا سهيل بن بيضاء فإنه لا يقتل، قد سمعته يتكلم بالإسلام. فسكت, فما كان يوم أخوف عندي أن يلقي الله عليَّ حجارة من السماء
من يومي ذلك، حَتَّى قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إلا سهيل بن بيضاء" 1.
وقال ابن إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ, قَالَ: جَاءَ رجل من الأنصار بالعباس قد أسره إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ العباس: ليس هذا أسرني، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد آزرك الله بملك كريم".
وقال ابن إسحاق: حدثني من سمع عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو السلمي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَيْفَ أسرته"؟. فقال: لقد أغلق عَلَيْهِ رَجُلٌ مَا رَأَيْتُهُ قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ، هيئته كذا وكذا. فقال: "لقد أعانك عليه ملك كريم". وقال للعباس: "افد نفسك وابن أخيك عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث". فأبى وقال: إني
__________
1 ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة "12/ 417" و"14/ 370-372"، وأحمد "1/ 383-384"، والترمذي "1714" و"3084"، والبيهقي في "السنن" "6/ 321"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 207-208" من طريق أبي معاوية، حدثنا الأعمش، به.
قلت: إسناده ضعيف؛ لانقطاعه بين أَبِي عُبَيْدَةَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ، وأبيه، فإنه لم يسمع منه وأبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير، والأعمش، هو سليمان بن مهران.
وعمرو بن مرة: هو المرادي الكوفي.(1/372)
كنت مسلما وَإِنَّمَا اسْتَكْرَهُوْنِي. قَالَ: "اللهُ أَعْلَمُ بِشَأْنِكَ إِنْ يَكُ مَا تَدَّعِي حَقّاً فَاللهُ يَجْزِيْكَ بِذَلِكَ، وَأَمَّا ظَاهِرُ أَمْرِكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا، فَافْدِ نفسك".
وكان قد أخذ معه عشرون أوقية ذهبا، فقال: يَا رَسُوْلَ اللهِ احْسُبْهَا لِي مِنْ فِدَائِي. قَالَ:
"لاَ، ذَاكَ شَيْءٌ أَعْطَانَا اللهُ مِنْكَ".
وقال عبد العزيز بن عمران الزهري، وهو ضعيف: حدثني محمد بن موسى، عَنْ عُمَارَةَ بنِ عَمَّارِ بنِ أَبِي اليَسَرِ، عَنْ أَبِيْهِ, عَنْ جَدِّهِ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى العباس يوم بدر، وهو قائم كَأَنَّهُ صَنَمٌ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، فَقُلْتُ: جَزَاكَ اللهُ من ذي رحم شرا، تقاتل ابْنَ أَخِيْكَ مَعَ عَدُوِّهِ؟ قَالَ: مَا فَعَلَ، أَقُتِلَ؟ قُلْتُ: اللهُ أَعَزُّ لَهُ وَأَنْصَرُ مِنْ ذلك. قال: ما تريد إليَّ؟ قلت: إسار، فَإِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَتْلِكَ. قَالَ: لَيْسَتْ بِأَوَّلِ صِلَتِهِ. فأسرته.
وروى ابن إسحاق، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: فبعثت قريش في فداء أسراهم. وقال العباس: إني كنت مسلما. فنزل فيه: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70] ، قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين أوقية عشرين عبدا كُلُّهُمْ فِي يَدِهِ مَالٌ يَضْرِبُ بِهِ، مَعَ ما أرجو من المغفرة.
وقال أزهر السمان، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة، عن علي، وبعضهم يرسله قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأسارى يوم بدر: "إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء، واستشهد منكم بعدتهم".
وكان آخر السبعين ثابت بن قيس، قتل يوم اليمامة.
هذا الحديث داخل في معجزاته صلى الله عليه وسلم، وإخباره عن حكم الله فيمن يستشهد، فكان كما قال.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي نبيه بن وهب العبدري، قال: لما أَقْبَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأسارى فرقهم على المسلمين، وقال: "استوصوا بهم خيرا". قال نبيه: فسمعت من يذكر عن أبي عزيز, قال: كنت في الأسارى يوم بدر، فَسَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "استوصوا بالأسارى خيرا". فإن كان ليقدم إليهم الطعام فما تقع بيد أحدهم كسرة إلا رمى بها إلى أسيره، ويأكلون التمر. فكنت أستحيي فآخذ الكسرة فأرمي بها إلى الذي رمى بها إليَّ، فيرمي بها إليَّ.(1/373)
أبو عزيز هو أخو مصعب بن عمير، يقال: إنه أسلم. وقال ابن الكلبي وغيره: إنه قتل يوم أحد كافرا.
وعن ابن عباس، قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة.
أخرجه أبو داود من حديث شعبة، عن أبي العنبس، عن أبي الشعثاء عنه.
وقال أسباط، عن إسماعيل السدي: كان فداء أهل بدر: العباس، وعقيل ابن أخيه، ونوفل، كل رجل أربعمائة دينار.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم بدر: "إني قد عرفت أن ناسا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا منهم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرها". فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آباءنا وإخواننا ونترك العباس؟ والله لئن لقيته لألحمنه بالسيف. فبلغت رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لعمر بن الخطاب: "يا أبا حفص، أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف"؟. فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه فوالله لقد نافق.
فكان أبو حذيفة بعد يقول: والله ما آمن من تلك الكلمة التي قلت، ولا أزال منها خائفا، إلا أن يكفرها الله عني بشهادة. فاستشهد يوم اليمامة.
قال ابن إسحاق: إنما نَهَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بمكة.
وكان العباس أكثر الأسرى فداء لكونه موسرا، فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهب.
وقال ابن شهاب: حدثني أنس أن رجالا من الأنصار استأذنوا رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا فداءه. فقال: "لا والله لا تذرن درهما". أخرجه البخاري.
وقال إِسْرَائِيْلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قالوا: يا رسول الله، بعدما فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ، عَلَيْكَ بِالْعِيْرِ لَيْسَ دُوْنَهَا شَيْءٌ. فَقَالَ العَبَّاسُ وَهُوَ فِي وَثَاقِهِ: لاَ يصلح. قال: "ولِمَ"؟. قال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك.
وقد ذكر إرسال زينب بِنْتِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقلادتها في فداء أبي العاص زوجها، رضي الله عنهما.(1/374)
وقال سَعِيْدُ بنُ أَبِي مَرْيَمَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ أيوب، قال: حدثنا ابن الهاد، قال: حدثني عمر بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة -أو ابن كنانة- فخرجوا في أثرها فأدركها هبار بن الأسود، فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها، وألقت ما في بطنها وأهريقت دما. فتحملت فاشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية. فقالت بنو أمية: نحن أحق بها. وكانت تحت أبي العاص، فكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة, وكانت تقول لها هند: ها من سبب أبيك.
قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "ألا تنطلق فتأتي بزينب"! فقال: بلى يا رسول الله قال: "فخذ خاتمي فأعطها إياه". فانطلق زيد, فلم يزل يتلطف حتى لقي راعيا فقال له: لمن ترعى؟ قال: لأبي العاص قال: فلمن هذه الغنم؟ قال: لزينب بنت محمد فسار معه شيئا ثم قال له: هل لك أن أعطيك شيئا تعطيها إياه، ولا تذكره لأحد؟ قال: نعم فأعطاه الخاتم وانطلق الراعي حتى داخل فأدخل غنمه وأعطاها الخاتم، فعرفته فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل قالت: فأين تركته؟ قال: بمكان كذا وكذا. فسكتت، حتى إذا كان الليل خرجت إليه فقال لها: اركبي بين يدي على بعيره. فقالت: لا، ولكن اركب أنت بين يدي. وركبت وراءه حتى أتت المدينة.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي أفضل بناتي، أصيبت فيَّ".
قال: فبلغ ذلك علي بن الحسين، فانطلق إلى عروة فقال: ما حديث بلغني عنك أنك تحدثه تنتقص به فاطمة؟ فقال عروة: والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أتنقص فاطمة حقا هو لها، وأما بعد فلك أن لا أحدثه أبدا.
أسماء من شهد بدرا:
جمعها الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد في جزء كبير. فذكر من أجمع عليه ومن اختلف فيه من البدريين، ورتبهم على حروف المعجم. فبلغ عددهم ثلاثمائة وبضعة وثلاثين رجلا. وإنما وقعت هذه الزيادة في عددهم من جهة الاختلاف في بعضهم.
وقد جاء في فضلهم حديث سَعْدُ بنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي، عن علي، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا مرث الغنوي، والزبير، والمقداد، وكلنا فارس، فقال: "انطلقوا حتى تأتو روضة خاخ". وهو موضع بين مكة والمدينة فذكرت الحديث، ومكاتبة حاطب بن أبي بلتعة قريشا, قال عمر: دعني أضرب عنقه فقد خان الله ورسوله. فقال:(1/375)
"أليس هو من أهل بدر؟ وما يدريك لعل الله اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شئتم، فقد وجبت لكم الجنة أو قد غفرت لكم". فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم. متفق عليه1.
وقال اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ عبدا لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكوه فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال: "كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدرا والحديبية". أخرجه مسلم2.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي -وكان أبوه بدريا- أنه كان يقول لابنه: ما أحب أني شهدت بدرا ولم أشهد العقبة قال: سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أهل بدر فيكم؟ قال: "خيارنا". قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة هم خيار الملائكة. أخرجه البخاري3.
ذكر طائفة من أعيان البدريين:
أبو بكر, وعمر, وعلي, واحتبس عنها عثمان يمرض زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم فتوفيت في العشر الأخير من رمضان يوم قدوم المسلمين المدينة من بدر، وضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره.
ومن البدريين: سعد بن أبي وقاص وأما سعيد بن زيد، وطلحة بن عبيد الله فكانا بالشام فقدما بعد بدر وأسهم لهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الزُّبَيْر بن العَوَّامِ، أبو عبيدة بن الجراح، عبد الرحمن بن عوف، حمزة بن عبد المطلب،
__________
1 صحيح: أخرجه الحميدي "49". وأحمد "1/ 79"، والبخاري "3007" و"4274" و"4890"، ومسلم "2494"، وأبو داود "2650"، والترمذي "3305"، وأبو يعلى "394" و"398"، والبيهقي في "السنن" "9/ 146"، وفي "دلائل النبوة" "5/ 17"، والبغوي في "معالم التنزيل" "4/ 328" من طرق عن سفيان، عن عمرو، عن الحسن بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ أَبِي رافع، عن علي، به.
قلت: إسناده صحيح، عمرو، هو ابن دينار. والحسن بن محمد، هو ابن علي بن أبي طالب.
وروضة خاخ: موضع قرب حمراء الأسد من المدينة.
2 صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة "12/ 155"، وأحمد "3/ 349"، ومسلم "2195"، والترمذي "3864"، والنسائي في "فضائل الصحابة" "191"، والحاكم "3/ 301"، والطبراني في "الكبير" "3064" من طرق عن الليث، به.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3992" و"3993" من طريق يحيى بن سعيد، به.(1/376)
زيد بن حارثة، عبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخواه: الطفيل، والحصين، وابن عمه: مِسْطَحُ بنُ أُثَاثَةَ بنِ عَبَّادِ بنِ المُطَّلِبِ، وأربعتهم لم يعقبوا، مصعب بن عمير العبدري، المقداد بن الأسود، عبد الله بن مسعود، صهيب بن سنان، أبو سلمة بن عبد الأسد، عمار بن ياسر، زيد بن الخطاب أخو عمر.
ومن أعيان الأنصار، من الأوس: سعد بن معاذ.
ومن بني عبد الأشهل: عباد بن بشر، محمد بن مسلمة أبو الهيثم بن التيهان.
ومن بني ظفر: قتادة بن النعمان.
ومن بني عمرو بن عوف: مبشر بن عبد المنذر، وأخوه: رفاعة. ولم يحضرها أخوهما أبو لبابة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رده فاستعمله على المدينة، وضرب له بسهمه وأجره.
ومن بني النجار:
أبو أيوب خالد بن زيد، عوف، ومعوذ، ومعاذ, بنو الحارث بن رفاعة بن الحَارِثِ بنِ سَوَادِ بنِ مَالِكِ بنِ غَنْمِ بن عوف، وهم بنو عفراء، أبي بن كعب، أبو طلحة زيد بن سهل، بلال مولى أبي بكر، عبادة بن الصامت، معاذ بن جبل الخزرجي، عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، عتبان بن مالك الخزرجي، عكاشة بن محصن، كعب بن عمرو أبو اليسر السلمي، معاذ بن عمرو بن الجموح حشرنا الله في زمرتهم وقد ذكرنا من استشهد منهم.
وقتل من المشركين:
حنظلة بن أبي سفيان بن حرب، وعبيد بن سعيد بن العاص، وأخوه: العاص، وعتبة، وشيبة، ابنا ربيعة، وولد عتبة: الوليد، وعقبة بن أبي معيط، قتل صبرا، والحارث بن عامر النوفلي، وابن عمه طعيمة بن عدي، وزمعة بن الأسود، وابنه: الحارث, وأخوه: عقيل، وأبو البختري بن هشام بن الحارث بن أسد -واسمه العاص- ونوفل بن خويلد أَخُو خَدِيْجَةَ، وَالنَّضْرُ بنُ الحَارِثِ, قُتِلَ صَبْراً بعد يومين، وعمير بن عثمان التيمي عم طلحة بن عبيد الله، وأبو جهل، وأخوه: العاص بن هشام، ومسعود بن أبي أمية المَخْزُوْمِيُّ أَخُو أُمِّ سَلَمَةَ، وَأَبُو قَيْسٍ أَخُو خالد بن الوليد، والسائب بن أبي السائب المخزوم، وقيل: لم يقتل، بل أسلم بعد ذلك, وقيس بن الفاكه بن المغيرة، ومنبه ونبيه ابْنَا الحَجَّاجِ بنِ عَامِرٍ السَّهْمِيِّ، وَوَلَدَا مُنَبِّهٍ: الحارث والعاص، وأمية بن خلف الجمحي، وابنه: علي.(1/377)
وذكر ابن إسحاق وغيره سائر المقتولين، وكذا سمى الذين أسروا. تركتهم خوفا من التطويل.
وفي رمضان: فرض الله صوم رمضان, ونسخ فرضية يوم عاشوراء. وفي آخره: فرضت الفطرة.
وفي شوال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة, وهي بنت تسع سنين.
وفي صفر: توفي أبو جبير المطعم بن عدي بن نوفل -ونوفل هو أخو هاشم بن عبد مناف بن قصي- توفي مشركا عن سن عالية، وكان من عقلاء قريش وأشرافهم. وهو الَّذِي قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيّاً وَكلَّمَنِي في هؤلاء النتن لأجبته". وكانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد، لأنه قام في نقض الصحيفة.
وفيها توفي أبو السائب عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- ابن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح الجمحي، بعد بدر بيسير. وقد شهدها هو وأخواه: قدامة، وعبد الله.
وعثمان هذا أحد السابقين، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى، ولما قدم أجاره الوليد بن المغيرة أياما. ثم رد على الوليد جواره. وكان صواما قواما قانتا لله.
وفيها: توفي أبو سلمة "ت ق" عبد الله بن عبد الأسد بن هِلاَلِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ مَخْزُوْمٍ -رضي الله عنه- مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر. وَهُوَ ابْنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأخوه من الرضاعة، وأمه برة بنت عبد المطلب. من السابقين الأولين, شهد بدرا، وتزوجت أم سلمة بعده بالنبي صلى الله عليه وسلم، وروت عنه القول عند المصيبة، وقيل: توفي سنة ثلاث بعد أحد أو قبلها.
وفيها: ولد عبد الله بن الزبير، بالمدينة، والمسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم: بمكة.
قصة النجاشي: من السيرة
ثم إن قريشا قالوا: إن ثأرنا بأرض الحبشة، فانتدب إليها عمرو بن العاص، وابن أبي ربيعة.
قال الزهري: بلغني أن مخرجهما كان بعد وقعة بدر.
فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مخرجهما، بعث عمرو بن أمية الضمري بكتابه إلى النجاشي.
وقال سعيد بن المسيب وغيره: فبعث الكفار مع عَمْرَو بنَ العَاصِ، وَعَبْدَ اللهِ بنَ أَبِي(1/378)
ربيعة للنجاشي، ولعظماء الحبشة هدايا فلما قدما على النجاشي قبل الهدايا، وأجلس عمرو بن العاص على سريره. فكلم النجاشي فقال: إن بأرضكم رجالا منا ليسوا على دينك ولا على ديننا، فادفعهم إلينا. فقال عظماء الحبشة للنجاشي: صدق، فادفعهم إليه فقال: حتى أكلمهم.
وقال الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أم سلمة، قالت: نزلنا الحبشة، فجاورنا بِهَا خَيْرَ جَارٍ، النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِيْنِنَا وعبدنا الله -عز وجل- لاَ نُؤْذَى وَلاَ نَسْمَعُ شَيْئاً نَكْرُهُهُ. فَلَمَّا بلغ ذلك قريش ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي مع رجلين بما يستطرف من مَكَّةَ. وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيْهِ مِنْهَا: الأَدَمُ فَجَمَعُوا لَهُ أَدَماً كَثِيْراً وَلَمْ يَتْرُكُوا بطريقا عنده إلا أهدوا له. وبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص وقالوا: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فقدما، وقالا لكل بطريق: إِنَّهُ قَدْ ضَوَى1 إِلَى بَلَدِ المَلِكِ مِنَّا غلمان سفهاء، خالفوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم. وقد بعثنا أشرافنا إلى الملك ليردهم، فإذا كلمناه فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا. فقالوا: نعم.
ثم قربا هداياهما إلى النجاشي فقبلها، فكلماه فقالت بطارقته: صدقا أيها الملك، قَوْمَهُم أَعْلَى بِهِم عَيْناً، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عليهم, فغضب النجاشي، ثم قال: لاها الله أبدا، لا أرسلهم إليهم. قوم جاوروني ونزلوا بلادي، واختاروني على سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقولون.
ثم أرسل إِلَى أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا جاء رسوله اجتمعوا، وقال بعضهم لبعض: ما تقولون إِذَا جِئْتُمُوْهُ؟ قَالُوا: نَقُوْلُ وَاللهِ مَا عَلِمْنَا الله، وأمرنا به نبينا، كائن في ذلك ما كان, فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته ونشروا مصاحفهم حوله سألهم: مَا هَذَا الدِّيْنُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيْهِ قَوْمَكُم، ولم تدخلوا به فِي دِيْنِي وَلاَ فِي دِيْنِ أَحَدٍ مِنْ الملل.
قالت: فكلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: أيها الملك: كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء إلى الجار ويأكل القوي منا الضعيف كنا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُوْلاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعا إلى الله لنعبده وحده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا مِنَ الحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الحَدِيْثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الجِوَارِ، وَالكَفِّ عَنِ المَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّوْرِ، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله
__________
1 ضوى: أوى ولجأ.(1/379)
ولا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وعد أمور الإسلام. قال: فصدقناه واتبعناه، فلما قهرونا وظلمونا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِيْنِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وآثرناك على من سواك فرغبنا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لاَ نُظْلَمَ عِنْدَكَ.
قال: فهل معك شيء مما جاء به عن الله؟ قال جعفر: نعم فقرأ: {كهيعص} .
قالت: فبكى النجاشي وأساقفته حتى أخضلوا لحاهم، حين سمعوا القرآن.
فقال النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوْسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. انْطَلِقَا, فَوَاللهِ لاَ أسلمهم إليكما أبدا.
قالت: فلما خرجنا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم. فقال له ابن أَبِي رَبِيْعَةَ؛ وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِيْنَا: لاَ تَفْعَلْ، فَإِنَّ لَهُم أَرْحَاماً، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خالفونا. قال: فوالله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى عبد.
قالت: ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا المَلِكُ، إِنَّهُم يقولون في عيسى قولا عظيما. فأرسل إلينا ليسألنا. قالت: ولم ينزل بنا مثلها.
فقال: ما تقولون في عيسى؟
فقال جَعْفَرٌ: نَقُوْلُ فِيْهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ وَرُوْحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مريم العذراء البتول.
فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، وأخذ منها عودا، وقال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا المقدار.
قال: فتناخرت بطارقته1 حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله ثم قال لجعفر وأصحابه: اذهوا آمنين. ما أحب أن لي دبر ذهب، وأني آذيت واحدا منكم -والدبر بلسان الحبشة: الجبل- ردوا عليهما هديتهما، فلا حاجة لنا فيها، فوالله ما أخذ الله فيَّ الرشوة فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيْهِ، وَمَا أَطَاعَ النَّاسُ فيَّ فأطيعهم فيه. فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به.
قالت: فوالله إنا لعلى ذلك، إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا
__________
1 تناخرت بطارقته: أي تكلمت وكأنه كلام مع غضب ونفور.(1/380)
حزنا قط أشد من حزن حزناه عند ذلك، تخوفا أن يظهر عليه من لا يعرف حقنا. فسار إليه النَّجَاشِيُّ، وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيْلِ.
فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم: من يخرج حتى يحضر الوقعة ويخبرنا؟ فقال الزبير بن العوام: أنا أخرج. وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ القَوْمِ سِنّاً. فَنَفَخُوا لَهُ قربة فجعلها في صدره, وسبح عليها إلى الناحية التي فيها الوقعة، ودعونا الله للنجاشي، فوالله إنا لعلى ذلك، متوقعون لما هو كائن، إذ طلع علينا الزبير يسعى ويلوح بثوبه: ألا أبشروا, فقد ظهر النجاشي، وأهلك الله عدوه فوالله ما علمنا فرحة مثلها قط.
ورجع النجاشي سالما، وَاسْتَوْسَقَ لَهُ أَمْرُ الحَبَشَةِ فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة1.
أخرجه أبو داود من حديث ابن إسحاق عن الزهري.
وهؤلاء قدموا مكة، ثم هاجروا إلى المدينة، وبقي جعفر وطائفة بالحبشة إلى عام خيبر.
وقد قيل إن إرسال قريش إلى النجاشي كان مرتين، وأن المرة الثانية كان مع عمرو: عمارة بن الوليد المخزومي أخو خالد ذكر ذلك ابن إسحاق أيضا وذكر ما دار لعمرو بن العاص مع عمارة بن الوليد من رميه إياه في البحر، وسعي عمرو به إلى النجاشي في وصوله إلى بعض حرمه أو خدمه، وأنه ظهر ذلك في ظهور طيب الملك عليه، وأن الملك دعا بسحرة فسحروه ونفخوا في إحليله. فتبرر ولزم البرية، وهام، حتى وصل إلى موضع رام أهله أخذه فيه، فلما قربوا منه فاضت نفسه فمات.
وقال ابن إسحاق، قال الزهري: حدثت عروة بن الزبير حديث أبي بكر عن أم سلمة، فقال: هل تدري ما قوله: مَا أَخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِيْنَ رَدَّ عليَّ مُلْكِي فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيْهِ, وَمَا أَطَاعَ الناس فيَّ فأطيعهم فيه؟ قلت: لا. قال: فإن عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَلِكَ قَوْمِهِ، لم يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ إِلاَّ النَّجَاشِيُّ. وَكَانَ لِلنَّجَاشِيِّ عَمٌّ، لَهُ مِنْ صُلْبِهِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً، وكانوا أهل بيت
__________
1 حسن: أخرجه أحمد "1/ 201-203"، وابن هشام في "السيرة" "1/ 234-237" "ط. دار الحديث"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 301-304"، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" "194" من طريق محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ بنِ هشام المخزومي، به.
قلت: إسناده حسن، رجاله ثقات رجال البخاري ومسلم خلا محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي، فإنه صدوق يدلس، وقد صرح بالتحديث فأمنا شر تدليسه.(1/381)
مملكة الحبشة. فقالت الحبشة: لَوْ أَنَّا قَتَلْنَا أَبَا النَّجَاشِيِّ وَمَلَّكْنَا أَخَاهُ لتوارث بنوه ملكه بعده، ولبقيت الحبشة دهرا. قالت: فقتلوه وملكوا أخاه. فنشأ النجاشي مع عمه وكان لبيبا حازما، فغلب على أمر عمه. فلما رأت الحبشة ذلك قالت: إنا نتخوف أن يملكه بعده، ولئن ملك ليقتلنا بأبيه فشموا إلى عمه فقالوا: إِمَّا أَنْ تَقْتُلَ هَذَا الفَتَى، وَإِمَّا أَنْ تخرجه من بين أظهرنا فقال: ويلكم! قتلت أباه بالأمس، وأقتله اليوم؟ بل أخرجه قال: فخرجوا به فباعوه من تاجر بستمائة درهم فانطلق به في سفينة فلما كان العشي هاجت سحابة من سحائب الخَرِيْفِ فَخَرَجَ عَمُّهُ يَسْتَمْطِرُ تَحْتَهَا فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فقتلته. ففزعت الحبشة إلى ولده فإذا هو محمق1 لَيْسَ فِي وَلَدِهِ خَيْرٌ فَمَرَجَ عَلَى الحَبَشَةِ أمرهم وضاق عليهم ما هم فيه. فقال بعضهم لبعض: تعلموا، وَاللهِ أَنَّ مَلِكَكُمُ الَّذِي لاَ يُقِيْمُ أَمْرَكُمْ غيره للذي بعتم قال: فخرجوا في طلبه وطلب الذي باعوه منه، حتى أدركوه فأخذوه منه. ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج وأجلسوه على سرير الملك فجاء التَّاجِرُ فَقَالَ: إِمَّا أَنْ تُعْطُوْنِي مَالِي وَإِمَّا أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: لاَ نُعْطِيْكَ شيئا قال: إذن والله أكلمه قَالُوا: فَدُوْنَكَ. فَجَاءهُ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا المَلِكُ، ابْتَعْتُ غُلاَماً مِنْ قَوْمٍ بِالسُّوْقِ بستمائة درهم حتى إذا سرت به أدركوني فأخذوه ومنعوني دراهمي فقال النجاشي: لتعطنه غلامه أو دراهمه. قَالُوا: بَلْ نُعْطِيْهِ دَرَاهِمَهُ.
قَالَتْ: فَلِذَلِكَ يَقُوْلُ: ما أخذ الله مني رشوة حِيْنَ رَدَّ عليَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيْهِ.
وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا خُبِرَ مِنْ صَلاَبَتِهِ في دينه وعدله.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة، قالت: لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال على قبره نور.
قال: وَحَدَّثَنِي جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك فَارَقْتَ دِيْنَنَا، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ. فَأَرْسَلَ إِلَى جَعْفَرٍ وأصحابه فهيأ لهم سفنا, وقال: اركبوا فيها، وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم, وَإِنْ ظَفِرْتُ فَاثْبُتُوا. ثُمَّ عَمَدَ إِلَى كِتَابٍ فكتب: هُوَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، وَيَشْهَدُ أَنَّ عِيْسَى عبده ورسوله وروحه وكلمته.
ثُمَّ جَعَلَهُ فِي قُبَائِهِ وَخَرَجَ إِلَى الحَبَشَةِ، وَصَفُّوا لَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الحَبَشَةِ، أَلَسْتُ أَحَقَّ النَّاسِ بِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: فَكَيْفَ رَأَيْتُمْ سِيْرَتِي فِيْكُم؟ قَالُوا: خَيْرَ سِيْرَةٍ. قَالَ: فما
__________
1 محمق: أي بالغ الحماقة. وحقيقة الحمق: وصنع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحه.(1/382)
بَالُكُم؟ قَالُوا: فَارَقْتَ دِيْنَنَا وَزَعَمْتَ أَنَّ عِيْسَى عبد. قال: فما تقولون أنتم؟ قالوا: هو ابن الله فوضع يده على صدره، على قبائه، وقال: هو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا شيئا. وإنما يعني عَلَى مَا كَتَبَ. فَرَضُوا وَانْصَرَفُوا.
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا مَاتَ صلى عليه واستغفر له -رضي الله عنه- وإنما ذكرنا بعد بدر استطرادا، والله أعلم.
سرية عمير بن عدي الخطمي:
ذكر الواقدي أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه لخمس بقين من رمضان, إلى عصماء بنت مروان، من بني أمية بن زيد, وكانت تعيب الإسلام، وتحرض على النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول الشعر، فجاءها عمير بالليل فقتلها غيلة.
غزوة بني سليم:
قال ابن إسحاق: لم يقم رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُنْصَرَفَهُ عن بدر بالمدينة، إلا سبعة أيام. ثم خرج بنفسه يريد بني سليم, واستخلف على المدينة سباع عرفطة الغفاري, وقيل: ابن أم مكتوم. فبلغ ماء يقال له: الكدر، فأقام عليه ثلاثا, ثم انصرف, ولم يلق أحدا.
سرية سالم بن عمير لقتل أبي عفك:
وذكر الواقدي أن أبا عفك اليهودي، كان قد بلغ مائة وعشرين سنة، وهو من بني عمرو بن عوف، كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول الشعر، ويحرض عليه. فانتدب له سالم بن عمير، فقتله غيلة، في شوال منها.(1/383)
غزوة السويق: في ذي الحجة
قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: كان أبو سفيان بن حرب، حين بلغه وقعة بدر، نذر أن لا يمس رأسه دهن ولا غسل، ولا يقرب أهله، حتى يغزو محمدا ويحرق في طوائف المدينة فخرج من مكة سرا خائفا، في ثلاثين فارسا, ليحل يمينه. حتى نزل بجبل من جبال المدينة يقال له: نبت فبعث رجلا أو رجلين من أصحابه، وأمرهما أن يحرقا أدنى نخل يأتيانه من نخل المدينة فوجدا صورا من صيران نخل العريض. فأحرقا فيها وانطلقا، وانطلق أبو سفيان مسرعا.
وَخَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى بلغ قرقرة الكدر ففاته أبو سفيان، فرجع.
وذكر مثل هذا ابْنُ لَهِيْعَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، وقال: وركب المسلمون في آثارهم، فأعجزوهم وتركوا أزوادهم، فسميت غزوة أبي سفيان: غزوة السويق.
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، ويزيد بن رومان، وحدثني من لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، قالوا:
لما رجع أبو سفيان إلى مكة، ورجع فل قريش من يوم بدر، نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا. فخرج في مائتي راكب، إلى أن نزل بحبل يقال له: نبت، على نحو بريد من المدينة. ثم خرج من الليل حتى أتى حيي بن أخطب، فضرب عليه بابه، فلم يفتح له وخافه. فانصرف إلى سلام بن مشكم، وكان سيد بني النضير، فأذن له وقراه، وأبطن له من خير الناس. ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجاله، فأتوا ناحية العريض، فوجدوا رجلين من المسلمين، فقتلوهما وردوا ونذر بهم الناس.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم، حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم انصرف، وقد فاته أبو سفيان، وأصحابه, قد رموا زادا لهم في جرب, وسويقا كثيرا، يتخففون منها للنجاء. فقال المسلمون حين رجع بهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رسول الله! أنطمع أن تكون لنا غزوة؟ فقال: نعم قال: وذلك بعد بدر بشهرين.
وفي هذه السنة: تزوج عثمان بأم كلثوم، رضي الله عنهما.
وفيها تزوج علي -رضي الله عنه- بفاطمة الزهراء، رضي الله عنها.
قال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عبد الله بن أبي نجيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: خطبت فاطمة إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت لي مولاة لي: علمت أن فاطمة خطبت إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: لا. قالت: فما يمنعك أن تأته فيزوجك؟ فقلت: وعندي شيء أتزوج به؟ قالت: إنك إن جئته زوجك. قال: فوالله ما زالت ترجيني، حتى دَخَلْتُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جلالة وهيبة, فأفحمت، فوالله ما استطعت أن أتكلم. فقال: "ما حاجتك، ألك حاجة"؟. فسكت. ثم قال: "لعلك جئت تخطب فاطمة"؟. قلت: نعم. قال: "وهل عندك من شيء تستحلها به"؟. فقلت: لا والله فقال: "ما فعلت درع سلحتكها"؟. فوالذي نفس علي بيده إنها لحطيمة ما ثمنها أربعة دراهم, فقلت: عندي. فقال: "قد زوجتكها, فابعث إليَّ بها". فإن كانت لصداق فاطمة، رضي الله عنها.(1/384)
وقال أيوب، عَنْ عِكْرِمَةَ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا تزوج علي فاطمة -رضي الله عنهما- قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أعطها شيئا". قال: ما عندي شيء. قال: "أين درعك الحطمية"؟. أخرجه أبو داود1.
وقال عطاء بن السائب عَنْ أَبِيْهِ, عَنْ عَلِيّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: جهز رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةُ في خميل وقربة, ووسادة أدم حشوها إذخر2.
وفيها: توفي سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة الخزرجي الساعدي، والد سهل بن سعد.
وكان تجهز إلى بدر فمات قبلها في رمضان. فيقال: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب له بسهمه، ورده على ورثته.
وفيها: بعد بدر، توفي خنيس بن حذاة السهمي، أحد المهاجرين، شهد بدرا. وتأيمت منه حفصة بنت عمر بن الخطاب.
وفي شوال: بنى النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة -رضي الله عنها- وعمرها تسع سنين.
__________
1 صحيح: أخرجه أبو داود "2125" و"2127"، والنسائي "6/ 130"، وأبو يعلى "2439"، والطبراني "12000", والبيهقي في "الدلائل" "3/ 161" من طريق عكرمة, عن ابن عباس, به. وأخرجه النسائي "6/ 129-130"، والبيهقي "7/ 252" من طريق هشام بن عبد الملك، عن حماد بن سلمة, عن أيوب, عن عكرمة, عن ابن عباس, عن علي, فجعله من "مسند علي".
وأخرجه أحمد "1/ 80"، وابن سعد "8/ 20"، والبيهقي "7/ 234" من طريق سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيْحٍ، عن أبيه، عن رجل قد سماه، سمع عليا ... فذكره.
2 حسن: أخرجه أحمد "1/ 84 و104 و106", وفي "فضائل الصحابة" "1194" والنسائي "6/ 135"، والحاكم "2/ 185"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "3/ 161" من طريق عطاء بن السائب، به.
قلت: إسناده حسن، عطاء بن السائب, صدوق، وقد روى عنه زائدة بن قدامة -ممن روى عنه- قبل الاختلاط.(1/385)
ثم دخلت سنة ثلاث من الهجرة:
غزوة ذي أمر:
في المحرم، غزا النبي صلى الله عليه وسلم نجدا، يريد غطفان، واستعمل على المدينة عثمان، فأقام بنجد صفرا كله، ورجع من غير حرب. قاله ابن إسحاق.
وأما الواقدي فقال: كانت في ربيع الأول، وأن غيبته أحد عشر يوما. ثم روى عن أشياخه، عن التابعين: عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ، وغيره، قالوا: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن جمعا من غطفان، من بني ثعلبة، بذي أمر، قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف المسلمين، والله أعلم.
غزوة بحران:
قال ابن إسحاق: أقام رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالمَدِيْنَةِ، ربيع الأول ثم غزا يريد قريشا.
قال عبد الملك بن هشام: فبلغ بحران، معدنا بالحجاز، فأقام هناك ربيع الآخر كله، وجمادى الأولى.
وبحران من ناحية الفرع ثم رجع ولم يلق كيدا.
وقال الواقدي: غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني سليم ببحران، لست خلون من جمادى الأولى. وبحران من ناحية الفرع بينها وبين المدينة ثمانية برد. فغاب عشر ليال. وكان بلغه أن بها جمعا من بني سليم، فخرج في ثلاثمائة، واستخلف ابن أم مكتوم. الفرع: بضم الفاء وسكون الراء بين مكة والمدينة.(1/386)
إنك ترى أنا كقومك؟ لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة إنا والله لو حاربتنا لتعلمن أنا نحن الرجال.
عن ابن عباس، قال: ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيهم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} [آل عمران: 12] .
وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا وحاربوا فيما بين بدر وأحد.
قال: وعن أبي عون، قال: كان أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوقهم، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فلم تفعل، فعمد الصائغ إلى طف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فأغضب المسلمين ووقع الشر.
وحدثني عاصم، قال: فحاصرهم رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نزلوا على حكمه فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في مواليَّ. فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أرسلني". وغضب، "أرسلني، ويحك". قال: والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليَّ: أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم لك".
وحدثني أبي إسحاق، عن عبادة بن الوليد، قال: لما حاربت بنو قنيقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبث بأمرهم ابن سلول وقام دونهم.
قال: ومشى عبادة بن الصامت إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أحد بني عوف، لهم من حلفه مثل الذي لابن سلول، فجعلهم إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم، وقال: أتولى الله ورسوله والمؤمنين، فنزلت فيه وفي ابن سلول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إلى قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} إلى قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المَائِدَةُ: 51-55] ، وذلك لتولي عبادةُ اللهَ ورسولهَ.
وذكر الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصرهم خمس عشرة ليلة، إلى هلال ذي القعدة. وكانوا أول من غدر من اليهود، وحاربوا حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، ونزلوا على حكمه، وأن له أموالهم. فأمر صلى الله عليه وسلم بهم فكتفوا، واستعمل على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي، من بني السلم، فكلم عبد الله بن أبي فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألح عليه فقال: "خذهم". وأمر بهم أن يجلوا من المدينة، وولي إخراجهم منها عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات، فما كان أقل من بقائهم فيها. وتولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة، ثم خمست، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من سلاحهم ثلاثة أسياف، ودرعين، وغير ذلك.(1/387)
غزوة بني النضير:
قال معمر، عن الزهري، عن عروة: كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر وكانت منازلهم ونخلهم بناحية المدينة، فحاصرهم رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل إلا السلاح، فأنزلت: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2] الآيات.
فأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء وكان الله قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي.
وقوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} ، فكان جلاؤهم ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام.
ويرويه عقيل عن الزهري، قوله. وأسنده زيد بن المبارك الصنعاني، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائشة وذكر عائشة فيه غير محفوظ.
وقال ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُوْسَى بنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عمر: أن يهود بني النضير، وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى بني النضير، وأقر قريظة ومن عليهم، حتى حاربوا بعد ذلك. أخرجه البخاري1.
وقال معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عَنْ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنسيرن إليكم بجمعنا حتى نقتل مقاتلكم ونستبيح نساءكم. فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي وأصحابه، اجتمعوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغه ذلك فلقيهم فقال: "لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4028" حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، به.(1/388)
كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم, تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟ فلما سمعوا ذلك تفرقوا. فبلغ ذلك كفار قريش فكتبوا، بعد بدر، إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصن وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء. وهي الخلاخيل.
فلما بلغ كتابهم للنبي صلى الله عليه وسلم، أجمعت بنو النضير بالغدر، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبرا, حتى نلتقي بمكان المنصف، فيسمعوا منك، فإن صدقوا وآمنوا بك آمنا بك. فقص خبرهم.
فلما كان الغد، غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحصرهم، فقال لهم: "إنكم والله لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه فأبوا أن يعطوه عهدا، فقاتلهم يومهم ذلك".
ثم غدا على بني قريظة بالكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم.
وغدا إلى بني النضير بالكتائب، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء. فجلت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبوابهم وخشبهم فكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، أعطاه الله إياها، فقال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ، يقول: بغير قتال. فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها المهاجرين وقسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار كانوا ذوي حاجة. وبقي منها صدقة رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي في أيدي بني فاطمة، رضي الله عنها.
وذهب موسى بن عقبة، وابن إسحاق إلى أن غزوة بني النضير كانت بعد أحد، وكذلك قال غيرهما. ورواه ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ. وهذا حديث موسى وحديث عُرْوَةَ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى بني النضير يستعينهم في عقل الكلابيين. وكانوا -يزعمون- قد دسوا إلى قريش حين نزلوا بأحد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحضوهم على القتال ودلوهم على العورة. فلما كلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقل الكلابيين, قالوا: اجلس يا أبا القاسم حتى تطعم وترجع بحاجتك ونقوم فنتشاور فجلس بأصحابه، فلما خلوا والشيطان معهم، ائتمروا بقتل رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: لن تجدوه أقرب منه الآن، فاستريحوا منه تأمنوا. فقال رجل: إن شئتم ظهرت فوق البيت الذي هو تحته فدليت عليه حجرا فقتلته. فأوحى الله إليه فأخبره بشأنهم وعصمه، فقام كأنه يقضي حاجة. وانتظره أعداء الله، فراث عليه. فأقبل رجل من المدينة فسألوه عنه فقال: لقيته قد دخل أزقة المدينة. فقالوا لأصحابه: عجل أبو(1/389)
القاسم أن نقيم أمرنا في حاجته. ثم قام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا ونزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] الآية.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجلائهم، وأن يسيروا حيث شاءوا. وكان النفاق قد كثر بالمدينة. فقالوا: أين تخرجنا؟ قال: "أخرجكم إلى الحشر". فلما سمع المنافقون ما يراد بأوليائهم أرسلوا إليهم: إنا معكم محيانا ومماتنا، إن قوتلتم فلكم علينا النصر، وإن أخرجتم لم نتخلف عنكم. وسيد اليهود أبو صفية حيي بن أخطب. فلما وثقوا بأماني المنافقين عظمت غرتهم ومناهم الشيطان الظهور، فنادوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إنا، والله، لا نخرج ولئن قاتلتنا لنقاتلنك.
فمضى النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الله فيهم، وأمر أصحابه فأخذوا السلاح ثم مضى إليهم، وتحصنت اليهود في دورهم وحصونهم فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزقتهم وحصونهم كره أن يمكنهم من القتال في دورهم وحصونهم، وحفظ الله له أمره وعزم له على رشده، فأمر أن يهدم الأدنى فالأدنى من دورهم، وبالنخل أن تحرق وتقطع، وكف الله أيديهم وأيدي المنافقين فلم ينصروهم، وألقى في قلوب الفريقين الرعب ثم جعلت اليهود كلما خلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من هدم ما يلي مدينتهم، ألقى الله في قلوبهم الرعب، فهدموا الدور التي هم فيها من أدبارها، ولم يستطيعوا أن يخرجوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يهدمون شيئا فشيئا. فلما كادت اليهود أن يبلغ آخر دورها، وهم ينتظرون المنافقين وما كانوا منوهم، فلما يئسوا مما عندهم، سألوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ عرض عليهم قبل ذلك، فقاضاهم على أن يجليهم، ولهم أن يحملوا ما استقلت به الإبل إلا السلاح وطاروا كل مطير، وذهبوا كل مذهب. ولحق بنو أبي الحقيق بخيبر ومعهم آنية كثيرة من فضة، فرآها النبي صلى الله عليه وسلم. وعمد حيي بن أخطب حتى قدم مكة على قريش، فاستغواهم عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبين الله لرسوله حديث أهل النفاق، وما بينهم وبين اليهود، وكانوا قد عيروا المسلمين حين قطعوا النخل وهدموا. فقالوا: ما ذنب الشجرة وأنتم تزعمون أنكم مصلحون؟ فأنزل الله {سَبَّحَ لِلَّهِ} سورة الحشر ثم جعلها نفلا لرسوله، فقسمها فيمن أراه الله من المهاجرين. وأعطى منها أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، الأنصاريين, وأعطى -زعموا- سعدَ بن معاذ سيفَ ابنِ أبي الحقيق.
وكان إجلاء بني النضير في المحرم سنة ثلاث.
وأقامت بنو قريظة في المدينة في مساكنهم، لم يؤمر فيهم النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ولا إخراج حتى فضحهم الله بحيي بن أخطب وبجموع الأحزاب.(1/390)
هذا لفظ موسى بن عقبة، وحديث عروة بمعناه، إلى إعطاء سعد السيف.
وقال موسى بن عقبة وغيره، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطع نخل بني النضير وحرق، ولها يقول حسان بن ثابت:
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
وفي ذلك نزلت هذه الآية: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5] , متفق عليه1.
وقال عمرو بن دينار، عن الزهري، عن مالك بن أوس، عن عمر، أن أموال بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ينفق منها على أهله نفقة سنة, وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله. أخرجاه2.
سرية زيد بن حارثة إلى القردة:
قال ابن إسحاق: وسرية زيد التي بَعَثَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها، حين أصاب عير قريش، وفيها أبو سفيان، على القردة، ماء من مياه نجد.
وكان من حديثها أن قريشا خافوا طريقهم التي كانوا يسلكون إلى الشام حين جرت وقعة بدر، فسلكوا طريق العراق فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان، واستأجروا رجلا من بني بكر بن وائل يقال له: فرات بن حيان يدلهم, فَبُعِثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد بن حارثة فلقيهم على ذلك الماء، فأصاب تلك العير وما فيها، وأعجزهم الرجال، فقدم بها عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4031" و"4032"، ومسلم "1746" من طرق عن نافع، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4033" من طريق شعيب، ومسلم "1757" "49" من طريق مالك كلاهما عن الزهري، به.(1/391)
غزوة قرقرة الكدر:
قال الواقدي: إنها في المحرم سنة ثلاث وهي ناحية معدن بني سليم, واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم.
وكان صلى الله عليه وسلم بلغه أن بهذا الموضع جمعا من سليم وغطفان. فلم يجد في المحال أحدا، ووجد رعاء منهم غلام يقال له: يسار، فانصرف رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ظفر بالنعم، فانحدر به وقال محمد بن يونس الجمال المخرمي -الذي قال فيه ابن عدي: كان عندي ممن يسرق الحديث. قلت: لكن روى عنه مسلم- حدثنا ابن عيينة، قال: حدثنا عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قدم حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف مكة على قريش فحالفوهم على قتال رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لهم: أنتم أهل العلم القديم وأهل الكتاب، فأخبرونا عنا وعن محمد، قالوا: ما أنتم وما محمد؟ قالوا: نحن ننحر الكوماء1، ونسقي اللبن على الماء، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ونصل الأرحام قالوا: فما محمد؟ قالوا: صنبور2 قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار قالوا: لا، بل أنتم خير منه وأهدى سبيلا. فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] الآية.
قال سفيان: كانت غفار سرقة في الجاهلية.
وقال إبراهيم بن جعفر بن محمود بن مسلمة، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، قال: ولحق كعب بن الأشرف بمكة إلى أن قدم المدينة معلنا بمعاداة النبي صلى الله عليه وسلم وهجائه، فكان أول ما خرج منه قوله:
أذاهب أنت لم تحلل بمنقبة ... وتارك أنت أم الفضل بالحرم
صفراء رادعة لو تعصر انعصرت ... من ذي البوارير والحناء والكتم
إحدى بني عامر هام الفؤاد بها ... ولو تشاء شفت كعبا من السقم
. . .3 لم أر شمسا قبل طلع ... حتى تبدت لنا في ليلة الظلم
وقال:
طحنت رحى بدر لمهلك أهلها
الأبيات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوما: "من لكعب بن الأشرف؟ فقد آذانا بالشعر وقوى المشركين علينا". فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله. قال: "فأنت". فقام فمشى ثم رجع فقال: إني قائل. فقال: قل فأنت في حل. فخرج محمد، بعد يوم أو يومين، حتى أتى كعبا وهو في حائط فقال: يا كعب، جئت لحاجة، الحديث.
__________
1 الكوماء: الناقة المشرفة السنام عاليته.
2 الصنبور: الأبتر، لا عقب له.
3 بياض بالأصل، وكتب على هامشه: "لعله: أقْسمتُ".(1/392)
وقال ابن عيينة: قال عمرو بن دينار: سمعت جابرا يَقُوْلُ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله"؟. فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله، أعجب إليك أن أقتله؟ قال: "نعم". قال: فأذن لي أن أقول شيئا. قال: قل. فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وقد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك. قال: وأيضا لتملنه. قال: إنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه, وقد أردنا أن تسلفنا. قال: ارهنوني نساءكم. قال: نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم. قال: كيف نرهنك أبناءنا فيقال رهن بوسق أو وسقين؟ قال: فأي شيء؟ قال: نرهنك اللأمة. فواعده أن يأتيه ليلا، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاه من الحصن فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ قال: إنما هو أخي أبو نائلة ومحمد بن مسلمة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب. قال محمد: إذا ما جاء فإني قائم بشَعْرِه فأشمه ثم أشمكم، فإذا رأيتموني أثبتُّ يدي فدونكم, فنزل إليهم متوشحا، وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال محمد: ما رأيت كاليوم ريحا، أي: أطيب، أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم فشمه ثم شم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ يعني ثانيا. قال: نعم. فلما استمكن منه قال: دونكم. فضربوه فقتلوه وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه. أخرجه البخاري1.
وقال شعيب بن أبي حمزة، عن الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ، عن أبيه، أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا، وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط، منهم المسلمون، ومنهم عبدة الأوثان، ومنهم اليهود، وهم أهل الحلقة والحصون، وهو حلفاء الأوس والخزرج، فأراد رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ قدم المدينة استصلاحهم كلهم، وكان الرجل يكون مسلما وأبوه مشرك أو أخوه، وكان المشركون واليهود حين قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة يؤذونه أشد الأذى، فأمر الله رسوله والمسلمين بالصبر والعفول، فقال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا} [آل عمران: 186] ، وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] .
فأمر رسول الله سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوا كعبا، فبعث إليه سعدٌ محمدَ بن
__________
1 صحيح: أخرج البخاري "4037"، ومسلم "1801" من طريق سفيان بن عيينة، به.(1/394)
مسلمة وأبا عبس، والحارث ابن أخي سعد بن معاذ في خمسة رهط أتوه عشية، وهو في مجلسهم بالعوالي. فلما رآهم كعب أنكرهم وكاد يذعر منهم، فقال لهم: ما جاء بكم؟ قالوا: جاءت بنا إليك حجة. قال: فليدن إليَّ بعضكم فليحدثني بها. فدنا إليه بعضهم, فقال: جئناك لنبيعك أدراعا لنا لنستنفق أثمانها. فقال: والله لئن فعلتم ذلك لقد جهدتم، قد نزل بكم هذا الرجل. فواعدهم أن يأتوه عشاء حين يهدأ عنهم الناس. فجاءوا فناداه رجل منهم، فقام ليخرج, فقالت امرأته: ما طرقوك ساعتهم هذه لشيء تحب. فقال: بل إنهم قد حدثوني حديثهم. فاعتنقه أبو عبس، وضربه محمد بن مسلمة بالسيف، وطعنه بعضهم بالسيف في خاصرته, فلما قتلوه فزعت اليهود ومن كان معهم من المشركين. فغدوا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أصبحوا فقالوا: إنه طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا فقتل، فذكر لهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كان يقول في أشعاره، ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتابا، فكتب بينهم صحيفة. وكانت تلك الصحيفة بعده عند علي. أخرجه أبو داود.
وذكر موسى بن عقبة وغيره أن عباد بن بشر كان معهم، فأصيب في وجهه بالسيف أو رجله.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم وقال: "انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم".
وذكر البكائي، عن ابن إسحاق هذه القصة بأطول مما هنا وأحسن عبارة، وفيه: فاجتمع في قتله محمد، وسلكان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة الأشهلي، وعباد بن بشر، وأبو عبس بن جبر الحارثي. فقدَّموا إلى ابن الأشرف سلكانَ، فجاءه فتحدث معه ساعة وتناشدا شعرا، ثم قال: ويحك يابن الأشرف، إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني. قال: أفعل. قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدنا. فقال: أنا ابن الأشرف! أما والله لقد أخبرتك يابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول. فقال: إني أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك، وتحسن في ذلك. فقال: أترهنوني أبناءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا، إن معي أصحابا لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم، وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء. قال: فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه واجتمعوا، وساق القصة.(1/395)
قال ابن إسحاق: وأطلق رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ اليهود، وقال: "من ظفرتم به من اليهود فاقتلوه". وحينئذ أسلم حويصة بن مسعود، وكان قد أسلم قبله أخوه محيصة, فقتل محيصةُ ابنَ سنينة اليهودي التاجر، فقال حويصة قبل أن يسلم وجعل يضرب أخاه ويقول: أي عدو الله قتلته؟ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله. فقال: والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك. قال: والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب فأسلم حويصة.
وفي رمضان: وُلِدَ السيد أبو محمد الحسن بن علي، رضي الله عنهما.
وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بحفصة بنت عمر.
وفي هذه السنة: تزوج أيضا بزينب بنت خزيمة، من بني عامر بن صعصعة، وهي أم المساكين، فعاشت عنده شهرين أو ثلاثة، وتوفيت وقيل: أقامت عنده ثمانية أشهر، فالله أعلم.(1/396)
غزوة أحد: وكانت في شوال
قال شيبان، عن قتادة: واقَعَ نبي اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ من العام المقبل بعد بدر في شوال، يوم السبت لإحدى عشرة ليلة مضت من شوال وكان أصحابه يومئذ سبعمائة والمشركون ألفين أو ما شاء الله من ذلك.
وقال ابن إسحاق: للنصف من شوال.
وقال مالك: كان القتال يومئذ في أول النهار.
وقال بُرَيْدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوْسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رأيت أني قد هززت سيفا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت في رؤياي بقرا، والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي آتانا يوم بدر". أخرجاه1.
__________
1 صحيح على شرط الشيخين: أخرجه البخاري "3622" و"4081" و"7035" و"7041"، ومسلم "2722"، وابن ماجه "3921"، والدارمي "2/ 129"، والبغوي "3296" من طريق أبي أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٌ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوْسَى، به.
قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وأبو أسامة، هو حماد بن أسامة.
وبريد: هو ابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري.(1/396)
وقال ابن وهب: أخبرني ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: تنفل رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد. وذلك أنه لما جاءه المشركون يوم أحد كان رَأَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا: تخرج بنا يا رسول الله إليهم نقاتلهم بأحد، ورجوا من الفضيلة أن يصيبوا ما أصاب أهل بدر فما زالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لبس أداته، ثم ندموا وقالوا: يا رسول الله، أقم فالرأي رأيك. فقال لهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه". قالوا: وكان ما قال لهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أن يلبس أداته: "إني رأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة، وأني مردف كبشا فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أن سيفي ذا الفقار فل فأولته فلا فيكم، ورأيت بقرا تذبح، فبقر والله خير، فبقر والله خير" 1.
وقال يونس عن الزهري في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، قال: حتى إذا كان بالشوط من الجنانة، انخزل عبد الله بن أبي بقريب من ثل الجيش ومضى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم في سبعمائة وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وهم ألف، والمشركون ثلاثة آلاف. فَنَزَلَ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحدا، ورجع عنه عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، فسقط في أيدي الطائفتين, وهمتا أن تفشلا، والطائفتان: بنو سلمة وبنو حارثة.
__________
1 حسن: أخرجه ابن هشام "3/ 19" "ط. دار الحديث" من طريق محمد بن مسلم الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم مرسلا.
وأخرجه الحاكم "2/ 128-129"، ومن طريقه البيهقي في "السنن" "7/ 41"، وفي "دلائل النبوة" "3/ 204-205" من طريق عبد الله بن وهب، عن ابن أبي الزناد به.
قلت: إسناده حسن, ابن أبي الزناد، هو عبد الرحمن بن أَبِي الزِّنَادِ، عَبْدِ اللهِ بنِ ذَكْوَانَ، المَدَنِيُّ، مولى قريش، صدوق حسن الحديث وبقية رجال إسناده ثقات.
وأخرجه أوله إلى قوله "يوم أحد": الترمذي في إثر الحديث "1561"، وابن ماجه "2808"، والطحاوي "3/ 302"، والطبراني "10733"، والحاكم "3/ 39"، والبيهقي في "السنن" "6/ 304"، وفي "الدلائل" "3/ 136-137" من طرق عن ابن أبي الزناد به.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وقال الترمذي: حسن غريب.
وأخرجه أحمد "1/ 271" مختصرا حدثنا سريج، حدثنا ابن أبي الزناد, به.(1/397)
وقال ابن عيينة، عن عمرو عن جابر: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران: 122] ، بنو سلمة وبنو حارثة، ما أحب أنها لم تنزل لقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} 1 [آل عمران: 122] . متفق عليه.
وقال شعبة، عن عدي بن ثابت، سمع عبد الله بن يزيد يحدث، عن زيد بن ثابت، قال: لما خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أحد، رجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة تقول: نقاتلهم. وفرقة تقول: لا نقاتلهم، فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة2. متفق عليه.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] ، قال: ميزهم يوم أحد.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق قال: كان من حديث أحد، كما حدثني الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر، والحصين بن عبد الرحمن، وغيرهم كل قد حدث بعض الحديث، وقد اجتمع حديثهم كله فيما سقت من هذا الحديث عن يوم أحد، أن كفار قريش لما أصيب منهم أصحاب القليب، ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بالعير، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم، فكلموا أبا سفيان ومن كان له في تلك العير تجارة, فقالوا: يا معشر قريش! إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا بمن أصاب منا فاجتمعوا لحرب رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة.
وكان أبو عزة الجمحي قد من عَلَيْهِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذا عيال وحاجة، فقال: يا رسول الله! إني فقير ذو عيال وحاجة، فامنن عليَّ. فقال له صفوان: يا أبا عزة، إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك فاخرج معنا. فقال: إن محمدا قد منَّ عليَّ فلا أريد أن أظاهر عليه.
قالوا: بلى, فأعنا بنفسك، فلك الله عليَّ إن رجعت أن أعينك، وإن أصبت أن أجعل بناتك
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4051" و"4558" من طريق سفيان بن عيينة, به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4050"، ومسلم "2776" من طريق شعبة، به.(1/398)
مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو بني كنانة، ويقول:
إيهًا بني عبد مناة الرزام1 ... أنتم حماة وأبوكم حام
لا تعدوني نصركم بعد العام ... لا تسلموني لا يحل إسلام
وخرج مسافع بن عبد مناف الجمحي إلى بني مالك بن كنانة يدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول شعرا. ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيا يقال له: وحشي، يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ بها، فقال له: اخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق. فخرجت قريش بحدها وحديدها وأحابيشها ومن تابعها، وخرجوا معهم بالظُعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا. وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس, بهند بنت عتبة، وخرج عكرمة بأم حكيم بنت الحارث بن هشام, حتى نزلوا بعينين بجبل أحد ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قتلناهم فيها وكان يكره الخروج إليهم. فقال رجال ممن فاته يوم بدر: يا رسول الله! اخرج بنا إليهم لا يرون أنا جبنا عنهم. فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ الناس من الصلاة فذكر خروجه وانخزال ابن أبي بثلث الناس، فاتبعهم عبد الله والد جابر، يقول: أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال. وقالت الأنصار: يا رسول الله، ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ قال: "لا حاجة لنا فيهم". ومضى حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال: لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال. وتعبأ للقتال وهو في سبعمائة، وأمَّر على الرماة عبد الله بن جبير وهم خمسون رجلا، فقال: "انضحوا عنا الخيل بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك". وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير. وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف معهم مائتا فرس قد جنبوها فجعلوا على الميمنة خالدا، وعلى الميسرة عكرمة.
وقال سلام بن مسكين، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ، قَالَ: كانت راية
__________
1 الرزام من الرجال: الصعب المتشدد، وذكر ابن منظور البيتين في "لسان العرب", ثم قال: ويروى الرزام جمع رازم.(1/399)
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أحد مرطا أسود كان لعائشة، وراية الأنصار يقال لها: العقاب، وعلى ميمنته علي، وعلى ميسرته المنذر بن عمرو الساعدي، والزبير بن العوام كان على الرجال، ويقال: المقداد بن الأسواد، وكان حمزة على القلب، واللواء مع مصعب بن عمير، فقتل، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عليا، قال: ويقال: كانت له ثلاثة ألوية، لواء إلى مصعب بن عمير للمهاجرين، ولواء إلى علي، ولواء إلى المنذر.
وقال ثَابِتٍ, عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ سيفا يوم أحد فقال: "من يأخذ مني هذا السيف بحقه"؟. فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول: أنا، أنا. فقال: "من يأخذه بحقه"؟. فأحجم القوم، فقال له أبو دجانة سماك: أنا آخذه بحقه. قال: فأخذه ففلق به هام المشركين1. أخرجه مسلم.
وقال ابن إسحاق: حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة، أخو بني ساعدة، فقال: وما حقه؟ قال: "تضرب به في العدو حتى ينحني". قال: فأنا آخذه يا رسول الله. فأعطاه إياه، وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكان إذا قاتل علم بعصابة له حمراء فاعتصب بها على رأسه، ثم جعل يتبختر بين الصفين. فبلغنا أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال حين رآه يبختر: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن".
وقال عمرو بن عاصم الكلابي: حدثني عبيد الله بن الوازع، قال: حدثني هشام بن عروة، عَنْ أَبِيْهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ، قَالَ: عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا يوم أحد فقال: "من يأخذه بحقه"؟. فقمت فقلت: أنا يا رسول الله! فأعرض عني, ثم قال: "من يأخذ هذا السيف بحقه"؟. فقام أبو دجانة سماك بن خرشة فقال: أنا يا رسول الله! فما حقه؟ قال: "أن لا تقتل به مسلما ولا تفر به عن كافر". قال: فدفعه إليه، وكان إذا أراد القتال أعلم بعصابة، فقلت:
__________
1 صحيح: أخرجه الحاكم "3/ 230" من طريق علي بن عبد العزيز ومحمد بن كثير قالا حدثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنس، به. وهو صحيح الإسناد.
وأخرجه الحاكم "3/ 230" من طريق عمرو بن عاصم الكلابي، حدثني عبيد الله بن الوازع بن ثور، حَدَّثَنَا هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ عَنِ الزبير بن العوام, به.
قلت: وإسناده ضعيف، آفته عبيد الله بن الوازع الكلابي، فإنه مجهول كما قال الحافظ في "التقريب".
وأخرجه البيهقي "9/ 155" من حديث هنيدة رجل من خزاعة مرفوعا.
وله شواهد ذكرها الهيثمي في "مجمع الزوائد" "6/ 108-109".(1/400)
لأنظرن إليه كيف يصنع؟ قال: فجعل لا يرتفع له شيء إلا هتكه وأفراه, حتى انتهى إلى نسوة في سفح جبل معهن دفوف لهن، فيهن امرأة وهي تقول:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق1
إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق2
قال: فاهوى بالسيف إلى امرأة ليضربها، ثم كف عنها. فلما انكشف القتال قلت له: كل عملك قد رأيت ما خلا رفعك السيف على المرأة ثم لم تضربها. قال أكرمت سَيْفَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أقتل به امرأة.
وروى جعفر بن عبد الله بن أسلم, مولى عمر، عن معاوية بن معبد بن كَعْبِ بنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال حين رأى أبا دجانة يتبختر: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.
وقال ابن إسحاق، عن الزهري وغيره: إن رجلا من المشركين خرج يوم أحد، فدعا إلى البراز، فأحجم الناس عنه حتى دعا ثلاثا، وهو على جمل له، فقام إليه الزبير فوثب حتى استوى معه على بعيره, ثم عانقه فاقتتلا فوق البعير جميعا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذي يلي حضيض الأرض مقتول". فوقع المشرك ووقع عليه الزبير فذبحه. ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرب الزبير فأجلسه على فخذه وقال: "إن لكل نبي حواريا والزبير حواريي".
قال ابن إسحاق: واقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وآخرون.
وقال زهير بن معاوية: حدثنا أبو إسحاق، قال: سمعت البراء يحدث قال: جعل رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرماة يوم أحد, وكانوا خمسين, عبد الله بن جبير, وقال: "إذا رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم". قال: فهزمهم فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل قد بدت خلاخيلهن وسوقهن رافعات ثيابهن. فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة، أي قوم، الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله لهم: أنسيتم ما قال لكم
__________
1 النمارق: الوسائد.
2 الوامق: المحب.(1/401)
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة. فأتوهم فصرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين. فذلك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم. فلم يَبْقَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلا اثنا عشر رجلا, فأصابوا منا سبعين.
فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات. فنهاهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يجيبوه. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاثا. ثم رجع إلى أصحابه, فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله، إن الذي عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك. فقال: يوم بيوم بدر والحرب سجال، إنكم ستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز: اعل هبل، اعل هبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا تجيبوه"؟. قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله أعلى وأجل".
ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجيبوه"؟. قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم". أخرجه البخاري.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: فحدثني الحصين بن عبد الرحمن، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السكن, أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم أحد حين غشيه القوم: من رجل يشري لنا نفسه؟ فقام زياد بن السكن في خمسة من الأنصار، وبعض الناس يقول: هو عمارة ابن زياد بن السكن، فقاتلوا دُوْنَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجُلٌ ثم رجل يقتلون دونه، حتى كان آخرهم زيادا أو عمارة فقاتل حتى أثبتته الجراحة. ثم فاءت من المسلمين فئة فأجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدنوه مني". فأدنوه منه, فوسده قدمه, فمات وخده على قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وترَّسَ دُوْنَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو دجانة بنفسه، يقع النبل في ظهره, وهو منحنٍ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى كثرت فيه النبل.
وقال حماد بن سلمة عن ثابت, وغيره, عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: "من يردهم عنا وله الجنة -أو- هو رفيقي في الجنة"؟. فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، وتقدم آخر فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قتل السبعة، فقال لصاحبيه: "ما أنصفنا أصحابنا". رواه مسلم.
وقال سليمان التيمي، عن أبي عثمان، قَالَ: لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم، في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن غير طلحة بن عبيد الله وسعد، عن حديثهما. متفق عليه.(1/402)
وقال قيس بن أبي حازم: رأيت يد طلحة شلاء وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعني يوم أحد. أخرجه البخاري.
وقال عبد الله بن صالح: حدثني يحيى بن أيوب، عَنْ عمَارَةَ بن غَزِيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مولى حكيم بن حزام، عن جابر قال: انهزم الناس عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد، فبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار، وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد في الجبل، فلحقهم المشركون فقال: "ألا أحد لهؤلاء"؟. فقال طلحة: أنا يا رسول الله! قال: "كما أنت يا طلحة". فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله! فقاتل عنه، وصعد رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ معه ثم قتل الأنصار فلحقوه, فقال: "ألا أحد لهؤلاء"؟. فقال طلحة مثل قوله, وَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلُ قوله، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله! فأذن له فقاتل ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصعدون، ثم قتل, فلحقوه فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل قوله ويقول طلحة: أنا. فيحبسه ويستأذنه رجل من الأنصار فيأذن له، حتى لم يبق معه إلا طلحة فغشوهما، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لهؤلاء"؟. فقال طلحة: أنا. فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله, فَقَالَ: حَسِّ. فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "لو قلت بسم الله أو ذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء". ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون.
وقال عبد الوارث: حدثنا عبد العزيز, عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انهزم الناس عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو طلحة بَيْنَ يَدَيْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يجوب عنه بحجفة معه. وكان أبو طلحة رجلا رَامِياً شَدِيْدَ النَّزْعِ، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثلاثة وكان الرجل يمر بالجعبة فيها النبل فينثرها لأبي طلحة ويشرف نبي الله صلى الله عليه وسلم فينظر إِلَى القَوْمِ, فَيَقُوْلُ أَبُو طَلْحَةَ: يَا نَبِيَّ الله! بأبي أنت وأمي، لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك. ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم وإنهما مشمرتان أرى خدم سوقهما، تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم.
ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة من النعاس إما مرتين أو ثلاثة. متفق عليه.
وقال ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَاتَلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ دُوْنَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قتل، قتله ابن قميئة الليثي، وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا.
ولما قُتِلَ مُصْعَبٌ أَعْطَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللِّوَاءَ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ ورجالا من المسلمين.
وقال موسى بن عقبة: واستجلبت قريش من شاءوا من مشركي العرب، وسار أبو سفيان(1/403)
في جمع قريش. ثم ذكر نحو ما تقدم، وفيه: فأصابوا وجهه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقصموا رباعيته، وخرقوا شفته. يزعمون أن الذي رماه عتبة بن أبي وقاص.
وعنده -يعني عند ابن عقبة- المنام، وفيه: "فأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا واجعلوا الذراري في الآطام، فإن دخلوا علينا في الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت". وكانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبنيان حتى كانت كالحصن. فأبى كثير من الناس إلا الخروج، وعامتهم لم يشهدوا بدرا. قال: وليس مع المسلمين فرس.
وكان حامل لواء المشركين طلحة بن عثمان، أخو شيبة العبدري، وحامل لواء المسلمين رجل من المهاجرين، فقال: أنا عاصم إن شاء الله لما معي. فقال له طلحة بن عثمان: هل لك في المبارزة؟ قال: نعم. فبدره ذلك الرجل فضرب بالسيف على رأسه حتى وقع السيف في لحيته.
فكان قتل صاحب المشركين تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "أراني أني مردف كبشا".
فلما صرع انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وصاروا كتائب متفرقة فجاسوا العدو ضربا حتى أجهضوهم عن أثقالهم. وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات، كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مفلولة وحمل المسلمون فنهكوهم قتلا، فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله قد فتح، قالوا: والله ما نجلس ههنا لشيء. فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فأوجفت الخيل فيهم قتلا، وكان عامتهم في العسكر فلما أبصر ذلك المسلمون اجتمعوا، وصرخ صارخ: أخراكم أخراكم، قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسقط في أيديهم، فقتل منهم من قتل، وأكرمهم الله بالشهادة. وأصعد الناس في الشعب لا يلوون على أحد، وثبت الله نبيه، وأقبل يدعو أصحابه مصعدا في الشعب، والمشركون على طريقه، ومعه عصابة منهم طلحة بن عبيد الله والزبير، وجعلوا يسترونه حتى قُتِلوا إلا ستة أو سبعة.
ويقال: كان كعب بن مالك أول من عرف عيني رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِيْنَ فقد، من وراء المغفر فنادى بصوته الأعلى: الله أكبر، هذا رسول الله، فأشار إليه -زعموا- رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ اسكت. وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته.
وكان أبي بن خلف قال حين افتدى: والله إن عندي لفرسا أعلفها كل يوم فرق ذرة، ولأقتلن عليها محمدا. فبلغ قوله رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "بل أنا أقتله إن شاء الله". فأقبل أبي(1/404)
مقنعا في الحديد على فرسه تلك يقول: لا نجوت إن نجا محمد فحمل عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ موسى: قال سعيد بن المسيب: فاعترض له رجال، فَأَمَرَهُم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخلوا طريقه، واستقبله مصعب بن عمير يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل مصعبا. وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي من فرجة بين سابغة البيضة والدرع، فطعنه فيها بحربته، فوقع أبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم.
قال سعيد: فكُسِرَ ضلع من أضلاعه، ففي ذلك نزلت: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا: ما جزعك؟ إنما هو خدش. فذكر لهم قول رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلْ أنا أقتل أبيا". ثم قال: والذي نفسي بيده، لو كان هذا الذي بي بأهل المجاز لماتوا أجمعون. فمات قبل أن يقدم مكة.
وقال ان إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، أن الزبير قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم سوق هند وصواحباتها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب لوائهم، حتى ما يدنو منه أحد من القوم.
قال ابن إسحاق: لم يزل لواؤهم صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية، فرفعته لقريش فلاذوا به.
وقال وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قوله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أي: تقتلونهم, {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ} يعني: إقبال من أقبل منهم على الغنيمة، {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} ، {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152-153] ، يعني النصر. ثم أديل للمشركين عليهم بمعصيتهم الرسول حتى حصبهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى السدي، عن عبد خير، عن عبد الله، قال: ما كنت أرى أن أَحَداً مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يريد الدنيا حتى نزلت فينا: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] .
وقال هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ: هُزم المشركون يوم أحد هزيمة بينة، فصرخ إبليس: أي عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم واجتلدوا هم وأخراهم. فنظر حذيفة فإذا هو(1/405)
بأبيه اليمان، فقال: أبي، أبي. فوالله ما نحجزوا عنه حتى قتلوه. فقال حذيفة: غفر الله لكم. قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لقي الله. أخرجه البخاري.
وقال ابن عون عن عمير بن إسحاق، عن سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: كَانَ حَمْزَةُ يُقَاتِلُ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَيْفَيْنِ، وَيَقُوْلُ: أَنَا أَسَدُ اللهِ رَوَاهُ يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُمَيْرٍ مُرْسَلاً وَزَادَ: فَعَثَرَ فَصُرِعَ مُسْتَلْقِياً وَانْكَشَفَتِ الدِّرْعُ عَنْ بَطْنِهِ، فَزَرَقَهُ الحبشي العبد, فبقره.
وقال عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ، عَنْ جَعْفَرِ بنِ عمرو بن أمية الضمري، قال: خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار إلى الشام فلما أن قدمنا حمص قال لي عبيد الله: هل لك في وحشي نسأله عن قتل حمزة؟ قلت: نعم. وكان وحشي يسكن حمص، فسألنا عنه، فقيل لنا: هُوَ ذَاكَ فِي ظِلِّ قَصْرِهِ كَأَنَّهُ حَمِيْتٌ. فجئنا حتى وقفنا عليه يسيرا فسلمنا فرد علينا السلام وكان عبيد الله مُعْتَجِراً بِعِمَامَتِهِ، مَا يَرَى وَحْشِيٌّ إِلاَّ عَيْنَيْهِ ورجليه. فقال عبيد الله: يا وحشي تعرفني؟ فنظر إليه فقال: لاَ وَاللهِ إِلاّ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ عَدِيَّ بنَ الخِيَارِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا: أُمُّ فثال بِنْتُ أَبِي العَيْصِ، فَوَلَدَتْ غُلاَماً بِمَكَّةَ فَاسْتَرْضَعَتْهُ، فحملتُ ذلك الغلام مع أمه فناولتها إياه، لكأني نظرت إِلَى قَدَمَيْكَ. قَالَ: فَكَشَفَ عُبَيْدُ اللهِ عَنْ وجهه، ثم قال: ألا تخبرنا بقتل حمزة؟ قال: نعم, إن حمزة قُتِلَ طُعَيْمَةُ بنُ عَدِيِّ بنِ الخِيَارِ بِبَدْرٍ. فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي فَأَنْتَ حُرٌّ فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ عَنْ عَيْنَيْنَ -وَعَيْنُوْنُ جَبَلٌ تَحْتَ أحد, بينه وبين أحد واد- خرجت مع الناس إلى القتال فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباع, فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة فقال: يا سباع يابن مُقَطِّعَةِ البُظُوْرِ، تُحَادُّ اللهَ وَرَسُوْلَهُ؟ ثُمَّ شَدَّ عليه, فكان كأمس الذاهب. قال فمكنت لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ حَتَّى مَرَّ عليَّ، فَرَمَيْتُهُ بحربتي فأضعها في ثنته حتى خرجت من وركه، فكان ذاك العهد به, فلما رجع الناس رجعت معهم، فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف. قال: وأرسلوا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسلا، وَقِيْلَ: إِنَّهُ لاَ يَهِيْجُ الرُّسُلُ، فَخَرَجْتُ مَعَهُم, فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: "أَنْتَ وَحْشِيٌّ"؟. قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "الَّذِي قَتَلَ حَمْزَةَ"؟. قُلْتُ: نَعَمْ, قَدْ كان الأمر الذي بلغك. قال: "ما تَسْتَطِيْعُ أَنْ تُغَيِّبَ عَنِّي وَجْهَكَ"؟. قَالَ: فَرَجَعْتُ فلما تُوُفِّيَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ مُسَيْلِمَةُ، قُلْتُ: لأَخْرُجَنَّ إِلَيْهِ لَعَلِّي أَقْتُلُهُ فأكافئ بِهِ حَمْزَةَ. فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِم مَا كَانَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي ثُلْمَةِ جِدَارٍ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ ثَائِرٌ رَأْسُهُ. قال: فَأَرْمِيْهِ بِحَرْبَتِي فَأَضَعَهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، وَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ.(1/406)
قَالَ سُلَيْمَانُ بنُ يَسَارٍ: فَسَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يقول: قالت جارية على ظهر بيت: وا أمير المؤمنين، قتله العبد الأسود. أخرجه البخاري.
وقال ابن إسحاق: ذكر الزهري، قال: كان أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الهزيمة, وقول الناس: قُتِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. كعبُ بن مالك, قال: عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت: يا معشر المسلمين! أبشروا هَذَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأشار إليَّ: أن انصت. ومعه جماعة فلما أسند في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: يا محمد! لا نجوتُ إن نجوتَ ... الحديث.
وقال هاشم بن هاشم الزهري: سمعت سعيد بن المسيب، سمع سَعْداً يَقُوْلُ: نَثَلَ لِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِنَانَتَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَالَ: "ارم، فداك أبي وأمي". أخرجه البخاري.
وقال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله, عن أبيه، عن جده، عن الزبير، قال: فَرَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ظاهر بين درعين يومئذ، فلم يستطع أن ينهض إليها، يعني إلى صخرة في الجبل، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى استوى عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوجب طلحة".
وقال حميد وغيره، عن أنس، قال: غاب أنس بن النضر، عم أنس بن مالك عن قتال بدر فقال: غبت عن أول قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين، لئن الله أشهدني قتالا ليرين الله ما أصنع, فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ به هؤلاء يعني المشركين وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين من الهزيمة فمشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ فقال: أي سعد إني لأجد ريح الجنة دون أحد واهًا لريح الجنة! فقال سعد: يا رسول الله! فما استطعت أن أصنع كما صنع. قال أنس بن مالك: فوجدناه بين القتلى، به بضع وثمانون جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، فما عرفناه، حتى عرفته أخته ببنانه، فكنا نتحدث أن هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] ، نزلت فيه وفي أصحابه. متفق عليه, لكن مسلم من حديث ثابت البناني، عن أنس.
وقال مُحَمَّدُ بنُ عَمْرِوٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ, عَنْ أبي هريرة, أن عمرو بن أقيش كان له ربًا في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه. فجاء يوم أحد فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأحد.
فلبس لأمته وركب فرسه ثم توجه قبلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا. قال: إني قد آمنت. فقاتل حتى جرح، فحمل جريحا, فجاءه سعد بن معاذ, فقال لأخته: سليه، حمية(1/407)
لقومك أو غضبا لله؟ قال: بل غضبا لله ورسوله فمات فدخل الجنة وما صلى صلاة. أخرجه أبو داود.
وقال حيوة بن شريح المصري: حدثني أبو صخر حميد بن زياد، أن يحيى بن النضر حدثه عن أبي قتادة، قال: أتى عمرو بن الجموح إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة وكان أعرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". فقتل يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم، فمر رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: "كأني أراك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة". وأمر بهما وبمولاهما فجعلوا في قبر واحد.
وقال ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ، عَنِ ابن المسيب قال: قال عبد الله بن جحش: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدا فيقتلوني ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني: بم ذاك؟ فأقول: فيك. قال سعيد بن المسيب: إني لأرجو أن يبر الله آخر قسمه كما أبر أوله.
وروى الزبير بن بكار في "الموفَّقيات", أن عبد الله بن جحش، انقطع سيفه، قال: فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْجُوْناً فصار في يده سيفا. فكان يسمى العرجون، ولم يزل يتناول حتى بيع من بغا التركي بمائتي دينار. وكان عبد الله من السابقين، أسلم قبل دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة هو وإخوته وشهد بدرا.
وقال معمر، عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشي: حدثنا أشياخنا أن عبد الله بن جحش جاء إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد وقد ذهب سيفه، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عسيبا من نخل، فرجع في يد عبد الله سيفا. مرسل.
عَنْ خَارِجَةَ بنِ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد لطلب سعد بن الربيع، وقال لي: "إن رأيته فأقرئه مِنِّي السَّلاَمَ وَقُلْ لَهُ: يَقُوْلُ لَكَ رَسُوْلُ الله: كيف تجدك"؟. فجعلت أطواف بَيْنَ القَتْلَى، فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ وبه سبعون ضربة, فقلت: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ عليك السلام ويقول لك: "خبرني كيف تجدك"؟. قال: عَلَى رَسُوْلِ اللهِ السَّلاَمُ وَعَلَيْكَ، قُلْ لَهُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! أَجِدُ رِيْحَ الجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِي الأَنْصَارِ: لاَ عُذْرَ لَكُم عِنْدَ اللهِ إِنْ خُلِصَ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيْكُم شَفْرٌ يَطْرُفُ. قَالَ: وَفَاضَتْ نفسه. أخرجه البيهقي، ثم ساقه فيما بعد من حديث محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عبد الرحمن المازني، منقطعا، فهو شاهد لما رواه خارجة.(1/408)
وقال موسى بن عقبة: ثم انكفأ المشركون إلى أثقالهم، لا يدري المسلمون ما يريدون. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ رأيتموهم ركبوا وجعلوا الأثقال تتبع آثار الخيل، فهم يريدون أن يدنوا من البيوت والآطام التي فيها الذراري، وأقسم بالله لئن فعلوا لأواقعنهم في جوفها، وإن كانوا ركبوا الأثقال وجنبوا الخيل فهم يريدون الفرار". فلما أدبروا بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدِ بن أبي وقاص في آثارهم. فلما رجع قال: رأيتهم سائرين على أثقالهم والخيل مجنوبة. قال: فطابت أنفس القوم، وانتشروا يَبْتَغُوْنَ قَتْلاَهُمْ. فَلَمْ يَجِدُوا قَتِيْلاً إِلاَّ وَقَدْ مَثَّلُوا بِهِ، إِلاَّ حَنْظَلَةَ بنَ أَبِي عَامِرٍ، وكان أبوه مَعَ المُشْرِكِيْنَ فَتُرِكَ لأَجْلِهِ. وَزَعَمُوا أَنَّ أَبَاهُ وَقَفَ عَلَيْهِ قَتِيْلاً فَدَفَعَ صَدْرَهُ بِرِجْلِهِ ثُمَّ قال: ذنبان أَصَبْتُهُمَا، قَدْ تقدمتُ إِلَيْكَ فِي مَصْرَعِكَ هَذَا يا دبيس، وَلَعَمْرُ اللهِ إِنْ كُنْتَ لَوَاصِلاً لِلرَّحِمِ بَرّاً بالوالد.
ووجدوا حمزة بن عبد المطلب قد بُقِرَ بطنه وحُمِلَت كبده، احتملها وحشي وهو الذي قتله، فذهب بكبده إلى هند بنت عتبة فِي نَذْرٍ نَذَرَتْهُ حِيْنَ قُتِلَ أَبَاهَا يَوْمَ بَدْرٍ. فَدُفِنَ فِي نَمِرَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ، إِذَا رُفِعَتْ إِلَى رَأْسِهِ بَدَتْ قَدَمَاهُ، فَغَطُّوا قَدَمَيْهِ بشيء من الشجر.
وقال الزهري: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "زملوهم بدمائهم, فإنه ليس أحد يكلم في الله إلا وهو يأتي يوم القيامة وجرحه يدمي, لونه لون الدم وريحه ريح المسك".
وقال: إن المشركين لن يصيبوا منا مثلها. وقد كان أبو سفيان ناداهم حين ارتحل المشركون: إن موعدكم الموسم, موسم بدر. وهي سوق كانت تقوم ببدر كل عام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا له: نعم".
قال: ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وإذا النَّوْح في الدور. قال: "ما هذا"؟. قالوا: نساء الأنصار يبكين قتلاهم. وأقبلت امرأة تحمل ابنها وزوجها على بعير، قد ربطتهما بحبل ثم ركبت بينهما, وحُمِلَ قتلى، فدفنوا في مقابر المدينة، فنهاهم عن ذلك وقال: "واروهم حيث أصيبوا".
وقال لما سمع البكاء: "لكن حمزة لا بواكي له". واستغفر له، فسمع ذلك سعد بن معاذ وابن رواحة وغيرهما، فجمعوا كل نائحة وباكية بالمدينة، فقالوا: والله لا تبكين قتلى الأنصار حتى تبكين عَمِّ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا سمع رسول الله بالبكاء، قال: "ما هذا"؟. قال: فأخبر، فاستغفر لهم وقال لهم خيرا، وقال: "ما هذا أردت وما أحب البكاء". ونهى عنه.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن نافع الأنصاري، قال: انتهى أنس بن النضر إلى عمر، وطلحة، ورجال قد ألقوا بأيديهم فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا:(1/409)
قتل رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عَلَيْهِ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ استقبل القوم فقاتل حتى قُتِلَ.
قال ابن إسحاق: وقد كان حنظلة بن أبي عامر التقي هو وأبو سفيان بن حرب، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود فضرب حنظلة بالسيف فقتله. وحدثني عاصم بن عمر بن قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن صاحبكم لتغسله الملائكة". يعني حنظلة، فسألوا أهله: ما شأنه؟ فسئلت صاحبته قالت: خرج وهو جنب حين سمع الهيعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لذلك غسلته الملائكة".
وقال البكَّائي، عن ابن إسحاق: وخلص العدو إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدُثَّ بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص. فحدثني حميد الطويل عن أنس، قال: كسرت رباعية النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وشج في وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسحه ويقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم"؟. فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] .
وقال عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عن سهل بن سعد، قال: جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه, فكانت فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تغسل الدم، وعليٌّ يسكب الماء عليه بالمجن. فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة حصير أحرقته، حتى إذا صار رمادا ألصقته بالجرح، فاستمسك الدم. أخرجاه.
ورواه مسلم من حديث سعيد بن أبي هلال، عن أبي حازم، عن سهل، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أحد أصيبت رباعيته وهشمت بيضته. وذكر باقي الحديث.
وقال مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله"، وهو يشير إلى رباعيته، "اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله". متفق عليه.
وللبخاري مثله من حديث عكرمة، عن ابن عباس. لكن فيه: "دموا وجه رسول الله"، بدل ذكر رباعيته.
وقال ابن المبارك، عن إسحاق بنِ يَحْيَى بنِ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ: أخبرني عيسى بن طلحة، عن عائشة، قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى ثم قال: ذاك يوم كان كله يوم طلحة. ثم أنشأ يحدث، قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلا يقاتل مع(1/410)
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دونه. وأراه قال: يحميه، فقلت: كن طلحة، حيث فاتني، قلت: يكون رجلا من قومي أحب إليَّ، وبيني وبين المشرق رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه، وهو يخطف المشي خطفا لا أخطفه. إذا هو أبو عبيدة. فانتهينا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وقد كسرت رباعيته, وشج في وجهه، وقد دخل في وجهه حلقتان من حلق المغفر, قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"عليكما صاحبكما". يريد طلحة, وقد نزف, فلم نلتفت إلى قوله، وذهبت لأنزع ذلك من وجهه, فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك بحقي لما تركتني فكره أن يتناولها بيده فيؤذي النبي، فأزم عليهما بفيه، فاستخرج إحدى الحلقتين. ووقعت ثنيته مع الحلقة وذهبت لأصنع ما صنع، فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني. ففعل ما فعل في المرة الأولى، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتمًا, فأصلحنا من شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار، فإذا بضع وسبعون، أقل أو أكثر، من بين طعنة ورمية وضربة, وإذا قد قطعت إصبعه. فأصلحنا من شأنه.
وروى الواقدي عن ابن أبي سبرة، عَنْ إِسْحَاقَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنِ أبي الحويرث، عن نافع بن جبير، قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا، فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه. ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد, فلا نجوت إن نجا, ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد، ثم تجاوزه فعاتبه في ذلك صفوان، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة فتعاهدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك.
قال الواقدي: الثبت عندنا أن الذي رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجنتيه: ابن قمئة، والذي رمى شفتيه وأصاب رباعيته: عتبة بن أبي وقاص.
وقال ابن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان، عمن حدثه، عن سعد بن أبي وقاص، قال: والله ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص، وإن كان ما علمته لسيئ الخلق مبغضا في قومه، ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله".
وقال معمر، عن الزهري، عن عثمان الجزري، عن مقسم أن النبي صلى الله عليه وسلم على عتبة حين كسر رباعيته: "اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافرا". فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار. مرسل.
ابن وهب: أخبرنا عمرو بن الحارث قال: حدثني عمر بن السائب، أنه بلغه أن والد(1/411)
أبي سعيد الخدري، لما جرح النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، مص جرحه حتى أنقاه ولاح أبيض، قيل له: مجه فقال: لا والله لا أمجه أبدا ثم أدبر فقاتل، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أراد أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فلينظر إلى هذا". فاستشهد.
قال ابن إسحاق قال حسان بن ثابت:
إذا الله جازى معشرا بفعالهم ... ونصرهم الرحمن رب المشارق
فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ... ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق
بسطت يمينا للنبي تعمدا ... فأدميت فاه قطعت بالبوارق
فهلا ذكرت الله والمنزل الذي ... تصير إليه عند إحدى البوائق
قال ابن إسحاق: وعن أبي سعيد الخدري، أن عتبة كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب شجه في جبهته، وأن ابن قمئة جرح وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون، فأخذ عليَّ بِيَدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورفعه طلحة حتى استوى قائما. ومص مالك بن سنان, أبو أبي سعيد, الدم عن وجهه ثم ازدرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مس دمه دمي لم تمسه النار". منقطع.
قال البكائي: قال ابن إسحاق: وحدثني عَاصِمِ بنِ عُمَرُ، إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سِيتُها، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده. وأصيبت يومئذ عين قتادة، حتى وقعت على وجنته فحدثني عَاصِمِ بنِ عُمَرُ إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ردها بيده، وكانت أحسن عينيه وأحدهما.
وقال الواقدي: حدثنا موسى بن يعقوب الزمعي، عن عمته، عن أمها، عن المقداد بن عمرو قال: فربما رَأَيتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائما يوم أحد يرمي عن قوسه، ويرمي بالحجر، حتى تحاجزوا، وثبت رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هو في عصابة صبروا معه.
هذا الحديثان ضعيفان، وفيهما أنه رمى بالقوس.
وقال سليمان بن أحمد نزيل واسط: حدثنا محمد بن شعيب، قال: سمعت إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، يحدث عن عِيَاضُ بنُ عَبْدُ اللهِ بنُ سَعْدِ بنِ أَبِي سَرْحٍ، عن أبي سعيد الخدري، عن قتادة بن النعمان، وكان أخا أبي سعيد لأمه، أن عينه ذهبت يوم أحد، فجاء بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فردها، فاستقامت.(1/412)
وقال يحيى الحماني: حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن قتادة بن النعمان، أنه أصيبت عينه يوم بدر، فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا". فدعا به فغمز حدقته براحته فكان لا يدري أي عينيه أصيبت.
كذا قال ابن الغسيل: يوم بدر.
وقال موسى بن عقبة: إن أبا حذيفة بن اليمان، واسمه حسيل بن جبير حليف للأنصار، أصابه المسلمون -زعموا- في المعركة لا يدرون من أصابه فتصدق حذيفة بدمه على من أصابه.
قال موسى: وجميع من استشهد من المسلمين تسعة وأربعون رجلا.
وقتل من المشركين ستة عشر رجلا.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، قال: حمل أبي بن خلف على النبي صلى الله عليه وسلم يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير، فقتل مصعبا وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي فطعنه بحربته فوقع عن فرسه، ولم يخرج منها دم فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور.
وروى نحوه الزهري، عن ابن المسيب.
وذكره الواقدي، عن يونس بن محمد, عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عَبْدِ اللهِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ، عَنْ أبيه.
قال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أبي ببطن رابغ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا نار تأجج لي فهبتُها، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح: العطش. ورجل يقول: لا تسقه, فإن هذا قتيل رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا أبي بن خلف.
وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، عن ابن عباس، قال: ما نُصر النبي صلى الله عليه وسلم في موطن كما نُصر يوم أحد فأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله, إن الله تعالى يقول في يوم أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} والحس: القتل, {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152] الآية، وإنما عني بهذا الرماة وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقامهم في موضع وقال: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا". فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكفأ عسكر المشركين، نزلت(1/413)
الرماة دخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التفت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا، وشبك أصابعه، والتبسوا. فلما خلى الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا وقتل من المسلمين ناس كثير وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار، حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل، وصاح الشيطان: قُتل محمد. فلم يشك فيه أنه حق, وساق الحديث.
وقال سَعِيْدُ بنُ أَبِي عَرُوْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنس، عن أبي طلحة، قال: كنت ممن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا. أخرجه البخاري.
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ, عَنْ ثَابِتٍ, عَنْ أَنَسٍ, عن أبي طلحة، قال: رفعت رأسي يوم أحد, فجعلت أنظر, وما منهم أحد إلا وهو يميد تحت حجفته من النعاس. فذلك قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154] .
وقال يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، عن الزبير، قال: والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير, وإن النعاس ليغشاني ما أسمعها منه إلا كالحلم، وهو يقول: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154] .
وروى الزهري، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه، عن أبيه، قال: ألقي علينا النوم يوم أحد.
وقال ابن إسحاق عن عاصم بن عمر، والزهري وجماعة، قالوا: كان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص اختبر الله به المؤمنين ومحق به المنافقين ممن كان يظهر إسلامه بلسانه، ويوم أكرم الله فيه بالشهادة غير واحد، وكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران.
وقال المدائني، عن سلام بن مسكين، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ، قَالَ: كَانَتْ رَايَةُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أحد مرطا أسود كان لعائشة، وراية الأنصار يقال لها: العقاب، وعلى الميمنة علي، وعلى الميسرة المنذر بن عمرو الساعدي، والزبير بن العوام على الرجال، ويقال: المقداد بن عمرو، وحمزة بن عبد المطلب على القلب.
ولواء قريش مع طلحة بن أبي طلحة فقتله علي -رضي الله عنه- فأخذ اللواء سعد بن أبي طلحة فقتله سعد بن مالك، فأخذه عثمان بن أبي طلحة، فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح, فأخذه الجلاس بن طلحة، فقتله ابن أبي الأقلح أيضا، ثم كلاب والحارث ابنا(1/414)
طلحة، فقتلها قزمان حليف بني ظفر، وأرطاة بن عبد شرحبيل العبدري قتله مصعب بن عمير، وأخذه أبو يزيد بن عمير العبدري، وقيل: عبد حبشي لبني عبد الدار، قتله قزمان.
قال ابن إسحاق: وبقي اللواء ما يأخذه أحد، وكانت الهزيمة على قريش.
وقال مروان بن معاوية الفزاري: حدثنا عبد الواحد بن أيمن، قال: حدثنا عبيد بن رفاعة الزرقي، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انكفأ المشركون، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "استووا حتى أثني على ربي". فصاروا خلفه صفوفا فقال: "اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، ولا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ, اللهم ابسط علينا من بركاتك، أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول, اللهم عائذا بك من سوء ما أعطيتنا وشر ما منعت منا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين, اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب, إله الحق".
هذا حديث غريب منكر، رواه البخاري في الأدب، عن علي بن المديني، عن مروان.
عدد الشهداء:
قد مر أن البخاري أخرج من حديث البراء، أن المشركين أصابوا منا سبعين.
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ, عَنْ أَنَسٍ، قال: يا رب السبعين من الأنصار، سبعين يوم أحد، وسبعين يوم بئر معونة، وسبعين يوم مؤتة، وسبعين يوم اليمامة.
وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ المسيب، قال: قتل من الأنصار في ثلاثة مواطن سبعون سبعون: يوم أحد، ويوم اليمامة، ويوم جسر أبي عبيد.
وقال ابن جريج: أخبرني عمر بنِ عَطَاءٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، في قوله تعالى: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] ، قال: قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين, وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين.
وأما ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، فقال: جميع من قتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، من قريش والأنصار: أربعة، أو قال: سبعة وأربعون رجلا. وجميع من قتل يوم أحد، يعني من المشركين تسعة عشر رجلا.(1/415)
وقال موسى بن عقبة: جميع من استشهد من المسلمين، من قريش والأنصار سبعة وأربعون رجلا.
وقال ابن إسحاق: جميع من استشهد من المسلمين، من المهاجرين والأنصار، يوم أحد، خمسة وستون رجلا وجميع قتلى المشركين اثنان وعشرون.
قلت: قول من قال سبعين أصح ويحمل قول أصحاب المغازي هذا على عدد من عرف اسمه من الشهداء، فإنهم عدوا أسماء الشهداء بأنسابهم.
قال ابن إسحاق: استشهد من المهاجرين:
حمزة، وَعَبْدُ اللهِ بنُ جَحْشِ بنِ رِئَابٍ الأَسَدِيُّ، حليف بني عبد شمس، وهو ابن عَمَّةَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ دفن مع حمزة في قبر واحد، ومصعب بن عمير، وعثمان بن عثمان، ولقبه شماس، وهو عثمان بن عثمان بن الشريد بن سويد بن هرمي بن عامر بن مخزوم القرشي المخزومي، ابن أخت عتبة بن ربيعة، هاجر إلى الحبشة وشهد بدرا، ولقب شماسا لملاحته.
ومن الأنصار: عمرو بن معاذ بن النعمان الأَوْسِيُّ، أَخُو سَعْدٍ، وَابْنُ أَخِيْهِ الحَارِثُ بنُ أوس بن معاذ، والحارث بن أنيس بن رافع، وعمارة بن زياد بن السكن، وسلمة، وعمرو، ابنا ثابت بن وقش، وعمهما: رفاعة بن وقش، وصيفي بن قيظي، وأخوه: حباب، وَعَبَّادُ بنُ سَهْلٍ, وَعُبَيْدُ بنُ التَّيِّهَانِ، وَحَبِيْبُ بنُ زَيْدٍ, وَإِيَاسُ بنُ أَوْسٍ، الأَشْهَلِيُّوْنَ، وَاليَمَانُ أبو حذيفة، حليف لهم، ويزيد بن حاطب بن أمية الظفري، وأبو سفيان بن الحارث بنِ قَيْسٍ، وَغَسِيْلُ المَلاَئِكَةِ حَنْظَلَةُ بنُ أَبِي عامر الراهب، وَمَالِكُ بنُ أُمَيَّةَ؛ وَعَوْفُ بنُ عَمْرٍو، وَأَبُو حية بن عمرو بن ثابت, وعبد الله بن جبير بن النعمان أمير الرماة، وأنس بن قتادة وخيثمة والد سعد بن خيثمة وحليفه: عبد الله بن سلمة العجلاني، وسبيع بن حاطب بن الحارث، وحليفه: مالك بن أوس، وعمير بن عدي الخطمي. وكلهم من الأوس.
واستشهد من الخزرج: عمرو بن قيس النجاري، وابنه: قيس، وثابت بن عمرو بن زيد، وَعَامِرُ بنُ مَخْلَدٍ، وَأَبُو هُبَيْرَةَ بنُ الحَارِثِ بن علقمة، وَعَمْرُو بنُ مُطَرِّفٍ, وَإِيَاسُ بنُ عَدِيٍّ، وَأَوْسُ أخو حسان بن ثابت، وهو والد شداد بن أوس، وأنس بن النضر بن ضمضم، وقيس بن مخلد، وعشرتهم من بني النجار، وعبد لهم اسمه: كيسان، وَسُلَيْمُ بنُ الحَارِثِ، وَنُعْمَانُ بنُ عَبْدِ عَمْرٍو، وهما من بني دينار بن الحارث.(1/416)
وَمِنْ بَنِي الحَارِثِ بنِ الخَزْرَجِ: خَارِجَةُ بنُ زيد بن أبي زهير، وسعد بن الربيع بن عمرو ابن أبي زهير، وأوس بن أرقم بن زيد، أخو زيد بن أرقم.
ومن بني خدرة: مالك بن سنان، وسعيد بن سويد، وعتبة بن ربيع.
ومن بني ساعدة: ثعلبة بن سعد بن مالك، وَثَقْفُ بن فَرْوَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو بن وهب وضمرة، حليف لهم من جهينة.
ومن بني عوف بن الخزرج، ثم من بني سالم: عمرو بنُ إِيَاسٍ، وَنَوْفَلُ بنُ عَبْدِ اللهِ، وَعُبَادَةُ بن الحسحاس، والعباس بن عبادة بن نضلة، والنعمان بن مالك، والمجذر ذياد البلوي، حليف لهم.
ومن بني الحبلى: رفاعة بن عمرو.
ومن بني سواد بن مالك: مالك بن إياس.
ومن بني سلمة: عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح بن زيد بن حرام، وكانا متواخيين وصهرين، فدفنا في قبر واحد، وخلاد بن عمرو بن الجموح، ومولاه أسير، أبو أيمن، مولى عمرو.
ومن بني سواد بن غنم: سليم بنُ عَمْرِو بنِ حَدِيْدَةَ، وَمَوْلاَهُ عَنْتَرَةُ، وَسُهَيْلُ بن قيس.
ومن بني زريق: ذكوان بن عبد قيس، وعبيد بن المعلى بن لوذان.
قال ابن إسحاق: وزعم عاصم بن عمر بن قتادة أن ثابت بن وقش قتل يومئذ مع ابنيه.
وذكر الواقدي جماعة قتلوا سوى من ذكرنا.
وقال البكائي: قال ابن إسحاق، عن محمود بن لبيد، قَالَ: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلى أحد رفع حسيل بن جابر -والد حذيفة بن اليمان- وثابت بن وقش في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه -وهما شيخان كبيران: لا أبا لك، ما ننتظر؟ فوالله ما بقي لواحدنا من عمره إلا ظمء حمار، إنما نحن هامة اليوم أو غد، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقنا الشهادة مع رسوله؟ فخرجا حتى دخلا في الناس، ولم يعلم بهما فأما ثابت فقتله المشركون، وأما حسيل فقتله المسلمون ولا يعرفونه.
قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان فينا رجل أتى لا يدرى ممن هو، يقال له قزمان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له: "إنه لمن أهل النار". فلما كان يوم أحد قتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين وكان ذا بأس، فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني ظفر،(1/417)
فجعلوا يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان، فأبشر. قال: بماذا أبشر؟ والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك لما قاتلت. فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما فقتل به نفسه.
قال ابن إسحاق: وكان ممن قتل يومئذ مخيريق، وكان أحد بني ثعلبة بن العيطون، قال لما كان يوم أحد: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق. قالوا: إن اليوم يوم السبت قال: لا سبت فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء ثم غَدَا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقاتل معه حتى قُتِلَ. فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بلغنا: "مخيريق خير يهود".
ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى؛ يجدعن الآذان والأنف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خدما، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها:
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر ... ولا أخي وعمه وبكري
شفيتُ صدري وقضيت نذري ... شفيتَ وحشي غليل صدري
وقتل من المشركين -على ما ذكر ابن إسحاق- أحد عشر رجلا من بني عبد الدار، وهم:
طلحة وأبو سعيد وعثمان: بنو أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى ومولاهم: صؤاب، وبنو طلحة المذكور: مسافع, والحارث, والجلاس, وكلاب. وأبو زيد بن عمير أخو مصعب بن عمير وابن عمه: أرطاة بن شرحبيل بن هاشم، وابن عمهم: قاسط بن شريح.
ومن بني أسد: عبد الله بن حميد بن زهير الأسدي، وسباع بن عبد العزى الخزاعي حليف بني أسد.
وأربعة من بني مخزوم: أخو أم سلمة: هشام بن أبي أمية بن المغيرة، والوليد بن العاص بن هشام بن المغيرة وأبو أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، وحليفهم خالد بن الأعلم.
ومن بني زهرة: أبو الحكم بن الأخنس بن شريق، حليف لهم.
ومن بني جمح: أبي بن خلف، وأبو عزة عمرو بن عبد الله بن عمير، أَمْرُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضرب عنقه صبرا، وذلك أنه أسر يوم بدر، وأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم بلا فداء لفقره، وأخذ(1/418)
عليه أن لا يعين عليه، فنقض العهد وأسر يوم أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول خدعت محمدا مرتين وأمر به فضربت عنقه". وقيل: لم يؤسر سواه.
ومن بني عامر بن لؤي: عبيد بن جابر، وشيبة بن مالك.
وقال سليمان بن بلال, عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ أبي فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة ورواه حاتم بن إسماعيل، عن عبد الأعلى -فأرسله مرة وأسنده مرة- عن أبي ذر عوض أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول -على طريقه- فوقف عليه ودعا له ثم قرأ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] ، ثم قال: "أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه السلام".
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، وحدثنيه بُرَيْدَةُ بنُ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ، قال: لما رَأَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بحمزة من المثل -جدع أنف ولعب به- قال: "لولا أن تجزع صفية وتكون سنة من بعدي ما غيب حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير".
وحدثني بريدة، عن محمد بنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَئِنْ ظَفِرْتُ بِقُرَيْشٍ لأُمَثِّلَنَّ بِثَلاَثِيْنَ مِنْهُم". فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِهِ مِنَ الجَزَعِ قَالُوا: لَئِنْ ظَفِرْنَا بِهِم لَنُمَثِّلَنَّ بِهِم مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ العرب بأحد فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ} [النَّحْلُ: 126] ، إِلَى آخِرِ السُّوْرَةِ فَعَفَا رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى ابن إسحاق، عن شيوخه الذين روى عنهم قصة أحد، أن صفية أقبلت لتنظر إلى حمزة -وهو أخوها لأبويها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير: "القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها". فلقيها فقال: أي أمه، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرك أن ترجعي, قالت: ولم؟ فقد بلغني أنه مثل بأخي، وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك، فلأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فجاء الزبير فأخبره قولها, قال: "فخل سبيلها". فأتته، فنظرت إليه واسترجعت واستغفرت له ثم أمر به فدفن.
وقال أَبُو بَكْرٍ بنُ عَيَّاشٍ عَنْ يَزِيْدَ بنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: لما قتل حمزة أقبلت صفية فَلَقِيَتْ عَلِيّاً وَالزُّبَيْرَ فَأَرَيَاهَا أَنَّهُمَا لاَ يَدْرِيَانِ. فَجَاءتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "فَإِنِّي أَخَافُ عَلَى عَقْلِهَا". فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهَا وَدَعَا لَهَا، فَاسْتَرْجَعَتْ وَبَكَتْ ثُمَّ جَاءَ فقام(1/419)
عَلَيْهِ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ فَقَالَ: "لَوْلاَ جَزَعُ النِّسَاءِ لَتَرَكْتُهُ حَتَّى يُحْشَرَ مِنْ حَوَاصِلِ الطَّيْرِ وَبُطُوْنِ السِّبَاعِ". ثُمَّ أَمَرَ بِالقَتْلَى فَجَعَلَ يُصَلَّي عليهم سبع تَكْبِيْرَاتٍ، وَيُرْفَعُوْنَ وَيَتْرُكُ حَمْزَةَ، ثُمَّ يُجَاءُ بِسَبْعَةٍ فيكبر عليهم سبعا، حتى فرغ منهم.
وحديث جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصِلِّ عَلَيْهِم أَصَحُّ.
وَفِي الصَّحِيْحَيْنِ مِنْ حديث عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى على قتلى أحد صلاته على الميت. فالله أعلم.
عثمان بن عمر، وروح بن عبادة, بإسناد الحاكم في "المستدرك" إليهما: حدثنا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ مَرَّ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحمزة وَقَدْ جُدِعَ وَمُثِّلَ بِهِ فَقَالَ: "لَوْلاَ أَنْ تجد صفية تركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع". فكفنه في نمرة ولم يصل على أحد من الشهداء غيره ... الحديث.
وقال يحيى الحماني: حدثنا قيس -هو ابن الربيع- عن ابن أبي ليلى, عَنِ الحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم قتل حمزة ومثل به: "لَئِنْ ظَفِرْتُ بِقُرَيْشٍ لأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِيْنَ مِنْهُم". فَنَزَلَتْ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل نصبر يا رب". إسناده ضعيف من قبل قيس.
وقد روى نحوه حجاج بن منهال وغيره عن صالح المري -وهو ضعيف- عن سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أبي هريرة، وزاد: فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط أوجع لقلبه منه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ صَاعدٍ القَاضِي، قال: حدثنا الحسن بن أحمد الزاهد ببيت المقدس سنة تسع وعشرين وستمائة قال: أخبرنا أحمد بن محمد السلفي قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الفارسي قال: حدثنا يعقوب الفسوي قال: حدثنا عبد الله بن عثمان قال: حدثنا عيسى بن عبيد الكندي، قال: حدثني ربيع بن أنس، قال: حَدَّثَنِي أَبُو العَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ أنه أصيب من الأنصار يوم أحد أربعة وستون وأصيب من المهاجرين ستة، منهم حمزة فَمَثَّلُوا بِقَتْلاَهُم فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُم يَوْماً مِنَ الدَّهْرِ لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِم.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ نَادَى رَجُلٌ لاَ يُعْرَفُ: لاَ قُرَيْشَ بَعْدَ اليَوْمِ، مَرَّتَيْنِ فَأَنْزَلَ اللهُ على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] الآيَة، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كفوا عن القوم".(1/420)
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ قَالَ: جَاءتْ صَفِيَّةُ يَوْمَ أُحُدٍ ومعها ثَوْبَانِ لِحَمْزَةَ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ أَنْ تَرَى حَمْزَةَ عَلَى حَالِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا الزُّبَيْرَ يَحْبِسُهَا وَأَخَذَ الثَّوْبَيْنِ. وَكَانَ إِلَى جَنْبِ حَمْزَةَ قَتِيْلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَكَرِهُوا أَنْ يَتَخَيَّرُوا لِحَمْزَةَ، فَقَالَ: "أَسْهِمُوا بَيْنَهُمَا، فَأَيُّهُمَا طَارَ لَهُ أَجْوَدُ الثَّوْبَيْنِ فَهُوَ لَهُ". فَأَسْهَمُوا بَيْنَهُمَا، فَكُفِّنَ حَمْزَةُ فِي ثَوْبٍ والأنصاري في ثوب.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ صُعَيْرِ، قال: لما أشرف رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قتلى أحد، قال: "أنا الشهيد على هؤلاء، ما من جريح يجرح في الله إلا بعث يَوْم القِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دماً، اللُوْنُ لُوْنُ الدم والريح ريح المسك، انظروا أكثرهم جمعا للقرآن فاجعلوه أمام صاحبه في القبر". فكانوا يدفنون الاثنين والثلاثة في القبر.
قال ابن إسحاق: وحدثني والدي, عن رجال من بني سلمة, أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال حين أصيب عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو بن حرام: "اجمعوا بينهما، فإنهما كانا متصافيين في الدنيا". قال أبي: فحدثني أشياخ من الأنصار قالوا: لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء استصرخنا عليهم وقد انفجرت عليهما في قبرهما, فأخرجناهما وعليهما بردتان قد غطي بهما وجوههما، وعلى أقدامهما شيء من نبات الأرض، فأخرجناهما يتثنيان كأنما دفنا بالأمس.
وهذا هو عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم الأنصاري السلمي, سيد بني سلمة قال ابن سعد وغيره: شهد بدرا. وابنه معاذ بن عمرو بن الجموح هو الذي قطع رجل أبي جهل وقضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ. وكان عمرو بن الجموح زوج أُخْتُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ حَرَامٍ.
ثابت البناني، عن عكرمة قال: كان مناف في بيت عمرو بن الجموح فلما قدم مصعب بن عمير المدينة بعث إليهم عمرو: ما هذا الذي جئتمونا به؟ قالوا: إن شئت جئنا وأسمعناك، فواعدهم فجاءوا فقرأ عليه: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف: 1] فقرأ ما شاء الله أن يقرأ، فقال: إِنَّ لَنَا مُؤَامَرَةً فِي قَوْمِنَا -وَكَانَ سَيِّدَ بني سلمة- فخرجوا، فدخل عَلَى مَنَافٍ، فَقَالَ: يَا مَنَافُ! تَعْلَمُ وَاللهِ مَا يُرِيْدُ القَوْمُ غَيْرَكَ فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ نكير؟ قال: فقلده سيفا وخرج فقام أهله فأخذوا السيف فجاء فوجدهم أخذوا السيف، فقال: يا مناف أين السيف وَيَحْكَ، إِنَّ العَنْزَ لَتَمْنَعُ اسْتَهَا، وَالله مَا أَرَى فِي أَبِي جِعَارٍ غَداً مِنْ خَيْرٍ. ثُمَّ قَالَ لَهُم: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى مَالِي فاستوصوا بمناف خيرا فذهب فكسروا مناف وربطوه(1/421)
مع كلب ميت. فلما جاء رأى مناف, فبعث إلى قومه فجاءوه، فَقَالَ: أَلَسْتُم عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ؟ قَالُوا: بلى، أنت سيدنا. قال: فإني أشهدكم أني قد آمنت بمحمد فلما كان يوم أحد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض". فقام وهو أعرج، فقاتل حتى قتل.
أبو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "نعم الرجل عمرو بن الجموح".
وروى مُحَمَّدُ بنُ مُسلمٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ دِيْنَارٍ، وروى فطر بنِ خَلِيْفَةَ, عَنْ حَبِيْبِ بنِ أَبِي ثَابِتٍ وغيرهما، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا بَنِي سَلِمَة مَنْ سَيِّدُكُم؟ قَالُوا: الجدُّ بنُ قَيْسٍ، وَإِنَّا لَنُبَخِّلُهُ، قَالَ: وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ البُخْلِ؟ بَلْ سَيِّدُكُم الجَعْدُ الأَبْيَضُ عمرو بن الجموح.
وقد قال الواقدي: لم يشهد بدرا, ولما أراد الخروج إلى أحد منعه بنوه وقالوا: قد عذرك الله وبك عرج، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: "أما أنت فقد عذرك الله". وقال لبنيه: "لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة". فخرج فاستشهد هُوَ وَابْنُهُ خَلاَّدٌ.
إِسْرَائِيْلُ عَنْ سَعِيْدِ بنِ مَسْرُوْقٍ, عَنْ أَبِي الضُّحَى, أَنَّ عَمْرَو بنَ الجموح قال لبنيه: مَنَعْتُمُوْنِي الجَنَّةَ يَوْمَ بَدْرٍ وَاللهِ لَئِنْ بَقِيْتُ لأدخلن الجنة. فكان يوم أحد في الرعيل الأول.
وقال حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوْبَ عَنْ أَبِي الزبير عن جابر قال: استصرخنا إلى قتلانا يوم أحد وذلك حين أجرى معاوية العين فأتيناهم فأخرجناهم تتثنى أطرافهم رطابا، على رأس أربعين سنة. قال حماد: وزادني صاحب لي في الحديث: أصاب قدم حمزة فانثعب دما.
وقال ابن عيينة عن الأسود، عن نبيح العنزى، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم.
وقال أبو عوانة: حدثنا الأَسْوَدِ بنِ قَيْسٍ، عَنْ نُبَيْحٍ العَنَزِيِّ، عَنْ جابر قَالَ: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، إلى المشركين لقتالهم فقال لي أبي: ما عليك أن تكون في النظارة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا, فوالله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي فبينما أنا في النظارين إذ جاءت عمتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح، فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا، فجاء رجل ينادي: إِلاَّ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها فبينما أنا في خلافة معاوية، إذ جاءني رجل فقال: يا جابر، قد والله أثار أباك عمال معاوية فبدت طائفة منه قال: فأتيته فوجدته على النحو الذي تركته لم يتغير منه شيء إلا ما لم يدع القتيل، فواريته.(1/422)
وقال حسين المعلم، عن عطاء عن جابر، قال: لما حضر أحد قال أبي: ما أراني إلا مقتولا، وإني لا أترك بعدي أعز عليَّ منك غير نفس رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ عليَّ دينا فاقض واستوص بأخواتك خيرا فأصبحنا فكان أول قتيل فدفنت معه آخر في قبر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته هنية غير أذنه.
أخرجه البخاري.
وقال الزهري، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب ثم يقول: أيهما أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا. أخرجه البخاري عن قتيبة عن الليث عنه.
وقال أيوب، عَنْ حُمَيْدِ بنِ هِلاَلٍ عَنْ هِشَامِ بنِ عامر قال: قالوا يوم أحد: يا رسول الله قد أصابنا قرح وجهد فكيف تأمر؟ قال: "احفروا وأوسعوا وأعمقوا واجعلوا الاثنين والثلاثة في القبر، وقدموا أكثرهم قرآنا".
ومنهم من يقول: حميد بن هلال، عن سعيد بن هشام بن عامر، عن أبيه.
وقال شعبة, عن ابن المنكدر: سمعت جابرا يقول: لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عنه، وجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهوني، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، وقال: "لا تبكيه -أو- ما تبكيه، فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه". أخرجاه.
وأخرج البخاري من حديث جَابِرٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بدفن قتلى أحد في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. وكان يجمع بين الرجلين في الثوب الواحد, ثم يقول: أيهما أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد.
وقال علي بن المديني: حدثنا موسى بن إبراهيم الأنصاري، سمع طلحة بن خراش، قال: سمعت جابر بن عبد الله، قال: نظر إليَّ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "ما لي أراك مهتما"؟. قلت: يا رسول الله قتل أبي وترك دينا وعيالا، فقال: "ألا أخبرك؟ ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا, فقال له: يا عبدي سلني أعطك، فقال: أَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيْكَ ثَانِياً، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُم إِلَيْهَا لاَ يُرْجَعُوْنَ، قَالَ يَا رَبِّ فَأَبْلِغْ من ورائي". فأنزل الله -عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] .
ويروى نحوه عن عروة، عن عائشة.(1/423)
وكان أبو جابر من سادة الأنصار شهد بدرا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة، وهو عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرِو بنِ حَرَامِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ حَرَامِ بنِ كَعْبِ بنِ غَنْمِ بنِ كعب بن سلمة وأمه الرباب بنت قيس من بني سلمة شهد معه العقبة ولده جابر.
وقال إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن جده، قال: أتي ابن عوف بطعام فقال: قتل مصعب بن عمير -وكان خيرا مني- فلم يوجد له إلا بردة يكفن فيها، ما أظننا إلا قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا. أخرجه البخاري.
وقال الأعمش عن أبي وائل عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله فمنا من ذهب لم يأكل من أجره، وكان مِنْهُم مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، ولم يكن له إلا نمرة، كنا إذا غطينا رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رَأْسُهُ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "غطوا بها رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجلَيْهِ مِنَ الإِذْخِرِ". وَمِنَّا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها. متفق عليه.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، قال: كانت امرأة من الأنصار من بني دينار قد أصيب زوجها وأخوها يوم أحد فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا، يا أم فلان. فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه فأشاروا لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل؛ أي: هين. ويكون في غير ذا بمعنى عظيم.
وعن أبي برزة أن جليبيبا كان من الانصار فقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ لرجل: "زوجني ابنتك" قال: نعم ونعمة عين. قال: "لست أريده لنفسي" قال: فلمن؟ قال: "لجليبيب" قال: حتى أستأمر أمها. فأتاها فأجابت: لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِنَّمَا يريد ابنتك لجليبيب. قالت: ألجليبيب؟ لا لعمر الله لا أزوجه فلما قام أبوها ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم قالت الفتاة من خدرها لأبويها: من خطبني؟ قالا: رسول الله. قالت: أفتردون عليه أمره؟ ادفعوني إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لن يضيعني. فذهب أَبُوْهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: شأنك بها فزوجها جليبيبا، ودعا لهما. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغزى له قال: "هل تفقدون من أحد"؟. قالوا: نفقد فلانا ونفقد فلانا قال: "لكني أفقد جليبيبا". فاطلبوه, فنظروا فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا مني وأنا منه قتل سبعة ثم قتلوه". فوضعوه على ساعديه ثم حفروا له، ماله سرير إلا ساعدا رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وضعه في قبره. قال ثابت البناني: فما في الأنصار أنفق منها.(1/424)
أخرجه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن كنانة بن نعيم، عن أبي برزة.
وقال الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُرَّةَ، عَنْ مسروق: سألنا عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] ، قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. قال: فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: سلوني ما شئتم. فقالوا: يا ربنا وما نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا؟ فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا. قالوا: نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا فنقتل في سبيلك.
فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا، تركوا. أخرجه مسلم.
وقال عبد الله بن إدريس، عن مُحَمَّدَ بنَ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيْلَ بنِ أُمَيَّةَ، عن أبي الزبير عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا أُصِيْبَ إِخْوَانُكُم بِأُحُدٍ، جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُم فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيْلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ العَرْشِ فَلَمَّا وَجَدُوا طِيْبَ مَأْكَلِهِم وَمَشْرَبِهِم وَمَقِيْلِهِم، قَالُوا: مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عنا أنا أَحْيَاءٌ فِي الجَنَّةِ نُرْزَقُ، لِئَلاَّ يَنْكلُوا عِنْدَ الحَرْبِ وَلاَ يَزْهَدُوا فِي الجِهَادِ قَالَ اللهُ تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فَأُنْزِلَتْ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] ".
وَقَالَ يُوْنُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمٌ بن عمر بن قتادة، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيْهِ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ أُحُدٍ: "أَمَا وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي غُوْدِرْتُ مَعَ أصحاب نحص الجبل". يقول: قتلت معهم.
وقال اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيْدَ بنِ أَبِي حَبِيْبٍ، عَنْ أبي الخير، عن عقبة بن عَامِر، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْماً فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَه عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَر فَقَالَ: "إني فرطكم وأنا شهيد عليكم" 1. الحديث أخرجه البخاري.
وروى العطاف بن خالد: حدثني عَبْدِ الأَعْلَى بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي فروة، عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ قبور الشهداء بأحد.
وروى عبد العزيز بن عمران بن موسى, عن عباد بنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيْهِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يأتي قبور الشهداء، فإذا أتى فرضة الشعب يقول: "السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار". وكان يفعله أبو بكر ثم عمر بعده ثم عثمان.
وذكر نحو هذا الحديث الواقدي في "مغازيه" بلا سند.
وقال أبو حسان الزيادي: ومات في شوال يوم جمعة عمرو بن مالك الأنصاري أحد بني النجار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد فصلى عليه في موضع الجبان. وكان أول من فعل به ذلك.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "4/ 149 و153-154"، والبخاري "1344" و"3596" و"4085" و"6426" و"6590"، ومسلم "2296"، وأبو داود "3223"، والنسائي "4/ 61-62"، والطحاوي "1/ 504"، والبيهقي "4/ 14"، والطبراني في "الكبير" "17/ 767"، والبغوي "3823" من طرق عن الليث بن سعد، به.(1/425)
غزوة حمراء الأسد:
قال ابن إسحاق: فلما كان الغد من يوم الأحد يعني صبيحة وقعة أحد؛ أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لطلب العدو، وأذن مؤذنه: "لا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس". وإنما خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرهبا للعدو ليبلغهم أنه قد خرج في أثرهم وليظنوا به قوة.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، عن عروة قال: قدم رجل فاستخبره النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان فقال: نازلتهم فسمعتهم يتلاومون، يقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكة القوم وحدهم، ثم تركتموهم ولم تبيدوهم، وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم. فامر رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ -وبهم أشد القرح- بطلب العدو، ليسمعوا بذلك. وقال: "لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال". فقال عبد الله بن أبي: أركب معك؟ قال: لا. فاستجابوا لله والرسول على ما بهم من البلاء. فانطلقوا، فطلبهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ حمراء الأسد.
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان؛ أن رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من بني عبد الأشهل قال: شهدت أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين, فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي، فقال لي: تفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ووالله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح. فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جراحة منه، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. فخرج رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاث ثم رجع.(1/426)
وقال هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قالت: يابن أختي كان أبواك تعني -الزُّبَيْرَ وَأَبَا بَكْرٍ- مِن الَّذِيْنَ اسْتَجَابُوا لِلِّهِ والرسول من بعد ما أصابهم القرح قال: لَمَّا انْصَرَفَ المُشْرِكُوْنَ مِنْ أُحُدٍ وَأَصَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ، خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا فَقَالَ: "مَنْ يُنْتَدَبُ لِهَؤُلاَءِ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ بِنَا قُوَّةً"؟. قال: فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين خرجوا في آثار القوم فسمعوا بهم وانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوْءٌ قال: لم يلقوا عدوا1. أخرجاه.
وقال ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ أن معبدا الخزاعي مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، صفوهم معه لا يخفون عليه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد، والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله عافاك فيهم ثم خرج حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة وقالوا: أصبنا حد أصحاب محمد وقادتهم, ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكون على بقيتهم فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك؟ قال: محمد قد خرج في طلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم. قال: فإني أنهاك ذاك، والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا. قال: وما قلت؟ قال:
كادت تهدمن الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل2
تردي بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل3
فظلت عدوا أظن الأرض مائلة ... لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت4 البطحاء بالجيل5
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4077" حدثنا محمد حدثنا أبو معاوية عن هشام به.
2 الجرد: من الخيل والدواب كلها: القصير الشعر. وفرس أجرد: قصير شعر، والأبابيل: الجماعات.
3 المعازيل: الذين لا سلاح معهم.
4 تغطمطت: التغطط هو الصوت مع بحح.
5 الجيل: كل صنف من الناس.(1/427)
إني نذرت لأهل البسل ضاحية ... لكل ذي إربة منهم ومعقول1
من جيش أحد لا وخش تنابلة ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل2
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومر ركب من عبد القيس، فقال أبو سفيان: أين تريدون؟ قالوا: المدينة لنمتار. فقال: أما أنتم مبلغون عني محمدا رسالة، وأحمل لكم على إبلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا إذا وافيتموه؟ قالوا: نعم. قال: إذا جئتم محمدا فأخبروه أنا قد أجمعنا الرجعة إلى أصحابه لنستأصلهم. فلما مر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد أخبروه, فقال هو والمسلمون: "حسبنا الله ونعم الوكيل". فأنزلت: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] الآيات.
وقال البكائي: قال ابن إسحاق: وكان عبد الله بن أبي بن سلول، كما حدثني الزهري، له مقام يقومه كل جمعة لا يتركه شرفا له في نفسه وفي قومه. فكان إذا جلس رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الجمعة يخطب قام فقال: أيها الناس هَذَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزكم به، فعزروه وانصروه واسمعوا له وأطيعوا. ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ورجع الناس، قام يفعل كفعله، فأخذ المسلمون ثيابه من نواحيه، وقالوا: اجلس أي عدو الله، لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس ويقول: والله لكأني قلت هجرا أن قمت أشد أمره. فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ما لك؟ ويلك! قال: قمت أشد أمره فوثب عليَّ رجال من أصحابه يجبذونني ويعنفونني، لكأنما قلت هجرا. قال: ويلك ارجع يستغفر لَكِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: والله ما أبغي أن يستغفر لي.
فائدة: قال الواقدي: حدثنا إبراهيم بن جعفر، عن أبيه وحدثنا سعيد بن محمد بن أبي زيد، قال: حدثنا يحيى بن عبد العزيز بن سعيد، قالوا: كان سويد بن الصامت قد قتل ذيادا، فقتله به المجذر بن ذياد, فهيج بقتله وقعة بعاث. فلما قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِيْنَةَ أسلم المجذر، والحارث بن سويد بن الصامت، فشهدا بدرا. فجعل الحارث يطلب مجذرا ليقتله بأبيه. فلما كان يوم أحد أتاه من خلفه فقتله.
__________
1 أهل البسل: البسل ثمانية أشهر حرم كانت لقوم لهم صيت وذكر في غطفان وقيس. والمقصود أهل غطفان وقيس أو أهل مكة.
والضاحية: البارزة للشمس. وذي الإربة: الإربة والأربة: الدهاء والبصر بالأمور، وهو من العقل.
2 الوخش: رذالة الناس وصغارهم وغيرهم.
والتنابلة: قال ابن سيدة: التنبال والتنبل والتنبالة الرجل القصير.(1/428)
فلما رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حمراء الأسد أتاه جبريل فأخبره بأنه قتل مجذرا. فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء، فأتاه الحارث بن سويد في ملحفة مورسة. فلما رآه دعا عويم بن ساعدة وقال: "اضرب عنق الحارث بمجذر بن ذياد". فقال: والله ما قتلته رجوعا عن الإسلام ولكن حمية، وإني أتوب إلى الله وأخرج ديته وأصوم وأعتق وجعل يتمسك بركاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ فرغ من كلامه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قدمه يا عويم فاضرب عنقه". فضرب عنقه على باب المسجد، والله أعلم.(1/429)
السنة الرابعة من الهجرة:
سرية أبي سلمة إلى قطن في أولها:
قال الواقدي: حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد اليَرْبُوْعِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرُ بنُ أَبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الأَسَدِ، وَغَيْرِهِ، قَالُوا: شَهِدَ أَبُو سَلَمَةَ أُحُداً، وَكَانَ نازلا في بني أمية بن زيد بالعالية، حين تحول من قباء فَجُرِحَ بِأُحُدٍ، وَأَقَامَ شَهْراً يُدَاوِي جُرْحَهُ. فَلَمَّا كان هلال المحرم دعاه رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "اخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها". وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَقَالَ: "سِرْ حَتَّى تَأْتِيَ أَرْضَ بَنِي أَسَدٍ فَأَغِرْ عَلَيْهِم". وَكَانَ مَعَهُ خَمْسُوْنَ وَمَائَةٌ، فَسَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى أَدْنَى قطن -ماء من مياههم- فيجدون سرحا لبني أسد، فأغاروا عليه وأخذوا مماليك ثلاثة، وأفلت سائرهم. ثم رجع إلى المدينة فغاب بِضْع عَشْرَة لَيْلَةً.
قَالَ عُمَرُ بنُ عُثْمَانَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ المَلِكِ بنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: لَمَّا دَخَلَ أَبُو سَلَمَةَ المَدِيْنَةَ انْتَقَضَ جُرْحُهُ، فَمَاتَ لثلاث بقين من جمادى الآخرة.
غزوة الرجيع:
وهي في صفر من السنة الرابعة، فيما ورخه الواقدي، وقال: هي على سبعة أميال من عسفان. فحدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الأسود، قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحاب الرجيع عيونا إلى مكة ليخبروه.
قال إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب: أخبرني عمر بن أسيد بن جارية الثقفي، أن أبا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرة رهط عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري, فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة؛ بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام. فاقتصوا آثارهم, حتى وجدوا مأكلهم التمر، فقالوا: نوى يثرب، فاتبعوا آثارهم. فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى قردد، أي: فدفد من الأرض فأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا -فأعطوا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدا. فقال عاصم: أما أنا فوالله لا أنزل في ذمة مشرك, اللهم أخبر عنا نبيك. فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة من أصحابه، ونزل إليهم ثلاثة على العهد والميثاق: خبيب، وزيد بن الدثنة، وآخر فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها, فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء أسوة. يريد القتلى فجروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم فقتلوه، وانطلقوا بخبيب، وزيد، حتى(1/430)
باعوهما بمكة بعد وقعة بدر. فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبا. وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر.
وفائدة:
قال الدمياطي: هذا وهم، ما شهد خبيب بن عدي الأوسي بدرا ولا قتل الحارث بن عامر، إنما الذي شهدها وقتله هو خبيب بن أساف الخزرجي.
رجعٌ, قال: فلبث خبيب عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها للقتل فأعارته. فدرج بني لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعة عرفها خبيب فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، فقالت: والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، والله لقد رأيته، أو وجدته، يأكل قطفا من عنب وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبا. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم: دعوني أركع ركعتين. فتركوه فركع ركعتين، ثم قال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع من القتل لزدت، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا، وقال:
فلست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الاله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم قال إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله.
وكان خبيب هو سن لكل مسلم، قتل صبرا، الصلاة.
واستجاب الله لعاصم يوم أصيب، فأخبر رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يوم أصيبوا خبرهم.
وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت ليؤتوا منه بشيء يعرف، وكان قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله على عاصم مثل الظلة من الدبر، فحمته من رسلهم فلم يقدروا على أن يقطعوا منه شيئا.
أخرجه البخاري1.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3989"، وأحمد "2/ 294-295" من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، به.
وقوله "الدبر": بسكون الباء النحل وقيل: "الزنابير. والظلة: السحاب".(1/431)
وقال موسى بن عقبة، وغير واحد: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاصم بن ثابت وأصحابه عينا له، فسلكوا النجدية، حتى إذا كانوا بالرجيع فذكروا القصة.
قال موسى: ويقال: كان أصحاب الرجيع ستة منهم: عاصم وخبيب وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق -حليف لبني ظَفَرٍ- وَخَالِدُ بنُ البُكَيْرِ اللَّيْثِيُّ، وَمَرْثَدُ بنُ أبي مرثد الغنوي؛ حليف حمزة. وساق حديثهم.
وَقَالَ يُوْنُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمٌ بن عمر بن قتادة: أن نفرا من عضل والقارة قَدِمُوا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة بعد أحد، فقالوا: إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك ليفقهونا في الدين ويقرئونا القرآن، فَبُعِثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم خبيب بن عدي.
قال ابن إسحاق: بعث معهم ستة، أمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي. وسماهم كما قال موسى.
قال ابن إسحاق: فخرجوا مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجيع -ماء لهذيل بناحية الحجاز على صدور الهدء- غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلا، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم. فقالوا لهم: والله ما نريد قتلكم ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم. أما مرثد، وعاصم، وابن البكير فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا. وأرادت هذيل أخذ رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد، لئن قدرت على عاصم لتشربن في قفحه الخمر، فمنعته الدبر، فانتظروا ذهابها عنه، فأرسل الله الوادي فحمل عاصما فذهب به.
وقد كان عاصم أعطى الله عهدا أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا تنجسا. وأسروا خبيبا وابن الدثنة وعبد الله بن طارق ثم مضوا بهم إلى مكة ليبيعوهم، حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله يده من القران ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بالظهران.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني يحيى, عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عقبة بن الحارث سمعته يقول: ما أنا والله قتلت خبيبا، لأنا كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة أخا بني عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدي، ثم أخذ بيدي وبالحربة، ثم طعنه بها حتى قتله.(1/432)
ثم ذكر ابن إسحاق أن خبيبا قال:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وكلهم مبدي العداوة جاهد ... علي لأني في وثاق مضيع
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي
وذلك في ذات الاله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد خيروني الكفر والموت دونه ... وقد هملت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت ... ولكن حذاري جحم نار ببلقع
ووالله لم أحفل إذا مت مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي
فلست بمبد للعدو تخشعا ... ولاجزعا إني إلى الله مرجعي
وقال يونس بن بكير، وجعفر بن عون، عن إبراهيم بن إسماعيل: حدثني جعفر بن عمرو بن أمية أن أباه حدثه عن جده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعثه عينا؛ قال: فجئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون، فأطلقته فوقع بالأرض، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا، ثم التفت فلم أر خبيبا، فكأنما ابتلعته الأرض.
زاد جعفر بن عون: فلم تذكر لخبيب رمة حتى الساعة.(1/433)
غزوة بئر معونة:
قال ابن إسحاق: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحاب بئر معونة في صفر، على رأس أربعة أشهر من أحد.
وقال موسى بن عقبة قال الزهري: حدثني عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ كَعْبٍ بنِ مَالِكٍ، ورجال من أهل العلم، أن عامر بن مالك الذي يدعى ملاعب الأسنة، قَدِمَ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مشرك، فعرض عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِسْلاَمُ، فأبى أن يسلم، وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فقال: "إني لا أقبل هدية مشرك". فقال: ابعث معي من شئت من رسلك، فأنا لهم جار، فبعث رهطا، فيهم المنذر بن عمرو الساعدي؛ وهو الذي يقال له: أعنق ليموت، بعثه عينا له في أهل نجد، فسمع بهم عامر بن الطفيل، فاستنفر بني عامر، فأبوا أن يطيعوه، فاستنفر بني سليم فنفروا معه، فقتلوهم ببئر معونة، غير عمرو بن أمية الضمري، فإنه أطلقه عامر بن الطفيل، فقدم عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال ابن إسحاق: حدثني والدي، عَنِ المُغِيْرَةِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ بن هشام، وَعَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ، وغيرهما، قالوا: قدم أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر، ملاعب الأسنة عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمد لو بعثت معي رجالا من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.
قال: أخشى عليهم أهل نجد قال أبو البراء: أنا لهم جار فبعث المنذر بن عمرو في أربعين رجلا، فيهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان؛ أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ورافع بنِ وَرْقَاءَ الخُزَاعِيُّ، وَعَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أبي بكر، في رجال من خيار المسلمين، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، بين أرض بني عامر وحرة بني سليم.
ثم بعثوا حرام بن ملحان بِكِتَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَامِرِ بنِ الطُّفَيْلِ، فَلَمْ يَنْظُرْ فِي الكِتَابِ حَتَّى قُتِلَ الرَّجُلُ ثُمَّ اسْتَصْرَخَ بَنِي سليم فأجابوه وأحاطوا بالقوم فقاتلوهم حتى استشهدوا كلهم إلا كعب بن زيد، من بني النجار تركوه وبه رمق فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية ورجل من الأنصار، فلم يخبرهما بمصاب القوم إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنا، فأقبلا فنظرا، فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري لعمرو: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر فقال الأنصاري: لكني لم أكن لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لأخبر عنه الرجال. وقاتل حتى قتل وأسروا عمرا. فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه. فلما كان بالقرقرة أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا في ظل هو فيه، وكان معهما عهد مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجوار لم يعلم به عمرو. حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبره، فقال: "قد قتلت قتيلين، لأدينهما". ثم قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارها متخوفا". فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر أبا براء، فحمل ربيعة ولد أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه في فخذه فأشواه، فوقع من فرسه, وقال: هذا عمل أبي براء؛ إن مت فدمي لعمي فلا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيي.
وقال موسى بن عقبة: ارتث في القتلى كعب بن زيد، فقتل يوم الخندق.(1/434)
وقال حماد بن سلمة: أخبرنا ثابت، عن أنس أن ناسا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجالا يعلموننا القرآن، والسنة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء، وفيهم خالي حرام بن ملحان، يقرءون القرآن ويتدارسون بالليل ويتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعون ويشترون به الطعام لأهل الصفة، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم, فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان قالوا: اللهم بلغ عنا نبيك أن قد لقيناك فرضيت عنا ورضينا عنك قال: وأتى رجل خالي من خلفه فطعنه بالرمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إن إخوانكم قد قتلوا وقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أن قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا". رواه مسلم1.
وقال همام وغيره، عَنْ إِسْحَاقُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي طَلْحَةَ: حَدَّثَنِي أَنَسٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث خاله حراما في سبعين رجلا فقتلوا يوم بئر معونة وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل، وكان أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أخيرك بين ثلاث خصال: أن يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء، قال: فطعن في بيت امرأة من بني فلان فقال: غدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني فلان ائتوني بفرسي، فركبه فمات على ظهر فرسه وانطلق حرام ورجلان معه أحدهما أعرج فقال: كونا قريبا مني حتى آتيهم فإن آمنوني كنت كفوا، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم. فأتاهم حرام فقال: أتؤمنوني أبلغكم رسالة رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَجَعَلَ يحدثهم، وأومئوا إلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه, قال همام وأحسبه قال: فزت ورب الكعبة قال: وقتل كلهم إلا الأعرج، كان في رأس الجبل.
قال أنس: أنزل علنيا، ثم كان من المنسوخ، "إنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضيناه" فَدَعَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثين صباحا على رعل وذكوان وبني لحيان وعصية عصت الله ورسوله.
أخرجه البخاري، وقال: ثلاثين صباحا، وهو الصحيح2.
وروى نحوه قتادة, وثابت وغيرهما، عن أنس. وبعضهم يختصر الحديث، وفي بعض طرقه: سبعين صباحا.
قال سليمان بن المغيرة، عن ثابت، قال: كتب أنس في أهله كتابا فقال: اشهدوا معاشر
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "677" حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا عفان، حدثنا حماد، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4091" حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا همام، به.(1/435)
القراء فكأني كرهت ذلك فقلت: لو سميتم بأسمائهم وأسماء آبائهم فقال: وما بأس أن أقول لكم معاشر القراء, أفلا أحدثكم عن إخوانكم الذين كنا ندعوهم عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القراء؟ قال: فذكر أنس سبعين من الأنصار كانوا إذا جهم الليل أووا إلى معلم بالمدينة فيبيتون يدرسون، فإذا أصبحوا فمن كانت عنده قوة أصاب من الحطب واستعذب من الماء ومن كانت عنده سعة أصابوا الشاة فأصلحوها، فكان معلقا بحجر رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا أصيب خبيب بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فيهم خالي حرام فأتوا على حي من بني سليم فقال حرام لأميرهم: دعني فلأخبر هؤلاء أنا ليس إياهم نريد فيخلون وجوهنا. فأتاهم فقال ذلك، فاستقبله رجل منهم برمح فأنفذه به. قال: فلما وجد حرام مس الرمح قال: الله أكبر فزت ورب الكعبة. قال: فانطووا عليهم فما بقي منهم مخبر. قال: فما رَأَيتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجد على شيء وجده عليهم. فقال أنس: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلما صلى الغداة رفع يديه يدعو عليهم, فلما كان بعد ذلك، إذا أبو طلحة يقول: هل لك في قاتل حرام؟ قلت: ما له، فعل الله به وفعل. فقال: لا تفعل، فقد أسلم.
وقال أَبُو أُسَامَةَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كان عامر بن فهيرة غلاما لعبد الله بن الطفيل بن سخبرة، أخي عائشة لأمها؛ وكانت لأبي بكر منحة، فكان يروح بها ويغدو، ويصبح فيدلج إليهما ثم يسرح فلا يفطن به أحد من الرعاء، ثم خرج بهما يعقبانه حتى قدم المدينة معهما. فقتل عامر بن فهيرة يوم بئر معونة، وأسر عمرو بن أمية. فقال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ وأشار إلى قتيل قال: هذا عامر بن فهيرة فقال: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض. وذكر الحديث. أخرجه البخاري1.
قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي البراء على عامر بن الطفيل:
بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي ... فما أجدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الحروب أبو براء ... وخالك ماجد حكم بن سعد
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4093" حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة به.(1/436)
ذكر الخلاف في غزوة بني النضير, وقد تقدمت في سنة ثلاث:
ذهب الزهري إلى أنها كانت قبل أحد وقال غير واحد: كانت بعد أحد، وبعد بئر معونة.
أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن، قال: أَخْبَرَنَا الحَسَنُ بنُ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ بن البن، قال: أخبرنا جدي، قال: أخبرنا أبو القاسم المصيصي، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي نصر، قال: أخبرنا علي بن أبي العقب، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم, قال: حدثنا محمد بن عائذ، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قَالَ: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في نفر من أصحابه إلى بني النضير يستعينهم في عقل الكلابيين. وكانوا -زعموا- قد دسوا إلى قريش حين نزلوا بأحد لقتال رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ يحضونهم على القتال ودلوهم على العورة فلما كلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقل الكلابيين، قالوا: اجلس أبا القاسم، حتى تطعم وترجع بحاجتك. ثم ساق الحديث كله، وتقدم ذكره.
وقال الواقدي: حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه قال: لما خرجت بنو النضير أقبل عمرو بن سعدى فأطاف بمنازلهم، فرأى خرابها وفكر ثم رجع إلى بني قريظة فيجدهم في الكنيسة فينفخ في بوقهم، فاجتمعوا فقال الزبير بن باطا: يا أبا سعيد أين كنت منذ اليوم؟ وكان لا يفارق الكنيسة وكان يتأله في اليهودية, قال: رأيت اليوم عبرا قد عبرنا بها، رأيت منازل إخواننا خالية بعد ذلك العز والجلد والشرف الفاضل والعقل البارع، قد تركوا أموالهم وملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل. ولا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة. فقد أوقع قبل ذلك بابن الأشرف ذي عزهم، بيته في بيته آمنا، وأوقع بابن سنينة سيدهم، وأوقع ببني قينقاع فأجلاهم وهم جد يهود، وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة، فحصرهم فلم يخرج منهم إنسان رأسه حتى سباهم، وكلم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من يثرب، يا قوم قد رأيتم ما رأيت فأطيعوني وتعالوا نتبع محمدا، فوالله إنكم لتعلمون أنه نبي، وقد بشرنا به وبأمره ابن الهيبان وابن جواس، وهما أعلم يهود، جاءانا من بيت المقدس يتوكفان قدومه، أمرا باتباعه، وأمرانا أن نقرئه منهما السلام، ثم ماتا على دينهما، فأسكت القوم، فأعاد هذا القول ونحوه، وتخوفهم بالحرب والسباء والجلاء. فقال ابن باطا: قد والتوراة قرأت صفته التي أنزلت على موسى، ليس في المثاني التي أحدثنا. فقال له كعب بن أسد: ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه؟ قال: أنت. قال كعب: ولم -والتوراة- ما حلت بينك وبينه قط. قال الزبير: أنت صاحب عهدنا وعقدنا فإن اتبعته اتبعناه وإن أبيت أبينا. فأقبل عمرو بن سعدى على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك، إلى أن قال كعب: ما عندي في أمره إلا ما قلت، ما تطيب نفسي أن أصبر تابعا.
وقال ابن إسحاق: كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة أربع وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ست ليال، ونزل تحريم الخمر، والله أعلم.(1/437)
غزوة بني لحيان:
قال ابن إسحاق: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جمادى الأول، على رأس ستة أشهر من صلح بني قريظة إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع: خبيب وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، عن عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ مُحَمَّدِ بن حزم، وغيره، قالوا: لما أصيب خبيب وأصحابه خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طالبا لدمائهم ليصيب من بني لحيان غرة، فسلك طريق الشام وورَّى على الناس أنه لا يريد بني لحيان، حتى نزل أرضهم -وهم من هذيل- فوجدهم قد حذروا فتمنعوا في رءوس الجبال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنا هبطنا عسفان لرأت قريش أنا قد جئنا مكة". فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين حتى جاءا كراع الغميم ثم انصرفا إليه. فذكر أبو عياش الزرقي أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بعسفان صلاة الخوف.
وقال بعض أهل المغازي: إن غزوة بني لحيان كانت بعد قريظة، فالله أعلم.(1/438)
غزوة ذات الرقاع:
قال ابن إسحاق: إنها في جمادى الأولى سنة أربع، وهي غزوة خصفة من بني ثعلبة من غطفان.
وقال محمد بن إسماعيل رحمه الله: كانت بعد خيبر، لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، يعني وشهدها قال: وإنما جاء أبو هريرة فأسلم أيام خيبر.
وقال ابن إسحاق: في هذه الغزوة سَارَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نزل نخلا، فلقي بها جمعا من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب. وقد خاف الناس بعضهم بعضا، حتى صَلَّى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه صلاة الخوف ثم انصرف بالناس.
وقال الواقدي: إنما سميت ذات الرقاع لأنه جبل كان فيه بقع حمرة وسواد وبياض، فسمي ذات الرقاع. قَالَ: وَخَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لعشر خلون من المحرم، على رأس سبعة وأربعين شهرا، قدم صرارا لخمس بقين من المحرم.
وذات الرقاع قريبة من النخيل بين السعد والشقرة.(1/438)
قال الواقدي: فحدثني الضحاك بن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر، وحدثني هِشَامُ بنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عن جابر، قال: وعن مالك، وغيره، عن وهب بن كيسان، عن جابر، قال: قدم قادم بجلب له، فاشترى بسوق النبط، وقالوا: من أين جلبك؟ قال: جئت به من نجد، وقد رأيت أنمارا وثعلبة قد جمعوا لكم جموعا، وأراكم هادين عنهم. فبلغ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَه، فخرج في أربعمائة من أصحابه -وقيل سبعمائة- وسلك على المضيق ثم أفضى إلى وادي الشقرة، فأقام بها يوما، وبث السرايا، فرجعوا إليه مع الليل وأخبروه أنهم لم يروا أحدا، وقد وطئوا آثارا حديثة. ثم سار النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ، حتى أتى محالهم، فإذا ليس فيها أحد، وهربوا إلى الجبال، فهم مطلون على النبي صلى الله عليه وسلم. وخاف الناس بعضهم بعضا. وفيها صَلَّى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه صلاة الخوف.
وقال عبد الملك بن هشام: وإنما قيل لها ذات الرقاع لأنهم رقعوا فيها راياتهم. قال: ويقال ذات الرقاع شجرة هناك والظاهر أنهما غزوتان.
وقال شعيب، عن الزهري: حدثني سنان بن أبي سنان الدؤلي، وأبو سلمة, عن جابر أنه غزا مع رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نجد، فلما قفل قفل معه، فأدركته القائلة في واد كثير العِضَاه، فنزل وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، وقال هو تحت شجرة فعلق بها سيفه، فنمنا نومة، فَإِذَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعونا فأجبناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال: من يمنعك مني؟ قلت: الله. فشام السيف وجلس". فلم يعاقبه رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ فعل ذلك. متفق عليه. وشام: أغمد.
قال أبو عوانة، عن أبي بشر: اسم الأعرابي "غورث بن الحارث".
ثم روى أبو بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر، قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب بن خصفة بنخل، فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث، حتى قام على رَأْس رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ قال: "الله". قال: فسقط السيف من يده فأخذه رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "من يمنعك مني"؟. قال: كن خير آخذ. قال: "تشهد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَأَنِّي رَسُوْلُ الله"؟. قال: لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس ثم ذكر صلاة الخوف، وأنه صلى بكل طائفة ركعتين وهذا حديث صحيح إن شاء الله.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، قَالَ:
خَرَجْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف، فلما قف رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت الرفاق تمضي، وجعلت أتخلف، حتى أدركني رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ما لك يا جابر؟ قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا. قال: أنخه وساق قصة الجمل.(1/439)
غزوة بدر الموعد:
قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، وروى عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدرا. وكان أهلا للصدق والوفاء صلى الله عليه وسلم، فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس، فمشوا في الناس يخوفونهم، وقالوا: قد أخبرنا أن قد جمعوا لكم مثل الليل من الناس، يرجون أن يوافقوكم فيتنهبوكم، فالحذر الحذر لا تغدوا. فعصم الله المسلمين من تخويف الشيطان فاستجابوا لله ولرسوله وخرجوا ببضائع لهم، وقالوا: إن لقينا أبا سفيان فهو الذي خرجنا له، وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا. وكان بدر متجرا يوافى في كل عام. فانطلقوا حتى أتوا موسم بدر، فقضوا منه حاجتهم، وأخلف أبو سفيان الموعد، فلم يخرج هو ولا أصحابه.
وأقبل رجل من بني ضمرة، بينه وبين المسلمين حلف، فقال: والله إن كنا لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد، فما أعملكم إلى أهل هذا الموسم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يريد أن يبلغ ذلك عدوه من قريش: "أعملنا إليه موعد أبي سفيان وأصحابه وقتالهم، وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك وإلى قومك حلفهم ثم جالدناكم". فقال الضمري: معاذ الله.
قال: وذكروا أن ابن الحمام قدم على قريش، فقال: هذا محمد وأصحابه ينتظرونكم لموعدكم فقال أبو سفيان: قد والله صدق فنفروا وجمعوا الأموال فمن نشط منهم قووه، ولم يقبل من أحد منهم دون أوقية ثم سار حتى أقام بمجنة من عسفان ما شاء الله أن يقيم، ثم ائتمر هو وأصحابه، فقال أبو سفيان: ما يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه السمر وتشربون من اللبن، ثم رجع إلى مكة، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بنعمة من الله وفضل، وكانت تلك الغزوة تدعى غزوة جيش السويق. وكانت في شعبان سنة أربع.
وقال الواقدي: كانت بدر الموعد، وتسمى بدر الصغرى, لهلال ذي القعدة على رأس خمسة وأربعين شهرا من مهاجره -عليه الصلاة والسلام- وأنه خرج في ألف وخمسمائة من أصحابه، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وكان موسم بدر يجتمع فيه العرب لهلال ذي القعدة إلى ثامنه. فأقام بها المسلمون ثمانية أيام وباعوا بضائع، فربح الدرهم درهما، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل.(1/440)
غزوة الخندق:
قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع. وقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة خمس. فالله أعلم.
ويقوي الأول قول ابن عمر: إنه عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة، فلم يجزه النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه لكن هذه التقوية مردودة بما سنذكره في سنة خمس، إن شاء الله تعالى.
وفيها: توفي عبد الله ابن رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو عثمان -رضي الله عنه- عن ست سنين ونزل أبوه في حفرته.
وفيها: في شعبان ولد الحسين بن علي -رضي الله عنهما.
وفيها قتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وأصحابه. وقد ذكروا. وكنية عاصم: أبو سليمان، واسم جده أبي الأقلح: قيس بن عصمة من بني عمرو بن عوف، ومن ذريته الأحوص الشاعر ابن عبد لله بن محمد بن عاصم بن ثابت.
وكان عاصم من الرماة المذكورين، ثبت يوم أحد وقتل غير واحد، وشهد بدرا.
وقتل يوم بئر معونة من الصحابة:
عامر بن فهيرة مولى الصديق -رضي الله عنه- وكان من سادة المهاجرين.
ومن قريش: الحكم بن كيسان المخزومي، ونافع بن بديل بن ورقاء السهمي.
وقتل يومئذ من الأنصار: الحارث بن الصمة بن عمرو بن عتيك بن عمرو بن مبذول أبو سعد. فعن محمد بن إبراهيم التيمي، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ الحارث بن الصمة وصهيب. وقال الواقدي: شهد الحارث أحدا، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعه على الموت، وقتل عثمان بن عبد الله بن المغيرة. وعن المسور بن رفاعة أن الحارث خَرَجَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلى بدر، فكسر بالروحاء، فَرَدَّهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة وضرب له بسهمه وأجره قال ابن سعد: وله ذرية بالمدينة وبغداد.
حرام بن ملحان، واسم ملحان مالك بنِ خَالِدِ بنِ زَيْدِ بنِ حَرَامِ بنِ جُنْدَبِ بنِ عَامِرِ بنِ غَنْمِ بنِ عَدِيِّ بن النجار، شهد بدرا، وهو أخو أم سليم, قال لما طعن يوم بئر معونة: فزت ورب الكعبة، رحمه الله ورضي عنه.
عطية بن عمرو، من بني دينار. وهذا لم أره في الصحابة لابن الأثير.(1/441)
المنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبد ود الساعدي، أحد النقباء ليلة العقبة. شهد بدرا وأحدا. وخنيس هو المعروف بالمعنق ليموت.
أنس بن معاوية بن أنس، أحد بني النجار.
أبو شيخ بن ثابت بن المنذر، وسهل بن سعد، من بني النجار كلاهما.
معاذ بن ناعض الزرقي، بدري. عروة بن الصلت السلمي حليف الأنصار.
مالك بن ثابت، وأخوه: سفيان كلاهما من بني النبيت.
فهؤلاء الذين حفظت أسماؤهم من الشهداء السبعين الذين صح أنه نزل فيهم: "بلغو عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا" ثم نسخت.
وقيل: بل كانوا اثنين وعشرين راكبا. ولعل الراوي عد الركاب دون الرجالة.
أخبرنا إسماعيل بن أبي عمرو، أخبرنا ابن البن، قال: أخبرنا جدي، قال: أخبرنا ابن أبي العلاء، قال: أخبرنا ابن أبي نصر، قال: أخبرنا ابن أبي العقب، قال: أخبرنا أحمد بن البسري، قال: حدثنا محمد بن عائذ، قال: أخبرني حجوة بن مدرك الغساني، عن الحسن بن عمارة، عَنِ الحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: بعث عامر بن مالك ملاعب الأسنة إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابعث إليَّ رهطا ممن معك يبلغوني عنك وهم في جواري. فأرسل إليه المنذر بن عمرو -رضي الله عنه- في اثنين وعشرين راكبا، فلما أتوا أداني أرض بني عامر بعث أربعة ممن معه إلى بعض مياههم، أو قال إلى بعضهم قال: وسمع عامر بن الطفيل فأتاهم فقاتلهم فقتلهم قال: ورجع الأربعة رهط الذين كان وجه بهم المنذر، فلما دنوا إذا هم بنسور تحوم، قالوا: إنا لنرى نسورا تحوم، وإنا نرى أصحابنا قد قتلوا. فلما أتوهم قال رجلان منهم: لا نطلب الشهادة بعد اليوم، فقاتلا حتى قتلا. ورجع الرجلان إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلقيا رجلين من بني عامر فسألاهما ممن هما فأخبراهما فقتلاهما وأخذا ما معهما, وأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه خبر أصحابهم وخبر الرجلين العامريين، وأتياه بما أصاب لهما. فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حلتين كان كساهما، فقال: "قد كانا منا في عهد". فوداهما إلى قومهما دية الحرين المسلمين.
وقال حسان بعد موت عامر بن مالك يحرض ابنه ربيعة:
بني أم البنين ألم يرعكم
فذكر الأبيات.(1/442)
فقال ربيعة: هل يرضى مني حسان طعنة أطعنها عامرا؟ قيل: نعم, فشد عليه فطعنه فعاش منها.
وفيها توفيت أم المؤمنين زينب بِنْتُ خُزَيْمَةَ بنِ الحَارِثِ بنِ عَبْدِ اللهِ بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة القيسية الهوازنية العامرية الهلالية -رضي الله عنها- وكانت تسمى أم المساكين لإحسانها إليهم، تزوجت أولا بالطفيل بنُ الحَارِثِ بنِ المُطَّلِبِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ -رَضِيَ اللهُ عنه- ثم طلقها فتزوجها أخوه عبيدة بن الحارث -رضي الله عنه- فاستشهد يوم بدر، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثلاثة، ومكثت عنده على الصحيح ثمانية أشهر، وقيل: كانت وفاتها في آخر ربيع الآخر، وصلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ودفنها بالبقيع، ولها نحو ثلاثين سنة.
وفيها تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ أُمُّ المُؤْمِنِيْنَ هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ واسمه حذيفة، وقيل: سهيل، ويدعى زاد الراكب؛ ابْنِ المُغِيْرَةِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ مَخْزُوْمٍ القرشية المخزومية، وكانت قبله عند ابْنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هِلاَلِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ مَخْزُوْمٍ، وأمه برة بنت عبد المطلب، وهاجر بها إلى الحبشة فولدت له هناك زينب، وولدت له سلمة وعمر ودرة، وَكَانَ أَخَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرضاعة، أرضعتهما وحمزة ثويبة مولاة أبي لهب، ويقال: إنه كان أسلم بعد عشرة أنفس، وكان أول من هاجر إلى الحبشة، ثم كان أول من هاجر إلى المدينة، ولما عبر إلى الله كان الذي أغمضه رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ دعا له، وكان قد جرح بأحد جرحا، ثم انتقض عليه، فمات منه في جمادى الآخرة سنة أربع. فلما توفي تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِيْنَ حلت في شوال، وكانت من أجمل النساء؛ وهي آخر نسائه وفاة.
ثم تزوج بعدها بأيام يسيرة، بنت عمته أم الحكم؛ زينب بنت جحش بن رئاب الأسدي، وكان اسمها برة فسماها زينب. وكانت هي وإخوتها من المهاجرين، وأمهم أميمة بنت عبد المطلب، وهي التي نزلت هذه الآية فيها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأَحْزَابُ: 37] ، وكانت تفخر عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من السماء. وفيها نزلت آية الحجاب، وتزوجها وهي بنت خمس وثلاثين سنة.
وفي هذه السنة رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهودي واليهودية اللذين زنيا.
وفيها توفيت أم سعد بن عبادة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب في بعض مغازيه, ومعه ابنها سعد، قال قتادة، عن سعيد بن المسيب: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى على قبر أم سعد بعد أشهر، والله أعلم.(1/443)
السنة الخامسة من الهجرة:
غزوات ذات الرقاع، وغزوة دُومة الجندل بضم الدال
غزوة ذات الرقاع:
خرج لها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر خلون من المحرم. قاله الواقدي كما تقدم. وقال ابن إسحاق: إنها في جمادى الأولى سنة أربع.
غزوة دُومة الجندل: وهي بضم الدال:
قيل سميت بدومى بن إسماعيل -عليه السلام- لكونها كانت منزله. ودَومة بالفتح موضع آخر. وهذه الغزوة كانت في ربيع الأول. ورجع النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يصل إليها، ولم يلق كيدا.
وقال المدائني: خرج صلى الله عليه وسلم في المحرم، يريد أكيدر دومة، فهرب أكيدر، وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الله بن أبي لبيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ, عَنْ عبد الله بن أبي بكر وغيرهما، قالوا: أَرَادَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يقرب إلى أدنى الشام ليرهب قيصر, وذكر له أن بدومة الجندل جمعا عظيما يظلمون من مر بهم وكان بها سوق وتجار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف يسير الليل ويكمن النهار، ودليله مذكور العذري، فنكب عن طريقهم، فلما كان بينه وبين دومة يوم قوي، قال له: يا رسول الله إن سوائمهم ترعى عندك، فأقم حتى أنظر. وسار مذكور حتى وجد آثار النعم، فرجع وقد عرف مواضعهم، فهجم بالنبي صلى الله عليه وسلم على ماشيتهم ورعائهم فأصاب من أصاب، وجاء الخبر إلى دومة فتفرقوا، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم.
وهي تبعد عن المدينة ستة عشر يوما، وبينها وبين دمشق خمس ليال للمجد، وبينها وبين الكوفة سبع ليال، وهي أرض ذات نخل، يزرعون الشعير وغيره، ويسقون على النواضح وبها عين ماء.(1/444)
غزوة المريسيع:
وتسمى غزوة بني المصطلق، كانت في شعبان سنة خمس على الصحيح, بل المجزوم به.
قال الواقدي: استخلف النبي صلى الله عليه وسلم فيها على المدينة زيد بن حارثة. فحدثني شعيب بن عباد عن المسور بن رفاعة، قَالَ: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في سبعمائة.
وقال يونس بن بكير: قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر، قالوا: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبلغه أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية أم المؤمنين، فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالمريسيع، ماء من مياههم؛ فأعدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتزاحف الناس فاقتتلوا، فهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وقتل من قتل منهم ونفل نساءهم وأبناءهم وأموالهم، وأقام عليهم من ناحية قديد والساحل.
وقال الواقدي، عن معمر وغيره: أن بني المصطلق من خزاعة كانوا ينزلون ناحية الفرع، وهم حلفاء بني مدلج، وكان رأسهم الحارث بن أبي ضرار، وكان قد سار في قومه ومن قدر عليه، وابتاعوا خيلا وسلاحا، وتهيئوا للمسير إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الواقدي: وحدثني سعيد بن عبد الله بن أبي الأبيض، عن أبيه, عن جدته، وهي مولاة جويرية, سمعت جويرية تقول: أَتَانَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن على المريسيع، فأسمع أبي يقول: أتانا ما لا قبل لنا به. قالت: وكنت أرى من الناس والخيل والعدة ما لا أصف من الكثرة، فلما أن أسلمت وتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعنا جعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، فعرفت أنه رعب من الله، وكان رجل منهم قد أسلم يقول: لقد كنا نرى رجالا بيضا على خيل بلق، ما كنا نراهم قبل ولا بعد.
قال الواقدي: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء، وضربت له قبة من أدم، ومعه عائشة وأم سلمة، وصف رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، ثم أمر عمر فنادى فيهم، قولوا: لا إله إلا الله، تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، ففعل عمر، فأبوا. فكان أول من رمى رجل منهم بسهم، فرمى المسلمون ساعة بالنبل، ثم أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أصحابه أن يحملوا، فحملوا، فما أفلت منهم إنسان، فقتل منهم عشرة وأسر سائرهم، وقتل من المسلمين رجل واحد.
وقال ابن عون: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فكتب: إنما كان ذلك في أول الإسلام، قد أغار رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم، فأصاب يومئذ -أحسبه قال: جويرية- وحدثني ابن عمر بذلك، وكان في ذلك الجيش. متفق عليه.
وقال إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة الرأي، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، سمع أبا سعيد يقول: غَزَوْنَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بني المصطلق فسبينا كرائم العرب، وطالت علينا العزبة، ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل، فسألنا رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:(1/445)
"لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون". متفق عليه، عن قتيبة عن إسماعيل.
تَزَوَّجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجويرية:
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا قَسَّمَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية في السهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه, فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهتها، وقلت: سيري منها مثل ما رأيت. فلما دَخَلْتُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الحَارِثِ سَيِّدِ قَوْمِهِ، وَقَدْ أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، وَقَدْ كَاتَبْتُ فَأَعِنِّي فَقَالَ: "أَوْ خَيْرٌ مِنْ ذلك أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك". فقالت: نعم. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ الناس أنه قد تزوجها، فقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فَأَرْسَلُوا مَا كَانَ فِي أَيْدِيْهِمْ مِنْ بَنِي المُصْطَلِقِ فَلَقَدْ أُعْتِقَ بِهَا مائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن حبان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، في قصة بني المصطلق: فبينا النبي صلى الله عليه وسلم مقيم هناك، إذ اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري أجير عمر، وسنان بن زيد. قال: فحدثني محمد بن يحيى أنهما ازدحما على الماء فاقتتلا، فقال سنان: يا معشر الأنصار وقال جهجاه: يا معشر المهاجرين وكان زيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبي، يعني: ابن سلول، فلما سمعها قال: قد ثاورونا في بلادنا والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، والله لئن رَجَعْنَا إِلَى المَدِيْنَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ. ثم أقبل على من عنده من قومه، فقال: هذا ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم فسمعها زيد، فذهب بِهَا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو غليم، وعنده عمر فأخبره الخبر فقال عمر: يا رسول الله مر عباد بن بشر فليضرب عنقه فقال: "كيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن ناد يا عمر في الرحيل". فلما بلغ ذلك ابن أبي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر، وحلف له بالله ما قال ذلك، وكان عند قومه بمكان. فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم عسى أن يكون هذا الغلام أوهم وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا في ساعة كان لا يروح فيها فلقيه أسيد بن حضير فسلم عليه بتحية النبوة ثم قال:(1/446)
والله لقد رحت في ساعة منكرة فقال: "أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي"؟. فقال: يا رسول الله فأنت والله العزيز وهو الذليل. ثم قال: يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه فإنه ليرى أن قد استلبته ملكا فسار رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ بقية يومه وليلته، حتى أصبحوا وحتى اشتد الضحى. ثم نزل بالناس بقية يومه وليلته، حتى أصبحوا وحتى اشتد الضحى. ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث، فلم يأمن الناس أن وجدوا مس الأرض فناموا. ونزلت سورة المنافقين.
وقال ابن عيينة: حدثنا عمرو بن دينار قال: سمعت جابرا يقول: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة". فقال عبد الله بن أبي بن سلول: أو قد فعلوها؟ والله لئن رَجَعْنَا إِلَى المَدِيْنَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ. قال: وكانت الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم ثم كثر المهاجرون بعد ذلك, فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه". متفق عليه1.
وقال عبيد الله بن موسى: أخبرنا إسرائيل، عن السدي عن أبي سعيد الأزدي، قال: حدثنا زيد بن أرقم قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وكان معنا ناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء وكانت الأعراب يسبقوننا, فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه، فأتى أنصاري فأرخى زمام ناقته لتشرب فمنعه فانتزع حجرا فغاض الماء, فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي فأخبره فغضب, وقال: لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى ينفضوا من حوله؛ يعني الأعراب وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منه الأذل. قال زيد: فسمعته فأخبرت عمي، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلف وجحد، فَصَدَّقَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذبني فجاء إليَّ عمي فقال: ما أردت أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك المسلمون. فوقع عليَّ من الغم ما لم يقع على أحد قط فبينا أن أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خفقت برأسي من الهم، إذ أَتَانِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعرك أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد أو الدنيا. ثم إن أبا بكر لحقني فقال: ما قال لَكِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
__________
1 صحيح: أخرجه الحميدي "1239"، والطيالسي "1708"، والبخاري "4905" و"4907"، ومسلم "2584" "63"، والترمذي "3315"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "977"، وأبو يعلى "1824"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "4/ 53-54" من طرق عن سفيان بن عيينة، به.(1/447)
قلت: ما قال لي شيئا. فقال أبشر فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين حتى بلغ منها: {الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] .
وقال إسرائيل، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ، قال: سمعت عبد الله بن أبي يقول لأصحابه: لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ حتى ينفضوا من حوله. وقال: لئن رَجَعْنَا إِلَى المَدِيْنَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ. فذكرت ذلك لعمي فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلفوا ما قالوا، فصدقهم وكذبني، فأصابني هم، فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] ، فأرسل إليَّ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأها عليَّ، وقال: "إن الله صدقك يا زيد". أخرجه البخاري1.
وقال أنس بن مالك: زيد بن أرقم هو الذي يقول لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا الذي أوفى الله له بأذنه". أخرجه البخاري، من حديث عبد الله بن الفضل عن أنس2.
وقال الأعمش، عن أبي سفيان عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قدم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب، فزعم أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بعثت هذه الريح لموت منافق". قال: فقدم المدينة فإذا منافق عظيم قد مات. أخرجه مسلم3.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قال: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق عمان سرحوا ظهرهم، وأخذتهم ريح شديدة، حتى أشفق الناس منها، وقيل: يا رسول الله ما شأن هذه الريح؟ فقال: "مات اليوم منافق عظيم النفاق، ولذلك عصفت الريح وليس عليكم منها بأس إن شاء الله". وذلك في قصة بني المصطلق.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، عن شيوخه الذين روى عنهم قصة بني المصطلق، قالوا:
فانصرف رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إذا كان ببقعاء من أرض الحجاز دون البقيع هبت ريح شديدة فخافها النَّاسَ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تخافوا فإنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفر". فوجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات يومئذ، وكان من بني قينقاع، وكان قد أظهر الإسلام وكان كهفا للمنافقين.
وحدثني عَاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ قَتَادَةَ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِيْنَةَ من بني المصطلق، أتاه
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4900" حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4906" من طريق موسى بن عقبة، قال حدثني عبد الله بن الفضل, به.
3 صحيح: أخرجه مسلم "2782" حدثني أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا حفص بن غياث, عن الأعمش, به.(1/448)
عبد الله بن عبد الله بن أبي، فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالده مني، ولكني أخشى أن تأمر به رجلا مسلما فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله يمشي في الأرض حيا حتى أقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل نحسن صحبته ونترفق به ما صحبنا". والله أعلم.
حديث الإفك: وكان في هذه الغزوة
قال سليمان بن حرب: حدثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَالنُّعْمَانِ بنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أراد سفرا أقرع بين نسائه. قالت: فأقرع بيننا في غزاة المُرَيْسِيْعِ، فَخَرَجَ سَهْمِي، فَهَلَكَ فيَّ مَنْ هَلَكَ.
وكذلك قال ابن إسحاق، والوقاد وغيرهما: أن حديث الإفك في غزوة المريسيع.
وروي عن عباد بن عبد الله، قال: قلت يا أماه حدثيني حديثك في غزوة المريسيع.
قرأت على أبي مُحَمَّدٍ عَبْدُ الخَالِقِ بنِ عَبْدِ السَّلاَمِ، بِبَعْلَبَكَّ، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم، قال: أخبرنا أبو الحسين عبد الحق اليوسفي، قال: أخبرنا أبو سعد بن خشيش، قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد، قال: أخبرنا ميمون بن إسحاق، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قالت: لقد تحدث بأمري في الإفك واستفيض فيه وما أشعر وَجَاءَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ أناس من أصحابه، فسألوا جارية لي سوداء كانت تخدمني، فقالوا: أخبرينا ما علمك بعائشة؟ فقالت: والله ما أعلم منها شيئا أعيب من أنها ترقد ضحى حتى إن الداجن داجن أهل البيت تأكل خميرها. فأداروها وسألوها حتى فطنت، فقالت: سبحان الله، والذي نفسي بيده ما أعلم على عائشة إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر. قالت: فكان هذا وما شعرت.
ثم قَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أَمَّا بَعْدُ، أَشِيْرُوا عليَّ فِي أُنَاسٍ أَبَنُوا 1 أَهْلِي، وَايمُ اللهِ إِنْ عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي مِنْ سُوْءٍ قَطُّ، وَأَبَنُوْهُمْ بِمَنْ وَاللهِ إِنْ علمت عليه سوء قط، ولا دخل على أهلي إلا وأنا شاهد، ولا غبت في سفر إلا غاب معي". فقال سعد بن معاذ: أرى يا رسول الله أن تضرب أعناقهم. فقال رجل من
__________
1 أبنوا: أي اتهموا.(1/449)
الخزرج, وكانت أم حسان من رهطه، وكان حسان من رهطه: والله ما صدقت، ولو كان من الأوس ما أشرت بهذا. فكاد يكون بين الأوس والخزرج شر في المسجد، ولا علمت بشيء منه، ولا ذكره لي ذاكر، حتى أمسيت من ذلك اليوم فخرجت في نسوة لحاجتنا، وخرجت معنا أم مسطح -بنت خالة أبي بكر- فإنا لنمشي ونحن عامدون لحاجتنا، عثرت أم مسطح فقالت: تعس مسطح. فقلت: أي أم، أتسبين ابنك؟ فلم تراجعني. فعادت ثم عثرت، فقالت: تعس مسطح. فقلت: أي أم, أتسبين ابنك صَاحِبِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فلم تراجعني. ثم عثرت الثالثة، فقالت: تعس مسطح. فقلت: أي أم, أتسبين ابنك صَاحِبِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: والله ما أسبه إلا من أجلك وفيك. فقلت: وفي أي شأني؟ قالت: وما علمت بما كان؟ فقلت: لا، وما الذي كان؟ قالت: أشهد أنك مبرأة مما قيل فيك ثم بقرت لي الحديث، فلأكر راجعة إلى البيت ما أجد مما خرجت له قليلا ولا كثيرا. وركبتني الحمى فحممت فدخل عليَّ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فسألني عن شأني، فقلت: أجدني موعوكة، ائذن لي أذهب إلى أبوي. فأذن لي، وأرسل معي الغلام، فقال: "امش معها". فجئت فوجدت أمي في البيت الأسفل ووجدت أبي يصلي في العلو فقلت لها: أي أمه، ما الذي سمعت؟ فإذا هي لم ينزل بها من حيث نزل مني, فقالت: أي بنية وما عليك، فما من امرأة لها ضرائر تكون جميلة يحبها زوجها إلا وهي يقال لها بعض ذلك. فقلت: وقد سمعه أبي؟ فقالت: نعم. فقلت: وسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكيت، فسمع أبي البكاء، فقال: ما شأنها؟ فقالت: سمعت الذي تحدث به. ففاضت عيناه يبكي, فقال: أي بنية، ارجعي إلى بيتك، فرجعت وأصبح أبواي عندي حتى إذا صليت العصر دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا بين أبوي، أحدهما عن يميني والآخر عن شمالي، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد يا عائشة إن كنت ظلمت أو أخطأت أو أسأت فتوبي وراجعي أمر الله واستغفري". فوعظني، وبالباب امرأة من الأنصار قد سلمت, فهي جالسة بباب البيت في الحجرة وأنا أقول: ألا تستحيي أن تذكر هذا, والمرأة تسمع, حتى إذا قضى كلامه قلت لأبي, وغمزته: ألا تكلمه؟ فقال: وما أقول له؟ والتفت إلى أمي فقلت: ألا تكلمينه؟ فقالت: وماذا أقول له؟ فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ثم قلت: أما بعد فوالله لئن قلت لكم: أن قد فعلت والله يشهد أني لبريئة ما فعلت لتقولن: قد باءت به على نفسها واعترفت به، ولئن قلت: لم أفعل والله يعلم أني لصادقة ما أنتم بمصدقي لقد دخل هذا في أنفسكم واستفاض فيكم، وما أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلاَّ قَوْلَ أَبِي يوسف العبد الصالح؛ وما أعرف يومئذ اسمه: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] .(1/450)
ونزل الوحي ساعة قضيت كلامي، فعرفت والله البشر فِي وَجْهِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أن يتكلم فمسح جبهته وجبينه ثم قال: أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله عذرك. وتلا القرآن. فكنت أشد ما كنت غضبا، فقال لي أبواي: قومي إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا إياكما ولكني أحمد الله الذي برأني. لقد سمعتم فما أنكرتم ولا جادلتم ولا خاصمتم.
فقال الرجل الذي قيل له ما قيل، حين بلغه نزول العذر: سبحان الله، فوالذي نفسي بيده ما كشفت قط كنف أنثى. وكان مسطح يتيما في حجر أبي بكر ينفق عليه, فحلف لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا. فأنزل الله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} إلى قوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النُّوْرُ: 22] ، فقال أبو بكر: بلى والله يا رب، إني أحب أن تغفر لي وفاضت عيناه فبكى رضي الله عنه1. وهذا عال حسن الإسناد، أخرجه البخاري تعليقا؛ فقال: وقال أبو أسامة، عن هشام بن عروة فذكره.
وقال الليث -واللفظ له- وابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ وَابْنُ المُسَيِّبِ وَعَلْقَمَةُ بنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ اللهِ عَنْ حَدِيْثِ عَائِشَةَ، حِيْنَ قَالَ لَهَا أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله؛ وكل حدثني بطائفة من الحديث، وَبَعْضُ حَدِيْثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضاً، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ. قَالَتْ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أن يخرج أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بها مَعَهُ. فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ سهمي فخرجت معه بعدما نزل الحجاب وأنا أحمل في هودجي وَأُنْزَلُ فِيْهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرغَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنَ المَدِيْنَةِ, آذَنَ لَيْلَةً بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل, فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جزع ظفار قد انقطع فالتمسته، وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي واحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وَهُمْ يَحْسَبُوْنَ أَنِّي فِيْهِ. وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافاً لَمْ يُثْقِلْهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ العلقة2 من الطعام، فلم يستنكروا خفة الهودج حِيْنَ رَفَعُوْهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيْثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعدما اسْتَمَرَّ الجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلاَ مُجِيْبٌ فَأَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيْهِ، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليَّ، فبينا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ. وَكَانَ صَفْوَانُ بن
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4141" من طرق عن عائشة، به في حديث طويل.
2 العلقة: البلغة من الطعام.(1/451)
المُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الجَيْشِ. فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِيْنَ عَرَفْتُ، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَاللهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً وَلاَ سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ. فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا فَرَكِبْتُهَا، فَاْنَطَلَق يَقُوْدُ بِيَ الرَّاحِلَةَ حَتَّى أتينا الجيش بعدما نَزَلُوا مُوْغِرِيْنَ فِي نَحْرِ الظَّهِيْرَةِ, فَهَلَكَ مَنْ هلك. وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول. فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شَهْراً، وَالنَّاسُ يُفِيْضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني فِي وَجَعِي أَنِّي لاَ أَعْرِفُ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِيْنَ أَشْتَكِي. إِنَّمَا يَدْخُلُ عليَّ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُوْلُ: "كَيْفَ تِيْكُمْ"؟. ثُمَّ يَنْصَرِفُ. فَذَلِكَ الَّذِي يُرِيْبُنِي وَلاَ أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حتى خرجت يوما بعدما نَقِهْتُ. فَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ؛ وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا؛ وَكُنَّا لاَ نَخْرُجُ إِلاَّ لَيْلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكُنُفُ قَرِيْباً مِنْ بُيُوْتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ العَرَبِ الأول في التبرز قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوْتِنَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وهي ابنة أَبِي رُهْمٍ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بنُ أُثَاثَةَ بنِ المُطَّلِبِ، فَأَقْبَلْتُ أنا وأم مسطح قِبَلَ بَيْتِي، قَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أم مسطح في مرطها فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّيْنَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْراً؟ قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهُ، أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وماذا؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك. فَازْدَدْتُ مَرَضاً عَلَى مَرَضِي فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي وَدَخَلَ عليَّ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: "كَيْفَ تِيْكُمْ"؟. فَقُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟ وَأَنَا أُرِيْدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الخَبَرَ مِنْ قِبَلِهَمَا، فَأَذِنَ لي، فجئت أبوي فقلت لأمي: يَا أُمَّتَاهُ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عليكِ، فَوَاللهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قط وَضِيْئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ، إِلاَّ كثرن عليها. فقلت: سبحان الله، ولقد تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ فَبَكَيْتُ اللَّيْلَةَ حَتَّى لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ, ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي.
فَدَعَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ حِيْنَ اسْتَلْبَثَ الوَحْيُ يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ. فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لهم في نفسه من الود، فقال أسامة: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَهْلُكَ وَلاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خيرا. وأما عليٌّ فقال: يا رسول الله لَمْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيْرٌ، واسأل الجارية تصدقك. قالت: فَدَعَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيْرَةَ فَقَالَ: "أَيْ بَرِيْرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيْبُكِ"؟. قَالَتْ: لاَ, وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْراً أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيْثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله. فَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، فقال(1/452)
وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ: "يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِيْنَ مَنْ يعذرني من رجل قد بلغنا أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي؟ فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ في أَهْلِي إِلاَّ خَيْراً، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْراً، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ مَعِي". فَقَامَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وإن كان من إخواننا الخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ فَقَامَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الخَزْرَجِ -وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً صَالِحاً- وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الحمية، فقال: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ لاَ تَقْتُلُهُ وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ فَقَامَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنَافِقِيْنَ، فَتَثَاوَرَ الحَيَّانِ: الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ، حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى المِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ يَخْفِضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ.
قَالَتْ: فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ وَلَيْلَتِي لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي، وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْماً لاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلاَ يَرْقَأُ لِي دمع، حتى يظنان أَنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي. فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي، اسْتَأْذَنَتْ عليَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأنصار فجلست تبكي معي.
فبينا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم ثم جَلَسَ، وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيْلَ لِي ما قيل وقد لَبِثَ شَهْراً لاَ يُوْحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شيء. قالت: فتشهد حين جلس ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ! فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيْئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوْبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ". قالت: فلما قَضَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتْهُ، قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً, فَقُلْتُ لأَبِي: أَجِبْ رَسُوْلَ اللهِ فِيْمَا قَالَ. قَالَ: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُوْلُ له؟ فقلت لأمي: أجيبي رسول الله. قالت: ما أدري ما أقول له؟ فَقُلْتُ وَأَنَا يَوْمئذٍ حَدِيْثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ كَثِيْراً مِنَ القُرْآنِ: إِنِّي وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الحَدِيْثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيْئَةٌ، وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيْئَةٌ، لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللهُ يَعْلَمُ أني بريئة لتصدقني، والله ما أجد لكم مَثَلاً إِلاَّ قَوْلَ أَبِي يُوْسَفَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يُوْسُفُ: 18] ، ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي بريئة وأن الله يبرئني ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل فِي شَأْنِي وَحْياً يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ فِي نَفْسِي أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ فيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللهُ بِهَا قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا قَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ حتى أنزل عليه، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الجُمَانِ مِنَ العَرَقِ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شاتٍ مِنْ ثِقَلِ القَوْلِ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ كَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ(1/453)
بِهَا: يَا عَائِشَةُ أَمَا وَاللهِ لَقَدْ بَرَّأَكِ اللهُ. فَقَالَتْ أُمِّي: قُوْمِي إِلَيْهِ. فَقُلْتُ: وَاللهِ لاَ أَقُوْمُ إِلَيْهِ، وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللهَ. وأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النُّوْرُ: 11] ، العَشْرُ الآيَاتُ كُلُّهَا.
فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ هَذَا فِي بَرَاءتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ وَفَقْرِهِ: وَاللهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئاً أبدا بعد الذي قال لعائشة. فأنزل الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] ، قال أبو بكر: بَلَى وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي. فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللهِ لاَ أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَداً. قَالَتْ: وَكَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنِ أَمْرِي، فَقَالَتْ: أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي مَا عَلِمْتُ إِلاَّ خَيْراً، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِيْنِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَصَمَهَا اللهُ بِالوَرَعِ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك. متفق عليه من حديث يونس الأيلي.
وقال أبو معشر: حَدَّثَنِي أَفْلَحُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ المُغِيْرَةِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الوَلِيْدِ بنِ عبد الملك فذكر الحديث بطوله عن الأربعة عن عائشة، فقال الوليد: وما ذاك؟ قَالَ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا غزوة بني المصطلق فساهم بين نسائه، فخرج سهمي وسهم أم سلمة.
وقال عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الوَلِيْدِ بن عبد الملك فقال: الذي تولى كبره منهم عليٌّ. فَقُلْتُ: لاَ, حَدَّثَنِي سَعِيْدٌ، وَعُرْوَةُ, وَعَلْقَمَةُ، وعبيد الله كلهم سمع عائشة تقول: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ. فَقَالَ لِي: فَمَا كَانَ جُرْمُهُ؟ قُلْتُ: سُبْحَانَ الله, أخبرني رجلان من قومك: أبو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ بنِ هشام أَنَّهُمَا سَمِعَا عَائِشَةَ تَقُوْلُ: كَانَ مُسِيْئاً فِي أمري. أخرجه البخاري.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا تَلاَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القِصَّةَ التي نزل بِهَا عُذْرِي عَلَى النَّاسِ، نَزَلَ, فَأَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ مِمَّنْ كَانَ تَكَلَّمَ بِالفَاحِشَةِ فِي عَائِشَةَ, فُجُلِدُوا الحَدَّ. قَالَ: وَكَانَ رَمَاهَا ابْنُ أُبَيٍّ، ومسطح، وحسان, وحمنة بنت جحش.
وقال شعبة، عن سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي الضُّحَى, عَنْ مَسْرُوْقٍ، قَالَ: دَخَلَ حسان بن ثابت على عائشة -رضي الله عنها- فشبب بأبيات له:(1/454)
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيْبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى من لحوم الغوافل
قالت: لستَ كذلك. قلت: تَدَعِيْنَ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ أَنْزَلَ الله -عز وجل: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النُّوْرُ: 11] ، قَالَتْ: وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ العَمَى؟ وقالت: كَانَ يَرُدُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم1. متفق عليه.
وقال يونس، عن ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ التَّيْمِيُّ، قال: وكان صَفْوَانُ بنُ المُعَطَّلِ قَدْ كَثَّرَ عَلَيْهِ حَسَّانٌ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ, وَقَالَ يعرِّض بِهِ:
أَمْسَى الجَلاَبِيْبُ قَدْ عَزُّوا وَقَدْ كَثُرُوا ... وَابْنُ الفُرَيْعَةِ أَمْسَى بَيْضَةَ البَلَدِ
فَاعْتَرَضَهُ صَفْوَانُ لَيْلَةً وَهُوَ آتٍ مِنْ عِنْدِ أَخْوَالِهِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَضَرَبَهُ بالسيف على رأسه، فيعدو عَلَيْهِ ثَابِتَ بنَ قَيْسٍ، فَجَمَعَ يَدَيْهِ إِلَى عنقه بحبل أسود, وقاده إلى دار بني حارثة، فلقيه عبد الله بن رَوَاحَةَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: مَا أَعْجَبَكَ! عَدَا عَلَى حَسَّانٍ بِالسَّيْفِ فَوَاللهِ مَا أُرَاهُ إِلاَّ قَدْ قَتَلَهُ. فَقَالَ: هَلْ عَلِمَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا صَنَعْتَ بِهِ؟ فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدِ اجْتَرَأْتَ، خل سبيله فسنغدوا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنعلمه أمره فخل سَبِيْلَهُ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: "أَينَ ابْنُ المُعَطَّلِ"؟. فَقَامَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: هَا أنذا يَا رَسُوْلَ اللهِ، فَقَالَ: "مَا دَعَاكَ إِلَى ما صنعت"؟. قال: آذاني وكثَّر عليَّ وَلَمْ يَرْضَ حَتَّى عرَّض بِي في الهجاء، فاحتملني الغضب، وها أنذا، فَمَا كَانَ عليَّ مِنْ حَقٍّ فَخُذْنِي بِهِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعوا لي حسان". فأتي به؛ فقال: "يا حَسَّانُ! أَتَشَوَّهْتَ عَلَى قَوْمِي أَنْ هَدَاهُمُ اللهُ لِلإِسْلاَمِ". يَقُوْلُ: تَنَفَّسْتَ عَلَيْهِم يَا حَسَّانُ! "أَحْسِنْ فيما أصابك". فقال: هي لك يا رسول الله! فأعطاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِيْرِيْنَ القُبْطِيَّةَ. فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَأَعْطَاهُ أَرْضاً كَانَتْ لأَبِي طلحة تصدق بها عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحدثني يعقوب بن عتبة، أن صفوان بن المعطل قال حين ضرب حسان:
تلق ذباب السيف عنك فإنني ... غلام إذا هوجيت لست بشاعر
وقال حسان لعائشة -رضي الله عنها:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4146"، ومسلم "2488" حدثني بشر بن خالد، أخبرنا محمد بن جعفر، عن شعبة، به.
وأخرجه البخاري "4756"، ومسلم "2488" من طريق ابن أبي عدي، أنبأنا شعبة، به.
وأخرجه البخاري "4755" من طريق سفيان، عن الأعمش، به.(1/455)
رَأَيْتُكِ وَلْيَغْفِرْ لَكِ اللهُ حُرَّةً ... مِنَ المُحْصَنَاتِ غَيْرِ ذَاتِ غَوَائِلِ
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيْبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُوْمِ الغَوَافِلِ
وَإِنَّ الَّذِي قَدْ قِيْلَ لَيْسَ بِلائِقٍ ... بِكِ الدَّهْرَ بَلْ قِيْلُ امْرِئٍ مُتَمَاحِلِ
فَإِنْ كُنْتُ أَهْجُوْكُمْ كَمَا بَلَّغُوْكُمُ ... فَلاَ رَفَعَتْ سَوطِي إِلَيَّ أَنَامِلِي
فكيف وُوُدِّي مَا حَيِيْتُ وُنُصْرَتِي ... لآلِ رَسُوْلِ اللهِ زَيْنِ المَحَافِلِ
وَإِنَّ لَهُمْ عِزّاً يُرَى النَّاسُ دونه ... قصارا وطال العز كل التطاول
منها:
عَقِيْلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بنِ غَالِبٍ ... كِرَامِ المَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللهُ خِيْمَهَا ... وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ سُوْءٍ وَبَاطِلِ
استشهد صفوان في وقعة أرمينية سنة تسع عشرة. قاله ابن إسحاق.
وعن عائشة قالت: لقد سألوا عن ابن المعطل فوجدوه حصورا ما يأتي النساء. ثم قتل بعد ذلك شهيدا.(1/456)
غزوة الخندق:
قال الواقدي: وهي غزوة الأحزاب، وكانت في ذي القعدة.
قالوا: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر، وخرج نفر من وجوههم إلى مكة فألبوا قريشا ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم على قتاله، وواعدوهم لذلك وقتا. ثم أتوا غطفان وسليما, فدعوهم إلى ذلك, فوافقوهم.
وتجهزت قريش وجمعوا عبيدهم وأتباعهم، فكانوا في أربعة آلاف، وقادوا معهم نحو ثلاثمائة فرس من سوى الإبل. وخرجوا وعليهم أبو سفيان بن حرب، فوافتهم بنو سليم بمر الظهران، وهم سبعمائة وتلقتهم بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد الأسدي، وخرجت فزارة وهم في ألف بعير يقودهم عيينة بن حصن، وخرجت أشجع وهم أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف, وقيل: إنه رجع ببني مرة، والأول أثبت، فكان جميع الأحزاب عشرة آلاف وأمر الكل إلى أبي سفيان وكان المسلمون في ثلاثة آلاف. هذا كلام الواقدي.
وأما ابن إسحاق فقال: كانت غزوة الخندق في شوال.
قال: وكان من حديثها أن سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع، وهوذة في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قدموا مكة فدعوا قريشا إلى القتال، وقالوا: إنا نكون معكم حتى نستأصل محمدا. فقالت قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل كتاب وعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد, أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق. وفيهم نزل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] الآيات، فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا إلى الحرب واتعدوا لهم. ثم خرج أولئك النفر اليهود حتى جاءوا غطفان، فدعوهم فوافقوهم.
فخرجت قريش، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة في بني فزارة، والحارث بن عوف المري في قومه، ومسعود بن زحلية فين تابعه من قومه أشجع. فلما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم حفر الخندق على المدينة وعمل فيه بيده، وأبطأ عن المسلمين في عمله رجال منافقون، وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه. وكان في حفره أحاديث بلغتني، منها: بلغني أن جابرا كان يحدث أنهم اشتدت عليهم كدية فشكوها إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله، ثم نضح الماء على الكدية حتى عادت كثيبا.
وحدثني سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله قال: عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق فكانت عندي شُويهة، فقلت: والله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت امرأتي فطحنت لنا شيئا من شعير، فصنعت لنا منه خبزا، وذبحت تلك الشاة فشويناها، فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف، وكنا نعمل في الخندق نهارا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا، فقلت: يا رسول الله إني قد صنعت كذا وكذا، وأحب أن تنصرف معي، وإنما أريد أن ينصرف معي وحده فلما قلت له ذلك قال: "نعم". ثم أمر صارخا فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأقبل وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه، فبرك وسمى، ثم أكل وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها.
وحدثني سعيد بن ميناء, أنه حدث أن ابنة لبشير بن سعد قالت: دعتني أمي عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بغدائهما. فانطلقت بها فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبي وخالي، فقال: ما هذا معك؟ قلت: تمر بعثت به أمي إلى أبي وخالي، قال: هاتيه فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده:(1/457)
"اصرخ في أهل الخندق أن هلموا إلى الغداء". فاجتمعوا فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
وحدثني من لا أتهم، عن أبي هريرة، أنه كان يقول حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر وعثمان وما بعده: افتحوا ما بدا لكم، والذي نفسي بيده، أو نفس أبي هريرة بيده، ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
وقال: وحدثت عن سلمان الفارسي، قال: ضربت في ناحية من الخندق فغلظت عليَّ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني، فلما رآني أضرب, نزل وأخذ المعول فضرب به ضربة فلمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب أخرى فلمعت تحته أخرى, ثم ضرب الثالثة فلمعت أخرى. قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا؟ قال: "أو قد رأيت"؟. قلت: نعم. قال: أما الأولى، فإن الله فتح عليَّ بها اليمن، وأما الثانية، فإن الله فتح عليَّ بها الشام والمغرب، وأما الثالثة, فإن الله فتح عليَّ بها المشرق".
قال ابن إسحاق: ولما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول من دومة بين الجرف وزغابة في عشر آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة وغطفان، فنزلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد بذنب تعمر إلى جانب أحد. وَخَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالمُسْلِمُوْنَ حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف، فعسكروا هنالك، والخندق بينه وبين القوم, فذهب حيي بن أخطب إلى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم وقد كان وادع رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قومه، فلما سمع كعب بحيي أغلق دونه الحصن فأبى أن يفتح له, فناداه: يا كعب افتح لي. قال: إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا, فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. قال: ويحك افتح لي أكلمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: والله إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك أن آكل معك منها. فأحفظه, ففتح له, فقال: ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة، وبغطفان على قادتها وسادتها فأنزلتهم بذنب تعمر إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه. قال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام1 قد هراق ماءه
__________
1 الجهام، بالفتح: السحاب الذي لا ماء فيه، وقيل: الذي قد هراق ماءه مع الريح.(1/458)
برعد وبرق ليس فيه شيء، يا حيي فدعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء.
فلم يزل حيي بكعب حتى سمح له بأن أعطاه عهدا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب عهده وبرئ مما كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما انتهى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، سيدا الأنصار، ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير، فقال: "انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس". فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان فيه حدة، فقال له ابن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه، وقالوا: عَضل والقَارة، أي كغدر عَضل والقارة بأصحاب الرجيع خُبيب وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين". فعظم عند ذلك الخوف.
قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11] .
وتكلم المنافقون حتى قال معتب بن قُشير أحد بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. فَأَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقام عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصار.
ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما، فجرى بينه وبينهما صلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك.
فلما أَرَادَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يفعل، بعث إلى السعدين فاستشارهما، فقالا: يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا منه، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم. فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا(1/459)
بك نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال: فأنت وذاك. فأخذ سعد الصحيفة فمحاها، ثم قال: ليجهدوا علينا.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحزاب، فلم يكن بينهم قتال إلا فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد ود، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، وضرار بن الخطاب، تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم، حتى مروا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيئوا للقتال يا بني كنانة فستعلمون من الفرسان اليوم، ثم أقبلوا تُعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، قال: فتيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيلهم، فاقتحمت منه بهم في السبخة بين الخندق وسلع.
وخرج علي -رضي الله عنه- في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة، فأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه، فلما وقف هو وخيله، قال: من يبارزني؟ فبرز له علي -رضي الله عنه- فقال: يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتهما منه. قال له: أجل. قال: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فإني أدعوك إلى النزال. قال له: لم يا ابن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك. قال علي -كرم الله وجهه: لكني والله أحب أن أقتلك. فحمي عمرو واقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا، فقتله علي -رضي الله عنه- وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق.
وألقى عكرمة يومئذ رمحه وانهزم وقال علي -رضي الله عنه- في ذلك:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه ... ونصرت دين محمد بضراب
نازلته فتركته متجدلا ... كالجذع بين دكادك وروابي
لا تحسبن الله خاذل دينه ... ونبيه يا معشر الأحزاب
وحدثني أَبُو لَيْلَى عَبْدُ اللهِ بنِ سَهْلٍ، أَنَّ عائشة -رضي الله عنها- كَانَتْ فِي حِصْنِ بَنِي حَارِثَةَ يَوْمَ الخَنْدَقِ، وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن، فمر سعد وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها، وفي يده حربة يرفل با وَيَقُوْلُ:
لَبِّثْ قَلِيْلاً يَشْهدِ الهَيْجَا حَمَلْ ... لاَ بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت له أمه: الحق أي بني فقد أخرت. قالت عائشة: فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ سَعْدٍ لَوَدِدْتُ أَنَّ(1/460)
دِرْعَ سَعْدٍ كَانَتْ أَسْبَغَ مِمَّا هِيَ. فُرُمِيَ سعد بسهم قطع منه الأكحل، ورماه ابْنُ العَرِقَةِ فَلَمَّا أَصَابَهُ قَالَ: خُذْهَا مِنِّي وأنا ابن العرقة. فقال له سعد: عَرَّقَ اللهُ وَجْهَكَ فِي النَّارِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئاً فَأَبْقِنِي لَهَا فَإِنَّهُ لاَ قَوْمَ أَحَبُّ إليَّ مِنْ أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا رسولك وَكَذَّبُوْهُ وَأَخْرَجُوْهُ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الحَرْبَ بينهم وبيننا فاجعله لِي شِهَادَةً وَلاَ تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي من بني قريظة.
وكانت صفية بنت عبد المطلب في فارع -حصن حسان بن ثابت- وكان معها فيه مع النساء والولدان، قالت: فمر بنا يهودي فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة ونقضت وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، والنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا. فقالت: يا حسان! إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن, وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فانزل إليه فاقتله. فقال: غفر الله لك يا ابنة عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ونزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته. فلما فرغت رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل قال: ما لي بسلبه من حاجة.
وأقام رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فيما وصف الله تعالى من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
وروى نحوه يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيه.
ثم إن نعيم بن مسعود الغطفاني أُتِيَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم، وقال: إن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت يا رسول الله. قال: "إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة".
فأتى قريظة -وكان نديما لهم في الجاهلية- فقال لهم: قد عرفتم ودي إياكم. قالوا: صدقت. قال: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم وبه أموالكم وأولادكم ونساؤكم، لا تقدروا أن تتحولوا عنه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمد وأصحابه, وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه. فقالوا: لقد أشرت بالرأي.(1/461)
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليَّ حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموه عليَّ. قالوا: نفعل. قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم، فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم فأرسل إليهم: نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا منكم من رجالكم فلا تفعلوا.
ثم خرج فأتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليَّ، ولا أراكم تتهموني. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم. قال: فاكتموا عني. قالوا: نفعل.
ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال، وكان من صنع الله لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان، إلى بني قريظة، عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان, فقالوا: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا. فأرسلوا إليهم الجواب أن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان بعضنا أحدث فيه حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك.
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله لقد حدثكم نعيم بن مسعود بحق. فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله ما ندفع إليكم رجلا من رجالنا, فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلون، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم. فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. فأبوا عليهم. وخذل الله بينهم.
فلما أنهي ذلك إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دعا حذيفة بن اليمان فبعثه ليلا لينظر ما فعل القوم.
قال: فحدثني يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة: يا أبا عبد الله! رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم يابن أخي.(1/462)
قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد. فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا. فقال: يابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى هويا من الليل، ثم التفت إلينا, فقال: "من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع" -يشرط لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجعة- "أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة". فما قام أحد من شدة الخوف وشدة الجوع والبرد فلما لم يقم أحد دعاني فلم يكن لي من القيام بد حين دعاني. فقال: "يا حذيفة اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يفعلون ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا". فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا يقر لهم قرار ولا نار ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش! لينظر امرؤ من جليسه. قال حذيفة -رضي الله عنه: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت، فقال: فلا بن فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش! إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل. ثم قام إلى جملة وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم. ولولا عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لا تحدث شيئا حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم.
قال: فرجعتُ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مراحل -وهو ضرب من وشي اليمن فسره ابن هشام- فلما رآني أدخلني إلى رجليه وطرح عليَّ طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
قال الله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] .
وهذا كله من رواية البكائي عن محمد بن إسحاق.
وقال يونس بن بكير، عَنْ هِشَامِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، أن رجلا قال لحذيفة: صحبتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركتموه. فذكر الحديث نحو حديث محمد بن كعب، وفي آخره:
فجعلت أخبر رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ أبي سفيان، فجعل يضحك حتى جعلت أنظر إلى أنيابه.
وقال موسى بن عقبة، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتل يوم بدر في رمضان سنة اثنين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق، وهو يوم الأحزاب وبني(1/463)
قريظة، في شوال سنة أربع. وكذا قال عروة في حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه. كذا قالا: سنة أربع, وقالا: في قصة الخندق إنها كانت بعد أحد بسنتين.
وقال قتادة من رواية شيبان عنه: كان يوم الأحزاب بعد أحد بسنتين، فهذا هو المقطوع به وقول موسى وعروة إنها في سنة أربع وهم بين، ويشبهه قول عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "عرضني رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أحد، وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني. فلما كان يوم الخندق عرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني". فيحمل قوله على أنه كان قد شرع في أربع عشرة سنة، وأنه يوم الخندق كان قد استكمل خمس عشرة سنة، وزاد عليها فلم يعد تلك الزيادة. والعرب تفعل هذا في عددها وتواريخها وأعمارها كثيرا، فتارة يعتدون بالكسر ويعدونه سنة، وتارة يسقطونه. وذهب بعض العلماء إلى ظاهر هذا الحديث وعضدوه بقول موسى بن عقبة وعروة أن الأحزاب في شوال سنة أربع، وذلك مخالف لقول الجماعة, ولما اعترف به موسى وعروة من أن بين أحد والخندق سنتين، والله أعلم.
وقال أبو إسحاق الفزاري، عن حميد، عن أنس، قَالَ: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في غداة باردة إلى الخندق، والمهاجرون والأنصار يحفرون الخندق بأيديهم، ولم يكن لهم عبيد: فلما رأى ما بهم من الجوع والنصب قال:
اللهم إن العيش عيش الآخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
أخرجه البخاري1. ولمسلم نحوه من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت.
وقال عَبْدُ الوَارِثِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ نحوه، وزاد, قال: ويؤتون بمثل حفنتين شعيرا يصنع لهم بإهالة سنخة وهي بشعة في الحلق، ولها ريح منكرة فتوضع بين يدي القوم. أخرجه البخاري2.
وقال شعبة وغيره: حدثنا أبو إسحاق، سمع البراء يَقُوْلُ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ينقل معنا التراب يوم الأحزاب، وقد وارى التراب بياض إبطه وهو يقول:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4099" حدثنا عبد الله بن محمد، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عن حميد، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4100" حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، به.(1/464)
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألي قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
رفع بها صوته. أخرجه البخاري1.
وعنده أيضا من وجه آخر: ويمد بها صوته.
وقال عبد الواحد بن أيمن المخزومي، عن أبيه، سمع جابرا يقول: كنا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كدانة -وهي الجبل- فقلنا: يا رسول الله: إن كدانة قد عرضت. فقال: "رشوا عليها". ثم قام فأتاها وبطنه معصوب بحجر من الجوع، فأخذ المعول أو المسحاة فسمى ثلاثا ثم ضرب، فعادت كثيبا أهيل، فقلت له: ائذن لي يا رسول الله إلى المنزل، ففعل، فقلت للمرأة: هل عندك من شيء؟ وذكر نحو ما تقدم وما سقناه من مغازي ابن إسحاق. أخرجه البخاري2.
وقال هوذة بن خليفة: حدثنا عوف الاعرابي، عن ميمون بن أستاذ الزهراني، قال: حدثني البراء بن عازب، قال: لما كان حين أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفر الخندق، عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة لا تأخذ فيها المعاول، فشكوا ذلك إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما رآها أخذ المعول وقال: "بسم الله". وضرب ضربة فكسر ثلثها. فقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام, والله إني لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله". ثم ضرب الثانية وقطع ثلثا آخر فقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض". ثم ضرب الثالثة فقال: "بسم الله"، فقطع بقية الحجر فقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة".
وقال الثوري: حدثنا ابن المنكدر، سمعت جابرا يَقُوْلُ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الأحزاب: "من يأتينا بخبر القوم"؟. فقال الزبير: أنا. فقال: "من يأتينا بخبر القوم"؟. فقال الزبير: أنا. فقال: "إن لكل نبي حواريا وحواريي الزبير". أخرجه البخاري3.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4104" حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة, به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4101" حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عبد الواحد بن أيمن، به.
3 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 314 و365"، وابن أبي شيبة "12/ 92"، والبخاري "2846" و"2847" و"2997" و"7261" و"4113"، ومسلم "2415"، والترمذي "3745", والنسائي في "الفضائل" "107"و "108"، وابن ماجه "122"، والبيهقي في "الدلائل" "3/ 431" من طرق عن محمد بن المنكدر، به.(1/465)
وقال الحسن بن الحسن بن عطية العوفي: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] ، قال: كان ذلك يوم أبي سفيان؛ يوم الأحزاب.
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] ، قال: هم بنو حارثة، قالوا: بيوتنا مخلية نخشى عليها السرق.
قوله: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} [الأحزاب: 22] ، قال: لأن الله قال لهم في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214] ، فلما مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق، تأول المؤمنون ذلك، ولم يزدهم إلا إيمانا وتسليما.
وقال حماد بن سلمة: أخبرنا حجاج، عَنِ الحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أن رجلا من المشركين قتل يوم الأحزاب، فبعث المشركون إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن ابعث إلينا بجسده ونعطيهم اثني عشر ألفا. فقال: "لا خير في جسده ولا في ثمنه".
وقال الأصمعي: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، قال: ضرب الزبير بن العوام يَوْمَ الخَنْدَقِ عُثْمَانَ بنَ عَبْدِ اللهِ بنِ المغيرة بالسيف على مغفره فقدَّه إِلَى القَرَبُوسِ1, فَقَالُوا: مَا أَجْوَدَ سَيْفَكَ، فَغَضِبَ, يريد أن العمل ليده لا لسيفه.
قال شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كان يوم الأحزاب قاعدا على فرضة من فرض الخندق، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شَغَلُوْنَا عَنِ الصَّلاَةِ الوسطى حتى غربت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا -أو- بطونهم". أخرجه مسلم2.
__________
1 القربوس: حنو السرج، وللسرج قربوسان، أما القربوس المقدم ففيه العضدان، وهما رجلا السرج، ويقال لهما: حنواه. والقربوس الآخر فيه رجلا المؤخرة، وهما حنواه.
2 صحيح: أخرجه مسلم "627" "204"، والطبري في "تفسيره" "5425"، وأبو يعلى "388" من طريق شعبة، به. وأخرجه أحمد "1/ 122"، والبخاري "2931" و"4111" و"4533" و"6396"، ومسلم "627"، وأبو داود "409"، والدارمي "1/ 280"، والبغوي في "شرح السنة" "388" من طريق هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن عليٍّ، به.(1/466)
وقال يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عن جابر، أن عمر يوم الخندق بعدما غربت الشمس جعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله! ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا والله ما صليتها بعد". فنزلت مع رسول الله -أحسبه قال: إلى بطحان- فتوضأ للصلاة وتوضأنا، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى المغرب. متفق عليه.
وقال جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: كنا عند حذيفة بن اليمان، فقال رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلت معه وأبليت. فقال: أنت كنت تفعل ذاك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة"؟. فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله. ثم قال: "يا حذيفة قم فأتنا بخبر القوم". فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم. فقال: "ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليَّ". قال: فمضيت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم, فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار فوضعت سهمي في كبد قوسي وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تذعرهم عليَّ". ولو رميته لأصبته قال: فرجعت كأنما أمشي في حمام فَأَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أصابني البرد حين فرغت وقررت، فَأَخْبَرْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى الصبح، فلما أن أصبحت قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قم يا نومان". أخرجه مسلم1.
وقال أبو نعيم: حدثنا يوسف بن عبد الله بن أبي بردة عن موسى بن أبي المختار، عن بلال العبسي، عن حذيفة: أن الناس تَفَرَّقُوا عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الأحزاب، فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، فَأَتَانِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جاث من البرد، فقال: "انطلق إلى عسكر الأحزاب". فقلت: والذي بعثك بالحق ما قمت إليك من البرد إلا حياء منك. قال: "فانطلق يابن اليمان فلا بأس عليك من حر ولا برد حتى ترجع إليَّ". فانطلقت إلى عسكرهم، فوجدت أبا سفيان يوقد النار في عصبة حوله، قد تفرق الأحزاب عنه، حتى إذا جلست فيهم، حس
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1788"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 354"، والبيهقي في "السنن" "9/ 148-149"، وفي "الدلائل" "3/ 449-450" من طريق جرير، به.(1/467)
أبو سفيان أنه دخل فيهم من غيرهم، فقال: يأخذ كل رجل منكم بيد جليسه. قال: فضربت بيدي على الذي عن يميني فأخذت بيده، ثم ضربت بيدي إلى الذي عن يساري فأخذت بيده. فكنت فيهم هنية ثم قمت فَأَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو قائم يصلي، فأومأ إليَّ بيده أن: ادن. فدنوت ثم أومأ إليَّ فدنوت حتى أسبل عليَّ من الثوب الذي عليه وهو يصلي فلما فرغ قال: ما الخبر؟ قلت: تفرق الناس عن أبي سفيان، فلم يبق إلا في عصبة يوقد النار، قد صب الله عليه من البرد مثل الذي صب علينا, ولكنا نرجو من الله ما لا يرجو.
وقال عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبيد الحنفي، عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة، قال: ذكر حذيفة مشاهدهم، فقال جلساؤه: أما والله لو كنا شهدنا ذلك لفعلنا وفعلنا. فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك، فلقد رأيتنا ليلة الأحزاب. وساق الحديث مطولا.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: حدثنا ابن أبي أوفى، قال: دَعَا رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم" 1. متفق عليه.
وقال الليث: حدثني المقبري عَنْ أَبِيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: "لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده لا شيء بعده". متفق عليه2.
وقال إسرائيل وغيره عن أبي إسحاق، عن سُلَيْمَان بن صُرَد، قَالَ: قَالَ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حين أجلى عنه الأحزاب: "الآن نغزوهم ولا يغزونا؛ نسير إليهم". أخرجه البخاري3.
__________
1 صحيح: أخرجه الحميدي "719"، وأحمد "4/ 353", والبخاري "2933" و"4115" و"6392" و"7489"، ومسلم "1742"، والترمذي "1678"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"، "602"، وابن ماجه "2796"، والبغوي "1353" من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4114"، ومسلم "2724"، وأحمد "2/ 307 و341 و494" من طرق عن الليث به.
قوله: "وغلب الأحزاب وحده": أي قبائل الكفار, المتحزبين عليه وحده. أي من غير قتال الآدميين بل أرسل عليهم ريحا وجنودا لم تروها.
وقوله "فلا شيء بعده": أي سواه.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4110" حدثني عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ آدم، حدثنا إسرائيل، به.(1/468)
وقال خارجة بن مصعب، عَنِ الكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة: 7] ، قال: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين، وصار معاوية خال المؤمنين. كذا روى الكلبي وهو متروك.
وذهب العلماء في أمهات المؤمنين أن هذا حكم مختص بهن ولا يتعدى التحريم إلى بناتهن ولا إلى إخوتهن ولا أخواتهن.
واستشهد يوم الأحزاب:
عبد الله بن سهل بن رافع الأشهلي، تفرد ابن هشام بأنه شهد بدرا.
وأنس بن أوس بن عتيك الأشهلي، والطفيل بن النعمان بن خنساء، وثعلبة بن عنمة؛ كلاهما من بني جشم بن الخزرج.
وكعب بن زيد أحد بني النجار، أصابه سهم غرب، وقد شهد هؤلاء الثلاثة بدرا.
ذكر ابن إسحاق أن هؤلاء الخمسة قتلوا يوم الأحزاب.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قال: قتل من المشركين يوم الخندق: نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي؛ أقبل على فرس له ليوثبه الخندق، فوقع في الخندق فقتله الله، وكبر ذلك على المشركين وأرسلوا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه. فرد إليهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ خبيث الدية لعنه الله ولعن ديته ولا نمنعكم أن تدفنوه، ولا أرب لنا في ديته".(1/469)
غزوة بني قريظة:
وكانوا قد ظاهروا قريشا وأعانوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيهم نزلت: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 26، 27] .
قال هشام, عن أبيه، عن عاشة, قالت: لَمَّا رَجَعَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل وقال: وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه، اخرج إليهم. قال: "فأين"؟. قال: ههنا. وأشار إلى بني قريظة. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه1.
وقال حميد بن هلال، عن أنس: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا من سكة بني غنم، موكب جبريل حين سار إلى بني قريظة. البخاري2.
وقال جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: نادى فِيْنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ انصرف من الأحزاب أن: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة". فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون قريظة. وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ فاتنا الوقت. فما عنف واحدا من الفريقين. متفق عليه3.
وعند مسلم في بعض طرقه: الظهر بدل العصر, وكأنه وهم.
وقال بشر بن شعيب، عن أبيه قال: حدثنا الزهري قال: أخبرنا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ كَعْبٍ بنِ مَالِكٍ، أن عمه عبيد الله بن كعب أَخْبِرْهُ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رجع من طلب الأحزاب وضع عنه اللأمة واغتسل واستجمر، فتبدى له جبريل -عليه السلام- فقال: عذيرك من محارب، ألا أراك قد وضعت اللأمة وما وضعناها بعد, فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعا فعزم على الناس أن لا يصلوا العصر حتى يأتوا بني قريظة. فلبسوا السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس، فاختصم الناس عند غروبها، فقال بعضهم: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي بني قريظة، وإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس علينا إثم. وصلى طائفة من الناس احتسابا، وتركت طائفة حتى غربت الشمس فصلوا حين جاءوا بني قريظة. فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من الفريقين.
وروى نحوه عبد الله بن عمر، عن أخيه عبد الله، عن القاسم عن عائشة, وفيه أن رجلا سلم علينا ونحن في البيت, فَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فزعا، فقمت في إثره فإذا بدحية الكلبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة". وقال: وضعتم السلاح لكنا لم نضع السلاح طلبنا المشركين حتى بلغنا حمراء الأسد وفيه: فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجالس بينه وبين بني قريظة، فقال: "هل مر بكم من أحد"؟. قالوا: مر علينا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج قال: "ليس ذاك بدحية الكلبي ولكنه جبريل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرعب". فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه أن يستروه بالحجف حتى يسمعهم كلامه فناداهم: "يا إخوة القردة والخنازير". فقالوا: يا أبا
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4117"، ومسلم "1769"، "65"، وأحمد "6/ 56 و131 و280" من طريق هشام، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4118" حدثنا موسى، حدثنا جرير بن حازم، عن حميد بن هلال, به.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4119"، ومسلم "1770" من طريق جويرية بن أسماء, به.
ووقع عند مسلم "الظهر" بدل "العصر".(1/470)
القاسم لم تك فحاشا. فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ وكانوا حلفاءه، فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم.
وقال مُحَمَّدِ بنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ علقمة، عن عائشة قالت: جاء جبريل وعلى ثناياه النقع، فقال: أوضعت السلاح؟ والله ما وضعته الملائكة، اخرج إلى بني قريظة. فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وأذن بالرحيل، ثم مر على بني عمرو فقال: "من مر بكم"؟. قالوا: دحية. وكان دحية يشبه لحيته ووجهه جبريل فأتاهم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، ثم نزلوا على حكم سعد، وذكر الحديث بطوله في مسند أحمد.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: قدَّم رسول الله عليا معه رايته وابتدر الناس.
وقال موسى بن عقبة: وَخَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إثر جبريل، فمر على مجلس بني غنم وهم ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم: "مر عليكم فارس آنفا"؟. فقالوا: مر علينا دحية على فرس أبيض تحته نمط أو قطيفة من ديباج عليه اللأمة. قال: "ذاك جبريل". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبه دحية بجبريل قال: ولما رأى علي بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا تلقاه وقال: ارجع يا رسول الله، فإن الله كافيك اليهود وكان علي سمع منهم قولا سيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه. فكره عليٌّ أن يسمع ذلك, فقال: لم تأمرني بالرجوع؟ فكتمه ما سمع منهم. قال: "أظنك سمعت لي منهم أذى؟ فامض فإن أعداء الله لو قد رأوني لم يقولوا شيئا مما سمعت".
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصنهم، وكانوا في أعلاه، نادى بأعلى صوته نفرا من أشرافها حتى أسمعهم فقال: "أجيبونا يا معشر يهود يا إخوة القردة، لقد نزل بكم خزي الله". فحاصرهم صلى الله عليه وسلم بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة، ورد الله حيي بن أخطب حتى دخل حصنهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، واشتد عليهم الحصار، صرخوا بأبي لبابة بن عبد المنذر وكانوا حلفاء الأنصار فقال: لا آتيهم حتى يأذن لِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: "قد أذنت لك فأتاهم". فبكوا إليه وقالوا: يا أبا لبابة ماذا ترى فأشار بيده إلى حلقه يريهم أن ما يراد بكم القتل, فلما انصرف سُقط في يده ورأى أنه قد أصابته فتنة عظيمة, فقال: والله لا أنظر فِي وَجْهِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أحدث لله توبة نصوحا يعلمها الله من نفسي فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد فزعموا أنه ارتبط قريبا من عشرين لَيْلَةٍ.
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، كما ذُكِرَ، حين راث عليه1 أبو لبابة: "أما فرغ أبو لبابة من
__________
1 راث عليه: أي أبطأ عليه.(1/471)
حلفائه"؟. قالوا: يا رسول الله! قد والله انصرف من عند الحصن وما ندري أين سلك؟ فقال:
"قد حدث له أمر". فأقبل رجل فقال: يا رسول الله! رأيت أبا لبابة ارتبط بحبل إلى جذع من جذوع المسجد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أصابته بعدي فتنة". ولو جاءني لاستغفرت له, فإذ فعل هذا فلن أحركه من مكانه حتى يقضي الله فيه ما شاء".
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، فذكر نحو ما قص موسى بن عقبة، وعنده: فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وأذن بالخروج، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ففزع الناس للحرب وبعث عليا على المقدمة ودفع إليه اللواء ثم خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى آثارهم.
ولم يقل بضع عشرة ليلة.
وقال يونس بن بكير والبكائي -واللفظ له- عن ابن إسحاق قال: حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب وكان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا بأن رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيَّرَ منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم قالوا: وما هي؟ قال: نبايع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل, وأنه للذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره. قال: فإذ أبيتم عليَّ هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه مصلتين السيوف لم نترك وراءنا ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ؟ قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.
رواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، لكنه قال عن أبيه، عن معبد بن كعب بن مالك، فذكره وزاد فيه: ثم بعثوا يطلبون أبا لبابة، وذكر ربطه نفسه.
وزعم سعيد بن المسيب: أن ارتباطه بسارية التوبة كان بعد تخلفه عن غزوة تبوك حين أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليه عاتب، بما فعل يوم قريظة، ثم تخلف عن غزوة تبوك فيمن تخلف. والله أعلم.(1/472)
وفي رواية علي بن أبي طلحة، وعطية العوفي، عن ابن عباس في ارتباطه حين تخلف عن تبوك ما يؤكد قول ابن المسيب وقيل: نزلت هذه الآية في أبي لبابة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [الأنفال: 27] .
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط، أن توبة أبي لبابة نزلت عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في بيت أم سلمة، قالت أم سلمة: فَسَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السحر وهو يضحك، فقلت: مم تضحك؟ قال: "تيب على أبي لبابة". قلت: أفلا أبشره؟ قال: "إن شئتِ". قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهم الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة! أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار إليه الناس ليطلقوه. فقال: لا والله حتى يكون رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الذي يطلقني بيده. فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.
قال عبد الملك بن هشام: أقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال؛ تأته امرأته في وقت كل صلاة تحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع، فيما حدثني بعض أهل العلم الآية التي نزلت في توبته: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] .
قال ابن إسحاق: ثم إن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، وهم نفر من هدل، أسلموا تلك الليلة التي نزل فيها بنو قريظة عَلَى حُكْمِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
شُعْبَةُ: أخبرني سعد بن إبراهيم قال: أبا أمامة بن سهل يحدث عن أبي سعيد قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فأتاه على حمار فلما دنا قريبا من المجد قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قوموا إلى سيدكم -أو- إلى خيركم". فقال: "إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك". فقال: تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت عليهم بحكم الله". وربما قال: "بحكم الملك". متفق عليه1.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: قاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو! قد ولاك رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرَ مواليك لتحكم فيهم. فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه؟ قالوا:
__________
1 صحيح على شرط الشيخين: أخرجه أحمد "3/ 22 و71" والبخاري "3043" و"3804" و"4121" و"4262"، ومسلم "1768"، "64"، وأبو داود "5215" و"5216"، والنسائي في "الفضائل"، "118"، وابن سعد "3/ 424"، والطبراني "5323"، والبيهقي "6/ 57-58" و"9/ 63"، والبغوي "2718" من طرق عن شعبة، به.(1/473)
نعم. قال: وعلى من ههنا من الناحية التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وهو معرض عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجلالا لَهُ؛ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "نعم". فقال سعد: أحكم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري.
شعبة وغيره: عن عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي، قال: كنت في سبي قريظة، فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أنبت أن يقتل، فكنت فيمن لم ينبت.
موسى بن عقبة: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سألوه أن يحكم فيهم رجلا: "اختاروا من شئتم من أصحابي"؟. فاختاروا سعد بن معاذ، فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على حكمه. فأمر -عليه السلام- بسلاحهم فجعل في قبته، وأمر بهم فكتفوا وأوثقوا وجعلوا في دار أسامة وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأقبل على حمار أعرابي يزعمون أن وطاءه برذعة من ليف، واتبعه رجل من بني عبد الأشهل، فجعل يمشي معه ويعظم حق بني قريظة ويذكر حلفهم والذي أبلوه يوم بعاث، ويقول: اختاروك على من سواك رجاء رحمتك وتحننك عليهم, فاستبقهم فإنهم لك جمال وعدد فأكثر ذلك الرجل، وسعد لا يرجع إليه شيئا، حتى دنوا، فقال الرجل: ألا ترجع إليَّ فيما أكلمك فيه؟ فقال سعد: قد آن لي أن لا تأخذني في الله لومة لائم. ففارقه الرجل، فأتى قومه فقالوا: ما وراءك؟ فأخبرهم أنه غير مستبقيهم، وَإِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل مقاتلتهم، وكانوا فيما زعموا ستمائة مقاتل قتلوا عند دار أبي جهم بالبلاط، فزعموا أن دماءهم بلغت أحجار الزيت التي كانت بالسوق، وسبى نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بين من حضر من المسلمين. وكانت خيل المسلمين ستة وثلاثين فرسا. وأخرج حيي بن أخطب فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هل أخزاك الله"؟. قال له: لقد ظهرت عليَّ وما ألوم إلا نفسي في جهادك والشدة عليك. فأمر به فضربت عنقه كل ذلك بعين سعد.
وكان عمرو بن سعدى اليهودي في الأسرى، فلما قدموه ليقتلوه فقدوه, فقيل: أين عمرو؟ قالوا: والله ما نراه، وإن هذه لرمته التي كان فيها، فما ندري كيف انفلت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلتنا بما علم الله في نفسه". وأقبل ثابت بن قيس بن شماس إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هب لي الزبير. يعني ابن باطا وامرأته فوهبهما له، فرجع ثابت إلى الزبير، فقال: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني -وكان الزبير يومئذ أعمى كبيرا- قال: هل ينكر الرجل أخاه؟ قال ثابت: أردت أن أجزيك اليوم بيدك، قال: افعل فإن الكريم يجزى الكريم. فأطلقه فقال: ليس لي قائد، وقد أخذتم امرأتي وبني، فرجع ثابت إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله(1/474)
ذرية الزبير وامرأته، فوهبهم له، فرجع إليه فقال: قد رد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتك وبنيك قال الزبير: فحائط لي فيه أعذق ليس لي ولأهلي عيش إلا به. فوهبه لَهُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ له ثابت: أسلم. قال: ما فعل المجلسان؟ فذكر رجالا من قومه بأسمائهم, فقال ثابت: قد قتلوا وفرغ منهم، ولعل الله أن يهديك. فقال الزبير: أسألك بالله وبيدي عندك إلا ما ألحقتني بهم، فما في العيش خير بعدهم. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر بالزبير فقتل.
وقال الله تعالى في بني قريظة في سياق أمر الأحزاب: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} يعني: الذين ظاهروا قريشا: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب: 26] .
وقال عروة في قوله: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَأُوهَا} [الأحزاب: 27] ، هي خيبر.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لسعد: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة".
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث النجارية، وخرج إلى سوق المدينة، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق وفيهم حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر يقول: كانوا بين الثمان والتسعمائة. وقد قالوا لكعب وهو يذهب بهم إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسالا: يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون أما ترون الداعي لا ينزع وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل وأتي بحيي بن أخطب وعليه حلة فقاحية قد شقها من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل. ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله. كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه.
وقال ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عمه عروة، عن عائشة، قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، قالت: إنها والله لعندي تحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسوق إذ هتف هاتف: يا بنت فلانة! قالت: أنا والله. قلت: ويلك ما لك؟ قالت: أقتل. قلت: ولم؟ قالت: حدث أحدثته فانطلق بها فضربت عنقها.(1/475)
قال عكرمة وغيره: صياصيهم: حصونهم.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: ثم بعث النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدِ بنِ زيد، أخا بني عبد الأشهل بسبايا بني قريظة إلى نجد، فابتاع له بهم خيلا وسلاحا. وكان صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خنافة، وكانت عنده حتى توفي وهي في ملكه، وعرض عليها أن يتزوجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله بل تتركني في مالك فهو أخف عليك وعليَّ. فتركها وقد كانت أولا توقفت عن الإسلام ثم أسلمت، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، والله أعلم.
وفي ذي الحجة: وفاة سعد بن معاذ من سنة خمس
هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ قالت: أصيب سعد يوم الخندق، رماه رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: حِبَّانُ بنُ العرقة، رماه فِي الأَكْحَلِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْمَةً فِي المَسْجِدِ لِيَعُوْدَهُ من قريب, فلما رجع من الخندق؛ وذكر الحديث، وفيه قالت عائشة: ثم إن كلمه تحجر للبرء فقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليَّ أن أجاهد فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها. قال: فانفجر من لبته، فلم يرعهم -ومعهم في المسجد أهل خيمة من بني غفار- إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد جرحه يغذو فمات منها. متفق عليه1.
وقال الليث: حدثني أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: رُمِيَ سَعْدُ يَوْمَ الأَحْزَابِ, فَقَطَعُوا أَكْحَلَهُ، فَحَسَمَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّارِ، فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ، فتركه, فنزفه الدم فحسمه أُخْرَى. فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تُخْرِجْ نَفْسِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَاسْتَمْسَكَ عَرَقُهُ فَمَا قَطَرَتْ مِنْهُ قَطْرَةٌ، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فحكم أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم، قال: وكانوا أربعمائة. فلما فرغ من قتلهم، انفتق عرقه فمات. حديث صحيح2.
وقال ابن راهويه: حدثنا عمرو بن محمد القرشي، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4122"، ومسلم "1769"، من طريق عبد الله بن نمير، عن هشام به.
2 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 350", وابن سعد "3/ 429", والترمذي "1582"، والنسائي في "الكبرى" "7679", والطحاوي في "شرح الآثار" "4/ 321"، من طرق عن الليث بن سعد، به.(1/476)
عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إن هذا الذي تحرك له العرش -يعني سعد بن معاذ- وشيع جناته سبعون ألف ملك، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه".
وقال سليمان التيمي، عن الحسن: اهتز عرش الرحمن فرحا بروحه.
وقال يَزِيْدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ الهَادِ، عَنْ مُعَاذِ بنِ رِفَاعَةَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَ جبريل إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا العَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي مَاتَ؛ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتَحَرَّكَ لَهُ العرش؟ قال: فخرج رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا سعد بن معاذ، فجلس رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قبره وهو يدفن، فبينما هو جالس قال: "سُبْحَانَ اللهِ". مَرَّتَيْنِ, فَسَبَّحَ القَوْمُ. ثُمَّ قَالَ: "الله أكبر الله أكبر". فكبر القوم فَقَالَ: "عَجِبْتُ لِهَذَا العَبْدِ الصَّالِحِ شُدِّدَ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ حَتَّى كَانَ هَذَا حِيْنَ فُرِّجَ له".
روى بعضه محمد بن إسحاق، عن معاذ بن رفاعة، قال: أخبرني محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح، عن جابر.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاعة الزرقي، قال: أخبرني مَنْ شِئْتُ مِنْ رِجَالِ قَوْمِي أَنَّ جِبْرِيْلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في جوف الليل مُعْتَجِراً بِعِمَامَةٍ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ هَذَا المَيِّتُ الَّذِي فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السماء واهتز له العرش؟ فَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجر ثوبه مبادرا إلى سعد بن معاذ فوجده قد قبض.
وقال البكائي عن ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لاَ أَتَّهِمُ عَنِ الحسن البصري قال: كان سعد رجلا بادنا فلما حمله الناس وَجَدُوا لَهُ خِفَّةً فَقَالَ رِجَالٌ مِنَ المُنَافِقِيْنَ: والله إن كان لبادنا وما حملنا من جنازة أَخَفَّ مِنْهُ, فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنَّ لَهُ حَمَلَةً غَيْرَكُم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدِ اسْتَبْشَرَتِ المَلاَئِكَةُ بروح سعد واهتز له العرش".
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد: ما بلغكم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا؟ فقالوا: ذكر لنا أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن ذلك فقال: "كان يقصر في بعض الطهور من البول".
وقال يَزِيْدُ بنُ هَارُوْنَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَمْرِو بنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْتُ يَوْمَ الخندق أقفوا آثار الناس، فسمعت وئيد الأرض، تعني حس الأرض، ورائي, فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيْهِ الحَارِثُ بنُ أَوْسٍ يَحْمِلُ مجنه. فجلست، فمر سعد وهو يقول:(1/477)
لبث قليلا يدرك الهيجا حمل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل
قالت: وعليه درع قد خرجت منها أطرافه، فتخوفت على أطرافه، وكان من أطول الناس وأعظمهم. قالت: فَاقْتَحَمْتُ حَدِيْقَةً، فَإِذَا فِيْهَا نَفَرٌ فِيْهِم عُمَرُ، وفيهم رجل عليه مغفر فقال لي عمر: ما جاء بك؟ والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون تحوزا وبلاء. فَمَا زَالَ يَلُوْمُنِي حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنَّ الأَرْضَ انشقت ساعتئذ, فدخلت فيها. قالت: فرفع الرجل المغفر عن وجهه، فإذا طلحة بن عبيد الله, فَقَالَ: ويحكَ، قَدْ أَكْثَرْتَ وَأَيْنَ التَّحَوُّزُ وَالفِرَارُ إلا إلى الله؟ قالت: ويرمي سعدا رجل من قريش، يقال له: ابن العرقة بسهم، قال: خذها، وأنا ابن العرقه، فأصاب أكحله. فدعا الله سعد فقال: اللهم لا تمتني حتى تشفيني من قريظة. وكانوا مواليه وحلفاءه في الجاهلية فرقأ كلمه وبعث الله الريح على المشركين. وساق الحديث بطوله, وفيه قالت: فانفجر كلمه وقد كان برئ حتى ما يرى منه إلا مثل الخرص1. ورجع إلى قبته. قالت: وحضره رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فإني لأَعْرِفُ بُكَاء أَبِي بَكْرٍ مِنْ بُكَاءِ عُمَرَ، وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ، قال: فقلت: مَا كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يصنع؟ قالت: كانت عيناه لا تدمع على أحد ولكنه إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته.
وقال حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد, عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بنِ مُعَاذٍ، أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل إلى سعد بن معاذ فأتى بِهِ مَحْمُوْلاً عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ مُضْنَىً مِنْ جُرْحِهِ، فَقَالَ لَهُ: "أَشِرْ عليَّ فِي هَؤُلاَءِ". فقال: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ قَدْ أَمَرَكَ فِيْهِم بِأَمْرٍ أَنْتَ فَاعِلُهُ. قَالَ: "أَجَلْ، وَلَكِنْ أَشِرْ عليَّ فيهم". فقال: لو وليت أمرهم قتلت مقاتلتهم وسبيت ذراريهم وقسمت أموالهم. فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ أَشَرْتَ عليَّ فيهم بالذي أمرني الله به" 2.
وقال محمد بن سعد: أخبرنا خالد بن مخلد، قال: حدثني مُحَمَّدُ بنُ صَالِحٍ التَّمَّارُ، عَنْ سَعْدِ بنِ إبراهيم، سمع عَامِرِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: لَمَّا حكم سعد بن معاذ في قريظة أن
__________
1 الخرص: الحلقة الصغيرة من الحلي، وهو من حلي الأذن.
2 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 22 و71"، والبخاري "3043" و"3804" و"4121" و"6262"، ومسلم "1768"، "64"، وأبو داود "5215"، "5216" من حديث أبي سعيد الخدري به.
وأخرجه أحمد "6/ 141-142"، وابن أبي شيبة "14/ 408-411"، وابن سعد "3/ 421-423" من طريق يَزِيْدُ بنُ هَارُوْنَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدِ بنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ، عن عائشة به في حديث طويل.(1/478)
يقتل من جرت عليه الموسى، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ حَكَمَ فِيْهِم بِحُكْمِ اللهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ مِنْ فَوْقِ سبع سماوات".
وقال ابن سعد: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأنصار قال: لما قضى سعد في قُرَيْظَةَ ثُمَّ رَجَعَ انْفَجَرَ جُرْحُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتاه فأخذ رأسه فوضعه في حجره، وسجي بثوب أبيض إذا مد على وجهه بدت رجلاه، وَكَانَ رَجُلاً أَبْيَضَ جَسِيْماً، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إِنَّ سَعْداً قَدْ جَاهَدَ فِي سَبِيْلِكَ وَصَدَّقَ رَسُوْلَكَ وَقَضَى الَّذِي عَلَيْهِ، فَتَقَبَّلْ رُوْحَهُ بِخَيْرِ مَا تَقَبَّلْتَ روح رجل". فَلَمَّا سَمِعَ سَعْدٌ كَلاَمَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم فتح عينيه، فقال: السلام عليك يا رسول الله! أشهد أنك رسول الله. قال: وأمه تبكي وَتَقُوْلُ:
وَيْلَ امِّ سَعْدٍ سَعْدَا ... حزَامَةً وَجِدَّا
فَقِيْلَ لَهَا: أَتَقُوْلِيْنَ الشِّعْرَ عَلَى سَعْدٍ؟ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعُوْهَا فغيرها من الشعراء أكذب".
وقال عبد الرحمن بن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عَنْ مَحْمُوْدِ بنِ لَبِيْدٍ، قَالَ: لَمَّا أُصِيْبَ أكحل سعد حولوه عند امرأة يقال لها: رفيدة، وكانت تداوي الجرحي، قال: وكان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرَّ به يقول: "كيف أمسيت"؟. وإذا أصبح قال: "كيف أصبحت"؟. فيخبره، فذكر القصة. وقال: فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي إلى سعد, فَشَكَا ذَلِكَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ, فَقَالَ: "إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَسْبِقَنَا إِلَيْهِ المَلاَئِكَةُ فَتُغَسِّلُهُ كَمَا غَسَّلَتْ حنظلة". فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البَيْتِ وَهُوَ يُغَسَّلُ، وَأُمُّهُ تَبْكِيْهِ وَتَقُوْلُ:
وَيْلَ أم سعد سعدا ... حزامة وجدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل نائحة تَكْذِبُ إِلاَّ أُمَّ سَعْدٍ". ثُمَّ خَرَجَ بِهِ فقالوا: ما حملنا ميتا أخف منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يمنعكم أن يخف عليكم وَقَدْ هَبَطَ مِنَ المَلاَئِكَةِ كَذَا وَكَذَا لَمْ يهبطوا قط، قد حملوه معكم".
وقال شعبة: أخبرني سماك بن حرب، قال: سمعت عَبْدَ الله بنَ شَدَّادٍ يَقُوْلُ: دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَعْدِ بنِ معاذ وهو يكيد بنفسه1 فَقَالَ: "جَزَاكَ اللهُ خَيْراً مِنْ سَيِّدِ قَوْمٍ، فقد أنجزت الله ما وعدته ولينجزنك الله ما وعدك".
__________
1 يكيد بنفسه: أي يجود بنفسه.(1/479)
وقال ابن نمير: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: بلغني أنه شهد سعدا سبعون ألف ملك لم ينزلوا إلى الأرض.
رواه غيره: عن عبيد الله، عن نافع، فقال: عن ابن عمر.
وقال شبابة: أخبرنا أبو معشر، عن المقبري، قال: لما دَفْنِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سعدا قَالَ: "لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَغْطَةِ القَبْرِ لَنَجَا سَعْدٌ وَلَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً اخْتَلَفَتْ مِنْهَا أضلاعه من أثر البول".
وقال يَزِيْدُ بنُ هَارُوْنَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍو، عن مُحَمَّدُ بنُ المُنْكَدِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ شُرَحْبِيْلَ، أن رجلا أخذ قبضة من تراب قبر سعد يوم دفن، فتحها بعد فإذا هي مسك.
وقال محمد بن موسى الفطري: أخبرنا معاذ بن رفاعة الزرقي، قال: دفن سعد بن معاذ إلى أس دار عقيل بن أبي طالب.
قال محمد بن عمرو بن علقمة: حدثني عاصم بن عمر بن قَتَادَةَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استيقظ فجاءه جبريل، أو قال: ملك. فقال: من رجل من أمتك مات الليلة استبشر بموته أهل السماء؟ قال: "لا أعلمه إلا أن سعد بن معاذ أمسى قريبا، ما فعل سعد"؟. قالوا: يا رسول الله قبض وجاء قومه فاحتملوه إلى دارهم. فصلى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ الصبح, ثم خرج وخرج الناس مشيا حتى إن شسوع نعالهم تقطع من أرجلهم وإن أرديتم لتسقط من عوائقهم، فقال قائل: يا رسول الله قد بتتَّ الناس مشيا، قال: "أخشى أن تسبقنا إليه الملائكة كما سبقتنا إلى حنظلة".
شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً، وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِياً مِنْهَا نَجَا مِنْهَا سَعْدُ بنُ معاذ".
شعبة: حدثني أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُرَحْبِيْلَ، قَالَ: لما انفجر جرح سعد بن معاذ التزمه رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَتْ الدماء تسيل على النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر فقال: واكسر ظهرناه. فقال: "مه يا أبا بكر". ثم جاء عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّا لِلِّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ.
روى عُقْبَةُ بنُ مُكْرَمٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عن شعبة, عن سعد بن إبراهيم عَنْ نَافِعٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ عائشة مرفوعا: "لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ القَبْرِ لَنَجَا منها سعد". وقد تقدم هذا, وما فيه صفية.
وليس هذا الضغط مِنْ عَذَابِ القَبْرِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ من روعات المؤمن كنزع روحه، وكألمه من بكاء حميمه عليه، وكروعته من هجوم ملكي الامتحان عليه، وكروعته يوم الموقف وساعة ورود جهنم، ونحو ذلك نسأل الله أن يؤمن روعاتنا.(1/480)
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا حمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده، عن عائشة، قالت: ما كان أحد أشد فقدا على المسلمين بَعْدَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا مِنْ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ.
وقال الواقدي: أخبرنا عتبة بنُ جَبيرة، عَنِ الحُصَيْنِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: كان سعد بن معاذ أَبْيَضَ طُوَالاً، جَمِيْلاً، حَسَنَ الوَجْهِ، أَعْيَنَ, حَسَنَ اللحية.
فرمي يوم الخندق سنة خمس فمات منها، وهو ابن سبع وثلاثين سنة. ودفن بالبقيع.
وقال أبو معاوية عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اهتز عرش الله لموت سعد بن معاذ".
وقال عَوْفٌ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ, عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اهتز العرش لموت سعد بن معاذ".
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي خَالدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بنِ راشد، عن امرأة من الأنصار يقال لها: أسماء بنت يزيد بن السكن، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأم سعد بن معاذ: "ألا يرقأ دمعك ويذهب حزنك بأن ابنك أول من ضحك الله له واهتز له العرش"؟.
وقال يُوْسُفُ بنُ المَاجِشُوْنِ عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ قَتَادَةَ، عَنْ جَدَّتِهِ رُمَيْثَةَ أنها قالت: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَلَو أَشَاءُ أَنْ أُقَبِّلَ الخَاتَمَ الَّذِي بَيْنَ كتفيه من قربي منه لفعلت- يقول لسعد بن معاذ يوم مات: "اهتز له عرش الرحمن".
وقال مُحَمَّدُ بنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عطَاءِ بنِ السَّائِبِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اهْتَزَّ العَرْشُ لِحُبِّ لِقَاءِ اللهِ سَعْداً قَالَ: إِنَّمَا يعني السرير قال: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100] ، قال: تفسخت أَعْوَادُهُ. قَالَ: وَدَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَهُ فَاحْتُبِسَ، فَلَمَّا خَرَجَ قِيْلَ له: يَا رَسُوْلَ اللهِ! مَا حَبَسَكَ؟ قَالَ: "ضُمَّ سعد في القبر ضمة فدعوت الله يكشف عنه".
وقال الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بثوب حرير، فجعل أصحابه يتعجبون من لينه فقال: "إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة ألين من هذا". متفق على صحته.
وقال يَزِيْدُ بنُ هَارُوْنَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍو، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بنِ مَالكٍ؛ وَكَانَ وَاقِدٌ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَطْوَلِهِم؛ فَقَالَ لِي: من أنت؟(1/481)
قُلْتُ: أَنَا وَاقِدُ بنُ عَمْرِو بنِ سَعْدِ بن معاذ. فقال: إِنَّكَ بِسَعْدٍ لَشَبِيْهٌ, ثُمَّ بَكَى فَأَكْثَرَ البُكَاءَ. ثُمَّ قَالَ: يَرْحَمُ اللهُ سَعْداً، كَانَ مِنْ أعظم الناس وأطولهم. ثم قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشاً إِلَى أُكَيْدِر دُوْمَةَ، فَبَعَثَ إِلَى رَسُوْلِ الله بِجُبَّةٍ مِنْ دِيْبَاجٍ مَنْسُوْجٍ فِيْهَا الذَّهَبُ، فَلَبِسَهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ الناس يَمْسَحُوْنَهَا وَيَنْظُرُوْنَ إِلَيْهَا, فَقَالَ: "أَتَعْجَبُوْنَ مِنْ هَذِهِ الجُبَّةِ"؟. قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ مَا رَأَيْنَا ثَوْباً قَطُّ أَحْسنَ مِنْهُ. قَالَ: "فَوَاللهِ لَمَنَادِيْلُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ فِي الجَنَّةِ أَحْسَنُ مِمَّا ترون".
قلت: هو سَعْدُ بنُ مُعَاذِ بنِ النُّعْمَانِ بنِ امْرِئِ القيس بن زيد بنِ عَبْدِ الأَشْهَلِ بنِ جُشَمَ بنِ الحَارِثِ بن الخزرج بن عمرو، ولقبه النبيت، ابن مالك بن الأوس؛ أخي الخزرج وهما ابنا حارثة بن عمرو؛ ويدعى حارثة العنقاء؛ وإليه جماع الأوس والخزرج أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويكنى سعد أبا عمرو، وأمه كبشة بنت رافع الأنصاري، من المبايعات أسلم هو وأسيد بن الحضير على يد مصعب بن عمير، وكان مصعب قدم المدينة قبل العقبة الآخرة يدعو إلى الإسلام ويقرئ القرآن. فلما أسلم سعد لم يبق من بني عبد الأشهل -عشيرة سعد- أحد إلا أسلم يومئذ ثم كان مصعب في دار سعد هو وأسعد بن زرارة، يدعوان إلى الله. وكان سعد وأسعد ابني خالة. وَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَعْدٍ بنِ مُعَاذٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بنِ الجَرَّاحِ. قاله ابن إسحاق.
وقال الواقدي، عن عبد الله بن جعفر، عن سعد بن إبراهيم، وغيره: آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وبين سعد بن أبي وقاص.
شهد سعد بدرا، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين ولى الناس.
وقال أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيْلُ بنُ مُسلمٍ العَبْدِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو المُتَوَكِّلِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الحُمَّى، فَقَالَ: مَنْ كَانَتْ بِهِ فَهِيَ حَظُّهُ مِنَ النَّارِ فَسَأَلَهَا سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ رَبَّهُ، فَلَزِمَتْهُ فَلَمْ تُفَارِقْهُ حَتَّى فارق الدنيا.
وكان لسعد من الولد: عمرو، وعبد الله، وأمهما: عمة أسيد بن الحضير هند بنت سماك من بني عبد الأشهل، صحابية. وكان تزوجها أوس بن معاذ أخو سعد -وقتل عبد الله بن عمرو بن سعد- يوم الحرة.
وكان لعمرو من الولد: واقد بن عمرو، وجماعة قيل إنهم تسعة.
وقتل عمرو أخو سعد بن معاذ يوم أحد، وقتل ابن أخيهما الحارث بن أوس يومئذ شابا،(1/482)
وقد شهدوا بدرا، والحارث أصابه السيف ليلة قتلوا كعب بن الأشرف، واحتمله أصحابه.
وشهد بعد ذلك أحدا.
روى عن سعد بن معاذ: عبد الله بن مسعود قصته بمكة مع أمية بن خلف، وذلك في صحيح البخاري.
وحصن بني قريظة على أميال من المدينة، حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة.
واستشهد من المسلمين: خلاد بن سويد الأنصاري الخزرجي، طرحت عليه رحى، فشدخته.
ومات في مدة الحصار أبو سنان بن محصن، بدري مهاجري، وهو أخو عكاشة بن محصن الأسدي. شهد هو وابنه سنان بدرا. ودفن بمقبرة بني قريظة التي يتدافن بها من نزل دورهم من المسلمين، وعاش أربعين سنة، ومنهم من قال: بقي إلى أن بايع تحت الشجرة.(1/483)
إسلام ابني سعية وأسد بن عبيد:
قال يونس بن بكير، وجرير بن حازم، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة، أنه قال: هل تدري عم كان إسلام ثعلبة وأسد ابني سعية، وأسد بن عبيد، نفر من هدل، لم يكونوا من بني قريظة ولا نضير، كانوا فوق ذلك؟ قلت: لا. قال: إنه قدم علينا رجل من الشام يهودي، يقال له: ابن الهيبان، ما رأينا خيرا منه. فكنا نقول إذا احتبس المطر: استسق لنا. فيقول: لا والله، حتى تخرجوا صدقة صاعا من تمر أو مدا من شعير. فنفعل فيخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فوالله ما يبرح مجلسه حتى تمر بنا الشعاب تسيل. قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين فلما حضرته الوفاة، قال: يا معشر يهود! ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: أنت أعلم. قال: أخرجني نبي أتوقعه يبعث الآن فهذه البلدة مهاجره، وإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذرية، فلا يمنعنكم ذلك منه ولا تسبقن إليه. ثم مات.
زاد يونس بن بكير في حديثه: فلما كانت الليلة التي افتتحت فيها قريظة, قال أولئك الثلاثة، وكانوا شبابا أحداثا: يا معشر يهود! هذا الذي كان ذكر لكم ابن الهيبان. قالوا: ما هو؟ فقالوا: بلى والله إنه لهو بصفته. ثم نزلوا فأسلموا وخلوا أموالهم وأهلهم، وكانت في الحصن، فلما فتح رد ذلك عليهم.
تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني
وأوله: سنة ست من الهجرة.(1/484)
فهرس الموضوعات:
الصفحة الموضوع
5 مقدمة المحقق
115 مخطوطة الكتاب
143 ذكر نسب سيد البشر
147 مولده المبارك صلى الله عليه وسلم
151 أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وكنيته
155 ذكر ما ورد في قصة سطيح وخمود النيران ليلة المولد وانشقاق الإيوان
159 باب: منه
162 وأرضعته ثويبة
162 ثم أرضعته حليمة السعدية
163 شق الصدر
165 وفاة والده
165 وفاة أمه وكفالة جده وعمه
167 وقد رعى الغنم
168 سفره مع عمه إن صح
171 شأن خديجة رضي الله عنها
172 بنيان الكعبة
177 ما عصمه الله به من أمر الجاهلية
181 ذكر زيد بن عمرو بن نفيل
184 باب: صفته صلى الله عليه وسلم في التوراة
186 قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه
194 ذكر مبعثه صلى الله عليه وسلم
199 فأول من آمن به خديجة رضي الله عنها
200 من معجزاته الأول
205 إسلام السابقين الأولين
208 فصل: في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عشيرته إلى الله وما لقى من قومه
220 إسلام أبي ذر رضي الله عنه
223 إسلام حمزة رضي الله عنه
224 إسلام عمر رضي الله عنه
230 الهجرة الأولى إلى الحبشة ثم الثانية(1/485)
الصفحة الموضوع
239 إسلام ضماد
240 إسلام الجن
243 فصل: فيما ورد من هواتف الجان وأقوال الكهان
247 انشقاق القمر
249 باب: ويسألونك عن الروح
251 ذكر أذية المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين
255 ذكر شعب أبي طالب والصحيفة
257 باب: إنا كفيناك المستهزئين
258 دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش بالسِّنَة
260 ذكر الروم
262 ثم توفي عمه أبو طالب وزوجته خديجة
268 ذكر الاسراء برسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَسْجِدِ الأقصى
275 ذكر معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء
289 زواجه صلى الله عليه وسلم بعائشة وسودة أمي المؤمنين
291 عرض نفسه صلى الله عليه وسلم على القبائل
295 حديث يوم بعاث
296 ذكر مبدأ خبر الأنصار والعقبة الأولى
301 العقبة الثانية
305 تسمية من شهد العقبة
308 ذكر أول من هاجر إلى المدينة
312 سياق خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
324 السنة الأولى من الهجرة
327 قصة إسلام ابن سلام
329 قصة بناء المسجد
334 سنة اثنتين من الهجرة
334 غزوة الأبواء
334 بعث عبيدة
334 غزوة بواط
334 غزوة العشيرة
335 بدر الأولى
335 سرية سعد بن أبي وقاص
335 بعث عبد الله بن جحش
336 غزوة بدر الكبرى من السيرة لابن إسحاق رواية البكائي
344 واستشهد يوم بدر
349 بقية أحاديث غزوة بدر
350 رؤيا عاتكة
365 ذكر غزوة بدر: من مغازي موسى بن عقبة(1/486)
الصفحة الموضوع
371 غنائم بدر والأسرى
375 أسماء من شهد بدرا
376 ذكر طائفة من أعيان البدريين
378 قصة النجاشي، من السيرة
383 سرية عمير بن عدي الخطمي
383 غزوة بني سليم
383 سرية سالم بن عمير لقتل أبي عفك
383 غزوة السويق، في ذي الحجة
386 ثم دخلت سنة ثلاث من الهجرة
386 غزوة ذي أمر
386 غزوة بحران
386 غزوة بني قينقاع
388 غزوة بني النضير
391 سرية زيد بن حارثة إلى القردة
391 غزوة قرقرة الكدر
392 مقتل كعب بن الأشرف
396 غزوة أحد
415 عدد الشهداء
426 غزوة حمراء الأسد
430 السنة الرابعة من الهجرة
430 سرية أبي سلمة إلى قطن في أولها
430 غزوة الرجيع
433 غزوة بئر معونة
437 ذكر الخلاف في غزوة بني النضير "وقد تقدمت في سنة ثلاث"
438 غزوة بني لحيان
438 غزوة ذات الرقاع
440 غزوة بدر الموعد
441 غزوة الخندق
441 وقتل يوم بئر معونة
444 السنة الخامسة من الهجرة
444 غزوة ذات الرقاع
444 غزوة دومة الجندل
444 غزوة المريسيع "غزوة بني المصطلق"
446 تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بجويرية
449 حديث الإفك
456 غزوة الخندق "الأحزاب"
469 واستشهد يوم الأحزاب
469 غزوة بني قريظة
476 وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه
484 إسلام ابني سعية وأسد بن عبيد
485 فهرس الموضوعات(1/487)
المجلد الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
سنة ست من الهجرة:
قال البكائي، عن ابن إسحاق: ثم أقام رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالمَدِيْنَةِ ذا الحجة والمحرم وصفرًا وشهري ربيع، وخرج في جمادى الأولى إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع: خبيب بن عدي وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، فقال: لو أنا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة. فهبط في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان. ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرّا. وراح قافلًا.
غزوة ذي قرد:
ثم قدم المدينة فأقام بها ليالي، فأغار عُيينة بن حصن في خيل من غطفان على لقاح النبي -صلى الله عليه وسلم- بالغابة، وفيها رجل من بني غفار وامرأة، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح.
وكان أول من نذرَ بهم سلمة بن الأكوع، غدا يريد الغابة ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرسه، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم فأشرف في ناحية من سَلع، ثم صرخ: واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم، وكان مثل السَّبُع، حتى لحق بالقوم. وجعل يردهم بنبله، فإذا وجهت الخيل نحوه هرب ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمي رمى. وبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك فصرخ بالمدينة: "الفزع الفزع". فترامت الخيول إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: المقداد، وعباد بن بشر، وأسيد بن ظهير، وعكاشة بن محصن وغيرهم. فأمَّر عليهم سعد بن زيد، ثم قال: اخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس، وَقَدْ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما بلغني -لأبي عياش: "لو أعطيت فرسك رجلًا أفرس منك"؟ فقلت: يا رسول الله أنا أفرس الناس. وضربت الفرس فوالله ما مشى بي إلا خمسين ذراعًا حتى طرحني فعجبت أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لو أعطيته أفرس منك وجوابي له".
ولم يكن سلمة بن الأكوع يومئذ فارسًا، وكان أول من لحق القوم على رجليه. وتلاحق الفرسان في طلب القوم، فأول من أدركهم محرز بن نضلة الأسدي، فأدركهم ووقف لهم بين أيديهم ثم قال: قفوا يا معشر بني اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من المسلمين. فحمل عليه رجل منهم فقتله، ولم يُقْتَل من المسلمين سواه.(2/5)
قال عبد الملك بن هشام: وقتل يومئذ من المسلمين وقاص بن مجزز المدلجي.
وقال البكائي، عن ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لاَ أَتَّهِمُ عَنِ عبد الله بن كعب بن مالك، أن مجززًا إنما كان على فرس عكاشة يقال له: الجناح، فقتل مجزز واستلب الجناح. ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة بن ربعي. حبيب بن عيينة بن حصن، وغشاه ببرده، ثم لحق بالناس. وأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمسلمين، فاسترجعوا وقالوا: قُتِلَ أبو قتادة. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس بأبي قتادة ولكنه قتيل لأبي قتادة وضع عليه برده لتعرفوا أنه صاحبه".
وأدرك عُكاشة بن محصن أوبارًا وابنه عمرو بن أوبار، كلاهما على بعير، فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعًا، واستنقذوا بعض اللقاح.
وسار رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى نزل بالجبل من ذي قَرَد، وتلاحق الناس، فَنَزَلَ رَسُوْل اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- به، وأقام عليه يومًا وليلة. وقال سلمة: يا رسول الله لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح، وأخذت بأعناق القوم. فقال رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فِيمَا بلغني: إنهم الآن ليغبقون1 في غطفان. فقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه، في كل مائة رجل، جزورًا. وأقاموا عليها ثم رجعوا إلى المدينة.
قال: وانفلتت امرأة الغفارى على ناقة من إبل رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى قدمت عليه، وقالت: إني نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها. قال: فتبسم رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قال: "بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها، إنه لا نذر فيما لا يملك ابن آدم إنما هي ناقة من إبلي، ارجعي على بركة الله".
قلت: هذه الغزوة تسمى غزوة الغابة، وتسمى غزوة ذي قرد. وذكر ابن إسحاق وغيره: أنها كانت في سنة ست. وأخرج مسلم2 أنها كانت زمن الحديبية.
قال أبو النضر هاشم بن القاسم: حدثنا عكرمة بن عمّار، قال: حدثنى إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: قدمنا المدينة زمن الحديبية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرجت أنا ورباح -غلام النبي- بظهر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجْتُ بِفَرسٍ لِطَلْحَةَ بن عبيد الله كنت أريد أن أنديه3
__________
1 الغبوق: شرب اللبن عشيا وهو مقابل الصبوح.
2 صحيح: انظر الحديث الآتي وهو عند مسلم "1807".
3 التندية: أن يورد الرجل الإبل والخيل فتشرب قليلا، ثم يردها إلى المرعى ساعة، ثم تعاد إلى الماء.
والتندية أيضا: تضمير الفرس، وإجراؤه حتى يسيل عرقه، ويقال لذلك العرق: الندى، ويقال: نديت الفرس والبعير تندية.(2/6)
مع الإبل. فلما كان بغلس، أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقتل راعيها وخرج يطردها هُوَ وَأَنَاسٌ مَعَهُ فِي خَيْلٍ. فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ اقعُدْ عَلَى هَذَا الفَرَسِ فَألْحِقْهُ بِطَلْحَةَ وأخبر رسول الله الخبر. وقمت على تل فجعلت وجهي من قبل المدينة ثم ناديت ثلاث مرات: يا صباحاه. ثم اتبعت القوم معي سيفي ونبلي، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِم وَأَعْقِرُ بِهِم وَذَلِكَ حِيْنَ يَكْثُرُ الشجر، فإذا رجع إليَّ فارس جلست له في أصل شجرة ثم رميت، فلا يقبل عليَّ فارس إلا عقرت به. فجعلت أَرمِيْهِم وَأَقُوْلُ:
أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ ... وَاليَوْمُ يَوْمُ الرضع
فألحق برجل منهم فأرميه وهو على راحلة رحله، فيقع سهمي في الرحل حتى انتظمت كتفه، فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع.
وَكُنْتُ إِذَا تَضَايَقَتِ الثَّنَايَا علوتُ الجَبلَ فَرَدَأْتُهُم بالحجارة، فما زال ذلك شأني وشأنهم أتبعهم فأرتجز، حتى ما خلق الله شيئًا من سرح النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلاَّ خَلَّفْتُهُ ورائي واستنقذته من أيديهم. ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَرْمِيْهِم حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِيْنَ رُمْحاً وَأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِيْنَ بُرْدَةً يستخفون منها، ولا يلقون من ذلك شَيْئاً إِلاَّ جَعَلْتُ عَلَيْهِ حِجَارَةً وَجَمَعتُهُ عَلَى طَرِيقِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى إذا مُدّ الضُّحَاء أتاهم عيينة بن بدر الفزاري مَدَداً لَهُم، وَهُم فِي ثَنِيَّةٍ ضَيِّقَةٍ. ثُمَّ علوت الجبل، فقال عيينة: ما هذا الذي أرى؟ قَالُوا: لَقِيْنَا مِنْ هَذَا البَرْح، مَا فَارَقَنَا بسحر حتى الآنَ، وَأَخَذَ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ فِي أَيْدِيْنَا وجعله وراء ظهره. فقال عيينة: لولا أن هذا يرى أن وراءه مددًا لقد ترككم، ليقم إليه نفر منكم. فقام إليَّ أربعة فصعدوا في الجبل. فَلَمَّا أَسْمَعتُهُم الصَّوتَ قُلْتُ: أَتَعرِفُونِي؟ قَالُوا: وَمَنْ أنت؟ قلت: أنا ابن الأكوع، والذي كَّرم وَجْهَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ يَطْلُبُنِي رَجُلٌ مِنْكُم فَيُدْرِكَنِي وَلاَ أَطْلُبُهُ فَيَفُوتَنِي.
قال رجل منهم: إني أظن؛ يعني كما قال. فما برحت مقعدي ذلك حَتَّى نَظَرتُ إِلَى فَوَارِسِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَخَلَّلُوْنَ الشَّجَرَ، وَإِذَا أَوَّلُهُمُ الأخرم الأسدي وعلى إثره أبو قتادة، وعلى إثره المقداد، فولى المشركون. فأنزل من الجبل فأعترض الأخرم فآخذ عنان فرسه، فقلت: يا أخرم انذر القوم يعني احذرهم فإني لا آمن أن يقطعوك، فاتئد حتى يلحق النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. فقال: إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تحل بيني وبين الشهادة، قال: فخليت عنان فرسه فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة، وطعنه عبد الرحمن فقتله. وَتَحوَّلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى فَرَسِ الأَخْرَمِ فَيَلْحَقُ أبو قتادة به، فاختلفا طعنتين، فعقر بأبي قتادة، وقتله أبو قتادة، وتحول على فرس الأخرم. ثم إني خرجت أَعْدُو فِي أَثَرِ القَوْمِ حَتَّى مَا أَرَى من غبار أصحابي(2/7)
شيئًا ويعرضون قبل المَغِيبِ إِلَى شِعْبٍ فِيْهِ مَاءٌ يُقَالَ لَهُ: ذو قرد، فأرادوا أن يشربوا منه، فَأَبْصرُوْنِي أَعْدُو وَرَاءهُم، فَعَطَفُوا عَنْهُ وَأَسْنَدُوا فِي الثنية، ثنية ذي تير، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَلْحَقُ رَجُلاً فَأَرمِيْهِ فَقُلْتُ: خُذْهَا وأنا ابن الأكوع. قال: فَقَالَ: يَا ثُكْلَ أُمِّي، أَكْوَعِيٌّ بُكْرَة؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ، وَكَانَ الَّذِي رَمَيتُهُ بُكْرة، فأتْبعتُه سَهْماً آخَرَ فَعَلِقَ بِهِ سَهمَانِ. ويخلفون فرسين فجبذتهما أسوقهما إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو على الماء الذي جليتهم عنه ذو قرد؛ فإذا نبي الله -صلى الله عليه وسلم- في خمس مائة، وإذا بلال قد نَحَرَ جَزُوْراً مِمَّا خَلَّفْتُ، فَهُوَ يَشوِي لِرَسُوْلِ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ خَلِّنِي فأنتخبُ مِنْ أَصْحَابِكَ مائَةً واحدة فآخذ على الكفار بِالعَشْوَةِ فَلاَ يَبْقَى مِنْهُم مُخَبِّرٌ. قَالَ: أَكُنْتَ فاعلًا يا سلمة؟ قلت: نعم، والذي أكرمك. فَضَحِكَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ فِي ضَوءِ النَّارِ. ثُمَّ قال: إنهم يُقْرَون الآن بأرض غطفان. فجاء رجل من غطفان فقال: مَرُّوا عَلَى فُلاَنٍ الغَطَفَانِيِّ فَنَحَرَ لَهُم جَزُوْراً، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة، فتركوها وخرجوا هُرَّابًا.
فَلَمَّا أَصْبَحنَا قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خير فرساننا اليوم أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ". وَأَعطَانِي سَهْمَ الرَّاجِلِ وَالفَارِسِ جَمِيْعاً. ثُمَّ أَرْدَفَنِي وَرَاءهُ عَلَى العَضْبَاءِ1 رَاجِعِيْنَ إِلَى المَدِيْنَةِ.
فَلَمَّا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا قَرِيباً مِنْ ضَحْوَةٍ، وَفِي القَوْمِ رَجُلٌ من الأنصار كان لا يسبق، فجعل ينادي: هل من مسابق؟ وكرر ذلك. فقلت له: أما تُكرِمُ كَرِيْماً وَلاَ تَهَابُ شَرِيفاً؟ قَالَ: لاَ، إِلاَّ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قُلْتُ: يا رسول الله بأبي أنت وأمي خلني فلأسابقه. قال: "إن شئت". قلت: أذهب إليك. فطفر عن راحلته، وثنيت رجلي فطفرت عن الناقة. ثم إني ربطت عليه شرفًا أو شرفين؛ يعني اسْتبْقَيْتُ نَفسِي2، ثُمَّ إِنِّيْ عَدَوْتُ حَتَّى أَلحَقَهُ فأصُكّ بين كتفيه بيدي. قلت: سبقتك والله. فضحك وقال: إن أظن حتى قدمنا إلى المدينة.
أخرجه مسلم عن شيخ، عن هاشم3.
قرأت على أبي الحسن علي بن عبد الغني الحراني بمصر، وعلي أبي الحسن علي بن أحمد
__________
1 العضباء: هو لقب ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم-. والعضباء: مشقوقة الأذن، ولم تكن ناقته -صلى الله عليه وسلم- كذلك، وإنما هو لقب لزمها.
2 ربطت عليه شرفًا أو شرفين، يعني استبقيت نفسي: معنى ربطت حبستُ نفسي عن الجري الشديد والشرف: ما ارتفع من الأرض. وقوله: "استبقيت نفسي": أي لئلا يقطعني البهر.
3 صحيح: أخرجه مسلم "1807" حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا هاشم بن القاسم، به.(2/8)
الهاشمي بالإسكندرية، وعلى أبي سعيد سنقر بن عبد الله بحلب، وعلي أحمد بن سليمان المقدس بقاسيون وأخبرنا محمد بن عبد السلام الفقيه، وأبو الغنائم بن محاسن، وعمر بن إبراهيم الأديب، قالوا: أخبرنا أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ روزبة.
"ح" وقرأت على أبي الحسين اليونيني، ومحمد بن هاشم العباسي، وإسماعيل بن عثمان الفقيه، ومحمد بن حازم، وعلي بن بقاء، وأحمد بن عبد الله بن عزيز، وخلق سواهم: أخبركم أبو عبد الله الحسين بن أبي بكر بن الزبيدي؛ قالا: أخبرنا أبو الوقت السجزي، قال: أخبرنا أبو الحسن الدراوردي، قال: أخبرنا أبو محمد بن حمويه، قال: أخبرنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حدثنا مكي بن إبراهيم، قال: حدثنا يَزِيْدُ بنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ أَنَّهُ أخبره، قال: خرجت من المدينة ذاهبًا نحو الغابة، حتى إذا كنت بثنية الغابة لقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف، قلت: ويحك ما بك؟ قال: أخذت لقاح النبي -صلى الله عليه وسلم. قلت: من أخذها؟ قال: غطفان وفزارة. فصرخت ثلاث صرخات أسمعت ما بين لابتيها: يا صباحاه، يا صباحاه. ثم اندفعت حتى ألقاهم وقد أخذوها، فجعلت أَرمِيْهِم وَأَقُوْلُ:
أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ ... وَاليَوْمُ يَوْمُ الرضع
فاستنقذتها منهم قبل أن يشربوا. فأقبلت بها أسوقها، فلقيني النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْتُ: يَا رسول الله إن القوم عطاش، وإني أعجلتهم أن يشربوا سقيهم، فابعث في أثرهم. فقال: يا ابن الأكوع ملكت فأسجح، إن القوم يقرون في قومهم.(2/9)
مقتل أبي رافع:
وهو سلام بن أبي الحقيق؛ وقيل: عبد الله بن أبي الحقيق اليهودي، لعنه الله.
قال البكائي، عن ابن إسحاق: ولما انقضى شأن الخندق وأمر بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحقيق أبو رافع فيمن حزب الأحزاب عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف. فاستأذنت الخزرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتل ابن أبي الحُقيق وهو كبير، فأذن لهم.
وحدثني الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، قال: كان مما صنع الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم: أن هذين الحيين من الأنصار كانا يتصاولان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئًا فيه غناء عَنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا عِنْد رَسُوْل اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي الإسلام. فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها. وإذا فعلت الخزرج شيئًا قالت الأوس مثل ذلك.
ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا. فتذاكروا من رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كابن الأشرف، فذكروا ابن أبي الحُقَيق وهو بخيبر. فاستأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأذن لهم. فخرج إليه من الخزرج خمسة من بني سلمة: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة بن ربعي، وآخر حليف لهم. فأمَّر عليهم ابن عتيك، فخرجوا حتى قدموا خيبر، فأتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا، فلم يدعوا بيتًا في الدار إلا أغلقوه على أهله، ثم قاموا على بابه فاستأذنوا، فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ قالوا: نلتمس الميرة. قال: ذاكم صاحبكم، فادخلوا عليه.
قال: فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليها الحجرة تخوفًا أن تكون دونه مجاولة تحول بينا وبينه. قال: فصاحت امرأته فنوهت بنا، وابتدرناه وهو على فراشه، والله ما يدلنا عليه في سواد البيت إلا بياضه، كأنه قُبطية ملقاة. فلما صاحت علينا جعل الرجل منا يرفع سيفه عليها ثم يذكر نَهَى رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ قتل النساء، فيكف يده. فلما ضربناها بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه، وهو يقول: قطني قطني؛ أي: حسبي. قال: وخرجنا، وكان ابن عتيك سيئ البصر فوقع من الدرجة، فَوثئَتْ يدهُ وثأ1 شديدًا وحملناه حتى نأتي منهرًا2 من عيونهم فندخل فيه. فأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبون، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه. فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أنه هلك؟ فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم. فانطلق حتى دخل في الناس. قال: فوجدتُها وفي يدها المصباح وحوله رجال وهي تنظر في وجهه وتحدثهم وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت نفسي فقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد؟ ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه، ثم قالت: فاض، وإله يهود. فما سمعُت من كلمة كانت ألذ إليَّ منها. قال: ثم جاء فأخبرنا الخبر، فاحتملنا صاحبنا فقدمنا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبرناه واختلفنا في قتله، فكلنا يدعيه. فقال: هاتوا أسيافكم، فجئنا بها فنظر إليها فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام والشراب.
__________
1 وثئت يده وثأ شديدًا: أي أصابها وهن، دون الخَلْع والكسر.
2 المَنْهَر: خَرْقٌ في الحِصْن نافِذٌ يدخل فيه الماء، وهو مفعل من النهر، والميم زائدة.(2/10)
وقال زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رهطًا من الأنصار إلى أبي رافع، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلًا فقتله وهو نائم. أخرجه البخاري1.
وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى أبي رافع رجالًا من الأنصار، عليهم عبد الله -يعني ابن عتيك. وكان أبو رافع يُؤْذِي رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز. فلما دنوا وقد غربت الشمس وراح الناس بسَرْحِهم؛ قال: عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإني منطلق فمتلطف للبواب لعلي أدخل. فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته. وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل لأغلق. فدخلت فكمنت، فأغلق الباب وعلق الأقاليد على ود، فقمت ففتحت الباب.
وكان أبو رافع يسمر عنده وكان في علالي. فلما أن ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، وجعلت كلما فتحت بابًا أغلقته عليَّ من داخل، وقلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله. فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت. قلت: يا أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش، فما أغنى شيئًا، فصاح، فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الضرب أبا رافع؟ قال: لأمك الويل، إن رجلًا في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت صدر السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعلمت أني قد قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابًا فبابًا حتى انتهيت إلى درجة، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامتي، ثم انطلقت حتى جلست عند الباب. فقلت: لا أبرح الليلة حتى أعلم أقتلته أم لا. فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعي أبا رافع. فانطلقت إلى أصحابي، فقلت: النجاء النجاء، فقد قتل الله أبا رافع، فانتهينا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وحدثناه فقال: "ابسط رجلك"، فبسطتها، فمسحها، فكأنما لم أشكها قط. أخرجه البخاري2.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4038" حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن أبي زائدة، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4039" حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل به.
وقوله: "على ود" أي على وتد.(2/11)
وأخرجه أيضا من حديث إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن جده، عن البراء بنحوه. وفيه: ثم انطلقت إلى أبواب بيوتهم فغلقتها عليهم من ظاهر. وفيه: ثم جئت كأني أغيثه وغيرت صوتي، وقلت: ما لك يا أبا رافع. قال: ألا أعجبك، دخل علي رجل فضربني بالسيف. قال: فعمدت له أيضًا فأضربه أخرى فلم تغن شيئًا. فصاح وقام أهله، ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث، وإذا هو مستلق على ظهره، فأضع السيف في بطه ثم أتكئ عليه حتى سمعت صوت العظم. ثم خرجت دهشًا إلى السلم، فسقطت فاختلعت رجلي فعصبتها. ثم أتيت أصحابي أحجُل فقلت: انطلقوا فبشروا رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنِّي لا أبرح حتى أسمع الناعية. فلما كان وجه الصبح صعد الناعية، فقال: أنعي أبا رافع. فقمت أمشي، ما بي قلبة، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فبشرته1.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، عن عروة، قال: كان سلام بن أبي الحُقيق قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب يدعوهم إلى قتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويجعل لهم الجعل العظيم. فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه جماعة فبيتوه ليلًا.
وقال موسى بن عقبة في مغازيه: فطرقوا أبا رافع اليهودي بخيبر فقتلوه في بيته.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4040" حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا شريح هو ابن مسلمة، حدثنا إبراهيم بن يوسف، به.
وقوله: "ما بي قلبة" بفتح القاف واللام والموحدة: أي علَّة أنقلب بها. وقال الفراء: أصل القلاب بكسر القاف داء يصيب البعير فيموت من يومه، فقيل لكل من سلم من علة: ما به قلبة، أي ليست به علة تهلكه.(2/12)
قتل ابن نبيح الهذلي:
ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود: عن عروة، قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدِ الله بن أنيس السلمي إلى سفيان بن نُبيح الهذلي ثم اللحياني ليقتله وهو بعرنة وادي مكة.
وقال محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ أنيس، عن أبيه، قال: دعاني رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "إنه بلغني أن ابن نبيح الهذلي يجمع الناس ليغزوني وهو بنخلة أو بعُرنَةَ، فأتِه فاقتله". قلت: يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه. قال: "آية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة". فخرجت متوشحًا سيفي، حتى دُفعتُ إليه في ظعن يرتاد لهن منزلًا وقت العصر. فلما رأيته وجدت له ما وصف لِي رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من القُشَعريرة. فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي إيماء. فلما انتهت إليه قال: من الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاء لذلك. قال: أجل نحن في ذلك. فمشيتُ معه حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف فقتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه.
فلما قَدِمْتُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أفلح الوجه". قلت: قد قتلته يا رسول الله. قال: "صدقت". ثم قام بي فدخل بي بيته فأعطاني عصًا، فقال: "أمسك هذه عندك". فخرجت بها على الناس. فقالوا: ما هذه العصا؟ فقلت: أعطانيها رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَنِي أن أمسكها عندي. قالوا: أفلا ترجع فتسأله فرجعت فسألته: لم أعطيتنيها يا رسول الله؟ قال: "آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المتخصرن يومئذ". قال: فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت معه في كفنه، فدفنا جميعًا1.
رواه عبد الوارث بن سعيد، عن ابن إسحاق، فقال: إلى خالد بن سفيان الهذلي.
وقال موسى بن عقبة: بَعَثَهُ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى سفيان بن عبد الله بن أبي نبيح الهذلي، والله أعلم.
__________
1 ضعيف: أخرجه أحمد "3/ 496" حدثنا يعقوب، حدثنا أبي قال: عن ابن إسحاق، به.
قلت: إسناده ضعيف، آفته عبد الله بن عبد الله بن أنيس، فإنه مجهول، وقد ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" "3/ ق1/ 125"، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" "2/ ق2/ 90" ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا.(2/12)
غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع:
قال ابن إسحاق: غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بني المصطلق من خزاعة، في شعبان سنة ست. كذا قال ابن إسحاق.
وقال ابن شهاب وعروة: هي في شعبان سنة خمس.
وكذلك يروى عن قتادة.
وقاله أيضًا الواقدي، فقال: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الاثنين لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس، وقدم المدينة لهلال رمضان.
قلت: وفيها حديث الإفك، وقد تقدم ذلك في سنة خمس. وهو الصحيح.(2/13)
سرية نجد: قيل إنها كانت في المحرم سنة ست:
قال الليث بن سعد: حدثني سعيد المقبري أنه سمع أبا هريرة يقول: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيلًا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "ما عندك"؟ قال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى كان من الغد، فقال: "ما عندك يا ثُمامة"؟ قال: عندي ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال: "أطلقوه". فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَأَنَّ مُحَمَّداً رسول الله. يا محمد، والله ما كان على وجه الأرض أبغض إليَّ من وجهك، وقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ. والله ما كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إليَّ. والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليَّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمره أن يعتمر. فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت يا ثمامة. قال: لا، ولكني أسلمت، فوالله لا يأتيكم من اليمامة حبة حتى يأذن فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. متفق عليه1، "وأخرجه" مسلم أيضًا من حديث عبد الحميد بن جعفر عن المقبري، به2.
خالفهما محمد بن إسحاق، فيما روى يونس بن بكير عنه: حدثني سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: كان إسلام ثمامة بن أثال أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا الله حين عرض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما عرض له وهو مشرك، فأراد قتله، فأقبل معتمرًا حتى دخل المدينة، فتحير فيها حتى أخذ، فَأَتَى بِهِ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأمر به فَرُبِطَ إلى عمود من عمد المسجد. وفيه: وإن تسأل مالًا تعطه.
قال أبو هريرة: فجعلنا المساكين نقول: ما نصنع بدم ثمامة؟ والله لأكلهٌ من جزور سمينة من فدائه أحب إلينا من دمه.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "2/ 453"، والبخاري "462" و"469" و"2422" و"2423" و"4372"، ومسلم "1764"، وأبو داود "2679"، والنسائي "1/ 109-110"، وابن خزيمة "252"، والبيهقي في "السنن "1/ 171" وفي "دلائل النبوة" "4/ 78" من طرق عن الليث، به.
2 صحيح: أخرجه مسلم "1764" "60" حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، به.(2/14)
قلت: وهذا يدل على أن إسلام ثمامة كان بعد إسلام أبي هريرة، وهو في سنة سبع فذكر الحديث، وفيه: فانصرف من مكة إلى اليمامة، ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش، فكتبوا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي لهم حمل الطعام. وكانت اليمامة ريف مكة. قال: فأذن النبي -صلى الله عليه وسلم.
وفيها: كان من السرايا، على ما زعم الواقدي: قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ربيع الأول أو الآخر عُكاشة بن محصن في أربعين رجلًا إلى الغمْر، وفيهم ثابت بن أقرم وشجاع بن وهب. فأسرعوا، ونذر بهم القوم وهربوا. فنزل عكاشة على مياههم وبعث الطلائع فأصابوا من دلهم على بعض ماشيتهم، فوجدوا مائتي بعير، فساقوها إلى المدينة.
وقال: وفيها بعث سرية أبي عبيدة إلى القصة، في أربعين رجلًا، فساروا ليلهم مشاة ووافوا ذا القصة مع عماية الصبح، فأغار عليهم وأعجزهم هربًا في الجبال. وأصابوا رجلًا فأسلم، وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محمد بن مسلمة، في عشرة، فكمن القوم لهم حتى نام هو وأصحابه، فما شعروا إلا بالقوم، فقتل أصحاب محمد، وأفلت هو جريحًا.
قال: وفيها كانت سرية زيد بن حارثة بالجموم. فأصاب امرأة من مزينة، يقال لها: حليمة، فدلتهم على مكان فأصابوا مواشي, أسراء، منهم زوجها، فوهبها النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسها وزوجها.
وفيها سرية زيد بن حارثة إلى الطرف؛ إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلًا. فهربت الأعراب وخافوا، فأصاب من نعمهم عشرين بعيرًا. وغاب أربع ليال.
وفيها كانت سرية زيد بن حارثة إلى العيص؛ في جمادى الأولى؛ وأخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص، فاستجار بزينب بِنْتِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأجارته.
وحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: أقبل دحية الكلبي من عند قيصر، قد أجازه بمال. فأقبل حتى كان بُحْسمي، فلقيه ناس من جُذَام، فقطعوا عليه الطريق وسلبوه، فَجَاءَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ أن يدخل بيته فأخبره. فبعث زيد بن حارثة إلى حُسْمَى؛ وهي وراء وادي القرى وكانت في جمادى الآخرة.
ثم سرية زيد إلى وادي القرى في رجب.
ثم قال: وحدثني عَبْدُ اللهِ بنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَعْقُوْبَ بنِ عتبة، قال: خرج علي -رضي الله عنه- في مائة إلى فدك إلى حي من بني سعد بن بكر. وذلك أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بلغه عنهم أن(2/15)
لهم جمعًا يريدون أن يمدوا يهود خيبر. فسار إليهم الليل وكمن النهار، وأصاب عينا فأقر له أنه بُعِثَ إلى خيبر يعرض عليهم نصرهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر.
قال الواقدي: وذلك في شعبان.
وكانت غزوة أم قرفة في رمضان سار إليها زيد بن حارثة؛ لأنها كانت تؤذي النبي -صلى الله عليه وسلم، ذكره الواقدي.
قال: وفيها سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دُومة الجندل في شعبان، فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن أطاعوا فتزوج ابنة ملكهم". فأسلم القم، وتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ؛ والدة أبي سلمة، وكان أبوها ملكهم.
وفي شوال كانت سرية كُرز بن جابر الفهري إلى العُرنيين الذي قتلوا راعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستاقوا الإبل. فبعثه في عشرين فارسًا وراءهم.
وقال ابْنُ أَبِي عَرُوْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رهطًا من عكل وعرينة أتوا رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: إنا أناس من أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، فاستوخمنا المدينة. فأمر لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذود وزاد، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من أبوالها وألبانها. فانطلقوا حتى إذا كانوا في ناحية الحرة قتلوا راعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- في طلبهم، فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم، وتركهم في ناحية الحرة حتى ماتوا وهم كذلك.
قال قتادة: فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] ، قال قتادة: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يحث في خطبته بعد ذلك على الصدقة وينهى عن المثلة. متفق عليه1.
وفي بعض طرقه: من عكل، أو عُرينة.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 163 و170 و177 و233 و287 و290"، والبخاري "1501" و"4192" و"5727"، ومسلم "1671" "13"، والنسائي "1/ 158" و"7/ 97"، وابن خزيمة "115"، والبيهقي "10/ 4" من طرق عن قتادة، به.
وأخرجه البخاري "4193" و"4610"، ومسلم "1671" "10" و"11" و"12"، والنسائي "7/ 93-94" من طريق أبي رجاء مولى أبي قلابة، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، به.
وأخرجه البخاري "333" و"6805"، وأبو داود "4364" من طريق سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوْبَ، عَنْ أَبِي قلابة، به.(2/16)
ورواه شعبة، وهمام، وغيرهما، عن قتادة فقال: من عرينة؛ من غير شكٍّ.
وكذلك قال حميد، وثابت، وعبد العزيز بن صهيب، عن أنس.
وقال زهير: حدثنا سماك بن حرب، عن معاوية بن قرة، عن أنس: أن نفرًا من عرينة أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعوه، وقد وقع في المدينة الموم -وهو البرسام- فقالوا: هذا الوجع قد وقع يا رسول الله، فلو أذنت لنا فرحنا لي الإبل. قال: "نعم، فاخرجوا وكونوا فيها". أخرجوا، فقتلوا أحد الراعيين وذهبوا بالإبل، وجاء الآخر وقد جُرحَ، قال: قد قتلوا صاحبي ذهبوا بالإبل. وعنده شباب من الأنصار قريب من عشرين، فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفًا يقتص أثرهم. فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم. أخرجه مسلم1.
وقال أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قدم رهط من عُكْل فأسلموا فاجتووا الأرض، فذكره، وفيه: فلم ترتفع الشمس حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت لهم، فكواهم وقطع أيديهم وأرجلهم، ولم يحسمهم2 وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا. أخرجه البخاري3.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1671" "13"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 180" من طريق زهير بن معاوية، به. وقوله "الموم": هو نوع من اختلال العقل. ويطلق على ورم الرأس وورم الصدر. وهو معرب. وأصل اللفظة سريانية.
2 وقوله: "ولم يحسمهم" أي لم يكوهم. والحسم في اللغة: كي العرق بالنار لينقطع الدم.
3 صحيح: راجع تخريجنا السابق رقم "358". وهو عند البخاري "233" و"6805" وغير فراجعه ثمت.(2/17)
إسلام أبي العاص مبسوطًا:
أسلم أَبُو العَاصِ بنُ الرَّبِيْعِ بنِ عَبْدِ العُزَّى بنِ عَبْدِ شَمْسٍ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ بنِ قصي العبشمي، خَتَنِ1 رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ابنته زينب، أم أمامة، في وسط سنة ست. واسمه لقيط، قاله ابن معين والفلاس. وقال ابن سعد: اسمه مقسم، وأمه هالة بنت خويلد خالة زوجته، فهما أبناء خالة. تزوج بها قبل المبعث، فولدت له عليًا فمات طفلًا، وأمامة التي صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حاملها وهي التي تزوجها علي -رضي الله عنه- بعد موت خالتها فاطمة -رضي الله عنها- وكان أبو العاص يُدْعَى جَرْو البطحاء، وأسر يوم بدر، وكانت زينب مكة.
قال يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، قالت: فبعثت في فدائه بمال منه قلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها. فَلَمَّا رَأَى رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القلادة رَقَّ لَهَا وَقَالَ: "إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا". ففعلوا. فأخذ عليه عهدًا أن يخلي زينب إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سرًّا.
وقال ابن إسحاق: فَبُعِثَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زيد بن حارثة ورجلًا، فقال: كونا ببطن يأجَج حتى تمر بكما زينب. وذلك بعد بدر بشهر. قال: وكان أبو العاص من رجال قريش المعدودين مالًا وأمانة وتجارة. وكان الإسلام قد فرَّق بينه وبين زينب، إلا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ لا يقدر أن يفرق بينهما.
قال يونس: عن ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثني عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ، قال: خرج أبو العاص تاجرًا إلى الشام، وكان رجلًا مأمونًا. وكانت معه بضائع لقريش. فأقبل قافلًا فلقيته سرية للنبي -صلى الله عليه وسلم، فاستقوا عيره وهرب. وقدموا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما أصابوا فقسمه بيهم، وأتى أبو العاص حتى دخل على زينب فاستجار بها، وسألها أن تطلب له مِنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رد ماله عليه. فَدَعَا رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السرية فقال لهم: "إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وقد أصبتم له مالًا ولغيره مما كان معه، وهو فيء، فإن رأيتم أن تردوا عليه فافعلوا، وإن كرهتم فأنتم وحقكم". قالوا: بل نرده عليه. فردوا والله عليه ما أصابوا، حتى إن الرجل ليأتي بالشنة، والرجل بالإداوة وبالحبل. ثم خرج حتى قدم مكة، فأدَّى إلى الناس بضائعهم، حتى إذا فرغ قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم معي مال؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرًا. فقال: أما والله ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا تخوفت أن تظنوا أني إنما أسلمت لأذهب بأموالكم، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وَأَنَّ محمَّدًا عبده ورسوله.
وأما موسى بن عقبة فذكر أن أموال أبي العاص إنما أخذها أبو بصير في الهدنة بعد هذا التاريخ.
وقال ابن نمير، عن إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قدم أبو العاص من الشام ومعه أموال المشركين، وقد أسلمت امرأته زينب وهاجرت، فقيل له: هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال التي معك؟ فقال: بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي، فكفلت عنه امرأته أن يرجع فيؤدي إلى كل ذي حق حقه؛ فيرجع ويسلم. ففعل. وما فرق بينهما، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن لهيعة عن موسى بن جبير الأنصاري، عن عراك بن مالك، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أم سلمة أن زينب بِنْتِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرسل إليها زوجها أبو العاص أن خذي لي أمانًا من أبيك. فأطلعت رأسها من باب حجرتها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في الصبح، فقالت: أيها الناس إني زينب بنت رسول الله، وإني قد أجرت أبا العاص. فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة قال: "أيها الناس إني لا علم لي بهذا حتى سمعتموه، ألا وإنه يجير على الناس أدناهم".
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بنِ الحُصَيْنِ عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: رد النبي -صلى الله عليه وسلم- ابنته على أبي العاص على النكاح الأول بعد ست سنين.
وقال حجاج بن أرطاة، عن محمد بن عبيد الله العرزمي -وهو ضعيف- عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ردها بمهر جديد ونكاح جديد.
قال الإمام أحمد: هذا حديث ضعيف، والصحيح أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقرهما على النكاح الأول.
وقال ابن إسحاق: ثم إن أبا العاص رجع إلى مكة مسلمًا، فلم يَشْهَدْ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مشهدًا. ثم قدم المدينة بعد ذلك، فتوفي في آخر سنة اثنتي عشرة، والله أعلم.
__________
1 ختن: زوج ابنته.(2/18)
سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن زارم في شوال:
قيل: إن سلام بن أبي الحقيق لما قتل أمرت يهود عليهم أسير بن زارم فسار في غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فوجه رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنَ رواحة في ثلاثة نفر سرًا، فسأل عن خبره وغرته فأخبر بذلك. فقدم عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبره. فندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم الناس فانتدب له ثلاثون رجلًا، فبعث عليهم ابن رواحة. فقدموا على أسير فقالوا: نحن آمنون نعرض عليك ما جئنا له؟ قال: نعم، ولي منكم مثل ذلك. فقالوا: نعم. فقالوا: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعثنا إليك لتخرج إليك فيستعملك على خيبر ويحسن إليك. فطمع في ذلك فخرج، وخرج معه ثلاثون من اليهود، مع كل رجل رديف من المسلمين. حتى إذا كانوا بقرقرة ثبار ندم أسير فقال عبد الله بن أنيس -وكان في السرية: وأهوى بيده إلى سيفي ففطنت له ودفعت بعيري وقلت: غدرًا، أي عدو الله. فعل ذلك مرتين. فنزلت فسقت بالقوم حتى انفردت إلى أسير فضربته بالسيف فأندرت1 عامة فخذه، فسقط وبيده مخرش2، فضربني فشجني مأمومة3، وملنا إلى أصحابه فقتلناهم، وهرب منهم رجل. فقدمنا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "لقد نجاكم الله من القوم الظالمين".
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ، "ح" وموسى بن عقبة عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعث عبد الله بن رواحة في ثلاثين راكبًا فيهم عبد الله بن أنيس إلى بُشَير بن رزام اليهودي حتى أتوه بخيبر، فذكر نحو ما تقدم، والله أعلم.
__________
1 أندرت: أسقطت.
2 المخرش: عصا معوجة الرأس.
3 المأمومة: الشجة التي بلغت أم الرأس، وهي الجلدة التي تجمع الدماغ.(2/19)
قصة غزوة الحديبية وهي على تسعة أميال من مكة:
خرج إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذي القعدة سنة ست. قاله نافع، وقتادة، والزهري، وابن إسحاق، وغيرهم، وعروة في "مغازيه"، رواية أبي الأسود.
وتفرد عَلِيُّ بنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيْهِ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج إلى الحديبية في رمضان وكانت الحديبية في شوال.
وفي الصحيحين عن هدبة، عن همام، قال: حدثنا قتادة، أن أنسًا أخبره أَنَّ نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعتمر أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهُنَّ فِي ذِي القَعْدَةِ، إِلاَّ العمرة التي مع حجته: عمرة الحديبية زمن الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل، وعمرة من الجعرانة، حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته1.
وقال الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم منها. أخرجه البخاري2.
وقال شعبة، عن عمرو بن مرَّة، سمع ابن أبي أوفى -وكان قد شهد بيعة الرضوان- قال: كنا يومئذ ألفًا وثلاث مائة. وكانت أسلم يومئذ ثمن المهاجرين. أخرجه مسلم. وعلقه البخاري في صحيحه3.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4148"، ومسلم "1253" حدثنا هدبة بن خالد، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4157" و"4158" حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان، عن الزهري، به.
3 أخرجه البخاري "4155" معلقًا قال: قال عُبَيْدُ اللهِ بنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شعبة، به وقال الحافظ في "الفتح": كذا ذكره بصيغة التعليق، وقد وصله أبو نعيم في "المستخرج على مسلم" من طريق الحسن بن سفيان "حدثا عبيد الله بن معاذ به" وقال مسلم "حدثنا عبيد الله بن معاذ به".(2/20)
وقال حصين بن عبد الرحمن، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر، قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة. متفق عليه1.
وخالفه الأعمش، عن سالم، عن جابر، فقال: كنا أربع عشرة مائة، أصحاب الشجرة، اتفقا عليه أيضًا.
وكأن جابرًا قال ذلك على التقريب. ولعلهم كانوا أربع عشرة مائة كاملة تزيد عددًا لم يعتبره، أو خمس عشرة مائة تنقص عددًا لم يعتبره والعرب تفعل هذا كثيرًا، كما تراهم قد اختلفوا في سَنَّ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فاعتبروا تارة السنة التي ولد فيها والتي توفي فيها فأدخلوهما في العدد. واعتبروا تارة السنين الكاملة وسكتوا عن الشهور الفاضلة.
ويبين هذا أن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة. قلت: إن جابرًا قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال: يرحمك الله، وهم. هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة. أخرجه البخاري2.
وقال عمرو بن دينار: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا يوم الحديبية ألفا وأربع مائة. فقال لَنَا رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أنتم خير أهل الأرض". اتفقا عليه من حديث ابن عيينة.
وقال الليث، عن أبي الزبير، عن جابر: كنا يوم الحديبية ألفًا وأربع مائة. صحيح.
وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر: نحرنا عام الحديبية سبعين بدنة، البدنة عن سبعة. قلنا لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفًا وأربع مائة بخيلنا ورجلنا.
وكذلك قاله البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع، في أصح الروايتين عنه، والمسيب بن حزم، من رواية قتادة، عن سعيد، عن أبيه.
قال البخاري3: معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور، ومروان بن الحكم، يصدق كل واحد منهم حديث صاحبه، قالا: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زمن الحديبية في بضع
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4152"، ومسلم "1856" "73" من طريق حصين، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4153" حدثنا الصَّلت بن محمد، حدثنا يزيد بن زُريع، عن سعيد، عن قتادة، به.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4178" و"4179" حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قال: سمعتُ الزهري حين حدث هذا الحديث حفظتُ بعضه، وثبتني معمر، عن عروة بن الزبير، به.(2/21)
عشرة مائة من أصحابه. حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره، وأحرم بالعمرة. وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش. وسار حتى إذا كان بعذبة الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشيروا علي، أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن لجوا تكن عنقا قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه "؟ قال أبو بكر: الله ورسوله أعلم إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. قال: "فروحوا إذا".
قال الزهري في الحديث: فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين". فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش. وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التى يهبط عليهم منها بركت راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء. قال: فروحوا إذا.
قال الزهري: قال أبو هريرة: ما رأيت أحدا كان أكثر مشاورة لأصحابه مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ المسور ومروان في حديثهما1: فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش" -رجع الحديث إلى موضعه- قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا خلأت القصواء وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل". ثم قال: "والذي نفسى بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها". ثم زجرها فوثبت به. قال: فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، إنما يتبرضه
__________
1 صحيح: أخرجه عبد الرزاق "9720"، وأحمد "4/ 328- 331و 331-332"، والبخاري "1694" و "1695" و "2731"و "2732"، وأبو داود "2765" و"4655"، والطبري "28/ 71و 97- 101و 101"، والطبراني في "الكبير" "20/ 13و 14و 15و 842"، البيهقي "5/ 215"و "7/ 171" و "9/ 144و 218-221"و "10/ 109" مِنْ طَرِيْقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بن الزبير، عن المسور ابن مخرمة، ومروان بن الحكم، به في حديث طويل.
قوله: "حل حل": كلمة تقال للناقة إذا تركت السير. قوله: "فألحت": أي تمادت على عدم القيام.
قوله: "خلأت القصواء": أي بركت فلم تبرح. والقصواء اسم نَاقَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/22)
الناس تبرضا1، فلم يلبثه الناس أن نزحوه، فشكو إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العطش. فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، قال: فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
فبينا هم كذلك إذ جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح2 لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أهل تهامة. فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ، المطافيل3، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا 4، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي 5 أو لينفذن الله أمره". فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا، فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم نعرضه عليكم فعلنا؛ فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا في أن تحدثنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا كذا. فحدثهم بما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ عروة بن مسعود الثقفي، فقال: أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: ألست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: هل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا6 عليه جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلي. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها ودعوني آته. قالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال نحوا من قوله لبديل. فقال: أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأرى أوباشا7 من
__________
1 يتبرضه الناس تبرضا": أي يأخذونه قليلا قليلا.
2 عيبة نصح: عيبه الرجل: موضع سره، أي أنهم موضع النصح له والأمانة على سره.
3 العوذ المطافيل: العوذ: جمع عائذ، وهى الناقة ذات اللبن. والمطافيل: الأمهات اللاتي معها أطفالها.
4 جموا: استراحوا. وهو بفتح الجيم وتشديد الميم المضمومة: أي قووا.
5 سالفتي: السالفة: صفحة العنق، وكنى بذلك عن القتل؛ لأن القتيل تنفرد مقدمة عنقه. وقال الداودي المراد الموت: أي حتى أموت وأبقى منفردا في قبري.
6 بلحوا: أي امتنعوا من الإجابة. وبلح الغريم إذا امتنع من أداء ما عليه.
7 أوباشا: أي أخلاطا من السفلة. ووقع عند البخاري: "وإني لأرى أشوابا من الناس والأشواب: الأخلاط من أنواع شتى. والأوباش أخص من الأشواب.(2/23)
الناس خلقاء أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر -رضي الله عنه- امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ قال: من ذا؟ قال: أبو بكر. قال: والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم كلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رَأْس رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك. فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر، أولست أسعى في غدرتك؟ قال: وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء".
ثم إن عروة جعل يرمق صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم؛ فوالله ما تنخم رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُخَامَةً إلا وقعت في كف رجل منهم يدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروه، وإذا توضأ ثاروا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا. والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدون إليه النظر تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعونى آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له. فبعثت له. واستقبله القوم يلبون. فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز وهو رجل فاجر". فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم. فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.
قال معمر: وأخبرني أيوب، عن عكرمة أنه قال: لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سهل لكم من أمركم".
قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات اكتب بيننا وبينك كتابًا.(2/24)
فدعا الكاتب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكتب باسمك اللهم" ثم قال-: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله". فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد اللهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله".
قال الزهري: وذلك لقوله: لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف". فقال: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل. فكتب. فقال سهيل: على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. فقال: المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده1 قد خرج من أسفل مكة حتى رمى نفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: وهذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد". قال: فوالله إذا لا نصالحك علي شيء أبدا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجره لي" 2. قال: ما أنا بمجيره لك. قال: "بلى، فافعل" قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجرناه. قال أبو جندل: معاشر المسلمين أأرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله.
فقال عمر: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رسول الله، ألست نبي الله؟ قال: "بلى"، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى"، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: "إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري". قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف حقا؟ قال: "بلي"، أنا أخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: "فإنك آتيه ومطوف به". قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل إنه رسول وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق. قلت: أوليس كان يحدثنا أنه
__________
1 يرسف في قيوده: أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد.
2 فأجره لي: أي أمض لي فعلي فيه، فلا أرده إليك أو أستثنيه من القضية.(2/25)
سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال: الزهري. قال عمر: فعلمت لذلك أعمالا.
فلما فرغ من قضية الكتاب قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قوموا فانحروا ثم احلقوا". قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك، ثم تدعو بحالقك فيحلقك. فقام فخرج فلم يكلم أحدا حتى فعل ذلك. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، ثم جاءه نسوة مؤمنات، وأنزل الله: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} حتى بلغ {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ، فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية، والأخرى صفوان بن أمية.
ثم رَجَعَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة، فجاءه أبو بصير، رجل من قريش، وهو مسلم، فأرسلوه في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا. فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم. فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيدا جدا. فاستله الآخر فقال: أجل، والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت.
فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه. فأمكنه منه فضربه حتى برد. وفر الآخر حتى بلغ المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم: قتل والله صاحبي وإني لمقتول. قال: فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد أوفي الله ذمتك، والله قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه 1 مسعر حرب 2 لو كان له أحد". فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم.
__________
1 "ويل أمه": قال الحافظ في "الفتح" "5/ 350" "ط. دار المعرفة": ويل بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة: وهى كلمة ذم تقولها العرب في المدح ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم؛ لأن الويل الهلاك فهو كقولهم: "لأمه الويل" قال بديع الزمان في رسالة له: والعرب تطلق "تربت يمينه" في الأمر إذا أهم ويقولون "ويل أمه" ولا يقصدون الذم. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر. وقال الفراء: أصل قولهم: ويل فلان "وي" لفلان: أي فكثر الاستعمال فألحقوا بها اللام، فصارت كأنها منها، وأعربوها، وتبعه ابن مالك إلا أنه قال تبعا للخليل: إن "وي" كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال واللام بعدها مكسورة ويجوز ضمها اتباعا للهمزة وحذفت الهمزة تخفيفا، والله أعلم.
2 قوله: "مسعر حرب": بكسر الميم وسكون المهملة وفتح العين المهملة وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب، أي يسعرها. قال الخطابي: كأنه يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها.(2/26)
فخرج حتى أتى سيف البحر. وينفلت منهم أبو جندل ابن سهيل فلحق بأبي بصير، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة.
قال: فوالله لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه منهم فهو آمن. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأنزل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} حتى بلغ {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 24- 26] ، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا بنبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت. أخرجه البخاري، عن المسندي، عن عبد الرزاق، عن معمر، بطوله1.
وقال قرة، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: من يصعد الثنية، ثنية المرار، فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل. فكان أول من صعد خيل بني الخزرج. ثم تبادر الناس بعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر". فقلنا: تعال يستغفر لَكِ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم. وإذا هو رجل ينشد ضالة. أخرجه مسلم2.
وقال البخاري: عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها فما تركنا فيها قطرة، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء منها فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا نحن وركابنا. أخرجه البخاري3.
وقال عِكْرِمَةُ بنُ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بنِ سَلَمَةَ بن الأكوع، عن أبيه، قال: قدمنا مع رسول
__________
1 صحيح: سبق تخريجنا له بإسهاب في تعليقنا رقم "372"، وهو عند البخاري "1694" و"1695" و"2731" و"2732" فراجعه ثمت.
2 صحيح: أخرجه مسلم "2880" "12" حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا قرة بن خالد، به.
قوله: "إلا صاحب الجمل الأحمر": قال القاضي عياض: قيل: هذا الرجل هو الجد بن قيس، المنافق.
وقوله: "ينشد ضالة" أي يسأل عنها.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4150" حدثنا عبيد الله بن موسى، به.(2/27)