وكل سراياه لا تعود إلا بالنصرة التامة، وتنبئ في سائر الآفاق عن البشائر العامة. وقد بعث جماعة من أولاده الكرام.
وممن بعثه منهم فأبان عن الفعل الحسن، السيد الحسين بن الحسن.
ومنهم الشريف أبو طالب المصاحب للنصرة، فقد أرسله وعاد بالظفر غير ما مرة.
ومنهم السيد مسعود، فحصل بإرساله السعود.
ومنهم السيد عقيل، فنال في مبعثه غاية التأميل.
ومنهم السيد عبد المطلب، فأصبح بتجهيزه للسؤدد مجتلب.
ومنهم الشريف عبد الله بن الحسن، فكان بعزمه إصلاح جهات اليمن.
وجميع غزواته وسراياه بالنصر مقرونة، وطوالع طلائعه بالحروب ميمونة.
ما اتفق له في شيء منها انكسار، ولا ذمت له في عجاج معاركها إذا ثار آثار. فأما العلماء، فنشروا على رؤوسهم علم المفاخر، وتوجوا لديه بالوقار، ولحق أولهم الآخر.
فخدموا خزائنه المعمورة بالتآليف الحسنة، وأتوا جنابه بالتصانيف اللطيفة في كل سنة.
وأما الشعراء فانتظموا في زمانه انتظام دراري الإكليل، ولبسوا في أيامه ثوب كل فخرجميل.
وقصدوا جوده العميم من سائر الأقطار، ولو جمع جميع مدائحه لكانت أسفاراً كباراً.
ولو قال قائل: إنه يمدح في كل عام بنحو الألف، لأنصف في قوله وما جازف. ولم يزل يتوالى عليهم بره، وما انفك متواترا عليهم لطفه وعطفه وبشره.
يجيز على التأليف بالألف الدينار والأكثر. وينصف الشخص على التصنيف بالمبالغة في الثناء الأعطر.
وما برح يترقى في مصاعد السعد، ويتخطى بأخمصه هامة المجد.
ناشراً راية عدله على مفرق الليالي والأيام.
مقلداً جواهر فضله جيد الأنام.
ولما كان سابع عشر محرم سنة واحدة بعد الألف، حضر مولانا السيد مسعود ابن الشريف حسن، وهو أكبر أولاده بعد السيد حسين بن الحسن نيابة عن أبيه الشريف حسن بالمسجد الحرام، وحضر أكابر العلماء والأعيان لقياس طول الكعبة من داخلها لورود أمر مولانا السلطان محمد بن مراد بذلك ليعمل لها كسوة، فذرعت بالذراع الحديد المصري فعملت وأرسلت.
وورد أمر شريف منه أيضاً أن يخمن ما يحتاج إليه في ترخيم المطاف الشريف، فذرع المطاف الأسطى سفر المعمار والمعلم محمد البحيري المهندس، فكان ذرعه مكسراً بحساب الطرح ذراعاً في ذراع ألفين وخمسمائة ذراع، وقالوا كل ذراع يحتاج إلى أربعة دنانير يكون جملة ذلك عشرة آلاف دينار.
وكان ذلك التخمين في تاسع عشري جمادى الأولى سنة اثنتين بعد الألف.
ثم الذي تحرر عليه القول أن المطاف أربعة آلاف ذراع صرف عليه عشرة آلاف دينار.
وفي هذه السنة توفي الشيخ ربيع بن السنباطي السالك على الطريقة الجميلة، والمالك لأزمة كل فضيلة، مدحه جماعة من الفضلاء ورثاه غير واحد من الأدباء، منهم صاحب الريحانة بأبيات خمسة آخرها بيت التاريخ وهو: من الخفيف:
قد فقدنا فيه اصطباراً فأرخْ ... كل صبرٍ محرم في ربيعِ
ورثاه مؤرخاً الشيخ حسن الشامي بأربعة أبيات آخرها التاريخ وهو: من الكامل:
وإذا ذكَرْتَ ربيعَ أيامٍ مضَت ... أرخ بشوالٍ فراقَ ربيعِ
وفي سنة ثلاث بعد الألف لست عشرة مضت من جمادى الأولى، توفي مولانا السلطان مراد بن سليم، ورثاه جماعة من الفضلاء، منهم الشهاب أحمد المرحومي المغربي فقال: من الطويل:
تهايل من رُكْنِ الصلاحِ مشيد ... بموتِ شهنشاه الملوك مرادِ
فلم يُرَ في تلك الممالكِ مالك ... مُرَادُ الورَى من بعد فَقْدِ مُرَادِي
وفي سنة أربع توفي إمام الحرمين وشيخ المصرين، من كانت العلماء تكتب عنه ما يملي، مولانا شمس الدين محمد بن أحمد بن حمزة الرملي، فاتح أقفال مشكلات العلوم، ومحيى ما اندرس منها من الآثار والرسوم، أستاذ الأستاذين، وواحد علماء الدين، علامة المحققين على الإطلاق، وفهامة المدققين بالاتفاق.
ولد سنة تسع عشرة وتسعمائة بمصر المحروسة. وله ترجمة طويلة جميلة.
وفيها توفي الشيخ علي بن محمد بن علي الشهير بابن غانم المقدسي الخزرجي، شمس العلوم والمعارف، بدر الفهوم واللطائف، قرة عين أصحاب أبى حنيفة، الراقي من معارج التحقيق أعالي الرتب المنيفة.
ترجمه الشيخ عبد الرؤوف المناوي فقال: شيخ الوقت حالاً وعلماً، وتحقيقاً وفهماً، وإمام المحققين حقيقة ورسماً.(2/472)
وفي سنة ست بعد الألف: تخلف مولانا الشريف حسن بجهة ركبة، وأرسل أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة إلى أخيه السيد ثقبة بن أبي نمي يلتمس منه أن يلبس خلعته أكبر أولاده السيد مسعود بن حسن، فلما كان يوم العرضة خرجا إلى المختلع لبس السيد ثقبة خلعته وهي الثانية رتبة همز الفرس، وتقدم إليها فلبسها متقدمه، ثم قال للداودار: احفظ خلعة سيدك، فلم يلبث السيد مسعود أن توفي غيظاً للنفس الأبية والشيم الهاشمية، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وبنيت على قبره قبة عظيمة باقية إلى الآن.
وفي سنة سبع بعد الألف: توفي العلامة خضر بن عطاء الله الموصلي.
قاد فيه في الريحانة: كعبة فضل مرتفعة المقام، تضمنت ألسن الرواة التزامه، فلله ذلك المتضمن والالتزام.
أقام بمكة مع بني حسن مخضر الأكناف، وصنف باسم الشريف حسن كتابه شرح شواهد الكشاف.
قلت: رأيت بخط جدي العلامة جمال الدين العصامي ما نصه: أشرفني المولى خضر بن عطاء الله على وصلٍ كتب له بأمر مولانا الشريف الحسن بن أبي نمي صورته: الحمد لله. حسن بن أبي نمي: يا أبا محمد ريحان بن عقبة الدويدار سلمك الله.
اعط العلامة المفيد الفهامة خضر أفندي ألف ذهب جديد نصف ذلك حفظاً لأصله خمسمائة ذهب، وهي جائزة كتابي الذي صنفه باسمي. الله الله.
كتبه صبيح بن مقبول بأمر سيدنا ومولانا الشريف أيده الله بتاريخ عشر جماد أول سنة، 1003 وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وبخط مولانا الشريف بيده: الله الله يا ريحان في نجاز ذلك بسرعة انتهى.
رحم الله الجميع ومن شعر خضر المذكور قوله: من الطويل:
تبدلْ عنِ البرشِ المبلدِ بالطّلاَ ... فعالمُ أَهْلِ البرشِ غمْرٌ وجَاهِلُ
فما البرشُ إنْ فتشتَ عن كنهِهِ سوَى ... دويهيةٌ تصفَر منها الأناملُ
وفي سنة سبع بعد الألف طلب الشريف أبو طالب من أبيه الشريف حسن أن يتخلف بالمبعوث ليلبس هو الخلعة، فخرج مع عمه السيد ثقبة إلى المختلع، فتقدم الشريف أبو طالب ولبى الخلعة الأولى خلعة والده متقدماً على عمه، ثم لبس السيد ثقبة الخلعة الثانية، فوقع له ما وقع بسببه لابن أخيه، وأورد مورده الذي كرع فيه، فتوفي إلى رحمة الله تعالى حادي عشر صفر من السنة التي بعدها أعني سنة ثمان بعد الألف.
ومولانا السيد ثقبة أكبر إخوان الشريف حسن.
كان مولده سنة خمس وعشرين وتسعمائة.
وكان رجلاً عاقلاً صبوراً، متحملاً كثير الملايمة والتودد إلى الناس.
وله فضيلة وشعر حسن ومفاكهة لطيفة.
وله من الأولاد ستة ذكور وابنة واحدة. وكان مولانا الشريف حسن يراعيه الرعاية التامة، وكان له محصول كبير جداً من جهات عديدة، فلما مات قرر لكل واحد من أولاده في كل شهر ألف أشرفي فضة غير المقررات السابقة وللبنت خمسمائة أشرفي، وقال لهم: إن والدي الشريف أبا نمي - رحمه الله تعالى - لما فرغ بالسلطنة اختار أن يكون مقرره في كل شهر ألف أشرفي، وأنا أقمت لكل واحد منكم ألف أشرفي عوض الجهات التي كانت لوالدكم أعني من المعشرات، وخراج الأراضي، فإن تلك لائقة بصاحب الأمر.
والله يلهمكم الصبر، ويعظم لكم الأجر.
وفيها توفي رئيس الأطباء داود بن عمر الأنطاكي المتوحد بأنواع الفضائل، والمنفرد بمعرفة علوم الأوائل.
شيخ العلوم الرياضية، سيما الفلسفية، وعلم الأبدان، القسيم لعلم الأديان؛ فإنه بلغ فيه الغاية التي لا تدرك، وانتهى إلى الغاية التي لا تكاد تملك.
له فضل ليس لأحد وراءه فَضلَة، وعلم لم يحز أحد في عصره مثله.
يكاد لقوة حدسه يستشف الداء من وراء حجابه، ويناجيه بظاهر علاماته وأسبابه.
حكى أن الشريف حسن لما اجتمع به أمر بعض إخوانه أن يعطيه يده ليجس نبضه، وقال له الشريف حسن: جس نبضي، فأخذ يده فقال: هذه اليد ليست يد الملك، فأعطاه الأخ الثاني يده، فقال كذلك، فأعطاه الشريف حسن يده، فحين جسها قبلها، وأخبر كلا بما هو متلبس به.(2/473)
وحكى أنه استدعاه لبعض نسائه فلما دخل قادته جارية، ولما خرجت به قال للشريف حسن: إن الجارية لما دخلت بي كانت بكراً، ولما خرجت بي صارت ثيباً، فسألهما الشريف، وأمنها فأخبرته أن فلاناً استفضها قهراً فسأله فاعترف بذلك. وحكى العلامة شيخنا الشيخ محمد البابلي أن داود الحكيم المذكور مر ببعض الحارات التي يسكنها الضعفاء والفقراء بمصر، فسمع صوت مولود حال ولادته، فقال: هذا صوت بكري، فتفحصوا عن ذلك فوجدوه كما قال، وذلك أن بعض البكريين تزوج ببنت فقير خفية، ووافق حال ولادتها مرور المذكور.
وله ترجمة طويلة في الريحانة وغيرها.
وفي يوم الخميس سادس عشرى جمادى الآخرة من سنة ثمان بعد الألف قبيل المغرب بقليل: أمر مولانا الشريف حسن الشيخ عبد الكريم بن محب الدين القطبي أن يكتب إلى الباب العالي بتوجيه الأمر إلى أكبر أولاده مولانا الشريف أبو طالب، فبعد أن كتب العرض أشار مولانا بتأخيره إلى ما بعد الموسم، ثم أرسل أوائل سنة تسع فأجيب إلى ذلك، ووصل الأمر الشريف السلطاني - أواخر السنة المذكورة - بأن يكون مولانا الشريف أبو طالب مشاركاً له، ودُعِيَ لهما على المنابر.
وفي يوم الإثنين سابع ذي الحجة الحرام منها أعني سنة ثمان كانت عرضة المصري، وأمير حاجه بيري بك، فتوجه مولانا الشريف حسن إلى العرضة هو وأولاده، فلما وصل المختلع أشار أن يلبس خلعة المصري مولانا الشريف أبو طالب، فلبسمها وقبل يد والده.
وأن الخلعة الثانية التي كان يلبسها أخوه السيد ثقبة بن أبي نمي تلبس لثاني أولاده السيد عبد المطلب بن حسن فلبسها، ثم جاء الأمير المذكور إليهما فتحايوا تحية الإسلام، ثم توجه الأمير واستمروا موالينا واقفين إلى أن وصل الأمير طماس أمير الحاج الشامي، فلبس مولانا الشريف حسن الخلعة التي معه ودخلوا ثلاثتهم لابسين الخلع ولم يعهد قبل مثل ذلك، وسبب ذلك توافق أمير المصري والشامي في المنزل بالمختلع في ذلك اليوم.
فألبس الشريف حسن ولديه خلعة المصري وثانيتها، وأشار إلى أمير الشامي بأن يتهيأ ليعرض له في ذلك الوقت لضيق الزمان والاحتياج إلى العرضة لأمير اليماني في اليوم الثاني، وهذا تَدْبِيز حَسَنٌ لأنه تَدْبِيرُ حَسَنٍ.
ثم في اليوم الثاني، وهو الثامن من ذي الحجة: توجه موالينا الأشراف لاستقبال المحمل اليماني، فلبس الشريف أبو طالب القفطان الأول، والسيد عبد المطلب القفطان الثاني، وأمير الحاج اليماني الأمير فرحات الشهير باليازجي وهو من أقارب الوزير حسن باشا صاحب اليمن، فاستمر الشريف أبو طالب على ذلك إلى أن توجه والده الشريف حسن، وكان مقيماً بالمحل المعروف بالبردان، فتوجة منه غازياً إلى جهة نجد في ثامن ربيع الآخر سنة عشر وألف. والفريق مقيم بالمبعوث مشمولاً بنظر الشريف أبي طالب تحت نهيه وأمره، وأمر بضرب النوبة على بابه السعيد. واستمر الشريف حسن ذاهباً إلى أن وصل إلى محل يسمى فاعية فأقام به مدة من الزمان.
ولما كان يوم الثلاثاء غرة جمادى الآخرة من السنة المذكورة أصبح متوعكاً، إلى أن كانت ليلة الخميس ثالث الشهر المذكور انتقل إلى رحمة الله تعالى أثناء الليلة المذكورة، فأخفى موته عن الحريم والخدم والصغار والحشم إلى أن طلع الفجر، فأظهر ذلك وحمل في تختروانه الذي كان يركبه في حياته على البغال، وقد حصلت علامات ذلك من عصر يوم الأربعاء حتى إن أبناءه الذين كانوا معه بذلك المحل أعدوا البغال والبراذين في المنازل صوب مكة؛ لغلبة ظنهم بوقوع الوفاة، وبعد المسافة عن مكة لتكون كخيل البريد المسماة في عرف الأروام ولاقاً، وكان ذلك رأياً حسناً.(2/474)
فلما توفي جدوا به في المسير فساروا يوم الخميس وليلة الجمعة ويومها، ووصلوا به إلى مكة في أوائل النصف الثاني من ليلة السبت، ولولا مفارقتهم الطريق بموجب الظلام والمطر والغيم، وتعويق السيل لهم في بعض الأماكن - لأمكنهم في دخول يوم الجمعة، مع أن المسافة تزيد على عشرة أيام، وما كان هذا التيسير إلا كرامة للمرحوم، لسرعة وصوله إلى البلد الحرام، وذهب الخبر بوفاته من حينها إلى الشويف أبي طالب بجهة المبعوث، فبمجرد وصول الخبر إليه قصد مكة، وخلف السيد عبد المطلب لحفظ المراح ومن فيه فدخلها ليلة السبت في أول الثلث الثاني قبل دخول جنازة والده، وبمجرد وصول الجنازة شرع في التغسيل والتكفين، وصلى عليه بالمسجد الحرام قبل الفجر، ودفن بالمعلاة، وبنى عليه قبة عظيمة باقية إلى الآن، رحمه الله تعالى رحمة جمة، ووالى عليه صيب الرضوان والرحمة.
مات وله من العمر تسع وسبعون سنة، ومدة ولايته مشاركاً لأبيه أبي نمي، وولده أبي طالب، ومستقلاً نحو خمسين سنة.
وفيها توفي السيد عبد المطلب بن حسن، كان على غاية من الكمال، ومن مشاهير الأبطال، وكان يلبس الخلعة الثانية في حياة أبيه، وكان والده يعتمد عليه في الأمور العظام، ويفتخر به في كل محفل ومقام - رحمه الله تعالى.
وفيها توفي القاضي علي بن جار الله الحنفي المكي القرشي.
انتفع به جماعة: منهم شيخ الإسلام عبد الرحمن، وأخوه القاضي أحمد ابنا عيسى المرشدي، والإمام عبد القادر بن محمد الطبري وغيرهم.
له تصانيف عديدة مفيدة، منها: حاشية على التوضيح، وحاشية على شرح إيساغوجي لشيخ الإسلام زكريا، وتذكرة مفيدة، وفتاوي لكنها غير مجموعة، وديوان شعر منه قوله: من السريع:
قُلتُ لشهرِ الصومِ لما دنا ... مودعاً مني وداعَ الصديقْ
سَلمْ على الموسم باللهِ لي ... وقُل له أقبِلْ فهذا الطريقْ
قلت: ما ألطف قوله أَقبل... إلخ، كأنه يشير إلى أنه كعقبة في الطريق كانت فزالت.
وفيها توفي الملا صفي الدين بن محمد الكيلاني، المكي الشافعي، الطبيب الألمعي، الأريب اللوذعي، أفلاطون زمانه.
شرح خمرية سيدي عمر بن الفارض شرحاً مفيداً جعله باسم مولانا الشريف حسن، وأجازه عليه إجازات عظيمة.
يحكى عنه غرائب، منها: أنه مر عليه بجنازة بعض الطرحاء فدعا به، وأخذ من دكان بعض العطارين شيئاً نفخه في أنف الطريح فجلس من حينه، وعاش مدة بعد ذلك، فسئل عن ذلك فقال: رأيت أقدامه واقفة فعلمت أنه حي.
ومنها: أن بعض التجار كان يطعن في معرفته، فأرسل إليه بعض الفقراء بغصن من نبات له رائحة طيبة، فلما شمه التاجر انتفخ بطنه، وعجز الأطباء الموجودون عن علاجه، فاضطر إلى صاحط الترجمة، واستعطفه فأعطاه سفوفاً من ذلك النبات بعينه فعوفي مما به.
ومنها: أن بعض أولاد الشريف حسن أصابته علة، فأمر صفي الدين المذكور أن نجعل له كوفية من عنبر، ففعلت فزالت العلة، ثم أصابت تلك العلة بعينها بعض الرعية فعمل له كوفية من ضفع البقر فعوفي، فقيل له في ذلك، فقال: نعم العلة واحدة، لكن ولد الشريف نشأ في الرائحة الطيبة، فلو عملت له من الضفع لزادت عليه، والآخر بعكسه، فداوينا كلا بما يناسبه.
وكان يأمر من أصابه مرض بالخروج من مكة، ولو إلى المنحني؛ لأن هواء مكة في غاية الاعتدال لكن رائحة البالوعات تفسده، ولهذا بنى له هناك بيتاً يسكنه من به مرض رحمه الله تعالى.
وقد رزق مولانا الشريف حسن من الأولاد نحو خمسة وعشرين ذكراً، منهم: سالم وعلي وأبو القاسم وحسين ومسعود وباز وأبو طالب وعقيل وعبد المطلب وعبد الله وعبد الكريم وعبد المحسن وعدنان وإدريس وفهد وشنبر وعبد المنعم والمرتضى وهزاع وعبد العزيز وعبيد الله وجود الله وبركات وقايتباي ومحمد حارث وآدم، ومن الإناث نحو اثنتين وعشرين: شمسية وروضة وأرينب وصمدة وبلخشة وياقوتة وفاطمة وعزيزية وزين الحبوش وريمة وجربوعة وزين الشرف وسلامة وكثيرة وفاطمة أيضاً وعزيزية أيضاً ومنى ومزنة وحريملة وهيفاء وراية وعزا وغيرهن. آخرهن موتاً ياقوتة.
ومات منهم جملة من الذكور والإناث في حياته.
وورثه سبعة عشر ذكراً وأربع عشرة أنثى.
ووزع مخلفه بين أولاده ما عدا السلاح والخيل والعبيد فعادتهم أنها لصاحب أمر بعده.(2/475)
ذكر ما منحه الله من الفراسة المقتبسة من الحضرة النبوية، والخلافة العلوية. فمن ذلك: أنه سرقت الفرضة السلطانية بجدة المحمية، وضاع منها قماش له صورة وأموال كثيرة، ولم يكسر بابها ولا نقب جدارها، ولا أثر يحال عليه في معرفة المطلوب والطالب، بل حبل مسدول من بعض الجوانب، فلما عرض على حضرته الشريفة الكريمة هذه القصة العظيمة طلب الحبل المذكور ثم شمه ثم قال: هذا حبل عطار، ثم دفعه إلى ثقة من خدامه، وأمره أن يدور به على العطارين، فعرفه بعضهم، وقال: هذا حبل كان عنده اشتراه مني فلان، ثم نقله من رجل إلى رجل إلى أن وصل بشخص من جماعة أمين جدة المعمورة، ثم وجدت السرقة بعينها في المحل الذي ظنها فيه.
ومنها: أن رجلاً من التجار سرق له مال عظيم بمحل معين، فلما رفع قصته إلى مولانا الشريف حسن قال له: هل وجدت في محل السرقة شيئاً من آثار العرب؟ فقال وجدت هذه العصا، فنظر إليها الشريف فوجد بها علامة، فقال: هذه العصا عليها علامة الطائفة الفلانية، فاتفق بسعده وبركة جده حضور رجل من أعيان هذه الطائفة وبيده عصا عليها نظير العلامة المذكورة فعرفه مولانا الشريف حسن بالحال،، ألزمه بتحصيل المرام، فصدق الله فراسة مولانا المشار إليه ورجع المال لصاحبه. ومنها: أن رجلاً تاجراً عطاراً مغربيُّاً بمكة المشرفة هرب له عبد، ثم وجده فطلب العبد البيع، فأجابه لذلك سيده، فاشتراه رجل بمال عظيم ثم أعتقه، فبعد مدة فقد التاجر مالاً كثيراً من دكانه وحاصله، فرفع قصته إلى مولانا الشريف حسن، فأمره أن يخفي أمره ويترك ذكره. ثم سأل عن مشتري العبد المذكور هل هو من أهل المال الكثير حتى يشتري مثل هذا العبد بماله ويعتقه، وهل سبق له عتق قبل ذلك؟ فأجيب بأنه لم يقع منه عتق، وليس له مال بل هو فقير يصرف الفلوس، وظهر الآن له نوع يسار، فطلب الشريف العبد على غفلة ثم خاطبه بغير واسطة، وعرض له بأنه بلغني أمانتك، وأنك نصحت في خدمة مولاك، وأنه قصر في رعايتك فطلبت البيع، وقد أصبت فيما فعلته.
وعرض عليه أن يجعله مقدماً عنده، ففرح العبد لذلك، ثم تغافل عنه مدة وطلبه ثانياً وعرض له ببخل سيده، وأنه يستحق كل ما تفعل فيه ثم قال له: بلغني أنك جمعت من مراجلك ثمنك، وأعطيته لفلان يعني المشترى، فاشتراك به ونعم ما فعلت، فصدق العبد جميع ما قال له مولانا، فأمر بحبسه بلطف وطلب المشتري، ثم قال له: مرادي أستخدم عبد التاجر المغربي الذي أعتقته.
فأجاب بشكر العبد والثناء عليه وأنه يليق بذلك، ولم يزل يتلطف به حتى أقر بما أقر به العبد، فأمر بحبسهما معاً ثم ضربهما ضرباً شديداً حتى أحضر جميع ما فقده تاجر إلا قليلاً، ثم أمر بصلب العبد والمشتري بعد التعزير والنكال الشديد فصلبا، فتعجب الخاص والعام من هذه الفراسة المسطورة.
ومنها: أن رجلين مصري ويمني تنازعاً في جارية ادعى كل منهما ملكها من غير إقامة حجة شرعية، وتحير في أمرهما سائر الحكام من أهل الشرع والعرف، فرفعت القصة إليه؟ فلما سمع دعوى كل منهما وعدهما بالنظر في أمرهما في مجلس ثان، اختلى باليمني وسأله عن اسم الحب الحنطة فقال هو البُر، ثم اختلى بالمصري، سأله عما ذكر فقال هو القمح، ثم سأل الجارية عن اسم الحب المرة بعد المرة فقال: أم بر، فلما نطقت باللغة اليمنية قال لها والقمح ما هو؟ قالت؛ لا أعرفه، فلما تم ذلك عنَّ له اختبار ما منحه الله من الفراسة، فأحضر المصري وتلطف به ووعده بعدم المؤاخذة فاعترف بأنها ملك اليمني وزالت الشبهة ببركته ووصل الحق إلى مستحقه.
ذكر بعض فتوحاته بذاته، وأولاده الكرام في حياته: أولها قصة شمر وسببها يوم الفريش: لا يخفى أن فتوحات الملوك والغزوات وما لهم من السير والسريات لا يمكن ضبط الخاص منها والعام، سيما بسماداتنا حماة البيت الحرام، وخصوصاً مولانا الشريف حسن جد صاحب هذا الكتاب. فمن ذلك قصة الفريش: وهي أنه في عام ثلاث وستين من القرن العاشر كان أمير المدينة المنورة السيد مانع الحسيني، وكان من أجل الأمراء قدراً وأرفعهم ذكراً، بلغ بمصاهرة موالينا وساداتنا حماة الحرمين محلاً منيفاً رفيعاً، وعزاً منيعاً، وشوكة قاهرة، وحرمة وافرة.(2/476)
وكانت عادة أمراء المدينة السابقين يسلمون لبني عمهم من السادات بني الحسين، ولعربان عَنَزَة وضفير ونحوهم مواجب ومرتبات من الأموال الجزيلة والحبوب والأقمشة الجليلة، فمنعهم من ذلك الأمير مانع استخفافاً بهم وعدم.مبالاة، فجمع كل من الطوائف المذكورة جماعته وحضر معهم. فأما السادة الأشراف آل نعير فمقدمهم الأمير منصور بن محمد أمير المدينة المنورة، وابن أميرها سابقاً.
وأما السادة الأشراف من آل جماز فمقدمهم أولاد مولانا الأمير جماز.
وأما طائفة العريان فمقدهم الشيخ المعروف بأبي ذراع وغيره من أكابرهم.
فلما خرج ركب الحاج المدني على عادتهم أواخر ذي القعدة، وأصبحوا بوادي الفريش صحبتهم الطوائف المذكورون في جمع من الأشراف عظيم، ومن العربان بخيل وركاب مع اللبوس والزانات، وأحاطوا بالركب جميعه، وكان في الركب الأفندي الأعظم عبد الرحمن قاضي المدينة المنورة، والجناب العالي الأمير محمد ابن حسن، وشيخ الحرم المدني، وأعيان المدينة من وجوه العرب، وسادات بني الحسين، فكان موقفاً شنيعاً، ومنظراً قبيحاً وقع فيه قتل وسلب وطعن وضرب، وأهل الركب محرمون، والطوائف المذكورة مجرمون.
وسلم أعاظم الركب وأعيانه، ثم انفصلوا بعد أن التزم لهم القاضي، وشيخ الحرم المذكوران بحصول مواجبهم وعادتهم، فلما وصل خبر ذلك إلى الشريف حسن سكت على ذلك مطمناً خواطر الحجاج، حتى انقضت أيام المناسك، ثم أرسل سرية من شجعان الفرسان، وأمر عليهم السيد عجل بن عرار برسم حماية الركب المدني إلى وصوله المدينة، ثم يستمرون بها حفظاً لها، ولأهلها باطناً وظاهراً، ثم بعد ذهاب الحجيج من مكة نادى بالمسير إلى غزو الطوائف المذكورة، فخرج بذاته العزيزة في عسكر جرار وجيش كالبحر الزخار، ما بين سادة كرام وأعراب وأروام، بالخيول الملبسة والدروع، والبنادق والمدافع، والشجعان المشهورين في الوقائع والمجامع.
فلما بلغهم أن الملك المنصور الهزبر المعروف المشهور قصد اللحوق بهم على كل حال، شمروا نحو شمر، وهربوا إلى رؤوس الجبال، فقصدهم إلى منازلهم ومساكنهم، وخرب شمر المذكورة لأنه من أمنع مواطنهم، ثم قبض على أعيان الطوائف المذكورة الذين شنوا الغارة وكبل أشرافهم بالجنازير الحديد، ودخل بهم وهم أسرى بين يديه مدينة جده السعيد صلى الله عليه وسلم، وكان يوم دخوله موكب عظيم، حضره مولانا الأفندي، وشيخ الحرم المذكوران أعلاه.
وأظهر كل منهما حصول مراده وبلوغ مناه، وتعجبوا من دخول الأشراف بالزناجير، وهم من أولاد الأمراء، وتحققوا بذلك عظم مولانا الشريف، وقوة سلطانه بمدد جده خير الورى.
وكان هذا الغزو أول ظهور مولانا الشريف حسن، وقوة شأنه في ظل والده الشريف أبي نمي وأيام زمانه.
ومن ذلك قصة مضبع: سار إليه بنفسه المطمئنة، وذلك في حدود عام اثنين وثمانين وتسعمائة.
وسببه أنة ظهر من أهل مضبع نقض للعهود، ومخالفة لشرع الملك المعبود؛ لأن مضبع المذكور حصن منيع بأعلى واد وسيع، وأهله في نعم الله رافلونه، وللمنعم بها كافرون، يمنعون كل من وصل إليهم، ولو علم عصيانه لديهم، وكلما حذرهم مولانا الشريف المخالفات تحذيراً، ما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً.
فسار إليهم في جم غفير من السادات وأتباعهم من أعيان دولته الشريفة، وأمراء مملكته المنيفة.
أخبر السيد نافع منهم أن العساكر التي سار بهم يزيدون على خمسين ألفاً ما بين راكب وراجل، ولاحق وواصل، يمرون على الجبال فيدكونها دكاً، وينزلون بالرمال فيبكونها بكاً.
فلما وصلوا مضبع وجدوه جبلاً رفيعاً وحصناً منيعاً ليس في أخذه مطمع.
فأحاطوا بجهاته الأربع ثم صعدوا على اسم الله تعالى تالين " إلا تنصرُوُه فَقَدْ نصره الله " التوبة: 40 فقاتلهم قتالاً شديداً، أفنى فيه شباباً وأشاب منه وليداً، حتى انتصر عليهم نصراً عزيزاً، وفتح الله له من حصونهم فتحاً مبيناً، فضرب الرقاب، وأخذ الأموال، ورتب فيه من يحفظه من شجعان الرجال، ويقيم به الشريعة المحمدية على أحسن منوال.
ثم قصد إلى تخت عزه مكة الغراء - شرفها الله تعالى بالكعبة الجليلة - فمر على بجيلة وأمرهم بالتزام الشريعة المحمدية، فخالفوا أوامر الله وأوامره العلية، فقاتلهم إلى أن طلبوا العفو، وبذلوا الأموال فأجابهم إلى ذلك.(2/477)
وأخذ منهم عدة من دروع الحديد العراض الطوال يقال إنها قريب من خمسة.آلاف، نال منها السادة الأشراف، وجميع من حضر من سائر الأطراف، وصار خراجها يحمل إلى حضرته الشريفة كل عام على مر الدوام.
وهذه السرية نى حكم السرايا الهاشمية إلى الكفار، من سار فيها فله أجر المجاهد بلا إنكار.
قلت: ذكر العلامة الجد جمال الدين العصامي أن هذه الغزاة كانت سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة، وذكر أنه أرخها ببيت كامل بديع هو قوله:
صادَ الصناديدَ أعطَى المُلكَ واجبَهُ ... حامي حِمَى بَلَدِ اللهِ الأمينُ حَسَنْ
هكذا ذكره بيتاً مفرداً، فلم أدر أهو من قصيدة له أم من قطعة.
وهو بيت بطين المعنى، رصين المبنى.
ومن ذلك غزوة سوق الخميس، ويسمى زهران، يتصل به قرن ظبي والصفا والمخواة وجبل عظيم يسمى مَلَس.
كان من شأن هذه المواضع أن سكانها لا يورثون النساء جملة كافة خصوصاً البنت التي منعها من أعظم سنن الجاهلية ومانعوها هم الكفار شرعاً.
ومن عادتهم أن يمنعوا كل من وصل إليهم خصوصاً العصاة لولاة الأمور، والذين يأكلون أموال الناس بالباطل والفجور، ثم تكرر منهم ما ذكر من القبائح.
ونصحهم مولانا الشريف المشار إليه، وهددهم فلم ينقادوا للناصح والنصائح، فبرز أمره المطاع إلى أكبر أولاده الكرام السيد الحسين الأسد الضرغام بدر التمام أن يقصدهم في محالهم، فقاتلهم وقتل أعظم رجالهم، وحاز نفائس أموالهم، وفاز بأسر نسائهم وأطفالهم.
فلما ملك البلاد والعباد، ووصل البشير بنصرته إلى والده وجده خير والد من خير أجداد، برزت أوامره المطاعة، أن ينصب حاكماً شرعياً وأميراً ليقيم نظام السنة والجماعة، فتم ذلك على الأوضاع الشرعية ونقل خراجها إلى الخزائن الشريفة العلية.
ثم غزا معكال. وذلك أنه بعد مدة قريبة برز مولانا الشريف حسن إلى غزو معكال بأقصى البلاد الشرقية لأمور فعلوها، فيها طعن على الدولة الإسلامية، وحسبك السنة النبوية المبرورة: " الفتنة من ههنا " وأشار إلى الجهة المذكورة، فقام مولانا المشار إليه في ذلك حماية لبيضة الإسلام خصوصاً حجاج بيت الله الحرام، وزوار جده محمد عليه الصلاة والسلام، فوصل دارهم وقاتلهم فيها احتقاراً بهم وعساكر الإسلام الله تعالى يحميها ويبلغها بسعده أقصى أمانيها في جمع كذلك بن يزيدون على خمسين ألفاً، وطال مقامه فيهم حتى استأصل أهل الدار رجالاً وأموالاً وكل من كان إليهم إلفاً.
فتحدث أعداؤه المخذولون أنه مات وعسكره انكسر نظير ما وقع لجده صلى الله عليه وسلم بخيبر.
فلما وصل خبر ذلك لأهل سوق الخميس سول لهم عدو الله أخوهم إبليس، فقتلوا الحاكم الشرعي والأمير المذكورين شقاقاً منهم في الدارين.
فلما عاد مولانا الشريف من الشرق سالماً في النفس والأهل والمال، غانماً ملك معكال، وما قرب منه من سائر المحال، ودخل مكة على أجمل الأحوال، ومشايخهم بين يديه في الحديد والأغلال، ثم أقاموا في ظل نعمه مدة عام كامل، فطلبوا من فضله وإحسانه الشامل أن يكونوا خدامه في محل سلطانهم، وأن يحملوا إليه ما يرضيه كل عام من محصول أوطانهم، فأجابهم إلى مطلوبهم، وأمر عليهم محمد بن عثمان بن فضل حيث لم يبق من بيت سلطنتهم إلا هذا النسل.
ثم عزم على غزو سوق الخمبس؛ لفعلهم المذكور الخسيس.
فقصدهم بنفسه الزكية افتتاح سنة سبع وثمانين وتسعمائة، فاجتمع بسوحه من بادية مكة المشرفة طوائف هذيل وغطفان وعدوان وبني سعد وما اتصل بهم من المؤلفة، فاجتمعوا بناديه الفسيح رحابه، المنيع جاره وأحزابه، فنظر إليهم أمير دار المضيف، فاستكثر ما يجب لهم من المصاريف.
فقال على لسانهم لمولانا الشريف: لعل سيدي يعجل بالمسير، فإن الجيش كبير.
فقال له الشريف: أجبهم عني بأني أطعم صغيرهم حتى يشب، وشابهم حتى يشيب.
ثم سار بهم بعد مدة، فلما وصل واديهم، ونزل مخيمه المعظم في ناديهم، قال لهم بعض عقلاء الرجال: اطلبوا من مولانا الصلح، فأجابوا جواب أهل الغرور والهوس، على سبيل التهكم: اسألوا عن الصلح جبل ملس.
فقبل تمام القال، صعدت الرجال على الجبال، وعم القتل معظم الرجال، وأسر النساء والأطفال.
ثم قبض على مائة وسبعين من أشرافهم، وكبلهم في الحديد في أعناقهم وأطرافهم.(2/478)
فأحضروا له من الدروع والأموال جملاً كثيرة لا يحويها المقال، فأخذ ذلك من جملة الغنائم، وأقام شريعة جده سيد العوالم.
ثم عاد إلى مكة المشرفة، فدخلها في شهر رمضان في موكب عظيم قد أضاء، لم يسمع بمثله فيما مضى، وبين يديه الجماعات المقبوضون كل عشرة في كبل حديد، وشيخهم مع ولديه في الحديد، راكب في حال غير جميل.
ثم أمر بذبح أربعة عن الحاكم كما ذبحوه؛ وذلك بسوء ما فعلوه.
ومن ذلك في عام تسع وثمانين وتسعمائة: سار إلى ناحية الشرق مرة ثانية لمخالفة وقعت بينهم متناهية، في جيش كثيف جرار، ومدافع كبار، تنسف الجبال وتفتح الأمصار، ففتح مدناً وحصوناً تعرف بالبديع والخرج والسلمية والإمامية، ومواضع في شوامخ الجبال تزيد على ما سبق بأمثال أمثال، فقويت شوكته وعز سلطانه، وتحقق عند ذوي البصائر أنه بعناية الله تعالى كل حين يعلو شأنه.
ثم عين من رؤسائه من ضبطها، على أمور التزمها وشرطها، فعاد مؤيداً منصوراً، وعلم سعده منشوراً.
فأخبره بعض عيونه التي يبثها في البلاد لتأتيه بأخبار العباد، أن جماعة من شوكة بني خالد تجمعوا وتحزبوا، ومن طريقك ترصدوا وتقربوا، في جمع من الشجعان والأبطال حتى جرائد الخيل وكرائم الجمال. فتدارك مولانا المشار إليه من الحزم والعزم ما أمكن، وقدم من قدم، وأخر من أخر، وأكمن من أكمن.
فوافاه الجيش الخالدي فوجد مولانا على غاية الحذر فتقابلا وتقاتلا، فهرب الخالدي وانكسر، فقتل مولانا أكثرهم عمداً، وغنم خيلاً وإبلاً وعمداً، ولم ينج منهم إلا الهارب، ومن خيلهم ورجلهم وإبلهم إلا الذاهب.
وهذه النصرة أعظم في صدور الأعداء شوكة ونكاية، وأعلى منصباً وأجل ولاية. وهذه المذكورات عيون غزواته الشهيرة، وسواها كثيرة كبيرة.
ذكرما خوله الله من فصاحة اللسان، وبديع البيان، في توقيعه بالبنان، والحكم بفصل الخطاب والتوفيق للصواب.
فمنها: لفظ " العزة لله سبحانه وتعالى " فمولانا المشار إليه وجميع سلفه الكرام وجون به في توقيعاتهم الفخام.
ولا يخفى ما في هذه اللفظة من جوامع الكلم وحسن الأدب مع ذي الجلال الإكرام، والعظمة والإنعام، والإشارة إلى قوله تعالى: " فَإن العِزَّةَ للهِ جمَيعاً " النساء: 139 المستوجبة لعزة كاتبها وقائلها، وتواضعه مع كمال شرفه في الذات والصفات.
ومن ذلك: أن جميع توقيعاته يرقم فيها بعد الجواب لفظ " على الوجه الشرعي، والقانون المحرر المرعي " وهذا من خصوصيات مولانا الشريف حسن المشار إليه دامت رحمة الله عليه.
ومن ذلك: أن جميع ما يرقمه من الكلمات ولو كثرت خال من النقط بحيث تتبع أهل الخط أكثر تحريرات مولانا فلم يجدوا فيها نقطة.
ولعل مراده بذلك دفع المماثلة لخطه ورفع المشاكلة حتى يبعد عن التزوير.
ومن ذلك: سلامته من الحشو المخل والتطويل الممل.
ومن ذلك: أن قاضياً من قضاة المدينة الشريفة عرض عليه مكتوب، وقف صحيح العبارة بمحكمة الشرع، مضمونه: أن الأوقاف المشروحة به لا تؤخر إلا بشروط مرعية ذكرت فيه، وعين فيه أموراً لا تمكن الإحاطة بها إلا بعد قراءة المكتوب جميعه، وقراءته تحتاج إلى زمن طويل، فلما وقف مولانا الشريف حسن عليه قال من أول نظرة: هذا فرع من أصل يحتاج إلى اتصال وثبوت بالطريق الشرعي، فعرض له القاضي المشار إليه بأن مثل هذا يبعد تزويره، وأن الخصم في ذلك السيد مانع أمير المدينة الشريفة وهو أميركم، وكان مولانا الشريف حسن متكئاً، فاستوى جالساً، ثم استقبل القبلة، وقال للقاضي: يا مولانا سيدي ووالدي الشريف الكبير أبو نمي ليس عندي على وجه الأرض أحب منه وأكرم، ومع ذلك والله العظيم وحق هذه الكعبة المدبجة لو ارتكب باطلاً ما وافقته عليه، فإن قلتم ثبت عندي هذا المكتوب حكمت بموجبه على الفور.
فعجب القاضي المذكور من فرط ذكاء مولانا وسرعة فهمه ومتانة ديانته وتحير منه واستحيا من قوة معرفته بالمقصود واستوائه جالساً. ثم ذكر والده الكريم، وتقرير محبته وطاعته له، ثم فسر بعدم موافقته على الباطل، وهذا من نور النبوة بلا شك ولاريب.
ومن ذلك أن جميع ما يرقمه للخاص والعام يبدؤه بذكر الله تعالى، ويختمه بالصلاة والسلام على جلى محمد خير الأنام.
ثم يتبع ذلك بقوله: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وفي ذلك ما لا يحد من الخير ولا يحصى، ولا يحصر ولا يستقصى.(2/479)
ويكفيك أنه من أفعال العلماء العاملين والصلحاء الكاملين.
ومن ذلك: معرفته للعبارة التركية، وأكثر اللغة الفارسية، وغيرهما من ألسن البرية، ولكنه لا يكتب بذلك ولا يتكلم، حذراً من غلطة لسان أو سبق قلم فيستعمل الترجمان في الكلام، وكذلك في المكاتيب على الدوام.
ومن ذلك: أنه إذا اشتكى عليه صاحب ظلامة، أو دعوى يسمع شكواه جميعاً ثم يتشاغل عنه ثم يستعيده ما قال، فإن اختل كلامه اختلالاً فاحشاً استدل على عدم صدقه، وأقبل عليه بوجه يليق به.
وفي هذا من الكمال ما لا مزيد عليه، وهو كونه يحفظ القصة مع طولها من أول سماع، ثم يستنبط من مخالفة ألفاظها حكماً بالغة يقف بسببها على حقيقة أمر صاحبها، وليس ذلك إلا من إلهامات إلهية مستفادة من قوله صلى الله عليه وسلم: " الحاكم ينظر بنور الله تعالى " .
ذكر كرمه وجوده وإنعامه على وفوده، خصوصاً العلماء والصلحاء والفقراء والشعراء.
فمنه عند زيارة جده صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه في أول عام ولايته للأقطار الحجازية أخبر من يعتمد على نقله أن عطاياه للعلماء والشعراء فقط كانت ما يزيد على ألفي دينار ذهباً جديداً.
ومنه، وهي من عطاياه الشريفة، وتفرداته وأولياته المنيفة: أنه إذا عقد نكاحاً لنفسه أو لأولاده يطلب أعلام العلماء وأعيان الصلحاء؟ تبركاً بحضرتهم، واغتناماً لدعوتهم، فإذا تم ذلك العقد أمر بكتابة أسماء الحاضرين، ثم يعين لكل منهم شيئاً نافعاً من المال مصلحاً للبال، مع تمييز أهل العلم والصلاح، والشرف والدين والفلاح.
ومن ذلك: ما أخبر به مولانا العالم العامل الفقيه حاتم القاضي الشافعي بناحية صبيا أن في صحبته، وصحبة غيره عدة قصائد جاء بها من اليمن في مدح الشريف حسن.
وأنه أجاز شعراء اليمن مع عدم حضورهم ما يجاوز ألفين من الدنانير الذهب الجديد، وأن جائزة كل شاعر يرسلها إليه مع حامل قصيدته.
وقال: هذه كانت عادته دامت سعادته، وذلك على الاستمرار، مع جميع الشعراء من سائر الأقطار.
ومن ذلك: ما أخبر به بعض حملة القرآن العظيم، المتشرفين بمدح جده الرسول الكريم. قال: حضرنا بين يدي مولانا الشريف حسن، في صبيحة ليلة عرسه على بعض الشريفات المخدرات في جمع عظيم بمكة، فقرأنا ما تيسر من القرآن العظيم، ثم أنشدنا ما يسره الله من المدائح الشريفة، فوصلت إلى مولانا الشريف معشرة متوسطة مملوءة من الذهب الجلالي. واحد بعشرة من قبل عمة السلطان جلال الدين أكبر، فأمر بجميعها لأهل المديح المذكورين. مع كثرة ما فيها، ولم ينظر إليها إلا نظر إحاطة لأجل المكافأة، وقال: هذا نصيب الجماعة، رفع الله ذاته الشريفة الفاخرة، وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة.
ومن ذلك: أنه زار في بعض الأعوام قبر جده عليه الصلاة والسلام، وكان عادة ساداتنا حماة الحرمين الشريفين لما وصلوا إلى الزيارة يتصدقون على جيران الحضرة النبوية صدقة خاصة تشتمل على أسماء العلماء والحكام والصلحاء والخدام، وسكان الربط والأرامل والأيتام، والعساكر السلطانية الخيالة والحصارية، وخدام العمائر الخاقانية، وخدام العين الزرقاء الروية، ولكل اسم قدر معين من الأشرفية الفضة كل أشرفي عشرة محلقة، فأمر مولانا الشريف حسن أن يجعل مكان كل أشرفي فضة دينار جديد ذهب.
ثم اتفق لمولانا زيارة ثالثة صرف فيها أموالاً جزيلة في وجوه متعددة.
منها: أنه أمر بالصدقة أن توزع على عادتها القديمة، فلما صرف معظمها قال له السيد محمد بن سعد نقيب الأشراف بالمدينة المنورة: إن في هذا الدفتر المبارك جماعة كانوا صغاراً فكبروا، وبالعلم تقدموا وتصدروا، فاستوجبوا من مولانا كمال العناية ووافر الرعاية.
فأجاب جواباً شاملاً لأعلى مراتب الفضل والأدب، وأجل مناصب السؤدد والحسب، وقال: إن هذا الدفتر أمره لمولانا الوالد الشريف أبي نمي فيصرف على حكمه من غير زيادة ولا نقصان، ثم جدد دفتراً برسم زيادة الإحسان لمن ذكرنا عاليه من عظماء السادة، ثم أنعم على أهل الدفتر الجديد بأضعاف ما هو مقرر في الدفتر السابق، ثم برز أمره الشريف بأن يعطى لكل من وصل معهم من الأتباع، وأتباع الأتباع عطاء لائقاً بمقامه الخطير، عم القريب والبعيد، والأحرار والعبيد، والصغير والكبير.(2/480)
ثم تصدق صدقة مخفية بعد أن مضى ثلث الليل على العميان والمرضى، والنساء والعاجزين من الزمنى، والمقعدين قصدهم بذلك إلى أماكنهم، قيل: بنفسه الشريفة، وقيل: مع من يعتمد عليه.
ومن حسناته التي تفرد بها: أنه كان في كل زيارة عند منصرفه من باب الحرم النبوي يأخذ في يده الشريفة كيساً مملوءاً من الذهب والفضة، ثم يجتمع عليه فقراء الحضرة النبوية وأطفالهم لما هو مقرر معلوم عندهم من إحسانه، فيلاطفهم عند كل محل فسيح، ثم يقول: أنثر عليكم من هذا المال. فإذا قالوا: نعم، نثر عليهم من ذلك جملة فيزدحمون على أخذ ذلك، وهو ينظر إليهم مع كمال السرور والفرح، ويستمر على ذلك مرة بعد أخرى حتى ينفد جميع ما عنده.
واتفق له - رحمه الله رحمة واسعة - في بعض زياراته المقبولة، وكان يفعل ما ذكر من نثر الدنانير والدراهم، فاستوقفته امرأة تشكو عليه حالها.
فوقف لها والمطر نازل عليه من غير حائل، وهي آخذة بلجام فرسه مع غاية الازدحام يميناً وشمالاً، وخلفاً وأماماً.
فلم يبرح حتى انتهت شكواها، وتركت لجام الفرس باختيارها وهواها، فانظر إلى هذا المقام، أيها الناظر بعين الإنصاف، فما أجله من مقام، ولا غرو فذلك نفح طيب سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام.
ومما مدح به مولانا الشريف حسن ما قاله العلامة الفاضلي الشيخ نور الدين علي الشهير بالجم، معارضاً لزائية الطيبي، وعبد الرحمن الكثيري فقال: من الخفيف:
خطرَت في موشياتِ الخزوز ... وتثنت بأسمرٍ مهزوزِ
ونضت من جفونها النعْسِ سيفاً ... فأراقَت دمَ الفتَى المحروزِ
وأماطَتْ عن العقيقِ فأبدَت ... بارقاً من وشاحِهاً الفيروزي
وتثنتْ فللحلي تناغٍ ... في قضيب من خالصِ الإبريزِ
غادة في وشاحها حينَ تبدو ... من لآلىً حُليِها في جروزِ
غادةٌ تسلبُ البدورَ إذا ما ... سَفَرَت عن موشمِ مغروزِ
غادة قد سعَت بكاسِ مدام ... مزجَته بالغنجِ والتغميزِ
خندريساً دفعْتُ عقلى فيها ... حينَ همَّت من دونها بالبروزِ
لبسَتْ من حبابها تاج دُر ... فجلاها مديرها في خزوزِ
هي شمس يديرها بَدرُ أفقٍ ... فوقَ لدنٍ مثقفٍ مهزوزِ
إِسقِنِيها مزجاً بظلم لماها ... كي أداوي بها لظَى تمُوزِ
إسقنيها ودَع مقالَ سفيهٍ ... قد أطال الجدالَ في التجويزِ
إسقنيها على الشروطِ فإني ... أمرؤ لا أقولُ بالتجليزِ
إسقنيها في روضة من شقيقٍ ... طرزَتَها يدُ الحيا تطريزي
إسقنيها وهادلُ الورقِ يشدو فوقَ شاطى النهورِ بالملغوزِ
إسقنيها مَع كل أحورَ أحوَى ... كاملِ الحسنِ كالقنا المركوزِ
إسقنيها وعنفوانُ شبابي ... يافع والسرورُ حال النهوزِ
إسقنيها فزوج الكهل ظلما ... بعجوزٍ تمشي على عكوزِ
إسقنيها قديمة العهدِ بِكرا ... تَوجَتها الملوكُ حال البروزِ
إسقنيها فما خلاصِيَ منها ... غَير مدحِي لنجلِ طه العزيزِ
حسن من رقَى سمو المعالي ... فهو للفضلِ والثنا كالمجيزِ
ملك لو توعدَ الدهرَ يوماً ... أصبحَ الدهرُ منه في تفزيزِ
كفه إن تجافتِ السحبُ غيث ... وَدقه باللجينِ والإبريزِ
زاده اللهُ في البسيطةِ بسطاً ... وحماة بحفظِهِ المحروزِ
ووقاه من حادثِ الدهرِ طُرا ... ما تلى الذكر في الكتَابِ العزيزِ
وقال الشيخ على المذكور أيضاً يهنيه بالظفر في غزوه جبل شمر، وإيقَاعه ببني لام، وذلك سنة أربع وستين وتسعمائة: من الخفيف:
كيف يكفيكَ من دمِ الأبطالِ ... ما أسالَتْ لكَ الظبا والعوالي
قد بكَتْ رحمةَ عليهم مواضب ... ك نجيعاً جرى بميم ودالَ
وانثنَتْ عنهمُ الرماحُ امتنانا ... بعد جازَت مراتب الإِعتدالِ(2/481)
لم تزل ممتط لهم كل غادٍ ... سابق في النفوسِ والأموالِ
ذى جبينٍ مغررٍ بالثريا ... وأيادٍ منعولةٍ بالهلالِ
وأديمٍ قد شقَّ من شفقِ الأف ... ق وعَدوِ كالريحِ في الإرسال
وحساماً يروى عَنِ المجد قولاً ... أعرَبَتهُ الرماحُ بالأفعالِ
أعجمي لكن له ترجمان ... بلسانِ الطلا فصيحُ المقالِ
كلما كلم الرؤوس بلفْظٍ ... صَدَقتْهُ الأعناقُ بالإنفصالِ
وجياد جُردٍ تخوضُ المنايا ... لبلوغِ المنَى وحُسْنِ المالِ
وليوثٍ تلقى الحتوفَ اشتياقاً ... كلقي الحبيبِ حينَ الوصالِ
يا مليكاً رمى الزمانَ بسهمٍ ... لم يكنْ للزمانِ منه ببالِ
زعم الدهرُ أن يصيبَ رعايا ... ك بضيمٍ حاشاك من ذا المحالِ
ما درى الدَهرُ أي قومٍ نزال ... إِعتراه وأَي خصمِ جدالِ
ما درى أنكَ المليكُ الذي سُد ... تَ جميعَ الملوك بالإجمالِ
ما درى أنكَ الكريمُ الذي قد ... خُص بالمكرماتِ من ذي الجلالِ
ما دَرَى يابنَ فاطمٍ وعلي ... وابنَ خَيرِ النسا وخيرِ الرجالِ
أنكَ الماجدُ الذي عَم أهلَ ال ... أَرضِ شرقاً ومغرباً بالنوالِ
ما درَى أنكَ الذي لا تلاَقي ... في نزالٍ ولا بِشُم الجبالِ
يَسأَمُ المجد والدواوين والأَق ... لام والفَضل والحجي والمعَالِي
والعوالي والمشرفية والغا ... رَات والخَيل واللقا والنزالِ
كم تخطت صدراً وشكَّت فؤاداً ... وتمطَتْ بمفرقٍ وسبالِ
وأسالَت في الشرق سيل نجيعِ ... سارَ في الغربِ بالرواسي الثقالِ
وسبَت حلة وحلت محلاّ ... قصر البَدر عنه في الإتصالِ
ما بنو لام ما قبائلُ نجدٍ ... ما لقاءُ الفرسانِ والأبطالِ؟!
إن هُمُ في لقاكَ إلا شياهٌ ... بمخاليبِ الأسدِ والأشبالِ
جعلتهم بزاتك الشُّهب طعْماً ... حينَ مزقتهم برشقِ النبالِ
حين أمطرتَهُمْ سحابَ المنايا ... وبروقُ الظبا عليهم تلالِي
والرزايا لخَيْلها واثبات ... فيهمُ مرعدات بالتصهالِ
أين منهُمْ حلمٌ وصفح جميل ... منك حاطَ الورَى بأيدي الكمالِ؟!
لو أتوا حَاقِنِي دماهُمْ لفازوا ... مِنْكَ بالمكرماتِ والأفضالِ
وغدوا في مسرَةٍ وهناءٍ ... وأمانٍ من الوبا والوبالِ
غَيْرَ أن الإله جَرَّدَ فيهمْ ... سيفَ قَهْرٍ ماضي المضاربِ صالي
ورماهُمْ بقهرمانِ ملوكِ ال ... أرضِ ماضي القضا شديد المحالِ
حسن الذات والصفات عظيم ال ... مَجدِ سامي العلا شَرِيف الخصالِ
مخجل البدر قاهر الدهْر مزْرِي ال ... بحْرِ بالجود والنهَي والجمالِ
خَفَقَتْ بالسعودِ راياتُهُ البِي ... ضُ فراحَتْ كالزهْرِ جنح الليالي
دام للدينِ ناصراً في نعيمٍ ... أبداً سرمداً بغَيْرِ زوالِ
ما هَمَتْ في العدا بروقُ مواضِي ... هِ بنصْرٍ مسترسلٍ هَطَالِ
وشدَتْ مادحي عُلاَهُ وقالَتْ ... كف يكفيك من دمِ الأبطالِ
وقال أيضاً يمدحه، ويهنيه بالفتح، ويعزيه بعمه السيد حازم رحمه الله تعالى: من الخفيف:
آهِ مابي من جلنارِ الخدودِ ... وعذابِي منها بذاتِ الوقودِ
ومصابِي مِنْ مائساتِ قدودِ ... أطلعَتْ بالبها ثمارَ النهودِ
كُل هَيْفَاءَ تَنْثَنِي بِقوام ... غُصْن بَانٍ على كَثِيبِ زَرُودِ(2/482)
ذات ثَغْرِ كالدر في لازورد ... برضابِ يحكي ابنة العنقودِ
نافح عن مسك ذكي وعطرِ ... عنبري وفاتقِ عن ورودِ
يلمعُ البرق والدراري توارى ... حينَ تفتر عن شتيتِ برودِ
كم حلا لي فيه التغزل مَعْ كُل ... لِ غزالٍ وغادةٍ أملودِ
حبذا دولَةُ الشبابِ وعصرٌ ... بالتصابِي قد مر كالمطرودِ
زرتُهُم والشبابُ يشفعُ لي وال ... عَيشُ يخضزُ منه يانعُ عودي
في ليالٍ بسامر في رياضٍ ... مشرقاتٍ في ظلها في عقودِ
بين اَسٍ ونرجسٍ وورودٍ ... كعذارٍ وناظرٍ وخُدُودِ
وحمامُ الآراكِ تشدو بمَدْحِ ال ... ملكِ الأمجدِ الكريمِ الجدودِ
حَسَنُ الذاتِ والصفاتِ بدا في ... أفق المجد بَدْر هذا الوجودِ
قمر أشرَقَ الحجاز ووَجهُ ال ... كونِ من نوره وهو في المهودِ
فظننا عيسى بن مَريَمَ قد جا ... ء لإصلاح دَهْرنا المفسودِ
فَهو إن لم يكنْ نبياً فإبْنُ ال ... أنبياءِ الكرامِ سامي المجودِ
وابنُ مَنْ جاء بالهدايةِ والرش ... دِ وسَن الحدودَ في المحدودِ
وابنُ مَنْ قد شَق السمواتِ عزماً ... ودنا من إلهِهِ المعبودِ
زُرهُ إن شئتَ أن تزور سُلَيما ... نَ جلالاً وصالحاً في ثمودِ
شَيدَ الدينَ بالعوالى وأضحَى ... بالمعالي كالوالِهِ المعمودِ
وحَمَى البيتَ والحطيمَ بيضٍ ... مسرفاتٍ تجاوزَتْ في الحدودِ
وبِخَيْلٍ سوابقٍ وجيادٍ ... سابحاتٍ تدوسُ قلْبَ الحسودِ
لابساتٍ من الدماءِ جلابي ... بَ تهادَى مخضباتِ الزنودِ
ترتمِي في سحابةٍ من نسورٍ ... وأُسُودِ من جيشِهِ والجنودِ
وبغابٍ من القنا والعوالِي ... مرسلاتٍ لغل قلبِ الحقودِ
قاذفاتِ بكل ظبيٍ غرير ال ... لَحْظِ لكن القَفبَ من جلمودِ
وبهم أبيض المحيا مُغِير ال ... بَدر بالتم والبها والسعودِ
واهبُ الخيلِ والممالكِ والأع ... مارِ والرزْقِ للعبادِ الوفودِ
يختشي الدهْرُ من سطاه وَتَخْشا ... هُ المنايا بالحادثاتِ السودِ
ناشراً من لوائِهِ كل عدلٍ ... باسطاً في بساطِهِ كُل جودِ
كتب النَّصر في حواشيه إني ... عَندُ رِق لذلك المعقودِ
دامَ في رفعةٍ ونَشرٍ وطَيٍ ... للمعالي وخافقاتِ البنودِ
ما همي الغيثُ بالربا وأضا البَدْ ... رُ فحاكَى لبشرِهِ المعهودِ
واستهلت بالشرقِ سحب غزار ... تَغْشَ شمساً ثوَت ببرجِ اللحودِ
حازم الملكِ سيد الشهدا مَنْ ... بلقاهُ قد زَانَ دارَ الخلودِ
غسلته حور الجنانِ مَعَ الوِلْ ... دَانِ في حوضِ الكوثرِ المورودِ
وادرجته الأملاكُ في سندسي ... بحنوطٍ من رحمةٍ معدودِ
فعزاء آل النبي بحق ... وهناء بالنصْرِ والتأييدِ
وهناء بالصومِ في رمضانٍ ... وهناء بالفطْرِ والتعييدِ
دمْتَ للملكِ والممالكِ والخَل ... قِ مَدَى الدهر دائماً في سعودِ
ما هَمَي الغيثُ حاكياً جودَ كَفَّي ... كَ فأبكَيْتَهُ بجودِ الجودِ
وغدا طائرُ الجوانحِ مِني ... بمديحِ المليكِ في تغريدِ
قال الشيخ عبد الرحمن بن أبي كثير يمدحه: من الخفيف:
أَشعِفِى الصبَّ باللقا والتلاقِي ... وانقذِيهِ من القِلَى والتلافِي(2/483)
وارحَمِي من يد الهوَى أسلَمَتْهُ ... للتباريحِ من جوى وتجافِي
مستهاماً له التصبرُ أضحى ... خائناً في الغرامِ والدمع وافِي
هام في حُبً غادة لو أعارَت ... نورها الشَمْس لم تُرَعْ بانكسافِ
ظَلمُهاً القرقفي يسقي أَقَاحاً ... أو لآلٍ من الثنايا الرهافِ
حف دُرَّا بها زُمزدُ وشْم ... فتحلَّى منه بحسنِ اكتنافِ
حرسَتْهُ منها بعثال قَد ... حيثُ أمست معسولةَ الترشافِ
وبه قد حمَت دروراً لذيذاً ... ووروداً من أنملِ القطافِ
لو أرتْكَ الأثيثَ فوق المحيَّا ... وتثنى القوامِ في الأردافِ
شِمتَ بدراً يضئ في جنحِ ليلٍ ... وقضيباً يميسُ في الأحقافِ
أيأستنِي بقسوةِ القفبِ لكن ... أطمعتني الأعطاف بالإنعطافِ
فكأني في الحُب ما بين يأسِ ... ورجاء في موقفِ الأعرافِ
لم تفوق سهماً من الحسنِ إلا ... وحشا العاشقينَ كالأهدافِ
أسقمتني منها جفونٌ ضعافٌ ... وعجيبٌ يأتي الضنا مِنْ ضعافِ
هي دائِي وأطلبُ البرء منها ... كيف داءٌ يكونُ للسقمِ شافي
فاتكْ لَحظُها ولم نَرَ عضبا ... قاتلأ وهو مغمد في غِلافِ
وبه قد غَزَتْ فكل فؤادٍ ... متلفٌ بالجراح والإذفافِ
كمواضي سلطانِ مكة لما ... ينتضيها للفتكِ والإتلافِ
حَسَن مَنْ له الملوكُ عبيدٌ ... كالرعايا مهشومة الآنافِ
ملك ما له من الخلقِ مثل ... في المعالي وما له مِنْ مُكافي
ملكْ مَنْ رآه يسجدُ ذُلاً ... لو رآه سابُورُ ذو الأكتافِ
ملكٌ لو به البريةُ لاذوا ... لغَدَوْا منه في غِنَى وكنافِ
ملك ملكُهُ رياضُ أمانِ ... مثمرات بالعدلِ والإنصافِ
ملكٌ ملكه سماءُ معالٍ ... آمنٌ بَدْرُها من الإنخسافِ
ملكٌ قد تلا الكتاب علينا ... فيه وصفا من أعظمِ الأوصافِ
فَهْوَ إبْنُ الضحَى وطه وياسي ... ن وطاسين وابن نونٍ وقافِ
كُل ملكٍ فعينه لمعالي ... ذاته لا تزالُ في استشرافِ
بدرُ كل الملوكِ في أُفُقِ المل ... كِ وتاج لهامة الأشرافِ
بحلاه بنو الرسولِ تحلتْ ... وذووه وآل عبد منافِ
كل مجد فما له عَن مداه ... مانع من تقاصرٍ وانكفافِ
فالدرارِىْ في الأفقِ قد فاقَها في ... شرفٍ باذح وفي إشرافِ
باتفاقٍ فاق الملوكَ علواً ... وعلا الكُل ما خلا من خلافِ
فسجاياه في العلا كسجايا ... حيدرِ جدهِ بغيرِ تنافِي
فاعلاتٌ له بيوتَ ثناء ... سالمات بسعده من زحافِ
ألمعيٌّ يدري الذي غَابَ عنه ... بذكاءٍ يجلو له كُل خافي
ومتى أسقَمَ النهَي كَشفُ صَعبٍ ... فتجدهُ يزيلُه كالشافي
كعبة تقصدُ الوفود حماها ... جاعلي بابه لهم كالمطافِ
قد غدا للحُفَاةِ فيه معاذٌ ... وملاذٌ ومأمنٌ من مخافِ
وأنامَ الأنامَ في ظل عدلٍ ... وارفٍ لم يزل على الخلق ضافي
وجرَى رزقُهُم على راحتيه ... فهي ترضى كُلاً برزقٍ وافِ
منهلُ المكرماتِ كان أجاجا ... وبه صارَ حالىَ الوردِ صافي
ورباه الذاوِي غدا منه روضاً ... ذا زهورٍ أنوارُهُ في اختلافِ
ا فنداه قوادمُ الريحِ تَعيا ... عن مجاراتِهِ وتبقى خوافِي
من يقسه بالسحبِ يخطِي فهذي ... تعطِ ماءً ودمعُها في انذرافِ(2/484)
وهو يعطيكَ باسِمَ الثغرِ طلقاً ... وعطاياه عَسجَدٌ بالجزافِ
كاتباه لم يكتُبا لفظَ منع ... منذ منشاه لا عليه ولا في
يهبُ الألفَ ثم لم يَهَب الأل ... فَ فكل لديه بالآلافِ
إن يَجُد فالنوال يملا الأراضي ... أو يَجُل فالنقيعُ يملا الفيافي
ضيغَم إن حمي الوطيسَ فأذكَى ... جمرَ طعنٍ ما إن له من طافي
ورأيت الكماة تسقى مداماً ... من منونٍ بأكؤسِ الأسيافِ
وحياضَ المنونِ تلجئ كُلا ... لورود من صابها واغترافِ
خاضه جاعلُ الفؤادِ دلاصاً ... والظبا عزمةً كحد الرهافِ
وبه اختالَ لابساً بردَ بأسٍ ... خاطراً فيه مُعلِمَ الأطرافِ
وأبادَ الجيوشَ بالقتلِ حتى ... صبَّرَ السيفَ والقنا في رعافِ
ولكَم من جحافلٍ صرنَ منه ... رمماً ما اهتَدينَ للإنصرافِ
ولكم من كتائبٍ من سطاهُ ... قد تفانوا بالخوفِ والإرجافِ
فهو يخشَى ويرتجي يوم بطشٍ ... ونوال للمعتلِي والمضافِ
يا مليكاً قد جل عن كل وصفٍ ... حيثُ فيه مدح من الله كافي
لو نظمنا فيكَ الدراري مديحاً ... لا يوازِي مقدارَكُم ويكافي
دم لك الملكُ خالداً والعوالِي ... والمواضِي في عزة وعوافي
والجديدانِ يخدمانِكَ طوعاً ... بالذي شِئتَهُ بغيرِ خلافِ
والمقاديرُ في مراضيكَ تسعَى ... أبداً بالإسعادِ والإسعافِ
وصلاة ختامها المسكُ تغشَى ... جَدكَ الطُّهرَ سيدَ الأشرافِ
وكان الشريف حسن - رحمه الله - استخدم في آخر عمره سنة ثلاث بعد الألف بشخص من أبناء الحضارم، يسمى: عبد الرحمن بن عبد الله بن عتيق.
كان عبد الله بن عتيق تزوج بنتاً من بنات الشيخ محمد جار الله بن أمين الظهيري، فجاءت منه بعبد الرحمن هذا وأخيه أبي بكر، فتحشر عبد الرحمن المذكور في الشريف حسن وبقي يفهمه النصح في الخدمة، وسحر الشريف حسن إلى أن تمكن منه غاية التمكن، وبقي حاله كما قال الشاعر: من السريع:
أمركَ مردود إلى أمرِهِ ... وأمرُهُ ليس له رَدُّ
فتسلط عبد الرحمن المذكور على جميع المملكة، وتصرف فيها كيف شاء، وبقي كل من يموت سواء كان من أهل البلد، أو من التجار، أو من الحجاج يستأصل ماله بحيث لا يترك لوارثه شيئاً، ولا المحلق الفرد، فإذا تكلم الوارث أظهر له حجة أن مورثه كان قد اقترض منه في الزمن الفلاني كذا وكذا ألف دينار، ويقول: هذا الذي أخذته دون حقي وبقي لي كذا وكذا، وطريق كتابته لهذه الحجة وأمثالها على ما بلغني ممن أثق به أن كتبة المحكمة تحت أمره وقهره، فيأمرهم بكتابة الحجة فيكتبونها، وعنده أكثر من مائة مهر للقضاة والنواب السابقين، فيمهرها ويأمر عبد الرحمن المحالبي أن يكتب إمضاء القاضي الذي قد مهر الحجة بمهره، ويكتب خاله الشيخ علي بن جار الله، وأخوه الشيخ عبد القادر بن محمد بن جار الله شهادتهما. ويكتب الشيخ علي أيضاً عليها ما نصه: " تأملت هذه الحجة فوجدتها مسددة، ويشهد بذلك محمد بن عبد المعطي الظهيري، وابن عمه صلاح الدين بن أبي السعادات الظهيري، وأحمد بن عبد الله الحنبلي الظهيري وغيرهم.
ثم إنه يظهر الحجة ويقرأها بين الناس.
وجميعهم يعرف أنها زور لا أصل لها ولا يقدرون أن يتكلموا بكلمة واحدة خوفاً من شره وقوة قهره، واستولى بهذا الأسلوب على ما أراد كما أراد، وإذا شُكِيَ علي الشريف حسن - رحمه الله تعالى - يقول: هذه حجة شرعية، وشهودها مثل هؤلاء الجماعة الأجلاء كيف أردها؟ فنفرت قلوب الناس من ابن عتيق، وضجوا وضجروا، وكل من أمكنه السفر سافر، وما تأخر إلا العاجز.(2/485)
وكان مولانا الشريف أبو طالب كلما سمع شيئاً من هذه الأمور تألم غاية التألم، فأول ما استقل بالسلطنة أرسل من المبعوث قبل وصوله إلى مكة رسله بمسك ابن عتيق، فمسك يوم الجمعة بعد العصر في ساعة نحوسية، واستمر في الحبس يوم السبت والأحد، فلما وصل الشريف أبو طالب وتولى أمر والده الشريف حسن ودفنه استدعي ابن عتيق وسأله عن أفعاله فقال: قد فعلت جميع ذلك، ثم رده إلى الحبس.
ففي ليلة الإثنين أخذ ابن عتيق جنبية العبد الوصيف المرسم عليه وهو نائم، فاستيقظ العبد وخلصها منه، فلما أصبح الوصيف أخبر سيده الشريف أبا طالب بذلك، فجبذ جنبيته، وقال له: خذ هذه وقل لابن عتيق لا تسرق الجنبية في الليل، هذه جنبيتي إن كنت تريد أن تقتل نفسك فاقتلها، وأسرع بإرسالها إلى جهنم وبئس المصير.
فلما جاء الوصيف، وقال له ما قاله الشريف أبو طالب أخذها منه، وأدخل منها في بطنه نحو إصبع ثم أخرجها، ثم أعادها وأدخل منها ضعف الأول، ثم أخرجها ثم أدخلها جميعاً، ثم أخرجها وقال: وامالى.
واستمر ذلك اليوم إلى ظهر الغد يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة من سنة 1010 عشر وألف، فخرجت روحه إلى غير رحمة، فقد كان مرتكباً جميع أنواع المعاصي، حتى لقد بلغني من جماعة بكثرة أنه كان يسجد للشمس، وأما انتهاكه للشرع الشريف فشيء لا يوصف، وكان يتبجح، ويقول: الشرع ما نريده.
ولقد أبطل في أيامه عدة من المسائل الشرعية كالوصايا والعتق والتدبير، وباع أمهات الأولاد بأولالدهن، قائلاً: هذه حجة شرعية أن فلاناً سيدها اعترف أن ماله جميعه لفلان فوطؤها حرام عليه والولد ولد زنا.
وكثيراً ما يأخذ حجة العتق، ويمزقها ويتملك المكتوب له العتق فيها حتى أنه بقي إذا مات شخص من أرباب الصرور والحبوب والجهات أظهر على المتوفي فراغاً من هذا الأسلوب، ويتناول المحلول جميعه، ثم هو يبيعه على شخص آخر، فسبحان الحليم الذي لا يعجل يمهل ولا يهمل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن ربك ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يكن ليفلته " .
فقد أخذ ابن عتيق على غرة وقتل نفسه، ورمى به في درب جدة في حفرة صغيرة بلا غسل، ولا صلاة ولا كفن، ورمت عليه العامة الأحجار.
وعملت الفضلاء فيه تواريخ، منها قول بعضهم: من الرجز:
أشقى النفوس الباغيَة ... ابنُ عَتيق الطاغيَهْ
نَارُ الجحيمِ استعوَذَت ... منه وقالَت ماليَه
لمَّا أتَى تاريخُهُ ... أَجِبْ لظى والهاويَه
ذكر هذا العلامة الخطيب المفتي عبد الكريم بن محب الدين القطبي، ومن خطه نقلت.
وهذا الشيخ عبد الكريم: هو ابن محب الدين أخي الشيخ قطب الدين المؤرخ النهروالي فيكون ابن أخيه وقطب الدين عمه.
وأما قطب الدين نفسه فلم يعقب سوى أربع بنات لا غير. انتهى.
وأرخت أيضاً وقاته بما لفظه: " يأتي من ألطاف الله ما لا يكون في البال " ، ولهذا واقعة هي ما أخبرني به بعض آل الخواجا الشهير بالكركية.
وذلك أن ابن عتيق كان قد قصد جدة بأذية من قسم أذاياه التي كان يؤذي المسلمين بها مما ذكرناه، وأمهله في طلب المال ثلاثة أيام، فلما خرج الخواجا من عنده أتى بيته، وهو في غاية التعب والقلق، فلما كان اليوم الثالث كان القبض عليه من خدام الشريف أبي طالب، ونفذ الله سبحانه فيه حكمه، وقد ألهم الخواجا المذكور تكرار قوله: " يأتي من ألطاف الله ما لا يكون في البال " ، وألزم جميع أهله بتكرارها، ففرج الله عنه سبحانه، وكانت تاريخ وفاته كما تقدم ذكرها.
ثم وليها مولانا الشريف أبو طالب بعد وفاة والده الشريف حسن، إذ هو ولى عهده بعده، وظهر بالمظاهر الجميلة، ووطئ بأخمصه تاج المجد وأكليله.
واشتهر بالولاية الباطنة والظاهرة، والمكاشفات الواضحة الباهرة، وانتشرت في الآفاق والأقطار له الكرامات الخارقة.
وكفاه سر الأسرار الغامضة، التي دونها السيوف البارقة، واستولى على الصياصي المتينة الرفيعة، والحصون المنيعة الصنيعة.
وهرعت إلى سيول نداه الوراد، وسقيت بسبب جدواه الأكباد الصواد.
لم تزل دولته محفوظة، وأحواله بعين العناية ملحوظة.
مولده - رحمه الله تعالى - في جمادى الأولى سنة ست وستين وتسعمائة.(2/486)
فاستمر في الملك إلى أن كان يوم الثلاثاء حادي عشري جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة وألف، وصل مع أذان العصر خبر وفاته، وكانت بمحل قرب بيشة، فحمل في التخت على البغال إلى أن تقطعت وعجزت عن السير فحمل في شبرية على بعير، ووصلوا به إلى مكة ضحوة يوم الأربعاء ثاني عشري الشهر المذكور، وصلي عليه عند باب الكعبة الشريفة بعد أن فتحت، ونادى عليه الريس من أعلى زمزم، وحمل إلى المعلاة، ودفن بها وجعل على قبره قبة.
وكانت وفات آخر ليلة الأحد تاسع عشر جمادى الآخرة.
وتأسف الناس على فقده إلى الغاية، فإنه - رحمه الله تعالى - كان كريماً ليس له نظير في أهل بيته، إلا ما يحكى عن أخيه السيد حسين بن حسن.
وكان مهيباً جداً يكسر من إحدى عينيه لا لعلة بهاء ذكر عن جارية تصب القهوة بين يديه في الديوان أنها أهوت لتأخذ الفنجان من أمام بعض الحاضرين فحبقت، فنظر إليها الشريف أبو طالب نظرة غضب، فلاذت ناحية عن الديوان، وتحاملت على غلصمتها بيدها فكسرتها وسقطت ميتة. فلله منها شهامة حركتها هيبة.
ومما سمع من كرمه أنه قبل وفاته بأيام كان وقع من شيخ زعب جناية فحبسه فيها. ثم أن جماعة الشيخ الزعبي طلبوا من الشريف أبي طالب أن يرضى عليه ويعطوه ما يطيب خاطره، واتفقوا يينهم على مائة فرس وألف بعير وكذا وكذا من الدراهم. ثم أحضروا جميع ذلك ووصلوا به إليه. فقال لهم: أنا ما كان مرادي إلا تأديب الشيخ الزعبي وليس غرضي في طمع منه.
والذي وصلتم به مغ الخيل والإبل هو معاد لكم. ولم يقبل من ذلك شيئاً. وكسا الشيخ الزعبي وجماعته الذين كانوا معه في الحبس بعد أن أطلقهم، وأمر لهم بنفايع جسيمة. فانظر إلى ملك كريم عظيم الشأن.
وأما إعطاؤه الألف الذهب وأمثالها فكثير.
ومما اتفق له أيضاً وذلك قبل أن يلي مكة أنه زار قبر جده محمد صلى الله عليه وسلم، فلما أمسى بوادي مر هو ومن معه أضافه رجل من أهل الوادي يقال له السوداني، فذبح الذبائح ومد للموائد وقدمها.
ثم بلغه أن الشريف أبا طالب لم يتعش من ذلك الطعام ولم يحضره لبعض أشغاله، فعمد السوداني المذكور إلى أربع أو خمس من الدجاج فذبحهن وطبخهن وقدمهن على كيلتين من العيش في زبدية كبيرة صيني، وجاء يحملها إلى الشريف أبي طالب، وقال: يا سيدي هذا عشاء عبدك اجبر خاطره جبر الله خاطرك.
فغسل الشريف يده وأكل من تلك الزبدية لقيمات ودعا له ثم دخل مكة.
فلما استقل بالولاية على مكة وفد عليه السوداني بعد سنة وقبل يده.
فقال له الشريف أبو طالب: الزبدية التي تعشينا فيها عندك تعيش؟ فقال له: نعم يا سيدي موجودة.
فقال: اذهب فائتني بها. فذهب إلى وادي مر وأتى بها.
فأمر له فملئت له ذهباً أحمر كيل الزبيب، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
وقد أخبرني الثقة أنه حدثه من شاهد مجامر العنبر موقدة تسير مع نعشه من البيت إلى فراغ الدفن نحو ثلاثة عشر مجمراً تعج في الطرق والأسواق عجيج اللبان.
ومما قيل في مدحه قول العلامة المفيد، البارع المجيد، مولانا وجيه الدين عبد الرحمن ابن عيسى بن مرشد الحنفي مادحه وشارحاً غزواته المقرونة بالنصر والظفر، ومتخلصاً إلى مدح والده الشريف الحسن بن أبي نمي فقال: من الكامل:
نَقعُ العجاجِ لي هياجِ العثيرِ ... أذكَىَ لدينا من دُخانِ العنبرِ
وصليلُ تجريدِ الحسامِ ووقعُهُ ... في الهامِ أشدَى نغمةً من جؤذرِ
وسنا الأسنة لامعاً في قسطل ... أسنَى وأسمى من محياً مسفرِ
وتسربل في سابغاتِ مسرد ... أزهَى علينا من سدوس أخضرِ
وكذاكَ صهوةُ سَابِح ومطهمِ ... أشهَى إلينا من أريكةِ أحوَرِ
ولقا الكمي مدرعاً في مغفرٍ ... كلقا الغريرِ بمقنع وبمخمرِ
ألفَت أسنتنا الورود بمنهلٍ ... علقت به علقَ النجيعِ الأحمرِ
وسيوفنا هجرَت جوار غُمُودها ... شوقاً لهامة كل أصيَدَ أصعَرِ
فتخالُها لما تجرد عند ما ... هاج القتامُ بوارقاً بكنهورِ
وصَهِيل جُرد الخيلِ خيل كأنه ... رَعد يزمجرُ في الجدا المثعنجرِ(2/487)
ودَمُ العدى متقاطراً متدفقاً ... كالوبلِ كالسيلِ الجرافِ الحورِ
ورءوسُهُم تجري به كجنادلٍ ... قذفَت بها موج السيولِ المقمرِ
غشيَتهُم في العامِ منا فرقَةٌ ... تركَت فريقهم كسَبسب أقفرِ
أودَتهُمُ قتلاً وأطبقَهُم إلى ... أن حطمَ الخطيُّ ظهرَ المدبرِ
تركَت صحاريهم موائد ضمنَتْ ... أشلاء كُل مسود وغضنفرِ
ودعَتْ ضيوف الوَحْش تقريها بما ... أقرى المهند والوشيج السمهرِي
فأجابَهُ من كُل غيل زمرةٌ ... تحدو منارَ عملَّسِ أو قسورِ
وأظلها ظلل نشاط سحابه ال ... مركُوم أجنحة البزاةِ الأنسرِ
فبراثن الآسادِ تضبثُ في الكلا ... ومخالبُ العقبانِ تنشب في المَرِي
شكَرَتْ صنيعَ المشرفيةِ والقنا ... إذ لم تضفها الهبرُ غير مهبرِ
فغدَتْ قبورهم بطونَ الوحشِ من ... ها يبعثُونَ إذا دعوا للمحشَرِ
وخلَتْ ديارهم وأقوَى ربعُهُمْ ... وسرى السريُّ مشمرا عن شمرِ
أنفَتْ من استقصاءِ قتلِ شريدِهِم ... كيما يخبر قائلاً عن مخبرِ
فثنَت أعنة خيلنا أجيادنا ... عَنْ قتلِ كُل مزند وحَزَوَرِ
حتى إذا حان القطافُ ليانع ... من أرؤسٍ تركَت ولما تؤترِ
عصفَت بهم ريحُ المنونِ فألقحَت ... وتحركَت بزعازعٍ من صرصرِ
فدعَتْ سراة كماتنا لقطافها ... بأناملِ القصْبِ الأصم الأسمرِ
فتجهزَتْ لحصادها في فيلقٍ ... لو يسبحُونَ بزاخرٍ لم يزخرِ
ملأ تتوقُ إلى الكفاحِ نفوسُهُم ... توقانها للقا الرداحِ المعصرِ
يغشون أبطال الوطيسِ بواسماً ... كالليْثِ إنْ يلق الفريسة يكشرِ
وتخالهم فَوْقَ الجيادِ لوابساً ... سدا تموجُ بالحديدِ الأخضرِ
فإذا هُمُ ازدحموا بجزعِ وانثنوا ... أورَى زنادُ دروعهم ناراً ترِى
جيشٌ طلائعه الأوابدُ إن تصخْ ... لوجيبِهِ من قيدِ شهرٍ تنفرِ
بقتادة الملكِ المشيحِ كأنه ... بينَ العوالِي ضيغَم في مزأرِ
ملك تدرع بالبسالةِ فاغتنَى ... يوم الوغَى عَنْ سابغٍ وَسَنوَّرِ
ملك تتوجَ بالمهابةِ فاكتفي ... عند الطعانِ لفرقه عن مغفرِ
ملك إذا ما جالَ يَومَ كريهةٍ ... لم تلق غَيرَ مجدَّلِ ومعفرِ
ملك يجهزُ من جحافلِ رأيِهِ ... قبل الوقيعةِ جحفلاً لم ينظرِ
ملك تسنم ذروةَ المجدِ التي ... من دونها المريخ بل والمشترِي
ملك تذكرنا مواقعُ عضبه ... في الهامِ وقعةَ جدهِ في خيبرِ
ملكْ إذا ما جادَ حدث مسنداً ... عن جودِهِ جودُ الغمامِ الممطرِ
ملك سما عن أن أُصَرَّحَ باسمه ... لسموِّهِ عن كُل وصفٍ مشعرِ
ملكٌ قفا سنَناً سنياً سنه ... للمجْدِ والده الزكي العنصرِ
ألأَشرفُ الشهْمُ الذي خضَعَت له ... شُمُّ الأنوفِ وكلُّ جحجاح سَرِى
ألأَفضلُ السنَدُ الذي بجنابه ... لاذَ الغطارفَة الألَى من حميرِ
ألأكملُ الندبُ الذي أوصافُهُ ... أنسَتْ سما الوضاخِ وابن المنذرِ
ألأكثرمُ المفضال مِنْ إحسانه ... أربَى على كسرى الملوكِ وقيصرِ
ذو الهمةِ العليا الذي قد نَالَ ما ... عنه تقصرُ همةُ الإسكندرِ
شرفاً تقاعَسَتِ الثوابتُ دونه ... لو لم تُمدَ بنوره لم تُزهرِ
هَبْها بمنطقةِ البروجِ مقرُّها ... أمناهِز هذا بُنُوَّةَ حيدرِ(2/488)
كلا فكيْفَ بمن حواها جامعاً ... نسباً سما بأبؤَةِ المدثرِ
أعظِمْ بها من نسبةٍ نبويةٍ ... علويةٍ تنمى لأصلٍ أطهرِ
قد شرفَتْ بدءاً بأشرفِ مرسلٍ ... ونهاية بالسيدِ الحسنِ السرِيَ
فَخر الخلائفِ درَة التاجِ الذي ... بسواه هَامُ ذوي العُلاً لم يفخرِ
بَشَر ولكنْ في صفاتِ ملائكِ ... جُليَت لنا أخلاقُهُ فاستَبْصِرِ
لم تلقه يومَي عطا ووغىً سوَى ... طَلْق المحيا في حلا المستبشرِ
يلقى العفاةَ وقَدْ تلألأ وجهُهُ ... بسنا السرورِ وذاكَ أنضَرُ منظر
يعفُو عن الذنبِ العظيمِ مجازياً ... جانيه بالحسنَى كأنْ لم يوزرِ
يا سيدَ الساداتِ دونَكَ مِدْحَةَ ... نفحَتْ بعرفٍ مِنْ نداكَ معطَرِ
قد فصلَت بلالئ المدحِ التي ... وقَفَ ابنُ أوسٍ دونها والبحتُرِي
وَافَتكَ ترفُلُ في برودِ بلاغةٍ ... وبراعةٍ لبرودِ صَنعا تزدرِي
صاغَت حلاها فكرة قد زانها ... شَمَم الإباءِ من امتداحِ مقصرِ
ما شانها نَظمُ القريض تكسباً ... لولا مقامُكَ ذو العلا لم تشعرِ
ما شانها إلا اكتسابُ فضائلٍ ... تغنيه عن شَرَفِ العظامِ النخرِ
فوردتُ منهَلَها الرويَّ فلم أجدْ ... أحداً فنلْتُ صفاه غَيْرَ مكدرِ
فَنَهَلتُ منه وعلني بنميرِهِ ... ولبثتُ وارده ولما أَصدرِ
وطَفِقتُ فيه غائْصاً للآلئ ... في غَيرِ نظمِ مديحِكُم لم تنثرِ
لا تدعُنِي العليا رضيعَ لبانِها ... إن كنتُ في تلك المقالَةِ مفترِي
خُذها عقيلَةَ كسرِ خدرِ فصاحةٍ ... سفرت نقاباً عن محيا مسفرِ
جمعت فصاحةَ منطقِ الأعرابِ مَع ... حُسنِ البيانِ ورقة المستحضرِ
لو شامَهَا قُس لما سُمِعَت له ... بعكاظَ يوماً خطبة في منبرِ
شرفَت على ما عارضَتهُ بمدحِ مَنْ ... أضحى القريضُ به كعقدٍ جوهرِي
فاستَجلِها وافَت تهني بالذي ... نفحَت بشائره بمسكٍ أذفرِ
نصر تهز بنوده ريحَ الصبا ... خفقَت على هامِ الأشم الحزمري
هو نجلُكَ المنصورُ دامَ مؤيداً ... بك أينما يَلقَ العزيمةَ يظفرِ
لازلتُما في ظِل مجد باذخ ... وجنودِ مُلكِكُمُ ملوكُ الأعصرِ
مستمسكينَ بِهَديِ جدكم الذي ... بالرغبِ ينصرُ مِنْ مسافة أشهرِ
أهدى الإلهُ صلاتَهُ وسلامَهُ ... لجنابِهِ في طَي نشرِ العبهرِ
ولآلِهِ وصحابِهِ والتابعِي ... نَ لهم بإحسانٍ ليومِ المحشرِ
ما استنشَقَ الأبطالُ في يومِ الوغى ... نَقعَ العجاجِ لدى هياجِ العِثيَرِ
وقال الإمام عبد القادر بن محمد الطبري مادحاً أباه ومتخلصاً إلى مدحه: من الكامل:
قد أقبلت ريحُ القبول بعثيرِ ... نفح القبائل نفحة من عنبرِ
فتأرجَت أرجاءُ مكةَ إذ رُوِي ... خَبَر الوقائعِ في المجامع عَنْ بَرِي
إذ ضمخَت أيدي الكماةِ بنَقعِهِ ... وبمسها العود الرطيب السمهري
فتمايَلَتْ عذباتُهُم بشماله ... لا بالشمولِ ولا العبيرِ الأذفرِ
هزتهم نحو الصبا ريحُ الصبا ... والغَير هز بكل نكبا صرصرِ
هم فتية لا يطربُونَ حياتَهُم ... إلا بحربٍ أو برحب مقفرِ
جوبُ المهامهِ صَارَ منقبةً لهم ... أبداً وهذا شانُ كل غضنفرِ
من كُل أصيدَ لا يرى متلفتاً ... لثباته بين العديدِ الأكثرِ(2/489)
شهم عَلَندَى بالوشيجِ موشح ... لا بالوثيجِ إذا دعى في المحضرِ
هو في المفر كَمُشمَخِز راسخٍ ... ولدى المكز تراه كالمُسْحَتفِرِ
لله قومْ ما جَنَوا برماحهم ... إلا رؤوساً أينعَت من مثمرِ
كلا ولا نهلَتْ عطاش سيوفهم ... إلا مِنَ العَلَقِ النجيع الأحمرِ
قوم سواهم بالسريرِ مجرد ... وهُمُ سراة فوق جردٍ ضُمَرِ
ألفوا الدروعَ مدى الزمانِ غلائلاً ... أغنتْهُمُ عن لبسِ كل معصفرِ
لا يهتدونَ بجحفَلٍ من قسطلٍ ... إلا بقدحِ جيادِهِمْ في المحجرِ
فهمُ كبَحْرٍ من حديدٍ مائرٍ ... عند المسيرِ وتحتَهُم نار ترِى
حتى إذا دخلَ النزالُ وهاجتِ ال ... أبطالُ في الهيجا هياجَ مزمجرِ
وبدَت زماخرُ كل صنديدٍ إذا ... مدَ السواعد كان قدماً زمخري
يدعو النزالَ إلى نزالِ مسعرٍ ... لهب الوغَى منه بأعسَر مسعرِ
لاقاه غطريفٌ عليه سيطرٌ ... لا يرتجي إلا لقَاءَ عَشَنْزَرِي
يلقى الكريهةَ فاغراً متبسماً ... يخطو بمشيَةِ أرعَنٍ متبخترِ
ويجرُ عُجباً ذيلَ فاضتِهِ التي ... شملَتْهُ بين مزردِ ومزررِ
يلقى المنونَ لِقا المُنَى بمهندٍ ... لا ينتضي إلا بكَف مقذحرِ
دبَّت على متنيهِ في حالِ المضا ... نملُ المنايا دبهاً في المحشرِ
عافَ الجفير فلا مقرَّ له سوَى ... هامِ الشجاعِ المقدم المتهورِ
ظلم النفوسِ لظلمها ممزوجة ... بدَمِ النياطِ بغربِ ذا العضْبِ الفرِي
ففرندُهُ ما زال وهْوَ مدبجٌ ... من أبيضٍ في أسودٍ في أحمرِ
لصليلهِ في الهامِ فعلُ الصل في ال ... ملسوبِ مسلوب الفؤادِ المسهرِ
قسماً به إن السيوفَ حديدَةٌ ... لولا يدُ الحسنِ المليكِ القسورِي
ألسيدُ الجَخجَاحُ أَفضَلُ من به ... وبرأيه ظهَرَت نجابةُ حبْدَرِ
ألباسلُ الصنديدُ من فرجَت له ... في مأزقٍ خطية لم تقصرِ
قد أنهلتهاً كفُّه نَحْر العِدا ... فأنهَل غَيث نجيعه المثْعَنْجِرِ
سُمرٌ عَوَالِ للرُدَيْنِ نماؤها ... تروى به علل الورُود المصدرِ
قسماً بها إن العواليَ خوطَةٌ ... لولا يمينُ ابن النبيِّ الأفخرِ
ألباسلُ الشهمُ الأشُم المرتقِي ... ما قصرَت عنه عزائمُ قيصرِ
وتكسرَت آراءُ كِسرَى دونه ... في وترِ سيفٍ إذ حماه بعسكَر
فَعلاَ ابن طه ليْسَ يبرحُ واضحاً ... وبه يرَى الوضاح شِبْهَ مقصرِ
جَل الأشمُ ابن العرانينِ الألَى ... عَنْ أن يقاسَ بمثله ابنُ المنذرِ
ثَبتْ إذا نُوَبُ الزمان تقاذفَتْ ... لا بالغبي بها ولا المستَنْكرِ
ما ظَن أمراً سابقاً أو لاحقاً ... إلا رمَى عن قوسِ غَيْبِ موترِ
أو لويعادى الصخر لانفلق الصفا ... خَوْفاً فمنْ ذا بَعْدَ هذا يجتري
صُغرَى عزائمِهِ إذا جابَ الفَلاَ ... تنحط عنها همةُ الإسكندرِ
لم يُلْفِ في حالَيْ رضاهُ وبطشِهِ ... أبداً سوَى متبسم ومكشر
كملَت بسالتُهُ فأنجَبَ سيداً ... قرتْ به عينُ الشرَيفِ حَزَوَرِ
ليث مخالبُهُ الأسنة والظبا ... يغتالُ قلبَ الفارسِ المثعنجرِ
ليثَ صهيلُ الخيلِ أشهَى عنده ... من صوتِ مزمارِ ورنَّةِ مِزهَرِ(2/490)
ليث يرى الصهواتِ أنعَمَ من علا ... ظَهْر الأريكةِ أو تسنم منبرِ
ليثٌ أشار عليه والدُه ضحىً ... لغزاةِ قومِ شَمَروا من شمرِ
فاقتادَ ظُهراً جيشَهُ متوجهاً ... لا بالونيَّ المبطئ المستَخْبِرِ
وأبو علي بينهم متأوداً ... عند الكفاحِ تأوُّد المستبشرِ
أَلنصْرُ في أعلامِهِ والسعدُ في ... إقدامِهِ والرعبُ مدة أشهرِ
وبوجهِهِ نورُ النبوة ساطع ... يغنيه عن ظَهْر الطرازِ الأخضرِ
يلقى العدُوَ مشهراً بعلامةٍ ... والغيرُ إنْ لاقَى فغير مشهرِ
يأيها المولَى الإمام المرتضَى ... أنتَ الخليفةُ وارثُ المدَثرِ
قد قمتَ فينا منذراً ولربكَ ال ... أعْلَى نراكَ سموتَ كل مكبرِ
وثيابُكَ الحسنى غدوْتَ مطهراً ... وهجرتَ رُجزاً لا أقولُ لك اهجُرِ
ومنحتَنا منناً تطوًقُ جيدناً ... عقيانُهاً لا منَّة المستكثرِ
يا بن الخلائفِ من قريشٍ هذه ... غُرَرُ الخلائقِ من أبيكَ الأطهر
أوتيتَهاً فبذلْتَ واجبَ حقها ... وحميتَها من أصعَرِ أو أصغرِ
والله قد أعطَاكَ ما لَمْ يعطِهِ ... مَنْ قد مضَى فاحمَدْ إلهَكَ واشكُرِ
ثم وليها الشريف إدريس بن الحسن، وذلك أنه كان المعتاد في قواعد بني حسن أن يكون من يتفقون عليه، ويختارونه هو صاحب الأمر، فاجتمع حينئذ الأشراف جميعهم، وأعملوا رأيهم السديد وحمد غب ذلك صنيعهم فاختاروا مولانا الشريف إدريس بن الحسن فولوه، وأكبروه ورتبوه في الولاية وصدروه، وأشركوا معه في الدعاء على المنابر ابن أخيه مولانا الشريف محسن بن الحسين بن الحسن، وأشركوا معه أخاه السيد فهيد بن الحسن في ربع ما يتحصل من الأقطار الحجازية، وكتبوا بذلك محضراً إلى الروم ثم وصل الجواب كذلك فاستمروا.
فلما كان يوم سابع في الحجة الحرام من سنة اثنتي عشرة وألف كانت عرضة المصري وأميره الأمير حسن الشهير بدَلِي حسين، ووصل معه بثلاث خلع، لبس مولانا الشريف إدريس الخلعة الأولى الكبرى، وهي بفرو سمور تحتها خلعة منفصلة كالبطانة، وهاتان الخلعتان عن خلعة واحدة، ولبس الشريف محسن خلعة بلا فرو، ولبس السيد فهيد خلعة كذلك بغير فرو، ووقف الشريف إدريس في المختلع إلى أن توجه الأمير حسين، ثم جاء أمير الشامي وهو الأمير طهماس، فنزع الشريف إدريس خلعة الفرو، ولبس خلعة الشامي وهي بفرو أيضاً، ولبس الشريف محسن، ولبس السيد فهيد خلعتيهما وكلاهما بغير فرو، وكانت عرضة رائقة لم يحصل فيها مخالفة، وأخلف الله الظنون المخالفة.
وفي سلخ جمادى الأولى من سنة ثلاث عشرة وألف وصل من مصر هجان، وملخص أوراقه أن الشيخ محمد زين العابدين بن محمد البكري مات فجأة في القلعة في مجلس صاحب مصر الوزير إبراهيم باشا، وذلك بعد أن تعشى عنده ودخل معه إلى الخلوة، وشرع في قراءة فاتحة الكتاب فسقط على وجهه، فحركوه فوجدوه ميتاً رضى الله عنه، وكانت وفاته في ثامن عشر ربيع الأولى من السنة المذكورة.
وفي آخر ربيع الثاني منها: اجتمعت عساكر مصر، وقتلت صاحب مصر إبراهيم باشا، وقتلت معه محمد بن خسرو، ولم تقتل سواهما، مع أنه كان حاضراً عنده جملة من الأمراء وقاضي مصر وغيره من الأكابر.
وفي يوم الأربعاء سابع عشر رجب من السنة المذكورة أيضاً: دخل مصر باشا جديد لها اسمه محمد باشا، وهو خادم قرجي الجنس، واستمر إلى ثاني ربيع الأول من سنة أربع عشرة بعد الألف، فعزل بالوزير حسن باشا الواصل من اليمن.
وفي شهر الحجة من السنة المذكورة: وقعت فتنة بمكة بين الأتراك النازلين بالمعلاة وبين عبيد الشريف، فركب حاكم مكة يومئذ القائد راشد بن فايز، فلما أن كان برأس المدعي أصابه سهم لا يعلم من أين جاء فوقع في نحره فكان فيه نحره، وكان من بعض الدور النازل بها بعض الترك فحمل قتيلاً.(2/491)
وفيها توفي الشيخ الملا علي القاري بن سلطان بن محمد الهروي الحنفي الجامع للعلوم العقلية والنقلية، والمتضلع من السنة النبوية، أحد جماهير الأعلام، ومشاهير أولي الحفظ والأفهام. ولد بهراة ورحل إلى مكة وتديرها.
أخذ عن خاتمة المحققين العلامة ابن حجر الهيثمي، وشرح المشكاة والشمائل الوترية والجزرية، وله شرح على نخبة الفكر وشرح على الشفا وشرح على الشاطبية، ولخص القاموس وسماه الناموس، وله الأثمار الجنية في أسماء الحنفية وله غير ذلك، لكنه امتحن بالاعتراض على الأئمة لاسيما الشافعي وأصحابه، واعترض على الإمام مالك في إرسال يديه، ولهذا تجد مؤلفاته ليس عليها نور العلم، ومن ثم نهى عن مطالعتها كثير من العلماء والأولياء.
وفي سنة ست عشرة بعد الألف: توفي السيد صبغة الله بن روح الله الحسيني قطب مدار الراسخين في العلم والعمل الفحول، وقلب أهل الإشارات والإلهام والوصول، جبل عرفات العرفان، وحبل مستعصم رجال العطف والحنان.
صحبه الجم الغفير، وانتفع به الجمع الكثير، أوفرهم حظاً مولانا السيد مرزا، كما أشار هو إلى ذلك في بعض مصنفاته بياناً ورمزاً. وكذلك مولانا السيد أسعد البلخي، والشيخ أحمد الشناوي، توفي بطيبة المنورة، ودفن بالبقيع وقبره ظاهر يزار رحمه الله رحمة الأبرار.
وفيها ورد الأمر من مولانا السلطان الأعظم أحمد خان بترميم المقامات الأربعة حرم الشريف على يد شيخ الحرم حسن بن مراد الرومي، فرممت على أحسن وجه وأتقنه.
وفي سنة إحدى وعشرين بعد الألف: توفي السيد فهيد بن الحسن بعد أن شارك أخاه الشريف إدريس، وابن أخيه الشريف محسن بالربع في جميع الأقطار الحجازية الداخلة تحت حكم صاحب مكة المشرفة البهية، فكثرت أتباعه من السادة الأشراف والحسنان والعسكر بحيث صار موكبه يضاهي موكب الملك، وإذا جلس وقفت الترك يميناً وشمالاً، واتخذ جبالية للبندق نحو مائتين أو أكثر، ولم يحفظ أتباعه وعبيده عن النهب والسرقة فكثر ضررهم على الناس، وشد قوسه على مولانا الشريف إدريس وإخائه، واستل صارم الصرامة عليه في شدته ورخائه، والشريف متورع عن فتح باب المصارمة، وصدع ما لا يلتئم بالجبر والملايمة، فلما زاد - كما تقوله العامة - الماء على الدقيق، ولوحظ ما حقه التفخيم بالترقيق.
وأخذ فهيد بجانب أكمل الدين القطبي، وأراد أن يلبسه قفطان الإفتاء قبل أن يحرم ويلبي.
ووقف الشريف إدريس ذلك الموقف، واعتنق السمهري تعانقاً يثنى، ولواء الخميس العرمرم يرعب ويرجف، وأقسم لا يلبس القفطان إلا وقد ورد السنان نحره.
فقال فهيد: ولو خربت البلاد؟ فقال إدريس: ولو خربت قبل سجره، فعند ذلك تراجعا إلى النهي، وفكرا في المبدا والمنتهى، وعادا وفي قلب كل منهما وقد.
وأخذ مولانا الشريف إدريس من ذلك في حل ما مضى مع فهيد من العهد، خصوصاً لما صمم القطبي ورجع الأمير، ولم يجعل التفكر في عواقب الأمور أصدق سمير، ودخل معه إلى المدرسة المعروفة، ولبس الخلعة الموصوفة، وتجاهه من جماعة الأمير اثنان من الأساكفة أرباب التشهير، وشق الشارع الأعظم حتى انتهى إلى سويقة، وصهيل خيله يسمع من كل شباك وطويقة.
كل ذلك عناد لسيده ومولاه، وكفران لمن خوله هذه النعمة وأولاه.
فأضمر حينئذ الشريف إدريس الحقد على أكمل الدين. كذا في سلافة العصر والأرج المسكي.(2/492)
ولما أراد الله انقضاء مدة فهيد وفراغ دولته، تغير عليه في الباطن أخوه الشريف إدريس، وأرسل لابن أخيه الشريف محسن بن حسين، وكان إذ ذاك باليمن بأن يأتي بجميع من معه من الأشراف والقواد والعرب، فحضر ومعه أمير حلى محمد بن بركات الحرامي، ونودي بمكة بأن البلاد لله، وللسلطان وللشريف إدريس والشريف محسن، وخلع السيد فهيد من الذكر، ومنع من الربع، وجعل ما كان لفهيد من ربع مغل الأقطار الحجازية لابن أخيه الشريف محسن، ولم يخطب للسيد فهيد، وخطب لمولانا الشريف إدريس أولاً ولمولانا الشريف محسن بعده ثانياً، كل هذا وفهيد في مكة في بيته، وجموعه وافرة، وعدته وعدده المتكاثرة، فاستعد أصحابه للقتال، وأشار إليه أعيانهم بالحرب، فامتنع من ذلك، وطلب من الشريف إدريس شهر زمان ليتأهب للخروج من مكة بعد أن طلب أن يمكن من سكنى مكة بغير ربع، فامتنع الشريف إدريس إلا أن يتوجه إلى حيث أراد من الأماكن والبلاد، فخرج من مكة سنة تسع عشرة وألف، فانضم إلى بعض أكابر الحاج المصري، وسار إلى مصر، وتاريخ قدومه في شهر صفر قدومكم خير سنة عشرين وألف، ثم منها إلى الديار الرومية، واجتمع بسلطان الروم، فيقال: إنه أنعم عليه بإمرة مكة، فعاجلته المنية قبل الأمنية، كذا في تاريخ ابن جار الله.
وأرخ وفاته الأديب إبراهيم بن يوسف المهتار بأبيات فقال: من الرمل:
ما وقوفي بطلولٍ ودمَنْ ... غيرَت سُكانها أيدي الزمَنْ
ليَ شُغْلٌ عَن بكائي رسْمَها ... وسؤالي قَفرَها بعد السكَنْ
بالذي أسْمِعْتُهُ مِن خبرٍ ... حَرَمَ العينَ لَذَاذَاتِ الوَسَنْ
نَعيَ ذي المجدِ الكريمِ المرتجَى ... حاوي العليا فهيد ذو المِنَنْ
فارج الكربِ وماضِي الغربِ في ال ... حَربِ غيثُ الجدبِ ذو الفعلِ الحَسَنْ
مَن أبَت همتُه إلا العلا ... ومراقِي عزها خَيْر ظعن
واصل الروم فوافاه الردَى ... في بلادِ باعدَتْ عنه الوطَن
ليتَ شعْري أيُّ أيدٍ غيبَت ... في الثرى شخصَكَ مِن بَعدِ الكفَنْ
هل درَت ما غَيبته من حِجىً ... ومعالٍ ونوالٍ في قَرَنْ
إن تحجبتَ بأطباقِ الثرَى ... فأياديكَ بشام وَيَمَنْ
لكَ ذكْز بالثنا لا ينقضِي ... صار كالفَرضِ على أهل السنَنْ
رَحِمَ الرحمن مثوَى جدثٍ ... هو في كل فؤاد كالشجَنْ
وسقى الله تراباً ضمهُ ... صيبُ الرضوانِ ما غيث هَتَن
قيلَ لي هلْ قلتَ تاريخاً له ... بارعاً تُمليه أربابُ الفِطَن
قلتُ والخد روٍ مِن أدمعِي ... والحشا بالكَربِ صاد في حَزَن
نصْف بيتِ قد أتى تاريخه ... ماتَ بالروم فهيدُ بن الحَسَن
وفي هذه السنة كانت وفاة أكمل الدين القطبي شهيداً بالأعاضيد، اسم محل به نخل ومزارع بين الطائف والمبعوث والمبعوث إليه أقرب، والشريف إدريس إذ ذاك بالمبعوث.
وفي هذه السنة أيضاً وقعت قتلة بين الجبالية، وبين الحسنان، والقائد جوهر قباني حاكم مكة، تعصبت الحسنان والقواد للقائد جوهر، فتحاربوا أجمعين على أقدامهم بخط القشاشيين إلى الصفا، وكان الظفر للحسنان والقواد وقتل بعض الجبالية.(2/493)
وفي أوائل العشرين من ذي الحجة الحرام من سنة عشرين بعد الألف: وصل من الديار الرومية الباشا حسن المعمار بميزاب الكعبة المشرفة، أرسل به السلطان أحمد ابن محمد خان، وأمره أن يجعل لها إزاراً من حديد فوقه مثله من الفضة المطلية بالذهب، فبرز أمر صاحب مكة مولانا الشريف إدريس بن الحسن إلى أكابر مكة وعلمائها بأن يلقوا الباشا حسن من الحجون ويمشوا أمام الميزاب، فامتثلوا الأمر وبرزوا، وكان ذلك في آخر النهار، فدخل الميزاب إلى مكة من الحجون وأمامه بعض طوائف الأذكار، وهم يذكرون الله تعالى، فبعد إتمام مناسك ذلك العام وقفول الحجاج إلى بلادهم توجه إلى عمارة العين وكان مأموراً بذلك وصحبته أموال من جانب السلطنة، فاتفق عمل ذلك وأتمه، ثم إنه ركب ميزاب الكعبة بعد قلع ميزابها، وأرسل إلى الحضرة السلطانية، وجعل الإزار المأمور به على الكبة.
واستمر الإزار عليها إلى أن اتفق سقوط بعض الجدران في دولة الشريف مسعود ابن إدريس عام تسع وثلاثين بعد الألف، كما سيأتي تفصيله.
وقد تقدم ذكر بعض ذلك في ترجمة السلطان أحمد بن محمد خان في الباب المعقود لدولة العثامنة، أدامهم الله وأدام بهم الدنيا آمنة.
وفي سنة إحدى وعشرين بعد الألف: وصل الوزير حاجي محمد باشا منفصلاً عن وزارة اليمن، وكان دخوله إلى مكة غرة شعبان من السنة المذكورة، وصام رمضان، وتصدق وفعل أفعالاً عديدة من الخيرات، وكان وصل معه في مركبه الواصل بحراً فيل صغير أراد أن يهديه إلى الحضرة السلطانية العثمانية، ثم إن هذا الفيل استمر بجدة أَياماً فجاء الخبر بموت السلطان عثمان بن أحمد خان، ثم انتقَل حاجي محمد المذكور ليلة سابع عشري شوال من السنة المذكورة، ودفن ضحى صبيحة تلك الليلة بالمعلاة، وبنيت عليه قبة عظيمة باقية إلى اليوم.
ووقع سنة وصول الفيل غلاء شديد بمكة؛ قال فيها العلامة مولانا عبد القادر بن محمد الطبري تاريخاً وهو على غير الأبحر المتداولة ونصه:
حَرمَ الله حِل ساحتِهِ ... قدم الفيل ضَلَّ عن رشده
كثرالهَمّ يا فَتَى أَرخ ... سَنَة الفيلِ همها يشده
وفي عام ثلاث وعشرين بعد الألف في شهر محرم الحرام منها: وقع مطر عظيم، وفيه برد كبار كل بردة منه قدر شربة الماء بل أكبر.
وفي سنة أربع وعشرين توفي الأديب برهان الدين بن محمد بن مشعل العبدلي السالمي المكي.
كان شاعراً ماهراً له قصائد طويلة يمتدح بها الشريف الحسن بن أبي نمي وغيره، فمن شعره في مليح يهواه وهو يهوى الراح قوله: من مجزوء الكامل:
شمس الطلا بَدرِي غدا ... لم يَصحُ من تعليلها
فالراح قتلةُ قاتلىِ ... وأنا قتيلُ قِتيلِهَا
توفي بالطائف مجاوزاً السبعين.
وفيها توفي الشيخ نور الدين الزيادي شافعي زمانه، القطب العارف بالله في أوانه.
قال في الريحانة: حضرت دروسه زماناً طويلاً وهو كما قلت فيه: من الوافر:
لنورِالدين فَضل لَيسَ يَخفَى ... تضيء به الليالِي المدلهمَّه
يريدُ الحاسدونَ ليطفئُوهُ ... ويأبى الله إلا أن يُتِمه
وله حاشيه على شرح المنهج، وأخذ عنه كثيرون.
وفي سنة خمس وعشرين وألف لليلتين بقيتا من شعبان منها: ورد الأمر السلطاني من حضرة السلطان أحمد على يد الباشا حسن أفندي بعمل شباك نحاس في بئر زمزم ليمنع كل ما يسقط فيها من آدمي وغيره، فجعل على قدر تدوير فم البئر وجعل له ست سلاسل وربطتَ بالحديد الدائر على فمها، وصار الماء فوق الشباك نحو ثلثي قامة.
وفيها توفي الشريف حازم بن راجح بن أبي نمي الحسني: كان من أكابر السادة وأعيانهم، يرجعون في المهمات إلى رأيه السعيد، وتدبيره الحميد.
بلغ من الحزم منتهاه، وطابق اسمه مسماه.
وقد كان رحل مع والده راجح بن أبي نمي إلى مصر حين عزم إليها منافراً لأخيه الشريف، ثم بعد انتقال والده راجح المذكور بمصر رجع إلى مكة فأكرمه عمه الشريف حسن، واعتذر حازم عن عزمه مع والده بأنه لا يمكنه خلاف والده، فقبل عمه الشريف حسن عذره. قاله في الجواهر والدرر.(2/494)
وفيها توفي السيد سالم بن محمد السنهوري المالكي المصري، أدرك ناصراً اللقاني، وأخذ الحديث عن النجم الغيطي وغيره، وتفنن في العلوم، ومهر في الفقه حتىّ صار معتمد المالكية في عصره، له تعليق على مختصر خليل.
وقد كان للشريف إدريس من العبيد المولدين، ومن الرقيق الجلب ما يزيد على الأربعمائة، ومن المقاديم من العرب جماعة، وكانوا في أَشَر وبَطَر، وتِيهٍ وعَسَر وتجمل ظاهر، يتخيل الواحد منهم نفسه الملك القاهر.
وكان من خدامه وزير مكة القائد أحمد بن يونس وإن كان ولاؤه لذوي بركات، فلما كان النصف الأخير من شهر رمضان سنة ست وعشرين وقعت فتنة سببها أن القائد أحمد بن يونس، وهو الوزير على مكة من قبل مولانا الشريف إدريس وكان وزير مولانا الشريف محسن القائد ياقوت بن سليمان، وكان مولانا السيد محمد بن عبد المطلب نائباً في مكة عن عمه الشريف إدريس لغيبته في الشرف كان قد استفحل أمره، وعظم حتى صارت الأمور كلها منوطة برأيه وتدبيره، موكولة إلى تقديمه وتأخيره.
فتوافق مولانا الشريف إدريس، ومولانا الشريف محسن، فأرسل مولانا الشريف إدريس إلى السيد محمد يأمره بأخذ المهر، وهو مهر العروض من القائد أحمد، وكذلك أرسل مولانا الشريف محسن إلى القائد ياقوت بن سليمان بأخذ مهره منه، ففعل كل ما أمر به.
وكان الأخذ المذكور في صبيحة عاشر رمضان من السنة المذكورة، فحينئذ شاع في البلد عزل أحمد بن يونس، وأرسل مولانا الشريف إدريس إلى القائد ريحان بن سالم حاكم مكة يأمره بالوصول إليه إلى الشرق، فقدم إليه، فقلده منصب الوزارة، فوصل إلى مكة في الشهر المذكور، ووصل الخبر إلى السيد محمد بن عبد المطلب بأن القائد أحمد بن يونس يريد الركوب عليك، وقد اجتمع عنده العدد والعدد، ووصل الخبر إلى القائد أحمد بذلك أيضاً، فركب كل منهما بعد أن ألبس، ووقف عند باب داره، ثم انجلى الأمر، وظهر أن ما أخبر به كل منهما ليس له أصل، فأرسل مولانا السيد محمد بن عبد المطلب إلى مولانا الشريف إدريس، ومولانا الشريف محسن بذلك، فلما كان العشر الأخير عزم القائد أحمد إلى مولانا الشريف بالمبعوث، وكان قد وصل إليه الشريف من محله الأول، فأقام القائد أحمد هناك، فجاء الأمر إلى مولانا السيد محمد بأخذ أموال القائد من داره، وكل ما حوله، وأن يحفظ على ذلك، فلما أن كانت ليلة العيد حصلت حركة من آخر الليل عند بيت السيد محمد، وتفريق سلاح وأدراع، فنزل إلى المسجد، وصلى صلاة العيد فقط، وبرز من المسجد قبل الخطبة، وعزم بالجيش إلى البستان - بستان ابن يونس - فختم على أمواله كلها، وأمر أن ينزل البعض منها إلى البلد، واستمر هو إلى بعد صلاة الظهر، ونزل، والجيش معه بعد أن ختم على بقية الأموال، وقبض على جماعة من المنسوبين إلى أحمد، وحبسهم بعد أن ختم على بيوتهم، ثم فكوا بعد وصول مولانا الشريف إدريس، إلا إبراهيم بن أمين كاتب أحمد، وأعظم المقربين إليه؛ فإنه لم يزل مسجوناً إلى أن قضى الله عليه في السجن.
وأما أحمد فإنه استمر بالمبعوث، فثارت بسببه في ثاني شوال من السنة المذكورة بين ذوي حسن، وذوي بركات فتنة أدت إلى الإدراع والإلباس، ثم رحل إلى كلاخ فأقام بها، ثم رحل منها إلى جهة الشام.
فلما أن كان في أثناء الطريق رجع فوصل إلى مولانا الشريف إدريس، وهو بالشرق في السنة المذكورة، فسجنه وكبله بالحديد، ثم قتله في السنة المذكورة أيضاً في محل يقال له: وادي النار، ودفن هناك، فسبحان الفعال لما يشاء.
وقد كان هذا الوزير في قوة من المال والرجال قد اشتغل بالحال، ولم يفكر في المآل وسار صيته في الآفاق، وأكثر الدخل وأقل الإنفاق وكان ذا تدبير لأحواله حتى جاوز الحدود، فوقع به ما قضاه الملك المعبود اللهم عافية غير عافية، ورأفة منك وافية كافية كذا في الأرج المسكي " .
وفي سنة سبع وعشرين في ذي الحجة منها: قلع الشباك النحاس الذي عمل لبئر زمزم الأفندي السيد محمد بن مصطفى الفناري لما قيل له: إن ماء زمزم تغير طعمه بسبب ذلك الشباك وأن الدلو إذا وقع ربما أمسكه أن يصعد.(2/495)
وفي سنة تسع - بتقديم التاء - وعشرين وألف في سادس عشر جمادى الأولى منها: توفي السيد منصور بن أبي نمي بمكة، وخطب له على زمزم بعد موته، وهو آخر أولاد الشريف أبي نمي موتاً وسنه نحو سبعين سنة، ورأى أولاد أولاد أولاد أولاد أبي نمي، ودفن بالمعلاة وكانت جنازته حافلة.
وفيها: غزا الشريف محسن بن الحسين بجيلة ونواحيها.
وفي يوم الأحد ثامن عشري الشهر المذكور من السنة المذكورة: وقع في المسجد الحرام طراد عجيب بسبب أن جبلياً أراد الطواف، فأودع سيفه عند رجل هندي، فمر به رجل تركي فابتدر الهندي السيف، وقتل التركي، فثار الناس على الهندي، فطردهم إلى باب الصفا، فتكاثر الناس على الهندي، ورموه بالحجارة فطردهم، ثم أحاطوا به، وضربه رجل عند زمزم بإبريق فزلق بالبلاط، وطاح فضرب بجنبية، ومات التركي والهندي.
وفي ليلة الأحد الرابعة والعشرين من جمادى الآخرة منها توفي السيد منجد بن راجح ابن أبي نمي بالمبعوث، وحمل إلى مكة، ودفن بالمعلاة، وكان من أعيان أشراف مكة، يوصف بالكرم.
وفي رجب منها: توفي السيد قتادة بن ثقبة بن أبي نمي ودفن بالمعلاة.
وفيها - أو التي بعدها - توفي العلامة عبد الرؤوف المناوي شارح الجامع الصغير شرحين، وله ترتيب الشهاب وشرحه، وشرح أدب القضاء، وطبقات الصوفية، والأرغام، وغير ذلك. رحمه الله - تعالى - .
وفي سنة اثنتين وثلاثين وألف: توغل مولانا الشريف إدريس، وابن أخيه مولانا الشريف محسن في الشرق، ووصلا بالفريق إلى قرب الأحساء، واجتمعا بذوي عبد المطلب، وكانوا في العام الماضي نافروا عمهم الشريف إدريس فقام الشريف محسن في موافقتهم لعمهم فتم ذلك، وطابت نفوسهم، ووصل الشريفان بفريقهما إلى الأحساء، وضربت خيامهم قبالة الباب القبلي من سور الأحساء، وأكرمهم صاحبها علي باشا الكرامة التامة، وأقاموا نحو ثمانية أيام، ولم يتفق لأحد من أشراف مكة المتولين من القتاديين وصول الأحساء كما اتفق لهذين الشريفين.
وفيه في ثالث ربيع الثاني: دخل الشاه بغداد، وأخذها من يد المتغلب عليها من باشوات السلاطين بني عثمان، وسبب ذلك أن رجلاً من عسكرها يسمى بكر تغلب عليها، وانبسطت يده على مملكتها حتى صار إذا جاء الباشا السلطاني العثماني متولياً عليها لا ينفذ من حكمه إلا ما نفذه بكر المذكور، وغلب على بكر أيضاً ولده محمد، ولكل فرعون موسى، فوصل إليها وزير اسمه أحمد حافظ بجيش كبير، فلما رأى بكر ذلك أغلق أبواب بغداد، وأرسل إلى الشاه ليمكنه من البلاد، وتبقى له رقبته وماله، فأتى الشاه بعسكره، فلما رأى أحمد حافظ قوة الشاه أرسل الخلعة والتأمين لبكر ثم انصرف راجعاً، ولم يزل الشاه في ذلك المكان، وأعطى محمد بن بكر العهود بأن يجعله نائب البلاد، ويؤمنه - كما طلب - على رقبته وماله، ففتح الباب باب السر، فدخل عسكر الشاه، وأظهروا أنواع الطغيان، وقتلوا بكراً وجميع أهله شر قتلة، وقتلوا أهل السنة جميعهم، ثم خرج الشاه منها، وأقام فيها خاناً من خاناته، فأرسل سلطان الروم العثماني وزراء معهم الجيوش الجرارة لأخذها فلم يحصل من أحد فتحُها، حتى قدر الله تعالى فتحها على يد السلطان مراد بن أحمد خان، كما سيأتي ذكره في سنة ثمان وأربعين وألف.
وفيها توفي السيد دخيل الله بن ثقبة بن أبي نمي في بيشة، ودفن بها، وكان من أجلاء الأشراف ورءوسهم وذوي الرأي منهم.
وفيها يوم الإثنين سابع رمضان منها: مات السيد أبو نمي بن عبد الكريم بن حسن ابن أبي نمي بالمبعوث وحمل إلى مكة.
وفيها ليلة الثلاثاء ثامن رمضان المذكور دخل حيدر باشا متولياً اليمن، فنصب دكة في المسجد الحرام، فصلى عليها فأنكر عليه الملا محمد مكي فروخ، ورماه بالحجارة فتبعه العامة فأمر بلزمه فلزم، وقال: لا بد من ضربه خمسمائة ثم طلبه، ولم يضربه وجمع فيها الأئمة الأربعة ونائب المحكمة، وأثبت أنه ما فعل ذلك إلا لعذر، وكتب ذلك في السجل.
وفيها يوم عيد الفطر: كانت وفاة الإمام عبد القادر بن محمد الطبري، وهو الإمام الذي تصدر في محراب العلم والإمامة، وتسنم صهوة جموح الفضل، وملك زمامه، من رفع للعلوم أرفع رايه، وجمع بين الرواية والدراية. فأصبح وهو كاسر الوساده، بين الأئمة والساده، يشنف المسامع بفرائد كلامه، ويبهج النواظر بما تذبجُه أنامل أقلامه.(2/496)
إذا انفهقت بشقاشق قالِهِ لَهاتُهُ، ثبت حق إفصاح الكلام، وبطلت ترهاته، إلى نسب في صميم الشرف عريق، وحسب غصن مجده بالمعالي وريق، وبيت لم ليس فيه إلا إمام وخطيب وأديب، فَنَنُ فضلِهِ في رياض الأدب رطْب، والطبريون سادة من غير الفضل بريئون.
وهذا الإمام واسطة عِقدهم، ورابطة عقدهم، ومحيي آثارهم، والآخذ من الدهر بثأرهم.
صنَّف وألف، وسبق وما تخلف.
أما الأدب فرَوضه الممطور، وحَوضه الراوية منه السطور.
كانت له عدة من المصنفات. منها: شرح الدريدية المسمى بالآيات المقصورة على الأبيات المقصورة، وحسن السريرة في حسن السيرة، وشرح بديعيته التي على منوال بديعية ابن حجة المسمى على الحجة، بتأخير أبي بكر بن حجة، ونشآت السلافة بمنشآت الخلافة، وشرح قطعة من ديوان المتنبي: سماه: الكلم الطيب على كلام أبي الطيب.
وله عدة رسائل وغير ذلك من حواش وتعليقات. وإنشاء ومكاتبات تهيج البلابل، وتحقق - لولا أنها حلال - سحر بابل.
أمَّ بالمسلمين في المقام ببلد الله الأمين، واتصل بقرب سلطان مكة ونواحيها، وحامي جهاتها وضواحيها، مولانا الشريف حسن بن أبي نمي، فحصلت له من جنابه العظيم مكانة أي مكانة، وزادت علوه رفعة وأعلت مكانه، بحيث حملته على تأليف غالب مؤلفاته المذكورة برسمه، وجعلها خدمة لخزانته المعمورة متوجة بلقبه واسمه، أثمرت عزاً فيه يتنافس المتنافسون، وأينعت مجداً يقال فيه: لمثل هذا فليعمل العاملون هطلت على غرائسها سحائب الإنعامات الحسنية، ونشرت على دوحاتها خلع الإجلال السنية.
ولما وصل إليه بشرح الدريدية، وقرأ ديباجته لدى حضرته العلية، وذكر له أنه أنشأ بيتين هما تاريخ تمام تأليفه، وجعلهما على لسان الكتاب وأراه إياهما، تناول الشريف حسن الكتاب بيده الشريفة، وقرأ البيتين وهما: من مجزوء الرجز:
أرخَنِى مؤلّفي ... ببيتِ شعْرٍ ما ذهَبْ
أحمدُ جود ماجِد ... أجازني أَلْف ذَهَبْ
فتبسم مولانا الشريف، ووضع الكتاب في حجره، ووضع يده الشريفة على رأسه، وقال: على الرأس والعين، والله إن ذلك نزر يسير في مقابلته، وإني أحمد الله تعالى الذي أوجد مثلك في زمني.
ثم لما كانت أيام وفاته، ووصلت مطايا عمره إلى غاية محله وميقاته، وذلك في زمن مولانا الشريف إدريس بن حسن كان سببه المقدر، في كتابه المسطر، أنه انتابت خطبة العيد أحد ولديه، وكانت أول خطبة حصلت لديه، فتهيأ للقيام بأدائها، وأرهف عضب لسانه لإبدائها.
فمنعه بعض أمراء الأروام، الواردين إلى مكة تلك الأعوام، يسمى حيدر باشا، ورغب في أن يكون حنفي المذهب، وأخاف من تعرض له وأمره وأرهب.
فضاق بالإمام نجده ووهده، وجهد في إزالة المانع فلم يجد جهده؛ لأن مولانا الشريف إدريس لم يكن في ذلك الوقت بالبلد.
فلما لم يحصل إلا على اليأس، ولم يلق لضنا دائه من آس، صعد كرسيه وتنفس الصعدا. ففاضت نفسه لوقته كمدا، وألقى على كرسيه جسداً.
وقدمت جنازته ذلك اليوم للصلاة عليه، والخطيب على المنبر ناظر إليه.
وقيل: إنه مات مسموماً. وكانت ولادته سنة ست وسبعين وتسعمائة. وأرخت بما نصه أشرف المدرسين رحمه الله تعالى.
ولما بلغ الشريف إدريس وفاته بذلك تعب تعباً شديداً لما كان للإمام عبد القادر عنده من المحبة، فدخل مكة رابع شوال، ومعه الشريف محسن، وجمع الأشراف والقواد في موكب عظيم، وأكرمهما حيدر باشا غاية الإكرام، فطلبا منه التوجه إلى اليمن، وأحضر له ما يحتاجه من إبل وغيرها.
وفي سنة ثلاث وثلاثين وألف قبيل الظهر من يوم الأحد سابع جمادى الآخرة وقع مطر عظيم، سالت منه أودية مكة، وامتلأ منه المسجد الحرام، وعلا الماء حتى حاذى الحجر الأسود، فقال الشيخ محمود الحناوي تاريخاً في ذلك وهو من الحسن بمكان: من السريع:
قد جاءنا سَيل مِنَ الله في ... جُماًدىَ الآخر يا ذا النظَرْ
فى مسجدِ الله الحرامِ الذي ... سعَت إلى علياًه كُلُ البَشَرْ
سيل عظيمْ ما رُئى مثلُهُ ... تاريخه: ألماءُ حاذى الحَجَرْ(2/497)
وفيها توفي الشيخ الأمجد شهاب الدين أحمد بن إبراهيم بن علان في اليوم السادس عشر من شعبان منها الصديقي الشافعي ودفن بالمعلاة بالقرب من قبر السيدة خديجة أم المؤمنين. كان إمام التصوف في زمانه، وأوحد علومه وعرفانه.
وفيها في شعبان: توفي السيد الجليل، الرئيس النبيل، أبو القاسم بن بشير بن أبي نمي في الشرق، وحمل إلى مكة، وخطب له على زمزم كعادة أسلافه.
ثم توفي فيه أيضاً أخوه السيد بركات بن بشير بمكة فجأة بعد موت أبى القاسم بأربعة أيام.
ثم توفي فيه أيضاً السيد علي بن أبي طالب بن حسن بمكة وخطب له على زمزم. واستمر الشريف شريكاً لعمه الشريف إدريس على صدق الكلمة، والنصح في الألفة بالخدمة والمساعدة في الأحوال، والمعاضدة له في المؤيدات الثقال، إلى أن اجتمع أهل الحل والعقد، ومن إليهم المرجع من قبل ومن بعد، من بني عمه السادة الأشراف، الذابين عن حمى هذه الأكناف، والعلماء والصلحاء، وأعيان سكان البطحاء، فرفعوا الشريف إدريس عن ولاية الحجاز، ومنعوه من أن تكون له علاقة في ذلك المجاز، ووسدوا الأمر إلى السيد الشريف المحسن، ووكلوا الحال إليه في حفظ هذا الموطن.
فأشيع في البلد يوم الأربعاء ثالث محرم الحرام من سنة أربع وثلاثين وألف أن السادة الأشراف قد أقاموا الشريف محسن مستقلاً بالأمر، فحصل بين الشريف إدريس، وبينه بسبب ذلك ما يوجب المنافرة.
وحصل اضطراب عظيم في البلد وحركة كبيرة، وقسمت آلات الحرب من الجانبين.
فلما كانت صبيحة يوم الخميس رابع محرم الحرام من السنة المذكورهَ: ألبس كل من الشريفين بمن معهما من العساكر والجنود ووقف على باب داره، فبرز من جماعة مولانا الشريف محسن شرذمة من جانب عقد مولانا السيد بشير وبنية النداء بالبلد لمولانا الشريف محسن استقلالاً بمفرده، فقبل وصولهم العقد رمتهم الجبالية المرصدون في مدرسة السيد العيدروس بالبندق، وقتل من الجماعة المذكورين بالبندق مولانا السيد سليمان بن عجلان بن ثقبة، والقائد مرجان بن زين العابدين وزير مولانا الشريف محسن فرجع الباقون.
وفي ضحى هذا اليوم ركب مولانا السيد أحمد بن عبد المطلب ومعه رحل، والمنادي بين يديه ينادي بالبلاد للشريف محسن، ولم يزل هذا الاضطراب بالبلد ذلك اليوم جميعه، ومن ألطاف الله تعالى أن الجماعة بالمسجد الحرام قائمة ذلك اليوم، والأسواق موجودة فيها الأقوات لم يحصل تغير أصلاً في ذلك اليوم.
فلما كان ليلة الجمعة خامس محرم الحرام من السنة المذكورة وقع الصلح بين الشريفين على أن يستقل مولانا الشريف محسن بالبلد، ويكون الكف عن المحاربة ستة أشهر، منها ثلاثة يكون مولانا الشريف إدريس فيها بالبلد، وثلاثة بالبر، فاتفق الحال على ذلك، ودعا الخطيب لمولانا الشريف محسن بمفرده يوم الجمعة، كذا نقله المرحوم الإمام على ابن المرحوم العلامة الإمام عبد القادر الطبري في تاريخه.
والذي نقله غيره من الثقات أن مولانا الشريف إدريس لما ضويق، وأجلبت عليه السادة الأشراف ومن معهم، أرسل الشريف إدريس إلى الشريف محسن، والسادة الذين معه فطلب مهلة شهرين في البلد، وأربعة أشهر خارجها؛ ليتأهب للسفر إلى حيث شاء، فأعطاه الشريف محسن ذلك، وشرط عليه أن لا يحدث شيئاً من المخالفات، فاستمر عليه شهر محرم وصفر فمرض فيه حتى خيف عليه.
وفي ليلة المولد الشريف خرج من مكة، وكان قد أضعفه المرض، فما طاف للوداع إلا في محفة، وخرج من مكة كذلك.
كذا في كتاب عقود الجواهر والدرر في أهل القرن الحادي عشر للسيد محمد الشلى.
ولما خرج الشريف إدريس توجه إلى جهة الشرق.
ولما كان غرة رجب من السنة المذكورة: ورد خبر وفاة إدريس إلى مكة في نواحى جبل شمر، ودفن بمحل يسمى ياطب منها، ومن الاتفاق أن حساب ياطب بالجمل اثنان وعشرون سنة عدد مدة ولايته مجبورة، وكان يكنى أبا عون.
وولد في ذي القعدة سنة أربع وسبعين وتسعمائة، وأمه هيا بنت أحمد بن حميضة ابن محمد بن بركات، وكانت وفاته رابع عشري جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وكانت مدة ولايته إحدى وعشرين سنة ونصفاً رحمه الله تعالى رحمة واسعة: ومما قيل فيه قول مولانا القاضي تاج الدين المالكي وهو: من الطويل:
زها بكَ دستُ الملكِ والتاج والعقْدُ ... غداةَ إليك الحلُّ أصبَحَ والعَقْدُ(2/498)
مُطاعاً بعطفِ الله بعد رسولِهِ ... أولي الأمرِ فالعاصِي لأمرِكَ مرتدُ
أبا شرف إدريس منتخبَ العلا ... أبى الشرَفُ الوضاحُ غيرَكَ والمجْدُ
لقد طلبَتْ شمْسُ الخلافة بدرَها ... فقارَنها في الأوْجِ والطالعُ السعدُ
قنصْتَ العلاَ بالزاعبيةِ والنهَى ... هما شركاها لا الأمانِيُ والوعْدُ
وقمتَ بعبءٍ آدَ غيرَكَ حملُهُ ... منال المهاري ليْسَ تدركه الربْدُ
وشرفتَ دسْتَ الملكِ حين حللته ... ومرقاتُكَ المرقالُ والفَرَسُ النهدُ
فكنْتَ به إدريس إدريسَ إِذْ رَقَى ... مكاناً علياً خصه الصمَدُ الفرْدُ
وكنْتَ ولم تُفْتَنْ سليمانَ إذ دعا ... فأوتيت ما لا ينبغي لفتى بَعْدُ
وما لم ينله غيرُ آبائكَ الألى ... ربوعُ الندا شادُوا وزَنْدَ العلا شَدُوا
ملوك هم الأنيابُ للملكِ والسوَى ... اذا نُسبوا كانوا الزوائدَ إذ عُدُّوا
تولَوْا وأفضَى ملكهُمْ لمحجب ... تصادم تِيجان الملوك إذا يبدو
تأخر عصراً فاستزادَكَ في العلا ... كما ازدادَ بالتأخيرِ ما ترقُمُ الهندُ
وأصبَحَ عطلاً جِيدُ مَنْ رام عقدها ... سواه وأضحَى يستضيء به العقْدُ
تفردَ طود الملك بالمجدِ جامعاً ... مزاياه فَهْوَ الجامعُ العلَمُ الفردُ
رأى إن عدته خلَة منه خلَة ... نصيره قصراً عليه فلا يَعْدُو
فيا ملكاً بالفضْلِ أذعَنَ ضِدهُ ... وما الفضْلُ إلا ما أقرَّ به الضدُ
بكَ الدسْتُ يزهو يوم سِلْمِكَ والندَى ... ويومَ الوغَى يزهو بك السرْجُ والسرْدُ
وما زلتَ في حالَيكَ سلمٍ وضده ... عليكَ رِواًقُ المجدِ يرفعُ واًلبَنْدُ
فيشقى بكَ الجإني ويسعدُ مخفقٌ ... ويأمنُ مطرودٌ وترهبُكَ الأسدُ
إذا بيتَ الأعداءُ أمراً تضاءلَت ... لدى خطبِهِ الآراءُ واستَتَرَ الرشدُ
وترتَ قويمَ الفكرِ قوساً لوترهم ... وأنفذتَ سهمَ الرأي ليس له رَد
وحكمتَ فيهم قاضياً غيرَ مغمدٍ ... هو العزمُ لم يكهم له أبداً حَدُ
وقدتَ من القود الجيادِ مقانباً ... إذا طلبَت يدنو بتقريبها البُعْدُ
وغَل إلى الأعناقِ أَيدِيَ بطشهم ... مِن الرعبِ جيش ليس تكبو له جردُ
فأحياهُمُ في الأرضِ موتَى كأنهاعليهِم وقد ضاقَت بما رَحُبَتْ لَحْدُ
سجايا أبي لا يجارُ طريدُهُ ... ولا راع يوماً جار غفوته طردُ
مليكً هو الطودُ الأشَمُ للائذٍ ... هو البطَلُ المطعانُ والأسد الوردُ
جواد له في المالِ صولةُ ثائرِ ... تحكم في الجاني وأحفَظَهُ الحقدُ
طوَت نحوه بالوفْدِ كل تنوفةٍ ... بخات بخد الأرضٍ من وخدها خَدُ
وجاد فلم يفقد مراماً بجودِهِ ... فقل عوضاً عن جاد قد فقد العقدُ
هو البحْرُ عذبٌ للموالي، وللعدَى ... عذابٌ لهم مِنْ لجه الجزرُ والمَد
هو الغيثُ يهمِي للولي وليه ... فينبتُ إلا أنَّ منبته الحمْدُ
ويعدو العدَى وسمى هامى ربابه ... وتبلغهم منه الصواعقُ والرغدُ
أخا الجودِ قد قلدتَ جِيدي ودُونَ ما ... تقلدتُّ أعناقُ المطامعِ تنقَدُّ
وأمطيتَنِي من كاهلِ العز مركباً ... تريني ذكاً كالغورِ صهوتُهُ النجدُ
فقمْتُ خطيباً في المحافلِ بالثنا ... وبالشكرِ أتلو ذا وذاكَ به أشدُو
ينافسنِي قومٌ شأؤتُ وقَصَّروا ... وما كضليع ضالع خلفه يعْدُو(2/499)
ويبخسُ منهم دُر نظمِي زعانفٌ ... فواعجباً مِنْ أينَ للنقَدِ النَقْدُ
سماءُ سِماتِ الفضلِ لفظي نجمها ... ولم يخفِهِ ألا تَرَى ضوءَهُ الرُمدُ
وإني لما خولت أهلْ ولم أكُن ... كقولِ حسودِ إنما أسعَدَ الجدُ
ولستُ مُدلاًّ حين أسمو وِإن يكُن ... هو الفخرُ يوم الفخرِ والشرف العِد
ولكن بنفسي والعبودية التي ... بها شَرَفُ الآباء من قبلُ والجدُ
وإني لأرجُو منكَ ما نال من مَضَى ... ولا عجَبٌ إن عَزَّ بالسيدِ العَبدُ
بقيتَ بقاءَ الدهرِ فينا مؤملاً ... بك التاجُ يزهو والغلائلُ والبُرْدُ
وقول الإمام عبد القادر الطبري رحمه الله تعالى: من الكامل:
مالِي وللغيدِ الغواني النعَسِ ... ولريمِ رامةَ والغزالِ الألعسِ
ولبانةِ الجرعاءِ في شرقي الغضا ... ولسَجْع ورقِ الأيْكِ عند تأنسِ
ولنظم عقيانِ القريضِ ونثْرِهِ ... من كُل أَنفَسِ جَوْهَرٍ في أَنفسِ
واًنا الذِي قَذَفَ الزمان بِجاحِظٍ ... من عَيْنِهِ بي مغضباً وَهوَ المُسِي
ورمَى بأسهمه مقاتِليَ التي ... بَعُدَت عليه فحط عالي مجلسِي
وإذا قنى من صَبرِ مر قضائِهِ ... كأساً برغمي أن أكون المحتَسِي
هو دُمَّلُ الليلِ الذي لم يندمل ... إلا بصَبرِ مؤمِّلٍ لم ييأسِ
صابرتُهُ حتى ظفرتُ بفجْرِهِ ... وحصلتُ منه على شفاءِ الأنفسِ
بضياءِ صبحِ العدلِ من إدريس من ... أهدى الضيا فمحا ظلامَ مغلسِ
ألسيد الحامي الذمارَ بهمةِ ... تسمو على الفلكِ الأثيرِ الأطلسِ
أولي وأوَّل باسلِ تَخِذَ العجا ... جَةَ درعهُ يَوْمَ الوغَى كالبرنسِ
لم يكترث بمهمة وبكفه ... عند اللقا صُمُّ الردَيني الأخرسِ
والنطقُ منه الطعنَةُ النجلاءُ في الن ... نجلاء من عينِ العَدُو الأشوسِ
وإذا انتضى الهنديَّ خزَت أرؤس ... ودَّت بقطعِ أنها لم ترؤسِ
دَل المنيةَ حين ضَلَت سبلها ... فبه اهتدَت لفؤادِ كلِّ مترسِ
بيمين أروَعَ يضربُ البَطَلَ المُدَر ... رع نافذاً منه لقطع العضرسِ
كالبَرقِ في الظلماءِ من نقعِ الوغَى ... يروي سناً لكن بخَطفِ الأرؤسِ
فرذاذُهُ العلَقُ النجيعُ وسَحُّهُ الز ... زلق الفجيعُ من الطلا المتبجسِ
لله ما أمضاهُ عندَ توحشٍ ... وأمضَّهُ في الوهمِ عندَ تأئسِ
والسيفُ بالكَف التي كفت أذىً ... لا بالحديدِ وطبعه المتيبسِ
لولا يدا إدريسَ ما خطت بها ... في الهامِ شَكل مخمس ومسدسِ
هذا المليكُ ابنُ المليكِ ابنِ الملي ... كِ ابْنِ المليكِ ابنِ المليِكِ الأرأسِ
زاكي الأرومةِ من هيولي هاشمِ ... عالي النجارِ من النبيِّ الأقدسِ
ذو الهمة العليا التي مِنْ دونها ... زُحَل فما باقي الجوارِي الكُنسِ
هو في النُّهَى سَحْبانُ وائلَ والذكا ... ءِ إياسُ والجَدْوَى ابنُ مامَةَ واحْبِسِ
كملَت فضائله فلو مسَّ الورى ... أذيالُهُ لرأيْتَ كُلاَّ مكتسي
يأيها الملكُ الرفيعُ مقامُهُ ... فوقَ الثوابتِ في الرفيعِ الأقعسِ
لكَ عِلْمُ إدريس ودينُ محمدٍ ... وعلا سليمانِ وحكمةُ هرمسِ
فافخَر على الأملاكِ مِنْ صنعا إلى ... صِينٍ ومِنْ شرقِ لمغربِ تونسِ
بِالله أنْتَ فثقْ به لا بالورَى ... مِنْ آدمي في الوجودِ ولو نسِى(2/500)
وإليكَهاً عذراءَ فِكرٍ عانس ... من بعدِ عهدكَ فهْيَ بكْرُ العُنَّسِ
عربية غنيتْ بوصفِكَ واقتنَتْ ... حُر البديعِ فما أتَتْ بمجنّسِ
ذكرتْ عهوداً بالحمى فتلفعَتْ ... خجلاً ووافَتْ في رداءٍ سندسي
تختالُ فيه إلى المليكِ وتنتضِي ... بيضَ المدائحِ من قرابِ الحندسِ
فاقبلْ وقابلها بطَلْقِ جبينك الْ ... مأنوسِ لا لاقاهُ قطْب تعنسِ
وانظرْ إلى حالِي فأنْتَ خبيرها ... قدماً وقدِّرْ بالوفاءِ وهندسِ
واسلم على طولِ الزمانِ ممتعاً ... بثناءِ كُل مفوهٍ ومدرسِ
ثم وليها مولانا الشريف محسن، فقام بالأمر أحسن قيام، وضبط البلاد والعباد بالضبط التام، وآمن السبل والطرق، وانتظم في سلك طاعته سائر الفرق العاصية في الفرق.
ثم إنهم في العشر الأول من محرم الحرام عرضوا إلى الباب العالي، وأنهوا إلى الجناب الغالي، حضرة مولانا السلطان مراد بن أحمد خان، تغمده الله بالرحمة والرضوان، طالبين إجابتهم إلى هذا المراد، وتقليد المشار إليه إيالة هذه البلاد. فإن بذلك تنتظم الأمور، ويتم أمر الآمر والمأمور، وتنصلح الأحوال، وتتضح طرق الحق على أوضح منوال.
وكان الذاهب بالعرض الأغا محمد بن بهرام. وطلع مولانا الشريف إلى المبعوث.
فلما كان اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان من السنة المذكورة وصل الأغا محمد بن بهرامَ، إلى بلد الله الحرام، فتلقى ما جاء به الأعيان، واستقبلوه إلى الزاهر إجلالاً لما صحبه من البراءة السلطانية. ثم دخل من ثنية كدا المشهورة بالحجون، دخول أمراء الحاج عند وصولهم إذ يحجون. وقد امتلأت بالخلائق الشوارع، وصار كل أحد إلى استقباله يسارع.
فدخل والتشاريف محمولة على أيدي حامليها، فوصل إلى دار السعادة ودخل فيها.
فأفيضت عليه وعلى الأغا مصطفى بن حيدر الترجمان مضلعتان تمييزاً لهما على سائر من كان معهما من جماعة الترجمان. ثم عاد إلى منزلهما مختلعين، وطابت منهما النفس، وقرت بهما العين.
هذا ومولانا الشريف مقيم بالمبعوث السعيدة لاستيفاء الصيام به وإقامة شعار العيد. فبعد أن مضت أيام الصيام، وطلع هلال العيد من الخيام. تهيأ مولانا الشريف للوصول إلى البلد الحرام؛ لتلقى الأوامر السلطانية، والخلع السنية بالإجلال والاحترام.
فوصل بجميع من معه من السادة الأشراف، ما عدا من خلفهم منهم بالفريق لحفظ تلك الأطراف.
فدخل في موكب عظيم، ومهيع كريم، ودخل من باب السلام، إلى البيت الحرام، فقبل يمين الله في أرضه، وأدى بذلك واجب فرضه.
ثم عاد فجلس في فناء جدار زمزم مقابل البيت الشريف، وأحدق به السادة الأشراف والأعيان.
ثم قدمت له البراءة والنامة العظيمة الشأن، فقام على قدميه إجلالاً، ووضعها على رأسه الشريف اعتناءً بشأنها واحتفالاً.
فقرئت في ذلك المحضر والجمع الأكبر، وكان القارئ لها العلامة المفتي عبد الرحمن بن عيسى المرشدي.
وبعد أن تمت القراءة، تقلد مولانا الشريف بالسيف المجوهر، ولبس التشريف الأزهر، وأفاض في ذلك المكان جملاً من القفطان، على كل من له علاقة في هذا الشان.
ثم دخل البيت الشريف بغالب من معه من الأشراف.
ثم بعد بروزه استلم الحجر وطاف، والريس يدعو له عن أعلى قبة زمزم كما هو عادة الأسلاف.
ثم ذهب إلى منزله السعيد، وجاء للتهنئة كل ذي شأن مجيد، ثم أفيضت عليه في ذلك المكان الخلعة الثانية الواصلة من وزير مصر ذي الشان.
فكان ذلك اليوم يوماً مشهوداً، ومن أيام الأعياد معدوداً.
وفي سنة خمس وثلاثين في ثاني عشر جمادى الآخرة منها: توفي السيد إبراهيم ابن بركات ابن أبي نمي، كان من أجلاء أشراف مكة، ورؤسائهم وأغنيائهم.
جمع من الضياع والعقار والإبل والخميل والنعم شيئاً كثيراً جداً. تغمده الله برحمته آمين.
ولما كان آخر صفر سنة سبع وثلاثين وألف: وصل إلى جدة الوزير أحمد باشا متولياً الجهات اليمنية.
فلما وصل إلى محاذاة جدة بحيث يراها، انكسر مركبه وغرقت جميع أمواله، فتعب لذلك، ونزل إلى جدة، وأرسل إلى مولانا الشريف محسن بهدية.(3/1)
ثم نزل إليه مولانا الشيخ عبد الرحمن بن عيسى المرشدي المفتي الحنفي بمكاتيب من مولانا الشريف محسن، فأقام عنده أياماً.
ثم إن الباشا أحمد: طلب من مولانا وسيدنا الشريف محسن الإعانة، فشرعوا في تدبير ما يرسلون به إليه، وطلب غواصين لإخراج ماله وأثائه، فغاصوا ولم يخرجوا شيئاً، فتخيل الباشا أنهم مأمورون بذلك.
ثم تنكر وتغير وسجن القائد راجحاً بن ملحم الدويدار حاكم جده و الأغا محمد ابن بهرام الشريفي أحد خدام مولانا الشريف، وكان أرسله مولانا الشريف إلى جدة بمكاتيب إلى الباشا، فأرسل مولانا الشريف الشيخ عبد الرحمن قره باش الواعظ الرومي إلى جدة ليتظر في هذا الأمر فلم ينتج شيئاً.
فلما أن كانت غرة شهر ربيع الأول من السنه المذكورة، وصل الخبر بأن الباشا صلب راجحاً الدويدار، وكان السيد أحمد بن عبد المطلب نزل إلى جدة إليه لما سمع به، فنزل على حمار، فقالت له الأقدار: وربك يخلق ما يشاء ويختار، وكان في هذه المدة يتردد إليه.
فلما وصل الخبر إلى مكة بذلك حصل اضطراب وقيل وقال.
فبعد مدة يسيرة وصل خبر وفاة الباشا أحمد، وأن السيد أحمد استمال عسكره، واستولى على جدة وأموالها، وأن جدة نودي فيها لمولانا الشريف محسن، ففرح الناس بذلك كثيراً ففي ثاني يوم الخبر ورد الخبر بأن الأمر عاد إلى ما كان عليه، وأن السيد أحمد نودي له في جدهَ، ومنع الناس من الدخول والخروج. فبرز مولانا الشريف محسن بعساكره وجنوده ونزل ب " ومخ " اسم ماء، أو جبل بقرب جدة من جهة الشام، ووقعت هناك فتنة أن الأتراك خرجوا من جدة لأخذ إبل ترعى في تلك الجهات، فوصل الخبر إلى مولانا الشريف محسن، فركب وركب معه السادة الأشراف والأجناد، فوقعت ملحمة عظيمة قتل فيها من الأتراك فوق الخمسين، وقتل فيها من الأشراف مولانا السيد ظفر بن سرور بن أبي نمي، ومولانا السيد أبو القاسم بن جازان وغيرهما.
ثم بعد مدة وصل مولانا الشريف محسن إلى البلد، وأقام بها وجعل هناك رتبة، وأقام على الرتبة مولانا السيد قايتباي بن سعيد بن بركات.
فلما أن كان آخر شعبان وصل الخبر بأن السيد أحمد بن عبد المطلب خرج هو والعساكر معه إلى جهة مكة، ولم يزل يسير أياماً عديدة، وكان وصوله على جهة وادي مر.
فلما كان يوم سادس عشر رمضان وصل الخبر أنهم قاربوا مكة، فبرز مولانا الشريف محسن هو والسادة الأشراف، والأجناد والعبيد والصروخ في جمع لا يحصيه إلا خالقه، وكان خروجه لذلك بعد صلاة عشاء ليلة الجمعة سابع عشر رمضان من السنة المذكورة، فالتقوا بالقرب من التنعيم، فوقعت معركة فتوحدت تلك الجموع، ولم يبق لهم همة إقدام إلا على الرجوع.
فأطلقت المدافع، وضربت البنادق، ووضح الناصح والمماذق. فتوجه مولانا الشريف محسن ومعه ابنه الشريف زيد، وبعض السادة الأشراف إلى الحسينية، ثم إلى جهة الشرق نحو بيشة، فجمع جيشاً كثيراً من العربان، وقصد الإغارة على الترك المقيمين بالطائف فلم يتفق له ذلك.
ثم سافر إلى مدينة صنعاء اليمن فأقام بها إلى أن توفي عام ثمان وثلاثين وألف سادس رمضان بها بظاهرها، وحمل إليها، ودفن بها في قبة عالية عليها قوام وخدام بمعلوم يصل إليهم من مولانا المرحوم زيد، ثم من بعده من بنيه الأملاك، بدور الأفلاك.
كانت ولادته في جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وتسعمائة بمكة المشرفة، ونشأ فى كفالة أبيه وجده، وكان جده الشريف حسن ينوه بقدره، ويقدمه لنباهته ونجابته وظهور آثار الرئاسة عليه في صغره، وكان يقدمه في الحروب، فيرجع مظفراً منصوراً، وعدوه مخذولاً مقهوراً.
جبل على مكارم الأخلاق، وطار صيته في الآفاق. ولما تولى عمه أبو طالب إمارة مكة أحله محل ولده، ونزله منزلة أفلاذ كبده، إلى أن مات أبو طالب، فشارك عمه إدريس في إمرة مكة، ولبس الخلعة الثانية، ودعى له في الخطبة، وعقد له لواء الإمارة، وضربت النوبة الرومية في بيته لمشاركته في الإمرة ووردت التشاريف السلطانية برسمه، وأتت المراسيم الخاقانية إليه مع عمه.
واستمر شريكاً في الربع إلى أن أذن له بالاستقلال بولاية الحجاز.
فجرى بينه وبين عمه حال أدى إلى قيامه عليه وتابعه جميع الأشراف على ذلك.(3/2)
فخلع عمه إدريس عن ولايهّ مكة، واستقر في الأمر يوم الجمعة الخامس من شهر المحرم الحرام افتتاح سنة أربع وثلانين وألف كما تقدم ذكر ذلك آنفاً.
وكان رحمه الله من النباهة والسؤدد والرئاسة والكرم والبأس والسياسة بالمحل الأرفع.
إلا أن الله تعالى إذا أراد أمراً هيأ أسبابه، فما تنفع ذوي العقول عقولهم وليس لها إرادته سبحانه إصابة.
وكانت مدة ولايته ثلاث سنين وثمانية أشهر ونصف. رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وغفر له ولأسلافه الأكرمين مغفرة جامعة.
ومما قيل فيه قول مولانا القاضي تاج الدين بن أحمد المالكي رحمه الله تعالى: من البسيط:
لقد جرى بالذِي تختارهُ القدَرُ ... فمُر بما شئتَ إن الدهرَ مؤتمرُ
وضر من شئت وانفَع من تشاءُ ففي ... أكفكَ الواكفاتِ النفع والضرَرُ
والدهر من جيشك المنصورِ قائده ... ألقى يَد السلمِ خوفاً وهو يعتذر
فاغفِر جنيتَه العظمَى لتوبَتِهِ ... إن العظيمَ عظيم الذنبِ يغتفرُ
وقد أتى مقلعاً عن جرمِهِ ملكاً ... يسطو انتقاماً ويعفُو وهوَ معتذر
ذا هيبةٍ رابَ ريب الدهر فانقلَبَت ... تغزو عداه صُروفُ الدهرِ والغِيَرُ
وسطوة تتركُ الآسادَ واجمةً ... لم ينجُ من رعبها ناب ولا ظُفُرُ
به تبلجَ صبحُ الملكِ وابتسمَت ... ثغورُه ودياجي الخطب تعتّكِرُ
وأصبحَ الدستُ معموراً وكافلُهُ ... ملك به أضحَتِ الأملاك تفتخرُ
أخبارُهُ صغرت أخبارهم عظماً ... كما برؤيتِهِ يستصغرُ الخبرُ
ليثٌ إذا خط سطراً نصل قاضبه ... مالَت لتعجمه الخطيةُ السمُرُ
كأنه لاعبٌ يرمي الرءوسَ به ... بالصولجانِ فتلكَ الأرؤسُ الأكرُ
ما كَر بعد ورودِ الحربِ قط وهَل ... يكر من ليس عن وِردٍ له صَدَرُ
ولم يفرَّ وهَل يدنو الفرار فتىً ... بالعزمِ مُدرع بالنصرِ معتجر
فتى له جيشُ عزمِ قد أحاطَ مِنَ الس ... سِت الجهاتِ به التأييدُ والظفَر
ينمى إلى دوحة للملكِ زاكيةِ ... قد طابَ عُنصُرُها والفرع والثمرُ
أَغَرُ ثَبتُ الجنانِ الفارسُ البطلُ ال ... ليثُ الهمامُ الشجاع الصارمُ الذكَرُ
ألقائدُ الخيل إن رامَت مدى وضعت ... في خَطوها يدها حيث انتهى البَصَرُ
من كُل أدهمَ يكسى مِن دَمٍ حُلَلاً ... كأنه بلظَى الهيجاء يستعرُ
وكل أشهَبَ محجولٍ قوائمُهُ ... أغر أَبلجَ ما في باعه قِصَرُ
وكل طرفِ يدكُّ الصخرَ حافرُهُ ... وطئاً تطاير من صدماته الشرَرُ
كأنما تطلبُ الأقدامُ أيديها ... فلا تقر ولم يلحق لها أَثَرُ
تخالُ تصهالَها رعداً يزمجز في ... سحاب نقعٍ مثار برقُة البترُ
مهذبات إذا نار الوغَى استعرَت ... لا بالعنانِ ولا بالشكلِ تنحجرُ
عليهمُ الأسدُ فرساناً مصورةً ... تطيعهم كيف ما شاءوا وتنزجرُ
وكل أصيَدَ مر الحد ذي جَلَدٍ ... ما مسهُ سأم فيها ولا ضَجَرُ
من كُل شهم شديدِ البطشِ منصلِتِ ... كالسهمِ إذ ثارَتِ الهيجاءُ يبتدرُ
وكُل ذي لمةٍ سوداءَ حالكةٍ ... كالليلِ في جنحِهِ قد أشرَقَ القمَرُ
قوم إذا التأمُوا كانُوا الأهلَةَ وال ... أقمار إن سفروا والأسْدَ إن زأروا
كأنهم والصبا تسرِي بنَشْرِهِمُ ... في محكَمِ الزردِ الأكمامُ والزهرُ
بهم حوى الفَخرَ أبناءُ الرسولِ كما ... به على العُرْبِ فخراً قد حوتْ مُضَرُ
يسوسُهُمُ صادقُ الآراءِ فطنتُهُ ... تقضي بما هو آتٍ قبلُ والْفِكَرُ(3/3)
متوجٌ هو فيهم مثلهم شرفاً ... في قومِهِمْ وهُمُ في قومهم غُرَرُ
إذا بدا بينهم في موكبٍ تره ... كأنه البدْرُ دارَتْ حوله الزهرُ
لو أن مِنْ بعد طه مرسلاً نزلَت ... عليه في وصفِهِ الآياتُ والسوَرُ
صفات أروَعَ لا تحصَى محامدهُ ... وليس يحصُرُها قول فتنحصرُ
وكيف يحصرُ بالألفاظِ قولُ فتَىً ... مطولُ القولِ في معناه مختصرُ
سمحُ الأكف كريمٌ عَم نائله ... معطي الجزيلِ ابتداءً وهو يعتذرُ
كأنما كَفهُ تهمى بنائلِهِ ... غماثم بولي الجودِ تنهمرُ
أو دوحة غَضة الأغصانِ دانية ... قطوفُها بنسيمِ العرفِ تنهصرُ
يَلقَى النضارَ لديه المعتفون قِرَىً ... كأنما لقِراهُم تنحرُ البدرُ
دعاه يا محسناً لما تفرسَ مِنْ ... مرآهُ والدُهُ الإحسان ينتشرُ
فجاء مصداقُ كُل اسم لصاحبِهِ ... منه نصيبٌ بما يأتي وما يَذرُ
فيا أبا الجودِ يا جَم المَواهبِ يا ... أخا الندَى مفخَرَ الأقوامِ إن فخروا
يا بنَ الحسينِ لقد وافَتْكَ واصلة ... عذراءُ قد فاتَ منها غيرَكَ النظَرُ
لم ترضَ غيرك كفواً والصداقُ لها ... صدقُ القبولِ فما لي غيرَهُ وَطَرُ
فلستُ ممن يقولُ الشعرَ مبتغياً ... به افتخاراً وما بالشعْرِ يفتخرُ
سَلْنِي وسَل عنىَ الأقوامَ مختبراً ... لا يعرفُ المرء إلا حين يختبرُ
عمري ولولاكَ يا حامي الذمارِ لما ... صُغْتُ المدائحَ أبديها وأبتكرُ
فسرحِ الطرفَ فيها روضةً أنفاً ... غنَّاءَ يقصرُ يحكى نظمها الدُّرَرُ
ومما قيل فيه أيضاً قول العلامة القدوة المفيد الفهامة مولانا الإمام عبد القادر الطبري الحسيني رحمه الله تعالى: من الكامل:
لا والنواعمِ من جواري العينِ ... ما احتجتُ في حملِ الهوَى لمعينِ
وبما لَهُنَّ عليَّ مِنْ خَلْعِ العذا ... رِ إذا سفرنَ بطرةِ وجبينِ
ولعبْنَ بالألباب عند تمايسٍ ... بمعاطفٍ تزرى الغصُونَ بلينِ
أنا ذلك الصبّ الذي قِدْماً صبا ... بصبا الصبا وإلى الغرامِ حَنِينِي
غيثُ السحائبِ مدمعي وهَوَى لظَى ... نفسي ورعْدُ الصادعاتِ أنيني
يبرينيَ النجديُ من ألم النوَى ... ويذيلني برداً ظبا يبرينِ
ويعلُني الوجدان أعذَبَ موردِ ... ويعلني السلوانُ عنه سلوني
لا يعذلُ المشتاقَ إلا مثلُهُ ... هيهاتَ ذلك فهو بئس قرينِي
ما مرَ بي في العشقِ إلا ما حلا ... لفؤادِ كُل موله وحزينِ
شرعُ الهوَى فرضِي وحُسْنُ تهتُكي ... نَفْلِي ومدْحِي محسناً مِنْ ديني
ابنُ الحسينِ أبو الحُسَيْنِ أخو التقَى ... من لَيْسَ يرضى في العلا بالدونِ
عالي الجنابِ إذا انتحَى وإذا انتخَى ... سهْل الحجاب بغاب ليث عرينِ
ذو هيبةٍ حلتْ قلوبَ عداته ... لو أنهم حَلوا أقاصي الصينِ
من عزمِهِ ساحَ الحديدُ وسالَ إذ ... سلتْ فحاكى السيح من سيحونِ
يروي الأسنةَ والشوازبَ من دَمِ ال ... أعداءِ لا يَرْضَى لها بمعينِ
ويرى المنَى نزعَ النفوس بما بها ... مِنْ كُل غلِّ في الصدورِ كمينِ
ألله ما أعلَى مرامي ظنهِ ... طبق القضا في شأنِ كل ظنينِ
وأحسهُ بالأمْرِ قبل وقوعِهِ ... وخطورِهِ في عالم التكوينِ(3/4)
يرضيكَ إن هز القنا بشماله ... وإذا انتضَى سيف القنا بيمينِ
فيريكَ لمْعَ البرقِ في ظُلَمِ الحشا ... سيل العقيقِ ومدهق الزرجونِ
ثملَتْ به عللاً رؤوس رماحِهِ ... فبدَتْ معربدةَ بقطْعِ وتينِ
وصحَتْ فأنهلَها الظهورَ فحطَمَت ... أضلاع كل مجدلٍ وطعينِ
وبها حمى أُمَّ القرَى فدعِ القرى ... متسفلاً في الإرتقا بمئينِ
مَنْ ذا يقاومه إذا اشتد الوغَى ... إلا فتَىً يرجو لقاءَ منونِ
هذا التقيُّ الطاهرُ الذيل الذي ... يسمو بعرضٍ في الأنامِ مصونِ
مولى الجميلِ وباذلُ الفضلِ الجزي ... لِ وكاشفُ الخطبِ الجليلِ لحينِ
حكتِ السحائبُ كفهُ فبكَت على ... ما فاتَهُ من سَحهِ بهتونِ
قسماً به لم يحكِه في جودِهِ ... إلا الذي أضمزتُ طَيَّ يميني
فهُمُ هُمُ بيتُ النبوةِ والحجا ... والبر أربابُ التقى والدينِ
إن تلقه لم تلقَ إلا محسناً ... من محسنٍ من محسنٍ بضمينِ
واعقد يمينك إنه من عقدهم ... عين القلادةِ فصلَت بثمينِ
من رام عزاً فلينخ برحابه ... أملاً فيذهبَ عنه ذُلُ الهونِ
ما سامَ مرعَى خصبِهِ متضائلً ... إلا تبدلَ غثهُ بسمينِ
يابنَ النبيَّ إليكَها نونيةً ... بالكافِ قدرَها القضا والنونِ
وافَتكَ كالطاووس تزهو عزةً ... مذ ذُبجَت بغلائلِ التلوينِ
خذ فألها الحسَنَ الجميلَ وقولَها ... كُن كيفَ شئتَ بغايةِ التمكينِ
فالطرسُ منها أخضَر والسطرُ في ... ه أسود يستل بيضَ جفونِي
أثنت عليك ببعضِ حقكَ فاغتفر ... تقصيرها في المدحِ لا التحسينِ
لا زلتَ في أوجِ السعادةِ راقياً ... بدوام عِز في الفخارِ مكين
ودخل الشريف أحمد بن عبد المطلب مكة ضحَى اليوم السابع عشر من رمضان والمنادي بين يديه، وكان دخوله عن الحجون فاضطربت الأفكار، وتعبت الناس، وأول ما بدأ به دخول المسجد من باب السلام.
وفتحت له الكعبة الشريفة فدخلها، ثم عزم إلى المحل الذي أراد السكنى به فنقول: ثم وليها الشريف أحمد بن عبد المطلب بن حسن بن أبي نمي بتولية الوزير أحمد باشا إياه كما تقدم ذكر ذلك، فوقع من العسكر ألفين كانوا متوجهين مع الباشا المذكور إلى جهة اليمن تسلط على بيوت الناس لما في نفوسهم على أهل مكة، فأدى ذلك إلى القيل والقال، وحصل لهم منهم الخوف العظيم، فكان ذلك لما أراد الله سبباً لمخالفة القبائل، وتخطفهم في الطرق لمن مر بهم من الأعراب وغيرهم، وقبض على المرحرم مفتي الحنفية الشيخ عبد الرحمن بن عيسى المرشدي، وحبسه مضيقاً عليه لأمر نقمه منه.
فلما كان موسم السنة المذكورة - أعني سنة سبع وثلاثين وألف - قدم الحاج المصري وأميره قانصوه باشا، وكان بين قانصوه هذا وبين الشيخ عبد الرحمن مودة أكيدة ومكاتبات سابقة.
فلما صعد الحجيج عرفة أتى حريم الشيخ إلى مخيم قانصوه مستشفعات به إلى الشريف أحمد بن عبد المطلب في إطلاق الشيخ، فرق لهن رقة عظيمة، وتوجه متوجهاً إلى الشريف أحمد يوم عرفة فلم يوجهه ولم يؤيسه.
فلما كانت ليلة النحر توفي الشيخ رحمه الله شهيداً، فكان ذلك مع قضاء الله تعالى سبباً لوقوع ما وقع منه في الشريف أحمد بن عبد المطلب.(3/5)
وفيها ظهر يوم الخميس ثامن عشري ربيع الثاني: توفي مولانا السيد الجليل، ذو المجد الأثيل، خاتمة المحققين، شيخ الإسلام والمسلمين، شمس المعارف والعلوم، ترجمان المنطوق والمفهوم، المتفق على إمامته، والمجمع على ورعه وجلالته. إنسان عين العلماء العاملين، أستاذ الأئمة المدققين. صدر المدرسين العظام، مفتي بلد الله الحرام، مولانا الولي القطب العارف بربه، الفائض عليه مدرار الفيض الإلهي مع كسبه، مولانا السيد الشريف، حاوي مرتبتي العلم والعمل، البالغ فيهما أوج غاية الأمل، الجامع إلى شرف النسب العلي، شرف العلم الجلي، مولانا السيد عمر بن عبد الرحيم البصري الحسيني الشافعي بمكة المشرفة.
أخذ عن الشمس الرملي، والعلامة ابن قاسم، والملا عبد الله السندي، والملا علي بن إسماعيل العصامي، والقاضي علي بن جار الله، والشيخ عبد الرحيم الأحسائي، والسيد مير بالحشاه، والملا نصر الله وغيرهم.
وأخذ عنه شيخنا الشيخ علي بن أبي بكر بن الجمال، وشيخنا الشيخ عبد الله باقشير، وشيخنا الإمام زين العابدين بن عبد القادر الطبري، والشيخ محمد بن عبد النعم الطائفي، والسيد عبد الرحمن كريشة السقاف، والسيد صادق باد شاه مفتي الحنفية، وغيرهم رحمه الله وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركاته.
وقد اختلفت الأقوال في سبب قتله الشيخ عبد الرحمن المرشدي، فقيل تعريض الشيخ المذكور بالشريف حين خطبة عقده التي خطب بها في زواج سلطانة ابنة علي شهاب، وكان الشريف أحمد طلب التزوج بها فلم يزوجه، فعرض الشيخ بذلك حيث قال في مبتدأ الخطبة المذكورة: الحمد لله الذي أعز سلطانه ودحض شيطانه.
وقيل: إنه جاء إلى الشريف المذكور عند موت أخيه السيد محمد بن عبد المطلب معزياً لابساً صوفاً أبيض.
وقيل: إن الشريف أحمد حين استولى على مكة، وطلع إلى دار السعادة على فرش الشريف محسن وجد تحت طرف المرتبة فتياً من الشيخ المذكور بتسميتهم بغاة جائرين ظالمين، وبوجوب قتالهم بخطه المعروف واسمه الموصوف، والله تعالى أعلم أياً كان ذلك.
وكانت ولادته سنة خمس وسبعين وتسعمائة، وأرخت بما نصه شرف المدرسين.
وفيها أيضاً كانت وفاة جدي العلامة الشيخ عبد الملك بن جمال الدين بن إسماعيل صدر الدين ابن العلامة المحقق إبراهيم عصام الدين الشافعي المكي الشهير بالعصامي الملقب بخاتمة المحققين.
إمام العلوم العقلية والنقلية، وخاتمة علماء العلوم الأدبية، وعلم الأئمة الأعلام، بحر العلوم المتلاطمة بالفضل أمواجه، وطود المعارف الراسخ، الناتجة لديه أفراده وأزواجه. علامة البشر، في القرن الحادي عشر، والرحلة التي ضربت إليه أكباد الإبل، والقبلة التي فطر كل قلب على حبها وجُبل.
جمع فنون العلم فانعقد عليه الإجماع، وتفرد بصنوف الفضل فبهر النواظر والأسماع. فما من فن إلا وله فيه القدح المعلّى، والمورد العذب المحلى. إن قال لم يدع مقالاً لقائل، أو طال لم يأت غيره بطائل.
مولده كان بمكة سنة ثمان وسبعين وتسعمائة كان تاريخه نعم المولود ذا، وبها نشأ وأخذ عن والده، وعن الشيخ العلامة عبد الرؤوف المكي وعن خاتمة المحققين الشهاب أحمد بن قاسم العبادي والعلامة أحمد بن عواد المصري، والخطيب عبد الرحمن ابن الخطيب الشربينر، وأجازه بمروياته بإجازة بخطه سنة تسع بعد الألف، وعن غيرهم.
وعنه مولانا الشيخ محمد علي بن علان الصديقي، والسيد صادق بادشاه، ومولانا الشيخ عبد الله باقشير الحضرمي، ومولانا الشيخ علي بن أبي بكر بن الجمال الأنصاري، ومولانا القاضي تاج الدين بن أحمد المالكي، ومولانا الخطيب أحمد ابن عبد الله البري المدني، والشيخ محمد بن عبد المنعم الطائفي، وخلق.(3/6)
ولازم الأمراء والتدريس في كل علم نفيس، وجدد معنى العلم الدريس، واشتغل بالتصنيف والتأليف، وتخلى عن كل أنيس وأليف، حتى بلغت مؤلفاته الستين، بين شرح مفيد ومتن متين، منها شرح الشذور سماه شفاء الصدور، وشرح على القطر، وشرح على الشمائل، وحاشية على شرح التحرير، وشرح على الألفية النحوية لم يتمه، وشرح على الزنجاني، وحاشية على شرح القطر لمصنفه، وشرح على إيساغوجي، وشرح الخزرجية، وشرح على استعارات السمرقندي، وغير ذلك من المصنفات المشهورة تبلغ العدة المذكورة، إلى زهد وورع وصلاح، أشرق نورها في أسرة وجهه ولاح، وبينه وبين علماء عصره مكاتبات كثيرة، وأسئلات سطر عليها أجوباته المنيرة. وكانت وفاته بطيبة ودفن ببقيع الغرقد، رحمه الله وأعاد علينا من بركاته آمين.
وفي سنة ثمان وثلاثين في صفر منها: وقع في أعمال مصوع زلزلة شديدة، ثم تصاعدت إلى بر العبيد، وما زالت تعمل إلى الأجمدة، وفقدت بلد بمن فيها فلا يعلم أخسف بها أم رفعت إلى السماء، ولم تزل الزلازل تعمل فيهم حتى انسد بالحجارة النازلة عنها ما بين جبلين، ويرون لهب النار، وجرَى الدم على وجه الأرض، بعد نبعه منها كجري الماء، واستمر بهم هذا الأمر إلى بعد ذي الحجة، ثم ارتفعت عنهم الزلزلة وجرى الدم، وذهب أثره عن الأرض، غير أنه بقي فيه أثر النار نهاراً، ولهبها ليلاً، فسبحان الفعال لما يريد.
وفيها في رمضان منها كانت وفاة الشريف محسن بن حسين، وقد ذكرناها مع ما يتبعها آنفاً.
ثم استمر الشريف أحمد في الولاية إلى أن حج بالناس حجة ثمان وثلاثين وألف، فجاء للحجاج أمير منفرد، وجاء قانصوه باشا متوجهاً لفتح اليمن، صحبته العساكر، وعدتها ثلاثون ألفاً، وضرب وطاقه في أسفل مكة.
وكانت بين الشريف مسعود ابن الشريف إدريس، وبين الشريف أحمد بن عبد المطلب ممالأة ومواطأة قبل نزوله إلى جدة مضمونها: إني لا أريد الملك لنفسي إنما أريده لك، أو هو بيننا فخذل عني ما استطعت من آل أبي نمي، وثبطهم، وحل عزائمهم، ووعده بذلك ففعل ما فعل، وحصل به على الشريف محسن ما حصل ولله الأمر.
فلما نزل إلى جدة تقمصها لنفسه، ولم يف لمسعود ببعض ما بينهما بل أراد قتله، ففر إلى قانصوه، والتجأ، وصدر قانصوه على الشريف أحمد مملوء بالوجاء، فلما أقبل قانصوه قاصداً لليمن، لاقاه الشريف مسعود من ينبع، أو الخور، وجاء معه مختفياً، ولم يزل به محتفياً، وواجه في المجيء الأول الشريف أحمد قانصوه، ورد عليه تحية القدوم.
ثم عزم على محاربة قانصوه فازداد قانصوه عليه حنقاً على حنق، وشرع يستميل عسكر الشريف أحمد فأطاعوه، فخرجوا من مكة، ثم خيم قانصوه بالزاهر.
ولما أن قضت الحجاج مناسكهم، وذهبوا إلى أوطانهم، تخلف قانصوه بوطاقه أسفل مكة، فلما تحرك للسفر قدم ثقله، ولم يبق إلا وطاقه، وخيام العساكر، فأشار قانصوه إلى شخص يتعاطى خدمته من أبناء الطواف يسمى محمد المياس، أن يحسن للشريف أحمد الوصول إلى قانصوه للوداع ففعل، وذهب إلى الشريف، وحسن له ذلك يوم السبت رابع شهر صفر، فلما كانت ليلة الأحد خامس الشهر المذكور من سنة تسع وثلاثين وألف، ركب الشريف أحمد إليه، وصحبته من الأشراف شبير بن بشير بن أبي نمي، ومحمد بن حسن بن ضبعان، وراجح بن أبي سعد، ومن أعوانه وزيره مقبل الهجالي، وأحمد البشوتي متولي بيت المال وفليقل، فلم يزالوا يدخلون في الصيوان من باب، إلى باب، يمنع عند كل باب طائفة من أتباعه حتى دخلوا، فتحادثا ملياً ثم نصبا رقعة الشطرنج، فلما كانت الساعة الخامسة من الليلة المذكورة قبض على الجميع، فتوفي الشريف أحمد، شهيداً إلى رحمة مولاه، وقتل الهجالي وفليقل، وصلب البشوتي، وأطلق الأشراف فتحركت عساكره، فأظهره لهم ونشر البيرق، ونودي المطيع للسلطان يقف تحية فوقفت العساكر تحية، وخلع على الشريف مسعود بن إدريس. فسبحان من لا يزول ملكه ولا يتغير؛ سبحانه.
ثم حمل الشريف أحمد وأتى به من طريق الحجون، فدفن بالمعلاة رحمه الله من شهيد.
كذا ذكره في الجواهر والدرر في أهل القرن الحادي عشر.
وقد كان الشريف أحمد ليث آل أبي نمي، أديباً فاضلاً نبيهاً مهيباً: من المنسرح:
تَعرِفُ من عينه نجابَتَهُ ... كأنه بالذكاًءِ مكتَحِلُ(3/7)
أخذ العهد، والطريق على عدة مشايخ، من أجلهم الشيخ أحمد الشناوي، وهو المباشر له بولاية مكة لكنه قال: على الشهادة يا أحمد، قال: على الشهادة.
فكان كثيراً ما يكنى عنها بطلوع الشمس، وعاقب بعد الولاية كثيراً ممن كان قبلُ استبعدها عنه، وسخر منه، وكان له أخدان وجلساء قبل الولاية وبعدها، فحصل لهم الأذية بعد قتله من قانصوه، بوشاية هذا الشخص المسمى بالمياس، منهم السيد الأكرم، مولانا السيد سالم ابن السيد أحمد شيحان، ومولانا الشيخ أحمد القشاشي، ومولانا الشيخ محمد القدسي خليفة سيدي أحمد البدوي، فحبس الجميع، وثقل عليهم حتى افتدوا أنفسهم بمال جزيل كان ذلك بوشاية المياس، أذاقه الله كل باس، يوم يقوم الناس.
وكان للشريف أحمد زوجان من القنا الطويل جداً بسنان مذنب تحته أُكرة من الفضة المطلية، يحمل كل واحد رجل يمشي على قدميه، إذا سار في موكبه يسيران أمامه قريباً منه يصوبانهما، ويصعدانهما بحركة لطيفة التصعيد والتصويب على سواء، وربما كان فيهما جلاجل.
وهذا يفعل إلى الآن أمام إمام اليمن إذا سار في الموكب. انتهى.
قلت: وهذا كان له وجود في زمان الخلفاء العباسيين، فليس أهل اليمن أول مبتدعيه، وقد ذكره شعراء الدولة العباسية في قصائدهم في الخلفاء.
قال القاضي ناصح الدين أبو بكر أحمد الأزجاني، من قصيدة يمدح بها الوزير أنو شروان وزير الخليفة المسترشد بن المستظهر بالله العباسي قوله: من الطويل:
وألوية منهن صقران أوفيا ... عَلَى علمي رمحيْنِ فارتَبآكا
ولَيسَ سوى النسرين من أفقيهما ... لحبهما نَيل العلا تَبِعاكا
وكان إذا سار بالليل لا يوقد بين يديه إلا الشمع الموكبي بدلاً عن المشاعل، وكان دخوله مكة متملكاً لها، وإجفال الشريف محسن صاحب مكة، وبنى عمه عنها ضحى يوم الأحد السابع عشر من شهر رمضان من سنة سبع وثلاثين وألف، فكان رحمه الله يتبجح ويقول: فتحت مكة بالسيف، كما فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلتها في مثل اليوم الذي دخل فيه صلى الله عليه وسلم.
قلت: أما قوله: فتحتها فالمشهور الذي عليه الجمهور أنها لم تفتح عَنوة، وإنما فتحت صلحاً، وما وقع من خالد بن الوليد رضى الله عنه، فإنه نووش بعض قتال مع الأحابيش، وعبدان أهل مكة في أسفلها، وقد نهاه صلى الله عليه وسلم عن القتال، ولكنه لما قوتل قاتل، وهذه هي شبهة القائل، بأنها فتحت عنوة، وقد علمت بيانها.
وكذلك قوله: ودخلتها... إلخ، فإنه لم يدخلها عليه الصلاة والسلام. في سابع عشر رمضان، وإنما دخلها يوم ثامن عشرة بغير خلاف.
تغمده الله برحمته آمين.
ومما رأيته لصاحبه إبراهيم بن يوسف الشهير بالمهتار قوله: من الخفيف:
سنة السبعِ والثلاثينَ بعد ال ... ألفِ جاءَتْ بما به ينفر الطَّبْعْ
دخَلَ السبْعُ مكةَ الله بالجن ... دِ ولا شَكَّ أنها سنة السبْعْ
وكانت مدة ولايته سنة، وأربعة أشهر، وثمانية عشر يوماً.
ومما قيل فيه قول الأديب الأريب إبراهيم بن يوسف المهتار سامحه الله تعالى: من الرجز:
قَضى ولم يقضِ الذي منه يجب ... صَب إذا ما يدعه الشوقُ يُجبْ
أشجاه تغريدُ حماماتِ اللوَى ... وهنا على البانِ فغنَّى فطَرِب
ذكرتُهُ ليالياً مواضياً ... بالشعبِ مِنْ قبلِ الخليطِ ينشعب
إذ عامر بساكنِيهِ عامرٌ ... ظباؤُهُ ترعَى بمرعاه الخَصِبْ
وإذ به الغيدُ بدَت سوانحاً ... تجرُّ من ذيل الصبا بُرداً قشب
مِنْ كل هيفاءِ القوامِ اذا انثنَت ... تكادُ مِنْ لينٍ به أن تنقضب
تبدو بوجهٍ مسفرِ من غيهب ... من شعْرها إلى بني بَدْر انتسب
مِنَ الرعابيبِ اللواتي خَفَفَت ... ربعَ اصطبارِي مثل مغناه الخَرِب
فما وقوفي بالطلولِ بعدهم ... أبكى بها والحيُ عنها مغتربْ
سقيا سقى الله العباد معهداً ... بعامر إنْ ضن دمعي المنسكبْ
ذاك الذي به الظُّبَا تحمِي الظبا ... فكَم به مثلي أسيرٌ مكتئب(3/8)
لله أيامٌ به تصرمَت ... وكأسُ صفوٍ في لياليها شُرِب
بفتية تراضعوا ثدياً من الْ ... آدابِ كُل للغرامِ منجذب
يوشون شعراً كالرياضِ بينهم ... طويلُهُ يمد لفظ المقتضب
لم ينشدوا إلا شجاني لفظهُم ... ما الشعْرُ إلا ماشجا قلْبَ المحب
كل أخي صبابةٍ وعارفٍ ... يوجدُ فرداً قبل ألا يصطحبْ
بتنا بها كل شكا غرامَهُ ... من الذي يهوَى بقلْبٍ ملتهبْ
والليلُ قد تسترَتْ نجومه ... بسحبها والبدرُ فيها محتجبْ
والمزنُ تبكي لابتسامِ البرقِ أو ... من غضبِ لأحمدَ بْنِ المطلبْ
ألأروَعُ الشهمُ الكَرِيمُ الجد رَب ... بُ الْجد حاوي المَجْد عَنْ أهل اللعبْ
ألفارسُ الخيل إذا الشرُ بدا ... مَع عمرٍو الكرارِ أو معدى كربْ
مملي العيونِ هيبةً إذا مشَى ... مجلي القلوبِ رهبةً إذا ركبْ
هو الكريمُ ابنُ الكريمِ مَنْ له ... ذيل على هامِ السماكِ منسحبْ
مِن معشرٍ هُمُ السراةُ في الورَى ... كُل إلى آل النبي منتسبْ
مُروِي الظبا من الصدا إذا سطا ... مُزْرِي الحيا يوم الندَى إذا يهب
ولم يوجد من هذه القصيدة إلا ما رأيته، ثم إنه مدحه أيضاً وأشرك معه أخاه محمداً بإشارة بعد وقعة البقرة وقد ظهرت شجاعتهما فقال: من الكامل:
إن كان تسآلُ الديارِ كما يجبْ ... يُجدِي فَلِمْ بسؤالها قلبي يجبْ
ما نافعي إن أشكُ بَث صبابتي ... لرسومها والحيُ منها مغتربْ
يا أَحمَدٌ ومحمدٌ وثقَت يدي ... نِعمَ الرجا أبناءُ عبد المطلبْ
ألسابقين إلى الوغَى بعزائم ... تذكى شواظاً كالصوارمِ ملتهبْ
سل عنهما بيضَ الصفاحِ ولهذم الس ... سُمْرِ الرماحِ وجحفَل الجيشِ اللجبْ
هل شاهدوا إلا هما وهما هما ... دَع عنتَرَ الكرارَ أو معدى كربْ
سدتمْ ملوكَ الخافقَين أما ترَى ... من كان يبغي شأوَ غايتِكُمْ غُلِبْ
إن كان من يرجو الشفا بدمائِهِم ... فدماءُ أعبدكُمْ شفاء للكَلِبْ
ثم وليها الشريف مسعود بن إدريس، واستمر في ولايتها، وكانت مكة في زمنه ربيعاً مريعاً سخاء ورخاء، تهب بها رياح الأمن والعدل صباً ورخاء، لم يقع في الوجود شيء في زمنه من الأكدار، ولا يؤثر من الأخبار إلا كل خبر سار، ما عدا ما قدره الله تعالى من سقوط البيت الشريف في زمانه، فجدده سلطان العالم القاثم بحفظ الدين وتشييد أركانه.(3/9)
وسبب ذلك أنه يوم كان يوم الأربعاء تاسع عشر رمضان من سنة تسمع وثلاثين وألف: نشأت على مكة وأقطارها سحابة غربية، مدلهمة الإهاب، حالكة الجلباب، فلم تزل تجتمع إلى وقت الزوال، فأبرقت وأرعدت، وأرخت عزاليها وأغدقت، واستمرت تهطل ساعتين ودرجتين، فأقبل السيل من سائر النواحي، وثلم السد الذي يلي جبل حراء، المسمى جبل النور - ثلمة كبيرة وعلا عليه، فدخل المسجد، وساق ما وجد على طريقه من جمال ورجال ومال وأحمال وغير ذلك، وأخرب الدور، واستخرج ما فيها من الأثاث وغيره، وأهدم عليها، فامتلأ المسجد الحرام ماء حتى أنه دخل الماء إليه من جهة باب الزيادة، وزاد حتى اعتلى على باب الكعبة ذراعين عمل، وأهلك الرجال، والأطفال، وكل من وجد في المسجد، وكان أكثر الهالكين: الأطفال الذين يقرؤون القرآن مع فقهائهم، فتعلق بعضهم بالأماكن المرتفعة، وارتفع على بعض السلاسل الحرمية، فوصل الماء إليهم وأهلك الجميع. وكان من هلك به من بني آدم خمسمائة، ومن الحيوان كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحمل جميع ما في المسجد من خزائن، ومصاحف وقناديل وبسط، وغير ذلك، ثم بات المطر يهطل إلى نصف الليل، فلما كان آخر ساعة قبيل الغروب من يوم الخميس العشرين من الشهر المذكور سقط جانب الحِجْر - بكسر الحاء - من البيت الشريف، فسقط جميع ما بناه الحجاج منها، فكان بقاء البيت نحو ألف سنة من الآيات الجلية، فإن البناء المربع الذي تمر به الرياح لا يبقى عادة نحو ثمانين سنة، ومن الجانب الشرقي إلى حد الباب، ومن الجدار الغربي نحو النصف أيضاً، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فقال في ذلك المهتار هذه القصيدة: من البسيط:
ماجت قواعدُ بيتِ الله واضطربَت ... وأهتزتِ الأرضُ من أقطارها وربتْ
وأمسَتِ الكعبةُ الغراء ساقطةَ ... فما أشك بأن الساعةَ اقتربَت
فأي خطب به أحشاؤنا انصدَعَت ... وأيُ هولٍ به ألبابُنا انسلَبَتْ
وجميعها عًلى هذه الركة تركتها استحساناً، وأنفت من ذكرها استهجاناً.
قال المرحوم العلامة الإمام علي بن عبد القادر الطبري يعنيه: وقد نظم بعض المتطفلين على الأدب قصة السيل المذكور مع قصة ما وقع بعده في أبيات تنفر عنها المسامع لركاكتها وقبحها، واستهجان الطباع السليمة لها، يشير بذلك إلى هذه القصيدة التي مطلعها ماجت، ولقد صدق فيما قال رحمه الله.
نعم قوله في تاريخ هدم البيت بالسيل المذكور: من الخفيف:
هدمَ البيت أمر رَب تغشّا ... هُ بسيلٍ لم يحوِ غرقاه ضبط
في نهارِ الخميسِ عشرينَ شعبا ... نَ قبيلَ الغروبِ من عام لغط
لا بأس به. وقال الإمام فضل بن عبد الله الطبري مؤرخاً لذلك: من مجزوء الرجز:
سُئلتُ عَن سيلٍ أتَى ... والبيت عنه قد سقَطْ
متَى أتى؟ قلتُ لهُم ... مَجِيئُهُ كانَ غَلَطْ
وله تاريخ آخر من أبيات رقي إلى قفل بيتَ الله وتتمة المصراع حين هجم وقال القاضي الأحسائي: من المجتث:
مق بعد إخراجِ ترك ... وقَتلِ من ملكَتهُ
للبيت هدَّتْ سيولٌ ... تاريخها دَخَلَتْهُ
فوقع الضجيج العام، والانزعاج التام، في قلوب الأنام، فبرز مولانا الشريف مسعود من داره إلى المسجد الحرام، وحضر معه السادة الأشراف، وفاتح البيت الشريف وهو الشيخ محمد بن أبي القاسم الشيبي، والعلماء والفقهاء والصلحاء، وكان جلوسهم بمقام الحنفي وجلوس الشريف على نفس المحراب كما أخبرني من رآه كذلك، فبرز أمر الشريف مسعود بإيقاد الشموع الكائنة في حاصل المسجد الحرام فأوقدت، وأمر فاتح البيت أن يدخل الكعبة ويخرج القناديل التي بها خشية عليها من الضياع، وأن يرفع الميزاب الشريف أيضاً، فعين الشيخ شخصاً من خدام الكعبة لذلك لكونه في أثر مرض يمنعه من الحركة التامة، فدخل ذلك الخادم ومعه جماعة، وأتى شيخ الوقادين بالمحط، وأخرجوا القناديل، ووضعوها في مخزن فاتح البيت، وختم على المخزن المذكور مولانا الشريف، وقاضي الشرع ونائب الحرم الشريف، ثم انصرف الناس إلى دورهم.(3/10)
فلما كان يوم الجمعة حادي عشري الشهر المذكور وصل الشريف مسعود، ومعه السادة والأعيان بعد النداء العام بتعاطي هذه الخدمة، وشرعوا في إزالة الطين الكائن بالمطاف، فشمر الشريف مسعود عن أكمامه، وأخذ مكتلاً وحمل فيه من الطين، وفعل الناس كذلك، فجزى الله الجميع خيراً، وأثابهم على فعلهم، فما كان بأسرع من تنظيف المطاف وما حوله فباشر الخطيِب الجمعة، وأقام شعارها، ثم شرعوا في رفع الأحجار، فمنها ما جعلوه خلف مقام الحنفي، ومنها عند ممشى باب السلام بالقرب من المنبر.
ثم إن الشريف جهز قاصداً من مكة، ومعه السيد علي بن هيزع لتعريف باشا مصر المحروسة ووزير جهاتها المأنوسة بهذا الخبر ليعرضه على الحضرة الخنكارية، وصحبتهم مكاتيب مولانا الشريف مسعود، ومحاضر من الأعيان وفتاوي العلماء، فعزم القاصد المذكور من مكة أواخر شعبان، ثم إن الشريف برز أمره العالي إلى المهندسين، والفعلة بتنظيف باطن الكعبة مما وقع فيها من الأحجار والتراب فنظفت، ثم إن الشريف أرسل إلى جدة لتحصيل خشب يجعل على الكعبة لسترها إلى أن يشرعوا في العمارة، فوصل الخشب آخر رمضان، فستروا جميع ما سقط منها، وجعلوا باباً لطيفاً من خشب في الجهة الشرقية.
فلما كان شهر شوال جعل الشريف ثوباً أخضر، وألبسه الكعبة الشريفة بعد أن حضر بالمسجد الحرام، ثم بعد إلباسه دخل الكعبة، وصلى بها، ثم برز فطاف والريس يدعو له على قبة زمزم كعادة أسلافه، وكان الإلباس المذكور سابع شوال من السنة المذكورة.
ولما أن كان خامس عشر شوال وصل القاصد من مصر المحروسة، وأخبر بوصول الأغا رضوان المعمار معيناً للعمارة، وكان وصوله معه، إلا أنه تأخر عن ذلك اليوم، فدخل في اليوم الثاني يوم سادس عشر شوال، ونزل بالجوخي، ثم دخل مكة يوم سابع عشر الشهر المذكور وصحبته نامة سلطانية، وخلعة للشريف مسعود، فألبسه إياها بالمسجد الحرام يوم السبت سابع عشر شوال بعد اجتماع السادة والفقهاء والأعيان، وقرئت النامة، والأحكام الباشوية، ثم شرع الأمير رضوان في تنظيف المسجد الحرام، فأكمل ذلك وفرشه بالحصى، ولم يرد الحجاج إلا وقد تم جميع ذلك.
ثم لما كان يوم الأحد سادس عشري شهر ربيع الثاني من عام أربعين وألف، وصل إلى مكة السيد محمد أفندي متولياً قضاء المدينة الشريفة، ومعيناً لعمارة الكعبة المشرفة، وكان وصوله إلى بندر جدة بحراً، وصحبته نامة سلطانية، وخلعة عثمانية من الحضرة الشريفة المرادية باسم مولانا الشريف مسعود، فقرئت النامة بالحطيم بعد حضور قاضي مكة، وشيخ حرمها، ومولانا السيد عبد الكريم ابن السيد الشريف إدريس نيابة عن أخيه مولانا الشريف مسعود، وحملت الخلعة صحبة السيد عبد الكريم، والسيد محمد أفندي، والأمير رضوان، والأجناد إلى مولانا الشريف مسعود، فلبسها ببستانه بالمعابدة؛ لكونه مقيماً فيه لتوعك مزاجه الكريم.
فاستمر مريضاً بمرض الدق إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى في ليلة الثلاثاء عشري ربيع الثاني سنة أربعين، وكانت مدة ولايته سنة وثلاثة أشهر إلا أربعة أيام، رحمه الله رحمة واسعة.
وضبط الأمير رضوان البلد ضبطاً حسناً وأمر المنادي بالنداء أن البلد بلد السلطان. وما زاد على ذلك؛ دفعاً للفتنة، فجاءت الأشراف وسألوه عن المعيَّن للأمر فأبى أن يعينه وأمرهم بتجهيز الشريف مسعود، فنزل به الأشراف وقت الضحوة إلى مكة على محفة البغال، وغسل وصلى عليه عند الكعبة قاضي الشرع مولانا العلامة حسين أفندي، وخطب عليه خطبة أبكت العيون، وأنكت القلوب، ودفن عند أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد.
ومما قيل فيه من الشعر قول العلامهَ القاضي أحمد بن عيسى المرشدي: من البسيط:
عوجاً قليلاً كذا عن أيمنِ الواديِ ... واستوقفا العيسَ لا يحدُو بها الحادي
وعرجاً بى علَى ربعٍ صحبْتُ به ... شرخَ الشبيبةِ في أكنافِ أجيادِ
واستعطفا جيرةً بالشعْبِ قد نزلوا ... أعلى الكثيبِ فَهُمْ غيي وإرشادِي
وسائلاً عَنْ فؤادِي تبلُغا أملي ... إِن التعلل يشفي غُلَةَ الصادي
واستشفعا تشفَعاً نسألْكُمُ فعسَى ... يقدرِ الله إسعافي وإسْعادي(3/11)
وأجملا بى وحُطَّا عَنْ قلوصكما ... في سوحِ مُرْدِي الأعادي الضيغمِ العادِي
مسعودُ عَيْن العلا المسعود طالعُهُ ... قَلْبُ الكتيبةِ صَدْرُ الحَفْل والنادي
رأسُ الملوكِ وعينُ الملكِ ساعده ... زَنْدُ المعالي جَبِينُ الجَحْفَلِ البادي
شهمُ السراةِ الألى سارَتْ عوارفُهُمْ ... شرقاً وغرباً بأغوارِ وأنجادِ
نرد غمار العُلاَ في سوحِهِ ونرحْ ... أيدي الركائبِ من وخدٍ وإسآدِ
فلا مناخ لنا في غير ساحتِهِ ... وَجُود كفيه فيها رائح غادي
يعشوشبُ العشبُ في أكناف عقوتِهِ ... يا حبذا العشبُ في الدنيا لمرتادِ
ونجتني ثمرَ الآمالِ يانعةً ... من روضِ معروفِهِ من قبلِ ميعادِ
فأي سوحٍ يرجى بعد ساحته ... وأي قصدٍ لمقصودٍ وقصادِ
ليهنِ ذا الملك أن ألبست حلته ... تُحيي مآثرَ آباءٍ وأجدادِ
لبستها فكسَوتَ الفخرَ ملبسها ... مشَهراً يبهرُ المصبوغَ بالجادِ
علوتَ بيتاً ففاخزتَ النجومَ عُلاً ... والشهبَ فخراً بأسباب وأوتادِ
ولحت بدراً بأفقِ الملكِ تحسدُهُ ... شمسُ النهارِ وهذا حَرُّها بادي
وصنتَ مكةَ إذ طهرتَ حوزتها ... من ثلةِ أهلِ تثليث وإلحادِ
قد غرَ بَعضهُمُ الإمهالُ يحسبه ... عفواً فعادوا لإتلافٍ وافسادِ
فذدتهُم عن حمى البيتِ الحرامِ وهُم ... من السلاسلِ في أطواقِ أجياد
كأنهم عند رفعِ الزندِ أيديهم ... يدعونَ حُباً لمولانا بإمدادِ
وما ارعوَوا فشهرتَ السيف محتسباً ... يا بردَ حَرِّهم في حَرِّ أكبادِ
غادرتهُم جزراً من كل منجدلِ ... كأن أثوابه مُجت بفرصادِ
وأثمَرَ السدرُ من أجسادهم ثمراً ... حلواً بأفواهِ أجداثٍ وأنجادِ
سعيتَ سعياً جنياً من خمائله ... نورُ الأمانِ لأرواح بأجسادِ
فكم بمكَةَ من داعٍ ومبتهلٍ ... ومن محب ومن مثنٍ ومِن فادي
وعادَ كل قصيٍّ مصلحاً وغدَت ... أيامُناً بالهنا أيامَ أعيادِ
نَفي لذيذَ الكرَى عنهم تذكُرُهُم ... وكان من قبل صعباً غير منقادِ
أباحَ سرحك أن يرعَى منازلَهُم ... وقائعٌ لك بين الخرجِ والوادي
من كل أبيض قد صَلَّت مضاربه ... لما ترقى خطيباً منبرَ الهادي
وقادَ كل قصيِّ ذله مهلاً ... مهملاً كل معوج ومنآدِ
وكل أسمر نظام الكُلَى وله ... إلى العدَى طفرة النطام ميادِ
وصانَ وسمك في جأشٍ يخالطُهُ ... عن رَب عز تنضاهُ بأَحشادِ
أسكنتَ قلبهمُ رعباً تذكُّرُهُ ... ينسى الشفوق الموالي ذِكر أولادِ
أقبلتهم كُل مرقالٍ وسابحةٍ ... يسرعنَ عدواً إلى الأعدا بأطوادِ
مِن كُل شهمٍ إلى العلياءِ منتسبٍ ... بسادةٍ قادةٍ للخيلِ أجوادِ
فهاكَ يابنَ رسولِ الله مِدحَةَ مَن ... أورَت قريحته من بعدِ إخمادِ
فأحكَمَت فيكَ نظماً كله غُرَرَ ... ما أحرزَت مثله أقيالُ بغدادِ
أضحَت قوافيه والإحسانُ يشرَحُهاً ... روضَ بديع لإرصادٍ بمرصادِ
ترويه عني الثريا وفي هازئةٌ ... بالأصمعي وما يروي وحمادِ
وتستحث مطايا الزهر إن ركدَت ... كأنها إبل يحدو بها الحادي
وتوقظ الركبَ ميلاً من خمارِ كرىً ... والليل من طولي تدآبِ السرَى هادِي(3/12)
أتتكَ تشفَعُ إذلالاً لمنشئِها ... فاقبَلْ تذللَهَا يا نَسْلَ أمجادِ
وأسبِل الصفحَ ستراً إن بدا خَللٌ ... تهتك به سِتر أعدائي وحُسادي
وقل تقرَّب إلينا تستعز بنا ... ما حق مثلكَ أن يقصى بإبعاد
لازلتَ يا عز أهلِ البيتِ في دَعَةٍ ... تحف منهم بأنصارٍ وأنجادِ
مسعود جَدُّ سعيد الفأل طالعه ... سعد السعودِ وملقى كل إسعادِ
بحق طه وسبطَيهِ وأُمهما ... والمرتضَى والمثنى الطهر والهادِي
صلى عليهم إلهُ العرشِ ما سجَعَت ... قمرية أو شدا في مكةٍ شادي
وقال مولانا القاضي تاج الدين المالكي فيه أيضاً، وقدمت هي والتى قبلها في يوم واحد يوم الجمعة ثاني رجب سنة تسع وثلاثين وألف: من البسيط:
غُذِيتُ درَّ التصابِي قبلَ ميلادي ... فلا تَرُم يا عذولي فيه إرشادي
غَيُ التصابي رشادي والعذابُ به ... عَذب لديَّ كبردِ الماءِ للصادي
وعاذل الصب في شرعِ الهوَى حرجٌ ... يرومُ تبديلَ إصلاحِ بإفسادِ
ليتَ العذولَ حوَى قلبي فيعذرَني ... أولَيتَ قلبَ عذولي بين أكبادي
لو شامَ برقَ الثنايا والتثني من ... تلكَ القدودِ انثنَى عطفاً لإسعادِ
ولو رأَى هادياً للجيدِ كان درَى ... أن اشتقاقَ الهدى من ذلك الهادي
كم باتَ عقداً عليه ساعدي ويَدِي ... نطاق مجتمعي المخفي والبادي
إذ أعيُنُ العِينِ لا تنفك ظامئةً ... لِوِردِ ماءِ شبابي دونَ أندادي
فيا زمانَ الصبا حُيًيت من زمن ... أوقاتُهُ لم نُرع فيها بأنكادِ
ويا أحبتَنا رؤَّى معاهِدَكُم ... من العهادِ هتون رائحٌ غادِي
معاهداً كُن مصطافى ومرتَبَعِي ... فكَمْ بها طال بل كَمْ طابَ تردادي
يا رائحينَ وقلْبي إثر ظعنِهِمُ ... ونازحينَ وهُم ذكرِى وأورادِي
إن تطلبوا شرْحَ ما أيدي النوى صَنَعَتْ ... بمغرم حِلْفِ إيحاشٍ وايحادِ
فقابلوا الريحَ إذ هبتْ شآميةً ... تروي حديثي لكُمْ موصولَ إسنادِ
والَهْفَ نفسي على مغنًى به سلفَتْ ... ساعاتُ أنسِ لنا كانَتْ كأعيادِ
كأنها وأدامَ الله مشبِهَها ... أيامُ دولةِ صدْرِ الدست والنادِي
ذو الجودِ مسعودٌ المسعودُ طالعُهُ ... لا زالَ في برْجِ إقبالٍ وإسعادِ
عادَتْ بدولتِهِ الأيامُ مشرقةً ... تهز مختالةَ أعطافَ مَيادِ
وقلدَ الملكَ لما أن تقلده ... فخراً على مر أزمان وآبادِ
وقامَ بالله في تدبيرِهِ فغدا ... موفقاً حالَ إصدارٍ وإيرادِ
حق لك الحمدُ بعد الله مفترض ... في كُل آونةٍ من كلِّ حَمّادِ
أنقذتهم مِنْ يدِ الأعداءِ متخذاً ... عند الإلهِ يداً فيهمْ بأنجادِ
داركْتهُنم سُهداً رمقي فعادَ لَهُمْ ... غمضٌ لجفنِ وأرواح لأجسادِ
بُشْراًكَ يا دهْرُ حاز الملكَ كافلُهُ ... بشراكَ يا دهْرُ أخرى بِشْرُها بادِي
عادَتْ نجومُ بني الزهراءِ لا أفلَتْ ... بعودةِ الدولةِ الزهْرا لمعتادِ
واخضَلَّ روضُ الأماني حينَ أصبحَتِ ال ... أجوادُ عقداً على جَياد جَيادِ
وأصبَحَ الدينُ والدنيا وأهلُهُما ... في حفْظِ ملكٍ لظل العدلِ مدادِ
يبيحُ هامَ الأعادي مِنْ صوارمه ... ما استحصدَتْ بالتقاضي كل حَصادِ(3/13)
شَهْم أيادي أياديه ونائله ... على الورَى أصبحَتْ أطواقَ أجيادِ
يَمْضِي مؤملُ جدوى راحَتيهِ إلى ... طَلْقِ المحيا كريمِ الكَف جوادِ
بذل الرغائب لا يعتدُّهُ كرماً ... ما لم يكُنْ غير مسبوقٍ بميعادِ
والعَفْوُ عن قدرةِ أشهَى لمهجتِهِ ... صينَتْ وأشفى من استيفاءِ إيعادِ
مآثِز كالدرارِي رفعةً وسنىً ... وكثرةً فهْيَ لا تحصَى بتعدادِ
تسمو مناقبَ مَنْ كُل الكمالِ حوَى ... وأنْتَ ذلك عن حَصْرٍ بأعدادِ
فأنتَ من معشرٍ إن غارة عرضَت ... خفوا إليها وفي النادِي كأطوادِ
كم هجمةِ لكَ والأبطالُ محجمةٌ ... ووقفةٍ أوقفَتْ ليثَ الشرَى العادِي
بكلِّ أبيضَ مقصودٍ لمضطهدٍ ... وللمرائرِ والمرانِ قصادِ
فَخْرَ الملوكِ الألى فَخْرُ الزمان بهمْ ... دُم حائزاً مُلْكَ آباءٍ وأجدادِ
وليهنِ حلته أن رحْتَ لابسها ... إذْ أصبَحَتْ خير أثواب وأبرادِ
واستَجل أبكارَ أفكارٍ مخدرة ... قد طالَ تَعنِيسها من فًقْدِ أندادِ
كَمْ رُدَّ خُطابها حتى رأتْكَ وقَد ... أمَتْكَ خاطبةً يا نسْلَ أمجادِ
أفرغت في قالبِ الألفاظِ جوهَرَها ... سبكاً بذهْنِ وَرِي الزندِ وقادِ
وصاغَها في معاليكُمْ وأخلَصَها ... وُد ضميريَ فيه عَدْلُ إشهادِ
يحدو بها العيسَ حاديها إذا زَحَرَتْ ... من طولِ وخْدٍ وإرقالٍ وإرشادِ
كأنما الراحُ بالألبابِ لاعبةٌ ... إذا شدا بَيْنَ سُمارٍ بها شادِي
بفضلها فضلاءُ العصرِ شاهدة ... والفضلُ ما كان عن تسليمِ أضدادِ
فلو غَدَتْ من حبيب في مسامعِهِ ... أو الصفى استحالا بَعْضَ حسادي
واستنزلا عن مطايا القَولِ رحْلهُماً ... واستوقَفا العيسَ لا يحدُو بها الحادي
وحَسبُها في التسامِي والتقدُم في ... عَد المفاخرِ إذ تغدو لتعدادِ
تقريظُها عند ما جاءَتْ معاَرضةً ... عُوجا قليلاً كذا عن أَيْمَنِ الوادي
نشأ الشريف مسعود في كفالة والده الشريف إدريس صاحب مكة، ووقعت له حروب مع ابن عمه الشريف محسن بن الحسين بن الحسن كان الظفر فيها لمحسن، أولها سنة سبع وثلاثين في ربيع الأول منها، وفي بعضها أرسل الشريف محسن ولده محمد فظفر، واستولى على مسعود، وأخذه أخذاً شديداً، وقتل في المعركة السيد حميضة بن عبد الكريم بن حسن، وهاشم بن شنبر بن حسن، ثم دخل الشريف مسعود مكة برضا من الشريف محسن بكفالة الأشراف أنه لا يسعى في خلاف لا بقول ولا بفعل.
رحم الله الجمع رحمة واسعة.
ثم وليها الشريف عبد الله بن حسن، أكبر آل أبي نمي إذ ذاك ملوك البلد الحرام ومدينة جدهم عليه أفضل الصلاة والسلام، دعاه رضوان والسيد محمد المعين للعمارة، وقاضي مكة، وشيخ حرمها، فحضر ومعه من أولاده السيد محمد والسيد حسين، وكان قد تخلف عن الجنازة لذلك، فلما حضر مولانا الشريف عبد الله سأل منه الأمير رضوان لبس خلعة شرافة البلد الحرام، فامتنع من قبول ذلك، فألزموه بذلك حقناً لدماء العالم، وما زالوا به حتى رضي، فألبسه الأمير القفطان وحصل بولايته الأمن والأمان، وكان الاجتماع لذلك في السبيل المنسوب لمحمد بن مزهر كاتب السر الكائن في جهة الصفا المعروف علوه في زماننا بسكن الشيخ علي الأيوبي - رحمه الله تعالى - .(3/14)
ثم لما كان يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى من السنة المذكورة حضر بالحطيم مولانا الشريف عبد الله بن حسن، والساده الأشراف، والعلماء فدار بينهم الكلام في بقية الجدران، والجدار اليماني، فاتفقوا على الإشراف عليه أولا، فدخل الشريف عبد الله والجماعة إلى الكعبة، وأشرفوا على بقية الجدران، ونصب المهندسون الميزان في الجدار اليماني، فوجدوه خارجاً عن الميزان نحواً من ربع ذراع، ثم برزوا من الكعبة، وجلسوا في الحطيم، فاقتضى رأيهم أن يهدم بقية الجدارين الشرقي والغربي، ثم ينظر في الجدار اليماني، فإن زاد في الميل هدم وإلا فلا، وانفض الجميع على ذلك.
ثم بعد يومين رفع سؤال إلى علماء مكة هل يجوز هدم الجدار اليماني إذا شهد المهندسون بوهنه وسقوطه إن لم يهدم؟ فأجابوا بالجواز، فاعتمد الولاة على ذلك فتعاطوا العمارة، وشرع المهندسون في هدم بقية الجدران، وكان ابتداء الهدم في يوم العشرين من جمادى الأولى سنة أربعين وألف، ثم لم يزالوا كذلك إلى أن أتموا الهدم، وشرعوا في البناء، وحضر في أثناء العمارة مولانا الشريف عبد الله، وحمل مكتلاً فيه نورة، وفعل فعله جماعة من الحاضرين، فلما أن كان غرة شعبان من السنة المذكورة سنة أربعين وألف رفعت الأستار التي حول البيت الشريف، وتكامل بناء الجدران كلها: وفي ثالث شعبان يوم الخميس ركب الميزاب، وبعد النصف من شعبان شرعوا في تنظيف الكعبة المشرفة، وفي يوم الجمعة غرة شهر رمضان ألبست الكعبة الشريفة ثوبها ولله الحمد والشكر.
وفي ذلك يقول القاضي تاج الدين المالكي مؤرخاً لعمارتها، وممتدحاً لمعمرها مولانا السلطان مراد خان بن أحمد خان: من الطويل:
هنيئا لملكِ خصهُ الله واجتَبَى ... وصداهُ للبيتِ العتيقِ بجدهِ
بَنَى البيتَ بعد ابنِ الزبيرِ ولم يَفُز ... سواه بهذا الفَخرِ لا زالَ سعدُهُ
مليك أقامَ الله أيامَ ملكِهِ ... ولا زالَ خفاقاً مدى الدهرِ بندُهُ
مليك ملوكُ الأرضِ طرَّا عبيدُهُ ... تدينُ له شرقاً وغرباً وجندُهُ
مليكٌ حباه الله فخراً وسؤدداً ... وصيتاً مداه لا ينالُ وحدهُ
بتعميرِهِ بيتَ الإله على يَدَي ... مَنِ اختارَهُ رب الورى دام رشده
قَدُونَكَ تارِيخاً لِعامِ بِنائِهِ ... وَفِياً بِضَبطِ الْعامِ حِينَ تَعُدهُ
مراد بني بيتَ الإلهِ وزالدَهُ ... سناءً بها يزْهَى به زِيد مجدُهُ
وله تاريخ نثر هو قوله أسس بنيانه على تقوى من الله وهدى، ولإبراهيم المهتار قوله: من المتدارك:
قَد قيلَ تُرَى مَن يعمرُ بي ... تَ الله ومَنْ يَهْدي لِرَشاًدْ
فأجبتُ بتاريخٍ نَظْماً ... هاً أَعمَرَ بيتَ اللهِ مُرادْ
قلت: يحسن أن يقابل هذا الشعر بقول القائل: من المتدارك:
شعر عظم ماثل لكم ... حجر ضخم ترب ورماد
واستمر مولانا الشريف عبد الله بن حسن متولياً إلى أن حج بالناس موسم سنة أربعين بعد الألف، ثم استهل هلال محرم افتتاح سنة إحدى وأربعين وألف، فأخذ منها شهر محرم، ثم بدا له خلع نفسه من ولاية مكة، فلما كان يوم الجمعة غرة صفر من السنة المذكورة قلد إمرة مكة لولده الشريف محمد بن عبد الله بن حسن، ولمولانا الشريف زيد بن محسن بن الحسين بن الحسن، وكان قد استدعاه قبل ذلك من نواحي اليمن؛ لأنهُ فر إلى تلك الجهة زمن ولاية مسعود مكة لما كان من مولانا الشريف محسن إلى أبيه إدريس أولاً ثم إليه نفسه منه ثانياً، فنودي بالبلاد لهما، وتخلى الشريف عبد الله بن حسن للتوجه إلى عبادة ربه إلى أن أتاه الأمر المحتوم بأمر الحي القيوم ليلة الجمعة عاشر جمادى الأخرى من السنة المذكورة، فكانت مدة ولايته تسعة أشهر وثلاثة أيام.
فاستمر الشريفان محمد بن عبد الله، وزيد بن محسن يدعى لهما على المنابر، والبلاد بهما قارَّة والأحوال طيبة سارة، إلى أن كان العشر الأول من شعبان المعظم من السنة المذكورة وصلت أخبار من جهة اليمن بأن عسكراً خرجوا على الوزير قانصوه، وأن نيتهم الوصول إلى مكة المشرفة وكان ذلك شائعاً على الألسنة.(3/15)
ثم ورد مورق من القنفدة بخبر وصولهم إليها، ومعه مكاتيب إلى مولانا الشريف محمد، ومولانا الشريف زيد، ومصطفى بك الصنجي المقيم بمكة أو طراقاً من أغاني العسكر المذكور محمود وعلي بك، ومضمون مكاتيبهم أننا نريد مصر، ونريد الإقامة بمكة أياماً لنتهيأ للسفر، فأبى عليهم صاحب مكة خوفاً من الفتنة والفساد، ودفن بعض آبار كانت في طريقهم، فلما وصل الخبر إليهم أجمع رآيهم على دخول مكة قهراً، واستعدوا لذلك بعد أن كتبت الأجوبة بالمنع فحصل في البلد قيل وقال، واضطراب شديد.
فلما أن كان يوم الجمعة عشري شعبان من السنة المذكورة بعد العصر، وهي سنة إحدى وأربعين وألف توجه مولانا الشريف محمد، والشريف زيد، والسادة الأشراف والأعراب إلى جهة بركة الماجن، وقوز المكاسة لأنه بلغهم أن الأتراك قاربوا السعدية، وبرز معهم الصنجق مصطفى بك بعد أن طلب من الشريف محمد خيلاً لمن معه، فتوهم من ذلك ومنعه من الخيل فبرز معه بعسكره وجنوده، فلما أن كان ضحى يوم الأربعاء خامس عشري شعبان المذكور وقع اللقاء بالقرب من وادي البيار بين السادة الأشراف، وبين الأتراك فحصلت ملحمة عظيمة وقتال شديد، وقتل مولانا الشريف محمد بن عبد الله بن حسن صاحب مكة، وقتل معه من السادة الأشراف جماعة منهم: مولانا السيد الجليل أحمد بن حراز، ومولانا السيد حسين ابن مغامس، ومولانا السيد سعيد بن راشد، وخلق آخرون، وأصيبت يد مولانا السيد هزاع بن محمد الحارث فقطعت، ولم تنفصل فدخل بها كذلك إلى مكة، ومر على جهة سوق الليل قائلاً: عذري إليكم يا أهل مكة ما ترونه، وتوجه بقية الأشراف إلى وادي مر.
فبعد تمام الوقعة دخل الأتراك، ونودي بالبلد للشريف نامي بن عبد المطلب بن حسن، وكان دخولهم من جهة بركة الماجن، فتعب الناس أشد التعب، وحصل الخوف الشديد، وتسلطت هذه العساكر على الناس وأتعبوهم وأهلكوهم فسقاً ونهباً وظلماً وشرباً، وتقطعت الطرق وعصت الأعراب، وحمل الشريف محمد بن عبد الله في عصر ذلك اليوم، ودفن بالمعلاة في مقابر آبائه وأجداده بعد أن قاتل قتال من لا يخاف الموت، وكانت مدة ولايتهما سبعة أشهر إلا ستة أيام.
وكان خروج الشريف محمد بن عبد الله - رحمه الله تعالى - إلى لقاء هؤلاء الأتراك في مثل سقوط البيت الشريف في اليوم والساعة فإنه كان يوم عشرين من شعبان بعد العصر من سنة تسع وثلاثين بعد الألف، وخروج الشريف المذكور لذلك في يوم عشرين من شعبان بعد العصر سنة إحدى وأربعين وألف، فبين سقوط البيت الشريف وخروج السيد الشريف سنتان بغير زيادة، فلله هذا الاتفاق.
ثم وليها الشريف نامي بن عبد المطلب، وتوجه مولانا الشريف زيد إلى وادي مر بعد أن دخل مكة ومعه السيد أحمد بن محمد الحارث، ومرا على بيت الشريف نامي بن عبد المطلب فدعاه مولانا الشريف زيد، فخرج إليه، فناوشه بعض كلام، فقال السيد أحمد: ليس الوقت وقت كلام، وكان من جملة ما قاله له مولانا الشريف زيد: من المتقارب:
تجازَى الرجالُ بأفعالِها ... خيراً بخَيْرٍ وشراً بشَر
فالله الله بالحريم. أو ما يقرب من هذا الكلام، ثم سار إلى المدينة الشريفة، وكتب عروضاً بالتعريف بالواقع، وأرسلها إلى باشا مصر صحبة السيد علي بن هيزع حوالة مكة بمصر، ولما وصل الخبر لصاحب مصر، أرسل إليهم سبعة صناجق، وأرسل بخلعة سلطانية لمولانا المرحوم الشريف زيد بن محسن مع الأغا محمد أرض رومي وجماعة من خواصه، وبلغهم أن الشريف زيد بالمدينة، فدخلوا إليها، وخلعوا عليه بملك الحجاز في الحجرة النبوية، وتوجه إلى العسكر وأتوا جميعاً إلى مكة، ووصل خبر ذلك إلى مكة وتحقق، فاضطربت حينئذ آراء العساكر الجلالية اليمنية: فمن قائل: نخرج، ومن قائل: نقاتل، ثم وصل الخبر بأن العساكر المصرية وصلت عسفان، فاقتضى رأي عسكر اليمن أن يرسلوا من يكشف لهم الخبر، فأرسلوا جماعة فوصلوا إلى وادي مر، والعساكر المصرية قد أقبلت، فرجعوا إلى مكة وأخبروا من بها بذلك، فأظهروا حركة الرحيل عنها.(3/16)
فلما كان يوم الأربعاء خامس ذي الحجة خرجوا كلهم ومعهم مولانا الشريف نامي وأخوه السيد السيد والسيد عبد العزيز إدريس، ولم يبق منهم أحد، وكان بروزهم وقت أذان العصر، فلما أن حاذوا باب النبي صلى الله عليه وسلم المسمى الآن باب الحريريين قال المؤذن: الله أكبر، فسقط بيرق محمود منهم، فكان سقوطه فألاً عليهم، ثم ساروا فنزلوا عند جبل حراء وباتوا، فلما كان أثناء الليل سرى السيد عبد العزيز بن إدريس على نجيبة له أعدت خلف الجبل فقعد عليها، وتوجه إلى ينبع فنجا، فلما أسفر الصبح، ولم يجدوه فعلموا أنه اختلس نفسه، فزاد احتفاظهم على الشريف نامي وأخيه السيد وأمست مكة بعد خروجهم خالية، وكان بها مولانا السيد الشريف أحمد بن قتادة بن ثقبة، فنادى في البلد: إن البلاد بلاد الله والسلطان مراد، وعس البلد تلك الليلة.
ثم لما كان شروق يوم الخميس سادس ذي الحجة الحرام من السنة المذكورة، دخل مولانا الشريف زيد بن محسن بمن معه من الصناجق، وكان نزوله بدار السعادة، ثم نزل وقت الضحى من ذلك اليوم إلى المسجد الحرام، فجلس في السبيل الذي بجانب زمزم، ومعه الأمير علي الفقاري أحد الصناجق الواصلين، ثم خرج مولانا الشريف من السبيل المذكور، وطاف بالبيت أسبوعاً، والريس يدعو له على قبة زمزم، ثم خرج المنادي ينادي بأن البلاد بلاد الله، وبلاد مولانا السلطان مراد، ومولانا الشريف زيد بن محسن، ثم طلب بعض الصناجق الخروج إلى الجلالية لقرب إدراكهم، فقال له مولانا الشريف زيد: الرأي أن نحج، وتحج الأمة، وتفلح ثم نلحقهم فيقرب الله بعيدهم ولا يفوتون.
فحج مولانا الشريف تلك السنة بالناس، وأزال الله به عن أهل مكة بل عن قطر الحجاز كل باس.
وبعد أن أتم مولانا الشريف المناسك، وصل إلى مكة بعض العساكر اليمنية بشفاعة إبراهيم باشا أمير الحاج الشامي في تلك السنة.
ولما كان يوم الثلاثاء ثاني محرم الحرام افتتاح سنة اثنتين وأربعين وألف: عقد جلس بالمسجد الحرام عند مقام المالكي حضر فيه مولانا الشريف زيد، وغالب صناجق، وغالب السادة الأشراف، والسادة الفقهاء، وتفاوضوا في أمر العسكر اليماني، فاتفق الحال على أنهم يعزمون إليهم، فبرزوا ذلك اليوم، ومعهم مولانا الشريف زيد وجماعته، فأدركوهم في محل يقال له: تربة فحاصروهم، ثم وقع القتال بينهم بالبندق، فاستمسك علي بك لنفسه من الصناجق على أن يسلم من القتل، والتزم لهم بمحمود بك، فقبلوا ذلك، وأمسكوا محمود بحيلة دبروها، ثم رجعوا فدخلوا مكة المشرفة في أول يوم الخميس ثامن عشر محرم الحرام من السنة المذكورة، ومعهم محمود بك أحد أغاتي العسكر اليمني، فعذب بأنواع العذاب، وطيف به على جمل في شوارع مكة عاري الجسد إلا ساتر عورته، ومد باعه بعصا، وربطت يداه عليها عورضت من خلفه، وشقت عضداه وذراعاه، وغرز فيها مصطفة خرق الزيت الموقدة، ووكل بتلك العصا من يضربها من خلف حيناً بعد حين فيتناثر سقطها على جسده، والعياذ بالله تعالى، ثم علق بكلاب أدخل في رأس ذراع يده اليمنى، ثم أدخل تحت عصب عقب رجله اليسرى، ودفع إلى شجرة جميز عند باب المعلاة فمكث كذلك نحو ثلاثة أيام حيُّا يسب ويفحش ويفجر إلى أن مات، فأنزل وأخذ إلى شعبة العفاريت فأحرق ثَمَّ.
وأما الأغا الآخر علي بك فلم يحصل عليه سوء أصلا وذلك لتدبيره تلك الحيلة على محمود، ولحسن سلوكه حال دخوله مكة مع بعض حريم لمولانا الشريف زيد فإنه آمنهم، ووصلهم بخير، وكان يتردد إليهن ويتفقد أحوالهن ويبشرهن، فكان ذلك سبباً لسلامته، وخلوصه مما وقع لرفيقه.
ثم لما كان أواخر شهر محرم افتتاح السنة المذكورة كان مجمع كبير أمام باب مدرسة السلطان قايتباي، حضر فيه الصناجق والأمراء والقضاة، ثم جيء بالمرحوم مولانا السيد الشريف نامي بن عبد المطلب، وأخيه مولانا السيد السيد بن عبد المطلب، فاستفتيت العلماء فيهما، فأجابوا بحكم الله تعالى، فذهب بهما في شرذمة من العسكر إلى أعلى الردم فتوفيا شهيدين رحمهما الله رحمة واسعة، وغفر لهما مغفرة جامعة آمين.
وكانت مدة ولايته على مكة مائة يوم ويوم وهي عدد حروف اسمه نامي، لأنه دخلها يوم خمس وعشرين من شعبان من سنة إحدى وأربعين بعد الألف، وخرج منها عصر اليوم الخامس من ذي الحجة من السنة المذكورة كما تقدم، وتلك المدة مائة يوم ويوم.(3/17)
وفي ذلك يقْول المهتار: من الطويل:
تأملْ لدنياكَ التي بصُرُوفها ... أبادَت عُلاَ ملكِ تأطد سامِي
بدا فأضا ثُم اغتدَى الحَق فانقضَى ... فمدةُ نامي عدة أحْرُف نامِي
كذا ذكره الطبرى في تاريخه المسمى بالأرج المسكى في التاريخ المكي فليراجع.
قلت: وقد حكى المقريزي نظير ذلك في السابق، وهو أن العزيز بن برسباي أحد ملوك الشراكسة بمصر خلع يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة وكانت ولايته في في الحجة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة، فكانت مدته أربعة وتسعين يوماً بعدة حروف عزيز أربعة وتسعين.
وقد تقدم ذلك في ترجمته، إلا إني عبرت عن الأربعة والتسعين بقولي: ثلاثة أشهر وأربعة أيام، والمعنى واحد.
وفي هذه السنة لم يذهب المحمل من مكة إلا في العشر الأول من شهر صفر. واستقل مولانا الشريف زيد بالملك منفرداً في الأقطار الحجازية كافة، وسعودات الأقدار به حافة، واستنزل أرباب الحصون الشامخة، واستولى على القلاع الراسخة، وملك البلاد البعيدة المنازل، واستخدم العز والظفر والإقبال، وتوالت عليه الخلع والتشاريف السلطانية، وقرت بما يهواه المناشير العثمانية، وملأ قلوب أعدائه خوفاً ورعباً، ورقى في معارج العز مرتقى صعباً، وعطر بثنائه شرقاً وغرباً.
وفي سنة اثنتين وأربعين وألف أو التي قبلها توفي العلامة الشيخ أحمد المقري المالكي التلمساني الأصل والمولد، والفارسي الدار والمنشأ نزيل القاهرة، العلامة الحافظ المسند رحلة الدنيا، شهاب علم روض فضله نضير، ما له في سعة الحفظ شبيه ولا نظير.
وفيها - أو في التي بعدها - توفي السيد أحمد بن مسعود ابن سلطان مكة الشريف حسن بن أبي نمي، كان أديباً فاضلاً من أبناء الملوك النجباء يحب العلماء، وأهل الخير، ويجالسهم، كريماً. وشعره في غاية الحسن والرقة، وله فطنة تدرك رقة الرقة.
ولما وقعت بين القاضي تاج الدين المالكي، وبين غرس الدين المدني المنافرة الشديدة جمع بينهما، وأصلح ما كان منهما.
وله ديوان كله غرر، كل سلك منه لا تذكر معه الدرر.
فهو نابغة بني حسن، وباقعة الفصاحة واللسن، الساحب ذيل البلاغة على سحبان، والسائر بأقواله الركبان.
أحد السادة الذين رووا حديث السيادة براً عن بر، والساسة الذين تفتقت لهم ريح الجلاد بعنبر، فاقتطفوا نوار الشرف من روض الحسب الأنضر، وجنوا ثمر الوقائع يانعاً بالنصر من ورق الحديد الأخضر، لم يزل يقدر من نيل الملك ما لم يف به عَدده وعُدده، ولم يمده من القضاء والزمان مَدده ومُدده، فاقتحم لطلبه بحراً وبراً، وقلد للملوك جِيداً ونحراً، فلم يسعفه أحد ولم يساعد، وإذا عظم المطلوب قل المساعد.
دخل إلى شهارة من بلاد اليمن في أحد الجمادين في سنة ثمان وثلاثين وألف، وامتدح بها إمامها محمد بن القاسم بقصيدة راح بها ثغر مديحه ضاحكاً باسم، وطلب منه فيها مساعدته على تخليص مكة المشرفة له، وإبلاغه من تحليه بولايتها أمله، وكان ملكها إذ ذاك الشريف أحمد بن عبد المطلب وأشار في بعض أبياته إليه، وطعن فيها بسنان بيانه عليه، وهي: من الطويل:
سلُوا عن دمى ذاتَ الخلاخلِ والعقدِ ... بماذا استحلت أخذَ روحي على عَمدِ
فإق أمنَت ألا تقادَ بما جنَت ... فقد قيلَ إن الحرَ يقتل بالعبدِ
وإن أخَذتها دونَ كلي فإنني ... جليدٌ ومضعوفُ العزائم بالصَد
خذا قبلةً منها تديه فإنه ... قتيل ولكن ليس يلحدُ في لحدِ
صريع بسهمِ اللحظِ والبينِ لم تزل ... مقسمةَ أجزاه في القربِ والبعدِ
أخو لوعةٍ لو أن أيسَرَ بعضها ... بصَلدٍ لكان العِهنُ أقوَى من الصلدِ
ومُراً على الوادي الذي قد تفاوَحَتْ ... جوانبه عرفاً بما ضاعَ عَنْ هندِ
وعوجا رقابَ العيسِ فيها عشية ... لنبكي بها عصراً تولى على نَجْدِ
ونقضِي لباناتِ الصبا بمحلةٍ ... بوجنةِ وَجْهِ الدهرِ كالخالِ في الخَدِّ
زمان ووجه الدهْرِ طلقٌ وقدهُ ... نضيرٌ وثغرُ الوصلِ يفترُ عن عقدِ(3/18)
أجرُّ به ذيل الخلاعةِ رافلاً ... وأركض خيلَ الغي في حلبةِ الرشدِ
وأمرحُ في شرخ الشبابِ وحاسِدِي ... يدعدعُ لي أن أكبُ يوماً على وعدِ
فللهِ أيام وربعْ تصرمَت ... لياليهما عني وعوضَنِي وخدِي
فأصبحْتُ في جيش من الحب أرعن ... على أنني في نهجِهِ مفردٌ وحدِي
أعضُ به كفي وأقرعُ بالحيا ... لساني وما يغني فتيلاً ولا يجدِي
واًنْدبُ أَياماً عَلَى غيضةِ الغَضا ... وَغَيظِي بِها غَيْظ الأسِيرِ عَلَى الْقَد
فحيا الحَيا داراً بنجدٍ وأختها ... معطلة بالغورِ والعَلَم الفردِ
ومنعرج بالجزْعِ هل ماتَ رسمُهُ ... فأحييهِ بالتأبينِ أمْ هُو عَلَى عَهْدي
فثم به قلب فَقِيدٌ حبسنَهُ ... عيونُ المها بين الأجارعِ والرندِ
ولكنَّها لم تَدرِ أن محمداً ... طلوبٌ لنا لو كانَ في مربضِ الأسدِ
إمام شأَى في الفخرِ أهلَ زمانِهِ ... فأنْسَى وأعْيا فيه للقَبْلِ والبَعْدِ
ينادي أمير المؤمنينَ لأنه ... تقمصَها إرثاً عن الأبِ والجَد
وغيث إذا ما النوءُ خوَت رعودُهُ ... فراحاتُهُ في المحْلِ تغني عن الرعْدِ
وضرغامُ حرْب حين تَنْصَلِتُ الظبا ... وينقصمُ المران في السرْدِ والسردِ
إذا انكسَرَ الهًنديُ في رأسِ قرنِهِ ... فمن عرضهِ عضب أَحَدُّ من الهندِي
أخو صبوةٍ بالمكرُماتِ فلم تَزَلْ ... بمنظره في أشرَفِ الزمَنِ الرغْدِ
فبدْرٌ لمستجْلِ ووَرْد لمجتَنٍ ... وغيثٌ لمستجدٍ وليث لمستَعْدِي
وأيامُهُ بيض وخضْرٌ بجودِهِ ... ألا إنها مِنْ عدله زَمَن الوردِ
فإن يكُ بالإفضالِ والبأسِ والتقَى ... ورب الثنا والحِلْم والعِلْم والزهدِ
دعي بأميرِ المؤمنينَ محمدٍ ... خليفتنا المهدي هذا هو المهدي
محكمُ سيفِ الحق في كل ملحدٍ ... ومَرجعُ أهلِ العقلِ في الحل والعقدِ
وطَلابُ وِتْرِ الدينِ في كل مأزقٍ ... ولم ينتصف في المالِ والنفسِ والولدِ
شكَتْهُ المطايا والفيافي لكثر ما ... يطأها ويمطاها إليه مِنَ الوفدِ
ولو أنه خَلى شهارة سائراً ... سارَ إليه القاصدُونَ إلى السد
ولولاهُ لم يُشهَرْ حسام ولم يثرْ ... قتامٌ ولم يُسفرْ ظلامٌ لمستهدي
ولم يقصدِ الوفادُ عنه لسيد ... قطعْنَ بهم هيماءَ للعينِ والصفدِ
ولم تفتخر إلا بما عافَ سادة ... غداةَ افتخارٍ في ندى منَ المجْدِ
ففي الذهْنِ والآراءِ قيسٌ وعتبة ... في الجودِ والهيجاء جودٌ وذو لبْدِ
فلو لامَسَت يومَ الرغائبِ كفهُ ... يدا مادرٍ كانت لها بالندَى تُعْدِي
فيا ليتَ شعرِي من كليب وحِاتم ... على أنهم ما إنْ لهم فيه من نِد
فيابنَ رسولِ الله جئتُكَ شاكياً ... لأعداءِ دينِ الله في الهزْلِ والجِدً
زعانفة لا ينكرُونَ قبيحةً ... ولم يختشوا في الفسْقِ من قاهِرٍ فردِ
ولا مِنْ أميرِ المؤمنينَ محمَدٍ ... حليف الوغَى في الله والسيفِ والحمدِ
وحامِي ذمارِ المجدِ إنْ ضاعَ سوحُهُ ... ولو أنه بَينَ الأساودِ والأسدِ
خطيب إذا ما قامَ في رأسِ منبرِ ... وخَطْبٌ عَلَى ظفرِ المطهمةِ الجرْدِ
فيا لَكَ من حبرِ ليوم مجادِلٍ ... وذمر يُسَمَى في المجالد بالجلْدِ(3/19)
فليثٌ وغيث في قراعٍ وفي ندَى ... وسعدٌ ونحس للولي وللضدِّ
وخذْهاً عروساً ذاتَ دل تزفها ... من الشكْرِ أجناد فلله من جُنْدِ
مفوفةً دبجْتُهاً بمديحِ مَنْ ... تضوعُ بذكراه على المسْكِ والنَّد
لدينٍ وجاهٍ ذا ارتفاعِ ونجدةٍ ... أعيشُ بها لا للمعايشِ والنقدِ
وإني من القومِ الذين وليدُهُمْ ... ترجيهِ إنهاءُ المطالبِ في المهدِ
أَعَز ملوكِ الأرضِ فرعاً ومحتداً ... وأوفى الكرامِ الغُر في العقدِ والوعدِ
إذا عُددَتْ للصيدِ بعضُ محاسنٍ ... فأحسابُهُمْ في المجدِ تربو على العَد
بأفنيةِ خضرٍ وسود مراجلٍ ... وألويةٍ حمرٍ وألسنةٍ لُد
وأوجهُهُمْ للبيضِ والسمْرِ في الورى ... وأيديهمُ في الحرْبِ للضربِ والشكدِ
ولم يُخلقوا إلا لكشْفِ مُلِمَةٍ ... غشا خطبُهاً أهلَ البسيطةِ بالربدِ
فقمْ يابنَ عِز الدينِ لو كنْتَ واحداً ... فأنْتَ بحمدِ الله غانٍ عن الحشْدِ
وأني وأنتَ الليثُ واللدنُ غابه ... وأشبالُكَ الفرسانُ تعدو على الجردِ
وحولَكَ صِيذ من على غطارفٌ ... هم الناسُ في الهيجاءِ والحَسَب العد
وخيل إذا صاحَ الصريخُ توردَتْ ... ورود القطا نحو الصياحِ إلى الورْدِ
وحظكَ يبدي كل يوم عجائباً ... بها يقهَرُ الأيامَ في الجزر والمد
فلو شئتَ أن تصطاد ليثاً بأرنَب ... لجد له إذ زاحم الجدّ للجد
فما العذْرُ في التأخيرِ والسمْر والظبا ... تقاضاه يوماً في التهائم والنجْدِ
أغثْ مكةَ وانهَض فأنتَ مؤيد ... مِنَ الله بالفتحِ المعوضِ والجد
وقدم أخا وُد وأخر مبغضاً ... يساورُ طعناً في المؤيدِ والمهدي
ويطعنُ في كُل الأئمةِ معلناً ... ويرضى عَنِ ابنِ العاصِ والنجلِ من هِندِ
وكانَ لهم يومَ القيامةِ ثالثاً ... وفي هذه ثانِ لأولِ مَنْ يُردي
ودمتَ مدى الأيامِ للدينِ والعلا ... وبذلِ اللها والأخذِ في الله والرد
ولم يحصل منه على نائل، إلا ما أجازه به من فواضل.
فعاد إلى مكة المشرفة سنة تسع وثلاثين وألف وأقام بها سنتين، ثم توجه أوسط شهر ربيع الثاني من سنة إحدى وأربعين وألف إلى الديار الرومية قاصداً ملكها السلطان مراد بن أحمد خان، فورد عليه القسطنطينية العظمى واجتمع به، وامتدحه بقصيدة فريدة سأله فيها تولية مكة المشرفة، وأنشده إياها في أواخر شوال من السنة المذكورة وهي: من الوافر:
ألا هُبي فقَد بكَرَ النداما ... ومج المزج من ظلمِ النداما
وهينمت القبول فضاعَ نَشر ... روى عن شيخِ نَجْدٍ والخزاما
وقد وضَعَت عذارى المزن طفلاً ... بمَهدِ الروضِ تغذوهُ النعاما
فَهُبي وامزُجِى خمراً بظلمٍ ... لتُحيى ماً أمَتي يا أُماما
ومُني بالحياةِ على أناسٍ ... بشربِ الراحِ صرعَى والطلاَما
فكَم خفر الفوارسُ من وطيسِ ... فتى منا وما خَفَرَ الذماما
وكَم جدنا على قُلٍّ بوفرٍ ... وأعطينا عَلَى جَدب هجاما
وكَم يومٍ ضربنا الخيلَ فيه ... على أَعقابها خلفاً أماما
فنخنُ بنو الفواطِمِ من قريشٍ ... وقادات الهواشمِ لا هِشاما
نرد الوافدين بكل خيرِ ... ونثني البيضَ حمراً والعلاما
برانا الله للدنيا سناءً ... وللأخرَى إذا قامَت سَناما
وخصَ بفضله من أَمَّ مِنَّا ... مليكاً كان سابُورَ الهماما(3/20)
فَتَى الهيجا مراد الحق من لم ... يخَف فيه للائمة مَلاَما
محش الحربِ إن طارَت شَعاعاً ... نفوس عندها قَلَّ المحاما
وغيث قَطرُهُ وَرِق وتبر ... إذا طارَت به المحل الركاما
فيُفنى سيفهُ حرب وشيكاً ... ويثني سبيه موتاً زُؤاما
وفي شفَتيهِ آجال ورزق ... بها من الصواعِق والسماما
يقودُهُ الملوك الصيد مجراً ... فيمنحُهُ الخوامِعَ والرخاما
وإن وفدوه أغناًهُم وأقنَى ... وأجلَسَهُم على العَليا قِياما
مليكُ الأرضِ والأملاكِ طُرا ... وإبْنُ مليكِها يَمَناً وشاما
ويجري من دَمِ الأعداءِ بحراً ... ولا قَوَدْ عليه ولا أَثاما
ومسقي الجن والأملاكِ غيظاً ... ومُردِي القومِ إذْ يروي الحساما
تسنمَ غاربَ الدنيا فريداً ... وجَد السيرَ إذْ باًتُوا نياما
إذا شملَت عنايته لئيماً ... شأَى بفخارِهِ القَوْمَ الكراما
تعاظَمَ وصفُهُ عن وصفِ شِعري ... كذا مرماه يسمُو أن يُرامَى
ويكبر إن يعانِدَهُ عنيد ... فيرميه ويعظمُ أنْ يُراما
ترفعَ كمه عَن لثمِ ملكٍ ... وتلثمه الضعائفُ واليَتامَى
وينطقُ عنده لَسِنْ ضعيفٌ ... ولا يسطيعُ جبارٌ سلاما
أخو هِممٍ ولم تعلق يداه ... بغانيةٍ ولا ضَمَت مداما
أغر سميدغ ضخمُ المساعِي ... يُسَكنُ في مغارمِهِ السهاما
وخادمُ قَبرِ طه بالمواضي ... ودِين الله والبَيت الحراما
فيا مَلِكَ الملوكِ ولا أبالي ... ولا عذراً أسوقُ ولا احتشاما
أنفتُ بأنني أنزِلكَ فيهم ... بمنزلةِ الرجالِ مِنَ الأيامَى
إلى جدواكَ كلفنا المطايا ... دواما لا نفارقُهاً دَواما
وَجُبْناً يابْنَ عثمانَ الموامي ... إلى أن صِرْنَ من هزلٍ هياما
وذُقْناً الشهْدَ في مغنى الترجي ... وذقنا الصبْرَ من جوعٍ طَعاما
صلِينا من سمومِ القيظِ ناراً ... يكونُ بنورِكَ العالي سلاما
وخُضنا البحرَ من ثلجِ إلى أن ... حَسِبناهُ على البيدا ركاما
نؤمُّ رحابَكَ الفيحَ اشتياقاً ... ونأمُلُ فيك آمالاً جِساما
ومَن قَصَدَ الكريمَ غدا أميراً ... على ما في يَديه ولن يُضاما
وحاشا بَحركَ الفياض إنا ... نرد بغُلَّةٍ عنهُ حياما
وقد وافاك عبد مستميحٌ ... ندا كفيك والشيَمَ الكراما
فقد نَزَلَ ابنُ ذي يزن طريداً ... على كِسرَى فأنزله شماما
أتى فرداً فعاد يَجُرّ جيشاً ... كسا الآكامَ خيلاً والرغاما
به استبقَى جميلَ الذكر دهراً ... وأنتَ أجلُّ من كسرَى مقاما
وسيف لو سما دُوني لأني ... عِصاميّ وأسموه عِصاما
بفاطمةٍ وإبنَيها وطه ... وحيدَرَةَ الذي أشفَى العقاما
عليهم رحمة تهدي سلاماً ... تكونُ لنَشرها مسكاً ختاما
ولا عَجَبٌ إذا ما جاك عاف ... فعادَ يقودُ ذو الجب لهاما
فخذ بيدي وسَميني محلا ... يقربُ منك فيه لَن يُساما
وهب لي مَنصِبِي لتنالَ أجرِي ... وشُكري ما حييتُ له دواما
ققد لَعِبَت ببيتِ الله حقاً ... زعانفُ يستحلُونَ الحراما
فعَن ذا ليسَ مَسئُولاً غداةً ... سِواكَ إذا الورَى بقيَت قياما
وفي أملِي بأن يجزيكَ عَني ... شفيعٌ عفوه يُطفي الأُواما
وفك أَسيرَ أسر ليس يرضى ... بأن يوطا وإن حفي الملاما(3/21)
رحيماً ليناً فَظاً غليظاً ... على الأعداءِ لن يرضى اهتضاما
عريقٌ في مودتِكُم نصوح ... وَقُوع إن غشا خطب وقاما
فقل سَل تعطَ أعطاكَ الذي لم ... يَخَف نقصاً ولم يخشَ انتقاما
مدى الأيامِ تخفضُ ذا اعوجاجٍ ... وترفَعُ من أطاعَكَ واستقاما
ودمُ في راد عمرِكَ والأعادي ... تمنى في مضاجِعِها الحماما
فأجابه إلى ملتمسه ومراده، وأرعاه من مقصده أخصب مراده، ولكن مُدت إليه يد الهلك، قبل نيل الملك.
قيل: إنه سُم في ختمة قرآن أتى إليه بها بعض الأشخاص في هيئة درويش مهديها إليه، فلما قبلها اختلس الدرويش نفسه، فلما قبلها السيد أحمد سقط فوه، فكان ذلك سبب موته رحمه الله تعالى.
ومن أحاسن شعره قصيدة سينية تشوق كل إنسان، وتدخل على القلوب من الآذان بغير استئذان؛ مطلعها: من الخفيف:
حث قبلَ الصباحِ نجب كُمُوسى... ... ......
وستأتي. وكذلك قصيدة يمدح بها بني عمه ملوك الحجاز آل قتادة، وهي نبذة من أخباره وشجونه، تدل على فضله ولآلئ مكنونه. وهي: من السريع:
حنت فأبكَت ذا شجونٍ حنون ... وغنتِ الورقا بأعلى الغُصُون
وشَق بُردَ الليلِ برق فما ... ظننته إلا حسامَ الجفون
كأنه مذ شَق قلبَ الدجَى ... جبينُ ليلَى في دياجِى القرون
فقمتُ كالهادِلِ في شجوِهِ ... لم أدرِ ما بي فَرَح أم جنون
وأرسَلَ الدمعُ نجيعاً على ... خَدي فيجري أعيناً من عيون
لم أرَ نؤياً لا ولا مجثماً ... وموقداً اْو عَلَماً في دمون
إلا وباتَ الناعمُ الفرشِ لي ... شوكاً وميعاسُ الروابي حُزُونْ
فالبرقُ يوحى في الدجَى رعدةً ... والوُرقُ من شعري تجيدُ اللحون
عهدي بها كانَت كناسَ الظبا ... ومرتَعَ الأسدِ حماةِ الظعون
كل طويلِ الباعِ رَحب الفِنا ... تصدُقُ للوُفادِ فيه الظنون
ليوثُ برقٍ خيسُها مأزق ... أنيابُها فوقَ المذاكِي قرونْ
حتى غدا من بعدهم ربعُها ... مفتأداً جارت عليه السنون
كأنه جسمِي وإن لم يكن ... جسمي فوهماً أو خيالاً يكون
وقفتُ فيه والأسَى والنوَى ... يستلبانِ الصبرَ سلبَ المنون
ألله لي من مهجةٍ مزقَت ... ومقلةٍ عبرَي ونَفسٍ ونون
تحنُ للشعبِ وأوطانِهِ ... مهما سرَى برق بليلٍ دجون
وفتيةٍ من آل طه لَهُم ... في الحربِ أبكارٌ مزايا وعون
مبتذلُ الساحاتِ في قُطرهم ... للخائِفِ الجاني أعز الحصون
وكلهم يومَ الوغَى سيد ... للضد خباط بلبد ظنون
يحمدُهُ السارونَ إن أدلجوا ... ويقتضي النادِي به السامِرُون
لا ينتهي الجارُونَ منه إلى ... شأوٍ ولا يعسفُهُ الجائرون
فيانسيماتِ الصبا عَرِّجي ... بهم وبثي غامضاتِ الشجون
وحاذرِي أن تصحبي لوعَتِي ... واستَصحِبِي بَثي لكَي يفهمونْ
وبلغيهم حالَ من لم يزل ... حليفَ أشجان كثيرَ الشئون
يستخبر الريحَ بأنفاسِهِ ... ويسألُ البرقَ بدمعٍ هتونْ
فشأنه يخبرُ عن شأنِهِ ... بدمعِهِ إن يسأل السائلونْ
ناءٍ عن الأهلِ ضعيف الأسَى ... أًبعد ما فارق قَلب شطون
يحفظُ للزملِ عهودَ الوفا ... وإن طَلَبتَ الخونَ منه يخونْ
وأنتَ يا ساري بشام النقا ... وحادي الظغنِ بذاتِ الرعون
عَرض بذكرِي لا شَجاكَ النوَى ... لعلهم بي بعد ذا يذكرونْ
وقُل لهم والله لو أبعدَت ... أخبارُكُمْ إني كما تعهدونْ
نسيتُمُ صَبّاً غدا دمعُهُ ... من بعدكُم صبَّاً قريحَ الجفونْ(3/22)
وَهوَ وماضِي العيشِ ما ساعَةٌ ... فيها تناسى جدكم والمجونْ
وهذه السينية المتقدم ذكرها الفائح عطرها لمولانا السيد أحمد بن مسعود بن حسن بن أبي نمي تغمده الله برحمته: من الخفيف:
حُث قبل الصباحِ نجب كُئْوسي ... فهي تجري مجرَى الغِذا فى النفوسِ
وانتخِبها بكراً فقد ثَوبَ الدا ... عِي إليها مِنْ حانة القِسيسِ
بنتُ كَرمٍ إن تَرقِ ملسوعَ راحِ ... وهو جلس لم يَرْتَضِي بالجلوسِ
كشفَت غيهَبَ الخمارِ ولو تر ... شَحُ رمساً ردَت بقا المرموسِ
غرسَتهاً بينَ الحدائقِ والنو ... روز والشط كف بطليموسِ
فَتَلقى أم المسرإت طلقاً ... والندامَى بمهر كيسِ وكيسِ
أطلق النَّدَّ والكبا الرطبَ واستج ... لِ عروساً لا عِطرَ بعد عروسِ
عانساً في الدنانِ عذراءَ لم تط ... مث من عهد جرهم وجديسِ
نارُ أنسِ يعشو الكليمُ ويصبو ... لِفِناها بالذل والتقديس
خرقَتْ حلَّة الجمانِ وأبدَتْ ... مستطير الصباحِ في الحنديسِ
زعَمَ الجاهلونَ فيها بأن قد ... عَصَرَتها قِدماً يدا عبدوسِ
وهي من لُطفها كشَك نفاه ... صادقُ القولِ عند ذي تسويسِ
فأدرها في كاسها دونَ خَدي ... كَ وفوقَ الشقيقِ من خندريسِ
واسقِ بالخيرِ لي الندامَى لتبدو ... قدرةُ الله في المقامِ النفيسِ
لتَرَى أنجماً بفلكٍ وبدراً ... فوقَ غصنِ يختالُ بين شموسِ
ولكل إرب وما أنا بالرا ... ئي شريفاً في جَتبِ وجه خسيسِ
وخرود بجامِها وطلاَها ... وَلماها والخد ينجاب بُوسِي
إن حكينا بالثغرِ والخذ ما في ال ... جِيدِ قلنا ظُلماً وما في الكُئُوسِ
تتلظى غيظاً وتَبسِمُ توبي ... خاً لنا في القياسِ بعد المقيسِ
لم أكن قبلها أصدقُ أن الر ... راحَ ظَلْم في لؤلؤٍ مغروسِ
ظبيةْ رخوةُ العريكةِ تغتا ... لُ أسُودَ الشرَى بِدَهْي شَموسِ
لبسَت من غلائلِ الحسْنِ بُرْداً ... منه كلُّ العقول في تلبيسِ
تتهادَى عجباً فتستقبحُ الرو ... ضَ أنيقاً لجودَةِ التجنيسِ
لو رآها تختالُ تيهاً أبُوهاً ... لخشينا عليه دِين المجُوسِ
كُل حلْوٍ منها استجَد رسيساً ... وقديمي فيها استَمَرَ نسيسِي
تركَتْنِي نِضْواً على نضوِ رسمٍ ... فيه دمعي خلي وسُهْدِي جليسي
موحشاً من هنيدةِ بعد أن كا ... نَ حقيقاً بالمربَعِ المأنوسِ
طالَ ما فلتُ للغدافِرِ واللي ... ث به قد ألقَى عصا السير هيسِي
لنقضي فيه حقوقاً وتبكِي ... فيه وُرقُ الحمَى وثُكْل العيسِ
ونرجي الآمالَ أن تبعث الري ... حَ أريجاً من معهدِ مطلوسِ
فرعَى الله بالأجارعِ عصراً ... وبدوراً غصونُهاً في طموسِ
حيثُ جو الشبابِ سَحْوْ وبحْرُ ال ... لهوِ رَهْوْ لم ألقَ فيه بروسِي
ومحلاً بين الأباطحِ والقب ... بة من طيبَةِ بِسُوحِ الرَئِيسِ
أَحمَدُ الخُلقِ أحمد الخَلْقِ في الل ... هِ غِياثُ المَنْجُودِ والمَبْلُوسِ
شافعُ الأمةِ التي جاءَ فيها ... كنتُمُ من مهيمنٍ قدوسِ
أولُ الأنبياءِ والخاتمُ العا ... صِمُ من هولِ صيلم دربيسِ
يتقي حيدَر وحمزةُ والفا ... روقُ فيه إذ جاشَ قِدرُ الوطيسِ
وكذا في المعادِ عيسَى وإسحا ... قُ وموسَى الكليمُ معْ إدريس(3/23)
وبه يسألونَ إذ صدم الهو ... ل تجليه في الزمانِ العبوسِ
وهُمُ الفائزونَ لكن لما طَم ... مَ عَلَى الخلقِ من عذابٍ بئيسِ
مهطعينَ الأعناق في مَؤقِفِ الره ... بة لم يستمع لهم من نبيسِ
فينادي سَل تُعطَ واشفَع أيا خي ... رَ شفيع في مسمهر ضَبيسِ
أريحيٌّ بقصده تأنفُ الأخ ... مَصُ أن تحتذى شَواة الرؤوسِ
نَقَلَ الذكرَ للجوامعِ والأح ... كام بعد الأزلامِ والناقوسِ
تَرَكَ الذئبَ والغضنفَرَ والشا ... ة جميعاً من خوفِ غب الفريسِ
أيدَ الدينَ بالذوابلِ والشٌو ... سِ المذاكِي تعدُو وبيض شوسِ
كل ذمر في السلمِ هَين وفي الحر ... بِ أبي يشق أنفَ الخميسِ
كعلي وحمزةَ البِشرِ إن بدَّل بِشر الوجوهِ بالتعبيسِ
بيهسي غابةِ الوشيج وطودَى ... مفخرِ في مؤثلٍ قُدمُوسِ
بهما والبَتُولِ والآلَ والسب ... طَين والمخبتين بالتغليسِ
ألإمامين بالنصوصِ الشهيدَي ... ن قِ البريئين من صدَى التدنيسِ
فرقدَى هالةِ الرياسةِ وابنَى ... مدحضي بالقواضب التبخيسِ
ما رعَى فيهما رئيس ربي الفِد ... يةِ إلا فضلاً عن المرؤوسِ
وبمَق قامَ في مقامِكَ يستس ... قَي به والمحلَقِ الدعيسِ
وبخِليكَ صاحبيكَ ضجيعَي ... كَ ظهيَريكَ في الرخا والبوسِ
ذا رفيق في الغارِ رِدف وذا تن ... فرُ من حِسهِ رقى إبليسِ
وبتلو الإثنينِ جامع أشتا ... تِ المثاني بالرسمِ والتدريسِ
لم يُراقَب للهدى والجيشِ من غي ... رِ فسوقٍ أتى ولا تدليسِ
أدركَ أدرِك ذا غربةٍ وانفرادِ ... وسهادٍ ومدمعٍ مبجوسِ
قد لقى من حصائدِ النفسِ ما لا ... قَى كليب فيها غداةَ البَسُوسِ
ألوحا ألوحا فِدى لكَ ملهو ... ف يناديكَ من ورا طرطوسِ
يا نَبِياهُ يا ولياهُ ياجداه يا غَوثَ ضارعٍ موطوسِ
أنتَ إن أعضَلَ العضالُ وأعيا ... كُل آسٍ دواه جالينوسِي
وإذا ما الخناقُ ضاقَ فلم أر ... جُ لكربي إلاَّك للتنفيسِ
ولقد جرد العقول إلَى أن ... لبست منهُ بزة المخموسِ
وبجدواكَ يقلبُ السعد في الأز ... مةِ سعداً تحديق عَين النحوسِ
يا خفيري إذا ارتهنتُ وما لي ... غَيرُ كسبِي في مضجَعِي من أنيسِ
أبظُلمِ الحوبا أقصرُ عن شأ ... وِ جُدودي وأنتَ أصلُ غروسي
حاشَ لله أن يقصرَ من أَف ... عَمَ فيكم مدحاً بطونَ الطروسِ
فارتبطها من الجيادِ التي تَس ... بقُ خَيل الوليدِ وابنِ سديسِ
وأجزنِي برداً من الأمنِ ما حي ... ك بصنعا حسنا ولا تِنيسِ
وأغثني دنيا وأخرَى بمرآ ... كَ ليهدا رَوعِي ويقوَى رسيسي
واجلُ طرفي بنظرةِ تذهبُ اللىّ وتُسدِي في الحي نِيرَ مروسي
إن أرخ مطلقاً من الذنبِ فالتٌق ... يضُ وقف مسلسلُ التجنيسِ
أو تناسى به فناي وحقي ... فعلَى الحظ دعوة المبخوسِ
إنما أنتَ آصفْ ونجاتي ... منكَ أدنى إليه من بلقيسِ
لو تشفعتَ في سَباً لَعَلِمنا ... أنهم فائزونَ بالمحسوسِ
فعليكَ الصلاةُ ما هَجَّرَ الرك ... ب وحث القِلاَص للتعريسِ
وعلى آلِكَ الكرامِ وأصحا ... بِكَ ما روضَة زهَت بالغروسِ
وأضاءَ الصباحُ من بعد ليلٍ ... واستسرت عروسُهُ بعروسِ(3/24)
وفيها - أعني سنة اثنتين وأربعين وألف - توفي شيخ مشايخنا الشيخ العلامة برهان الدين أبو الأمداد إبراهيم بن حسن بن علي اللقاني، خاتمة المحققين، وسيد الفقهاء والمتكلمين، إمام الأئمة، وموضح المشكلات المدلهمة، أخذ عن الشمس الرملي، والعلامة ابن قاسم العباس، والشيخ إبراهيم العلقمي أخي الشيخ شمس الدين شارح الجامع الصغير الشرح المسمى بالكوكب المنير والشيخ نور الدين الزياس، والشيخ أبى بكر الشنواني، وغيرهم.
وله كرامات خارقة، ومكاشفات صادقة، أخذ عنه طريق القوم خلق كثير.
وممن أخذ عنه العلوم الشرعية والعقلية، والفنون الأدبية شيخنا العلامة محمد بن علاء الدين البابلي، والشيخ علي بن علي الشبراملسي، وولده إبراهيم وغيرهم. رحمه الله تعالى.
وفي سنة أربع وأربعين وألف يوم الجمعة ثامن رجب منها توفي الشريف عظيم الشأن مولانا السيد أحمد شيخان باعبود العلوي، ولد بالمخا، كان رحمه الله من أكابر المشايخ الصالحين والأولياء الكاملين واستمر على الحالة المرضية إلى أن وافته المنية، وقدم على رب البرية في التاريخ المذكور ببندر جدة، وحمله ولده السيد سالم من جدة إلى مكة، ووصل به ليلة السبت، ودفن صبح اليوم المذكور على أبيه وأخيه في حوطة آل با علوي.
ولولده مولانا السيد سالم بن أحمد شيحان مؤرخاً وفاة أبيه المذكور بعد أن رآه في منامه قوله: من الكامل:
شاهدتُ في عامِ الوفاةِ بليلةٍ ... غَزاءَ أحمد قائلاً نفسي أحمدي
أُسكِنتَ جناتِ النعيمِ ونعمَ هي ... نُزُلاً فتاريخُ الوفاةِ تخلَّدِي
وفيها توفي بين العصرين سابع عشري رجب الشيخ الأمجد الأوحد شهاب الدين أحمد ابن أبي الفتح الحكمي.
أخذ عنه شيخنا العلامة الشيخ علي بن الجمال الأنصاري المكي، وشيخنا الشيخ عبد الله ابن الشيخ سعيد باقشير وغيرهما.
وله ترجمة طويلة. كانت وفاته بالمدينة ودفن بالبقيع وهو في عشر الخمسين. نفعنا الله به آمين.
وفي سنة خمس وأربعين فجر الثلاثاء ثامن ذي العقدة منها: توفي السيد أحمد بن محمد الهادي بن عبد الرحمن بن شهاب الدين، محتد الجلالة والفخامة، مفرد المقالة والشهامة، العالم العامل بلا زعامة، الحاتم على ناظره القطع له بالفضل السني والكرامة، الولي لله بلا ريب ولا نزاع، الملزم نفسه النفيسة الطاعة له عز وجل والحضور لديه والانقطاع.
ولد ب " تريم " واستوطن مكة، ولازم السيد عمر بن عبد الرحيم، والشيخ أحمد بن علان وغيرهما، واستمر بمكة إلى أن انتقل بها في التاريخ المذكور، ودفن بحوطة السادة بني علوي.
وفيها توفي الشيخ يوسف بن محمد البلقيني بقية الجيل الجليل الذي سلف، ونخبة الحائزين بالعلم السيادة والشرف، رئيس القراء المجيدين، جليس الفقراء إلى الله المنقطعين، إذا قرأ القرآن المجيد رتله ترتيلاً، وحبره تحبيراً، !اذا حار بالنعمان اللبيب في مشكل متشابهه قيل له: اسأل به خبيراً، رحمه الله تعالى.
وفي سنة ست وأربعين وألف ضحوة يوم الأحد تاسع ذي القعدة الحرام: توفي مولانا وسيدنا إمام أهل العرفان، ذو السر الباهر والبرهان، من مزايا مفاخره فقدت الحصر، وبذكر مناقبه يتجمل الزمان والدهر، أوحد الأئمة المعتبرين أولي التمكين، مرشد الطالبين، ومربي السالكين، العالم العامل، والأستاذ الكامل: طاهر الجنان واللسان والأركان، مولانا السيد سالم بن أحمد شيحان، ودفن في عصر ذلك اليوم على والده وجده بالمعلاة، وتاريخ وفاته: صار إلى رحمة الله. وله ترجمة طويلة عظيمة جليلة - رحمه الله تعالى - .
وفيها ليلة الخميس ثالث عشر ذي القعدة: توفي السيد نعمة الله بن عبد الله بن محيي الدين بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علي بن أحمد بن محمد بن زكريا بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن عبد القادر الجيلاني. أحد أكابر الأولياء الذين نالوا الوفا والكرامة، الغني بكمال فضله عن إشارة أو علامة، سطع نور كمالاته، فأخجل النيرين، وأشرقت صفاته المضيئة في الخافقين، وتواترت كراماته في سائر الآفاق، ووقع على ولايته الاتفاق.
اشتهر فلا يحتاج إلى إطناب في الصفات، بما خصه مولاه من أنواع الكمالات.(3/25)
ولد بالهند، ووصل إلى مكة سنة أربع عشرة وألف، وجاور بها، ولازم الصمت والمسجد سنين، ثم سكن شعب عامر وتزوج، وأولد أولاداً نجباء أجلاء، ثم مرض وأوصى أن يدفن بمحله بشعب عامر المذكور فدفن به، وكانت الحُمى من أقل خدامه يرسلها إلى من شاء أي مدة شاء، ويرفعها متى شاء ياذن الله تعالى، مدحه الأجلاء، ورثوه بعدة قصائد، منهم مولانا وشيخنا الشيخ علي بن الجمال، والأديب البارع أحمد الفضل الكثيري وغيرهما.
وفيها في موسمها يوم الجمعة عشري ذي الحجة الحرام: وقعت فتنة كان ابتداؤها قبل صلاة الجمعة، سببها أن عبداً لبعض السادة الأشراف ورد بفرس سيده الششمة المعروفة بالبزابيز، فوقع هناك بين العبد المذكور، وبين شخص من عسكر مصر تزاحم وتدافع، فضرب الجندي العبد فضربه العبد فجرحه، فلزمه الجندي مع جماعته، فانتدب جماعة العبيد ففكوا العبد، فثارت الفتنة، ولم يكن لصاحب مكة، ولا للأمير علم بذلك، فاجتمع الجندي مع جماعته بمدرسة السلطان قايتباي، واجتمع عسكر صاحب مكة مع العبيد عند منزله، فأقبل كل من الفريقين على الآخر، فأرسل الشريف جماعة لرد عسكره، ونهيهم تسكيناً للفتنة، وبرز أمير الحاج من المدرسة، وبيده عصا لرد عسكره كذلك، وسار على قدميه، فلما وصل إلى قريب من باب علي من أبواب المسجد الحرام سمع صوت البندق، فرجع ودخل من باب الحريريين، ودخل المدرسة من بابها الكائن في المسجد الحرام، فبينما هم كذلك إذ نزل من جهة المعلاة من كان بها من العسكر المصري، ومعهم المدافع، فجعلوا واحداً منها عند الششمة المذكورة وواحداً عند باب المدرسة القايتبائية، فاشتد الكرب على أهل مكة، وأرسل في أثناء ذلك مولانا الشريف زيد رحمه الله تعالى إلى أمير الحاج المصري رضوان بك مشيراً عليه بمنع العسكر المصري جماعته، وكذا أرسل إلى أمير الحاج الشامي الأمير محمد بك بن فروخ، وقتل من العسكر المصري، والعسكر الشريفي أشخاص بالبندق، ولم يزل الأمر كذلك حتى أجنَّهم الليل، فانكف الفريقان، وركب بعض خدام الشريف رحمه الله تعالى بأمر منه ومعه المنادي بالأمان، وأمسى الناس في أمر مريج.
فلما كانت صبيحة يوم السبت سعى أمير الحاج الشامي الأمير محمد بك المذكور بين الشريف، وبين أمير الحاج المصري بالصلح فتعافيا، فنادى قبل صلاة الظهر من ذلك اليوم مناديان: أحدهما من أمير المصري، والثاني من الشامي بالأمان للحجاج، وأهل البلد، وقدم المصري خروجه من مكة في هذا العام على خلاف العادة، فبرز في يوم الثالث والعشرين من ذي الحجة.
وفي سنة سبع وأربعين وألف قدم شعبان أفندي إلى المدينة المنورة ومعه حجر من الماس محفوف بأحجار مختلعة مكفوف بصفائح الذهب والفضة، وهذا الحجر من آثار صدر الدولة العثمانية مصطفى باشا سلحدار، فوضع ذلك الحجر تحت الحجرين اللذين وضعهما السلطان أحمد خان، وأنعم على أهل المدينة بالصدقة الجليلة، وفي ذلك يقول السيد محمد كبريت مادحاً ومؤرخاً: من الخفيف:
زار خيرَ الأنامِ خَيْرُ همامٍ ... قد تَسًمَّى شعبانَ وهو ربيعُ
عَم جيرانَ أحمد بنوالٍ ... دُونَ ذاكَ النوالِ خصْبَ مريعُ
جاءَ بالجوهَرِ الثمينِ لطه ... مِنْ وزيرٍ هوَ الجنابُ المنيعُ
مصطفى المجدِ والندَى والمعالِي ... وسلحدارُ نعمةِ لا تضيعُ
يا له جوهَر تسامَى وسامَى ... بمقامٍ فيه الثناءُ يضوعُ
عند وجْهِ النبي قد وضعُوهُ ... فغدا وهوَ مشرق ولموعُ
كان هذا في عامِ سبعٍ وألفٍ ... وتمامُ النظامِ فيه بديعُ
قلت: في هذا التاريخ لطف إدخال في قوله: وتمام النظام فيه، لأنه يشير بذلك إلى الميم من لفظ النظام وهي بأربعين، فبذلك ثم حساب سبع وأربعين وألف. وكان إهداء ذينك الحجرين الأولين من حضرة مولانا السلطان أحمد خان مع لوح من فضة كبير مكتوب فيه آيات قرانية في سنة ست وعشرين وألف مركب على الشباك القبلي أمام المواجه الزائر، وفي اللوح أبيات آخرها بيت التاريخ، وهو: لوح لسلطان أحمد أهداه حُبّاً خالصاً.(3/26)
وفيها: توفي العلامة القاضي أحمد بن عيسى المرشدي العمري الحنفي، شهاب الفضل الثاقب، الشهير الماثر والمناقب، من سطع في سماء الأدب نوره، وتفتق في رياضه زهره ونوره، فامتد في البلاغة باعه، وشق على من رام أن يشق غباره اتباعه، لا تلين قناة فضله لغامز، ولا يلمز اْدبه المبرأ من العيب لامز.
كان تولى القضاء بمكة المشرفة، فنال به ما أمله مما طمح بصره إليه واستشرفه. ولما حصل أخوه في قبضة الشريف أحمد بن عبد المطلب، ومنى منه بذلك الفادح الذي قهر به وغلب، حصل هو أيضاً في قبضة القبض والأسر، وأردف معه على ذلك الأدهم بالقسر، حتى جرع أخوه بذلك الكاس، وأنعم عليه بالخلاص بعد الياس. فراش الدهر حاله، وأعاد منها ما غيره وأحاله.
ولم يزل! فارغ البال، من شواغل البلبال، إلى أن انقضت أيامه، ووافاه حمامه.
فكانت وفاته لخمس خلون من ذي الحجة الحرام من السنة المذكورة.
واتفق تاريخ وفاته صدر البيت المشهور:
من شاء بعدك فليمت ... ............
وله نظم بديم، ونثر يفوق أزهار الربيع.
من نظمه القصيدة الدالية أمتدح فيها شريف مكة الشريف مسعود بن حسن مطلعها: من البسيط:
عُوجا قليلاً كذا عن أيمنِ الوادي ... واستَوقِفا العيسَ لايحدو بها الحادي
منها قوله:
راًسُ الملوكِ يمين الملك ساعده ... زند المعالِي جبين الجحفَلِ البادي
ومنها:
وصان وَسْمك في حاش مخالطة ... عَنْ رَب غَزْوٍ تنضاهُ بأحشادِ
وهي قصيدة بليغة تقدم ذكرها.
وله قصيدة في السيد شهوان بن مسعود مطلعها: من البسيط:
فيروزَجٌ أم وسامُ الغادةِ الرودِ ... يبدو على سِلْك در فيه منضودِ
ومنها قوله في المخلص:
صهباءُ تفعلُ في الألبابِ سَوْرَتها ... فعلَ السخاءِ بشهوان بْنِ مسعودِ
وله ما كتبه على شداد مطيّة الشريف زيد بن محسن - رحمهما الله تعالى - وهو قوله: من مجزوء الكامل:
أفقُ الشدادِ بدَت به ... شَمسُ الخلافةِ والهلالْ
ومِنَ العجائِب جمعُهُ ... لَيْثَ الشرافةِ والغزالْ
وله غير ذلك من غير ذلك - رحمه الله تعالى - .
ثم دخلت سنة تسع وأربعين بعد الألف، في أثنائها أقبل من الديار الرومية بشير أغا الحبشي الطواشي، معه أوامر بمطلق التصرف، وخطوط سلطانية بما يريد من التعرف والتحرف. فلما بلغ الينبع ورد إليه الخبر بوفاة السلطان مراد بن أحمد خان سلطان الزمان، ففاح الخبر بينبع، ثم كتمه بشير ليتم له تنفيذ ما أراد، وقد كان مولانا الشريف زيد هيأ واختار لبشير أغا عدة أماكن من المدارس والبيوت، وأمر بفرشها، وكان من نيته مواجهته إلى مر، وأرسل بعض خدامه إلى ينبع ليرى ما مع بشير من الخيل والرحل والناس، فلما وصل إليها سمع هذا الخبر وتحققه فرجع مسرعاً مجداً به إلى مولانا الشريف زيد، فلما تحقق مولانا الشريف صحة ذلك أمر بتحويل الفرش التي في تلك الأماكن، وغلق بعضها، فلما قارب بشير مكة خرج إليه مولانا الشريف، ولاقاه في الجوخي محل ملاقاة أمراء الحج إذا وصلوا، فلما أن لاقاه وقابله، وفي بال بشير أن الخبر لم يبلغه، وأن يتم له ما أراد من تنفيذ ما شاء على غشاش وغفلة، ثم بعد ذلك لا يضره ظهور الخبر، فلما تدانيا همز مولانا الشريف زيد - رحمه الله تعالى - فرسه مقدماً على بشير مناكباً له قائلاً: الله رحمت أيله سلطان مراد، ومسح على عينيه بالمنديل باكياً أو متباكياً، فسُقط في يد بشير، ودخل بشير كالأسير.
وهذا من جملة سعودات الشريف في القدر المنيف.
وكان مولانا الشريف رحمه الله قد رأى في المنام كأن شخصاً ينشده هذا البيت: من الطويل:
كأن لم يكُنْ أمرٌ وإن كانَ كائن ... لكانَ به أمرٌ نفى ذلك الأَمْرُ
فانتبه رحمه الله، وكتبه بالسواك على رمل في صحن نحاس خشية النسيان، وكانت هذه الرؤيا في الليلة التي أسفر صباحها عن ورود هذا الخبر.
واستمر بشير إلى آخر السنة، وحج وتوجه صحبة الحاج حيث جاء.
فمن الألطاف الخفية لمولانا بما أولاه، وكم، وكفى بالله.
وقد نظم السيد محمد الآنسي المغربي قصيدة يمدح بها مولانا الشريف زيد رحمه الله ذكر فيها قصة بشير، وأورد فيها البيت المذكور وهي هذه: من الطويل:(3/27)
سَلُوا آل نُعمٍ بعدنا أيها السفرُ ... أعندهُمُ عِلم بما صَنَعَ الدهْرُ
تصدى لشتِّ الشملِ بيني وبينها ... فمنزلي البَطْحا ومنزلُها القَصْرُ
رآني ونعمى لاهيَينِ فغالَنا ... فَشلت يدُ الدهرِ الخئُونِ ولا عُذرُ
فوالله ما مكر العدو كمكرِهِ ... ولكن مكراً صاغه فَهُوَ المكْرُ
فقولاً لأحداثِ الليالي تمهلي ... ويأيهذا الدهْرُ موعدُكَ الحشرُ
سلام على ذاكَ الزمانِ وطيبهِ ... وعيشٍ مضَى فيه وما نبَتَ الشعْرُ
وتلكَ الرياضُ الباسماتُ كأن في ... عواتقها من سندسٍ حُلل خُضرُ
تنضَّد فيها الأقحوانُ ونَرْجِس ... كأعْيُنِ نُعم إذ يقابلها الثغْرُ
كأن غُصُونَ الوردِ قُضبُ زبرجدِ ... تخالُ من الياقوتِ أعلامه الحمْر
إذا خَطَرَت في الروضِ نُعم عشية ... تَفاًوَحَ من فضلاتِ أردانها العطرُ
وإن سحبَت أذيالها خِلتَ حيةً ... إلى الماءِ تسعَى ما لأخمصِها إثرُ
كساها الجمالُ اليوسفي ملابساً ... فأهوَنُ ملبوس لها التيهُ والكِبْرُ
فكم تخجلُ الأغصانُ منها إذا انثنَت ... وتُغضي حياء من لواحظها البترُ
لها طرة تكسو الظلامَ دياجياً ... على غرَّةٍ إن أسفرَتْ طَلَعَ الفَجْرُ
وصحنان خد أشرقا فكأنما ... مصابيحُ رهبانٍ أضاءَ بها الدَّيْرُ
وجيدٍ من البِلورِ أبيضَ ناعمٍ ... كعنْقِ غزالٍ قد تكنفَها الذغرُ
ونحرٍ يقولُ الدرُ إن به غِنىً ... عن الحلْى لكنْ بى إلى مثله فقْرُ
وحقان كالكافورتَينِ علاهما ... من الند مثقال فند به الصبرُ
رويدَكَ يا كافورُ إن قلوبنا ... ضعافٌ وما كُل البلاد هي المِصرُ
تبدى بقدٍّ باسقاً متأوداً ... على نقو من رمل يطوف به نهرُ
يكادُ يقدُّ الخصْر منْ هَيَفٍ به ... روادفها لولا الثقافَةُ والهَصْرُ
لها بَشَرٌ مثلُ الحريرِ ومنطق ... رخيمُ الحواشِي لا هراءٌ ولا نَزْرُ
رأتني سقيماً ناحلاً والهاً بها ... فأدنَتْ لها عوذ أناملها العَشرُ
إذا كنتَ مطبوباً فلا زلْتَ هكذا ... وانْ كنت مسحوراً فلا برئ السحرُ
فقلتُ لها والله يا ابنَةَ مالكِ ... لما شفني إلا القطيعةُ والهَجْرُ
رَمَتنى العيونُ البابلياتُ أسهماً ... فأقصدني منها سهامُكُمُ الحمْرُ
فقالتْ وألقَت في الحشا من كلامها ... تأجج نار أنتَ من ملكنا حُرُ
فوالله ما أنسَى وقد بكرَت لنا ... بإبريقها تسعَى به القينةُ البكرُ
تدورُ بكاساتِ العُقارِ كأنجُمٍ ... إذا طلعَتْ من بُرجها أَفَلَ البدرُ
نداماىَ نُعمٌ والربابُ وزينبْ ... ثلاثُ شخوصٍ بيننا النظمُ والنثرُ
على الناىِ والعودِ الرخيمِ وقهوةٍ ... يذكِّرها دنيا بأقدامِنا العصرُ
فتقتصُ من ألبابنا ورؤُوسِنا ... فلم نَدْرِ هل ذاك النعاسُ أم المكْرُ
معتقةً من عهدِ عادِ وجرهمٍ ... ومودعها الأدنان لقمانُ والنسْرُ
مشعشعةً صفراً كأن حبابَها ... على فُرُشٍ مِنْ عسجدٍ نثر الدرُ
إذا فرغَت من كأسِ نعم وأختِها ... تشابه من ثغريهما الريقُ والخَمرُ
خلا أن ريقَ الثقرِ أشفى لمهجتي ... إذا ذاقه قلبي الشجِي خَمَدَ الجمرُ
وأنفَعُ درياقٍ لمن قَتَلَ الهوَى ... فماتَ ارتشافُ الثغرِ إنْ سمحَ الثقرُ(3/28)
مذا عرفنا الفَرقَ ما بين كأسِها ... وبين مُدامِ الظلمِ إن أشكَلَ الأمرُ
فوالله ما أسلو هواها على النوَى ... بلى إن سلا بذل النوَى الملك القسرُ
أبو حسنٍ زيدُ المحاسن والعُلاَ ... له دونَ أملاكِ الورَى المجدُ والفخرُ
إذا ما مشَى بين الصفوفِ تزلزلَت ... لهيبته الأقيالُ والعسكَرُ المجرُ
وترجُفُ ذاتُ الصاع خوفاً لبأسِهِ ... فتندك أطوادُ الممالِكِ والقفْرُ
فلو قال للبحرِ المحيطِ ائتِ طائعاً ... أتاه بإذنِ الله في الساعة البحْرُ
تظل ملوكُ الأرضِ خاشعةَ له ... وما خشعَتْ إلا وفي نَفْسها أمْرُ
كريم متى تنزلْ بأعتابِ دارِهِ ... تجد ملكاً يزهو به النهْيُ والأمْرُ
تجدْ ملكاً يغني الوفودَ وينجزُ ال ... وعود وأدنَى بذله الذهم والشقرُ
على جودِهِ من وجهِهِ ولسانِهِ ... دليلانِ للوفدِ البشاشةُ والبِشْرُ
فما أحنفٌ حلماً وما حاتمٌ ندى ... وما عنتَز يوم الحقيقةِ أو عَمْرُو
هو الملكُ الضحاكُ يومَ نزاله ... إذا ما الجَبانُ الوجه قطبه الكرُ
لقد قرَ طرف الملكِ منه لأنه ... لديه النوالُ الحلو والغضَبُ المرُ
حياة وموتٌ للموالي وللعدَى ... لقد جمعا في كَفهِ الجبْرُ والكسْرُ
أنِخ عنده يا طالبَ الرزقِ إن ما ... حواه أنوشِرواًن في عينه نَزرُ
ولا تُصغِ للعذالِ أذناً وإن وَفَوْا ... بإحسانهم منه فما العَبْدُ والحرُ
وهل يستوي عَذبٌ فراتٌ مروّقٌ ... وملحٌ أجاجٌ لا ولا التبْنُ والتبرُ
فلو سمعت أذن العداةِ بمجدِهِ ... مزاياه لاستحْيَتْ ولكنْ بها وقْرُ
فما قَدَرُوا زيدَ العلا حق قدره ... وماذا عليهِم يا تُرَى لهم الخسْرُ
مليكٌ إليه الانتهاءُ فقيصرٌ ... يقصرُ عنه بل وكسرى به كَسْرُ
مليكٌ له عندَ الإلهِ مكانةٌ ... تبوأها من قبلِهِ الياسُ والخِضْرُ
مليك له سرٌ خفيٌّ كأنما ... يناجيه في الغيبِ ابنُ داود والجفر
فإن كذبَتْ أعداءُ زيد فحسبُهُ ... من الشاهدِ المقبولِ قصتُهُ البكرُ
ليالي إن جاء الخَصِيُُّ وأكثروا ... أقاويلَ غيٍّ ضاقَ ذرعاً بها الصدرُ
فأيقظَهُ من نومِهِ بعد هجعةٍ ... من الليلِ بيْتٌ زاد فخراً به الشعرُ:
كأن لم يكُن أمر وإن كانَ كائنٌ ... لكانَ به أمرٌ نفى ذلك الأمرُ
وفي طيِّ هذا عبرةٌ لأولى النهَى ... وذكرَى لمن كانَتْ له فطنةٌ تَعرُو
فيا زيدُ قل للحاسدِينَ تحنَّطوا ... بغيظِكُمُ إن لم يطيعُكُمُ الصبرُ
فمجدي كما قد تعلمونَ مؤثل ... وكل حَماًمِ البر يفرسه الصقْرُ
من القومِ أربابِ المكارمِ والعلا ... ميامينُ في أيديهِمُ اليُسرُ والعُسرُ
مساميحُ في اللأوا مصابيحُ في الوغَى ... تصالح في مغناهم الخيْرُ والشر
أسنتهُم في كُل شرقٍ ومغربٍ ... إذا وردَت زرق وإن صدرَتْ حُمرُ
مساعيرُ حرب والقنا متشاجر ... ويوم الندَى تبدو جحاجحة غُرُ
بني حسنِ لا أبعدَ الله دارَكُم ... ولا زالَ منهلاً بأرجائِها القطرُ
ولا زالَ صدْرُ الملكِ منشرحاً بكُم ... فعنكُم ولاةَ البيتِ ينشرحُ الصدرُ
وصَلى على المختارِ والآلِ ربُّنا ... وسَلمَ ما لاحَ السماكان والغفرُ(3/29)
وفي سنة خمسين وألف يوم الأربعاء ثامن عشر جمادى الأولى: توفي الشيخ تاج الدين زكريا بن سلطان النقشبندي بمكة، ودفن صبح الخميس في رباطه الشهير برباط تاج في سفح جبل قعيقعان، وله ترجمة طويلة.
أخذ عنه الشيخ الأمجد أحمد بن إبراهيم بن علان، وشيخنا الشيخ عبد الله، وأخوه الشيخ محمد ابنا الشيخ سعيد باقشير.
وفيها: توفي الجمال محمد بن أحمد بن حكيم الملك بالديار الهندية.
وفي سنة اثنتين وخمسين وألف ليلة الخميس ثاني عشر صفر منها: توفي الشيخ فتح الله النحاس الحلبي، الشاعر المجيد، والأديب الفريد، الذي شاع ذكره وشعره وذاع، وجمع بين الإسراع والإبداع.
كان من فحول الشعراء في عصره، وفريد النثر والنظم في دهره.
ورزق حظوة عند أهله، وقبولاً يعهد مثله لمثله. ولكنه كان ذا تعاظم في نفسه، وتكبر على جنسه، ولم يسعفه دهره كعادته مع الأدباء، فأدركته حرفة الأدب، وناداه لسان حاله: لا تعجب فإني أبو العجب.
مولده بحلب في حدود الألف. وصحب المشايخ الكبار، وحج وزار.
وأقام بالمدينة على مشرفها الصلاة والسلام، إلى أن أدركه بها الحمام، في التاريخ المذكور ودفن بالبقيع.
وقد عنى بجمع ما تيسر من شعره مولانا العلامة الفهامة برهان الدين الشيخ إبراهيم ابن المرحوم الشيخ عبد الرحمن بن الخياري المدني، فجمعه في ديوان لطيف: ومن بديع شعره قوله مادحاً النبي صلى الله عليه وسلم: من البسيط:
تذكر السفحَ فانهلتْ سوافحه ... وليسَ يخفاكَ ما تُخفي جوانحُهُ
وفي هذه القصيدة بيت يجفل منه الطبع الذكي، ويود أن يكون عند فهمه بليداً أي بليد، وإن كان هو عند أدباء العصر بيت القصيد. وهو قوله: من البسيط:
وما أقولُ إذا ما جئتُ أمدحُ من ... جبريلُ خادمُهُ والله مادحُه؟!
وفي سنة ثلاث وخمسين وألف: أنشأ مولانا الشريف زيد بن محسن سبيلاً وحنفية بمكة المشرفة.
فقال مولانا القاضي تاج الدين مؤرخاً لعمارتهما: من السريع:
لله تأسيس نما خيرُهُ ... وفازَ بالتطهيرِ مَنْ أَمَّ لَهْ
به سبيل وحنفية ... وسلسبيلْ فارتشفْ سلسلَهْ
له نبا في الفيضِ مهما روى ... حديثه أروَى بما سلسلَهْ
سالَت عطاياه لُجيناً فمَنْ ... رامَ نداه نالَ ما أمَّلَهْ
وحيثُ لم تكتفِ سُؤاله ... فلا يكف البذل إذ أرسَلَهْ
لأن من أسَّسَ بنيانَهُ ... غيثُ الورى في السنةِ الممجِلَهْ
مَن نفسُهُ يومَ عطاه ترَى ... إن وهب الدنيا فقد قَلَّ لهْ
توَّجَهُ الله بتاجِ زها ... بجوهرِ المجدِ الذي كَلَلَهْ
والله من وافرِ إحسانِهِ ... أجرَى له الأجْرَ الذي أجزَله
فإنْ تسل عن ضبطِ تاريخِهِ ... فخذْ جواباً يوضحُ المسألَهْ
أسَّسَه سلطانُ أم القُرَى ... زيد يدومُ العز والسعد لَهْ
ولما كان أوائل سنة سبع وخمسين طلع الصنجق الكبير صاحب جدة المسمى مصطفى بك إلى وادي الطائف المأنوس لزيارة الحبر سيدنا عبد الله بن عباس - رضى الله عنهما - وطلع بعده الأغا المكرم بشير أغا غلام المرحوم مولانا السلطان مراد خان بن أحمد خان، وهذا في مجيئه الثاني سنة ست وخمسين بعد الألف متولياً مشيخة الحرم النبوي، فأقام ما شاء الله أن يقيم، ثم لما أن كان نازلاً إلى مكة طالعاً في المحل المعروف بالنقب الأحمر، وجه جبل كراء مما يلي الطائف، وقد تفرقت عساكره خلفاً وأماماً، ولم يبق معه سوى السائس وحامل كوز الماء، اعترضه رجل عربي كان يتعهده بالإحسان إليه، يقال له: الجعفري، فضربه وهو متجرد للإحرام بسكين العرب أنفذها إلى أحشائه، وذهب ولم يدر محله، قيل: إن السائس أراد ضرب القاتل فوقع السيف في مؤخر الحصان، فقمص فسقط عنه الصنجق، فلاحقت العساكر فلم يلبث إلا نحو ساعتين، وتوفي شهيداً إلى رحمة الله.
وكان قتله يوم التاسع والعشرين من جمادى الأخرى من السنة المذكورة، ودخل به مكة في التخت قتيلاً غرة رجب منها، فجهز ودفن في المحلاة أمام قبة السيدة خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.(3/30)
وكان مولانا الشريف رحمه الله تعالى سنتها قد توجه إلى جهة الشرق، فأبعد حتى وصل قريباً من الخرج، وكان القائم مقامه لحفظ مكة مولانا السيد إبراهيم ابن الشريف محمد ابن الشريف عبد الله بن حسن، فاستدنى السيد إبراهيم غالب عسكر الصنجق، وأنزلهم في محل يسعهم بأجياد، وأجرى عليهم الجوامك والأرزاق، وأمر السيد المذكور كيخية العسكر دلاور أغا بالنزول إلى جدة لحفظ البندر، فامتنع أشد الامتناع.
ثم لما كان بعد ليال عديدة نزل بعد هزيع من الليل قاصداً جدة خلسة، فشعر به السيد إبراهيم المذكور، وأرصد له جماعة فأمسكوه وأتوا به فحبسه، ثم اختلس بعض العسكر نفسه، وذهب إلى بشير أغا بالطائف وأخبره بما وقع، فأقبل بشير إلى مكة، ونزل بمدرسة الأغا بهرام بالمسعى، فتردد السيد إبراهيم في الوصول إليه وعدمه لاختلاف المشير، ثم جزم وعزم إليه فتلقاه بما هو الواجب، ثم قال له لما استقر المجلس: لِمَ حبستم دلاور آغا؟ فقال السيد إبراهيم: حبسناه خشية من إضراره وإفساده، فإننا قد ألزمناه مراراً بالنزول إلى جدة فامتنع فارتبنا بنزوله خفية، فقال بشير: أطلقه. فقال: لا أطلقه حتى يصل مولانا الشريف زيد.
ثم قام السيد إبراهيم. فلما كان اليوم الثاني: نزل بشير أغا إلى الأفندي، واستدعوا مولانا السيد إبراهيم فحكم عليه الأفندي بإطلاقه فأطلقه، ثم بعد يومين أو ثلاثة عزم السيد إبراهيم، والقائد رشيد حاكم مكة إلى نحو بركة الماجن للتنزه، فاستجر بشير أغا العسكر ووعدهم، فحملوا أثقالهم وأدخلوها من باب المسجد، وخرجوا بها من باب ابن عتيق، ثم خرجوا بعد العصر حازبين مارين على دار السعادة ثم على السوق ثم على سويقة، إلى أن وصلوا بيت بشير أغا، وكان نازلاً بالباسطية، فوصل الخبر للسيد إبراهيم فوصل إلى البلد، وقال لبشير آغا: ما هذا الفعل. فقال بشير في جوابه: نعم عسكر السلطان، لهم في التربية سنين تأخذهم في خمسة أيام؟!.
وكان في عسكرهم شخص اسمه جاووش كثير الفساد وشرب الخمر والتعدي، فأمر السيد إبراهيم بقتله أينما وجد، فوجد سكران على الطريق، فتناوله عسكر الشريف فقطعوه، فثارت الفتنة وترامى العسكران بالرصاص، وقتل شخص من الناس خلف مقام المالكي وقتل كخية بشير أغا، ولم يزل مطروحاً عند باب ابن عتيق إلى الليل من داخل المسجد حتى رفعه بعض أهل الخير، ثم سعى القاضي أحمد كرباش وغيره بالصلح والمكافة، وألا يصل إلينا منكم أحد ونحن كذلك ما عدا ثلاثة أشخاص معينين من جماعة بشير لقضاء حوائجه من السوق وسكنت الفتنة.
وذكر لي من أدرك ذلك أن مولانا الشريف زيداً رحمه الله تعالى استحسن جميع ما فعله السيد إبراهيم ما عدا قتله للجاووش فإنه لامه عليه، فرحم الله الجميع برحمته الواسعة.
واتفق في مدة وقوع الشنآن بين بشير أغا والسيد إبراهيم بن محمد أن قرأ في صلاة المغرب بعض أئمة الحنفية بسورة الفيل ثم قرأ في صلاة الصبح سورة والفجر، وكان بشير يحضر صلاة الجماعة، فلما فرغ من صلاة الصبح قال لرجل من أهل مكة كان يألفه: انظر أهل مكة يرجمونا بالقرآن؛ لموجب قراءة الإمام المذكور في المغرب بسورة الفيل فإن فيها ذكر أصحاب الفيل " وأرسَلَ عَلَيهم طَبراً أَبابيل " الفيل: 3 إلى آخر السورة، وفي الصبح بسورة الفجر وفيها ذكر عاد " اَلذَينَ طَغَوا في البلاَدِ فأكَثَرُوا فِيها اَلفَسادَ فَصَب عليهم رَبُكَ سَوط عذابٍ " الفجر: 11، 13 الآيات، فبلغ قوله الإمام المذكور - وهو لم يخطر له شيء من ذلك ببال ولا علِق منه بحبال - فارتاع لذلك وارتاب، ولبث البيت وزرر الباب، ومكث على ذلك أياماً، وتمنى أن لم يكن إماماً. وهو اتفاق فيه إيهام، لكنها رمية من غير رام، لطف الله بنا وبه.(3/31)
ثم عزم مولانا الشريف رحمه الله في عام تسع وخمسين إلى زيارة جده صلى الله عليه وسلم فكان دخوله يوم الخميس ثامن شهر شعبان من السنة المذكورة، فنزل بالقاضية خارج السور. ثم في فجر اليوم العاشر من الشهر المذكور نزل الأفندي زفر قاضي المدينة الشريفة راكباً ومعه ثلاثة من الخدم، فلما كان عند الدفتردارية وثب عليه شخص فضربه بالحد في ظهره أنفدها من صمره فأكب على قربوس الفرس، ولم تزل داخلة به إلى محراب السيد عثمان بن عفان رضي الله عنه وإمام الشافعية قائم يصلي الفجر، فقام بعض الناس إليه، وأنزلوه بآخر رمق وهو يقول: يا رسول الله يارسول الله، ووضع أمام الوجه الشريف، وبعد لحظة قضى عليه، فحشدت عساكر المدينة واجتمعت وأغلقت أبواب سور المدينة، وتفرقت في متارسه، ووجهوا المدافع إلى جهة مولانا الشريف زيد ونادوا: اخرج عنا الآن، وبدا منهم ما هو وصفهم، فبعث إليهم الشريف أكابر جماعته، وأكابر عسكر مصر، فحلفوا لهم بأن لا علم للشريف بذلك ولا شعور، ولوَّموهم على ذلك خطاباً من تحت السور، فتراجعوا وفتح باب السور.
ففي اليوم الثاني استدعي وجوههم لينظر في حال قتلة الأفندي ويبحث عنهم، فأتوا إليه فلم يزل يمسكهم واحداً واحداً وحبسهم مديدة، ثم وقعت في بعضهم شفاعة ففك وذهب بالباقين وهم نحو تسعة أنفس فأمر بإبقائهم في ينبع، فاستمروا إلى مجيء الحاج فاستشفعوا بأمير الحاج فأتى بهم مستشفعاً فيهم، فشفعه مولانا الشريف، ثم لما نزل بعد الحج الصنجق غيطاس أمير جدة من مكة إلى جدة مغاضباً لمولانا الشريف زيد نزلوا معه وكتبوا أنفسهم في دفتر عسكره.
وسبب غضبه الناشئ عنه الحرابة الآتي ذكرها في سنة ستين وألف أمور: منها أنه ورد إلى مكة بعض تجار من الصعايدة، وشخص أعجمي يسمى أسد خان جاءوا من جهة اليمن بتجارة، ونزلوا من البحر إلى بندر القنفدة، ووصلوا إلى مكة براً ولم يدخلوا بندر جدة، فلما أن دخلوا إلى مكة وكان غيطاس بمكة قد وصل للحج فاحتال على الصعيدي وحبسه، وكان الصعيدي ملتجئاً إلى المرحوم السيد هاشم بن عبد الله فلزم السيد علي الشريف زيد في إطلاقه فوعده، ثم إنه أخذته الحمية، فركب إلى الشريف ثانياً، ثم نزل من عنده قاصداً لبيت الصنجق غيطاس لفك الرجل، فنادى مولانا الشريف قائماً من الروشن: ردوا الرجل فمضى، فلما أقبل على البيت لم يقابل إلا بالرجل المحبوس منطلقاً فرجع به.
وقيل: إن حبس غيطاس للصعيدي إنما كان بسبب دين عليه شكا فيه على غيطاس.
ومنها: مجابذة الشريف زيد له لما جعل القرش الحجر بخمسة وأربعين ديواني في صرور أهل مكة بزيادة خمسة على الأربعين المعتادة.
ومنها: إيحاء أولئك النفر من عسكر المدينة، ونسبتهم قتل الأفندي إليه.
ومنها: تردد السيد عبد العزيز ابن الشريف إدريس إليه ومواطأته ووعده إسعافه، بما أبى الله إلا خلافه.(3/32)
فقبل أن ينقضي الحج نزل غيطاس إلى جدة، ووصل إليه السيد عبد العزيز المذكور، فوصل الخبر بعد قليل إلى مكة بتولية غيطاس للسيد عبد العزيز مكة ونودي له بالبلاد، وأقام حاكماً فيها ناصر بن سعيد عتيق مصطفى السيوري وظن أنها تكون، وأقبل غيطاس ومعه السيد المذكور بمن معه ومن لمَّ عليه من لفق عسكر المدينة، وخرج عليه مولانا الشريف زيد رحمه الله تعالى، وكان اللقاء يوم الخميس تاسع عشر جمادى الأخرى من سنة الستين وألف فوق التنعيم، وكان في الميمنة متقدماً مولانا المرحوم السيد أحمد بن محمد الحارث بجماعته ومن يليه، وكان في الميسرة كذلك متقدماً قليلاً مولانا المرحوم السيد مبارك بن شنبر بجماعته ومن يليه، ومولانا الشريف زيد بمن معه في القلب، والصروخ ملأت السهل والوعر وتراموا بالرصاص والمدافع، وكلما هم الأشراف بالحملة يقول لهم مولانا الشريف: معكم معكم، كناية عن التلبث والتاني، وارتفع النهار وحميت الشمس فركض من الأشراف جماعة، منهم السيد وبير بن محمد بن إبراهيم، والسيد بشير بن سليمان، والسيد أبو القاسم، فأصيب السيد وبير بالبندق فسقط بين الجمعين، وأصيب جماعة من الجانبين، وحين اشتد الحال أتى مولانا السيد عبد العزيز إلى جمع السيد المبارك بن شنبر داخلاً عليه طالباً للأمان، ولغيطاس ومن معه، فعزم به السيد مبارك إلى مولانا الشريف فأمنه ووقع الصلح، ونصبت للشريف خيمة فنزل بها يستظل، وسأل السيد عبد العزيز من الشريف من يوصل غيطاس إلى مأمنه لأنه أشفق من نهبة العربان له، فأصحبه الشريف خمسين شخصاً من العسكر فذهب إلى جدة راجعاً، وجاء عزله، فذهب إلى ينبع وواجهه الحاج بها، ومكث إلى عود الحاج من مكة إليها وتوجه معهم إلى مصر وتوجه معه السيد عبد العزيز ابن الشريف إدريس رحم الله الجميع، فاستمر غيطاس بمصر سنهَ إحدى وستين، وجاء في موسمها أمير المحمل المصري فتوهم منه مولانا الشريف زيد، ولما خرج للخلعة على العادة لم يكن بينهما مناكبة على المعتاد بل مد له الشريف يده الشريفة فصافحه، ومن عامئذ تركت مناكبة شريف مكة لأمراء الحجيج ولم يقع منه شيء من المضار ولله الحمد والمنة.
وأما مولانا السيد عبد العزيز فأقام بمصر نحو سنتين، ثم جاء خبر وفاته في السنة الثالثة شهيداً بالطاعون رحمه الله.
وفي سنة ثلاث وستين عمرت قبة الفراشين في المسجد الحرام، فقال مولانا القاضي تاج الدين المالكي مؤرخاً عمارتها وممتدحاً معمرها: من الرجز:
أُنظُر لحسنِ قبةٍ جدَّدها ... مؤسساً فَخرُ الملوكِ الأمجدُ
وقُل إذا أَرختَ عاماً كانَ في ... أثنائِهِ بناؤُهُ المشيدُ
عمرها سلطانُنا محمَّدُ ... ألملكُ السامي العليُّ الأوحَدُ
وإن أردت تاريخها باعتبار تمام البناء كله في سنة أربع وستين فقل: المالك بزيادة الألف. ولما أرادوا الشروع في العمل حملوا المؤنة على الحمير، وأدخلوها من باب البغلة ويعرف هذا الباب قديماً بباب بني سفيان بن عبد الأسد؛ كذا قاله الأزرقي. وعرف الفاسي هذا الباب بباب البغلة قال: ولم أدر ما سبب هذه الشهرة، قال العلامة الشيخ محمد علي بن علان: لعل سببها أن بغلته صلى الله عليه وسلم ربطت أو وقفت ثمه في بعض الأوقات والله أعلم.
وفي سنة ثمان وستين وألف: أصاب شاهجهان سلطان الديار الهندية فالج عطله عن الحركة، وحصل بين أولاده حروب كثيرة، ولما أراد الله بالهند خيراً وإحساناً، وقدر ظهور العدل فيهم كرماً وامتناناً، أظهر في حافتيها شموس السلطنة بلا ريب، وأنار في سماء سلطنتها أنوار أورنك زيب، وطوى بساط إخوانه ومزق، وحرق بنار المظلومين لباسهم وخرق، وقتل أخاه دارا شكور واقتلعه هو وأصحابه من ملك الحبور، وأسكنهم دارسات القبور. وكان دارا شكور ذا ذوق وفطنة بهية، وصفات مستحسنة رضية، إلا أنه في آخر عمره صارت سيرته ذميمة، وأحدث مظالم وخيمة.
وفي سنة تسع وستين يوم الجمعة لعشر بقين من شوال منها: توفي مولانا السيد عمار بن بركات بن جعفر بن أبي نمي في الديار الهندية رحمه الله تعالى.(3/33)
وفيها أواخر شهر رمضان: توفي بالقرية المسماة بالآبار من بلدة الطائف الحميدة الآثار، ودفن في سوح ضريح الحبر ابن عباس طيب الأنفاس، مولانا وسيدنا العلامة، العمدة الصدر الفهامة، القاضي عصام الدين بن علي زاده العصامي، نتيجة الفضلاء الكرام، وسلالة العلماء الأعلام.
الراوي حديث المجد عن أسلافه الأماثل، والحاوي محاسن سلسلة آبائه الفضلاء التي لم يفصلها بحمد الله جاهل، والرافع عماد بيتهم، والمجيب منادى صيتهم وصوتهم، بيت فضل لم ينشأ به إلا قاض وخطيب، فنن فضله في رياض المعالي رطيب.
ولد بمكة ونشأ بها وأخذ العلم عن والده، وعن مولانا السيد عمر بن عبد الرحيم، وعن ابن عمه مولانا الشيخ عبد الملك بن جمال الدين العصامي وغيرهم، ولازم الإقراء والتدريس على الدوام في المسجد الحرام، على طريقة العلماء الكاملين، والأثمة الواصلين.
وخلف ابنين نجيبين كاملين، هما مولانا القاضي علي، ومولانا المرحوم القاضي محمد. انتقل محمد بعد سنوات عن ابنين نجيبين أيضاً.
وتصدر مولانا القاضي على مكانه للإقراء والإفادات، وهو كآبائه على طريق خير وصلاح، قد أشرق نورهما عَلَى محياه ولاح.
أطال الله بقاءه للدين، ونفع بعلومه المسلمين آمين.
وفي سنة سبعين حصل غلاء بمكة وصلت فيه كيلة الحب إلى سبعة عشر محلقاً، فأشار شيخنا العلامة محمد البابلي على مولانا الشريف زيد بإبطال التسعير، فأطلق مناديه بذلك، وأن كل من عنده حب أو ما يقتات به يبيعه بسعر الله، فأظهر كل من عنده الحب، وجلب من سائر البلدان حتى كثر ورخص السعر، وسبب الغلاء: كثرة الجراد بأرض الحجاز واليمن، وأعقبه الدبا فأكل جميع الأشجار والزراعات.
وطبق بعض الأدباء تاريخاً على قوله: غلاء وبلاء نعوذ بالله منهما ومن كل مخوف.
وفي سنة اثنتين وسبعين: عمرت زمزم والبناء الذي عليها ما عدا الجهة القبلية، وأدير باب المصعد إلى قبتها إلى الجهة الجنوبية، فأرخ ذلك قاضي مكة عامئذ - وهو بعض الأروام الواصل منهم كل عام جديد قاض جديد - بأبيات بالتركية آخرها بيت التاريخ بالعربية هو:
قلتُ تاريخُهُ بلفظٍ حَلٍ ... قد بنى الزمزمَ محمَدُ خان
وهي أبيات دون عشرة منقورة في حجر على باب زمزم إلى الآن فسبحان الحكيم.
وفي سنة ثلاث وسبعين وألف يوم السبت بعد الظهر سابع شعبان منها: حصل مطر سال منه سيل كبير ملأ المسجد وغرق فيه نحو ستة أنفس، فتصدى مولانا الشريف زيد لتنظيفه ونادى في الناس، وحضر بنفسه وكذلك صنجق جدة الأمير سليمان بك - وهو يومئذ شيخ الحرم المكي، وقائم على عمارة المقامات وترميم المشاعر - وعمل الأشراف والعلماء والخطباء والمدرسون بأيديهم بعد أن عمل مولانا الشريف زيد بيده، وبذل هو والسنجق مالاً جزيلاً، وأعمل الهمة في ذلك، فتم تنظيفه من سائر جهاته في سبعة أيام، ولله الحمد والشكر.
وقال صاحبنا المرحوم مولانا السيد أحمد ابن المرحوم مولانا السيد أبي بكر بن سالم ابن شيخان مؤرخاً دخول السيل: من الخفيف:
قهقَهَ الرعدُ عندما ابتسَمَ البَر ... قُ فأبكَى الغَمام قَطْر المياهِ
وأذابا قلوبَنا الخوفُ والرع ... بُ فويلٌ لغافلِ القَلْب ساهِي
وأتانا طوفانُ نوحٍ وبالمَو ... تِ قطعنا لولا جنابُ الإلهِ
إن تقل أَوضِحُوا فسابعُ شعبا ... نَ وسبْت ليومِ سِت مُضاهِي
أو ترد عامه المهيلَ فأرخ ... باتَ سيلٌ يطوفُ بالبيتِ داهي
وفي سنة أربع وسبعين وألف: عمرت المقامات الأربعة، مقام الخليل وباقي الثلاثة، وطلاء جميع قباب المسجد بالنورة ظاهراً وباطناً، ورممت جميع المشاعر بعرفات، مسجد إبراهيم، وقبة جبل الرحمة والمشعر بمزدلفة، ومسجد الخيف بمنى، وأعلام الجمرات وحدود الحرم.(3/34)
وفي سنة ست وسبعين: خرج مولانا الشريف زيد رحمه الله تعالى إلى بلاد جهينة لطلب ثأر السيد مساعد استجره والد مولانا وسيدنا المصنف هذا الكتاب برسمه، المشرف بلقبه الشريف واسمه متع الله بحياته، مولانا المرحوم السيد غالب بن محمد ولي الدم الأدنى، فتوجه بجميع من معه من السادة الأشراف، وأتباعهم وعساكره وعساكر مصر رتبة مكة إليهم وأقام ببدر، وتوجه مولانا المرحوم السيد حمود بن عبد الله إلى زيارة جده صلى الله عليه وسلم، وكنت زائراً معه في كنف جنابه، على خيله وركابه.
وفيها: كان ورود الأغا عماد أفندي الرومي، فاتجه به مولانا السيد حمود في الطريق، وذلك أنه لما وصلنا إلى الخيف - المنزل المعروف - وجدنا مخيمه بها، فمال إليه السيد حمود مع بعض أولاده، وبني إخوته، وبني عمه، ودخلوا عليه، فقام ساعياً حافياً من بُعد فكان أول اجتماعه به هناك، فجلس عنده حيناً من الزمان، ثم خرج وتوجه للزيارة، ثم لما رجع وجد مولانا الشريف زيد مقيماً ببدر، فنزل بمحشوش اسم ماء قرب بدر، ثم توجها معاً إلى حرابة جهينة وكان المرحوم السيد أبو القاسم ابن السيد حمود هو القائم مقام مولانا الشريف زيد بمكة المشرفة عامئذ، وكانت الأمطار قد كثرت بالحجاز فرخصت الأسعار جداً حتى يبع الإردب القمح بثلاثة حروف عددي، والمن والجبن بمحلقين، والألبان واللحوم والخيرات كثيرة، ومثل مكة في هذا ما حولها من الأقطار ولله الحمد والشكر.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وألف: كان هلالها بالأحد، في فجر ليلة الثلاثاء ثالثه كانت وفاة سلطان الحرمين ونواحيهما، والمالئ بعدله وأمنه دانيهما وقاصيهما، مولانا المرحوم الشريف زيد ابن الشريف محسن بن الحسين بن الحسن؛ فصعدت روحه إلى معالم العرش والكرسي، وأفيض عليه من الرضوان سابغ الروح القدسي.
كان رحمه الله متخلقاً بالأخلاق المحمدية، متصفاً بالصفات الكمالية.
كان كثير الحلم والصبر والشفقة على الرعية، بحيث يسمع بأذنيه منهم الأسية، ويعفو ويصفح تأسياً بجده خير البرية.
ولم يضبط عليه أنه قتل شخصاً بغير حق في هذه المدة الطويلة المرضية.
وكان الأقطار والرعية في زمنه آمنة مطمئنة في عيشة هنية. وهو حقيق بأن يلقب مهدي الزمان، رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح الجنان.
كان ولادته - رحمه الله تعالى، وأعاد على المسلمين من بركاته - بعد مضي درجتين من شروق شمس يوم الإثنين السابع والعشرين من شهر شعبان المعظم سنة ست عشرة بعد الألف ببلدة بيشة من أعمال الشرق.
قلت: قد أخبرني مولانا الخطيب العلامة اللبيب تتيجة الفضلاء، وعين الأعيان النبلاء، برهان الدين، الخطيب والإمام بمسجده - عليه الصلاة والسلام - ، إبراهيم بن العلامة الفهامة واحد عصره بلا خلاف، ونسيج وحده كلمة ائتلاف، مولانا المرحوم الخطيب أحمد بن عبد الله الشهير بالبري نقلاً عن والده المذكور أنه حضر في مجلس مولانا المرحوم الشريف زيد بعض متعاطي علم الرمل فضرب تخته ثم قال لمولانا الشريف زيد رحمه الله: قد دل الرمل الصحيح على أنه كان وقت علوق والدتك بنطفتك عند الزوال في شهر رمضان في عام خمسة عشر بعد الألف، فاستغرب مولانا الشريف ذلك لمكان شهر الصوم، ثم إنه سأل والدته عن هذا المعنى فأجابت نعم: كان سيدي أبوك غازياً في شهر رمضان لبعض العرب، فجاء بعد أن أدرك من النصر والنجح الأرب، وكان وصوله في ذلك الوقت الذي ذكره هذا الرجل، فوقع علي، فأدركت الحمل بك من حيني.
هكذا أخبرني - حفظه الله تعالى - نقلاً عن والده الخطيب أحمد البري المذكور. فعلى هذا تكون مدة حمل مولانا الشريف زيد زادت على تسعة أشهر، ولا مانع من ذلك فإن أقصى مدة الحمل عند السادة الحنفية سنتان، وعند السادة الشافعية أربع سنين، وقد اتفق مكث الحمل تلك المدة لأشخاص كثيرة.
وكانت مدة ولايته خمساً وثلاثين سنة وشهراً وأياماً، رحمه الله رحمة واسعة، غفر له مغفرة جامعة آمين.(3/35)
ولما مات وقعت بمكة رجة كظيمة في التولية على المسلمين وفيمن يقوم مقامه، بين ولده الشريف سعد وبين السيد حمود بن عبد الله، وقام كل من الرجلين أشد قيام، وجمع الجموع وبذل المال، وتحصنوا في البيوت والمنائر، وانضم الأشراف جميعهم إلى السيد حمود، ولم يبق مع الشريف سعد إلا السيد مبارك بن محمد الحارث، والسيد راجح بن قايتباي، والسيد عبد المطلب بن محمد، والسيد مضر ابن المرتضى، والسيد الحسين بن يحيى، والسيد فارس بن بركات، والسيد محمد ابن أحمد بن علي، وهو الذي كان مع المنادي.
وكان في مكة رجل عظيم الشأن قد ورد في العام الذي قبل هذا العام وهو عام ست وسبعين، ورد سنجقاً لجدة وشيخاً لحرم مكة، وهو عماد أفندي المتقدم الذكر أنفاً، فردوا الأمر إليه.
وأحضر خلعة عنده والرسل تسعى من الشريف سعد إليه إلى الضحوة، فاتفق الرأي أن يُلبسوا الخلعة الشريف سعد، فأخذها من تحت ركبته شخص من أكابر عسكر مصر، يقال له: المسلماني، وذهب بها إلى الشريف سعد فلبسها في بيته من غير وعد.
قلت: وكان مجلس عماد أغا في المسجد في دكة عند باب رباط الداودية، وقد كنت إذ ذاك واقفاً أنظر، فبعد أن أخذت الخلعة قيل له: إن ابن الشريف زيد محمد يحيى هو المولى، وقد أخذ له والده أمراً سلطانياً بذلك، فقال لمن أخذ الخلعة: قولوا للشريف سعد: بشرط أنك قائم مقام، قائم مقام، هكذا سمع أذني، فبعد أن ذهبوا بها ومشوا قليلاً دخل المسجد من باب بني سهم المسمى بباب العمرة جماعة من الأشراف، منهم مولانا السيد محمد بن أحمد بن عبد الله، والسيد مبارك بن الفضل بن مسعود، وعبد الله بن أحمد، والسيد محمد بن أحمد بن حراز وغيره في نحو ثمانية عشرة أشخاص، فوقفوا على عماد ورأوا جماعة للأتراك بيدهم الخلعة قد قاربوا باب المسجد النافذ إلى بيت الشريف، فقال لهم عماد: نحن ألبسنا الشريف سعد بشرط أنه قائم مقام أخيه محمد يحيى؛ لأنه هو القائم بعد أبيه المرحوم زيد بأمر سلطاني فلم يردوا عليه خطاباً، ثم إنهم رجعوا من الباب الذي دخلوا منه، ثم إني أحببت الإحاطة التامة بالخبر وذهبت إلى منزل مولانا السيد حمود، فإذا الخيول على الباب، وإذا المجلس والبركة غاصان بالسادة الأشراف، فلم أستقر في المجلس إلا والسيد حمود - رحمه الله - خارجاً من محل الحريم معتماً عمامة زرقاء عليه صوف عودي، فخرج إلى البركة وجلس لحظة خفيفة، وقام عامداً للنزول إلى مولاه المرحوم الشريف زيد وغسله، ومعاناة تجهيزه ودفنه، ومعه نحو ثلاثة أشخاص من بني عمه لا أذكرهم الآن.
فلما كان في أثناء الدرج نازلاً إذا السيد أحمد بن محمد الحارث لاقاه طالعاً، فمذ رآه السيد حمود وقف وقال: لا قطع الله هذه الزائلة، وكان جواب السيد أحمد سمع أذني قوله: إذا جاءتك الرجال كن زبرة فرجع معه، ثم جهز مولانا الشريف زيد وأخرج إلى المسجد الحرام بعد صلاة الظهر، وخرج معه اثنان من الأشراف. أحدهما: ولده السيد حسن بن زيد، والآخر: من أولاد عمه، وأما باقي العسكر والأتباع فلم يخرج منهم إلا النزر اليسير لاشتغالهم بما هم فيه، وطلعوا به إلى المعلاة، ودفن في قبة المرحوم مولانا الشريف أبو طالب في جانبه إلى جهة القبلة.
وكان له مشهد عظيم، وخرج معه أهل مكة، وبكى عليه الصغير قبل الكبير، والحكم لله العلي الكبير.
وكان ذلك اليوم أعظم مصيبة على المسلمين. ولكن نرجع إلى قول رب العالمين " الذَينَ إذا أَصابَتهُم مُصِيبَةٌ قالوأ إنا للهِ وإنا إِليهِ رَاجُعونَ أُولَئِكَ عَليهِم صَلَوَاتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ اَلمُهتَدُونَ " البقرة: 157.
ومما قيل في تاريخ وفاته قول أخينا الفاضل الأريب، الشيخ أحمد بن قاسم الخلي وهو تاريخ عظيم عجيب هو قوله: من الخفيف:
ماتَ كهفُ الورَى مليكُ ملوكِ ال ... أَرضِ من لَم يَزَل مَدَى الدهرِمُحسِن
فالمعاني قالَتْ لنا أرِّخُوهُ ... قد ثَوَى في الجنانِ زيدُ بنُ محْسِن
ولمولانا قاضي المسلمين ببلد الله الأمين الإمام العلامة القدوة الفهامة مولانا القاضي عبد المحسن ابن مولانا المرحوم الشيخ سالم القلعي مؤرخاً لوفاته قوله: من الكامل:
يا أهلَ مكةَ إن سيدنا الذي ... مَلَكَ الحجازَ وكانَ فيه الأرشَدُ(3/36)
رَب السماحةِ والشجاعةِ والحيا ... والحلمِ وصفاه التقَى والسؤددُ
لَقِيَ الإلهَ فكان تاريخِي له ... زيدُ بن محسِن في الجنانِ مخلَّدُ
ومما قيل فيه قول الشيخ محمد بن حكيم الملك رحمه الله تعالى راثياً أباه الشريف محسن ومادحاً له: من البسيط:
صوادحُ البانِ وهْناً شجوُها بادِي ... فمَن عذيرُ فتَى في فَتِّ أكبادِ
صب إذا غنتِ الورقاءُ أرقه ... تذكيرُها نغماتِ الشادِنِ الشادِي
فباتَ يرعفُ من عينَيه تحسبُهُ ... يزبرجُ المدمَعَ الوكافَ بالجادي
جافى المضاجعَ إلف السهدِ ساورَهُ ... سُمُّ الأساودِ أو أنيابُ آسادِ
له إذا الليلُ واراه نشيجُ شَج ... وجذوة في حشاهُ ذاتُ إيقادِ
سماره حينَ يضنيهِ توحُشُهُ ... فيشرئب إلى تأنيسِ عُوادِ
وجدٌ وهمٌّ وأحزانٌ وبرح جوىً ... ولوعة تتلظى والأسَى سادِي
أضناهُ تفريقُ شملٍ ظل مجتمعا ... وضَن بالعودِ دهرٌ خطبه عادِي
فالعمرُ ما بين ضرٍّ ينقضي وضناً ... والدهرُ ما بين إيعادٍ وإبعادِ
لا وصل سلمى وذات الخال يرقُبُهُ ... ولا يؤملُ من سعدَى لإسعادِ
أشجَى فؤاديَ واستوهَى قوى جلدي ... أقوَى ملاعب بين النصْبِ والوادي
عفت محاسنها الأيامُ فاندرسَتْ ... واستبدلَت وحشة من أنسها البادي
وعطلَتهاً الرزايا وهي حالية ... بساكنيها وورَّادٍ وروَّادِ
وعاث صرفُ الليالِي في مَعالمها ... فما يجيبُ الصدَى فيها سوى الصادي
دوارج المور مارَت في معاهدها ... فغادَرَتها عفا الساحاتِ والنادِي
وناعبُ البينِ نادى بالشتاتِ بها ... فأهلُها بين أغوارٍ وأنجادِ
وصوحَت بالبلا أطلالُها وخلَت ... رحابها الفيحُ من هِنْدٍ ومن هادِي
أضحَت قفاراً تجرُ الراسياتِ بها ... ريحُ جنوب وشمل ذيلها الخادِي
كأنها لم تكُن يوماً لبيض مَهاً ... مراتعاً قد خلَت فيهن من هادِي
ولم تظل مغانيها بغانيةٍ ... تغني إذا ما روى مِنْ بَدْرها
ولا عطا بينها رِيم ولا طلق ... رادِي بها بدورُ دُجَى في بُرج منطادِ
ولا تثنتْ بها لمياءُ ساحبة ... ذيل النعيم دلالاً بين أندادِ
فارفتُها فكإني لم أظَل بها ... في ظِل عيشٍ يجلي عذرَحسادِ
أجني قطوفَ فكاهاتٍ محاضرةٍ ... طوراً وطوراً أناجي زينةَ الهادي
هيفاءُ يزرِي إذا ماسَت تمايلها ... بأملَدِ من غصونِ البانِ مَيَّادِ
بجانِبِ الجيدِ يهوى القرط مرتعداً ... مهواهُ حد سحيق فوق أكبادِ
شفاتها بين حُر الدر قد خزنَت ... ذخيرة النحلِ ممزوجاً بها الجادي
إذا نضَت عن محياها النقابَ صبا ... مستهتراً كُلُّ سَجادٍ وعَبادِ
وإن تجلت ففيما قد جلَتهُ دُجَىً ... لنا به في الدآدي أيُّما هادي
وميضُ برقِ ثناياها إذا ابتسمَت ... بعارضِ الدمعِ من مهجورها حادِي
وناظرانِ لها يرتد طرفُهُما ... مهما رنَتْ عن قتيلٍ ما له وادي
وصبحُ غُرتها في ليلِ طُرََّتها ... يومايَ من وَصْلها أو هجرها العادِي
تلكَ الربوعُ التي كانَتْ ملاعبها ... أخنَى عليها الذي أخنَى على عادِ
إلى مراتعِ غزلانِ الصريمِ بها ... يحن قلبي المعنَّى ما شدا شادي
بعداً لدهْرِ رماني بالفراقِ بها ... ولا سقَى كنفيه الرائح الغادي
عَمرِي لقد عظمَتْ تلك الفوادحُ من ... خطوبِهِ وتعدَتْ حدّ تعدادِ(3/37)
فقدْ نسيتُ وأنستْنِي بوائقه ... تلك التي دهدهتْ أصلاد أطوادِ
مصارع لبني الزهرا وأحمدَ قَدْ ... أذكرْنَ فخا ومَنْ أردى بها الهادِي
لفقدِهِمْ وعلى المطلولِ مِنْ دمهم ... تبكِي السماءُ بدمْع رائحٍ غادِي
وشَق جيبَ الغمامِ البرْقُ من حزنٍ ... عليهمُ لا علىَ أبناءِ عبادِ
كانوا كعقْد لجيدِ المجدِ مذْ فرطَتْ ... من ذاك واسطة أودى بتبدادِ
وهْوَ المليكُ الذي للملكِ كان حِمىً ... مذْ ماسَ من بُردِهِ في خيرِ أبراد
كانتْ لجيرانِ بيتِ الله دولتُهُ ... مهادَ أمن لسرحِ الخوفِ ذوادِ
وكان طوداً بدَسْتِ الملك محتبياً ... ولاقتناصِ المعالي أي نهادِ
ثوَى بصَنْعا فيا لله ما اشتملَتْ ... عليه من مجدِهِ في ضيقِ ألحادِ
فقد حويتِ به صنعاءُ من شرفٍ ... كما حوَتْ صعدةْ بالسيد الهادِي
فحبذا أنتِ يا صنعاءُ من بلدِ ... ولا تغشى زياداً وكْف رعادِ
مصابُهُ كان رزءاً لا يوازنُهُ ... رزءٌ ومفتاح أرزاءِ وأسبادِ
وكان رأساً على الأشرافِ منذ هوَى ... تتابعوا إثْرَهُ عن شبهِ ميعادِ
كهفُ المضافِ إذا ما أزمة أزمَتْ ... من خطبِ نائبةٍ للمتنِ هدادِ
كهفُ المضافِ إذا ما أمحلَت سنة ... يضن في محْلها الطائيُ بالزادِ
كهفُ المضافِ إذا كَر الجياد لدى ... حَر الجلادِ أثار النقْعَ بالوادي
كهفُ المضافِ متَى ما يستباحُ حمى ... لفقدِ حامٍ بورد الكَر عوادِ
كهفُ المضافِ إذا الجلي به نزلَت ... ولم تجدْ كاشفاً منها بمرصادِ
كهفُ المضاف إذا حل المغارم في ... نيلِ العلاَ أثقل الأعناق كالطادِ
كهفُ المضافِ إذا نادى الصريخُ ولَم ... يجد له مصرخاً كالغيثِ للصادِي
كهفُ المضافِ إذا الدفرُ العسوف سطا ... بضيْمِ جارٍ لنيلِ العِز معتادِ
بل لهْفَ نَفْسِ ذوي الآمالِ قاطبةَ ... عليهمُ خيْر مرتادٍ لمرتادِ
كانتْ بهم تزدهِي في السلمِ أندية ... وفي الوغَى كُل قدادِ وميادٍ
على الأرائِكِ أقمار تضيء ومِنْ ... تحتِ الترائِكِ آسادٌ لمستادِ
تشكُو عداهُم إذا شاكى ... شك القنا ما صفا من نسخِ زرادِ
إلى النحورِ وما تحوي الصدورُ وما ... وارَتهُ في جُتحها ظلماتُ جسادِ
جَناجناً فُلُقاً تَحوِي جآ جِئُوها ... مما يقصدُ فيها كل قَصَادِ
بادوا فبادَ من الدنيا بأجْمعِها ... من كانَ فكاك أصفادٍ بأصفادِ
وقد ذوَتْ زهرةُ الدنيا لفقدِهِمُ ... وألبسَت بعدها أثوابَ إحدادِ
واجتثَّ غرس الأماني من فجيعَتِهِمْ ... وأنشدَ الدهرُ تقنيطاً لروادِ
يا ضيفُ أقفَرَ بيتُ المكرماتِ فخذْ ... في ضم رحلكَ واجْمعْ فضلةَ الزادِ
يا قلبُ لا تيأَسَنْ من هولِ مصرعِهِمْ ... وعَز نفسكَ في بؤسٍ وإِنكادِ
بمَنْ غدا خلقاً يا حبَّذا خلفٌ ... في الملكِ من خيرِ آباءٍ وأجدادِ
بحائزٍ إرثَهُم حاوي مفاخِرِهم ... عما حوَى الألفُ من آحادِ أعدادِ
وذاكَ زيد أدامَ الله دولتَهُ ... وزادَهُ منه تأييداً بأعدادِ
سما به النسَبُ الوضاحُ حيثُ غدا ... طريقُهُ جامعاً أشتاتَ أتلادِ
لقد حوَى من رفيعاتِ المكارِمِ ما ... يكفي لمفخَرِ أجداد وأحفادِ
أليس قد نالَ ملكاً في شبيبتِهِ ... ما ناله مَنْ سعَى أعمارَ آمادِ(3/38)
أليسَ في وهَجِ الهيجا مواقفُهُ ... مشكورةً بين أعداءِ وأضدادِ
أليس أصبَحَ بالتنعيم سابحُهُ ... لج المنايا ليحمي قُلَّ أجنادِ
أليسَ نبئتَ يوم الليثِ أن له ... وثباتِ ليثٍ يزجّى ذودَ نقادِ
أليسَ يومَ العطا تحكِي أناملهُ ... خلجانَ بحْرٍ بفيضِ التبرِ مدادِ
أليسَ قد راحَ في تأسيسِ دولتِهِ ... من جده المصطفى رمْز بإرشادِ
دامَتْ معاليه والنعمَى يذال له ... مصونها وَهْوَ ملحوظ بإسعادِ
ما لاحَ برق وما ناحَت على فَنَنٍ ... صوادحُ البانِ وهنا شجوها بادِي
ومما قيل فيه - أيضاً - قول الإمام الفضل بن عبد الله الطبري الحسيني: من البسيط:
يا ميُُّ حيا الحيا أحيا محياكِ ... هَلاَّ بأعتاب عتبي فاهَ لي فاكِ
مَن لي إليكِ وقد أودَى صدودكِ بي ... ولا تزالينَ طوعاً لي أفَّاكِ
يا هذه لم أزَل من بُعدِها وَدُنُو السقم من بعدها موثوق أشراكِ
تيهي أطيلي التجني والجفاء وما ... أردتَ فاقضِيهِ بي فالحسنُ ولاكِ
رفقاً رويداً كإني بالعذولِ علَي ... تطاولِ الصد في ذا الصب عزاكِ
إن لم يعز عزا عيني وقَد حُظِرَت ... مرآكِ فليَهنِ قلبي وهوَ مرعاكِ
حسبِي دليلاًعلى شوقِي المبحِ بي ... إني لَثَمتُ عذولي حينَ سَماكِ
والجفنُ في أرقِ والقلْبُ في حرقِ ... والعينُ في غرقٍ إنسانُهاً باكي
يامهجةَ الصب غيرالصبر ِليس وقَد ... حنت بما قد لاقَيْت عيناكِ
ويا عذولي لُمِ اكفُفِ اضْلُل اهدِ تَرَفقْ لِج دَعْ أَوجِبِ اطْلاَقِي وإمساكِي
ويا أسيرةَ حجليها أرَى سَرَفاً ... لُبْسَ الحلى وقد منعْت مرآكِ
عطفاً علَى حالِ من لا يبتغي بدلاً ... وليسَ يشفيه من مشفيه إلاكِ
وأجملي الود واخشَى عدلَ ذي الشرَفِ ال ... مؤيد العز مولايَ ومولاكِ
زيدُ بن محسِنَ سلطانُ الأنامِ إما ... مُ الحضرتَين أمانُ الخائفِ الباكي
كهفُ الضيوتف وثلاَّمُ الصفوفِ وَمَناحُ الصنوفِ وفاءً دون تَشكاكِ
وباسل لو رأَى شزراً على حنقِ ... للموتِ ما اخترم المَشكُو والشاكي
ألقاسمُ الجودَ في سامٍ وذي ضعةٍ ... كواسم الجود في نبتٍ وأشواكِ
يُلقى فيلقى بفَضلٍ غير محتجب ... وشأو شانٍ علا في غَيْرِ إدراكِ
ونهبة لو رأى الضلال صُورتها ... لأصبَحُوا بين أخيارِ ونُسَّاكِ
يهتز للعفوِ من حلمٍ ولاطربٍ ال ... مثموُل من شمسِ شماسٍ وبتراكِ
مهذب رأيه والعزمُ ناصرُهُ ... أغناه عَن أزرِ أعرابٍ وأتراكِ
وذي سطا كم تشاكَى بأسَهُ شاكي ... في الملتقَى وتحامَى بَطشَهُ شاكي
ثنتُ الجنانِ إذا كان الخميسُ وغا ... كأنه بين ظِل الضالِ والراكِ
كم أضحَكَ السيْفَ من باكي يجدلُهُ ... والزحف ما بين مفْتاكٍ وفَتاكِ
ومَنْ يكنْ ذا خليلٍ غير صارمِهِ ... والعزم يوشكُ أن يفجا بأضراكِ
وذي كعوب له من طولِ حامِلِهِ ... طول بمجتمعِ الجَنْبَيْنِ شكاكِ
مخاطب بَلسانٍ ناطقٍ بعجا ... ئبِ المنايا بديهاً يا لَهُ حاكي
هو المليكُ الذي أسْنَى الممالك وال ... أزمان مِنْ بعدِ إسناء وإحلاكِ
وطَبقَ الأرضَ عدلاً والضواحيَ فالضدانِ في أمرِهِ المَنْكى والناكي
ونادَتِ الغُبُر الخضراء لو عقَلَت ... غيظاً به ضرتي أبعدت مرماكِ
وذكْرُهُ أرَجَ الأرجاءَ شاسعةًفَطِيبُ رِيحِ الصبا مِنْ عَرْفه الزاكِي
يا نفْسَ آمِلِهِ بُشْراكِ بشراكِ ... ولو قضيت بإذنِ الله أحياكِ(3/39)
أو رمْتِ أجناد عُدْم أو نويْتِ بما ... أعياكِ محمله أغنَى وأقْناكِ
أوْرَدَ أَمْسَك حالا أو مُضِي غدٍ ... بسعده كانَ ما تبغين يلقاكِ
ويا سيادتَهُ مِنْ أن يطاولها ... مثلٌ وإياه حاشاهُ وحاشاكِ
ودولَة في حياةِ العمَّرِ غرتُها ... ما الدهْرُ حتى انقضاء الدهْرِ ينساكِ
ويا ليالِيهِ قد دامَتْ بسؤددِهِ ... من أينَ للملكِ شرواه وشرواكِ
ويا أيادِي أيادِيهِ السنيَّة لا ... ينفك حسنكِ مقروناً بحسناكِ
لو كان في عَصْرِهِ بعد النبوةِ مب ... عوثٌ لكان بلا دفعِ وإشراكِ
لوطُرزَتْ باسمه الراياتُ ما حذرَتْ ... أصحابُها غلباً أو حطم دهاكِ
وقالتِ العينُ لو ترنو إليه بها ... سناه يا أرْضُ عني كان أغناكِ
ولو تقدم عهداً كان ممتدحَ ال ... آياتِ في طَي منشوراتِ إصكاكِ
فالحمدُ بعدُ له والحمْدُ قبلُ لمَنْ ... حبا الأنامَ سريَّاً أصله الزاكِي
لا زالَ واقِيَ من والَى ولاذَ به ... وقعَ الخطوبِ بعز منه فَتاكِ
يابنَ الأُلى للعُلاَ شادوا منيعَ حِمى ... يحجه كُل كفافٍ وفكاكِ
بالمجدِ سادوا وداسُوا هامَ شانِئِهِم ... وسيف عزمٍ لروح القرنِ سفاكِ
قد ذاد في شرفِ البطحاءِ أنكَ في ... جيرانها خيرُ فَعالٍ وتَراكِ
مولى الجميل ومنجاةُ الدخيلِ ومن ... حاةُ الخذيلِ سرى بعين أملاكِ
كافِيةْ بُسِطَت وزناً وقافيَةً ... تلوحُ كالدر أو ياقوتِ أسلاكِ
يقولُ لو خالها الحِليُّ خاطره ... حلاك يا من صنيع الفضل حلاكِ
وباعَ قيراطه البرهان منبخساً ... يزيفه في انتقادِ كُل حَكاكِ
وقالَ واسمك يا ذا العِز واسطها ... لطلعةِ البَدرِ أن لا بَدرَ إلاكِ
تبغِي القبولَ وقَد جاءَت معارضةً ... أمثال كفى وفكي قيد أسراكِ
ثم وليها الشريف سعد ابن الشريف زيد ابن الشريف محسن بن حسين بن حسن، لبس الخلعة، ونادي مناديه في البلاد، يسمعه الحاضر والباد، والناس حوله لهم ضجيج كالرعد: البلاد بلاد الله، وبلاد السلطان، وبلاد الشريف سعد.
وانجلت البصائر والأبصار، ذهبت الحيرة، وربك يفعل ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة.
وقد أرخ صاحبنا وعزيزنا الشيخ الأكرم الشيخ أحمد بن قاسم الخلي جلوسه فقال وفيه لطف إدخال بديع: من مخلَع البسيط:
قامَ بأمرِ البلادِ سعد ... أيدَ رَب السماءِ مُلكَه
بغايةِ المجدِ أرِّخُوهُ ... قد نِلتَ بالسيفِ أمرَ مَكَه
ولمولانا المرحوم الإمام فضل ابن الإمام عبد الله الطبري في ذلك قوله: من خلع البسيط:
قالوا لنا اليَومَ ماتَ زيد ... والناسُ تخشى وقوعَ عَركَه
والقومُ يسَّاءلونَ هذا ... قالَ لذا من يرومُ ملكَه
فقلتُ والقيلُ قد تناهَى ... والخلقُ في ضَجةٍ ورَبكَة
بيتاً صحيحاً لهم جواباً ... مُؤَرخاً فيه رُمتُ سَبكَه
يبايعوهُ يملِّكُوهُ ... سعدُ بن زيدٍ شريفُ مَكه
ولأخينا المرحوم القاضي أحمد ابن القاضي مرشد الدين العمري الحنفي قوله مؤرخاً: من مجزوء الكامل:
شمسُ الخلافةِ أشرَقَت ... وبدا منيراً سَعدُها
مذ حازَها الشرَفُ الذي ... بِعُلاَهُ زُيُّنَ عِقْدُها
سعدُ الذي تاريخُهُ ... خَيرُ الملوكِ سعيدها
وكان مع الشريف زيد مملوكان أحدهما تركي الجنس اسمه ذو الفقار، والآخر حبشي اسمه بلال.
أما الأول: فكان عند مولانا الشريف من زمان حتى كبر وصار شيخاً للعسكر اللهام، فقام عليهم أحسن قيام.(3/40)
وكان ذا هيبة ورأى سديد، صاحب قوة وبأس شديد، فدعاه مولانا الشريف في بعض الساعات إليه، وأوصاه على بنيه وعولته - رحمة الله عليه - .
فلما انتقل الشريف إلى دار الآخرة، امتثل مولاه أوامره، وقام على قدميه وشمر، وكشف عن ساعديه وشد المئزر، ورتب العساكر في المدارس بلصق المسجد الحرام المعمور، ووزعهم على المنائر والدور، ووضع المدافع على رؤوس المنافذ والطرقات، وضبط قانون الحرابة من سائر الجهات، هذا ومولانا السيد حمود لم يبرح من بيته مع بني عمه وشيعته، ونار الفتنة قائمة أشد قيام، قلنا: يا نار كوني برداً وسلام.
ثم بعد ذلك جلس مولانا الشريف سعد للتهنئة والسرور، وتأطد له الملك بفأل اسمه والحبور، ودعا مشايخ العرب وأهل الدرك وألزم كلا بجهته، ولم يقع ولله الحمد بمكة المشرفة شيء من النهب أو القتل أو الخوف " فَليَعبُدُوا رَب هَذا البيتِ اَلَذِي أَطعَمَهُم مِن جوُع وَآمَنَهُم مِن خَوْفِ " قريش: 3،4 ومن لطف الله - سبحانه - أن كان انتقال مولانا الشريف زيد - رحمه الله تعالى بعد انقضاء الحج وتوجه كل إلى بلده.
وكان بمكة المشرفة يومئذ بعض تجار من حجاج الشام تخلفوا عن أميرهم، وقد جرت العادة بذلك أنهم يقيمون مدة لقضاء حوائجهم بعده، ثم يتوجهون ويجتمعون به في المدينة المنورة، فلما أرادوا السفر طلبوا من مولانا الشريف سعد - حفظه الله تعالى - أن يأمر من يوصلهم المدينة خوفاً على أنفسهم وأموالهم، فأجابهم إلى ذلك - كان الله له - ، وأرسل معهم السيد فارس ابن المرحوم بركات بن حسن، ومعهم جمع من العسكر، فأوصلوهم المدينة الشريفة سالمين، ولله الحمد والمنة.
ثم أمر حاكم الطائف، وكان بمكة جمع من أهل الطائف من الحجاج قد أحصروا عن أولادهم وأموالهم، ولم يمكنهم التوجه شفقة، فجهز جماعة من العسكر صحبة حاكم المذكور، فساروا بهم من ليلهم، فوصلوا إلى الطائف من طريق يعرج، نادى مناديه في البلاد من ساعته.
ولما وصل الخبر بوفاة الشريف زيد - رحمه الله تعالى - إلى الطائف قبل وصول الحاكم اضطربت البلاد اضطراباً شديداً، وعزل السوق وكل أغلق بابه ونزع ثيابه، دفن أسبابه، إلى أن وصل الحاكم، فاطمأنت حينئذ الخواطر من البوادي الحواضر، وكان إذ ذاك مولانا السيد زين العابدين بن عبد الله بن حسن بالطائف أولاده وأتباعه، فلما وصل هذا الخبر ركبوا الجياد، وداروا البلاد، ونأدوا بالأمان، فخمدت بذلك داعية البغي والطغيان، وطمنوا الناس، وأمروهم بالرجوع إلى السوق، وبسط الدكاكين ففعلوا وامتثلوا، وحمدوا ربهم وشكروا، وكان وصول الحاكم آخر ذلك النهار. ولما كان يوم الرابع من انتقال مولانا الشريف وهو يوم جمعة أراد الخطيب أن يخطب فوقف عن الخطبة لسبب من الأسباب، يدريه أولو الألباب، فصلى الناس الظهر.
وأما مكة فخطب الخطيب بها، ودعا للشريف سعد بالنصر والتأييد، والناس في عيش رغيد. وفي هذا الوقت وقع طراد في جهة المثناة قريباً من وادي وفي بين قبيلتين: قريش والحمدة من ثقيف واستمر إلى وقت العصر، وحصل بينهما بعض راحات، وكان بمكة المشرفة يومئذ جماعة من الأعراب أهل خيل وركاب لما بلغهم موت الشريف زيد رحمه الله انطلقوا على رؤوسهم إلى البلاد، وكل من وجدوه في طريقهم أخذوه بالظلم والعناد، وأكثروا في الأرض الفساد، إن ربك لبالمرصاد، وما كان من طريق الحجاز فوقع فيها الخوف والنهب، والقتل والضرب، وكل من ظفر بصاحبه أخذه، وأهل القرى ترفعوا عن الطرقات، واجتمعوا في بعض الجهات خوفاً على أنفسهم وأموالهم.
وفي اليوم الثالث من موت مولانا الشريف - سامحه الله تعالى - وهو يوم الخميس - : وقع اضطراب كبير من بعد الظهر إلى بعد العصر بين مولانا الشريف مد، ومولانا السيد حمود، وكل منهما جمع جيوشه، وتحصنوا في البيوت والمنائر، وركبوا جماعة السيد حمود في الضلع الذئ خلف بيته والجبل المعروف بجبل عمر، وتراموا بالرصاص من بعد، ولم تحصل مواجهة، ثم إنهم استمر بهم حال وكل يوم يصبحون في قيل وقال، وكل من الشريفين واثب على قدميه كسبع الصيال، سبحان الله يؤتي الملك من يشاء وهو الكبير المتعال.(3/41)
فلما كان اليوم الثالث عشر من يوم الوفاة: وقع الاتفاق بين مولانا الشريف سعد ومولانا السيد حمود على قدر معلوم من المعلوم وعينت جهاته، وكان يوماً عظيماً عندنا أيها الناس، وحصل بذلك الأمن وارتفع البأس وأمر مولانا الشريف بالزينة ثلاثة أيام، وظهر السرور وزالت الحزون، وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون.
وكتب محضر من الشريف سعد عليه خطوط الأعيان من الأفندي وشيخ الحرم والمفتي وأعيان البلاد على مراتبهم وعساكر مصر كذلك، وذهب به بلال أغا إلى مصر المحروسة، فأوصله باشا مصر ومعه مكتوب آخر من عبده إلى الأبواب العلية، فلما وصل فتح وقرئ في ساعة مباركة طالعها سعد السعود، ثم أمر برد الجواب على ما يسر الخواطر والألباب، " واللهُ يَرزقُ مَن يشاءُ بِغَيْرِ حِساب " البقرة: 212، ولذلك كتب مولانا السيد حمود محضراً ليس عليه إلا خطوط السادة الأشراف، فأرسله صحبة رجل مصري يسمى الشيخ عيسى، فقدر الله أنه مات عقب دخوله مصر بيومين، فوجدوا العرض في تركته، ولم يصل مقصده.
وكذلك كتب عرضاً مولانا السيد محمد يحيى بن زيد من المدينة الشريفة وكان بها، ووضع أعيان المدينة خطوطهم عليه، والتزم بأربعين ألف دينار للوزير الأعظم. قلت: قد كان أخرج مولانا الشريف لولده السيد محمد يحيى أمراً سلطانياً بولاية مكة فلم يتمكن من إنفاذه خشية ما يترتب على ذلك من المفاسد، وعدم الرضا من بقية أولاده وبنى عمه، وكان في كل سنة - غالباً - لم يحج معه إلا اثنان من أولاده هما حسن ومحمد يحيى، وكان السيد محمد يحيى بالمدينة فطلبه للحج في ذلك العام وهو عام ست وسبعين، فامتنع لأمر يريده الله، فقال مولانا الشريف زيد عند امتناعه: " إنَكَ لا تَهدي من أَحببت " القصص: 56.
وكان الشريف سعد ابتعد نحو الشرق فجاء وتقرب من والده، وحج معه ذلك العام وكان من أمره ما كان، والكل فعل الله سبحانه.
وأنشد لسان الحال عن الشريف سعد فيما قصد وأم: من الكامل:
وإذا السعادة لاحظتك عيونها ... نم.........
واستمر الناس منتظرين لورود الخبر السلطاني والتشريف الخاقاني نحو ستة شهر، وفي كل شهر يأتي المبشر من مصر المحروسة بتمام الأمر لمولانا الشريف صعد ويلبس خلعة البشارة، وفي ذلك إشارة لأهل الإشارة.
ولما كان يوم الخميس خامس عشر جمادى الآخرة، حصل بين بعض العسكر العبيد شنآن بالمعلاة، فتراموا بالحجارة وسلت السيوف، ولم يقع بينهم قتال، وكان هناك بعض أولاد الشريف - حفظهم الله تعالى - فقاموا بينهم وأصلحوا لقضية.
ثم دخل علينا شهر رجب الأصم، فلما كان يوم الجمعة رابع الشهر عند الغروب حصل بين مولانا الشريف سعد، وبين جماعة السيد حمود شنآن كبير، وصاح الصائح في العسكر، فاجتمعوا وكل واحد منهما جمع جموعه، وتزبروا وتحصنوا في البيوت والجبال، وتراموا بالبندق ليلتين بيوميهما على الشاخص والخيال، ولم يفقد من كل طائفة إلا رجل أو رجلاًن، ومات من الرعية شخصان خطأ من غير قصد، وكل ذلك مع فراغ الآجال.
فلما كان وقت الضحى وقع الصلح بينهم، ونادى المنادي بالأمان، فأمنت الناس واستبشروا وحمدوا ربهم وشكروا.
ثم إنه استمر الحال هكذا إلى اليوم الثاني والعشرين من الشهر المذكور، فجاءت البشري بالتحقيق بأن الأمر قد برز لمولانا الشريف سعد، فلما كان صبح يوم الجمعة سادس عشري رجب المذكور، دخل رسول مولانا السلطان محمد خان - نصره الله - وأيد به الإسلام - إلى مكة المشرفة حرسها الله تعالى بالبيت الحرام في موكب عظيم، ومعه خلعة نفيسة من مولانا السلطان ومصلاه الذي يصلى عليه ومكتوبان معه من هنالك بأن الأمر له من غير شريك ولا منازع في ذلك، فدخلوا بها من باب السلام إلى المسجد الحرام، فلبسها في الحضرة الشريفة تجاه بيت الله والمقام بحضرة الساعة الكرام والعلماء الأعلام، وجيوش الإسلام، ما بين خاص وعام.(3/42)
ثم قرئ المرسوم السلطاني، وفيه غاية التعظيم والإجلال، ونشر محاسن لمولانا الشريف سعد أعزه الله بجاه جده الأمين، والوصية على الرعية والقيام بمصالحهم. وأمان الزوار والحجاج والمعتمرين، وهو مفند مستبين محرر، مؤيد بنص " إناً فتحنا لَكَ فَتحاً مُبينا ليغَفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَمَ مِن ذَنْبِكَ وَما تأخرَ " الفتح: 1، 2، ومع ذلك كان لفظه عذباً وجيزاً، مبشراً بنص " ويُتِمَ نِعمَتَهُ عليكَ وَيهديَكَ صِرَاطاً مستَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصراً عَزيزا " الفتح: 2، 3. ثم إنه توجه إلى البيت الشريف، ووقف بالباب والتزم بالملتزم والأعتاب، وذهب إلى دار السعادة وجلس للتهنئة مسروراً، وكان ذلك في الكتاب مسطوراً.
ونودي بالزينة سبع ليال، بعد أن كان الناس في حالة مخوفة في ذلك اليوم، فاطمأن البال، وكفى الله المؤمنين القتال.
ولما لبس الخلعة واستقر له الأمر وسرى عنه ما كان يجده من الكيد والقهر، وبدل الله العسر باليسر، وأيده بالنصر، مدحه الفضلاء بقصائد مجيدة، وأشعار بأمطار سماء الأفكار مجيدة.
وكنت ممن تشرف بالانتظام في صلك نظامهم النضير عوده، اللامع في أفق المعالي مزايا ممدوحهم وسعوده، فقلت من بحر الطويل من العروض المقبوضة والضرب التام والقافية من المتواتر قولي: من الطويل:
سقَى الغَيثُ ذَياكَ الأُبيرِقَ والسقطا ... فأنبَتَ في أرجائِهِ الرندَ والأرطا
وحَيَّا رُبا تلكَ المعاهدِ فاكتسَت ... رياضٌ لها من نسجِ إبرته بَسطا
معاهدُ لمياء البديد تعطرَت ... ومائِثُ ميثاها بما تسحَبُ المِرطا
لها بَشَر كالماءِ إذ قَلبها صفا ... وناظرُها كالسيفِ لكنه أسطَى
إذا ما دجا ليلٌ حكى ليلَ جَورها ... وإن لاحَ نجمُ الأفقِ سمنا به القرطا
رداحٌ إذا لاحَت فكالشمسِ أو رنَت ... فكالظَّبيِ أو ماسَت ترى الحل والربطا
أراشَت لأحشائِي رواشقَ مُقلَةِ ... ترَى نبلها يُصمِي الفؤادَ إذا أخطا
هيَ السحرُ إلا أنه سر خالقٍ ... عليه يصيرُ الحيرُ من رقها أوطا
لها سلكُ در ضمنَ خاتمِ عسجدِ ... طلى لعساً يا حسنَ ختمٍ حوى سِمطا
وجيد أعارَ الريم حسنَ التفاتِهِ ... فلا صَيد فيه لا تَراهُ ولا لعطا
ومهضمُ كشحٍ مخمص الغورِ رقةً ... له جَسَدِي من بعضِ أسقامِهِ أعطَى
كما قد أنالَ الجسم فَترَة جَفنها ... نحولاً فكافاها عَلَى وفقه المعطَى
رهينة خدرٍ يكسبُ الحلى ... حُسنها جمالاً ولولا ذاكَ للشَّيْن ما غطَّى
كأن قد براها الله حسناً كما تشا ... فيا طولَ ذاكَ الحسن في القامةِ الوسْطَى
سقاها ومرباها سُحُوح مِنَ الحيا ... ورَوَى على أكنافها الأثل والخمطا
فيا شَوْقَ أحشائِي للحظَةِ لَحْظها ... وإني بها إذْ قد نأتْ دارها شَحْطا
بلَى قد نأت عني ولا بَين بيننا ... وبُذلتُ مِنْ عين الرضا بالجفا سخْطا
كذلكَ أخلاقُ الغواني ومَنْ يرمْ ... بهن الوفا كالمبتغِي في الأضا قرْطا
ومَم لم يذُدْ ذَوْدَ التصابِي وسربه ... قصاراهُ فيه أن يذلق وينحَطَّا
ويمسي صريعَ العينِ لا ناصر له ... سوَى عَبْرة يَروِي تفجُّرُها سطَّا
نعَم لو نحا في كل أمرٍ يئودُهُ ... مليكَ الورَى سعد بن زيد لما شطَّا
مليكْ له من طينةِ المجْدِ جوهر ... به ازدانَتِ الدنيا وقدْماً هي الشمْطا
شريفُ العلا والذاتِ والوصْفِ منتم ... إلى خَيْرِ أصلٍ طابَ في قنسه ربْطا
مليك رقا في قنةِ المجدِ رتبَةً ... تجل سواها أن يقاسَ بها هبْطا
شريفْ أتيحَت فيه أسرارُ والِدٍ ... هو القطْبُ لا ريباً بذاكَ ولا غمطا(3/43)
مليكُ بلادِ الله سعد العلا ومَنْ ... يشابه أباه في علاهُ فما أخْطا
طويلُ البنا رحْبُ القنا منهلُ الغنا ... مزيلُ العنا مولى المنا باللُّها سفْطا
عريضُ الجدا غوْثُ الندا موردُ الندا ... حمامُ العِدَى مردِي الردا للهُدَى فرطا
فيا ابنَ رسولِ الله وابْنَ وصيَّهِ ... ودرةَ عقْدٍ أنْتَ أنْتَ له وسْطا
لقد حطتَ أكنافَ الخلافةِ عزمةً ... وقمتَ بها حفظاً وشَيدتها ضبْطا
وأيدتها بالحزمِ والرأْيِ حينئذْ ... ثبَّت جناناً لا فزوعاً ولا قنْطا
فأنسيتَنا حزْناً ولم نَنْسَ من مضَى ... تغشَّت شآبيبُ الرضا رمْسَهُ همطا
أبى الله إلا أن تحل محلهُ ... بمرتبة عزت لغيرك أنْ تمطَى
فوافاكَ بالتأييدِ ما كان كامناً ... مِنَ الأَزَلِ العُلْوِي ينتظرُ الشرْطا
فما خط تقليداً على الطرسِ كاتبٌ ... ولكن قضاءُ الله من قبلِهِ خَطَّا
إذا أبرمَت في سابقِ العلْمِ لامرئٍ ... عنايته استغنَى العشيرة والرهْطا
ولكنني أرجُو منَ الله جمعَهُمْ ... على خيرِ حالٍ ما رجاه بمستبْطا
فطأ في العلا فالسعدُ وطأ لاسمِهِ ... أشار لذا بحْرُ الطويلِ رَوِيَّ الطَّا
إليكَ ابنَ خَيْرِ الناسِ عذراءَ مدحة ... غَذَتها القوافي لا سنادْ ولا إِيطا
أتاكَ بها فكرِي الكليلُ ومَهرُها ... قَبُولُكَها منُّي وحَسبي به إعْطا
سأملأُ ديواني بمدحِكَ مدحةً ... لشعرِيَّ كَي يستوجبَ الحمدَ والغبطا
فدُم وابقَ واسلَم لا برحتَ مؤيداً ... على العز مهما أنْ تحاوله تعطَى
ولا زلتَ محفوظَ الجنابِ عزيزَهُ ... رعاياكَ لا تخشَى اهتضاماً ولا قَنْطا
مدى الدهرِ ما طابَ القَرِيضُ بمدحِكُم ... فأخجَلَ مسكَ الختْمِ والند والقُسطا
ولما تم أمر الصلح بين الشريف سعد، وبين السيد حمود، واستقرت البلاد وأهلها لأن استقرارهم باستقراره، وتعبهم بتعبه وهو معهم كالرأس مع الجسد، وكالمضغة وهي القلب كما ورد. جاءه مولانا السيد حمود - رحمه الله تعالى - إلى بيته موافقاً له فيما يحبه ويهواه هو وأتباعه يهنونه ويباركون له فيما منحه الله وأعطاه، وصار يتردد إليه بكرة وعشية مظهراً له الود والصداقة مليناً له القول من غير تعب ولا حماقة، وكان في هذه المدة يطلبه ما كان وزيادة، ولم يخالفه مولانا الشريف في قول ولا فعل بل يجيبه إلى ما أراده أدام الله نعمه عليه وإمداده بحيث أن الرعية نسبت هذه الموافقة منه إلى أثر عمل من الأعمال من الحركات والسكنات، لكن إنما الأعمال بالنيات.
وفي هذه المدة كان بمكة المشرفة غلاء في الطعام كالحب ونحوه في شعبان ورمضان وشوال واشتد في آخر الوقت وعدم من الأسواق، ووصلت الكيلة الحب إلى خمسة عشر محلقاً والرز كذلك، وفي أول ذي القعدة حصل الفرج بدخول المراكب المصرية، وزال التعب عن المسلمين ببركة قدوم الحجاج الوافدين.
ثم إنه حصل تنافر بين مولانا الشريف سعد، والسيد حمود من جهة عدم الوفاء بالمعلوم الذي له مع ما في خاطره من التعب، فدعته الأنفة إلى الخروج لهذا السبب، فبرز يوم الأربعاء ثامن في القعدة الحرام من سنة سبع وسبعين وألف، وأقام بالزاهر مدة، وهو من الغيظ في أعظم شدة، فبرزت إليه لموادعته، واستغرقت اليوم أجمع في محادثته، فكان من جملة كلامه جواباً لقولي: لعل مولانا - حفظه الله - يتداركه الله بسعة فيها حصول المنا، فيكفيكم الله بسببها تعب الجلا والعنا: ما أرى، إلا أن بيت الشريف قتادة المستشهد به في سابق الزمان، قد قارب مصداقه في هذا الأوان، يشير إلى قوله: من الطويل:
مصارعَ آل المصطفى عُدتِّ مِثل ما ... بدأت ولكن صِرْتِ بين الأقاربِ
فقلت: الله يقمر بخير، ويكفيكم كل ضيم وضير.(3/44)
ولم تزل الرسل بينهما تسعى في حسم مادة الشقاق، ولم يتفق الحال إلا على عدم الاتفاق. فتوجه إلى وادي مر وأقام بمن معه من السادة الأشراف والأتباع والعبيد، وسبورهم تصل إلى مكة أسفلها وأعلاها يدلجون بالليل إذا يغشى، ويصلون الشمس وضحاها، وأخذوا فرساً من مربطها لبعض خدام الشريف أسفل البلد، وذهبوا ولم يذهب إليهم أحد، كل ذلك استحثاث منهم للخروج إلى البراز والمنازلة، والظهور عن العمران التي لا تطول فيها تلاوة سورة المجادلة، والشريف سعد - حفظه الله - لم يستخفه الطيش، ولم ينفذ إليهم خاء خيل ولا جيم جيش.
وأقبل جماعة من الشام، ومن مدينة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، فصدهم الخوف عن الدخول لما هم قاصدون إليه، ومكثوا أياماً بقرية من القرى، وحصل لهم من التعب ما لا مزيد عليه، حتى وصل إليهم الحاج المصري فدخلوا معه مكة مشرفة. ولم يزل الشريف سعد - متع الله بحياته - ولسان حاله يتلو في المبدأ والمعاد " وأفوِضُ أَمرِي إِلَى الله إِن اَللهَ بَصِير بِالعِبادِ " غافر: 44.
وأما مولانا السيد حمود - رحمه الله - : فإنه لما كان يوم السبت رابع ذي الحجة الحرام من السنة المذكورة قدم على الحاج المصري، والأمير عليه أزبك بك، فركب إليه هو ومن معه من السادة الأشراف والأتباع والعبيد، فعقدت الأشراف من أنفسها طوقاً علي وطاق الأمير وعسكره، ولم يدخل إليه إلا ثلاثة أشخاص: مولانا السيد حمود، ومولانا السيد أحمد الحارث، ومولانا السيد بشير بن سليمان، فأنهوا إليه حالهم وعدم الوفاء من الشريف سعد فيما التزم لهم من معاليمهم ومجانيهم، وأننا أيها الأمير لا ندع أحداً يحج إلا إن أخذنا ما هو لنا وكان قدره مائة ألف أشرفي، فالتزم للسيد حمود أن ينقده الشريف قبل الصعود خمسين ألفاً منها.
فقبل مولانا السيد حمود التزامه، وخلي سبيله ومن معه.
فلما دخل الأمير مكة يوم خامس ذي الحجة الحرام، خرج إليه الشريف سعد إلى المختلع فلبس الخلعة المعتادة على العادة، ثم كلمه الأمير فيما التزمه للسيد حمود، ومن معه فصَدق التزامه، وأسلم خادم مولانا السيد حمود الخمسين الألف قبل الصعود من السيد إبراهيم بن محمد بإحالة من مولانا الشريف - حفظه الله تعالى - .
ثم لما دخل أمير الشامي في سابع ذي الحجة: توجه مولانا الشريف إليه كذلك، ولبس الخلعة المعتادة على العادة.
ثم في اليوم الثامن توجه إلى عرفة، وفي الثاني من أيام منى لبس الخلعة المعتادة، وفي اليوم الثالث نفر الناس إلى مكة المشرفة، وهم آمنون مستبشرون، وأما أهل مكة ومن حولهم من القرى، فلم يحج منهم في هذا العام إلا القليل؛ وكذلك الأعراب لما وقع بهم من التعب والكدر، والخوف والضرر، كل شيء بقضاء وقدَر.
ثم لما كان يوم الاثنين عشرين ذي الحجة الحرام وصل مكة مولانا السيد حمود، ومعه السيد عبد المعين بن ناصر بن عبد المنعم بن حسن، والسيد محمد بن أحمد ابن عبد الله بن حسن، والسيد بشير بن سليمان بن موسى بن بركات بن أبي نمي، والسيد مبارك ونافع ابنا السيد ناصر بن عبد المنعم في نحو تسعة أشخاص، ومن العبيد نحو خمسة وستين عبداً، وما ذاك إلا لأن أمير الحاج، وكبار العساكر قصدوا الصلح بينه وبين مولانا الشريف، وتردد الرسل بينهم وبينه يطلبونه لذلك، وألزموه بمحاضر من جماعة الأفندي الأعظم وصلوا إليه إلى وادي مر، فجاء وحضر عند مولانا الأفندي، وحضر الأمراء ووجوه أركان الدولة، وعماد أغا وأكابر العساكر، فأرسل مولانا الشريف سعد بلال أغا وكيلاً عنه في الخصومة والدعوى، فاغتاظ مولانا السيد حمود من ذلك، وأراد الفتك به في ذلك المجلس، فذهب مسرعاً فزعاً، فأرسل الشريف أخاه السيد محمد يحيى وكيلاً عنه، وتطالبا على يد الحاكم الشرعي، وطال المجلس، ولم يقع بينهما اتفاق، ثم ادعي عليه بما أخذ من طريق جدة من الأموال، فلم يثبت عليه وجه شرعي في ذلك، وطلب مولانا السيد حمود أن يتوجه إلى الديار المصرية، ويرفع أمره إلى الحضرة السلطانية فأذنوا له، واتفق الحال على ذلك.
ثم إنه لما توجه الحج الشامي وسائر الحجاج توجه معهم حتى وصل إلى بحر فتخلف عنهم وأقام فيها مدة.(3/45)
ولما دخلت سنة ثمان وسبعين وألف، توجه مولانا السيد حمود من بدر إلى ينبع في شهر صفر منها، وأرسل ولده السيد المرحوم أبا القاسم بن حمود، وأرسل، مولانا السيد أحمد بن الحارث ولده السيد محمد بن أحمد، ومعهما السيد غالب بن زامل بن عبد الله بن حسن وجماعة من ذوي عنقاء السيد بشير، ومحمد وظافر بني واضح، والسيد محمد بن عنقاء وولده، وأرسل معهما قوداً هدية إلى باشا مصر المسمى عمر باشا نحو ستة أفراس منهن البغيلة والهدبا والكحيلة، فساروا إلى أن بلغوا الحوراء المنزلة المعروفة، فلاقاهم قاصد من إبراهيم باشا المتولي بعد صرف عمر باشا بمكاتيب متضمنة للأمر بالإصلاح، والاتفاق على نهج النجاح، فرجع السيد غالب بن زامل صحبة القاصد إلى مكة لينظر ما يتم عليه الحال، فتنقطع مادة القيل والقال، وتسقط كلفة الارتحال.
فأقام القود ومن معه بالحوراء نحواً من خمسة عشر يوماً ينتظرون الفرج بعد الشدة، فلم يصل إليهم خبر بعد هذه المدة، فلما لم يصلهم خبر ساروا إلى مصر فدخلوها ليلة عيد المولد، وقدموا مكاتيبهم والقود لإبراهيم باشا، فأكرمهم وأعظمهم وأضافهم واحترمهم، فاستمر الحال كذلك إلى شهر جمادى الآخرة، ولم يرجع ذلك القاصد من مكة إلى مصر، فأشيع بها أن السادة الأشراف قتلوه، فحصل الهرج والمرج، وجاءت الأكاذيب فوجاً بعد فوج، فأشار بعض الأشقياء عَلَى الباشا بإمساك السيدين أبا القاسم ومحمداً، فأمر بنقلهم من محلهم الأول وهو قايتباي إلى بيت يوسف بك.
وقد كان وصل السيد محمد يحيى إلى مكة أواخر سنة سبع وسبعين، وتقدم أنه هو الذي كان وكيلاً عن أخيه الشريف سعد في الدعوى على السيد حمود لما حضر بمجلس أفندي الشرع في موسم السنة المذكورة، فاستمر معه إلى عقب ذهاب الحج، ثم طلب من أخيه الشريف سعد أن يجعل له ربع محصول البلاد وينادي له فامتنع الشريف من ذلك، فغضب وبرز من مكة متوجهاً إلى السيد حمود وأقام بالزاهر مدة، ثم إن هذا الخبر بلغ مولانا السيد أحمد بن زيد وكان بالشرق، فجاء مسرعاً ولحقه قبل أن يتوجه وأرضاه بجملة من المال، فلم يرض إلا بالمشاركة بالربع وبالنداء في الحال، وتوجه ولحق بالسيد حمود واتفق معه، ولما لم يحصل اتفاق بين مولانا الشريف سعد، وبين مولانا السيد حمود بعد وصول القاصد للإصلاح، أرسل مولانا الشريف سعد إلى الديار المصرية، وإلى مولانا السلطان ذا خبرة بما جرى وما كان.
وكذلك أرسل مولانا السيد حمود - رحمه الله تعالى - وعرف وأقام كل منهما يعلل ويعسى ويتشوف.
وبرز مولانا الشريف سعد إلى الزاهر في موكب عظيم، وأقام ينتظر فرج المولى الكريم.
وكان بروزه يوم عشرين من ربيع الأول من سنة ثمان وسبعين.
وفيها - أعني سنة ثمان وسبعين - ظفر بالبلد المعروفة بالقنفذة برجل يتعاطى السكة خفية وهو ممن يتسمى بالقضاء، فيسمى القاضي عبد الواحد، فضرب ضرباً مبرحاً وحلقت لحيته وأتى به مكة مكتوفاً مجرحاً، ثم أطلق فذهب إلى الحجاز الأعلى، وكان أمر الله هو الأعلى.
ولنرجع إلى ذكر السيدين المذكورين فنقول: لما نقلا إلى بيت يوسف بك المذكور أقاموا عنده أياماً، ثم أمر الباشا إبراهيم بتجهيز تجريدة خمسمائة عليها السنجق يوسف بك المذكور فنقلوا بعد عزمه إلى بيت أغاة الأنكشارية، واحتفظ بهما احتفاظاً تعظم به البلية، ومنعوا الخارج والداخل، ولم يقرب منهما صديق ولا خل، وسارت التجريدة المذكورة وهي نحو ألف بالخدم وخمسمائة وأكثر، معهم الحجاج والتجار والخدام والأرقاء والأجراء، ولما كان يوم الأربعاء تاسع عشري جمادى الأولى من السنة المذكورة وصل الخبر بتجهيز مدد من العسكر نحو خمسمائة أو يزيدون، ومعهم مستلم جدة المعمورة، وعزل عماد أغا عن مشيخة الحرم رفيع القُنة، ولله الحمد والمنة.
وفيها وصل مولانا السيد سعيد بن شنبر بن الحسن من بيشة متوجهاً إلى مولانا السيد حمود وجماعته بالينبع، فوصل إليه وحضر معه الحرابة الآتي ذكرها، وكان آخراً وفاته بتلك البلدة، رحمه الله برحمته الواسعة، وغفر له مغفرة جامعة.(3/46)
وفي هذه المدة أيضاً: وقع في طريق الطائف أن جماعة الحمارة المترددين بين مكة والطائف من طريق كرا بأموال الناس وأمتعتهم - نزل عليهم جمع من عرب الشرق، فأخذوهم وربطوهم وساقوهم وضربوهم وانتهبوهم، ثم ساروا بهم إلى قرب المبعوث، ثم أطلقوهم بعد يومين عرايا مسلبين مجرحين مضربين.
وفيها في السادس عشر من شهر رجب وصل المبشر من جدة يخبر بوصول رسول من الباشا معه خلعة ومرسوم.
وفي ليلة السابع عشر منه: رجع مولانا الشريف سعد إلى داره السعيدة، فلما كان الصباح، توجه العسكر بأجمعهم إلى ملاقاة رسول الباشا فدخلوا به في موكب عظيم إلى بيت مولانا الشريف ولبس الخلعة، وقرئ المرسوم بحضرة عسكر السلطان، السادة الأعيان، وفيه ما لا مزيد عليه من التعظيم والتمجيد، وحصل لمولانا به غاية السرور، وللرعية كمال الفرح والحبور.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشر رجب الفرد الحرام: وصل إلينا خبر من نحو الشام، حارت فيه العقول والأفهام، بواقعة ينبع وما جرى فيها من الأحكام، بتقدير الملك العلام، أن التجريدة التي جهزت من مصر أوقع بهم السيد حمود في جيش لهام، من أهل ينبع وجهينة وعنزة وخاص وعام، فأخذوهم عن آخرهم، وقتلوهم وسلبوا أموالهم وأسروهم ولم يسلم منهم إلا نحو المائة، وكان معهم مال جزيل فذهب شذر مذر بعد أن تفرق أصحابه شغر بغر، وأمسكوا كبيرهم السنجق يوسف بك، وكان من القتلى من السادة الأشراف خمسة أشخاص هم السيد شبير بن أحمد بن عبد الله، والسيد سرور بن حسين بن عبد الله، والسيد إلياس بن عبد المنعم بن حسن وشخص من ذوى عنقاء يسمى السيد زين العابدين بن ناصر، تغمدهم الله بالرحمة والرضوان، وأسكنهم أعلى فراديس الجنان: من الطويل:
وقَتلى أيادي الخيلِ بَين وجوهِهِم ... فخيرُ المنايا ما يكُونُ مِنَ القَتلِ
وانتهبت الأعراب الأجمال بالأحمال، ثم أمر مولانا السيد حمود بجمع حريم السنجق وحريم غيره في مخيم كبير، وأجرى عليهم المصروف والقوت، وقدر الله للسنجق في تلك الأرض أن يموت، وكان اللقاء يوم الأربعاء رابع عشر رجب من سنة ثمان وسبعين المذكورة.
وقد كان مولانا السيد حمود أرسل إلى العسكر قبل قدومهم عليه أن ليس لكم طريق علينا إن لم يكن السيد أبو القاسم والسيد محمد معكم، فأشار بعض كبار العسكر على يوسف بك المذكور بالعدول عن هذا الطريق، وسلوك طريق خالية عن التعويق، فأجابه السنجق بفساد رأيه ولم يمتثل، وكان أمر الله شيئاً قد فعل.
وزوار الرسول عليه الصلاة والسلام الذين خرجوا على النصف من رجب لما كانوا في الطريق، وهم ذاهبون بلغهم خبر العسكر وما وقع لهم، فاضطربوا وأشكل عليهم الأمر، وترددوا بين أن يرجعوا إلى مأمنهم أو يتوجهوا إلى مقصدهم، فردوا الأمر إلى سيد القافلة وكبيرها مولانا الشيخ عيسى بن محمد المغربي الثعالبي - وكان متوجهاً معهم - فأشار عليهم بالتوجه من طريق القاحة وهي معروفة، وكان سابقاً يسلكها الأولون، وفيها عمائر وآثار بناء وعيون إلا أنها هجرت الآن، فسلكوا بالأمان تلك الأنحاء، وتلقاهم شيخ العرب وسلطانها القائم بخدمة الحرمين منذ أزمان الشهاب أحمد بن رحمة بن مُضيان، وتوجه بهم إلى المدينة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فسلكوها آمنين، وخرجوا على النازية قريباً من الروحاء، ثم إنه خرج بهم وأوصلهم إلى حيث لاقاهم، ورجعوا سالمين أولاهم وأخراهم.
غير أن بعض الزوار لما وصلوا قرب المدينة قريباً من المحل المسمى مفرح تقدموا عن القافلة، وقد جرت العادة بذلك، فرحاً وشوقاً إلى ما هنالك، فنزل عليهم السراق فأخذوا ما معهم في تلك الفجاج، وحصل لهم جراحات وشجاج.
وأهل المدينة الشريفة لما بلغهم ما وقع للعسكر وقع عندهم الاضطراب الشديد، والتعب الذي ما عليه من مزيد، وانقطعت عنهم سبل الوارد، وغلا السعر في المقتات بل لم يجده واجد.(3/47)
وأما أهل مصر: فلما وصل إليهم الخبر التهبت نيران الغضب في أحشائهم، فظهر منها بوجوههم الشرر، فقتلوا من ظفروا به من أتباع السيد أبي القاسم والسيد محمد، وتتبعوهم في الأماكن اللواتي استخفوا فيها، ونادوا في البلاد بالوعيد الشديد لمن ستر خبية أحد منهم تحذيراً وتنبيهاً، وأمر بالسيدين المذكورين إلى حبس الدم المسمى في عرفهم عرق خانة والأمر لله سبحانه، بعد أن طلب الباشا من العلماء الفتوى بجواز قتلهم فلم يفتوه، فأمر باعتقالهما لما كان والداهما وبنو عمهما اقترفوه، وأورثه ذلك غيظاً وقهراً، أنسياه كريمة " وَلا تزُر وازِرَةٌ وزرَ أُخْرَى " الاسراء: 15، فاستمر إلى أن عزل شيطان إبراهيم باشا عام ثمانين، ودخل مصر حسين باشا المعروف بابن جان بلاط متولياً لها، فما غفل عن شأنهما ولا لها، بل سأل عن سبب حبسهما والداعي إليه.
وكشف الله عن بصر بصيرته بما أفاض من نور الحق عليه، فأخبر بما وقع بالعسكر من أبويهما فقال: هل كان الواقع قبل وصولهما أو بعده؟ فقيل له: بعده بمدة.
فقال: لا ينسب شيء من ذلك إليهما، ولا يعد ذنب أولئك عليهما، وأمر بإخراجهما واستدناهما وأكرمهما، وأقام لهما المقرر كل يوم وشهر، وخيرهما بين الإقامة والعود إلى الدار والمقر، وأنزلهما في بيت نقيب الأشراف، ووالى عليهما الإنعام والألطاف.
فلما كان شهر رمضان سنة ثمانين، استدعاهما ذات ليلة النقيب إلى الإفطار عنده، وأعد من فاخر الأطعمة عمة، فذهب السيد أبو القاسم إليه مع جملة من الأحباب.
وأما السيد محمد فلم يذهب إليه، وكأنه توهم واستراب.
ثم لما كانت الليلة الثانية دعاهما أيضاً واستنكر عدم وصول السيد محمد إليه في الليلة الأولى، وكلف من الأطعمة ما أظهر به اليد الطولى، وردد الرسائل إليه تترى، مرة بعد أخرى: فقوي الريب عند السيد محمد وتمكن، وتحقق ظناً أن عمل الباطن مبطن، فامتنع واعتذر ببعض الأعذار.
وذهب إليه السيد أبو القاسم وكفى في التحرز سور الأقدار. ثم خرج السيد محمد على ركائب أعدت له في جماعة وهو شديد العزم والمُنة، حتى وصل إلى مكة ولله الحمد والمِئة.
وأما السيد المرحوم أبو القاسم ابن السيد حمود فاستمر إلى أن أتاه قضاء الله بالأجل المحتوم، ففاز بالشهادة من وجهين: الغربة والطاعون المشئوم، في شهر شوال سنة إحدى وثمانين وألف، رحمه الله برحمته، وآواه سوح جنته.
وفي هذا العام وقع من عسكر المدينة وعامتهم القيام على أفندي الشرع، لحال اقتضى القيام على ما زعموه، فرجموه أو كادوا أن يرجموه، ثم تعدوا فزادوا في العتو والطغيان، وانتهكوا حرمة سيد ولد عدنان، حتى أن بعضهم سحب السلاح في الحرم، ولم يرقب حرمة سيد الأمم، وكذلك هجموا على بيت نائبه الشريف وتكلموا عليه، ولم يراعوا من هو منتسب إليه.
وحصل أيضاً لأهل الطائف في هذا العام تعب وجوع وخوف حتى خشي كل منهم تلافه، واجتمعت عليهم الكلمات الثلاث: برد وجوع ومخافة، ووصلت كيلة الحب إلى خمسين محلقاً وغيرها قريب منها.
وفي شهر رجب المذكور من سنة ثمان وسبعين وألف: وقع بطريق الطائف بالقرية المعروفة بالسيل أن كانت أحمال متوجهة إلى الطائف مشتملة على أرز وسمن وتمر وبن وقماش، وغير ذلك تدخل في عشرين بعيراً نزل عليهم بعض الأعراب من عتيبة أهل البادية فلم يبقوا منهم باقية، وحصل بينهم وبين أهل السيل قتال، فقتل من أهل القرية واحد وحصل في باقيهم جراحات، وأخرب القوم البلاد، اللهم عليك بكل باغ ذي عناد.
وكذلك اجتمع طائفة من هذه الفئة الباغية، والعصبة الطاغية، وداروا في أطراف مكة ونواحيهْا يتخطفون الناس، ويؤذون المسلمين، فويل لهم من مالك يوم الدين.
وكذلك أهل مكة: كانوا في شدة وغلاء، وجهد وبلاء، طحنوا الفول والحمص وجعلوه خبزاً فلم يجز إلا بعض الإجزاء، وبلغ ثمن الإردب القمح أربعين ديناراً إلى خمسين بل عدم بالكلية، ووزن الخبز الذي يباع في السوق بمحلق جاء وزنه أوقية، وكل شيء خرج في ثمنه عن معتاده، ولكن لطف الله سار في عباده.
ومن ظن انفكاك لطفه عن قدره، فإنما ذاك لقصور نظره.(3/48)
وفي يوم الأحد سادس رمضان منها اجتمع الرعية، وتوجهوا إلى مولانا الشريف. ورفعوا أصواتهم بين يديه، يشكون الناظر والمحتسب عليه، فأمر بإحضارهما وحكم بعزلهما وحبسهما لتواتر الخبر عنده بظلمهما وبأكلهما الرشا. وسبحان الله يفعل ما يشا.
وفي هذه المدة: وصلت قافلة من مدينة الرسول معهم مال جزيل، فلما كانوا بالقرية المسماة مستورة، أقبل عليهم أقوام فأخذوا جميع ما معهم، قيل: إنه يدخل في خمسين ألفاً والله أعلم.
وفي ثامن عشر رمضان المذكور، وصل إلى وادي مر وإلى جَدة ونواحيهما جملة من قبيلة عتيبة عرب الشرق أهل الفساد والطغيان في مائة مردوفة - وقيل: مائتين - فأخذوا ما وجدوا وانصرفوا، قابلهم الله بما اقترفوا.
فلما بلغ مولانا الشريف سعد خبرهم أرسل في طلبهم جمعاً من الأشراف والعسكر، عليهم اْخوه مولانا الشريف أحمد، فأخذ في أثرهم عدة ليال، وبلغ من الظفر بهم أعظم منال.
فلما كانت ليلة الثالث والعشرين من رمضان، وصل مكة مبشر من عنده بأنه ظفر بهم، وأخذهم وقتلهم وحصل منهم مال كبير، خذلهم الله تعالى وأذل منهم الكبير - والصغير.
وفي الليلة المذكورة أيضاً: جاء مبشر من جهة مصر بتوجه العسكر والمراكب بالطعام لأهل بلد الله الحرام.
وفيها أيضاً: ظهر عمود من نور نحو الغرب مهيل طويل، وغلظه كطوله غلظ أعظم النخيل وحصل به خوف ورعب للمسلمين، وهو من الآيات للمعتبرين.
وظهر في الليلة الثانية والثالثة، لكنه في الطول أكثر بحيث إنه امتد إلى ثلث السماء، ثم إنه صار يضعف نوره ويتقهقر إلى ليلة الثامن من شوال لم يظهر له نور بالكلية ولا أثر، والله أعلم بحقيقة ذلك وما يترتب عليه من المنافع والمضار. نسأله سبحانه اللطف فيما جرت به الأقدار.
وفي آخر الشهر: وصلت جلاب من اليمن وسواكن، ففرقت على أهل السوق وفرح بذلك الناس وتباشرت بنزول السعر.
وفي الاثنين: كانت السماء معلولة ولم يظهر الهلال، فلما كان وقت العشاء ثبتت الرؤية عند حاكم الشرع بشهادة جمع من عدول المسلمين وثبت الفطر، وتواتر الخبر بعد ذلك به. والحمد لله رب العالمين.
وفي ليلة ثالث شوال: تباشرت الناس بوصول المراكب، وتواجدت الحبوب في الأسواق، وكم لله على الناس من نعم على الإطلاق.
ثم عقب ذلك أن اشتد الأمر على المسلمين ورجع إلى ما كان عليه بحيث إن غالب الفقراء والضعفاء يكون الواحد منهم ماشياً فيطيح فيموت، ومنهم من يكون جالساً فتهفت روحه، وقد شوهد ذلك، وصار الفقراء يجتمعون في المذبح ويتلقون الدماء ليأكلوها.
وذكر أن بجة كانوا يدورون على الطعام في السوق فلا يجدونه، وأرسلوا إلى مكة يطلبونه، مع أن جدة مملوءة من الطعام، لكنه في أيدي التجار بل الفجار كما قاله سيد الأبرار للمحتكرين. اللهم عليك بهم وجميع المفسدين.
وأما أهل مكة المشرفة، فقد اجتمع عندهم في هذا العام من الأمم ما لا مزيد عليه، لأن الجدب والمحط عام في أرض الحجاز ونواحيها، وكل من اشتد به الحال صار يأتيها هارباً من بلده إلى بيت الله العتيق، يأتونه من كل فج عميق؛ وحلت الميتة والبسس والكلاب، بعد أن بيع ما يملك من أثاث البيت والثياب، وصار الفقراء يهجمون على البيوت، فتعب منهم الناس، وصاروا يغلقون الأبواب.
وفي هذا الشهر اتفق أن جارية لبعض الأعراب يعرفون بالمشارية دخلت يوماً بيتاً، فلم تجد فيه إلا امرأة عجوزاً وهي من جماعة عسكر مصر فخنقتها فقتلتها، ورآها بعض الجيران فدخلوا عليها وأمسكوها ودعوا ابن بنتها فجاء مع جماعة العسكر، فأخذوها وطلعوا بها إلى مولانا الشريف فلم يُثبتوا وحبسوها عندهم يومين. وفي اليوم الثالث عصبوا على قتلها فقتلوها يوم الجمعة رابع عشري شوال عند الششمة المعروفة بالبزابيز.
قلت: ويقال: إنها كانت صاحبة لابن بنتها وكانت المقتولة تنهاه عنها، وتحذره منها فظنت أنها بقتلها يخلو لها وجه صاحبها فكان هو القاتل لها والله أعلم أيا كان ذلك.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشري شوال المذكور: وصل خبر من جدة بوصول جماعة من العسكر الرتبة بحراً، وفي يوم الأربعاء: دخلوا مكة المشرفة، وأخبروا بخروج العسكر من مصر وهم يدخلون في ثلاثة آلاف، وبتجهيز المراكب لأهل الحرمين وللعسكر.(3/49)
وفي ليلة الجمعة غرة ذي القعدة: كان حريق بأعلى مكة بالمعابدة. وفي الليلة الثانية: كان أيضاً حريق بشعب عامر بالقرب من ضريح والد سيدي أحمد البدوي نفعنا الله به.
وفي الليلة الثالثة: انقض نجم كبير مهيل نحو الشرق. وفي ليلة الخامس منه: احترق سوق المعلاة جميعه. وفي اليوم السابع: وصل مبشر بوصول مركب هندي بالقرب من جدة المعمورة، ووصل منه جماعة وفرح المسلمون.
ثم بعده بنحو يومين: دخل مركب من بنقالة وفيه خير كثير، وفي الأول هدية سنية، لمولانا الشريف ألهمه الله العدل في الرعية، وهذه من أعظم السعودات وأيمن الاتفاقات.
وفي يوم الثلاثاء ثاني ذي القعدة الحرام؛ برز عسكر الشريف لما بلغه تحرك السيد حمود لنهب ينبع، فجهز من مكة نحو المائتين عليهم بلال أغا ليقيموا بينبع البحر أرسلهم رتبة، فاتجهت هذه الرتبة بعسكر التجريدة بواسط ليلاً وردها معه مقدم التجريدة محمد جاوش إلى بدر، ثم أقبل بمن معه إلى مكة، وأقبل معه بلال أغا، وذهبت الرتبة إلى ينبع البحر فأقامت به إلى وصول مولانا الشريف سعد مع الحاج المصري وعسكر التجريدة.
وفي هذه المدة اشتد الحال على أهل مكة، حتى أن غالبهم باع حوائج بيته وثيابه ولم يبق له شيء، وصار يسأل الناس، ومنهم من باع أولاده، ومنهم من رمى بهم، واتفق لبعض أصحابنا - رحمه الله تعالى - أنه اشترى بنتاً من أبيها بحرفين.
وفي يوم الخميس خامس عشر الشهر المذكور: أصبح عماد أغا من جدة، بعد أن كان توجه بحراً إلى مصر ووصل الطور، ورجع لأمر من الأمور، والله أعلم بما تكن الصدور.
وفي سابع عشري الشهر المذكور: دخلت عشرة مراكب جدة بالسلامة، وهذه ممظم كرامة، وفيها العسكر والحجاج والطعام وجرايات أهل مكة وخير كثير، وذلك من لطف الله على الأنام.
وفي أول ذي الحجة الحرام: دخل حجاج البحر مكة المشرفة، ومعهم العسكر من جدة المعمورة، وحصل بدخولهم فرج كبير للمسلمين.
ودخل في اليوم الرابع منه الحاج المصري وصحبته خلعة من مولانا السلطان محمد خان وخلعة أخرى من الباشا كلاهما لمولانا الشريف سعد أطال الله بقاءه. وفي اليوم الخامس دخل المحمل المصري، وكان الحجاج في هذا العام قليلين، فخرج جمع يسير، وخرج قبلهم العسكر المعينون للتجريدة، فتلاقوا قبل ينبع بيومين أو ثلاثة ودخلوا سواء، وأقاموا فيها أياماً نحو خمسة أو ستة، وهم يكاتبون السيد حمود، ويعرفونه وهو يرسل الجواب والكلام الشديد، فحملوا عليه وأقبلوا فوجدوا الخيام قفراً والمزار بعيد، ثم إنهم عقدوا بينهم شورى، فاتفق الرأي أن بعضهم يقيم لحفظ البلد، والبعض الآخر يحج وهم الأكثرون، ثم إنه توجه العسكر ومعهم سنجقان والثالث محمد جاوش وهو رئيس العسكر وكبيرهم وشيخ الحرم وسنجق جدة المعمورة، فدخلوا مكة في موكب عظيم يوم سبع من ذي الحجة، وفي العسكر اثنا عشر كاشفاً تحت كل كاشف جماعة، ومعه نقارة مضروبة على رأسه كما هو عادة أهل مصر.
وفي اليوم الثامن: دخل الحاج الشامي واليماني والمدني، وفيه طلعوا إلى عرفات.
وأما أهل العراق وأهل نجد وأهل الحجاز وسائر العرب لم يحجوا لما حصل لهم من التعب والجوع، والخوف المذهب للهجوع.
وفي هذا العام: جاء الحجاج بدراهم محلقة فاسدة، مطيرة كاسدة، وأخربوا بها معاملة البلاد بحيث إن كل ثلاثة منها بدرهم من الجياد من حيث القدر والقيمة فصار كل يردها، فغلت الأسعار، وأمسك كل على ما عنده من الطعام، وهلكت الرعية، ووقعت الفتنة بين المسلمين بسببها، وبلغ ثمن الشريفي الأحمر إلى ثلاثة ونصف، وإلى أربعة إلا ربع والقرش بخمسة وسبعين.
قلت: هذا في تلك السنة، وأما اليوم فهو بسبعة حروف ونصف. انتهى.
وفي يوم الإثنين سادس عشر ذي الحجة: طلع محمد جاوش إلى المعلاة في موكب عظيم، ولبس خلعة جاءته من حضرة الباشا، وفي حال توجهه قتل ستة أشخاص من أتباع السيد حمود، وأتى بهم من ينبع مفرقين اثنان بالمسعى، واثنان بالمدعي واثنان عند باب المعلاة.(3/50)
وفي يوم الخميس سادس عشري ذي الحجة الحرام: توجه الحاج المصري والعسكر ومولانا الشريف سعد أعزه الله إلى ينبع نحو السيد حمود، وأقام أخاه مولانا الشريف أحمد مقامه على مكة المشرفة، وكان يوم بروزهم شديد الحرارة وتحركت فيه السموم بالشوب، وهلك بسببه جمع كبير من الحجاج والدواب، وذلك بلا شك زيادة في الأجر والثواب، وكانت الوقفة في هذا العام بالإثنين، من غير شك ولا خلاف بين اثنين.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين، في يوم الثلاثاء غرة محرم الحرام منها خرج المحمل الشامي، ثم إن العسكر ومولانا الشريف لما توجهوا إلى ينبع، ضربوا شورى في أنهم يقيمون هناك، أو يتوجهون خلف السيد حمود، أو يرجعون إلى مصر، فاتفق الرأي أنهم يذهبون إلى مصر.
وأقام مولانا الشريف ومن معه من الجيش ومحمد جاوش، وأمسك مولانا شريف جماعة من المفسدين الذين كانوا في الحرابة قتلوا في عسكر السنجق يوسف والحجاج، وأخذوا أموالهم وغيرهم من العربان، وحبسهم في السجن، وكبلهم بالقيود والأغلال، وغرمهم ما نهبوه من تلك الأموال.
وفي يوم الإثنين سادس صفر من السنة المذكورة - أعني سنة تسع وسبعين - بزز مولانا الشريف أحمد أسبابه وعسكره إلى جهة المبعوث لإصلاح تلك الجهات والطرقات. أصلح الله شئونه في السكنات والحركات.
وفي يوم الأحد ثاني ربيع الآخر: وقع حريق وقت العصر كبير في شعب أجياد وراء جبل أبي قبيس وسلم الله المسلمين.
وفي رابع عشر من جمادى الأولى: ورد علينا خبر من الشام بوصول خلعة من، الباشا لمولانا الشريف سعد - أسعده الله تعالى وأسبغ عليه نعمه ووالى - وأنه لبسها يوم أربع منه ومعها مكتوب بتفويض أمر الحرمين الشريفين ونواحيهما إليه من غير شريك.
ثم إنه أمر بقتل أربعة من المفسدين، وبهدم السور الذي يتحصنون فيه فهدموه حجراً حجراً بأيديهم، وكذلك أمربإقامة الجماعة والجمعة بناديهم.
وفي هذا الشهر: تواتر الخبر من جهة أرض اليمن باشتداد الجدب والقحط فيها كالقنفدة وصبيا والتهائم ونواحيها، وفي بعض الأيام بالقنفدة وجدوا في دار امرأة حجامة رجلين مقتولين، أححدهما مأكول، والآخر شرعت في أكله، وأعضاء أطفال منها طرى ومنها يابس، فأمسكت وغرقت في البحر، وقيل: وضعت على الجزيرة التي أمام القنفدة وسط البحر ففقدت صبيحة ليلة الوضع.
وأما أهل الطائف فلحقوا شدة عظيمة، بلغت الكيلة الحماط ثلاثين محلق غير موجودة فما بالك بغيرها، وما صار أحد يخبز عيشه في الفرن؛ لأنهم يخطفونه من شدة الجوع، ويهربون، بل يخبزونه في البيوت ويستترون، هذا بالنسبة إلى من له قدرة، نسأل الله أن يمن علينا بنظرة.
أما الفقير فما أكله غير الجلود والعظام، والدماء الميتة، ولم يجسر أحد يمشي وحده، إن أحوجه الأمر إلى الخروج تسلح وقرأ حزبه وورده.
وكذلك أهل الحجاز الأعلى هربوا من بلادهم وتركوها، وغالب أهل القرى والبادية جاءوا إلى مكة هاربين وإلى رب البيت ملتجئين وخاضعين، وهم يصيحون: الجوع الجوع ويتضرعون، وفي الطرقات يتصرعون.
وفي يوم عشرين من هذا الشهر: أمر نائب الشريف مولانا المرحوم السيد بشير ابن سليمان على مكة؛ لأنه أنابه مولانا الشريف أحمد عند خروجه إلى جهة المبعوث أمر بشنق رجل من الأعراب، فشنق عند الششمة المعروفة بالبزابيز، والسبب في ذلك أنه هو ورجل آخر قتلا رجلاً من أبناء الطواف في طريق جحة، ومثلا به وأخذا ما معه، فأمسك أحدهما وهرب الآخر.
وفي أول هذا الشهر: أخبر الثقة عن جماعة ثقات أنهم وجدوا في يوم من الأيام حيواناً يشبه الضبع بأعلى مكة نحو المنحنى فقدم على حمار، فرآه بعض الناس، فاجتمعوا عليه وذهبوا خلفه، فدخل بعض البيوت ووجد امرأة فجرحها، فدخلوا عليه وقتلوه، ولم يعرفوا ما هو فسموه الغول.
وفي يوم الأحد ثامن عشري الشهر المذكور: كسفت الشمس بعد اصفرار من غير سواد نحو ساعتين.(3/51)
ولما كان أول جمادى الأخرى اشتد البلاء بالمسلمين، والفقراء والمساكين، فعند ذلك قذف الله تعالى في قلوب بعض عباده الرحمة والشفقة، فاجتمعوا على أمر هو أنهم يجعلون شيئاً من حطام على أهل القدرة والطاقة، ليكون لهم ذخيرة عند الله يوم الحسرة والفاقة، وهم ثلاثة منهم الاثنان العالمان العاملان: مولانا الشيخ عيسى ابن محمد المغربي الثعالبي الجعفري، ومولانا الشيخ محمد بن سليمان، والثالث قطب الوجود والزمان، ذو السر والبرهان، الولي الصالح، صاحب القول الراجح، مولانا السيد عبد الرحمن المغربي الشهير بالمحجوب.
ثم إنه انتدب لخدمة الفقراء، والقيام بمصالحهم بعض الإخوان من أهل الخير والصلاح، ونادى مناديهم بلسان الحال: يا عباد الله، حي على الفلاح، فابتدروا وتقدموا إلى حضرة مولانا القائم مقام، وهو السيد بشير بن سليمان، فأجابهم بالتحية والإكرام، وأعطاهم ما قدر عليه طمعاً في دار السلام.
ثم توجهوا إلى كبراء البلاد، فأعطي كل بقدر ما قسمه الله وأراد. وكتب مولانا الشيخ إلى مولانا الشريف سعد، وكتب أيضاً إلى أخيه مولانا الشريف أحمد فأجابا، وأمرا خدامهما وأتباعهما بشيء من البر مقداره عظيم؛ ليكون لهما ذخيرة عند رب العالمين، إذ هو صلة للفقراء والمساكين.
فلما اجتمع من الدراهم والطعام ما فيه البركة رأوا أن يجعلوه دشيشة مع دشيشة السلطان مرتين أول النهار واَخره على الدوام والقدر الذي يطبخ في الوقتين أربعة أرادب وشيء.
وكان فتحها في خامس جمادى الأخرى من سنة التسع والسبعين، فحصل بها نفع كبير للمسكين والفقير. فجزى الله المتصدقين، والعاملين عليها، والقائمين بها أفضل الجزاء، ورضى عنهم أحسن الرضا.
وفي يوم الخميس ثامن رجب من السنة المذكورة: ورد خبر وفاة المرحوم مولانا السيد أحمد بن السيد علي بن باز بن حسن من اليمن رحمه الله رحمة واسعة.
وفي ليلة سابع عشر رمضان، حصلت رحمة من السماء علينا، وعلى أطراف مكة، فحصل بها فرج كبير، وسرور للمسلمين كثير.
وفي ثالث شوال: وجدت بنت مراهق مقتولة في بعض الأزقة قريباً من سوق العطارين، والسبب في ذلك أن عليها بعض حلي فقتلها قاتلها لذلك.
وفي اليوم الرابع: انتقلت امرأة ودفنت، ثم أصبح أولادها يزورونها، وكان يوم جمعة فوجدوا قبرها منبوشاً، وإذا كفنها قد سرق فخافوا وتشوشوا تشوشاً شديداً، فتركوها وجاءوا يسألون عن الحكم الشرعي هل تكفن ثانياً أم لا، فأجيبوا بما ذكره علماء الأعلام أن الميت إذا سرق كفنه يكفن ثانياً ما لم يتفسخ، ويتفرق اللحم عن مظام.
ووقع من بعض السوقة المفسدين أنه تكلم مع الدولة في مظلمة يحدثها على المسلمين. وجعل على نفسه شيئاً من الدراهم ليأخذها من إخوانه المؤمنين، ويتقرب بها إلى الجحيم، ويتباعد عن جنة النعيم، فبلغ ذلك حاكم الشريف القائد أحمد بن جوهر كان الله له في عونه، فضربه حتى بلغ به الهلاك ثم حبسه فشفع فيه فأخرج محمولاً إلى بيته، وشاع أمره وظهر، وأقام ثلاثة أيام وفي الرابع أخذه القضاء والقدر.
وفي يوم الإثنين حادي عشري ذي القعدة بعد طلوع الشمس بساعتين: وقع أمر مهيل، هو أنه ظهر من عين الشمس، أو بالقرب منها ضوء هائل كالنجم، ثم إنه استطال، وامتد إلى جهة المغرب، وحصل لمن رآه حال بدئه غشاوة على بصره، وارتعدت فرائصه، وانزعجت منه القلوب، وهو مشتمل على زرقة وصفرة وحمرة، ثم إنه ذهب طرفاه، وبقى الوسط، واتسع في العرض فخرج منه صوت كالرعد، ولم يكن في السماء غيم ولا سحاب، وظن بعض الناس أنه صوت مدفع، واستمر ساعة، وفيه عبرة لأولى الألباب، ثم اضمحل الباقي من ذلك الشعاع إلى سحاب. ثم إن الناس كثر كلامهم في ذلك، وقالوا: لا بد لهذا من شأن عظيم، حيث إنهم لم يروا مثل ذلك، ولم يسمعوا بمثله في الزمن القديم.(3/52)
وحكى بعض الناس أنه ذكر هذه الحادثة في جمع، وتحدث بها، وإنهم قالوا لم يشاهد مثلها في ماضي الزمان، وكان فيهم رجل أكبر منهم سناً فقال: أنا شاهدت مثل ذلك وأعظم منه، كنت في الخيف فوق الصفراء متوجهاً إلى المدينة الشريفة، ومعي جماعة فسرنا بعد شد الأحمال إلى الروحاء، فلما كنا بملاوي الخيف، وكان الوقت بعد المغرب فإذا السماء انفرجت، وخرج منها ضوء ساطع ملأ الوادي، وتساقط منه شهب حتى أيقنا بالهلاك في تلك البوادي، واستغثنا بالرسول وتشهدنا، وتشفعنا بمن نحوه قصدنا، ثم ذهب واضمحل، وبقى شيء من الضوء في ذلك المحل، فخرج منه صوت مهيل كالرعد فظننا أن الجبال تساقطت فاستغثنا وتشهدنا كذلك، ثم ذهب واضمحل، فسرنا سريعة فإذا هو قد وقع مرة ثانية، وكنا كلما وصلنا قرية نسأل أهلها عما رأينا فيقولون: رأينا ما رأيتم وشاهدناه، وكان عاماً في سائر الأقطار، فسبحان الله الفاعل المختار.
ثم سألناه عن مدة هذه الواقعة فقال: لها الآن ست وعشرون سنة بهذه السنة. فقلنا له: كيف كان عاقبتها؟ فقال: لم نر إلا الخير والسلامة ولله الحمد والمنة. انتهى.
وفي هذا اليوم بعينه وهو الحادي والعشرون من شهر ذي القعدة الحرام من سنة تسع وسبعين وألف: بني الشيخ العلامة العامل العارف الكامل مولانا الشيخ محمد ابن سليمان المغربي في صحن المسجد الحرام بعض أحجار ليضع فوقها حجراً كبيراً مكتوب فيه شاخصان من حديد يستفاد منه بالظل ما مضى وما بقى من النهار بالتماس جماعة من المسلمين، وليكون نفعه عاماً للأمة أجمعين.
فعند ذلك قال جماعة من الجهلة ممن لا خلاق لهم: إن هذه الحادثة التي وقعت في السماء بسبب هذه الواقعة التي في الأرض؛ لأنهما كانتا في يوم واحد في ساعة واحدة، فكان الناس في شأنها حيارى.
وقال بعضهم: إن هذه صومعة النصارى. وكثر منهم القال والقيل، فاستعان بالله تعالى عليهم وتلا " حَسبُناً الله وَنِعْمَ اَلْوَكِيلُ " آل عمران: 173، فرفع الأمر إلى سيد الجميع مولانا الشريف سعد - لا زال من المسعدين - فأمر بوضعها على رغم آناف المعتدين، وذلك قبل وضع الحجر الذي فيه الكتابة، فجاء إليه المعلم ليضعه فوق سطح ذلك البناء، فجاء رسول من حاكم الشرع الشريف ومنعه، فتوجه إليه المعلم فقال له: لا تفعل حتى نكتب في ذلك سؤالا إلى المفتى، فكتب فأجاب: إنه إذا كانت فيه مصلحة أو منفعة جاز وضعه باتفاق علماء الإسلام. وهذا القول من الحاكم الشرعي إنما هو بوسوسة بعض الحسدة اللئام.
ونظير هذا الحجر موجود في مسجد النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وفي غيره من المساجد الكرام.
ثم إنهم كتبوا له مكتوباً، وفيه كلام لا يليق بالمقام، فتعب الشيخ من ذلك وطلب من الحاكم الشرعي أن يجمع بينه، وبين خصمه فلم يفعل، وجاء إلى بيت الشيخ، واعتذر وأمر بوضع الحجر، فوضع في اليوم الثاني واستمر.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشري ذي القعدة: دخل مولانا الشريف سعد مكة المشرفة فحل بها السعود في موكب عظيم خفقت به البنود، ودعا له المسلمون بالنصر والظفر والتأييد - حفظه الله تعالى.
وفي يوم السبت سادس عشري الشهر المذكور: دخل جدة مركب من الشام، وغراب به مستلم جده، وصحبته مكاتيب مضمونها عزل القاضي، ونائب المسجد الحرام.
وفي ليلة الأحد سابع عشري الشهر المذكور: دخل مكة مولانا الشريف أحمد ابن الشريف زيد في موكب عظيم هو به حقيق، وكان في جهة الشرق.
ودخل شهر ذي الحجة الحرام اختتام سنة تسع وسبعين، كان أوله بالخميس، فلما كان يوم الرابع منه: وصل رسول من المدينة الشريفة يخبر بأن صحبة الحاج الشامي رجلاً عظيم الشأن، يسمى: حسن باشا بيده أوامر من مولانا السلطان يحكم في الحرمين الشريفين، ويتبصر فيهما نيابة عن خليفة الزمان.
فلما كان قرب المدينة الشريفة برزت له عساكرها وكبراؤها فتلقوه بالقبول، فدخل في موكب عظيم، وتوجه إلى حضرة الرسول.
والسبب الداعي إلى وصول هذا الرجل أن أهل المدينة أرسلوا جماعة منهم، ومعهم مكاتيب إلى الحضرة العليةِ، يرفعون إليه من مولانا الشريف سعد وأتباعه فيها الشكية، فأرسل هذا الرجل ليجري الحق إلى معالمه، وينصف المظلوم من ظالمه.(3/53)
فلما استقر بالمدينة البهية بالمدرسة القايتبائية اجتمع إليه أهل المدينة، وشكوا إليه الجور والشطط والحال الفظيع، والأمر الفرط، وسلطوه على جماعة من أعيان البلد ممن ينتمون إلى الشريف سعد في القدر الخطير، فأحضروا في حالة شنيعة من الإهانة والصفح والسحب، وأنواع التعزير، ثم وضعوا في السجن بعد أن كبلوا بالحديد، وكان لهم عنده بالقتل تهديد.
ومنع الخطيب من ذكر مولانا الشريف سعد بالدعاء على المنبر، وأذاع عليه في بلد جده هذا المنكر.
فلما بلغ ذلك مولانا الشريف تعب من هذا الفعل، وأخذ منه الحذر، وفوض أمره إلى من بيده القضاء والقدر.
ولما برز من المدينهْ متوجهاً إلى البيت العتيق صار مناديه ينادي في الطريق.
وفي اليوم السادس: دخل الحاج المصري مكة ولبس مولانا خلعته المعتادة من قديم الزمان، ودخل في اليوم الذي قبله الحجاج بأمان. وفي اليوم السادس أيضاً دخل الحاج الشامي، ثم بعد الظهر بين الصلاتين دخل الباشا حسن المذكور في موكب عظيم بالآلاى والطبول والزمور، وهو راكب في تخته، إلى أن وصل إلى باب السلام، فنزل ودخل المسجد الحرام.
وفي اليوم السابع، دخل المحمل الشامي، ولبس مولانا خلعته المعتادة بعد أن خرج في ذلك الموكب السامي، وكان في العادة أن يقسم بعض الصدقات لأهالي مكة قبل الصعود فبها ينتفعون، ومنها يحجون، فمنع من ذلك، فلزم عن منعه لقعود، وتلوا " إِنا للهِ وإنا إليهِ رَاجِعوُنَ " البقرة: 156. وكذلك مولانا الشريف تعب من أحواله السابقة، وقال: لا أحج في هذا العام إن لم يظهر ما بيده من الأوامر فننظرها كاذبة أم صادقة، وأرسل بذلك إليه وإلى الأمراء، وشدد في الكلام، ووقع في البلاد اضطراب وانزعاج، وعزلت الأسواق، وغلقت الأبواب، وخلت الطرق والفجاج، وجمع مولانا الشريف جيشه، وقام على قدميه، وشمر ولسان الحال ينطق: الله أكبر الله أكبر.
ثم إن الأمراء، وكبار العساكر، وأركان الدولة أتوا إلى مولانا الشريف، وقبلوا يديه، وخضعوا رؤوسهم وأنصتوا لديه، وقالوا: أنت الأصل، وإن لم تحج فإن الأمة لا يحجون، والتزموا له بالعهود والمواثيق أنه لا يقع خلاف، وكل ما تريده يكون، فعند ذلك نادى مناديه في البلاد بالأمان والاطمئنان، وأن الناس يحجون آمنين من السوء والعدوان. وأما أهل المدينة فتركوا الحج؛ خوفاً على أنفسهم من جريرة ما فعلوه من الآثام والأوزار. وأما الأعراب وأهل البوادي فمنهم من ترك الحج لخوف الطريق الموجب للإضرار، ومنهم من توجه للحج فبلغهم في أثناء طريق وصول الباشا، ومن معه وما معه من الأخبار، فرجعوا إلى أهاليهم.
ثم إن مولانا الشريف صعد إلى عرفات، ولم يحصل شيء من المخالفات، وكانت الوقفة بالجمعة. وفي هذا الشهر: لم يقع بين مولانا الشريف وبين حسن باشا اتفاق إلا أنه أوصل الفقراء حقوقهم، وكل يوم يحضرون بين يديه مع الإهانة من عسكره، فمن الناس من يدعو له وأكثرهم يدعون عليه.
ثم دخلت سنة ثمانين وألف، كان هلالها بالسبت. فلما كان اليوم الثاني منه سعى جماعة بينهما بالصلح، منهم أمير المحمل الشامي الأمير عساف ابن الأمير محمد فروخ، وكان الاجتماع بينهم بعد العصر من اليوم المذكور بالمسجد الحرام خلف مقام الحنفي بحضرة الخاص والعام، ثم تفرقا ورجع كل منهما إلى بيته بالحبور، وأرسل كل منهما نوبته إلى بيت الآخر فدقت الطبول والزمور، وكانت ساعة مباركة سر بها الكبار والصغار، فيها إشعار بحصول الوفاق، وصفاء الأكدار، وأرسل كل منهما هدية سنية، والله أعلم بما اشتملت منهما النية.
وفي اليوم الثامن من محرم افتتاح سنة ثمانين وألف، توجه بعد العصر مولانا الثريف سعد، وأخوه مولانا الشريف أحمد إلى حضرة الباشا حسن، فاقابلهما بالتحية والإكرام. وجلسا عنده ساعة في أنس وصفاء وتعطف في الكلام، فلما أرادا القيام ألبس كلا منهماً ثوباً نفيساً يليق بهما، وقام لهما ومشى على الأقدام، وخرجا من عنده إلى البيت السعيد، وقبلا الحجر الأسود السعيد، وسألا من فضل الله المزيد.
وفي اليوم العاشر من الشهر المذكور أراد الباشا السفر إلى جدة المعمورة، فلما كان بعد العصر، توجه إلى حضرة مولانا الشريف سعد - حفظه الله تعالى - بالقرآن العظيم، ومكث عنده ساعة من الزمان، ولم يذق عنده شيئاً زعم أنه صائم طلباً للغفران.(3/54)
ثم إن مولانا الشريف أمر بتقديم فرس مسرجة محلآة تساوي ستمائة دينار، اللهم ألف بين قلوب عبادك كما ألفت بين الثلج والنار. ثم إنه لما نزل إلى جدة حكم وتكبر وطغى وتجبر.
وفي يوم الخميس ثالث ربيع أول من السنة المذكورة: نهب عسكر الشريف السوق وأخذوا منه ما وجدوه من عيش وتمر ولحم وسمن، وأفسحوا في تلك الأفنية، وطلعوا إلى قهوة النخل، وزعموا أن فعلهم إنما هو للحاجة الملجئة من تأخر الجامكية الشريفية، وأقاموا بها تلك الليلة ويومها على تلك العصبية.
ثم نزلوا إلى أسفل مكة وأرادوا التوجه إلى نحو اليمن، فتوجه إليهم ابن الشريف زيد مولانا السيد حسن، وصحبته الشيخ أبو بكر العرابي، وشيخ العسكر، والتزموا لهم ما أرادوا، فرجعوا إلى البلد فأعطوهم ما كان لهم وزادوا.
وفي ليلة الخامس من شهر ربيع الأول من سنة ثمانين وألف: دخل مكة مولانا المرحوم السيد محمد يحى ابن المرحوم الشريف زيد أسكنهما الله في الجنان القصور، وحصل بدخوله الهناء والسرور.
فلما أصبح الصبح تكلم العسكر الذين هم بمكة مقيمون، في دخوله البلد وهو من الجماعة الذين هم الناهبون القاتلون. فأجابهم مولانا الشريف بأن عنده مكتوباً من حضرة الباشا بأنه يصطلح مع بني عمه، فأخرجه لهم، وقرأه عليهم، وسجله عند قاضي المسلمين، فسكتوا ورجعوا.
وفي ليلة الخميس عاشر الشهر ثالث عشر ربيع الآخر: قتل بعض الأتراك زوجته خنقاً طمعاً في مالها، واعتصب له جماعة، وطلبوا البينة عليه فلم تقم، فخلي سبيله.
وفي اليوم الخامس عشر منه، قتل عبد أسود عتيق لبعض العرب رجلاً من جماعته كذلك لدنياه، وذلك عند بئر طوى، فبئس ما نوى.
وأمسك فأقر فشنق في اليوم الثاني في مشنق محمود الأعور.
وفي هذا الشهر أو الذي قبله نفى مولانا الشريف رجلين إلى بلدة بيشة أحدهما من أولاد مكة والآخر من أشراف الأزبك المجاورين، انتقل هذا إلى رحمة الله مولاه، وبقي الآخر إذ أبقاه الله.
وفي يوم الجمعة خامس عشر الشهر المذكور، وقع بين عسكر الشريف شنآن، وافترقوا فرقتين، وتقاتلوا ساعتين، وحصل فيهم جراحات، وأسفرت عن سلامات، وكان آغاتهم قد طلع إلى المعلاة لزيارة قبر مولاه، فأرسلوا له رسولاً، ونزل إليهم قبل حضوره مولانا الشريف أحمد بن زيد - حفظه الله - ففرق جمعهم وأطفأ، نارهم، وألف بينهم، وقبل أعذارهم.
وفي هذا الشهر: توجه مولانا السيد محمد بن زيد إلى قبيلة بني سعد في جمع سير، وهم في منعة وشاهق خطير، وأراد قتالهم لخروجهم عن الطاعة، وأظهر كل منهم تمرده وامتناعه. فأرسل وعرف أخاه مولانا الشريف سعد، فجمع جمعاً وأمرهم بالمسير إليه والذهاب.
فبينما هم كذلك إذ وصل الخبر إليه بأنه وقع الصلح على المال لتسلم الرقاب، ودخل جمادى الأخرى وكان بالأحد. وفي اليوم الثالث منه آخر النهار انتقل الأخ الأعز المرحوم شهاب الدين القاضي أحمد ابن القاضي مرشد المرشدي الحنفي العمري - رحمه الله تعالى - .
وفي يوم الجمعة سادس الشهر، ضرب سردار العسكر ناظر السوق وأهانه، ومكث الناظر المذكور أياماً لا يخرج من بيته بسبب جرح رجله من الضرب، وسببه طلب السردار من الناظر أن يزيد له في السعر ليبيع هو وجماعته ما عندهم من الطعام المحتكر، فمنع من الزيادة، فحقد عليه لذلك، وتسبب له بسبب من الأسباب، حتى بلغ من ضربه ما يقابل به يوم الحساب.
وأما حسن باشا لما وصل جدة دخل بيته، وأغلق بابه، وأجلس أعوانه وحجابه، وجعل حاكماً يحكم على المسلمين حكم الظالمين.
فمن جملة حكم ذلك الحاكم على ما قيل أنه جعل على كل ميت شيئاً كما فعل فرعون فيمن قبله من الأولين، وتفرق جنده في البلاد إذ تأمروها، وكثر أذاهم فيها وما عمروها، بحيث إنهم يدخلون السوق، ويأخذون الطعام وغيره قهراً من غير رضاً، وإذا توجه المظلوم إلى الباشا لم يقدر عليه، ولا هناك أحد يلتجأ إليه، وإن رفعوا الأمر إلى حاكمه ضربهم، وأمر بحبسهم، ولم ينقض لهم أرب، ومع ذلك ليس قوله إلا؛ برى جدي، بري زيدى عرب، فمن الناس من أمسك بيته، ومنهم من فر وهرب، ومنهم من رفع هذا إلى مولاه فارج الكرب، ليكشف هذه المحنة، ويهلك من كان السبب.(3/55)
وفي يوم الثلاثاء ثاني رجب الحرام، دخل سلطان من سلاطين الأعجام، وقد كان أرسل له مولانا الشريف سعد إلى جمة رسله يهنونه بالسلامة، ويبلغونه التحية والكرامة، وصحبتهم خمس أو ست من التخوت، وتوجه إليه مفتي الإسلام، والخطيب ببلد الله الحرام القاضي إمام الدين ابن القاضي أحمد المرشدي، ولاقاه من نحو مرحلة، وقابله بالتحية والإكرام، وجاء معه ودخل به المسجد الحرام من باب السلام.
وأرسل مولانا الشريف إليه هدية سنية، وأنزله في بيت من بيوت آبائه الأسلاف الزكية. ثم بعد ذلك أرسل السلطان المذكور لحضرة مولانا الشريف مقابلا لما أهداه له من الإنعام مالاً جزيلاً من الذهب والفضة، وكذلك جاء من سلطان الهند مال عظيم في هذه الأيام، فذهب الضيق والتعب من القلوب والأجسام.
وفي يوم الأربعاء رابع عشري رجب المذكور: انتقل بالوفاة إلى رحمة مولاه مولانا وسيدنا ومأوانا وسندنا شيخنا شيخ الإسلام والمسلمين، خاتمة الأئمة المحققين، خادم حديث سيد المرسلين، الجامع بين الأصول والفروع، الحافظ لكل متن ومجموع، الحائز فضيلتي العلم والنسب، الحائز طرفي الكمال الغريزي والمكتسب، رئيس العلوم العبقري، جار الله أبو مهدي عيسى بن محمد بن محمد الثعالبي الجعفري، الهاشمي نسباً، المالكي مذهباً، المغربي منشأً ومولداً الحرمي وطناً ومحتداً. إمام الحرمين الشريفين، وعلم المغربين والمشرقين. جامع أشتات العلوم النقلية، ومبرز خفايا لطائف الآراء العقلية، محمي رسوم الرواية بعد ما عفت آثارها، ومشيد مبانيها بعد ما انهار منارها، وسالك مسالك أئمة السلوك، ومالك ملاك أمره في مجانبة كل مليك ومملوك. ولد ببلده ونشأ بها على اشتغال عظيم بالعلوم النافعة. وأخذ عن عدة مشايخ في علوم عديدة.
قلت: هو شيخي الذي تخرجت به في عدة من الفنون إتقاناً، عقائداً وأصولاً ونحواً وصرفاً ومنطقاً وبياناً. تغمده الله برضوانه، وأحله فسيح جنانه. آمين.
وفي اليوم السابع والعشرين من رجب المذكور آخر النهار وقع بين عسكر المدينة، وبين العرب قتال زاغت فيه الأبصار، وكان من العصر إلى وقت الاصفرار.
فلما أقبل الليل وأدبر النهار، تفرق الجمعان، وبات عسكر المدينة في غاية التنبه والاحتدار، طول ليلهم بالبندق إلى وقت الأسحار.
وكان القتلى من العرب نحو خمسة عشر رجلاً. فلما أصبح الصباح، ونادى منادي الفلاح، حفروا لهم حفرة نحو السبيل، ودفنوهم بها، وقتل من أهل المدينة حران وعبدان. بذلك تواتر الخبر عن غير واحد من الإخوان.
وهؤلاء العرب من قبيلة تعرف بحرب، ولم نعلم حرب هذا جدهم لمن ينسب، الى أي جيل يحسب. وهم جمع كبير يشتمل على قريب من خمسين فخذاً كل فخذ يشتمل على جماعة لهم جد خاص، وعليهم الدرك في حفظ الطريق من عسفان إلى المدينة الشريفة.
والشيخ الذي جماعهم عليه وانتماؤهم إليه كان يسمى أحمد بن رحمة، أفاض الله عليه الرحمة.
ولما أقبل الليل منعهم شيخهم المذكور عن القتال، وردهم إلى المحل المسمى بذي الحليفة شرعاً، وبأبيار علي عرفاً. ثم أرسل له كبير المدينة الشريفة بالطلب والأمان، فتوجه إليهم، ومعه جمع من العربان، فجعل الفريقان يختصمان، ويدعي كل منهما على الآخر بالبدء بالعدوان، على يد الأفندي، وشيخ الحرم والأعيان. فأصلحوا بينهما وانقطع النزاع عنهما، وألبس الشيخ خلعة نفيسة، وألبس بعض خواصه جوخاً، على أن ما مضى لا يعاد، بذلك وقع الاتفاق والأمان. ونادوا على القافلة بالرحيل، مع التعزيز والتبجيل.
ثم دخل شهر شعبان المعظم وكان بالأربعاء، وفي خامسه وصل رسول من باشا مصر المحروسة إلى حضرة مولانا الشريف يبشره بالنصرة المأنوسة لمولانا السلطان محمد خان أيده الله بالسعد المديد، على أهل الشرك والطغيان أرباب مالطة وكريد. فألبسه مولانا الشريف خلعة ثمينة، ونادى مناديه سبع ليال بالزينة، وذلك على القواعد القديمة، وحصلت بذلك للمسلمين بشرى عظيمة.(3/56)
ومدة محاصرة أهل الإسلام للكفرة المشركين اللئام نحو ثلاثين من الأعوام. ثم إن الكفرة جعلوا للمسلمين مالاً عظيماً حالاً ومؤجلاً يأخذونه منهم كل عام بالتمام، وأن لا يتعرضوا للمسلمين بحال من الأحوال لا في الأسفار ولا في دار المقام. والمدة التي اتفقوا عليها نحو مائة من الأعوام. على ذلك وقع الصلح والاتفاق، وكفى الله المؤمنين الشقاق. فرجعوا إلى أوطانهم بالخيرات والإنعام، ولهم في الآخرة دار السلام.
ومما يتعلق برسول الباشا أنه جاء بعزل أفندي الشرع، وبتولية القاضي عبد المحسن القلعي نيابة القضاء عن الأفندي المستجد، وبعزل مفتي الحنفية القاضي إمام الدين المرشدي، وتولية الشيخ إبراهيم بيري زاده مقامه إذ له هناك مستند.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشري شعبان المذكور من سنة ثمانين وألف؛ ورد خبر وقعة مولانا السيد حمود مع ظفير القبيلة المعروفة بنجد، وكان فيها عدة وقعات: وقعة قفار مع عَنزة، ووقعة بني حسين، ووقعة هتيم العوازم، ووقعة مطير وغيرهم.
وسبب وقعة ظفير أنه انضم إلى جهامة مولانا السيد حمود قبيلة من ظفير يقال لهم الصمدة، ثم انضم إليه شيخهم الأكبر مع جماعته الأدنين، وعصبته الأقوين، كان محباً للسيد حمود بمنزلة العين للإنسان، والإنسان للعين. وهو ذو شهامة وصرامة، يعرف بابن مرشد سلامة، فوقع من جماعته جرم اقتضى أن يؤاخذوا بما هو المعتاد المنوي عليهم في مثله، وهو أخذ الشعثاء والنعامة، وفي خيار أوائل الأباعر، وخيار تواليها، فلم يرضوا بذلك، وقالوا هو جور وحيف، وليس عندنا دون ذلك إلا حد السيف، فأشار سلامة المذكور إلى مولانا السيد حمود وقال له: اربطني ولستَ في ذلك بمُلام، فوالله لتأخذن ما تريد على التمام.
فقال: كلا والله لا ربطتك ونخوة آبائي الكرام، وكيف ذاك وفي بطنك من عيشي طعام، وكفى به التزام ولزام فذهب سلامة إلى قومه، وقد تهيئوا للقتال والنضال والعدوان، وتهيأ كذلك مولانا السيد حمود ومن معه من بني عمه ومن الصمدة وعَدوان.
فانخزلت الطائفة من الصمدة، وولت ناحية ناجية، وانكفأ الجمعان بعضهم على بعض، واختلط الفرسان فلم يبن الطول من العرض. وقتل من الساعة الأشراف مولانا السيد زين العابدين بن عبد الله، ومولانا السيد أحمد بن حسين بن عبد الله، السيد شنبر بن أحمد بن عبد الله.
وصوب مولانا السيد ظفير ابن السيد زامل بن عبد الله أصاويب. وكذلك صوب مولانا السيد باز بن هاشم بن عبد الله، إلا أن الله سبحانه منَّ بالعافية عليهما ولله الحمد.
ثم إن السيد غالب بن زامل صبحهم بعد مُدَيدة، فحلم عن ستين لحية منهم، ولم يشف عن واحد من القتلى كبده. ولم تزل معهم ظفير في قتل وطراد إلى أن أصلح بينهم مولانا المرحوم الشريف أحمد بن زيد، كما سيأتي ذكر ذلك في محله. وفي تاسع عشري رمضان: وقعت بمكة صاعقة جهة الشبيكة قتلت رجلاً واحداً. وفي رابع عشر شوال: بلغنا أن الباشا حسن اْظهر بويوردي وقرأه على الأتراك بأن محصول جدة له يصرفه في عمارة المسجد وغيره، فتعب منه مولانا الشريف سعد، وأرسل له ونهاه عن ذلك، فلم يرجع وفعل فعل القسوس، فقامت بينهما النفوس. ونزل السيد محمد بن يعلى في خيل ورجل وخدام، وواجهه فقابله بالتحية والإكرام، وكان بينه وبين مولانا الشريف مباينة وظنن، فتعب الناس من ذلك لما يترتب عليه من الفتن، ولكن كفى الله المخوف ودفع، ولم يحصل شيء من المكاره.
وفي يوم الخميس سادس عشري الشهر المذكور: وصل ثلاثة من الأعراب بخبر سار للمسلمين بأن صاحب جدة معزول، فأخلع عليهم مولانا الشريف أدام الله له النصر والتمكين.
ودخل شهر ذي الحجة الحرام اختتام سنة ثمانين وكان بالإثنين. وفي يوم الجمعة خامس الشهر وصل مبشران: أحدهما من أتباع مولانا الشريف ممن يتلقى عن الحج الأخبار، والآخر من أتباع عماد أغا، ومن الحجاج والزوار، يبشران بوصول قفطان لمولانا الشريف من حضرة مولانا السلطان.
وفي اليوم السادس دخل الحجاج مكة المشرفة ووصل القفطان والمكتوب، فلبس وقرئ بالمسجد الحرام، بين زمزم والمقام، بحضرة الخاص والعام.
وكان ممن حج في العام جماعة من الأعيان، أركان دولة آل عثمان، أخو الوزير وعمه، وابن أخيه وأمه. فتوجه إليهم مولانا الشريف حال القدوم لسلام التحية، وأرسل لهم بهدية سنية.(3/57)
وبعد نزولهم إلى منى توجه إليهم، ونص جميع ما جرى له من حسن باشا عليهم. فأرسلوا إليه فحضر، وتكلموا عليه وزجروه فانزجر.
وفي الاجتماع به مرة ثانية جمعوا بينه، وبين مولانا الشريف، وأصلحوا بينهما الحال، والحمد لله على كل حال. وكانت الوقفة بالثلاثاء.
وفي خامس عشري ذي الحجة المذكورة، انتقل الأخ الصالح رضى بن حسن الطاهر.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وألف، في ثالث محرم الحرام يوم الجمعة رحل المحمل الشامي، وفي سادسه انتقل مولانا المرحوم الشيخ عبد الكبير بن محمد وفي يوم الجمعة سابع عشر الشهر المذكور، نودي لمولانا وسيدنا الشريف أحمد ابن المرحوم مولانا الشريف زيد في البلاد بالربع، وأمر الخطيب يدعو له عَلَى المنبر مع أخيه دام مجدهما، وكان النداء قبيل الصلاة في اليوم المذكور.
وبعد صلاة عصر ذلك اليوم أرسل إليه الباشا حسن جماعة نوبته فضربت في بيته، فأرسل إليهم فوق ما كانوا يطمعون. فخرجوا وهم يتشكرون.
وكفا في اليوم الثاني والثالث على ما مضى عليه الأولون. وفي ثاني يوم جلس للتهنئة والمباركة، وألبس الخطيب ثوباً نفيساً، وأنفق في ذلك اليوم مالاً على الأتباع الفقراء تبشيراً وتأنيساً. وكان قدومه على المسلمين بكل خير.
ومما اتفق في هذا العام أن رجلاً من قبيلة النفعة يسمى عمير، ويكنى بأبي شويمة قتل جماعة منهم اثنان من ثقيف من قبيلة تسمى الحمَدَة ولهما إخوة وبنوعم، فكانوا في طلبه يتجسسون الأخبار، فدخل في هذه السنة بلدَهم، وجاء راكباً جواده، ووقف إلى قبة الحبر وزار، ثم دخل إلى السوق، فرآه بعض أقارب القتيل، فصاح به، وضربه ضربة ادَّرَقها ثم ضرب فرسه فقطع عرقوبها فحركها فلم تطاوعه للفرار، سقط إلى الأرض فلحقه وقد صدمه الجدار فضربه ثالثة على أم رأسه فشقه فبرك عليه، وأراد ذبحه فمنعه الحاضرون، ثم قام نحو الخلاء وهو في سكرات الموت، صاح الصائح الحقوا غريمكم قبل الموت، فتلاحقه الرجال يرمونه بالحجارة والنصال حتى سكن أنينه، وكانت هذه الواقعة يوم الخميس رابع ربيع آخر.
ثم إن أولاد عمير المذكور صاحوا في عشيرتهم وذويهم، واستثاروهم على قتلة أبيهم، فأتاهم بنو سعد وعتيبة وجمع من العربان، ثم اجتمعوا وتهيئوا للقتال.
وحصل في الطائف القيل والقال، فاجتمعت ثقيف، واستنصروا حلفاءهم لما بلغهم وصول القوم إلى لية ونواحيها، وبالقرب من القوم قبيلتان من ثقيف بنو محمد وثمالة فتوجهوا نحو القوم فأخذ القوم ينهزمون إلى أن وصلوا إلى عباسة بالخداع منهم والاحتيال، وهؤلاء البعض منهم والبعض الآخر كمن واختفى وراء الجبال حتى توسطت ثقيف، فإذا القرم منعطفون عليهم والكمين خارج إليهم، فاحتاطوا بهم فقتلوا الرجال، وأخذوا الأموال وأمسكوا جماعة عندهم مأسورين وهرب باقيهم. ثم إن القوم نزلوا إلى القرية وأخربوها وأخذوا الحبوب، وقطعوا الثمار وأحرقوا بعض الدواب بالنار، وكان بالقرية أولاد الشريف، وحاكم الشريف فارسلوا إليه فعرفوه. ففي صبيحة يوم الثلاثاء تاسع ربيع الآخر من السنة المذكورة، وصل من مكة نحو المائة من العسكر أرسلهم مولانا الشريف لحفظ البلد وحراستها.
وفي اليوم التاسع والعشرين من الشهر المذكور: لبس مولانا الشريف سعد خلعة النصر والتأييد بالأبطح جاءته من صاحب مصر المحروسة بعون الله العزيز الحميد، وكان متوجهاً إلى الشرق؛ لإطفاء نار فتن المفسدين والعتاة المتمردين. ودخل شهر جمادى الأولى، وتوجه مولانا الشريف إلى المبعوث، ووصل في سابع عشره إليه - أيده الله - تجاه جده خير مبعوث، وأرسل قبائل العرب فأجابوا بالسمع والطاعة، فنصفهم وأنصفهم، ولو شاء كشف عنهم من الستر قناعه، لكنها غير شيمة جده صاحب الشفاعة، ثم وصل منه إلى الطائف.
وفي هذا العام: وقع الصلح بين مولانا الشريف، والسيد حمود، فكان وصول مولانا السيد حمود - رحمه الله - إلى مولانا الشريف سعد بالطائف فلاقاه ملاقاة الابن البار لأبيه، وألبسه في الحال فروة السمور، وطيب خاطره بكل ما يرضيه.
ثم بعد يوم والذي يليه، عقد معه المبايعة على محكم الأساس، في ضريح الحبر ابن عباس، ولم يدخل مكة معه بل تخلف في مخاليفها، وكان به للمسلمين أعظم أسباب تأليفها.(3/58)
وفي شعبان من السنة المذكورة: وصل رسول من باشا مصر، ومعه مكتوب من مولانا السلطان، ومعه خلعتان واحدة منهما لمولانا الشريف سعد، والأخرى لمولانا الشريف أحمد - حرسهما الله تعالى - وكانا غائبين في أرض الحجاز، لإصلاح البلاد، وقمع أهل الظلم والعِناد. فاجتمع العسكر الذين بمكة ليلاقوا رسول مولانا السلطان بالتبجيل والإعظام، وليدخلوا به على ما جرت به القواعد، فأتوا به من أعلى مكة، وأدخلوه من باب السلام، ووضعوا الخلعتين في مقام الخليل، عليه السلام.
ودخل شهر رمضان وكان بالثلاثاء. ولما كانت ليلة الثالث والعشرين منه: دخل مولانا الشريف سعد مكة في موكب عظيم تمام، ومكث يومه والذي يليه، ثم نزل اليوم الثالث إلى المسجد الحرام، ولبس الخلعة الشريفة بين زمزم والمقام، بحضرة السادة الأعلام، وعساكر الإسلام، وقرئ المرسوم السلطاني، وفيه مالا مزيد عليه من التبجيل والإعظام. وكذلك مولانا الشريف أحمد لبس خلعته في هذا اليوم، وذلك أنه طلب من أخيه بعد النداء له بالربع والدعاء على المنبر أن يرسل إلى الحضرة العلية، ويعرف بذلك لتصل إليه الخلعة في كل عام وتقرر، فأرسل وعرف بذلك في مكتوب، فجاءه الجواب على وفق المطلوب. وقد سبقهما إلى مثل هذا الآباء والجدود، وفضل الله ليس بمحمود.
وفي يوم الجمعة خامس عشري الشهر المذكور، دخل شخص أعجمي المسجد الحرام، والخطيب قائم على المنبر يعظ الأنام. فتقدم نحو الخطيب، وصرخ صرخة أزعجه بها، وأشغل جنانه، والسيف في يده سليل جمع عليه كفه وبنانه، فأومأ نحوه، بالسيف وقرقر، وقال: أنا المهدي، الله أكبر.
فدافع عن الخطيب بعض الحاضرين بالسلاح والحجر، ومنعه منه وحجر، حصل منه جراحات لعدة أشخاص، فاجتمعوا عليه وضربوه، وطرحوه إلى الأرض وقتلوه، ثم إنهم أخذوا برجله، والى خارج باب السلام سحبوه. فلما قضيت الصلاة، رجعوا إليه فأخذوا برجله، وصاروا يجرونه مع الضرب والإهانة، والحياة به باقية، فويل لهم من الله - سبحانه - إلى أن وصلوا به المعلاة وأحرقوه هناك بالقرب من بركة المصري، وهذا أمر عظيم تحار فيه الأفكار، كون المسلم يهان هذه الإهانة، ويقتل بغير موجب ثم يحرق بالنار، نعوذ بالله من مكر الله.
ودخل شهر الحجة وكان بالسبت: دخل الحجاج يوم الخامس والأمير والمحمل يوم السادس. ولبس مولانا الشريف سعد والشريف أحمد خلعتيهما مع المصري والشامي، وهذه أول خلعة لبسها مولانا الشريف أحمد في هذا الموكب، ثم حجا بالناس.
ولما كان اليوم الثالث من أيام منى بعد انتصاف النهار نفر الباشا حسن إلىمكة وإلى رمي الجمار، في موكب عظيم تشخص عنده الأبصار، والجند محدقون به إحداق الهالات بالأقمار.
فلما كان واقفاً عند العقبة لرمي الجمرة رماه ثلاثة رجال بثلاث بنادق، فخر على وجهه إلى التراب، فتلقاه جنده ورفعوه إلى التخت، وتحيروا فيما نزل بهم من هذا المصاب بهذا المُصاب، ونزلوا به إلى مكة في ذل وانكسار، وصاروا يقتلون من لاقوه من الناس من غير اختيار. فوصلوا به إلى مكة وأغلقوا عليه الدار، وتحصنوا في البيوت، ودخل جمع منهم المسجد بالسلاح والنار، ورموا فيه البندق نحو بيت مولانا الشريف سعد، وهتكوا حرمة بيت الله في الأستار، ووجهوا المدافع في الأربع الجهات، واحترس نهاية الاحتراسات.
ثم إن مولانا الشريف سعد توجه بعسكره إلى مكة خلفه بعد حين ملبسين مدرعين.
وأما الحجاج فمنهم من نفر إلى مكة، وأدخل أسبابه، ومنهم من لم ينفر، وجمع أهله وماله، وأغلق بابه.
ولما نزل الحجاج إلى مكة، واستقروا بها مكثوا خمسة أيام وأكثر مضطربين، وفي كل يوم تراهم رافعين لأسبابهم وواضعين، وكبراء الحجاج والأمراء يسعون بينهما في جمع الشتات.
وسبب الاضطراب: أنه قطع على مولانا الشريف استحقاقه من ناصفة جدة، فطالبه بها فامتنع وتجبر، وتنكر وتنمر. فوثب عليه مولانا الشريف في طلب حقه، وجمع جيشه وكبر.
فعند ذلك أصلح الله الأحوال، واتفق الأمر على إعطاء شيء من المال، وكان قدره ثلاثين ألف قرش.
ثم استعفوا مولانا الشريف سعد من الثلث، وأعطي عشرين ألف ريال، فسلمت لمولانا الشريف - أعزه الله بجاه النبي والآل - .(3/59)
ثم لما توجه الحاج المصري يوم سابع عشري ذي الحجة الحرام المذكور، توجه معه حسن باشا، ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين، اتفق أنه لما رحل حسن باشا صحبة الحاج المصري من مكة إلى المدينة الشريفة أقام بها، فوفد عليه فيها مولانا السيد محمد ابن السيد أحمد بن محمد الحارث، فألزمه بالذهاب إلى والده السيد أحمد الحارث، واستلحاقه إليه إلى الممينة الشريفة، فذهب السيد محمد المذكور فوصل إلى أبيه بالمحل المسمى بالشعري من أرض نجد، فأتى إلى المدينة الشريفة، فلما حضره نادى له بالبلاد بعد أن ألبسه خلعة، وقطع الدعاء للشريف سعد في الخطبة، ودعا للشريف أحمد الحارث.
وقد كان مولانا الشريف سعد خرج صحبة الحاج أو عقبه حتى وصل إلى ينبع، فأقام به. ولما بلغه ما فعله حسن باشا بالمدينة الشريفة من قطع اسمه من الخطبة، وتوليته للسيد أحمد الحارث والنداء له، أرسل إلى السيد أحمد الحارث كتاباً في غاية اللطافة، واللين والرقة لا الكثافة، مضمونه بعد مزيد الثناء، وحميد الدعاء: إن هذا الواقع الذي سمعنا به؛ من تقمصك برد الملك وأثوابه، فهذا أمر أنت بيته الأعلى، ومثلك أحرى به وأولى، فإنك أنت الشيخ والوالد، الحائز كل كمال طريف وتالد، فإن كان هذا محكم الأساس في البنيان جار على مقتضى مرسوم السلطان، نحن بالطاعة أعوان، وإن كان الأمر خلاف ذلك، وإنما كان من تسويلات هذا الظالم الغادر، وتنميقات ذلك المذمم غير الظافر، فأجل حلمك أن تستخفه نكباء طيش، أو أن تستنزله أخلاط الأشاوب وغوغاء الجيش.
فأرسل إليه الجواب مولانا السيد أحمد الحارث؛ بأن الأمر لم يكن على هواى، وإنما هو إلزام، مع علمي بأن هذا الابتداء لا يكون له تمام.
فاستشعر حسن باشا أن من نية مولانا الشريف سعد المسير إليه، فتهيأ للقتال، واعتد ولفق مع عساكر المدينة ما قدر عليه بالجد لا الجد، وصنع أكراً من حديد قريباً من مائتين تسمى قنابر تملأ بالرصاص والحديد يرمى بها من بعد إلى الجيش، فيفسد فيه ملأها المتناثر.
وكلما أراد المسير ثبطه السيد أحمد الحارث وثناه، وأظهر له الرأي في عدم المسير ومناه. فعزم مولانا الشريف سعد وأخوه مولانا الشريف أحمد إلى المدينة الشريفة الظالم أهلها إذ ذاك، وصمم على القتال عزماً ليس معه انفراك.
وكان مولانا السيد حمود - رحمه الله - نازلاً بالمبعوث في المربعة المنسوبة إلى لانا السيد محمد الحارث، وكنت إذ ذاك نازلاً عنده في تلك البقعة، وصلت إليه إشياقاً لمحياه السعيد، وفرحاً بعد طول الغيبة بأنس الرجعة، فلما كان يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى بين صلاتي الظهر والعصر من سنة اثنتين وثمانين المذكورة إذ نحن بفارس على فرس عري يدك الأرض دكاً، فأقبل حتى دنا، فإذا هو السيد أحمد بن السيد حسن بن حراز رسولاً من مولانا السيد أحمد الحارث، والباشا حسن بمكتوبين يستدعيان مولانا السيد حمود للانضمام إليهما، ففتح المكتوبين، وقرأهما وتمقل ألفاظهما ومعناهما فنبذهما إلي، وقال: اقرأهما ثانياً علي، فقرأتهما، فإذا مضمون الأول الذي من الباشا حسن بعد الثناء والوصف الحسن: إننا قد ولينا أخاكم السيد أحمد الحارث بأمر سلطاني معنا، صحيح في اللفظ والمعنى، والقصد أن تجمعوا الشمل، ولا تشقوا العصا، وتكونوا عوناً لأخيكم على من خالف وعصى، ولكم ما تريدونه من الجهات والمعينات وزيادة، فوق ما جرت به القوانين والعادة، وهذا حاصل ما فيه فلا حاجة إلى التكثير، ولا ينبئك مثل خبير. ومضمون كتاب مولانا السيد أحمد بعد العبارة، وإظهار الود والاشتياق، والحنو والإشفاق: إنني يا أخوك لم يكن لي هذا الأمر ببال، ولم ألتفت إليه بالقال ولا بالحال، وإنما لحقني ولدك محمد إلى الشعري، وكرر علي القول مرة بعد أخرى، ولم أوافقه حتى رأيت جدك النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قائلاً لي: وافق محمداً وخلاك هلام، فحينئذ رجعتُ، وكان ما سمعت، والقصد إني أخوك الذي تعرفه ولا تنكره، فأقبل إلينا فهو أعظم جميل نذكره، والسلام.(3/60)
ثم فكر مولانا السيد حمود ساعة، فكأنه كشفت له الفراسة عن وجه الغيب قناعه. وقال: كأني برسول الشريف يصابحنا إن لم يماس، فكأنه في مرآة الغيب ناظر، فقبل الغروب إذا الراكب المنيخ بالفناء ابن بسيان جاسر. فتقدم إليه، وقبل يديه، وأخرج مكتوبين أحدهما من مولانا الشريف سعد، والآخر من أخيه مولانا الشريف أحمد، مضمونها استحثاثه في المسير إليهما، والحضور لديهما، وأن حسن باشا قد شمر عن ساقيه للحرب، وكشر عن نابيه للطعن والضرب، واستشهد مولانا الشريف سعد بقول الشاعر: من الوافر:
وما غلظت رقابُ الأُسدِ حتى ... بأنفسها تولت ما عَناها
وأتبعه بقوله: وأنت تعلم أن الأمر الذي يعنانا يعناك، وأدري بما يئول إليه الأمر في ذاك، وهذه ألف دينار صحبة الواصل المذكور إليك، فأدرك أدرك أدام الله فضله عليك. واستشهد مولانا الشريف أحمد ببيت الهمزية.
ثم إني قلت لمولانا: ما صواب الرأيين ويتوجه العزم إلى أي الوجهين. فقال: إلى سعد صاحب الفضل ومولاه، فبيني وبينه في ضريح الحبر عتلات الله. فلو اعترضني عبد الله لكفحت وجهه بالسيف دونه والله ثم والله.
ثم توجه على الركاب يومه الثاني، وقوض الأخبية، وفارق المباني، حتى وصل إلى مولانا الشريف سعد وأخيه. وهما بالمحل الذي عذب بحلولهما بعد أن كان اسمه ملحة، فوافاه القضاء بما وافق مراده، وأنتج نجحه من ورود القاصد بعزل حسن باشا وطلبه، وانخرام حسابه وتقطع سببه.
ثم ارتحل من المدينة. فلما كان بطريق غزة وتلك النواحي، توفي فدفن في ذلك المحل الناحي. وأتت إلى مولانا الشريف سعد خلعة باشوية صحبة ذلك القاصد، وكان إرسالها ضرباً من المكايد.
ثم في أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة قبل قدوم الحاج بقليل: قدم محمد جاوش بجيوش نحو أربعة أو خمسة آلاف ضرب أوطاقه في أسفل مكة الزاهر، بمن معه من العساكر، وصاروا يدخلون مكة عشرة سواء خمسة سواء وثمانية سواء، ويعودون إلى خيامهم خارج مكة للمبيت، ثم قدم صحبة الحاج الشامي شخص يسمى حسين باشا السلحدار بنحو ألفين، وقد وسد من تلك الديار، أن يعمل بما يتوراه نظره ويختار.
فلما كان اليوم السابع من ذي الحجة: خرج لملاقاة المحمل الشريف الشامي على العادة، إلا أنه لم يخرج إلا من الثنية العليا المسماة بالحجون أعلى البلاد، فوقف إلى أن يصل بها الواصل، كما هو عادة الأوائل، فلم يصل إليه أحد، بل طلب منه أن يأتي إلى مخيم الأمير، وهذا الأمر على شهامته غير يسير.
فعطف عنان فرسه راجعاً من طريق الشبيكة إلى مكة المشرفة. فخشوا من وقوع فتنة يذهب فيها الأقوياء والضعفاء، فأرسلوها مع من لحقه بها في أثناء الطريق، وهُدُوا بذلك إلى طريق الرشاد والتوفيق.
ثم صعد الحجاج إلى عرفات، وأفاضوا إلى المزدلفة، ثم منى ذات المثوبات. فلما كان يوم النفر، وهو اليوم الثاني من أيام منى ترددت الرسل من الشريف إلى أمير الحاج الشامي لما هو المعتاد من الخلعة التي صحبتها المرسوم السلطاني، التي يلبسها ذلك اليوم مع المرسوم الذي يقرأ، فيسمعه القاصي والداني، فلم يؤت بها إليه، فعلم مولانا الشريف أن المدار بهذه العساكر القبض عليه، فأضمر الصولة عليهم والمسير، ولم يبال بذلك الجمع، وإن كان حصره عسير. ثم رجح الانكفاف بالذهاب، وإغلاق ما للشرور من سائر الأبواب، ففر ومن معه على الخيل والركاب، فجزاه الله عن المسلمين أحسن جزاء، بحرمة محمد ومن والاه.
ولما كان ظهر اليوم الثاني عشر: حضر حسين باشا، ومحمد جاوش، وأكابر الدولة، وأمراء الحاج، واستدعوا جماعة من الأشراف، منهم: مولانا المرحوم السيد أحمد بن محمد الحارث، ومولانا السيد بشير بن سليمان، ومولانا الشريف بركات بن محمد، وأظهر أمراً سلطانياً بصريح اسم مولانا الشريف بركات في شرافة مكة، وأنها تحت تصرفه، وله ملكها ملكة، وألبس خلعة الولاية في ذلك الجمع.
ونزل إلى مكة المشرفة في موكب يبهر العين، ويدهش السمع، ونزل إلى بيت أبيه المعروف بزقاق ظاعنة، ووقفت على بابه الخيول صافنة، وهرعت السادات إليه والأعيان، والحضر والعربان، يهنئونه بالملك والولاية، ويدعون له بطول البقاء والثبات بتوفيق العناية.(3/61)
وما أسرع من انقلاب الحال، ولكل زمان دولة ورجال. وأرخ بعضهم عام ولايته بقوله نثراً ما نصه: بارك الله لنا في بركات، إلا أنه لسنة ثلاث وثمانين، والتولية إنما كانت في موسم اثنين وثمانين، لكن التفاوت بزيادة سنة أو نقصها عند أهل التاريخ مغتفر. وكانت مدة ولاية مولانا الشريف سعد ست سنين إلا أحدا وعشرين يوماً. وورد في ذلك الموسم كتاب من الوزير الأعظم أحمد باشا الكبرلي لمولانا السيد حمود بن عبد الله، وكتاب من باشا مصر له أيضاً وكذلك كتابان من الوزير المذكور ومن باشا مصر لمولانا السيد أحمد الحارث، وكذلك كتابان للمرحوم السيد بشير بن سليمان. والمضمون من الجميع واحد والعبارات مختلفات.
أما كتاب مولانا السيد حمود الذي من الوزير فنصه: فرع ذؤابة هاشم، ونبعة وشيج المحامد والمكارم، السيد حمود نظم الله عقوده، وأباد حسوده آمين. وبعد: فلا يخفى عليكم أن الكعبة البيت الحرام، ومطاف طواف الإسلام، هو أول بيت وضع للناس، وأسس على التقوى منه الأساس، وأنه لم يزل في هذه الدولة العثمانية العلية آمناً وأهله من النوائب، وروضاً مخصباً بأحاسن الأطايب، إلى أن ظهر من السيد سعد من الأمر الشنيع، ما يشيب عنده الطفل الرضيع، وما كفاه ذلك حتى شدد الخناق على أهل المدينة البهية، وأذاقهم كأس المنون روية. فلما بلغ هذا الحال السمع الكريم السلطاني، أمر بعزل السيد سعد عن شرافة مكة وتفويضها إلى الشريف بركات، ليعمل بها بحسن التصرفات، وتكونوا له معيناً وظهيراً، وناصحاً ومشيراً، وكل من يتفرع غصنه من دوحة فاطمة الزهراء، وتتصل نسبته إلى الذرية الغراء، تهدونه إلى طريق الخير والصلاح، وترشدونه إلى معالم النجح والفلاح، وأنتم على ما تعهدونه من التكريم والتبجيل، والله على ما نقول وكيل.
ومما قيل فيه قولي هذه القصيدة: من البسيط:
صَبٌّ أَلَم به طيفُ الكرَى فصَبا ... وعَن أحِبَّاهُ لم يردد عليه نَبا
وقد تغذى لبانَ الحبِّ منذ نشا ... ولم يزل بالغواني مغرماً طَرِبا
تناهَبَت عقله سودُ اللحاظِ فَلَم ... يُبقِينَ فيه لغيرِ الغِيدِ مُطَّلبا
فصارَ يصبُو إلى سعدَى وآونةً ... إلى سعادَ وأياماً يَجُرُ ربا
ولا ملامَ عليه فالتنقلُ من ... سَلمَى للبنَى لدَى شرع الهوَى نُدِبا
فيا عذولَيَّ كفَّا عن ملامكما ... فلا أرَى لي في نُصحَيكما أَرَبا
لله عَقل أضلته الحسانُ على ... عِلمِ فهامَ بها نأياً ومقتربا
مِن كُل ممنوعةٍ روس الأسنةِ لو ... رام التصورَ إدراك لها حُجِبا
مرقوبة الحفظِ حد السيف ليرقُبُها ... فهل سمعتُم بسيفٍ عد في الرقبا
عقيلةُ الحي من سمرِ الرماحِ لها ... سور وفي صفحاتِ المرهفاتِ خبا
وخدرُها الثانِ من سترِ الحشاء فَمِن ... نياطي القلبِ قد مدَت لها طُنُبا
ها مقلتي لَهَبُ الهجرانِ سَيلَها ... على الخدودِ فظنوا مدمعي سكبا
مَن لي بمَن فوَّقَت من قوسِ حاجبها ... سهماً أراشَتهُ بالأهدابِ قد هُحدبا
معسولة الثغرِ يطفي بردُ ريقتها ... نيرانَ من بلظَى هجرانها انتَهَبا
لمياءُ رشفُ رضاب من موشمها ... درياق من بهواها قلبُهُ لسبا
يهدي الذي قد أًضلتة ذوائبها ... جبينها لامعاً باد ومنتقبا
كأنه البرقُ أو كالصبحِ أو كضيا ... سَعدِ بنِ زيدٍ إذا ما قامَ منتدبا
أبا مساعد راعيها مملكها ... من حَل رتبةَ مجدِ جازَتِ الشهبا
خلاصَةُ العنصُرِ الزاكِي المطهر من ... جذرِ الوصي الرضِي أكرِم بذاك أبا
عليهِ سربالُ تقواهُ وعفته ... ومن شمائِلِ علياه رِداً وقَبا
أغرُ أزهَرُ فياضٌ أناملُهُ ... من معشرِ في رياضِ المجدِ نبت ربا
محاسنُ السادةِ الماضينَ قد جمعَت ... فيه كجَمعِ الغديرِ القطْرَ منسكبا(3/62)
سمحٌ إذا سيَم للجدوَى يميدُ كما ... يمِيدُ حاشاهُ صرفَ الراحِ مَنْ شربا
له يَد خُلِقَت للجودِ فهوَ لها ... طبع كما العينُ للإبصارِ قد رتبا
هو المحكمُ عضبيه إذا انتضَيا ... يومي جلاد جدالٍ مفْصلاً أشبا
مفوهٌ في كلا عضبَيهِ متَّسعٌ ... كلما وكلما إذا ما قال أو ضَرَبا
يمناهُ واليُمنُ يمتدانِ في لُزَزٍ ... قد أدركا في مداهُ السبْقَ والقصبا
مستأسدٌ بَين عينَيهِ عزائمه ... إذا تراءَت له أكرومَةْ وثبا
ولا تعاظمه أقطارُ محمدةٍ ... ولو غدا منكب الجوزا لها سَبَبا
ولا يميلُ من العلياءِ إن صعُبَت ... ولا يضل صواب الرأيِ إن نَشِبا
إليكَ يا ابنَ الكرامِ الأطولين يداً ... في المكرماتِ وفي الهيجا أحدَّ شَبا
عروسَ فِكرِ كوشيِ الروضِ باكرَهُ ... غيث فَرَفَّ بنورٍ مزهرٍ وربا
يحلُو بها فَم راويها فتحسبُهُ ... صَباً ترشفَ من عذب اللُّما ضَرَبا
وتنشقُ الورد منها أذنُ سامعها ... حتَى تراه إلى إنشادِها طَرِبا
خلائق كفتيتِ المسكِ طيبة ... تلاق طيب سَراة سادَة نجبا
فاسلم على كاهلِ العلياءِ مرتقياً ... وصافن المجد غَطَى منهما عقبا
ودُم على خفضِ عيشٍ ما يرنقُهُ ... رب الحوادثِ ما هَب النسيمُ صَبا
ولاتساق المقول نقول: ثم وليها مولانا الشريف بركات بن محمد بن إبراهيم بن بركات بن أبي نمى.
قيل: ولايته بسعي الشيخ محمد بن سليمان المغربي السوسي، وذلك أن الشيخ محمد المذكور تشفع عند الشريف سعد في رجل أزبكي كان يسمى السيد محمد الفصيحي فعل جرماً مع مولانا الشريف سعد فلم يشفعه فيه، وذلك في سنة ثمانين وألف، فاتفق أن أخا الوزير الأعظم حج في موسم تلك السنة، وكان له ولع بعلم الفلك، فاجتمع بالشيخ محمد بن سليمان المذكور فأخذ عنه في ذلك، فطلب من الشيخ أن يسافر معه إلى الأبواب السلطانية، فسافر معه واجتمع بالسلطان، وطلب منه اْن يزيل أشياء بمكة المشرفة، فأمر السلطان بإبطالها.
منها: أن صدقة السلطان جقمق كانت تقسم على أرباب البيوت حبوباً، وكانت سابقاً تطبخ شربة وخبزاً للفقراء أصحاب القدح، فردت إلى ما كانت عليه سابقاً، وأضيف إلى ذلك حب السلطان قايتباي.
ومنها: توليته على جميع الأربطة وألا تكون إلا لمن يستحقها بشرط الواقف.
ومنها: إبطال الدفوف في الزوايا.
ومنها: منع النساء من الخروج ليلة المولد الشريف، وتم جميع ذلك، وجعله ناظراً على جميع أوقاف الحرمين. وسيأتي ذكر ورود الأمر بعدم إقامته في الحرمين بعد وفاة مستنده الوزير أحمد باشا الكبرلي.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وألف، خرج فيها مولانا الشريف بركات، وصحبته محمد جاوش بالعساكر في طلب الشريف سعد، فسلك طريق الثنية إلى الطائف، وكان الشريف سعد قد سلكها، ونزل بالطائف ثم ارتفع عنه إلى عباسة ثم إلى تربة ثم إلى بيشة فأقام بها، فتبعه الشريف بركات، ومحمد جاوش بمن معهما حتى انتهى في التبعية إلى قريب من البلد المسماة تَرَبَة، ثم عاد الشريف بركات إلى المبعوث ثم إلى الطائف فأقام.
وفيها في شهر رجب عدا السيد حيدرة على عمه السيد علي بن حسين فقتله غيلة.
يقال سبب ذلك الذي قامت به نفس السيد حيدرة غرارة من الحب حلف كل منهما أن الآخر لا يأخذها وهي بوادي مر، فركب السيد علي بن حسين من مكة يريد وادي مر، فسمع به السيد حيدرة، فوجده في المحل المسمى أبو الدود ممرحاً متكئاً، فأتاه من خلفه، فدخل حينئذ على بعض الأشراف فلم يمض كبار الأشراف دخله، فنهج إلى اليمن، ثم إلى مصر، ثم إلى مكة دخيلاً مع المحمل صحبة أمير الحاج الشامي، وباع عقاره وما يتعلق به، ثم رجع إلى مصر فتوفي بها بالفصل مع توفي.(3/63)
ثم إن الشريف بركات استمر بالطائف إلى شعبان، فأتاه الخبر بوصول خلع سلطانية، ومراسيم خاقانية، وصل بها القاصد إلى مكة، ووضعت في مقام الخليل، على عادة التكريم والتبجيل، فجاء إلى مكة أواسط شعبان هو ومن معه من الأشراف والأتراك والعربان.
ثم في أواخره: كان القبض على رجل من الأعيان. ثم في ليلة السابع من رمضان قبض على آخر، وحملا من ليلتهما على الأدهم، ثم حدر بهما إلى جدة وأركبا غارب اليم. ثم قبض على ثلاثة من حواشي الدولة، وفعل بهم ما فعل بالأولين نعوذ بالله من سوء القولة.
ومثل ذلك فعل هذا القاصد بجماعة من أهالي المدينة المنورة فافتدوا أنفسهم بمال سلموه له، الله أعلم بكميته.
ثم خرج مولانا الشريف بركات في الموكب حتى نزل بقبة الدفتردار إبراهيم صائماً بها لطيب النسيم. فلما كانت ليلة الرابع والعشرين من رمضان: قدر الله وفاة ابنه السيد محمد بن بركات، فنزل من يومئذ إلى البلد، واصطبر رغبة في الأجر على لاعج الحزن والكمد. ثم خرج في أثناء شوال إلى جهة ركبة استدعاه السيد حمود ابن عبد الله.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وألف، فيها كان خروج الشريف بركات، والسادة الأشراف، والعساكر والعربان إلى قتال حرب وشيخهم أحمد بن رحمة، كان الظفر فيها للشريف بركات، ولم تنفعهم خنادقهم التي حفروا، بل كانت قبوراً لهم حين قبروا، فاستبيحت ديارهم، ونهبت أموالهم، وهلكت نساؤهم وأطفالهم، وقتل خيارهم، وفيها يوم الوقعة المذكورة في موقف المصاف، اصطلح مولانا السيد حمود بن عبد الله هو ومولانا من صُنف هذا الكتاب برسمه، وشرف بشريف لقبه واسمه، مولانا الشريف أحمد بن غالب - متع الله بحياته - عن شحناء كانت بينهما قبل ذلك.
سبب الصلح على ما بلغنا: أنه اتجه به وهم يتشاوفون القوم، فأقسم عليهما مولانا الشريف بركات أن يصطلحا في ذلك الوقت، فاعتنقا حينئذ واصطلحا. رحم الله من سلف وأبقى من خلف.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وألف، في سابع رجب منها: كان خروج مولانا الشريف بركات إلى أهل الفروع، وخرج معه من جدة سنجقها بعسكره ونوبته ومدافعه، فتلاقيا على عسفان أو بعده، فصام بمحل قريب منها، يسمى قويزة وعيد به، ثم توجه فنزل بأم العيال منها، ونزل السيد ناصر ابن السيد أحمد الحارث بالمحل المسمى أبو ضباع، فدانوا له وأطاعوه، وتنصلوا مما اقترفوه.
قلت: لما كنا في رابغ - المنزل المعروف - عائدين من الفرع صحبة مولانا الشريف بركات، وكنت قد خرجت معه - رحمه الله - إلى الفرع بإلزام من الشيخ محمد بن سليمان إماماً له، ومدرساً له ولابنه الشريف سعيد ابن الشريف بركات، دخلت عليه فقال لي: يعيش رأسك في المغربي، فقلت أي المغاربة؟ فقال: عبد الرحمن المحجوب، فقلت: رحمه الله رحمة واسعة، فلم يتكلم بشيء، فعلمت من قوله وسكوته أنه سرى بغض شيخه الشيخ محمد بن سليمان للسيد عبد الرحمن إليه بحيث إنه تسبب لبعض خواص السيد عبد الرحمن المذكور في أذى بليغ، وإهانة من الشريف بركات.
وبلغني أنه قال لبعضهم حين مات السيد: مات إلهكم اليوم، فلا قوة إلا بالله، نسأل الله السلامة.
وفيها - أعني سنة خمس وثمانين وألف - في سادس صفر منها: كانت وفاة مولانا المرحوم ليث السراة الصيد من بني هاشم، غوث الطريد فما لجاره من حاشم. رأس بني حسن المشهورين، فارس أبطال قريش المذكورين، مولانا وسيدنا السيد حمود ابن الشريف عبد الله بن الحسن بن أبي نمي بن بركات، اختصه مولانا الشريف زيد واستدناه، واستخلصه دون رباعته واجتباه، فزوجه بابنته، لصدق نيته، وخلوص طويته، وألقى إليه مهمات البلاد، من الحواضر والبواد.
وفي يوم وفاة مولانا الشريف زيد: لم يشك أحد أنه يقوم بعده ذلك المقام، كان في ظن أركان الدولة فضلاً عن العوام، ولكن لم يرد الله أن يتقمصها، ولا أن يأوي طيره قفصها. ولقد سألته - رحمه الله - في مدة ذهاب عرض مولانا الشريف سعد وعرضه إلى الأبواب: ماذا يخمنه مولانا في الجواب؟ فأجابني بقوله: " قُلِ اَللَهُمَ مالكَ اَلمُلكِ " آل عمران: 26، الآية، وذلك جواب مثله. ودفن من الغد خلف مسجد الحبر ابن عباس، وبني على قبره تابوت، وحوط عليه حوطة فسيحة، رحمه ونور ضريحه.(3/64)
وفي تاسع رجب منها: توفي مولانا السيد أحمد بن محمد الحارث بمكة المشرفة. كان رحمه الله آية في العقل والذكاء، مرجعاً للأشراف في جميع أمورهم، وإذا حكم بأمر لم يقدر أحد أن يستدرك عليه فيه شيئاً لحسن أحكامه، وشدة إحكامه.
وكان قد ولاه حسن باشا في طيبة - كما مر ذكر ذلك - مدة ستة أشهر أو قريباً منها. ولما رجع عماد أفندى إلى الديار الرومية سئل عمن يستحق الملك إذ ذاك من السادة الأشراف؟ فقال: ثلاثة لا غير: أحمد بن الحارث، وحمود بن عبد الله، وبشير بن سليمان.
ودفن في قبة السيد مسعود ابن الشريف حسن، ووضع عليه تابوت عظيم، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وألف، فيها كان خروج الشريف سعيد صحبة الحاج الشامي إلى الديار الرومية بعروض من الشريف بركات يطلب فيها أن يكون ولده الشريف سعيد ولي عهده، فكتب له أمر سلطاني، وأن يكون هو صاحب مكة بعد وفاة أبيه، فكان ذلك برأي الشيخ محمد بن سليمان وتدبيره، فتم له ذلك كله بعد وفاة أبيه.
وفي سنة ثمان وثمانين وألف يوم الخميس ثامن شوال منها: وقع حادث غريب، وكارث عجيب، هو أنه وقع في ليلته أن لُوِّث الحجر الأسود، وباب الكعبة، ومصلى الجمعة، وأستار البيت الشريف - بشئ يشبه العذرة في النتن والخبث، فصار كل من يريد تقبيل الحجر يتلوث وجهه ويداه، ففزعت الناس من ذلك، وضجت الأتراك، واجتمعت وغسل الحَجَر والحِجر والباب والأستار بالماء، وبقى الأتراك والحجاج والمجاورون في أمر عظيم.
وكان إذ ذاك رجل من فضلاء الأروام يلقب درس عام، فكان يرى جماعة من الأرفاض بالمسجد الحرام، وينظر صلاتهم وسجودهم وحركاتهم عند البيت والمقام، فيتحرق لذلك ويتأوه.
فلما وقع هذا الواقع قال: ليس هذا إلا فعل هؤلاء الأرفاض اللئام، الذين يلازمون المسجد الحرام، وكان حينئذ مع قضاء الملك العلام، السيد محمد مؤمن الرضوي قاعداً خلف المقام، يتلو كتاب الله ذي الجلال والإكرام، فأتوا إليه، أخذت الختمة من يديه، وضرب على رأسه، وسحب حتى أخرج من باب المسجد المعروف بباب الزيادة، فطرح خارج الباب، وضرب بالحجارة والكسارات حتى زهق فمات.
وفي حال مسكهم إياه من المسجد كلمهم فيه شخص شريف من السادة الرفاعية سمي السيد شمس الدين، فعدوا عليه، وألحقوه به، فضرب حتى مإت وجُر، ثم أصابوا آخر فضربوه، وأخرجوه وقتلوه، وعلى من قبله طرحوه، ثم فعلوا ذلك برابع، ثم بخامس.
ولقد رأيتهم مطروحين، وبقى بعضهم على بعض، الآتي والذاهب يوسعهم السب والركض، ولقد رأيت ذلك الشيء، وتأملته فإذا هو ليس من القاذورات، إنما هو من أنواع الخضروات عجين بعدس ممخخ وأدهان معفنات، فصار ريحه ريح النجاسات. وكان هذا الفعل عند مغيب القمر من تلك الليلة ليلة الخميس ثامن الشهر المذكور، ولم يُعلم الفاعل لذلك.
وغلب علي بعض الظنون أن ذلك جعل عمداً وسيلة إلى قتل أولئك. والله العالم بالسرائر، وهو متولي البواطن والظواهر.
وفيها في ليلة النحر حصل مطر عظيم بعد نفر الحاج من عرفة، واستمر إلى بعد نصف الليل.
وفي سنة تسع وثمانين وألف رابع عشري ذي الحجة الحرام منها: سالت أودية طيبة المنورة على ساكنها الصلاة والسلام، بما لم يسمع بهيئته الاجتماعية في سابق الدهور والأعوام. سال أبو جيد سيلاً هائلاً، أخرب جميع ما حوله من الديار، وأحدث في الحدائق الدمار، وأحدق بالمدينة، وخرب كثيراً من الدور التي تحفها، وكاد أن يدخلها من باب المصري، ورجفت البلاد، وانزعجت العباد، وضجت الأصوات بالدعاء، وجرت العيون بالدمع من البكاء، ولكن بحمد الله لم يهلك فيه إلا شخص أو شخصان، وتلك للرسول معجزة، ولأصحابه كرامة، وصارت تحية الناس بعضهم لبعض نهنيكم بالسلامة.
والحاصل أنه أمر حير الأفكار، وقصر عن تفصيله بيان الأخبار. وكان في ذلك اليوم بعينه سيل بوادي الصفراء، سد ما بين الجبلين، ولم يضر من القافلة أحداً من الناس، سوى أنه أخذ امرأة، وولدها بالحمراء بين الصفراء والخيف، وذهب ببعض نخيل الخيف إلى الحمراء، وذهب ببعض الجمال والأحمال، فَعَن البحر حدث ولا حرج.(3/65)
وفي سنة تسعين وألف يوم الأحد الثالث والعشرين من شهر رمضان منها: كانت وقعة محمد بن أحمد الخلفاني وزير المدينة الشريفة من جهة الشريف بركات، سببها ثيار عسكر عليه، ودعواهم أنه سب السلطان، فاجتمعوا على بابه ودعوه إلى الشرع الشريف، فأجاب: إن هذا الجمع يتفرق ويتعين الخصم فأنزل معه، فأبوا عن ذلك وكتبت لهم حجة بعصيانه الشرع، فوصلوا إلى بيته، وكسروا عليه الباب، وكان معه جماعة في البيت، فأخرجوهم على أمان الله وأمان السلطان، فلما خرجوا قتلوهم، فكان ممن قتل القائد مُتعب بن إدريس حاكم البلد إذ ذاك، وولده وأخوه، ورفيع ولده، وا بن دريعة الظاهري، وعمران الزبيدي، ورفاع، وخُضير، والعمري، وعبيد للخلفاني، وفي جملتهم مثقال عتيق الجمال محمد علي بن سليم كان مستخدماً عند الخلفاني.
كل هذا في ضحوة يوم الأحد المذكور. وأما قتل الخلفاني، فكان عند الزوال من يومه فكان آخر من قتل؛ لأنه اختفى عند الحريم، حتى دلتهم عليه امرأة دخلت كأنها متوجعة له فأخبرت بمكانه أو رأته، فدلت عليه، فدخلوا عليه عند الحريم، وقتلوه ثم سحبوه من أعلى البيت إلى أن أخرجوه إلى قارعة الطريق، واستمر طريحاً إلى آخر النهار، وأوحى إلى مولانا الشريف بركات أسماء الفاعلين وكانوا قريباً من ثلاثين نفراً فعرض فيهم إلى الأبواب، فورد الأمر بقطع جوامكهم وتخريجهم من البلاد، فقطعت وأخرجوا، ثم عاد إلى المدينة بعضهم. بعد سنوات بشفاعات، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
وفي سنة إحدى وتسعين أواخر شهر شوال: ظهر نجم له ذنب طويل إلى جهة الشرق، واستمر إلى آخر السنة ثم اضمحل.
وفيها يوم الإثنين ثاني عشر ذي الحجة الحرام منها - والركب المصري في نفير السير من مكة - أمطرت السماء كأفواه القرب بل كأفواه الغروب وسالت الأودية من سائر الجنوب، وحصل سيل عظيم أخرب الدور، وأتلف من الأموال ما لا يحصى، وأخذ الجمال محملات، وأغرق نحو خمسمائة نفس، ودخل المسجد الحرام، وعلا على مقام إبراهيم، ومقام المالكي، والحنبلي، وعلا قفل باب الكعبة، وأكثر الغرقى غرباء؛ لأنه أتى وقت الشديد، وذلك أول الزوال، وسقط كثير من الدور، واقتلع الجميزة التي بسوق الليل.
ولقد شاهدت وأنا بباب المسجد النافذ على بيت الشريف، والماء ملأ الطريق وهو مكور في المسجد، شاهدت قطراً من الجمال عليه الركبان من رجال ونساء وصبيان دهمه السيل فانحاز إلى رأس الزقاق الغير النافذ جنب دار السعادة، ورأيت الماء وصل من الجمل - وهو قائم تحت دار السعادة - إلى منحره، ثم ازداد عليه الماء فاقتلع ذلك القطر بما عليه وتدهور فيه، وعلى هذا فقس.
وصعد جماعة من العسكر على سطح رواق المسجد اليماني أمام دار السعادة، وطلبوا حبالاً ليدلوها فيمسكها من أخذه السيل فيرفعوه، فأمر لهم المرحوم الشريف بركات بحبال ترمى من سطح دار السعادة إلى سطح الرواق المذكور، ورمى هو بنفسه بعض تلك الحبال، فرحمه الله تعالى ما كان أرحمه وأرأفه فنجا بذلك خلق وسبح بعض الجمال في المسجد حتى انتهى إلى المنبر، فارتفع عليه فصار مرتفعاً على المنبر يداه، وعنقه مرتفعان عن الماء وباقيه فيه، وكان طوفان والعياذ بالله ولم يبق من درج باب الزيادة التي في داخل المسجد إلا أربع سنن، ولم يبق من أعمدة الرخام إلا نحو الربع أو أقل. وأرخ بعضهم سنته بقوله: طغى الماء.
وخرج أمير الحاج بالمحمل بين العشاءين في نفر نحو العشرين بغير نوبة ولا موكب ولا ضوء ولا ثوب زينة، وخرج من أعلى مكة.
فلما كان بسوق المعلاة وقع جمل المحمل في حفرة من حفر السيل فما طلع إلا بجهد جهيد، فسبحان الله الفعال لما يريد.
وفي سنة ثلاث وتسعين وألف رابع عشر صفر: توفي الشيخ حسن بن علي الدهان. ولد بمكة سنة أربع وألف، ودفن بالمعلاة وقد ناهز التسعين.(3/66)
وفي صفر المذكور: خرج مولانا الشريف أحمد بن غالب - متع الله بحياته - من مكة مفارقاً للمرحوم الشريف بركات في نحو خمسة وعشرين أو ثلاثين من السادة ذوي مسعود وغيرهم، فدخلت السادة الأشراف في الصلح بينهما فلم يتم، فخرج بهم إلى الركاني من وادي مر، واجتمعوا هناك وتأهبوا، وساروا منه في شهر ربيع الثاني قاصدين الأبواب السلطانية، فوصلوا إلى الشام، فأنزلهم متوليها حسين باشا السلحدار بيت نقيب الأشراف، وأجرى عليهم الأنعام والألطاف، وعرف بشأنهم إلى الأبواب، فأمروا بكتابة عرض بما يشكونه فكتبوه، وأرسلوه مع اثنين منهم هما السيد محمد بن مساعد، والسيد بشير بن مبارك، فوعدوا بإزاحة شكواهم.
وفيها في حادي عشري ربيع الأول منها: وقعت فتنة سببها عبد السيد حسن بن حمود بن عبد الله، اختصم مع عسكري من عسكر الرتبة عند الششمة، سطا العسكري على العبد، وضربه وأخذ سلاحه، فاستحث السيد حسن الأشراف، والعبدُ العبيد، واجتمعوا عند مولانا المرحوم السيد محمد بن أحمد بن عبد الله، فانفلتت شرذمة من العبيد نحو الخمسين شاهرين السلاح، فوصلوا إلى المروة، فهربت الأتراك وأرادوا الرجوع، فرماهم بعض الأتراك الساكنين في الربع بالأحجار، فأرادوا الطلوع إليهم، فكسروا بعض الدكاكين التي تحته بظن أنه باب الربع، فوجدوه ملآن من النحاس والجوخ والأثاث، فنهبوا جميع ذلك، وفعلوا بدكان آخر جنبه مثل ذلك، وصوبوا نحو ثلاثة من الترك بالسلاح، وقتلوا رجلاً من المجاورين كان يحتجم عند حلاق بالمروة ثم ذهبوا، ثم خرجت الأتراك، وجاءوا إلى الأفندي، وأرسلوا إلى مولانا الشريف يطلبون الغرماء، فصُبروا فلم يصبروا، وأتوا إلى بيت الشريف، وبيت السيد أحمد الحارث، وكان به جماعة من عسكر الشريف، فرموهم من بيت الحارث فقتلوا من الترك أيضاً اثنين فرجعوا، وأرسل مولانا الشريف إلى الأشراف يطلبهم الغرماء فامتنعوا، وخرج الأشراف إلى الشيخ محمود وقالوا: من يطلب الغرماء يأتي.
والعبيد خرجوا جميعاً حتى عبيد الشريف نفسه، والحاكم إلى بركة الماجن، ووجدوا جماعة من الأتراك مقيلين، فأخذوا جميع ما معهم، وضربوهم ونهبوا قريباً من أربعمائة رأس من الغنم، ثم أرسل الشريف بركات أخاه السيد عمرو، فرد العبيد، ثم قصد مولانا الشريف تسكين الفتنة، فأمر على عبدين كانا محبوسين في سرقة أن يشنقا فشنقا، فلم تطب نفوس الأتراك بعد رؤيتهما، ثم وجد السيد يحيى ابن الشريف بركات - وكان يعس البلد - عبدين سارقين، فضرب أعناقهما، ورمى بجثتيهما تحت جميزة المعلاة، وذكروا للأتراك أنهما الغرماء فرضوا.
واصطلح السادة الأشراف مع الشريف، ودخلوا مكة.
ثم حصل لمولانا الشريف بركات مرض، واستمر نحو شهر زمان، فلما كانت ليلة الخميس ثامن عشري ربيع الثاني من السنة المذكورة - أعني سنة ثلاث وتسعين - : توفي شريف مكة مولانا المرحوم الشريف بركات بن محمد بن إبراهيبم بن بركات بن أبي نمي، ودفن وقت الضحوة يومه في حوطة الشيخ النسفي بوصية منه، ولم يحصل للناس لا خوف ولا فزع. وكانت مدة ولايته عشر سنين، وأربعة أشهر وستة عشر يوماً. رحمه الله رحمة واسعة آمين.
ومما قيل فيه من الشعر قولي قصيدة حين عوده من ذهابه لخفارة الحاج الشامي، فوصل البلاد المسماة بالحِجر ديار ثمود، فوافق حال دخوله حصول مطر بها، اشرت إلى ذلك في القصيدة وهي: من البسيط:
ما ظَللَ البيرق المنصور سُلْطاناً ... إلا وكُلهُمُ في ظِل مَوْلانا
أبا زُهَير العلا بركات سيدنا ... وإلى البسيطةِ عجماناً وعُرْبانا
حامي حِمَى مكَة الغَرا وطيبةَ مَع ... أقطارِ أنحائها حفْظاً وإتْقانا
ذو هِمةٍ همة الإسكندري غدَتْ ... أقلُها وبها كَمْ دان بلدانا
وعزمة في مُهِم الخطبِ صادِقَةٍ ... تُصَيرُ الإمتِناعَ الصرْفَ إِمْكانا
تأمينُ حجاجِ بيتِ الله قمتَ له ... بالنفسِ والمالِ والأبناءِ إذ عانا
فحُطتَهُم مثلَ حوطِ الابنِ كافلُه ... وكَمْ بذلكَ قد أذهَبْتَ ذهبانا
في طاعةِ الله والسلطانِ لا برحَت ... له ملائكَةُ الرحمَنِ أعوانا(3/67)
مولَى ملوكِ الورَى الغازِي محمد خا ... ن زادهُ الله نصراً أينما كانا
وشُرفت بك أرضُ الحِجْرِ إذ سقيَتْ ... غيثاً بمقدمِكَ الميمونِ هَتانا
حتى لقَد ظَن في الأجداثِ هالكُهُم ... لأَن ينالَ من الرحمنِ غفرانا
أنتَ الذي بكَ تاهَت مكة وزهَت ... بحسنِ أيامه عدلاً وإحسانا
أنتَ الذي بكَ ضم الشمل ناثره ... من بعدِ تفريقِهِ مثنَى ووُحدانا
أي الملوكِ بلادُ الله بلدتُهُ ... تمسي رعيته لله جِيرانا
أي الملوكِ على كل مودته ... حتى ملائكة الرحمنِ والجانا
أي السلاطينِ لولا صِيتُ هيبته ... لم يمكنِ الحَجُّ من بغدادَ إنسانا
ولا تيسر للعبادِ في غَسَقٍِ ... أن يلمسوا لاستلامِ البيتِ أركانا
بِيُمنِ طلعته الغَرّا قد امتلأتْ ... جميعُ وِجهاتنا أمناً وإيمانا
مباركُ الإسمِ والأفعالٍ قد خلصَتْ ... لله نيتُهُ سراً وإعلانا
له سريرَةُ صدقِ لا يزالُ بها ... يشيدُ حقاً لدينِ الله أركانا
ألفضلُ شيمتُة والعدلُ سيرتُهُ ... بالحَقِّ ينصفُ ممن عز أو هانا
يا وجهَ آل رسولِ الله قاطبةً ... ومَن يمُّن ولا نلقاه مَنَّانا
أهدِي الثناءَ لكُم في كل آونةٍ ... في محفلٍ جحفلٍ ما زالَ ملآنا
وما أقصرُ أصلاً في الدعاءِ لكُم ... إذا تلوتُ قبيلَ الفجرِ قرآنا
أدعو بطولِ البقا والمُلكِ تكنفهُ ... وقايةُ الله أزماناً فأزمانا
لا زالَ حظك والنصرُ المؤيدُ والسع ... دُ المؤَيدُ طولَ الدهرِ أقرانا
ولا فتئت قريرَ العينِ مبتهجاً ... حتى تَرَى إبنَ إبنِ الابنِ سلطانا
ثم الصلاةُ على جدَيكَ ما عطفَت ... أنفاسُ ريحِ الصبا المسكيِّ أغصانا
وقال محمد بن جذوع المشهور بالشاعر التغلبي: من الطويل:
دهمتُ بما لا أرضى ولا أطِيقُ بعضَهُ ... أتاني معاضول كثير بمحفلِ
نهضت معا ما جَذمِ العَزم مصرم ... من القهر خوفاً أن أموت أو انسل
فيا ليتني عن ذا بعيدٌ ومنزلي ... على الذكر ِفي ديراتِ بكرِ وموصلِ
ولا قُمتُ في دار ذراعي قصيرة ... ذليل ولا لي مِن جناها محصلِ
يهونُ عليَّ ازوامُ نفسي مشقة ... ولا حالتي هَذي لي المَوت أسهلِ
بأقوَى عُبابِ البَحر ماء ومَوجَة ... أَشُوف السما فَوقِي وتحتي ولا ازملِ
ذهلت بها مما جَرَى كُل ما مضَى ... حَفِظتُ بها مِن همتي كُل مجهلِ
وكَم ليلةٍ بَيضا سَرَيْتُ وليلةٍ ... بها الليلُ غدرا كالقَمِيصِ المفصَّلِ
إذا ما تَنَحى الليلُ وقفا وجدتني ... على كُل فَجَّا الصدرِ وَجناء مرقلِ
كَبِيرةِ عُثنُونِ القَفا صَيعَرِيةِ ... كأن مَرافِقها عنِ الزّورِ تفتلِ
لها اعلامُ شَيبٍ كَنهُن مَراوحٌ ... أَوَ اكمامُ رَقاصٍ إن أقفى وأقْبلِ
بخد كظهرِ الذيبِ وعرا قطعنها ... ومرا بصفصاف بداويةٍ خلى
ويا طالما استازي بغُرضة ناقتي ... فُرُوخ القَطا وابن النعامِ المجفلِ
مِن ازوامِ حَر القَيْظِ في هَوجَرية ... فَزائِدُها في الآلِ تَخفَى وتعتلي
تَتِم بها الأنظارُ شتى كثيرة ... كأن بها البيضَ الهواري تُسللِ
بها القوز غرقى كالقَواويقِ غطس ... على الرّوس في وسط المعمَّى المطول
صلبتُ النَّضا فيها بالاذلاجِ والسُّرى ... رجا كُل عادِي قديمٍ منَ اولِ(3/68)
من الهجر را دمنَ الكلا في جنوبهِ ... كأنهُ بَدْر في كلاتيَّ جَدْولِ
وَكَمْ هام فيها قسمتاه راقدا ... أناس على الأناس فاغْفى وأغفلِ
وَكَثر خُوار القومِ فينا وأيقنوا ... بلدراك من شوفِ احدِهم يوم يكفلِ
خليليَّ لا تخشون مني معرة ... عليَّ لكُم ميرادكم أيٌّ منهلِ
فَصلنَ وصيل الرملِ في مُدلَهِمةِ ... خَلصنَ وَكَم فيها دليل تَوجلِ
وردتهُ والأفَّان ما أنا بخابرٍ ... سوى العزمِ إلا أنه بالاذكار وصْفَ لي
أنخنا عليها العيسَ من بَعدِ سريه ... ودرت بدَوسِ الدائسات تأملي
ولمينِ حط الغرب عجلا فقيل لي ... أما يَرْدها إلا رشاء موصلِ
ولمينِ وصلت الحبال بجدة ... واكتربَت عضدي في المغرب فجُز لي
أَرَى كُلهم يلطِم بكفيهِ خدهُ ... وَبَعضَهما من خَوفةِ الموَت هللِ
فَقُلْتُ لَهُم لاَ تحزنون فانا لكم ... أطوع من لدنِ الأديمِ المبللِ
نزلتُ بها واسقيتُ ربعى بسرعة ... وصدّرتهم روبا وصملانهم ملي
ولستُ بقوَّالٍ وَلا هُو بِصادقٍ ... وَلاَ خَيرَ فِيمَن لاَ إذا قالَ يفعلِ
أَما ضام وانا من عرانين تَغلبِ ... لَنا في نِزارٍ نِسبةٌ ما تُبدلِ
فإن قَصرَت عن فعلِ آباي همتي ... تكملن أَعمامِي وأَفْعال مخولِي
وَلاَ أَقصَرَت عن هؤلا بل لحقتُهم ... حَميدة افعالي صدوقٌ بِمِقْوَلي
ولي ثقة في سيد إبن سيد ... مَنِ اختارهُ المولَى علينا لَنا وَلي
أبو سَعدِ بركات بن محمد ... لهُ نَسب عدل بِطه موصّلِ
على الزين كم فرق من اصنام لا به ... وكم عكفوا بِه مِنْ رَسُولٍ ومرسلِ
وكَم لطم الضد القوي بغارةٍ ... بكل ابلَحِ ذربٍ تصَلصَل من علِ
على الخيل لدنين ولو ما تعاودوا ... وكم عطفوا بِصْدورهم روس ذبلِ
وكم فرقُوا بالسيف محزوم ضربة ... سراياه فيها مِنْ عراة وكملِ
علَى رأي حزام الحُرُوب ان تفاخنَت ... إلى هدم جمع عَن الجمع يعزلِ
ومنه يخلي الإبن عَم ابن عمه ... والابنا عن اباها تغض وتنسلِ
أغارت ملوك الرومِ واستنصروا بِهِ ... وقبلَه عَساكِرهُم تذل وتخذلِ
تقلل من وادي قُرَيش وجُرهُم ... عَلَى ضُمَّرٍ من طُول ممشاهُ محلِ
وقب تجابذهن الارسان حزب ... مَطاوِيعِ لَدنات المَراضِع قفل
فلمَّا تبين وجه ممشاهُ صائِل ... نشُوف ثَقِيل الطعْن أقفى وأشْملِ
وأنكَرَ بَعضْ بَعدَ الاجماعِ بعضَهُم ... وهُم قَبل ذاكم فككوا وشر محملِ
وطاع الضجر الصليب ولا قسا ... وَمنه تخلى العارض الفَرْد منْ بلي
وكَم من عَزِيزٍ عِندَ ملقاه غالي ... دَعاهُ على التالي قَطِيع مهملِ
من اوزام ها الجَمع القوي بمثلِه ... وحَرجَمَتِ الأظْعانُ في كُل منزلِ
بها الحدب لزمن النواصي بمكنه ... ولابق بيْنات المطاهير محولِ
وخفوا عَنَ اطفالٍ وشيبٍ كثيراً ... وَحُورٍ عَلَى ابناها تحِن وتُعوِلِ
وكَم طَلَبُوا منه الرحا في مراحِهِم ... على اطفالِهِم من مأخَذِ القومِ يعقلِ
عَساهُم يتوبوا عَن مناخاة ميمر ... مصالاه قَبل الفِعلِ للخَصمِ يقتلِ
بقَومٍ إذا زموا على الضِّدِّ واجملوا ... بالافكارِ من دارٍ لدار تحول(3/69)
ومن عطوة واما بها من عطية ... ومن رمك فيها أصيل ومصهل
ومن عرض ما اعطى كم حكوا من جهامة ... بها ناقة حمرا وخوارة خلى
معاذا به الحارات بالقرب حسر ... ولو كان أزين من بها الشمس واجمل
كليل مقاو الطرف عنهن دائماً ... مدى العمر مع حدثها ما تخلل
فإن غاب عنها بعلها فهو سترها ... رؤوف بها كنه ولي موكل
فداه دويني قليل أمانة ... من الخوف الأرض بجارتيه تزلزل
فجزني على مدحي بميصال ديرتي ... فكل غريب ناقص لو تطول
ولي أسوة بالليث وان كان نادر ... بلا غابته لزما يكل وينكل
وللحر عادات إلى رب ما كرن ... من اطول مافي الأرض ماينزل اسفل
وصلوا على خير البرايا محمد ... عددْ ما مشوا لهْ من حفايا ونقل
ثم تولى الشريف سعيد ابن الشريف بركات ابن السيد محمد ابن السيد إبراهيم ابن السيد بركات ابن الشريف أبي نمي يوم موت والده الشريف بركات قبل أن يجهزه، ذهب السيد عمرو بن محمد في جماعة من الأشراف إلى حضرة أفندي الشرع، وطلبوا منه قفطاناً، فسألهم الأفندي هل رضوا السادة الأشراف؟ فقال له السيد عمرو: نعم رضوا بذلك، فأتوا منه بقفطان، فألبسوه للشريف سعيد، ثم نودي السيد باسمه، ومع المنادى مولانا الحسين بن يحيى، ومولانا السيد عبد الله بن هاشم، ثم جهز الشريف بركات، وصلى عليه فاتح بيت الله مولانا، وسيدنا الشيخ عبد الواحد ابن المرحوم سيدنا ومولانا الشيخ محمد الشيبي القرشي العبدري بوصية منه، ودفن في المحل المتقدم ذكره.
ثم عقد مجلس يوم الجمعة ثاني يوم الوفاة بالحطيم حضره الأشراف والعلماء والأعيان والعساكر، فأظهر الشريف سعيد أمراً سلطانياً مضمونه: إنه لما أرسله مولانا الشريف بركات إلى حضرة مولانا السلطان محمد خان، أنعم عليه بالملك بعد أبيه، فقرئ بمحضر ذلك الجمع، فسكنت الخواطر والأحوال، لموجب ذلك الأمر الواجب الامتثال، فلذا لم تقع مخالفة من أحد ولله الحمد والمنة.
ثم حصل بين الشريف سعيد، والسيد ناصر ابن المرحوم أحمد الحارث بعض مقاومة من جهة وعد لم يتم، فقامت نفس السيد ناصر، وعضد معه جماعة من الأشراف، منهم: السيد محمد بن يعلى، وذوي جود الله في خمسة وعشرين شريفاً، فما زالوا يسعون بينهم بالصلح حتى اصطلحوا ولله الحمد.
وفي ثاني عشر رجب من السنة المذكورة - أعني سنة ثلاث وتسعين وألف - وصل أغا صحبته قفطان من صاحب مصر لمولانا الشريف سعيد بن بركات جاء بحراً، وخرج من ينبع.
وفي ثامن عشر رمضان، منها: ورد مورق السميري يخبر أن السيد زيد بن حمزة رسول الشريف سعيد إلى الأبواب وصل إلى ينبع، ويخبر أن القفطان السلطاني واصل بحراً.
وفي سادس عشريه: وصل السيد حمزة إلى مكة.
وفي رابع شوال منها: ورد إلى الأفندي أمر سلطاني بإخراج الشيخ محمد بن سليمان من الحرمين إلى بيت المقدس، فأرسل إليه الأفندي يأمره بالخروج، فطلب مهلة ثلاثة أيام، فأمهل ثم لم يأمن على نفسه، فلما أتوه على الوعد امتنع، فجاء إليه العساكر إلى بيته فصاح، وصاح أهل بيته من نساء وأطفال وخدم، فتركوه ومضوا إلى الشريف، وأفندي الشرع، وأخبروهما بما وقع، فأرسلوا إليه مولانا السيد ثقبة ابن قتادة فحاوله على الخروج، فأجابه: إني ممتثل الأمر، وإنما تمهلوني إلى الحج، فتوجه السيد ثقبة في الإمهال إليه عند الشريف، وأفندي الشرع فأمهلاه، ثم خرج صحبة الحاج الشامي.
وفي ثامن عشر شوال من السنة المذكورة: دخل الأغا بالقفطان والمرسوم السلطانيين، فلبسه مولانا الشريف سعيد في الحطيم، وقرئ المرسوم على العادة بالتبجيل والتعظيم والتصريح بتفويض أمر الحرمين إليه والتحويل في حراستهما عليه، وكان له ذلك النهار موكب عظيم.
وفيها وصلت صدقة من ملك الهند إلى الحرمين قمرها مائة ألف ربية، أربعون ألفاً للشريف، وستون لمكة والمدينة، فكتبوا أسماء الناس في دفتر، وعدوهم بالتقسمة، ثم اقتضى رأيهم أن يأخذوها جميعاً، ويأمروا أهل مكة بأن يكتبوا باستلامها، فكتب أهل مكة بذلك.(3/70)
وأرسل إلى أهل المدينة، وطلب منهم أن يسمحوا كما سمح أهل مكة بذلك، فكان جواب أفندي المدينة وشيخ حرمها وأغوات العساكر ما نصه: إن هذا شيء لعامة الناس فلا يسعنا السماح عن جماعة ما نعتقد رضاهم، وأبوا أن يجيبوا بغير هذا.
فلما وصل الخبر بذلك عنهم دبروا تدبيراً آخر لا حاجة بنا إلى كشفه، وأرسلوا به إلى السلطان أورنك زيب صحبة السيد محمد البرزنجي فلم يعط قبولاً، ولم يواجه سلطان هو ومن معه أصلا، ثم عاد إلى مكة بعد ذلك في سنة خمس وتسعين، وقد كان في غنية وعزة عن مثل هذه الرسالة التي هذا شأنها، وقد أخذت منه المكاتيب، بندر سُورَت، وأرسلت إلى السلطان، وذلك لما بلغ السلطان حقيقة الحال.
وقد كان المرحوم مولانا الشريف بركات عرض إلى الأبواب لما فارقه مولانا الشريف أحمد بن غالب متع الله بحياته ومن معه، فعرف أن السادة الأشراف أتعبوه بالطلب الشطيط، وأنه بالغ في إرضائهم بكل وجه، فقال: إلى حد أني رضيت أن أجعل لهم مغل ثلاثة أرباع البلاد، ويكون لي ربم، فكان جوابه أنهم أبرزوا له أمراً سلطانياً بذلك، فورد إلى مكة بعد مدته في الحج آخر سنة ثلاث وتسعين المذكورة.
ولم يُرد مولانا الشريف بركات طلب هذا الأمر، وإنما لما أرسل إلى الأبواب متنصلاً عن المخالفة على السادة الأشراف، ومبيناً أنه ساع في ملائمة هواهم بحيث إنه رضي بأن يجعل ذلك لهم، ظنت الدولة العثمانية أن ذلك مراد له، ومطلوب فأخرج له أمر بذلك، فلما وصل كتمه الشريف سعيد، فتحققته السادة الأشراف، وطلبوه من الشريف، فأحضره على ما أشيع مجلس الشرع، وسجل مضمونه، وقسموا مدخول البلاد، والإخوان أرباعاً، ربع لمولانا الشريف وربع تشيخ فيه مولانا السيد محمد بن أحمد بن عبد الله، ومولانا السيد ناصر بن أحمد الحارث ومعهما جماعة من الأشراف، والربع الثالث تشيخ فيه مولانا الشريف أحمد بن غالب دام علاه، ومولانا السيد أحمد بن سعيد، ومعهما جماعة من الأشراف، والربع الرابع تشيخ فيه مولانا السيد عمرو، ومولانا السيد غالب بن زامل، ومعهما جماعة من الأشراف، فحصل بذلك التشاجر في القسمة والتعب والتشاحن، ووقع في البلاد السرقات بل النهب الصريح، واختلفوا فيما بينهم، ولزم من ذلك أن كل صاحب ربع يكون له كتبة وخدام يجمعون ما هو له.
واستكتب مولانا الشريف أحمد متع الله بحياته عسكراً، وانضم إليهم عبيد ذوي زيد فحصل عند الشريف سعيد تعب من ذلك، فأمره بترك العسكر فامتنع، وذكر أن السوالف سبقت بمثل هذا لصاحب الربع، وشهد بذلك كبار الأشراف، فذكر الشريف سعيد أنه متوهم من هذا الفعل وطلب من يكفله له، فكفله عشرة من الأشراف، واصطلحا على ذلك، ثم ادعى الشريف سعيد على الأشراف أن عبيدكم أتلفوا البلاد، والقصد من أهل الأرباع أن يرسل كل منهم شخصاً من جانبه يعسون البلاد مع جماعتي، فأجابوه إلى ذلك.
فأرسل مولانا الشريف أحمد بن غالب أخاه مولانا السيد حسن بن غالب، وأرسل مولانا السيد محمد بن أحمد بن عبد الله ابنه بركات بن محمد، وأرسل الشريف سعيد مولانا السيد حمزة بن موسى بن سليمان في جماعة من الخيالة والدَّبابة معهم القائد حاكم البلاد أحمد بن جوهر.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وألف: وصل في خامس شهر رمضان منها إلى مكة هدية من ملكة آش بلد بأقصى الهند وتلك مقابل هدية كان أهداها إليها مولانا الشريف بركات، منها ثلاثة قناطير ذهب مصطنع يصفى على النصف خالصاً، وثلاثة غلايين ذهباً، وثلاثة أرطال كافور، وجانب عظيم من القرنقل والجاوي، وآواق زباد آشى، وللكعبة الشريفة بخمسة قناديل، ومبخرتين وشمعدانين، وللمدينة كذلك قناديل، ومباخر وشماعدين، فنازع السادة الأشراف الشريف سعيد طالبين الثلاثة الأرباع منها، فامتنع من ذلك، فقامت النفوس بينهم وبينه، ثم وقع الصلح على إعطائهم النصف منها فأخذوه.
وفي سادس عشري ذي القعدة منها: فتح البيت الشريف وجاء مولانا الشريف سعيد، ومولانا السيد محمد بن حمود، ونائب الحرم، وعلقوا الخمسة القناديل بالكعبة الشريفة.
وفيها يوم الأحد رابع عشر ذي القعدة الحرام منها: انتقل بالوفاة إلى رحمه الله تعالى مولانا السيد محمد بن أحمد بن عبد الله - رحمه الله تعالى رحمة واسعة - .(3/71)
وفي شهر ذي الحجة منها: لم يخرج السادة الأشراف جميعهم مع الشريف سعيد إلى العرضة، فبعد أن حج الناس، ونزلوا عقد الشريف سعيد محضراً فيه أمير الشامي صالح باشا، وأحمد باشا صاحب جدة، وأمير الحاج المصري ذو الفقار بك، وأمين الصرة والسرادير، وأكابر الحج وأغواته، وشكا من الشريف أحمد بن غالب كتابة العسكر، وأنه مناكد لي في البلاد وأنه أفسد عليَّ الأشراف، وأنه حصل ومن جماعته الفساد في البلاد.
وأرسلوا السيد غالب بن زامل إليه ليحضر فيظهر ممن الخلاف، فامتنع من الحضور في بيت الشريف، وقال: إن كان القصد الاجتماع ففي المسجد، وإن كان لكم دعوى، فأوكل وكيلاً يسمع ما تدَّعون به علي، ثم أرسلوا إليه عن كتابة العسكر وما بعده، فأجاب بما أجاب أولاً أن هذه قواعد بيننا قد سلفت أن صاحب الربع له أن كتب عسكراً. وأما قولكم: إنه قد حصل من جماعتي أو عسكري مفسدة، فأطلقوا منادياً في البلاد: معاشر الناس كافة هل أحد يشكو مني أو من جماعتي أو عسكري شيئاً أو أخذوا حق أحد ظلماً أو ضربوا أحداً؟ فإن وجدتم مشتكياً صح ما قلتموه، وإلا فلا وجه لكم.
وأما تركي العرضة فكان خوفاً أن يقع شيء فينسب ذلك إليَّ أو إلى جماعتي.
كل هذا والأشراف جميعهم اجتمعوا على قلب رجل واحد ولم تزل خيولهم مسرجة، ودروعهم عيابها غير مشرجة، بل قد لبسوها، وملئوا الأجياد إلى العقد، وتحركت الأنفة الهاشمية التي تأبى الضيم والضهد.
وبلغني عن الثقة أن صالح باشا أمير الحاج الشامي كان من جملة كلامه إلى الشريف أحمد متع الله بحياته: إن لم تصطلحوا طوعاً أصلحناكم بالسيف، فأرسل له في الجواب: السيف لنا يا بني هاشم ما هو لفلاليح الشام، ولكن إذا نمت فأحكم تزرير مضربك عليك.
ولما أن سمع الأمراء والأكابر جواب الشريف أحمد بالكلام الأول، وعلموا أنه لا وجه عليه، ولا خلاف ينسب إليه، سعوا في الصلح بينه وبين الشريف سعيد على أن يكفل كل منهما جماعة من الأشراف، ولا يتعدى أحد على صاحبه، وكتبت بينهما حجة شرعية، وطلبوا من الشريف أحمد متع الله بحياته أن يأتي إلى الشريف سعيد، فوصل إليه ليلة في شهر الحج قبل خروج الحاج الشامي، ثم بعدها وصل إليه الشريف سعيد ليلة أخرى، وتم الصلح ولله الحمد.
وأما صالح باشا ففي يوم الاجتماع المذكور وصل في نحو مائة من عسكره إلى بيت مولانا الشريف أحمد متع الله بحياته، وقبل يده واعتذر مما تكلم به، فقبله وقابله بوجهه الطلق الصبيح، ولاطفه بلفظه العذب الفصيح، ورفع عنه الملام، وأكرمه كما هو طبعه الشريف غاية الإكرام.
وفيها - أعني سنة أربع وتسعين وألف - : أمر مولانا الشريف سعيد بالنداء في البلاد ثامن عشر ذي الحجة الحرام أن لا يقيم أحد من الغرباء بالبلاد من جميع الأجناس على حسب ما ورد به الأمر السلطاني، ثم إن أرباب الأموال من الأتراك وغيرهم تكلموا مع سرادير العسكر، وجعلوا لهم مصلحة فاجتمعوا، وعزموا إلى أحمد باشا صاحب جدة، وذكروا له أن هؤلاء التجار المصارية أموالنا معهم، وأنهم نافعون لنا في البلاد، وحسنوا له التكلم مع الشريف سعيد، فأرسل إلى الشريف سعيد فتكلم معه في إبقائهم فساجل على ذلك، وأطلق مناديه سابع عشري ذي الحجة المذكورة: أن من كانت له مدة طويلة يقيم ولا خلاف عليه، فما أسرع انتقاض الحكم بضده بعد تسعة أيام.
وفي ثاني عشر شعبان منها: كانت وفاة والدة مولانا السلطان الغازي المجاهد السلطان محمد خان، كانت صاحبة خيرات وصلات، تغمدها الله بأتم الرحمات.
وفي عاشر ذي القعدة: كانت وفاة شيخنا الشيخ محمد بن سليمان المغربي المالكي السوسي المفتن في جميع العلوم، المشهور عند العرب والروم. توفي بدمشق الشام، مولده سنة ثلاث وثلاثين وألف. قرأ على كبار المشايخ ببلده، من أجلهم قاضي القضاة مفتي مراكش، ومحققها سيدى عيسى السجستاني، والعلامة محمد بن سعيد المراكشي، ومحمد بن بكر الدلائي، والشيخ سعيد بن إبراهيم المشهور بقَدُّورَة مفتي الجزائر ستين سنة، وتلقن منه الذكر ولبس الخرقة، ولازم الشيخ محمد بن ناصر الزرعي أربعة أعوام في التفسير والحديث والفقه والتصوف وغيرها، وصحبه وتخرج به.(3/72)
ثم رحل إلى الشرق، ودخل مصر فأخذ بها عن العلامة الشيخ علي الأجهوري، والشهاب الخفاجي، والشيخ شهاب الدين بن سلامة القليوبي، والعلامة سلطان المراحي وأجازوه، وبرع في العربية والمعاني والبيان والعروض والحساب والفلك والهيئة والحكمة.
وأخذ عنه جماعة كثيرون عدة فنون. وألف كتباً مفيدة منها: مختصر جامع الأصول لابن الأثير. واختصر التلخيص وشرحه. ووضع حاشية على التسهيل وحاشية على التوضيح ومنظومة في علم الميقات وشرحها، وله جدول جمع فيه مسائل العروض كلها. واخترع كرة عظيمة فاقت على الكرة القديمة والإصطرلاب، وانتشرت في الهند واليمن والحجاز.
أقام بالمدينة سنين عزباً في خلوة بقايتباي، ثم جاء إلى مكة وجاور بها، ثم رحل إلى الروم في موسم سنة ثمانين صحبة أخي الوزير الأعظم أحمد باشا الكبرلي، وحظي عنده حظوة عظيمة، وفوض إليه أمر أوقاف مكة وغيرها، وعمَّر الأربطة الدامرة والمآثر الداثرة، وأنشأ تربة بالمعلاة وجعلها جداراً أوتاراً متقاطعة في نصف قامة على شكل شطرنجي، وعدتها ثلاثة آلاف وسبعمائة قبر بلغت النفقة عليها من مال الوزير المذكور أربعة آلاف أحمر ومائة أحمر كان ابتداؤها سنة سبع وثمانين وألف، وسعى في عزل مولانا الشريف سعد، وولى الشريف بركات بنظره وإشارته، وصار في مكة صاحب الحل والعقد، وأنيطت أمورها جميعها إليه، ويتردد الشريف بركات إلى بيته كل يوم، وربما جاء مرتين في اليوم الواحد، وأكابر الحاج وأمراؤه يأتون إليه، فمن قبل عليه أذن له ومن لا فلا، ولا يقطع الشريف بركات أمراً قل أو جل إلا بنظره، وربما فعل أمراً بغير نظره، فإذا علم به نقضه من يومه، إلى أن مات الوزير المذكور، فضعف أمره، وورد الأمر من الوزير الآخر مصطفى باشا أولاً بالتحذير والنهي عن مشاركة الدولة في أمورها من قليل أو كثير، والتنفير عن المكارشة فيما يتعلق بها من جليل وحقير، وذلك سنة سبع وثمانين وألف، فأغلق ذلك الباب، وصار لا ينفذ شيئاً إلا وحياً أو من وراء حجاب.
ثم في جمادى الأولى من السنة المذكورة عزم إلى بلدة الطائف وصاف بها، ثم ارتحل منها أواخر شعبان، فسقط عَلَى وادي مر، ثم توجه منه إلى المدينة المنورة الشريفة، فدخلها ثاني يوم من رمضان، فأقام بها نحو أربع سنين، وابتنى في أثناء تلك المدة داراً بلصق جدار المسجد النبوي الشمالي.
فلما كانت سنة إحدى وتسعين وألف: رحل منها في النصف من شهر شعبان عائداً إلى مكة فدخلها ثامن عشريه، فاستمر بها إلى أن ورد الأمر ثانياً سنة ثلاث وتسعين وألف بتخريجه من الحرمين، فخرج إلى مكة صحبة الحاج الشامي موسم سنة ثلاث وتسعين كما تقدم ذكر طرف من ذلك، وأخذ في سفره الأول إلى الروم عن الشيخ خير الدين بن محمد الرملي الحنفي، وبدمشق عن الشيخ محمد بن بدر الدين البلباني الحنبلي، والسيد محمد بن كمال الدين نقيب الأشراف.
وله فهرست بجميع مروياته وأشياخه سماها صلة الخلف بموصول السلف.
ووصل في سفرته الثانية إلى دمشق الشام، فأقام بها حتى كانت وفاته في هذه السنة - أعني سنة أربع وتسعين وألف رحمه الله وتجاوز عنه. انتهى.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين فيها يوم الجمعة ثاني عشر محرم الحرام لما أراد أحمد باشا النزول إلى جدة حشكت عليه السادة الأشراف بسبب أنه استولى على الربع من حب الجراية التي ترد إلى مكة بعد أن كلموه في ذلك فامتنع، فسكتوا عنه إلى يوم نزوله جدة وهو يوم الجمعة المذكور، فتحزبوا جميعاً، وقالوا: لا ينزل حتى يعطينا ما هو لنا ولا يبقى عنده شيء، وكان ذلك بعد أن تقدمه أهله وثقله إلى جدة فصار أحير من ضب، واجتمعوا ببيت السيد محمد بن حمود، وأرسلوا إليه السيد ثقبة، فقال له: إن نزلت قبل أن تصلح الأشراف يأخذوا جميع أسبابك التي تقدمت، وينهبوا حريمك ويقتلوك، فأذعن حينئذ بوفائهم، فقالوا: لا نرضى بذلك حتى تكفل لنا، فكفل لهم كرد أحمد المعمار، وجميع السرادير، والوزير عثمان بن زين العابدين حميدان، وكتبوا بذلك حجة شرعية، وأنه إن حصل منه منع لبعض حقوقهم فيكون عاصي الشرع والسلطان. ثم خرج من مكة بعد عصر ذلك اليوم كالهارب: من البسيط:
ألجَدُّ في الجِدِّ والحرمانُ في الكَسَلِ...... ... ...(3/73)
وفيها تاسع ربيع الأول: ورد أغا من صاحب مصر بقفطان للشريف سعيد، وبطلب كرد أحمد المعمار، وهذا كرد أحمد كان قد وصل قبل هذه السنة، أرسله الوزير الأعظم مصطفى باشا إلى عمارة المسجد الحرام وحده، وكانت عمارته في المسجد فرش أروقته بالحجر الشبيكي، وعمارته بجدة إجراء عين إليها استمر فيها نحو ثلاث سنوات ابتدأها من المحل المعروف بالقوز، وعمر بها أيضاً مسجداً ومنارةً وحماماً ووكالةً.
وسبب طلبه لما غضب على مرسله الوزير الأعظم مصطفى المذكور بسبب الولس الذي نسب إليه مع الكفار على المسلمين، وكان هذا كرد أحمد من خواص الوزير المذكور، فجاء الأمر لمولانا الشريف سعيد.
ففي يوم وصول الأغا ختم على بيت كرد أحمد الفى بمكة، وركب الأغا من يومه إلى جدة وختم على بيته بها وعلى جميع المال وأحضروا المهندسين فخمنوا العمارة فخمنوا كل ذراع بقرش ريال بعد أن ذرعوا من الابتداء إلى البلد فبلغ كذا وكذا ألف ذراع، وكذلك خمنوا ما صرف على فرش المسجد، وحسبوا جميع ذلك وكتبوا به حجة شرعية، وخرج من مكة إلى جدة في شهر ربيع الآخر فذهب إلى من طلبه.
ومما وقع في هذه السنة من العجائب: أن حرمة من جهة الشبيكه من نساء العرب وضعت كلباً فخافوا الفضيحة فقتلوه ودفنوه.
وفيها أيضاً: جاء نجاب من مصر، وأخبرني مشافهة أن بالمويلح القرية المعروفة حرمة ولدت ولداً، فذهب أبوه إلى جهة السوق، فلما رجع قال الولد المولود لوالده: العوافي يا باه قضيت حاجتك، وتكلم بأشياء كثيرة من ساعته. وهذا من العجائب التي لم يسمع بمثلها إلا نادراً والقدرة صالحة، وبعد ذلك فقد الولد فسبحان القادر على كل شيء.
وفيها: تضرر السادة من غلو سعر الذهب، ووصول الأحمر إلى ثمانية حروف وربع، وبسببه غلت الأسعار، فطلبوا من الشريف أن ينادى بنزول سعره إلى أربعة حروف؛ لتنزل أسعار المسعرات إلى النصف من كل شيء، فأجابهم إلى ذلك، فتعب من ذلك صاحب جدة أحمد باشا وعساكر مصر حين أرسل لهم الشريف بمثل ذلك، وامتنع من النداء عليه إلا بسبعة حروف، وكان ذلك عشري جمادى الأولى. ثم إن عسكر مصر شكوا إلى الشريف سعيد أن هذا ضرورة علينا، فنسأل الفضل أن تجعلوه بستة حروف ونصف لا علينا ولا على السادة الأشراف خلاف، فأمر الشريف سعيد بالنداء بذلك والفسح به، فلما سمعوا السادة الأشراف بموافقة الشريف سعيد للأتراك فيما طلبوه تعبوا، واجتمعوا في بيت السيد مبارك الحارث؛ لأنه هو أول من تكلم في ذلك الشأن.
ثم ركبوا إلى السيد غالب بن زامل وكان بالأبطح، وأخبروه بمخالفة الشريف هواهم واتباعه هوى الأتراك، فأتى مولانا السيد غالب ومولانا السيد محمد بن حمود، ومولانا السيد أحمد بن سعيد بن شنبر، فقالوا للسيد مبارك وبقية الأشراف القائمين في هذا الأمر: إن البلاد للشريف، وإن الأمر له في المعاملة وغيرها، ولستم شركاء للشريف في الأحكام بل في المدخول، فحجوهم بذلك.
وفيها في شهر ربيع الآخر: وجد رجل من أبناء المدينة، يقال له: محمد بن عمار الصعيدي بالمسجد النبوي بعد أن فتش المسجد، وأغلق فأخرجه الخدام، ثم لما كان من أعمال شيء من الليل وجدوه أيضاً تجاه القبر الشريف يقرأ في مصحف، فأخرجوه من المسجد.
ولما كان ليلة الجمعة وقت التذكير دخلوا لإيقاد قناديل الحجرة الشريفة، فوجدوه فيها داخلاً تحت الستر نصفه ونصفه الآخر خارخاً، فتقدموا إليه وأخرجوه، وأتوا به إلى شيخ الحرم، وأخبروه بما وقع فوضعه في بعض المخازن، وأغلق الباب وعلى الباب حرس، ثم فتحوا الباب بعد ساعة فلم يجدوه، فسألوا عنه فإذا هو في بيته عند والده، وأهله، والله أعلم بحقيقة حاله.
وفيها يوم الثلاثاء سابع عشر رمضان منها: عدا بعض أولاد الصاغة بمكة على أخيه فضربه جنبية عمداً فقتله - رحمه الله تعالى - ودخل على السيد حسن بن كالب، فدخل به على أخيه مولانا الشريف أحمد متع الله بحياته، فبذل لأبويه الدية فامتنعا وسمحا عفواً، فألزمه بسكنى بندر جدة فهو فيها.
وفيها ليلة الخميس سابع عشري رمضان منها: كانت وفاة الحرة الطاهرة والدرهَ الثمينة الفاخرة السيدة الشريفة عمرة بنت سلطان الحرمين مولانا المرحوم الشريف زيد - تغمدها الله برحمته، وأسكنها فسيح جنته - ودفنت صبيحة ذلك اليوم. وكانت جنازتها حافلة.(3/74)
وفيها: إرسال الخريف سعيد ترجمانه المهتار على أغا إلى صاحب مصر يذكر فساد مكة وأنها خربت، وأحوالها اضطربت، وطلب منه عسكر اً لإصلاحها.
وفيها ثاني عشر رمضان: كانت وفاة الأمير الخطير، والسري الكبير، الذي حوى من الفضل أجمعه، ومن اللفظ أعذبه وأبرعه، الأمير الجليل، ذي القدر النبيل، والمجد الأثيل، والأصل الأصيل، الأمير يحيى بك ابن المرحوم على باشا كسائي ثم المدني الحنفي بطيبة المنورة. مولده سنة ثلاث وعشرين وألف بمدينة الإحساء، وبها نشأ في حجر والده وتأدب بأكابر علماء بلده. وأخذ عن العلامة إبراهيم بن حسن الأحسائي الفقه والحديث وعلوم العربية وأجازه بمروياته وجميع مؤلفاته.
وتلقن الذكر ولبس الخرقة، وصافح من طريق المعمرين الشيخ تاج الدين النقشبندي الهندي عن الشيخ عبد الرحمن الشهير بحاجي رمزي. قال: فصافحني أبو سعيد الحبشي، قال فصافحني النبي صلى الله عليه وسلم. وله شعر، منه قولى يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: من الكامل:
أتريدُ جاراً حامياً لكَ سيداً ... ومقامَ عِز عالياً متفرداً
وترود شرفاً للبلاد وغربَهَا ... متفكراً متحيراً متردداً
وترومُ ذا والحالُ منك مقصرٌ ... عما طرا والفعْلُ ليس مسددا
فعليك أن تردَ النجاةَ وتَتَقي ... خوفَ العقاب تلاوةً والمسْجِدا
وانزل بدارِ المصطفى متادباً ... ولجودِهِ مستمطراً متقصداً
واعرفْ لفيضِ الفضلِ منه مواسماً ... لتكُن لها مترقباً مترصداً
فلعل أن يحيى كما أحيى به ... للدين رسماً قد عفا وتهدَداً
فاجتهَذ تكُنْ جاراً له ودخيلَهُ ... وابذل له روحاً ومالاً مجهداً
أفما سمعْتَ لقائلٍ ذي فطنةٍ ... تسمو بساكِنِها فكُنْ مسترشِداً
واطلب بغالِي النفسِ منْكَ جوارَهُ ... واتركْ لِسَوْفَ ولا تقُلْ مهلاً غَدا
بل قُمْ وسارعْ للمدينةِ راغباً ... ولمنْ بها مستشفعاً متعبداً
فَهُوَ الذي يحمي ويغني جاره ... وعليه قد أوصى وحَث وأكدا
فلقَد ْنصحتُكَ إن قبلْتَ نصيحَتِى ... ولما نصحْتُ فعلته متوددا
وجنحْتُ مشتاقاً لطَيْبَةَ قاصداً ... غَوْثَ الورَى بَحْرَ الحقائقِ أحمدا
بدْرُ الهدَى بالحق أُرْسِلَ رحمةً ... للعالمينَ وبالملائكِ أُيدا
أوَ لَيْسَ قومي عالمينَ بأنني ... جاوَرْتُ خَيْرَ المرسلينَ محمَدا
وحَلَلْتُ ساحةَ جودِهِ متمسكاً ... بالعروةِ الوثقَى فلا أخشى الرَّدَى
حاشاكَ أن أخشَى وأنْتَ وسيلتي ... وذَخِيرتي حقاً وأنْتَ المقتدَى
فعلَيكَ خَيْرَ الخلقِ إني داخلٌ ... وببابِكَ الأعلَى أقمْتُ مقيدا
فعسَى بجاهِكَ أن يمنَّ بعفوها ... رب كريم بالنوالِ تفرَّدا
ويجودَ بالغفرانِ منه تفضلاً ... وأنالَ عِزا من مديحِكَ سَرْمَدا
قد قالها من كامل في كاملٍ ... يحيا لكَي يحيى سعيداً مسعدا
دنيا وأخرَى إذ لجا لجنابِكُمْ ... أيخيبُ مَنْ أم الجنابَ المُفْرَدا
حاشا وحاشا ثُم حاشا أن يُرَى ... متألما من جاًءكُمْ متعمدا
وصلاةُ ربي دائماً وسلامُهُ ... تغشَى ربوعَ المصطفى والمرقدا
والآلَ والصحْبَ الكرامَ جميعَهُمْ ... والتابعينَ لهم ومَنْ قد وَحَّدا
ما لاحَ نجمٌ في السماءِ وما أضا ... نجم وما أشجَى هزار غَرَّدا
وقوله مضمناً: من البسيط:
ظلمتُ نَفْسِي ولم أعمَلْ بموجبها ... وما علمْتُ بأنَّ الغيَّ يُتْلفنِي
يأتِي على المرءِ في أيامِ محنتِهِ ... حتَى يرى حسناً ما ليْسَ بالحسَنِ(3/75)
كان والده المرحوم على باشا والياً على الأحساء، والأمير يحيى هذا على القطيف بأمره، فأرسل والده المذكور أكبر أولاده محمداً بهدية إلى سلطان الروم على جاري العادة، فزور كتاباً من والده مضمونه أنه قد كبر في السن، والتمس من السلطان أن يقيم ولده محمداً في الولاية على الأحساء مكانه بمرسوم سلطاني، فأجيب إلى ذلك.
ولما وصل محمد إلى الأحساء أرشى أكابر العساكر، وأعلمهم بالأمر، وتلقاه والده وإخوته.
فلما اجتمعوا أخرج المرسوم السلطاني وتولى بموجبه، وأراد حبس والده وإخوته، فطلبوا منه أن يجهزهم إلى الحرمين ويعين لهم مصرفاً، فجاءوا إلى المدينة، وجاوروا بها، وتوفي والدهم على باشا بها سنة ست وخمسين. ثم في موسم خمس وسبعين: توفي ابنه أبو بكر باشا ابن على باشا بعرفة يوم عرفة، فحمل في محفة إلى مكة، فدفن بها في المعلاة.
وكان ذا شهامة وصرامة، سلالة بيت عز وكرامة، ذا كرم يفوق البحر بالمد، وبأس يقصر عنه حد السنان والحد، إلى أدب بذ فيه فحول الأدباء وفاق، وممادح قيلت فيه فنفق سوقها لديه أحسن نفاق، إلى لطف أخلاق تُعير النسيم لطافة، وتوصل قاصده وتؤمنه مأموله ومخافه، إلى قريحة وقادة، وذكاء ملك به زمام الأدب وقاده.
له الشعر الرصين المبني، البطين المعنى، منه ما كتب به إلى مولانا وشيخنا العلامة أبي مهدي عيسى بن محمد الثعالبي الجعفري ونصه من الكامل:
يا من سما فوقَ السماكِ مقامُهُ ... ولقد يَراكَ الكل أنتَ إمامُهُ
حزتَ الفضائلَ والكَمالَ بأسرِها ... وعلوتَ قدراً فيكَ تَم نظامُهُ
لو قيلَ من حازَ العلومَ جميعَها ... لأقولُ أنتَ المسِكُ فيكَ ختامُهُ
كم صنْتَ من بِكرِ العلومِ خرائداً ... عن غيرِ كُفءٍ لم يجب إكرامُهُ
فاعلَم بإني غَير كُفِءٍ لائق ... إن لم يكن ذا الفضلُ منك تمامُهُ
ثم أتبعه بنثر صورته: لما أضاء نور المحبة في قنديل القلوب، صفت مرآة الحقيقة فظهر المطلوب، فاتضحت الرسوم الطامسة، وبانت الطرق الدارسة، فاكتحلت عين القريحة، فسالت في أنهر النطق فأثمرت بالمسطور، وهو المقدور، وأما المقام فهو أنهى من ذلك وأجل، وليس يدرك ذلك إلا من وصل. وأما العبد فهو مقر أنه قد قصرت به الركائب عن بلوغ ذلك. وعاقته عقبات الأسباب عن سلوك هذه المسالك، لكن حيث أن ثياب الستر من فضلكم على أمثاله مسبولة، يمكن أن يدخل في ضمن الأمثال مطلوبه والسلام. فأجابه مولانا المشار إليه بقوله من الكامل:
لله دركَ يا فريدَ محامِدٍ ... أربَى على البدرِ التمامِ تمامُهُ
قد صغتَ من سر البراعةِ مفرداً ... فاقَ الفرائدَ نثرُهُ ونظامُهُ
وكسوتَهُ من جزلِ لفظِكَ سابغاً ... وَشِيَت بكل لطيفةِ أكمامُهُ
أعربتَ فيه عنِ اعتقادٍ خالصٍ ... ومكينِ ودَّ أحكمَت أحكامُهُ
وجلوتَهُ يختالُ تيهاً آمناً ... من أن يشابه في الوجودِ قوامُهُ
وحبوتَ ذا شكرِ ببيتِ قصيدة ... وبفضِّ خاتمه العلي اسرامه
أهلاً به فرداً أتى من مفردٍ ... وحبا بِهِ ضيفاً يجلُّ مقامُهُ
حتماً علي ولازماً تبجيلُهُ ... فوراً وحقاً واجباً إكرامُهُ
لكق علِى قدري فلَستُ بكُفءِ مَن ... وطئَت على هامِ العلا أقدامُهُ
وإليكَها عذرا عَلَى مَهَلٍ أنت ... خجلاً لمحتدِكَ العزيزِ مَرامُهُ
فاصفَح بفضلكَ عن صحيفةِ وُدَّها ... فالفضلُ مؤتمٌّ وأنتَ إمامُهُ
واسحَب رداءَ المجدِ غيرَ مدافَعٍ ... فلأنتَ عنصرُهُ وأنتَ خِتامُهُ
وله ديوان شعر مجلدان، حاوٍ ما يفوق الدر والجمان، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.(3/76)
وفيها - أعني سنة خمس وتسعين - : اشتد البلاء بالسرق ليلاً ونهاراً، سرّاً بل وجهاراً، وكسرت البيوت والدكاكين، وترك الناس صلاة العشاء في المسجد والفجر، خوف القتل أو الطعن أو الكسر، وصارت العبيد لا يأتون إلا ثمانية وعشرة، ولا يبالي أحد منهم بمن ننصره، يدخلون بيت الرجل يقفون على رأسه بالسلاح، وربما نكح بعضهم زوجته وعينه تنظر كأنها حلاله المباح، وانقلب ليل الناس نهاراً لأنهم إنما يبيتون سهارى، بل من الخوف سكارى.
وكثرت القتلى في الرعية بأيدي العبيد، وعدم المشتكي الناصر، وفعل كل شقي ما يريد.
ولا يجاب الصائح حين يصيح، وإن اتفق أنه صاح فلا يوجد في مرقده إلا وهو ذبيح، حتى ضُبطت القتلى بمكة في شهر رمضان فكانت تسعة أشخاص، فضجت الأمة إلى الله - تعالى - أن ينقذهم من هذا الحال الوبيل، والداء العضيل بمن يهنأ نقبها، ويشد سلبها، ويصلح اعوجاجها، ويؤمن طرقها وفجاجها.
فاستجاب الله دعاءهم في الأسحار، وآناء الليل، وأطراف النهار، بأن ولى أمرها المرحوم الشريف أحمد ابن مولانا المرحوم الشريف زيد - تغشاه الله بالرحمة والرضوان - .
وشرح مبدأ ذلك وتفصيل ما هنالك؛ أنه لما انفصل عن إمرة مكة هو، وأخوه مولانا الشريف سعد إلى الطائف ثم منها إلى بيشة، فأقام بها، وتوجه مولانا الشريف أحمد إلى ديرة بني حسين، فإن له بها أهلاً وولداً، واستمر مقيماً بتلك الديرة إلى أول ذي القعدة الحرام، فرحل منها قاصداً المدينة لزيارة جده - عليه الصلاة صلام - ، فدخلها ليلة سابع العشرين منها ليلة دخول الحاج الشامي، وواجه بها في ذلك العام باشا الشام، فقابله بأتم الإجلال والإكرام، والتمس منه إتمام بعض مرام من شريف مكة بركات، ثم رحل من المدينة الشريفة ثاني شهر ذي الحجة من العام المذكور، ونزل على الشيخ حرب أحمد بن رحمة، واستمر عنده إلى عودة الحاج الشامي، فواجهه الباشا وأخبره بعدم تمام ذلك المرام، بعد أن أرسل له الخبر مكة بالإعلام.
ثم توجه في أول عام أربعة وثمانين إلى الفرع، واستمر بها مدة يسيرة. ثم لما خرج الشريف بركات إلى حرابة حرب في أواسط السنة المذكورة عاد إلى حرب وحضر الحرابة، ثم بعد انقضائها توجه أيضاً إلى الفرع، ثم وصل إليه أخوه مولانا الشريف سعد، واستمر بين السوارقية والفرع، وأكثر الإقامة بالفرع.
ولما توعد الشريف بركات أهل الفرع أوائل سنة خمس، تنحيا إلى جهة وادي النقيع من ديرة حرب من بني السفر وبني علي وعوف، واستمرا ومن معهما إلى شهر رمضان، ثم عن لهم التوجه إلى الأبواب العالية، فوصلوا إلى حول المدينة الشريفة، ونزلوا بالغابة مجتمع الأسيال غربي أحد أواخر رمضان، فعيدوا بذلك المحل، وليس في نزول الأسود بالغابة، ملامة ولا معابة، وتقضوا مصالح وأغراضاً وأزوادا منها.
قد أخبرني الثقة أنهما اجتمعا بالمحل المعروف ببئر واسط بمولانا السيد مبارك الحارث، وكان هو المشير عليهما بقصد الأبواب العالية، ثم ترحلوا من الغابة خامس شوال من السنة المذكورة متوجهين إلى الشام، لا يمرون بحي من الأحياء إلا أكرمهم غاية الإكرام.
ومن أعجب الاتفاق نزولهم على مراح ابن سحيم من غير علم منهم بذلك، وكان الشريف سعد قد قتل أباه، فلما علم بهم، وعلموا به حصل لهم كرب عظيم، فلم يشعروا إلا وولده مواجه له بالعبودية والسلام، والإجلال والإعظام، وأهدر دم والده، وأكرمهم وذبح الذبائح، ومنح المنائح، وهذه - ولا شك - معجزة من جدهم، وكرامة من سعادة جدهم. ولم يزالوا على مثل ذلك مع كل من مروا عليه من العربان من جمع ووحدان إلى أن وصلوا الشام، فتلقاهم أهل الشام وأمراؤها، وعلماؤها وكبراؤها، وأشرافها ونقباؤها، وكان يوماً مشهوداً، ثم أقاموا بالشام، وأرسل صاحب الأمر بها يستأذن لهم في الوصول، فعاد الجواب بالإذن، فتوجهوا ودخلوا إلى أدرنة في ربيع الأول من سنة ست وثمانين، وحصل لهم من المقابلة واللطف ما يقصر عنه الوصف، فأقاموا بها مدة يسيرة، ثم توجهوا بأمر من الدولة العلية إلى إسلام بول، واستمروا بها بقية سنتهم المذكورة.
ثم دخلت عليهم سنة سبع وثمانين وهم بها، فلما كان شهر صفر من السنة المذكورة: وصل مولانا السلطان، وجميع الدولة من أدرنة إلى بلاد إسلام بول.(3/77)
وفي شهر ربيع الثاني: أنعم على مولانا الشريف سعد بولاية المعزة، وأمر بالتوجه إليها، واستمر يتجهز إلى أن كان خروجه إليها حادي عشر جمادى الأولى، واستمر مولانا الشريف أحمد بإسلام بول، وعرضت عليه ولاية طرسوس وهي بلد على ساحل بحر الشام، وأخرى بجهة الروملي فلم يقبل واحدة منهما، وكان جوابه: إن تفضلتم بولاية بلادنا، وإلا فنحن تحت أعتاب السلطنة العلية. واستمر السلطان بإسلام بول إلى أواسط شعبان من السنة المذكورة، ثم توجه إلى أدرنة أيضاً.
ثم بعد خروجه في ثاني أو ثالث مرحلة توفي الوزير أحمد باشا بعد أن خرج مريضاً فأعيد إلى إسلام بول ودفن بها، وتولى مكانه قائم مقامه مصطفى باشا.
واستمروا متوجهين إلى أدرنة، وأقاموا بها إلى آخر السنة المذكورة وشهر من أول سنة ثمان وثمانين، ثم عادوا إلى إسلام بول في شهر صفر أيضاً، وتأخر الوزير أياماً، ثم وصل واستقرت الدولة بإسلام بول، واستمر مولانا الشريف أحمد مقيماً بها تحت ظل الدولة العلية، وفي كل سنة يتجدد له من الإكرام والترقيات ما فوق المرام، وفي كل شتاء بثلاثمائة بغل محملة من جميع ما يحتاج إليه البيت، وزيد سنة واحد وتسعين ثلاثمائة أخرى، وحصلت بينه وبين قزلار أغاسى محبة أكيدة، وطلب الاجتماع بالوالدة، فاجتمع بها، وأغدقت عليه سوابغ الإنعام، ووعدته بالمرام، وقد سبق وعدها وعد الملك العلام.
واستمر كذلك إلى سنة ثلاث وتسعين وألف، فوصل فيها إلى الديار الرومية السيد محمد بن مساعد والسيد بشير بن مبارك مرسولين من السيد أحمد بن غالب من الشام، فركبا إليه وقيَّلا عنده، فأوحى بعض المفسدين إلى الوزير الأعظم، وقال: إن إقامة مولانا الشريف أحمد بإسلام بول يخشى منها، فالأولى عدم إقامته بها فأحضره الوزير وألبسه قفطاناً بولاية كرك كنيسة اسم محل بينه وبين أدرنة ثمان ساعات فلكية.
وكان قبل ولايته بشهرين أرسل بأخيه الشريف سعد إلى البلد المسماة ويزه بكسر الواو وتخفيف الزاي وهي قرية أيضاً من كرك كنيسة بينها وبينها ثمان ساعات أيضاً، واستمر كل منهما بمكانه إلى سنة أربع وتسعين، فتوجه السلطان إلى السفر، فعند حلوله بأدرنة فسح لهم بالتوجه إلى حيث شاءوا من الديار الرومية، فتوجه مولانا الشريف سعد إلى إسلام بول، واستمر الشريف أحمد في بلده المذكورة، وطابت له وتأنس بها، إلى أن كانت سنة خمس وتسعين فوصل فيها ترجمان مولانا الشريف سعيد بعرض إلى صاحب مصر يذكر فيه ما شرحناه من إفساد مكة بأيدي العبيد، والنهب الذي لا ينقص بل يزيد، وأن البلاد خربت، والأحوال اضطربت، وطلب منه عسكراً لإصلاحها، ومالا يستعين به على أمور نجاحها، وأظهر أنه مغلوب عليه، وأن كل من أراد شيئاً فمنه وإليه.
فلما وصل إليه أرسل رسولاً إلى الأبواب العلية بالتعريف بهذه الأحوال وأرسل معه الترجمان المذكور، فوصلا يوم عيد الفطر، وحصل عند السلطنة العلية اضطراب لهذا الخبر، فاشتورت الدولة، واتفقت على إلا يصلح هذا الخلل إلا أهله العريفون، وحماته الذين هم في بيت الملك عريقون.
وبرز في الوجود ما كان في علم الله كائناً، وما قدر به لبلده أن يعود كما كان آمناً، فاستدعي مولانا السلطان، وهو مقيم بأدرنه عند رجوعه من السفر مولانا الشريف أحمد من محلة كرك كنيسة المذكورة يوم ثالث شوال من السنة المذكورة، فبادر بالوصول إليه، فدخل عليه بعد صلاة العصر، فقابله بالإجلال والإكرام، والتحية والقيام، ووضع كفه بكفه، وتصافحا من قيام، قائلاً: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد عليه الصلاة والسلام.
فكان أول خطاب وقع بينهما أن قال له: يا شريف أحمد، الحجاز خراب؛ أريدك تصلحه، فوضع مولانا الشريف يده على رأسه ممتثلاً للأمر قائلاً: نَوْلَهْ: - كلمة تؤدي معنى القبول والطاعة، فأكرم بها قوله - فعندها خلع عليه من الفرو القاقم الأبيض، وهو الذي دخل مكة لابساً له، ثم جلس مولانا السلطان، وأشار إلى مولانا الشريف بالجلوس فجلس، ثم أعاد عليه قوله الأول ففعل فعله الأول، ففي الثالثة فعل ما فعل في الأوليين ثم قال: يا بادشاهي، الحجاز يحتاج إلى فتوح جديد، فأمر حينئذ مولانا السلطان بإحضار يازجي، وأمره بأن يمليه مولانا الشريف أحمد ما يريده فيكتب بمضمون ذلك أوامر متعددة.(3/78)
ثم قام مولانا السلطان، فخرج مولانا الشريف وقدم له مركوب من خيل السلطان بعدته، وتبعه من الإكرام والإحسان ما لا يحصره بنان ولا بيان.
ثم توجه مولانا الشريف إلى سرايته التي عينت له بأدرنه، واستمر بها إلى يوم التاسع من شوال المذكور.
ثم توجه مولانا الشريف إلى بلده كرك كنيسة، وأقام بها يومين وضم متفرق أموره وأحواله، وأوصى على أهله وعياله.
ثم توجه إلى إسلام بول وبات بها رابع عشر الشهر المذكور، وقال بها نهاره، ثم توجه إلى أسكدار ورحل منها يوم خامس عشر الشهر المذكور متوجهاً منها إلى مكة على خيل البريد المسماة في عرف أهل الروم الولاق، فدخل إلى الشام وقد خرج الحاج منها، واستمر مجداً في السير والدءوب بما لا يحتمله بشر مما يشق على الراكب والمركوب، بعزمة تطوى مفاوز الأرض طياً، وينقطع عنها سليك المقانب كلالا وعياً. فأرسل إلى مكة بكتاب إلى مولانا، الشريف أحمد بن غالب متع الله بحياته، وإلى الوزير عثمان بن زين العابدين حميدان، وكان قد أرسل إلى أمير الحاج الشامي أن يتربص له بالعلا، فتربص يوماً أو يومين.
ووصل مولانا الشريف إليه، فدخل مدينة جده سيد الكونين، ولبس الخلعة السلطانية بحجرة جده كما لبسها فيها أبوه، واسترَت القلوب برؤية محياه وتبلجت الوجوه.
وأما الشريف سعيد، وعمه السيد عمرو فلم يزالا في انتظار الجواب بالمال العساكر، وما علما ما صنعه الواحد القاهر.
وفي ثالث شوال: وصل إلى مولانا الشريف سعيد قفطان من صاحب مصر أرسله إليه بعد أن عرض إلى الأبواب، وسير مع رسوله إليها ترجمان الشريف سعيد كأنه تطمين للفؤاد، وتبشير بإتمام ما أرسل في طلبه من ذلك المراد.
وحين وصول العسكر إلى بيت الشريف أصيب ابن الشريف بركات السيد عبد الله ببندقة أذهبت خنصر يده وكان إذ ذاك مشرفاً من طاق خارجة دار السعادة، فالحمد لله على السلامة لا مانع لما أراده.
فوصلوا بالقفطان، ولبسه الشريف سعيد مستبشراً بحصول الأماني والأمان، وكان في ذلك اليوم بعينه - أعني ثالث شوال المذكور - ولاية مولانا الشريف أحمد - رحمه الله - للحرمين بالديار الرومية فسبحان الحكيم.
واستمر الشريف سعيد إلى أن اتفق يوم سابع عشري ذي القعدة من سنة خمس وتسعين وألف المذكورة أن ركب إلى أحمد باشا صاحب جدة، وكان قائلاً بالأبطح ببستان الوزير عثمان، واستمر عنده إلى جانب يسير من الليل، ثم ركب وقصد ثنية الحجون ذاهباً إلى السيد غالب بن زامل، وكان نازلاً بذي طوى، فلما جاوز الحجون إذا هو براعي ذلول، فاستخبره من أي العرب؟ فقال: من بني الصخر.
فقال الشريف: معك كتاب من السيد يحيى بن بركات؟ فقال: لا.
وكان السيد يحيى قد ذهب لمقابلة الحاج الشامي، فأمر الشريف بضمه فضم وتهدد بالقتل، فأقر بأنه مورق من الشريف أحمد بن زيد إلى مولانا الشريف أحمد ابن غالب متع الله بحياته، وأنه قد جاء متولي مكة، وأنه لحق الحاج الشامي في العلا، فذهب به إلى بيت السيد عمر، واستدعي السيد غالب بن زامل، وعبد الله بن هاشم، واشتوروا في إظهار هذا الأمر على أي وجه يكون، فاتفق الأمر على أن يرسلوا إلى السيد مساعد ابن الشريف سعد، فأرسلوا إليه السيد عبد الله بن هاشم، فذهب إليه وقال: نريد السيد غالب وكان نازلاً بذي طوى، فلما خرج معه عطف به إلى طريق بيت السيد عمرو، فلما دخل بيت السيد عمرو استراب من ذلك، ثم لما رأى الجماعة مجتمعين جلس معهم، فقال له الشريف سعيد: يا سيد مساعد لم أرسل لك هذا الوقت إلا قصدي أودعك أهلي، وإن عمك الشريف أحمد بن زيد تولى مكة، وأنك تقوم مقامه إلى أن يصل، فتلكأ عن ذلك حتى قال السيد غالب بن زامل نقيم سليم أغا، ونحفظ نحن الديرة إلى وصول صاحبها، فوافق السيد مساعد حينئذ على القيام مقر عمه.
ثم أرسل الشريف سعيد إلى أغوات العساكر الذين معه، وقال لهم: إن الأمر أتى إلى الشريف أحمد بن زيد، فأنتم اخدموا سيدكم، وخرج الشريف سعيد آخر تلك الليلة.
ومما قيل فيه من الشعر قولي حين رجع من الديار الرومية موسم سنة سبع وثمانين قصيدة هي من الطويل:
تجلتْ بمرآكَ السعيدِ لنا البُشرَى ... وأَبْدَى الهنا والسعْدَ وجهُكَ والبِشْرا
وعادتْ لأحشاها بعودكَ سالماً ... قلوب حَشاها طولُ غيبتكم جَمْرا(3/79)
وأضحَى وطيرُ السعدِ يسجَعُ مذ بدا ... محياكَ فينا مسفراً واضحاً بَدْرا
وقرتْ عيونٌ طالما أسهرَتْ أَسى ... فنامتْ سروراً بَعْدُ وانشرحَتْ صَدرا
وما خصَّ هذا الحالُ بعدك واحداً ... بل الناسُ جمعاً بالدعا لم تَزَلْ تترى
سروراً بملقاك السعيدِ مبلغاً ... مراماً سما كَم من نفوسٍ به حَسْرى
فيا ابن الكِرامِ الصيد مِنْ آل هاشمِ ... سلالة خَيْرِ الخلقِ من ذا الورى طُرّا
ويا درَةَ العقدِ الثمينِ نظامُهُ ... وفَرْعَ الشناخيبِ الميامينِ في الذكْرَى
ويا مَنْ له من طينةِ المَجْدِ جوهر ... تلألأ نوراً من صفاتِ له زُهْرا
ويا مَنْ غذى دُرَّ الكمالاتِ يافعاً ... وطفلاً ففاق الشيبَ في عقلها قَدْرا
له من سنام المجدِ ذرْوةُ شأوِهِ ... وكان لها أهلاً وكانتْ به أحرَى
له منطقٌ فصل ورأيٌّ مسدَّدٌ ... وجودَةُ نفسِ طابَ منشقها نَشْرا
وبسط يمينٍ بالنوالِ بنانها ... حكَتْ خُلُجا فعما ًبمد الندَى تُجْرَى
طَوِيل البنا رَحب الفنا مَنْهَل الغِنَى ... مُزِيل العَنا مولى المُنَى فائضاً بَحْراً
عَرِيض الجدا غَوث الندا مَوْرِد الندا ... حمام العدَى والخيل دُهْمْ حكَتْ شقرا
إذا ثوبَ الداعِي الصريخُ أجابَهُ ... سعيد على سعدَي فيظفر فى المَسْرَى
رلا عجب فالفرعُ يتبعُ أصلَهُ ... على خيرِ نعتٍ يوجبُ الحمدَ والشُكْرا
طموح إلى نيلِ العلومِ فؤادُهُ ... على همة تعلُو السماكَيْنِ والنّسْرا
لبيبٌ أريب لوذعيٌّ مهذبٌ ... له الفكْرُوالفهْمُ الذي يقلقُ الصخرا
أديبٌ ربي حجر الخلافة مَهْده ... إلى أن رقى مِنْ سَرْجِ شيظمةٍ ظَهْرا
وهز متون البيضِ من مرهفاتِهِ ... وكان ابنَ راعيها وكان بها أَدْرَى
فبوركَ فيه قارئاً لعلومِهِ ... وفي الروعِ أرواحُ العدَى سيفه يَقْرا
فحيناً لتقليبِ الكراريسِ كَفهُ ... وحيناً يقلبها القواضب والسمرا
وكَم من صفاتٍ فيكَ يعجزُ خاطري ... مداها من الوصْفِ الحميدِ أتتْ كُثْرا
وكمْ من سجايا فيكَ طابَتْ أصولها ... وكم جهد ما يحصى البليغُ وإن أَطرَى
فدونَكَ يا نجلَ الملوكِ قصيدة ... جمعتُ بها من وصفِ مجدِكُمُ النزرا
مُفَوَّفَة من خالصِ الودِّ أنشئَتْ ... لمدحكَ صدقاً لا رياءَ ولا نكرا
وقد شرفَت لما أتَى فيكَ مدحُها ... وزانَت معاني حسنِ أوصافِكَ الشعْرا
فجاءَتكَ من شوقِ إليكَ محبةً ... ولا تبتغي إلا قبولَكَها مَهْرا
فدم وابقَ واسْلَم لا برحتَ على المدَى ... مصوناً من الأسوا ومن حادِثِ يَطْرا
ولا برحَتْ أيامُ دهركَ كلها ... بآثاركَ الحسنَى محجَّلَةً غَرّا
وقال الشيخ محمد البصري ثم المدني، سامحه الله تعالى من البسيط:
زارت سعادُ وهي بالبشرِ متزرَه ... ترمِي بألحاظِها سهماً بلا وترهْ
وهي مبرقعة والحسنُ ساترُها ... والشعرُ منسبلٌ جَلَّ الذي فطَرَه
فقلتُ شيلي الغطا قالَت بمعذرةٍ ... ذا كوكبُ الصبحِ أبدى والظلام سره
فقلتُ ما الأمرُ، قالت إن تزر بِغَدٍ ... تَلْقَ البساتينَ فادخُلْ تجتني ثمرَهْ
فودعتنِي وسارَت سرت في قلق ... والقلبُ ينشدني من هَجرِها شعرَهْ
ليلُ المحبينَ مطوي جوانبُهُ ... مشمر ما قضَى في جنحه وطرَه
؟ما ذاكَ إلا كأنَ الصبحَ نم بهم فأطلع الشمس ضغناً مضمراً قهرَه
فبتُ أرقبُ نجمَ الليلِ في سهدِ ... حتى أتى الصبح متبسم بمنفجره(3/80)
وصرتُ أسعَى وقلبي هائم جذل ... طرقتُ باباً لها في روضَةِ عَطِرَه
أَفتَحَ لي الباب واكساني السرور إذا ... قد أمنى الدهرُ من عَيْن نفى نكرَه
قلتُ الوصالُ فقالَت وهي معذرة ... هذا دلالاً فإني خائفَه ذعرهْ
والفَت تقولُ بإعْجاب الدلاَل لها ... كأنها دُرةٌ من عقد منتثرَهْ
ما جابكَ اليومَ يا غاوى بساحتنا ... عَسَى رضيعُ العلا أبدى لكُمْ فخرَه
فقلتُ هو القصد والمأمولُ يا أملي ... إني أديبْ غريبٌ أستحق قرهْ
فاقر السلامَ له من سيدٍ سبقَتْ ... منه الملاقاةُ في مدحِ نقى درَرهْ
أعني سعيد بنَ مولانا الشريفِ ومَن ... راياتُ عِز له في الحربِ مشتهرَهْ
فهو شريفُ الذي قامَت عدالتُهُ ... وغْدت أمانيه في البر منتشره
وهو العزيزُ الذي فاضَتْ براحتِهِ ... كاسُ المنونِ غزيراً زايداً مررهْ
وهو الهزبرُ الذي هابَت لسطوتِهِ ... وحشُ الفلاةِ فأمسَتْ ساكنه القفرَهْ
وهو المليكُ الذي ماتَت حواسدُهُ ... نعم وبادوا حقيقاً أن رأوا خبرَهْ
لا زالَ في شرفٍ كالبدرِ في ترفٍ ... بآية النورِ والأعرافِ والبقرهْ
يعنيك نظم بدا من سيدِ بعدتْ ... عنه المنازلُ أمسَى في زمان تِرَهْ
محمد إسمهُ من طيبَة سعدَت ... بنورِ خيرِ الورَى طه به فخرَهْ
صلَى عليه إلهُ العرشِ خالقُنا ... والآلُ والصحْبُ واهلُ البيتِ والسيرَهْ
ثم وليها مولانا الشريف أحمد ابن الشريف زيد ابن الشريف محسن بن حسين بن حسن، وذلك أنه لما خرج الشريف سعيد آخر تلك الليلة - كما ذكرنا آنفاً - ذهب السادة المذكورون في غدها إلى بيت السيد ناصر بن أحمد الحارث، واجتمعت العساكر عند بيت الحارث، وذهبوا جميعاً إلى أفندي الشرع، وأخبروه بالواقع، فحضر الأفندي، وصاحب جدة أحمد باشا، والمفتي والوزير عثمان بن زين العابدين بن حميدان، وكان الاجتماع في مقام الحنبلي، فقالت الأشراف: يجلس السيد مساعد ابن الشريف سعد، فانفض المجلس على ذلك، ونودي من حينه، وذلك يوم الثلاثاء تاسع عشري ذي القعدة من سنة خمس وتسعين وألف: إن البلاد - بلاد الله، والسلطان والشريف أحمد بن زيد نصره الله، وأمر بالزينة سبعة أيام، وجلس مولانا السيد مساعد للتهنئة، ولم يبق صغير ولا كبير إلا أتاه يهنئه، ويهنئون أنفسهم بما أنعم الله عليهم بتولية هذا الشريف، وادَّرَقوا بحماية كهف ذكره المنيف، فناموا بعد السهر، وصفت سرائرهم من الكدر.
وقد أشرت إلى ذلك بقولي في مديحه من قصيدة: من البسيط:
بِوَهْمِ ذِكْرِكَ من قبل الوصول صفَتْ ... أحوالها بعد خلْعِ العذرِ والرسنِ
ثلاثَ عشرَةَ أعوام لها انصرمَتْ ... عمياءَ صمَّاءَ في عينٍ وفي أذنِ
مسلوبةُ الأمْنِ ممحو محاسنُها ... عيونُ سكانِها ممنوعَةُ الوسنِ
حتى أتاها ابنُ أمِّ المجدِ معتزماً ... لحسْمِ داءٍ بها بادٍ ومكتمنِ
فاليومَ عاد لها إنسانُ مقلتها ... فالدلسْتُ مشتملٌ منه على حضنِ
وأرخ ولايته وزير أخيه سابقاً ذو النعت الفائق الدر النظيم، الجمال محمد علي بن سليم، ببيتين أجاد فيهما كل الإجادة، وألقى الأدباء لحسن وصفهما البديع إليهما المقادة: وهما: من الخفيف:
حين بُشْرى الشريف أحمد وافَتْ ... ملأ الكون بشرها وتجدَّدْ
عاود التخْتُ مالكاً قلتُ أرَّخ ... عود يمنِ بذلكَ العود أحمد
وقلت أيضاً مؤرخاً لولايته الميمونة: من السريع:
قضى إلهُ العرشِ ربُّ السما ... أنَّكَ والي الفرش صَوَّانُها
وأنْكَ مِنْ بعدِ خراب بها ... حساً ومعنىً أنتَ عُمْرانها
قالَ حجايَ وهو في طفحةِ السُكْرِ منَ الأفراحِ نشوانُها
يجيدُ فيه ضبطُ تاريخِهِ ... أتَى إلى مكة سلطانُها(3/81)
لما كان يوم سابع ذي الحجة من السنة المذكورة: دخل مولانا الشريف أحمد من جهة أسفل مكة وصحبه المحمل الشامي، وجميع عساكر مصر، وجميع عساكر الشامي صالح باشا، وعساكر صاحب جدة أحمد باشا، وعسكر الرتبة القديمة والجديدة، وكان موكباً عظيماً، فحج بالناس على أحسن ما يكون، من الأمن والدعة والسكون.
وفي رابع عشر ذي الحجة: أمر بشنق سبعة أنفس من السراق.
ثم دخلت سنة ست وتسعين، في سابع محرم الحرام منها: قطع محمد ولد الحاج أحمد العصائبي المغربي يداه لسرقة بعد أن شفع فيه صاحب جدة إلى مولانا الشريف أحمد، فلم يشفعه إيثاراً لإقامة أحكام الدين، ودفعاً لأذية المسلمين. وفيها: كثرت الشرور والخصام، والدعاوي بين الأنام، الخواص والعوام، في الظلامات السابقات في الأملاك والحقوق والأوقاف، لما رأوا من العدل والإنصاف، واصطبر لضجيجهم والهذا، والتصديع والأذى، حتى أنصف المظلوم من ظالمه، ورد الحق إلى معالمه، كان الله له في الدارين، وبلغه من كل مأمول ما لا يضبطه الكم والكيف والأين.
وفيها ثاني عشر جمادى منها: قدم الوزير محمد علي بن سليم وزير الشريف سعد من بلاد اليمن، وقد خرج من مكة يوم خروج سيده الشريف من منى موسم سنة اثنتين وثمانين وألف، بعد أن رد عقاره الذي بيع في غيبته، وأخرج واضعي أيديهم عليه بعد أن سبقت دعوى بالوقفية، ووردت شهودها عند قاضي الشرع، فكتب له مولانا الشريف أحمد بكل ذلك، فوصل إلى مكة في التاريخ المذكور. وفيها: كانت وفاة العلامة أبى زكريا يحيى ابن الفقيه الصالح محمد النابلي الشاوي الملياني المغربي الجزائري، شيخنا العلامة، والمحقق الفهامة، إمام المعقول والمنقول، محرر الفروع والأصول. الفحل الذي لا يبارى في فنون العلوم، والسابق الذي لا يجارى في مضمار المنطوق والمفهوم. ولد بمدينة مليانة، ونشأ بمدينة الجزائر، وقرأ بها على جماعة، منهم: الشيخ سعيد مفتي الجزائر، والشيخ علي بن عبد الواحد الأنصاري، والمحقق محمد بن محمد بهلول السعدي، والشيخ مهدي.
وأخذ عنهم الفقه والحديث، وغيرهما من العلوم، وأجازه شيوخه، وتصدر للإفادة ببلده. وقدم مصر سنة أربع وسبعين وألف قاصداً الحج وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى القاهرة.
وأخذ عن العلامة سلطان المزاحي، وإمام العصر الشيخ العلامة محمد بن علاء الدين البابلي، والمحقق مولانا الشيخ على الشبرقلسي، وأجازوه بمروياتهم، ثم جلس للتدريس بالجامع الأزهر فدرس في مختصر خليل، وشرح الألفية للمرادي، وعقائد السنوسي وشروحها، وشرح الجُمَل للخونجي لابن عرفة في المنطق، ثم رحل إلى الروم، فدخل دمشق وعقد بجامع بني أمية درساً، وأخذ عنه جماعة بها وأجازهم، ثم دخل قسطنطينية العظمى، فعظمه مفتي السلطان يحيى المنقاري، والوزير الأعظم أحمد باشا الكبرلي، وحضر تجاه السلطان الأعظم فبحث مع العلماء وعرفوا فضله، ثم عاد إلى مصر، وولي بها تداريس في مدارس عديدة.
وله مؤلفات منها: حاشيته على أم البراهين نحو عشرين كراساً، وشرح على التسهيل لابن مالك، ونظم لامية في إعراب الجلالة جمع فيها أقاويل النحويين،و ما لهم من الكلام، وشرحها شرحاً حسناً.
قلت: قرأت عليه ليالي الموسم آخر حججه متن السنوسية في علم العقائد فكان في التقرير دونه السيل الهدار، والعباب الزاخر التيار، أملى في وجوه إعراب كلمة التوحيد، أربعمائة وخمسين وجهاً بالتعديد، فسبحان مفيض ما شاء على من شاء.
وله مؤلف في أصول النحو جعله على أسلوب الاقتراح للسيوطي. أتى فيه بكثير من الغرائب النحوية، أجاد فيه وجعله باسم مولانا السلطان الأعظم محمد بن إبراهيم خان، وقرَّظ عليه علماء القسطنطينية، منهم: العلامة المولى يحيى أفندي منقاري زاده. ولقد أشرفني ولده الشيخ عيسى ابن الشيخ يحيى على ذلك التصنيف، فرأيت على ظهر الكراس الأول منه تقريظ الأفندي المذكور بخطه ونصه: لا يخفى على الناقد البصير، أن هذا التحرير كنسج الحرير، ما نسج على منواله في هذا العصر في النحو ناح، لطيف بمطالعته تنشرح الصدور وتتلذذ الأرواح. انتهى.(3/82)
وكانت له - رحمه الله - قوة في البحث واستحضار للمسائل الغريبة، وسعة حفظ مفرطة، وبداهة جواب لا يضل صوب الصواب. كانت وفاته - رحمه الله - في هذه السنة المذكورة بقرية الطور قاصداً مكة فدفن هناك، فاستأذن ولده سيدي عيسى، صاحب مصر، فنبش عنه ونقله إلى مصر، ودفنه بالقرافة. ثم مات ولده المذكور في الفصل الحاصل بمصر في السنة التي بعدها ودفن هناك أيضاً - رحمه الله رحمة سعة - .
وفيها يوم الجمعة غرة رجب منها: كانت وفاة مولانا وشيخنا الشيخ أحمد بن عبد اللطيف البشبيشي الشافعي، شيخ المحققين، وأستاذ المدققين، وبقية الصالحين، وخاتمة العلماء العاملين، وصدور المدرسين. اشتهر صيته في الأمصار، وشاع فضله في الأقطار. انتفع به الحاضر والباد، ورحلت إليه الطلبة من أقاصي البلاد، فصار محط رحالهم، ومنتهى آمالهم، لحسن تقريره المسائل على أسهل وجه، وألطف تركيب، وأوجز عبارة حتى تخرج به جمع كثير في زمن يسير. ولد سنة إحدى وأربعين وألف ب " بشبيش " قرية من أعمال المحلة، وحفظ بها القرآن على العلامة سلطان المزاحي، ولازمه في الفقه والحديث والعربية والفرائض، وغيرها من العلوم نحو خمس عشرة سنة، ولازم أيضاً الضياء مولانا الشيخ على الشبرملسي في العقائد والنحو والأصول حتى تخرج به، وأخذ عن حافظ العصر مولانا محمد البابلي، وعن شافعي زمانه العلامة محمد الشوبري، والشيخ ياسين الحمصي، والعلامة سري الدين الحنفي، والشيخ حسين الخفاجي، والشيخ أحمد ابن عمران الفاسي وغيرهم. وتصدر للإقراء والتدريس بالجامع الأزهر. واجتمعت عليه الأفاضل، وجلس في محل تدريس شيخه سلطان المزاحي فلازمه جماعته، ودرس في العلوم الشرعية والعقلية، وحج إلى بيت الله الحرام في موسم سنة اثنتين وتسعين، وجاور بمكة ثلاثاً أو أربعاً وتسعين مجتهداً في الإفادة والتدريس، ناشراً در علمه النفيس. ثم عزم موسم سنة أربع وتسعين صحبة الحاج المصري إلى القاهرة.
وحصل له أواخر السنة المذكورة بمكة توعك في جسمه ارتحل منها، وهو في أثر منه، وأقام بمصر إلى أن كانت وفاته في التاريخ المذكور من السنة المذكورة، أعني: سنة ست وتسعين ببلده بشبيش، رحمه الله رحمة واسعة.
وفي يوم الجمعة سابع عشر شعبان منها: دخل شيخ آل ظفير - سلامة بن مرشد ابن صويت - مكة في أمان الله، وأمان مولانا الشريف أحمد بن زيد خاصة، والأشراف جميعهم عامة، وألقى السلم ودخل تحت الطاعة، فأمر له الشريف أحمد بمضارب نصبت بالمحصب، وأقام قريبا من شهرين، فذكر مولانا الشريف للأشراف أن ابن صويت جاءكم بأهله وحلته، وقد دخل علي، فإن عفوتم فأنتم محل العفو فها هو قد استسلم، فأجابوه بالسماح، وكتبوا خطوطهم بالسماح عن ابن صويت عن جنايته، وذلك ببركة سيد الجميع مولانا الشريف أحمد نظر الله إليه بعين عنايته.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وألف، في يوم الثلاثاء عاشر ربيع الثاني منها: برز مولانا الشريف أحمد - رحمه الله تعالى - في موكب عظيم قاصداً الشرق ومنه إلى بلاد عنزة، فأقام بالمنحنى ثمانية أيام، وفي يوم الخميس تاسع الشهر المذكور بعد شروق الشمس توجه إلى حيث قصد في دعة الله وكلاءته.
وفي ليلة الإثنين ثالث عشري ربيع الآخر وقع بيت بحارة الشامية لبعض تجار المغاربة، سقطت سقوفه، فهلك تحته عشرة أنفس ذكور وإناث، منهم الشريفة سلمى بنت السيد عبد الرحمن الشهير بالأسد، وسبب ذلك سقوط جدار لجاره على سطحه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وفي سابع عشري الشهر المذكور: وصل قاصد من الديار الرومية، يخبر بأن سليمان مير أخور ولي الوزارة العظمى، ومعه منه إلى مولانا الشريف أحمد - رحمه الله - فرو عظيم من السمور بمقلب أخضر، وكان مولانا الشريف بالمبعوث، فتوجه به إليه الرسول، فقابلته العساكر حين وصوله إلى المبعوث، ولبسه مولانا الشريف، وكتب له الجواب ومضى.
وفي ليلة السبت تاسع عشر جمادى الأولى: توفي الخواجا زين العابدين حميدان والد الوزير عثمان فجأة، بات تلك الليلة فأصبح ميتاً، فدفن ضحى اليوم المذكور، رحمه الله تعالى وأسبغ رضوانه عليه ووالى.
وفي يوم الخميس رابع عشري الشهر المذكور: كان انتقال مولانا السيد محمد بن يعلى بن حمزة كذلك فجأة بالخبت اليماني، فحمل إلى مكة ودفن بالمعلاة، رحمه الله.(3/83)
وفي سادس عشري جمادى الآخرة: سطا على بعض الأتراك عبد له بخنجر فمات بعد خمسة أيام، فقطع الغلام يداه ورجلاه وبرئ وعاش.
وفي يوم الخميس سادس عشر شوال: وصل مولانا الشريف أحمد - رحمه الله تعالى - إلى مدينة جده صلى الله عليه وسلم عائداً من بلاد عنزة، فنزل بالمحل المعروف ببئر ميزان بالقرب منها، وخرج إليه من أهلها القضاة والأعيان، فقال به يومه، ثم وصل منه إلى ضريح سيد الشهداء عم جده - عليهما الصلاة والسلام - فبات به ليلة الجمعة، ثم ركب منه فدخل المدينة يوم الجمعة سابع عشر الشهر المذكور، فزار قبر جده، وتملا بأنوار سعده.
وفي يوم الأحد سادس عشري الشهر المذكور: وصل قاصد من الوزير المذكور أيضاً بهدية منها فرو وسيف لمولانا المرحوم الشريف، ووصل معه قفطان لشيخ الحرم النبوي داود أغا من الوزير المذكور أيضاً، فلبسه شيخ الحرم بالمسجد النبوي، واستمر مولانا الشريف بالمدينة الشريفة إلى أن أبرز منها ثاني ذي القعدة الحرام، ودخل مكة محرماً بالعمرة ليلة هلال ذي الحجة من السنة المذكورة، فطاف لعمرته وسعى - شكر الله سعيه - ، ثم عاد إلى مخيمه بالزاهر على عادة أسلافه الأكرمين، ثم دخل صبيحة ذلك اليوم في موكب يبهر الناظرين، ويسر البادين والحاضرين.
وفي يوم الأربعاء رابع ذي الحجة من السنة المذكورة: وصل إلى مكة من الأبواب العالية قفطان من السمور الملوكي عاليه صوف أبيض، يصحبه مرسوم سلطاني، ومرقوم خاقاني، يفصح بالثناء على مولانا الشريف، بالنعت الأكرم الأمجد، فألبسه بالحطيم، وقرئ ذلك المنشور الكريم، وكان الواصل به فخر الأغوات العظام، إبراهيم أغا فكان أعظم موكب في ذلك المقام، وسر به الخاص والعام.
وفي يوم الخميس عشري ذي الحجة منها: أمر صاحب جدة أحمد باشا بهدم كل خلوة بالمسجد الحرام فهدمت، وما لم يمكن هدمه منها لكونه من بنية المسجد في نفس جداره أو لكونه فوقه بناء سده ببناء مدعياً أن لذلك سبباً هو سماعه بحصول فسق في بعضها، والله أعلم بالحقائق.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين، وكان هلالها بالإثنين، ففي يوم الثلاثاء تاسع محرم الحرام منها كانت واقعة من أحمد باشا المذكور إلى الأفندي عبد الله عتاقي زاده مفتي السادة الحنفية ثار بسببها الخاص والعام، فاستدعى إلى الحاكم الشرعي، فاعتذر عن الحضور، خشية ما لا يخفى على العاقل من حوادث الأمور. ثم استدعاه مولانا الشريف ليلاً لذلك المرام، وقبح عليه فعله، وأوقر سمعه بأليم الكلام، فاعترف بخطئه وخطله، واستعفى طالباً التجاوز عن زيغه وزللَه.
وفيها أواخر المحرم منها: كان ابتداء عمل الحائط على المقبرة، ابتدئ، من أعلى ثنيتي الحجون بجدرين واصلين إلى الطريق بين قبتي الشريف أبي نمي، وولده الشريف حسن منعطفين من ذلك الطريق، أحدهما: صُعُدا يتصل إلى قرب حائط ابن دخان، والآخر: سُفُلا إلى المحل المعروف بالحافظية فصلا بأبواب مرتفعة الأعتاب؛ صوناً للمقبرة عن انتهاك حرمة قبور المسلمين، وعن التلويث والوقيد بنزول الحجاج والمسافرين، وكان هذا الخير مسطراً في صحائف الوزير الأعظم سليمان باشا، ومتولي ذلك وزير مكة عثمان ابن الخواجا زين العابدين حميدان، وتلك طرق خير رضى الله عن قاصديها.
هذا مما أحدث في هذه السنة، نسأله سبحانه اللطف بنا وبالمسلمين فيها وفيما يليها.
وفيها - ليلة الثلاثاء لأربع خلون من ربيع الآخر منها - : كانت وفاة الشيخ الصالح، ذي القدم الراسخ الرابح، العلامة الفهامة الراقي أوج المعزة في الفضل والكرامة، إمام الطريقة والحقيقة، والمتكلم على معانيهما بالإشارات الدقيقة. شاهد مشاهد أهل العرفان، عاقد عقائد أكاليله التي يخرج منها اللؤلؤ والمرجان، منور لبصر والبصيرة، موصل الحضور بحضرة القصيرة التي عنها يد من سواه قصيرة، مولانا وعزيزنا المرحوم، بسحاب الرضوان المركوم، مولانا الشيخ محمد الشهير البخشي الدمشقي - رحمه الله برحمته الواسعة وغفر له مغفرة جامعة - توفي بمكة المشرفة في التاريخ المذكور، ودفن بالمعلاة أمام قبة السيدة خديجة أم المؤمنين، قد أناف على الستين.(3/84)
وفيها يوم الخميس عشري جمادى الأولى منها: وقع النداء بأمر مولانا الشريف أحمد - رحمه الله تعالى - أن لا يقيم بمكة أحد من جنس التكرور، ومن وجد بعد ثلاث عوقب بالنكال. فتهيأوا واجتمعوا في اليوم الثالث آخر النهار بطرف المعلاة، قرءوا الفاتحة، ثم توجهوا، البعض إلى المدينة المنورة، والبعض الآخر إلى جدة، والبعض إلى قرية الطائف.
وسبب ذلك على ما قيل: أنه بلغ مولانا الشريف تأتي مفاسد منهم، منها وقوع سرقات من بعضهم، وفشو عمل السحر منهم في أشرف بلاد الله، فكان ذلك لذلك، والله يتولى السرائر.
وفيها يوم الثلاثاء ثامن عشري رجب منها: وصل قاصد من ينبع يخبر بورود مستلم محمد بك المعزول به أحمد باشا صاحب جدة. ثم في ليلة الخميس غرة شعبان منها: وصل المستلم بصورة أمر سلطاني يعزل أحمد باشا هذا صاحب جدة، وشيخ حرم مكة، والطلب الحثيث له بسرعة، وعلى الصورة خط قاضي عسكر مصر، والعدول بولاية السنجق محمد بك مكانه، فصعد هو ونائب الحرم السيد محمد، وقد فوض السنجق النيابة إليه إلى مولانا الشريف المرحوم، فألبسهما مولانا الشريف قفطانين، وأقر منهما الخاطر والعين، ثم نزل فسجله قاضي الشرع، وأرسل مولانا الشريف إلى أحمد باشا يخبره بوصول المستلم وما معه، وأقام المستلم يومه بمكة، وصلى الجمعة ثانيه، ثم توجه إليه إلى جدة المعمورة، فقابله المقابل الحسن، وألبسه قفطاناً، وجعل له حال دخوله موكباً عظيماً، ومد له سماطاً.
ثم في يوم الجمعة تاسع شعبان: وصل أحمد باشا إلى مكة، وتأهب للرحيل، على غاية السرعة والتعجيل، وقاد إليه مولانا المرحوم الشريف أحمد - على طريق الرعاية والمعونة - نحو العشرين من نجائب الركائب الميمونة، وكذلك قاد إليه مولانا الشريف أحمد متع الله بحياته ثنتى عشرة من الركائب، إحداهن مكملة الآلة بالشداد المحلى وما يتبعه.
ثم لما كان يوم الإثنين عاشر الشهر المزبور: توجه خارجاً من ثنية الحجون، في خيل نحو الثلاثين إذ يُعدون، مشى معه السيد علي بن أحمد بن علي، وبعض القواد إلى المأمن.
وفي يوم الإثنين سادس عشري الشهر المذكور: وصل إلى مكة السنجق محمد بك أمير اللواء المتقدم الذكر، فتُلقى بالآلاى والموكب العظيم، فأقام إلى يوم الجمعة مستهل رمضان، وصلى الجمعة، ونزل جدة يومه ذاك.
وفي هذا الشهر: ورد الخبر عن قرية الطائف، بأن قد طاف عليها من الدبى طائف، فظل يتهافت على الأشجار والزروع، وعلا تلك الساحات والربوع، يأكل ما دب عليه ودرج، ويقرئ الناس كتاب الشدة بعد الفرج، وأناف على القمَّل والضفادع، وبذل نفسه لهم في المآكل والمشارب والمضاجع، وترك الأشجار عارية كأنها محروقة، والأرض من تلك البقول والقطاني مجردة مطروقة.
وفي يوم الجمعة ثاني عشر ذي القعدة الحرام من السنة المذكوره: ورد مبشر يخبر بنصرة سلطان المسلمين، على الكفرة أعداء الدين، وأنه قد قتل، وأسر منهم ما ينيف على سبعين ألفاً، واسترد بعض ما استولوا عليه من البلاد، والحمد لله على حصول المراد، وأن القاصد السلطاني واصل عقبه وهو بالشام، والله المؤيد لملة الإسلام.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وألف كان هلال محرمها بالجمعة، فيها يوم الإثنين حادي عشر محرمها: تقلد منصب الوزارة المكية رفيع المحل والشان، حضرة يوسف أغا سنان، وانفصل عنه الخواجا عثمان بن زين العابدين حميدان.(3/85)
وفيها يوم الأحد تاسع صفر منها: كان ابتداء فتنة بين مولانا المرحوم الشريف أحمد بن زيد، ومولانا الشريف أحمد بن غالب متع الله بحياته، لأمر جار على القواعد نقمه عليه لم تطب به نفسه طلب منه نقضه فامتنع، فخرج مولانا الشريف متع الله بحياته ليلة الثلاثاء حادي عشر الشهر المذكور إلى محله المعروف بالركاني من وادي مر، وانحاز إليه جمهور السادة الأشراف على مثل رأيه، وأعطوه مواثيقهم أن العصا واحدة، ولم يرجع عنه منهم إلا اثنان، وأخذ أجلة خمسين يوماً ثم عشرة، ثم رحل هو ومن معه قبل تمامها أواسط ربيع الأول فتوجهوا مع سلامة الله وكلاءته إلى جهة مصر. ثم في يوم سابع عشر الشهر المذكور سير مولانا المرحوم الشريف أحمد خلفهم من العسكر مائتين وخمسين اتفاقاً، ثم في يوم الإثنين ثاني عشري الشهر أتبعهم بالسيد باز بن هاشم في عشرة من بني أبيه، وبالسيد ناصر في عشرة من ذوي جود الله، وبالسيد عبد المحسن في عشرة من ذوي باز.
وفي اليوم الثامن من ربيع الاَخر: برزت رتبة من العسكر إلى بلاد الفرع.
وفيها ليلة الخميس غرة جمادى الأولى منها: اتفق بمكة اجتماع نساء ليلاً لفرح بمحل قرية عشاش بطرف شعب عامر، فشبت نار ضعيفة في بعضها، فأطفئت في لحال بقليل ماء، ثم صرخت حرمة كأنها بنت إبليس: النار، يا نساء، فركب بعضهن بعضاً، وازدحمن على الخروج مستبقات الباب، وقد أغلق خوفاً على متاعهن من النهب فتحايلن عليه فسقط فابتدرن الخروج، وكان في عتبة الباب ارتفاع وقع بعضهن على بعض فمات أربع منهن في الحال، وتكسر نحو خمس وعشرين، وبعضهن أخذه الخبل من الروعة، فما شاء الله كان.
وفيها - في الساعة الثالثة من يوم الخميس الثاني والعشرين من الشهر المذكور - : انتقل إلى رحمة مولاه الكريم مولانا وسيدنا سلطان الحرمين الشريفين، حامي حمى المحلين المنيفين، سلالة السادة القادة، الحال منهم محل اليتيمة من القلادة، مولانا وسيدنا المرحوم الشريف أحمد ابن المرحوم الشريف زيد تغمده الله برحمته ورضوانه، وأحله أعلى فراديس جنانه. وتولى غسله السيد محمد النعمي، وأعانه مولانا السيد ثقبة بن قتادة، ومولانا السيد محمد بن حمود، والشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ حنيف الدين المرشدي، ويوسف الملقب شيخ القراء، ومن لابد من الأتباع، وصلى عليه بعد صلاة العصر يومه بعد فتح الكعبة الشريفة، ودعاء الريس له وترحمه عليه بأعلى قبة زمزم - مولانا الشيخ أحمد ابن الشيخ محمد النخلي، ودفن على والده المرحوم الشريف زيد بقبة الشريف أبي طالب، رحمهم الله تعالى برحمته، وأسكنهم فسيح جنته.
كانت مدة ولايته باعتبار توليته بالأبواب العالية ثلاث سنوات، وسبعة أشهر، وتسعة عشر يوماً، وباعتبار ورود الخبر إلى مكة وجلوس ابن أخيه السيد مساعد قائماً عنه ثلاث سنوات، وخمسة أشهر، وثلاثة وعشرين يوماً، رحمه الله تعالى. ومما قيل فيه من الشعر: قول صاحبنا الفاضل الشيخ سالم بن أحمد بن إدريس اليمني الصعدي: من الكامل:
سمَحَ الزمانُ لنا بملكِ بني حَسَنْ ... فلذا شهدْنا أنه زمَنٌ حَسَن
لله من زمنِ صفَت أوقاتُهُ ... بدوامِ دولةِ مَنْ له العليا شجَنْ
ألمالكُ الملكُ المؤيدُ أحمد بْ ... نُ المنتقَى زيد المليك المؤتمَنْ
رأسُ الملوكِ يمينُهُمْ زندُ الرعية كهفُهُمْ يومَ المخاوفِ والمحنْ
ملك أقام السعْد يخدمُهُ على ... رَغْمِ الحسودِ أخي الضغائِنِ والإحَنْ
ملك له العز المخلدُ لم يزل ... عبداً يحف ركابه طول الزمَنْ
ملك غدا المجدُ الأَثِيلُ أَلِيَّةً ... نعلاً لأخمصه المصانةِ عَنْ دَرَن
ملك له الفخرُ المؤيدُ قد غدا ... من جملةِ الأنصارِ والجُنْدِ العَوَن
ملك تتوجَ بالسيادةِ والعلا ... وتدرع الفضلَ الذي لم يمتهَن
ملك له في الجودِ شهرةُ حاتمٍ ... وسماحَةُ الغيثِ الملثِّ إذا هَتَن
ملك إذا نزلَ الفقيرُ بسوحِهِ ... أنساه تذكارَ الأقاربِ والوطَن
ملكٌ إذا أم الفقيرُ نوالَهُ ... أضحَى يطوقه أعاجيب المِنَن(3/86)
ملك له يومَ العطاءِ طلاقةُ ال ... وجهِ الذي ماءُ الحياءِ به قطَنْ
ملك له الخلْقُ الوسيمُ كذا له ال ... خُلُقُ العظيمُ كذا له الفعلُ الحسَنْ
من آل طه والبتولِ وحَيدرِ ... من نخبةِ الأشرافِ أبناءِ الحسَنْ
من سادة أضحَى حديثُ علاهم ... تالله يَطْوِى نشره عنا الحَزَنْ
من قادةٍ قطعوا ببيضِ سيوفِهِم ... تلكَ المواضى دابِرَ القومِ الخوَنْ
من عُصبةٍ ساروا على سَنَن الهدى ... قدماً فيا نُعما بذَيَّاكَ السنَنْ
من فتيةٍ شُمِّ الأنوفِ القائمي ... ن بحَملِ أعباءِ الفرائضِ والسنَنْ
وسليل زيدِ الملك هذا المرتضَى ... هو خيرُهُمْ نفساً وأزكاهُمْ هدنْ
هذا الذي ملأ البِقاعَ أمانهُ ... فأراع جيشَ الخوفِ بعد أن اطمأن
حتى رَعَى ذئبُ الفلاةِ مع الظبا ... وتكحَلَ الجفنُ المسهدُ بالوسَنْ
هذا الذي طافَت مكارمُهُ بأر ... ضِ الصينِ بالروم المعمرِ باليمن
هذا الذي سارَت عوارفُهُ من ال ... بلدِ الحرامِ إلى العراقِ إلى عَدَنْ
وإلى مآثر طيبةَ الغَرا إلى ... أرضِ الحجاز إلى الخبوتِ إلى قرَن
هذا الذي بكمالِ وافرِ عدلِهِ ... خمدَتْ لظَى نارِ المظالمِ والفتنْ
صعبُ العزائم من فرى بصفاحِهِ ... ورماحه مَنْ شا ومَنْ شا قد طَعَنْ
ثبتُ الجنانِ إذا التقى الصفانِ أث ... بت من كسا جُنن البسالة والمننْ
طلقُ اللسانِ إذا أشار إلى البيا ... نِ أجَل من وهب الفصاحَةَ والفطَن
يابن الكرام الأقدمينَ ومَنْ لهم ... غُرَرُ المعالِي لم تزل أبداً خدَنْ
يأيها الملك الذي حَمِدَ الورَى ... أفعالَهُ اللاتي بها الخيرُ اقترَنْ
خذها قصيدةَ مخلصٍ في ودِّهِ ... لكَ في حميدِ السر منه وفي العلَن
غراء هذبَها الذكاءُ وصاغَها ال ... فكر الذي هو بالمتاعِبِ في وَهَنْ
هذا ولولا صحبَةُ الصبْرِ الجمي ... لِ لفارَقَ الأهلِينَ واصطَحَبَ الظعَنْ
فأجز منضِّدَها اللجين فإنه ... رجل عليه الدهرُ بالدينارِ ضَن
واسلَم ودُمْ طولَ الزمانِ مكرماً ... ما غردَ القمريْ الطروبُ على فَنَنْ
وغدَت جميعُ الخلقِ تنشدُ فرحةَ ... سَمَحَ الزمانُ لنا بملكِ بني حَسَنْ
وقولي رثاء فيه وتأريخاً لوفاته مخاطباً نجله السعيد عبد المحسن من مخلع البسيط:
فاجأنا دهْرُنا المفاجِي ... سطا علينا بطُولِ أَيْدِي
طاشَ حجانا لما دهانا ... بمَنْ حجانا صُروف كَيْدِ
وَهَى عمادُ الوجودِ خرَتْ ... سماه وانهارَ كل حَيدِ
هدَّتْ رواسي ذُرَى المعالِي ... دُكتْ شناخيبُ كل طَوْدِ
لموتِ سلطانِنا المرجَّى ... أبي سليمانَ زَيْن أَيْدِي
ألملكُ النائفُ المراقي ... وشائدُ العزِّ أَيَ شَيْدِ
حامي حِمَى الملكِ بالعوالِي ... وتاركُ الصيدِ شِبْهَ صَيْدِ
أكرمُ مَنْ نحوه المطايا ... تُزْجى بها دلّها وهَيْدِ
قِيدَتْ إليه الأمورُ طوعاً ... يرسفُ في غُلها بقَيْدِ
قرتْ عيونٌ جفَتْ كراها ... به كذا الأرضُ بعد مَيْدِ
شب فؤاد به فلما ... أودى به اعتاضَ شيْبَ فَوْدِ
ناحَتْ عليه بكل صوتٍ ... مكة من ناشيءٍ وعَوْدِ
فأعظمَ الله فيه أجْرَ ال ... جميعِ خُصِّصْتَ فضْلَ زَوْدِ
ألهمَكَ الصبْرَ في رضاهُ ... رَوَّى ثراه سحابُ جودِ
أسكنَه منزلاً رفيعاً ... في جنةِ ألخلدِ خَيْر فَيْدِ(3/87)
دونَكَ بشرَى بفالِ خيرِ ... تاريخ عامٍ بضبط جَيْدِ
دار نعيمٍ حَبَى كريم ... قَرَّ بها أحمد بْن زَيْدِ
ثم وليها الشريف سعيد ابن الشريف سعد ابن الشريف زيد ابن الشريف محسن بن حسين بن حسن، وذلك أنه لما توفي مولانا المرحوم الشريف أحمد بن زيد - تغمده الله بالرحمة - قبل الشروع في تجهيزه، أرسل مولانا الشريف سعيد - حفظه الله تعالى - إلى أفندي الشرع الشريف يطلب منه قفطاناً، وقد حضرت السادة الفقهاء، وكبار العساكر عند الأفندي، فقال مولانا الأفندي: لا بأس أن تصبروا وتمهلوا نحو خمسة أيام نرسل لأكابر الأشراف، ونرى من يختارونه فيكون هو، فامتنع أغاة الينكشارية، وقال: أنا لا أريد مصلحة، لا أريد إلا صلاح البلاد، وإذا لم يتول هذا الرجل تلفت البلافى، فتأثر الأفندي من كلامه، وفهم تعريضه به، فاعتذر الأغا إلى الأفندي في الحال، فأعطاه الأفندي القفطان على أن يلبسه الشريف قائم مقام إلى أن يرسلوا إلى الأبواب العلية، ويعرّفوا بالحال، فأتوا بالقفطان إلى الشريف.سعيد، وقالوا له ما قاله الأفندي، فقال: لا ألبسه إلا استقلالاً، أنا ابن سعد بن زيد،، وأطلق مناديه بالبلاد، ومعه السيد عدنان بن حسن، والسيد محمد بن سرور وغيرهما.
ثم أمر بالزينة ثلاثة أيام، ثم أمر بزينة يومين ثم يومين، إلى أن كملت اثنى عشر يوماً.
وفي يوم الإثنين سادس عشري الشهر المذكور شهر جمادى الأولى: وصل مورق من ينبع من السيد عبد المحسن يخبر والده - على ظن حياته - بوصول قابجي يسمى أحمد أغا صحبته مرسوم شريف سلطاني، وقفطان وسيف مرهف باسم والده مولانا الشريف أحمد، وقفطان لسنجق جلى الأمير محمد بك، فكان وصول مورقه في اليوم المذكور بعد وفاة والده بأربعة أيام.
وفيها ليلة الثلاثاء ثالث جمادى الآخرة: وصل السيد محمد - مير أخور المرحوم الشريف أحمد الذي كان قد أرسله إلى الأبواب - تقدم عن القابجي بيومين.
فى سادس الشهر المذكور: دخلت القفاطين السلطانية، واجتمعت السادة والأعيان والكبار على العادة في الحطيم، ولبس القفطان الشريف سعيد، وتمنطق بالصارم المجوهر نصابه من حجر اليشم المفتخر، وقرئ المرسوم السلطاني المتوج بالاسم الشريف السليماني بعد أن حول خطابه إلى اسم الشريف سعيد بن سعد فيه التصريح بأن ابتداء جلوس مولانا السلطان سليمان على تخت السلطنة كان يوم السبت ثاني محرم الحرام من السنة المذكورة، أعني: سنة تسع وتسعين وألف.
ثم نودي بالزينة سبعة أيام، ثم بعد مدة يسيرة نزل القابجي المذكور إلى جدة بالقفطان السلطاني إلى حضرة السنجق المكرم أمير اللواء الأمير محمد بك، فألبسه القفطان الذي هو له، وقابله من الإكرام بما كان أهله، وكان يوماً مشهوداً.
وفيها ليلة الخميس رابع عشر الشهر المذكور - أعنى: جمادى الآخرة - : دخل مكة السيد عبد المحسن، وابن عمه السيد مساعد، وغالب الذين كانوا معهما.
وفي سابع عشره خرج على سبعة عشر أصحاب ركائب زوّار قصدوا طريق زقاقة بعد ركوبهم من المنزل المسمى مستورة بساعة خمس مردفات معهم خمس من البندق رموهم بهن، فأخذوهم ما عدا ثلاثة أنفس فروا راجعين إلى مستورة، فخرجت عليهم أربع مردفات كانت كامنة، فأخذوهم فرجع الجميع إلى مستورة، في حالة ليست بمستورة، ولله الأمر لا راد لما أراد.
وفي تاسع عشر الشهر المذكور: كانت بالمدينة واقعة السيد محمد البرزنجي مع السيد محمود الكرديين، ادّعى على السيد محمد ضربُ السيد محمود، فدعاه الحاكم الشرعي أولاً وثانياً، ثم أتاه قهراً على ما سمع، واجتمعت العساكر من العامة لسماع الدعوى، فأنكر السيد محمد الفعل، ووقع بينه وبين الأفندي حال الله أعلم بحقيقته آل الأمر فيه إلى حبسه بأسفل القلعة الكبيرة رأس القلعة. وسيأتي ذكر تسحُّبه وخلوصه من ذلك المحل إن شاء الله تعالى.
وفي يوم الجمعة ثاني عشر الشهر المذكور: كان بروز الشيخ سعيد ابن المرحوم الشيخ محمد المنوفي صحبة العرض إلى الأبواب العالية في شأن تولية الشريف سعيد بن سعد مكة، وطلب التأييد بالأمر السلطاني، فعيق عن قصده قبل مجاوزته المحل المسمى بالمويلح، وأصبح عذبه الفرات مويلح.(3/88)
وفي ليلة الأحد حادي عشري شعبان: وصلت ثلاثة نجاب من بني صخر من صالح باشا صحبتهم مكاتيب من مولانا الشريف سعد تعزية لابنة الشريف سعيد وتهنئة. هكذا أشيع، والله أعلم بالحقائق.
وفي ليلة الثلاثاء غرة رمضان: وصل الشيخ سعيد ابن المرحرم الشيخ محمد المنوفي بحراً إلى جدة ثم إلى مكة، فدخلها عشاء الليلة المذكورة، وقصد إلى بيت الوزير يوسف السقطي - وكان الشريف سعيد إذ ذاك عنده - فأخبره بما وقع له في سفرته.
هذا وأما الخبر عن مولانا الشريف أحمد متع الله بحياته، فإنه لما سار هو ومن معه من السالدة والأتبأع في شهر ربيع الأول مضى إلى أن انتهى به السير إلى محل يسمى بحراً بين المحل المسمى بالأزلم، والمحل المسمى كفاف منزلتي الحاج المصري فأقام به، ووصل إليه به سابع عشر جمادى الأولى القابجي أحمد أغا صاحب القفطان المتقدم ذكره، فقابله مولانا الشريف متع الله بحياته بغاية الإكرام، ونهاية الإجلال والإعظام. كما هو شأن طبعه الشريف، ودأب خيمه الزكي المنيف، وأقام عنده يومين، ثم رحل بما أرسل به لمن أرسل إليه.
ثم إن مولانا الشريف - متع الله بحياته - أرسل مولانا السيد شبير ابن السيد مبارك معه السيد دزاج الهجالي في جماعة من الأتباع إلى محافظ مضر حسن باشا بلغه الله من الخيرات ما شاء بعرض يتضمن ما أراده.
وكان رحيل السيد شبير ومن معه يوم الخميس ثاني عشري الشهر المزبور، أعني جمادى الأولى، وهو اليوم الذي توفي فيه المرحوم الشريف أحمد، فدخلوا مصر، وأوصلوه العرض.
ولما كان يوم سابع عشر جمادى الآخرة: وصل إلى مصر خبر وفاة المرحوم الشريف أحمد، فحينئذ أخرج لهم أمراً وقفطاناً باسم مولانا الشريف أحمد متع الله بحياته، وسيره مع كيخيته، وضم إليه أغوات البُلكات من كل بلك جوربجي.
فخرجوا من مصر ثاني عشري شعبان المعظم.
ثم أعرض إلى الأبواب العالية لمولانا الشريف أحمد - متع الله بحياته - بالسير الشديد على خيل البريد لتأييده بالأمر السلطاني والقفطان الخاقاني.
ثم إن السيد شبير بعد خروجه من مصر أرسل إلى مولانا الشريف متع الله بحياته: إنا واصلون إليكم عن قريب صحبة القفطان، ومن معه، فأقبل مولانا الشريف أحمد - متع الله بحياته - هو والسادة الأشراف، وخدامهم وأتباعهم إلى الينبع، فأقام بها أياماً، ثم منها إلى قرية بدر، وكان دخوله إليها خامس عشري شهر شعبان المعظم فأقام بها.
ثم لما كان يوم الجمعة ثامن عشر رمضان: وصل إليه القفطان، ومن معه من الأغوات، فألبسه بمسجد الغمامة منها، وهو الموضع الذي بني فيه العريش للنبي صلى الله عليه وسلم فقعد فيه يوم وقعة بدر المشهورة؛ كما ذكره المؤرخون الأقدمون، ثم ساروا جميعاً مقبلين إلى مكة - زادها الله شرفاً - وقد كان جاء يوم الإثنين رابع عشر رمضان المذكور مورق إلى مكة من حضرة السنجق محمد بك صحبة مكتوب إلى حضرة الأفندي، وأكأبر عساكر مصر مضمونه: أنه قد جاءني صورة أمر من باشا مصر بولاية الشريف أحمد بن غالب، وأن يبرزوا لمقابلة القفطان ومن معه، فلما وصل ذلك المكتوب طلعوا إلى الشريف سعيد، وأخبروه بما فيه، وكان الشريف سعيد قد سمع بأن قد نودي باسم الشريف أحمد في جدة، فأجابهم بقوله إن كان بيد السيد أحمد بن غالب أو السنجق أمر سلطاني، فليأتوا به ونحن مطيعون للأمر السلطاني، وإن كان غير سلطاني فحكم الباشا على مصر وصعيدها، يعزل فيه ويولى من شاء، وما دون مكة إلا السيف، فقال له الأفندي عند ذلك: يا مولانا هذا وزير مصر يعزل ويولى، فكذبه صريحاً وقال: يعزل ويولى لمثلك، ثم قال لكبار العساكر: أنا لا أمنع من يريد الخروج، ولكن اعلموا أن أول خارج أول من أضع فيه السيف، وإلا فالزموا بيوتكم لا معنا ولا علينا.
ثم سطركتاباً للسنجق قال له فيه.(3/89)
مثل قوله الأول: إن كان معك أمر سلطاني فأقبل أنت ومن معك، وإلا فارجع من حيث جئت، فوصل الكتاب إلى السنجق، وهو بالمحل المسمى بحرة من طريق جدة، فأعاد السنجق الجواب: لابد من الدخول، فلما سمع الشريف سعيد هذا الجواب أمر عساكره بصعود المنائر، وشحنت بيوت أعلى مكة وأسفلها بالعسكر، وانتقبوا في جدرها متارس حصار، وأرسل بنحو خمسين خيالاً وعشرين دباباً عليهم السيد حسن بن عبد الكريم بن حسن بن علي بن باز، وقال: أينما لقيتموه فردوه فإن رجع، وإلا فكذا وكذا، فخرجوا بعد صلاة العشاء حتى واجهوا مخيمه مقبلاً على أدنى محل إلى مكة فردوهم، ثم ساروا هنيهة حتى لاقوه، فتقدم إليه السيد حسن المذكور، وقال: يا سنجق يقول لك الشريف ارجع وإلا كذا في هذا المكان، من حذر فقد أنذر.
ثم قال لمن في صحبة السنجق من الأشراف وهم السيد محمد ابن السيد مساعد، والسيد عبد الله بن أحمد الحارث، والسيد صالح بن السيد مساعد: يقول لكم الشريف: ما لكم دخول ديرتي ارجعوا من حيث جئتم، فرجعوا، ثم رجع السيد حسن فوجد مورقاً من الأفندي، وكبار العسكر إلى السنجق يعتذرون عن الخروج إلى ملاقاته، ويأمرونه بالدخول ليلاً هو ومن معه إلى مدرسة الأفندي ليكون أمراً بليل، فازداد بهم ريباً إلى ريب هكذا أشيع في البلاد، وكذا أشيع ليلة الإثنين حادي عشري رمضان أن بعض عسكر رتبة الفرع مقبل إلى مكة لغرض له وجد مكتوباً مع مورق أرسله محمد أغا البغدادي إلى مولانا الشريف أحمد متع الله بحياته، فأوصله إلى الشريف سعيد فقرأه ودعا البغدادي بعد صلاة التراويح، ووبخه فقال: ما وقع مني شيء من هذا، وحلف بحياته أنه ما كاتب، فأظهر له الشريف ذلك المكتوب، ثم أمر به فضم وزنجر، واستدعي بعبده فأخذ من الحجر المطهر، فإمر بضمه مع سيده فرمي برأسيهما من ليلتهما بأقصى أجياد أبي القاسم، وكسرت إبواب بيوته، وأخذ جميع ما فيها، وكان شيئاً كثيراً من أنواع كثيرة بعد أن حاصر فيها بالبندق أربعة من عبيده رأسهم عبد حبشي، يقال له: شاهين نحو المائتين من عبد وعسكري إلى تذكير الصبح، وكمن شاهين خلف الباب، فلما كسر ودُخل عليه طعن أول داخل فقتله، ثم قتلته العسكر عند باب الشريف، وحمل قتيلاً وألقي في الواسعة، ولكل أجل كتاب.
ثم إن حضرة السنجق محمد بك استقبل مولانا الشريف أحمد - متع الله بحياته - ومن معه من السادة الأشراف، والأغوات بالآلاى والنوبة عند انفصالهم من أدنى ملاوي وادي مر، فواجههم وحياهم ثم دخلوه معاً جميعاً، ثم ورد عليهم به مولانا - أحمد ابن السيد سعيد بن شنبر بن حسن، فركب إليه مولانا الشريف - متع الله بحياته - وتلقاه من بُعد، واعتنقا بخالص الصدقة والود، وأتاه من العنلة في قريب خمسين عنان، كان الله له حيث كان.
وفي ليلة الثلاثاء تاسع عشري رمضان المزبور: وصل الخبر أن مولانا الشريف أحمد - متع الله بحياته - نزل بوادي مر هو والسادة الأشراف والسنجق، ومن معهم فأمر الشريف سعيد حينئذ الفعلة ببناء متارس عديدة على رؤوس جبال الزاهر،، ومضايق ثنيتي كداء وكدى ورتب فيها العساكر وفي غالب الأماكن المطلة على المنافذ.
وبرز في تلك الليلة السيد مساعد ابن الشريف سعد في عشرة من السادة الأشراف، وبعض خيالة ونحو ستين بواردياً وبمدفعين اثنين سحبا بأكتاف الرجال لإعواز أقتاب الجمال وبات تلك الليلة بالزاهر.
وفي ليلة الخميس مستهل شوال ليلة العيد: ورد الخبر بوصول مولانا الشريف أحمد - متع الله بحياته - إلى النوارية محل على نصف المسافة من وادي مر، وأشيع أن قصده الدخول وذكر اسمه في خطبة العيد على منبر الحرم الشريف، فأرسل مولانا الشريف سعيد مولانا السيد باز بن هاشم، والسيد واصل بن أحمد إلى مولانا الشريف أحمد - متع الله بحياته - يطلب إرسال الأمر الذي وصل إليه ليشرف عليه، فلما وصلا إليه لهذا الغرض غضب السنجق محمد بك المذكور، ومن معه من الأغوات، وشرابجية البلكات، وقال: ليس الأمر ملعبة وحصل بينهم كلام.(3/90)
فقال مولانا السيد أحمد بن سعيد بن شنبر: يا أمير نحن رفاقة نصطلح ثم أخذ السيدين المذكورين، وتكلم معهما بكلام لم تبلغنا حقيقته الله أعلم بها، فرجعا إلى الشريف سعيد فأخبراه، فعزم حينئذ على إخلاء مكة، والخروج منها، وأمر العساكر بمفارقة المتارس، والدور التي كانوا بها، وخرج نصف الليل من ليلة الجمعة ثاني شوال، وخرج معه أخوه السيد مساعد وابن عمه السيد عبد المحسن وغيرهما، وعبيدهما وأتباعهما توجهوا إلى قرية الطائف، ثم طلب بعد ذلك من مولانا الشريف إقامة مدة شهرين بها فأعطيها، وفي حال خروجهم دخل مولانا السيد حسن بن غالب في جماعة من الأشراف والأتباع لحفظ البلاد عن الشغُور، ولله عاقبة الأمور. وكانت مدة ولايته أربعة أشهر، وعشرة أيام من غير زيادة ولا نقص، يجمعها حروف قولك: كل له مدا.
ومما قيل فيه من الشعر قولي، وقدمتها له يوم الجمعة سلخ جمادى الأولى من سنة تسع وتسعين وألف من الطويل:
سقَى معهداً بين الأثيلِ وناجمِ ... سحوح العهاد الغادياتِ السواجِمِ
دريساً عفَتهُ الهوجُ مذ بَرِحَ النوَى ... بأهليه تكسوهُ سمال السمائم
نظزتُ إلى أطلالِهِن ونؤيها ... مثلمة في جنبِ سُقعٍ جواثمِ
كأن الأثافي السودَ كبدي قطعنَها ... ظُبى البَين أثلاثاً كتقسيمِ قاسمِ
فدرت بمرآها شئون مدامِعِي ... وظَلتُ وإياها كَبَوِّ ورائمِ
كأن لم تكن للغيد مأوىً ولم تقم ... على دوحِهِ ألحانُ وُرقِ الحمائمِ
بلَى قد عهدناه كذاكَ فصوّحَت ... نضارتَهُ طوحُ الزمان المتاخِمِ
معاهدُ لمياءُ البديدِ تجرُّ في ... ثراها ذيولاً عاطراتِ النسائم
تميلُ كما مالت غصونُ رياضها ... بنشآتِ خمرات الصبا لا المآثِمِ
على غُرةٍ كالشمسِ من تحتِ طُرةٍ ... تزينُ الضيا منها بأسوَدَ فاحمِ
ومُقلة أدماء الجَوازي مطفل ... أريعَتْ بقنَّاسٍ من انمار ساغمِ
جرى فوقها قوسٌ من النونِ موتر ... نبال رنا رِيشَت بأهدابِ رائِمِ
لها سلكُ درٍ قفل فيروزج الوشا ... م دارَ به في نصفِ درةِ خاتمِ
به الشهدُ ممزوجاً بصهباءَ خامرَت ... مع الصبْحِ مسكاً مستطابَ المناسمِ
ومهضوم كَشح مخمص الغور رقةً ... بعقد بريم فيه حُلت برائمي
لها الجِسمُ لما حله صَخْرُ قلبها ... كذاك أتانُ الضحْلِ أقسى الصلادمِ
براها إلهُ العرشِ عُقلةَ عاقلِ ... وفتنةَ نسِّيك وزلة عالمِ
إذا وعَدَت ألوَتْ وإِن أوعَدت وفَت ... وكم أشمتَت إذ خفت إشمات لائمِ
شهرتُ بحبيها فصرتُ كأنني ... كبيتِ قريضِ من مديحِ ابن هاشمِ
سعيدُ بنُ سعدٍ إبن زيدِ بنِ محسنٍ ... خلاصة خيرِ الخيرِ من وُلْدِ آدمِ
شريفٌ له من قبضةِ النورِ جوهرٌ ... تكون شخصاً من عليٍّ وفاطمِ
مليكُ بلادِ الله وابنُ ملوكها ... وحامي حماها قَبل نوطِ التمائم
له منطق ماء النهَى منه صيَّب ... ورأي مصيب في عظيمِ العظائم
أعز حمى مَن لاذَ منه بذمةٍ ... ومَنْ قربته منه أدنى الملازمِ
محاسنُ ساداتٍ مضوا فيه جمِّعَتْ ... كجمعِ الغديرِ القطرَ غب الغمائم
فمن خلقه لم تلق أحسنَ مظهراً ... سوَى مضمرٍ من خُلْقِهِ والعزائمِ
بنت في مراقي الغر آباؤُهُ العلا ... له بَيْتَ مجدٍ في رفيع الدعائم
فلم يرضَ حتى شادَ مثلهم ومَن ... يشابِهْ أباه في العلا غَيْرُ ظالمِ
فهنيتَ ملكاً لم تزل يا سعيده ... مساعد سعدٍ في جميعِ المآزمِ
رزئت عظيماً إذ حبيتَ عظيمة ... كذلكَ حالُ الدهرِ بين العوالمِ
دهانا ببؤس لا يقاومُها الأسَى ... تقارنُ نُعْمَى ما لها من مقاومِ(3/91)
زوي زيد الأمجاد لا فُض جمعُكُم ... وعنكُمْ نبا بابُ الزمانِ المغاشمِ
لكُم أنفسٌ ملكيةٌ تحتَ نبضها ... قلوبُ أسودٍ في شخوصِ أوادمِ
إذا سيد منكم خلا قامَ سيدٌ ... نهوض بأعباءِ العلا والمكارمِ
عليكَ كَشَفنا وجْهَ عذراءَ لو عَدَت ... علاكَ لصينَت عن مُلاَمسِ لائمِ
من الخفراتِ اللائي كنْتَ عظلتَها ... وآليْتَ أقساماً بحنْث ملازمِ
ولكنْ لودٍّ من أبيكَ اعتقدتهُ ... ومن قَبل من زيد جرى بالمراحمِ
لذاكَ رأيتَ الخيرَ تكفيرَ حِنْثها ... وأَن تمادى التركِ إحدى الجرائمِ
وما مَطْلَبي فيها الإجازَةُ إنما ... قبولُكَها والله أقصَى عزائمي
بقيتَ ولا أبقى الردى لكَ حاسداً ... فسعدُكَ في حالاتِهِ جِدُّ قائم
وقال الأديب الشيخ سالم بن أحمد الصعدي المكي الشافعي من الطويلَ:
ورثتَ كَلاَكَ الله مرتَبَةَ المُلْكِ ... فها هي في كفيْك ثابِتَة الملْكِ
توارَثْتَها عنْ عمكَ الأشرفِ الذي ... تمسَّكَ طفلاً بالعُلاَ أيما مَسْكِ
كذاكَ عن الأجدادِ أكرم سادةٍ ... رقوا رتباً للمجْدِ عالية السمكِ
ولا غَرْوَ مهما كنتَ يا سبْطَ سعدهم ... وريثاً لهم في العلْمِ والحلمِ والنسكِ
وقد جاء يسعى الملكُ نحوَكَ مسرعاً ... يجرُّ ذيولَ التيه والعُجْب والزمكِ
وقلدَكَ الأحكامَ في الناسِ كلهم ... وعامَلَ كلاً من ذوي الحُكْم بالتركِ
فأصبَحْتَ فيه خالياً عن مشاركٍ ... لأنَكَ قد أحللْتَ عنه عرى الشركِ
فيا نجلَ من أعطى الخلافَةَ حقَّها ... فأصبَحَ من جيشِ السعادةِ في حشْكِ
ليهنِكَ هذا المنصبُ الشامخُ الذي ... أمنتَ به كل الرعايا مِنَ الضنكِ
فعادوا كما كانُوا مِنَ الأمنِ بعدما ... أرِيعُوا بفقدانِ الفتَى ماضِي الفتكِ
إلى أن غدا كُل يقولُ تأسفاً ... وحزناً لندماني جذيم قفا نبكِ
ولولاكَ مَع حكمِ القضاءِ وأمرِهِ ... مِنَ الله لم تحقن دماهُمْ عن السفكِ
فها هُمْ بأمنٍ منك أذهَبَ عنهُمُ ... مخاوفَ ذكراها يعدُ من الإفْكِ
وما الخوفُ إلا بين أفئدةِ الورَى ... ثوى منك حتى مسَّها نصب النهكِ
وذلكَ لما أن تسنَّمْتَ تخته ... بعزم غدَت منه القساورُ في رَبكِ
ألستَ الذي إن جُلتَ والنقعُ ثائرٌ ... ومبيَضُّ جوً الأفقِ في شدة الحلكِ
تظل صناديدُ الرجالِ نواكساً ... إلى أن يذوقوا أكؤس الدين والهُلكِ
وَكُل حديدِ القلبِ ثبتٍ مجربٍ ... صبورعلى ضربِ القواضبِ والصك
يهابُكَ مذ يلقاكَ في حومةِ الوغى ... ويقفىٌ ومنه القلبُ مضطرب مُنكِي
فلو أَنكَ صادمتَ الرواسِي لخلتَها ... وحَقكَ إجلالاً لقدركَ في دَكِّ
وأمَّا السخا يابنَ السخيِّ فإنه ... سجيتُكَ الغراءُ من غيرِ ما شَكِّ
لهذا شذا عَرف الثنا عنكَ مثل ما ... شذاعَرف طيبِ العنبرالرَّطبِ والمسكِ
وشاع حديث الفضلِ عنك مسلسلاً ... لدى العَرَبِ العرباءِ والفرسِ والترْكِ
فيا بَدرَ ملك جلَّ في فلك العلا ... ويا بَحر جُودٍ كَم سَعَت فيه من فُلكِ
ويأيها الشهم السعيدُ ابن سَعدنا ... ويا مَن به قد فاء في الحَرمِ المكي
إليكَ من البحرِ الطويلِ قصيدةً ... بعيدُ مداها لي تداني على وَشكِ
تهنيكَ بالملكِ الذي قد ورثتَهُ ... عن البطلِ الشطبِ الخبثضمة الملكِ
مليك الندَى مردِى العدى طالما غدا ... يردّ إلى الشاكي الحقوقَ من المشكِي(3/92)
فما زالَتِ الأيامُ تتلو تهانياً ... عليكَ وبشراً دائماً غيرَ منفك
كما ظَل ثغرُ الدهر من جذلِ بما ... حُبِيتَ من السعدِ المتممِ في ضحكِ
فدم رافلاً في ملبسِ العزِّ لا يُرَى ... لكَ اليومَ في أحكامِكَ الغُرِّ من يحكي
ثم وليها مولانا الشريف أحمد ابن المرحوم السيد غالب ابن السيد محمد بن مساعد بن مسعود بن حسن، دخلها من أعلاها صبيحة تلك الليلة يوم الجمعة ثاني عند الضحوة العالية بالآلاى الكبير والنوبة، وجميع عساكر مصر، وغيرهم في موكب أتم ما سمعت أذن من خبر، وأبهى ما لذ في عين ذي نظر، لابساً خلعة التبجيل والتكريم، ذلك تقدير العزيز العليم، فنزل بداره السعيدة، ونودي باسمه في البلاد يسمعه الحاضر والباد. وبالزينة سبعة أيام، وابتهجت القلوب بالفرح التام وسعت إليه الخاصة والأعيان مهنئين فرحين، وهرعت العامة لتقبيل أعتابه مستبشرين مرحين.
وقد تشرفت بمديحه حباً ووداً، ورويت عن بحر أصبح مَد غيره عنده جزراً وجزره عند غيره مداً. فقلت من الطويل:
سرت نسمة منكم تهب بإقبالِ ... شذا من شميمِ الرندِ والشيح والحالِ
تحدث عن برقاء منجد فالقُصَى ... من الدوحِ فالعرجينِ فالوشمِ فالخالِ
مسمارحُ آرام ملاعِبُ صِبيَةٍ ... مطارد فرسان معاطنُ أجمال
مواردها عد وعشبُ رياضها ... أثيثٌ سقاه الجودُ من فرغِهِ الدالِي
عفَت غيرَ رشسِ خافتِ الظلِّ قالصٍ ... ومثلومِ نُؤىِ تحت أنضاءِ أطلالِ
سُفْع أثافٍ كالحماحِمِ جُثم ... وأَشعَث مشجوج القفا ناخِر بالي
ثلاث تشكَى أربعاً تنتهبنها ... وَحيا وتكسوهُن مغبر أسمالِ
خلَت دمنتاها عن سوَى أرقطِ المِطا ... وجَيئَلَ خمعاء وشَيهَم عَسالِ
سقاها من الوسميّ صائبُ نوئه ... بمرتجسٍ داني النشاصَيْنِ مسبالِ
ولا برحَت عيني يسحُّ وَليُّها ... بدَمعٍ على تلكَ المناهِلِ مُنهالِ
منازلُ بيضاء العوارضِ أرهفت ... معاطفها واستبدِعَت حسنَ أجدالِ
تبدت مع الأترابِ تُرجعُ لحظَها ... تَخاوُصَ أدماءِ السوالِفِ مطفالِ
وبينَ الوشاحِ الملتوي غصن بانةٍ ... وثنى الإزار المرتوي حقفه العالِي
وتحتَ اللثامِ الجون درٌّ لثاتُهُ ... أسفت بمرموقٍ سقى صرف جريالِ
أسالَت على الخدِّ الأسيلِ مدامعاً ... تعاتبني سراً بها عتبَ إدلالِ
وقد قربَت يمنَى يديها بضمها ... إلى صدرها الخالي فزادَ بها حالي
وعضت بدر الثغرِ فِضَّة معصم ... لها كادَ يثنيه السيوارُ عَلَى بالي
وما أنسَ لا أنسى الهوَى ومعاهداً ... تذكرنيها فِكرتي عَصرَها الخالي
فمالي ووَصل الغانياتِ وإنما ... مصايِدُها بَين الشبيبةِ والمالِ
تنعمتُُ في ليلِ الشبابِ فراعَنِي ... طلوعُ صباحِ الشيبِ من غَير إمهالِ
وما كانَ إلا وصلُهُ فجفاؤُهُ ... وما كانَ إقبالٌ له غَيْر إجفالِ
تملصَ مني ثم مَرَّ فلو يشا ... شريفُ الصفا والركْنِ عَوَّدَ في الحالي
أبا غالِب سلطانَ مكةَ أحمد ب ... ن غالِبَ راعيها الحفى الدايل الدالي
تسنى ذُرَى العلياءِ قدماً وتالياً ... إلى أن تلا من ملكها السنَد العالي
فَسارَ عَلَى عرضِ الفلاةِ مراوحاً ... فمن سرجِ منقالٍ إلى كورِ مرقال
ووالَتهُ من أبنا أبِيهِ عصائبٌ ... ذوو نجداتِ صادقو الفِعلِ والقالِ
مساعيرُ حَربِ لا يرجى طعينُهُم ... مساميعُ للداعِي مساميحُ بالنالِ
ميامينُ بَسامُونَ في السلمِ والوغَى ... جحاجحةٌ قُحُّ هُمُ خيرة الآلِ(3/93)
حمى الضيم إن ياطا مواطئ خَيْلهم ... من الأرضِ فاستوبى لهم قالَةَ القالِ
فما خِيطَتِ الأجفانُ منهم عَلَى القذا ... ولم يشربوا الترنيقَ من وِردِ أوشالِ
ولم يبرحُوا في ثَبْتِ طَولٍ ومنعةٍ ... بأمرإِ عيشٍ في محل وترحالِ
فأولاه ملك الرومِ مُلكَ جدودِهِ ... وَقمصَّهُ للعز أَشْرَف سربالِ
فصابَ به المغزَى كما وضَعَ الهنا ... على النقْبِ من جربائة الهانئ الطالي
فعبر عَن أسمائِهِ كُل منبرٍ ... وأفصَحَ عن آلائِهِ كُل ذي قال
ليهنكَ بل يهنى الخلافَةَ أنها ... أَوَت منك للبر الرضى الحائط الكالي
فلا نعمة إلا وأنتَ وليُّها ... ومَكرُمَة إلا وأنتَ لها والي
فلله حمدٌ يملأُ اللوحَ دائم ... وشكرٌ له في بَدْءِ نعماه والتالي
أحبكُم حُبين حب فريضةٍ ... به ألزمَ الله الورَى أمرَهُ العالي
وحب صفات أنتَ مفردُ جمعها ... غدوْتُ بها فى حُبك المفرِطَ الغالي
إليك مِنَ الودِّ الصريحِ خَدِيمةً ... لها في مثاني الطرْسِ مِشْيَةُ مختال
جواهرُ أصدافٍ من الفكْرِ نضدتْ ... فما خانها سلك ولا ريب إغلالِ
مخدَّرة حَرمتُ رفعَ نقابها ... ففكرت واستصْوَبْتُ بالمدح إحلالي
هدية مَنْ يدعو لمجدكَ بالعلا ... وعيشك في سِتْر من العز ذَيالِ
ثم في يوم دخوله المذكور عن تدبير كرسي السياسة حاكمها القائد أحمد بن جوهر، وقلد منصبها عبده القائد سنبل، فقام بها أتم قيام، في أبهى مظهر وأبهج نظام وكذلك في اليوم المذكور: عزل عن منصب الدوادرية أحمد بن مصطفى المولتاتي فعل متيقظ حازم فتي، وقلد منصبها خادمه أبا القاسم بن محمد طاهر الشهير بالبربتي.
وفي يوم الأحد رابع شوال: ادعت عساكر مصر على القائد أحمد بن جوهر سببية قتل البغدادي محمد أغا ونهب بيته، فدخل على مولانا السيد أحمد ابن السيد سعيد ابن شنبر فمنعهم عنه وقال إن يكن لكم عليه وجه فعلى يد مولانا الشريف متع الله بحياته، فحضروا فلم يثبت لهم عليه وجه فخلص.
ثم أنقذت المكاتيب إلى أهل الإدراك، ومشايخ العربان، فأطاع كل عاص ودان، من كل قاص ودان. وبعث الجنود ورتبها في كل وجهة ومخلاف، فأمنت البلاد والطرق ولله الحمد مما يحاذر ويخاف.
وفي يوم الأحد حادي عشر الشهر المذكور: تقلد منصب الوزارة المكية الحسنية الغالبية الخواجا إبراهيم بن علي حميدان، وأفيض عليه فرو من السمور، وفقنا الله وإياه للسداد في جميع الأمور. وانفصل عنها يوسف بن عبد الله الشهير بالسقطي.
وفي يوم الأربعاء رابع عشر الشهر المزبور: أمر - متع الله بحياته - بكسر أواني المزور والخمور، وتشتيت العواهر من بنات الخطا والفجور، ومن رؤي بعد ثلاث صلب عل باب داره.
فترحل بعضهن عن البلاد، وانكمش بعضهن عن ذلك التظاهر وفارق بيته، فتقاصر عنه ترداد المرتاد. فجزاه الله تعالى خيراً عن الإسلام والمسلمين، وأيد به ملة جده سيد المرسلين.
وفي ليلة الخميس ثاني عشري شوال: كان حصول الفرج منه - سبحانه وتعالى - لمولانا السيد محمد البرزنجي، وذلك أنه لما دخل عليه شهر رمضان، وهو محبوس بذلك المحل المتقدم ذكره أخرج من آخره إلى محل أروح وأنور فاستمر به.
ثم إنه عهد إلى بعض أحبائه أن يُعِد له في ذي الحليفة المحل المسمى عند العامة أبيار على ناقتين بالأهبة، وأن يحضر له تحت القلعة حصاناً بعدته وسلاحه، فلما كان الليلة المذكورة تدلي من السور إلى خارج، وركب الحصان وتقلد السيف، وتنكب القوس، واعتقل الرمح، وسار إلى ذي الحليفة، ثم منها عَلَى الركائب سالكا طريق الفرع، واتجه بولده في الطريق بقرية خليص، وكان قد خرج من المدينة قبله بثلاثة أيام بأمره خشية أن يمسك عوضه إذا فقدوه، فوصلا إلى مكة تاسع عشري الشهر المذكور.(3/94)
وفيها يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة الحرام: أمر بقطع عبد أسود سارق، فقطع يداه ورجلاه ثم في اليوم الذي يليه قطع سارق آخر حبشي الجنس يده ورجله من خلاف. ثم في يوم السبت ثامن الشهر المزبور: كان وصول القفطان والمراسيم السلطانية صحبة سليمان أغا سلخور، فدخل بالآلاى العظيم، والمنظر البهي الوسيم، ووصل إلى مولانا الشريف - متع الله بحياته - بالحطيم.
وقد فتح البيت السعيد، وغص المجلس بالسادة الأشراف، نخبة آل عبد مناف، وأفندي الشرع، وشيخ الحرم، والسادة العلماء، والأعيان والأغوات، والسرادير وكبار العساكر.
فألبس مولانا الشريف - متع الله بحياته - القفطان السلطاني على فرو من السمور، ونشر المرسوم الخاقاني، وقرئت منه تلك السطور: فيه بعد تعداد نعوت مولانا الحميدة، والثناء عَلَى جميل مزاياه المجيدة، التصريح بأنا قد أنعمنا بولاية الحرمين الشريفين عليكم، وأسندنا حماية المحلين المنيفين إليكم، والحث عَلَى القيام بواجب السادة الأشراف، الذابين عن حمى هذه الأكناف، والوصية بالعلماء والصلحاء والمجاورين، وحماية الحجاج والزوار والمسافرين، والالتفات إلى تأمين الطرق والبلدان، وقمع أشقياء العربان أهل العتو والطغيان، مؤرخاً من السنة المذكورة بأوائل شهر رمضان المعظم قدره.
ثم ألبس مولانا - متع الله بحياته - حضرة أفندي الشرع، والقابجي السلطاني، وكيخية الباشا أفرية من السمور، ثلاثة من غير تأخير ولا ملاثة.
وألبس مولانا الشيخ عبد الواحد الشيبي، وابنه الشيخ الأجل عبد المعطي، وجميع السرادير والشرابجة والجواويش، وأرباب المناصب القفاطين عَلَى القانون والعادة.
ثم دعي لمولانا السلطان الأعظم سليمان خان بن إبراهيم خان، ولمولانا الشريف - متع الله بحياته - على باب الكعبة الشريفة ذات السيادة، وكان يوماً في نهاية الحسنى وزيادة.
وفي يوم الجمعة رابع عشر الشهر المذكور: أمر مولانا الشريف - متع الله بحياته - بحضور الخاصة والعامة عند الحطيم للدعاء لنصرة مولانا السلطان الأعظم كل يوم إثنين وخميس بعد صلاة الحنفي، عامله الله تعالى - بلطفه الخفي، وكان به نعم الحفي. آمين.
وعلى آله وصحبه وسلم، كتبه حسن رشيد على نفقة دار الكتب المصرية من النسخة الخطية المحفوظة بها الموضوعة تحت رقم 53 تاريخ وكان الفراغ منه في يوم الأربعاء أول جمادى الأولى سنة 1354 هجريه موافق 31 يوليو سنة1935 ميلادية والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.(3/95)