وروى محمد بن سعيد الدارمي، عن أبيه، قال: كان سليمان بن عبد الملك ينظر في المرآة من فرقه إلى قدمه، ويقول: أنا الملك الشاب، فلما نزل بمرج دابق، حُم وفشت الحُمَى في عسكره، فنادى بعض خدمة، فجاءت بطست، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: محمومة، قال: فأين فلانة؟ قالت: محمومة، فما ذكر أحداً إلا قالت: محموم، فالتفت إلى خاله الوليد بن القعقاع العبسي، وقال: من الكامل:
قَربْ وَضوءَكَ يَا وَلِيدُ فَإنَّمَا ... هَذِي الحَيَاةُ تَعِلَّةٌ وَمَتَاعُ
فقال الوليد: من الكامل:
فاعمَلْ لنَفْسِكَ في حَيَاتِكَ صالحاً ... فالدَهْرُ فيه فُرْقَة وجمَاعُ
ومات في مرضه ذاك.
قال الدميري في حياة الحيوان: لما استقل بالخلافة، اتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز وزيراً ومشيراً، ثم إنه أراد أن يستكتب يزيد بن أبي مسلم وزير الحجاج، فقال له عمر: سألتك باللّه يا أمير المؤمنين، لا تحيي ذكرى الحجاج باستكتابك يزيد، فقال له سليمان: يا عمر، إني لم أجد عنده خيانة في درهم ولا دينار، فقال: يا أمير المؤمنين، إن إبليس أعف منه في الدرهم والدينار، قد أغوى الخلق، فأضرب سليمان عما عزم عليه.
وفي الكامل لأبي العباس محمد بن يزيد الملقب بالمبرد النحوي المشهور: أنه دخل على سليمان بن عبد الملك يزيد بن أبي مسلم وزير الحجاج، وكان يزيد قبيحاً دميماً، فقال له سليمان: قبح اللّه رجلا أجرَك رسنه، وشركك في أمانته - يعرض بالحجاج - فقال يزيد: يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا، قال سليمان: ولم؟ قال: لأنك رأيتني، والأمر عني مُدْبِر، ولو رأيتني والأمرُ عليَّ مقبل، لاستحسنت مني ما استقبحت، ولاستعظمت ما استصغرت. فقال له سليمان: ويحك، وقد استقر الحجاج في قعر جهنم بَعْدُ أم لا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تقل ذلك في الحجاج، قال: ولم؟ قال: لأن الحجاج وطأ لكم المنابر، وذلَل لكم الجبابرة، وإنه يأتي يوم القيامة عن يمين أبيك عبد الملك، ويسار أخيك الوليد، فحيث ما كانا كان.
ولى سليمان بن عبد الملك أخاه مسلمة بن عبد الملك - وكان يلقب بالجرادة الصفراء - أرمينية وأذربيجان غير مرة، وإمرة العراقين، وسيره في مائة وعشرين ألفاً إلى القسطنطينية؛ كما تقدَّم.
وروى مسلمة، عن عمر بن عبد العزيز، وهو مذكور في سنن أبي داود سليمان ابن الأشعث السجستاني.
من الفوائد عن مسلمة: أنه لما حصر عمورية، حصل له صداع، فلم يركب في الحرب، فقال أهل عمورية للمسلمين: ما لأميركم لم يركب اليوم؟ فقالوا: عرض له صداع، فأخرجوا له برنساً، وقالوا: ألبسوه له يزل عنه ما يجد، فلبسه مسلمة، فشفي لوقته، ففتشوه فلم يجدوا فيه شيئاً، ثم فتقوا أزراره، فإذا فيها بطاقة مكتوب فيها هذه الآيات آيات التخفيف: " الآنَ خَففَ اَللَّهُ عَنكمُ... " الآية " الأنفال: 66 " ، " ... ذلِكَ تَخْفِيف مِن رّبكمُ... " الآية " البقرة: 178 " ، " حم عسق " " الشورى: 1 - 2 " ، " وإذا سأَلك عِبادي عَني... " الآية " البقرة: 186 " ، " أَلَم تَرَ إِلىَ رَبك كَيف مَدَ اَلظِلَّ... " الآية " الفرقان: 45 " ، " وَلَه مَا سكَنَ في الليلِ وَالنهار... " الآية " الأنعام: 13 " فقال المسلمون: من أين لكم هذا، وإنما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: وجدناه منقورَاً في حجر في كنيسة قبل أن يبعث نبيكم بسبعمائة عام.
ومما يحكى من محاسن سليمان: أنه دخل عليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، أنشدك الله والأذان، فقال له سليمان: أما أنشدك الله، فقد عرفناه، فما الأذان؟ فقال الرجل: قوله تعالى: " فأذنَ مُؤَذِن بَينَهُم أَن لعنَةُ اَللَهِ عَلَى اَلظالمين " " الأعراف: 44 " فقال له: ما ظلامتك؟ قال: ضيعتي فلانة غلبني عليها عاملك فلان، فنزل سليمان عن سريره، ورفع البساط، ووضع خده في الأرض، وقال: واللّه لا رفعته حتى يكتب له برد ضيعته، فكتب الكتاب وهو واضع خده بالأرض، رحمه اللّه وعفا عنه.(2/145)
ومما يحكى عنه: أنه قال لطلحة بن مصرف: ما تقول في أبي بكر. قال: ما أدركت دهره ولا أدرك دهري، ولقد قال الناس فيه فأحسنوا، وهو إن شاء اللّه كذلك، فقال: ما تقول في عمر؟ فقال مثل ذلك، قال: ما تقول في عثمان؟ قال: ما أدركت دهره ولا أدرك دهري، ولقد قال فيه الناس فأحسنوا، وقال فيه ناس وأساءوا، وعند اللّه علمه، قال: ما تقول في علي؟ فقال مثل ذلك، قال: سُب علياً، فقال طلحة: لا أسبه، قال: واللّه لتسبنه أو لأضربن عنقك، قال: واللّه لا أسبه، فأمر بضرب عنقه، فقام إليه رجل بيده سيف فهزه، فقال طلحة: ويلك يا سليمان، أما ترضي بما رضي به من هو خير منك فيمن هو شر من علي. قال: وما ذاك؟ قال: فإن الله عز وجل رضي من عيسى، وهو خير منك؛ إذ قال في بني إسرائيل، وهم شر من علي: " إن تُعَذّبهُم فإنَهُم عِبَادُك... " الآية " المائدة: 118 " ؛ فسكن غضبه وخلى سبيله، فخرج طلحة يختال في مشيته.
ودخل سالم بن عبد الله بن عمر، على سليمان بن عبد الملك، وعليه ثياب غليظة حشنة رثة، فأقعده سليمان معه على السرير، وكان عمر بن عبد العزيز حاضراً، فقال له رجل: يا عمر، ما استطاع خالك - يعني سالم بن عبد اللّه - أن يلبس ثياباً فاخرة يدخل بها على أمير المؤمنين - وعلى المتكلم ثياب فاخرة - فقال له عمر: ما رأيتُ ثيابه وضعته، ولا رأيتُ ثيابَكَ هذه رفعتك إلى مكانه، فسكت الرجل، ولم يحر جواباً.
ويروى أنه لما حم، خرج لصلاة الجمعة، فوجد حظية له في صحن الدار، فأنشدته: من الخفيف:
أَنتَ نِعمَ المَتَاعُ لو كُنْتَ تبقَى ... غَيرَ أن لا بَقَاءَ للإنسانِ
لَيسَ فيِمَا بَدَا لنا مِنكَ عَيبٌ ... عابَهُ الناسُ غَيرَ أنكَ فَانِي
فلما فرغ من الصلاة، دخل داره، ودعا بتلك الحظية، فقال لها: ما قلت لي في صحن الدار؟ فقالت: واللّه ما قلتُ لك شيئاً ولا رأيتك، وأني لي بالخروج إلى صحن الدار؟ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، نعيت إلي نفسي، فما دارت عليه جمعة أخرَى إلا وهو في قبره.
توُفِي رحمه الله في صفر سنة ثمان وتسعين، وقيل: تسع، بمرج دابق، وله تسع وثلاثون سنة، وكانت خلافته سنتين وثمانية أشهر، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز.
خلافة عمر بن عبد العزيز
رضي اللّه عنه وأرضاه
قال الوليد بن مسلم بن عبد الرحمن بن حسان الكناني: لما مرض سليمان بمرج دابق، قال لرجاء بن حَيوَةَ كاتبه ووزيره: من لهذا الأمر بعدي. أستخلف ابني، فقال له رجاء: ابنك غالْب في القسطنطينية، ولا تدري حياته أو موته، فقال: أستخلف ابني داود الآخر، فقال: إنه صغير، قال: فمن ترى؟ قال: استخلف عمر ابن عبد العزيز، قال: أتخوف أخوتي لا يرضون، قال رجاء: فول عمر، ثم بعده أخاك يزيد بن عبد الملك، وتكتب كتابَاً وتختم عليه وتدعوهم إلى البيعة لمن فيه مختوماً، فقال سليمان: لقد رأيتُ ما رأيتَ، ائتني بقرطاس، فكتب فيه العهد على ما ذكر، ودفعه إلى رجاء، وقال: اخرج إلى الناس، فليبايعوا لمن في هذا الكتاب، قالوا: ومن فيه؟ قال: هو مختوم لا تخبرون بمن فيه حتى يموت، قالوا: لا نبايع، ورجع رجاء إليه فأخبره، فقال: انطلق إلى صاحب الشرط والحرس، فاجمع الناس، وأمرهم بالبيعة، فمن أبى، فاضرب عنقه، ففعل، فبايعوا لمن فيه.(2/146)
قال رجاء بن حيوة: فبينما أنا راجع إذ سمعت جلبة موكب، فإذا هشام بن عبد الملك، فقال لي: يا رجاء قد علمت موقعك منا، وإن أمير المؤمنين صنع شيئاً ما أدري ما هو، وأنا أتخوف أن يكون قد أزالها عني، فإن يكن قد عدلها عني، فأعلمني ما دام في الأمر نفس حتى أنظر، قال رجاء: فقلت له: سبحان اللّه يستكتمني أمير المؤمنين أمراً، فأطلعك عليه! لا يكون هذا أبداً، قال: فأدارني وألاحني، فأبيت عليه، فانصرف، فبينما أنا أسيرة إذ سمعت جلبة خلفي، فإذا عمر ابن عبد العزيز، فقال لي: يا رجاء، إنه وقع في نفسي أمر كبير من هذا الرجل، أتخوف أن يكون قد جعلها إليَّ، ولست أقوم له بهذا الشأن، فأعلمني ما دام في الأمر نفس، لعلي أتخلَص منه ما دام حياً، فقلت: سبحان اللّه، يستكتمني أمير المؤمنين أمراً، وأطلعك عليه! قال: وثقل سليمان، فلما مات، أجلسته مجلسه أسندته وهيأته، وخرجت إلى الناس، فقالوا: كيف أصبح أمير المؤمنين. قلت: ساكناً، وأحب أن تسلموا عليه، وتبايعوا بين يديه على ما في الكتاب.
فدخلوا، وأنا قائم عنده، فلما دنوا، قلت: إنه يأمركم بالوقوف، ثم أخذت الكتاب من عنده، وتقدمت إليهم وقلت: إنه يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب، فبايعوا وبسطوا أيديهم، فلما بايعتهم وفرغت، قلت: آجركم اللّه في أمير المؤمنين، قالوا: فمن؟ ففتحت الكتاب، فإذا فيه العهد لعمر بن عبد العزيز، فتغيرَتْ وجوه بني عبد الملك، وقال هشام: لا نبايعه أبداً، فقال له رجاء: واللّه نضرب عنقك، فقام آسفاً يجر رجليه، فلما سمعوا: وبعده يزيد بن عبد الملك كأنهم تراجعوا، فقالوا: أين عمر؟ فطلبوه، فإذا هو في المسجد، فأتوه، فسلموا عليه بالخلافة، فعقر به، ولم يستطع النهوض حتى أخذوا بضبعيه، فدنوا به إلى المنبر، وأصعدوه، فجلس طويلا لا يتكلَّم، فقال رجاء: ألا تقومون إلى أمير المؤمنين، فتبايعوه؟! فنهض القوم إليه، فبايعوه رجلاَ رجلا، ومَدَ يده إليهم، ثم صعد إليه هشام بن عبد الملك، فلما مد يده إليه، قال هشام: إنا للّه وإنا إليه راجعون، أسفَاً لما فاته وأخطأه، فقال له عمر: إنا للّه وإنا إليه راجعون؛ لما وقع فيه من ولاية أمر الأمة.
ثم قام فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني لست بفارضِ ولكني منفذ، ولست بمبتدع ولكني متبع، وإن من حولكم من الأمصار والبلدان والمدن، إن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن أبوا، فلست لهم بوال.
ثم نزل، فأتاه صاحب المراكب، فقال: ما هذا؟ قالوا: مركب الخلافة، قال: لا حاجة لي به، ائتوني بدابتي، فأتوه بدابته، فانطلق إلى منزله، ثم دعا بدواة، فكتب بيده إلى الأمصار، قال رجاء: كنت أظن أنه يَضْعُفُ، فلما رأيت صنعه في الكتاب، علمت أنه سيقوى.
وقال عمر بن مهاجر: صلى عمر بن عبد العزيز المغرب، ثم صلى على جنازة سليمان بن عبد الملك.
ولما بلغ عبد العزيز بن الوليد، وكان غائبَاً، موت سليمان بن عبد الملك، ولم يعلم ببيعةَ عمر، عقد لواء ودعا لنفسه، وجاء إلى دمشق، ثم بلغه عهد سليمان إلى عمر بن عبد العزيز، فجاء إليه واعتذر، وقال: أنا فعلت ما فعلت لما بلغني أن سليمان لم يعهد إلى أحد، فخشيت على الأموال أن تنتهب، فقال له عمر بن عبد العزيز: لو قمت بالأمر، لقعدتُ في بيتي، ولم أنازعك، فقال له عبد العزيز: واللّه لا أجيبُ لهذا الأمر.
فأول ما بدأ به عمر بن عبد العزيز لما استقرتِ البيعة له؛ أنه رد ما كان لفاطمة بنت عبد الملك بن مروان زوجته من المال والحلي والجواهر إلى بيت المال، وقال: لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد، فردته جميعاً، ولما ولي أخوها يزيد من بعده رده عليها، فأبت، وقالت: ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً، ففرقه يزيد على أهله.
وكتب إلى مسلمة بن عبد الملك، وهو بأرض الروم، يأمره بالقفول بالمسلمين.
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف بن قصي، أمير المؤمنين، أبو حفص القرشي الأموي.
قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي: هو خامس الخلفاء الراشدين، رضي اللّه تعالى عنه وأرضاه.
ولد بالمدينة، وقيل: بحلوان من أعمال مصر، سنة ستين، عام وفاة معاوية، أو بعدها بسنة.
أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب.
روى عن أبيه وأنس وعبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب وغيرهم.(2/147)
صفته: كان - رضي الله عنه - أبيضَ اللون، رقيق الوجه، جميلا، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر حافر دابة - ولذلك سمي أشج بني أمية - قد وخطه الشيب.
قال ثروان مولاه: دخل عمر إلى إسطبل أبيه، وهو غلام فضربه فرس فشجه، فجعل أبوه يمسح عنه الدم، ويقول: إن كنت أشج بني أمية، إنك لسعيد، رواه ضمرة عن ثروان.
وعن ضمام بن إسماعيل، عن أبي قبيل؛ أن عمر بن عبد العزيز بكى وهو غلام، فقالت أمه: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت - وكان قد جمع القرآن وهو غلام صغير - فبكت أمه.
وعن سعيد بن عفير، عن يعقوب، عن أبيه؛ أن عبد العزيز بن مروان أمير مصر بَعَثَ ابنه عمر بن عبد العزيز إلى المدينة يتأدب بها، وكتب إلى صالح بن كيسان؛ أن يتعاهده، وكان يختلف إلى عبيد الله بن عبد اللّه بن عتبة يسمع منه العلم، فبلغه أن عمر ينتقصُ علياً، فقال له: متى بلغك أن اللّه سَخِطَ على أهل بدر بعد أن رَضيَ عنهم؟ ففهم، وقال: معذرة إلى اللّه وإليك، لا أعود.
وقال غيره: لما مات عبد العزيز، طلب عبد الملك بن مروان عمر إلى دمشق، فزوجه ابنته فاطمة بنت عبد الملك، وكان الذين يعيبون عمر من حساده لا يعيبونه إلا بالإفراط في التنغم والاختيالِ في المشية؛ هذا قبل الإمرة.
قال أبو زرعة عبد الأحد بن الليث القيناني؛ سمعت مالكاً يقول: أتى فتيان إلى عمر بن عبد العزيز، فقالوا: إن أبانا تُوفيَ وترك لنا مالاَ نحو عمنا حميد الأمجي، فأحضره عمر، وقال له: أنت القائل: من المتقارب:
حُمَيْدُ الذي أمج داره ... أَخُو الخَمْرِ ذي الشيْبَةِ الأَصْلَع
أَتَاهُ المَشِيبُ علَى شربها ... وكَانَ كَريماً فَلَمْ يَنْزعِ
قال: نعم، قال: ما أراني إلا حادكَ إذ أقررت بشربها، وأنك لم تنزع عنها، قال: أين يذهب بك؟ ألم تسمع اللّه يقول: " وَاَلشُعَراء يَتبِعُهُم الغَاوونَ أَلمَ تَرَ أَنهُم في كُلِّ وَاد... " الآية " الشعراء: 224 " قال عمر: أَولَى لك يا حميد، ما أراك إلا قد تفلت، ويحك يا حميد، كان أبوك رجلاَ صالحاً وأنت رجل سوء، قال: أصلحك اللّه، وأينا يشبه أباه؟ أما كان أبوك رجل سوء، وأنت رجل صالح؟ قال: إن هؤلاء زعموا أن أباهم تُوُفيَ وترك مالا عندك، قال: صدقوا، وأحضره بختم أبيهم، ثم قال: إن أباهم مات سنة كذا وكذا، وكنت أنفق عليهم من مالي، وهذا مالهم، فقال عمر: ما أحد أحق أن يكون عنده منك. فامتنع.
وقال زيد بن أسلم، قال أنس - رضي الله تعالى عنه - : ما صليت وراء إمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، يعني: عمر بن عبد العزيز، وكان عمر أميراً على المدينة، قال زيد بن أسلم: كان يتم الركوع والسجود، ويخفف القيام والقعود.
وقال عمر بن قيس الملائي: سئل محمد بن علي بن الحسين، عن عمر بن عبد العزيز. فقال: هو نجيبة بني أمية، ولكل قوم نجيبة، وإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده! وقال سفيان الثوري: كان العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة.
قال الترمذي في تاريخه، بسند رفعه إلى جويرية، عن نافع: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: إن مِن ولدي رجلا بوجهه شجة، يلي فيملأ الأرض عدلا. قال: هو عمر بن عبد العزيز.
وعن السري بن يحيى، عن رياح بن عبيدة، قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الصلاة وشيخ متوكئ على يده، فقلت في نفسي: إن هذا الشيخ لجافٍ، فلما صلى، لحقته، فقلت: أصلح الله الأمير، من الشيخ الذي كان متكئَاً على يدك؟ قال: يا رياح رأيته؟ قلت: نعم، قال: ما أحسبك إلا رجلا صالحاً؟ ذاك أخي الخضر أتاني فأعلمني أني سألي أمر هذه الأمة، وأني سأعدل فيها. رواته ثقات.
قال جرير، عن مغيرة: جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان حين استخلف، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له فدك ينفق منها، ويعود منها على صغير بني هاشم، ويزوج منها أيمهم، وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، وكانت كذلك حياة أبي بكر، ثم عمر، ثم اقتطعها مروان، ثم صارت إلي، فرأيت أمرَاً منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لي بحَق، وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت عليه أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/148)
وفي كتاب المحاسن والمساوئ للعلامة إبراهيم البيهقي ما نصه: وحدث إسماعيل بن أبي خالد، قال: أتى الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج، وعنده عمر بن عبد العزيز، وخالد بن الريان، فقال له الوليد: ما تقول في أبي بكر؟ فقال: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين، رحمه اللّه تعالى وغفر له، قال: فما تقول في عمر بن الخطاب؟ قال: هو الفاروق، رحمه اللّه تعالى وغفر له، قال: فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: كان سُنَيات من خلافته ملازماً للعدل، قال: فما تقول في مروان بن الحكم؟ قال: لعن الله ذاك، قال: فما تقول في عبد الملك؟ قال: ذاك ابن ذاك، لعن اللّه ذاك، فقال: فما تقول في؟ قال: ابن ذينك، وأنت شر الثلاثة، فقال الوليد: يا عمر، ما تقول فيما تسمع؟ قال: يا أمير المؤمنين، ما أحد أعلم بهذا منك، فألح عليه؛ واللّه لتقولن، فقال: أما إذ أبيت إلا أن أقول، فسب أباه كما سَبَّ أباك، " وَأن تَعفُوا أَقرَبُ لِلتَّقوَى " " البقرة: 237 " .
فقال: ليس إلا هذا؟ فقال: لا يا أمير المؤمنين، إلا أن تداخلك جبرية، فأما في الحق، فليس إلا هذا، فالتفت إلى خالد بن الريان، وهو قائم على رأسه، ثم قام وهو غضبان، فقال خالد: واللّه يا عمر، لقد نظر إلي أمير المؤمنين نظرةَ كنت أظن أنه يأمرني بضرب عنقك، قال: لو أمرك أكنت تفعل؟ فقال: إي واللّه، قال: أما إنه كان يكون شراً لكما وخيرَاً لي، ثم سكت عمر عنه، وبقي ذلك في قلبه، ولما قام الوليد من مجلسه، دخل على زوجته أم البنين بنت عبد العزيز أخت عمر، فقال لها: أخوك الحروريُّ، واللّه لأقتلنه، فمكث عمر أياماً في منزله لا يحضُرُ الباب ولا يلتمس المعذرة، فأتاه رسول الوليد وقت القائلة فدعاه، فلما دخل باب القصر، عدل به إلى بيت، فأدخل فيه وطين عليه الباب، فرجع صاحب دابته إلى أهله، فأخبرهم، فأخبروا أخته، فبحثت عن خبره فعلمته، فدخلت على الوليد، وناشدته الرحم، وقبلت يده، فقال: قد وهبته لك، إن أدركته حَياً، قال: ففتحوا عنه الباب، فوجدوه قد انثنى عنقه، فحملوه إلى منزله وعالجوه، فلما توفي الوليد - وكان سليمان بعده، فهلك، وتولى عمر الخلافة - جاء خالد بن الريان في اليوم الذي استخلف فيه عمر متقلدَاً سيفه، يريد الوقوف على رأسه، فقال عمر: يا خالد، انطلق بسيفك هذا، فضعه في بيتك واقعد فيه، لا حاجة لنا فيك، أنت رجل إذا أُمِرْتَ بشيء فعلته، لا تنظر لدينك. فلما ولي خالد ذاهباً، نظر عمر إلى قفاه، فقال: اللهم يا رب، إني قد وضعته لك فلا ترفعه أبداً، فما لبث إلا جمعة حتى ضربه الفالج فقتله. انتهى.
قال عبد اللّه بن صالح: حدثني الليث قال: لما ولي عمر، بدأ بلحمته وأهل بيته، وأخذ ما بأيديهم، وسمى أموالهم مظالم، ففزعت بنو أمية إلى عمته فاطمة بنت مروان، فأتته ليلا فأنزلها عن دابتها، فلما أخذت مجلسها، قال: يا عمة، أنت أولى بالكلام فتكلَمي، قالت: تكلم يا أمير المؤمنين، قال: إن اللّه بعث نبيه رحمة للأمة، ثم اختار له ما عنده فقبضه اللّه، وترك لهم نهراً شربهم سواء، ثم قام أبو بكر، فترك النهر على حاله، ثم ولي عمر، فعمل عمل صاحبه، ولم يزل النهر يشق منه يزيد ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان حتى أفضَى الأمر إلي وقد يبس النهر الأعظم، ولن يروى أصحاب النهر الأعظم حتى يعود إلى ما كان عليه، فقالت: حسبك، قد أردت كلامك ومذاكرتك، فأما إذا كانت مقالتك هذه، فلست بذاكرة لك شيئاً، فرجعت إليهم، فأبلغتهم كلامه.(2/149)
وعن محمد المروزي قال: أخبرت أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة، جاء صاحب الشرطة ليسير بين يده بالحربة - جرياً على عادة الخلفاء قبله - فقال له عمر: تنحَّ عني، مالي ولك، إنما أنا رجل من المسلمين، ثم سار مختلطاً بالناس حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، واجتمع الناس إليه، فحمد اللّه وأثنى عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس، إني ابتليت بهذا الأمر من غير رأيٍ مني فيه ولا طلبٍ ولا مشورةِ وإني قد حللت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم غيري، فصاح المسلمون صيحة واحدة، قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك أميرنا باليمن والبركة، فلما سكتوا، حمد اللّه وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أوصيكم بتقوى اللّه؛ فإن تقواه خلف من كل شيء، وليس من تقوى اللّه خلف، وتعجلوا لآخرتكم؛ فإن من عجل لآَخرته، كفاه اللّه أمر دنياه وآخرته، وأصلحوا سرائركم يصلح اللّه علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا له الاستعداد قبل أن ينزل؛ فإنه هادم اللذات، وإني واللّه لا أعطي أحداً باطلا، ولا أمنع أحداً حقاً ثم رفع صوته فقال: أيها الناس، من أطاع اللِّه وجبت طاعته، ومن عصى اللّه فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت اللّه، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم. ثم نزل.
ودخل دار الخلافة، فأمر بالستور فهتكت، وبالبسط فرفعت، وأمر ببيع ذلك وإدخال أثمانها في بيت مال المسلمين، ثم ذهب يتبوأ مقيلا، فأتاه ابنه عبد الملك، فقال له: ما تريد أن تصنع يا أبت؟ فقال: أي بني، أقيل، فقال: أتقيل ولا ترد المظالم إلى أهلها. قال: أي بني، إني سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر، رددت المظالم، فقال: يا أمير المؤمنين، من أين لك أن تعيش إلى الظهر؟ فقال: ادن مني، فدنا منه، فقبل بين عينيه، وقال: الحمد للّه الذي أخرج من ظهري من يعينني على ديني، فخرج ولم يقل، فأمر منادياً أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فتقدم إليه ذمي من أهل حمص، فقال: أسألك كتاب اللّه، قال: وما ذاك؟ قال: إن العباس بن الوليد اغتصبني أرضي، والعباس جالس، فقال عمر: ما تقول يا عباس؟ قال: إن الوليد أقطعني إياها، هذا كتابه، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب اللّه، فقال عمر: كتاب اللّه أحق أن يتبع من كتاب الوليد، اردد عليه أرضه يا عباس، فردها عليه، ثم جعل لا يدع شيئاً مما كان في يد أهل بيته من المظالم إلا رَدَها مظلمة مظلمة.
فلما بلغ الخوارج سيرة عمر - رضي اللّه تعالى عنه - وما رد من المظالم، اجتمعوا وقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل.
ولما بلغ عمر بن الوليد رد الضيعة على الذمي، كتب إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً فيه: لا إنك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء، وعبت عليهم فعلهم، وسرت بغير سيرتهم بغضاً لهم وشيناً لمن بعدهم من أولادهم، قطعت ما أمر اللّه به أن يوصل؛ إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم، وأدخلتها بيت المال جوراً وعدواناً، ولن تترك على هذا الحال، والسلام.(2/150)
فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتاب عمر بن الوليد، كتب إليه: بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عبد اللّه عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد، السلام على المرسلين، والحمد للّه رب العالمين، أما بعد، فقد بلغني كتابك، أما أول شأنك يا ابن الوليد، فأمك بنانة أمة السكون، كانت تطوف في سوق حمص، وتدخل في حوانيتها، ثم الله أعلم بها، ثم اشتراها ذبيان من بيت مال المسلمين، فأهداها لأبيك فحملت بك، فبئس المولود أنت، ثم نشأت فكنت جباراً عنيداً، تزعم أني من الظالمين؛ إذ حرمتك وأهل بيتك مال اللّه الذي فيه حق القرابة والمساكين والأرامل، وإن أَظْلَمَ مني وأترك لعهد الله: مَن استعملك صبياً سفيهاً على جند المسلمين، تحكم فيهم برأيك، ولم يكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده، فويل لأبيك، ما أكثر خصماءه يوم القيامة، وإن أظلم مني وأترك لعهد اللّه من استعمل الحجاج يسفك الدماء ويأخذ المال الحرام، وإن أظلم مني وأترك لعهد اللّه من استعمل أعرابيُّاً جافياً على مصر، وأذن له في المعازف وآلات اللهو والشرب. وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من جعل لغالية البربرية في خُمْس العرب نصيباً. فرويدا يا بن بنانة، فلو التقت حلقتا البطان، ورد الفيء إلى أهله، لتفرغتُ لك ولأهل بيتك فوضعتهم في المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق، وأخذتم في الباطل، ومن وراء ذلك ما أرجو أن أكون رائيه من بيع رقبتك، وقسم ثمنك بين اليتامى والأرامل؛ فإن لكل فيك حقاً. والسلام على من اتبع الهدى، ولا ينال سلامُ اللّه القوم الظالمين.
وفي الذهبي: كتب عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد اللّه بن عمر، يكتب إليه بسيرة عمر بن الخطاب في الصدقات، فكتب إليه بالذي سأل، وكتب إليه: إنك إن عملت بمثل عمل عمر في زمانه ورجاله في مثل زمانك ورجالك، كنت عند اللّه خيراً من عمر.
وعن ميمون بن مهران، سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: لو أقمت فيكم خمسين عامَاً، ما استكملت العدل فيكم، إني لأريد الأمر، فأخاف ألا تحمله قلوبكم، فأخرج منه طمعاً من طمع الدنيا، فإن أنكرت قلوبكم هذا سكنت إلى هذا.
وعن سعيد بن عامر، حدثنا جويرية قال: دخلنا على فاطمة بنت علي بن أبي طالب، فأثنت على عمر بن عبد العزيز خيراً، وقالت: لو كان بقي لنا ما احتجنا بَعْدُ إلى أحد.
وعن عطاء بن أبي رباح قال: حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيزة أنها دخلت عليه وهو جالس في مصلاه تسيلُ دموعه على لحيته، فقالت: يا أمير المؤمنين، أشيء حدث؟ قال: يا فاطمة، إني تقلدت من أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أسودها وأحمرها، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وسائر البلاد، فعلمت أن ربي سائلي عنهم يوم القيامة، فخشيت ألا تثبت لي حجة، فبكيت.
وعن الأوزاعي؛ أن عمر بن عبد العزيز كان جالسَاً في بيته وعنده أشراف بني أمية، فقال: تحبون أن أولي كل رجل منكم جنداً؟ فقال رجل منهم: لم تعرض علينا ما لا تفعله؟ فقال: ترون بساطي هذا؟ إني لأعلم أنه سيصير إلى بلاء وفناء، وإني أكره أن تدنسوه بأرجلكم، فكيف أوليكم ديني وأوليكم أعراض المسلمين وأسارهم؟! هيهات، فقالوا: أما لنا قرابة؟! أما لنا حق؟! قال: ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين في هذا الأمر عندي إلا سواء، إلا رجل من المسلمين حبسه عني طول شقته.
حدثنا معاوية بن صالح الحمصي، حدثني سعيد بن سويدة أن عمر بن عبد العزيز صلى بهم الجمعة، ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، إن اللّه قد أعطاك، فلو لبست، فنكس رأسه ملياً، ثم رفعه، فقال: أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة.
وحدث إبراهيم بن هشام، عن أبيه، عن جده، عن مسلمة بن عبد الملك، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لزوجته - وهي أختي فاطمة بنت عبد الملك: اغسلوا قميص أمير المؤمنين، فقالت: نفعل، ثم عدت، فإذا بالقميص على حاله، فقلت لها، فقالت: واللّه ماله قميص غيره، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وعن إسماعيل بن عياش، عن عمر بن مهاجر: كانت نفقة عمر بن عبد العزيز كل يوم درهمين.(2/151)
وعن عون بن المعتمر قال: دخل عمر بن عبد العزيز على زوجته ذاتَ يومٍ فقال: عندك درهم نشتري به عنباً؟ قالت: لا، أنتَ أمير المؤمنين لا تقدر على درهم؟ قال: هذا أهون علي من معالجة الأغلال في جهنم.
قال يحيى بن معين: كان عمر بن عبد العزيز يلبس الفروة الكبل، وكان سراج بيته على ثلاث قصبات فوقهن طين، وكان يسرج عليه الشمعة ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ من حوائجهم أطفأها، ثم أسرج عليه سراجه.
وعن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: قال لي رجاء بن حَيْوَة: ما أكمل مروءة أبيك عمر، سمرت عنده ليلة فعشى السراج، فقال لي: أما ترى السراج قد عشى؟ قلت: بلى، قال: وإلى جانبه وصيف راقد، قلت: ألا أنبهه؟ قال: لا، قلت: أفلا أقوم. قال: ليس من مروءة الرجل استخدامه ضيفه، فقام إلى بطة الزيت، وأصلح السراج، ثم رجع، وقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز.
وعن سليمان بن حرب: قالت لي فاطمة زوجة عمر: كان عمر إذا صلى العشاء، قعد في مسجده، ثم رفع يديه، فلم يزل يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه فلا يزال يدعو ربه رافعاً يديه يبكي؛ حتى تغلبة عيناه، يفعل ذلك ليله أجمع.
وعن ميمون بن مهران، قال: قال لي عمر: حدثني، فحدثه حديثاً، فبكى منه بكاء شديداً، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو علمتُ لحدثتك حديثَاً ألين منه، قال: يا ميمون، إنا نأكل هذه الشجرة العدس، وهي ما علمت مرقه للقلب، مغزرة للدمعة، مذلة للجسد.
قلت: صدق - رضي الله عنه - فإن من خواص العدس ما ذكره، والسبب الخفي في ذلك البكاء إنما هو رقة في قلبه من خوف اللّه تعالى وخشيته، لكنه وجد سبيلا إلى إسناده إلى العدس لما قيل: إن فيه خاصية ذلك؛ كأنه قصد البعد عن مظان الرياء، رضي اللّه تعالى عنه.
قال مجاهد: قال لي عمر بن عبد العزيز: ما تقول الناس في؟ قلت: يقولون: مسحور، قال: ما أنا بمسحور والله، ولكني بخوف ربي مسحور.
قال: وكانت بنو أمية قد تبرمَتْ بعمر؛ لكونه شدَد عليهم وانتزع كثيراً مما في أيديهم مما غصبوه، وكان قد أهمل التحرز، فدسوا له غلاماً سقاه السمَّ، ثم دعا الغلام، وقال: ويحك، ما حملك على أن تسقيني السم؟ قال: ألف دينار أُعْطيتها، وعلى أن أعتق، قال عمر: هاتها، فألقاها في بيت مال المسلمين، وقال: اذهب حيث لا يراك أحد.
وروى أنه وقع غلاء عظيم في زمنه، فقدم عليه وفد من العرب، فاختاروا رجلا منهم لخطابه، فتقدم إليه، وقال: يا أمير المؤمنين، إنا قد وفدنا إليك من ضرورة عظيمة، وحقنا في بيت المال، وماله لا يخلو: إما أن يكون للّه أو لعباد اللّه أو لك: فإن كان لله فإن اللّه غني عنه، وإن كان لعباد الله فأَتهم إياه، وإن كان لك فتصدق علينا؛ إن اللّه يحب المتصدقين. فاغرورقت عينا عمر بالدموع، وقال: هو كما ذكرت، وأمر بحوائجهم فقضيت، فهم الأعرابي بالانصراف، فقال له عمر: أيها الرجل، كما أوصلت حوائج عباد الله إليَ، فأوصل حاجتي، وارفع فاقتي إلى اللّه عز وجل، فقال الأعرابي: اللهم، اصنع بعمر بن عبد العزيز كصنعه في عبادك، فما استتم كلامه حتى ارتفع غيم عظيم، وهطلت السماء، فجاء في المطر بردة، فوقعت على حجر، فانكسرت، فخرج منه كاغد مكتوب فيه: هذه براءة من الله العزيز الجبار، لعمر بن عبد العزيز من النار.
وقال رجاء بن حيوة: كان عمر بن عبد العزيز من أعظم الناس وألينهم وأعلمهم وأجملهم في مشيته ولبسه، ولما استخلف قومَت ثيابه وعمامته وقميصه وقباؤه وخُفاه ورداؤه، فإذا هن يعدلنَ اثنَي عشر درهماً.
وعن زوجته فاطمة؛ أنها قالت: ما اغتسل والله عمر من جنابة منذ ولي هذا الأمر، كان نهاره في أشغال المسلمين ورد المظالم، وليله في عبادة ربه.
قال الحافظ: كان لعمر بن عبد العزيز رأفة بالخَلْق عامة، وبأولاد النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، من ذلك قصة زيد بن الحسن السبط - رضي الله عنهما - وذلك أن عمر بن عبد العزيز كتب في حقه حين كان والياً على المدينة الشريفة من قبل الوليد إلى الوليد: أما بعد، فإن زيد بن الحسن شريف بني هاشم، فأدوا إليه صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعنه يا هذا على ما استعانك عليه فأمر له بذلك.(2/152)
قال عبد اللّه بن وهب: حدثني يعقوب قال: بلغني أن الوليد كتب إلى زيد بن الحسن يسأله أن يبايع لابنه، ويخلع سليمان بن عبد الملك من ولاية العهد الذي عهده له أبوه عبد الملك إلى الوليد، ففرق زيد، وأجاب الوليد، فلما استخلف سليمان، وَجدَ كتاب زيد بذلك إلى الوليد فكتب إلى أبي بكر بن حزم أميره؛ ادع زيداً، فاقرأ عليه كتابه، فإن عرفه فاكتب إلي، وإن أنكره فحلفه. قال: فخاف اللّه، واعترف بذلك، وأشار عليه القاسم بن محمد، وسالم بن عبد اللّه بن عمر، فكتب بذلك ابن حزم إلى سليمان بن عبد الملك، وكان جواب سليمان أن اضربه مائة سوط، ودرعه عباءة ومشه حافيَاً. قال: فحبس عمر بن عبد العزيز الرسول في عسكر سليمان، وقال: حتى أكلم أمير المؤمنين فيما كتب به، ومرض سليمان فمات، فحرق عمر بن عبد العزيز الكتاب، جزاه الله تعالى في فعله أفضل الجزاء.
وقال - رضي اللّه تعالى عنه - : لو كنت في قتلة الحسين، وأمرت أن أدخل الجنة، ما فعلتُ؛ حياء أن تقع علي عين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأتى الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج فقال: ما تقول في الحجاج؟ قال: ما عساي أن أقول في الحجاج، وهل الحجاج إلا خطيئة من خطاياك وأبيك، وشَرَر من نارك وناره؟! فلعنة اللّه عليك وعلى الحجاج معك، وأقبل يشتمهما، فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: ما تقول في هذا؟ قال عمر: ما أقول في هذا! هذا رجل يشتمكم؛ فإما أن تشتموه كما يشتمكم أو تعفون، فغضب الوليد، وقال: ما أظنك إلا خارجياً، فغضب عمر، وقال: ما أظنك إلا مجنونَاً، وقام وخرج مغضباً ولحقه خالد بن الريان، فقال له: ما حملك على ما أجبت به أمير المؤمنين؟ واللّه لقد ضربْتُ يدي على قائم سيفي أنتظره متى يأمرني بضرب عنقك، فقال له عمر: وكنتَ فاعلاَ لو أمرك؟ قال: نعم، فلما استخلف عمر بن عبد العزيز، جاء خالد بن الريان فقام على رأسه؛ كما كان يقوم على رأس من كان قبله من الخلفاء، وكان رجل من الكتاب يضر وينفع بقلمه، فجاء حتى جلس مجلسه الذي يجلس فيه بين يدي الخلفاء، فنظر عمر إلى خالد بن الريان، فقال له: يا خالد، ضع سيفك؛ فإنك تطيعنا في كل ما أمرناك به، وضع أنت يا هذا قلمك؛ فقد كنت تضر وتنفع، وقال: اللهم، إني قد وضعتهما فلا ترفعهما، قال: فواللّه ما زالا وضيعين بشر حتى ماتا.
قلت: قد تقدمت هذه الرواية على نوع مخالفة لما هنا.
وروى أنه - رضي اللّه تعالى عنه - صعد المنبر ذات يوم بمكة، فقال: أيها الناس، من كانت له ظلامة فليتقدم، فتقَدم علي بن الحسين بن علي - كرم اللّه وجهه - فقال: إن لي ظلامة عندك، فقال: وما ظلامتك؟ فقال: مقامك هذا الذي أنت فيه، فقال: إني لأعلم ذلك، ولكن لو علمت أن الناس يتركونه لك واللّه لتركته.
وروى عن الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر قال: كان العبد الصالح أبو حفص عمر بن عبد العزيز يهدي إلينا الدراهم والدنانير في زقاق العسل؛ خوفاً من أهل بيته.
قال الكلبي: لما أفضت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز، وقدمت عليه الشعراء كما كانت تقدم على الخلفاء، فأقاموا ببابه أيامَاً، لم يؤذن لهم في الدخول، حتى قدم عدي بن أرطاة - وكانت له منه مكانة - فتعرض له جرير، وسأله أن يستأذن لهم، فقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك لهم أيام لا يؤذن لهم، وأقوالهم نافذة وسهامهم مسمومة، فقال عمر: يا عدي، مالي وللشعراء؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن النبي صلى الله عليه وسلم مُدِحَ، وأعطَى، وفيه أسوة لكل مسلم، فقال: ومن مدحه؟ قال: العباس بن مرداس السلمي، فكساه حلة، وقال: يا بلال، اقطع لسانه عني، قال: أتروي قوله؟ قال: نعم، قال عمر: قل، فأنشد: من الطويل:
رَأَيتُكَ يا خَيرَ البريةِ كلهَا ... بخيرِ كتاب جئتَ بالحَق مُعلِمَا
وقررتَ بالإسلامِ أمراً مدمسَا ... وأطفَأْتَ بالبرهانِ جمراً مُضَرَمَا
فَمَنْ مُبلِغٌ عني الرسُولَ محمدا ... فكُلُّ امرئٍ يُجزَى بما قد تَكَلَّما
أقمت سَبِيلَ الحَق بعد اعوجاجِهِ ... وكان قديماً وَجهُهُ قد تَجَهمَا
تعالَى عُلواً فوق عَرْشِ إلاهنا ... وكان جَلالُ اللّه أعْلَى وأعظَمَا(2/153)
قال عمر: فمن بالباب من الشعراء؟ قال عدي: يا أمير المؤمنين، عمر بن أبي ربيعة القرشي المخزومي، فقال: لا قرَبه اللّه ولا حياه، أليس هو القائل: من الطويل:
أَلاَ لَيْتَ أني حينَ تدنُو منيتي ... شَمَمْتُ الذي ما بَين عينيكِ والفَمِ
وباتَت سُلَيمَى في المنامِ ضجيعَتِي ... هنالكَ أو في جَنَّةٍ أو جَهَنمِ
فليته عدو اللّه تمناها في الدنيا، ثم رجع إلى العمل الصالح، واللّه لا يدخل علي، فمن بالباب غيره؟ فقال: كثير عزة، قال: أو ليس هو القائل: من الكامل:
رُهبَانُ مَديَنَ والذين عَهِدتهُمْ ... يَبْكُونَ من حَر العذابِ قُعُودا
لو يسمَعُونَ كما سَمِعتُ كلامَهَا ... خَرُوا لعزةَ رُكَعاً وسُجُودا
عَد عن ذكره، من بالباب غيره؟ قال: الأحوص الأنصاري، قال: أبعده اللّه وأسحقه، أليس هو القائل، وقد أفسد على رجل جاريته، حتى أَبَقَتْ من سيدها: من المنسرح:
أللهُ بَينِي وَبَين سَيدِهَا ... يَفِرُّ مِني بِهَا وَأَتْبَعُهُ
لا يدخل علي، من بالباب غيره؟ قال: الفرزدق همام بن غالب التميمي، قال: أليس هو القائل يفتخر بالزنى: من الطويل:
هُمَا دَلَّيَانِي مِن ثمانينَ قَامَة ... كَمَا انْقض باز أَقتَمُ الريشِ كاسِرُهْ
فلما استَوَت رِجلايَ في الأرضِ قالتا ... أَحَي يُرَجى أم قتيل نُحَاذِرُهْ؟!
لا يدخل علي، من بالباب غيره؟ قال عدي: الأخطل التغلبي، قال: هو الكافر والقائل: من الوافر:
وَلَستُ بصائم رمَضَانَ عمري ... ولَستُ بآكِل لَحمَ الأضاحي
ولست بزَاجِرٍ جَمَلا بكوراً ... إلى بطحاءِ مكة للنجاحِ
ولستُ بِقَائِمٍ كَالعَيرِ يدعُو ... قُبَيل الصبْحِ: حَي عَلَى الفَلاحِ
ولكني سأشرَبُهَا شمولاَ ... وأسجُدُ عند مبتلجِ الصباحِ
والله لا وطئ لي بساطاً، من بالباب غيره؟ قال عدي: جرير بن عطية الخطفي، قال: هو القائل: من الكامل:
لولا مراقبَةُ العيونِ أَرَيْنَنَا ... حِدَقَ المَهَا وَسَوالِفَ الآرامِ
طَرَقَتْكَ صائدَةُ القلوبِ ولَيسَ ذا ... وَقْتُ الزيارة فارْجِعِي بسَلامِ
فإن كان ولا بد، فائذن لجرير، فخرج عدي فأذن له، فدخل وهو يقول: من الكامل:
وَسِعَ الخلائِقَ عَدْلُهُ ووقارُهُ ... حتَى ارعَوَى وأقامَ مَيْلَ المائِلِ
إِني لأَرجُو مِنْكَ خَيراً عاجلا ... فالنفْسُ مُولَعَةٌ بحُب العاجِلِ
فلما حضر بين يديه، قال له: اتق اللّه ولا تقل إلا حقاً، فقال: من البسيط:
كَم باليمامة مِن شعثاءَ أرملةٍ ... ومِنْ ضعيفٍ سقيمِ الصوتِ والنَظَرِ
مِمنْ يَعُدُكَ تكفي فَقْدَ والدِهِ ... كالفَرْخِ في العُشِّ لم يدرجْ ولم يَطِرِ
إنا لنَرْجُو إذا ما الغيْثُ أخلَفَنَا ... مِنَ الخليفةِ ما نَرْجُو من المَطَرِ
نَالَ الخلافَةَ إذْ كانَتْ له قَدَرَاً ... كما أتى رَبهُ موسَى على قَدَرِ
هذي الأرامِلُ قد قضيْتَ حاجتها ... فَمَنْ لحاجةِ هذا الأَرْمَلِ الذَّكَرِ؟!
وهي طويلة، فقال: واللّه يا جرير، ما ملك عمر سوى مائة درهم، يا غلام، ادفعها له، ودفع له حلي سيفه، فخرج جرير إلى الشعراء، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما يسوءكم، رجل يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، وأنا عنه راض، وأنشأ يقول: من الطويل:
رَأَيْتُ رُقَى الشيْطَانِ لا تستفزهُ ... وقد كَانَ شَيْطَانِي مِنَ الجِن رَاقيا
وفي الطبقاتِ لابن سعد، عن عمر بن قيس: لما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، سمع صوت لا ندري قائله يقول: من الطويل:
مِنَ الآنَ قَد طَابَت وَقر قرارُهَا ... عَلَى عُمَرَ المَهْدِي قَامَ عَمُودُهَا(2/154)
وكان عمر عفيفاً زاهداً ناسكاً عابداً مؤمناً ورعاً تقياً صادقَاً، وهو أول من اتخذ دار المضيف من الخلفاء، وأول من فرض لأبناء السبيل، وأزال ما كان بنو أمية تذكر به علياً على المنابر، وكتب إلى الآفاق بتركه، وجعل مكان ذلك: " إِنَّ اَللَهَ يأمُرُ بِالعَدلِ وَاَلإحساَنِ... " الآية " النحل: 90 " ، فامتدحه الشعراء بذلك: من الطويل:
وَليتَ فَلَمْ تَشتُمْ علياً ولم تُخِفْ ... بَرياً ولم تتبعْ سجيَّةَ مُجْرِمِ
وقُلْتَ فَصَدَّقْتَ الذي قُلْتَ بالذي ... فعَلْتَ وأضحَى راضياً كُل مسلِمِ
فما بَين شرقِ الأرضِ والغَرْبِ كلها ... منادِ ينادي مِنْ فصيحٍ وأعجمِ
يقولُ: أمير المؤمنينَ ظَلَمْتَنِي ... بِأَخذِكَ ديناري ولا أَخْذِ درهمِي
فَأَرْبِحْ بها مِنْ صفقةٍ لمبايعٍ ... وأكْرِمْ بها مِنْ بَيْعَةِ ثَم أَكْرِمِ
وكتب إلى عماله ألاَ يقيد مسجون بقيدة فإنه يمنع من الصلاة، وكتب - أيضاً - إلى عماله: إذا دعتكم قدرتكم إلى ظلم الناس، فاذكروا قدرة اللّه عليكم، ونفاد ما تأتون إليهم، وبقاء ما يأتي إليكم من العذاب بِسَبَبِهِمْ.
ومزاياه كثيرة، ومن أرادها، فعليه بالحلية وغيرها مما أفرد لذلك.
وكان مرضه بدير سمعان بحمص، ولما احتضر قال: إلهي، أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا اللّه، فتوفي لخمس مضين من شهر رجب، سنة إحدى ومائة، وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وقيل: أربعين، مدته سنتان وخمسة أشهر وأربعة عشر يومَاً، رحمه الله ورضي اللّه تعالى عنه وأرضاه.
ومما رثي به - رحمه اللّه - قول الشريف الرضي الموسوي نقيب الأشراف ببغداد أبو القاسم، علي بن الحسين بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن موسى بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي اللّه تعالى عنه وعنهم - قوله فيه، وقد جرى ذكر عمر بن عبد العزيز، وما تفرد به عن أهل بيته من الصلاح والعدل وجميل السيرة، وما كان منه من قطع سب علي على المنابر - رضي الله تعالى عنه، وكرم وجهه - إذ عمر بن عبد العزيز توفي بعد تمام المائة الأولى بسنة، والشريف الرضي توفي أواخر القرن الرابع، أو أول الخامس، فلم يدرك وفاته، وإنما قال هذه القصيدة لما جرى ذكره بما ذكر فقال: من الخفيف:
يَا بْنَ عَبْدِ العزيز لَوْ بَكَتِ العَي ... ن فَتى مِنْ أُمَيةٍ لَبَكَيْتُكْ
غَيْرَ أني أَقُولُ إنَّكَ قد طِب ... تَ وَإِن لم يَطِبْ ولم يَزْك بَيتُك
أنت نَزهتَنَا عَنِ السب والقَذ ... فِ فلو أَمْكَنَ الجَزَا لَجَزيْتُكْ
وَلَوَ أني رَأَيتُ قَبْرَكَ لاسْتَح ... يَيْتُ مِن أن أُرَى وما حَييْتُك
وَقَلِيلٌ أَن لو بَذَلْتُ دِمَاءَ ال ... بُدْنِ صِرفَاً على الثرَى وسَقَيْتُكْ
دَيرُ سمعانَ لا أَغَبكَ غادٍ ... خَيْرُ ميتٍ من آل مرْوَانَ مَيْتُكْ
أنتَ بالذكْرِ بين عَيْنِي وقلبي ... إن تَدَانَيْتُ مِنْكَ يَوْمَاً أَتَيْتُكْ
وإذَا حركَ الحَشَا خَاطِر من ... ك تَوَهمتُ أَننِي قَدْ رَأَيْتُكْ
قَرُبَ العَذلُ مِنكَ لَما نَأَى الجَوْ ... رُ بِهِمْ فاجتَوَيْتَهُمْ وَاجْتَبَيْتُكْ
وَلَوَ أني مَلَكتُ دفعاً لما نَا ... بَكَ مِن طَارِقِ الرَّدى لَفَدَيْتُكْ
رحمه الله تعالى.
خلافة يزيد بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم أمير المؤمنين أبو خالد الأموي، ولي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز بعهد من أخيه سليمان معقود في تولية عمر بن عبد العزيز؛ كما ذكرناه.
وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، ولد سنة إحدى أو اثنتين وسبعين، وكان جسيماً أبيض مدوَر الوجه أفقم لم يشب.
وقيل لعمر بن عبد العزيز حين احتضر: اكتب ليزيد فأوصه بالأمة، فقال: بماذا أوصيه؟ إنه من بني عبد الملك، ثم كتب:(2/155)
أما بعد، فاتق اللّه يا يزيد، وإياك أن تحركك الصرعة بعد الغفلة حين لا تُقَال العثرة، ولا تقدر على الرجعة؛ إنك تترك ما تترك لمن لا يحمدك، وتصير إلى من لا يعذرك، والسلام.
ولما ولي يزيد، عمل بسيرة عمر بن عبد العزيز أربعين يوماً، فدخل عليه من الذين أضلهم الله على علم أَربَعُونَ نفراً من الشيوخ من أهل دمشق، وحلفوا له باللّه ما على الملك من سؤال ولا عذاب في لَذات نفسه؛ لأنه مشتغل بأمور الناس - نعوذ بالله مما سيلقى الظالمون من شديد العذاب الأليم! وخدعوه بذلك، فانخدع لهم، وكان كلامهم موافقاً لهواه، فانهمك في اللذات واللهو والطرب، ولم يراقب اللّه، ولم يخشه.
وروى أن ابن شهاب عبد اللّه بن مسلم الزهري، دخل عليه، فقال له يزيد: هاهنا حديث حدثنا به أهل الشام، فقال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: حدثوا أن اللّه تعالى إذا استرعى عبداً عباده، كتب له الحسنات، ولم يكتب عليه السيئات، فقال ابن شهاب: كذبوا يا أمير المؤمنين، أنبي خليفة أقرب عند اللّه أم خليفة غير نبي؟ قال: بل نبي خليفة أقرب، قال: أحدثُكَ بما لا تشكُّ فيه، قال اللّه تعالى: " يَا دَاودُ إِنا جَعلناك خليفَة في اَلأَرضِ فاحكمُ بَين اَلناسِ... " الآية " ص: 26 " ، يا أمير المؤمنين، هذا في حق خليفة نبي، فما ظنك بخليفة غير نبي؟! يحكى عن مؤدب يزيد هذا؛ أنه قال له في صغره وقت تعلمه، وقد لحن: لم لحنت؟ فقال: الجواد قد يعثر، فقال له المؤدب: إي واللّه، ويضرب حتى يستقيم، فقال يزيد: وربما يرمح سائسه، فيكسر أنفه.
وفي تاريخ ابن عساكر: ذكر أن يزيد بن عبد الملك كان قد اشترى في أيام أخيه سليمان بن عبد الملك جارية من عثمان بن سهل بن حنيف الأنصاري بأربعة آلاف دينار، وكان اسمها حَبابة - بتشديد الباء الأولى - وأحبها حباً شديداً، فبلغ أخاه سليمان ذلك، فقال: لقد هممت أن أحجر على يزيد، فبلغ ذلك يزيد، فباعها؛ خوفَاً من أخيه سليمان، فلما أفضت الخلافة إليه بعد سليمان، قالت له زوجته: يا أمير المؤمنين، هل بقي في نفسك من الدنيا شيء؟ قال: نعم، قالت: ما هو؟ قال: حَبابة، فاشترتها له وهو لا يعلم، وزينَتهَا وأجلستها من وراء الستر، ثم قالت له: يا أمير المؤمنين، هل بقي في نفسك من الدنيا شيء؟ قال لها: أوما أعلمتك أنها حبابة، فرفعت الستر، وقالت: ها أنت وحَبابة، وتركته وإياها، فحظيت عنده وغلبت على عقله، ولم ينتفع به في الخلافة.
وأنه قال يوماً: بعض الناس يقولون: إنه لن يصفو لأحد من الملوك يوم كامل من الدهر، وإني أريد أن أكذبهم في ذلك، وأقبل على لذاته واختلَى مع حبابة، وأمر أن يحجب عن سمعه وبصره كل خبر يُكرَهُ، فبينما هو في تلك الحال في صفو عيش وزيادة فرح وسرور، إذ تناولت حَبابة حَبة رمان، وهي تضحك، فغَصتْ بها، فماتت، فاختل عقل يزيد، وتكدر عيشه، وذهب سروره، ووجد عليها وجداً شديداً، وتركها أيامَاً لم يدفنها، بل يقبلها ويرتشفها حتى أنتنت، وجافت، فأمر بدفنها، ثم نبشها من قبرها، فلم يعش بعدها إلا خمسة عشر يوماً، وكان مرضه بالسل، ومما قال فيها: من الطويل:
فَإِن تَسلُ عنكِ النفسُ أَو تَدَعِ الهَوَى ... فباليَأسِ تَسْلُو عَنْكِ لا بالتَجَلُّدِ
وَكُل خلِيلٍ زَارَني فَهوَ قَائِل ... مِنَ أجلِكِ هَذَا هَامَة اليَوْمِ أَوْ غَدِ
قال أبو مسهر: مات يزيد بأربد بمرض السل، وقال غيره: مات لخمس بقين من شعبان، سنة خمس ومائة، وكانت خلافته أربع سنين وشهراً، عمره خمس وأربعون، وقيل: تسع وعشرون.
خلافة هشام بن عبد الملك
كان ذا دهاء وحزم، وفيه حلم وتدبير لأحوال المملكة، ونظر لأحوال الرعية، وقلة شَرَهٍ، وكان مجتنبَاً لسفك الدماء؛ لكنه قتل الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكفي بقتله سفكَاً للدماء.
قام بتدبير المملكة أتم قيام، وكان يجمع الأموال ويوصف بالبخل والحرص، يقال: إنه جمع من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبله، فلما مات احتاط الوليد بن يزيد على ما تركه وأمر الخزان، فغلقوا الخزائن، وما كفنه إلا مملوك من مماليكه.(2/156)
وكان هشام أحول العين، حُكِيَ أنه خرج يوماً فلقي رجلا أعور، فأمر بضربه وحبسه، فقال له الأعور: ما ذنبي؟ فقال هشام: تشاءمتُ بك، فقال الأعور: شؤم الأعور على نفسه، وشؤم الأحول على غيره؛ ألا ترى أني استقبلتك فلم يصبك مني شيء، وأنت استقبلتني فنالني منك السوء؟ فخجل هشام ووصله.
وقيل: عرض هشام الجند بحمص، فمر به رجل من أهل حمص، وهو على فرس نفور، فقال هشام: ما حملك على أن تركب فرسَاً نفوراً؟ فقال الحمصي: لا والله يا أمير المؤمنين، ليس بنفور، ولكنه أبصر حولتك، فظن أنك عزون البيطار، فنفر، فقال هشام: تنح؛ عليك وعلى فرسك لعنة اللّه، وكان عزون البيطار رجلا أحول.
حكى الزبير بن بكار: قال هشام لأبي النجم الفضل بن قدامة العجلي: صف لي إبلا، قال أبو النجم: فذهب بي الروي إلى أن قلت: من الرجز:
وَصَارَتِ الشمْسُ كَعَينِ الأَحْوَل
فغضب هشام، فقال: أخرجوا هذا، ثم بعد مدة أدخلت عليه، فقال: هل لك أهل؟ قلت: نعم، وابنتان، قال: زوجتهما؟ قلت: إحداهما، قال: فما أوصيتها؟ قلت: من الرجز:
أَوْصَيْتُ مِنْ بَرَةَ قَلْبَا حُرَا ... بِالكَلْبِ خَيْراً والحمَاةِ شَرا
لاَ تَسْأمِي خَنْقاً لَهَا وَجراً ... وَالحَيَ عميهمْ بِشَر طُرا
وإنْ حَبَوْكِ ذَهَباً وَدُرَاً ... حَتَى يَرَوْا حُلْوَ الحياةِ مُرَا
فضحك هشام، واستلقى، وقال: ما هذه وصية يعقوب بنيه، قلت: يا أمير المؤمنين، ولا أنا مثل يعقوب، عليه السلام، قال: فما زدتها؟ قلت: من الرجز:
سُبى الحمَاةَ وَابْهَتِي عَلَيْهَا ... وإنْ نَأَتْ فَأزلفي إليها
واقرعِي بِالوُدِّ مِرفَقَيْهَا ... مظاهر اليد بِهِ عليها
قال: فما فعلت أختها؟ قلت: درجت بين أبيات الحي، فنفعتنا، قال: فما قلتَ فيها؟ قال: قلت: من السريع أو الرجز:
كَأن ظَلامَة أَخْتَ شَيْبَانْ ... يتيمَة وَوَالِدَاهَا حَيانْ
أَلرَأْسُ قَفلٌ كُلُّهُ وَصُوْبَانْ ... وَليسَ في الرٌجلَينِ إلا خَيْطَانْ
فَهيَ الَتِي يَذْعَرُ منها الشَّيْطَانْ
فوصلني هشام بدنانير، وقال: اجعلها في رجلي ظلامة، وهذا أبو النجم هو القائل: من الرجز:
أَنَا أَبُو النجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي
ومن العقد لابن عبد ربه: كان الكميت الشاعر المشهور مادِح أهل البيت يمدح بني هاشم، ويعرضُ ببني أمية، فطلبه هشام بن عبد الملك، فهرب عنه، فكان مطرداً عشرين سنة لا يستقرُ له قرار؛ خوفاً من هشام، وكان مسلمة بن عبد الملك أخو هشام له حاجة على هشام يقضيها له كل سنة، ولا يرده فيها كائنة ما كانت، فخرج مسلمة إلى بعض حروبه، ثم أتى، فأتاه الناس يسلمون عليه، وأتاه من جملتهم الكميت بن زيد، فقال: السلام عليك أيها الأمير، أما بعد: من مجزوء الكامل:
............ ... قِفْ بِالديَارِ وُقُوفَ زَائرْ
حتى انتهى إلى قوله:
يَا مُسْلم يَا بْنَ الوَلي ... د لميت إنْ شِئْتَ نَاشِرْ
عَلقَتْ حبالِي مِنْ حِبَا ... لِكَ ذِمَّةَ الرَجُلِ المُجَاوِرْ
فَالآنَ صرْتُ إلَى أُمَي ... يَةَ وَالأمُورُ لَهَا مَصَايِرْ
وَالآن كُنْت بِهِ المصي ... ب لمهتدٍ بالأَمْسِ حَائِرْ(2/157)
فقال مسلمة: سبحان اللّه، من هذا الهندكي الجلحاب الذي أقبل من أخريات الناس، فبدأ بالسلام، ثم أما بعد، ثم الشعر؟ قيل له: الكميت، فأعجب به وبفصاحته، فذكر له الكميت بعد أن تَم إنشاده رعبه من هشام، وطول تشرده، فضمن له مسلمة أمانه، وتوجه حتى أدخله على هشام، وهو لا يعرفه، فقال الكميت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، الحمد للّه، فقال هشام: نعم، الحمد للّه يا هذا، فقال الكميت مبتدئ الحمد ومبتدعه، واستمر في خطبة طويلة بديعة فيها قوله: تهت في حيرة، وحرت في سكرة، ادلأَم بي خَطَرُهَا، وأهاب بي داعيها، فأجابني غاويها، فاقطوطيت إلى الضلالة، وتسكعت في الظلمة والجهالة، جائراً عن الحق، قائلا بغير الصدق، فهذا مقام العائذ، ومنطق التائب اللائذ، ومصير الهداية بعد العمي، يا أمير المؤمنين، كم من عاثر أقَلتُم عثرته، ومجترم عفوتم عن جرمه... إلى آخر ما قال، فقال هشام: ويحك من سَن لك الغواية، وأهاب بك في الغيابة؟ فقال الكميت: الذي أخرج أبي من الجنة، فَنَسِي ولم يجد له عزماً، وهو مترصد لبنيه، فعفا عنه هشام.
وفي ربيع الأبرار: تنسب إلى الفرزدق مكرمة يُرجَى له بها الجنة، هي أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه، مدحه الفرزدق، فلما طاف بالبيت، جهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه، فلم يقدر على ذلك؛ لكثرة الزحام، فنصب له كرسي، وجلس عليه ينظر إلى الناس، ومعه جماعة من أعيان أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين بن علي بن الحسين، وكان من أجمل الناس وجهاً، وأطيبهم أرجاً، وبين عينيه سجدة، فلما انتهى إلى الحجر تنحى عنه الناس هيبة وإجلالاً حتى استلم الحجر، فغاظ ذلك هشاماً، فقال له رجل من أهل الشام: من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبَةَ؟ا فقال هشام: لا أعرفه؛ مخافة أن يرغَبَ فيه أهل الشام، وكان الفرزدق حاضراً، فقال: أنا أعرفه، فقال الشامي: من هو، يا أبا فراس؟. قال: من البسيط،
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ اللَهِ كُلهِمُ ... هَذَا التقِيُ النقِيُ الطَاهرُ العَلَمُ
هَذَا الذي تَعرِفُ البطحَاءُ وَطأَتَهُ ... والبيتُ يَعْرِفُهُ والركْنُ والحَرَمُ
إذا رَأَتهُ قريش قَالَ قائلُهَا: ... إلى مكارِمِ هذا يَنْتَهِي الكَرَمُ
يَنمِي إلى ذروةِ العز التي قَصرَت ... عَن نَيلِها عَرَبُ الإسلامِ والعَجَمُ
يكادُ يُمْسِكُهُ عرفانَ راحَتِهِ ... رُكْنُ الحَطِيمِ إذا ما جَاءَ يَسْتَلِمُ
في كَفهِ خَيزُرَان ريحُهُ عبق ... مِنْ كَفِّ أرْوَعَ في عِرنينه شَمَمُ
يُغَضِي حياء ويُغضَى مِن مَهَابَتِهِ ... فَمَا يُكلمُ إلاَّ حينَ يَبْتَسِمُ
ينشَق نُورُ الهُدَى مِن نُورِ غَرتِهِ ... كالشمسِ تنجَابُ عَن إشراقها الظلمُ
مُنشقةٌ مِن رَسُولِ اللهِ نَبعَتُهُ ... طَابَت عَنَاصِرُهُ والخيمُ والشيَمُ
هذا ابن فاطمةِ إن كُنتَ تَجهَلُهُ ... بجَده أنبياءُ اللهِ قد خُتِمُوا
أللهُ شَرفَهُ قدماً وعَظمَهُ ... جَرى بذاك له في لَوْحِهِ القَلَمُ
ولَيْسَ قولُكَ: مَن هذا؟ بضائِرِهِ ... ألعربُ تعرفُ مَن أنكَرتَ والعَجَمُ
كِلتَا يَديِه غِيَاث عَم نَفْعُهُمَا ... يَستَوكِفَانِ ولا يَعْرُوهما العَدَمُ
سَهلُ الخليقةِ لا تُخشَى بوادِرُهُ ... يَزِينُهُ اثنانِ: حسنُ الخُلْقِ والشيَمُ
حَمالُ أثقالِ أقوام إذا فدحوا ... حلْو الشمائِلِ تَخلُو عنده النعَمُ
ما قال لا قَط إلا في تَشهده ... لَولاَ التَشَهُدُ كانَتْ لاؤهُ نَعَمُ
عَم البريَّةَ بالإِحسانِ فانقَشَعَت ... عنها الغَيَابَةُ والإِملاقُ والعَدَمُ
مِن مَعْشَرٍ حُبهُم دِينْ وبغضُهُمُ ... كُفرٌ وقُربُهُمُ مَنجي ومُعتَصَمُ(2/158)
إن عُدَ أهلُ التقَى كانوا أَئِمتَهُم ... أو قِيلَ: مَن خَيرُ أهلِ الأرضِ؟ قِيلَ: هُمُ
لا يستطيعُ جَوَاد بُعدَ غايتِهم ... ولا يُدَانيهِمُ قَوْم وإنْ كَرمُوا
هم الغُيُوثُ إذا ما أزمة أَزمَت ... والأُسْدُ أُسدُ الشرَى إياكَ تحتذمُ
لا ينقصُ العُسرُ بَسطَاً من أكُفهِمُ ... سِيان ذلك إن أثْرَوا وإنْ عدمُوا
مُقَدم بَعدَ ذِكْرِ اللّه ذِكرُهُمُ ... في كُل بَدء ومختوم به الحكمُ
أَيُ الخلائِقِ ليسَت في رِقَابِهِمُ ... لأوليةِ هذا أو له نعمُ
مَنْ يَعْرِفِ اللَّه يَعرِف أَولِيةَ ذا ... فَالدينُ مِنْ بَيتِ هَذَا نَالَهُ الأمَمُ
فغضب هشام، وقال للفرزدق: أو رافضي أنت يا فرزدق؟. فقال: إن كان حب آل البيت رفضاً فنعم، فحرمه هشام جائزته، فتحمل عليه الفرزدق بأهل بيته، فأبى أن يعطيه شيئاً، فقال له عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب: كم كنتَ تؤمل أن يعطيك هشام؟. فقال الفرزدق: ألف دينار في كل سنة، قال: فكم تؤمل أن تعيش؟. قال: أربعين سنة، قال: يا غلام، علي بالوكيل، فدعاه، فقال: أعط الفرزدق أربعين ألف دينار، فقبضها منه، ثم أمر هشام بحبس الفرزدق، فحبس، فأنفذ إليه على زين العابدين اثني عشر ألف درهم، وقال: هذا عاجل برنا ولك المزيد، فردها الفرزدق، وقال: مدحته لله لا للعطاء، فأرسل إليه زين العابدين، وقال له: إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده، والله تعالى عالم بنيتك ومُثيبك عليها، فشكر اللّه لك سعيك، فلما بلغته الرسالة قبلها، وكان حبس هشام للفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة؛ ففي ذلك يقول الفرزدق: من الطويل،
أَتَحْبِسُنِي بَين المَدِينَةِ والتي ... إِلَيْهَا رقابُ النَّاسِ يَهْوي مُنِيبُهَا؟!
يُقلبُ رَأْساً لم يكُنْ رَأْسَ سيد ... وَعَيْناً له حَولاَءَ بَاد عُيُوبُهَا
قال مصعب الزبيري: زعموا أن عبد الملك رأى في المنام كأنه بال في محرابه صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فدسَ إلى سعيد بن المسيب من يسأله تعبير ذلك؟. فقال: يملك من صُلْبِ هذا الرائي أربعة، وكانوا كذلك: الوليد بن عبد الملك، يزيد بن عبد الملك، سليمان بن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك وهو آخرهم، توفي ثاني عشر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة؛ وعمره أربع وخمسون سنة وثلاثة أشهر وثمانية أيام، خلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وسبعة عشرة يوماً.
قال الصفدي في تذكرته: من أولاد هشام: سعيد بن هشام بن عبد الملك بن مروان، كان منهمكاً في لذات الدنيا مغرى بحب النساء، وفيه يقول القائل مخاطبا أباه هشاماً: من البسيط،
أَبْلِغْ هِشَاماً أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ فَقَدْ ... أَغظْتَنَا بأميرٍ غَيْرِ عِنِينِ
طَوْراً يشارِكُ هذا في حَلِيلَتِه ... وتارَة لا يُرَاعِي حُرْمَةَ الدينِ
قال: فحبسه أبوه هشام، فقال أبو محمد السلمي، وكان هذا السلمي في حبس هشام: إن سعيداً كان في بيت علَى حِدَة، وكنت أسمع من بيته صوت العود، فخرجت يوماً إليه، فإذا هو قد أخذ جفنة فنقبها، وعلق فيها أوتاراً، فقلت: ويحك على هذه الحال، تفعل هذا! فقال: لا أبا لك لولا هذا متنا غماً، وهو القائل: من الرجز،
أَرْسَلْتُ كَلْبي طالباً ما يأكُلُه ... مَنِ الذِي يَرُدهُ أو يَجْهَلُهْ
وبلغ أباه هشاماً ما صنعه، فأمر بإخراجه، وقال له: لعنك اللّه، أفسقاً كفسق العوام، هلا فسقاً كفسق الملوك؟ فقال له ابنه: وهل للملوك فِسْق يمتازون به؟! قال: نعم، قال: وما هو؟! قال أن تحيي هذا، وتقتل هذا، وتأخذ مال هذا، فتعطيه هذا، ومن شعر سعيد هذا قوله: من الرمل،
آلُ مروَانَ أَرَاهُمْ في عمى ... غضب العَيْش عليهِمْ وَالفَرَح
كُلُّهم يَسعَى لما يُتعِبُهُ ... وأنا أَسْعَى لأُنْسٍ وَقَدَحْ(2/159)
وفي درة الغواص: قال حماد الراوية: كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك في خلافته، وكان أخوه هشام يحسدني لذلك، فلما مات يزيد وولي هشام، خفته، ومكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا إلى من أثق به من إخواني سراً، فلما لم أسمع أحداً يذكرني في السنة أمنت، فخرجتُ يوماً أصلي الجمعة في مسجد الرصافة، فإذا بشرطيين واقفين علي، وقالا: يا حماد، أجب الأمير يوسف بن عمر الثقفي - وكان والياً على العراق لهشام بن عبد الملك - فاستسلمت في أيديهما، ثم صرت إلى يوسف بن عمر، وهو في الإيوان الأحمر، فسلمت، فرد على السلام، ورَمَى إلى كتاباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد اللّه هشام بن عبد الملك أمير المؤمنين، إلى يوسف بن عمر الثقفي، أَمَا بعد، إذا قرأت كتابي هذا، فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير ترويع ولا تتعتع، وادفع له خمسمائة دينارٍ وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق، فأخذت الدنانير، ونظرت فإذا جمل مرحول، فركبت ووضعت رجلي في الغرز، وسرت حتى وافيت دمشق في اثنتي عشرة ليلة.
فنزلْتُ على باب هشام، فاستأذنت، فأذن لي، فدخلت إليه في دارٍ قوراءَ مفروشة بالرخام، وبين كل رخامتين قضيب ذهب، وهشام جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب حمر من الخز، وقد تضمخ بالمسك والعنبر، فسلمت فرد على السلام واستدناني فدنوْتُ حتى قبلت رجله، فإذا جاريتان لم أر مثلهما قط في أذن كل منهما حلقتان فيهما لؤلؤتان تتقدان، فقال: كيف أنت يا حماد؟. فقلت: بخير يا أمير المؤمنين، فقال: أتدري، لم بعثت إليك؟. قلت: لا، قال: بعثت إليك بسبب بيت خطر ببالي، ولا أعرفه لمن، قلت: وما هو؟. قال: من الخفيف:
وَدَعَوْا بِالصَبُوحِ يوماً فجاءَت ... قَينَةٌ في يَمِينِهَا إِبْرِيق
فقلت: يقوله عدي بن زيد العبادي من قصيدة، فقال: أنشدنيها، فأنشدته: من الخفيف:
بَكَرَ العاذلُونَ في وَضَحِ الصب ... حِ يقولُونَ لي أَلاَ تَسْتَفيِق
ويلُومُونَ فيك يا ابنةَ عَبد ال ... له والقَلبُ عندكُم موثُوقُ
لستُ أدري إذ أَكثَرُوا العَذلَ فيها ... أَعَدو يلومُني أم صَدِيق؟ُ
قال حماد: فأنشدته حتى انتهيت إلى قوله: من الخفيف:
وَدَعَوا بالصبُوحِ يوماً فجاءَت ... قَينَة في يَمِينِها إبرِيقُ
قَدمَتهُ على عقارٍ كَعَين الد ... ديكِ صَفي سلافَها الرَاووقُ
مُرة قَبل مَزجِها فإذا ما ... مُزِجَتْ لَذ طَعمهَا مَن يَذُوقُ
وطفا فَوْقَهَا فقاقيع كَاليَا ... قُوتِ حُمرٌ يَزِينُهَا التصفيقُ
ثم كان المزَاجُ ماءَ سَحَابٍ ... لا صَرى اَجِن ولا مَطرُوقُ
فطرب هشام، وقال: أحسنت يا حماد والله، ثم قال: يا حماد، سل حاجتك، فقلت: إحدى هاتين الجاريتين، ثم ذهبت، فلم أعقل حين أصبحت إلا والجاريتان عند رأسي، وإذا عشرة من الخدم مع كل واحد بدرة فيها عشرة آلاف درهم، فقال أحدهم: إن أمير المؤمنين يقرئك السلام، ويقول: خذ هذا، فانتفع به في سفرك، فأخذت ذلك والجاريتين وعدت إلى أهلي.
خلافة الوليد بن يزيد
لما توفي هشام بالرصافة، ولي بعده الوليد ابن أخيه يزيد، وكان متلاعباً، وله مجون وشراب وندمان، وأراد هشام خلعه فلم يمكنه، وكان يضرب من يؤخذ في صحبته، فخرج الوليد في خاصته ومواليه، وخلف كاتبه عياض بن مسلم، ليكاتبه بالأحوال، فضربه هشام وحبسه. ولم يزل الوليد مقيماً في البرية حتى مات هشام، وجاءه مولى أبي محمد السفياني على البريد بكتاب سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل بالخبر، فسأل عن كاتبه عياض فقال: إنه لم يزل محبوساً حتى مات هشام، فأرسل إلى الخزان أن يحتفظوا بما في أيديهم حتى منعوا هشاماً من كفن، ثم خرج عياض بعد موت هشام من الحبس، وكتب أبواب الخزائن، ثم كتب الوليد من وقته إلى عمه العباس بن عبد الملك أن يأتي الرصافة فَيُحْصي ما فيها من أموال هشام(2/160)
وولده وماله وحشمه، إلا مسلمة بن هشام، فإنه كان يراجع أباه هشاماً بالرفق بالوليد، فانتهى لما أمره به الوليد، ثم استعمل الوليد العمال، وكتب إلى الآفاق بأخذ البيعة، فجاءته بيعتهم، وكتب مروان بيعته، واستأذن في القدوم، ثم عهد الوليد من سنته لابنيه الحكم وعثمان بعده، وجعلهما ولي عهده، وكتب بذلك إلى العراق وخراسان.
قال الذهبي: كان أبوه يزيد بن عبد الملك حين احتضر، عهد بالأمر إلى هشام ابن عبد الملك وأخيه بأن يكون العهد من بعده لولده الوليد بن يزيد، فلما مات هشام، بويع له بالخلافة يوم موت عمه هشام، وهو إذ ذاك بالبرية فاراً من عمه هشام؛ لأنه كان بينه وبين عمه هشام منافسة؛ لأجل استخفافه بالدين، وشربه الخمر، واشتهاره بالفسق والفجور، فهم هشام بقتله ففر وصار لا يقيم بأرض خوفاً من هشام، فلما كان الليلة التي قدم عليه البريد في صبحها بالخلافة، قلق تلك الليلة قلقاً شديداً، فقال لبعض أصحابه: ويحك قد أخذني الليلة قلق، فاركَبْ بنا حتى ننبسط، فسار مقدار ميلين، وهما يتحادثان في أمر هشام، وما يكتب إليه من التهديد والوعيد، ثم نظرا فرأيا في البعد رهجاً وصوتاً، فقالا: اللهم، أعطنا خيرهم، فلما قدم البريد، وأثبتوا الوليد معرفة، ترجلوا وجاءوا فسلموا عليه بالخلافة، فبهت، ثم قال: ويحكم أمات هشام؟. قالوا: نعم، ثم أعطوه الكتب فقرأها. وسار مِنْ فوره إلى دمشق، فأقام على اشتهاره بالمنكرات، وتظاهر بالكفر والزندقة.
قال ابن عساكر وغيره: انهمك الوليد في شرب الخمر ولذاته ورفَض الآخرة وراء ظهره، وأقبل على القصف واللهو والتلذذ مع الندماء والمغنين، وكان يضرب بالعود، ويوقع بالطبل، ويمشي بالدف، وكان قد انتهك محارم الله حتى قيل له: الفاسق، وعرف بذلك، ومع هذا: كان أكمل بني أمية أدباً وفصاحَة وظرفاً وأعرفهم باللغة والنحو والحديث، وكان جوادَاً مفضالاً، ولم يكن في بني أمية أكثر منه إدماناً للشراب والسماع، ولا أشد مجوناً وتهتكاً منه، واستخفافَاً بالدين وأمر الأمة، يقال: إنه واقع جارية وهو سكران وجاءه المؤذنون يؤذنونه بالصلاة، فحلف ألاَ يصلي بالناس إلا هي، فلبست ثيابه وصلت بالمسلمين، وهي جنب سكرَى، وقيل: إنه صنع بركة، فملأها خمراً، وكان إذا طرب، ألقى نفسه فيها ويشرب منها حتى يظهر النقص في أطرافها.
وحكى الماوردي في كتاب أدب الدين والدنيا، عنه: أنه تفاءل ذات يوم في المصحف، فخرج له قوله تعالى: " وَاَسْتَفتحوُا وخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنيد " " إبراهيم: 15 " فأمر بالمصحف فنصب ورماه بالسهام حتى مزقه، وهو يقول: من الوافر،
أَتُوعِدُ كُل جَبارٍ عَنِيد ... فَهَا أنا ذَاكَ جَبَارٌ عَنِيدُ
إذا مَا جِئتَ ربكَ يَوْمَ حشر ... فقُلْ يا رب مَزَّقَني الوَلِيدُ
وقد جاء في الحديث: " يكون في هذه الأمة رجل يقال له الوليد هو شر من فرعون " ، فتأوله العلماء بالوليد بن يزيد هذا، فخلعه أهل دمشق لما ذكر، وقتله يزيد ابن عمه الوليد في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، وكانت خلافته سنة واحدة.
قال العلامة ابن خلدون: ولقد ساءت المقالة فيه كثيراً، وكثير من الناس نفوا عنه ذلك، وقالوا: إنها شناعات الأعداء ألصقوها به.
قال المدائني: دخل ابنه المعمر بن يزيد على الرشيد هارون، فسألة: ممن أنت.؟ فقال: من قريشٍ، فقال الرشيد: من أيها؟. فسكت ووجم، فقال له الرشيد: قل، وأنت آمن، ولو أنك مروان، فقال: أنا المعمر بن يزيد، فقال: رحم اللّه عمك، ولعن يزيد الناقص، فإنه قتل خليفة هو مجمع عليه؛ ارفع حوائجك، فرفعها إليه وقضاها.(2/161)
وقال شبيب بن شبة: كنا جلوساً عند المهدي، وذكر الوليد، فقال المهدي: كان زنديقاً، فقام ابن علاثة الفقيه فقال: يا أمير المؤمنين، إن اللّه تعالى أعدل من أن يولي خلافة النبوة، وأمر الأمة زنديقاً؛ إنه أخبرني عنه من كان يشهده في ملاعبه وشربه بمروءة في طهارته وصلاته، فكان إذا حضرت الصلاة، يطرح الثياب التي عليه المطيبة المصبغة، ثم يتوضأ فيحسن الوضوء، ويؤتي بثياب بيض نظيفة، فيلبسها ويصلي فيها، فإذا فرغ، عاد إلى تلك الثياب فلبسها واشتغل بشربه ولهوه؛ أترى هذا من فعال من لا يؤمن باللّه؟! فقال له المهدي: بارك اللّه فيك يا بن علاثة، وإنما كان الرجل محسداً في خلاله، ومزاحماً بكبار عشيرته، وأهل بيته من عمومته، مع لهو كان يصاحبه أوجَدَ لهم السبيل على نفسه، فكان من خلاله قرض الشعر الوثيق، ونظم الكلام البليغ.
قال يوماً لهشام يغريه في مسلمة: إن عقبي من بقي لخوف من مضى، وقد أمكن بعد مسلمة الصيد لمن رمى، واختل الثغر فهوى، وعلى أثر من سلف يمضي من خلف، فتزودوا؛ فإن خير الزاد التقوى فأعرض هشام وسكت القوم.
وأما حكاية مقتله: فإنه لما تعرض له بنو عمه، ونالوا من عرضه، أخذ في مكافأتهم، فضرب سليمان ابن عمه هشام مائة سوط، وحلقه وغربه إلى معان من أرض الشام، فحبسه إلى آخر دولته، وحبس أخاه يزيد بن هشام، وفرق بين روح بن الوليد وبين امرأته، وحبس عدة من ولد الوليد، وطعنوا عليه في تولية ابنيه الحكم وعثمان العهد مع صغرهما، وكان أشد الناس عليه يزيد بن الوليدة لأنه يتنسك؛ فكان الناس إلى قوله أميل؛ فخرج عليه يزيد بن الوليد المذكور الملقب بالناقص، وتغلب على دمشق.
خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان
لما خلع أهل دمشق الوليد بن يزيد بن الوليد المذكور، ثم جهز يزيد الجيش إلى الوليد بمكانه من البادية، فإنه كان غائباً بها، فجهز إليه الجيش مع عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، ومع منصور بن جمهور، وقد كان الوليد حين بلغه الخبر، بعث عبد اللّه بن يزيد بن معاوية إلى دمشق، فأقام بطريقه قليلاً، ثم بايع ليزيد، وأشار على الوليد وأصحابه أن يلحق بحمص؛ فيتحصن بها، قال له ذلك يزيد بن خالد بن يزيد، وخالفه عبد الله بن عنبسة، وقال: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره وحرمه قبل أن يقاتل، فسار إلى قصر النعمان بن بشير، ومعه أربعون من ولد الضحاك وغيرهم، وجاءه كتاب العباس بن الوليد بأنه قادم، ولما وصل عبد العزيز ومنصور اللذان أرسلهما يزيد صحبة الجيش، بعث إليه وإلى أصحابه زياد بن الحصين الكلبي يدعوانهم إلى الكتاب والسنة، فقتله أصحاب الوليد فقَاتلوهم حينئذ، واشتد القتال بينهم، وبعث عبد العزيز بن منصور بن جمهور لاعتراض العباس بن الوليد في أن يأتي الوليد، فجاء به منصور كرهاً إلى عبد العزيز، وألزمه البيعة لأخيه يزيد، ونصبوا راية باسمه فتفرقْ الناس عن الوليد، واجتمعوا على العباس وعبد العزيز، وأرسل الوليد إلى عبد العزيز بخمسين ألف دينار وولاية حمص ما بقي على أن ينصرف فأبى، ثم قاتل الوليد قتالاً شديداً؛ حتى سمع النداء بقتله وسبه من جوانب الحومة، فدخل القصر وأغلق الباب، وطَلَبَ الكلام من أعلى القصر، فكالمه يزيد بن عنبسة السكسكي، فذكره بحقوقة وفعاله فيهم، وزيادته في أرزاقهم، فقال ابن عنبسة: ما ننقم عليك في أنفسنا، وإنما ننقم عليك في انتهاكك ما حرم اللّه تعالى، وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر اللّه تعالى.
فقال: حسبك يا أخا السكاسك، لقد أكثرت وأغرقْتَ، فيما أحل اللّه سعة عما ذكرتَ، ثم رجع إلى الدار فجلس وأخذ المصحف يقرأ، وقال: يوم كيوم عثمان، فتسوروا عليه، وأخذ يزيد بن عنبسهّ بيده يقيه لا يريد قتله، وإذا بمنصور بن جمهور في جماعة معه ضربوه، واحتزوا رأسه وساروا به إلى يزيد، فأمر بنصبه، فتلطف له يزيد بن فروة في المنع من ذلك، وقَال: هذا ابن عمك وخليفة، وإنما تنصب رءوس الخوارج، ولا اَمن أن يغضب له أهل بيته، فلم يجبه يزيد إلى ذلك، وأطافه بدمشق على رمح وبعثه، إلى أخيه سليمان بن يزيد، وكان معهم عليه. وكان قتله في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة؛ كما تقدم ذكر ذلك.(2/162)
ولما قتل، خطب يزيد بالناس فذمه وثلبه، وأنه قتله لأجل ذلك، ثم وعدهم بحسن النظر والاقتصار عن النفقة في غير حاجاتهم وسد الثغور والعدل في العطاء والأرزاق، ورفع المظالم، وإلا فلكم ما شئتم من الخلع، وكان يسمى الناقص؛ لأنه نقص الزيادة التي زادها الوليد في أعطيات الجند وهي عشرة عشرة، وردها كما كانت أْيام هشام، وقيل: لنقصان كان في أصابع رجليه، وأول من سماه بذلك مروان ابن محمد.
ولما قتل الوليد، كان مروان بن محمد بن مروان بن الحكم على أرمينية، وكان على الجزيرة عبدة بن رباح الغساني، وكان الوليد قد بعث بالصائفة أخاه، فبعث معه مروان بن عبد الملك، فلما انصرفوا من الصائفة، لقيهم بحران خبر مقتل الوليد، فسار عبدة عن الجزيرة إلى الشام، فوثب عبد الملك بالجزيرة وحران، فضبطهما وكتب إلى أبيه مروان بأرمينية يستحثه طالباً بدم الوليد بعد أن أرسل إلى الثغور من يضبطها، وكان معه ثابت بن نعيم الجذامي من أهل فلسطين، وكان صاحب فتنة، وكان هشام قد حبسه على إفساد الجند بإفريقية عند مقتل كلثوم بن عياض، وتشفع فيه مروان، فأطلقه واتخذ عنده يداً، فلما سار من أرمينية، دخل ثابت بن نعيم إلى أهل الشام في العود إلى الشام من وجه الفرات، واجتمع له الكثير من جند مروان وناهضه القتال، ثم غلبهم وانقادوا له، وحبس ثابت بن نعيم وأولاده، ثم أطلقهم من حران إلى الشام، وجمع نيفاً وعشرين ألفاً من الجزيرة يسير بهم إلى يزيد، وكتب إليه بشرط ما كان عبد الملك ولي أباه محمداً من الجزيرة وأرمينية والموصل وأذربيجان، فأعطاه يزيد ولاية ذلك، وبايع له مروان وانصرف، وأقام يزيد في الخلافة والأمور مضطربة عليه، وكان مظهراً للنسك وقراءة القرآن وأخلاق عمر بن عبد العزيز، وكان ذا دين وورع.
قال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - ولي يزيد بن الوليد، وكان قدرياً، فدعا الناس إلى القدر وحملهم عليه، وبايع لأخيه إبراهيم بن الوليد بالعهد ومن بعده لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك؛ حمله على ذلك أصحابه القدرية لمرض أصابه، ثم توفي يزيد آخر سنة 126 ست وعشرين ومائة، وكانت خلافته خمسة أشهر وعشرين يوماً، وعمره تسع وثلاثون سنة، وقيل: أربعون.
خلافة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان
بويع له بعد موت يزيد، وكان إبراهيم قليل العقل قليل التدبير، فانتقض الناس عليه، ولم يتم له أمر، وكان يسلم عليه تارة بالخلافة، وتارة بالإمارة، وقال فيه الشاعر: من الطويل،
نُبَايعُ إبراهيمَ في كُل جمعةٍ ... ألا إنَّ أَمْراً أَنْتَ وإليه ضَائِعُ
وأقام على ذلك نحواً من ثلاثة أشهر، ولم يبايعه مروان بن محمد، وقام عليه وخلعه، ثم بعد خلعه بثلاثة أيام قتله، وقيل: صلبه، وكان يلقب: صلبان، وهو اسم مجنون بدمشق.
وقال ابن خلدون: لم يقتله؛ بل عاش إلى أن هلك سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
خلافة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم(2/163)
لما مات يزيد بن الوليد، وجلس في مكانه إبراهيم أخوه، لم يبايعه مروان، وتعلل بأشياء، ونهض للخلافة، وبويع في خامس عشر شهر صفر سنة سبع وعشرين ومائة. وكان قبل ذلك والياً على أرمينية؛ كما تقدم ذكره، وصار سلطانه في الشام ومصر فقط، وكان زمانه زمان حرب وفتن واختلاف، فاضطربت أموره، فسار إلى دمشق، فلما انتهى إلى قنسرين، وكان عليها بشر بن الوليد عاملاً لأخيه يزيد، ومعه أخوهما مسرور، فدعاهما مروان إلى بيعته، ومال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة، وخرج بشر للقاء مروان، فلما تراءى الجمعان، مال ابن هبيرة وقيس إلى مروان، وأسلموا بشراً وسروراً، فأخذهما مروان وحبسهما، وسار بأهل قنسرين ومن معه إلى حمص، وكانوا قد امتنعوا من بيعة إبراهيم فوجه إليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك في جند أهل دمشق، وكان يحاصرهم، فلما دخل مروان، رحل عبد العزيز عنهم وبايعوا مروان، وخرج للقائه سليمان بن هشام في مائة وعشرين ألفاً، ومروان في ثمانين ألفاً، فدعاهم إلى الصلح، وترك الطلب بدم الوليد على أن يطلقوا ابنيه الحَكَم وعثمان وليي عهده، فأبوا وقاتلوه، وسرب عسكراً جاءوهم من خلفهم فانهزموا، وأثخن فيهم أهل حمص، فقتلوا منهم نحواً من خمسة عشر ألفاً، وأسروا مثلها، ورفع مروان القتل، وأخذ عليهم البيعة للحكم وعثمان ابني الوليد، وكان ممن شهد مقتل الوليد، وهرب يزيد بن خالد القسري إلى دمشق، فاجتمع مع إبراهيم وعبد العزيز بن الحجاج، وتشاوروا في قتل الحكم وعثمان؛ خشية أن يطلقهما مروان؛ فيثأران كل منهما، وولوا ذلك يزيد بن خالد، فبعث مولاه أبا الأسد فقتلهما، وأخرج يوسف بن عمر فقتله، واعتصم أبو محمد السفياني ببيت في الحبس؛ فلم يطيقوا فتحه، وأعجلتهم خيل مروان، وأنهب سليمان بن هشام بيت المال، وخرج من المدينة، وعمر مولى الوليد بن يزيد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج فقتلوه ونبشوا قبر يزيد بن الوليد، وصلبوه على باب الجابية، وجاء مروان فدخل دمشق وأُنبِئ بابن الوليد ويوسف بن عمر مقتولين فدفنهما، وأتى بأبي محمد السفياني في قيوده، فسلم عليه بالخلافة، وقال: إن وليي العهد جعلاها لك، ثم بايعه، وسمع الناس فبايعوه، وكان أولهم بيعة معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير وأهل حمص، ثم رجع مروان، واستأمن له إبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام، وقدما عليه، وكان قدوم سليمان بمن معه من أخوته وأهل بيته ومواليه، فبايعوا لمروان في سنة تسع وعشرين ومائة في رمضان منها.
قيام أبي مسلم الخراساني بالدعوة لبني العباس بخراسان
ظهر بها في مدينة مرو، فدانت له البلاد، وهزم الأحزاب المروانية، وكان أبو مسلم داعياً لإبراهيم بن محمد الإمام بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أخي السفاح عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس، وكان إبراهيم المذكور بالقرية المعروفة بالكرار والحميمة والكتب من أبي مسلم تصل إليه بما اتفق من الفتوحات، وكان قبله نصر بن سيار عاملاً على خراسان لمروان، فحاصره أبو مسلم حتى خرج متخفيَاً، فكتب نصر إلى مروان يستنجده بهذه الأبيات يقول: من الوافر،
أَرَى خَلَلَ الرمادِ وميضَ نَارٍ ... وَيوشِكُ أن يِكُونَ لها ضِرَامُ
فإِن النارَ بالعيدان تُذكى ... وإنَّ الحَربَ أوَّلها كَلاَمُ
فَإن لم تُطفِئوها تُخرِجُوهَا ... مُسَجرَة يشيبُ لها الغُلاَمُ
أقولُ من التعجب لَيْتَ شعري ... أأيقاظْ أُمَيهُ أَم نِيَامُ؟!
فَإن يكُ قومنا أَضحَوا نياماً ... فقل قُومُوا فَقَدْ حَانَ القيامُ
تعَزي عَن رجالِكِ ثُم قولي ... عَلَى الإسلامِ والعَربِ السلامُ(2/164)
فوجده الرسول مشغولا بحرب الضَحاك بن قيس، فكتب إليه الجواب: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول قبلك، فقَال نصر لأصحابه: أما إن صاحبكم قد أعلمكم أن لا نصر عنده، وصادف وصول كتاب نصر إلى مروان عثور مروان على كتاب إبراهيم الإمام ابن محمد لأبي مسلم يوبخه حيث لم ينتهز الفرصة من نصر؛ إذ أمكنته، ولا يطاوله في المحاصرة، ويأمره ألا يدع بخراسان متكلماً بالعربية. فلما قرأ مروان الكتاب، بعث إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك وهو يومئذ عامله على دمشق يأمره أن يكتب إلى عامل البلقاء أن يسير إلى الحميمة للقبض على إبراهيم الإمام، فقبضه عامل البلقاء وشده وثاقَاً، وكان القبض عليه في مسجد الحميمة، وأرسل به إلى الوليد، وأرسل به الوليد إلى مروان، فحبسه بحران ثم قتله.
وكان إبراهيم قد عهد بالوصية إلى أخيه عبد اللّه بن محمد الملقب بالسفاح ابن الحارثية، وأرسل إليه بالجامعة وأمره أن يسير على ما ذكر فيها؛ فإن الأمر صائر إليه، وإن بني العباس موطدة لا محالة، فلما اشتهر قتل إبراهيم الإمام، بايع أبو مسلم وغيره من الدعاة أبا العباس عبد الله السفاح ابن محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس، فبث دعوته في سائر الأمصار، وأظهر لبس السواد، وسير أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي إلى شهرزور، فقتل عثمان بن سفيان، وأقام بناحية الموصل، وسار مروان بن محمد إليه من حران في مائة وعشرين ألف قارح، ونزل بالزاب - اسم نهر قرب الموصل - وبعث السفاح سلمة بن محمد في ألفين، وعبد اللّه الطائي في ألف وخمسمائة، وعبد الحميد بن ربعي الطائي في ألفين، وورس بن نضلة في خمسمائة كل ذلك إمداد لأبي عون.
ثم ندب أهل بيته إلى السير إلى أبي عون، فأرسل عبد اللّه بن علي بن عبد اللّه ابن عباس، فسار وقدم علي أبي عون، فتحول له عن سرادقه بما فيه، ثم أمر عنبسة ابن موسى في خمسة آلاف، فعبر النهر من الزاب في أول جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقاتل عساكر مروان إلى المساء، فرجع فعقد مروان الجسر من الغد، وقدم ابنه عبد اللّه فعبر، فبعث عبد الله بن علي عم السفاح المذكور المخارق ابن غفار في أربعة آلاف نحو عبد اللّه بن مروان، فسرح ابن مروان الوليد بن معاوية ابن مروان بن الحكم، فانهزم أصحاب المخارق، وأسر هو وجيء به إلى مروان مع رءوس القتلى، فقال له: أنت المخارق؟ قال: لا، قال: فتعرفه في هذه الرءوس؟ قال: نعم، هو ذا، فخلى سبيله.
وقيل: بل أنكر أن يكون في الرءوس؛ فخلى سبيله.
ثم عاجلهم عبد اللّه بن علي بالحرب، وعلى ميمنته أبو عون، وعلى ميسرة مروان الوليد بن معاوية، فأرسل إليه مروان في الموادعة، فأبى، وحمل الوليد بن معاوية وهو صهر مروان على ابنته، فقاتل أبا عون حتى انهزم إلى عبد الله بن علي، فأمر الناس عبد اللّه بن علي فترجلوا، ومشى قدماً ينادي: يالثارات إبراهيم، وبالشعار: يا محمد يا منصور، وأمر مروان القبائل أن يحملوا فتخاذلوا واعتذروا حتى صاحب شرطته، ثم ظهر له الخلل فأباح الأموال للناس على أن يقاتلوا، فأخذوها من غير قتال، فبعث ابنه عبد الله يصدهم عن ذلك، فتنادوا بالفرار، فانهزموا، فقتل منهم خلق كثير، وقطع مروان الجسر فغرق منهم أكثر ممن قتل.
قال الكاتي في تاريخه: قيل: كان سبب هزيمته أنه نزل عن فرسه في الحرب ليزيل حقنه، فهرب الفرس إلى وسط العسكر، فتوهموا أنه قتل، فقيل: ذهبت الدولة بالبولة.
وكانت الهزيمة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
ومضى مروان في هزيمته، ونظر إلى أصحابه مع كثرة عَددهم وقوة عُددهم ولِمَا قد ظَهَرَ فيهم من الفشل، وما حل بهم من الجزع والوجل، فقال: إذا انقضت المدة، لم تنفع العدة.(2/165)
فأقام عبد الله بن علي في عسكره سبعة أيام، واجتاز عسكر مروان بما فيه، وكتب بالفتح إلى ابن أخيه عبد الله السفاح، وسار مروان منهزماً إلى مدينة الموصل، وعليها هشام بن عمرو التغلبي وبشر بن خزيمة الأسدي، فقطعا الجسر ومنعاه العبور إليهم، وقيل لهم: هذا أمير المؤمنين، فتجاهلوا، وقالوا: أمير المؤمنين لا يفرُّ، ثم أسمعوه الشتم والقبائح، فسار إلى حران، وبها أبان ابن أخيه يزيد بن محمد، فأقام بها نحواً من عشرين ليلة، وسار عبد الله بن علي المذكور على أثره إلى الموصل، فملكها، وعزل هشاماً التغلبيَ، وولى مكانه محمد بن صول، ثم سار في أتباع مروان إلى حران، فخرج منها مروان، وترك عليها أبان ابن أخيه، وسار إلى حمص، وجاء عبد اللّه إلى حران، فلقيه أبان مفرداً، فأَمنه وملك الجزيرة.
ولما بلغ مروان حمص، أقام بها ثلاثاً وارتحل، فاتبعه أهلها، لينهبوه فقاتلهم وهزمهم، وأثخن فيهم، وسار إلى دمشق، وعليها الوليد ابن عمه، فأوصاه بقتال عروة، وسار إلى فلسطين، فنزل نهر أبي فطرس، وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي، فأرسل مروان إليه عبد اللّه بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي، فأجاره، ثم سار عبد اللّه بن علي في أثره من حران بعد أن هدم الدار التي حبس فيها مروان أخاه إبراهيم الإمام، وقدم عليه أخوه عبد الصمد بن على بعثه السفاح مدداً في أربعة آلاف، فسار إلى قنسرين فأطاعوه، ثم إلى حمص كذلك، ثم إلى بعلبك، ثم لما نزل مزة دمشق من قرى الغوطة، قدم عليه أخوه صالح بن علي بعثه السفاح مدداً في ثمانية آلاف، وأقام عبد اللّه بن علي خمس عشرة ليلة، وارتحل يريد فلسطين، فأجفل مروان إلى النيل، ثم إلى الصعيد، ونزل صالح بن علي الفسطاط، يعني: مصر، فتقدمت عساكره، فلقوا خيلا لمروان فهزموهم وأسروا منهم، ودلوهم على مكانه ببوصير.
ذكر العلامة الدميري في حياة الحيوان: أن مروان لما أن وصل إلى أبو صير، وهي قرية عند الفيوم، قال: ما اسم هذه القرية؟ قيل له: أبو صير، فقال: وإلى اللّه المصير، ثم دخل كنيسة، فبلغه أن خادماً نم عليه، فأمر به فقطع رأسه، وسل لسانه، وألقى على الأرض، فجاءت هرة، فأكلته، ثم سار إليه أبو عون وعامر بن إسماعيل المذحجي، فأدركوه ببوصير، ثم هجم على الكنيسة التي كان نازلا بها عامر بن إسماعيل المذحجي، فخرج مروان من باب الكنيسة وفي يده السيف، وقد أحاطت به الجنود، وصفت حوله الخيول، فتمثل ببيت العجاج بن حكيم السلمي: من الكامل:
مُتَقَلِّدِينَ صَفَائِحاً هِنْدِية ... تَتْرُكْنَ مَنْ ضَرَبُوا كَأَنْ لَمْ يُولَدِ
ثم قاتل حتى قتل، فأمر عامر برَأْسه، فقطع في ذلك المكان، وسل لسانه، وألقى على الأرض، فجاءت تلك الهرة بعينها، فخطفته وأكلته، فقال عامر: لو لم يكن في الدنيا عجب إلا هذا، لكان كافياً، لسان مروان في فَمِ هرةٍ، وفي ذلك يقول شاعرهم: من البسيط:
قَدْ يَسرَ اللَهُ مِصْراً عَنْوَةَ لكُمُ ... وأهلَكَ الظالِمَ الجَبارَ إِذْ ظَلَمَا
فَلاَكَ مِقْوَلَهُ هِر يُجَرْجِرُهُ ... وَكَانَ عَامِرُ مِن ذي الظلْمِ منْتَقِمَا
وبعث عون بالرأس إلى صالح بن علي، فبعث به صالح إلى السفاح، ووجد عامر بن إسماعيل المذكور نساء مروان وبناته في كنيسة بوصير، وقد وكل بهن خادماً يقتلهن بعده، فبعث بهن إلى صالح، ولما دخلن عليه سألنه في الإبقاء عليهن على قتلاهم عند بني أمية، ثم عفا عنهن وحملهن إلى حران يبكينَ، ودخل عامر بعد قتل مروان الكنيسة، فجلس على فرش مروان، وكان مروان يتعشَّى، فلما سمع الوجبة، وثب عن عشائه فخرج فقتل، فجلس عامر على ذلك الطعام، وجعل يأكل منه، ودعا بابنة لمروان، وكانت أسن بناته، فقالت: يا عامر، إن دهراً أنزل مروان عن فرشه، وأقعدك عليه، حتى تعشيت بعشائه، واستصبحت بمصباحه، ونادمت ابنته - لقد أبلغ في موعظتك، وأجمل في إيقاظك، فاستحيا عامر، وصرفها.(2/166)
قال ابن زنبل في تاريخه: قتل مع مروان ابنه عبيد اللّه، وهرب ابنه الآخر عبد اللّه حتى انتهَى إلى ملك النوبة، فلما وصل إليها، وصل إليه ملك البلاد، وما رضي بالجلوس فوق الفرش بل جلس فوق التراب، فقال للترجمان: قل للملك، لم فعلت ذلك؟ فقال له: إني ملك، وحق على كل ملك أن يكون متواضعاً لعظمة الله تعالى، ثم أقبل ينكث في الأْرض بإصبعه، ثم رفع رأسه، وقال له: كيف سُلبتم نعمة الملك، وأنتم أقرب الناس إلى نبيكم؟! فقال: جاء من هو أقربُ منا إليه، وقتلنا وطردنا، وجئتُ أنا مستجيراً إليك، ثم قال: كيف كنتم تشربون الخمر، وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ فقال: فعله عبيدنا وأتباعنا من العجم وغيرهم، لما دخلوا في ملكنا من غير علمنا، ثم قال: فلم كنتم تركبون على دوابكم بآلة الذهَبِ والفضةِ والديباج، وهو محرم عليكم؟ فقال له مثل الأول، ثم قال: فلم كنتم إذا خرجتم لصيد طائر لا خَطَرَ له، هجمتم في أهل القرى، وكلفتموهم الضيافة، وما لا قدرة لهم عليه، وأفسدتم مزارعهم بدوابكم، والفساد محرم في دينكم؟! فتعذر بمثل الأول، وقال: كرهنا مخالفتهم؛ لأن مماليكنا تمكنوا في البلاد، فهز رأسه، وقال: لا واللّه، ولكنكم استحللتم ما حرم عليكم، وارتكبتم ما نهاكم عنه وأحببتم الفساد والظلم، وكرهتم العدل، فسلبكم اللّه تعالى العِز وألبسكم الذل. والنقمة إذا نزلت عمت، والبلية إذا حلت شملت، وإن للّه فيكم نقمة لن تبلغ غايتها، فاخرج من بلدي؛ وإلا قتلتك ومن معك. قال: فخرج من بلاده ملوماً مدحوراً.
قال ابن خلدون: بقي عبد اللّه بن مروان المذكور إلى أيام المهدي العباسي، فأخذه عامل فلسطين، وسجنه إلى أن مات في السجن. وكان مروان بطلا شجاعَاً مهيباً، كانوا يعدونه في مقابلة ألف مقاتل، أبيض اللون ربعة أشهل العين ضخماً كث اللحية، كان حاكمَاً سائساً لقب بالجعدي، قال العلامة السيوطي في تاريخه: نسبة إلى مؤدبه الجعد بن درهم؛ لتمسكه بمذهبه، كان يقول بخلق القرآن، ويتزندق، أمر هشام بن عبد الملك خالداً القسري بقتله لذلك فقتله، ويلقب مروان بالحمار - أيضاً - لأنه كان لا يجف له لبد في محاربة الخارجين عليه، كان يصل السري بالسري، ويصبر على مكاره الحرب، ويقال في المثل: فلان أصبر من حمار، أو لأن العرب تُسَمى كل مائة سنة حماراً، فلما قارب ملك بني أمية في زمنه مائة سنة، لقبوه بالحمار.
قال مروان: وا لهفتاه على دولة ما نصرت، وكف ما ظفرت، ونعمة ما شكرت، فقال له خادمه وكان من أولاد عظماء النصارى: من أهمل الصغير حتى يكبر، والقليل حتى يكثر، والخفي حتى يظهر، أصابه مثل هذا.
مدة خلافته خمس سنين وعشرة أشهر، وعمره خمسون سنة، وقيل: سبع وخمسون، وقيل: ثمان، وقيل: ستون.
وفي روض الأخبار: ذهبت الدولة من بني أمية في عهد ثلاثة من الرجال: مروان ابن محمد، وصاحب عسكره يزيد بن عمر بن هبيرة، وكان خطيباً شجاعاً يضرب بشجاعته المثل، ووزيره وكاتبه عبد الحميد، وكان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد.
قال المطرزي في شرحه على المقامات الحريرية: كان لمروان عبد الحميد كاتباً، والبعلبكي مؤذناً، وسلامة الحادي حاديَاً، فأحضروا إلى السفاح بعد قتل مروان، فقال سلامة الحادي: استبقني يا أمير المؤمنين، فإني أحسن الحداء، قال: وما بلغ من حدائك؟ قال: تعمد إلى إبل ظمئت ثلاثاً، ثم توردها، فإذا بدأت تشرب، رفعت صوتي بالحداء، فترفع رءوسها، وتدع الشرب، ثم لا تشرب حتى أسكت. فأمر بإبل ظماء، فقرب منها الماء، ثم حدا، فرفعت رءوسها، فلم تزل رافعة حتى سكت من حدائه. فاستبقاه وأجازه.
ثم قال البعلبكي: إني مؤذن منقطع النظير، قال: وما بلغ من أذانك؟ فقال: تأمر جارية فتقدم لك طستاً، وتأخذ إبريقاً بيدها، وأشرع في الأذان، فتدهش ويذهب عقلها حتّى تلقَي الإبريق من يدها، وهي لا تعلم، فأمر بذلك فوجده صحيحاً، فاستبقاه وأجازه.
وقال عبد الحميد: استبقني يا أمير المؤمنين؛ فإني فريد الدهر في الكتابة والبلاغة، فقال: ما اْعرفني بك؟! فأنت الذي فعلت بنا الأفاعيل، وعملت بنا الدواهي، فقطعت يداه ورجلاه وضرب عنقه.
ودخل سديف يوماً على السفاح، وعنده سليمان بن هشام وقدامة فقال: من الخفيف:
لاَ يَغُرنْكَ مَا تَرَى مِنْ رجالٍ ... إن تَحْتَ الضلوعِ داء دَوِيَّا(2/167)
فَضَعِ السيْفَ وارْفَعِ السوْطَ حتَّى ... لا تَرَى فَوْقَ ظَهْرِها أُمَوِيا
فأمر السفاح بسليمان فقتل، ودخل شبل بن عبد اللّه مولى بني هاشم على السفاح، وعنده ثمانون أو تسعون نفسَاً من بني أمية قد أمنهم فهم على الكراسي، فأنشد: من الخفيف:
أَصْبَحَ المُلْكُ ثابتَ الآساس ... بالبهاليلِ مِن بني العَبَّاسِ
طَلَبُوا وترَ هاشمٍ فَشَفَوهَا ... بعدَ مَيْلٍ مِنَ الزمَانِ وَبَاسِ
لا تُقِيلَن عبد شمْسٍ عثاراً ... واقطَعَنْ كل رقْلَةٍ وغِرَاسِ
أقصِهِم أيها الخليفَةُ واقْطَعْ ... عنكَ بالسيْفِ شَأْفَةَ الأَرْجَاسِ
ذلُهَا أَظْهَرَ التودُدَ منها ... وبهَا مِنْكُمُ كَحَر المَوَاسِي
ولَقَدْ ساءني وسَاءَ سَوَائي ... قُربُهَا مِنْ مَنَابِرٍ وكراسِي
أَنْزِلُوهَا بحَيثُ أَنْزَلَهَا الل ... ه بدَارِ الهَوَانِ والإتْعَاسِ
واذكُرُوا مَصْرَعَ الحُسَينِ وَزَيْدٍ ... وقَتِيلا بجَانِبِ المِهْرَاسِ
والقتيلَ الذي بحرانَ أضْحَى ... ثَاوِياً بَيْنَ غُرْبَةٍ وَتَنَاسِي
فقال السفاح: أنتم بين يَدَي على الكراسي، ودماء أسلافي تقطر من أسيافكم، فأمر بهم، فشدخوا بعمد الحديد، وبسط فوقهم الأنطاع، فأكل عليها الطعام، وأنينهم يسمع، وإن الطعام في صحون المائدة ليختلج لاختلاجهم، وقال: واللّه ما أكلت طعاماً ألذ من طعامي هذا، يوم بيوم الحسين، ولا سواء. وكان كبير منهم جالساً إلى جانب السفاح، فقال له السفاح: كأن هذا لم تطبْ به نفسك؟ فقال: نعم، والله، قال: أفتحب اللحاق بهم؟ قال: نعم، وإني إلى ذلك لمشتاق، فلا خير في العيش بعدهم، فأمر به، فسحب وشدخ كما شدخوا.
وقيل: إن القائل للشعر الثاني هو سديف صاحب البيتين الأولين، لا شبل بن عبد اللّه.
ثم تتبعوا بني أمية بالقتل، فقتل سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس عم السفاح بالبصرة جماعة منهم، ورموا بأشلائهم في الطريق، فأكلتها الكلاب، ونبش عبد الله ابن علي عم السفاح أيضاً قبور الخلفاء منهم، فلم يجدوا في القبور إلا شبه الرماد، وخيطاً في قبر معاوية، وجمجمة في قبر عبد الملك، وربما وجدوا فيها بعض الأعضاء، إلا هشام بن عبد الملك، فإنه وجد كما هو لم يبل، فضربه بالسياط، ثم صلبه وحرقه وذراه في الريح.
قال ابن خلدون: كذا قيل، والله أعلم بصحة ذلك.
واستقصوا في تتبعهم قتلا، ولم يفلت إلا الرضعاء، أو مَنْ هرب إلى الأندلس مثل عبد الرحمن الملقب بالداخل؛ لأنه أول من دخل إلى بلاد المغرب، وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، وغيره ممن تبعه من قرابته.
وفي ربيع الأبرار للزمخشري: انقرضت دولة بني أمية، وكانوا أربعة عشر نفراً: معاوية، يزيد بن معاوية، ومعاوية بن يزيد الذي يقال له: معاوية الأصغر - رضي الله عنه - مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، عبد الملك بن مروان، الوليد بن عبد الملك، سليمان بن عبد الملك، عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية - رضي الله عنه وأرضاه - يزيد بن عبد الملك بن مروان، هشام بن عبد الملك بن مروان، الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان الفاسق ممزق المصحف بالسهام، ومقدم الجارية تؤم الناس في صلاة الصبح جنبَاً سكرى، يزيد ابن الوليد بن عبد الملك، إبراهيم بن الوليد أخي يزيد المذكور قبله، يليه مروان بن محمد بن مروان بن الحكم المنبوز بالحِمَارِ.
وفي أكثر التواريخ: ذكروا أن مدة ملكهم ألف شهر؛ لأن الحسن بن علي - رضي اللّه تعالى عنهما - حين تكلموا عليه في تسليم الأمر إلى معاوية قال: " ليلةُ اَلقَدرِ خَير مِنْ ألفِ شهر " " القدر: 3 " ، وذلك ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فقول الحسن - رضي الله عنه - كان تقريباً لا تحديداً، ويمكن أن يكون تحديداً على بعض الحساب؛ نظرَاً إلى تمكنهم وانهزامهم، وقتلهم من تداخل السنين والشهور، وهي يسيرة.(2/168)
فأما على ظاهر الحساب: أن معاوية بن أبي سفيان بويع بعد وفاة علي بن أبي طالب في ثاني عشر ذي الحجة في سنة أربعين من الهجرة، وبويع عبد الله السفاح العباسي في ثالث عشر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فإن أخرجنا من هذه المدة مدة ابن الزبير تكون مدة ملكهم إلى أن مات مروان ثلاثَاً وثمانين سنة وشهرين وثلاثة وعشرين يوماً؛ لأن مدة ابن الزبير تسع سنين وأشهر بويع سنة أربع وستين، وقيل: ثلاث وسبعين سنة.
وإن حسبتها من اليوم الذي صالح فيه الحسن معاوية، تكون بعد إخراج مدة ابن الزبير ثلاثاً وثمانين سنة وشهراً واحداً، وستة وعشرين يوماً، واللّه أعلم.
وفي سراج الملوك: سئل بعض العلماء ما الذي أذهب ملك بني أمية؟ فقال: تحاسد الأكفاء، وانقطاع الأخبار، وذلك أن يزيد بن عمر بن هبيرة وزير مروان كان يحب أن يضَعَ نصر بن سيار أمير خراسان لمروان، فكان لا يمده بالرجال، ولا يرفع إلى مروان ما يرد من الأخبار.
وسئل بعض بني أمية عن سبب زوال ملكهم؟ فقال: استعمال الصغار من الرجال، على الكبير من الأعمال، وتقديم الأرذال والأنذال، على أهل الدين والكمال، وذوي النجدة من الرجال، فآل أمرنا إلى ما آل.
وقال بعضهم - وقد سئل عن مثل ذلك - فقال: نوم الغدوات، وشرب العشيات، والاجتراء بإعلان الفجور وترك النهيِ عن المنكرات. ولا شيء أضيع للملك وأهلك للرعية من شدة الحجاب، وعدم القبول لقول العقلاء؛ لأنهم قالوا: من تم سروره قصرت شهوره، والحزم أسد الآراء، والغفلة أضر الأعداء، ومن قعد عن حيلة تدبير الملك أقامته شدائد الفتن، ومن نام عن عدوه نبهته المكائد والمحن، ومن أعجبته آراؤه غلبته أعداؤه، ومن استضعف عدوه اغتر، ومن اغتر ظفر به عدوه، ومن طالت عداوته زالت سلطته، ومن كثر ظلمه واعتداؤه قرب هلكه وفناؤه، ورأس الحكمة التودد إلى الناس.
قلت: صدق فيما به نطق، فسبحان من لا يزول ملكه ولا يتحول سلطانه!!.
ورأيت في تاريخ العلامة محمود بن علي بن أحمد البهوتي المسمى بتاريخ الخلائف ما نصه: قد كان لبني أمية ألقاب تلقبوا بها، فمعاوية بن أبي سفيان يلقب بالتام لدين الله، ويزيد يلقب بالمنتصر على أهل الزيغ، ومعاوية بن يزيد يلقب بالراجع إلى الله، ومروان بن الحكم يلقب بالمؤتمن بالله، وعبد الملك بن مروان بالموفق لأمر اللّه، والوليد بن عبد الملك بالمنتقِم للّه، وسليمان بن عبد الملك بالداعِي إلى اللّه، وعمر بن عبد العزيز بالمعصومِ باللهِ، ويزيد بن عبد الملك بالقادر بصُنْع اللّه، وهشام بن عبد الملك بالمنصور باللّه، والوليد بن يزيد بالمكتفي باللّه، ويزيد بن الوليد بالشاكر لأنعم الله، وإبراهيم بن الوليد بالمعتز بالله، ومروان بن محمد بالقائم بحق اللّه، وعبد اللّه بن الزبير بالعائذ ببيت الله، فسبحان مغيِّر الدول ومفني الأمم، لا رب غيره سبحانه!! فليس العباسية أبا عذرتها، فليعلم ذلك!
الباب الثاني
في الدولة العباسية
اعلم أن أمر الإسلام لم يزل جميعاً ودولته واحدة أيام الخلفاء الأربعة وبني أمية من بعدهم؛ لاجتماع عصبية العرب.
ثم ظهر من بعد ذلك أمر الشيعة، وهم الدعاة لأهل البيت، فغلبت دعاة بني العباس على الإمامة، واستقلوا بخلافة الملة، ولحق فل بني أمية بالأندلس، فقام بأمرهم فيها عبد الرحمن الداخل ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك ومن تبعه من مواليهم ومن العرب، فلم يدخلوا في دعوة بني العباس، وانقسمت لذلك دعوة بني العباس، وانقسمت بذلك دولة الإسلام بدولتين؛ لافتراق عصبية العرب.
ثم ظهر دعاة أهل البيت بالمغرب والعراق من العلوية، ونازعوا خلفاء بني العباس، واستولوا على القاصية من النواحي؛ كالأدارسة بالمغرب الأقصى، والعبيديين بالقيروان ومصر، والقرامطة بالبحرين، والداعي بطبرستان والديلم، والأطروش فيها ومن بعده، وانقسمت دولة الإسلام بذلك دولا متفرقة.
ذكر الشيعة ومبادئ دولهم وكيف انساقت إلى العباسية من بعدهم إلى آخر دولهم(2/169)
كان مبدأ هذه الدولة، أعني دولة الشيعة: أن أهل البيت لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرون أنهم أحق بالأمر، وأن الخلافة لهم دون من سواهم من قريش. وفي الصحيح، أن العباس قال لعلي في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه: " اذهَبْ بنا إليه نسأله في هذا الأمر، فإن كان فينا علمناه، وإن كان في غيرنا أوصى بنا، فقال علي: إن سألناه فمنعناها لا يعطيناها الناس " وفي الصحيحين - أيضاً - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه: " هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً " ، فاختلفوا في ذلك عنده، وتنازعوا ولم يتم الكتاب، وفي رواية قال: " قوموا عني " ، وكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ذلك الكتاب، لاختلافهم ولغطهم، حتى قد ذهب كثير من الشيعة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى في مرضه ذلك لعلي، ولم يصح ذلك من وجه يعول عليه. وكما نقلوه عن أهل الإثارة أن عمر قَالَ يوماً لابن عباس: إن قومكم - يعني قريشاً - ما أرادوا أن يجمعوا لكم بين النبوة والخلافة، فتتبجحوا عليهم، وأن ابن عباس أنكر ذلك، وطلب من عمر إذنه في الكلام، فتكلم بما غضب له عمر، وظهر من محاورتهما أنهم كانوا يعلمون أن في نفوس أهل البيت شيئاً من أمر الخلافة والعدول عنهم بها، مما اللّه تعالى أعلم بصحته وعدمها.
قصة الشورى
أن جماعة من الصحابة كانوا يتشيعون لعلي، ويرون استحقاقه على غيره، فلما عدل بها إلى سواه، أنفوا من ذلك، وأسفوا له؛ مثل الزبير، وسعد، وعمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، وغيرهم؛ إلا أن القوم لرسوخ قدمهم في الدين وحرصهم على الألفة بين المسلمين لم يزيدوا في ذلك على النجوى بالتأفف والأسف.
ثم لما فشا النكير على عثمان، والطعن في الآفاق، كان عبد اللّه بن سبأ، ويعرف بابن السوداء، من أشد الناس خوضَاً في التشيع لعلي بما لا يرضاه من الطعن على عثمان وعلى الجماعة في العدول إليه عن علي، وأنه ولي بغير حق، فأخرجه عبد اللّه بن عامر عامل عثمان على البصرة منها إلى مصر، فاجتمع إليه جماعة من أمثاله جنحوا إلى الغلو في ذلك وافتجار المذاهب الفاسدة فيه؛ مثل خالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر، وغيرهم، ثم كانت بيعة علي ووقعة الجمل وصفين وانحراف الخوارج عليه بما أنكروا من التحكيم في الدين، وتمحضت شيعته للاستماتة معه في حرب معاوية.
ثم لما قتل علي وبويع ابنه الحسن - رضي الله تعالى عنهما - فخرج عن الأمر لمعاوية سخط ذلك شيعة علي منه، وأقاموا يتناجون في السر باستحقاق أهل البيت والميل إليهم، وسخطوا من الحسن ما كان منه من النزول لمعاوية، وكتبوا إلى الحسين بالدعاء له فامتنع، وواعدهم إلى هلاك معاوية، فساروا إلى محمد بن الحنفية، وبايعوه في السر على طلب الخلافة متى ما أمكنه، وولى على كل بلد رجلا، وأقاموا على ذلك، ومعاوية يكف بسياسته من غربهم، ويقلع الداء إذا تعين له منهم؛ كما فعل بحجر بن عدي وأصحابه، وقد تقدم ذكر قتلهم عند ذكر خلافته، ويروض من شماس أهل البيت، ويسامحهم في دعوى تقدمهم واستحقاقهم، ولا يهيج أحداً منهم بالتثريب عليه في ذلك، إلى أن مات، وولي يزيد، فكان من خروج الحسين وقتله ما هو معروف، وكانت من أشنع الوقائع في الإسلام عظمت بها الشحناء، وتوغل الشيعة في شأنهم وعظم النكير والطعن على من تولى ذلك وأَمَرَ به، أو قعد عنه، ثم تلاوموا على ما أضاعوا من أمر الحسين، وأنهم لم ينصروه، فندموا، ورأوا أن لا كفارة لذلك إلا الاستماتة دون ثأره، وسَمَوْا أنفسهم التوابين، وخرجوا لذلك يقدمهم سليمان بن صُرَد الخزاعي، وجماعة معه من خيار أصحاب علي، كرم اللّه وجهه.
وكان ابن زياد قد انتقض عليه العراق، فلحق بالشام ونزل منبج قاصداً العراق، فزحفوا إليه وقاتلوه حتى قتل سليمان وكثير من أصحابه؛ كما ذكرنا ذلك فيما تقدم، وذلك سنة خمس وستين.
ثم خرج المختار بن أبي عبيد، ودعا لمحمد بن الحنفية كما قدمته.
وفشا التعصب لأهل البيت في الخاصة والعامة بما خرج بهم عن حدود الحق.(2/170)
واختلفت مذاهب الشيعة فيمن هو أحقُّ بالأمر من أهل البيت. وبايعَتْ كل طائفة لصاحبها سراً، ورسخ الملك لبني أمية، فطوى هؤلاء الشيعة قلوبهم على عقائدهم فيها وتستروا بها، مع تعدُد فرقهم وكثرة اختلافهم، وسار زيد بن علي بن الحسين، وقرأ على واصل بن عطاء إمام المعتزلة في وقته، وكان واصل يتردد في إصابة علي في حرب الجمل وصفين، فلقن ذلك عنه، وكان أخوه محمد الباقر يعذله في الأخذ عمن يرى تخطئة جده، وكان زيد - أيضاً - مع قوله بأفضلية علي على الصحابة يرى أن بيعة الشيخين صحيحة، وأن إمامة المفضول جائزة؛ خلاف ما عليه الشيعة، ويرى أنهما لم يظلما علياً.
ثم دعته الحال إلى الخروج بالكوفة سنة إحدى وعشرين ومائة، واجتمع له عامة الشيعة، ورجع عنه بعضهم، لما سمعوه يثني على الشيخين، وأنهما لم يظلما علياً، وقالوا له: لم يظلمك هؤلاء، فرفضوا دعوته، وقالوا: نحن نرفضك إذنْ، فقال: اذهبوا فأنتم الرافضة، فسموا الرافضة من أجل ذلك، ثم قاتل يوسف بن عمر فقتله وبعث برأسه إلى هشام بن عبد الملك، وصلب شلوه بالكناسة، ولحق ابنه يحيى بخراسان فأقام بها، ثم دعته شيعته إلى الخروج، فخرج هناك سنة؟ خمس وعشرين ومائة، فسرح إليه نصر بن سيار العساكر، فقتلوه، وبعث برأسه إلى الوليد، وصلب شلوه بالجوزجان، وانقرض شأن الزيدية هنالك.
وأقام الشيعة على شأنهم وانتظارِ أمرِهم، والدعاة لهم في النواحي على الإجمال للرضا من أهل البيت، ولا يصرحون بمن يدعون له حذراً عليه من أهل الدولة، وكانت شيعة محمد بن الحنفية أكثر شيعة أهل البيت، وكانوا يرون أن الأمر بعد محمد بن الحنفية لابنه أبي هاشم عبد اللّه بن محمد، وكان - يعني أبا هاشم عبد اللّه ابن محمد - كثيرَاً ما يفد على سليمان بن عبد الملك، فمر في بعض أسفاره بمحمد ابن علي بن عبد اللّه بن عباس بمنزله بالحميمة من أعمال البلقاء، فنزل عليه وأدركه المرض عنده فمات، وأوصى له بالأمر، وقد كان أعلم شيعته بالعراق وخراسان أن الأمر صائر إلى ولد محمد بن علي هذا، وهو والد إبراهيم والسفاح، فلما مات أبو هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية، قصدت الشيعة محمد بن علي وبايعوه سراً، وبعث الدعاة منهم إلى الآفاق على رأس مائة من الهجرة أيام عمر بن عبد العزيز، وأجابه عامة أهل خراسان، وبعث عليهم النقباء.
وتداول أمرهم هنالك، فتوفي محمد سنة أربع وعشرين ومائة، وعهد لابنه إبراهيم، وأوصى الدعاة بذلك، وكانوا يسمونه الإمام، ثم بحث أبا مسلم الخراساني إلى أهل دعوته بخراسان ليقوم فيهم بأمره، وكتب إليهم بولايته، وذلك في دولة مروان بن محمد المنبوز بالحمار، فعثر مروان على كتاب من إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخراسانى، فأمر عامله على دمشق أن يأمر عامل البلقاء بالقبض على إبراهيم الإمام، فقبض عليه، وأوثقه شدُّاً، وأرسل به إلى مروان بن محمد، فحبسه بحران ثم قتله؟ كما قدمنا ذكر ذلك قريباً، وملك أبو مسلم خراسان، وزحف إلى العراق، فملكها وغلبوا بني أمية على أمرهم، وانقرضت دولتهم، فقامت دولة بني العباس، وهذه الدولة من دول الشيعة؛ كما ذكرناه، وفرقتها منهم يعرفون بالكيسانية، وهم القائلون بإمامة محمد بن الحنفية بعد علي بن أبي طالب، ثم بعده ابنه أبو هاشم عبد اللّه بن محمد، ثم بعده محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس بوصيته؛ كما ذكرناه، إلى ابنه إبراهيم الإمام ابن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس، ثم من بعده إلى أخيه أبي العباس عبد اللّه السفاح، وهو عبد الله بن الحارثية، هكذا مساقها عند هؤلاء الكيسانية.
قلت: قال المسعودي: هذه نسبة إلى كيسان، وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي؛ فإن اسمه كيسان، وإنما نسبوا إليه؛ لأنه أول من دعا لمحمد بن الحنفية.
قال ابن خلدون: ويسمون أيضاً: الخرمانية؛ نسبة إلى أبي مسلم الخراساني؛ لأنه كان يلقب خرمان.(2/171)
ولبني العباس - أيضاً - شيعة يسمون الراوندية من أهل خراسان، يزعمون أن أحق الناس بالإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس؛ لأنه وارثه وعاصبه؛ لقوله تعالى: " وَأولوُا اَلأَرحَامِ بَعضهُمْ أَولىَ ببعض في كِتاب الله " " الأنفال: 75 " ، والناس منعوه من حقه في ذلك وظلموه، إلى أن رده اللّه إلى ولده، ويذهبون إلى البراءه من الشيخين وعثمان، ويجيزون بيعة علي؛ لأن العباس قال له: " يا بن أخي، هلم أبايعك فلا يختلف عليك اثنان " ، ولقول داود بن علي على منبر الكوفة يوم بويع السفاح: يا أهل الكوفة، إنه لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علي بن أبي طالب، وهذا القائم فيكم، يعني السفاح.
قال في الإشاعة لأشراط الساعة في أماراتها البعيدة: ومنها دولة بني العباس: عن عمر بن الخطاب - رضي اللّه تعالى عنه - : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا أقبلت رايات ولد العباس من عقبات خراسان، جاءوا بنعي الإسلام، فمن سار تحت لوائهم لم تنله شفاعتي يوم القيامة " رواه أبو نعيم في الحلية.
وعن علي - رضي اللّه تعالى عنه - موصولا: مالي ولبني العباس شيعوا أمتي - أي: صيروهم شيعَاً وفرقاً - وسفكوا دماءها، ولبسوا ثياب السواد، ألبسهم اللّه ثياب النار رواه الطبراني.
والأحاديث الواردة في ذمهم كثيرة؛ فلا نطول بذكرها.
فمن الفتن الواقعة في زمانهم: قتال أهل المدينة، وقتل محمد النفس الزكية ابن عبد الله المحض ابن الحسن المثنى ابن الحسن السبط، وقتل أخيه إبراهيم بن عبد اللّه، وحبس أبيهما عبد اللّه المحض، حتى مات في السجن، وقتل جماعة كثيرة من العلويين، وحبس الإمام جعفر الصادق في زمن المنصور، وموت الإمام موسى الكاظم في الحبس بالسم في زمن الرشيد هارون، وإدخال الفلسفة في الإسلام، ونصرة أهل الاعتزال، وتكليف العلماء على القول بخلق القرآن، وقتلُ كثير منهم بسبب ذلك في زمن المأمون، وضربُ الإمام أحمد بن حنبل في زمنه، وزمنِ أخيه المعتصم وابنه الواثق، ولم تتفق في زمانهم الكلمة، ولم تصف لهم الخلافة، وأكثرهم أدعياء، ومنهم ظلمة فسقة، وأحسن من فيهم المتوكل، لأنه أول من رجع عن الاعتزال، ونصر السنة؛ لكنه كان في التعصب على جانب عظيم بحيث إنه هَدَمَ قبر الحسين بن علي - رضي اللّه تعالى عنه - وجعله مزرعة، ومنع الناس من زيارته، وقد قال بعض الشعراء في ذلك: من الكامل:
تاللَّهِ إِنْ كانت أميةُ قد أَتَتْ ... قَتل ابْنِ بِنْتِ نَبيهَا مَظْلُومَا
فَلَقَد أتاه بَنُو أَبِيهِ بمثْلِهِ ... هذا لَعَمْرُكَ قَبْرُهُ مَهْدُومَا
أَسِفُوا على ألا يَكُونُوا شَارَكُوا ... في قَتْلِهِ فَتَتبعوهُ رَمِيمَا
وقال آخر: من الكامل:
تاللَّهِ ما فَعَلَتْ عُلُوجُ أميةٍ ... مِعْشَارَ ما فَعَلَتْ بَنُو العَباسِ
نعم، كان المهتدي منهم زاهداً ناسكاً يتأسى بعمر بن عبد العزيز في هديه، لكنه قتل بعد سنة، ولم تطل أيامه.
خلافة أبي العباس عبد الله بن محمد السفاح
قد قدمت كيف كان أصل هذه الدعوة وظهورها بخراسان على يد أبي مسلم عبد الرحمن الخراساني، ثم استيلاء شيعتهم على خراسان والعراق، ثم قتل مروان ابن محمد ببوصير.
بويع للسفاح هذا بالخلافة يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وفي المسامرة بويع في الكوفة يوم الخميس، ومن غد يوم الجمعة لعشرين خلت من ربيع الأول من السنة المذكورة بويع بيعة العامة.
وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف بن قصي، السفاح المشهور بابن الحارثية كان أصغر من أخيه المنصور أبي جعفر عبد اللّه بن محمد، كان كريماً جواداً.(2/172)
وفي كتاب قلادة النحر لأبي مخرمة: ما حصل في زمانه بينه وبين الطالبيين من الأشراف شيء، ولا قام عليه أحد منهم، بل قربهم وأحسن إليهم، وكانت المحبة صافية بينهم، وقام بأمر الدولة العباسية أبو مسلم الخراساني، وتأطدت له الأعمال من الشرق إلى الغرب، وحصل عنده برد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما القضيب والمخصرة، فإن مروان بن محمد لما تيقن بالقتل دفنهما حسداً، فدل عليهما غلام، فأخرجهما عامر ابن إسماعيل المذحجي الداخل على مروان الكنيسة، وأرسل بهما إلى السفاح، واسم أمه ريطة بنت عبيد اللّه، من ذرية حارث بن مالك بن ربيعة؛ ولذلك يقال للسفاح ابن الحارثية، وكان بنو أمية يمنعون بني هاشم من نكاح الحارثيات؛ لأنهم كانوا يرون أن زوال ملكهم على يد ابن حارثية، فلما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز، أتاه محمد بن علي والد السفاح فقال: أريد أتزوج ابنة خالي من بني الحارث، فتأذن لي؟ فقال له عمر: تزوج من شئت، فتزوج ريطة المذكورة، فأولدها السفاح، فانتقلت الخلافة إليه، يفعل اللّه ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا راد لقضائه، ولا مانع لحكمه.
ولما استقر السفاح في الخلافة، خرج عليه بعض أشياع بني أمية وقوادهم، وكان أول من نقض عليه حبيب بن مرة المري من قواد مروان، كان بحوران والبلقاء، خاف على نفسه وقومه، فخلع وبيض، ومعناه لبس البياض، ونصب الرايات البيض؛ مخالفة لشعار العباسية في ذلك، وتابعه قيس ومن يليهم، والسفاح يومئذ بالحيرة، فزحف إليه عبد اللّه بن علي عم السفاح، وبينما هو في محاربته، بلغه الخبر بأن أبا الورد مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابي نقض بقنسرين، وكان من قواد مروان، فلما انهزم مروان، وقدم علي عبد اللّه بن علي، بايعه ودخل في دعوة العباسيين، وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس، فبعث بهم وبنسائهم القائد الذي جاءه من قبل عبد اللّه بن علي، وشكوا ذلك إلى أبي الورد، فقتل القائد، وخلع معه أهل قنسرين، وكاتبوا أهل حمص في الخلاف، وقدموا عليهم أبا محمد بن عبد اللّه بن يزيد بن معاوية، وقالوا: هو السفياني الذي يذكر، ولما بلغ ذلك عبد اللّه بن علي، وادع حبيب بن مرة، وسار إلى أبي الورد بقنسرين، ومر بدمشق فخلف بها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي الطائي في أربعة آلاف فارس مع حرمه وأثقاله، وسار إلى حمص فبلغه أن أهل دمشق خلعوا وبيضوا، وأقاموا فيهم عثمان بن عبد الأعلى الأزدي، وأنهم هزموا أبا غانم وعسكره، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وانتهبوا ما خلفه عبد اللّه بن علي عندهم، فأعرض عن ذلك وسار للقاء السفياني وأبي الورد، وقدم أخاه عبد الصمد في عشرة آلاف، فانكشف ورجع إلى أخيه عبد اللّه بن علي منهزماً، فزحف عبد الله في جماعة القواد، ولقيهم بمرج الآخرم، وهم في أربعين ألفاً فانهزموا. وثبت أبو الورد في خمسمائة من قومه فقتلوا جميعاً، وهرب أبو محمد إلى تدمر وراجع أهل قنسرين طاعة العباسية، ورجع عبد الله بن علي إلى قتال أهل دمشق ومن معهم، فهرب عثمان بن عبد الأعلى، ودخل أهل دمشق في الدعوة، وبايعوا لعبد اللّه بن علي، ولم يزل أبو محمد السفياني بأرض الحجاز متغيباً إلى أيام المنصور، فقتله زياد بن عبد الحارثي عامل الحجاز يومئذ للمنصور، وبعث رأسه إلى المنصور مع ابنين له أسيرين، فأطلقهما المنصور.(2/173)
ثم خلع أهل الجزيرة وبيضوا، وكان السفاح بعث إليها ثلاثة آلاف من جنده مع موسى بن كعب من قواده، وأزالهم بحران، وكان إسحاق بن مسلم العقيلي عامل مروان على أرمينية، فلما بلغته هزيمة مروان، سار عنها، واجتمع إليه أهل الجزيرة، وحاصروا موسى بن كعب بحران شهرين، فبعث السفاح أخاه أبا جعفر إليهم، وكان محاصراً لابن هبيرة بواسط، فسار لقتال إسحاق بن مسلم، وهو بقرقيسيا والرقة، وقد خلعوا وبيضوا، وسار نحو حران، فأجفل إسحاق بن مسلم عنها ودخل الرهَا، وبعث أخاه بكار بن مسلم إلى قبائل ربيعة بنواحي ماردين، ورئيسهم يومئذ بريكة من الحرورية، فصمد إليهم أبو جعفر المنصور فهزمهم، وقتل بريكة في المعركة، وانصرف بكار إلى أخيه إسحاق، فخلفه إسحاق بالرها، وسار إلى سميساط، وجاء عبد اللّه بن علي فحاصره، ثم جاء أبو جعفر المنصور، فحاصروه سبعة أشهر، وهو يقول: لا أخلع البيعة من عنقي حتى أتيقن مَوتَ صاحبها - يعني مروان بن محمد - فلما تيقن موته، طلب الأمان، فاستأذنوا السفاح، فأمرهم بتأمينه، وخرج إسحاق بن مسلم إلى أبي جعفر؛ فكان من آثر أصحابه وخواصه.
قلت: لله أبو إسحاق بن مسلم هذا ما أوقفه عند عقده، وأوفاه بميثاقه وعهده.
واستقام أهل الجزيرة والشام، وولى السفاح أخاه أبا جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان؛ فلم يزل عليها حتى جاءته الخلافة بعد وفاة أخيه السفاح، ولقد صدق من قال: من الكامل:
لاَ يَسلَمُ الشرَفُ الرفيعُ مِنَ الأذى ... حَتى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدمُ
ذكر ابن الأثير؛ أن أبا جعفر المنصور لما أمره أخوه السفاح بحصار ابن هبيرة أحد الناقضين عليه، حاصره بواسط، وكان ابن هبيرة خندق على نفسه، فقال أبو جعفر: إن ابن هبيرة يخندق على نفسه كالنساء، فبلغ ذلك ابن هبيرة، فأرسل إلى أبي جعفر يقول: أنت الذي تقول كذا وكذا، فابرز إلي لترى، فأرسل إليه المنصور: لم أجد لي ولك مثلا في ذلك إلا كالأسدِ لقي خنزيراً، فقال له الخنزير: بارزني، فقال له الأسد: ما أنت لي بكفء، فإن بارزتك و نالني منك سوء كان عاراً علي، وإن قتلتك قتلت خنزيرَاً، فلم أحصل على حمد، ولا في قتلي إياك فخر، فقال له الخنزير: إن لم تبارزني لأُعرفن السباع أنك جبنت عني، فقال له الأسد: احتمال عار كذبك أيسر من تلطخ براثني بدمك.
قال الحافظ الذهبي في دول الإسلام: لما صلى السفاح بالناس أول جمعة، خطب، فقال في خطبته: الحمد للّه الذي اصطفى الإسلام لنفسه، فكرمه وشرفه وعظمه، واختاره لنا وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به والذابين عنه. ثم ذكر قرابتهم في آيات القرآن إلى أن قال: فلما قبض الله نبيه، قام بالأمر أصحابه إلى أن وثب بنو حرب ومروان، فجاروا واستأثروا، فأملى الله لهم حيناً حتى آسفوه، فانتقم منهم بأيدينا، ورد علينا حَقنا ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله، يا أهل الكوفة، أنتم محل محبتنا، ومنزل مودتنا، لم تفتروا عن ذلك، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، ولقد زدت في عطياتكم مائة مائة، فاستعدوا، فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.(2/174)
وفي سنة ست وثلاثين ومائة: استأذن أبو مسلم الخراساني السفاح في القدوم عليه للحجِّ، وكان منذ ولي خراسان لم يفارقها، فأذن له في القدوم بخمسمائة من الجند، فكتب إليه أبو مسلم: إني قد وترت الناس ولا آمن على نفسي، فأذن له في ألف، وقال: إن طريق مكة لا يحتمل العسكر، فسار في ثمانية آلاف فرقهم ما بين نيسابور والري، وخلف مواليه وخزائنهُ بالري، وقدم في ألف، وخرج القواد بأمر السفاح لتلقيه، ودخل على السفاح، فأكرمه وأعظمه، واستأذن في الحج، فأذن له، وقال: لولا أن أبا جعفر يريد الحجَ، لاستعملتك على الموسم، وأنزله بقربه، وكان قد كتب إلى أبي جعفر: إن أبا مسلم استأذنني في الحج، فأذنتُ له وهو يريد ولاية الموسم، فاسألني أنت في الحج، فلا يطمع أن يتقدمك، فقدم أبو جعفر إلى الأنبار. وكان بين أبي جعفر وأبي مسلم - من حين بعث السفاح أبا جعفر إلى خراسان ليأخذ عليه البيعة له ولأبي جعفر من بعده وتولى أبو مسلم على خراسان - شيء، فاستخف أبو مسلم إذ ذاك بأبي جعفر، فلما قدم أبو جعفر الآَن، أغرى السفاح بقتل أبي مسلم، فأذن له في قتله، ثم ندم، فكفه عن ذلك، وسار أبو جعفر إلى الحج، ومعه أبو مسلم.
وفي كتاب الأذكياء لأبي الفرج بن الجوزي حكاية طريفة، عن خالد بن صفوان التميمي؛ أنه دخل على أبي العباس السفاح، وليس عنده أحد فقال: يا أمير المؤمنين، إني واللّه ما زلت مذ قلدك اللّه تعالى خلافته، أطلب أن أصير إلى مثل هذه الخلوة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإمساك الباب حتى أفرغ، فعل، فأمر السفاح الحاجب بذلك، فقال ابن صفوان: يا أمير المؤمنين، إني فكرت في أمرك، وأجلت فكري فيك، فلم أر أحداً له قدرة واتساع في الاستمتاع بالنساء مثلك، ولا أضيق فيهن عيشاً؛ إنك ملكت نفسك امرأة من نساء العالمين فقصرت نفسك عليها، فإن مرضت مرضت، وإن غابت غبت، وحرمت نفسك التلذذ باستطراف الجواري، ومعرفة أخلاقهن والتلذذ بما يشتهي منهن؛ فإن منهن الطويلة التي تشتهي لجسمها، والبيضاء التي تحب لروعتها، والسمراء اللعساء، والصفراء الذهبية، ومولدات المدينة والطائف واليمامة ذوات الألسن العذبة، والجواب الحاضر، وبنات الملوك، وما يشتهي من نضارتهن ولطافتهن، وتخلل خالد لسانه، فأطنب في صفات ضروب الجواري وشوقه إليهن، فلما فرغ من كلامه، قال السفاح: ويلك! ملأت مسامعي ما أشغل خاطري، ما سلك فيها أحسن من هذا، فأعدْ على كلامك؛ فقد وقع مني موقعَا، فأعاده خالد بأحسن مما ابتدأه، فقال له السفاح: انصرف، فانصرف، وبقي السفاح مفكراً، فدخلت عليه أم سلمة زوجته، وكان قد حلف ألاَ يتخذ معها سرية ووفى، فقالت: إني أنكرت منك يا أمير المؤمنين، فهل حدث شيء، أو أتاك خبر ارتعت له؟ قال: لا، فلم تزل به حتى أخبرها بمقالة خالد، فخرجت إلى مواليها وأمرتهم بضرب خالد، قال خالد: فخرجت من الدار مسروراً بما ألقيت إلى أمير المؤمنين، ولم أشك في الصلة.
فبينما أنا واقف؛ إذ أقبلوا يسألون عني فحققت الجائزة، فقلت: لهم: ها أنا، فاستبق أحدهم بخشبة فغمزت برذوني، فلحقني وضرب عجز البرذون، وركضت فيهم، واستخفيت في منزلي أياماً، ووقع في قلبي أني أتيت من أم سلمة، فبينما أنا ذات يوم جالس في المنزل لم أشعر إلا بقومٍ قد هجموا علي، فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فسبق في قلبي أنه الموت، فقلت إنا للّه وإنا إليه راجعون، لم أر دم شيخ أضيع من دمي، وركبت إلى دار أمير المؤمنين، فأصبته جالساً، ولحظت في المجلس بيتاً عليه ستور رقاق، وسمعت حساً من خلف الستر، فأجلسني ثم قال: ويحك يا خالد، وصفت لي صفة فأعدها علي، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمتك أن العرب إنما اشتقت اسْمَ الضرتين من الضرر، وأن أحداً لم يكن عنده من النساء أكثر من واحدة إلا كان في ضُر وتنغيص.(2/175)
فقال السفاح: لم يكن هذا من كلامك أولا، قلت: بلى يا أمير المؤمنين، وأعلمتك أن الثلاث من النساء يدخلنَ على الرجل البؤس، ويشيبن الرأس، فقال السفاح: برئتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كنت سمعت هذا منك أو مر في حديثك لي، قلت: بلى يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن الأربع من النساء شَر مجموع لصاحبه يشبنه ويهرمنه، قال السفاح: لا واللّه ما سمعت هذا منك أولا، قلت: بلى والله، فقال السفاح: أتكذبني؟ قلت: فتقتلني؟! نعم، واللّه يا أمير المؤمنين، إن أبكار الإماء رجال إلا أنه ليس لهن خصي، قال خالد: فسمعت ضحكاً من خلف الستر، ثم قلت: واللّه وأخبرتك أن عندك ريحانةَ قريشٍ، وأنت تطمح بعينيك إلى النساء والجواري، فقيل لي من وراء الستر: صدقتَ والله يا عماه بهذا حدثته، ولكنه غير حديثك، ونطق بما في خاطره عن لسانك، فقال السفاح: مالك، قاتلك الله؟ قال خالد: فانسللت وخرجت، فبعثت لي أم سلمة بعشرة آلاف درهم وبرذون وتخت ثياب، وقالت: الزم ما سمعناه منك.
ويروى أنه سهر ذات ليلة، وعنده أناس من مضر، وفيهم خالد بن صفوان بن أهتم التميمي المذكور، وناس من اليمن فيهم إبراهيم بن مخرمة الكندي، فقال أبو العباس: هاتوا فافلعوا ليلتنا بمحادثتكم، فبدأ إبراهيم بن مخرمة فقال: يا أمير المؤمنين، إن أخوالك هم الناس، وهم العرب الأول الذين كانت لهم الدنيا، وكانت لهم اليد العليا، ما زالوا ملوكاً وأربابَاً تداولوا الرياسة كابرًَا عن كابر، وآخراً عن أول، يلبس آخرهم سرابيل أولهم، يعرفون الحمد ومآثر الحمد، منهم النعمانان والحمادان والقابوسان، ومنهم غسيل الملائكة، ومَنِ اهتز لموته العرش، ومنهم مكلم الذئب، ومن كان يأخذ كل سفينة غصبَاً، ويجري في كل نائية نهبَاً، ومنهم أصحاب التيجان وكماة الفرسان، ليس من نبل، وإن عظم خطره، وعرف أثره، من فرس رائع، أو سيف قاطع، أو مجن واق، أو درع حصينة، أو درة مكنونةَ، إلا وهم أربابها وأصحابها. إن حل ضيف قروه، وإن سألهم سائل أعطوه، لا يبلغهم مكاثر، ولا يطاولهم مطاول ولا مفاخر. فمن مثلهم يا أمير المؤمنين، البيت يمان، والحجر يمان، والركن يمان، والسيف يمان.
فقال أبو العباس ما أرى مضر تقول بقولك هذا، وما أظن خالداً يرضى بما ذكرت.
فقال خالد: إن أذن أمير المؤمنين وأمنت الموجدة، تكلمت.
فقال أبو العباس: تكلم ولا ترهب أحداً.
فقال خالد: يا أمير المؤمنين، خاب المتكلم وأخطأ المتقدم؛ إذ قال بغير علم، ونطق بغير صواب، أو يفخر على مضر، ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء من أهل بيته، وهل أهل اليمن إلا دابغ جلد، أو قائد قرد، أو حائك برد؟! دل عليهم هدهد، وغرقهم جرذ، وملكتهم أم ولد. واللّه يا أمير المؤمنين، ما لهم ألسنة فصيحة، ولا سنة صحيحة، ولا حجة تدل على كتاب، ولا يعرفون بها صواب، وإنهم لبإحدى الخصلتين، إن جازوا قصدوا ما أكلوا، وإن حادوا عن حكمنا قتلوا.
ثم التفت إلى الكندي، فقال: أتفخر بالفرس الراِئع، والسيف القاطع، والترس الواقي والدرع الحصينة، وأشباه ذلك؟ أفلا تفخر بأكرم الأنام وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم؟! فالمن من الله - عز وجل - عليكم إذ كنتم من أتباعه وأشياعه، فمنا نبي اللّه المصطفى، وخليفة الله المرتضى، ولنا السؤدد والعلا، وفينا العلم والحجا، ولنا الشرف المقدم، والركن الأعظم، والبيت المكرم، والجناب الأخضر، والعدد أكثر، والعز أكبر، ولنا البيت المعمور، والمشعر المشهور، والسقف المرفوع، وزمزم وبطحاؤها، وجبالها وصحراؤها، وحياضها وغياضها، وأحجارها وأعلامها، ومنابرها وسقايتها، وحجابها وسدنة بيتها، فهل يعدلنا عادل، أو يبلغ فخرنا قائل؟ ومنا أعظم الناس، عبد اللّه بن عباس، أعلم البشر، الطيبة أخباره، الحسنة آثاره، ومنا الوصي وذو النورين، ومنا الصديق والفاروق، ومنا أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء حمزة، ومنا ذو الجناحين جعفر الطيار، ومنا الكماة والفرسان، ومنا الفقهاء والعلماء، ومنا عرف الدين، ومن عندنا أتاكم اليقين، فمن زاحمنا زحمناه، ومن عادانا اصطلمناه، ومن فاخرنا فخرناه، ومن بدل سنتنا قتلناه.(2/176)
ثم التفت إلى الكندي فقال: كيف علمك بلغات قومك؟ قال: إني بها عالم، فقال: ما الجحمة في لغتكم؟ قال: العين، قال: فما المبزم؟ قال: السن، قال: فما الشناتر؟ قال: الأصابع، قال: فما الصنبارة؟ قال: الأذن، قال: فما القلوب؟ قال: الذئب، قال: فما الزب؟ قال: اللحية، قال: أفتقرأ كتاب اللّه تعالى؟ قال: نعم، قال: فإن اللّه تعالى يقول: " إنَّا أَنزَلناهُ قرآناً عربياً " " يوسف: 2 " ، وقال: " بلِسَانٍ عَرَبي مبين " " الشعراء: 195 " ، وقال جل ذكره: " وما أَرسَلنَا مِن رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قوَمِه " " إبراهيم: 4 " ، فقال عز وجل: " السن بالسن والعين بالعين " " المائدة: 45 " ولم يقل: الجحمة بالجحمة، وقال: " يجعَلوُنَ أَصاَبِعهُم في آذَانهم " " البقرة: 19 " ، ولم يقل: شناترهم في صنابرهم، وقال: " وَالسِّنَّ بِاَلسِّن " " المائدة: 45 " ، ولم يقل: المبزم بالمبزم، وقال: " فَأكَلَهُ اَلذِّئب " " يوسف: 17 " ، ولم يقل: أكله القلوب، وقال: " لا تَأخذْ بِلِحيتَي " " طه: 94 " ، ولم يقل: بزبي، وإني سائلك يا بن مخرمة عن ثلاث خصال، فإن أقررت بها قهرت، وإن جحدتها كفرت، قال: وما هي؟ قال: أتعلم أن فينا نبي اللّه المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ قال: اللهم نعم، قال: أفتعلم أن فينا كتاب اللّه المنزل؟ قال: اللهم نعم، قال: أفتعلم أن فينا خليفة اللّه المرتضى؟ قال: اللهم نعم، قال: فأي شيء يعدل هذه الخصال؟ قال أبو العباس: اكفف عنه، فواللّه ما رأيت غلبة قط أنكَرَ منها، واللّه ما فرغت من كلامك يا أخا مضر، حتى توهمتُ أنه سيعرَجُ بسريري إلى السماء. ثم أمر لخالد بمائة ألف درهم.
وفي ابن خلكان: أن السفاح نظر يوماً إلى المرآة، وكان من أجمل الناس وجهَاً، فقال: اللهم، إني لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك، ولكني أقول: اللهم عمرني طويلا في طاعتك ممتعَاً بالعافية. فما استتم كلامه حتى سمع غلاماً يقول لآخر: الأجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام، فتطير من كلامه، وقال: حسبي الله، ولا قوة إلا بالله، عليه توكلت، وبه استعنت، فما مضت المدة المذكورة حتى أخذته الحمى، ومرض، فمات بعد شهرين وخمسة أيام بالجدري بالأنبار مدينته التي بناها، وسماها: الهاشمية، وهو ابن إحدى وثلاثين سنة، وقيل: ثلاث وثلاثين، وكانت وفاته يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، سنة ست وثلاثين ومائة، ومدة خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، وولادته سنة خمس ومائة، وكان أبيض مليحَاً جميلا حسن اللحية والهيئة.
خلافة أبي جعفر المنصور
هو عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، أخو السفاح عبد اللّه المتقدم قبله، كان السفاح، ولاَه الحج سنة ست وثلاثين، ومات السفاح في ثالث عشر ذي الحجة منها، فأتاه الخبر، وهو عائد من الحج، وأتته الخلافة بمكانٍ يعرف بالصافية، فقال: صفا أمرنا، وكان السفاح قد عهد قبل موته بالخلافة لأخيه أبي جعفر ومن بعده لعيسى ابن أخيهما موسى بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس، وجعل العهد في ثوب وختمه بخواتيم أهل البيت، ودفعه إلى عيسى، ولما توفي السفاح، وكان أبو جعفر بمكة حاجاً، أخذ له البيعة على الناس عيسى بن موسى، وكتب إليه بالخبر، فجزع واستدعى أبا مسلم، وكان قد حج معه؛ كما تقدَم ذكره، فأقرأه الكتاب، فبكى أبو مسلم واسترجَعَ، وسكَّن أبا جعفر عن الجزع، وبايع له أبو مسلم والناس، وأقبلا حتى قدما الكوفة، ويقال: إن أبا مسلم كان في رجوعه من مكة متقدماً على أبي جعفر، وأن الخبر أتاه قبله، فكتب إليه يعزيه ويهنيه بالخلافة، وبعد يوم كتب له ببيعته، فلما قدم أبو جعفر الكوفة، سار منها إلى الأنبار، فسلم إليه عيسى بن موسى بيوت الأموال والدواوين، واستقام أمر أبي جعفر المنصور.
قال ابن خلدون: تولى أبو جعفر المنصور الخلافة في أول سنة سبع وثلاثين ومائة، وكان أول ما فعل أن قتل أبا مسلم الخراساني صاحب دعوتهم وممهد دولتهم، وذلك لما كان أبو مسلم يستخف بأبي جعفر من حين بعثه السفاح إلى خراسان؛ ليأخذ البيعة له ولأبي جعفر من بعده؛ كما ذكرت آنفَاً، ولأمور أخر حدثت عن أبي مسلم؛ منها: أنه لما حج معه، كان يؤثر نفسه على المنصور، ويتقدم بالإحسان إلى الوفود، وإصلاح الطريق والمياه، وكان الذكر له، ولما صدرا(2/177)
عن الموسم، تقدم ولقيه الخبر بوفاةَ السفاح قبل المنصور، فبعث إلى أبي جعفر يعزيه ولم يهنئه بالخلافة، ولا رجع إليه ولا انتظره، فغضب أبو جعفر وكتب إليه وأغلظ في العتاب، فكتب إليه يهنئه بالخلافة، وتقدم إلى الأنبار قبل أبي جعفر، ودعا عيسى بن موسى أن يبايع له، فأبى عيسى؛ لأن عهده إنما هو بعد موت المنصور، فأراد أبو مسلم رفع الخلافة عن أبي جعفر إلى عيسى، فامتنع عيسى، وقدم أبو جعفر، وقد كان عم المنصور عبد اللِّه بن علي الذي كان تولى قتال مروان ابن محمد خلع طاعة المنصور وبايع لنفسه.
وقال: إن السفاح حين أراد أن يبعث الجنود إلى مروان بن محمد، تكاسل عنه بنو أبيه، فقال لهم: من انتدب منكم، فهو ولي عهدي، فلم ينتدب غيري، وسرت إلى مروان بن محمد، وشهد له أبو حاتم الطائي وخفاف المروروذي وغيرهما من القواد وبايعوه، وكان قد ظفر من أموال بني أمية بما لا يحصَى من ذخائر وبما لا يستقصى، فسرح أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني إلى قتال عمه عبد اللّه بن علي المذكور، فهزمه وجمع الغنائم من عسكره، فبعث أبو جعفر المنصور مولاه أبا الخصيب لجمعها، فغضب أبو مسلم، وقال: أنا أمين على الدعاء، فكيف أخون الأموال؟! وهم بقتل أبي الخصيب، ثم خلى عنه.
وخَشِيَ المنصور أن يمضي أبو مسلم إلى خراسان، فكتب له بولاية الشام، فازداد نفاراً، وخرج من الجزيرة يريد خراسان، وسار أبو جعفر إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم يستقدمه، فأجابه بالامتناع، والتمسك بالطاعة عن بُعدٍ، والتهديد بالخلع إن طلب سوى ذلك، فبقي أبو جعفر المنصور حائراً بعد أن هَم بقتله بين الاستبداد برأيه في أمر أبي مسلم وبين الاستشارة فيه، فقال يوماً لسلم بن قتيبة ما ترى في أبي مسلم؟ فقال ابن قتيبة: يا أمير المؤمنين، لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا، فقال المنصور: حسبك يا بن قتيبة، لقد أودعتها أذناً واعية.
ثم كتب المنصور إلى أبي مسلم ينكر عليه هذا الشرط، وأنه لا يحسن معه طاعة، وبعث إلى عيسى بن موسى برسالة يؤانسه، وقيل: بل كتب إليه أبو مسلم يعرض له بالخلع، وأنه تاب إلى اللّه مما جناه من القيام بدعوتهم، وأخذ أبو مسلم طريق حلوان، وأمر المنصور ابن عمه عيسى بن موسى في مشيخة بني هاشم بكتاب إلى أبي مسلم يحرضونَهُ على التمسك بالطاعة، ويحذرونه عاقبة البغي ويأمرونه بالرجوع، وبعث الكتاب مع مولاه حميد المروروذي، وأمره بملاينته والخشوع له بالقول حتى ييأس منه، فإذا يئس من موافقته يخبره بقسم أمير المؤمنين: لا وكلت أمرك إلى غيري، ولو خضت البحر لخضته وراءك، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت.
فأوصل حميد الكتب وتلطف له في القول مؤمناً، واحتجَ عليه بما كان منه في التحريض على طاعتهم، فاستشار أبو مسلم مالك بن الهيثم، فأبى له من الإصغاء إلى القول، وقال: والله، لئن أتيته ليقتلنك، ثم بعث أبو مسلم إلى ميزك صاحب الري يستشيره، فأبى له من ذلك، وأشار عليه بنزول الري وخراسان من ورائه؛ ليكون أمكن لسلطانه، فأجاب أبو مسلم حميدَاً رسول أبي جعفر بالامتناع، فلما يئس حميد منه، أبلغه مقالة المنصور، فوجم طويلا ورعب من ذلك القول وأكبره، وكان المنصور قد كتب إلى عامل أبي مسلم بخراسان يرغبه في الانحراف عنه بولاية خراسان، فأجاب سِراً، وكتب إلى أبي مسلم بخراسان يحذره الخلاف والمعصية، فزاده على ذلك رعباً، وقال لحميد قبل انصرافه: قد كنت عزمت على المضي إلى خراسان، ثم رأيت أن أوجه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين يأتيني برأيه؛ فإني أثق به، فبعث به إلى المنصور، فلما قدم أبو إسحاق، تلقاه بنو هاشم وأهل الدولة بكل ما يحب، وداخله المنصور في صرف أبي مسلم عن وجهة خراسان ووعده بولايتها، فرجع أبو إسحاق إلى أبي مسلم وأشار عليه بلقاء المنصور، فاعتزم على ذلك، واستخلف مالك بن الهيثم بعسكره بحلوان، وقدم المدائن على المنصور في ثلاثة آلاف.(2/178)
وخشي أبو أيوب وزير المنصور أن يحدث منه عند قدومه فتك، فدعا بعض إخوانه، وأشار عليه بأن يأتي أبا مسلم، ويتوسل به إلى المنصور في ولاية كسكر يصيب فيها مالا عظيماً، وأن يشرك أخاه في ذلك، ويجعل ذلك أبو مسلم في حوائجه، وأن أمير المؤمنين عازم على أن يوليه ما وراء بابه وينزع نفسه، واستأذن له المنصورَ في لقاء أبي مسلم، فأذن له، فلقي ذلك البعض أبا مسلم، وتوسل إليه وأخبره الخبر، فطابت نفسه، وذهب عنه الحزن، واستبشر بتولية المنصور إياه ما وراء بابه.
ولما قرب أبو مسلم، أمر الوزير أبو أيوب الناس بتلقيه، ثم دخل على المنصور، فقبل يده، ثم انصرف ليريح ليلته، ودعا المنصور من الغد حاجبه عثمان بن نهيك، وأربعة من الحرس - منهم شبيب بن واج، وأبو حنيفة حرب بن قيس - وأجلسهم خلف الرواق، وأمرهم بقتل أبي مسلم إذا صفق بيديه، واستدعى أبا مسلم، فلما دخل سأله عن سيفين أصابهما لعمه عبد اللّه بن علي، وكان أبو مسلم متقلداً أحدهما، فقال أبو مسلم: هذا أحدهما، فقال المنصور: أرنيه، فانتضاه أبو مسلم وناوله إياه، فأخذ يقلبه بيده ويهزه، ثم وضعه تحت فراشه، وأقبل يعاتبه فقال: كتبتَ إلى السفاح تنهاه عن الموات كأنك تعلمه، فقال أبو مسلم: ظننت أنه لا يحل، ثم اقتديتُ بكتاب السفاحِ، وعلمتُ أنكم معدن العلم، قال: فتقدمك عني بطريق مكة؟ فقال: كرهت مزاحمتك على الماء، قال: فامتناعُكَ عن الرجوع إلي حين بلغك موت السفاح، وامتناعُكَ من الإقامة حتى ألحقك؟! قلت: قد تقدَم أن أبا مسلم حال عودهما من الحج كان متقدماً على المنصور، فبلغه خبر موت السفاح قبله، ولم يرجع إلى المنصور للتعزية والتهنئة له بالخلافة، ولم يقمْ في مكانه إلى أن يصل إليه المنصور بل استمرَّ سائراً حتى دخل الكوفة قبله؛ فلذلك يؤنبه بذلك.
فقال أبو مسلم: طلبت الرفق بالناس والمبادرة إلى الكوفة، قال: فجارية عمي عبد اللّه أردتَ أن تتخذها لنفسك؟! قال: لا، وإنما وكلْتُ بها من يحفظها، قال: فمراغمتك وسيرك إلى خراسان؟! قال: خفت منك، فقلت: آتي خراسان، وأكتُبُ بعذري، فأذهب ما في نفسك مني، قال: فالمال الذي جمعته بحران؟! قال: أنفقته على الجند تقوية لكم، قال: ألست الكاتب إليَّ تبدأُ بنفسك وتخطب آمنة بنت علي بن عبد الله بن عباس، وتزعم أنك من ذرية سليط بن عبد اللّه بن عباس؟! لقد ارتقيت لا أُمَ لك مرتقى صعبَاً، ثم قال له: وما الذي دعاك إلى قتل سليمان بن كثير مع أثره في دعوتنا، وهو أحد نقبائنا من قبل أن ندخلك في هذا الأمر؟! قال: أراد الخلافة فقتلته، ثم قال أبو مسلم: كيف يقال لي هذا بعد بلائي وما كان مني؟! قال: يا ابن الخبيثة، لو كانت أَمَة مكانك، لأغْنَتْ؛ إنما ذاك بدولتنا ورِيحِنَا؛ فأَكَب أبو مسلم يقبل يدي المنصور ويعتذر، فازداد المنصور غضباً، فقال أبو مسلم: دع هذا، فقد أصبحت لا أخاف إلا اللّه وحده، فشتمه المنصور، وصفَّق بيده، فخرج الحرس، وضربه عثمان بن نهيك، فقطع علابيه، فقال أبو مسلم: يا أمير المؤمنين استبقني لعدوك، فقال: لا أبقاني اللّه إذن، وأي عدو أعدى منك؟! وأخذه الحرس بسيوفهم حتى قتلوه، وذلك لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة.
وخرج الوزير أبو الجهم، فصرف الناس والجند، وقال: الأمير قائل عند أمير المؤمنين، فانصرفوا، وأمر لهم بالجوائز، وأعطَى أبا إسحاق مائة ألف.
ودخل عيسى بن موسى على المنصور بعد قتله، فسأله عنه، وأخذ في الثناء على طاعته وبلائه وذكر رأي الإمام إبراهيم فيه، فقال المنصور: واللّه، لا أعلم على وجه الأرض عدواً أعدى لكم منه، هو ذا في البساط، فاسترجع عيسى، فأنكر عليه المنصور، وقال: وهل كان لكم ملك معه؟! ثم دخل على المنصور جعفر بن حنظلة، فاستشاره في قتل أبي مسلم، فأشار بقتله، فقال له المنصور: وفقك اللّه، ثم نظر إليه قتيلا، فقال: عُدَ خلافتك من هذا اليوم، ثم دعا أبا إسحاق، وعذله على متابعة أبي مسلم، وقال: تكلم بما أردت وأخرجه قتيلا، فسجد أبو إسحاق، ثم رفع رأسه يقول: الحمد للّه الذي آمنني بك، واللّه ما جئته قَطُّ إلا وتكفنْتُ وتحنطْتُ، ورفع ثيابه وأراه كفنه وحنوطه، فرحمه المنصور، وقال: استقبل طاعتك، واحمد اللّه الذي أراحك.(2/179)
وكتب المنصور بعد قتل أبي مسلم إلى نصر بن الهيثم - الذي استخلفه أبو مسلم على خراسان، حال سيره إلى المنصور - كتابَاً على لسان أبي مسلم يأمره بحمل أثقاله، وقد كان أبو مسلم أوصاه: إن جاءك كتابي بخاتمي تاماً، فاعلم أني لم أكتبه، فلما رآه نصر بن الهيثم كذلك، فطنَ وانحدر إلى همذان يريد خراسان، فكتب له المنصور بولاية شهرزور، وكتب إلى زهير بن التركي بهمذان بحبس نصر، فمر نصر بهمذان، وخادمه زهير، ودعاه إلى طعامه وحبسه، وجاء كتاب العهد بشهرزور لنصر، فأطلقه زهير، ثم جاءه بعد ذلك كتاب، فقال: جاءني كتاب عهده، فخلت سبيله، ثم قدم نصر على المنصور، فعذله في استشارته على أبي مسلم بالامتناع من السير إليه، فقال نصر: نعم، يا أمير المؤمنين، اصطنعني فنصحتُ له، وإن اصطنعني أمير المؤمنين، نصحت وشكرت، فاستعمله المنصور على الموصل، ثم أقبل المنصور على من حضر، وأبو مسلم طريح بين يديه، وأنشده: من السريع:
زَعَمتَ أَن الذينَ لاَ يُقتَضَى ... فَاستَوفِ بالكَيلِ أبا مُجْرِمِ
إِشرَب بِكَأسٍ كُنتَ تسقي بِهَا ... أَمَر في الحَلقِ مِن العَلقَمِ
وكان يقال له: أبو مُجرم، وفيه يقول أبو دلامة: من الطويل:
أَبَا مُجرِمِ ما غَيرَ الله نعمَة ... على عَبدهِ حتى يغيرَهَا العَبْدُ
أَفي دَولَةِ المَنصُورِ حاوَلتَ غدرةَ ... ألا إن أهلَ الغَدرِ آباؤُكَ الكُرْدُ؟!
أبا مجرِمٍ خَوفتَنِي القَتل فانتَحَى ... عليكَ بما خوفتَنِي الأَسَدُ الوَردُ
ولما قتله المنصور، خطب الناس، فذكر أن أبا مسلم أحسن أولا وأساء آخراً، ثم قال في آخر خطبته: وما أحسن قول النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر: من البسيط:
فَمَنْ أَطَاعَكَ فَانفَعْهُ بِطَاعَتِهِ ... كَمَا أَطَاعَكَ وَادلُلهُ عَلى الرَشَدِ
وَمَن عَصَاكَ فعاقبهُ معاقبَة ... تَنهَي الظلُومَ ولا تَقعُد على ضَمَدِ
الضمد بفتح الضاد المعجمة والميم: الحقد.
وفي ابن خلكان وغيره: كان أبو مسلم قد سمع الحديث وروى عنه، وأنه خطب يوماً فقام إليه رجل، فقال: ما هذا السواد الذي أرى عليك؟ فقال أبو مسلم: حدثني أبو الزبير، عن جابر بن عبد اللّه - رضي اللّه تعالى عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح، وعلى رأسه عمامة سوداء، وهذه ثياب الهيبة وثياب الدولة، يا غلام، اضرب عنقه.
قلت: حديث جابر هذا في صحيح مسلم، ومن ثم كان شعار بني العباس في الخطبة السواد.
وكان أبو مسلم فصيحَاً عالماً بالأمور شجاعاً فاتكاً، ولم يُرَ قط مازحاً، ولا يظهر عليه سرور ولا غضب، ولا يأتي النساء إلا مرة واحدة في السنة، وكان يقول: النكاح جنونٌ، ويكفي العاقل أن يجن في السنة إلا مرة واحدة.
وأحصى من قتله أبو مسلم صبرَاً، وفي حروبه، فكانوا ستمائة ألف ونيفاً.
وفي المحاسن قال: قال ابن المعافي لأبي مسلم: أيها الأمير، لقد قمت بأمرِ لا يقصر بك ثوابه عن الجنة في إقامة دولة بني العباس، فقال: خوفي من النار واللّه أولى من طمعي في الجنة؛ إني أطفأت من بني أمية جمرة، وألهبت من بني العباس نيراناً، فإن أفرح بالإطفاء فواحسرتا من الإلهاب.
وحدث أبو نميلة، عن أبيه قال: سمعت أبا مسلم بعرفات يقول في الموقف باكياً: اللهم، إني أتوب إليك مما أظن أنك لن تغفره لي، فقلت: أيها الأمير، أيعظم على الله تعالى غفران ذنب؟ فقال: إني نسجت ثوبَاً من الظلم لا يبلى ما دامت الدولة لبني العباس، فكم صارخٍ وصارخةٍ تلعنني عند تفاقم هذا الأمر، فكيف يغفر اللّه تعالى لمن هذا الخلق خصماؤه؟! انتهى.
واختلف في نسبته، فقيل: من العرب، وقيل: من العجم، وقيل: من بني أمية، وقيل: من الأكراد، وقيل له: ما كان سبب خروج الدولة عن بني أمية؟ فقال: لأنهم أبعدوا أصدقاءهم ثقة بهم، وأدنوا أعداءهم تألفاً لهم، فلم يصر العدو صديقاً بالتأليف، وصار الصديق عدواً بالإبعاد.
وفي سنة ثمان وثلاثين ومائة: دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي المسمى بالداخل؛ لأنه أول من دخل المغرب، فدخل الأندلس واستولى عليها، وامتدت أيامه، وبقيت الأندلس في يد أولاده إلى بعد الأربعمائة.(2/180)
وكان عبد الرحمن هذا من أهل العلم والعدل، وكانت سيرته حميدة في الدين، وكان يجاهد الكفار على إعلاء كلمة الدين، فقيل للإمام مالك بن أنس - رضي اللّه تعالى عنه - : إن بالمغرب ملكاً قائماً بالشرائع يلبس الصوف، ويأكل الشعير، ويجاهد أعداء الدين من المشركين المجاورين له، فقال: ما أحوج بلدتنا إلى واحد مثله تتزين به، فوصلت كلمة مالك إليه بالأندلس، فجمع الناس في مملكته ونادى ألا يدان إلا بمذهب مالك؛ فمن ثم كان أهل المغرب على مذهب الإمام مالك، رضي اللّه تعالى عنه.
ثم سمع المنصور بذلك، فحصلت منه إساءة إلى الإمام مالك؛ بسبب ذلك القول.
وأمه بربرية، وكذلك أم المنصورة فكانوا يقولون: ملك الدنيا ابنا بربريتين: المنصور، وعبد الرحمن بن معاوية.
هذا، وفي سنة أربعين ومائة، حج المنصور فنزل في دار الندوة، وكان يخرج فيطوفُ سحراً بالبيت، فخرج ذات ليلة، فبينما هو يطوف إذ سمع قائلا يقول: اللهم، إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله الطمع، فهرول المنصور حتى ملأ مسامعه، ثم رجع إلى دار الندوة، وقال لصاحب الشرطة: إن بالبيت رجلا يطوف صفته كذا، فائتني به، فخرج فوجد رجلا عند الركن اليماني، فقال: أجب أمير المؤمنين، فلما دخل عليه، قال له المنصور: الذي سمعتك آنفاً تشكوه إلى الله تعالى من ظهور البغي والفساد... إلى آخره؟ فواللّه لقد حشوتَ مسامعي ما أمرضني! فقال: يا أمير المؤمنين، إن الذي دخله الطمع، وحال بين الحق وأهله أنتَ، فقال له المنصور: ويحك! كيف يدخلني طمع، والصفراء والبيضاء ببابي، وملك الأرض في قبضتي؟! فقال الرجل: سبحان اللّه يا أمير المؤمنين، وهل دخل أحداً من الطمع ما دخلك؟! إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم، فأهملت أمورهم، واهتممت بجمع أموالهم، واتخذت بينك وبينهم حجابَاً من الجص والآَجُر، وحجبة تمنعهم البلاغ، وأمرت ألا يدخل عليك إلا فلان وفلان، ثم استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الجائع ولا العاري، ولا أحد إلا وله في هذا المال حَق.
فلما رآك هؤلاء الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك تجمَعُ الأموالَ ولا تقسمها، قالوا: هذا قد خان اللّه ورسوله، فمالنا لا نخونه؟! فاجتمعوا على ألا يصل إليك من أموال الناس إلا ما أرادوا، فصاروا شركاءك في سلطانك، وأنت غافل عنهم، وإذا جاء المظلوم إلى بابك، وجدك قد أوقفت ببابك رجلا ينظر في المظالم؛ فإن كان الظالم من بطانتك، علل المظلوم وسوف به من وقت إلى وقت، فإذا اجتهد وظهرت أنتَ، فصرخ بين يديك، ضرب ضربَاً مبرحاً ليكون نكالا لغيره، وأنت ترى ذلك فلا تنكره. ولقد كانت الخلفاء من قبلك إذا انتهت إليهم الظلامة، أزيلَتْ في الحال. ولقد كنت أسافر إلى الصين، فقدمتُ مرة إليه، فوجدت الملك الذي به فَقَدَ سَمْعَهُ فبكى، فقال وزراؤه: ما يبكيك؟ فقال: ما بكيت لمصيبة نزلت بي، إنما أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمعه، ثم قال: إن ذهب سمعي، فلم يذهب بصري، نادوا في الناس: لا يلبس أحد أحمر إلا مظلوماً. وكان يركب الفيل ويذهب في البلد لعلَه يجد لابس ثوب أحمر فينصفه؛ فهذا يا أمير المؤمنين رجل مشرك باللّه، غلبت رأفته على شح نفسه بالمشركين.(2/181)
فكيف بك وأنت مؤمن باللّه وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يا أمير المؤمنين، إنما يجمع المال لإحدى ثلاث: إن قلتَ: إنما أجمع المال للولد، فقد أراك اللّه عبرة في الطفل؛ إذ يسقط من بطن أمه وليس له على وجه الأرض من مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فلم يزل لطف اللّه تعالى بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس فيه، وحوى ما حوته تلك اليد الشحيحة، ولست بالذي تعطي، وإنما اللّه سبحانه وتعالى المعطِي. وإن قلت: إنما أجمعه لمصيبة تنزل بي، فقد أراك اللّه تعالى عبرة في الملوك والقرون الذين خلوا من قبلك، ما أغنى عنهم ما أعدوا من الأموال والذخائر والكُرَاع حين أراد اللّه تعالى ما أراد. وإن قلت: إنما أجمعه لغاية هي أحسن من الغاية التي أنت فيها، فواللّه ما فوق غايتك إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح. فبكى المنصور بكاء شديدَاً، ثم قال: كيف أعمل، والعلماءُ قد فرَتْ مني، والصالحون لم يدخلوا علي؟! فقال: يا أمير المؤمنين، افتح الباب، وانتصر للمظلوم من الظالم، وخذ المال مما حل، واقسمه بالحق والعدل، وأنا ضامن من هرب منك أن يعود إليك.
ثم خرج الرجل، فقام المنصور للصلاة، فلما صلى، طلب الرجل فلم يجده، فذهب إليه الشرطي، فوجده عند الركن اليماني، فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال الرجل: ليس إلى ذلك سبيل، قال الشرطي: إذنْ يضرب عنقي، قال: لا، ولا إلى ضرب عنقك سبيل، ثم أخرج ورقاً مكتوبَاً فقال: خذه معك، فإن فيه دعاء الفرج، وذكر له فضلا عظيماً، فأخذه الشرطي، وأتى إلى المنصور، فلما رآه قال: ويحك؟ أتحسن السحر؟! قال: لا والله، ثم قص عليه القصة، فأمر المنصور بنقله، وأمر للشرطي بألف دينار، وهو هذا: اللهم، كما لطفت في عظمتك وقدرتك دون اللطفاء، وعلوت بعظمتك على العظماء، وعلمتَ ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك، فكانت وساوس الصدور عندك كالعلانية، وعلانية القول كالسر في علمك، فانقاد كل شيء لعظمتك، وخضع كل في سلطان لسلطانك، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك، اجعل لي من كل هم وغم أصبحتُ أو أمسيتُ فيه فرجَاً ومخرجاً، اللهم، إن عفوك عن ذنوبي، وتجاوزك عن خطيئتي، وسترك على قبيح عملي أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه منك بما قصرت فيه، فصرت أدعوك آمنَاً، وأسألك مستأنساً؛ فإنك المحسن، وأنا المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك، تتودد إليَ بنعمتك، وأتبغض إليك بالمعاصي، ولكن الثقة بك حملتني على الجرأة عليك، فَعُدِ اللهم بفضلك وإحسانك علي؛ إنك أنت الرءوف الرحيم.
وكان هذا الرجل هو الخضر - عليه السلام - وهذا الدعاء مشهور بأنه دعاء الخضر، وهو عظيم الفوائد، جم العوائد.
وفي سنة ست وأربعين ومائة: بني مدينة بغداد، سببها ثورة الراوندية عليه بالهاشمية، ولأنه كان يكره أهل الكوفة، ولا يأمن على نفسه منهم، فتجافى عن جوارهم، وسار إلى مكان بغداد اليوم، وجمع من كان هناك من البطارقة، وسألهم عن أحوالهم ومواضعهم في الحر والبرد والمطر والوحل والهوام، واستشارهم فأشاروا عليه بمكانها، وقالوا: تجيئك الميرة في السفن من الشام، والرقة ومصر والمغرب إلى الصراة، ومن الصين والهند والبصرة وواسط وديار بكر والروم والموصل في دجلة، ومن أرمينية وما اتصل بها من تامراً تتصلُ بالزاب، يعني: نهر الموصل، وأنت بين أنهار كالخنادق لا تعبر إلا على القناطر والجسور، وإذا قطعتها لم يكن لعدوك مطمع في أرضك، وأنت متوسط بين البصرة والكوفة وواسط والموصل قريب من البر والبحر والجبل، فشرع المنصور في عمارتها، وكتب إلى الشام والكوفة وواسط والبصرة في الصناع والفعلة، واختار من ذوي الفضل والعدالة والعفة والأمانة والمعرفة بالهندسة، فأحضرهم لذلك، وأمر بخطها بالرماد، فشكلَت أبوابها وفصلاتها وطاقاتها ونواحيها، وجعل على الرماد حب القطن، فأضرم ناراً، ثم نظر إلِيِها، وهي تشتعل فعرف رسمها، وأمر أن تحفر الأسوس على ذلك الرسم. ووكل بها أربعة من القواد يتولى كل واحد منهم ناحية، ووكل الإمام الأعظم أبا حنيفة بن ثابت - رضي اللّه عنه - بِعَد الآجُر واللبن، وقد كان أراده على القضاء والمظالم، فأبى فحلف ألا يقلع عنه حتى يعمل له عملا؛ فكان هذا.(2/182)
وأْمر المنصور أن يكون عرض أساس السور من أسفله خمسين ذراعَاً ومن أعلاه عشرين ذراعاً، ووضع بيده أول لبنة، وقال: بسم اللّه، والحمد للّه، والأرض للّه، يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، ثم قال: ابنوا على بركة اللّه.
واستشار خالدا البرمكي في نقض المدائن وإيوان كسرى، فإنه بالمدائن، فقال: لا أرى لك؛ لأنه من آثار الإسلام وفتوح العرب، وفيه مصلى علي بن أبي طالب، فاتهمه المنصور بعصبية العجم؛ لأن خالداً أصله من العجم، وأمر بنقض القصر الأبيض، فإذا الذي ينفق عليه أكثر من ثمن الجديد، فأقصر المنصور عنه، فقال له خالد: أما الآن فلا أرى إقصارك عنه لئلا يقال: عجزوا عن هدم ما بناه غيرهم، والهدم أيسَرُ من البناء، فأعرض عنه، ونقل الأبواب إلى بغداد من واسط ومن الشام ومن الكوفة، وجعل المدينة مدورة، وجعل قصره وسطها؛ ليكون الناس منه على حد سواء، وجعل المسجد الجامع إلى جنب القصر، وجعل لها سورين والداخل أعلى من الخارج، وكان زنة اللبن الذي يبني به كل لبنة مائة رطل وسبعة عشر رطلاً، وطولها ذراع في ذراع، وكان مقدار النفقة عليها بالجامع والقصر والسورين والفنادق والأبواب والأسواق أربعة آلاف ألف، وثمانمائة ألف وثلاثة وثلاثين ألف درهم.
وفي سنة ثمان وأربعين: توطأت الممالك كلها للمنصور، وجلت هيبته في النفوس، ودانت له الأمصار، ولم يبق خارجاً عنه سوى جزيرة الأندلس؛ فإنه غلب عليها عبد الرحمن بن معاوية بن هشام؛ كما قدمت ذكره.
وفي سنة تسع وأربعين: فرغ من بناء بغداد.
وفي سنة خمسين: بني الرصافة وشيدها.
وفي سنة ثلاث وخمسين: ألزم المنصور رعيته لبس القلانس الطوال، وكانوا يعملونها بالقصب والورق ويلبسونها، فقال أبو دلامة في ذلك: من الطويل،
وَكُنا نرجي من إمامٍ زيادة ... فزاد الإمَامُ المصطَفَى في القَلاَنِسِ
تَرَاهَا على هَامِ الرجالِ كَأَنهَا ... زُنَارُ يَهُودٍ جُللَتْ بِالبَرانسِ
وكان أبو جعفر المنصور مهيباً سفاكَاً ذا دهاءِ وحزمِ وتدبيرِ لأمور الرعية، وكان يغلب عليه الصمت، وعلى ظاهر أحواله الصلاح.
أمه، يقال لها: سلامة، بربرية، يقال: إنها قالت: لما حملت به، رأيتُ كأن أسداً خرج مني، فأقعى وزأر وضرب بذيله الأرض، فأقبلت إليه الأسود من كل ناحية، فكلما انتهى أسد منها إليه سجد.
كانت ولادته سنة خمس وتسعين، وهي السنة التي توفي فيها الحجاج بن يوسف.
يحكى أنه رتب أوقاته لأموره: كان بعد أن يصلي الصبح إلى وقت صلاة الظهر: يدبر أحوال البلاد، ويرفع المظالم عن العباد، ويقضي حوائج الناس، ومن الظهر إلى وقت العصر: يدبر أحوال نفسه، ومن العصر إلى المغرب: يتقيد بأمور خواصِّ أهل بيته، وبعد المغرب إلى العشاء: يشتغل بالقراءة، وبعد العشاء إلى مضي الثلث الأول من الليل: يجتمع إليه ندماؤه، ويتحدَثون بالسير والأخبار والأشعار المتضمنة للحكم والشجاعة، فإذا تفرقوا من عنده: رقد الثلث الأوسط، فإذا دخل الثلث الأخير: قام وتوضأ وتهجد وقرأ القرآن إلى الصبح.
وفي ربيع الأبرار: سأل المنصور بعض بطانة هشام بن عبد الملك الأموي عن تدبير هشام في حروبه، فقال ذلك البعض: فعل كذا - رحمه اللّه - وصنع كذا - رحمه اللّه - فقال المنصور: لعنك اللّه وإياه، تطأ بساطي وتترحَم على عدوي، أخرجوه عني، فقام الرجل وهو يقول: واللّه، لنعمة عدوك قلادة في عنقي لا ينزعها إلا غاسلي، فقال المنصور: ردوه علي، فَرُدَ، فقال له المنصور: يا شيخ، أشهد أنك نتيجة حر، وثمرة شريف، ودعا له بمال، فقال الرجل: لولا افتراض طاعتك ما قبلت بعده لأحد نعمة، فقال له المنصور: كفيت قومك فخراً، كن أول داخل علي، وآخر خارج عني.
ودخل بعض الهاشميين عليه، فجعل يحدثه ويكثر من ذكر أبيه والترحم عليه، فيقول: كان أبي رحمه اللّه، وفعل أبي رحمه الله، فقال له الربيع حاجب المنصور: كم تترحَم على أبيك بحضرة أمير المؤمنين، فقال له الهاشمي: أنت معذور فإنك لا تعرف حلاوة الآباء، فخجل منه أشد الخجل، وذلك أن الربيع كان لقيطاً لا يعرف له أب.
وكان المنصور - مع هذه الصفات الحميدة - يوصف بالبخل الشديد، ولذا لقب بالدوانيقي.(2/183)
ذكر ابن خلدون: أنه حاسب القواد الذين جعلهم على بناء بغداد عند الفراغ منها، فألزم كُلاًَ بما بقي عنده، حتى إنه أخذ من خالد بن الصلت منهم خمسة عشرة درهماً بعد أن حبسه عليها.
ومما يحكى عنه من الشح: أنه قال للمسيب بن زهير: أحضرني بناء حاذقاً الساعة، فأحضره فأدخله إلى بعض محاله، وقال: ابن لي بازائه طاقاً يكون شبيهاً بالبيت، فلم يزل يؤتي بالحصى والآجر حتى بناه وجوده، فنظر إليه المنصور واستحسنه، وقال للمسيب: أعطه أجره، فقال: أعطيه خمسة دراهم، فاستكثرها، وقال: لا أرضي بذلك، فلم يزل حتى نقصه درهماً، ففرح بذلك، وابتهج كأنه أصاب مالاً.
وحكي - أيضاً - أنه لدغ، فدعا مولى له يقال له: أسلم، رقاء، فأمره أن يرقيه، فرقاه فبرئ، فأمر له برغيف، فأخذ الرغيف فثقبه وصيره في عنقه، وجعل يقول: رقيت مولاي، فبرئ فأمر لي بهذا الرغيف، فبلغ المنصور ذلك، فقال له: لم أبرك أن تشنع علي، فقال: لم أشنع؛ إنما أخبرت بما أمرتَ، فأمر أن يصفع ثلاثة أيام كل يوم ثلاث صفعات.
قلت: وعندي، والله، في صحة هذا القول عشرون شكاً، واللّه أعلم بالحقائق.
وحكي عن الأوزاعي قال: بعث إلي المنصور فقال: لمَ تبطئ عنا؟! قلت: وما تريد منا؟! فقال: لآخذ عنكم وأقتبس منكم، فقلت له: مهلاً؛ فإن عروة بن رويم أخبرني أن نبي اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " من جاءته موعظة من ربه فقبلها، شكر اللّه له ذلك، ومن جاءته فلم يقبلها، كانت حجة عليه يوم القيامة " ، مهلاً، فإن مثلك لا ينبغي له أن ينام، إنما جعلت الأنبياء رعاة لعلمهم بالرعية، يجبرون الكسير، ويسمنون الهزيل، ويؤوون الضالة، فكيف من يسفك دم المسلمين، ويأخذ أموالهم؟! أعيذك باللّه أن تقول: إن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تدعوك إلى الجنة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في يده جريدة يستاك بها، فضرب بها قورة أعرابي، فنزل جبريل فقال: يا محمد، إن اللّه تبارك وتعالى لم يبعثك مؤيسَاً مقنطاً، تكسر قرون أمتك، ألق الجريدة من يدك، فدعا الأعرابي إلى القصاص من نفسه، فكيف بمن يسفك دماء المسلمين؟! إن اللّه عز وجل أوحى إلى من هو خير منك داود - عليه السلام - " يا داودُ إنا جَعلناَكَ خليفَةَ في اَلأَرضِ فاحكمُ بَينَ اَلناسِ باِلحقِ وَلا تَتبِعِ الهَوَى.. " " الآية ص: 26 " وأوحي إليه: يا داود، إذا أتاك الخصمان فلا يكون لأحدهما على صاحبه الفضل، فأمحوك من ديوان نبوتي، اعلم أن ثوبَاً من ثياب أهل النار لو علق بين السماء والأرض، لمات أهل الأرض من نتن ريحه، فكيف بمن يتقمصه، ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبال الدنيا، لذابت كما يذوب الرصاص حتى تنتهي إلى الأرض السابعة، فكيف بمن تقلدها، فبكي حتى خضبت دموعه لحيته ووجهه.
؟العهد للمهدي وخلع عيسى بن موسى كان السفاح قد عهد إلى عيسى ابن أخيه موسى أن يكون خليفة بعد أبي جعفر المنصور، وولاه على الكوفة، فلم يزل عليها. فلما كبر المهدي بن أبي جعفر المنصور، أراد المنصور أبوه أن يقدمه في العهد على عيسى، وكان يكرمه فيجلسه عن يمينه، والمهدي عن يساره، فكلمه في التأخر عن المهدي في العهد، فقال: يا أمير المؤمنين، كيف بالأيمان التي علي وعلى المسلمين، وأبي من ذلك، ولم يرض بتقدم المهدي عليه، فتغير له المنصور وباعده بعض الشيء، وصار يأذن للمهدي قبله، ولعميه عيسى بن علي وعبد الصمد، ثم يدخل عيسى بن موسى، فيجلس تحت المهدي، واستمر المنصور على التنكُر لعيسى، وعزله عن الكوفة، ثم راجع عيسى رأيه، وخلع نفسه فبايع المنصور للمهدي بالعهد وجعل عيسى من بعده.
ويقال: أنه أعطاه أحد عشر ألف درهم، وأشهد جماعة عليه بالخلع.(2/184)
قال في بغية الخاطر للعلامة محمد بن مصطفى الشهير بكاتي: ذكر أن أبا جعفر المنصور قال لعمرو بن عبيد: عظني، قال: بما رأيتُ، أو بما سمعتُ؟ فقال: بل بما رأيتَ، فقال: توفي عمر بن عبد العزيز - رحمه اللّه - وخلف أحد عشر ابناً، وبلغت قيمة تركته سبعة عشر ديناراً، فكفن بخمسة دنانير واشترى له موضع قبره بدينارين وأصاب كل واحد من أولاده ثمانية عشر قيراطاً. ومات هشام بن عبد الملك، وخلف أحد عشر ابنا، فحصل لكل واحد من ورثته مما خلفه عشرة آلاف دينار، فرأيت رجلا من أولاد عمر بن عبد العزيز قد حمل على مائة فرس في سبيل اللّه، ورأيت رجلا من أولاد هشام يسأل الناس.
وفي سنة ثمان وخمسين: توفي المنصور محرماً بالحج، وكانت وفاته ببئر ميمون السادس من ذي الحجة من السنة المذكورة، وبئر ميمون على ثلاثة أميال من مكة، ودفن قبل بئر الحجون وبين بئر ميمون، وحفر له مائة قبر ودفن في أحدها؛ خوفاً أن تنبشه الأعداء.
قال ابن خلدون: دفن بمقبرة المعلاة بعد أن صلى عليه عيسى بن موسى، وقيل: إبراهيم بن يحيى، وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة، وعمره اثنتان وستون سنة وأحد عشر شهراً وستة أيام، وقيل: أربع وستون.
صفته: قال ابن الأثير في كامله: كان طويلا أسمر خفيف اللحية رَحْبَ الصدر، كأن عينيه لسانان ناطقان، صارماً مهيبَاً ذا جرأة وسطوة وحزم وعزم ورأي وشجاعة وكمال عقل ودهاء وعلم وحلم وفقه، وخبرة في الأمور تقبله النفوس وتهابه الرجال، كان يخلط الملك بزي النسك، وكان بخيلا بالمال إلا عند النوائب.
قلت: ورأيتُ في الذهبي أنه كان أغرى بسفيان الثوري، فأضمر قتله حال فراغه من المناسك، وأعد خشبة مع الخشابين ليصلبه عليها، فجاء الخبر إلى سفيان الثوري - رضي الله عنه - وهو مضطجع بالحجر، ورأسه في حجر الفضيل بن عياض، ورجلاه في حجر سفيان بن عيينة، فقيل له: إن أبا جعفر المنصور قارب مكة، فانج بنفسك واختفِ، فقام إلى أثواب البيت الشريف ودعا طويلا، ثم قال: برئت من رب هذه البنية، إن دخلها أبو جعفر المنصور إلا ميتاً، فكان الأمر كذلك.
ولما سار المنصور إلى الحج، أوصى ولده المهدي عند وداعه، فقال له: لم أدع شيئاً إلا تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال، وما أظنك تفعل واحدة منها - وكان له سفط فيه دفاتر عمله وعليه قفل لا يفتحه أحد غيره - فقال للمهدي؛ انظر لهذا السفط، فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن حز بك أمر، فانظر في الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما تريد وإلا ففي الثاني والثالث حتى بلغ سبعة، فإن ثقل عليك، فالكراسة الصغيرة؛ فإنك واجد ما تريد فيها وما أظنك تفعل. وانظر هذه المدينة وإياك أن تستبدل بها غيرها. وقد جمعت لك فيها من الأموال ما لو انكسر عليك الخراج عشر سنين، كفاك لأرزاق الجند والنفقات والذرية ومصالح البيت، فاحتفظ بها؛ فإنك لا تزال عزيزاً ما دام بيت مالك عامراً، ولا أظنك تفعل. وأوصيك بأهل بيتك أن تظهر كرامتهم وتحسن إليهم وتقدمهم وتوطئ الناس أعقابهم وتوليهم المنابر، فإن عزك عزهم وذكرهم لك، وما أظنك تفعل. وانظر مواليك، فأحسن إليهم وقربهم واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدتَك إن تنزل بك يومَاً، وما أظنك تفعل وأوصيك بأهل خراسان خيرَاً؛ فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا دماءهم وأموالهم في دولتك، ولا تخرج محبتك من قلوبهم، أحسن إليهم وتجاوز عن مسيئهم، واخلف من مات منهم في ولده وأهله بخير، وما أظنك تفعل. وإياك أن تبني مدينة الشرقية؛ فإنك لا تتم بناءها، وأظنك ستفعل.(2/185)
وقيل: قال: إني قد ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي يجعل لك فيما حزبك فرجَاً ومخرجاً، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب. يا بني، احفظ محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته يحفظك اللّه ويحفظ عليك أمورك، وإياك والدم الحرام؛ فإنه حوب عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود؛ فإن فيها صلاحك العاجل والآجل، ولا تعتد فيها فتبور؛ فإن اللّه تعالى لو علم شيئاً أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه. واعلم أن من شدة غضب اللّه لسلطانه أَمَرَ بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فساداً مع ما ذخر له من العذاب الأليم، فقال: " إِنَمَا جَزاؤا الذَّينَ يُحَارِبونَ اللَّهَ وَرَسُولَه وَيسَعونَ في اَلأرَضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلوا... " الآية " المائدة: 33 " ، فالسلطان، يا بني، حبل اللّه المتين، وعروته الوثقى، ودينه القويم، فاحفظه وحصنه وذب عنه وأوقع بالملحدين فيه والمارقين منه واقتل الخارجين عنه ولا تجاوز ما أمرك الله به في محكم القرآن، واحكم بالعدل، ولا تشطط، فإن ذلك أقطع للشغب، وأحسم للعدو، وأنجع في الدواء، واعف عن الغي، فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك.
وافتتح بصلة الرحم وبر القَرابة، وإياك والتبذير لأموال الرعية، واشحن الثغور بالمصالح، واضبط الأطراف، وأمن السبل، وسكِّن العامة، وأدخل المرافق عليهم، وادفع المكاره عنهم، وأعد الأموال واخزنها، وإياك والتبذير؛ فإن النوائب غير مأمونة وهي من شيم الزمان، وأعد الكراع والجُنْدَ ما استطعت، وإياك وتأخير عمل اليوم إلى غد؛ فتتداول الأمور ويضيع حدسك في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها، وأَعِدَ رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون في الليل، وباشر الأمور ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظن باللّه، وأسئ الظن بعمالك، وكتابك، وخُذ نفسك بالتيقظ وتفقد من يبيت على بابك، وسَهلْ إذنك للناس. وانظر في أمر النزاع إليك، ووكل بهم عيناً غير نائمة، ونفساً غير لاهية، ولا تنم؛ فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافةَ، ولا دخل عليه الغمض إلا وقلبه متيقظ. هذه وصيتي إليك، واللّه خليفتي عليك.
ثم ودعه وسار إلى الكوفة فأحرم منها قارنَاً. وساق الهدى وأشعره وقلَّده لأيام خلت من ذي القعدة.
ولما سار منازل، عرض له وجعه الذي مات منه، وهو البطن، ولما قرب من مكة رأى على جدار خرب سطرين هما: من الطويل:
أَبَا جَعفَر حانَت وفاتُكَ واتقَضَت ... سِنُوكَ وَأَمْر اللَهِ لا بُد واقعُ
أبا جعفرٍ هل كاهِن أو منجمٌ ... لك اليَومَ من رَيْبِ المنيةِ دافع
فلما قرأها، تيقن انقضاء أجله. ثم اشتد به وجعه، فجعل يقول للربيع، وكان عديله: بادر بي إلى حرم ربي هاربَاً من ذنوبي. فلما وصل إلى بئر ميمون، مات سحراً ليلة السادس من ذي الحجة؛ كما تقدَم ذكره.
ولم يحضره إلا خدمه والربيع مولاه فكتموا الأمر، ثم غدا أهل بيته على عادتهم، فدعا الأكابر وذوي الأسنان، ثم عامتهم، فبايعهم الربيع للمهدي، ثم بايع القواد وعامة الناس.
وسار العباس بن محمد، ومحمد بن سليمان إلى مكة، فبايعا الناس للمهدي بين الركن والمقام.
وذكر علي بن محمد النوفلي، عن أبيه، وهو من أهل البصرة، كان يختلف إلى المنصور قال: جئت من مكة صبيحة موته إلى العسكر، فإذا موسى بن المهدي عند عمود السرادق والقاسم بن المنصور في ناحية، فعلمت أنه قد مات، ثم أقبل الحسن ابن زيد العلوي والناس حتى ملئوا السرادق، وسمعنا همس البكاء، ثم خرج أبو العنبر الخادم مشقوق الأقبية وعلى رأسه التراب وهو يستغيث، وقام القاسم فشق ثيابه، ثم خرج الربيع في يده قرطاس، فقرأه على الناس وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد اللّه المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف من بني هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين. ثم بكى وبكى الناس، ثم قال: البكاء أمامكم، فأنصتوا رحمكم اللّه، ثم قرأ: أما بعد، فإني كتبت كتابي هذا، وأنا في آخر يوم من أيام الدنيا، أقرأ عليكم السلام، وأسأل اللّه ألاَ يفتنكم بعدي، ولا يلبسكم شيعاً يذيق بعضكم بأس بعض.(2/186)
ثم أخذ في وصيتهم بالمهدي، وبعثهم على الوفاء بعهده، ثم تناول الحسن بن زيد وقال: قم نبايع موسى بن المهدي لأبيه فقام فبايعه، ثم بايع الناس الأول فالأول، ثم دخل بنو هاشم على المنصور، وهو في أكفانه مكشوف الرأس لمكان الإحرام، فحملوه من مكانه الذي مات فيه على ثلاثة أميال من مكة فدفنوه، وكان عيسى بن موسى لما بايع الناس، أبى من البيعة؛ لأنه كان ولي العهد بعد أبي جعفر، وإنما أخره أبو جعفر، وقدم ابنه المهدي عليه، وجعل له العهد بعد المهدي، فقال له علي بن عيسى بن ماهان: واللّه لتبايعن أو لأضربن عنقك، فبايع ثم بعث موسى ابن المهدي والربيع بالخبر والبردة والقضيب وخاتم الخلافة إلى المهدي وخرجوا من مكة.
؟خلافة المهدي
محمد بن أبي جعفر المنصور عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس القرشي الهاشمي.
لما وصل الخبر إلى المهدي منتصف ذي الحجة من سنة ثمان وخمسين ومائة، اجتمع أهل بغداد فبايعوه. قال السيوطي في تاريخه: أول من هنأ المهدَي بالخلافة وعزاه بأبيه المنصورِ أبو دلامة، فقال: من الكامل:
عَيْنَايَ واحدَة تُرَى مسرورة ... بأميرِهَا جَذْلَى، وأخرَى تَذْرِفُ
تَبْكِي وتضحَكُ تَارَة ويَسُوءُهَا ... ما أنكَرَتْ ويَسُرُهَا ما تَعْرِفُ
فيسُوءُهَا مَوْتُ الخليفةِ مُحْرِماً ... ويَسُرُّهَا أنْ قَامَ هذَا الأرأفُ
ما إِنْ رَأَيْتُ كما رأيتُ ولا أَرَى ... شَعْراً أسرحُهُ وآخَر أَنْتِفُ
هَلَكَ الخليفة يَا لَدِينِ محمدٍ ... وأتاكُمُ مِنْ بعده مَنْ يَخْلُفُ
أَهْدَى لهذا اللهُ فَضْلَ خلافةِ ... ولذاكَ جَناتِ النعيمِ تزخرفُ
وذكر الصولي أن امرأةَ اعترضت المهدي، فقالت: يا عصبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر في حالي، فقال المهدي: ما سمعتها من أحد قط، اقضوا حاجتها وأعطوها عشرة آلاف درهم.
وكان أول ما فعله أن أطلق من كان في حبس أبيه المنصور، إلا من كان حبسه في دم أو مال أو ممن سعى بالفساد، وكان حليماً جواداً فصيحاً سلك مع الناس سيرِة مرضية، فأحبه الناس، وإن كان منهمكاً في اللهو، فقد أراح الناس من تعب الظلم والجور والاعتساف، لما أضاف إلى ذلك من الحلم والجود والإنصاف، حتى أطمأن به العباد والبلاد، وكانت أيامه كالأعياد.
ولادته سنة سبع وعشرين ومائة. وفي سنة ستين؛ حج المهدي، واستخلف على بغداد ابنه الهادي، واستصحب ابنه هارون وجماعة من أهل بيته. ولما وصل إلى مكة، اهتم بكسوة الكعبة، فكساها بأفخر الكسوة بعد أن أتاه بنو شيبة، فقالوا: قد تكاثرت الكساوي على الكعبة، ونحن نخشَى من ثقلها على الكعبة، فأمر بنزع جميع ما كان عليها، وكانت فيها كسوة هشام بن عبد الملك من الديباج الثخينِ، وقسم مالا عظيماً هناك في مصارف الخير؛ فكان منه ما جاء به من العراق ألف ألف درهم، ووصل إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائة ألف دينار، ففرق ذلك كله، وفرق مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع المسجد الحرام؛ وذلك لأنه رأى الكعبة ليست في وسط المسجد لضيق جانبه من جهة اليمن؛ فأمر الصناع والمهندسين بتوسيعه من تلك الجهة واشترى دوراً هنالك وهدمها، فنهاه المهندسون، وقالوا: يدخل السيل إن فعلتَ ذلك إلى المسجد لضيق مجراه حينئذ، فقال: لا بدَ من ذلك، وإن دخل السيل، ولو أنفقت في ذلك جميع بيوت المال، وصعد المهندسون على ظهر الكعبة، ونصبتَ الرماح بعضها إلى بعض، ومدَتْ من أعلى الكعبة إلى الجهات الأربع حتى كانت مستوية متوسطة في المسجد نسبة الجهات الأربع إليها على السواء، فجزاه اللّه خيرَاً وشكر سعيِه.
قال الفاكهي: كان بعد جدار المسجد من الجانب الجنوبي عن الكعبة تسعة وأربعين ذراعاً لا غير، ولبيان مثل هذه الأمور كتب مفردة.
ولما رجع أمر ببناء القصور بطريقّ مكة، أوسع من قصور أبيه المنصور من القادسية إلى زبالة، وأمر باتخاذ المصانع في كل منهل وبتحديد الأميال، وحفر الآبار، وذلك على يد يقطيِن بن موسى. وأمر بالزيادة في مسجد البصرة وتقصير المنابر إلى مقدار منبر النبي صلى الله عليه وسلم.(2/187)
وفي سنة ثلاث وستين: ظهر عطاء المقنع شيخ لعين خراساني كان يعرف السحر والسيميا، فربط الناس بالخوارق والمغيبات، وادعى الربوبية، وكان يقول بالتناسخ، أي: أن اللّه تعالى تحول إلى صورة آدم، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له، ثم تحول إلى صورة نوح ثم إلى صورة إبراهيم وغيرهم من الأنبياء والحكماء والفلاسفة، ويقرأ: " في أي صورة ما شاء ركبك " " الانفطار: 8 " ثم إنه تحول سبحانه وتعالى إلى صورة أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية، ثم مِنْ بعدِ أبي مسلم إلى صورة نفسه، فعبده خلائق من الجهلة، وكان مشوهاً أصور أعور العين قصيرَاً، فكان لا يكشف وجهه، بل اتخذ له وجهاً من الذهب؛ ولذلك قيل له: المقنَّع، ومما أضل الناس به من المخاريق: أنه أظهر لهم قمراً يرونه في السماء من مسيرة شهرين مع قمر السماء، وفي ذلك يقول ابن سناء الملك من قصيدة أخرج فيها ذكره مخرج الغزل فقال: من الطويل:
إلَيك فَمَا بَدرُ المُقَنَّعِ طَالِعَا ... بأَسْحَرَ مِن أَلْحَاظِ بَدرِ المُقَنعِ
ولأبي العلاء المعري: من الطويل:
أَفِقّ أيها البَدرُ المُعممُ رَأسَهُ ... ضَلاَل وَغي مِثْل بَدْرِ المُقَنعِ
ولما استفحل شرُ عطاء - لعنه الله - جهز المهدي عسكرَاً لحربه، فقصدوه وحصروه في قلعته ببلسام من أعمال بخارى، فلما عرف أنه مأخوذ جمع نساءه فسقاهنَّ السم فهلكنَ، ثم تناول هو السم، فمات وهو يتّحسَاه في نار جهنم خالداً، ثم أخذت القلعة وقتل رءوس أتباعه - لعنه الله - وبعث برأسه ورءوسهم إلى المهدي، فوصلَت إليه بحلب، وهو ذاهب لغزو الروم.
وفي سنة أربع وستين ومائة: خلع المهدي ابن عمه عيسى بن موسى عن ولاية العهد إلى ابنه موسى الهادي ابن المهدي.
وفي سنة ست وستين أخذ البيعة لابنه الآخر هارون بعد ابنه الهادي ولقبه بالرشيد.
فالحاصل: أن المهدي محمداً عهد إلى ولديه الهادي وهارون الرشيد، على أن يكون الهادي بعده قبل الرشيد.
ثم في سنة تسع وستين: اعتزم على خلع ابنه الهادي، والبيعة للرشيد، وتقديمه على الهادي، وكان الهادي بجرجان فبعث إليه بذلك واستقدمه، فضرب الهادي الرسول وامتنع، فسار إليه المهدي، فلما بلغ ماسبذان، توفي هنالك يقال مسمومَاً من بعض جواريه، يقال: سمت إحداهما الأخرى في كمثرى، فغلط المهدي، فأخذها فأكلها، فما جسرت أن تقول له: إنها مسمومة.
ويقال: سبب موته أنه طرد صيداً، فدخل وراءه إلى خربة، فدق باب الخربة ظهره، فأدخل قربوس السرج في صدره.
وكان موته في المحرم من السنة المذكورة سنة تسع وستين، ولم يوجد له نعش يحمل عليه فحمل على باب، ودفن تحت شجرة جوز.
وكانت مدة خلافته عشرين سنة وشهراً، وله من العمر ثلاث وأربعون سنة، وكان جواداً ممدحاً سخياً إلى الرعية حسن الخلق والخلق.
يقال: إن أباه خلف في الخزائن مائة ألف ألف دينار، وستين ألف ألف درهم، ففرقها المهدي.
وقد قيل: ما جاء في بني العباس أكرم من المهدي، ولا أبخل من أبيه المنصور.
دخل على المهدي شريك القاضي، فقال له المهدي؛ يا شريك، ما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: ما قال فيه جدك العباس وعبد الله ابنه، فقال: ما قالا فيه؟ قال: أما العباس فمات، وعلي عنده أفضلُ الصحابة، وقد كان يرى كثيراً من المهاجرين الأولين يسألونه عما ينزل بهم من النوازل وما احتاج هو إلى أحد منهم حتى لحق إلى كرامة اللّه تعالى. وأما عبد اللّه ابنه، فكان يضرب بين يديه بسيفَين، وكان في حروبه رأساً متبعَاً وسيداً مطاعاً، فلو كانت إمامة علي جوراً، لكان أول من قعد عنه جدك عبد اللّه؟ لعلمه بدين اللّه وفقهه في أحكام اللّه، فأطرق المهدي رأسه ساعة، ثم عزلَ شريكَاً عن القضاء بعد أيام قليلة.
ودخل عليه ابن الخَياط وامتدحه، فأمر له بخمسين ألف درهم، فسأله أن يقبل يده فقبلها، ثم خرج، فما انتهى إلى الباب حتى فرقها جميعاً، فعوتب على ذلك فقال: من الطويل:
لمستُ بكَفي كَفهُ أَبْتَغِي الغِنَى ... وَلَمْ أَدرِ أن الجُودَ مِنْ كَفهِ يُعْدِي
فَلاَ أَنَا منه ما أَفَادَ ذَوُو الغِنَى ... أَفَدتُ، وَأَغدَانِي فَأَتلَفْتُ ما عِنْدِي
فبلغ المهدي ذلك، فأمر له بخمسين ألف دينار.
وقال سَلم الخاسرُ يرثي المهدي: من الوافر:(2/188)
وَبَاكيةٍ على المَهدي عبرَىكَأَنَّ بها وما جُنتْ جُنُونا
وقد خَمَشَت محاسِنَهَا وأبدَت ... غدائِرَهَا وأظْهَرَتِ القُرُونَا
لَئن بلى الخليفةُ بعد عِز ... لقدْ أَبْقَى مساعِيَ مَا بَلينَا
سَلامُ اللَّهِ غُدوَةَ كل يومٍ ... على المهدي حيثُ ثَوَى رَهينَا
تركنَا الدينَ والدنيَا جميعاً ... بحَيثُ ثَوَى أَمِيرُ المُؤْمِنِينَا
وفي كتاب الأذكياء لابن الجوزي: أن أبا دلامة دخل على المهدي، فأنشده قصيدة، فقال له المهدي: سلني حاجتك، فقال: يا أمير المؤمنين، تهب لي كلب صيد، فغضب، وقال: أتسأل كلب صيد، وأنا أقول لك ما أقول؟! فقال: يا أمير المؤمنين، الحاجة لي أم لك؟! فقال له: بل لك، قال: فإني سائلك إياه، فأمر له بكلب صيد، فقال: يا أمير المؤمنين، هبني خَرَجْتُ إلى الصيد، فأعدو على رجلي؟! فأمر له بدابَّةٍ، فقال: يا أمير المؤمنين، فمن يقومُ عليها؟ فأمر له بغلام، فقال: يا أمير المؤمنين، هبني صدت صيداً فمن يطبخه. فأمر له بجارية، فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء أين يبيتون؟ فأمر له بدار، فقال: يا أمير المؤمنين، قد صار في عنقي عيال، فمن أين لي ما يقوت هؤلاء؟ قال: قد أقطعتك ألف جريب عامر.
وعن عبد الله بن هارون قال: حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد اللّه عن المغيرة قال: دخل المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي وأبو السائب والعثماني وابن أخت الأحوص على المهدي، وهو بالمدينة فقال: أنشدوني، فأنشده المغيرة: من الطويل:
وللناسِ بَدر في السماءِ تَرَونَهُ ... وأَنتَ لنا بَدرٌ على الأرضِ مُقْمِرُ
فَبِاللهِ يا بَدرَ السماءِ وصِنْوَهُ ... تُرَاكَ تُكَافي عُشرَ ما لَكَ مُضْمَرُ
وما البَدر إِلا دُونَ وَجهِكَ في الدُجَى ... يغيبُ فَتَبْدُو حِينَ غَابَ فَتُقْمِرُ
وما نَظَرَتْ عيني إلَى البَدرِ ماشياً ... وأنتَ فتمشِي في الثيَاب فَتَسْحَرُ
ثم أنشده ابن أخت الأحوص فقال: من البسيط:
قَالَت كلابة مَنْ هذا نقلْتُ لها ... هذا الذي أَنتِ مِنْ أعدائِهِ زَعَمُوا
إني امرؤ لَج بي حُب فأحرَضَنِي ... حَتى بَلِيتُ وحتَّى شَفنِي السَّقَمُ
ثم أنشده المخزومي: من الطويل:
رَمَى القلْبُ مِن قلبِي السوَادَ فأوجَعَا ... وَصَاحَ فصيحٌ بالرَّحيلِ فَأسْمَعَا
وغَردَ حادِي البَينِ وانشقتِ العَصَا ... فأصبَحْتُ مَسْلُوبَ الفُؤَادِ مُفَجعَا
كفَى حَزَناً مِن حادِثِ الدهرِ أنني ... أَرَى البَينَ لا أَستطِيعُ للبَينِ مَدْفَعَا
وقد كُنْتُ قَبل اليومِ بالبَين جَاهِلا ... فيا لَكَ بيناً ما أَمَرَ وأَوْجَعَا
ثم أنشده أبو السائب يقول: من الطويل:
أَصِيخَا لداعي حُب ليلَى فَيممَا ... صُدُورَ المطايا نَحوَهَا فتَسَمَعَا
خليلي إنْ ليلَى أقامَتْ فَإِننِي ... مُقِيم، وإنْ بانَتْ فبينا بِنَا مَعَا
وإنْ أثبتت لَيلَى بربْعِ يحوزها ... أعيذكُمَا بالله أَنْ تَتَزَعْزَعَا
ثم أمر لهم بصلات جسيمة.
وحدث إدريس بن سليمان بن يحيى بن يزيد بن أبي حفصة: كان سبب اتصال مروان بخلفاء بني العباس، وكان - واللّه أعلم - من شعراء بني أمية، أن جارية يمانية أهديت إلى أبي جعفر المنصور، فأنشدته شعراً لمروان يمدح فيه السري بن عبد اللّه، يذكر فيه وراثة العباس، فسألها المنصور عن الشعر. فقالت: هو لمروان، فوافاه بالربذة حاجاً، وبالمنصور العلة التي مات بها، فلقي مروان الربيع حاجب المنصور، فقال له: كن قريبَاً حتى يدعو بك، فلم تزل العلة بالمنصور تشتدُ حتى مات قبل أن يصل إليه مروان فقال له الربيع: الْحَقْ بالمهدي ولا تتخلف عنه، فانصرفَ مروان إلى اليمامة فجعلها طريقاً وعليها بشر بن المنذر والياً، فأوفده بشر على المهدي فيمن أوفد، فقدم مروان على المهدي وقد مدحه بأربع قصائد مطلع الأولى: من الطويل:(2/189)
صَحَا بَعْدَ جُهْدِ فاستَرَاحَت عواذله ... وأَقْصَرْنَ عنه حِينَ أَقْصَرَ بَاطِلُهْ
والثانية: من الكامل:
طَافَ الخَيَالُ فَحيهِ بسَلاَمِ ... أَنى أَلَم، ولَيْسَ حين مَنَامِ
وفيها يقول:
أَني يكُونُ ولَيْسَ ذاكَ بكَائِنِ ... لِبَنِي البَنَاتِ وِرَاثَةُ الأعْمَامِ؟!
والثالثة: من الكامل:
إعْصِ الهَوَى وَتَعز عَن سُعْدَاكَا ... فَلِمِثْل حِلْمِكَ عَنْ هَوَاكَ نهاكا
والرابعة: من الطويل:
بَرى العَين شَوْق حَالَ دُونَ التجلُدِ ... ففاضَتْ بأَسْرَاب مِنَ الدَمْعِ حُشَدِ
قال إدريس: فأعطى المهدي مروان إجازة سبعين ألف درهم، فقال مروان يمدحه في قصيدة، ويذكرها: من الطويل:
بِسَبْعِينَ ألفاً رَاشَنِي مِنْ حِبَائِهِ ... وما نَالَهَا في الناسِ مِنْ شَاعِرٍ قبلي
رحم الله أهل الكرم.
وحدث أحمد بن أبي بكر الباهلي قال: حدثني حاجب المهدي قال: قال لي المهدي يوماً نصف النهار: اخرج فانظر من في الباب، فخرجت فإذا شيخ واقف، فقلت: لك حاجة؟ فقال: لا أخبر بحاجتي أحداً غير أمير المؤمنين، فأخبرت المهدي بخبره وبقوله، فقال: ائذن له، ومُرْهُ بالتخفيف، فخرجت، وقلت له: ادخل وخففْ، فدخل وسلم بالخلافة، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنا قد أمرنا بالتخفيف: من الطويل:
فإنْ شئْتَ خَففْنَا فكنا كَرِيشَةٍ ... متَى تَلْقَهَا الأنفاسُ في الجَو تَذْهَبِ
وإن شئْتَ ثَقلْنَا فكُنا كصخرةِ ... متى تُلْقِهَا في حَوْمَةِ البَحْرِ تَرسُبِ
وإن شئتَ سلمنا فكُنا كراكب ... متى يَقْضِ حَقاً من سلامِكَ يَغْرُب
فضحك المهدي، وقال: بل تكرم وتقضى حاجتك، فقضى حاجته، ووَصله بعشرة آلاف درهم.
كان معن بن زائدة الشيباني من أمراء المنصور أبي المهدي، ثم أبقاه المهديُ والياً على أذربيجان على ما كان من والده المنصور، وهو أحد الأجواد المشهورين والشجعان المذكورين، قَدِمَ عليه قوم من أهل الكوفة مستميحين، فنظر إليهم في هيئة رثة، فأنشأ يقول: من الطويل:
إذا نَوْبَةٌ نَابَت صديقَكَ فاغتنَمْ ... مَرَمَتَهَا فالدهْرُ بالناسِ قُلَّبُ
فأَحسَنُ ثوبَيك الذي أنْتَ لابس ... وأَمهَرُ مُهْرَيكَ الذي هُوَ يُرْكَبُ
وقال: يا غلام، أعطهم لكل واحد أربعة آلاف، فقال أحدهم: يا سيدي، دنانير أو دراهم؟ فقال معن: والله، لا تكونُ همتك أرفع من همتي، يا غلام، صفرها لهم. وأتاه أعرابي ومعه مولود فقال: من البسيط:
سَميت طِفلِيَ مَعناً ثم قلتُ له ... هذا سَمِيُ فَتى في الناسِ محمودِ
أمسَت يمينُكَ مِن جُودٍ مُصَورَة ... لا بَل يمينُكَ منها صُورَةُ الجُودِ
فأمر له بثلاثمائة دينار.
روى أن المهدي خرج يوماً يتصيد، فلقيه الحسين بن مطير الأسدي فأنشده: من البسيط:
أضحَتْ يمينُكَ مِن جُودٍ مصورَة ... لا بَل يمينك منها صُورَةُ الجودِ
مِنْ حُسنِ وجهِك تُضحِي الأرضُ مشرقَة ... ومِنْ بنانِكَ يَجْرِي الماءُ في العُودِ
فقال له المهدي: كذبتَ يا فاسقُ، وهل تركتَ في شعرك موضعاً لأحد مع قولك في معن بن زائدة: من الطويل:
أَلِما بِمَعْنٍ ثَم قولا لِقَبرِه ... سَقَتك الغَوَادي مَرْبَعاً ثُم مَرْبَعَا
فَيَا قَبْرَ مَعنٍ كَيف وارَيتَ جُودهُ ... وقَدْ كَانَ منه البَرُّ والبَحْرُ مُترَعَا
ولكنْ حَوَيتَ الجُوَدَ والجُودُ ميتٌ ... ولو كَانَ حياً ضِقتَ حتى تَصَدَعَا
ولما مَضَى مَعْن مَضَى الجُود والندَى ... وأَصْبَحَ عِرنينُ المَكَارِمِ أَجْدَعَا
فأطرق الحسين، ثم قال: يا أمير المؤمنين، وهل مَعْن إلا حسنة من حسناتك؟ فرضي عنه، وأمر له بألف دينار.
خلافة الهادي(2/190)
موسى بن المهدي محمد بن المنصور عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم. كان شجاعاً كريماً، وكان في صغره لا يزال فاتحاً فمه خلقةَ، فوكل أبوه غلاماً ينبهه على إطباق فمه كلما رآه فاتحه، فيقول له: موسى أَطبقْ، فكان يقال له لذلك في صغره موسى أطبق.
كانت ولادته سنة ست وأربعين ومائة. وقال سلم الخاسر جامعاً بين التهنئة للهادي بالخلافة والعزاء بأبيه المهدي محمد فقال: من الطويل:
لَقَد قَامَ مُوسَى بِالخِلاَفَةِ والهُدَى ... وَمَاتَ أميرُ المؤمنين مُحمَدُ
فَمَاتَ الذي عَمَّ البرية فَقْدُهُ ... وقَامَ الذي يَكْفِيكَ مَن تتفقدُ
وقال مروان بن أبي حفصة: من الطويل:
لَقَد أَصبَحَت تختالُ في كُل بلدةٍ ... بقَبْرِ أميرِ المؤمنينَ المَقَابِرُ
ولو لم تُسَكنْ بابنه بَعدَ موتِهِ ... لَمَا بَرحَت تَبكِي عَلَيهِ المنابرُ
ولو لم يَقم موسَى عليهَا لَرجعَت ... حنيناً كَمَا حَن الصفايا العَشَائِرُ
بويع بالخلافة بعد موت أبيه، وكان الهادي مقيماً بجرجان يحارب أهل طبرستان، وكان الرشيد لما توفي المهدي والعسكر معه بماسبذان، نادى في الناس بالعطاء؛ تسكيناً لهم وقسم فيهم، فلما استوفوها، تنادوا بالرجوع إلى بغداد، وتسابقوا إليها، واستيقنوا موت المهدي، فأتوا باب الربيع وأحرقوه وطالبوه بالأرزاق وفتقوا السجون، وقدم الرشيد بغداد في أثرهم، فبعثت الخيزران إلى الربيع ويحيى، فامتنع يحيى خوفاً من غيرة الهادي، وأمر الربيع بسنتين للجند فسكنوا، وكتب الهادي إلى الربيع يتهدده، فاستشار يحيى في أمره، وكان يثق بوده، فأشار عليه بأن يبعث ابنه الفضل يعتذر عنه ويصحبه الهدايا واللطف، ففعل، فرضي الهادي عنه، فأخذت البيعة ببغداد للهادي، وكتب الرشيد بذلك إلى الآفاق، وبعث نصر إلى الهادي بجرجان، فركب البريد إلى بغداد.
قال الصولي: ولا يعرف خليفة رَكِبَ خيل البريد إلا الهادي من جرجان إلى بغداد، فقدمها في عشرين يوماً، واستوزر الربيع، وهلك لمدة قليلة من وزارته، واشتد الهادي في طلب الزنادقة وقتلهم.
وفي سنة تسع وستين: كان ظهور حسين المقتول بفخ، وهو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وقصته معروفة.
وكان للهادي بغض بالرشيد بما كان المهدي أبوهما يؤثره عليه أخيراً، وكان رأى أنه دفع إليهما قضيبين، فأورق قضيب الهادي من أعلاه، وأورق قضيب الرشيد كله، وتأول ذلك بقصر مدة الهادي وطول مدة الرشيد وحسنها، فلما ولي الهادي أجمع على خلع أخيه الرشيد والبيعة لابنه جعفر بن الهادي مكانه، وفاوض في ذلك قُوَاده، فأجابه إلى ذلك يزيد بن مزيد، وعلي بن عيسى، وعبد اللّه بن مالك، ووضع الشيعة على الرشيد ينتقصونه، ويقولون: لا نرضى به، ونهى الهادي أن يسار بين يديه بالحربة، فاجتنبه الناس، وكان يحيى بن خالد يتولى أموره، فاتهمه الهادي بمداخلته، وبعث إليه وتهدده، فحضر عنده مستميتاً وقال: يا أمير المؤمنين، إن حملت الناس على نكث الأيمان فيه، هانت عليهم فيمن توليه، وإن بايعت لجعفر بعده، كان ذلك أوثق للبيعة، فصدقه وكف عنه، وعاد أولئك الذين خلعوه من القواد والشيعة فأغروه بيحيى، وأنه الذي منع الرشيد من خلع نفسه، فحبسه الهادي، فطلب الحضور للنصيحة، فأحضره من الحبس، فقال: يا أمير المؤمنين، أتظن الناس يسلمون الخلافة لابنك جعفر وهو صبي، ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم، وتأمن أن يسمو إليها عند ذلك أهل بيتك، فتخرج من ولد أبيك، واللّه، لو لم يعقده له المهديُ، لكان ينبغي أن تعقده أنت له حذراً من ذلك، إني أرى أن تقر العهد لأخيك، فإذا بلغ ابنك، أتيتك بأخيك فخلع نفسه وبايع له، فقبل الهادي قوله وأطلقه.
ولم يقنع القواد ذلك؛ لأنهم كانوا حذرين من الرشيد، فأرسل إلى الرشيد وضيق عليه، واستأذنه في الصيد، ومضَى إلى قصر مقاتل، فنكره الهادي وأظهر جفاءه، وبسط الموالي فيه ألسنتهم، ثم خرج الهادي إلى حديثة الموصل، فاشتد مرضه هنالك، واستقدم العمال شرقاً وغرباً.(2/191)
ولما ثقل، تآمر القوم الذين بايعوا جعفراً في قتل يحيى بن خالد، ثم أمسكوا خوفاً من الهادي، ثم توفي الهادي في شهر ربيع سنة سبعين ومائة، وقيل: إنما توفي بعد أن عاد من حديثة الموصل.
ويقال: إن أمه الخيزران دست بعض الجواري عليه، فقتلنه؛ لأنها كانت أول خلافته تستبد عليه بالأموال، فعكف الناس على بابها، واختلفت المواكب إليها، فوجد الهادي من ذلك، فكلمته يوماً في حاجة فلم يجبها، فقالت: قد ضمنتها لعبد الله بن مالك، فغضب الهادي وشتمه وحلف لا قضيتها، فقامت وهي مغضبة، فقال: مكانك، والله، وإلا انتفيت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئن بلغني أن أحداً من قُوادي وخاصَتي وقف ببابك، لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله. ما للمواكب تغدو وتروح عليك، أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك؟! إياك إياك، لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمي، فانصرفت وهي لا تعقل. ثم قال لأصحابه: أيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه؛ فيقال: فعلت أم فلان، وصنعت؟! فقالوا: لا نحب ذلك، قال: فما بالكم تأتون أمي، فتتحدَثون معها؟! ويقال: إنه لما جَد في خلع الرشيد، خافت عليه منه، فلما ثقل في مرضه، دست بعض الجواري، فجلس على وجهه، فمات.
وحكى في بغية الخاطر: أن الهادي كان يدور يوماً في بستانه ومعه خواصه، وهو راكب على حمار، وليس معه سلاح، فدخل عليه حاجبه، فأخبره أن رجلا من الخوارج جيء به أسيراً، وكان الهادي حريصَاً على الظفر به، فأمر بإدخاله، فأدخل بين رجلين قد أمسكا بيديه، فلما رأى الخارجيُ وجه الهادي، جذب يديه من الرجلين، واخترط سيف أحدهما، ووثب نحو الهادي، فلما رأى ذلك من حول الهادي، فروا جميعاً، وبقي الهادي وحده، وثبت على حماره بركابه وعزم، حتى إذا قرب الخارجيُ منه وكاد أن يعلوه بالسيف، قال الهادي: اضرب عنقه يا غلام، فالتفت الخارجي حين سمع ذلك وهمَا منه، فوثب الهادي عن حماره، وانتزع السيف من يده، فذبحه به ذبحاً، ثم عاد على ظهر حماره من فوره، وتراجع إليه حاشيته، وقد ملئوا رعباً وجبناً، فما خاطبهم في ذلك بكلمة واحدة، ولم يكن بعد ذلك يفارقه السيف ولا يركب إلا الخيل.
وفي مروج الذهبي: أنه رفع إلى الهادي أن رجلا من بلاد المنصورة من أرض السند من أشرافهم ربى غلامَاً سنديُّاً أو هندياً، وأن الغلام هوى مولاته، فراودها عن نفسها فأجابته، فدخل مولاه، فوجدها معه، فَجَب ذكر الغلام وخصاه، ثم عالجه إلى أن برئ، فأقام مدة، وكان لمولاه ابنان، فصعد بهما الغلام السندي إلى أعلى سور الدار، فرأى سيده ابنيه مع الغلام، فقال: يا غلام، عرضتَ ابنيَ للهلاك، فقال الغلام: دع عنك هذا، فوالله لئن لم تَجُب نفسك بحضرتي الآَن لأرمين بهما، فقال: اللّه اللّه في وفي ابنيَ! فقال الغلام: دع عنك هذا، فوالله ما هي إلا نفسي، وإني لأسمح بها من شربة ماء. فأهوي ليرمِيَ بهما، فأسرع مولاه فأخذ المدية، فَجَب نفسه، فلما رأى الغلام أنه قد فعل، رمى بالصبيين فتقطعا، ثم قال: هذا الذي فعلتُ بفعلك في، وقتل هذين الولدين زيادة، فأمر الهادي بالكتاب إلى صاحب السند بقتل الغلام السندي وتعذيبه بأنواع العذاب، وأمر بإخراج كل سندي من مملكته، فَرَخُصُوا في أيامه حتى كانوا يتداولون في ذلك الزمان بأبخس ثمن، وقد قيل في مثل هذا المعنى: من البسيط:
لاَ تأمنَنَ فتَى أسكَنْتَ مهجَتهُ ... غَيْظاً وتَحْسِبُ أن الغَيْظَ قد ذَهَبَا
لاَ تقطَعَنْ ذَنَبَ الأفعَى وتُرْسِلُهَاإن كُنْت شَهْمَاً فَأتْبعْ رأْسَهَا الّذَنَبَا
وفي العقد لابن عبد ربه: ذكر عن عبد اللّه بن الضحاك، عن الهيثم بن عدي قال: إن سيف ابن معلى كرب الزبيدي البطل المشهور المسمى بالصمصامة دخل في يد المهدي، فأعطاه لولده الهادي، فأخرج ذلك السيف الهادي يوماً في مجلسه، ووضعه بين يديه، ودعا بمكتل دنانير، وقال لحاجبه: ائذن للشعراء، فلما دخلوا، أمرهم أن يقولوا في السيف، فبدأهم ابن يامين البصري فقال: من الخفيف:
حَازَ صمصامَةَ الزبيدي مِنْ دُو ... نِ جَمِيعِ الأَنامِ مُوسَى الأَمِينُ
سَيف عَمرِو وكَانَ فيما سَمعنَا ... خَيْرَ ما أُغْمِدَتْ عليه الجُفُونُ
أَخْضَرُ المَتْنِ بين خَدَيهِ نُورٌ ... مِن فِرِنْدٍ تَمِيدُ فيه العُيُونُ(2/192)
أَوقَدَت فوقه الصواعِقُ نارا ... ثم ساطَتْ بِهِ الذعَاف المَنُونُ
فإذا ما سَلَلتَهُ بَهَرَ الشم ... سَ ضياء فلم تَكُنْ تَسْتَبِينُ
وكأَن الفِرِندَ والرونَقَ الجَا ... رِيَ في صَفْحَتَيْهِ مَاء مَعِينُ
وكأن المَنُونَ نِيطَت إلَيْهِ ... فَهْوَ في كُل جانِبَيْهِ منونُ
ما يُبَالِي مَنِ انتضَاهُ لِحَرب ... أَشِمَالٌ سَطَتْ به أَمْ يَمِينُ
فقال الهادي: دونك السيف والمكَتل فخذْهُمَا. ففرق ابن يامين المكتل والدنانير على الشعراء، وقال: في السيف عوضْ، ثم انصرف، فبعث إليه الهادي فاشترى منه السيف بخمسين ألف دينار، هكذا هكذا.
قلت: وتعجبني أبيات أربعة لابن الرومي في وصف السيف حيث يقول: من الخفيف:
خَيْرُ ما اسْتَعْصَمَتْ بِهِ الكَف غضبٌ ... ذَكَرْ جسهُ أَنِيثُ المَهَز
مَا تَأَملتهُ بِعَينَيك إِلا ... أرعدت صَفحَتَاهُ من غَيْر هَز
مِثْلُهُ أَفزَعَ الشجَاعَ إِلى الدر ... عِ فَغَالَى بِهِ عَلَى كُل بَز
مَا يُبَالي أَصممت شَفرَتَاهُ ... في مَحَز أم جَازَتَا عَنْ مَحَز
قال الحافظ الذهبي: وعن مصعب الزبيري، عن أبيه قال: دخل مروان بن أبي حفصة الشاعر على الهادي بن المهدي فأنشده قصيدة: من الطويل:
تَشَابَهَ يَومَاً بَأسِهِ وَنَوَالِهِ ... فَمَا أَحَدٌ يَدْرِي لأيهِمَا الفَضلُ
أَيومُ عَطَاهُ الجَم أَم يَومُ بَأسِهِ ... ...............
فلما فرغ من إنشادها، قال له: أيما أحب إليك، ثلاثون ألفاً معجلة، أم مائة ألف تدون في الدواوين؟ فقال مروان: تعجل الثلاثون ألفاً، وتدون المائة ألف؛ فتلك من الهادي قليل. قال الهادي: بل يعجلاَنِ لك جميعاً، احملوا إليه مائة وثلاثين ألفاً.
قال نفطويه: قيل: إن الهادي قال لإبراهيم الموصلي: إن أطربتني فاحتكم، فغناه: من الهزج:
سُلَيمى أَزمَعَت بَينَا ... فَأَيْنَ لِقَاؤهَا أَينَا
في أبيات يسيرة، فأعطاه سبعمائة ألف درهم.
قال الذهبي: كان الهادي يتناول المسكر، ويلعب، ويركب حماراً فارهاً - يعني قبل تلك الواقعة التي ذكرتها قريبَاً - وكان فصيحاً قادراً على الكلام، أديباً تعلوه هيبة، وله سطوة وشهامة، وكان طويلا جسيماً أبيضَ، شفته العليا تقلص؛ فلا يزال مفتوح الفم، فوكل به أبوه خادماً كلما رآه مفتوحَ الفم قال له: موسى أطبق، فيفيق على نفسه، ويطبق شفتيه؛ كما تقدم ذكر ذلك.
مات في ربيع الآخر سنة سبعين ومائة وسِنهُ ثلاث وعشرون سنة، ومدة خلافته سنة وشهران.
وقيل في سبب موته غير ما تقدم؛ وهو أنه دفع نديمَاً له من جرف على أصول قصب قد قطع، فتعلق النديم به فوقع، فدخلت قصبة في مخرجه، فكانت سبب موته، فماتا جميعاً.
خلافة هارون الرشيد
ابن المهدي بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس، وكان فصيحاً بليغاً يحجُ عاماً ويغزو عاماً، وربما جمع بينهما في عام واحد، ويصلي كل يوم مائة ركعة لا يتركُهَا إلا لعلة، ويتصدق كل يوم بألف درهم، ويحب العلماء، ويظهر حرمات الإسلام، ويتفقد الصلحاء، ومع ذلك كان منهمكَاً في اللهو، وله في ذلك نوادر وحكايات لا تحصر بحد، ولا تحصى بعد.
بويع ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، سنة مات أخوه الهادي سنة سبعين ومائة، وولد له المأمون فيها، وكانت ليلة عجيبة، فيها وفاة خليفة، وولاية خليفة، وولادة خليفة.
ولما بويع الرشيد استوزر يحيى بن خالد البرمكي، فقال إبراهيم الموصلي: من الطويل:
أَلَم تَرَ أَن الشمْسَ كانَتْ مريضَة ... فلما أتَى هارُونُ أَشْرَقَ نُورُهَا
تَلبستِ الدُنْيَا جَمَالا بِملكِهِ ... فَهَارُونُ وَالِيهَا وَيَحْيَى وَزِيرُهَا
فأعطاه هارون مائة ألف، وأعطاه يحيى خمسين ألفَاً.
وكان يحيى يصدر عن رأي الخيزران أم الرشيد، ولداود بن رزين الواسطي قوله فيه: من الطويل:
بِهَارُونَ لجَ النورُ في كُل بلدةِ ... وقامَ بِهِ في عَدْلِ سِيرَتِهِ النهْجُ(2/193)
إِمامٌ بِذَاتِ اللّه أَصْبَحَ شُغلُه ... فأَكثَرُ مَا يُعنَى به الغَزوُ والحجُ
تَضِيقُ عيونُ الخلقِ عن نُورِ وجهِهِ ... إذا ما بَدَا لِلناسِ مَنظَرُهُ البلجُ
تَفَسحَتِ الآَمالُ في جُودِ كَفه ... وَأعطى الذي يرجُوهُ فَوقَ الذي يرجُو
وفي سنة خمس وسبعين ومائة: كان خُرُوجُ يحيى بن عبد اللّه بن الحسن المثنى في الديلم، وهو أخو المهدي محمد الملقب بالنفس الزكية، واشتدت شوكته، وكثر جمعه، وأتاه الناس من الأمصار، فندب إليه الرشيد الفضل بن يحيى في خمسين ألفاً، وولاه جرجان وطبرستان والري، وما يليها وحمل معه الأموال، فسار ونزل بالطالقان، وكاتب يحيى وحذره وبسط أمله، وكتب إلى صاحب الديلم في تسهيل أمر يحيى على أن يعطيه ألف ألف درهم، فأجاب يحيى على الأمان بخط الرشيد وشهادة الفقهاء والقضاة وجلة بني هاشم ومشايخهم، وعين عبد الصمد بن علي أن يكون منهم، فكتب له الرشيد بكل ما أحب وأفاضَ عليه العطاء، وعظُمَت منزلة الفضل عنده. ثم إن الرشيد حبس يحيى إلى أن هلك في محبسه.
وفي سنة ست وثمانين: حج الرشيد، فسار من الأنبار ومعه أولاده الثلاثة: محمد الأمين، وعبد الله المأمون، والقاسم الملقب بالمؤتمن، وكان قد ولى الأمين العهد، وولاه العراق والشام إلى آخر المغرب، وولى المأمون العهد بعده وسلم إليه من همدان إلى آخر المشرق، وبايع لابنه القاسم بعد موت المأمون، ولقبه المؤتمن، وجعل خلعه وإثباته للمأمون، وضم إليه الجزيرة والثغور والعواصم، ومَرَ بالمدينة فأعطى فيها ثلاثة أعطية: عطاء منه، وعطاء من الأمين، وعطاء من المأمون، فبلغ ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، ثم سار إلى مكة، فأعطى مثلها، وأحضر الفقهاء والقضاة والقواد، وكتب كتاباً أشهد فيه على الأمين بالوفاء للمأمون، وآخر على المأمون بالوفاء للأمين، وعلق الكتابين في الكعبة الشريفة، وجدَّد عليهما العهود بذلك، قال إبراهيم الحجبي: لما أردت تعليق كتاب العهد بالكعبة، سقط مني المعلاق؛ فكان فألا بسرعة نقضه.
ولما صير الرشيد ولده الأمين ولي عهده بعهده، قال سلم الخاسر قصيدة في ذلك يقول فيها: من الكامل:
قُل للمنازلِ بالكَثِيبِ الأَعفَرِ ... سُقيت غَادِيةَ السماءِ الممْطِرِ
قَد بايَعَ الثقَلاَنِ مَهدِي الهُدَى ... لمحمدِ ابنِ زُبَيْدَةَ ابْنَةِ جَعفَرِ
قَد وَفَّقَ اللهُ الخليفَةَ إذ بنى ... بَيتَ الخلافةِ لِلْهِجَانِ الأزْهرِ
فَهُوَ الخليفَةُ عَنْ أَبِيهِ وَجده ... شَهِدَا عليه بِمَنْظَرٍ وبِمَخْبَرِ
فحشت زبيدة فاه جواهر، قيل: باعة بعشرين ألف دينار.
قلت: ومن شعر سلم قوله: من مخلع البسيط:
بَانَ شبابِي فما يَحُورُ ... وطَالَ مِن لَيْلِيَ القَصِيرُ
أَهدي لِيَ الشوقَ وَهوَ حُلو ... أَغَنُّ في طَرْفِهِ فُتُورُ
وَقَائلٍ حِينَ شَب وَجدِي ... وَاشتَعَلَ المُضمَرُ الستِيرُ
لَوْ شِئْتُ أَسلاَكَ عَنْ هَوَاهُ ... قلب لأَشجَانِهِ ذَكُورُ
فَقلتُ لا تَعْجَلَن بِلَوْمِي ... فَإِنمَا يُنبِئُ الخَبِيرُ
عَذبني والهَوَى صَغِير ... فَكَيف بِي والهَوَى كَبِيرُ
مَن رَاقَبَ الناسَ مَاتَ غَماً ... وَفَازَ بِاللَّذةِ الجَسُورُ
وسلم هذا اسمه: سلم بن عمرو البصري أحد الشعراء المحسنين، وهو غلام بشار بن برد، مدح المهدي والرشيد والبرامكة، وكان عاكفاً على المعاصي، ثم تزهد وتنسك مدة مديدة، ثم مرق وعاد إلى اللهو وباع مصحفه، واشترى بثمنه ديوان شعر، فلقب لذلك الخاسر.
ومن غريب ما اتفق لهارون الرشيد: أن أخاه موسى الهادي لما ولي الخلافة قبله، سأل عن خاتم عظيم القدر كان لأبيه المهدي، فبلغه أن الرشيد أخذه، فطلبه منه فامتنع فألحَ عليه فيه، فشق على الرشيد أخذه، فطلبه ومر على جسر بغداد فرماه في دجلة، فلما مات الهادي وولي الرشيد الخلافة، أتى إلى ذلك المكان بعينه ومعه خاتم رصاص، فرماه فيه، وأمر الغطاسين أن يلتمسوه ففعلوا، فاستخرجوا الخاتم الأول، فعد ذلك من سعادة الرشيد.(2/194)
وفي سنة سبع وثمانين: كانت نكبة الرشيد بالبرامكة.
اعلم أن البرامكة يقال: أصلهم من جيل من العجم كانوا مجوسَاً، وأولهم في التقرب إلى الخلفاء خالد بن برمك، وكان من كبار الشيعةَ، وله قدم راسخ في الدولة، وكان يلي الولايات العظام: ولاه المنصور على الموصل وأذربيجان، وولى ابنه يحيى على أرمينية، ووكله المهدي بكفالة الرشيد، فأحسن تربيته، ودفع عنه أخاه الهادي، لما أراده على الخلع وتولية ابنه العهد، وحبسه الهادي لذلك، فلما ولي الرشيد، استوزر يحيى، وفوض له أمور ملكه، وكان أولا يصدر عن رأي الخيزران أم الرشيد، ثم استبد بالرأي في الدولة، وكان بيتهم معموراً بالرجال من العمومة والقرابة، وكان بنوه جعفر والفضل ومحمد قد ساهموا أباهم في حمل الدولة، واستولوا على حظّ من تقريب السلطان واستخلاصه، وكان الفضل أخا للرشيد من الرضاع؛ أرضعت أمه الرشيد وأرضعته الخيزران، وكان يخاطب يحيى يا أبت، واستوزر الفضل وجعفرَاً، وولي جعفر على مصر وخراسان، وبعث الفضل لاستنزال يحيى بن عبد اللّه العلوي من الديلم، ودفع ولده المأمون لما ولاه العهد إلى كفالة جعفر بن يحيى؛ فحسنت آثارهم في ذلك كله، ثم عظم سلطانهم واستيلاؤهم على الدولةَ، وكثرت السعاية فيهم، وعظم حقد الرشيد على جعفر منهم. فلما كثرت فيهم السعاية بسبب استيلائهم على الخليفة فمن دونه، تحيل أعداؤهم من البطانة فيما دسوه للمغنين من الشعر احتيالا على إسماعه للخليفة، ولتحريك حفائظه عليهم، ومن ذلك بيتان هما: من الرمل:
لَيت هِنْداً أنجزتْنَا ما تَعِد ... وشَفَت أَتفُسَنَا مما نَجِدْ
واستَبَدت مَرة واحدة ... إنما العَاجِر مَنْ لا يَسْتَبِد
فلما سمعها الرشيد قال: إي واللّه عاجز، فبعثوا بذلك كامن غيرته، وسلَطوا عليه انتقامه؛ نعوذ باللّه من غلبة الرجال وسوء الحال؛ ذكر هذا ابن عبد ربه القرطبي في العقد، فتنكر لهم الرشيد.
ودخل عليه يوماً يحيى بن خالد بغير إذن، فأنكر ذلك عليه، وخاطب طبيبه جبريل بن بختيشوع منصرفاً به عن مواجهته، وكان حاضراً، فقال يحيى: أما هي عادتي يا أمير المؤمنين، وإذ قد نكرت مني، فسأكون في الطبقة التي تجعلني فيها، فاستحيى هارون وقال: ما أردت ما تكره.
وكان الغلمان يقومون بباب الرشيد، يعني: إذا دخل يحيى، فتقدم لهم مسرور الخادم بالنهي عن ذلك؛ فصاروا يعرضون عنه إذا أقبل، وأقاموا على ذلك زمانَاً، فلما حج الرشيد سنة سبع وثمانين، ورجع من حجه، ونزل الأنبار، أرسل مسروراً الخادم في جماعة من الجند ليلا، فأحضروا جعفرَاً بباب الفسطاط، وأعلم الرشيد، فقال: ائتني برأسه، فطفق جعفر يتذلل ويسأل مسروراً المراجعة في أمره؛ فدخل إلى الرشيد يكلمه فيه؛ فحذفه الرشيد بِعَصا كانت في يده وتهدده، فخرج وأتاه برأسه، وحبس يحيى وابنه الفضل من ليلته وبعث من احتاط على منازل يحيى وولده وجمع موجودهم، وكتب في ليلته إلى سائر النواحي بقبض أموالهم ورقيقهم، وبعث من الغد بشلو جعفر، وأمر بأن يقسم بقطعتين، وينصبا على الجسر، وأعفى محمد بن خالد من النكبة، ولم يضيق على يحيى وابنه الفضل.
قال في المروج: واختلف في سبب إيقاعه بهم، فأما الظاهر: فاحتجار الأموال. فإنهم كانوا ليس للرشيد معهم أمرٌ، حتى كان يحتاج لليسير من المال؛ فلا يقدر عليه.
وقيل: إن سبب ذلك أن الرشيد لما وجه يقطين بن موسى إلى إفريقية لإصلاحها، وكان يقطين من كبار الشيعة، وممن كان مع إبراهيم الإمام فقال: يا أمير المؤمنين، اكشف لي عن جسدك أقبله؛ لأكون قبلت بضعة من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا أمير المؤمنين، حدثني مولاي إبراهيم الإمام أن الخامس من خلفاء بني العباس تغدر به كُتابه، فإن لم يقتلهم قتلوه، فقال له الرشيد: الله، حدثك الإمام بهذا؟ قال: نعم، فكان ذلك السبب في قتلهم؛ لأنه هو الخامس من خلفاء بني العباس.
وقيل: إن سبب قتل جعفر أنه رفع إلى الرشيد رقعة لم يدر رافعها، وفيها: من السريع:
قُل لأمِينِ اللهِ في أَرضِهِ ... ومَن إلَيْهِ الحَلُّ والعَقْدُ
هذا ابن يَحيَى قد غَدَا مَالِكَاً ... مِثْلَكَ ما بَيْنَكُمَا حَد
أَمرُكَ مَردُود إلَى أمرِه ... وَأَمرُهُ لَيسَ له رَدُّ(2/195)
وقَدْ بنى الدارَ التي ما بنى ... مِثَالَهَا الفُرْسُ ولا الْهِنْدُ
أَلدرُّ واليِاقُوتُ حَصبَاؤها ... وتُربُهَا العَنبَر والند
ونَحن نخشَى أنه وَارِث ... مُلْكَكَ إِنْ غَيَّبَكَ اللحْدُ
ولَن يُبَاهِي العَبْدُ أربابَهُ ... إلا إذا ما بطرَ العَبدُ
فلما وقف عليها الرشيد أوقع به.
وقيِل: سببه أن الرشيد لما استنزل يحيى بن عبد الله العلوي عند جعفر، وكان يخافه على الخلافة، وكان جعفر يرى سرور الرشيد بموت من يموت في حبسه من هؤلاء الأصناف، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن يحيى بن عبد الله قد مات، فَسُر سرورَاً، وأخبر أباه يحيى بذلك، فقال: إنا للّه وإنا إليه راجعون، إن تركناه تلفنا، وإن قتلناه فالنار لنا. ثم خيل له أن كتب إلى علي بن موسى بن ماهان والي خراسان، وكان متزوجاً بنت يحيى، فعرفه ما جرى، وفزع إليه في أن يكون يحيى عنده مكرمَاً إلى أن يقضي الله قضاءه، وكان الكتاب بخط يحيى، ولم يكن يحيى يعلم ما بين علي بن عيسى وبين ولديه الفضل وجعفر من العداوة، فلما وصل الكتاب إلى علي بن عيسى بن ماهان، وصل يحيى بن عبد اللّه قال: هذا من حيل الفضل وجعفر علي، فأجاب يحيى بأنه يفعل ما أراد، وأنفذ الكتاب إلى الرشيد؛ فأعلمه أن يحيى بن عبد الله عنده، فكتب إليه الرشيد يحسن فعله ويعلمه فساد أمر البرامكة لديه، وأمره ببعث يحيى بن عبد الله إليه من غير أن يعلم أحداً، فلما وصل يحيى إلى الرشيد، أوقع بالبرامكة بعد مدة من ذلك الوقت.
وقيل: أرادت البرامكة الزندقة وإفساد الملك، فقتلهم.
وقيل: سبب ذلك أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر، ولا عن أخته عباسة، ومتى غاب أحدهما عنه، لا يتم سروره، فقال لجعفر: أزوجكها ليحل لك النظر إليها ولا تمسها، وكانا يحضران مجلسه، وربما فارقهما فيمتلئان من الشراب، وهما شابان، فجامعها جعفر، فحملت منه. وفي كمامة الزهر أن العباسة عشقت جعفراً، فراودته، فأبى خوفاً على نفسه، ورأت أن النساء إلى الخديعة أقرب، فبعثت إلى أم جعفر عتابة، وكانت عتابة ترسل إلى ابنها في كل جمعة بِكراً، وكان لا يطؤها حتى يأخذ شيئاً من النبيذ، فقالت العباسة: أرسليني لجعفر كجارية من اللواتي ترسلينها إليه، فأبت، فقالت لها: إن لم تفعلي، أخبرت الرشيد أنك كلمتني في كيت وكيت، وإن اشتملتُ على ولد، زاد في شرف ابنك، وما عسى أن يفعل أخي بعد اشتمالي على ولد، فطمعت عتابة في ذلك ووعدت ولدها بجارية من هيئتها كذا وكذا، فطالبها جعفر بها، فمطلته أياماً، ثم قالت للعباسة: تَهيئي في هذه الليلة ففعلت، وأدخلتها على جعفر، وكان لا يعرفها لأنه كان يجلس معها هو والرشيد، فلا يجسر أن يرفع طرفه إليها خوفاً، فلما قضى منها وطره، قالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك، فقال: وبنت أي ملك أنت؟ قالت: أنا مولاتك العباسة، فطارَ السكر من رأسه، وقال لأمه: بعتيني واللّه رخيصاً. فكان هذَاَ هَو السبب.
ويقال: إن علية بنت المهدي قالت للرشيد: ما رأيت لك يا سيدي يوم سرور منذ قتلت جعفراً، فلأي شيء قتلته؟ فقال لها: يا حيائي، لو علمت أن قميصي يعلم السبب، لأحرقته.
وفي ربيع الأبرار: لم أر أبر من الفضل بأبيه يحيى؛ بلغ من بره أنه لما كانا محبوسين، وكان يحيى لا يتوضأ إلا بماء مسخن، فمنع السجان الوقود في ليلة باردة، فلما أخذ يحيى مضجعه، قام الفضل إلى قمقم، فأدناه إلى المصباح فلم يزل قائماً وهو في يده حتى أصبح، فتوضأ به أبوه يحيى، فشعر السجان بذلك، فلما كانت الليلة الثانية، غيب السجان المصباح، فبات الفضل متأبطَاً القمقم، يدفئه لأبيه ليله أجمع.
ومات يحيى بالسجن في الرقة سنة تسع وثمانين ومائة بعد قتل جعفر بثلاث سنين؛ وبقي الفضل بعده في السجن، ثم مات، وكانت دولتهم منذ استخلف هارون إلى أن قتل جعفر سبع عشرة سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يوماً.
وقد رثتهم الشعراء وأكثروا، ومن ذلك قول علي بن معاذ: من السريع:
يا َأَيهَا المُغتَرُّ بِالدهرِ ... وَالدَّهرُ ذُو صَرف وَذُو غَدرِ
إِن كُنتَ ذَا جَهْلٍ بِتَصرِيفِهِ ... فَانظُر إلَى المَصلُوبِ بِالجسْرِ
فبينما جَعفَرُ في مُلكِهِ ... عشيةَ الجمعَةِ بالغمْرِ(2/196)
إذ عَثَرَ الدهرُ به عثرَة ... يا وَيلَتِي مِن عَثرَةِ الدهرِ
وقال سلم الخاسر: من الطويل:
هَوَت أنجُمُ الجَدوَى وشَلت يد الندَى ... وغَاضَت بِحَارُ الجُودِ بعدَ البَرَامِكِ
هوت أنجُم كانَت لآل ابن برمَكِ ... بها يَعرِف الجارِي قَوِيمَ المَسَالِكِ
وقال منصور النميري: من مخلع البسيط:
أُندُب بني بَرمَكِ لدُنيَا ... تَبكِي عَلَيهِم بكُل نَادِي
كانتْ بهم بُرهَة عَرُوساً ... فأضحَتِ الآَنَ في حِدَادِ
وقال دعبل الخزاعي: من الطويل:
ألم تر صَرْفَ الدهرِ في آلِ بَرمَكِ ... وآلِ نهيكٍ والقُرُونِ الَتي خَلُوْا
لقد غَرَسُوا غَرسَ النخيلِ تكرماً ... فما حصدُوا إلا كما تحصدُ البقلُ
وقال أبو عذرة الأعرابي: من الخفيف:
ما رَعَى الدَّهرُ آلَ بَرمَكَ لَما ... أَن رَمَى ملكَهُم بأمْرٍ بديعِ
إنَّ دهراً لم يَرع حقاً ليحيى ... غَيرُ راعِ حَقاً لآَلِ الربِيعِ
قلت: آل الربيع هو حاجب هارون الرشيد، كأنه يهددهم بهذا القول ويخوفهم. ولبعضهم: من المديد:
يَا بني برمَكَ وَاهاً لَكُم ... ولأَيامِكُمُ المُقبلَهْ
كَانَتِ الدنيا عَرُوساً بِكُم ... وَهِيَ اليَومَ عَجُوز أرْمَلَهْ
وفي ابن خلكان: عن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي، قال: دخلت على والدتي في يوم عيد النحر، فوجدت عندها امرأة عجوزاً في ثياب رثة، فقالت لي والدتي: أتعرف من هذه؟ قلت: لا، قالت: هذه عتابة أم جعفر البرمكي. فأقبلت عليها بوجهي وأكرمتها، وتحادثنا زماناً، ثم قلت: يا أمه، ما أعجب ما رأيت. قالت: يا بني، لقد أتى على هذا العيد وعلى رأسي أربعمائة وصيفة، وإني أعد أن ابني عاق لي، ولقد أتى على العيد اليوم وما مناي إلا جلد شاتين أفرش أحدهما وألتحف بالآخر. قال: فدفعت لها خمسمائة دينار، فكادت تموت فرحاً.
وهاهنا مكاتبة من يحيى بن خالد حال كونه في السجن إلى الخليفة هارون نثر ونظم، أحببت ختم قصتهم بها، هي: إلى أمير المؤمنين، وإمام المسلمين، وخلف المهديين، وخليفة رب العالمين. من عَبْدٍ أسلمته ذنوبه، وأوبقته عيوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، وزل به الزمان، وناح عليه الحدثان، فسار إلى الضيق بعد السعة، وعالج البؤس بعد الدعة، وافترش السخط بعد الرضى، واكتحل السهر، وافتقد الهجوع، فساعته شهر، وليلته دهر، قد عاين الموت، وشارف الفوت، جزعاً يا أمير المؤمنين، وحجة اللّه على فقدك لما أصيب به من بُعدك لا لمصيبتى بالحال والمال؛ فإن ذلك كان بك ولك عارية في يدي منك، ولا بد أن تسترد العواري، فإن كانت المحنة في جعفر، فبجرمه أخذته، وبجريرته عاقبته، وما أخاف عليك زلة في أمره، ولا مجاوزة به فوق ما يستحقه، فاذكر يا أمير المؤمنين خدمتي، وارحم ضعفي وسني، ووهن قوتي، وهب لي رضى عني، فمن مثلي الزلل ومنك الإقالة، ولست أعتذر ولكني أقرّ، وقد رجوت أن يظهر منك الرضى من وضوح عُذري، وصدق قولي، وظاهر طاعتي ومليح حجتي، ما يكتفي به أمير المؤمنين، ويرى الجلية فيه ويبلغ المراد منه، إن شاء اللّه تعالى.
ثم كتب تحتها شعراً يقول: من مجزوء الكامل:
قُلْ لِلْخَلِيفةِ ذي الصنَا ... ئِعِ والعطايا الفَاشِيَهْ
وابنِ الخلائفِ مِن قري ... شٍ والملوكِ الهَادِيَهْ
رأسِ الملوك وخَيرِ مَن ... ساسَ الأمورَ الماضيَهْ
إن البرامكَةَ الذي ... ن رمُوا لَدَيكَ بداهِيَهْ
عمتهُمُ لَكَ سخطة ... لم تُبق مِنْهُمْ باقِيَهْ
فَكأنهُم مما بِهِم ... أَعجَاز نَخْلِ خاويَه
صفرُ الوجوهِ عَلَيْهم ... خِلَعُ المذلةِ باديَهْ
مستضعفُونَ مُطَردُو ... نَ بكُلِّ أرضٍ قاصِيَهْ
من دون ما يَلْقَونَ مِن ... عَتْب يشِيبُ الناصيَهْ
أضحَوا وجلُ مناهُمُ ... منكَ الرضَا والعافِيهْ
بَعدَ الوزارةِ والإما ... رةِ والأمورِ العاليَه(2/197)
أُنظُرْ إلى الشيخِ الكبي ... ر فنَفْسُهُ لك راجيَهْ
أوَ مَا سَمِعْتَ مقالتي ... يا ذا الفروعِ الزاكيَهْ
ما زلتُ أرجو راحَة ... فاليومَ حَانَ رجائيَهْ
اَلْيَوْمَ قد سَلَبَ الزما ... نُ كرامتي وبَهَائِيَهْ
ألقَى الزمَانُ جِرَانِيه ... مستثبتَاً بفنائيَهْ
ورمَى سواءَ مَقاتِلِي ... فأصاب حِينَ رمانيَهْ
يا مَن يَوَد لِيَ الردَي ... يكفيكَ ويَحكَ ما بِيَهْ
يكفيكَ أني مستبا ... حٌ مَعْشَرِي ونسَائِيَهْ
يكفيك ما أَبصَرْتَ مِن ... ذلي وذل مكانيَهْ
إن كان لا يَكفِيكَ إل ... لاَ أَنْ أَذُوقَ حِمَامِيه
فلقدْ رَأَيتُ المَوْتَ مِن ... قبل المماتِ عَلانِيَهْ
وفُجِعْتُ أَعظَمَ فجْعَةٍ ... وفَنيتُ قَبْلَ فَنَائِيَهْ
أُنْظُر بعينِكَ هَل تَرَى ... إلاَ قُصُورَاً خاليَه
وذخائرَاً موروثَة ... قُسمنَ قَبْلَ مَمَاتِيَهْ
ومصارعاً وفجائعاً ... ومصائبَاً متواليهْ
أَخَلِيفَة اللهِ الرضَا ... لا تُشْمِتَنْ أعدائيَهْ
واذكُر مُقَاسَاتِي الأمُوْ ... رَ وخِدمَتِي وعَنَائِيهْ
إِرحَم جُعِلتُ لك الفدا ... كِبَرِي وشِدةَ حَالِيَهْ
واحمِ أخاكَ الفَضلَ وال ... باقِينَ مِنْ أولادِيَهْ
أخليفةَ الرحمنِ إن ... نَكَ لو رَأَيتَ بَنَاتِيَهْ
وبُكَاءَ فاطمةَ الكبي ... رةِ والمَدَامِعَ جاريهْ
ومقالَهَا بتوجعٍ ... يا شِقوَتِي وبَلائِيَه
ما لي وقد غَضِبَ الإما ... مُ عَلى جميع رِجَالِيَهْ
يا نظرةَ المَلِكِ الرضَا ... عودي إلَيْنَا ثَانِيَهْ
فلما رأى الرشيد هذه الأبيات، وقع تحتها قوله: من مجزوء الكامل:
أَجْرَى القَضَاءُ عَلَيكُمُ ... ما جِئْتُمُوهُ عَلاَنِيَهْ
مِنْ تَرْكِ نُصحِ إمامِكُم ... عند الأُمُورِ البَادِيَهْ
يا آلَ بَرْمَكَ إنمَا ... كُنْتُمْ ملوكاً عادِيَهْ
فكَفَرتُمُ وعَصَيتمٌ ... وجحدتُّمُ نَعْمَائِيَهْ
هَذِي عُقُوبَةُ مَنْ عَصَى ... معبودَهُ وعَصَانِيَهْ
" وضرَبَ اَللَهُ مَثَلا قَرية كَانتَ آمِنَة مُطمَئنَةَ... " الآية " النحل: 112 " .
سأل الرشيد موسى الكاظم بن جعفر، فقال له: لم زعمتم أنكم أقرب إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشر، فَخَطَبَ إليك هل كنت تجيبه؟ فقال: سبحان الله، وكنت أفخر بذلك على العرب والعجم، فقال موسى: لكنه لا يخطب إليَ ولا أزوجه؛ لأنه ولَدَنَا ولم يَلِدْكُمْ. ودخل عليه يوماً، فعثر بهدب البساط، فوقع، فضحك الرشيد، فالتفت إليه موسى فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ضعف صوم، لا ضعف سكر.
وكان الرشيد قد حمل موسى معه سنة أن حَجَ، حمله معه من المدينة إلى بغداد، وحبسه غير مضيق عليه إلى أن توفي.
قال الذهبي: بلغنا أنه بعث إلى الرشيد رسالة يقول: إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء، ثم نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء، يخسر فيه المبطلون.
قال عبد الرحمن بن صالح الأزدي: لما رأى الرشيد قبره - عليه الصلاة والسلام - فقال: السلام عليك يا رسول اللّه، يا ابن عم - يفتخر بذلك - فتقدم موسى بن جعفر فقال: السلام عليك يا أبت، فتغيَّر وجه الرشيد، وقال: هذا الفخر حقاً، قال: ولعل الرشيد ما حمله إلى بغداد وحبسه إلا لقوله: السلام عليك يا أبتِ؛ فإن الخلفاء لا يحتملون مثل هذا.(2/198)
حكى الإمام محمد بن ظفر قال: كان الرشيد مع ظلمه، وعظيم مُلْكه، وجبروته يعتريه خَوفُ اللّه، فمن ذلك أن خارجياً خرج عليه، فقتل أبطاله، وانتهب أمواله مراراً، ثم إنه جهز إليه جيشاً كثيفاً، فقاتلوه فغلبوه بعد جهد، وأتوا به الرشيد، فجلس مجلسَاً عاماً وأمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه قال: يا هذا، ما تريد أن أصنَعَ بك؟ قال: ما تريدُ أن يَصْنَعَ اللّه بك إذا وقفتَ بين يديه، فعفا عنه وأمر بإطلاقه.
فلما خرج، قال بعض جلسائْه: يا أمير المؤمنين، رجلٌ قَتَلَ أبطالك، وانتهب أموالك، تطلقه بكلمة واحدة؟ هذا مما يُجَرئُ عليك أهلَ الشر، فقال الرشيد: ردوه، فعلم الرجل أنه قد تكلم فيه، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تطعهم، فلو أطاع الله الناس فيك، ما ولاك طرفة عين، قال: صدقت، ثم أمر له بصلة.
وفي كتاب روض الأخبار: أن الرشيد خرج إلى الصيد، فانفرد عن عسكره، والفضل بن الربيع خلفه، فإذا شيخ راكب على حمار، فنظر إليه، فإذا هو رطب العين، فغمز الفضل عليه، فقال له الفضل: أين تريد يا شيخ؟ قال: حائطاً لي، فقال: هل أدلك على شيء تداوي عينيك، فتذهب هذه الرطوبة. فقال الشيخ: ما أحوجني إلى ذلك، فقال له الفضل: خذ عيدان الهواء وغبار الماء وورق الكمأة، فصيره في قشر جوزة، واكتحل به؛ فإنه يذهب رطوبة عينيك. فاتكأ الشيخ على حلس حماره، وضرط ضرطة طويلة، ثم قال: هذه أجرة وصفك، فإن نفعنا الكحل زدناك، فضحك الرشيد حتى كاد أن يسقط من على ظهر فرسه.
قال النضر بن شميل إمام اللغة: حدثني الفراء، عن الكسائي، قال: دعاني الرشيد وليس عنده إلا حاشيته وابناه المأمون والأمين، فقال: يا علي، ما زلت ساهراً مفكراً في معاني أبيات قد خفيت علي. قلت: إن رأى أمير المؤمنين أن ينشدنيها، فأنشد: من الرجز:
قد قُلْتُ قولا للغُرَابِ إذْ حَجَلْ
عَلَيك بالقُودِ المسانيفِ الأُوَلْ
تَغَد ما شِئتَ عَلَى غَيْرِ عَجَل
قلت: نعم يا أمير المؤمنين، إن العير إذا فصلَت من خيبر، وعليها التمر، يقع الغراب على آخر العير، فطرده السائق يقول: يا هذا، تقدم إلى أوائل العير، فكل على غير عجل. والقود: جمع أقود، وهو الطويل العنق، والأنثى قوداء، والمسانيف: المتقدمة.
ثم أنشدني: من الطويل:
لَعمرِي لَئِن عَشرتُ مِن خشيَةِ الردىَ ... نُهَاقَ الحميرِ إِنني لَجَهُولُ
فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان الرجل من العرب إذا وصل إلَى خيبر، أكب على أربعة، وعشر تعشير الحمار، وهو أن ينهق عشر نهقات متتابعات يفعل ذلك؛ فيدفع عن نفسه حمى خيبر.
ثم أنشدني قول الآخر: من البسيط:
أجاعل أَنْتَ بَيقُوراً مُضَرمَة ... ذريعَة لَكَ بين اللهِ والمَطَرِ
قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كانت العرب إذا أبطأ المطر، شدت العشر والسلع - وهما ضربان من النبت - في أذناب البقر، وألهبوا فيها النار، وشردوا بالبقر؛ تفاؤلا بالبرق والمطر.
ثم أنشدني: من الطويل:
لعمركَ ما لامَ الفَتَى مِثل نَفسِهِ ... إِذا كانَتِ الأحياءُ تَعْرَى ثيابُهَا
وآذَنَ بالتصفِيقِ مَن سَاءَ ظنهُ ... فلم يَدرِ مِن أي اليدَينِ جوابُهَا
فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان الرجل منهم إذا ضَل في المفازة، قلب ثيابه، وصاح كأنه يومئ إلى إنسان، ويشتد شدة ويصفق بيديه، فيهتدي الطريق.
ثم أنشدني: من مجزوء الكامل:
قَودَاء تَملِكُ رَحلَهَا ... مِثلَ اليَتِيمِ مِنَ الأَرَانِبْ
فقلت: نعم، يقول: هذه ناقة مثل اليتيم من الآكام، واليتيم الواحد من كل شيء، والأرانب: الآكام.
ثم أنشدني لآخر: من الطويل:
إِلى اللهِ أشكُو هَجْمَة هجريةَ ... تعاورها أَمْر السنِين الغَوَابِرِ
فعادَت روايا تَحمِلُ الطينَ بَعدَ ما ... تَكُونُ قِرَى للمُعْتَفِينَ المَفَاقِرِ
قلت: نعم، هذا رجل في بستانه نخيل أتى عليها الدهر، فجفت، فقطعها وصيرها أجذاعاً، وسقف بها البيوت، فقال: هذه الأجذاع كانت تحمل الرطب فنأكل ونطعم الأضياف، فجفت، فقطعتها وسقفت بها، فهي الآن تحمل الطين والتراب وغير ذلك.
ثم أنشدني: من الطويل:
وَسِرب مِلاَحٍ قد رأيتُ وجوهَهُمْ ... إِنَاث دَوَانِيهِ، ذُكُورْ أواخِرُهْ(2/199)
قلت: نعم، يعني: الأضراس.
ثم أنشدني قول الآخر: من الطويل:
فَإني إِذن كَالثورِ يُضْرَبُ جَنبُهُ ... إِذَا لَمْ يَعَفْ يَوْماً وَعَافَتْ صَوَاحِبُهْ
قلت: نعم، كانت العرب إذا وردت البقر الماء، فشربت الثيران، وأبت البقر، ضربت الثيران فتشرب البقر، وهو كما قال الشاعر الآخر: من البسيط:
إِني وَقَتْلِي سُلَيْكاً ثُم أَعقِلَهُ ... كَالثوْرِ يُضْرَبُ لَما عَافَتِ البَقَرُ
ثم أنشدني قول الآخر: من الطويل:
وَمُنحَدِرٍ مِنْ رَأْسِ بَرقَاءَ حَطهُ ... مَخَافَةَ بَينٍ أَوْ حَبِيب مُزَايِلِ
قلت: نعم، يعني: الدموع، والبرقاء: العين؛ لأن فيها بياضَاً وسواداً. حطه: أساله.
قال: فوثب الرشيد، فجذبني إلى صدره، وقال: لله در أهل الأدب، ثم دعا بجارية: فقال: احملي إلى منزل الكسائي خمس بدر على أعناق خمسة أعبد يلزمون خدمته.
ثم قال لي: استنشدهما - يعني ابنيه - فأنشدني محمد الأمين فقال: من الطويل:
وَإني لَعَف الفَقْر مُشْتَرَكُ الغِنى ... وَتَارِكُ شَكلٍ لاَ يُوَافِقُهُ شَكْلِي
وَشَكلِيَ شَكل لا يَقُومُ لِمِثلِهِ ... مِنَ الناسِ إِلا كُل ذي ثِقَةٍ مثلِي
ولي نيقةْ في المَجد ِوالبَذلِ لم يَكُن ... تَأَنقَهَا فيما مَضَى أَحَد قَبْلِي
وأجعلُ مالي دُونَ عِرضِيَ جُنة ... لِنَفسِي واستغنى بِمَا كَانَ مِنْ فَضْلِ
وأنشدني عبد اللّه المأمون: من الكامل:
بَكَرَت تلومُكَ مَطلَعَ الفَجْر ... ولقَد تلومُ بَغْير ما تَدْري
ما إن مَلَكت مُصِيبَة نَزَلَت ... إذ لا تحكمُ طائعَاً أمْرِي
مَلِكُ المُلوكِ عَلَى مقتَدر ... يُغطي إذا ما شاء مِنْ يُسْرِ
فَلَرُب مغتبطِ تمد له ... ومفَجعِ بنوائِبِ الدهرِ
ومكاشِح لي قد مَدَدت له ... نَحراً بلا ضرْعٍ ولا غمْرِ
حتى يَقُولَ لنَفسِهِ لَهَفٌ ... في أَي مذهَب غايةٍ أَجْرِي
ويَرَى قَنَاتِي حِينَ يغمِزُهَا ... غَمزَ الثقَافِ بطيئَةَ الكَسْرِ
فقال الرشيد: يا علي، كيف تراهما؟ فقلت: من الطويل:
أَرَى قَمَرَي أُفقٍ وَفَرْعَى بشامَةٍ ... يَزِينُهُما عِرق كريمٌ ومَحْتِدُ
يَسُدانِ آفاقَ السماءِ بشيمةٍ ... يؤيدُهَا حَزم وعَضْبٌ مُهْندُ
سليلَى أمِيرِ المؤمنينَ وَحَائِزَي ... موارِيثِ ما أبْقَى النبِيُ محمَدُ
ثم قلت: يا أمير المؤمنين، فرع زكا أصله، وطاب مغرسه، وتمكَنت عروقه، وعذبت مشاربه. غذاهما ملك أغر، نافذ الأمر، واسع العلم، عظيم الحلم. فأسأل اللّه أن يزيد بهما الإسلام تأييدَاً وعزاً، ويمتع أمير المؤمنين بهما ويمتعهما بدوام سلطانه وقدرته، ما دجا ليل وأضاء نهار. ثم انقضى المجلس وخرجت جذلا مسروراً.
وفي كتاب الأذكياء: ذكر أبو جعفر أحمد بن جعفر البلخي؛ أن الرشيد جمع بين الكسائي وأبي محمد اليزيدي، يتناظران في مجلسه، فسألهما الكرماني عن قول الشاعر: من مجزوء الرمل:
ما رأينا خَرِباً يَن ... قر عنه البَيضَ صَقْرُ
لاَ يَكُونُ العَيرُ مُهراً ... لا يكون؛ المُهْر مُهرُ
فقال الكسائي: يجب أن يكون المهر منصوباً على أنه خبر كان، ففي البيت على هذا إقواء. فقال اليزيدي: الشعر صواب؛ لأن الكلام قد تم عند قوله: لا يكون الثانية، ثم استأنف، فقال: المهر مهر، ثم ضرب بقلنسوته على الأرض، وقال: أنا أبو محمد. فقال له يحيى: أتكتني بحضرة أمير المؤمنين؟ فقال الرشيد: واللّه، إن خَطَأَ الكسائي مع حسن أدبه لأحب إلي من صوابك مع سوء أدبك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن حلاوة الظفر أذهبت عني التحفظ فأمر بإخراجه.(2/200)
واجتمع الكسائي، ومحمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنهما - فقال الكسائي: من تبحر في علم النحو، اهتدى إلى سائر العلوم، فقال له محمد: ما تقول فيمن سها في سجود السهو، هل يسجد مرة أخرى. قال: لا، قال: لم ذا؟ قال: لأن النحاة يقولون: المصغر لا يصغر، قال محمد: فما تقول في تعليق العتق بالملك؟ قال: لا يصح، قال: لم؟ قال: لأن السيل لا يسبق المطر.
وتعلم الكسائي النحو على كبر سنه، وسببه أنه مشى يوماً حتى أعيا، فجلس وقال: عييت، فقيل له: لحنت، قال كيف؟ قيل: إن كنت أردت التعب، فقل أعييت، وإن كنت أردت انقطاع الحيلة، فقل: عييت بغير همز. فأنف من قولهم: لحنت، واشتغل بالنحو حتى مهر وصار إمام وقته. وكان يؤدب الأمين والمأمون، وصارت له اليد العظمى والوجاهة التامة عند الرشيد وولديه.
وتوفي محمد بن الحسن والكسائي في يوم واحد سنة سبع وثمانين ومائة، ودفنا في مكان واحد، فقال الرشيد: هاهنا دفن العلم والأدب.
وقصة الكسائي مع سيبويه في مسألة: فإذا هو هي، أو إياها شهيرة لا نطول بذكرها.
وقال المبرد: حدثني محمد بن عباد الحنفي قال: أخبرني العباس بن الأحنف ببغداد قال: لم أدر ذات يوم إلا والمسودة قد أحاطت بي، فمضى بي إلى دار الخلافة هارون الرشيد، فصرت إلى خالد بن يحيى فقال: ويحك يا عباس، إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك وحسن تأتيك، وإن الذي ندبتك له من شأنك، وقد عرفت خطرات الخلفاء، وإني أخبرك أن ماردة هي الغالبة على أمير المؤمنين، وقد جرى بينهما عتب، وهي بِعِزة دالة المعشوق تأبى أن تعتذر، وهو بِعِزةِ الخلافة وشرف الملك يأبى، وقد رمت الأمر من قبلها فأعياني، وهو أحرى أن تستقيده الصبابة، فقل شعراً تسهل به هذا السبيل.
فلما قضى كلامه دعاه أمير المؤمنين، فصار إليه وأعطيت ورقاً ودواة، فاعتراني الدمع ونفر عني كل شيء، ثم انفتح لي شيء من الأشياء، والرسل من الخليفة ما تغبني، فجائني أربعة أبيات رضيتها، وقعت صحيحة المعنى سهلة الألفاظ ملائمة لما طلب مني، فقلت لأحد الرسل: أبلغ الوزير أني قد قلت أربعة أبيات، فإن كان، فَفِيهَا مقنع. وفي مدة ذهاب الرسول ومجيئه حضرني بيتان من غير ذلك الروي، فكتبت الأربعة في صدر الرقعة، وعقبتها بالبيتين، وذلك قولي: من الكامل:
ألْعَاشِقَانِ كلاَهُمَا متغضبُ ... وكلاهما متوحد متجنبُ
صَدت مُغَاضِبةَ وصَد مُغَاضِباً ... وكلاهُما مما يُعَالِجُ مُتْعَبُ
رَاجِعْ أَحبتَكَ الذينَ هَجَرْتَهُمْ ... إن المتيمَ قَلَمَا يتجنبُ
إن التجنُبَ إن تطاوَلَ منكُمَا ... دَبَّ السلُوُ له فَعَز المَطْلَبُ
ثم البيتان وهما: من السريع:
لاَ بُدَ للعاشِقِ من وَقْفَةٍ ... تَكُونُ بين الوَصْلِ والصَّرْمِ
حَتى إذا الهُم تمادَى به ... رَاجَعَ مَن يَهْوَى عَلَى رَغْمِ
قال: ثم وجهت بالرقعة فدفعها إلى الرشيد، فقال: واللّه، ما رأيت شعراً أشبه بما نحن فيه من هذا، واللّه لكأني قصدت به، فقال يحيى: فأنت واللّه المقصود، يا أمير المؤمنين، هذا يقوله العباس بن الأحْنف في هذه القصة. فلما قرأ البيتين، وأفضى إلى قوله: راجع من يهوى على رغم استغرق ضحكاً ثم قال: إني واللّه أراجعها على رَغم، يا غلام، نعلي. فنهض وأذهله الجذل والسرور عن أن يأمر لي بشيء، فدعاني يحيى، وقال: إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة. ثم جاء إنسان، فسارهُ بشيء، فنهض ونهضت لنهوضه، فقال: يا عباس، أمسيت أنبل الناس، أتدري ما سارني به هذا الرسول. قلت: لا، قال: ذكر أن ماردة تلقت أمير المؤمنين لما علمت بمجيئه، فقالت له: كيف كان هذا يا أمير المؤمنين؟ فأعطاها الشعر، وقال: هذا الذي جاء بي، قالت: من يقوله؟ فقال: العباس بن الأحنف، قالت: فبكم كوفئ؟ فقال الخليفة: ما فعلت شيئاً، قالت: إذن واللّه لا أجلس حتى يكافأ. وأمير المؤمنين قائم لقيامها، وأنا قائم لقيامهما، وهما يتناظران في صِلَتِكَ، هذا كله لك. قلت: ما لي من هذا إلا القبلة، فضحك، وقال: هذا أحسن من شعرك، فأمر لي الخليفة بمالِ وأمرتْ هي لي بمال دونه، وأمر لي الوزير بمال دون ما أمرت به، وحملت المال على بغلة. انتهى.(2/201)
وروى عن المبرد قال: حدثني من أثق به أن مسلم بن الوليد الأنصاري المسمى بصريعِ الغواني كان يمدحُ من دون الخليفة، وكان يقول: إن نفسي تذوب حسرات من أن يحوي جوائز الخلفاء من لا يقاربني في الأدب، ولا يوازيني ولا يصلح أن يكون شعره خادماً لشعري. فخرج ذات يوم، فلقي يزيد بن منصور الحميري بباب الرشيد، فسلم عليه، وسأله أن يقربه من الخليفة، فوعده ذلك، فدخل الحميري، فأصاب أمير المؤمنين لقس النفس قد اشتمل عليه الفكر في سرعة تقضي الأمور، وأنه لا يتشبث منها بشيء إلا كان كالظل الحائل، والسراب الخادع. فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين، إنما هذا الذي أنت فيه عارض لك، وكانت الحكماء تقول: الهم مفسدة للنفس، مضلة للفهم، مشدهة للقلب، وقالت أيضاً: بالسرور يطيب العيش، ومع الهم يتمنى الموت.
قال: وكأن الرشيد نشط واندفع عنه ما اعتراه من ذلك الفكر، فتقدم الحميري وقال: يا أمير المؤمنين، خلفت بالباب اَنفاً رجلا من أخوالك الأنصار، متقدمَاً في شعره وأدبه وظرفه، أنشدني قصيدة يذكر فيها أنسه ولهوه ومحادثة إخوانه، ويذكر مجالس اتفقت بأبلغ قول وأحسن وصف، يبعث والله على الصبابة والفرح ويباعد من الهم والترح. وكأنه وفق بيمن أمير المؤمنين وسعادة جده لأن يكون زائداً في سرور أمير المؤمنين. قال: فاستفزه السرور والقلق إلى دخوله عليه واستماع قصيدته، فجعل الخليفة يتابع الرسل إليه، فدخل مسلم، فسلم بالخلافة، ثم أمهل حتى سكن، ثم أذن له في الجلوس والانبساط، واستدعى منه الشعر فانبرى ينشد: من الطويل:
أَدِيرَا عَلَي الكَأْسَ لاَ تَشْرَبَا قبليوَلاَ تَطْلُبَا مِنْ عِنْدِ قَاتِلَتِي ذَحْلِي
فما جَزَعِي أَني أموتُ صَبَابَةَ ... ولكن على مَنْ لا يَحِل لها قَتْلِي
أحبُّ التي صَدت وقالَتْ لِتِرْبِهَا ... دَعِيهِ الثريا مِنْهُ أَقْرَبُ مِنْ وَصْلِي
بَلى ربما وَكلْتُ عَيْني بنظرةِ ... إليها تزيدُ القَلبَ خَبلاَ على خَبْلِ
كَتَمتُ تباريحَ الصبَابَةِ عَاذِلِي ... فلم يَدْرِ ما بي واستَرَحت مِنَ العَذْلِ
ومانحة شرابَها المَلك قَهوَة ... يهوديةَ الأَصهَارِ مُسلِمَةَ البَعلِ
رَبِيبَةَ شَمسٍ لم تُهَجن عُروقُهَا ... بِنَارٍ ولم يُجمَع لها سَعَفُ النخلِ
بعثنا لها منا خَطيباً لبضعَها ... فجاء بها يمشي العرضنة في مهل
قَدِ استودعَت دَنا لها فَهوَ قائِم ... بها شفقاً بين الكرومِ على رِجْلِ
فوافى بها عَذرَاءَ خل أخو نَدي ... جَزِيلُ العطايا غَيرُ نِكسٍ ولا وَغلِ
مُعتقَة لا تَشتَكِي دَمَ عاصِرِ ... حرورية في جَوفِهَا دَمُهَا يَغْلِي
أغارَتْ على كَف المُدِيرِ بلونِهَا ... فصَارَت له منها أَنَامِل كالذبْلِ
أماتَتْ نفوساً من حياةٍ قريبةٍ ... وماتَتْ فلم تُطْلَبْ بوتر ولا تَبْلِ
شَقَقنَا لها في الدَن عيناً فأسبَلَت ... كما أخلصَتْ عَين الخَرِيدَةِ بِالكُحْلِ
كان فنيقاً بازلاً شق نَخرهُ ... إذا أسفَرَتْ منها الشعاعُ على البُزْلِ
ودارَتْ علينا الكَأسُ مِنْ كَف ظَبْيَةٍ ... مبتلةٍ حَوْرَاء كَالرشَأ الطفْلِ
كأن ظباء عُكفاً في رياضها ... أباريقُها أو حِينَ قَعْقَعَةِ النبْلِ
وحن لنا عود فَبَاحَ بِسِرنَا ... كأن عليه سَاقَ جاريةٍ عُطْلِ
تضاحكُهُ طَوراً وتبكيه تارة ... خَدَلَجة هَيْفَاءُ ذَاتُ شَوى عَبْلِ
إذا ما عَلَت منا ذُؤَابَةَ مَاجِد ... تَمَشتْ به مَشْيَ المُقيدِ في الوَحْلِ
فلا نحن مِتنَا مَوتَةَ الدَّهرِ بغتة ... ولا هي عَادَتْ بعد عَل ولا نَهْلِ
سأنقادُ لِلَّذاتِ مُتبِعَ الهَوَى ... لأُمْضِيَ هَمُّاً أو أَصَبْت فَتَى مِثليِ(2/202)
هَلِ العيشُ إلا أَن تَرُوحَ مَعَ الصبَاوَتَغْدُو صَرِيع الكَأْسِ والأَعْينِ النُّجْلِ؟!
قال: فجعل الرشيدُ يتطاوَلُ لها ويستحسنُ جميع ما حكاه، وأمر له بمال جزيل، وأن يتخذ له مجلس يتحول إليه، وجعل الرشيد وأصحابه يتناشدون قصيدته هذه، وسماه يومئذ بآخر بيت في القصيدة: صَرِيعَ الغواني؛ فالرشيد هو الذي سماه بهذا الاسم، فلزمه. انتهى. كذا في المحاسن لإبراهيم البيهقي.
وأدخل الفضل بن يحيى أبا نواس إلى عند الرشيد، فقال له الرشيد: أنت القائل: من مجزوء الرمل:
عتقَتْ في الدَن حَتى ... هِيَ في رِقةِ دِينِي..
أحسبك زنديقاً. قال: يا أمير المؤمنين، قد قلت ما يشهد لي بخلاف ذلك، قال: وما هو؟ فقال: من السريع:
أية نار قَدَحَ القَادِح ... وَأِيُ جِد بَلَغَ المازح؟!
لله در السيب من واعظ ... وناصح لو قبل الناصح
فاغدُ فَمَا في الحَق أُغْلُوطَةٌ ... وَرُحْ لِمَا أَنْتَ لَهُ رَائحُ
مَن يَتَّقِ اللهَ فَذَاكَ الذِي ... سِيقَ إِلَيهِ المَتجَرُ الرابحُ
لا يَختَلِي الحَوْرَاءَ مِنْ خِدْرِهَا ... إِلا امْرُؤ مِيزَانُهُ رَاجِحُ
فاسمُ بِعَيْنَيك إِلى نسوَةٍ ... مُهُورُهُنَ العَمَل الصَّالِحُ
فقال الرشيد: لا أعتبر بهذا الكلام، يا غُلام، اضرب عنقه، فقال أبو نواس: يا أمير المؤمنين، أتقتلني شهوة لقتلي؟ قال: بل استحقاقاً، قال: فإن الله تعالى يحاسب، ثم يعفو أو يعاقب؛ فبماذا استحققتُ عند أمير المؤمنين القتل؟! قال بقولك: من الطويل:
أَلاَ فَاسْقِنِي خَمْرَاً وقُلْ لِي هِيَ الخَمْرُولاَ تَسْقِنِي سِراً إذا أَمْكَنَ الجَهْرُ
قال: يا أمير المؤمنين، فهل علمت أنه سقاني أو شربت؟! قال: أظُن، قال: أفتقتلني على الظن، وبعض الظن إثم؟ قال: وقد قلت - أيضاً - ما تستحق به القتل غير هذا، قال: وما هو؟! قال: قولك في التعطيل: من الكامل:
مَا جَاءَنَا أَحَد يُخبرُ أَنهُ ... في جَنَّة مَنْ مات أو في نَارِ
قال: أفجاء أحد يا أمير المؤمنين؟! قال: لا، قال: أفتقتلني على الصدق؟! قال: أو لست القائل: من البسيط:
يَا أَحمَدُ المُرْتَجَى في كُل نائبةِ ... قُمْ سَيدِي نَعصِ جَبارَ السمَوَاتِ
قال أبو نواس: أفقام أحمد يا أمير المؤمنين، وصار القول فعلا. قال: لا أعلم، قال: أفتقتلني على ما لا تعلم؟! قال: فدع هذا كله، قد اعترفْتَ في مواضع كثيرة من شعرك بما يوجب عليك القتل، قال: قد علم اللّه تعالى هذا من قبل علم أمير المؤمنين، فأخبر عني أني أقول ما لا أفعل؛ يشير إلى الآية في الشعراء: " وَأَنَهُم يَقولوُنَ مَا لا يَفعَلوُن " " الشعراء: 226 " ، فقال الفضل: يا سيدي؛ إنه ليؤمن بالبعث، وإنه يحمله المجون على ذِكْرِ ما لم يعتقده.
ثم إن أبا نواس أنشد الخليفة يقول مدحاً: من الطويل:
لَقَدْ طَالَ في رَسْمِ الديارِ بُكَائِي ... وقَدْ طال تَرْدَادي بها وَعَنَائِي
كأني مريع فِي الديارِ طريدَة ... أَرَاهَا أمامِي مَرَة وَوَرَائِي
فَلما بدا لِي اليَأسُ عَدَيْتُ نَاقَتِي ... عَنِ الدارِ واسْتَوْلَى عَلَي عَزَائِي
إلَى بَيتِ حَانٍ لاَ تَهِر كِلاَبُهُ ... عَلَي ولا ينكرنَ طُولَ ثَوَائي
فما رمتُهُ حتى أتَى دُونَ ما حَوَت ... يميني وحَتى رَيطَتي وحِذَائي
وكأس كمصباح السماءِ شَرِبتُهَا ... عَلى قُبلَةٍ أو مَوعِدِ بِلِقَاءِ
أَتَت دونها الأيامُ حتَّى كأنها ... تَسَاقَطُ نورَاً مِنْ فُتُوقِ سَمَاءِ
تَرَى ضَوءَهَا من ظاهرِ البَيْتِ ساطعاً ... عَلَيْك وَلَوْ غَطيْتَهُ بِغِطَاءِ
تَبَارَكَ مَنْ سَاسَ الأمورَ بِقُدْرَةٍ ... وفَضلَ هَارُونا على الخُلَفَاءِ
نَرَاكَ بِخَيْرِ ما انطَوينَا عَلَى التقَى ... وما سَاسَ دُنْيَانَا أبو الأمُنَاءِ(2/203)
إِمام يخافُ اللّه حَتَى كأنه ... يؤملُ رُؤيَاهُ صَبَاحَ مَسَاءِ
أَشَم طِوَال الساعِدَينِ كأنما ... يُنَاطُ نِجَاداً سَيْفُهُ بِلِواءِ
قال: فخلع عليه الرشيد، ووصله بعشرة آلاف درهم، والفضل بمثلها، فنظر إلى جارية تختلف كأنها لؤلؤة، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا ميت في ليلتي هذه، فإذا مت، فمر أن أُدفَنَ في بطن هذه الجارية، فقال له الرشيدة خذها لا بارَكَ اللّه لك فيها، فقال أبو نواس: فانصرفت بمثل الشمس حسناً، وفي منزلي كلام لي مثل القمر، فلقيني محمد بن بشير الشاعر فقال: أتيتك مهنئاً بما حباك أمير المؤمنين، فقلت: هي نعمة تتبعها نقمة، قال: ولم ذاك؟ قلت: عندي غلام مثل القمر، وهذه الشمس إن جمعتهما أتخوفُ ما تعلم، وإن أفردت الجارية لم آمَن عليها وغلامِي لا بُد منه، قال: اجعلها عند بعض إخوانك إلى وقت حاجتك، قلت: فلعل الحارسَ هو المحروس منه، قال: فصَيرهَا عند عجوز تثقُ بها، قلت: لعلي أسترعِي الذئب، قال: ثم افترقنا، فالتقى معي بعد ثلاث، فقلت له: يا محمد بن بشير، ما على وجه الأرض شر منك، شاورتك في أمر فلم تفتح علي فيه شيئاً، فلما فارقتك، ازدحَمَ عليَ الرأي المصيب، فقال لي: صنعت ماذا؟ قلت: زوجتُ الشمسَ بالقَمَرِ، فحصلتهما لأَقضِي بهما وطرى، فقال: كان الشيء عليك حلالا فجعلته حراماً، فقال أبو نواس: يا أحمق، ما شاورتك في الحلال والحرام، إنما قلت لك: كيف الرأي في تحصيلهما عندي. ثم أنشأ يقول: من السريع:
زَوجتُ هَذَاكَ بِهَذي لِكَي ... أَنكِحَ ثنتينِ فثنتينِ
أنكِحُ هَذَا مرة ثُم ذا ... أُدِيرُ رمحَاً بين صَفيْنِ
مَتعتُ نَفسِي بِهِمَا لذة ... يَا مَنْ رَأَى مَطلعَ شَمْسَيْنِ
وذكر أن هارون الرشيد لما قدم المدينة المنورة لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في بعض حجاته، وجه يحيى بن خالد البرمكي إلى الإمام مالك بن أنس - رضي الله تعالى عنه: احمل إليَ كتابك الذي صنعت - يعني الموطأ - أسمعه عليك، فقال مالك ليحيى: أَقرِئْهُ السلام، وقل له؛ العلم يزار، ولا يزور، ويؤتى ولا يأتي، فرجع إلى هارون الرشيد وأخبره، ثم قال يحيى: يا أمير المؤمنين، يبلغ أهل العراق أنك وجهت إلى مالك بأمر فخالفك، اعزم عليه حتى يأتيك، فبينما هم كذلك إذا بمالك قد دخل وليس معه الكتاب، جاء مسلماً على الخليفة، فسلم وجلس، فقال له هارون: يبلغ أهل العراق أني سألتك أمرَاً من الأمور سهلا فأبيت علي، فقال مالك: يا أمير المؤمنين، إن الله قد جعلك في هذا الموضع، فلا تكنْ أول من ضيع العلم؛ فيضيعك اللّه تعالى، ولقد رأيت من ليس هو في حسبك ونسبك يعز هذا العلم ويجله، فأنت أحرى أن تجله، ولم يزل يعظه ويعدد عليه حتى بكى، ثم قال مالك: أخبرني الزهري، عن خارجة، عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يستَوِي اَلقَاعدُونَ مِنَ المُؤمنِينَ غيرُ أُولِي اَلضررِ وَالمجُاهدونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأَموالهم وَأنفُسِهِم " " النساء: 95 " ، وابن أم مكتوم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه، أنا رجل ضرير، فهل لي رخصة - يعني في ترك الجهاد - فقال - عليه الصلاة والسلام - : " لا أدري " ، قال زيد: وقلمي رطب ما جف، حتى غشي النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، ثم سرى عنه، فقال: " اكتب يا زيد: " غيرُ أُولِي اَلضررِ " " النساء: 95 " ، قال: فحرف واحد يا أمير المؤمنين بعثَ فيه الملك جبريل من مسيرة خمسين ألف عام، حتى نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أفلا ينبغي لي أن أعزه وأجله؟ قال: بلى، ثم إن هارون أتى إلى منزل الإمام مالك، فسمع منه الكتاب، ووفقه اللّه للصواب.
وقد قيل الدين لسيوف الأمراء وألسن العلماء.(2/204)
واجتمع القاضي أبو يوسف بالإمام مالك عند الرشيد، فقال له القاضي أبو يوسف: ما تقول فيمن سها بزيادة في الصلاة؟ فقال الإمام مالك: يسجد للسهو بعد السلام، فقال: فإن سها بهما، فقال: يسجد قبل السلام، فقال أبو يوسف ملتفتاً إلى الرشيد: الشيخ تارة يخطئ وتارة لا يصيب، فظن الإمام مالك أنه يقول: تارة يخطئ، وتارة يصيب، فقال: على هذا أدركنا مشايخنا من السلف الصالح، ثم نبه الإمام مالك لقول أبي يوسف ومراده، فقال: ما ظننت أن أهل العلم يتكلمون بمثل هذا، قلت: رحم الله الإمام مالكاً، ورضي عنه، فما أغفله عن مظان السوء، وما أسلم فطرته، وأخلص نيته، وأصدق طويته حيث لم يخطر بباله ذلك، ولا خطر بباله أن يخطر ببال أهل العلم.
وقد طلب الرشيد من الإمام مالك أن يكتب مذهبه لقصد أن يجمع الأمة على مذهبه فقط، فقال الإمام: لا تفعل هذا؛ فإن الأحاديث النبوية كثيرة، وقد نقلها العلماء في سائر البلدان وانتشرت، فلا تحجر واسعاً، ودع الأمة على مذاهبها، رضي الله عنه.
قال الأصمعي: وقال لي الرشيد: يا أصمعي، ما أغفلك عنا وأجفاك لنا، قلت: واللّه يا أمير المؤمنين، ما ألاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك، فسكت، فلما انصرف الناس قال: اجلس، فجلست، فلما لم يبق سوى الغلمان قال: ما معنى ما ألاقتني؟ فقلت: قال الشاعر: من الكامل:
كَفاكَ كَف مَا تُلِيقُ بِدِرْهَمٍ ... جُوداً وأُخرَى تُعطِ بالسيْفِ الدمَا
فقال: أحسنْتَ هكذا فكُن، وقرنا في الملا، وعلمنا في الخلا، وأمر لي بخمسة آلاف دينار رواها أبو حاتم، عنه.
وفي مروج الذهب: رأى الرشيد أن يوصل ما بين بحر الروم وبحر القلزم مما يلي الفرما، فقال له يحيى بن خالد البرمكي: لو فعلت ذلك، كانت الروم تختطف الناس من المسجد الحرام وتدخل مراكبهم إلى الحجاز. فترك ذلك.
قال الجاحظ: اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره: وزراؤه البرامكة، وقاضيه أبو يوسف، وشاعره مروان بن أبي حفصة، ونديمه العباس بن محمد عم أبيه، وحاجبه الفضل بن الربيع أنبه الناسَ وأعظمهم، ومغنيه أبو إسحاق الموصلي، وزوجته زبيدة بنت جعفر.
وحكى أنه خلف من الأثاث والعين والورق والجواهر والدواب ما قيمته ألف ألف وخمسة وعشرون ألف دينار. ومن النقد مائة ألف ألف دينار، وله أخبار في اللهو واللذات المحظورة والنساء، فاللّه يسامحه.
قال صاحب جواهر العقدين: لما أنشد منصور النميري هارون الرشيد قصيدته تقرباً للرشيد يغض فيها من الطالبيين منها قوله: من الوافر:
يُسَمونَ النبِي أَباً ويَأبى ... مِنَ الأحزاب سَطر في السطُورِ
يريد بذلك الآية الكريمة " مَا كاَنَ مُحَمَّد أَبَا أحد مِّن رّجَالِكُم... " الآية. " الأحزاب: 40 " ، رأى في ليلته النبي صلى الله عليه وسلم وهو يهوى عليه بقضيب من نار، ويقول: أنت الذي تنفي ذريتي مني، فانتبه مرعوباً، ومال إلى التشيعِ، وقال في ذلك ما أوجب أن أمر الرشيد لما وقف عليه بقتله، فنجاه اللّه ووجدوه قد مات، وهذه الواقعة ذكرها أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني.
قال أبو محمد بن حزم: أراه كان لا يشرب النبيذ المختلف فيه إلا الخمر المتفق على تحريمها، ثم جاهر بها جهاراً كبيراً.
قال السيوطي في تاريخه: في سنة اثنتين وتسعين ومائة: توجه الرشيد نحو خراسان، فذكر محمد بن الصباح أن أباه شيع الرشيد إلى النهروان، فجعل يحادثه في الطريق، إلى أن قال: يا صباح، لا أحسبك تراني بعدها، قلت: بل يردك الله سالماً، ثم قال: ولا أحسبك تدري ما أجد، فقَلت: لا واللّه، فقال: تعال أريك، وانحرف عن الطريق، فأومأ إلى الخواص فتنحوا، ثم قال: أمانة اللّه يا صباح أن تكتم علي وكشف عن بطنه، فإذا عصابة حرير حوالي بطنه فقال: هذه علة أكتمها عن الناس كلهم، ولكل واحد من ولدي على رقيب، فمسرور رقيب المأمون، وجبريل ابن بختيشوع رقيب الأمين، وفلان رقيب المؤتمن، ما منهم أحد إلا وهو يحصي أنفاسي ويعدُ أيامي ويستطيل دهري، فإن أردت أن تعرف ذلك، فالساعة أدعو ببرذون فيجيئون به أعجَفَ ليزيد في علتي، ثم دعا ببرذون فجاءوا به كما وصف، فنظر إلي، ثم ركبه، وودعني، وسار إلى جرجان، ثم رحل منها في صفر سنة ثلاث وتسعين، وهو عليل إلى طوس، فلم يزل بها إلى أن مات.(2/205)
قال الذهبي: إن الرشيد رأى مناماً أنه يموت بطوس، فانتبه وبكى، وقال: احفروا لي قبرَاً فحفر له، ثم حمل في قبته على جمل، وسيق به حتى نظر إلى القبر فقال: يا ابن آدم، تصير إلى هذا. وأمر قوماً فنزلوا، فختموا فيه ختمة، وهو في محفته على شفير القبر، فلما مات، دفن به.
وكانت خلافته ثلاثَاً وعشرين سنة وشهرين وتسعة عشر يوماً، وقيل: أربعاً وعشرين، وقيل: خمسَاً وعشرين سنة، وعمره أربع وأربعون سنة وخمسة أشهر وثلاثة أيام.
خلافة محمد الأمين
ابن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد اللّه المنصور بن محمد بن علي بن عبد اللِّه بن العباس، بايع له أبوه الرشيد بولاية العهد في سنة خمس وسبعين، ولقبه بالأمين، وله يومئذٍ خمس سنين، لحرص أمه زبيدة على ذلك، قال الذهبي: فكان هذا أول وهن جرى في دولة الإسلام من حيث الإمامة، ثم لابنه الآخر من بعد الأمين عبد اللّه، ولقبه المأمون، وولاه ممالك خراسان بأسرها. ثم بايع ابنه الآخر القاسم، ولقبه المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور وهو صبي، فلما قسم الدنيا بين هؤلاء الثلاثة قال بعض العقلاء: قد ألقى بينهم بأسهم، وغائلة ذلك تضرُ بالرعية، ثم إنه علق نسخة البيعة بالكعبة الشريفة، وفي ذلك يقول إبراهيم الموصلي: من مجزوء الكامل:
خيرُ الأمورِ مغبةَ ... وأحق أمرٍ بالتمام
أمر قضى أحكامَهُ الر ... رَحمنُ فِي البَيتِ الحَرَام
وقال عبد الملك بن صالح: من البسيط:
حُب الخليفةِ حب لا يدينُ له ... عاصِي الإلهِ وشانٍ يَلْقَحُ الفتنا
أللهُ قلدَ هاروناً سياستَه ... لما اصطَفَاه فأحيا الفرضَ والسنَنَا
وقلدَ الأَمرَ هارون لِرَأفتِهِ ... بنا أميناً ومأموناً ومؤتمنا
قال بعضهم: وقد زوى الرشيد الخلافة عن ولده المعتصم لكونه أمياً، فساقها اللّه إليه، وجعل الخلفاء بعده كلهم من ذريته، ولم يجعل من نسل غيره من أولاد الرشيد خليفة.
بويع الأمين بالخلافة يوم توفي الرشيد بطوس والأمين ببغداد، فورد عليه بها خاتم الخلافة والبردة والقضيب، فلما تمكن من الخلافة خلع أخاه المأمون، وجعل العهد لولده موسى وهو في المهد، وسماه الناطق بالحق، وقطع ذكر المأمون والمؤتمن، وجعل ولده موسى في حجر علي بن عيسى، فأرسل إلى الكعبة الشريفة من جاءه بكتاب العهد الذي علقه فيها الرشيد للأمين والمأمون فمزقه، وكان ذلك برأي الفضل بن الربيع وبكر بن المعتمر، فقال بعض الشعراء في ذلك: من المتقارب:
أضاعَ الخلافةَ غِشُ الضميرِ ... وفسقُ الوزيرِ وجهلُ المُشِيرِ
ففضل وزير وبَكر مُشير ... يريدانِ ما فيه حَتْف الأميرِ
لواطُ الخليفةِ أعجوبَة ... وأعجبُ منه حلاق الوَزِيرِ
فهذا يدوسُ وهذا يُدَاسُ ... وهذا لعمري خلافُ الأمورِ
فلو يستعفانِ هذا بذاكَ ... لكانا بعُرْضةِ أمرِ يسيرِ
وأعجبُ مِن ذا وذا أَننَا ... نُبَايعُ للطفْلِ فينا الصغيرِ
ومَنْ ليسَ يُحسِنُ غسلَ استِه ... ولم يخلُ من بولِهِ حجرُ ظِيرِ
وكان أول من أجاب الأمين إلى خلع المأمون وزيره علي بن عيسى بن ماهان، فجهزه الأمين لحرب المأمون في مائة ألف مقاتل، فلما قرب من الري قابله طاهر بن الحسين من قبل المأمون في أربعة آلاف أو خمسة آلاف، وحمل عليه على حين غفلة، فكانت بينهما وقعة في ذلك الموضع كانت الدائرة على علي بن ماهان وأصحابه، وانجلت عن قتل علي بن عيسى، فحز رأسه، وظفر طاهر بجميع خزائنه، وأرسل على الفور إلى ذي الرياستين الفضل بن سهل وزير المأمون بكتاب يقول فيه: أطال اللّه بقاءك، وكبت أعداءك، كتبت كتابي هذا إليك ورأس علي بن ماهان بين يدي، وخاتمه في إصبعي. فسمع المأمون بذلك، وسلم عليه بالخلافة في ذلك الوقت.(2/206)
ولما قتل علي بن عيسى بعث الأمين عبد الرحمن بن الأنباري في عشرين ألف فارس إلى همذان، وولاه عليها وعلى كل ما يفتحه من بلاد خراسان، فسار إلى همذان وحصنها، وجاءه طاهر فبرز إليه ولقيه، وهزمه طاهر إلى البلد، ثم خرج عبد الرحمن ثانية فانهزم إلى المدينة، وحاصره طاهر حتى ضجر منه أهل المدينة وطلب الأمان من طاهرة فأمنه وأقام في أمانه، ثم أصاب عبد الرحمن غرة من طاهر فركب وهجم عليه في عسكره فقاتله طاهر أشد القتال حتى انهزم أصحاب عبد الرحمن وقتل، ولم يزل طاهر يهزم الجيوش، ويقتل قواد الأمين واحداً بعد واحد، وهو سائر إلى بغداد يريد الأمين، وفر قائدان من قواد الأمين الكبار هما خزيمة بن خازم ومحمد بن علي بن عيسى بن ماهان إلى طاهر بن الحسين، فوثبا على جسر دجلة في ثامن المحرم فقطعاه وركزا أعلامهما وخلعا الأمين ودعيا للمأمون، فأصبح طاهر ابن الحسين وألح على أصحاب محمد الأمين، ودخل طاهر قسرَاً بالسيف، ونادى مناديه: من لزم بيته فهو آمن. ثم أحاط بمدينة المنصور وبقصر زبيدة وقصر الخلد، فثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش والأفارقة، فنصب طاهر المجانيق خلف السور وعلى القصرين ورماهم، فخرج محمد وأمه وأهله من القصر إلى مدينة المنصور، وتفرق عامة جنده وعلمائه، وقل عليهم القوت والماء، وفنيت خزائنهما على كثرتها.
قال الحافظ الذهبي: ذكر عن محمد بن راشد، أخبرني إبراهيم بن المهدي أنه كان مع محمد بمدينة المنصور في قصر باب الذهب، فخرج ليلة من القصر من الضيق والضنك فصار إلى قصر القرار، فطلبني فأتيت، فقال: ما ترى طيب هذه الليلة وحسن القمر وضوءه في الماء، فهل لك في الشراب؟ قلت: شأنك. فدعا برطل من نبيذ فشربه، ثم سقيت مثله، فابتدأت أغنيه من غير أن يسألني لعلمي بسوء خلقه، فغنيت، فقال: ما تقول فيمن يضرب عليك؟ فقلت: ما أحوجني إلى ذلك، فدعا بجارية وكان اسمها ضعف، فتطيرتُ من اسمها. ثم غنت الجارية بشعر النابغة الجعدي: من الطويل:
كليب لعمرِي كان أكثَرَ ناصراً ... وأيْسر ذنباً منك ضُرج بالدَمِ
فتطير الأمين من ذلك وقال لها: غني غير هذا، فغنت: من البسيط:
أبكِي فراقَهُمُ عيني فأرقها ... إن التفرُقَ للأحبابِ بَكَاءُ
ما زال يَعْدُو عليهِمْ رَيْبُ دهرِهِمُ ... حتى تفَانَوا ورَيْبُ الدهرِ عَدَاءُ
فاليومَ أبكيهمُ جَهْدِي وأندبُهُم ... حتى أءوب وما في مُقْلَتي ماءُ
فقال: لعنك اللّه، أما تعرفين غير هذا؟ فقالت: ظننت أنك تحبه، ثم غنت؛ من المنسرح:
أما ورب السكونِ والحركِ ... إنَّ المنايا كثيرَةُ الشَرَك
ما اختلَفَ الليلُ والنهارُ ولا ... دارَت نجومُ السماءِ في الفَلَكِ
إلا لنقلِ السلطانِ من ملكٍ ... قد زالَ سلطانُهُ إلى مَلِكِ
ومُلْكُ ذي العرشِ دائم أبداً ... لَيْسَ بفانٍ ولا بمُشْتَرَكِ
فقال لها: قومي لعنك اللّه فقامت، فعثرت في قدح بلور له قيمة فكسرته، فقال: ويحك يا إبراهيم، أما ترى؟ واللّه ما أظن أمري إلا قد قرب. فقلت: بلى، يطيل الله عمرك ويعز ملكك. فسمعت صوتاً من دجلة " قُضي اَلأمرُ الذي فِيهِ تستفتيان " " يوسف: 41 " ، فوثب محمد مُغَتَماً، ورجع إلى موضعه بالمدينة، فقتل بعد ليلة أو ليلتين.
وذكر المسعودي أن إبراهيم المهدي قال: استأذنت على الأمين وهو في شدة الحصار، فإذا هو واضع رجله بالشباك، وكان في القصر بركة عظيمة يدخل من دجلة إليها الماء من ذلك الشباك الحديد، فسلمت وهو مقبل على الماء، والخدم والغلمان قد انتشروا في تفتيش الماء وهو كالواله، فقال لي: لا تؤذني يا عم، فإن مقرطتي قد ذهبت في البركة إلى دجلة، وإن كوثر - اسم خادم له خصي - قد صاد مقرطتين، ولم أصد أنا شيئاً بعد - والمقرطة سمكة كان قرطها بحلقتي ذهب فيهما جوهرتان عظيمتان - قال إبراهيم: فخرجت وأنا آيس من فلاحه، وقلت: لو ارتدع في وقت لكان هذا الوقت. وكان مع طاهر هرثمة بن أعين، وعظم الأمر واشتد الحصار والبلاء، حتى خربت بذلك منازل بغداد، ووثب العيارون على أموال الناس فانتهبوها، وأقام الحصار مدة سنة.
ومما عمل في بغداد من المراثي قَول القائل: من الوافر:(2/207)
بكيتُ دَماً على بغدادَ لما ... فقدت نضارَةَ العيشِ الأنيقِ
أصابَتْهَا من الحسادِ عَين ... فأفنَتْ أهلها بالمنجنيقِ
وتضايق الأمر على الأمين، وكتب طاهر إلى وجوه أهل بغداد سراً يعدهم إن أعانوه، ويتوعدهم إن لم يدخلوا في طاعته، فأجابوا طاهراً وفارقوا الأمين، وصرحوا بخلعه، ومنع طاهر الأمين ومن معه من كل شيء، حتى كاد هو وأصحابه أن يموتوا جوعَاً وعطشاً. فلما عاين الأمين ذلك كاتب هرثمة بن أعين وطلب منه أن يؤمنه حتى يأتيه؛ فأجابه هرثمة إلى ذلك وبلغ ذلك طاهراً فشق عليه؛ كراهة أن ينسب الظفر لهرثمة دونه، فلما كان يوم الخميس لخمس بقين من المحرم من سنة ثمان وتسعين ومائة خرج الأمين إلى هرثمة في حراقة، فركب الأمين ومن معه، وكان طاهر قد أكمن للأمين، فلما صار الأمين في الحرَاقة رموه بالنشاب والحجارة، فانكفأت الحراقة وغرق محمد وهرثمة، فسبح محمد حتى صار إلى بستان موسى، فعرفه محمد بن حميد الطاهري، فصاح بأصحابه فنزلوا ليأخذوه، فبادر محمد الماء، فأخذ برجله وحمله على برذون، وخلفه من يمسكه كالأسير.
قال أحمد بن سلام: كنت مع الأمين في الحراقة فأخذت وحبست، فبعد هدوء من الليل إذا أنا بحركة الخيل وهم يقولون: بشر زبيدة فأدخل عليَ رجل عريان عليه سراويل وعمامة ملثم بها، وعلى كتفه خرقة خلقة، فصيروه معي ووكلوا بنا، فلما حسر العمامة عن وجهه فإذا هو محمد؛ فاستعبرت واسترجعت في نفسي، فقال لي: من أنت؟ قلت: مولاك أحمد بن سلام، قال: أعرفك، كنت تأتيني بالرقة. قلت: نعم. قال: كنت تأتيني وتتلطفني كثيرَا، لست مولاي؛ بل أنت أخي، ادن مني فإني أجد وحشة شديدة، قال أحمد: فضممته إليَ، ثم قال: يا أحمد، ما فعل أخي؟ قلت: حي. قال: قبح اللّه صاحب البريد ما أكذبه، كان يقول لي: قد مات. قلت: قبح الله وزراءك. قال: لا تقل، فما لهم ذنب، ولست أول من طلب أمراً فلم يقدر عليه. قال: أتراهم يقتلونني أو يفون لي بأمانهم؟ قلت: بل يفون لك يا سيدي. وجعل يمسك الخرقة بعضديه فنزعت منطقة علي وقلت: ألقها وخذ هذه. فقال: ويحك دعني. فهذا من اللّه لي في هذا الموضع خير كثير. فلما انتصف الليل دخل الدار قوم من العجم بالسيوف، فقام وقال: إنا للّه وإنا إليه راجعون. ذهبت والله نفسي في سبيل اللّه. أما من حيلة؟ أما من مغيث؟ فأحجموا عن التقدم. وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم. فقمت وصرت وراء حصر ملففة، وأخذ محمد بيده وسادة وقال: ويحكم أنا ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أنا ابن هارون أنا أخو المأمون، الله اللّه في دمي.
فوثب عليه خُمَاروَيه - غلام لقريش الدنداني - فضربه بالسيف على مقدم رأسه، فضربه محمد بالوسادة واتكأ عليه، فأخذ السيف من يده، فصاح خمارويه: قتلني قتلني، فتكاثروا عليه فذبحوه من قفاه وذهبوا برأسه إلى طاهر؛ فنصب رأسه على حائط بستان، وأقبل طاهر يقول: هذا رأس المخلوع محمد الأمين، ثم بعث به مع البردة والقضيب والمصلى - وهو من سعف مبطن - مع ابن عمه محمد بن مصعب إلى المأمون، فلما وصل الرأس إليه سجد شكراً للّه تعالى على الظفر، وأمر لمحمد ابن مصعب بألف ألف درهم، وجُرت جئته بحبل. ولما بلغ إبراهيم بن المهدي عم الأمين ما وقع للأمين بكى طويلا وأنشد: من السريع:
عُوجَاً لمغنى طللٍ داثرِ ... بالخُلد ذات الصَّخر والآجرِ
والمرمر المسنون يطلى بِهِ ... والباب باب الذهَبِ الناضرِ
وأبلغَا عني مقالا إلى ال ... مَولَى عن المأمورِ والآمِرِ
قولا له يا ابنَ ولي الهدَى ... طَهر بلادَ اللَهِ منْ طاهِرِ
لم يكفِهِ أن حَز أَوداجَهُ ... ذبح الضحَايا بِمُدَى الجازِرِ
حتى أتى يسحَبُ أوصالَهُ ... في شَطَنٍ يعني به السابِرِي
قد برد الموتُ على عَينِهِ ... فطرفه منكسرُ الناظِرِ
ولما بلغ هذا الشعر المأمون اشتد عليه ذلك، وندم وحزن وحوقل.
ولخزيمة بن الحسن على لسان زبيدة قصيدة يقول فيها: من الطويل:
أتَى طاهرٌ لا طَهَّرَ اللهُ طاهراً ... فما طاهِر فيما أتَى بُمطَهرِ
فأخرجَنِي مكشوفَةَ الوَجْهِ حاسراً ... فَأنْهَبَ أموالي وأخرقَ أَدْوُرِي(2/208)
يَعز عَلَى هَارُونَ ما قَد لَقِيتُهُ ... وما مَر بي من ناقِصِ الخلقِ أعورِ
تذكر أميرَ المؤمنينَ قَرَابتِي ... فديتُكَ من ذي حُرْمَةِ مُتَذَكرِ
وكان الأمين من أحسن الشباب صورة: أبيض طويلا جميلا، ذا قوة مفرطة وبطش وشجاعة معروفة، وفصاحة وأدب وفضل وبلاغة، لكن كان سيئ التدبير، ضعيف الرأي، لا يصلح للإمارة. قال ابن جبير: لما ملك محمد الأمين ابتاع الخصيان، وغالى بهم وصيرهم لخلوته، ورفض النساء والجواري، ووجه إلى البلدان في طلب الملهين وأجرى لهم الأرزاق، واقتنى الوحوش والسباع والطيور، واحتجب عن أهل بيته وعن أمرائه واستخف بهم، ومحق بيوت الأموال، وضيع الجواهر والنفائس، وبني عدة قصور في عدة أماكن، وعمل خمس حرَاقات على صفة أسد وفيل وعقاب وحية وفرس، وأنفق في عملها أموالا، فقال أبو نواس: من الخفيف:
سَخرَ اللهُ للأمينِ مطايا ... لم تُسَخَرْ لصاحبِ المحرابِ
فإذا ما ركابُهُ سارَ براً ... سارَ في الماء راكباً ليثَ غابِ
أسداً باسطاً ذرَاعيهِ يَهْوي ... أهرت الشدْقِ كَالحَ الأنيابِ
وهكذا حتى وصفها جميعاً.
ومن شجاعته وقوة بطشه ما نقله المسعودي فقال: حكى أنه اصطبح يوماً فأتى بسبع هائل على جمل في قفص فوضع بباب القصر، فقال: افتحوا القفص وخلوه، فقيل، يا أمير المؤمنين، إنه سبع هائل أسود كالثور كثير الشعر، فقال: خلوا عنه. ففعلوا. فخرج فزأر وضرب بذنبه الأرض، فتهارب الناس وأغلقت الأبواب، وبقى الأمين وحده غير مكترث، فأتاه الأسد وقصده، فرفع يده فجذبه الأمين وقبض على ذنبه وغمزه وهزه ورماه إلى خلف، فوقع السبع على صخرة فخر ميتاً، وجلس الأمين وكأنه لم يعمل شيئاً، وإذا أصابعه قد تخلعت، فشقوا بطن الأسد، فإذا مرارته قد انشقت على كبده.
قال الذهبي: كتب الأمين إلى طاهر بن الحسين رقعة فيها يا طاهر ما قام لنا منذ قمنا قائم بحقنا فكان جزاؤه عندنا إلا السيف، فانظر لنفسك أو دع قال: فلم يزل طاهر يتبين موقع الرقعة منه. قلت: وكان طاهر قد انتدب لحربه من جهة أخيه المأمون، فكتب له هذه الرقعة وهي غاية في التحذير.
ولم يل الخلافة هاشمي ابن هاشمية إلا علي بن أبي طالب ومحمد الأمين هذا؛ فإن أم الأول فاطمة بنت أسد هاشمية، وكذا أم الثاني، زبيدة بنت جعفر بن منصور.
قال الصولي: حدثنا أبو العيناء عن محمد بن عمرو الرومي، قال: خرج كوثر خادم الأمين ليرى الحرب، فأصابته رجمة في وجهه، فجلس يبكي، وجعل الأمين يمسح الدم عن وجهه ثم قال: من مجزوء الرمل:
ضَرَبُوا قرةَ عيني ... ومِن أجلِى ضَرَبُوهُ
أخَذ اللهُ لقلبي ... مِن أناس أحرقُوهُ
قال: ثم أحضر عبد اللّه بن أيوب التميمي الشاعر فقال له: قل عليهما، فقال: من مجزوء الرمل:
ما لمَنْ أهَوى شبِيه ... فبِهِ الدُنْيَا تَتِيهُ
وَصْلُهُ حلو ولكن ... هجْرُهُ مُر كريهُ
مَنْ رأى الناسُ له فض ... لا عليهم حَسَدُوهُ
مثل ما قَد حَسَدَ ال ... قائمَ بالمُلْكِ أَخُوهُ
فقال الأمين: واللّه بحياتي أحسنت يا عباسي، أنظر، فإن جاء على ظهر فأوقره له، وإن جاء في زورق فأوقره له، فأوقر له ثلاثة بغال دراهم هي التي جاء عليها.
ومما قيل في هجو الأمين أقامه مقام الرثاء فقال: من الرمل:
لِمَ نَبْكِيكَ لماذا للطرَب ... يا أبا موسَى وتزويج اللعبْ
ولتَركِ الخمسِ في أوقاتِهَا ... حرصاً منكَ على ماءِ العِنَبْ
وشنيف أنا لا أَبْكِي له ... وعلى كوثَرَ لا أخشَى العَطَبْ
لم تَكُنْ تصلحُ للمُلكِ ولَم ... تعطك الطاعَةَ بالملْكِ العربْ
لِمَ نبكيكَ لما عَرضتَنَا ... للمجانيقِ وطَوْراً للسلَبْ(2/209)
وذكر عن الكسائي أنه قال: لما ولاني الرشيد تأديب ابنيه الأمين والمأمون كنت أشدد عليهما في الأدب وآخذهما أخذاً شديداً خصوصَاً الأمين، فأتتني ذات يوم خالصة أمة زبيدة فقالت: إن السيدة تقرئك السلام وتقول لك: حاجتي أن ترفق بابني محمد، فقلت قولي لها: إن محمداً مرشح للخلافة بعد أبيه، ولا يجوز التقصير في حقه. قالت خالصة: إن لرقة السيدة سببَاً أنا أخبرك به، إنها في الليلة التي ولدته فيها أريت في منامها كأن أربع نسوة أقبلن عليه فاكتنفنه من جهاته الأربع، فقالت التي بين يديه: ملك قليل العمر، ضيق الصدر، عظيم الكبر، واهي الأمر، شديد الغدر. وقالت التي من خلفه: قصاف، مبذر متلاف، قليل الإنصاف، كثير الإسراف. وقالت التي عن يمينه: ملك عظيم الحطم، قليل اللحم، كثير الإثم، قطوع الرحم. وقالت التي عن شماله: ملك غدار، كثير العثار، سريع الدمار. ثم بكت خالصة وقالت: يا كسائي، هل ينفع الحذر مع القدر؟ قلت: لا واللّه.
وذكر الأصمعي أنه دخل على الرشيد - قال: وكنت قد غبت عنه بالبصرة حولا - فسلمت عليه بالخلافة، فأشار إلي بالجلوس فجلست حتى خف الناس، ثم قال: يا أصمعي، ألا تحب أن ترى محمداً وعبد اللّه ابني؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين، إني لأحب ذلك، وقد أردت القصد إليهما لأسلم عليهما. ثم قال الرشيد: علي بمحمد وعبد اللّه، فانطلق الرسول، فأقبلا كأنهما قمراً أفق، قد قاربا خطاهما ورميا ببصرهما الأرض حتى وقفا على أبيهما فسلما عليه بالخلافة، فأومأ لهما فجلس محمد عن يمينه وعبد اللّه عن شماله، ثم أمرني بمطارحتهما الأدب، فكنت لا ألقى عليهما شيئاً من فنون الأدب إلا أجابا فيه وأصابا. فقال: كيف ترى أدبهما؟ قلت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت مثلهما في ذكائهما وجودة فهمهما وذهنهما، فأطال الله بقاءهما ورزق الأمة رأفتهما. فضمهما إلى صدره، وسبقته عبرته فبكى حتى تحدرت دموعه على لحيته، ثم أذن لهما في القيام، فنهضا حتى إذا خرجا قال: يا أصمعي، كيف بهما إذا ظهر تعاديهما وبدا تباغضهما، ووقع بأسهما بينهما، حتى تسفك الدماء، ويود كثير من الأحياء أن لو كان في الأموات؟ قلت: يا أمير المؤمنين، هذا شيء قضى به المنجمون عن مولدهما، أو شيء أثرته العلماء في أمرهما؟! قال: بل شيء أثرته العلماء عن الأوصياء. قال الصولي: وكان الرشيد يسمع ما يجري بينهما جميعه من موسى بن جعفر الصادق، ولذلك قال ما قال.
قال في قلادة النحر: إن المأمون مر يوماً على زبيدة أم الأمين فرآها تحرك شفتيها بشيء لا يعرفه، فقال لها: يا أماه أتدعين علي أن قتلت ابنك وسلبته، فما كان الباغي إلا ابنك، وإن لكل باغِ مصرعاً. قالت: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: فما الذي قلت؟ قالت: يعفيني أمير المؤمنين. فألح عليها قال: ولا بد أن تقوليه. قال: قلت: قبح الله اللجاج والملاحَة. قال وكيف ذلك؟ قالت: إني لألعب يوماً مع أمير المؤمنين الرشيد الشطرنج على الحكم والرضا فغلبني، فأمرني أن أتجرد من أثوابي وأطوف القصر عريانة، فاستعفيته فلم يعفني، فتجردت من ثيابي وطفت القصر عارية. ثم عاودنا اللعب فغلبته، فأمرته أن يذهب إلى المطبخ فيطأ أقبح جارية أشوهها خلقة، فاستعفاني فلم أعفه، فبذل لي خراج مصر والعراق، فأبيت وقلت: والله لتفعلن ذلك فأبى، فألححت عليه وأخذت به، وجئت به إلى المطبخ، فلم أر جارية أقبح ولا أقذر ولا أنتن ريحاً ولا أشوه خلقة من أمك مراجل، فأمرته أن يطأها فوطئها، فعلقت منه بك، فكنت سبباً لقتل ولدي وسلبه ملكه، فولي المأمون وهو يقول: لعن الله الملاحة.
أقول: نعم لعن الله الملاحة؛ إذ إلحاحه على زبيدة كان سبب سماع هذا الكلام المؤلم.(2/210)
قال الثعالبي في المعارف: كانوا يقولون: لو نشرت زبيدة ضفائرها ما تعلقت إلا بخليفة أو ولي عهد، فإن المنصور جدها، والسفاح أخو جدها، والمهدي عمها، والرشيد زوجها، والأمين ابنها، والمأمون والمعتصم ابنا زوجها. وأما ولاة العهد فكثير. ونظيرتها في ذلك من بني أمية عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: أبوها يزيد بن معاوية، ومعاوية بن أبي سفيان جدها، ومعاوية بن يزيد أخوها، ومروان بن الحكم حموها، وعبد الملك بن مروان زوجها، ويزيد بن عبد الملك ابنها، والوليد بن يزيد ابن ابنها، والوليد وهشام وسليمان بنو زوجها عبد الملك، ويزيد وإبراهيم ابنا الوليد ابنا ابن زوجها.
كانت مدة خلافته أربع سنين وسبعة أشهر وثمانية عشر يوماً، وقيل ثمانية أشهر. وقتل لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وعمره سبع وعشرون سنة، وقيل: وأربعة أشهر وعشرة أيام، وقيل: ست وعشرون سنة وخمسة أشهر، وقيل: ثلاث وثلاثون سنة وستة أشهر، رحمه اللّه تعالى وعفا عنه وعن المسلمين، آمين.
خلافة المأمون
عبد اللّه بن هارون الرشيد بن المهدي محمد بن المنصور بن عبد الله أبو العباس، الهاشمي، ولد سنة سبعين ومائة عندما استخلف أبوه الرشيد، وقرأ العلم في صغره، وسمع ابن هشيم، وعباد بن العوام، ويوسف بن عطية، وأبا معاوية الضرير، وطبقتهم. وبرع في الفقة والعربية وأيام الناس. ولما كبر عُني بالفلسفة وعلوم الأوائل، ومهر فيها؛ فجره ذلك إلى القول بخلق القرآن.
وكان من أتم رجال بني العباس حزماً وعزماً، وحلماً وعلماً، ورأيَاً ودهاءَ، وهيبة وشجاعة، وسؤدداً وسماحَة. وله محاسن وسيرة طويلة. وبرع في معرفة التاريخ وفنون الأدب، وكان يضرب المثل بحلمه.
وامتحن العلماء في زمانه، وكان يجبرهم على القول بخلق القرآن.
قال في المسامرة: بايع المأمون على الرضا في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، وجعله ولي عهده من بعده، ولبس الخضرة ونوه بذكره، فغضب بنو العباس بالعراق لهذين الأمرين وخلعوه، وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي ولقبوه المبارك، فحاربه الحسن بن سهل، فهزمه إبراهيم وألحقه بواسط، وأقام إبراهيم بالمدائن. ثم سير المأمون إليه جيشاً آخر فهزموه، فاختفى وانقطع خبره إلى أن ظهر في وسط خلافة المأمون فعفا عنه، وله سيره مبسوطة مذكورة، ومات على الرضا - رضي اللّه تعالى عنه - سنة ثلاث ومائتين، فرجع المأمون سنة أربع ومائتين إلى لبس السواد كعادته وعادة آبائه.
قال الحافظ الذهبي: قال ابن أبي الدنيا: وكان المأمون أبيض، ربعة حسن الوجه، تعلوه صفرة، قد وَخَطَهُ الشيب أعين، طويل اللحية، دقيقها، ضيق الجبين، على خده خال، وقال الجاحظ: أبيض فيه صفرة، وكان ساقاه دون جسمه صفراوين؛ كأنما طليا بالزعفران، أمه أم ولد اسمها مراجل، ماتت أيام نفاسها به، وكان فصيحاً مفوهاً، وكان يقول: معاوية بعمرو، وعبد الملك بحجاجه، وأنا بنفسي. وقد رويت هذه الكلمة عن المنصور. وكان نقش خاتم المأمون عبد اللّه بن عبيد الله. وروى أنه ختم في بعض الرمضانات ثلاثاً وثلاثين ختمة.
وقال الحسين بن فهم الحافظ: حدثنا يحيى بن أكثم قال: قال لي المأمون: أريد أن أحدث، قال: ومن أولى بهذا من أمير المؤمنين؟ فقال: ضعوا لي منبراً. ثم صعد، فأول حديث حدثنا عن هشيم عن أبي هشيم عن أبي الجهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة - فرفع الحديث - قال: امرؤ القيس صاحب لواء الشعر إلى النار، ثم حدث بنحو ثلاثين حديثَاً ثم نزل - فقال لي: كيف رأيت يا يحيى مجلسنا؟ قلت: أجل مجلس يفقه الخاصة والعامة. فقال: ما رأيت لكم حلاوة، إنما المجلس لأْصحاب الخلقان والمحابر.(2/211)
وقال السراج: حدثنا سهل بن عساكر قال: تقدم رجل غريب بيده محبرة إلى المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، صاحب حديث منقطع به. فقال: ما تحفظ في باب كذا؟ فلم يذكر الرجل فيه شيئاً، قال: فما زال المأمون يقول: حدثنا هشيم، وحدثنا يحيى، وحدثنا حجاج، فذكر الباب، ثم سأله عن باب آخر فلم يذكر فيه شيئاً، فقال المأمون: حدثنا فلان، وحدثنا فلان، إلى أن قال لأصحابه: يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام، ثم يقول أنا من أصحاب الحديث! أعطوه ثلاث دراهم. ومع هذا فكان المأمون مسرفاً في الكرم جواداً ممدحاً، جاء عنه أنه فرق في ساعة واحدة ستة وعشرين ألف ألف درهم. وجاء أنه مدحه أعرابي مرة فأجازه بثلاثين ألف دينار. وأما ذكاؤه وعلمه فروى محمد بن عون عن أبي عيينة أن المأمون جلس فجاءته امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين مات أخي وخلف ستمائة دينار، فأعطوني ديناراً واحداً، وقالوا: هذا نصيبك. فحسب المأمون وقال أيضاً: هذا نصيبك، هذا أخوك خلف أربع بنات، قالت: نعم، قال: لهن أربعمائة دينار، وخلف والدة لها مائة دينار، وخلف زوجة فلها خمسة وسبعون ديناراً، باللّه ألك اثنا عشر أخاً؟ قالت: نعم. قال: لكل واحد ديناران ولك دينار واحد.
وقال ابن الأعرابي: قال لي المأمون: أخبرني عن قول هند بنت عتبة: من الرجز:
نحنُ بناتُ طارق ... نمضِ على النمارِقْ
من طارق هذا؟ قال: فنظرت في نسبها فلم أجده، فقلت: ما أعرف؟ فقال المأمون: إنما أرادت النجم، انتسبت إليه بحسنها. ثم رمى إلي بعنبرة في يده فبعتها بخمسة آلاف درهم.
وقال أبو معشر المنجم: كان المأمون أماراً بالعدل، محمود السيرة، ميمون النقيبة، فقيه النفس، يعد من كبار العلماء. وعن الرشيد والده قال: إني لأعرف في عبد الله حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة الهادي، ولو أشاء لأنسبه إلى الرابع - يعني نفسه - لنسبته، وقد قدمت محمداً عليه وإني لأعلم أنه ينقاد إلى هواه، مبذر لما حوته يده، يشاركه في رأيه الإماء والنساء، ولولا أم جعفر - يعني زبيدة - وميل بني هاشم إليه لقدمت عبد اللّه عليه.
وعن المأمون قال: لو عرف الناس حبي للعفو، لتقربوا إلي بالجرائم، وأخاف ألا أوجر فيه. يعني لكونه طبعَاً له. وعن يحيى بن أكثم قال: كان المأمون يحلم حتى يغيظنا. وذكر أن ملاحاً مر به المأمون، فقال الملاح: أتظنون أن هذا نَبل في عيني وقد قتل أخاه الأمين؟ لا والله. فسمعها المأمون فتبسم وقال: ما الحيلة حتى أنبل في عيني هذا السيد الجليل؟! وعنه قال: كان المأمون يجلس للمناظرة في الفقه يوم الثلاثاء، فجاء رجل عليه ثياب قد شمرها، ونعله في يده، فوقف على طرف البساط وقال: السلام عليكم، فرد المأمون السلام، فقال: أتأذن لي في الدنو؟ قال: ادن وتكلم. فقال: أخبرني عن المجلس الذي أنت فيه، جلسته باجتماع الأمة أم بالمغالبة والقهر؟ قال المأمون: لا بهذا ولا بهذا، بل كان يتولى أمور الناس من عقد لي ولأخي، فلما صار الأمر إلي علمت أني محتاج إلى اجتماع كلمة المسلمين في الشرق والغرب على الرضا بي فرأيت أني متى تخليت عن الأمر اضطرب حبل الإسلام وتنازعوا ومرج عهدهم وبطل الجهاد والحج وانقطعت السبل، فقمت حياطة للمسلمين إلى أن يجمعوا على رجل يرضون به فأسلم إليه الأمر، فمتى اتفقوا على رجل خرجت له من الأمر. فقال: السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، وذهب. فوجه المأمون من يكشف خبره فرجع فقال: يا أمير المؤمنين مضى إلى مسجد فيه خمسة عشر رجلاَ في مثل هيئته، فقالوا له: أتيت الرجل؟ قال: نعم، وأخبرهم بما جرى، فقالوا: ما نرى بما قال بأسَاً، وافترقوا. فقال المأمون: كفينا مؤنة هؤلاء بأيسر الخطب.
وأتى برجل من الخوارج فقال له: ما حملك على الخروج والخلاف؟ قال " وَمَن لم يحكمُ بِمَا أَنزَلَ اَللهّ فَأُولَئكَ هُمُ الكافرون " " المائدة: 44 " ، فقال له المأمون: ألك علم بأنها منزَّلة؟ قال: نعم. قال: ما دليلك؟ قال: إجماع الأمة. قال: فكما رضيت بإجماعهم في التنزيل، فارض بإجماعهم في التأويل. قال: صدقت، السلام عليك يا أمير المؤمنين.(2/212)
وعن إسحاق الموصلي قال: كان المأمون قد سخط على الحسين بن الضحاك الملقب بالخليع الشاعر لكونه هجاه عندما قتل الأمين، قال إسحاق: فبينما أنا ذات يوم عند المأمون إذ دخل الحاجب برقعة فاستأذن في إنشادها فأذن له فقال: من الطويل:
أَجِرنِي فإني قد ظَمِئْتُ إلى الوردِ ... متَى تنجزِ الوعدَ المؤكَد بالعَهْدِ
أعيذُكَ من خُلفِ الملوكِ فقد ترَى ... تقطُّعَ أنفاسي عَليْكَ من الوَجْدِ
أيبخَلُ فردُ الحُسنِ عني بنائِل ... قَلِيلِ وقَد أفردتُهُ بهوى فَزدِ؟
إلى أن قال:
رأى اللهُ عَبدَ اللهِ خَيرَ عبادِهِ ... فملكه، واللهُ أعلمُ بالعَبْدِ
أَلاَ إنما المأمونُ للناسِ عصمةٌ ... مُمَيزَةٌ بين الضلاَلةِ والرشدِ
فقال له: أحسنت. قال: يا أمير المؤمنين أحسن قائلها. قال: ومن هو؟ قال: عبدك الحسين بن الضحاك. فقال: لا حياه اللّه ولا بياه، أليس هو القائل: من الطويل:
فلا تَمتِ الأشياءُ بعد محمدٍ ... ولا زالَ شملُ الملكِ فيها مبددَا
ولا فَرِحَ المأمونُ بالملكِ بعده ... ولا زالَ في الدنيا طريدَاً مشرَدَا
هذه بتلك فلا شيء له عندنا. قال الحاجب: فأين عادة عفو أمير المؤمنين؟ قال: أما هذه فنعم، ائذنوا له. فدخل، فقال: هل عرفت يوم قتلِ أخي هاشمية هتكت؟ قال: لا. قال: فما معنى قولك: من الطويل:
ومما شَجَى قَلبي وكَفكَفَ عَبرَتِي ... محارمُ مِن آلِ الرسولِ استُحِلَتِ
ومهتوكة بالجلدِ عنها سجوفها ... كعاب كقرنِ الشمسِ حين تبدتِ
فلا باتَ ليلُ الشامتِينَ بغبطة ... ولا بلَغَت آمالها ما تمنتِ
فقال: يا أمير المؤمنين لوعة غلبتني، وروعة فاجأتني، ونعمة سلبتها بعد أن غمرتني. فإن عاقبت فبحقك، وإن عفوت فبفضلك. فدمعت عينا المأمون وأمر له بجائزة.
حكى الصولي أنه كان يحب اللعب بالشطرنج، واقترح فيه شيئاً، وكان ينهى أن يقول الشخص: تعال نلعب، ويقول: بل نتناقل، ولم يكن به حاذقَاً. وكان يقول: أنا أدبر الدنيا وأتسع لها، وأضيق عن تدبير شبرين. وله فيه: من البسيط:
أرض مُرَبعَة حمراءُ مِن أَدم ... مَا بين إِلفَين معروفَيْنِ بالكَرَمِ
تذاكرا الحَربَ فَاحتَالاَ لها حِيَلا ... مِن غيرِ أَن يأَثَما فيها بِسَفْكِ دَمِ
هذا يُغِيرُ على هذا، وَذَاكَ عَلى ... هذا يغِيرُ، وَعَين الحَزْمِ لَم تَنَمِ
فَانظُر إلى فِطَنٍ جَالَتْ بِمَعرِفَةٍ ... في عَسْكَرَينِ بلا طَبل ولا عَلَمِ
ونظر المأمون إلى عمه إبراهيم بن المهدي - وكان يلقب بالتنين لسمنه - فقال له: ما أظنك عشقت قط. ثم أنشد: من السريع:
وَجهُ الذِي يَعشَقُ مَعروفُ ... لأنهُ أَصفَرُ مَنحُوفُ
لَيسَ كَمَن يَأتِيكَ ذَا جُثةٍ ... كَأَنهُ لِلذبحِ معلُوفُ
وعن المأمون قال: ما أعياني قط جواب إلا جواب ثلاثة: صرت إلى أم ذي الرياستين الفضل بن سهل أعزيها فيه فقلت: لا تأسى عليه، فإني عوضه لك. قالت: يا أمير المؤمنين، كيف لا أحزن على ولد أكسبني مثلك؟!. وأتيت بمتنبئ فقلت له: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قلت: ويحك موسى له آيات، فائتني بها حتى أومن بك. قال: إنما أتيت بهذه المعجزات لفرعون إذ قال: " أنا ربكم الأعلى " فإن قلت ذلك أتيتك بالآيات. قال: وأتى أهل الكوفة يشكون عاملهم، فقال خطيبهم: هو شر عامل؛ أما في أول سنة فإنا بعنا الأثاث، وفي الثانية بعنا العقار، وفي الثالثة نزحنا عن بلادنا، وأتيناك نستغيث. فقلت: كذبت، بل هو رجل قد حمدت مذهبه، ورضيت دينه فاخترته معرفة بكم، وقد تقدم سخطكم على العمال غير مرة. قال: صدقت يا أمير المؤمنين، وكذبت أنا، فقد خصصتنا به هذه المدة دون باقي البلاد، فاستعمله على بلد آخر يشملهم من عدله وإحسانه مثل الذي شملنا. فقلت: قم في غير حفظ اللّه، قد عزلته عنكم.(2/213)
وكان قدوم المأمون من خراسان إلى بغداد في صفر سنة أربع ومائتين، دخلها في رابع صفر في أبهة عظيمة وتجمل زائد، فكلمه العباسيون وغيرهم في العود إلى لباس السواد وترك الخضرة، فتوقف، ثم أجاب إلى ذلك لما قال له يعض أهل بيته: إنك على أثر أولاد علي بن أبي طالب، والأمر فيك أقدر منك على برهم والأمر فيهم. قال: إنما فعلت ما فعلت لأن أبا بكر لما ولي لم يول أحداً من بني هاشم شيئاً ثم عمر ثم عثمان كذلك، ثم لما ولي علي ولي عبد اللّه بن عباس البصرة، وعبيد اللّه اليمن، ومعبداً مكة، وقثم البحرين، وما ترك أحداً منهم إلا ولاه شيئاً، وكانت هذه في أعناقنا حتى كافأته في ولده بما فعلت.
وفي سنة عشر بعد المائتين تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، وقام بخلع للقواد وكلفتهم مدة سبعة عشر يومَاً، وكتب رقاعاً فيها أسماء بضياع له، ونثرها على القواد والعباسيين، فمن وقعت في يده رقعة باسم ضيعة تسلمها، ونثر صينية ملأى جواهر بين يدي المأمون عندما زفت إليه.
وفي سنة إحدى عشرة ومائتين أمر المأمون بأن ينادي: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، وأن أفضل الخلق بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب.
وفي سنة اثنتي عشرة أظهر القول بخلق القرآن، ثم في سنة ثمان عشرة امتحن العلماء بالقول بخلق القرآن، فكتب إلى نائبه بالعراق إسحاق بن الخزاعي ابن عم طاهر بن الحسين بذلك ليلزم العلماء ويحاجهم في ذلك.
قال الحافظ الذهبي: قال إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي في تاريخه: حكى أبو سليمان بن داود بن علي، عن يحيى بن أكثم قال: كنت عند المأمون وعنده جماعة من قواد خراسان وقد دعا إلى خلق القرآن حينئذِ، فقال لأولئك القواد: ما تقولون في القرآن؟ قالوا: كان شيوخنا يقولون: ما كان فيه من ذكر الحمير والجمال والبقر فهو مخلوق، وما كان فيه من سوى ذلك فهو غير مخلوق. فأما إذا قال أمير المؤمنين غير ذلك فنحن نقول: كله مخلوق. فقلت للمأمون: أتفرح بموافقة هؤلاء.
ومن كلام المأمون: الناس ثلاثة: فمنهم مثل الغذاء لا بد منه على كل حال، ومنهم كالدواء يحتاج إليه في حال المرض، ومنهم كالداء مكروه على كل حال. وكان يقول: لا نزهة ألذ من النظر في عقول الرجال. وكان يقول: غلبة الحجة أحب إلى من غلبة القدرة؛ لأن غلبة الحجة لا تزول، وغلبة القدرة تزول بزوالها، وكان يقول: الملك يغتفر كل شيء إلا ثلاثاً: القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم.
وكان المأمون معروفاً بالتشيع؛ روى عنه أبو داود المصاحفي قال: سمعت النضر ابن شميل يقول: دخلت على المأمون فقال لي: إني قلت اليوم شعراً فاسمعه، فقلت: هاته. قال: من المنسرح:
أَصبَحَ دِينِي الذِي أَدِينُ بِهِ ... وَلستُ مِنهُ الغدَاةَ مُعْتذِرَا
حب عَلِي بَعدَ النبي وَلاَ ... أَشْتُمُ صِديقَهُ وَلاَ عُمَرَا
واِبنُ عفانَ في الجِنَانِ مَعَ ال ... أَبرَارِ ذَاكَ القَتِيلُ مُصْطَبرَا
وعائِشُ الأُمُّ لَستُ أشتُمُهَا ... مَنْ يَفْتَرِيهَا فَنَحْنُ منه بَرَاَ
ومن شعره: من المتقارب:
لِسَانِي كَتُوم لأَسْرَارِكُم ... وَدَمْعِي نمُوم لِسري مُذِيعُ
فَلَولاَ دُمُوعِي كتمتُ الهَوَى ... وَلَوْلاَ الهَوَى لَم تكُنْ لِي دُمُوعُ
وفي ابن خلكان: دخل النضر بن شميل على المأمون ليلة فتفاوضا الحديث، فروى المأمون عن هشيم بسنده إلى ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز " بفتح السين. فقال النضر: يا أميرِ المؤمنين صدق هشيم، حدثنا فلان ابن فلان... إلى علي بن أبي طالب، فذكر الحديث، فقال فيه: " سداد من عوز " وكسر السين، وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً وقال: كيف قَلت، سِداد بكسر السين؟ قلت: لأن السداد بالفتح هاهنا لحن، فقال: أتلحنني؟ قلت: إنما لحن هشيم فتبعه أمير المؤمنين، فقال: ما الفرق بينهم. قلت: السداد، بالفتح: القصد في الدين والسبيل، وبالكسر: البلغة، وكان ما سددت به شيئاً فهو سداد. فقال المأمون: أو تعرف العرب ذلك. قلت: نعم، هذا العرجي يقول: من الوافر:
أَضَاعُونِي وَأي فَتَى أَضَاعُوا ... لِيَومِ كَرِيهَةِ وَسِدَادِ ثَغْرِ(2/214)
فاستوى جالساً وقال: قبح الله من لا أدب له. ثم أقبل علي فقال: أخبرني بأخلب بيت قالته العرب: قلت: قول ابن بيض في الحكم بن مروان: من المنسرح:
تَقُولُ لِي وَالعُيُونُ هَاجِعَةْ ... أَقِمْ عَلَيْنَا يَوْمَاً فَلَمْ أُقِمِ
مَتَى يَقُلْ صَاحِبُ السرَادِقِ هَا ... ذَا اِبْنُ بيض بالبَابِ يَبْتَسِمِ
قَدْ كنت أسلمتُ فِيكَ مُقْتَبلا ... فَهَاتِ أدخُلْ وأَعْطِني سَلَمِي
فقال: لقد أحسن وأجاد، فأخبرني بأنصف بيت قالته العرب، قلت: قول عروبة: من الكامل:
إِني وإن كان ابن عَمي وَاغِرا ... لمُدَاهِن من خلفهِ وَوَرَائِهِ
ومعده نَصْرِي وإن كان امرأَ ... مُتَبَاعداً من أَرْضِهِ وَسَمائِهِ
فأكون وَالي سِرهِ وأَصُونُه ... حَتى يحينَ علي وَقْتُ أَدَائِهِ
وإِذَا الحَوَادِثُ أَحْجَنَتْ بِسَوَامِهِ ... قَربتُ جلتَهَا إِلَى حِرْبائِهِ
وَإِذَا دَعَا باسمي لِيَركبَ مَرْكبَاً ... صعباً ركِبتُ لَهُ على سيسَائِهِ
وإِذَا رَأَيتُ عليه بُرْداً ناضراً ... لَم يلقَنِي مُتَمنياً لِردَائِهِ
قال: لقد أحسن وأجاد، فأخبرني عن أغرب بيت قالته العرب، قلت: قول راعي الإبل: من المنسرح:
أَطلُبُ مَا يَطلُبُ الكريم مِن الر ... رزقِ لِنَفْسِي وَأُجمِلُ الطَّلَبَا
وَأَطلُبُ الدرةَ الصفاءَ وَلاَ ... أَطلُبُ في غَير خلفها جَلَبَا
إني رأيتُ الفَتَى الكَريمَ إِذَا ... رَغَّبتهُ في صَنِيعةٍ رَغِبَا
والنذلَ لا يطلب العَلاَء وَلاَ ... يعطيكَ شيئاً إلا إذا رَهِبَا
مثلُ الحِمارِ المُوَاقِعِ السوءِ لاَ ... يُحسِنُ مَشْياً إِلا إِذا ضُرِبَا
فقال: واللّه لقد أحسن وأجاد، ودعا بالدواة فما أدري ما يكتب. ثم قال: يا نضر كيف تقول فعل الأمر من الإتراب؟ فقلت: أقول أترب القرطاس والقرطاس متروب، قال: فكيف تقول من الطين. قلت: أقول طن الكتاب والكتاب مطين، قال: هذه أحسن من الأولى ثم دفَع ما كتب إلى خادم وجهه معي إلى الحسن بن سهل. فلما قرأ الفضل الرقعة قال: يا نضر، قد أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب؟ فأخبرته، فأمر لي بثلاثين ألف درهم أخرى، فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف واحدٍ استفيد مني.
وقد نادى المأمون بإباحة المتعة فلم يجسر أحد ينكر عليه، فروى له يحيى بن أكثم حديث الزهري، عن ابني الحنفية، عن أبيهما محمد بن علي - رضي اللّه تعالى عنهما - أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن متعة النساء يوم خيبر، فلما صح له الحديث رجع إلى الحق ونادى بإبطالها.
وأما مسألة خلق القرآن فصمم عليها ولم يرجع عنها في سنة ثمان عشرة، وامتحن العلماء بها فعوجل ولم يمهل، توجه في هذه السنة غازياً إلى أرض الروم، فلما وصل إلى البذندون مرض واشتد به المرض، فأوصى بالخلافة إلى أخيه المعتصم بن الرشيد، وأما المؤتمن المعقود له العهد بعده فقد كان خلعه قبل حين، وجعل الرضي مكانه فيما تقدم سنة إحدى ومائتين، فلما ورد نزل على عين البذندون فأقام هناك واعتل.
قال المسعودي: أعجبه برد ماء العين وصفاؤها وطيب الموضع وكثرة الخضرة، وقد طرح له درهم في العين فقرأه فيها لفرط صفائها، ولم يقدر أحد أن يسبح فيها لشدة بردها، فرأى سمكة نحو الذراع كأنها الفضة فجعل لمن يخرجها سيفَاً، فنزل فراش فاصطادها وطلع، فاضطربت وفرت إلى الماء، فنضح صدر المأمون ونحره وابتل ثوبه، ثم نزل الفراش ثانية فأخذها فقال المأمون: يقلي الساعة، ثم أخذته رعدة وتغطى باللحف وهو يرتعد ويصيح، فأوقدت حوله نار، ثم أتى بالسمكة فما ذاقها لشغله بحاله، ثم أفاق من غمرته فسأل عن تفسير اسم المكان بالعربي فقيل له: مد رجليك، فتطير به، وسأل عن تفسير البقعة قيل: الرقة، وكان فيما علم من مولده أنه يموت بالرقة فكان يتجنب نزول الرقة، فلما سمع هذا من الروم عرف وأيس وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه، وأجلس المعتصم عنده من يلقنه الشهادة، فرفع الرجل بها صوته، فقال له ابن مامسويه: لا تصح، فواللّه ما يفرق الآن بين ربه وبين ماني.(2/215)
ففتح المأمون عينيه وبهما من عظم الورم والحمرة أمر شديد، وأقبل يحاول بيديه البطش بابن ماسويه، ورام مخاطبته فعجز، فرمز بطرفه نحو السماء وقد امتلأت عيناه دموعاً وقال في الحال: يا من لا يموت، ارحم من يموت، ثم قضى في يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين، فنقله ابنه العباس وأخوه المعتصم إلى طرسوس، فدفن هناك.
ولما ورد خبر وفاته بغداد قال أبو سعيد المخزومي: من الخفيف:
هَل رَأيتَ النجُومَ أَغْنَت عَنِ المأ ... مُونِ يَوماً أَو ملكه المأسوس
خَلفُوهُ بِعَرْصَتي طَرَسُوس ... مِثلَ مَا خَلفُوا أَبَاهُ بِطُوسِ
حدث محمد بن أيوب أمير البصرة للمأمون قال: كان بالبصرة رجل من بني تميم، شاعر أديب، كنت آنس به، فأردت نفعه فقلت: خليفتنا المأمون أجود من السحاب الحافل والريح العاصف، وإني موفدك عليه، فدعا لي، فأعطيته نجيبَاً ونفقة، ثم عمل أرجوزة لطيفة ذكرني فيها فاستحسنتها، وخرج إلى الشام والمأمون بسلغوس ثم أخبرني بعد ذلك فقال: بينما أنا في غداة قرة على نجيبي وأنا أريد العسكر، إذا أنا بكهل على بغل فاره ما يقر قراره ولا تحرك خطاه، فتلقاني مواجهة فقال: السلام عليك، بكلام جهوري وقال: قف إن شئت. فوقفت، فتضوعت منه رائحة المسك، فقال: ممن أنت؟ فقلت: رجل من مضر، فقال: ونحن من مضر، قال: ثم ممن؟ قلت: من تميم من بني سعد، فقال: هيه ما أقدمك؟ قلت: قصدت هذا الخليفة الذي ما سمعت بمثله أندى راحة ولا أوسع ساحة ولا أطول باعاً ولا أمد يفاعَاً، وقد قصدته بشعر يلذ على أفواه الرواة، ويحلو في آذان المستمعين. قال: فأنشدنيه، فمضيت وقلت: يا ركيك، أخبرك بشعر قلته في الخليفة ومديح حبرته فيه؟ فقال: وما تأمل منه؟ قلت: إن كان على ما ذكر لي فألف دينار. قال: فأنا أعطيك ألف دينار إن رأيت الشعر جيدَاً، ومتى تصل إليه وبينك وبينه عشرون ألف رامح ونابل، فقلت له: أمعك مال؟ قال: بغلي هذا خير من ألف دينار، أنزل لك عن ظهره، فقلت: ما يساوي هذا البغل هذا النجيب؟ فقال: دع؟ عنك هذا ولك اللّه أن أعطيك ألف دينار، فأنشدته الأرجوزة وقلت: من الرجز:
مَأمُونُ يَا ذَا المِنَنِ الشرِيفَه ... وَصَاحِبَ المَرْتَبَةِ المُنِيفَهْ
وَقَائِدَ الْكَتِيبَةِ الكَثِيفَهْ ... هَل لَكَ في أرْجُوزَةٍ ظَرِيفَهْ
أَظرَفَ مِنْ فِقهِ أبي حَنيفَهْ ... لاَ وَالَّذي أَتتَ لَهُ خَلِيفَهْ
مَا ظَلَمَت في أَرْضِنَا عَفِيفَه ... أَميرنَا مُؤنَتُهُ خَفِيفَهْ
ومَا اجتَنَى شيئاً سِوَى الوَظِيفَه ... فَالذئْبُ وَالنعجَةُ في سَقِيفَه
وَاللصُ وَالتَّاجِرُ في قَطِيفَهْ
قال: فواللّه ما أتممتها حتى غشينا زهاء عشرة آلاف فارس قد سدوا الأفق يقولون: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فأخذني شبه جنون، فنظر إلي وقال: لا بأس عليك، قلت: أمعذري أنت؟ قال: نعم، ثم التفت إلى خادم وقال: أعطه ما معك، فأخرج كيساً فيه ثلاثة آلاف دينار ذهباً وقال: هاك، سلام عليك، ومضى. ورجعت إلى بلدي مسروراً.
في المسامرة لابن عربي: أشرف المأمون من قصره فرأى رجلا قائماً وبيده فحمة، وهو يكتب بها على حائط قصره، فأمر المأمون بعض خدمه أن يذهب إليه فينظر ما كتب ويأتيه به، فبادر الخادم إلى الرجل مسرعاً وقبض عليه وتأمل الكتاب وإذا هو: من البسيط:
يَا قَصر جُمعَ فيكَ الشؤم واللوم ... مَتَى تُعَششُ في أَرجَائِكَ البُومُ
يَومَ تعَششُ فيكَ البُومُ مِن فَرَحي ... أَكونُ أولَ مَن يَرعَاك مَرْغُوم(2/216)
ثم إن الخادم قال للرجل: أجب أمير المؤمنين. فقال له: سألتك باللّه لا تذهب بي إليه، فقال الخادم: لا بد من ذلك. فلما مثل بين يديه أعلمه الخادم بما كتبه، فقال له المأمون: ويلك ما حملك على هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنه لن يخفي عليك ما حواه قصرك من خزائن الأموال، والحلي والحلل، والطعام والشراب، والفرش والأواني، والأمتعة والجواري، والخدم، وغير ذلك مما يقصر عنه وصفي، ويعجز عنه فهمي، وإني يا أمير المؤمنين قّد مررت عليه الآن وأنا في غاية الجوع والفاقة، فوقفت مفكرَاً في أمري، وقلت في نفسي: هذا القصر عامر عال، وأنا جائع، ولا فائدة لي فيه، ولو كان خرابَاً وأنا مررت به لم أعدم منه رخامة أو خشبة أو مسمارَاً أبيعه وأتقوت بثمنه. أَوَ مَا علم أمير المؤمنين ما قال الشاعر؟! فقال المأمون: وما قال الشاعر. فقال: قال من الطويل:
إِذَا لم يَكن للمَرءِ في دولةِ امرِئٍ ... نصيب وَلاَ حَظ تَمَنى زَوَالَهَا
وَمَا ذَاكَ مِن بُغْضي لها، غَيْرَ أَنهُ ... يُرَجى سِوَاها فهوَ يهوى زَوَالَهَا
فقال المأمون: يا غلام، أعطه ألف دينار. ثم قال: هي لك كل سنة ما دام قصرنا عامرَاً بأهله. وفي مثل هذا المعنى قال الشاعر: من الطويل:
إِذَا كنتَ في أَمْر فَكُنْ فيه مُحسِناً ... فَعَما قَليلِ أَنتَ مَاض وَتَارِكُهْ
وَكَم دَحَتِ الأُيامُ أربابَ دَولَةٍ ... وَقَدْ ملَكُوا أضعافَ مَا أُنْتَ مَالِكُهْ
كانت مدة خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوماً، وعمره ثمان وأربعون سنة وأربعة أشهر، ومن شعر المأمون في آل البيت قوله: من الوافر:
وَكَم غَاو يَعَض عَلي غَيظاً ... إذَا أَدنَيتُ أَبنَاءَ الوَصِي
يحاولُ أَن نورَ اللّه يُطفَى ... وَنُورُ اللهِ في حِصنِ أَبي
فقلت أَلَيسَ قَد أُوتيتَ علماً ... وَبَانَ لَكَ الرشيد مِن الغَوِي
وعُرفتَ احتِجَاجي بالمَثَانِي ... وَبِالمَعقُولِ وَالأَثَرِ القَوي
بِأيةِ خلةٍ وبِأي مَعنَى ... تُفَضلُ مُلحِدينَ عَلى عَلِيِّ
علي أَعظَمُ الثقَلينِ حَقاً ... وأفضَلهم سِوَى حَق النبي
رحمه اللّه تعالى.
خلافة المعتصم
أمير المؤمنين، أبو إسحاق، محمد بن هارون الرشيد، ولد سنة ثمانين ومائة وأمه أم ولد اسمها ماردة، بويع بعد المأمون بعهد منه إليه في رابع عشر رجب سنة ثمان عشرة ومائتين، وكان أبيض، أصهب اللحية طويلها، ربع القامة، مشرب اللون، ذا شجاعة وهمة عالية، وقوة مفرطة، قال نفطويه: حدثت أنه أدخل زند رجل بين إصبعيه فكسره، وكان يحمل ألف رطل فيمشي بها خطوات، ويفحص الدينار فيمحو سكَته بواحدة.
وكان أمياً لا يحسن الكتابة. روى الصولي قال: كان للمعتصم غلام في الكتاب يتعلم معه فمات ذلك الغلام، فقال له الرشيد أبوه: مات غلامك؟ قال: نعم يا سيدي، واستراح من الكتاب. فقال الرشيد له: وإن الكتاب ليبلغ منك هذا؟ دعوه ولا تعلموه. وكان يقرأ ويكتب قراءة وكتابة ضعيفة.
قال العلامة البهوتي: ذكر أبو الفضل الرياشي كتب ملك الروم - لعنه اللّه - إلى المعتصم يتهدده، فأمر بجوابه. فلما قرئ عليه الجواب لم يرضه، وقال للكاتب اكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار.(2/217)
قال أبو بكر الخطيب: غزا المعتصم بلاد الروم سنة ثلاث وعشرين ومائتين، فأنكى في العدو نكاية عظيمة، ونصب على عمورية المجانيق وفتحها، وقتل ثلاثين ألفاً وسبى مثلها، وكان في سبيه ستون بطريقاً ثم أحرقها، وهي من أَجَل فتح وقع في الإسلام. وسبب ذلك - على ما ذكره أهل التواريخ - أن رجلا وقف على المعتصم حال شربه وقال: يا أمير المؤمنين كنت بعمورية وجارية من أحسن النساء أسيرة قد لطمها على وجهها علج فقالت: وامعتصماه. فقال لها العلج: عساه أن يأتيك على خيل بلق، فلما سمع المعتصم كلامه أمر بالختم على الكأس وقال: وقرابتي من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا شربته حتى أغزوه فأنتقذها. ثم استجاش وسار إليه على الخيل البلق - كما قال الحافظ الذهبي. ولما تجهز المعتصم لفتح عمورية حكم المنجمون أن ذلك الوقت طالع نحس وأنه يكسر، فكان من ظفره ونصره ما لم يخف. فقال في ذلك أبو تمام الطائي حبيب بن أوس قصيدته البديعة البائية، وهي: من البسيط:
أَلسَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْباء مِنَ الكُتُبِ ... في حَده الحَدُ بَين الجد واللعِبِ
بِيضُ الصَفَائحِ لا سُودُ الصحَائِفِ فِي ... مُتُونِهِنَّ جَلاءُ الشّك والريَبِ
والعْلِمُ في شُهُبِ الأَرْمَاحِ لاَمِعةبَين الخَمِيسَينِ لاَ في السَّبْعَةِ الشُّهُبِ
أَيْنَ الروَايَةُ بَلْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَاصَاغُوهُ مِنْ زُخْرُفٍ فِيهَا وَمِنْ كذِبِ
تخَرُصا وَأَحَادِيثاً مُلَفَّقَة ... لَيْسَتْ بِنَبْعٍ إِذَا عُدَتْ وَلاَ غَرَبِ
عَجَائِباً زَعَمُوا الأَيَّامَ مُجْفِلَة ... عَنْهُنَّ في صَفَر الأَصفَارِ أَوْ رَجَبِ
وَخَوَّفُوا الناسَ مِنْ دَهْيَاءَ مُظْلِمَةٍإِذَا بدا الكَوْكَبُ الغَرْبِيُ ذُو الذنَبِ
وَصَيروا الأَبْرُجَ العلْيَا مُرتبة ... مَا كَانَ مُنْقَلِباً أَوْ غيرَ مُنْقَلِبِ
يَقْضُونَ بِالأَمْرِ عَنْهَا وَهْي غَافِلَةٌ ... مَا دَارَ في فَلَكٍ مِنْهَا وَفي قُطُبِ
لَوْ بَينَتْ قطُّ أمْراً قَبْلَ مَوْقِعِهِلَمْ تُخْفِ مَا حَلَّ بالأَوْثَانِ وَالصلُبِ
فَتْح الفُتُوحِ تَعَالَى أَنْ يُحِيطَ بِهِنَظْمٌ مِنَ الشعْر أَوْ نَثْرٌ مِنَ الخُطَبِ
فَتْحٌ تَفَتَّحُ أبوابُ السماءِ لَهُ ... وَتَبْرُزُ الأَرْضُ في أَثْوابِهَا القُشُبِ
يَا يَوْمَ وَقْعَةِ عَمُّورِيَّةَ انْصَرفَتْ ... مِنْكَ المُنَى حُفلا مَعْسُولَةَ الَحلب
أَبْقَيْتَ جَدَّ بني الإِسَلاَمِ في صَعَدِ ... والمُشْرِكِينَ وَدارَ الحَرْبِ في صَبَبِ
أُم لَهُم لَو رَجَوا أن تفتَدَى جَعَلُوا ... فِدْى لَهَا كل أم بَرةٍ وَأَبِ
وَبرزَةُ الوَجهِ قَد أَعيت رِيَاضَتُها ... كِسرَى وَصَدَّت صُدوداً عن أبي كَرِبِ
بِكر فَمَا افتَرَعَتهَا كَف حَادِثة ... وَلاَ تَرقت إِليها هِمةُ النوب
مِن عَهد إِسكندرٍ أَو قبلَ ذلكَ قَد ... شَابَت نَوَاصِي الليَاليِ وَهي لَمْ تَشِبِ
حَتى إِذَا مَخض الله السنينَ لها ... مَخضَ الحَلِيبَةِ كَانَت زُبْدَةَ الحِقَبِ
أَتتهُمُ الكُربَةُ السَّودَاءُ سَادِرَة ... مِنها وَكَانَ اسمُهَا فَرَاجَةَ الكُرَبِ
جَرَى لَهَا الفَألُ نَحسَاً يَومَ أَنقرَةٍ ... إِذْ غودرَت وَحْشَةَ الساحَاتِ وَالرحَب
لما رَأَت أُختَها بالأَمسِ قَد خَرِبَت ... كَانَ الخَرَابُ لهَا أَعْدَى مِنَ الجَرَب
كمَ بينَ حِيطَانِها مِنْ فارِسٍ بَطَل ... قَانِي الذوائبِ مِن آنِى دَمٍ سَرِبِ
بسُنةِ السيفِ والخَطي من دَمِهِ ... لاَ سُنةِ الدينِ والإِسلاَمِ مُخْتَضبِ
لَقَد تركْتَ أَميرَ المؤمِنِينَ بِهَالِلنارِ يَومَاً ذَلِيلَ الصخْرِ والخَشَبِ
غادرتَ فيهم بَهِيمَ الليل وَهو ضُحى ... بِثُلةٍ وَسطَها صُبْح مِنَ اللَهَب(2/218)
حَتَى كأن جَلابِيبَ الدجَى رَغِبَت ... عَن لَونِهَا، وَكَأَنَّ الشَمسَ لم تَغِبِ
ضوء مِنَ النارِ والظلمَاءُ عَاكِفَة ... وَظُلمَةٌ مِن دُخَانٍ في ضُحى شَحِبِ
فالشمسُ طالعة مِن ذَا وَقَد أَفَلَت ... وَالشمسُ وَاجِبَة في ذَا وَلَمْ تَجِبِ
تكَشفَ الدهر تصريح الغَمام لَهَا ... عَن يَوْمِ هيجاءَ منها طَاهرٍ جلبِ
لم تَطلُعِ الشمْسُ منه يَوْمَ ذاك عَلَى ... بَانِ بأَهلِ وَلَمْ تَغْرُبْ عَلَى عَزَب
مَا رَبعُ مَيةَ مَغمُورَاً يُطيِفُ بِهِ ... غَيْلاَنُ أَبهَى رُبَى مِن رَبعِهَا الخَرِب
وَمَا الخُدُودُ وإن أُدمِينَ من خَجَل ... أَشهَى إلَى نَاظِرِي من خَدها التَرِبِ
سَمَاجَة غَنِيَت منْهَا العُيونُ بِهَا ... عَن كُل حُسنٍ بَدَا أَوْ مَنظَرٍ عَجَبِ
وَحُسنُ منقَلَبٍ تَبدُو عَوَاقِبُهُ ... جَاءَت بَشَاشَتُهُ عَن سُوء مُنْقَلَبِ
تَدبِيرُ مُعْتَصِم بِاللهِ مُنتَقِمٍ ... للِهِ مُرتَقِب في اللهِ مُرْتَغِبِ
ومطعمِ النصلِ لم تَكهَم أَسِنتُهُ ... يَوماً ولا حُجِبَت عن رُوح مُحتجِبِ
لم يَرمِ قومَاً وَلَم يَنهَد إلِى بَلَدٍ ... إِلا تَقَدَّمَهُ جَيشٌ مِنَ الرُّعُبِ
لَو لَم يَقد جَحفَلاَ يَومَ الوَغَى لَغَدَا ... مِن نفسِهِ وحدَهَا في جَحفَلِ لَجِبِ
رَمَى بِكَ اللهُ برجَيهَا فَهَدمَهَا ... وَلَو رَمَى بِكَ غَيرُ اللهِ لَم يُصِبِ
مِن بَعدِ مَا أَشبوهَا واثقِينَ بِهَا ... واللهُ مفتَاح بَاب المَعقِلِ الأشَبِ
وَقَالَ ذُو أَمرِهم لاَ مَرتَع صدد ... لِلسارِحِينَ وَلَيْسَ الوِرْدُ عَنْ كَثَبِ
أَمَانِياً سَلَبَتهُم نُجحَ هَاجِسِهَا ... ظُبَى السيوفِ وَأطرَافُ القَنَا السُّلُبِ
إِن الحمامَينِ مِن بِيضٍ ومِن سُمُرِ ... دلوَا الحَيَاتينِ مِنْ مَاءٍ وَمِن عُشُبِ
لبيتَ صَوتاً زِبَطرِياً هَرَقتَ لَهُ ... كَأسَ الكَرَا ورُضَابَ الخُردِ العُرُبِ
عَدَاكَ حَرُ الثغُورِ المُستُضَامَةِ عَن ... بَردِ الثغُورِ وَعَنْ سَلسَالِهَا الحَصِبِ
أَجبتَهُ مُعلِناً بالسيفِ مُنصَلتاً ... وَلَو أَجَنتَ بِغَيرِ السيْفِ لم تُجِبِ
حَتى تَرَكت عَمُودَ الشرْك مُنعفِراً ... ولَم تُعَرج عَلَى الأَوتَادِ والطنُبِ
لما رَأَى الحَربَ رَأى العَينِ نُوفَلِس ... والحَربُ مُشتَقةُ المعنى مِنَ الحَرَبِ
غَدَا يُصَرفُ بالأموَالِ خِزيَتَهَا ... فَعَزهُ البَحرُ ذُو التَيارِ والعَبَبِ
هَيهَاتَ زُعْزِعَتِ الأرضُ الوَقُورُ بِهِ ... عَن غَزوِ مُحتَسِبٍ لا غَزوِ مُكْتَسِبِ
لَم يُنْفِقِ الذهَبَ المُربِى بِكَثرَتِهِ ... عَلَى الحصَى وَبِهِ فَقْرٌ إلَى الذَّهَبِ
إِن الأُسُودَ أسود الغَابِ همتُها ... يَومَ الكَرِيهَةِ في المسلُوبِ لاَ السَّلَبِ
وَلى وَقَد ألجَمَ الخَطي مَنْطِقَهُ ... بِسَكتَةٍ تحتها الأَحْشَاءُ في صَخَبِ
أَحذَى قَرَابينَهُ صَرفَ الردَى وَمَضَى ... يَحُث أَنْجَي مَطَايَاهُ مِنَ الهَرَبِ
مُوَكَلا بيَفَاع الأرضِ يُشْرِفُهُ ... مِن خِفةِ الخَوْفِ لاَ من خفة الطَرَبِ
إن يَعد من حَرهَا عَدوَ الظَّلِيمِ فَقَد ... أَوسَعتَ جَاحِمَهَا مِنْ كَثْرَةِ الحَطَبِ
تسعُون أَلفاً كآسَادِ الشرَى نَضِجَت ... جُلُودُهم قَبْلَ نُضجِ التينِ وَالعِنَبِ
يَا رب حَوْبَاءَ لَما اجتُث دَابِرهمُ ... طَابَت وَلَو ضمخَتْ بِالمِسْكِ لَمْ تَطِبِ(2/219)
وَمغضَبٍ رَجَعَتْ بيضُ السيوفِ بِهِ ... حَيَ الرضَا عَنْ رَدَاهُمْ مَيتَ الغَضَبِ
وَالحَربُ قَائِمة في مَأْزِقٍ لَجِبٍ ... تَجثُو الرجَالُ به صُغْراً عَلَى الركَبِ
كَم نِيلَ تَحتَ سَنَاهَا مِن سَنَا قَمَر ... وَتحتَ عَارِضِهَا مِنَ عَارِضِ شَنِبِ
كم كَانَ في قَطعِ أسبَابِ الرقَاب بها ... إِلَى المُخَدَرةِ العَذْرَاء مِنْ سَبَبِ
كم أَحرَزَت قضُبَ الهِنديِ مُصلَتة ... تَهتَز من قُضُبٍ تَهتَز في كُثُبِ
بِيضَ إِذَا انْتُضِيَتْ منْ حُجْبِهَا رَجَعَتْأَحَقَّ بِالبِيضِ أَبْدَانَاً مِنَ الحُجُب
خليفةُ اللَّهِ، جَازَى الله سَعْيَكَ عَنْ ... جُرْثُومَةِ الدينِ وَالإسْلاَمِ والحسبَ
بَصرْتَ بِالرَاحَةِ الكُبْرَى فَلَمْ تَرَهَا ... تُنَالُ إِلا عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ
إِنْ كَانَ بَيْنَ صُرُوفِ الدَّهْرِ مِنْ رَحِمٍ ... مَوصُولَةٍ وَذِمَامٍ غَيْرِ مُنْقَضِب
فَبَيْنَ أَيَّامِكَ اللائيِ نُصِرْتَ بها ... وَبَيْنَ أَيَّام بَدْرٍ أَقْرَبُ النسَبَ
أَبْقَتْ بني الأَصْفر المُصْفَر كَاسْمِهِمُصُفْرَ الوُجُوهِ وَجَلَّتْ أوْجُهَ العَرَبِ
وكان يقال له: المثمن؛ فإنه ثامن الخلفاء من بني العباس، وملك ثمان سنين وثمانية أشهر، وفتح ثمان فتوحات، وخلف من الذهب ثمانية آلاف ألف دينار، ومن الدراهم ثمانية عشر ألف ألف، ومن الخيل ثمانين ألفاً، وثمانية آلاف مملوك، وثمانية آلاف جارية، وبنى ثمانية قصور، وكان عدد غلمانه الترك ثمانية عشر أيضاً، وولد في شعبان، وهو ثامن شهور السنة، وخلف ثمانية ذكور وثمان إناث، وتوفي وعمره ثمان وأربعون سنة.
وعن أحمد بن أبي دؤاد قال: كان المعتصم يخرج ساعده إليّ فيقول: يا أبا عبد اللّه، عض ساعدي بأكبر قوتك. فأقول: لا تطيب نفسي. فيقول: إنه لا يضرني. فأروم ذلك فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلا عن الأسنان.
وانصرف يوماً من دار المأمون إلى داره، وكان شارع الميدان منتظماً بالخيام فيها الجند، فإذا امرأة تبكي وتقول: ابني ابني، وإذا بعض الجند أخذ ابنها، فدعاه المعتصم وأمره برد ابنها عليها فأبى. فاستدناه فدنا منه فقبض عليه بيده فسمعت أصوات عظامه ثم أطلقه فسقط ميتاً، وأمر بإخراج الصبي إلى أمه.
ونقل أنه حال محاصرته لعمورية أصبح ذلك اليوم برد عظيم وثلج، فلم يقدر أحد أن يخرج يده ولا أن يمسك قوسه، فأوتر المعتصم في ذلك اليوم فوق أربعة آلاف قوس.
أخبر إبراهيم بن عبد السلام عن الحسين بن الضحاك قال: دخلت أنا ومحمد بن عمرو الرومي دار المعتصم، فخرج علينا كالحا، فدخل إيتاخ مملوك فقال: الملهون على الباب، مخارق وعلويه وفلان وفلان. فقال: اغرب عليك وعليهم لعنة اللّه، قال: فتبسمت إلى محمد وتبسم إلي، فقال المعتصم: مم تبسمت؟ فقلت: خطر ببالي شيء، قال: هاته؟ فأنشدته: من مجزوء الخفيف:
إِنْفِ عَنْ قَلْبِكَ الحَزَنْ ... بِدُنو مِنَ السَّكَنْ
وَتَمَتعْ بِكَر طَرْ ... فِكَ في وَجْهِهِ الحَسَنْ
فدعا لي بألف دينار ولمحمد بألف، فقلت: الشعر لي فما معنى ألف محمد؟ قال: لأنه جاء معك. وأمر الملهين بالدخول فدخلوا، فما زال يومه ذاك ينشد ذلك الشعر ويردده، انتهى.
قال أبو العيناء: أنشدني المعتصم عقب ذكر جرى لبغداد: من المتقارب:
سَقَانِي بَعَيْنَيْهِ كَأسَ الهَوَى ... فَظَلْتُ وَبِي مِنْهُ مِثْلَ اللَّمَمْ
بِعَيْنَي مَهَاةٍ شَقِيقيةٍ ... وَأَشْنَبَ عَذْبٍ وَفَرع أَجَمّ
قال أبو العيناء: فتوهمت أنه يعني سر من رأى ويكنى عنها بذلك، فقلت: يا أمير المؤمنين، قال مروان في جدك: من الرجز:
قُرَيْش الأَبْلجُ ذُو البَهَاءِ
غَيْثُ العُفَاةِ غُرَرُ الأَنْوَاءِ
هُمُ زِمَامُ الدوْلَةِ الزهْرَاءِ
قال: قل يا أبا عبد اللّه في مدح بني هاشم لك أو لغيرك فقد أصبت مقالا. فأنشدت لمروان بن أبي حفصة: من المتقارب:
إِلَى ملِكٍ مِثْلِ بَحْرِ الدُجَى ... عَظِيمِ الفِنَاءِ رَفِيعِ الدعَمْ(2/220)
قَرِيعِ نِزَارٍ غَدَاةَ الْفَخَارِ ... وَلَوْ شِئْتَ قُلْتَ: جَمِيع الْأُمَمْ
لَهُ كَفُّ جودٍ تُقِيدُ الغِنى ... وَكَفُّ تُبِيدُ بِسَيْفِ النقَمْ
فقال: زدني، فأنشدته: من الرجز:
يَا قُطُبَ الرَحْرَاحَةِ المَلْحَاءِ
وَمنْزِلَ البَدرِ مِنَ السمَاءِ
وَالْمُجْتَدَي في السنَةِ الْعَجْفَاءِ
فقال: حسبك. ثم التفت إلى جارية بين يديه فقال: عشر بدر ووصيفه وفرس ومملوك وخمسون ثوباً من الساعة. فجيء بهذا كله فأخذته وانصرفت، فقال الناس: يا أبا العيناء ما هذا؟ قلت: مال الله، على يد عبد اللّه، للّه الحمد، ولأمير المؤمنين الشكر، ما دامت السماء، وما حملت مثقلة إلى الماء.
وعن ابن أبي دؤاد قال: أرسل المعتصم إلى مملوك له تركي مقدم العساكر كان يتعلق على الآداب، فطلب منه كلب صيد فوجه به إليه، ثم رده المعتصم بعد رجوعه من الصيد وهو يعرج، فكتب أشناس إلى المعتصم بقوله:
الكلب أخذت جيد ... مكسور رجل جبت
رد جيد كما كنت كلب أخذت
فكتب إليه المعتصم من جنس شعره:
الكلب كان يعرج يوم الذي بعثت ... لو كان جا مجبر
جبر رجل كلب أنت
فلله ما أحلم المعتصم وألطف طبعه!! قال الحافظ الذهبي: كان المعتصم من أهيب الخلفاء وأعظمهم، لولا ما شان سؤدده بامتحان العلماء بخلق القرآن، فنسأل اللّه السلامة. وهو أول من أدخل الأتراك الديوان.
وقال علي بن المنجم: استتمت عدة غلمان المعتصم الأتراك بضعة عشر ألفَاً وعلق له خمسون ألف مخلاة وذلك للعدو بالنواحي، وكان يتشبه بملوك الأعاجم سمتاً ومشية.
هجاه دعبل الخزاعي بقوله: من الطويل:
مُلُوكُ بني العَباسِ في الكُتبِ سَبعَة ... وَلَم تَأتِنَا في ثَامِنِ لَهُمُ الكُتْبُ
كَذَلِكَ أَهلُ الكَهفِ في الكهفِ سَبعَة ... غَدَاةَ ثَوَوْا فِيهِ وَثَامِنُهُم كَلبُ
وَإِني لأعْلِي كَلْبَهُم عَنكَ رَغبَة ... لأَنك ذُو ذَنبٍ وَلَيْسَ لَهُ ذَنْبُ
لَقَد ضَاعَ أَمرُ الناسِ حِينَ يَسوسُهُم ... وَصِيفٌ وَأَشنَاس وَقَد عَظُمَ الخَطْبُ
وَإني لأَرجُو أَن تُرَى مِن مَغِيبِهَا ... مَطَالِعُ شَمْسِ قَد يَغَصُ بِهَا الشرْبُ
وَهَمكَ تُركِي عَلَيهِ مَهَابَةْ ... فَأَنتَ لَهُ أُم وَأَنتَ لَهُ أب
فتطلبه المعتصم؛ فخاف وهرب حتى قدم مصر ثم خرج إلى المغرب.
أخرج الصولي عن الفضل اليزيدي قال: وجه المعتصم إلى الشعراء ببابه: من كان منكم يحسن أن يقول فينا كما قال منصور النميري في الرشيد: من البسيط:
إن المَكَارِمَ وَالمَعرُوفَ أَودِيَة ... أَحَلكَ الله مِنها حَيثُ تَجْتَمِعُ
مَن لَم يَكُن بِأَمِيرِ اللهِ مُعتَصِمَاً ... فَلَيسَ بِالصلَوَاتِ الخَمسِ يَنتَفِعُ
إن أخلِفَ القَطرُ لَم تُخلَف فَوَاضِلُهُ ... أَو ضَاقَ أَمرٌ ذَكَرنَاهُ فَيَتَسِعُ
فقال أبو وهب: فينا من يقول خيراً منه فيك: من البسيط:
ثَلاثَة تُشرِقُ الدنيَا بِبهجَتِهَا ... شَمسُ الضحَى وَأَبُو إِسْحَاقَ وَالْقَمَرُ
يَحكِي أَفَاعِيلَهُ في كُل نَائِبَةٍ ... أَلليثُ وَالغَيثُ وَالصمصَامَةُ الذكَرُ
فأسنى جائزته. وروى الصولي عن أحمد بن الخصيب قال: قال لي المعتصم: إن بني أمية ملكوا وما لأحد منا ملك؟ وملكنا نحن ولهم بالأندلس هذا الأموي. فقدر ما يحتاج إليه لمحاربته، وشرع في ذلك، فاشتدت علته ومات.
وفي سنة إحدى وعشرين ومائتين بنى المعتصم سر من رأى لكثرة عسكره وضيق بغداد عليه، وانتقل إليها وسكنها بعسكره، وسميت العسكر.
وفي سنة سبع وعشرين ومائتين احتجم المعتصم فَحم فمات. قال علي بن الجعد: لما احتضر جعل يقول: أؤخذ من بين هذا الخلق؟ ذهبت الحيلة فليس حيلة، حتى صمت.
ومن كلامه: إذا اشتغلت الألباب بالآداب، والعقول بالتعليم، انتبهت النفوس على محمود أمرها، وأبرز التحريك حقائقها. وكان يقول: عاقل عاقل مرتين أحمق.(2/221)
وتوفي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول، سنة ثمان وعشرين، وعمره ثمان وأرِبعون سنة وثمانية أيام. ومن أحسن ما سمع منه قوله - إن صح عنه: اللهم إنك تعلم أني أخافك من قِبَلي، ولا أخافك من قبلك، وأرجوك من قبلك ولا أرجوك من قبلي. رحمه اللّه تعالى.
ولما مات المعتصم رثاه وزيره محمد بن عبد الملك الزيات جامعاً بين العزاء والهناء فقال: من المنسرح:
قَدْ قُلْتُ إِذَ غَيبُوكَ وَاصْطَفَقَتْ ... عَلَيْكَ أَيْدٍ بِالتُّرْب وَالطِّينِ
إِذْهَب فَنِعْمَ الحْفِيظُ كُنْتَ عَلَى الد ... دُّنْيَا وَنعْمَ الظهيرُ للِدينِ
مَا يَجْبُرُ اللَهُ أُمَّة فَقَدَت ... مِثْلَكَ إِلاَ بِمِثْلِ هَارُونِ
خلافة الواثق بالله
هارون بن أبي إسحاق محمد المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور.
بويع بالخلافة بسر من رأى بموت أبيه المعتصم، فاستقر الأمر له ببغداد وغيرها. ولد لعشرِ بقين من المحرم سنة ست وتسعين ومائة. وفي المسامرة بويع في تاسع ربيع الأول، يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين.
أمه أم ولد اسمها قراطيس. كان أبيض، حسن الخيم، في عينه اليمنى نكتة بياض.
ولما ولي قتل أحمد بن نصر الخزاعي على القول بخلق القرآن، ونصب رأسه إلى الشرق فدار إلى القبلة فأقعد رجلا معه رمح أو قصبة، وأمره أن يرد الرأس كلما دار إلى القبلة إلى الشرق.
ورؤى في المنام فقيل له: ما فعل اللّه بك؟ قال: غفر لي ورحمني، إلا أني كنت مهموماً رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مرتين معرضاً عني بوجهه فغمني ذلك، ثم رأيته مرة ثْالثه فقلت: يا رسول اللِّه ألستُ على الحق فلم تعرض عني؟ قال: بلى، ولكني أعرضت عنك حياء إذ قتلك رجل من أهل بيتي.
وروى البغدادي أن طاهر بن خلف قال: سمعت محمداً الملقب بالمهتدي بن الواثق يقول: كنت عند أبي الواثق إذ أتى برجل محصور مقيد فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال: لا سلم اللّه عليك. فقال: بئسما أدبك به من أدبك، قال تعالى: " وَإذَا حُيّيتمُ بِتَحِيَّة فَحَيّوا بأحسَنَ منهَا أَو رُدُّوهَا " " النساء: 86 " ، والله ما حييتني بأحسن منها ولا رددتها. فقال له أبي: وعليك السلام. فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، الرجل متكلم، فقال: كلمه وسله، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا محبوس مقيد، أصلي في الحبس بتيمم؛ منعت الماء، فمر بقيودي تحل ومر لي بماء أتطهر به فأصلي ثم سل؛ فأمر له بماء فتوضأ وصلى ثم قال لابن أبي دؤاد: سله فقال الشيخ: المسألة لي، فمره أن يجيبني، فقال: سل. فأقبل الشيخ على ابن أبي دؤاد، فقال: أخبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه أشيء دعا إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. قال: فشيء دعا إليه أبو بكر بعده. قال: لا. قال: فشيء دعا إليه عمر بن الخطاب. قال: لا. قال: فشيء دعا إليه عثمان بن عفان. قال. لا. قال الشيخ: فشيء دعا إليه علي بن أبي طالب. قال: لا. قال الشيخ: فشيء لم يدع إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي تدعو إليه أنت أيها الإنسان!! ليس يخلو أن تقول: علموه أو جهلوه، فإن قلت علموه وسكتوا عنه وسعنا وإياك من السكوت ما وسع القوم، وإن قلت جهلوه وعلمته أنت فيا لكع ابن لكع يجهل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون شيئاً وتعلمه أنت وأصحابك؟ قال المهتدي بن الواثق: فرأيت أبي وثب قائماً ودخل الخلوة وجعل ثوبه في فيه يضحك، ثم جعل يقول: صدق، ليس يخلو من أن يقول: علموه أو جهلوه، فإن قال علموه وسكتوا وسعنا ما وسع القوم جزماً. قال المهتدي: ثم دعا أبي عماراً الحاجب، وأمره أن يعطي الشيخ أربعمائة دينار ويأذن له في الرجوع إلى وطنه وأهله، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن بعد ذلك أحداً.
والشيخ المذكور هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الأزدي شيخ أبي داود والنسائي.
وقال الحافظ أبو نعيم في حليته: قال المهتدي: ما قطع أبي - يعني الواثق - إلا شَيخٌ جيء به من المصنعة فمكث في الحبس مدة.. ثم ذكر القصة بقرب مما ذكرناه.
وأخرج الصولي قال: غنى في مجلس الواثق بشعر الأخطل: من البسيط:(2/222)
وَشَادِنٍ فَرِحٍ بِالكَأسِ نَادَمَنِي ... لاَ بالحُصورِ وَلاَ فِيهَا بِسوارِ
فقيل: سوار وسآر، فوجه إلى ابن الأعرابي فسَأله عن ذلك فقال: سوار وثاب، يقول ولا يثب على ندمائه وسآر يفضل في الكأس سؤراً، وقد رويا جميعَاً. فأمر الواثق له بعشرين ألف درهم.
وفي الذهبي قيل: رأى الواثق مناماً كأنه سأل الله الجنة، وأن قائلا يقول: لا يهلك على اللّه إلا مَن قلبه مَرتٌ، فأصبح فسأل الجلساء عن ذلك فلم يعرفوا معناه. فوجه إلى أبي محلم فسأله عن الرؤيا والمرت، فقال أبو محلم: المَرت: القفر الذي لا ينبت شيئاً؛ فالمعنى لا يهلك على الله إلا من قلبه خال من الإيمان خلو المرت من النبات. فقال له الواثق: أريد شاهداً على هذا؟ فقال: قال شاعر بني أسد: من البسيط:
وَمَرتٍ مَرورَاتِ يَحَارُ بِهَا القَطَا ... وَيصبحُ ذُو عِليم بِهَا وَهْوَ جَاهِلُ
فأمر له الواثق بمائة ألف دينار.
وفي ابن خلكان في ترجمة أبي عثمان بكر المازني البصري النحوي شيخ المبرد، رواها عن شيخه أبي عثمان: أن رجلا من أهل الذمة قصده ليقرأ عليه كتاب سيبويه، ويزن له مائة دينار، فامتنع أبو عثمان من ذلك، فقال له المبرد تلميذه: جعلت لك الفداء، أترد المنفعة مع فاقتك؟ فقال: إن هذا الكتاب يشتمل على أكثر من ثلاثمائة آية من كتاب اللّه تعالى، ولست أرى أن أمكن منه ذمياً غيرة على كتاب الله وحمية له. قال فاتفق أن جارية غنت بحضرة الواثق بقول العرجي: من الكامل:
أَظَلُومُ إِن مُصَابَكم رَجُلا ... أَهدَى السلامَ تَحِية ظُلمُ
فاختلف من بحضرته في إعراب رجل، منهم من نصبه على أنه اسم إن، ومنهم من رفعه على أنه خبرها، والجارية مصرة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقنها إياه بالنصب، فأمر الواثق لإشخاصه، قال أبو عثمان: فلما مثلتُ بين يديه قال لي: ممن الرجل؟ قلت: من مازن. قال: أي الموازن؟ أمازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة؟ قلت: من مازن ربيعة. فكلمني بكلام قومي فقال لي: بَاسمُكَ؟ لأنهم يبدلون الباء من الميم والميم منها. فكرهت أن أواجهه بالمكر فقلت: بكر يا أمير المؤمنين. ففطن لما قصدته وأعجب به، ثم قال: ما تقول في البيت؟ وأنشده، أترفعه أم تنصبه؟ قلت: بل الوجه النصب يا أميرَ المؤمنين. قال: ولم؟ قلت: لأن مصاب مصدر ميمي بمعنى الإصابة ورجلا منصوب به، والمعنى إن إصابتكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم، فظلم هو الخبر لإن ولا يتم الكلام إلا به، فاستحسنه الواثق وأعجب به. ثم قال: هل لك من ولد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، بنية. قال: ما قالت لك عند مسيرك؟ قال قلت: أنشدت وهي تبكي قول الأعشى: من المتقارب:
أَيَا أَبَتَا لاَ تَرِم عندَنَا ... فَإِنا بِخَيرٍ إِذَا لم تَرم
أُرَانَا إِذا أَضمَرَتكَ البِلا ... د نُجفي وَتُقطَعُ مِنا الرَّحِمْ
قال الواثق: فما قلت لها. قلت: قول جرير: من الوافر:
ثِقِي بِاللهِ لَيسَ لَهُ شَرِيك ... وَمِن عِندِ الخلِيفَةِ بِالنَجَاحِ
فقال: علي النجاح، إن شاء الله تعالى، ثم أمر لي بألف دينار، ولحف وهدايا كثيرة، ووهب لي الجارية جملة أخرى وردني مكرماً. قال المبرد: فلما عاد جئت لأهنئه بالقدوم، فقال لي: كيف رأيت يا أبا العباس. تركنا لله مائة، فعوضنا ألفاً. فقلت: من ترك شيئاً لله عوضه اللّه خيراً منه.(2/223)
كان الواثق مؤثراً لكثرة الجماع، فقال لطبيب: اصنع لي دواء للباءة. فقال الطبيب: يا أمير المؤمنين لا تهدم بدنك بالجماع، واتق الله في نفسك. فقال: لا بد من ذلك، فأمر الطبيب أن يؤخذ لحم سبع فيغلى عليه سبع غليات على جمر، وتتناول منه - إذا شربت - وزن ثلاثة دراهم، ولا تجاوز هذا القدر، فأمر بذبح سبع فذبح وطبخ لحمه، وصار يتنقل به على شرابه، فلم يكن إلا قليل حتى استسقى، فأجمع الأطباء على أن لا دواء له إلا أن ينزل بطنه ثم يترك في التنور قد سجر بحطب الزيتون حتى يصير جمراً، ثم يجلس فيه، ففعل به ذلك ومنع الماء ثلاث ساعات، فجعل يستغيث ويطلب الماء فلا يسقونه، فصار في جسده نفاطات مثل البطيخ، ثم أخرجوه فجعل يقول: ردوني إلى التنور وإلا مت؛ فردوه، فسكن صياحه. ثم انفجرت تلك النفاطات وقطر منها ماء، فأخرج من التنور وقد اسود جسده فمات بعد ساعة. ولما احتضر جعل يقول:
أَلْمَوْتُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ تَشْتَرِكُ ... لاَ سُوقَة مِنْهُمُ يَبْقَى وَلاَ مَلِكُ
مَا ضَرَ أَهْلَ قَلِيلٍ في تَفَاقُرِهِمْوَلَيْسَ يُغْنِي عَنِ الأَمْلاَكِ مَا مَلَكُوا
ثم أمر بالبسط فطويت، وألصق خده في الأرض، وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه.
قال الذهبي: روى عن أحمد بن محمد الواثقي، أمير البصرة، عن أبيه قال: كنت أدخل في مرض الواثق عليه، إذ لحقته غشية فما شككنا أنه مات، فقال بعضنا لبعض: تقدموا. فما جسر أحد، فتقدمت أنا، فلما صرت عند رأسه، وأردت أن أضع يدي على أنفه لحقته إفاقة ففتح عينيه، فكدت أموت فزعاً أن يراني قد مشيت إلى غير رتبتي، فرجعت إلى خلف، فتعلقت قبيعة سيفي بالعتبة فعثرت على سيفي فاندلق فكاد أن يدخل في لحمي، فسلمت وخرجت، واستدعيت بسيف وجئت فوقفت ساعة فتلف الواثق تلفاً لم يشك فيه، فشددت لحييه وغمضته وسجيته، وجاء الفراشون فأخذوا ما تحته ليردوه إلى الخزائن؛ لأنه مكتتب علمهم، وترك وحده في البيت، فقال لي أحمد بن أبي دؤاد القاضي: إنا نريد أن نتشاغل بأمر البيت وأحب أن تحفظه إلى أن يدفن، فأنت من أخصهم به في حياته، فرددت باب المجلس وجلست عند الباب، فأحسست بعد ساعة بحركة في المجلس أفزعتني، فدخلت فإذا بجرذون قد جاء فاستل عينه. فقلت: لا إله إلا اللّه هذه العين التي فتحها من ساعة فاندلق سيفي هيبة لها! كذا في الذهبي. والجرذون: أكبر من اليربوع.
قال يحيى بن أكثم: ما أحسن أحد إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق؛ ما مات ومنهم فقير؛ وكان عالماً شاعرَاً حاذقَاً، أكثر بني العباس رواية للشعر، بليغَاً، كان يقاس بعبد اللّه بن المعتز.
قال حمدون بن إسماعيل: كان الواثق يحب خادماً له أهدى إليه من مصر، فأغضبه الواثق، ثم إنه سمعه يقول لبعض الخدم عن الواثق: واللّه إنه ليروم أن أكلمه من يومين فلم أفعل فقال الواثق: من البسيط:
يَا ذَا الَذِي بِعَذَابي ظَل مُفتَخِرَاً ... مَا أَنت إِلاَّ مَلِيكٌ جَارَ إِذْ قدَرَا
لَولاَ الْهَوَى لتَجَارَيْنَا عَلَى قدرٍوَإِنْ أُفِق مِنْهُ يَوْمَاً مَا فَسَوْفَ تَرَىَ
ومن شعر الواثق قوله: من السريع:
حَياكَ بِالنرْجِسِ وَالْوَرْدِ ... مُعْتَدِل الْقَامَةِ وَالْقَد
فَأَلْهَبَت عَينَاهُ نَارَ الجوَى ... وَزَادَ في اللَّوْعَةِ وَالْوَجْدِ
أَملْتُ بِالمُلْكِ وِصَالا لَهُ ... فَصَارَ مُلْكِي سَبَبَ الْبُعْدِ
مَوْلى وَيَشكُو الظلْمَ مِنْ عَبْده ... فَأَنْصفُوا المَوْلَى مِنَ الْعَبْدِ
قال الصولي: أجمعوا على أن ليس لأحد من الخلفاء مثل هذه الأبيات في اللطف والرقة، مات بسر من رأى، يوم الأربعاء، لست بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وكانت خلافته خمس سنين وستة أشهر، وعمره ست وثلاثون سنة وأحد عشر شهراً وأربعة أيام.
خلافة المتوكل
جعفر، أبو الفضل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور.
بويع في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، بعد الواثق. وكان أسمر اللون، مليح العينين، نحيف الجسم، خفيف العارضين، إلى القصر أقرب، أمه أم ولد تركية اسمها شجاع.(2/224)
استخلف فأظهر السنة، وتكلم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة بالقول بخلق القرآن، وأظهر السنة ونصر أهلها.
وقدم إلى دمشق في صفر سنة أربع وأربعين وأعجبته، فعزم على المقام بها، ونقل دواوين الملك إليها، وأمر بالبناء بها. وبنى قصراً كبيراً بداريه من جهة المزة، ثم رجع إلى سر من رأى دار ملكه.
قيل إن سبب ميله إلى دمشق: أن إسرائيل بن زكريا الطبيب نعت له دمشق، وأنها موافقة لمزاجه، ومذهبة عنه العلل التي تعرض له في الصيف بالعراق.
كان المتوكل شجاعاً كريماً، ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطاه المتوكل. ومن أفعاله الشنيعة أنه هدم قبر الحسين بن علي في سنة سبع وثلاثين، وهدم جميع ما حوله من الدور، وجعل مكانها مزارع، ومنع من زيارته، فتألم الناس لذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه بعض الشعراء بقوله: من الكامل:
تاللهِ إِن كَانَت أُميةُ قد أَتَت ... قَتل ابنِ بنتِ نَبِيها مَظْلُومَا
فَلَقَدْ أَتَاهُ بنو أَبِيهِ بِمِثله ... هَذَا لَعَمرِي قَبرُهُ مَهدُومَا
أَسِفُوا عَلَى أَلا يَكُونُوا شَارَكُوا ... في قَتلِهِ فَتَتبعُوهُ رَمِيمَا
وهذا الفعل السيئ محا جميع محاسنه، وصار ما عذب من إحسانه مغلوباً بأجاجه وآسنه، وعدت هذه الزلة أقبح قبيحة، وهذه الخلة الشنيعة أفضح من كل فضيحة.
وذكر ابن خلكان في ترجمة المتوكل عن المتوكل نفسه قال: ركبت إلى دار الواثق أخي في مرضه الذي مات فيه لأعوده، فجلست في الدهليز لأنتظر الإذن، فبينما أنا جالس إذ سمعت النياحة عليه، وإذا إيتاخ ومحمد بن عبد الملك الزيات يأتمران في أمري، فقال محمد بن عبد الملك: نقتله في التنور. وقال إيتاخ: بل ندعه في الماء البارد حتى يموت ولا يرى عليه أثر القتل. فبينما هما على ذلك إذ جاء أحمد بن أبي دؤاد القاضي فدخل وحدثهما كلاماً لا أفهمه، لما داخلني من الخوف وشغل القلب في إعمال حيلة في الهرب، فبينما أنا كذلك، وإذا بالغلمان يتغادون ويقولون: انهض يا مولانا. فلم أشك أني داخل لأبايع لولد الواثق، ثم ينفذ في ما قررا. فلما دخلت بايعوني، فسألت عن الحال، فأعلمت أن ابن أبي دؤاد كان سبب ذلك ثم إن المتوكل قتل إيتاخ بالماء البارد، وابن الزيات بالتنور على ما أشارا إليه في حقه.
وهذا من أعجب الاتفاق؛ فإن ابن الزيات هو الذي صنع التنور، وكان يعذب به الناس فعذبه اللّه به جزاء وفاقاً. وهو من حديد داخله مسامير وكان يسجر عليه بحطب الزيتون حتى يصير كالجمر ثم يدخل فيه الإنسان، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. وكان ابن الزيات إذا استغاث به أحد من الرعية فقال: ارحمني، يقول: الرحمة خور في القلب، فلما ألقى هو في التنور قال للمتوكل: ارحمني، فقال له: الرحمة خور في القلب أو في الطبيعة، وكان قد حبسه قبل أن يدخله التنور أياماً فكتب إليه في الحبس بقوله: من البسيط:
هِيَ السبِيلُ فَمِن يَومٍ إِلَى يَوم ... كَأنهُ مَا تُرِيكَ العَين في النومِ
لاَ تَعجَلَن رُوَيداً إنهَا دُوَل ... دنيَا تَنقل مِن قَومِ إِلَى قَوْمِ
ووقعت في أيامه عجائب: منها أن النجوم ماجت من السماء وتناثرت كأنها الجراد، فرميت قرية السويداء بناحية مضر أحجار من السماء وُزن حجر منها فكان عشرة أرطال، ومار جبل باليمن عليه مزارع ومدن إلى جبل آخر بينهما نحو أربعة أيام، ووقع طائر أبيض دون الرخمة فصاح: يا معشر الناس، اتقوا الله أربعين مرة، وجاء من الغد ففعل كذلك! فكتبوا خبر ذلك على البريد إلى بغداد، وكتبوا فيه شهادة خمسمائة رجل سمعوا ذلك بآذانهم، وكان هذا في شهر رمضان سنة إحدى وأربعين ومائتين، وحصلت زلازل، وغارت عيون مكة؛ فأرسل المتوكل مائة ألف دينار ذهباً لإجراء عين عرفات فصرفت فيها إلى أن جرت، كذا ذكره السيوطي.(2/225)
قال العلامة النجم، عمر بن فهد في تاريخه إتحاف الورى، بأخبار أم القرى: في حوادث سنة خمس وأربعين ومائتين: غارت عين مشاش، وهي عين مكة فبلغ ثمن القربة درهمَاً، فبعث المتوكل مالا ثانياً فأنفق عليها حتى جرت. قال ابن الأثير في تاريخه المسمى بالكامل: هذه العين من عمل زبيدة بنت جعفر زوجة الرشيد، وهي عين بازان. قال العلامة القطبي: عين مشاش هي عين مكة موجودة الآن، وهي من جملة العيون التي تصب في عين حنين، وهي تقوى وتضعف أحياناً لقلة الأمطار وكثرتها، ومحلها معروف.
ولما كثر الترك ببغداد، ودخلوا في الملك، واستولوا على المملكة، وصار بيدهم الحل والعقد، والولاية والعزل، إلى أن حملهم الطغيان على الفتك بالخليفة المتوكل، لما أراد أن يصادر مملوك أبيه وصيفَاً التركي؛ لكثرة أمواله وخزائنه فتعصب له باغر التركي، وانحرف الأتراك عن المتوكل؛ فدخل باغر ومعه عشرة أتراك وهو في مجلس أنسه وعنده وزيره الفتح بن خاقان بعد مضي هزيع من الليل، فصاح الفتح: ويلكم هذا سيدكم وابن سيدكم، وهرب من كان حوله من الغلمان والندمان على وجوههم، فبقي الفتح وحده، والمتوكل غائب سكران فضربه باغر بالسيف على عاتقه فقده إلى حقوه، فطرح الفتح نفسه عليه، فضربهما باغر ضربة ثانية فماتا جميعاً فلفهما معاً في بساط، ومضى هو ومن معه، ولم ينتطح في ذلك عنزان. وقيل إن سبب ذلك أن ابنه المنتصر باطن عليه الأتراك حتى قتلوه، وذلك أنه كان بايع بالعهد للمنتصر، ثم أراد أن يعزله ويولي المعتز ابنه لمحبته لأمه، فسأل المتوكل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى، فكان يحضره مجلس العامة ويحط من منزلته ويتهدده ويشتمه، وقيل: كان هذا وهذا سبباً لذلك.
قال المسعودي: ولم يصح عن المتوكل النصب، حدثنا المبرد قال: قال المتوكل لأبي الحسن على الهادي بن محمد الجواد بن عَلِي الرضي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق؛ ما يقول ولد أبيك في العباس. قال: ما يقولون في رجل فرض اللّه طاعة نبيه على خلقه، وفرض طاعته على نبيه. فأعجب بجوابه المتوكل إعجاباً. قلت: لا يخفي على الفطن هذه التورية من هذا السيد الجليل وصدقها. وسعى إلى المتوكل بأبي الحسن المذكور بأن في منزله سلاحاً وكتباً من الشيعة، وأنه يريد التَوثّب على الخلافة، فبعث إليه المتوكل جماعة فهجموا على منزله فوجدوه على الأرض مستقبل القبلة يقرأ القرآن، فحملوه على حاله إلى المتوكل، والمتوكل يشرب الخمر، فأعظمه وأجلسه وقال: اشرب. فقال: واللّه ما خامر لحمي ودمي قط، فأعفني، فأعفاه. ثم قال له أنشدني فأنشد: من البسيط:
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الأجبَال تَحْرُسُهُمْغُلْبُ الرجَال فَلَمْ تَنْفَعْهُمُ القُلَلُ
واسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِز عَنْ مَعَاقِلِهِمْوَأُودِعُوا حُفْرَة يَا بِئْسَمَا نَزَلُوا
نَادَاهُمُ صَارخ مِنْ بَعْدِ مَا قُبِرُوا ... أَيْنَ الأَسِرَة وَالتيجَانُ وَالحلل
فَأَفْصَحَ القَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُتِلْكَ الوُجُوهُ عَلَيْهَا الدّودُ يَقْتَتِلُ
قَدْ طَالَمَا أَكَلُوا دَهْراً وَمَا شَرِبُوافَأَصْبَحُوا بَعْدَ ذَالك الأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا
فبكى جعفر والحاضرون وقال: يا أبا الحسن لقد لينت منا قلوباً قاسية، أعليك دين؟ قال: نعم، أربعة آلاف. فأمر له بها ورده مكرماً.
ومما يحكى من كرمه أنه دخل عليه ابن الجهم - وقيل النميري - فأنشده قصيدة يقول فيها: من مجزوء الكامل:
وَإِذَا مَرَرْتَ ببئرِ عُرْ ... وَةَ فَاسْقِني مِنْ مَائِهَا
وكان بيد المتوكل درتان عظيمتان يقلبهن، فدحا إليه بدرة منهما فقال: استقص بها، فهي واللّه خير من مائة ألف دينار، قال: لا واللّه، ولكني فكرت في أبيات أعملها آخذ بها الأخرى، فقال: قل، فقال: من مخلع البسيط:
بِسُرَ مَنْ رَا إِمَامُ عَدْلٍ ... تغْرَقُ مِنْ كَفِّهِ البِحَارُ
يُرْجَى وَيُخْشَى بِكُل خَطْب ... كَأَنَّهُ جَنَّة وَنَارُ
أَلْمُلْكُ فِيهِ وَفي بَنِيه ... مَا اخْتَلَفَ اللَيْلُ وَالنَّهَارُ
يَدَاهُ في الجُودِ ضَرَّتَانِ ... عَلَيْهِ كِلْتاهُمَا تَغَارُ(2/226)
لَمْ تَأْتِ مِنْهُ اليَمِيَنُ شَيئاً ... إِلاَ أَتَتْ مِثْلَهُ الْيَسَارُ
قال: فدحا إليه بالدرة الأخرى. قلت: رحم اللّه الكرام المجيزين على دردي النظام بدري النظام.
وأجاز مروان بن أبي الجنوب على قصيدته التي يقول فيها: من الطويل:
فَأَمسِك نَدَى كَفيك عَني وَلاَ تَزِد ... فَقَد خِفتُ أَن أَطغَى وَأَن أَتَجَبرَا
فقال: لا أمسك حتى يغرقك جودي، فأمر له بمائة وعشرين ألف دينار وخمسمائةَ ثوب ديباج.
قال علي بن محمد النديم: دخلت على المتوكل العباسي وعنده الرضي، فقال: يا علي من أشعر الناس؟ قلت: البحتري، قال: ومن بعده؟ قلت: مروان بن أبي حفصة، فالتفت إلى الرضي وقال: من أشعر الناس في زماننا؟ قال: علي بن محمد العلوي. قال: وما تحفظ من شعره؟ قال قوله: من الطويل:
لقَد فَاخَرَتنَا مِن قُرَيشٍ عِصَابَةٌ ... بِمَط خُدُودِ وَامتدادِ الأصابِعِ
فَلَما تَنَازَعنَا الفَخَارَ قَضَى لَنَا ... عَلَيهِم بِمَا نهوى نِدَاءُ الصوَامِعِ
قال المتوكل: وما معنى نداء الصوامع؟ فقال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه. قال المتوكل: وأبيك إنه لأشعر الناس، ثم أنشده قوله أيضاً: من المتقارب:
عَصَيتُ الهَوَى وَهَجَرتُ النسَاءَ ... وَكُنتُ دَوَاءَ فأَصبَحتُ دَاءَ
وَمَا أَنسَ لاَ أَنسَ حَتى المَماتِ ... تَرِيبَ الظبَاءِ تُجِيبُ الظبَاءَ
دَعِينِي وَصبرِي عَلَى النائِبَاتِ ... فَبِالصبرِ نِلتُ الثرَى وَالثوَاءَ
فَإن يَكُ دَهرِي لَوَى رَأسَهُ ... فَقَد لَقِيَ الدهرُ مِني التِوَاءَ
لَيَالِيَ أَروِي صُدُورَ القَنَا ... وَأَروِي بِهِن الصدُورَ الظمَاءَ
وَنَحن إِذَا كَانَ شُربُ المُدَامِ ... شَرِبنَا عَلَى الصافِنَاتِ الدمَاءَ
بِلغنَا السمَاءَ بِأَنسَابنَا ... وَلَولاَ السمَاءُ لَجُزنَا السمَاءَ
فحسبُكَ مِن سُؤددٍ أَننَا ... بِحُسنِ البَلاَء كَشفنَا الغِطَاءَ
يطيبُ الثنَاءُ لآَبائِنَا ... وذِكرُ عَلِي يَزِينُ الثنَاءَ
إِذَا ذُكِرَ الناسُ كَانُوا مُلُوكَاً ... وَكَانُوا عَبِيداً وَكَانُوا الإمَاءَ
هَجَانِي رِجَالٌ وَلم أَهجُهُم ... أبى اللّه لِي أَن أقُولَ الهجَاءَ
فوصله لهذه الرواية بمال عظيم.
وفي سنه أربع وأربعين ومائتين قتل المتوكل يعقوب بن السكيت الإمام في العربية؛ وذلك أنه حضر يوماً مجلس المتوكل، وكان يؤدب أولاده، فجاء منهم المعتز والمؤيد، فقال المتوكل: يا يعقوب، أيما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين ابنا علي رضي اللّه عنهم؟ فقال يعقوب: واللّه إن قنبر خادم علي خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل للأتراك: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك فمات، ثم أرسل المتوكل لأولاده دية أبيهم عشرة آلاف درهم، كذا في حياة الحيوان.
وذكر ابن خلكان: كان المتوكل يبغض علياً، فذكر يوماً علي عنده فغض منه، فتمعر وجه ابنه المنتصر لذلك، فشتمه أبوه المتوكل وأنشد مواجهاً له: من المجتث:
غَضبَ الفَتَى لابن عَمه ... رَأسُ الفتَى في حِرِ أمه
فحقد عليه وأغرى على قتله مع ما كان مما تقدم من عدوله بالعهد عنه إلى أخيه المعتز. قلت: هذا يؤيد القول الثاني أن المتوكل ناصبي، خلاف ما قاله المسعودي.
وذكر أن علي بن الجهم كان بدوياً جافياً، قدم على المتوكل أول قدمة فأنشده قصيدة يمدحه بها يقول فيها: من الخفيف:
أَنتَ كَالكَلبِ في حِفَاظِكَ لِلوُد ... د وَكَالتيسِ في قِرَاع الخطُوبِ
أَنتَ كَالدلو لاَ عَدِمتُكَ دَلوا ... مِن كِبَارِ الدلا كَثيِر الذنُوبِ
فعرف المتوكل قوته، ورقة قصده، وخشونة لفظه، وعرف أنه ما رأى سوى ما شبه لملازمته البادية وعدم مخالطته، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة، وفيها بستان يتخلله النسيم، والجسر قريب منه، وأمر له بجائزة سنية، فلطف طبعه عن أول أمره، وأنشد الأشعار البليغة الرقيقة بعد ذلك.(2/227)
وحكى أن عبادة المخنث دخل يوماً إلى دار المتوكل، فرأى رطبة مطروحة فأكب ليأخذها، فرآه ابن للمتوكل صغير فأشار بإصبعه إلى استه وقال: يا عم من فتح لك هذه الكوة. فقال له عباده: الذي فتح لأمك اثنتين، فسمعه المتوكل فأمر بضرب عنقه، فهرب ولم يدر إلى أين يتوجه، فأخذ يهرب في الصحاري ومعه طبله ونايه، فلما أمعن في الصحراء خاف أن يدركه الطلب، فرأى غاراً مفتوحَاً فدخله وسد بابه بالحجارة، فلما صار إلى أقصاه وجد فيه أسداً عظيماً رابضَاً ففزع منه وهم الأسد أن يثب عليه، فما وسعه إلا أن ضرب الطبل، فلما سمعه الأسد فزع من صوته وهرب يريد الخروج، فوجد باب الغار مسدوداً فربض هناك خائفاً من صوت الطبل. فجعل عبادة تارة يضرب بالطبل، وتارة يزمر بالناي خوفاً من الأسد، ووافق ذلك قدوم الفتَح بن خاقان من نزهة كان خرج إليها، فلما سمع صوت الطبل والناي في الصحراء أنكره، ثم تبعه حتى وقف على باب الغار، وأمر أن يفتح، فلما فتحوه خرج الأسد هارباً على وجهه، فخرج عبادة وهو يبكي ويصرخ، ويقول: هذا دفعه إلى أمير المؤمنين أعلمه ضرب الطبل والغناء بالناي وشردته علي، فقال له الفتح: أنا أرضي أمير المؤمنين، ولك علي ألف دينار، فقال: أخاف واللّه أن يضرب عنقي.
فقال الفتح: أنا أستوهبه دمك، فقال: إن فعلت فقد رضيت. ثم أخذه معه، وأتى به المتوكل، فلما دخل عليه قال: يا أمير المؤمنين، لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: هب لي دم عبادة فأنا الذي أذنبت وليس هو، فقال: ما كانت نيتي إلا أن أضرب عنقه، وقد وهبته لك، فقبل الفتح يده وقال: أنا الذي أطلقت الأسد وما له ذنب، فلما سمع المتوكل ذكر الأسد سأل عن أصل القصة، فقال له الفتح بما رأى، قال: وزعم أن أمير المؤمنين أعطاه ذلك الأسد ليعلمه الطبل والغناء، فضحك المتوكل حتى فحص برجله الأرض وقال: خدعك واللّه يا فتح، إن الأصل كيت، وأنجز الفتح لعبادة الألف التي وعده بها بوعده السابق. انتهى. كذا في بقية الخاطر لمحمد بن مصطفى الشهير بالكاتي.
قال البحتري: اجتمعنا في مجلس المتوكل فنعت له سيف هندي، فبعث إلى اليمن فاشترى له بعشرة آلاف فأتى به، فأعجبه ثم قال للفتح: أبغني غلاماً أدفع إليه هذا السيف لا يفارقني به، فأقبل باغر التركي، فقال الفتح: هذا موصوف بالشجاعة والبسالة، فدفع المتوكل إليه السيف وزاد في رزقه، فواللِّه ما انتضى ذلك السيف إلا ليلة ضربه باكر بالقصر الجعفري، وكان المتوكل مستغرقاً بجاريته التي اسمها قبيحة وهي أم ولده المعتز لا يصبر عنها ساعة. فوقفت له يوماً وقد كتبت على خديها بالغالية جعفر فتأملها ثم أنشأ يقول: من الطويل:
وَكَاتِبَةٍ بِالمِسْكِ في الْخَدِّ جَعْفَراًبِنَفْسي مَخَط المِسْكِ مِنْ حَيْثُ أثَّرَا
لَئِنْ أَوْدَعَتْ سَطْرَاً مِنَ المِسْكِ خَدَهَالَقَدْ أَوْدَعَتْ قَلْبِي مِنَ الحُب أسْطَرَا
وكانت ليلة المتوكل يضرب بها المثل في السرور الذي يعقبه ترح، يقال: مات بليلة المتوكل، كان قتله ليلة الأربعاء لليلتين مضتا من شهر شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، وهو أول مقتول بمعرة ولده المنتصر بعد قتل الأمين بمباشرة طاهر بن الحسين، كانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وتّسعة أشهر وثمانية أيام، وكان عمرهُ أربعين سنة وشهراً وقيل إحدى وأربعين سنة.
خلافة المنتصر باللّه
محمد بن المتوكل جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور أخي السفاح بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، بويع بالخلافة في الليلة التي قتل فيها أبوه، ومن الغد البيعة العامة.
ولما ولي خلع أخويه المعتز والمؤيد من ولاية العهد التي عقدها لهما أبوه المتوكل، وأظهر العدل والإنصاف في الرعية، فمالت إليه النفوس والقلوب مع هيبتهم له، وكان محببَاً إلى العلويين، وصولا لهم، باراً بهم، أزال عن آل أبي طالب ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين، ورد فدك عليهم، فقال يزيد المهلبي في ذلك يمدحه: من الكامل:
وَلَقَدْ بَرَرْتَ الطَالِبِيةَ بَعْدَ مَا ... ذَمُوا زَمَانَاً بَعدَهَا وَزَمَانَا
وَرَدَدتَّ أُلْفَةَ هَاشِمِ فَرَأَيْتهُمْ ... بَعْدَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ إِخْوَانَا(2/228)
وكان حليماً كريماً. من كلامه: لذة العفو أعذب من لذة التشفي. وأقبح أفعال المقتدر الانتقام.
وقال الحافظ الذهبي: ذكر نجيح بن علي المنجم أن المنتصر جلس للهو، وأمر بفرش بساط من ذخائر الخزينة تداولته الملوك ففرش، فرأى فيه صورة رأس عليه تاج، وعليه كتابة بالفارسية، فطلب من يقرأ تلك الكتابة فأحضر رجل من الأعاجم فقرأها، وعبس عند ذلك، فسأله المنتصر عنها فقال: لا معنى لها، فألح عليه فقال: هي أنا الملك شيرويه بن كسرى بن هرمز، قتلت أبي فلم أمتع بالملك بعده إلا ستة أشهر. فتغير وجه المنتصر وقام من ذلك المجلس، وترك اللهو الذي أراده، وبات مغتماً وتوعك، ثم رأى في ليلة وعكه أباه فانتبه فزعاً يبكي، فقالت له أمه: ما يبكيك؟ فقال: أفسدت ديني ودنياي، رأيت أبي الساعة يقول لي: قتلتني يا محمد لأجل الخلافة، واللّه لا تتمتع بها إلا أياماً قلائل، ثم مصيرك إلى النار، فاستمر موهوماً من هذا المنام فما عاش بعد ذلك إلا أياماً قلائل، وكان على حذر من الأتراك يسبهم ويلعنهم، ويقول: هؤلاء قتلة الخلفاء؛ فلم يأمنوه؛ فأرادوا قتله فما أمكنهم الإقدام عليه؛ لشدة محاذرته منهم، فدسوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار عند توعكه ليسمه فقصده بمبضع مسموم فأحس بذلك وأراد قتل الطبيب، فقال له: إنك تصبح طيباً وتقدم على قتلي، فأمهلني إلى الصبح، فأمهله فأصبح ميتاً. وكانت وفاته لأربع خلون من ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائتين، وعمره ست وعشرون سنة، وقيل: خمس وعشرون وأربعة أيام، ومدة خلافته ستة أشهر.
خلافة المستعين بالله
أحمد بن المعتصم بن هارون. كان فاضلا ديناً، أخبارياً مطلعاً على التواريخ، متجملا في ملبسه. وهو أول من أحدث الأكمام العراض؛ فجعل عرض الكم ثلاثة أشبار وهو عم المنتصر قبله، أخو المتوكل أبيه. وإنما قدمته الأتراك وعدلوا عن أولاد المتوكل؛ لأنهم كانوا قتلوا المتوكل فخافوا أن يلي الخلافة أحد من أولاده فيأخذ بثأر أبيه؛ فاختاروا من أولاد المعتصم أحمد هذا، ولقبوه بالمستعين باللّه. أمه أم ولد تسمى مخارق، وما كان له من الخلافة إلا الاسم، وكان المماليك الأتراك مستولين على الملك، وكان الأمر جميعه لكبيري الأتراك وصيف، وبغا التركيين حتى قيل في ذلك: من الرجز:
خَلِيفَة في قَفَصٍ ... بَين وَصِيفِ وبغَا
يَقُولُ مَا قَالاَ لَهُ ... كَمَا تَقُولُ البَبَّغَا
والببغا: هي الطير المسمى بالدرة، واستمر كذلك وهو مترصد لهما، إلى أن ظفر بوصيف فقتله، وهرب باغر الذي كان سطا في المتوكل وقتله، فتنكرت له الأتراك فخرج عنهم من سر من رأى إلى بغداد، فأرسلوا إليه يعتذرون، ويسألونه العودة إلى سر من رأى، فامتنع منهم، فلما أبى قصد الأتراك خلعه، فأتوا إلى الحبس، فأخرجوا محمداً أبا عبد الله بن المتوكل، ولقبوه المعتز بالله، وبايعوه وعمره تسعة عشر عاماً، ولم يل الخلافة أصغر منه، وجيشوا على المستعين باللّه جيشاً إلى أن خلع نفسه، وأشهد القضاة والعدول على نفسه بذلك، وانحدروا به إلى واسط وحبسوه تسعة أشهر، ثم دسوا إليه سعيداً الحاجب فذبحه في الحبس في ثالث شوال سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وجاء برأسه إلى المعتز وهو يلعب الشطرنج فقيل له: هذا رأس المخلوع. فقال: دعوه هناك حتى أفرغ من اللعب، ثم أمر بدفنه وعمره إحدى وثلاثون سنة وثلاثة أشهر، وخلافته إلى زمان خلعه سنتان وثمانية أشهر وستة عشر يوماً.
خلافة المعتز باللّه(2/229)
محمد بن المتوكل جعفر بن المعتصم بن الرشيد هارون بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله كان بديع الحسن جداً، مليح الصورة ليس في الخلق أجمل منه حسناً، كان مستضعفَاً مع الأتراك، وكان صالح بن وصيف مستولياً عليه، وهو خائف منه، فاجتمع الجند عليه، وطلبوا منه أرزاقهم، ووعدوه أنه إذا أنفق عليهم أرزاقهم ركبوا معه على صالح بن وصيف، فيقتلوه ويصفو الملك له، ولم يكن في خزائنه مال يصرفة عليهم فطلب من أمه وكانت تركية اسمها قبيحة لفرط جمالها بين النساء، فأبت أن تعطيه وشحت عليه بالمال، وسخت بولدها وكان معها مال عظيم فاتفق الأتراك على خلعه، وركب عليه صالح بن وصيف ومحمد بن بغا وهجموا عليه وجروا برجله، وأوقفوه في الشمس، فصار يرفع رجلا ويضع رجلا، وعذبوه وهم يلطمونه ويقولون: اخلعها ويتقي بيديه ويأبى، ثم أجابهم، وخلع نفسه؛ فأدخلوه الحمام، ومنعوه الماء إلى أن مات عطشاً. وقيل: أتوه بماء مالح فشربه وسقط ميتاً، ثم أخرجوه وأشهدوا عليه أنه لا أثر به، وصادر صالح بن وصيف قبيحة أم المعتز وعذبها حتى أخذ منها ألف ألف دينار ذهباً ونصف أردب لؤلؤ ومثله زمرد وسدس أردب ياقوت أحمر، ثم أخرجت إلى مكة وأقامت بها إلى أن ماتت، وأقل الناس الترحم عليها؛ حيث إن هذا المال عندها وشحت به عن ولدها عند احتياجه؛ فكان عليه ما كان.
توفي في ثالث شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين. مدة خلافته سنتان وأحد عشر شهراً، وعمره اثنتان وعشرون سنة وسبعة أشهر.
خلافة المهتدي باللّه
أبو إسحاق بن الواثق هارون بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور الخليفة الصالح، ولد في خلافة جده، سنة بضع عشرة ومائتين، وبويع بالخلافة لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، وما قبل بيعة أحد حتى أتى إليه بالمعتز قبل قتله، فلما رآه قام له وسلم على المعتز بالخلافة وجلس بين يديه فجيء بالشهود والقاضي ابن أبي الشوارب فشهدوا على المعتز أنه عاجز عن الخلافة، واعترف بذلك ومد يده وبايع المهتدي، فارتفع حينئذ المهتدي إلى صدر الديوان، وقال: لا يجتمع سيفان في غمد، وتمثل بقول أبي ذؤيب: من الطويل:
تُرِيدِينَ كَيْمَا تجمعيني وَخَالِدَاًوَهَلْ يُجْمَعُ السَّيْفَانِ وَيْحَكِ في غِمْدِ
وكان المهتدي باللّه أسمر، رقيقاً، مليح الوجه، ورعاً متعبدَاً، عادلا، قوياً في أمر اللّه تعالى، بطلا شجاعاً، لكنه لم يجد ناصراً ولا معيناً على الحق والخير. قال أبو بكر بن الخطيب: قال أبو موسى العباسي: لم يزل صائماً منذ ولي إلى أن قتل، قال العباس بن هاشم بن القاسم: كنت بحضرة المهتدي عشية في رمضان، فوثبت لأنصرف، فقال لي: اجلس فجلست، وتقدم فصلى بنا ثم دعا بالطعام، فإذا طبق عليه خبز وآنية فيها ملح وخل وزيت، فدعاني إلى الأكل فقال: كل واستوف فليس هاهنا من الطعام غير ما ترى؛ فعجبت، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، قد أسبغ اللّه نعمته عليك، فقال: إن الأمر على ما وصفت، ولكني فكرت في أنه كان في بني أمية عمر بن عبد العزيز، فكان من التقلل والتقشف على ما بلغك، فغرت على بني هاشم فأخذت نفسي بما رأيت.
وقال ابن عرفة النحوي: حدثني بعض الهاشميين، قال: كان للمهتدي سفط فيه جبة صوف وكساء، وكان يلبسه بالليل ويصلي فيه، وكان قد اطرح الملاهي، وحرم الغناء، وحسم عن الظلم، وكان يشرف على الدواوين بنفسه، ويجلس الكتاب بين بديه، فتبرم به بابك التركي وانحصر، وكان ظلوماً، غشوماً فأمر المهتدي بقتله، فلما قتل هاجت الأتراك، ووقع الحرب بينهم وبين المغاربة؛ فقتل من الفريقين أربعة آلاف، وخرج المهتدي والمصحف في عنقه، وهو يدعو الناس إلى نصرته، والمغاربة معه وبعض العامة، فحمل عليهم طنبغا أخو بابك فهزمهم، ومضى المهتدي منهزماً والسيف في يده وقد جرح جرحين، حتى دخل دار محمد بن أبي داود، فتجمعت الأتراك وهجموا عليه، وأخذوه أسيرَاً، وحمل على دابة، وأردف خلفه سائس بيده خنجر، وأدخل إلى دار بعضهم وجعلوا يصفعونه ويقولون: اخلعها، فأبى عليهم، فسلم إلى رجل منهم فوطئ مذاكيره حتى قتله. وتوفي في رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وكانت مدة خلافته سنة واحدة إلا خمسة عشر يوماً، عمره ثمان وثلاثون سنة وأربعة أشهر.
خلافة المعتمد على الله
أبي جعفر، أحمد بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور.(2/230)
لما قتل متغلبة الأتراك الخليفة المهتدي صبراً عمدوا إلى الحبس، وأخرجوا ابن عمه أبا جعفر أحمد بن المتوكل، ولقبوه بالمعتمد على اللّه، وبايعوه سنة ست وخمسين، أمه أم ولد اسمها فينان، وكان له انهماك على اللذات واللهو، فقدم أخاه طلحة بن المتوكل ولقبه بالموفق باللّه، وجعله ولي عهده، ولاه المشرق، والحجاز، واليمن، وفارس، وطبرستان، وسجستان، والسند. وكان له ولد صغير اسمه جعفر ولاه المغرب، والشام، والجزيرة، ولقبه المفوض إلى اللّه، وعقد لهما لواءين أبيض وأسود، وعقد لهما البيعة، وشرط على أخيه الموفق باللّه أنه إن حدث به الموت وولده صغير كان الموفق ولي عهده، وإن كان حينئذ ولده كبيراً كان هو ولي عهده، وكتب بذلك معاقدة كتب كل منهما خطة عليه، وكتب القضاة والعدول خطوطهم عليها، وأرسلها إلى مكة فعلقت في الكعبة، وما أفاد مع هذا حذر من قدر؛ كان الموفق عاقلا مدبراً شجاعاً، مشتغلا بأمور المملكة، ملتفتاً لأمور الرعية، وكان أخوه المعتمد مكباً على لهوه ولذاته، مهملا أحوال الرعية غير ملتفت إليها؛ فكرهه الناس وأحبوا أخاه طلحة الموفق، وظهرت فيه نجابات كثيرة، وكان ميمونَاً مظفرا في الحروب.
وظهر أيام المعتمد طائفة من الزنج، وتغلبوا على المسلمين، وكان لهم رئيس اسمه يهبول يدعى أنه أرسله اللّه إلى الخلق، وادعى علم المغيبات، وقتل في المسلمين....، ذكر الصولي أنه قتل ألف ألف وخمسمائة ألف مسلم، وكان يستأسر نساء المسلمين ويبيعهن في الأسواق بأبخس ثمن، وينادي على الشريفة العلوية بدرهمين، وكان عند الزنجي الواحد منهم عشر شرائف يطؤهن ويمتهنهن في الخدم الشاقة، وكان ذلك من أعظم المصائب في الإسلام. وتملك هذا الكافر مدناً كثيرة للمسلمين، واستأصل أهلها، وجعل دار مملكته واسط ورامهرمز وما والاهما؛ فانتدب لقتاله الموفق باللّه، وجمع الجموع والعساكر ممن حنكته الحروب، ووسمته قوارع الخطوب، فاتخذهم جناناً ويداً، ورضي بهم ساعداً وعضداً، فركض بهم إلى الأعداء اللئام، الكفرة الطغام. فالتقت الفئتان على ضربية الحرب، وتساقيا كئوس الطعن والضرب، فجفلت السودان من لامع الصارم الأبيض، وفروا كما يفر الليل الأسود من النهار المبيض، وقتل أميرهم يهبول، ونصر الله ملة الإسلام، ومحا بنوره ذلك الظلام، واستردت المدائن التي أخذها وغيرها من البلاد، واطمأن المسلمون وكافة العباد، ولقبوه بالناصر لدين اللّه، وصار له حينئذٍ لقبان: الموفق باللّه، والناصر لدين الله. ودخل إلى بغداد في عظمة وعلو شأن، ورأس ذلك الكافر ورءوس أصحابه على رماح، ودعا له المسلمون، وقصدته الشعراء بالمدائح، وأحبه الناس، وبعد صيته واستفحل أمره.
واستمر أخوه المعتمد على حاله منهمكاً في اللهو واللذات وله اسم الخلافة، وجميع الأمور يتلقاها الموفق باللّه الناصر لدين الله، فحسده أخوه المعتمد، لذهابه بالذكر والصيت، وأراد هضمه؛ لاستيلائه على المملكة ورضا الناس عنه، فلم يدر كيف يصنع في ذلك، فاستعان على هضم جانب أخيه بصاحب مصر يومئذٍ أحمد بن طولون، وكان ملكاً شجاعاً فاتكاً، صاحب جيوش وجنود، كثير الأموال والخزائن، مستقلا بمملكة مصر يأخذ خراجها، فكاتبه المعتمد، وأمره أن يقاتل أخاه ليخف أمره ويهون بذلك، فجرت بينهما حروب اشتغل بها الموفق عن أخيه المعتمد، وصار يواليه تارة ويداريه، ويباعده تارة ويدانيه. ومضى على ذلك زمان والموفق بعد مرهن.
وكان للموفق ابن نجيب اسمه أحمد جعله الموفق ولي عهده واستعان به في حروبه، وظهرت له نجابة وقوة، فخشي الموفق على نفسه وعلى أخيه المعتمد لما رأى من شجاعته وبسالته؛ فأودعه بطن الحبس ووكل به من يثق به في أمره، واستمر محبوساً إلى أن اشتد حال الموفق في المرض فبادر غلمانه إلى الحبس، وأخرجوا ولده أحمد منه فلما رآه الموفق قال: يا ولدي لهذا اليوم خبأتك، وكان ذلك قبل موته بثلاثة، وفوض إليه وأوصاه بعده المعتمد خيراً، ثم مات بعد ثلاثة أيام.(2/231)
وشمت المعتمد بموت أخيه، وظن أنه استراح وصفا له دهره، والدهر ما صفا لأحد من البشر؛ وإن صروفه تأتي بالعبر والغير. فما حال عليه الحول حتى سلب ذلك الطول والحول، ولم يكن له بعد خذلانه الناصر من قوة ولا ناصر. وتوفي يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين. وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة وأحد عشر شهراً وعمره أربعون سنة وستة أشهر.
خلافة المعتضد
أحمد بن الموفق باللّه طلحه بن المتوكل بن المعتصم.
بويع له بالخلافة بعد وفاة عمه المعتمد في تاريخ وفاته المذكور آنفاً. أمه أم ولد اسمها صواب، كان قليل الرحمة، مهيئاً ظاهر الجبروت، وافر العقل، شجاعَاً مظفراً. دانت له الأمور فسالمه كل مخالف ومعاند، شديد السطوة، حسن السياسة، يقدم على الأسد وحده، إذا غضب على أحد ألقاه في حفرة وطم عليه التراب، وله تصرفات شتى في قتل من غضب عليه، أسقط المكوس ورفع المظالم عن الرعية، وأظهر عز الملك بعد ما ذل ووهن، وجدد ملك بني العباس، وفي ذلك يقول عبد اللّه بن المعتز: من السريع:
أَمَا تَرَى مُلْكَ بني هَاشِم ... عَادَ عَزِيزاً بَعْدَ مَا ذُللا
يَا طَالِبَ المُلْكِ فَكُنْ مِثْلَهُ ... تَسْتَوْجِبِ المُلْكَ وَإِلاَ فَلاَ
وفيه يقول أبو العباس علي بن الرومي: من الطويل:
هَنِيئاً بني الْعَباسِ إِن إِمَامَكُمْ ... إِمَامُ الهدَى وَالْبَأْسِ وَالجودِ أَحْمَدُ
كَمَا بِأبي العَبَّاسِ أُسسَ مُلْكُكُمْ ... كَذَا بِأبي الْعَباسِ أيضاً يُجَدَدُ
إِمَام يَظَلُّ الأَمْسُ يَشكُو فِرَاقَهُ ... تأسُفَ مَلْهُوفٍ وَيَشْتَاقُهُ الْغَدُ
وكان مع سطوته وبأسه يتوخى العدل، ويبرز المراء في صورة الجبروت والعسف، وهو في ذلك محق في الباطن، فمن ذلك ما روى عن عبد اللّه بن حمدون قال: خرج المعتضد للصيد يوماً وأنا معه، فمر بمقثاة فعاث بعض جنوده فيها، فصاح صاحبها واستغاث بالمعتضد، فأحضره وسأله عن سبب صياحه فقال: ثلاثة من غلمانك نزلوا المقثاة فأخربوها. فأمر عبيده بإحضارهم، فضرب أعناقهم ومضى وهو يحادثني فقال لي: اصدقني ما الذي تنكره الناس من أحوالي. فقلت له: سفكك للدماء. فقال: ما سفكت دمَاً حراماً قط، فقلت: بأي ذنب قتلت أحمد ابن الطيب. فقال: دعاني إلى الإلحاد فقتلته لما ظهر لي إلحاده؛ لنصرة الدين. فقلت: فالثلاثة الذين نزلوا المقثاة الآن؟ فقال: واللّه ما قتلتهم، وإنما ثلاثة من قطاع الطرق، وأوهمت الناس أنهم هم، ثم أحضر صاحب الشرطة فأمره بإحضار الثلاثة الذين نزلوا المقثاة فأحضرهم وشاهدتهم، ثم أمر بإعادتهم إلى الحبس. وهكذا ينبغي تدبير السياسة، وإظهار النصفة، وتخويف الجند وإرعابهم.
ومما وقع في أيام المعتضد من عمارة المسجد الحرام زيادة دار الندوة، وهي الزيادة التي في شامي المسجد وهي أول الزيادتين، والأخرى التي في الجانب الغربي، سيأتي أن الآمر بها المقتدر، وبينهما قريب من عشرين سنة، وليست الزيادة هي عين دار الندوة، بل محلها في تلك الأماكن لا على التعيين من خلف مقام الحنفي إلى آخر الزيادة.
قلت: ما سبق بيانه أن قصياً أول من بنى مكة، ثم بنت قريش بيوتها، وأن البيوت كانت محدقة بالكعبة، ولها أبواب شارعة إلى المطاف، وبين كل دارين طريق إلى المطاف، وهو هذه البقعة المرخمة - يقتضي أن دار الندوة هي محل مقام الحنفي الآن بلا شبهة، فتأمل ذلك.
ومن شعر المعتضد قاله حين مرض: من الطويل:
تَمَتع مِنَ الدُّنْيَا فَإِنكَ لاَ تَبقَىوَخُذ صَفْوَهَا مَهْمَا صَفَتْ وَدع الرنْقَا
وَلاَ تَأْمَنَن الدهرَ إِني أَمِنتُهُ ... فَلم يُبقِ لِي حَالا وَلَم يَرْعَ لي حَقا
قَتَلتُ صَنَادِيدَ الرجَالِ وَلَم أَدَع ... عَدواً وَلَم أُمهِل عَلَى حَسَدِ خَلقَا
وَأَخلَيتُ دَارَ الملكِ عَن كُل نَازِلٍ ... وَفَرقتُهُمْ غَربَاً وَمَزقتُهُمْ شَرْقَا
وَلما بَلغتُ النجمَ عِزاً وَرِفعَة ... وَدَانَت رِقَابُ الخَفقِ أَجمَعَ لِي رقا
رَمَاني الردى سهماً فأَخمَدَ جمرَتِي ... فَها أنا ذا في حُفرَتِي عَاجِلا مُلقَى(2/232)
وَأَفسَدتُّ دُنيَايَ وَدِينِي سَفَاهَة ... فَمَن ذَا الذِيِ مِني بِمَصْرَعِهِ أَشقَى
فَيَا لَيتَ شعري بَعدَ مَوتِيَ مَا أَرَى ... لِرَحمَةِ رَبي أَم إِلَى نَارِهِ أُلقَى
ثم عهد إلى ابنه علي ولقبه المكتفي باللّه، وأخذ له البيعة قبل موته بثلاثة أيام.
حكى المسعودي أن المعتضد كان مفرطاً في الجماع، فاعتل من إفراطه وطالت علته، وغشي عليه؛ فشك من حوله في موته، وكان لا يجسر أحد عليه لشدة هيبته، فتقدم إليه الطبيب ليخبره بجس النبض، ففتح عينيه وفطن لذلك، فرفس الطبيب برجله رفسة رماه أذرعا فمات الطبيب!! ثم مات المعتضد من ساعته.
وكان أسمر اللون، مهيباً جداً، معتدل الشكل. توفي لسبع بقين من ربيع الأول سنة تسع وثمانين ومائتين، وقيل: سنة سبع وثمانين، وكان مدته تسع سنين وتسعة أشهر وأربعة أيام، وعمره ست وأربعون سنة وشهر.
خلافة المكتفي باللّه
علي بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور.
لما توفي المعتضد كان ابنه المكتفي غائباً بالرقة، فنهض بأعباء البيعة له الوزير أبو الحسين القاسم بن عبيد الله، وكتب إليه فوصل، وكان يوم دخوله يوماً مشهوداً زينت له بغداد، ونزل دار الخلافة وخلع على الوزير سبع خلع، ومدحه الشعراء وأنعم عليهم بالجوائز السنية.
كان مولده في غرة ربيع الأول سنة مائتين وأربع وستين. وأمه أم ولد تركية اسمها غنجك، وكان مليح الصورة يضرب بحسنه المثل. قال ابن المعتز: من الكامل:
مَيزتُ بَين جَمَالِهَا وَفِعَالِهَا ... فَإِذَا المَلاَحَةُ بِالجِنَايَةِ لاَ تَفِي
وَاللَّهِ لاَ كَلّمتُهَا وَلَوَ أنَّهَا ... كَالشمْسِ أَوْ كَالْبَدرِ أَو كَالْمُكتَفِي
كان وسيماً جميلا، بديع الحسن، وردى اللون، معتدل الطول، أسود الشعر. قال الصفدي في شرح اللامية: ومن أين للمكتفي صفة الحسن؟ والذي دلت عليه التواريخ أنه كان أسمر أعين قصيراً، وليست هذه من صفات الحسن. قلت: المثبت مقدم على النافي؛ سيما وأكثر التواريخ فيها وصفه بالحسن كما هنا.
وكان إلى حب علي بن أبي طالب. امتدحه شاعر بقصيدة يذكر فيها فضل أولاد العباس على أولاد علي، فقطع المكتفي عليه إنشاده وقال: كأنهم ليسوا ابني عم وإن لم يكونوا خلفاء، ما أحب أن يخاطب أهلنا بشيء من ذلك، ولم يسمع القصيدة ولا أجازه عليها: وذكر عبد الغفار في تاريخ نيسابور عن أبي المديني - وكان معلماً للمكتفي قبل أن يلي الخلافة، فلما أفضت إليه كتب إليه بهذين البيتين: من الخفيف:
عِنْدَ أَهل التُقَى وَأَهلِ المُروهْ ... حَق الأُسْتَاذِ فَوْقَ حَق الأبوَةْ
وَأَحَق الأنَامِ أَنْ يَحفَظُوا ذَا ... كَ وَيرْعَوْهُ أَهلُ بَيْتِ النبوهْ
ومن أعظم الحوادث في أيام المكتفي ظهور القرامطة الملحدين، بل الكفرة أعداء الدين فأول من خرج منهم يحيى بن بهرويه القرمطي، وكانت دار ملكهم هجر، وهم طائفة إباحية يدعون أن الإمام الحق بعد النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن الحنفية، ويسندون إليه أقاويل باطلة لا أصل لها، فجهز عليه المكتفي جيوشاً فقتله، فقام بعده أخوه الحسين وظهر شأنه، وظهر ابن عمه عيسى ابن مهرويه، ويلقب بالمدثر، وزعم أنه المراد بالسورة الشريفة يا أيها المدثر، ولقب غلامَاً مظلماً بالمطوَق بالنور، وزعم أنه المهدي، ودعا لنفسه على المنابر، وأفسد بالشام وعاث؛ فحارب المكتفي الثلاثة وقتلهم، وطيف برءوسهم في البلاد في سنة إحدى وتسعين ومائتين.
ولم يطل زمان المكتفي؛ توفي ليلة الأحد لاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين، ومدة خلافته ست سنين وسبعة أشهر، وعمره إحدى وثلاثون سنة وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوماً.
خلافة المقتدر بالله
أبو الفضل جعفر بن المعتضد بن الموفق باللّه بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد ابن المهدي بن المنصور.
بويع له بالخلافة ببغداد يوم مات أخوه المكتفي وهو ابن ثلاث عشرة سنة وأربعين يوماً، ولم يل الخلافة قبله ولا بعده أصغر منه، وضعف دست الخلافة في أيامه.(2/233)
ذكر صاحب النوادر وغيره أن صافي مولى المعتضد قال: مشيت يوماً بين يدي المعتضد وهو يريد دار الحريم، فلما بلغ باب دار المقتدر وقف وتسمع وتطلع من خلل الباب، فإذا هو بالمقتدر وله إذ ذاك خمس سنين، وبين يديه طبق فضة فيه عنقود عنب في وقت فيه العنب عزيز جداً، والصبي يأكل منه واحدة بعد واحدة ثم يطعم الجماعة عنبه عنبة على الدور، حتى فنى العنقود والمعتضد يتمزق غيظاً، ثم رجع ولم يدخل الدار، فرأيته مهموماً، فقلت: ما سبب هذا يا سيدي؟ فقال: يا صافي، لولا العار والنار لقتلت هذا الغلام اليوم، فإن في قتله صلاحاً للأمة. فقلت: يا سيدي، ما شأنه، وأي شيء غمك أعيذك باللّه من هذا؟ فقال: ويحك، أنا بصير بما أقول: أنا رجل قد سست الأمور، وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد، ولا بد من موتي، وأنا أعلم أن الناس بعدي لا يختارون أحداً على ولدي، إنهم سيجلسون ابني علياً - يعني المكتفي - وما أظن عمره يطول للعلة التي به - يعني الخنازير التي في حلقه - فيتلف عن قريب ولا يرى الناس إخراجها عن ولدي، ولا يجدون بعد أمثل من جعفر - يعني المقتدر - وهو صبي وله من الطبع والسخاء ما قد رأيته من أنه أطعم الوصائف مثل ما أكل، وساوى بينه وبينهم في شيء عزيز في العالم. والشح على مثله في طبائع الصبيان غالب، فيحتوي على النساء لقرب عهده بهن، فيقسم ما جمعته من الأموال كما قسم العنب، ويبذر خراج الدنيا، فتضيع الثغور، وتعظم الأمور، وتحدث الحوادث والأسباب التي فيها زوال الملك عن بني العباس. فقلت: يا مولاي، يتخلق بأخلاقك، ولا يكون هذا الذي ظننت. فقال: ويحك، احفظ عني ما أقول: فإنه كما قلت. ومكث يومه مهموماً. وضربه الدهر ضربة ومات المعتضد، وولى المكتفي ولم يطل عمره، وولي المقتدر، فكان ما ذكره المعتضد، فواللّه لقد وقفت على رأس المقتدر وهو في مجلس لهوه، فدعا بالأموال فأخرجت إليه ووضعت البحر بين يديه، فجعل يفرقها على الجواري والنساء، ويلعب بها ويمحقها ويهبها، وأعطى القهرمانة سبحة جوهر لم ير مثلها، وأخرج على النساء جميع جواهر الخلافة، وأتلف أموالا كثيرة، منها من النقد ثمانمائة ألف ألف دينار، فذكرت قول مولاي المعتضد، ثم إن الجند وثبوا على وزيره فقتلوه، واتفقوا على خلع المقتدر، وعقدوا لأبي العباس عبد اللّه بن المعتز بن متوكل فوليها.
خلافة عبد الله بن المعتز بن المتوكل
لما أقاموه في الخلافة لقبوه الغالب بالله، وقيل: المرتضى بالله، بعد أن شرط عليهم ألا يكون في ذلك حرب ولا سفك دم، فلما بويع استمر يوماً وليلة، فأرسل إلى المقتدر يأمره بإخلاء دار الخلافة، وأن يذهب إلى دار محمد بن طاهر لينظر في أمره، فلما جاء الرسول إلى المقتدر وبلغه الرسالة قال: ليس عندي جواب إلا السيف، ولبس السلاح وركب، ومعه جماعة قليلة من خدمه وهم مستسلمون للقتل في غاية الخوف والوجل، وهجموا على عبد الله بن المعتز، فأهاله ذلك وألقى الله في قلبه الرعب فانهزم هو ووزيره وقاضيه، وكل من هو في ديوانه؛ ظناً أن خلف هؤلاء أعواناً وأنصارَاً، وقبض المقتدر على ابن المعتز وحبسه، ثم أخرجه من الحبس ميتاً.
قال ابن خلكان: لما أدخل ابن المعتز على المقتدر أمر به فطرح على الثلج عرياناً، وحشى سراويله ثلجاً، فلم يزل كذلك والمقتدر يشرب إلى أن مات في ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين.
وعبد اللّه بن المعتز لقصر زمانه لا ينبغي عده من الخلفاء، ولكن قد ذكرناه كما ذكره بعض المؤرخين لفضله وأدبه، وهو أشعر بني العباس؛ بل أشعر بني هاشم على الإطلاق، وأغزرهم فضلاَ وأدبَاً ودخولا، ومعرفة بعلم الموسيقا، وصاحب التشبيهات المبتكرة، الغريبة المخترعة، المرقصة، التي لا يشق له فيها غبار. وكان يقول: إذا قلت: كأن، ولم أجد تشبيهاً فقطع اللّه لساني. قلت: مما أحفظ لعبد اللّه ابن المعتز من ذلك قوله في تشبيه الهلال والثريا، حيث يقول: من المنسرح:
قَدِ اتقَضَت دَولَةُ الصيَامِ وَقَد ... بَشَرَ سُقمُ الهِلاَلِ بِالْعِيدِ
يَتْلُو الثرَيا كَفَاغِرٍ شَرِهِ ... يَفتَحُ فَاهُ لأَكْلِ عُنْقُودِ
وقوله في تشبيه الليل والهلال والنجوم: من المنسرح:
كَأنمَا الليلُ وَالهِلالُ وَقَدْ ... لاَحَتْ نُجُومُ السمَاءِ مُنْقَضهْ(2/234)
وَأم مِنَ الزنجِ حَوْلَهُ ذهبٌ ... تَبدرُ مِنْهُ بَنَادِقُ الفِضَّه
وقوله: من الرجز:
إِذَا الهِلاَلُ فَارَقَتهُ لَيْلَتُه
لِكُل مَنْ يَرمُقُهُ وَيَنْعَتُهْ
كَأنهُ أَسمَرُ شَابَت لِحيَتُه
وهو صاحب القصيدة البائية التي يفخر فيها على بني هاشم، ويدعى أولوية الخلافة ببني العباس - وهو في ذلك ظالم - وهي قوله: من المتقارب:
أَلاَ مَنْ لِعَين وَتَسكَابِهَا ... تُشَكى القَذَا وَبُكَاهَا بِهَا
تَرَامَت بِنَا حَادِثَاتُ الزمَانِ ... تَرَامِى القِسِي بِنشَابِهَا
وَيَا رُب أَلْسِنَةِ كَالسيوفِ ... تُقَطعُ أَرْقَابَ أَصْحَابِهَا
وكم دُهِيَ المرءُ مِن نفسِهِ ... فمزَّقهُ حَدُ أَنيابِهَا
وَإِنْ فُرْصَةٌ أمكنَتْ في العدو ... فَلاَ تُبدِ همَّكَ إلاّ بِهَا
فإنْ لم تَلِج بابَها مُسْرِعاً ... أتاكَ عدوُكَ مِنْ بَابِهَا
وهل نافِعٌ نَدَمْ بعدَهَا ... وتأميلُ أخرى وأَنَّى بِهَا
وَمَا يُنْتَقَصْ من شبابِ الرجالِ ... يُزَدْ في نُهَاها وَأَلْبَابِهَا
نهيتُ بني رَحِمِي نَاصِحاً ... نَصِيحَةَ بَر بأنسَابِهَا
وقد رَكِبُوا بغيهم وارْتَقَوْا ... مَعَارجَ تَهْوِى بركابِهَا
فَرَامُوا فَرَائِسَ أُسْد الشَرَى ... وقد نَشِبَتْ بينَ أَنيابِهَا
دَعُوا الأسدَ تفرس ثم اشْبَعُوا ... بما تفضلُ الأسْدُ في غابِهَا
ومنها:
قتلنا أميةَ في دارِهَا ... ونحنُ أحق بأسلابِهَا
ولما أبى اللَهُ أَن تملِكُوا ... نهضْنَا إليها وقُمْنَا بِهَا
ونحن ورثنا ثيابَ النبِي ... فَلِمْ تَجذِبونَ بأَهْدَابِهَا
لَكُمْ رَحِم يا بني بِنتِهِ ... ولكنْ بَنُو العم أولَى بِهَا
فَمَهْلا بني عَمنَا إنها ... عطيةُ رب حَبَانا بِهَا
وكانت تَزَلزلُ في العالَمِينَ ... فَشُدَتْ لَدَيْنَا بأَطْنَابِهَا
فرد عليه شاعر زمانه، وفصيح أوانه - العزيز بن سرايا الحلي، وأجاد فقال: من المتقارب:
أَلاَ قُلْ لِشر عبيدِ الإِلهِ ... وَطَاغى قريشٍ وَكَذابِهَا
أَأَنْتَ تُفَاخِرُ آلَ النبي ... وَتَجْحَدُهَا فَضْلَ أَنْسَابِهَا
بِكُمْ بَأهَلَ المُصْطَفى أَمْ بِهِمْ ... وَرَدَ العُدَاةَ بِأَوْصَابِهَا؟!
أَعَنْكُم نَفي الرجْسَ أَم عَنهُمُ ... لِطُهْرِ النُّفُوسِ وَأَلْبَابِهَا؟!
أَمِ الشُرْبُ واللهْوُ مِنْ دَأْبِكُمْ ... وَفَرْطُ العِبَادَةِ مِنْ دَأبِهَا؟!
وقلتم وَرِثْنَا ثِيَابَ النبِي ... فَلِمْ تَجْذِبُونَ بأهْدَابِهَا
وعندكَ لاَ تُورَثُ الأنبياءُ ... فَكَيْفَ حَظِيتُمْ بأَثْوَابِهَا
فكذبْتَ نَفْسَكَ في الحالَتَيْنِ ... ولم تعلمِ الشَهْدَ مِنْ صَابِهَا
أَجَدُكَ يَرضَى بما قلتَهُ ... وَمَا كَانَ يَوْماً بمُرْتَابِهَا
وكان بصِفين من حِزبِهِم ... لحربِ الطغاةِ وأحزابِها
وقد شَمرَ المَوتُ عن سَاقِهِ ... وكَشرَتِ الحَرْبُ عن نَابِهَا
فأقبلَ يَدْعُو إلى حَيْدرٍ ... بِإرْعَابها وبإرْهَابِهَا
وآثرَ أَنْ ترتضيه الأَنامُ ... منَ الحَكَمَينِ لإسْهَابِهَا
ليُعْطِي الخِلافَةَ أَهلا لَهَا ... فلم يرتضوه لأَنجابِهَا
وَصَلى معَ الناسِ طولَ الحياةِ ... وحيْدرُ في صدرِ مِحْرابِهَا
فَهَلا تَقَمَصَها جَدُكُمْ ... إذَا كانَ ذلك أَحْرَى بِهَا
وإِذْ جَعَلَ الأمرَ شُورَى لهم ... فهَلْ كَانَ من بَعْضِ أَرْبَابِهَا(2/235)
أَخَامِسَهُمْ كَانَ أَمْ سَادِساً ... وَقَدْ جُليَتْ بَيْنَ خطَابِهَا
وقولُكَ: أنتم بَنُو بنتِهِ ... وَلَكِنْ بَنُو العَم أَولَى بِهَا
بَنُو البِنتِ أيضاً بَنُو عَمهِ ... وذَلِكَ أَدْنَى لأَنْسَابِهَا
فَدَع في الخلاَفَةِ فَصلَ الخِطَابِ ... فليسَتْ ذَلُولا لِرُكَابِهَا
وَمَا أَنْتَ والفَحْصَ عَن شَأنِهَا ... وَمَا قَمَّصُوكَ بِأَثْوَابِهَا
وَمَا سَاوَرَتْكَ سِوَى سَاعَةٍ ... فَمَا كُنْتَ أَهْلا لألَقَابِهَا
وَكَيْفَ يَخُصوكَ يَوماً بِهَا ... وَلَمْ تَتَأدب بآَدَابِهَا
وَقُلتَ بأنكُمُ القَاتِلُونَ ... أسودَ أُمَيةَ في غَابِهَا
كَذَبْتَ وَأَسْرَفْتَ فِيمَا ادعَيْتَ ... وَلَمْ تَفدِ نَفسَكَ عَنْ عَابِهَا
فَكَمْ حَاوَلَتهَا سَرَاة لَكُمْ ... فَردتْ عَلَى نَكْصِ أَعْقَابِهَا
ولولا سُيُوف أبي مُسْلِم ... لَعَزَّتْ عَلَى جَهْدِ طلاَبِهَا
وَذَلِكَ عَبْدٌ لَهُم لاَ لَكُم ... رَعَى فيكمُ قُربَ أَنْسَابِهَا
وَكنتُم أَسَارَى بِبَطْنِ الحُبُوسِ ... وَقَد شَفكُم لَثْمُ أَعْقَابِهَا
فَأَخرَجَكُمْ وَحَبَاكُم بِهَا ... وَقَمَصَكُم فَضلَ جِلْبَابِهَا
فجازَيْتُمُوه بِشَر الجَزَاءِ ... لطغوَى النفُوسِ وَإِعْجَابِهَا
فَدَع ذِكرَ قَوم رَضُوا بالكَفَافِ ... وَجَاءُوا القَنَاعَةَ مِن بابِهَا
هُمُ الزاهِدُون هُمُ العَابِدُونَ ... هُمُ العامِلُونَ بآدابهَما
هُمُ القَائِمُونَ هُمُ الراكِعُون ... هُمُ الساجِدُونَ بِمحْرَابِهَا
هُمُ قُطبُ مِلةِ دِينِ الإِلَهِ ... وَدورُ الرحِي بِأَقطَابِهَا
عَلَيك بِلَهوِكَ بالغَانِيَاتِ ... وَخَل المَعَالِي لأرَبَابِهَا
ووصفِ العِذَارِ وَذَاتِ الخِمَارِ ... وَنَعتِ العُقَارِ بِأَلْقَابِهَا
وَشِعرِكَ في مَدحِ تَركِ الصلاَة ... وَسَعىِ السقَاةِ بأَكْوَابِهَا
فَذَلِكَ شَأنكَ لاَ شَأنهُم ... وَجَرىُ الجِيَادِ بِأحسَابِهَا
واستمر المقتدر في الخلافة إلى أن خرج عليه مؤنس الخادم مقدم جيشه، وذلك سنة سبع عشرة وثلاثمائة لأمر بلغه عنه، وهو أنه قد عزم على اغتياله، فبلغ المقتدر ما نقل إلى مؤنس، فحلف المقتدر على بطلان ذلك معتذرَاً إلى مؤنس فأسرها مؤنس ولم يقبل حلفه ولا عذره، وركب والجيش معه وجاءوا دار الخلافة، فهرب خواص المقتدر، وأشهد المقتدر على نفسه بالخلع، وأحضر مؤنس أبا منصور محمد بن المعتضد وبايعه، ولقب بالقاهر باللّه، وفوضت الوزارة إلى الوزير أبي علي ابن مقلة الكاتب المشهور، واستقر القاهر، وكتب الوزير إلى سائر البلاد، وعمل يوم الاثنين الديوان، فجاء العسكر يطلبون منه رسم البيعة، فارتفعت الأصوات فمنعهم الحاجب من الدخول إلى الخليفة القاهر، فقتلوا الحاجب، ومالوا إلى دار مؤنس الخادم، وأخرجوا المقتدر من الحبس، وحملوه على أعناقهم إلى دار الخلافة، فجلس على سريرها، وأتوه بأخيه القاهر، وهو مقهور يبكي ويقول: اللّه اللّه يا أخي في روحي. فاستدناه المقتدر، وقبل بين عينيه، وقال: يا أخي، لا ذنب لك، الذنب مؤنس، وأنت مضطر مغلوب على أمرك، والله لا ينالك مني مكروه، فطب نفساً وقر عيناً. وبذل المقتدر الأموال للجند واسترضاهم، وثبتت له الخلافة بعد العزل مرتين، الأول بالمعتز، والثانية بالقاهر، وهذه التولية ثالث مرة، والثالثة ثابتة.
ومن محاسن المقتدر أنه زاد في المسجد الحرام باب إبراهيم في الجانب الغربي منه، وليس المراد بإبراهيم المضاف إليه هذا الباب سيدنا إبراهيم الخليل - على نبينا وعليه وعلى سائر النبيين أفضل الصلاة والسلام - وإنما هو إبراهيم كان خياطاً يجلِسُ عند الباب وعمر دهراً، فعرف الباب به وأضيف إليه، كذا في أعلام القطبي.(2/236)
وقدمت على المقتدر رسل ملك الروم بهدايا لطلب الهدنة، فعمل المقتدر موكباً عظيماً لإرهاب العدو، فأقام مائة وستين ألف مقاتل بالسلاح الكامل سماطين، وأقام بعدهم الخدم وهم سبعة آلاف خادم، ثم الحجاب وهم سبعمائة حاجب، وعلق في دار الخلافة ثمانية وثلاثين ألف ستر ديباج، وكانت الفرش الفاخرة التي بسطت في الأرض اثنين وعشرين ألف بساط، وفي الحضرة مائة سبع بسلاسل الذهب والفضة، وأبرز شجرة صيغت من الذهب والفضة وأغصانها تتمايل بحركات مصنوعة، وعلى الأغصان طيور ذهب وفضة تنفخ فيها الريح فيسمع لكل طير تغريد وصفير خاص، وهذا بعد وهن الخلافة وضعفها، فكيف كان زينتها في أيام دولتهم في كمال وصفها، فسبحان من لا يزال ملكه ولا يزول.
وفي هذه السنة - وهي سنة سبع عشرة وثلاثمائة - لم تشعر الحجاج يوم التروية بمكة إلا وقد وافاهم عدو الله أبو طاهر القرمطي في عسكر جرار، فدخلوا بخيلهم وسلاحهم المسجد الحرام، ووضعوا السيف في الطائفين والمصلين والمحرمين إلى أن قتلوا في المسجد الحرام وفي مكة وشعابها - أزيد من ثلاثين ألف إنسان، وركض أبو طاهر بسيفه مسلولا بيده وهو سكران، فصفر لفرسه عند البيت فبال وراث، والحجاج يطوفون والسيوف تأخذهم، وقتل في المطاف خاصة ألف محرم، وطمت بئر زمزم بالقتلى، وما بمكة من الحفر والآبار ملئت بهم، وطلع أبو طاهر إلى باب الكعبة فقلعه وهو يقول: من الرمل:
آَنا بِاللهِ وَباللَّهِ أَنا ... يَخلُقُ الخَلقَ وَأُقنِيهِم أَنَا
وأطلع رجلا لقلع الميزاب فأتاه سهم من جبل أبي قبيس فقتله، وأطلع آخر لقلعه فسقط إلى أسفل فانفضخ دماغه، فقال: دعوه حتى يأتي من يأخذه. وقتل أمير مكة محمد بن محارب وخلقاً من العلماء والصلحاء، واستدعى جعفر بن أبي علاج فأمره بقلع الحجر الأسود فقلعه بعد العصر يوم الاثنين رابع عشر ليلة خلت من ذي الحجة من تلك السنة. وأقام بمكة أحد عشر يوماً، وقيل: ستة أيام، ثم انصرف إلى بلده هجر، وحمل معه الحجر الأسود يريد أن يحول الحج إلى بلده الذي سماه دار الهجرة، وأراد أخذ مقام الخليل، فغيبه بنو شيبة في بعض شعاب مكة.
ولما وصل إلى بلده علق الحجر الأسود في الأسطوانة السابعة مما يلي صحن المسجد، وبقي الحجر الأسود عندهم، وبذل له المطيع العباسي خمسين ألفاً فلم يردوه، إلى أن أيسوا من تحويل الحج إلى بلدهم هجر، فردوه إلى محله من أنفسهم بعد اثنين وعشرين عاماً وأربعة أيام، أتى به سمندر بن الحسن القرمطي إلى مكة يوم النحر سنة 339 تسع وثلاثين وثلاثمائة فوضعه، وقال: أخذناه بأمر، ورددناه بأمر.
وللقرمطي وعترته سير مطولة، وابتلى أبو طاهر بأكلة فصار لحمه يتناثر بالدود، فمات أشنع موتة. وفي التواريخ صور أخرى لهذه القصة متناقضة، وهذا ملخص أصح ما روى فيها، فاعتمدنا عليه باختصار.
ثم وقع بين مؤنس والمقتدر حرب خرج فيه المقتدر فتوغل في المعركة، فضربه بربري من خلفه فسقط إلى الأرض. فقال لضاربه: ويحك أنا الخليفة، فقال: أنت المطلوب، وذبحه بالسيف ورفع رأسه على الرمح، وسلب ما على بدنه وبقي مكشوف العورة حتى سُتر بحشيش، ثم حفر له مكانه فدفن وعفي أثره.
وكانت وفاته لثمان بقين من شوال سنة عشرين وثلاثمائة ومدة خلافته أولا وثانياً وثالثاً خمس وعشرون سنة إلا أياماً، وعمره ثمان وثلاثون سنة وشهر ونصف.
خلافة القاهر باللّه
أخيه محمد بن المعتضد بن الموفق باللّه بن المتوكل بن المعتصم بويع لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة.
ولما ولي قبض على أخيه المكتفي، وأمر به فأقيم في بيت وسد عليه بالآجر والجص حتى مات غماً. وقبض على أم المقتدر فطالبها بمال لم تقدر عليه؛ فتهددها وضربها بيده وعذبها وعلقها منكوسة حتى كان يجري بولها على وجهها وهي تقول: ألست ابني في كتاب اللّه، ألم أخلصك من ابني المقتدر لما جيء بك إليه تبكي؟ وأنت الآن تعاقبني هذه العقوبة. ثم إنها ماتت بعدُ عقب ذلك.(2/237)
ثم إن الجند شغبوا عليه، وهجموا على داره من سائر الأبواب، فهرب إلى سطح حمام واستتر فيه، فأتوا إليه وقبضوا عليه، وخلعوه وحبسوه، وسملوا عينيه. قال ابن البطريق: لأن القاهر قد ارتكب أموراً قبيحة لم يسمع بها في الإسلام، وكان أهوج طائشاً، سفاكَاً للدماء، مدمناً للشرب، كانت له حربة يأخذها بيده فلا يضعها حتى يقتل بها إنسانَاً، ولولا الحاجب سلامة لأهلك الناس.
وحكى أن رجلا قال: صليت في جامع المنصور ببغداد، فإذا أنا بإنسان عليه جبة عتابية قد ذهب وجهها، وبقيت بطانتها وقطنها، وهو يقول: أيها الناس، تصدقوا علي، بالأمس كنت أمير المؤمنين وأنا اليوم من فقراء المسلمين، فسألت عنه فقيل لي إنه القاهر باللّه.
كانت مدة خلافته ست سنين وسبعة أشهر. ووفاته تأخرت إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وعمره اثنان وخمسون سنة وثمانية أشهر.
خلافة الراضي باللّه
أبي العباس محمد بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم.
بويع بالخلافة يوم خلع عمه القاهر سنة ست وعشرين وثلاثمائة، واستوزر أبا علي بن مقلة. وأطلق كل من كان في حبس القاهر، ثم قبض على ابن مقلة، وسبب ذلك أن محمد بن رائق كان بواسط متغلباً عليها إلا أن الضرورة ألجأته إلى ذلك؛ لاضطراب الأمور عليه، ولضعف من يلي الوزارة عن القيام بها، فأحضر الراضي القضاة، وأعلمهم بأن ابن مقلة راسله في محمد بن رائق فأفتوا بقطع يده اليمنى، وبعد أيام قطع لسانه، ثم مات في شوال سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. ودعا الراضي باللّه محمد بن رائق فقدم إلى بغداد، فجعله الراضي أمير الأمراء، وفوض إليه تدبير المملكة، ومن ذلك اليوم بطل أمر الوزارة ببغداد، ولم يبق إلا اسمها، والحكم للأمراء والملوك المتغلبين، فكان قدومه لخمس بقين من ذي الحجة سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة والدنيا في أيدي المتغلبين، وكل من حصل في يده بلد ملكه ومانع عليه: فالبصرة وواسط والأهواز في يد عبد الله اليزيدي وأخوته، وفارس في يد عماد الدولة بن بويه الديلمي، والموصل وديار ربيعة ومضر في أيدي بني حمدان الحسن بن حمدان وناصر الدولة وسيف الدولة، ومصر والشام في يد أبي بكر محمد بن طغج الإخشيدي، والمغرب وإفريقية في يد المهدي الفاطمي، والأندلس في يد بني أمية أولاد عبد الرحمن بن معاوية بن هشام ابن عبد الملك الأموي، وخراسان وما والاها في يد نصر بن أحمد الساماني، واليمامة وهجر والبحرين في يد أولاد أبي طاهر القرمطي، ولم يبق في يد الراضي وابن رائق سوى بغداد وما والاها، وتعطلت دواوين المملكة، ونقص قدر الخلافة وضعف ملكها.
فتوفي الراضي بالله خامس ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة بعلة الاستسقاء والسحج، وكان أكبر أسباب علته كثرة الجماع، وكانت مدة خلافته ثلاث سنين وخمسة أشهر وعشرة أيام، وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وهو آخر خليفة له شعر مدون، وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش والأموال، وآخر خليفة خطب يوم الجمعة وجالس الندمان، وكانت جوائزه وأموره على ترتيب المتقدمين. ومن شعره قوله: من مجزوء الخفيف:
كُل صَفوٍ إِلَى كَدر ... كُلُّ أَمن إِلى حَذر
وَمَصِيرُ الشبَابِ لِل ... موتِ فِيهِ أَوِ الْكَدر
در در المَشِيبِ مِن ... وَاعِظ يُنذِرُ البَشَر
أَيهَا الآمِلُ الذِي ... تَاهَ في لُجةِ القَدر
أَينَ مَن كَانَ قَبلَنَا ... ذَهَبَ العَينُ وَالأَثَر
رَب فَاغَفِر ليَ الخَطي ... ئَةَ يَا خَيرَ مَن غَفر
خلافة المتقي لله
أخوه إبراهيم بن المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة يوم موت أخيه الراضي، فصلى ركعتين وركب السرير. وكان ذا دين وورع وزهد، ولهذا لقبوه بالمتقي، ولم يكن له من الخلافة إلا الاسم، والتصرف لتوزون.
ثم إنه زاد استيلاؤه فخلع المتقي، وسلمه لابن عمه المستكفي فأخرجه إلى جزيرة بقرب السند، وأكحله بعد أن أشهد المتقي على نفسه بالخلع سنة 333 ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، فكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهرَاً. ولما توفي قال القاهر - وكان يعيش: من السريع:
صِرتُ وَإبرَاهِيم شَيخَي عَمي ... لاَ بُد لِلشيخَينِ مِن مَصْدَرِ(2/238)
مَا دَامَ توزون لَهُ إِمرَة ... مُطَاعَة فَالمَيلُ في المَجمَرِ
ولم يحل الحول على توزون حتى مات، وكان عُمر المتقي اثنتين وثلاثين سنة وستة أشهر واثني عشر يوماً.
خلافة المستكفي باللّه
أبي القاسم، عبد الله، المستكفي علي بن المعتضد، بويع بالخلافة بعد ابن عمه. وفي أيامه قدم معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي إلى بغداد، فخلع عليه وفوض إليه أمر المملكة وتدبيرها، وأمر أن يخطب له على المنابر، ولقبه بمعز الدولة، ولقب أخاه أبا الحسن علي بعماد الدولة، ولقب أخاهما أبا الفتح بركن الدولة، وكان قدومه سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
ثم وقعت الفتنة بينه وبين معز الدولة، وقبض عليه وسمل عينيه. وسبب ذلك أن معز الدولة بلغه أن المستكفي قد دبر على هلاكه، فدخل وقبل الأرض، ثم قبل يده وطرح له كرسيُّ فجلس عليه، ثم تقدم إليه رجلان من الديلم ومدا أيديهما إلى المستكفي فظن أنهما يريدان تقبيل يده فمدها إليهما، فجذباه من أعلى السرير وجعلا عمامته في عنقه، ثم سحب إلى دار معز الدولة فاعتقله، ثم خلعه وسمل عينيه، فصار ثالثاً للأولين قبله، وانتهبت دار الخلافة حتى لم يبق فيها شيء.
وكان خلعه في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ومدة خلافته سنة واحدة وأربعة أشهر ويومان، وعمره ست وأربعون سنة وشهران، وكانت وفاته في بيت معز الدولة في ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة.
خلافة المطيع باللّه
الفضل بن المقتدر بن المعتضد. ضعفت في زمنه الخلافة، وكاد ينمحي رسمها، ولا يذكر اسمها، وغلب على الأمر معز الدولة، والمطيع لا نهى له ولا أمر، ولا خلافة تذكر، وعين له معز الدولة في كل يوم مائة دينار، فهذا كان حظه من الخلافة، وانقطعت الخطبة لبني العباس في مصر والشام والحجاز، وغلب على المطيع مرض الفالج واشتدت زمانته، فجعل ابنه ولي عهده مع ضعف حاله.
وتوفي في أيامه معز الدولة سنة ست وخمسين وثلاثمائة فقام ولده عز الدولة بختيار مقام والده، وقلده المطيع موضع أبيه وخلع عليه، فاستقل بالأمور كأبيه.
وفي سنة ثمان وخمسين توفي كافور الإخشيدي صاحب مصر وفيها قدم جوهر، القائد الرومي - غلام المعز لدين الله الفاطمي صاحب إفريقية - إلى مصر وأقام بها الدعوة لسيده المعز الفاطمي، وبايعه الناس على ذلك، وانقطعت الخطبة بمصر عن بني العباس، وشرع في بناء القاهرة والقصرين، ثم دخل المعز بنفسه مصر لثمان بقين من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، كما سنذكر ذلك عند فتح مصر في الباب الثالث المعقود للدولة الفاطمية إن شاء اللّه تعالى.
ولما تغلب سبكتكين التركي، وهو غلام معز الدولة، وقويت شوكته، ونفذت كلمته، وانضاف إلى ذلك ما لحق المطيع من الفالج والمرض - خلع نفسه طائعاً من الخلافة، وسلمها لولده الطائع عبد الكريم، وقيل: أبو بكر، ولقبه الطائع لله، وذلك في ذي القعدة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. ثم توفي سنة أربع وستين، وكانت خلافته تسعاً وعشرين سنة وستة أشهر وأحد عشر يوماً، وعمره تسع وخمسون سنة وسبعة أشهر واثنان وعشرون يوماً.
خلافة الطائع لله
عبد الكريم بن المطيع الفضل بن المقتدر بن المعتضد.
بويع له بالخلافة، والأمر مغلوب عليه، وما له إلا الاسم، لم يل الخلافة من بني العباس أكبر سناً منه، كان عمره حين استخلف سبعاً وأربعين سنة، ولم يتقلد الخلافة منهم من أبوه حي غيره وغير أبي بكر الصديق في الخلفاء رضي اللّه تعالى عنه وعنهم، ولما ولي خلع على سُبكتكين التركي فولاه ما وراء بابه.
وفي أيامه استولى عضد الدولة على بغداد وملكها، فخلع عليه الطائع، وتوجه بتاج جوهر وطوقة وسوَره وعقد له لواءين بيده، أحدهما مفضض والآخر مذهب على رسم ولاة العهود، ولم يعهد هذا اللواء الثاني لغيره، وأمر بضرب الدبادب على بابة صبحاً ومغرباً وعشاء، وأنه يخطب له على منابر الحضرة، وذلك بعد محاربة عضد الدولة لابن عمه عز الدولة ابن معز الدولة وظفره به.
ولما مات عضد الدولة قام ولده بهاء الدولة بن عضد الدولة بتدبير المملكة بعد والده، فخلع عليه الطائع، وقلده ما كان قلد أباه.(2/239)
ثم إن بهاء الدولة أمسك الطائع واعتقله ونهبت دار الخلافة، ثم أشهد على الطائع بخلع نفسه من الخلافة وتسليمها إلى أبي العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر، وكان الخلع والإشهاد في شهر شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وأقام مخلوعاً إلى أن توفي في ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة وثمانية أشهر وتسعة أيام، وكان عمره ثلاثاً وخمسين سنة.
خلافة القادر بالله
هو أبو العباس، أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بن جعفر بن المعتضد.
كان رجلا صالحاً عالماً كثير التهجد والصدقات، وصنف كتابَاً في فضل الصحابة وذم الروافض، وكان يقرأ في المساجد والجوامع.
بويع بالخلافة ليلة خلع الطائع نفسه، وكان غائباً فقدم في عاشر رمضان، وجلس من الغد جلوسَاً عاماً، وهنئ وأنشد الشعر بين يديه، ومن ذلك قول الشريف الرضي من قصيدة: من الكامل:
شَرَفُ الخِلاَفَةِ يا بني العَباسِ ... أليَومَ جَددَهُ أَبُو العَبَاسِ
ذَا الطودُ أَبقَاهُ الزمَانُ ذَخِيرَة ... مِن ذَلِكَ الجَبَلِ العَظِيمِ الراسِي
يحكي أن في زمانه جيء إليه برجل قامته ذراع واحد، ولحيته شبران، وأذناه في غاية الطول والعرض المفرط، دور الواحدة أربعة أذرع، فطافوا به بغداد، وكان من يأجوج ومأجوج رمت به الريح من فوق السد، فأحضر القادر له أجناسَاً من الترك فلم يفهموا كلامه.
واستمر القادر إلى أن توفي حادي عشر ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، ومدة خلافته إحدى وأربعون سنة وثلاثة أشهر، وعمره ست وثمانون سنة وثمانية أشهر ويومان.
قال الحافظ الذهبي: كان في عصر القادر رأس الأشعرية الإمام الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني. قلت: هذا الإمام هو جد الفقير إلى الله تعالى جامع هذا الكتاب. وقد ذكره ابن قتيبة وغيره بالسيادة وشرف النسبة المحمدية الحسينية، والبعض الآخر لم يذكره بسيادة وشرف من المؤرخين؛ لنسبه فيحتمل صحة النسبة ويكون من إطلاق من أطلق اعتماداً على تقييد من قيد، على أن لي اتصالا لا ريب فيه بنسبه عليه الصلاة والسلام من جهة الأم؛ فأرجو بهما أو به الفوز الآخروي برضا اللّه تعالى. على أني بحمد الله متشرف بانتظامي في سلك وارثي علمه عليه الصلاة والسلام فرعاً عن أصل آصل، سلسلة علم ما فصلها - بحمد اللّه - جاهل، علماء محققين، فضلاء مدرسين، وإن عريت عزائمي عن ذاك، ومنيت أسبابي عما هناك؛ ففي ولائي لأهل بيته ومحبتي، وحسن اعتقادي وخدمتي - ما يقوي قوى أمراس أملي، وأطمع به أن يمحي خطأ خطط خطلي ورأس المعتزله، القاضي عبد الجبار، ورأس الرافضة ابن المعلم، ورأس الكرامية محمد بن الهيصم، ورأس القراء أبو الحسن الحمامي، ورأس المحدثين الحافظ عبد الغني بن سعيد، ورأس الصوفية أبو عبد الرحمن السلمي صاحب كتاب مناقب الأبرار ومحاسن الأخيار، ورأس الشعراء أبو عمرو بن دراج، ورأس الكتاب المجودين ابن البواب، ورأس الملوك السلطان محمود بن سُبكتكين، انتهى. وزاد السيوطي فقال: ورأس الزنادقة الحاكم بأمر الله العبيدي، ورأس اللغوي إسماعيل الجوهري، ورأس النحاة عثمان بن جني، ورأس البلغاء البديع الهمذاني، ورأس الخطباء ابن نباتة صاحب الخطب المشهورة، ورأس المفسرين أبو القاسم ابن حبيب النيسابوري، ورأس الخلفاء القادر بالله، فإنه من أعلامهم، تفقه وصنف، ومدته في الخلافة من أطول المدد.
خلافة القائم بأمر الله
عبد اللّه بن القادر باللّه أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بن المعتضد.
كان خَيراً ديناً، فاضلا صالحاً، مغلوباً على أمره مدة زمانه. أمه أرمنية اسمها قطر الندى، أدركت خلافته. بويع بالخلافة يوم مات أبوه القادر باللّه، وكانت بيعته بحضرة القضاة والأمراء والكبراء، فكان أول من بايعة الشريف الرضي الموسوي وأنشد: من المتقارب:
فَإما مَضَى جَبَلٌ وَانقَضَى ... فَمِنْكَ لَنَا جَبَل قَدْ رَسَا
وَإما فُجِعنَا بِبَدْرِ التمَامِ ... فَقَد بَقِيَتْ مِنْهُ شَمْسُ الضحَى
لَنَا حَزَن مِن خِلاَلِ السرُورِ ... فَكَم ضَحِك مِنْ خِلاَلِ البُكَا
فَيَا صَارِماً أَغمَدَتهُ يَدٌ ... لَنَا بَعْدَكَ الصارِمُ المُنْتَضَى(2/240)
وَلَمَّا حَضَرنَاكَ عَقدَ البَيَانِ ... عَرَفْنَا بِهَدْيِكَ طُرْقَ الهُدَى
فَقَابَلْتَنَا بِوَقَارِ المِشَيبِ ... كَمَالاَ وَسِنكَ سِنُّ الفَتَى
واستوزر أبا طالب محمد بن أيوب، واستقضى ابن ماكولا الإمام المشهور في أيامه.
وفي سنة ثلاثين وأربعمائة كان انقراض الدولة الديلمية دولة بني بويه، وكانت مدتها مائة وسبعَاً وعشرين سنة، وابتدأت دولة السلاطين السلجوقية.
قال الذهبي: وآل سلجوق هم ملوك الروم، وقد امتدت أيامهم وبقي منهم بقية إلى زمن الملك الظاهر.
وفي ليلة النصف من شعبان سنة إحدى وستين وأربعمائة في خلافة القائم المذكور كان حريق جامع دمشق الذي كان عمره الوليد بن عبد الملك وكلفه. وقد تقدم ذكره عند ذكر خلافة الوليد، وكان حريقه في هذه السنة. وسبب الحريق أن غلمان الفاطميين والعباسيين اختصموا فيما بينهم، فألقيت نار بدار الملك، وهي الخضراء بجانب المسجد من جهة القبلة، فاحترقت وتعدى حريقها حتى وصل إلى الجامع، فسقطت سقوفه وتناثرت فصوصه المذهبة التي على جدرانه، وتغيرت معالمه ومحاسنه، وتبدلت بهجته بضدها، وقد كانت سقوفة مذهبة مبطنة كلها، والجملونات من فوقها، وجدرانه بالفصوص المذهبة والملونة مصور فيها جميع بلاد الدنيا: الكعبة ومكة فوق المحراب، والبلاد كلها شرقيها وغربيها كل في مكانه اللائق به، وفيه كل شجرة مثمرة وغير مثمرة، كل مصور في بلدانه وأوطانه، والستور مرخاة على أبوابه النافذة إلى الصحن، وعلى أصل الحيطان إلى مقدار الثلث منها، وباقي الجدران بالفصوص المذهبة والملونة، وأرضه كلها بالفصوص الرخام الملون، ولم يكن في الدنيا بناء أحسن منه، لا قصور الملوك ولا غيرها من دور الخلفاء وغيرهم. ثم لما وقع هذا تبدل الحال الكامل بضده، وصارت أرضه طيناً في الشتاء، غباراً في الصيف، ولم يزل كذلك حتى تبلط في زمن العادل أبي بكر بن أيوب بعد الستمائة، وكان جميع ما سقط من الرخام وغيره مستودعاً في المشاهد الأربعة، شرقيه وغربيه حتى فرغها من ذلك القاضي كمال الدين الشهرزوري في زمن الملك العادل نور الدين الشهيد محمود بن زنكي حين ولاه نظر الأوقاف كلها، ولم تزل الملوك تجدد في محاسنة إلى زماننا هذا، فتماثل حاله في زمن الأمير شكر بن عبد اللّه الناصري نائب الشام، وذلك في سنة ثلاثين وسبعمائة.
وأما الخضراء وهي دار الملك والإمارة، فبادت وصارت كوماً تراباً، بعدما كانت في غاية الإحكام والإتقان، وحسن البناء وطيب الفناء، فهي إلى يومنا هذا لا يسكنها لرذالة مكانها إلا سفلَةُ الناس وأسقاطهم، بعد ما كانت دار الملك والإمارة منذ أسسها معاوية بن أبي سفيان الأموي. كذا في تاريخ ابن السبكي.
وكان القائم بأمر الله أبيض، مليح الوجه، مشربَاً بحمرة، ورعاً زاهداً عابداً، مريداً لقضاء حوائج المسلمين، موقرَاً لأهل العلم، معتقداً في الفقراء والصالحين، ولم يقم أحد في الخلافة إقامته، كانت مدته أربعَاً وأربعين سنة وثمانية أشهر، وقيل: خمسَاً وأربعين سنة، وكانت وفاته سنة سبع وستين وأربعمائة لعشرة أيام مضت من شعبان.
قال ابن السبكي: افتصد القائم بأمر اللّه يوم الخميس الثامن والعشرين من رجب من السنة المذكورة من ماشرا كان يعتاده. قلت: ماشرا اسم لعلة، نعوذ باللّه من جميع العلل. ثم نام فانفجر فصاده، فاستيقظ وقد سقطت كل قوته، وحصل اليأس منه، فدعا حفيده وولي عهده من بعده عمدة الدين أبا القاسم عبد اللّه بن محمد ابنه، وأحضر إليه الفقهاء والنقباء، وأشهد عليه ثانياً بولاية العهد له من بعده فشهدوا، ثم توفي وكان عمره أربعَاً وسبعين سنة وثمانية أشهر وثمانية أيام، ومدته أربعاً وأربعين سنة، ومدة أبيه قبله إحدى وأربعين سنة؛ فمجموعهما خمس وثمانون سنة وأشهر، وذلك مقارب لمدة دولة بني أمية كلها.
خلافة المقتدي بأمر الله
هو القاسم، عمدة الدين عبد اللّه بن ذخيرة الدين محمد ابن الخليفة القائم عبد اللّه ابن القادر أحمد ابن الأْمير إسحاق بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.(2/241)
بويع له بالخلافة يوم وفاة جده القائم بأمر اللّه، وذلك أنه لما افتصد استدعى ابن ابنه هذا عبد الله ولقبه المقتدي بأمر اللّه كما تقدم ذكر ذلك، فلما مات جده القائم بأمر اللّه المذكور بويع بالخلافة يوم وفاته بحضرة الإمام الولي الشهير أبي إسحاق الشيرازي الشافعي صاحب كتاب التنبيه والمهذب، وغيرهما، أحد أركان أئمة الشافعية. ثم إن المقتدي جهز الإمام المذكور إلى نيسابور إلى جلال الدولة ملك شاه السلجوقي سفيراً له في خطبة ابنته، فنجز الشغل وناظر إمام الحرمين هناك، ثم ودعه إمام الحرمين حال خروجه، وأخذ بركاب بغلته حتى ركب، وكان المقتدي قد بايع بالعهد لولده المستظهر بعده، ثم لما ولدت ابنة ملك شاه من الخليفة المقتدي ولداً أقبل ملك شاه يريد بغداد، وأرسل إلى المقتدي يلزمه أن يعزل ولده المستظهر عن ولاية عهده ويجعل ولي عهده ابن بنته جعفر مكانه، وأن يخرج من بغداد ويتركها ويذهب إلى أي بلد شاء، فأرسل المقتدي يتلطف به في ذلك، فأبى إلا شدة وغلظة، يريد بذلك إظهار التحكم والحيف على الخليفة، وطلب الخليفة الإمهال شهراً فأبى وقال: ولا ساعة، فأرسل إلى وزيره فاستمهله له عشرة أيام فأمهله، فصار الخليفة يصوم النهار ويقوم الليل ويضع خده على التراب، ويناجي حضرة رب الأرباب، يدعو على ملك شاه، فاستجاب الله دعاءه، فهلك ملك شاه قبل مضي العشرة الأيام وكفاه الله تعالى شره، وما ربك بظلام للعبيد. وعدت هذه كرامة للخليفة المقتدي، وهذه عقبى كل ظالم ومعتدي.
ذكر أن المقتدي قدم إليه طعام فتناول منه ثم غسل يديه، وهو على أكمل حال في جسمه ونفسه، وبين يديه قهرمانته شمس النهار فقال: ما هذه الأشخاص الذين دخلوا على بغير إذن؟ فالتفتت فلم تر أحداً، فنظرت إليه فوجدته قد تغير وجهه، واسترخت يداه، وانحلت قواه، وسقط إلى الأرض، فإذا هو قد مات، فأمسكت عن البكاء واستدعت الخادم، فاستدعى الوزير أبا منصور، فبكيا وأحضرا أبا العباس أحمد بن المقتدي، وكان أبوه المقتدي قد عهد إليه بالخلافة بعده، فعزياه وهنأه، وأخفى موته ثلاثة أيام حتى توطأت البيعة لابنه أحمد، ولقب بالمستظهر باللّه. كانت وفاة المقتدي سنة سبع وثمانين وأربعمائة. ومدة خلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر إلا يومين، وعمره ثمان وثلاثون سنة وثمانية شهور.
خلافة المستظهر باللّه
أبي العباس، أحمد بن المقتدي بن محمد القائم عبد الله بن القادر أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد. بويع بعد موت والده المقتدي، وأول من بايعه الوزير أبو منصور بن جهير كما تقدم ذكر ذلك، وحضر من العلماء الإمام الغزالي والشاشي وابن عقيل وبايعوه يومئذ، وكان كريم الأخلاق، حافظاً للقرآن العظيم، فصيحاً بليغاً، شاعرَاً منطيقاً. من شعره: من البسيط:
أَذَابَ حَر الْجَوَى في الْقَلْبِ مَا جَمُدَايَوْماً مَدَدْنَ عَلَى رَسْمِ الوَدَاعِ يَدَا
قَدْ أَخْلَفَ الوَعْدَ بَدر قَدْ شُغِفْتُ بِهِمِنْ بَعْدِ مَا قَدْ وَفى دَهْراً بِمَا وَعَدا
إن كُنْتُ أَنْقُضُ عَهْد الحُب في خَلَدِي ... مِنْ بَعْدِ هَذَا فَلاَ عَايَنْتُهُ أَبَدَا
حكى أنه اجتمع في زمانه في برج الحوت ستة أنجم من السبعة السيارة ما عدا زحل، فحكم المنجمون أنه سيظهر طوفان كطوفان نوح عليه الصلاة والسلام، فتألم من ذلك المستظهر باللّه، وأحضر من المنجمين ابن الفيلسوف وسأله عن ذلك فقال: في زمان نوح عليه الصلاة والسلام اجتمع في برج الحوت السبعة الأنجم بكمالها، والآَن اجتمع ستة، ولا يعلم الغيب إلا اللّه، لكن الذي تدل عليه الدلائل وليس بقطعي أنه سيجتمع الماء من العالم من طرقٍ شتى في مكان واحد، فيغرقون في ذلك المحل. فخافوا على بغداد لاجتماع العالم فيها وهي في جنب شط النهر، فوصل الخبر أن الحجاج حين نزلوا في وادي المناقب هجم عليهم سيل جحاف فغرقوا أجمعين في ذلك السيل، فتعجب من قرب التحقيق من قوله والأمر بيد اللّه تعالى سبحانه " عالمُ الغَيبِ فَلا يُظهِرُ عَلىَ غَيبِهِ أَحداً إِلا مَنِ اَرتضى مِن رَّسُولٍ " " الجن: 26 - 27 " ، الآية.(2/242)
توفي المستظهر ليلة الخميس لأربع وعشرين ليلة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة. ومدة خلافته خمس وعشرون سنة وعشرة أيام، وعمره إحدى وأربعون سنة وأحد عشر شهرَاً وأربعة أيام.
خلافة المسترشد بالله
الفضل بن المستظهر أحمد بن المقتدي عبد اللّه بن محمد الذخيرة بن القائم عبد الله بن القادر أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بن المعتضد.
بويع يوم وفاة والده المستظهر، وكان شجاعاً ديناً، مشتغلاَ بالعبادة، لم يل الخلافة بعد المعتضد أشهم منه، أمه أم ولد اسمها لبابة، كان شديد الهيبة، ذا رأي ويقظة وهمة عالية، ضبط الأمور، وأحيا مجد بني العباس، وجاهد غير مرة.
يحكى أن في زمانه ظهر سنة أربع عشرة وخمسمائة قبر الخليل إبراهيم وإسحاق ويعقوب على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وشوهدت أجسامهم المباركة كأنما دفنوا تلك الساعة، ووجد عندهم في الموضع قناديل الذهب والفضة وغير ذلك، ذكر ذلك في كتاب قلادة النحر الفقيه بامخرمة.
كانت وفاته يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، ومدة خلافته سبع عشرة سنة وسبعة أشهر.
ومن شعره قوله: من الطويل:
أَنَا الأَشْقَرُ المَوْعُودُ بي في المَلاَحِموَمَنْ يَمْلِكُ الدُّنْيَا بِغَيْرِ مُزَاحِمِ؟
فكان هذا التخيل من خيالاته الفاسدة؛ فإنه ما يملك من الدنيا ولا فناء داره.
خرج عليه الملك مسعود بن محمد بن ملك شاه السلجوقي فلم يقاتل معه أحد، فقاتل وحده إلى أن حمل أسيراً فحبس. وذكر أهل التواريخ أنه لما حبس رأي في منامه كأن على يده حمامة مطوقة، وأتاه آتٍ فقال له: خلاصك في هذا وأشار إلى الحمامة، فلما أصبح حكى ذلك لابن سكينة الإمام فقال له: ما أولته يا أمير المؤمنين. فقال: أولته بقول أبي تمام: من الكامل:
هُنَّ الحَمَامُ فَإِنْ كَسَرتَ عِيَافَة ... مِن حَائِهِن فَإِنهُن حِمَامُ
ولا أرى أحلامي إلا في حِمامي، فقتل بعد أيام قلائل. وقيل في كيفية قتله غير ذلك، فقتل في التاريخ المذكور وعمره ثلاث وأربعون سنة وأحد عشر شهراً.
خلافة الراشد بالله
منصور بن المسترشد بن المستظهر بن المقتدي.
بُويعَ له يوم وفاة أبيه بعهد منه فمكث ما شاء اللّه، ثم وقع بينه وبين السلطان مسعود بن محمد قاتل والده فاستخدم الراشد أجناداً كثيرةَ وتهيأ للقائه، فكاتب السلطان مسعود أتابك زنكي وأرتغش، كبيري جند الراشد، فأشارا عليه بالتوقف عن المسير إلى الملك مسعود، وأقبل الملك مسعود بجيوشه، فدخل بغداد في ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة، فنهب دور الجند، ومنع من نهب البلد، واستمال الرعية وأحضر القضاة والشهود، فقدحوا في الراشد بأنه صدرت منه سيرة قبيحة من سفك الدماء وارتكاب المنكرات، وفعل ما لا يجوز فعله، وشهدوا عليه بذلك؛ فحكم قاضي القضاة بخلعه فخلعوه في ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة، وكان الراشد قد هرب هو وأتابك زنكي إلى الموصل، فطلبه السلطان مسعود، فهرب إلى فارس ثم دخل أصبهان وحاصرها فتمرض هناك، فوثب عليه جماعة من الفداوية فقتلوه، وكانت مدته إلى أن خلع سنة إلا أياماً، وعمره إحدى وعشرين سنة، وقيل ثلاثون سنة.
كان شاباً أبيض تام الشكل، شديد البطش، شجاع النفس، كريماً جوادَاً فصيحاً. قال العماد الكاتب: كان للراشد الحسن اليوسفي، والكرم الحاتمي، رحمه الله تعالى.
خلافة أبي عبد اللّه المقتفي
محمد بن المستظهر بن المقتدي، وهو عم الراشد قبله.
بويع له يوم خلع ابن أخيه الراشد ولقب بالمقتفي، وسبب تلقيبه بهذا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الخلافة بأشهر في المنام وهو يقول له: إنه سيصل إليك هذا الأمر، فاقتف بي. فقام بتدبير المملكة، وكان بيده أَزِمَةُ الأمورة لا يجري في خلافته أمر وإن صغر إلا بتوقيعه، وكتب بيده في أيام خلافته ثلاث ربعات.
وكان محمود السيرة مشكور الدولة، يرجع إلى فضل ودين، وعقل ورأي وسياسة، جدد معالم الإمامة، ومهد رسوم الخلافة، وامتدت أيامه، ولم ير مع سماحته ولين جانبه ورأفته بعد المعتصم خليفة مثله في شهامته وصرامته، مع ما خص به من زهده وورعه وعبادته، ولم تزل جيوشه منصورةَ حيث يممت.(2/243)
قال العلامة ابن الجوزي: من أيام المقتفي هذا عادت بغداد والعراق إلى يد الخلفاء ولم يبق لهم منازع، وقبل ذلك من دولة المقتدر إلى وقته كان الحكم للمتغلبين من الملوك، وليس للخليفة معهم إلا الاسم فقط.
ومن سلاطين دولته سنجر صاحب خراسان، ونور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام المعروف بنور الدين الشهيد.
وفي سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة في خلافته قال ابن الأثير: ظهر بدمشق الشام سحاب أسود، فاشتد الظلام حتى لا يرى أحد أحداً، ثم انقشع وظهر بعده سحاب أحمر، فتلونت السماء بلون النار، ثم بعد ذلك ظهرت ربح عظيمة عاصف تقلع الأشجار العظيمة من أصولها.
وفي سنة خمس وأربعين وخمسمائة من خلافته أمطرت السماء دماً أحمر لا ينكر منه شيء، وكان ذلك الإمطار في بلاد نيسابور.
وفي قلادة النحر في حوادث سنة تسع وأربعين وخمسمائة في خلافة المذكور: كانت قصة أهل قرية المعلف، وهي قرية بين الكُدر والمهجم من أعمال تهامة اليمن، وفي كفاية المستبصر: هما قريتان اسم إحداهما معلف والأخرى سحلة، أرسل اللّه عليهما سحابة سوداء فيها رجف وبرق وشعل نار تلهب وريح، فلما رأوا ذلك زالت عقولهم فألتجأ منهم قوم إلى المساجد فغشيهم العذاب، فاحتملت الريح أصل القريتين من تحت الثرى بمساكنهم بمن فيها من الرجال والنساء والأطفال والدواب فألقتهم بمكان بعيد نحو خمسة أميال من حيث احتملتهم، فوجدوا حيث ألقتهم صرعى ولبعضهم أنين، وهم صم بكم عمي، فماتوا عن آخرهم يومهم، نسأل اللّه السلامة والعافية لنا ولجميع المسلمين.
وكان المقتفي محباً للحديث وسماعه، معتنياً به وبالعلم، مكرماً لأهله. ولما دعا الإمام أبا منصور الجواليقي النحوي ليجعله إماماً يصلي به الصلوات الخمس - دخل فما زاد على أن قال: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. وكان الطبيب هبة اللّه بن صاعد ابن التلميذ النصراني قائماً فقال: ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ، فلم يلتفت إليه الجواليقي، وقال للمقتفي: يا أمير المؤمنين، سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية، وروى له خبرَاً في صورة السلام ثم قال: يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانياً أو يهودياً لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه المعتبر - ما لزمته كفارة الحنث؛ لأن اللّه تعالى ختم على قلوبهم ولن يفك ختمه إلا الإيمان، فقال المقتفي: صدقت وأحسنت. فكأنما ألقم ابن التلميذ حجراً مع فضله وغزارة علمه وأدبه.
وتوفي الخليفة المقتفي يوم الأحد ثالث ربيع الأول، وقيل: الآخر، وقيل: رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة. مدة خلافته خمس وعشرون سنة وثلاثة أشهر ونصف، وعمره سبع وستون سنة، وقيل: وشهر واحد.
خلافة المستنجد باللّه
أبو المظفر، يوسف ابن المقتفي لأمر اللّه محمد بن المستظهر أحمد بن المقتدي. كان أديباً فاضلا، أهلا للخلافة، بويع له يوم وفاة والده. أمه أم ولد حبشية اسمها طاوس.
حكى أنه قبل أن يستخلف رأى في منامه أن ملكاً نزل من السماء فكتب في كفه خمس خاءات، فلما أصبح سأل الإمام محمداً الغزالي، أو أخاه أحمد عن تعبير ذلك، فقال: واللّه أعلم، أنك ستلي الخلافة سنة خمس وخمسين وخمسمائة، فكان كذلك، وليها سنة خمس وخمسين وخمسمائة، فالخاء الأولى للخلافة.
وكان موصوفاً بالعدل والديانة، أبطل المكوس وقام كل القيام على المفسدين، روى أنه سجن رجلا كان يسعى بالفساد في الناس، فجاء إليه رجل، وبذل فيه عشرة آلاف دينار فقال المستنجد له: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار على آخر مثله تأتيني به فأحبسه وأكفي الناس شره. وله شعر متوسط منه قوله في بخيلٍ: من السريع:
وَبَاخِلٍ أَشعَلَ في بَيتِه ... تَكَرُماً مِنْهُ لَنَا شَمْعَهْ
فَمَا جَرَتْ مِن عَيْنِهَا دَمْعَةٌ ... حَتَّى جَرَتْ مِنْ عَيْنِهِ دَمْعَهْ
وقوله: من الخفيف:
عَيرتنِي بِالشيْبِ وَهوَ وَقَارُ ... لَيتَهَا عَيرَتْ بِمَا هُوَ عَارُ
إِنْ تَكُن شَابَتِ الذَّوَائِبُ مِني ... فَالليَالِي تَزِينُهَا الأَقْمَارُ(2/244)
وفي سنة سبع وخمسين وخمسمائة، وهي السنة الثالثة من خلافته جرت الكائنة الغريبة، وهي ما ذكره العلامة السيد نور الدين علي السمهودي المدني في كتابه خلاصة الوفا وغيره، فقال: إن الملك العادل نور الدين رأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه ليلة ثلاث مرات وهو يشير إلى رجلين أشقرين، يقول: أنجدني من هذين. فأرسل إلى وزيره، وتجهزا في بيته ليلتهما على رواحل خفيفة في عشرين نفراً، وصحب مالا كثيرَاً فقدم المدينة في ستة عشر يومَاً، فزار ثم أمر بإحضار أهل المدينة بعد كتابتهم، وصار يتأمل في كل ذلك تلك الصفة إلى أن انقضت الناس فقال: هل بقي أحد؟ قالوا: لم يبق سوى رجلين صالحَين عفيفين مغربيين يكثران الصدقة. فطلبهما فرآهما الرجلين اللذين أشار إليهما عليه الصلاة والسلام، فسأل عن منزلهما فأخبر أنهما في رباط بقرب الحجرة الشريفة، فأمسكهما ومضى إلى منزلهما فلم ير غير ختمتين وكتباً في الرقائق، ومالا كثيرَاً فأثنى عليهما أهل المدينة خيراً فبقى متردداً متحيراً، فرفع حصيراً في البيت فرأى سرداباً محفوراً ينتهي إلى صوب الحجرة، فارتاعت الناس لذلك، فقال لهما السلطان: أصدقاني، وضربهما ضرباً شديداً، فاعترفا بأنهما نصرانيان بعثهما النصارى في زي حجاج المغاربة، وأمالوهما بالمال العظيم ليتحيلا في الوصول إلى الجناب الشريف، ونقله وما يترتب عليه، فنزلا قرب رباط وصارا يحفران ليلاَ، ولكل منهما محفظة جلد، والذي يجتمع من التراب يخرجانه في محفظتيهما إلى البقيع إذا خرجا بعلة الزيارة، فلما قرب من الحجرة عدت السماء وأبرقت وحصل رجف عظيم، فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة، ما ظهر حالهما بكى السلطان بكاء شديداً، وأمر بضرب رقابهما، فقتلا تحت الشباك الذي يلي الحجرة الشريفة المسمى الآن شباك الجمال، ثم أمر بإحضار رصاص عظيم، وحفر خندقاً عظيمَاً إلى الماء حول الحجرة الشريفة كلها وأذاب ذلك الرصاص، وملأ الخندق، فصار حول الحجرة سور من رصاص إلى الماء، انتهى.
وفي سنة إحدى وستين وخمسمائة ذكر صاحب الخميس عن شمس الدين صواب الموصلي بواب المسجد النبوي، والقائم بأمره بإسناد صحيح عنه أن جماعة الروافض وصلوا من حلب فأهدوا إلى أمير المدينة الشريفة من الأموال والجواهر لم يخطر ببال، فشغله ذلك وأنساه دينه، والتمسوا منه أن يخرجوا جسد أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - من عند النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما غشيه من حب الدنيا والتشاغل بالأموال عن الدين وافقهم على ذلك. قال صواب الموصلي المذكور: فطلبني أمير المدينة وقال: إن في هذه الليلة يصل إليك كذا وكذا من الرجال، فحين يصلون إليك سلم إليهم مفتاح الحجرة الشريفة النبوية ولا تتشاغل عنهم، وإلا أخذت ما فيه عيناك.
قال صواب: فأخذتني رعدة ودهشة، ولا أدري إلامَ يئول الأمر، فانتظرت، فلما كان نصف الليل أقبل أربعون رجلا فدخلوا من باب السلام، فسلمت إليهم مفتاح الحجرة المطهرة، فإذا معهم المقاحف والمكاتل وآلات الحفرة فعرفت مرادهم؛ وغاب حسى من الهيبة النبوية، ثم سجدت للّه وجعلت أبكي وأتضرع، فما نظرت إلا وقد انشقت الأرض واشتملتهم بجميع ما معهم من آلات الحفر والتأمت لساعتها، وذلك عند المحراب العثماني، فسجدت شكراً للّه، فلما استبطأ الأمير الخبر أرسل لي رسولا فأخبرته بما رأيت، فطلبني عاجلا فوصلت إليه فإذا هو مثل الواله، فسألني مشافهة فحققت له ما رأيت، فقال: إن خرج منك هذا الأمر قتلتك، فلم أزل ساكتاً عن بث هذا الأمر مدة حياة ذلك الأمير خوفاً منه.
وتوفي المستنجد يوم السبت ثالث ربيع الآخر سنة ست وستين وخمسمائة، ومدة خلافته اثنتا عشرة سنة إلا يوماً أو يومين، وعمره سبع وأربعون سنة، وقيل: تسع وأربعون وشهر. وكان أسمر طويل اللحية، وهو الثاني والثلاثون من الخلفاء. قال فيه بعض الأدباء: من البسيط:
أَصبَحتَ لُب بني العَباسِ كُلهِمُ ... إِن عُددَت بِحِسَابِ الجُملِ الخُلَفَا
خلافة المستضيء بنور اللّه(2/245)
أبي محمد، الحسن بن المستنجد، بويع له بالخلافة يوم موت أبيه المستنجد، وخطب له بالديار المصرية واليمن، وكانت الخطبة منقطعة منهما في زمن المطيع العباسي عند استيلاء المعز الفاطمي على مصر، وكان المستضيء جواداً كريمَاً، مؤثرَاً للخير، كثير الصدقات سخياً، محيياً للسنة، أمنت البلاد في زمانه، وأبطل مظالم كثيرة، واحتجب عن أكثر الناس؛ فلم يكن يركب إلا مع مماليكه، ولم يكن يدخل عليه غير الأمير قيماز.
قال الذهبي: ولم يل الخلافة أحد اسمه الحسن بعد الحسن بن علي - رضي الله تعالى عنهما - غير هذا، ووافقه في الكنية أيضاً. ومما نظمه العماد الكاتب حين جاءت البشارة بخلافة المستضيء وهو بأرض الموصل قوله: من الخفيف:
قد أضاءَ الزمانُ بالمُسْتَضي ... وارثِ البُرْدِ وابْنِ عَم النبِي
جاءَ بِالحق والشريعةِ والعَد ... لِ فيا مرحباً بهذا المَجِي
فهنيئَاً لأهْلِ بغدادَ فازوا ... بعد بؤسَى بكل عيشٍ هني
وكان مرضه بالحمى، ابتدأ بها يوم عيد الفطر، فلما كان يوم السبت سلخ شوال سنة خمس وسبعين وخمسمائة توفي إلى رحمة اللّه تعالى، وكانت مدة خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر وثمانية وعشرين يوماً، وقيل: تسع سنين وثلاثة أشهر، وعمره سبع وثلاثون سنة.
خلافة الناصر لدين اللّه
أحمد بن المستضيء حسن بن المستنجد يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر بن المقتدي. كانت فيه شهامة وصرامة وإقدام، وعقل ودهاء، وكان مستقلاُّ بأمور الملك بالعراق متمكناً، طالت أيامه، وكانت له دسائس وعيون عند كل أحد من الأمراء والعظماء، والسلاطين والحكام من الأجناس المختلفة؛ حتى كان يظن أن له اطلاعاً على المغيبات.
بويع بالخلافة بعد موت والده، وعمره ثلاث وعشرون سنة، فبسط العدل، وأمر بإراقة الخمور، وكسر الملاهي، وإزالة المكوس والضرائب، فعمر البلاد، وبسط الأرزاق، وقصدت الناس بغداد وتبركوا به.
وفي أيامه ظهور صلاح الدين يوسف بن أيوب، واستخلاصه بيت المقدس من الفرنج، واستيلاؤه على مصر، وإزالة دولة الفاطميين عنها، فخطب بها للناصر العباسي، كما سنذكر ذلك عند ذكرهم.
وفي أيامه مات السلطان طغرلبك شاه بن أرسلان بن طغرلبك بن محمد بن ملك شاه، وهو آخر ملوك الدولة السجلوقية، وكان عدتهم نيفاً وعشرين ملكاً، أولهم طغرلبك الذي أعاد الخليفة القائم إلى بغداد، ومدة دولتهم مائة وستون سنة.
وطالت أيامه؛ فأحيا رسوم الخلافة، وامتلأت القلوب بهيبته، وكان ذا فكر صائب، وكانت أيامه من غرر الزمان، وهو الذي وقع للشريف قتادة بن إدريس صاحب مكة معه تلك الواقعة حين استدعاه، وسأذكرها إن شاء اللّه في الخاتمة عند ذكر الشريف قتادة.
وكان له إحسان على أهل الحرمين، وكانت الكعبة الشريفة تُكسَى الديباج الأبيض زمن المأمون إلى آخر أيام الناصر هذا، فكساها الديباج الأسود، واستمر إلى زماننا هذا.
قال في قلادة النحر نقلا عن العماد الكاتب: في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، في خلافة الناصر العباسي، أجمع المنجمون على اجتماع الكواكب السبعة في برج الميزان، ويدل ذلك على خراب العالم، وأن تهب ويح مثل ريح قوم عاد، وعينوا الاجتماع في ليلة نصف شعبان من السنة المذكورة. وفرق الملوك فحفروا حفائر ونقلوا إليها الماء والزاد، قال: فلما كانت الليلة التي عينوها جلسنا عند السلطان، والشموع تتقد، فلم يتحرك اللهب منها، ولم تر ليلة مثلها في ركود ريحها وسكونها، ولكن ظهر بعد ذلك أن سلطان التتار خرج في تلك الليلة من تلك السنة، فكان منه ما كان من الفساد، وعاث في أكثر البلاد، وأفنى خلقاً من العباد، حتى قتل الخليفة العباسي المستعصم باللّه ببغداد، كما سأذكر قصته على أتم الأحوال.
وفي سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، أمطرت السماء يوماً وليلة رماداً وأظلمت الدنيا وعجز الناس عن اطراق الطرق إلى بيوتهم من الأسواق، وذلك بمدينة زبيد باليمن، ووقعت بردة في أسفل وادي مور من بلاد تهامة، طولها مائة وستون ذراعاً، وعرضها عشرة أذرع، وسمكها نحواً من قامتين، فلما ذابت سقى بمائها أربع قطع من الأرض في ذلك الموضع.(2/246)
وكان الناصر في أكثر الليل يشق الحروب والأسواق، وكان الناس يتهيئون للقائه، وهو أطول بني العباس خلافة، كانت مدته ستاً وأربعين سنة، وقيل: سبعاً وأربعين، وكانت وفاته سلخ شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة، أصابه في آخر عمره الفالج؛ فبقي معه سنتين وذهبت عينه، ثم مات في التاريخ المذكور وعمره سبعون سنة إلا شهراً. كان تركي الوجه، أقنى الأنف، خفيف العارضين، أشقر اللحية، رقيق المحاسن. رحمه الله تعالى.
خلافة الظاهر بأمر الله
أبي نصر، محمد بن الناصر لدين الله، أحمد بن المستضيء بن المستنجد بن المقتفي.
كان من أهل الورع والدين، تابعاً للشرع، اتفق أهل النقل أنه ما جاء أحد بعد عمر بن عبد العزيز مثله، فإنه أحيا سنة العمرين، وسار بسيرتهما، فأعاد الأموال المغصوبة والأملاك المأخوذة في أيام أبيه ومن قبله إلى أهلها، وأظهر العدل، وأزال المكس، وكان العمال تكيل للديوان بكيل زائد على ما يكيلون به للناس فأبطل ذلك، وكتب إلى وزيره " وَيل للمُطَفِفِينَ " إلى قوله " لِرَبِ اَلعَاَلمِينَ " " المطففين: 1 - 6 " فقال له الوزير: تفاوت الكيل ينوف على ثلاثين ألف دينار، فقال له: أبطله ولو أنه ثلاثمائة ألف دينار. وفرق ليلة عيد النحر على الفقهاء مائة ألف دينار، فلامه وزيره على ذلك، فقال: اتركني أفعل الخير؛ فإني لا أدري كم أعيش، ولم يمتد زمانه.
وكان في أضيق عيش، فقالوا له إشفاقاً لحاله: لم لا تتوسع في المأكل والمشرب والرزق؟ فقال: من فتح الحانوت بعد العصر، فحاله معلوم في البيع والشراء.
توفي في شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة. ولما توفي اتفق خسوف القمر في تلك السنة مرتين. فجاء ابن الأثير رسولا من صاحب الموصل برسالة في التعزية أولها: ما لليل والنهار لا يعتذران وقد عظم حادثهما، وما للشمس والقمر لا ينكسفان وقد فقد ثالثهما!: من الطويل:
فيا وَحشَةَ الدنيَا وكانَت أنيسة ... ووحدةَ مَن فيها لِمَصْرَع واحدِ
وهو سيدنا ومولانا، الإمام الظاهر بالله، أمير المؤمنين، الذي جعلت ولايته رحمة للعالمين. إلى آخر رسالة ذكرها السيوطي في تاريخه. وكانت مدته عشرة أشهر وأياماً، وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وقيل: وخمسون وستة أشهر.
خلافة المستنصر باللّه
أبي جعفر، منصور بن الظاهر بأمر اللّه محمد بن الناصر لدين اللّه أحمد بن المستضيء الحسن بن المستنجد يوسف بن المقتفي محمد بن المستظهر بن المقتدي.
بويع له بالخلافة بعد موت أبيه الظاهر في رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فنشر العدل وبذل الإنصاف، وقرب أهل العلم والدين، وبني المساجد والربط والمدارس، وأقام منار الدين، وقمع المتمردين، ونشر السنن، وكف كف الفتن، وحمل الناس على أقوم سنن، وحفظ الثغور وافتتح الحصون، واجتمعت القلوب على محبته، والألسن على مدحته، ولم يجد أحد من المتعنتة فيه معاباً. وكان جده الناصر يقربه، ويسميه القاضي، لهديه وعقله، وإنكار ما يجده من المنكر.
قال الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري: كان المستنصر راغباً في فعل الخير، مجتهداً في أعمال البر، وله في ذلك آثار جميلة، وهو الذي أنشأ المستنصرية؛ التي لم يبن مثلها في مدارس الإسلام، ولم يوجد في المدارس أكثر كسباً منها، ولا أكثر أوقافاً عليها، ورتب فيها الرواتب الحسنة لأهل العلم.
وقال ابن واصل: بناها على دجلة من الجانب الشرقي، وهي بأربعة مدرسين على المذاهب الأربعة، وعمل فيها مارستاناً، ورتب فيها مطبخاً للفقهاء، ومزملة للماء البارد، ورتب لبيوت الفقهاء الحصر والبسط والزيت والورق والحبر، ورتب فيها الخبز واللحم والحلوى والفواكه، وكسوة الشتاء وكسوة الصيف، وجعل فيها ثلاثين يتيماً، ووقف على ذلك ضياعاً وقرى كثيرة سردها الذهبي وغيره، ولكل فقيه في الشهر دينار، وشرع في عمارتها سنة خمس وعشرين وستمائة، وأتمها في سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ونقل إليها من الكتب النفيسة، وعدة فقهائها مائتان ثمانية وأربعون فقيهاً من المذاهب الأربعة، وشيخ حديثٍ، وشيخ نحوٍ وشيخ سب، وشيخ فرائض، وكان غلال ما وقف عليها في كل عام نيفاً وسبعين ألف مثقالِ ذهباً.(2/247)
وفي سنة اثنتين وثلاثين أمر المستنصر بضرب الدراهم الفضية؛ ليعامل بها بدلاً عن قراضة الذهب، فجلس الوزير وأحضر الولاة والتجار والصيارفة، وفرشت الأنطاع وأفرغ عليها الدراهم، وقال الوزير: قد رسم مولانا أمير المؤمنين بمعاملتكم بهذه الدراهم عوضاً عن قراضة الذهب؛ رفقَاً بكم، وإنقاذَاً لكم من التعامل بالحرام، ومن الصرف الربوي، فأعلنوا الدعاء له، ثم أديرت وسعرت كل عشرة دراهم بدينار، فقال أبو المعالي، القاسم بن أبي الحويل في ذلك أبياتاً: من الخفيف:
لا عَدِمْنَا جميلَ رأيِكَ فينا ... أَنْتَ باعَدتَّنَا عَنِ التَّطفيفِ
ورسَمْتَ اللجَينَ حتى أَلفنَا ... ه وما كان قَبْلُ بالمألوفِ
ليس للجَمْعِ كان مَنْعُكَ للصر ... فِ ولكنْ للعَدْلِ والتعريفِ
قلت: تأمل بيته الأخير؛ فما ألطفه! ومن مناقبه أن الوجيه القيرواني امتدحه بقصيدة يقول فيها: من الكامل:
لو كُنْتَ في يومِ السقيفةِ حاضراً ... كُنْتَ المقدمَ والإمامَ الأَوْرَعَا
فقال له قائل بحضرته: أخطأت؛ قد كان حاضراً العباس جد أمير المؤمنين، ولم يكن المقدم إلا أبو بكر، فأقر ذلك المستنصر وخلع على القائل، ثم أمر بنفي الوجيه فخرج إلى مصر، كذا قاله الذهبي. قلت: العباس - رضي تعالى عنه - لم يحضر السقيفة؛ فالرد مردود، على أن قول الشاعر: حاضر لا يلزم منه حضوره عند السقيفة حتى يرد ما قاله هذا القائل؛ بل مراده: حضوره، أي: وجوده في ذلك الزمن، يعني زمن اجتماعهم في السقيفة، لا حضور نفس الاجتماع فيها.
وكانت مدارس بغداد يضرب بها المثل في ارتفاع العماد، وإتقان المهاد، وطيب الماء، ولطف الهواء، ورفاهية الطلاب، وسعة الطعام والشراب.
وأول مدرسة بنيت في الدنيا مدرسة نظام الملك؛ فلما سمع علماء ما وراء النهر هذا الخبر اتخذوا ذلك العام مأتماً، وحزنوا على سقوط حرمة العلم، فقالوا حين سئلوا عن ذلك: إن للعلم ملكة شريفة لا تطلبها إلا النفوس الشريفة، بجانب الشرف الذاتي، فلما جعلت عليه الأجور تطلبته النفوس الرذلة؛ لتجعله مكسباً وسلمَا لحطام الدنيا، لا لتحصيل شرف العلم؛ بل لتحصيل المناصب الدنيوية الأسفلية الفانية، فيرذل العلم لرذالتهم، ولا يشرفون بشرفه. ألا ترى إلى علم الطب؛ فإنه مع كونه شريفاً لما تعاطاه اليهود والنصارى رذل برذالتهم، ولم يشرفوا بشرفه، وهذا حال طلبة العلم في هذا الزمان الفاسد، كذا في الأعلام. قلت: قد كان هذا قبل، وأما اليوم فلا طلب ولا مطلوب، ولا رغبة ولا مرغوب، نسأل اللّه اللطف وحسن الخاتمة.
ومن جملة خدام المستنصر باللّه الأمير شرف الدين، وإقبال الشرابي المستنصري.
وفي سنة ست وثلاثين وستمائة وقع باليمن مطر عظيم عمه جميعَاً، وكان فيه برد عظيم قتل من الدواب والوحوش شيئاً كثيراً، ونزلت فيه بردة كالجبل الصغير لها شناخيب، يزيد كل واحد منها على ثلاثة أذرع، وقعت في مفازة من بلاد سنحان وزراحة، وذلك بمرحلتين بمسير الجمال عن صنعاء فغاب في الأرض أكثرها، وكانت يدور حولها عشرون رجلا فلا يرى بعضهم بعضَاً. وبشاذروان الكعبة الشريفة في وسط مصلى جبريل عليه الصلاة والسلام، وهي الحفيرة المسماة الآَن بالمعجنة، حجر من الرخام الأزرق ومنقور فيه بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بعمارة هذا مطاف الشريف - وذكر اسمه - وذلك في سنة إحدى وثلاثين وستمائة. وصلى الله على سيدنا محمد وآَله انتهى. وهذا الحجر باقي إلى يومنا.
ثم توفي المستنصر لعشر بقين من جمادى الآخرة سنة أربعين وستمائة، وكانت خلافته ست عشرة سنة وعشرة أشهر، وعمره اثنتان وخمسون سنة وأربعة أشهر، رحمه الله تعالى.
خلافة المستعصم بالله
أبي أحمد، عبد اللّه بن المستنصر بالله، منصور بن الظاهر بأمر اللّه، محمد بن الناصر لدين اللّه، أحمد. هو آخر الخلفاء العباسيين بالعراق. أمه أم ولد حبشية اسمها هاجر.(2/248)
بويع له بالخلافة عند موت أبيه المستنصر، كان ليناً هينَاً، قليل الرأي، بعيد الفهم، فوض جميع أموره إلى وزيره مؤيد الدين - بل مدمر الدين - ابن العلقمي الرافضي، فكان سبب هلاكه وزوال ملكه كما سيأتي ذكره، وكان للمستنصر أبيه ابنان: أحدهما يسمى بالخفاجي، كان شديد الرأس، شديد الرأي، شجاعاً صعب المراس، والثاني هذا المستعصم، وكان هيناً ليناً، ضعيف الرأي، فاختاره الأمير شرابي على أخيه الخفاجي؛ ليستبد هو بالأمر، ويستقل بأحوال الملك؛ فإنه لا يخشاه كما يخشى من أخيه الخفاجي. فلما توفي المستنصر أخفى الأمير إقبال موته نحواً من عشرين يومَاً، حتى دبر الولاية للمستعصم، وبويع له بالخلافة، ففر أخوه الخفاجي إلى العربان وتلاشى أمره.
وفي سنة إحدى وأربعين بنى إقبال الشرابي مدرسة بمكة على يمين الداخل من باب السلام إلى المسجد، ورباطَاً فيه عدة خلاوي، ووقف بالمدرسة كتباً ذهبت شذر مذر إلا قليلا، والمدرسة باقية إلى الآن، وعلوها مجلسان مطلان على باب السلام، وبها كتب وقفها بعض أهل الخير ممن أدركناه، رحمهم اللّه تعالى، كذا في الأعلام للقطب النهروالي؛ نسبة إلى نهروالا قرية من قرى الهند أو العجم.
وفي موسم السنة المذكورة حجت والدة المستعصم بالله، وهي أم ولد حبشية اسمها هاجر كما تقدم، وكان في خدمتها الأمير إقبال الشرابي الدوادار، ومعه ستة آلاف خلعة، وتصدق بنحو ستين ألف دينار، وعدت جمال ركب أهل بغداد تلك السنة، فكانت فوق مائة وعشرين ألف بعير، ثم عادت إلى بغداد.
وفي سنة أربع وخمسين وستمائة، كان ظهور النار، قال أبو شامة في كتاب الروضتين: جاءنا كتب من المدينة الشريفة فيها: لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة، ظهر بالمدينة دوي عظيم، ثم زلزلة عظيمة؛ فكانت ساعة بعد ساعة إلى خامس الشهر المذكور، فظهرت نار عظيمة في الحرة الشرقية قريبَاً من قريظة، نراها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وسالت أودية منها وادي شظا سيل الماء، وطلعنا نقصدها فإذا الجبال تسير ناراً، وسارت هكذا وهكذا، كأنها الجبال، وطار منها شرر كالقصر، وفزع الناس إلى القبر الشريف مستغفرين تائبين، واستمرت هكذا أكثر من شهر.
وقال الذهبي: كانت تدب دبيب النمل، وكانت تحرق كل ما مرت عليه من الحجارة وغيرها؛ فكانت الحجارة تذوب كما يذوب الرصاص، وكانت لا تحرق أشجار المدينة على مشرفها الصلاة والسلام. وكان نساء المدينة يغزلن على ضوئها، ثم انطفأت بعد مدة قريبة من شهر، ومع ذلك ما كان لها حرارة، وما كانت تؤثر فيمن وصل إليها.
ذكر أن أمير المدينة الشريفة أرسل رجلين ليتحققا أمر هذه النار، فلما وصلا إلى قربها، وشاهدا عدم حرارتها - تقربا إليها؛ حتى إن أحدهما أخرج نشاباً فأدخله النار فذاب نصله، ولم يحترق العود، فقلب النشاب وأدخله النار فاحترق الريش ولم يحترق العود؛ لأن السهام كانت من أشجار المدينة، وذلك من معجزاته عليه الصلاة والسلام. قال اليافعي في تاريخه: وهذه النار هي التي ذكرها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: " تظهر في آخر الزمان نار شرقي المدينة، تضيء لها أعناق الإبل ببصرى من أرض الشام " . قلت: الذي ذكره الحافظ الذهبي أن لفظ الحديث: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار بأرض الحجاز، تضيء لها أعناق الإبل ببصرى " ، ثم قال: وأمر هذه النار متواتر، وهو مصداق ما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم. وقد حكى غير واحد ممن كان ببصرى أنه رأى في الليل أعناق الإبل في ضوئها، والصادق لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم.
ثم كان أن مؤيد الدين محمد بن محمد بن عبد الملك صار وزير المستعصم، وكان رافضياً سباباً، مستولياً على المستعصم، عدواً له ولأهل السنة، يداريهم في الظاهر، وينافقهم في الباطن وكان دائراً على طمس آثار السنة، وإعلاء منار البدعة، فصار يكاتب هولاكو قائد التتار، ويطمعه في ملك بغداد، ويخبره بأخبارها، ويعرفه بصورة أخذها، وبضعف الخليفة، وبانحلال العسكر عنه. وصار يحسن للمستعصم توفير الخزائن، وعدم الصرف على العسكر، والإذن لهم في الذهاب أين شاءوا، ويقطع أرزاقهم، ويشتت شملهم؛ بحيث إنه أذن مرة لعشرين ألف مقاتل، فذهبوا ووفر علوفاتهم من الخزانتين.(2/249)
وكان التتار جائلين في الأرض يقتلون ويأسرون ويخربون الديار، ونارهم في غاية الاشتعال والاستعار، والمستعصم ومن معه في غفلة عنهم؛ لإخفاء ابن العلقمي عنه سائْر الأخبار، إلى أن وصل هولاكو خان إلى بلاد العراق، واستأصل من بها قتلاَ وأسراً.
وتوجه إلى بغداد، وأرسل إلى الخليفة يطلبه، فاستيقظ من نوم الغرور، وندم على غفلته حيث لا ينفع الندم، وجمع من قدر عليه وبرز إلى قتاله، وجمع من أهل بغداد خاصته، ومن عبيده وخدامه ما يقارب أربعين ألف مقاتل، لكنهم مرفهون بلين المهاد، وساكنون على شط بغداد، في ظل ثخين، وماء معين، وفاكهة وشراب، واجتماع أحباب، ما كابدوا حربَاً، ولا ذاقوا طعناً ولا ضرباً، وعساكر المغل ينوفون على مائة ألف مقاتل، فوقع التصاف، والتحم القتال، وزحف الخميس إلى الخميس، يوم الخميس عاشر محرم سنة ست وخمسين وستمائة، وصبر أهل بغداد على حر السيوف، صبروا مضطرين على طعم الحتوف، وأعطوا الدار حقها، واستقبلوا غمام السهام وبلها وودقها، واستمروا كذلك من إقبال الفجر إلى إدبار النهار، فعجزوا عن الاصطبار، وانكسروا أشد انكسار، وولوا الأدبار، وغرق كثير منهم في دجلة، وقتل أكثرهم شر قتلة، ووضعت التتار فيهم السيف والنار، فقتلوا في ثلاثة أيام ما ينوف على ثلاثمائة ألف وسبعين ألفاً، وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الخزائن والأموال، وأخذ هولاكو جميع النقود، وأمر بحرق الباقي، ورمى كتب مدارس بغداد في دجلة، وكانت لكثرتها جسراً يمرون عليها ركبانَاً ومشاة، وتغير لون الماء بحبرها إلى السواد، فأشار الوزير على الخليفة بمصانعتهم وقال: أنا في تقرير الصلح، فخرج، ووثق لنفسه بينهم، ورجع إلى الخليفة وقال: إن الملك هولاكو قد ركب في أن يزوج ابنته بابنك الأمير أبي بكر، ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته، ولا يؤثر أن تكون الطاعة له كما كان أجدادك مع سلاطين الديلم والسلجوقية، وينصرف عنك بجنوده، فيجيب مولانا إلى هذا، فإن فيه حقناً لدماء من بقي من المسلمين، ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد، فالرأي أن تخرج إليهم.
فخرج الخليفة في أعيان دولته فأنزل في خيمة، ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا العقد، فخرجوا من بغداد، فضربت أعناقهم، وكذلك تخرج طائفة بعد طائفة فتضرب أعناقهم، حتى قتل جميع من فيها من العلماء والأمراء والحجاب والكتاب، واستبقى هولاكو المستعصم أياماً إلى أن استصفي أمواله وخزائنه وذخائره، ثم رمى رقاب أولاده وذويه وأتباعه، وأمر أن يوضع الخليفة في غرارة، ويرفس بالأرجل حتى يموت؛ ففعل به ذلك.
وفي رواية: أن خروج الخليفة المستعصم إليه كان قبل وقوع شيء من القتال، ثم لما خرج وفعل به ومن معه ما فعل - بذل السيف في بغداد، واستمر السيف نحو أربعين يوماً، فبلغت القتلى أكثر من ألف ألف نسمة، ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة.
واستشهد الخليفة - رحمه اللّه - يوم الأربعاء رابع عشر صفر من سنة ست وخمسين وستمائة، وانقطعت بموته خلافة بني العباس بن عبد المطلب من العراق، وعدتهم سبعة وثلاثون خليفة، أولهم: عبد اللّه السفاح ابن محمد بن علي بن عبد اللّه ابن العباس، وآخرهم: هذا المستعصم باللّه عبد اللّه بن المستنصر باللّه أبي جعفر منصور بن الظاهر بأمر اللّه محمد بن الناصر لدين اللّه أحمد بن المستضيء بنور اللّه حسن بن المستنجد باللّه يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر باللّه أحمد بن المقتدي بأمر اللّه عبد الله ابن الأمير محمد الذخيرة بن القائم بأمر اللّه عبد اللّه بن القادر باللّه أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بن جعفر بن المعتضد بن أحمد ابن الأمير طلحة الموفق بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون ابن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس.
وكانت مدة خلافته ست عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وعمره خمس وأربعون سنة، وقيل: ست وأربعون وشهران.
وهذه السنة التي قتل فيها المستعصم تسمى: سنة المصائب، وبقيت الدنيا بلا خليفة ثلاث سنين ونصفاً: ستٍ وخمسين وستمائْة، وسبع وخمسين، وثمانٍ وخمسين، وتسعِ وخمسين، إلى رجب منها؛ فأقيمت بمصر الخلافة، وبويع المستنصر كما سنذكره.(2/250)
قال الحافظ الذهبي عند ذكر قتل الخليفة: وما أظنه دفن، وقتل معه جماعة من أولاده، وأعمامه وبني عمه، وكانت بلية لم يصب الإسلام بمثلها، وعملت الشعراء قصائد في مراثي بغداد وأهلها، وتمثل بقول سبط بن التعاويذي: من الكامل:
بَادَتْ وأهلُوهَا مَعَاً فبيوتُهُم ... ببقاءِ مولانا الوزيرِ خرابُ
وقال بعضهم: من الكامل:
يا عصبَةَ الإسلامِ نوحِي واندُبِي ... حزناً علَى ما تَم للمستعصِمِ
دَستُ الوزارةِ كان قَبْلَ زمَانِهِ ... لابْنِ الفراتِ فَصَارَ لابنِ العلقمِي
قلت: يشير إلى ابن الفرات، وكان وزيراً في خلافة المقتدر. وكان آخر خطبة خطبت ببغداد، قال الخطيب في أولها: الحمد لله الذي هدم بالموت مشيد الأعمار، وحكم بالفناء على أهل هذه الدار، والسيف قائم بها. ومما قاله تقي الدين ابن أبي اليسر في بغداد: من البسيط:
لسائلِ الدمعِ عن بغدَادَ إخبارُ ... فما وقوفُكَ والأحبابُ قد ساروا
يا زائْرِينَ إِلى الزوراءِ لا تَفِدُوا ... فما بذاك الحِمَى والدارِ ديارُ
تاجُ الخلافةِ والربْعُ الذي شرُفَت ... به المَعَالِم قد عَفاهُ إقفارُ
أضحَى لِعَصفِ البلا في رَبعِهِ أثر ... وللدموعِ على الآثارِ آثارُ
يا نارَ قَلبيَ من نارٍ لحَر وغى ... شبت عليه ووافي الربْعَ إعصارُ
علا الصليبُ على أعلَى منابِرِهَا ... وقامَ بالأمْرِ مَنْ يحويه زُنارُ
وكم حريم سَبَتهُ التُركُ غَاصِبة ... وكان مِنْ دونِ ذاك الستْرِ أَشتَارُ
وكم بُدُورٍ على البَدرِيةِ انخسفَت ... ولم يعد لِبُدُورٍ منهُ إبدارُ
وكم ذخائرَ أضحَت وهي شائعةٌ ... من النهابِ وقد حازَتْهُ كفارُ
وكم حدودٍ أقيمَت من سيوفهِمُ ... على الرقابِ وخطَت فيه أَوزَارُ
نادَيتُ والسبيُ مَهتُوكٌ يَجُرهُمُ ... إلى السفاحِ من الأعداءِ دَعارُ
إليكَ يا ربنا الشكوَى فأنتَ ترَى ... ما حل بالدينِ والباغونَ فُجارُ
ومن غريب الاتفاق ما رواه بعضهم قال: لما استولت التتار على بغداد، وقتلوا الخليفة المستعصم، كان ببغداد رجل من ذوي اليسار معروف، فلما سمع بقرب التتار من بغداد، جعل في قاع داره مخبأ تحت الأرض، ووضع فيه صناديقه وأمتعته، وسائر ما يعز عليه من أموال وغيرها، ثم جعل على فم ذلك الموضع هيئة فم الخرابة، وجعل تسرب مائها إلى موضع آخر؛ ليخفي أمر ذلك الموضع عن الناظرين. وقال في نفسه: إذا دخلت التتار بغداد خرجت إلى الصحراء، فإذا خرجوا عدت إلى داري ومالي. فلما فرغ من إحكام ذلك وجد في ذخائره ستاً من اللآلئ الكبار النفيسة، كبارَاً جداً، فقال في باله: فتح هذه المطمورة أمر عظيم، وفكر في حفظ تلك اللؤلؤات، فلم يجد لها موضعاً أحسن من عش عصافير كان بسقف تلك الدار قريباً من المخبأ المذكور، فاستدعى بسلم فوضعها في ذلك العش، وجلس في دهليز تلك الدار، وعليه زي الفقراء، فلما دخلت التتار بغداد خرج إلى موضع استتر فيه، فأمسك بعض عساكر التتار رجلا من أهل بغداد، وألزموه أن يريهم دور أهل اليسار من أهل بغداد، ليجد فيها ما يأخذه، فأتى ذلك الرجل بذلك البعض إلى هذه الدار المذكورة فطافا فيها فلم يجدا شيئاً، فغضب التترى فربطه وقال: أتهزأ بي؟ وجعل يضربه ويعذبه، والرجل يحلف له أن صاحب هذه الدار من مياسير أهل بغداد، وما هزأت بك. فبينما هو يضربه إذ زرق عليه عصفور من ذلك العش الذي فيه اللؤلؤات فأصاب الزرق وجهه، فازداد غيظه فضرب ذلك العش فوقع العش، وسقطت تلك اللؤلؤات منه، فتدحرجت منه ثلاث، فوقعن في ثقب تلك الخربة، فأخذ التتري تلك الثلاث لؤلؤات، وألزم الرجل بخراب تلك الخرابة لإخراج اللؤلؤات الأخرى، فلما شرع في تخريبها وأزال وجهها، وجد سلالم تنتهي إلى الموضع الذي فيه الأموال والذخائر والصناديق، فأخذ التتري جميع ما هناك وأطلق الرجل وأعطاه ما تيسر؛ فاعتبروا يا أولي الألباب.
شرح حال التتار(2/251)
قال الموفق عبد اللطيف الخجندي في خبر التتار: هو حديث يأكل الأحاديث، وخبر يطوي الأخبار، وتاريخ ينسي التواريخ، ونازلة تصغر كل نازلة، وفادحة تطبق الأرض، وتملؤها ما بين الطول والعرض.
هذه الأمة لغتهم مشوبة بلغة الهند؛ لأنهم في جوارهم، وبينهم وبين بنكث أربعة أشهر، وهي في النسبة إلى الترك، عراض الوجوه، واسعو الصدور، خفاف الأعجاز، صغار الأطراف، سمر اللون، سريعوا الحركة في الجسم والرأي، تصل إليهم أخبار الأمم، ولا تصل أخبارهم إلى الأمم، قَلما يقدر جاسوس أن يتمكن منهم؛ لأن الغريب لا يشتبه بهم، وإذا أرادوا جهة كتموا أمرهم، ونهضوا دفعة واحدة؛ فلا يعلم بهم أهل بلد حتى يدخلوه، ولا عسكر حتى يخالطوه، فلهذا تفسد على الناس وجوه الحيل فيهم، وتضيق طرق الحرب عليهم، ونساؤهم يقاتلن كرجالهم، والغالب على سلاحهم النشاب، وأكلهم أي لحم وجدوه، وليس في قتلهم استثناء ولا إبقاء، يقتلون الرجال والنساء والأطفال، وكان مقصودهم إفناء النوع الإنساني وإبادة العالم، لا قصد الملك والمال.
وقال سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان: أرض التتار بأطراف بلاد الصين، وهم سكان بوادي، مشهورون بالشر والغدر.
وسبب ظهورهم أن إقليم الصين متسع دوره ستة أشهر، وهم ست ممالك، ولهم ملك حاكم على الست، وهو القان الأكبر المقيم بطغماج وهو كالخليفة على المسلمين، وكان سلطان أحد الممالك الست، واسمه دوس خان، قد تزوج بعمة جنكيز خان ملك التتار فحضر زائراً لعمته، وقد مات زوجها، وكان قد حضر مع جنكيز خان كشلوخان، فأعلمتهما أن الملك الذي هو دوس خان لم يخلف ولدَاً، وأشارت على ابن أخيها أن يقوم مقامه، فقام مقامه وانضم إليه خلق من المغل، ثم سير التقاديم والهدايا إلى القان الأكبر، فأستشاط غضباً، وأمر بقطع أذناب الخيل التي أهديت إليه وطردها، وقتل الرسل لكون التتار لم يتقدم لهم سابقة سلطنة، إنما هم بادية الصين، فلما سمع جنكيزخان وصاحبه كشلوخان تحالفا على التعاضد، وأظهرا الخلاف للقان، وهو الحاكم على الست المدن المذكورة، وأتتهما أمم كثيرة من التتار، وعلم القان قوتهم وشرهم؛ فأرسل يؤانسهم، ثم أرسل بعد ذلك ينذرهم ويتهددهم، فلم يغن ذلك فيهم شيئاً، ثم عزم على قصدهم فقصدهم، ووقع بينهم ملحمة عظيمة، فكسروا القان وملكوا بلاده، واستفحل شرهم، واستمر الملك بين جنكيزخان وكشلوخان على المشاركة، ثم سارا إلى بلاد قاسون من نواحي الصين فملكاها، فمات كشلوخان، فقام مقامه ولده، فاستصغره جنكيزخان فوثب عليه فقتله، واستقل جنكيزخان، ودانت له التتار وانقادت، واعتقدوا فيه الألوهية، وبالغوا في طاعتهم.
ثم كان أول خروجهم من بلادهم سنة ست وستمائة إلى نواحي الترك وفرغانة، فأرسل خوارزم شاه محمد بن تكش صاحب خراسان - الذي أباد الملوك وأخذ الممالك وعزم على قصد الخليفة فلم يتهيأ له - إلى أهل فرغانة والشاش وكاشان، وتلك البلاد النزهة العامرة بالجلاء والإجفال عنها إلى سمرقند وغيرها، ثم خربها جميعاً؛ خوفاً من التتار أن يملكوها؛ لعلمه أنه لا طاقة له بهم.(2/252)
ثم سارت التتار يتحفظون. ويتنقلون إلى سنة خمس عشرة وستمائة، فأرسل فيها جنكيزخان إلى السلطان خوارزم رسلا وهدايا، وقال الرسل لخوارزم شاه: إن القان الأعظم جنكيزخان يسلم عليك ويقول لك: ليس يخف علي عظم شأنك، وما بلغت من سلطانك، ونفوذ حكمك على الأقاليم، وأنا أرى مسالمتك من جملة الواجبات، وأنت عندي مثل أعز أولادي، وغير خاف عليك أني ملك الصين، وأنت أخبر الناس ببلادي، وأنها مغارات العساكر والخيول، ومعادن الذهب والفضة، وفيها كفاية عن غيرها، فإن رأيت أن تعقد بيننا المودة فأمر التجار بالسفر لتعم المصلحتان. فأجابه خوارزم شاه إلى ملتمسه، وسر جنكيزخان بذلك، واستمر الحال على المهادنة إلى أن وصل من بلاده تجار، وكان خال خوارزم شاه نائباً عنه على بلاد ما وراء النهر، ومعه عشرون ألف فارس، فشرهت نفسه إلى أموال التجار، فكتب إلى جنكيزخان يقول: إن هؤلاء القوم قد جاءوا بزي التجار، وما قصدهم إلا التجسس، وإن أذنت لي فيهم فأذن له بالاحتياط عليهم، فقبض عليهم وأخذ أموالهم، فوردت رسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يقول: إنك أعطيت أمانك للتجار فغدرت، والغدر قبيح، وهو من السلطان أقبح، فإن زعمت أن الذي فعله خالك بغير أمرك فسلمه إلينا، وإلا سوف تشاهد مني ما تعرفني به، فدخل خوارزم شاه من الرعب، لكنه تجلد وأمر بقتل الرسل فقتلوا، فيا لها من قتلة كم هدرت من دماء للإسلام، أجرت بكل قطر سيلا من الدم.
ثم سار جنكيزخان إليه فانجفل خوارزم شاه عن جيحان إلى نيسابور إلى مرج همدان؛ رعباً من التتار، فأحدق به التتار وقتلوا كل من معه، ونجا هو بنفسه فخاض الماء إلى جزيرة ولحقته علة ذات الجنب فمات بها وحيداً طريدَاً، وذلك سنة سبع عشرة وستمائة؛ فملكوا جميع مملكة خوارزم شاه.
ثم بعد ذلك عبروا النهر بعد أن أخذوا بخارى وسمرقند، وكان خوارزم شاه قد أباد الملوك من مدن خراسان، فلم يجد التتار أحداً في وجوههم، فطوفوا البلاد قتلا وسبياً، وساقوا إلى أن وصلوا همدان وقزوين.(2/253)
قال ابن الأثير في كامله: حادثة التتار من الحوادث العظمى، والمصائب الكبرى، التي عقمت الدهور عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلقه الله لم يبل بمثلها - لكان صادقاً؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها. ومن أعظم ما يذكرون فعل بُختنَصر ببني إسرائيل ببيت المقدس، فما بيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من مدن الإسلام. وما بنو إسرائيل، بالنسبة إلى ما قتلوا من الأنام؟ فهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في الدنيا سير السحاب استدبرته الريح، فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين فقصدوا كبار المدن والقرى مثل تركستان وكاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بخارى وسمرقند، فتملكوا ملكها، وأبادوا أهلها، ثم تعبر طائفة إلى خراسان فتفرغ منها ملكاً وتخريبَاً وقتلا وإبادة، ثم إلى الري وهمذان، إلى حد العراق، ثم يقصدون أذربيجان ونواحيها، ويخربونها ويفتحونها، كل ذلك في أقل من سنة أمر لم يسمع بمثله، ثم من أذربيجان إلى دَرْبند شروان، ثم إلى بلاد اللان فقتلوا وأسروا، ثم بلاد القفجاق - وهم من أكثر الترك عدداً - فقتلوا من وقف، وهرب الباقون، واستولى التتار عليها، ومضت طائفة منهم إلى غزنة وأعمالها، وسجستان وكرمان ففعلوا مثل هذا، هذا ما لم يطرق الأسماع مثله؛ فإن الإسكندر الذي ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، وإنما ملكها في نحو عشرين سنة، ولم يقتل أحداً وإنما رضي بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأعمره، ولم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يترقب وصولهم إليه، ثم إنهم كانوا لا يحتاجون إلى الميرة ومددهم يأتيهم، فإن معهم الأغنام والبقر والخيل، يأكلون لحومها لا غير، وأما خيل ركوبهم فإنها تحفر الأرض بحوافرها، وتأكل عروق الشجر، لا تعرف الشعير. وديانتهم سجودهم للشمس - والعياذ باللّه - حال طلوعها، ولا يحرمون شيئاً، ويأكلون جميع الدواب وبني آدم، ولا يعرفون نكاحَاً، بل المرأة الواحدة يأتيها الجماعات، ويثبون وثوب القردة، يقطعون المسافات الطويلة في أيام قليلة، ويخوضون الأوحال، ويتعلقون بالجبال، ويصبرون على العطش والجوع، ويهجرون الغمض والهجوع، ولا يبالون بالحر والبرد، والسهل والوعر، طعامهم كف شعير، وشربهم من طرف البئر، يكاد أحدهم يتقوت بطرف أذن فرسه، يقطعها ويأكلها نيئة!! ويصبر على ذلك أياماً عديدة؛ بل يكتفي هو وفرسه بحشيش الأرض مدة مديدة.
ثم ساروا إلى بغداد وهم ينوفون على مائتي ألف فارس وراجل سالب باسل، فكان ما كان منهم على الخليفة المستعصم وبغداد وأهلها، وملكهم هولاكو بعد أن مات جنكيزخان.
ثم وصلوا إلى حلب وبذلوا فيها السيف، بعد أن ملكوا ما بينها وبين بغداد من المدن والقرى.
ثم أرسل هولاكو إلى الملك الناصر، صاحب دمشق كتاباً صورته: يعلم سلطان ناصر طال بقاؤه أنا لما توجهنا إلى العراق وخرج إلينا جنودهم قتلناهم بسيف الله، ثم خرج إلينا رؤساء البلد ومقدموها، فكانت قصارى كل منهم سبباً لهلاك نفوس تستحق الإذلال. وأما صاحب البلد الخليفة، فإنه خرج إلى خدمتنا، ودخل تحت عبوديتنا، فسألناه عن أشياء كذبنا فيها؛ فاستحق الإعدام وكان كذبه ظاهراً " ووجدوا ما عملوا حاضراً " " الكهف: 49 " . وأنت فأجب ملك البسيطة، ولا تقولن: قلاعي المانعات، ورجالي المقاتلات وقد بلغنا أن شذرة من عساكر العراق التجأت إليك هاربة، وإلى خبائك لائذة: من الكامل:
أينَ المفَرُ ولا مفَر لهارب ... ولنا البسيطانِ الثرَى والمَاءُ
فبساعة وقوفك على كتابنا تجعل قلاع الشام سماءها أرضَاً وطولها عرضاً.
ثم أرسل كتاباً ثانيَاً يقول فيه حضرة ملك ناصر طال عمره، أما بعد، فإنا فتحنا بغداد، واستأصلنا مُلكها ومَلكها، وقد كان ضن بالأموال، ولم ينافس في الرجال، فظن أن ملكه يبقى على ذلك الحال، وقد علا ذكره ونما قدره، فخسف في الكمال بدره: من المتقارب:
إذا تَم شيء بدا نقصُهُ ... ترقبْ زوالاَ إذا قِيلَ تَم
ونحن في طلب الازدياد على ممر الآباد، فلا تكن كالذين نسوا اللّه. وأبدِ ما في نفسك إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أجب دعوة ملك البسيطة تأمن من شره، وتنل من بره، واسعَ إليه برجالك وأمرائك، ولا تعُق رسولنا، والسلام.(2/254)
ثم أرسل إليه كتابَاً ثالثاً يقول فيه: أما بعد، فنحن جنود اللّه، بنا ينتقم ممن عتا وتجبر، وطغى وتكبر، وبأمر اللّه ما ائتمر، إن عوتب تنمر، وإن روجع استمر، ونحن قد أهلكنا البلاد، وأبدنا العباد، وقتلنا النساء والأولاد، فيا أيها الباقون، أنتم بمن مضى لاحقون، ويا أيها الغافلون، أنتم إليهم تساقون، ونحن جيوش الهلكة لا جيوش المملكة، مقصودنا الانتقام، وملكنا لا يرام، ونزيلنا لا يضام، وعدلنا في ملكنا قد اشتهر، ومن سيوفنا أين المفر، ولا مفر؟! ذلت لهيبتنا الأسود، وأصبحت في قبضتنا الأمراء والخلفاء، ونحن إليكم صائرون، ولكم الهرب، وعلينا الطلب: من الطويل:
ستعلَمُ ليلَى أيَ دين تداينَت ... وأي غريم للتقاضي غَريمُهَا
دمرنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأهلكنا العباد، وجعلنا عظيمهم صَغيراً، وأميرهم أسيرَاً، تحسبون أنكم ناجون أو متخلصون، وعن قليل سوف تعلمون على ما تقدمون، وقد أعذر من أنذر.
فلما وصلوا إلى دمشق خرج إليهم الملك المظفر، المسمى قطز، من ملوك الأتراك من مصر، ومقدم عسكره الظاهر بيبرس البندقداري، فالتقى معهم عند عين جالوت، ووقع المصاف يوم الجمعة خامس عشر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة، فهزم التتار شر هزيمة، وانتصر المسلمون وللّه الحمد والمنة، وقتل من التتار مقتلة عظيمة، وولوا الأدبار، وطمع الناس فيهم يتخطفونهم وينتهبونهم، وجاء كتاب الملك المظفر إلى دمشق بخبر النصرة فطار المسلمون فرحاً، وسيأتي ذكر الملك المظفر قطز في الباب الخامس المعقود للدولة التركية إن شاء اللّه تعالى.
قال السخاوي: ثم لم يزل بقاياهم يخرجون إلى أن كان اَخرهم تيمور لنك الأعرج، فطرق الديار الشامية وعاث فيها، وحرق دمشق حتى جعلها خاوية على عروشها، ودخل الروم والهند وما بين ذلك، وطالت مدته إلى أن مات وتفرق بنوه في البلاد.
قلت: وفي الشائع أن ملوك الهند في زماننا يرجع نسبهم إلى تيمور لنك هذا، واللّه أعلم بصحة هذا؛ فإني لم أره منقولا.
واعلم أن السنة النبوية قد أشارت إلى قتال الترك وفتنتهم، فقد روى الستة إلا النسائي حديث: " لا تقوم القيامة حتى تقاتلوا قوماً نعالهم الشعر، وحتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة " ، وفي رواية للبخاري: " لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزاً وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة، نعالهم الشعر " وفي لفظ له: " عراض الوجوه " فقوله: " نعالهم الشعر " يحتمل أنه على ظاهره، ويحتمل أن تكون من جلود مشعرة، قاله المناوي في تخريج المصابيح، وحمر الوجوه: بيض مشربة بحمرة.
وذلف بالذال المعجمة في رواية الجمهور، قال صاحب المشارق وهي الصواب، ويروى بإهمال الدال، وهو جمع أذلف، كأحمر وحمر، معناه: فطس الأنوف كما في الرواية الأخرى، أي: قصارها مع انبطاح. وقال النووي: الذلف: غلظ أرنبة الأنف. والمجان: جمع مجن بكسر الميم: الترس. والمطرقة بضم الميم وإسكان الطاء، وحكى فتحها مع تشديد الراء، والأول هو المشهور في الرواية، ومعناه: أن وجوههم عريضة ووجناتهم ناتئة.
وقوله: " حتى تقاتلوا خوزَاً وكرمان " ضبطه ابن الأثير في نهايته فقال: بالخاء والزاي المعجمتين: جيل معروف، وهم من بلاد الأهواز، وكرمان صقع معروف، قال السمعاني: بلدة معروفة من بلاد العجم بين خراسان وبحر الهند. وورد " اتركوا الترك ما تركوكم، فإن أول من يسلب أمتي ملكها بنو قنطوراء " الحديث، زاد في رواية " فإنهم أصحاب بأس شديد وغنائم قليلة " قلت: بنو قنطوراء بالمد والقصر، قيل: كانت جارية لسيدنا إبراهيم الخليل فولدت له أولاداً، فانتشر منهم الترك. حكاه محمد بن الأثير واستبعده، لكن ما استبعده جزم به المجد الفيروزأبادي في قاموسه. وروى الخطيب البغدادي عن علي - رضي اللّه تعالى عنه - : تكون مدينة بين الفرات ودجلة، يكون فيها ملك بني العباس وهي الزوراء، تكون فيها حرب مفظعة يسبى فيها النساء، وتذبح فيها الرجال كما تذبح الغنم، ثم قال: وإسناده شديد الضعف. قال الحافظ السيوطي: وقد وقعت هذه الحرب بعد موت الخطيب بأكثر من مائتي سنة، وذلك يقوي الحديث ويصححه.(2/255)
قال السخاوي: ومن المرات التي قاتل فيها المسلمون الترك دولة بني أمية حتى أغزى معاوية الجيش إلى الروم، وأردفهم بابنه يزيد بن معاوية، ومعه عبد اللّه بن عمر، وعبد اللّه بن عباس، وأبو أيوب الأنصاري، ثم كان بينهم وبين المسلمين مسدوداً بالهدنة التي عقدها يزيد بينه وبينهم، إلى أن فتح ذلك شيئاً فشيئاً، وكثر السبي فيهم حتى كان أكثر عسكر المعتصم بن الرشيد منهم، ثم غلبت الأتراك على الملك فقتلوا ابنه المتوكل بن المعتصم، ثم أولاده الخلفاء واحداً بعد واحد إلى أن خالط المملكة الديلم، ثم كانت الملوك السامانية من الترك أيضاً، فملكوا بلاد العجم، ثم غلب على تلك الممالك آل سُبكتكين غلام معز الدولة بن بويه، ثم آل سلجوق، وامتدت مملكتهم إلى العراق والشام والروم، وكانت بقايا أتباعهم بالشام، وهم آّل زنكي والد محمود بن زنكي الملقب نور الدين الشهيد، وأتباع آل زنكي هم بنو أيوب الأكراد، فاستكثرت بنو أيوب الأتراك من المماليك أيضاً فغلبوهم بالديار المصرية والشامية والحجازية. وخرج على آل محرق في المائة الخامسة الغز فخربوا البلاد، وقتلوا في العباد، ثم جاءت الطامة الكبرى بعد الستمائة؛ فكان خروج جنكيزخان، وخلفه بعده هولاكو، واستعرت الدنيا بهم نارَاً لا سيما الشرق بأسره، حتى لم يبق بلد منه إلا دخلها شرهم، ثم كان خراب بغداد، وقتل الخليفة وسلب ملكه ودمار عماره، وظهر به - بل بجميع ذلك - مصداق قوله صلى الله عليه وسلم " أن أول من يسلب أمتي ملكها بنو قنطوراء " ، وقد تقدم ذكر الحديث، واللّه سبحانه أعلم.
وكان ممن نجا من سيوف التتار من بني العباس أبو العباس أحمد بن الظاهر، عم المستعصم المقتول، قيل: كان محبوسَاً ببغداد، فلما أخذت التتار بغداد أطلق فهرب، وصار إلى عرب العراق، فلما تسلطن الملك الظاهر بيبرس بعد الملك المظفر قطز، وفد عليه إلى مصر في رجب سنة تسع وخمسين وستمائة، ومعه عشرة من بني مهارش عرب الحلة، البلدة المعروفة، فركب السلطان الملك الظاهر بيبرس للقائه، ثم أثبت نسبه على يد قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز الشافعي، ثم بايعه بالخلافة السلطان، ثم قاضي القضاة المذكور، ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الكبار على مراتبهم، وذلك في ثالث عشر رجب من السنة المذكورة. وضربت السكة باسمه، وخطب له، ولقب بلقب أخيه المستنصر، وفرح الناس، وركب يوم الجمعة وعليه السواد إلى جامع القلعة، فصعد المنبر وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العباس، ودعا للسلطان والمسلمين، ثم صلى بالناس، ثم رسم بعمل خلعة للسلطان، وبكتابة تقليد له، ثم نصبت خيمة بظاهر القاهرة، وركب الخليفة المستنصر بالله المذكور، والسلطان الظاهر المذكور معه يوم الاثنين رابع شهر شعبان إلى الخيمة، وحضر القضاة والعلماء والأمراء والوزراء، فألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده وطوقه، ونُصِبَ مِنْبَر فصعد عليه فخر الدين بن لقمان فقرأ التقليد، ثم ركب السلطان بالخلعة ودخل من باب النصر وزينت القاهرة، وحمل الوزير التقليد على رأسه راكباً والأمراء مشاة، ورتب السلطان للخليفة جيشاً وأتابكاً واستدارا وشرابياً وخازنداراً وحاجباً وكاتباً، وعين له خزانة وجملة مماليك، ومائة فرس وثلاثين بغلا، وعشر قطارات جمال إلى أمثال ذلك.
قال الذهبي: ولم يل الخلافة أحد بعد ابن أخيه إلا هذا المستنصر؛ فإنه وليها بعد ابن أخيه وهو المستعصم المقتول، وإلا المقتفي بن المستظهر؛ فإنه وليها بعد الراشد ابن أخيه المسترشد بن المستظهر، ثم عزم المستنصر إلى العراق يريد تخت بغداد، فخرج معه السلطان الملك الظاهر بيبرس يشيعه إلى أن دخلوا دمشق، ثم سار الخليفة بمن معه متوجهاً إلى بغداد، فلما وصل إلى السراة ثالث محرم سنة ستين وستمائة - قاتله هناك قره بغا نائب هولاكو على بغداد، فقتل المستنصر ومن معه، ولم ينج منهم إلا القليل، ولم يقم له أمر فكانت ولايته ستة أشهر. والحاصل أن خلفاء بني العباس البغداديين سبعة وثلاثون خليفة أولهم السفاح وآخرهم المستعصم، ومدة ملكهم فيها خمسمائة وأربع وعشرون سنة ويوم واحد. وقد ذكرهم الإمام محمد بن عبد اللطيف بن يحيى بن علي بن تمام السبكي نظماً مبتدئاً بأبي بكر الصديق فقال: من الطويل:
إذا رمتَ أعداد الخلائفِ عُدهُمْ ... كما قُلْته تدعى اللبيبَ المحصلاَ(2/256)
عتيق وفاروقٌ وعثمانُ بعدَه ... عليُ الرضَا مِنْ بَعْدِهِ حَسَن تلا
معاوية ثم ابنُهُ وحفيدهُ ... مُعَاويَة وابنُ الزبَيْرِ أخو العُلاَ
ومروان يتلوه ابنُهُ ووليدُهُ ... سليمانُ وافى بَعْدَهُ عُمَرْ وَلاَ
يزيدُ هشام والوليدُ يزيدُهُمْ ... سناهُمْ بإبراهيمَ مروانُ قَدْ علا
وسَفاح المنصورُ مهدي ابنُهُ ... وهادِي رشيد للأمينِ تَكَفلا
وأعقب بالمأمونِ مُعْتَصِم غدا ... بَوَائقه يسْتَتْبع المُتَوَكلاَ
ومنتصر والمستعِينُ وبعدَهُ ... لمعتز المَتْلُو بالمهتدي أقْبَلاَ
ومعتمد يَقفُوه معتضِد وعَن ... سنا المكتفي يتلوه مقتدرٌ سلا
وبالقاهِرِ الراضِي يُفوٌضُ متقِ ... وثَانِيهِ مُستَكف مطيع تفضلا
وطائعُهُم للهِ باللهِ قادر ... وقائمُهُم بالمقتدي استَظهر العلا
ومسترشد والراشدُ المكتفي بِهِ ... ومستنجد والمستضِي نَاصِر جلا
فظاهِرُهُم مستنصر قد تكملوا ... فإن آت تقصيراً فكن متطولا
قلت: ولم يذكر عبد الله بن المعتز فيهم، وقد ذكره بعض المؤرخين، وبعضهم لم يذكره؛ لكونه ولي نصف يوم أو نحوه؛ فلذلك تركه الناظم.
ثم صار الملك في مصر، والحل والعقد إلى ملوك الأتراك، ثم الجراكسة ثم العثامنة، وقد كانوا يعينون واحداً من أولاد العباس للخلافة، ويكون كواحد من العامة لا حل له ولا عقد يجاب، ولا يسمع، ولا يفكر في رأي له فيتبع.
فأول من ورد إليهم مصر المستنصر الذي تقدم ذكر قدومه إليها على الملك الظاهر بيبرس؛ فجهزه وسيره إلى بغداد فتم عليه ما تم، ثم وصل بعده إلى مصر من بني العباس أبو العباس أحمد بن الراشد بن المسترشد، ولقب بالحاكم بأمر الله، فأكرمه الظاهر بيبرس أيضاً، وأثبت نسبه بحضرة قضاة الشرع وبايعه بالخلافة، فأجرى عليه النفقة وسكن بمصر، وليس له من الأمر شيء وإنما اسمه الخليفة، واستخلف أولاده من بعده على هذا النسق ليس لهم إلا اسم الخلافة، يأتون به إلى السلطان الذي يريد توليته، فيقول له: وليتك السلطنة. هكذا كانوا بألقاب الخلفاء واحداً بعد واحد، وكانت سلاطين الأقاليم يتبركون بهم، ويرسلون إليهم أحياناً يطلبون تقليد السلطنة، فيكتبون إليهم تقليدَاً ويعهدون إليهم بالسلطنة عهداً.
ولا يخفى أن هؤلاء ليس لهم من الخلافة إلا الصورة، كما كانت الخلفاء البغداديون المحجور عليهم من جانب أمرائهم، وإنما لهم الاسم المجرد عن المعنى من كل وجه، وعدتهم ثمانية عشر خليفة، أولهم: المستنصر الذي جهزه الملك الظاهر بيبرس إلى بغداد فوقع له في الطريق ما وقع، وإنما عددناه منهم لأن ولايته بمصر، وآخرهم: محمد المتوكل على اللّه ابن المستمسك باللّه يعقوب، وهذا المستمسك هو آخر من ذكره العلامة السيوطي في منظومته في الخلفاء. واستمر المستمسك باللّه خليفة إلى أن كبرت سنه، وكف نظره، ودخلت أيام الدولة العثمانية، وافتتحت الديار المصرية، فأخذه السلطان سليم معه إلى أسطنبول واستمر بها إلى أن مات السلطان سليم، ثم عاد إلى مصر فخلع، وولى ولده المتوكل علي بن المستمسك في شعبان سنة أربع عشرة وتسعمائة، واستمر خليفة إلى أن توفي ثاني عشر شعبان سنة خمس وتسعين وتسعمائة، في أيام المرحوم داود باشا صاحب مصر، وباني رباط الداودية ومدرستها المعروفة به، وبموته انقطعت الخلافة الصورية أيضاً بمصر، وكان المتوكل فاضلاَ أديباً له شعر حسن، منه قوله: من البسيط:
لم يبقَ محتسب يُرجَى ولا حسن ... ولا كريم إليه مُشتَكَى حَزَنيِ
وإنما سَادَ قوم غيرُ ذي حَسَبٍ ... ما كنتُ أوثرُ أنْ يمتد بي زَمَنِي
قال العلامة قطب الدين: اجتمعت به رحلتي إلى مصر سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة، وأخذت عنه. وهذه قصيدة العلامة السيوطي المتضمنة لذكر الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين البغداديين والمصريين، ومدة وفياتهم، وهي غاية في ضبط أولئك. قال رحمه اللّه تعالى: من البسيط:
ألحمدُ للهِ حمداً لا نَفَادَ له ... وإنما الحمدُ حقاً رأسُ مَن شكَرَا(2/257)
ثم الصلاةُ على الهادي النبي ومَن ... سادَت بنسبته الأشرافُ والأُمَرَا
إن الأمينَ رسُولَ اللهِ مبعثُهُ ... لأَربعينَ مضَت فيما رَوَوْا عُمُرَا
وكانَ هجرتُهُ منها لطَيبَةَ مِن ... بعد الثلاثةِ أعواماً تلي عَشَرَا
وماتَ في عامِ إحدى بَعدَ عَشرتها ... فيا مصيبةَ أَهلِ الأرضِ حينَ سَرَى
وقامَ مِن بعده الصديقُ مجتهداً ... وفي ثلاثة عشر بعدَهُ قُبِرا
وهو الذي جَمَعَ القرآن في صحفٍ ... وأولُ النَاسِ سَمي المُصحَفَ الزبُرَا
وقامَ من بعدِهِ الفاروقُ ثُمتَ فِي ... عشرينَ بعدَ ثلاثٍ غَيبوا عُمَرا
وَهْوَ الذي اتخَذَ الديوانَ وافترَضَ ال ... عَطاءَ قَبلُ وبيتَ المالِ والدُرَرَا
وَهْوَ المسمى أميرَ المؤمنينَ ولم ... يُدْعَى به قَبْلَهُ شخص مِنَ الأمُرَا
وقام عثمانُ حتَى جاءَ مَقْتَلُه ... بعد الثلاثينَ في خَمسٍ وقد حُصِرا
وبعدُ قامَ علي ثم مقتَلُهُ ... لأربعينَ فمَنْ أوداه قد خَسِرا
ثم ابنُهُ السبطُ نصفَ العامِ ثُم أتَى ... بنو أمية يَبْغونَ الوغَى زُمَرَا
فسلم الأمرَ في أُخْرَى لِرَغْبَتِهِ ... عن دارِ دُنْيَا بلا ضَيْرِ ولا ضَرَرَا
الخلفاء الأمويون:
وكان أولَ في مُلكِ معاوية ... في النصْفِ من عامِ ستينَ الحِمَامُ عَرا
ثمَّ اليزيدُ ابنُهُ أَخْبِثْ به ولداً ... في أربع بعدها ستُونَ قد قُبِرَا
وابنُ الزبَيرِ وفي سبعينَ مَقْتَلُه ... بعد الثلاثِ وكَمْ بالبيتِ قد حُصِرا
وفي ثمانينَ مَع ستّ عليه قضى ... عبدُ المليكِ به الأمرَ الذي اشتُهرا
ثم الوليدُ ابنُهُ في قَبْلِ مَا رَجَب ... في الست من بعدِ تسْعِينَ انقضَى عُمُرا
وَهْوَ الذي مَنَعَ الناسَ النداءَ له ... باسْمٍ وكانتْ تُنَادَى باسمِها الأُمَرَا
وقامَ بَعْدُ سليمانُ الخِيَارُ وفِي ... تسعِ وتسعينَ جاء الموتُ في صَفَرَا
وبعدَه عُمَرٌ ذاك النجيبُ وفي ... إحدى تلي مائة قد أَلْحَدُوا عُمَرَا
وَهوَ الذي أمر الزهرِيَ خَوْفَ ذَهَا ... بِ العلم أنْ يجمَعَ الأَخبارَ والأَثَرا
ثم اليَزِيد فَفِي خَمْسِ قَضَى وتَلا ... هِشَامُ في الخَمْسِ والعِشْرينَ قَدْ سطرا
ثم الوليدُ وبعد العام مقتله ... من بعد ما جاء بالفسق الذي شهرا
ثم اليزيد وفي ذا العام مات وقد ... أقام ست شهور مثل ما أثرا
وبعده قامَ إبراهيمُ ثم مضَى ... بالخلعِ سبعينَ يوما مذ أقامَ ثرا
وبعده قامَ مروانُ الحمارُ وفي ... اثنتينِ بعد ثلاثينَ الدماءُ جَرَى
الخلفاء العباسيون:
وقام مِنْ بَعدِهِ السفاحُ ثم قَضَى ... بعدَ الثلاثينَ في ست وقد جُدرَا
وقامَ مِن بعده المنصورُ ثمتَ في ... خمسينَ بعد ثمانِ مُحْرِماً قُبِرا
ثم ابنُهُ وَهُوَ المهديُ ماتَ لدَى ... تسعٍ وستينَ مَسْمُومَاً كما ذُكِرَا
ثم ابنُهُ وَهُوَ الهادي وموتَتُه ... في عامِ سبعينَ لما هَمَّ أَنْ غَدَرَا
ثم الرشيدُ وفي تسعين تاليةٍ ... ثلاثة ماتَ في الغزوِ الرَّفِيعٍ ذُرَا
ثم الأمينُ وفي تسعينَ تاليةٍ ... ثمانياً جاءه قتل كما ذُكِرَا
وقامَ مِنْ بعده المأمونُ ثمتَ في ... ثمانِ عشرةَ كان الموتُ فاعْتَبِرا
وقامَ معتصم مِنْ بعدِهِ وقضَى ... في عامِ سبعٍ وعشرينَ الذي أُثِرَا
وَهْوَ الذي أدخَلَ الأَتراكَ منفرداً ... ديوانَهُ واقتناهُمْ جالباً وشرا(2/258)
ثم ابنُهُ الواثِقُ المالي الورَى رُعُبا ... وفي ثلاثينَ مَع اثِنْتَيْنِ قد غَبَرَا
وذو التوكُلِ ما أزكَاهُ من خُلُقٍ ... ومظهرُ السنةِ الغَراءِ إذ نَصَرَا
في عامِ سبعِ تليهَا أربَعُونَ قَضى ... قتلا حَبَاه أبنُه المدعوُ منتَصِرا
فلم يَقُمْ بعدَهُ إلا اليسيرَ كَمَا ... قد سَنهُ اللّه فيمَنْ بعضَه غَدَرَا
والمستعينُ وفي عام اثنتينِ تَلاَ ... خمسينَ خَلْع وقتل جاءه زُمَرَا
وَهوَ الذي أحدثَ الأكَمامَ واسعة ... وفي القلانِسِ عن طُولٍ أَتَى قِصَرَا
وقامَ مِنْ بَعدِه المعتزُّ ثُمتَ في ... خمسٍ وخمسينَ حَقاً قتلُهُ أثرَا
والمهتدِي الصّالِحُ الميمونُ مَقتَلُهُ ... مِنْ بعدِ عَام وقفي قبله عمرا
أقامَ مِنْ بَعدِهِ بالأَمرِ مُعْتَمِد ... في عامِ تسعٍ وسبعين الحِمَامُ عَرَا
وذاكَ أولُ ذِي أمرِ له حَجَرُوا ... وأولُ الناسِ موكولا به قُهِرَا
وقام مِنْ بعده بالأمرِ معتضد ... وفي ثمانينَ مَعْ تسَع مضت قُبِرَا
ثم ابنُهُ المكتفي باللّه أحمدُ فِي ... خمسٍ وتسعينَ وافاه الذي قدرَا
في عامِ عشرينَ في شوالَ بَعدَ مُضِي ... ثلاثةٍ قُتِلَ المدعوُ مُقْتدرَا
وبعدَهْ القاهِرُ الجَبارُ مخلَعُه ... في اثنينِ مِنْ بعد عشرين وقد سُمِرَا
وقام من بعده الراضي وَمَاتَ لَدَى ... تسعٍ وعشرينَ وانسُب عِنْدَهُ أخَرَا
والمتَقي وَمَضَى بالخَلْعِ مُشتَمِلا ... من بعد أربعةِ الأعوامِ في صَفَرا
وقام بالأمرِ مستكفيهِمُ وَقَفَاً ... من بعدِ عامٍ لأمر المتقي أَثَرَا
ثم المطجُ وفى ستينَ يتبعُهَا ... ثلاثةٌ فى أخيرِ العامِ قد غبرَا
ثم ابنُه الطائعُ المقهورُ مخلَعُه ... عامَ الثمانينَ مَغ إحْدَى كما أُثِرَا
ثم الإمام أبو العباسِ قادرُهم ... فى اثنينِ مِق بعد عشرينَ مَضَتْ قُبِرَا
ثم ابْنُهُ قائِمْ للّه ماتَ لَدى ... سبعٍ وستينَ مِق شعبانَ قَدْ سُطِرَا
والمقتدِي ماتَ فى تسعِ بأولهَا ... بَغدَ الثمانينَ جذَ الملك واقتدَرَا
وَقَامَ مِنْ بَعدِه مستظهرٌ وقَضَى ... فى خامسِ القرنِ فى اثنينِ تلِى عَشرَا
وقام مِنْ بعده مسترشذ ولَدَى ... تسعٍ وعشرين فيه القَتْلُ حَل عُرَا
ثَم ابنُهُ الراشدُ المقهورُ مَخلَعُهُ ... مِن بعد عامٍ فلا عينْ ولا أَثَرَا
والمقتفي ماتَ مِن بَغدِ التَمَكُنِ فِي ... خمسٍ وخمسينَ وانقادَتْ له النصَرا
وقَامَ مِنْ بعدهِ مستنجدْ وقَضَى ... من بعدِ ستينَ مَعْ سِت وقد شعرا
والمستضىءُ بأمر اللّه ماتَ لَدَى ... خمسٍ وسبعين بالإحسان قد بَهَرا
وقام مِنْ بعدهِ بالأمرِ ظاهِرُهُم ... تسعًا شهورًا فأقلل مدةَ قِصَرَا
وقام مِنْ بعدهِ مستنصر وقَضَى ... لأربعينَ وكَمْ تَرْثِيهِ مِنْ شُعَرَا
وقام مِنْ بعدهِ مستعصم ولَدَى ... ستّ وخمسينَ كَانَ الفتنةُ الكبرَى
جاء التتارُ فَأَزدَوهُ وبلدتَهُ ... فيلعنُ اللهُ والمخلوقةُ التتَرَا
مرتْ ثلاثُ سنين بعدَهُ وَيلى ... نصف ودَهْرُ الزَدَى عَنْ قائمٍ شغرَا
الخلفاء العباسيون المصريون:
وقامَ مِن بعد ذا مستنصز وثَوَى ... فى آخِرِ العام قَتْلاَ مِنهُمُ وسرى
أقام ستَ شهور ثم رَاحَ لَدَى ... مُهَل ستينَ لَم يَبْلُغْ بها وَطَرَا
وقام مِنْ بعده فى مصرَ حاكِمُهُنم ... على وَهى لا كَمَنْ مِن قَبْلُ قد غَبَرَا(2/259)
ومات (4) فى عام إحدى بَغد سبعِ مِئِى ... وقام من بعدُ مستكفيهم وجَرَى
فى أربعينَ قضى إذ قام واثِقُهُم ... فَفِى اثنتينِ قضى خلعا مِنْ الأمَرَا
وقام حاكمُهُنم مِن بعدِه وقضى ... عَامَ الثلاثِ مع الخَمسِينَ معتبرَا
فقام مِنْ بعدِه بالأمرِ معتضد ... وفى الثلاثةِ والستينَ قَدْ غَبَرَا
وذو التوكُلِ يتلوهُ أَقَامَ إلئ ... بعدَ الثمانينَ فى خمس وقد حُصِرَا
وبايَعُوا واثقا باللّه ثُمتَ فى ... عامِ الثمانِ قَضَى وسَمَه عُمَرا
وبايَعُوا بعدَهُ بالله معتصمًا ... فى عامِ إحدى وتسعينَ أُزِيل وَرَا
وذو التوكل رَدوهُ أقامَ إلى ... ذا القرنِ عامَ ثمانٍ منه قَد قُبِرَا
أولادُه منهمُ خمس مبجلة ... حازوا الخلافةَ إِذْ كانَت لَهُمْ قَدرا
والمستعينُ وآلَ الأمرُ أن خلعوا ... فى شهرِشعبان فى خمس تَلي عَشَرَ
وقام مِنْ بعدِه بالأمر معتضد ... لأربعينَ تليها الخمسةُ احتُضِرَ
وقام بالأمر مستكفيهمُ وقَضَى ... فى عامِ الاَرْبع والخمسينَ مُصْطَبِرَا
وقام قائِمهُمْ من بعدُ ثُمتَ في ... سبعٍ وخمسينَ بعدالخلع قد حُصرا
وقام مِنْ بعدِه مستنجدٌ دَهرا ... خليفة العَضرِ رقَّاهُ الإله ذرا
وبعدَ نظمىَ هذا النظمَ فى مُدد ... قَضَى خليفتُنا المذكورُ مصطَبرا
فى عام الاَرْبَعِ من شهرِالمحرمِ مِن ... بعدِ الثمانينَ يومَ السبت قَدْ قبرا
وبويع ابنُ أخيه بَعدَهُ ودُعِى ... بذي التوكُلِ كالَجد الذى شُهرا
وماتَ عامَ ثلاث بعد تِسعِمِئِى ... سلخ المحرَمِ عَن عهدٍ له سطرا
لنجله البر يعقوبَ الشريفِ وَقَد ... لُفبَ مستمسكًا باللّه فى صَفرا
هذا آخر ما نظمه العلامة السيوطى، وقال بعضهم: فذكر خلع المستمسك هذا بعد طول عمره وكبر سنه وانكفاف نظره وولاية ابنه محمد المتوكل على الله بن المستمسك باللّه - فقال:
وكان خلع له فى عام أربعةِ ... من بعدعَشرَةَ فى شعبانَ قد شُهرا
ولم يكنْ خَلعُهُ من أجلِ مَنْقَصَةٍ ... فى دينِه ثم دنياهُ وليسَ جَرى
شبيهُ ذاكَ ولكنْ أمرُ خالِقنَا ... مُذْ حل فى عينه فأَذْهَبَ البصرا
وأهلُ حَل وعَقْدٍ بايَعُوا بِرِضَا ... لِنَجْلهِ لَيْسَ فِيْهِمْ واحدٌ غدرا
بذى التوكُلِ حقا لقبُوهُ وَقُلْ ... محمد اِسمه لاَ زَال مُنْتَصرا
في ساعةِ الخلع والمخلوعُ والدُه ... كانَتْ بَنُو عَمهِ راضِينَ ما ذكرا
الباب الثالث
في الدولة العبيدية المسمين بالفاطميين
بالمغرب ثم بمصر
اعلم أن بني العباس حين ولوا الخلافة امتدت إيالتهم على جميع ممالك الإسلام، كما كان بنو أمية من قبلهم، ثم لحق بالأندلس من فل بني أمية من ولد هشام بن عبد الملك - حفيده عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، ونجا من تلك الهلكة، فأجاز البحر ودخل الأندلس فملكها من يد عبد الرحمن بن يوسف الفهري، وخطب للسفاح فيها حولا، ثم لحق به أهل بيته من المشرق فعذلوه في ذلك، فقطع الدعوة عن السفاح وبقيت بلاد الأندلس منقطعة عن الدولة الإسلامية من بني العباس.(2/260)
ثم كانت وقعة فخ أيام الهادي أخي الرشيد على بني الحسن بن علي سنة تسع وستين ومائة، وقتل داعيتهم يومئذ الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط، وجماعة من أهل بيته، ونجا آخرون، وخلص منهم إدريس بن عبد اللّه المحض بن الحسن المثنى إلى المغرب الأقصى، وقام بدعوته البرابر هنالك؛ فاقتطع المغرب عن بني العباس، واستحدثوا هنالك دولة لأنفسهم، ثم ضعفت الدولة العباسية بعد الاستفحال، وتغلب على الخليفة بها الأولياء والقرابة والمصطنعون، وصار تحت حجرهم من حين قتل الخليفة المتوكل العباسي، وحدثت الفتن ببغداد، وصار العلوية إلى النواحي مظهرين لدعوتهم، فدعا أبو عبد اللّه الشيعي سنة ست وثمانين ومائتين بإفريقية في كتابه لعبيد اللّه المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر المصدق بن محمد المكتوم بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وبايع له، وانتزع إفريقية من بني الأغلب واستولى عليها وعلى المغرب الأقصى ومصر والشام، واقتطعوا سائر هذه الأعمال عن بني العباس، واستحدثوا دولة أقامت مائتين وسبعين سنة كما يذكر الآن في أخبارهم، ثم ظهر بطبرستان من العلوية الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط، ويعرف بالداعي، خرج سنة خمسين ومائتين أيام المستعين، ولحق بالديلم فأسلموا على يديه، وملك طبرستان ونواحيها، وصار له هناك دولة أخذها من يد أخيه سنة إحدى وثلاثمائة الأطروش من بني الحسين، ثم من بني علي بن عمر داعي الطالقان أيام المعتصم. وسيأتي ذكر ذلك في الباب الثاني من الخاتمة عند ذكر من دعا من أهل البيت. واسم هذا الأطروش الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن محمد، وكانت لهم دولة وانقرضت أيام الخمسين والثلاثمائة، واستولى عليها الديلم، وصارت لهم دولة أخرى فظهر باليمن يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي، وهو ابن إبراهيم طباطبا، لقب بذلك للكنة كانت في لسانه يعدل عن لفظ قبا قبا إلى طبا طبا ابن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى، وأظهر هنالك دعوى الزيدية وملك صعدة وصنعا، وكانت لهم هنالك دولة لم تزل حتى الآن، وأول من ظهر منهم يحيى ابن الحسين بن القاسم سنة تسعين ومائتين. وسيأتي ذكرهم في الدعاة للمبايعة.
ثم ظهر أيام الفتنة من دعاة العلوية صاحب الزنج، ادَعى أنه أحمد بن عيسى بن زيد الشهيد، وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهتدي، وطعن في نسبه؛ فادعى ثانياً أنه من ولد يحيى بن زيد قتيل الجوزجان، وقيل: إنه انتسب إلى طاهر ابن الحسين بن علي. والذي ثبت عند المحققين أنه علي بن عبد الرحيم بن عبد القيس، فكانت له ولبنيه دولة بنواحي البصرة، قام بها الزنج إلى أن انقرضت على يد الموفق طلحة المعتمد أيام السبعين ومائتين.
ثم ظهر القرمطي بنواحي البحرين وعمان، سار إليهما من الكوفة سنة تسع سبعين ومائتين أيام المعتضد، وانتسب إلى بني إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق دعوى كاذبة. وكان من أصحابه الحسن الجبائي وزكرويه القاشاني؛ فقاما بالدعوة من بعده ودعوَا لعبيد الله المهدي، وغلبوا على البصرة والكوفة، ثم انقطعوا عنها إلى البحرين وعمان، وكانت هنالك دولة انقرضت آخر المائة الرابعة، وتغلب عليهم العرب من بني سليم وبني عقيل.
وفي خلال ذلك استبد بنو سامان بما وراء النهر آخر أعوام الستين والمائتين، وأقامت دولتهم إلى آخر المائة الرابعة، ثم اتصلت دولة أخرى في مواليهم بِغَزنَةَ إلى منتصف المائة السادسة.
وكانت للأغالبة بالقيروان وإفريقية دولة أخرى استبدوا بها على الخلفاء من لدن أيام الرشيد والمأمون إلى أول المائة الثالثة، ثم أعقبتها دولة أخرى لمواليهم بني طغج، موالي كافور إلى الستين والثلاثمائة.
ثم استولى المعز الفاطمي على مصر بعد موت كافور لما افتتحها له عبده جوهر الرومي الصقلي، واختط القاهرة والجامع الأزهر والقصرين، واستمرت في يد أولاده إلى سنة سبع وستين وخمسمائة، حتى كان آخرهم العاضد، فاستولى عليه ملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الكردي، وقطع خطبة الفاطميين، عاد الخطبة بمصر لبني العباس، للمستضي بن المستنجد منهم، بعد أن قطعت عنهم مائتين ونيفاً وثمانين سنة، مدة استيلاء الفاطميين عليها كما سيأتي ذكر كل ذلك في الدولة الأيوبية.(2/261)
ثم عقبها دولة أخرى لمواليهم، وهي الدولة التركمانية الذين أولهم المعز أيبك التركماني، ثم عقبتها دولة أخرى لمواليهم، وهي الدولة الشركسية، ثم عقبتها دولة أخرى وهي العثمانية، وسيأتي ذكر كل دولة في باب على حدة على ترتيب ما ذكرناه.
وفي خلال هذا كله تضايق نطاق الدولة العباسية بخروج المستبدين بالنواحي عليها، ولم يمتد نطاقها إلا إلى نواحي السواد والجزيرة فقط، إلا أنهم قائمون ببغداد على أمرهم.
ثم كانت للديلم دولة أخرى، واستولوا فيها على النواحي، وملكوا الأعمال. ثم ساروا إلى بغداد وملكوها، وصيروا الخليفة في مملكتهم من لدن المستكفي أعوام الثلاثين والثلاثمائة إلى الأربعمائة والخمسين، فكانت مدتهم مائة وعشرين سنة، وكانت من أعظم الدول.
ثم أخذها من أيديهم الملوك السلجوقية إحدى شعوب الترك، فلم تزل دولتهم من لدن القائم بأمر اللّه العباسي سنة الأربعين وأربعمائة أو الخمسين إلى آخر المائة السادسة، وكانت دولتهم كذلك من أعظم الدول في العالم، وتشعبت عنها دول لهم ولأشياعهم في النواحي، وهي باقية لهذا العهد آخذة في التلاشي. كما سنذكر كلا في محله من بابه المعقود له.
نسب العبيديين بإفريقية
قد اختلف الناس في صحة نسب هؤلاء العبيديين القائمين بإفريقية ثم بمصر؛ فأثبت نسبهم وصححه جماعة ونفاه جماعة كثيرون. قال العلامة ابن خلكان: والجمهور على عدم صحة نسبهم، وأنهم كذبة أدعياء، لا حظ لهم في النسبة المحمدية أصلا.
فممن أثبت نسبهم العلامة ابن خلدون في تاريخه فقال: نسبة هؤلاء العبيديين إلى أول خلفائهم، وهو عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب ابن جعفر المصدق بن محمد المكتوم بن إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق، ولا عبرة بمن أنكر هذا النسب من أهل القيروان وغيرهم، ولا بالمحضر الذي كتب ببغداد أمام القادر بالله العباسي بالقدح في نسبهم، وأشهد فيه أعلام الأئمة مثل القدوري، والصيمري، وأبي العباس الأبيوردي، وأبي حامد الأسفراييني، وأبي الفضل النسوي، وأبي جعفر النسفي، ومن العلويين المرتضى، وابن البلجاني؛ وابن الأزرق، وزعيم الشيعة أبي عبد الله بن النعمان؛ فهي شهاده على السماع. وكان ذلك القدح متصلا في دولة العباسيين منذ مائتين من السنين، فاشياً في أمصارهم وأعصارهم عند أعدائهم شيعة بني العباس؛ فتلون الناس بمذهب أهل الدولة، فجازت شهادتهم بذلك، والشهادة على السماع في مثله جائزة، على أنها شهادة نفي؛ فلا تعارض شهادة المثبت، مع أن طبيعة الوجود في الانقياد إليهم، وظهور كلمتهم، حتى في مكة والمدينة - أدل شيء على صحة نسبهم.
وأما من يجعل نسبهم في اليهودية والنصرانية كميمون القداح، فكفاه إثمَاً وسفسفة. وكان شيعة هؤلاء العبيديين في المشرق واليمن وإفريقية، وكان أصل ظهورهم بإفريقية دخول الحلواني وأبي سفيان من شيعتهم إليها، أنفذهما جعفر الصادق وقال لهما: بالمغرب أرض بور فاذهبا واحرثاها حتى يجئ صاحب البذر، فنزل أحدهما ببلد مرغة والآخر ببلد سوف جمار، وكلاهما من أرض كتامة؛ ففشت هذه الدعوة في تلك النواحي.
وكان محمد الحبيب ينزل سلمية من أرض حمص، وكان شيعتهم يتعاهدونه بالزيارة إذا زاروا قبر الحسين، فجاء محمد بن الفضل من عدن لاعة من اليمن لزيارة محمد الحبيب، فبعث معه رستم بن الحسن بن حوشب من أصحابه؛ لإقامة دعوته باليمن، وأن المهدي خارج في هذا الوقت، فسار فأظهر الدعوة للمهدي من آل محمد بنعوته المعروفة عندهم، واستولى على أكثر اليمن وسمي بالمنصور، وابتنى حصناً بجبل لاعة، وفرق الدعاة في اليمن واليمامة والبحرين والسند هند ومصر والمغرب.(2/262)
ولما توفي محمد الحبيب عهد إلى ابنه عبيد الله وقال له؛ أنت المهدي، وتهاجر بعدي هجرة بعيدة فتلقى محنَاً شديدة. واتصل خبره بسائر دعاته في إفريقية واليمن، وبعث إليه أبو عبد الله الشيعي رجالاَ من كتامة يخبرونه بما فتح اللّه عليهم، وأنهم في انتظاره، وشاع خبره واتصل بالخليفة العباسي على المكتفي، فطلبه ففر من أرض الشام إلى العراق، ثم لحق بمصر ومعه ابنه الآخر أبو القاسم غلاماً حدثَاً، وخاصته ومواليهم، بعد أن كان أراد قصد اليمن فبلغه ما أحدث بها علي بن الفضل، وأنه أساء السيرة، فانثنى عن ذلك، واعتزم على اللحاق بأبي عبد الله الشيعي داعيتهم بالمغرب، فارتحل هو ومن معه من مصر إلى الإسكندرية، ثم خرجوا من الإسكندرية في زي التجار، وجاء كتاب المكتفي إلى عامل مصر - وهو يومئذ عيسى النوشري - بخبرهم والقعود لهم بالمراصد، وكتب إليه بنعته وحليته فسرح في طلبهم، ثم وقف عليهم وامتحن أحوالهم؛ فلم يقف على اليقين في شيء منها فخلى سبيلهم، وجد المهدي في السير، وكانت له كتب في الملاحم منقولة من آبائه، سرقت من رَحْلِهِ في طريقه، فيقال: إن ابنه أبا القاسم استردها من برقة حين زحف إلى مصر.
ثم إن المهدي أغزى ابنه أبا القاسم، وجموع كتامة سنة إحدى وثلاثمائة إلى الإسكندرية ومصر، وبعث أسطوله في البحر في مائتي مركب، وشحنها بالأمداد، وعقد عليها لحباسة بن يوسف، فسارت العساكر فملكوا برقة والإسكندرية والفيوم، فبعث المقتدر عساكر من بغداد مع سُبكتكين ومؤنس الخادم؛ فتواقعوا معهم مراراً وأجلوهم عن مصر؛ فرجعوا إلى المغرب.
ثم أعاد المهدي حباسة في العسكر في البحر سنة اثنتين وثلاثمائة إلى الإسكندرية فملكها، وسار يريد مصر، فجاء مؤنس الخادم من بغداد لمحاربته فتواقعوا مرات، وكان الظهور آخراً لمؤنس، وقتل من أصحاب حباسة حوالي سبعة آلاف، وانصرف إلى المغرب فقتله المهدي، فانتقض عليه لذلك أخو حباسة واسمه عروبة، واجتمع عليه من كتامة خلق كثير من كتامة والبربر؛ فسرح إليه المهدي مولاه غالباً في الجيوش؛ فهزمهم وقتل عروبة وبني عمه في أمم لا تحصى.
ثم اعتزم المهدي على بناء مدينة على ساحل البحر يتخذها معصماً لأهل بيته، لما كان يتوقعه على الدولة من الخوارج. ويحكى عنه أنه قال: بنيتها ليعتصم بها الفواطم ساعة من نهار، وأراهم موقف صاحب الحمار بساحتها، فخرج بنفسه يرتاد موضعاً لبنائها، ومر بتونس وقرطاجنة حتى وقف على مكانها؛ جزيرة متصلة بالبر؛ كصورة كف اتصلت بزند فاختطها، وهي المهدية، وجعلها وأدار ملكه، وأدار عليها سوراً محكماً، وجعل لها أبواباً من الحديد، وزن كل مصراع مائة قنطار.
وابتدأ بناءها آخر سنة ثلاث وثلاثمائة، ولما ارتفع السور رمى من فوقه بسهم إلى ناحية المغرب ونظر إلى منتهاه، وقال: إلى هذا الموضع يصل صاحب الحمار - يعني أبا يزيد - وأبو يزيد هذا خارجي خرج عليه، نهب باجة وغيرها، وأحرق وقتل الأطفال وسبى النساء، واجتمع إليه قبائل البربر، واتخذ الأخبية والبيوت وآلات الحرب، وأهدى إليه رجل حماراً أشهب، وكان يركبه وبه لقب، وكان يلبس جبة صوف قصيرة ضيقة الكمين، وهو أبو يزيد بن مخلد بن كيداد، وكان جده كيداد من أهل قسطيلية من بلد توزر، وكان يختلف إلى بلاد السودان بالتجارة، وبها ولد ولده أبو يزيد المذكور، ثم أمر أن ينحت في الجبل دار لإنشاء السفن تسع مائة سفين، ويخبأ في أرضها أهراء الطعام ومصاح للمياه، وبنى فيها القصور والدور، فكملت سنة ست وثلاثمائة. فلما فرغ منها قال: اليوم أمنت على الفواطم.
ثم جهز ابنه أبا القاسم بالعساكر إلى مصر مرة ثانية سنة سبع وثلاثمائة فملك الإسكندرية، ثم سار وملك الجيزة والأشمونين وكثيراً من الصعيد، وكتب إلى أهل مكة بطلب الطاعة فلم يجيبوه إليها، وبعث المقتدر مؤنساً الخادم في العساكر؛ فكانت بينه وبين أبي القاسم عدة وقعات ظهر فيها مؤنس، وأصاب عسكر أبي القاسم الجهد من الغلاء والوباء، فرجع إلى إفريقية، وكانت مراكبهم قد وصلت من المهدية إلى الإسكندرية في ثمانين أسطولاَ؛ مددَاً لأبي القاسم.(2/263)
ثم توفي عبيد اللّه المهدي في ربيع سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وولي بعده ابنه أبو القاسم محمد، ويقال: نزار، ولقب القائم بأمر اللّه؛ فعظم حزنه على أبيه، حتى يقال: إنه لم يركب سائر أيامه إلا مرتين. وكثر الثوار عليه في النواحي، فسير إليهم وأخذهم، واستباح أموالهم وديارهم، وحاصر الأدارسة ملوك الريف، ودخل المغرب وحاصر فاس، واستنزل عاملها أحمد بن بكر، ثم بعث عسكراً إلى مصر مع خادمه زيران فملكوا الإسكندرية، فجاءت عساكر الإخشيد من مصر؛ فأزعجوهم عنها؛ فرجعوا إلى المغرب.
ثم توفي القائم أبو القاسم، محمد بن عبيد الله المهدي، صاحب إفريقية بعد أن عهد إلى ولده إسماعيل، وذلك سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة؛ فقام بعده ولده إسماعيل بعهده إليه، وتلقب بالمنصور. هذا ما ذكره ابن خلدون، ثم استمر في ذكر تعدادهم - واحداً بعد واحد - إلى آخرهم العاضد لدين اللّه.
وأما غير ما ذكره ابن خلدون في شأنهم، فقال به جماعات كثيرون منهم الإمام الحافظ الذهبي في تاريخه دول الإسلام، ونصه: اعلم أن مبدأ أمرهم ومنشأ خبرهم، أن الحسين بن محمد بن أحمد بن عبد اللّه القداح - لأنه كان يعالج العيون بالقدح فتبصر - ابن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنهم - قدم إلى سلمية، وكان له بها ودائع وأموال من ودائع جده عبد الله القداح، فاتفق أن جرى بحضرته ذكر النساء، فوصفت له امرأة يهودي حداد مات عنها زوجها، وهي في غاية الحسن والجمال، وله منها ولد يماثلها في الجمال، فتزوجها وأحبها، وحسن موضعها منه، وأحب ولدها فعلمه العلم، وصارت له نفس عظيمة وهمة كبيرة، وكان الحسين يدعيِ أنه الوصِي وصاحب الأمر، والدعاة بالمغرب واليمن يكاتبونه، ولم يكن له ولد؛ فعهد إلى اليهودي ابن الحماد ربيبه، وأعطاه الأموال، وأمر أصحابه بطاعته وخدمته، وقال: إنه الإمام الرضي، وزوجه ابنة عمه، وهو جدهم عبيد الله فتلقب بالمهدي، ووضع لنفسه نسباً هو عبيد الله بن الحسن بن عَلِي بن محمد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فلما توفي الحسين قام بعده المهدي هذا، فلما انتشرت دعوته أرسل إليه داعيه بالمغرب بما فتح اللّه عليه من البلاد، وأنهم ينتظرون قدومه إليهم؛ فشاع خبره عند الناس أيام المكتفي العباسي علي بن المعتضد؛ فطلبه فهرب هو وولده نزار الملقب بالقائم، وهو يومئذٍ غلام، ومعهما خاصتهما ومواليهما، فلما وصلا إلى إفريقية أحضر الأموال منها واستصحبها معه، فوصل إلى رقادة في العشر الأخير من شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين ومائتين، ونزل في قصر من قصورها، وأمر أن يدعى له في الخطبة في جميع تلك البلاد، وجلس يوم الجمعة للمبايعة، وأحضر الناس بالعنف، ودعاهم لمذهبه، فمن أجاب أحسن إليه ومن أبى حبسه، فاستمر على ذلك إلى أن كانت وفاته سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
ثم قام من بعده ابنه نزار، وتلقب بالقائم بأمر الله تعالى، واستمر إلى أن مات سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
ثم قام من بعده ابنه إسماعيل، وتلقب بالمنصور. انتهى ما ذكره الحافظ الذهبي.
قال ابن خلكان في ترجمة المنصور هذا: وذكر أبو جعفر، أحمد بن محمد المروذي، قال: خرجت مع المنصور بن القائم بن المهدي العبيدي، صاحب إفريقية، يوم هزم أبا يزيد الخارجي فسايرته وبيده رمحان، فسقط أحدهما مراراً، فمسحته وتفاءلت له فأنشدته: من الطويل:
فأَلقَتْ عَصَاها واستَقَر بِهَا النَوى ... كَمَا قَرَ عَيْناً بالإياب المُسافِرُ
فقال: هلا قلت ما هو خير من هذا وأصدق " وَأَوحَينا إِلىَ مُوسَى أَن ألقِ عَصاك فإذا هيَ تَلقَفُ مَا يأفكوُنَ فَوَقَعَ الحقَّ وَبطلَ مَا كانوا يعَمَلُونَ فَغُلِبوُا هُنَالِكَ وَاَنقَلَبوُا صاغِريِن " " الأعراف: 117 - 119 " فقلت: يا مولانا، أنت ابن رسول اللّه، قلت ما عندك لما عندك من العلم.
وكان المنصور شجاعاً رابط الجأش، فصيحاً بليغَاً، يرتجل الخطب ارتجالا، وتوفي بمدينته التي بناها وسماها المنصورية. انتهى ما ذكره ابن خلكان.
وإفريقية بكسر الهمزة والفاء الساكنة والراء المكسورة بعدها مثناة تحتية فقاف مكسورة فمثناة تحتية مشددة: إقليم عظيم ببلاد المغرب، افتتح في خلافة عثمان بن عفان - رضي اللّه تعالى عنه.(2/264)
ثم قام من بعده ابنه معد الملقب بالمعز بن إسماعيل، الملقب بالمنصور بن نزار، الملقب بالقائم بن عبيد اللّه، الملقب بالمهدي. هذا المعز أول من ملك مصر من العبيديين، أرسل عبده جوهراً الرومي الصقلي، أرسله من إفريقية بلاد المغرب؛ لأخذ بلاد مصر عند اضطراب جَيشِهَا بعد موت كافور الإخشيدي، فلم يجتمعوا عليه؛ فأرسل بعضهم إلى المعز يستنجد به، فأرسل مولاه جوهراً هذا في ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فوصل إلى القاهرة في شعبان في مائة ألف مقاتل، ومعه من الأموال ألف ومائتا صندوق، وقيل: خمسمائة صندوق، فانزعج الناس، وأرسلوا يطلبون إليه الأمان فآمنهم؛ فلم يرض الجيش بذلك، وبرزوا لقتاله فكسرهم وجدد الأمان لأهلها، ودخلها يوم الثلاثاء لثمان عشرة ليلة خلت من شعبان، فشق مصر ونزل في مكان القاهرة اليوم وأسس من ليلته القصرين، وخطب يوم الجمعة الآتية وقطع الدعاء لبني العباس، ودعا لمولاه المعز وذكر الأئمة الاثني عشر، وأذن بحي على خير العمل، وكان يظهر الإحسان إلى الناس، ويجلس كل يوم سبت مع الوزير جعفر بن الفرات، واجتهد في تكميل القاهرة، وفرغ من جامعها سريعاً وهو الجامع الأزهر المشهور، وأرسل أميرَاً من أمرائه - يسمى جعفر بن فلاح - إلى الشام، فأخذها لسيده المعز، ثم قدم مولاه المعز في سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وصحبته توابيت آبائه، فلما وصل إلى الإسكندرية في شعبان منها تلقاه أعيان مصر؛ فخطب الناس هناك خطبة بليغة ارتجالاَ، ذكر فيها فضلهم وشرفهم، وقد كذب وقال: إن اللّه تعالى قد أغاث الرعايا بهم وبذويهم، حكى ذلك قاضي بلاد مصر، وكان جالساً إلى جانبه، ثم إنه سأله: هل رأيت خليفة أفضل مني. فقال القاضي: لم أر أحداً من الخلائف سوى أمير المؤمنين، فقال له: أحججت. فقال: نعم، قال: وزرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: وقبر أبي بكر وعمر. قال: فتحيرتُ ماذا أقول، ثم نظرت فإذا ابنه قائم مع كبار الأمراء فقلت: شغلني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنهما، كما شغلني أمير المؤمنين عن السلام على ولي العهد، ونهضت إليهما فسلمت عليهما، ورجعت فانفسح المجلس إلى غير هذا المجال.
ثم سار من الإسكندرية إلى مصر فدخلها في اليوم الخامس من رمضان من هذه السنة فنزل بالقصرين، ثم كانت أول حكومة انتهت إليه: أن امرأة كافور الإخشيدي تقدمت إليه فذكرت له أنها كانت أودعت رجلا من اليهود الصواغ قباء من لؤلؤ منسوج بالذهب، وأنه جحدها ذلك؛ فاستحضره وقرره، فجحد اليهودي ذلك وأنكره فأمر عند ذلك المعز أن تحفر داره وأن يستخرج ما فيها فوجدوا القباء قد جعله في جرة ودفنه، فسلمه المعز إليها، فتقدمت إليه وعرضته عليه فأبى أن يقبله منها ورده عليها، فاستحسن ذلك منه الحاضرون من مؤمن وكافر، وقد ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن اللّه ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " .
وفي بعض التواريخ: أنه سئل في ذلك المجلس عن نسبه فاستل سيفه إلى نصفه بيمناه، وقبض قبضة من الذهب بيسراه فقال: هذا نسبي، وهذا حسبي. واللّه أعلم بصحة ذلك.
وفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة عملت الروافض البدعة الشنعاء يوم عاشوراء ببغداد؛ من تعليق المسوح، ونثر النتن في الأسواق، وخروج النساء سافرات الوجوه والنهود، ينحن على الحسين رضي اللّه تعالى عنه. ووقعت فتنة عظيمة بين أهل السنة والروافض، وكلا الفريقين قليل عقل بعيد من السداد؛ وذلك أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة جملا وسموها عائشة، وتسمى بعضهم بطلحة والزبير، وقاتل مقاتل أصحاب علي بن أبي طالب، فقتل من الفريقين خلق كثير، وعاثت العيارون في البلد بالفساد، ونهبت الأموال، وقتل الرجال، ثم أخذ جماعة منهم فقتلوا وصلبوا فسكنت الفتنة.(2/265)
قال العلامة ابن الأثير في كامله: لما استقر المعز الفاطمي في الديار المصرية وتأطد ملكه، سار إليه الحسين بن أحمد القرمطي الأحسائي، قال ابن عساكر: وبقية نسبه: ابن أبي سعيد الحسن بن بهرام، ويقال: الحسن بن أحمد بن الحسن بن يوسف بن كودر كار، يقال: أصلهم من الفرس، قال: ويعرف الحسين هذا بالأعصم، وكان قد تغلب على دمشق سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، ثم عاد إلى بلده الأحساء بعد سنة، ثم عاد إلى دمشق في سنة ستين، وكسر جيش جعفر بن فلاح أول من ناب بالشام عن المعز الفاطمي. ذكر له الحافظ ابن عساكر أشعاراً حسنة رائقة فائقة؛ فمن ذلك ما كتبه إلى جعفر بن فلاح قبل الحرب بينهما، وهو هذه الأبيات: من البسيط:
أَلحَربُ ساكِنَة والخيلُ صَافِنَة ... والسلمُ مبتَذَل والظل مَمُدودُ
فإن أنبتُم فَمَقبُول إِنَابَتُكُم ... وإن أبيتُم فَهَذا الكُورُ مَشدُودُ
على ظهورِ المَطَايا أو يَرِدنَ بِهَا ... دِمَشقَ وَالبَابُ مَهدُوم ومَردُودُ
إني امرُؤ لَيس من شَأني ولا أَرَبِي ... طَبل يَرِن وَلاَ نَايٌ وَلاَ عُودُ
ولاَ اعتِكَافْ عَلَى خمرٍ ومجمَرَةٍ ... وذاتِ دَل لهَا عَد وتفنيدُ
ولا أَبيتُ بَطِينَ البَطنِ من شِبَعِ ... وَلي رفيق خميص البَطنِ مَجهودُ
ولا تَسَامَت بِيَ الدنيا إِلَى طَمَع ... يَوماً وَلاَ غَرنِي منها الموَاعيد
ومن شعره أيضاً قوله: من الكامل:
يَا سَاكِنَ البَلَدِ المَنِيعِ تَعززا ... بِقِلاَعِهِ وَحُصُونِهِ وَكُهُوفِهِ
لاَ عِز إِلا لِلعَزِيزِ بِنَفْسِهِ ... وَبِخَيْلِهِ وَبِرَجْلِهِ وَسُيُوفِهِ
ثم في هذا العام، وهو عام ثلاث وستين وثلاثمائة سار إلى مصر في جيش كبير من أصحابه، والتقى معه أمير العرب ببلاد الشام، وهو حسان بن الجراح الطائي في عرب الشام بكمالهم، فلما سمع به المعز الفاطمي سقط في يده لكثرتهم؛ فكتب إلى القرمطي يستميله ويقول له: إن دعوة آبائك إنما كانت لآبائي قديماً، فدعوتنا واحدة. ويذكر فضله وفضل آبائه. فرد له الجواب بقوله: من الكامل:
زَعَمت رِجَالُ العُرْب أَني هِبْتُهَا ... فَدَمِي إِذَن مَا بَينْهَا مَطلُولُ
يَا مِصْرُ إن لَم أَسقِ أَرَضَكِ مِن دَمِ ... يَرْوِي ثَرَاكِ فَلاَ سَقَانِي النيلُ
وصل كتابك الذي كثر تفصيله وقل تحصيله، ونحن سائرون على أثره والسلام. فلما انتهوا إلى أطراف مصر عاثوا قتلا ونهباً وفساداً، وحار المعز ماذا يفعل؛ لكثرة من مع القرمطي، وضعف جيشه عن مقاومته؛ فعدل إلى المكيدة والخديعة، فراسل حسان بن الجراح أمير العرب، ووعده بمائة ألف دينار؛ فأرسل إليه حسان أن ابعث إلي بما التزمت في أكياس، وأقبل بمن معك، فإذا التقينا انهزمتُ بمن معي، فأرسل إليه المعز بمائة ألف في أكياس، ولكنها زغل أكثرها ضرب النحاس، وألبسه ذهباً وجعله في أسفل الأكياس، ووضع في رءوس الأكياس الدنانير الخالصة. ولما بعثها إليه ركب في أثرها بجيشه فالتقى الناس، فلما تواجه الفريقان ونشبت الحرب بينهما - انهزم حسان بن الجراح بالعرب، فضعف جانب القرمطي وقوي عليه المعز الفاطمي فكسره، وانهزمت القرامطة بين يديه؛ فرجعوا إلى أذرعات في أذل حال، وبعث المعز في آثارهم بعض الأمراء في عشرة آلاف فارس ليحسم مادة القرامطة.
ولما أرسل جوهر القائد الرومي الصقلي رسولا إلى سيده المعز الفاطمي بإفريقية يبشره بفتح الديار المصرية وإقامة الدعوة والخطبة له بها - فرح فرحَاً شديداً. وامتدحه الشعراء فكان ممن امتدحه شاعره محمد بن هانئ الأندلسي بالقصيدة المشهورة وهي: من الطويل:
تَقُولُ بنو العباسِ هَل فُتِحَت مِصرُ ... فَقُل لبني العباسِ قَد قُضِي الأَمرُ
وقد جَاوَزَ الإسكندريةَ جَوهَر ... تطالِعُهُ البُشْرى ويَقْدمُهُ النَّصْرُ
وقد أَوْفَدَت مِضر إليهِ وُفودَهَا ... وَزِيدَ على المعقودِ مِنْ جسرِهَا جِسْرُ
فمَا جَاء هنا اليومُ إلا وَقَدْ غَدَتْ ... وأيْدِيكُمُ مِنْهَا ومِنْ غَيرِها صِفْر(2/266)
فلا تكثِرُوا ذَمَّ الزمَانِ الذي خَلاَ ... فَذَلِكَ عَصْرْ قد تَقَضى وَذَا عَصْرُ
أَفي الجيشِ كنتُم تَمْتَرُونَ رُوَيدَكُم فهذا القَنَا العَرَاصُ والعَسْكَرُ المَجْرُ
وقد أَشْرفَتْ خيلُ الإِلهِ طَوَالِعاً ... عَلَى الدينِ والدنيا كَمَا طَلَعَ الفَجْرُ
وَذَا ابنُ رَسولِ الله يطلُبُ وَتْرَه ... وكَانَ حَرٍ ألاَ يَضِيعَ لَهُ وَتْرُ
ذَرُوا الوِردَ في مَاءِ الفُرَاتِ لِخيلِهِ ... فلا الضحلُ منه تمنَعُونَ ولا الغَمْرُ
أفي الشمسِ شك إِنها الشمسُ بَعدَ مَا ... تَجَلَّتْ عِيَاناً ليسَ مِنْ دويها سِتْرُ
وَمَا هِيَ إلا آيةٌ بعدَ آية ... ونذرٌ لكم إِن كَانَ تُغِنيكُمُ النذْرُ
وكونُوا حَصِيداً خامِدِينَ أوِ ارْعَوُوا ... إلى مَلِكٍ في كَفه الموتُ والنشْر
أَطِيعُوا إماماً للأئمةِ فَاضِلا ... كمَا كَانَتِ الأعمَالُ يَفْضُلُهَا البِرُّ
رِدُوا سَاقيَاً لا تُنْزِفُونَ حِيَاضَهُ ... جموعاً كما لا تُنْزِفُ الأبْحُرَ الذر
فإن تَتبَعُوهُ فَهوَ مولاكُمُ الذِي ... لَهُ بِرَسُولِ اللّه دُونَكُمُ الفَخْرُ
وإلاَّ فبُعْدَاً للبَعِيدِ فَبَيْنَهُ ... وبينَكُمُ مَا لاَ يُقربهُ الدَّهْرُ
أَفي ابْنِ أبي السبْطينِ أمْ في طليقِكُم ... تَنزلتِ الآياتُ والسوَرُ الغُرُ
بني نتلةِ ما أَوْرَثَ الله نتلة ... وَمَا ولدَتْ هَلْ يستوي العَبْدُ والحُرُ
وَأَنَّى بِهذَا وهيَ أعْدَت بلُؤْمِهَا ... أَبَاكُمْ فإِيَّاكُمْ ودَعْوَى هِيَ الكُفْرُ
ذرُوا الناسَ رُدوهُمْ إلى مَن يَسُوسُهُمْ ... فَمَا لَكُمُ في الأمرِ عُرف ولا نُكْرُ
أسرتُمْ قُروما بالعراقِ أعِزة ... فَقَدْ فُك من أعناقِهِمْ ذلِك الأَسْرُ
وقد بَزكُمْ أيامَكُمْ عَصَبُ الهُدَى ... وَأَنْصَارُ دِينِ اللَهِ والبيضُ والسمْرُ
وَمُقْتَبِل أَيامَهُ مُتَهلل ... إِلَيْهِ الشَّبابُ الغَضُ والزَّمَنُ النضْرُ
أَدَارَ كَمَا شَاءَ الوَرَى وتَحَيزَتْ ... على السبعةِ الأَفْلاَكِ أُنْمُلُهُ العَشْرُ
أَتدْرُونَ مَنْ أزكى البريةِ مَنصِباً ... وأفضلُهَا إِنْ عُددَ البَدْوُ والحَضْرُ
تعالَوْا إِلى حكامِ كُل قبيلةِ ... فَفي الأَرْضِ أَقْيَال وأندِيَةٌ زُهْرُ
وَلاَ تَعْدِلُوا بالصيدِ مِنْ آلِ هاشمٍ ... ولا تَتْرُكوا فِهْرَاً وَمَا جمعتْ فِهْرُ
فجيئوا بمَن ضمتْ لؤَي بنُ غالب ... وجِيئوا بمن ضمت كنانَةُ والنضرُ
ولا تذَرُوا عُليَاً مَعد وعِزهَا ... ليُعرَفَ منكُم مَن لَهُ الحق والأَمرُ
ومِن عَجَب أن اللسانَ جَرَى لَهُم ... بذكرٍ عَلَى حينَ انْقَضَوا واتقَضى الذكرُ
فَبَادُوا وعفي الله آثارَ مُلكِهِم ... فَلاَ خَبَر تلقَاهُ عنهُمْ ولا خُبْرُ
أَلاَ تلكمُ الأَرْضُ الأَرِيضَةُ أَصبَحَت ... وَمَا لِبني العباسِ في عُرْضِهَا فِترُ
فَقَد دَالَتِ الدنيَا لآلِ محمدٍ ... وقد جررَت أذيالَهَا الدولةُ البِكْرُ
ورد حقوقَ الطالبيينَ مَن زكَت ... صنائِعُهُ في آلِهِ وزَكَا الذُّخْرُ
مُعِز الهُدَى والدين والرحِمِ التي ... بِهِ اتصلَتْ أسبَابُهَا ولَهُ الشُكْرُ
مَنِ انَتاشَهُمْ في كل شرقٍ ومغرب ... فبُدلَ أَمْناً ذَلِكَ الخَوْفُ والذعرُ
وكلُّ إمامي يَجيءُ كَأَنَّما ... على يَدهِ الشعْرَى وَفي وجْهِهِ البَدرُ(2/267)
ولما تولتْ دولةُ النصبِ عَنْهُمُ ... تولى العَمَى والجَهلُ واللُؤمُ والغَدرُ
حقوق أتَت من دونهَا أَعصُرٌ خَلَت ... فَمَا رَدهَا دَهْر عليهِمْ ولا عَصرُ
فجردَ ذو التاجِ المقاديرَ دونَهَا ... كما جُردَت بيض مضارِبُها حُمرُ
وأنقذَها مِن بُرثُنِ الدهرِ بعدَمَا ... تواكَلَها الفرْس المنيب والهَصْرُ
وأجْرَى على ما أنزل اللهُ قَسمَهَا ... فَلَم يَنْخَرِمْ فيهَا قليل ولا كُثْرُ
فدونَكُمُ يَا آلَ بَيْتِ محمد ... صَفت بمعز الدينِ حَمْأَتُها الكُدرُ
فقد صَارَتِ الدنيا إليكم مَصِيرَهَا ... وَصَار له الحمْدُ المُضَاعَفُ والأَجْرُ
إمامٌ رأيتُ الدينَ مُرْتَبِطاً بهِ ... فَطَاعَتُه فَوزٌ وعِصيَانه خُسْرُ
أرَى مَدحَهُ كالمدحِ للّه إِنَه ... قُنُوت وَتسبِيح يُحَط به الوِزرُ
هُوَ الوَارِثُ الدنيا وَمَنْ خُلِقَت لَه ... مِنَ الناسِ حَتى يلتقي القطر والقطْرُ
وما جَهِلَ المنصورُ في المَهدِ فَضلَهُ ... وقد لاحَتِ الأعلاَمُ والسمة البُهرُ
رَأَى أَنْ يُسمي مالكَ الأرضِ كلها ... فلما رآه قَالَ ذَا الصمَدُ الوَتْرُ
وَمَا ذَاكَ أخذٌ بالفَرَاسَةِ وحدَهَا ... وَلاَ أنه فِيها إلى النطقِ مُضطَرُ
ولكن مَرجُواً مِنَ الأَثَرِ الذي ... تَلَقاهُ عَن حَبرِ ضَنِينٍ به حبرُ
وكنزاً مِنَ العِلمِ الربُوبِي إِنه ... هوَ العلمُ حقاً لا العِيَافَةُ والزجرُ
فبشرْ به البيتَ المحرمَ عَاجِلاَ ... إذَا أَوجَفَ التطوَافُ بالناسِ والنفرُ
وَهَا فَكَأَن قد زارَهُ وتجانَفَت ... به عَن قصورِ المُلْكِ طيبة والسر
هلِ البيتُ بَيتُ اللّه إلا حَرِيمُه ... وهَل لِغَريبِ الدارِ عَنْ دارِهِ صَبْرُ
مَنَازِلُهُ الأُولَى اللواتي يَشُقنَهُ ... فليْسَ له عنهن مَعْدى ولا قَصْرُ
وحيثُ تلقى جَدُه القدسَ وانتحت ... لَهُ كلماتُ اللَّهِ والسر والجَهْرُ
فإن يَتَمَن البيتُ تلكَ فَقَد دَنَت ... مواكِبُها والعُسْرُ مِنْ بعدِه اليُسْرُ
ألستَ ابنَ بانِيهِ فلو جِئتَهُ انجلَت ... غَوَاشِيهِ وابيَضتْ مناسِكُه الغُبْرُ
حبيبٌ إِلَى بطحاءِ مَكةَ موسِمْ ... تحيي مَعَداً فيهِ مَكَّةُ والحِجْرُ
هناكَ تضيءُ الأرضُ نورَاً وتلتقِي ... دُنُوا فلا يَسْتَبْعِد السَّفَرَ السفْرُ
وتُدْري فروضُ الحج مِنْ نَافِلاَتِهِ ... ويَمْتَازُ عند الأمةِ الخَيْرُ والشَر
شهدتُ لَقَد أعززتَ ذَا الدينَ عِزة ... خَشِيتُ لَهَا أن يَستَبِد بكَ الكِبْرُ
وأمضيتَ عزماً ليسَ يَعصيكَ بَعده ... مِنَ الناسِ إلا جَاهِل بك مُغْتَرُ
فلم يبق إلا البُرْدُ تترى وَقَد نَأَى ... عليكَ به أَقصَى مَوَاعيدِه شَهْرُ
وما ضَرَ مِصرَاً حينَ ألقت قِيَادَهَا ... إِليك أمُدَ النيلُ أم غَالَهُ الجَزْرُ
وقد حُبرت فيهَا لك الخُطَبُ التي ... بَدَائِعُها نَظمْ وألفَاظُهَا نَثْرُ
فلم يُفتَرَق فيهَا لِذِي ذمة دَم ... حَرَام ولم يُحمَلْ على مُسْلِمٍ إِصرُ
غَدَا جَوهَر فيهَا غَمَامَةَ رَحمَةٍ ... يَقِي جَانِبَيْهَا كُل حادثةٍ تَعْرُو
كأني به قَد سَارَ في القومِ سِيرَة ... سَواء إِذَا ما حَل في الأرضِ وَالْقَطْرُ(2/268)
ومن أين تَعدُوهُ وسيلة مِثلِهَا ... وقَدْ قُلصت في الحربِ عن ساقِه الأُزرُ
وثَففَ تثقيفَ الرُدَينِي قَبلَهَا ... وما الطرفُ إلا أن يُهَذِّبَهُ الضُمرُ
وليسَ الذي يأتي بأولِ مَا كَفَى ... فَشُد بِهِ مُلكٌ وَسُد بِه ثَغْرُ
فما بمَدَاهُ دُونَ عِز تخلف ... وما بِخُطَاه دونَ صَالِحَةٍ بَهرُ
سننتَ لَهُم فيه من العَدلِ سُنة ... هيَ الآية الكبرى وبُرْهَانها السحرُ
على مَا خلا من سنةِ الوَحي مَا خَلا ... فَأَذيَالُهَا تضفُو عليهِمْ وتَنْجَر
وأوصيتَهُ فيهم بِرفقِك مُردِفاً ... بجودِكَ معقوداً بِهِ عندَكَ البِرُ
وَصَاة كما أوصَى بِهِ اللهُ رُسْلَه ... ولَيسَ بأُذنٍ أنتَ مُسْمِعُهَا وَقرُ
وثبتهَا بالكُتبِ في كُل مُدرَجِ ... كَأَن جميعَ الخيرِ في طَيه سَطْرُ
يَقُولُ رجال شاهَدُوا يومَ حُكمِهِ ... بِذَا تَعمُرُ الدنيا وَلَو أنها قَفرُ
بذَا لا ضِيَاع حَلَّلُوا حرماتِها ... وَأَقطَاعَها واستُصفى السهلُ والوَعرُ
فحسبُكُمُ يَا أهلَ مِصرِ بعَدلِهِ ... دليلا على العَدلِ الذي عنه يَفْتَرُ
فذاكَ بيَان واضحٌ عن خليفةٍ ... كثيرُ سِوَاهُ عند مَعرُوفه نَزْرُ
رَضِينَا لَكُم يا أهل مصرٍ بِدَولة ... أطيلَ لَنَا في ظلها الأمْنُ والوَفرُ
لكم أسوَة فينا قديماً فلَم يَكُن ... بأحوالِنَا عنكُم غِطَاء ولاَ سِتْرُ
وهَل نحنُ إلا مَعشَرْ من عُفَاتِهِ ... لَنَا الصافِنَاتُ الجُرْدُ والعَسْكرُ الدثْرُ
فكيفَ مَوَالِيهِ الذِينَ كأنَّهُمْ ... سَمَاءٌ على العافِينَ أَمْطَارُها التبْرُ
لَبِثْنَا به أيامَ دهرِ كَأنما ... بِهَا وَسَنَ أَو مَالَ مَيْلا بها السكرُ
فيا مَلِكاً هَذيُ المَلاَئِكِ هَديُه ... ولكن بَحرَ الأنبياءِ لَهُ بَحرُ
ويا رَازِقَاً من كفهِ نَشَأ الحَيا ... وإلا فَمِنْ أسرَارِهِ يَنبُعُ البَحر
أَلاَ إِنمَا الأيامُ أيامُكَ التي ... ليَ الشطرُ من نَعمَائِها وَلَكَ الشطْرُ
لَكَ الشطرُ منها مَالِكَ المَجدِ والعُلاَ ... وَيَبقَى لَنَا مِنْهَا الحَلُوبةُ والدرُ
لقد جدت حَتى لَيسَ لِلمَالِ طَالب ... وأَعطَيتَ حَتى ما لمُنفِسة قَدْرُ
فلَيسَ لِمن لا يرتَقِي النجمَ هِمة ... وليسَ لِمَن لاَ يَستَفِيدُ الغِنَى عُذْرُ
وَدِدتُ لجيلٍ قد تقدم عصرهُم ... لَوِ استأخَرُوا في حلبَةِ العُمرِ أو كروا
وَلو شَهِدُوا الأيامَ والعَيشُ بَعْدَهُم ... حَدَائِقُ والآمَالُ مُونِقة خُضْرُ
فَلَو سَمِعَ التثويبَ مَن كَانَ رِمة ... رُفَاتاً وَلَبى الحَيَ مَنْ ضمَهُ القَبْرُ
لَنَادَيتُ مَن قَد مَاتَ حَي بِدَولة ... تُقَامُ بِهَا المَوْتَى وَيُرْتَجَعُ العُمْرُ
انتهت.
قلت: قوله بني نتلة يشير إلى بني العباس؛ لأن نتلة أم العباس، وقد أفحش فرمى بني العباس بالكفر والرق والعبودية! فلا قوةَ إلا باللّه.
وكان هذا - محمد بن هانئ - شاعرَاً محبوباً مقرباً عند المعز، استصحبه معه من بلاد القيروان وتلك النواحي حين توجه إلى الديار المصرية، فلما كان ببعض الطريق وُجد محمد بن هانئ مقتولاَ مجدلاَ على حافة البحر، وذلك في رجب، وقد كان شاعراً مطبقاً، قوي النظم؛ إلا أنه كفره غير واحد من العلماء في مبالغاته في مدائحه للمعز خصوصاً. فمن ذلك قوله فيه - قبحهما الله تعالى: من الكامل:(2/269)
مَا شِئْتَ لاَ مَا شَاءَتِ الأَقدَارُ ... فَاحْكُمْ فَأَنْتَ الوَاحِدُ القَهَارُ
وهذا خطأ كثير، وكفر كبير. وقال - أيضاً - قبحه اللّه وأخزاه وفض فاه: من مجزوء الكامل:
وَلَطَالَمَا زَاحَمْت تَح ... تَ رِكَابِهِ جِبْرِيلاَ
ومن ذلك قوله، قال ابن الأثير: ولم أر ذلك في ديوانه: من مخلع البسيط:
حَل بِرقَّادَةَ المَسِيحُ ... حَل بِهَا آدم وَنُوحُ
حَلَّ بِهَا اللّه ذُو المَعَالِي ... فَكُل شَيْءٍ سِوَاهُ رِيحُ
قال ابن الأثير: وقد شرع بعض المتعصبين له في الاعتذار عنه؛ قال العلامة ابن السبكي في تاريخه: وهذا الكلام - إن صح عنه - فليس عنه اعتذار، لا في الدار الآخرة، ولا في هذه الدار.
قال في الأرج المسكي: فصارت الخطبة الإسلامية على قسمين، فمن بغداد إلى حلب وسائر ممالك الشرق إلى أعمال الفرات يُخطب فيها للمطيع العباسي، ومن حلب إلى بلاد المغرب مع الحرمين الشريفين يخطب فيها للمعز العُبَيدي هذا.
وتوفي المعز في شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة. ثم قام من بعده ابنه نزار الملقب بالعزيز ابن المعز الفاطمي العبيدي، بويع بعد موت أبيه المعز، وقام بتدبيره القائد جوهر غلام والده، وكان يدعي التنجيم فكتب له: من مخلع البسيط:
بِالظلمِ والجَورِ قَدْ رَضِينَا ... وَلَيْسَ بالْكُفْرِ والحَمَاقَهْ
إن كنتَ أُعْطِيتَ عِلمَ غَيب ... بَينْ لَنَا كَاتِبَ البِطَاقَهْ
كان العزيز هذا قد استوزر رجَلين، أحدهما نصراني اسمه عيسى بن نسطورس، والآخر يهودي اسمه ميشا فعز بسببهما أهل تينك الملتين في ذلك الزمان على المسلمين، حتى كتبت إليه امرأة قصة في حاجة فقالت فيها: بالذي أعز النصارى بعيسى بن نسطورس واليهود بميشا، وأذل المسلمين بك!! إلا ما كشفت عن ظلامتي، فعند ذلك أمر بالقبض عليهما، وأخذ من النصراني ثلاثمائة ألف دينار، كذا ذكره ابن السبكي رحمه اللّه تعالى.
قال ابن خلكان: أكثر أهل العلم بالنسب لا يصححون نسب المهدي عبيد اللّه جد خلفاء مصر؛ حتى إن هذا العزيز في أول ما تولى صعد المنبر يوم الجمعة، فوجد هنالك ورقة مكتوباً فيها هذه الأبيات: من السريع:
إِنا سَمِعْنا نَسباً مُنْكَراً ... يُتلَى عَلَى المِنْبَرِ في الْجَامِع
إِنْ كُنْتَ فِيمَا تَدعِي صَادِقاً ... فَاذْكُرْ أَباً بَعْدَ الأَبِ السابع
وَإِنْ تُرِدْ تحقِيقَ مَا قُلْتَهُ ... فَانْسُبْ لَنَا نَفْسَكَ كَالطَائِعِ
أَوْ لاَ دعَ الأَنْسَابَ مَسْتُورَة ... وَادْخُلْ بِنَا في النَّسَبِ الوَاسِعِ
فَإن أَنْسَابَ بني هَاشِمٍ ... يَقْصُرُ عَنْهَا طَمَعُ الطَامِعِ
وتوفي العزيز في رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة، فكانت مدته إحدى وعشرين سنة. ثم قام بعده ابنه منصور الملقب بالحاكم بأمر الله، بويع بعد موت أبيه، وهو صاحب الجامع الذي هو داخل باب النصر في القاهرة، وكان أول أمره خيراً، ولما كبر عبد الكواكب، وفعل في حكوماته ما يضحك منه الصبيان من المهملات والقبائح، واستمر إلى أن عملت أخته على قتله فقتل.
قال ابن خلكان في تاريخه وفيات الأعيان في ترجمة الحاكم بأمر اللّه: كان له حمار أشهب، يدعى بقمر يركبه، وكان يحب الانفراد والركوب وحده، فخرج راكبَاً حماره ليلة الاثنين رابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة إلى ظاهر مصر، وطاف ليله كله، وأصبح متوجهاً إلى شرق حلوان، ومعه ركابيان؛ فأعاد أحدهما ثم أعاد الآخر، وبقي الناس يخرجون يلتمسون رجوعه، ومعهم دواب الموكب إلى يوم الأحد سلخ الشهر المذكور، ثم خرج ثاني القعدة جماعة من الموالي والأتراك، فأمعنوا في طلبه، وفي الدخول في الجبل، فرأوا الحمار الأشهب الذي كان يركب عليه وهو على قرنة الجبل، وقد ضربت يداه بسيف وعليه سرجه ولجامه، فتبعوا الأثر إلى البركة التي في شرقي حلوان، فنزل فيها رجل فوجد فيها ثيابه وهي سبع جبات، ووجدت مزررة لم تحل أزرارها وفيها أثر السكاكين، فحملت إلى القصر ولم يشكوا في قتله، غير جماعة من الغالين في حبهم له، السخيفين عقولا؛ يظنون حياته وأنه سيظهر، ويحلفون بغيبة الحاكم.(2/270)
وكان الحاكم جواداً بالمال، سفاكاً للدماء، وكانت سيرته عجباً، يخترع كل يوم حكماً يحمل الناس عليه؛ فمن ذلك أنه أمر الناس في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة بكتب سب الصحابة - رضي اللّه تعالى عنهم - في حيطان المساجد والقناطر والشوارع، وكتب به إلى سائر البلدان من الديار المصرية، ثم أمر بقطع ذلك سنة سبع وتسعين وثلاثمائة، وأمر بضرب من سب الصحابة وتأديبه، وأمر بقتل الكلاب؛ فلم ير كلب في الأسواق والأزقة إلا قتل، ونهى عن بيع الفقاع والملوخيا، ونهى عن بيع الزبيب قليلة وكثيرة، وجمع جملة كثيرة منه فأنفق على إحراقها ما يساوي خمسمائة دينار، ثم منع من بيع العنب أصلاَ، وألزم اليهود والنصارى أن يتميزوا في لباسهم عن المسلمين في الحمامات وخارجها، ثم أفرد حمامَاً لليهود وحماماً للنصارى، وألزمهم ألا يركبوا أشياء من المراكب المحلاة، وأن تكون ركبهم الخشب، ولا يستخدموا أحداً من المسلمين، ولا يركبوا حماراً لمكار مسلم، ولا سفينة نوتيها مسلم.
وفي سنة خمس وأربعمائة منع النساء من الخروج من المنازل أو يطلعن من الأسطحة والطاقات، ومنع الخفافين من عمل الخفاف لهن، ومن الخروج إلى الحمامات، وقتل خلقاً منهن على مخالفة ذلك، وهدم بعض الحمامات عليهن، وجهز عجائز يطفن في البيوت يستعلمن أحوال النساء من منهن تعشق أو تعشق بأسمائهن وأسماء من يعترض لهن، وكثر من الدوران بالليل، وغرق من اطلع على فسقه من الرجال والنساء، فضاق النطاق عليهن وعلى الفساق، ولم يتمكن أحد منهم أن يصل إلى أحد إلا نادراً؛ حتى إن امرأة نادت قاضي القضاة بالديار المصرية، وهو مالك بن سعد الفارقي، وحلفته بحق الحاكمِ لما وقف لها فاستمع كلامها؛ فوقف لها فبكت بكاء شديداً وقالت: إن لي أخاً ليس لي غيره وهو في السياق، وأنا أسألك لما وصلتني إلى منزله لأنظر إليه قبل أن يفارق الدنيا، فرق لها القاضي رقة شديدة، وأمر رجلين معه أن يكونا معها حتى يبلغاها إلى المنزل الذي تريده، فأغلقت بابها وأعطت المفتاح جارتها، وذهبت حتى وصلت مع الرجلين إلى منزل فطرقت الباب ودخلت، وقالت لهما: اذهبا راشدين، فإذا هو منزل رجل تهواه ويهواها، فأخبرته بما احتالت به على القاضي، فأعجبه ذلك، وجاء زوجها آخر النهار فوجد بابه مغلقاً، فسأل عن أمرها فذكر له ما صنعت، فاستغاث على القاضي وذهب إليه وقال: ما أريد امرأتي إلا منك؛ فإنها ليس لها أخ بالكلية، وإنما ذهبت إلى عشيقها؛ فخاف القاضي من معرة هذا الأمر، فركب إلى الحاكم وبكي لديه، فسأله عن شأنه، فأخبره بما اتفق من الأمر، فأرسل الحاكم مع الرجلين من يحضر الرجل والمرأة جميعاً على أي حال كانا عليه، فوجدوهما متعانقين سكرانين، فسألهما القاضي عن حالهما، فأخذا يعتذران بما لا يجدي، فأمر بتحريق المرأة في بارية، وضرب الرجل بالسياط ضربَاً مبرحاً. وازداد احتياط الحاكم على النساء حتى مات. ذكر هذا ابن الجوزي في المنتظم. وأمر بهدم القمامة وجميع الكنائس بالديار المصرية، ووهب جميع ما فيها من الآلات، وجميع ما لها من الأحباس لجماعة من المسلمين، وأمر ألا يتكلم أحد في صناعة النجوم، وأن ينفي المنجمون من البلاد، وكذلك أصحاب الغناء. ثم أمر ببناء ما كان هدمه من الكنائس، ورد ما كان أخه من أحباسها. انتهى.
حلوان: مدينة كثيرة النزه فوق مصر بمقدار خمسة أميال، كانت مسكن عبد العزيز بن مروان والد عمر بن عبد العزيز، وبها ولد عمر رضي اللّه تعالى عنه.
وقال العلامة السبكي في تاريخه عند ذكر الحاكم: ولنذكر شيئاً من صفاته القبيحة، وسيرته الملعونة، أخزاه اللّه ولا وقاه شراً:(2/271)
كان - قبحه اللّه - كثير التلون في أفعاله وأقواله، جائراً في كيفية بلوغ ما يؤمله؛ لأنه كان يروم أن يدعي الألوهية كما ادعاها قارون في زمن موسى عليه الصلاة والسلام، فكان قد أمر الرعية إذا ذكره الخطيب على المنبر أن تقوم الناس على أقدامهم صفوفاً؛ إعظاماً لذكره واحترامَاً لاسمه! فكان هذا يفعل في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين، وكان أهل مصر على الخصوص إذا قاموا خروا سجداً، حتى إنه يسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم، وابتنى المدارس وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، ثم قتلهم وخربها. وألزم الناس بإغلاق الأسواق والدكاكين نهاراً وفتحها ليلاَ، فامتثلوا ذلك دهرَاً طويلا، حتى اجتاز مرة بشيخ يعمل النجارة في أثناء النهار فوقف عليه وقال: ألم أنهكم عن هذا؟ فقال: يا سيدي أما كان الناس يسهرون لما كانوا يتعيشون بالنهار؟ فهذا من جملة السهر. فتبسم وتركه، وأعاد الناس إلى أمرهم الأول. وكل هذا منه تغيير للرسوم، واختبار لطاعة العامة، ليرقى إلى ما هو أهم من ذلك لعنه اللّه.
وقد كان يعمل الحسبة بنفسه؛ يدور في الأسواق على حماره فمن وجده قد عثر في معيشته أمر عبدَاً أسود معه يقال له مسعود أن يفعل به الفاحشة العظمى، وهذا أمر منكر ملعون لم يسبق إليه - لعنه اللّه - وكانت العامة يبغضونه ويكتبون له الأوراق التي فيها الشتيمة البليغة له ولأسلافه وحريمه في صورة قصص، فإذا قرأها ازداد حنقَاً عليهم، حتى إن أهل مصر حملوا صورة امرأة من ورق بخفها وإزارها وفي يدها قصة فيها من الشتم والقبائح شيء كثير، فلما رآها ظنها امرأة فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها فقرأها؛ فرأى ما فيها فأغضبه جداً وأمر بقتل تلك المرأة، فلما تحققها من ورق ازداد غيظاً على غيظه ثم لما وصل إلى القاهرة أمر العبيد من السودان أن يذهبوا إلى مصر فيحرقوها، وينهبوا ما فيها من الأموال والحريم، فذهب العبيد فامتثلوا ما أمرهم به فقاتلهم أهل مصر قتالاَ عظيماً ثلاثة أيام، والنار تعمل في الدور والحرم، وفي كل يوم يخرج بنفسه - لعنه اللّه - فيقف من بعيد ويبكي ويقول: من أمر هؤلاء العبيد بهذا؟! ثم اجتمع الناس في الجوامع فرفعوا المصاحف، وجأروا إلى اللّه تعالى واستغاثوا به، فرق لهم الترك والمشارقة وانحازوا إليهم؛ فقاتلوا معهم عن حريمهم ودورهم السودان وتفاقم الحال جداً. ثم ركب الحاكم ففصل بين الفريقين، وكف العبيد عنهم، وكان يظهر التنصل من القضية، وأن العبيد ارتكبوا ذلك عن غير علمه، وهو ينفذ إليهم السلاح ويحثهم على ذلك في الباطن، وما انجلى الحال حتى احترق من مصر نحو ثلثها، ونهب قريب من نصفها، وسبي حريم خْلق كثير ففعل بهن الفواحش والمنكرات، حتى إن منهن من قتلت نفسها خوفاً من العار والفضيحة، واشترى الرجال من سبي لهم من النساء والحريم من أيدي العبيد. انتهى ما قاله ابن السبكي.(2/272)
وقَالَ ابن الجوزي في كتابه المنتظم، في ذكر الأمم، من العرب والعجم: ثم زاد ظلم الحاكم وعن له أن يدعي الربوبية، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد يا أحد، يا محيي يا مميت!! وكان قد تعدى شره الناس حتى إلى أخته؛ يتهمها بالفاحشة ويسمعها أغلظ الكلام؛ فتبرمت منه، وعملت على قتله، فراسلت فيه أكبر الأمراء، وكان يقال له: ابن دواس، فتوافقت هي وهو على قتله فواطأها على ذلك، وجهز من عنده عبدين أسودين فقال لهما: إذا كانت الليلة الفلانية فكونا بجبل المقطم، ففي تلك الليلة يكون الحاكم هناك في الليل ينظر في النجوم، وليس معه إلا ركابي وصبي، فاقتلاه واقتلاهما معه. واتفق الحال على ذلك وتقرر، فلما كانت تلك الليلة قال الحاكم: لا بد أن في هذه الليلة علي قطعاً عظيمَاً؛ فإن نجوت منه عمرت نحواً من ثمانين سنة، فقالت له أمه: يا مولاي، فإذا كان الأمر كما تقول، فارحمني ولا تترك ليلتك هذه إلى موضع أصلا. وكان من عادته أن يدور حول القصر كل ليلة، فدار ثم عاد إلى القصر فنام إلى قريب ثلث الليل الأخير، فاستيقظ وقال: إن لم أركب الليلة فاضت نفسي؛ فثار وركب فرساً وتبعه صبي وركابي حتى صعد جبل المقطم، فاستقبله ذالك العبدان فأنزلاه عن مركوبه وقطعاً يديه ورجليه وبقرا بطنه، وأتيا به مولاهما، فحمله إلى أخته فدفنته في مجلس دارها، واستدعت الأمراء والأكابر والوزير، وقد أطلعته على الحيلة، فبايعته لولد الحاكم أبي الحسن علي، ولقب بالظاهر لإعزاز دين الله.
وكان بدمشق فاستدعته، وجعلت تقول للناس: إن الحاكم قال لي: إنه يغيب سبعة أيام ثم يعود، فاطمأن الناس بذلك، وجعلت ترسل ركابين يصعدون الجبل ويجيئون فيقولون: تركناه في الموضع الفلاني، ويقول الذين من بعدهم تركناه في موضع كذا وكذا حتى اطمأن الناس وقدم ابنه، فحين وصل ألبسته تاج جد أبيه المعز، وحلته حلية عظيمة، فأجلسته على السرير فبايعه الأمراء والرؤساء، وأطلقت لهم الأموال الجزيلة، وخلعت على ابن دواس خلعة سنية هائلة، وعملت عزاء أخيها ثلاثة أيام، ثم أرسلت إلى ابن دواس طائفة من الجند ليكونوا بين يديه بسيوفهم؛ وقوفاً في خدمته، ثم أمرتهم في بعض الأيام أن يقولوا له: أنت قاتل مولانا ثم يهتبرونه بسيوفهم، ففعلوا ذلك، وقتلت كل من اطلع على سرها في قتل أخيها، فعظمت هيبتها، وقويت حرمتها، وثبتت دولتها؛ فإنها هي التي كانت متولية الأمور لدولة ابن أخيها.
وكان عمر الحاكم حين قتل سبعَاً وثلاثين سنة، وكان قتله سنة إحدى عشرة وأربعمائة، ومدة ملكه خمسَاً وعشرين سنة، لعنه اللّه وقبحه.
وفي ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعمائة في دولة الحاكم المذكور، كتبت ببغداد محاضر تتضمن اللعن والقدح في نسب الخلفاء المصريين الذين يزعمون أنهم فاطميون وليسوا كذلك، وكتب في ذلك جماعة من العلماء والقضاة والفقهاء والأشراف والأماثل والمعدلين والصالحين، شهدوا جميعاً أن الناجم، وهو منصور ابن نزار الملقب بالحاكم بأمر الشيطان لا بأمر الله - حكم اللّه عليه بالبوار والدمار، والخزي والنكال والاستئصال، ابن معد بن إسماعيل بن محمد القائم ابن سعيد، لا أسعده اللّه؛ فإنه لما صار إلى المغرب تسمى بعبيد الله، وتلقب بالمهدي، ومن تقدم من سلفه من الأرجاس والأنجاس - عليه وعليهم لعنة اللّه ولعنة اللاعنين - أدعياء خوارج، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب - رضي اللّه تعالى عنه - ولا يتعلقون منه بسبب، وأنه منزه عن أباطيلهم، وأن الذي ادعوه باطل وزور. وأنهم لا يعلمون أحداً من أهل بيوتات الطالبيين توقف في إطلاق القول في هؤلاء، وأنهم الخوارج، وأنهم أدعياء.
وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعاً في الحرمين، وفي أول أمرهم بالمغرب، منتشراً انتشاراً يمنع من أن يدلس على أحد كذبهم أو يذهب وَهم إلى تصديقهم، وإن هذا الناجم بمصر هو وسلفه كفار وفساق فجار، ملحدون زنادقة معطلون، وللإسلام جاحدون، ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمور، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية.
وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير:(2/273)
فمن العلويين: المرتضي، والرضي، وابن الأزرق الموسوي، وأبو طاهر بن أبي الطيب، ومحمد بن محمد بن عمرو بن أبي يعلى. ومن القضاة: أبو محمد القناتي، وأبو القاسم الحمزوي، وأبو العباس بن السوري. ومن الفقهاء: الإمام أبو حامد الإسفراييني، وأبو محمد بن الكشفلي، وأبو الحسين القدوري، وأبو عبد الله الصيمري، وأبو عبد الله البيضاوي، وأبو علي بن حكمان. ومن الشهود: أبو القاسم التنوخي في كثير، وقُرئ بالبصرة، وكتب فيه خلق كثير. هذه عبارة الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، رحمه الله تعالى.
ثم قام من بعده ولده علي الملقب بالظاهر لإعزاز دين اللّه، وكني بأبي هاشم، بويع بعد قتل أبيه وهو ابن ست عشرة سنة، وقامت عمته بتدبير ملكه أحسن قيام - كما تقدم ذكره - إلى أن ماتت، فحذا حذوها، وحسنت أيامه وسيرته. إلى أن طمع الناس فيه لصغر سنه، وتغلب صاحب الرملة حسان بن مفرج البدري على أكثر بلاد الشام. وتضعضعت دولة الظاهر إلى أن توفي يوم الأحد منتصف شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة، وكانت مدة ولايته ستة عشر عاماً وتسعة أشهر.
ثم قام بالأمر بعده ابنه معد المُكَنى أبا تميم، الملقب بالمستنصر - بسين الاستفعال - ابن الظاهر وعمره سبع سنين، وتكفل بأعباء المملكة بين يديه الأفضل، أمير الجيوش، بدر بن عبد اللّه الجمالي. بويع يوم موت أبيه وهو ابن سبع سنين وسبعة وعشرين يوماً، وبقي في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر، ولا يعلم في الإسلام خليفة ولا سلطان أقام في الملك هذه المدة والمستنصر هذا هو الذي خطب له البساسيري على منابر بغداد، وهذا شيء لم يقع لأحد من آبائه.
وفي أيامه وقع الغلاء العظيم بمصر، حتى إن الكلب بيع بخمسة دنانير ليؤكل، والقط بثلاثة دنانير، وضعفت الناس من شدة الجوع؛ حتى إن الكلب يدخل إلى بيت الشخص فيأكل ولده وليس له قدرة على النهوض إلى دفعه، وكان بمصر حارة تعرف بحارة الطبق وفيها عشرون داراً، كل دار تساوي أكثر من ألف دينار فبيعت كلها بطبق خبز؛ كل دار منها برغيف!!.
قال ابن الجوزي في المنتظم: خرجت امرأة وَمَعَهَا قدر ربع من جوهر، فقالت: من يأخذ مني هذا الجوهر ويعطيني عوضه براً؟ فلم تجدْ مَنْ يأخذه مِنْهَا بذلك، فَقَالَتْ: إِذَا لم ينفعني وقت الحاجة فلا حاجة لي به، فألقته على الأرض وانصرفت، فالعجب ما كان له من يلقطه. وأخرج المستنصر جميع الذخائر فباعها، يقال: إنه باع في هذا الغلاء ثمانين ألف قطعة من أنواع الجواهر المثمنة، وخمسة وسبعين ألف قطعة من أنواع الديباج المنسوج بالذهب، وعشرين ألف سيف محلى، وأحد عشر ألف دار، وافتقر الخليفة حتى لم يبق له إلا سجادة تحته وقبقاب في رجله، فصار إذا نزل للصلاة يستعير بغلة الديوان حتى يركبها، ومات معظم الناس جوعاً.
قال ابن الجوزي في المنتظم: في سنة اثنتين وستين وأربعمائة في ولاية المستنصر كان غلاء شديد، وقحط عظيم بديار مصر؛ بحيث إنهم أكلوا الجيف والميتات والكلاب، وأفنيت الدواب. فلم يبق لصاحب مصر فرس بعد العدد الكثير، ونزل الوزير يوماً عن بغلته فغفل عنها الغلام لضعفه من الجوع، فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها وأكلوها، فأخذوا وصلبوا، فأصبحوا وعظامهم بادية على ما صلبوا عليه، قد أكل الناس لحومهم!! وظهر على رجل يقتل الصبيان والنساء، ويدفن رءوسهم وأطرافهم، ويبيع لحومهم؛ فقتل.(2/274)
وفيها ضاقت يد شريف مكة محمد بن أبي هاشم بن فليتة، فأخذ الذهب من أستار الكعبة والميزاب والباب فضرب ذلك دراهم ودنانير، وكذلك فعل صاحب المدينة بالقناديل التي في الحجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وقبلها في سنة خمسين وأربعمائة كانت فتنة البساسيري، وهو أرسلان التركي - قبحه الله تعالى - وذلك أنه عزم على أن يسير إلى بغداد ويأخذها من صاحبها الخليفة العباسي المسمى بالقاهر بن القادر، ويخطب فيها للمستنصر الفاطمي، فركب البساسيري ومعه قريش بن بحران أمير العرب إلى الموصل، فأخذها وأخرب قلعتها؛ فانزعج الناس لذلك، واضطربت بغداد، وأرجف الناس بأن البساسيري عازم على قصد بغداد، وأنه قرب من الأنبار، وتفرق الجيش من بغداد، إلى نواحي همذان والأهواز، وبقيت بغداد وليس بها أحد من المقاتلة، فعزم الخليفة القائم بأمر الله على الرحيل من بغداد إلى غيرها وليته فعل، ثم أحب داره والمقام مع أهله فلبث فيها اغتراراً، ولما خلا البلد من المقاتلة قيل للناس: من أراد الخروج فليذهب إلى حيث شاء؛ فانزعج الناس وبكى الرجال والنساء والأطفال، وعبر كثير من الناس إلى الجانب الغربي، وبلغت المعبرة ديناراً أو دينارين لعدم الجسر.
قال: وطار في تلك الليلة على دار الخليفة نحو من عشر بومات مجتمعات يصحن صياحاً مزعجاً. وقيل للوزير أبي القاسم بن المسلمة؛ الملقب برئيس الرؤساء، وزير القائم العباسي: من المصلحة أن الخليفة يرتحل من بغداد لعدم المقاتلة بها فلم يقبل، وشرعوا في استخدام طائفة العوام، ودُفِعَ إليهم سلاح من دار المملكة. فلما كان يوم الأحد الثامن من ذي القعدة من هذه السنة، دخل البساسيري بغداد، ونشر الرايات البيض المصرية، وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها: الإمام المستنصر بالله، أبو تميم معد أمير المؤمنين، فتلقاه أهل الكرخ - وهم أهل الرفض والإلحاد - فتضرعوا إليه، وسألوه أن يجتاز عندهم، فدخل الكرخ وخرج إلى مشرعة الروايا، فخيم بها، والناس إذ ذاك في ضر ومجاعة شديدة، ونزل قريش بن بدران في نحو مائتي فارس على مشرعة باب البصرة، وكان البساسيري قد جمع الدِارين وأطمعهم في نهب دار الخلافة، ونهب أهل الكرخ دور أهل السنة بباب البصرة، ونهبت دار قاضي القضاة الدامغاني، وهلك اكثر السجلات والكتب الحكمية، ونهبت دار المتعلقين بخدمة الخليفة، وأعادت الروافض الأذان بحي على خير العمل، وكذلك أذن في سائر جوامع بغداد، وضربت له السكة على الذهب والفضة، وحوصرت دار الخلافة فحاجز الوزير ابن المسلمة بمن معه من المستخدمين دونها، فلم يفد ذلك شيئاً، فركب الخليفة بالسواد والبردة على كتفيه، وعلى رأسه القواد، وبيده سيف صلت، وحوله زمرة من الهاشميين والجواري حاسرات وجوههن، ناشرات شعورهن، معهن المصاحف على رءوس الرماح، وبين يديه الخدم بالسيوف المسللة.
ثم إن الخليفة أخذ ذمامَاً من أمير العرب، قريش بن بدران لنفسه وأهله ووزيره ابن المسلمة، فآَمنه على ذلك وأنزله في خيمة، فلامه البساسيري على ذلك، وقال له: لقد علمت ما كان وقع الاتفاق عليه بيني وبينك من أنك لا تستبد برأي دوني ولا أنا دونك، ومهما ملكنا فبيني وبينك.
واستحضر البساسيري ابن المسلمة ووبخه ولامه لوماً شديداً، ثم ضربه ضرباً مبرحَاً واعتقله مهاناً عنده، ونهبت العيارون دار الخلافة؛ فلا يحصى ما أخذ منها من الجواهر، والنفائْس، والديباج، والأثاث، وغير ذلك مما لا يحد ولا يوصف.
قلت: ما أخذه البساسيري لأستاذه المستنصر من دار الخليفة القائم العِباسي أخرجه وباعه بأبخس الأثمان، وهو مضطر جوعان، ولم يتمتع به في هذه الدار، وهو محاسب عليه في دار القرار.
ثم اتفق رأي البساسيري وقريش بن بدران على تسيير الخليفة من بغداد، وتسليمه إلى أمير حديثة عانة، وهو مهارش بن مجلى البدري، وهو من بني عم قريش بن بدران، وكان رجلا صالحاً.
قلت: حديثة عانة: بليدة بين حلب وبغداد، مشهورة مذكورة إلى الآَن، النسبة إلى جزئها الأول فيقال: فلان الحديثي. انتهى.(2/275)
فلما بلغ الخليفة ذلك دخل على قريش بن بدران ألا يخرجه من بغداد فلم يفد ذلك شيئاً، وسيروه مع أصحابه إلى حديثة عانة، فكان عند مهارش أميرها حولاً كاملاً؛ وليس معه أْحد من أهله، فحكي عن القائم أنه قال: لما كنت بحديثة عانة قمت ليلة إلى الصلاة، فوجدت في قلبي حلاوة المناجاة، ثم دعوت اللّه تعالى فقلت: اللهم أعدني إلى وطني، واجمع بيني وبين أهلي وولدي، ويسر اجتماعنا، وأعد روض الأنس زاهراً، وربع القرب عامراً، فقد قل العزاء، وبرح الخفاء. قال: فسمعت قائلاً على شط الفرات يقول: نعم نعم، فقلت: هذا رجل يخاطب آخر، ثم أخذت في السؤال والابتهال، فسمعت ذلك الصائح يقول: إلى الحول إلى الحول، فعلمت أنه هاتف أنطقه الله تعالى بما جرى الأمر عليه. وكان الأمر كذلك؛ فإنه خرج من داره في ذي القعدة من هذه السنة، ورجع إليها في ذي القعدة من السنة المقبلة، كما سنذكره الآن.
ولما كان يوم عيد الأضحى ألبس البساسيري الخطباء والمؤذنين البياض، وعليه هو وأصحابه كذلك، وعلى رأسه الألوية المستنصرية والقطاريف المصرية، وخطب للمستنصر الفاطمي صاحب مصر، والروافض في غاية السرور، وانتقم من أعيان أهل بغداد انتقاماً عظيماً، وغرق خلقاً كثيراً، وقتل من العلماء جمعاً.
ولما كانت ليلة الاثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة، أحضر بين يديه الوزير ابن المسلمة، وعليه جبة صوف، وطرطور من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة من جلود، فأركب جملاً، وطيف به في البلد، وخلفه من يصفعه بقطعة جلد. وحين أجاز بالكرخ، نثروا عليه خلقان المداسات، وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبوه، فأوقف بازاء دار الخلافة وهو في ذلك كله يتلو قوله تعالى " قُلِ اَللَهُمَ ماَلِكَ اَلملك " " الآية آل عمران: 26 " ، ثم لما فرغ من الطواف به في البلد، وأعيد إلى العسكر، ألبس جلد ثور بقرنيه، وعلق بكلاب في شدقيه، ورفع إلى الخشبة حياً فجعل يضطرب إلى آخر النهار، فمات رحمه اللّه تعالى، وكان آخر كلامه أن قال: الحمد للّه الذي أحياني سعيداً وأماتني شهيداً.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وبغداد في قبضة البساسيري، يخطب فيها للخليفة المستنصر الفاطمي، والقائم قاعد ب حديثة عانة.
ثم لما كان يوم الاثنين، ثاني عشر صفر، أحضر البساسيري قاضي القضاة أبا في اللّه الدامغاني، وجماعة من الوجوه والأعيان من العلويين والعباسيين، وأخذ عليهم البيعة للمستنصر الفاطمي، ثم دخل دار الخلافة، وهؤلاء المذكورون معه، وأمر بنقض تاج دار الخلافة؛ فنقضت بعض الشراريف. ثم قيل له: إن ترك الفتح في هذا الأمر من المصلحة؛ فتركه. ثم ركب إلى زيارة المشهد، وأمر بأن تنقل جثة ابن المسلمة إلى ما يقارب الحرم الظاهري، وأن ينصب على دجلة.
وكتبت أم الخليفة، وكانت عجوزاً كبيرة قد بلغت التسعين، وهي مختفية في مكان - إلى البساسيري؛ تشكو إليه الفقر والحاجة وضيق الحال، فأرسل إليها ونقلها إلى الحريم، وأخدمها جاريتين، ورتب لها كل يوم اثني عشر رطلاً من خبز، وأربعة أرطال من لحم؛ ولا يفي هذا بقيراط مما فعله بولدها وبأهل السنة.
وكان وقوع هذا الواقع، والسلطان طغرلبك أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق غائب؛ لقتال أخيه إبراهيم بن ميكائيل. فلما ظفر به وأسره وقتله، وتمكن أمره، وطابت نفسه واستقر حاله، ولم يبق له بتلك البلاد منازع - سمع بهذا الواقع؛ فكتب إلى قريش بن بدران أمير العرب، يأمره بأن يعاد الخليفة إلى داره، على ما كان عليه، وتوعده على ترك ذلك بأساً شديداً. فكتب إليه قريش، يتلطف به يسأله، ويقول: أنا معك على البساسيري بكل ما أقدر عليه، حتى يمكن اللّه منه؛ ولكن أخشى أن أشرع في أمر يكون فيه على الخليفة مفسدة، أو يبدر إليه أحد بأذية؛ ولكن سأعمل في أمره بكل ما يمكنني. ثم إنه راسل البساسيري، وأشار عليه بعود الخليفة إلى داره؛ وخوفه من جهة الملك طغرلبك. وقال له - فيما قال - : إنك دعوتنا إلى طاعة المستنصر صاحب مصر، وبيننا وبينه ستمائة فرسخ، ولم يأتنا من جهته رسول ولا أحد، ولم يفكر في شيء مما أرسلنا إليه، وهذا الملك من ورائنا بالمرصاد.(2/276)
وجاء كتاب من الملك طغرلبك، عنوانه: إلى الأمير الأجل، علم الدين أبي المعالي، قريش ابن بدران، مولى أمير المؤمنين. من شاهنشاه، ملك المشرق والمغرب، طغرلبك أبي طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق وعلى رأس الكتاب العلامة السلطانية بخط السلطان: حسبي اللّه وكان في الكتاب ما نصه: والآن، فقد سارت بنا المقادير إلى قتال كل عدو للدين والملك، ولم يبق لنا وعلينا من المهمات؛ إلا خدمة سيدنا ومولانا الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين، وإطلاع أبهة إمامته على سرير عزه، فإن الذي يلزمنا ذلك، ولا فسحة في التضجيع فيه ساعة من الزمان، وقد أقبلنا بجيوش المشرق إلى هذا المهم العظيم؛ ونريد من الأمير الجليل السعي النجيح الذي وفق له وتفرد به؛ وهو أن يتمم وفاءه من أمانته وخدمته في باب سيدنا ومولانا الإمام القائم بأمر اللّه أمير المؤمنين، وأن يكون أحد الرجلين؛ إما أن يقبل به إلى وكر عزه، ويتولى إقامته وموقف خلافته من مدينة السلام، وينتدب بين يديه متولياً أمره منفذاً حكمه شاهراً سيفه وقلمه، وذلك المراد، وهو خليفتنا في تلك الخدمة المفروضة؛ ويوليه العراق بأسرها، وتصفي له مشارع برها وبحرها؛ لا يطأ حافر من خيول العجم شبراً من أرض تلك المملكة إلا بالتماس لمعاونته ومظاهرته. وإما أن يحافظ على شخصه العالي؛ بتحويله من القلعة إلى حين يجاء لخدمته فيتكفل بإعادته، ويكون الأمير الجليل مخيراً بين أن يلتقي بنا أو يقيم حيث شاء بتولية العراق، وسنخلفه في الخدمة. وهو - أدام اللّه تمكنه - يتيقن ما ذكرنا، ويعلم أن توجهنا إثر هذا الكتاب بهذا الغرض المعلوم، ولا غرض سواه، ومن اتصل ببغداد من سائر العرب والعجم والأكراد، كلُّهم إخواننا، وفي ديننا وعهدنا، وعلينا لهم عهد الله وميثاقه - ما داموا موافقين للأمير ولكل محترم - عفونا وأمننا لما بدر منه؛ إلا البساسيري؛ فإنه لا عهد له ولا أمان، وهو موكول إلى الشيطان؛ وقد ارتكب في دين الله عظيماً، وهو - إن شاء الله - مأخود حيث وجد، ومعذب على ما عمل وسعي في دماء خلق كثير بسوء دخيلته، وإدارة أفعاله على فساد عقيدته. وكتب في رمضان، سنة إحدى وخمسين وأربعمائة.
فلما وصل الكتاب إلى قريش بن بدران، استعلم عن أخبار الملك طغرلبك من الرسل وغيرهم؛ فإذا معه جنود عظيمة، فخاف من ذلك خوفاً شديداً، وبعث إلى البرية، وأمر بحفر أماكن للماء، وتجهيز علوفات كثيرة إلى هنالك، وأنفذ الكتاب إلى البساسيري؛ فانزعج البساسيري لذلك وخارت قوته وضعف أمره، وبعث إلى أهله فنقلهم من بغداد، وأرصد له إقامات عظيمة بواسط، وجعلها دار مقره، ووافق على عود الخليفة إلى بغداد؛ ولكن اشترط شروطاً كثيرة؛ ليذهب خجله.
وترحل قريش بن بدران إلى أرض الموصل، وبعث إلى حديثة عانة يقول لأميرها مهارش بن مجلي - الذي سلم إليه الخليفة - : المصلحة تقتضي أن تحول الخليفة إلي؛ حتى نستأمن لأنفسنا بسببه؛ فلا نسلمه حتى نأخذ لأنفسنا أماناً، ويكون في يدك دون يدي. فامتنع عليه مهارش، وقال: قد غدر بي البساسيري في أشياءَ وعدني بها فلم أرها، ولست بمرسله إليك أبداً، وله في عنقي أيمان كثيرة لا أغدر بها.
وكان مهارش رجلاً صالحاً ثقة أمينا، فقال للخليفة: من المصلحة أن نسير إلى بلد بدر بن مهلهل، وننظر ما يكون من أمر السلطان: فإن ظهر دخلنا بغداد، وإن كانت الأخرى نظرنا لأنفسنا؛ فإنا نخشى من البساسيري أن يعود فيحصرنا. فقال له الخليفة: افعل ما فيه المصلحة.
فسارا في الحادي والعشرين من ذي القعدة، إلى أن حصلا بقلعة عكبراء، فتلقته رسل الملك طغرلبك بالهدايا التي كان أنفذها إليه، وهو متشوق إليه كثيراً، وجاءت الأخبار بأن السلطان طغرلبك دخل بغداد، وكان يوماً مشهودَاً؛ غير أن الجيوش نهبوا بغداد سوى دار الخليفة، وصودر خلق كثير وشرعوا في عمارة دار الملك، وأرسل السلطان إلى الخليفة مراكب كثيرة من أنواع الخيول وغيرها، وسرادق عظيمة وملابس سنية؛ أرسل ذلك مع وزيره عبد الملك الكندري.(2/277)
ولما انتهوا أرسلوا بتلك الآلات قبل أن يصلوا إليه، وقالوا لمن حوله: اضربوا السرادق، وليلبس الخليفة ما يليق به، ثم نجيء نحن فنستأذن عليه، فلا يأذن لنا إلا بعد ساعة طويلة فلما دخل الوزير عبد الملك الكندري ومن معه، قبلوا الأرض، بعد أن استأذنوا - فلم يؤذن لهم إلا كما قالوا. وأخبر الخليفة بسرور السلطان بما حصل؛ من العود إلى بغداد واشتياقه إليه جداً، وكتب الوزير عبد الملك إلى السلطان وأخبره بما جرى، وأحب أن يأخذ خط الخليفة في أعلى الكتاب؛ فيكون أقر لِعَين السلطان. ولم يكن عند الخليفة دواة؛ فأحضر الوزير دواته ومعها سيف، قال: هذه حرمة السيف والقلم، فأعجب الخليفة قوله.
وترحلوا من منازلهم تلك بعد يومين، فلما وصلوا إلى النهروان، خرج السلطان طغرلبك من بغداد لتلقيه. فلما انتهى إلى السرادق قبل الأرض بين يدي الخليفة سبع مرات، فأخذ الخليفة مخدة فوضعها بين يديه، فأخذها السلطان فقبلها ثم جلس عليها، وقدم للخليفة الحبل الياقوت الأحمر، الذي كان لابن بويه، فوضعه بين يديه، وأخرج اثنتي عشرة حبة لؤلؤ كبار، وقال: هذا لرسلان خاتون؛ وهي أخته زوجة الخليفة، وكانت قد خرجت في وقعة البساسيري، ولحقت بأخيها السلطان طغرلبك؛ تخدم وتسأل أن يسبح الخليفة بهذه المسبحة؛ وجعل يتعذر عن تأخره عن الحضرة فيقول: سببه عصيان أخي إبراهيم عَلَي فحاربته وقتلته، واتفق موت أخي الأكبر؛ فاشتغلت في ترتيب أولاده في هذه الممالك. وأنا شاكر لمهارش بما كان منه من خدمة أمير المؤمنين، وأنا - إن شاء الله - أمضي إلى هذا الكلب البساسيري، وأعود إلى الشام، وأفعل بصاحب مصر ما ينبغي أن يجازي به؛ من سوء المقابلة بما كان من فعله هاهنا. فدعا له الخليفة وشكره على ذلك. كل ذلك بتوجيه الوزير عبد الملك الكندري بين الخليفة والسلطان، وأعطى الخليفة السلطان سيفاً كان لم يبق معه من أمور الخلافة سواه.
ودخلَ الخليفةُ بغداد يومَ الخميسِ، لخمسِ بقين من ذي القعدةِ، وَكَانَ ذلك يومَاً مشهوداً؛ الجيش كله مَعَهُ، والقضاة والأعيان بَين يَديهِ، وَالسلطان آخذ بلجام بغلته، حتى وصل إلى باب الحجرة. ولما وصل الخليفة إلى دار مملكته ومقر خلافته، استأذن السلطان طغرلبك في الخروج وراء البساسيري، فأذن له. وكان قد عزم على أن يمضي معه، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أكفيك. وأطلق لمهارش عشرة آلاف دينار، ولم يرض.
وشرع السلطان في ترتيب الجيوش وراء البساسيري، فأرسل جيشاً من ناحية الكوفة ليمنعوه من الدخول إلى الشام، وخرج هو في التاسع والعشرين من شهر ذي الحجة، في بقية الجيش. وأما البساسيري فإنه مقيم ب واسط في جمع غلات وتمور، يتهيأ لقتال أهل بغداد ومن فيها، وعنده: أن السلطان طغرلبك ومن معه ليسوا بشيء يخاف منهم؛ وذلك لما يريده اللّه من إهلاكه على يد السلطان، جزاه اللّه عن الإسلام والمسلمين خيراً.
ولما سار السلطان وقد وصلت إليه السرية الأولى، فلقوه بأرض واسط فالتقوا هناك، فانهزم أصحاب البساسيري ونجا بنفسه على فرسه، فتبعه بعض الغلمان فرمى فرسه بنشابة؛ فألقته إلى الأرض، وجاء وضربه على وجهه ولم يعرفه، وأخذه واحد من الجيش، يقال له: كشتكين، فحز رأسه وحمله إلى السلطان، وأخذت الأتراك من جيش البساسيري، من الأموال والذخائر ما عجزوا عن حمله.
ولما وصل الرأس إلى السلطان، أمر أن يذهب به إلى بغداد وأن يرفع على قناة، وأن يطاف به، والدباب والبوقات والنفاطون معه، ففعل ذلك، وخرج الناس والنساء والصبيان؛ للفرجة عليه، ثم نصب على الطيار تجاه دار الخلافة، وللّه الحمد والمنة.
وكان مع البساسيري خلق من البغادِدَة، خرجوا ظانين أنه سيعود إليها؛ محبة فيه، فهلكوا ونهبت أموالهم كلها، ولم ينج من أصحابه إلا القليل.
وأما الخليفة: فإنه لما عاد إلى دار الخلافة، جعل لله عليه ألا ينام على وطاء، ولا يأتيه أحد بطعامه إذا كان صائماً، ولا يخدمه في وضوئه وغسله؛ بل يتولى ذلك كله بنفسه. وعاهد اللّه ألا يؤذي أحداً ممن آذاه، وأن يصفح عمن ظلمه، وكان يقول: ما عاقبت من عصى الله فيك، بأكثر من أن تطيع اللّه فيه.(2/278)
انتهت وقعة البساسيري بكمالها، وأحببت إيرادها؛ لأنها من أعظم الوقائع، ولم تخل من فائدة ويقال: إن المستنصر هذا أحسن السيرة والعدل؛ لما احتفظ بتدبير المملكة. وذكروا أنه كتب على رقعة: من السريع،
أَصْبَحْتُ لاَ أَرْجُو وَلاَ أَتقِي ... إِلاَّ إِلَهِي وَلَهُ الْفَضْلُ
جَدي نبيي وَإمَامِي أَبِي ... وَقَوْليَ التوْحِيدُ وَالْعَدْلُ
المال مال اللّه، والعبيد عبيد اللّه، والعطاء خير من المنع " وَسَيعلمُ اَلذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبِ يَنقَلِبوُن " " الشعراء: 227 " .
وفي أيامه احترق جامع دمشق، سنة إحدى وستين وأربعمائة.
قلت: البساسيري هذا اسمه: أرسلان، ويلقب: أبا الحارث، وهو من الترك، وكان من مماليك بهاء الدولة ابن عضد الدولة الديلمي، وكان أولاً مملوكاً لرجل من أهل مدينة بسا بالباء العجمية بأصبهان فنسب إلى ذلك الرجل المنسوب إلى تلك المدينة فقيل له البساسيري، ثم كان مقدماً كبيراً عند الخليفة القائم بأمر اللّه، لا يقطع أمراً دونه، وخطب له على منابر العراق كلها، ثم طغى وبغى، وتمرد وعتا، وخرج على الخليفة بل وعلى المسلمين، ودعا إلى خلافة الفاطميين؛ ليتم له ما رامه من الأمل الفاسد. وكانت وفاته سنة إحدى وخمسين وأربعمائة.
وكانت وفاة المستنصر يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة.
ثم قام من بعده أحمد الملقب بالمستعلي، المكنى بأبي القاسم، بويع بعد موت أبيه المستنصر، وسنه نيف وعشرون سنة. وكان القائم بتدبير ملكه: أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي. وقد كان عهد أبوه إلى ولده الآخر نزار، فخلعه الأفضل، فقاتله نزار، فهزمه الأفضل وأسر القاضي ونزار؛ فقتل القاضي وحبس نزار حتى مات، واستقر المستعلي في الخلافة، وكان عمره إحدى وعشرين سنةَ.
وفي أيامه: استولت الفرنج على سواحل أهل الشام وبيت المقدس، واضمحل أمر الفاطميين، ولم يبق لهم من الخلافة إلا الاسم، واستمر إلى أن مات يوم الثلاثاء ثالث صفر سنة خمس وسبعين وأربعمائة.
ثم قام بالأمر بعده ابنه منصور الملقب بالآمر بأحكام اللّه ابن المستعلي ابن المستنصر، الفاطمي العبيدي، أبو عَلي الخبيث الرافضي، بويع بعد موت أبيه، وتولى تدبير مملكته شاهنشاه، فلما كبر جازاه بالقتل، وأقام عوضه في الوزارة المأمون البطائحي، صاحب جامع الأقمر بالقاهرة، ثم قبض عليه وقتله وصلبه أيضاً.
واستمر الآمر إلى أن مات ليلة الأربعاء، ثالث عشر ذي القعدة الحرام، سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وكانت مدته سبعاً وعشرين سنة وتسعة أشهر، ولم يعقب. وسبب موته: أنه مر على الجسر من الروضة عند خروجه إلى الجزيرة تجاه مصر، فوثب عليه تسعة فضربوه بالسكاكين، حتى إن أحدهم وثب وركب خلفه، ثم حمل جريحاً إلى أن مات.
ثم قام من بعده ابن عمه عبد المجيد، الملقب بالحافظ لدين اللّه بن محمد بن المستنصر المكنى أبا الهول. بويع بعد قتل الآمر، ودام إلى أن مات في جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
واستوزر في أيامه أحمد بن الأفضل، شاهنشاه بن بدر الجمالي، ولقب أمير الجيوش كأبيه وجده، وكانت الأمور قبل ولاية الحافظ اضطربت لموت الآمر عن غير ولد، وكان الحافظ كثير المرض بالريح القولنج، فعمل له الحكيم المسمى سرماه طبلاً للقولنج الذي وجد بعد في خزائن الفاطميين لما ملك السلطان صلاح الدين مصر، وكان هذا الطبل مركباً من المعادن السبعة في أشرافها، وكان من خاصية هذا الطبل إذا ضرب به أحد خرج منه تلك الريح المذكورة، فلما وجد في الخزائن ضرب به بعض الأجناد الأجلاف، فخرج منه ريح؛ فغضب وضرب به الأرض فكسره فبطلت تلك الخاصية، فندم السلطان صلاح الدين لذلك غاية الندم.
وفي أيام الحافظ هذا ابتذلت الخلافة حتى لم يبق له من الحكم لا قليل ولا كثير، وكانت مدته تسع عشرة سنة وسبعة أشهر.
ثم قام من بعده ابنه إسماعيل، الملقب بالظافر، ابن عبد المجيد بن محمد بن المستنصر الفاطمي العُبيدي، صاحب الجامع الظافري المعروف بجامع الفاطميين داخل القاهرة، بويع بعد موت أبيه وهو ابن سبع عشرة سنة وأشهر.(2/279)
وكان يهوى نصراً، ابن وزيره العباس وينادمه، فينزل الظافر له خفية وينام عنده، فتكلم الناس في ذلك، فبلغ العباس ذلك فوبخ ابنه بما سمع من كلام الناس، فلما نزل إليه الخليفة في بعض الليالي على عادته ومعه خادم واحد ونام، قام نصر إليه فقتله ورمى به في بئر، وعرف أباه الوزير بذلك، فلما أصبح الوزير توجه إلى باب القصر كأنه لم يعلم بما وقع، فطلب الخليفة على العادة فقال له خادم القصر: ابنك نصر يعرف أين هو، فقال له الوزير: ما لابني علم. ثم أحضر العباس أخوين للظافر وابن أخيه وقتلهم صبراً بين يديه، ثم أحضر أعيان الدولة وقال لهم: إن الظافر قد ركب البارحة في مركب فانقلب به وغرق. وقام ودخل إلى الحريم وأخرج عيسى بن الظافر وبايعه ولقبه بالفائز، وتفرق الناس عن الوزير لما عرفوا أمر الظافر وطالبوه بدم الخليفة.
وكانت مدة الظافر أربع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام، وأرسل النساء يستغثن بطلائع بن رزيك، وكان إذ ذاك بدمشق متولي منية ابن الخصيب، فجمع طلائع عسكره وقصد عباساً الوزير فبلغه، فجمع عباس ما قدر على جمعه من الجواهر والأموال وخرج نحو الشام، فخرج عليه الفرنج في الطريق فأسروه وأخذوا أمواله، وتولى طلائع وزارة مصر، وأرسل فبذل للفرنج مالاً عظيماً، وأخذ عباساً منهم وقتله وصلبه على باب القصر، وتلقب بالملك الصالح، وهو صاحب جامع باب الزويلة. وكان قتل الظافر سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
ثم قام من بعده ابنه عيسى، الملقب بالفائز بن الظافر بن الحافظ بن محمد بن المستنصر. بويع بعد قتل أبيه وهو صبي، وأصيب بالرجفة لما أخرجه الوزير عباس من الحريم على كتفه للبيعة، وهو ابن سنتين أو أربع، وذلك أنه لما رأى أعمامه قتلى فزع واضطرب، ودام به ذلك إلى أن مات يوم الجمعة سابع عشر رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وهو ابن عشر سنين تقريباً.
قال في البداية: وفيها - يعني سنة تسع وأربعين وخمسمائة - تولى الفائز بنصر الله، أبو القاسم، عيسى بن إسماعيل الظافر، ثم كانت وفاته في صفر وعمره إحدى عشرة سنة، ومدة ولايته من ذلك ست سنين وشهران، وكان مدبر دولته أبو الغارات.
ثم قام من بعده عبد اللّه، الملقب بالعاضد لدين اللّه بن يوسف بن الحافظ، ولم يكن أبوه خليفة، وكان يومئذ قد ناهز الاحتلام، فقام بتدبير مملكته الملك الصالح طلائع بن رزيك الوزير، وأخذ له البيعة وزوجه بابنته وجهزها بأمر عظيم، وقد عمرت بعد زوجها العاضد، ورأت زوال دولة الفاطميين على يد السلطان صلاح الدين، يوسف بن أيوب بن شاذي الكردي؛ فإن العاضد هو اَخرهم، وكان انتقال دولتهم في زمنه، وكان لما بويع ابن إحدى عشرة سنة.
قال في الأرج المسكي: وكان القائم بتدبير ملكه وزيره الملك الصالح طلائع ابن رزيك، وزر له بعد والده ولقب بالعادل، فانتزعها منه شاور، وهو الذي كان سبباً لخراب الديار المصرية بمباطنته الفرنج لعنهم اللّه، وزوال دولة العبيديين منها.
ثم بعد قتل شاور وزر له أسد الدين شيركُوه بن شاذي الكردي، وهو عم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ لأن أيوب وشيركوه أخوان أبوهما شاذي، وأيوب يلقب نجم الدين، وشيركوه يلقب أسد الدين فهو عم السلطان صلاح الدين، فلقب شيركوه بالملك المنصور، وأقام شهرين وأياماً ثم مات، فاستوزر العاضد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولقبه بالملك الناصر، فقطع الملك الناصر بعد سنين اسم الخليفة العاضد من الخطبة بمصر وأعمالها، بأمر الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آق سُنقر، صاحب الشام المعروف بنور الدين الشهيد، ومات العاضد بعد ذلك بأيام في يوم الاثنين، يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة، وندم السلطان صلاح الدين على قطعه الخطبة في حياته وتمنى أن كان القطع بعد موته، فاستولى السلطان صلاح الدين بن أيوب على مصر وذخائرها.
واختلف في سبب موت العاضد، فقيل: إنه تفكر في أموره فرآها في إدبار فأصابه ذَرب عظيم فمات منه، وقيل: إنه لما خطب لبني العباس بالقاهرة بلغه ذلك فاغتم فمات، وقيل: إنه لما أيقن بزوال ملكه كان في يده خاتم فصه مسموم فمصه فمات منه.
قال الذهبي: وكان العاضد مع وزرائه كالمحجور عليه لا يتصرف في شيء مما يريد، وهو آخر ملوك مصر المسمين بالعبيديين والفاطميين، وكانت مدة تملكهم مائتين وثمان سنين فكانوا لأربعة عشر متخلفاً لا مستخلفاً.(2/280)
وقال العلامة ابن السبكي في تاريخه المسمى بالبداية: كان ابتداؤها سنة أربع وستين وثلاثمائة. وكان موت العاضد في سنة سبع وستين وخمسمائة، وأعيدت الخطبة للمستضيء العباسي ابن المستنجد. وفرح المسلمون فرحاً شديداً، وكانت الخطبة قد قطعت عن بني العباس من ديار مصر من سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع العباسي. قال ابن الجوزي: وقد ألفت في ذلك كتاباً سميته، النصر على مصر.
قال العلامة ابن السبكي: واتفق أنه لما دخل المعز الفاطمي مصر أرسل إلى الجامع الأزهر يطلب ألقاباً تكون عنده لمن يقوم بعده من أولاده وأولاد أولاده، فكتبت له هذه الألقاب: العزيز، الحاكم بأمر الله، إلى العاضد آخرهم. والعضد في اللغة: القطع. فكان مع إرادته سبحانه وتعالى قاطعاً لخلافتهم، وبه انقراض ملكهم.
قال العلامة ابن السبكي: واتفق أنه لما استقر أمر السلطان صلاح الدين في مصر بالخطبة لبني العباس عن مرسوم الملك نور الدين محمود بن زنكي له بذلك، لمعاتبة الخليفة المستنجد إياه قبل وفاته بذلك، وكان إذ ذاك العاضد مريضاً مدنفاً. فكانت وفاته يوم عاشوراء في سنة سبع وستين كما تقدم ذكر ذلك، فحضر السلطان صلاح الدين جنازته، وشهد عزاءه وبكى عليه، وتأسف وظهر منه حزن، فقد كان مطيعاً له فيما يأمره به. ولما مات استحوذ الملك صلاح الدين على القصر بما فيه، وأخرج أهل العاضد إلى دار أفردها لهم، وأجرى عليهم النفقات والأرزاق الهنية والمعيشة المرضية. وكان يتندم على إقامته الخطبة العباسية قبل وفاته وهلاً صبر بها إلى ما بعد مماته، ولكن كان ذلك قدراً مقدوراً، وفي الكتاب مسطوراً. ومما قال العماد الكاتب في ذلك: من المنسرح،
تُوُفيَ العَاضِدُ الدعِيُّ فَمَا ... يفتَحُ ذُو بِدعَةٍ بِمِصرَ فَمَا
وَعَصرُ فرعَونِهَا انقضى وَغَدَا ... يُوسُفُهَا في الأُمُورِ مُحتَكِمَا
فَانطَفَأَت جَمرَةُ الفُؤَادِ وَقَد ... بَاخَ مِنَ الشر كُل مَا اضطَرَمَا
وَصَارَ شَملُ الصلاَحِ مُلتئماً ... بِهَا وَعَقدُ السدَادِ منتظما
لما غدَا معلماً شِعَارُ بني ال ... عباسِ حَقاً وَالبَاطِلُ اكتُتِمَا
وَبَاتَ دَاعي التوحِيدِ منتَصراً ... وَمن دُعَاةِ الإشرَاكِ منتَقِمَا
فَظَل أهلُ الضَّلاَلِ في ظُلل ... دَاجيَةِ مِن عَمَايَةٍ وَعَمى
وَارتَبَكَ الجَاهِلُونَ في ظُلَم ... لما أَضَاءَتْ مَنَابِرُ العُلَمَا
وَعَاد َبِالمستَضِيء مُمتَهِداً ... بِنَاء حَق قَد كَانَ منهَدِمَا
وَاعتَلَتِ الدولَةُ التِي اضْطُهدَت ... وَانتَصَرَ الدينُ بَعْدَ مَا اهتُضِمَا
وَاهتز عِطفُ الإسلاَمِ مِن جَذَل ... وَافتر ثَغْرُ الإِيمَانِ مُبْتَسِمَا
وَاستبشَرَت أَوجُهُ الهُدَى فَرَحاً ... فليَقرَعِ الكُفْرُ سِنهُ نَدَمَا
عَادَ حَرِيمُ الأعدَاءِ منتهكَ ال ... حِمَى وَفَيءُ الطغاةِ مُقتَسَمَا
قُصُورُ أَهلِ القُصُورِ أَخْرَبَهَا ... عَامِرُ بَيتِ مِنَ الْكَمَالِ سَمَا
أُزعِجَ بَعدَ السُّكُونِ سَاكِنُهَا ... وَمَاتَ ذُلاً وَأنْفُهُ رَغِمَا
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: وقد قال حسان الشاعر المدعو عرقلة: من الخفيف،
أَصبَحَ الملكُ بَعدَ آلِ عَلِي ... مُشرِقاً بِالمُلُوكِ مِن اَلِ شَاذِي
وَغَدَا الشرقُ يَحسُدُ الغَربَ للِقر ... مِ وَمصر تزهُو عَلَى بَغْدَاذِ
مَا حَووهَا إِلا بِعَزم وَحَزم ... وَصَليِلِ الفُولاَذِ في الفُولاَذِ
لاَ كَفرعَونَ وَالعَزِيزِ وَمَن كَا ... نَ بِهَا كَالخَصِيبِ وَالأستَاذِ
وقوله: آل عَلِي يعني الفاطميين. ولم يكونوا فاطميين، وإنما كانوا أدعياء ينتسبون إلى يهودي حداد ب سلمية، ثم ذكر ما ذكرناه من كلام الأئمة فيهم وطعنهم في نسبهم.(2/281)
قال: وقد استقصيت الكلام في ذلك في بعض الأحيان من الكفريات والمصائب العظيمات، وقد صنف العلماء في الرد عليهم كتباً كثيرة من أجل ما وضع فيه: كتاب القاضي العلامة، إمام الأئمة، أبي بكر الباقلاني، الذي سماه: كشف الأسرار، وهتك الأستار،.
ومن أحسن ما قاله بعض الشعراء في بني أيوب يمدحهم على ما فعلوه بمصر قوله من قصيدة: من الطويل،
أَلَستم مُزِيلِي دولَةِ الكُفرِ من بَني ... عُبَيد بِمِصر؟ إن هَذَا هُوَ الفَضلُ
زَنَادِقَة شِيعية بَاطِنية ... مَجُوس، وَمَا في الصالحِين لَهم أَصْلُ
يُسِرونَ كفراً يُظهِرُونَ تَشَيُّعاً ... لِيَستِترُوا شيئاً، وَعمهُمُ الجهل
ومما قيل من الشعر ببغداد يبشر الخليفة المستنجد بالله العباسي: من الطويل،
لِيهنِكَ يَا مولايَ فَتحٌ تَتَابَعَت ... إِلَيكَ بِهِ خُوصُ الركَائِبِ تُوجَفُ
أَخَذتَ بِهِ مصرَاً وَقد حَالَ دُونَهَا ... مِنَ الشركِ نَاس في لَهَا الحَق تُقذَفُ
فَعَادَت بِحمدِ الله باسمِ إِمَامِنَا ... تَتِيهُ عَلى كُل البِلاَدِ وَتَشرُفُ
فلا غروَ إن ذَلت لِيُوسُفَ مِصرهُ ... وكانَت لَهُ عَليَاؤُهَا تتشَوف
تَملكَهَا في قبضَةِ الكُفر ِيُوسُف ... وَخلصَهَا من عُصبَةِ الفسقِ يُوسُفُ
فَشَابَهَهُ خلقاً وخُلقاً وَعِفة ... وَكُل عَن الرحمَن في الأرَضِ يَخلُفُ
كَشَفتَ بِهَا عَن آلِ هَاشِم سبة ... وَعَاراً إلى إِلاَ بِسَيفِكَ يُكشَفُ
ذكر الشيخ شهاب الدين في الروضتين: أن أبا الفضائل، الحسين بن محمد، وزير ابن هبيرة - أنشدها للخليفة المستنجد والد المستضيء قبل موته، عند تأويل منام رآه بعض الناس للخليفة، فأراد الشاعر بيوسف الثاني الخليفة المستنجد؛ لأن اسمه يوسف، وكذا ذكره ابن الجوزي وغيره أن هذه القصيدة أنشدت للمستنجد في حياته، ولكن لم يُخطب بمصر إلا لولده المستضيء بن المستنجد، فجرى التأويل باسم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ثم إن الخليفة المستضيء أرسل إلى الملك نور الدين الشهيد خلعة سنية، وكذلك للملك صلاح الدين إلى الديار المصرية، فرفعت على أعلام سود ولواء معقود، ففرقت على الجوامع ببلاد الشام وبلاد مصر، فلله الحمد على ما صح من العز والنصر.
وكان قد أجمع جماعة من الدولة المصرية الفاطمية الذين كانوا حكاماً فاتفقوا فيما بينهم أن يعيدوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم، إليهم، وعينوا خليفة من ورثة الفاطميين ووزراء وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك، ثم اتفق مجيئه. وكان من نية الملك صلاح الدين أن يبعث أخاه تورانشَاه شمس الدين، إلى اليمن، فشرع عُمارةُ اليمني يذكر له اليمن وما فيها من المصالح والدور والمنتزهات والمغلات، ويحسن له المصير إليها؛ ليخف الجيش بمصر ويضعف مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين، فخرج تورانشاه ولم يخرج معه عمارة بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث، ويدخل المتكلمين فيه، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه، هذا وقد أدخلوا معهم في هذا الأمر بعض من ينتسب إلى الملك الناصر، وذلك من قلة عقولهم وكثرة جهلهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه، وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فجاء إلى السلطان وأخبره بما تمالأ عليه القوم وما انتهى أمرهم إليه، فأطلق له السلطان أموالاً جزيلة، وأفاض عليه خلعَاً جميلة، ثم استدعاهم السلطان واحداً واحداً فقررهم فأقروا له بذلك؛ فاعتقلهم، ثم استفتى العلماء في أمرهم، فأفتوا بقتلهم وتبديد شملهم، فعند ذلك أمر بهم فصلبت رءوسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنقل من بقي من جيش العُبَيديين إلى أقاصي البلاد.(2/282)
وقد كان عمارة هذا معاديَاً للقاضي الفاضل، فلما حضر بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل فاجتمع بالسلطان ليشفع فيه، فتوهم عمارة أنه تكلم فيه فقال: يا مولانا السلطان لا تسمع منه، فغضب القاضي الفاضل ونهض وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه كان قد شفع فيك، فندم عمارة ندماً عظيماً، ولما ذهب به ليصلب اجتاز بدار القاضي الفاضل فطلبه فتغيب عنه فأنشد عند ذلك قائلا: من الرجز،
إِن الخَلاصَ هُوَ العَجَب ... عَندُ الرحِيمِ قَدِ احتَجَب
قال ابن أبي طي: وكان الذين صلبوا الفضل بن كامل القاضي، وهو أبو القاسم، هبة الله، ابن عبد الله بن كامل قاضي قضاة الديار المصرية زمن الفاطميين، ويلقب ب فخر الأمناء وهو أول من صُلب، وقد كان ينسب إلى فضيلة وأدب. وله شعر رائق منه في غلام رفاء: من مخلع البسيط،
يَا رَافِياً خَرقَ كُل ثوبٍ ... وَيَا رَشا حبهُ اعتِقَادِي
عَسَى بِكَف الوِصَالِ تَرفُو ... مَا مزقَ الهَجرُ مِن فُؤَادِي
وابن عبد القوي داعي الدعاة، وكان يعلم بدقائق القصد، فعوقب ليعلم بها فامتنع من ذلك فمات واندرست، وشريا كاتب السر، وعبد الصمد أحد أمراء المصريين، ونجاح الحمامي، رجل منجم نصراني كان قد بشرهم بأن هذا الأمر يتم بعلم النجوَم، وعمارة اليمني هذا، وقد كان شاعراً مطبقاً، بليغاً فصيحاً، لا يُلحق في هذا الشأن. وله ديوان مشهور، ذكره ابن السبكي في طبقاته، وله في الفاطميين ووزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جداً، وأقل ما نسب إلى الرفض، وقد اتهم باطنه بالكفر المحض، وله مصنف في الفرائض، وكتاب الوزراء الفاطميين، وكتاب جمع فيه سيرة نفسه. وكان أديباً فاضلاً، فقيهاً فصيحاً. وذكر العماد الكاتب في الخريدة أنه قال في قصيدته التي يقول فيها: من البسيط،
ألعلمُ مُذْ كَانَ محتَاج إِلى العَلَم ... وَشفرَةُ السيف تَستغني عَنِ الْقَلَم
وهي طويلة قال فيها أيضاً:
قد كَانَ أولُ هذَا الدينِ من رَجُل ... سَعَى إِلَى أَن دَعوهُ سَيدَ الأمُمِ
قال العماد الكاتب: فأفتى علماء مصر بكفره وقتله، وحرضوا السلطان على المثلة بمثله. قال: ويجوز أن يكون الشعر معمولاً عليه، كذا قاله العلامة ابن السبكي. أقول: سبحان الله كيف هذا الإفتاء بالكفر والحال أن هذا اللفظ ليس ظاهرَاً فيما يوجب الكفر فضلاً عن أن يكون نصاً؟ إذ قوله سعى يحتمل أن يريد به سعيه صلى الله عليه وسلم في إبلاع دين الله، وعرضه نفسه على القبائل، وصبره على ما لاقاه من أذى قريش وغيرهم، وجهاده في إعلاء كلمة الله وإعلانها، وهذا هو الظاهر ظهوراً بيناً والمطلوب والمتعين الحمل عليه؛ إذ الإيمان والعصمة ثابتان له قبل ذلك بلا شك، فعندي في هذا التكفير تفكير. انتهى.
ومما أورد له ابن الساعي قوله يمدح بعض الملوك: من الكامل،
مَلِك إذَا قَابلتُ بِشرَ جَبِينِه ... فَارَقْتُهُ وَالبِشْرُ فَوقَ جَبِيني
وإِذَا لَثمت يَمِينَهُ وخَرَجتُ مِن ... أبوَابِهِ لَثَمَ المُلُوكُ يَمِينِي
ومما وجد من شعر عمارة يرثي العاضد الفاطمي ودولته وأيامه: من الكامل،
أَسَفي عَلَى زَمَنِ الإمَامِ العَاضِد ... أَسَفَ العَقيِم عَلَى فِرَاقِ الوَاحِدِ
جَالَستُ مِن وُزَرائه وَصَحِبتُ مِن ... أُمَرَائهِ أَهْلَ الثنَاءِ الخَالِدِ
لَهَفي عَلَى حُجُرَاتِ قَصرِكَ إِذ خَلَت ... يَا ابْنَ النبِي مِنِ ازدِحَامِ الوَافِدِ
وَعَلى النَّوَازِلِ مِن عَسَاكِرِكَ التي ... كَانَتْ كَأموَاجِ الخِضَم الراكِدِ
قلدت مُؤتَمَنَ الخِلاَفَةِ أمرَهُم ... فَكَبَا وَقصرَ عَن صَلاَحِ الفَاسِدِ
فَعَسَى الليَالِي أَن ترد عَلَيكُم ... مَا عَودَتكُم مِن جَمِيلِ عَوَائِدِ
وِله مِن قصيدة فيِه: مِن البسيط
ياِ عاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصرت في عذلي
بالله زُر سَاحَةَ القَصرَينِ وَابْكِ مَعِي ... عَلَيْهِمَا، لاَ عَلَى صِفين وَالجَمَلِ(2/283)
وَقُل لأَهلِهِمَا وَاللهِ مَا التَحَمَت ... فِيكُم قُرُوحِي وَلاَ جُرْحِي بِمُندَمِلِ
مَاذَا تُرَى كَانَتِ الإفرنجُ فَاعِلة ... في نَسلِ آلِ أَمِيرِ المُؤمِنينَ عَلي
وقد أورد الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الروضتين من أشعار عمارة هذا ومدائحه في الخلفاء الفاطميين وذويهم - شيئاً كثيراً، فمن ذلك قوله: من البسيط:
لِي في هَوَى الرشَاِ العُذرِيٌ أَعْذَار ... لَم يبقَ لي مُذْ أَقر الدمْعُ إِنْكَارُ
لي في القُدُودِ وَفي لَثمِ الخُدُودِ وَفِي ... ضم النهوَدِ لُبَانَات وَأَوْطَارُ
هَذَا اختِيَارِي فَوَافِق إِن رَضِيتَ بِهِ ... أَو لاَ فَدَعني وَمَا أهوَى وَأَختَار
ومما أنشد الشيخ تاج الدين الكندي في عمارة حين صلب قوله: من الطويل:
عمَارَةُ في الإسلاَمِ أبدَى خِيَانَة ... وَبَايَعَ فِيهَا بَيْعَة وَصَلِيبَا
وَأمسَى شَرِيكَ الشركِ في بغضِ أَحمَد ... فَأَصْبَحَ في حُبٌ الصليِبِ صَلِيبَا
وَكَانَ خَبِيثَ الملتَقَى إِن عَجمتَه ... تَجد مِنْهُ عُوداً في الثقَافِ صَلِيبَا
سَيلقَى غَداً مَا كَانَ يَسعَى لأجلِه ... وَيسقَى صَدِيداً في لَظى وَصلِيبَا
قلت: الأول صليب النصارى، والثاني بمعنى مصلوب، والثالث بمعنى القوي، والرابع بمعنى ودك العظام.
ولما صلب الملك الناصر هؤلاء بين القصرين في القاهرة - وكان ذلك اليوم يوم السبت الثامن من شهر رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة - كتب إلى الملك نور الدين الشهيد محمود بن زنكي يعلمه بذلك وما وقع بهم من الخزي والنكال، فوصل الكتاب بذلك الأمر يوم توفي الملك نور الدين المذكور، رحمه الله تعالى.
//بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الرابع
في الدولة الأيوبية السُّنِّيّةِ السَّنيّة
هم أصحاب الفتوحات الجليلة الجلية، الكاشفون عن الإسلام والمسلمين كل كربة وبلية.
قال ابن السبكي رحمه الله: كان ابتداء دولتهم وملكهم سنة أربع وستين وخمسمائة.
وقال السيد السمرقندي في تحفة الطالب: سنة تسع وخمسين وخمسمائة.
السبب في توردهم الديار المصرية
قال العلامة ابن السبكي وغيره: لما كانت سنة تسع وخمسين وخمسمائة قدم شاور بن مجبر أبو شجاع السعدي الملقب بأمير الجيوش وهو إذ ذاك وزير الديار المصرية بعد آل رزيَّك لما قتل الناصر رزيَّك بن صالح بن رزيَّك وقام في الوزارة بعده، يعني وزارة العاضد العبيدي، واستفحل أمره فيها.
فسار عليه أمير؛ يقال له: الضرغام بن سوار، وجمع له جموعاً كثيرة، واستظهر عليه وقتل ولديه، واستوزر العاضد بعده ضرغام بن سوار المذكور ولقب بالمنصور، فخرج شاور من الديار المصرية هارباً من العاضد وضرغام ملتجئاً إلى نور الدين محمود بن زنكي أمير الشام من جهة السلجوقي في الديار المصرية.
فأرسل معه نور الدين جيشاً عليهم أسد الدين شيركوه بن شاذي عم السلطان يوسف بن أيوب بن شاذي، فلما دخلوا مصر خرج إليهم الجيش الذي بها، فاقتتلوا أشد القتال فهزمهم أسد الدين، وقتل منهم خلقاً وقتل ضرغام بن سوار وطيف برأسه البلاد، واستقر شاور في الوزارة.
ثم اصطلح العاضد هو وشاور. وفي هذه السنة المذكورة كانت وفاة محمد بن علي بن أبي منصور أبي جعفر الأصفهاني الملقب بالجمال وزير صاحب الموصل قطب الدين بن مودود بن زنكي، وهو ابن أخي محمد بن زنكي بن إن سنقر السلجوقي المذكور.
كان هذا الجمال الأصفهاني كثير المعروف والصدقات وله آثار حسنة ب " مكة " و " المدينة " ، من ذلك أنه ساق عيناً إلى عرفات وعمل هنالك مصانع، وبنى مسجد عرفات ودرجه، وأحكم أبواب الحرم، وبنى مسجد الخيف، وبنى الحجر، وزخرف الكعبة وأذهبها وعملها بالرخام، وبنى على المدينة النبوية سوراً، وبنى جسراً على دجلة عند جزيرة ابن عمرَ بالحجر المنحوت والحديد والرصاص، وبنى ربطاً كثيرة.(2/284)
وكان يتصدق كل يوم على بابه بمائة دينار، ويفتدي من الأساري كل سنة بعشرة آلاف دينار ولا تزال صدقاته وافدة إلى الفقهاء والفقراء حيث كانوا، ولما مات دفن في رباط بناه لنفسه بالموصل، وقد كان بينه وبين أسد الدين شيركوه المذكور مؤاخاة وعهد: أيهما مات قبل الآخر أن يحمله إلى المدينة، فاستأجر له أسد الدين رجالاً فنقلوه إليها، فما مروا به في بلدة إلا صلى عليه أهلها وترحموا وأثنوا عليه خيراً، فصلي عليه بالموصل، وتكريت وبغداد، والحلة والكوفة ومكة، وطيف به حول الكعبة ثم نقل إلى المدينة المشرفة فدفن برباط بناه شرقي المسجد النبوي.
قال ابن الجوزي وابن الساعي: وليس بينه وبين حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى مقدار خمسة عشر ذراعاً.
قال ابن الساعي: لما صليَ عليه بالحلة صَعِدَ شاب على نشز فأنشد: من الطويل:
سرى نَعشهُ فَوقَ الرقاب وطَالَما ... سَرَى جُودُهُ فَوقَ الركَابِ ونَائِلُه
يَمُرُ عَلَى الوَادِي فَتُثنِي رِمَالُهُ ... علَيهِ وبِالنادي فَتُثنِي أَرَامِلُه
رجعنا إلى سيرة شاور والعاضد وأسد الدين.
لما اصطلح شاور مع العاضد استمرا على دَخَن، فلما كانت سنة أربع وستين وخمسمائة طغت الفرنج بالديار المصرية وتحكموا في إيوانها، وسكنها أكثر شجعانهم ولم يبق شيء من أن يستحوذوا عليها، ويخرجوا منها أهلها المسلمين، وذلك بسبب ما قرره لهم شاور على مصر كل عام بألف ألف دينار، وأن تكون لهم بها شحنة، فلما سمع الفرنج بذلك طمعوا في أخذها بالأصالة، فركبت أمدادهم من كل ناحية وساروا، فأول ما أخذوا مدينة بلبيس، فقتلوا خلقاً وأسروا آخرين، فأمر الوزير شاور بإحراق مصر وأن ينتقل الناس إلى القاهرة، فنهبت البلد.
وبقيت النار تعمل في مصر أربعة وخمسين يوماً، فعند ذلك أرسل الخليفة العاضد لدين الله إلى الملك نور الدين الشهيد محمود بن زنكي يستغيث به، وبعث إليه بشعور نسائه يقول له: أدركني واستنقذ نسائي من يد الفرنج، والتزم له بثلث خراج مصر، على أن يكون أسد الدين شيركوه مقيماً عندهم بمصر، ولهم إقطاعات زائدة على الثلث، فشرع نور الدين في تجهيز الجيوش إلى الديار المصرية، فلما استشعر الوزير شاور بوصول المسلمين أرسل إلى ملك الإفرنج يقول: قد عرفت محبتي ومودتي، ولكِن العاضد والمسلمون لا يوافقوني على تسليم البلد، واستدعي نور الدين الشهيد الأمير أسد الدين شيركوه، فقدمه على العساكر التي قد جهزها إلى الديار المصرية، وأضاف إليه جملة من الأمراء والأعيان.
وكان في جملتهم ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي، وأضاف إليه ستة آلاف من التركمان، فلما وصلت الجيوش النورية إلى الديار المصرية وجدوا الفرنج قد انشمروا عن القاهرة بالصفقة الخاسرة، فدخل الأمير أسد الدين على العاضد، وخلع عليه خلعة سنية فلبسها، وعاد إلى مخيمه بظاهر القاهرة، وخرجت وجوه الناس إلى مخيم أسد الدين خدمة له، وكان ممن خرج إليه الخليفة العاضد متنكراً فأسر إليه أموراً مهمة، منها: قتل الوزير شاور، وقرر معه ذلك.
وعظم أمر الأمير أسد الدين بمصر، ولم يقمر الوزير شاور على منع شيء من ذلك لكثرة من مع أسد الدين من الجيش، ولكن شرع يماطل فيما كان تقرر لهم وللملك نور الدين مما كان التزمه لهم وهو مع ذلك يتودد إلى الأمير أسد الدين ويركب معه.
وعزم على فعل ضيافة له، فنهى أسد الدين وأصحابه عن الحضور عنده، خوفاً من عائلته، وشاوروه في قتل شاور فلم يمكنهم الأمير أسد الدين من ذلك، فلما كان في بعض الأيام جاء شاور إلى منزل أسد الدين فوجده قد ذهب إلى زيارة الشافعي - رضي الله تعالى عنه - ، وإذا ابن أخيه الملك صلاح الدين يوسف هنالك فأمر صلاح الدين بالقبض عليه، ولم يمكنه قتله إلا بعد مشاورة عمه أسد الدين، فانهزم أصحاب شاور، فأعلموا العاضد لعله يبعث من ينقذه، فأرسل العاضد إلى الأمير أسد الدين يطلب رأس شاور، فقتله يوسف وأرسل برأسه إليه ففرح المسلمون بذلك، وأمر أسد الدين بنهب دار شاور فنهبت، ودخل على العاضد فاستوزره وخلع عليه خلعة عظيمة ولقبه: الملك المنصور، فسكن دار شاور وعظم شأنه هنالك.(2/285)
قلت: وهذا الوزير شاور: هو أول من استكتب القاضي الفاضل، استدعي به من الإسكندرية فحظي عنده وانحصرت فيه الكتابة، لما رأوا فضله وفضيلته، ومما قاله عمارة اليمني في شاور قوله: من الكامل:
ضَجِرَالحَدِيدُ مِنَ الحَدِيدِ وشَاور ... في نَضرِ آل مُحَمدٍ لَم يَضجَرِ
حَلَفَ الزمَانُ ليَأتِيَن بِمِثله ... حَنِثَت يَمِينُكَ يا زَمَانُ فَكَفرِ
ولم يزل قائماً في الوزارة إلى أن ثار عليه ضرغام بن سوار، كما تقدم ذكره، ثم قتله على يد الناصر صلاح الدين يوسف. ولما استقر أسد الدين بمصر كما ذكرنا أرسل إلى القصر يطلب كاتباً، فأرسلوا إليه بالقاضي الفاضل، وكانوا قد أبغضوه، أرسلوه إليه؛ رجاء أن يُقتل معه إذا قتل أسد الدين شاور فيما كانوا يؤملون.
ثم إن أسد الدين بعث العمال، وأقطع الإقطاعات، وولى للولايات، وفرح بنفسه أياماً معدودات، فأدركه حِمَامُهُ يوم السبت ثاني عشر جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة فكانت ولايته شهرين وخمسة أيام.
فلما توفي أسد الدين أشار الأمراء الشاميون على العاضد بتولية صلاح الدين يوسف بن أيوب الوزارة بعد عمه أسد الدين، وخلع عليه خلعة سنية، ولقبه: الملك الناصر.
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في كتاب الروضتين: صفة الخلعة التي لبسها صلاح الدين يومئذ هي عمامة بيضاء بطرف ذهب، وثوب ديبقي بطراز الذهب، وجبة بطراز ذهب، وطيلسان مطرز بذهب، وعقد جوهر بعشرة آلاف دينار، وسيف محلى بخمسة آلاف دينار، وحجرة من الخيل بثمانية آلاف دينار، وعليها طوق ذهب، وسرفسار ذهب بجوهر، وفي رأسها مائتا حبة جوهر، وفي قوائمها أربعة عقود جوهر، وفي رأسها قضيب ذهب، ومع الخلعة عدة بقج وخيل، ومنشور الولاية في ثوب أطلس أبيض، وكان ذلك يوم الاثنين الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة.
وأقام صلاح الدين بالديار المصرية بصفة نائب للملك نور الدين الشهيد محمود ابن زنكي يخطب له على المنابر بالديار المصرية بعد الخليفة. وقد قال بعض الشعراء في قتل صلاح الدين شاور: من الطويل:
هنيئاً لِمصرِ حَوزُ يوسُفَ مُلكَهَا ... بأَمرٍ مِنَ الرحمَنِ قَد كَانَ مَوْقُوتَا
وما كانَ فِيها قَتل يوسُفَ شاوراً ... يماثلُ إلا قَتل داوُدَ جَالُوتَا
وارتفع قدر صلاح الدين بين العباد بتلك البلاد، واضطهد العاضد في أيامه غاية الاضطهاد، وزاد في إقطاعات الذين معه فأحبوه وخدموه واحترموه، فاستمر حتى كان أول جمعة من سنة سبع وستين وخمسمائة - وهي السنة التي توفي فيها الخليفة العاضد قبل وفاته - أمر بإقامة الخطبة لبني العباس بمصر، وفي الجمعة الثانية بالقاهرة، وكان ذلك يوماً مشهوداً.
ولما انتهى الخبر بذلك إلى الملك نور الدين الشهيد محمود بن زنكي بالشام أرسل إلى الخليفة يعلمه بذلك مع ابن عصرون، فزينت بغداد، وغلقت الأسواق، وفرح المسلمون فرحاً شديداً، وكانت الخطبة عن بني العباس قد قطعت من سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع العباسي حين تغلب الفاطميون، وهم المسمون بالعُبَيديين على مصر، وملكها منهم المعز الفاطمي باني القاهرة والقصرين إلى هذا الأوان وهو سنة سبع وستين وخمسمائة، وذلك مائتا سنة وثماني سنين، كما تقدم ذكر ذلك.
قال ابن الجوزي: وقد ألفت في ذلك كتاباً سميته النصر على مصر فهذا هو سبب استيلاء الدولة الأيوبية على مصر والشام وأعمالهما.
وكانت وفاة نور الدين الشهيد في شوال سنة تسع وستين وخمسمائة. فأولهم الملك الناصر:
؟السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب
ابن شاذي الكردي الروادي: وهم خيار الأكراد الدويني. ومنهم من يقول: أيوب بن شاذي بن مروان وزاد بعضهم بعد مروان: ابن يعقوب، والذي عليه جمهورهم أنه لا يعرف بعد شاذي أحد من نسبهم، وأغرب بعض فزعم أنهم من سلالة مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية، وهذا ليس بصحيح، كذا قاله ابن السبكي.
قلت: والذي انتسب هذه النسبة ادعاءً هو الملك أبو الفداء إسماعيل بن طغتكين بن أيوب بن شاذي، ويعرف: بابن سيف الإسلام؛ لأن سيف الإسلام لقب لطغتكين بن أيوب أخي صلاح الدين.(2/286)
وقد ملك إسماعيل هذا بعد أبيه فتعاظم في نفسه وادعي الخلافة وتلقب بالإمام الهادي بنور الله المعز لدين الله أمير المؤمنين، وزعم أنه أموي، ومدحه الشعراء وأطروه ولهجوا بذلك. وقال هو في نفسه: من الطويل:
وَإني أنا الهَادِي الخَلِيفَةُ والذِي ... أَدُوسُ رِقَابَ الغلبِ بالضُّمَّرِ الجُرْدِ
ولا بُد مِن بَغدَادَ أطوِي رُبُوعَهَا ... وأَتشُرُهاً نَشر السمَاسِرِ للبردِ
وأَنصِبُ أَعلاَمِي عَلَى شُرُفَاتِهَا ... وأحييِ بِهاً ماً كَانَ أَسسَهُ جَدي
ويخطبُ لي فيها على كل منبرٍ ... وأُظِفرُ دِينَ اللهِ في الغَوْرِ والنجدِ
وهذا الادعاء ليس بصحيح، ولا أصل له فيعتمد عليه، ولا مستند يستند إليه. وكان السلطان صلاح الدين رحمه الله متقشفاً في ملبسه ومأكله، وملبسه لا يلبس إلا الكتان والقطن والصوف، ولا يعرف أنه تخطى مكروهاً بعد أن أنعم الله عليه بالملك، بل كان همه الأكبر، ومقصوده الأعظم - نصرة الإسلام، وكسر الأعداء اللئام، ويعمل فكره في ذلك ورأيه وحده ومع من يثق برأيه ليلاً ونهاراً.
هذا مع ما لديه من الفضائل والفواضل والفوائد الفرائد في اللغة والأدب وأيام الناس، حتى قيل: إنه كان يحفظ الحماسة بتمامها.
وكان مواظباً على الصلوات في أوقاتها في جماعة.
يقال: لم تفته الجماعة في صلاة قبل مماته بدهر طويل حتى في مرض موته، وكان يتجشم القيام مع ضعفه، وكان يفهم ما يقال بين يديه من البحث والمناظرة ويشارك في ذلك مشاركة حسنة وإن لم يكن بالعبارة المصطلح عليها.
وكان يحفظ، ويحفظ أولاده عقيدة جمعها له القطب النيسابوري.
وكان يحب سماع القرآن العظيم ويواظب على سماع الحديث، حتى إنه سمع في بعض المصافات جُزءاً وهو بين الصفين وتبجح بذلك وقال: هذا موقف لم يسمع فيه أحد حديثاً.
وكان رقيق القلب، سريع الدمعة عند سماع القرآن والحديث، كثير التعظيم لشعائر الدين.
وكان من خيار الملوك وأشجعهم وأكرمهم وأحسنهم. فتح الفتوحات التي لا تحصى من ممالك الكفر، ودمر ديارهم، واستلب أعمارهم، وسبى نساءهم وصغارهم.
وكان شيخاً كريماً حليماً ضحوك الوجه، كثير البِشر أحسن الملوك سيرة، وأطهرهم سريرة يشبه بالملك العادل نور الدين الشهيد، ولم يترك في خزائنه سوى ستة وثلاثين درهماً.
وقال غير ابن السبكي: سبعة وأربعين درهماً.
ولم يترك عقاراً ولا مزرعة ولا شيئاً من أنواع الأملاك، لكثرة عطاياه وهباته وصدقاته وخيراته إلى أمرائه وفقرائه حتى إلى أعدائه.
وخلف من الأولاد سبعة عشر ذكراً، وابنة واحدة، أكبرهم الملك الأفضل نور الدين علي.
وكان قد قسم البلاد في حياته بين أولاده: فالديار المصرية لولده العزيز عثمان، وبلاد دمشق وما حولها لولده الأفضل المذكور، والديار الحلبية لولده الظاهر غازي، والكرك والشوبك لأخيه العادل أبي بكر.
ثم شرعت الأمور تضطرب وتختلف، حتى آل الأمر واستقرت الممالك، واجتمعت المحافل على أخي السلطان الملك العادل، وصارت المملكة في أولاده الأماجد الأفاضل كما ستراهم حين تعدادهم واحداً بعد واحد.
وكان سبب وفاته أن اعترته حمى صفراوية ليلة السبت سادس عشر صفر، وتفاقم به الحال ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فدخل عليه القاضي الفاضل في الصبح وهو باَخر رمق فلما قرأ القارئ قوله تعالى: " لاَ إِلَهَ إلا هُو عليه تؤكلتُ " التوبة: 129، تبسم وتهلل وجهه وسلمها إلى ربه عز وجل، وله من العمر سبع وخمسون سنة، ودفن بتربته عند مدرسة أنشأها بالموصل، وألحده ولده نور الدين عَلِي الأفضل، ودفن معه سيفه الذي كان يحضر به الجهاد والجلاد، وذلك بإشارة القاضي الفاضل.
وقد عمل فيه الشعراء المراثي الكثيرة، فمن أحسنها قصيدة العماد الكاتب وهي مائتان واثنان وثلاثون بيتاً. فمنها قوله في أولها: من الكامل:
شَملُ الهُدَى والمُلكِ عَم شَتَاتهُ ... والدهرُ سَاءَ وأَقلَعَت حَسَنَاتُهُ
أَينَ الذِي مُذ لَم يَزَل مَخشِيةً ... مَرجُوة هَباتُهُ وهباتُهُ؟!
أَينَ الذِي طَاعَاتناً كانَت لَهُ ... مَبذُولةً ولرَبِّهِ طَاعَاتُهُ؟!(2/287)
باللهُ أَينَ الناصِرُ المَلِكُ الذِي ... لله خَالِصَةً صَفَت نياتُهُ؟!
أَينَ الذي ماً زَالَ سُلطَاناً لَنَا ... يُرجَى نَدَاهُ وتُتَّقَى سَطَوَاتُهُ؟!
أَينَ الذِي شَرُفَ الزمَانُ بفَضلِهِ ... وسَمَتْ عَلَى الفُضَلاَء تَشرِيفَاتُهُ؟!
أَينَ الذِي عَنَتِ الفِرِنجُ لِبَأسِهِ ... ذلا ومِنهاً أَدرَكَت ثَارَاتُهُ؟!
أَغلاقُ أَعنَاقِ العِدَى أسيَافُهُ ... أَطواقُ أَجيَادِ الوَرَى مِنَّاتُهُ
قلت: إن كانت القصيدة كلها على هذه الوتيرة، فما تصلح أن تكون بعقر داره عقيرة. رحمه الله.
تولى ابنه
الملك العزيز عثمان
ثم تولى ابنه الملك العزيز عثمان: أبو الفتح ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب.
تسلطن بعد موته وكان نائباً عن أبيه بمصر لما كان أبوه بدمشق، وتم أمره وسنه نيف وعشرون سنة وكان أصغر إخوته، وكان أكبرهم الملك الأفضل نور الدين علي، وكانت إليه ولاية العهد من أبيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان بدمشق وأخوه عثمان بمِصر وعمه الملك العادل أبو بكر بحلب، وكان أكولاً يأكل الخروف وحده، وكان فاضلاً متأدباً حليماً، حسن السيرة، متديناً، قل أن يعاقب على ذنب، ومع هذا ما صفا له الدهر ولا هنَّاه بالملك بعد أبيه، لبث مدة يسيرة ثم حصره عمه الملك العادل أبو بكر، وأخوه الملك العزيز عثمان صاحب الترجمة هذه، وأخرجاه من ملكه إلى صَرخَد ثم جهزاه إلى سميساط، وفي ذلك كتب إلى الخليفة الناصر العباسي ببغداد قوله: من البسيط:
مولاَيَ إن أباً بَكرٍ وصَاحِبَهُ ... عثمَانَ قَد غَصَباً بالسيْفِ حَق عَلِي
وهوَ الذِي كَانَ قَد ولاهُ والِدهُ ... عَلَيهِماً فاستَقَامَ الأمْرُ حِيَن وَلي
فخَالَفَاهُ وحَلا عقْدَ بَيْعتِهِ ... والأَمْرُ بَيْنَهُماً والنصفُ فيه جَلِي
فانظُر إلى حَظ هَذاً الاسْمِ كَيْفَ لَقِي ... مِنَ الأوَاخِرِ ما لاقَى مِنَ الأُوَلِ
فأَجابه الناصر العباسي: من الكامل:
وافَى كِتَابكَ يا بنَ يُوسُفَ مُعلِنا ... بالوردِ يُخْبِرُ أَن أَصْلَكَ طَاهِرُ
غصَبُوا علياً حَقَّهُ إذ لَم يَكُن ... بَعدَ النبِي لَهُ بِيَثْرِبَ نَاصِر
فاصبِر فإن غَداً عَلَيه حِسَابَهُمْ ... وَابْشِر فَنَاصِرُكَ الإمامُ الناصِرُ
وكان فيهما تشيع.
وقال العلامة الصفدي في تاريخه: توفي يوم الجمعة فجأة بعد أن صلى الجمعة خامس عشر صفر من سنة 622 هجري، وحمل إلى حلب ودفن بها.
وكان صحيح العقيدة، عنده علم وأدب، يحب العلماء والعلم، وله في الجهاد مع أبيه مشاهد معروفة وآثار جميلة، ووقف أوقافاً جميلة.
ولشعراء عصره فيه أمداح طائلة وقصائد هائلة، مثل ابن الساعاتي وابن سناء الملك وغيرهما.
فمن قول ابن سناء الملك فيه من قصيدة: من الخفيف:
مَلك إسمُهُ عَلِي وَلَكِن ... كَيدهُ في حُرُوبه كَيْدُ عَمرو
لَيسَ يَتفَك بَين فَتحِ وفَتكٍ ... حين يختالُ بين نصلٍ ونصر
وَجههُ البَدرُ في الحُرُوبِ فَلاَ تع ... جَبْ إذا كان يَوْمُهُ يَوْمَ بدرِ
وله فيه من أخرى: من البسيط:
حَسبِي علي نَدى حَسبِي عَلِي هُدى ... حَسبِي علي جدى حَسبِي علِي عُلا
حَمَدتُّ آخر أَيامِي بِخِدمَتِهِ ... ولَستُ أَحمَدُ مِن أَيِامِيَ الأُوَلاَ
ذِكرِي بِهِ سَارَ حَالي عِندَهُ عَظُمَت ... قَدرِي بِهِ جل مِقدَارِي لَدَيهِ عَلاَ
ثم قال: وقال كمال الدين بن العديم: لم يكن متشيعاً وإنما قال هذا الشعر؛ موافقة للحال وتقرباً للإمام الناصر العباسي، فإنه كان منسوباً إلى التشيع.
قال الصفدي: ولما تعصب عليه أخوه العزيز عثمان المذكور، وعمه العادل أبو بكر قال: من الكامل:
ذي سُنةٌ بَين الأَنامِ قَدِيمَة ... أبداً أَبُو بَكرٍ يَجُورُ عَلَى عَلِي
وكتب بتلك الأربعة الأبيات إلى الناصر العباسي.(2/288)
قلت: مد ذكرت الأربعة أبيات وفي حفظي له بيتان يذم بهما حظه، وهو معنى لم أسمعه لغيره، ووكر لم يأو إليه غير طيره هما: من الكامل:
يا مَن يُسَودُ بالخضابِ شُعُورَهُ ... لعَسَاهُ مِن أَهلِ الشَبِيبَةِ يُجعَل
ها فَاختَضِت بِسَوادِ حَظي مَرةً ... ولَكَ الأمانُ بأنه لا يُنصَلُ
وإنما ذكرت ترجمة عَلِي الأَفضَلِ في ترجمة أخيه عثمان صاحب الترجمة؛ لجريان ذكره بأكبريته على إخوته بني يوسف بن أيوب.
واستمر عثمان في الملك إلى أن خرج إلى، الفيوم يتصيد، فلاح له ظبي، فساق خلفه فكبا به الفرس، فوقع فدخل قربوس السرج في فؤاده فحمل إلى القاهرة، وتوفي في عشر المحرم الحرام سنة خمس أو ست وتسعين وخمسمائة، ومدة ملكه خمس سنين وعشرة أيام.
ثم تولى ابنه
الملك المنصور محمد
ابن عثمان العزيز بن صلاح الدين، تسلطن بعد موت أبيه، وعمره نحو العشرين.
وصار مدبر مملكته الأمير قراقوش. ووقع له مع عمه الملك الأفضل صاحب الشام أمور عجيبة، وكذلك مع عم أبيه العادل أبي بكر بن أيوب، ولم تطل أيامه، لتغلب أعمامه عليه إلى أن خلعه عم أبيه الملك العادل أبو بكر بن أيوب.
ثم تولى
الملك العادل
عم أبيه أبو بكر سيف الدين بن أيوب.
تسلطن بعد خلع ابن ابن أخيه في شوال سنة ست وتسعين وخمسمائة.
وفي أيامه انتقلت السلطنة من دار الوزارة إلى قلعة الجبل في سنة أربع وستمائة. وكان له سعد عظيم، فإن غالب ملوك بني أيوب من نسله.
وكان يأكل خروفاً كاملاً مشوياً كما كان يأكله ابن أخيه الأفضل المتقدم ذكره. وتوفي بمالقين بلد بالشام في ثامن جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة، فصبره ولده الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، وحمله - ولم يعلم بموته أحد - إلى قلعة دمشق، فدفنه بها، وهو الملقب بالعادل الكبير.
ولما مات استقر كل واحد من ولده بمملكته التي كان قسمها بينهم، فاستقر الكامل محمد في سلطنته بمصر، واستقر الملك المعظم عيسى في ممالك الشام، واستقر الأشرف موسى شاه أرمن بديار بكر وممالك الشرق.
وباقي أولاده كل في جهة أو في خدمة أخ من اخوته.
وكانت مدة ولايته على مصر ثماني عشرة سنة ونحو ثمانية أشهر.
ثم تولى
الملك الكامل محمد
ابن أبي بكر الملك العادل.
استقل بسلطنة مصر يوم الجمعة سابع جمادى الأخرى من سنة خمس عشرة وستمائة، فعمر قبة الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبنى المدرسة الكاملية بين القصرين، وله من الخيرات غير ذلك، واستمر إلى أن توفي بدمشق يوم الأربعاء ودفن من غد يوم الخميس ثاني عشر رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة، ومدة ملكه عشرون سنة وشهران.
ثم تولى ابنه
أبو بكر العادل
وهو المسمى بالعادل الصغير ابن محمد الكامل بن أبي بكر العادل، وهو المسمى العادل الكبير.
تسلطن بعد موت والده الكامل بمصر، وكان الصالح نائب أبيه ببلاد الشرق، لما مات الكامل اتفق رأي الأمراء على تولية أبي بكر العادل هذا، وأن يكون نائبه بدمشق، ابن عمه الملك الجواد يوسف، وأن يكون أخوه أيوب على حاله بديار بكر وممالك الشرق، فتم ذلك، وتسلطن العادل فيه وله ثمان عشرة سنة، ثم بلغ الخبر أخاه فتحرك طالباً لملك مصر حتى ملكها بعد أمور وقعت له مع أخيه، وقهره وخلعه عن الملك وحبسه، ثم قتله بعد سنين في السجن في شوال سنة ست وأربعين وستمائة، وكانت مدة العادل سنة وشهرين وأياماً مع ما وقع له من الأنكاد والحروب والفتن.
ثم تولى الملك الصالح
نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل
وله سير وأوصاف جميلة حميدة، وهو ممدوح الصفي الحلي، وباني المدرسة بين القصرين المعروفة بالصالحية، التي هي الآن المحكمة، إلا أنه لم يمكث فإنه وقعت له أكلة في خده فمات ليلة النصف من شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة بالمنصورة، وحمل إلى القاهرة.
وأخفت زوجته المسماة شجرة الدر موته، خوفاً على المسلمين، إلى أن حضر ابنه المعظم توران شاه ودبرت الملك بينما وصل، وعلمت على المناشير بخط يحاكي خط الصالح.
وهو صاحب قلعة الروضة تجاه مصر القديمة على النيل. وهو الذي استكثر من المماليك الأتراك بديار مصر، وفي هذا المعنى قال بعضهم: من البسيط:(2/289)
أَلصالِحُ المُرتَضَى أَيوبُ أَكثرَ مِن ... تُركٍ بِدَولَتِهِ ياً شَرَ مَجْلُوبِ
لاَ وَاخَذَ اللهُ أَيوباً بِفَعلَتِهِ ... فالناسُ كلُّهُمُ في ضُر أَيوب
ثم تولى
تورنشاه
ابن الملك الصالح ابن الملك الكامل ابن الملك العادل.
تسلطن بعد موت أبيه بنحو شهرين ونصف، وقيل: بأربعة أشهر، وهو الأصح؛ لأن أباه مات في شعبان.
وقدم تورنشاه أواخر ذي الحجة.
ففي أول المحرم من سنة ثمان وأربعين ولي، ولما ملك واستفحل أمره تغير على مماليك أبيه بالقتل والفتك، وتوعد شجرة الدر جارية أبيه بالمصادرة، فدفعت له أشياء وهو لا يكف عنها، فتغير خاطرها عليه، وكانت مطاعة، فوثب عليه المماليك بإشارتها يوم الإثنين سابع عشر محرم الحرام سنة ثمان وأربعين وستمائة فلم يثبت لهم وهرب، فطلع إلى برج خشب فأطلقوا فيه النار والنفط فنزل إلى الخركاه فرموه بالنشاب، فصار يصيح: ما لي حاجة بالملك دعوني أتوجه إلى الحصن، فلم يتركوه وضربوه بالسيوف إلى أن مات، وسلطنوا شجرة الدر زوجة أستاذهم.
ثم تولت
شجرة الدر
وسلطنوها باتفاق من الأمراء، وحلفوا لها، واستحلفوا جميع العساكر المصرية والشامية، واستمرت تعلم على المناشير، ويدعي لها على المنابر بمِصر وأعمالها، ويكنون عنها بالجهة الصالحية ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، أم خليلة صاحبة الملك الصالح، فبقيت على ذلك الحال نحو ثلاثة أشهر، ثم بدا لها خلع نفسها.
ثم تولى الملك
عز الدين أيبك التركماني
واستقر في السلطنة، وقد كان هو أتابك العساكر لها رتبه الأمراء، ثم تزوج الأتابك المذكور بها وكانت مستولية عليه.
فبعد استقرار أيبك المذكور في السلطنة بخمسة أيام أجمع رأي الأمراء جميعهم على تولية مظفر الدين موسى بن الناصر ابن الملك المسعود ابن الملك الكامل ابن الملك العادل، ولقبوه بالملك الأشرف فلم يسع المعز إلا الإذعان لهم؛ لعظم شوكتهم.
فتولى الملك الأشرف
موسى مظفر الدين
ابن الملك الناصر ابن الملك المسعود بن الكامل بن العادل.
بويع عام ثمان وأربعين، فقام عاماً واحداً إلى أن قويت شوكة المعز المذكور أيبك على الأمراء فخلع الصبي واستقل بالسلطنة، وبخلعه انتهت الدولة الأيوبية الكردية، وكانت مدة ولايتهم اثتتين وثمانين سنة وأربعة أشهر، وعدة ملوكهم: تسعة رجال وامرأة هي شجرة الدر المذكورة، وكانت تركية الجنس، ثم آل به الأمر أن قتلته؛ لما بلغها عنه أنه يريد التزوج عليها، فقتلها بعده غلمانه، كما سيأتي.
الباب الخامس
في ذكر الدولة التركمانية
كان ابتداؤها سنة ثمان وأربعين وستمائة.
أولهم
المعز أيبك التركماني
الصالحي النجمي التركي، أول ملوك الأتراك بالديار المصرية. وقد نظم بعضهم من مسه الرق من ملوك الأتراك في أبيات موالياً وهي:
أيبك قطز يعقبو بيبرس ذو الإكمال ... بعدو قلاوون بعدو كتبغا المفضال
لاجين بيبرس برقوق شيخ ذو الأفضال ... ططر برسباي جقمق ذو العلا أينال
وخشقدم عنه قل بلباي ذوالأحوال ... تمر بغاقيتبيه الغمر ذو الإقبال
قال في الأرج المسكي: وهذه الأبيات مفيدة، لأن كثيراً من فقهائنا نصوا على عدم صحة أوقافهم معللين ذلك بأنهم أرقاء لبيت المال، وما وقفوه من أموال بيت المال، ويجعلون ذلك وسيلة إلى جواز تناول من يكون مقيماً بمِصر من، أموال الحرمين الموقوفة عليهم من ملوك الأتراك، والإطلاق في ذلك خطأ، فإن بعضهم لم يمسه الرق وهو من عدا المنظومين في هذه الأبيات فليتنبه لذلك، وأيبك المذكور كان من مماليك الملك الصالح أيوب الأيوبي اشتراه في حياة والده الملك الكامل، وجعله جاشنكير فلهذا تسلطن يوم السبت آخر ربيع أول سنة ثمان وأربعين أو تسع وأربعين وستمائة بعد خلع شجرة الدر نفسها، وأجمع على سلطنته الأمراء من غير كره، وركب بشعار السلطنة، وحملت الغاشية بين يديه وتم أمره.(2/290)
ثم إن المماليك الصالحية اتفقوا على واحد من بني أيوب، وهو موسى وسلطنوه واجتمعوا عليه، وكان القائم بهذا الأمر: فارس الدين أقطاي الجمداري، وبيبرس البندقداري، وبلباي الرشيدي، وسنقر الرومي، فأقاموا مظفر الدين موسى بن الناصر يوسف ابن الملك المسعودي بن الكامل بن العادل ولقبوه الملك الأشرف، وكان عند عماته. فأحضروه، وكان عمره إذ ذاك نحو عشر سنين، ولم يعزل المعز عن السلطنة بل كان أتابك العساكر، وخطب لهما على المنابر معاً وكانت هذه الحركة بعد سلطنته بخمسة أيام كما تقدم ذكر ذلك، واستمر شريكاً للصبي إلى أن مهد أموره وقويت شوكته وصفا له الوقت، فعزل الصبي واستقل بعد أمور حصلت ووقائع، إلى أن قتلته زوجته شجرة الدر لما بلغها أنه يريد التزوج عليها، فواطأت على قتله جماعة من المماليك، ثم قتلتهم جميعاً، وكان قتلها له يوم الثلاثاء عشر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وستمائة.
ثم تولى ابنه
الملك المنصور نور الدين علي
تسلطن وجلس على تخت الملك، وعمره خمس عشرة سنة، ووزر له وزير أبيه شرف الفائزي، وقام بتدبير ملكه الآمر علم الدين سنجر الحلبي، فحدثته نفسه بالوثوب على الآمر فقبض عليه الأمير قطز المعزي الأيبكي، ووقع في أيامه حروب كثيرة مع المماليك الصالحية.
ثم قدم في أيامه هولاكو ملك التتار إلى بغداد وقتل الخليفة المستعصم، ثم ملك هولاكو حلب والشام، وقصد مصر، فلما بلغ الأمير قطز ذلك وكان قد استفحل أمره في الديار المصرية كلموه في السلطنة، والقيام بملاقاة التتار، فجمع القضاة وأعيان الدولة فأجمع رأي الجميع على خلع الملك المنصور من السلطنة لصغر سنه؛ لعدم دفعه للعدو المخذول، فخلع، وتسلطن قطز، وبقي الملك المنصور معتقلاً إلى أن مات، وكانت مدته سنتين، وسبعة أشهر واثنين وعشرين يوماً، كان كثير اللهو فاستولى عليه أكابر الدولة وحبسوه، كما تقدم.
ثم تولى
الملك المظفر سيف الدين قطز
بويع عام سبع وخمسين وستمائة وهو بمصر المحروسة، وله ولاية الشام، وحلب، وجميع ما كان لمخدومه.
فلما وصل الخبر بأن التتار وصلوا دمشق - مع استمرارهم على قتل المسلمين وتعطيل شعائر الدين - تجهز الملك المظفر المذكور في جيوش عظيمة، ومقدمها الظاهر بيبرس، فالتقى الجمعان عند عين جالوت يوم الجمعة خامس عشر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة وانتصر المسلمون، وهزم التتار، وقتلوا شر قتلة، ثم ولوا الأدبار والناس يتخطفونهم، ثم جاء كتاب الملك المظفر إلى دمشق بالنصر، طار الناس فرحاً، ثم دخل المظفر إليها مؤيداً منصوراً، وأحبه الناس غاية المحبة فمهد أمورها وأصلح ما فسد من شأنها.
وهو أول من ملك البلاد الشامية من ملوك الترك بديار مصر؛ لأن الشام جميعه في تصرف الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وغيره من بني أيوب من بعده، واتبع بيبرس آثار التتار حتى أخرجهم من حلب وطردهم عن البلاد.
ثم وقعت الوحشة بينه وبين بيبرس؛ لأنه وعده ولاية حلب ثم أخلفه، فاتفق أن المظفر قطز لما عاد إلى مصر صار إلى التصيد فرأى أرنباً فساق خلف الأرنب، وساق وراءه جماعة من الأمراء قد اتفقوا على قتله، وكبيرهم بيبرس البندقداري ومعه آبض.
فلما دنوا منه - ولم يبق عند قطز غيرهم - تقدم إليه بيبرس وشفع عنده شفاعة فقبلها المظفر، فأهوى بيبرس على يده ليقبلها فقبض عليه وحمل عليه آبض فضربه بالسيف، ثم حملوا عليه وقَتلوه وتركوه ميتاً، وساقوا وهم شاهرون سيوفهم إلى أن وصلوا إلى الدهليز السلطاني بمنزله في الصالحية، فجلس بيبرس على مرتبة السلطنة وتم أمره.
وكان قتل المظفر يوم السبت سادس ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة، فكانت مدته سنة واحدة إلا يوماً وقيل إلا عشرة.
ثم تولى
الملك الظاهر بيبرس
البندقداري الصالحي التركي النجمي، ركن الدين أبو الفتوح: تسلطن بعد قتل الملك المظفر، وأصله تركي الجنس، أخذ من بلاده وبيع بدمشق للعماد الصائغ ثم اشتراه منه علاء الدين أيدكين البندقداري.
ثم لما صادر الملك الصالح علاء الدين أيدكين أخذ بيبرس هذا في جملة من أخذ وجعله من مماليكه البحرية، وما زال يترقى والقدر يسعفه إلى أن صار أستاذه أيدكين من جملة أمرائه.
وهو الذي استحدث بمصر القضاة الأربعة، وهو صاحب الفتوحات الكثيرة، والهمم العلية، والأخلاق الرضية.(2/291)
ومن أثر خيراته إنشاء المدرسة التي بين القصرين تجاه البيمارستان، والجامع الذي بالحسينية.
وفي أيامه أقيمت الخلافة العباسية بمصر، بعد قتل المستعصم كما تقدم ذلك، فأقام في السلطنة سبع عشرة سنة وشهرين ونصفاً.
ومات في القصرين بدمشق سنة ست وسبعين - بتقديم السين - وستمائة.
ثم تولى ابنه
الملك السعيد ناصر الدين
محمد بركة خان ابن الملك الظاهر بيبرس.
دعي ببركة خان على اسم جده لأمه بركة خان، ملك التتار ابن دولة خان الخوارزمي.
تسلطن في حياة أبيه بيبرس صورة في يوم الخميس تاسع صفر سنة سبع وستين ستمائة إلى أن استبد بالأمر بعد موت أبيه، واستمر إلى أن خرج عليه جماعة من الأمراء، وكبيرهم حموه الأمير سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي وخلعوه من الملك وسلطنوا أخاه سلامش بن الملك الظاهر.
وكانت مدة الملك السعيد من يوم موت أبيه سنتين وشهرين ونصفاً.
وأعطى الكرك بعد أن خلع، فتوجه إليها وأقام بها إلى أن مات يوم الجمعة خامس عشر ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وستمائة.
ثم تولى
الملك سلامش بن بيبرس
الملك العادل سيف الدين.
تسلطن بعد أخيه، وهو ابن سبع سنين ونصف، وصار أتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي، فخلع به في شهر رجب سنة ثمان وسبعين وستمائة، وكانت مدته مائة يوم، وليس له إلا مجرد الاسم.
ثم تولى
الملك المنصور قلاوون الألفي
الملك المنصور سيف الدين.
تسلطن بعد خلع سلامش، وأصله من مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب، اشتراه سنة سبع وأربعين وستمائة، وترقى بعد موت أستافه الصالح، وعظم بدولة الظاهر بيبرس إلى أن صار يخطب له مع السلطان العادل سلامش المذكور، وضربت السكة على وجه باسم سلامش، وعلى الوجه الآخر باسم قلاوون، وأمسك جماعة من الأمراء الظاهرية، واستعمل مماليكه على البلاد وأمرهم. وله همة عظيمة.
ومن مناقبه أن عدة مماليكه بلغت اثني عشر ألفاً، وأن ملك مصر دام من بعده في ذريته ونسله ثم في يد مماليكهم، إلى أن انقضت دولة الأتراك، وجاءت دولة الأروام وكان أجل ملوك الترك، وهو الذي بنى بمصر البيمارستان بين القصرين والقبة التي دفن فيها، وله فتوحات بساحل البحر الرومي، منها: طرابلس وبيروت وصيداء وغير ذلك، وكانت مدة سلطنته إحدى عشرة سنة وشهرين ونصفاً، وتوفي سنة تسع وثمانين وستمائة.
ثم تولى الأشرف
صلاح الدين خليل بن قلاوون
تسلطن بعد موت أبيه، واستمر إلى أن خرج من القاهرة في أوائل المحرم سنة ثلاث وتسعين وستمائة. وتوجه إلى البحيرة للصيد، فلما كان بتروجة يوم السبت ثاني عشر محرم الحرام وقت العصر حضر إليه نائب السلطنة الأمير بيدار ومعه جماعة من الأمراء، وكان الأشرف قد أمره بكرة النهار أن يمضي بالدهليز والعساكر إلى جهة القاهرة، وبقي الأشرف وأمير شكار يتصيدان، فأحاطوا به وليس معه إلا شهاب الدين بن الأشهل أمير شكار المذكور، فابتدر الأشرف بيدار وضربه بالسيف فقطع يديه، ثم ضربه حسام الدين لاجين على كتفه فحلها، فصاح لاجين على بيدار: من يريد الملك تكون هذي ضربته؟! فسقط الأشرف عن فرسه ولم يكن معه سيف بل كان في وسطه بند مشدود، ثم جاء الأمير بهادر رأس نوبة فأدخل السيف من أسفله وشق به إلى حلقه وتركه طريحاً في البرية، واتفقوا على بيدار وحلفوا له ومشوا تحت العصائب السلطانية يريدون القاهرة ولقبوه بالملك الأوحد، وبات تلك ليلة وأصبح يسير إلى القاهرة، فلما ارتفع النهار إذا بجمع عظيم قد أقبل فيه الأمير كتبغا المنصوري، والأمير حسام الدين الأستادار، وغيرهما، يطلبون بيدار بدم أستاذهم الأشرف خليل، فالتقوا فانكسر بيدار وقتل، وحملت الأشرفية رأسه على رمح، وعادوا إلى القاهرة، واتفقوا على سلطنة أخيه محمد بن قلاوون، فكانت مدته؛ ثلاث سنين وشهرين، وقتل سنة ثلاث وتسعين وستمائة.
ثم تولى
الملك الناصر محمد
أخو الأشرف المذكور.(2/292)
بويع بعد قتل أخيه في العام المذكور، وعمره تسع سنين، وهذه سلطنته الأولى، واستقر نائبه في السلطنة الأمير كتبغا المنصوري، وفي الوزارة علم الدين سنجر الشجاعي مضافاً للأستدارية وتدبير الدولة، ثم قبض الناصر على جماعة من الأتراك الذين اتفقوا على قتل أخيه، ثم أمسكه كتبغا الشجاعي لما بلغه أنه يريد الفتك به ولقتله بعض أصحاب كتبغا المنصوري صبراً، واستبد كتبغا بأمر المملكة لصغر سن الناصر، ثم بدا له أن يخلعه ويتسلطن عوضه، فاتفق مع أكابر الأمراء على ذلك فوافقوه، وخلعوا الناصر في الحادي والعشرين من المحرم سنة أربع وتسعين و ستمائة، وسلطنوا:
كتبغا
ولقبوه بالعادل. وكانت مدة الناصر هذه الأولى نحو السنة. ثم جهز كتبغا الناصر إلى الكرك بعد أن قال له: لو علمت أنهم: يُخلون لك الملك والله لتركته، ولكنهم لا يخلونه لك، وأنا مملوكك، ومملوك والدك أحفظ لك الملك، وأنت الآن تروح إلى الكرك إلى أن تترعرع وتجرب الأمور فتعود إلى ملكك، بشرط أنك تعطيني دمشق أكون بها مثل صاحب حماه، فوافقه على ذلك، فأقام كتبغا سنتين، ثم هرب إلى الشام سنة ست وتسعين وستمائة.
ثم تولى
الملك المنصور حسام الدين لاجين
الذي كان نائباً عن كتبغا، فأقام سنتين وشهراً ونصفاً، وقتل في القلعة سنة ثمان وتسعين وستمائة.
ثم عاد
الملك الناصر محمد بن قلاوون
إلى السلطنة ثانياً، وفيه يقول الوداعي: من السريع:
أَلمَلِك الناصِرُ قَد أَقبَلَت ... دَوْلَتُهُ مُشرِقَةَ الشَمسِ
عادَ إِلئ كُرسِيهِ مِثل مَا ... عَادَ سُلَيمَانُ إِلى الكُرْسِي
واستمر إلى أن تجهز لقتال التتار، فانكسر فرجع إلى مصر، ثم تجهز للقائهم أيضاً فكسرهم وهزمهم، ونصر الله الإسلام وأهله، ثم عاد إلى مصر فتنكر عليه صاحب سلال وأستاداره بيبرس الجاشنكير، ودام ذلك التكدر بينهم إلى أن أظهر في رمضان سنة ثمان وسبعمائة التوجُّه إلى الحجاز، وخرج من القاهرة، وتوجه إلى الكرك متبرماً منهما، وأعرض عن ملك مصر، فروجع في ذلك فأبى، فكانت مدته عشرين سنة، فاتفق الأمراء على سلطنة بيبرس الجاشنكير وسلطنوه، فتسلطن:
بيبرس الجاشنكير
ولقبوه بالملك المظفر. تسلطن عام ثمان وسبعمائة بعد خلع الناصر محمد بن قلاوون، وعيب به في الإرسال إلى الكرك، وتطلب الأموال منه، حتى إن الناصر تأدب معه في المكاتبات وكتب له الملك المظفر وهو لم يرجع عنه، فلما زاد عليه تحرك عليه، وكانت مماليك أبيه النواب بالديار الشامية كلهم معه - ما عدا الأفرم فإنه كان من أعوان الجاشنكير - فأجابوه بالسمع والطاعة، فتوجه إلى الجاشنكير المذكور فجبن عن لقائه لتغير مماليكه وجماعته عليه، ثم تسحب من قلعة الجبل والعامة من خلفه تؤذيه وتريد به شراً حتى شغلهم بنثر الذهب عليهم، وتوجه هارباً إلى الصعيد واستولى الناصر على البلد، ثم احتال على قبضه وإحضاره فخنقه بالوتر ثم أطلقه وسمه، ثم خنقه ثانياً هكذا، إلى أن مات في شوال سنة تسع وسبعمائة، فكانت مدة دولته سنة، وفي ذلك يقول بعضهم: من الوافر:
تَثَنى عطْفُ مصر حِينَ وافى ... قدومُ الناصر المَلِكِ الخَبِيرِ
فَذَل الجَشنَكِير بِلاَ لِقَاءٍ ... وأَصْبَحَ وَهْوَ ذُو جَأشٍ نَكِيرِ
إذا لَم تئضد الأقدار شَخصاً ... فأوَلُ ماً يُرَاعُ مِنَ النَصِيرِ
وهو الذي بنى البيبرسية بالدرب الأصفر.
وهذه هي المرة الثالثة لعود السلطان الناصر محمد إلى الملك، فدام في السلطنة ثلاثة وثلاثين عاماً بعد بيبرس المذكور، وعظم أمره جداً وعمر العمائر الهائلة، حتى إنه صار أجل سلاطين مصر من جميع الوجوه، واستمر إلى أن مات يوم الأربعاء عشري ذي الحجة الحرام سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وتسلطن من ولده لصلبه ثمانية نفر، وكانت مدة ولايته في المرات الثلاث أربعاً وأربعين سنة وخمسة عشر يوماً.
ثم تولى الأشرف
علي كجك بن محمد الناصر بن قلاوون(2/293)
تسلطن بعد قتل أخيه، وكان قوصون إذا حضرت العلامة يأخذ القلم بيده، ويجعله في يد الأشرف حتى يعلم على المناشير، واضطربت الأحوال ووقع التعصب على قوصون في الخاصة والعامة؛ لقبح سيرته معهم، فقتلوه ونهبوا داره وخلعوا كجك في يوم الإثنين عاشر شوال سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة بأخيه أحمد ابن الناصر محمد بن قلاوون، وحبس كجك بقلعة الجبل إلى أن مات في سلطنة أخيه الآخر، وهو الملك الكامل سنة ست وأربعين وسبعمائة.
ثم تولى
الملك الناصر أحمد بن قلاوون
تسلطن بعد خلع أخيه كجك، واستمر إلى أن اختار ترك ملك مصر، وعاد إلى الكرك وأخذ الأموال والذخائر بعد أن ظلم وتعسف، فطلبوه للملك مراراً وهو ممتنع متعذر، وترد أجوبته بخط كاتب نصراني كان مقرباً عنده، فخلعوه بأخيه الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون، وأجلس على تخت الملك يوم الخميس ثاني عشر محرم الحرام سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة فكانت مدته دون الأربعة أشهر، فجهز إليه أخوه الملك الصالح الجيوش مرة بعد أخرى، وحاصره بالكرك فلم يقدر الناصر أحمد على مقاومة الناصر إلى أن تلاشى أمر الناصر وهلك أهل الكرك من الجوع، وهو مع ذلك لا يمل ولا يكل من القتال والحصار، إلى أن قبض عليه يوم الإثنين وقت الظهر ثاني عشر صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وكتب بذلك إلى أخيه، فأرسل الملك منجك اليوسفي فحز رأسه، وتوجه به إليه إلى القاهرة.
ثم تولى الملك الصالح
إسماعيل المذكور ابن محمد قلاوون
تسلطن بعد توجه أخيه إلى الكرك، واستمر إلى أن مات في العشرين من ربيع الأول سنة ست وأربعين وسبعمائة، وكانت مدته ثلاث سنين وشهراً وثمانية عشر يوماً ورثاه الصفدي بقوله: من الطويل:
مَضَى الصالحُ المَرجو للبأسِ والندَى ... وَمَن لَم يَزَل يَلقَى المُنَى بالمَنَائِحِ
فَيا لَك مِصر كَيف حَالُكِ بَعدَهُ ... إذا نَحنُ أَثنَيناً عَلَيك بصَالِحِ؟!
ثم تولى الملك الكامل
شعبان بن محمد بن قلاوون
تسلطن بعد موت أخيه الملك الصالح بعهد منه إليه بعد اختلاف من الأمراء في إقامته وإقامة أخيه حاجي، فاتفقوا عليه، وقال الأمير نائب السلطنة: بشرط أن لا يلعب بالحمام، فنقم عليه شعبان بعد أن تسلطن، وأخرجه إلى نيابة صفد، وكان جلوس الملك الكامل على سرير الملك يوم الخميس ثاني شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة، فقال فيه ابن نباتة المصري: من مخلع البسيط:
شَعبَانُ سُلطَانُناً المُرَجى ... مُبَارَكُ الطالِعِ البَدِيعِ
ياً بَهْجَةَ الدهرِ إذ تَبَدى ... هِلاَلُ شَعبَانَ في رَبِيعِ
واستمر إلى أن خلعه الأمراء يوم الإثنين مستهل جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبعمائة بأخيه حاجي، فكانت مدته سنة واحدة وسبعة عشر يوماً.
قال الصفدي: حكى لي سيف الدين عاود بن أرغون شاه قال: مَدَدنا السماط على أن يأكل الملك الكامل: وجهزنا طعام حاجي إليه في السجن، فخرج حاجي وكل على السماط ودخل الكامل السجن، وأكل الطعام الذي كان لحاجي، وقلت في واقعته: من السريع:
بيتُ قَلاَوُون مُعَادَاتُهُ ... في عاجِلِ كانَتْ بلا آجلِ
حل عَلَى أَمْلاَكِهِ للردى ... دَينْ قَدِ اسْتَوفَاهُ بالكَامِلِ
وقتل الكامل يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة من السنة المذكورة.
ثم تولى
حاجي(2/294)
ويقال: أمير الحاج ولقب بالملك المظفر. تسلطن بعد خلع أخيه الملك الكامل كما تقدم، واستمر إلى أن وقع بينه وبين الأمراء أشد المنافرة، وتفرقت عنه قلوب الناس، فخرج الأمراء بمن معهم إلى قبة النصر، فركب المظفر ومن معه إليهم، فتفرق عنه أصحابه، فالتقاهم هو بنفسه فطعنه أمير يلبغا أمير مجلس فطرحه عن فرسه، وضربه الأمير طال برقه بالطبر من خلفه فجرح وجهه وأصابعه، ثم ربطوه وأحضروه إلى الأمير أرقطاي النائب ليقتله، فلما رآه نزل عن فرسه ورمى عليه قباءه وقال: أعوذ بالله، هذا سلطان ابن سلطان ما أقتله، خذوه إلى القلعة، فأدخلوه إلى تربة هناك وقضى الله أمره فيه، وذلك في ثاني عشر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وكانت مدته سنة وثمانية أشهر واثني عشر يوماً، وكان أكبر أسباب عزله لعبه بالحمام، فقال الصفدي رحمه الله تعالى في ذلك: من الخفيف:
أيهاً العَالِمُ اللبِيبُ تَفَكر ... في المَلِيكِ المُظَفرِ الضرغَام
كمَ تَمادَى فِي البغي والغي حَتى ... كَانَ لعبُ الحَمَامِ جِد الحِمَامِ
ثم تولى السلطان حسن بن محمد بن قلاوون من أولاد الناصر محمد بن قلاوون:
تسلطن بعد أخيه قبله، وكان اسمه قمارى، فلما جلس على سرير الملك سماه النائب قمارى، فقال له السلطان: يا عم ما اسمي إلا حسن، ما أنا مملوك، فقال النائب: المرسوم مرسومك يا خوند. واستمر في الملك إلى سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، فوقعت بينه وبين الأمير طاز الناصري وحشة، فقام طاز في خلعه وسلطنة أخيه صالح فتم له ذلك، فَأُخِذَ السلطان حسن، وحبس بالدور من قلعة الجبل بعد أن خلع نفسه، وذلك في أوائل رجب من سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، وكانت مدته ثلاث سنين وتسعة أشهر.
ثم تولى
الملك الصالح صالح بن محمد بن قلاوون
تسلطن بعد أخيه حسن، وصار مدبر مملكته الأمير إن طاز، وليس للصالح فيها إلا الاسم فقط، إلى أن أخرج طاز الأمير شيخو اللال العمري الناصري من سجن الإسكندرية فبقي أمر المملكة إلى ثلاثة: شيخو أتابك العساكر، وهو أول من سمي بالأمير الكبير، ولبس لها خلعة فصارت الأتابكية وظيفة من يومئذ، والأمير طاز أمير مجلس، والأمير صرغتمش رأس نوبة النوب، ونائب السلطنة إذ ذاك الأمير صلاي. واستمر الصالح إلى أن خلعه شيخو من السلطنة وأعاد حسن في يوم الإثنين ثاني شوال سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فكانت مدة الصالح ثلاث سنين وثلاثة أشهر، واحتفظ عليه بداره إلى أن توفي في ذي الحجة الحرام سنة إحدى وستين وسبعمائة.
وتولى أمر السلطان حسن وعظم شأنه إلى أن وقع بينه وبين غلامه مملوك يلبغا العمري، فتحاربا فانكسر حسن إلى القلعة، فتبعه يلبغا فهيأ السلطان مماليكه للقتال فلم يجد لهم خيلاً لأن الخيل كانت في الربيع، فَتَزَيا بغير زيه وهرب، فعرف وقبض عليه ولم يعلم ما وقع له، وكانت مدته هذه الثانية ست سنين وسبعة أشهر.
والسلطان حسن هذا هو الذي بنى المدرسة التي بالرميلة بمصر، وهي من أحسن المدارس عالية البناء واسعة الفناء، ثم عمر لها عمارة بأربعة رؤوس، وقد وصفها المؤرخون وصفاً عجيباً.
وقصة السلطان حسن مع الشيخ العلامة قوام الدين الأتقاني حين قال له السلطان: ما الفرق بينك وبين الحمار؟ فأجاب بقوله: هذه الوسادة، وقد كانت بينهما.
وفي أيام السلطان حسن بنى شيخو جامعه، وخانقاءه، وبنى صرغتمش مدرسة، وقرر الشيخ قوام الدين في تدريسها، وكانت مدة تصرف السلطان حسن أولاً وثانياً عشر سنين وأربعة أشهر، ثم قتل بيد مملوكه يلبغا سنة اثنتين وستين وسبعمائة.
ثم تولى
محمد ابن الملك المظفر حاجي
ويقال: أمير الحاج بن محمد بن قلاوون وتلقب بالملك المنصور، بويع بعد قتل عمه حسن في العام المذكور، فأقام سنتين وخمسة أشهر، ثم خلع فأقام بالقلعة محبوساً إلى أن مات سنة أربع وستين وسبعمائة.
ثم تولى الملك شعبان بن حسن بن محمد بن قلاوون:(2/295)
ولقب بالملك الأشرف بعد ابن عمه قبله، إلا أن الأمور كلها بيد يلبغا، وشاركه في ذلك طنبغا الطويل: فما زال يلبغا وطنبغا حتى ظفر به وقبض عليه وظلم، فاتفق المماليك على قتله ففر، فاشتجاشوا بالسلطان شعبان عليه فوافقهم ونزل إلى بولاق وسلطن يلبغا أيزك بن حسن أخا شعبان فلم يتم له ذلك، ثم انهزم يلبغا فقتل، فأقام شعبان في الأتابكية بعده استدمر، وخلع عليه فأراد استدمر أن يحذو حذو يلبغا في مشاركه السلطنة بعد أن سكن بالكبش فلم يوافقه شعبان على شيء من ذلك، فأراد استدمر خلع شعبان وركب عليه، فانكسر استدمر ومسك وحبس، وفي ذلك يقول ابن العطار الشاعر: من البسيط:
هِلاَلُ شَعبَانَ جَهراً لاَحَ فِي صَفَرِ ... بالنصرِ حَتَى أَرَى عِيداً لشَعْبَانِ
وأَهلُ كَبشٍ كَأَهلِ الفِيلِ قَد أُخِذُوا ... رَجماً وماً انْتَطَحَت في الكَبْشِ عنزانِ
واستمر شعبان عظيم الشوكة إلى أن توجه للحج سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، وأقام جماعة في تدبير المملكة فاختلفوا عليه، وخلعوه في غيبته، وسلطنوا ولده علياً وزعموا أن شعبان بالعقبة، وصادف قولهم هذا أن الأمراء الذين معه خرجوا عليه بعقبة أيلة، وانهزم معهم وعاد إلى القاهرة واختفى في تربة عند قبة النصر، فبلغ الأمراء الذين عصوه فأمسكوا غلاماً كان معه وضربوه فأقر، فتوجهوا إليه وقتلوه، وقتلوا من معه من الأمراء، وكان قتله ليلة الثلاثاء خامس ذي القعدة سنة سبع وسبعين وسبعمائة.
قلت: ومن خيراته بناء منارة الحزورة، كما ذكره القطب وغيره، والعمود المنقور عليه اسمه كان قريباً منها.
فلما وقع الحريق بالمسجد - وعمر ذلك الجانب فرج بن برقوق ثاني ملوك الشراكسة - نقل لا عن قصد، ووضع تحت منارة باب بني سهم المعروف بباب العمرة، فيظن الرائي ذلك التاريخ في العمود أن الإشارة فيه إليها لقرب مكانه منها، وانما هو لمنارة الحزورة وهي مؤرخة بعام اثنين وسبعين وسبعمائة.
وفي سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة أحدثت العلامة الشطفة الخضراء على عمائم الشرفاء ليتميزوا بها، وكان ذلك بأمر هذا السلطان شعبان بن حسن بن الناصر محمد ابن قلاوون المذكور، فقال في ذلك العلامة أبو عبد الله بن جابر الضرير النحوي صاحب شرح الألفية المشهور بالأعمى والبصير رحمه الله تعالى: من الكامل:
جَعَلوا لأَبْنَاءِ النبِي عَلاَمَةً ... إن العَلاَمَةَ شَأنُ مَن لَم يشهَر
نُورُ النبُوَّةِ فِي كَرِيم وُجُوهِهِمْ ... يُغنِي الشرِيفَ عَنِ الطرَازِ الأَخْضَرِ
وفي هذه السنة كان ابتداء خروج الطاغية تيمورلنك، الذي خرب البلاد وأباد العباد، فكان تاريخ خروجه عذاب وذلك سنة 773، واستمر يعثو في الأرض بالفساد إلى أن أهلكه الله في ليلة الأربعاء سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانمائة، وسيأتي ذكره عند ذكر ملوك آل عثمان في الباب السابع إن شاء الله تعالى.
ثم تولى بعده ولده علي بن الأشرف شعبان وتلقب بالملك المنصور في عام السبع والسبعين والسبعمائة المذكور:
تسلطن بعد والده وهو ابن سبع سنين، واستمر إلى أن مات في يوم الأحد ثالث عشر صفر سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة، وكانت مدته خمسة أعوامّ وخمسة أشهر وله من العمر ثلاثة عشر عاماً.
ثم تولى أخوه حاجي بن شعبان الأشرف:(2/296)
وتلقب بالملك الصالح بعد موته في عام ثلاث وثمانين، فدام سلطانه عاماً كاملاً وأشهراً، وكان سنه ست سنين والكلام لبرقوق، ثم خلعه برقوق بعد إلزام له من الأمراء لما وقع من الفتن، وتسلطن برقوق يوم الأربعاء تاسع عشر رمضان سنة أربع وثمانين، ثم إن برقوقاً جعل حاجي بن الأشرف شعبان بعد خلعه في قلعة الجبل كما هي عادة أولاد السلاطين، فاستمر إلى سنة خمس وثمانين، فثار على برقوق يلبغا الناصري فخلعه، وأعاد حاجي إلى الملك، فتسلطن ثانياًْ، واستمر إلى أن حف به منطاش، واستعان به على حرب برقوق بعد أن أطلق من حبس الكرك، فتوجه حاجي معه لقتال برقوق، فانتصر عليهما ومعهما الخليفة العباسي، فقتل منطاش، وأمسك حاجي إلى أن دخل به إلى القلعة بمصر، وفرش له الحرير ليمشي عليه فعزل نفسه، ثم جعله بداره بقلعة الجبل مبجلاً إلى أن مات في ليلة الأربعاء تاسع عشر شوال سنة أربع عشرة وثمانمائة، فكانت مدته الثانية هذه سبعة أعوام ونحو ستة عشريوماً.
وبعزل الصالح نفسه كما ذكر انقضت الدولة التركية، وأقبلت الدولة الشركسية وكانت مدتهم مائة وأربعاً وثلاثين سنة، وعدة ملوكهم خمسة وعشرين ملكاً، والملك لله الذي لا يزول ملكه ولا يتحول.
الباب السادس
في ذكر الدولة الشركسية
بمصر والشام وأعمالهما
اعلم أن الشراكسة جنس من الترك في جتوب الأرض لهم مدائن عامرة، ولهم جمال ومزارع يرعون ويزرعون، وهم تابعون لسلطان سراي قاعدة ملك خوارزم، وملوك هذه الطوائف لملك صراي كالرعية يقاتلونهم، ويسبون منهم النساء والأولاد ويجلبونهم إلى أطراف البلاد والأقاليم، وكان الملك المنصور قلاورن الذي هو من ملوك الأتراك صاحب مصر قد استكثر من شراء المماليك الشركسية وكذلك أولاده وأولادهم، وأدخلوهم في الخدم الخاصة وصاروا صلحدارية وجمدارية وجاشنكيرية، وكبروا عمائهم وسلكوا طرائق أستاذيهم ملوك الترك وأدخلوا السلطنة وغلبوا عليها واستكثروا من جنسهم وعملوا قواعد انتظمت بها دولتهم وولي منهم ومن أولادهم السلطنة بمصر اثنان وعشرون ملكاً.
وكان ابتداء ملكهم سنة أربع وثمانين وسبعمائة، ومدة ملكهم مائة وثمانية وثلاثون سنة. فأولهم:
السلطان الملك الظاهر
سيف الدين أبو سعيد برقوق
بن آنص العثماني. كذا ذكره المقريزي في خططه:
قام بدولة الشركسة، جلبه عثمان بن مسافر فلذلك يقال له: برقوق العثماني، فاشتراه الأتابك يلبغا العمري، وهو من جملة الأتراك الذين مسهم الرق مماليك بني أيوب، وإنما سمى برقوق؛ لجحوظ في عينيه، وتقلبت به الأحوال إلى أن صار أمير مائة مقدم ألف، وكان أتابكاً للملك الصالح حاجي بن الأشرف شعبان بن حسن بن الناصر بن محمد قلاوون، وهو الرابع والعشرون من ملوك الأتراك مماليك الأيوبية المتغلبين عليهم، وكان إذ ذاك سن الملك الصالح حاجي لما ولي السلطنة عشرة أعوام، وليس له من السلطنة إلا الاسم، فألزم الأمراء برقوق بخلع الملك الصالح حاجي وبتوليته السلطنة بدله، فخلع بعد سنة ونصف كما تقدم، وذلك يوم الأربعاء تاسع عشر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة.
وكان برقوق متمكناً من المملكة جمع الأموال والخزائن، واشترى المماليك الشركسية، فتمكنت من الملك، وتلاعبت بعده المماليك الشركسية بملك مصر، وصاروا ملوكها وسلاطينها بالقوة والغلب والاستيلاء، وكانت تقع بينهم فتن وجدال وجلاد، وقتل نفوس، وحرب بسوس، وخوف وبؤس، إلى أن يستقر الأمر لواحد منهم فيركب في شعار السلطنة.
وكان من شعار سلاطينهم عمامة كبيرة ملفوفة مكلفة يجعلون في مقدمها ويمينها ويسارها شكل ستة قرون بارزة من نفس العمامة ملفوفة من نفس الشاش، يلبسها السلطان في موكبه وديوانه وذلك عرف لهم، والعرف يحسن ويقبح، ويلبس قفطاناً يكون على كتفه قطعة طراز مزركش بالذهب ومثله على كتفه الأيسر.
ويلبسه الأمراء أيضاً، فليس مخصوصاً بالسلطان، ويخلع بمثل هذا القفطان على من أراد، وتحمل على رأس السلطان قبة صغيرة لطيفة كالجسر في وسطها صوره طير صغير يظلل السلطان بتلك القبة، والذي يحملها على رأس السلطان هو أمير كبير وظيفته أن يصير سلطاناً بعد ذلك.(2/297)
وأكابر أمرائه أربعة وعشرون أميراً بطبلخانة تضرب على أبوابهم صبحاً وعصراً كل واحد منهم أمير بابه مقدم ألف بمنزلة البيكلاربيكية عندهم، ودونهم أمير عشرة مقدم مائة بمنزلة السنجق، كل واحد منهم عمامته بقرنين فقط، ودونهم الخاصكية يكون له فرس، وخادم، وعلى رأسه زنط عليه عمامة بعذبة يديرها تحت حنكه، ودونهم - وهم المشاة - على رووسهم طواقٍ من جوخ أحمر ضيق مدخله واسع آخره لاطىء برأسه، وملبوسُ أكثرِهم اللطةُ البيضاء المصقولة يكون على كتفيه طرازان من مخمل وأطلس مزركش، وفي أوساطهم شدود بيض مصقولة يشدونها ويسدلونها، ويسدلون أطرافها إلى أنصاف سوقهم، وكأن خيال السلطنة في دماغ كل واحد منهم من حين يُجلب إلى السوق إلى أن يموت.
حتى إن واحداً منهم جلب، وهو حقير فاحش القرعة فاحش العرَج، قال للدلال الذي يبيعه: هل اتفق تولي الأقرع الأعرج سلطاناً في مصر. وبالجملة فقد كانت لهم سماحة وحماسة وصداقة لمن صادقوه، وكانت أرزاق مصر بأيديهم، وأهل مصر تتلاعب بهم فيما بيدهم من الأرزاق.
ثم لما تسلطن برقوق استمر سلطاناً، وأنشأ المدرسة التي بمصر بين القصرين، كان مشد عمارتها شركس الخليلي، فقيل في ذلك العمل: من البسيط:
قَذ أَتشاً الظاهِرُ السلطَان مَدرَسَة ... فَاقَتْ عَلَى إِرَم فِي سُرعَةِ العَمَلِ
يَكفِي الخَلِيلَ بِأَن جَاءَتْ لخدمَته ... صم الجِبَالِ لَها تَمشي عَلَى عَجَلِ
فأقام سلطاناً إلى أن اختلف عليه الأمراء، فخرج عليه تمربغا الأفضلي ويلبغا العمري فجهَّز عليهما عساكر فكسر، وقوى أمرهما وملكا مصر، فإن برقوقاً عجز عن النهوض وقبض عليه، فأخرج حاجي من دور القلعة وأعيد إلى السلطنة، وحبس برقوق بالكرك ثم تسحب من الحبس، وجمع الجيوش، وقاتل وغلب على المملكة، وأعيد إلى السلطنة، وصار يتتبع أعداءه ومن خرج عليه، ويقدم من وافقه وحالفه إلى أن اصطفاهم وما صفا له الزمان، وظن أنه من وأين الأمان، وبرق برق الزيال على برقوق وشاهد الانفصال، فعهد بالسلطنة إلى ولده الناصر فرج، وتوفي إلى رحمة الله تعالى ليلة الجمعة وقت التسبيح منتصف شوال سنة واحد وثمانمائة، وفي ذلك يقول أحمد المقري رحمه الله تعالى: من الطويل:
مَضَى الظاهِرُ السلطَانُ أَكرَمُ مَالِكِ ... إِلَى رَبهِ يَرقَى إِلَى الخُلدِ فِي الدَرَج
وقَالُوا سَتَأتي شِدَة بَعدَ مَوْتِهِ ... فَأَكذَبَهمْ رَبي وَماً جاً سِوَى فَرَجْ
وخفف برقوق من الذهب العين الذي ألف دينار وأربعمائة ألف دينار، ومن الخيل المسومة والبغال الفارهة ستة آلاف، ومن الجمال خمسة آلاف، وكان عليق دوابه كل شهر أحد عشر ألف أردب شعير وفول، وكانت مدة تصرفه ست عشرة سنة وأربعة أشهر.
ثم تولى ابنه الملك الناصر:
أبو السعادات فرج بن برقوق عند وفاة أبيه كما تقدم، صبيحة يوم الجمعة منتصف شوال سنة ثمانمائة وواحدة، وصار الأمير أيتمش مدبر مملكته، والأمير يشبك خازنداره، فوقعت بينهما منافرات أدت إلى مشاجرة، ثم إلى قتال، فانكسر أيتمش، فهرب إلى نائب الشام وجيش جيوشاً على الناصر ويشبك، فخرج الناصر لقتالهم فهزمهم، واضطربت أحوال مصر؛ لاختلاف الكلمة.
ثم وصل تيمورلنك إلى بلاد الشام، وأخذها من سردون الظاهري، فخرج إليه الناصر فرج فوجده قد توجه إلى بلاد الروم، فأعطى الشام لتغري بردي، وعاد إلى مصر سنة ثلاث وثمانمائة.
ومن خيرات فرج: تعميره المسجد الحرام من الحريق الواقع به ليلة السبت لليلتين بقيتا من شوال سنة ثمانمائة واثتتين، وسببه ظهور نار من رباط راشت الملاصق لباب الحزورة من أبواب المسجد في الجانب الغربي منه، وراشت هو الشيخ أبو القاسم إبراهيم بن الحسين الفارسي، وقف هذا الرباط على الرجال الصوفية أصحاب المرقعات في سنة 529 خمسمائة وتسع وعشرين، فوشت النار من سراج تركه في الخلوة، فاحترق ما في الخلوة وعلق الحريق من شباك الخلوة إلى سقف المسجد فاشتعل سقف المسجد، وعجزوا عن إطفائه، لارتفاع السقف فاحترقت الأروقة من ابتداء الحريق إلى باب العجلة، فأرسل فرج الأمير بيسق سنة ثمانمائة وثلاث إلى مكة، وكان هو أمير الحاج المصري، فعمر المسجد الحرام في مدة يسيرة، وكملت في أواخر شعبان سنة أربع وثمانمائة.(2/298)
ومن جملة خيراته: أنه لما رأى رباط راشت وما آل إليه بعد الحريق من الخراب حتى صار سباطة بذلك المحل، أمر بإعادته رباطاً كما كان، وصرف عليه من ماله إلى أن عاد أحسن من الأول، ويسمى هذا الرباط الآن رباط الخاص، سببه أنه استأجره وعمره بعد تهدمه في أواسط القرن العاشر، والخاص من طائفة المباشرين في ديوان السلطان بمصر من خدمة السلطان جقمق العلائي ومن بعده، وكان هذا بيسق الأمير من أهل الخير رحمه الله.
ثم كثرت الفتن بمصر من الأمراء الظاهرية على فرج، إلى أن ضجر من ذلك وهرب من القلعة بعد العشاء ليلة الإثنين سادس ربيع الأول سنة ثمان وثمانمائة، فاختفى عند سعد الدين بن عرب أحد رؤوس المباشرين فأخفاه عنده، فأصبح الأمراء فاقديه، فأقاموا في السلطنة أخاه الملك المنصور عبد العزيز بن برقوق، فتلاشت أمور المملكة لصغر سنه واختلاف الأمراء عليه، فظهر الناصر فرج بعد هروبه واختفائه وركب معه أمراء من مماليك أبيه، فأخذ القلعة في جمادى الآخرة سنة ثمانمائة وثمان ونفى أخويه عبد العزيز وإبراهيم إلى الإسكندرية فتوفيا بها، واتهم فرج بقتلهما في سنة تسع وثمانمائة.
ثم صار الملك الناصر يتتبع أعداءه من الأمراء فيقتلهم واحداً بعد واحد، فتجمعوا عليه وخرجوا عن طاعته، وقاتلوه فهزمهم، وخرجوا إلى الشام فتبعهم وصاروا يمكرون به ويهربون عنه، ويتعبونه في طلبهم، إلى أن مل منه الخدم والأتباع فصادفوه في طلبهم بعد التعب والدأب، وهو ومن معه قد أتعبوا خيولهم في طلبهم من العشاء إلى الصباح وأشرفوا عليه. فحمل الناصر ومن معه وهم نفر قليل على أعدائه وهم متوفرون كثيررن، فمنعه أصحابه من هذه الحملة، وعلموا أنهم في قلة فلم يطعهم وأطاع غروره وجهله، واغتر بشجاعته وظن أن لا يقابله أحد، فدارت عليه الدوائر، فما كان للناصر من قوة ولا ناصر. فأُخِذَ وقيد، وحبس بقلعة دمشق إلى أن قتل بأيدي المشاعلية بالسكاكين في ليلة السبت منتصف صفر سنة خمس عشرة وثمانمائة وألقي بعد هذه القتلة على سباطة مزبلة، وهو عريان عن اللباس تمر به الناس تنظر إلى ذلك البدن الممتهن والجسد العاري الممتحن، إلى أن عطف الله بعض الأنام بعد عدة أيام فحمله وغسله وكفنه وواراه في مقبرة باب الفراديس.
ووقع في أيام فرج بن برقوق المذكور أن سلطان كاله من سلاطين الهند وهو غياث الدين أعظم شاه بن إسكندر شاه أرسل إلى الحرمين الشريفين صدقة كبيرة مع خادمه ياقوت الغياثي؛ ليتصدق بها على أهل الحرمين، ويعمر له بمكة مدرسة، ورباطاً ويوقف على ذلك جهات يصرف ريعها على أفعال البر كالتدريس ونحوه، وكان ذلك بإشارة وزيره خان جهان، فوصل ياقوت المذكور بأوراق سلطانية إلى مولانا الشريف حسن بن عجلان شريف مكة يومئذ مع هدايا جليلة إليه فقبلها وأن يفعل ما أمر به السلطان غياث الدين، لكنه أخذ ثلث الصدقة على معتاده ومعتاد آبائه، ووزع الباقي على الفقهاء والعلماء والفقراء، فاشترى ياقوت الغياثي لعمارة المدرسة والرباط دارين متلاصقتين على باب أم هانئ، هدمهما وبناهما رباطاً. ومدرسة، واشترى أصيلتين وأربع وجبات من ماء الريحاني، وجعلها وقفاً على مدرسة، وجعل لها أربعة مدرسين، واشترى داراً مقابلة للمدرسة المذكورة بخمسمائة مثقال ذهباً ووقفها على مصالح الرباط، وأخذ منه السيد حسن بن عجلان في الدارين اللتين بناهما رباطاً ومدرسة والأصيلتين والأربع وجبات من قرار عين الريحاني اثني عشر ألف مثقال ذهباً، وأخذ منه مبلغاً لا يعلم قدره كان جهزه معه سلطانه؛ لتعمير عين عرفة. فذكر مولانا أنه يصرف ذلك على عمارتها، فعين الشريف أحد قواده وهو الشهاب بركوت المكيني لتفقد عين بازان وإصلاحها وإصلاح البركتين وكانتا معطلتين فأصلحهما.(2/299)
وكان خان جهان المذكور أرسل مع ياقوت الغياثي المذكور خادماً له يسمى إقبال أرسله بصدقة أخرى من عنده لأهل المدينة، وجهز معه مالاً يبني له به مدرسة ورباطاً وهدية لأمير المدينة يومئذ، وهو الأمير جماز الحسيني، فانكسرت السفينة التي بها مواد بقرب جدة؛ فأخذ الشريف حسن ربع ما خرج من البحر على عادتهم في المكسر، وأخذ ما يتعلق بالأمير جماز؛ لأنه عصى وظهر منه شنائع في المدينة من أخذ مفتاح خزانة النبي صلى الله عليه وسلم من قاضي المدينة جبراً بعد إهانته، وهو القاضي زين ين أبو بكر بن الحسين المراغي، وضرب شيخ الخدام، وأخذ من خزانة النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة خوشخانة وصندوقين كبيرين، وصندوقاً صغيراً كلها ممهورة فيها ذهب مودعة لملوك العراق، وخمسة آلاف كفن أراده، وأخذ قناديل الذهب من الحجرة فمنعه الله ورجمته العامة، فهرب من المدينة الشريفة، وأخذه الله، ونهب العرب كل ما معه، فأرسل مولانا الشريف حسن بن عجلان إلى المدينة عسكراً وصلوا إليها بعد خراب البصرة، فولى عليها الشريف حسن بن عجلان غير الحسيني المذكور، وكل ذلك سنة إحدى عشرة وثمانمائة.
ولما قتل الناصر فرج ما أقدم أحد من الشراكسة على التلبس بالسلطنة خوفاً من مخاصمة العسكر.
ثم ولي
الخليفة العباسي
ولَّوْه بالجبر، وهو المستعين بالله أبو الفضل العباسي المصري بعد تمنع شديد. وكان القائم بتدبير المملكة الأمير شيخ المحمودي، فاستمر المستعين بالله ستة أشهر وأياماً وخلع، وكان استناب المؤيد شيخ، وشاركه في الخطبة والأمر للمؤيد.
ثم تولى
الأمير شيخ المحمودي
وتلقب بالملك المؤيد في مستهل شعبان من السنة المذكورة سنة خمس عشرة وثمانمائة، وكان أصله من مماليك الظاهر برقوق، اشتراه من تاجر يسمى محمود اليزدي، فأعتقه فلذلك يقال له: المحمودي، ثم جعله أمير عشرة ثم صاحب طبلخانة ثم مقدم ألف ثم ولي نيابة طرابلس فأسره تيمور لما أسر نواب البلاد الشامية، ثم هرب منه إلى أن آل أمره أن صار سلطاناً فخدم المستعين وعصى عليه نواب البلاد الشامية، فتوجه لقتالهم مراراً كثيرة، وافتتح الشام وغيرها ثم عاد إلى مصر، وكان يعتريه ألم المفاصل فصار يُحمل على الأكتاف ويركب المحفة، وكان شجاعاً مقداماً مهيباً، وكانت أسواق ذوي الأدب نافقة عنده؛ لجودة فهمه وذوقه، وكان يحب العلماء والفضلاء ويجل قدرهم، وبنى مدرسته الموجوعة الآن فبدأ في عمارتها سنة سبع عشرة وثمانمائة وكان سنه عشرين سنة.
قلت: وهو الباني للجامع المشهور بجامع المؤيدية وبه المنارة التي توارد عليها شيخا الإسلام: الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، والعلامة الإمام الهمام محمود العيني الحنفي، وذلك لما أن ظهر في المنارة اختلال بعد بناثها، فقال الحافظ المذكور هذين البيتين يعرض فيهما به في ستر التورية: من الطويل:
لِجَامِعِ مَوْلاناً المُؤَيدِ بَهجَةٌ ... مَنَارَتُهُ بالحُسْنِ تَزْهُو وبالزيْنِ
تَقُولُ وَقَد مَالَت عَنِ القَصدِ أَمْهِلُوافَلَيْسَ عَلَى جِسْمِي أَضَرُ مِنَ العَيْنِ
فوصل خبر البيتين إلى الإمام العلامة محمود العيني، فقال في جوابهما معرضاً ستر التورية كذلك: من البسيط:
مَنَارَة كَعَروسِ الحُسنِ إِذْ جُلِيَت ... وَهَدمُهاً بِقَضَاءِ اللهِ والقَدَرِ
قَالُوا: أُصِيبَت بِعَين قُفتُ: ذاً غَلَطٌ ... ماً أَوجَبَ الهَدْمَ إلأ خِسةُ الحَجَرِ
قال الحافظ ابن حجر: والبيتان قد عملهما له النواجي لا سامحه النّه، سامح الله الجميع. ومن أعجب ما وقع له في أيامه أن جملاً لجمال يقال له: الفاروني يحمِّله فوق طاقته فهرب أثناء جمادى الآخرة من تلك السنة، ودخل المسجد الحرام ولم يزل يطوف بالبيت، والناس حوله يريدون إمساكه فيعضهم ولا يمكن من نفسه، فتركوه حتى أتم ثلاثة أسابيع، ثم جاء إلى الحجر الأسود فقبله، ثم توجه إلى جهة مقام الحنفي، ووقف هناك تجاه الميزاب الشريف، فبرك عنده وبكى، وألقى نفسه على الأرض ومات، فحمله الناس إلى بين الصفا والمروة، ودفنوه هناك.(2/300)
وفي آخر سنة ثمان عشرة وثمانمائة أرسل المؤيد منبراً حسناً إلى المسجد الحرام، ودرجة الكعبة، ووصل ذلك في موسم السنة المذكورة، وخطب الخطيب على المنبر الجديد خطبة التروية يوم سابع ذي الحجة الحرام.
وكانت وفاة المؤيد شيخ المحمودي يوم الإثنين لتسع خلون من المحرم سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وكانت مدة سلطنته ثمان سنين وخمسة أشهر.
ثم تولى بعده ولده
الملك المظفر
أبو السعادات أحمد بن المؤيد بعهد منه، وعمره إذ ذاك سنة وثمانية أشهر وسبعة أيام.
وصار مدبر مملكته الأمير ططر أمير مجلس أتابك العساكر، وخالف عليه أمير الشام ومن معه فتجهز ططر عليهم، ومعه الملك المظفر أحمد طفلاً وقاتلهم وقتل كثيراً منهم إلى أن صفا له الوقت فخلع الملك المظفر أحمد.
ثم تولى
ططر
وتسلطن عوضه يوم الجمعة لليلة بقيت من شعبان سنة أربع وعشرين وثمانمائة، ورجع بالمظفر إلى مصر، واستمر بالقلعة إلى أن نقل إلى الإسكندرية، فتوفي بها مطعوناً في السنة المذكورة، وكانت مدة سلطنته سبعة أشهر وعشرين يوماً، ونقل إلى الجامع المؤيدي داخل باب زويله، رحمه الله تعالى.
وكان ططر من مماليك الظاهر برقوق أعتقه وقدمه، ولا زال يترقى إلى أن صار عند المؤيد رأس نوبة ثم أمير مجلس، ثم تسلطن وتلقب بالملك الظاهر لقب أستاذه، ومهد الممالك وقبض على المخالفين عليه، وقرب المحالفين له.
وله آثار جميلة ومقاصد حسنة جليلة من أعظمها أنه قرر لصاحب مكة الشريف حسن بن عجلان عشرين ألف دينار تحمل إليه من خزينة مصر كل عام، وجعل ذلك في مقابلة ترك المكس على الخضرة، والفواكه والحبوب، وغيرها بمكة، وأمر أن يكتب عهده واعترافه بذلك على سواري المسجد من ناحية باب السلام ومن ناحية باب الصفا، والسواري المكتوبة بهذا العهد موجودة إلى الآن في المسجد الحرام. ثم توفي يوم الأحد لأربع بقين من ذي الحجة سنة أربع وعشرين وثمانمائة فكانت مدة ملكه أربعة وتسعين يوماً.
ثم تولى بعده ابنه الملك
محمد بن الظاهر ططر
وعمره نحو العشر سنوات.
وأتابكه ومدبر مملكته الأتابك جان بيك الصوفي إلى أن تغلب على الأتابك برسباي الدقماقي، فقبض عليه وأرسله إلى سجن الإسكندرية فصار أتابكاً مكانه، واستبد بأمور الملك من غير مشارك، فخلع الملك الصالح يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وثمانمائة، ومدة ملكه ثلاثة أشهر وأربعة عشر يوماً، وعمره عشرون سنة، واستمر بعد الخلع عند والدته بالقلعة إلى أن توفي بالطاعون.
ثم تولى الملك الأشرف
برسباي الدقماقي
اشتراه الأمير دقماق الظاهري نائب ملطية، وقدمه إلى الظاهر برقوق هدية فأعتقه وقربه ورقاه إلى أن ولاه الملك المؤيد مقدم ألف، واستمر إلى أن تسلطن بعد قبضه على محمد بن ططر.
ومن جملة مناقبه أنه أخذ بلاد قبرس، وأسر ملكها في سنة تسع وعشرين وثمانمائة وهو في تخت مملكته لم يتحرك، وكان عاقلاً مدبراً سيوساً محباً لجمع المال، اشترى من ماله ثلاثة آلاف مملوك شركسي، وفتح آمد سنة اثنتين وثلاثين وئمانمائة، وبنى مدرسته الأشرفية التي أنشأها بمصر على رأس الوراقين، وعلق خوذة ملك آمد التي أخذها بعد قتله علقها بدهليز مدرسته بين البابين بسلسلة، وله خيرات كثيرة.
توفي سنة إحدى وأربعين وثمانمائة، ومدة ولايته ستة عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام.
ثم تولى بعده ولده يوم موته الملك العزيز يوسف بن برسباي وعمره أربعة عشر عاماً:
وصار مدبر مملكته الأتابك جقمق العلائي، ولا زال يقوى أمره والأقدار تساعده إلى أن خلع العزيز بعد أن تسلطن نحواً من ثلاثة أشهر وأربعة أيام، لم يكن له فيها سوى الاسم.(2/301)
ثم ولي مكانه يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة ولقب بالملك الظاهر سيف الدين، وكني بأبي سعيد جقمق العلائي، وجلس على سرير المملكة، والعلائي نسبة إلى مشتريه علاء الدين فنسب إليه فقيل: العلائي، ثم انتقل إلى الظاهر برقوق فقيل: الظاهري، وكان عند الظاهر برقوق خاصكياً، ثم صار في دولة الناصر فرج بن برقوف ساقياً، ثم أمير عشرة مقدم، مائة، ثم في دولة المؤيد خازنداراً. ثم من مقدمي الألوف، ثم في الدولة الأشرفية حاجب الحجاب، ثم أمير آخور كبير، ثم أمير سلاح، ثم صار أتابكاً إلى أن تسلطن فخرج عن طاعته الأمير قرقماس، فقاتله وظفر به، وسجنه في الإسكندرية ثم قتله، ثم خرج عن طاعته نائب حلب تغري برمش، ثم أينال الحكمي نائب الشام، فجهز عليهما العساكر فقتلهما واحداً بعد واحد، وبعد قتل هؤلاء صفا له الوقت فأخذ وأعطى وأقدم وسطاً. وكان متواضعاً محباً للفقراء والعلماء الصالحين، يميل إلى تربية الأيتام ويحسن إليهم، عفيفاً عن المنكرات، طاهر الفم الذيل. لا يعلم من ملوك الشراكسة قبله ولا بعده أعف منه. وكان - على قاعدة لأتراك - الدعوى عنده لمن يسبق، يذاكر بمسائل فقهية، ويتعصب لمذهب حنفية، وملك مصر نحو خمس عشرة سنة.
ومن أول ما عمل في ولايته أن أرسل إلى شريف مكة الشريف بركات بن حسن بن عجلان بخلَع ومراسيم، وأرسل إليه سودون المحمدي، ليكون أميراً على خمسين فارساً من الترك مقيمين بمكة.
وفي سنة سبع وخمسين وثمانمائة وردت القصاد من مصر تخبر أن الملك الظاهر جقمق زاد به المرض، فخلع نفسه من السلطنة يوم الخميس لسبع بقين من محرم سنة المذكورة.
ثم تولى بعده
أبو السعادات فخر الدين عثمان بن جقمق
ولقب بالملك المنصور، ورضي الناس به واطمأنوا، وسنه إذ ذاك دون العشرين، وركب في شعار السلطنة، وحمل الأتابك أينال العلائي أمير كبير القبة والطير على رأسه، وقد تقدم أن من قواعدهم أن لا يحملها إلا من يلي السلطنة بعد المتولي المحمولة له.
وجلس على تخت السلطنة في قلعة الجبل، وباشر الأمور إلى أن توفي والده بعد ولايته باثني عشر يوماً، فوقعت فتنة بين الأمراء، فخلع عثمان بن جقمق، فقاتل بعد الخلع قتالاً شديداً، ثم حبس فتسحب من الحبس، فظفر به، وقبض عليه، وأرسل إلى سجن الإسكندرية، فسجن إلى سنة أربع وستين، فأطلقه السلطان خشقدم وأمر بإكرامه وهو بالإسكندرية. وكانت مدته نحو أربعين يوماً.
ثم تولى الملك الأشرف
سيف الدين أبو النصر أينال العلائي
يوم خلع عثمان صبيحة يوم الإثنين لثمان مضين من ربيع الأول من السنة المذكورة، وأينال مملوك لبرقوق اشتراه، ثم أعتقه ابنه فرج، ثم رقاه جقمق إلى أن جعله أتابكاً، واستمر إلى أن تسلطن، وطالت أيامه نحو ثمان سنين وشهرين. وكان طويلاً خفيف اللحية بحيث اشتهر بأينال الأجرود، وكان قليل الظلم، قليل سفك الدماء متجاوزاً عن التقصير.
وفي أيامه ولى الأمير جان بك مشدا على جدة، وهو الذي التمس منه الشريف بركات أن يلتمس من السلطان إقامة ولده محمد بن بركات مقامه في شرافة مكة، كما سيأتي في ذكر بركات بن حسن بن عجلان في الخاتمة - إن شاء الله تعالى - .
وهو الباني للبستان - أعني جان بك - الذي على يسار الذاهب إلى منى، المعروف ببستان جان بك، وحفر فيه عدة آبار، وغرس ما قدر عليه من الأشجار حتى شجر التمر هندي. قلت: وهو الآن موجود وفيه المربعة التي تحتها السبيل المعطل، وفي البستان شيء من الأشجار، وقليل من الخضر.
واستمر أينال سلطاناً إلى أن خلع نفسه من السلطنة لولده الملك المؤيد شهاب الدين أبي الفتح أحمد بن أينال العلائي.
ثم تولى ابنه أحمد المذكور ابن أينال ولقب بالملك المؤيد:
كما مر آنفاً يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة خمس وستين وثمانمائة، وتوفي والده أينال بعد ولايته بيوم واحد، فاستمر خمسة أشهر، وخمسة أيام، ثم خلع، فإن الطوائف اتفقوا على خلعه من غير موجب بالأتابك خشقدم، فخلعوه، ثم حبسوه بالإسكندرية إلى أن أطلقته تمربغا في أيام سلطنته يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان من السنة المذكورة.
ثم تولى أتابكه الملك العادل سيف الدين خشقدم الناصري:(2/302)
وهو رومي اشتراه الملك المؤيد، وأعتقه وصار خاصكياً عنده، ثم تنقلت به الدولة إلى أن جعله أينال أتابكاً لولده فخلعه بعد خمسة أشهر وتسلطن مكانه. وكان خشقدم محباً للخير، وكسا الكعبة في أول ولايته على العادة. وكان حسن السيرة إلا أنه كان فيه شح وطمع، ويرضى بإفساد مماليكه في أمور المسلمين، فلذلك تمنى الناس زواله، حتى اليهود والنصارى.
ثم مرض، وطال مرضه، وتوفي يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، ومدة ملكه ست سنين وخمسة أشهر وأيام.
ثم تولى بعده في ذلك اليوم أتابكه بلباي المؤيد:
تلقب بالملك الظاهر أبي النصر وخلع على الأمير تمربغا الظاهري الأتابكية عوضاً عن نفسه، وكان بلباي ضعيفاً عن تدبير الملك وتنفيذ الأمو، فخلعه الأمراء من السلطنة يوم السبت لسبع مضين من جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، وكانت مدة سلطنته شهرين إلا أربعة أيام.
ثم تولى مكانه الملك الظاهر أبو سعيد تمربغا الظاهري:
ويقال: إنه رومي الأصل من مماليك الظاهر جقمق أعتقه ورباه صغيراً ورقاه إلى أن جعله خاصكياً ثم سلحداراً ثم خازنداراً، ثم إلى أن صار أتابكاً للعساكر ثم تسلطن، وكان له فضل وتودد إلى الناس، وحذق ببعض الصنائع بحيث كان يعمل القبي الفائقة بيده ويعمل السهام عملاً فائقاً، ويرمي بها أحسن رمي مع الفروسية التامة.
وما زال به الأمر حتى خلعوه ونفوه إلى الإسكندرية، وكانت مدة ولايته ثمانية وخمسين يوماً.
ثم إن السلطان قايتباي اعتذر إليه من وثوبه عليه، وأكرمه وأحسن مثواه، وأرسله إلى دمياط على أحسن حال، فقبل عذره ولم يقع لملك من الإكرام بعد الخلع ما وقع له لكونه جديراً بذلك.
ثم تولى السلطنة أتابك العساكر يومئذ السلطان الأشرف قايتباي المحمودي الظاهري الشركسي:
ظهر يوم الإثنين لست مضين من شهر رجب سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة يوم خلع تمربغا، وقيل له: المحمودي؛ لأنه جلبه الخوجا محمود إلى مصر، فنسب إليه، فاشتراه الأشرف برسباي، وأعتقه الظاهر جقمق وإليه انتسب بالظاهري.
وكان محباً للخير معتقداً في الصالحين. حكى عن نفسه أنه لما جلبه سيده إلى مصر للبيع وهو إما مراهق أو بالغ كان معه رفيقه أحد المماليك والجلب، فتحادثا مع الجمال ليلة من الليالي في شهر رمضان فقالوا: لعل هذه الليلة ليلة القمر، والدعاء فيها مستجاب، فليدع كل واحد منا بدعاء يحبه. قال قايتباي؛ فقلت: أما أنا فأطلب سلطنة مصر من الله تعالى. فقال رفيقي: وأنا أطلب أن أكون أميراً كبيراً، والتفتنا إلى الجمال، فقلنا له: أي شيء تطلب أنت؟ فقال: أنا أطلب من الله خاتمة الخير، فصار قايتباي سلطاناً وصار صاحبه أميراً كبيراً، فكنا إذا اجتمعنا نقول: فاز الجمال من بيننا.
وكان رحمه الله ملكاً جليلاً وسلطاناً نبيلاً، له اليد الطولى في الخيرات، والطول الطائل في إسداء المبرات، بنى في المساجد الثلاثة عدة رُبط ومدارس، وجوامع عظيمة الآثار باهرة الأنوار، وله بمصر والشام وغزة وغير ذلك آثار جميلة، وخيرات جزيلة، أكثرها باق إلى الآن، وجميع عمائره يلوح عليها لوائح النورانية والأنس، وفي أول ولايته أرسل إلى شريف مكة، بالمراسيم والخلع، وهو الشريف محمد بن بركات بن حسن بن عجلان، وإلى قاضي القضاه إبراهيم بن علي بن ظهيرة تقليداً لقضاء مكة، ومراسيم تتضمن الأمر بإبطال جميع المكوسات والمظالم، وأن ينقر ذلك على أسطوانة من أساطين الحرم الشريف في باب السلام.(2/303)
وفي أواخر سنة أربع وسبعين وثمانمائة - أو التي قبلها - بنى مسجد الخيف بناء عظيماً محكماً، وجعل في وسط المسجد قبة عظيمة هي حد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنيت جدرانه المحيطة به وبنى أربع بوائك من جهة القبلة فصارت قبة عالية فيها محراب النبي صلى الله عليه وسلم، وبلصق القبة مئذنة غير المئذنة التي على باب المسجد، وبنى في داراً بلصق باب المسجد كانت مسكن أمير الحاج، وعلى باب الدار سبيل على صهريج كبير جعل في صحن المسجد يمتلىء من المطر، وجدد العلمين الموضوعين لحد عرفة، والعلمين الموضوعين لحد الحرم، وجدد عين عرفات، وابتدأ العمل فيها من سفح جبل الرحمة إلى وادي نعمان، فوجد الماء بكثرة، فاقتصر على ذلك ولم يصل إلى أم العين، وكانت قد انقطعت منذ مائة وخمسين عاماً، فكان الحجاج يقاسون في يوم عرفة من قلة الماء ما لا صبر عليه، ثم أصلح البرك وملأها بالماء، ثم أصلح عين خليص وأجراها وأصلح بركتها وبنى قبتها، وكان ذلك سنة تسع وسبعين وثمانمائة.
وفي سنة اثنين وثمانين وثمانمائة أمر السلطان وكيله وتاجره الخوجا شمس الدين محمد بن عمر الشهير بابن الزمن وشاد عمائره الأمير سنقر الجمالي أن يحصلا له موضعاً مشرفاً على الحرم الشريف ليبني فيه مدرسة ليدرس فيها على المذاهب الأربعة، ورباطاً يسكنه الفقراء، ويعمل له ربوعاً ومسقفات، يحصُل منها ريع كبير، يصرف منه على المدرسين وعلى القراء، وأن تقرأ له ربعة في كل يوم يحضرها القضاة الأربعة، والمتصوفون، ويقرر لهم وظائف، ويعمل مكتِّباً للأيتام، وغير ذلك من جهات الخير، فاستبدل له رباط السدرة، ورباط المراغي، وكانا متصلين، وكان إلى جانب رباط المراغي دار الشريفة شمسية من شرائف بني حسن اشتراها وهدم ذلك جميعه، وجعل فيه اثتتين وسبعين خلوة، ومجمعاً كبيراً مشرفاً على المسجد الحرام وعلى المسعى، وصير المجمع المذكور مدرسة، بناها بالرخام الملون، والسقف المذهب، وقرر فيها أربعة مدرسين على المذاهب الأربعة، وأربعين طالباً، وأرسل خزانة كتب وقفها على طلبة العلم وجعل مقرها المدرسة المذكورة، وجعل الواقف في ذلك المجمع للقضاة الأربعة حضوراً بعد العصر مع جماعة من الفقهاء، يقرؤون ثلاثين جزءاً من القرآن، وجعل لكل معلم أربعين صبياً من الأيتام، ورتب لكل واحد من الأيتام وأهل الخلاوي ما يكفيهم من القمح كل سنة، وللدرسين وقراء الربعة، وأهل الخدم مبالع من الذهب تصرف لهم كل سنة، وبنى عدة ربوع ودور تغل في كل عام نحواً من ألفي دينار، ووقف عليهم بمصر قرى وضياعاً كثيرة تغل حبوباً كثيرة تحمل كل عام إلى أهالي مكة، وعمل من الخيرات العظيمة ما لم يعمله سلطان قبله، وذلك باقٍ إلى الآن إلا أن الأكلة استولت على تلك الأوقاف فضعفت جداً.
قلت: هذا في زمان قطب الدين رحمه الله تعالى، وأما الآن فقد تضاعفت لا ضعفت، إلا أنها - كما قال رحمه الله - : قد استولت عليها أكلة النظار، وقد صارت المدرسة سكناً لأمراء الحج إذا وصلوا مكة أيام الموسم. وكان الفراغ من بناء هذه المدرسة، والرباط والبيتين أحدهما: من ناحية باب السلام، والثاني: من ناحية باب الحريريين في سنة أربع وثمانين وثمانمائة على يد مُشَيدِ عمائره الأمير سنقر الجمالي.
وفي هذه السنة وردت أحكام سلطانية من السلطان قايتباي إلى صاحب مكة الشريف محمد بن بركات بن حسن بن عجلان رحمه الله تتضمن أنه رأى مناماً وأن بعض المعبرين عبر له ذلك المنام بغسل البيت الشريف من داخله وخارجه وغسل المطاف، وأنه أمره أن يفعل ذلك.
فحضر مولانا الشريف محمد بن بركات رحمه الله بنفسه، وقاضي القضاة إبراهيم ابن ظهيرة وناس من الترك المقيمين بمكة الأمير قاتي باي اليوسفي، والأمير سنقر الجمالي، والدوادار الكبير جان بك نائب جدة المعمورة، وبقية القضاة والأعيان، وفاتح الكعبة عمر بن أبي راجح الشيبي، والشيبيون والخدام، وغسلوا الكعبة الشريفة من ظاهرها وباطنها قدر قامة، وغسلوا أرض الكعبة وأرض المطاف الشريف، وطيبوها بالطيب والعود، وكان ذلك يوم الخميس لثمان بقين من ذي الحجة الحرام من السنة المذكورة.(2/304)
ومن أعظم ما وقع في أيام السلطان قايتباي - من الأمور المهولة - حريق المسجد النبوي في ثلث الليل الأخير من ليلة الإثنين ثالث عشر رمضان سنة ست وثمانين وثمانمائة، فعمره رحمه الله أحسن عمارة وبنى المقصورة، وأدار عليها الشبك الحديد جميعها.
وكان تمام ذلك في عام ثمان وثمانين وثمانمائة كما رأيته مرسوماً بالقلم الحديد في جهة الباب من الحجرة الشريفة. وقد ذكر السيد السمهودي ذلك مفصلاً وغيره، وعمر السلطان المذكور بالمدينة مثل ما عمر بمكة من المدرسة والرباط، وأوقف كتباً على طلبة العلم الشريف، فأرسل مصاحف كثيرة وكتباً لخزانة المسجد الشريف، عوضاً عما احترق.
ولم يحج من ملوك الشراكسة غير السلطان قايتباي المذكور، وذلك لتمكنه في الملك وحسن تدبيره وضبطه للممالك فحج سنة أربع وثمانين وثمانمائة.
فأقام الأمير يشبك الدوادار الكبير نائباً عنه بمصر، وخرج بعد الحاج بثلاثة أيام. وكان أمير الحاج الخارج بالمحمل الشريف خشقدم، فخرج السلطان قاصداً للحج والزيارة، ووصلت القصاد إلى شريف مكة يومئذ جمال الدين الشريف محمد ابن بركات بن حسن بن عجلان سقى الله رمسه صوب الرحمة والرضوان، فتهيأ هو والقاضي إبراهيم بن ظهيرة القاضي الشافعي لملاقاة السلطان؛ فإن القصاد أخبروهما أنهم فارقوه من عقبة أيلة، فأرسل الشريف أحد قواده يسبقه إلى ملاقاة السلطان بسماط حلوى. فوصل إلى الحوراء، ولاقى السلطان، ومد له سماط الحلوى هنالك فوصل عليه وأظهر غاية اللطف والمجابرة، وأكل وقسم على أمرائه وعسكره، وكان سماطاً كبيراً جميلاً. ويحكى من لطافة السلطان أنه تناول شيئاً من الحلوى، وسأل الذي جاء به: ما اسم هذا عندكم. فقال له القائد: اسمه: كل واشكر.
فقال له: سلم على سيدك، وقل له: أكلنا وشكرنا.
ثم لما وصل إلى ينبع عدل إلى المدينة الشريفة فأقام الشريف محمد ومن معه من القضاة والأعيان ببدر منتظرين قدوم السلطان، فلما وصل الخبر بعود السلطان من المدينة ركب الشريف محمد ومن معه لملاقاته، فاجتمعوا به في مسجد الصفراء، وتلاقيا على ظهور الخيل وتصافحا، ومشى الشريف عن يمينه، والقاضي إبراهيم عن يساره، وباقي من معهما سلموا على السلطان من بُعْد، ومشوا أمامه، وصار السلطان يلاطفهما، ويسألهما عن أحوالهما، ويشكر مساعيهما ويطمن خواطرهما، وينصت لهما إذا تكلما، واستمر كذلك إلى أن وصل السلطان إلى وطاقه فرجعا عنه إلى مخيمهما، وصاروا يسايرونه في الطريق، ويبدي لهم وافر الأنبساط وكمال النشاط، وألبسهم خلعاً فاخرة مراراً عديدة، وتقدموا إلى وادي مر ورتبوا له سماطاً حافلاً، ولما كان صبح يوم الأحد مستهل ذي الحجة وصل السلطان إلى مخيمه بوادي مر ووجد السماط ممدوداً فجلس هو ومن معه عليه، وأكل وأطعم وخلع على الخدام خلعاً متعددة جميلة، ووصل بقية القضاة والخطباء والأعيان، فسلموا على السلطان فانصرفوا أمامه، وركب السلطان هو وشيخ الإسلام إبراهيم بن ظهيرة وولده أبو السعود، وأخوه أبو البركات وأمام السلطان إبراهيم بن الكركي الحنفي، ودخلوا مكة عصراً من أعلاها وشيخ الإسلام هو الذي تقدم لتطويف السلطان، وصار يلقنه الأدعية إلى أن دخل من باب السلام الأقصى، وطلع بفرسه منه فجفل به الفرس، فسقطت عمامته واستمر مكشوف الرأس إلى أن تقدم المهتار فشالها من الأرض ومسحها، فناولها السلطانَ فلبسها، وكان ذلك تأديباً له من الله تعالى حيث كان يتعين عليه أن ينزعها، ويدخل مكشوف الرأس متواضعاً.
ولما وصل إلى العتبة الداخلة من باب السلام الأذنى، ترجل وقرأ الريس بين يديه بصوت جهوري " لَقَد صَدَقَ الله رَسُولَهُ اَلرؤيا بِاَلحَق... " الفتح: 27 الآية. ثم رفع يديه يدعو للسلطان، وأمن من حوله من أهل الأصوات، فقبل الحجر وطاف، والريس يدعو له من أعلى قبة زمزم، والناس محيطون بالطواف يشاهدونه ويدعون له، إلى أن تم طوافه وصلى خلف المقام ثم خرج إلى الصفا، فلما فرغ من سعيه عاد إلى الزاهر فبات به في مخيمه، وركب في الصبح في موكبه، ولاقاه الشريف وأولاده والقاضي، فخلع السلطان على الشريف والقاضي، وغيرهما، ومشوا أمامه في الموكب العظيم، والأبهة الجليلة، ولم يتخلف أحد بمكة حتى النساء المخدرات.(2/305)
ودخل مكة بهذه الصفة إلى أن وصل مدرسته، فترجل له الناس، وسلم عليهم، ودخل المدرسة، ومد له الشريف سماطاً، واستمر على ذلك تمد له صبحاً وليلاً الأسمطة الجليلة الجميلة، ومد له ثاني يوم القاضي إبراهيم بن ظهيرة سماطاً بالمدرسة، واستمر بالمدرسة ما ظهر لأحد إلى أن طلع عرفة، وكانت الوقفة بالإثنين فأفاض مع الناس، وأتم حجه، وقرب أغناماً كثيرة، وكان يناسب أن ينحر شيئاً من الإبل فما أشار عليه به أحد.
وركب مرة إلى درب اليمن يشاهد ما قدمه له الشريف محمد من الإبل، والخيل وتشكر من فضل الشريف، ثم سافر ظهر يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة بعد أن طاف للوداع، والريس يدعو له على قبة زمزم، ومشى القهقري إلى أن خرج من باب الحزورة وركب معه الشريف وأولاده، والقاضي إبراهيم إلى الزاهر، ثم ودعهم ووادعهم وسافر إلى مصر وعاد إلى مملكته، ولم يختل شيء من ملكه مع غيبته عن تخت مصر نحو ثلاثة أشهر، وذلك لإتقانه أمر الملك وتدبيره وضبطه. ولقد كان واسطة عقد الشراكسة وأقربهم إلى قلوب الرعية، وأجملهم حالاً وأحسنهم إحساناً وأفضلهم عقلاً، وأكملهم نبلاً، وأكثرهم في جهات الخير إيثاراً وآثاراً، وأكبرهم عمائر وأوقافاً وأدواراً، وأطولهم طولاً وزماناً، وأمكنهم ملكاً وقوة وإمكاناً. وكانت أيامه كالطراز المذهب، ودولته تنجلي كالعروس في حلل الجوهر والذهب، حتى قدم عليه بريد الأجل، وما أغنى عنه ما جمعه من الخيل والخول، وكان انتقاله إلى رحمة الله تعالى يوم الأحد لثلاث بقين من ذي القعدة سنة 901 إحدى وتسعمائة، وكانت مدة تصرفه ثلاثين سنة إلا ثلاثة أشهر.
ثم تولى الملك الناصر أبو السعادات محمد ابن السلطان قايتباي:
وكان يغلب عليه الجنون والسفه، وما كان له التفات إلى الملك، ولا تدبير السلطنة، بل غلب عليه اللهو واللعب والحركات المستبشعة.
يحكى عنه أمور قبيحة منها: أنه كان إذا سمع بامرأة حسناء هجم عليها، وقطع دائر فرجها ونظمه في خيط أعده لنظم فروج النساء.
ومنها: أن والدته كانت من عقلاء النساء وأجملهن هيأت له جارية جميلة، وجمعتها به في بيت مزين أعدته لهما فدخل بها وقفل الباب على نفسه وعليها، وربطها وشرع يسلخ جلدها عنها كالجلاد، وهي بالحياة، وهي تصرخ، فلما سمعوا صراخها أرادوا الهجوم عليه فما أمكنهم لأنه قفل الباب من داخل واستمر كذلك إلى أن سلخها، وحشا جلدها بالأثواب السندسية وخرج يظهر للناس أستاذيته في السلخ، وأن الجلادين يعجزون عن كماله في صنعته قُبحَ هو وصنعته.
ومنها: أنه مر في موكبه بدكان حلواني، ودار حوله أمراؤه فأقامه من دكانه، وجلس كأنه يبيع الحلاوة، وأخذ بيده الميزان فصار يزن لهم حتى جبرت الحلاوة.
وكان يقلي الجبن المقلي بنفسه يبيعه للجند ويأمرهم بشرائه منه، ويأخذ أكياس الذهب إلى طرف النيل فيرمي ديناراً فيقول: هذا قال: بق، ويرمي الآخر فيقول: هذا ما قال: بق، ثم يحضر الأمراء الكبار ويأمر بذبحهم في الديوان، فصار الشخص منهم إذا أضجع للذبح صوت صوت الغنم، فيضحك ويطلقه.
وكانت له حركات من هذه الخرافات منها ما يضحك ومنها ما يبكي، إلى أن سقط من أعين الناس والعسكر وسطوا عليه كما سطا بالحسام الأيتر، وسلخوه من الملك كما سلخ الضعيفة بالخنجر، ومزقوه كل ممزق ولعذاب الآخرة أكبر.
وسبب قتله أنه من غروره خرج مختفياً منفرداً من خدمه وعبيده متباعداً عن خوله وحشمه، فتوجه يمشي وحده إلى بر الجزيرة، فكمن له عشرة أنفس من مماليك أبيه في خيمة على ممره، فلما وصل إليهم خرجوا له من الخيمة، فأمسكوا بلجام فرسه، وضربوه بالسيوف إلى أن قطعوه، وجاؤوا به مقتولاً إلى القاهرة ودفنوه في تربة أبيه سنة 904 أربع وتسعمائة، وكانت مدة سلطنته ثلاث سنين.
ثم تولى بعده خاله الملك الظاهر قانصوه:(2/306)
وهو خال هذا المقتول، وكان أمياً لا يعرف إلا بلسان الشركس قريب العهد ببلده؛ لأنه جلب للسلطان قايتباي من بلاده وهو كبير قد وخطه الشيب، وصار يرقيه بواسطة أخته زوجة قايتباي خوندام الناصر ولده، وهي التي أقامته مقام ولدها الناصر، وبذلت له الأموال والخزائن، وأرادت إقامته وإصلاحه، ولن يُصلِحَ العطارُ ما أفسَد الدهرُ، فما استكملته الإيالة، وما أهلوه للسلطنة والولاية، فخلعوه من الملك أواخر سنهَ 905 خمس وتسعمائة، وكانت مدته سنة وسبعة أشهر.
ثم تولى بعده السلطنة أمير كبير جانبُلاط:
وتلقب بالملك الأشرف في أوائل سنة خمس وتسعمائة، ولم يتهن بالسلطنة، ولا وافقه أحد عليها، وخلع بعد ستة أشهر.
ثم تولى مكانه الملك العادل طومان باي:
وما استكمل يوماً واحداً بل هجم عليه العسكر وقتلوه، فما أقدم أحد على السلطنة، وكانت الأمراء متوفرة، وبعضهم يشير إلى بعض في الجلوس على تخت الملك فاتفقوا على تولية قانصوه الغوري، لأنهم رأوه سهل الإزالة أي وقت أرادوا إزالته أزالوه؛ لأنه كان أقلهم مالاً وأضعفهم حالاً وأوهنهم قوة، وأشاروا أن يتقدم فأبى فألزموه بذلك، فقال: أقبل ذلك بشرط أن لا تقتلوني، فإذا أردتم خلعي من السلطنة فأخبروني بما تريدون وأنا أوافقكم على ذلك وأترك لكم الملك وأمضي حيث أريد، فعاهدوه على ذلك فقبل.
ثم تول قانصوه الغوري السلطنة:
ولقبوه الملك الأشرف أبا النصر قانصوه الغوري، وذلك في سنة 906 ست وتسعمائة، وفرح العسكر بولايته لأنهم سئموا تعدد السلاطين وسرعة تقضِّي ملكهم، بل فرح العامة وأمنوا على أنفمسهم وأموالهم في الجملة.
وكان قانصوه الغوري كثير الدهاء ذا رأي وفطنة وتيقظ، إلا أنه كان شديد الطمع كثير الظلم والفسق، بخيلاً محباً للعمارة، فمن جملة عمارته: الجامع والتربة، وكان في نيته أن يدفن بها، ووقف عليها أوقافاً كثيرة وما قدر له دفنه بها بل ذهب تحت سنابك الخيل وما عرف شخصه، " وَماً تدرِي نفس مَاذاً تَكسِبُ غَدا وَماً تدرِي نَفس بأَيِِّ أرض تَموُت " لقمان: 34.
وله آثار جميلة في طريق الحاج في عقبة أيلة ومآثر بمكة المشرفة وغيرها، وكان يتنزل مع الأمراء من غير تشديد عليهم ولا إظهار عظمة وأمر ونهى، وذلك في ابتداء أمره إلى أن تمكن من قوته وبأسه.
حكى العلامة قطب الدين عن شيخه أحمد بن عبد الغفار عن والده وكان من أرباب الأقلام في ديوان قانصوه قال: استشم الغوري مبادئ فتنة أراد الأمراء إحداثها، وأرادوا أن يجعلوها مقدمة لخلعة من السلطنة، فلما استشعر ذلك منهم عمل ديواناً وجمع فيه الأمراء والمقدمين، وأمرهم بالجلوس، وجلس بينهم كأحدهم، وكانت عادة الأمراء الوقوف بين يدي السلطان ولا يجلسون معه إلا في السماط فقط، فلما جلسوا وجلس، أنكروا ذلك وكانوا يتعجبون من ذلك وكلُّ مصغ إلى ما يقول السلطان؛ فقال: ما جمعتكم يا أغوات إلا لأسألكم سؤالاً خطر لي، أطلب منكم جوابه على الوجه الذي ترونه صواباً. فقالوا: نعم، فقال: أسألكم عن جماعة جاؤوا إلى رجل، وأودعوه صرة من الدراهم مربوطة مختومة، فقال: أنا أستودع منكم هذه الوديعة بشرط أن تأتوني وتطلبوا وديعتكم بلا نزاع معي ولا خصومة فأرد وديعتكم إليكم، فقالوا: نعم قبلنا منك هذا الشرط، وأودعوه ومضوا، ثم عادوا إليه بعد مدة وقالوا: نريد الوديعة بنزاع شديد ومخاصمة ومضاربة قوية، فقال لهم: هذه وديعتكم حاضرة خذوها بلا نزاع ولا ضراب معي كما شرطت عليكم، نالوا: لا بد من المخاصمة والنزاع معك، فأيهم على الباطل، وأيهم على الحق؟ ففهموا مراده واستعفوا منه، فقال لهم: أنا ما جلست معكم إلا لتعلموا أني كأحدكم لا أمتاز عليكم بشيء، وهذه السلطنة أسلمها لأيكم أرادها ولا أنازع عليها، فإنما أنا رجل من الجند، فقبل كل منهم يده، وأذعنوا له بالسلطنة وسألوه استمراره فيها.
وسكنت الفتنة بهذا التدبير، وغفلوا عنه مدة واشتغلوا عنه بضرورياتِ وطالت معه حيل إلى أن صار يأخذ منهم واحداً بعد واحد، ويتغافل عنهم، ثم يحصل حيلة أخرى، وعلة أخرى لأحدهم، فيأخذه بها، ويوقع بين الاثنين، ويأخذ هذا بذاك، وذاك بذا، ويدس لهم الدسائس من الطعام والسم ونحوه، حتى أفنى قرانصتهم ودهاتهم إلا قليلاً منهم.(2/307)
واتخذ مماليك جدداً، واستجلب جلباً وأعد عدداً، وصاروا يظلمون الناس ويعاملون الخلق عسفاً وغشماً، وهو يغضي عنهم ويتغافل، فأظهروا الفساد، وأهلكوا العباد، وأكثروا العناد، وطغوا في البلاد، وصار يصادر الناس، ويأخذ أموالهم بالقهر والبأس.
وكثرت العوانية في أيامه؛ لكثرة ما يصغي إليهم، وصاروا إذا شاهدوا أحداً توسع في دنياه، وأظهر التجمل في ملبسه ومثواه، وشوا به إلى السلطان فيرسل إليه يطلب القرض، ويصفي أمواله، ويسلمه إلى الصوباشي ليأخذ ماله، ويهلك أهله وعياله.
وجمع من هذا الباب أموالاً عظيمة، وخزائن واسعة ذهبت في آخر الأمر سدى وتفرقت بيد العدى، وتمزقت بدداً.
وأما الميراث فبطل في أيامه، وصار إذا مات أحد يأخذ ماله جميعه للسلطنة، ويترك أولاده فقراء إلا إن اعتني به اعتناء كبيراً جعل له نزراً يسيراً من مال أبيه، وأخذ لنفسه باقيه. وكثر ظلمه في آخر أيامه، فاستجاب الله فيه دعاء المظلومين، وقُطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين.
وحكي عن شخص من أولياء الله تعالى مجاب الدعوة أنه رأى بمصر في أيام الغوري جندياً من الشراكسة أخذ متاعاً من دلال ولم يُرضِه في قيمته، فتبعه الدلال يطلب منه حقه وهو ممتنع، فقال له الدلال: بيني وبينك شرع الله، فضربه الجندي بالدبوس، فشج رأسه، وقال: هذا شرع الله، فسقط الدلال مغشيّاً عليه، ومضى الجندي بالمتاع وما قدر أحد من المسلمين على منعه من فعله. قال الشخص: فصعب علي هذا الحال، فرفعت يدي إلى الله تعالى، ودعوت الله عز وجل على الجندي المزبور وسلطانه وحزبه وإخوانه، وعلى الظلمة من أعوانه، فصادف ساعة إجابة وقبول، واقترن السؤال بحصول المسئول، فبت تلك الليلة على طهارة، وأنا أفكر في أمرهم، وأحدث نفسي كيف يزول ملك هذا السلطان الجائر، وقد ملأت جنوده الأرض. وإني للمسلمين بسلطان رؤوف رحيم، عادل كريم؟ فنمت فرأيت فيما يرى النائم ملائكة من السماء بأيديهم مكانس يكنسون الشراكسة من أرض مصر، ويلقونهم في بحر النيل، فلم يكن إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى وقع ذلك.
ثم إني استيقظت من نومي وسمعت قارئاً يقرأ قوله تعالى: " فانتَقَمناً مِنهُم فَأَغْرَقنَاهُم في اَليَمِ بِأَنهُم كَذَبوُ بِآياتناً وَكَانوُا عَنْهاً غَافِلِين " الأعراف: 136، فعلمت أن الله سوف يأخذهم أخذاً وبيلا.
فما مضى على هذه الوقعة قليل من الزمان إلا وبرز الغوري بجنوده، وأمواله وبنوده، وأثقاله وخزائنه، وأنصاره وأعوانه من مصر لقتال السلطان سليمان خان إلى حلب، فجاء الخبر بعد قليل بأنه كسر وقتل أكثر جنوده وفقد هو تحت سنابك الخيل في مرج دابق، وكان قتله بين الظهر والعصر، يوم الأحد خامس عشر رجب سنة 922 اثنتين وعشرين وتسعمائة.
وقيل: إنه فقد من الحرب وأنه عاش مدة ببلاد المغرب، وقيل: بل عاش بمصر مدة طويلة.
قال شيخنا: وعلم بما قدمته من أن شخصاً مات بالقرب من زمن الوقعة ببعض مدارس مصر فوجد في عنقه كيس فيه ختم باسم الغوري فقيل: إنه هو، وكانت مدة الغوري خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وخمسة وعشرين يوماً.
وللأشرف قانصوه الغوري مآثر جميلة وعمائر حسنة جليلة. فمما عمره بمكة المشرفة باب إبراهيم بعقد كبير، جعل علوه قصراً، وجعل في جانبه مسكنين لطيفين، وبيوتاً ممتدة حول باب إبراهيم، ووقف الجميع على جهات خير، ولا يصح وقف ذلك؛ لأنه في المسجد، وكذلك السكنان؛ لأن اكثرهما في المسجد الحرام، وما أمكن العلماء أن ينكروا عليه ذلك في أيام سلطنته؛ لعدم إصغائه إلى كلام أهل الشرع، وبنى أيضاً ميضأة خارج باب إبراهيم على يمين الخارج، وقد أبطلت؛ لأن روائحها تصل إلى المسجد فيتأذى المصلون، فأبطلت وأغلق بابها قريباً في سنة 980 تسعمائة وثمانين بأمر شريف سلطاني.
قلت: هي الآن مفتوحة ينتفع بها المسلمون عامرة.
ومن أثره الترخيم الواقع في الحجر الشريف، عمل بأمره في أيامه، واسمه مكتوب فيه وفرغ من عمارته سنة 917 سبع عشرة وتسعمائة، وبنى بركة بدر وعدة خانات وآبار في طريق الحاج المصري، وبنى خاناً في عقبة أيلة والأزلم، ومدرسة أنشأها علو سقف الجملون بالقاهرة، وأنشأ مجرى الماء من مصر العتيقة إلى قلعة الجبل.(2/308)
ومن آثاره بناء سور جدة وكانت العربان تهجم في أيام الفتن وتنهبها، ونهبت مراراً أيام الوقائع بين الشريف بركات وأخيه هزاع، وبعد هزاع جازان، فأرسل الغوري أحد أمرائه المقدمين، وهو الأمير حسين الكردي، وجهز معه عسكراً من الترك والمغاربة واللوند في خمسين غراباً لدفع ضرر الفرنج في بحر الهند، فلما وصل إلى جدة بنى سورها وهدم كثيراً من بيوتها وأخذ حجارتها، وبنى بها السور في شدة وبأس، واستخدم عامة الناس في حمل الحجر واللبِن حتى التجار المعتبرين وسائر المنتسبين، وضيق على الناس بحيث يحكى أن أحدهم تأخر قليلاً عن المجيء، فلما جاء أمر أن يبنى عليه فبني، واستمر قبره جوف البناء إلى يوم الجزاء إلى غير ذلك من الظلم الشديد والجور العتيد، وبنى السور جميعه في أقل من سنة.
وكان ظلوماً غشوماً أكولاً يستوفي الخروف مع عدة أرغفة ونفائس له معدة. واستمر حاكماً بجدة إلى أن تقوى بالمال، وتأثل وجمع جنوداً من كل صنف، ثم توجه إلى الهند سنة إحدى وعشرين وتسعمائة ثم رجع إلى مكة.
وقد انقضت دولة الشراكسة بمصر، وملكها السلطان سليم خان، فورد حكم سلطاني إلى شريف مكة بركات بن محمد بن حسن بن عجلان بقتل الأمير حسين الكردي المذكور، وكان الشريف بركات هو المستخرج لذلك الحكم لعداوة سابقة بينه وبين حسين المذكور، فأخذ مقيداً إلى جدة، وربط في رجله حجر كبير وغرق في بحر جدة في موضع يقال له: أم السمك فأكلته الأسماك بعد أن كان يعد من الأملاك.
ولما قتل الغوري وانكسرت عساكره هرب بقية الشراكسة من السيوف إلى مصر وصيروا الدوادار الكبير طومان باي سلطاناً، فتولى والسلطان سليم في إثرهم، هم في الهرب وهو من ورائهم للطلب، فأرسل إليه السلطان سليم بعد أن ملك حلب والشام وما بينهما من البلاد بقاصد، وكتب معه كتباً يستميل بها خاطره، ويستجلب بها قلبه، ويعده بكل جميل إن دخل في الطاعة، وكف القتال بين المسلمين، فلم يلتفت لشيء من ذلك، بل قتل القاصد وعين مَن يهجم في العسكر والأمراء، وسير من المماليك الخاصة ألفين وخمسمائة، وجمع من مشايخ العربان ما كمل به سبعة آلاف خيال، وساروا جميعاً إلى العريش.
ثم إن السلطان سليم خان أرسل إلى الوزير الأعظم سنان باشا بأربعة آلاف خيال ليلحق من قدَّمه من العسكر، وهم ألفان عليهم الأمير محمد بير بن عيسى، وقصد بتقدمتهم تمهيد الطريق، فلما خشي عليهم أتبعهم بالوزير المذكور، فأدركهم بغزة. فلما بلغ الشراكسة ذلك توقفوا عن الحرب، لكنهم سعوا في جمع الناس من القرى والنواحي، فأقاموا في العريش ثلاثة أيام، فجمع سنان باشا من معه من الأمراء والأعيان، واستشارهم في المقاتلة أو الانتظار حتى يرد السلطان فأجمعوا على المقاتلة؛ خشية من الهجوم.(2/309)
ففي ليلة السبت سابع عشري ذي القعدة الحرام ركب سنان، وخرج من غزة وأظهر أنه راجع لجهة الرملة، فسار طول ليلته، وأصبح بالقرب من خان يوسف، وكان بالقرب منه عسكر الشراكسة، فلما رأى جانبرد الغزالي وكان رئيس من تقدم من الشراكشة العسكر العثماني هيأ عسكره، وعين الميمنة والميسرة، وكذلك سنان باشا جعل على ميمنته فرهاد بمن معه، وعلى ميسرته محمد بن عيسى، فلما رأى الغزالي ذلك عين بعض جماعة من عسكره مع المشاة وأمرهم أن يقروا على ساقة العسكر أولاً، فلما رأى سنان باشا ذلك أخرج من عسكره مقدار ألف خيال وماش ترمي البندق، وأمرهم أن يكونوا خلف العسكر وحوله، فلما رأى الشراكسة ذلك تربصوا وسايروا العسكر قليلاً قليلاً ينتهزون الفرصة، فلما نزل سنان بمحل المنزل هجم الغزالي، وكان سنان أمر الينيشرية، وغالب العسكر أن لا يخرجوا سلاحهم وأن يكونوا حول ثقلهم، فلما هجم الغزالي قابله طائفة الينيشرية برمي البندق، ثم ركب سنان وتلاحق العسكر، والتحم القتال إلى وقت الغروب، فانهزم الغزالي وقتل غالب الأمراء الذين معه وأرسلت رؤوسهم مع من قبض عليه أيضاً إلى السلطان سليم فسر بذلك، وذهب الغزالي إلى مصر، وسار السلطان سليم حتى نزل ببركة الحج، وتهيأ منها لفتح قلعة مصر، وأخذ البلاد، فاتفقت الشراكسة المقيمون بها، وغيرهم من العرب على إعانة طومان باي، فبلغت عدتهم عشرين ألفاً، فجمع طومان باي المدافع الكثيرة، وأخرجها للريدانية وقررها في الأرض، وأرسل إلى الإسكندرية، وطلب من يضرب بالمدافع، فاجتمع عنده خلق كثير، فنزل بمخيمه، فلما بلغ السلطان ذلك وكان قد صف عسكره ميمنة وميسرة ترك استقبال طومان باي، وسلك طريقاً أخرى من خلف جبل المقطم من وراء عسكر الشراكسة، واستمرت مدافع الشراكسة مركوزة لمن يأتي من أمام الريدانية بلا نفع ولا دفع، وبادرهم برمي المدافع والبنادق، واستقبلته خيول الجند وفرسانها، والتحم الحرب وحمي الوطيس، حتى أظلمت الدنيا ولم تزل الشراكسة تهجم مع تلك الظلمات على العساكر العثمانية المرة بعد المرة وتكر وتفر، والقتل فيهم وهم لا يصدهم شيء حتى قتل منهم جانب عظيم من أعيانهم، وقتل من العساكر العثمانية أقل من ذلك، فانكسرت الشراكسة، ولم يزل عسكر السلطان خلفهم إلى أن أدخلوهم بيوتهم فنهبت بيوتهم وأموالهم، وكان ذلك يوم الخميس تاسع عشر في الحجة الحرام سلخ سنة 922 اثنتين وعشرين وتسعمائة.(2/310)
وفي صبح يوم الجمعة غرة محرم الحرام افتتاح سنة 923 ثلاث وعشرين وتسعمائة أمر السلطان في المسجد والجوامع بالخطبة باسمه الشريف، وضرب السكة كذلك باسمه، وأقام بالعادلية ثلاثة أيام، ثم ارتحل ودخل البلاد وتعدى إلى الجيزة، ونزل بعسكره فيها، فجمع طومان باي من بقي من الشراكسة نحو سبعة آلاف، وهجم على البلاد ليلاً، واتفق معه بعض العرب وتبعه خلق من أهل مصر، وقتلوا جميع من وجد في البلد من العسكر العثماني، وقصد الهجوم ليلاً على السلطان في الجيزة، وهيأ مراكب البحر للذهاب، فلما بلغ ذلك السلطان سليم خان عين جماعة على المعابر، وأمر العساكر بالتقيد، وعدم الغفلة، فلم يقدر طومان باي على الهجوم ليلاً، وبعث جماعة وأمرهم بالهجوم على مصر، وكل من وجدوه من آدمي أو بهيمة قتلوه أو محل قابل للحرق أحرقوه، وأغاروا على الناس، والمصريون يقاتلونهم من الأماكن الحصينة بالسهام والحجارة، واستمر الحرب على هذا الأسلوب ثلاثة أيام، فوصل السلطان بنفسه، وسار على البلاد، ورمى المدافع على جميع من لاقاه، واشتد الحرب في الرميلة، وهلك خلق كثير من الجهتين، ثم هرب طومان باي إلى جامع الشيخونية وحارب، هناك ضجت الرعايا بطلب الأمان وكثر الصياح منهم، فأمنهم السلطان وأمر بتتبع الشراكسة خاصة، فلم يجد طومان باي بدّاً من الهروب، فخرج في نحو عشرة أنفس هارباً لجهة الصعيد، وقتل ذلك اليوم ما ينيف على أربعة آلاف نفس حتى سالت الدماء، وتكدر بحر النيل وتعفن الهواء لذلك، فرميت أجسامهم في البحر، وجمعت رؤوسهم أكواماً بعد أكوام، فعاد السلطان لمخيمه بالجيزة، وبنى له كوشكاً عالياً يسكنه مدة مقامه بمصر هرباً من العفونة، ونقل إليه من قبض عليه من أعيان أمراء الشراكسة، فأمر بضرب أعناقهم على ضوء المشاعل، وقتل سنان باشا ذلك اليوم، فأسف عليه السلطان سليم وقال: أي فائدة في مصر بلا يوسف. لأن سنان لقبه يوسف.
وفي صبيحة ذلك اليوم دون ديواناً رتب فيه للعساكر العطايا، وعين أرباب المناصب فأرسل إليه الغزالي - وكان قد هرب في الوقعة الأولى من الريدانية إلى جهة الصالحية - فطلب الأمان، فلما علم السلطان أنه لم يحضر الوقعة التي داخل البلد عفا عنه وطلبه، فجاء تائباً مستغفراً، فأنعم عليه ببلدة سجاع، ثم أقام السلطان في محله إلى ثالث عشري محرم، وارتحل وصعد إلى القلعة.
ثم إن طومان باي أرسل بطلب الأمان والعفو عما مضى، فقبل السلطان منه ذلك واستمال خاطره، وأرسل بجوابه وإجابته كيخية عسكر أنادول مصطفى شلبي والقضاة الأربعة قضاة مصر، وكتب إليه بالعهد والأمان معهم، فلما وصلوا إليه منعه بعض المفسدين من الشراكسة وحرضوه على العصيان فقتل مصطفى شلبي المذكور والقضاة الأربعة، وأظهر عدم الانقياد، واجتمع عنده بقية الشراكسة وطائفة من العربان، وقصد العود إلى مصر وتعدى على المراكب ووصل قريب مصر حتى نزل ببركة الحبش، فعين السلطان بعض الأمراء والعساكر لحربه، فتوجهوا لقتاله، وخرج السلطان أيضاً بنفسه فنزل بالقرب من النيل، فارتحل طومان باي من محله وهرب، فتبعه العسكر منازل، فعلم الأمراء أنه لا راحة لهم ما دام موجوداً فتركوا أثقالهم وسعوا في طلبه فادركوه بين الإسكندرية ورشيد، فحصل حرب عظيم وقبض على جماعة ممن معه، وهرب هو، وتوجه في طلبه بعض الأمراء فأدركه في بحيرة، وأحاط به وقتل جميع من معه، فألقى طومان باي نفسه في البحر، فلما أشرف على الغرق طلب الأمان، فرموا له حبلاً وتمسك به فجروه إلى البر ومسكوه، وقيدوه وجاؤوا به إلى السلطان، ويقال: إنه هرب واستجار بشيخ عرب بني جذام عبد الدائم ابن مقر، وأنه هرب إلى خياط السلطان سليم وسلم إليه السلطان طومان باي، ذكر هذا العلامة قطب الدين رحمه الله تعالى، فقصد السلطان العفو عنه لما رآه، ثم تذكر جرائمه، ونقض العهد وقتل القضاة الأربعة والكيخية وعلم أن الفتنة لا تنام ما دام موجوداً فأمر بشنقه فشنق على باب زويلة فتم أمر السلطان سليم خان على مصر.(2/311)
وقد مهد القوانين والقواعد ونصب القضاة الأربعة على المذاهب الأربعة، وولى ملك الأمراء الأمير خير بك على مصر المحروسة، وولى جان بردي الغزالي على الشام، وكان وعدهما بذلك وهما من خواص أمراء الغوري، وكانا يكرهانه في الباطن، ويكرههما كذلك فأرسل لهما السلطان الأمان وعهد لهما أن يوليهما مصر والشام، فوافقاه على ذلك، فلما تلاقى العسكران فرا بالميمنة والميسرة، فبقي الغوري وخواص من معه في القلب، فغار الغوري تحت سنابك الخيل، ومحي كما يمحى النهار بالليل، كما تقدم ذكر ذلك عند ذكر حرب الغوري.
ومهد السلطان سليم الأمور على ما ينبغي، وسار إلى الإسكندرية وعاد إلى مصر، ثم توجه من مصر إلى تخت الملك القسطنطينية، وقد تمهدت له البلاد، وعم حكمه العباد، ودخل أمر الحرمين الشريفين تحت حكمه، وخطب له فيهما بأمره ورسمه، وفي سائر هذه الأقطار بشريف لقبه واسمه. وانقضت دولة الشراكسة عن آخرها. ولله البقاء سبحانه.
الباب السابع
في ذكر ملوك آل عثمان
خلد الله سلطتتهم القائمة إلى آخر الزمان، أصلحُ الدول بعد الصحابة والتابعين دولتُهم وذلك لانقيادهم للشرع، وتمكنهم من رتبة العبادة كالصلاة والصوم والحج، والجهاد وملازمة الجماعة، واتباع السنة وحسن العقيدة، والشفقة على الأمة، وكشف كل كربة وغمة، وقل أن يوجد جميع ذلك في دولة من الدول السابقة.
فأصلهم ومبدأ ظهورهم وسبب ملكهم أن آل سلجوق لما تركوا وطنهم من فتنة جنكز خان ملك التتار، وعزموا إلى جانب بلاد الروم جاء معهم من طائفة أغوز رجل اسمه أرطغرل يتصل نسبه بيافث بن نوح عليه الصلاة والسلام، وكان بصحبته نحو ثلاثمائة وأربعين رجلاً، وكان شجاعاً ثم تشمر في خدمة السلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن طغرل السلجوقي، وكان يحبه السلطان علاء الدين لكونه شجاعاً، وفتحت على يديه بلاد كثيرة من بلاد الكفار.
ولما كانت سنة 697 سبع وتسعين وستمائة توفي الغازي أرطغرل فكتب السلطان علاء الذين لعثمان بن أرطغرل بموافقة السلطنة وأرسل إليه خلعة وسيفاً ونقارة وخصه بالغزو على الكفار، فسار عثمان بن أرطغرل ففتح اينه كولي ويني شهر وكوبري حصار وبلجك وغير ذلك.
ثم لما توفي السلطان علاء الدين سنة تسع وتسعين وستمائة، اجتمع أكثر الغزاة عند عثمان بن أرطغرل، فتسلطن عثمان الغازي وجلس على تخت السلطنة في السنة المذكورة، واشتغل بالجهاد وافتتاح البلاد، وكان مولده سنة ست وخمسين وستمائة، دأب في خدمة والده في الجهاد، وتمرس بالغزو في سبيل الله، واستمر بعد والده مع الكفار في الجلاد فرأى السلطان علاء الدين السلجوقي جده وجهده في الجهاد، وعلم قابليته ونجابته في فتح أطراف البلاد، فأكرمه وأمره، وأمده بأنواع الإعانة والإمداد، وأرسل الراية السلطانية والطبل والزمر إليه، وعملوا نوبة بين يديه، فعند أول سماعه صوت الطبل والزمر قام على قدميه تعظيماً لذلك فصار ذلك قانوناً لآل عثمان باقياً مستمراً إلى الآن، فإنهم يقومون على أقدامهم عند ضرب النوبة على أبوابهم.
السلطان عثمان
وكان جلوس السلطان عثمان على تخت السلطنة عام تسع وتسعين بتقديم التاء في الموضعين وستمائة، وافتتح فيها كوبري حصار من الكفار، وأمر بصلاة الجمعة وخطب باسمه فقيه حوله من أهل العلم اسمه طورسن، ثم افتتح قلعة قره حصار، ثم قلعة اينه كولي، ثم قلعة يني شهر، وافتتح قلعة يار حصار، وصارت من جملة مملكته، فزوج ولده أورخان على نيلوفر خان ابنة صاحب يار حصار، واستمر في الغزاة والجهاد وفتح البلاد، وقتل الكفار أهل العناد، إلى أن دعاه الله إلى جنته، وأبدله سلطنة خيراً من سلطنته، فأجاب داعي الحق لما دعاه، وبادر إلى إجابته ولبى نداه، فعاش سعيداً، ومات حميداً إلى رحمة الله عن ست وستين سنة.
وكان للسيف والضيف كثير الإطعام فاتك الحسام، كثير البذل واسع العطاء، شجاعاً مقداماً على الأعداء، ما خلف نقداً ولا متاعاً إلا درعاً وسيفاً يقاتل بهما الأعداء الكفار، وبعض خيل وقطيعاً من الغنم اتخذها للضيفان، وأنسالها باقية إلى الآن ترعى حول بلاد بروسا أبقوها تيمناً وتبركاً، وهو أول من أظهر عظمة هذا الملك، وسلك سبيل العدل فيه حتى قيل فيه: ثالث العمرين.(2/312)
وكان جميل الصورة حتى قيل: ثالث القمرين. وكان يحب الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والأيتام فيجمع أنواع الطعام وأصناف الحلوى، فيطبخ لهم بعد كل ثلاثة أيام سماطاً عظيماً يأكل منه الخاص والعام ممن ذكر وغيرهم.
وكان الموجود له عند موته فرس وسيف ودرع ونحو ذلك من اللباس والفراش. كذا قاله العلامة محمد شلبي والد أحمد شلبي النشانجي قاضي محكمة مكة الشريفة سابقاً، وهو ابن أرطغرل بن سليمان شاه، وكان لجده سليمان أربعة أولاد منهم اثنان توجها إلى بلاد العجم وهما سنقر ودندار، وتوجه إلى بلاد الروم اثنان أرطغرل وكون وقدما على السلطان علاء الدين السلجوقي وكان سلطان بلاد قرمان، فأكرمهما وأذن لهما في الإقامة، وصار دأبهم الجهاد في سبيل الله إلى أن صار أمر أرطغرل إلى ما صار كما تقدم ذكر ذلك. وخلف أرطغرل أولاداً نجباء أقواهم جأشاً السلطان عثمان، فاستمر إلى أن توفي سنة خمس وعشرين وسبعمائة وكانت مدته ستاً وعشرين سنة.
ثم تولى السلطان
أورخان الغازي
ابن السلطان عثمان خان
مولده سنة سبع وثمانين وستمائة، وجلس على تخت السلطنة سنة ست وعشرين وسبعمائة وفتح إزنيق وبروسا وغيرهما.
وأرسل ابنه سليمان باشا إلى روع إيلي مع أربعين نفراً ففتحوا قلعة ملقرة وأبسالة وبولاير، ووزه، وكان السلطان أورخان فاق والده في الجهاد وفتح البلاد وبذل الاجتهاد، وهو الذي افتتح بروسا في حياة والده ثم جعلها مقر سلطنته، واتسعت مملكته ونفذت كلمته.
واجتمعت ملوك النصارى وجميع الكفرة على قتال العساكر السلطانية الإسلامية واجتمعوا على أن يتعدوا من بلاد روميلي إلى جهة أنادول ويقاتلوا السلطان أورخان، وكان له ولد نجيب اسمه سليمان بك، فاستأذن والده في قتالهم، فوقع حرب شديد كان الظفر فيه لسليمان بك، وهو أول من كتب على السكة من آل عثمان فكتب في وجهِ: محمد رسول الله، وفي الوجه الآخر اسمه الشريف، وهو أول من رتب طبقات العساكر وسمى الطبقات المذكورة بأسمائها المشهورة، وكان أول سلطنته ببروسا وأعمالها، ثم ملك عدة من البلاد الإسلامية وغزا الكفار وفتح ممالك متعمدة، وغنم بلاداً وأموالاً، وبنى الجوامع ومساجد ومدارس ومطبخاً للمسافرين، وللمقيمين في غالب الممالك التي تحت سلطانه، وعمر في الطرقات والمفاوز، ومحال الخوف والمقطعة سبلاً وخانات وقصوراً وجسوراً وأمثال ذلك من الخيرات العميمة، وسلك سبيل العدل والجود والفضل والإحسان على نمط والده المرحوم الساكن بأعالي الجنان. وتوفي السلطان أورخان حميداً سنة إحدى وستين وسبعمائة عن ثلاث وثمانين سنة.
ثم تولى السلطان
مراد خان الغازي
خدا وندكار ابن السلطان أورخان:
وجلس على سرير الملك والسلطنة سنة إحدى وستين وسبعمائة في بروسا، ولي السلطنة وعمره أربع وثلاثون سنة، وافتتح كثيراً من البلاد منها أدرنة سنة إحدى وستين وسبعمائة، وهو أول من اتخذ المماليك، وسماهم ينيشري يعني: العسكر الجديد، وألبسهم اللباد الأبيض المثني إلى خلف، وسماهُ بُرْكلة بالضم للموحدة وسكون الراء، ثم توجه إلى فتح قوصوة، فلما وصل إليها التقى الجمعان، وانهزمت الكفار، ثم اجتمعت النصارى على سلطانهم أسبوت فقاتلهم السلطان مراد قتالاً عظيماً فقتل سلطانهم، فأظهر واحد من ملوكهم الطاعة، وتقدم ليقبل يد السلطان، فلما قرب أخرج خنجراً فضرب به السلطان مراداً فاستشهد، فصار من يومئذ لا يدخل على السلطان أحد بسلاح، بل يدخل بين رجلين يكتنفانه، وكانت مدة سلطنته إحدى وثلاثين سنة.
وفي مورد اللطافة، فيمن ولي السلطنة والخلافة عن السلطان مراد ما نصه: كان ملكاً جليلاً، ذا هيبة وعظمة، وشدة بطش، فتح الممالك العظيمة كقلعة نكبولي ونحوها، وحاصر الفرنج براً وبحراً، وضيق عليهم المسالك فانتدب لحربه بعض ملوكهم، فلما التقى الجمعان، وتصاف العسكران تحاربا وتعاركا وتضاربا، فقصد السلطان ملك الفرنج وحمل عليه مرة بعد أخرى فتقاربا وتعاركا وتضاربا وهما على ظهور الخيل، فسقطا معاً على الأرض فانقلب عدو الله على السلطان وضربه بالخنجر صادف مقتله، فأدركه معسكره، واحتملوه إلى خيمته وهو يجود بنفسه، فعهد بالملك إلى ابنه يلحرم بايزيد في التاريخ الآتي ذكره، ومات بعد ذلك سنة ست وتسعين وسبعمائة رحمه الله تعالى.(2/313)
ثم تولى السلطان يلدرم بايزيد ابن السلطان مراد الغازي:
ولما سمع بوفاة أبيه خنق أخاه يعقوب شلبي واشتغل بالفتوحات، ففتح الأفلاق وقونية وآق سراي ونيكده وقيصرية وسلانيك، وغيرها من البلاد، ثم هرب بعض الأمراء من خدمة السلطان يلدرم ودخلوا عند تيمورلنك، فحركوه وجاءوا به إلى بلاد الروم، فالتقى العسكران في موضع يقال: جبوق أواسي، فانكسر السلطان يلدرم، لكثرة من مع تيمور من العسكر كالجراد المنتشر، فأخذ السلطان يلدرم وحبس ثم توفي بالحمى المحرقة سنة سبع وثمانمائة وكان ابنه الأمير محمد أمير أماسية فلما سمع بذكر ذلك خرج بعسكر أماسية خلف تيمور فأخذ جثة والده بعد حرب شديدة. وكانت مدة سلطنته ست عشرة سنة.
وتيمور ويقال: تيمورلنك، واللنك - في اللغة الفارسية - : الأعرج؛ لأنه كان به عرج، كان ظهوره في عام سبعمائة وثلاث وسبعين، وكان تاريخ ذلك لفظ عناب قاله العلامة السيوطي في تاريخه.
وكان أول أمره راعياً للغنم، ثم صار أمير آخور لبعض سلاطين العجم في سمرقند و بخارى فتغلب على مخدومه، ولم يزل حتى تفرد بالسلطان وملك البلاد طرفاً بعد طرف في أسرع زمن على أعجب أسلوب، وذلك أنه إذا قصد محلاً ورَّى بغيره فيهجم على ذلك المحل وأهله غافلون، ثم يبدأ بقتل جميع من فيه من كل في روح، ثم يتملك البلاد ويأخذ جميع ما فيها من الأموال والسلاح والطعام بحيث خربت جميع الممالك التي دخلها مما وراء النهر.
فلما خرج إلى البلاد الإسلامية كبغداد والروم والشام وحلب كان عادته يقتل أعيان البلاد وأركان دولتها، ثم ينصب فيها من يقوم بأمرها من جماعته، فهابته أكثر سلاطين الإسلام وملوكه، وقصدوه بالهدايا والتحف اتقاء شره.
ومولانا السلطان يلدرم صاحب الترجمة لم يلتفت إليه، ولم يكترث بشأنه لاشتغاله بالغزوات وما فيه سعادة الدنيا والآخرة فهجم على بلاد الروم على غرة وأسرع في السير إلى المحل الذي فيه السلطان المشار إليه قبل أن يعلم أحد بوصوله، فما وسع السلطان إلا مقابلته لأن شهامته أبت أن يعرض عنه ويترك قتاله، فاتفق بمراد الله أن كسر عسكر السلطان المذكور وحبسه إلى أن كانت وفاته بالحمى كما تقدم ذكر ذلك.
وفي عجائب المقدور في أخبار تيمور، للإمام العلامة أحمد بن محمد الحنفي الدمشقي عرف بابن عرب شاه رحمه الله تعالى: ومعنى يلدرم البرق فوجه الأخذ المذكور من هذا اللقب سرعة الحركة، وقوة الظهور مع النور واللمعان، رحمه الله تعالى.
قلت: أخبرني بعض فضلاء أهل الهند أن ملكهم الآن، وهو المسمى أورنك زيب ابن شاه جهان يتصل نسبه بتيمور هذا، ومنه إلى جنكزخان طاغية التتار، وينكرون كونه راعياً أو خادماً لبعض ملوك العجم فتغلب على مخدومه في السلطنة، ويدعون عراقته فيها. والله أعلم بالحقائق.
قلت: وذكر الإمام المذكور في كتابه المذكور واقعة لتيمور مع العلامة القاضي محب الدين أبي الوليد محمد بن محمد بن محمود الحلبي قاضيها الحنفي المعروف بابن الشحنة أحببت ذكر نصها: لما كان يوم الخميس تاسع ربيع الأول من عام ثمان وثمانمائة أخذ يعني تيمور قلعه حلب بالأمان والأيمان التي ليس معها ايمان، فاستحضر علماءها وقضاتها فحضروا إليه، وطلب من معه من أهل العلم فقال لكبيرهم عنده، وهو المولى عبد الجبار ابن العلامة نعمان الدين الحنفي، قل لهم: إني سائلهم عن مسائل سألت عنها علماء سمرقند وبخارى وهراة وخراسان، وسائر البلاد التي افتتحتها، فلم يفصحوا الجواب، فلا تكونوا مثلهم، ولا يجاوبني إلا أعلمكم وأفضلكم وليعرف ما يتكلم به، فإني خالطت العلماء ولي بهم اختصاص وألفة، ولي في العلم طلب قديم. قال صاحب الكتاب: وكان يبلغنا عنه أنه يتعنت العلماء في الأسئلة، ويجعل ذلك سبباً إلى قتلهم أو تعذيبهم.(2/314)
قال القاضي ابن الشحنة: فقال القاضي شرف الدين موسى الأنصاري الشافعي: هذا شيخنا ومدرس هذه البلاد ومفتيها - مشيراً إلى - سلوه والله المستعان. قال: فقال لي قاضيه عبد الجبار: سلطاننا يقول إنه بالأمس قتل منا ومنكم، فمن الشهيد: قتيلنا أم قتيلكم؟ فوجم الجميع، وقلنا في أنفسنا: هذا الذي كان يبلغنا عنه من التعنت. وسكت القوم، ففتح الله علي بجواب سريع بديع. فقلت: هذا سؤال سئل عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لي صاحبي شرف الدين المذكور بعد أن انقضت الحادثة: والله العظيم لما قلت: هذا السؤال سئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا محدث زماني، قلت: عالمنا قد اختل عقله، فإن هذا سؤال لا يمكن الجواب عنه في هذا المقام، ووقع في نفس عبد الجبار قاضيه مثل ذلك وألقى إليّ تيمور سمعه وبصره، وقال لعبد الجبار يسخر من اكلامي: كيف سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، وكيف أجاب؟ فقلت: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل ليُري مكانه من الشجاعة، فأينا الشهيد في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمةُ اللهِ هي العُلْياً فَهُوَ الشَهِيدُ " .
فقال تيمور لنك: خوب خوب. فانفتح باب المؤانسة فكثر منه السؤال، وكثر مني الجواب.
وكان آخر ما سأل أن قال: ما تقولون في علي ومعاوية ويزيد. فأسر إلى القاضي شرف الدين: أن اعرف كيف تجاوبه فإنه شيعي، فلم أفرغ من سماع كلامه إلا وقد قال القاضي علم الدين القفصي المالكي كلاماً معناه: إن الكل مجتهدون، فغضب لذلك غضباً شديداً، وقال: عَلِي عَلَى الحق، ومعاوية ظالم، ويزيد فاسق، وأنتم حلبيون تبع لأهل دمشق، وهم يزيديون قتلوا الحسين.
قال: فأخذت في ملاطفته والاعتذار عن المكي بأنه أجاب بشيء وجده في كتاب لا يعرف معناه، فعاد إلى دون ما كان عليه من البسط.
قال: ولما كان آخر شهر ربيع المذكور طلبني ورفيقي القاضي شرف الدين وأعاد السؤال عن علي ومعاوية، فقلت: لا شك أن الحق كان مع علي في نوبته، وليس معاوية من الخلفاء فإنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة " وقد تمت بعلي وابنه الحسن.
فقال تيمور لنك: قُل عَلِي عَلَى الحق، ومعاوية ظالم. فقلت: قال صاحب الهداية: يجوز تقلد القضاء من ولاة الجور فإن كثيراً من الصحابة والتابعين تقلدوا القضاء من معاوية، وكان الحق مع علي في نوبته، فأنس لذلك. انتهى من الكتاب المذكور ملخصاً.
قلت: في قوله: في نوبته احتراز لطيف عن نسبة التعدي إلى الصديق، وتالييه كما هو مذهبنا معشر أهل السنة والجماعة، ومرت على تيمور ولم يفطن لذلك.
وفي رواية: لما استولى على كثير من قلاع النصارى، هرب بعض وزرائه وحلق لحيته وحواجبه وصار في صورة قلندري، ووصل معه جماعة إلى تيمور، وشكوا من السلطان يلدرم وحسنوا له الوصول إلى بلاد الروم، فوصل إلى البلاد الشامية والحلبية، وقتل من بها وأسر ونهب، واستمر إلى أن وصل أفربيجان، وخرج إليه السلطان فغدر به العساكر، وذهبوا إلى تيمور، ووثب هو ومَن بقي معه وقتل ولده السلطان مصطفى واستمر يقاتل إلى أن وصل بسيفه إلى تيمور، فألقى عليه بساط، فأمسك وتوفي. كما تقدم ذكر ذلك.
ثم تولى السلطان
محمد ابن السلطان يلدرم
واستقر في السلطنة سنة ست عشرة وثمانمائة، وكانت مدته تسع سنين.
وافتتح عدة من الحصون منها: بلدة اسكب وآق شهر وغيرهما.
وكان شجاعاً مقداماً مجاهداً في سبيل الله تعالى، وله خيرات متعددة منها ببرسا جامع عظيم، ومدرسة علمية، وتربة سلطانية، ومنها بولاية مرزفون جدد، وأنشأ جامعين وحمامين، وأوقافاً عديدة كثيرة الغلة، وقفها وشرط أن تحمل غلتها إلى الحرمين الشريفين.
فهو أول من عمل الصر لأهل الحرمين الشريفين من آل عثمان أدام الله دولتهم وصولتهم.
ولما تم أجله المسمى في أم الكتاب، دعاه ملَك الفناء إلى دار البقاء المستطاب. فعاش سعيداً، ومضى حميداً، وتحول من دار البلى إلى دار البقا " إن إلىَ رَبك اَلرُجعى " العلق: 8.
وكانت وفاته بمرض الإسهال، فتكون له مرتبة الشهادة، وذلك في سنة خمس وعشرين وثمانمائة.
ثم تولى السلطان
مراد الثاني ابن السلطان محمد بن يلدرم(2/315)
وجلس على تخت السلطنة سنة خمس وعشرين وثمانمائة، وظهر في أيامه رجل وادعى أنه ابن السلطان يلدرم، واسمه مصطفى الذي فقد في فتنة تيمور، فظهر تزويره فصلبوه في برج قلعة أدرنة. وفتح في زمنه سمندرة ومورة. ثم إنه بحسن اختياره أقعد ولده محمداً الآتي بعده واختار التقاعد ببلدة مغنيسا مدة.
ثم قامت عليه طائفة الينيشرية، فأرسلوا إلى مغنيسا وأتوا بوالده منها، وأجلسوه ثانياً على سرير السلطنة.
فلما توفي أجلس ابنه السلطان محمد على تخت السلطنة، وعمره ثمانية عشر عاماً، وعاش تسعاً وخمسين سنة، وكان ملكاً عظيماً مطاعاً، عين للحرمين الشريفين من خاصة صدقاته ثلاثة آلاف وخمسمائة ذهباً، وللشرفاء مثلها في كل عام، وكانت مدة سلطنته إحدى وثلاثين عاماً.
قال ابن تغري بردي في تاريخه: لم يكن في زمانه شرقاً ولا غرباً مثله في غزو الكفار أهلك الله على يده الملك قزال، عظيم ملوك الفرنج؛ في عام ثمانية وأربعين وثمانمائة، وكانت وقعة عظيمة مشهورة هلك فيها من الفريقين ما يزيد على عشرين ألفاً، كانت طوائف الكفار اجتمعوا من كل ناحية في هذه الوقعة، وعزموا على استئصال ثغور الإسلام خصوصاً بيت المقدس، فلما التقى الجمعان ظهر أن طائفة الكفار فوق عدد المسلمين بأضعاف مضاعفة، فلما وقع الحرب ظهرت الغلبة على المسلمين.
فأرسل الله تعالى ريحاً عاصفاً بتراب عظيم على جانب الكفار فأدبروا وركب المسلمون أكتافهم قتلاً وأسراً، وغنموا غنائم جزيلة لا حد لها ولا عد، من النقود والخيول والسلاح وغير ذلك، ومحاسنه كثيرة ومآثره شهيرة.
ثم تولى السلطان
محمد خان فاتح القسطنطينية ابن مراد
مولده: عام خمس وثلاثين وثمانمائة، جلوسه أولاً بفراغ من والده له في عام سبع وأربعين وثمانمائة، وتقاعد والده بولاية مغنيسا إلى نيف وخمسين، فقامت طائفة الينيشرية واجتمعت على عود السلطان مراد خان لصغر ولده محمد المذكور، فعاد السلطان مراد مدة يسيرة ثم أدركته الوفاة.
واستقر السلطان محمد المذكور في الملك عام وفاة والده الموافق لسنة ست وخمسين وثمانمائة.
ثم إن السلطان محمد سلك طريق العدل وأقام نظام الملك، وأظهر أبهة السلطنة وذلك جميعه ببركة والده ونفع ما جمعه له من المال والرجال، والمدن الواسعة، والأمصار النافعة، وهابته الملوك ودخلت في طاعته أكابر الممالك وأعيانها، فملك تسعة سلاطين أربعة من المسلمين وخمسة من النصارى، أما المسلمون فسلطان ولاية قرمن، وسلطان كرميا، وسلطان النكا، وسلطان اسفنديار، وفتوحاته مشهورة.
وكان من أعظم سلاطين آل عثمان وأقواهم اجتهاداً، له غزوات كثيرة لا تحصى، من أعظمها: فتح القسطنطينية في اليوم الحادي والخمسين من حصارها، وهو الرابع والعشرون من جمادى الآخرة سنة سبع وخمسين وثمانمائة، وله كرامات عجيبة واَثار بديعة، وكانت مدة سلطنته إحدى وثلاثين سنة. ولما افتتح القسطنطينية صلى في أكبر كنائسها وهي أيا صوفية صلاة الجمعة وهي باقية تسامي قباب السماء وتحاكي في الاستحكام متين الأهرام، فما وهت ولا وهنت كبراً ولا هرماً.
دام سلطانه إلى أن مات سنة ست وثمانين وثمانمائة.
ثم تولى السلطان
بايزيد ابن السلطان محمد
وجلس في سنة ست وثمانين وثمانمائة، وافتتح الفتوحات:
وفي أيامه في سنة ثمان وثمانين أو خمس وتسعين وثمانمائة ظهر من بلاد العجم شاه إسماعيل ابن حيدر الصفوي وكان له ظهور عجيب وفتك في البلاد، وسفك دماء العباد، فأظهر مذهب الرفض والإلحاد، وغير اعتقاد أهل العجم إلى الانحلال والفساد بعد الصلاح والسداد. وأخرب ممالك العجم، وأزال من أهلها حسن الاعتقاد، والله تعالى يفعل في ملكه ما أراد، وتلك الفتنة باقية إلى الآن في جميع البلاد.
وظهر من أتباع شاه إسماعيل المذكور ببلاد الروم شخص ملحد زنديق، يقال له: سلطان قولي. أهلك الحرث والنسل، وعم بالفساد والقتل، فأرسل السلطان وزيره الأعظم على باشا بعسكر كثير إلى قتال هذا الطاغي وأمده بجيش عظيم لقطع جاذرة هذا الباغي فاستشهد علي باشا في ذلك القتال، ووفد بأكفان شهادته على الكبير المتعال، وانكسر الشيطان فولى المفسد التعيس وعسكره جنود إبليس، وأسكن الله تلك الفتنة بعد ما أطلقت، وكفى الله شر أولئك الأشرار بعد أن عظمت محنتهم وعمت.(2/316)
وفي سنة سبع وثمانين وثمانمائة قاتله أخوه السلطان جم شيد، فبرز السلطان بايزيد لقتاله فهزمه، ففر إلى مصر ونجح زمن السلطان قايتباي، وعاد فأكرمه السلطان قايتباي إكراماً عظيماً، فذهب إلى دوسق وجمع طائفة من الغزاة، ونازع أخاه على الملك ثانيَاً، فقاتله السلطان بايزيد فانكسر السلطان جم ثانيَاً، وفر إلى بلاد النصارى في سنة 888 ثمان وثمانين وثمانمائة، فأرسل إليه السلطان بايزيد أحد عبيده في صورة حلاق، فاستخدمه وأمره أن يحلق رأسه فحلق رأسه بموس مسموم، وهرب في الحال، وأثر السم في رأسه وسرى إلى بدنه فمات سنة خمس عشرة وتسعمائة.
وكان السلطان بايزيد ملكاً جليلاً عالماً عاملاً، ترقى في مراتب الكمال الجليلة وتسنم ذرى المفاخر الأثيلة، جمع الله له بين السلطنة العظمى الظاهرة، والإمامة الكبرى الباطنة حتى نقل عنه أنه كان يرى القبلة المعظمة في افتتاح كل صلاة، وكانت أيامه كثيرة الخيرات والفتوحات.
وكان يجهز إلى أهل الحرمين الشريفين في كل عام أربعة عشر ألف دينار ذهباً يصرف نصفها على فقهاء مكة والاَخر للمدينة.
وممن ورد عليه في شبابه خطيب مكة الشيخ محي الدين عبد القادر بن عبد الرحمن العراقي، والشيخ شهاب الدين أحمد بن العُليف شاعر البطحاء، وفاضلها فنالا منه خيراً كثيراً. وصنف له العليف تاريخاً سماه الدر المنظوم، في مناقب السلطان بايزيد ملك الروم، وامتدحه بقصيدة رائية طنانة أولها: من الطويل:
خُذوامن ثنائِي موجبَ الحمدِ والشكرِ ... ومِنْ در لفظِي طيب النظمِ والنثْرِ
فيا راكباً يسري على ظَهر ضامر ... إلى الروم يهدي نحوها طيب النشْرِ
لك الخير إن وافيت بروص عُج بها ... رويداً لإسطنبولَ سامية الذكْرِ
لدي ملك لا يبلغُ الوصفُ كنهَهُ ... شريف المساعي نافذ النهْي والأمرِ
إلى بايزيد الخَير والملك الذي ... حمى بيضة الإسلامِ بالبيضِ والسمرِ
وجرد للدين الحنيفي صارماً ... أباد به جمع الطواغيتِ والكُفْرِ
وجاهدهم في الله حق جهادِهِ ... رجاءً لما يبقَى من الفوزِ والأجرِ
له همة تملا الصدور وصولة ... مقسمة بين المخافةِ والذكْرِ
أطاعَ له ما بَين رومٍ وفارسٍ ... ودان له ما بين بُصْرى إلى مصرِ
هو البحرُ إلا أنه دائمُ العطا ... وذلك لا يخلو من المد والجزرِ
هو البدرُ إلا أنه كامل الضيَا ... وذاك حليفُ النقْصِ في معظمِ الشهرِ
هو الغيثُ إلا أن للغيثِ مسكةً ... وذا لا يزال الدهر ينهل بالقطرِ
هو السيفُ إلا أن للسيفِ نبوةً ... وفلاًّ وذا ماضي العزيمةِ في الأمْرِ
سليلُ بني عثمان والقادةِ الألَى ... علا مجدهُمْ فوقَ السماكَيْنِ والنسرِ
ملوك كرامُ الأصلِ طابَت فروعُهُمْ ... وهل ينسبُ الدينار إلا إلى التبرِ
محا أثر الكفارِ بالسيفِ فاغتدَت ... به حوزة الإسْلامِ ساميةَ القَدرِ
فيا ملكاً فاق الملوك مكارماً ... فكل إلى أدنى مكارمه يجرِي
لئن فقتهُم في رتبة الملكِ والعلا ... فإن الليالي بعضها ليلةُ القدرِ
فدتك ملوكُ الأرضِ طراً لأنها ... سراج وأنتَ البدرُ في غرة الشهرِ
تعاليْتَ عنهم رفعةً ومكانةً ... وذاتاً وأوصافاً تجل عن الحصرِ
لك العزةُ القعساءُ والرتبةُ التي ... قواعدهاً تسمو على أبرجِ النسرِ
سموتَ علوّاً إذ دنوتَ تواضعاً ... وقمتَ بحق الله في السر والجهرِ
غدت بك أرضُ الرومِ تزهو ملاحةً ... وترفل في ثوب الجلالةِ والفخرِ
إليك ابن عثمان الذي سَارَ ذكْرُهُ ... مسير ضياء الشمَسِ في البَر والبَحْرِ
يمينكَ تروى عن يسارٍ ونائلٍ ... ووجهُكَ يروى في البشاشة عن بشرِ
وإني لصؤوان لدر قلائدي ... عن المدحِ إلا فيك يا مالك العصرِ(2/317)
فقابل رعاكَ الله شكري بمثلِهِ ... فإنك للمعروف من أعظمِ الذخر
فلا زلتَ محروسَ الجنابِ مؤيداً ... من الله بالتوفيقِ والعزِّ والنصرِ
فأمر للعليف بعد وصولها إليه، وفرحه بها بألف دينار ذهباً جائزةً، ورتب له في دفتر الصر لكل عام مائة دينار ذهباً فصارت بعده لأولاده رحمهم الله تعالى.
وكان للسلطان بايزيد أولاد، ولم يخلع بالملك إلا لولده سليم خان، ودام سلطانه اثنين وثلاثين عاماً، إلى أن مات سنة 918 تسعمائة وثمانية عشر.
ثم تولى السلطان
سليم بن السلطان بايزيد
كاسر العجم وفاتح بلاد العرب:
وجلس في سنة ثمان عشرة وتسعمائة، وفي سنة عشرين وتسعمائة ركب على إسماعيل شاه العجم ابن الشيخ حيدر ابن الشيخ جنيد ابن الشيخ إبراهيم ابن سلطان خوجه شيخ علي ابن الشيخ صدر الدين موسى ابن الشيخ صفي الدين إسحاق الأردبيلي، وإليه ينسب أولاده فيقال لهم: الصفويون.
وكان الشيخ صفي الدين صاحب زاوية في أردبيل، وله سلسلة في المشايخ أخذ عن الشيخ زاهد الكيلاني، وتنتهي بوسائط إلى الإمام حجة الإسلام أحمد الغزالي فرجع بالظفر المبين.
ثم في سنة اثنتين وعشرين وتسعماثة ركب على السلطان الغوري، وكسره في مرج دابق قرب حلب وأباد ملكه، وقد مرت قصته.
ومن وزرائه الأجلة بير باشا، وابن هرسك أحمد، وسنان باشا، وزنبيلي وغيرهم.
مولده في أماسية سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، وكان عمره جميعه أربعاً وخمسين سنة ولم تطل سلطنته لأنه كان سفاكاً، وهذه عادة الله تعالى في السلاطين والأمراء إذا أكثروا من القتل، وكان سلطاناً قهاراً، ملكاً جباراً، يغير زيه في لباسه ويتجسس في الليل والنهار ويطلع على الأخبار، وله عدة مصاحبين يدورون تحت القلعة، وفي الأسواق والمحافل والجمعيات ومهما سمعوه ذكروه له فيعمل بمقتضى ما يسمعه، وله معرفة باللسانين الرومي والفارسي، وشعر رائق ونظم فائق، ورأيت له بيتين في الكوشك الذي بني له، لما فتح مصر وهما بالعربي بخطه قوله: من البسيط:
المُلكُ لِلهِ مَن يَظفَر بِنَيل مُنى ... يَترُكهُ قَسْراً ويَضْمَنْ بَعدَهُ الدَرَكَا
لَو كَانَ لِي أَوْ لِغَيري قَدر أُنْمُلَةِفَوقَ التُرَاب لَكَانَ الأَمْرُ مُشْتَرَكَا
وتحتها ما صورته: كتبه سليم بذلك الخط والقلم.
كذا ذكره العلامة قطب الدين النهروالي عن نفسه فهو فاعل رأيت.
وسليم هذا هو أول من ملك مصر من آل عثمان سلاطين الزمان أدام الله تعالى دولتهم إلى يوم القيامة، ومد على ملكهم فسطاط الإجلال والكرامة. فإنهم ظل الله تعالى الممدود على الأرض، والقائمون بشعائر الإسلام من السنة والفرض.
كان عظيم الهيبة، سعيد الحركة، كثير المبرات دائم الأسفار، مستيقظاً للأمور الجليلة، نظره إلى معالي الأمور، لو انتظم في سلكه كل لحظة أعظم الأمصار هو عنده في غاية الاحتقار والاستصغار، ويكفيه فتح مصر أم الدنيا، طاب ثراه في الجنان العليا.
ولد السلطان سليم سنة خمس وسبعين وثمانمائة، وتولى السلطنة بعد أبيه في حياته بنزوله له عن الملك لأمر اقتضاه الحال.
وأما سبب ركوبه، ومقاتلته لإسماعيل شاه، فإن إسماعيل هذا طغى وبغى وصار يقتل من ظفر به قتلاً ذريعاً، ولا يمسك شيئاً من الخزائن بل يفرقها في الحال على عساكره، إلى أن ملك تبريز وأذربيجان وبغداد وعراق العجم وخراسان.
وكان يدعي الربوبية، وكان عسكره يسجدون له، وقتل خلقاً لا يحصون ينيفون على ألف ألف أو يزيدون بحيث لا يعهد في الإسلام ولا في الجاهلية مقدار ما قتله شاه إسماعيل هذا، وهو من ملوك العجم الموسومين بقزل باش وكان ركوبه عليه سنة عشرين وتسعمائة، فحاربهم الحرب الشديد، وانتصر عليهم، وملك غالب بلادهم مع مزيد قوتهم وعزتهم، وكان قبل الحرب كتب إليهم كتاباً فلم يعبئوا به ثم كتب إليهم كتاباً آخر أغلظ عليهم فيه، ووسمهم بالخوف والجبن عن اللقاء فاستنهضهم به؛ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.(2/318)
وصورة الكتاب الأول: ليعلم إسماعيل بهادر أصلح الله أحوالة أن جميع أهل الشرائع والأحكام، وعلماء الدين والإسلام، المحبين لشريعة سيد الأنام، قد أفتوا بكفرك وفسادك، وضلالك وعنادك، لارتكابك العقائد الفاسدة، والضلالات الكاسحة، والأحوال الفظيعة، والأقوال القبيحة الشنيعة. ومن استحل ما حرم الله فلا شك في كفره، فلذلك نشرت الأعلام الإسلامية، والرايات الدينية. وسرتُ إلى بلادك لإمحاء رسمك ووجودك. واضمحلال اسمك وجنودك. لكن لما كان من سنة الدين، وطريق الحق المبين، الإخبار والإعلام بالدعوة إلى اتباع شريعة الإسلام، قبل الإلجاء بالسيف حين لا يفيد أين ولا كيف؛ أرسلت إليك مخبراً بأنك إن أخلصت التوبة، وصدقت في الأوبة، ورجعت عن تلك العقائد القبيحة الفظيعة فقد فزت بالمقصد الأسنى، ولك الأمان مع الزيادة في الحسنى.
وإن لم ترجع فلتعلم أني قد سرت إليك بآيات النصر والتمكين، ورايات الظفر المبين، عملاً بقوله تعالى: " قاتِلوُا الَذِين يُلونَكُم من الكفارِ " التوبة: 123، لترمى بالعذاب مجاهرة، والنكال مجاهرة، والسلام على من اتبع الهدى.
فلم يرتدع لذلك، فأرسل إليه بكتاب ثانٍ بديع اللفظ والمعاني، فلم يرتدع لفرط العتو والطغيان. فسار إليه السلطان سليم، فتلاقيا في شالدران بقرب تبريز. وأراد أن يقيم بتبريز لأخذ إقليم العجم جميعه فما أمكنه ذلك لكثرة الغلاء والقحط، وسبب ذلك أن القوافل التي كان أعدها السلطان سليم لأن تتبعه بالميرة والعليق تخلفت عنه في محل الاحتياج إليها وما وُجد في تبريز شيء من المأكولات والحبوب؛ لأن إسماعيل شاه حرقها عند انكساره، فاشتد الغلاء بحيث بيعت العليقة بنحو مائتي درهم، والرغيف الخبز بمائة درهم، فاضطر السلطان سليم إلى العود عن تبريز إلى بلاد الروم، وتركها خاوية على عروشها، ثم تفحص عن سبب انقطاع القوافل وتأخرها عنه وقت الحاجة، فأخبر أن سبب ذلك أن سلطان مصر الغوري قانصوه كان بينه وبين إسماعيل شاه محبة ومودة ومراسلات، بحيث كان السلطان الغوري يتهم بالرفض وعقيدته سبب ذلك، فلما ظهر للسلطان سليم أن الغوري هو الذي أمر بقطع القوافل عنهم صمم على قتال الغوري أولاً، وبعد استيلائه عليه وعلى بلاده يتوجه على شاه إسماعيل ثانياً.
فلما استقر ركابه في تخت ملكه، تهيأ لأخذ مصر، وإزالة دولة الشراكسة عنها. وتوجه إلى ناحيته من جهة حلب، فالتقيا بمرج دابق كما تقدم ذكر ذلك مفصلاً.
كانت مدته ثمان سنين وأياماً، وتوفي سنة ست وعشرين وتسعمائة رحمه الله برحمته، وأسكنه بحابيح جنته.
ثم تولى السلطان
سليمان بن سليم خان
سنة ست وعشرين وتسعمائة:
ولد سنة تسعمائة تقريباً، فتكون سنُّه حين التولية ستاً وعشرين سنة، سلك طريق المعدلة وجادة الإنصاف، وتفقد أحوال الرعايا والعساكر، ورفع الظلم والاعتساف، وأعرض عن المنهيات.
وله خيرات لا تحصى معروفة في الآفاق، وفتوحات وغزوات، رفعت أهل الإيمان، وخفضت أرباب الشقاق والنفاق، منها: انكروس ورودس وبُدِن وبلغراديج وغزوة العجم، وألمان وأولونية وبغداد واسطنبول والستوراغون وسكتوار آخر غزواته، وتوفي فيها سنة 974 أربع وسبعين وتسعمائة.
ومن مشاهير العلماء في أيام دولته المفتي على شلبي وكمال باشا زاده وسعدي شلبي وجوي زاده ومفتي خواجه شلبي وأبو السعود أفندي صاحب التفسير وغيرهم.
ووزراؤه بيري باشا وإبراهيم باشا وإياس باشا ولطفي باشا وسليمان باشا ورستم باشا وعلي باشا ومحمد باشا، كلهم كانوا أرباب خيرات ومبرات.
افتتح البلدان الواسعة بالقهر والحرب، وأخذ الكفار والملاحدة بالطعن والضرب. وأيد الدين الحنيفي بمجده وسيفه الباتر.
وأقام الملة الحنيفية، وأحيا ما لها من مآثر، ونصر مذهب السنة السنية، وأظهر شعائر الإسلام البهية، وردع أهل الإلحاد فما لهم من قوة ولا ناصر.
وكان مجدد دين هذه الأمة المحمدية في هذا القرن العاشر، كما ورد: " لِكُل قَرنٍ مُجَددٌ ظَاهر " .
وبنى المدارس المعروفة بالسليمانية للأربعة الأئمة: المالكي ثم الحنفي ثم الشافعي ثم الحنبلي.
وقد جعلت مدرسة دار حديث لعدم متأهل من الحنابلة، وبسط بساط العدل في سائر الممالك، وفتح القلاع والحصون، ومهد المسالك.
وكانت أيام سلطنته باسمة الثغور، ودولته الشريفة غرة في جباه الدهور.(2/319)
وله فتوحات عديدة منها، وهو أولها: رودس، وغيرها مما تقدم ذكره.
ومنها: الأقطار اليمنية وثغورها الإسلامية، وكانت في القديم لعدة سلاطين وملوك.
وههنا أحببت ذكر رسالته إلى الإمام المطهر بن شرف الدين الحسني الداعي بقطر اليمن لحسن تنميقها وكثرة تحقيقها ومتانة ألفاظها وإيراقها، ورصانة إرعادها وإبراقها. وهي: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا مثالنا الشريف السلطاني، وخطابنا المنيف العالي لخاقاني، لا زال نافذاً مطاعاً بالعون الرباني، واليمن الصمداني، أرسلناه إلى الأميري الكبيري، العوني النصيري، الهمامي المطهري، الشريفي الحسيبي لنسيبي، فرع الشجرة الزكية، طراز العصابة النبوية العلوية، ونسل السلالة الهاشمية السنية المطهر بن شرف الدين. نخصه بسلام أتم، وثناء أعم.
ونبدي لعلمه الكريم أنه لا يزال يتصل بمسامعنا الشريفة إخلاصه لدينا، وقيامه بقلبه وقالبه بمرضاة سلطاننا وانقياده إلى جانبنا، وبمقتضى ذلك حصل شكرنا التام، والثناء العام، على مناصحته ومكاتبته.
ولما برز أمراؤنا الشريفة مسابقين متتابعين مع وزيرنا المعظم سليمان باشا إلى البلاد الهندية لفتح تلك الجهات السنية؛ إحياء لسنة الجهاد، وقطع دابر الفساد وأهل العناد. فاستبشر بذلك كل مسلم وصار فرحاً مسروراً، فوقع قدر الله وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
فرجع وزيرنا المشار إليه فوجد طائفة من اللوند قد تملكوا زبيد من المملكة اليمنية، وحصل منهم غاية المشاق بأذى الرعية، وزاد ظلمهم على العباد والبلاد، وعم ضررهم كل حاضر وباد، فتتبع آثارهم وقطع دابرهم، واستنقذ الرعايا من أيديهم وصارت مملكة زبيد من ممالكنا الشريفة، وعاد إلى أعتابنا المنيفة، وأبرز من يديه مكتوبكم ومكتوب والدكم يتضمن الإخلاص لطاعة سلطاننا، وأنهما صارا من أتباعنا، اللائذين بأعتابنا، وبموجب ذلك حصل عندنا لكم زيادة المحبة الصادقة وحسن المودة، وتحققنا ما كان يبلغنا عنه على ألسنة الناس السفار، المترددين على أعتابنا الشريفة من تلك الديار، وبلغنا الآن عنهما خلاف ذلك وتغير ما كاتبنا به في السابق، مثل غير مطابق. وأنه وقع بينهما وبين أمرائنا وعساكر دولتنا بتلك البلاد خُلف كبير، ووقائع عم ضررها المأمور والأمير، وهذا عين الخطأ المحض الذي يترتب عليه ذهاب الروح لمن عقل وفهم " إِن الله لا يُغَيّرُ ماً بِقَومٍ حَتَى يُغَيِروا ماً بِأَنفُسِهِم " الرعد: 11، فالآن ملكنا الشريف السامي قد ملك بعون الله تعالى بساط الأرض شرقاً وغرباً، وصارت سلطنتنا القاهرة كالإبريز المصفى، بعون النبي المصطفى، ورقم سجل سعادتنا بآيات النصر، على أهل العصر، وعلى سائر الملوك بإحياء سنة الجهاد إلى يوم العرض " ذَلِكَ فَضلُ اَللهِ يُؤتيهِ مَن يَشَاء " الجمعة: 4، " وَأَماً ماً يَنفَعُ النَاسَ فيمكُثُ في اَلأَزضِ " الرعد: 17، وعساكرنا المنصورة أينما انخرطت خرطت، وأينما سقطت التقطت، وحيثما سلكت ملكت، وأين حلت فتكت، لا يعجزهم صغير ولا كبير، ولا جليل ولا حقير، ولو شئنا لعينا من عساكرنا المنصورة شرذمة قليلون. نحو مائة ألف أو يزيدون، مشاة وركباناً من البر والبحر، لأمرائنا ولأمرنا ممتثلون، ونقوي عددهم بالاستعداد، ونشدهم بالقوة والآلة والزاد، ونتبع العسكر بالعسكر، ونملأ البر والبحر، ونلحق الجيش بالجيش من كل أسود وأحمر، حتى يتصل أول عساكرنا بآخرهم، وواردهم بصادرهم، ويكون أولهم في البلاد اليمانية، وآخرهم في بلادنا المحمية.
ولا نحتاج نعرفكم بقدرة سلطاننا وتشييد أركان دولتنا وتشديد عزمتنا. فإن الملوك ذوي التيجان، وأصحاب القوة والإمكان، لا يزالون خاضعين لهيبتنا الشريفة قهراً عليهم، مطأطئين رؤوسهم خشية مما يلحق بهم عند المخالفة ويصير إليهم، وذلك مشهور ومعلوم، وظاهر ليس بمكتوم، لكن غلب حلمنا عليه من تعجيل النكاية إليه كونه من سلالة سيد المرسلين، ومن أهل بيت النبوة الطاهرين، ولازم على ناموس سلطنتنا الشريفة أن ننبه قبل اتساع الخرق عليه، ونعرفه بما يحل به ويصير إليه، وكونه آوى إلى الجبال يتحصن بها عن الزوال، ويزعم أن ذلك ينجيه فهذا عين المحال، وتدبيره تدميره على كل حال، جهل ذلك أم علم " لا عَاصمَ اليوَمَ مِن أَمرِ اَللهِ إلا مَن رَّحِمَ " هود: 43، " أَين اَلمفرُ كلا لا وَزَرَ " القيامة: 10، 11، ولا لهارب من سلطنتنا مفر.(2/320)
وقد اقتضت أوامرنا الشريفة تعيين افتخار الأمراء الكرام، صاحب العز والاحتشام، المختص بعناية الملك العلام مصطفى باشا، دامت معدلته، ونفذت كلمته باشا على العساكر المنصورة، وصحبته ثلاثة آلاف من الجند المؤيدة بالله مشاة ورماة، حماة كفاة، إعانة لأمير الأمراء الكرام، ذوي القدر والاحترام، المخصوص بمزيد عناية الملك العلام، ازدمر باشا دامت معدلته وحرست نعمته، وعينا من البر الذي فارس، وهيأنا مثلها بعددها وعليقتها من البحر، فعرض على مسامعنا الشريف مصطفى باشا أن أن يؤخر تجهيز الجيش المذكور من البحر إلى حين يتوجه إلى تلك الجهات وينظر في الأحوال، وما عليه أهل تلك الأقطار من الحال، وإذا وقع من أحد خلاف، واحتاج إلى الخيول المذكورة فيجهز إلينا لطلبهم فتصل إليه على ما يحب، فأخرنا ذلك إلى حين يعود الجواب بتحقيق الأخبار عن الإمام وولده. فحال وصول مصطفى باشا المشار إليه إلى تلك الديار، واستقراره بتلك الأقطار، ولابد أن تحضر إلى خدمته، ممتثلاً لكلمته، وتقابله بقلب منشرح، وصدر منفسح، وتمشي تحت صناجقنا الشريفة، وتدخل تحت طاعتنا المنيفة، وتكون مع عساكرنا منضماً لأوامرنا المذكورة على قلب رجل واحد، غير متقاعس ولا متقاعد. فإن مصطفى باشا المشار إليه، باشا عساكرنا وخليفة أمرنا، وكلامه من كلامنا. وأمره من أمرنا، ونهيه من نهينا، ومن أطاعه فقد أطاعنا، ومن خالفه فقد خالفنا، ونعوذ بالله من المخالفة، وعدم الانقياد والمؤالفة، فليتفكر المطهر في نفسه، قبل حلول رمسه، وليتنبه من رقدته، ويصحو من غفلته، ويفيق من سكرته.
فإن فعل ذلك وانضم إلى سلطنتنا الشريفة، فقد رحم نفسه وصان مهجته ويرى من دولتنا العادلة غاية الرعاية، وبلوغ الأمنية مع الزيادة إلى حد النهاية.
وأنه إذا دخل تحت طاعتنا ومشى على الاستقامة لدينا، وانضم إلى عساكرنا فننعم عليه بأمرنا الشريف بما يستحق به في مملكته مستقلاً به من غير معارض له في ذلك، ولا منازع له فيما هنالك، فحيث فعلت فأنت من الفائزين، لا تخف ولا تحزن، إنك اليوم لدينا مكين أمين، وإن حصل والعياذ بالله مخالفة، واستمر على العناد والمجانفة، وانهمك في الضلال، والمكابرة والخيال، فيصبح ذنبه في رقبته، ويهلك نفسه بيده " وَمَاظَلَمناهُم وَلَكن كاَنوُا أَنفُسَهُم يَظْلِمُونَ " النحل: 118، ويدخل في قول أصدق القائلين: " يُخرِبوُنَ بيوُتَهُم بِأَيدِيهِم وَأَيدي اَلمُؤمنينَ " الحشر: 2، ويصير بعد الوجود إلى العدم، ويندم حيث لا ينفعه الندم، وقد حذرنا رأفة به وتحننا عليه، بإصدار هذا الكتاب إليه، فإن خالف أتيناه بجنود لا قبل له بها، وأخرجناه منها ذليلاً حقيراً، لا ملجأ له من سلطنتنا إلا إليها التي هي لِمن سالمها ظلاً ظليلاً، وعلى من خالفها عذاباً وبيلاً، ومثله لا يدل على الصواب فليعتمد على ذلك وعلامتنا الشريفة حجة عليه والسلام عليه.
فكتب إليه الإمام المطهر الجواب وهو: نور الله شمس الإسلام وأطلعها، وفجر عيون الشريعة وأنبعها، ولألأ كواكب الدين الحنيفي وأسطعها، وأعلى منار الملة البيضاء ورفعها، وزلزل جموع الظلم والعداوة وزعزعها، وأرعد قلوب الجبابرة المردة وأرعبها، وألف بين قلوب المسلمين وجمعها، بدوام دولة مولانا السلطان المعظم العظيم، ذي الملك الباهر القاهر العقيم، القاطع بسيوف عزمه عنق كل جبار أثيم، الذي أوتي الحكمة والتحية والله يؤتي من يشاء فضله العميم. شمس الخلافة المضيئة في الليل البهيم، ظل الله في أرضه القائم بسنته وفرضه القويم، حجة الله الواضحة للحق على التعميم. أمينه على خلقه، وخليفته القائم بحقه بتقدير العزيز العليم. المتسم بحماية آل الرسول، وأبناء فاطمة البتول، سلالة النبي الكريم، الباسط عليهم ظل عدله فلا ينالهم حَر الجحيم، فهم راتعون في رياض إحسانه ولها نبت وسيم، وكارعون من حياض امتنانه التي لا يشوب صفوها الدهر المليم. سامي الفخار، زكي الأصل والنجار.
الفائز بحوز قصبات السبق في الحسب الصميم. الكاف لأكُف من تعاشى عن الهداية، وسلك مسالك الغواية، وكان له في العجرفة تصميم.
الذي لا تحصى صفاته بتعداد، ولو أن الشجر أقلام والبحر مداد، واسأل بذلك كل خبير عليم. الخنكار الكبير، والخاقان الشهير سليمان بن سليم.(2/321)
أهدي إلى مقامه نجائب التحية والتسليم، ورحمته الطيبة، وبركاته الصيَّبة، الموصولة بنعيم دار النعيم. وحرس جنابه العالي، وحرمه المحترم من صروف الليالي، بما حفظ به الآيات والذكر الحكيم. فإنه ورد من تلقائه - أطال الله للمسلمين في بقائه - مرسوم سطعت أنواره، وطلعت بالمسرة شموسه وأقماره، وتضاحكت في عرصات المجد كمائمه وأزهاره، وجرت في جداول الحمد أنهاره، وتحاسد على مشرفه ليل الزمان ونهاره. مرسوم تقر به العيون، وتصلح به الأحوال والشئون. أنشئ لله نجاره فوجدناه أشفى من الترياق، وأبهى من الإثمد في دعج الأحداق. يتبلج تبلج البرق، ويحلب الخيرات تحلب الودق، يفوق اللؤلؤ الثمين منشوراً، ويفضح شقائق النعمان زهوراً، ويجعل ممدود الثناء عليه مقصوراً. فتعطرت الأندية بنشره، وأعلنت الألسن بحمده وشكره، وهمب في البوادي والأمصار نسيم ذكره، ودخلت الناس أفواجاً تحت نهيه وأمره: من الخفيف:
حَبذا مُدْرَجاً كَرِيماً جَليلاً ... زَانَهُ مُنشِئ كَرِيمْ جَلِيلُ
لَفْظهُ الدرُ في السمُوطِ وفَخْرَاً ... وبِمَعْنَاهُ سَلْسَل سَلْسَبِيلُ
وِإذاً المُدرَجَاتُ كَانَت مُلُوكاً ... فَهوَ فِيهاً وبَيْنَها إِكْلِيلُ
مُدرَج فيه للبَهاءِ غُدُو ... ومَرَاح ومَسرح ومَقِيلُ
فلله در أنامل صاغته بالبلاغة، وضمنته ما يعجز عنه قدامة وابن المراغة، فلو رآه الملك الضليل لطأطأ رأسه خاضعاً، أو لبيد خر ساجداً وراكعاً.
وعرفنا ما ذكره سلطان الأمم، وملك رقاب العرب والعجم، المتسم بحماية الحرم، من الإحاطة بطاعتنا، ودخولنا تحت لوائه وأقواله وأفعاله، والحمد لله الذي وفقنا لطاعته، وردنا عن السلوك في مخالفته، فإن لنا بكم الحظ الأوفر مع زيادة الحسنى، والنصيب الأفخر الأهنى.
ونرجو نيل الشرف الكامل الأكمل، ونجح المُنَى والمطالب، وبلوغ نهاية الأماني والمآرب. فمن اسستمسك بعروتكم الوثقى فاز بمطالبه، ونال الغاية القصوى من مآربه، ورفع له الدرجات السامية العلية، وتم له بذلك كل سؤال وأمنية، ويحظى بعيشة هنية، راضية مرضية. وهذه طريقة معروفة، وسنة قديمة مألوفة. لا تميل عن الوفا، ولا تكدر من ذلك المشرب ما صفا. كيف وطاعتكم من طاعة الملك الخالق، ومعصيتكم تظلم منها المغارب والمشارق، ونحن من مودتكم على يقين، ونرجو أن لا تصغوا أذناً لكلام الفاسقين، ولا تهملوا رعاية الصالحين المتقين، ولا تقطعوا حق ذرية النبي الأمين، وأبناء علي الأنزع البطين، كرم الله وجهه في عليين " قُل لا أَسألكم عليهِ أجراً إِلا المَوَدةَ في القُربى " الشورى: 23، وذلك نص الكتاب المبين.
فأنتم أولى برعاية من أمر الله أن يرعى، ومن تقر به من عِترَةِ النبي أذناً وسمعاً، فكم لكم من محامد مشكورة، ومفاخر مشهورة، ومعاني جميلة منثورة، نؤمل أن تشقوا بحسامها نوافج الوشاة، وتردوا كيد كل كذاب لا يراقب الله ولا يخشاه، والذي ينقله إليكم أرباب الزور، والإفك والفجور. من تحولنا عن طاعة السلطان الأعظم، ومخالفتنا لما سبق من مودتنا وتقدم. كذب يعلمه الداني والقاصي، ومن التمويه الذي لناقله أشد الاقتصاص. حاشا وكلا أن نرضى مخالفة، أو نميل عن الأحوال السالفة، أو ننكر تلك المعارف العارفة، نعوذ بالله من الحَوْرِ بَعْدَ الكَوْرِ، أو نكون ممن تعدى الحد بعد الطور، وتقاعد عن طاعتكم وهي محل السعي إليهاً على الفور، فنكون كمن اشترى الضلالة بالهدى، وتحول عن السلامة إلى مخاوف الردى، وآل الرسول عليه الصلاة والسلام أعرف الناس بالصواب. وأعلمهم بمعاني السنة والكتاب. أطيعوا الحديث. ومن نسب إليهم خلاف ذلك فهو خبيث نبيث. فثقوا منا بالمحبة الراسخة أطنابها، والمودة الشامخة قبابها، والرعاية المفتحة أبوابها.(2/322)
والذي أشرتم إليه في سامي الخطاب، وبطاقة الكتاب، من بلوخ مخالفتنا لعساكركم المنصورة، وكتائبكم الواسعة الموفورة، ليس له صحة ولا ثبات، ولا كان لنا إلى حربهم تعد ولا التفات، بل قصدونا إلى تلك الجهات، وجلبوا علينا أتراكاً وأرواماً، وهتكوا أستاراً كانت بيننا وبينهم وذماماً، ولا راعوا لأوامركم الشريفة فينا أحكاماً، وضيقوا علينا مسالك المعيشة خلقاً وأماماً، ورمونا بمدافع لا يرمى بها إلا الذين يعبدون أوثاناً وأصناماً.
ونحن من الذين أوجب الله لهم احتراماً، نقيم الشرائع ونميت البدائع ولم نلق أثاماً، ومن الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً. فدافعنا عن أنفسنا وأولادنا بما أمكن من الدفاع، وترك الزيادة عنها لا يستطاع. ونحن في مهاجر يسير، ومكان يأوي إليه البائس الفقير، لا ينافس من اعتصم به، واقتصر على طاعة ربه.
ولو أن عساكركم المنصورة الألوية، المسلمة من صروف الأقضية، وجهوا هممهم العلية، وعزائمهم الصلبة القوية، إلى الجهات العصية الكفرية. إذاً لنالوا من الخيرات نيلاً عظيماً، ولسلكوا سبيل السعادة صراطاً مستقيماً، وأدركوا من فضل الله سبحانه وتعالى خيراً ونعيماً.
بيد أن تشاغلوا بحربنا عن جميع الحروب، وفوتوا بذلك كل غرض لهم ومطلوب، وأهملوا جهات الكفار حتى سقط الجنوب، وهبت في دار الإسلام للشرك جنوب. وحين وصل المرسوم المشرف، والمثال الكريم المعرف، طبنا به نفوساً، وسلكنا به محلاً من الأمن مأنوساً، ودفعنا به عن وجوه الحق ظلاماً وعبوساً، وضلالاً وبوساً.
وخمدت نيران الحرب، وغلت أيدي الطعن والضرب. فقررنا بما قررتموه كل قلب، فإن امتثل من حوالينا من الاْمراء الأكابر، لما صدر عنكم من الموارد والمصادر، فتلك المنية المقصودة، والضالة المفقودة، والدرة الثمينة المنقودة، والغنيمة العظيمة الشاملة الممدودة. وإن خالفوا أوامركم المطاعة، وقابلوا نواهيكم بالإضاعة، فحسبهم عذابكم الوبيل، وما تعدونه لمن خالفكم من التنكيل. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وكنا نود أن نرسل إلى الأبواب الشريفة ما تكن القلوب والصدور.
إلا أن هؤلاء الذين يلوننا قطعوا وسدوا من التواصل أوصالاً، وقعدوا لرسلنا بكراً وآصالاً، وصدوهم عن الوصول إلى أبوابكم العالية عن جميع الأبواب، ومنعوهم عن مناهج الذهاب والإياب.
فلولا ما كان منهم من المنع لما نريد، لكان يصدر إلى أبوابكم العالية في كل شهر بريد.
وحين وصل وكيلكم المعظم الباشا مصطفى إلى الجهات اليمنية، والديار التي هي بسيف قهركم محمية. بسط عدله في أهل اليمن، وأخمد نيران الفتن والمحن، وأصلح من الأمور ما ظهر وما بطن، واطلع على الحقائق في الماضي واللاحق، وما نحن عليه بحمد الله عن حسن المساعي والطرائق، وكرم الأصول الشريفة والمعارق.
وقد أرسل إلينا قصاد أمجاد، محبون أوداد، عرفوا جميع الأمور، وأحاطوا بالظاهر منها والمستور.
ولعل الله سبحانه وتعالى يهيئ قدومه إلى صنعا. ويحيى به للإله ديناً وشرعاً، ويقطع به دابر من خالف أمركم قطعاً.
ولعمري إنه رجل عظيم، وذو خطب جسيم، بأرباب الدين رؤوف رحيم.
قد طابت شمائله، وراقت أوصافه ومخايله. فهو بكل خير يجود ويحمل من طاعتكم ما يشق على غيره ويئود.
فالله يجعل سعيه مشكوراً، ويشرح بأعماله من الاستقامة قلوباً وصدوراً، ويدفع بعين عنايته عن الأنام رالإسلام شروراً. ويملأ الأنفس والأفئدة حبوراً إن شاء الله وسروراً. وبعد: السلام عليكم صرحمة الله وبركاته.
ومنها: بغداد وأعمالها والمشاهد الشريفة النبوية العلوية الحسنية، والموسوية الكاظمية، والعلوية الرضوية.
ومنها: بلاد المغرب وما فيه من الجزائر، وكانت في القديم جامعة لعدة سلاطين، بل كانت دار الخلافة الأموية ثم العباسية ثم العمرية الحفصية ثم الشريفية الحسنية ثم للخلافة العبيدية.
ومنها: الممالك المعروفة بروملي وما اتصل بها من بلاد الكفار على اختلاف أنواعهم وأجناسهم مما لا يحصى كثرة.
ومنها: ما فتح عن الممالك الإسلامية بناحية العجم لما خرج لمقابلة قزل باش طهماسب.
ومنها: السفر الأخير وهي الغزاة العظمى التي شرفه الله تعالى فيها بالشهادة، فهو الملك الذي عاش سعيداً، ومات شهيداً.(2/323)
وهذه الفتوحات بعض ما اشتهر. وأما ما هو حقير من جهة أهله أو من قلة محصوله أو مما يكون تابعاً لغيره فذلك لا يحصى ولا يحصر.
وأما الخيرات التي فعلها في الحرمين الشريفين والقدس، وغيرها من البلاد فلا يمكن حصرها، يذكر شيء منها على سبيل الاختصار نتشرف بذكره.
منها: الصرة العظيمة الرومية الواصلة كل عام وقدرها أحد وثلاثون ألفاً من الدنانير الذهب في كل عام على الدوام.
ومنها: عمارة سور المدينة المنورة، وقدر مساحته: أربعة آلاف ذراع، وعرض جداره: ثلاثة أذرع، وارتفاعه: سبعة عشر فراغاً، وجميعه بالحجر والنورة، وأبوابه: ستة مصفحة جميعها بالحديد.
قلت: المعروف أن أبواب سور المدينة الشريفة أربعة، باب غربي وباب قبلي وباب شامي وباب شرقي: يسمى الأول في عرف الناس باب المصري. والثاني الباب الصغير. والثالث باب الشامي؛ لنزوله عنده ذهاباً وإياباً. والرابع؛ باب الجمعة.
فلعل المؤرخ عد باب القلعة وباباً صغيراً في أسفل أكبر البروج وأعلاها يسمى عند أهل المدينة باب السر، فهما الخامس والسادس، فيصح العدد حينئذ. وقدر النفقة عليه من الذهب الجديد سبعون ألفاً، ومن الحبوب أربعة عشر ألف إردب حنطة وفولاً وغير ذلك، وذلك غير الواصل من مصر المحروسة من الحديد والخشب والرصاص والنحاس والجمال والحمير.
ومنها: محراب السادة الحنفية بقرب الروضة النبوية.
قلت: ويعرف اليوم بالمحراب السليماني منقوش بالرخام الملون.
ومنها: تجديد عدة من المساجد النبوية، وأنشأ عدة من القباب على من عرف قبره من أعيان السلالة المحمدية.
ومنها: ترصيص القبة الشريفة النبوية وهلال القبة المذكورة أعلاه ذهب خالص صرف وباقيه مموه وأهلة المنابر ومنبر الحرم النبوي.
ومنها: إنشاء الجدار الغربي بالحرم النبوي وإنشاء منارة عظيمة به.
ومنها: عدة شماعدين من النحاس المطلي بالذهب بالحجرة المطهرة. وإنشاء عدة من الربط وترميم بعضها مما يقرب عمداً إلى العشرين. ومنها: شراؤه ديار العشرة لاتصالها بقبلي المسجد النبوي والغرض الأعظم من ذلك هدمها ليذهب عين ما فيها من المراحيض والبلاليع، وما فيه رائحة كريهة، فهدمت جميعها وبقيت بعد هدمها وتعميرهما نافعة لكل خير تجدد بها، قابلة للإلحاق بالمسجد النبوي.
ومنها: عمارة تكية باسم والدة السلاطين العظام يعمل فيها في كل يوم للفقراء خبز وطعام.
ومنها: أنه لما بلغه احتياج المطاف الشريف إلى أساطين، وعرضوا له أن أساطين المسجد الحرام جميعها بالرخام وعرضوا بتعظيم ذلك وكونها من حجر واحد أمر أن تجعل أعمدة من النحاس، فجعلت وقيمتها تعدل وزنها فضة في القياس.
ومنها: منبر عظيم للبيت العتيق الكريم كانت النفقة عليه ثلاثين ألفاً من الدنانير الذهب الجديد خارجاً عما حمل معه من آلات الحديد والفولاذ والرصاص والمؤن العديدة، ووصل إلى مكة عام ست وستين وتسعمائة. فقال بعض علماء مكة فيه تاريخاً أبياتاً آخرها بيت التاريخ هو: من مجزوء الخفيف:
لسُلَيمَانَ مِنْبَز ... شَاهِدٌ بالدُعاً لَهُ
ومنها: تعمير المدارس التي هي من العجائت برسم المدرسين من الأربعة المذاهب كما تقدم ذكره، ومنارة عظيمة من جنسهن جنب أولاهن.
ومنها: عمارة مهبط الوحي والأماكن الشريفة.
ومنها: إجراء الماء من الفرات إلى مشهد الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما. ومنها: بالمسجد الأقصى خيرات لا تحصى.
ومنها عمارة قبة عظيمة على الصخرة الرفيعة الحرجات وجعل عوض التجصيص ألواح من فخار إزنيق بأنواع النقوش وأجل الكتابات.
ومنها: للمساجد الثلاثة المشرفة المذكورة قدر الكفاية من الحبوب والمرتبات والخبز والطعام والصلة المبرورة.
ومنها: بدار الخلافة العظمى قسطنطينية الكبرى إجراء عين من مسيرة ستة أيام أنفق على ذلك من الأموال ما لا يحصره كتب ولا ثرثرة أقلام.
ومنها: عمارة عظيمة سلطانية جامعة للخيرات الدينية والدنيوية بالشام بالمحل المعروف بالصالحية، وما ذكر هو من بعض خيراته السنية.(2/324)
ومنها: وهو أعظمها إجراء عين عرفات إلى مكة. وسبب ذلك: أن العين التي كانت بمكة هي عين حنين التي أجرتها زبيدة بنت جعفر بن المنصور زوجة الرشيد، واسمها: أمة العزيز، لأن جدها المنصور كان يرقصها وهي طفلة ويقول؛ أنت زبيدة. فغلب على اسمها، وكانت من أهل الخيرات فصرفت عليها خزائن أموال إلى أن جرت وهي في واد قليل الأمطار بين جبال شواهق عاليات خاليات من المياه والنبات، وشقت له القناة في الجبال إلى أن سلك الماء من أرض الحل إلى الحرم، وجعلت لها شحاديذ من كل جبل يكون ذيله مظنة للماء وجعلت منه قناة متصلة، ومنبع هذه العين جبل شامخ من تلك الجبال يقال له: طاد بالطاء المهملة والألف بعدها دال مهملة من جبال الثنية من طريق الطائف، وكان الماء يجري إلى أرض حنين تسقى به مزارع ونخل مملوكة للناس، فاشترت زبيدة ذلك المحل وأبطلت تلك المزارع والنخل فصارت تلك الشحاديذ يحصل منها المدد لهذه العين، وصار كل شحاذ عيناً يساعد عين حنين، منها: عين مشاش، وعين ميمون، وعين الزعفران، وعين البارود، وعين الطان، وعين ثقبة، كلها تنصب في ذيل عين، ويزيد بعضها، وينقص بحسب الأمطار إلى أن وصلت عين حنين إلى مكة المشرفة.
ثم إنها أمرت بإجراء عين وادي نعمان إلى عرفة وهي عين منبعها ذيل جبل كرا وهو جبل معروف فيصب الماء من ذيله في قناة إلى موضع يقال له: الأوجر من وادي نعمان، ومنه إلى موضع بين جبلين شاهقين علو عرفات، ثم منه يجري في القناة إلى أرض عرفات، ثم أدارت القناة إلى جبل الرحمة محل الموقف الشريف، وجعلت الماء ينصب إلى البرك التي في أرض عرفات فتملأ ماء يشرب منه الحاج يوم عرفة، ثم استمرت في عمل القناة إلى أن خرجت من عرفات إلى مزدلفة، ثم إلى جبل خلف منى في قبلتها، ثم ينصب الماء إلى بئر عظيمة مطوية بالأحجار كبيرة جداً تسمى بئر زبيدة إليها انتهى عمل زبيدة فوقف، وهي من الأبنية المهولة ربما يوهم بناؤها أنه من عمل الجن، ثم صارت عين حنين تنقطع عن الوصول إلى مكة، وكذلك عين عرفات تنقطع عن وصولها إلى منتهاها لتهدم قنواتهما وتخريبهما بالسيول.
وكانت الخلفاء والسلاطين إذا بلغهم ذلك أرسلوا وعمروها عند انتظام سلطنتهم وقوة تمكنهم فتجري تارة وتنقطع أخرى، فعمرها مظفر الدين صاحب إربل سنة خمس وستمائة ثم المستنصر العباسي سنة ستمائة وتسع وعشرين. ثم في ستمائة وثلاث وثلاثين، ثم في سنة ستمائة وأربع وثلاثين، وجد ذلك مكتوباً في حجر مبني في قرب الموقف الشريف، ثم عمر عين حنين الأمير جوبان نائب السلطنة بالعراقين سنة ست وعشرين وسبعمائة، فأجراها إلى مكة وتم نفعها فإنهم كانوا في جهد عظيم لقلة الماء، ثم عمرها شريف مكة الشريف حسن بن عجلان جد ساداتنا الأشراف أشراف مكة وملوكها الآن، أدام الله سعادتهم مدى الزمان في سنة إحدى وثمانمائة فجرت وانفجرت وكثر الدعاء له من أهل البلاد والحجاج والعباد، ثم انقطعت ولقي الناس لذلك شدة عظيمة إلى أن عمرها الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، ثم عمرها وعمر عين عرفات السلطان قايتباي أجرى الأولى إلى أن دخلت مكة، وأجرى الثانية إلى أن وصلت إلى أرض عرفات، وذلك بمباشرة الأمير يوسف الجمالي وأخيه سنقر الجمالي في سنة ثمانمائة وسبعين، ثم عمر عين حنين آخر ملوك الشراكسة قانصوه الغوري إلى أن جرت وملأت برك الحجاج بالمعلاة، ثم جرت إلى بازان، ثم إلى بركة الماجن بأسفل مكة، ثم انقطعت في أوائل الدولة العثمانية وصار أهل مكة يستقون من آبار حول مكة يقال لها: العسيلات علو مكة ومن آبار بأسفلها بمكان يقال له: الزاهر وسُمي الآن بالجوخي في طريق التنعيم، وكذلك انقطعت عين عرفات وتهدمت قنواتها وكان الحجاج يحملون الماء إلى عرفات من الأماكن البعيدة، وصار الفقراء من الحجاج وغيرهم في يوم عرفة لا يطلبون إلا الماء لغلو الماء وعزته جداً.(2/325)
قال العلامة القطب: وإني أذكر سنة تسعمائة وثلاثين، وأنا يومئذ مراهق في خدمة والدي أني اشتريت قربة صغيرة جداً يحملها الإنسان لإصبعيه بدينار ذهب، والفقراء يصيحون من العطش يطلبون ما يبل حلوقهم في ذلك اليوم الشديد، فلما كان وقت الوقوف، والناس عطاش يلهثون أمطرت السماء وسالت السيول من فضل الله والناس واقفون، فصاروا يشربون من السيل من تحت أرجلهم ويسقون دوابهم، وذلك من رحمة الله ولطفه بعباده.
فبرزت الأوامر السلطانية السليمانية بإصلاحهما، وعُين لذلك ناظر اسمه مصلح الدين مصطفى من المجاورين بمكة، فبذل جهده في عمارتهما، فجرت عين حنين إلى مكة، وعين نعمان إلى عرفات وذلك سنة 931 إحدى وثلاثين وتسعمانة، ثم اشترى الناظر المذكور عبيداً سوداً من مال السلطنة وزوجهم بمثلهم وجعل لهم جرايات وعلوفات برسم خدمة العين، وإصلاح قنواتها، فهي خدمتهم دائماً وهم باقون إلى الآن طبقة بعد طبقة، ثم توجه الناظر إلى الأبواب لعرض أمور في شأن العين، فأجيب إلى ما أراد وعاد إلى مصر.
ثم ركب من بندر السويس قاصداً مكة فغرق في بحر القلزم شهيداً، وما غرق إلا في بحر رحمة الله تعالى سنة 939 تسع وثلاثين وتسعمائة.
ثم انقطعت سنة ستين وتسعمائة فعرضت أحوال العيون لي الأبواب السلطانية السليمانية، فالتفت الخاطر السلطاني وتوجه العطف العثماني إلى تدارك ذلك بأي وجه يكون، وأمر بالفحص عن أحوال العيون، فاجتمع قاضي مكة يومئذ عبد الباقي بن علي الغزي، والأمير خير الدين سنجق جدة يومئذ، وغيرهما من الأعيان، وتفحصوا وداروا، وكشفوا فأجمع رأيهم أن أقوى العيون عين عرفات، وطريقها ظاهر ودبولها مبنية إلى بئر زبيدة، وأن الذي يغلب على الظن أن دبولها من البئر إلى مكة مبنية أيضاً وأنها مخفية تحت الأرض وأنها تحتاج إلى الكشف عنها والحفر، فإذا وجدوا من الدبل متهدماً بنوه، وإذا وجدوا مختلاً أصلحوه، فخمنوا أنهم يحتاجون في ذلك إلى ثلاثين ألف دينار ذهباً، وذرعوه وقاسوه فكان من الأوجر إلى بطن مكة خمسة وأربعين ألف ذراع بذراع العمل، وهو أزيد من الذراع الشرعي بنحو الربع.
وهذا الذي ظنوه من وجود دبل تحت الأرض من بئر زبيدة إلى مكة لم يوجد في كتب التاريخ ولم يذكره أحد، وإنما أداهم إلى ذلك مجرد الظن بحسب القرائن وعرضوا على المسامع الشريفة السلطانية في أوائل سنة 960 ستين وتسعمائة، فلما وصل علم ذلك التمست جانم سلطان كريمة السلطان سليمان أن يأذن لها في عمل هذا الخير، حيث كانت صاحبة الخير أولاً أم جعفر زبيدة العباسية فناسب أن تكون هي صاحبة هذا الخير أخيراً، فاختارت بعد أن استطارت لهذه الخدمة إبراهيم بن تغري بردي الدفتردار، وأعطته خمسين ألف دينار ذهباً زيادة على ما خمنوه، فسار بحراً فوصل إلى جدة يوم الجمعة لثمان بقين من ذي القعدة من سنة تسع وستين وتسعمائة ونزل بوطاقه خارج جدة من الجهة الشامية وركب من جدة إلى سيدنا ومولانا الشريف محمد أبي نمي وكان نازلاً بوادي مر فقابله بالإجلال والتعظيم ومد له سماطاً عظيماً ولاطفه وواكله وباسطه وجابره، فعرض على حضرته الشريفة الخط السلطاني، وبذل الهمة والاجتهاد في إتمام هذا الأمر، فأجاب الشريف أبو نمي بالسمع والطاعة، ثم ركب إبراهيم المذكور من عنده متوجهاً إلى مكة، فلاقاه عند دخوله مولانا الشريف حسن بن أبي نمي وقابله بالترحيب والإكرام وغاية الإجلال والاحترام، واستمر معه إلى أن فارقه من باب السلام، فدخل فطاف طواف القدوم وكان محرماً بالحج وسعى. وعاد إلى مجمع السلطان قايتباي، وهو المحل الذي عين لنزوله، ومد له من قبل الشريف حسن سماط عظيم، ثم جاء إليه مولانا القاضي الحسين المالكي ثم كان أول ما بدأ به تنظيف الآبار التي يستسقي الناس منها، وإخراج ترابها وزيادة حفرها ليكثر ماؤها، وحصل للناس بذلك رفق عظيم، ثم توجه للكشف إلى أعلى عرفات وكثر تردده إليها، ثم أسرع في الكشف عن دبول عين عرفة وضرب أوطاقه في الأوجر من وادي نعمان علو عرفات، وشرع في حفر فقرها، وتنظيف دبولها بهمة عالية جداً.(2/326)
وكانت مماليكه القائمون في خدمته نحو أربعمائة مملوك في غاية الجمال والرشاقة والحذاقة واللباقة، وكتب نحو ألف نفس من العمال والمهندسين والحفارين، وجلب من مصر وبلاد الصعيد والشام وحلب واسطنبول طوائف بعد طوائف من خدام العيون والآبار والحدادين والحجارين والبنائين.
وأتى بآلات العمارة من مكاتل ومساحي ومجاريف وحديد وبولاد ورصاص ونحاس.
وعين لكل طائفة قطعة من الأرض تحفرها وتنظف ما فيها، واستمر إلى أن وصل عمله إلى بئر زبيدة التي انتهى عملها إليها، ولم يجد بعدها دبلاً، ولا أثر عمل ولا بقايا قناة، فضاق ذرعه لذلك، وعلم أن الخطب كبير والعمل كثير وتحقق أن القدر الباقي عن هذا العمل إنما تركته زبيدة اضطراراً لا اختياراً وعدلت إلى عمل حنين، وتركت العمل من بعد البئر لصلابة الحجر وصعوبة إمكان قطعه وطول مسافة ما يجب قطعه، وأنه يحتاج من بئر زبيدة إلى دبل منقور تحت الأرض في الحجر الصوان طوله ألفا ذراع بذراع البنائين حتى يتصل بدبل عين حنين وينصب فيه فيصِلاَ إلى مكة. ولا يمكن نقر ذلك الحجر تحت الأرض فإنه يحتاج في النزول إلى خمسين ذراع في العمق، وصار لا يمكن ترك ذلك بعد الشروع فيه حفظاً لناموس السلطنة، فأوجد الأمير إبراهيم حيلة هي أن يحفر وجه الأرض إلى أن يصل إلى الحجر الصوان ثم يوقد عليه بالنار مقدار مائة حِمل من الحطب الجزل ليلة كاملة في مقدار سبعة أذرع في عرض خمسة أذرع من وجه الأرض والنار لا تعمل إلا في العلو، وأما السفل فعملها فيه مقدار قيراطين من أربعة وعشرين قيراطاً من ذراع.
فيكسر بالحديد إلى أن يصل الحجر الشديد فيوقد عليه الحطب الجزل ليلة أخرى إلى أن ينزل في ذلك الحجر مقدار خمسين ذراغاً في العمق في عرض خمسة أذرع إلى أن يستوفي ألفي ذراع تقطع على هذا الحكم، وذلك يحتاج إلى عمر نوح ومال قارون وصبر أيوب، وما رأى عن ذلك محيصاً، فأقدم عليه إلى أن فرغ الحطب من جميع جبال مكة وصار يجلب من المسافة البعيدة، وغلا سعره وضاق الناس لذلك، وتعب الأمير وذهبت أمواله وخدامه ومماليكه وهو يتجلد، إلى أن قطع من المسافة ألف ذراع وخمسمائة ذراع، وصار كلما فرغ المصروف أرسل وطلب فجاءه، ثم مات له ولد طفل كان خلَّفه بمصر احترق عليه كثيراً، ثم مات له ولدان مراهقان، ثم مات أكثر مماليكه، ثم مات هو غريباً شهيداً ليلة الإثنين ثاني رجب سنة 974 أربع وسبعين وتسعمائة، وكانت جنازته حافلة، وأسف الناس على فقده لكثرة إحسانه ودفن فيها ولديه قبله.
ثم أقيم في هذه الخدمة سنجق جدة الأمير قاسم بك، أقامه سيدنا شيخ الإسلام القاضي الحسين إلى أن يصل مَن تعينه السلطنة العلية.
وفي هذا العام المذكور انتقلت السلطنة من السلطان سليمان صاحب الترجمة إلى ولده الآتي بعده مولانا السلطان سليم بن سليمان، فعين لهذه الخدمة دفتردار مصر يومئذ محمد بك يكمكجي زاده وكان من أعبد السناجق، فوصل إلى هذه الخدمة وبذل فيها نفسه وماله، وقطع مسافة وما بلغ التمام، بل وافاه الحِمام ليلة الثلاثاء لأربع ليال بقين من جمادى الأولى سنة ست وسبعين وتسعمائة ودفن بالمعلاة قبالة تربة الأمير إبراهيم الدفتردار على يسار الذاهب إلى الأبطح، ثم رجع في خدمة العين الأمير قاسم سنجق جدة المذكور آنفاً أرجعه فيها القاضي الحسين وعرض ذلك إلى الأبواب، فأنهى الأمر باستقرار قاسم بك في الخدمة أميناً على مصارفها. وأن يكون مولانا القاضي الحسين ناظراً على ما بقي من عمل هذه العين إلى أن يصل إلى عرفات، فاستمر قاسم بك مباشراً لهذه الخدمة إلى أن طرقه الحين فصار ثالثاً للأميرين السابقين، وصار من شهداء العين، وذلك لليلة خلت من رجب الحرام سنة 979 تسع وسبعين وتسعمائة، ودفن بالمعلاة إلى جانب الأمير محمد بك اليكمكجي المتوفي بمكة.(2/327)
ثم توجه مولانا القاضي الحسين توجهاً تاماً إلى تكميل عمل ما بقي من العين باعتبار ما بيده من النظر، وعرض للسلطنة الشريفة بوفاة قاسم بك فبرزت الأوامر إلى حضرته الشريفة فأقدم بهمته العالية أتم إقدام، فساعدته السعادة والإقبال على الإتمام، فكمل عملها فيما دون خمسة أشهر، بعد أن عجزوا عنه في قريب من عشرة أعوام، فجرت عين عرفات ووصل الماء، وهو يجري في تلك الدبول والقنوات إلى أن دخل مكة لعشر بقين من ذي القعدة الحرام سنة 979 تسع وسبعين وتسعمائة، وكان ذلك اليوم يوم عيد أكبر عند الناس، وعمل في ذلك اليوم أسمطة بالأبطح ببستانه الواسع الأفيح، جمع الأكابر والأعيان، ونصب لهم السرادقات والصوان، وذبح أكثر من مائة من الغنم، وقدم للناس على قدر طبقاتهم أنواع الموائد والنعم، وخلع على أكثر من عشرة أنفس من المعلمين والمهندسين خلعاً فاخرة، وأحسن إلى باقيهم بالحسنات الوافرة.
ومما رأيته بخط جدي العلامة جمال الدين بن إسماعيل العصامي ما نصُّه: لما أكمل مولانا وعزيزنا شيخ الإسلام والمسلمين ناظر النظار ببلد الله الأمين مولانا السيد الشريف القاضي الحسين بن أحمد المالكي عمارة عين عرفات كتبت إليه قولى: من مخلع البسيط:
أَقضَى القُضَاةِ الحسينُ أَغنَى ... مكانَ أُم القرَي بِعَينه
وجاءَ بالعَينِ بَعدَ يَأسِ ... فَشكرُهُ وَاجِب لِعَينِه
ففتح لقبولهما كل باب، وأعجب به غاية الإعجاب.
قلت: يمكن أن يقصد فيه التورية فيراد بقوله: لعينه الذهب، ويرشحه قوله: أغنى، إلى آخره.
وأن يراد بها الماء الجاري ويرشحه جاء بالعين بعد يأس.
وعندي: سلبهما من لباس التورية أشتر، وأذكى لشذى المدح وأعطر، بأن يكون المراد بالعين ذاته وشخصه، ليكون وجوب الشكر لذاته في كماله، لا لعارض يزول بزوا له.
ثم جهز أخبار هذه البشائر إلى السلطان سليم ابن السلطان سليمان خان، وإلى سرادقات الحجاب الرفيع مليكة الملكات بلقيس الزمان جانم سلطان أخت مولانا السلطان سليمان، فأنعمت بالإنعامات الجزيلة، والترقيات الكثيرة الجميلة على سائر العمالين والمباشرين والمتعاطين لهذه الخدمة، ورقت مدرسة مولانا القاضي حسين - وهي الأولى مما يلي باب الزبادة - فصارت بمائة عثماني.
واستمرت هذه العين من جملة الآثار الباقية على صفحات الليالي والأيام، والأعمال الصالحات الباقيات على تكرار السنين والأعوام.
وما عنده سبحانه من تضعيف الأجر والثواب، خير وأبقى عند أولي الألباب. وكان جملة النفقة خمسة لكوك وسبعة آلاف دينار ذهباً أحمر جديداً، وذلك غير ما صرف على إحضار أرباب الصناعات من الحدادين والحجارين والقطاعين والنجارين، وأهل الصناعات الدقيقة من البلاد البعيدة، وغير ما صرف على خدامها وخدامهم. وقد كانت عمارتها في آخر الدولة السلطانية السليمانية وفي أول الدولة السلطانية السليمية.
وكان له من الأولاد مصطفى وهو أكبرهم؛ توهم منه والده أمراً، فأمر بخنقه طائفةً من البكمان أواخر شوال سنة ستين وتسعمائة.
قال في بغية الخاطر للعلامة الكاتي: وفي سنة ستين وتسعمائة أمر السلطان سليم بقتل ولده مصطفى، وكان ذلك من مكر رستم باشا الوزير، فجاء تاريخ وفاته " مكر رستم " وقال آخر باللغة الفارسية: " ظلم بي حد در آخر " شوال لما ذكره لكاتي في تاريخه.
قلت: يريد أن لفظ لا حد له؛ أي لا نهاية؛ أي لا ميم فيبقى حرفان الظاء واللام وهما بتسعمائة وثلاثين، وآخر شوال اللام، وهي بثلاثين، فيتم العدد تسعمائة وستين وهي سنة وفاته، وهو آخر شوال، وهذا اتفاق عجيب يروق كل أديب.
وطفل اسمه مراد كذلك خنقه فألحقه بولده مصطفى.
وولده الثاني: محمد بن سليمان مات على فراشه مولدَه سنة ثمان وعشرين وتسعمائة، وولده الآخر بايزيد بن سليمان، فوقعت بينه وبين أخيه السلطان سليم محاربات قتل فيها نحو خمسين ألفاً.
ثم لما عجز عن محاربة أخيه السلطان سليم هرب هو وأولاده الأربعة وهم: أورخان ومحمود خان وعبد الله خان وعثمان، فظفر بهم السلطان سليم وأخذ أنفاسهم بالأوتار وما لهم من آثار.
وكان له ابن خامس طفل في بروسا فأمر بخنقه أيضاً فتبع والده وإخوته.(2/328)
ومن أولاد سليمان: السلطان جهان كير، كان أحدب ظريفاً لطيف الروح خفيفاً، كان يحبه والده ولم يفارقه، توفي بأجله بمرض الخناق سنة965 خمس وستين وتسعمائة.
ومنهم السلطان شاه زاده بن سليمان توفي بأجله سنة 967 سبع وستين وتسعمائة.
وعدة غزواته الكبار المشهورة ثلاث عشرة غزوة السادسة، منها: غزوة العراق كانت أواخر ذي القعدة سنة 941 إحدى وأربعين وتسعمائة.
وأنشأ القاضي عبد اللطيف بن عبد الله باكثير عند ورود خبر النصرة في تلك الغزوة تاريخاً وضمنه بيتين هما: من المتقارب:
ولَماً أَحَلت ظِبَانا لَنَا ... دمَ الشاهِ واشتَحْكَمَتْ سَلْخَهُ
" فَتَحْناً العِرَاقَ " وذاً اللقظُ مِنْ ... لَطَافَتِهِ جَاءَ تَارِيْخَهُ
وكان عبد اللطيف المذكور سافر إلى الديار الرومية، واجتمع فيها بالسلطان سليمان خان بواسطة قاضي العسكر قادري أفندي فصادف قدومه إلى الروم توجه مولانا السلطان إلى حرب العجم، ثم ورد خبر النصرة - كما تقدم - فعمل ذينك البيتين وقدمهما إلى صاحبه قاضي العسكر قادري أفندي، فبعد ورود السلطان من السفر أشرفه على التاريخ وجمعه بقائله عبد اللطيف المذكور فنال منه مزيد الإكرام، وأنعم عليه بقضاء مكة المشرفة.
وكانت سلاطين مصر وغيرهم يعقدون ولاة منفردين على المذاهب الأربعة، وكان غالباً لا يقيم النواب إلا قاضي القضاة الشافعي، والباقون يتعاطون الأحكام ولا يقيمون نواباً، واستمر القاضي عبد اللطيف متولياً إلى أن عزل بأول قضاة الأروام من الحنفية وهو القاضي صدر الدين، فورد إلى مكة عام ثلاث وأربعين وتسعمائة، ومن حينئذ صار الأفندي الأعظم يرد من الجهات الرومية، ويعقد له الولاية من هناك، إلا أن القضاة كانوا يقيمون القاضي الشافعي والمالكي والحنفي والحنبلي بطريق النيابة.
ففي زمن الأفندي ميرزا مخدوم أقام عم جدي القاضي العلامة نور الدين على زاده ابن مولانا المرحوم إسماعيل العصامي قاضياً شافعياً، وأقام القاضي نجم الدين المالكي نائباً مالكياً، وأراد إقامة حنبلي فلم يتيسر ذلك لعدم وجود حنبلي يقوم بهذا الشأن.
وآخر من أقام ذلك بمكة الأفندي عبد الرحيم الشعراوي عام توليته لها عام خمس وثلاثين وألف.
ولما كان اليوم الثاني من استقراره في الملك جعل ديواناً وأنعم على الوزراء وأمرهم بترك شعار الحزن، ورقى العسكر في الجوامك على حسب مراتبهم وانتظم الحال.
وكان ملكاً صالحاً يترجم بالولاية كثير الخير والإحسان، للقاصي والدان.
وكانت مدة سلطنته ثماناً وأربعين سنة، وهي عديمة النظير، فيمن مضى من هذا البيت المنير.
واستقر بها إلى أن توفي سنة أربع وسبعين في سابع عشر صفر وهو في محاصرة العدو، فأخفى الوزير موته وأركان الدولة وأرسلوا أوراقاً إلى كوتاهية لمولانا لسلطان سليم - وبين المحلين نحو ثلاثة أشهر بسير الأثقال - فركب مولانا لسلطان سليم وجد في السير إلى بلاد اسطنبول، ودخلها في ثامن ربيع الأول سنة، 974 أربع وسبعين وتسعمائة.
وحمل السلطان سليمان إلى دار الخلافة ودفن في المحل الذي عمره في عمارته المذكورة، طاب ثراه.
ورثاه عالم زمانه أبو المسعود أفندي المفتي بقصيدة بليغة وهي هذه: من البسيط:
أَصَوْتُ صَاعِقَةٍ أَم نَفخَةُ الصُورِ ... فالأرضُ قَد قُلِبَتْ مِنْ نَفرِ نَاقُورِ
أَصَابَ مِنهاً الوَرَى دَهيَاءُ دَاهِيَة ... وذَاقَ مِنهاً البَرَاياً صَعقَةَ الصورِ
فَهُدمت بَيعَةُ الدُنيا لوَقعَتِهَا ... وانهَد ماً كَانَ مِن دُورِ ومِن سورِ
أَمسَت مَعَالمُهاً بَهمَاءَ مُقفِرَةً ... ماً فِي المَنَازِلِ مِنْ دَوَّار دَيورِ
تَهَدمَت قلَلُ الأَطْوَادِ وارتَعَدَت ... كَأَنهاً قَلب مَرعُوبٍ ومَذعورِ
واغْبَر نَاصِيَةُ الخَضرَاءِ وانكَدَرَت ... وَكَادَ تَمتَلِىُء الغَبراءُ بالمُورِ
فَمِن كَئِيبٍ ومَلهُوفٍ ومِنْ دَنِفٍ ... عَانٍ بِسِلسِلَةِ الأَحْزَانِ مَأسُورِ
فَياً لَهُ مِن حَدِيثٍ مُوحِشِ نكرٍ ... يَعَافُهُ السمعُ مَكرُوهٍ ومَنفُورِ(2/329)
تَاهَتْ عُقُولُ الورَى مِن هَوْلِ وَحشَتِهِ ... فَأَصبَحُوا مِثلَ مَخْمُورٍ ومَسحُورِ
تَقَطعَت قِطَعاً مِنه القُلُوبُ فَلاَ ... يَكَادُ يُوجَدُ قَلبٌ غَيْرُ مَكسُورِ
أَجْفَانهُمْ سُفُن مَشْحُونَةْ بِدَم ... تَجرِيِ بِبَحْرٍ مِنَ العَبراتِ مَسجَورِ
أَتَى بِوَجْهِ نَهَارِ لاَ ضِيَاءَ لَهُ ... كَأَئها غُرةٌ شِيبَت بدَيْجُورِ
أَم ذَاكَ نَعيُ سُلَيمَانَ الزمانِ ومَن ... مَضَت أَوَامِرُهُ في كُل مَأمُورِ
حَقاً وَمَن مَلأَ الدنياً مَهَابَتُهُ ... وسَخرَت كُل جبارٍ وقيهورِ
مَدَارِ سَلطَنَةِ الدنياً ومَركَزِهَا ... خَلِيفَةِ اللهِ فِي الآفاقِ مَذكورِ
مُعْلِي مَعَالِمِ دِينِ اللهِ مُظْهِرهَا ... في العَالَمِينَ بِسَعي مِنْه مَشكورِ
وحُسْنِ رَأي إِلَى الخَيْرَاتِ مُنصَرِف ... وصِدقِ عَزم عَلَى الألطَافِ مَقْصُورِ
لآيَةِ العَدلِ والإِحسَانِ مُمتَثِلٌ ... بِغَايَةِ القِسطِ والإلطَافِ مَوقُورِ
مُجَاهِدٍ في سَبِيلِ اللهِ مُجتَهدٍ ... مُؤَيدٍ مِنْ جَنَابِ القُدْسِ مَنْصُورِ
بِلهذَمِي إِلَى الأعدَاءِ مُنعَطِفٍ ... ومشرَفي عَلَى الكُفَّارِ مَشهُورِ
وَرايَةٍ رُفِعَتْ للمَجدِ خَافِقَةٍ ... تَلوِي عَلَى عَلَمٍ بالنصرِ مَنشُورِ
وعَسكَرِ مَلأَ الآفَاقَ مُحتَشِدِ ... مِن كُل قُطرٍ مِنَ الأَقطَارِ مَحْشُورِ
لَهُ وَقَائعُ في الأكَنَافِ شَائِعَةَ ... أَخبَارُهاً زُبِرَت فِي كُل طَامُورِ
ياً نَفسُ ما لك في الدنياً مُخَلفَة ... مِن بَعدِ رِحلَتِهِ مِنْ هذه الدورِ
حق على كل نفسٍ أن تموتَ أسى ... لَكِن ذَلِكَ أَمر غَيرُ مَقدُورِ
فَلِلمَنَاياً مَقَادِير مُعَددَة ... تَأتِي عَلَى قَدَرٍ فِي اللَوح مَسطورِ
وَلَيسَ في شَأنِهاً للناسِ من أَثَرٍ ... ومَدخَلٍ ماً بِتَقدِيم وتَأْخِيرِ
ياً نَفَسُ فاثئِدي لاَ تَهلِكِي أَسَفاً ... فَأَنتِ مَنظُومَة في سِلكِ مَقدُورِ
إذ لَستِ مَأْمُورةَ بالمُستَحِيلِ وَلاَ ... بِماً سِوَى بَذلِ مَجهُودِ ومَيْسُورِ
ولاَ تَظُنينَهُ قَد مَاتَ بَل هُوَ ذَا ... حَيَّ بِنَص مِنَ القرآنِ مَزبُورِ
لَهُ نَعِيم وَأَرزَاق مُقَدرَة ... تَجرِي عَلَيه بِوَجه غَيرِ مَشعُورِ
إن المَنَاياً وإن عَمت مُحَرَمَة ... عَلَى شَهِيدِ جَمِيلِ الحَالِ مَبْرُورِ
مُرَابِطِ في سَبِيلِ اللهِ مُقتَحِم ... مَعَارِكَ الحَتفِ بِالرضوَانِ مَأجُورِ
ماً مَاتَ بَل نَالَ عَيشاً بَاقِياً أبداً ... عَن عَيشِ فَانٍ بِكُل الشر مَعمُورِ
إبتَاعَ سَلطَنَةَ العُقبَى بِسَلْطَنَةِ الد ... دُنياً فَأَعظِم بِرِبح غَيرِ مَحصُورِ
بَلْ حَازَ كِلتَيهِماً إذ حَل مَتزِلةَ ... مَن لَم يُغَايِرهُ فِي أَمرٍ ومَأمُور
أَماً تَرَى مُلكَهُ المَحمِي آل إِلَى ... سِر سَرِى له في الدَهرِ مَشهورِ
وَلي سَلطَنَةِ الآفاقِ مَالِكِهَا ... بَراً وبَحراً بعَين اللُطفِ مَنظُورِ
ظِل الإِلَهِ مَلاذِ الخلقِ قَاطِبَة ... ومُلتَجاً كُل مَشهُورِ ومَذكُورِ
فَإِنهُ عَينُهُ في كُل مَأثرَةٍ ... وَكُلِّ أَمرِ عَظِيمِ الشأنِ مَأثُورِ
وَلاَ امتِيَازَ وَلاَ فُرقَانَ بَينَهُمَا ... وَهَل يُمَيزُ بَين الشمسِ والنورِ
سَمَيدَع مَاجِد زَادَت مَهَابَتُهُ ... تَختَ الخلافةِ في عز وتَيقُورِ(2/330)
جَد الجَدِيدانِ فِي أَيامِ دَولَتِهِ ... صَاراً كَآَنهُماً مِسكً بِكَافُورِ
أَضحَت بِقَبضَتِهِ الدنياً برُمتِهَا ... ماً كَانَ مِن مجهلٍ مِنهاً ومَعمُورِ
بَداً بِطَلعَتِهِ والناسُ في كَربٍ ... وسُوءِ حَالٍ مِنَ الأَحوالِ مَنكُورِ
فأَصبَحَت صَفَحَاتُ الأَرضِ مُشرِقَةً ... وعَادَ أَكنَافُهاً نُوراً عَلَى نُورِ
سُبحَانَ مِن مَلِكٍ حلت مَفَاخِرُهُ ... بَحرَ البَيَانِ بِمَنظُومِ ومَتثُورِ
كأنهاً ويَرَاعَ الوَاصِفِينَ لَهَا ... بَحر خَمِيس إِلَى مِنقَار عُصفُورِ
لاَ زَالَ أَحكَامهُ بالعَدلِ جَارِية ... بَين البَرِيةِ حَتى نَفخَةِ الصورِ
ثم تولى السلطان
سليم الثاني
ابن سليمان خان وجلس على سرير السلطنة في سنة أربع وسبعين وتسعمائة:
بويع بعد موت والده في التاريخ المذكور، فلما جلس على سرير السلطنة سار على نمط والده في العدل والإنصاف، ثم بادر في قيام شرائع الدين، فبنى جامعاً عظيماً بأربع منائر كاملة الإرتفاع بأدرنة، ومدرسة عظيمة للعلم بعمومه ومدرسة مفخمة برسم القراءات، وهو أول من عمر ذلك المحل المذكور، وعمر عمارة برسم الطعام للخاص والعام بمدينة قونية، وعمر خانات للمسافرين فيها كفاية النازلين بها مع دوابهم من الطعام والشراب، وأنشأ بلدة كاملة تعرف بقره نكار، وكانت خربة جميعها فحصل بها غاية النفع للمسلمين سيما المسافرين لأنها كانت معقلاً لقطاع الطريق الكسجية.
وله فتوحات عظيمة من أعظمها الأقطار اليمنية؛ لأنها في آخر الدولة السليمانية اختل أمرها وهجم أهلها الطاغون على أعظم مدنها وملكوه، بل سمعنا أنه لم يبق في الحماية العثمانية إلا مدينة زبيد فقط، فلما جلس مولانا صاحب الترجمة على سرير السلطنة أمر بالتجهيز إليها، فعين لذلك وزيره الأكبر سنان باشا، فبرز من الديار المصرية أواخر عشر السبعين وتسعمائة في جيش كثيف بالخيل المسومة، والعساكر الشجعان المعظمة، وطوائف من السناجق السلطانية، وعدة من المدافع فوق المائة، فلما وصلوا إلى مكة البهية عرضوا لها عرضة عظيمة وأظهر أبهة الملك والسلطان.
قال السيد محمد الحسيني في تاريخه المسمى الروضة الأنيقة في سلطان الحجاز على الحقيقة: أخبرني الثقة أنه سمع كاتب العساكر أنهم يعلقون كل ليلة أربعة وعشرين ألف عليقة.
وله فتوحات عظيمة منها: فتح جزائر ساقس، وكل جزيرة فيها مدن عظيمة وكنائس وقلاع حصينة.
وعاد على المسلمين من هذه الفتوحات غنائم وأسرى لا تعد ولا تحصى، وانتفع بها بيت المال وجميع أركان الدولة، وسائر الرعايا انتفاعاً ظاهراً غزير المحصول كثير المنافع، وأمن بذلك الصادرون والواردون بحراً وبراً.
وله خيرات كثيرة بالحرمين الشريفين من الأجزاء القرآنية، والنقود والحبوب المرتبة كل عام أسوة أسلافه الكرام طاب ثراهم بدار السلام.
وكان مولانا صاحب الترجمة من طاعة والده المرحوم المبرور السلطان سليمان بمحل لا يمكن عنه التعبير، بحيث يراجعه في الجليل والحقير، ويصبر في رضاه على مضض الدهر وضيق العيش والضنك والقهر، وكل ما يبلغه من حاسد ونمام عن والده بالانتقاص والإعراض عنه، والإشارة بالسلطنة إلى غيره من إخوته بالإعطاء، وتمهيد أحوال السلطنة لغيره لا يمنعه ذلك من أنواع البر لوالده بالقول والفعل، ولا يحمله على العقوق، خصوصاً عن والدته فإنها كانت تصرح بعدم صلاحه للملك وقابلية غيره للدولة، وهو على غاية من الصبر وتحمل الجفاء، والتصريح بالتفويض إلى رب السماء، فكانت طاعته لوالديه موجبة لإنعام الله بالملك عليه، فانقرضت إخوته وأعقابهم ووالدته في حياة والده طاب ثراه. فلما مات والده كما ذكرنا شرفه الله بالملك على حالة هينة لم تقع لأحد من أهل هذا البيت أبداً. ودام سلطانه إلى أن مات على سرير ملكه وعزه في ثامن شهر رمضان المعظم قدره في عام اثنين وثمانين وتسعمائة، فدرج عتيق رمضان تغمده الله بالرحمة والرضوان.(2/331)
ومن أعظم حسناته عمارة العين، فقد تقدم أن ابتداء العمارة في أواخر دولة والده السلطان سليمان وتمامها في أول دولته. وقد قدمنا ذكرهما ومعاناتهما وما صرف على ذلك.
ومن خيراته: ابتداء عمارة المسجد الحرام سنة ثمانين وتسعمائة قبل وفاته بسنتين وإن كان تمامها إنما كان في دولة ولده الآتي بعده مولانا السلطان مراد بن سليم كما سيأتي ذكر ذلك.
وله غزوات شهيرة بالإرسال وهو جالس مكانه، فتح في أيامه السعيدة جزيرة قبرس بالسين المهملة لا بالصاد كما تقوله العامة، ومدينة تونس الخضراء، وممالك اليمن بأسرها. وتوفي إلى رحمة الله تعالى سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة، ومدة سلطنته ثمان سنين، وعمره الشريف ثلاث وخمسون سنة. وكان شجاعاً كريماً مهاباً كثير الإحسان من قبل أن يجلس على سرير الملك وبعده.
ومن غزواته: فتح تونس الغرب وحلتي الوادي، وفتح ممالك اليمن واسترجاعها من أيدي العصاة البغاة أهل الإلحاد.
ومنها: فتح جزيرة قبرس بسيف الجهاد، وهي جزيرة على البحر الشامي كثيرة القطر، ومقدارها مسيرة عشرين يوماً، وبها قرى ومزارع وأشجار ومعادن الزاج القبرسي وهي على مر الأيام، رخاؤها شامل، وخيرها كامل، وبها معادن الصفر واللادن الني يغلب العود في طيبه.
وكان معاوية رضي الله عنه غزاها وصالح أهلها على سبعة آلاف دينار، فنقضوا عليه، فغزاهم ثانية فقتل وسبَى شيئاً كثيراً.
وبين جزيرة قبرس ؤساحل مصر خمسة أيام، وبينها وبين جزيرة رودس يوم واحد.
وإنما سميت جزيرة قبرس بوثن كان هناك يسمى قابرس.
وكانت أم حرام بنت ملحان الصحابية شهدت غزوة قبرس فتوفيت بها.
وأهل قبرس يتبركون بقبرها، ويقولون: هذا قبر المرأة الصالحة، وكانت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها أن يجعلها الله من الذين يركبون ثبج البحر مجاهدين في سبيل الله ففعل، وهو حديث معروف.
وكان الأوزاعي يقول: إنا نرى هؤلاء - يعني أهل قبرس - أهل عهد، وإن عهدهم وقع على شرط، وأنه لا يسع المسلمين نقضه إلا بأمر يعرف به غدرهم، ورأى عبد الملك بن صالح في حدث أحدثوه أن ذلك نقض لعهدهم، فكتب إلى عمة من الفقهاء يشاورهم في أمرهم منهم الليث بن سعد وسفيان بن عيينة وأبو إسحاق الفزاري ومحمد بن الحسن فاختلفوا عليه، وأجاب كل واحد بما ظهر له. وقد فتحت أيضاً في دولة الشراكسة في دولة الملك الأشرف برسباي، وأسر ملكها، وذلك سنة سبع وعشرين وثمانمائة، ثم فتحت على يد السلطان سليم خان هذا المذكور، وكانت مدة سلطنته ثمان سنين كما تقدم ذكر ذلك.
ثم تولى السلطان
مراد الثالث
ابن السلطان سليم ابن السلطان سليمان خان:
وجلس بعد وفاة والده سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة.
كان مولده الشريف سنة إحدى وخمسين وتسعمائة، وبذلك انتظم في سلك كريمة قوله تعالى: " وَلَقَد كَتَبنا في اَلزبور مِن بَعدِ اَلذِكِر أَن الأرضَ يَرِثُهاً عباديَ الصالِحوُنَ " الأنبياء: 105، بحساب الجمل لأن لفظ الذكر تسعمائة وأحد وخمسون والقاعدة في ذلك مقررة في محلها.
ثم ظهر من خالق السموات، عنايات له وخصوصيات.
منها: أنه نشأ في ظل والده وجده المذكورين على مهاد العز والسلطان في حِجْر الخلافة، راضعاً ثدي العلم والعرفان. لم تعلم له صبوة مع توفر دواعيها، ولم يتناول شيئاً من المحرمات، بل ولا من المكروهات لما فيها، حتى قال أعاظم عرفاء العصر: مولانا المشار إليه ليس له نظير في هذا الدهر.
ومنها: أنه منذ ترعرع في شبابه صانه الله عن المحاربة والمخاصمة الناشئة عن حظوظ النفس وحب الرئاسة، واستعمل نفسه في العلم والعمل، ثم في الاستعداد للخلافة الإسلامية مع كمال النزاهة والعفة والنفاسة.
ومنها: أن طريقته في الملبس والمأكل والمشرب والمركب طريقة الصالحين والزهاد، ما عدا ما فيه خلل لنظام الملك أو ضرر للعباد.(2/332)
وكان جلوسه على تخت الخلافة الإسلامية في ثامن شهر رمضان في اليوم الذي توفي أبوه فيه من عام اثنين وثمانين وتسعمائة، فجلس جلوساً جامعاً لفضل الزمان والمكان، والافتنان في فعل الخيرات والمرتبات في مباديه. مما فعله أسلافه في غاياتهم مما لا شك فيه. ومنحه الله تعالى من كثرة الخراج والخزائن والعساكر ما لم يجمعه أحد من أسلافه الأكابر. فإذا عزم على فتح أعظم الممالك جهز شرذمة من عساكره المنصورة ففتح كل صعب المسالك.
ومن النعمة العظمى: إتمام عمارة المسجد الحرام، وكان ترميمه في زمان جده مولانا السلطان سليمان، ثم كان ابتداء هدمه وتعميره في زمان والده السلطان سليم سنة تسعمائة وثمانين. وتمام التعمير في زمانه، فأرخ ذلك جدي العلامة جمال الدين العصامي بشطر بيت هو قوله: من الرجز:
تاريخُ هَدْمِ المسجِدِ ... في رَابِعِ العشْرِ بُدِي
وهو تاريخ عجيب إذا معناه الحسابي يؤدي إلى تعيين السنة، ومعناه اللفظي يؤدي إلى تعيين يوم البدأة.
وسبب أمره الشريف بتعمير المسجد أن الرواق الشرقي منه مال إلى نحو الكعبة الشريفة بحيث برزت رؤوس خشب سقفه الثاني لأنه كان مسقفاً سقفين بينهما قدر ذراعين بذراع العمل عن محل تركيبهما من جدر المسجد، وذلك الجدر هو جدر مدرسة ألسلطان قايتباي، وجدر مدرسة الأفضل التي هي الآن وقف عباد الله، وقدر مفارقة الخشب عن موضع تركيبه أكثر من ذراع، ومال وجه الرواق الشرقي إلى صحن المسجد ميلاً ظاهراً، فبادر نظار الحرم يصلحون ذلك المحل الذي فارق بتعديل خشب السقف بأطول منه، وأعمدوا الرواق المائل إلى صحن المسجد بأخشاب كبار حفر لها في المسجد تمسكه عن السقوط، وذلك كله في دولة السلطان سليمان، واستمر متماسكاً على هذا الأسلوب من أواخر دولته إلى صدر دولة ابنه مولانا السلطان سليم، ففحش ميل ذلك الرواق، وعرض على الأبواب فبرزت الأوامر من السلطان سليم بالمبادرة إلى بناء المسجد جميعه على وجه الإتقان والإحكام، وأن يجعل عرض السقف قبباً دائرة بأروقة المسجد ليؤمن تآكل الخشب، فعين لذلك بكلربكي مصر سابقاً فخر الأمراء العظام أحمد بك، وأضيف إليه في هذه الخدمة سنجق جدة، فوصل الأمير أحمد بك في آخر ذي الحجة الحرام سنة 979 تسع وسبعين وتسعمائة، وكانت الأوامر الشريفة وردت أن يكون الناظر على هذه العمارة والمتكلم عليها عن جانب السلطنة سيدنا ومولانا القاضي الحسين المالكي ففرح بهذه الخدمة الفرح التام، وشد نطاق حزمه على ناطق عزمه، وقام.(2/333)
وحصل بين مولانا القاضي وبين أحمد بك الملاءمة والاتفاق، وبذلك يحصل تمام النجح والارتفاق، فاتفق رأي الناظر والأمين والمعمار على الشروع في الهدم، فشرع فيه رابع عشر ربيع الأول من سنة ثمانين وتسعمائة كما تقدمت الإشارة إليه بتاريخ الجد جمال الدين العصامي، وكان ابتداء الهدم مكاناً من باب السلام من تحت منارته إلى باب علي، ومنه أيضاً إلى باب بني سهم المعروف بباب العمرة، وأخذت المعاول تعمل في شرفات المسجد وطبطاب سقفه ثم كشفوا عن أساسه فوجدوه مختلاً، وكان جداراً عظيماً نازلاً في الأرض على هيئة بيوت رقعة الشطرنج، وكان على موضع التقاطع على وجه الأرض قاعدة تركب الأسطوانة عليها فشرع في وضع الأساس على وجه الإتقان والإحكام بالنورة المخمرة إلى أن طلع الأساس على وجه الأرض، وكانت الأسطوانات المبنية سابقاً على نسق واحد في جميع الأروقة من الرخام جميعها، إلى أن وقع الحريق في الجانب الغربي بالنار الناشئة من رباط رشت سنة أربع وثمانمائة في دولة الملك الناصر فرج بن برقوق من الشراكسة فاحترق منه أساطين الرخام وذابت، فأرسل - من أمرائه - الأمير بيسق إلى مكة فعمر الجانب الذي احترق، وأبدل من الأعمدة الرخام المحترقة أعمدة من الحجر الصوان المنحوت، وصارت الجوانب الثلاثة بالأعمدة الرخام ما عدا هذا الجانب الغربي فهو من الحجر الصوان المنحوت، فلما وقع هذا التعمير أدخلت في هذه العمارة العثمانية دعائم من الحجر الشميسي الأصفر غلاظ بعد كل ثلاث دعائم من الرخام دعامة منها لتقوى على تركيب القبب فوقها، ولإدخال الدعائم الشميسي الأصفر، صارت الأساطين كلها على نسبة واحدة، وهي أن كل ثلاث من الرخام رابعتها واحدة من الشميسي، وذلك في غالب الأروقة من الجوانب الأربع من المسجد الشريف كأنها قائمة بغاية الأدب حول بيت الله المنيف، وهي أعلى من ارتفاع سقفها السابق كأنها تنشد بلسان حالها مفتخرة على أمثالها: من الكامل:
إن الذي سمَكَ السماءَ بنى لها ... بيتاً دَعَائِمُهُ أعز وأَطوَلُ
واستمر الحال في هذه العمارة على هذا المنوال إلى أن تم منه الجانب الشرقي والجانب الشمالي إلى باب العمرة فما عمر مولانا السلطان سليم - أسكنه الله جنات النعيم - إلى أن تتم العمارة، وسلم ملكة الشريف السعيد إلى نجله السعيد صاحب الترجمة مولانا السلطان مراد ابن السلطان سليم خان فبرز أمره الشريف لأمير العمارة الشريفة المشار إليه أحمد بك المذكور، وأن يبذل جهده وجده في الإتمام لعمارة المسجد الحرام، فأعانه الله تعالى على إتمامها وأمد كذلك سائر خدامها، إلى أن تمت عمارة الجانبين الغربي والجنوبي من المسجد الحرام بجميع أبوابه وأعتابه، ودرجاته من داخله وخارجه، وكان ذلك في أواخر سنة أربع وثمانين وتسعمائة، وصمار المسجد الحرام نزهة المناظر، وبغية للخاطر، وجلاء للنواظر والخواطر، بحيث صار ما عمره الخلفاء العباسيون قبل ذلك لا يحسن عنده أن يذكر ويوصف؛ لأن هذا البناء أمكن وأزين وأعلى وأشرف.
وكان جملة ما أنفق على عمارته مائة ألف وعشرة آلاف دينار ذهباً غير الآلات والرصاص والنحاس والخشب، وأهلَّة القبب المعمولة بمصر المطلية بالذهب.
وجدد خيرات تفرد بها منها: مدرسة وتكية بالمدينة الشريفة، ومدرسة بمكة، وسبيل عظيم في بنائه وفرشه وعذوبة مائه.
وجدد بالروضة جملة من الدروس العلمية بمعلوم قدره كل عام مائة وخمسون ديناراً ذهباً جديداً للمدرس ومائة دينار جديد للطلبة لكل واحد عشرة على الدوام، وحدد في كل عام ألف دينار ذهباً لمائة نفر من الحجاج يدعون له بخير الدنيا والآخرة عند البيت العتيق.
وفي عام ست وثمانين وتسعمائة شرع في فتح الممالك العجمية الطهماسبية وعساكره المنصورة يتبع بعضها بعضاً من غير انقطاع، فملكه الله تعالى أعظم تلك البقاع وأحصن تلك القلاع.(2/334)
وفي سنة 988 ثمان وثمانين وتسعمائة أمر بكتب أسماء الخلفاء الأربعة بعد الله ورسوله بخط كبير عظيم نقراً في جدر المسجد الشرقي مموهاً بالذهب الصرف على أحسن قاعدة خط بديع رائق قل أن تحاكيه المهرة في بطون المهارق بين الباب المنسوب إلى سيدنا علي كرم الله وجهه، والباب المنسوب إلى عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، ولم أظفر على حقيقة السبب لذلك إلا ما يسمع من أفواه الرواة ولم تروه أخبار الثقات.
وجملة عدد الأسطوانات الرخام ثلاثمائة وأحد عشر، والأسطوانات الشميسي مائتان وأربع وأربعون، وعدد القبب مائة واثتتان وخمسون فيه شرقية أربع وعشرون ومثلها غربية، وشامية ست وثلاثون ومثلها جنوبية، وواحدة في ركنه من جهة منارة حزورة، والطواجن مائتان واثنان وثمانون طاجناً. وعدد شرفاته ألف وثلاثمائة وثمانون شرفة.
وجملة أبوابه تسعة عشر باباً تفتح على تسعة وثلاثين طاقاً كل ذلك مسمى معلوم مشاهد.
وجعلت في عمارة المسجد الشريف تواريخ عديدة.
قال القطب النهروالى: رأيت لبعض الفضلاء تاريخاً لتمام عمارته وذلك في سنة 984 أربع وثمانين وتسعمائة في بيت مفرد فأعجبني نظمه لحسن سبكه واستيفاء المعنى فيه فذكر به وهو هذا البيت: من الخفيف:
جَدَدَ المَسْجِدَ الحَرَامَ مُرَاد ... دَامَ سُلَطانُهُ وطَالَ أَوَانُهْ
قلت: هذا البيت هو لجدي العلامة جمال الدين العصامي كما رأيته بخطه في تذكرته عزاه إلى نفسه.
ولمولانا القاضي الحسين تاريخ منثور هو قوله: " أطال الله لمن أتمه عمرا " وورد تاريخ من الأبواب السلطانية معه حكم شريف برسمه على طراز باب سيدنا العباس في ظاهر الرواق فرسم هنالك وهو لقاضي العسكر نثراً قوله: " الحمد لله الذي أسس بنيان الدين المتين بنبي الرحمة والرشاد، وخصه بمزيد الفضل والكرامة والإسعاد " وهو فيه بعض تطويل وفي آخره نظم ثلاثة أبيات تتضمن التاريخ وهي هذه: من الرمل:
جَدَدَ السلطانُ مرادُ بنُ سَلِيمِ ... مَسْجِدَ البيتِ العَتِيقِ المُحْتَرَمْ
سُرَّ مِنْهُ المُسلِمُونَ كلهم ... دَامَ منصورَ اللواءِ والعَلَمْ
قال رُوحُ القدسِ في تاريخِهِ ... عَمرَ سُلطَانُ مُرَادُ الحَرَمْ
وفي سنة الألف عزل مولانا السلطان مراد آغاة الينيشرية، وكان ظالماً فأرخ عزله شاعر نظماً باللغة التركية معناه: لو قطع السلطان رأس الأغا ورجله لكان له تاريخاً عجيباً: رأس الأغا الهمزة من لفظه، ورجله الألف الأخيرة فيبقى الغين بألف هي سنة عزله.
وكانت وفاة مولانا السلطان مراد سنة 1003 ثلاث بعد الألف، وسنه الشريف يوم ولي ثلاثون سنة، ومدة سلطنته عشرون سنة وتسعة أشهر وستة أيام.
ثم تولى السلطان
محمد بن السلطان مراد
ابن السلطان سليم ابن السلطان سليمان خان:
وجلس سنة ثلاث وألف، وغزا بعسكره إلى غزوة مجر، وحصل هناك قتال، ومَنَّ الله عليه بالنصر فعاد مؤيداً منصوراً.
ولي الملك بعد وفاة أبيه، وبدأ بترخيم المطاف الشريف، والتجهز بنفسه إلى جهاد الفرنج أعداء الدين وأيده الله بالنصر والظفر المبين، وأبدى في مباشرته الحرب بنفسه ما أبهر، وأنبأ بعلو همته وقوة سجيته، فإن ذلك لم يتفق إلا نادراً، ثم عاد بالنصر التام إلى تخت مملكته وفي تاريخ ترخيم المطاف أبيات للإمام عبد القادر مطلعها: من الكامل:
ياً مَن يَلُوذُ بكَعْبَةٍ وحَطِيمِ ... وبِهاً يَطُوفُ بِخَالِصِ التَعْظِيمِ
وهي نحو أربعة وعشرين آخرها بيت التاريخ وهو:
قد دبرَ السلطَانُ أيد مُلكَهُ ... بَدءَ المَطَافِ جَرَى بِكُل نعيْمِ
توفي إلى رحمة ربه سنة اثنتي عشرة وألف.
وكانت مدة سلطنته تسع سنين ونصف شهر، تغشاه الله بالرحمة والرضوان.
ثم تولى السلطان
أحمد بن السلطان محمد
بن السلطان مراد ابن سليم بن سليمان بن سليم خان:
وجلس على سرير الملك سنة اثنتي عشرة وألف وبنى جامعه المعروف، المزخرف بأنواع الزينة، وقتل من كان في أيامه من البغاة والجلالية.
وله خيرات عديدة.(2/335)
وكان كثير الخير والمعروف بحيث إنه جعل لأهل الحرمين وقفاً بمصر يجمع مغله في كل عام ويرسل إلى مكة صحبة الركب المصري عوضاً عن مال بندر جدة المعمورة لانقطاعه بموجب عدم وصول المراكب الهندية فهو المعروف بالأحمدية. وفي سنة ست وعشرين بعد الألف أرسل إلى أعيان مكة المشرفة من شريفها وقضاتها وأئمتها وخطبائها كسوة عظيمة، فلبس كل من المذكورين ما أرسل به إليه، وكان ذلك أول النهار تجاه البيت الشريف.
وأرسل في عام عشرين الباشا حسن المعمار لعمارة عين مكة المشرفة، فوصل أوائل ذي الحجة من العام المذكور وعمر العين وأصلح بعض إصلاحات كانت بالكعبة الشريفة جزاه الله خيراً.
وموجب الإصلاح حصول تشعُب قليل في الجانب الشمالي، فأصلحه بحزام حديد تحت الطراز كالطراز مصفح بالفضة مطلي بالذهب.
ووصل معه من الديار الرومية بميزاب الكعبة الشريفة ثم ركبه بمحله بعد أن قلع الميزاب الأول، وأرسله إلى الحضرة الشريفة السلطانية، واستمر بها إلى أن وقع سقوط الجدران في دولة السلطان مراد بن أحمد سنة تسع وثلاثين، فرفع ذلك الإزار الحديد، وسبك فضته متعاطو العمارة ولم يجعلوا عوضه عليها لعدم الاحتياج إليها بعد عمارتها.
قلت: وكان تمام ذلك الإصلاح عام أحد وعشرين بعد الألف.
وفي مصلى الجمعة لوح رخام مثبت في شاذروان البيت الشريف منقور فيه ذكر ذلك.
وفيه " وقد جاء تاريخه من القرآن العظيم: أسس بنيانه على تقوى من الله " ، وهو حساب إحدى وعشرين وألف وهو من عجيب الاتفاق وأيمنه.
وكانت مدة سلطنته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر.
ثم تولى السلطان
مصطفى بن محمد
أخوه:
وجلس على تخت الملك سنة سبع وعشرين وألف، كان السلطان أحمد بن محمد عند موته عهد بالسلطنة له، وذلك لصغر سن السلطان عثمان ابنه، فاستقر فيها بعد موت أخيه السلطان أحمد بن محمد ثلاثة أشهر، ثم دبر كزلار أغاسي الطواشي في خلع السلطان مصطفى وتولية السلطان عثمان بن أحمد، فخلع مصطفى وبقي في السرايا مخلوعاً إلى أن تولى التولية الثانية كما سيأتي، وكان خلعه ليلة الأربعاء ثالث ربيع أول من سنة 1028 ثمان وعشرين وألف فكانت مدته هذه ثلاثة أشهر وعشرة أيام.
ثم تولى السلطان عثمان بن أحمد خان بن محمد خان:
فهو ابن أخي السلطان مصطفى بن محمد، وجلس على تخت الملك ثالث ربيع الأول سنة 1028 ثمان وعشرين وألف، تولى بعد القبض على عمه مصطفى في التاريخ المذكور.
وكان عالماً فاضلاً شجاعاً مطاعاً شريفاً يدور بالسيف والسنان، ويحمي بطوقه وطوعه بيضة الإسلام والإيمان، ثم شغب الجند على قزلار أغاسي، فنفوه إلى مصر بعد أن أرادوا قتله، وكان مقرب الحضرة السلطانية، ومدبر الدولة العثمانية.
ثم قبضوا على السلطان عثمان، وأحضروا عمه مصطفى وأجلسوه على تخت السلطنة ثانياً، وقتلوا عثمان وكانت سنه حين التولية نحو عشر سنين، وسنه عند القتل نحو تسع عشرة سنة.
وسبب قتله أنه عزم على الحج سنة إحدى وثلاثين وألف، وصمم على ذلك، وأمر بالخيام والمضارب والوطاق أن يضرب ظاهر القسطنطينية، فأجمع رأى أرباب دولته، وأركان سلطنته على خلعه إن لم يرجع، فدخلوا عليه وأشاروا عليه بالترك وقالوا: إنك غزوت الفرنج وقتلتهم وسبيتهم، وفي قلوبهم منك أمر عظيم فنخاف بعد عزمك، وانفصالك عن التخت إلى الحجاز مع بعد المسافة أن تثب الفرنج على المملكة، ويصعب خروجهم منها، مع أن هذا ليس قانون آبائك وأجدادك، وخوفوه بذلك فلم يمتنع، وصمم على العزم إلى الحج وخرج لذلك وسلك أول طرق هذه المسالك فكتب له الثواب، وحصل له أجر القصد في الحال والمآب. قال تعالئ: " وَمَن يخرُج مِن بيتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ ورَسُوله... " النساء: 100 الآية، فلما عرفوا منه التصميم قتلوه وأعادوا عمه السلطان مصطفى كما ذكرنا، كذا في منهل الظمان لأخبار دولة آل عثمان للشيخ العلامة محمد علي بن علان.
وكان قتله يوم الخميس سابع رجب الأصب من سنة 1031 وفيه يقول بعض أدباء الشام مؤرخاً: من الوافر:
قضَى عُثمَانُ سُلطَانُ البَرَايَا ... بأَسْيَافِ العَسَاكِرِ والجُنُودِ
وَوَافَتهُ المَنِيةُ في السرَايا ... مؤرَخةً كَعُثمَانَ الشهِيْدِ
سنة 1031 وقال آخر مؤرخاً أيضاً: من مجزوء الرمل:(2/336)
قَد قَضَى عُثْمَانُ ظُلماً ... حِينَ خَانَتْهُ الجنُودُ
والليَالِي أَرخَتهُ ... إن عثمانَ شَهِيدُ
سنة 1031 ومدة تصرفه ثلاث سنين وأربعة أشهر وأربعة أيام.
ثم تولى السلطان مصطفى بن محمد خان وهذه هي التَوْليَةُ الثانية:
وذلك أنه لما كان يوم خامس رمضان سنة إحدى وثلاثين ورد الخبر بوفاة السلطان عثمان، وتولية السلطان مصطفى عمه، وكان ذلك في سابع رجب من السنة المذكورة، فزينت مكة سبعة أيام ودعي له على المنبر الشريف المكي يوم الجمعة عاشر ذي القعدة الحرام من السنة المذكورة، وصلي على السلطان عثمان صلاة الغائب، وقرئت له ربعة حضرها الأعيان وذلك بأمر مولانا الشريف إدريس، واستمر إلى أن خلع في متتصف ذي القعدة الحرام من السنة الثانية والثلاثين بعد الألف، فكانت مدة تصرفه في التولية الثانية سنة وثلاثة أشهر ونصفاً.
ثم تول السلطان
مراد الغازي
ابن أحمد ابن محمد بن مراد بن سليم بن سليمان بن سليم خان:
جلس على سرير الملك منتصف ذي القعدة الحرام عام اثنين وثلاثين وألف جلوساً عاماً، وأخذ السيف في يده، وأخذ ثأره من الأعداء، وهم قتلة أخيه عثمان بن أحمد، وفتح قلعة وان.
ثم بعد سنين توجه بعسكر عظيم، وفتح بغداد، وذلك سنة ثمان وأربعين وألف وجعل جميع من كان فيها من الروافض طعمة سيفه.
وهو السلطان القائم بشعائر الإسلام المتأيد بعناية الملك العلام. فارس ميدان المنازلة إذا حمي الوطيس، وقيل: هل من مبارز، ومسقي رؤوس الأسل من صدور يؤكد الشر فيها الضمير البارز، ذو الهمة التي لو تعلقت بالجو لاستنزلت منه ما تعلق بالثريا، والفواضل التي لو كفت سحائب المزن لكفت القلوب ريه، والشيم التي لا يدانيه فيها أحد، والمزايا التي لا تحصرها العبارة ولا يستقصيها العد.
ولي بعد عمه السلطان مصطفى في التاريخ المتقدم ذكره، وورد الخبر أوائل ذي الحجة منها إلى مصر فخطب له بها وزينت مكة سبعة أيام وقام بالملك على وجه السداد، وأعلى ذكره على السبع الشداد.
وكانت سنه حين ولي أربع عشرة سنة. وفي ذلك يقول فخر الأدباء بكري الصراف: من الكامل:
لما أَرَادَ اللهُ نَفعَ عِبَادِهِ ... وَلى مُرَاداً مُلكَ خيرِ بِلادِهِ
وأَمَدهُ مِن فَضْلِهِ بِعِنَايَةٍ ... جَعَلَت عِدَاهُ تَحتَ نَغل جَوَادِهِ
وَشَداً لِسَانُ الحَالِ فِي تَارِيخِهِ ... بُشرَى لَهُ قَد نَالَ كُل مُرادِهِ
سنة 1032.
ولم يزل قائماً بشعار الملك مقيماً لشعائر الإسلام، مجهزاً عساكره المنصورة إلى افتتاح البلدان، وتوجه بنفسه الشريفة في عام خمس وأربعين إلى غزو العجم فافتتح كثيراً من بلدانهم وافتتح بغداد عام ثمان وأربعين بعد الألف، ثم رجع إلى تخت مملكته اسطنبول، وأبقى على عسكره المنصور سرداراً معيناً.
ويحكى أنه أرسل إلى مصر المحروسة درقة نحو إحدى عشرة طبقة ضربها بعود فثبت فيها، وبرز أمره الشريف إلى العساكر المصرية لإخراج العود منها، وأن من أخرجه يزاد في جامكيته كذا وكذا، فحاولوا إخراجه فعجزوا عن ذلك.
ثم أرسل قوساً ومعها همايون شريف يخاطب به وزير مصر مضمونه أمر العساكر والأجناد بجر هذا القوس وزيادة علوفة من يفعل ذلك، فحاول العسكر جره فلم يقدروا، ثم علقت الدرقة بالديوان الشريف العالي بمصر المحروسة وعلق القوس بباب زويلة.
وقد جعل بعض الأروام تاريخاً بالتركي لسنة مجيء القوس وهي سنة 1033 ثلاث وثلاثين وألف، وترجم بالعربية بما نصه " يا سلطان الوجود لساعدك القوة " . ومما يدل على سعادته العظمى توجه خاطره الشريف إلى أهالي الحرمين، وأمره المتولي الجهات خصوصاً مصر بإجراء حبوبهم وإرسال مغلات أوقافهم، فما من همايون يرد منه إلا وفيه الحث على ذلك.
ومما يدل على عناية الله به أن كانت عمارة بيت الله الشريف في زمنه ابتداؤها وانتهاؤها في أيام دولته، وقد أرخ تلك العمارة مولانا الإمام عبد القادر الطبري في قصيدة قدمها إلى السيد محمد المتولي عمارة البيت الشريف، وهي نحو الثمانية عشر بيتاً مطلعها: من الخفيف:
عَادَ بَيتُ الِإلهِ بَعْدَ انْهِدَامِه ... وغَداً فَائِقاً بِحُسن نِظَامِهْ
إلى أن يقول:(2/337)
فِلهَذاً طَيرُ المَسَرَةِ أمْسَى ... مُنْشِداً عِنْدَ بدئه وختامِهْ
حالماً أتَمَّه بِمُرَادٍ ... شيد بَيت الإله تاريخ عامِهْ
وسجود البيت الشريف وعمارته وما يتعلق بهما مذكور مفرد بالتصنيف لا نطول بذكره، وسنشير إلى طرف من أخباره في دولة مولانا الشريف مسعود بن إدريس فإنها موافقة لدولة السلطان مراد في الزمان المذكور سقوطاً وابتداء تعمير، واستمر مولانا السلطان مراد إلى أن توفي سنة 1049 تسع وأربعين وألف، وكانت مدة سلطنته سبع عشرة سنة.
ثم تولى السلطان إبراهيم بن السلطان أحمد أخو السلطان مراد المذكور قبله:
جلس على تخت الملك سنة وفاة أخيه السلطان مراد وهي سنة تسع وأربعين وألف، وشرع في أيامه في فتح جزيرة كريد، ففتحها إلا قلعة واحدة؛ وذلك لمتانتها غاية المتانة، فاستمر في الملك إلى أن انفتل من مدته سنة ثمان وخمسين وألف، وكانت مدة سلطنته ثمان سنين وثمانية أشهر.
ثم تولى السلطان محمد خان الغازي المجاهد:
السلطان محمد خان ابن المرحوم السلطان إبراهيم خان ابن مولانا السلطان أحمد خان ابن مولانا السلطان محمد خان ابن مولانا السلطان مراد خان ابن مولانا السلطان سليم خان ابن مولانا السلطان سليمان خان ابن مولانا السلطان سليم خان فاتح مصر والشام ابن مولانا السلطان بايزيد خان ابن مولانا السلطان محمد خان فاتح القسطنطينية العظمى ابن مولانا السلطان مراد خان ابن مولانا السلطان محمد خان ابن مولانا السلطان يلدرم بايزيد ابن مولانا السلطان مراد خان ابن مولانا السلطان أورخان ابن مولانا السلطان عثمان خان الغازي.
مولده: سنة تسع وأربعين وألف، وهي السنة التي توفي فيها عمه السلطان مراد ابن أحمد.
وجلس على تخت السلطنة في شهر رجب المبارك من شهور سنة 1058 ثمان وخمسين وألف، وعمره الشريف إذ ذاك تسع سنين.
له الفتوحات التي لا تحصى والمغازي التي لا تستقصى، أذل بغزواته أعداء الدين، واستباح قلاعهم، وجعلها داراً للمسلمين.
لم تزل أعلام نصره ظاهرة، وآيات سعده باهرة.
فمن فتوحاته الميمونة التي لم تزل بالعز والنصر مقرونة، مدينة قوش آضه وأيوار وزغره ويانق وورط ويانوا وقمانيصه وقندية التي هي كريد؛ لأنها جزيرة وقندية في طرفها، وكان فتحها سنة ثمانين أعني قلعة كريد.
وخذل بذلك كل جبار عنيد وحصل للمسلمين به المسرة ولأعينهم أعظم قرة، وكان الفتح بها مع عقد هدنة إلى مدة مائة عام.
وهذا على مقتضى مذهب أبي حنيفة النعمان، لأن عقدها موكول إلى نظر السلطان.
وأما عند إمامنا الشافعي فلا يجوز عقدها فوق أربعة أشهر عند قوتنا وفوق عشر سنين عند ضعفنا. ثم إنهم نقضوا العقد ونكثوا العهد فعاد نقضهم عليهم ورجع وباله إليهم.
وقد أرخ الفتح المذكور الشيخ عبد الباقي بن أحمد الشامي في أبيات يقول آخرها: من السريع:
وحِينَ كَرب زَالَ أَرَختُهُ ... نَضر من الله وفَتحَ قريب
قلت: هو تاريخ لطيف، وحسن الإخراج فيه ألطف، يشير إلى أن مدلول لفظ كرب الحسابي وهو مائتان واثنان وعشرون يسقط فيصير الباقي تاريخ تلك السنة.
وأرخه أيضاً الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد الرحمن الخياري المدني بأبيات أولها قوله: من السريع:
يا مَعشَرَالإسلامِ قد عَمكُم ... فَضلٌ عَظِيم يَقْتَضِي شُكْرَكُمْ
وآخر قوله:
إن قيلَ ما تاريخُ عام أتَى ... ألفَتْحُ والنصْرُ إلى شَهرِكُمْ
فَقُل مُجِيباً صَح تَارِيخُهُ ... نَصرٌ مِنَ الله وفَتْح لَكم
هذه المدن الكبار، ولا يحصى ما سواها من الصغار.
واستمر إلى أن ثار عليه الجند فخلعوه وأدخلوه معتقَلاً، وأخرجوا من كان فيه معتقِلاً أخاه مولانا السلطان سليمان بن إبراهيم، وسلموا عليه بالولاية، وضربت باسمه السكة وخفق في موكبه اللواء والراية، فهو سلطان زماننا الآن، أيده الله في المكانة والإمكان. ولم يمكث أن التفت إلى قتال أعداء الدين، وتهيأ لغزو الكفرة الملحدين، فطلبوا الهدنة أربع سنين، فوافقهم على ذلك لما اقتضاه نظره في مصالح المسلمين.
وكان توليته يوم خلع أخيه، وهو يوم السبت ثاني محرم الحرام مفتتح سنة تسع وتسعين وألف، جل من لا يزول ملكه ولا يتبدل، لا إله غيره.
الخاتمة(2/338)
نسأل الله تعالى حسنها، تحتوي على ثلاثة أبواب: الباب الأول: في ذكر نسب الطالبيين، وذكر المشاهير من أعقابهم.
الباب الثاني: في ذكر من دعا منهم إلى المبايعة، وذكر مكان دعائه إليها وزمانه، وما جرى على كل قائم منهم من خليفة زمانه، وتعدادهم من علي بن أبي طالب إلى يومنا هذا، حتى لا تخلو الأرض من قائم من آل محمد يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم إلى أن يظهر مهديها المنتظر، وهذا على غير رأى الإمامية، أما على رأيهم فلا يجوزون الإمامة لغير الاثنى عشر الإمام كما سنذكر ذلك.
الباب الثالث: في ذكر من ولي مكة المشرفة من آل أبي طالب إلى يومنا هذا فنقول وبالله العون:
الباب الأول:
في ذكر نسب الطالبيين
وذكر المشاهير من أعقابهم:
أما أنساب الطالبيين فأكثرها راجع إلى الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب من فاطمة عليهم السلام، وهما سبطا الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى أخيهما محمد بن الحنفية، وإن كان لعلي رضي الله تعالى عنه غيرهم من الولد، إلا أن الذين طلبوا الحق في الخلافة، وتعصب لهم الشيعة، ودعوا لهم في الجهات إنما هم من هؤلاء الثلاثة لا من غيرهم.
فأما الحسن: فمن ولده: الحسن المثنى وزيد، ومنهما العقب المشهود له في الدعوة والإمامة. أما الحسن المثنى، فكان جليلاً فاضلاً ورعاً، أمه خولة بنت منظور بن ريان بن سيار بن عمرو بن جابر بن عقيل بن مازن، وكانت قبل الحسن السبط تحت محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي أحد العشرة رضوان الله تعالى عليهم، فقتل عنها يوم الجمل وله منها أولاد، فتزوجها الحسن بن علي بن أبي طالب، فسمع بذلك أبوها منظور فدخل المدينة الشريفة، وركز راية سوداء عند باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق قيسي إلا دخل تحتها، ثم قال: أمثلي يفتات عليه في ابنته؟ فقالوا: لا.
فلما رأى الحسن ذلك سلم إليه ابنته فحملها في هودج، وخرج بها من المدينة، فلما صارت بالبقيع قالت: يا أبت أين تذهب بي؟ إنه الحسن ابن أمير المؤمنين عليه السلام، فقال لها: إن كان له فيك حاجة فسيلحقنا.
فلما صارا في نخل المدينة إذا بالحسن والحسين وعبد الله بن جعفر قد لحقوا بهم، فأعطاه إياها فردها إلى المدينة، وفي ذلك يقول جد حفيز العبسي: من البسيط:
إن الندَى مِنْ بني ذُبيَانَ قَدْ عَلِمُوا ... والجودَ في آل مَنْظورِ بنِ سَيّارِ
ألماطرينَ بِأَيديهِم نَدىً ديماً ... وكل غَيثٍ مِنَ الوَسْمِي مِدرَارِ
تَزُورُ جارَهَمُ وهناً هديتُهُمْ ... وما نهاهم لها وهناً بزوارِ
وكان الحسن وصي أبيه، وولي صدقة علي بن أبي طالب في عصره.
قال في كتاب أنساب قريش: كان الحجاج بن يوسف قال للحسن وهو يسايره في موكبه بالمدينة، والحجاج يومئذ أمير المدينة: أدخل عمك عمر بن علي معك في صدقة علي، فإنه عمك وبقية أهلك. فقال: لا أغير شرط علي ولا أدخل فيها من لم يدخل.
قال: إذن أدخله معك. فنكص عنه الحسن حتى غفل عنه الحجاج، ثم كان وجهه إلى عبد الملك حتى قدم عليه، فوقف ببابه يطلب الإذن، فمر به يحيى بن الحكم فلما رآه يحيى، عدل إليه فسلم عليه، وسأله عن مقدمه وخبره وتحفى به، وقال له: إني سأنفعك عند أمير المؤمنين يعني عبد الملك.
فدخل الحسن على عبد الملك فرحب به وأحسن مسألته: وكان الحسن قد أسرع إليه الشيب، ويحيى بن الحكم في المجلس، فقال له يحيى: وما يمنعه يا أمير المؤمنين شيبته أماني أهل العراق كل عام يقدم عليه منهم ركب يمنونه الخلافة.
فأقبل عليه الحسن بن الحسن، فقال: بئس والله الرفد رفدت، وليس كما قلت، ولكنا أهل بيت يسرع إلينا الشيب، فأقبل عليه عبد الملك، فقال: هلم ما قدمت له؟ فأخبره بقول الحجاج فقال له: ذلك إليك، اكتبوا إليه كتاباً لا يجاوزه ووصله، فلما خرج من عنده لقيه يحيى بن الحكم، فعاتبه الحسن على سوء محضره، وقال: ما هذا الذي وعدتني.
فقال له: إيهاً عنك فوالله لا يزال يهابك، ولولا هيبته إياك ما قضى لك حاجة، وما آلوتك رفدَاً.(2/339)
وكان عبد الملك بن مروان غضب عليه، فكتب إلى هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة عامله على المدينة، وكانت بنت هشام تحت عبد الملك بن مروان، وولدت له هشام بن عبد الملك: أن أقم آل علي يشتمون علي بن أبي طالب، وأقم آل الزبير يشتمون الزبير. فقدم كتابه على هشام، فأبى كل منهما ذلك، وكتبوا وصاياهم، فركبت أخت هشام إليه وكانت جزلة عاقلة فقالت: يا هشام أتراك الذي تهلك عشيرته على يده؟ راجع أمير المؤمنين. فقال: ما أنا بفاعل، قالت: فإن كان لابد من ذلك فمر آل علي يشتمون الزبير، وآل الزبير يشتمون علياً.
قال: هذه أفعلها. فاستبشر الناس بذلك وكان أهون عليهم. فكان أول من أقيم إلى جانب المرمر الحسن المذكور وكان رجلاً رقيق البشرة عليه يومئذ قميص كتان رقيق، فقال له هشام: تكلم فسب الزبير، فقال: إن لآل الزبير رحماً أبلها ببلالها وأربها بربابها، يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار.
فقال هشام لحرسي عنده: اضربه، فضربه سوطاً واحداً من فوق قميصه، فخلص إلى جسده، فشرحه حتى سأل دمه تحت قدميه في المرمر. فقام أبو هاشم عبد الله ابن محمد بن الحنفية، فقال: أنا دونه أكفيك أيها الأمير فنال من آل الزبير فشتمهم.
ولم يحضر علي بن الحسين - كان مريضاً أو تمارض - ولم يحضر عامر بن عبد الله بن الزبير، فهم هشام أن يرسل إليه، فقيل له: لا تفعل أفتقتله؟ فأمسك، وحضر من آل الزبير من كفاه.
وكان عامر يقول: إن الله لم يرفع شيئاً فيستطيع الناس خفضه، انظروا إلى ما تصنع بنو أمية يخفضون علياً، ويغرون بشتمه، وما يزيده الله بذلك إلا رفعة. وكان ثابت بن عبد الله بن الزبير غائباً، فقدم فقال لهشام بن إسماعيل: إني لم أحضر هذا الجمع فاجمع الناس حتى آخذ بنصيبي. فقال هشام: وما تريد بذلك ولود من حضر أنه لم يحضر.
فقال: لتفعلن أو لأكتبن إلى أمير المؤمنين بعرضي نفسي عليك فلم تفعل، فجمع له الناس فقام فيهم فقال: " لعِنَ الذَينَ كفَرُوا مِن بَني إسرائيلَ " إلى " كانوُا يَفعَلوُنَ " المائدة:78: 79، لعن الله من لعن، ولعنته قوارع القرآن، لعن الله المندوب يلعنه الله بين عينيه إلا شدة لطيم الشيطان، المتناول ما ليس له هو أقصر ذراعاً وأضيق باعاً.
لعن الله الأثعل المترادف الأسنان المتوثب في الفتن توثب الحمار في القيد محمد ابن أبي حذيفة الرامي أمير المؤمنين عثمان برؤوس الأفانين.
ثم قال: إن الله رماك، وكذب، لو رماه الله ما أخطأه.
لعن الله الأعور بن سمرة ابن شر العضاه، وألأمها مرعى، وأقصرها فرعاً، لعنه الله ولعن من أخذ حباه، يعرض بأم هشام بن إسماعيل، وكان عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة خلف عليها بعد إسماعيل بن هشام. وعبيد الله بن عبد الرحمن هو الذي عناه ثابت بن عبد الله بن الزبير. فلما بلغ ثابت هذا من القول في هشام أمر به إلى السجن وقال: ما أراك تشتم إلا رحم أمير المؤمنين. فقال له ثابت: إنهم عصاة مخالفون، فدعني حتى أشفي أمير المؤمنين منهم. فلم يزل ثابت في السجن حتى بلغ خبره عبد الملك فكتب: أن أطلقه فإنما شتم أهل الخلاف.
أولاده: محمد وبه كان يكنى، وعبد الله وفيه البقية، وحسن وإبراهيم، وزينب وأم كلثوم ولما خطب الحسن بن الحسن إلى عمه الحسين بن علي بن أبي طالب، قال له الحسين: يابن أخي قد انتظرت هذا منك قبل اليوم، فخرج به حتى أدخله منزله، ثم أخرج له ابنتيه فاطمة وسكينة فقال: اختر. فاختار فاطمة فزوجه إياها. فكان يقال: إن امرأة سكينة مرذولتها لمنقطعة الحسن.
وأتت منه بأولاده المذكورين حسن المسمى حسن المثلث، وعبد الله وزينب وأم كلثوم ما عدا محمد فإن أمه رملة بنت سعيد بن زيد أحد العشرة.
فلما حضرت الوفاة الحسن قال لفاطمة: إنك امرأة مرغوب فيك، فكأني بعبد الله ابن عمرو بن عثمان بن عفان قد جاء على فرس مرجلاً جمته، لابساً حلته، يسير في جانب الناس يتعرض لك، فانكحي من شئت سواه، فإني لا أدع من ورائي هماً غيرك.
فقالت: من من ذلك وأثلجته بالإيمان من العتق والصدقة لا نتزوجه.
ومات الحسن رضي الله عنه وخرج به فوافى عبد الله بن عمرو بالحال التي وصفها الحسن.
وكان يقال لعبد الله بن عمرو المطرف من حسنه.(2/340)
فنظر إلى فاطمة حاسراً تضرب وجهها فأرسل إليها: إن لنا في وجهك حاجة فارفقي به. فاسترخت يداها وعرف ذلك فيها وخمرت وجهها.
فلما جاءت رسله تخطبها قالت: كيف بيميني التي حلفت بها؟ فأرسل إليها: لك مكان كل مملوك مملوكان ومكان كل شيء شيئان، فعوضها عن يمينها فنكحته وزوجها به ابنها عبد الله بن الحسن، وولدت له محمداً الديباج والقاسم ورقية بني عبد الله بن عمرو بن عثمان، فكان عبد الله بن الحسن، وهو أكبر أولادها يقول: ما أبغضت بغض عبد الله بن عمرو أحداً، ولا أحببت حب ابنه محمد أخي أحداً.
مات الحسن وسنه خمس وثلاثون سنة في حياة أخيه زيد بن الحسن السبط، ولم يدع الإمامة ولا ادعاها له أحد، والعقب منه في خمسة أشخاص: عبد الله المحض، والكامل يلقب بهما، وسيأتي ذكره عند ذكر قيام ولده محمد النفس الزكية.
ومن بنيه: الملوك الأدارسة بالمغرب الأقصى، وهم بنو إدريس بن إدريس المحض، ومن عقبهم بنو حمود ملوك الأندلس الدائلون بها من بني أمية آخر دولتهم، وهم بنو حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن إدريس.
ومنهم: بنو سليمان بن عبد الله المخض الملوك بنواحي تلمسان.
ومنهم: بنو موسى الجون بن عبد الله المحض، كان من عقبه ملوك اليمامة بنو محمد الأخيضر بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله المحض. ومنهم: بنو صالح بن موسى بن عبد الله الثاني، ويلقب بأبي الكرام بن موسى الجون، وهم الذين كانوا ملوكاً بغانة من بلاد السودان بالمغرب الأقصى وعقبهم هنالك معروف.
ومن عقبه أيضاً: الهواشم بنو أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد الأكبر بن موسى الثاني ابن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون، كانوا أمراء مكة بعهد العبيديين.
ومن عقبه: بنو قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن سليمان بن موسى الجون، ملكوا مكة بعد الهواشم على يد قتادة أبيهم هذا، فمنهم بنو أبي نمي بن أبي سعيد الحسن بن علي بن قتادة أمراء مكة إلى عهدنا الآن.
والثاني من أولاد الحسن المثنى الخمسة: داود بن الحسن المثنى، وكان رضيع جعفر الصادق، وكان المنصور حبسه فأفلت منه بالدعاء الذي علمه جعفر أمه، ويعرف بدعاء أم داود.
ومن عقبه السليمانيون، الذين كانوا بمكة وهم بنو سليمان بن داود، وغلبهم عليها الهواشم آخراً وهم المسمون بآل أبي الطيب، كما ذكر ذلك الفاسي في تاريخه: شفاء الغرام فساروا إلى اليمن، فقامت الزيدية بدعوتهم، وغلبوا على بني طباطبا بصعدة.
والثالث من أولاد الحسن المثنى الخمسة: حسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب، ومن عقبه قتيل فخ حسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط الفخي الخارج علي الهادي بن الرشيد، وسيأتي ذكره.
والرابع من أولاد الحسن المثنى: إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى. ومن عقبه بنو طباطبا أبي الأئمة بصعدة الذين غلبهم عليها بنو سليمان بن داود بن الحسن المثنى حين جاءوا من مكة ثم غلبهم عليها بنو الرسي، ورجعوا إلى إمامتهم بصعدة، وهم فيها إلى عهدنا الآن.
والخامس جعفر بن الحسن المثنى، وكان يكنى أبا الحسن، وكان أكبر إخوته سناً.
ومن عقبه من بني علي: باغر آل حمزة ويعرفون ببني الشجري، منهم: السيد أبو السعادات بن الشجري، له أمالي في النحو. انقرض عقبه. ومن عقبه أيضاً: بنو الكشيش، وآل أبي زيد، لهم أعقاب. فهفه خمسة أسباط من الحسن المثنى.
وأما أخوه زيد بن الحسن السبط فكنيته أبو الحسين، عاش تسعين سنة، وقيل: خمساً وتسعين، وقيل: مائة.
وكان زيد قد تخلف عن عمه الحسين بن علي فلم يخرج إلى العراق معه، مات زيد ولم يدع الإمامة، ولا ادعاها له مدع من الشيعة.
والإمامة لأولاد الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو أعقب سبطاً واحداً، وهو مع الخمسة الأول.
السبط السادس من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب: وهو الحسن بن زيد، ويكنى أبا محمد، وكان أمير المدينة من قبل أبي جعفر المنصور، وعمل له على غيرها.
وكان مظاهراً لبني العباس على بني عمه الحسن المثنى. وهو أول من لبس السواد من العلويين، ولا عقب لزيد إلا من ابنه الحسن هذا.
وكانت لزيد بنت اسمها نفيسة أخت للحسن بن زيد، وهي التي يسميها أهل مصر الست نفيسة ويعظمونها ويقسمون بها، وكانت زوجة الوليد بن عبد الملك.(2/341)
وكان زيد يفد على الوليد فيقعده على السرير معه، ويكرمه لمكان ابنته، ووهب له ثلاثين ألف دينار دفعة واحدة.
وزعم بعض الناس أن نفيسة المذكورة بنت الحسن بن زيد بن الحسن لا أخت له، وقد كانت تزوجت بإسحاق بن جعفر الصادق، وكان الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه يروي عنها، ولما مات أدخلت جنازته عليها فصلت عليه. والله أعلم.
قال الزبير بن بكار: حدثني نوفل بن ميمون، قال: حدثني أبو مالك محمد بن مالك بن علي بن هرمة، أنه قال يمدح الحسن بن زيد بن الحسن السبط، ويعرض بعبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط، وبابنيه محمد النفس الزكية، وإبراهيم بن عبد الله المحض: من البسيط:
إني امرؤ مَنْ رعَى غَيْبي رَعَيْتُ لَهُ ... غَيْبَ الذمامِ، ومن أنكرْتُ أنكَرَني
أَمّاً بَنُو هَاشِمٍ حَوْلِي وَقَدْ رَدَعُوا ... نَبْلي الصيَاب التي جمعْتُ في قَرنِ
فَماً بِيَثْرِبَ منْهُمْ مَنْ أُعَاتبُه ... إلا عَوَائِدُ أرْجُوهُن مِنْ حَسَنِ
وذَاكَ مَنْ يَأتِهِ يَعْمِدْ إلى رَجُلٍ ... من كُل صَالحَةِ أَوْ صَالحٍ قَمنِ
لاَ يُسلِمِ الحمْدَ للُّوامٍ إنْ شَحطُوا ... بَل يَأْخُذ الحمد بالغالي من الثمن
ما زَالَ يَنْمى وزَال الله يَرْفعُهُ ... طولاً عَلَى بغْضَةِ الأَعْدَاءِ والإِحَنِ
أَمَات فِي جَوْفِ ذي الشَحْنَاِء ظنتَه ... وكانَ داءً لذي الشَّحْنَاءِ والظننِ
إذا بَنُو هَاشِمٍ آلَتْ بأَقْدُحِهَا ... إلى المفِيضِ وخَافَتْ دَوْلَةَ الغَبَنِ
حازتْ يَداً حسنِ قِدْحَين من كرمٍ ... لَمْ يُعْمَلا بِشباً المبراةِ والسفنِ
لا يَسْتَريحُ إلى إثمٍ ولا كَذِبٍ ... عندَ السؤالِ ولا يجتن بالجُنَنِ
ماً قَاَل أَفعَلُ أمضاهُ لِوِجْهَتِهِ ... وَما أبَى لح ما يَأْتِي فَلَمْ يَكُنِ
ما أَطلَعْت رَأسَهاً كَيْماً تُهَددني ... حَصْباءُ تطرح من نفسي على شزنِ
إلاَّ ذَكَزتُ ابنَ زَيْدٍ وهْوَ ذُو صلةٍ ... عند السنينَ وعواد على الزمنِ
فاسلَمْ ولا زالَ من عَاداكَ محتملاً ... غيظاً ولا زالَ معفوراً على الذقَنِ
لم يعتب اللهُ أنفاً فيك أرغَمَهُ ... حتى تزولَ رواسي الصخْرِمن حضنِ
إذا خَلوت به ناجَيْت ذا طهرٍ ... يأوي إلى عقل صافي العقلِ مؤتمنِ
طَلق اليدَينِ إذا أضيافه طرقوا ... يشكُونَ من قرة شكوى ومِنْ وَسَنِ
بَاتُوا يَعُدُونَ نَجْمَ الليْلِ بَيْنَهُمُ ... في مستجيرِ النواحي زاهق السمنِ
ثم اغتدوْا وهُمُ دسم شواربهم ... ولم يبيتوا على ضَيحٍ من اللبنِ
قد جعل الناس حقباً نحو منزلِهِ ... شقا كقرنِ أثيثِ الرأسِ مدّهنِ
فهم إلى نائلٍ منه ومنفعةِ ... يعطونها سكناً تهوى إلى سكنِ
أوصاك زيْذ بأعْلى الأمْرِ منزلة ... فما أخذتَ قبيحَ الأمرِ بالحسنِ
خَلأَت صدقٍ وأخلاق خُصصْتَ بها ... فلم يُضَعْن ولم يُخلْطَن بالدرنِ
يلقى الأيامِن مَنْ لاقاك سانحة ... وجه طليق وعُود غَيْر ذي أُبنِ
وأنتَ من هاشمٍ حقاً إذا نسبوا ... في المنكب اللينِ لا في المنكبِ الخشنِ
بنوكَ خَيْرُ بنيها إن حفلت بهم ... وأنتَ خيرُهُمُ في اليسرِ والَّلزَنِ
واللهُ أعطاك فضلاً من عطيته ... على هَنٍ وهنٍ فيما مضَى وهنِ
قال: فقال له إبراهيم بن عبد الله بن الحسن - وجاءهم بعد ذلك - : لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق، ألست الذي تقول للحسن بن زيد:
اللهُ أَعْطَاكَ فَضْلاً مِنْ عَطِيتهِ ... عَلَى هَن وَهَنٍ فيما مضَى وَهَنِ
تريد أبي عبد الله المحض، وأخي محمداً النفس الزكية وإياي؟ فقال ابن هرمة: والله ما أردتكم بذلك. قال له إبراهيم: فمن أردت؟ قال: قارون وفرعون وهامان.(2/342)
قلت: هذا التوجيه عما الكلام فيه أبعد من زمان المذكورين عن زمان نحن فيه. لكنه قد حلف بالله والله عليم بالنيات. ثم قال ابن هرمة يعتذر إلى إبراهيم الغمر من ذلك ويمدحه وأباه وأخاه من البسيط:
يا ذا النُبُوَّةِ يَدْعُونِي لِيُسْمِعَنِي ... مواعظاً من جَمِيلِ رَأْيِهِ الحَسَنِ
أَقْبِلْ عَلَيَّ بوَجْهٍ منْكَ أَعْرِفُهُ ... فقد فَهِمْتُ وسُدَّ السمْعُ للأُذُنِ
لا والذي أنتَ مِنْه رَحْمَةٌ نَزَلَتْ ... نَرجُو عَواقِبَهاً في غَابِرِ الزمَنِ
لَقَد أَتَيْت بِأَمْرِ ما أَبهْتُ له ... وَلا تَعَمدَهُ قَصْدي ولا عنني
إلا مَقَالةَ أقوامٍ ذوي إحَن ... وما مَقَالُ ذَوِي الشَحْنَاءِ والإحَن؟!
لَمْ يُحْسنُوا الظن إذْ ظنوا لِذِي حَسَب ... وفِيهِمُ الغَدرُ مَقْرُون إلى الظنَنِ
ما غيرت وجهه أم مقصرةٌ ... إِذا القتامُ تغشَى أوجه الهجنِ
وكَيْفَ أَمْشِي مَعَ الأَقْوامِ مُعْتَدِلاً ... وَقد رَميتُ صَحِيحَ العودِ بالأُبنِ؟
وكيف يأْخذُ مثلي في تحيزِهِ ... وسط المعاشِرِ مَبْخُوساً من الثمَنِ
وقد صَحِبْتُ وجَاوَرْتُ الرجَالَ فلمْ ... أَمْلُلْ إِخَاءً وَلَمْ أَغْدرْ ولَمْ أَخُنِ
وماً بَرِحت بِحمْدِ اللهِ في سَنَن ... مِن صَالح العَهْدِ أُمْضيهاً إلى سَنَنِ
يا بنَ الفَوَاطِمِ خَير النَّاسِ كلِّهمُ ... بَيتاً وأولاهُمُ بالفَوْز لا الغَبَنِ
إنْ لِنْتَ نَحوِي فإن الله جَابِرُنا ... ولا اخْتِيارَ لنا إنْ أنْتَ لَمْ تَلِنِ
وماً لَبِسْتُ عنانِي في مساءتكُمْ ... ولا خَلَعْتُ لغش نَحْوَكُمْ رَسَني
وأنتَ مِنْ هَاشِمِ في سِر نَبعَتها ... وطينةٍ لم تُقَارِفْ هجنَةَ الطينِ
لَوْ رَاهنَتْ هاشمٌ عَن خَيرهاً رجلاً ... لكان أبُوكَ الذي يَخْتَصُّ بالرَهنِ
واللهِ لَوْلا أَبُوكَ الخَيْرُ قد نَزَلَتْ ... منى قَوَافٍ بِأَهْلِ اللُؤْمِ والوَهَنِ
تَبْرِي العِظَامَ فَتُبدي عَنْ جَنَاجِنِها ... أَخْذَ الشَرِيحَةِ بالمبراةِ والسفنِ
أنت الجَوَادُ الذي نَدعُو فَتلْحقُنَا ... إذا تَرَاخَى المَدى بالقرح والحصنِ
فما أبالي إذا ما كُنْتَ لي كنفاً ... من صدَ أو بَتَّ مِنْ أَقْرانِهِ قَرنِي
وماً أبالي عَدُوَّ اللهِ شَاحَنني ... أَمْ زَاحَمَتْ شعفات الصم من حضنِ
أنتَ المُرَجى لأمَرِ النَّاس إنْ أَزِمَتْ ... جَداءُ صَرمَاءُ لمْ تَصْدُرْ على لبنِ
يأوونَ مِنكَ إلى حِصْنٍ يُلاذُ به ... تأوِى إِلَيْه الطرادى وَاسِع العطنِ
وأعقب الحسن بن زيد من سبعة رجال، ثلاثة منهم مكثرون: أبو محمد القاسم، وعلي الشريد، وأبو محمد إسماعيل. وأربعة مقلون أبو الحسن إسحاق، وأبو طاهر زيد، وأبو زيد عبد الله، وأبو إسحاق إبراهيم.
أعقب القاسم بن الحسن، وهو الفرع الأول من رجلين: محمد البطحاني، وعبد الرحمن الشجري.
أما محمد البطحاني ونسبه إلى بطحان بالضم. موضع بالمدينة، وبالفتح إلى البطحاء، وكلاهما ورد، وكان فقيهاً له عقب كثير منهم: إبراهيم بن محمد البطحاني، أعقب في بلاد شتى وفيهم مجانين وبله ونقص وسفهاء.
من ولده الوزير أبو منصور ناصر بن مهدي، كان فاضلاً تولى الوزارة ببغداد للخليفة الناصر العباسي في عشر ذي الحجة سنة اثنتين وستمائة. وعزل في ثالث عشر جمادى الآخرة، ونقل وعياله إلى دار الخلافة وأجري عليه النفقة إلى أن مات ليلة السبت لثمان خلون من جمادى الأولى سنة سبع عشرة وستمائة في السنة التي توفي فيها الشريف قتادة النابغة جد ساداتنا ولاة مكة المشرفة وانقرض عقبه.
قال في عمدة الطالب: كان فيه تجبر وتكبر. فحكي أنه وجد يوماً في دواته رقعة فأنكرها فأخذها فإذا فيها من السريع:(2/343)
لاَ قَاتَلَ الله يَزِيذاً وَلاَ ... مُدَت يَدُ السوءِ إلَى نَعْلِهِ
لأنهُ قد كَانَ ذا قدرةٍ ... عَلى اجْتِثَاثِ الفَرْع منْ أصلِهِ
لَكنًّه أَبْقَى لَناً مِثلَكُمْ ... أَحْيَاءَ كَيْ يُعْذَرَفي فِعْلِهِ
فاضطرب لذلك واجتهد أن يعلم واضعها.
قلت: هذا تجرؤ إلى الغاية والعياذ بالله لكن الابن السوء يكسب الآباء الكرام السوء.
ومنهم: الداعي الصغير بالري وطبرستان وهو الحسن بن القاسم بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد البطحاني بن القاسم بن الحسن بن زيد. وكان بين هذا الداعي الصغير وبين الأطروش حروب.
وقتل هذا الداعي سنة تسع عشرة وثلاثمائة.
ومن عقبه أيضاً: القاسم بن علي بن إسماعيل أحد قواد الحسن بن زيد وهم غيروا نعم أهل تلك الآفاق، وأذهبوا بهجتهم، وكانوا سبباً لتورد الديلم دار الإسلام بما يستجيشونهم، خرج معهم ومع الحسيني ما كانُ بن ماهان ملك الديلم.
وكان مرداويج وبنو بويه من بعض رجاله، وكان لهم من عشيرتهم قواد ورجال يسمون بأسماء الديلم من أجل مرباهم بينهم. والله يخلق ما يشاء.
وأما عبد الرحمن الشجرىِ: فنسبته إلى قرية قريبة من المدينة الشريفة، يكنى أبا جعفر، له عقب من ثلاثة: علي ومحمد وجعفر. ومنهم بنو المنقوب، وبنو أبي الغيث، وبنو أبي نفيشة، وبنو شكر، وبنو أسود.
الفرع الثاني: على الشريد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، سمي بذلك لقوته. مات في حبس المنصور وأعقب من ولده عبد الله. ولعبد الله هذا عقب منهم السبعية، وهذه نسبة إلى محلة بالكوفة.
الفرع الثالث: أبو محمد إسماعيل، ويلقب جالب الحجارة بالجيم، وقيل بالحاء لشدته وقوته. ويلقب بالمهفهف أيضاً. أعقب من محمد وعلي النازوكي. أما علي هذا فله عقب منهم: بنو طرخان. وأما محمد فأعقب من ولده زيد. ومنه محمد الداعي، وأخوه الحسن ملكا طبرستان فملكها أولاً الحسن ولقب بالداعي الكبير وبالداعي الأول سنة خمسين ومائتين. وتوفي سنة سبعين ومائتين ولم يعقب. وكان جريئاً على سفك الدماء على ما حكاه صاحب عمدة الطالب.
الفرع الرابع: أبو الحسن إسحاق بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان أعور ويلقب بالكوكبي، وكان مع الرشيد، قيل: إنه كان يسعى بآل أبي طالب فكان عيناً للرشيد عليهم، وسعى بجماعة من العلويين فقتلوا برأيه. وغضب الرشيد عليه آخر الأمر فحبسه حتى مات في الحبس.
قال أبو عبد الله: أولد من هارون والحسن، وقيل: إسحاق ليس له ولد.
الفرع الخامس: أبو طاهر زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. عقبه من ولد طاهر، ومنه في محمد بن طاهر.
الفرع السادس: أبو زيد عبد الله بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. له خمسة: علي والحسن ومحمد ويزيد وإسحاق. لهم أعقاب.
الفرع السابع: أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. أعقب من ولده إبراهيم بن إبراهيم، وأعقب إبراهيم من الحسن ومحمد لهما عقب.
قال ابن خلدون: ومن عقب إبراهيم بن الحسن: محمد بن الحسن بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أقام بالمدينة أيام المعتمد، وجاهر بالمنكرات والقتل إلى أن تعطلت الجماعات، ولا قوة إلا بالله.
وأما الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وهو القتيل بالطف أيام يزيد. أولاده اثنا عشر، وقيل أقل، قتل غالبهم بكربلاء ولم يعقب منهم إلا على زين العابدين فقط، فجميع بني حسين ينسبون إليه، وهو الإمام بعد أبيه الحسين، ولد بالمدينة يوم الخميس خامس شعبان سنة ثمان وثلاثين من الهجرة في حياة جده علي بن أبي طالب قبل وفاته بسنتين. كنيته أبو الحسن، وقيل أبو محمد، وقيل أبو بكر، ألقابه زين العابدين، والزكي، والأمين، وذو الثفنات، وزين العابدين أشهرها.
صفته: أسمر قصير رقيق. معاصروه: مروان وعبد الملك والوليد ابنه. عمره سبع وخمسون سنة أقام منها مع جده علي بن أبي طالب سنتين، ومع عمه الحسن بعد وفاة جده عشر سنين، ومع أبيه بعد وفاة عمه إحدى وعشرين سنة، وبقي بعد وفاة أبيه أربعاً وعشرين سنة وهي مدة إمامته.(2/344)
قال السيد نور الدين علي السمهودي مؤرخ المدينة الشريفة في كتابه جواهر العقدين: كانت أمه سلامة بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس. وكانت له ثلاث بنات، وسبين في زمن عمر بن الخطاب، فحصلت واحدة منهن لعبد الله بن عمر بن لخطاب، فأولدها سالم بن عبد الله بن عمر، وحصلت الأخرى لمحمد بن أبي الصديق، فأولدها القاسم بن محمد بن أبي بكر، وحصلت الثالثة للحسين بن علي، فأولدها علياً زين العابمين المذكور، فهم بنو خاله.
كان زين العابدين مع أبيه رضي الله عنهما بكربلاء فاستبقي، قيل لصغر سنه لأنهم قتلوا كل من أنبت، وكان قد أمرهم عبيد الله بن زياد بقتله ثم صرفه الله تعالى عنه. وأشار بعض الفجرة على يزيد بقتله أيضاً فحماه الله منه، والحمد لله والمنة.
ثم إن يزيد صار يكرمه ويعظمه، ويجلس معه ولا يكل إلا وهو معه. ثم بعثه إلى المدينة فكان بها محترماً معظماً.
قال ابن عساكر: ومسجده بدمشق معروف وهو الذي يقال له مشهد على جامع دمشق.
قال الإمام الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل منه.
وقال محمد بن سعد: كان زين العابدين ثقة مأمونَاً، كثير الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عالماً لم يكن في أهل بيته مثله، وكان إذا توضأ يصفر لونه، فإذا قام إلى الصلاة أرعد من الفزع، فقيل له في ذلك. فقال: أتدرون بين يدي من أقوم ولمن أناجي؟ ويروى أنه احترق البيت الذي هو فيه وهو قائم يصلي، فلما انصرف قيل له ما بالك لم تنصرف حين وقعت النار؟ فقال: إني شغلت عن هذه النار بالنار الأخرى.
وروى أنه لما حج وأراد أن يلبي أرعد واصفر وخر مغشياً عليه. فلما سئل قال: إني أخشى إذا قلت لبيك اللهم لبيك أن يقول لي لا لبيك ولا سعديك. فشجعوه وقالوا: لابد من التلبية، فلما لبى غشي عليه حتى سقط من الراحلة. وكان يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة. وكان رضي الله عنه يقول: صدقة الليل تطفئ غضب الرب عز وجل.
وكان إذا خرج من منزله قال: اللهم إني أتصدق اليوم وأهب عرضي لمن يغتابني.
ومات لرجل ولد مسرف على نفسه فجزع عليه فقال له علي رضي الله عنه: إن من وراء ذلك لخلالاً ثلاثاً: شهادة أن لا إله إلا الله، وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورحمة الله تعالى.
واختلف في تاريخ وفاته، والجمهور أنها سنة أربع وتسحين في أولها.
وأغرب المدائني فقال: في سنة مائة، ودفن بالبقيع في القبر الذي فيه عمه الحسن ابن علي بقبة العباس بن عبد المطلب، ودفن في هذا القبر ابنه محمد الباقر وابنه جعفر الصادق فهم أربعة في قبر واحد فأكرم به قبراً ويقال: إن رأس الحسين أرسل به إلى المدينة فدفن فيه. والله أعلم.
أولاده خمسة عشر ولداً، وقيل أكثر، وقيل أقل. العقب منه في ستة أسباط فقط وهم: محمد الباقر، وعبد الله الباهر، وزيد الشهيد، وعمر الأشرف، والحسين الأصغر، وعلي الأصغر السبط الأول الإمام بعد أبيه هو: محمد الباقر بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وسيأتي ذكر ترجمته أيضاً عن ذكر الأئمة الاثني عشر قريباً. أولاده ستة العقب منه في جعفر.
السبط الثاني: عبد الله الباهر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. لقب بالباهر لجماله. قالوا: ما حضر مجلساً إلا بهر جماله وحسنه من حضر.
توفي وهو ابن سبع وخمسين سنة. يكنى أبا محمد. وعقبه قليل. أعقب من ابنه محمد الأرقط وحده. ويكنى محمد هذا أبا عبد الله، وكان محدثاً. وأقطعه السفاح عين خالد بن سعيد ويلقب بالأزرق. قال العمري: كان مجدراً فلقب بالأرقط.
قال أبو نصر البخاري: من يطعن في الأرقط فلا يطعن من حيث النسب وإنما يطعن بشيء آخر جرى بينه وبين جعفر الصادق.
ويقال: إنه بصق في وجه الصادق فدعا عليه فصار أرقط الوجه به نمش كريه المنظر، وأما نسبه فلا مطعن فيه.
وأعقب الأرقط من إسماعيل وحده، وإسماعيل من اثنين محمد والحسين البنفسج.
أما محمد فله أحمد الدح وإسماعيل الناصب ولهما أعقاب. وأما الحسين فعقبه في عبد الله وأحمد وإسماعيل الدح لهم أعقاب. ومن ولد الأرقط الحسين الكوكبي ابن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن الأرقط.
السبط الثالث: زيد الشهيد بن علي زين العابدين بن الحسين يكنى أبا الحسن وستأتي ترجمته عند ذكر قيامه في الباب الثاني المعقود لمن دعا من الأهل إلى المبايعة.(2/345)
أعقب من ثلاثة: الحسين ذي الدمعة، قيل له ذلك لكثرة بكائه. وعيسى موتم الأشبال وهو الذي حارب المنصور أول خلافته. ومحمد. وأما ابنه يحيى فلم يعقب وخرج بعد قتل أبيه. وسيأتي ذكره في الدعاة في الباب المشار إليه.
أعقب الحسين من ثلاثة: يحيى والحسين وعلي، وأعقب عيسى من أربعة: أحمد المختفي وزيد ومحمد والحسين عصارة.
وأعقب محمد من رجل واحد وهو أبو عبد الله جعفر الشاعر. وأعقب الشاعر من ثلاثة: محمد الخطيب وأحمد مسكين والقائم.
ولهم أعقاب منهم: علي بن محمد الخطيب. ولعلي المذكور قوله من المتقارب:
وإنّا لنُصْبِحُ أَسْيَافَنَا ... إِذاً ماً اصْطَبَحناً بيَوْم سَفوكِ
مَنَابِرهُنَّ بُطُونُ الأكُف ... وأَغْمَادُهُن رؤوس المُلُوك
وله أيضاً من الوافر:
لَناً مِنْ هَاشِم هَضَبَات غُر ... مُطَنبةْ بِأَوتَادِ السمَاءِ
تُطِيفُ بِناً الملاَئكُ كُل يَوْمٍ ... ونكفلُ في حُجُورِ الأَنْبياءِ
ويَهتَز المَقَامُ لَناً ارتِياحاً ... ويَلْقَاناً صفاه بالصفاءِ
ومن ولد الحسين ذي الدمعة: الحسن بن الحسين بن زيد. وقتل مع أبي السرايا، ويحيى بن الحسين الذي كان من عقبه يحيى بن عمر بن يحيى القائم بالكوفة أيام المستعين، وسيأتي ذكره في الباب الثاني المذكور، وعلي بن زيد بن الحسين بن زيد قام بالكوفة ثم هرب إلى صاحب الزنج بالبصرة، فقتله وأخذ جارية له كان سباها من البصرة.
السبط الرابع: عمر الأشرف بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم. وهو أخو زيد الشهيد لأبويه وأسن. ويكنى أبا علي وقيل أبا جعفر.
وكان محدثاً فاضلاً أعقب من رجل واحد وهو علي الأصغر والعقب من علي الأصغر هذا في ثلاثة: القاسم وعمر الشجري وأبو محمد الحسن من ابنه علي، وأعقب علي من ثلاثة رجال أبو علي الصوفي، وأبو عبد الله الحسين الشاعر المحدث، وأبو محمد الحسن الناصر الكبير الأطروش إمام الزيدية ملك الديلم صاحب المقالة، إليه تنتسب الناصرية من الزيدية، ورد الديلم سنة سبعين ومائتين وكان بطبرستان، فلما غلب رافع عليها أخذه فضربه ألف سوط فطرش، وأقام بأرض الديلم يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى الإسلام أربع عشرة سنة، ودخل طبرستان في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثمائة فملكها ثلاث سنين وثلاثة أشهر، ويلقب بالناصر للحق، وأسلموا على يده وعظم أمره. وتوفي بآمُل، عن سبع وتسعين سنة، له عقب، وعمر الشجري له عقب.
السبط الخامس: أبو عبد الله الحسين الأصغر ابن علي زين العابدين بن الحسين رضي الله تعالى عنهم.
كان عفيفاً محدثاً عالماً توفي سنة تسع وخمسين ومائة عن سبع وخمسين سنة ودفن بالبقيع، وعقبه عالم كثير بالحجاز والعراق والشام والمغرب وبلاد العجم، منهم أمراء المدينة، وسادات العراق، وملوك الري.
أعقب من خمسة رجال: عبيد الله الأعرج وعبد الله وعلي وأبي محمد الحسن وسليمان.
أما سليمان بن الحسين الأصغر بن علي زين العابدين فأعقب من ابنه سليمان بن سليمان، وعقبه بالمغرب يقال لهم الفواطم.
وأما أبو محمد الحسن بن الحسين الأصغر، فعقبه من ابنه محمد بن الحسن، ومنه من عبد الله ولعبد الله محمد السليق وعلي المرعش وعقبهما كثير ببلاد العجم. وأما علي بن الحسين الأصغر، فأعقب من ثلاثة: عيسى الكوفي وأحمد جفينة وموسى حمضة لهم أعقاب.
وأما عبد الله بن الحسين الأصغر مات في حياة أبيه فعقبه من جعفر صحصح بن عبد الله، وكان له عشرة وانقرضوا. ابنته زينب بنت عبد الله بن الحسين الأصغر تزوجها الرشيد، وفارقها ليلة دخوله بها، وذلك أنه بعث إليها تلك الليلة خادماً ومعه تكة يريد أن يربطها لئلا تمتنع على الرشيد فلما دنا الخادم منها ركلته برجلها فكسرت ضعلين من أضلاعه، فخافها الرشيد، ولم يدخل بها، وردها من غدها إلى الحجاز، وأجرى عليها في كل سنة أربعة آلاف مثقال، وأدرها عليها بعده ابنه المأمون. فأعقب جعفر صحصح بن عبد الله بن الحسين الأصغر من ثلاثة: محمد العقيقي وإسماعيل المنقذي ويقال لولدهما المنقذيون سموا بذلك لأنهم سكنوا دار المنقذ بالمدينة فنسبوا إليها.
وبنو محمد العقيقيون لهم أعقاب، وتنسب إليهم بنو ميمون، وآل البكري، وآل عدنان.(2/346)
قال ابن خلدون: ومن ولد الحسين عبد الله العقيقي بن الحسين، كان من ولده الحسين بن محمد بن جعفر بن عبد الله العقيقي، قتله الحسن بن زيد صاحب طبرستان.
وأما عبيد الله الأعرج بن الحسن الأصغر بن علي زين العابدين، فيكنى أبا علي، كان في إحدى رجليه نقص.
وفد على أبي العباس السفاح، فأقطعه ضيعة بالمدائن تغل في السنة ثمانين ألف دينار.
وكان عبيد الله قد تخلف عن بيعة محمد النفس الزكية لما خرج بالمدينة، فحلف محمد إن رآه ليقتلنه فلما جيء به إليه غمض محمد إحدى عينيه مخافة أن يحنث.
توفي عبيد الله في حياة أبيه عن سبع وثلاثين سنة.
وانقسم عقبه بطوناً وأفخاذاً وعشائر.
أعقب من أربعة رجال: جعفر الحجة وعلي الصالح ومحمد الجوابي وحمزة مختلس الوصية.
أما حمزة مختلس الوصية، فأعقب من ثلاثة رجال محمد والحسين وعلي، وكان له عبيد الله لم يطل له ذيل.
وأعقب محمد من رجلين: أبي علي ويلقب سنَّور الله، له عقب ببلاد العجم، والحسين الحرون وكان أحد الأبطال المشهورين، مات في حبس المهدي العباسي.
وأما الحسين بن حمزة، ويكنى أبا الشنف له عقب من ابنه محمد. منهم بنو ميمون وبنو حمزة. وأما علي فأعقب علي بن علي وله عقب وقيل انقرض.
وأما محمد الجوابي بن عبيد الله الأعرج بن الحسين الأصغر - والجواب قرية بالمدينة إليها نسب - له عقب من ولده الحسن بن محمد.
وأما علي الصالح بن عبيد الله الأعرج بن الحسين الأصغر، أعقب من رجلين عبيد الله الثاني وإبراهيم، ولهما أعقاب مبسوطة التفاريع في محالها. ومن أعقاب عبيد الله الثاني: الأمير أبو الحسين محمد الأشتر، ممدوح أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي بالقصيدة الدالية التي مطلعها: من المنسرح:
أَهلاً بدارٍ سباك أَغيدها............
وأما جعفر الحجة ابن عبيد الله الأعرج بن الحسين الأصغر بن علي زين العابدين فكان من أئمة الزيدية، وكان له شيعة يسمون الحجة، وكان القاسم الرسي بن طباطبا يقول: جعفر بن عبيد الله إمام آل محمد وكان فصيحاً.
ومن عقبه الملقب بمسلم الذي يريد مصر أيام كافور وهو محمد بن عبيد الله بن طاهر بن يحيى المحدث بن الحسن بن جعفر حجة الله، وابنه طاهر بن مسلم.
ومن عقب طاهر هذا أمراء المدينة إلى هذا العهد بنو جماز بن هبة بن جماز بن منصور بن جماز بن شيحة بن هاشم بن القاسم بن مهنا.
ومهنا هو الحسن بن طاهر بن مسلم.
قال ابن خلدون: هكذا قال المسبحي مؤرخ العبيديين.
وقال العتبي مؤرخ دولة بني سبكتكين: إن مهنا هو ابن داود بن القاسم أخي مسلم وعم طاهر.
قلت: رأيت في جواهر العقدين ما نصه: جد أهل بيت بني مهنا أمراء المدينة من الولاة والمعزولين يحيى المحدث ابن الحسن بن جعفر الحجة ابن عبيد الله الأعرج بن الحسين الأصغر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب؛ لأن مهنا المذكور هو ابن داود بن القاسم بن عبيد الله بن طاهر بن يحيى المذكور.
بل غالب من بالمدينة اليوم من أشراف بني حسين من نسله، وهو مؤيد لما قاله العتبي لا كما تراه كما قال المسبحي.
وزعم ابن سعيد أن بني جماز بن شيحة أمراء المدينة من عقب عيسى بن زيد الشهيد وفيه نظر.
ومن ولد عبيد الله الأعرج حمزة بن الحسن بن سليمان بن سليمان بن حسين ملك هاز في أرض المغرب، وملك قطيعاً بلد صنهاجة وإليه ينسب سوق حمزة هنالك فيما قاله ابن حزم وولده بها كثير، وعم أبيه الحسن بن سليمان من قواد الحسن بن زيد بطبرستان.
السبط السادس: علي الأصغر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم يكنى أبا الحسن.
أعقب من ابنه الحسن الأفطس. مات أبوه وهو حمل وأعقب الأفطس وأنجب و أكثر.
وعقبه من خمسة رجال: علي حروري وعمر والحسين والحسن المكفوف وعبد الله الشهيد قتيل البرامكة.
وأما الحسين بن الحسن الأفطس الذي قام بمكة أيام أبي السرايا من قبل محمد الديباج بن الصادق ثم دعا لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم الغمر وأخذ مال الكعبة وفيه يطعنون لقبح سيرته.
وقد تكلم فيه قوم، منهم؛ الشريف أبو جعفر بن معية الحسنى صاحب المبسوط وأبو عبد الله الحسين بن طباطبا، وأثبته أكثر العلماء.(2/347)
وعمل شيخ الشرف العبيدلي كتاباً سماه الانتصار، لبني فاطمة الأبرار. ذكر الأفطس وولده بصحة النسب وذم الطاعن عليهم. قال العمري: وهو في الجرائد والمشجرات ما دفعهم دافع.
وقال الشيخ تاج الدين بن النقيب لما سئل عن الأفطس وولده قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد أن يفترق من ذريته عدد أسباط بني إسرائيل وقد افترق من ولد الحسين ستة أسباط هم أولاد على زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فلو توجه الطعن على الأفطس لم يكن لعلي بن علي بن الحسين عقب ولا يكون أولاد فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها اثني عشر سبطاً.
قال: وهذه حجة ظاهرة على صحة نسبهم.
وقيل: إن الحسين بن الحسن الأفطس كان حامل راية محمد النفس الزكية، ولم يخرج معه أسمع منه ولا أبصر.
وكان يقال له رمح أبي طالب، لطَوْلِهِ وطُولِهِ.
ولما قتل محمد النفس الزكية اختفى الحسن الأفطس، فلما دخل الصادق العراق ولقي المنصور قال له: يا أمير المؤمنين أتريد أن تسدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يداً. قال: نعم يا أبا عبد الله. قال الصادق: تعفو عن الحسن بن علي بن علي زين العابدين بن الحسين فعفا عنه.
قال أبو نصر البخاري: فهذه شهادة قاطعة من الصادق أنه ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلي ومحمد ابنا الأفطس قتلهما المأمون.
وأما محمد الباقر يكنى أبا جعفر الغاية الساكن والهادي وأشهرها الباقر لقول النبي صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله الأنصاري: إنك ستعيش حتى ترى رجلاً من أولادي اسمه اسمي يبقر العلم بقراً فإذا لقيته فأقره مني السلام فلقيه جابر وأقرأه السلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات جابر بعد ذلك بقليل.
ولد بالمدينة يوم الخميس ثالث صفر سنة سبع وخمسين من الهجرة قبل قتل الحسين جده بثلاث سنين.
صفته: معتدل السمرة، معاصره الوليد، وولداه يزيد وإبراهيم.
عمره ثمان وخمسون سنة وقيل ستون، أقام منها مع جده الحسين ثلاث سنين، ومع ابنه علي زين العابدين ثلاثاً وثلاثين سنة وقيل خمساً وثلاثين سنة، وبقي بعد موت أبيه سبع عشرة سنة وهي مدة إمامته.
يقال: مات بالسم في زمن إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك سنة عشر ومائة، وقيل: سنة أربع عشرة، ودفن بالبقيع بالقبر الذي فيه أبوه، وعم أبيه الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهم.
أولاده ستة؛ أربعة ذكور: جعفر الصادق، وعبد الله الأفطح أمهما زُرَيْوَةُ بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وإبراهيم وعلي.
وبنتان: زينب وأم سلمة، والعقب منه في جعفر الصادق فقط.
فأما عبد الله الأفطح فكانت له شيعة يدعون إمامته، منهم زرارة بن أعين الكوفي، ثم قام بالمدينة، وسأله عن مسائل من الفقه فألفاه جاهلاً، فرجع عن القول بإمامته، وانقطعت الشيعة الأبطحية، وزعم ابن حزم أن بني عبيد ملوك مصر ينتسبون إليه، وليس ذلك بصحيح.
وأما الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زبن العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو القائم بعد أبيه، وهو سادس الأئمة فيكنى أبا عبد الله، وقيل: أبا إسماعيل، وله ألقاب: الفاضل والطاهر، وأشهرها الصادق، وكان يقال له عمود الشرف.
صفته: معتدل، آدم اللون، معاصره أبو جعفر المنصور، أمه فُرَيْوَةُ بنت القاسم ابن محمد كما تقدم ذلك، وولد بالمدينة يوم الإئنين لثلاث بقين من ربيع الأول سنة ثمانين من الهجرة وقيل ثلاث وثمانين. عمره ثمان وستون سنة.
أقام منها مع جده علي زين العابدين اثنتي عشرة سنة وأياماً، ومع أبيه محمد الباقر ثلاث عشرة سنة وأياماً، وبقي بعد موت أبيه أربعاً وثلاثين سنة وهي مدة إمامته. وتوفي بالمدينة يوم الإثنين منتصف رجب سنة ثمان وأربعين ومائة.
يقال: مات بالسم في زمن المنصور، ودفن مع أبيه وجده، وعم جده الحسن بن علي بن أبي طالب، وعم جد جده العباس بن عبد المطلب بالبقيع بقبة العباس، فلله دره من قبر ما أشرفه وأطهره وأكرمه وأنوره.
أولاده سبعة، وقيل أكثر، العقب منه في خمسة رجال، وهم الإمام موسى الكاظم وإسماعيل وعلي العريضي، ومحمد المأمون وإسحاق، وليس له ابن اسمه ناصر معقب ولا غير معقب بإجماع أهل النسب، وبنواحي أهل خراسان قوم ينسبون إلى ناصر بن جعفر وهم أدعياء كذابون لا محالة، وهم هناك يخاطبون بالشرف، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(2/348)
ومن أولاد جعفر الصادق محمد الديباج خرج بمكة أيام المأمون، وبايع له أهل لحجاز بالخلافة، وحمله المعتصم لما حج وجاء به إلى المأمون فعفا عنه، ومات سنة ثلاث ومائتين بجرجان.
وأما إسماعيل الإمام، وموسى الكاظم فعليهما وعلى بنيهما مدار اختلاف شيعة، وكان الكاظم على زي الأعراب مائلاً إلى السواد، وكان الرشيد يؤثره، ويتجافى عن قبول السعاية فيه ثم حبسه.
ومن عقبه بقيه الأئمة الاثني عشر عند الإمامية من لدن علي بن أبي طالب فهو أولهم، وقد تقدم ذكره عند ذكر خلافته، ثم ابنه الحسن بن علي وقد تقدم كذلك، وبيان ترجمته، وتاريخ وفاته في سنة خمس وأربعين، ثم أخوه الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، ثم ابنه على زبن العابدين، ثم ابنه محمد الباقر، ثم ابنه جعفر الصادق، وقد ذكرت تراجم هؤلاء.
ومن عقب جعفر الصادق من غير الأئمة محمد وعلي ابنا الحسين بن جعفر قاما بالمدينة سنة إحدى وسبعين ومائتين، وسفكا الدماء، وانتهبا الأموال واستلحما آل جعفر بن أبي طالب، وأقامت المدينة شهراً لا تقام فيها جمعة ولا جماعة.
ومن عقب إسماعيل الإمام ابن جعفر الصادق العبيديون خلائف القيروان ومصر بنو عبيد الله المهدي بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وقد تقدم ذكرهم. وما للناس من الخلاف في نسبهم وهو مطرح كله وهذا أصح ما فيه، هذه عبارة ابن خلدون وهو ممن يرجح القول بصحة نسبهم، وأنه إلى إسماعيل بن جعفر الصادق كما ترى، والله أعلم بالحقائق.
الإمام السابع موسى الكاظم: يكنى إسحاق وأبا إبراهيم، وهو موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم.
ألقابه: الكاظم والصابر والصالح أشهرها الأول، لقب به لفرط تحمله وتجاوزه عن المعتدين عليه. أمه أم ولد اسمها حميدة.
ولد بالأبواء بين مكة والمدينة يوم الأحد لسبع ليال خلون من صفر سنة ثمان وعشرين ومائة.
وأقدمه المهدي بغداد ثم رده إلى المدينة فأقام بها إلى أيام الرشيد، فلما قدم الرشيد المدينة حمله معه وحبسه ببغداد إلى أن توفي في رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة.
وفي شواهد النبوة: مات في حبس الرشيد ببغداد يوم الجمعة لخمس خلون من رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة فقبره ببغداد.
ويقال: إن يحيى بن خالد البرمكي سمه في رطب بأمر الرشيد، وقيل لف في بساط، وغم حتى مات رحمه الله من شهيد.
معاصره: المهدي والهادي والرشيد. عمره خمس وخمسون سنة منها مقامه مع أبيه عشرون سنة، وبقي بعد وفاة أبيه خمساً وثلاثين سنة وهي مدة إمامته ودفن في مقابر قريش.
أولاده سبعة وثلاثون ولداً بين ذكر وأنثى، العقب منهم في أربعة عشر رجلاً هم: الحسن والحسين وعلي الرضا وإبراهيم المرتضى وزيد النار وعبد الله وعبيد الله والعباس وحمزة وجعفر وهارون وإسحاق وإسماعيل ومحمد العابد، وإبراهيم المرتضى بن موسى الكاظم هو الذي ولى محمد بن طباطبا وأبو السرايا على اليمن فذهب إليها ولم يزل بها أيام المأمون يسفك الدماء حتى لقبه الناس بالجزار، وأظهر الإمامة عند ما عهد المأمون لأخيه علي الرضا بن موسى الكاظم، ثم اتهم المأمون بقتله، فجاء هو وطلب الإمامة لنفسه، ثم عقد المأمون على حرب الفاطميين باليمن لمحمد بن زياد بن أبي سفيان لما بينهم من البغضاء، فأوقع بهم مراراً وقتل شيعتهم وفرق جماعتهم.
ومن عقب إبراهيم المرتضى هذا الشريف الرضى وأخوه المرتضى واسم كل منهما علي بن الحسين بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم.
وزيد النار بن موسى الكاظم هو الذي ولاه أبو السرايا أيضاً على الأهواز، فسار إلى البصرة وملكها، وأحرق دور العباسيين بها فسمي زيد النار، ومن عقبه زيد الجنة بن محمد بن زيد بن الحسين بن زيد النار، من أفاضل أهل البيت وصلحائهم، حمل إلى بغداد في محنة الفاطميين أيام المتوكل ودفع إلى ابن أبي دواد يمتحنه فشهد له وأطلقه. ومن عقب موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم من غير الأئمة السيد أبو جعفر محمد ابن موسى بن أحمد بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى الكاظم.(2/349)
قال العتبي في تاريخه المسمى باليميني لدولة محمود بن سبكتكين وابنه يمين الدولة - والعتبي صاحب هذا التاريخ نسبة إلى عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب ابن أمية بن عبد شمس - في ترجمته السيد المذكور: ألفاظه منابع العلوم، وأقواله مراتع العقول، ومجاله حدائق الجد والهزل، وجوامع الكلم الفصل. فلم تبق يتيمة خطاب، ولا كريمة صواب، ولا غرة حكمة، ولا درة نكتة، ولا طرفة حكاية، ولا فقرة رواية إلا هي عرضة خاطره، وثمرة هاجسه، ونصب تذكره، ومثال تصوره. لا تصدأ صفيحة حفظه، ولا تدرس صحيفة ذكره، ولا يكسف بدر معارفه، ولا ينزف بحر لطائفه. هو واحد خراسان من بين الأشراف العلوية في قوة الحال، وسعة المجال، واشتداد باع العز، وامتداد شعاع الجاه، والعلم الغامر، والأدب الباهر، والشعر الزاهر. فمن شعره قوله من البسيط:
وشَادنٍ وَجْهُهُ بالحُسْنِ مَخطُوطُ ... وَخَذُهُ بِمدادِ الخَالِ مَنْقُوطُ
تَرَاهُ قَدْ جَمَعَ الضدَيْنِ في قَرنٍ ... فالخِصْرُ مُخْتَصَر والردْفُ مَبْسوطُ
وقد أكثر الشعراء والأدباء في مدائحه، فمن ذلك قول أبي الفتح البستي من الخفيف:
أنا للسيَّدِ الشَّريفِ غُلاَمٌ ... حَيْثُ ماً كَانَ فَلْيُبَلَّغْ سَلاَمي
وِإذاً كُنتُ للشَريفِ غُلاَمَاً ... فَأناً الحُرُ والزمَانُ غُلاَمِي
وقد اتفق في مجلس السيد المذكور - وكان مجمعاً للعلماء الفضلاء والجهابذة النبلاء - مناظرة بين أبي الفضل الهمذاني المعروف بالبديع، وبين أبي بكر الخوارزمي سببها معارضة الهمذاني والمجلس غاص، والمصدر فيه السيد أبو جعفر المذكور، وكان الخوارزمي ينسب البديع الهمذاني إلى مذهب الخوارج والنواصب، يريد بذلك الوضع من قدره عند السيد أبي جعفر المذكور، فقال البديع هذه الأبيات الخمسة مخاطباً بها السيد ومبيناً له طهارة اعتقاده مما نسبه إليه الخوارزمي من النصب.
قلت: قد خلبت خلبي، واستلبت لبي، بجنسها وفصلها، فكانت هي السبب لذكر الترجمة من أصلها وهي من مجزوء الكامل:
أنا في اعتقادي للتَسنْ ... نُنِ رافضي في ولائِكْ
فَلَئنْ شُغِلْتُ بهَؤُلا ... ء ِفَلَسْتُ أَغْفُلُ عَن أولئِك
يا عقْدَ مُتتَظِمِ النبُوْ ... وةِ بَيْتَ مُخْتَلِفِ الملائِكْ
يِاَ بنَ الفَوَاطِمِ والعَوَا ... تِكِ والتَرائِكِ والأرائِكْ
أَناً حَائِك إن لَم أكُنْ ... عَبداً لِعَبْدِكَ وابْنُ حائِكْ
وقوله يابن الفواطم يريد بهن فاطمة بنت عمرو المخزومية أم أبي طالب وعبد الله والزبير بني عبد المطلب فإن هؤلاء أشقاء أمهم فاطمة بنت عمرو المذكورة، والثانية فاطمة بنت الأصم أم خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثالثة: فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب.
والرابعة: فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله والعواتك يريد بهن عاتكة بنت هلال بن فالح بن ذكوان أم عبد مناف ابن قصي، وعاتكة بنت مرة بن هلال أم هاشم بن عبد مناف، وعاتكة بنت الأوقص ابن هلال أم وهب أبي آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه العواتك كلهن من سليم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " أنا ابن العواتك من سُلَيْم " وقوله والترائك: جمع تريكه وهي الخوذة. قال الشاعر البحتري من الكامل:
حَص التَرِيكُ رُؤُوسَهُمْ فَرُؤُوسُهُم ... فِي مِثْلِ لألاَءِ التريكِ المُذهَب
وأراد بالترائك أسلحة الحرب جميعها مجازاً مرسلاً.
فكأنه قال: يابن الفواطم والعواتك وابن أسلحة الحرب لملازمتك إياها وملازمة آبائك من قريش. وابن الأرائك يعني ابن الجالسين عليها من الملوك.
وقوله: أنا حائك... إلى آخره، هذه طريقة للشعراء يدعون على أنفسهم تأكيداً وحثاً على فعل ما يحمد أو ترك ما يذم، فمن ذلك قول مالك الحارثي بن الأشتر النخعي من شيعة علي - كرم الله تعالى وجهه - وأمرائه المشهورين من الكامل:
بَقيتُ وفرى وانحرفتُ عَنِ العلا ... وَلَقِيتُ أَضيافي بِوَجْهِ عَبُوسِ
إِن لَم أشُنَّ عَلَى ابنِ هِندٍ غَاَرةً ... لَم تَخلُ يَوماً مِنْ ذَهَاب نُفُوسِ(2/350)
والحائك من شأنه الرذالة والسقاطة وقلة العقل، فكيف إذا كان أبوه أيضاً حائكاً، جعل الهمداني كونه حائكاً وابن حائك دعاء على نفسه إن لم يكن عبداً لعبد السيد المذكور يريد بذلك تبيين محبته له وصدق ولائه وإكذاب ما رماه الخوارزمي به.
الإمام على الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو ثامن الأئمة والإمام بعد أبيه يكنى أبا الحسن ككنية أبيه.
ألقابه: الصابر والمزكى والولي، وأشهرها الرضا. أمه أم ولد اسمها أروى. ولد بالمدينة يوم الخامس عشر من ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين ومائة.
معاصره: الأمين والمأمون. عمره خمس وخمسون سنة.
مدة إمامته: عشرون سنة. كان أولها في بقية ملك الرشيد ثم ملك ولده محمد الأمين بعده ثلاث سنين وخمسة وعشرين يوماً، ثم خلع الأمين وجلس مكانه عمه إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شكلة أربعة عشر يوماً، ثم أخرج الأمين ثانية، وبويع له وبقي سنة وسبعة أشهر وقتله طاهر بن الحسين، ثم ملك بعده المأمون بن هارون الرشيد عشرين سنة.
عهد المأمون له بالخلافة، وزوجه ابنته أم الفضل، دخل عليه دعبل الخزاعي الشاعر بمرو فقال: يابن رسول الله، إني قلت فيكم أهل البيت قصيدة وآليت على نفسي لا أنشدها أحدا قبلك.
فقال له الرضا: هاتها. فأنشد من الطويل:
ذكرتُ مَحل الربعِ من عَرَفَاتِ ... فأَجْرَيتُ دَمعَ العَيْنِ بالعَبَرَاتِ
وقَدْ عَزنِي صَبرِي وهاجَت صبابتي ... رُسُومُ دِيَارٍ قَفرةٍ وَعِرَاتِ
مَدَارسُ آياتٍ خلَت من تلاوةٍ ... وَمَنزل وَحي مُقْفِر العَرَصَاتِ
لآلِ رَسُولِ اللهِ بِالخيفِ من مِنى ... وبِالبَيتِ والتَعرِيفِ والجَمَرَاتِ
ديار علي والحسينِ وجعفرٍ ... وحمزةَ والسجادِ ذي الثفناتِ
دِيَار لعَبْدِ اللهِ والفَضلِ صِنوِهِ ... نَجِيِّ رَسُولِ الله فِي الخَلَوَاتِ
مَنَازلُ كانَت للصَلاَةِ وللتُقَى ... وللصَومِ والتَّطهيرِ والحَسَنَاتِ
مَنَازل جِبرِيلُ الأمين يَحُلُهَا ... مِنَ اللهِ بالتَسْلِيمِ والرَحَمَاتِ
مَنَازِلُ وَحْي اللهِ مَعدِن عِلمِهِ ... سَبِيل رَشادٍ وَاضِح الطُرُقَاتِ
فَأَينَ الألى شًطت بِهِم غُربةُ النوَى ... فأَمسَيْنَ في الأقطارِ مُفْتَرِقَاتِ
هُمُ آل مِيراثِ النبي إذا انتَمَوا ... وهُمْ خيرُ ساداتِ وخَيرُ حُمَاةِ
مَطَاعيم فِي الإِعْسَارِ في كُل مَشهَدٍ ... لَقَدْ شَرُفُوا بِالفَضلِ والبَرَكَاتِ
أَئمةُ عَدْلٍ يُقتَدَى بِفعَالِهِم ... وتُؤمَنُ مِنهُمْ زَلةُ العَثَرَاتِ
فَياً رَب زِدْ قَلْبِي هدى وبَصيرَةَ ... وزد حُبهُم ياً رب في حَسَنَاتي
لَقَد أَمنتْ نَفسِي بِهم فِي حَيَاتِها ... وإني لأرَجُو الأمْنَ بَعْدَ وَفَاتِي
أَلَم تَرَ أني مذْ ثَلاثِينَ حِجةَ ... أَروحُ وأَغْدُو دائمَ الحَسَرَاتِ
أَرَى فَيْئَهُم فِي غَيْرِهم مُتَقَسمَا ... وأَيْدِيَهُمْ مِنْ فَيئهمْ صفرَاتِ
سَأَبْكِيهمُ ما ذَر في الأفُقِ شَارق ... ونادَى مُنَادِي الخَيْرِ بالصَلَوَاتِ
وماً طَلَعتْ شَمس وَحَانَ غُرُوبُها ... وبِالليلِ أبكيهمْ وبِالغدوَاتِ
دِيارُ رَسُولِ اللهِ أَصبحن بَلْقَعاً ... وآلُ زِيادٍ تَسْكُنُ الحُجُرَاتِ
وآلُ زِيادٍ في القُصُورِ مَصُونَةْ ... وآلُ رَسُولِ اللهِ في الفَلَوَاتِ
فلولا الذي أرْجُوه في اليَومِ أو غَدٍ ... لَقُطع نَفسِي إِثرَهُمْ حَسَرَاتِ
خُرُوجُ إِمَامٍ لا مَحَالةَ خَارج ... يَقُومُ عَلَى اسْمِ اللهِ بِالبَرَكَاتِ(2/351)
يُمَيزُ فِيناً كُل حَق وبَاطِلٍ ... ويَجزِي عَلَى النعْمَاءِ والنقَمَاتِ
فَياً نَفْسُ طِيبي ثُم ياً نَفْسُ فاصبِرِي ... فَغَيرُ بَعِيدٍ كل ماً هُوَ آتِ
قلت: دعبل هذا محب لأهل البيت، ومن ذا الذي لا يحبهم فمن لا يحبهم لا يحبه الله، ولكنه كان مولعاً بالهجو والحط من أقدار الناس، هجا الخلفاء وغيرهم، هجا المأمون بأبيات منها من الكامل:
إني مِنَ القَوْمِ الذِينَ سُيُوفُهُم ... قَتَلَتْ أَخَاك وشَرَفَتْكَ بِمَقْعَدِ
شَادُوا بحُسْنِ فعَالِهِمْ لَكَ مَنصِباً ... واستَرفَعُوكَ مِنَ الحَضِيضِ الأَوْهَدِ
يُشيرُ بذلك إلى ما فعله طاهر بن الحسين، مقدم عساكر المأمون فإنه خزاعي، ودعبل هذا خزاعي. ولما بلغ هذا المأمون قال: تعس دعبل، ومتى كنت خاملاً رفعني قومه. وطال عمر دعبل، وكان يقول لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها فما أجد من يفعل ذلك. كان مولده بين واسط العراق وكور الأهواز سنة ثمان وأربعين ومائة. والدعبل بكسر الدال المهملة إسكان العين وكسر الباء الموحدة اسم الناقة الشارف وهو لقبه. واسمه علي بن رزين بن سليمان، قاله ابن الأثير.
واستشهد الرضا في أيام المأمون مسموماً بطوس في قرية شاه باز يوم الجمعة لسبع بقين من رمضان سنة ثلاث ومائتين ودفن إلى جنب قبر الرشيد. أولاده خمسة، العقب منه في ابنه: الإمام محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب وهو التاسع من الأئمة، ولد بالمدينة يوم الجمعة لعشر خلون من رجب سنة تسعين ومائة.
كنتيته: أبو جعفر.
ألقابة: القانع والمرتضى وأشهرها الجواد، زوجه المأمون ابنته أم حبيب.
صفته: أبيض اللون معتدل القامة. معاصره: المأمون والمعتصم.
عمره: خمس وعشرون سنة وأشهر.
مات ببغداد يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين، وكانت مدة إمامته سبع عشرة سنة أوائلها في بقية ملك المأمون، واَخرها في أول ملك المعتصم، قيل: مسموماً، ولكن لم يصح، ودفن بمقابر قريش إلى جنب قبر جده موسى الكاظم.
أولاده أربعة، العقب منه في رجلين هما الهادي وموسى المبرقع.
فالإمام علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق: هو الإمام بعد أبيه وعاشر الأئمة.
أمه أم ولد: اسمها شهامة. ويلقب: بالتقي والهادي، أشهرهما الأول. ولد بالمدينة ثالث عشر رجب سنة أربع عشرة ومائتين. مات ب " سر من رأى " مسموماً يوم الإثنين لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين ومائتين، ودفن في داره ب " سر من رأى " .
أولاده أربعة. أعقب من ثلاثة: أبي جعفر محمد وأبي عبد الله جعفر، وأبي محمد: الإمام الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم، وهو الإمام بعد أبيه وحادي عشر الأئمة. أمه أم ولد، اسمها سوسن.
كنيته؛ أبو محمد.
ألقابه: الخالص والسراج وأشهرها العسكري.
ولد بالمدينة سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين ومائتين.
صفته: بين السمرة والبياض.
معاصره: المعتز والمهتدي والمعتمد.
عمره ثمان وعشرون سنة، ومدة إمامته ست سنين.
مات في أوائل خلافة المعتمد مسموماً في يوم الجمعة لثمان خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين ب " سر من رأى " ، ودفن عند قبر أبيه الهادي. خلف ولده محمداً أوحده.
وهو الإمام محمد المهدي بن الحسن العسكري بن علي التقي بن محمد الجواد ابن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ولد يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وقيل: سنة ست وهو الصحيح.
أمه أم ولد: اسمها أصقيل، وقيل سوسن، وقيل نرجس.
كنيته: أبو القاسم.
ألقابه: الحجة، والخلف الصالح، والقائم، والمنتظر، وصاحب الزمان، المهدي وهو أشهرها.(2/352)
صفته: شاب مربوع القامة، حسن الوجه والشعر، أقنى الأنف، أجلى الجبهة. ولما توفي أبوه كان عمره خمس سنين وشيعته يقولون: إنه دخل السرداب سنة خمس وسبعين ومائتين، وعمره سبع عشرة سنة، وهم ينتظرون خروجه في آخر في الزمان من السرداب، وأقاويلهم فيه كثيرة، والله أعلم أي ذلك يكون.
قال الشيخ علاء الدين أحمد بن محمد السماني في ذكر الأبدال والأقطاب: وقد صل إلى رتبة القطبية محمد المهدي بن الحسن العسكري، وهو إذ اختفى دخل في دائرة الأبدال متدرجاً طبقة بعد طبقة إلى أن صار سيد الأبدال.
وكان القطب حينئذ علي بن الحسين البغدادي، فلما حانت منيته صلى عليه المهدي هذا، ودفنه وجلس مجلسه، وبقي في رتبة القطبية تسع عشرة سنة، والله أعلم. وأما محمد بن الحنفية - وهو الفرع الثالث من أولاد علي بن أبي طالب لصلبه الذين ذكرنا أن أنساب الطالبيين أكثرها راجع إلى الحسن والحسين وإليه - فهو محمد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب المشهور بابن الحنفية، يكنى أبا القاسم، روى أنه عليه الصلاة والسلام رخص لأمير المؤمنين في تسمية ابنه هذا، وتكنيته بأبي القاسم.
قال في أنساب قريش: يقولون أمه خولة بنت جعفر بن قيس بن سلمة بن عبد الله بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة بن لجيم وتسميه الشيعة... المهدي.
حدثني محمد بن إسماعيل بن جعفر عن قيس بن سعيد بن عقبة الجهني عن أبيه، قال: سمعت كثيراً ينشد علي بن عبد الله بن جعفر لنفسه في محمد بن الحنفية من الوافر:
أَقَر الله عَيني إذ رَعَانِي ... أَمِينُ اللهِ يُلطِفُ في السؤالِ
وأَثنَى في هَوَايَ عَلَىَّ خيراً ... وساءَلَ عَن بَنِي وَكيف حَالي
وكَيف ذَكَرتُ شَأنَ أَبِي خبيبِ ... وَزَلَةَ نَعلِهِ عِندَ النضَالِ
هُوَ المَهدِي خَبرنَاهُ كَعب ... أخو الأَحبَاِر في الحِقَب الخَوَاِلي
وكان كثير كيسانيا يقول بإمامة محمد بن الحنفية، ويزعم أن الأرواح تتناَسخ ويحتج بقول الله عز وجل: " فِي أَيِ صوُرةٍ ما شاء ركبَكَ " الانفطار: 8 ويقول: ألا ترى أنه يحوله في صورة بعد صورة. فقال له علي بن عبد الله بن جعفر: يا أبا صخر ما يثني عليك في هواك خيراً إلا من كان على مثل رأيك.
وقيل له: إنك تقول خبرناه كعب، ألقيت كعب الأحبار؟ قال: لا. قيل: فلم قلت: خبرناه كعب؟ قال: هو بالوهم.
وكانت شيعة محمد يزعمون أنه لم يمت.
وفي ذلك يقول كثير أيضاً من الوافر:
أَلا إن الأئِمةَ من قُرَيشٍ ... وُلاة الحَق أَربَعَةٌ سَوَاءُ
عَلي والثَّلاثَةُ مِنْ بَنِيه ... هُمُ الأسبَاطُ لَيْسَ بِهِم خَفَاءُ
فَسِبْط سِبْطُ إيمانٍ وبر ... وسبْط غَيبَتْهُ كَرْبِلاَءُ
وسِبْط لاَ تَرَاه العَيْنُ حَتى ... يقودَ الخيلَ يَقْدُمُهاً اللواءُ
تَغَيبَ لاَ يُرَى عَنْهُم زَمَاناً ... برَضْوى عِنْدَهُ عَسلٌ ومَاءُ
وفي محمد بن الحنفية يقول الحميري من الوافر:
أَلا قُل لِلْوصيِّ فَدَتْكَ نَفْسِي ... أَطَلْتَ بذَلكَ الشعْبِ المُقَامَا
أَضَرَ بِمعشرِ وَالَوْكَ مِنا ... وسَمَوْك الخليفَةَ والإمَامَا
وعَادَوْا فِيكَ أهْلَ الأَرْضِ طُرا ... مقَامك عَنْهُمُ سِتينَ عَامَا
وَما ذَاقَ ابنُ خَوْلَةَ طَعْمَ مَوْتٍ ... وَلاَ وَارَت لَهُ أَرض عِظَاما
لَقَدْ أَمْسَى بمُورِقِ شعب رَضوَى ... تُراجِعُهُ الملائِكَةُ الكَلامَا
وإن لَهُ بِه لمِقيل صدقِ ... وأَنْدِيةً تُحَدثُهُ كِرَامَا
هَدَاناً اللهُ إذْ حِرتُمْ لأمرٍ ... بِهِ وعليه نَلْتَمِسُ التَمَاما
تَمامَ مَوَدَةِ المَهدِي حَتَى ... تَرَوْا راياتِناً تَتْرَى نِظَاما
وقال أيضاً من الكامل:
يا شِعْبَ رَضْوَى ماً لِمَنْ بِكَ لاَ يُرَى ... وبِناً إلَيْهِ مِنَ الصبابة أوْلَقُ
حتى متَى وإلَى متَى وكَمِ المَدَى ... يا بْنَ الوصي وأنْتَ حَي تُرْزَقُ؟!(2/353)
قال المسعودي في المروج: وشيعته تسمى الكيسانية وقد تنازعوا بعد قولهم لإمامته: فمنهم من قطع بموته، ومنهم من زعم أنه لم يمت وأنه حي مقيم بجبل رضوى المعروف بقرب ينبع.
وإنما سموا الكيسانية؛ لإضافتهم إلى المختار بن أبي عبيد وكان اسمه كيسان، ويكنى أبا عمرو، كان يدعي أن علي بن أبي طالب لقبه بذلك.
أولاد محمد بن الحنفية أربعة وعشرون، منهم أربعة عشر ذكراً.
وقال النقيب تاج الدين: أولاد محمد بن الحنفية قليل جداً، ليس بالعراق ولا بالحجاز منهم أحد، وإن كان فبالكوفة.
وقال في عمدة الطالب: بشيراز وأصفهان وقزوين وبمصر والصعيد منهم جماعة. والعقب المتصل الآن من ولده في رجلين: على وجعفر قتيل الحرة.
وأما عقب ابنه أبي هاشم عبد الله الأكبر إمام الشيعة الكيسانية فمنقرض، وهذا أبو هاشم هو الذي أسند وصيته فيما قاله الشيعة إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وأخوه علي بن محمد بن الحنفية وابنه الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية، وكلهم ادعت الشيعة إمامتهم.
قال ابن خلدون: وخرج باليمن على المأمون، ومن ولد علي بن أبي طالب من غير هؤلاء عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب. ومن ولد جعفر بن أبي طالب عبيد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب القائم بفارس وبويع بالكوفة، وأراد بعض شيعة العباسية تحويل الدعوة إليه فمنعه أبو مسلم الخراساني من ذلك، وكانت له شيعة ينتظرونه وساقوا الخلافة من أبي هاشم بن محمد بن الحنفية بالوصية.
وكان فاسقاً.
وكان ابنه معاوية بن عبيد الله نظير أبيه في الشر.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
الباب الثاني
في ذكر من دعا منهم إلى المبايعة
وذكر مكان دعائه وزمانه، وما جرى على كل قائم من خليفة زمانه وتعدادهم من لدن علي بن أبي طالب إلى يومنا هذا، وهذا على رأي غير الإمامية من الشيعهَ وهم الزيدية.
أما على رأى الإمامية فلا يجوزون الإمامة لغير الاثني عشر الإمام الذين أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم الإمام محمد المهدي المنتظر، وسيأتي الدليل على تصحيح جوازها لغير الاثني عشر الإمام بل تعينه بحيث لا تخلو الأرض من قائم من آل بيت محمد يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
قد تقم ذكر شيعة أهل البيت لعلي بن أبي طالب، وبنيه رضي الله تعالى عنهم وما كان من شأنهم بالكوفة ومؤاخذتهم الحسن في تسليم الأمر لمعاوية، واضطراب الأمر على زياد ابن أبيه بالكوفة من أجلهم حتى قتل المتولون كبر ذلك، منهم حجر ابن عدي وأصحابه، ثم استدعوا الحسين بن علي بعد وفاة معاوية فكان من قتله بكربلاء ما هو معروف، ثم ندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته فخرجوا بعد وفاة يزيد وبيعة مروان، وخروج عبيد الله بن زياد عن الكوفة، وسموا أنفسهم التوابين، وولوا عليهم سليمان بن صُرَد الخزاعي، ولحقتهم جيوش ابن زياد بأطراف الشام فاستجموهم، ثم خرج المختار بن أبي عبيد بالكوفة طالباً بدم الحسين، وداعياً لمحمد بن الحنفية، وتبعه على ذلك جموع من الشيعة، وسماهم شرطة الله، وزحف عليه عبيد الله بن زياد، فهزمه المختار وقتله.
وبلغ محمد بن الحنفيه من أحوال المختار ما نقمه عليه فكتب إليه بالبراءة منه، فصار المختار إلى الدعاء لعبد الله بن الزبير، ثم استدعي الشيعة من بعد ذلك زيد بن علي بن الحسين - رضي الله تعالى عنهم - إلى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك فقتله صاحب الكوفة يوسف بن عمر، وصلبه كما سيأتي ذكر ذلك عند ذكر قيامه بالدعوة، خرج يحيى بن زيد بالجوزجان من خراسان فقتل وصلب لذلك، وطلت دماء أهل لبيت في كل ناحية.
ثم اختلف الشيعة، وانقسمت مذاهبهم في مصير الإمامة إلى العلوية، وذهبوا طرائق مع اتفاقهم على تفضيل علي كرم الله وجهه على جميع الصحابة: إلى الزيدية القائلين لإمامة بني فاطمة لفضل علي وبنيه على سائر الصحابة على شروط يشترطونها، وإمامة الشيخين عندهم صحيحة وإن كان على أفضل منهما لأنهم يجوزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل، وهو مذهب زيد وأتباعه المسمين بالزيدية، وهم جمهور الشيعة وأبعدهم عن الانحراف والغلو.(2/354)
وإلى الرافضة: وسموا رافضة قالوا: لأنه لما خرج زيد الشهيد بالكوفة، واختلفت عليه فرقة من الشيعة، وناظروه في أمر الشيخين، ودعوه إلى البراءة منهما، وأنهما ظلما علياً أنكر ذلك عليهم وامتنع عن البراءة منهما.
فقالوا له: وأنت أيضاً لم يظلمك أحد ولا حق لك في الأمر فنحن نرفضك. فقال: اذهبوا فأنتم الرافضة. فانصرفوا عنه فسموا الرافضة.
وأقام معه أتباعه الاخرون فسموا زيدية.
ثم ساق الرافضة الإمامهّ من علي كرم الله وجهه - إلى ابنه الحسن ثم إلى الحسين ثم إلى ابنه زين العابدين ثم إلى ابنه محمد الباقر ثم إلى ابنه جعفر الصادق، كل هؤلاء بالوصية، وهم ستة أئمة لم يخالف فيهم أحد من الرافضة المذكورين.
ثم افترقوا من ههنا إلى فرقتين: إلى الاثني عشرية، واختصوا باسم الإمامية إلى هذا العهد، ومذهبهم أن الإمامة انتقلت من جعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم. وخرج دعاته بعد موت أبيه، فحمله هارون الرشيد معه من المدينة، وحبسه عند عيسى بن جعفر ثم إشخاصه إلى بغداد وحبسه عند ابن شاهك.
ويقال: إن يحيى بن خالد سمه في رطب فتوفي سنة 183 ثلاث وثمانين ومائة. وزعم شيعته أن الإمام بعده ابنه علي الرضا، وكان عظيماً في بني هاشم، وكانت له مع المأمون صحبة، وزوجه ابنته أم الفضل، وعهد له بالأمر من بعده.
وقد تقدم ذكرنا لكتاب العهد في خلافة أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - وكان عهد المأمون لعلي الرضا بالأمر سنة 201 إحدى ومائتين عند ظهور الدعاة للطالبيين في كل ناحية، وكان المأمون بخراسان لم يدخل العراق بعد مقتل أخيه الأمين، فنكر ذلك عليه شيعة العباسيين وبايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي ببغداد، فارتحل المأمون من العراق وعلي الرضا معه، فهلك علي الرضا في طريقه سنة ثلاث ومائتين ودفن ب " طوس " .
ثم زعموا أن الأمر بعده لابنه محمد التقي، وكان له من المأمون مكان، وأصهر إليه في ابنته أم حبيب، فأنكحه المأمون إياها سنة خمس ومائتين، ثم هلك سنة عشرين ومائتين ودفن بمقابر قريش.
ثم زعموا أن الأمر من بعده إلى علي، ويلقبونه بالهادي ومات سنة أربع وخمسين ومائتين وقبره ب " قم " ، وزعم ابن سعيد أن المعتز سمه.
ثم إلى ابنه الحسن العسكري ويلقب بذلك لأنه ولد ب " سر من رأى " ، وكانت تسمى العسكر وجلس بها بعد أبيه إلى أن هلك سنة ستين ومائتين، ودفن إلى جنب أبيه بالمشهد، وترك حملاً ولد منه ابنه محمد، فاعتقل، وقيل: دخل السرداب بدار أبيه، قيل مع أمه، وقيل وأمه تنظر إليه ففقد، فزعمت شيعتهم أنه الإمام بعد أبيه ولقبوه المهدي والحجة، وزعموا أنه حي لم يمت، وهم الآن ينتظرونه ووقفوا عند هذا الانتظار.
وهذا هو الثاني عشر من ولد علي ولذلك سموا شيعته الاثني عشرية.
وهذا المذهب بالمدينة والكرخ والشام والحلة والعراق.
قال العلامة ابن خلدون: أوالسرداب بالحلة، وهم حتى الآن على ما بلغنا يصلون المغرب فإذا قضوا الصلاة قربوا مركباً إلى باب السرداب بجهازه وحليته، ونادوا بأصوات متوسطة: أيها الإمام اخرج إلينا فإن الناس منتظرون، والخلق حائرون، والظلم عام، والحق مفقود، فاخرج إلينا نتعرف الرحمة من الله في آثارك.
ويكررون ذلك إلى أن تبدو النجوم ثم ينصرفون إلى الليلة القابلة هكذا دأبهم، وربما يحتجون لحياته بقصة الخضر، فسبحان عالم الحقائق.
قلت: قد ذكر غير ابن خلدون أن السرداب ببغداد لا بالحلة، فالله أعلم أيا كان ذلك.
لطيفة: قال ابنا العربي، قال أصحابنا النصرية بالمسجد الأقصى: إن شيخنا أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي اجتمع برئيس من رؤساء الشيعة، فشكا إليه فساد الخلق، وأن هذا الأمر لا يصلح إلا بخروج الإمام المنتظر، فقال له نصر: فهل لخروجه ميقات معلوم أم لا؟ فقال الشيعي: نعم إذا فسد الخلق.
فقال له نصر: فلم تحبسونه عن الخلق. قد فسد جميعهم إلا أنتم، فلو فسدتم لخرج، فأسرعوا به وأطلقوه من سجنه، وعجلوا بالرجوع إلى مذهبنا لتفسدوا فيخرج، فبهت الشيعي انتهى. كذا في العواصم من القواصم.(2/355)
وإلى الإسماعيلية: وهم الذين نقلوا الخلافة من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل ثم ساقوها في عقبه فمنهم من أنهى بها إلى عبيد الله المهدي أحد الخلفاء العبيديين ابن محمد الحبيب بن جعفر المصدق بن محمد المكتوم بن إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق بن محمد الباقر وهم الفرقة الزاعمون أن الإمام بعد جعفر الصادق ابنه إسماعيل وتوفي قبل أبيه، وكان أبو جعفر المنصور طلبه فشهد له عامل المدينة أنه مات. وفائدة النص عندهم على إسماعيل، وإن كان مات قبل أبيه بقاء الإمامة في ولده كما نص موسى على هارون صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما، ومات قبله، والنص عندهم لا يرجع وراءه، لأن البداء على الله محال.
ويقولون في ابنه محمد: إنه السابع التام من الأئمة الظاهرين، وهو أول الأئمة المستورين عندهم الذين يستترون، ويظهرون الدعاة وعددهم ثلاثة ولن تخلو الأرض من إمام، إما ظاهر بذاته، أو مستور، فلا بد من ظهور حجته ودعاته.
والأئمة يدور عددها عندهم على سبعة، سبعة عمد الأسبوع والسماوات والكواكب. وأول الأئمة المستورين عندهم: محمد بن إسماعيل المذكور، وهو محمد المكتوم، ثم ابنه جعفر المصدق ثم ابنه محمد، ثم ابنه عبيد الله المهدي صاحب الدولة بإفريقية جد الخلفاء العبيديين بها أولاً وبمصر ثانياً المتقدم ذكرهم في الباب الثالث من المقصد الرابع، ومنهم من ساقها إلى يحيى بن عبد الله بن محمد المكتوم، وهؤلاء طائفة من القرامطة، وهذا من كذباتهم ولا يعرف لمحمد بن إسماعيل ولد اسمه عبد الله.
ومن شيعة آل البيت: الكيسانية نسبة إلى كيسان وهو المختار بن أبي عبيد، يذهبون إلى إمامة محمد بن الحنفية، وبنيه من بعد الحسن والحسين، ومن هؤلاء كانت شيعة بني العباس القائلون بوصية أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى حمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالإمامة.
وانتشرت هذه المذاهب وهي: مذهب الزيدية، ومذهب الرافضة المنقسمين إلى الإمامية الأثنى عشرية والى الإسماعيلية، ومذهب الكيسانية، وهم شيعة محمد بن الحنفية الذين صاروا شيعة لبني العباس بإيصاء أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى جدهم محمد بن عبد الله بن العباس المذكور.
وكان أكثر الكيسانية بالعراق، وخراسان بين الشيعة، وافترق أهل كل مذهب منها إلى طرائق بحسب اختلافهم: من الوافر:
وكُل يَدَّعي وصلاً بِليْلَى ... ............
واعلم أن سبب انتصاب الأشراف للإمامة وادعائهم لها مع ما يشاهدونه من النكد لشدائد والقتل والحبس والمكائد بعد قتل علي بن أبي طالب لما تقلد الخلافة والعقد عليهِ إجماع أهل بدر واختيار أكابر الصحابة وبايعوه علانية، نازعه في الخلافة معاوية بن أبي سفيان وتعلل بعلل كثيرة لبلوغ المنى وكل منهما مجتهد، لكن معاوية مجتهد مخطئ.
قال الإمام الغزالي في قواعد العقائد ولم يذهب لتخطئة علي ذو تحصيل أصلاً ولا شبهة أن الحق مع علي، وأن معاوية ليس ممن يعادل أحد العشرة المبشرة بالجنة فضلاً عن أن يعادل علياً، وأين الحسام من المنجل، وأين معاوية من على، فاشتبه على العامة أمرهما وصاروا فريقين، فوقعت الحرب بينهما كما قدره الله تعالى ما شاء وكان وما لم يشأ لم يكن، لا يقع في ملكه إلا ما أراد " لا يُسئَلُ عما يَفعَلُ وَهُم يُسئَلُون " الأنبياء: 23.
فلما استشهد علي - رضي الله تعالى عنه - بعد ذلك قام الحسن بن علي بعده، وقد سبق في خلافته تفصيل ذلك، وذكر صلحه مع معاوية بن أبي سفيان، فلما سم ومات رضي الله عنه قام أخوه الحسين بن علي تالياً " وَمَن قُتِلَ مَظلُوماً فَقَدَ جَعلَنا لوليه سُلطاناً " الإسراء: 33، الآية، وكان قيامه زمن يزيد بن معاوية فقتل بكربلاء عطشاناً، سير عليه عبيد الله بن زياد سرية عليها عمر بن سعد بن أبي وقاص، وكان من أمره ما شرح فيما تقدم مما يجرح القلوب، ويجري الغروب.
ثم قام من بعده علي زين العابدين، ثم قام من بعده زيد بن علي فقتل وصلب، ثم قام ولده يحيى بن زيد فقتل، ثم هلم جراً.
فذهب الزيدية من الشيعة أن القيام افترض عليهم لطلب الحق وأن إظهار الدعوة والقيام بأمر الإمامه للأمة واجب عليهم، وهذا مكتوب في تواريخ الزيدية.(2/356)
وأما الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، فلا يجوزون الإمامة لغير الاثنى عشر الإمام الذين أولهم علي، واخرهم المهدي محمد المنتظر صاحب السرداب.
ودليل الزيدية على تصحيح جوازها لغير الأئمة الاثنى عشر أو تعينه - وهو ما وعدنا به سابقاً - هو ما أخرج أبو إسحاق بن راهويه في مسنده، والدولابي في الذرية الطاهرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله طرف بيده وطرف بأيديكم، وأهل بيتي " ورواه الجعابي في الطالبيين ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله تعالى طرف بيد الله وطرف بأيديكم، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض " . ورواه البزار، ولفظه: " إني مقبوض وإني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله، وعترتي أهل بيتي وإنكم لن تضلوا بعدهما " ، وفي رواية: " والله سائلكم كيف خلفتموني في كتابه وأهل بيتي " . وأخرج محمد بن جعفر الرزاز عن أم سلمة: " ألا إني مخلف فيكم كتاب ربي عز وجل وعترتي أهل بيتي. ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال: هذا عَلِي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض فأسألهما ما خلفت فيهما " ، وأخرج أبو سعد والملا في سيرته حديث: " استوصوا بأهل بيتي خيراً، فإني أخاصمكم عنهم غداً، ومن أكن خصمه أخصمه، ومن أخصمه دخل النار " .
قال في جواهر العقدين: ولما كان كل من القرآن العظيم، والعترة الطاهرة معدناً للعلوم الدينية والأسرار، والحكم النفيسة الشرعية، وكنوز دقائقها، واستخراج حقائقها أطلق عليه الصلاة والسلام عليهما الثقلين، ويرشد لذلك حثه على الاقتداء والتمسك والتعلم من أهل بيته.
ولا شك أن الذين وقع الحث على التمسك بهم من أهل البيت النبوي والعترة الطاهرة هم العلماء بكتاب الله، إذ لا يحث عليه الصلاة والسلام بالتمسك بغيرهم وهم الذين لا يقع بينهم وبين الكتاب اقتراب، ولهذا قال: " لا تقدموها فتهلكوا ولا تقصروا عنها فتهلكوا " .
وقال في طريق آخر في عترته: " فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تعلموهم فهم أعلم منكم " فاختصوا بمزيد الحث عن غيرهم من العلماء لما تضمنته الأحاديث في ذلك، ولحديث أحمد: ذُكِر عند النبي صلى الله عليه وسلم قَضَاء قضى به علي، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت " .
وكل هذا يفهم وجوب من يكون أهلاً للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كل زمان وجدوا فيه إلى قيام الساعة حتى يتوجهَ الحث المذكور على التمسك به كما أن الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض.
وأما احتجاج الشيعة لمنعهم ذلك بالحديث: " يكون من أهل بيتي اثنا عشر خليفة " ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فليس لهم في ذلك حجة، إذ مفهوم العدد غير معتبر دليلاً يبطل معنى الحث والتمسك إذ لو لم نقل بوجود ذلك التمسك به لم يتعقل الحث على التمسك بمعدوم.
وأخرج أبو الحسن بن المغازلي من طريق موسى بن القاسم عن علي بن جعفر: سألت الحسن عن قوله تعالى: " كَمِشكَاةٍ فيِهاً مِصبَاح " النور: 35، قال: المشكاة فاطمة والشجرة المباركة: إبراهيم. لا شرقية ولا غربية: لا يهودية ولا نصرانية. " يَكادُ زَتيها يضُئ وَلَو لَم تَمسَسهُ نَار نوُر عَلى نوُرِ " النور: 35، قال: منها إمام بعد إمام يهدي الله لنوره من يشاء. قال: يهدي لولايتنا من يشاء.
وقوله: منها إمام بعد إمام، يعني أئمة يقتدى بهم في الدين، ويتمسك بهم فيه ويرجع إليهم، وهذا أوضح دليل على صحة إمامة غيرهم بل تعينها.(2/357)
وههنا نقل غريب وهو وإن كان لا تعلق له بما نحن فيه من وجه فله تعلق من وجه آخر إذ هو في شأن العترة الطاهرة الذين الكلام في شأنهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ونصه: روى الثعلبي في تفسيره: أن سفيان بن عيينة رحمه الله: سئل عن قوله تعالى: " سَأَلَ سَائل بِعَذاب وَاقع " المعارج: 1، فيمن نزلت؟ فقال للسائل: سألتني عن مسألة ما سألني عنها أحد قبلك، حدثني أبي عن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بغدير " خم " فنادى في الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد علي وقال: " من كنت مولاه فعلي مولاه " إلى آخر الحديث، فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة له، فنزل بالأبطح عن ناقته وأناخها، فقال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا، وأمرتنا بالحج فقبلنا، ثم لم ترض بهذا حتى ترفع بضبعي ابن عمك تفضله علينا، وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أو من الله عز وجل؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله الذي لا إله إلا هو إن هذا من الله عز وجل " . فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: " اللهُمَ إِن كانَ هَذاً هُوَ اَلحَقَّ من عِندِكَ فَأَمطِر عليناً حِجارَةً " الأنفال: 32 الآية، فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله فأنزل الله عز وجل: " سَأَلَ سَائل بِعَذابٍ وَاقعٍ " المعارج: ا، كذا في جواهر العقدين في فضل الشرفين، شرف العلم الجلي، وشرف النسب العلي.
وها أنا أذكر من قام منهم من لدن علي بن أبي طالب إلى زماننا اليوم، وهو عام سبع وتسعين وألف، فأقول: أولهم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وبعده ابناه الحسن في زمن معاوية، ثم الحسين في زمن يزيد، وقد سبق ذكرهما بما لا مزيد عليه، ثم بعد الحسين الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب قام في زمان عبد الملك بن مروان ثم استتر، فلما ولي الأمر الوليد بن عبد الملك شدد في طلبه فلم يظفر به، وكان مستتراً بالحجاز فدس إليه من سقاه السم فمات مسموماً، وحمل إلى المدينة المنورة ودفن بالبقيع، وكان قيامه سنة ثلاث وثمانين ووفاته سنة ست وثمانين، وعمره ثمان وثلاثون سنة.
قلت: قد تقدم في الرواية السابقة أن الحسن المثنى لم يدع الإمامة، ولم يدعُ إلى مبايعة، ولم يدعها له أحد فعده ههنا في الدعاة على غير تلك الرواية.
ثم قام بالدعوة الإمام زبد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
ظهر زيد بالكوفة خارجاً على هشام بن عبد الملك داعياُ للكتاب والسنة وإلى جهاد الظالمين وإعطاء المحرومين، والعدل في قسمة الفيء، ورد المظالم ونصر أهل البيت.
واختلف في سبب خروجه فقيل: إن يوسف بن عمر لما نكب خالد بن عبد الله القسري كتب إلى هشام أنه شيعة لأهل البيت، وأنه ابتاع من زيد أرضاً بالمدينة بعشرة آلاف دينار، وأنه رد الأرض علية وأنه أودع زيداً وأصحابه مالاً، وكان زيد قد قدم على خالد بالعراق، هو ومحمد بن عمر بن أبي طالب، وداود بن علي بن عبد الله بن عباس، فأجازهم ورجعوا إلى المدينة، فبحث هشام عنهم، وسألهم فأقروا بالجائزة، وحلفوا على ما سوى ذلك فصرفهم هشام، وبعث إلى يوسف بن عمر فقابلوا خالداً، وصدقهم وعادوا إلى المدينة، ونزلوا القادسية.
وراسل أهل الكوفة زيداً فعاد إليهم.
وقيل: سبب ذلك أن زيداً اختصم مع ابن عمه جعفر بن الحسن المثنى في وقف علي، ثم مات جعفر فخاصم أخوه عبيد الله زيداً، وكانا يحضران عند عامل خالد فوقعت بينهما في مجلسه مشاتمات، وأنكر زيد من خالد إطالته للخصومة ويسمع مثل هذا فأغلظ له زيد وسار إلى هشام فحجبه ثم أذن له بعد حين، فحاوره طويلاً ثم عرض له بأنه يذكر الخلافة وتنقصه ثم قال اخرج، قال: نعم ثم لا أكون إلا بحيث تكره فسار إلى الكوفة وقال له محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب: ناشدتك الله الحق بأهلك ولا تأت الكوفة، وذكره بفعلهم مع جده وجده.(2/358)
فأخذ يتظلم مما وقع به، وأقبل إلى الكوفة، وأقام بها مستخفياً يتنقل في المنازل، واختلفت إليه الشيعة، وبايعه جماعات، وناس من وجوه أهل الكوفة يذكر لهم دعوته، ثم يقول: أتبايعون على ذلك؟ فيقولون: نعم، فيضع يده على أيديهم، ويقول: عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة نبيه لتتبعني، ولتقاتلن عدوي، ولتنصحن لي في السر والعلانية.
فإذا قال: نعم، مسح يده على يده، ثم قال: اللهم اشهد، فبايعه على ذلك خمسة عشر ألفاً وأمرهم بالاستعداد، وشاع أمره في الناس، وبلغ الخبر إلى يوسف بن عمر، فأخرجه من الكوفة. ولحقه الشيعة بالقادسية أو الثعلبية، وعذله داود بن علي بن عبد الله بن عباس على الرجوع معهم وذكره حال جده الحسين، فقالت الشيعة لزيد: هذا إنما يريد الأمر لنفسه ولأهل بيته، فرجع معهم ومضى داود إلى المدينة.
ولما أتى زيد الكوفة، جاءه مسلمة بن كهيل، فصده عن ذلك، وقال: أهل الكوفة لا يفون لك، وقد كان مع جدك منهم أضعاف من معك ولم يفوا له، وكان أعز عليهم منك على هؤلاء.
فقال له زيد: قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وعنقهم.
قال: فتأذن لي أن أخرج من هذه البلد فلا آمن أن يحدث حدث وأنا لا آمن نفسي، فخرج إلى اليمامة.
وكتب عبد الله المحض بن الحسن المثنى إلى زيد يعذله ويصده فلم يصغ إليه. وتزوج نساء بالكوفه وكان يختلف إليهن والناس يبايعونه، ثم أمر أصحابه يتجهزون.
ونمى الخبر إلى يوسف بن عمر فطلبه، وخاف زيد فتعجل الخروج، وكان يوسف بالحيرة وعلى الكوفة الحكم بن الصلت، وعلى شرطته عمر بن عبد الرحمن.
ولما علم الشيعة أن يوسف يبحث عن زيد جاء إليه جماعة منهم، فقالوا له: ما تقول في الشيخين؟ فقال زيد: رحمهما الله وغفر لهما، وما سمعت أحداً من أهل بيتي يذكرهما إلا بخير، وغاية ما أقول: إنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس فدفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك الكفر، وقد عدلا في الناس، وعملا بالكتاب والسنة.
قالوا: فإذا كان أولئك لم يظلموك، وهؤلاء لم يظلموك فلم تدعونا إلى قتالهم. فقال: إن هؤلاء ظلموا المسلمين أجمعين، وإنا ندعوهم إلى الكتاب والسنة، وأن نحيي السنن، ونطفىء البدع، فإن أجبتم سعمتم، وإن أبيتم فلست عليكم بوكيل. فقالوا: إذَن نرفضك.
فقال: اذهبوا فأنتم الرافضة. ففارقوه ونكثوا بيعته.
وقالوا: سبق الإمام الحق، يعنون محمداً الباقر، وإن جعفراً ابنه إمامنا بعده، فمن ذلك سموا بهفا الاسم.
ثم بعث يوسف بن عمر إلى الحكم بن الصلت عامل الكوفة أن يجمع أهل الكوفة في المسجد فجمعوا، وطلبوا زيداً في دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة فخرج منها ليلاً، واجتمع عليه ناس من الشيعة الذين بقوا معه ولم يفارقوه، وهم الفرقة المخصوصة باسم الزيدية، وأشعلوا النيران، ونادوا يا منصور حتى طلع الفجر. وأصبح جعفر بن أبي العباس فلقي اثنين من أصحاب زيد ينادون بشعاره، فقتل واحداً وأتى بالآخر إلى الحكم بن الصلت فقتله، وغلق أبواب المسجد على الناس، وبعث إلى يوسف بن عمر بالخبر، فسار من الحيرة.(2/359)
وقدم الريان بن سلمة الأراشي في ألفين خيالة، وثلاثمائة ماشية، وافتقد زيد الناس فقيل له: إنهم بالجامع محصورون، ولم يجد معه إلا مائتين وعشرين رجلاً، وخرج صاحب شرطته في خيل فلقي نصر بن خزيمة العبسي من أصحاب زيد ذاهباً إليه، فحمل عليه نصر وأصحابه فقتلوه، وحمل زيد على أهل الشام فهزمهم، وانتهى إلى دار أنس بن عمرو الأزدي ممن بايعه فناداه ولم يجبه ولم يخرج إليه. ثم سار زيد إلى الكناسة فحمل على أهل الشام، فهزمهم ثم دخل الكوفة والريان في اتباعه، فلما رأى زيد خذلان الناس قال لنصر بن خزيمة: أفعلتموها حسينية؟ فقال نصر: أما أنا فوالله لأموتن معك، وإن الناس بالمسجد فامض بنا إليهم، فجاء زيد إلى المسجد ينادي في الناس بالخروج إليه، فرماه أهل الشام بالحجارة من فوق المسجد وانصرفوا عند المساء، وأرسل يوسف بن عمر العباس بن سعد المزني في أهل الشام، فجاءه في دار الرزق وقد كان آوى إليها عند المساء، فلقيه زيد وعلى مجنبته نصر بن خزيمة، ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن ثابت، فاقتتلوا فحمل نصر على أصحاب العباس، فهزمهم زيد وأصحابه، وعبأهم يوسف بن عمر من العشي ثم سرحهم، فكشفهم أصحاب زيد، ولم تثبت خيلهم لخيله، وبعث إليه يوسف بن عمر بالناشبة، واشتد القتال وقتل معاوية بن زيد، ثم رمي زيد عند المساء بسهم أثبته فرجع أصحابه، وأهل الشام يظنون أنهم تحاجزوا، ولما نزل النصل من جبهته مات فدفنوه وأجروا عليه الماء، وأصبح الحكم يوم الجمعة يتتبع الجرحى من الدور، ودله بعض الموالي على قبر زيد فاستخرجه، وقطع رأسه وبعث به إلى يوسف بن عمر بالحيرة فبعثه إلى هشام فصلبه على باب دمشق، وأمر يوسف الحكم بن الصلت أن يصلب جثة زيد بالكناسة ونصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق ويحرسهم، واستمر نحواً من سنتين أو أربع مصلوباً، ويذكر أن العنكبوت نسجت على عورة زيد رضى الله تعالى عنه، فلما ولي الوليد أمر بإحراقهم فإنا لله وإنا إليه راجحون. قلت: كان يوسف بن عمر هذا متولي العراقين لهشام بن عبد الملك ومروان وهو الآمر للحكم بن الصلت أن يصلب جثة زيد بالكناسة مذموماً في عمله مخدوشاً في عقله متنطعاً في حمقه. حدث عنه المدائني قال: وزن يوسف بن عمر درهماً فنقص حبة فكتب إلى صاحب دار الضرب بالعراق فضرب ألف سوط، وخطب في مسجد الكوفة فتكلم إنسان مجنون فقال: يا أهل الكوفة ألم أنهكم أن تدخل مجانينكم المسجد اضربوا عنقه فضربت.
وتخلف عنه يوماً كاتبه، فقال له: ما حبسك؟ فقال: اشتكيت ضرسي فقال: تشتكي ضرسك وتقعد عن الديوان، فدعا بالحجام وأمره بقلع ضرسين من أضراسه.
وعنه أيضاً قال: حدثنا رضيع ليوسف بن عمر من بني عبس قال: كنت لا أحجب عنه ولا عن حريمه، فدعا ذات يوم بجوار له ثلاث، ودعا بخصي له أسود، يقال له: خديج فقرب إليه واحدة، فقال لها: إني أريد الشخوص فأخلفك أم أشخصك معي. فقالت: صحبة الأمير أحب إلي ولكن أحسب أن مقامي وتخلفي أعفى عليه وأخف.
فقال: أحببت التخلف للفجور. اضربها يا خديج. فضربها حتى أوجعها. ثم أمره بأن يأتيه بالأخرى، فقال لها: إني أريد الشخوص - مثل قوله للاولى - فقالت وقد رأت ما لقيت صاحبتها المتقدمة: ما أعدل بصحبة الأمير شيئاً بل يخرجني معه. فقال: أحببت الجماع ما تريدين أن يفوتك، اضربها يا خحيج، فضربها حتى أوجعها. ثم أمره أن يأتيه بالثالثة وقد رأت ما وقع لأولتيها. فمال لها كما قال لهما. فقالت: الأمير أعلم لينظر أخف الأمرين عليه فليفعله فقال لها: اختاري لنفسك. فقالت: ما عندي لهنا اختيار فليختر الأمير فقال: هل فرغت أنا الآن من كل عملي ولم يبق علي إلا أن أختار لك. أوجعها يا خديج ضرباً. قال الرجل: فكأنما هو يضربني في الثلاث من شدة غيظي عليه وعلى آمره. فولت الجارية وتبعها الخصي، فلما بعدت قالت: الخيرة والله في فراقك لا تقر عين أحد بصحبتك فلم يفهم يوسف كلامها فقال: ما تقول يا خديج؟ قال: قالت كذا وكذا. قال: يابن الخبيثة، من أمرك أن تخبرني؟ يا غلام: خذ السوط من يده فأوجع به رأسه، فما زال يضربه حتى اشتفيت منه. كذا في المحاصن والمساوئ للبيهقي.
قلت: فانظر إلى هؤلاء المتخلفين وإلى من يولونه تجد الوصلة بينهما قريبة غير غريبة.(2/360)
واستجار يحيى بن زيد بعبد الملك بن بشر بن مروان، فأجازه حتى سكن الطلب، ثم سار إلى خراسان في نفر من الزيدية فقام بالدعوة كما سيذكر. كان قتله في شهر شعبان سنة 121 إحدى وعشرين ومائة.
وقتل في صفر سنة اثتتين وعشرين. عمره ثلاث وأربعون سنة.
ثم قام بالدعوة ابنه الإمام يحيى بن زيد بن علي زين العابدين بن علي بن أبي طالب، وذلك في أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك بخراسان.
ثم انتقل إلى بيهق، وأظهر دعوته هناك فقصدته جنود الوليد، فقاتلهم فضعف عن المقاتلة، فتوجه إلى جوزجان، واجتمع عليه الجنود فقاتلوا فأصابه سهم آخر نهار الجمعة من شهر رمضان سنة ست وعشرين ومائة، فحز رأسه وحمل إلى الوليد ابن يزيد، وصلبت جثته على جذع عند باب جوزجان، وبقي مصلوباً إلى أن ظهر أبو مسلم الخراساني صاحب دعوة العباسيين، فأنزله من الجذع وصلى عليه وعمره ثمان وعشرون سنة. فهؤلاء في، دولة بني أمية.
وأما في دولة العباسيين فكان زمان عبيد الله السفاح - أول من ولي منهم - زمان صلح وسداد وبر منه بهم، ما ظهر في زمانه أحد ولا دعا داع، وكانوا شيئاً واحداً على ما تقتضيه القرابة واللحمة.
فلما مات السفاح وولي أخوه المنصور عبد الله الدوانيقي قام بالدعوه محمد الملقب بالنفس الزكية بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب.
وسبب ذلك أنه لما صار أمر بني أمية إلى الاختلاف، واضطرب أمر مروان بن مِحمد اجتمع أهل البيت بالمدينة الشريفة، وتشاوروا فيمن يعقدون له الخلافة، فاتفقوا على محمد النفس الزكية بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط، وبايعوه سراً وسلم له جميعهم.
ويقال: إنه حضر هذه البيعة أبو جعفر عبد الله المنصور، وبايع فيمن بايع له من أهل البيت، وأجمعوا على ذلك لتقدمه فيهم بما علموا له من الفضل عليهم، ولهذا كان مالك وأبو حنيفة - رحمهما الله تعالى - يجنحان إليه حين خرج من الحجاز، ويريان إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لانعقاد هذه البيعة من قبل، وربما صار إليه الأمر عند الشيعة بانتقال الوصية إليه من زيد بن علي، وكان أبو حنيفة يقول بفضله، ويجنح إلى حقه، فتأدت إليهما المحنة بسبب ذلك أيام أبي جعفر المنصور حتى ضرب مالك على الفتيا في طلاق المكره، وحبس أبو حنيفة على القضاء.
ولما حج المنصور أيام أخيه السفاح سنة ست وثلاثين تغيب عنه محمد هذا وأخوه إبراهيم ولم يحضرا عنده مع بني هاشم، فسأل عنهما، فقال له زياد بن عبيد الله الحارثي: أنا آتيك بهما وكان معه بمكة فرده المنصور إلى المدينة.
ولما صارت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور سعى عنده ببني حسن، وأن محمد ابن عبد الله يروم الخروج وأن دعاته ظهروا بخراسان، فطفق يسأل عن محمد ويختص بني هاشم بالسؤال سراً فكلهم يقول: إنك ظهرت على طلبه بهذا الأمر فخافك ويحسن العذر عنه، إلا الحسن بن زيد بن الحسن بن علي، فإنه قال: والله ما آمن وثوبه عليك، فإنه لا ينام عنك، فكان موسى الجون بن عبد الله المحض يقول بعد هذه: اللهم اطلب الحسن بن زيد بدمائنا.
ثم إن المنصور حج سنة أربعين ومائة، وألح على عبد الله بن حسن في إحضار ابنه محمد، فاستشار عبد الله بن سليمان بن علي في إحضاره.
فقال له سليمان: لو كان عافياً لعفا عن عمه، فاستمر عبد الله على الكتمان. ثم استعمل المنصور على المدينة رياح بن عثمان المري في رمضان سنة أربع وأربعين فقدم المدينة.
وتهدد عبد الله المحض في إحضار ابنيه محمد وإبراهيم، فقال له عبد الله: إنك،لأزرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة، فاستشعر ذلك ووجم، فقال له حاجبه أبو البختري: إن هذا ما اطلع على الغيب، فقال له: والله ما قال هذا إلا ما سمع، فكان كذلك كما سيذكر.
ثم جد رياح في طلب محمد فأخبر أنه في شعاب رضوى من عمل ينبع وهو جبل جهينة، فبعث عامله في طلبه فأفلت.(2/361)
ثم إن رياح حبس بني حسن وقيدهم، وهم عبد الله المحض وإخوته حسن وإبراهيم وجعفر وابنه موسى الجون بن عبد الله المحض، وسليمان وعبد الله ابني أخيه داود وإسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم بن الحسن، ولم يحضر معهم أخوه على العابد، ثم حضر من الغد وقال: جئتك لتحبسني مع قومي فحبسه، وكتب إليه المنصور أن يحبس معهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان المعروف بالديباجة وكان أخا عبد الله المحض لأمه، أمهما فاطمة بنت الحسين، وكان عامل مصر قد عثر على علي بن محمد بن عبد الله المحض بعثه أبوه محمد النفس الزكية إلى مصر يدعو له فأخذه عاملها وبعث به إلى المنصور.
ثم إن المنصور حج سنة أربع وأربعين فلما قضى حجه وخرج إلى الرَّبذة، وجاء رياح بن عثمان ليودعه أمره بأشخاص بني حسن ومن معهم إلى العراق، فأخرجهم في القيود والأغلال وأركبهم في محامل بغير وطاء وجعفر الصادق يعاينهم من وراء ستر ويبكي، وجاء محمد وإبراهيم مع أبيهما يسايرانه مستترين بزي الأعراب، ويستأذنانه في الخروج، فيقول: لا تعجلا حتى يمكنكما وإن منعتما أن تعيشا كريمين فلا تمنعا أن تموتا كريمين.
وانتهوا بهم إلى الربذة، وأحضر العثماني محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ابن عفان المعروف بالديباجة عند المنصور فضربه مائة وخمسين سوطاً بعد ملاحاة جرت بينهما أغضبت المنصور، ويقال: إن رياحاً أغرى المنصور به، وقال له: إن أهل الشام شيعته ولا يتخلف منهم عنه أحد، ثم كتب أبو عون عامل خراسان إلى المنصور: إن أهل خراسان ينتظرون محمد بن عبد الله المحض وأنه جفل منهم، فأمر المنصور بقتل العثماني وبعث برأسه إلى خراسان وبعث معه من يحلف أنه رأس محمد بن عبد الله المحض وأن أمه فاطمة بنت رسول الله، ثم قدم المنصور بهم الكوفة وحبسهم بقصر ابن هبيرة ويقال: إنه قتل محمد بن إبراهيم بن حسن، بنى عليه أسطوانة وهو حي فمات، ثم مات بعده عبد الله المحض، ثم علي بن حسن. ويقال: إن المنصور أمر بهم فقتلوا ولم ينج منهم إلا سليمان وعبد الله ابنا داود وإسحاق وإسماعيل ابنا إبراهيم بن حسن وجعفر بن حسن.
ثم إن المنصور أرجع رياحاً إلى المدينة وأمره بإمعان الطلب لمحمد فوصلها وألح في طلب محمد وهو مختف ينتقل في اختفائه من مكان إلى مكان، وقد أرهقه الطلب حتى تدلى في بئر وانغمس في مائها وحتى سقط ابنه من جبل فتقطع، ودل عليه رياح بالمدينة فركب في طلبه فاختفى عنه ولم يره، ولما اشتد الطلب عليه أجمع على الخروج، وأغراه أصحابه بذلك.
وجاء الخبر إلى رياح بأنه الليلة خارج، وحضر العباس بن عبد الله بن الحارث بن العباس ومحمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد قاضي المدينة وغيرهما، وقال لهم: أمير المؤمنين يطلب محمداً شرق الأرض وغربها وهو بين أظهركم، والله لئن خرج ليقتلنكم أجمعين.
فأمر القاضي لإحضار عشيرته بني زهرة فجاءوا في جمع كثير وأجلسهم بالباب، ثم أحضر نفراً من العلويين فيهم جعفر بن محمد بن الحسين وحسين بن علي بن حسين بن علي وحسن بن علي بن حسين بن علي ورجالاً من قريش، وبينما هم عنده سمعوا التكبير وقيل خرج محمد، فقال ابن مسلم بن عقبة لرياح بن عثمان: أطعني واضرب أعناق هؤلاء العلويين، فأبى.
فأقبل محمد النفس الزكية في مائة وخمسين رجلاً، وقصدوا السجن، وأخرج محمد بن خالد بن عبد الله القسري وابن أخيه ومن كان معهما محبوساً بالظلم، وأتى دار الإمارة وهو ينادي بالكف عن القتل، فدخلوا من باب المقصورة وقبضوا على رياح بن عثمان عامل المدينة وأخيه عباس وابن مسلم بن عقبة وحبسهم، ثم خرج إلى المسجد فخطب الناس، وذكر المنصور بما نقمه عليه، ووعد الناس واستنصرهم، واستعمل على المدينة عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وعلي قضائها عبد الملك بن عبد المطلب بن عبد الله المخزومي، ولم يتخلف عن محمد ابن المحض من وجوه الناس إلا نفر قليل، منهم خبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير.(2/362)
واستفتى أهل المدينة مالكاً في الخروج مع محمد وقالوا: في أعناقنا بيعة المنصور، فقال الإمام مالك: إنما بايعتم مكرهين، فتسارع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته، وأرسل محمد المذكور إلى إسماعيل عبد الله بن جعفر يدعوه إلى بيعته - وكان شيخاً كبيراً - فقال: أنت والله يابن أخي مقتول، فكيف أبايعك، فرجع الناس عنه قليلاً قليلاً، وأسرع بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر إلى محمد، فجاءت أختهم حمادة إلى عمها إسماعيل وقالت: يا عم إن مقالتك ثبطت الناس عن محمد، وإخوتي معه فأخشى أن يقتلوا، فطردها. فيقال: إنها غدت عليه فقتلته.
ولما استوى أمر محمد بن المحض المذكور ركب رجل من آل أويس بن أبي سرح اسمه الحسين بن صخر، وجاء إلى المنصور في تسع وخبره الخبر، فقال: أنت رأيته؟ قال: نعم، وكلمته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تتابع الخبر، وأشفق المنصور من أمره فاستشار أهل بيته ودولته، فبعث إلى عمه عبد الله وهو محبوس يستشيره، فأشار عليه بأن يقصد الكوفة فإنهم شيعة أهل البيت، فيملك عليهم أمرهم، ويحفها بالمسالح حتى يعرف الداخل والخارج، ويستدعي سالم بن قتيبة من الري فيحشد معه كافة أهل الشام ويبعثه، وأن يثبت العطاء في الناس.
فخرج المنصور إلى الكوفة وتبعه عبد الله بن الربيع بن عبيد الله بن عبد المدان. ولما قد الكوفة أرسل إلى بديل بن يحيى - وكان السفاح يشاوره - فأشار عليه بأن يشحن الأهواز بالجنود، وأشار عليه جعفر بن حنظلة البهراني بأن يبعث الجند إلى البصرة، فلما ظهر إبراهيم أخو محمد المذكور بتلك الناحية تبين وجه إشارتهما.
وقال المنصور لجعفر بن حنظلة: كيف خفت البصرة؟ قال: لأن أهل المدينة ليسوا أهل حرب حسبهم أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعماء الطالبيين، ولم يبق إلا أهل البصرة.
ثم إن المنصور كتب إلى محمد بن عبد الله المحض المذكور كتاب أمان فأجاب عنه بالرد والتعريض بأمور في الأنساب والأحوال، فأجابه المنصور بمثل ذلك، وانتصف كل منهما لنفسه بما ينبغي الإعراض عنه مع أنهما صحيحان مرويان.
وذكرهما المبرد في كامله. فمن أراد الوقوف عليهما فليلتمسهما في أمكنهما. ذكر جميع هذا العلامة ابن خلدون في كتابه المسمى كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في دولة العرب والعجم والبربر. قلت: قد أحببت ذكرهما تجميلاً للجامح القاصر، وتكميلاً يكون فيه شفاء الخاطر.
قال لسان الأدب وترجمان العرب أبو العباس محمد بن يزيد الشهير بالمبرد في كتابه المسمى الكامل: وفي سنة خمس وأربعين ومائة اشتد الطلب على محمد النفس الزكية خرج بالمدينة الشريفة، وبعث أخاه إبراهيم إلى البصرة داعياً له فغلب عليها وعلى الأهواز وفارس، وبعث الحسن بن معاوية أو محمد بن معاوية من أولاد جعفر بن أبي طالب إلى مكة فملكها، وبعث عاملاً إلى اليمن فملكه. ودعا لنفسه وخطب على منبره عليه الصلاة والسلام، وكان يدعي بالنفس الزكية وتلقب بالمهدي، وحبس رياح بن عثمان المري عامل المدينة للمنصور، وبلغ الخبر إلى المنصور بذلك فكتب إليه كتاباً نصه بعد البسملة: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله أما بعد ف " إِنَّماً جَزاء اَلَذِينَ يحاربون الله وَرَسُولَهُ وَيسعَونَ في اَلأَرضِ فَسَاداً... " إلى " غَفُورٌ رحِيم " المائدة: 33: 34، ولك ذمة الله وعهده وميثاقه وحق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إن تبتَ من قبل أن نقدر عليك أن أؤمنك على نفسك وولدك وإخوتك ومن بايعك وجميع شيعتك وأن أعطيك ألف ألف درهم وأنزلك من البلاد حيث شئت وأقضى لك ما شئت من الحاجات وأطلق من في سجني من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك ثم لا أتتبع أحداً منكم بمكروه، وإن شئت أن تتوثق لنفسك فوجه إلى من يأخذ لك الميثاق والعهد والأمان إن أحببت. والسلام.
فأجابه محمد المهدي بكتاب نصه بعد البسملة: من عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد.(2/363)
أما بعد " طسم تِلكَ أياَتُ اَلكِتَاب المُبِينِ نَتلُوا عَلَيكَ مِن نَّباً مُوسى وَفِرعَونَ بإَلحَقِ لِقَومِ يُؤمنِونَ إنَّ فِرغَون عَلا في الآَرضِ... " إلى " يحذرون " القصص: ا: 16، وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي أعطيتني، فقد تعلم أن الحق حقنا وأنكم إنما أعطيتموه بنا ونهضتم فيه بشيعتنا وخطبتموه بفضلنا، وإن أبانا علياً - عليه السلام - كان الوصي والإمام، فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء، وقد علمتم أنه ليس أحد من بني هاشم يمت بمثل فضلنا ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا وسببنا، وإنا بنو أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهلية دونكم، وبنو ابنته فاطمة في الإسلام من بينكم، فأنا أوسط بني هاشم نسباً وخيرهم أماً وأباً، لم تلدني العجم ولم تعرق بي أمهات الأولاد، وإن الله عز وجل لم يزل يختار لنا فولدني من النبيين أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أصحابه أقدمهم إسلاماً وأوسعهم علماً وأكثرهم جهاداً علي بن أبي طالب، ومن نسائه أفضلهن خديجة بنت خويلد أول من آمن بالله وصلى إلى القبلة، ومن بناته أفضلهن، وسيدة نساء أهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. ثم قد علمت أن هاشماً ولد علياً مرتين، وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين.
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدني مرتين من قبل جدي الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، فما زال الله يختار لي حتى اختار لي في النار فولدني أرفع الناس درجة في الجنة، وأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة، فأنا ابن خير الأخيار، وابن خير الأشرار وابن خير أهل الجنة، وابن خير أهل النار.
ولك عهد إن دخلت في بيعتي أن أؤمنك على نفسك وولدك وكل ما أصبته، إلا حداً من حدود الله تعالى، أو حقاً لمسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمك في ذلك، فأنا أوفي بالعهد منك، وأنت أحرى بقبول الأمان مني إليك.
وأما أمانك الذي عرضت علي فأي الأمانات هو؟! أمان ابن هبيرة، أم أمان عمك عبد الله بن علي، أم أمان أبي مسلم الخراساني؟! والسلام.
فأجابه المنصور بقوله بعد البسملة: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله.
اْما بعد فقد أتاني كتابك، وبلغني كلامك، فإذا جل فخرك بالنساء لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة ولا الآباء كالعصبة والأولياء، وقد جعل الله العم أباً، وبدأ به على الولد الأدنى، فقال جل ثناؤه عن نبيه عليه الصلاة والسلام: " وَاَتبَعَتُ مِلَةَ آبَائي إبرَاهِيمَ وإسحَاقَ وَيَعقُوب " يوسف: 38، ولقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وعمومته أربعة، فأجابه اثنان أحدهما أبي، وكفر اثنان أحدهما أبوك. وأما ما ذكرت من النساء وقرابتهن، فلو أعطين على قدَر الأنساب وحق الأحساب لكان الخير كله لآمنة بنت وهب، ولكن الله يختار لدينه من يشاء من خلقه.
وأما ما ذكرت عن فاطمة بنت عمرو أم أبي طالب، فإن الله لم يهد أحداً من ولدها إلى الإسلام، ولو فعل لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الآخرة والأولى، وأسعدهم بدخول الجنة، ولكن الله أبى ذلك فقال: " إنَّكَ لا تهدي من أَحبَبت ولكن اللهَ يَهدي مَن يشاءُ " القصص: 56، وأما ما ذكرت من فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب وفاطمة أم الحسن والحسين، وأن هاشماً ولد علياً مرتين وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين فخير الأولين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلده هاشم إلا مرة واحدة، ولم يلده عبد المطلب إلا مرة واحدة. وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله قد أبى ذلك له فقال: " مّاً كاَنَ مُحَمداً أَبا أَحَد مِّن رِجَالِكم وَلَكِن رَّسُولَ اَللهِ وَخَاتَمَ اَلنِبَيينَ " الأحزاب: 40، ولكنكم بنو ابنته وإنها لقرابة قريبة غير أنها امرأة لا تحوز الميراث ولا يجوز أن تؤم، فيكف تورث الإمامة من قبلها؟! ولقد طلب بها أبوك من كل وجه، فأخرجها تخاصم ومرّضها سراً، ودفنها ليلاً، وأبى الناس إلا تقديم الشيخين.(2/364)
ولقد حضر أبوك وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالصلاة غيره، ثم أخذ الناس رجلاً رجلاً فلم يأخذوا أباك فيهم، ثم كان في أصحاب الشورى فكل دفعه عنها، بايع عبد الرحمن عثمان وقبلها عثمان، وحارب أباك طلحة والزبير ودعا سعداً إلى بيعته فأغلق بابه دونه، ثم بايع معاوية بعده، وأفضى أمر جدك إلى أبيك الحسن، فسلمه إلى معاوية بخرق ودراهم، وأسلم في يديه شيعته، وخرج إلى المدينة، ودفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالاً من غير حله، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه.
وأما قولك: إن الله أختار لك في الكفر، فجعل أباك أهون أهل النار عذاباً فليس في الشر خيار ولا من عذاب الله هين، ولا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفتخر بالنار، وسترد فتعلم " وَسيعلَمُ اَلذينَ ظلَمُوا... " الشعراء: 227، الآية. وأما قولك: لم تلدني العجم، ولم تعرف فيك أمهات الأولاد وأنك أوسط بني هاشم نسباً، وخيرهم أماً وأباً، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طراً، وقدمت نفسك على من هو خير منك أولى وأخرى وأصلاً وفصلاً فخرت على إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى والدِ ولده، فانظر ويحك أين تكون من الله غداً، وما ولد فينا مولود بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من علي بن الحسين وهو لأم ولد، ولقد كان خيراً من جدك حسن بن حسن، ثم ابنه محمد بن علي خير من أبيك عبد الله وجدته أم ولد، ثم ابنه جعفر الصادق وهو خير منك.
ولقد علمت أن جدك علياً حكم الحكمين، وأعطاهما عهد الله وميثاقه على الرضا بما حكما به فأجمعا على خلعه، ثم خرج عمك الحسين بن علي فحاربه ابن مرجانة، وكان الناس الذين معه عليه حتى قتلوه ثم أتوا بكم على الأقتاب كالسبي المجلوب إلى الشام.
ثم خرج منكم غير واحد فقتلتكم، بنو أمية وحرقوكم بالنار، وصلبوكم على جذوع النخل حتى خرجنا عليهم، فأدركنا بثأركم إذ لم تدركوه، ورفعنا أقداركم وأورثناكم أرضهم وديارهم بعد أن كانوا يلعنون أباك في أدبار كل صلاة مكتوبة كما تلعن الكفرة، فعنفناهم وكفرناهم وبينا فضله، وأشدنا بذكره، فاتخذت ذلك علينا حجة، وظننت أنا - بما ذكرنا من فضل علي - أنا قدمناه على حمزة والعباس وجعفر، كل أولئك مضوا سالمين مسلماً منهم، وابتلي أبوك بالدماء.
وقد علمت أن مآثرنا في الجاهلية سقاية الحاج الأعظم، وولاية زمزم، وكانت للعباس دون إخوته، فنازعنا فيهما أبوك إلى عمر فقضى لنا عمر بهما، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس أحد من عمومته حياً إلا العباس، فكان وارثه دون بني عبد المطلب، وطلب الخلافة غير واحد من بني هاشم فلم ينلها إلا ولده، فاجتمع للعباس أنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وبنوه القادة الخلفاء، فقد ذهب بفضل القديم والحديث، ولولا أن العباس أخرج إلى بدر كرهاً لمات عماك طالب وعقيل جوعاً أو يلحسا جفان عتبة وشيبة ابني ربيعة فأذهب عنهما العار والشنار.
ولقد جاء الإسلام والعباس يمون أبا طالب للأزمة التي أصابتهم، ثم فدى عقيلاً يوم بدر، فقدمناكم في الكفر، وفديناكم من الأسر، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وحزناً شرف الآباء، وأدركنا من ثأركم إذ عجزتم عنه، ومنعناكم حيث لم تمنعوا أنفسكم. والسلام.
ثم عقد أبو جعفر المنصور على حربه، لعيسى ابن عمه موسى بن علي بن عبد الله بن العباس، فسار في الجنود، ومعه محمد بن أبي العباس السفاح، وكثير بن حصين العبدي، وحميد بن قخطبة، وهزار مرد وغيرهم. وهؤلاء المذكورون كل رجل منهم مذكور في مقاتلة ألف مشهور مخبور. وقال له: إن ظفرت بمحمد، فأغمد سيفك وابذل له الأمان، وإن تغيب، فخد أهل المدينة به؛ فإنهم يعرفون مذاهبه. ومن لقيك من آل أبي طالب، فعرفني به. ومن لم يلقك فاقبض ماله. وكان جعفر الصادق فيمن تغيب، فقبض ماله.(2/365)
ويقال: إن المنصور لما قدم المدينة بعد ذلك، طلبه جعفر بالمال، فقال المنصور: قبضه مهديكم. ولما وصل عيسى بن موسى إلى زيد، كتب إلى نفر من أهل المدينة يستدعيهم، واستشار محمد المهدي أصحابه في المقام بالمدينة، ثم في الخندق عليها، فآثر ذلك؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فحفر الخندق الذي حفره - عليه الصلاة والسلام - للأحزاب، ونزل عيسى بن موسى بالأعوص، وكان محمد قد منع الناس من الخروج فخيرهم؛ فخرج كثير منهم بأهليهم إلى الجبال، وبقي في شرذمة قليلة، ثم تدارك أمره، وأمر بردهم فأعجزوه.
ونزل عيسى بن موسى على أربعة أميال من المدينة، وبعث عسكراً إلى طريق مكة يعترضون محمداً أن ينهزم إلى مكة، واْرسل إليه بالإحسان والدعاء إلى الكتاب والسنة، ويحذره عاقبة البغي. فقال: إنما أنا رجل فررت من القتل. ثم نزل عيسى بن موسى بالجرف، لثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان، سنة خمس وأربعين، فأقام يومين، ثم وقف على سلع، ونادى بالأمان لأهل المدينة، وأن يخلوا بينه وبين صاحبه، فشتموه؛ فانصرف وعاد من الغد، وقد فرق القواد من سائر جهات المدينة، وبرز مع أصحابه، ورايته مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وأبلى محمد المهدي يومئذ - بلاءً عظيماً، وقتل بيده سبعين رجلاً.
ثم أمر عيسى بن موسى حميد بن قحطبة، فتقدم في مائة من الرجالة إلى حائط دون الخندق فهدمه واجتاز الخندق، وقاتلوا من ورائه، وصابرهم أصحاب محمد إلى العصر. ثم أمر عيسى أصحابه فردموا الخندق بالحقائب، ونصبوا عليه الأبواب، وجازت الخيل، فاقتتلوا، وانصرف محمد فاغتسل وتحنط، ثم رجع، وقال له عبد الله بن جعفر: لو أتيت الحسن بن معاوية - يعني: عامله الذي أرسله إلى مكة - فإن معه جل أصحابك، وليس لك بهؤلاء طاقة. فقال: أترك أهل المدينة يقتتلون؟! والله! لا أفعل أو أقتل، وأنت مني في سعة. فمشى معه قليلاً ثم رجع، وافترق عنه جل أصحابه، وبقي في ثلاثمائة أو نحوها، فقال له بعض أصحابه: نحن في عدة أهل بدر، ثم جمع بين الظهر والعصر، ومضى فأحرق الديوان الذي فيه أسماء من بايعه، وجاء إلى السجن فقتل رياح بن عثمان، عامل المدينة قبله من قبل المنصور، وأخاه عباساً.
وتقدم محمد إلى بطن سلع ومعه بنو شجاع من الحمس؛ فعرقبوا دوابهم وكسروا جفون سيوفهم واستماتوا، وهزموا أصحاب عيسى مرتين أو ثلاثاً. وصعد نفر من أصحاب عيسى الجبل، فانحدروا منه إلى المدينة، ورفع بعض نسوة آل العباس خماراً لهن أسود على منارة المسجد، فلما راه أصحاب محمد وهم يقاتلون؛ هربوا. وفتح بنو غفار طريقاً لأصحاب عيسى فجاءوا من وراء أصحاب محمد، ودعا محمد حميد بن قحطبة للبراز فأبى، ونادى ابن خفير عن أصحاب محمد بالأمان، فلم يصغ إليه، وكثرت فيه الجراحة، ثم قتل. وقاتل محمد علي شلوه يهذ الناس عنه هذا، حتى ضرب فسقط لركبته، فطعنه ابن قحطبة في صدره، ثم أخذ رأسه فأتى به عيسى، فبعثه إلى المنصور، وأرسل معه رؤوس بني شجاع، وكان قتله منتصف رمضان، سنة خمس وأربعين ومائة.
وأرسل عيسى الألوية فنصبت بالمدينة بالأمان، وصلب محمد وأصحابه ما بين ثنية الوداع والمدينة، واستأذنت أخته في دفنه فدفنته بالبقيع، وقبره مشهور، عليه قبة يزار بها، رحمه الله تعالى، عمره اثنان وخمسون سنة. وقيل: خمس وأربعون. ثم قام أخوه إبراهيم بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط، وكان قيامه بالبصرة، قد أرسله أخوه محمد النفس الزكية إليها فاستولى عليها، فبلغه الخبر بمقتل أخيه يوم العيد، غرة شهر شوال سنة خمس وأربعين، فخطب الناس ونعاه إليهم، وأنشد من الطويل:
سَأَبكِيكَ بالِبيضِ القَوَاضِبِ والقَنَا ... فَإن بِهاً ماً يدرِكُ الطالبُ الوترا
ولَستُ كمَن يَبْكِي أَخَاهُ بعَبرَةِ ... يُعَصرهاً مِنْ جَفْنِ مُقلَتِهِ عَصرا
فبايعوه بالإمامة، واستولى على واسط والأهواز، وكورها، وما والاها من بلاد فارس، ونهض لقتال المنصور، وكان يلاحظ آخرته أكثر من دنياه. فالتقى الجمعان ب باخمر من أرض الأهواز، فجاءه سهم غرب، وحمل عليه، جند المنصور وحزوا رأسه، وأرسلوه إلى المنصور.
وكان قتله غرة ذي الحجة من السنة المذكورة، وعمره: ثمان وستون سنة، قيل: و خمسون.(2/366)
ثم قام إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى، أخو عبد الله المحض، بعد قتل ابني أخيه: محمد، وإبراهيم؛ فعاجله المنصور قبل أن يستحكم أمره؛ فأسره وحبسه مع إخوته وأهل بيته، ومات في الحبس. وكان قيامه آخر سنة خمس وأربعين ومائة، عمره سبع وستون سنة.
ثم قام الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط، في ام المنصور - أيضاً - وكان بالبصرة مستتراً، وأرسل دعاته منها إلى كل ناحية؛ فسعى به إلى المنصور قر بن جلال الأزدي، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم، وأرسل رجلاً معه، يقال له: مرعيد النصراني، في جماعة من الأعوان، وكتب إلى عامله بالبصرة لسمع والطاعة فيما يشير به مرعيد، فدخل في زي أهل الصلاح مظهراً للتشيع والعبادة، ومضى قر إلى الحسن وأخبره بقدوم رجل صالح في وصفه، ثم عرف قرين بين مرعيد وبين شيعة الحسن، فرأوا نسكه وصلاحه؛ فأنسوا به، وجعل الشيعة سف صلاح حاله للحسن؛ حتى أحب لقاءه، ومرعيد مع ذلك - يحسن صلة الحسن بالأموال، ويرسل الجيران يستعين بهم في أمره ووصفه، وكلما كتب إليه الحسن كتاباُ قبله، ووضعه على رأسه وعينيه، وأكل خاتمه، يظهر أنه يريد التبرك به، إلى أن قالت له الشيعة: إن الحسن يشتهي لقاءك، فقال لهم: أخشى من اشتهار أمري، ولكن أنا في حجرة، فلو جاءني مع هذا - وأومأ إلى قرين - رجوت أن يكون الأمر مستوراً. فأجابته الشيعة إلى ذلك. وعمد مرعيد فهيأ القيد والرجال، فخبأهم في مجلسه. فلما وصل قيدوه، وحمل بساعته إلى المنصور، فلما أوصلوه إليه أمر بحبسه وغيبه، ثم آل أمره إلى أن مات بالسم في حبسه، سنة نيف وستين ومائة.
ثم قام في أيام المنصور - أيضاً - عبد الله الأشتر ابن محمد النفس الزكية بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وكان ظهوره بالسندة لأنه هرب بعد قتل أبيه إليه، وبقي بالسند بأرض كابل يدعوهم إلى الإسلام؛ لأنهم كانوا مشركين، فأسلم على يده خلق كثير. وكان على السند من جهة المنصور: هشام بن عمرو التغلبي، فوقع بينهما قتال كثير، قدر خمسين وقعة في سنة واحدة، وقتل هناك ظلماً. وكان قيامه سنة ست وأربعين ومائة، وقتل سنة إحدى وخمسين، وعمره: ثلاث وثلاثون سنة.
ثم قام الحسن بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط في البصرة، أيام المهدي بن المنصور، وتوارى لقلة أصحابه، إلى أن مات.
ثم قام عيسى بن زيد بن علي زين العابديني، في أيام المهدي، فبايعه أهل الكوفة وأهل البصرة والأهواز، ووردت عليه بيعة أهل الحجاز، وهو متوارٍ. واشتد الطلب له من المنصور وأخذ الناس على الظنة، فاستتر عيسى بالأهواز، وأكثر مقامه بها في زمن المنصور. فلما ولي الأمر المهدي أظهر نفسه، فدس إليه المهدي رجلاً من أصحابه، قيل: إنه أعطاه مقدار مائتي ألف دينار؛ فسمه في طعامه، وهو بسواد الكوفة مما يلي البصرة؛ فمات فجر اليوم الثالث، ودفن سراً، ولا يعرف قبره. وكان قيامه سنة ست وخمسين ومائة، ووفاته سنة ست وستين ومائة. عمره: ست وأربعون سنة.
ثم قام علي بن العباس بن الحسن المثنى بن الحسن السبط، في أيام المهدي - أيضاً - ببغداد، فبايعه جماعة سراً. وهم بالانتقال من بغداد إلى غيرها من البلاد، فقبضه المهدي قبل استحكام أمره وحبسه، فلم يزل في حبسه إلى أن وفد عليه الحسين بن علي الفخي - الآتي ذكره بعده - فكلم المهدي فيه واستوهبه منه؛ فوهبه له، ثم دس له شربة سم، فلم يزل يعمل فيه السم حتى قدم المدينة، فتفسخ لحمه، وتباينت أعضاؤه، بعد دخول المدينة بثلاثة أيام، ومات.(2/367)
ثم قام الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط، أيام الهادي بن المهدي بن المنصور، سنة تسع وستين ومائة، وهو بالمدينة، وجده: الحسن المثلث: أخو عبد الله المحض؛ بويع بالمدينة، وخطب على منبرها، وهرب عاملها. فلما استقر أمره بالمدينة وصار إلى مكة، كتب الهادي إلى محمد بن سليمان بن علي - وقد كان قدم حاجاً من البصرة - فولاه حربه، فقتله بفخ على ثلاثة أميال من مكة بل دونها، فتقاتلوا يوم التروية، فقتل الحسين في أكثر من مائة من أصحابه، ولم ينج منهم إلا اليسير، كانوا بين القتلى إلى أن جن عليهم الليل هربوا، ودفن الحسين وأصحابه هنالك، وقبره مشهور يزار إلى الآن، في بناء على يمين الداخل إلى مكة من وادي مر. وحمل رأسه إلى الهادي موسى بن المهدي، العباسي، فلم يحمد ذلك. وكان الحسين هذا شجاعاً جواداً كريماً، يحكى أن المهدي أعطاه لما قدم عليه ألف دينار فقرقها في الناس ببغداد والكوفة، وخرج لا يملك ما يلبسه إلا فروة ليس تحتها قميص رحمه الله وغفر له وأعاد علينا من بركاته.
روى أبو الفرج الأصبهاني في مقاتل الطالبيين بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فخ فصلى بأصحابه ثمة صلاة الجنائز ثم قال: تقتل ههنا رجال من أهل بيتي وعصابة من المسلمين تنزل لهم أكفان وحنوط من الجنة تسبق أرواحهُم إلى الجنة أجسادَهم " .
وكان عمره حين قتل إحدى وأربعين سنة.
ثم قام يحيى بن عبد الله المحض بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب في زمان الهادي أيضاً بعد أن نجا من وقعة الفخ فجال في البلدان، ولم يقر بمكان وآخر الأمر استقر بجبل الديلم وكان إذا ذاك في زمان هارون الرشيد، فسرح الرشيد لحربه الفضل بن يحيى البرمكي، فبلغ الفضل إلى الطالقان وتلطف في استنزال يحيى بن عبد الله من بلاد الديلم على أن يشترط ما أحب ويكتب له الرشيد بذلك خطه فتم بينهما ذلك؛ وجاء به الفضل فوفي له الرشيد بكل ما أحبه، وأجرى له أرزاقاً سنية حسنة.
ثم توجه يحيى بإذنه إلى المدينة ثم استرجعه هارون الرشيد من المدينة إلى بغداد بسعاية كانت فيه من بعض آل الزبير. فيقال: إنه لما حلف الزبيري بتلك اليمين التي فيها البراءة من حول الله وقوته والالتجاء إلى الحول والقوة ومات الزبيري بعد الثلاثة الأيام أطلق الرشيد يحيى ووصله بمال، ثم بعد ذلك بمديدة أظهر له ذلك أنه قد صح عنده أنه يطلب الناس سرّاً إلى بيعته، فكلم الرشيد الفقهاء فيما أعطاه من الأمان. فمنهم من أثبته، ومنهم من نقضه، ثم آخر الأمر أرسله - الى الحبس فمات بعد شهر من اعتقاله في الحبس.
واختلف في موته فقيل: خنقوه، وقيل: بنوا عليه، وقيل: سموه، وقيل؛ قتلوه بالجوع، ويقال: أطلقه الفضل بن يحيى افتئاتاً على الرشيد، فكان ذلك سبب نكبة البرامكة والله أعلم أيا كان ذلك.
قلت: ذكر المسعودي أن هذه المباهلة بهذه اليمين وقعت مع الزبير نفسه منسوبة إلى موسى الكاظم معه، والله أعلم من أيهما كانت.
كان قيام يحيى سنة ست وسبعين ومائة.(2/368)
ثم قام من بعده أخوه إدريس بن عبد الله المحض، وذلك أنه لما أفلت ونجا من واقعة الحسين الفخي لحق بمصر إلى الغرب، وعلى بريد مصر يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور ويعرف بالمسكين وكان يتشيع، فعلم بشأن إدريس، وهو جد الأدارسة بالمغرب ومنهم طائفة بمكة أتوا إليها، وأتاه إلى المكان الذي كان به مستخفياً وحمله على البريد إلى المغرب ومعه راشد مولاه فنزل بوليلي سنة اثنتين وسبعين وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير أورند من قبائل البربر، وكبيرهم، فأجاره وأكرمه، وأجمع البربر على القيام بدعوته، وخلع الطاعة العباسية وكشف القناع، فبايعوه وقاموا بأمره، وكان فيهم مجوس فقاتلهم إلى أن أسلموا وملك المغرب الأقصى، وملك تلمسان سنة ثلاث وسبعين، ودخلت ملوك زنانة أجمع في طاعته، واستفحل ملكه، وخافه إبراهيم بن الأغلب صاحب القيروان، وراسل الرشيد يخبره فدس إليه الرشيد مولى من موالي أبيه المهدي اسمه سليمان بن جرير، ويعرف بالشماخ وأنفذه بكتاب إلى ابن الأغلب، فأجازه ولحق بإدريس مظهراً للنزوع إليه فيمن نزع من وحدان العرب ومتبرئاً من الدولة العباسية، فاختصه الإمام إدريس وحلا بعينه وكان قد تأبط سماً في سنون فناوله إياه عند شكايته من وجع سنونه فكان فيما زعموا حتفه.
ودفن ببوليلى سنة سبع وسبعين ومائة.
ثم قام بالدعوة محمد بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب، وأبوه إبراهيم طباطبا لقب بذلك للكنة كانت به صغيراً سببها أنه طلب يوماً غلامه أن يأتيه بقباء فلم يفهم مراده فقال له إبراهيم: طباطبا يريد قبا قبا فلقب به.
حبسه المهدي وبقي في الحبس إلى زمان هارون ومات فيه، فظهر ابنه محمد هذا. وسبب ظهوره: أنه لما بعث المأمون الحسن بن سهل وزيره إلى العراق وولاه ما كان افتتحه طاهر بن الحسين من البلاد والأعمال، تحدث الناس أن الحسن بن سهل غلب على المأمون واستبد عليه وحجبه عن أهل بيته وقواده، فغضبت بنو ماشم ووجوه الناس وأجهزوا على الحسن بن سهل وهاجت الفتنة.
وكان أبو السرايا السري بن منصور ويذكر أنه من بني شيبان من ولد هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود، وقيل من بني تميم كان بالجزيرة، وطلب ففر إلى شرقي الفرات، وأقام هنالك يخيف السابلة، ثم لحق بيزيد بن مزيد بأرمينية في ثلائين فارساً فقوده أي جعله قائداً، وقاتل معه الخرمية وأثر فيهم، وأخذ منهم غلامه المسمى أبا الشوك، ومات يزيد بن مزيد، فكان أبو السرايا مع ولده أسد كذلك، فعزل أسد فسار أبو السرايا إلى أحمد بن مزيد، ولما بعث الأمين أحمد بن مزيد حرب هرثمة بن أعين أحد قواد المأمون بعثه أحمد طليعة إلى عسكر هرثمة فاستماله هرثمة فمال إليه فلحق به وقصده قومه بنو شيبان من الجزيرة، فاجتمع إليه منهم أكثر من ألفي فارس، واستخرج لهم الأرزاق من هرثمة بن أعين، فلما قتل الأمين نقص هرثمة من أرزاقهم، فغضب أبو السرايا واستأذن في الحج فأذن له هرثمة وأعطاه عشرين ألف درهم فصرفها في أصحابه ومضى وأوصاهم باتباعه فاجتمع له منهم نحو مائتين، وسار بهم أبو السرايا إلى عين التمر فأخذوا عاملها وقسموا ماله. ولقوا عاملاً آخر بمال موقر على ثلاثة أبغال فاقتسموه، فأرسل هرثمة خلفه فهزمهم ودخل البرية، ولحق به من تخلف من أصحابه فكثر أصحابه وجمعه، وسار نحو دقوقا، وعليها أبو ضرغامة العجلي في سبعمائة فارس فخرج وقاتله، فهزمه أبو السرايا، ورجع أبو ضرغامة إلى القصر فحاصره أبو السرايا حتى نزل على الأمان، وأخذ أمواله وسار إلى الأنبار، وعليها إبراهيم الشروني مولى المنصور عاملاً فقتله وأخذ ما فيها. ثم عاد إليها عند إدراك الغلال فافتتحها. ثم قصد الرقة ومر بطوق بن مالك التغلبي واستجاشه على قيس، فأقام عنده أربعة أشهر يقاتل قيساً بعصبية ربيعة، حتى انقادت قيس إلى طوق بن مالك، وسار أبو السرايا إلى الرقة فلقي محمد بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط صاحب الترجمة فدعاه إلى الخروج، واتعدوا إلى الكوفة فدخلاها وبايعه أهلها على بيعة الرضا من آل محمد، ونهب أبو السرايا قصر العباس بن موسى بن عيسى، وأخذ معه من الأموال والجواهر ما لا يحصى، وذلك منتصف جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين.(2/369)
ولما ملك الكوفة هرع الناس إليه والأعراب من النواحي وبايعوه، وأرسل أخاه أبا القاسم بن إبراهيم إلى مصر وكان على الكوفة سليمان بن منصور من قبل، الحسن بن سهل، فبعث إليه زهير بن المسيب الضبي في عشرة آلاف، فخرج إليه ابن طباطبا، وأبو السرايا فهزماه، واستباحا عسكره وأصبح محمد بن إبراهيم طباطبا من الغد ميتاً، فنصب أبو السرايا مكانه غلاماً من العلويين وهو محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين.
فنقول: ثم قام محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين المذكور، واستبد عليه أبو السرايا، وبعث الحسن بن سهل عيدروس بن محمد بن خالد المروروذي في أربعة آلاف، فلقيه أبو السرايا منتصف رجب، وقتله ولم يفلت من أصحابه أحد كانوا بين قتيل وأسير، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة باسمه، وبعث جيوشاً إلى البصرة وواسط.
وولى بالبصرة العباس بن محمد بن عيسى الجعفري، وعلى مكة الحسين الأفطس بن الحسين بن علي زين العابدين بن الحسين وجعل إليه الموسم.
وعلى اليمن محمد - أو إبراهيم - بن موسى بن جعفر الصادق. فسار أبو السرايا إلى البصرة، وأخرج ابن سهل ففر أمامهم، فبعث الحسن بن سهل إلى هرثمة يستدعيه لحرب أبي السرايا، وقد كان سار إلى خراسان مغاضباً له، فرجع بعد امتناع، وسار إلى الكوفة، وبعث الحسن بن سهل إلى المدائن وواسط علي بن سعيد، فبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة بالكوفة، فوجه جيشاً إلى المدائن، فملكوها في رمضان، وتقدم فنزل نهر صرصر، وعسكر هرثمة بإزائه غدوة، وسار علي بن سعيد في شوال إلى المدائن، فحاصرهم بها أصحاب أبي السرايا، فرجع أبو السرايا من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة وهرثمة في اتباعه، ثم حاصره هرثمة وقتل جماعة من أصحابه، فانحاز إلى الكوفة، فوثب الطالبيون على دور العباسيين، وشيعتهم فنهبوها وخربوها وأخرجوهم، واستخرجوا ودائعهم عند الناس، وأقام هرثمة بنواحي الكوفة يحاصرها، واستدعي منصور بن المهدي، وكاتب رؤساء الكوفة، واشتد الحصار على أبي السرايا بالكوفة فهرب عنها في ثمانمائة فارس، ومعه صاحبه الذي نصبه، وهو محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين صاحب الترجمة.
ودخلها هرثمة منتصف محرم ابتداء سنة 200 مائتين وأقام بها يوماً، وولى عليها بعض قواده.
وقصد أبو السرايا القادسية وسار منها إلى السوس. ولقي بخوزستان مالاً حمل من الأهواز فقسمه في أصحابه، وكان على الأهواز الحسن بن علي المأموني فخرج إلى أبي السرايا فهزمه الحسن وافترق أصحاب أبي السرايا، وجاء إلى منزله برأس عين زحلولا ومعه صاحبه الذي نصبه وهو محمد بن محمد صاحب الترجمة المذكورة وغلامه أبو الشوك، فظفر بهم حماد الكندغوش وجاء بهم إلى الحسن بن سهل في النهروان، فقتل أبا السرايا وبعث إلى المأمون برأسه وبمحمد بن محمد مع الرأس حياً فحبسه المأمون إلى أن مات قيل مسموماً.
كان قيامه في رجب سنة تسع وتسعين ومائة، وبعد موت محمد بن محمد هذا استقل كل واحد من دعاته ودعا كل واحد منهم إلى نفسه، وسار علي بن سعيد الحرشي إلى البصرة فملكها من يد زيد بن موسى بن جعفر الصادق وكان يسمى زيد النار لكثرة ما أحرق من دور العباسيين وشيعتهم، فاستأمن إليه زيد فأمنه علي وأخذه، وبعث المعتصم الجيوش العباسية إلى مكة والمدينة واليمن لقتال من بها من العلويين، وكان إبراهيم بن موسى بن جعفر - لما ولاه أبو السرايا اليمن - سار إليها وبها إسحاق بن موسى بن عيسى، فهرب إسحاق إلى مكة واستولى إبراهيم على اليمن وكان يسمى الجزار لكثرة قتله، ثم بعث رجلاً من بني عقيل بن أبي طالب إلى مكة ليحج بالناس، وقد جاء لذلك أبو إسحاق في جماعة من القواد فيهم حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان والياً على اليمن من قبل الحسن بن سهل فَحُمَّ العقيلي عن لقائهم، واعترض قافلة الكسوة والطيب، فأخذها ونهب أموال التجار، ودخل الحُجاج إلى مكة عراة، فبعث الجلودي من القواد فصبحهم وهزمهم، وأسر منهم وتنقذ كسوة الكعبة وطيبها وأموال التجار وضرب الأسرى كل واحد عشرة أسواط وأطلقهم.
وحج بالناس تلك السنة المعتصم العباسي قبل خلافته.(2/370)
وفي سنة مائتين وجه المأمون رجاء بن أبي الضحاك ليشخص إليه علي الرضا بن موسى الكاظم، فوصل إليه علي الرضا، فولاه العهد من بعده ولقبه الرضا وضرب الدراهم باسمه وكتب له بالبيعة إلى الآفاق وزوجه بابنته أم الفضل، وصورة كتاب العهد قد ذكرناها فيما تقدم عند ذكر خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه.
ثم قام من بعده محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق وكان داعية لمحمد ابن محمد المذكور قبله، فاستحكم أمره باليمن وكان له بها وقائع، ثم انتقل إلى خراسان فقتل بها بجرجان بالسم.
ثم قام محمد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنى فخذلته أنصاره، فتوارى بالمدينة إلى أن مات بها.
ثم قام إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى في بلاد المغرب بعد أبيه واستفحل أمره، ثم بقي أولاده إلى الآن أمرهم قائم بالمغرب.
ثم قام القاسم الرسي بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط أيام المأمون أيضاً، وكان القاسم بمصر، وبث دعاته في الأقطار، وحثوه على إظهار دعوته وكان مستتراً بمصر عشر سنين، فاشتد طلب عبيد الله بن طاهر عامل المأمون على مصر له فانتقل إلى الحجاز. ولم يزل مختفياً إلى أن مات المأمون وولى أخوه المعتصم، فكثر طلب المعتصم له فلم يتم أمره، فاستأوى جبلاً بالحجاز وهو المسمى بالرس وتحصن به هو وأولاده وسكن به إلى أن مات فنسب إليه وكان يقال له نجم آل الرسول، وكان قيامه سنة عشرين ومائتين، وتوفي سنة ست وأربعين ومائتين في أيام المتوكل بن المعتصم العباسي.
ثم قام صاحب الطالقان محمد بن القاسم بن علي بن عمر الأشرف بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكانت العامة تسميه الصوفي لاختياره لبس الصوف الأبيض، وكان له وقعات مع آل طاهر بن الحسين أيام المعتصم، وعظم أمره، ودخل بعدها إلى نسأ وبقي فيها مستتراً، ثم أخذ من نسأ فحبس ثم هرب من الحبس، فاختلفوا في أمره، فقيل رجع إلى الطالقان، وقيل إلى واسط فدس المعتصم له سماً فمات به.
ثم قام محمد بن جعفر بن يحيى بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط. قيامه أيام الواثق بن المعتصم غلب على هراة السفلى وملكها، وأولاده بعده إلى سنة تسعين ومائتين.
ثم قام بعده محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن المثنى ابن الحسن السبط ظهر بسويقة قرية معروفة بقرب المدينة المنورة.
وكان أبو الساج المتولى للموسم من قبل الخليفة المتوكل العباسي في جند كثيف، فخودع محمد بن صالح حتى لزمه أبو الساج فحبس ب سُرَّمَن رَأى إلى أن مات في السجن، وفي زمانه انضوى أكثر الأشراف واستتروا وتوقفوا عن إظهار الدعوة.
ثم قام الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب غلب على طبرستان ونواحي الديلم وملكها أربعين سنة، وتوفي سنة خمسين ومائتين.
ثم قام محمد بن جعفر بن الحسن بن عمر بن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، كان قيامه ببلاد العجم في زمان المتوكل فأسره المتوكل أيضاً.
وقيل: إن من الطالبيين من قام غير هؤلاء في زمن المتوكل وظهر من ظهر واستتر من استتر وحبس من حبس، وقتل من قتل فلله الأمر سبحانه.
ثم قام يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن علي زين العابدين، ظهر بالكوفة وأحبه الناس حباً شديداً كان قيامه في خلافة المستعين.
ثم قام الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين بن علي زين العابدين، فأسره المستعين وحبسه ومات في الحبس.
ثم قام محمد بن جعفر بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن، قيامه في أيام المستعين بأرمينية وقيل بالكوفة فخودع، وأسر فحبس ومات في الحبس سنة خمسين ومائتين.
ثم قام الكوكبي أحمد بن عيسى بن علي بن الحسين بن علي زين العابدين. قيامه بالكوفة في خلافة المهدي سنة خمس وخمسين ومائتين.
ثم قام أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط.
قيامه في خلافة المعتمد، وكانت له حروب مع ابن طولون، ثم قتل على باب أسوان وحمل رأسه إلى المعتمد.
ثم قام الداعي محمد بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن ابن علي بن أبي طالب سنة سبع وسبعين ومائتين في خلافة المعتضد، وله وقائع قتل في إحداها في بلاد جرجان.(2/371)
ثم قام الناصر الأطروش الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي زين العابدين.
قيامه في الجيل والديلم سنة أربع وثمانين ومائتين، واستفحل أمره إلى أن مات في خلافة المقتدر سنة أربع وثلاثمائة.
ثم قام الداعي الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم ابن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
كان قيامه بعد الناصر قبله في خلافة الراضي بالله العباسي.
وكان أولاد الناصر قد تملكوا بعد الناصر، وقاتلوا الداعي المذكور، فاستفحل أمر الداعي، وملك طبرستان ونيسابور والري، ثم توفوا، فصفا له الأمر اثنتي عشرة سنة. ثم قام ولده المهدي محمد بن الحسن بن القاسم بن الحسن، وكان قيامه أيام المطيع العباسي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، فملك الجيل والديلم، ثم توفي سنة ستين وثلاثمائة.
ثم قام الثائر في الله جعفر بن محمد بن الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي زين العابدين، واستفحل أمره إلى أن مات سنة سبع وستين ثلاثماثة.
ثم قام ولده أبو الحسيئ المهدي بن جعفر الثائر بن محمد بن الحسين في خلافة لقادر بالله العباسي، ولم تطل أيامه ومات بالجدري.
ثم قام من بعده أخوه الحسين بن جعفر الثائر في أيام القادر بالله أيضاً، واستقام أمره إلى أن مات.
ثم قام أحمد بن الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
قيامه في خلافة القاعر أيضاً سنة ثمانين وثلاثمائة وكانت له وقائع، ولم يزل على حالته في الحروب إلى أن ملك طبرستان، ثم مات سنة، إحدى عشرة وأربعمائة، وعمره تسع وسبعون سنة.
ثم قام من بعده أخوه الناطق بالحق أبو طالب يحيى بن الحسين بن هارون بن الحسين، قيامه في زمان القائم بأمر الله العباسي، واستقام له الأمر إلى أن توفي سنة أربع وعشرين وأربعمائة وعمره نيف وثمانون سنة.
ثم قام من بعده العقيقي علي بن جعفر بن الحسن بن عبد الله بن علي بن أحمد بن على بن الحسين بن علي زين العابدين.
قيامه في خلافة القائم أيضاً سنة أربع وأربعمائة.
ثم قام مانلديم سنديم أحمد بن محمد بن علي بن محمد بن الحسن بن محمد ابن أحمد الأعرابي بن محمد بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي زين العابدين وكان على منهاج سلفه.
كان قيامه بأنجاشية سنة سبع عشرة وأربعمائة. ووفاته في نيف وعشرين وأربعمائة.
ثم قام الناصر الحسين بن جعفر بن الحسين بن الحسن بن علي بن الناصر الأطروش، سبق ذكره في جهات الديلم.
ثم قام الموفق بالله الحسين بن إسماعيل بن زيد بن جعفر بن الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الرحمن ابن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
ثم قام ولده المرشد بالله يحيى بن الحسين بن إسماعيل على منهاج سلفه.
ثم قام أبو طالب يحيى بن أحمد بن الآمر أبي القاسم الحسين بن المؤيد بالله أحمد بن الحسين بن هارون المتقدم ذكره.
قيامه سنة نيف وتسعين وأربعمائة في خلافة المستظهر العباسي بالجيل والديلم. وكان حربه مع الباطنية.
وكان بنو العباس يظهرون المحبة إليه. وكانت وفاته سنة عشرين وخمسائة. والذين لم يعرف تاريخهم وزمان قيامهم: الإمام محمد بن أبي الأعرابي بن محمد بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي زين العابدين.
والإمام على العراقي بن الحسين بن عيسى بن زيد بن زين العابدين.
والإمام أحمد بن عيسى بن زيد بن زين العابدين.
والإمام الهادي بن المهحي بن الحسن بن عبد الله بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
والإمام الراضي بالله ناصر بن الحسين بن زيد بن صالح بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
والإمام زيد بن صالح بن الحسن بن زيد بن صالح بن الحسن بن زيد بن صالح ابن عمر الناصر المذكور.
والإمام علي بن محسن بن أحمد بن عبيد الله بن الحسن السلق بن علي بن محمد ابن الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
والإمام الحسين بن محمد بن علي بن جعفر بن عبيد الله بن السلق المذكور وأخوه الإمام الحسن بن محمد بن علي المذكور.
والذين لم تعرف كيفية اتصال أنسابهم الإمام أشرف بن زيد من ذرية زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، مات سنة أربع وأربعين وخمسمائة.(2/372)
والإمام السيد الأزرقي. والإمام أبو الرها الكيتمي.
وهؤلاء جميعاً في جهات قزوين وطبرستان والجيل والديلم وجرجان والحجاز والعراق وبالمغرب.
أما الذين ظهروا باليمن خاصة فأولهم: الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين القاسم بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم الغمر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. مولده ب " الرس " سنة خمس وأربعين ومائتين.
قيامه في صعدة من بلاد اليمن سنة ثمانين ومائتين.
وقال في تاريخ الخزرجي: قام سنة أربع وثمانين، ودخل صنعاء في المحرم سنة، وثمانين ومائتين في خلافة المعتضد العباسي.
فاجتمعت همدان وغيرها من قبائل العرب فأخرجوه من صنعاء ثم رجع إلى صعدة وأخذها.
وكان في زمنه قد تغلب علي بن الفضل القرمطي الحميري - ينتهي نسبه إلى سبأ الأصغر - على اليمن في سنة ثلاث وستين ومائتين، فسار على المذكور بسيرة شنيعة، وأعلن بالكفر والفجور، وقهر العالم، وأمرهم بارتكاب كل محرم محذور.
كان عنوان كتبه إذا أرسل إلى أحد من الملوك: من باسط الأرض وداحيها ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده فلان.
وكان مؤذنه يؤذن في حضرته؛ وأشهد أن علي بن الفضل رسول الله.
من شعره ما أنشده الخبيث على منبر جامع صنعاء قوله من المتقارب:
خُذي الدف ياً هذه واضرِبِي ... وغَنَّى هَزَاريكِ ثُم اطْربِي
تولى نَبِي بَنِي هَاشِم ... وَهَذاً نبيُ بَنِي يَعْرُبِ
لكُل نَبِي مَضَى شِرعَةً ... وهَاتَان شرعَةُ هَذاً النَبِي
فقَدْ حَط عَنا فُرُوضَ الصلاَةِ ... وَفَرضَ الصيامِ وَلَمْ يُعْقِبِ
إذاً الناسُ صَلوا فَلاَ تَنهَضِ ... وِإنْ صَومُوا فَكُلِي واشْرَبِي
ولاَ تَطلُبِي السعْيَ عِندَ الصفَا ... وَلاَ زَورَةَ القَبْرِ في يَثْرِبِ
وهذا كاف في بيان مزيد كفره، فحاربه الإمام الهادي المذكور إلى أن مات بصعدة مسموماً سنة ثمان وتسعين ومائتين في خلافة المقتدر بالله العباسي.
ثم قام ولده المرتضى محمد بن الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم في بلاد صعدة في مكان أبيه زمن المقتدر العباسي أيضاً فأقام سنة واحدة، ثم تنحى عن الإمامة، فطلب الفقهاء الزيدية أخاه أحمد بن الهادي يحى بن الحسين بن القاسم طلبوه من الرس، ثم توفي محمد سنة عشر وثلاثمائة وعمره اثنان وثلاثون سنة.
ثم قام أخوه الناصر لدين الله أحمد بن الهادي يحيى بعد أن دعاه فقهاء الزيدية من الرس كما ذكر.
وكان قيامه في خلافة المقتدر أيضاً سنة إحدى وثلاثمائة.
ووفاته فيها بصعدة سنة خمس عشرة وثلاثمائة.
ثم قام ولده المنصور يحيى بن أحمد الناصر بن الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم، وكان مقره صعدة إلى أن توفي سنة ست وسبعين وثلاثمائة.
ثم قام أخوه المختار القاسم بن أحمد الناصر بن الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم.
كان قيامه في صعدة وقتله في زبيد.
ثم قام ولده المنتصر محمد بن القاسم بن أحمد الناصر، وأكثر وقائعه مع همدان، وهي قبيلة كبيرة باليمن.
ثم قام الداعي يوسف بن المنصور يحيى بن أحمد الناصر بن الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم، فعانده فقهاء مذهبه وأرسلوا الإمام القاسم العياني وتعارضا. كان قيامه سنة ثمان وستين وثلاثمائة في خلافة الطائع لله العباسي. مدته خمس وثلاثون سنة.
ثم قام المنصور العياني بن علي بن عبد الله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم طباطبا.
ولما كان في بيشة من بلاد رفيدة فراسله فقهاء الزيدية، فطلع إلى صعدة ثم تقدم إلى صنعاء فضبطها.
وتعاقد الإمام يوسف الداعي في مدة العياني.
وكان قيام العياني سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، ووفاته سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وقبره في بلدة يقال لها " العيَّان في طريق صعدة من صنعاء.
ثم قام ولده الحسين بن القاسم العياني، وكان له وقائع مع همدان.
وكان قيامه سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة.
وقتل في ريدة من البون سنة أربع وأربعمائة.
وخلف الحسين المذكور ابن أخيه ويسمى الفاضل، وهو القاسم بن جعفر بن القاسم بن علي العياني، وكان بينه وبين الصليحي وقعات، ولم يكن إماماً.(2/373)
ثم قام الإمام أبو هاشم الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين ابن القاسم بن إبراهيم طباطبا.
وكان قيامه في قرية الناعط فوق، البون ودخل صنعاء.
قيامه سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، ومات بقرية الناعط.
ثم قام الناصر الديلمي، وهو: أبو الفتح الناصر بن الحسن بن محمد بن عيسى ابن محمد بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، دعا في الديلم ثم خرج إلى أرض اليمن فاستولى على كثير من البلاد مذحج وهمدان وخولان، وكان وصوله من الديلم في سني الثلاثين وأربعمائة، وكانت الحرب تدور بينه وبين الصليحي، فقتله الصليحي بنجد الحاج.
وقبره بردمان من بلاد عنس قبل سنة أربع وأربعين وأربعمائة.
ثم قام علي بن زيد بن إبراهيم المليح بن المنتصر بن محمد المختار قاسم بن الناصر بن الهادي يحيى.
وتقدم إلى شظب لحرب بني الصليحي، فقتل في شظب سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة.
ثم قام أحمد بن سليمان بن محمد بن المطهر بن علي بن الناصر بن الهادي يحيى، وولى صعدة ونجران والجوف وصنعاء، وقصد زبيد فرجع بغير حصول مرامه في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة.
مات بحيدان من مغارب صعدة وعمره ست وستون سنة.
ثم قام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان بن حمزة بن علي بن حمزة بن أبي هاشم الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم طباطبا فملك صعدة وتقدم إلى صنعاء، وكان يقف في كوكبان بعد ما أخرجوه من صنعاء، ثم خلطوا عليه فمات فيها.
قيامه سنة أربع وتسعين وخمسمائة، ووفاته سنة أربع عشرة وستمائة.
ثم قام الداعي يحيى بن المحسن بن محفوظ بن محمد بن يحيى بن يحيى بن الناصر بن الحسن بن عبد الله بن المنتصر محمد بن المختار قاسم بن الناصر أحمد ابن الهادي، قام في بلاد خولان وصعدة.
وفي مدينة صعدة ولد المنصور محمد بن المنصور، فحارب الداعي، مات سنة ست وثلاثين وستمائة.
ثم قام المهدي أحمد بن الحسين بن القاسم بن عبد الله بن القاسم بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن القاسم بن إبراهيم طباطبا، قام في حصن ثلا فحاربه ولده المنصور، ثم اتفقا، ثم تعاديا فتحاربا فقتل الإمام.
وكان قيامه في صفر سنة ست وخمسين وستمائة، وكانت هذه السنة هي انتهاء دولة بني العباس بالعراق؛ لأنها هي السنة التي قتل التتار فيها الخليفة المستعصم العباسي كما قدمت ذلك مستوفي في بابهم.
ثم قام المنصور بدر الدين محمد بن أحمد بن يحيى السابق ذكره، فقام من هجرة قطابر وملك مغارب صعدة.
وكان بينه وبين أولاد المنصور محاربات. فقتل سنة ست وخمسين وستمائة.
ثم قام المهدي بن إبراهيم بن تاج الدين أحمد بن بدر الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى. قيامه سنة سبعين وستمائة.
أسره فحبسه الملك المظفر الغساني في سنة أربع وسبعين وستمائة، ومات في الحبس سنة ثمانين وستمائة.
ثم قام المتوكل المطهر بن يحيى بن المرتضى بن القاسم بن المطهر بن محمد بن المطهر بن علي بن أحمد بن الهادي.
قيامه سنة ست وسبعين. ومات سنة سبع وثمانين وستمائة.
ثم قام ولده المهدي بن محمد بن محمد بن المطهر بن يحيى بن المرتضى بن القاسم.
قيامه سنة إحدى وسبعمائة. مات سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
ثم قام السراجي يحيى بن أحمد بن محمد بن عبيد الله بن سراج الدين الحسن بن محمد بن عبد الله بن سراج الدين الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن محمد بن جعفر بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
ثم قام المؤيد يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم بن يوسف بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن إدريس بن جعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم بن جعفر بن محمد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
قيامه سنة تسع وعشرين وسبعمائة. مات سنة تسع وستين وسبجمائة. عمره ثمانون سنة.
ثم قام بعده علي بن صلاح بن إبراهيم بن تاج الدين أحمد بن بدر الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى ثم قام بعده الواثق المطهر بن محمد بن المطهر بن يحيى ابن المرتضى بن القاسم بن المطهر بن محمد بن المطهر من أولاد سابق الذكر.(2/374)
ثم قام أحمد بن علي بن مدافع بن محمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين الديلمي. سبق ذكر نسبه.
ثم قام المهدي علي بن محمد بن علي بن يحيى بن منصور بن مفضل بن الحجاج بن عبد الله بن علي بن يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب.
قيامه سنة خمس وخمسين وسبعمائة. وفاته سنة أربع وسبعين وسبعمائة. عمره تسع وستون سنة.
ثم قام من بعده ولده الناصر صلاح الدين بن المهدي بن علي بن محمد بن علي.
قيامه سنة أربع وسبعين وسبعمائة. وفاته سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة.
ثم قام من بعده المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى بن أحمد بن المرتضى بن فضل بن الحجاج.
قيامه سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة. وفاته سنة أربعين وثمانمائة.
ثم قام من بعده الهادي علي بن المؤيد بن جبريل بن المؤيد بن أحمد بن يحيى بن حمد بن يحيى بن يحيى سنة ست وتسعين وسبعمائة. وفاته سنة ست و ثمانين ثمانمائة.
ثم قام من بعده المطهر بن محمد بن حمزة بن أبي هاشم الحسن بن عبد الرحمن ابن يحيى بن عبد الله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل.
ثم قام من بعده صلاح بن علي بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد بن الحسن بن جعفربن الحسين بن أحمد بن يحيى بن عبد الله بن يحيى بن المنصور بن أحمد بن الناصر بن الهادي.
ثم قام الناصر بن محمد بن الناصر بن أحمد بن المطهر بن يحيى بن المرتضى بن المطهر بن القاسم بن المطهر بن محمد بن المطهر بن علي بن أحمد بن الهادي.
ثم قام الهادي عز الدين بن الحسن بن علي بن المؤيد بن جبريل بن المؤيد بن أحمد بن يحيى بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الناصر بن الحسن بن عبد الله بن محمد بن القاسم بن الناصر بن أحمد بن الهادي يحيى.
قيامه سنة ثمانين وثمانمائة. وفاته سنة تسع وعشرين وتسعمائة. عمره سبع وستون سنة.
ثم قام ولده مجد الدين بن الحسن بن الحسن بن عز الدين بن الحسن بن علي بن المؤيد. قيامه سنة تسع وعشرين وتسعمائة. وفاته سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة.
ثم قام الوشلي محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن علي بن أحمد بن يحسى بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن سراج الدين الحسن بن محمد بن عبد الله ابن الحسن بن علي بن محمد بن جعفر بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد الن الحسن بن علي بن أبي طالب.
ثم كانت دعوة الإمام شرف الدين يحيى بن شمس الدين ابن الإمام المهدي أحمد ابن يحيى بن المرتضى بن أحمد بن المرتضى بن المفضل بن الحجاج بن علي بن يحيى بن القاسم بن يوسف الداعي بن يحيى بن أحمد بن الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنهم - حادي عشر جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وتسعمائة، وكان أول ظهوره بجهات المغرب من جهات صنعاء، وما ساعدته القبائل لقوة سلطان اليمن إذ ذاك عامر بن عبد الوهاب.
فلما انقضت دولته باستيلاء الشراكسة، وتملكهم أرض اليمن كانت بصنعاء طائفة من الشراكسة فكاتب أهل صنعاء الإمام شرف الدين المذكور، وتكفلوا له بإدراك ذلك سنة أربع وعشرين وتسعمائة.
وفي شوال قصد صنعاء فلما وصل إليها مال إليه أهلها، وأخرج من كان فيها من الجند المصري بالأمان، ودخل صنعاء، ودانت له البلاد إلى أن كانت وفاته سنة خمس رستين وتسعمائة في دولة السلطان سليمان خان بن سليم خان.
ثم قام الهادي أحمد بن عز الدين بن الحسن بن عز الدين بن الحسن بن علي بن المؤيد. قيامه سنة ثمان وخمسين وتسعمائة، ووفاته سنة سبع وثمانين وتسعمائة. ثم قام الناصر الحسن بن علي بن داود بن الحسن بن علي بن المؤيد.
قيامه سنة ست وثمانين وتسعمائة.
ثم قبض عليه الوزير حسن باشا سنة ثلاث وتسعين وتسعمانة وأرسله إلى الأبواب العالية سنة أربع وتسعين وتسعمائة.
ثم قام المتوكل عبد الله بن علي بن الحسين بن عز الدين بن الحسن بن علي بن المؤيد. قيامه سنة أربع وتسعين وتسعمائة. وفاته سنة سبع عشرة وألف.(2/375)
ثم قام المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن الرشيد بن أحمد بن الحسين بن علي بن يحيى بن محمد بن يوسف الأشل بن القاسم بن محمد بن يوسف الأكبر بن المنصور بن يحيى بن الناصر بن أحمد بن الهادي إلى الحق يحيى ابن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
نشأ منشأ ابائه الأئمة حتى بذ بعلمه وبهر بجودة فهمه، وصار في أيام طلبه يشار إليه، مقصورة خلال الخلافة عليه. كانت دعوته في صفر الخير سنة ست وألف. وله وقائع في أيامه مشهورة، ومواطن معروفة مأثورة. كان آية في العلوم، ومعجزة في المنطوق والمفهوم.
له التصانيف المشهورة، والنظم والنثر. وكان محط رحال الأفاضل، ومقصد الأكابر من كل قنة وساحل.
ولم يزل قائماً بأعباء الخلافة حتى توفاه الله تعالى في شهر ربيع الأول عام تسع وعشرين وألف.
ثم قام من بعده ولده الإمام العظيم المؤيد بالله محمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد، وظهرت فضائله في البلاد، وأذعن لفضله الحاضر والباد، وأوتي من الإحاطة بالعلوم، وصدق الفراسة، وتنوير القلب، وصفاء الخاطر، ما لم يؤت غيره، وأقبلت عليه الفتوحات من كل وجهة، وقام بنصرته أخواه السيدان الإمامان الحسن والحسين وأخوهما شمس الإسلام أبو طالب ابن الإمام المنصور. وفي سنة خمس وأربعين وألف استولى الإمام المؤيد المذكور على جميع إقليم اليمن ما عدا زبيد والمخا، وذلك أن الباشا قانصوه لما توجه إلى اليمن عام تسع وثلاثين بعد أن قتل الشريف أحمد بن عبد المطلب وولي مسعود بن إدريس صار كلما دخل قرية ظلم أهلها ونهبهم أرسل إلى عابدين باشا، وخنقه واستولى على خزائنه، وعساكره، ونهب البلد، ونهب من يرد إليه من البنادر، وأرسل أغربة في البحر يأخذون من ظفروا به، واغتصب أماكن مأثورة وعمرها بزخارف في الصورة، فآلت أمواله إلى يد العدى " ولايَظلِمُ رَبُّكَ أحدا " الكهف: 49. والتقى عسكره مع عسكر الإمام المؤيد محمد بن القاسم صاحب الترجمة، وعليهم أخوه الإمام الحسين بن القاسم، وكمنوا له ثم هجموا عليهم، وهم غارون، فقتلوا من عسكر قانصوه أكثرهم، ولم ينج منهم إلا القليل، وتحصن هو ومن بقي بزبيد، فتنزل عليه أخوه الآخر الإمام الحسن بعساكر كثيرة، وحاصروا زبيد، وأنفق قانصوه ما حازه من الأموال على عسكره، ثم صاروا يهددونه، ويعزرونه لضيق أرزاقهم، فتعب لذلك وكاتب الإمام الحسن على أن يصل إليه آمناً، فأرسل الحسن له بالأمان، فركب هو وخواصه وأظهر أنه يريد زيارة بعض الأولياء وهرب إلى محطة الإمام الحسن فأكرمه وجهزه إلى مكة. فرجع راضياً من الغنيمة بالإياب لا يملك إلا ما عليه من الثياب، فوصل إليها في دولة مولانا المرحوم الشريف زيد بن محسن ومعه من أتباعه دون العشرين، ونزل بحوش السلطان في الكوشك المطل على البركة المعروفة ببركة الشامي، فحصل من أتباعه نوع تَعدٍ إلى بعض الرعايا فألزمه مولانا الشريف زيد بالرحيل من يومه، وأحضر له الرحلة، فلم تغرب عليه شمس ذلك اليوم في مكة، ولما تحقق عسكره فراره عنهم بتلك الحيلة أقاموا عليهم أميراً منهم يقال له مصطفى فضبط زبيد، واستمر محاصراً فوق سنتين منتظراً المدد يأتيه من مصر فلم يصل إليه شيء، ولما سئم طلب الأمان فأعطاه الإمام الأمان وجهزه بعشرين ألف قرش، فخرج إلى مكة سنة تسع وأربعين وألف ومعه المحمل اليماني السلطاني، ووضع بالقبة المبنية في محل سقاية العباس بالمسجد الحرام.
قلت: قد رأيته كثيراً ملقى في القبة المذكورة عام سبع وستين وألف، وهو أكبر من المحمل المصري شكلاً. ومن عامئذ استبدت الأئمة الزيدية بالممالك اليمنية، وقضت ما في نفسها من الأمنية، فهم حتى اليوم ولاتها حزناً وسهلاً، ورؤساؤها فتي وكهلاً. وأخرجوا جميع الأروام منها، وكفوا أكف المتغلبين عنها، بعد أن قتلوهم القتل الذريع. وتركوهم بين سليب وصريع.
وفي سنة ثمان وأربعين كانت وفاة أخيه السيد الحسن ابن الإمام القاسم وهو والد أحمد بن الحسن.
وكان أخوه الإمام محمد المؤيد صاحب الترجمة يقدمه على العساكر في الحروب كلها رحمه الله، واستمر الإمام المؤيد إلى أن حانت وفاته وانقضت أوقاته في سابع عشري رجب الفرد سنة أربع وخمسين وألف.(2/376)
ثم قام من بعده أخوه الإمام الشهير المتوكل على الله إسماعيل ابن الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن الرشيد بن أحمد.
وقد تقدم بقية نسبه إلى علي بن أبي طالب في ترجمة والده المنصور بالله القاسم. كانت له الكرامات الظاهرة، والمفاخر السائرة، مع الإحاطة بجميع العلوم.
وأقبلت الفتوحات إليه من كل أوب، وجاءت إليه الوفود من كل أرض وصوب.
أرخ ابتداء دعوته السيد ناصر بن عبد الحفيظ بن عبد الله المهلا فقال من الخفيف:
وتَوَكل عَلَى العَزِيزِ الرحِيمِ ... عَزَّ تاريخُ دَعْوَةِ من كَريمِ
آية يُعرَفُ التوَكلُ مِنهَا ... مَعَهُ العِز للإمامِ الكريمِ
وأرخه أيضاً نثراً فجاء التاريخ " توكلت على الله وحده أبداً " .
وفي سنة ست وخمسين: جهز ابن أخيه أحمد بن الحسن إلى حضرموت، فوصل إلى الجوف، واستولى عليه الخوف، فرجع مكسوراً، وفي سنة ثمان وخمسين: استولى بدر بن عبد الله الكثيري على حضرموت وقبض على عمه السلطان بدر بن علي، وسببه أنه ظلم وتعدى الحدود، فأشار بعض السادة على بدر عبد الله بالقبض على عمه، فهجم عليه ليلاً وحبسه هو وأولاده.
وفي سنة خمس وستين جهز الإمام إسماعيل ابن أخيه الإمام أحمد بن الحسن على حضرموت ونواحيها لكونهم لم يخطبوا له، فالتقى هو والأمير حسين الرصاص لكون بلده أقرب البلدان إلى دولة الإمام إسماعيل وحصل منهم قتال، فلما عجز الإمام أحمد بن الحسن أرسل إلى قبيلة يافع - وهم قبائل كثيرون - بالأموال خفية وطلب منهم أن يكونوا معه على الرصاص ووعدهم بأشياء كثيرة فاغتروا بكلامه، وتجهزوا على الرصاص، وأتوه على غرة، وبقي الرصاص بين الإمام أحمد، وبين قبائل يافع، فأبلى بلاء شديداً حتى قتل شهيداً وتولى أخوه، وأرسل أحمد بن الحسن يرهبه، ويرغبه، والتزم له بجميع ما يطلبه، فطلب أشياء كثيرة فوفي له الإمام أحمد بها وملك البلاد.
وقبيلة الرصاص مشهورة بالشجاعة والكرم والصدق ولذلك كانوا مجللين محترمين، واستولى الزيدية على غالب حضرموت. ثم في سنة سبعين استولى على حضرموت كلها وأمرهم أن يزيدوا في الأذان " حي على خير العمل " وترك الترضي عن الشيخين، ومنع الدفوف واليراع في راتب السقاف. وانتهت دولة آل كثير من تلك الديار وقد انتهى صعود شرف آل كثير بالسلطان عبد الله بن عمر، وفي المثل: إذا تم شيء بدأ نقصه؛ فإنه لما خلع نفسه لعبادة ربه عن الملك الفاني، وصار إبراهيم بن أدهم ثاني، وتولى أخوه بدر الدين بن عمر، وفي آخر دولته ظلم وطغى، فهجم عليه ابن أخيه بدر الدين بن عبد الله وحبسه فدانت له العباد، وعمرت به البلاد إلى أن ظلم بالعدوان وصادر السادة والأعيان، ففوقوا إليه سهام الدعاء، فقدر الله أن كتب عمه المحبوس بدر بن عمر وهو بالحبس إلى الإمام إسماعيل وهون له أمر حضرموت، فكتب الإمام إسماعيل إلى السلطان بدر بن عبد الله لإخراج عمه بدر بن عمر من الحبس فأخرجه، ثم اتصل بالإمام وطلب منه التجهيز على حضرموت وتكفل له بأشياء وساعده على ذلك الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن العمودي شيخ العموديين وكان والده على أكثر وادي دوعن، فكاتبوا مشايخ العرب وأرسلوا لهم بالأموال، وصار إليه أحمد بن الحسن، فلما التقى الجيشان، انكسر جيش السلطان بدر، ولم يقاتل معه إلا خواصه، ثم انهزم منكسراً وولى مدبراً إلى جبل أخواله فطلب الأمان لنفسه فأعطيه. ولما لم يطب لأحمد بن الحسن المقام بحضرموت أقام بها بدر بن عمر الكثيري ورجع إلى عمه الإمام إسماعيل صاحب الترجمة. ثم لم يزل الإمام إسماعيل قائماً بأعباء الإمامة الكبرى إلى أن توفاه الله تعالى إلى رحمته سنة 87 سبع وثمانين.
ثم قام بعده ابن أخيه الإمام الشهير أحمد بن الحسن ابن الإمام القاسم ولقب المهدي لدين الله، فقام بأمر الخلافة أحسن قيام. وانتظم به الأمر أتم نظام.
وكانت حضرته محط رحال العلماء الأعلام. وفي أثناء دعوته دعا ابن عمه مولانا علم الإسلام وإمام علماء الآل الكرام القاسم ابن الإمام المؤيد بالله، وخطب له على سابر الشرفين والأهنوم وشهارة وظليمة ولحج وأكثر التهائم، وبعد أمور كثيرة يطول شرحها حصل الاتفاق على إمامة المهدي لدين الله هذا.(2/377)
وهو - أيده الله - من أعيان العترة كرماً وشجاعة وتفقداً للمساكين وتعظيماً للعلماء، ومستقره شهادة المحروسة، واستمر إلى أن كانت وفاته في شهر جمادى الأخرى سنة اثنتين وتسعين وألف.
ثم قام من بعده الإمام العظيم المؤيد بالله رب العالمين محمد الملقب بالعزي ابن أمير المؤمنين المتوكل على الله إسماعيل بن المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي ابن محمد بن الرشيد، اتفق على خلافته رأى علماء العصر، وفضلاء الدهر، وغمر الناس برد ظل عدله، وسار سيرة الأئمة الهادين، وأمر بإحياء العلوم والمدارس، مقرباً للعلماء، متعهداً لأحوال الفضلاء، مؤدياً لحقوق الضعفاء. متبعاً في أمره ونهيه لكتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقام من إخوته وبني عمه بنصرته عظماء كالإمام القاسم ابن الإمام المؤيد بالله، وكأخويه الحسن ابن الإمام المتوكل وعلى ابن الإمام المتوكل، ومن بني عمه السيدان العظيمان جمال الإسلام محمد ابن الإمام أحمد المهدي وشرف الإسلام الحسين ابن الإمام المهدي أيدهما الله تعالى، واستمر على سرير الخلافة، وما استطاع أحد خلافه، إلى أن ورد إلينا خبر وفاته أواسط سنة 1097 سبع وتسعين وألف.
ثم كثر الشجار في كل ناحية، وطلبها عمة أشخاص في أماكن متناحية، ووقعت حروب وأهوال، وفنيت أموال وأبطال، حتى استقر عمود رحاها، وأسفر بدر ديجور رجاها، عن جمال وجودها الأمجد أمير المؤمنين الناصر لدين الله محمد بن أحمد، فهو الآن الخليفة بهذا الزمن، في هذا القطر الشريف أعني قطر اليمن " إنَّ اَلأَرضَ للهِ يوُرِثُها مَن يشاء مِن عِبَادِه وَالعَاقِبَةُ لِلمُتقِين " الأعراف:128: من مجزوء الرجز:
سِلسلَة مِنْ ذَهَبِ ... مَنُوطَة بِالشُهُبِ
أكْرِمْ بِهاً سِلسِلَةً ... بَيْنَ وَصِي ونَبِي
قَدْ صَانَهاً رَبُّ السمَا ... مِنْ شَائِبَاتِ النسَبِ
وصلى الله على من لا نبي بعده خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الهداة المهتدين.
الباب الثالث من خاتمة الخير:
في ذكر من ولي مكة المشرفة من آل أبي طالب
إلى يوم تاريخه ولمع من أخبارهم، ونوادر حوادث أيامهم:
مكة زادها الله شرفاً، أشهر من أن تعرَف أو أن يصفها واصف، ألا أنها انقرض سكانها من قريش بعد المائة الثانية بالفتن الواقعة بالحجاز من العلوية مرة بعد أخرى، فأقفرت من قريش ولم يبق بها ألا أتباع بني حسن أخلاط من الناس، ومعظمهم موالي سود من الحبشة والزيلع.
وكان أول من وليها بعد الفتح المحمدي عتاب بن أسيد باستخلاف محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، حين عزمه إلى غزوة حنين عام ثمان من الهجرة. والخلفاء الأربعة، ثم خلفاء بني أمية وعمالهم، ثم خلفاء بني العباس، وتعداد عمالهم فرداً فرداً مبسوط في التواريخ لا حاجة بنا إليه، وكان في خلال ذلك يتغلب بعض الطالبيين والعلويين عليها.
فأول من وليها منهم بالتغلب محمد بن الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عاملاً عليها، ومؤمرّاً من جهة محمد المهدي الملقب بالنفس الزكية ابن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب، فإنه لما تغلب على المدينة الشريفة سنة خمس وأربعين ومائة في دولة المنصور العباسي، أمر على مكة محمد بن الحسن هذا وسيره إليها.
فخرج إليه السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس بن عبد المطلب أمير مكة من جهة المنصور، فتحاربا بأذاخر فهزم السري، ودخل محمد مكة، فأقام بها يسيراً، فأتاه كتاب محمد النفس الزكية يخبره بمسير عيسى بن موسى لمحاربته، ويأمره بالمسير إليه، فسار محمد بن الحسن إليه من مكة، هو والقاسم بن إسحاق فبلغه وهو سائر بنواحي قديد قتل النفس الزكية فهرب هو وأصحابه وتفرقوا، فلحق محمد بن الحسن لإبراهيم بن عبد الله المحض حتى قتل إبراهيم.
ذكر هذا ابن الأثير، ورجع السري إلى ولاية مكة.
ثم وليها كذلك بالتغلب سنة 169 تسع وستين ومائة في دولة الهادي بن الرشيد الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط.
وقد تقدم خبره في الباب قبل هذا عند ذكر الدعاة.(2/378)
ثم وليها كذلك بالتغلب الحسين بن الحسن الأفطس بن علي الأصغر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب - وهو المعروف بالأفطس - وذلك في خلافة المأمون سنة 199 تسع وتسعين ومائة، وسببه أن أبا السرايا السري بن منصور الشيباني داعية ابن طباطبا لما تغلب على العراق ولي مكة الحسين بن الحسن الأفطس هذا، فسار إلى أن وصل وادي سرف المعروف في وقتنا اليوم بالنوارية على نصف مرحلة من مكة فتوقف عن الدخول إلى مكة خشية من أميرها من جهة المأمون، وهو داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فلما بلغ داود توجيه أبي السرايا للحسين الأفطس فارق مكة هو ومن بها من شيعة بني العباس.
فلما بلغ الحسين خروج داود دخلها ليلة عرفة فطاف وسعى، ثم مشى إلى عرفة فوقف ليلاً، ثم دفع إلى المزدلفة فصلى بالناس الصبح، ثم دفع إلى منى، فلما انقضى الحج عاد إلى مكة.
فلما كان مستهل محرم الحرام افتتاح سنة 200 مائتين نزع الحسين المذكور كسوة الكعبة التي كانت عليها من قبل المأمون ثم كساها كسوتين أنفذهما معه أبو السرايا من قز إحداهما صفراء والأخرى بيضاء، ثم عمد الأفطس إلى خزانة الكعبة، فأخذ جميع ما فيها من الأموال فقسمها مع كسوة الكعبة على أصحابه، وهرب الناس من مكة؛ لأنه كان يأخذ أموالهم ويزعم أنها ودائع لبني العباس عندهم ولما هرب الناس هدم دورهم، فكرهه الناس لظلمه، وطغى أصحابه وبغوا، وقلعوا شبابيك البيوت الحديد التي على المسجد وباعوها حتى قلعوا شبابيك زمزم، ولم يزل كذلك على ظلمه إلى أن بلغه قتل مرسله أبي السرايا سنة مائتين، فلما علم بذلك ورأى الناس قد تغيروا عليه لما فعله معهم من القبيح واستباحة الأموال، جاء هو وأصحابه إلى محمد بن جعفر الصادق الملقب بالديباجة لجمال وجهه وسألوه المبايعة له بالخلافة فكره ذلك، فاستعان الأفطس عليه بولده علي بن محمد بن جعفر الصادق ولم يزالوا به حتى بايعوه بالخلافة، وذلك في ربيع الأول سنة مائتين، جمعوا الناس على بيعة محمد طوعاً وكرهاً، وبقي أشهراً وليس له من الأمر شيء، وإنما ذلك للأفطس ولابنه علي بن محمد وهما على أقبح سيرة مع الناس، ووثب الأفطس على امرأة جميلة فانتزعها قهراً من زوجها، وعلي بن محمد أخذ ابن قاضي مكة وحجزه عنده.
فلما رأى الناس ذلك اجتمعوا بالمسجد الحرام، وقالوا لمحمد بن جعفر إن لم تحضر المرأة والصبي خلعناك، فأغلق بابه خوفاً من العامة وكلمهم من الشباك، ثم طلب الأمان ليخرج يخلصهما، فأعطى فخرج وخلص الصبي من ابنه علي، والمرأة من الأفطس. كذا ذكره الأزرقي.
قلت: عندي في صحة هذين الأخذين نظر، خصوصاً أخذ ابن الديباجة ابن قاضي مكة، فالنفس أبته كل الإباء، والله أعلم.
فلم تكن ألا مدة يسيرة حتى قدم إسحاق بن موسى العباسي من اليمن فاراً من إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، فنزل بالمشاش، واجتمع إليه جماعة من أهل مكة هربوا من العلويين، واجتمع الطالبيون إلى محمد بن جعفر المذكور، وجمع الناس من الأعراب وغيرهم وحفروا خندقاً وقابلهم إسحاق، ثم كره القتال، فسار إلى نحو العراق فلقيه جند أنفذهم هرثمة بن أعين قائد المأمون، وكان فيهم الجلودي وورقاء بن جميل فقالا لإسحاق: ارجع معنا ونحن نكفيك القتال، فرجع معهما، ولقيهم محمد بن جعفر والطالبيون ببئر ميمونة، وقد انضم إلى محمد غوغاء مكة وسواد البادية، فلما التقى الفريقان قتل جماعة ثم تحاجزوا ثم التقوا من الغد، فانهزم محمد والطالبيون ومن معهم، ثم طلب محمد الأمان من الجلودي وألا أجلة ثلاثة أيام، فآمنه وأجله، ثم خرج من مكة، ودخل الجلودي مكة بالجيش في جمادى الآخرة من السنة المذكورة أعني سنة 200 مائتين.(2/379)
وتوجه الديباجة إلى بلاد جهينة فجمع منها جيشاً وسار إلى المدينة، وقاتل واليها من جهة المأمون وهو هارون بن المسيب، فانهزم الديباجة أيضاً، وفقئت عينه بنشابة، وقتل من عسكره خلق كثير، ثم عاد إلى مكة وطلب الأمان من الجلودي، فآمنه فدخل مكة في أواخر ذي الحجة من السنة المذكورة فأصعده الجلودي المنبر، والجلودي فوقه بمرقاتين عليه قباء أسود، فاعتذر محمد بأنه إنما وافق على المبايعة؛ لأنه بلغه موت المأمون، ثم قدم على المأمون بمرو واعتذر واستعفى، فقبل عذره وعفا عنه وأكرمه، فلم يلبث قليلاً حتى مات فجأة بجرجان، فصلى عليه المأمون، ونزل في لحده وقال: هذه رحم قطعت مذ سنين.
وكان موته في شعبان سنة ثلاث ومائتين. وسبب موته على ما قيل أنه جامع وافتصد ودخل الحمام في يوم واحد.
وفي موسم سنة 202 اثنتين ومائتين وليها كذلك بالتغلب إبراهيم بن موسى الكاظم ابن جعفر، جاء إليها من اليمن وعليها إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي، فلما سمع بوصوله خندق عليها وبنى سوراً على الجبال دائراً بالبنيان.
وكان في السنة التي قبلها سنة إحدى ومائتين وصل إلى مكة صنم من ذهب على صورة إنسان لملك من ملوك الهند، أرسل به إلى الكعبة، وعلى رأس الصنم تاج مكلل بالجوهر والياقوت والزبرجد، والصنم جالس على سرير من فضة وعلى السرير أنواع الفرش من الحرير والديباج، فوضع السرير عليه الصنم في وسط المسعى ثلاثة أيام ومعه معرِّف لمن كان له هذا الصنم وأنه أسلم وأرسل به هدية للكعبة فاحمدوا الله تعالى أن هداه للإسلام. ثم أخذ أمير مكة العباسي المذكور ذلك الصنم من الحجبة قهراً وضربه دنانير وأنفقها على العسكر، وحارب إبراهيم بن موسى فكسر الأمير وهرب ودخل إبراهيم بن موسى مكة.
ثم وليها في سنة خمسين ومائتين في خلافة المستعين بالتغلب أيضاً إسماعيل بن يوسف الأخيصر بن إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فهرب منها عامل المستعين، وهو جعفر بن الفضل ابن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس المعروف بشاشات، قتل إسماعيل الجند الذين بمكة وجماعة من أهلها.
ونهب منزل جعفر شاشات وغيره وأخذ من الناس نحو مائتي ألف دينار، وعمد إلى الكعبة الشريفة فأخذ كسوتها، وما جدد في خزانتها من الأموال، وما كان أعد من المال لإصلاح العين، ونهب مكة وأحرق بعضها، ثم خرج منها بعد مقامه بها خمسين يوماً في شهر ربيع الأول، وقصد المدينة الشريفة فتوارى عنه عاملها فظلم أهلها، وأخرب دورهم، وعطلت الجماعة من مسجده عليه الصلاة والسلام أكثر من نصف شهر، ثم رجع إلى مكة فحصر أهلها حتى ماتوا جوعاً وعطشاً وبلغ الخبز ثلاث أواق بدرهم واللحم رطل بدرهم والشربة الماء بثلاثة دراهم، ولقى أهل مكة منه بلاءً شديداً.
ثم سار إلى جدة فحبس عن الناس الطعام وأخذ أموال التجار وأصحاب المراكب، ووافى الموقف والناس بعرفات فقتل من الحجاج نحواً من ألف ومائة نفس فهرب الحجاج ولم يقف بعرفة أحد ليلاً ولا نهاراً سوى إسماعيل وعسكره، ثم بعد انفصاله من عرفة رجع إلى جدة ثانياً وأفنى أموالها وفعل أموراً قبيحة لا حاجة بنا إلى ذكرها. كذا ذكره العلامة ابن جار الله، وقبله التقى الفاسي في تاريخه شفاء الغرام. انتهى.
قلت: لا يظن ظان أن صدور هذا الفعل وشبهه من مثل هؤلاء السادة لنقص في دينهم واختلال في يقينهم حاشا وكلا، وإنما ذاك والله أعلم مما جرَت إليه الحمية والأنفة والشهامة التي تناسب أقداسهم من استيلاء ولاة الجور على ما هم الأحقون به، فيقصدون بذلك ثلم وجوههم وتفريق جموعهم ما أمكن لتعديهم بأصل الدخول في الخلافة، ولم ينعقد إذ ذاك إجماع على حرمة الخروج على أئمة الجور، فقدى أفتى الإمام أبو حنيفة بجواز الخروج على أبي جعفر المنصور منهم، وكذلك الإمام مالك رحمهما الله تعالى، وإنما انعقد الإجماع على ذلك بعد زمنهم بكثير هذا ما ظهر لجامعه الفقير. على إني أعلم أن هذا الجواب ينسب إلى الإقناع، فلا يكن منك أيها الناقد لرأس الاعتراض إقناع.
ولم يزل العمال عليها من بني العباس وشيعتهم والخطبة بها لهم إلى أن اشتغلوا بالفتن أيام المستعين والمعتز وما بعدهما، فحدثت الرئاسة فيها لبني سليمان بن داود ابن الحسن المثنى بن الحسن السبط.
ذكر دولة السليمانيين(2/380)
ومنهم آل أبي الطيب:
قال ابن خلدون: وكان كبيرهم آخر المائة الثانية محمد بن سليمان، وليس هو سليمان بن داود بن الحسن المثنى؛ لأن ذاك ذكر ابن حزم أنه قام بالمدينة أيام المأمون وبين العصرين نحو مائة سنة فيبعد أن يكون محمد بن سليمان هذا هو محمد بن سليمان بن داود القائم بالمدينة، ألا أنه من ولده.
كان أول من خطب لنفسه منهم بالإمامة محمد بن سليمان سنة 301 إحدى وثلاثمائة أيام المقتدر العباسي وخلع طاعة العباسية وخطب في الموسم فقال: الحمد لله الذي أعاد الحق إلى نظامه، وأبرز زهر الإيمان من أكمامه، وكمل دعوة خير الرسل بأسباطه لا ببني أعمامه. صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين. وكف عنهم ببركته إساءة المعتدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم الدين. ثم أنشد: من المجتث:
لأَطلُبَنَّ بِسَيْفِي ... مَاكَاَن لِلحَقِّ دَينَا
وأَسْطُوَن بِقَوْمٍ ... بَغَوا وجَارُوا عَلينَا
يُهدُونَ كُل بَلاَءٍ ... مِنَ العِرَاقِ إِلَيْنَا
وكان يلقب بالزيدى نسبة إلى نحلته من مذهب الإمامية، وبقى ركب العراق يتعاهد مكة إلى أن اعترضه أبو طاهر القرمطي سنة ثنتى عشرة، وأسر أبا الهيجاء حمدان والد سيف الدولة وجماعة معه، وقتل الحجاج وترك النساء والأطفال بالقفر، فهلكوا وانقطع الحاج من العراق بسبب القرامطة.
ثم أنفذ المقتدر سنة سبع عشرة وثلاثمائة منصوراً الديلمي من مواليه فوافاه بمكة يوم التروية أبو طاهر القرمطي، فنهب الحاج، وقتلهم حتى في الكعبة والحرام، وطم بئر زمزم بالقتلى والحجاج يصيحون: كيف تقتل جيران الله ووفاده؟ فيقول: ليس بجار من خالف أوامر الله ونواهيه، ويتلو " إِنَماً جَزاءُ اَلذِّينَ يُحَارِبُونَ الله " المائدة: 33 الآية. وصعد على عتبة الكعبة يقول: من الرمل:
أَناً باللهِ وباللهِ آَنا ... يَخلُقُ الخلقَ وَأُفْنِيهِم أَنَا
وكان يخطب لعبيد الله المهدي جد الخلفاء العبيديين نسبة إلى عبيد الله المذكور صاحب إفريقية، ثم قلع الحجر الأسود وحمله إلى الأحساء وهي مستقر ملكه، والأحساء هذه بناها أبو طاهر بعد أن خرب جده مدينة البحرين، ولنذكرهما وإن كان ذكرهما اعتراضاً في البين.
أما البحرين: فإقليم واسع مسافة شهر على بحر فارس بين البصرة وعُمان، شرقيها بحر فارس، وغربيها متصل باليمامة، وشماليها بالبصرة، وجنوبيها عمان، كثيرة المياه ينبطونها على القامة والقامتين، كثيرة البقل والفواكه، مفرطة الحر، منهالة الكثبان، يغلب الرمل عليهم في مساكنهم.
وكانت في الجاهلية لعبد القيس وبكر بن وائل من ربيعة، وملكها الفرس، ثم صارت في صدر الإسلام لبني الجارود، ثم ملكها أبو سعيد القرمطي بعد حصار ثلاث سنين واستباحها قتلاً وإحراقاً وتخريباً.
ثم بنى أبو طاهر القرمطي مدينة الأحساء، وتوالت دولة القرامطة فيها وهم أخلاط من الفرس، وبنى تغلب، وبنى عقيل، وبنى سليم. وكان بناؤها في المائة الثالثة، وسميت بهذا الاسم - يعنى الأحساء - لكثرة أحساء المياه في الرمال بها ومراعي لإبل، وكانت للقرامطة بها دولة، وجالوا في الأقطار والشام والعراق ومصر والحجاز، وملكوا الشام وعمان.
ثم انقضت دولة القرامطة وغلبت على البحرين وما والاها بنو عامر بن عقيل، ابن خلدون قال ابن سعيد: والملك الآن منهم في بني عصفور.
ئم رجع: وقلع باب البيت وحمله، وأطلع رجلاً لقلع الميزاب فسقط ومات.
فقال: اتركوه فإنه محروس حتى يأتى صاحبه - يعني المهدي المنتظر - فلما بلغ عبيد الله المهدي ما فعله كتب إليه ما نصه: والعجب من كتبك إلينا ممتناً علينا بما ارتكبته واجترمته باسمنا من حرم الله وجيرانه بالأماكن التي لم تزل الجاهلية تحرم إراقة الدماء فيها وإهانة أهلها، ثم تعديت ذلك فقلعت الحجر الذي هو يمين الله في أرضه يصافح بها عباده وحملته إلى أرضك ورجوت أن نشكرك، فلعنك الله ثم لعنك، ثم لعنك، السلام على من سلم المسلمون من لسانه ويده، وفعل في يومه ما عمل فيه حساب غده.
فانحرفت القرامطة عن طاعة العبيديين لذلك.
ثم قتل المقتدر على يد مؤنس سنة عشرين وثلاثمائة وولي أخوه القاهر.(2/381)
وانقطع الحاج من العراق بعد هذه السنة إلى أن كاتب أبو علي عمر بن يحيى الفاطمى سنة 27 سبع وعشرين من العراق أبا طاهر القرمطي، فأطلق السبل للحاج على مكس أخذه منهم. وكان أبو طاهر يعظمه لدينه ويؤمله. فأجابه إلى ذلك وأخذ المكس من الحاج ولم يعهد مثله في الإسلام.
وخطب في هذه السنة بمكة للراضي بن المقتدر، وفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة لأخيه المتقي من بعده، ولم يصل ركب العراق في هذه السنة من القرامطة.
ثم ولي المستكفي سنة 333 ثلاث وثلاثين وثلاثمائة على يد توزون أمير الأمراء ببغداد فخرج الحاج في هذه السنة بمهادنة القرامطة بعهد أبي طاهر ثم خطب للمطيع ابن المقتدر بمكة بمعز الدولة بن بويه سنة 334 أربع وثلاثين وثلاثمائة عندما استولى معز الدولة على بغداد وعزل المستكفي واعتقل، ثم تعطل الحج بسبب القرامطة.
وردوا الحجر الأسود سنة تسع وثلاثين بأمر المنصور العبيدي صاحب إفريقية وخطابه في ذلك لأميرهم أحمد بن أبي سعيد. ثم جاء الحاج إلى مكة سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة مع أمير العراق وأمير من مصر فوقعت الحرب بينهما على الخطبة لابن بويه ملك العراق، وابن الإخشيد ملك مصر، فانهزم المصريون وخطب لابن بويه، واتصل وفود الحاج من يومئذ.
فلما كانت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة جاء الحاج من بغداد ومن مصر؛ كان أمير الحاج العراقي محمد بن عبيد الله العلوي فمكر بأمير مصر وقال: نتفق على إفراد الخليفة ونترك صاحبي وصاحبك، فأجابه إلى ذلك، ئم جاء المنبر مستعداً وأمر بالخطبة لمعز الدولة بن بويه، فوجم الآخر وتمت عليه الحيلة وعاقبه أميره كافور، ويقال قتله.
ووقع معز الدولة بن بويه بعد موت أبيه والخليفة يومئذ المطيع، وسببه: أن سابور بن أبي طاهر قتل عمه أحمد بن سعيد الأمير القرمطي وكان مجمعاً على اعتراض ركب العراق وقطع الخطبة على ابن بويه بمكة، فلما قتل أحمد وقعت الفتنة بين أولاد أبي طاهر وأولاد أحمد بن أبي سعيد فأصلح المطيع بينهم، وقدم عليه الحسن بن أحمد وخطب في الموسم للمطيع وللحسن بعده بالإمارة.
وفي سنة 360 ستين وثلاثمائة خلع الحسن بن أحمد القرمطي طاعة العبيديين وخطب للمطيع وبعث المطيع إليه بالرايات السود، ونهض إلى دمشق فقتل عاملها من جهة العبيديين جعفر بن فلاح وخطب للمطيع، ثم وقعت الفتنة بين بني الحسن أهل مكة وبني الحسين أهل المدينة وزحف أهل المدينة مع أمير المعز لدين الله العبيدي صاحب مصر ليقيموا له الخطبة بمكة، فجاءت القرامطة مدداً لبني حسن بمكة فانهزم أهل المدينة، ثم وقعت الفتنة بين بني الحسن وبني جعفر، وحصلت بينهم دماء، وبعث المعز العبيدي من أصلح بينهم، وتحمل ديات القتلى الفاضلة من مال المعز فمذ ملك مصر بادر جعفر بن الحسن بن محمد بن سليمان بن داود، وكان بالمدينة فملك مكة ودعا للمعز العبيدي فكتب له المعز بالولاية.
ثم مات جعفر بن الحسن بن محمد بن سليمان بن داود، فوليها بعده ابنه عيسى بن جعفر بن الحسن بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب. وعامت ولايته إلى أن مات سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
ثم ولي بعد عيسى أخوه أبو الفتوح الحسن بن جعفر بن الحسن بن محمد بن سليمان بن داود، وكانت ولايته سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، ثم جاءت عساكر عضد الدولة الديلمي، ففر الحسن بن جعفر.(2/382)
ولما مات المعز العبيدي وولى ابنه العزيز بعث إلى مكة أميراً علوياً فخطب له بالحرمين. وفي سنة سبع وستين بعث العزيز العبيدي باديس بن زيري الصنهاجي أميراً على الحاج، واستولى له على الحرمين، وأقام له الخطبة، وشغل عضد الدولة في العراق بقتال ابن عمه بختيار فبطل ركب العراق، ثم عاد في السنة التي بعدها وخطب لعضد الدولة أحمد الموسوي وانقطعت بعدها خطبة العباسيين من مكة، وعادت إلى خلفاء مصر إلى حين من الدهر، وعظم شأن أبي الفتوح واتصلت إمارته في مكة، وكتب إليه القادر سنة ست وثمانين ورغبه في الطاعة ووعده باتصال الإمارة في بنيه، فأنفذ أبو الفتوح الكتب إلى العزيز العبيدي صاحب مصر فأرسل إليه العزيز بالأموال والخلع فقسمها في قومه، وكسا الكعبة بالبياض، ثم خاطبه القادر سنة تسعين وثلاثمائة في الإذن لحاج العراق، فأجابه على أن الخطبة للحاكم صاحب مصر العبيدي، وبعث الحاكم إلى ابن الجراح أمير طي باعتراضهم، وكان على الحاج الشريف الرضي أميراً وأخوه المرتضى، فلاطفا ابن الجراح حتى خلي سبيل الحاج على أن لا يعود.
قال ابن خلدون: وفيها ولي المدينة المشرفة، وأزال عنها إمرة بني المهنا الحسيني، ثم اعترض حاج العراق سنة أربع وتسعين وثلاثمائة الأصفر التغلبي عند ملكه الجزيرة، فوعظه قارئان كانا في الركب، ثم اعترضهم في السنة التي بعدها أعراب خفاجة ونهبوهم، ثم كتب الحاكم سنة اثنتين وأربعمائة إلى عماله بالبراءة من أبي بكر وعمر فنكر ذلك أبو الفتوح وامتعض له وخرح عن طاعته بسبب ذلك. كذا في تاريخ العلامة ابن خلدون.
ورأيت في شفاء الغرام للعلامة التقي الفاسي ما نصه: كان سبب عصيان أبي الفتوح عن طاعة الحاكم العبيدي أن الوزير أبا القاسم ابن المغربي لما قتل الحاكم أباه وأعمامه هرب من الحاكم، واستجار بكبير آل الجراح أمير طي فعند ذلك حسن لهم الوزير مبايعة أبي الفتوح بالخلافة، فمالوا إلى ذلك، فقصد الوزير أبو القاسم أبا الفتوح وحسن له طلب الخلافة، فاعتذر أبو الفتوح بقلة ذات يده، فحسن له الوزير أخذ ما في الكعبة من المال فأخذه مع مال عظيم لبعض التجار بجدة، وخطب لنفسه وتلقب بالراشد بالله، وبايعه بالخلافة شيوخ الحسينيين وغيرهم بالحرمين، وخرج من مكة إلى الرملة قاصداً آل الجراح في جماعة من بني عمه، وألف عبد أسود ومعه سيف زعم أنه ذو الفقار، وقضيب زعم أنه قضيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قرب الرملة تلقته العرب، وقبلوا الأرض بين يديه، وسلموا عليه بالخلافة، ونزل الرملة ونادى بالعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فانزعج الحاكم العبيدي، وقطع الميرة عن الحرمين وما وسعه ألا الخضوع لآل الجراح لقوة شوكتهم، فاستمال حسان بن مفرج منهم وبذل له ولإخوته أموالاً جزيلة، فتخلفوا عن أبي الفتوح، فعرف أبو الفتوح ذلك، فاستجار بمفرج من حاكم العبيدي، فكتب مفرج إلى الحاكم مستشفعاً لأبي الفتوح فشفعه فيه ورده إلى مكانه من إمرة مكة وراجع طاعة الحاكم العبيدي.
وقد كان الحاكم ولي على إمرة مكة عند عصيان أبي الفتوح أبا الطيب في المدة التي خرج فيها عن طاعته، وأبو الطيب هذا هو أبو الطيب بن عبد الرحمن بن قاسم بن أبي الفاتك بن داود بن سليمان بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، أبي طالب، ومن أحفاد أحفاده الأمير يحيى ابن الأمير المؤيد ابن الأمير قاسم بن غانم بن حمزة بن وقاص بن أبي الطيب بن عبد الرحمن المذكور. وذكر ابن حزم للطيب هذا، وساق نسبه كما ذكرنا، ثم قال: كان لعبد الرحمن والد أبي الطيب اثنان وعشرون ذكراً، فذكرهم، وذكر أبا الطيب منهم، ثم قال: سكنوا كلهم أذَنة حاشا نعمة وعبد الحكيم وعبد الحميد فإنهم سكنوا أمج بقرب مكة.
ولعل سكناهم أذَنة للخوف من أبي الفتوح بسبب تآمر أبي الطيب بعده بمكة حال خروج أبي الفتوح إلى آل الجراح.
ولم يحج من العراق في هذه السنة أحد.(2/383)
قال ابن السبكي: ولما كان موسم ثلاث عشرة وأربعمائة: جرت فيه كائنة غريبة هي: أن رجلاً من المصريين من أصحاب الحاكم العبيدي اتفق مع جماعة من حجاج المصريين على أمر سوء، فلما كان يوم الجمعة وهو يوم النفر الأول طاف هذا الرجل بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر الأسود جاء كأنه يريد تقبيله فضربه بدبوس، معه ثلاث ضربات متواليات وقال: إلى متى يعبد هذا الحجر؟! إلى متى يقبل؟!، ولا محمد ولا علي فيمنعني من ذلك فإني أهدم اليوم هذا البيت، وجعل يرتعد، فاتقاه أكثر الحاضرين وتأخروا عنه، وذلك أنه كان رجلاً طويلاً جسيماً أحمر اللون أشقر الشعر، وعلى باب المسجد جماعة من الفرسان وقوف ليمنعوه ممن أراده بسوء، فتقدم إليه رجل من أهل اليمن معه خنجر فوجأه به، وتكاثر عليه الناس فقتلوه وقطعوه قطعاً وحرقوه. وتتبعوا أصحابه فقتل منهم جماعة، ونهب أهل مكة ركب المصريين وتعدى النهب إلى غيرهم، ثم إنه سكن الحال، غير أنه سقط من الحجر ثلاث فلق مثل الأظفار وبدا ما تحتها أسمر يضرب إلى صفرة محبباً مثل الخشخاش، فأخذ بنو شيبة تلك الفلق، فعجنوها بالمسك واللاذن واللَّك وحشوا بها تلك الشقوق التي بدت، فاستمسك على ما هو عليه الآن، وهو ظاهر لمن تأمله.
ولما بويع القائم العباسي سنة ثنتين وعشرين وأربعمائة أمر أن يجهز الحاج فلم يقدر لاستيلاء العرب، وانحلال إمرة بني بويه، ثم خطب بمكة سنة سبع وعشرين وأربعمائة للمستنصر بن الظاهر العبيدي.
ولما كان سنة ثلاثين وأربعمائة: تولى أبو الفتوح الحسن بن جعفر بن الحسن بن محمد بن سليمان رئيس مكة وبني سليمان وكانت مدة إمارته ثلاثاً وأربعين سنة. ثم ولى بعده ابنه شكر بن أبي الفتوح، وجرت له مع أهل المدينة خطوب ملك فى أثنائها المدينة وجمع بين الحرمين، واستمر إلى أن مات سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، فكانت مدته ثلاثاً وعشرين سنة، ولم يعقب ولا ولد له قط، وقبل خلف بنتاً هي التي تزوجها محمد بن جعفر أول أمراء الهواشم الآتي ذكرهم الآن.
وذكر ابن حزم أن عقب جعفر بن الحسن بن محمد بن سليمان انقرض، وأن مكة وليها بعد شكر عبد كان له لأنه قال وقد انقرض عقب جعفر المذكور لأن ابنه أبا الفتوح لم يكن له ولد ألا شكر ولم يولد له، وصار أمر مكة إلى عبد له. انتهى كلام ابن حزم.
قال العلامة محمد بن جار الله في تاريخه الجامع اللطيف: ثم ولي بعد شكر بنو أبي الطيب الحسنيون وهم من جماعة شكر الذين يقال لهم: السليمانيون، ولم يذكر العلامة الفاسي عدتهم، وأما العلامة ابن خلدون فلم يذكر بني أبي الطيب أصلاً، بل ذكر بعد موت شكر استيلاء أول أمراء الهواشم أبي هاشم محمد بن جعفر ابن محمد أبي هاشم بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرم بن موسى ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
وعلى موت شكر انقرضت دولة بني سليمان بمكة وجاءت دولة الهواشم.
ذكر دولة الهواشم
هؤلاء الهواشم من ولد أبي هاشم محمد بن الحسن بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرم بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، كانت بين هؤلاء الهواشم وبني السليمانيين فتن متصلة. ولما مات شكر ذهبت الرئاسة من بني سليمان؛ لأن شكراً آخرهم ولم يعقب.
وتقدم فيهم طراد بن أحمد لم يكن من بيت الإمارة وإنما كانوا يؤملونه لإقدامه ورأيه وشجاعته، وكان رئيس الهواشم يومئذ أبو هاشم محمد بن جعفر بن أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد المذكور، وكان قد ساد في الهواشم، وعظم ذكره فاقتتلوا سنة أربع وخمسين وأربعمائة بعد موت شكر فهزم الهواشم بني سليمان، وطردوهم عن الحجاز، فساروا إلى اليمن وكان لهم به ملك، فاستقل بإمارة مكة الأمير أبو هاشم محمد بن جعفر بن أبي هاشم محمد بن الحسن المذكور وخطب للمستنصر العبيدي.(2/384)
ثم ابتدأ الحاج من العراق سنة ست وخمسين وأربعمائة بنظر السلطان ألب أرسلان بن داود ملك السلجوقية حين استولى على بغداد والخلافة، طلب منه القائم العباسي ذلك فبذل المال وأخذ رهائن من العرب، وحج بالناس أبو الغنائم نور الهدى الزيني نقيب الطالبيين، ثم جاور في السنة التي بعدها واستمال الأمير أبا هاشم محمد بن جعفر المذكور عن طاعة العبيديين فخطب لبني العباس سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وانقطعت ميرة مصر عن مكة فعذله أهله عما فعل فرد الخطبة للعبيديين.
ثم خاطبه القائم العباسي وعاتبه وبذل له الأموال فخطب له سنة ثنتين وستين وأربعمائة بالموسم فقط، وكتب إلى المستنصر العبيدي معتذرَاً.
ثم بعث القائم العباسي أبا الغنائم الزيني نقيب المذكورين سنة ثلاث وستين وأربعمائة أميراً على الركب العراقي، ومعه عسكر ضخم لأمير مكة من عند ألب أرسلان وثلاثون ألف دينار، وتوقيع بعشرة آلاف دينار واجتمعوا بالموسم، وخطب الأمير أبو هاشم محمد بن جعفر للقائم العباسي فقال: الحمد لله الذي هدانا أهل بيته إلى الرأي المصيب، وعوض بنيه لبسة الشباب بعد لبسة المشيب، وأمال قلوبنا إلى الطاعة، ومتابعة إمام الجماعة. فانحرف المستنصر بن الظاهر بن الحاكم العبيدي صاحب مصر المذكور عن الهواشم ومال إلى السليمانيين، وكتب إلى علي بن محمد الصليحي صاحب دعوتهم باليمن أن يعينهم على استرجاع ملكهم وينهض معهم إلى مكة، فنهض وانتهى إلى المهجم.
وكان سعيد بن نجاح الأحول موتور بني الصليحي قد جاء من الهند ودخل صنعاء، فثار بها واتبع الصليحي، وهو في سبعين رجلاً والصليحي في خمسة آلاف فبيته بالمهجم وقتله. كذا في تاريخ العلامة ابن خلدون.
ورأيت في تاريخ العلامة محمد بن جار الله بعد أن قال: ثم ولي بعد شكر بنو أبي الطيب: وهم الذين يقال لهم السليمانيون من جماعة شكر، ولم يذكر الفاسي عدتهم.
قال: ثم ولي علي بن محمد الصليحي صاحب اليمن وذلك سنة خمس وخمسين وأربعمائة في شهر الحجة، وأظهر العدل بها، واستعمل الجميل مع أهلها، وكثر الأمن، وطابت قلوب الناس، ورخصت الأسعار في أيامه وكثرت له الأدعية، وكسا البيت ثوباً أبيض، ورد للبيت الحلي الذي أخذه بنو أبي الطيب لما ملكوا بعد شكر، وأقام بمكة إلى ربيع الأول سنة ست وخمسين وأربعمائة.
ثم ولى عنه نائباً أبا هاشم محمد بن جعفر هذا، وسبب ذلك أن الصليحي لما دخل مكة كان الأشراف بنو أبي الطيب قد أبعدوا عن مكة وجمعوا عليه، ثم راسلوه بأن يخرج من مكة ويؤمر بها من يختار منهم، وكان قد وقع في عسكره الوباء فمات منهم سبعمائة رجل ولم يبق ألا نفر يسير، فاختار أبا هاشم محمد بن جعفر هذا، وهو أول الهواشم، وأقامه نائباً عنه وأمره على مكة واستخدم له عسكراً، وأعطاه مالاً وسلاحاً وخمسين فرساً، ثم عاد إلى اليمن فجاء الأشراف بنو سليمان ومعهم حمزة بن أبي وهاص، وحاربوا محمد بن جعفر فحاربهم ولم يكن له بهم طاقة، فخرج هارباً من مكة فتبعوه، فكر راجعاً، وضرب واحداً منهم ضربة قطع بها درعه، وجسده وفرسه ووصل إلى الأرض فرجعوا عنه، وكان تحته فرس، يقال لها: دنانير لا تكل ولا تمل، وقيل: إنه كان صهر شكر على ابنته.
ثم عاد محمد بن جعفر إلى مكة بعد خروجه منها.
فهذا الذي ذكره ابن جار الله مخالف لما ذكره العلامة ابن حلدون مخالفة ظاهرة. أما أولاً: ففي تاريخه فإنه - أي ابن جار الله - ذكر أن إتيان الصليحي إلى مكة، وإقامته أبا هاشم محمد بن جعفر نائباً عنه كان في سنة ست وخمسين وأربعمائة، وأنه دخلها وأقام أبا هاشم محمد بن جعفر أول أمراء الهواشم، والذي ذكره ابن خلدون؛ إن الصليحي أمره المستنصر العبيدي لما مال عن الهواشم إلى السليمانيين بسبب عدولهم بالخطبة عنه إلى العباسيين أن ينهض مع السليمانيين، ويعينهم على استرجاع ملكهم، وأرخ ذلك الأمر له بسنة اثنتين وستين وأربعمائة فهذا تخالف في التاريخ.(2/385)
وأما ثانياً: فمخالفته من جهة المعنى، إذ كيف يؤمر بإعادة السليمانيين إلى ملكهم، وإزالة الهواشم عن مكة فيفر السليمانيون عن مكة، ويرسلون لة أقم من تختاره منا فيقيم عليهم أبا هاشم وهو من الهواشم المغضوب عليهم من جهة مرسله المستنصر العبيدي، وكيف يفر السليمانيون عنه، وهو آت لنصرتهم وإرجاع دولتهم إليهم من يد الهواشم، فما علمت وجه التوفيق بينهما في ذلك والله أعلم.
وأيضاً لم يذكر ابن خلدون أن الصليحي دخل مكة، بل إنه لما انتهى إلى المهجم - اسم محل - هجم عليه سعيد بن نجاح الأحول فقتله.
وإذ قد انجر الكلام إلى ذكر الصليحي فلنذكر طرفاً من خبره ومبدأ منتهى أمره.
قال العلامة ابن السبكي: الصليحي هو علي بن محمد بن علي الصليحي. كان أبوه محمد قاضياً باليمن ونشأ له هذا الولد فتوسم فيه بعض من عنده علم من الملاحم، وقال له: أنت تلي ملك اليمن، فاشتغل على هذا وحوى علوماً كثيرة، وحج بالناس دليلاً سنين متعددة. ثم توافق مع جماعة من أولاد رؤساء اليمن نحو الستين وخرجوا إلى رأس جبل منيع باليمن فحاصرهم الجند في عشرين ألف مقاتل فلم يقدروا عليهم، ثم استفحل أمره وبنى برأس ذلك الجبل حصناً منيعاً. ثم تدلى فأخذ البلاد بلداً بلداً حتى استحوذ على اليمن كلها وخطب بنفسه ودعا للخليفة المستنصر العبيدي واستمر كذلك نحواً من ثلاثين سنة.
فلما كانت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة - كذا قاله ابن السبكي.
وقال ابن خلدون سنة اثنين وستين وأربعمائة - خرج في طائفة من الجيش يريد الحج، فلما كان بالمهجم اعترضه سعيد بن نجاح الأحول صاحب التهائم، وكان الصليحي قد وتره في أول دولته، فاعترضه سعيد هذا وأخوه حناش في سبعين رجلاً مع كل رجل منهم جريدة في رأسها مسمار، فنذر بهم الصليحي، فأرسل سرية في ألفي مقاتل ليردوهم فاختلفوا في الطريق فخلص إليه سعيد وأخوه في أصحابهما، وهو على غرة فوصلوا إليه، وقتلوه بسيفه، وقتلوا جميع أقاربه، وكانوا نحو مائة وستين، ومالوا على بقية العسكر فقتلوا وأسروا، ورجعوا إلى اليمن فملكوه مع بلاد تهامة وهذا أمر لم يتفق مثله ألا نادراً.
وكان مقتله عند قرية يقال لها: الرهيم وبئر أم معبد وليست بأم معبد السعدية.
قلت: ومن شعر الصليحي بيتان في حفظي هما: من الكامل:
أنكَختُ بِيضَ الِهندِ شمر رِقَابِهم ... فَرُؤُوسُهُمْ دُونَ النِّثَارِ يِثَارُ
وكَذاً العُلا لا يُسْتَباح نِكَاحُهَا ... إِلا بِحَيثُ تُطَلَقُ الأَعْمَار
ولما رجع سعيد بن نجاح برأس الصليحي منصوباً فوق المظلة التي كانت يظلل بها فوقه إذا ركب في جنده، قال في ذلك أبو بكر العثماني: من الكامل:
بَكَرَتْ مِظَلتُهُ عَلَيْهِ فَلَم تَرُحْ ... إلاَّ عَلَى الملكِ الأَجل سَعِيدِهَا
ماً كَانَ أَقبَحَ وَجهَهُ في ظِلها ... ماً كَانَ أحسَنَ رأْسَهُ في عُودِهَا
رجع: ولما عاد محمد بن جعفر إلى مكة بعد خروجه منها جمع أنجاداً من الأتراك فزحف بهم إلى المدينة فأخرج منها بني الحسين، وجمع بين الحرمين. ثم مات القائم العباسي وانقطع ما كان يصل إليه منه، فقطع محمد بن جعفر الخطبة للعباسيين، ثم جاء الزينبي من قابل بالأموال فأعادها.
ثم بعث المقتدي سنة سبعين وأربعمائة منبراً إلى مكة استجيد خشبه ونقش عليه بالذهب اسمه، وبعث على الحاج ختلغ التركي وهو أول تركي تأمر على الحج، وكان والياً على الكوفة وقهر العرب من بني خفاجة، فبعثه المقتدى أميراً على الحاج فوقعت الفتنة بين العسكر العراقي والمصري فكسر المنبر وأحرق، ثم عاود الفتنة سنة ثلاث وسبعين وقطعت الخطبة عن المستنصر العبيدي وأعيدت للمقتدي العباسي واتصلت إمارة ختلغ على الحاج وبعده خمارتكين. إلى أن مات السلطان ملك شاه ووزيره نظام الملك فانقطعت الخطبة للعباسيين وبطل الحاج من العراق لاختلاف ملوك السلجوقية وتغلب العرب.
ومات المقتدي العباسي خليفة بغداد وبويع ابنه المستظهر.
ومات المستنصر العبيدي خليفة مصر، وبويع ابنه المستعلي وخطب له بمكة. واستمر هذا محمد بن جعفر متولياً على مكة إلى أن مات سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وهو أول من أعاد الخطبة العباسية بمكة بعد أن قطعت نحو مائتى سنة بسبب استيلاء العبيديين على مصر والحرمين.(2/386)
وذكر ابن خلدون: أن مدة إمارته على مكة ثلاث وثلاثون سنة، ألا أنه خرج منها هارباً من التركمان الذين استولوا عليها سنة أربع وثمانين وأربعمائة.
قال ابن الأثير: قال العلامة الفاسي: وهو أول من أعاد الخطبة العباسية ونال بسبب ذلك مالاً عظيماً من السلطان ألب أرسلان السلجوقي، فإنه خطب له بعد القائم العباسي، ثم كان يخطب لابن ابنه عبد الله الملقب بالمقتدي العباسي حيناً، وحيناً للمستنصر العبيدي صاحب مصر يقدم في ذلك من تكون صلته أعظم، ولعل ذلك بسبب إرسال التركمان إليه.
ثم ولى بعده ابنه القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد بن أبي هاشم فكثر اضطرابه، ومهد بنو زيد أصحاب الحلة طريق الحاج من العراق، فاتصل حجهم وحج سنة ثنتي عشرة وخمسمائة نظر الخادم من قبل المسترشد العباسي بركب العراق، وأوصل الخلع، والأموال إلى مكة، وأمن الاضطراب الذي وقع في ولايته استيلاء أصبهبذ بن سارتكين على مكة في أواخر سنة سبع وثمانين، فهرب منها، قاسم بن محمد المذكور، وأقام أصبهبذ بها إلى شوال، فجمع قاسم عسكراً وكبسوا أصبهبذ فانهزم إلى الشام ودخل قاسم مكة ودامت ولايته عليها إلى أن مات سنة ثمان عشرة وخمسمائة. ومن شعر قاسم يصف قومه قوله: من الكامل:
قَومِي إِذاً خَاضُوا العَجَاجَ حَسِبْتَهم ... ليلاً وخِلتَ وُجوهَهُم أَقمَارَا
لا يَبخَلُونَ بِزَادِهم عَن جَارِهِم ... عَدَلَ الزمَانُ عَلَيهِمُ أَو جَارَا
وِإذاً الصرِيخُ دَعَاهُمُ لِمُلِمةٍ ... بَذَلُوا النفُوسَ وفَارقُوا الأَعمَارَا
وِإذاً زِنَادُ الَحربِ أَذكَت نَارَهَا ... قَدَحُوا بِأَطرَافِ الأَسِنةِ نَارَا
وكانت مدته ثلاثين سنة.
قال ابن خلدون: ثم ولى بعده ابنه فليتة وقيل أبو فليتة، فافتتح بالخطبة العباسية، وحسن الثناء عليه بالعدل ووصل نظر الخادم أميراً إلى مكة على الحاج، ومعه الأموال والخلع، ثم استمر فليتة إلى أن مات سنة سبع وعشرين وخمسمائة، وكانت مدته عشر سنين.
ثم ولى بعده ابنه هاشم بن فليتة واستمر متولياً إلى أن مات سنة تسع وأربعين، وقيل إحدى وخمسين وخمسمائة، ولم يختلف عليه اثنان مدة ولايته.
ثم تولى بعده ابنه قاسم بن هاشم بن فليتة، والخطبة للعباسيين، وإمارة حاج العراق لنظر الخادم.
ثم كانت فتنة المسترشد العباسي مع السلطان مسعود السلجوقي، ومقتل المسترشد، وتعطل ركب العراق.
ثم حج نظر في السنة بعدها، ثم انقطع الركب العراقي للفتن والغلاء، ثم حج سنة أربع وأربعين وخمسمائة نظر الخادم ومات في طريقه. فولى مكانه قيماز، واعترضه ركب من الأعراب فنهب الركب واتصل حج قيماز.
ثم صنع المقتفي الخليفة العباسي باباً للبيت مصفحاً أوصله نظر الخادم إلى مكة سنة ثنتين وخمسين وخمسمائة.
وبويع المستنجد الخليفة العباسي فخطب له قاسم بن هاشم الأمير المذكور كما كان يخطب لأبيه المقتفي، ثم قتل قاسم سنة ست وخمسين وخمسمائة.
وبويع المستنجد، قتلته الحشيشية، يقال كان ذلك بإشارة صاحب مصر وهو يومئذ العاضد العبيدي والمتغلب عليه.
ثم ولى بعده عمه عيسى بن فليتة، وحج العراق متصل.
وتوفي المستنجد الخليفة العباسي سنة ست وستين وخمسمائة.
وبعث المستضيء بن المستنجد بركب العراق طاشتكين التركي.
وانقضت دولة العبيديين، ووليها صلاح الدين يوسف بن أيوب، واستولى على مكة واليمن وخطب له بالحرمين، ثم مات المستضيء العباسي سنة خمس وسبعين. وبويع ابنه الناصر العباسي وخطب له بالحرمين.
ودامت ولاية عيسى بن فليتة على مكة نصف يوم، لأنه دخل مكة في يوم عاشوراء سنة ست وستين وخمسمائة، وجرى بينه وبين عسكر أخيه عيسى فتنة إلى الزوال، ثم خرج...، ثم أصلحا بعد ذلك.
ثم ولى بعده ابنه داود بن عيسى، واستمر إلى الليلة النصف من رجب سنة إحدى سبعين فعزل، وسبب عزله أن أم الناصر الخليفة العباسي حجت في زمنه ثم أنهت لي ابنها الناصر عن داود ما اطلعت عليه من أحواله فعزله لذلك.(2/387)
ثم ولى أخوه مكثر بن عيسى، واستمر إلى موسم هذه السنة ثم عزل، وجرى بينه بين أمير الركب العراقي طاشتكين حرب شديد في ذلك الموسم كان الظفر فيه لطاشتكين، وذلك أنه وصل الخبر إلى مكثر أن صحبة الحاج العراقي عسكراً كثيراً، وسلاحاً وعدداً، وأن معهم الأمير قاسم بن مهنا، فجمع مكثر الشرفاء والعرب، ولم يحج من أهل مكة ألا القليل، ولم يوف أكثر الحاج المناسك، ولم يبيتوا بمزدلفة، لم ينزلوا بمنى، ولم يرموا، وإنما رمى بعضهم وهو سائر، ونزل الحاج يوم النحر الأبطح، فخرج إليهم ناس من أهل مكة، فحاربوهم في بقية يوم النحر واليوم الثاني الثالث، فاشتد القتال على أهل مكة، وقتل من الفريقين جماعة، ثم هاجموا مكة على مكثر، فصعد إلى الحصن الذي بناه بأبى قبيس، فصعدوا وراءه، فتركه وسار عن مكة فدخلوها، وأمر أمير الحاج بهدم الحصن، ونهب غالب بيوت مكة،، وأحرق دوراً كثيرة.
ومن عجيب ما جرى أن إنساناً زراقاً ضرب داراً بقارورة نفط فأحرقها، وكانت لأيتام فاحترق ما فيها، ثم أخذ قارورة أخرى ليضرب بها مكاناً اَخر، فأتاه حجر فأصاب القارورة فكسرها فاحترق هو بها، وبقي ثلاثة أيام يعذب بالحريق ثم مات، وكانت هذه الواقعة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة المذكورة.
وتسلمت مكة إلى الأمير قاسم بن مهنا الحسيني أمير المدينة، وكان وصل صحبة الحاج العراقي كما سبق خبره إلى مكثر؛ لأنه سافر إلى العراق فوليها الأمير قاسم بن مهنا المذكور بعد انهزام مكثر، فأقام متولياً ثلاثة أيام، ثم رأى من نفسه العجز عن القيام بإمرة مكة فاستعفى فأعاد الأمير طاشتكين أمير الحاج المذكور داود بن عيسى إلى إمارة مكة، وشرط عليه شروطاً في ترك المكوس، والعدل بين الرعايا، ولم تعلم ولاية داود هذه إلى متى استمرت، غير أنه يتداول هو وأخوه مكثر إمرة مكة، ثم انفرد بها مكثر عشر سنوات متواليات آخرها سنة 597 سبع بتقديم السين وتسعين بتقديم التاء وخمسمائة، غير أن في ولايته أو في ولاية أخيه في داود - على الشك - كان ممن ولي مكة سيف الإسلام طغتكين بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين بن يوسف بن أيوب وذلك سنة 581 إحدى وثمانين وخمسمائة؛ لأنه قدم مكة في هذه السنة ومنع الأذان بحي على خير العمل، وقتل جماعة من العبيديين المفسدين، وضرب السكة الدراهم والدنانير باسم أخيه السلطان صلاح الدين بن يوسف بن أيوب، وفر منه أمير مكة مكثر أو أخوه داود على الشك.
قلت: ذكر العلامة ابن جبير في رحلته أنه رأى سيف الإسلام طغتكين المذكور داخلاً إلى الحرم الشريف.
قال: وشاهدته وعن يمينه مكثر، وعن يساره قاضي الشرع الشريف، ورأيت مكثراً لابساً ثوباً أبيض، وعمامة من صوف أبيض، فطاف بالبيت والريس يدعو له إذا أقبل من الركن اليماني حتى يجاوز مصلى جبريل مولياً، ثم يسكت، ثم يدعو إذا أقبل من الركن اليماني، وهكذا في كل شوط، فلما فرغ من صلاته فرش له خلف مقام الخليل شقة من كتان، فصلى عليها سنة الطواف، فاتضح - بما ذكره ابن جبير - أن الفار هو داود لا مكثر، فانتفى الشك الذي ذكره ابن جار في تاريخه.
وفي سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة أسقط السلطان صلاح الدين المكس عن الحجاج إلى مكة في البحر على طريق عيذاب؛ لأنه كان الرسم بمكة أن يؤخذ من حجاج المغرب على عدد الرؤوس ما ينسب إلى الضرائب والمكوس، ومن دخل منهم ولم يفعل به ذلك حبس حتى يفوته الوقوف بعرفة، ولو كان فقيراً لا يملك شيئاً، فرأى السلطان صلاح الدين إسقاط ذلك وأن يعرض عنه أمير مكة، فقرر معه أنه يحمل إليه كل عام ألفي دينار وثمانية آلاف أردب قمح إلى ساحل جدة، ووقف على ذلك أوقافاً وخلدها، فانبسطت لذلك النفوس وزاد السرور وزال البؤس، وصار يرسل الإنعام، للمجاورين بالحرمين من العلماء والفقراء.
ومدحه العلامة ابن جبير بقصيدة أولها: من المتقارب:
رَفَعتَ مَغَارِمَ مَكْسِ الحِجَازِ ... بِإِنعَامِكَ الشامِلِ الكَافِلِ(2/388)
ثم ذكر ابن جبير شيئاً من أخبار هذا المكس، فقال: إنه كان يؤخذ من كل إنسان سبعة دنانير مصرية ونصف، فإن عجز عن ذلك عوقب بأنواع العذاب الأليم من تعليقه بالخصيتين وغير ذلك، وكانت هذه البلية في مدة دولة العبيديين المتخلفين بمصر جعلوها معلوماً لأمير مكة فأزالها الله تعالى بعد أن أزالهم على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وعوض أمير مكة ما تقدم ذكره.
وضعف أمر الهواشم وكان مكثر هو آخرهم، وكان أبو عزيز قتادة يناسبهم من جهة النساء، فورث أمرهم وملك مكة من أيديهم وطردهم عنها بالسيف.
وأما ما يسمع على الأفواه من أن الشريف قتادة إنما دخل مكة سابع عشر رجب في عمرة ابن الزبير التي يخرج فيها كل أهل مكة رفيع ووضيع، فلم أطلع على أصل ذلك، وانقرضت دولتهم، والبقاء لله وحده لا شريك له في ملكه سبحانه وتعالى.
؟ذكر بني قتادة أمراء مكة
بعد الهواشم إلى وقتنا هذا:
كان من ولد موسى الجون الذين مر ذكرهم في بني حسن عبد الله أبو الكرم، وكان له على ما نقل نسابتهم ثلاثة من الولد: سليمان وزيد وأحمد، ومنه تشعب ولده.
فأما زيد فولده اليوم بالصفراء بنهر الحسنية، وأما أحمد فولده بالدهناء، وأما سليمان فكان ولده مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن سليمان بن الله أبي الكرم.
وكان لمطاعن إدريس وثعلب. فالثعلبية شعب بالحجاز، وكان لإدريس ابنان: قتادة النابغة وصرخة.
فأما صرخة: فولده بينبع يعرفون بالشكرة.
وأما قتادة النابغة: فكان يكنى أبا عزيز.
وكان من ولده علي الأكبر وشقيقه حسن. فمن ولد حسن إدريس وأحمد ومحمد وجماز.
وإمارة ينبع في أعقابهم حتى الآن فيرجعون إلى إدريس بن حسن بن إدريس.
وأما أبو عزيز قتادة: فمن ولده بنو أبي نمي أمراء مكة لهذا العهد، وكان بنو الحسن بن الحسن كلهم متوطنين بنهر العلقمية من وادي ينبع لعهد إمارة الهواشم وكانوا ظواعن بادية.
ولما نشأ فيهم قتادة هذا جمع قومه ذوي مطاعن، وأركبهم الخيول، واستبد بإمارتهم، وكان بوادي ينبع بنو حراب من ولد عبد الله بن الحسن بن الحسن، وكان بها بنو عيسى بن سليمان بن موسى الجون، فحاربهم بنو مطاعن هؤلاء، وأميرهم أبو عزيز قتادة، فأخرجهم، وملك ينبع، والصفراء، واستكثر من الجند والمماليك، ثم استألف بني محمد وبني إبراهيم، وسار إلى مكة فانتزعها من أيدى الهواشم، وخطب للناصر العباسي، كذا في تاريخ العلامة ابن خلدون.
فوليها الشريف قتادة: وهو أول من وليها من هذا الفخذ الشريف.
قال في الوسيلة: وسبب طمعه في ملك مكة ما بلغه من انهماك ولاتها الهواشم على اللهو، وتبسطهم في الظلم، وإعراضهم عن صونها ممن يريدها بسوء اغتراراً منهم بما هم فيه من العز والسيف لمن عارضهم في مرادهم وإن كان ظلماً، فتوحش عليهم بذلك خواطر جماعة من قوادهم، ولما عرف قتادة ذلك منهم استمالهم إليه، وسألهم المساعدة على ما يرومه من الاستيلاء على مكة، وبعثه على المسير إليها أن بعض الناس فزع إليه مستغيثاً به في ظلامة ظلمها، فوعده بالنصر، وتوجه إلى مكة في جماعة من قومه، فما شعر أهل مكة ألا وهو معهم بها، وولاتهم على ما هم فيه من اللهو والانهماك، فلم تكن لهم بمقاومته طاقة، فملكها.
قيل: إنه لم يأت إليها بنفسه في ابتداء ملكه، وإنما أرسل إليها ابنه حنظلة فملكها له، وذلك في سنة تسع وتسعين وخمسمائة بتقديم التاء في اللفظتين، وخرج منها مكثر بن عيسى إلى وادي نخلة.
وفي سنة ستمائة مات مكثر بنخلة، وجاء ولد محمد بن مكثر، وقاتل حنظلة بن قتادة عند المتكا، ولم يحصل لمحمد ظفر، وتمت البلاد لقتادة، ذكر ذلك ابن محفوظ وابن فهد في إتحاف الورى بأخبار أم القرى.(2/389)
قال صاحب عمدة الطالب في مناقب آل أبي طالب وهو العلامة السيد النسيب والشريف الحسيب أبو جعفر شهاب الدين أحمد بن علي بن مهنا الداودي الموسوي: كان قتادة جباراً فتاكاً فيه قسوة وتشدد وحزم، وكان الخليفة في زمانه الناصر العباسي، فاستدعى الناصر الشريف قتادة إلى بغداد ووعده ومناه فأجابه إلى ذلك، وسار إلى أن وصل إلى العراق ثم إلى المشهد الغروي، فخرج أهل بغداد لتلقيه، وكان ممن خرج في غمار الناس رجل درويش معه أسد مسلسل، فلما نظر إليه الشريف قتادة تطير وقال: مالى ولبلد تذل فيها الأسود؟ فرجع من فوره إلى الحجاز. وكتب إلى الخليفة العباسي بقوله من الطويل:
بِلادِي وَلَو جَارَت علي مُريفَة ... وَلَو أَننِي أَعرَى بِهاً وأَجُوعُ
وَلى كَف ضِرغَامٍ إِذاً ماً بَسَطتُهَا ... بِهاً أَشتَرِي يَومَ الوَغَى وأَبِيعُ
مُعَوَدَة لَثْمَ المُلُوكِ لِطُهْرِهَا ... وفي بَطنِها للمُجدبِينَ رَبِيعُ
أَأَتْرُكُهاً تَحْتَ الرهَانِ وأَبْتَغِي ... بهاً بَدَلاً إني إِذَن لَرَقِيعُ
وماً أَنا ألا المِسكُ في غَيْرِ أَرضكُم أًضُوع وَأَما عِندَكُمْ فَأَضِيعُ
فلما وقف الناصر العباسي على هذه الأبيات استشاط غضباً، وامتلأ حنقاً وحرباً. وكتب إلى الشريف قتادة كتاباً، يقول فيه: أما بعد: فإذا نزع الشتاء جلبابه، ولبس الربيع أثوابه، قاتلناكم بجنود لا قبل لكم بها، ولنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون.
فلما قرأ الكتاب الشريف قتادة ارتاع لذلك أشد ارتياع. وأرسل إلى بني عمه بني الحسين بالمدينة يستنجدهم ويسألهم المعونة، وصدر الكتاب بقوله: من الطويل:
بنى عَمناً مِنْ آل موسَى وَجَعفَرِ ... وآلِ حُسَين كَيف صَبرُكُمُ عَنا
بَنِى عَمناً إِنا كَأَقنَاِن دَوحَةِ ... فَلاَ تَترُكُوناً يَتَّخِذناً الفَناً فَنَّا
إذاً ماً أَخْ خَلى أَخَاهُ لآكِلٍ ... بَداً بِأَخِيهِ الأَكْل ثُم بِذاً ثَنَّى
فأتته منهم رجال النجدة، ذوو العدد والعدة.
فلما أقبلت تلك الكتيبة الناصرية كسرها وبدد شملها وقهرها، فلما بلغ ذلك الناصر العباسي والى عليه الإنعامات الكاملة وأقطعه الإقطاعات الهائلة.
وذكر ابن الأثير في سنة إحدى وستمائة: كان الحرب بين قتادة الشريف أمير مكة وبين الأمير سالم بن قاسم الحسيني أمير المدينة، ومع كل واحد منهما جمع كثير.
وفي ذلك يقول الشريف قتادة: من الطويل:
مَصَاِرعَ آل الُمصطفَى عُدتِ مثلَ ما ... بَدَأتِ وَلَكِن صِرتِ بَين الأَقَاِرب
فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكان الحرب بذي الحليفة.
وقد كان قتادة قصد المدينة ليحصرها ويأخذها فحصرها مدة معلومة، فلقيه سالم بعد أن قصد الحجرة الشريفة وصلى عندها، ودعا وسار إلى قتال قتادة، فانهزم قتادة وتبعه سالم إلى مكة، وحصرها وأرسل إلى قتادة يقول بعد أن حصرها المدة المعلومة: حصر بحصر يا ابن عم. فأرسل قتادة إلى من مع سالم فأفسدهم عليه فمالوا معه، فلما علم بذلك سالم رحل عنه عائداً إلى المدينة.
ثم إن قتادة خرج لحرب ثقيف فتحصنوا بحصونهم فلم يقدر عليهم، فآمنهم وحلف، فحضروا عنده فقتل منهم طائفة من أكابرهم، واستخلف على بلادهم نواباً من عنده، وعضدهم بعبيد له، فلم يبق لأهل الطائف معهم كلمة ولا حرمة، فعند ذلك اجتمع أهل الطائف ودفنوا سيوفهم في الرمل - وذلك في المجالس التي جرت عادتهم بالجلوس فيها مع أصحاب قتادة - واستدعوا أصحاب قتادة وأوهموهم أن ذلك بسبب كتاب ورد عليهم، فلما اجتمعوا أخرجوا سيوفهم وقتلوا أصحاب قتادة عن آخرهم، ولم يسلم منهم ألا واحد وصل إلى قتادة وهو واله العقل لما شاهد من الهول، وكان ذلك في سنة ثلاث عشرة وستمائة.
وذكر الميورقي: أن في هذه الواقعة فقد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف لما نهب جيش قتادة البلاد.
وذكر أبو شامة في أخبار سنة تسع وستمائة قال: فيها قتل قتادة صاحب مكة إمام الحنفية وإمام الشافعية ونهب اليمنيين.
وذكر أيضاً في سنة ثمان وستمائة نهبه الحاج العراقي وكان أمير الركب علاء الدين محمد بن ياقوت نيابة عن أبيه ومعه ابن أبي فراس يدبره.(2/390)
وحج من الشام الصمصام إسماعيل، وكانت ربيعة خاتون أخت العادل بن أيوب في الحج، فلما كان يوم النحر بعد رمي الجمرة وثب بعض الإسماعيلية على رجل شريف من بني عم قتادة أشبه الناس به وظنه إياه فقتله عند الجمرة، ويقال: إن الذي قتله كان مع أم جلال الدين، فثار عبيد مكة عند ذلك والأشراف، وصعدوا على الجبلين بمنى، وهللوا وكبروا وضربوا الناس بالحجارة والمقاليع والنشاب، ونهبوا الناس يوم العيد والليلة واليوم الثاني، وقتل من الفريقين جماعة، فقال ابن أبي فراس لمحمد بن ياقوت: ارحل بنا إلى الزاهر إلى منزلة الشاميين، فلما حصلت الأثقال على الجمال حمل قتادة والعبيد، فأخذوا الجميع ألا القاتل، وقال قتادة: ما كان المقصود ألا أنا، والله لا أبقيت من حاج العراق أحداً، وكانت ربيعة خاتون بالزاهر ومعها ابن السلاخور سياروج وحاج الشام، فجاء محمد بن ياقوت أمير الحاج العراقي فدخل خيمة ربيعة خاتون مستجيراً بها ومعه أم جلال الدين، فبعث قتادة يطلبه، فبعثت خاتون مع ابن السلاخور إلى قتادة تقول له: ما ذنب المسلمين؟ قد قتلت القاتل وجعلت ذلك وسيلة إلى نهب المسلمين، واستحللت الدماء في الشهر الحرام في الحرم، وقد عرفت من أنا، والله لئن لم تنته لأفعلن وأفعلن.
فجاء ابن السلاخور إلى قتادة فأخبره وخوفه عاقبة ما يروم وقال: إن فعلت غير ما فعلت قصدك الخليفة من بغداد ونحن من الشام، فكف عنهم، وطلب مائة ألف: دينار فجمعوا له ثلاثين ألفاً من أمير الركب، العراقي ومن خاتون أم جلال الدين، وأقام الناس ثلاثة أيام حول خيمة ربيعة خاتون بين جريح وقتيل ومسلوب وجائع وعريان، ويقال: إن قتادة أخذ من المتاع ما قيمته ألف ألف دينار، وأذن للناس في الدخول إلى مكة، فدخل الأصحاء الأقوياء وطافوا، ومعظم الناس ما دخل مكة، ورحلوا إلى المدينة، ثم إنهم دخلوا إلى بغداد على غاية الفقر والذل والهوان.
وفي سنة تسع وستمائة: وصل من قبل الخليفة الناصر العباسي إلى قتادة مع الركب العراقي مَالٌ وخلعة وكسوة ولم يظهر له الخليفة إنكاراً على ما تقدم من نهب الحاج، وجعل أمير الحاج يتدرجه، ويخدعه بأنه لم يصح عند الديوان العزيز ألا أن الشرفاء وأتباعهم نهبوا أطراف الحاج ولولا تلافيك لهلكوا، وقال له: يقول لك مولانا الوزير: وليس كمال الخدمة الإمامية ألا بتقبيل العتبة، ولا عز الدنيا والآخرة ألا بنيل هذه الرتبة. فقال الشريف قتادة: سأنظر في ذلك ثم تسمع الجواب. واجتمع ببني عمه الأشراف وعرفهم أن ذلك استدراج لهم وله حتى يتمكن من الجميع. ثم قال لهم: يا بني الزهراء، عزكم إلى آخر الدهر مجاورة هذه البنية والاجتماع في بطائحها، فلا يرغبونكم بالأموال والعدة والعدد، وقد عصمكم الله وعصم أرضكم بانقطاعها وإنها لا تبلغ ألا بشق الأنفس. ثم عاد أبو عزيز قتادة إلى أمير الركب العراقي وقال له: اسمع الجواب. ثم أنشده الأبيات المتقدمة، فقال له أمير الركب الشريف: يا شريف، حاشا الله أن أحمل مثل هذه الأبيات منك، وأنت ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفة ابن عمك، وأنا مملوك تركي لا أعلم من الأمور التي في الكتب ما علمتَ، ولكني قد رأيت أن هذا من سرف العرب الذين يسكنون البوادي، وترغاب قطاع الطريق، والله لا حملت هذه الأبيات عنك فأكون قد جنيت على بيت الله وبني بنت نبيه، ووالله لو وصل إليه ما ذكرت لجعل سائر الوجوه إليك، ولكن لي رأي أعرضه عليك، فأصغي إليه أبو عزيز وعلم أنه رجل عاقل، قال: الرأي أن ترسل أحد أولادك من لا تهتم له إن جرى عليه ما تتوقعه، ومعاذ الله أن يجري عليه ألا ما تحبه، وترسل معه جماعة من ذوي الأسنان والهيئات، فيدخلوا مدينة السلام وفي أيديهم أكفانهم منشورة، وسيوفهم مسلولة، ويقبلون العتبة، ويتوسلون بالنبى صلى الله عليه وسلم، وبصفح أمير المؤمنين، وسترى ما يكون من الخير لك وللناس. قال: فشكره قتادة ووجه صحبته ولده راجح بن قتادة، وأشياخ الشرفاء، ودخلوا بغداد على تلك الهيئة التي ذكرها، وهم يضجون ويتضرعون ويبكون، والناس يبكون لبكائهم، فاجتمع الخلق كأنه المحشر، ومالوا إلى باب النوبة من أبواب مدينة الخليفة، فقبلوا هنالك العتبة.(2/391)
وبلغ الخبر الناصر العباسي فعفا عنهم وعن مرسلهم، وأنزلوهم في الديار الواسعة، وأكرموا الكرامة التي ظهرت، واشتهرت وعادوا إلى أبي عزيز بما أحب، فكان بعد ذلك يقول: لعن الله أول رأى عند الغضب، ولا عدمنا عاقلاً ناصحاً يثبتنا عنده.
قال المنذري في التكملة: كان قتادة المذكور مهيباً وقوراً قوي النفس شجاعاً مقداماً فاضلاً له شعر، تولى إمرة مكة، رأيته بها يطوف بالبيت، ويدعو بتضرع وخشوع، والريس على زمزم يدعو له وهو كالأسد شجاعة والقطب خشوعاً وتضرعاً والبدر كمالاً وبهاء.
وكان مولده بوادي ينبع وبه نشأ. وكانت مملكته قد اتسعت من حدود اليمن إلى خلف مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وكثر عسكره واستكثر من المماليك، وخافته العرب في تلك البلاد خوفاً عظيماً، وسار في مكة سيرة حسنة، وأزال عنها العبيد المفسدين، وحمى البلاد وأحسن إلى الحجاج وأكرمهم وبقي كذلك مدة، ثم أساء السيرة وجدد المكوس وفعل أفعالاً شنيعة، ونهب الحجاج، وكان يخطب للناصر أحمد العباسي ابن المستضيء، ثم يخطب لنفسه بالأمير المنصور، ودام ملكه نحو سبع وعشرين سنة.
وكان وراثته الملك عن مكثر بن عيسى الذي ورثه من آبائه الهواشم، ولم يكن أبو عزيز من الهواشم ألا من جهة النساء.
ثم زاد ظلم قتادة في الناس وأذاه للحجاج من العراقيين وغيرهم، وأظهر التعدي حتى ضج الناس وفسدت نيته على الخليفة الناصر العباسي، فارتفعت الأيدي بالدعاء عليه، فقتله الله على يد ابنه حسن بن قتادة.
وكان قتله في جمادى الأولى، هكذا ذكره أبو شامة في سنة 617 سبع عشرة وستمائة.
وقال المنذري: بل في جمادى الأخرى من سنة 618، ثم استقر بعده في ملك مكة ابنه حسن بن قتادة. قيل قتله خنقاً.
وسبب قتله: أن قتادة جمع جموعاً وسار من مكة يريد المدينة الشريفة فنزل بوادي الفرع، وهو مريض وبعث أخاه على الجيش ومعه ابنه حسن هذا، فلما بعد وأبلغ حسن أن عمه قال لبعض الجند: إن أخي قتادة مريض وهو ميت لا محالة، وطلب منهم أن يحلفوا له ليكون هو الأمير بعده.
فلما بلغ الحسن ذلك أرسل إلى عمه من خنقه وخرج للناس في الحرم، وطلب الأشراف ووجوه الناس، وقال لهم: إن أبي اشتد به المرض وأنا أحب أن تبايعوني، فبايعوه وحلفوا له، فأحضر تابوتاً مغطى وقال: هذا أبي مات. وكان قد دفنه ليلاً.
فلما استقرت الإمارة لحسن، وثبتت قدمه أرسل إلى أخيه، وكان بينبع وطلبه ولم يخبره بحال أبيه، فلما وصل إليه قتله، وكان له أخ اسمه راجح كانت بينهما مباينة أقام في الأعراب هارباً بظاهر مكة حتى كان من أمره مع آق باش أمير الركب العراقي ما كان كما سيأتي قريباً.
ولما بلغ قتادة قتل حسن لعمه قامت قيامته وحلف ليقتلن حسناً، فبلغ ذلك حسناً، فدخل على أبيه بعد عوده من المدينة، فبالغ قتادة في ذمه وتهديده، فوثب إليه حسن، واستعان بغلام وجارية كانا يخدمان أباه فأمسكا يديه، فقتله خنقاً ثم قتلهما ليخفي سبب قتله، وقيل بل قتله سماً. فهذا سبب قتل حسن أباه قتادة.
وكانت وفاته كما تقدم في جمادى الآخرة عام 617 سبع عشرة وستمائة أو ثمان عشرة، والأول هو الذي رأيته أكثر.
وكان قتادة يقول: أنا أحق من الناصر العباسي بالخلافة، وكان في زمنه في المسجد يؤذن بحي على خير العمل، ومدة عمره نحو سبعين سنة.
ومدة ولايته من سنة 599 تسع وتسعين وخمسمائة إلى سنة 617 سبع عشرة وستمائة.
ولما وصل الملك المنصور صاحب اليمن أمر بنبش قبر قتادة وإحراقه لما فعل من نهب اليمنيين، فوجدوا في القبر تابوتاً ليس فيه شيء، فعرف الناس بذلك أن حسن قتل أباه ودفن التابوت في قبر آخر ليخفي قبره على الناس.
وكان لقتادة من الولد راجح وهو الأكبر الذي فر إلى الأعراب بظاهر مكة كما تقدم، وحسن وعلى الأكبر جد الأشراف المعروفين بذوي علي، وعلى الأصغر جد أبي نمي جد الأشراف الذين كانوا ولاة خليص، وهم الآن ولاه مكة، ألا ترى أن عجلان بن رميثة بن أبي نمي محمد بن أبي سعد الحسن بن علي هذا الأصغر بن قتادة، ولكل من هؤلاء ذرية وأعقاب.
ومما صنع الشريف قتادة أن أدار على مكة سوراً من أعلاها؛ ليحفظها عمن يريدها بسوء.(2/392)
ثم وليها الشريف حسن بن قتادة عام سبع عشرة وستمائة، ووقع فيها قتال بينه وبين آق باش أمير الركب العراقي، وهو مملوك تركي للناصر العباسي عقد له الولاية على مكة وعلى كل بلد يدخلها، ومعنى آق باش: أبيض الرأس.
وسبب القتال أنه لما ورد آق باش المذكور أميراً، تعرض راجح لقطع الطريق بين مكة وعرفة، فأمسكه الأمير المذكور، فأرسل أخوه حسن إلى الأمير موعداً له بمال جزيل أن يسلم إليه أخاه راجحاً، فبلغ ذلك راجحاً، فقال للأمير: أنا أعطيك أضعاف ما وعدك فأعني على ولاية مكة، فوعده بذلك، فأرادا جميعاً دخول مكة فمنعهما حسن ووقع الحرب، فصعد آق باش على جبل عرفة بما عنده من المنعة، فأحدقت به أعراب الشريف حسن فقتل، وعلق رأسه في ميزاب الكعبة، وقيل: رفع على رأس رمح بالمسعى، وأرسل يعتذر إلى دار الخلافة، كذا في عمدة الطالب.
وفي موسم تسعة عشرة وستمائة وليها الملك المسعود يوسف من بني أيوب، وصل إليها وكان قد تفرق عن حسن والأشراف، لشحه ولم يبق عنده ألا جماعة من عشيرته.
وجاء مع صاحب اليمن المذكور أخو الشريف حسن الشريف راجح بن قتادة فتقاتلا بالمسعى، فانكسر حسن وفارق مكة فنهبها الملك المسعود، وراجح حتى سلبوا الناس أشياء من على أجسادهم، وولى الملك المسعود راجح بن قتادة حلياً ونصف المخلاف، وأمر المسعود بنبش قبر قتادة فلم يجدوا ألا التابوت كما تقدم ذكر ذلك، وعمل المسعود في مكة من المنكرات ما لم يُرَ.
منها: أنه يطلع على قبة زمزم، ويرمي الحمام بالبندق، ويجلس عبيده بالمسعى فيضربون أرجل الناس بالسيوف يقولولن: إن السلطان سكران نائم، امشوا قليلاً قليلاً لئلا توقظوه. كانت داره على المسعى تسمى دار السلطنة، وكانت تسمى دار القوارير.
قلت: عثرت في بعض التواريخ أن محلها كان محل المدرسة القايتبائية الآن. انتهى.
ثم خرج من مكة واستناب عليها نور الدين علي بن رسول الغساني الملقب بالملك المظفر ورتب معه ثلاثمائة فارس، وولى راجحاً حلياً وأعمالها.
ثم وصل حسن بجيش عظيم من الينبع إلى مكة سنة عشرين وستمائة فخرج إليه أميرها علي بن رسول المذكور، فكسره علي بن رسول، فتوجه إلى الشام فلم ير بها وجها ولم يفلح بعد قتل والده وعمه، وقد دعا عليه أبوه قتادة في قصة اتفقت له نقلها الزنجاني وزير أبيه الشريف قتادة هي: أنه كان الشريف قتادة بالحرم الشريف مع الأشراف فهجم عليه ولد لولده حسن وترامى في حجره مستجيراً، وإذا بوالده حسن يشتد في إِثره حتى ألقى يده في شعره وجذب الصبي من حجر جده فاغتاظ الشريف قتادة، وقال الحسن: هكذا ربيتك، ولهذا ادخرتك؟ فقال حسن: ذاك الإخلال أوجب هذا الإدلال.
فقال الشريف قتادة: ليس هذا بإدلال ولكنه إذلال، وانصرف حسن بولده ففعل فيه ما اقتضاه عقله، فالتفت الشريف قتادة إلى الأشراف، وقال لهم: والله لا أفلح هذا، فلم يمر به ألا زمن يسير حتى قتل أباه وفاق عقوبة العقوق والقطيعة، ثم توجه إلى العراق، فلم ير بها وجهاً، بل أرادوا قتله بسبب قتله آق باش الناصري مملوك الخليفة الناصر العباسي في الواقعة التي جرت في أيامه بمكة زمن الحج، فخرج منها خائفاً، ولم يزل طريداً شريداً خائفاً إلى أن وصل بغداد، فأدركه أجله في الجانب الغربي على دكة، فلما علم به غُسل وصُلي عليه، وحمل فدفن في مشهد موسى الكاظم سامحه الله تعالى، هذا حاصل ما ذكره المؤرخون في مصنفاتهم مفرقاً غير مجتمع في كتاب ولا مستوفي، جمعت ما ذكروه، وسقته مجتمعاً كل حديث في محله، وكل فرع إلى أصله، وكل نوع إلى جنسه وشكله. وهذا شاني في ترجمة كل واحد من هؤلاء السادة الأعلام، أذكرها كافلة للمرام، بعون الملك العلام.
على إني لا أخلو من قول جاهل خامد، أو فاضل حاسد، أو مبغض جاحد: هل زاد على الجمع؟ وما درى أنه تقطير للفؤاد تقطير للدمع، إذ تتبع ذلك من مظانه المتفرقات، وضم شمل القصة وسبكها في ألطف قالب من العبارات، يعرف قدره من أشرق في أفق الفضل وما غاض بدر تمه، ولا يجحد حقه ألا كل عاض بظر أمه.
على أن لي فيه فلتوتات، كأنها ياقوتات، ينظرها بنور العدل والإنصاف، زاكي السريرة ذاتاً وسمى، ويتخونها من عم بصره وبصيرته عمه وعمى.
لكن الأعمال بمقاصدها، والله عالم بصحيح النية من فاسدها.(2/393)
ولم تزل مكة في ولاية الملك المسعود يوسف بن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، ونائبه عليها نور الدين علي بن رسول إلى سنة خمس وعشرين وستمائة، فتوفي الملك المسعود بعد أن فلج ويبست يداه ورجلاه، ورأى في نفسه العبر، نعوذ بالله من سوء قضاه.
وفيها وصل إلى مكة جيش من صاحب مصر وعلى الجيش طغتكين ومعه مائتا فارس، ففر منها نائبها نور الدين علي بن رسول نائب الملك المسعود، وأنفق طغتكين على أهل مكة نفقة جيدة، وحلفهم، وتوثق منهم.
فلما كان سنة سبع وعشرين وستمائة وصل إلى مكة جيش صاحب اليمن علي بن رسول الغساني وصحبته السيد راجح بن قتادة، فنزلوا بالأبطح وحصروا مكة، وأرسل الشريف راجح إلى أهل مكة يذكرهم إحسان السلطان نور الدين أيام نيابته بمكة عن الملك المسعود، فمال رؤساء مكة إليه، فلما أحس بذلك الأمير طغتكين خاف على نفسه فخرج خائفاً وقصد وادي نخلة، فدخل راجح ومن معه.
فوليها الشريف راجح بن قتادة وكان أمير الجيش يسمى ابن عبدان، فدخل إلى مكة واستولى عليها وخطب للملك المنصور ابن الملك المسعود.
وتوجه طغتكين إلى ينبع وكان بها رتبة للكامل صاحب مصر الأيوبي، فأقام هناك، وعرف الكامل بالخبر، فجهز جيشاً كبيراً من مصر، وأمر صاحب الينبع، وصاحب المدينة أن يخرجا مع ذلك الجيش إذا وصل إليهما، ففعلا، ووصلوا إلى مكة جميعاً في رمضان، وحاصروا راجحاً وابن عبدان وقاتلوهما فانكسروا، واستولى على مكة أميرها الأول طغتكين، فقتل من اْهل مكة خلقاً كثيراً وأنهبت ثلاثة أيام وأظهر حقده عليهم، وأخافهم خوفاً شديداً.
وفي سنة ثلاثين وستمائة جمع الشريف راجح جموعاً عظيمة، وأملى الملك المنصور صاحب اليمن بعساكر، فقدم مكة، وطرد طغتكين وعسكر الملك الكامل صاحب مصر، فلما علم بذلك الكامل جهز عسكراً في شوال سبعمائة فارس، فلما أن وصل الحاج واتضح أمر العسكر خرج الشريف راجح من مكة فدخلها العسكر المصري من غير محاربة وطيبوا قلوب أهلها وعدلوا فيهم وأحسنوا، وحج بالناس أمير يسمى الزاهد، وترك في مكة أميراً يقال له ابن مجلي في خمسين فارساً أقام بمكة فعدل وأحسن السيرة.
وفي سنة إحدى وثلاثين: جهز الملك المنصور صاحب اليمن إلى السيد راجح عسكراً جراراً، وخزانة عظيمة، فنهض راجح ومن معه من العسكر، ودخلوا مكة، وأخرجوا ابن مجلي ومن معه، فلما أن وصل الحاج سمع الشريف راجح أن الملك الكامل حاج على النجب لوعد بينه وبين الخليفة العباسي، فخرج راجح من مكة فتغير عليه خاطر الملك المنصور، فلما رجع الملك الكامل عاد راجح إلى مكة وكان بها غلاء عظيم، سموه غلاء ابن مجلي.
وفي سنة اثنتين وثلاثين وستمائة: وصل من صاحب مصر عسكر ألف فارس، فخرج الشريف راجح إلى اليمن، فجهزه الملك المنصور بخزانة وعسكر أيضاً، وأرسل قناديل ذهب وفضة لتعلق في جوف الكعبة فلم يقدر راجح ومن معه لمقاومة العسكر المصري فلم يدخل، فلما سمع بهم العسكر المصري خرجوا إليهم من مكة، فالتقوا بمحل يقال له الخلف والخليف، فانهزمت الأعراب أصحاب راجح، وأسر أمير عسكره ابن عبدان فقيد، وأرسل به إلى مصر.
وفي سنة خمس وثلاثين وستمائة خرج السلطان نور الدين علي بن رسول من اليمن قاصداً مكة في ألف فارس، وأرسل للجند الذين بمكة أن كل من جاء إليه يعطيه ألف دينار وحصاناً وكسوة، فمال إليه كثير من الجند، وآثروه على مولاهم، ووفي لهم بما وعدهم، وأرسل إلى الشريف راجح، فتلقاه من أثناء الطريق، فقدمه صحبة ثلائمائة فارس من أهل النجدة من عسكره، وأعطاه النقارات والكئوسات، وتقدم إلى مكة.
فلما تحققت عساكر مصر وصول السلطان أحرقوا ما كان عندهم من الأثقال والأقوات، وخرجوا من مكة، فأرسل الشريف راجح يبشر السلطان نور الدين بما وقع، فأحرم بعمرة ودخل مكة في رجب، وتصدق على أهل مكة بأموال جزيلة.
وفي ذلك العام مات الكامل صاحب مصر، فخطبوا للملك المنصور ابن الملك المسعود صاحب اليمن.(2/394)
وفي سنة سبع وثلاثين وستمائة: أرسل صاحب مصر الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل إلى مكة ألف فارس عليهم الشريف شيحة بن قاسم الحسيني أمير المدينة الشريفة، فلما سمع بهم راجح ومن معه من عساكر الملك المنصور، فروا إلى اليمن وأخلوا مكة، فدخلها شيحة وملكها ونهبها، فلما بلغ ذلك المنصور صاحب اليمن جهز السيد راجحاً بعسكر معه إلى مكة، فلما أحس بهم الحسيني فر هارباً من مكة وأخلاها.
وفي موسم سنة تسع وثلاثين وستمائة دخل من صاحب مصر عسكر إلى مكة، فلما بلغ صاحب اليمن تجهز، وخرج إلى مكة بجيش كثيف، فهرب المصريون، وأحرقوا دار السلطنة بمكة، فدخل السلطان نور الدين علي بن رسول الغساني، وصام رمضان، وأقام بها وأبطل المكوس والجبايات والمظالم، وكتب ذلك في رخامة مربعة جعلت قبالة الحجر الأسود في حائط زمزم، وأرسل يطلب أبا سعيد الحسن بن علي بن قتادة من ينبع، فلما أتاه أكرمه وأنعم عليه، فاستخدمه على مكة، واشترى منه قلعة الينبع وأمر بخرابها لأجل أهل مصر، وأبقى عنده مملوكه ابن فيروز، والأمير فخر الدين بن السلاح، فأقام ابن السلاح أميراً سبع سنين، فولى بعده الأمير ابن المسيب سنة خمس وأربعين.
وفي سنة ست وأربعين وستمائة ولي مكة الشريف أبو سعد الحسن بن علي بن قتادة، وذلك أن الملك المنصور قبل ذلك لما دخل مكة أقام أبا سعد هذا بوادي مر ليساعد عسكره الذين أقاموا بمكة، فحسن مشايخ العرب من زبيد وغيرهم لأبي سعد الحسن بن علي بن قتاده أخذ مكة والاستيلاء عليها، والفتك بمن فيها من العسكر اليمني، وهونوا عليه أمرهم، وكانوا فرقتين، فرقة تخرج إلى أعلى المعلاة، والفرقة الأخرى تخرج إلى أسفلها هكذا كل يوم. فحمل أبو سعد على إحدى الفرقتين، فكسرها فضعفت الأخرى، فقبض على ابن المسيب وأخذ خيله وعدده ومماليكه، واستولى على مكة، وأحضر الأعيان من أهلها، وقال: ما لزمته ألا لتحققي خلافه ونيته الخروج على الملك المنصور صاحب اليمن، والذهاب بهذا المال إلى العراق، والمال عندي محفوظ إلى أن يصل مرسوم السلطان فأسلمه إليه، فوردت الأخبار بعد أيام يسيرة بموت الملك المنصور علي بن رسول، فقوي أمر أبي سعد الحسن بن علي بن قتادة المذكور، فخرج الشريف راجح من مكة لما رأى أن ابن أخيه أبا سعد الحسن المذكور استولى عليها، وسكن المحل المعروف بالواديين.
وكان الشريف الحسن هذا شجاعاً جلداً كريم الأخلاق شديد الحياء، جمع الشجاعة والكرم والعلم والعمل، وكانت أمه حبشية، ووقع له معها أنه حارب بعض العرب، فلما تراءى الجمعان، جاءته في هودجها فقالت له: اعلم أنك وقفت في موقف إن ظفرت أو قتلت قالت الناس: ظفر ابن رسول الله أو قتل ابن رسول الله، وإن هربت قالوا: هرب ابن السوداء، فانظر أي الأمرين تحب أن يقال. فقالا لها: جزاك الله خيراً لقد نصحت فأبلغت، ورجع فقاتل حتى ظفر، فقال الناس كما قالت ودامت ولايته على الحجاز نحو أربع سنين وأشهر إلى أن قتله ابن عمه جماز ابن حسن بن قتادة لثلاث خلون من شعبان سنة إحدى وخمسين وستمائة، وقيل في شهر رمضان، وقيل: في شوال.
وأبو سعد هذا هو والد عبد الكريم جد الأشراف ذوي عبد الكريم ووالد أبي نمي صاحب مكة الآتي ذكره.
كان الشريف أبو سعد هذا فاضل الأخلاق، طيب الأعراق شديد الحياء، جمع الشجاعة والكرم والعلم والعمل، له الشعر الرائق والنثر الفائق، فمن شعره القصيدة المشهورة: من المتقارب:
خُنُوا قَوَديِ من أسيرِ الكلل ... ...... ... ...
نسبها العلامة الفاسي إليه.
والمشهور أنها لابن مطروح والشهرة تساعده.
قال: ألا أن في القصيدة أبياتاً ترجح أنها لأبي صعد لأن إنشاءها إنما يليق بالملوك، منها قوله فيها: من المتقارب:
وإن قِيلَ إني غَداً مَيت ... بِأَيدِي الصبَابَةِ ظُلماً فَهَل
تموتُ نفوس بِآجَالِها ... وَنفِسي تَمُوتُ بِغَيرِ الأجَل
فَلَيتَ إذا ماً آَتاني الحِمَامُ ... يُؤَخرُ عَني الإلهُ الأجَل
لأني غيُوث إِذاً الغَيثُ مَل ... ويَوْمَ الِكفَاح أُرَوى الأَسَلْ
فيحتمل ويحتمل والله أعلم.(2/395)
قلت: الاستدلال على أنها لأبي سعد بأن فيها أبياتاً لا يليق إنشاؤها ألا بالملوك استدلال لا ينهض، إذ كل كريم شجاع يسوغ له أن يتمدح ويقول عن نفسه ذلك، بل صناعة الشعر ومبالغاته تسوغ للشاعر القول، وإن لم يتصف بإنالة نائل ولا طول طائل.
ثم وليها جماز بن حسن بن قتادة في رمضان من السنة المذكورة.
وذلك أنه لما كانت سنة إحدى وخمسين وستمائة، قدم الشريف جماز هذا بعسكر من عند الناصر بن العزيز بن الظاهر بيبرس، ووعده أن يخطب له بمكة، فأمده بعسكر صحبة الركب الشامي، فتقدم أمام الركب ودخل مكة في رمضان من السنة المذكورة، واستولى على مكة وقتل ابن عمه أبا سعد الحسن بن علي بن قتادة وحج بالناس، ثم نقض عهد الناصر، ولم يخطب له، وخطب للملك المظفر بن المنصور بن المسعود صاحب اليمن، فلما كان آخر يوم من ذي الحجة من السنة المذكورة قدم عمه راجح بن قتادة ففر منه جماز بلا قتال إلى ينبع.
ثم وليها راجح بن قتادة وكان بمكة غلاء عظيم، وعطش بيعت شربة الماء بدرهم والشاة بأربعين درهماً، واستمر إلى سنة اثنتين وخمسين وستمائة، فلما كان شهر ربيع الأول منها هجم عليه ابنه غانم بن راجح، وأخرجه من مكة بلا قتال.
فوليها غانم بن راجح في شهر ربيع الأول، واستمر إلى شهر شوال من السنة المذكورة.
ثم وليها أبو نمي بن أبي سعد بن قتادة، وعمه إدريس بن حسن بن قتادة، وأخرج غانم بن راجح منها.
وأبو نمي هذا: هو والد أبي سعد الحسن المذكور، وذلك أنه في شوال آخر السنة المذكورة أعني سنة اثنتين وخمسين وستمائة قبل وصول الحج إلى مكة قدم الشريف أبو نمي، وعمه إدريس وأخذا مكة من غانم بن راجح بعد قتال شديد قتل فيه من الأشراف ثلاثة.
فلما كان أول الحجة وصل من جانب الملك المظفر صاحب اليمن عسكر عليه أمير ابن برطاش فبرز له الأشراف أبو نمي وإدريس ومن معهما إلى خارج مكة، وتقاتلوا بالسرحة من قوز المكاسة، وكان معهم الشريف جماز بن شيحة، فقتل بين الصفين خلق كثير، وانهزم الأشراف، ودخل مكة عسكر الملك المظفر.
وفي عام ثلاث وخمسين وستمائة جمع الشريف أبو نمي محمد بن أبي سعد الحسن بن علي بن قتادة، وعمه الشريف حسن بن قتادة جمعاً عظيماً، وقصدوا مكة فدخلوها من رؤوس الجبال، وتقاتلوا وسط مكة هم وعسكر الملك المظفر صاحب اليمن فقتلوا غالب العسكر، وأسروا الأمير ابن برطاش، وسفكت الدماء بالحرم الشريف، وامتلأت البلد منهم رعباً بحيث لم يصل في الحرم أحد، ووقع بينهم في أيام الحج وبين أمير الحاج العراقي فتنة درأها الله تعالى بالصلح فسلم المسلمون، وفدى نفسه ابن برطاش الأمير، ورجع من حيث جاء.
وفي سنة أربع وخمسين وستمائة: استظهر إدريس على أبي نمي بإمرة مكة ثم اشتركا. وفي موسم خمس وخمسين وستمائة لم يحج أحد من أهل الحجاز، ولم ترفع راية من رايات الملوك لأحد بمكة.
وفي سنة ست وخمسين وستمائة خرج أبو نمي إلى ثقيف، وبقى إدريس بالبلد فهجم عليه أولاد حسن بن قتادة إخوتة بعد أن لزموه.
فوليها أولاد حسن بن قتادة في غيبة أبي نمي، فلما جاء أخرجهم منها في السنة المذكورة بغير قتال. وكانت مدتهم ستة أيام.
وفي سنة تسع وخمسين وستمائة حج الملك المظفر يوسف بن الملك المنصور صاحب اليمن معه المراكب تسايره في البحر مشحونة بالعلوفات والأطعمة، وأكثر في طريقه من الصدقات وفعل الخيرات والمبرات، والشريف أبو نمي، وعمه إدريس متوليين إمرة مكة، فلما سمعا به خرجا خوفاً منه، فدخلها المظفر في عساكر كثيرة محرماً خاشعاً حاسر الرأس حتى دخل المطاف، ثم نزل عسكره بالحجون، ولم يزل بمكة إلى أن قضى ما عليه من الوقوف بعرفة وبقية المناسك، ولم يزل مدة إقامته بمكة يصلي المغرب على قبة زمزم، وخدم البيت وغسله مع الخدام وصب عليه وكنس، وكسا البيت الشريف من داخله، ولم يكسه ملك قبله بعد الخلفاء العباسية، وقام بمصالح الحرم وأهله، ثم أقام بمكة عشرة أيام يفرق الصدقات حتى وصلت صدقاته إلى كل منزل بمكة، ونثر على الكعبة الذهب والفضة، وعمل للكعبة باباً وقفلاً، وودع البيت باكياً وعاد إلى بلاده، وفي غالب سلطنته كان يخطب له بمكة.(2/396)
واستمر أبو نمي وعمه إدريس متوليين إمرة مكة إلى سنة سبع وستين، ثم انفرد بها أبو نمي، وأخرج عمه إدريس منها، وخطب لصاحب مصر الملك الظاهر بيبرس البندقداري، واشترط عليه السلطان أن لا يمنع زائراً لا ليلاً ولا نهاراً، ولا يعترض تاجراً بظلم، وأن تكون الخطبة والدعاء له، ولأبي نمي، وجعل له عشرة آلاف درهم في كل سنة، فأجاب الشريف أبو نمي بقبول هذه الاشتراطات، فلما ورد إلى السلطان من أبي نمي الإجابة بالسمع والطاعة وقبول ما اشترطه كتب السلطان إليه مرسوماً بإمرة مكة منفرداً.
ففي سنة ثمان وستين: حج السلطان الملك الظاهر بيبرس على تجريدة خيل وركاب، وكان قدم له مع الحج خيلاً وحملاً ومتاعاً في المنازل كلما أصبح في منزل ترك الخيل الأولى وأخذ المهيئات له، فارتحل إلى أن وصل مكة ثامن ذي الحجة آخر النهار، وقد طلع الناس عرفة، ولم يبق في مكة غير الشريف أبي نمي وعسكره، فاستنكروا ذلك وقالوا: ما يصل في هذا الوقت ألا من قصد إدراك الحج قبل فواته أو غريب ما قدم قبل ذلك لا يعرف العادة، ورأوهم جميعهم على الخيل البلق.
فقالوا لهم: من أين أنتم، من العراق أو من الكوفة أو من العجم أو من الترك؟ فقال السلطان: قولوا له: أليس قد قلت لا يجيئني ألا على خيل بلق فقد جئناك على البلق، ونحن محرمون، وهذا صاحب مصر معه أمراء مصر والشام وعرفوه كل أمير، باسمه فإن تقتل الجميع فاقتلهم، وكان الشريف أبو نمي قد قال مثل هذا القول في العام الماضي، فاستغفر وتقدم إلى السلطان وقال: العفو يا مولانا السلطان، ثم ركب وسعى مع السلطان، وأشهد على نفسه أن لا يمكس أحداً من الحجاج القادمين براً وبحراً ويبطل الجباية والمظالم إلى أن تقوم الساعة وكتب عليه الإشهاد بذلك، فبطل ذلك وكان في صحائف الملك الظاهر بيبرس، وتصدق السلطان بالحرم وفرق كساوي على أهله وعلق كسوة الكعبة بيده وزار من بمكة من الصالحين، وأحسن إحساناً كثيراً إلى الشريف أبي نمي، وكذلك لأمير المدينة، وكتب لأبي نمي وإدريس أن يكون حالهما واحداً في إمرة مكة فعادا شريكين. ثم انفرد إدريس بها أربعين يوماً، ثم قتل أبو نمي عمه إدريس في حرب كانت بينهما بخليص، وانفرد بها، وذلك أنه لما استظهر عمه إدريس عليه، وأخرجه من مكة، وانفرد بالإمرة خرج أبو نمي هارباً من عمه إدريس من مكة، ووصل إلى ينبع، واستنجد بصاحبها وحشد، وجمع وقصد مكة بالجيش، فالتقى هو وعمه إدريس بخليص وتحاربا فطعن أبو نمي عمه فألقاه من ظهر الفرس ونزل واحتز رأسه، واستقل بالولاية منفرداً وذلك في سنة 669 تسع وستين وستمائة.(2/397)
وله وقائع مشهورة مع ملوك مصر وغيرهم، منها أنه في سنة 683 ثلاث وثمانين وستمائة كانت فتنة بينه وبين واحد من أبناء أخيه لأجل ما يؤخذ من الحاج، قيل: كانوا يأخذون من حج اليمإني في كل جمل ثلاثين درهماً، ومن حاج مصر على كل جمل خمسين درهماً، ومع هذا لا يسلمون من النهب والعسف، فلما حج الظاهر بيبرس أزاله ثم أعادوه، فأرسل الملك المظفر عسكراً ملكوا مكة، فجمع أبو نمي عسكراً، ودخل إلى مكة، وأخرج عسكر اليمن، وزاد على الحجاج في الجباية، ووصله جيش من مصر، فلما وصلوا إلى قرب مكة قفل أبو نمي أبواب سور مكة، ومنعهم من الدخول، فاجتمع الحجاج فهدموه، وأحرقوا باب المعلاة ودخلوا مكة هجماً بعد فرار أبي نمي من مكة زمن الحج، فخشي الملك من عوده فترك بها ثلاثة آلاف مع نائب من قبله فأقاموا بها، فاتفق أن ألفاً منهم خرجوا لناحية منى للتنزه فكمن لهم الشريف أبو نمي في خيل، ورجل بمسجد الخيف، فلما عادوا قاصدين إلى مكة هجم عليهم فقصد أميرهم فقتله ثم قال: كل من قتل فارساً فله فرسه، فعاد أكثر رجله خيالة، ثم صدقوا المحاربة والمجالدة معه، فكسروا الألف عن آخرهم، وانتصروا وغنموا خيولهم وسلاحهم وتفكك منهم أفراد فلحقوا بالباقين بمكة، وعرفوهم الحال وأن لا طاقة لكم به فهزم الجميع إلى مصر، فلما بلغ ذلك ملك مصر جهز جيشاً كثيفاً لقتال أبي نمي المذكور، ثم عزم على الوصول إلى مكة بنفسه، فأتاه أحد العلماء الصالحين، وسأله عن توجهه، فقال: إنه لقتل الشريف أبي نمي وأهله، فقال له ذلك العالم إنك حسنت العبارة، ولكن الناس يقولون إنك ذاهب إلى حرم الله تعالى، وقتل أولاد حبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك من الملك موقعاً ورجع عن عزمه، ثم راسل الشريف أبا نمي بالمراسيل والهدايا والكلام اللين حتى زالت الوحشة بينهما وأقره على إمرة مكة.
وفي سنة تسع وثمانين وستمائة وقع بين الشريف أبي نمي وبين الحاج فتنة عند الثنية - أعني الشبيكة - وانتهى الأمر إلى أن دخلوا الحرم، ورؤي في الحرم الشريف أكثر من عشرة آلاف سيف، وقتل بين الفريقين فوق أربعين نفساً، وقتل ولد السيد أحمد بن علي بن قتادة وأصيب بسهم، وأما الجرحى فكثيرون، ونهبت أموال الناس.
وفي موسم إحدى وتسعين وستمائة وقعت بعرفة جفلة عظيمة، ولزم راجح بن إدريس أمير الينبع، ئم عزموا به إلى مصر وسلم الله المسلمين.
وكانت الوقفة بالثلاثاء، وتعبت الناس من قلة الماء فبيعت الراوية بأربعة دنانير، ورحل الحاج قبل وقته المعتاد، واستمر إلى أن أخرجه جماز منها.
ثم وليها جماز بن شيحة أمير المدينة وغانم بن إدريس بن حسن بن قتادة أمير ينبع المبارك، وأخرجا أبا نمي المذكور منها في صفر من سنة 690 تسعين وستمائة.
ثم عاد أبو نمي بعد أربعين يوماً وأخرجهما منها.
ثم وليها جماز بن شيحة بمفرده عام سبع وتسعين وستمائة بمعاونة أمير يقال له الحكاحكي كان بمكة من قبل الملك المنصور قلاوون صاحب مصر والشام، وخطب لجماز بمكة المشرفة، وضربت السكه باسمه فيها، وبطل ذلك بعد مدة يسيرة من السنة المذكورة، ثم عاد أبو نمي، وتفرد بها ودامت ولايته عليها إلى أن مات عام إحدى وسبعمائة، فقبل موته بيومين ولى ولديه حميضة ورميثة أمر مكة كما سيأتي.(2/398)
ولنذكر طرفاً من محامده فنقول: ولى أبو نمي محمد هذا مكة نحو خمسين سنة، مشاركاً لأبيه وعمه ومنفرداً، أما مشاركته لأبيه فكانت أيام صباه وسنه سبع عشرة سنة وكان يكنى أبا مهدي، ويلقب بنجم الدين، وسبب مشاركته لأبيه أبي سعد الحسن بن علي بن قتادة أن راجحاً بن قتادة عم والده أبي سعد استنجد أخواله بني حسين بالمدينة وطلب منهم الإعانة على إخراج ابن أخيه أبي سعد الحسن بن علي المذكور والد أبي نمي المذكور من مكة وأخذها منه، فسار معه من المدينة سبعمائة فارس من بني حسين وجماعتهم وعليهم الأمير عيسى الملقب بالحرون فارس بني حسين في زمانه، وكان أبو نمي في الينبع، فلما بلغه خبر راجح وخروجه ببني حسين معه من المدينة إلى قتال أبيه، وإخراجه من مكة قصد مكة لنصرة أبيه في أربعين فارساً، فصادف راجحاً وعيسى وجماعتهم سائرين إلى مكة ليس لهم خبر، فلما تراءى الجمعان حمل أبو نمي عليهم فما حملوه لحظة حتى ولوا هاربين إلى المدينة، وانتشرت عمامة عيسى الحرون، وذهب يجرها خلفه، فقال السيد جعفر الحسينى النسابة - وهو لسان بني حسن بالعراق - قصيدة يذكر فيها الواقعة، ويمدح أبا نمي محمد بن أبي سعد المذكور، منها من الوافر:
أَلَم يَبلُغكَ شَأنُ بني حُسَين ... وَفَرهمُ وَماً فَعَل الحَرُونُ
فَياً لله فِعلُ أبي نُمَي ... وبعضُ البَأسِ يُشْبِهُهُ الجُنُونُ
يَصُول بِأربَعِينَ عَلَى مِئَاتٍ ... وَكَم من كَثْرَةٍ ظَلتْ تَهُونُ
وكان إذ ذاك عمره سبع عشرة سنة، ثم دخل مكة مسروراً منصورَاً، فقابله أبوه بالإعزاز والإكرام، وأشركه معه في الملك من حينئذ، ثم شاركه عمه إدريس إلى آخر ما تقدم. وكانت له شجاعة مشهورة، وخصال حميدة مذكورة. قال ولده حميضة: كانت لأبي خمس خصال: العز والكرم والحلم والشجاعة والشعر.
من شعره مدحاً في المنصور لاجين ملك مصر لما تسلطن بعد كتبغا سنة ست وتسعين وستمائة وأرسل بها إليه، وهي: من الطويل:
أَماً وتعادى المُقرَبَاتِ الشوَازِبِ ... بفُرسَانها في ضِيقِ ضَنكِ المَقَانِبِ
وبِالجَحفَلِ الجَرّارِ أَفرَطَ جَمعُهُ ... كَأَسرَاب كُدرِى أو سَوَارِ قَوَارِبِ
وبِالزرَدِ الموضونِ ضمّت غُضُونُهُ ... عَلَى كل مَاضِي العَزْمِ حَتف المحَارِبِ
وبالبَيض والبِيضِ الرقَاقِ أَلية ... لِنَثر عِدَاتِي حَلْفة غَيْر كاذبِ
لقد نُصِرَ الإسلامُ بالمَلِكِ الذِي ... رقَي في سَمَاءِ المجد أَعلَى المراتبِ
حُسَامُ الهدَى والدينِ مَنصُور الذِي ... تَرَعرَعَ مِنْ شُم المُلُوكِ الشنَاخِبِ
ملوك جِهَاتِ الأَرضِ تَعنُو لِقَهرِه ... فَمَرهُوبُهاً مِنْ سَيفِهِ أي رَاهِبِ
تَفَرَدَ بالملكِ العَظِيمِ فَلَم يَزَل ... لَهُ خَاضِعاً صِيدُ الملوكِ الأغالِبِ
مضَى كتبُغا خَوفَ الحِمَام وقد أتَت ... إليه أُسُودُ الخَيلِ من كُل جَانِبِ
وأَحْيَيْتَهُ بالعَفوِ مِنكَ وزِدتَهُ ... لِبَاس أَمَانٍ من عِقَابِ العَوَاقِبِ
وأَحَرزتَ مُلكَ الأرضِ بالسيْفِ عَنوَةً ... وَعبدت من في شَرْقِها والمغَاربِ
تَوَليْتَ هَذاً الأَمْرَ في خَيْرِ طَالِعِ ... لِأَسْعَدِ نَجْمٍ للسعَادةِ ثَاقِبِ
قلت: والله إنها لقصيدة فصيحة، في اللفظ والمعنى صحيحة. وما أحسن بيتها الثاني، وتشبيهه البديع المعاني.
وكانت وفاته بمكة المشرفة رابع شهر صفر سنة إحدى وسبعمائة بتقديم السين وقد أناف على السبعين.
ووقعت له كرامة بعد موته ذكرها العلامة تقي الدين الفاسي قال: لما مات أبو نمي محمد بن أبي الحسن بن علي بن قتادة امتنع الشيخ عفيف الدين الدلاصي من الصلاة عليه، فرأى في منامه تلك الليلة السيدة فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبيها وعليها وذويها بالمسجد الحرام والناس يسلمون عليها، فجاء الشيخ ليسلم عليها فأعرضت عنه ثلاث مرات ثم إنه تحامل وسألها عن سبب إعراضها عنه، فقالت: يموت ولدي ولم تصَل عليه، فاعتذر منها وتاب عن مثل ذلك واعترف بالخطأ.(2/399)
وله من الولد ثلاثون ذكراً واثنتا عشرة أنثى، منهم: زيد الأكبر، وزيد الأصغر، وأبو الغيث، وشميلة، وعطيفة، ورميثة، وسيف، وأسد، ومقبل، وحميضة، وعبد الله.
ثم وليها بعد أبي نمي ولداه حميضة يلقب معز الدين، ورميثة يلقب أسد الدين في حياته، ودعي لهما على زمزم قبل وفاته بيومين في السنة المذكورة سنة إحدى وسبعمائة.
واستمرا شريكين في الإمرة. فلما وصل الحاج وصل صحبته ثلاثون أميراً، فجاء إليهم أبو الغيث وعطيفة، وشكوا إليهم من حميضة، ورميثة أنهما أسراهما وربطاهما، واستبد بالإمرة دونهما وأنهما أحق منهما، فمال الأمراء إليهما، فلما انقضى الموسم أمسك الأمراء رميثة وحميضة، وأوثقوهما في الحديد، وذهب بهم إلى مصر، وولوا أبا الغيث وأخاه عطيفة فأقاما إلى عام ثلاث وسبعمائة.
ثم عاد كل من حميضة ورميثة إلى إمرة مكة المشرفة عام أربع وسبعمائة، وأظهرا عدلاً وأسقطا بعض المكوس، ثم ساءت سيرتهما فبعث الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون من يقبض عليهما فانهزما.
ثم في سنة اثنتي عشرة حج الناصر ففرا منه.
ثم في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة وصل عسكر من صاحب مصر المذكور نحو ثلاثمائة فارس، وأمدهم صاحب المدينة بخمسمائة فارس، ووصل معهم أبو الغيث، فلما سمع بهم رميثة وحميضة خرجا إلى حلى بن يعقوب.
ثم وليها أبو الغيث بمفرده، فعزلهما بأخيهما أبي الغيث منفرداً، وجهز معه عسكراً قوياً فاستولى على مكة أيام الموسم من السنة المذكورة، ثم أقام العسكر عند أبي الغيث شهرين، وكانت مكة مقحطة جداً، فتعب الجند من الغلاء، وضجر أبو الغيث من النفقة عليهم، فكتب لهم خطة بالاستغناء عنهم ففارقوه، فلم يلبث بعدهم سوى جمعة حتى قصده أخوه حميضة فقاتله، فانهزم أبو الغيث، وقتل من أصحابه جماعة، وفر هو إلى أخواله هذيل بوادي نخلة، وأرسل حميضة إلى الملك الناصر يستعطفه فلم يرض عنه، وأرسل أبو الغيث يستنصره فوعده بالنصر، ثم التقى الأخوان في رابع ذي الحجة عام أربع عشرة وسبعمائة فغلب حميضة أخاه أبا الغيث فأسره، ثم أمر بعد ذلك بعض عبيده بقتله فقتله بخيف بني شديد ذبحاً بحضرة الناس فهالهم ذلك.
قال في عمدة الطالب: إن حميضة قتل أخاه أبا الغيث على فراشه، وحمله إلى داره ثم استدعي إخوته للضيافة، فاجتمعوا فما راعهم ألا أبو الغيث مقتولاً في جفنة مسلوقاً كما هو وقد وضع بين أيديهم، وعلى رأس كل واحد منهم غلامان أسودان من غلمان حميضة معهم السلاح، فأذعنوا له بالملك قهراً، ودامت له الولاية على مكة حتى فارقها في رمضان سنة خمس عشرة وسبعمائة لما سمع بوصول أخيه رميثة.
ثم وليها رميثة منفرداً متولياً إمرة مكة المشرفة في عسكر معه من مصر، وذلك في سنة خمس عشرة وسبعمائة، فلما سمع حميضة فزع لذلك، وقبل وصولهم إلى مكة بستة أيام أخذ المال من النقد والبز وهو مائة حمل، وأحرق الباقي في الحصن الذي في الجديدة من وادي مر وقطع ألفي نخلة.(2/400)
وكان وصول العسكر صحبة الشريف رميثة إلى مكة يوم السبت منتصف رمضان من السنة المذكورة، فأقاموا بها ثلاثة عشر يوماً، ثم توجهوا جميعاً إلى الحليف وهو حصن بينه وبين مكة ستة أيام كان حميضة بعد فعل ما فعله التجأ إلى صاحبه، وصاهره لعله يحتمى به، فواقع العسكر حميضة، وصاحب الحصن، وأخذوا جميع أموال حميضة وخزانته، ونهب الحصن وأحرق وأسر ولد حميضة ابن اثنتي عشرة سنة، وسلم إلى عمه رميثة، ثم رجع الجيش إلى مكة في الخامس والعشرين من ذي القعدة، واستمروا إلى أن حضر الموقف ورجعوا، واستمر رميثة بمكة ونجا حميضة بنفسه، فقصده أخوه الشريف رميثة والعسكر فحاربوه، فهرب حميضة، ثم احتال عليه الناصر ملك مصر واعتقله، ثم احتال في الهرب، وذلك أنه أمر بعض غلمانه الخاصة أن يهيء له فرشاً سابقاً ليهرب عليه، فلما تمم له ذلك حضر الغلام إلى باب السجن والفرس معه، فأوقفه ناحية، ثم دخل إلى سيده، ثم لبس السيد لباس الغلام، والغلام لباس السيد، فلما خرج على الموكلين لم يشكوا أنه الغلام، فهرب على فرسه وقصد العراق واستنصر بملكه خدابنده بن أرغون بن ابغا بن هولاكو ملك التتار، وطلب منه جيشاً يغزو به مكة فجهز معه جيشاً عدتهم عشرة آلاف فارس، وأمر عليهم السيد أبا طالب الدلقندي، وأمرهم بطاعة حميضة، فساروا إلى البصرة، ومنها إلى القطيف طالبين أطراف الشام، وأرسل حميضة إلى أمراء العرب من كل ناحية، فأجابوه والتجئوا إلى أمراء طَيء بالبادية فقدر الله موت السلطان خدابنده، وكتب الوزير رشيد الدين الطبيب إلى عسكر المغول بالخبر فلم يدبروا، واشتهر الخبر فطمع العرب في عسكر المغول، ونكثوا العهد، وثاروا وأوقدوا نار الحرب فحارب حميضة بنفسه، ودافع عن عسكر المغول دفاعاً شديداً بحيث إن أبا طالب قال: ما زلت أسمع بحملات علي بن أبي طالب حتى رأيتها عياناً في حميضة بن أبي نمي، وتسحب حميضة ومعه أبو طالب، وملك شاه ومعهم ثلاث وعشرون راحلة إلى أن قرب إلى مكة، وكتب إلى أخيه رميثة يستأذنه في دخول مكة فمنعه ألا بإذن سلطان مصر، وأرسل إلى مصر يستأذن له وإن حميضة لم يكن معه ألا فرس واحد، فكتب السلطان جواباً لرميثة: إن حضر حميضة إلى الديار المصرية على عزم الإقامة بها قابله السلطان بالأمان وسامحه من ذنوبه السالفة، وأما الحجاز فلا يقيم به. وكتب إلى أبي طالب الدلقندي وملك شاه بالأمان، وأرسل عدة أمراء إلى مكة لإحضار حميضة، ولو حضر من التتار، فوصلوا إلى مكة وأرسلوا إلى حميضة في معاودة الطاعة وأن يتوجه معهم إلى الأبواب، فاعتذر بالعدم، وطلب ما يستعين به فأعطوه، فلما قبض المال تغيب، فعادوا إلى القاهرة في سادس عشر جمادى الآخرة من سنة سبع وعشرين وسبعمائة، فلما كان سنة ثمان وعشرين وسبعمائة أو في أواخر السنة التي قبلها وثب على أخيه رميثة، واستولى على مكة فخرج منها أخوه رميثة إلى نخلة، فقطع حميضة الخطبة عن الناصر وخطب لأبي سعيد بن خدابنده ملك التتار، فانزعج الناصر لذلك، وأرسل عسكراً لإحضار حميضة بسبب ما فعل في مكة من خطبف لصاحب العراق خدابنده، وأخفه أموال التجار، ومحاربته أخاه رميثة، وإخراجه إياه من مكة، وقد كان فعل ذلك كله فلما بلغه فر من مكة، فلما دخلها عسكر الناصر ومنعوا العبيد من حمل السلاح، ونادوا بالأمان، وأظهروا العدل، فأرسلوا في طلب حميضة فإن السلطان ألزمهم بتحصيله وحمله إلى مصر وألا يعودوا إلى الديار المصرية ألا بحميضة، وأرسلوا إلى العسكر أميراً يقال له بهادر الإبراهيمي كان من أهل ينبع، فلما وصلوا توجه الإبراهيمي لمحاربة حميضة، وتقاربا فلم يقدم الإبراهيمي على مواجهته وفر حميضة، فاقتضى رأي العسكر أن يلزموا رميثة والإبراهيمي باتهامهما أنهما باطنا على حميضة حتى فر، وكان القبض عليهما رابع عشر ذي الحجة الحرام بعد انقضاء أيام التشريق وأرسلوا بهما تحت الاحتفاظ إلى مصر، فلما وصلا مصر رسم على الشريف رميثة، ثم شفع فيه، فأكرمه السلطان، ورتب له كل يوم شريحتين ذهباً، وكان يطلع إلى الديوان إلى يوم من الأيام خرج إلى أطراف مصر، وكان قد هيئت له النجب فركب وفر، فلما علم السلطان به أرسل في إثره، وألزم بعض مشايخ العرب وكتب إلى شيخ آل حرب يقول له هذا هرب إلى بلادك معتمداً عليك، ولا أعرفه ألا منك، وإن لم تأتني به فأنت خصمي فأنت الذي أعنته على الخروج(2/401)
فركب شيخ آل حرب بالهجن السبق وسار مجداً حتى أدرك الشريف رميثة تحت العقبة - وقد اطمأن فنام - فجلس عند رأسه، وقال له: قم يا أسود الوجه. فقال له الشريف رميثة: صدقت لو لم أكن أسود الوجه مانمت حتى أدركتني. فلزمه ودخل به إلى مصر فوضع في السجن الكبير، واحتفظ عليه، وكان القبض عليه في شهر جمادى الأولى سنة تسع عشرة وسبعمائة، وتوجه إلى مكة وكان أمرها لأخيه عطيفة الآتي ذكره على الفور وولوا على مكة الشريف عطيفة.ركب شيخ آل حرب بالهجن السبق وسار مجداً حتى أدرك الشريف رميثة تحت العقبة - وقد اطمأن فنام - فجلس عند رأسه، وقال له: قم يا أسود الوجه. فقال له الشريف رميثة: صدقت لو لم أكن أسود الوجه مانمت حتى أدركتني. فلزمه ودخل به إلى مصر فوضع في السجن الكبير، واحتفظ عليه، وكان القبض عليه في شهر جمادى الأولى سنة تسع عشرة وسبعمائة، وتوجه إلى مكة وكان أمرها لأخيه عطيفة الآتي ذكره على الفور وولوا على مكة الشريف عطيفة.
ثم وليها الشريف عطيفة بن أبي نمي من الملك الناصر وأنفذ معه عسكراً فبلغوها سنة تسع عشرة وسبعمائة، وعليهم أميران وأقاموا عنده، ثم توجه الأميران اللذان كانا بمكة العام الماضى وكتب الشريف عطيفة أن القواد أطاعته وأن الشريف حميضة عزم اليمن، وتفرق عنه العربان، وبنو شعيب الفين كانوا معه جنده، ورخصت البلاد وأمنت الناس على أموالهم ودمائهم. فلما بلغ الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر ذلك خرج إلى الحج تاسع ذي القعدة بعد الحاج، ووصل إلى مكة بتواضع وانكسار وذل بحيث إن بعض الناس حسن له الطواف راكباً كما فعله صلى الله عليه وسلم فقال: ومن أنا حتى أتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم والله ما أطوف ألا مع الحجاج، فكانوا يدفعون عنه الناس، وهو ينضم إليهم يقول: لعلي أقبل برحمة واحد منهم.
وأبدى من المعروف والإحسان والخير في الحرمين ما لا يوصف، وسأله التجار وأهل مكة أن يبقى عندهم عسكراً لئلا يرجع إليهم حميضة ففعل.
واتفق ذلك العام أن شخصاً من أكابر خدام الدولة طلع إلى البيت ليباشر في الكسوة، وجلس على طُنفِ البيت الشريف، فأنكر الناس جلوسه وعدم أدبه، فأخذه النعاس فسقط من أعلى البيت إلى المطاف فكان أعظم عبرة لمن اعتبر.
وعزم السلطان إلى مصر. فقدم حميضة من اليمن بجيش سنة عشرين وسبعمائة، فأراد دخول مكة فلم يظفر، وانتصر عليه عطيفة ومن معه من العسكر المقيمين بمكة الذين أبقاهم الناصر، فلما ولى هارباً خرج معه ثلاثة من المماليك، وأقاموا عنده.
وكان بمكة أمير العسكر يسمى بيبرس الحاجب أرسل إلى الشريف حميضة يرغبه، مكة والصلح والحلف، وكان الشريف حميضة بقرب نخلة، فقال له الشريف حميضة: أرسل إلى أحد أولادك يكون عندي رهينة، فأرسل إليه الأمير بهدية صحبة ولده وجماعة، ففي حال خروجهم إليه جاء الخبر بموت الشريف حميضة وأنه وثب عليه بعض مماليكه، وهو نائم فقتله، جاء بهذا الخبر رجل من الأعراب، فأنكر الأمير وقوع ذلك وظن أن ذلك مكيدة فتوقف عن إرسال ولده والهدية، فلما كان المساء طرق باب المعلاة بمكة ففتح فإذا مملوك اسمه استدمر وهو على حجرة حميضة وصل إلى مكة فأرسل الأمير ولديه ناصر الدين محمد وشهاب الدين أحمد إلى الأبواب السلطانية بهذا الخبر، وجهز من توجه لإحضار سلب حميضة والمملوكين الباقيين، فأحضر السلب وأحد المملوكين، وقيل: إن الثالث مات، فألزم صاحب نخلة بإحضاره، وتوعده إن تأخر فأحضره، واستمر الأمير بيبرس إلى أن عاد الجواب بطلبه، فتوجه في شعبان، ووصل إلى مصر أوائل رمضان فشمله الإنعام السلطاني، وكان مع الشريف حميضة هذه المهرة عزيزة اسمها جمعة طلبها منه السلطان في السابق فلم يسمح له بها، ولما وصل الخبر إلى السلطان أمر بقتل المملوك القاتل وهو أحد مماليك ثلاثة للسلطان هربوا لما كان بمكة للحج، ووصلوا إلى حميضة اسمه استدمر، أخبر أنه قتل حميضة اغتاله، وهو نائم وفر على حجرة حميضهْ المسماة جمعة المشهورة، ثم جرد سيفه وإذا به أثر الدم، وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة عشرين وسبعمائة.(2/402)
وذكر اليافعي أن حميضة كان يقول: لأبي خمس فضائل: الشجاعة، والكرم، والحلم، والشعر، والسعادة. فالشجاعة لعطيفة، والكرم لأبي الغيث، والحلم لرميثة، والسعادة لي حتى لو قصدت جبلاً لدهكته. ومما قيل في حميضة قول موفق الدين الحديدى قصيدة هي: من الخفيف:
قَدَحَ الوَجدُ في فُؤَادِي زِنَادا ... مَنَعَ الجَفنَ أن يَذُوقَ الرقَادا
وفُؤَادُ الشجِي يَومَ الآل ... سَاقهُ سَائِقُ الظعُونِ وَقَادا
بَدلينى بِالوَصلِ هَجراً وبالزو ... رَةِ صَدَّا وبالتداني بِعَادَا
يا مُعِيدَ الحَديثِ عُدنِيهِ عَنهُم ... ما أَلَذ الَحدِيثَ عَنهُم مُعَادا
هاتِ بالله ياً مُحَدثُ حَدث ... بِجِيَادٍ جَاد الغَمَامُ جِيَادا
بَلَداً بِالشرِيفِ شَرَّفَهُ الل ... ه بِقَاعاً شيحَانُهُ وَوِهَادا
مَلِك من قتادة مَلأَ الأَر ... ضَ نِصَالاً مَحشُودَةً وصِعَادا
إن أكُن في حميضَةٍ زِدتُّ في المَد ... حِ فَقَد زَادَ في نَوَالِي وَزَادَا
رَجُلْ سَالَمَ المسالِمَ في الل ... ه وفي اللهِ للمُعَادِينَ عَادَي
عَادَ أبدى أولَى فَوَالَى تَعَالَى ... عَزَّ أَعطَى سَطا أَفَادَ أَبَادَا
جَادَ أغنَى عَلاَ سما جَلَّ جَلى ... ظُلَمَ الظلمِ عَدلُهُ سَارَ سَادا
حَسَن السمتِ لَيسَ يَحسُنُ أن تَس ... مَعَ ألا في مِثلِهِ الإنشَادَا
إبن بِنتِ النبي لَمَ يَجعَلِ الل ... ه سِوَاكُم لأرضِهِ أَوتَادَا
يا رِكَابَ الآمَالِ ويحَكِ بالنُّج ... حِ بحصنِ الجَدِيدِ أُمي نِجَادا
يا جَوَادَ الزمَانِ ما زُزتَ مَغنَا ... ابتُ من عِندِهِ أَقُودُ جَوادَا
كُل شِعر أَتَاكُمُ غَيرُ شِعرِي ... يا أَبا زيد لَيسَ يَسْوَى المِدَادا
وقال في العمدة: إن السلطان الناصر هو الذي دس عليه من قتله غيلة والله أعلم بالحقائق ثم إن السلطان أطلق الشريف رميثة حينئذ من السجن وأحسن إليه، وأشركه في إمرة مكة مع أخيه عطيفة وذلك في سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة، وكانت سنة قحط لعدم الأمطار وعدم الواصل من البحر، فتوجه الشريف عطيفة إلى مصر وشكا لك، فرسم السلطان بحمل الحب إليها ورتب لصاحب مكة كل عام شيئاً يحمل إليه بلدين بالصعيد، وألزمه أن يسقط المكوس التي تؤخذ من مكة على المأكولات التي تجلب إليها ففعل ذلك.
وفي موسم سنة 730 ثلاثين وسبعمائة اتفق أن أهل العراق جاءوا بفيل عظيم جعلوا محملهم عليه، فتطير العالم منه، وقالوا: هذا عام الفيل، ثم دخلوا به مكة، ووقفوا به بعرفة ثم توجهوا به إلى المدينة المشرفة، فلما وصلوا الفريش، وقدموا على البيداء، أوقفه الله فلم يستطع المشي، فضربوه ضرباً مبرحاً فلم يبرح، فلم يزالوا يضربونه حتى مات هنالك، وقدر الله بعد إتمام الحج بمكة أن سافر أمير أول وتأخر أمير المحمل المصري المسمى أزدمر الخازندار تأخر لصلاة الجمعة، فلما صعد الخطيب المنبر عبث بعض العبيد بخطف شيء من أمتعة الحجاج بباب إبراهيم، فصرخت الناس، فارتج المسجد، ففزع السيد مبارك بن عطيفة وقواده بآلة الحرب وركبوا الخيل، وتبعهم الشريف عطيفة، فبادر ولد أمير الحاج لتخميد الفتنة فأصابته حربة، ففزع والده أمير الحاج أزدمر وهم بقتل الضارب فأصابته حربة أخرى فماتا جميعاً، فاشتد الأمر وعظم وهجم بالخيل إلى المسجد الحرام، ونهبت الأسواق، وتعب الشريف عطيفة، وتحير في أمره ولم يستطع ردهم ولا قهرهم، وكان حتى الحاج نفسه ينهب بعضه بعضاً.(2/403)
فلما بلغ السلطان ذلك أمر بقتل الأشراف، وقطع الأشجار من وادي نخلة والأدوية، وأجلى نساءهم وأولادهم، وجهز عسكراً وأمرهم أن يقيموا بمكة ولا يرتحلوا حتى يقضوا حاجته في المأمور فيهم بذلك. وكان شخص من أهل العلم يسمى قاضي القضاة جلال الدين القزويني واعظاً فقام ووعظ السلطان ونهاه أن يحدث في حرم الله أو أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا مولانا الرأي أن ترضيهم وتأخذهم بالطيب، فأرسل إليهم بعض الأمراء بدون ما كان جهزه ونواه، وعزل الشريف عطيفة لأنهم اتهموه بقتل الأمير أزدمر الخازندار المذكور بعد أن دام سلطانه عليها إلى سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، ورضي عن الشريف رميثة، وأعاده لولاية مكة.
فوليها رميثة بمفرده، وولاه إمرتها مفرداً مستقلاً إلى عام أربع وثلاثين، ومضى عطيفة إلى مصر بعد عزله، ووصل متولياً لإمرة مكة شريكاً لرميثة، ثم أخرجه رميثة ليلة رحيل الحاج من مكة من هذه السنة، ثم اشتركا في ذي الحجة من سنة خمس وثلاثين وسبعمائة.
ثم في رمضان من سنة ست وثلاثين هجم رميثة مكة وخرج منها بعد قتل وزيره الرباع وبعض أصحابه وعاد إلى الجديدة، ثم اصطلحا واشتركا في الإمرة سنة سبع وثلاثين وتوجها إلى مصر للملك الناصر مطلوبين، فعوق عطيفة فيها ولزم حتى مات بها في سنة ثلاث وأربعين بالقبيبات ظاهر القاهرة ودفن هناك، وكان موصوفاً بشجاعة مفرطة رحمه الله تعالى ومما قيل فيه قول العلامة شرف الدين يحيى المعروف بالقشر المكى قصيدة منها: من الكامل:
تَجرِى مَقَادِيرُ الإله بماً تَشا ... والدهرُ قد ألقى إليكَ زِمَامُهُ
أللهُ أَعطاكَ الذي أَملتَهُ ... فَدَعِ الحَسُودَ تُمِيتُه أَوهَامُهُ
ما للسكُوتِ إفَادةٌ عَنْ كل من ... أَمدَت بِه بَيْنَ الوَرَى أَجْرَامُهُ
ها قد قَدَرتَ فَلاَ تَكُن مُتَوَانياً ... فَالأُفْعوَانُ قَوِية أَشمَامُهُ
لاَ تَحلمَن عَنِ العَدُو تَكَرماً ... كَم سَيدِ ضَرت به أَحلاَمهُ
لاَ تَحقرنَّ أَخا العَدَاوة إِنَهُ ... كَالجَمرِ يُوشِكُ أَنْ يَضُرَّ ضِرامُهُ
أَنتَ المليكُ ابنُ المليكِ أصَاَلةَ ... فَالجُودُ مِنكُم وُفرَت أَقْسَامُهُ
أَوَ ماً عَلِمتَ بأن فِيك فَصاحةَ ... ما حَازها قُس ولاَ أَقوَامُهُ
ليثٌ تَخَافُ الأُسدُ من سَطَوَاتِهِ ... غيث يَجودُ عَلَى الأَنامِ غَمَامُهُ
مَن لَيسَ مَشغُولَ البَنَانِ عَن النَّدى ... يَوماً إذا شغَلَ اليَمِينَ حُسَامُهُ
وعاد رميثة متولياً منفرداً، فوصل في سنة سبع وثلاثين، ولم يزل منفرداً بها مستقلاً إلى سنة أربع وأربعين وسبعمائة كما سيأتي.
ووقع في ولاية الشريف رميثة بن أبي نمي واقعة وهي أنه لثلاث وأربعين وسبعمائة وقعت فتنة بعرفة بين الحجاج المصريين، وبين أهل مكة من أهل مكة من قبل الظهر إلى غروب الشمس قتل فيها جماعة، ومن الترك ستة عشر نفراً، ومن أتباع الأشراف ناس قليل، ونفر الناس من عرفة قبل الغروب، وسلكوا طريق المظلمة، ولم يقفوا بمزدلفة، ورحل الحجاج جمعيهم يوم النفر، ونزلوا الزاهر، ولم يطوفوا خوفاً على أنفسهم، وتعرف هذه السنة عند أهل مكة بسنة الظلمة، وأصيب في هذه السنة السيد محمد بن عقبة بن إدريس بن قتادة بن إدريس بن مطاعن يوم الثلاثاء حادي عشر ذي الحجة الحرام.
ثم في سنة أربع وأربعين وسبعمائة: وقع بين أهل مكة كذلك وأمير الحاج حرب، وقتل جماعة، وسلم الله الأشراف، ولله الحمد والمنة.
وسلم الله الحج من النهب ببركة الشريف رميثة، غير أنه كان غلاء عظيم بيعت الويبة الشعير بدينارين، والرطل البقسماط بثلاثة دراهم، والويبة الدقيق بخمسين درهما والإردب القمح بمائتي درهم، وكان الحاج المصري والشامي كبيراً جداً.(2/404)
وفيها أعني سنة أربع وأربعين وسبعمائة: اشترى الشريف عجلان بن رميثة، وأخوه الشريف ثقبة بن رميثة اشتريا مكة من أبيهما رميثة بستين ألف درهم، لأنه كبر سناً، وصار أولاده كل منهم يحكم في البلاد بما شاء واختار، فما رضي بذلك ملك مصر لما بلغه، وأرسل إلى الشريف ثقبة وخدعه وطلبه إليه، فلما وصل إليه بمصر حبسه، فعندما بلغ الشريف عجلان حبس أخيه ثقبة أخذ جلاب اليمن جميعاً فكان ذلك بعض أسباب الغلاء، وأعاد رميثة إلى إمرة مكة فعاد واستمر إلى سنة ست وأربعين وسبعمائة، فعزل عنها بابنه عجلان، وكان الملك الكامل ولاه ذلك من مصر.
فوصل مكة متولياً ودخلها في حياة أبيه.
وتوفي والده رميثة في النصف من شهر ذي القعدة الحرام من السنة المذكورة.
وكان الشريف رميثة سيداً جليلاً فاضلاً نبيلاً، شاعراً كريماً، حازماً حليماً.
ولما تغلب ابنه أحمد على الحلة وأعمالها من العراق كتب إليه أبوه رميثة قصيدة يذكر فيها شرف مكة وفضائلها ويذم العراق وأهله، فلما قتل أحمد وصل الخبر إلى أبيه فقال: قد علمت منذ تعرض لبلاد المغول أنه مقتول.
وانقطع الحاج عن مكة خوفاً من أبيه رميثة.
وكانت وفاة رميثة يوم الجمعة الثامن من ذي القعدة الحرام سنة ست وأربعين وسبعمائة كما تقدم وطيف به أسبوعاً كما هي عادة أسلافه.
وذلك وقت صلاة الجمعة والخطيب على المنبر، فكف حتى فرغوا من الطواف به.
وكان ابنه عجلان يطرف مع الجنازة، ثم جعله في مقام الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم.
ودفن بالمعلاة عند قبر أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم. كانت ولايته على مكة سبع مرات ومجموعها ثلاثون سنة أو أكثر، مستقلاً أربع عشرة سنة ونصف سنة أو أزيد، وشريكاً لأخيه حميضة في مرتين مجموعهما نحو عشر سنين، وشريكاً لأخيه عطيفة ست سنين أو أزيد.
وكان يكنى أسد الدين ويلقب أبا عرادة. وكان له من الأولاد أحمد وسند وثقبة وعجلان ومغامس، رحمه الله تعالى.
ومما قيل فيه قول موفق الدين الحديدي من الكامل:
باللهِ هاتِ عَنِ اللوَى وطُلُولِهِ ... وعَنِ الغَضا وجَلالِهِ وحُلُولِهِ
أَطِل الحَديثَ فَإِنَّ تَقصِيرَ الذي ... يَلقَى مِنَ التبريحِ في تَطْويلِهِ
عَلَّل بِذكرِالعَامِرِيةِ قَلبَهُ ... فَشِفَاءُ عِلةِ ذاك في تَعلِيلِهِ
وإذا عَليِلُ الرِّيحِ أَهدىَ نَحوَه ... نَشراً فَنَشرُ عَلِيله بِعَليلِهِ
رَشأ رَنا فَرَمَى فُؤَادَ مُحبهِ ... عَن قَوسِ حَاجِبِهِ بِسَهمِ كَحِيلِهِ
وحَوى القُلُوبَ بِأَسرِها في أَسرِهِ ... وسَبَى البَها بِرَسيلِهِ وأسِيلِهِ
وَبَيَاضِهِ وسَوَادهِ وقَويهِ ... وَضَعيفِهِ وخَفِيفِهِ وثَقِيلِهِ
وتَفَيأَ الظًّل الذي ضَمِنَت له ال ... أيامُ بَيْنَ مَبِيتِهِ ومَقِيلِهِ
حَط الرِّحَالَ بِمَكة وأَقَامَ فِي ... حَرَمِ الخِلاَفةِ بَعدَ طُولِ رَحِيلِهِ
جَلَبَ المديحَ لمنجبِ بنِ مُحَمد ِابْ ... نِ نَبِيهِ اننِ وَصيه ابنِ بَتُولِهِ
ومنها:
واقرأ تحيتهُ البطين ومجد إِب ... راهيمِهِ في صُلْب إسماعيلِهِ
ما بَين شبره وبَينَ شبيرِهِ ... شرف يَطُولُ لِهَاشِمِ وعَقِيلِهِ
نَسَبٌ كَمُشْتَق الشمُوسِ ومَفْخَر ... باعُ الكَوَاكِبَ قَاصِر عَنْ طُولِهِ
أَما الفُرُوعُ فَلَيس مِثْلَ فُروعِهِ ... وكَذا الأصُولُ فَلَيْسَ مِثْلَ أُصُولِهِ
يَا بْنَ المُظَلَّلِ بِالغَمَامَةِ والذِي ... قد أُنْزِلَ القرآن في تَفضِيلِهِ
مَاذا عَسَى مَدحِي وَقَد نَزَلَ الثنا ... فِيكُمْ مِنَ الرحْمنِ في تَنزِيلِهِ
فِي هَل أَتَاكَ، وَهَل أَتَى، وَحَدِيدِه ... حَقاً، وغَافِرِهِ، وفي تَتزِيله
قَالوا مَدَحتَ رُمَيثَةَ فَأَجَبتُهُم ... لَيسَ المَديِحُ يَنَالُ غير مُنِيلِهِ(2/405)
ولكَيف لا أُثنِي عَلَى من عَمنِي ... دونَ الوَرَى من خَيرِهِ بِجَزِيلِهِ
بِنُضَارِهِ وِلُجَينِهِ وثَوَابِهِ ... وثيابِهِ ورِكَابه وخُيُولِهِ
هذا ما وجدت، ولا أعلم هذا آخرها أم لها آخر، وهي عظيمة الشأن من الحسن في المبنى والمعنى بمكان.
وللأديب أبي عامر منصور بن عيسى بن سحبان الزيدي فيه قصيدة أولها: من الكامل:
ما أَومَضَت سَحَراً بُرُوقُ الأَبرقِ ... إِلا شَرقتُ بدَمعِيَ المُتَرقرقِ
صنَم شُغِفتُ به وغصْنُ شبابه ... غض وَبَردُ شبيبتي لم يخلَقِ
شقت عرى كَبِدِي شقائقُ خدهِ ... وبكأسِ فِتنَتِهِ سُقِيتُ وما سُقِي
ما فاتَ من عُمرِ فلِلْغِيدِ الدمَى ... لا أَرشَ فيه وللصبَابَةِ ما بَقِي
ومن مديحها قوله: من الكامل:
رَجُل إذا اشْتَبَهَ الرجالُ عرفتهُ ... بجلالِ صُورتهِ وحسنِ المنطقِ
ومظفرُ الحملاتِ يرقصُ منه قل ... ب المغربِ الأَفصَى وقلبُ المشرقِ
عَلَم يدلُّ على كَمَالِ صفاتِهِ ... كَرَمُ الفُرُوعِ له وطيبُ المَعرقِ
يلقَى بوجهِ البِشرِ طارقَ بابِهِ ... لَيلاً ويرزقُ منه من لم يرزقِ
عَزت بنو حَسَنٍ بدَولته التي ... عز الذليلِ بها وأَمنُ المفرقِ
هو صُبح ليلتها وبدرُ ظَلَامِها ... ولسانُ حِكمَتِها وصدرُ الفيلقِ
لا يتقَى من كُل حادثة بها ... وبه بِمَكرُوهِ الحوادثِ نتقِي
وله فيه أيضاً: من الخفيف:
حَفِظَ العَهْدَ بعدنا أَم أضاعا ... وعَصَى لائتمامه أمْ أطاعا
ورعَى حرمةَ الجوارِ وراعَى ... أم وهى بالفراق قلْبى وَرَاعَا
مَنْ يكُن يحمدُ الوَدَاعَ فإِني ... بعد يومِ النوَى أذمُ الوداعا
جيرتي ما لنا حَفِظنا هواكُم ... وغدا حبنا لديْكُمْ مُضَاعا
إن من قَدر الفراقَ علينا ... قادر أن يقدرَ الإجتماعا
قل لذاتِ القناعِ هل جئت ذنباً ... فيكِ حتى أسبلتِ دوني القناعا
إن من أشبَعَ السوارَينِ يَدي ... كِ لَمَجْرى الوشاح مِنكِ أجاعا
ومنها: من الخفيف:
قل لِأَهلِ الزمَانِ إني وإن رِي ... عَ سوَاي بكَيْدكُمْ مُرتاعا
نحنُ في دولةٍ إذا مَدتِ النا ... سُ إلَيْنا شبراً مددنا ذراعا
طلبت بي أبا عرادة عيس ... لا تمل الإرقالَ والإيضاعا
عرست من رميثة بعراصٍ ... لم يزل نبتُ روضها ممرَاعا
نزلَت سوحَهُ عطاشاً جياعاً ... فَأَقَامَت به رواءً شِباعا
رَجُل لا تراه بالمالِ مفرا ... حاً وَلاَ من مُلمَّة مِجْزَاعا
وعليه بِكرُ الخلافةِ ألقَت ... إذ رَأَته رداءها والقِنَاعا
ليس بالنّازلِ الوِهَاد مِنَ الأر ... ضِ ولكنَّهُ يحلُّ اليفاعا
موقداً ناره على نَشَزِ الأر ... ضِ إذا الناسُ لبسوها القفاعا
نَم هنيئاً يا جاره مِلءَ عيني ... كَ ولا تخشَ نائباً أن تراعا
ثم وليها بعده ابنة عجلان بن رميثة بن أبي نمي بن محمد بن أبي سعد الحسن بن علي بن أبي عزيز قتادة يلقب عز الدين.
ولي مكة غير مرة نحو ثلاثين سنة منفرداً إلى سنة ثمان وأربعين، ثم شريكاً لأخيه ثقبة إلى سنة خمسين وسبعمائة ولولده أحمد بن عجلان.(2/406)
ووقعت بينه وبين أبيه وإخوته وولده أحمد منازعات اقتضت عزمه إلى مصر مراراً أولها سنة موت والده رميثة سنة أربعين وسبعمائة، فوافق وصوله إِلَيها موت ملكها الملك الصالح وتولية ابنه الكامل، فولى الكامل الشريف عجلان مكة منفرداً فوصل إليها وقرئ مرسومه بالتولية ودعي له بعد المغرد بأعلى زمزم على العادة، وقطع الدعاء عن والده رميثة. وذهب أخوه ثقبة إلى وادي نخلة وأعطى عجلان أخاه مغامس - أو مباركاً - المكان الذي عرف بالواديين، وأظهر الشريف عجلان العدل في مكة وأبطل المكوس والنهب والقتل وخرج ربع الجبايات.
ففي سنة ثمان وأربعين وسبعمائة وصل ثقبة من مصر، وبيده مرسوم بنصف البلاد، وأن الشريف عجلان يكون له النصف الآخر.
وفي سنة تسع بتقديم التاء وأربعين وصل إلى مكة إليه مبارك بن عطيفة من اليمن وهم أن يدخل مكة فألقى الله في قلبه الرعب فرجع، ووصل إلى سواكن ومات بها.
ثم وقع بين الشريف عجلان وأخيه الشريف ثقبة سنة خمسين وسبعمائة فتنة، وكان ثقبة بالجديد وعجلان بمكة فخرج إليه الشريف عجلان، فلما هم بالقتال منعه الأشراف والقواد وأصلحوا بينهما، وعزم الشريف عجلان إلى خيف بني شديد ودخل ثقبة مكة.
ثم عزم عجلان إلى مصر، وهذه هي السفرة الثانية، فقطع الشريف ثقبة الدعاء لأخيه عجلان، فلما وصل الشريف عجلان إلى مصر كتب له مرسوم بإمرة مكة وأرسل معه أمير واشترى المماليك لنفسه، واستخدم حملة عسكر وتجهز، وصحب معه حمل نشاب وقسى، ووصل إلى مكة بهذا الجمع، فعزم الشريف ثقبة وأخواه سند ومغامس إلى اليمن، وتلقوا الجلاب ونجلوها بحلى، واستمر الشريف عجلان في ولاية مكة.
فلما كان موسم إحدى وخمسين وسبعمائة وقع بمنى قتل ونهب من أول النهار إلى غروب الشمس، وذلك أن السلطان الملك المجاهد صاحب اليمن حج في عسكر كبير، ووصلوا مع الأشراف السيد ثقبة وأخويه سند ومغامس، فأوحى الشريف عجلان إلى أمراء الحاج المصري والشامي أن الملك المجاهد نيته أن يولى ثقبة إذا عزمتم، ويخلع كسوتكم ويكسو البيت بالكسوة التي صحبها معه، فأرسلوا إليه وعرفوه بما ذكر، فأنكر ذلك.
فقالوا: أعطنا ثقبة يكون رهناً عندنا حتى ندعك تدخل، فأرسل إليهم بالشريف قبة فأجلوه وعظموه، فلما وصل وحج هجموا عليه بمنى وهو نائم، وقد تفرق عنه جماعته فنهبوا محطته، وبعض الحريم فنجا بنفسه إلى أعلى الجبل، فلما رأى ما وقع صاح عليهم الأمان: إن كان لكم غرض بي أنا آتيكم، ما فعل هؤلاء الضعفاء؟ فسكن الحرب ونزل إليهم، فترجلوا له عن الخيل وأركبوه بغلاً وذهبوا به، فما صفت المسألة حتى قتل خلق ونهبت الناس، وألزم الأمراء الشريف عجلان بحفظ الحاج، غير أن العرب وبعض العبيد نهبوا الناس ما بين منى ومكة.
ولما وصل الحاج والأمراء وادي مر في موسم أربع وخمسين وسبعمائة واجههم الشريف عجلان وشكا عليهم ما فعله أخوه الشريف ثقبة في السنة التي قبل هذه سنة ثلاث وخمسين وأنه أخذ أمواله وخيله وعبيده، وقيده فخلصه الله تعالى، فوعدوه بالولاية وطمنوا خاطره.
فلما وصلوا الزاهر خرج إليهم الشريف ثقبة على المعتاد، فتكلموا معه في الصلح مع أخيه الشريف عجلان، فامتنع فلم يزالوا يلاطفونه حتى دخل إليهم.
فقال لهم الشريف ثقبة: إن كان هذا بأمر السلطان فنعم وإلا لا أفعل، فقبض بعض الأتراك على سيف ثقبة والباقون احتاطوا بمن معه، فأنزلوهم عن خيولهم وكبلوهم في الحديد هو وأخويه سند ومغامس وابن عمه محمد بن عطيفة وفر القواد والعبيد، ثم أحضروا عجلان، وألبسوه الخلعة، ودخلوا به مكة ولم يختلف عليه اثنان، فلما أتموا الحج ذهبوا بالأشراف إلى مصر، ووضعوهم في الحبس، ودام عجلان على ولاية مكة منفرداً مستقلاً إلى أن فك ثقبة، والأشراف الذين معه وشاركه في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، واستمر حتى عزلا بأخيهما سند بن رميثة وابن عمهما محمد بن عطيفة.(2/407)
ثم وليها سند ومحمد بن عطيفة في سنة ستين وسبعمائة شريكين، واستمرا إلى أوائل سنة اثنتين وستين وسبعمائة، ففيها قدم الشريف عجلان من مصر متولياً، وأشرك أخاه ثقبة، فمات ثقبة، واستقل عجلان كما سيأتي ذكر ذلك آخر السوادة، وأخذ الشريف عجلان وولده أحمد، وذهب بهما إلى مصر فحبسا، وجهز الملك الناصر حسن بن قلاوون عسكراً لتأييد سند ومحمد بن عطيفة مقدمهم الأمير بكتم المارديني، وانصلح لذلك حال مكة حتى انقضى الحج من سنة إحدى وستين وسبعمائة.
ثم قامت فتنة بين بني حسن والعسكر الذي وصل من مصر والشام للإقامة بها عوض بكتم الأمير ومن معه، كان الظفر فيها للأشراف، وسبب ذلك أنه أشيع بمكة أن من نية العسكر المقيمين بمكة القبض على شريفها الشريف سند، ففرت الأشراف لما قاسوه من هذا الأمر، فإن الشريف عجلان وولده أحمد إلى الآن محبوسان بمصر، فأشيع ذلك قبل قدومهم، فلما وصل العسكر إلى مكة أرادوا أن ينزلوا بيتاً بالصفا للأشراف، فطالبهم الشريف صاحب البيت بالأجرة، فضرب التركي الشريف، فقتله الشريف، فتراكم الأتراك على الشريف فصاح لرباعته، فاجتمعوا إليه جماعة، واشتد الأمر، فقصدت الأشراف أجياداً فوجدوا خيلاً للترك على باب الصفا كان الأمراء اعتمروا فهم في الطواف فركبت الأشراف تلك الخيل، فبلغ الأمراء ذلك وهم يطوفون، فقطعوا الطواف وقصدوا المدرسة ليحفظوها وقفلوا أبواب المسجد الحرام وتحصنوا به، وأمروا بهدم الظلة التي على رأس زقاق أجياد الصغير ليروا من يقدم عليهم منه، وكان غالبهم بسطح المسجد يرمي بالنشاب، وسدوا الطريق بالأخشاب لئلا يخرج عليهم أحد من أجياد الكبير.
هذا خبر الترك.
وأما بنو حسن فإنهم استدلوا أيضاً على إصطبل لبعض الأمراء، وقصدوا الأمير قندس، وكان نازلاً بأجياد بالزباهية فقاتلوه من خارج، ودخلوا عليه الدار، فقتلوا جماعته وأسروه، ونهبوا ما كان عنده جميعه، واستجار نساؤه ببيت السيد مبارك بن رميثة، وجاء السيد مغامس من أجياد ليقاتل الترك الذين في المسجد، فجفلت به فرسه فسقط فقتلوه، وبقي في مصرعه إلى المغرب، وأراد محمد بن عطيفة أن يتعصب للترك، فتهدده بنو حسن بالقتل، وكان محمد بن عطيفة تأخر عن نصرة العسكر، فخرج خائفاً يترقب، فدخل الشريف ثقبة مكة سادس عشر ذي الحجة، وشارك أخاه سنداً عوض محمد بن عطيفة، وانقطع عن محمد هذا فأراد الاجتماع بالترك فلم يمكنوه لما حل بهم من خوف الأشراف، وما فعلوه بهم بحيث إنهم باعوا بعضهم في الحراج ينادي عليه الدلالون في الأسواق، ثم ذهبوا فلم يبق منهم ألا أمير واحد وأولاده، فاقترض ما تزود به، وترحل عن مكة، وفر غالب أهل مكة أرباب الأموال خوفاً من الأشراف، ألا أن الله سلمهم من النهب، اكتفوا بما أخذوه من أموال الأتراك.
وتوجه محمد بن عطيفة إلى مصر فلم ير بها وجهاً، واستمر بها إلى أن مات سنة أربع وستين وسبعمائة.
ومما قيل فيه من المدح قول الشاعر المعروف بالنشو قصيدة هي: من الطويل:
أترضَى بإِتلافِ المحب ظلامةً ... فتأخذه بالعُنْفِ والرفقُ أليقُ؟!
أعندكَ علم أنهُ بكَ هائم ... وأَكْبَادُهُ من لوعةِ الهجرِ تحرقُ
فَأَحْوَالُه تُنْبِي بما في ضميرِهِ ... إذا لم يكُن للقَولِ منه مصدقُ
بلَوتُ بني الدنيا جميعاً بأسرِهِم ... وَجَربتُهُنم إن التجاربَ تصدقُ
فلم أَرَ في ذا العَضرِ مثلَ محمدٍ ... إماماً به الدنيا تضئ وتشرقُ
جواداً إذا جار الزمانُ على الورى ... يجودُ بما تَحوِى يداهُ وينفقُ
لقد جلَ عن قدر الملوك الألى مَضَوا ... إلى الغَايةِ القصوَى مِنَ الفضلِ يسبقُ
يجود على العَافِي ويبدِي اعتذارَهُ ... فَأَوراقُهُ بالجودِ والبذلِ تورقُ
لقد عَجَز المداحُ في بعضِ وصفِهِ ... عليهم بأنواعِ المكارمِ يغدق
على أنه واللهِ واحدُ عصيرهِ ... وهل مثله من بعدِ ذا العصرِ يخلقُ
ومن لامني في مدحه فهو جاهلَ ... فَجِيدي بالإحسانِ منه مطوقُ
وإن كان مدحُ الغَيرِ عندي سُنةً ... فمدحي له فرضٌ علي مُحَقق(2/408)
فلما بلغ صاحب مصر فعل الأشراف بالترك، أرسل بالشريف عجلان وولده أحمد من سجن القاهرة إلى سجن الإسكندرية بالبرج.
قلت: ذرية بعضها من بعض، سبحان الله، هكذا وقع في سنة ثمان وسبعين بعد الألف لما أوقع مولانا السيد حمود بن عبد الله بن حسن بالترك قريباً من ينبع فكسرهم وبحد شملهم وقهرهم، وكان قد أرسل ولده المرحوم السيد أبا القاسم بن حمود والسيد محمد ابن المرحوم السيد أحمد بن محمد الحارث بن حسن إلى باشا مصر بهدية وقواد من الخيل، فاحتفظ بهم أولاً في المحل المعروف بالسلطان قايتباي ثم في بيت أغاة الأنكشارية، فلما جاءهم خبر جماعتهم وَما جَرَى عَلَيهِم من أبويهما تحركت حمية الغضب على هذين الشريفين، فنقلا إلى السجن الكبير المسمى عرق خانة سجن الدم، فقدر الله إطلاقهما بعد ذلك ولله الحمد. فذكرت بتلك الواقعة هذه الواقعة، ألا أن الشريف عجلان وولده فكا وأعطيا إمرة مكة وهذان لم يعطياها وتلك قسمة إلهية. انتهى.
وأمر السلطان بإرسال عسكر إلى الحجاز يتتبعون الأشراف وجندهم وعزلهم عن إمرة مكة وقال: لا حاجة لنا بهم.
فلم يستمر بعد هذه النية ألا أياماً حتى ركب عليه عسكر مصر عزلوه، وولوا الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر، فأطلق الشريف عجلان وولاه مكة وأشرك معه أخاه ثقبة بن رميثة بسؤاله لذلك، فلما أقبل الشريف عجلان ووصل إلى وادي مر اجتمع فيه بثقبة عليلاً مدنفَاً، فمات ثقبة بقرب ذلك في شوال سنة اثنتين وستين وسبعمائة بالجديد، وحمل إلى مكة فدفن بالمعلاة.
وكان موصوفاً بالكرم والشجاعة. ومما قيل فيه قول ابن غنائم من قصيدة: من المنسرح:
ماخفقَتْ فَوْقَ منكِب عذَبهْ ... على فتىً كابن مُنْجِدٍ ثقبَهْ
ولا اعتزَى بالفَخَارِ منتسبْ ... إلا وفَاقَتْ علاه منتسبَهْ
منتخب من سليل منتخب ... مُنْتَخَب من سَلِيلِ منتخبَهْ
كم جَبَرتْ راحتاه منكسراً ... وفَك من أسْرِ عُسْرَةٍ رَقَبَهْ
فولى الشريف عجلان ولده أحمد عوض ثقبة، وجعل له ربع الحاصل، ثم جعل له ربعاً آخر.
ثم في سنة ست وستين وسبعمائة ورد الأمر من صاحب مصر على يد الأمير بهادر والأمير سفيان الطولوني إلى شريف مكة بإسقاط المكوس والضرائب، وعوض أمير مكة عن ذلك في كل سنة مائة وستين ألف درهم وألف إردب قمحاً ونقر ذلك في دعائم بالمسجد الحرام جهة باب الزيادة وباب العجلة المسمى باب الباسطية أو باب الصفا، وهي موجودة إلى الآن مؤرخة بالسنة المذكورة أعني سنة ست وستين وسبعمائة.
ولما عزل سند ومحمد وولي عجلان من مصر فوصل إلى مكة، وأشرك أخاه ثقبة ثم مات ثقبة فأمر ولده أحمد بالاجتماع بالقواد ليسألهم أن يسألوا له والده أن يشركه معه في إمرة مكة وكانوا يخدمون سنداً، فاجتمع بهم أحمد فأقبلوا عليه وعرف ذلك سند فخاف على نفسه فهرب إلى نخلة، وقيل بل أقام بوادي مر بالجديد واستجار بابن أخيه محمد بن عجلان، ثم وقع بين بعض غلمان سند وبين بعض غلمان أحمد شيء أوجب تغير خاطر أحمد عليه فأمره بالانتقال من الجديد، فانتقل إلى وادي نخلة ثم إلى الطائف ثم إلى الشرق ثم إلى المدينة ثم إلى ينبع، فوصله وهو بها أوراق بني حسن يأمرونه بالقدوم إليهم ليساعدوه على ولايتها فوصل وقصد محاربته فلم يتم له ذلك، فعرض له مرض مات به سنة 763 ثلاث وستين وسبعمائة بالجديد. واستولى ابن أخيه عنان بن مغامس بن رميثة على خيله وسلاحه وذهب به إلى اليمن.
ومما قيل في الشريف سند بن رميثة قول حمزة بن أبى بكر الشاعر المشهور قصيدة هي: من الطويل:
خَلِيلي إما جئتما رَبْعَ ثهمدِ ... فلا تَسْأَلاَهُ غَيْرَ عَنْ أم معبدِ
وإن أَنْتما أبصرتما بانة الحِمَى ... ورَسْماً لذاتِ المبسمِ المتبددِ
فَأَولُ ما تستنشدا عن حلولِهِ ... وتستفهما أَخْبَارَ رَسْم ومعهدِ
عسَى تخبرالأطلالُ عمن سَأَلتُما ... بما شِئتما للمستهامَِ المسهَّدِ
ومنها: من الطويل:
وفي سَنَدٍ أسندتُ مدحاً منضداً ... غَرِيبَ القوافِي كالجمانِ المنضَدِ
هو القَيلُ وابن القَيْلِ سلطان مكة ... وَحامِي حماها بالحسامِ المهندِ(2/409)
وصفوة آل المُصْطفَى طود فَخرهم ... وبَاني علاهُمْ فوقَ نَسْرٍ وسرددِ
بَنَى ما بني قِدماً أبوه رميثة ... وشاد الذي قَدْ شَادَ من كل سؤددِ
وشن عتاقَ الخيل شُعثاً ضوامراً ... وأفنَى عَلَيْها كل طاغِ ومعتدِي
فروى صفاحَ البِيضِ من مُهَجِ العدَى ... وسُمْرَ القنا مهما اعتلَى ظهْرَ أجردِ
وأبيضَ طلق الوَجْهِ يهتز للندَى ... ويُجْدِي إذا شَح الحيا كل مجتدِي
كريمٌ حَلِيٌم ماجدٌ وابنُ ماجدٍ ... ظَرِيف شريف سيدْ وابنُ سيدِ
إمامُ الهدَى بَحْرُ الندا مهلكُ العدَى ... وَبَدرٌ بدا من آل بيتِ محمدِ
أشُم طويلُ الباعِ ندب مُهَذب ... أغر رحيبُ الصدرِ ضخْمُ المقلَدِ
فدوحتُهُ بين الوَرَى خير دوحةٍ ... ومحتده بين الوَرَى خيرُ مَحْتِدِ
إليكَ جَلَبتُ المَدح إذ أنتَ كفؤُهُ ... وإن أنا أجْلبْهُ لغيركَ يكسدِ
وما مدحكم ألا عَلَينا فريضَة ... ومدحُ سِوَاكُم سنة لم تؤكدِ
ثناؤُكُمُ أَثنَى به اللهُ جهرةَ ... وأنزله وَحياً على الطهْرِ أحمد
فولى الشريف عجلان ولده أحمد عوض ثقبة، وجعل له ربع الحاصل، ثم جعل له ربعاً آخر، ثم ترك له الإمرة على أن لا يسقط اسمه من الخطبة وغير ذلك، فوفى له أحمد بذلك حتى توفي في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وسبعمائة.
وكان عجلان في سنهَ ثلاث وستين وسبعمائة حارب أحمد بن عيسى الحرامي صاحب حلى بمكان يقال له فجرة، فظهر عجلان على أحمد بن عيسى المذكور.
وكان عجلان رحمه الله تعالى شيخاً صالحاً سعيداً اتفق له ما لم يتفق لأسلافه من السعودات فإنه أول من ملك بلاد حلى من أهله السابقين، وبنى الحصون بأجياد، وأرض حسان والمدارس بمكة، وملك العبيد والخيول، والدروع الكثيرة، وأنشأ بمكة سبيلاً للماء بالمروة واستمرت خيراته وحسناته.
ومدحه جماعة من الشعراء منهم الشاعر المعروف بالنشو وغيره وكان له جملة من الأولاد منهم: أحمد وكبيش ومحمد وعلي وحسن.
وتوفي عجلان ليلة الإثنين حادى عشر جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وسبعمائة في جمادى الأولى كما تقدم آنفاً بأرض الجديد، وحمل إلى مكة، ودفن بالمعلاة، وبنى عليه قبة، وبلغ من العمر نحو سبعين سنة رحمه الله تعالى.
ومما مدح به الشريف عجلان قول الشاعر المعروف بالنشو قصيدة هي: من الكامل:
لَولا الغرامُ ووجدهُ ونحولُهُ ... ما كُنتَ ترحمُهُ وأنتَ عذولُهُ
إن كنتَ تنكرُهُ فَسَل عن حالِهِ ... فَالحُب داء لا يفيقُ عليلُهُ
يا من يَلُومُ على الهَوى أهلَ الهوى ... دَعْ لومهُم فالصبْرُ ماتَ حميلهُ
دع عنك من لا خَيرَ فيه من الورى ... لا تَمتَدحهُ وفي الأنامِ بديلُهُ
وامدح مَلِيكَ العَصرِ وابْنَ مليكِهِ ... من شَاعَ ما بين الملا تفضيلُهُ
عجلانُ نَخل رُمَيثَة بنِ محمدٍ ... أمن الَحَوادِثَ والخطوبَ نزيلُهُ
وَرِثَ الَمَكارِمَ كابراً عن كابرٍ ... فنوالُهُ للعالمينَ ينيلُهُ
مِن آل أحمد واحد في عصرِهِ ... فهو الشريف ابن الشريفِ سليلُهُ
ماذا يقولُ المدحُ فيه وما عسَى ... إذ كان يَخْدمُ جدَكُم جبريلُهُ
أما الملوكُ فَكُلهُمْ مِنْ دونه ... كالبَدْرِ في أُفْقِ السماءِ حلولُهُ
سلطانُ مكَّةَ والمشَاعرِ والصفا ... مَنْ لا يَخَافُ مِنَ الزمانِ نزيلُهُ
لو حاوَلَ النجمَ العَظِيمَ لنالَهُ ... تنبيك عِنْهُ رِمَاحُهُ ونصولُهُ
سكنَت مَحَبتُهُ القلوبَ جميعَها ... لما تَقَارَنَ سَعْدُهُ وقبولُهُ(2/410)
ثم وليها أحمد بن عجلان قبل وفاة أبيه، وذلك بسبب أنه لما جعل له ربع المحصول عوض عمه ثقبة طلب أحمد ربعاً آخر، فأجازه له والده، ثم إن والده لما رأى إقبال الناس على أحمد، ومحبتهم له أراد إغاظته بأخيه محمد بن عجلان فأعطاه خيلاً ودرعاً، فلم ينهض محمد لما أريد منه، فبلغ ذلك أحمد فعاتب أباه عجلان فاعتذر له، وقال له: أنا أترك لك البلاد كلها، فوقع الاتفاق على أن أحمد يعطي أباه عجلان النقد الذي شرط له، وأن يكون له أيضاً في كل سنة الجزء الذي قرر لعجلان بديار مصر في مقابلة إسقاط المكس عما يصل إلى مكة من المأكولات، وعن مكس الحجاج من الديار المصرية والشامية الواردين بحراً وبراً وهو مائة ألف درهم وستون ألف أردب قمح، وأن لا يقطع اسم عجلان من الدعاء في الخطبة مدة حياته، فالتزم أحمد بجميع ذلك، فألح عجلان في تحصيل النقد المشروط على أحمد استعجازاً منه له ليكون سبباً لرجوع الأمر إليه، فيسر الله لأحمد من أعانه على إحضار المال فأحضره، فلم يجد بداً من قبوله فوفاه بجميع ما التزمه من الوعود، واستمر أحمد حتى مات حادي عشر شعبان سنة ثمان وستين وسبعمائة: وكانت مدته ستاً وعشرين سنة.
قال في الدرر الكامنة في أخبار المائة الثامنة كان أحمد بن عجلان عظيم الأبهة واسع الحرمة كثير الرئاسة ملك جملة من العقار والعبيد وعدل وقمع المفسدين.
ثم وليها الشريف محمد بن أحمد بن عجلان ثمان سنين شريكاً لأبيه ومائة يوم مستقلاً بعده، ثم قتل في مستهل ذي الحجة من السنة المذكورة لما حضر لخدمة المحمل المصري بظاهر مكة.(2/411)
سبب ذلك أن أباه الشريف أحمد بن عجلان كان قد وقع بينه وبين ابن عمه عنان بن مغامس منافرة، فسافر عنان ومعه حسن بن ثقبة إلى مصر فبالغا في شكوى أحمد، وسألا من السلطان برقوق أموراً أجابهم إليها لصدور رقة عنان، فأرسل أحمد بن عجلان بهدية سنية صحبة كبيش إلى السلطان، فلما رأى كبيش رواج عنان كند السلطان ما أمكنه ألا أن يلتزم على أحمد جميع ما أراده عنان وما أمر به السلطان خشية من حصول مكدر على أحمد وعليه، فوصلوا جميعاً إلى مكة فعرف كبيش أحمد بالأمر، وقال له: لابد لك من الموافقة على ما رسم به السلطان لكما أو الفتك بعنان، فاختار الثاني. فاجتمع عنان وحسن بأحمد بعد التوثق منه فما أجاب لمرادهما، ثم فطن عنان لقصد أحمد فيه ففر إلى الينبع وتلاه حسن بن ثقبة، ثم حسن لهما أمير الحاج المصري أبو بكر بن سنقر الجمالي الرجوع إلى مكة، وحسن محمد بن عجلان أن يرجع معهما إلى مكة، وكان قد توجه من مكة مغاضباً لأخيه أحمد وضمن لهم الأمر المذكور أن أحمد يقضي حوائجهم إذا وصلوا إليه ورجعوا، ما اجتمعوا بأحمد قبض عليهم، وضم إليهم أحمد بن ثقبة وابنه علياً بن أحمد بن ثقبة، وقيد الخمسة وسجنهم بالعلقمية من أول سنة سبع وثمانين وسبعمائة إلى موسمها، ثم نقلهم إلى أجياد، ثم أعادهم بعد الموسم إلى العلقمية فدبروا حيلة خروج منها، وربطوا سرراً كانت عندهم بثياب معهم، وصعدوا غير محمد بن عجلان حتى بلغوا طاقة تشرف على منزل ملاصق لسجنهم، فنزلوا منها إليه ففطن لهم بعض الساكنين فصاح عليهم يظنهم لصوصاً فسمع الصياح الموكلون بهم وعرف الأشراف تيقظ الموكلين بهم، فأحجموا عن الخروج ألا عناناً فإنه أقدم، ولما بلغ إلى باب الدار وثب وثبة انفك القيد بها عن إحدى رجليه وما شعر به أحد حين خرج، فسار إلى جهة سوق الليل وما كان غير قليل حتى رأى كبيشاً والعسكر يفتشون عليه بضوء معهم فدنا إلى مزبلة بسوق الليل وأظهر أنه يبول، فأخفاه الله عن أعينهم، فلما رجعوا سار إلى أن لقيه بعض معارفه فعرفه خبره، وسأله في تغيبه فغيبه في بيت بشعب علي في صهريج فيه ووضع على فمه حشيشاً ودابة ليخفي موضع الصهريج، وفي الصباح أتى كبيش إلى ذلك البيت فما وجده فيه فقيل له إن في البيت صهريجاً فأعرض عن ذلك لما أراده الله من سلامة عنان، ثم بعث عنان إلى أقاربه من ذوي راجح وسألهم الإعانة بمركوب له ولمن يسافر معه فأجابوه وأخرجوا له ركائب إلى المعابدة وحملوا عليها فخاراً ليخفوا أمرها على من رآها، فخرج عنان إلى المعابدة ونزل عند امرأة يعرفها فألبسته لباسها، ونمى الخبر لكبيش، فأتى منزلها وسألها فنالت من عنان كثيراً فصدقها كبيش، فلما كان الليل ركب مع رجلين أو ثلاثة الرواحل التي أعدت لهم، فوقفت بعض ركابهم قبل وادي مر، وما وصل هو إلى خليص ألا وقد كلت راحلته، فسأل بعض أهل خليص عن راحلة لبعض أصحابه بلغه أنها بخليص فأخبر بوجودها فأخذها. ويقال: إن صاحبها كان إذا خلص من علفها يقول: ليت عناناً يخلص فينجو عليك فكان ما تمناه، فوصل إلى ينبع ثم منها إلى مصر، واستجار بملكها برقوق أول ملوك الشراكسة بمصر.
فأرسل الشريف أحمد بن عجلان يطلبه، فكتب إليه السلطان يقول: وأما ما ذكرت من جهة عنان فإن الله سبحانه وتعالى يقول: " وإن أَحَد مِنَ اَلمُشركِينَ اَستَجَارَكَ فَأجِره " التوبة: 6 فكيف إذا استجار بنا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأمره بإطلاق الأشراف فامتنع من ذلك، ثم قدر الله أن الشريف أحمد مات في سنة ثمان وثمانين وسبعمائة كما تقدم ذكره، وأقيم عوضه في إمارة مكة ولده محمد هذا ابن أحمد بن عجلان، كان المدبر لأمر ملكه عمه كبيش بن عجلان، فبعد موت أحمد بن عجلان عمد كبيش إلى الأشراف المذكورين وسمل أعينهم جميعاً فتألم الناس لذلك غاية التألم.
ولم يحصل له بعد ذلك راحة، وتوهم كبيش أن ذلك يكون حسماً لمادة الشر ونجاحاً، فكان للشر مفتاحاً.(2/412)
فلما بلغ السلطان ذلك تغير خاطره على محمد بن أحمد وعلى عمه كبيش بن عجلان، وولى إمرة مكة للسيد عنان بن مغامس، وكتم ذلك عن الناس، وخادع محمد بن أحمد وعمه كبيش بن عجلان بإرسال الخلع والمراسيم وزينت مكة، فلما تجهز الحاج خرجوا معهم بالسيد عنان بن مغامس كآحاد الناس لا يلتفت إليه إذا حضر كل ذلك لما أضمروه، فلما وصل الحاج إلى الزاهر بعثت أم محمد الشريفة فاطمة بنت ثقبة إلى أمير الحاج شركس الخليلي أمير آخور بعد أن أهدت إليه هدايا تسأله عن حال ابنها محمد وعنان فذكر لها أنه لا يعلم على ابنها سوءاً وربما حلف لها على ذلك، فانشرح لذلك خاطرها وحسنت لابنها الإقدام عَلَى ملاقاةِ المحملِ المصري، وَما زَالَت به حَتى وافقها فخرج في عَسكرِهِ إِلى لِقَائِهِ على العادةِ هو وعمه كبيش، فلما أراد أن يقبل الجمل - على ما كان يفعله الشراكسة مِنَ الجهلِ - وثب إليه اثنان من الزعر من المحمل كل واحد بيده خنجر طعناه فمات من حينه، فعوجل بالعقوبة في هذه المدة اليسيرة إذ قد تقدم أن مدة ولايته مستقلاً مائة يوم، نسأل الله حسن الخاتمة ونعوذ به من سوء القضاء.
وفر عمه كبيش إلى جده فتبعوه فلم يحصلوه، وألبسوا الشريف عنان بن مغامس الخلعة، ودخلوا به مكة فوليها عنان بن مغامس، فلما وصلوا إلى أجياد تلقاهم بعض أصحاب الشريف محمد من العبيد والقواد، فتقاتلوا معهم فلم يلبثوا أن ولوا هربَاً.
وَحَج بِالنَّاس الشرِيفُ عنان والناسُ في غايةِ الاضطراب والخوفِ.
ثم لما عزم الحاج أرسل عنان إلى كبيش عسكراً ليخرجَه من جدة ففر منها.
وسامح الشريف عنان الشيبيين فترك ما كان تأخذه الأشراف منهم بالقوة وهو خمسة آلاف درهم في كل عام وجانب من الكسوة مع البرقع وثوب مقام الخليل.
وجرى بينه وبين كبيش فتن وجموع، ولم تصف البلاد له بحيث إنه عجز عن إقامة الجند والأشراف، فأخذ حاصل السلطان وما فيه، ونهب جدة وأموال التجار والمراكب غير مرة.
ثم إن كبيش المذكور عاد إلى جدة وحده، فنهبها وعاث عبيده في الطرقات، فخشي عنان من كثرتهم، وأشرك معه في الإمرة ابني عمه أحمد بن ثقبة، وعقيل بن مبارك ثم أخاه علي بن مبارك ثم دعا لهم معه على المنبر وزمزم، وظن بذلك أن يقوي أمره، ولم يساعده القدر فبلغت أحواله إلى السلطان برقوق بمصر، فعزل عنان في رجب سنة تسع وثمانين وسبعمائة ثم ولى عوضه علي بن عجلان.
فوليها علي بن عجلان في السنة المذكورة بعد عزل عنان حنقاً عليه لما اتفق في ولايته من استيلاء كبيش، وجماعة عجلان وابنه أحمد ومن انضم إليهما وعجز عنان عن دفعهم عن الاستيلاء على جدة، فوصل النجاب إلى عنان ليسلم مكة لعلي بن عجلان، وجماعته في النصف الثاني من شعبان من السنة المذكورة، فأقبل علي بن عجلان في جموع متقدماً فمنعهم عنان وأصحابه من دخول مكة، وامتنع هو وجماعته من آل أبي نمي من تسليم مكة لآل عجلان، فتحارب الفريقان بالقرب من ثنية أذاخر في التاسع والعشرين من شعبان سنة تسع وثمانين وسبعمائة فقتل كبيش بن عجلان، وطائفة من عسكر علي بن عجلان.
فتم النصرُ لعنان ورجع علي ومن معهم إلى محلهم وهو القصر من وادي مر وذلك في سلخ شعبان من السنة المذكورة.
وفي شهر رمضان توجه علي إلى مصر، فأقبل عليه السلطان، وولاه إمرة مكة فأقبل صحبة الحاج المصري في ظل من ولاه.
واستمر عنان بعد خروج علي إلى القصر، ومن معه مقيماً لم يبرح حتى فارقها هو ومن معه عند وصول الحاج المصري إليها وصحبته علي بن عجلان المذكور، فخرج عنان ومن معه وقصدوا الزيمة، فدخلها على وقرئ توقيعه على مقام الحنابلة، وحج بالناس، وعنان مقيم بالزيمة بوادي نخلة اليمانية وكان أصحابه سبقوه إليها، فقصدهم علي بن عجلان في طائفة من الترك فوجدوهم محاربين لقافلة بجيلة فلما أحسوا بهم هربوا وقتل أصحاب علي بن عجلان منهم مبارك بن عبد الكريم من الأشراف وابن شكران من أتباعهم، وعادوا إلى مكة ومعهم من خيل الأشراف خمس، ومن دروعهم ثلاثة عشر درعاً ووصلت قافلة بجيلة إلى مكة فانتفع الناس بها، وعادوا إلى مكة عشري ذي الحجة الحرام.(2/413)
وبعد رحيل الحاج نزل عنان وأصحابه الوادي وشاركوا علي بن عجلان في أمر جدة، ثم سافر عنان في أثناء سنة تسعين وسبعمائة واصطلح علي بن عجلان والأشراف واستمر متولياً منفرداً بالإمرة إلى أن شاركه فيها عنان في عام اثنين وتسعين وسبعمائة، فوصل إلى مكة في شعبان من السنة المذكورة واصطلح مع آل عجلان، وكان معه القواد ومع علي الأشراف، وكانا غير متمكنين في القيام بمصالح البلد لمعارضة بني حسن لهما في ذلك، واستمر عنان شريكا لعلي بن عجلان حتى فارق عنان مكة متخوفاً من آل عجلان حين أرادوا الفتك به في المسعى وذلك في صفر سنة أربع وتسعين وسبعمائة، وقطع ذكره من الخطبة.
ثم دخل مكة ليتجهز منها إلى مصر بعد أن أخليت له ثلاثة أيام من آل عجلان، ولم يدخل مكة ألا بعد أن استدعي من السلطان إلى مصر هو وعلي، فتوجه إلى الديار المصرية، وتلاه إليها الشريف علي بن عجلان بطلب من الملك الظاهر برقوق كما ذكر.
فأقام عنان بمصر معزولاً مطلقاً ثم مسجوناً بقلعة الجبل، ثم بالإسكندرية ثم بالقاهرة حتى مات بها في ربيع الأول سنة خمس وثمانمائة.
قال صاحب نشأة السلافة: وكان في هذا التاريخ صاحب مكة الشريف حسن بن عجلان، ثم ذكر سبب موت عنان فقال: حصل لعنان مرض خطر يقتضي إبطال بعض جسده فعولج من ذلك لإضجاعه بمحل فيه آثار النار حتى يخلص ذلك إلى أعضائه فيقويها بها ففعل به ذلك فكان أثر النار الذي أضجعوه عليه شديداً، فأحرقه فمات في التاريخ المذكور رحمه الله تعالى.
ورأيت في تاريخ خلفاء الزمن وملوكه، وولاية السالكين أحسن سنن للسيد محمد بن الحسين الحسيني السمرقندي في ترجمة الشريف عنان بن مغامس هذا ما نصه: وبقيا يعني الشريف عنان بن مغامس، والشريف علي بن عجلان على ذلك مدة بعد أن جعلت إمرة مكة بينهما نصفين ما بين وفاق وشقاق، وكيف ينتظم أمر الأملاك مع الاشتراك؟ إلى أن مات عنان قتيلاً في شوال سنة سبع وتسعين وسبعمائة.
وسبب قتله أن أعيان الأشراف والقواد بعد أن قبض على جماعة منهم خودع في ذلك، فأطلقهم فصاروا يكلفونه ما لا تصل إليه قدرته من أخذ الأموال من التجار والحبوب من أهل الوادي والزراع، فكثر بسبب ذلك الهرج والمرج وقل الأمان، وشق على أهل مكة الشريفة قلة الواصل وكثرة الخوف، وافترقت الكلمة بين السادة الأشراف والقواد والعبيد، فاقتتلوا بسبب ذلك ومات عنان بتلك المسالك.
هذه ألفاظه في الكتاب المذكور، والله أعلم بالحقائق.
ولما وصل الشريف علي بن عجلان إلى الديار المصرية، وقبله عنان بن مغامس أقام عنان معزولاً مطلوقاً ثم مسجوناً إلى آخر ما تقدم، وأما الشريف علي فأكرمه السلطان الملك الظاهر، وفوض إليه أمر مكة المشرفة، وأحسن إليه هو والأمراء، ثم سار إلى مكة المشرفة فدخلها وقت الموسم من السنة التي خرج منها فيها سنة أربع وتسعين وسبعمائة، وفي آخر يوم منها قبض على سبعين نفراً من الأشراف والقواد، فلم يزل يخادع فيهم حتى أطلقهم فكتموا له ذلك، وشوشوا عليه حتى قتلوه يوم الأربعاء سابع شوال سنة سبع وتسعين وسبعمائة بوادي مر وهو ابن ثلاَث وعشرين سنة، وحمل إلى مكة المشرفة ودفن بها ليلاً، وكان أخوه الشريف حسن قد حاصره بالزاهر مدة أيام من هذه السنة، ثم توجه إلى الديار المصرية بها، فاعتقل في السنة المذكورة، فلما وصل الخبر بوفاة أخيه علي بن عجلان أطلقه الملك الظاهر برقوق وفوض إليه أمر مكة، وجميع الأقطار الحجازية لوفاة أمير مكة علي بن عجلان قتلاً، وجاء الخير بولايته وقت الموسم.
وكان أخوه محمد بن عجلان وعبيد أبيه، وأخيه أحمد بن عجلان قد استولوا على مكة، وحفظوها حتى وصل إليهم من مصر في رابع عشر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وسبعمائة ومعه يلبغا الناصري وسنقر وعدة من المماليك الأتراك يزيدون على المائة أو دونها، ومن الخيل دون المائة.
ولم تتم السنة حتى وقع بين الشريف حسن وقتلة أخيه على واقعة عظيمة في الخامس والعشرين من شوال من السنة المذكورة، وكان الظفر فيها له عليهم بحيث لم يقتل ممن معه سوى مملوك وعبد، وقتل من الأشراف نحو سبعة ومن أتباعهم نحو الثلاثين، ولم يقتل من أصحاب الشريف حسن فيما قيل غير مملوك وعبد، وكان معه ألف رجل ومائتا رجل من الترك والمولدين والعبيد وأهل مكة من الأعراب.(2/414)
وأجار على حلة الشريف منصور من النهب فسلمت وكانت الوقعة بمكان يقال له الزبارة بوادي مر قريب من أبو عروة، فقصد الأشراف جهة الهدة، وأقام الشريف حسن بالجديد حتى أتى الموسم، وعظم بذلك أمره واستفحل بذلك قهره حتى أذل كل من عانده وناوأه، وساس الأمور بجدة مع التجار وراعاهم حتى قدموها، وأقاموا بها بعد أن تركوها، واستمر في زيادة قدر وهيبة في القلوب.
قال العلامة الفاسي: فضبط البلاد وحسم مواد الفساد، وأخذ بثأر أخيه يوم الثلاثاء خامس عشر شوال من سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، واستمر مستقلاً بالولاية إلى أن أشرك معه ابنه السيد بركات في نصف الإمرة وذلك سنة تسع وثمانمائة، ووصل توقيعه بذلك في موسم هذه السنة وهو مؤرخ بشعبان منها.
ثم سعى لابنه السيد شهاب الدين أحمد في نصف الإمارة فأجيب إلى ذلك وولى نصف الإمرة شريكاً لأخيه بركات، وولى أبوهما نيابة السلطنة بجميع بلاد الحجاز وذلك في ربيع الأول سنة إحدى عشرة وثمانمائة، وقرئ توقيعهم بذلك في أوائل النصف الثاني من شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، وصار يدعي له ولولديه بمكة وعلى زمزم ويدعي للشريف حسن بمفرده في الخطبة بالمدينة النبوية، وسبب ذلك أنه كان والي المدينة عجلان بن نعير بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني عوض أخيه نابت بن نعير فإنه كان ولي أمرها في هذه السنة، ثم مات نابت في صفر من هذه السنة قبل وصول توقيعه، واستمرت الخطبة باسم الشريف حسن بالمدينة الشريفة إلى أن عزل عنها عجلان بابن عمه سليمان بن هبة بن جماز بن منصور في موسم اثني عشر وثمانمائة، وكان يقدم في الدعاء في الخطبة على عجلان.
واستمر الشريف حسن وولداه إلى أن عزل هو وولداه في هذه السنهَ وهي سنة اثنتي عشرة وثمانمائة عن إمرة مكة بسعي الحساد، ونقل أهل الفساد، ولم يظهر لذلك أثر بمكة، فإن السلطان الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق أسرَ أمر عزلهم لقرب الموسم خوفاً من الهرج والمرج، وولى ابن عمه علي بن مبارك بن رميثة، فلما بلغ السادة الأشراف عزلهم كتموا ذلك عن الخاص والعام، فوصل أمير الحج بيشو المذكور في موكب عظيم، ونظام تام وعساكر عديدة وهو على غاية الوجل من عدم مقابلة الأشراف، ونقص حرمتة بذلك وحفظ أموال الحجاج وحقن دمائهم.
وكان من عناية الله أن مولانا الشريف حسن قابل المحامل الكريمة على العادة القديمة ولبس الخلع السلطانية على أكمل حال وأطيب بال، ثم قابل الأمير المذكور خاصة وأكرمه إكراماً جزيلاً، فانقضى زمن الحج على أحسن الأحوال، وسافرت المحامل وتوجه كل غريب إلى بلده، ولما لم يبق ألا تجهيز الأمير، وتوديعه جهز الشريف حسن هدية عظيمة إلى الحضرة السلطانية صحبة الأمير المذكور بعد كمال رعايته وعظيم العناية به، فبعد الوداع قال له: يعلم الأمير أنا قد بلغنا أن السلطان عزم على عزلنا تصديقاً للإنهاء الباطل الصادر عن فساد كل مفسد وقول كل قائل، فلما بلغنا ذلك لم نفعل فعل أهل الظلم والجهالة الذين إذا وصل إليهم علم العزل نهبوا البلاد، وأكثروا في الأرض الفساد.
فأجابه الأمير بأن هذه بلادكم خلفاً عن سلف، ومولانا السلطان نصره الله محب لكم، وعلامة محبته لكم إخفاء ذلك وسوف تعلمون صحة قولي بما يأتيكم من جواب مشرفاتكم.
فلما وصل الأمير إلى مصر المحروسة وأخبر السلطان بما وقع وقدم الهدية والمكاتيب قابل ذلك بحسن القبول، ثم أرسل إلى مولانا الشريف حسن بهدايا مفخمة، وتوقيعات شريفة مكرمة، فَشَكَرَه فيها شكراً عاماً على ما فعله ظاهراً وما صبر عليه باطناً، ثم صَرح باستِمرار ولديه على ما كانوا عليه من ولاية مكة والأقطار الحجازية جميعها، واستمروا كذلك إلى سنة ثمان عشرة وثمانمائة فعزلوا بالشريف رميثة بن محمد، ثم أعيد في عام تسع عشرة وثمانمائة بعد محاربة شديدة بينه وبين رميثة المذكور من قبل الملك المؤيد، كما يأتي قريباً إن شاء الله تعالى، وهذا كله ببركة الصبر والتحمل والنظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى في حفظ دماء المسلمين وأموالهم، لا سيما الحجاج وجيران بيت الله الحرام لا برحت عناية الله شاملة لحماة بلده الأمين آمين.(2/415)
وَسبَب العزلِ أَن رجلاً يسمى جابراً الجرشي من أرباب الأموال بجدة لما تَغَيرَ عليه الشريف حسن وصادره، وأخرجه من جدة لأَمرٍ اقتضى ذلك - عزم إلى مصر، وكدر خاطر السلطان على مولانا الشريف حسن ودبرهم في هذا الأمر، وأن يولوا علي بن مبارك هذا وكان محبوساً عندهم بالقلعة سنين فولوه، وأرسلوا صحبته الأمير بيسق أميراً على الحاج المصري، واستعد لحرب الشريف حسن، فلما تحقق مولانا الشريف حسن هذا الخبر استعد هو أيضاً للحرب وجمع من الخيل والرجل ما لم يجمعه غيره.
قيل: كان عدة الخيل ستمائة والرجل يزيدون على خمسة آلاف، وتعب الناس لذلك وضاقت بهم مكة، وتعبت الخواطر وكادت القلوب أن تبلغ الحناجر.
ثم رضي السلطان الملك الناصر على الشريف حسن وأولاده بعد توجه الحاج من القاهرة في السنة المذكورة فأعادهم إلى ولاية مكة، فبعث الأمير بتقليد وخلع صحبة خادمه فيروز ساقي، وكتب إلى أمير الحاج المصري بيسق يأمره بالكف عن محاربتهم، وكان تاريخ تقليد ولايتهم هذه في هذه السنهَ هي سنة اثنتي عشرة وثمانمائة في الثاني عشر من ذي القعدة الحرام، ودامت ولايتهم على ذلك إلى أثناء صفر الخير سنة ثمان عشرة وثمانمائة كما سنذكره.
وقبل وصول الحج بأيام أخمد الله الفتنة بوصول الأمير فيروز الطواشي الساقي المذكور بالخلع والمراسيم يعتذرون إلى الشريف حسن ويطمئنونه أن البلاد بلاده، وسألوا فضله أن يأذن للحاج في دخول مكة ويعطيهم الأمان، فإنهم لما بلغهم تهيؤه تأخروا ولم يقدموا على الدخول.
فقال الشريف حسن: لا يدخلوا ألا إذا سلموا إلينا جميع ما معهم من السلاح وآلات الحرب وإلا ما دخلوها فوافقوه على ذلك ووافقهم على إعادته إليهم عند السفر فدخلوا مكة رابع ذي الحجة الحرام، وجاء الأمير إلى بيت الشريف حسن بأجياد وسلم عليه واعتذر.
قيل: ولم يحج الشريف حسن ولا أحد من أهل مكة ألا ناس قليل مخفون بحيث أن يوم النحر صلوا العيد بمكة ولم يشاهد ذلك قط.
وأصاب الحجيج مشقة عند المأزمين، ووقع قتل ونهب، ولو لم يغث الحجيج أهل الخيل جماعة الشريف حسن لذهب الحاج جميعه، وكذلك ليلة النحر بمنى وكان الفاعل لذلك غوغاء الأعراب.
وفي موسم خمس عشرة وثمانمائة قتل من آل جميل جماعة أهل شر وفساد ففزع الحاج وركب الشريف حسن بنفسه حتى أخمد الفتنة وسلم الله المسلمين.
وفي خامس ذي الحجة عام سبع عشرة وثمانمائة وقع بين القواد وأمير الحاج والناس في صلاة الجمعة أن هجم القواد بخيولهم ملبسة إلى مقام الحنفي يطلبون الأمير، وكَان قد أمسك شخصاً منهم يسمى جراداً وحبسه فتشفعوا بالشريف حسن إليه فامتنع من إطلاقه، فعظم الأمر وجرى القتال وسال الدم في المسجد الحرام، وخرج الأتراك في إثرهم إلى جهة سوق باب إبراهيم، فانهزم القواد ورجع الأمير، ودخل المسجد وأدخل خيله، وسمر أبواب المسجد جميعها ما عدا أربعة أبواب، وباتت خيولهم ملابس والمشاعل تقد في المسجد وغالب الحجيج به، واجتمع القواد في أسفل مكة بمحل يسمى الطنبداوي، وانتهبت البيوت والأسواق، وسلم الله الحاج ببركة الشريف حسن، وصادف ذلك أن مكة في ذلك العام مغلية، فأنشد إذ ذاك بعض الأدباء وفيه تورية حسنة: من مجزوء الكامل:
وقَعَ الغلاءُ بمكةٍ ... والناسُ أمْسوا في جمادِ
والخبزُ قَل فَهَا هُمُ ... يتقاتَلُونَ عَلَى جَرَادِ
والسبب في إمساكه أن أمير الحاج منع الناس من حمل السلاح بمكة، فرأى جراداً هذا وهو حامل سلاح فأمسكه فوقع ما وقع.
قلت: عتو هذا الجيل قديم غير جديد، فلعل الشر إن لم ينقص منهم لا يزيد. ودامت ولاية الشريف حسن مع ولديه بركات وأحمد إلى شهر صفر من عام ثمان عشرة وثمانمائة.(2/416)
ثم وليها الشريف رميثة بن محمد بن عجلان بن رميثة بن أبي نمي بن أبي سعد الحسن بن علي بن قتادة، تولى عشرين في صفر من السنة المذكورة، وما دخل مكة ولا دعا له في الخطبة ولا على زمزم ألا في العشر الأول من ذي الحجة من السنة المذكورة، وكانت قراءة توقيعه في يوم دخول مكة وهو يوم الجمعة مستهل ذي الحجة سنة ثمان عشرة وثمانمائة، فدعا له الخطيب ودعا له على قبة زمزم حين طوافه بعد صلاة الجمعة، وذكر في توقيعه الشريف بعد الترجمة أنه تولى نيابة السلطنة عن عمه حسن، وإمرة مكة عن ولديه بركات بن حسن وأحمد بن حسن، وذلك أنه لما عزل الشريف حسن برميثة بن محمد بن عجلان فارقها الشريف حسن إلى الشقان فجبا الجلاب هناك، وأمر أهلها بالتدبير أو المضي إلى ينبع، ثم وصل إلى الجديد من وادي مر، واستولى على غلال أصحاب رميثة، واستمر بالجديد إلى جمادى الآخرة من سنة تسع عشرة وثمانمائة.
وفي رجب منها بعث ولده الشريف بركات ومولاه القائد زين الدين شكر لاستعطاف السلطان الملك المؤيد، فأنعم عليه بولاية مكة.
وكتب لة بذلك توقيعاً مؤرخاً من عشر رمضان من السنة المذكورة، وجهز له خلعة صحبة بعض الخاصكية المؤيدية والنجابة السلطانية فانتهوا إليه وهو في ناحية جدة في أوائل العشر الأوسط من شوال، فقصدَ مَكةَ متولياً منفرداً دون ولديه من قبل الملك المؤيد، ثم شاركه ابنه السيد بركات بن حسن سنة أربع وعشرين وثمانمائة بإشارة من الملك المظفر ابن الملك المؤيد صاحب مصر كما سيأتي، فدخل مكة في بكرة يوم الأربعاء سادس عشر شوال من سنة تسع عشرة وثمانمائة، وبأثر طوافه بالبيت قرئ توقيعه وكان يوماً مشهوداً.
وفي ليلة الأربعاء المذكور فارق مكة السيد رميثة بن محمد ومن معه بعد حرب شديد كان بينه وبين عسكر عمه الشريف حسن بالمعلاة يوم الثلاثاء خامس عشر الشهر المذكور استظهر فيه الشريف حسن على من عانده لأنهم لما أقبلوا من الأبطح، ودنوا من باب المعلاة أزالوا من كان على الباب وقربه من أصحاب رميثة بالرمي بالنشاب والأحجار، وعمد بعضهم إلى باب السور فدهنه وأوقد تحته النار، فاحترق الباب حتى سقط إلى الأرض، وقصد بعضهم طرف السور الذي يلي الجبل الشامي مما يلي المقبرة فدخل منه جماعة من الترك أصحاب الشريف حسن ورقوا موضعاً مرتفعاً من الجبل، ورموا منه بالنشاب والأحجار من كان داخل الدرب من أصحاب رميثة فتعبوا لذلك كثيراً، ونقب بعضهم في السور نقباً متسعاً حتى اتصل بالأرض فدخل منه جماعة من الفرسان من عسكر الشريف حسن إلى مكة، ولقيهم جماعة من أصحاب رميثة، فقاتلوهم حتى أخرجوهم من السور، وقد حصل في الفريقين جراحات وهي في أصحاب رميثة أكثر.
وقصد بعض عسكر الشريف حسن السور مما يلي بركة الصارم، فنقبوا فيه نقباً متسعاً ولم يتمكنوا من الدخول منه لأجل البرك فإنها مهواة، فنقبوا موضعاً آخر فوقه.
ثم إن بعض الأعيان من أصحاب الشريف حسن أجار من القتال، وكان الشريف حسن كارهاً للقتال رحمة منه لمن مع رميثة من القواد والعمرة، ولو أراد الدخول إلى مكة بكل عسكره من الموضع الذي دخل منه بعضهم لقدر على ذلك، ولكنه أمضى الجيرة بترك القتال، وبأثر ذلك وصل إليها - لما تعب الناس من النهب والقتل - الخوف - جماعة من العلماء والصلحاء من أهل مكة والمجاورين وحملوا المصاحف والربعات على رءوسهم، وسألوا فضل الشريف حسن في كف عسكره، فأجابهم إلى ذلك بشرط أن يخرج من عانده من مكة المشرفة، فمضى الفقهاء إليهم وأخبروهم بذلك، فتأخروا عنه إلى جوف مكة، ودخل الشريف حسن ومن معه السور وخيم حول بركتي المعلاة، وأقام هناك حتى أصبح فدخل مكة بكرة يوم لأربعاء سادس عشر شوال كما تقدم ذكر ذلك آنفاً، وطلب الشريف رميثة وأصحابه مهلة خمسة أيام فأعطوها ثم خرجوا إلى ناحية اليمن.
ثم في عام أربعة وعشرين وثمانمائة تسلطن الملك المظفر ابن الملك المؤيد، فأرسل توقيعاً شريفاً للشريف حسن فقرئ بظل زمزم موضوعه أنه فوض أمر مكة إلى مولانا الشريف حسن المذكور، وأشرك معه ولده بركات، وأرسل لهما خلعة سلطانية من خزانته.(2/417)
ثم وصل مرسوم شريف قرئ بالحطيم بمحضر أفندي مكة وشيخ حرمها والأعيان والصدور، مضمونه على لسان الملك المظفر بأن والده الملك المؤيد انتقل إلى رحمة مولاه، وأنه بويع بعهد من أبيه وموافقة من أهل الحل والعقد من العلماء والقضاة والأمراء، وأنه جلس على سرير السلطنة في ثاني محرم من سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وأن المطلوب من مولانا الشريف حسن وذويه السمع والطاعة وتأمين الأقطار الحجازية، وأنه مبذول لهم من جانب السلطنة الشريفة كمال الرعاية وبذل الجود والعطاء، وكان يوماً مشهوداً.
ثم بعد مدة استمال الشريف حسن ابن أخيه رميثة المذكور وأحضره وصفا له فتغير عليه القواد وقاموا بناصر ذوي ثقبة بن أبي نمي، وهم أولاد أحمد بن ثقبة بن رميثة، وأولاد علي بن مبارك، وأعلنوا بالسلطنة لثقبة بن أحمد بن ثقبة بن أحمد بن ثقبة، وميلب بن علي بن مبارك، وجعلوا لكل منهما نواباً بجدة، فجهز الشريف حسن عليهم فهربوا وقصدوا مكة واحتربوا هم ونائبه فيها مفتاح الزفتاوي فقتلوه وقتلوا جماعة معه ثم رجعوا إلى الغد.
ولما كان النصف الثاني من شوال سنة عشرين وثمانمائة قدم من مصر ولده الشريف بركات بن حسن فسر به، ولما طاف بالكعبة دعى له على زمزم، وصار أبوه الشريف حسن يتفوه له بالولاية ويقول لبني حسن وغيرهم: هو سلطانكم.
وفي ربيع الأول من سنة إحدى وعشرين أظهر للناس أنه تخلى عن أمر مكة لابنه الشريف بركات بحيث أجلسه على المفرشة بالمسجد الحرام، وجلس هو على مفرشة عنده، فجمح ابنه حسن عن طاعة أبيه لكونه قدم أخاه بركات عليه، فأرسل له أبوه الشريف حسن يستعطفه فلم يمل أحمد لذلك، وحمله جماعة من المفسدين على نهب جدة ففعل ولم يسهل ذلك بأبيه، ثم دخل في الطاعة، ثم نكث ومضى إلى ينبع، ثم عاد مع الحاج ثم رجع.
وفي سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة: سأل من الملك المؤيد تفويض مكة لولديه بركات وإبراهيم، وتنصل من إمرتها لضعف بدنه وميله إلى التخلي للعبادة، وتوجه عقب الكتاب إلى صوب حلى آخر صفر.
وفي ثاني عشر ربيع الأول من سنة أربع وعشرين وصل تشريفان له ولابنه بركات، وعهد يتضمن ولايتهما لمكة من الملك المظفر أحمد ابن الملك المؤيد كما تقدم ذكر ذلك، وأراد الشريف حسن أن يشرك ولده إبراهيم مع أخيه بركات، فحصل تنافر بين الأخوين، فوصل إبراهيم من جانب اليمن ومعه الأشراف، وألزموا المؤذن بالدعاء له ففعل، ولم يسهل ذلك بأخيه بركات، وصار يخطب لإبراهيم مع أبيه حسن وأخيه بركات.
وفي سنة ست وعشرين أمر الشريف حسن بقطع الدعاء لولده إبراهيم من الخطبة وغيرها؛ لأنه أمره بمباينة ذوي راجح فلم يفعل.
ولم يزل الشريف حسن مستمراً في الولاية إلى أن صرف عنها هو وولده بركات سنة سبع وعشرين وثمانمائة بالشريف علي بن عنان بن مغامس بن رميثة بن أبي نمي، وكان ذلك بتفويض السلطان برسباي ملك مصر المحروسة.
فوليها الشريف علي بن عنان المذكور وجهز معه الملك برسباي من مصر جيشاً كثيفاً وخيلاً وأميراً يكون عنده كما هو العادة؛ لأنه عزل حسناً المذكور بموت سلطانه الذي ولاه وهو الملك المظفر ابن الملك المؤيد، فخشي السلطان برسباي من مخالفة حسن المذكور ومحاربته لعلي، وكانت توليته في سنة سبع وعشرين المذكورة، فدخل مكة بمن انضم إليه من الأشراف والقواد المنسوبين لعجلان، فطاف والمؤذن يدعو له على زمزم، وقرئ توقيعه بالحطيم على العادة ولبس الخلعة، ثم خرج راكباً من باب الصفا مختلعاً فطاف في شوارع مكة المكرمة، ثم نزل إلى جدة المعمورة لأخذ مواجبه من الواصلين من الهند وترفق بهم غاية الترفق.
ثم عاد إلى مكة ونادى بالأمان، وأن كل من اختار الخدمة من الأشراف والقواد يأتي إلينا ومن لا فلا يقيم عندنا وله منا شهر زمان مهلة.(2/418)
وقيل: إنه استمال الشريف رميثة بن محمد بن عجلان الذي كان متولياً قبل للشريف حسن، فوصل إليه، فلزمه الأمير قرقماس ووضعه في الحديد، وذهب به إلى مصر صحبة الحاج، فأرسل إلى الإسكندرية هو والشريف مقبل صاحب ينبع، وخرجوا رابع عشر ذي الحجة إلى الشريف حسن، وذلك أن الشريف حسن لم يحدث منه شيء لما عزل بالشريف علي بن عنان بل لما سمع أنه قرب من مكة واصلاً إليها من مصر متولياً صحبة الحاج خرج عنها هو والأشراف الذين معه والقواد، وتنحى بناحية قرب مكة وراسل السلطان برسباي بالكلام اللين وعرفه أن عزله كان بغير سبب فخرجوا إليه وأرادوا أن يهجموا عليه لأنه مكر به بعد التجار، واستدناه فقصدوه ليظفروا به فلم يروه بحماية الله تعالى، واستمر الشريف علي بن عنان إلى أن عزل عنها غرة ذي الحجة من عام ثمان وعشرين وثمانمائة بالشريف حسن.
فوليها الشريف حسن بعهد من ملك مصر برسباي لأنه راسله بالكلام اللين وعرفه عزله بغير سبب كما تقدم، فرضي عليه وأعاده إلى إمرة مكة.
ولما بلغ الشريف حسن هذا الخبر أرسل ولده السيد بركات لمواجهة أمير الحاج المصري فواجهه ودخل هو وإياه إلى المسجد، وحلف له بالله تعالى أن السلطان قد رضي على أبيك الشريف حسن وأنه لا يناله مني ولا من السلطان سوء، وكان الحلف على الملتزم.
فعند ذلك دخل الشريف حسن وواجه الأمير، وأهدى إليه هدايا، وأعطاه مِحَفةً حَج فِيهَا.
ثم إنه حج بالناس وأظهر طاعة السلطان برسباي، وأعلن بالدعاء له، فلما وصل خبر ذلك إلى السلطان برسباي طلب حضور مولانا الشريف حسن إليه فتوجه في الموسم من السنة المذكورة.
فلما وصل أمر السلطان أن يتلقاه الأمراء والأكابر ويمشوا بين يديه.
ولما حضر بين يديه أنعم عليه بالخلع العديدة والإنعامات المزيدة، والتزم الشريف حسن أن يخدم السلطان بثلاثين ألف دينار وأرسل عبده شكر إلى بندر جدة ليأتيه بها، واستمر بمصر على كمال الحشمة ووفور النعمة.
فكتب بعض أدباء مكة إلى السلطان - على لسان مكة - يذكر أنها متشوقة إلى الشريف حسن قوله: من الوافر:
مِنَ البلدِ المُخصَّص بالأمان ... وَكَعبَتِهِ المشرًفة المباني
تقبل كَف سُلْطَانِ البرايا ... أبي النصرِ الموفقِ للمَعَانِي
برسبَاى الذي ملكَتْ يداه ... جَمِيعَ الخَلقِ من قاصِ وداني
وتُنهِى ما بها من عُظمِ شوقٍ ... إلى سُلطَانِها بدر الزمانِ
إلى أن قال: من الوافر:
فَرُد إلىَ سلطاني سريعاً ... فإني كَالجوادِ بِلاَ عنانِ
فسمعها السلطان فرسم للشريف حسن بالتوجه إلى مكة وجهزه، وبرز ثقله خارج الديار المصرية، فاعترض له الضعف فعاد إلى القاهرة ومكث بها أياماً يسيرة، ثم توفي بها سادس عشر جمادى الأخرى سنة تسع وعشرين وثمانمائة، ودفن في حوش الملك الأشرف برسباي المذكور بالصحراء وقبره هناك مشهور يزار.
وله وقائع مشهورة في التواريخ مسطورة مع إخوته، وبنى عمه وملوك مصر والقواد وغيرهم، وكان ذا ثروة عظيمة، وحشمة وافرة جسيمة، وخيرات كثيرة عميمة.
بنى بمكة رباطاً للرجال ورباطاً للنساء، وبنى المارستان، وعمر أوقافه وزاد فيها ما يحتاج إليه، وجدد رباط رامشت عند باب الحزورة، ولم يل مكة قبله من يدانيه في شيء من ذلك.
وقد مدحه كثير من شعراء مكة المعتبرين، منهم الشيخ شهاب الدين أحمد فاسي والد تقي الدين الفاسي مؤرخ مكة، ومنهم شيخ الإسلام شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر المقري، وكان الملك الناصر أحمد بن إسماعيل الغساني صاحب اليمن تشفع إلى الشريف حسن بن عجلان سنة سبع وثمانمائة في ترك التشويش على موسى صاحب حلى وحثه على الموافقة على ذلك القاضي شرف الدين المذكور بقصيدته النونية وهي قوله: من الكامل:
أحسنتَ في تدبيرِ ملكِكَ يا حَسَنْ ... وأَجَدت في تحليلِ أخلاطِ الفتَن
ما كنتَ بالنزقِ العَجُولِ إلى الأذَى ... عند النزَاعِ ولا الضعيفِ أخا الوَهَن
تمسِى ورأيُكَ عن هواكَ معوق ... والغرُّ ملق في يد الأهوا الرَسن
داءُ الرياسةِ في متابَعَةِ الهوَى ... ودواؤها في الدفْعِ بالوجْهِ الحَسَنْ(2/419)
وإذا الفتَى استَقْصَى لنصرةِ نفسِهِ ... قَلَبَ الصديقُ لحربه ظَهْرَ المجَن
لا تُصْغِ إن شر دعا فالشرُّ إن ... تنهضْ له يَنْهَض وإن تسكُنْ سَكَنْ
وسديد رأْىٍ لا يُحَركُ فتنةً ... سَكَنَت وإن حَركْنَهُ الفِتَنُ اطمأنّ
رَدَ العدوّ إلى الصداقةِ حكمةً ... صَفتْ من الأكدارِ عيشَ ذوي الفِطَنْ
بالسيفِ والإحسانِ تُقْتَنَصُ العلا ... وحصولُها بهما جميعاً مرتهَنْ
لا خيرَفي مِنَن ولا سيف بها ... ماضٍ، ولا في السيفِ ليس له منَنْ
أما حلى فإن خوفَكَ لم يدَعْ ... أهلاً بها للزائرينَ ولا وطَنْ
حلَيْتهُم منها وجسمُكَ وادع ... في مكةِ لم يُحْوِجُوكَ إلى ظَعَنْ
تركوا لك الأوطانَ غَيْرَ مدافعٍ ... وتعلقوا بذرى الشوامخِ واَلقُنَنْ
حفظوا نفوساً بالفرارِ أطلّها ... سيف على الأرواحِ ليْسَ بمؤتَمَنْ
ولحفظها بالفَر أكبرُ شاهدٍ ... لك بالعلا فِلمَ التأسُفُ والحَزَنْ
فاغمد سيوفَكَ رغبةً لا رهبةً ... ما في قتيلِ فرَّ مرعوباً سمنْ
وأكرمْ سيوفَكَ من دِما طرداتها ... فالحُرُ يكرمُ سيفَه أن يمتَهَنْ
قد كان لا يرضَى يخطط سيفَهُ ... في ظهر مَنْ ولَى أبوك أبو الحَسَنْ
وقد اقتدرْتَ وباقتدارِ ذوي النهَى ... تنفل أحقاد الضغائن والإحَنْ
موسَى هِزَبرْ لا يطاقُ نزالُهُ ... في الحرب لكنْ أين موسَى من حَسَنْ
هذاك في يَمَنِ وما سلمَتْ له ... يَمَنٌ وذا في الشامِ لم يَدَعِ اليمَنْ
فانظرْ إلى موسَى وقد لعبَتْ به ... لما سخطتَ عليه أحداثُ الزمَنْ
ذاقَ المرارَ لفَوتِهِ أوطانَهُ ... فَقِهِ مرارةَ فُرقة الرُوحِ البَدَنْ
لو شئتَ وهو عليك سَهْل هين ... لجمعتَ بين الجَفْنِ منه والوسَنْ
بعْ منه مهْجَتهُ وخُذْ ما عنده ... ثمناً يكنْ منك المثمنُ والثمَنْ
هذي مساوَمَةُ الفحولِ ومَنْ يبع ... ما بعتَ لم يعلَقْ بصفقته الغَبَنْ
جئنا بحسنِ الظَّنِّ نسألك الرضا ... والعَفوَ عنه فلا تخيبْ فِيك ظَن
فالحر يكرمُ سائليه يَرَى لهم ... فضلاً كما ابتدءوه بالظن الحَسَن
ويهينُ سائله اللئيم لظنهِ ... في مثله خيراً وذلك لا يُظَن
لا زِلتَ للشرفِ المخَّلد بانياً ... شرفاً ومجداً ثابتاً لِبَني حَسَن
ولما وقع بين الشريف حسن بن عجلان وبين الأمير أحمد بن إسماعيل الغساني صاحب جهات اليمن الحرب منع مسير الجلاب بالحبوب إلى أهل الحرم الشريف، فأنشأ السيد المرتضى قصيدة يستشفع عند الأمير أحمد في إطلاق الحبوب إلى أهل مكة، فقبل شفاعته وأطلقها، وهي هذه: من الكامل:
عطفاً على الحرمَين يا ملكَ اليَمَن ... وتجاوزاً يا خيرَ أملاكِ الزمَن
وارفُق بأهلِ اللهِ في أم القُرَى ... إن لم تكُن أنتَ الرفيقَ فمَنْ ومَن؟!
إني أشيرُ عليكَ رأى نصيحة ... والمستشارُ من البرية مؤتمَنْ
لا تسلكَن فيهم طريقَةَ قاطِع ... للرحمِ إنهُم هناك كمَن ومَن
ألمَن منكَ وأنتَ مَن سائل ... للمسلمينَ وأنتَ في المَنين مَن
أنت الذي ورثَ المكارمَ عن يدٍ ... ولك المعالمُ والعلومُ بكل فَن
ولكَ السماحةُ والتقَى من أسعدِ ... ولك الوجاهَةُ والعلا من ذي يَزَن
فانظُر بعينِ حقيقةٍ وسماحةٍ ... تلك الأمَاِكنَ والمساكنَ والسكَن
لا تحملنكَ عزة ملكية ... في حربها بخلافِ من فيها سكَنْ(2/420)
إن الذي فَعَلَ الشريفُ وإن جنَى ... مثلُ الحصاةِ وأنْتَ في عفو حضنْ
من ذا الذي ما ساء قَط ومن له ال ... حسنَى فقَط ومن له العقل الحَسَن
حسن مليك في الحجازِ معظم ... فيها ولكن أين أحمد من حَسَنْ؟!
هذا له يَمَن وهذا ما له ... إلا فضَاضَة ما تفيضُ به عَدَن
ولك المدائن والسفائنُ كلها ... وله يلملَم والجنوبُ إلى قَرَن
أطلق له سُفُنَ البحارِ فإنها ... تجرِي إلى البيتِ العتيقِ على سَنن
بيت له خَضَعَ الملوكُ جلالةً ... وبه تفاضَلَتِ الفرائضُ والسنَن
وأبوكَ أولُ من كساه كما أتَى ... في مُحكَمِ التاريخِ في مَلإ اليمنِ
ولكم به آثار فضلِ ظاهرٍ ... فيما تظاهر من بناه وما بطَن
رسم المظفر فيه مكتوب بما ... ءِ العين أيده المؤيد بالمنَنْ
وعلَى منابرِهِ يشاعُ بذكرِكُم ... بِالصوتِ في الحرمِ الشريفِ إذا ازدجَن
أوَ لَيْسَ في هذا الدعاء لأهلِهِ ... ولمن أقامَ به الأمانُ من الفتَنْ؟!
صُن مكة الغراءَ من فتنِ ومِن ... محن فأنتَ أحق من طفأ الفِتَن
ومن المحاسِنِ في الكلامِ قصيدةُ ال ... مُقري التي جمع البديعَ بها وَسَن
قد قال في أبياتها وبديعها ... لله ذاك القَولُ من قولٍ حَسَن
داء الرياسةِ في متابعة الهوَى ... ودواؤه في الدفعِ بالوجْهِ الحَسَنْ
وإذا الفتى استقصَى لنصرة نفسِهِ ... قَلَبَ الصديق لحربه ظهر المجِنّ
لا تُصغِ إن شر دعا فالشر إن ... تنهضْ له ينهض وإن تسكُنْ سَكَن
وسديدُ رأي لا يحركُ فتنةً ... سكَنَت وإن حركنَهُ الفتنُ اطمأن
رَدَّ العدوَ إلى الصداقة حكمةً ... صفتْ من الأكدار عَيْشَ ذوي الفطَن
هذي نصائحُ أبرزتها فكرة ال ... مقري تفوقُ الدر ليس لها ثمَنْ
فاقبل نصائح تتصلْ بل إنها ... حِكَم تفوقُ الدر يدخله الوَهَن
أنتَ المليك ابنُ المليكِ وليسَ من ... شأنِ الملوكِ الشم إحمالُ الإحَنْ
وترى الطبيبَ إذا تقادم جُرحُ من ... يدويه لاطَفَهُ وغيرَ بالدهن
كل له شجنٌ وما لك في العلا ... شجَنٌ سوى الإصلاح يَا لَكَ من شجن
ولأَنتَ في الإسلامِ رأس واحد ... والرأسُ مهما اعتَل يتبعُهُ البدَنْ
رفقاً بأهلِ المكتَينِ ورحمةً ... بهمُ وعطفاً شاملاً لبني حَسَن
وإذا أردتَ له معاتبةً علَى ... ما فاتَ قَلتَ الصيفَ ضيعتِ اللبَن
لا زلتَ في الشرَفِ المعظَّم خالداً ... ما غردَ القُمري الطروبُ على فَنَنْ
وكان لي من الأولاد جملة، منهم: أبو القاسم وعلي وإبراهيم وبركات.
ثم وليها الشريف بركات بن حسن بن عجلان، وذلك أنه استدعاه السلطان برسباي سادس عشر رمضان من السنة المذكورة وهي ستة تسع وعشرين وثمانمائة، فلما قدم إلى مصر المحروسة أواسط ذي القعدة فوض إليه إمرة مكة المشرفة عوضاً عن والده، وقرر أخاه إبراهيم بن حسن نائباً عنه ثم ألبسهما خلعتين عظيمتين، فوصلا إلى مكة المشرفة ودخلاها بالخلع السلطانية، وقرئ توقيع مولأنا الشريف بركات بالحطيم، على طريقة أسلافه الكرام، لا زال الملك فيهم وفي عقبهم إلى يوم القيام.(2/421)
قال المقريزي في كتاب السلوك في أخبار الملوك: لما كان ليلة الأربعاء ثالث عشر شهر رجب من عام تسع وثلاثين وثمانمائة بعث الشريف أبو زهير بركات ابن حسن بن عجلان أمير مكة بعثاً فيه يشكو عبيد أبيه الشريف حسن بن عجلان من بطون حرب إحدى قبائل مذحج ومنازلهم حول عسفان نزلوا سنة ست عشرة وثمانمائة، وقد أخرجهم بنو لام من أعمال المدينة النبوية فكثر عبثهم، وأخذهم السابلة من المارة إلى مكة بالميرة، وجعل على هذا البعث أخاه الشريف علي بن حسن بن عجلان ومعه من بني حسن الشريف ميلب بن علي بن مبارك بن رميثة وغيره في عدة من الناس، وسار معهم الأمير أرنبغا أمير الخمسين المركزين بمكة من أماكنه السلطانية وصحبته منهم عشرون مملوكاً، فنزلوا عسفان يوم الخميس رابع عشر الشهر المذكور، وقطعوا الثنية التي تعرف اليوم بمدرج علي، حتى أتوا القوم وقد أنذروا بهم، فتنحوا عن الأرض وتركوا بها إبلاً مع خمسة رجال، فأول ما بدءوا أن قتلوا الخمسة رجال، وامرأة حاملاً كانت معهم وما في بطنها أيضاً، واستاقوا الإبل، حتى إذا كانوا نحو النصف من الثنية المذكورة ركب القوم عليهم الجبلين يرمونهم بالحراب والحجارة، فانهزم الأمير أرنبغا في عدة من المماليك وقد قتل منهم ثمانية ومن أهل مكة وغيرهم نحو الأربعين وزيادة وجرح كثير ممن بقي، وغنم القوم منهم اثنين وثلاثين فرساً وعشرين درعاً، ومن السيوف والرماح والأسلحة والأسلاب ما قيل إن مبلغه ثمناً خمسة آلاف دينار وأكثر، فلما طلعت شمس يوم الجمعة دخل أرنبغا بمن بقي معه من المماليك مكة وهم يقولون: قتل جميع من خرج من العسكر، فقامت عند ذلك بمكة صرخة من جميع نواحيها لم نر مثلها شناعة، وأقبل المنهزمون ناساً بعد ناس في عدة أيام، وحمل الشريف ميلب يوم السبت ميتَاً، ومات بعده بأيام شريف آخر من جراحة شوهت وجهه كله من أعلى جبهته إلى أسفل ذقنه فإنا لله وإنا إليه راجعون.
واستمر الشريف بركات على ولاية مكة إلى سنة خمس وأربعين وثمانمائة ونزل فيها بأخيه علي بن حسن كما سيأتي، وقيل في التي بعدها بموضع يقال له الحشافة بالقرب من جدة، وأجاز له في سنة خمس جماعة من العلماء: الحافظان العراقي والهيثمي والبرهان ابن صديق والمراغي وعائشة بنت عبد الهادي، والشمس الفرسيسي في آخرين، وحدث عنه البقاعي وغيره، كذا في نظم العقيان في أعيان الأعيان للسيوطي.
ونشأ شريف الهمة حسن الأفعال جميل الأخلاق، أشركه والده كما قلناه في إمرة مكة مراراً وكان هو المشار إليه في جميع أحوالها.
ولما توفي والده ارتحل إلى القاهرة بطلب من السلطان برسباي، والتزم بما على والده من المال، واستقر في إمرة مكة بمفرده.
ولما وصل إلى مكة حسنت سيرته في الناس وعم الناس خيره.
ولما مات السلطان برسباي، واستقل الملك الظاهر جقمق في مملكة مصر طلبه إلى القاهرة، فامتنع من التوجه إليه خوفاً منه بسبب واقعة وقعت له مع الظاهر المذكور لما حج وهو أمير في عام سبع وعشرين وثمانمائة، فعند ذلك رام السلطان أن يولي أخاه علياً، وكان علي عنده بالقاهرة لأنه وقع بينه وبين أخيه بركات منافرة سنة اثنتين وأربعين، فعزم إلى مصر فأقام بها إلى أن ولي سنة خمس وأربعين كما سيذكر فلم يوافق على ذلك من أركان الدولة من يعتمد عليه فتوقف، ثم فعله في سنة خمس وأربعين وثمانمائة.
فولى أخاه علي بن حسن بن عجلان إمرة مكة المشرفة منفرداً وجهز معه عسكراً فوصل العلم إلى الشريف بركات وهو بوادي الآبار توجه من فوره إلى جدة وأخلى مكة المشرفة من نوابه، ثم وصل وزير الشريف علي بن حسن قبله إلى مكة وهو القائد مزروع العجلاني ودعا لأمير مكة من غير تعيين على منبرها في رجب من العام المذكور، ثم وصل الشريف علي فدخل مكة، ولما نزل الشريف بركات إلى جدة استولى عليها، فراسله الشريف علي وأخوه الشريف إبراهيم، ومن معهما من الأمراء، وسألوه أن يخرج من البلاد فامتنع ألا من المحاربة، فوقعت بينهما الحرب بالجديد بالقرب من جدة فكانت الغلبة لعلي ومن معه من الأمراء والأتراك، واستولوا على جدة، وتوجه الشريف بركات إلى جهة اليمن هو ومن معه واستمر علي في إمرة مكة مدة قليلة إلى أن قبض عليه مع أخيه إبراهيم يوم الثلاثاء رابع شوال سنة ست وأربعين وثمانمائة، وكبلا في الحديد وظهر عزله بأخيه الشريف أبي القاسم.(2/422)
فوليها الشريف أبو القاسم بن حسن بن عجلان وكان بالقاهرة، فطلب الأمراء المقيمون بمكة ولده السيد زاهر بن أبي القاسم بن حسن بن عجلان، وألبسوه خلعة ليكون نائباً عن أبيه، فقام بحفظ البلاد ولده السيد زاهر وذهب بالأخوين علي وإبراهيم إلى جدة وأركبا في جلبة إلى القاهرة.
وتفصيل هذه الواقعة هو ما ذكره الجزيري في تاريخه فقال: لما كانت سنة ست وأربعين وثمانمائة وصل حكم من السلطان الظاهر جقمق صاحب مصر مع الأمير تمراز بالقبض على الشريفين علي بن حسن بن عجلان وأخيه إبراهيم وتجهيزهما إلى مصر، فحضر الأمير تمراز إلى مكة في مستهل شوال، فأرسل الأمير بيورلدي إلى الشريف علي بن الشريف حسن أن يحضر هو وأخوه السيد إبراهيم للبس خلعتيهما، فتخيلا من ذلك وكانا بوادي الآبار، ثم اقتضى رأيهما أن يقيم السيد إبراهيم بوادي الآبار وبتوجه إليهم الشريف علي، فوصل إلى مكة في عشاء ثالث شوال وأتاهم في صباحها، فسألوه عن أخيه السيد إبراهيم فذكر لهم عنه عذراً أقامه، فألبس الأمير تمراز الشريف علي خلعة حمراء وحياصة. وقرئ مرسوم السلطان مضمونه: إنه بلغنا أن الشريف علي متشوش الخاطر، فليطب نفساً وليقر عيناً فإنا لا نغير عليه شيئاً أبداً ما دام على العهود والمواثيق، وقد بعثنا له بخلعة ولأخيه إبراهيم كاملية فَرو قاتم، فقرت بذلك عين الشريف فلبسها وطاف بالبيت، فحسن الأتراك للشريف علي أن يرسل إلى أخيه إبراهيم فيصل للبس خلعته السلطانية، فاعتمد الشريف علي قولهم، وأرسل إلى أخيه ثم اجتمعا بهم في المسجد فألبس الشريف إبراهيم خلعته، وكان بعض الأمراء الأتراك اعتذر عن حضوره ذلك اليوم بأنه شرب مسهلاً، فحسن الباقون من الأتراك للشريفين أن يعزما إليه من المسجد لزيارته، وكان نازلاً بمدرسة الباسطية ففعلا، فبعد أن وصلا إليه مع جماعة الأتراك أخرج أحد الأمراء مكتوباً من السلطان، ودفعه لذلك الأمير المزبور فأعطاه لكاتبه فعّربه ثم قرأه، فكان مضمونه الأمر بالقبض على الشريف علي وأخيه إبراهيم، فقبض عليهما وتفرق من كان معهما، وحصلت الغوغاء في البلد ثم استعادوا منهما ما ألبسوهما من الخلع، ثم إنهم سفروهما إلى جدة وأركبوهما البحر إلى مصر.
انتهى ما قاله الجزيري.
قال السخاوي في الذيل: كان الشريف علي بن حسن المذكور حسن المحاضرة كريمَاً، ذا ذوق وفهم، ونظم حتى قيل: إنه أحذق بني حسن وأذوقهم وأفضلهم.
ومن نظمه: من الوافر:
وإن نال العُلاَ قَوم بقومٍ ... رَقِيتُ عُلوَّها فرداً وَحِيدَاً
أقام بمصر بعد أن أخذ هو وأخوه، فاستمر إلى أن مات بدمياط مطعوناً مسجوناً سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة عَن خمسٍ وأربعين سنةً.
ثم وصل أبو القاسم إلى مكة يوم السبت سابع عشر ذي القعدة من سنة ست وأربعين وثمانمائة لابساً خلعة الولاية وقرئ توقيعه بالحطيم ونودي له كما تقدم، واستمر الشريف أبو القاسم في ولاية مكة إلى سنة تسع وأربعين وثمانمائة، فهجم عليه الشريف بركات، ففر الشريف أبو القاسم منها وأقام الشريف بركات بها، فأشيع بمكة أواخر السنة المذكورة أن السلطان أوصى أمراء الحاج بالقبض على الشريف بركات، لاستيلائه على مكة من أخيه أبي القاسم بعد النداء له وقراءة توقيعه عند الحطيم، وكان قد وصل مع الحاج نحو عشرين أميراً لذلك، فجمع الشريف بركات الخيل والرجل، وأكثر من الجمع على العادة وتقدم وواجه أمير الحاج واختلع ولكن لم يدخل لأحد منهم بيتاً كما كان يقع.
فلما كان يوم عرفة لما عزم الأمراء إلى الصلاة بمسجد نمرة وقعت جفلة حال بروزهم وثار غبار شديد فظن الناس أنهم أغاروا على جهة الشريف بركات فاختلط الحاج وألبست الأشراف والقواد وكانت ساعة مهيلة والعياذ بالله وسلم الله المسلمين، غير أن الشريف بركات لم يقف في المحل المعتاد فيه الوقوف له بل وقف وحده ومن معه منفرداً عن الحاج ناحية، ثم نزح بعد النزول إلى منى عن مكة.
وعاد الشريف أبو القاسم إلى ولايته عليها، واستمر الشريف بركات نازحاً عن مكة إلى سنة إحدى وخمسين وثمانمائة.(2/423)
فلما كان سابع عشر ربيع الأول من سنة إحدى وخمسين وصل قاصد من مصر وذكر أن السلطان قد رضي على الشريف، وأعاد إليه إمرة مكة المشرفة، وسبب ذلك أن ولده الشريف محمد بن بركات توجه إلى مصر بسبب السعي لولده الشريف بركات في إمرة مكة، ودخل القاهرة وحصل له من الملك الظاهر جقمق غاية الإكرام وأنعم على والده الشريف لإمرة مكة المكرمة، فَهَذا هُوَ السبب في رضا السلطان عن أبيه، ووصول القاصد بخبر توليته مكة المشرفة، فلما وصل القاصد إلى مكة بهذا الخبر أمر الشريف أبو القاسم أتباعه بالخروج من مكة إلى وادي البيار، وخرج وأخلى مكة، وذهب إلى مصر، فمات في السنة التي مات فيها أخوه علي وفي شهرها بالطاعون المذكور أيضاً، وكان موته بالقاهرة وصلى عليه السلطان، ودفن على والده الشريف حسن بن عجلان بحوش الأشرف برسباي كذا في الذيل للسخاوي، واستمر الشريف بركات في مكة السنة المذكورة، ثم استدعاه السلطان سنة إحدى وخمسين ليقدم عليه إلى القاهرة فما خالف ولم يمتنع كما امتنع أولاً، وقدم عليه إلى القاهرة مستهل رمضان في السنة المذكورة، فنزل السلطان إلى لقائه إلى الرميلة وبالغ في إكرامه واحترامه، وخرج من القاهرة عائداً إلى مكة عاشر مضان من السنة المذكورة مكرماً مرعياً معاملاً بكل جميل، وحصل له من الإكرام، ما لا مزيد عليه مما لم يقع لأحد من أهله قبله.
وأخذ العلماء عنه بالقاهرة وازدحموا للقراءة عليه لعلو سنده وسمعوا من نظمه.
ثم عاد إلى مكة المشرفة وكان يوم وصوله يوماً مشهوداً عظيماً، وذلك أنه لما كانت ليلة السبت أواسط شوال من السنة المذكورة سنة إحدى وخمسين وثمانمائة دخل الشريف بركات إلى مكة محرماً بالعمرة فطاف وسعى وخرج إلى الزاهر وبات به، ثم دخل مكة في صبح اليوم المذكور لابساً التشريف وقرئ توقيعه بالحطيم، طاف ونودي له بالدعاء على قبة زمزم كعادة أسلافه الكرام ملوك مكة.
ومما وقع في زمانه أن أمير اليمن أحمد بن إسماعيل الغساني المتقدم ذكره آنفاً كتب إليه أن يفرغ له دور مكة وأن يلقاه إلى حلى صحبة قصيدة هي قوله: من الرمل:
من لصَب هاجه نَشرُ الصبا ... لم يزدْهُ البَين ألا طَرَباً
وأسيرٍ كلما لاحَ له ... بارقُ القبلة مِنْ صبيا صَباً
ولطَرفٍ أرق إنسانُهُ ... دون مَنْ يَشتَاقُهُ قد حُجِبَا
لم يزل يشتَاقُ نحلان وإن ... قَدُمَ العهدُ ويَهوَى الطنبا
ما جرَى ذكرُ المغإني في ربا ... صبواتِ الشط ألا انْتَحَبَا
حَبذا صلبُ القعيسا وطَنِي ... ولويلاتِ بها ما أَعْذَبا
وربا البيرَينِ من قبليه ... وشراب بهما ما أعْذَبا
يا أخلاَّيَ بصبيا واللوَى ... وأحبائي بتَياكَ الرُبا
هل لنا نَحوَكُمُ من عودةٍ ... لِنَرَى سدْرَكُمُ والكثبا
فَلَكَمْ خادَعتُ قَلبِي جاهداً ... يتسلىَ عن هَوَاكُمْ فأَبَى
فاذكروا صَبا بِكُم ذا لوعة ... بان عنْكُم كَارِهاً مغتصبا
وإذا عَن له ذِكرَاكم ... صاحَ واغتصَّ الحسا وانتحبا
وإذا ما سَجَعَت قمرية ... صاح من فَرْطِ الأسى واحَرَبا
هَائِم القَلبِ كئيباً دنفاً ... لم يَرَ السلوانَ عَنْكُمْ مَذْهَبا
أترى الحي الذي كَنا وهُم ... جيرة بالشَامِ أيامَ الصبا
ليتَ شعرِي بعدنا هل طَنَبُوا ... برُبا نَحلان بَعْدي طنبا
أو تناءَتْ بهمُ عِيسُهُمُ ... أَو سَبتهمْ بعدنا أيدي سَبا
عجباً للدهرِ ماذا سنهُ ... ولأحداثِ اللَياليِ عَجَبا
ما طلبتُ الذهرَ ألا صعباً ... وطلبتُ السلمَ ألا حَرَبا
ولئن حل بقلبي نُوَب ... مُصمِياتْ تستهل النوبا
وبلاني من زماني محن ... بَلَغَ الضدُ بها ما طلبا
فلعَمرِي ما بلت ألا صفا ... وانتضت ألا حساماً خَشَبا(2/424)
غير لا أنكر مَعرُوفاً ولا ... عَابِس الوجه إذا الدَهْز كَبا
لا ولا منكرث لو أنه ... وَهَبَ الحوباءَ فيما وَهَبا
وأجل الناسِ صبراً لو على ... غارب المكروهِ يوماً ركبا
إخوتِي بالشامِ بَل يا سادتِي ... وأعز الناس أمّاً وأبا
ومَسَاعِير الوغَى من حسنٍ ... وبنو الحربِ إذا ضاق القبا
ألشناخيبُ الذرَى من معشرٍ ... ألصنَادِيد الكرامُ النجبا
إن قضيتم من هوانا أَرَباً ... ما قضينا من هواكُمْ أَرَبا
أو تناءَت دارنا عنكم ولم ... يأتنا منكُمْ على البُعْدِ نبا
لا تناسَونا وإن طال المدى ... كَم تناءٍ بعد بُعْد قربا
فإِذا ريحٌ جنوبْ جَنبَت ... فاسألوها كيف حال الغُرَبا
فلديها من تَنَاهي لَوْعَتي ... وغرامِي ما يحط الشهُبا
حَبذا لو أننِي من دونكُم ... خائضاً سُمرَ العوالي والظُّبا
وجياد الخيلِ ينثرْنَ على ... مَتَنَاتِ الدّارعِينَ العذبا
ألحق الأقران شُعْثاً شُزبا ... تتعاطَى بالعواليِ شزبا
أيها الرَائِحُ بالشامِ على ... قلقِ السير كَهَباتِ الصَّبا
أو كَسَهم طارَ عن مَحنيهِ ... ذات زورَينِ إذا ما ركبا
قُل لمنْ كان لمأذونِ القضا ... ولأحداثِ الليالي سَبَبا
والذي أوقد نيران الغضا ... زِذ على نارك يا ذا حَطَبا
واستلِبْ ما شئتَ عمداً فعسَى ... عن قريبٍ أن تحط السلبا
إن يكنْ سَركَ ما سا فعَسَى ... كَيْ ترَى من بعدِ هذا عَجَبا
إن ظننتَ الدهرَ يوماً واحداً ... فلقدْ حَاولتَ أمراً كذبا
رب صدعٍ كان أعيا شعبه ... أدركَتهُ رَحمَة فانشعبا
وسرورٍ بعد يأسِ قد أتَى ... وزمانِ بعد بُؤْسٍ أعشَبا
ولكَم فتح منَ اللهِ أتَى ... حيثُ لا يُدرِكُ ساع هربا
فجلا هماً وأطفا حرقاً ... وشَفَى غِلاًّ وجَلى كربا
وأعادَت رحمة البارِي على ... مُؤيسٍ من حالِهِ ما ذهَبا
إن خبوني عنك في مُسْتَودَعِ ... فشهابُ العَزْمِ مني ما خَبا
أو سلا جَفنك لذاتُ الكرَى ... فَجُفُونِي والكَرَى ما اصطحبا
رب ليلٍ بتهُ مرتقبا ... لطلابِ الثأْر أَرْعَى الشهبا
أرقبُ النصرَ سَريعاً طالعاً ... وأراعي الغَفْرَ مهما غربا
لنهارٍ تنقطُ السمْر به ... في الوغَى ما شكلَت بيض الظبا
وجياد الخيلِ في معركةٍ ... مجلبات يرتكبْنَ الغيهبا
فينالُ المُرتَجِى مِنْ ربهِ ... في أَعَادِيه الذي قد طَلَبا
وصلاةُ الله تغشَى دائماً ... أحمَدَ المُخْتَارَ ما هَب الصبَا
فلما وصل المكتوب والقصيدة إلى الشريف بركات بن حسن المذكور تصدى لجواب أحمد بن إسماعيل المذكور السيد الأمجد فصيح الفصحاء عفيف الدين السيد عبد الله بن قاسم الذروي، فكتب إليه هذه القصيدة على لسان الشريف بركات بن حسن بن عجلان، رحم الله الجميع، فقال: من الرمل:
بِالقَنا الخطئ والبيضِ الظبا ... وبِخيلِ تتبارَى سربا
سابحاتٍ مقرباتٍ ضُمرٍ ... أعوجيَّاتٍ عِتَاقِ شُزبا
بُريَتْ آذانُها من جودةٍ ... مثلَ أقلامٍ بها كَمْ كُتِبا
داحسياتٍ إذا ما طردَتْ ... فائتا ما بان عنها هَرَبَا
وإذا ما انحدَرَتْ عن طاردٍ ... سَبَقَتْ لم يَبْغِ منها أربا
عُودَتْ بالحرب حتى إنها ... لم تَزَلْ تَهْوَى التلاقِي طَرَبَا
بدروعٍ سابغاتِ زُعفِ ... شاهدَتْ أيامَ عادٍ وسَبا(2/425)
صافيات ذات نسجِ محكمٍ ... وقتير مثل أعيانِ الدبا
وببيضِ روسةٍ لامعةٍ ... نصَّهُ صانعه فانْتَصبا
وبأبطال إذا ما استَعَرَتْ ... نارُ حربِ ولظاها التهبا
وردوها برماحٍ ذُبلٍ ... وبأسيافٍ تحزُّ العصبا
نحمي البَيْت ونَحمِي جدة ... وربا حلى وأكناف قبا
بسيوفِ جردَتْ من غمدٍ ... كبروقٍ يخترقنَ الحُجُبَا
قُلْ لمن رامَ يناوينا ومَنْ ... رام يأْتِي بيتنا مُغْتَصِبا
لا تحجَ البيْتَ ألا خاضعاً ... دافعاً عُشْراً لنا ثُم حُبَا
وإذا ما حَجهُ ذو عزةٍ ... ترك الأمْرَ وجا مصطحبا
وإذا ما كان رأساً لم يعُدْ ... عندنا يا صَاحِ ألا ذَنَبَا
سورةُ الفيلِ لنا كافية ... أُتركِ الجَهْلَ وخَل الكذبا
ليس بيتُ اللهِ وادي زمعٍ ... لا ولا دمت لمَنْ قد طلبا
إن بيْتَ اللهِ بيت خصهُ ... منه بالنصْرِ فَلَنْ ينغلبا
دونه خَيْل عتاق شزبٌ ... عسفَتْ بالدارعِينَ النجبا
ومليك من بني حيدرةِ ... طابَ أجداداً وأماً وأبا
بركاتُ المنتقَى من حَسَنٍ ... فارسُ الهيجا إذا ما انتدبا
المُكَنى بالنبي الهاشمِي ... جده الكاشفُ عنا الكُرَبا
أطولُ الناسِ فخاراً سامياً ... وأجلُ الناس طراً حسبا
كَم جَنَى من عرب ذي عزةٍ ... ولمالِ الضد كم قد نَهَبا
ولكَمْ من ملكٍ عانده ... فغدا عن مُلكِهِ منقلبا
لو رآه الموتُ في يَوْمِ الوغَى ... تَرَكَ الأمرَ وحط السلَبَا
ولو أن الليْثَ وافَى سطوَهُ ... نكس الرأسَ وهَزَّ الذنبا
لا ولا يقرى لَحوحاً ضيفه ... لا ولا يقطَعُ حَق الأدبا
وإذا ما البَغْلُ مِنْ قُل حَياً ... رامَ سَبقَ الخيلِ جَهْلاً تَعِبَا
فلما بلغه هذا الجواب تخلف عن الحج، وأمر من يترصد الذروى في بلاده صبياً، فترصدوا له حتى إذا نزل الساحل جازان تحيلوا عليه حتى ركب معهم فساروا به إلى أحمد بن إسماعيل المذكور فحبسه وضيق عليه، فأمر الشريف بركات بفدائه بمائة ألف ناقة، فقال أحمد المذكور: والله ما أخرجه من الحبس حتى ينشعب هذا الصدع، فأنشأ قصيدة في الحبس، فأرسل الله تلك الليلة مطراً فأصبح الحجر قد انشعب بقدرة الله تعالى، فأطلقه وأحسن إليه وأوصله مأمنه. انتهى.
واستمر الشريف بركات إلى أن توهن بالمرضِ سنة تسع وخمسين وثمانمائة، فسأل مشدجدة خاني بك الظاهري أن يرسل إلى الملك يلتمس منه للشريف بركات أن يولي إمرة مكة لولده السيد محمد بن بركات بن حسن؛ لأنه ضعيفُ الجسم ضعيف الحركة، فأرسل خاني بك يسأل في ذلك إلى الملك، فقدرت وفاة الشريف بركات قبل ورود الخبر، وجاء الجواب بعد موته بيوم بولاية ولده محمد بن بركات، وكانت وفاة الشريف بركات بن حسن بن عجلان عصر يوم الاثنين تاسع عشر شعبان سنة تسع وخمسين وثمانمائة بأرض خالد من وادي مر، وحمل على أعناق الرجال، ودخل به مكة أثناء ليلة الثلاثاء، وغسل وصلي عليه بالمسجد الحرام بعد صلاة الصبح، ودفن بالمعلاة وبني عليه قبة موجودة إلى الآن. ورثاه الشهاب المنصوري بقوله: من الكامل:
قالوا قضَى بركاتُ قلتُ يحق لي ... أن أتبِع العبراتِ بالزفراتِ
يا ترحَةَ الأحياءِ عند فراقِهِ ... وبقربِهِ يا فرحَةَ الأمواتِ
والكعبةُ الغَرَّاءُ قالَت قد غدا ... لُنسُ السوادِ عليه من عاداتي
فانظُز إلى آثارِهِ في مكةٍ ... فَرِحَابُها لم تَخلُ من بَرَكَاتِ
وكان رحمه الله مهيباً وقوراً شجاعاً مقداماً غضنفراً كثير الخيرات جزيل المبرات ميمون الحركات، بنى بمكة رباطاً للفقراء وهو موجود، وهم به قاطنون.
له النثر الفائق والنظم الرائق، فمن شعره قوله: من البسيط:(2/426)
يا من بذكرهِمُ قد زادَ وَسواسي ... وقد شُغِلتُ بهم عَن سائِرِ الناسِ
ومَن تقرَرَ في قلبي محبتُهُم ... وجئتُهُم طائعاً أسعَى على راسِي
سألتكُم شربة من ما مشارِبِكنم ... تُغني عن الراحِ إذ ما لاحَ في الكَاسِ
واستمر في الولاية إلى عام 859 تسع وخمسين وثمانمائة.
وكان ملكاً شهماً عارفاً بالأمور، فيه خير كثير وحلم زائد مع حسن السياسة والشجاعة المفرطة زائد السكينة والوقار، وله بمكة مآثر كثيرة وقرب نافعة؟ منها بمكة رباط للرجال وغير ذلك.
مات بأرض خالد من وادي مر، وحمل على أعناق الرجال وغسل في داره وطيف به كما هو المعتاد، ودفن بالمعلاة، وبنى عليه ولده الشريف محمد قبة وتأسف الناس لفقده، تغمده الله برحمته.
وكانت مدة ولايته تسع سنين من سنة إحدى وخمسين إلى سنة تسع وخمسين وثمانمائة.
وكان له من الأولاد جملة منهم الشريف محمد بن بركات بن حسن بن عجلان. ولي مكة بعد وفاة أبيه.
وقد تقدم ذكر التماس أبيه ذلك في مرض موته.
وفي عصر يوم الثلاثاء في يوم دفن والده وصل المرسوم بالإجابة إلى ما سأل فيه والده، وصحبة المرسوم خلعة الولاية عوضاً عن أبيه، فلما ورد المرسوم بذلك كان محمد غائباً ببلاد اليمن لحفظ بعض أموال والده، فدعي له على زمزم بعد صلاة المغرب من ليلة الأربعاء، فلما كان يوم الجمعة قرئ المرسوم مخاطباً فيه السيد بركات ومضمونه: إنه ورد إلينا كتاب الأمير خاني بك مشدجدة بالثناء على المخدوم، وقد بلغنا ضعفه وتوعك جسمه وقلة حركته فأقمنا مقامه في إمرة مكة ولده السيد محمد بن بركات.
والمرسوم مؤرخ بسادس عشر رجب سنة تسع وخمسين وثمانمائة.
فلما كان رابع شوال من السنة المذكورة وصل كتاب من السلطان الملك الظاهر أيضاً إلى السيد الشريف محمد بن بركات بالعزاء في والده الشريف بركات، وتوقيع باستقراره واستمراره في إمرة مكة عوضاً عن والده مؤرخ في أوائل شهر رمضان من السنة المذكورة، ودام إلى سنة ثمانين وثمانمائة.
ثم استناب ولده الشريف بركات بن محمد بن بركات، ثم توفي هو عام ثلاث وتسعمائة كما سيأتى ذكره، ومدة ولايته خمس وأربعون سنة.
ومن فتوحات الشريف محمد عام ثلاث وسبعين: أنه غزا طائفة زبيد ذوي مالك ابن رومي بين خليص ورابغ، وقتل منهم سبعين رجلاً وقتل شيخهم رومي وأخاه مالكاً وغنم منهم أموالاً عظيمة من جملتها ثلاثون ألف بعير.
وفي سنة سبع وسبعين وثمانمائة من دولته اتفق أن أمير الحاج المصري منع الحاج العراقي من دخول مكة وخرج الأتراك والشريف محمد بن بركات بن حسن وغالب العسكر ملبسون، فلما احتاطوا بالحاج العراقي أمروهم بالدخول إلى مكة، فلما دخلوها أمسكوا الأمير والدوادار وأخذوا المحمل العراقى، وزنجروهما وأركبوهما جملين، ودخلوا بهما مكة، ثم بعد الحج عزموا بهما إلى مصر، ومن بعد تلك السنة لم يدخل محمل من العراق إلى مكة إلى الآن.
وفي عام إحدى وثمانين وثمانمائة ورد مرسوم السلطان قايتباي - طاب ثراه - بأن عشر اليماني بينه وبين الشريف محمد بن بركات مناصفة، وبأن لمولانا الشريف محمد كل مال الموتى الذين لا وارث لهم إلى أن يبلغ ألف دينار جديد، فما زاد على ذلك كان للسلطان، وبأن أموال اليتامى في حفظ أمير السلطان بمكة بعد أن كانت في حفظ قاضي الشرع الشريف.
ووصل محمل من العراق فلم يدخلوا به إلى مكة المشرفة، وبذلوا على دخوله مكة وطلوعه عرفة مالاً جزيلاً فلم يوافقهم على ذلك مولانا الشريف محمد المذكور.
وفي سنة اثنين وثمانين: بنيت المدرسة الأشرفية القايتبائية بمكة المشرفة.
وفيها غزا الشريف محمد على جازان، ونهبها وأحرق حصنها، وأخرب سورها وقتل عدة مستكثرة من رجالها، وغنم شيئاً كثيراً من أموالها، وأسر طائفة عظيمة من نسائها وأطفالها، وكان معظمهم من الأشراف، وتبلغت العساكر من أموالهم وأولادهم ونسائهم بأموال كثيرة وباعدهم في سائر الأطراف.
قال العلامة جار الله بن فهد القرشي المكي: وكان ذلك فتحاً عظيماً أوجب جلالة مولانا الشريف محمد ورجحانه على من سلف من هذا البيت المبارك، وخافته القبائل وامتلأت من مهابته الصدور.(2/427)
وفي عام أربع وثمانين كان حج مولانا السلطان قايتباي - رحمه الله - وصحبه من الديار المصرية أعيانها المشهورون من العلماء والصلحاء، وأولاد الرؤساء أهل الحل والعقد، وتجهز بالأوضاع السلطانية، وصحب من الدواب والخلع والأموال ما لا يحصره عد ولا يحويه حد، وخرج لاستقباله الشريف محمد وولده الشريف هزاع، والقاضي إبراهيم بن ظهيرة وولده القاضي أبو السعود، وقابلوه في بدر في افتتاح ذي الحجة الحرام من السنة المذكورة على أجمل حال من كثرة العساكر وجمالتهم بالسلاح المذهب والثياب الحرير الفاخرة، والخيل المسومة والذخائر والركاب الملبسة بأنواع الذهب، والحلية النظيفة والسيوف المسقطة.
وقد تقدم شرح ذلك بأبسط من هذا عند ذكر ترجمة السلطان قايتباي في الباب السادس المخصوص بولاة الشراكسة فلا حاجة بنا الآن إلى تكريره.
واستمر الشريف محمد بن بركات على الولاية وحمدت سيرته في البلاد، واطمأن بوجوده العباد، ولم يزل في زيادة علو وارتفاع، وتوافر نعم وخيرات وساع، كل ذلك مع فعل الخير والإحسان، والمبرات التي شمل بها القاصي والدان، وتكرار زيارة جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، والإحسان إلى المجاورين بالحرمين الشريفين، والمحلين المعظمين المنيفين، خصوصاً من يتوسم فيه الخير والصلاح، وفاق في ذلك من تقدمه من أسلافه الكرام.
ووقع في أيامه من العدل والطمأنينة ما لم يقع فيما تقدم من الأيام، وفوض إليه نيابة السلطنة بالأقفار الحجازية، والاستنابة في المدينة المنورة والينبع ممن يختاره، وصرح باسمه الشريف على منبر المدينة بعد السلطان وقبل صاحبها، ونفذ أمره في جميع الأقطار الحجازية من أعمال الينبع كنبط والحورا وما فوق ذلك من الشام إلى أعمال جازان وما والاها من اليمن والبلاد الشرقية على التمام، وما حول ذلك من بلاد الحجاز وسراتها وبجيلة وأعمالها، وانفرد في ذلك بعلو شأن.
وتحدث بهيبته وسطوته القاصي والداني، ولطالما جهز جيوشه وسراياه إلى من خالف عليه وناوأه، وظفر بهم كل الظفر، واستأصل أموالهم وملكهم وقهر، كقتال أهل الينبع لما لم يوافقوا على الخضوع، وأجلى الجميع من بلادهم وكفهم عن مقاصدهم ومفاسدهم.
وكأهل جازان لما وقع منهم ما وقع من العصيان، فقتلهم واستبى، وملك بلادهم واجتبى.
وكقتل أهل زبيد وإهانتهم، ثم إكرامهم لما دخلوا في الطاعة وإعانتهم.
وكقتل أهل حلى والعايد، وتشريدهم كل التشريد، وإخراجهم من البلاد، والقبض على أميرهم الحرامي وجعله مع أهل الجرائم والعناد، إلى غير ذلك مما لا يحصيه قلم كاتب ولا ديوان حاسب.
ولقد كان والله حسنة من حسنات الزمان، ومنة عن الله تعالى على القاصي والدان، تواضعاً وأدباً وفهماً وعقلاً ومداراة واغتفاراً مع حسن الشكالة ووضاءة الصورة والمواظبة على الطواف والجماعة عند وصوله إلى المحل الشريف ومزيد الوقار، والسكون والعدل، وكف جماعته عن أذى الرعية ومسايسة للتجار وعدم الطمع والتطلع لما في أيديهم ومجاملتهم والذب عنهم، وفعل الخير الذي يحصل به الثواب العظيم كرباط بمكة المشرفة مع ما وقفه عليه والسبل العديدة بطريق الوادي وجدة، وآبار كثيرة يحصل بها النفع للمسافرين، كالذي بطريق المدينة الشريفة، وبجهة اليمن وغير ذلك من الحسنات، ولم تزل دولته قائمة قويمة وأموره منتظمة وأحواله مستقيمة.
وهو مبجل معظم عند الملوك لا يخالفونه فيما يختار في جميع الأقطار الحجازية، ويراعون خاطره في جميع الأحوال المنسوبة إليه، إلى أن اختاره الله تعالى لدار البقاء ونقله إلى دار كرامته، فانتقل إلى رحمة الله تعالى في شهر محرم الحرام سنة ثلاث وتسعمائة بوادي الآبار، وحمل على أعناق الرجال إلى مكة المشرفة، وغسل في بيته ودخل به المسجد وطيف به أسبوعاً وصلي عليه عند باب الكعبهّ بعد أن نادى له الريس على زمزم بصيغة الصلاة على الملك العادل أبي الفقراء والمساكين، إلى غير ذلك من التراجم.
ودفن بالمعلاة وبنى عليه ولده قبة عظيمة موجودة إلى الآن.
ومن جملة خيراته سبيل بالنوارية وسبيل آخر أوقف على ذلك أوقافاً كثيرة وهي بوادي مر شهيرة.
ضاعف الله ثوابه وأحسن في العقبى مآبه.
وخلف من الأولاد ستة عشر ذكراً غير الإناث منهم خميصة وجازان وهزاع وبركات وقايتباي وعلي وراجح.(2/428)
ثم وليها الشريف بركات بن محمد بن بركات بن حسن بن عجلان.
كانت ولادته سنة إحدى وستين وثمانمائة في ربيع الأول بمكة.
أمه عمرة بنت محمد بن علي بن أحمد بن ثقبة بن رميثة.
دخل القاهرة سنة ثمان وسبعين وثمانمائة، وذلك بسبب أنه ورد إلى مكة المشرفة في السنة المذكورة مرسوم من سلطان مصر بطلب سلطان مكة المشرفة الشريف محمد بن بركات عوضاً عنه، فأرسل الشريف محمد بن بركات ولده الشريف بركات بن محمد بن بركات عوضاً عنه ومعه قاضي القضاة إبراهيم بن ظهيرة، وولده القاضي أبو السعود بن ظهيرة وجماعة من أقاربه، فأكرم السلطان ومن دونه موردهما، وأشركه مع أبيه محمد ابن بركات بن حسن بن عجلان، ورجع متزايد العز.
ووقع في أيام الثمان من سنة إحدى وتسعين وثمانمائة بين ترك أمير الحاج الأول وأمير المحمل قتال عند باب بازان بالمسعى وشج فيهم جماعة من الفريقين والتحم القتال بضرب السيف والدبوس ورمي النشاب، ثم سكنه الله بمجيء أمير الأول ثم أحضروا القضاة والفقهاء وكتب بذلك محضر.
وفي سنة تسعمائة اتفق أن الحاج المصري خرج عليه العرب فأخذوا غالبه؛ وكذلك الغزاوي خرجوا عليه ولكن لم يظفرهم الله به، وكذلك الحاج الشامي خرجوا عليه وأخذوه أجمع وأسروا بعض التجار، وكل ذلك فعل بني لام المفسدين، ولم يسمع بمثل هذا الاتفاق في سنة واحدة، ولم يزل الشريف بركات يتزايد حتى استقل بالملك بعد وفاة والده الشريف محمد سنة 903 ثلاث وتسعمائة، وكان السلطان يومئذ محمد بن قايتباي، وتزايد في الترقي في العلوم والفضائل حتى صار مرجعاً في حل الأمور المشكلات ودفع العدو، كم سافر للأعداء فرجع مسروراً وبالظفر محبوراً.
وقد ترجمه العلامة الشيخ عبد العزيز بن فهد الهاشمي في مؤلف له سماه غاية المرام، بأخبار سلطان البلد الحرام وساق نسبه في ديباجته وختمه باستيفاء أخباره وما مدح به. وملخصه: أنه سمع الحديث بالقاهرة في رحلته الأولى في السنة المذكورة وهي سنة ثمان وسبعين وثمانمائة على المسند شهاب الدين أحمد الشناوي ثلاثيات البخاري وحضر مجلس بدئه وختمه، وأجازه من عدة من البلدان جملة من لمشايخ: منهم عبد الرحمن بن خليل التابوتي، وأسماء بنت المهراني، وأم هانئ الهوريني، ونشوان الحنبلية، وهاجر المقدسية، والعلم صالح البلقيني، والسعد بن الرزي، والشهاب الحجازي، والبرهان البقاعي، وقاسم بن الكريك، وابن قطلوبغا الأمير الأقصرائي، وأبو بكر بن صدقة المناوي، والمعز الكناني، والتقى الشمني، والجلال بن الملقن، وأخته صالحة، والبهاء المصري، والجلال القمصي، والتقى ابن فهد، ووالده أبو بكر وعمر، وأخوه عطية، وعبد الرحيم الأسيوطي، وإبراهيم الزمزمي، وأحمد السوايطي، والقاضي عبد القادر المالكي، وأبو الفضل المرجاني، وأبو الفرج المراغي، وزينب بنت الشويكي، وآسية بنت جار الله الشيباني، وإبراهيم ابن قاضي عجلون، وأبو ذر الحلبي، وأحمد بن الصلف، وأبو السعود العراقي، أبو نافع الأزهري، والتقى القلقشندي، والشموس الخمسة: الأفقهسي، والقلواني، والزفتاوي، والسخاوي، والشيخ الفخر السيوطي، والكمال إمام الكاملية، والمحب بن الشحنة، ويحيى المناوي، وخلق كثير.
وخزَج له الشيخ الرحلة جار الله بن عبد العزيز بن فهد عن أربعين شيخاً من مشايخه أربعين حديثاً في فضل أهل البيت النبوي سماها غاية الأماني والمسرات، بعلو سلطان الحجاز أبي زهير بركات وذلك في سنة ست عشرة وتسعمائة، وقرأ على الشريف بركات بعضها بمنزله دار السعادة من أول الأربعين التي خرجها له إلى آخر الحديث الثالث مع الكلام على الحديث وأجاز له روايتها عنه، وكتب له بخطه تحت طبقة سماعها ما صورته، الحمد لله ما ذكر من القراءة والإجازة صحيح في تاريخه، وكتبه الفقير بركات بن محمد بن بركات عفا الله عنه وعن والديه والمسلمين أجمعين وكانت القراءة المذكورة في يوم الأربعاء رابع عشر ذي الحجة الحرام سنة 917 سبع عشرة وتسعمائة، وحصل للشريف بركات غبطة عظيمة بتخريج تلك الأحاديث، وأكرم بذلك الشيخ جار الله المذكور إكراماً عظيماً كما هو شأنه من إكرام العلماء.
وأجاز الشريف بركات جار الله المذكور في استدعاء كتبه إليه الشيخ جار الله مؤرخ بيوم الجمعة ثالث عشر ربيع الثاني عام خمس عشرة وتسعمائة.
وكتب له الشريف بركات بالإجازة في السنة التي بعدها.(2/429)
وصورة ما كتبه الشريف بركات: الحمد لله الذي نظم جواهر السنة في سلك السند، ووصل من إلى جنابه استند، وقطع من أعرض واستبد، وخذل من كفر وجحد.
أما بعد، فقد أجاز كاتبه الفقير إلى الله تعالى بركات بن محمد صاحب مكة المشرفة عفا الله عنه لمن ذكر في هذا الاستدعاء المبارك ما يجوز لي وعنى روايته بشرطه المعتبر، عند أهل الأثر، وأسأله ألا ينساني من دعواته، في خلواته وجلواته. والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
واستقر الشريف بركات في ولاية مكة منفرداً بعد وفاة أبيه، وكانت وفاة أبيه يوم الأربعاء رابع ربيع الثاني سنة ثلاث وتسعمائة، وقرئ مرسومه بالحطيم بحضرة كاتم السر البدري محمد بن مزهر لوصوله بقصده وقصد أخيه هزاع، وأذن له في تولية المدينة للسيد فارس بن سامان الحسيني زوج أخته الشريفة حزيمة.
واستمر على الولاية المذكورة إلى أن خالعه أخواه هزاع وأحمد المدعو جازان في سنة أربع وتسعمائة، ثم اصطلحوا، ثم كانت الحرب بين هزاع وبركات سجالاً.
قال الشيخ الفاضل أبو الضياء وجيه الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الديبع الشيباني في كتابه بغية المستفيد: لما كان يوم الأربعاء سلخ ذي القعدة من سنة ست وتسعمائة - بتقديم التاء - كانت وقعة السيد هزاع بن محمد بن بركات بن حسن بن عجلان مع أخيه الشريف بركات بن محمد بن بركات بن حسن بن عجلان، وهي أول وقعة انكسر فيها صاحب مكة الشريف بركات بن محمد المذكور وهزم فيها هزيمة عظيمة، واستولى الركب المصري على خزائنه ونسائه وأمواله.
والأصل في ذلك أن الملك العادل طومان باى صاحب مصر لما تولى بعد الأشرف جانبلاط طرد رجلاً من أمراء جانبلاط يقال له قانصوه المحمدي فخرج إلى مكة، فلما دخلها لم يلتفت إليه أحد من كبرائها لا الشريف بركات ولا القاضي ولا غيرهما خوفاً من السلطان طومان باي، فلما فقد طومان باي وتولى الأشرف قانصوه الغوري ليلة عيد الفطر من سنة ست وتسعمائة أرسل إلى قانصوه المحمدي إلى مكة وجعله نائب الشام، فلما وصلت إليه الكتب بذلك وهو بمكة في أول ذي القعدة جاءه الشريف بركات والقاضي أبو السعود للسلام عليه فلم يأذن لهما وكان في نفسه عليهما شيء لعدم التفاتهما إليه سابقاً، وكان الشريف هزاع حينئذ بمكة فعامله قانصوه على أن يجعل إليه ولاية مكة ويخلع أخاه بركات منها، ثم أمره بالخروج إلى الينبع، وأرسل إلى أمير الحاج المصري أن يواجه الشريف هزاع ويطلق المراسيم السلطانية عليه، ويلبسه الخلع السلطانية ففعل ذلك، ولبس الشريف هزاع خلعة أخيه بركات، وألبس أخاه أحمد الملقب جازان خلعته التي كان يلبسها مع أخيه بركات، وأقبل مع الركب المصري إلى مكة ومعه الأشراف بنو إبراهيم في نحو مائة فارس منهم، فلما علم بذلك الشريف بركات خرج إليهم من مكة إلى وادي مر، والتقى الجمعان هناك وتقاتلا، فانكسر الشريف هزاع مرات، وقتل من أصحابه نحو الثلاثين ومن الركب المصري رجل، ومن الحجاج نحو الخمسة، ونهب أطراف القافلة، فلما رأى ذلك الركب المصري حملوا مع الشريف هزاع على أخيه بركات حملة واحدة، فانكسر حينئذ بركات وقتل ولده المسمى بأبي القاسم في جماعة من عسكره، واستولى هزاع والركب المصري على مِحَفَة الشريف بركات وما فيها من الأموال والنساء والأطفال، وهرب الشريف بركات إلى جدة فنهبها ثم إلى حدة فنهب أكثرها، ودخل الشريف هزاع إلى مكة صحبة الحاج المصري فاضطربت أحوال الناس وكثر النهب والخوف في الطرقات، ورجع حجاج البحر من الطريق، وكانوا قريباً من جدة، وكان عذر الشريف بركات إذا شكا الناس إليه ما يلقون يقول: اشكوا إلى سلطان البلد واطلبوا منه أمانها، فقد أمنتها إذ كنت سلطاناً، وأما الآن فأنا واحد منكم.(2/430)
فلما استقر هزاع جاءته الناس يصطرخون من كل جانب التجار وغيرهم من الناس وربما سبوه، فضاق خاطره ولم ينتظم أمره، فدخل على عمه إبراهيم بن بركات فشكا إليه حاله، فأمره بالخروج في صحبته فخرج إليها والشريف بركات يومئذ مقيم بماء يقال له العد بين جدة وحدة، ثم أمره بالوقوف بجدة وتقدم إلى بركات فقال له: إن أخاك هزاع بجدة في ألفي فارس من الترك ولا طاقة لنا بمقاومتهم، فإن أحببت تعرضت بينكما بهدنة يأمن الناس فيها ويحجون إلى عاشر المحرم على أن يعطيك أخوك هزاع ثلاثة آلاف أشرفي قبل يوم النحر، فإن فعل ذلك وإلا فلا ذمة له، فرضي بذلك بركات ظناً أن قول عمه إن هزاعاً في ألفي فارس حق. فسكن بعض خوف الناس ورجع هزاع إلى مكة.
وكان الحج ضعيفاً ولم يحج الشريف بركات في هذا العام، وسلم هزاع إلى أخيه بركات ما التزمه عمه إبراهيم من المال، ولما عزم الركب المصري علم هزاع أنه لا طاقة له بمقاومة أخيه بركات، فتوجه صحبة الركب الشامي، فتبعه الشريف بركات فحماه الركب الشامي منه. فرجع بركات إلى مكة وأمنت الناس.
وخرج هزاع إلى ينبع، وجمع جموعاً منها وعاد لحرب بركات مرة ثانية، وذلك يوم الأحد التاسع من جمادى الأولى عام سبع وتسعمائة، فالتقوا في طرف البرقاء، فانكسر فيها بركات أيضاً وهزم وقتل أخوه أبو دعيج في سبعة من الأشراف من بني أبي نمي، وقتل من الأتراك الذين مع بركات سبعة وقيل أربعة عشر نفراً، وكان مع هزاع من الخيل مائتا فارس ومن الرجل ثلاثة آلاف وخمسمائة ومع بركات خمسمائة فارس ورجل كثير.
فلما انهزم بركات توجه إلى اليمن فأقام بالليث، ووصل هزاع إلى ظاهر جدة في يوم الثلاثاء ثامن الشهر المذكور، ونادى بالأمان وقرر أحوالها، وجعل محمد بن راجح بن شميلة وزيره بها وعبداً من قواده حاكماً، وأرسل أخاه جازان إلى مكة ليقرر أحوالها، ثم لحقه إليها في عساكره، ووصلت إليه المراسيم والخلع السلطانية من البحر من سلطان مصر على يد أمير يقال له إلياس في يوم الثلاثاء ثامن عشر الشهر المذكور، فأرسل له الشريف هزاع بستين جملاً وثلاثين راحلة، وأمره بالطلوع إلى مكة فوصل إليها، فلبس الخلعة وقرئت المراسيم واستمر سلطاناً إلى أن توفي يوم الثلاثاء خامس عشر رجب الفرد من السنة المذكورة بوادي الآبار فحمل إلى مكة، ودفن بها يوم الأربعاء صباحاً.
ولما فرغ من دفنه تولى إمرة مكة أخوه الشريف جازان بعده بمساعدة القاضي أبي السعود بن ظهيرة وإعانته له بنفقة وسلاح.
فلما علم بذلك بركات سار إلى مكة فدخلها منتصف شعبان وفر منه جازان.
ولما استقر بها بركات جاءته من مصر خلع ومراسيم بالاعتذار إليه من مباطنة أمير الحاج لأخويه هزاع وجازان، فلبس الخلعة وطاف بها.
وكان قاضي مكة أبو السعود بن ظهيرة مباطناً لجازان، فكتب إليه يستحثه ويعده بالإعانة ووعده أن يقبض له على بركات إذا وصل جازان قرب مكة، وعين لذلك القبض ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان، فظفر الشريف بركات بكتاب أبى السعود فاستدعاه فلما دخل عليه - وكان قد أظهر السرور والفرح بولاية بركات - أوقفه على الكتاب فأنكر ذلك، فقبض عليه في سابع رمضان وأخذ أمواله وعقاره وعذبه.
ثم بعث به وأهله إلى جزيرة القنفذة، وأمر نائبه عليها أن يركبه سنبوقاً، ويغرقه ففعل ذلك به، وغرق يوم الأحد الثاني من ذي الحجة سنة سبع وتسعمائة، وأولاده وعياله ينظرون إليه.(2/431)
ثم إن الشريف بركات توجه مع الحاج إلى ينبع لكون أخيه جازان نهب الحاج الشامي عند خليص حال قدومه إلى مكة، فحاربه مع أهلها سادس عشر ذي الحجة الحرام سنة سبع وتسعمائة، فكسر بركات كسرة ثالثة ونهبوا نهباً فاحشاً وقتل ولد إبراهيم مع جماعة من عسكره، وعاد بركات إلى مكة مريضاً، ثم مات بها ولده السيد عجلان، ثم جاءه الخبر أول صفر سنة ثمان وتسعمائة بمجئ أخيه جازان بعسكر عظيم، وبركات مريض لا يمكنه المحاربة، فتوجه إلى جهة اليمن وأقام بها إلى شهر رجب حتى شفى وجمع جموعاً كثيرة وعاد لمكة فلقى بها أخاه جازان بالمنحني فقاتله بها، فانكسر بركات كسرة رابعة، وفر جماعة الأشراف آل أبي نمي إلى جهة جبل حراء لمباطنتهم لجازان، فثبت هو وبعض خواصه للحرب ساعة، ثم توجه إلى اليمن أيضاً فتبعه جازان بعسكره فخلفه الشريف بركات في خيل قليلة وعاد من غير طريقه، ودخل مكة في غيبة جازان يوم الجمعة حادي عشر شعبان، ففرح به أهلها لظلم أخيه جازان فيها، وبذلوا الهمة في مساعدته ونصرته، وحفروا خنادق علو مكة وأسفلها وحاربوا أعداءه من خلفها، وعاد إليه جازان في صبح الأربعاء ثالث عشري رمضان من أسفل مكة من جهة المسفلة، وحاربهم مع سكانها مرة خامسة، وأظهر له الأتراك همة عالية حتى هزم جازان، وتركهم ولم يتبع منهم أحداً، وقتل جماعة من الفريقين وجرح آخرون، وتوجه جازان منهزماً إلى جهة حدة وأقام هو وجماعة ببئر شميس وهم خائفون وجلون، والعسكر يتخطفهم كل ساعة ليلاً ونهاراً، حتى أرسلوا يطلبون النجدة من أهل ينبع فجاءهم عسكر كبير ورحلوا معهم لحرب مكة مرة سادسة في صبح يوم السبت رابع شوال من السنة المذكورة، وجاءوا من شعب أذاخر والخرمانية من أعلاها، وكان الشريف بركات واقفاً مع خواصه خلف الخندق من باب المعلاة، فانهزم عسكره من غير قتال، وثبت هو والأتراك وأذاق عداه الحرب والعراك لشجاعته وهمته وقوته ونجدته حتى زحزحهم عن مصافهم، وكان تحته فرس يقال لها الجرادة وأنه أقحمها الخندق وهو بمفرده ففر منه الجيش باْجمعه وهو يضرب بالسيف قذالهم حتى أبعدوا عنه قاصدين الينبع، فذرع بعد ذلك عرض الخندق فكان سبعة أذرع.
ثم إنه توجه إلى اليمن فدخل الأعداء مكة وأهانوا أهلها، وآذوهم لمساعدتهم الشريف بركات وحبهم له، فبينما هم كذلك إذ وصلت تجريدة من مصر فخرج الأعداء هاربين، فعاد الشريف بركات إلى مكة ثالث عشر ذي القعدة من عام ثمان وتسعمائة وتوجه لملاقاة مقدم التجريدة المقر الأشرف قيت الرحبي فواجهوه بالطاعة والكرامة، وخلع عليه بالزاهر ودخل معه مكة بإخوانه وعسكره وابن عم أبيه عنقاً حتى وصلوا إلى مدرسة الأشرف قايتباي بالمسعى فقبض على الشريف بركات ووضع في الحديد مع بعض إخوته وجماعة، وانهزم الباقون وحج بهم كذلك، ثم ذهب بهم إلى مصر، ومر بهم على الينبع، واتفق مع أهلها على تولية جازان على مكة.
ودخل قيت الرحبي ببركات ومن معه مصر على هذه الصفة، فأنكر الناس عليهم دلك، وما هان ذلك على السلطان الغوري وتعب من ترك مكهَ في أيدي العصاة.
وفي ذلك يقول أبو الطيب أحمد بن الحسين العليف المكي قصيدته الكافية يسلي بها الشريف بركات ويحثه على الصبر وهي هذه: من الطويل:
عزيزٌ على بيتِ النبوَّة والمُلك ... مقام على ذُل المهانةِ والفَتْكِ
وأعظَم ما يلقَى الكريمُ من الأذَى ... على النفْس ما يلقى من الضيْمِ والضنْكِ
برَغمِ العلا والمجدِ والسيفِ والنلدى ... حَصَلتَ أبا عجلانَ في قبضةِ التُركِ
وعز على العلياءِ حجلكَ أدهم ... وطوقك لا مِن خالص التبر في السبكِ
وتلكَ لعَمرُ اللهِ أدهَى مصيبةٍ ... أصم بها الحاكي عن الحادثِ المحْكِي
عدمت الليالي ما أمَر صروفَها ... وأخلَقَها باللؤمِ في الفعلِ والترْكِ
أَذُل وغُل بعد عِز ومنعةٍ ... وأَشرُ النوى بعد الأسرةِ والمُلك
لحا الله دهراً لا يدوم سرورهُ ... على حالة إلا استحالَت على وشْك
بنفسي أبا عجلان والفئةَ الألَى ... بنوا مجدَهُم بالسمهريةِ والبركِ(2/432)
ونالوا المعالِي بالعوالِي فأصبحَت ... بهم بيضَةُ العلياءِ مرفوعَةَ السمْكِ
ملوك رعينا الجُودَ حَول حماهم ... خصيباً وساهمناهُمُ المالَ بالشركِ
رحَلْتُم فربعُ الأنسِ ما زال موحشاً ... خلياً وستر العِز أصبَحَ في هتكِ
وغادرتم في الكَربِ جيرانَ طيبةٍ ... كذا جيرة البَطحَاءِ والحرم المكي
وأسلمتُمُ كل القلوبِ إلى الأسَى ... فهذا الورَى ما بينَ باكٍ ومستٌبْكِي
ولما استقلت للمسيرِ جمالُكم ... وحادى النَّوى يَشكي إلينا، بما يشكِي
وسرتُمْ وسار الجودُ يمشي أمامَكُم ... وظلت بنو الآمال مِنْ خلفِكُمْ تبكْني
وإن الجبالَ الشّم والمجدَ والعُلاَ ... تَسيرُ بها يزلُ الجمالِ على وشكِ
فلا اكتحلَت بالنومِ عيني بَعدَكُم ... ولا ابتسمَت غُرُ الثغورعن الضحكِ
ولا باتَ ذو ملكِ قريراً بملكِهِ ... ولا مهجَة إلا على لاعج مُنْكِي
فصبراً أبا عجلانَ للحادِثِ الذي ... يَئُولُ إلى عقبى السلامَةِ والفَك
حرام على العلياء تنكح خاطباً ... سواك وإن كانَت تَئُولُ إلى فركِ
أراد بك الحساد كيداً فصادفوا ... جنابكَ لا يحكى لكَيِدِ ولا يحكِي
فجاءُوكَ من أبنا أبيكَ لعَجزهم ... فَلِلهِ أرحام تقطعن عن شبكِ
فهانوا عليهم بعد ذاك فأصبَحُوا ... يسومُونَهَم بالذل والخسفِ والهَتك
وأنت أبا عجلانَ ملء عُيُونِهِم ... كمالاً وأَهدَاهم إلى الرشدِ والنسكِ
فليسَ لها إلاك كُفءٌ وصاحبٌ ... وما زالَتِ العلياءُ مانعةَ الشرك
ولا عَن رضا منهم تركتَ وربما ... يكونُ ظهورُ الفضلِ للشيء بالتركِ
لعمركَ ما ساموك خطةَ عاجز ... توهَمها الجاني سبيلاً إلى المسك
سوَى أن رأَوا فيكَ الكمالَ لدِينهم ... فأدوا بك الطاعاتِ في الحَج والنسْكِ
وما استَصحَبوا علياكَ إلا ليأمنوا ... مِن الخَوف في الأموالِ والخيلِ والبَركِ
ولو شئتَ حكمتَ المهندَ والقنا ... عليهِم ولكن سرتَ في طاعة الملكِ
لئن بَلَغَت منكَ الليالي جهالةً ... فما زالَتِ النكبا تهب على الفُلكِ
وإن نالتِ الأعداءُ متكَ بزَعمها ... فيا طالما كانَت بما نِلتَه تَحكِي
ورب ابتسامٍ جاءَ من جانبِ البكا ... ورُب بكاء جاء من جانِب الضحكِ
أما في رَسُولِ اللهِ يوسف أسوة ... لمثلِكَ محبوساً على الظلمِ والإفكِ
أقام جميلَ الصبر في السجنِ بُرهةَ ... فآلَ به الصبرُ الجميلُ إلى الملكِ
فعما قريب يورقُ العودُ بالمنى ... وتعبقُ أرجاءُ العلا منكَ بالمسكِ
وتأتي علىٌ رغم العدو مملكاً ... وتظفرُ بالتقليدِ والتاجِ والزمكِ
ويرجعُ باقي العيش حلواً كما مضَى ... وتأوي إلى سامِي سَريرك والملكِ
ثم إن الغوري أطلق الشريف بركات من الغل، ورتب له مع جماعته النفقات، وصار يتردد إليه الشريف بركات وإلى أمرائه، ففر إلى مكة، وذلك أواخر سنة تسع وتسعمائة، فظفر في طريقه بقاصد أعدائه متوجهاً إلى السلطان وهو السيد بطاح الحسيني فقتله وفاز بما معه من المال والهدية.
وفي مدة غيِبته بمصر قتل الأتراك المقيمون بمكة أخاه جازان، وذلك أنه لما كان صبح يوم الجمعة التاسع من شهر رجب سنة تسع وتسعمائة قتل الشريف جازان بن محمد في المطاف عند باب الكعبة في الشوط الثالث من طوافه، قتله جماعة من الأتراك بمواطأة من أخيه حميضة بن محمد، وولوا أخاه حميضة فحج بالناس ذلك العام.(2/433)
ثم إن الشريف بركات واجه الحاج المصري في طريقه من مصر إلى مكة هارباً من مصر كما تقدم ورحل، وذلك بمواطأة الدويدار، ووصل إلى مكة سابع ذي الحجة معه جيش عظيم من بني لام وأهل الشرق وسائر المفسدين، فمنع الناس من الوقوف يوم الخميس حتى صالحه أمراء الحاج على أربعة آلاف أشرفي يسلمونها ويخلى بينهم وبين الوقوف يوم الجمعة ففعل، ووقف الناس بعرفات ومزدلفة ومنى. وهرب حميضة ودخل بركات مكة، ثم توجه إلى زيارة جده المصطفى، ثم قصد جهة الشرق فتزوج بالشريفة غُبيَة بنت حميدان بن شامان الحسيني، فحملت منه بالسيد الجليل في المجد الأثيل ذي العز والسعد أبي نمي محمد في أوائل سنة إحدى عشرة وتسعمائة، وولدته ليلة تاسع ذي الحجة من السنة المذكورة، وكان طالعه سعداً أكبر، ارتفع بولادته كل شر منذ ظهر، وتوالت على والده البشائر، وصفت منه عن الأكدار السرائر، وكان والده يمسح على ناصيته ويقول: كنت في أكدار وكروب متوالية، حتى ظهرت لي هذه الناصية. ولم يزل أبو نمي راقياً معارج المجد، مستخدماً للإقبال والعز والسعد.
ثم إن السلطان الغوري أرسل بتفويض إمرة الحجاز إلى الشريف بركات، فقدم أخاه السيد قايتباي في ولاية مكة وأشرك معه ولده علي بن بركات، وكان كل منهما يختلع، وينفرد عنهما الشريف بركات بالدعاء في خطبة الجمعة، وكان بينه وبين أخيه قايتباي صداقة عظيمة، ودامت إلى أن مات السيد قايتباي يوم الأحد حادي عشري صفر الخير عام 918 ثمان عشرة وتسعمائة بأرض حسان من وادي مر، وحمل على أعناق الرجال ومعه أخوه الشريف بركات وصلى عليه بالمسجد، وطيف به أسبوعاً كعادة أسلافه ولاة مكة ودفن بالمعلاة.
ثم إن الشريف بركات أرسل ولده الشريف أبا نمي إلى القاهرة وصحبته السيد عرار بن عجل، وفي خدمته القاضي صلاح الدين بن ظهيرة الشافعي، والقاضي نجم الدين بن يعقوب المالكي وذلك في سنة 918 ثمان عشرة وتسعمائة، وسن السيد أبي نمي إذ ذاك ثمان سنين، فأكرمهم السلطان الغوري وقابلهم بكل جميل.
وحكى عن مزيد حفق الشريف أبي نمي أن السلطان الغوري وضعه في حجره وقال ما سورتك. فأجابه: " إنا فتحنا لك فتحاً مبينا " ً، فأعجب الغوري ذلك وتفاءل به، وأشركه مع والده الشريف بركات في نصف ولاية مكة وهو بذلك السن، فصار يخطب له مع أبيه على منابر الحرمين الشريفين.
ثم حجت خوند أم السلطان الغوري وولده الناصر محمد وصحبتهما كاتب السر محمود بن إنجا في سنة عشرين وتسعمائة، فأكرمهم الشريف بركات، وقام بهم أحسن قيام وطلبوا منه السفر معهم لمجازاته وإكرامه فوافقهم على ذلك وسار معهم إلى القاهرة، ودخلها مرة ثالثة فأنعم عليه الغوري بخلع سنية وإكرامات مرضية لم يسبق إلى مثلها ولم يشاركه أحد في فضلها.
وهنأه الشعراء بذلك، منهم العليف المشهور بالقصيدة الآتي ذكرها بعد، وبقصيدة أخرى منها قوله: من الخفيف:
أَتتَ رلث القضيبِ والبُزدِ والسي ... فِ ورَلث الكُمَيتِ والمزراقِ
لو رأى المصطفَى أناسْ عياناً ... حَلَفُوا أنكَ ابنُهُ بالاللاقِ
سِرْتَ نحوالمليكِ مَغ صاحِبِ السز ... رِ على مَتْنِ سابحٍ سثاقِ
فذكرنا مَسْرَى النبيئ وجِبْرِي ... ل إلى الحق فوق ظهرِ البُراقِ
فتلاقَى البحران جمعاً على المَز ... جِ فطوبَى لبَخرك الدفاقِ
وبلقتَ الذي بلقتَ بتدبي ... رِ من اللهِ فوقَ سنعٍ طباقِ
ثم أصبحت في حماك وقد تَم ... مَتْ بما كان من رضاً واتفاقِ
ومنهم الفاضلة الأديبة ستيتة بنت القاضي كمال الدين محمود بن شيرين القاهرية، وذكرت الإنعامات التي انفرد بها الشريف بركات في قصيدة دالية هي قولها: من الطويل:
قِفُوا واسمعوا قولاً صحيحاً له سنَذ ... عن الأشرفِ الغورفي ما عنه يعتمد
وما نالَ مولانا الشريف من العطا ... ثمانية ما نالَهاً قبله أحَذ
فأوَّلها يدعي له بمقامِهِ ... كما يُذعَ للسلطان هذا به انفرذ
وأسمعه القيناتِ في وَشطِ دارِهِ ... وذلكَ ثاني ما ذكزتُ من العدَدْ(2/434)
وثالثُهاً يوضغ له بإزائِهِ ... لمرتبة علياًءَ في بِزهِ اجتهدْ
ورابعُها يطعفهُ باليد ما يشا ... كوالِدِ مولودٍ إذا يُعْنَ بالولَدْ
وخامسها سارا فلم ير نعله ... لمهل حتى حامل النعل قد وَرَدْ
وسادسها جازاً جميغا بداره ... فأنزله بين العسمماكِرِ واتفَرَذ
وسابعُهاً فرشُ المصفى بيمه ... وصفؤا جميعاً هكفا غاية المَمَذ
وثامنها ما كان يَؤم ولمحاعِهِ ... وكبت اْعحاه ووفاه ما وَعَذ
وزاد ثلاثاً رفعة لمقامِهِ ... بسنجقه والطبل والجند للبوذ
وقد نال ها منه بالبز رالتقَى ... وصِفقِ مقالي والوفاء لما وَعَذ
وفلك فقملُ الله يؤتيه من يشا ... ويخسأ عَؤاء كذاك ومق حَسَذ
وهذه ستيتة بنت شيرين أديبة عجيبة فاضلة كاملة من جملة تلامذتها الشيخ العلامة جار الله بن فهد القرشي الظهيري.
وكان الشريف بركات بليغاً مصقعاً له النظم الرائق والنثر الفائق، فمن نظمه قوله في الغوري في سفرته الثانية إلى القاهرة عام تسع وتسعمائة وهو قوله: من الطويل:
هَلُفوا معى نحو الصلاح وسارعُوا ... إلى جامعِ للذكرِ والحُمن!ن جامعُ
تأضسىَ بنياه على الخَيرِ والتقَى ... ألمنمتَ تراه بالمحاسِنِ ساطِعُ
أيا قانصوه اسممَغ بحفك قضتي ... فإني لِشَزحِ الحالِ نحوك رافِعُ
بليتُ بجور من زمايئ أمضني ... ومالى ولا في الناس غَنرَكَ نافعُ
وحفك ما أفني! مالى ومُفجَتي ... سوَى لرضا السلطانِ واللهُ سامعُ
فإن يكُ قد أرضاكَ ما قد لقيته ... فإثى به راضيى بَلَى ثم قانعُ
ولى أسوةٌ في الناسِ بال!الحة الألَى ... لَكَنم بذلوا أرواحَهُنم ثم بَايَعُوا
ونظم الغوري موشحاً وسأل من الشريف بركات أن يعارضه.
ومطلع موشح الغوري:
يا غزالاَبلحظِهِ يُتشِى ... نشأَةَ اكوَسِ
فقال الشريف بركات:
اكمم ال!ز وَيكَ لا تقشِى ... بالزشاً الألعسِ
فهو يزرى الغصونَ إذ يمشى ... في الرداءِ السندسِي
ماعلى الص!ث في الهوَى عار ... إن تما!ى الكَمَذ
إن لي في الغرامِ أوطار ... واصطبارى نَفَذ
والفواحى في لومهم جاروا ... وأنا أُبدى الجَلَذ
رَلث يا فا الجلالِ والعرش ... كق به مؤنسِي
وبوصل الحبيبِ في الفرش ... جُذ ولا تَخبِسِ
يا غزالأ بوصله تحرك ... كل ما يستسطالت
غايتى في الغرامِ من أمرك ... أننى مستَرَابْ
جُذلمن في هواك لايشرك ... زينبًما والربالمحت
لم أزل في وصاله أرشي ... كى يجى قخلِسِي
هل لهذا القتيلِ مِن أرش ... يا فنَى الأنفسِ
وكان رحمه الله شهماً عند الوفاء وحفظ العهود، وإكرام الشعراء والوفود، مع العفة والصيانة، وملازمة الخير والديانة، وإظهار الخيرات، ومواصلة المبرات.(2/435)
أوقف بعض الجهات على أنواع الصلات، وبنى رباطاً سفل مكة، وأسكنه الفقراء فى حياته، وأقر الله عينه بمشاركة ولده أبي نمي له في الولاية كما شارك هو والده. ثم لما قدر الله تعالى زوال دولة الغوري، وأفضى ملك مصر والحرمين إلى مولانا السلطان سليم خان ملك الروم، وذلك في رجب سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة وجهه أبوه الشريف بركات مرة ثانية إلى مواجهة السلطان الأعظم والخاقان الأكرم السلطان سليم خان، فوصل إليه إلى القاهرة بعد حربه للغوري، ودخل مصر سثة ثلاث وعشرين وتسعمائة فقابله الخنكار بالعناية والرعاية، وأقر الشريف بركات على ما كان عليه من الولاية، وأبقى أبا نمي على مشاركة والده، فعاد أبو نمي قرير العين. واستمر الشريف بركات مشاركاً له ولده أبو نمي حتى قضى نحبه ليلة الأربعاء رابع عشري ذي القعدة الحرام سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة بمكة الشريفة على فراشه.
ثم صلي عليه يوم الأربعاء بالمسجد الحرام، وطيف به حول الكعبة أسبوعاً كعادة أسلافه ولاة مكة الكرام، ودفن بالمعلاة وبنيت عليه قبة عظيمة وهي موجودة إلى الآن.
وكان مدة ولايته مشاركاً لأبيه محمد وولده أبي نمي وإخوته نحو ثلاث وخمسين سنة وعمره إحدى وسبعين سنة، وكان له من الأولاد ثقبة وأبو القاسم وحازم وواصل وسند وعلي وأبو نمي محمد هذا المذكور بعده.
وقد تقدم في ترجمة والده بركات أنه ولد ليلة تاسع ذي الحجة الحرام سنة إحدى عشرة وتسعمائة، وأن أمه عبية بنت حميدان بن شامان الحسيني، وكان يكنى نجم لدين، شارك أباه بركات في ولاية مكة كما تقدم، وعمره ثمان سنين ولاه الغوري.
وهي آخر ولاية صدرت من الشراكسة سنة ثمان عشرة وتسعمائة، ثم أبقاه السلطان سليمان خان على مشاركة والده سنة ثلاث وعشرين لما قدم عليه بالقاهرة بعد حربه للغوري، واستيلائه على مصر، وهي أول ولاية صدرت من العثامنة.
ثم استقل بأعباء السلطنة بعد موت أبيه، وكان استقلاله بها في سن عشرين سنة، فوصلت إليه المراسيم السلطانية السليمانية، فخمدت بولايته الفتن، وابتهج بملكه وجه الزمن.
ولم يزل ممتعاً بمكارم الشيم، متقلباً في صنوف النعم. وقد رزق الذرية الصالحة، ودانت له رقاب الأمم.
ولما كان موسم خمس وأربعين وتسعمائة، وصل إلى مكة الباشا سليمان من جهاد الفرنج بالديار الهندية عازماً إلى الديار الرومية، فأرسل معه الشريف أبو نمي ولده السيد أحمد بن أبي نمي لمواجهة السلطان سليمان بن سليم خان، وفي خدمته السيد عرار بن عجل والقاضي إبراهيم بن ظهيرة والقاضي تاج الدين المالكي، فوصلوا القاهرة ثم توجهوا منها إلى الديار الرومية في البر فوصلوا بالسلامة والعز والكرامة، واجتمع السيد أحمد بالسلطان سليمان وجلس على يساره، فقابله بالإكرام، وعامله بالاحترام، وأشركه مع والده أبي نمي في ولاية مكة وذلك سنة ست وأربعين وتسعمائة، وأقام مدة متوعكاً بالروم حتى فاته الحج في ذلك العام،، ومات السيد عرار بالطاعون، ثم عاد إلى القاهرة عام سبع وأربعين.
قال الشيخ محيى الدين عبد القادر محمد الشهير بالجزيري في كتابه درر الفوائد المنظمة: فعاد الشريف أحمد إلى مكة عام سبع وأربعين وتسعمائة وهو في غاية الرفعة والجلالة متولياً ما كان والده يتولاه، وأنعم عليه السلطان سليمان بعلم مكمل بطبلخانة سلطانية رومية على أكمل هيئة فاخرة.
فبمقتضى ذلك صار الشريف في منعة وحمى ممن يرد إلى الأقطار الحجازية من أمراء الحاج وغيرهم من أكابر الأروام، ومن أراد الاجتماع به من أكابرهم يأتي إليه إلى بيته ومحل عزه منفرداً وفي جماعة قليلة فيقصده للسلام عليه، ولا يذهب الشريف لأحد منهم أصلاً.
وتوجه قاصداً مكة فلاقاه والده أبو نمي في وادي مر، وجعل له سماطاً عظيماً حضره الأعيان، ثم قرئت مراسيمه بمكة بالعشر الأول من ربيع الأول سنة سبع وأربعين وتسعمائة، وألبس الخلعة السلطانية وطاف بها، وصار يدعي له على المنابر، وسعت إلى أبوابه الشعراء والأكابر.
وممن مدحه مهنئاً للشريف أحمد بالولاية العلامة وجيه الدين عبد الرحمن بن عبد الله باكثير بقصيدة رائية هي هذه: من الطويل:
وفَت صبَّها بعد الجفا غادَةٌ عَذرا ... ومذ لامَها قالَت لعل لها عذرَا(2/436)
وزارَت ولكن بعد طولِ تشوقِ ... إليها ولا لَومَ عليها ولا إزْرَا
وجاءته والأشواقُ جاذبةٌ لها ... وشاكَتهُ ما تلقاه وهوَ به أدرَى
وأطفَتْ ببردِ الوصلِ حرَّ بِعَادِه ... فباتَ ولا يشكو بعاداً ولا حَرا
وأصبَحَ في أهلِ الغرام منعماً ... بمَق لحظُها يبرى ومنه الضنا يبرا
مهاةُ فلاةِ غادة عربيةٌ ... عقيلةُ حَي كالضراغِم بل أضْرَى
عزيزة قوم مستحيل وصالها ... ولو بذل العشاق أنفسهم مهرا
محجبة ما إن تُنَالُ لناظِرٍ ... جعلنَ لها بيض الظبا والقَنا خِدرَا
ممنعة لَحظ الحسام رقيبها ... يكقم من يحلو له لفظها المُرَّا
رَدَاح كساها الحُسنُ حُلَته كما ... بمقلتها هاروتُ قد أَودَعَ السحْرا
مهفهفةٌ كاللَدنِ أما سوارها ... فمثرٍ وأما بندها يشتكي الفَقرَا
لها اللهُ خودٌ حين تخطو تخالها ... من التيهِ والإعجاب ثاملة سَكرَى
إذا ارتج منها الردفُ واهتر قَدُّها ... ولاح مُحياها وأسبَلَتِ الشَعرا
رأيتَ كثيباً فوقه غصن بانةٍ ... عليه هلال والظلامُ له سِتْرَا
رَنَت جؤذراً ماسَت قضيباً تأرجَت ... عبيراً سطَتْ ليثاً ولكنها أجرا
بدت قمراً طرفى وقلبي منازل ... لها أغرقَت هذا وذا أججتْ جمرا
لها كَفَلٌ كالحقفِ يقعد قدها ... إذا نهضَست قدأَتعَبَ العِطفَ والخَصْرا
طويلةُ مجرى العقدِ والجيد قد حلا ... بعقدٍ حكى في النظم مبسمها الدرا
إذا ابتسمَت خلتَ الشتيتَ ووشمها ... لآلٍ بها خَفَّت زُمُزدةً خضرا
عليها جَرَى ظَلم يعز مذاقُهُ ... فلم ندر ظَلماً ذلك العذبُ أم خمرا
أدارَت على العشَاقِ خَمْرَ عيونها ... فأضحَوا نشاوَى هائمين بها سَكرَى
فلا تعجبوا مِنْ كَسرِ أجفانها إذَن ... فبالشرعِ كاسُ الخمرِيَ يستَوْجبُ الكَسرا
كتمْتُ هواها غير أن محاجري ... بما صنته خَط ابن مقلتها سَطرا
تمن على المضنَى بإرسال طيفها ... إليه ومَن ذاق الصبابة لا يكرَى
رعا الله دهراً كنتُ سلطانَ عشقِهِ ... وكانت غصونُ العمرِ يافعةً خضرا
ولما مضَى عضرُ الشبيبة وانقضَى ... ومَر وما أحلاه من زمَنٍ مَرا
ونَبهني من نومِ جهلي وشيبتي ... صَباحُ مشيبٍ لاحَ في مَفرِقِي فَجرا
دعاني هواها للتصَابِي فلم أُجِب ... وقُلتُ له أرهقتني في الهوَى عُسرا
أبعد مشيبي تَبتَغِي مني الصبا ... لقد جئتَ ياداعي الهوَى خُطةً نكرا
فمالي وللتشبيب بالغِيدِ والظبا ... وبالوشمة الخَضرا وبالوجنة الحَمرا
وقلبيَ قد أطلقته من يد الهوَى ... وكان لسلطانِ الغرامِ من الأسرَى
وفكرِيَ عن صوغِ المديحِ فطمتُهُ ... سوَى صَوغِ مدحي في ابن فاطمة الزهرا
أبى الظفر المنصورِ أحمد من رَقَى ... سماءَ المعالى وامتطى الأنجُمَ الزهرا
ومن قد علا هامَ الممالكِ مذ نشا ... ودبرها من قبل أن يبلغ العَشرا
ومَق جَر من فوق النجومِ ذيولَهُ ... فقنعتِ الجوزا وعممت النسرا
علا ذروةَ في المَجدِ أكسَبَ فخرُها ... بني هاشمٍ عِزاً كسا جدهم فخرا
ومِن دوحة السبطَين أنبع غُضنه ... ومن نفحة الريحانَتَين ملي عطرا(2/437)
به افتخرَتْ آل النبي وعظمَت ... قريش وسادَت قومها مُضَرُ الحمرا
ومن حَازَ في سن الشبيبة رتبةً ... مِنَ العقلِ والتدبيرِ فاقَ بها عُمرا
يدبرُ أمرَ الملكِ منه بهمةٍ ... له علَتِ السُيوق واعتلَتِ الغفرا
ويعلو سريرَ الملكِ ليثاً موقراً ... مهيباً كما يعلو المُطَهمةَ الشَّقرا
ويحميه رأيٌ منه ضاهى رماحه ... إذا ما حَمَتهُ أو ضوازمه البَترا
شهاب إذا ما رمْتَ رأياً وإنْ ترد ... أخا غارةِ يروي القنا خلته ذمرا
شُجَاع ربى بَين الأسنةِ والظبا ... ومنذُ نشا أرضى الضوارم والسمرا
إذا جال في الهيجَاءِ والخيلُ تدعي ... فإن كماةَ الحربِ تجعلهُ سِترا
هزبز تخافُ الأشدُ من سطواته ... ألستَ تراها خيفة تسكُنُ القفرا؟!
جوادٌ لقد أخطا الذي قاسَ جودَهُ ... بسحبٍ وهذا كفهُ يمطرُ التبرا
عطاياه لا تحصَى بعد ولا فَمٍ ... ولا قلمٍ بل بعضها جَلَّ أن يُدْرَى
مجمعة فيه ماثرُ من غدا ... معاصره والآتِيينَ ومَنْ مَرا
شريفُ السجايا من لؤَيِّ بن غالبٍ ... محاسنه تُتْلَى وإحسانه تَتْرَى
ولا عيبَ فيه غَير إفراطِ سؤددٍ ... وبذل نوالٍ يسترق به الحرا
أبى الله إلا أن تكونَ له العلا ... على كُل من في الأرضِ مِنْ خلقه طرا
من المسجدِ الميمونِ أحمد قد سَرَى ... إلى المسجدِ الأقصَى فسبحانَ مَنْ أَسرَى
ويمَّم ملكَ الرومِ ممتطياً على ... نجائب عز في الغُدُو وفي المَسْرَى
وسار لسلطانِ. البسيطةِ مَنْ له ... جميعُ ملوكِ الأرضِ خاضعة قهرا
مليك له ملك كملكِ سَمِيهِ ... وأكبره عَن أن أفوه به ذِكرا
تكفل للدنيا بأرزاقِ أهلِها ... فكل ابن أنثى لا يجوعُ ولا يَعْرَى
ومد على أبنائها من أمانِهِ ... رواقاً فلا يخشونَ بؤساً ولا ضُرا
وألبسهم جلبابَ عدلِ طرازه ... لكم ذمَّتي إن لا مخاف ولا ذُعْرا
ونوَّلَ كلاًّ ما يريدُ فمن يرد ... غِنًى أو حياةً ذاك رزقاً وذا عُمرا
خليفةُ عدلِ بالإمامةِ قائم ... وإن جل ذاتاً عنهما وعلا قَدرا
له البسطةُ العظمَى على الخلقِ كُل من ... تحيطُ به الخضرا وتحملُهُ الغبرا
له الملكُ والكرسيُ والتاجُ والعلا ... له الوقتُ والأملاكُ تعنو له قَسرا
تخر إلى الأذقانِ في عَتَبَاتِهِ ... سُجُوداً عليها لا ثمينَ له صغرا
وتلثُم حصبا بابِهِ بمباسمٍ ... لهم شَرُفَت عن كونها تلثم الدرا
وتعتدهُ فخراً، ومقدمُ أحمد ... عليه مع التعظيمِ تعتدُهُ فخْرا
به هزتِ اسطنبولُ مِعطَفَ تائِه ... وأضحَى به إيوانها باسماً ثغرا
وشزفَ منها ملكها ومليكها ... ودَؤلتها هزت وشدتْ به أزرا
وجر به إقليمها ذَيلَ معجب ... وفاق أقاليمَ البسيطةِ إذ جَرا
ومَغ عِظَمِ الخنكارِ لما بدا له ... محياه كادَت أن تخفَّ به السرا
ولما رأى نورَ الثبُوةِ ساطعاً ... يُضئ له من صبحِ غرَّته الزهرَا
وشاهد منه صورةً نبيويةً ... جمال سناه يبهر العقل والفكر
ملا عينه منه وقاراً وهيبةً ... وحملها من نور طلعته وقرا(2/438)
وشرفها منه بمرأى جلاله ... وهيبته مرأى النبي بالاستقرا
وقربه منه وأدنى محله ... وأجلسه من تخت سلطانه الصدر
وبالغ في تعظيمه خافضاً له ... جناح اتضاع ما أشاب به كبرا
وأدناه منه ثم حياه مطرقاً ... ووافاه بالبشرى وأهدى له البشرى
وفيَّأه من جوده ظل روضةً ... أمانيه من أكمامها أطلعت زهرا
وأثمر فيها غرس رجواه مدنياً ... إليه قطوفاً لا تكلفه هصرا
وأينع فيها غصن آماله كما ... مطامعه منها مزاودها شكرا
وأفق رجاه عمه سحب فضله ... وأجرى له منها بجريته نهرا
وألبسه تشريفةً عاقداً له ... ولاية ملك من زبيد إلى مصرا
وأعطاه ما الآمال تنفد دونه ... وكل الأماني دون غايته حسرى
وأكرم مثواه وأحسن نزله ... وأدخاه من ملكه جنةً خضرا
هنا طرفه فيها وأمري جنانه ... فلله ما أهنا ولله ما أمرى
به قد تسلى عن حبيب ومنزل ... فأصبح لم ينشد قفا نبك من ذكرى
ولكنه عن ذكر والده وعن ... رعاياه لم يغفل ولم يستطع صبرا
فحرك منه ساكن الشوق باعث ... يحث مطايا عزمه منه بالإغرا
فعاد إلى أوطانه عود مرهف ... إلى غمده من بعد أن جاوز النحرا
وجاء كما يرضى الممالك والعلا ... وبيض الظبا والملك والنهي والأمرا
وأصبح نجاب السرور مخلقاً ... وقد أرج الأرجاء من عطره نشرا
وطبقت الأرض التهاني لعوده ... إلى ملك يشدو لها هاتف السرا
فقلصه مذ بلغته دياره ... حرام على الأكوار تعلو لها الظهرا
علينا لها لثم النحور وفرشنا ... خدوداً لممشاها لنوفي لها النذرا
فيابا سليمان الندى والذي اعتلى ... على صهوة العلياء مذ شرب الدرا
ليهنك ما قلدت فاستخدم الظبا ... وسمر القنا والسعد والعز والنصرا
فمثلك لم ننظر مليكاً معظماً ... تظلله الخضراء في حلة صفرا
فلا زلت سلطان الحجاز وفخره ... وتاج بني الزهرا وغرتها الغرا
فهم سبب التقوى وهم أنجم الهدى ... وهم شرف الدنيا وهم سادة الأخرى
بهم تفرج الغما بهم يكشف البلا ... بهم ترفع اللأوا بهم ندفع الضرا
بهم يأمن الناس المخاوف في غد ... إذا خيف أن تعطى الصحائف باليسرى
وهم أهل بيت أذهب الله رجسهم ... وطهرهم من أن ينيط بهم وزرا
وهم نعمة الباري على الخلق إذا غدوا ... نجاةً لهم لكن نعمته الكبرى
على خلقه في الأرض نجم العلا أبو ... نميّ الذي قد فاق في عدله كسرى
مليكً له نور النبوة هالةٌ ... محياه منها قد أضاء لنا بدرا
مليكٌ له نهر الرسالة موردٌ ... فأكرم بمورودٍ وأكرم به نهرا
به شرف الله الزمان وأهله ... وحلى به الدنيا وزان به الأخرى
وأنطق أفواهً الثناء بحمده ... وأجرى له من كل ناطقه شكرا
وتوج هامات المنابر باسمه ... وزان به الأقلام والطرس الحبرا
وأرسل جبريل الأمين لجده ... خديماً وفي أوصافه أنزل الذكرا
فما ذا عسى فيه يقال ومدحه ... أتانا به التنزيل في صورة تقرا
ومن كان جبرائيل حامل مدحه ... ومادحه القرآن لا يرتضي الشعرا(2/439)
ولو نظمت زهر النجوم قلائداً ... بجنب علاه كان في حقه هجرا
هو ابن الألى مدوا سرادق مجدهم ... وفخرهم فوق السماكين والنسرا
ملوكٌ غضاريفٌ جحاجح نخبة ... ليوثٌ غيوثٌ سادةٌ قادةٌ غرا
صناديد صيدٌ أوجب الله مدحهم ... وحسبهم إلا مودتهم أجرا
وهم أهل بيت لا صلاة لكل من ... يصلي ولا يجري لهم ضمنها ذكرا
وهم تاج أركان الصلاة وذكرهم ... طراز على عطفي تحياته الأخرى
غدا حبهم فرضاً وطاعتهم هدىً ... وقربهم منجىً وبغضهم كفرا
ومدحهم فخراً ولا سيما أبو ... رميثة منهم حبه زادني فخرا
هو الملك المنصور أندى الورى يداً ... وأغرزهم حظاً وأوسعهم صدرا
وأرجحهم عقلاً وأشرفهم أباً ... وأصوبهم رأياً وأكثرهم برا
يفوق ملوك الأرض عزاً وهمةً ... وبأساً وجوداً يفضح الليث والبحرا
يصيرُ حد السيف كلا بحلمه ... ويتركُ وردَ الماءِ من عزمِهِ جمرا
إذا ما دهى أمر من الخَطبِ فادح ... تبيتُ بردِّ الأمرِ مقلته سَهْرا
ولم يستَتِر إلا بضوءِ حسامِهِ ... ولم يستشِر إلا الرُدَينْيةَ السمرا
وإن رام أمراً فالقضاءُ مُسَاعِد ... له والليالي ليس تَعْصيِ له أمرا
هو البَطل المقدَامُ في يومِ غارةٍ ... يقوم مقاماً يُرعِدُ العسكَر المجرا
عواليه في نَظمِ الكلى جَادَ صنعها ... كما في الطلاَ أسيافُة جادَت النثرا
إذا اربد تفتر الأَسِنَّةُ والظبا ... وتَجرِي بُكا عينِ النضار إذا افترَّا
يداه لنفعِ الخلقِ مملوءةٌ ندًى ... فيمناه واليسرَى بها اليُمن واليسرا
ورُب يراعٍ تشخصُ البيضُ هيبةً ... لسطوتِهِ والسمرُ تنظُرُه شَزرا
إذا ما جرَى في الطرس قُل قَدرٌ جَرَى ... فإن شَاءَه خيراً وإن شاءه شَرّا
مليك إذا حاولت ضبطَ صفاتِهِ ... فلن تستطع ضَبطاً لذاك ولا حَصرا
فيا با نُمَيّ الملك والملك الذي ... يجل عن الألقابِ والمدحِ والإطرا
لقد صدَحَت في الكونِ صادحةُ الهنا ... تُغَرِّدُ فيه بالمسَرِّةِ والبشرَى
بمقْدَمِ من أنتجته وادخَرتَهُ ... وليّاً لعهدِ الملكِ أَعظِمْ به ذُخْرا
بمقدمه ورق البشائِر قد شَدَتْ ... وكل فؤادٍ من بشائرها استرا
وقد عَمَّ أقطارَ الحجازِ قدومُهُ ... سروراً كما عَمّ العراقَين مَعْ بُصْرَى
ووافَى وكل شيق لِلقَائه ... كما اشتاقَ حيٌّ عامَ إجدابِهِ القطرا
قد آنسَ البيتَ الشريفَ وأهله ... ومكَّة والركنَ المكرمَ والحِجْرا
وأضحَى محيّا مكةٍ متهللاً ... سروراً بمرآه وناظرُهُ قَرَّا
وكان له عيداً ولكنه غَدا ... لباغِضِهِ نحْراً وحاسده فِطرا
وخلعته الصَّفرَاء منها لَقَدْ رَمَوا ... سَوَاداً وذكرَاها ملا سمعَهُم وقرا
به قد تحلتْ والمراسيمُ شُرفَت ... وشرف مُهديها له والذي يَقْرا
فدم وليدُنم والملكُ طوعُ يديكما ... ومدحُكُما يستغرقُ الحمدَ والشُكرا
وهاكَ من الدر النضيدِ قصيدةً ... تَغَارُ قوافِي الشعْرِ مِنْ رَسمها بالرا
منقحةَ المعنَى مُصَحّحَة البنا ... مهذَّبة الألفَاظِ طَيبَةَ المقرا(2/440)
تضوَّعَ رَيَّاها عليكَ ولم أكُن ... على مِثل كافورِ أضِيعُ لها نَشرَا
لعمرِيَ لا أرضَى القريضَ بِضَاعةَ ... ويَبخَسنِي لَو أنني قُلْتُهُ دُرا
وما الشعرُ إلا دونَ قَدرِي وبعض ما ... لذاتي من فضلٍ ولم ينضبطْ حصرا
وُدونَكَها مسكُ الصَّلاةِ خِتَامُهاً ... على أحمد المحمودِ في الفتحِ والإِسرَا
هذا ما ذكره الكثيري في الوسيلة وغيره.
وقد ذكر السيد محمد السمرقندي ذلك مفصلاً مع زيادات، وبعض مخالفات أحببت ذكر جميعه تتميماً للفائدة.
قال: تشرف مولانا الشريف بركات بن محمد بن أبي نمي بن بركات بن حسن بن عجلان بحماية الحرمين الشريفين بعد وفاة والده الشريف محمد بن بركات سنة ثلاث وتسعمائة، وكان سلطان مصر يومئذ محمد ابن السلطان قايتباي.
ثم في جمادى من العام المذكور تولى الشريف يحيى بن سبيع إمرة الينبع، ووقعت بمكة فتنة عظيمة بين الشريف بركات وأخيه هزاع، وارتحل هزاع مع أخيه أحمد الجازاني في خمسمائة فارس من ذويهما ونزلوا بالينبع وكاتبوا السلطان في إمرة مكة بمائة ألف دينار جديد، وافترقت الدولة مع الأخوين فرقتين، لكن سعد بركات غالب. ثم إن السلطان برز أمره العالي بتعيين المقر الكريم البدري محمد بن مزهر لإخماد الفتنة المذكورة.
وفي عام ست وتسعمائة تسلطن الملك قانصوه الغوري بتخت مصر، فجهز للشريف هزاع بن محمد خلعة سنية بإمرة مكة المشرفة صحبة أمير الحاج، فلاقاه من ينبع ولبس التشاريف السلطانية، وسبق إلى مكة لتمهيد البلاد وتطمين العباد، فلاقاه الشريف بركات خارج مكة فاقتتلا قتالاً شديداً، فانكسر هزاع، ولحق بأمراء الحاج فأعانوه، وأقبلوا بجموعهم من العساكر والحجاج على الشريف بركات، فولى عن محاربتهم إلى جدة وما يليها، ونهب بعض عساكره كل ما مروا به.
ودخل الحجاج مكة ومعهم الشريف هزاع وهم على غاية الخوف والوجل من الشريف بركات، وترك أكثر الناس الحج خوفاً على أنفسهم وأولادهم، وأهاليهم.
ثم إن الشريف بركات جمع عساكره وتوابعهم ونزل ببدر راجياً من الله ما حصل لجده عليه الصلاة والسلام من النصر. فعاد الحاج المصري والشامي بعد قضاء المناسك والشريف هزاع معهم حماية لهم، فلما قرب من بدر ولى هارباً إلى يحيى بن سبيع بالينبع، فعاد الشريف بركات إلى مكة وأقام بها، واستمر هزاع بالينبع والحرب بينهما سجال.
وفي عام سبع وتسعمائة مات الشريف هزاع فدفن بمكة، وبعد موته عقد مجلس في الحطيم صدره القاضي أبو السعود بن إبراهيم بن ظهيرة وفيه القضاة والحكام والأمراء من العرب والأروام وفيهم الشريف جازان، ومالك بن رومي شيخ طائفة زبيد وأعيان الشرفاء الكرام وتفاوضوا فيمن يليق لإمرة مكة المشرفة وطال بينهم الكلام، فقال مالك بن رومي: ما أمير مكة وسلطانها إلا جازان، وما كان هزاع إلا به وبركات ما له إلا السيف، فسكت الحاضرون جميعهم طويلاً، فقال القاضي أبو السعود: فمن يليها الآن وتكون في وجهه؟ فقال مالك: الشريف جازان وبنو إبراهيم معه في ذلك، فنودي لجازان في شوارع مكة بالبلاد.
ثم كان بين الشريف بركات والشريف جازان حروب متعددة، ومواقف متكررة لحق ضررها الحاج، واختلفت كلمة العربان، وخرجوا على الحجاج، ونهبوا أموالهم، وقتلوا رجالهم في جميع الطرقات وسائر المنازل.(2/441)
وفي هذا العام وهو عام سبع وتسعمائة رفعت الشكوى إلى الأبواب السلطانية بأن جازان استولى على مكة ومعه الشريف يحيى بن سبيع، وجمع من بني إبراهيم، وأنهم صادروا من كان بها من التجار والرؤساء، وأخذوا من المولى شمس الدين العيني خمسة وعشرين ألف دينار، وأن بني إبراهيم تحكموا في أهل مكة بالبلص والفساد، وأن يحيى بن سبيع هذا رأس الفتنة، وضجت المجاورون وعزم الجميع على الهرب من مكة في أربعين مركباً أعدوها ببندر جدة فمنعهم الشريف جازان، ووعدهم برفع المكاره عنهم، وطمن خواطرهم، والتزم لهم أن يجهز مع كل مسافر من الحجاج من يوصله إلى مأمنه، فلم يقبلوا منه ذلك؛ لأن ميلهم إلى الشريف بركات أكثر، وقلوبهم محبة له؛ وذلك لعدم طمعه في أموالهم، وكف الأذى عنهم بكل طريق بحيث يدفع من ماله لأهل الشوكة من العربان سكان البوادي لأجل حماية الحجاج، وعطفوا على الشكوى عدة مكاتيب لمولانا الشريف بركات أن يقيم بمكة أميراً لها وجميع من بها من العسكر والرعايا عون له على جازان عناية من الله تعالى به، فوصل إليها.
فلما بلغ ذلك الشريف جازان أقبل محارباً للشريف بركات فاقتتلا قتالاً شديداً في مواقف عديدة وصدق مع الشريف بركات من ذكر فيما وعدوه به من الإعانة، فكانت الكسرة على جازان فهرب إلى اليمن، ثم وصلت الحجاج ولم يكن بمكة أحد من جماعة جازان غير ولد يحيى بن سبيع، فلبس الخلعة نيابة عن جازان بولايته السابقة، وكان مولانا الشريف بمكة على غاية من القوة والشوكة فلم يحدث بمكة حادثاً، إجلالاً لشعائر الدين وحقناً لدماء المسلمين.
فلما شاهد ذلك أمراء الحاج، ورؤساء الوفاد ألزموا الشريف بركات بالتوجه إلى الأبواب السلطانية لتحصل له كرامات بالإمرة وغيرها من مراعاته السنية، مكافأة لصنيعه المذكور وسعيه المشكور، فتوجة وتوجه معه إخوته قايتباي وأبو الخير وعنقا، فقابلهم السلطان مقابلة عظيمة، وألبسهم خلعاً تليق بأحسابهم النبوية الكريمة.
واستمر على غاية الاحترام والاحتشام، مع الكفاية التامة من اللباس والشراب والطعام.
فوردت بمحضرهم إلى الأبواب السلطانية كتب من نائبهم بمكة المحمية بأن الشريف جازان لم تسكن مع ولايته الفتن، وحصل لأهل مكة من جماعته أنواع الظلم والجور والمحن، وبأن الأمير بكباش مكة المشرفة صار يؤمن الشريف جازان، ويظهر له الشفقة والمحبة فصار يتردد بالحرم الشريف ويكثر الطواف، فاتفق أن هجم عليه طائفة من الأتراك المماليك وقتلوه بالمطاف ضرباً بالخناجر والسكاكين، ثم احتزوا رأسه.
وأن الباش المذكور ألبس أخاه الشريف حميضة خلعة بإمرة مكة لغيبة الشريف بركات عنها، وأن الناس يتمنون الشريف بركات راضين عنه.
فلما وصل الخبر إلى مصر بذلك توجه الشريف بركات مع أخويه المذكورين من مصر إلى الحجاز من غير إذن من السلطان، ثم أرسل مطالعة إلى السلطان يذكر فيها أنه عبد لمولانا السلطان، وإنما توجه خوفاً من الطاعون، فمنع السلطان جميع من كان مع بركات من عيال وأتباع من التوجه إليه، ورسم عليهم بمصر المحروسة، فلما كان موسم عام تسع وتسعمائة برز أمير الحاج المصري في شوكة عظيمة، وعساكر جرارة وزيادة في السلاح والمدافع خوفاً من الشريف بركات، فلما بلغ الشريف بركات الخبر أرسل رسولاً إلى أمير الحاج وصل إليه في عيون القصب معه مكاتيب مضمونها أن الحج يتوجه مع سلامة الله تعالى لا خوف عليه، وأنه في خدمة، السلطان بحراسة الحاج، وتطمين سائر الحجاج بمكة وعرفة حتى يؤدوا المناسك جميعها، ويعلنوا بالدعاء لمولانا السلطان ثم يعودون إلى أوطانهم، وأنه باذل نفسه وأولاده وإخوته ورجالهم ومالهم.
فلما بلغ الخبر إلى السلطان رضي عن الشريف بركات رضا تاماً، وجهز إليه عياله وأتباعه، وبلغت الأخبار أهل مكة فتهيئوا للحج بعد عزمهم على تركه، وكانت سنة هنية أهل مكة فرحون بما آتاهم الله من فضلة بوجود الشريف بركات بين أظهرهم على عادته الجميلة.(2/442)
إن الشريف حميضة قابل الحاج المصري مع يحيى بن سبيع بالينبع ولبس الخليفة بتولية الباش المذكور، فبلغ ذلك الشريف بركات فمنعه من دخول مكة، وكان معه طائفة من بني إبراهيم وحلفائهم فأشاروا عليه بالخروج على الحاج وقتالهم وقتل جماعة الشريف بركات وأخذ أموالهم، ففعلوا ذلك، وحصلت شدة عظيمة من النهب والقتل، ثم أجمع رأيهم على دخول مكة ووقوفه منفرداً بعرفة وألا يقع بينهما حرب حتى ينقضي زمن الموسم، ويدفع حميضة إلى الشريف بركات خمسة آلاف دينار ذهباً.
فلما وصل بنو إبراهيم إلى مكة تحركت نفوسهم الخبيثة وضغائنهم السابقة فنهبوا بعض دور مكة وعاثوا حتى في الحرم الشريف، فبادر الباش ومن معه لقتالهم وقتل أربعة من أعيانهم، وذهب الشريف حميضة مع يحيى بن سبيع إلى الينبع وجمعوا جموعاً على نية أخذ الحج وقطع الطريق، فلما وصل خبر ذلك إلى السلطان رسم بالقبض على جميع من بمصر من بني إبراهيم والصيادلة المتسببين بالشوارع طالصيارف والعطارين ونحوهم والإحاطة بسائر أموالهم وقبضها وأخذ ما بأيديهم من السلاح، خصوصاً من أراد اللحوق بيحيى بن سبيع ومن معه.
ثم عين تجهيزة عظيمة من الأبطال والشجعان وأعيان الفرسان ومقدمهم الأمير خاير بك الأشقر، وأمرهم بالقبض على جميع من خرج من الطاعة وحمل من يليق حمله وقتل من يستحق القتل.
فلما وصل الخبر إلى يحيى بن سبيع جهز قاصداً معه عشرون ألف دينار بشرط إبطال التجهيزة المذكورة، وأن كل من بالحجاز طائع، فلما وصلت زادت في غضب السلطان، فجهز زيادة على الأولين أمراء متعددين، وصرح لهم أن يفتكوا بيحيى بن سبيع وببني إبراهيم وبجميع من يناصرهم ويكثر سوادهم، وأن يمهدوا جميع الأقطار الحجازية.
فالتقوا مع يحيى بن سبيع ومالك بن رومي والشريف حميضة وجميع بني إبراهيم وتوابعهم غرة شوال بالدهناء بالقرب من ينبع، وسبق الخبر إلى مكة إلى مولانا الشريف بركات وأن جماعة من بني إبراهيم تواعدوا على تبييت العساكر السلطانية وأن يأتوهم ليلاً متفرقين إيهاماً للكثرة، ولأنهم لا يعرفون البلاد والغريب أعمى، فركب الشريف بركات من فوره فوافق وصوله نزول العسكر وليس عند بني إبراهيم من وصوله خبر، فاجتمع من بني إبراهيم سبعون فارساً وقصدوا ما قصدوا، فركب الشريف بركات سريعاً وفاجأهم بالدهناء وقاتلهم من الظهر إلى الليل، ففر أهل الخيل ووقع القتل في الرجالة واقتلع منهم خيولاً وظهر عليهم ظهوراً هاشمياً والعساكر السلطانية ينظرون إلى موقف مولانا الشريف بركات وشجاعته وقوة بأسه حتى تحيرت عقولهم، ثم عزموا لقضاء حجهم وأداء مناسكهم.
وفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة كان مولد مولانا الشريف أبي نمي بن بركات كما سيأتي ذكره. وفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة حج الشيخ أجود بن زايد في جمع عظيم يقال إنهم يزيحون على ثلاثين ألفاً.
وفي سنة ثلاث عشرة وتسعمائة وصل مولانا الشريف بركات إلى جبل الروحاء بالقرب من المدينة الشريفة وقتل مالك بن رومي الزبيدي الذي كان سبباً في نهب مكة المشرفة وقتل أولاده الثلاثة معوض وقادم وداغر وأخاه مشهون بن رومي وطائفة كثيرة منهم ومن أتباعهم من ذوي روايا وذوي جماعة، وفرح الناس بقتلهم وطيف برؤوسهم في البلاد وأرسل بها إلى مصر فنصبت على أبواب سورها، وكانت حجة هنيئة، وطابت الخواطر واطمأنت القلوب.
وفي سنة خمس عشرة وتسعمائة توجه السيد عرار بن عجل بهدية من مولانا الشريف بركات تشتمل على أقمشة نفيسة ورقيق جميل وخدام حسان وعشرين ألف دينار ذهباً وعشرين فرساً مسمية وما يتبع ذلك ويناسبه وثلاثة آلاف دينار للدوادار،، فقابله السلطان مقابلة عظيمة وألبسه خلعة لقدومه وخلعة عند تقديم الهدية، وخلعة عند الوداع، وأرسل معه هدية عظيمة للشريف وخلعاً سنية، ثم حلف له أيماناً مؤكدة أني راض عن الشريف بركات رضاً تاماً خصوصاً لما وصلت إلينا رؤوس زبيد ومن معهم لأن في نفسي منهم حراً شديداً بموجب خروجهم على الحجاج، وقتلهم ونهبهم المرة بعد المرة، وقطعهم الطريق في أيام سلطاني وكسر ناموسي، ولو لم يشف خاطري الشريف بركات من طائفة زبيد بخصوصهم لخرجت إليهم بنفسي.(2/443)
وكتب لمولانا الشريف كتباً عظيمة فيها تعظيم تام وخاطبه بلفظ مولانا وشريفنا، وفوض إليه أمر الأقطار الحجازية حتى ينبع، فلما وصل السيد عرار بما معه من الهدية والخلع والشكر التام حصل لمولانا الشريف بركات السرور التام، ومدحته الشعراء ومن أعظمهم مولانا شهاب الدين أحمد بن الحسين بن العليف المسمى شاعر البطحاء بقصيدة ذكر فيها ظفره بزبيد وقتله شيخهم مالك بن رومي، وقد أجاد فقال: من الطويل:
ذرى العز ما قامَت عليه الممالكُ ... وما شَيدتهُ المرهفاتُ البَوَاتكُ
وما أَعتَقَت فيه الفوارسُ في الوغَى ... وما صافَحَتْ فيه الصفَاحُ النيازكُ
وقتلُ العدا صبراً كما شاءتِ الظبا ... ونيل المنَى والفائتُ المتداركُ
وما المجدُ إلا ما وترت به العدَى ... فدارَتْ بهم رِيح الحمام الحَواشكُ
وعزم يبيد الخَيلَ والعيس بالسرَى ... تكل به أخفافها والسنابِكُ
لعمرُكَ ما تغني الشجَاَعةُ في الفتَى ... إذا الرأْيُ في تَدبِيرها لا يُشَاركُ
ولا يرفعُ الجودُ الجوادَ لفعلِهِ ... إذا لم يكُنْ والطبعُ للنفسِ مالكُ
وما لم يكنْ قطعُ الكريمِ كوصلِهِ ... وألا فما تغنِي السيوفُ البواتكُ
فدى لأبي عجلانَ من رام سعيَهُ ... ومِن دون ما رام الحتوفُ النواهكُ
فتَى تردُ الآمالُ منهلَ جودِهِ ... فتصدرُ عنه وهوَ جذلانُ ضاحكُ
إذا سارَ سارَ الجودُ يحدُو ركابَهُ ... وإن بركَت عَنْ سيرها فَهْوَ باركُ
يذودُ عن المجدِ الأثيلِ بطاعنٍ ... له عزمات في القلوبِ سوالكُ
حمى حوزةَ العَلياءِ منه مهند ... إذا ما انتضَى ماضي الغرارينِ باتكُ
وفي التاجِ غيثْ بالحيا متهلل ... وفي الدرعِ ليثٌ والتريكة زامكُ
أباد العدا فاستَدرَكَ السيف فوته ... ومن قبلها في الغِمْدِ لا يتماسكُ
وذاقَت به سوء النكالِ بما جَنَتْ ... فأضحَتْ ومثواها الكدَى والدكادكُ
شفا بالقنا حر النفوسِ من العدا ... وزالَتْ به تلك الهمومُ السوادكُ
عزيزْ عليه أن ينامَ ولم تَقُم ... بأرضِ العدا بالصافناتِ المعاركُ
فتَى الحربِ لا تثنيه خود عن الوغَى ... رَدَاح ولا تصبيه دُعْج ركاركُ
أبَى غيرَ ظل الرمحِ أن يدرك المنَى ... فلما انقضَى حنَّتْ إليه الأرائكُ
وأقسم لا يثني عن الحربِ عزمَهُ ... إلى أن ترى فيه الدماء سوافكُ
أباحَ حمَى الأعداءِ منه بغارةٍ ... كأن الضحَى فيها من النقعِ حالكُ
يؤلبُ مِنْ أبنا أبيه عصابة ... كِرَام سَرَاة كالجبالِ سوامكُ
أقاموا صدُورَ الناعجاتِ وجَنْبها ... إليها المَذَاكِي في السلاحِ شوائكُ
كأَن مواطي الصافناتِ أهلَةٌ ... ووَطْءَ مطاياهم بُدُور فوالكُ
نماهم إلى العلياءِ والمجدِ والندَى ... أبوةُ صدقٍ أخلَصَتْها السبائكُ
مناعيرُ في الهيجا مساعيرُ في الوغَى ... إذا نكصَتْ عنها اللئامُ الضرائكُ
يذبونَ عن أحسابِهِمْ بسيوفهم ... إذا ضربَتْ صفحاً لديها الوكاوكُ
ثَوَوْا في ظهورِ اليعملاتِ كأنما ... مجالسُهُمْ كيرانها والمياركُ
سَرَوْا لاقتناصِ المكرماتِ يذودُهُمْ ... عن النومِ هَم بالجوانِحِ سادكُ
يهزونَ أشطانَ القنا في أكفهم ... كأن أعاليها بروق نوابكُ
إذا سار فيهم خِلْتَ بدراً وأنجماً ... ثوابت في أفلاكها لا دوالكُ
ويَقْدُمُهُمْ ماضِي العزيمةِ مقدمٌ ... على الهولِ ميمون اللثام مباركُ(2/444)
يشيح به ظامِي الفصوصِ مطهَّمٌ ... وأورق مَفْتول الذراعَينِ تامكُ
أبو حَسَن السامي بنَفسٍ ووالدٍ ... وفي منهجِ العلياءِ والعز سالك
كريمُ المساعِي صادقُ الوعد مَنْ غدا ... وليسَ له في المكرماتِ مشارك
وأنتَ أبا عجلانَ رائشُ نبلهم ... إذا دهمَتْ تلك الخطوبُ النواهكُ
وكَمْ لك أعضاد شداد على العدا ... وأنتَ لعلياهم سنام وحاركُ
إذا وعد الله الفتَى منه نصرةً ... وعزاً وسعداً أيدته الملائكُ
أرادت زبيد في جنابكَ دولة ... فضلت بها أوهامها والشكائكُ
غَوَت عن طريق الرشد منها سفاهةً ... وجهلاً وغرتها ظنون بواشكُ
متى كانتِ الأوغادُ ترقَى إلى العلا ... وتسمو إلى عالي الأمورِ الزكازكُ
وتخطبُ أوشاب الشوايا مراتباً ... وتنهضُ للحربِ الزبون الحواتكُ
طرقتهم وقتَ الهجيرِ بصكةٍ ... عمي لديها فاتك العزمِ فاركُ
وطفتَ عليهم يا همامُ بنيةٍ ... كما طافَ بالبيتِ المعطم ناسك
فغادرتَهُم صرعَى بكل تنوفةٍ ... تناوحهم ريحُ الصباه والروائكُ
تَقَاعَسَ منها مالك ومشهون ... وكُل لدى الهيجاء ألوى مماحكُ
وقامَ بها ميل المقرضِ واستوَى ... ومن قبلها في مشيه يتباوكُ
وطار بها خوفاً أخوه وقلصَت ... خصاه وولى وهو حيرانُ عانكُ
وزين وبازان بروك وقادم ... وداغر في البوغاءِ بئس المباركُ
لعمرُكَ لو لم تطلُب القومَ غالهم ... بسعدِكَ مِن دونِ الطلابِ المهالكُ
وأغناك عَن حَث المطيةِ رائدّ ... من الذل فيهم حابل النومِ حابكُ
لئن كنتَ عن عمدِ هدمتَ عروشَهم ... فإنك بانيها قديماً وسامكُ
توهمها الرومي نهضةَ عاجزٍ ... ولم يَدرِ أن الليثَ بالعيرِ فاتكُ
جرى طرفه ملء العنانِ إلى المدى ... وطرف الردى في جَفنه عنه ساهكُ
أخذْتَ علية كلَّ نَقب ثنية ... فضاقَت عليه بالرحابِ المسالكُ
وما زالَ يجري في هواهُ وغيه ... وأنتَ له وسطَ العرينةِ باركُ
وهان على الأيامِ ما هو فاعل ... وعز على العلياءِ ما أنتَ تاركُ
إلى أن نضَت عنه الحياةُ قناعها ... فعاجَلَهُ منكَ الحمامُ المواشك
فجرعته كأساً أعل بمثلها ... أبوك أباه فارتدَى وهو هالك
ولم ينجِهِ منكَ الفرارُ لحينِهِ ... فأصبَحَ مملوكاً ومن قبلُ مالكُ
وكيف وأنتَ المُعلِمُ الفَردُ في الوغى ... ورمحكَ طعانْ وسيفكَ باتكُ
قضى فيه حُكم المشرفي بعدله ... فبعداً له عن منهجِ العدلِ نازكُ
كذا فليكُن عزمُ الكريم وإنما ... على قدرِ عزماتِ الكرامِ المداركُ
فِدَاكَ أبا عجلانَ كل مملك ... فأنتَ سماء والملوكُ حبائكُ
خذِ المدْحَ مني يا همامُ فإنما ... بقَدْرِ بناء البيتِ تسمو المدامكُ
ودع ما سواى يا كريمُ فإنني ... أنا الشاعز المحكيُّ والغَيرُ حائكُ
ودونَكَ يا بن الأكرمَينِ تحيةً ... تفوحُ كمسكٍ أحكمته المداوكُ
وأخرَى حباها الله لطفاً ورحمةً ... تهني علياً بالشفا وتباركُ
وتهنا بها العلياءُ والسيفُ والندَى ... فكل لما قد كان يشكوه ناهكُ
وقد سرَّني النصْرُ العزيزُ على العدا ... وحُكمُ القنا والمغنَمُ المتداركُ(2/445)
سرورا به عينُ الزمانِ قريرةٌ ... وثغرُ الليالي بالتبسُّم ضاحكُ
ودُمْ يا أبا عجلانَ ملكاً مؤيداً ... تتيه به العليا وتَزْهُو الممالكُ
ولا زلْتَ تَحيا في سرورٍ وغبطةٍ ... وشانِيكَ يَحْيا في المذلِة رامكُ
وفي سنة سبع عشرة عاد الشريف راجح من القاهرة قاصداً أخاه الشريف بركات صحبة السيد عرار بن عجل ليصالحه بشفاعة من السلطان ومن أخيه السيد قايتباي، فقابله مولانا الشريف بركات بالقبول واصطلحا صلحاً شافياً، وصارا كنفس واحدة إلى أن مات كل منهما.
وفي سنة ثمان عشرة توفي السيد قايتباي، وتعزى فيه أخوه الشريف بركات.
وتوفي السلطان بايزيد ملك الروم، وتولى ولده السلطان سليمان خان في بلاده قبل فتح مصر. وفي هذا العام توجه الشريف أبو نمي بن بركات إلى مصر المحروسة صحبة القاضي علاء الدين ناظر الخواص السلطانية، ومعه من أعيان مكة شيخ الإسلام صلاح الدين بن ظهيرة الشافعي وشيخ الإسلام القاضي نجم الدين بن يعقوب المالكي وولده القاضي محمد، والقاضي تاج الدين وجملة من أعيان السادة، وطائفة من أعيان قوادهم بنظام عظيم، وأبهة وافرة وخيول أصيلة وركائب مسمية مع الملابس الفاخرة، والسلاح المذهب، والسروج والأكوار اللائقة بالزمان والمكان، قاصداً منصب آبائه الكرام من السلطان الغوري بتخت مصر، فلما وصلت أخبار خروجه من مكة برزت الأوامر السلطانية إلى رئيس الزمان الماضي أحمد بن الجيعان، أن يخرج لملاقاتهم على أحسن أسلوب.
فخرج إليه بفرس عظيم، وسرج مغرق، وكنبوش مذهب، وكاملية مخمل بسمور، كل ذلك من خاصة السلطان وخزائنه المحفوظة، ومعهم ما يليق من الطعام، ثم بعد قلل تلقاهم أمير كبير، وباش العساكر المنصورة خير بك الدوادار، وجمع عظيم من القضاة، والمباشرين من كاتب السر إلى من دونه، فلما وصلوا المحل المعروف بالبركة ضرب لهم مخيم عظيم سلطاني، وبسطت لهم فرش من الخزانة العامرة جديدة، ومقاعد مشركسة بالذهب الصرف، ونصبت له وسائد سلطانية.
ثم نزل الشريف أبو نمي في أعظم خيمة من الخيم السلطانية، ثم نزل كل رئيس من الذين معه في خيمة هيئت له، ثم مد لهم سماط عظيم سلطاني تضرب به الأمثال.
ثم بعد فراغه منه مد سماط الطارئ من الحلاوات والعسليات، وما يلائم ذلك، ثم بعد فراغه مد سماط الشرابات والفواكه الموجودة، ثم ركب في موكب عظيم لا يحصى كثرة، حتى في دخل البلاد في أعظم منظر وأبهى أسلوب، والخاصة والعامة معلنون بالدعاء له مظهرون الفرح والسرور بملاقاته.
ثم سار إلى المدرسة الأشرفية الغورية فنزل بها، ثم مد له سماط بعد سماط كما شرح، وفي جميع هذه المدة يخاطب مولانا أركانُ الدولة ورؤساؤها بالألفاظ الملوكية، مع ظهور غاية البشر وكمال الفرح، ونهاية السرور، وعظيم الهناء، وناهيك بمجلس جمع أشراف الزمن، ورؤساء الوقت، وعلماء العصر، وفصحاء الدهر.
ثم ركب مولانا الشريف أبو نمي من المدرسة المذكورة في موكب عظيم إلى الديوان، وكان السلطان حين ذاك جالساً بصدر الديوان، فلما دخل مولانا الشريف من باب الحوش أشرف عليه السلطان وهو في الملابس الحسنة الحسنية بالدليقين والعمامة على القبع والأنوار النبوية مشرقة عليه، والعناية الصمدانية ناظرة إليه، تعجب من هيئته الباهرة، وامتلأت عينه بمهابته، وطلعته الطاهرة، فأمر أن ينصب له كرسي بمفرده.
فلما دخل الديوان قام له ألفاً وقبل جبينه الشريف وقد زاده الله شرفاً، وأراد مولانا تقبيل يد السلطان فامتنع السلطان من ذلك أدباً مع المقام النبوي، والجناب العلوي، فغلب على ذلك مولانا الشريف فاحتضنه، وسلم عليه، وقربه لجانبه، وأقبل عليه بالمحادثة والملايمة، ثم أجلس من معه من القضاة والأشراف، وجابرهم بخطابه العذب، وأنصفهم في الجلوس غاية الإنصاف، ثم أقبل على الشريف أبي نمي ووضعه في حجره.
وكان سنه إذا ذاك ثمان سنين وقال له ما اسمك. فقال محمد أبو نمي الغوري فحصل للغوري سرور عظيم بذلك فقال له: أنت أشطر من أبيك.(2/446)
ورأيت في نشآت السلافة للإمام عبد القادر بن محمد الطبري أنه قال له بعد وضعه في حجره: ما سورتك؟ فقال: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " ، ولم تكن إذ ذاك سورته هي فأعجب السلطان ذلك وتفاءل به واستبشر قلت: كلاهما يدل على مزيد الحذق والذكاء. ولا عجب إذا صدر من سلالة المصطفى.
وعندى أن الأولى - وهي التي ذكرها السمرقندي - أحذق، وأذكى لعود الذكاء وأعبق.
ثم ألبسه كاملية سلطانية ثانية بمسح ذهب بمقلب سمور من خاص ذخيرته، وقام السلطان ثانياً لوداعه، ثم ركب من القلعة السلطانية إلى محل سكنه، ثم رتب له السماط السلطاني صباحاً ومساء مع الطارئ، وتوابعه مع الافتقادات له، ولجميع من معه مما لم يسبق نظيره في الدولة السلطانية الغورية.
ثم إن مولانا الشريف استأذن في التوجه إلى الأقطار الحجازبة فكتب له توقيع شريف جليل خوطب فيه بألفاظ التكريم، والتبجيل.
ثم وجه إليه من الذخائر السلطانية سنجقاً وأربعين مملوكاً وخلعاً سنية لوالده الشريف بركات ومبلغاً من النقد له صورة برسم من صرف الطريق، وكذلك جميع ما يحتاج إليه من الدقيق، والأرز، والسمن، والعسل، والسكر، وسائر زاد الطريق، وكذلك جميع من في صحبته من الأعيان أنعم عليهم بالعامات، معجلة ومرتبات على عادة أمثالهم، وبرز من مصر على صورة جميلة مع إظهار الإنعامات السلطانية.
ولما وصل الخبر بقدومه زينت البلاد، وانشرحت صدور العباد، وخرج لملاقاته الأعيان من مكة، فدخلها رافلاً في نعم الله تعالى التي تفضل بها عليه، وعلى آبائه وأجداده، فلا زالت في أولاده ثم في أحفاده، فطاف بالبيت الحرام، ودعي له على زمزم أسوة آبائه الكرام، ثم قرئ توقيعه الكريم بمحضر جيران بيت الله الحرام، ثم خرج إلى دار السعادة فمدحته الشعراء على عادة أسلافه بعدة قصائد من أعظمها قصيدة أحمد بن الحسين العليف أيضاً يهنئ أباه بعوده إلى سرير ملكه، ووصول ولده الشريف أبي نمي من القاهرة سنة ثمان عشرة المذكورة وهي هذه: من الخفيف:
خدَمَتْكَ الحظوظ والأقسامُ ... وجرَتْ باختيارِكَ الأحكامُ
وقضَت بالذي تريدُ الليالِي ... واستقامَت لأمرِكَ الأيامُ
وأطاعَتْكَ المرهفاتُ المواضِي ... والمذاكِي والسمْرُ والأقلامُ
وكفَاكَ المحذور أي شريفٍ ... وحَمَاكَ التدبير والإلهامُ
ووقاكَ الإلهُ ما أضمَرَ الده ... رُ وما سولَت له الأوهامُ
لا تخف منه نبوةَ واهتضاماً ... عادةُ اللهِ لا يضامُ الكرامُ
خصَّكَ الله بالعنايةِ منه ... وكَلاَكَ الوقارُ والإعظام
حسبُكَ اللهُ أن يطيشَ بك الظن وأن يستفزكَ الإيهامُ
ليس للملكِ غَيْر ذاتِكَ كُفءٌ ... أنتَ للملكِ يا همامُ نظامُ
لكَ فيه ولا عليك امتنانٌ ... قدم راسخ ومجد قدامُ
وطدتْهُ سيوفُ آبائكَ الغُر فدانتْ لها الملوكُ العظامُ
دون ما يضمرُ الغبي من الغَدْ ... رِ جلاد وعْر وموت زؤامُ
يكبتُ الغيظُ حاسديك جميعاً ... وتزولُ الأحقادُ والأدغامُ
قد بلاكَ الزمانُ حلواً ومراً ... فإذا الشهْدُ فيه داءْ عقامُ
ورآك العدوُ هضبةَ عز ... دون مرآك شامة وشمامُ
لو على الأمْر عارضتك الليالي ... قارعَتْهاً الأقدارُ والأحكامُ
لم يكنْ غَيْرُ ما تريدُ ولو كا ... ن فإن العزيز مَنْ لا يضامُ
لا يقيمُ الفتَى على الضيْمِ ما دا ... م له الرمْحُ خادماً والحسامُ
وإذا أنكَرَ الديارَ كريم ... فالمطايا دليلهُن الخطامُ
ظِلهُ رمحُهُ وعصمتُهُ السي ... فُ ومثواة صهوةَ أو سنامُ
لا يناجِي على العزيمةِ إلا ... نفسَهُ والكريمُ لا يستضامُ
يقطع الأمرَ دونَ كل مشيرٍ ... ويناغي الردَى إذا القومُ خامُوا
لَيسَ عزاً إلا ضمور العوالي ... والظبا والإسراج والإلجامُ(2/447)
هكذا فلتكُن كرام المساعي ... وعلى مِثلهاً يكونُ المقامُ
فهنيئا أبا زهير بعودٍ ... لسريرِ به السرورُ دوامُ
مَهدَتْهُ لك الخفافُ المواضِي ... وجلاه بعزمِكَ الإقدامُ
لم تجدًد لك الولاية عهداً ... أنتَ مِنْ قبلها مليك همامُ
لا أهنيكَ بل أهني بك المل ... كَ فقد حزتَهُ وأنتَ غلامُ
أنتَ يابا زهير أعلَى محلاً ... فعلام الهناءُ والإعلامُ؟!
لم ترثه كلالةً لا ولا العه ... دُ حديث به ولا الإلمامُ
هَدأ الملكُ بعد طولِ جماحٍ ... مذ تولَيْتَ واستقامَ النظامُ
وكساه حلاكَ رونَقَ حسنِ ... لم تبده الشهورُ والأعوامُ
لكَ في الملكِ سالفْ وقديم ... سادة قادة ملوكْ كرامُ
جمعوا البأْسَ والندا في أكف ... يُستَهَلُّ الردَى بها والركامُ
تستذمُ الملوكُ منهم فينجو ... نَ وإن كان المستذم رمامُ
دوخوا الدهر والممالكَ حتى ... قَعَدُوا منهمُ الملوك وقاموا
واستباحُوا حماهُمُ وأقاموا ... ميلهم بَعدَ عزهم فاستقاموا
كَسَبُوا العز بالرقاقِ المواضِي ... ورَعُوا الناسَ والملوكُ سوامُ
قلدتها الولاية البيض والسم ... رُ وطَعْنٌ فذ وضرب تُؤَامُ
وكماةٌ تسيرُ فيها المنايا ... طائعات كأنها خُذامُ
من لؤي بن غالبٍ كل فردٍ ... منهمُ في اللقاءِ جيش لُهَامُ
يوسعون الجموعَ ضرباً وطعناً ... ولو أن الجموعَ سامَ وحامُ
يستظلُونَ بالرماحِ وبالبي ... ضِ لدى الحربِ والطيورُ حيامُ
إن أصابوا فما جَنَوْهُ جبَارٌ ... أو أصِيبوا فثارُهُمْ لا ينامُ
كُل الوى يختالُ للموتِ عجباً ... حين يُدعي وثغره بَسامُ
برماحٍ تعوجُ في الهامِ طوراً ... وعلى الفوز في الصدور تقامُ
وارِدَات إذا مرقنَ لطعنٍ ... قصُرَت دون وقعهن السهام
وصفاح إذا انتضَوهاً لحرب ... كان من بعضِ تابعيها الحِمامُ
مخلصات إذا برزنَ من الغِم ... دِ كأن الفرندَ فيها ضرامُ
مرهفات كأنهن لدى الضر ... بِ ركوع وسُجد وقيامُ
وعتاق إذا تداعوا لحَربٍ ... عزمَت قبل أن يناطَ اللجامُ
غاديات إلى الوغَى رائحات ... يستوي النورُ عندها والظلامُ
قد تبرقَعنَ بالحديدِ ولكن ... عاريات لباسهن القتامُ
علمتها التجاربُ الكرَ والفرَ وكيفَ الإقدامُ والإحجامُ
لم يزدنا البشير عما علمنا ... ه ولا خامَرَ العقولَ اتهامُ
عمركَ الله لو تراخَى قليلاً ... بشرتنا بسعدكَ الأحلامُ
أنتَ روح للملكِ والغيرُ جسم ... لا تقاسُ الأرواحُ والأجسامُ
ذاتُكَ القطبُ للسيادةِ والآ ... لُ نجوم وأنتَ بدر تمامُ
وإذا كان في المقاييس قرب ... كنتَ نوراً ومن سواك كمامُ
كيف يسمو إلى معاليكَ قَومٌ ... سهرَت مقلتاك فيها ونَامُوا
أين كانوا أبا زُهَيرَ وقَد ذُد ... تَ عن الملكِ والخطوبُ عظامُ
حين أدجَى ضياؤها وتوارَى ... صبحها فانجلَى بك الإظلامُ
كنتَ طَلاع نَقبها والثنايا ... يومَ أنتَ المقدمُ المقدامُ
همةٌ دونها الثربا وحَزم ... واعتزام وسطوةَ وانتقامُ(2/448)
لم أقل ما أقولُ جهلاً ولكن ... يظهر الأمرُ إذ يزولُ اللثامُ
منصب جل وقعه منكَ لكن ... أنتَ أعلَى مكانةً إذ تسامُ
فاحفظِ الملكَ بالعشائِرِ والما ... ل فأنتَ المجزبُ الصمصامُ
وابذلِ الجهدَ يا أخا الحزم فيه ... فالفتَى بعد بذلِهِ لا يلامُ
ليس يخفَى عليك يابا زهيرٍ ... سبب النقض فيه والإبرامُ
وإذا الداءُ في الخوافِي تعدى ... لقدامَى الجناحِ منه السقامُ
وإذا كان في السيوفِ اضطراب ... قرعَت حدها سيوف كهامُ
أنتَ في الناسِ كاسمك البر فيهم ... بركات على الأنام جسامُ
إن دهراً أتيتَ فيه لدهرٌ ... سحرٌ كله وليل تمامُ
أنت عينُ الوجودِ فيه ولولا ... ك تساوَي الإيجادُ والإعدامُ
قصرَت عن مدى خطاكَ المساعِي ... حيثُ كانَت لك المساعي الكرامُ
وتباهَت بك الممالكُ فخراً ... وتهادَت آثارَكَ الأيامُ
وَتسامَيتَ فوق فرعِ السماكَي ... نِ ومِنْ دون أخمصَيكَ النعامُ
جزْتَ حد الكمال في كل وصفٍ ... قصرَت عنه في الصفاتِ الأنامُ
كرمٌ في شجاعةٍ ووفاء ... وحياءً وحرمةً وذمامُ
وارتفاع إلى العلا وسُمُو ... وحنو ورحمة وانهضامُ
وارتياح إلى الثنا وسماحٌ ... واحتفال بشأنه واهتمامُ
وأيادٍ إذا استهل نداها ... يستمدُ الحياة منها الغمامُ
لا يزيدُ الثناء فيكَ ولكن ... يتحلى إذا ذكرت النظامُ
عظمَتْ ذاتك الشريفةُ عنه ... ونبَت دون وصفِكَ الأفهامُ
وتعالَيتَ أن يحيطَ بك المد ... حُ وفيه براعةٌ وانسجامُ
لم أزل ظامئاً إلى مدحِ عليا ... ك وبي دائماً إليه أُوَامُ
علمتني هباتك النظم والنث ... ر وكيف الإنجادُ والإتهامُ
أتعَبَت فكرتي حسانُ سجايا ... ك وأعيا على البليغِ الكلامُ
والهنا في أبي نمي المفدى ... والأماني والجمعُ والإلتئامُ
فرعُ غرسِ ينمي إلى خير أصلٍ ... جاء تال وفي السباقِ إمامُ
وابنُ ملكٍ ومنبرٍ وسريرٍ ... ومدى الغايةِ التي لا ترامُ
سيدٌ أدركَ السيادَةَ طفلاً ... وبنى المكرماتِ وهو فطامُ
خفقَت رايةُ السعادةِ والمل ... ك له والبنودُ والأعلامُ
وله اهتر منبرٌ وسريرٌ ... وبه استبشَرَ الصفا والمقامُ
لا عجيب إن نال وهوَ صغير ... ما حواه الآباءُ والأعمامُ
ما على الشبل أن يحوزَ المعالِي ... وأبوهُ الغضنفرُ الضرغامُ
فهنيئاً له السياعة والمج ... دُ جميعاً والعز والإحترامُ
بَلَغتَكَ الآمالُ فيه الذي رم ... تَ فلله الحمدُ والإنعام
دمْتَ حتى ترى السيادَةَ والمل ... كَ لأولادِه وأنتَ الزمامُ
خذ مديحاً أهداه عبد محب ... ما له في فتَى سواكَ مرامُ
وله بالثنا عليكَ وَبِالشُك ... رِ وبالمدحِ والدعاءِ غرامُ
أنا في مدحِكُم جرير وفي الحم ... دِ جميلٌ وفي الهنا هَمَامُ
رشتُمُ بالنوال والجودِ والفض ... لِ جناحِي كما تراشُ السهامُ
قِسْ ثنائي على ثناءِ سوَائِي ... تَدْرِ أن الكلامَ منه كلامُ
واقسم اللحظَ بيننا يا أخا الجُو ... دِ فأنْتَ المهذبُ المقدامُ(2/449)
لَوْ دُعِيناً إلى التناصُفِ في الحُك ... م لبذَّ الضعيف منا الملامُ
وبقَدْرِ البليغِ والبلغ في القو ... ل يكُونُ الإعرابُ والإعجامُ
ومن الشعرِ للعقولِ جلاءٌ ... ومن الشعرِ للنهَى بِرْسَامُ
يفعلُ المدحُ في الكرامِ كما تف ... علُ في عقلِ شاربيها المُدَامُ
ويفيدُ الكريمَ عزاً ومجداً ... ويحطُّ الجوادَ قول سخامُ
وخيار الرجالِ في الشعْرِ من كا ... ن له فيه بسطة واحتكامُ
فابْقَ للملكِ والممالكِ عزّاً ... ولك المدحُ مبدأ وختامُ
ما توالَتْ عليك غُرُّ القوافي ... وتغنت على الغصونِ حمامُ
وعلى المصطفَى وآلٍ كرامٍ ... وصحابٍ تحيةٌ وسلامُ
وفي عام عشرين وتسعمائة حج محمد ولد السلطان الغوري مع والدته في تجمل عظيم جداً، وخرجوا من مصر في الجمال المزينة، والأكوار المشركسة، والمحاير المرصعة بالذهب، ومحفة خوند في ثبتها ذهب مرصع بالجواهر، فخرجت لها السادة الأعيان من أعيان مكة المشرفة، وأركان الدولة من حين قاربت الينبع، وقابلها الشريف أبو نمي نيابة عن والده من خليص، ومد لها من الأسمطة، والحلويات، والفواكه، أصناف متعمدة في عدة منازل، وقابلها الشريف بركات من خارج مكة، فلما وصلت رأس الردم ترجل كل من لقيها حتى مولانا الشريف بركات، وأخذ بلجام مركبها إلى باب السلام، ثم حملت محفتها على الأعناق إلى القصر بباب إبراهيم. فلما توسطت المسجد وولدها بين يديها قال مقدمها: يا خوند، اشكري نعمة الله تعالى فإن مولانا الشريف بركات حامي حمى الحرمين، حامل المحفة الشريفة إجلالاً وتعظيماً، وقد فرش الديباج تحت جمال المحفة، ثم فرش تحت الأقدام بالمسجد الحرام، وهي تقسم على مولانا الشريف بركات، بأن يترك الحمل المرة بعد المرة، فلما وصلت القصر علو باب إبراهيم أشارت بأن يكون ولد السلطان في مدرسة ملك التجار رامشت، وأمير الحاج المصري مع أركان الدولة في خدمتها، كأقل العبيد، ثم أمر لها مولانا الشريف بركات بسماط عظيم أبهر العقول، ثم حمل إليها من الأغنام، والعسلان، والسمون، والفواكه، ما لا يحصى ولا يحصر، ثم تردد عليها مولانا الشريف أبو نمي بعرفة ومنى ومكة، وضاعف إليها من فضل والده الهدايا، والافتقادات، والأقمشة العالية، والتحف النفيسة؛ لأنه قريب العهد بموالاتها له، ثم سافر معها مولانا الشريف بركات إلى مصر المحروسة فأقبل عليه السلطان إقبالاً عظيماً جداً، وشكرت للخوند جميل سعيه وجزيل مراعاته، فوقع ذلك عند السلطان موقعاً عظيماً، سيما حمل المحفة وما في معناه، وأنعم عليه بإنعامات جزيلة، منها خادمان وعشرون مملوكاً، وخيول أصيلة، وجمال برسم الدر والنسل، مما تقتنيه الملوك من كبر الجثة، وحسن المنظر، وطيب الأصل، وغزارة اللبن، وحلاوته، ويقال إن الإبل المعروفة بالمصرية من تلك، وجمال للحمل، وعشرة آلاف دينار حوالة على بندر جدة المعمورة، وخلعاً سلطانية نفيسة، وأذن له في المسير إلى وطنه فوصل مكة المشرفة في شهر رجب من العام المذكور، وزينت البلاد، وصنع الأمير حسين الكردي، وهو من أمراء الغوري بجدة صنع للشريف ضيافة هائلة، وقابله هو وأعيان مكة من خارجها، وكان يوم وصوله عندهم من أعظم الأعياد.
وفي عام اثنين وعشرين وتسعمائة، وقعت المقاتلة بين السلطان الغوري، والسلطان سليم بن بايزيد ملك الروم بمرج دابق خارج حلب المحروسة، وغلب السلطان سليم الغوري وفقد في المعركة.
ثم إن السلطان سليم خان وصل المحروسة بعد قتلة عظيمة بالريدانية بين العساكر العثمانية، ونائب سيده السلطان الغوري طومان باي، وذلك في شهر ذي الحجة من العام المذكور، ولم يحج من مصر ركب، ووصلت الكسوة للكعبة الشريفة بحراً صحبة مزهر الخادم.(2/450)
ثم لما استقر مولانا السلطان سليم وتوطد ملكه لمصر، وأعمالها، وانتظم له الملك من دار الخلافة الإسلامية قسطنطينية، إلى غاية المملكة المصرية أنهى إليه بعض الحساد أن جميع الملك والسلطان طرازه الأعظم ملك الحرمين الشريفين، وأعمالهما، والدعاء لمولانا على منابرهما، فشرع في تجهيز جيش كثيف للحرمين الشريفين، وكان بمصر القاضي صلاح الدين بن ظهيرة كان السلطان الغوري صادره بطلب عشرة آلاف دينار ذهباً فعجز عنها فحمله إلى مصر بالترسيم، فلما وقع، ما شرح من تبديل الدولة، وبلغ القاضي المذكور ما عزم عليه مولانا السلطان سليم اجتمع بمولانا بيري باشا الوزير الأعظم، وعرفه عظمة مولانا الشريف، ومراعاته للسلطنة الشريفة وحسن سياسته، وتدبيره وأن يُرسَلَ إليه مكتوب سلطاني بما يقتضيه الرأي السلطاني، فاستقر الحال على كتابة توقيع سلطاني، وكتابة مراسلات من مولانا الوزير المذكور، ومن مولانا القاضي صلاح الدين إلى مولانا الشريف بركات، بأن يقابل التوقيع السلطاني بالقبول ويرسل ولده إلى الحضرة السلطانية السليمية بتهنئتها، وتعريفها بكمال الطاعة والانقياد، ونهاية الامتثال والمحبة والاتحاد، فوافق الشريف بركات على جميع ما ذكر، وأرسل ولده الشريف أبا نمي نائباً إلى مصر المحمية، فقابل مولانا السلطان سليم خان طاب ثراهما وعظمه تعظيماً مضاعفاً، وخوله وحباه، وعاد سالماً غانماً في ظل والده حامياً حاكماً ودام عزهما إلى أن توفي والده مولانا الشريف بركات عام إحدى وثلاثين وتسعمائة كما شرح مفصلاً، ودفن بمكة بعد طوافه والنداء على زمزم، وقبره معلوم يزار عليه قبة، الدعاء عنده مستجاب، رحمه الله رحمة واسعة. ومما قاله الشهاب أحمد بن حسين: من البسيط:
ألعِز تحتَ ظلالِ البيضِ والأسلِ ... يومَ الطعانِ وسبق السيف للعذلِ
والمجدُ ما شاد ذكراً أو بنى شرفاً ... يبقَى وما شدَ ركنَ الملكِ والدولِ
والعزم ما خَضعَ الأعدا لهيبتِهِ ... ذُلأ وما صَيَرَ الأفكارَ في شغلِ
لا تحملُ الضيمَ نَفسُ الحُر لوبلغَت ... منها الليالي بأمرٍ غيرِ محتملِ
صمم إذا سمت أمراً عز مدركُهُ ... فما ينالُ العُلا من كان ذا كَسَلِ
وانهض سريعاً إلى الغاياتِ محتقباً ... فذو العزيمةِ لا يمشي على مَهَلِ
كم فرصةِ عرضَت في طيها ظَفَر ... فاتَت بتدبيرِ رأيٍ غير معتدلِ
ما لم تكُن برداءِ العز مرتدياً ... فدَع طِلاَبَ المعالِي عنكَ واعتَزِلِ
واغض الجفونَ على ذُل ومسكنةٍ ... واصبرعلى الضيم صَبرَالعود ِواحتملِ
ما عَز من باتَ والآمالُ تخدعُهُ ... على اكتسابِ العُلا والمجدِ بالحيلِ
ولا اجتنى العِز إلا فاتك بَطَل ... يَروِي القنا من نجيعِ الخيل والقللِ
ليس المذلةُ من شأنِ الكريم فدع ... عنك الهُوَينَى وسِر للعز في عَجَلِ
وارحَل عن الدارِ لا مستعظماً خطراً ... ولا مريداً سوى العلياءِ من بدلِ
وعللِ النفسَ عن إلفٍ وعن سَكَنٍ ... واجعل هواك لغيرِ الأعينِ النجُلِ
إن الكريمَ إذا ما جَدَّ في طلبٍ ... حث المطية في وخدٍ وفي رَمَلِ
لا يَسأَلَن سوى الهندي عارفة ... إن العزيزَ لغَيرِ السيفِ لم يَسَلِ
فالسيفُ أصدقُ ما تشفى الغليل به ... وهوَ الدواءُ من الأدواءِ والعِلَلِ
فاجعل له الحُكم في أمر تحاولُهُ ... واقطَع على حُكم مايقضى به وصِل
مرأى العدُو على حالٍ يعز بها ... داء على الحُرً لم يبرح ولم يزلِ
لا يدركُ الثأرَ إلا كل ذي حسبٍ ... بالسيفِ مشتملٍ بالرمحِ معتقلِ
مثلُ الشريفِ أبي عجلانَ من شرُفَت ... قناته بنجيعِ الفارسِ البطلِ(2/451)
ألفإطمي الذي عزت مناقبُهُ ... عن النظائرِ والأشباهِ والمثلِ
مَلك إذا راية للمجدِ قد رُفِعَت ... ينالها وسوَى علياًه لم يَنَلِ
ذو عزمةٍ كغرارِ السيفِ ماضيةٍ ... وهمةٍ في العلا تسمُو على زُحَلِ
يرى العواقبَ من مرآةِ فكرتِهِ ... غيباً ويقضي بحُسنِ الرأي في العملِ
حامِي الحقيقةِ في ورد وفي صَدَرٍ ... ماضِي العزيمةِ مقدام على الحللِ
مولّى إذا ثَوبَ الداعِي وقد لقحَت ... حَرب يلبيه لا مستفهماً بِهَلِ
يقضي على مهج الأعداءِ عامله ... وسيفه في الطلا يروى من العَلَلِ
مِلء المفاضة من بأسٍ ومن كرمٍ ... ومن حياء وحلم غير منتحلِ
أمضى من الصارمِ الهنديِّ همته ... عزماً وأسرَى إلى الأرواحِ من أجلِ
تفرعَت عن صميمِ المجدِ دوحتُهُ ... من معدنِ الوحي مثوى خاتم الرسلِ
موصولة برسولِ اللهِ نبعتُهُ ... أكرِم بفرعٍ بذاك الأصل متصلِ
مقابل بين فرعَي دوحة شرفَت ... بين البتولِ وبين الطالبي علي
مغني الرسالة والتنزيل معهده ... أعظم بذلكَ من بيتٍ ومن نُزُلِ
أعز من سَبَحَت جردُ العتاقِ به ... وأوجَفَت يعملاتُ الأينقِ الذللِ
فخراً وعزا بني الزهراءِ إن لكُم ... فضلاً به ما له في الناسِ من مثلِ
يابن الملوكِ الألَى شادوا ممالكَهُمْ ... بسلةِ السيف والعسالةِ الذبلِ
يزيدُ مَرُّ الليالى عزهم شرفاً ... كالعضْبِ يزدادُ إرهافاً مع الأزلِ
تسنموا غاربَ الأهوالِ وامتزجوا ... مَعَ الخطوبِ امتزاج النومِ بالمقلِ
ألضاربينَ على أكنافِ مُلْكِهِمُ ... سرادقَ العز من بيضِ ومن أسلِ
والسالكينَ إلى العلياءِ في نَهَجِ ... أعيَت مساعيه أهلَ الأعصر الأوَلِ
سقَاهُمُ الوَحْي من صافي مواردِهِ ... ماءَ النبوةِ عداً ليس بالوَشلِ
لولاك يا بركات الجودِ ما اعتدلَتْ ... للملكِ قائمة آلَتْ إلى مَيَلِ
كم عزمةٍ لك في الأعداءِ صادقةٍ ... أمضَى من الهندوانيات في القللِ
تكفلت لك أطرافُ الرماحِ بهم ... والمرهفات وكُل بالوفاءِ مَلِى
في مأزقٍ ضيق صوت الكماة به ... قرع الصوارم بالخطية الذبلِ
طرقتَهُ ثابتَ الأركانِ مبتسماً ... كالليْثِ يفترُ عن أنيابِهِ العُصُلِ
هتكْتَ فيه حجابَ الدارعين عَلَى ... سُمْرِ القنا غَيْرَ رعْديدِ ولا وَكِلِ
ورُبَّ ملحمةٍ ماجَتْ بكثرتها ... صافَحتَهاً بِقِرَاعِ البيضِ والأسلِ
وفيلق مظلمِ الأقتارِ مصطلم ... برق الأسنة يهديه إلى السبلِ
وردتَهُ وحياضُ الموتِ مُتْرعة ... طَلقَ المحيا بوجه مسفِرٍ جذلِ
ثم أنثَنَيْتَ وقد غادرتَهُ أثراً ... وجئْتَ بالسبْى والأسرَى مع النفلِ
وحزتَ بالنصْر ما ترجوه من أملٍ ... وفزْتَ منه بسهمِ الناضلِ الخصلِ
عزمٌ وحزم وإقدام وعارضة ... في جحفلٍ لَجِبٍ أو مجمعِ حفلِ
أوصافُ مجدِكَ في بأسٍ وفي كرمٍ ... تصرفَتْ بين طعمِ الصابِ والعسلِ
ئالغيثِ كالليثِ في حالَي نَدَى ورَدَى ... ترجَى وتخشى لرزقِ أو على أجلِ(2/452)
ترْوِي السيوفَ دماء الناكثين كما ... تَقْرِي الضيوفَ سديفَ الكُومِ والإبلِ
مثل الغضنفر في الهيجاءِ يَوْمَ وغًى ... وفي السماحةِ مثْل العارضِ الهطلِ
أدركتَ بالصبر ما تَعْياً الملوك به ... ونلْتَ بالحزم ما يُرْبى على الأملِ
في معشرِ مَرَقُوا في الدينِ وارتكَبُوا ... محارماً آذَنَتْ بالإثمِ والزللِ
لما نوَوْكَ وعَين السعدِ كالئة ... صَبرتَ صبرَ كريمِ غيرِ محتفلِ
وكُنْتَ كالبدرِ وارَى ضوءَ غرته ... حيناً وآبَ مآبَ الشمسِ في الحملِ
ما زلْتَ تملي لهم والمَوْتُ ينظرهم ... شَزْراً بطرفٍ خفيِّ غير منتقلِ
ورُعْبُ ذكرك يجري في خَوَاطِرِهِمْ ... جَرْىَ السقام بجسْم الواهنِ الوَجِل
ينامُ طرفُكَ والأوهامُ تُسْهرهم ... خوفاً وتهدأَ والأفكارُ في جَدَلِ
حتى إذا أينَعَتْ للقطفِ أرؤسُهُمْ ... وحانَ بالسيفِ منها منتهى الأجلِ
صَدَمْتهم بخميس لو صَدَمْتَ به ... هضابَ رضوَى لعادَتْ منه في خَلَلِ
يكادُ يسمع وَقْعَ المرهفاتِ به ... مَنْ بالخريبة ممتدُّاً إلى ثُؤَلِ
ويستنيرُ بروقاً مِنْ أسنته ... بنو حرامَ الغواةُ النازلون حلِى
كم في جوانبِهِ للوحشِ معترك ... وفوقَ حافاتِهِ للطيرِ من زجلِ
دَبتْ إليهم مناياهم بصدمته ... دبيبَ كاسِ الطلا في الشارِبِ الثملِ
ناموا وما نمتَ عن وتْرٍ تحاوله ... والقومُ في غفلةٍ يرعَوْنَ كالحملِ
ما زلْتَ تركُضُ في مضمارِ غايتهم ... دليلك النصْرُ في حِل ومرتحلِ
في مقنبٍ من عتاق الخيلِ ذي رهَجٍ ... مدرع برداءِ الروعِ مشتملِ
وفتيةٍ ألفوا حر المصاعِ به ... كأنهم تحْتَ ظل السمرِ في ظللِ
مالوا عليهم بأطرافِ القنا فكَأَنْ ... وقت الضحَى من مثار النقعِ كالطفَلِ
حتى بَلَغْتَ الذي حاولْتَ بُغْيَتَهُ ... فيهِمْ وجاوَزْتَ حَدَّ القولِ في العملِ
شفيْتَ نفساً رعاها اللهُ ما بَرِحَتْ ... عزيزةَ الذاتِ مذ كانَتْ ولم تَزَلِ
للهِ دَرُكَ من طَلابِ واترةٍ ... غَادَرْتَ رَبْعَ العدَى رسماً على طَلَلِ
تركتهم جزراً في كل موحشةٍ ... للوحشِ والطير كالأنعامِ والثللِ
أذقْتَ آباءهم ثكْلَ البنين كما ... أَيمْتَ منهنَّ ذات الدل والكحلِ
ومُذ سفكْتَ دماءً من نجومهمُ ... كففْت بادا الحجا عن بيضة الكللِ
لما رأوك على آثار جزَتهم ... طاروا مطار القطا الكدري والحَجَلِ
وإنما ينزعون الكل من خَوَرٍ ... قوائم الخيلِ والأقدام من وحلِ
وصارَ كُل زعيمٍ في عشيرتِهِ ... يقولُ لا ناقتي فيها ولا جَمَلِي
أين المفرُ وخيلُ اللهِ طالبةٌ ... والسعْدُ يغتالهم في السهْلِ والجبلِ
كفَى بسيفكَ وعظاً في مصارِعِهم ... لكل منهزمٍ منهم ومنخَزلِ
مذ عاينوا الذبْحَ في أحلافِهِنم نَزَعُوا ... إليكَ مِنْ وهنٍ فيهم ومِن وهلِ
لا تُعطِهم يا أبا عجلان عارفَةً ... وما يرومُونَ من وجه ومن قبلِ
ولا تُتَابع هجاراً في رعايتهم ... ليس الشجيُّ رَعَاكَ اللهِ مِثلَ خَلِي(2/453)
لا تحرقُ النارُ إلا كَفَّ لا مسها ... ولا أخو كَبِد حَرى كذى بَلَلِ
واذكُر على القرب ما نالوا وما فَعَلُوا ... في أهلِ دارِكَ من فتكِ ومن غيلِ
واعلَم سلمْتَ بأن القومَ قد حشدوا ... وليسَ مطلبهم إلاكَ من رَجُلِ
ثَلوا عروشَكَ واجتاحوا حِمَاكَ به ... وجاذَبُوكَ رداءَ العز في النزلِ
فاغضَبْ لنفسِكَ أودَع كل مكرمةٍ ... تبقَى وقوضْ خيامَ العز وارتحلِ
واذُكر أبا القاسم السامي ومصرعَهُ ... كذاك مصرعَ إبراهيمَ حينَ ولِي
السادةُ القادةُ الأملاكُ من حَسُنَتْ ... بذاتهم بهْمَةُ الأيامِ والدولِ
لا تجعلِ المالَ عن أرواحهم بدلاً ... من اللئامِ فبئسَ المالُ من بَدَلِ
لا تتركِ الحزمَ عيناً ثم تطلبه ... ديناً فتقرعَ سنَّ النادمِ النكلِ
ولا تقيلنهُم باللهِ عثرتَهُم ... واقطَعْ عرى كل ذي غدرٍ وذي نغلِ
ولا يَغُرنكَ منهم ودُّ مبتسم ... فالخوفُ يظهرُ وُدَ الخائنِ الدغلِ
يطوون أحشاءَهُمُ منكُم على ضمدٍ ... ويضحكُونَ لديكُمْ ضحكةَ العَلِل
فاشدد يديكَ ولا ترثي لحالتهِم ... فطبعُهُم عن خبيثِ اللؤمِ لم يحلِ
لا تأمنَن غدرهُم فالذئبُ عادته ... إن ينتهز فرصةَ في غفلةِ يَصُلِ
إن تبقِ منهم مع الإمكان باقيةً ... نسِبْتَ للوهنِ في الأمصارِ والحللِ
وجرِّد السيفَ لاستئصالِ شأفَتهِمْ ... في كُل شيخٍ وفي طفلٍ ومكتهلِ
لا تقطعِ الرجلَ من قوم وتتركهم ... والرأسُ منهم صحيح غيرُ منجدلِ
فالحلمُ زين ولكن يابن حيدرةٍ ... في غير موضعِهِ ضربٌ من الخَبَلِ
والصفحُ عن مجرمِ من بعدِ مقدرةٍ ... عجزْ ولستَ بذي عجز ولا مللِ
فِيمَ التقاضِي وما بالعهدِ من قِدَمٍ ... والجرحُ منهم طري غيرُ مندمل؟!
حاشا علاك أبا عجلانَ من ملكٍ ... تُعطِى الدنيةَ أو تؤتى من الختلِ
يأبى لك العزُّ أن تلقاه معتذراً ... أو ناهجاً في طريقِ اللومِ والعذلِ
وأنتَ من سادةٍ شُم لهم آنفٌ ... عن أن يقيموا على ضَيمٍ ولا دخلِ
بيضُ الوجوهِ غطاريف جحاجحة ... تنكبوا عن طريقِ الجبنِ والبخلِ
أهْلُ الحمايا وأهلُ الذنب ما برحوا ... عن الحريمِ وعِرْض غير مبتذلِ
جمعتَ ما كان فيهم فيكَ مفترقاً ... من المحاسنِ بالتفصيلِ والجملِ
ودُونَكُمْ قولَ نصحِ يا بني حَسَنٍ ... يفيدُ كل ذكيِّ القَلبِ مشتعلِ
أنتُم بنو الحربِ تدعوكُم وتنهضُكُمْ ... أحسابُكُم لاقتحامِ الحادثِ الجللِ
شُدُّوا إلى حومةِ الهيجا مآزِرَكُم ... وشَمرُوا لطلابِ الثارِ في عجلِ
ما بالُكُم ورياحُ النصرِ مقبلة ... تثاقلونَ وذُلُ الدهرِ في الثقلِ
إن لم تديروا رحَى الهيجاء مسرعةً ... فما يفيدُ صهيلُ الخيلِ في الشكلِ
عيشُوا على العزِّ أو موتُوا على ثقةٍ ... موت الكرامِ وخَلُوا الدار عن حولِ
فَمَنْ يبلغُ عني غَيرَ معتذرٍ ... يحيى بن سبع مقالاً غير ذي خَطَلِ
ومالكاً وابْنَ قيمازٍ وشيعَتَهُم ... والتابعين من الأوشابِ والسفلِ
لا بدَّ أن يبلغ الموتورُ غايتَهُ ... ويشرب الكأْسَ ساقيها على عللِ(2/454)
فالصبْرُ يحمدُ والأيامُ كافلة ... عقبى النجَاحِ ونيل السؤلِ والأملِ
إن تجحدون أبا عجلانَ فرصَتَهُ ... فيكُم وما كَان في أيامِهِ الأولِ
سَلُوا مَوَاضِيهِ عنها فهي تخبركُم ... فالسيفُ والرمُح أزكَى شاهدٍ وولي
كم ناشكم بالقنا في عُقرِ دارِكُمُ ... حتى اعتَصَمتُم ببذلِ الخيلِ والخولِ
وكَم سقاكُم غداةَ الروعِ من يده ... بالسيفِ كأس الردَى عَلاًّ على نَهَلِ
وكم أذاقكُمُ حرَّ الجلادِ به ... في مأقطِ الحربِ والأقدامُ لم تزلِ
لولا العرانينُ من أبنا أبِيهِ لَما ... جاوزتم الرمل من خوف ومن فشل
ولا وطئتُم على ذُل ومنقصةٍ ... مواطئاً ما لكُم فيهن من قِبَلِ
ليس القضا بكُمُ يشفي ضمائره ... إن القضاءَ مِنَ الأشباهِ والمثُلِ
وإنما طَهر اللهُ البلادَ به ... من مِلَةٍ خرجَت عن أشرفِ المللِ
وعللتهم أمانيهمِ علَى غَرَرٍ ... واللهُ في كُل هذا علة العللِ
سمتم مقاماً رفيعاً فَوقَ رتبتكُم ... ولا يقاسُ نهيقُ العيرِ بالصهلِ
فلو رجعتُم إليه باذلينَ له ... طوعاً طوى كشحَهُ فيكم على مَلَلِ
وسُقْتُمُ المالَ في مرضاتِهِ فعسَى ... يغضى قليلاً ومَن للعور بالحولِ
دُمْ ظافراً يا أبا عجلانَ في دعةِ ... قريرَ عينٍ بما أدركتَ من أمَلِ
فقدْ أقمْتَ اعوجاجَ الملكِ من أَوَدٍ ... وصار معتدلاً من كان ذا مَيَلِ
وخُذْ نسيجَ ثناءٍ صافياً حسناً ... يكسوكَ من وَشْيه أبهى من الحللِ
عروس مَدْحٍ تَهَادى في منصَّتها ... تجرُّ بالحسن ذيلَ التيه والغزلِ
حَلَيتها من سجاياكَ التي شرُفَتْ ... عقودَ دُر بها زانَتْ من العطلِ
يفوحُ بين قوافيها لمُنْشِدِها ... من طيبِ ذكركَ عرف المسك في حللِ
جَلَتْ صفاتك قدراً أن يحيطَ بها ... حُسْنُ الروية أو إحسانُ مرتجلِ
واسلَمْ فإنكَ زينُ الدينِ ناصرُهُ ... وافخرْ فإنكَ تاجُ الملكِ والدولِ
ثم الصلاةُ على المختارِ مِنْ مُضَرٍ ... محمدِ المجتبَى من سائِرِ الرسل
ثم وليها مولانا
الشريف أبو نمي
قد سبق ذكر مولانا، وملخص ذلك أنه تشرف بحماية الحرمين الشريفين في ظل والده في عام ثمانية عشر وتسعمائة، واستمر وسعده في زيادة إلى أن مات والده في عام أحد وثلاثين، فمدة اشتراكه مع والده أربعة عشر عاماً، ثم تفرد بهذا المنصب المبارك مع زيادة السعود، وبسط العدل والجود؛ إلى أن أنعم الله تعالى عليه بولده مولانا السيد الشريف أحمد بن أبي نمي، فتقلد هذا المنصب بالتماس والد، من مولانا السلطان سليمان بن سليم خان، وكان ذلك سنة سبع وأربعين وتسعمائة.
وملخص ذلك أنه أرسله إلى الأبواب العالية السلطانية العثمانية، ومن الاتفاق أن معظم من كان مع والده الشريف أبي نمي حال عزمه إلى مصر كان مع ولده هذا أحمد إلى إسلام بول، وصحبته من الهدايا العظيمة اللائقة بالملوك والخيول الأصائل، والصقور والشواهين والأقمشة والأطياب، فلما وصل خبر قدومه عين له السلطان سليمان من قابله على أحسن أسلوب، ثم أنزل في بيوت السلطنة، وأمره أن يدخل عليه بالملابس الحسنية.
وكان مولانا الشريف أحمد جميل الصورة معتدل القامة، حسن اللحية والدليقين، عليه ناموس الشرف المحمدي، وأبهة الملك النبوي.
فلما دخل على السلطان قام له ألفا، ولم يقع هذا لأحد سواه.(2/455)
ثم أقبل عليه بالبشر التام، وخلع عليه خلعاً متعددة تعظيماً لشأنه، وإظهاراً لرفعته وعناية بجنابه، وأظهر أن وصوله إليه من النعم المعدودة التي تفرد بها عن غيره، وكذلك زوجة مولانا السلطان والدة - السلاطين، وواصلة المساكين - قدمت له هدايا عظيمة، وعرفت أركان الدولة أنه في مقام أولادها محبةً وحنواً.
ثم برزت الأوامر السلطانية له بجميع المرام. ووصل إلى مكة المشرفة على ذلك النظام. وامتدحه القاضي عبد الرحمن باكثير بالقصيدة الرائية: من الطويل:
وفَتْ صبها بعد الجفا غادة عَذْرَا ... ومُذْ لامها قالَتْ لعلَّ لها عُذْرا
المتقدم ذكرها.
ودام سلطانه إلى أن مات في حياة والده الشريف أبي نمي في شهر رجب عام ست وستين وتسعمائة.
ومما قيل فيه مدحاً قول الوجيه عبد الرحمن الكثيرى المذكور: من الكامل:
أَلْعِز ثَاوٍ بين مشتبِكِ القنا ... من رامه قالَتْ له السمرُ القنا
والنصْرُ من مخضرِّ أوراق الظبا ... غصناً به ثمرُ الوقائعِ يجتنى
والمجد في صهواتِ دهمٍ إن عدَتْ ... عقدَتْ سنابكُهُن نقعاً أدكَنَا
والفَخرُ أن تغشى الكتيبةَ باسماً ... ولَكَ الحمامُ من الأسنةِ قد رنا
والثابتُ الجأش الذي يَرِدُ الوغَى ... ويَدُ المنونِ تديرُ كاساتِ الفنا
والحزمُ فتكُكَ بالعداةِ مطاعناً ... ومضارباً ومذففاً ومثخنَا
والعزمُ أن تستسهلَ الصعْبَ الذي ... لو كان لم يمكنْ بعزمِكَ أمكَنا
والمكرمَاتُ أجلُها حُسنُ الوفا ... وأعزهاً الإغضاءُ عمن قد جَنَى
والسودَدُ المحضُ اكتسابُ مفاخرٍ ... ترتادُهاً منها المحامدُ تبتنَي
وأكابِرُ العلياءِ من يولي نَدىً ... يُشْرَى به المجْدُ الأثيلُ ويقتنَى
والهمةُ العلياءُ تصييرُ الذي ... عند الورَى جللاً حقيراً هَينا
والجدُ أن تردَ المهالكَ راقيا ... صعْبَ المخاوفِ لن تؤمّلَ مأمنا
والجودُ هجرُكَ لا فليس يخطُها ... مَلَكَاك إذ كنْتَ الجواد المُحْسِنا
والحمدُ إسداءُ الجميلِ بلا أذى ... من غير أن تبغي الجزاءَ وتمننا
والفضلُ تقليدُ الرقابِ صنائعاً ... لو لم تَرِق بها الورَى لن تُغْبَنَا
والملكُ لا يبني دعائمَ مجدِه ... إلا السلاهبُ والقواضب والقنا
كبنا بني ملك المَلِيك المنتقى ... مِنْ معدنِ السبطَيْنِ شرف مَعْدنا
سلطانُ مكَةَ أحمد الملكُ الذي ... طَوْع لقدرتِهِ المنايا والمُنَى
مَلِكُ الحجازِ أبو سليمان الذي ... في مفرق العليا تبوّاً مسكنا
ملك له ملك تراه محوَّطاً ... بالمرهفاتِ وبالرماحِ مُحَصنا
ملك له ملك تشامخَ عزهُ ... لا ملكَ إلا صارَ قهراً مذعنا
ملك له ملك ذراه على السها ... وأساسُهُ تحْتَ التخوم تمكنا
ملكٌ به أُفقُ المعالِي قد أضا ... وانجابَ عنه ظلام ظُلمٍ أدكنا
ملك تفزعَ غصنُهُ من دوحةٍ ... بالمصطفَى شرفَتْ وطابَتْ أغْصُنا
ملك غذى بلبا الرسالة واعتلَى ... عن كُل مدحٍ بالصرائحِ والكنَى
ملك له البيتُ الشريفُ ومكة ... وله المواقفُ والمشاعِرُ من مِنَى
ماذا عسَى فيه يقالُ ومدحُهُ ... قد جاء نَصاً في الكتابِ مبينا
ويدُ الرسالةِ أكسبَتهُ شمائلاً ... نبويةً منها علاهُ تزينا
وعلى مُحَياهُ أدارَت هالة ... منها سنا القمرَيْنِ يكتسبُ السنا
هو مضغَةُ الطهرِ البتولِ وأصلُهُ ... مِنْ طينة منها النبيُ تكوَنا(2/456)
وبجده شمسُ الشريعةِ أشرقَت ... ولسانها بالحَق أصبَحَ معلنا
هذي الصفاتُ الجاعلاتُ لربها ... من فوقِ هاماتِ المعالِي مَوْطنا
لم تنتجِ الدنيا له مثلاً وقد ... زانَ الممالكَ والعلا والأزمنا
فاقَ الملوكَ فما بنو العباسِ أو ... ما غيرُهُم ممن نأَى أو من دنا؟!
لا مَجْدَ كان لهم فرادى في العلا ... إلا تملكَهُ وكان له قَنا
ولئِنْ أَتَوا فعلَ المكارمِ مرة ... فله غدَتْ طبعاً وأمسَتْ دَيْدَنا
ملأَ القلوبَ مهابة وملا العيو ... نَ جلالة وملا المسامِعَ بالثنا
وملت معاليه الزمان وعَز عن ... مدحٍ وحَصرُ علاه أعيا الألسنا
رَب الندَى مردِي العدا مُرْوِي الصَدا ... مُولِي الغنَى حُلوُ الخبا رَحْبُ الفِنا
أنشا بديعَ مكارمِ ومآثرٍ ... فيها تنوَعَ مجدُهُ وتفننا
ولكَم مدارسَ في العلا درسَتْ وقد ... عَمَرَت به وغدا حماها بَينا
ولقد ذوى روض المواهِبِ فاغتدى ... بنوالِهِ غَضَّ الثمار لمن جَنَى
أغنى الخلائِقَ من نداه فلم تَجِد ... في دهرِهِ ذا حاجَة مُتَمَسكِنا
وبه لقد عَمَّ الورَى فنوالُهُ ... كَنز الفقيرِ وطوقُ جيدِ من اغتنَى
والرزقُ والأجَلُ المقدرُ طوعُهُ ... وبكفه مر المنا وحلاَ الغِنا
متكفل بالأمنِ في الدنيا فما ... أحد بها ألا وعاشَ مُؤَمَنا
وبرزقِ مَنْ فوقَ البسيطةِ والذي ... تحتَ المحيطةِ قد غدا متضمنا
ولَدَيهِ لا روضُ السماحِ تخاله ... هشماً ولا نَهر الندا مُتَأَسنا
والسخبُ مذ رامَت تجارِي كَفَّهُ ... حُمَّتْ به حسداً وأسقَمَها الضنَى
فالغيثُ في جَبَهاتِها عَرَق جَرَى ... لما جرَت وكبَتْ وأدركَها العَنا
يحبو النوَالَ ويحتبي فكأنهُ ... بحر وطود قد أحل وأردنا
في حلمه فاقَ ابن قَيسٍ بل لدَى ... إحسانِهِ ذِكرُ الندى لن يَحْسُنا
ماضيه للأعداءِ مسنوناً يرى ... وعطاؤُهُ في الحال فرضاً عينا
يهبُ الألوفَ ولم يهبها عندَما ... يلقى عليه لأمَهُ والجَوْشَنا
ويردُ جحفلَ من يحاربه ولو ... ضاهَى الحَصا عن رَده لَنْ يجبنا
بطل ولكن لا يطاقُ ففي الوغَى ... بِشَبا العزائمِ عن ظباهُ له غنى
ومتَى يصل تلقى الكمىَّ مجندلاً ... والذمر خلقاً بالدماءِ مكفنا
يروي الثرَى بدمِ الفوارسِ فالقنا ... تَجرِي عليهم من دماهُمْ أعينا
تقفو الجوارحُ جيشَهُ ثقةً بما ... أَلِفُوهُ في نصر له متيقنا
فَيروا بطاناً آيبين نواهلاً ... بِدَمِ يُطَل فما أذل وأَهوَنا
لم يَذعُ هذا الدهرَ إلا جاءَه ... متعثراً من خوفه لن يأمنا
يخشَى سطاه فلم تحل خطوبُهُ ... ساحاتِهِ وبصَرفِهِ لن يطعنا
لو خَط طِرساً نحوه لولائِهِ ... بالخادمِ المملوكِ كان مُعَنوَنا
فمتَى دعَتكَ خطوبُهُ فالجأ له ... وبإسمِهِ فاعْل النداءَ وأعلِنا
يا أحمد بنَ أبي نُمَي والذي ... ألقَى له الدهرُ القيادَ وأذعَنا
لو زاد شيءً بعد غايتِهِ دعا ... كُل لملكِك أن يزيدَ تمكُنا
من رام مِثلَكَ في الملوكِ فذاك في ... شَرع المعالي مُشْرِكٌ لن يؤمنا
فلأنَت رب البسطةِ العظمَى على ... كُل الملوك من الرشيدِ إلى هُنَا(2/457)
وأمامَ جيشِكَ رائدُ الظَّفَر اغتدَى ... بالنصرِ والفتحِ المبينِ مؤذِّنا
وبشأنِهِ النصرُ المتينُ قد احتفَى ... بأمرِهِ الفتحُ المبينُ قد اعتنَى
والدهر ساعٍ في الذي تهوَى فإن ... تدعوه أو تدعو أجابَ وأَمَّنا
وأفاكَ تشريفُ المليكِ فكلُّ ما ... تبغيه ثم وغيرُهُ لن يُمْكِنا
فليهنِكَ النصْرُ المفادُ ويهنِكُمْ ... نيلُ المرادِ بما أَقَر الأعينا
فهواتِفُ السراءِ قد صَدَحَتْ به ... وترنَّمَتْ وُرْقُ التهانِي بالهنا
وشدَتْ على أيكِ السرورِ حمائمٌ ... ملأتْ بشائرُها النواحي بالغنا
فَارْقَ العلا ملكاً فملكُكَ غابة ... بك يا هِزَبْر الجحفَلينِ محصنا
ورياضُهُ قد أصبَحَتْ مخضلةً ... منكُمْ وزهْرُ ثمارها حُلْوُ الجَنَى
والماضيانِ تكفَّلا بخلودِهِ ... وبحفظه سَعْدُ السعود تضمَّنا
وإليكَ تبرَ مدائحٍ لو صاغَهُ ... نطقى لغَيرِ علاكَ أَصْبَحَ ألْكَنا
ولحسنها حَسَّانُ يغدو خاضعاً ... لو رام نَظْمَ سلوكها لن يُحْسِنا
طابَتْ شَذاً لما جعلْتُ ختامها ... مِسكَ الصلاةِ تبرُّكاً وتَيَمُّنَا
ثم إن مولانا الشريف أبا نمي رحمه الله تعالى التمس من مولانا السلطان سليمان خان تفويض الأمر إلى ولده الثاني صاحب المقام السامي مولانا الشريف حسن، فتقلد - بعد أن أجيب إلى مراده - حماية الحرمين الشريفين وجدة المعمورة وينبع خيبر وحلى، وجميع ما شمله اسم الأقطار الحجازية، وذلك من خيبر إلى أطراف حلى وأعمال جازان طولاً، ومن أعمال الينبع المبارك إلى حجاز ثقيف، وما اتصل به من أرض نجد عرضاً، وكان ذلك سنة 961 إحدى وستين وتسعمائة، فتفرد بذلك بإشارة والده الشريف أبي نمي لما علم من كفايته وكماله. وخاطبته السلطنة الشريفة. بالألقاب الهاشمية الملوكية.
وشاع وذاع ما في محل ولايته من العدل والإنصاف، والأمن والطمأنينة في حاضرتها وباديتها، وما إليها ينسب ويضاف، وقطع قاطع الطريق، وأخذ حق المظلوم من الظالم وإن كان أقرب حميم وأصدق صديق.
فلما وصل خبر ذلك إلى الأبواب العالية فوضت إليه كل واصل إلى الأقطار الحجازية من أعيان دولتهم وكبرائهم، وأركان سلطنتهم وأمرائهم حسبما يسطر ذلك في المرسوم السلطاني الواصل باسم مولانا المومأ إليه في كل عام.
وكلما طلب من جانب السلطنة العليا مطلوباً من معالي الأمور أو إحساناً لمن يلوذ بمقامه المبرور أجيب بحصول المراد، خصوصاً في سلطنة مولانا السلطان مراد وفي سنة أربع وخمسين وتسعمائة اتفق يوم السابع من ذي الحجة الحرام بمكة المشرفة أن الناس بينما هم بالمسجد الحرام في وقت السحر إذ رأوا دخاناً صاعداً من جانب الكعبة الشريفة، فبادرت الأكابر من الشريف أبي نمي، وولده ومصطفى باشا، وأكابر الحاج يسعون إلى باب الكعبة ففتحوه بعد أن حصل عند عامة الناس غاية الوجل، فوجدوا ناراً في عقب الفرفة اليمنى، ففكت الذرفة، وأطفئت النار، وأعيد الباب على حاله ولله الحمد. ذكر هذا الجزيري في تاريخه.
قلت: الظاهر أن أصل تلك النار شرر طائر من مجامر البخور التي توضع على عتبة البيت الشريف.
وفي سنة خمس وخمسين وتسعمائة - لما كان عيد يوم النحر منها - وقعت فتنة بمنى، وتعرف عند أهل مكة بالهبة، بين مولانا الشريف أبي نمي، وبين أمير الحاج المصري المسمى محمود، وكان الشريف أحمد إذ ذاك قائماً بأمر المملكة عن والده بتفويض من السلطان سليمان كما تقدم ذكر ذلك.
سبب هذه الفتنة أن السيد قايتباي كان بمصر فأقبل إلى مكة من طريق البحر، وكانت بينه وبين أمير الحاج المذكور مواطأة على أن يوليه مكة.(2/458)
فلما كان يوم النحر علم الأمير أن جماعة الشريف أبي نمي تفرقوا عنه بالنزول إلى مكة للطواف والسعي، فاغتنم الفرصة - وكان السيد قايتباي المذكور أرسى بجدة ولم ينزل إليها - فركب الأمير ليقصد الشريف في داره، فعلم الشريف بذلك فركب، وركبت الأشراف والقواد والجند، فثارت الفتنة، ونزل الشريف إلى مكة ثم أرسل إلى جدة تجريدة من الخيل لحرب السيد قايتباي، فلم تصل إلى جدة إلا وقد توجه منها بحراً عائداً إلى مصر.
وبموجب هذه الفتنة نفر الأمير، وجميع الحاج من منى يوم النفر الأول قبل الزوال، فأراد بعض الحجاج العود إلى منى للرمي قبل فواته، والمبيت مع جند صاحب مكة، فتعذر عليه ذلك، لانتشار الأعراب في الطرق ورءوس الجبال.
ويحكى عن الشيخ العارف بالله تعالى الشيخ محمد بن أبي الحسن البكري أنه كان بمكة حين الفتنة بمنى قد نزل بقصد الطواف والسعي، وكان في منزله وعنده شخص يسمى الشيخ الحرفوش، فحصلت للشيخ محمد البكري حالة جلال، واستمر دائراً في المحل الذي هو فيه كالأسد وهو يقول: حوش حوش يا حرفوش، كالذي ينظر شيئاً فيأمر بإمساكه، ثم سكت حاله، فقال: الآن وقعت بمنى فتنة عظيمة حشناها بإذن الله تعالى فكان الأمر كذلك.
فقال العلامة الخطيب عبد الباسط بن أيوب يذكر الواقعة، ويرفع فيها الشكوى من محمود الأمير إلى الخنكار الأعظم مولانا السلطان سليمان خان في قصيدة هي: من الخفيف:
يا إماماً بالعدلِ في الناسِ سارا ... وهماماً قد دَمَّرَ الكُفارا
ومليكاً إحسانُهُ ملأ الأر ... ضَ وأضحَى له الصلاحُ شِعَارا
هذه قِصَّة لبابكَ جاءَتْ ... من أناسِ مما دهاهُم حيارى
فَاتلُها يا خليفةَ اللهِ في الأر ... ض جميعاً عساكَ تأخذُ ثارا
نظمتهاً قريحةٌ شاهدَت في ... عترةِ المصطفَى أموراً كِبَارا
هجمَت دورهم بخيلِ ورجلٍ ... واستباحوا عرضاً ومالاً ودارا
ورُمُوا بالنبالِ في حرم الله فضَحُّوا صغارَهُمْ والكِبَارا
أذكَرَتنا أحوالُهُم بحسينٍ ... ويزيدٍ وأورثَتنا اعتبارا
آل بيتِ الرسولِ حُلَّ حماهم ... واستبيحَتْ لهم دماءٌ جِهارا
ما استمعنا ولا رأينا كَهَذا ... لا رَعَى اللهُ من بهذا أشارا
قد أتانا محمودُ في إمرةِ الحَج ... جِ وقد صَارَ بالأذَى أَمًّارا
فرأينا شخصاً يحاكِي يزيداً ... في سجاياهُ فاجراً جَبارا
أَذهَبَ الشرعَ مذ أتانا وأحيا ... ليزيدٍ بَينَ الورَى آثارا
حَكمَ السيفَ في أعز نفوسٍ ... وسقاها كاسَ الردى وأدارا
قتَلَ الناسَ أظهَرَ السفكَ ظلماً ... جالَ بالسيفِ يمنةً ويَسَارا
تركَ. الهدىَ والضحايا وضحى ... بدماءِ الأشرافِ فيها وسَارَا
حَرَمٌ آمنٌ ويقتل فيه ... عترة المصطفَى جهاراً نَهَارا
إن هذا أمر فظيع شنيغ ... منكَرُ الشانِ يدهشُ الأبصارا
قد تركناً لأجلِهِ واجباتِ ... ورفضنا المبيتَ والإعتمارا
وخشينا من اليزيدي قتلاً ... فركبناً من خوفهِ الأخطارا
تَرَكَ الناسُ في منًى نُسُكَ الحَج ... جِ وخلَوا مبيتَها والجِمَارا
واعتراهُم من اليزيدي ما لم ... يَألفُوة وأُحصِروا إحصارا
وغدا الناسُ بين قتلٍ ونهب ... وأمور تحيرُ الأفكارا
صار فيها العزيزُ عبداً ذليلاً ... والأرقاءُ أصبَحَتْ أحرارا
صَرفت نحوهم صروفُ الليالِي ... وجهَها بعد كان فيه استتارا
ورمتهم عن قوسها بسهامٍ ... أثرَت في القلوبِ منا انكْسارا
فتنة أُحدِثَت بأشرفِ أرضِ الله لا ترتضَى بأرضِ النصَارَى
كَبرَ الناسُ عندما عاينوها ... وبحارُ الدما غدَت تَيارا
أظلم الكونُ والكواكبُ غارَت ... واقشعرت جلودنا اقشعرارا(2/459)
إن هذا ظلم وجَور عظيم ... قاتلَ الله مَنْ عَنِ الحق جارا
ورماه بأَسهُم صائباتِ ... من يد المصطفَى تربه الصَغَارا
وذُهِلنا من المصيبةِ حتى ... أذْهَب الخوفُ عقلنا والوَقَارا
فتراهم بعد الأمانِ مِنَ الخَو ... فِ سكارَى وما هُمُ بسُكَارى
يابن عثمانَ أنتَ عمرتَ بالعد ... لِ الأقاليمَ بَرَها والبِحَارا
أنتَ طهرتَ سائر الأرضِ ممنْ ... قد تعدوا واستكبروا استكْبَارا
أنتَ كهْف للمسلمينَ حريز ... وملاذ لمن يخافُ ضِرَارا
أنتَ للحق ناصر ومعين ... لكَ سيفْ قد دمَر الأغيارا
أنتَ من أمَ بابَ عدلك يحظَى ... بمناه ويبلُغُ الأوطارا
كيفَ ترضَى أن اليزيديَّ يأتي ... حَرَمَ اللهِ مفسداً كَفارا
سوفَ تأتيه غيرة منكَ حتى ... يتمنى أن لم يُثِر ما أثارا
فأغِث عِترةَ النبيٌ وبادر ... وزدِ الظالمينَ منك خَسَارا
واْرِحهُم من اليزيديً واجعل ... داره بالخرابِ أَرضاً دمَارا
وارحمِ الناسَ إنهم قد أذيقوا ... من أذاه ما لم تذقه الأسارَى
ولكَ الأمْرُ فاقضِ ما أنتَ قاضِ ... فهو واللهِ يستحقُّ النارا
قَسَماً بالحطيمِ والركنِ والبي ... تِ الذي رَبهُ يقيلُ العِثَارا
وبِآلِ النبي والصحبِ والأح ... زابِ طُراً والسادةِ الأخيارا
قد خبأنا له سهامَ الليالي ... وشددْنا القِسيَّ والأوتارا
واستعنا بأعظَمِ الناسِ جاهاً ... واتخذْنا ضريحَهُ مستجارا
يا نبيَّ الهدَى أغثنا سريعاً ... قد أَضَرَ العدا بنا إضرَارا
نحنُ قوم بك استَجْرَنا فنِلْنا ... بمعاليكَ رحمةً وجِوَارا
شاعَ في سائِرِ الجهاتِ الذي قَدْ ... كان فينا وطَبَّقَ الأقطارا
وكان الشريف أبو نمي جم الفضائل، حسن الشمائل، محمود السيرة، طاهر السريرة، قطب زمانه بلا خلاف، عادل وقته فلا سبيل في زمنه إلى الاعتساف.
له النثر الرفيع الفائق، والنظم البديع الرائق، وصفاته جامعة شتات كل فضيلة، وخصاله محمودة جميلة.
ومن صفاته الحميدة المتوارثة له عن آبائه الكرام، رعاية ذوي البيوت القديمة، وإعراضه عن الأفاقين؛ فإن ذوي البيوت كانوا عنده في أوج الإعزاز والإكرام، يظهر مناقبهم، ويستر مثالبهم، وكان يخصهم من بين الأنام بالتحية والقيام، ولا يفرح غيرهم بقيامه لو أنه شيخ الإسلام فلهذا كانت الأمور مضبوطة، والأحوال بوجوه الصواب منوطة.
فطالما التمس منه أعيان دولته القيام لجماعة لا يكونون من ذوي البيوت بعد أن صاروا من أهل الإفتاء، فلم يجب التماسهم، ولم يضبط عليه ذلك لئلا يكون الناس على حد سواء.
فما أجدره بقول القائل: من البسيط:
للهِ درُّ أنو شروانَ مِنْ ملكٍ ... ما كان أعرفَهُ بالعَالِ والسَّفلِ
ولم يفته أن جبر الخواطر مطلوب، بل هو عارف بما هو أدق من ذلك مما تكنه القلوب، غير أنه علم ما يئول إليه ذلك من الفساد، وتجرؤ الأنذال بمساواتهم لأكابر البلاد، وترتب حصول الجور في العباد. فقد قيل: من الوافر:
وتجتنبُ الأسودُ ورودَ ماءِ ... إذا كان الكلابُ يَلغْنَ فِيهِ
فهذا من سياسته التي يحفظ بها الملك ويدوم.
فقد قال تعالى تلك الرسل: " فَضلنا بعَضَهُم عَلىَ بَغض " البقرة: 253 الآية. وقال عليه الصلاة والسلام " أمرت أن أنزل الناس منازلهم " . والحكمة فيما كان يصنعه الشريف - تبعاً لأسلافه - أن ذوي البيوت قد عرفت مودتهم وإخلاصهم من عروق أسلافهم الأقدمين الثابتي الأساس، وانطباعهم على صدق المحبة والوداد فإن العرق دساس، فكانوا جديرين بهذه المزية، ولو لم يكن فيهم شيء من الفضائل، إلا ما ألف منهم، وعرف عنهم من الشمائل.
وأما غيرهم لو أنه أعلم أهل زمانه فلم توجد فيه هذه المزية، وربما يكون إكرامهم سبباً لحصول الأذية.(2/460)
قلت: هذا قول أحمد الفضل ناقلاً له عن الإمام عبد القادر الطبري.
وهو كما ترى قول جائر في القضية، صادر عن روية بزلال الحق غير روية، وطوية على الحقد والحسد مطوية. وحاش لله أن تكون صفة مولانا الشريف ذلك، وعادته تلك مع أولئك؛ إذ كيف يسوغ لمولانا إلغاء صفة العلم ممن اتصف بها من الأفاضل الأعلام فلا يعظمه بسببها كما قال هذا الشخص، ولو أنه شيخ الإسلام.
ولا يعتبر إلا ذلك الود بفرض وجود المستور في حبات القلوب، وإنما يعلم ذلك علام الغيوب، حماه الله من ذلك، مع علمه - رحمه اللّه - بأن المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فهو تحت طي لسانه، لا تحت طيلسانه.
وأغرب من هذا كله قوله: ولو لم يكن فيهم شيء من الفضائل.
فما أحقه بقول القائل: من الطويل:
إذا كان لا عِلْم لديكَ تفيدُنا ... ولا أنْتَ ذا دِينٍ فنرجُوكَ للدينِ
ولا أنْتَ ممنْ يُزتَجَى لكريهةٍ ... جعلنا مثالاً مثلَ شخصِكَ مِنْ طِينِ
فإذا لم يكن الشخص فيه فضيلة ذاتية، والود لا يعلمه إلا عالم الخفية.
لم يبق سبب للإجلال والإكرام والتحية والقيام، إلا كبر العمائم وطول الأكمام، والاعتماد على رفات العظام، من الآباء والأعمام، ولا ينهض ذلك عند رعاع العوام، فضلاً عمن هو لسادات الأنام إمام، أبي نمي الهمام.
فالحق إعطاء العلم واجبه لكل إنسان، كائناً من كان.
ثم إن كان مع فضيلة ذاته له فضيلة سلسلة علم وبيتوتة، تكلل تاج مجده درر الفخر وياقوته.
ثم أنت ترى قبح ما أورده، وتمثل به في مراده، ووخامة شاهده في استشهاده، وتشبيهه نفسه وأمثاله بالأسود، وغيره بالكلاب، وسيد الجميع بالماء المورود.
فأين الذكاء والفهم؟ لا قوة إلا بالله!.
وفي سنة ثلاث وستين: كان ابتداء حادث المحمل اليماني، والمحدث له الوزير مصطفى باشا النشار المستولى على اليمن من جهة السلطان سليمان خان، وكانت ولايته له سنة اثنتين وستين، فوصل إلى مكة أميراً على المحمل المصري فحج ثم رجع بالمحمل والحجاج، الأمير مراد بك، ثم توجه مصطفى إلى الديار اليمنية، فأحدث اليماني وجعله كالمحملين، ومعه خلعة من جانب السلطنة الشريفة، فبرز مولانا الشريف لملاقاة الخلعة إلى بركة الماجن، ثم وصل هو والأمير والمحمل إلى أن حاذى الشريف داره، فدخلها وتوجه الأمير ونزل عند سفح الجبل الذي على يمين الداخل إلى مكة من ثنية الحجون، ولم يزل كذلك إلى أن بطلت الخلعة والمحمل من سنة تسع وأربعين وألف، وذلك مسبب عن وقوع الفتن القوية، واشتغال الدولة العثمانية بقتال أعداء الله وإعلاء كلمته العلية، ولا بد لليمن من عطفة، ليس فيها تؤدة ولا رأفة.
وفي سنة985 خمس وثمانين وتسعمائة كانت وفاة السيد الأكرم السيد بركات بن أبي نمي، جد ذوي بركات الأقرب.
قال العلامة الفهامة الشيخ علي الشهير بالجم: دخلت على والده مولانا الشريف أبي نمي معزياً له فيه، فانهلت عبرته، فأخذها بمنديل كان في يده، فأنشدته ارتجالاً بيتين يتضمنان تاريخ وفاته فقلت: من الكامل:
يأيها الملكُ العزيزُ ومَن رَقَى ... هَامَ العلا رَفَعَ المهيمنُ شانَهُ
لا تَبْكِ مرحوماً أتى تاريخُهُ ... بركات أنزله اللطيفُ جنانَهُ
فسر بذلك وسُرًى عنه بعض ما كان.
وفي سنة 990 تسعين وتسعمائة ضحوة يوم الأحد تاسع صفر منها كانت وفاة مولانا السيد الشريف قاضي قضاة الإسلام وناظر النظار ببلد الله الحرام، مولانا القاضي الحسين بن أحمد المالكي بالطائف في القرية المسماة بالسلامة، ووصف بالشهيد لذلك، وعد من ألقابه التي وصف بها على زمزم.
ولما بلغ موته ضده مرزا شلبي قال: سبحان الله، عاش هذه المدة في مكة ثم لم يمت إلا خارجها. وأرخ ذلك بقوله " حل عام الخير " .
نعوذ بالله من الحسد وأهله، ووافق تاريخ وفاته في تاسع صفر من السنة المذكورة لفظ تسع في صفر.(2/461)
وفيها أيضاً كانت وفاة العلامة الشيخ قطب الدين النهروالي مفتي السادة الحنفية يوم السبت السادس والعشرين من شهر ربيع الثاني منها وقت أذان حزورة عند الفجر الثاني، فأرخ بعض الفضلاء ذلك بقوله: قد مات قطب الدين أجل علماء مكة قلت: قد حسبته فوجدته يزيد على سنة الوفاة واحداً، ومثل ذا يغتفر عند المؤرخين على خلاف الراجح منه عدم الاغتفار مطلقاً، فيصير التاريخ هكذا قد مات قطب الدين جل علماء مكة، ولا شك أن المعنى الأول يزول حينئذ ويتحول.
وما زال مولانا الشريف أبو نمي منعم البال، ممتعاً بالأولاد والآل، مجتمع الشمل في سائر الأحوال، مكفي الأمور، دائم السرور، بقيام ولده الشريف حسن بأعباء الملك والخلافة، مظهراً في الرعايا عدله وإنصافه، سالمة ممالكه من المخافة، إلى أن دعاه داعي الحق فلباه، وانتقل من هذه الدار إلى دار كرامة مولاه، ليلة تاسوعا افتتاح سنة 992 اثنتين وتسعين وتسعمائة بالقرب من وادي البيار من جهة اليمن، فحمل إلى مكة، وجهز وصلى عليه بعد صلاة العصر في المسجد الحرام عند باب الكعبة - الأفندي مرزا مخدوم، ودفن بالمعلاة، وبنى عليه قبة موجودة، عليها أوقاف محدودة، وتخلف ولده الشريف حسن لحفظ البلاد، وقطعاً لدواعي الفساد، وجعلت له ربعة بالمسجد الحرام وبالتربة، حضرها الشريف حسن وإخوته وجميع الأشراف والأعيان من أهل مكة والعربان - قدس الله روحه؛ ونور ضريحه.
وعمر الشريف أبي نمي ثمانون سنة وشهر واحد ويوم واحد، ومدة ولايته مشاركاً لأبيه ولولديه الشريف أحمد والشريف حسن، ومستقلاً نحو ثلاث وسبعين سنة.
وكان رحمه الله صاحب خيرات متواترة، ومبرات كثيرة متكاثرة.
أسس لأبنائه معالم الكرم، وحثهم على شريف المناقب والشيم.
نسج بينهم المودة على منوال الصفا، وحملهم على الصدق فيما بينهم والوفا.
وبنى بمكة رباطاً للفقراء الذكور ورباطاً للنساء الشرائف، وأوقف عليهم أوقافاً إلى الآن جارية في صحائفه.
وكان له جملة من الأولاد، منهم: أحمد والحسن وثقبة وبركات وبشير وراجح ومنصور وسرور وناصر وصالحة وشمسية وغبية وصليبة وموزة وراية وغيرهم.
قلت: ورأيت نتفة لبعض شعراء ذلك الزمان ولم ينسبها الكاتب إلى شخص بعينه، وهي في الشريف أبي نمي أحببت ذكرها هي: من السريع:
يا فارسَ الخيلِ قهرْتَ العدا ... ألترْكُ والعُرْبَان والتُّرْكُمَانْ
مولاك أعطاكَ خِصالاً بها ... أصبحتَ في الناسِ فريدَ الزمانْ
فأنتَ في حلْمٍ بعيد المدى ... قَرِيب إحسانِ وحُلْو اللسانْ
فلا تَخَفْ من بعد ذا كربة ... فما قضاه اللهُ بالأمْرِ كانْ
فاللهُ يبقيكَ لنا آمناً ... كما أذقتَ الناسَ طَعْمَ الأمانْ
قلت: قد أبان هذا الشاعر عن فضاخة اللسان لا فصاحته، وضيق البيان لا ساحته، إلا أنه يدخل عن الاعتراض في أمان بيت الأمان، فلعل أن يمحو الإساءة الاإحسان، فسبحان خالق الإنسان.
وقال الشيخ عبد العزيز بن محمد الزمزمي معارضاً قصيدة ابن خطيب داريا التي مطلعها: من السريع:
قُمْ عاطِني الصهباءَ يا مُؤْنِسِي ... ............
وكان هذا الإعراض بإلزام له من مولانا الشريف أبي نمي، فقال يمدحه ويهنيه بعرس ابنه الشريف أحمد بن أبي نمي: من السريع:
لِيَحْتَسِ الصَهْبَاءَ من يحتَسِي ... حَسْبي لمَى مرشفِكَ الألعْسِ
حل فأطلق منه كأسِي ولا ... توحش بحبس الكأس يا مُؤْنِسِي
فِيْ طرفِكَ الوسنانِ والخَد ما ... يهزأ بالوردِ وبالنرجسِ
وجهُكَ لي روض جديد إذا ... أخلقَتِ الأرْضُ القبا السندسِي
رنحت قَدا قال للغصنِ مِنْ ... عِطْفى استعِرْ ليناً ومثلي مِسِ
غَرِّد لنا واشدُ فها أنْت من ... شعركَ كالشُحْرورِ في برْنُسِ
أنتَ سميري ونديمي فلِي ... فاكهة من لفظِكَ الأكْيَسِ
ضوءُكَ في جنحِ الدجَى ساطع ... فذكرُ ضوء الشمْعِ معه نُسِي
فيكَ جميعُ البسطِ يا فاتني ... بسط إذا خلتك في المجلِسِ(2/462)
لقد صفا العَيشُ بسفْحِ الصفا ... وأحْسَنَ الصنعَ الزمانُ المُسِي
فعاطِنِي من فيكَ مسكية ... ينفحُ منها الطيبُ في المعطسِ
وَاجْلُ صدا نفسي بأنفاسِها ... فإنها تجلُو صدا الأنفُسِ
لها حباب من ثناياك قَدْ ... حكتهُ شهبُ الفُلكِ الأطْلَسِ
طاهرة طِبت وطابَتْ فلم ... يحرمْ تعاطيها ولم تنجسِ
تلك سُلافى لَست من غيرها ... أرتشفُ الراحَ ولا أحتَسِي
ما لي وللخمرِ وشرَابها ... إياكِ يا نفْس بهم تَأْتَسِي
منْ كل سفسافٍ إذا سَفَها ... يبذي ويَهذِي ثم لا يَنْبِسِ
قد نجسوا منها فلم يفكروا ... فى نَجِسِ الماءِ ولم ينجسِ
أخبارُهاً قد درسَت بينهم ... في كُتُب يا ليتَ لم تُدْرَسِ
حديثهم فُحش وجهل فلا ... تسمعُ لا أُفتِ ولا أدرسِ
للهِ أوقاتٌ تقضتْ لنا ... معْ كل شهمٍ فكِه كيسِ
ونحنُ في مجلسِ أنسِ به ... أبو نمي صاحب المجلسِ
سلطان أقطارِ الحجازِ الذي ... بغيره الأقطارُ لم تحرسِ
مولى له ذوق وفهم ففي ... مجلسِهِ الآدابُ لم تبخسِ
للفضل سوقَ عنده نافقَ ... لكلً مثرٍ منه لم يفلسِ
للهِ أخلاقٌ له سمحة ... تقولُ للضيفِ ادنُ واستَأنِسِ
أَيأَسَنِي دَهرِي فلمَّا رنا ... إليه قَالَ ارْجُ ولا تَيْأَسِ
ينسى الذي يوليكَ من فضله ... لكن ثناه شائع ما نُسِي
أعداؤهُ دنسهم لؤمهم وعرضُه الأبيضُ لم يدنسِ
إن عدَّتِ الفرسان فهوَ الذي ... يدعي غداةَ الروع بالأفرسِ
هو المليكُ الممتطِي صهوةً ... من المعالِى قَط لم تمسسِ
تدبيرُهُ الملكَ له دَيدَن ... فلم يَنَمْ عنه ولم ينعسِ
كُل عزيزٍ ذل من بأسِهِ ... وهابه الروميُ والشركسِي
سلِ النصارَى عند ما قارَبُوا ... جدة عن جدهم الأتعسِ
ماذا الذي نَكَسَ أعلامهم ... عنها نَعَمْ لولاه لم تنكسِ
ثم انثنَوا للهندِ والرعبُ في ... قلوبهم سَارَ إلى قبرسِ
نُصِرتَ بالرعب عليهم ولم ... لا بأبيكَ المصطفَى تأتسي
فاستبعَدُوا الأقرَبَ واستَقْرَبُوا ال ... أبعَدَ من طورهمُ الأقدسِ
أتَوْكَ كالبَحرِ فصاروا لدَى ... بحركَ كالحسوةِ للمحتسِي
أتاهُمُ أنكَ في قوةِ ... من العوالي والظبا والقِسِي
أعددت جيشاً لو بهم بحره ... أحاطَ لم يَنْجُوا من المغطسِ
وكل طرفٍ سابق سابح ... في لج بحر النقع لم يغطسِ
يفترسُ الأسد على ظهرِهِ ... من الأعادِي كل مستفرسِ
همْ كأسودِ الغابِ لكنها ... دونهم في شرسِ الأنفسِ
من حسنٍ ينمو إلى سَيدِ ... لهم هِزَبر في الوغَى أحمسِي
نجومُهُم دارتْ على أبلجٍ ... كبدرِ تم بالسنا مكتسي
من دوحةٍ ثابتةٍ غضةٍ ... والأصلُ منها طيبُ المغرسِ
تنمى إلى السبطَينِ مِنْ فاطمٍ ... أكرِم به من نسبٍ أقعسِ
يا ملكاً لو قابَلَ السعْد من ... غرته كيوان لم ينحسِ
إنْ يبسَ الدهْر عَلَى أهلِهِ ... أمّوا فِناءً منك لم ييبسِ
محسنُهُم تحسن في حقه ... وإن أساءوا لسْتَ ممنْ يُسِي
كنتَ لنا نجم حمى أفْقنا ... شهابُهُ من ماردٍ أشرس(2/463)
يا لَكُما مِنْ ملكَي كورةٍ ... قد كسياها أَفْخَرَ الملبسِ
يا لكما من فارسَيْ غارةٍ ... من خسياه في مغارٍ خُسِي
يا لكما من قائدَي عسكرٍ ... حديدهُ من نقعه مكتسِي
شمساً وبدراً ينفعان الورَى ... نورهما يجلو دُجَى الحندسِ
أبو نمي وابنُهُ أحمد ... ألقسوريُّ الخشنُ الملمسِ
زُفتْ له غيداءُ خرعوبةٌ ... عذراءُ لم تطمثْ ولم تمسسِ
ليهنِه هذا الزواجُ الذي ... أبهَجَهُ بالرشأ الألعسِ
لا زال في عيش لذيذٍ بها ... ودامَ من قَهْوتها محتسي
فاحفظْ علينا الأصْلَ والفرْعَ يا ... رب وحُط ملكهما واحرسِ
يا مَنْ به الشعْرُ سما ذروةً ... على دراري الفلكِ الأطلسِ
هاكَ قريضاً أنتَ أدرَى بما ... في سلكِهِ من جوهرِ أنفسِ
أمرتَنِي أنظمُ شعراً على ... " قُم عاطني الصهباءَ يا مُؤْنِسِي "
فقمْتُ مرتاحاً إلى نظمِهِ ... ولم أحلْ عنه ولم أخنسِ
فَحَب هَذا الأحسن الوَقْع من ... شِعْرِي لدى إصغائِكَ الأكيسِ
أو لا فعُذرى أنني عاجرٌ ... وفيكَ يوفي خبرة الكيسِ
أنمر مِنْ مدحِكَ حتى غدا ... طَلْقُ لساني فيه كالأخرسِ
أيُ فصيح فيك يرجو القَضا ... ولم يَعُدْ كالألكَنِ المبلسِ
فعشْ لنا دهراً ودُمْ للعلا ... والمدْح للراح وللأكؤسِ
ما دُمْت للإقبال رأساً وما ... دامَتْ مواطيك على الأرؤُسِ
وقال الشيخ عبد الرحمن باكثير: وقد اقترح عليه مولانا الشريف أبو نمي معارضة قصيدة الطيبي الخمرية التي مطلعها: من الخفيف:
بَرَزَتْ في الكئوسِ كالإبريز ... ......... ...
فعارضها على البحر والقافية والمعنى واستخلص في مدحه فقال، وذلك سنة 949 تسع وأربعين وتسعمائة: من الخفيف:
خَطَرَت في مثَقفٍ مهزوزِ ... كَمْ به من متيَّيم موكوزِ
ورنَتْ فانتضَتْ حساماً تحلَى ... جفنه من حلاوةِ التلويزِ
سِحْرُ هاروتهِ يخيل ماءً ... ولهيباً في خَدها الإبريزِي
وبتخييله تَبَلَّه قلبي ... في هواه وجُن عقلي الغريزي
ودموعي تَسَلسَلَت فشفائي ... باللقا لا بطلسم وحروزِ
أو بصهباء ريقها حينَ تجلى ... للندامَى بثغرها لا بكوزِ
أو بظلمِ يسقى زهور أقاحٍ ... نابت في وِشَاحها الفيروزي
أو بشهدٍ من الشفاه حلاه ... لم تَشُبْه مرارةُ التمزيزِ
أو بريق من الثنية يُطْفِي ... من حشا مهجتي لَظَى تموزِ
أو بإحداقها إذا ما أدارَتْ ... كاسَ غنجٍ من خمرةِ التغميزِ
أو بساجي لحاظها حين تُومِي ... لوصالي بخافياتِ الرموزِ
أو براح فيها ارتياح لروحي ... وشفاء لقلبي إلموخوزِ
آهِ لو ساعَدَ الشبابُ عليها ... والليالي وموجب التجويز
كُنْتُ دهقانَها الخبيرَ وكانَتْ ... فئة البسطِ في يديَ وحوزِي
غير أن الجواز عز ورأسي ... شابَ والدهْرُ مر قيزاً بقيزِ
فتحامَيْتُهاً وإن كان أمري ... باحتساها أَمْر المبيحِ المجيزِ
خمرة مدت الحباب شباكاً ... لاقتناصِ اللذاتِ وقتَ النهوزِ
هاتها لي تنفي الهمومَ وتوفي ... لي وعدَ السرورِ بالتنجيزِ(2/464)
هاتِها لي شَمساً مغيب سناها ... في فؤادي وبرجها قطرميزي
هاتها لي روحاً من النارِ حلَّتْ ... جِسمَ نور لظاه طب أزيزي
هاتها تعبدُ المجوسُ لظاها ... ليلةَ المهرجانِ والنيروزِ
هاتها ذوب عسجدِ في لُجَيْنٍ ... ظفرَت منه راحتي بالكنوزِ
هاتها قد غَنِيتُ مذ صار خمري ... من نضارٍ أكتاله بالقفيزِ
هاتها لي قد ضاعَ تمييزُ عقلي ... منذ هَمَت من كاسها بالبروزِ
هاتها لي أدورُ في لَيْلِ سُكري ... بسراجٍ منها على تمييزِي
هاتها فالتهابُها بند جيشِ ... من صدا القلب هَمَّ بالتبريزِ
هاتها لي فلو بَدَتْ جنحَ ليلٍ ... خرقَت أفقَ أدَمِهِ المخروزِ
هاتها لي صفراءَ في جامِ تبرِ ... تتهادَى في حُلةٍ هرموزِ
هاتها لي عروسَ دَن تجلت ... من لآلي حبابِها في حروزِ
هاتها لي كالشمْسِ تجلى بكاسٍ ... كضياءِ النهارِ من غيرِ ميزِ
هاتها لي تروي عظامِي وتسقِي ... من حشايَ نبات أرضٍ جروز
هاتها لي من لام فيها إذا ما ... صَدَحَ الديكُ فهو في توزيزِ
هاتها لي فالعيش عصرُ شراب ... أو شباب يفنى بشمطا عجوزِ
هاتها لي فالعمر من غيرِ راحِ ... أو رداح يمرُ بالتجليزِ
هاتها لي فلَثمُ در حباب ... أو حبيب يغني عن التعويزِ
هاتها لي صرفاً ومزجاً بظلمٍ ... بين دُر وسط اللمى مغروزِ
هاتها لي فليسَ بين نداما ... ى وحُورِ الجنانِ من تمييزِ
هاتها لي فإنني بين بدرِ ... وكثيب وأسمَر مهزوزِ
هاتها لي فإن عندي هلالاً ... فوق غصنٍ على نقا مغروزِ
هاتها لي فمجلسي فيه رُما ... نُ نهودٍ حَلَونَ من تمزيزِ
هاتها كم لَديَ من حُق نهدٍ ... تحتَ مسمارِ عنبرٍ ملزوزِ
هاتها لي ولو كبرتُ وأحنَت ... قوسَ ظهري شيخوخة التعكيزِ
هاتها لي ولو هرمتُ وأوهَى ... حمل كاسى يدي من تعجيزِ
هاتها لي ولو وهَت قوة الشَر ... بِ فحسبي من كاسها تمزيزِي
هاتها لي ولو تدانى حِمَامي ... وتداعَى صحبى إلى تجهيزِي
هاتها لي فمخلصي مِن خطاها ... في معادي مدح المليكِ العزيزِ
ذي المعالي أبى نُمَي تعالَى ... عن بسيطٍ من الثنا ووجيزِ
ملكٌ فاق ملكُهُ ملكَ سابو ... رَ وكسرَى وقيصرٍ وابرويزِ
ملك لا يزالُ كف الثريا ... من معاليه آخذاً بالغروزِ
ملكٌ قد أبانَ للمجدِ معنى ... كان لولا علاهُ كالملغوزِ
ملك قالتِ السما لعُلاَه ... قد خفضتي فبي قفي أو فجوزِي
ملكٌ قال دهره لليالي ... ذا مليكٌ بمثلِهِ لن تفوزِي
هو تاجَ لمفرقِي وطراز ... منه عِطفي قد زِينَ بالتطريزِ
نبوي الأنوارِ نورُ مُحَيا ... ه ُيزيحَ الظلامَ من تبريزِ
نشرَت فوقه النبوة بنداً ... خافقاً بالتكريمِ والتعزيزِ
لا يسامي ولا يُطَاول عُلاهُ ... غَيرُ فدمِ بغيه منبوزِ
هو يبدو في خلعةِ الملكِ سام ... والمسامي في بِذلَةِ الملموزِ
فخرُ كل الملوكِ منه وكل ... خص منه بمفخر مفروزِ
يبهر العقلَ فهو في التختِ بدر ... وهو ليثٌ في لاذِهِ المدروزِ(2/465)
صار فولاذُهُ أخف وأحلَى ... فوقه مِنْ موشياتِ الخزوزِ
ترجفُ البيضُ منه والدهرُ يمسي ... فزعاً من سطاهُ في تفزيزِ
مستجيراً به وإن رام فعلاً ... في البرايا فمنْهُ كالمستجيزِ
بالتجاريبِ والظبا والعطايا ... منفدُ الدهرِ والعدا والركيزِ
تضحكُ البيضُ حين تنظر قوسي ... حاجبَيْهِ بالغيظِ في تكييزِ
وإذا ما استهل تبكي من الما ... لِ عيون من عسجدِ مكنوزِ
في العطا والسطا وفي العَدْلِ والفض ... لِ وعَمْرو وما ابن عبد العزيزِ؟!
ولدَى حلمه وآرا نهَاه ... ما ابنُ قيسٍ وما نُهَى فَيْروزِ؟!
ملأَ الأرضَ عدلُهُ فالرعايا ... لو تديمُ السرى إلى شهروزِ
هم مِنَ العدلِ في محل حصينٍ ... ومن الأمنِ في مكانٍ حريزِ
أمنوا في زمانِهِ الظلمَ حتى ... أصبَحَ الذيبُ راعياً للمعيزِ
فاطمي يرد صرْفَ الليالي ... عزمُهُ لو بفيلقٍ منه غوزي
ويفل الخميس والأسد فيه ... كنجوم السماءِ أو رمل قوزِ
أرعف السمر بالدما فلهذا ... نحلَتْ من نزيفها بالنزيز
للطلا والكلا انتْشَار ونظْمْ ... بظباه ولَدْنِهِ المهزوزِ
مِنْ سطا الدهرِ فهو أوفى مجيرٍ ... ولوفْدِ الثناءِ أوفى مجيزِ
من يقسه بالسحبِ يخطي ويغدو ... ساخراً بالسحابِ في تطنيزِ
هي تعطي ماءً وتبكِي وهذا ... في ابتسامٍ يجود بالإبريزِ
خدمَتْهُ العلياءُ طوعاً وظلت ... في إباءٍ لغيرِهِ ونشوزِ
كيفَ يوفي الثناءَ فيه قريض ... بعَروضٍ مقطعِ محزوزِ
والكتابُ العزيزُ أثنَى عليه ... بثناءٍ يعلو عن الأرجوزِ
وله المصطفَى دعا بدعاءٍ ... أمنتْهُ أُسْكُفَّةُ الإفريزِ
فعلى الخَلْقِ سعده لو تجزا ... لم تجدْ غير مسعد معزوزِ
يا مليكاً قد جلَّ ذاتاً وقدراً ... عن صريحِ الثناءِ والمرموزِ
في مراضيكَ قد سعى الدهرُ طوعا ... لك منه من غَيْرِ ما تكزيزًِ
والتشاريف وُرْقُهاً بالتهاني ... لك تَشْدو في نغمةِ النيروزِ
وبتخليدِ ملكِكَ الفلكُ الدا ... ئر يَجْرِي في قُطبِهِ المركوزِ
فَارْقَ فَرْقَ العليا وهاك قريضاً ... ألبَسَ الغيرَ حُلَةَ التعجيزِ
واستحق التصدير في المجد فاعجب ... لاجتماعِ التصديرِ والتعجيزِ
فعله في العقولِ فعلُ الحميا ... وتعالى عن حرمةِ التحجيزِ
من يفته سُكْرُ الطلا يلقَ فيه ... شكْر من لا بإهنة الحَد جوزي
ختمه المسك بالصلاة على مَنْ ... خص في فتحِهِ بنصير عزيزِ
ولمولانا الشريف أبي نمي نفسه معارضاً قصيدة التلعفري التي مطلعها: من الكامل:
سَمَحَتْ بإرسالِ الدموعِ محاجري ... ............
فقال طاب ثراه: من الكامل:
نَامَ الخلىُ فَمَنْ لجفني الساهرِ ... إذْ باتَ سلطانُ الغرامِ مُسَامِرِي
جَفَتِ المضاجعُ جانبيَ كأنما ... شوكُ القتادِ على الفراشِ مباشِرِي
وتأججَتْ نارُ الغرامِ وأضرمَتْ ... بين الجوانحِ في مكن سرائرِي
وشجيتُ من ألم الفراقِ وخانني ... صَبرِى الوفئ على الخطوبِ وناصِرِي
أُفٍّ على الدنيا فما مِنْ معشرٍ ... إلا وأودَتْهُم بخطبٍ قاهرِ
فى كل يومٍ للنوائبِ غارة ... أيدي النوائبِ هن أغدرُ غادرِ(2/466)
خلَتِ المنازلُ من أُهَيْلِ مودتي ... وهُمُ هُمُ في الحي قرة ناظرِي
أهلُ الصفا بين الصفا وطويلعٍ ... ملقى جياد وفيض أشعب عامرِ
يا أهل ودي لو تروني بعدكُمْ ... كغريبِ قومٍ بين أهلي حائرِ
كانوا فبانوا ثُم بان تجلدي ... ومصيرهم لا بُد منه لصائِرِ
من بَعْد جيرانِ الصفا أهلِ الوفا ... سمحَتْ بإرسالِ الدموعِ محاجري
وقال العلامة باكثير أيضاً يمدحه، ويمدح أولاده الشريف حسن، والسيد ثقبة، والسيد بركات، والسيد راجح، والسيد بشير - رحمهم الله أجمعين - : من الخفيف:
أعيون رَنَوا بها أم صفاحُ؟! ... وقدود ماسُوا بها أم رماحُ؟!
وثغورْ تلألأتْ أم بروقٌ؟! ... وثنايا تبسمَتْ أم أقاح؟!
وبدور تضيء في جنحِ ليل ... أم شعورٌ فيها وجوهٌ صباحُ؟!
وعيون جفوفهن سيوف ... أم لحاظْ أحداقها أقداحُ؟!
وظباء حلُوا الغضا وأشبوا ... نارَهُ في جوانحي أم ملاحُ؟!
ومهاة منهن قد فوقَت لي ... سهم قَوسِ من حاجبِ أم رداحُ؟!
غادة عذبةُ المراشفِ لميا ... في لماها شهد مذاب وراحُ
لي ببردِ الرضابِ منها اغتباق ... وبظلمِ الشنيب منها اصطباحُ
صاحِ مالي إلا أبل أجاجاً ... من دموعي والثغرُ عذب قراحُ
طفلة لحظها يتيحُ المنايا ... حينَ ترنو به عيونَ وقاحُ
مدنفات تكسو المحب سقاماً ... فاتكات فهن كسرى صحاحُ
في رديني قدها ولحاظَي ... مقلتَيها السيوفُ والأرماحُ
حكَتِ الغصنَ والمتيم منها ... شابه الورق شجوه والنواحُ
وهو في حبها الأمينُ ولكن ... خانه فيه طرفُها السفاحُ
وأبو طالبِ الوصال فؤادي ... قد كواه من هجرها الضحضَاحُ
إن تفض مقلتي دماً لا عجيب ... فحشايَ لقَد ملاه الجراحُ
عاذلي اقصِر فلق يضركَ غي ... كان مني ولم يفدكَ صلاحُ
لذ فيها ذُلى فعندي سواءً ... في هواها الإفسادُ والإصلاحُ
إن تثنت تريكَ غصناً وحقفاً ... ومساءً من تحته الإصباحُ
ردفُها قال للكثيبِ تأخر ... لستَ وَزني فلي عليكَ الرجاحُ
مسندات لنا اعتدالاً وجوراً ... عن قنا قَدها العوالي الصحاح
قد قَسَت مهجةً ورقت خدوداً ... كاد من لحظنا عليها انجراحُ
يعتريها الحيا فتخجَلُ لكن ... جَفنها يعتريه منه انفتاحُ
يا لها من عقيلةٍ دون مرمَى ... خدرِها كم غدَت وما تستباحُ
طلبَت زورتي اختفاءً لئلا ... يعتريها من الوشاةِ افتضاحُ
كيفَ تُخفي زيارتي وهي شمس ... والليالي ضياؤُها فضاحُ
من محيا أبي نمي أضاءَت ... فهو بدر وكوكب وصباحُ
ملك جوهرُ الرسالةِ تاج ... لعلاه وللفخارِ وِشاحُ
قد تحلى به وَزَانَ حُلاَهُ ... إتزازً بفخره واتشاحُ
وَبَنى في مفارقِ الملكِ داراً ... طابَ فيها غدوهُ والرواحُ
حل فيها مراتباً ما لفكرٍ ... لتمني إدراكهن طماحُ
خدمته العلياءُ طوعاً وأمسَت ... ولها عن سوى علاهُ جماحُ
وله همةٌ يضيقُ بها الده ... رُ وفي صَدرِهِ لديها انفساحُ
لعلاها تعنو الدراريْ ولكن ... حاسداها العواءُ والنطَاحُ
راحتاه للصيدِ منها ارتياعٌ ... مثل ما للعفاةِ منها امتياحُ
إن يجد فالمَهَامِهُ الفيح بحرٌ ... أو يجلْ فالشمامُ بيدْ فِسَاحُ
حين يحمى الوطيس والبيضُ تهمي ... بالمنايا وتسلبُ الأرواحُ
وسعيرُ الوغَى يشب جلاداً ... لزنادِ المنونِ منه اقتداحُ(2/467)
وأسودُ الشرا يطافُ عليهم ... كاس حَينٍ مزاجُها الأتراحُ
ووجوه الكماةِ والشوس فيه ... قد عراها مِنَ النزالِ كلاحُ
يرد الحرب وهو طَلقُ المحيا ... ثابتُ الجأشِ بَاسِمْ مِفْرَاحُ
ويبيدُ الجيوش والأسد فيه ... زمرٌ دون عدهنَّ البطاحُ
وإذا ما وهى من الدهرِ خطبٌ ... أو مُلِمٌّ من صَرفِهِ فَدَّاحُ
لم يزل دجنه ويجلوه إلا ... رأيه فهو ثاقبٌ قداحُ
ما ذوو الشور فيه إلا ظباه ... وقناه فَهُم له نصاحُ
ألمعيُّ يكادُ بالحدسِ يدري ... ما به قد جَرَى القضاءُ المتاحُ
طوَّقَ الخَلقَ بالعطا فثناه ... لا لسانٌ إلا به صَدَّاحُ
ونداه في الخافِقَينِ يلبي ... صوت من شفَّه عَنا واجتياحُ
آيةٌ موسويَّة في يدَيهِ ... للمعالي فيها هُدىً واتضاحُ
فهي طوراً فيها زلالٌ هني ... وهي طوراً فيها سِمَام صُراحُ
ذاتُ ظهرٍ للاستلامِ وبطنٍ ... فيه للرزق والغنَى مفتاحُ
وسجاياه للزمانِ طرازٌ ... نَضدَتهُ بدرِّها المداحُ
علمتهم مديحه حينَ ضَلَّت ... في علاه الأفكارُ والأمداحُ
يا مليكاً علَت حلاه فجلَّتْ ... عن قريضٍ فيه ثنا وامتداحُ
أظهر الملك من بنيك ملوك ... هم مصابيحُ أُفقِهِ حيث لاحوا
بل تراهم ضراغماً أبرزتهُم ... غابة المُلك إذ ألَّم الكفاحُ
فإذا ما انتضيتُمُ لضراب ... أثخنوه فَهُم لديك صفاحُ
وإذا ما فوقتَهم فسهامٌ ... صائبات لمَّا تطيش القداحُ
وإذا ما هززتَهُم لطعان ... جوَّدوه فهم يقيناً رماحُ
سِيما من غزا وجاءَ بنصرٍ ... بالهنا فيه عمت الأفراحُ
حسن من به الممالك تزهو ... ولكل منها إليه ارتياح
فبه روضُهُن يثمرُ عدلاً ... ودُجَى الظلمِ من سماها يزاح
ملك إن غزا ملا الأرضَ جيشاً ... وإذا ما سخا ملاها السماح
زاد تشريف مَكة حين أمسَى ... وَهوَ فيها مليكُها الجحجاحُ
وكذا طيبةُ الشريفةُ زادَت ... منه طيباً فعرفها فَياحُ
رُب عزمٍ يصيرُ الماء جمراً ... يستعيرُ المضاءَ منه السلاحُ
فالقلاعُ المحصناتُ الرواسي ... ما لها غَيرَ عزمه فتاحُ
بالخميس الذي تميد الأراضي ... منه يفنيه عضبُهُ البضاحُ
فإذا العادياتُ هيجن نقعاً ... وملا الجحفَلينِ منه الصياحُ
وأدارَت يد الهياجِ كئوساً ... ليس فيها إلا المنية راحُ
فتراه ثَبتَ الجنانِ قوياً ... جأشه معلماً عراه انشراحُ
وترى القَومَ منه إما قتيل ... أو صريع قد أثخنته الجراحُ
مذ أحست بغزوه القوم آبوا ... ولكل من رعبه ذبَّاحُ
واستذلُوا وأذعنوا وأطاعوا ... ورأَوا أن قتلهم يستباحُ
وآتوا خِيفةً وإلا لكانوا ... جيفةً ما ترَى لهم أشباحُ
ولأمسَت حصونُهُم دارساتٍ ... دِمَناً قد سَفَت عليها الرياحُ
ولأضحَوا قوتاً لكل الضواري ... للذي منسر له أو جناحُ
ولسالَت منها الدماء بحوراً ... لمذاكيه كان فيها سباحُ
لكنِ العفوُ منه مذ كان طَبعٌ ... وله الصفحُ شرعةٌ وصلاحُ
فعفا رافعاً يد القتلِ عنهُم ... وله الخيلُ والظبا واللقاحُ
فهنيئاً له بنصرٍ وفتحٍ ... ما له في الحروبِ عنه براحُ
لم يزل مالكاً له أنتَ ظهر ... وله صنوه الكريمُ جناحُ
ذو المعالي أبو شهاب المرجى ... من لدى جودهِ الغيوثُ شحاحُ(2/468)
ثقبةُ الملك والندا من علاه ... لا يداني وماله مستباح
لم يزل في معارجِ المَجدِ يرقَى ... ما لمجدٍ عن راحَتيهِ براحُ
روضةُ المكرماتِ منه رباها ... مزهر وَهوَ قبله صَوّاحُ
رَأس أهلِ العطا فكعب الأيادي ... دونه ما عَلَيَ في ذا جناح
أَقسمَ الجود أن تبرّ نداه ... لم يزل وهو هاطل سحاحُ
قد روى عنه نافع ويسار ... وعطاء وواصل ورباحُ
ثَبتَهُم عند ما تُثِيرُ المذاكي ... عثيراً ممكناً عليه المراح
والمنايا مِنَ الأسنةِ ترنو ... ولها ضيغَم الوغَى لماحُ
يلجُ المعركَ المؤجَج طعناً ... من لظى الموتِ جمره لفاحُ
ويبيد الجيوشَ منه بعضب ... فوق غربيه للنفوسِ انسياحُ
لم يضارعهُ في معالِيهِ إلا ... غرةُ العترةِ الصميمُ الصراحُ
بركات إنسان عَين المعالي ... من لقاه للآملين نجاحُ
قد تفَيا روضَى معال ومجدٍ ... وأظلَتهُ منهما أدواحُ
كفه للعفاةِ بحرٌ خضم ... ليس فيه وليسَ منه انتزاحُ
ضيغَم عندما المهند يغدو ... وهو للسفكِ سائل ملحاحُ
وصليلُ السيوفِ والسمرِ تشدو ... في مغارٍ قد طال منه الصياحُ
يتلقى الهيجا بغرةِ وجهِ ... زاد منها وقتَ الهياجِ اتضاحُ
ويخوضُ الوغَى فترضى المذاكي ... عنه والمرهفاتُ والأرماحُ
والهزبرانِ راجح وبشير ... في محياهما الهدَى والفلاحُ
فهما ضيغما نزالٍ وبَحراً ... كرم فيهما السطا والسما
من شذا المصطفَى وريحانَتَيهِ ... طِيبُ ريا ثناهما النفاحُ
فابق والملك بدره في علاكُم ... كامل النور ما أضاء الصباحُ
وهناء ثانٍ بصومِكَ مَع ما ... كان فيه فَهوَ الحلالُ المباحُ
فعلى أجزَلِ الأجورِ صيام ... وعلى أجملِ السرورِ نكاحُ
ولعلياك عَبدُ بابك يُنهِي ... خبراً ذكره لديكُمْ يباح
لرجائي على معاليكَ وعد ... عند ذكراه مطمعي يرتاحُ
لك فَهْمُ وليس يطلبُ مني ... يا إياسَ الذكا له إيضاحُ
فارقَ فَرْقَ العلا وهاكَ قريضاً ... سبكَت تبره القوافي الفصاحُ
فأعرهُ طرفاً ليشرفَ منه ... لفظُ مبناه والمعاني الصحاحُ
بشذا المسكِ من ذكِيِّ صلاتي ... طابَ منه خَتمٌ وطابَ افتتاحُ
فأما الحسن بن أبي نمي بن بركات فكان خليفة الحرمين، شريف الطرفين، أمه الشريفة الحسيبة، السيدة النسيبة فاطمة بنت بساط.
حملت به أمه عام وفاة جده بركات بن محمد في عام أحد وثلاثين وتسعمائة.
قال الإمام عبد القادر الطبري في نشآت السلافة: ولقد أخبرني الشريف حسن رحمه الله تعالى شفاهاً أن والدته حضرت حنوط جده الشريف بركات وهي حامل به فأثر فيها عرف الكافور، وما زالت تلقى الدم حتى خشي على ما في جوفها من الحمل، إلى أن كان شهر ربيع من عام اثنين وثلاثين وتسعمائة، أخذها ما يأخذ النساء من الطلق، فولدته بعد اليأس، وذهب بظهوره عن الناس كل بأس.
فلا شك أنه كان محفوظاً بالعناية الصمدانية حيث سبق في علم الله تعالى جعله خليفة في الأرض، مالك الطول منها والعرض.
مصلحة منه للعباد عامة، ونعمة عظيمة تامة، ينشر على العالم لواء عدله، ويسبغ عليهم جلباب كرمه وفضله، ويحيى مآثر جده المصطفى، ويذكر بأقضيته ما اندرس من أخبار عدول الخلفا، ويظهر سر حكمته، وخفي قدرته، في افتتاح هذا الدين لأقوم، بمحمد صلى الله عليه وسلم، وختمه بأهل بيته المخصوصين من بين الناس، بتولي الله تعالى تطهيرهم من الأرجاس.
وما زال - رحمه الله تعالى - صاعداً في نيرى المعالي، صادعاً قلوب أعدائه بالصعدات العوالي، لائحة عليه مخايل السعادة وهو في مهوده، طالعة من أفق سيادة كواكب مجده وسعوده.(2/469)
متلمحاً فيه خصال الغر الصيد، مترقباً منه أن يكون في البسالة صاد الصناديد.
فما برح وهو في حجر والده مؤدياً له الحقوق، رافعاً أخمصه الشريفة على هام العيوق، باذلاً له الطاعة، ساعياً في مرضاته بحسب الاستطاعة، ممتثلاً ما يصدر من الأوامر المطاعة، إلى أن لبس أخوه أحمد خلعة الإيالة والإمارة.
فلبس سيدنا الخلعة الثانية لتكوق على ولاية العهد بعد أخيه أمارة.
فاستمر كذلك حتى توفي أخوه الشريف أحمد، فرفلت إليه الخلافة في جلبابها الضافي، وأورده الملك الباذخ موارد منهلها الصافي، بسعي أبيه المرحوم الشريف أبي نمي في عام 961 إحدى وستين وتسعمائة، فلبس الخلعة الأولى، فكان بها أولى.
فلم يزل مشاركاً لوالده أبي نمي في الأمر يدعي له معه على رؤوس المنابر، والتوقيعات السلطانية العثمانية إنما ترد باسمه، والتشاريف الخنكارية إنما تصل برسمه.
ولما كان يوم الخميس الثامن من جمادى الأولى سنة أربع وسبعين وتسعمائة ورد الخبر إلى مكة المشرفة بوفاة مولانا السلطان سليمان خان، وكان الواصل به سمندر جاشنكير السلطان سليم والده أرسل إلى بلاد اليمن لإعلام مراد باشا صاحب تعز والتهائم وإلى رضوان باشا صاحب صنعا والجبال، وكان لليمن إذ ذاك باشتان.
وهذا الانشقاق هو سبب العصيان والشقاق بأرض اليمن بعد أن كان لا يحكمها إلا باشا واحد من حين فتحها، ولكن كذا قدر.
فوصل سمندر المذكور، واجتمع بالأمير الدفتردار إبراهيم المأمور بعمارة عين عرفة، فأخبر بموت مولانا السلطان، فطلب إبراهيم الأمير قاسم بك نائب جدة، وأمين عمارة المدارس السلطانية السليمانية، واتفقا على الإرسال للقائد محمد بن عقبة حاكم مولانا الشريف حسن بمكة، ليخبروه بذلك، فأرسلا إليه فوصل فأخبراه، فأرسل القائد من وقته مورقاً إلى مولانا الشريف حسن، وكان بالخلصية، وأرسل الآغا محمد بن يونس باش الترك عسكر مولانا الشريف حسن مورقاً آخر، فوصل المورقان إلى الخلصية يوم الجمعة، فركب مولانا الشريف حسن، وتوجه إلى مكة، وكان الأمير إبراهيم والأمير قاسم أرسلا مورقاً إلى القاضي الحسين المالكي وكان بجدة، فركب ووصل إلى مكة يوم الجمعة، واتفقت الآراء أن يخطب الخطيب باسم السلطان سليم ابن المرحوم السلطان سليمان خان، وكانت نوبة السيد أبي حامد النجاري، فأمروه أن يذكر في الخطبة هذه الألقاب: " اللهم وجدد نصرة الإسلام والمسلمين، وشيد قوائم أركان الدين المتين، ببقاء من جددت به أمر الخلافة العظمى، وشرفت بمقدمه تخت السلطنة والملك الأسمى، واخترته خير خلف عن خير سلف، وعوضت به خير عوض عمن درج إلى رحمة الله تعالى وسلف، وآتيته ما لم تؤت كثيراً من العالمين، ومكنته من سرير السلطنة والخلافة أعظم تمكين، وأورثته الخلافة الكبرى كابراً عن كابر، وملكته الإمامة العظمى والسلطان الباهر، وأنرت ببراهينه من مشكاة السعادة سراجاً وهاجاً، وفتحت به للرعية أبواب الأمن والإيمان فطفق الناس يدخلون في دين الله أفواجا.
السلطان الأعظم، والخاقان الأكبر الأفخم، مولى ملوك العرب والعجم، مستخدم أرباب السيف والقلم، ملك البرين والبحرين، سلطان المشرقين والمغربين، خاقان الخافقين والجديدين، خادم الحرمين الشريفين، السلطان ابن السلطان ابن السلطان، السلطان سليم خان، ابن عبدك وفقيرك المندرج إلى رحمتك بقضائك وتقديرك، سلطان سلاطين الزمان، خاقان خواقين الدوران، الفائق بعدله عدل كسرى أنوشروان، المنقاد إلى شرعك الشريف، الممتثل لأوامرك النافذة ودينك الحق المنيف، الواقف عند مراد الله فلا يتعداه، العامل في جميع أموره بتقوى الله، مراعي العمل والإحسان فيمن استرعاه، المجاهد المرابط في سبيل الله، الغازي الذي استوعب عمره في الجهاد كآبائه الغر الغزاة، الذي خرج من بيته مهاجراً، فأدركه الأجل المحتوم، واصطفاه الله إليه وتوفاه.(2/470)
الداخل في زمرة من أنزل الله في شأنهم بثوابه لهم ورضاه " وَمَن يخرُج مِن بيتِه مهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسوله ثمَ يدٌركهُ اَلموتُ فَقَد وقع أجره على الله " النساء: 100 المرحوم برحمة الله الملك الرحمن، السلطان سليمان خان، أنزل الله عليه شآبيب الرحمة والغفران، وقدس روحه الشريفة وحفه بالروح والريحان، وجعل الملك كلمة باقية في نجله السعيد، وعقبه المديد إلى يوم القيامة، وأعد له ولآبائه الكرام ما يليق بكرمه من أنواع العز والكرامة، يا رب العالمين " .
ثم وصل مولانا الشريف حسن في يوم الاثنين هو وأولاده وبعض إخوته والأشراف ذوي محمد، وسلم الناس عليه، ثم أمر بالنداء على المآذن بالصلاة جامعة في غد على السلطان سليمان، فلما كان صبح يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى حضر مولانا الشريف حسن ومعه السادة الأشراف، وجميع الفقهاء الأعيان، وامتلأ المسجد بالناس، وجلس الشريف حسن بمصلاه إلى أن طلعت الشمس، فوصل إليه الأمير إبراهيم الدفتردار، والأمير قاسم نائب جدة وسمندر جاشنكير فقام لهم، وجلسوا كلهم عن يمينه، ثم حضر الأفندي وجلسوا عن يمين الشريف فوق الأميرين والجاشنكير، وكان على يسار الشريف أخوه مولانا السيد بشير وتحته القاضي الحسين المالكي، فبعد ارتفاع الشمس قدر رمح، قاموا وتوجهوا إلى الكعبة الشريفة، ووقفوا عند الباب الشريف، فأثار مولانا الشريف حسن إلى مولانا القاضي الحسين أن يتقدم لصلاة الغائب، ونادى الريس من أعلى زمزم بهذه الخطبة وهي الصلاة على الميت الغائب العبد الفقير إلى الله، المجاهد في سبيل الله، المرابط لإعلاء كلمة الله، الذي خرج من بيته مهاجراً إلى الله، المستوعب جميع عمره في قتال أعداء الله، القائم بنفسه وماله وجنوده لنصرة دين الله، الواقف عند مراد ربه فلا يتعداه، المراعي للعمل والإحسان فيمن ولي عليه واسترعاه، المعظم لشعائر بلد الله الحرام، المؤيد لآل النبي عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.
المتخذ ودهم ذخيرة عند الله تعالى في العقبى، عملأ بقوله تعالى: " قُل لا أسألكم عليهِ أجراً إلا المودة في القربى " الشورى:23 القامع لأعداء بيت النبوة والرسالة، والمفيضى على الحرمين الشريفين مكارمه وأفضاله، السلطان الأعظم سليمان خان، أنزل الله على شآبيب الرحمة والغفران، وجعل قبره الشريف روضة من رياض الجنان، وحف تربته الشريفة بالروح والريحان.
ثم بعد الفراخ من الصلاة توجهوا أجمعين إلى مصلى الشريف عند باب الحزورة فقسمت الربعات، ثم دعا لمولانا السلطان سليمان، وأهدى ثواب ذلك إليه، ثم دعا لمولانا السلطان سليم، فعلوا ذلك ثلاثة أيام، ثم ختموا يوم الخميس منتصف الشهر المذكور.
وكان خروج مولانا السلطان سليمان لهذه الغزوة التي توفي فيها حادي عشري ذي القعدة الحرام من سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة رحمه الله تعالى.
واستمر مولانا الشريف حسن إلى أن انتقل والده الشريف أبو نمي إلى رحمة الله تعالى في أول عام اثنين وتسعين وتسعمائة، فاستقل بالملك وأعبائه، وشد أزره بالتدبير من سائر جهاته وأنحائه، واستخدم الحزم في شدائد الأمور الشاسعة، وسك في محجته الطريق الواضحة الواسعة، فصير ولاية الحرمين خلافة، ومهد القواعد السلطانية والقوانين الحسنية بدون مخافة، وجلس على سرير الملك جلوس متمكن، وبذل الهمة في إصلاح الرعايا بكل وجه ممكن، واستصحب الإقدام في صعائب الأمور، وثبت الأقدام في المواقف التي تهب له بالقبول ولأعدائه بالدبور.
وظهر به شأن أهل بيت النبوة من الشجاعة والقوة.
وأذكر بما أبداه من شريف المناقب، أحوال جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
وله الاراء السديدة والغزوات العديدة، في المواطن القريبة والبعيدة، يساعده فيها السيف والقدر، ويخدمه الفتح والظفر، طالما كشف بغزواته كل غمة، وأوضح من الخطب كل واقعة مدلهمة، ووطئ بحوافر خيله سباسب تضل فيها الخطا، وأودية لا يهتدي إليها القطا.
كم فتح بعزمه حصناً صعب المرقى، واقتحم بخيله ذروة لا يصل إليها نظر الزرقا، يتصرف في السعد كأنه عبد بابه، ويتأمر في الظفر كأنه لازم ركابه.
وله السرايا الكثيرة، وهي عن التفصيل غنية شهيرة. لم يؤمر فيها إلا أولاده النجباء، وقل ما أمر غيرهم من الأقرباء.(2/471)