فقَال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في رواية البخاري: من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الاكوع، قال: يرحمه الله، قال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به... الحديث 21.
وفي رواية أحمد: فجعل عامر يرتجز ويسوقُ الركابَ، وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل في السير، ينزل بعضهم فيسوقها ويحدو في تلك الحال. وقوله: " اللهم لولا أنت ما اهتدينا " كذا الرواية، قالوا: وصوابه في الوزن لاهم، أو تَالله، كما في الحديث الآخر.
وقوله: " فداء لك " قال المازني: هذه اللفظة مشكلة؛ فإنه لا يقال للباري سبحانه: فديتك؛ لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه يتوقع حلوله بالشخص؛ فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه.
قال: ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه؛ كما يقال: قاتله الله، ولا يريد بذلك حقيقة الدعاء عليه، وكقوله - عليه الصلاة والسلام - : تربتْ يداك، وتربت يمينُكَ. وفيه كله ضرب من الاستعارة؛ لأن المفادِيَ مبالغ في طلب رضا المفادَى حين بذل نفسه عن نفسه للمكروه؛ فكأن مراد الشاعر: إني أبذل نفسي في رضاك. وعلى كل حالٍ فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة - فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز فيه يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه.
قال: وقد يكون المراد بقوله: " فداء لكَ " رجلاً يخاطبه، وفصل بين الكلام بذلك، ثم عاد إلى تمام الأول، فقال: ما أبقينا.
قال: وهذا تأويل يصحُ معه اللفظ والمعنى، لولا أن فيه تعسفاً اضطررنا إليه لتصحيح الكلام. انتهى.
فقيل: إنه يخاطب بهذا الشعر النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى لا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقك ونصرك؛ وعلى هذا فقوله: " اللهم " لم يقصد بها الدعاء، وإنما افتتح بها الكلام، والمخاطب بقول الشاعر: " لولاً أنت " النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يعكرُ عليه بعد ذلك:
فَأنزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وثَبتِ الأقدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
فإنه دعاء لله تعالى، ويحتمل أن يكون: فاسأل ربك أن ينزل ويثبت، والله أعلم.
وقوله: " إذا صيح بنا أتينا " أي: إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكاره، وفي رواية: " أبينا " بالموحدة بدل المثناة، أي: أبينا الفرار.
وقوله: " وبالصياح عولوا علينا " أي: استغاثوا بنا، واستفزعونا للقتال، وقيل: هو من التعويل على الشيء، وهو الاعتماد عليه، وقيل: هو من العويل، وهو الصوت.
وقوله: " من هذا السائق؟ قالوا: عامر، قال: يرحمه الله، قال رجل من القوم: وجبَت " أي: ثبتت له الشهادة، وستقع قريباً، وكان معلوماً عندهم أن من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء في هذا الموطن استشهدَ، فقالوا: هلاً أمتعتنا به؟ أي: وددنا أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت اخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته مدة.
وفي البخاري من حديث أنس: أنه صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلاً، وكان إذا أتى قوماً بليل لم يغزهم حتى يصبح، فلما أصبح، خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد، والله محمد والخميسُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خربت خيبرُ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المننَرِينَ. وفي رواية: " فرفع يده، وقال: الله أكبر، خربت خيبر " . والخميس: الجيش، سمى به، لأنه مقسوم بخمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب، ومحمد: خبر مبتدأ، أي: هذا محمد.
قال السهيلي: ويؤخذ من هذا الحديث التفاؤُلُ؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - لما رأى آلة الهدم، تفاءل أن مدينتهم ستخرب. انتهى.
ويحتمل كما قاله في فتح الباري: أن يكون قال: خربت خيبر بطريق الوحي؛ ويؤيده قوله بعد ذلك: " إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذَرين. وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح قريباً من خيبر بغلس، ثم قال: اللّه أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين " .
وقال مغلطاي وغيره: وفرق - عليه الصلاة والسلام - الرايات، ولم تكنِ الراياتُ إلا بخيبر، وإنما كانت الألوية.
وقال الدمياطي: وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من برد لعائشة.(1/324)
وفي البخاري وكان علي بن أبي طالب تخلَفَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رمداً فلحق، فلما بتنا الليلة، قال: " لأعطين الراية غداً - أو ليأخذن الراية غداً - رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه " . فلما أصبح الناس، غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، فأرسل إليه، فأتى به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكق به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: " اتئذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم... " الحديث.
ولما أن تصاف القوم، كان سيف عامر قصيراً، فتناول ساق يهودي ليضربه، فرجع ذباب سيفه، فأصاب عين ركبة عامر، فمات منه، فلما قفلوا، قال سلمة: قلت: يا رسول الله، فداك أبي وأمي، زعموا أن عامراً حبطَ عمله عليه، قال صلى الله عليه وسلم: " كذب من قال، وإن له أجرين - وجمع بين إصبعيه - إنه لجاهد مجاهد " . رواه البخاري أيضاً.
وعن يزيد بن أبي عبيدة قال: رأيت ضربة بساق سلمة، فقلت: ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابنيها يوم خيبر، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فنفث فيها ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتى الساعة. أخرجه البخاري.
وعنده - أيضاً - عن أبي هريرة: شهدنا خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعِي الإسلام: " هذا من أهل النار " ، فلما حضر القتال، قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت فيه الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب، فوجد الرجل ألم الجراحة، فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخوج منها سهماً، فنحر نفسه، فاشتد رجال من المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، صدَّقَ الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه، فقال: " قُم يا فلان فأذن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " .
وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة " .
وقاتل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، وقاتلوه أشد القتال، واستشهد من المسلمين خمسة عشر، وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون، وفتحها الله عليه حصناً حصناً، وهي النطاة، وحصن الصعب، وحصن ناعم، وحصن قلعة الزبير، والشق، وحصن أبي، وحصن البراء، والقموص، والوطيح، والسلالم، وهو حصن بني الحقيق الذي كان لهم به كنز في مسك الحمار، وكانوا قد غيبوه في خربة؛ فدل الله رسوله عليه فاستخرجه، وقلع علي باب خيبر، ولم يحركه سبعون رجلاً إلا بعد جهد.
وفي رواية ابن إسحاق سبعة، وأخرجه من طريقه البيهقي في الدلائل، ورواه الحاكم وعنه البيهقي من جهة ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين، عن جابرة أن علياً حمل الباب يوم خيبر، وأنه جرب بعد ذلك، ولم يحمله أربعون رجلاً، وليث ضعيف.
وفي رواية البيهقي: أن علياً لما انتهى إلى الحصن، اجتبذ أحد أبوابه فألقاه في الأرض، فاجتمع عليه بعده منا سبعون رجلاً، وكان جهداً أن أعادوا الباب مكانه.
قال شيخنا: وكلها واهية، ولذا أنكره بعض العلماء. انتهى.
وفي البخاري: وتزوج - عليه الصلاة والسلام - بصفية بنت حُيي بْنِ أخطب، وكان قد قتل زوجها كنانهْ بن الربيع بن أبي الحقيق، وكانت عروساً، فذكر له جمالها فاصطفاها لنفسه، فخرج بها حتى إذا بلغت سد الضهباء، حلت له، يعني: طهرت من الحيض، فبنى بها - عليه الصلاة والسلام - فصنع حيساً في نطع صغير، ثم قال لأنس: آذن من حولك؛ فكانت وليمته على صفية.
قال: ثم خرجنا إلى المدينة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها، وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبتيه حتى تركب، وفي رواية: فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين، أو ما ملكَت يمينه؟ قالوا: إن حجبها، فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها، فهي ما ملكت يمينه، فلما ارتحل، وطأ لها ومد الحجاب.(1/325)
وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم قتل المقاتلة، وسبى الذرية، وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عتقها صداقها، وفي رواية: فأعتقها، وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم لدحية: " خذ جارية من السبي غيرها " . وفي رواية لمسلم: أنه صلى الله عليه وسلم اشترَى صفية منه بسبعة أرؤس، وإطلاق الشراء على ذلك على سبيل المجاز، وليس في قوله: " بسبعة أرؤس " ما ينافي قوله في رواية البخاري: " خذ جارية من السبي غيرها " ؛ إذ ليس هنا دلالة على نفي الزيادة. والله أعلم.
وإنما أخذ صلى الله عليه وسلم صفية؛ لأنها بنت ملك من ملوكهم، وليست ممن توهب لدحية؛ لكثرة من كان من الصحابة مثل دحية وفوقه، وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصه بها، لأمكن تغير خاطر بعضهم؛ فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه، واختصاصُهُ - عليه الصلاة والسلام - بها، فإنَّ في ذلك رضا الجميعِ، وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء. انتهى.
وقال مغلطاي وغيره: كانت صفية قبل، رأتْ أن القمَرَ سقَطَ في حجرها؛ فتؤول بذلك.
قال الحاكم: وكذا جرى لجويرية.
وفيها حرم صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية كما في البخاري: ولفظه: فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم - يعنى: خيبر - أوقدوا نيراناً كثيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما هذه النيران، على أي شيء توقدون؟ " قالوا: على لحم، قال: " على أي لحم؟ " قالوا: لحم الحمر الأنسية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أهريقوها واكسروها " ، فقال رجل: يا رسول الله، أو نهريقها ونغسلها؟ قال: " أو ذاك " ؛ والمشهور في الإنسية: كسر الهمزة، منسوبة إلى الإنس، وهم بنو آدم، وحكى ضم الهمزة ضد الوحشية، ويجوز فتحها والنون - أيضاً - مصدر: أنست به آنس أنساً وأنسة.
وفي رواية: " نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، ورخص في الخيل " ، قال ابن أبي أوفى: فتحدثنا أنه إنما نهى عنها؛ لأنها لم تخمس.
وقال بعضهم: نهى عنها ألبتة؛ لأنها كانت تأكل العذرة.
قال العلماء: وإنما أمر بإراقتها؛ لأنها نجسة محرمة، وقيل: إنما نهى عنها للحاجة إليها، وقيل: لأخذها قبل القسمة.
وهذان التأويلان للقائلين بإباحة لحومها، والصواب ما قدمنا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " اكسروها " فقال رجل: أو نهريقها ونغسلها. قال: " أو ذاك " . فهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في ذلك فرأى كسرها، ثم تغير اجتهاده، وأوحى إليه بغسلها.
وأما لحوم الخيل: فاختلف العلماء في إباحتها: فمذهب الشافعي والجمهور من السلف والخلف: أنه مباح لا كراهة فيه، وبه قال عبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وأسماء بنت أبي بكر.
وفي صحيح مسلم عنها: " نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكلناه ونحن بالمدينة " .
وفي رواية الدارقطني: " فأكلناه نحن وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم " .
قال في فتح الباري: ويستفاد من قولها: " ونحن بالمدينة " أن ذلك بعد فرض الجهاد فيرد على من استدل في منع أكلها لعلة أنها من آلة الجهاد. وقولها: " وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم رد على من زعم أنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد لم يظنَ بآل أبي بكر أنهم يقدمون على فعل شيء في زمنه صلى الله عليه وسلم إلا وعندهم العلم بجوازه؛ لشدة اختلاطهم به - عليه الصلاهَ والسلام - وعدم مفارقتهم له، وهذا مع توفر داعية الصحابة إلى سؤاله - عليه الصلاة والسلام - عن الأحكام؛ ومن ثم: كان الراجح أن الصحابي إذا قال: كنا نفعل كذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له حكم الرفع؛ لأن الظاهر اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك في مطلق الصحابي، فكيف بآل أبي بكر؟!.
وقال الطحاوي: ذهب أبو حنيفة: إلى كراهة أكل الخيل، وخالفه صاحباه وغيرهما، واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها. انتهى.
وقد نقل بعض التابعين الحل عن الصحابة مطلقاً من غير استثناء أحد؛ فأخرج ابن أبي شيبة، بسند صحيح على شرط الشيخين، عن عطاء، قال: لم يزلْ سلفك يأكلونها، قال ابن جريج: قلت: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم.(1/326)
وأما ما نقل في ذلك عن ابن عباس - من كراهتها - فأخرجه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، بسندين ضعيفين.
وقال أبو حنيفة في الجامع الصغير: أكره لحوم الخيل. فحمله أبو بكر الرازي على التنزيه، وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم، وليس هو عنده كالحمار الأهلي. وصحح أصحاب المحيط والهداية، والذخيرة عنه التحريم، وهو قول أكثرهم.
وقال القرطبى في شرح مسلم؛ مذهب مالك الكراهة، وقال الفاكهي: المشهور عند المالكية الكراهة. والصحيح عند المحققين منهم التحريم.
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: الدليل على الجواز مطلقاً واضح؛ لكن سبب كراهة مالك لأكلها كونها تستعمل غالباً في الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعمالها، ولو كثر لأفضى إلى فنائها، فيئول إلى النقص من إرهاب العدو الذي وقع الأمر به في قوله تعالى: " وَمِن رِبَاطِ آلخَيل تُرهِبُونَ بِه " الأنفال: 60.
فعلى هذا: فالكراهة لسبب خارج وليس البحث فيه؛ فإن الحيوان المتفق على إباحته لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكاب محذور، لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه انتهى.
وأما قول بعض المانعين: لو كانت حلالاً، لجازت الأضحية بها فمنتقض بحيوان البر؛ فإنه مأكول ولم تشرع الأضحية به.
وأما حديث خالد بن الوليد، عند أبي داود والنسائي: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل والبغال والحمير " فإنه ضعيف، ولو سلم لا ينهض معارضاً لحديث جابر الدال على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء، وقد ضعف حديث خالد بن الوليد أحمد، والبخاري، والدارقطني، والخطابى، وابن عبد البر، وعبد الحق، وآخرون.
وزعم بعضهم؛ أن حديث جابر دال على التحريم لقوله: رخص؛ لأن الرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع؛ فدل على أنه رخص. لهم بسبب المخمصة التي أصابتهم بخيبر؛ فلا يدل ذلك على الحل المطلق.
وأجيب بأن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن، كما رواه مسلم، وفي رواية له: " أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل " ؛ فدلَ على أن المراد بقوله: " رخص " أذن.
ونوقض - أيضاً - بالإذن في أكل الخيل، ولو كانت رخصة لأجل المخمصة، لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك؛ لكثرتها وعزة الخيل حينئذ؛ فدلَ على أن الإذن في كل الخيل إنما كان للإباحة لا لخصوص الضرورة.
وقد نقل عن مالك وغيره من القائلين بالتحريم: أنهم احتجوا للمنع بقوله تعالى: " والخيلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتركَبُوهَا وَزِينة " النحل: 8، وقرروا ذلك بأوجه: أحدها: أن اللام للتعليل؛ فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك؛ لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر، فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية.
ثانيها: عطف البغال والحمير؛ فدل على اشتراكها معهما في حكم التحريم؛ فيحتاج من أفرد حكم ما عطف عليها إلى دليل.
ثالثها: أن الآية سيقت مساق الامتنان؛ فلو كان ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم وبترك أعلاها، لا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها.
رابعها: لو أبيح أكلها، لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة: وأجيب: بأن آية النحل مكية اتفاقاً، والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النبي صلى الله عليه وسلم من الآية المنع، لما أذن في الأكل.
وأيضاً: فآية النحل ليست نصاً في منع الأكل، والحديث صريح في جوازه.
وأيضاً: فلو سلمنا أن اللام للتعليل، لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة؛ فإنه ينتفع بالخيل في غيرها وفي الأكل اتفاقاً، وإنما ذكر الركوب والزينة؛ لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل، ونظيره حديث البقرة المذكور في الصحيحين، خاطبت راكبها، فقالت: " لم أخلق لهذا، وإنما خلقت للحرث " ؛ فإنه مع كونه أصرح في الحصر ما يقصد به إلا الأغلب، وإلاً فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقاً.
وقال البيضاوي: واستدل بها - أي بآية النحل - على حرمة لحومها، ولا دليل فيها؛ إذ لا يلزم من تعليل العقل بما يقصد منه غالباً إلا يقصد منه غيره أيضاً. انتهى.
وأيضا: فلو سلم الاستدلال، للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير، ولا قائل به.
وأما عطف البغال والحمير: فدلالة العطف إنما هي وضعية، وهي ضعيفة.(1/327)
وأما أنها سيقت مساق الامتنان: فالامتنان إنما قصد به غالب ما يقع به انتفاعهم بالخيل، فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم؛ بخلاف الأنعام فإن أكثر انتفاعهم بها كان بحمل الأثقال والأكل؛ فاقتصر في كل من إلصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق لأضرَّ.
وأما قولهم: " لو أبيح أكلها؛ لفاتت المنفعة بها... " إلى آخره. فأجيب عنه: بأنه لو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى، للزم مثله في البقر وغيرها مما أبيح أكله ووقع الامتنان به.
وإنما أطلت في ذلك لأمر اقتضاه، والله أعلم.
وفيها - أيضاً - نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم، وألاً توطأ جارية حتى تستبرأ.
وفيها: سمت النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم؛ كما في البخاري من حديث أبي هريرة، ولفظه: لما فتحت خيبر، أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود، فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني سائلكم عن شيء، فهل أنت صادقوني عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبوكم؟ قالوا: أبونا فلان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم، بل أبوكم فلان، فقالوا: صدقت وبررت، قال: هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم. فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفوننا فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسئوا فيها، والله، لا نخلفكم فيها أبداً، ثم قال: هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم، فقال: هل جعلتم في هذه الشاة سُماً؟ فقالوا: نعم، فقال: ما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كذاباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك.
وفي حديث جابر عند أبي داود: أن يهوديةَ من أهل خيبر سمت شاة مصلية، ثم أهدتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفعوا أيديكم، وأرسل إلى اليهودية فقال: سممت هذه الشاة؟ فقالت: من أخبرك؟ قال: أخبرتني هذه في يدي - للذراع - قالت: نعم، قلت: إن كان نبياً فلم يضره، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه، فعفا عنها صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها، وتوفي أصحابه الذين أكلوا من الشاة.
واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة. وفي رواية: جعلت زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم تسأل: أي الشاة أحب إلى محمد؟ فيقولون الذراع، فعمدت إلى عنز لها فذبحتها وصلتها، ثم عمدت إلى سم لا يطني، يعني؛ لا يلبث أن يقتل من ساعته، وقد شاورت يهود في سموم، فاجتمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمَت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتف، فوضعت بين يديه ومن حضر من أصحابه، وفيهم بشر بن البراء، وتناول صلى الله عليه وسلم الذراع، وانتهش منها، وتناول بشر بن البراء عظماً آخر، فلما ازدرد صلى الله عليه وسلم لقمته ازدرد بشر بن البراء ما في فيه وأكل القوم، فقال صلى الله عليه وسلم: ارفعوا أيديكم؛ فإن هذا الذراع تخبرني أنها مسمومة، وفيه أن بشر بن البراء مات، وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم دفعها إلى أولياء بشر بن البراء، فقتلوها. رواه الدمياطي.
وقد اختلف، هل عاقبها صلى الله عليه وسلم؟ فعند البيهقي، من حديث أبي هريرة: فما عرض لها، ومن طريق أبي نضرة، عن جابر: نحوه، قال: فلم يعاقبها، وفيه قول صاحب الهمزية: من الخفيف:
وبخلقٍ من النبِي كريم ... لم تُقَاصَص بجُرْحِهَا العَجْمَاءُ
وقال الزهري: أسلمت فتركها. قالً البيهقي: يحتمل أنَه تركها أولاً، ثم لما مات بشر بن البراء من الأكلة قتلها. وبذلك أجاب السهيلي، وزاد؛ أنه تركها؛ لأنه كان لاينتقم لنفسه، ثم قتلها ببشرقصاصاً.
ويحتمل أن يكون تركها؛ لكونها أسلمت، وإنما أخر قتلها حتى مات بشر؛ لأن بموته يتحقق وجوب القصاص بشرطه.(1/328)
وفي مغازي سليمان التيمي: أنها قالت: إن كنت كاذباً أرحت الناس منك، وقد استبان لي الآن أنك صادق، وأنا أشهدك ومن حضر أني على دينك، وأن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. قال: فانصرف عنها حين أسلمت، وفيه موافقة الزهري على إسلامها. فالله أعلم.
وفيها - أيضاً - نام صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر لما وكل به بلالاً؛ كما في حديث أبي هريرة عند مسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر، سار ليله حتى إذا أدركه الكرى عرس، وقال لبلال: اكلاً لنا الليل، فصلى بلال ما قدر له، ونام صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما قارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجة الفجر، فغلبت بلالاً عيناه، وهو مستند إلى راحلته، فلم يستقيظ صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظاً فقال: أي بلال، فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قال: اقتادوا، فاقتادوا رواحلهم شيئاً، ثم توضأ صلى الله عليه وسلم، وأمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلى بهم الفجر، فلما قضى الصلاة قال: من نسي الصلاة، فليصلها إذا ذكرها. فإن الله تعالى قال: " وَأًقِمِ الصلاةَ لِذِكرِي " طه: 14.
وفيها قدم جعفر ومن معه من الحبشة.
واختلف في فتح خيبر، هل كان عنوة أو صلحاً؛ وفي حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس: التصريحُ بأنه كان عنوة، وبه جزم ابن عبد البر، ورد على من قال: فتحت صلحاً، قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال: فتحت صلحاً بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما؛ لتحقن دماؤهم، وهو ضرب من الصلح؛ لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال.
وفيها سرية أبي بكر إلى بني كلاب، فسبى منهم وقتل.
وبشير بن سعد إلى بني مرة بفدك، في شعبان، في ثلاثين فقتلوا، وارتث بشير.
وأيضَا إلى يمن وجبار في شوال، ومعه ثلاثمائة فهربوا، وغنم منهم، وأسر رجلين فأسلما.
والأخرم بن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم في ذي الحجة، ومعه خمسون رجلاً، فأحدق بهم الكفار فقتلوهم.
وخرج ابن أبي العوجاء، وغالب بن عبد الله الليثى إلى الميفعة ناحية نجد في رمضان، فقتل أسامة نهيك بن مرداس بعد قوله؛ لا إله إلا الله، وقيل: إنما كان ذلك سنة ثمان، استاقوا نعماً وشاء إلى المدينة.
وفيها عمرة القضية، ويقال: القضاء والقصاص هلال ذي الحجة، ومعه صلى الله عليه وسلم ألفان، وأقام بمكة ثلاثة أيام، وبنى بميمونة بسرف.
قال في المواهب؛ وتسمى عمرة القضاء؛ لأنه قاضى فيها قريشاً، لا لأنها قضاء عن العمرة التي صد عنها؛ لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها، بل كانت عمرة تامة، ولهذا عدوا عمر النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
وقال آخرون: بل كانت قضاء عن العمرة الأولى، وعدوا عمرة الحديبية في العمر؛ لثبوت الأجر فيها، لا لأنها كملت.
وهذا الخلاف مبني على الاختلاف في وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت.
فقال الجمهور: يجب عليه الهدي ولا قضاء عليه.
وعن أبي حنيفة عكسه. وعن أحمد: رواية أنه لا يلزمه هدي ولا قضاء، وأخرى: يلزمه القضاء والهدي.
فحجة الجمهور: قوله تعالى: " فَإنْ أحصرتُم فما أستَيسَرَ مِنَ الهديَ " البقرة: 196، وحجة أبي حنيفة؛ أن العمرة تلزم بالشروع، فإذا حصر صار له تأخيرها، فإذا زال الحصر أتى بها، ولا يلزم من التحلل بين الإحرامين سقوط القضاء.
وحجة من أوجبها ما وقع للصحابة؛ فإنهم نحروا الهدي حيث صدوا، فاعتمروا من قابل وساقوا الهدي، وحجة من لم يوجبها؛ أن تحللهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهدي، بل أمر من معه هدي أن ينحره، ومن ليس معه هدي أن يحلوا. انتهى.
قالى الحاكم في الإكليل: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما أهل ذو القعدة - يعني سنة سبع - أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صدهم المشركون عنها بالحديبية، وألاً يتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف منهم إلا رجال استشهدوا بخيبر ورجال ماتوا.(1/329)
وخرج معه صلى الله عليه وسلم من المسلمين ألفان، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاري، وساق - عليه الصلاة والسلام - ستين بدنة، وحمل السلاح والبيض والدروع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذي الحليفة، قدم الخيل أمامه عليها محمد ابن مسلمة، وقدم السلاح، واستعمل عليه بشر بعد، وأحرم صلى الله عليه وسلم، ولبى، والمسلمون يلبون معه، ومضى محمد بن مسلمة في الخيل إلى مر الظهران، فوجد بها نفراً من قريش، فسألوه فقالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبحُ هذا المنزل غداً - إن شاء الله تعالى - فأتوا قريشاً فأخبروهم ففزعوا. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، وقدم السلاح إلى بطن يأجج كيسمع وينصر ويضرب موضع بمكة، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وخلف عليه أوس بن خولى الأنصاري في مائتي رجل، وخرجت قريش من مكة إلى رءوس الجبال، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي أمامه، فحبس بذي طوى، وخرج صلى الله عليه وسلم على راحلته القصوى، والمسلمون متوشحون السيوف، محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون، فدخل من الثنية التي تطلعه على الحجون. وابن رواحة آخذ بزمام راحلته. وفي رواية الترمذي، من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء، وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول: من الرجز:
خَلوا بني الكُفار عَن سَبِيلِهِ
أليَومَ نَضرِبكُم عَلَى تَنزِيلِهِ
ضَرباً يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ
ويُذهِلُ الخَلِيلَ عَن خَلِيلِهِ
فقال له عمر: يا بن رواحة، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله، تقول شعزاً؟! فقال صلى الله عليه وسلم: خَلِّ عنه يا عمر، فلهى أسرع فيهم من نضح النبل. ورواه عبد الرزاق من حديث أنس - أيضاً - من وجهين بلفظ: من الرجز:
خَلُوا بني الكُفارِ عَنْ سَبِيلِهِ
قَدْ أنزَلَ الرحمَنُ في تَنزِيلِهِ
بِأن خَيْرَ القَتلِ في سَبِيلِهِ
نَحْنُ قَتَلنَاكُمْ عَلَى تنْزيلِهِ
ضَرباً يُزِيلُ الهَامَ عَن مَقِيلِهِ
ويُذهِلُ الخَلِيلَ عن خَلِيلِهِ
يَا رب إِني مُؤمِنٌ بِقِيلِهِ
وعند ابن عقبة في المغازي بعد قوله:
قَدْ أنزَلَ الرَحمنُ في تَنزِيلِهِ
فِى صُحُفٍ تُتلَى عَلَى رَسُولِهِ
وزاد ابن إسحاق بعد قوله: من الرجز:
يَا رَب إِني مُؤْمِن بِقِيلِهِ
إِني رَأيتُ الحَق في قَبُولِهِ
وقال ابن هشام: إن قوله: " نحن ضربناكم على تنزيله " إلى آخر الشعر من قول عمار بن ياسر؛ قاله يوم حنين.
قالوا ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى استلم الركن بمحجنه مضطبعاً بثوبه، وطاف على راحلته، والمسلمون يطوفون معه، وقد اضطبعوا بثيابهم.
وفي البخاري، عن ابن عباس: قال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
وفي رواية قال: ارملوا؛ ليرى المشركون قوتكم. والمشركون من قبل قعيقعان. ومعنى قوله؛ الإبقاء عليهم أي: لم يمنعه من أمرهم بالرمل في جميع الأوقات إلا الرفق بهم والإشفاق عليهم.
ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه، وقد وقف الهدي عند المروة، قال: هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر، فنحر عند المروة وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً منهم إلى أصحابهم ببطن يأجج، فيقيموا على السلاح، ويأتي الآخرون، فيقضوا نسكهم، ففعلوا، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثاً.
وفي البخاري، من حديث البراء: فلما دخلها - يعنى مكة - ومضى الأجل، أتوا علياً، وقالوا: قل لصاحبك يخرج عنا، فقد مضى الأجل. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم، فتناولها علي، فأخذ بيدها، وقال لفاطمة: دونك بنت عمك، فحملتها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، قال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: بنت أخي، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال " الخالة بمنزلة الأم " . الحديث.(1/330)
وإنما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أخذها مع اشتراط المشركين إلا يخرج بأحد من أهلها أراد الخروج؛ لأنهم لم يطلبوها.
وقوله: " الخالة بمنزلة الأم " أي: في هذا الحكم الخاص؛ لأنها تقرب منها في الحنية والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد.
ويؤخذ منه: أن الخالة في الحضانة مقدمة على العمة؛ لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة مع كونها أقرب من العصبات من النساء، فهي مقدمة على غيرها.
ويؤخذ منه: تقديم أقارب الأم على أقارب الأب. انتهى.
قال ابن عباس؛ وتزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم، وبنى بها وهو حلال. وقد استدرك ذلك على ابن عباس، وعُدَ من وهمه، قال سعيد بن المسيب: وَهِلَ ابن عباس، وإن كانت خالته، ما تزوَجها صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما حل. ذكره البخاري. وَهِلَ - بكسر الهاء - أي غلط. وقال يزيد بن الأصم، عن ميمونة: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف. رواه مسلم.
وسيأتى في الخصائص: أن له صلى الله عليه وسلم النكاحَ في حالِ الإحرام؛ على أصح الوجهين عند الشافعية.
وفي هذه السنة: قدم حاطب من عند المقوقس ملك مصر جريح بن مينا، ومعه الهدايا.
وفيها: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع، وأخرج عمارة - أو فاطمة أو غير ذلك على الخلاف في اسمها - بنت حمزة من عند المشركين - أو على بإذنه، فاختصم فيها زيد وجعفر وعلي في الحديث المشهور. وأرسل الرسل إلى الملوك أول المحرم، وقيل: آخر سنة ست: عبد الله ابن حذافة السهمي إلى كسرى، فمزق كتابه فدعا عليه بتمزيق ملكه، فملكهم لا يزال ممزقاً، وعمرو بن العاص إلى ملكَي عُمَان عبد وجيفر ابني الجلندي، فأسلما، وسليط بن عمرو إلى هوذة بن علي باليمامة، وشجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء، والعلاء الحضرمي إلى المنذر بن ساوى بالبحرين فأسِلم، وأبا موسى الأشعري ومعاذاً إلى اليمن، وعمراً الضمري إلى مسيلمة، وعياش بن الربيعة إلى الحارث، ومسروح ونعيم بن عبد كلال، ودحية الكلبي بكتابه إلى هرقل ليدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى هرقل، وحديثه الصحيح مشهور، إلى جماعة كثيرة.
وفيها: لبس الخاتم، أو في آخر السادسة.
حوادث السنة الثامنة
فيها: غزوة مُؤْتَةَ، بضم الميم وسكون الواو، بغير همز لأكثر الرواة، وبه جزم المبرد، وجزم ثعلب والجوهري وابن فارس بالهمز، وحكى غيرهم الوجهين، وهي من عمل البلقاء بالشام، في جمادى الأولى، وهي سرية أمر فيها صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة على ثلاثة آلاف رجل، وقال: إن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رَواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون برجل منهم. فقتلوا كذلك، فأخذ الراية ثابت بن أقرم العجلاني إلى أن اصطلحوا على خالد، ففتح الله به، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأخذ غنيمة كثيرة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أرسل الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى ملك بصرى، فلما نزل مؤتة، عرض له شرحبيل الغساني، فقتله، ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة على ثلاثة آلاف، وقال: إن قتل... إلى آخر ما تقدم.
وفي حديث عبد الله بن جعفر: عند أحمد والنسائي بإسناد صحيح: إن قتل زيد فأميركم جعفر... الحديث.
قالوا: وعقد لهم صلى الله عليه وسلم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلاً استعانوا عليهم بالله وقاتلوهم. وخرج مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف فودعهم، فلما ساروا، نادى والمسلمون: دفع الله عنكم، وردكم سالمين غانمين، فقال ابن رواحة: من البسيط:
لَكنّنِي أسألُ الرحْمَنَ مَغْفِرَةَ ... وَضَرْبَةَ ذَاتَ فَرغ تَفذِفُ الزبَدَا(1/331)
فلما فصلوا من المدينة، سمع العدو بمسيرهم فجمعوا لهم، وقام فيهم شرحبيل ابن عمرو، فجمع أكثر من مائة ألف، وقدم الطلائع أمامه، وقد نزل المسلمون مَعَان - بفتح الميم - موضع من أرض الشام، وبلغ الناس كثرة العدو وتجمعهم، وأن هرقل نزل بأرض البلقاء في مائة ألف من المشركين، فأقاموا ليلتين لينظروا في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فشجعهم عبد الله بن رواحة على المضي، فمضوا إلى مؤتة، ووافاهم المشركون فجاء منهم ما لا قِبَلَ لأحد به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب.
والتقى المسلمون والمشركون، فقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم، فأخذ اللواء زيد بن حارثة، فقاتل وقاتل المسلمون معه على صفوفهم حتى قتل طعناً بالرماح، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فنزل عن فرس له شقراء، وقاتل حتى قتل، ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين، فوجد في أحد نصفيه بضعة وثمانون جرحاً، وفيما أقبل من بدنه اثنتان وسبعون ضربة بسيف وطعنة برمح، قال في رواية البخاري: ووجدنا في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية، وفي رواية: أن ابن عمر وَقَفَ على جعفر يومئذ وهو قتيل، قال: فعددت به خمسين بين طعنة وضربة، ليس فيها شيء في دبره.
وذكر ابن إسحاق بإسناد حسن، وهو عند أبي داود من طريقه، عن رجل من مرة قال: والله، لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب حين اقتحم عن فرس له شقراء، فعقرها ثم تقدَم، فقاتل حتى قتل.
قالوا: ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قتل، فأخذ اللواء ابن أقرم العجلاني، إلى أن اصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ اللواء وانكشف الناس فكانت الهزيمة، فتبعهم المشركون فقتل من قتل من المسلمين.
وقال الحاكم: قاتلهم خالد بن الوليد، فقتل منهم مقتلة عظيمة وأصاب غنيمة.
وقال ابن سعد: إنما انهزم بالمسلمين.
وقال ابن إسحاق: انحازت كل طائفة من غير هزيمة.
ورفعت الأرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظر إلى معترك القوم.
وعن عبد الله بن الزبير قال: حدثني أبي الذي أرضعني - وكان أحد بني مرة - قال: شهدت مؤتة مع جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فرأيت جعفراً حين التحم القتال، اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عقرها، وقاتل القوم حتى قتل. خرجه البغوي في معجمه، وقطعت في تلك الوقعة يداه جميعاً، ثم قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء " خرجه أبو عمرو. وفي البخاري، عن عائشة - رضي الله عنها - : لما جاء قتل ابن رواحة وابن حارثة وجعفر بن أبي طالب، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف منه الحزن... الحديث. وأخرج الطبراني بإسناد حسن، عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هنيئاً لك أبوك يطير مع الملائكة في السماء " . وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة " أخرجه الترمذي والحاكم، وفي إسناده ضعف؛ لكن له شاهد من حديث علي عند ابن سعد. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مرّ بي جعفر الليلة في ملاً من الملائكة. وهو مخضب الجناحين بالدم " أخرجه الترمذي والحاكم بإسناده على شرطه.
وأخرج - أيضاً - هو والطبراني، عن ابن عباس مرفوعاً: " دخلت البارحة الجنة، فرأيت فيها جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة " . وفي طريق أخرى عنه: أن جعفراً يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه. وإسناد هذا جيد. فقد عوّضه الله عن قطع يديه في هذه الوقعة حيث أخذ اللواء بيمينه فقطعت، ثم أخذه بشماله فقطعت، ثم احتضنه فقتل.
قال السهيلي: له جناحان ليس كما يسبق إلى الفهم كجناحي الطير وريشه؛ لأن الصورة الآدمية أشرف الصور كلها، فالمراد بالجناحين: صفة ملكية وقوة روحانية.
وقال العلماء في أجنحة الملائكة: إنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة. فقد ثبت أن لجبريل ستمائة جناح ولا يعهد للطير ثلاثة أجنحة فضلاً عن أكثر من ذلك، وإذا لم يثبت خبر في بيان كيفيتها، فنؤمنُ بها من غير بحث عن حقيقتها.(1/332)
قال الحافظ ابن حجر: وهذا الذي جزم به في مقام المنع، والذي حكاه عن العلماء ليس صريحاً في الدلالة على ما ادعاه، ولا مانع من الحمل على الظاهر إلا من جهة ما ذكره من المعهود، وهو قياس الغائب على الشاهد، وهو ضعيفٌ، وكون الصور البشرية أشرف الصور لا يمنعُ من حَمْلِ الخبر على ظاهره؛ لأن الصور باقية. وقد روى البيهقي في الدلائل من مرسل عاصم بن عمر بن قتادة؛ أن جناحي جعفر من ياقوت، وجاء في جناحي جبريل أنهما من لؤلؤ. أخرجه ابن منده في ترجمة ورقة. وذكر موسى بن عقبة في المغازي: أن يعلى بن أمية قدم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتَ فأخبرني، وإن شئتَ فأخبرتك، قال: أخبرني فأخبره خبرهم، فقال: والذي بعثك بالحق، ما تركتَ من حديثهم حرفاً لم تذكره. وعند الطبراني من حديث أبي اليسر الأنصاري؛ أن أبا عامر الأشعري هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمصابهم.
وفيها: فتح مكة في رمضان، لنقض قريش العهدة فخرج صلى الله عليه وسلم ومعه عشرة آلاف، يوم الأربعاء بعد العصر لعشر مضين من رمضان، ففتحها صلحاً أو عنوة على الخلاف.
وخرج سادس شوال إلى حنين، فهزمهم وقتل من المشركين أكثر من سبعين واستشهد من المسلمين أربعة، ونادى مناديه: من قتل قتيلاً فله سلبه. وأخذ منها غنائم فقسمها بالجعرانة.
وهو كما قال في زاد المعاد: الفتح الأعظم المبين، الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحرمه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرَقَ به وجه الأرض ضياءً وابتهاجاً. خرج له صلى الله عليه وسلم بكتائب الإسلام وجنود الرحمن، لنقض قريش العهد الذي وقع بالحديبية؛ لأنه كان قد وقع الشرط أن من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل. فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، وكان بين بني بكر وخزاعة حروب وقتلى في الجاهلية، فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام. فلما كانت الهدنة، خرج نوفل بن معاوية الديلي، من بني بكر، في بني الديل، حتى بيَّتَ خزاعة، وهم على ماء لهم يقال له: الوتير، فأصاب منهم رجلاً يقال له منبه، واستيقظت لهم خزاعة، فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم، ولم يتركوا القتال. وأمدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل بعضهم معهم ليلاً في خفية. وخرج عامر الخزاعي في أربعين راكباً من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بالذي أصابهم ويستنصرونه، فقام وهو يجر رداءه ويقول: " لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر به نفسي " .
وفي المعجم الصغير للطبراني، من حديث ميمونة: أنها سمعته صلى الله عليه وسلم يقول في متوضئه ليلاً: " لبيك لبيك ثلاثاً، نصرت نصرت ثلاثاً " ، فقالت: كأنك تكلم إنساناً، فهل كان معك أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هذا راجز بني كعب يستصرخني، ويزعم أن قريشاً أعانَتْ عليهم بني بكر.
ثم خرج - عليه الصلاة والسلام - فأمر عائشة أن تجهزه ولا تُعْلِم أحداً قالت: فدخل عليها أبو بكر فقال: يا بنية، ما هذا الجهاز؟ فقالت: ما أدري، فقال: والله، ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله لا علم لي، قالت: فأقمنا ثلاثاً، ثم صلى الصبح، بالناس، فسمعت الراجز ينشد من الرجز:
يَا رَبّ إِني نَاشِدٌ مُحَمدا
حِلْفَ أبِينَا وَأبِيهِ الأتلَدَا
إِنا وَلَدنَاكَ فَكُنْتَ الوَلَدَا
ثُمّتَ أسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِع يَدَا
إِنّ قُرَيْشَاً أخلَفُوكَ الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ المؤَكَّدَا
وزعَمُوا أنْ لَسْتُ أدْعُو أحَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نصْراً أيدَا
وادع عِبَادَ الله يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ الله قَدْ تَجَرَّدَا
أبْيَضَ كالْبَدرِ تَنَمَّى صعُدَا
إِن سِيمَ خَسفاً وَجْهُهُ تَرَبّدَا
قال في القاموس: وتربد بالراء تغير. انتهى.
وزاد ابن إسحاق:
همْ بَيَّتُونَا بالْوَتيرِ هُجَّدَا
وقتلونا رَكّعا وسَجّدا(1/333)
وَزَعَمُوا أنْ لَستَ تَدْعُو أحَدَا
وَهمْ أذَلُ وَأقَل عَدَدَا
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نصرت يا عمرو بن سالم " ، فكان ذلك ما هاج فتح مكة. وقد ذكر البزار من حديث أبي هريرة بعض الأبيات.
وقدم أبو سفيان بن حرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يسأله أن يجدد العهد ويزيد في المدة، فدخل على ابنته رملة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: مكانك، فطوته عنه، وقالت: إنك رجس، فقال لها: لقد أصابك بعدي شَر يا بنية، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، سأله فيما جاء لصدده، فأبى عليه ولم يجبه، فكلم أبا بكر، ثم عمر، ثم علياً، فلم يجبه أحد منهم، فدخل بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: يا بنة محمد، إني داخل على ابنك الحسن أن يجير بين الناس، فقالت: ما بلغ ابني أن يجير بين الناس، فقال لعلي: إنك أمسُ القوم بي رحماً فما تشير به علي؟ فقال له علي: إنك سيد كنانة، وما أرى لك إلا أن تقوم فتجير بين الناس، وما أراه مجديَاً شيئاً. فغدا على الناس في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب ناقته فعاد إلى مكة، فقالوا: ماذا صنعت؟ فأخبرهم بما كان، فقالوا: أفأجاز ذلك محمد وأبو بكر وعمر؟ فقال: لا، فقالوا: ما زدت على أن لعب بك ابن أبي طالب.
وتجهزَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من غير إعلام أحد بذلك، فكتب حاطب كتاباً، وأرسله إلى مكة يخبر بذلك، فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال - عليه الصلاة والسلام - لعلي بن أبي طالب والزبير والمقداد: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ: فإن بها ظعينةً معها كتاب فخذوه منها، قال: فانطلقنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا حاطب، ما هذا؟ قال: يا رسول الله، لا تعجَل علي، إني كنت امرأً ملصقاً في قريش - يقول: كنت حليفاً، ولم أكن من أنفسها - وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رِضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إنه قد صدقكم " ، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: " إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ، فأنزل الله تعالى: " ياًيُهَا الذِينَ آمنَوا لا تَنخذُوا عَدوي وَعَدُوكُم أوَلياءَ تُلقُون إلَيهِم بِالمَوَدةِ " - إلى قوله - " فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَبِيلِ " الممتحنه: ا، قال في فتح الباري: وإنما قال عمر - رضي الله عنه - : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، مع تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب فيما اعتذر به، لما كان عند عمر من القوة في الدين وبغض المنافقين، فظن أن من خالف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم استحق القتلَ، لكنه لم يجزم بذلك فلذلك استأذن في قتله، وأطلق عليه منافقَاً؛ لكونه أبطن خلاف ما أظهر. وعذر حاطب ما ذكره؛ فإنه صنع ذلك متأولاً أن لا ضرر فيه.
وعند الطبري، من طريق الحارث، عن على في هذه القصة: فقال: أليس قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فأرشد إلى علة ترك قتله.
وعند الطبري - أيضاً - عن عروة: فإني غافر لكم؛ وهذا يدل على أن المراد بقوله: " غفرت: أغفر على طريق التعبير عن الآتي بالواقع مبالغةً في تحققه. قال: والذي يظهر أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف، تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة، وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة، وقد أظهر الله صدق رسوله في كل ما أخبر عنه بشيء من ذلك؛ فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شيء من أحدهم، لبادر إلى التوبة ولازم الطريقة المثلى؛ يعلم ذلك من أحوالهم بالقطع من اطلع على سيرهم؛ قاله القرطبي.(1/334)
وذكر بعض أهل المغازي - وهو في تفسير يحيى بن سلام - أن لفظ الكتاب الذي كتبه حاطب: أما بعد، يا معشر قريش، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده، لنصره الله وأنجز له، فانظروا لأنفسكم. كذا حكاه السهيلي.
وروى الواقدي بسند مرسل؛ أن حاطبَاً كتب إلى سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذنَ في الناس بالغزو، لا أراه يريد غيركم، فأحببت أن تكون لي عندكم يد. انتهى.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب فجلبهم: أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم؛ فمنهم من وافاه بالمدينة، ومنهم من لحقه بالطريق؛ فكان المسلمون في غزوة الفتح عشرة آلاف، وفي الإكليل وشرف المصطفى: اثنا عشر ألفاً، ويجمع بينهما بأن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة ثم تلاحق به الألفان.
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وقيل: أبا رهم الغفاري.
وخرج - عليه الصلاة والسلام - يوم الأربعاء، لعشر خلون من رمضان، بعد العصر، في ثمان من الهجرة. قاله الواقدي.
وعند أحمد بإسناد صحيح، عن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، لليلتين خلتا من شهر رمضان. فما قاله ليس بقوي لمخالفته ما هو أصحُ.
وفي تعيين هذا التاريخ أقوال أخر، منها عند مسلم: لست عشرة، ولأحمد: ثماني عشرة، وفي أخرى: لثنتي عشرة، والذي في المغازي لابن عقبة لتسع عشرة مَضَتْ، وهو محمول على الاختلاف في أول الشهر. ووقع في أخرى: تسع عشرة، أو سبع عشرة على الشك.
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الكدِيد - بفتح الكاف - الماء الذي بين قديد وعسفان، أفطر، فلم يزل مفطراً حتى انسلخ الشهر. رواه البخاري. وفي أخرى له: أفطر وأفطروا... الحديث.
وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة، وكان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم عنه راض، وكان ممن لقيه بالطريق أبو سفيان بن الحارث ابن عمه - عليه الصلاة والسلام - وأخوه من إرضاع حليمة السعدية، ومعه ولده جعفر بن أبي سفيان، وكان أبو سفيان، يألفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث، عاداه وهجاه، وكان لقاؤهما له - عليه الصلاة والسلام - بالأبواء، وأسلما قبل دخول مكة، وقيل: بل لقيه هو وعبد الله بن أبي أمية ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب بين السقيا والعرج، فأعرض صلى الله عليه وسلم عنهما؛ لما كان يلقى منهما من شدة الأذَى والهَجوِ، فقالت له أم سلمة: لا يكنِ ابن عمك وابن عمتك أشقى الناسِ بك، وقال علي لأبي سفيان فيما حكاه ابن عمرو وصاحب ذخائر العقبى: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: " تَاللهِ لَقَد آثَرَكَ الله علينَا وَإن كُنَا لَخَاطِئين " يوسف: 91، فإنه لا يرضى أن يكون أحَدٌ أحسنَ منه قولاً، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا تثريب عَلَيكمٌ اليوَمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُم وَهُوَ أرحم الرَّاحِمِينَ " يوسف: 92، ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم؛ حياء منه.(1/335)
قالوا: ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان بقديد، عقد الألوية والرايات، ودفعها إلى القبائل، ثم نزل مر الظهران عشاء، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار. ولم يبلغ قريشاً مسيره، وهم مغتمون لما يخافون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان بن حرب، وقالوا: إن لقيت محمداً، فخذ لنا منه أماناً. فخرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، حتى أتوا مر الظهران، فلما رأوا العسكر أفزعهم، قال البخاري: فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه؛ ك! أنها نيران عرفة؟! فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: بنو عمرو أقَل من ذلك، فرآهم ناس من حَرَسِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم أبو سفيان، فلما سار، قال للعباس: احبس أبا سفيان عند حطم الخيل حتى ينظر إلى المسلمين، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم في كتيبة كتيبة على أبي سفيان، فمرت كتيبة فقال: يا عباس، من هذه؟ قال: هذه غفار، قال: ما لي ولغفار، ثم مرت جهينة، فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فقال أبو سفيان: يا عباس، حبذا يوم الذمَار. بالمعجمة المكسورة، أي: الهلاك.
قال الخطابي: تمنى أبو سفيان أن يكون له يد فيحمي قومه ويدفع عنهم.
وقيل: هذا يوم الغضب للحريم والأهل والانتصار لهم ممن قدر عليه.
وقيل: هذا يوم يلزمك فيه حفظي وحمايتي من أن ينالني مكروه.
وقال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم أن سعداً قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين، فقال: يا رسول الله، ما آمنُ أن يكون لسعد في قريش صولة، فقال لعلي: أدركه، فخذ الراية منه، فكنْ أنْتَ الذي تدخلُ بها.
وقد روى الأموي في المغازي: أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما حاذاه: أمرتَ بقتل قومك؟ قال: لا، فذكر له ما قال سعد بن عبادة، ثم ناشده الله والرَحِمَ، فقال: يا أبا سفيان، اليوم يوم المرحمة، اليوم يوم يعز الله قريشاً. وأرسل إلى سعد، فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس.
وعند ابن عساكر، من طريق أبي الزبير، عن جابر قال: لما قال سعد بن عبادة ذلك، عارضت امرأة من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: من الخفيف:
يا نبيَ الهُدَى إليك لَجَا ... حَيّ قُرَيشٍ، وَلاتَ حِينَ لجاءِ
حِينَ ضَاقَت عَلَيهمُ سعَةُ الأر ... ضِ وَعَادَاهُمْ إلهُ السَّمَاءِ
التقَت حَلقَتَا البِطَانِ عَلَى القَو ... مِ ونُودُوا بالصيْلَمِ الصَلْعَاءِ
إن سَعداً يُرِيدُ قاصمة الظه ... رِ بأهلِ الحجُونِ والبطحاءِ
خَزرَجِي لَو يَستَطِيعُ مِنَ الغَي ... ظِ رَمَانَا بِالنسْرِ والعواءِ
وَغِرُ الصَّدرِ لا يَهِم بِشيء ... غَيْرِ سَفْكِ الدما وسَبْيِ النًسَاءِ
قد تلظى عَلَى البِطَاحِ وجاءَتْ ... عِنْدَ هِندِ بالسوْأةِ السوْدَاءِ
إِذ يُنَادِي بِذُلً حَتى قُريشٍ ... وابنُ حَرب بِذَا مِنَ الشُهَدَاءِ
فَلَئِنْ أقحَمَ اللوَاء ونَادَى ... يا حمَاةَ اًللواءِ أهْلَ اللواءِ
ثم ثابَتْ إِليه مَنْ بهمُ الخَزْ ... رجُ والأوسُ أنجُمُ الهَيْجَاءِ
لتَكُونن بالبِطَاحِ قُرَيْشٌ ... فقعة القَاعِ في أكف الإِمَاءِ
فَانْهَيَنْهُ فإِنهُ آسَدُ الأُس ... د لَدَى الغَابِ والغاً في الدِّمَاءِ
إِنهُ مُطْرِقٌ يُديِرُ لَنَا الأم ... رَ سكوناً كالحيةِ الصمَاءِ
قلت: وفي سيرة ابن سيد الناس عزوا هذا الشعر لضرار بن الخطاب الفهري. فلما سمع هذا الشعر، دخلته رأفة لهم ورحمة، فأمر بالراية، فأخذَتْ من سعد، ودفعت إلى ابنه قيس.(1/336)
وعند أبي يعلى، من حديث الزبير: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفعها إليه، فدخل مكة بلواءين، وإسناده ضعيف جداً.
لكنْ جزم موسى بن عقبة في المغازي، عن الزهري: أنه دفعها إلى الزبير بن العوام.
فهذه ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التي نزعت من سعد.
والذي يظهر في الجمع: أن علياً أرسل بها لينزعها ويدخل بها، ثم خشي تغير خاطر سعد، فأمر بدفعها إلى ابنه قيس، ثم إن سعداً خشي أن يقع من ابنه شيء ينكره صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منه، فأخذها الزبير حينئذ.
قال في رواية البخاري: ثم جاءَتْ كتيبة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان، قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة. قال: ما قال. قال: قال كذا وكذا، فقال: كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة، قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون، قال: وقال عروة: وأخبرني نافع بن جبير بن مطعم، قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله، ها هنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية؟ قال: نعم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كَدَاء بالفتح والمد، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كُدى بالضم والقصر، فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان: حبيش بن الأشقر، وكرز بن جابر الفهري. قال الحافظ ابن حجر: وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية أن خالداً دخل من أسفل مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها، يعنى: حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفاً أسامة بن زيد، وحديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح من كداء التي بأعلى مكة، وغيرهما قال: وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقاً واضحاً فقال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم، وأمرهن يدخلنَ من كداء من أعلى مكة، وأمره أن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه. وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسُلَيم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يكفوا أيديهم عن القتال، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة، وقد تجمع بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناف وناس من هذيل ومن الأحابيش، الذين استنصرت بهم قريش فقاتلوا خالداً، فقاتلهم فانهزموا، وقتل من بني بكر نحو من عشرين رجلاً، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة إلى باب المسجد حتى دخلوا الدور، فارتفعت طائفة منهم على الجبال، وصاح أبو سفيان: منا دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقالت له زوجته هند بنت عتبة وأخذت بشاربه: اقتلوا الحميت الدسم الأحمش، قُبحتَ من طليعة قوم، وما تغني دارك؟ ثم قال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه وكف يده فهو آمن. قال: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البارقة، فقال: ما هذا، وقد نهيت عن القتال؟ فقالوا: نظن أن خالداً قوتل وبدئ بالقتال، فلم يكن له بد من أن يقاتلهم، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد أن اطمأن - لخالد بن الوليد: لم قاتلتَ، وقد نهيتك عن القتال؟ فقال: هم بدءونا بالقتال، وقد كففت يدي ما استطعتُ، فقال: قضاء الله خير.
وعند ابن إسحاق: فلما نزل صلى الله عليه وسلم مر الظهران، رقت نفس العباس لأهل مكة، فخرج ليلاً راكباً بغلة النبي صلى الله عليه وسلم لكي يجد أحداً؛ فيعلم أهل مكة بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم فيستأمنوه - فلما بلغ الأراك، سمع صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يتناجيان، فقال العباس: أبا حنظلة؟ فقال أبو سفيان: أبا الفضل؟ فتلاقيا، فقال أبو سفيان: واصباح قريش، إن دخلها عليهم عنوة، فأردف أبا سفيان خلفه، وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وانصرف الآخران؛ ليعلما أهل مكة.(1/337)
روى أن عمر بن الخطاب لما رأى أبا سفيان رديف العباس، قال: أبو سفيان عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك من غير عقد ولا عهد. قال العباس: ثم عدا، فركضتُ البغلة، فسبقته بما تسبق البغلة الرجل البطيء فدخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد أجرته، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فَأتني به، فذهب فلما أصبح، غدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف عمر بن الخطاب على رأسه، وقال: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فقال العباس: أما إنه لو كان من آل الخطاب لما قُفتَ هذا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟! فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمَكَ وأكرمك وأوصَلَكَ، قال: ويحك، يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم إني رسول الله؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمَكَ وأكرمَكَ وأوصَلَكَ، أما هذه ففي النفس منها شيء، فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك. فأسلم وشهد شهادة الحق، وفي رواية: أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم حينئذ: فما أصنع بالعُزى؟ فقال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : تخرأ عليها، فقال له أبو سفيان: إنك يا بن الخطاب رجل فاحش، ولم أخاطبك إنما أخاطب ابن عمي، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً، قال: نعم، وأمر صلى الله عليه وسلم فنادى مناديه: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، إلا المستثنين، وهم كما قاله مغلطاي وغيره: عبد الله بن سعد بن أبي سرح أسلم، وابن خَطَلٍ قتله أبو برزة، وقينتاه، وهما: فَرتَنَا، بالفاء المفتوحة والراء الساكنة والمثناة الفوقية والنون، وقُلَيبَة، بالقاف والموحدة مصغراً، أسلمت إحداهما، وقتلت الأخرى، وسَارَة مولاة لبني المطلب، ويقال: كانت مولاة عمر بن ضبع بن هشام، وأرْنَب علم امرأة، وقرينة قتلت، وعكرمة بن أبي جهل أسلم، والحارث بن نفيل قتله علي، ومقيس بن صُبَابة، بمهملة مضمومة وموحدتين، الأولى خفيفة، قتله نميلة الليثي، وهبار بن الأسود أسلم، وهو الذي عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، فنخس بعيرها حتى سقطَت على صخرة، وأسقطت جنينها، وكعب بن زهير أسلم، وهند بنت عتبة أسلمت، ووحشي بن حرب أسلم. انتهى.
وابن خَطَلٍ: بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة، وابن نُقَيدٍ: بضم النون وفتح القاف وسكون المثناة التحتية آخره عال مهملة.
وقد جمع الواقدي عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح، وأمر بقتل عشرة أنفس: ستة رجال، وأربع نسوة. روى أحمد ومسلم والنسائي، عن أبي هريرة، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بعث على إحدى المجنبتين خالد بن الوليد، وبعث الزبير على الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحُسر - بضم المهملة وتشديد السين المهملة - أي: الذين بغير سلاح، فقال لي: يا أبا هريرة، اهتف لي بالأنصار، فهتفت بهم، فجاءوا فطافوا به، فقال لهم: ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم، فقال - بإحدى يديه على الأخرى - احصدوهم حصداً حتى توافوني بالصفا، قال أبو هريرة: فانطلقتا فما نشاء أن نقتل أحداً منهم إلا قتلناه، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أُبيحت خضراء قريش، لا قّريشَ بعد اليومِ، فقال صلى الله عليه وسلم: من أغلق بابه فهو آمن.
قال في فتح الباري: وقد تمسك به من قال: إن مكة فتحت عنوة، وهو قول الأكثر.
وعن الشافعي - وهو رواية عن أحمد - إنها فتحت صلحاً لما وقع من هذا التأمين، ولإضافة الدور إلى أهلها؛ لأنها لم تقسم، ولأن الغانمين لم يملكوا دورها، وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها.(1/338)
وحجة الأولين ما وقع التصريح به من الأمر بالقتال، ووقوعه بخالد بن الوليد، وبتصريحه - عليه الصلاة والسلام - بأنها أحلتْ له ساعة من نهار، ونهيه عن التأسي به في ذلك، وأجابوا عن ترك القسمة: بأنها لا تستلزم عدم القسمة، وقد تفتح البلد عنوة ويمن على أهلها وتترك لهم دورهم. قال: وأما قول النووي: واحتج الشافعي بالأحاديث المشهورة أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على مر الظهران قبل دخول مكة، ففيه نظرة لأن الذي أشار إليه إن كان مراده ما وقع من قوله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن؛ كما تقدم، وكذا من دخل المسجد؛ كما عند ابن إسحاق؛ فإن ذلك لا يسمى صلحاً إلا إذا التزم من أشار إليه بذلك الكف عن القتال، والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشاً لم يلتزموا ذلك؛ لأنهم استعدوا للحرب. وإن كان مراده بالصلح وقوعَ عقده، فهذا لم ينقل، وما أظنه عنى إلا الاحتمال الأول، وفيه ما ذكرته. انتهى.
ثم دخل صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وهو على ناقته القصواء بين أبي بكر وأسيد بن حضير، فرأى أبو سفيان ما لا قبل له به، فقال للعباس: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، فقال العباس: ويحك، إنه ليس بملكٍ، ولكنها النبوة، قال: نعم.
روى أنه صلى الله عليه وسلم ضع رأسه تواضعاً لله، لما رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن رأسه ليكاد يمسُّ مقدم رحله، شكراً وخضوعاً لعظمته؛ إذ أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده.
وفي البخاري، من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح، وعلى رأسه المِغْفَرُ - بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء - زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس. وفي المحكم: هو ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة.
فلما نزعه، جاءه رجل، فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: اقتله، وفي حديث سعيد بن يربوع عند الدارقطني والحاكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أربعة لا نؤمنهم لا في حل ولا في حرم: الحويرث بن نُقيد، وهلال بن خطل، ومقيس بن صُبَابة، وعبد الله بن أبي سرح، قال؛ فأما هلال بن خطل فقتله الزبير... " الحديث، وحديث سعد بن أبي وقاص عند البزار والحاكم والبيهقي في الدلائل نحوه، قال: أربعة نفر وامرأتان، وقال: اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة، فذكره. لكن قال: عبد الله بن خطل، بدل هلال، وقال: عكرمة، بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين، وقال فأما عبد الله بن خطل، فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عماراً، وكان أشب الرجلين فقتله، الحديث، وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي؛ أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، وإسناده صحيح مع إرساله. ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله، وبه جزم البلاذري وغيره من أهل الأخبار، وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله، وكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام في السيرة: بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا فيه.(1/339)
وإنما أمر بقتل ابن خطل؛ لأنه كان مسلماً، فبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقاً - يعنى لأخذ الصدقات - وبعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه وكان مسلماً ونزل منزلاً، فأمر المولى أن يذبح تيساً ويصنع له طعاماً ونام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً، فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركاً، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الجمع بين الأقوال في اسمه: أنه كان يسمى عبد العزى، فلما أسلم سمى عبد الله، وأما من قال: هلال، فألبس عليه بأخ له اسمه هلال. وفي رواية أبي داود من حديث مصعب: لما كان يوم الفتح، أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر، فذكرهم. ثم قال: وأما ابن أبي سرح، فاختبأ عند عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث. ثم أقبل على أصحابه، فقال: " أما كان رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت عن بيعته يقتله؟ " فقالوا: يا رسول الله، ما ندري ما في نفسك ألا أومأت إلينا؟ قال: " إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين... " الحديث.
قال مالك - كما في رواية البخاري - : ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نرى يومئذ محرماً. انتهى.
وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك جازماً به. أخرجه الدارقطني في الغريب؛ ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر: دخل صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداءُ بغير إحرامِ.
وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن طاوس، قال: لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة إلا محرماً، إلا يوم فتح مكة.
وقد اختلف العلماء هل يجبُ على من دخل مكة الإحرام أم لا؟.
فالمشهور من مذهب الشافعي: أن من قصدها لغير النسك لا يجبُ عليه الإحرام مطلقاً. وفي قول: يجب إن لم يتكرر دخوله؛ كحطاب وحشاش وصياد.
والمشهور عن الأئمة الثلاثة: الوجوب. وفي رواية عن كل منهم: لا يجب، وجزم به الحنابلة باستثناء ذوى الحاجات المتكررة، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات. والله أعلم.
وقد زعم الحاكم في الإكليل: أن بين حديث أنس في المغفر، وبين حديث جابر في العمامة السوداء مُعَارضة.
وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر، ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كل منهما ما رآه؛ ويؤيده: أن في حديث عمرو بن حريث: أنه خطب الناس، وعليه عمامة سوداء. أخرجه مسلم أيضاً. وكانت الخطبة عند باب الكعبة، وذلك بعد تمام الدخول؛ وهذا الجمع للقاضي عياض.
وقال غيره: يجمع: بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر، وكانت تحت المغفر وقاية لرأسه الشريف من صدأ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهباً للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم.
وفي البخاري: عن أسامة بن زيد، أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله، أين تنزل بنا غَداً؟ قال صلى الله عليه وسلم: وهل ترك لنا عَقِيلٌ من منزل؟! وفي رواية: هل ترك لنا عَقِيلٌ من رباع أو دور؟! وكان عقيلٌ ورث أبا طالب وطالباً، ولم يرثْ علي ولا جعفر شيئاً؛ لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرينِ إذ ذاك، فكان عمر بن الخطاب يقول: لا يرث الكافر المؤمن، ولا المؤمن الكافر.
وفي رواية أخرى له قال - عليه الصلاة والسلام - : منزلنا إن شاء الله - إذا فتح الله الخيف حيث تقاسموا على الكفر، يعنى به: المحصب؛ وذلك أن قريشاً وكنانة خالفت على بني هاشم والمطلب - ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم - كما تقدم.
وفي رواية أخرى له: أن يوم فتح مكة، اغتسل في بيت أم هانئ ثم صلى الضحى ثماني ركعات، قالت: لم أره صلى صلاة أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود. وأجارَتْ أم هانئ حموين لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ.
والرجلان الحارث بن هشام، وزهير بن أمية بن المغيرة؛ كما قال ابن هشام. وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما، فأغلقتْ عليهما باب بيتها، وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم.(1/340)
ولما كان الغد من يوم الفتح، قام - عليه الصلاة والسلام - خطيباً في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرضَ، فهى حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً أو يَعضُدَ بها شجرة، فإن أحد ترخص فيها لقتال، فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أحلَّتْ لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب، ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، أي: الذين أطلقوا؛ فلم يسترقوا ولم يؤسروا، والطليق: الأسير إذا أطلق.
والمراد بالساعة التي أحلتْ له - عليه الصلاة والسلام - : ما بين أول النهار ودخول العصر كذا قاله في فتح الباري.
قال في المواهب: ولقد أجاد العلامة أبو محمد السرقسطي حيث يقول في قصيدته المشهورة: من البسيط:
ويوم مكة إذ أشرقتَ في أممِ ... يضيقُ عنها فِجَاجُ الوَعْثِ والسهلِ
خوافقْ ضَاقَ ذَرْعُ الخافقَين بهَا ... في قائمٍ من عَجَاجِ الخيلِ والإِبلِ
وَجَحفَلٍ قَذَفَ الأرْجَاءَ ذي لَجَبِ ... عَرَمرَمٍ كَزُهَاءِ الليلِ مُنْسَحِلِ
وأنتَ صلى عليكَ الله تقدمُهُم ... في بَهوِ إشراقِ نورٍ منك مُكْتَمِلِ
تنيرُ فوقَ أغر الوجهِ منتجبٍ ... متوجٍ بعزيزِ النصْرِ مُقْتبلِ
تسمو أمامَ جنودِ الله مُرتدياً ... ثوبَ الوَقَارِ لأمرِ الله ممتثلِ
خَشَعْتَ تختَ بهاء العز حين سمَت ... بكَ المهابةُ فعلَ الخائفِ الوَجِلِ
وقد تباشرْنَ أملاكُ السماءِ بما ... مَلَكتَ إذ نلتَ منه غايةَ الأملِ
والأرضُ تَرجُفُ من زَهْوٍ ومن فَرَقٍ ... والجوُ يُزْهِرُ إشراقاً من الجَذَلِ
والخيلُ تَخْتَالُ زهواً في أعِنتها ... والعيشُ يَنثَالُ زَهوَاً في ثنى الجدلِ
لولا الذي خطتِ الأقلامُ من قدرٍ ... وسابقٍ مِن قضاءِ غيرِ ذي حولِ
أهل ثهلانُ بالتهليلِ من طربٍ ... وذابَ يذبلُ تهليلاً من الذبلِ
المُلكُ لله، هذا عز من عقدَت ... له النبوةُ فوقَ العرشِ في الأزلِ
شعبتَ صدْعَ قريشِ بعد ما قذفَت ... بهمْ شعوب شعابَ السهلِ والقللِ
قالوا محمدُ قد زارَت كتائبهُ ... كالأسدِ تزأرُ في أنيابِهِ العصلِ
فويلَ مكَةَ من آثارِ وطأتِهِ ... وويلَ أم قريشٍ من جوى الهبلِ
فجدت عفواً بفضلِ العفوِ منكَ ولمْ ... تلمم ولا بأليمِ اللومِ والعذل
ضربتَ بالصفحِ صفحاً عن غوائِلهِم ... طولاً أطالَ مقيل النومِ في المقلِ
رحمتَ واشج أرحام أتيحَ لها ... تحتَ الوشيجِ نسيج الروعِ والوجلِ
عاذوا بظل كريمِ العفو ذي لطفٍ ... مباركِ الوجهِ بالتوفيقِ مشتملِ
أزكى الخليقةِ أخلاقاً وأظهرها ... وأكرَم الناسِ صفحاً عن ذوى الزلل
وطفْت بالبيت محبوراً وطافَ به ... مَن كانَ عنه قبيل الفتحِ في شغلِ(1/341)
والجحفل: الجيش العظيم، قذف الأرجاء، أي: متباعدها، واللجب - بالجيم - الضجة من كثرة الأصوات، والعرمرم: الضخم الكثير العدد، وقوله: كزهاء الليل شبهه بالليل في سده الأفق، واسوداده بالسلاح، والمنسحل - بالحاء المهملة - : الماضي في سيره يتبع بعضه بعضاً. قوله: " في بهو إشراق نور " شبه الذي يغشاه - عليه الصلاة والسلام - ببهو أحاط به، والبهو: البناء العالي كالإيوان ونحوه، والمنتجب: المتخير من أصل نجيب كريم، المقتبل: المستقبل، ترجف: تهتز، والزهو: الخفة من الطرب، يعني: أن الأرض اهتزت فرحاً بهذا الجيش، وفرقاً من صولته، أي: كادت تهتز؛ قال تعالى: " إِذ جَاءُوكم مِن فَوقكِم وَمِن أسفَلَ مِنكُم وإذ زَاغتِ الأبصاَرُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ " الأحزاب: 10، أي: كادت تبلغ، الجدل: جمع جديل، وهو الزمام المضفور، وثني الجدل ما انثنى على أعناق الإبل، أي: انعطف. وثهلان، جبل معروف، وأهَلَ: رفع صوته. ويذبلُ: جبل أيضاً، والذبل: الرماح الذوابل، وهي التي لم تقطع من منابتها حتى ذبلت، أي: جفت ويبست، وتهليلاً، أي: جبناً وفزعاً، يعني: لولا ما سبق من تقدير الله أن الجبال لا تنطق، لرفع ثهلان صوته، وهلل من الطرب، ولذاب يذبل من الجزع والفرق.
وقوله: شعبت أي: جمعت وأصلحت. وقذفت، أي: فرقت بهم مخافة شعوب، وشعوب: اسم للمنية؛ لأنها تفرق الجماعات؛ من شعبت، أي: فرقت، وهو من الأضداد. والشعاب الطرق في الجبال. والسهل: خلاف الجبل، والقلل: رءوس الجبال. يعني أنه صلى الله عليه وسلم، عفا عنهم بعدما تصدعوا أي: تفرقوا، وهربوا من خوفه إلى كل سهل وجبل.
وقوله: كالأسد تزأر في أنيابها العصل أي: المعوجة. والله أعلم.
ولما فتح الله مكة على رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الأنصار فيما بينهم: أتَرَوْنَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيمُ بها. وكان - عليه الصلاة والسلام - يدعو على الصفا، رافعاً يديه، فلما فرغ من دعائه، قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال صلى الله عليه وسلم: " معاذ الله، المحيا محياكم، والمماتُ مماتكم " . وهَم فضالة بن عمير بن الملوح أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضالة؟! قال: نَعَمْ يا رسول الله، قال: ماذا كنت تحدَّثُ به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: استغفر الله، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، وكان فضالة يقول: والله، ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئاً أحب إلي منه.
وطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان.
وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنماً، فكلما مر بصنم، أشار إليه بقضيبه، وهو يقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً " ؛ فيقع الصنم لوجهه. رواه البيهقي.
وفي رواية أبي نعيم: قد ألزقها الشياطين بالرصاص والنحاس.
وفي تفسير العلامة ابن النقيب المقدسي: أن الله تعالى لما أعلمه بأنه قد أنجز له وعده بالنصر على أعدائه، وفتحه مكة، وإعلائه كلمة دينه، أمره إذا دخل مكة أن يقول: " وقل جاء الحق وزهق الباطل " ؛ فصار صلى الله عليه وسلم يطعن الأصنام التي حول الكعبة بمحجنه، ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل " ، فيخر الصنم ساقطاً، مع أنها كانت كلها مثبتة بالحديد والرصاص، وكانت ثلاثمائة وستين صنماً بعدد أيام السنة.
قال: وفي معنى الحق والباطل لعلماء التفسير أقوال: قال قتادة: جاء الحق: القرآن، وذهب الشيطان.
وقال ابن جريج: جاء الجهاد، وذهب الشرك.
وقال مقاتل: جاءت عبادة الله، وذهبت عبادة الشيطان.(1/342)
وقال ابن عباس: وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح حول البيت ثلاثمائة وستين صنماً، كانت لقبائل العرب يحجون إليها وينحرون لها، فشكا البيت إلى الله تعالى، فقال: أي ربِّ، حتى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك؟! فأوحى الله إليه إني سأحدث لك نوبةً جديدةً يدفُّونَ إليك دفوف النسور ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها، لهم عجيج حولك بالتلبية، قال: ولما نزلت الآية يوم الفتح، قال جبريل - عليه الصلاة والسلام - لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ مخصرتك ثم ألقها. فجعل يأتي الصنم، فيطعن في عينه أو بطنه بمخصرته، ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل " ، فينكب الصنم لوجهه، حتى ألقاها جميعاً، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة، وكان من قوارير صفر، فقال: يا علي، ارمِ به، فحمله علي حتى صعد ورمَى به وكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون منه انتهى.
وعن ابن عباس قال: لما قدم صلى الله عليه وسلم، أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجَتْ، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام - يعني: القداح التي كانوا يستقسمون بها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قاتلهم الله، أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط " . فدخل البيت وكبر في نواحيه ولم يصل، رواه الترمذي.
وعن ابن عمر قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على ناقته القَصْوَاء، وهو مردف أسامة حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة فقال: ائتني بالمفتاح، فذهب إلى أمه، فأبت أن تعطيه، فقال: لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي، فأعطته إياه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إليه، ففتح الباب. رواه مسلم.
وروى الفاكهي من طريق ضعيفة، عن ابن عمر أيضاً قال: كان بنو طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده.
وعثمان المذكور هو: عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزي، ويقال له: الحَجَبي بفتح المهملة والجيم، وبنوه يعرفون الآن بالشيبيين نسبة إلى شيبة بن عثمان ابن أبي طلحة، وهو ابن عم عثمان، وعثمان هذا لا وَلَدَ له، وله صحبة ورواية، واسم أم عثمان: سُلآفَة، بضم السين المهملة، وتخفيف الفاء.
وفي الطبقات لابن سعد: عن عثمان بن طلحة قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الإثنين والخميس، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فأغلظتُ له ونلت منه، فحلم علي، ثم قال: يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئتُ، فقلت؛ لقد هلكَتْ قريش يومئذ وذلَتْ، قال: بل عمرت وعزت يومئذ، ودخل الكعبة، فوَقعت كلمته مني موقعاً ظننت أن الأمر يومئذ سيصير إلى ما قال، فلما كان يوم الفتح قال: يا عثمان، ائتني بالمفتاح، فأتيته به، فأخذه منى ثم دفعه إلي وقال: خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف، فلما وليت ناداني، فرجعت إليه فقال: ألم يكن الذي قلت لك. قال: فذكرت قوله لي بمكة قبيل الهجرة: " لعلك سترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت " قلت: بلى، أشهد أنك رسول الله.
وفي التفسير: أن هذه الآية " إنً اللهَ يَأمُرُكُم أن تُؤَدُوا الأماناتِ إلى أهلِهَا " النساء: 58، نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي، أمره - عليه الصلاة والسلام - أن يأتيه بمفتاح الكعبة، فأبى عليه وأغلق باب البيت وصعد إلى السطح، وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه. فلوى علي يده، وأخذ منه المفتاح، وفتح الباب.
قلت: يتعين أن يكون المراد بالبيت في: وأغلق باب البيت بيتَ نفسِهِ؛ إذ لو كان المراد بالبيت الكعبة لا يمكن علياً - كرم الله وجهه - لَيُ يده. وأما في بيت نفسه، فيمكن ذلك بنحو قلع الباب أو كسره، والله أعلم.(1/343)
فدخل صلى الله عليه وسلم البيت، فلما خرج، سأله العباس أن يعطيه المفتاح، ويجمع له بين السقاية والسدانة، فأنزل الله الآية. وأمر صلى الله عليه وسلم علياً أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك علي فقال: " أكرهت وآذيت، ثم جئت ترفق " ، فقال علي: لقد أنزل الله في شأنك... وقرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن محمداً رسول الله، فجاء جبريل فقال: ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة، فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان، فكان المفتاح معه، فلما مات دفعه إلى شيبة، فالمفتاح والسدانة في أولادهم إلى يوم القيامة.
قال ابن ظفر في ينبوع الحياة: قوله: " ولو أعلم أنه رسول الله لم أمنعه " ، هذا وهم؛ لأنه كان ممن أسلم، فلو قال هذا كان مرتداً. وعن الكلبي: لما طلب - عليه الصلاة والسلام - المفتاح من عثمان، مد به يده إليه، فقال العباس: يا رسول الله، اجعلها مع السقاية، فقبض عثمان يده بالمفتاح، فقال له صلى الله عليه وسلم: " إن كنت يا عثمان تؤمن بالله واليوم الآخر فهاته " . فقال: هاكه بالأمانة، فأعطاه إياه، ونزلت الآية. قال ابن ظفر: وهذا أولى بالقبول.
وفي رواية لمسلم: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأسامة بن زيد، وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي، فأغلقوا عليهم الباب، قال ابن عمر: فلما فتحوا، كنت أول من ولج، فلقيت بلالاً فسألته: هل صلى فيه رسول! الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، بين العمودين اليمانيين، وذهب عني أن أسأله كم صلى. وفي روايات البخاري: جعل عموداً عن يساره، وعموداً عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه. وليس بين الروايتين مخالفة؛ لكن قوله في الرواية الأخرى: " وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة " كأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان اثنين، ولهذا أعقبه البخاري برواية إسماعيل بن أبي أويس التي قال فيها عمودين عن يمينه.
ويمكن الجمع بين الروايتين: بأنه حيث ثَنَّى، أشار إلى ما كان عليه البيت في زمنه صلى الله عليه وسلم، وحيث أفرد، أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك، ويرشد إليه قوله: " وكان البيت يومئذ... " ؛ لأن فيه إشعاراً بأنه تغير عن هيئته الأولى.
ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت، والثالث على غير سمتهما ولفظ المتقدمين في إحدى روايات البخاري مشعر بذلك.
وفي رواية لمسلم: " جعل عمودين عن يساره وعموداً عن يمينه " عكس رواية إسماعيل. وكذلك قال الشافعي وبشر بن عمرو في إحدى الروايتين عنهما.
وجمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين: باحتمال تعدد الواقعة، وهو بعيد؛ لاتحاد مخرج الحديث.
وقد جزم البيهقي بترجيح رواية إسماعيل، ووافقه عليه ابن العربي، والقعنبي، وأبو مصعب، ومحمد بن الحسن، وأبو حذافة؛ وكذلك الشافعي وابن مهدي في إحدى الروايتين عنهما. انتهى ملخصاً من فتح الباري.
وقد بين موسى بن عقبة في روايته، عن نافع؛ أن بين موقفه صلى الله عليه وسلم وبين الجدار الذي استقبله قريب من ثلاثة أذرع، وجزم برفع هذه الزيادة مالك، عن نافع فيما أخرجه الدارقطني في الغزو، ولفظه: " وصلى بينه وبين القبلة ثلاثة أذرع " . وفي كتاب مكة للفاكهي والأزرقي: أن معاوية سأل ابن عمر: أين صلى رسول صلى الله عليه وسلم؟. فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة؛ فعلى هذا: ينبغي لمن أراد الاتباع في ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع؛ فإنه تقع قدماه في مكان قدميه صلى الله عليه وسلم إن كان ثلاثة سواء، وتقع ركبتاه أو يداه أو وجهه في محلهما إن كان أقل من ثلاثة أذرع. والله أعلم.
وفي رواية، عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة أنه - عليه الصلاة والسلام - لما دخل البَيتَ، دعا في نواحيه كلها، ولم يصل فيه حتى خرج، فلما خرج، ركع قبل البيت ركعتين، فقال: هذه القبلة. رواه مسلم. والجمع بينه وبين حديث ابن عمر: أن أسامة أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة؛ كما رواه أحمد والطبراني بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد في ذلك على غيره، وحيث نفاها أراد ما في علمه؛ لكونه لم يره حين صلى، وبكون ابن عمر ابتدأ بلالاً بالسؤال، ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة، فسأل أسامة أيضاً.
وقال النووي: قد أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال؛ لأنه مثبت، فمعه زيادة علم؛ فوجب ترجيحه.(1/344)
قال: وأما نفي أسامة: فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة، أغلقوا الباب، واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ثم اشتغل أسامة في ناحية من نواحي البيت، والنبيُ صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريبٌ منه، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بلال لقربه منه، ولم يره أسامة لبعده واشتغاله، وكانت صلاته - عليه الصلاة والسلام - خفيفة؛ فلم يرها أسامة؛ لإغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملاً بظنه. وأما بلال: فتحققها وأخبر بها. انتهى.
وتعقبوه بما يطول ذكره، وأقرب ما قيل في الجمع: أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة لما غاب عنه أسامة من الكعبة؛ لأمر ندبه إليه، وهو أن يأتي بماء يمحو به الصور التي؟ كانت في الكعبة؛ فأثبت الصلاة بلال؛ لرؤيته لها، ونفاها أسامة؛ لعدم رؤبته.
ويؤيده: ما رواه أبو داود والطيالسي، عن أسامة بن زيد، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ورأى صورة، فدعا بدلو من ماء، فأتيته به، فجعل صلى الله عليه وسلم يمحوها، ويقول: " قاتل الله قوماً يصورُونَ ما لا يخلقون " ورجاله ثقات. وأفاد الأزرقي في تاريخ مكة: أن خالد بن الوليد كان على باب الكعبة يذب عنه صلى الله عليه وسلم الناس.
وفي البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم أقام خمس عشرة ليلة، وفي رواية: تسع عشرة، وفي رواية أبي داود: سبع عشرة، وعند الترمذي: ثماني عشرة، وفي الإكليل: أصحها بضع عشرة يقصر الصلاة.
وقال الفاسي في تاريخ مكة: كان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان، وكان مما قيل من الشعر في ذلك قول حسان بن ثابت الأنصاري: من الوافر:
عَفَت ذَاتُ الأصابِعِ فَالْجِوَاء ... إِلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خَلاءُ
دِيَار مِنْ بني الْحَسحَاسِ قَفْرٌ ... تُعَفيهَا الرَوَامِسُ وَالسَّمَاءُ
وَكَانَتْ لا يَزَالُ بِهَا آنِيسٌ ... خِلالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
فَدَعْ هَذَا وَلَكِن مَن لِطَيْفٍ ... يُؤَرقُنِي إِذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
لِشَعْثَاء التِي قد تَيمتُه ... فَلَيسَ لِقَلْبِه منْهَا شِفَاءُ
كَأن سَبِيئَةً مِنْ بَيتِ رَأسٍ ... يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلْ وَمَاءُ
عَلَى أنيابها أو طعم غض ... من التفاحِ هصره الجناء
إِذَا مَا الأشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْماً ... فَهُن لِطَيبِ الراحِ الْفِدَاءُ
نوليهَا الْمَلامَةَ إِن ألَمْنَا ... إذَا مَا كَانَ مَغْث أوْ لِحاءُ
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكنَا مُلُوكاً ... وَأُسداً مَا يُنَهْنِهُنَا اللقَاءُ
عَدِمْنَا خَيْلَنَا إِنْ لَم تَرَوْهَا ... تُثِيرُ النقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ
يُنَازِعنَ الأعِنةَ مُصْغِيَاتٍ ... عَلَى أكتَافِهَا الأسَل الظمَاءُ
تَظَل جِيَادُنَا مُتَمَطرَاتٍ ... يُلَطمُهُن بِالخُمُرِ النِّسَاءُ
فَإمَّا تُغرِضُوا عَنا اعتَمَرنَا ... وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ
وإلاَّ فَاصْبِروا لِجِلادِ يَومٍ ... يُعِز الله فِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَجبرِيل رَسُولُ الله فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
وَقَالَ الله: قَد أرْسَلتُ عَمداً ... يَقُولُ الحَق إِن نَفَعَ الْبَلاءُ
شَهِدْتُ بِهِ فَقُومُوا صَدقُوهُ ... فَقُلتُمْ: لا نَقُومُ ولا نَشَاءُ
وَقَالَ الله: قَدْ يَسرْتُ جُنْداً ... هُمُ الأنصَارُ عُرْضَتُهَا اللقَاءُ
لَنَا في كُل يَوْمٍ مِنْ مَعَد ... سِبَاب أوْ قِتَال أوْ هِجَاءُ
فَنُحْكِمُ بِالْقَوَافي مَنْ هَجَانَا ... وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدمَاءُ
ألا بلغ أبَا سُفْيَانَ عَني ... مُغَلْغَلةً فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ
بِأن سُيُوفَنَا تَرَكَتْكَ عَبدَاً ... وَعَبدُ الدَارِ سَادَتُهَا الإمَاءُ(1/345)
هَجَوْتَ مُحَمداً وَأجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِندَ اللِه في ذَاكَ الْجَزَاء
أتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفء؟؟! ... فَشَركُمَا لِخَيركُمَا الْفِدَاءُ
هَجَوْتَ مبَاركاً بَراً حَنِيفاً ... أمِينَ الله شِيمَتُه الْوَفَاءُ
أمَن يَهْجُو رَسُولَ الله مِنكُم ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ؟!
فَإِن أبي وَوَالِدهُ وَعِرْضِي ... لِعِرضِ مُحَمَدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
لِسَانِي صَارِمْ لا عَيْبَ فِيهِ ... وبحري لا تُكَدره الدلاء
قال ابن هشام: قالها حسان قبل الفتح، وبلغني عن الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى النساء يلطمنَ الخيل بالخمر تبسم إلى أبي بكر الصديق.
قال ابن إسحاق: وقال أنس بن زنيم الديلي يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان قال فيهم عمرو بن سالم الخزاعي من الطويل:
أأنتَ الَذِي تُهدي مَعَد بِأمرِهِ ... بَلِ الله يَفدِيهِم وَقَالَ لَكَ اشهَدِ
وَمَا حَمَلَت مِن نَاقَةِ فَوقَ رَحلِهَا ... أبرَّ وَأوفَى ذِمَةً مِن مُحَمَدِ
أحَثَّ عَلَى خَيرٍ وَأسبَغَ نَائِلاً ... إِذَا رَاحَ كَالسيْفِ الصَقِيلِ الْمُهَندِ
وَأكسَى لِبُرْدِ الخَالِ قَبل ابتِذَالِهِ ... وَأعطَى لِرَأسِ السابِقِ المُتجَردِ
تَعَلم رَسُولَ الله أنكَ مدرِكِي ... وَأنَ وَعِيداً مِنْكَ كَالأخذِ بِالْيَدِ
تَعَلم رَسُولَ الله أنَكَ قَادر ... عَلَى كُل صِرم مُتْهِمِينَ ومُنْجِدِ
تَعَلَمْ بِأن الرَكبَ رَكبَ عُوَيمرٍ ... هُمُ الكَاذِبُونَ المُخْلِفُو كُل مَوْعِدِ
وَنَبوا رَسُولَ الله أني هَجَوتُهُ ... فَلاً حَمَلَتْ سَوطِي إِلَى إِذَن يَدِي
سِوَى أننِي قَد قُلتُ وَيلُ أم فِتيَةِ ... أُصِيبُوا بِنَخسٍ لا بِطَلقٍ وَأسْعُدِ
أصَابَهُمُ مَن لَم يَكُن لِدِمَائِهِم ... كِفَاء فَعَزت عَبرَتِي وَتَبَلُدِي
فَإِنكَ قَد أخفَرتَ إِن كُنتَ سَاعِياً ... بِعَبدِ بنِ عَبْدِ الله وَابنَةِ مَهْوَدِ
ذُوَيب وَكُلْثُوم وَسَلمَى تَتَابَعُوا ... جَمِيعاً فَإِلاَّ تَدمَعِ الْعَيْن أكمَدِ
وَسَلمَى وَسَلمَى لَيسَ حَي كَمِثلِهِ ... وَإخْوتهُ وَهَل مُلُوك كَأعْبُدِ؟!
فَإني لا دِيناً فَتَقتُ ولا دَماً ... هَرَقتُ تَبَين عَالِمَ الحَق وَاقْصدِ
فأجابه بُدَيل بن عبد مناف بن أم أصرم فقال من الطويل:
بَكَى أنس رَزناً فَأعوَزَهُ البُكَا ... فَألاَّ عَدِيا إِذ تُطَلُّ وَتَبْعُدُ
بَكَيتَ أبا عَبسٍ لِقُربِ دِمَائِهَا ... فَتُعذِرَ إِذ لا يُوقِدُ الحَربَ مُوقِدُ
أصَابَهُم يَومَ الخَنَادِمِ فِتيَة ... كِرام فَسَل، مِنهُم نُفَيلٌ وَمَعبَدُ
هُنَالِكَ إن تُسفَح دُمُوعُكَ لا تُلَم ... عَلَيهِم وإن لَم تَدمَع الْعَين فَاكمَدُوا
قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: وقال بُجَيرُ بن زهير بن أبي سلمى في يوم الفتح: من الوافر:
نَفى أهل الحَبلق كُل فَج ... مُزَينَةُ غُدوَةً وَبَنُو خُفَافِ
ضَرَبنَاهُم بمَكةَ يَؤمَ فَتح الن ... بِي الخَيْرِ بِالبِيضِ الخِفَافِ
صَبحنَاهُم بِسَبعٍ مِن سُلَيم ... وَألفٍ مِنْ بني عُثْمَانَ وَافي
نَطَا أكتَافَهُم ضَرباً وَطَعْنَاً ... وَرَشْقاً بِالْمُرَيشَةِ اللِّطَافِ
تَرَى بَين الصُفُوفِ لَهَا حَفِيفاً ... كَما انصَاعَ الْفُواقُ مِنَ الرصَافِ
فَرُحنَا وَالْجيَادُ تَجُولُ فِيهِم ... بِأرمَاحٍ مُقَوَمَةِ الثقَافِ(1/346)
فَأُبنَا غَانِمِينَ بِمَا اشتَهَينَا ... وَآبَوا نَادمِينَ عَلَى الْخِلافِ
وَأعطَينَا رَسُولَ الله مِنا ... مَوَاثِقَنَا عَلَى حسنِ التصافِي
وَقَد سَمِعُوا مَقَالَتَنَا فَهَموا ... غَدَاةَ الرَوْعِ مِنا بِانْصِرافِ
وفيها: غزوة حُنَين بالتصغير، وهو واد فوق ذي المجاز، وقيل: بينه وبين مكة ثلاث ليال قرب الطائف، وتسمى: غزوة هوازن؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة أهلها، مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض، وحشدوا، وقصدوا محاربة المسلمين، وكان رئيسهم مالك بن عوف النصري، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يوم السبت لست ليال خلون من شوال في اثني عشر ألفاً من المسلمين: عشرة آلاف من أهل المدينة، وألفان ممن أسلم من أهل مكة، وهم الطلقاء: يعني: الذين خلى عنهم يوم فتح مكة، وأطلقهم فلم يسترقَهم، واحدهم: طليق، فعيل: بمعنى مفعول، وهو الأسير إذا أطلق سبيله كما تقدم.
واستعمل صلى الله عليه وسلم على مكة عتاب بن أسيد، وخرج معه صلى الله عليه وسلم ثمانون من المشركين، منهم صفوان بن أمية، وكان صلى الله عليه وسلم استعار منه مائة درع بأداتها، فوصل إلى حنين ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال، فبعث مالك بن عوف ثلاثة نفر يأتونه بخبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعوا إليه وقد تفرقَت أوصالهم من الرعب.
ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، فدخل عسكرهم، فطاف به، وجاء بخبرهم.
وفي حديث سهل بن الحنظلية عند أبي داود، بإسناد حسن: أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطنبوا السير، فجاء رجل فقال: انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشياههم، اجتمعوا إلى حنين، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: تلك غنيمة المسلمين إن شاء الله تعالى.
وقوله: عن بكرة أبيهم كلمة للعرب يريدون بها الكثرة وتوفر العدد، وليس هناك بكرة في الحقيقة، وهي التي يستقى عليها الماء، فاستعيرَتْ هنا.
وقوله: بظعنهم أي: بنسائهم، واحدتها: ظعينة، وأصل الظعينة: الراحلة التي ترحل ويظعن عليها، أي: يسار، وقيل للمرأة: ظعينة؛ لأنها تظعن مع زوجها حيث ما ظعن، أو لأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت.
وقيل: الظعينة المرأة في الهودج، ثم قيل للمرأة بلا هودج، وللهودج بلا امرأة: ظعينة. انتهى.(1/347)
روى يونس بن بكير في زيادة المغازي، عن الربيع قال: قال رجل يوم حنين: لن نُغلب اليوم من قِلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ركبَ صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء الدلدل، ولبس درعين والمغفر والبيضة، فاستقبلهم من هوازن ما لم يروا مثله قَط من السواد والكثرة، وذلك في غبش الصبح، وخرجت الكتائب من مضيق الوادي، فحملوا حملة واحدة، فانكشفت خيل بني سليم مولية، وتبعهم أهل مكة والناس، فقال أخو صفوان بن أمية: غلبت هوازن، لا يرد هاربهم إلا البحر. فقال له صفوان أخوه: بفيكَ الكِثْكِثُ، لأنْ يَرُبني رجل من قريش خير لي من أن يربني رجل من هوازن رئيسهم مالك بن عوف، ولم يثبت معه صلى الله عليه وسلم يومئذ إلا العباس بن عبد المطلب، وعلى بن أبي طالب، والفضل بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر، وعمر، وأسامة بن زيد في أناس من أهل بيته وأصحابه. قال العباس: وأنا آخذ لجام بغلته أكُفها مخافة أن تصل إلى العدو؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتقدم في نحر العدو، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه، وجعل - عليه الصلاة والسلام - يقول للعباس: ناد يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمُرَةِ، يعني: شجرة بيعة الرضوان التي بايعوه تحتها إلا يفروا عنه، فجعل ينادي تارة: يا أهل السمرة، وتارة: يا أصحاب سورة البقرة، وكان العباس رجلاً صيتاً، فلما سمع المسلمون نداء العباس، أقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها يقولون: يا لبيك يا لبيك، فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع، انحدر عنه وأرسله، فرجع بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم - عليه الصلاة والسلام - أن يصدقوا الحملة، فاقتتلوا مع الكفار، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى قتالهم، فقال؛ الآن حَمِيَ الوَطِيسُ، وهو التنورُ، ولم تسمع من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم. وتناول صلى الله عليه وسلم حصيات من الأرض، ثم قال: شاهت الوجوه، أي: قبحت، ورمى بها في وجه المشركين، فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه من تلك القبضة. وفي رواية مسلم: قبضة من تراب من الأرض.
فيحتمل أنه رمى بذا مرة، وبالأخرى أخرى، ويحتمل أن يكون أخذ قبضةً واحدةً مخلوطة من حصى وتراب.
ولأحمد وأبى داود والدارمي، من حديث أبي عبد الرحمن الفهري، في قصة حنين: فولى المسلمون مدبرين؛ كما قال الله تعالى: " ثُمَ وَليتُم مُّدبِرِين " التوبة: 25، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا عبد الله، أنا عبد الله ورسوله. ثم اقتحَمَ عن فرسه، وأخذ كَفاً من تراب، قال: فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنه ضرب وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فهزمهم الله تعالى.
قال يعلى بن عطاء، راوية عن أبي همام، عن أبي عبد الرحمن الفهري، فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأتْ عيناه وفمه تراباً، وسمعنا صلصلةَ من السماء كإمرار الحديد على الطست الجديد - بالجيم - قال في النهاية: وصف الطست وهي مؤنثة بالجديد، وهو مذكر: إما لأن تأنيثها غير حقيقي، فأوله على الإناء والظرف، أو لأن فعيلاً يوصف به المؤنث بلا علامة تأنيث؛ كما يوصف به المذكر، نحو امرأة قتيل. انتهى.
ولأحمد والحاكم، من حديث ابن مسعود: فحادَت به صلى الله عليه وسلم بغلته، فمال السرج، فقلت: ارتفعْ رفعَكَ الله، فقال: ناولني كَفاً من تراب، فضرب وجوههم، وامتلأت أعينهم تراباً، وجاء المهاجرون والأنصار سيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، فولى المشركون الأدبار.
وروى أبو جعفر بن جرير، بسنده عن عبد الرحمن مولى أم برثن، عن رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، لم يقوموا لنا حلب شاة، فلما لقيناهم، جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا، قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا.
وفي سيرة الدمياطي: كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمراء أرخَوهَا بين أكتافهم.(1/348)
وفي البخاري، عن البراء سأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، كان هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم، فاستقبلنا بالسهام، ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها يوكلها فيدفعها في نحر العدو، وهو يقول: من مجزوء الرجز:
أنَا النبِيُ لا كَذِب ... أنا ابنُ عَبدِ المُطلِب
وهذا إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبيُ والنبيُ لا يكذب، فلستُ بكاذب فيما أقول حتى انهزموا، بل أنا متيقن أن الذي وعدني الله به من النصر حق، فلا يجوز علي الفرار.
وأما ما في رواية مسلم، عن سلمة بن الأكوع من قوله: فارجع منهزماً، إلى قوله: مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزماً، فقال: لقد رأى ابن الأكوع فزعاً فقال العلماء: قوله: " منهزماً حال من ابن الأكوع؛ كما صرح أولاً بانهزامه، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم انهزَمَ. وقد قالت الصحابة كلهم: إنه - عليه الصلاة والسلام - ما انهزم، ولم ينقل أحد قط: أنه انهزم في موطن من المواطن. وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يُعتقد انهزامه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز ذلك عليه، بل كان العباس وأبو سفيان بن الحارث آخذين ببغلته يَكُفَّانها عن إسراع التقدم إلى العدو.
وقد تقدم في غزوة أحد ما نسب لابن المرابط من المالكية مما حكاه القاضي عياض في الشفاء؛ أن من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم هزم - يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن العلامة البساطي تعقبه بما لفظه: هذا القائل إن كان يخالف في أصل المسألة - يعني حكم الساب - فله وجه، وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته، فمشكل. انتهى.
قال بعضهم: وقد كان ركوبه - عليه الصلاة والسلام - البغلة في هذ المحل الذي هو موضع الحرب والطعن والضرب - تحقيقاً لنبوته؛ لما كان الله تعالى خصه به من مزيد الشجاعة وتمام القوة؛ وإلا فالبغال عادة من مراكب الطمأنينة ولا يصلح لموطن الحرب في العادة إلا الخيل؛ فبين - عليه الصلاة والسلام - أن الحرب عنده كالسلم قوةَ قلب، وشجاعة نَفسِ، وثقة وتوكلاً على الله تعالى. وقد ركبت الملائكة في الحرب معه - عليه الصلاة والسلام - على الخيل لا غير؛ لأنها بصدد ذلك عرفاً دون غيرها من المركوبات، ولهذا لا يُسْهَمُ في الحرب إلا للخيل، والسر في ذلك أنها المخلوقة للكر والفر بخلاف البغال والإبل. انتهى.
وعند ابن أبي شيبة، من مرسل الحكم بن عتيبة: لم يبق معه - عليه الصلاة والسلام - إلا أربعة نفر، ثلاثة من بني هاشم، ورجلاً من غيرهم: علي، والعباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالركاب، وابن مسعود من الجانب الآخر، وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل.
وفي الترمذي بإسناد حسن من حديث ابن عمر: لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولون وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل.
وفي شرح مسلم للنووي: إنه ثبت معه - عليه الصلاة والسلام - اثنا عشر رجلاً، وكأنه أخذه من قول ابن إسحاق. ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب: أن الذين ثبتوا معه كانوا عشرة فقط، وذلك لقوله: من الطويل:
نَصَرْنَا رَسُولَ الله في الحَرْب تِسْعَةًوَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَ عَنْهُ فَأقْشَعُوا
وَعَاشِرُنَا لاقَى الحِمَامَ بِنَفْسِهِ ... لِمَا مَسهُ في الله لا يَتَوَجعُ
وقد قال الطبراني: الانهزام المنهيُّ عنه هو ما وقع على غير نية العود، وأما الاستطراد للكرة فهو كالتحيز إلى فئة.
وأما قوله - عليه الصلاة والسلام - : من مجزوء الرجز:
أنَا النبِيُ لا كَذِبْ ... أنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطلِبْ
فقال العلماء: إنه ليس بشعر؛ لأن الشاعر إنما سمي شاعراً؛ لوجوه: منها: أنه شعر المقول وقصده واهتدى إليه وأتى به كلاماً موزوناً على طريقة العرب مقفُّى، فإن خلاً من هذه الأوصاف أو بعضها لم يكن شعراً ولم يكن قائله شاعراً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصدْ بكلامه ذلك الشعر ولا أراده، فلا يعد شعراً وإن كان موزوناً.(1/349)
وأما قوله - عليه الصلاة والسلام - : أنا ابن عبد المطلب، ولم يقل: أنا ابن عبد الله: فأجيب بأن شهرته بجده كانت أكثر من شهرته بأبيه؛ لأن أباه توفي في حياة أبيه عبد المطلب قبل مولده - عليه الصلاة والسلام - وكان عبد المطلب مشهوراً شهرة ظاهرة شائعة، وكان سيد قريش، وكان كثير من الناس يدعون النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب، ينسبونه إلى جده لشهرته، ومنه حديث ضمام بن ثعلبة في قوله: أيكم ابن عبد المطلب؟ وقيل غير هذا.
وأمر صلى الله عليه وسلم أن يقتل من قدر عليه، وأفضى المسلمون في القتل إلى الذرية فنهاهم - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك، وقال: " من قتل قتيلاً له عليه بينة، فله سلبه " ، واستلبَ طلحة وحده ذلك اليومَ عشرينَ رجلاً.
قال ابن القيم في الهدي النبوي: كان الله تعالى وعد رسوله إذا فتح مكة، دخل الناس في دين الله أفواجاً، ودانت له العرب بأسرها. فلما تم الفتح المبين، اقتضت حكمته أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام وأن يتجمعوا ويتألبوا لحربه - عليه الصلاة والسلام - ليظهر أمره تعالى وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكراناً لأهل الفتح، وليظهر الله تعالى رسوله وعباده، وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون قبلها مثلها، ولا يقاومهم بعدُ أحَد من العرب، فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عَدَدِهْم وعددِهْمِ وقوة شوكتهم ليطامن رؤوساً رفعت بالفتح، ولم تدخل بلده وحرمه كما دخل - عليه الصلاة والسلام - واضعاً رأسه منحنياً على مركوبه؛ تواضعاً لربه وخضوعاً لعظمته؛ أن أحل له بلده ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده؟ ليبينَ سبحانه لمن قال؛ " لن نُغلب اليوم من قلة " : أن النصر إنما هو من عند الله تعالى، وأنه من ينصره فلا غالبَ له، ومن يخذله فلا ناصر له، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتكم، فإنها لن تغني عنكم شيئاً، فوليتم مُدبرين. فلما انكسرَتْ قلوبهمِ، أرسلت خلِع الجبر من بريد: " أنزَلَ اللهُ سَكيِنتَه عَلىَ رَسُوله وَعَلىَ المؤمنِينَ وَأنزلَ جُنوداً لم تَروْهَا " التوبة: 26، وقد اقتضت حكمته تعالى أن خِلَعَ النصرِ وجوائزه إنما تفاض على أهل الانكسار: " وَنرُيد أن نمُنَّ عَلَى الَذِينَ أستُضعِفُوا فيِ الأرضِ " القصص: 15.
قال: وبهاتين الغزاتين - أعني حنيناً وبدراً - قاتلت الملائكة بأنفسها مع المسلمين ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه المشركين فيهما - انتهى.
وأمر صلى الله عليه وسلم بطلب العدو، فانتهى بعضهم إلى الطائف نحو نخلة، وقوم منهم إلى أوطاس اسم مكان، وقتل من المشركين أكثر، من سبعين قتيلاً.
ومما قيل من الشعر في غزوة حنين قول العباس بن مرداس، يذكر قارب بن الأسود وفراره من بني أبيه، وذا الخمار وحبسه قومه للموت: من الوافر:
ألا من مُبلِغ غَيلانَ عَني ... وَسَوفَ إِخَالُ يَأْتِيهِ الخَبِيرُ
وَعُروَةَ إنمَا أُهدِي جَوَاباً ... وقَولاً غَيرَ قَولِكُمَا يَسِيرُ
بِأن مُحَمدَاً عَبْد رَسُول ... لِرَب لا يَضل ولا يَجُورُ
وَجَدْنَاهُ نَبِياً مِثْلَ مُوسى ... فَكُلُّ فَتًى يُخَايِرُهُ مَخِيرُ
وَبِئْسَ الأمْرُ أمْرُ بني قَيس ... بِوَج إِذْ تقُسمتِ الأُمُورُ
أضَاعُوا أمْرَهُمْ وَلِكُل قَوْمِ ... أمِيرٌ وَالدوَائِرُ قَدْ تَدُورُ
فَجِئْنَا أُسْدَ غَابَاتِ إلَيْهِمْ ... جُنُودُ الله ضَاحِيَةً تَسِيرُ
نَؤُمُّ الْجَمْعَ جَمعَ بني قَسيّ ... عَلَى حَنَقٍ نَكَادُ لَهُ نَطِيرُ
وَأقْسِمُ لَوْ هُمُو مَكَثُوا لَسِرْنَا ... إٍلَيْهِمْ بِالْجُنُودِ ولَمْ يَغُورُوا
فَكُنا أُسْدَ لِيةَ ثَم حَتَى ... أبَحْنَاهَا وأُسْلمتِ النصُورُ
وَيَوم كَانَ قَبْلُ لَدَى حُنَيْنٍ ... فَأقْلَعَ وَالدمَاءُ بِهِ تَمُورُ
مِنَ الأيامِ لَمْ تَسْمَعْ كَيَوْم ... وَلَمْ يَسمعْ بِهِ قَوْمٌ ذُكُورُ(1/350)
قَتَلنَا في الغُبَارِ بني حُطَيْطٍ ... عَلَى رَايَاتِهَا وَالخَيْلُ زُورُ
وَلَمْ يَكُ ذُو الْخِمَارِ رَئيسَ قَوْمٍ ... لَهُمْ عَقْل يُعَاتبُ أوْ نَكِيرُ
أقَامَ بِهِمْ عَلَى سَنَنِ الْمَنَايَا ... وَقَدْ بَانَتْ لمبْصِرِهَا الأمُورُ
فَأفلَتَ مَن نَجَا مِنهُمْ جَرِيضاً ... وَقُتِّلَ مِنهُمُ بَشَر كَثِيرُ
ولا يُغْنِي الأُمُور أخُو التَوَانِي ... ولا الْغَلِقُ الصُّرَيرَةُ الْحَصُورُ
أحَانَهُمُ وَحَانَ وَمَملكُوهُ ... أُمُورَهُمُ وَأفْلَتَتِ الصقُورُ
بَنُو عَوْفٍ تَمِيحُ بِهِم جِيَاد ... أُهِينَ لهَا الْفَصَافِصُ وَالشَعِيرُ
فَلَوْلا قَاربْ وَبَنُو أبِيه ... تُقُسمّتِ الْمَزَارعُ وَالْقُصُورُ
وَلكِن الريَاسَةَ عُممُوهَا ... عَلَى يُمْنٍ أشَارَ بهِ الْمُشِيرُ
أطَاعُوا قَارِباً وَلَهُمْ جُدُود ... وَأحْلام إلَى عِزَّ تَصيرُ
فَإِنْ يُهْدَوْا إِلَى الإسْلامِ يُلْفَوا ... أُنُوفَ الناسِ مَا سَمَرَ السمِيرُ
وَإنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَهُمُ أذَان ... بِحَرْبِ الله لَيْسَ لَهُمْ نَصِيرُ
كَمَا حَكَت بني سَعْدِ وَحَرْب ... بِرهْطِ بني غَزِيةَ عَنْقَفِيرُ
كَأن بني مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكرٍ ... إِلَى الإِسْلامِ صائِنَة تَخُورُ
فَقُلْنَا: أسْلِمُوا إِنا أخُوكُمْ ... وَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإِحَنِ الصدُورُ
كَأن الْقَومَ إذْ جَاءُوا إلَيْنَا ... مِنَ الْبَغْضَاءِ بَعْدَ السلْمِ عُورُ
قال ابن هشام: غيلان: غيلان بن سلمة الثقفي، وعروة: عروة بن مسعود الثقفي.
قال ابن إسحاق: ولما انهزم المشركون، أتوا الطائف، ومعهم مالك بن عوف وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نخلة، ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو غيرة من ثقيف، وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك في نخلة من الناس، ولم تتبع من سلك الثنايا، فأدرك ربيعةُ بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة ابن يربوع بن سماك بن عوف بن امرئ القيس - وكان يقال له ابن الدغنة، وهي أمه، فغلبت على اسمه، ويقال: ابن لذغة فيما قاله ابن هشام - دُرَيْد بن الصمةِ، فأخذ بخطام جمله، وهو يظن أنه امرأة، وذلك أنه في شجار له فإذا هو برجل، فأناخ به فإذا شيخ كبير، فإذا هو دريد بن الصمة، فتعرفه الغلام، فقال له دريد: ماذا تريد بى؟ قال: أقتلك، قال: ومن أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمي، ثم ضربه بسيفه، فلم يُغْنِ فيه شيئاً، فقال: بئسما سلحتك أمك، خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل، ثم اضرب به، وارفع عن العظام، واخفض عن الدماغ؛ فإني كذلك كنت أضرب الرجال. ثم إذا أتيت أمك، فأخبرها أنك قد قتلت دريد بن الصمة، فَرُب يوم قد منعت فيه نساءك. فزعم بنو سليم أن ربيعة قال: لما ضربته فوقع تكشف فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القرطاس من ركوب الخيل إعراء. فلما رجع ربيعة إلى أمه، أخبرها بقتله إياه، فقالت: أما والله لقد أعتَقَ أمهاتٍ لكَ ثلاثاً.
وقالت عمرة بنت دريد في قتل ربيعة دريداً: من الوافر:
لَعَمرُكَ مَا خَشيِتُ عَلَى دُرَيدٍ ... بِبَطْنِ سُمَيرَةٍ جَيشَ الْعَنَاقِ
جَزَى عنه الإلهُ بني سُلَيم ... وَعَقتْهُمْ بِمَا فَعَلُوا عَقَاقِ
وَأسقَانَا إِذَا قُدْنَا إِلَيْهِم ... دِمَاءَ خِيَارِهِمْ عِنْدَ التَلاقِي
فَرُب عَظِيمَة دَافَعْتَ عَنْهم ... وَقَدْ بَلَغَتْ نُفُوسُهُمُ التراقِي
وَرُب كَريمَةٍ أعتَقتَ مِنهُمْ ... وَأُخْرَى قَدْ فَكَكْتَ مِن الْوَثَاق
وَرُب مُنَوهٍ بِكَ من سُلَيمِ ... أجَبْتَ وَقَدْ دَعَاكَ بِلا رِمَاقِ
فَكَانَ جَزَاؤُنَا مِنْهُمْ عُقُوقاً ... وَهَما مَاعَ مِنْهُ مُخ سَاقِي
عَفَتْ آثَارُ خَيلِكَ بَعدَ أيْنٍ ... بذي بَقَرٍ إلَى فَيْفِ النهاقِ(1/351)
وقال عباس بن مرداس: من الطويل:
تَقَطعَ بَاقِي وَصلِ أُم مُؤَملٍ ... بِعَاقِبَةٍ وَاستَبدَلَت نِيةً خُلْفَا
وَقَد حَلَفَت بِالله لا تَقطَعُ الْقُوَى ... فَمَا صَدَقَتْ فِيهِ ولا بَرَتِ الْحَلْفَا
خُفَافِيةْ بَطنُ الْعَقِيقِ مَصِيفُهَا ... وَتَحْتَل في الْبَادِينَ وَجْرَةَ فَالْعُرْفَا
فإِن تَتْبَعِ الْكُفارَ أمُ مُؤَملٍ ... فَقَدْ زَوَدَتْ قَلْبِي عَلَى نَأيِهَا شَغْفَا
وَسَوْفَ يُنَبيهَا الخَبِيرُ بأننَا ... أبَينَا وَلَم نَطْلُبْ سِوَى رَبنَا حِلْفَا
وَأنا مَعَ الْهَادِي النبِي مُحَمدٍ ... وَفَينَا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا مَعْشَر ألْفَا
بِفِتيَانِ صِدقٍ من سُلَيمٍ أعِزةٍ ... أطَاعوا فمَا يَعصُونَ مِنْ أمرِهِ حَرفَا
خُفَاف وَذَكْوَانٌ وَعَوْفْ تَخَالُفهم ... مَصَاعِبَ زَافَت في طَرُوقَتِهَا كُلفَا
كَأن النسِيجَ الشهْب وَالبِيضَ مُلْبَسٌ ... أُسُوداً تلاقَتْ في مَرَاصِدِهَا غُضْفَا
بِنَا عَزَّ دِينُ الله غَيرَ تَنَحُلٍ ... وَزِدْنَا عَلَى الْحَيِّ الَذي مَعَهُ ضِعْفَا
بِمَكةَ إِذ جِئنَا كَأن لِوَاءَنَا ... عُقَاب أرَادَت بَعدَ تَحلِيقِهَا خَطْفَا
عَلَى شُخصِ الأبصَارِ تَحسِبُ بَينَهَا ... إِذَا هي جَالَت في مَرَاوِدِهَا عَزْفَا
غَدَاةَ وَطِئنَا الْمُشرِكِينَ وَلَم نَجِد ... لأمْرِ رَسولِ اللِه عَدلاً ولا صِرْفَا
بِمُعْتَرَكٍ لا يَسْمَعُ الْقومُ وَسطَهُ ... لَنَا زحمَةً إلا التذَامُرَ والنقْفَا
بِبِيضِ نُطِيرُ الهَامَ عَن مُسْتَقَرهَا ... وَنَقْطِفُ أعْنَاقَ الْكُمَاةِ بِهَا قَطْفَا
وَكَائِنْ تَرَكنَا من قَتِيلٍ ملحبٍ ... وَأرْمَلَةٍ تَدْعُو عَلَى بَعلِهَا: لَهْفَا
رِضَا الله نَنْوي لا رِضَا الناسِ نَبْتَغِي ... وَللِّه مَا يَبدُو جَمِيعاً وَمَا يَخْفَى
وقال مالك بن عوف يعتذر من فراره يومئذ: من الكامل:
مَنَعَ الرقَادَ فَمَا أُغَمِّضُ سَاعَةً ... نَعَم بِأجْزَاعِ الطَرِيقِ مُخَضْرَمُ
سَائِل هَوَازِنَ هَل أضُزَ عَدُوَهَا ... وَأُعِينُ غَارِمَهَا إذَا ما يَغْرَمُ؟
وَكَتِيبَةٍ لَبسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ ... فِئَتَيْنِ مِنْهَا حَاسِر وَمُلأمُّ
وَمُقَدمٍ تَعْيَا النفُوسُ لِضِيقِهِ ... قَدمْتُهُ وَشُهُودُ قَوْمِي أعْلَمُ
فَوَرَدتُه وَتَرَكتُ إِخوَاناً لَهُ ... يَرِدُونَ غَمْرَتَهُ وغَمْرَتُهُ الدَمُ
فَإِذَا انجَلَتْ غَمَرَاتُهُ أورَثنَنِي ... مَجدَ الْحَيَاةِ وَمَجْدَ غُنْمٍ يُقْسَمُ
كَلفتُمُونِي ذَنْبَ آلِ مُحَمًدٍ ... والله أعلَمُ مَنْ أعَق وَأظْلَمُ
وَخَذَلْتُمُونِي إِذْ أُقَاتِلُ وَاحِداً ... وَخَذَلْتُمُونِي إِذْ تُقَاتِلُ خَثْعَمُ
وَإِذَا بَنَيتُ المَجْدَ يَهدِمُ بَعْضُكُم ... لا يَسْتَوِي بَانِ وَآخَرُ يَهْدِمُ
وَأقَب مِخْمَاصِ الشتَاءِ مُسَارع ... في الْمَجْدِ يُنمَي لِلْعُلا مُتَكَرم
أكرَهتُ فِيهِ ألَّةً يَزَنِية ... سَحمَاءَ يَقدُمُهَا سِنَان سَلْجَمُ
وَتَرَكْتُ حَنتَهُ تَرُدُ وَليهُ ... وَتَقُولُ: لَيْسَ عَلَى فُلآنَهَ مُقْدَمُ
وَنَصَبْتُ نَفسِي لِلرمَاح مُدَججاً ... مِثْلَ الدريئَةِ تُسْتَحَل وَتُشْرَمُ
وفيها: غزوة الطائف، خرج صلى الله عليه وسلم في شوال فحاصرهم ثمانية عشر يوماً أو ثلاثين، بل في مسلم عن أنس: حاصرهم أربعين ليلة، ونصب عليهم المنجنيق، واستشهد من المسلمين اثنا عشر، وقاتل بنفسه، ولم يؤذن له في فتحه، فرجع إلى المدينة بعد غيبة شهرين وستة عشر يوماً، فقدم عليه بَعْدُ وفْدُهُمْ، فأسلموا.(1/352)
ولما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى الطائف حين فرغ من حنين، قال كعب بن مالك: من الوافر:
قَضَينَا من تِهَامَةَ كُل رَيبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُم أجْمَمْنَا السيُوفَا
نخَبًرُهَا وَلَو نَطَقَت لَقَالَتْ ... قَوَاطِعُهُن دَوساً أوْ ثَقِيفَا
فَلَستُ لِحَاضِنٍ إن لَم تَرَوْهَا ... بِسَاحَةِ دارِكُمْ مِنا أُلوفا
وَنَتتَزعُ الْعُرُوشَ بِبَطْنِ وَج ... وَتُصبِحُ دُورُكُم مِنْكُمْ خُلُوفَا
وَيَأتيكُم لَنَا سَزعَانُ خَيل ... يُغَادِرُ خَلفَهُ جَمْعاً كَثِيفَا
إِذَا نَزَلوا بسَاحَتِكُم سَمِعتُم ... لَهَا مِما أناخَ بهَا رَجيفَا
بِأيْدِيهِمْ قَوَاضِبُ مُرْهَفَات ... يُزِرْنَ الْمُسْطَلِينَ بِهَا الْحُتُوفَا
كَأمْثَالِ العقَائِقِ أخْلَصَتْهَا ... قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تُضْرَبْ كَتِيفَا
تَخَالُ جَدِيةَ الأبطَالِ فِيهَا ... غَدَاةَ الزحْفِ جَادِيَّاً مَدُوفَا
أجَدهُم ألَيْسَ لهُمْ نَصِيح ... مِنَ الأقْوَامِ كَانَ بِنَا عَرِيفَا
يُخَبرُهُمْ بِأنا قَدْ جَمَعْنَا ... عِتَاقَ الْخَيْلِ وَالنجُبَ الطُرُوفَا
وأنا قَدْ آتَيْنَاهُمْ بِزَحْفٍ ... يُحِيطُ بِسُورِ حِصْنِهِمُ صُفُوفَا
رئيسُهُمُ النَبِيُّ وَكَانَ صُلْباً ... نَقِيَّ الْقَلْبِ مُصطَبِراً عَزُوفَا
رَشيدَ الأمرِ ذَا حُكْم وَعِلْمٍ ... وَحِلْمٍ لَمْ يَكُنْ نَزِقاً خَفِيفَا
نُطيعُ نَبِينَا وَنُطِيًعُ رَباً ... هُوَ الرَحْمنُ كَانَ بِنَا رَءُوفَا
فإِنْ تُلْقُوا إِلَيْنَا السلْمَ نَقْبَلْ ... وَنَجْعَلْكُمْ لَنَا عَضُداً وَرِيفَا
وإنْ تَابَوا نُجَاهدْكُمْ وَنَصْبِرْ ... ولا يَكُ أمْرُنَا رَعِشاً ضَعِيفَا
نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أوْ تُنِيبُوا ... إلَى الإسْلامِ إذعَاناً مُضِيفَا
نُجَاهِدُ ما نُبَالِي مَنْ لَقِينَا ... أأهلَكْنَا التلادَ أمِ الطَّرِيفَا
وَكَم مِنْ مَعشَرِ ألَبُوا عَلَينَا ... صَمِيمَ الجِذمِ منهم وَالْحلِيفَا
أتَونَا لا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاءً ... فَجَدَعْنَا الْمَسَامِعَ وَالأنوفَا
بكُل مُهَندٍ لَين صَقِيلٍ ... نَسُوقُهُمُ بِهَا سَوْقاً عَنِيفَا
لأمْر اللٌه وَالإسْلامِ حَتَى ... يَقُومَ الدينُ مُعْتَدِلاً حَنِيفَا
وتنسى اللاتُ وَالعُزى وَوَد ... وَنَسْلُبهَا الْقَلائد وَالشُّنُوفَا
فَأمْسَوْا قَدْ أقرُوا وَاطْمَأنوا ... وَمَنْ لا يَمْتَنِعْ يَقْبَلْ خُسُوفَا
قال في المواهب بعد ذكر أن الطائف على ثلاث مراحل أو اثنتين من مكة من جهة المشرق كثير الأعناب والفواكه، قيل: إن أصلها أن جبريل اقتلع الجنة التي كانت لأصحاب الصريم، فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها هناك فسمى الموضع بها، وكانت أولاً بنواحي صنعاء. واسم الأرض وج بتشديد الجيم.
وسار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال سنة ثمان، حين خرج من حنين، وحبس الغنائم بالجعرانة، وقدَم خالد بن الوليد على مقدمته، وكانت ثقيف لما انهزموا من أوطاس؛ دخلوا حصنهم بالطائف، وأغلقوه عليهم؛ بعد أن أدخلوا فيه ما يصلحهم لسنة وتهيئوا للقتال.
ولما سار صلى الله عليه وسلم مرَ في طريقه بقبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف فيما يقال، فاستخرج منه غصناً من ذهب، ونزل قريباً من الحصن وعسْكَرَ هناك، فرموا المسلمين بالنبل رمياً شديداً كأنه رَجل جراد؛ حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلاً، فيهم عبد الله بن أبي أمية، ورمى عبد الله بن أبي بكر الصديق يومئذ بجرح، فاندمل، ثم نقض عليه بعد ذلك؛ فمات منه في خلافة أبيه.(1/353)
وارتفع صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجد الطائف اليوم، وكان معه من نسائه أم سلمة، وزينب، فضرب لهما قبتين، وكان يصلي بين القبتين حصار الطائف كله، فحاصرهم ثمانية عشر يوماً، ويقال خمسة عشر يوماً، ونصب عليهم المنجنيق، وهو أول منجنيق رمي به في الإسلام، وكان قدم به الطفيل الدوسي معه لما رجع من سرية ذي الكفين، ووضع المسلمون الرايات بأصل الحصن، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد المحماة وهي أخشاب متسعة الأجواف، تدفع في جدار الحصون، فيدخلها الرجال؛ لنقب جدارها - فرمتهم ثقيف بالنبل؛ فقتل منهم رجال، فأمر صلى الله عليه وسلم بقطع أعناقهم وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعاً ذريعاً، ثم سألوه أن يدعها لله وللرحم، فقال - عليه الصلاة والسلام - : إني أدعها؛ لله وللرحم، ثم نادى مناديه - عليه الصلاة والسلام - : أيما عبد نزل من الحصن، وخرج إلينا، فهو حر، قال الدمياطي: فخرج منهم بضعة عشر رجلاً، منهم أبو بكرة، وعند مغلطاي: ثلاثة وعشرون عبداً.
وفي البخاري عن عثمان النهدي قال: سمعت سعداً، وأبا بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال عاصم: " لقد شهد عندي رجلان: أما أحدهما: فأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأما الآخر: فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف... " الحديث.
وأعتق صلى الله عليه وسلم من نزل منهم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه؛ فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة ولم يؤذن له صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف، وأمر عمر بن الخطاب؛ فأذن في الناس بالرحيل؛ فضج الناس من ذلك وقالوا: نرحل ولم تفتح علينا الطائف؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فاغدوا على القتال؛ فغدوا فأصاب المسلمين جراحات، فقال صلى الله عليه وسلم: إنا قافلون غداً - إن شاء الله - فسروا بذلك، وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.
قال النووي؛ قصد صلى الله عليه وسلم الشفقة عليهم، والرفق بالرحيل عن الطائف؛ لصعوبة أمره، وشدة الكفار الذين فيه، وتقويهم بحصنهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم علم أو رجا أنه سيفتحه بعد هذا بلا مشقة، فلما حرص الصحابة على المقام، والجهاد أقام وجدّ في القتال، فلما أصابتهم الجراح رجع إلى ما كان قصده أولاً من الرفق، وفرحوا بذلك لما رأوا من المشقة الظاهرة، ووافقوا على الرحيل، فضحك صلى الله عليه وسلم؛ تعجباً من تغير رأيهم، وفقئت عين أبي سفيان صخر بن حرب يومئذ، فذكر ابن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له - وهي في يده - : أيهما أحب إليك: عين في الجنة، أو أدعو الله أن يردها عليك. فقال: بل عين في الجنة، فرمى بها، وشهد اليرموك فقاتل، وفقئت عينه الأخرى يومئذ. ذكره الحافظ زين الدين العراقي في شرح التقريب.
وقال صلى الله عليه وسلم للصحابة: قولوا لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فلما ارتحلوا قال: قولوا آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
فانظر كيف كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج للجهاد يعتد لذلك بجمع الصحابة، واتخاذ الخيل، والسلاح، وما يحتاج إليه من آلات الجهاد، والسفر، ثم إذا رجع - عليه الصلاة والسلام - يتعرى من ذلك، ويرد الأمر كله لمولاه - عز وجل - لا لغيره؛ لقوله: آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.(1/354)
وانظر إلى قوله - عليه الصلاة والسلام - : " وهزم الأحزاب وحده " فنفى صلى الله عليه وسلم ما تقدم ذكره، وهذا هو معنى الحقيقة؛ لأن الإنسان وفعله خلق لربه - عز وجل - فهو لله - سبحانه وتعالى - الذي خلق، ودبر، وأعان، وأجرى الأمور على يد من شاء، ومن اختار من خلقه، فكل منه وإليه، ولو شاء الله أن يبيد أهل الكفر من غير قتال - لفعل، قال تعالى: " ذَلِك وَلَو يشاءُ اللهُ لانتصَرَ مِنهُم وَلَكِن ليبلُوَا بَعضَكم بِبَعض " محمد: 4، ليثبت الصابرين ويجزي الثواب للشاكرين، قال تعالى: " وَلَنَبلُوَنكُم حَتى نَعلَمَ المجاَهِدِينَ مِنكم وَالصابرِينَ وَنَبلُوا أخباركم " محمد: 31، فعلى المكلف الامتثال في الحالتين، أي امتثال تعاطى الأسباب؛ تأدباً مع الربوبية، كما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم أولاً؛ تأدباً مع الربوبية، وتشريعاً لأمته، ثم يظهر الله ما يشاء من قدرته الغامضة التي ادخرها له - عليه الصلاة والسلام - قاله ابن الحاج في المدخل. ولما قيل له: يا رسول الله، ادع على ثقيف، قال: " اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم " .
وكان - عليه الصلاة والسلام - قد أمر أن يجمع السبي، والغنائم مما أفاء الله على رسوله يوم حنين، فجمع ذلك كله إلى الجعرَانة، فكان بها إلى أن انصرف - عليه الصلاة والسلام - من الطائف، وكان السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، واستأنى صلى الله عليه وسلم ب " هوازن " أي انتظر - وتربص أن يقدموا عليه مسلمين بضع عشرة، ثم بدأ يقسم الأموال.
وفي البخاري: وطفق صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً المائة من الإبل، منهم: أبو سفيان، وعيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابي التميمي، وأعطى العباس بن مرداس السلمي ستين، فسخطها، ثم أتى إليه - عليه الصلاة والسلام - فأنشد: من المتقارب:
أتجْعَلُ نَهْبِى ونَهبَ العَبِي ... دِ بين عُيَيْنَةَ والأقْرعَ
فَمَا كَانَ حِصْنْ ولا حَابس ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ في مَجْمَع
ومَا كُنْتُ دُون امرِئٍ مِنهُمَا ... ومَن تَضَعِ اليَومَ لا يُرْفَعِ
فقال - عليه الصلاة والسلام - : لعلي " اقطع لسانه عني " ؛ فأكمل له مائة؛ فقال ناس من الأنصار: يغفر الله لرسول الله، يعطى قريشاً، ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، ثم قال لهم: أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، والشاء، والبعير، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوا: يا رسول الله قد رضينا.
وعن جبير بن مطعم قال: بينما أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقفلون من حنين، علقت برسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب حتى اضطرته إلى سمرة، فخطفت رداءه، فوقف صلى الله عليه وسلم فقال: أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد العضاه نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني: بخيلاً، ولا كذوباً، ولا جباناً. رواه ابن جرير في تهذيبه.
وذكر محمد بن سعد - كاتب الواقدي - عن ابن عباس أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف نزل الجعرانة، فقسم الغنائم، ثم اعتمر منها وذلك لليلتين بقيتا من شوال، قال ابن سيد الناس: وهذا ضعيف.
والمعروف عند أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فأقام بها ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء، لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلاً، فأحرم بعمرة، ودخل مكة وفي تاريخ الأزرقي عن مجاهد أنه - عليه الصلاة والسلام - أحرم من وراء الوادي حيث الحجارة المنصوبة. وعند الواقدي من المسجد الأقصى، الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى من الجعرانة، فكانت صلاته - عليه الصلاة والسلام - إذا كان بالجعرانة به، والجعرَانة موضعَ بينه وبين مكة بريد - يعني اثني عشر ميلاً - كما قاله الفاكهي، وقال الباجي: ثمانية عشر ميلاً، وسمي بامرأة تلقب بالجعرانة، كما ذكره السهيلي، أخذها السيل، فوصل بها إلى هذا المحل، فوجدت ثمة، فسمى المحل بها.
قالوا: وقدم صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد غاب عنها شهرين وستة عشر يوماً.(1/355)
قال ابن هشام: ولما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى في قريش، وقبائل العرب، ولم يعط الأنصار شيئاً، قال حسان بن ثابت، يعاتبه في ذلك: من البسيط:
زار الهُمُوم فماءُ العَين مُنحَدرُ ... سَحا إنا حَفلَتهُ عَبْرةْ دررُ
وجداً بِشَيماءَ إذْ شَيماءُ بَهكَنَة ... هَيفَاءُ لا دَنَسٌ فِيهَا ولا خَوَرُ
دَع عَنكَ شيماء إِذ كَانَت مَوَدتُهَا ... نَزراً وَشَرُ وِصَالِ الوَاصِلِ النزرُ
وائتِ الرسُولَ فَقَل يَا خَيرَ مؤْتَمن ... للمُؤمنينَ إِذَا مَا عُدِّدَ البَشَرُ
عَلامَ تُدعَى سُلَيم وفي نَازِحَة ... قُدامَ قَومِ هَمُ آووا وَهُم نَصَرُوا؟!
سماهُمُ الله أنصَاراً بِنَصرِهِمُ ... ديِنَ الهُدَى وعَوَانُ الحَربِ تَستَعِرُ
وسَارَعُوا في سَبيلِ الله واغتَرفُوا ... للنائباتِ ومَا خَامُوا ومَا ضَجرُوا
والناسُ إلب علينَا فيكَ لَيسَ لَنَا ... إلا السيوف وأطرَافُ القَنَا وزرُ
نجالد الناسَ لا نُبقِي عَلَئ أحَدِ ... ولا نُضَيعُ مَا توحِي بِهِ السوَرُ
وَلاً تهرُ جُنَاةُ الحربِ نادينَا ... ونحنُ حينَ تلظى نَارُهَا سعر
كَمَا رَدَدنَا ببدرِ دَونَ مَا طَلَبُوا ... أهلَ النفَاقِ وَفينَا يَنزِلُ الظفَرُ
ونَحنُ جُندُكَ يوم النعفِ من أُحُدٍ ... إِذ حَزبَت بَطَراً أحزَابَهَا مُضَرُ
فَمَا وَنَينَا ومَا خمنَا وما خبرُوا ... منا عثَارا وكل الناسِ قَد عَثَرُوا
حوادث السنة التاسعة
فيها غزوة تبوك - وهي العسرة والفاضحة - في رجب، لما بلغه أن الروم تجمعت في الشام مع هرقل، وقد اشتملت على أمور للمنافقين فضحوا بها؛ وفيها تاب الله على الثلاثة الذين خُلفوا: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وأقام صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة وانصرف ولم يلق كيداً.
قال في المواهب: وكانت يوم الخميس، في رجب، سنة تسع من الهجرة بلا خلاف، وذكرُ البخاري لها بعد حجة الوداع لعله خطأ من النساخ. وكان يومئذ حر شديد وجدب؛ فلذلك لم يُوَر عنها كعادته في سائر الغزوات. وفي تفسير عبد الرزاق عن معمر قال: خرجوا في قلة من الظهر، وفي حر شديد حتى كانوا ينحرون البعير، فيشربون ما في كرشه من الماء، فكان ذلك عسرة في الماء، وفي الظهر، والنفقة فسميت غزوة العسرة.
وسببها أنه بلغه صلى الله عليه وسلم من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة - أن الروم تجمعت بالشام مع هرقل، فندب صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وأعلمهم بالمكان الذي يريد ليتأهبوا لذلك، وروى الطبراني من حديث عمران بن الحصين قال: كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل: إن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة قد أصابتهم سنون، فهلكت أموالهم فبعث رجلاً من عظمائهم، وجهز معه أربعين ألفاً، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للناس قوة، وكان عثمان قد عير إلى الشام فقال: يا رسول الله، هذه مائتا بعير بأقتابها، وأحلاسها، ومائتا أوقية، قال فسمعته يقول: لا يضر عثمان ما عمل بعدها. وروى عن قتادة أنه قال: حمل عثمان في جيش العسرة على ألف بعير، وسبعين فرساً. وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره صلى الله عليه وسلم، فرأيته صلى الله عليه وسلم يقبلها فى حجره، ويقول: ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم. أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب. وعند الفضائلي، والملا في سيرته كما ذكره الطبري في الرياض النضرة من حديث حذيفة: بعث عثمان - يعنى في جيش العسرة - بعشرة آلاف دينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان صلى الله عليه وسلم، يقول بيده ويقلبها ظهراً ببطن ويقول: " غفر الله لك يا عثمان، ما أسررت، وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة، ما يبالي ما عمل بعدها " .(1/356)
ولما تأهب صلى الله عليه وسلم للخروج، قال قوم من المنافقين؛ لا تنفروا في الحر، فنزل قوله - تعالى - " لا تنَفِرُوا في الحر قُل نَارُ جَهم أشَدُّ حَراً لَو كانوُا يَفقَهُونَ " التوبة: 81 وأرسل - عليه الصلاة والسلام - إلى مكة، وقبائل العرب، يستنفرهم، وجاء البكاءون يستحملونه، فقال - عليه الصلاة والسلام - : لا أجد ما أحملكم عليه، وهم: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب المازني، والعرباض بن سارية، وهرم بن عبد الله، وعمرو بن عتمة، وعبد الله ابن مغفل، وعبد الله ابن عمرو المزني، وعمرو بن الحمام، ومغفل المزني، وحضرمي بن مازن، والنعمان، وسويد، ومعقل وعقيل، وسنان، وعبد الرحمن، وهند، بنو مقرن، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: " تَوَلوَا وأعيُنُهُم تَفِيضُ مِنَ آلدَّمعِ حَزَناً ألا يجدو مَا ينُفِقُونَ " التوبة: 92، قاله مغلطاي.
وفي البخاري عن أبي موسى قال: " أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم، فقلت: يا نبي الله إن أصحابي أرسلوني إليك؛ لتحملهم، فقال: والله لا أحملكم على شيء، فرجعت حزيناً من منع النبي صلى الله عليه وسلم ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه علي، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالاً ينادي: أين عبد الله بن قيس؟ فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيته قال: خذ هاتين القرينتين، وهاتين القرينتين - لستة أبعرة ابتاعها حيتئذ من سعد - فانطلق بهما إلى أصحابك، فقل: إن الله وإن رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن... " الحديث. وقام علبة بن زيد، فصلى من الليل، وبكى وقال: اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغبتَ فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك صلى الله عليه وسلم ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني في مال أو جسد أو عرض، ثم أصبح مع الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين المتصدق فليقم، فأقوم إليه فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: " أبشر، فوالذي نفس محمد بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة " . رواه يونس كما ذكره السهيلي في الروض والبيهقي في الدلائل.
وجاء المعذرون من الأعراب، ليؤذن لهم في التخلف، فأذن لهم، وهم اثنان وثمانون رجلاً، وقعد الذين كذبوا الله ورسوله، واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة. قال الدمياطي: وهو عندنا أثبت ممن قال غيره انتهى.
وقال الحافظ زين الدين العراقي - في ترجمة علي بن أبي طالب من شرح التقريب - : لم يتخلف عن المشاهد إلا في تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خلفه على المدينة، وعلى عياله، وقال له يومئذ: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وهو في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص، ورجحه ابن عبد البر، وقيل: استخلف سباع بن عرفطة.
وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب، منهم كعب بن مالك، ومرارة ابن الربيع، وهلال بن أمية، وفيهم نزل " وَعلى الثلاثةِ الذين خلفُوا " التوبة: 118، وأبو ذر، وأبو خيثمة، ثم لحقاه بعد ذلك، ولما رأى - عليه الصلاة والسلام - أبا ذر الغفاري وكان - عليه الصلاة والسلام - نزل في بعض الطريق، قال: " يمشي وحده، ويعيش وحده، ويموت وحده " ، فكان كذلك، وأمر صلى الله عليه وسلم لكل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية، وكان معه - عليه الصلاة والسلام - ثلاثون ألفاً، وعند أبي زرعة سبعون ألفاً، وفي رواية عنه - أيضاً - أربعون ألفاً، وكانت الخيل عشرة آلاف فرس.
ولما مر - عليه الصلاة والسلام - بالحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم - بديار ثمود قال: لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له، ففعل الناس، إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجة، وخرج الآخر لطلب بعيره، فأما الذي خرج لحاجته، فخنق على مذهبه، وأما الذي خرج لطلب بعيره، فاحتملته الريح حتى طرحته بجبل طيئ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألم أنهكم؟! ثم دعا للذي خنق على مذهبه، فشفي، وأما الآخر فأهدته طيىء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة.(1/357)
وفي صحيح مسلم من حديث أبي حميد: انطلقت حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تهب الليلة عليكم ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد رحله، فهبت ريح شديدة، فقام رجل، فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيىء. وروى الزهري: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر سَجى ثوبه على وجهه، واستحث راحلته، ثم قال: " لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون، خوفاً أن يصيبكم ما أصابهم " . رواه الشيخان.
ولما كان صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق ضلت ناقته، فقال زيد بن لصيب، وكان منافقاً: أليس محمد يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن رجلاً يقول مقالة، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها وهي في هذا الوادي في شعب كذا وكذا، وقد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها، فانطلقوا فجاءوا بها. رواه البيهقي وأبو نعيم.
وفي صحيح مسلم من حديث معاذ بن جبل " أنهم وردوا عين تبوك، وهي تبض بشيء من ماء، وأنهم غرفوا منها قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شيء، ثم غسل صلى الله عليه وسلم وجهه، ويديه، ثم أعاده فيها، فجرت بماء كثير فاستقى الناس... " الحديث.
ولما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه صاحب أيلة، فصالحه، وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جربا بالجيم وأذرح بالذال المعجمة، والراء والحاء المهملة - بلدين بالشام بينهما ثلاثة أيام - فأعطوه الجزية وكتب لهم صلى الله عليه وسلم كتاباً، ووجد هرقل بحمص فأرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك النصراني وكان ملكاً عظيماً ب " دومة الجندل " في أربعمائة وعشرين فارساً في رجب سرية، وقال له - عليه الصلاة والسلام - : إنك ستجده ليلاً يصيد البقر، فانتهى إليه خالد، وقد خرج من حصنه في ليلة مقمرة إلى بقر يطاردها هو وأخوه حسان، فشدت عليه خيل خالد فاستأسر أكيدر، وقتل أخوه حسان، وهرب من كان معهما فدخل الحصن، ثم أجار خالد أكيدر من القتل؛ حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يفتح له دومة الجندل، ففعل، وصالحه على ألفي بعير، وثمانمائة فرس، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح.
وفي هذه كتب صلى الله عليه وسلم كتاباً في تبوك إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، فقارب الإجابة ولم يجب، رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أنس. وفي مسند أحمد: أن هرقل كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم إني مسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذب، هو على نصرانيته. وفي كتاب الأموال لأبي عبيدة بسند صحيح من مرسل بكر بن عبد الله نحوه ولفظه: فقال كذب عدو الله، ليس بمسلم.
ثم انصرف صلى الله عليه وسلم من تبوك بعد أن أقام بضع عشرة ليلة، وقال الدمياطي - ومن قبله ابن سعد - عشرين ليلة، يصلي بها ركعتين، ولم يلق بها كيداً، وبنى في طريقه مساجد. وأقبل - عليه الصلاة والسلام - حتى إذا نزل ب " ذى أوان " بفتح الهمزة بلفظ الأوان للحين، وبينها وبين المدينة ساعة جاءه خبر مسجد الضرار من السماء، فدعا مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي العجلاني، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه، وحرقاه، فخرجا فحرقاه وهدماه، وذلك بعد أن أنزل الله فيه " وَالذينَ اتخذوا مَسجداً ضِرَاراً وَكُفراً " التوبة: 107، الآية.
قال الواحدي قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير: إن الذين اتخذوا مسجد الضرار قالوا: نقيل فيه فلا نحضر خلف محمد، قال المفسرون: ولما بنوا ذلك؛ لأغراضهم الفاسدة عند ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك: قالوا: يا رسول الله بنينا مسجداً، لذي العلة، والليلة المطيرة، ونحن نحب أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة فقال - عليه الصلاة والسلام - إني على جناح سفر، وإذا قدمنا إن شاء الله تعالى صلينا فيه - فلما قفل من غزوة تبوك، سألوه إتيان المسجد فنزلت هذه الآية.
ولما دنا صلى الله عليه وسلم خرج الناس لتلقيه، وخرج النساء، والصبيان، والولائد يقلن: من مجزوء الرمل:
طَلَعَ البَدرُ علينَا ... منْ ثَنِياتِ الوَدَاع
وَجَبَ الشكرُ عَلَينَا ... مَا دَعَا للهِ دَاع(1/358)
وقد وهم بعض الرواة - كما قدمته - إذ قال: إنما كان هذا عند مقدمه المدينة، وهو وهم ظاهر؛ لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ولا يراها إلا إذا توجه إلى الشام.
وفي البخاري لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، فدنا من المدينهَ قال: إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر، وهو يؤيد معنى ما روى " نية المرء خير من عمله " فإن نية هؤلاء أبلغ من عملهم، فإنها بلغت بهم مبلغ أولئك العاملين بأبدانهم، وهم على فرشهم في بيوتهم، والمسابقة إلى الله - تعالى - إلى الدرجات العلا بالنيات، والهمم، لا بمجرد الأعمال.
ولما أشرف صلى الله عليه وسلم على المدينة، قال: هذه طابة، وهذا أحد، جبل يحبنا، ونحبه. ولما دخل قال العباس: يا رسول الله، ائذن لي أمتدحك، قال: " قل لا يفضض الله فاك " . وقد تقدم ذكرها، وتبيين غريب ألفاظها، ومعانيها.
وجاءه صلى الله عليه وسلم من كان تخلف عنه، فعذرهم، واستغفر لهم، وأرجأ أمر كعب، وصاحبيه حتى نزلت توبتهم في قوله تعالى: " لَقَد ئاب اللهُ عَلىَ النبيِ والمهاجرينَ وَالأنصارِ " إلى " إنَ اللهَ هُو التوَاب الرَحَيم " التوبة: 117، 118، والثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة.
وعند البيهقي في الدلائل من مرسل سعيد بن المسيب، " أن أبا لبابة لما أشار لبني قريظة بيده إلى حلقه، أنه الذبح فأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له صلى الله عليه وسلم: أحسبت أن الله غفل عن يدك حيث تشير إليهم بها إلى حلقك. فلبث حيناً، ورسول الله عاتب عليه، ثم غزا تبوكاً، فتخلف عنه أبو لبابة فيمن تخلف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها جاء أبو لبابة يسلم عليه، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففزع أبو لبابة فارتبط بسارية التوبة سبعاً، وقال: لا يزال هذا مكاني حتى أفارق الدنيا، أو يتوب الله علي... " الحديث. وعنده - أيضاً - من حديث ابن عباس من قوله تعالى: " وآخَرُونَ اعتَرَفوُا بِذُنوبِهِم خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سيئاً " التوبة: 102، قال: " كانوا عشرة تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما رجع صلى الله عليه وسلم، أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان ممر النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم، فقال: من هؤلاء؟ قالوا أبو لبابة، وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله حتى تطلقهم، وتعذرهم، قال: أقسم بالله لا أطلقهم، ولا أعذرهم حتى يكون الله الذي يطلقهم، رغبوا عني، وتخلفوا عن الغزو، فأنزل الله تعالى: " وَآخَرون اعتَرَفوُاْ بِذُنوُبِهِم " التوبة: 102، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقوا، وعذروا... " الحديث.
قالوا: ولما قدم عليه الصلاة والسلام من تبوك وجد عويمر العجلاني امرأته حبلى؛ فلاعن عليه الصلاة والسلام بينهما.
وكانت تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال حسان بن ثابت، يعدد أيام الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر مواطنهم معه في أيام غزوه: من البسيط:
ألسْتَ خَيرَ مَعَدٍ كلهَا نفراً ... ومَعشَراً إن هُم عُمُّوا وإنْ حُصِلُوا
قَومَ هُمُ شَهِدُوا بَدراً بأجمَعِهِمْ ... مَعَ الرَسُولِ فَمَا ألَوْأ وَمَا خَذَلُوا
وَبَايَعُوهُ فَلَمْ يَنْكُث بِهِ أحَدْ ... منهُمْ وَلَمْ يَكُ في إِيمَانِهِمْ دَخَلُ
ويومَ صَبحَهُم في الشعبِ مِنْ أُحُدٍ ... ضرب رَصِينٌ كَحَر النارِ مُشْتَعِلُ
ويوم ذي قَرَدٍ يومَ استثَارَ بهم ... عَلَى الجِيادِ فَمَا خَامُوا وما نَكَلُوا
وذَا العُشَيرةِ جاسُوها بخَيلِهمُ ... مَعَ الرسولِ عليهَا البيضُ والأسَلَ
ويومَ ودانَ أجْلَوا أهلَهُ رَقَصاً ... بالخَيل حتى نَهَانا الحزنُ والجبلُ
وليلَةَ طلَبُوا فيها عدُوهُمُ ... لله واللهُ يجزِيهمْ بِمَا عَمِلُوا
وغزوةَ يَومَ نَجْدٍ ثم كانَ لَهُم ... مَعَ الرسول بهَا الأسْلابُ والنفلُ(1/359)
وليلةً بحنينٍ جَالدُوا معهُ ... فيها يعلهم بالحْربِ إذْ نهَلُوا
وغَزوةَ القَاعِ فرقنَا العدو بهِ ... كَمَا تَفرَق دون المشربِ الرَسَلُ
ويومَ بُويعَ كانُوا أهلَ بيعَتِهِ ... عَلى الجِلادِ فآسَوهُ ومَا عَدَلُوا
وَغزوةَ الفتحِ كانُوا في سريتِهِ ... مُرَابطِينَ فَمَا طاشُوا ومَا عَجِلُوا
ويومَ خَيبرَ كانُوا في كَتيبَتِهِ ... يَمشُونَ كلُهُمُ مسْتبسِل بَطَلُ
بالبيضِ تُرعَشُ في الأيمَانِ عَارِيةً ... تعوجُ في الضَربِ أحياناً وتعتَدلُ
ويومَ سارَ رَسول الله محتَسِباً ... إلى تبوكَ وهمْ راياتُهُ الأولُ
وسَاسَةُ الحربِ إن حربٌ بدَت لهمُ ... حتَى بَدَا لهُمُ الإقْبَالُ والقَفَلُ
أولئكَ القومُ أنصَارُ النبي وهم ... قَومِي آصِيرُ إليهم حينَ أتصِلُ
ماتُوا كِراماً ولم تُنكَث عهُودُهمُ ... وقَتلُهم في سبيل الله إِذْ قتلُوا
وقال حسان بن ثابت أيضاً: من الطويل:
وكنا ملوكَ الناسِ قبلَ محمدٍ ... فلفا أتى الإسَلامُ كانَ لنَا الفضْلُ
وأكرمنَا الله الذي ليسَ غيرُه ... إله بأيامٍ مَضَتْ مَا لها شَكلُ
بنصرِ الإلَهِ والرسولِ ودينِهِ ... وألبسنَاهُ اسماً مَضَى مَا له مثلُ
أولئك قومِي خيرُ قَومٍ بأسرِهم ... فَمَا عُدَ من خَيرٍ فقومِي لهُ أهلُ
يَرُبونَ بالمعروفِ معروفَ من مَضَى ... وليسَ عليهم دُونَ معروفِهم قفلُ
إِذا اختُبطُوا لم يفحِشُوا في نديهم ... وليسَ عَلَى سُؤالهم عِندهم بخلُ
وإن حَارَبُوا أو سَالموا لَم يشبهُوا ... فحربُهُمُ حتف وسَلمُهُمُ سَهلُ
وَجَارهُمُ موفِ بعليَاء بَيتُهُ ... لَهُ ما ثوى فينَا الكَرامةُ والبَذْلُ
وحامِلُهم موفٍ بكل حَمَالةٍ ... تحمل لا غرمٌ عليه ولا خَذلُ
وقائلُهم بالحق إن قَال قَائِل ... وحِلمُهُمُ عَود وحكمُهُمُ عَدلُ
ومنا أمينُ المسلِمينَ حياتَهُ ... وَمن غسلتهُ من جَنَابَتِهِ الرّسلُ
وقال أيضاً: من المتقارب:
قَومي أولئِكَ إِن تَسألِي ... كرام إذا الضيفُ يوماً ألَم
عِظَامُ القُدُورِ لأيسَارِهم ... يكبونَ فيها السمينَ السَّنِمْ
يُواسُونَ جَارهُمُ في الغِنَى ... ويَحمُونَ مَولاهُمُ إن ظُلِم
فكَانُوا مُلُوكاً بَأرضيهِمُ ... ينادونَ غُضباً بِأمر غشم
مُلوكاً عَلَى الناسِ لَم يُملَكُوا ... مِنَ الدهرِ يَوماً كحِل القَسَم
فَأنبَوا بِعَادِ وأشيَاعها ... ثَمُود وبعض بَقَايَا إرَم
بيثربَ قَدْ شيدُوا في النخِيل ... حُصوناً ودُجنَ فيها النعَم
نَواضِحَ قَذ علَّمَتهَا اليهو ... دُ عل إليكَ وَقَوْلاً هَلم
وفيها اشتَهوا من عصِير القِطَافِ ... وعيش رخى عَلَى غيرِهم
فَسِرنَا إِليهِم بأثقَالِنَا ... عَلَى كلِّ فَحلٍ هِجَانٍ قِطم
جَنَبنَا بهن جِيَادَ الخيو ... لِ والزحفُ من خَلفِهم قَد دهَم
فَطَارُوا سَراعاً وقَد أُفزِعُوا ... وجئنَا إليهِم كَأُسدِ الأجَم
عَلَى كُل سَلْهَبَةِ في الصِّيَا ... ن لا تستَكينَ لطُولِ السأمْ
وكل كميت مُطَارِ الفُؤَاد ... أمينِ الفُصوصِ كمِثل الزُّلم
عَلَيهَا فوارسُ قَد عودُوا ... قِرَاعَ الكمَاةِ وضربَ البُهَم
ملوك إِذَا غَشَمُوا في البِلا ... دِ لا يَنكلُونَ ولكِنْ قُدُم(1/360)
فأُبنَا بِسَادَاتهم والنسَاء ... وَأولادهُم فيهمُ تقتَسمْ
ورِثنا مسَاكنهُم بعدَهُم ... وكنا ملوكاً بِهَا لم نرِم
فلما أتانَا الرسول الرشي ... دُ بالحق والنورِ بعْدَ الظلَمْ
فَقُلنَا صَدَقتَ رَسُولَ المليكِ ... هلُم إلينا وفينَا أقِم
فَنَشْهَدُ أنكَ عبدُ الإِل ... ه أرسِلتَ نوراً بدِينِ قيمْ
فَإِنا وَأْولادنَا جُنةٌ ... نَقِيكَ وفي مَالِنَا فاحْتَكِمْ
فَنَحنُ ولاتكَ إِنْ كذبُوك ... فناد نِدَاء ولا تَحتشِم
ونادِ بمَا كنتَ أخفَيْتَهُ ... نداءً جهاراً ولا تَكتتِمْ
فَسَار الغواةُ بأسيَافِهم ... إليه يظنُّونَ أن يخْتَرمْ
فقمْنَا إليهم بأسيَافِنَا ... نجالدُ عنه بُغَاةَ الأممْ
بكل صقيلٍ لهُ مَيْعَةٌ ... رقيق الذُّبابِ عَضُوضٍ خَذِمْ
إذا مَا يصادفُ صم العظَا ... مِ لَمْ ينبُ عَنْهَا ولم ينثَلِم
فَذلك مَا ورثَتنَا القرو ... مُ مَجْدَاً تليدَاً وعزُّا أشم
إذا مرَ نَسْل كَفَى نسلَهُ ... وغَادَرَ نَسْلاً إذا مَا انفصمْ
فَمَا إِن من الناسِ إلا لَنَا ... عليه وإنْ خَاسَ فضل النعَمْ
وفيها بنى صلى الله عليه وسلم في طريقه مساجد حين رجع من تبوك، وقدم في رمضان وأمر بمسجد الضرار أن يحرق، واشترى صلى الله عليه وسلم جمل جابر مرجعه، فلما قدموا إلى المدينة أعطاه الجمل والثمن، كما تقدم ذكر ذلك.
وفيها بعث المصدقين لأخذ الصدقات: عيينة بن حصن إلى بني تميم كغيرهم، والوليد بن عقبة إلى بني المصطلق؛ ليأخذ الصدقة، فخرجوا بالسلاح، فرحاً به، فولى راجعاً، وأخبر بمنعهم فهم صلى الله عليه وسلم أن يبعث لهم جيشاً، فنزل " إِن جَاءَكمُ فَاسِق بِنَبَأ فَتَبَينوا " الحجرات: 6.
وفيها سرية عبد الله بن عوسجة إلى بني حارثة، مستهل صفر يدعوهم إلى الإسلام فرقعوا بالصحيفة أسفل دلوهم، وأبوا الإجابة، فدعا صلى الله عليه وسلم عليهم بذهاب عقلهم فهم إلى اليوم في رعدة، وعجلة، واختلاط كلام.
وقطبة بن عامر إلى خثعم بناحية بيشة من مخاليف مكة في صفر في عشرين رجلاً، فقتلوا منهم، وغنموا.
وعلقمة بن محرز المدلجي إلى الحبشة في ثلاثمائة، لما تراءى أهل جدة ناساً من الحبشة، فخاض إليهم فهربوا، فلما رجعوا، وكان أمره على من تعجل في الرجوع ومعه عبد الله بن حذافة السهمي، أو هو الأمير كما في بعض الروايات، فأجج ناراً وأرادهم على الوثوب، ثم كف عن ذلك، فبلغه صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: " من أمركم بمعصية فلا تطيعوه " .
وعلياً إلى القلس صنم لطيئ في مائة وخمسين، أو مائتين، فهدمه، وغنم غنائم من آل حاتم، ثم لما ظفروا بهدمه هرب عدي بن حاتم إلى الشام، وكلم النبي صلى الله عليه وسلم أخت عدي سفانة بنت حاتم أن يمن عليه فمن عليه، ثم قدم وأسلم.
وعكاشة بن محصن إلى الحباب أرض عذرة، وبلي، وغطفان، أو فزارهَ، وكلب، ولعذرة فيها شركة.
وأبا سفيان، والمغيرة؛ لهدم الطاغية، وغيرها، فهدماها وأخذا مالها.
وفيها قدم وفد بني أسد فقالوا: جئنا قبل أن ترسل إلينا فنزل " يمُنُّونَ عَليك أن أسلمُوا " الحجرات: 17، لآية. وتتابعت الوفود: تميم، وعبس، وفزارة، وغيرهم مما لا ينحصر.
وفيها حج أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بالناس في ثلاثمائة رجل، ومعه عشرون بدنة. وبعث علياً خلفه بسورة براءة، لينبذ إلى كل ذي عهد عهده، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فأدركه علي بالعرج مبلغاً لا أميراً، وكان حجهم في ذلك العام في ذي القعدة.(1/361)
وفيها مات النجاشي، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، والناس معه، فصلوا عليه، ومات عبد الله بن أبي، المنافق، فصلى عليه فنزل " ولا تُصَلِّ على أحَدٍ منهُم مَاتَ أبداً " التوبة: 84، وآلى من نسائه شهراً. ولاعن بين عويمر العجلاني، أو هلال ابن أمية، وامرأته خولة بنت عاصم، أو بنت قيس، أو غير ذلك - على الاختلاف - لما رماها بشريك بن السحماء في شعبان عند قدومه من تبوك فوجدها حبلى ونزلت حينئذ آية اللعان.
قال في المواهب: حجة أبي بكر الصديق سنة تسع في ذي القعدة، كما ذكره ابن سعد، وغيره بسند صحيح عن مجاهد، ووافقه عكرمة بن خالد فيما أخرجه الحاكم في الإكليل، وقال قوم: في ذي الحجة، وبه قال الداودي والثعلبي والماوردي؛ ويؤيده أن ابن إسحاق صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بعدما رجع من تبوك رمضان، وشوالاً، وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميراً على الحج، فهو ظاهر في أن بعث أبي بكر كان بعد انسلاخ ذي القعدة، فيكون حجه في ذي الحجة على هذا، والله أعلم. وكان مع أبي بكر ثلاثمائة رجل من المدينة، وعشرون بدنة.
وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن أبا بكر بعث في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر إلا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب وأمره أن يؤذن ببراءة، فأذن معلناً في أهل منى ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج في العام القابل الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع - مشرك، فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين " يا أيُهَا الذَينَ آمَنوُا إِنَمَا المُشركوُن نَجَسٌ فَلا يَقرَبُوا المَسجدَ الحَرَامَ بَعدَ عَامِهِم هَذا " التوبة: 28 الآية. وقد دلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك يعنى نجاسة اعتقاده، وأما نجاسة بدنه: فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن، والذات، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وهذا ضعيف؛ لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام، ولاستوى في النهي عن دخول المشركين المسجدُ الحرام، وغيره من المساجد، فالمراد نجاسة الخبث لما فيهم من خبث الظاهر بالكفر، وخبث الباطن بالعداوة، قاله مقاتل.
وروى النسائي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج، ثوَّب بالصبح، فلما استوى للتكبير، سمع الرغوة وراء ظهره، فوقف عن التكبير فقال؛ هذه رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء، لقد بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، فلعله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي معه، فإذا علي عليها، فقال له أبو بكر: أمير أم رسول؟ قال: رسول، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة، أقرأها على الناس في مواقف الحج. فقدمنا مكة، فلما كان قبل التروية بيوم، قام أبو بكر، فخطب الناس، فحدثهم عن مناسكهم حتى إذا فرغ، قام علي، فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. ثم إذا كان يوم النحر، فأفضنا، قام أبو بكر، فخطب الناس، فحدثهم عن إفاضتهم، وعن نحرهم، وعن مناسكهم، فلما فرغ قام علي، فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. فلما كان يوم النفر، فأفضنا، قام أبو بكر، فخطب الناس، فحدثهم كيف ينفرون، وكيف يرمون، ويعلمهم مناسكهم، فلما فرغ قام علي، فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. وهذا السياق فيه غرابة من جهة أن أمير الحج سنة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد، فأما أبو بكر - رضي الله عنه - فإنما كان سنة تسع، واستدل بهذه القصة على أن فرض الحج كان قبل حجة الوداع، والأحاديث في ذلك شهيرة كثيرة. وذهب جماعة إلى أن حج أبي بكر هذا لم يسقط عنه الفرض، بل كان تطوعاً قبل فرض الحج، ولا يخفي ضعفه.(1/362)
وفي هذه السنة مات عبد الله بن أبي ابن سلول، فجاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله !صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام عمر - رضي الله عنه - فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، تصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال صلى الله عليه وسلم إنما خيرني الله عز وجل قال: " أستَغفِر لَهُم أو لا تستَغْفِر لهُم إن تَستَغفِر لَهُم سَبعِينَ مرة " التوبة: 80، وسأزيد على السبعين، قال: إنه منافق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى " وَلا تُصلِّي عَلى أحَدٍ مِّنْهُم ماتَ أبداً ولا تَقُم عَلىَ قَبرهِ إنَّهُم كفروا باللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتوُا وَهُم فاسِقُون " التوبة: 84 رواه الشيخان.
وفيها آلى من نسائه صلى الله عليه وسلم شهراً.
وجحش شقه أي خدش، وجلس في مشربة له لها درج من جذوع، فأتاه أصحابه؛ يعودونه، فصلى بهم جالساً وهم قيام، فلما سلم قال: " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائماً؛ فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً؛ فصلوا قعوداً، ولا تركعوا حتى يركع، ولا ترفعوا حتى يرفع " .
ونزل لتسع وعشرين، فقالوا: يا رسول الله إنك آليت شهراً فقال: " إن الشهر يكون تسعاً وعشرين " .
حوادث السنة العاشرة
فيها سرية خالد في ربيع الأول إلى بني عبد المدان بنجران، فأسلموا، وجرير ابن عبد الله البجلي في رمضان في مائة وخمسين إلى ذي الخلصة - بيت أصنام لدوس، وخثعم، وبجيلة، ومن ببلادهم - وحديثه في البخاري، قالى جرير: فكسرناه، وقتلنا من وجدناه عنده، فدعا صلى الله عليه وسلم لنا، ولأحمس.
وفيها حجة الوداع، وتسمى: حجة البلاغ، وحجة الإسلام، خرج يوم الخميس لست بقين - أو يوم الجمعة، أو يوم السبت لخمس بقين - من ذي القعدة، ومعه صلى الله عليه وسلم تسعون ألفاً أو مائة وأربعة عشر ألفاً، ووقف فيها يوم الجمعة، ونزل " اليومَ أكمَلتُ لَكم دِينكَم " المائدة: 3، الآية.
ورجع من حجة الوداع لثلاث بقين من ذي الحجة، وفيها نزل " تاأيُّهَا الذَيَن آمنوا لِيسَتئذنكم الذينَ مَلَكَت أيماَنكُم " النور: 58 الآية، وكانوا لا يفعلونه قبل ذلك.
وقدم وفد نجران في اثني عشر راكباً، أميرهم العاقب عبد المسيح، والسيد إمامهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة أسقفهم، صالحوه عن أهل نجران.
قال في المواهب: وكره ابن عباس أن يقال: حجة الوداع.
وكان صلى الله عليه وسلم قد أقام بالمدينة يضحي كل عام، ويغزو المغازي، فلما كان في ذي القعدة سنة عشر من الهجرة - أجمع الخروج إلى الحج. قال ابن سعد: ولم يحج غيرها منذ تنبأ إلى أن توفاه الله تعالى.
وفي البخاري عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم حج بعد ما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها، وهي حجة الوداع. قال ابن إسحاق: وبمكة أخرى، قيل: حج بمكة حجتين، هذا بعد النبوة، وقبلها لا يعلمه إلا الله. فخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة، وجزم ابن حزم بأن خروجه كان يوم الخميس، وفيه نظر؛ لأن أول في الحجة كان يوم الخميس قطعاً، لما ثبت، وتواتر أن وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة. لكن ثبت في الصحيحين عن أنس: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، فدل على أن خروجهم لم يكن يوم الجمعة. ويحمل قول من قال لخمس بقين، أي: إن كان الشهر ثلاثين، فاتفق أن جاء تسعاً وعشرين، فيكون يوم الخميس أول ذي الحجة بعد مضي أربع ليال، لا خمس، وبها الأخبار.
هكذا جمع الحافظ عماد الدين بن كثير الروايات، وقوى هذا الجمع بقول جابر: إنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة، أو أربع، وصرح به الواقدي: بأن خروجه - عليه الصلاة والسلام - كان يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة، وكان خروجه من المدينة بين الظهر، والعصر، وكان دخوله مكة صبح رابعه، كما ثبت في حديث عائشة، وذلك يوم الأحد، وهذا يؤيد أن خروجه من المدينة كان يوم السبت، كما تقدم، فيكون مكث في الطريق ثمان ليال، وهي المسافة الوسطى، وخرج معه - عليه الصلاة والسلام - تسعون ألفاً، ويقال: مائة ألف وأربعة عشر ألفاً، ويقال: أكثر من ذلك، كما حكاه البيهقي، ورجع - عليه الصلاة والسلام - من حجة الوداع لثلاث بقين من ذي الحجة.(1/363)
حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة
فيها سرية أسامة بن زيد إلى أهل أُبنى بالسراة ناحية البلقاء، يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفرة لغزو الروم، مكان قتل أبيه زيد، ومعه أبو بكر، وعمر، وغيرهما. فمرض صلى الله عليه وسلم، فعوقهم ذلك، وثقل صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: أنفذوا بعث أسامة، ودخل عليه أسامة يوم الاثنين، وقد أصبح مفيقاً، فقال له: اغد على بركة الله، فودعه، وخرج، ثم تأخر حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج حتى وصل إلى أهل أبنى في عشرين ليلة، فشن عليهم الغارة، وكان شعارهم: يا منصور أمت. فقتل، و حرق، و غنم.
وقبل وفاته - عليه الصلاة والسلام - بسبع ليال، أو ثلاث ليال، أو ثلاث ساعات، أو بأحد وثمانين يوماً، أو عشرين، أو غير ذلك على الخلاف - نزل قوله تعالى: " وَاتقُوا يوماً ترُجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله " البقرة: 281، فهي آخر آية نزلت.
وفي البخاري عن ابن عباس: إن آية الربا آخر آية نزلت. والجمع ممكن، وفي آخر ما نزل أقوال غير ذلك. وأما أول ما نزل " اقرَأ بِاسمِ رَبك الذي خَلَقَ " العلق: ا، الآيات الخمس. قال القشيري: ثم نون والقلم، ثم المزمل، ثم المدثر، ثم تبت، ثم كذا إلى آخر ما ذكر من الترتيب، ولبسط ذلك، وتمييز المدني من المكي تأليف مخصوصة لسنا بصددها.
فصل في صفاته الحسية صلى الله عليه وسلم:
كان ربعة، بعيد ما بين المنكبين، أبيض اللون، مشرباً بحمرة، رجل الشعر أسوده، يبلغ شحمة أذنيه إذا طال، ونصف ذلك إذا قصر، لم يبلغ الشيب في رأسه، ولحيته عشرين شعرة، واسع الجبين، أزج الحواجب، في غير قرن، أدعج العينين، أقنى العرنين، سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان، حلو المنطق، يتلألأ وجهه كالقمر ليلة البدر، حسن الخلق معتدله، عريض الصدر، موصول ما بين لبته وسرته بشعر يجري كالخط، أشعر الذراعين، والمنكبين، وأعالي الصدر، عالي اليدين، والبطن فيما سوى ذلك، أجل الناس، وأبهاه من بعيد، وأحسنه، وأحلاه من قريب، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما، وعلاه البهاء، بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة، لونه لون جسده عليه خيلان، روى أنه مكتوب في باطنه: الله وحده لا شريك له، وفي ظاهره: توجه حيث شئت، فإنك منصور. ويروى - أيضاً - أن المكتوب فيه: محمد رسول الله، وقيل: غير ذلك. يقول واصفه صلى الله عليه وسلم: لم أر قبله مثله، ولا بعده مثله.
فصل في صفاته المعنوية وأخلاقه صلى الله عليه وسلم:
قالت عائشة: كان خلقه القرآن؛ يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه.
وكان أحلم الناس، قيل له: ألا تدعو على المشركين؟ قال: إنما بعثت رحمة، ولم أبعث عذاباً.
وكان أشجع الناس، قال علي: كنا إذا حمي البأس، والتقى القوم - اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأعدل الناس، القريب والبعيد، والقوي والضعيف عنده سواء.
وأعف الناس، وأسخاهم، لا يسأل شيئاً إلا أعطاه، لا يبيت عنده دينار، ولا درهم، فإن فضل، ولم يجد من يعطيه، وفجأه الليل لم يأو إلى منزله حتى يبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما أعطاه الله إلا قوت عامه فقط من أيسر ما يجد، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، ثم يعود على قوت عامه، فيؤثر منه.
وكان أشد حياء من العذراء في خدرها، لا يثبت نظره في وجه أحد، غاض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظ، وأكثر تواضعاً: يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويفليه - قلت: معنى يفليه ليس من القمل كما هو المتبادر؛ لأن القمل لا يلحق جسمه الشريف، وإنما المراد بالتفلية: التنقية من نحو قشة، أو غبار، وما أشبهها - ويخيطه، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع اللحم معهن، ويجيب دعوة الحر، والعبد، ويقبل الهدية وإن قلت، ويكافىء عليها، ويأكلها، ولا يأكل الصدقة.
تستتبعه الأمة والمسكين فيتبعهما حيث دعواه، ويجيب الفقراء، والمساكين، ويجالسهم، ويواكلهم، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، وأرحمهم، يصغي الإناء للهرة فما يرفعه حتى تروى؛ رحمة لها. وأشدهم إكراماً لأصحابه، لا يمد رجله بينهم، ويوسع عليهم إذا ضاق المجلس، ويتفقدهم ويسأل عنهم: من مرض عاده، ومن غاب دعا له، ومن مات استرجع، وأتبع ذلك بالدعاء له، ومن تخوف أنه وجد في نفسه انطلق حتى يأتيه في منزله.(1/364)
ويقبل معذرة المعتذر، ويخرج إلى بساتين أصحابه، ويأكل من ضيافتهم، ولا يطوي بشره عن أحد، ولا يدع أحداً يمشي خلفه، ويقول: " خلوا ظهري للملائكة " ، ولا يدع أحد يمشي معه، وهو راكب حتى يحمله، فإن أبى قال: " تقدمني، إلى المكان الذي تريد " .
وأمر في سفره باصلاح شاة فقال رجل: علي ذبحها، وآخر عليَّ سلخها، وآخر عليَّ طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم: " وعليَّ جمع الحطب " ، فقالوا: نحن نكفيك، قال: " قد علمت، ولكن اكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبد أن يراه متميزاً بين أصحابه " ، وقام بجمع الحطب.
يخدم من خدمه، ما ضرب قط خادمه، ولا امرأة، ولا شيئاً إلا في جهاد، ولا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل، ولا ملبس. قال أنس: خدمته عشر سنين، فما قال لي قط أف، ولا لِمَ فعلت، ولا ألا فعلت.
أكثر الناس تبسماً، وأحسنهم بشراً، لا يهوله شيء من أمور الدنيا، لا يحقر فقيراً لفقره، ولا يهاب ملكاً لملكه، يلبس ما وجد من مباح، ويركب ما تيسر من فرس، أو بعير، أو بغلة، أو حمار، ويردف خلفه عبده، أو غيره، وقد روى فيمن أردفه أكثر من ثلاثين، يمسح وجه فرسه بطرف كمه أو طرف ردائه، يحب الفأل، ويكره الطيرة. إن جاء ما يحب قال: " الحمد لله رب العالمين " ، أو ما يكره قال: " الحمد لله على كل حال " . يحب الطيب، ويكره الرِيح الرديئة، يمزح، ولا يِقول إلا حقاً، يبدأ من لقيه بالسلام، لا يجلس، ولا يقوَم إلا على ذكر، يجلس حيث انتهى به المجلس، ويأمر بذلك، ولا يقوم عمن يجالسه حتى يقوم إلا أن يتعجله، أو يستأذنه. ولا يقابل أحداً بما يكره، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. لا يذم شيئاً قط، وما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، يحفظ جاره، ويكرم ضيفه، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم؛ فيكون أبعد الناس منه.
أكثر جلوسه للقبلة، آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض فلم يقبل، واختار الآخرة.
يعصب الحجر على بطنه من الجوع، يبيت هو وأهله الليالي طاوين، ولم يشبع من خبز بر ثلاثاً تباعاً، ولا من خبز الشعير حتى لقي الله - عز وجل - إيثاراً على نفسه لا فقراً، ولا بخلاً. يأتي على أهله الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار، ولا يأكل متكئاً، ولا على خوان. فراشه من أدم حشوه ليف. يلبس الصوف، وينتعل المخصوف. أحب اللباس إليه الحبرة من برود اليمن فيها حمرة وبياض، يلبس الإزار الواحد ليس عليه غيره، يعقد طرفيه بين كتفيه، ويلبس يوم الجمعة برده الأحمر، ويعتم، وكان يلبس خاتماً فضة، نقش فصه " محمد رسول الله " في خنصره الأيمن، وربما لبسه في الأيسر، ويكثر دهن رأسه، ولحيته، ويتبخر بالعود، والكافور، ويكتحل بالإثمد، ويتطيب بالغالية، والمسك أو بالمسك وحده.
فصل في خصائصه صلى الله عليه وسلم:
فمن الواجبات: المشاورة في الأمور، وتخيير نسائه بين أن يبقين في عصمته أو لا، ومصابرة العدو الكثير، وتغيير المنكر من غير قيد عدم الخوف، وقضاء دين الميت المعسر المسلم، وليس منها وجوب الضحى، ولا الأضحى، ولا الوتر، ولا السواك، ولا التهجد، ونحو ذلك خلافاً لمن زعمه.
ومن المحرمات: أخذ الصدقة واجبة كانت أو تطوعاً، والشعر، والخط والأكل متكئاً، وأكل كل ذي ريح كريه في رأي قوي، ونزع لأمته إذا لبسها حتى يلقى العدو، ومدّ عينيه لما متع به الناس، وخائنة الأعين؛ بأن يومئ إلى مباح على خلاف ما يظهر، والمن ليستكثر، وإمساك من كرهت نكاحه.
ومن المباحات: مواصلة الصوم، واصطفاء ما يختار من الغنيمة كأخذه صفية، وسيفه ذا الفقار، وكان له خمس الخمس من الفيء، والغنيمة، وأربعة أخماس من الفيء، ودخول مكة بلا إحرام، وإن اختلف في غيره، وأبيح له القتال بها ساعة يوم الفتح، وكانت من ضحوة إلى بعد العصر، ويقضي بعلمه قطعاً، ولنفسه ولو كره، ويشهد أيضاً لنفسه وولده، ويقبل من يشهد لهما، ويحيى الموات لنفسه، ويأخذ الطعام، والشراب من المالك المحتاج لهما، ويمكث بالمسجد جنباً، ومن يختاره معه في ذلك كما أشركه معه في ذلك، ولا ينتقض وضوؤه بنومه: من البسيط:
......... ... فالعين نائمة والقلب يقظان(1/365)
وله أن يزوج من نفسه، وممن شاء بلا إذن، ويتولى الطرفين، ويزيد على أربع زوجات، بل وعلى تسع اللاتي اتفق اجتماعهن وهو العدد الذي مات عنه - أيضاً - وينكح بلا ولي، ولا شهود، وفي حالة إحرامه، وبلفظ الهبة من المرأة، وبلا مهر لا حالاً ولا مآلاً. وأكثر المباح له لم يقع منه صلى الله عليه وسلم.
ومن الفضائل والكرامات: تحريم أزواجه اللاتي دخل بهن، وفارقهن بموت، أو غيره على من سواه، وإنما هن أمهات المؤمنين في ذلك، وفي احترامهن لا في نحو نظر وخلوة، وتحريم بناتهن، وأخواتهن، وكذا من لم يدخل بهن على ما نص عليه الشافعي؛ لظاهر القرآن. ونساؤه أفضل النساء، وأفضلهن خديجة وعائشة.
وأمته خير الأمم، ولا تجتمع على ضلالة، وصفوفهم كصفوف الملائكة.
وأصحابه خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
وشرعه مؤبد ناسخ لما خالفه من الشرائع، وكتابه معجز يحفظ من التحريف والتبديل، مستمر بعد نبوته، ومعجزات غيره من الأنبياء انقرضت، ونصر بالرعب مسيرة شهر، وجعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت له الغنائم وأعطي الشفاعة، والمقام المحمود، وله خمس شفاعات، وأكثر منها: فله الشفاعة العظمى في فصل الموقف، وهي الأولى، فيفزع الكل إليه بعد دلالة الرسل عليه، ولو بتوسط الدلالة على من دل عليه إظهاراً لعلو مقامه، وانفراده بتمامه؛ والشفاعة في قوم يدخلون النار؛ فلا يدخلونها، وهي الثالثة؛ وفي ناس دخلوها، فيخرجون منها، وهي الرابعة، وفي رفع الدرجات في لجنة وهي الخامسة.
وله غيرهن شفاعته لمن مات بالمدينة، وفي جمع من صلحاء المؤمنين أن يتجاوز عنهم ما لعلهم قصروا فيه، وفي تخفيف العذاب عن بعض أهل النار كما في عمه أبي طالب، وفي تخفيف عذاب القبر كما في حديث غرز الجريدتين في القبرين؛ وفي فتح باب الجنة والجواز على الصراط وغير ذلك.
وأرسل إلى الناس كافة، وهو سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع، وأول من يقرع باب الجنة، وأكثر الناس تبعاً، وأعطي جوامع الكلم. وكان لا ينام قلبه، ويرى من وراء ظهره كما يرى من قدامه، وتطوعه بالصلاة قاعداً كتطوعه قائماً وإن لم يكن له عذر. ولا يحل لأحد رفع صوته فوق صوته، ولا نداؤه من وراء الحجرة، ولا باسمه، بل يا نبي الله، يا رسول الله، ونحو ذلك، ومخاطبة المصلي بالسلام عليك أيها النبي، ولو خاطب غيره، بطلت، ويجب على المصلي إجابته إذا دعاه، ولا تبطل صلاته، وتحل له الهدية دون غيره من الحكام، ولا يجوز عليه، ولا على غيره من الأنبياء جنون، ولا احتلام. ومن استهان بأحد منهم كفر.
ولا يورث أحد منهم، بل ماله صلى الله عليه وسلم صدقة على المسلمين، وأولاد بناته ينسبون إليه، ويجب بذل المهج لسلامة مهجته، فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ومن رغب فيها وهي مزوجة، وجب على زوجها طلاقها.
وفاتته ركعتان بعد الظهر فقضاهما بعد العصر ثم واظب عليهما، وقال: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، فقال الشافعي: ليس لأحد أن يكنى بأبي القاسم، وحمل نصه على حال حياته صلى الله عليه وسلم. ومن رآه في المنام فقد رآه حقاً؛ فإن الشيطان لا يتمثل في صورته، والأرض لا تأكل لحمه، ولا لحم أحد من الأنبياء. وكل نسب وسبب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبه، وسببه، وصهره، وله غير ذلك مما لا ينحصر.
فصل في معجزاته صلى الله عليه وسلم:
منها - وهو أعظمها - القرآن العظيم، الذي عجز الجن والإنس أن يأتوا بمثله، بل بعشر سور منه، بل بسورة، بل بحديث مثله، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه؛ فشرب منه أهل العسكر، وتوضئوا، كل ذلك من قدح، ولا ماء فيه؛ فجاش بالماء حتى شرب الجيش، ورووا وهم ألوف وفاضت إلى اليوم، وبالحديبية مرة بالبئر فأروتهم، وهم ألف وأربعمائة أو أكثر، وأطعم جيش الخندق، وهم ثلاثة آلاف من تمرٍ أتت به ابنة بشير بن سعد إلى أبيها وخالها لم يملأ كفيه، فأكلوا منه حتى شبعوا، وفضلت فضلة.(1/366)
ورمى يوم حنين جيش الكفار بقبضة من تراب فعميت عيونهم، وحن إليه الجذع الذي كان يخطب إليه حين عمل له المنبر، وكلمه الذراع المسموم بالشاة، كما سبق، وكان يخبر بالغيوب كقوله: " إن عمارا تقتله الفئة الباغية؛ وإن عثمان تصيبه بلوى تكون بعدها الجنة؛ وإن الحسن بن علي سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " ، فكان كذلك؛ وكان إخباره بقتل الأسود العنسي الكذاب، وهو بصنعاء وبمن قتله؛ وبموت النجاشي بالحبشة؛ وبترتيب المقتولين في غزوة مؤتة كما مضى؛ وإخباره بقتل ابن خلف، ومصارع صناديد قريش، فكان كما قال.
وخرج وعلى بابه قوم ينتظرونه؛ ليؤذوه، فوضع التراب على رؤوسهم، فلم يروه، ودعا شجرتين فأتتاه، فاجتمعتا، ثم أمرهما؛ فافترقتا، وزويت له الأرض فرأى مشارقها ومغاربها، وأخبر ببلوغ ملك أمته ما زوى له منها، فكان كذلك، فبلغ ملكهم من أول المشرق إلى آخر المغرب، ولم يتسعوا في الجنوب، والشمال كما أخبر سواء بسواء، ومسح ضرع شاة لم ينز عليها الفحل؛ فدرت، وندرت عين قتادة فسقطت، فردها بيده الكريمة؛ فكانت أصح عينيه، وأحسنهما، وأحدهما، وكانوا يسمعون تسبيح الطعام بين يديه، والحصى بيديه، وسلم عليه الحجر والشجر ليالي بعث وغيرهما.
وكلمته الحيوانات: البعير، وغيره في حاجاتها. ومنها إنبات النخلة في سنام البعير، وإدراك ثمرها في الحال، ففرقه على الحاضرين، فمن علم الله أن سيؤمن - كانت التمرة في فمه تمرة كما هي؛ ومن علم عدم إيمانه - عادت التمرة في فيه حجراً، ذكر ذلك البيهقي، وغيره من أئمة الحديث، وغير ذلك مما لا يحصى. وقد بلغ بمعجزاته - عليه الصلاة والسلام - بعض الأئمة ثلاثة آلاف وزيادة، غير القرآن العظيم؛ إذ كل حرف منه معجز، فمعجزاته ! لا يدرك حصرها.
قال ابن إسحاق: فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، فحدثني عبد الله بن أبي بكر، وحسين بن عبد الله، وغيرهما من أصحابنا أن علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد وشقران، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين تولوا غسله؛ وأن أوس بن خولى أحد بني عوف بن الخزرج قال لعلي بن أبي طالب: أنشدك الله يا علي، وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أوس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بدر، قال: ادخل، فدخل وجلس، وحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسنده علي بن أبي طالب إلى صدره، وكان العباس، والفضل، وقثم يقلبونه معه، وكان أسامة بن زيد، وشقران مولياه اللذان يصبان الماء عليه، وعلي يغسله قد أسنده إلى صدره، وعليه قميص يدلكه به من ورائه، ولا يفضي بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حياً وميتاً. ولم يُر من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء مما يرى من الميت.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عائشة قالت: لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه. قالت: فلما اختلفوا؛ ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم من رجل إلا ذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن غسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه. قالت: فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه، والقميص دون أيديهم.
قال: فلما فرغ من غسل رسول الله كفن في ثلاثة أثواب: ثوبين صحاريين، وبردة حبرة أدرج فيه إدراجاً كما حدثني جعفر بن محمد بن علي بن حسين، وحدثني حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذي كان يحفر لأهل المدينة، وكان يلحد - فدعا العباس رجلين، فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة بن الجراح، وقال للآخر اذهب إلى أبي طلحة، اللهم خره لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/367)
فلما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، وضع على سريره في بيته، وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه، فقال قائل: ندفنه - في مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض، فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي عليه، فحفر له تحته، ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون عليه أرسالاً: فدخل الرجال حتى إذا فرغوا، دخل النساء، حتى إذا فرغن، دخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد؛ ثم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وسط الليل ليلة الأربعاء.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن امرأته فاطمة بنت عمارة، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، عن عائشة قالت: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ليلة الأربعاء.
قال محمد بن إسحاق: وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن عباس، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال أوس بن خولى لعلي بن أبي طالب: أنشدك بالله، وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: انزل، فنزل مع القوم. وقد كان شقران حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وبنى عليه قد أخذ قطيفة قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها، ويفترشها، فدفنها في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك أبداً. فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسيأتى ذكر بدء مرضه - عليه الصلاة والسلام - في أول خلافة الصديق - رضي الله تعالى عنه - .
ومما قيل من الرثاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قول أبي بكر رضي الله تعالى عنه: من الوافر:
أجدكَ ما لعينِكَ لا تنامُ ... كأن جفونَهَا فيها كلامُ
بوقعِ مصيبةِ عظُمَت وجلت ... فدمعُ العينِ أهونُهُ انسجامُ
فُجعنا بالنبي وكان فينا ... مقدمنا وسيدنا الإمامُ
وكان قوامنا والرأس فينا ... فنحنُ اليومَ ليس لنا قوامُ
ننوحُ ونشتكِى ما قد لَقِينا ... ويشكُو فقدَهُ البلدُ الحرامُ
كأن أنوفنا لاقينَ جدعاً ... لفقدِ محمدٍ فيها اصطلامُ
لفقدِ أغر أبيض هاشمي ... إمام نبوَّةٍ وبه الختامُ
أمين مصطفًى للخيرِ يدعو ... كضوءِ البدرِ زايله الظلامُ
سأتبعُ هديهُ ما دمتُ حياً ... طوالَ الدهرِ ما سجع الحمامُ
كأن الأرضَ بعدك طارَ فيها ... فَأشعَلَهَا لساكنها ضرامُ
وفقد الوَحى إذ وليت عنا ... وودعنا مِنَ الله الكلامُ
سوَى أن قد تَرَكت لنا سراجاً ... تواريه القراطيسُ الكرامُ
لقد ورثتنا مِرآة صدقٍ ... عليكَ به التحيةُ والسلامُ
من الرحمنِ في أعلَى جنانٍ ... من الفردوسِ طابَ بها المقامُ
رفيق أبيكَ إبراهيمَ فيه ... وما في مِثل صحبتِهِ ندامُ
وإسحاق وإسماعيل فيه ... بما صَلوْا لربهمُ وصاموا
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله - يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:من الكامل:
ما زلتُ مذ وضع الفِرَاشَ لجنبه ... وَثوَى مريضاً خائفاً أتوقعُ
شفقاً عليه أن يزولَ مكانه ... عنا فنبقَى بعْدَهُ نتوجعُ
وإذا تحدثنا الحوادثُ منْ لَنَا ... بالوحيِ من رب رحيمِ يسمعُ
ليتَ السماءَ تفطَرَت أكنافُهَا ... وتناثَرَت فيها النجومُ الطلعُ
لما رأيتُ الناسَ هد جمعيهم ... صوت ينادي بالنعِي فيسمعُ
وسمعتُ صوتَا قبلَ ذلك هدني ... عباس ينعاه بصوتٍ يقطع
فليبكِهِ أهلُ المدائنِ كلّها ... والمسلمونَ بكُل أرضٍ تجدعُ
وقال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - : من الطويل:
ألا طرق الناعِي بلَيل فراعَنِي ... وأرقني لما استقل منادياً(1/368)
فقلتُ له لما رأيتُ الذي أتى ... أغَيرَ رسولِ اللهِ إنْ كنتَ نَاعِيا
فحقفت ما أشفقتُ منهُ ولم ينل ... وكان خليلي عدَةً وجماليَا
فواللهِ ما أنساكَ أحمَدُ ما مَشَت ... بِىَ العيسُ في أرضٍ وجاوزْتَ واديَا
وكنتُ متى أهبطْ من الأرضِ بقعة ... أرَى أثراً منه جديداً وعافيَا
مِنَ الأسدِ قد أخفى العرين مخافةً ... تهادي سباعُ الطيرِ مِنْهُ تَعَاديا
شديد حوى الصدرِ مِنهُمْ مشددٌ ... هو المَوْتُ معدياً عليه وَعَادِيا
وقال حسان بن ثابت - رضي الله عنه - : من الطويل:
بِطَيْبَةَ رَسم لِلرَسُولِ وَمَعْهَدُ ... منِير وَقَدْ تَعْفُو الرُسُومُ وَتَهْمُدُ
ولا تَنْمَحي الآيَاتُ مِنْ دَارِ حرمَةٍ ... بِهَا مِنبَرُ الْهَادِي الذِي كَانَ يَصْعَد
وَوَاضِحُ آثَار وَبَاقِي مَعَالِم ... وَرَبعٌ لَهُ فِيهِ مُصَلى وَمَسْجِدُ
بِهَا حُجُرَاتٌ كَانَ يَنْزِلُ وَسْطَها ... مِنَ الله نُور يُسْتَضَاءُ وُيوقَدُ
مَشَاهِدُ لَمْ تُطْمَسْ عَلَى الْعَهْدِ آيهَاأتَاهَا الْبِلَى فَالآىُ مْنهَا تَجَدَدُ
عَرَفْتُ بِهَا رَسْمَ الرَسُولِ وَعَهْدَهُوَقَبْراً بِهَا وَارَاهُ في التُرْبِ مُلْحِدُ
ظَلِلتُ بِهَا أبْكِي الرَسُولَ فَأسْعَدَت ... عُيُون وَمِثْلاهَا مِنَ الْجَفْن تُسْعِدُ
يُذَكرْنَ آلاءَ الرسُولِ وَمَا أرَى ... لَهَا مُحْصِيا نَفْسِي فَنَفْسِي تَبَلَدُ
مُفَجعَة قَدْ شَفهَا فَقْدُ أحمَدٍ ... فَظَلتْ لآلاءِ الرسُولِ تُعددُ
وَمَا بَلَغَت مِنْ كُل أمْرٍ عشيرهُ ... وَلكِنْ لِنَفسِي بَعْدُ مَا قَدْ تَوَجدُ
أطَالَتْ وُقُوفاً تَذْرِفُ الْعَيْن جَهْدَهَاعَلَى طَلَلِ الْقَبرِ الَذِي فِيهِ أحْمَدُ
فَبُورِكتَ يَا قَبْرَ الرَّسُولِ وَبُورِكَت ... بِلاد ثَوَى فِيهَا الرَشِيدُ المُسَدَدُ
وَبُورِكَ لحد مِنْكَ ضُمنَ طَيبا ... عَلَيهِ بِنَاء من صَفِيحٍ مُنَضَدُ
تَهِيلُ عَلَيهِ التُرْبَ أيْدٍ وَأعين ... عَلَيهِ وَقَد غَارَتْ بِذَلِكَ أسْعُدُ
لَقَدْ غَيبوا حِلماً وَعِلْماً وَحكْمَةً ... عَشِيةَ عَلوْهُ الثرَى لا يُوَسَدُ
وَرَاحُوا بِحُزنٍ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيهُم ... وَقَد وَهَنَت منهم ظُهُور وَأعضُدُ
يُبَكونَ مَنْ تَبكِي السمواتُ يَومَهُ ... وَمَن قَد بَكَتهُ الأزضُ فَالناسُ أكمَدُ
وَهَلْ عَدَلَتْ يَوماً رَزِيةُ هَالِكٍ ... رَزِيةَ يَومٍ مَاتَ فِيهِ مُحَمدُ
تَقَطعَ فِيهِ منزل الوَحيِ عَنهُمُ ... وَقَد كَانَ ذَا نُورٍ يَغُورُ وَيُنجِدُ
يَدُل عَلَى الرحمنِ من يَقتَدِي بِهِ ... وَيُنقِذ من هَولِ الخَزَايَا وَيُرْشِد
إمَام لَهُم يَهدِيهِمُ الحَق جَاهِداً ... مُعَلمُ صِدقِ إِن يُطِيعُوهُ يَسْعَدُوا
عَفُوٌّ عنِ الزلاتِ يَقبَلُ عُذرَهُم ... وَإن يُحسِنوا فَالله بِالخَيرِ أجوَدُ
وَإنْ نَابَ أمر لَم يَقُومُوا بِحَملِهِ ... فَمِن عِندِهِ تَيسِيرُ مَا يَتَشَدَدُ
فَبَنينَا هُمُ في نِعمَةِ الله بَينَهُم ... دَلِيل بِهِ نَهجُ الطرِيقَةِ يُقصَدُ
عَزِيزٌ عَلَيهِ أن يَزيغُوا عَنِ الهُدَى ... حَرِيص عَلَى أن يَستَقِيمُوا ويَهتَدوا
عَطُوفٌ عَلَيْهِم لا يُثَنِّي جَنَاحَهُ ... إِلَى كَنَفٍ يَحنُو عَلَيهِمْ وَيَمهَدُ
فَبَينَا هُمُ في ذلِكَ النورِ إِذ غَدَا ... إلَى نُورِهِم سَهمً من المَوتِ مُقصِدُ
فَأصبَحَ مَحْمُوداً إِلَى الله رَاجِعا ... يُبَكيهِ جَفنُ المُرسَلاتِ وَيَحمَدُ(1/369)
وَأمسَت بِلادُ الحُرمِ وَحشاً بِقَاعُهَا ... لِغَيْبَةِ مَا كَانَتْ مِنَ الوَحي تعْهَدُ
قِفَارا سِوَى مَعمُورَةِ اللحْدِ ضَافَهَا ... فَقِيد يبَكيهِ بَلاط وَغَرقَدُ
وَمسجِدُهُ فَالمُوحِشَاتُ لِفَقده ... خَلاءٌ لَهُ فِيهِ مَقَام وَمَقعَدُ
وَبِالجَمرَةِ الكُبرَى لَهُ ثَم أوحَشَت ... دِيَار وَعَرصَاتْ وَرَبْعٌ وَمَولِد
فَبَكى رَسُولَ الله يَا عَين عَبرَةً ... ولا أعرِفَتكِ الدهرَ دمعُكِ يَجمُدُ
وَمَالَكِ لا تَبكِينَ ذَا النعمَةِ التِي ... عَلَى الناسِ مِنهَا سَابغ يَتَغَمَدُ
فَجودِي عَلَيهِ بِالدُّمُوعِ وَأعوِلِي ... لِفَقدِ الذِي لا مِثلُهُ الدهرَ يُوجَد
وَمَا فَقَدَ المَاضُونَ مِثْلَ مُحَمدِ ... ولا مِثلُهُ حَتى القِيامَة يُفقَدُ
أعَف وَأوفَى ذِمَّة بَغد ذِمة ... وَأقرَبَ مِنهُ نَائِلاً لا يُنَكَدُ
وَأبذَلَ مِنهُ للطرِيفِ وَتَالِدِ ... إذَا ضَن مِعطَاءٌ بِمَا كَانَ يُتلِدُ
وَأكرَمَ صِيتاً في البيوتِ إِذَا انتَمَى ... وَأكرَمَ جَداً أبطَحِياً يُسَودُ
وَأمنَعَ ذروَاتٍ وَأثبتَ في العُلا ... دَعَائمَ عِز شَامِخَاتٍ تُشَيدُ
وَأثبَتَ فَرعاً في الفُرُوعِ وَمَنبِتاً ... وَعُودَاً غَذاهُ المزنُ فَالعُودُ أغيَدَ
رَبَاهُ وَليداً فَاستَتَم تَمَامُهُ ... عَلَى أكرَمِ الخَيرَاتِ رَب مُمَجدُ
تَنَاهَت وَصَاةُ المُسْلِمِينَ بِكَفًهِ ... فَلا العِلم مَحبُوس ولا الرَأي يُفنَدُ
أقُولُ ولا يلفَي لِقَولِيَ عَائِب ... مِنَ الناسِ إلا عَازِبُ الْعَقلِ مُبعَدُ
وَلَيسَ هَوَاي نَازِعاً عَن ثَنَائِهِ ... لَعَلي بِهِ في جَنةِ الخلدِ أخلدُ
مَعَ الْمُصطَفَى أرجُو بِذَاكَ جِوَارَهُ ... وفي نَيل ذَاكَ اليَومِ أسعَى وأجهَدُ
وقالت السيدة فاطمة - رضي الله عنها - : من الكامل:
ماذا علَى من شم تُربَةَ أحمَدٍ ... ألا يشَم من الزمَانِ غَوَالِيَا
صُبت على مَصَائب لو أنهَا ... صُبت عَلَى الأيامِ عُدنَ ليالِيَا
وقالت عاتكة بنت عبد المطلب - رضي الله عنها - : من البسيط:
عينيَّ جُودَا طوالَ الدهرِ وانهَمِرَا ... سَكباً وسَحا بدمعٍ غيرِ تَقديرِ
يا عينُ واستَحسِرِي بالدمعِ واحتَفِلِي ... حتَى الممَاتِ بسَجْلٍ غيرِ مَنْزورِ
يا عين وانهملِي بالدمعِ واجتهِدِي ... للمصطفَى دونَ خَلقِ الله بِالنورِ
بمستهل من الشؤبُوب ذي سبَلٍ ... فقد رُزِئت نبي العدلِ والخيرِ
وكنت من حَذَرٍ للمَوتِ مشفقةَ ... وللذي خُطَ مِن تلكَ المقاديرِ
من فَقدِ أزهَرَ ذي خلقٍ وذي فخر ... صافٍ من العَيبِ والعاهاتِ والزورِ
فاذهَب حَمِيدَا جزَاكَ الله مَغفرةً ... يومَ القيامةِ عِندَ النفخِ في الصورِ
وقالت أروى - أختها - بنت عبد المطلب - رضي الله عنها - : من الوافر:
ألا يَا عينُ ويحَكِ أسعِدِينِي ... بدمعٍ ما بقيتُ وطَاوِعِينِي
ألا يا عَين ويحكِ واستَهِلي ... على غيثِ البلادِ وأسعِدِينِي
فَإن عَذَلَتكِ عَاذِلةٌ فقولِي ... عَلامَ وفيمَ ويحَكِ تعذليني
عَلى نُور البِلادَ معاً جميعاً ... رَسُولِ الله أحمَد فاتْرُكِينِي
وإنْ لا تَقصرِي بالعَدلْ عني ... فَلُومي ما بَدَا لَكِ أو دَعِينِي
لأمرٍ هَدنِي وأدَك رُكْنِي ... وشَيّبَ بَعْدَ جِدَّتها قُرُوني
وقالت صفية بنت عبد المطلب - رضي الله عنها: من الخفيف:
لهفَ قَلْبِي وبتُ كالمسلوبِ ... أرق اللَيلُ مقلَةَ المحرُوب(1/370)
من هموِم وحَسْرةٍ وَقَذَتْنِي ... ليتَ أني سبقْتُهَا لِشَعُوبَ
حينَ قالوا إن الرسولَ قد أمْسَى ... وافَقَتهُ مَنِيةُ المكتوبِ
إذْ رأينا أن النبيَّ صَرِيعْ ... فأشَابَ القَذَالَ أي مَشِيبِ
إذ رأينا بيوتَهُ مُوحِشَاتٍ ... ليس فيهنَّ بعد عَيْش حبيبِ
أورَثَ القلبَ ذاكَ حزناً طويلاً ... خالَطَ القلبَ فَهْوَ كالمرعُوبِ
ليتَ شِعرِي وكْيفَ أُمسي صحيحَاً ... بعد أنْ بِينَ بالرسُولِ القريبِ
أعظم الناسِ في البريةِ حَقاً ... سيدُ الناسِ حبه في القُلُوب
فَإلى الله ذاك أشكُو وحَسبيّ ال ... لهُ مولى وحَوْبتِي ونَحِيبِي
وقالت - أيضاً - : من المتقارب:
أفاطمُ فابْكِي ولا تَسْأمِي ... بصَحبِكِ ما طَلَعَ الكوكَبُ
هو المرءُ يبكي بحق البكا ... هو الماجِد السيّدُ الطيبُ
فأوحشَتِ الأرضُ من فقْده ... وإن البريةَ لا تنكبُ
فَمَا ليَ بَعْدَك حتى المما ... ت إلا الجَوَى الدَاخِل المُنْصِبُ
فَبَكى الرسولَ وحقَّتْ له ... شُهُودُ المدينةِ والغُيَّبُ
لِتَبْكِكَ شَمطاءُ مَضْرورةٌ ... إذا حُجِبَ الناسُ لا تحجَبُ
ليبكِكَ شيخ أبو ولدة ... يطوفُ بعقوتِهِ أشْهَبُ
ويبكك رَكب إذا أرمَلُوا ... فلم يكْفِ ما طلبِ المطلبُ
وتبكي الأباطحُ مِنْ فقده ... وتبكيه مَكةُ والأخْشَبُ
وتبكي وُعَيْرَةُ مِنْ فَقْدهِ ... بُحزْن ويُسْعِدُهَا المِثيبُ
أعْيَنيّ ما لَكِ لا تَدْمَعِين ... وحق لدمْعِكِ ما يَسْكُبُ
صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه إلى يوم الدين، وسلم.
وقال أبو الفتح: فيا له - في مثل ذلك - خطب جل عن الخطوب؛ ومصاب عَلم دمع العين كيف يصوب؛ ورزء غربت له النيرات، ولا تعلل بشروقها بعد الغروب.
وجاءت هجمة الموت؛ فلا نجاء منه لهارب، ولا فرار منه لمطلوب، ولا صباح له؛ فيجلو غياهبه الملمة ودياجيه المدلهمة، ولكل ليل إذا دجى صباح يئوب، ومن سر أهل الأرض، ثم بكى، سأبكي بعيون سرها، وقلوب.
فإنا لله، وإنا إليه راجعون من نار طويت عليها الأضالع، لا تخبو ولا تخمد، ومصيبة تستك منها المسامع، فلا يبلى على مر الجديدين حزنها المجدد.
المقصد الثالث:
في ذكر الخلفاء الأربعة
وذكر خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهم أجمعين:
خلافة أبي بكر الصديق
رضي الله تعالى عنه:
قال ابن إسحاق: ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكواه التي قبضه الله تعالى فيها إلى ما أراد به من كرامته ورحمته، في ليال بقين من صفر، أو في أول شهر ربيع الأول، فكان أول ما ابتدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك - فيما ذكر لي - : أنه خرج إلى بقيع الغرقد من جوف الليل، فاستغفر لهم، ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح - ابتدئ بوجعه من يومه ذلك.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن عمر، عن عبيد الله بن جبير مولى الحكم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعث إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل، فقال: يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي؛ فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم، قال: " السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه؛ أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، تتبع أخراها أولاها، الآخرة شر من الأولى " ؛ ثم أقبل علي فقال: " يا أبا مويهة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا، والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة " . قال أبو مويهة: فقلت بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا، والخلد فيها، ثم الجنة - قال: " لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي، والجنة " ؛ ثم استغفر لأهل البقيع، وانصرف، فبدأ به في صبيحة ذلك اليوم وجعه الذي قبضه الله فيه.(1/371)
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما رجع - عليه الصلاة والسلام - من البقيع وجدني وأنا أجد صداعَاً في رأسي، وأنا أقول: وارأساه. فقال: " بل أنا والله وارأساه يا عائشة " ، ثم قال لي: " وما ضرك لو مت قبلي، فقمت عليك، وكفنتك، وصليت عليك، ودفنتك " . قالت: فقلت: والله لكأني بك لو قد فعلتَ ذلك لقد رجعتَ إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك. قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه حتى استعزَّ به مرضه - يعني اشتد - وهو في بيت ميمونة؛ فدعا نساءه فاستأذنهن في أن يمرض في بيتي، فأذن له، فخرج - عليه الصلاة والسلام - بين رجلين من أهله، أحدهما: الفضل بن العباس، ورجل آخر هو علي بن أبي طالب عاصباً رأسه، تخط قدماه حتى دخل بيتي.
ولما غمره الوجع قال: " أريقوا عليّ من سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم " . قالت: فأقعدناه في مخضب لحفصة بنت عمر، فصببنا عليه الماء حتى طفق يقول " حسبكم، حسبكم " .
وقال الزهري: حدثني أيوب بن بشر: أنه - عليه الصلاة والسلام - خرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به: أن صلى على أصحاب أحد، واستغفر لهم، وأكثر الصلاة عليهم، وقال: " إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله " . قال: ففهمها أبو بكر - رضي الله عنه - وعرف أنه يريد نفسه؛ فبكى، وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا، وأبنائنا. فقال: " على رسلك يا أبا بكر " ، ثم قال: " انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد فسدوها إلا باب أبي بكر " . ثم استبطأ الناس في بعث أسامة، فقال: أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة بن زيد، فلعمري، إن قلتم في إمارته، لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله - وكان قد سمع قول الناس في إمارة أسامة: أمَّر غلاماً حدثاً على جلة المهاجرين، والأنصار - وإنه لخليق بالإمارة، وإن كان أبوه لخليقاً بها. ثم نزل عن المنبر، وانكمش الناس في جهازهم، واستُعزَّ - أي اشتد - برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فخرج، أسامة، وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف من المدينة على فرسخ، فضرب به عسكره، وتتام الناس، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقام أسامة والناس ينتظرون ما الله قاض في رسوله.
ثم اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه أم سلمة، وميمونة، ونساء من نساء المسلمين، منهن: أسماء بنت عميس، وعنده العباس عمه، فأجمعوا أن يلدُّوه - واللد: رفع اللسان، وإدخال المسعط في الحلق من وسط الفم، فإن كان من أحد الشقين فهو الإيجار، وأما اللدود، فهو الدواء نفسه - فلما أفاق - عليه الصلاة والسلام - قال: من وضع هذا بي. قالوا: يا رسول الله، عمك. قال: هذا دواء أتى به نساء جئن من نحو هذه الأرض، وأشار نحو أرض الحبشة. قال: ولم فعلتم ذلك. قال عمه: خشينا يا رسول الله، أن يكون بك داء الجنب. فقال: - عليه الصلاة والسلام - : إن ذلك لداء ما كان الله ليقذفني به، أو ليعذبني، وفي رواية إنها لم تسلط علي، لا يبقى أحد في البيت إلا لد، إلا عَمي. فلقد لدت ميمونة، وإنها لصائمة، لقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عقوبة لهم بما صنعوا.
ولما كان يوم الاثنين، الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج عاصباً رأسه إلى الصبح، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما خرج تفرج الناس، فعرف أبو بكر أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكص عن مصلاه، فدفع - عليه الصلاة والسلام - في ظهر أبي بكر، وقال: صل بالناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فصلى قاعداً عن يمين أبي بكر.
فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس، فكلمهم رافعاً صوته حتى خرج صوته من باب المسجد، يقول: أيها الناس، سعرت النار، وأقبلت الفتن كالليل المظلم، إني والله ما تمسكون علي بشيء، وإني لم أحل إلا ما أحل القرآن، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه، قال له أبو بكر: يا رسول الله، إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله، وفضل كما تحب، واليوم يوم بنت خارجة - يعني زوجته - أفآتيها؟ قال: نعم. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح - بالسين المهملة المضمومة، والحاء المهملة آخر الحروف - : اسم مكان بالعالية.(1/372)
قال: وخرج علي بن أبي طالب يومئذ على الناس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الناس: يا أبا الحسن كيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئاً. قال فأخذ العباس بيد علي ثم قال له: أنت والله عبد العصا بعد ثلاث، أحلف بالله، لقد رأيت الموت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب، فانطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه، وإن كان في غيرنا أمرناه، فأوصى بنا الناس. فقال له علي: إني والله لا أفعل ذلك، والله لئن منعناها لا يؤتيناها، أحد بعده.
فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم.
وروى الزهري، عن عروة، قال: قالت عائشة لما رجع - عليه الصلاة والسلام - ذلك اليوم من المسجد - : دخل إليَّ، فاضطجع في حجري، فدخل علي رجل من آل أبي بكر وفي يده سواك أخضر، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه نظراً عرفت أنه يريده، فقلت: أتحب أن أعطيك هذا السواك؟ قال: نعم. قالت: فأخذته، فمضغته حتى لينته، ثم أعطيته إياه، فاستن كأشد ما رأيته استن بسواك قط، ثم وضعه. ووجدته - عليه الصلاة والسلام - يثقل في حجري فذهبت أنظر في وجهه، فإذا بصره قد شخص، وهو يقول: " بل الرفيق الأعلى من الجنة " .
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، وفي دولتي لم أظلم فيه أحدَاً، فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، ثم قمت مع النساء: ألتدم، وأضرب وجهي.
وعن سالم بن عبيد الأشجعي قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم صار عثمان يضرب على وجهه كالنساء، وأقعد علي - رضي الله عنهما - ، وأخذ عمر - رضي الله عنه - بقائم سيفه وقال: لا أسمع أحداً يقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ضربت عنقه بسيفي، ويقول: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى - عليه الصلاة والسلام - فلبث عن قومه أربعين ليلة، والله، إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال، وأرجلهم. فقال الناس: يا سالم، اطلب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فخرجت من المسجد فإذا بأبي بكر، فلما رأيته أجهشت بالبكاء - فقال: مالك يا سالم، أمات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقلت: إن هذا عمر بن الخطاب يقول: لا أسمع أحداً يقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ضربت عنقه بسيفي هذا، فأقبل أبو بكر حتى دخل، فلما رآه الناس سمعوا إليه، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مسجى ببردة، فرفع البردة عن وجهه، ووضع فاه على فيه فقبله، فاستنشأ الريح، ثم سجاه. ثم صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: إن كان محمد إلهكم الذي تعبدونه، فإن إلهكم قد مات، وإن كان إلهكم الذي في السماء، فإن إلهكم حي لا يموت. ثم تلا " وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُول قَد خلت مِن قَبْلِهِ الرسُل " إلى " الشَاكرِينَ " آل عمران: 144.
قال الزهري: فأخبرني سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قال: والله ما هو إلا أن تلاها أبو بكر حتى عقرت، وأنا قائم، وخررت إلى الأرض، وأثبت حينئذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات. قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر - رضي الله عنه - يومئذ، فأخذها الناس عن أبي بكر، فإنما هي في أفواههم.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر حدثه قال: أقبل أبو بكر من السنح منزله بالعالية - حين بلغه الخبر إلى بيت عائشة - رضي الله عنها - فأذنت له، فدخل، فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقبله، ويبكي، ويقول: توفي والذى نفسي بيده، صلوات الله عليك يا رسول الله، ما أطيبك حياً وميتاً.(1/373)
وفي رواية عن عائشة فوضع فاه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، وقال: وانبياه، واخليلاه، واصفياه. أخرجه ابن عرفة العبدي. ثم خرج إلى المسجد فوجد عمر يكلم الناس، ويقول - وهو شاهر سيفه - : من قال: " إن محمداً قد مات... " إلى آخره، فقال له: على رسلك يا عمر، أنصت، فأبى عمر إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت، جاء إلى المنبر، فقام عليه، ونادى: أيها الناس اجلسوا وأنصتوا، فجلسوا، وأنصتوا فتشهد شهادة الحق، ثم قال: إن الله تعالى نعى إليكم نبيكم، وهو حي بين أظهركم، ونعى لكم أنفسكم، وهو الموت حتى لا يبقي أحداً. إلا إن الله تعالى يقول: " وَمَا مُحَمَّذ إلا رَسُول قَد خلت مِن قبلِهِ الرسُل " إلى قوله " الشاكرِين " آل عمران - 144، وقال: " إِنك مَيتُ وَإِنَّهُم ميتُونَ " الزمر: 30 وقال: " كل نَفسٍ ذائقَةُ الموت " آل عمران - 185، وقال: " ولا تَدعُ مع الله إِلهاً آخَرَ لا إلَهَ إلا هُو كل شَيءٍ هَالِك إلا وَجهَهُ " القصص: 88، وقال: " كُلُ مَنْ عليها فَانِ وَيبقى وَجهُ رَبِك ذوُ الجَلاَلِ وَالإكرامِ " الرحمن: 26، 27؛ ثم قال: إن الله - عز وجل عمّر محمداً، وأبقاه حتى أقام دين الله، وأظهر أمر الله، وبلغ رسالة الله، وجاهد أعداء الله حتى توفاه الله على ذلك، وترككم على الطريقة، فلا يهلك هالك إلا بعد التنبه، والشفاء، والنور، فمن كان الله ربه، فإن الله حي لا يموت؛ فليعبده، ومن كان يعبد محمداً، أو يراه إلهَاً، فقد هلك إلهه. فأقبلوا أيها الناس، واعتصموا بدينكم، وتوكلوا على ربكم،؛ فإن دين الله قائم، وكلمته باقية، وإن الله ناصر دينه، ومعز أهله، وإن كتاب الله بين أظهركم، وهو النور والشفاء، وبه هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم، وفيه حلال الله وحرامه، ولا والله ما نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوفنا مسلولة ما وضعناها بعد، ونجاهد من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يبقين أحد إلا على نفسه.
قال ابن إسحاق: لما قبض - عليه الصلاة والسلام - انحاز هذا الحي من الأنصار بأجمعهم إلى سقيفة بني ساعدة منزل سعد بن عبادة، واعتزل علي بن أبي طالب، وبنو هاشم، والزبير، وطلحة بن عبيد الله وخالد بن سعيد بن العاص، وعمار بن ياسر، والمقداد بن عمرو البهراني، وأبو سعيد الخدري، وجماعة آخرون في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانحاز المهاجرون ما عدا أولئك إلى أبي بكر الصديق، وانحاز معهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل من الأنصار فانحازت إلى أبي بكر وعمر، فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة، فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم الأمر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته لم يفرغ عن أمره، وقد أغلق دونه الباب أهله. قال عمر: فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا حتى ننظر ما هم عليه، فانطلقنا نؤمهم حتى لقيَنا رجلان صالحان، فذكرا لنا الذي صنع القوم، وقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلت: نريد إخواننا من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن تقربوهم، واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين، فقلت: والله لنأتينهم.
فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا هم مجتمعون، وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل، فقلت: ما هذا؟! قالوا سعد بن عبادة، فقلت ما له؟! قالوا وجع. فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، وقال: أما بعد فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام. وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفت دافة منكم - أي دبّ قوم منكم بالاستعلاء، والترفع - علينا تريدون أن تختزلونا من أصلنا، وتحضنونا من الأمر - أي تنحونا عنه - وتستبدوا به دوننا.
فلما سكت أردت أن أتكلم، وقد كنت زوّرت مقالة أعجبتني، أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر، فقال لي أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أعصيه، وكان أعلم مني، ثم تكلم، فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته، وأفضل.(1/374)
قال: أما بعد فما ذكرتم من خير فإنكم أهله، ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، أيهما شئتم - وأخذ بيدي، ويد أبي عبيدة - فلم أكره مما قال غيرها، وكان والله أن أقدَّم فتضرب عنقي - لا يقربني ذلك من إثم - أحبَّ إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.
فقال الحباب بن المنذر - من الأنصار - : أنا جُذيلها المحكَك، وعُذَيقها المرجب، وقام يحجل بهذه الكلمة: منا أمير، ومنكم أمير يا معشر قريش، وقام رجل آخر منهم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل الرجل منكم يقرن معه رجلاً منا، فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان: منكم، ومنا. وتتابعت خطباؤهم على ذلك، وكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى خشيت الاختلاف.
فقام زيد بن ثابت، فقال: يا معشر الأنصار، تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وخليفته من المهاجرين، ونحن كنا أنصار الله فنكون أنصار خليفته، ثم أخذ بيد أبي بكر، فقال: هذا صاحبكم، فبايعه عمر، ثم بايعه المهاجرون، والأنصار، فقال قائل: قتلتم سعداً. فقال عمر: قتل الله سعداً.
قال عطاء بن السائب: لما استخلف أبو بكر أصبح وعلى رقبته أثواب يتجر فيها، فلقيه عمر، وأبو عبيدة، فكلماه، فقال: من أين أطعم عيالي؟! قالا: انطلق حتى نفرض لك، قال ففرضوا له كل يوم شطر شاة، وما كسوه في الرأس، والبطن. قال في الرياض: قال ابن قتيبة: بويع أبو بكر الصديق بالخلافة يوم قبض عليه الصلاة والسلام في سقيفة بني ساعدة، وبويع بيعة العامة على المنبر في الغد، يوم الثلاثاء.
قال أبو عمر: وتخلف عن بيعته: سعد بن عبادة، وطائفة من قومه الخزرج، وطائفة من قريش، ثم بايعوه بعد، غير سعد بن عبادة فإنه لم يبايعه، ولم يبايع بعده عمر إلى أن مات بحوران في خلافة عمر، رضي الله عنهما.
قال ابن شهاب - وهو الزهري - : وغضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر، منهم: علي، والزبير، فدخلا في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهما السلاح، فجاء عمر بن الخطاب في عصابة من المسلمين، منهم: أسيد بن حضير، وسلمة بن وقش، وثابت بن قيس بن شماس الخزرجي، ومحمد بن مَسْلمة - ويقال كان فيهم عبد الرحمن بن عوف - فكلموهما، فأخذ أحدهم سيف الزبير، فضرب به الحجر حتى كسره، والضارب بسيف الزبير هو: محمد بن مسلمة، أخرجه موسى بن عقبة.
قال في الرياض: وهو محمول - على تقدير صحته - على تسكين نار الفتنة، وإغماد سيفها لا على قصد إهانة الزبير. قلت: بل التحريك في هذا التسكين.
تخلف عن بيعة أبي بكر يومئذ - سعد بن عبادة، وطائفة من الخزرج، وعلى بن أبي طالب، وابناه، والزبير، والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنوه من بني هاشم، وطلحة، وسلمان، وعمار، وأبو ذر، والمقداد، وغيرهم، وخالد بن سعيد بن العاص، ثم إنهم بايعوا كلهم، فمنهم من أسرع ببيعته، ومنهم من تأخر حيناً، إلا ما روى عن سعد بن عبادة فإنه لم يبايع أبا بكر ولا عمر إلى أن مات كما تقدم آنفاً. وقال ابن سعد: أنبأنا محمد بن عمر: حدثني محمد بن صالح، عن الزبير بن المنفر بن أبي أسيد الساعدي: أن أبا بكر بعث إلى سعد بن عبادة أن أقبل، فبايع، فقد بايع الناس، فقال: لا، والله لا أبايع حتى أراميكم بما في كنانتي، وأقاتلكم بمن معي.
قال، فقال بشير بن سعد: يا خليفة رسول الله إنه أبي ولجّ، وليس بمبايعكم، أو يقتل، ولن يقتل حتى يقتل معه ولده وعشيرته، ولن يقتلوا حتى تقتل الخزرج؛ فلا تحركوه، فقد استقام لكم الأمر، وليس بضاركم، وإنما هو رجل واحد ما تُرك. فقبل أبو بكر نصيحة بشير.
قال: فلما ولي عمر لقيه ذات يوم فقال: إيه يا سعد، فقال: إيه يا عمر، فقال عمر: أنت صاحب ما أنت صاحبه؟ قال: نعم، وقد أفضي إليك هذا الأمر، وقد كان والله صاحبك أحب إلينا منك، وقد والله أصبحت كارهاً لجوارك، فقال عمر: إنه من كره جوار جاره تحوّل عنه، قال أما إني غير مستسر بذلك، وأنا متحول إلى جوار من هو خير منك. فلم يلبث أن خرج مهاجراً إلى الشام، فمات بحوران لسنتين ونصف من خلافة عمر، سنة خمس عشرة من الهجرة.(1/375)
وقال محمد بن عمر: حدثنا يحيى بن عبد العزيز بن سعد بن عبادة عن أبيه قال: ما علم بموت سعد حتى سمع بالمدينة غلمان في بئر ممية أو بئر سكنهم، يقتحمون نصف النهار قائلاً من البئر: من الهزج:
قَتَلنَا سَيدَ الخَزرَ ... جِ سَعدَ بنَ عُبَادَه
رَمَينَاهُ بِسَهمَينِ ... فَلَم نُخطِئ فُؤَادَهْ
فذعر الغلمان، فحفظ ذلك اليوم، فوجدوه اليوم الذي مات فيه. وإنما جلس يبول في ثقب فقتل ساعته، ووجدوه قد اخضر جلده - رضي الله عنه - قال: وكان سعد لا يصلي بصلاتهم، ولا يصوم بصومهم، وإذا حج لم يفض بإفاضتهم.
عن محمد بن سيرين،: لما بويع أبو بكر، وتخلف علي - كرم الله وجهه - عن مبايعته، وجلس في بيته بعث إليه أبو بكر: ما أبطأ بك عني؟! أكرهت إمارتي؟! قال علي: ما كرهت إمارتك، ولكنى آليت ألا أرتدي بردائي إلى الصلاة حتى أجمع القرآن. قال ابن سيرين: فبلغني أنه كتبه علي على تنزيله، ولو أصيب ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير.
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن علياً مكث ستة أشهر حتى توفيت فاطمة - رضي الله تعالى عنها - ، ثم بايع أبا بكر، ولم يبايع أحد من بني هاشم حتى بايع علي، رضي الله عنه وكرم وجهه.
وفي البخاري من حديث عائشة أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر؛ تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الذهبي: قال الزهري، عن عروة، عن عائشة: إن فاطمة سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه من المدينة، وفَدك، وسهمه من خيبر، فقال لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركناه صدقة " فغضبت، وهجرت أبا بكر فلم تكلمه حتى توفيت، ودفنها علي ليلاً ولم يؤْذِن بها أبا بكر، وأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر، يسألنه ميراثهن مما أفاء الله على رسوله حتى كنت أنا رددتهن، فقلت لهن؛ ألا تتقين الله، ألم تسمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا نورث، ما تركناه صدقة " وإنما يأكل آل محمد في هذا المال كفافاً.
وقال أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة يرفعه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقتسم ورثتي ديناراً، ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عيالي فهو صدقة " .
وعن أبي صالح مولى أم هانئ: أن فاطمة دخلت على أبي بكر فقالت: يا أبا بكر أرأيت لو مت اليوم، من كان يرثك. قال: أهلي، وولدي، فقالت: مالك ترث رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أهله، وولده. قال: ما فعلت، يا بنة رسول الله، قالت: بلى، قد عمدت إلى فدك، وقد كانت صافية لرسول الله، فأخذت، وعمدت إلى ما أنزل الله من السماء، فرفعته منا! فقال: لم أفعل، حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله يطعم النبي الطعمة ما كان حياً، فإذا قبض رفعها. قالت أنت ورسول الله أعلم، ما أنا بسائلتك بعد مجلسي هذا.
وعن أبي الطفيل: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: أنت ورثتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم أهله؟! قال: لا، بل أهله! قالت: فأين سهمه؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " إن الله إذا أطعم نبياً طعمة، ثم قبضه جعلها للذي يقوم من بعده " ، فرأيت أن أرده على المسلمين. قالت: أنت، وما سمعت من رسول الله - أعلم - رواه أحمد في مسنده.(1/376)
وعن أنس - رضي الله عنه - أن فاطمة أتت أبا بكر، فقالت: قد علمنا الذي خلفنا عنه من الصدقات أهل البيت، ثم قرأت عليه: " وَاعلَمُوا أنْما غَنِمتُم مِّن شَيء فَإنَ لِلهِ خُمسَهُ وَللرسُولِ " الانفال: 41، إلى آخر الآية، فقال لها بأبي، وأمي أنت، ووالدك، وعلى السمع، والبصر كتاب الله وحق رسول الله، وحق قرابته، أنا أقرأ من كتاب الله مثل الذي تقرئين، ولا يبلغ علمي فيه أن لذي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السهم كله من الخمس يجري بجملته عليهم قالت؛ أفلك هو، ولقرابتك؟! قال: لا، وأنت عندي أمينة مصدقة، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليك في ذلك عهداً، أو وعدك موعداً أوجبه لكم حقاً صدقتك، وسلمته إليك. قالت: لا، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه ذلك، قال: أبشروا آل محمد؛ فقد جاءكم الغنى - قال أبو بكر: صدقت فلك الغنى، ولم يبلغ علمي فيه، ولا لهذه الآية سهم أن يسلم هذا السهم كله كاملاً، ولكن لكم الغنى الذي يغنيكم، ويفضل عنكم، فانظري هل يوافقك على ذلك أحد منهم؟ فانصرفت إلى عمر، فذكرت له كما ذكرت لأبي بكر، فقال لها مثل الذي راجعها به أبو بكر؛ فعجبت، فظنت أنهما قد تذاكرا ذلك، واجتمعا عليه.
قال أبو حمزة العسكري، عن ابن أبي خالد، عن الشعبي قال: لما مرضت فاطمة - رضي الله عنها - أتاها أبو بكر، فاستأذن، فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحب! أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها يترضاها، فقال: والله ما تركتُ الدار، والمال، والأهل، والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله، ورسوله، ومرضاتكم أهل البيت. ثم ترضاها حتى رضيت، رضي الله تعالى عنها.
وعن الزهري قال: حدثني من سمع من ابن عباس يقول: كان عمر عرض علينا أن يعطينا من الفيء ما يرى أنه لنا من الحق، فرغبنا عن ذلك وقلنا له: ما سمى الله من حق ذي القربى، وهو خمس الخمس، فقال عمر: ليس لكم ما تدعون لكم حق، إنما جعل الله الخمس لأصناف سماهم، أسعدهم فيه حظاً أشدهم فاقة، وأكثرهم عيالاً. قال: فكان عمر يعطي من قبل منا من الخمس والفيء ما يرى أنه لنا، فأخذ منا ناس، وترك ناس.(1/377)
وذكر أن مالك بن أوس بن الحدثان النضري، قال: كنت عند عمر - رضي الله عنه - فأتاه حاجبه يرفأ، فقال: هل لك في: عثمان، والزبير، وعبد الرحمن، وسعد يستأذنون. قال: نعم، فدخلوا، وسلموا، وجلسوا، ثم لبث يرفأ قليلاً، ثم قال لعمر: هل لك في علي، والعباس. قال: نعم، فلما دخلاً سلما، فجلسا - فقال العباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الظالم الفاجر الغادر الخائن - قلت: العلم أمانة، ولولا أن هذه الألفاظ مذكورة في فتح الباري وغيره لما ذكرتها، رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما - فاستبّا، فقال عثمان، وغيره: يا أمير المؤمنين، اقض بينهما، وأرح أحدهما من الآخر، فقال؛ أنشدكما بالله، هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركناه صدقة؟ " قالا: قد قال ذلك. قال فإني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله كان قد خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه غيره، فقال - تعالى: " وَما أفاء اللهُ عَلى رَسُولِه مِنهم فَمَا أوجَفتُم عَلَيهَ مِن خَيلِ وَلا رِكابٍ وَلَكنَّ الله يَسُلطُ رُسُلَه عَلىَ مَن يَشَاء وَأللهُ عَلى كل شَيء قَدِير " الحشر: 16 فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وايمُ الله ما اختارها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، لقد أعطاكموها، وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يجعل ما بقى مجعل مال الله، أنشدكما بالله، هل تعلمان ذلك. قالا: نعم. قال: ثم توفى الله نبيه، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخليفته، فقبضها، وعمل فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتما تزعمان أن أبا بكر فيها كاذب، فاجر، غادر، والله يعلم إنه فيها لصادق، بار، راشد، ثم توفاه الله، فقلت: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولي أبي بكر، فقبضتها سنتين من إمارتي، أعمل فيها بعمله، وأنتما حينئذ - وأقبل على علي والعباس - تزعمان إني فيها كاذب، فاجر، غادر، والله يعلم إني فيها لصادق، بار، راشد تابع للحق، ثم جئتماني وكلمتكما واحدة، وأمركما جميع، فجئتني تسألني عن نصيبك يا عباس، من ابن أخيك، وجاءني هذا - يشير إلى علي - يسألنى عن نصيب امرأته من أبيها، فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نورث، ما تركناه صدقة " فلما بدا لي أن أدفعها إليكما قلت: إذا شئت دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما عمل فيها أبو بكر، وإلا فلا تكلماني، فقلتما: ادفعها إلينا بذلك؛ فدفعتها إليكما. أنشدكما بالله، هل دفعتها إليكما بذلك؟ قالا: نعم. قال: أفتلتمسان منى قضاء غير ذلك؟! فوالذي بإذنه تقوم السماء والأرض، لا أقضي فيها غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها؛ فادفعاها إلي أكفيكماها. فانصرفا. فكانت هذه الصدقة بيد علي، غلب عليها العباس، ثم كانت بيد الحسين، ثم بيد علي بن الحسين، والحسن المثني ابن الحسن السبط، يتداولانها، ثم بيد زيد، وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً.
قال العلامة السيوطي - رحمه الله تعالى - لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اشرأب النفاق، وارتدت العرب، وانحازت الأنصار، واختلفوا أين يدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما وجد عند أحد من ذلك علم، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من نبي يقبض إلا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه " ، واختلفوا في ميراثه، فما وجدوا عند أحد علماً من ذلك، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة " .
قال بعض العلماء: هذا أول اختلاف وقع بين الصحابة.(1/378)
ولما اشتهرت وفاته - عليه الصلاة والسلام - بالنواحي وارتدت طوائف من العرب، ومنعوا الزكاة؛ نهض أبو بكر الصديق إلى قتالهم، فقال عمر: فتر عن قتالهم، فقال أبو بكر: والله لو منعوني عقالاً - أو عناقاً - كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: كيف نقاتلهم، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقها، وحسابه على الله؟! " فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، وقد قال: " إلا بحقها " ، قال عمر: فوالله ما هو، إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر - رضي الله عنه - للقتال؛ فعرفت أنه الحق.
وذكر جماعة من المؤرخين، وغيرهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وجه أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - في سبعمائة رجل إلى الشام، فلما نزل بذي خُشب قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتدت العرب، فاجتمعت الصحابة - رضي الله عنهم - وقالوا للصديق: ردّ هؤلاء - يعنى أسامة وأصحابه - فقال: والله الذي لا إله إلا هو، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشاً جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللت لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر أسامة أن يمضي لوجهه، وقال أبو بكر: أرأيت أن تأذن لعمر - رضي الله عنه - بالمقام عندي، أستأنس به، وأستعين برأيه؟ فقال أسامة - رضي الله عنه - قد فعلت.
وسار أسامة، فجعل لا يمر بقبيلة تريد الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هذا الجيش من عندهم، فلقوا الروم، فقاتلوهم، وهزموهم، ورجعوا سالمين.
وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر، ولم يكن بايع تلك الأشهر، فأرسل ابنه الحسن إلى أبي بكر: أن ائتنا، ولا يأتنا أحد معك، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدته، فقال عمر: والله لا تدخل عليهم وحدك. فقال أبو بكر: والله لآتينهم وحدي، وما عسى أن يصنعوا بى؟! فانطلق أبو بكر حتى دخل على علي وقد جمع بني هاشم عنده، فقام علي، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فإنه لم يمنعنا أن نبايعك إنكار لفضيلتك، ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقاً، فاستبديتم به علينا، ثم ذكر قرابته منه - عليه الصلاة والسلام - وحقه، فلم يزل علي يذكر ذلك حتى بكى أبو بكر.
فلما صمت على - رضي الله عنه - تشهد أبو بكر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فوالله، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصلهم من قرابتى، والله ما آلوكم في هذه الأحوال التي كانت بيني وبينكم من الخير، ولكني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث، ما تركناه صدقة، وإنما يأكل آل محمد من هذا المال... " إلى آخر ما تقدم.
وفي رواية: " أما بعد فوالله ما فعلت ذلك إلا أني خشيت الفتنة... " إلى آخر ما تقدم من قوله لفاطمة في السابق - " وإني والله لا أذكر صنيعه فيه إلا صنعته " ، إن شاء الله تعالى.
ثم قال علي: موعدك العشية للبيعة. فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على الناس، ثم عذر علياً ببعض ما اعتذر به له، ثم قام علي، فعظم من حق أبي بكر، فذكر فضيلته وسابقته، ثم مضى إلى أبي بكر، فبايعه، وأقبل الناس على علي، فقالوا: أصبت، وأحسنت. هذا حديث صحيح، متفق عليه.(1/379)
قال في الرياض: قوله: " استبديتم " أو " استبددتم " أي انفردتم به دوننا. وقوله: " كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقاً " المراد بالأمر: الخلافة، ويؤيده: أن علياً بعث إلى أبي بكرة ليبايعه، فقدم العذر في تخلفه أولاً، فقال: لم نمتنع نفاسة عليك، ولا كذا، ولا كذا ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقاً، فعلم بالضرورة أن الأمر المشار إليه بلام العهد هو: ما تضمنه الكلام الأول، فالمراد به حق في الخلافة إما بمعنى الأحقية أي: كنا نظن أنا أحق منكم بهذا الأمر بقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مضافاً إلى ما اجتمع فينا من أهلية الإمامة مما ساوينا فيه غيرنا، وإما بمعنى إني أستحق استحقاقاً مساوياً لاستحقاقكم على تقدير انضمام القرابة إليه إذ القرابة معنى تحصل به الراجحية وإنه ليس بأحق، ولا يلزم من تخلفه تلك المدة عدم صحة خلافة أبي بكر، ولا من سكوته عن الإنكار الإقرار على الباطل؛ لأنا نقول: إن تخلفه لرؤيته الأحقية له كان أول وهلة، وغاب عنه إذ ذاك ما كان يعلمه من حق أبي بكر، وفيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مما سيذكر في فضائله من الأربعة عشر الحديث الدالة على خلافته ظاهراً، بل وصريحاً إن صحت زيادة قوله في الحديث: " وهو الخليفة من بعدى " ، فلما اجتمع الجم الغفير على ولاية أبي بكر - اتهم نظره في حق نفسه، ثم إنه لم ير المبادرة إلى إظهاره والمطالبة بمقتضاه حتى بذل جهده في التنقير والنظر وإمحاص الفكر، فإن ذلك من الوقائع العظيمة في الدين، وفيه تفريق كلمة من أجمع من المسلمين، فلم يقنع فيه بتبادر النظر، خشية استمالة الهوى الجبلي، وحب الرياسة الطبيعي، ولا رأى الموافقة لما استقر في ذهنه من رؤية أحقيته فيما يستحق به الإمامة، وتعين وجوب القيام بالأمر عليه لكونه أحق، وكان ذلك في بادي النظر قبل الإمعان فيه، فتخلف عن الأمرين؛ سالكاً في ذلك الطريق الورع والاحتياط فيما عنده، باذلاً جهده في الاجتهاد والنظر تلك المدة مجتهداً، فلما تبين له أحقية أبي بكر وفضيلته، بتذكر مقتضيات الأفضلية، ووافق ذلك موت فاطمة - رضي الله عنها - أرسل إلى أبي بكر، واعتذر إليه؛ بأنه استبان أحقيته، وسياق هذا اللفظ مشعر: بأن تلك الرؤية قد زالت، ولم يكن ذكره القرابة إقامة للحجة على أبي بكر، فإنه يعتذر، ولا تليق المحاجة بالمعتذر، وإنما كان إظهاراً لمستند تخلفه، وبياناً لمعتمد تمسكه، لكيلاً يظن فيه أن تخلفه كان لهوى متبع بغير هدى من الله تعالى لا عن اجتهاد ونظر، وإن لم يكن صحيحاً، إذ المجتهد معذور، وإن أخطأ، ولذلك كان له أجر.
وهذا التأويل مما يجب اعتقاده، وينبغي المصير إليه.
وما قاله بعضهم من أنه - رضي الله عنه - إما أن يعتقد صحة خلافة أبي بكر مع أحقيته فيكون تخلفه عن البيعة، ومفارقة الجماعة، ونزع ربقة الطاعة - عدولاً عن الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال، وهو مبرأ عن ذلك، ومنزه عنه، أو لا يعتقد صحتها؛ فيكون قد أقر على الباطل؛ لأنه - رضي الله عنه - قد أقر الطير على مكانها، ولم يظهر منه نكير على فعلهم لا بقول ولا بفعل مع قوة إيمانه، وشدة بأسه، وكثر ناصره، وكفى بفاطمة، والعباس عمه، وبنى هاشم بأجمعهم ومن معه من الصحابة ظهيراً ونصيراً مع ما أسس له - عليه الصلاة والسلام - من القواعد في العقائد، وأن موالاته ومحبته، من محبته والدعاء لمن والاه وعلى من عاداه، ومع ذلك كله لم يظهر منه ما يقتضيه حال مثله من إنكار الباطل بحسب طاقته، فلو كان باطلاً لزم تقريره الباطل، واللازم باطل كذلك، فالملزوم كذلك، فقد تقدم الجواب عنه آنفاً. والقول الذي تدعيه الروافض ومن نحا نحوهم؛ أن سكوته كان تقية، باطل غريق في البطلان، فإن مقتضى ذلك: إما ضعف في الدين، أو في الحال.
فالأول: باطل إجماعاً، والثاني - أيضاً - : باطل لما قررنا آنفاً، ويؤيده قوله - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الذي رواه الحسن البصري المتضمن نفي العهد إليه بالخلافة وفيه: " لو كان عندي عهد من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما تركت أخا بني، تيم بن مرة، وعمر بن الخطاب، يقومان على منبره، ولقاتلتهما بيدي، ولو لم أجد إلا بردتي هذه " الحديث.(1/380)
وهذا أدل دليل على أنه لم يسكت تقية، إذ لو علم بطلان ذلك وأنه المتصف بها دونه لتعين عليه القيام، وكان كالعهد إليه. وقد أخبر - رضي الله عنه - أنه لو تعين عليه بالعهد إليه لقاتل، ولقد أحسن الحسن بن الحسن بن علي - رضي الله تعالى عنهم - حيث قال لبعض الروافض: " لو كان الأمر كما تقولون: أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار علياً لهذا الأمر والقيام على الناس بعده - كان علي أعظم الناس جرماً وخطيئة إذ ترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم به، ويُعذر إلى الناس " . فقال له الروافض: ألم يقل - عليه الصلاة والسلام - : " من كنت مولاه، فعلي مولاه " فقال الحسن: أما والله لو يعني بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأمر والسلطان لأفصح به كما أفصح بالصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، ولقال: أيها الناس إنه الولي بعدي فاسمعوا له وأطيعوا. أخرجه ابن السمان في الموافقة.
فإن قيل: ألا يجوز أن يكون المراد بالأمر في قول علي الميراث، وبالحق حق الميراث، فيكون تقدير الكلام: كنا نظن أن لنا قسماً خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، وأنك منعتنا إياه، وأصررت على المنع؛ فلم تصح لذلك خلافتك؛ فلذلك تخلفنا عن البيعة، ويدل على هذا جواب أبي بكر بنفي الميراث على الرواية الأولى، وإلا لما كان جواباً، فوجب المصير إلى هذا المعنى صوناً لكلام هذا الفصيح عن الزلل، وهو من أفصح العرب وأعرفهم بما يقول؟ قلنا: صورة الحال وسياق المقال يشهدان بمخلافه، ويتبرآن منه. فإن اعتذار علي - رضي الله عنه - إنما كان عن تخلفه - عن البيعة، فقال: " لم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضيلتك، ولا نفاسة لخير ساقه الله إليك... " إلى آخره، ولم يجر في حديثه ذكر الميراث، والمبادر منه إلى الفهم عند سماع هذا اللفظ ليس إلا الخلافة.
وجواب أبي بكر - رضي الله عنه - محمول على تقدم كلام آخر تركه الراوي ويكون لما فرغ علي - رضي الله عنه - من قوله: كنا نظن أن لنا في هذا الأمر حقاً تعرض لذكر الميراث، ثم اعتذر عن المبايعة فأغنى أبا بكر عن الجواب عن قوله: كنا نرى، إذ يقتضي أن تكون تلك الرؤية سابقة، ثم انقطعت، وأن رؤيته الآن غير تلك. هذا هو المفهوم من سياق لفظه - كرم الله وجهه - فما عسى أن يقول له أبو بكر وقد دل كلامه على تغير نظره، والإجابة على مبايعته ورؤية الحق في ذلك، فاستغنى أبو بكر عن جواب فصل البيعة، وعدل إلى جواب فصل الميراث.
أو نقول: لم يجر للميراث في هذا المجلس ذكر إلا أنه كان قد ذكر قبل ذلك، وجرى في حديث فاطمة - رضي الله تعالى عنها - حين جاءت إلى أبي بكر، فطلبت الميراث، فلما كان ذلك المجلس المعقود لإزالة صورة الوحشة الظاهرة، والدخول فيما دخلت فيه الجماعة، واعتذر علي بما اعتذر به، وقبل أبو بكر عذره، ثم أنشأ أبو بكر ذكر الميراث معتذراً مما توهم فيه أولاً نافياً له حالفاً على الاتصاف بخلافه، محتجاً بالحديث الذي ذكره، وقصد بذلك إزالة بقايا الوحشة إن كانت حتى لا يبقى لها أثر.
وأما منع أبي بكر فاطمة عن الإرث، فادعت الرافضة أن في ذلك منه احتجاجاً بخبر الواحد مع معارضته لآية المواريث التي استدلت بها فاطمة - رضي الله عنها - وليس ادعاؤهم صحيحاً، إذ هو - رضي الله تعالى عنه - لم يحكم بخبر الواحد الذي هو محل الخلاف، وإنما حكم بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنده قطعي، فيساوي آية المواريث في قطعية المتن.
وأما حمله على ما فهم منه فلانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرقها إليه بقرينة الحال، فصار عنده دليلاً قطعياً مخصصاً لعموم تلك الآيات، مع أن أبا بكر - رضي الله تعالى عنه - لم ينفرد برواية هذا الحديث، فقد رواه: أمهات المؤمنين، وعلي نفسه، والعباس، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد، كلهم كانوا يعلمون ذلك، وإنما انفرد أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - باستحضاره أولاً ثم استحضره الباقون، وعلموا أنهم سمعوه منه صلى الله عليه وسلم.
فالصحابة في موافقتهم أبا بكر على حكمه لم يعملوا برواية أبي بكر وحدها، وإن كانت كافية أي كافية في ذلك، وإنما عملوا بها وبما انضم إليها من علم أفاضلهم الذين ذكرناهم.(1/381)
وأما عذر فاطمة - رضي الله عنها - في طلبها مع روايته لها الحديث، فيحتمل أنه لكونها رأت أن خبر الواحد لا يخصص القرآن كما قيل به فاتضح عذره في المنع وعذرها في الطلب، فلا يشكل عليك ذلك. قاله العلامة ابن حجر. قلت: قد تقدم فيما نقله الذهبي، عن الزهري برواية صالح مولى أم هانئ أن فاطمة قالت لأبي بكر بعد روايته الحديث لها: أنت ورسول الله أعلم، ما أنا بسائلتك بعد مجلسي هذا، فهجرته فلم تكلمه حتى ماتت، صريح كما ترى في أنها لم تسأله بعد روايته الحديث، فلا حاجة إلى الاعتذار عنه بما ذكره. والله أعلم.
فعلم بما ذكرناه إجماع الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - على حقيقة خلافة الصديق، وأنه أهل لها، وذلك كاف، ولم يرد نص عليها بل الإجماع أقوى من النصوص التي لم تتواتر؛ لأن مفاده قطعي، ومفادها ظني.
وحكى النووي بأسانيد صحيحة عن سفيان الثوري: من قال: إن علياً كان أحق بالولاية من أبي بكر، فقد خطأ أبا بكر، وعمر، والمهاجرين، والأنصار، وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء.
وأخرج الدارقطني عن عمار بن ياسر نحوه.
فإن قيل: الحديث الأول: يدل على أن سبب التخلف الألية على أنه لا يرتدى رداءه إلا إلى الصلاة حتى يجمع القران، وحديث الحسن في دعائه أبا بكر يدل على أن التخلف كان لما رآه من أن له حقاً، فكيف يجمع بينهما؟ أم كيف تكون الألية - يعنى القسم - عذراً في التخلف عن الأمر الواجب المتعين، والحنث لأجله واجب كنظيره في التخلف عن الصلاة الواجبة، قلنا: الجمع يمكن بأن يكون سبب الامتناع عن البيعة وتخلفه أولاً: ما ذكره من قوله كنا نظن، ثم خطر له - كرم الله وجهه - جمع القران، وهو في مهلة النظر المتقدم ذكره فآلى تلك الألية، ثم أرسل إلى أبي بكر، ثم لقيه عمر، فقال له: تخلفت عن بيعة أبي بكر، فقال: إني آليت... إلى آخره، ووافى ذلك ظهور أحقية أبي بكر عنده، فأرسل إليه معتذرَاً في التخلف، واقتضى نظره له إذ ذاك أن هذا القدر كاف في الطواعية، والانقياد، والدخول فيما دخل فيه الجماعة، فلم ير الحنث مع البيعة؛ خشية أن ينقل عنه وينقسم نظره عند ملابسة الناس ومخالطتهم، فأقام إظهار عذره مقام حضوره إلا أنه رأى اليمين عذراً؛ ولا أنه بقي على ما كان عليه من رؤية أحقيته. كذا في الرياض.
رسالة أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - ، واتباع سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - إلى سيدنا علي - كرم الله وجهه - مع سيدنا أبي عبيدة عامر بن الجراح - رضي الله تعالى عنه - ، وجواب سيدنا علي - كرم الله وجهه - عن ذلك، ومبايعته لأبي بكر - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - عن أبي حيان علي بن محمد التوحيدي البغدادي قال: سمرنا ليلة عند القاضي أبي حامد أحمد بن بشر المروروزي العامري في دار أبي حبشان في شارع المازبان، فتصرف إلى الحديث كل متصرف، وكان أبو حامد - والله مفنَاً، مِخْلطاً، مزيلاً، معنياً، غزير الرواية، لطيف الدراية، له في كل جو متنفس، ومن كل نار مقتبس، فجرى حديث السقيفة وشأن الخلافة، فركب كل منا متناً، وقال قولاً، وعرض بشيء، ونزع إلى فن، فقال: هل فيكم من يحفظ رسالة سيدنا أبي بكر الصديق إلى سيدنا علي، رضي الله تعالى عنهما، وجواب علي له ومبايعته إياه عقب تلك المناظرة؟(1/382)
فقالت الجماعة التي بين يديه: لا والله. قال: هي من بنات الحقاق ومخبآت الصناديق في الخزائن، ومذ حفظتها ما رويتها إلا للمهلبي أبي محمد في وزارته، وكتبها عني بعده في خلوة، وقال: لا أعرف على وجه الأرض رسالة أعقل منها ولا أبين، وإنها لتدل على حكم: وعلم، وفصاحة، وفقاهة، ودهاء، ودين، وبعد غور، وشدة غوص. فقال له أبو بكر العباداني: أيها القاضي، لو أتممت المنة بروايتها سمعناها، ونحن أوعى لها عنك من المهلبى، وأوجب ذماماً عليك، فاندفع فقال: حدثنا الخزاعى بمكة: حدثنا ابن أبي ميسرة قال: حدثنا محمد بن فليح، أنبأنا عيسى بن دأب، أنبأنا صالح بن كيسان، ويزيد بن رومان - وكان معلم عبد الملك بن مروان - قال: أنبأنا هشام بن عروة قال: أنبأنى أبو النفاخ مولى أبي عبيدة ابن الجراح، وروى هذا الحديث، وكان له عليه جراءة ظاهرة وكان من محفوظاته القديمة، فلما كان بعد ذلك بدهر - ذاكرنا بأحرف من هذه الرسالة ابن هارون، وكان نسيج وحمه: حفظاً، وبياناً، واتباعاً، فعرفناه اْن الحديث عندنا من جهة أبي حامد، فزعم أن أستاذه ابن شجرة أحمد بن كامل القاضى سرده ولم يكن فيه صالح بن كيسان، وذكر مولى أبي عبيدة أبا النفاخ بالنون والفاء وخالف في أحرف، وأنا أكرر عليه الرسالة والحديث بعد ذكرهما، وأسمى حرفا حرفاً مما وقع فيه الخلاف على جهة التصحيف، أو على جهة التحريف. على أننى ما سمعت بحديث في طوله وغرابته بأحسن سلامة منه؛ وإنما ذلك لأنه صار إلينا من رواية هذين الشيخين العلامتين، وكان سماعنا من أبي حامد سنة ستين، ومن أبي منصور سنة خمس وسبعين.(1/383)
قال أبو حامد: قال أبو النفاخ سمعت أبا عبيدة بن الجراح يقول: لما استقرت الخلافة لأبى بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - بين المهاجرين والأنصار، ولحظ بعين الهيبة والوقار، وإن كان لم يزل كذلك بعد هنية كاد الشيطان بها، فدفع الله شرها، ورحض عرها، ويسر خيرها، وأزاح ضيرها، ورد كيدها، وقصم ظهر النفاق والفسوق من أهلها بلغ سيدنا أبا بكر الصديق عن سيدنا علي بن أبي طالب تلكؤ وشماس، وتهمهم ونفاس، وكره اْن يتمادى الحال، وتبدو العداوة، وتنفرج ذات البين ويصير ذلك دريئة لجاهل مغرور أو، عاقل ذي وهن، أو صاحب سلامة ضعيف القلب خوار العنان، دعانى، فحضرته وعنده سيدنا عمر بن الخطاب وحده، وكان يُدمن أرضه بالسرجين، وكان عمر قباله ظهيرَا معه يقتبس برأيه ويستملي على لسانه، فقال لي أبو بكر الصديق: يا أبا عبيدة ما أيمن ناصيتك، وأبين الخير بين عينيك وعارضيك، ولقد كنت ! من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكان المحوط والمحل المغبوط، ولقد قال فيك في يوم مشهود! أبو عبيدة أمين هذه الأمة ا، وطال ما أعز الله بك الإسلام، وأصلح فساده على يديك، ولم تزل: للدين ملجأ، وللمؤمنين دوحاً، ولأهلك ركنا، ولاخوانك ردءاً قد أردتك لأمر له ما بعده، خطره مخوف، وصلاحه معروف؛ وإن لم يندمل جرحه بمسبرك، ولم تستجب حيته لرقيتك - فقد وقع اليأس، وأعضل البأس، واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمر من ذلك وأعلق، وأعسر منه وأغلق؛ والله أسأل تمامه بك، ونظامه على يديك؟ فتأت له يا أبا عبيدة، وتلطف فيه، وانصح للّه تعالى ولرسوله ! ولهذه العصابة غير آل جهدا، ولا قال جدا، والله كالئك وناصرك، وهاديك ومبصرك، وبه الحول والتوفيق امض إلى علي، واخفض جناحك له، واغضض من صوتك عنده، واعلم أنه سلالة أبي طالب ومكانه ممن فقدناه بالأمس صلى الله عليه وسلم مكانه، وقل له: البحر مغرقه، والبر مفرقه، والجو أكلف، والليل أغلف، والسماء جلواء، والأرض صلعاء، والصعود متعذر، والهبوط متعسر، والحق رؤف عطوف، والباطل شنوف عنوف، والضغن رائد البوار، والتعريض شجار الفتنة، القعة ثقوب العداوة، وهذا الشيطان متكىء على شماله، متحبل بيمينه، نافج حضنيه لأهله ينتظر بهم الشتات والفرقة، ويدب بين الأمة بالشحناء والعداوة، عنادَا للّه - عز وجل - ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولدينه، ناكباً يوسوس بالفجور، ويُدلى بالغرور، ويمنى أهل الشرور، ويزجى إلى أوليائه بالباطل، دأباً له مذ كان على عهد أبينا آدم عليه الصلاة والسلام، وعاده؛ منه منذ أهانه الله - عز وجل - في سالف الدهر، لا ينجى منه إلا عض الناجذين على الحق، وغض الطرف عن الباطل والعاجل ووطء هامة عدوّ الله وعدؤ الدين بالأشد فالأشد والأحد فالأحد، ! واسلام النفس لله - عز وجل - فيما حاز رضاه وجنب سخطه، ولابد الآن من قول ينفع إذا ضر السكوت وخيف غبه، ولقد أرشدك من أفاد ضالتك، وصادقك من أحيا مودته لك بعتابك، وأراد الخير بك من آثر البقاء معك، ما هذا الذي تسول لك نفسك، ويدوى به قلبك، ويلتوى به عليك رأيك، ويتخاوص دونه طرفك، ويسرى فيه ظعنك، ويتراد معه نفسك، وتكثر معه صعداؤك، ولا يفيض بة لسانك، أعجمة بعد إفصاح، أم تلبيس بعد أيضاًح.! أدين غير دين الله - عز وجهه - أخُلق غير خُلق القران؟! أهدى غير هدى النبي صلى الله عليه وسلم أمثلى يمشى إليه الضراء، أو تدب إليه الخمراء أم مثلك ينقبض عليه الفضاء(1/384)
أو تكسف في عينه القمراء؟! ما هذه القعقعة بالشنان، وما هذه الوعوعة بالشنآن؟ إنك جد عارف باستجابتنا لله - عز وجل - ولرسوله، وخروجنا عن: أوطاننا، وأموالنا، وأولادنا، وأحبتنا؛ هجرة إلى الله تعالى ذكره؛ ولنصرة نبيه صلى الله عليه وسلم، في زمان أنت فيه في كن الصبا وخدر الغرارة، غافل عما يشبب ويربب، لا تعي ما يراد ويشاد، ولا تحصل ما يساق ويقاد، سوى ما أنت جار عليه إلى غايتك التي إليها عدى بك، وعندها حط رحلك، غير مجهول القدر، ولا مجحود الفضل، ونحن في أثناء ذلك نعاني أحوالاً تزيل الرواسي، ونقاسي أهوالاً تشيب النواصي، خائضين غمارها، راكبين تيارها، نتجرع صابها، ونشرح عيابها، ونكرع عبابها، ونحكم أساسها، ونبرم أمراسها، والعيون تحدج بالجد، والأنوف تعطس بالنكد، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشفار تشحذ بالمكر، والأرض تميدُ بالخوف، ولا ننتظر عند المساء صباحاً، ولا عند الصباح مساءً. ولا ندفع في نحر أمر إلا أن نحسو الموت دونه، ولا نبلغ إلى شيء إلا بعد جرع الغصص معه، ولا نقوم منآداً إلا بعد اليأس من الحياة عنده؛ فادين في كل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأب والأم، والخال والعم، والنشب والسبد واللبد، والهلة والبلة، والأهل والولد، بطيب نفس، وقرور عين، ورحب أعطان، وثبات عزائم، وصحة عقول، وطلاقة وجه، وذلاقة ألسن. هذا إلى خفيات أسرار ومكنونات أخبار، كنت عنها غافلاً، ولولا حداثة سنك لم تكن عن شيء منها ناكلاً، كيف وفؤادك مشهوم، وعودك معجوم، وغيبك مخبور، والقول فيك كثير، والآن قد بلغ الله بك، وأرهص الخير لك، وجعل لك مرادك بين يديك، وعقلك بين عينيك، وعن علم أقول ما تسمع، فارتقب زمانك، وقلص إليه أردانك، ودع التعبيس والتحبيس بمن لا يظلع لك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا عطا، والأمر غض، والنفوس فيها مض.
وإنك أديم هذه الأمة، فلا تحلم لجاجاً؛ وسيفها العضب، فلا تنبو اعوجاجاً؛ وماؤها العذب، فلا تحل أجاجا.
والله لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر، فقال لي: يا أبا بكر هو لمن يرغب عنه، لا لمن يرغب فيه، ويجاحش عليه؛ ولمن يتضاءل له، لا لمن ينتفجُ إليه، ولمن يقال له هو لك، لا لمن يقول هو لي.
والله لقد شاورني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصهر، فذكر فتياناً من قريش، فقلت له: أين أنت من علي؟ فقال إني لأكره لفاطمة ضيق شبابه، وحداثة سنه، فقلت له: متى كنفته يدك، ورعته عينك، حفت بهما البركة، وأسبغت عليهما النعمة، مع كلام كثير خطبت به عنك، ورغبت فيك، وما كنت عرفت منك في ذلك حوجاء ولا لوجاء، فقلت ما قلت وأنا أرى مكان غيرك، وأجد رائحة سواك، وكنت لك إذ ذاك خيراً منك الآن لي، ولئن كان عرض بك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كنى عن غيرك، وإن كان قال فيك، فما سكت عن سواك، وإن يختلج في نفسك شيء فهلم، فالحكم مرضي، والصواب مسموع، والحق مطاع.
ولقد نُقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما عند الله - عز وجل - وهو عن هذه العصابة راض، وعليها حَدِث، يسره ما يسرها، ويكيده ما يكيدها، ويرضيه ما يرضيها، ويسخطه ما أسخطها، ألم تعلم أنه لم يدع أحداً من: أصحابه، وخلطائه، وأقاربه، وشجرائه، إلا أبانه بفضيلة، وخصه بمكرمة، وأفرده بجلالة، لو أصفقت الأمة عليه لكان عنده: إيالتها، وكفالتها، وكرامتها، وغزارتها، أتظن أنه صلى الله عليه وسلم ترك الأمة نشراً سدى، بيد عدا، عباهل سباهل، طلاحى مباهل، مفتونة بالباطل، مغبونة عن الحق، لا رائد ولا ذائد، ولا سائق، ولا قائد، ولا حائط ولا واقي، ولا هادي ولا حادي؟! كلا، والله ما اشتاق إلى ربه، ولا سأله المصير إلى رضوانه، حتى ضرب الصوى، وأوضح الهدى، وأمن المهالك والمطاوح، وسهل المبارك والمهايع، وإلا بعد أن شدخ يا فوخ الشرك بإذن الله - عز وجل - وشرم أنف النفاق لوجه الله تعالى جدُّه، وجدع أنف الفتنة في ذات الله تبارك اسمه، وتفل في وجه الشيطان بعون الله جل ذكره، وصاع بملء فيه ويده أمر الله عز وجل.(1/385)
وبعد، فهؤلاء الأنصار والمهاجرون، عندك ومعك، في دار واحدة، وبقعة جامعة، إن استقاموا بي لك، وأشاروا عندي بك، فأنا أول واضع يدي في يدك، وصاير إلى رأيهم فيك، وإن تكن الأخرى فادخل فيما دخل فيه المسلمون، وكن العون على مصالحهم، والفاتح لمغالقهم، والمرشد لضالهم، والرادع لغاويهم، فقد أمر الله - عز وجل - بالتعاون على البر، وأهاب إلى التناصر على الحق، ودعنا نقض هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغل، ونلقى الله - عز وجل - بقلوب سليمة من الضغن.
وبعد، فالناس ثمامة، فارفق بهم، واحن عليهم، ولن لهم، ولا تشق نفسك بنا خاصة فيهم، واترك ناجم الحقد حصيداً، وطائر الشر واقعاً، وباب الفتنة غلقاً، فلا قال ولا قيل، ولا لوم ولا تبيع، والله عز وجل على ما نقول شهيد، وبما نحن عليه بصير.
قال أبو عبيدة - رضي الله عنه - : فلما تهيأت للنهوض، قال لي عمر - رضي الله تعالى عنه - : كن لدى الباب هُنيهة، فلي معك ذوق من القول، فوقفت ولا أدري ما كان بعدي، إلا أنه لحقني ووجهه يبدو متهللاً، وقال: قل لعلي: الرقاد محلمة، واللجاج ملحمة، والهوى مقحمة، وما منا إلا له مقام معلوم، وحق مشاع أو مقسوم، ونبأ ظاهر أو مكتوم، وإن أكيس الكيس، من منح الشارد تألفاً، وقارب البعيد تلطفاً، ووزن كل امرئ بميزانه، ولم يخلط خبره بعيانه، ولم يجعل فتره مكان شبره، ولا خيره مكان شره، ولا خير في معرفة مشوبة بنكرة، ولا علم معتل في جهل: من المتقارب:
وَلَسنَا كَجِلدَةِ رفع البَعِي ... رِ بَيْنَ الْعِجَانِ وَبَيْنَ الذَّنَبْ
وكل صال فبناره، وكل سيل فإلى قراره، وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لِعي ولا سي، ولا كلامها اليوم لفتق ولا رتق، ولا فرق ولا رهق، قد جدع الله لمحمد صلى الله عليه وسلم أنف كل في كبر، وقصم ظهر كل جبار، وقطع لسان كل كذوب، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك، وما هذا الشجى المعترض في مدارج أنفاسك، وما هذه الوحرة التي أكلت شراسيفك، والقذاة التي أعشت ناظريك، وما هذا الدحس والداسُ اللذان يدلان على ضيق الباع، وخور الطباع، وما هذا الذي لبست بسببه جلد النمر، واشتملت عليه بالشحناء والنكر، شد ما استسعيت إليها، وسريت سرى ابن أنقد إليها.
إن العوان لا تعلم الخمرة، وإن الحصان لا تكلم لخبرة، ما أحوج الصلعاء إلى خال، وما اْحوج الفرعاء إلى فال.
لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر معبد محبس، ليس لأحد فيه ملمس ولا مأنس، لم يسير فيك قولاً، ولم يستنزل فيك قرآناً، ولا عرف في شأنك حكماً. ولسنا في كسروية كسرى، ولا قيصرية قيصر، ولا أخدان فارس، وأبناء الأصفر، قوماً جعلهم الله جزراً لسيوفنا وأرماحنا، ومزعاً لطعاننا، وتبعاً لسلطاننا، بل نحن في نور نبوة، وضياء رسالة، وثمرة حكمة، وأئر رحمة، وعنوان نعمة، وظل عصمة، بين أمة مهدية بالحق والصدق، مأمونة على الفتق والرتق، لها من الله - عز وجل - قلب أبي، وساعد قوي، ويد ناصرة، وعين باصرة.
أتظن ظناً أن أبا بكر الصديق وثب على هذا الأمر، مفتئتا على الأمة خادعاً لها، متسلطاً عليها؟! أتراه امتلخ أحلامها، وأزاغ أبصارها، وحل عقدها، وأحال عقولها، واستلب من صدورها حميتها، وانتزع من أكبادها عصبيتها، وانتكث رشاها، وانتضب ماءها، وأضلها عن هُداها، وساقها إلى رداها، وجعل نهارها ليلاً، ووزنها كيلاً، ويقظتها رقاداً، وصلاحها فساداً.
إن كان هكذا إن سحره لمبين، وإن كيده لمتين؛ كلا والله بأي خيل ورجل؛ وبأي سنان ونصل، وبأي قوة ومنة، وبأي ذخر، وبأي أيد وشدة، وبأي عشيرة وأسرة، وبأي تدرع وبسطة.
لقد أصبح عندك؛ بما وسمته منيع الرقبة، رفيع العتبة. لا والله ولكن سلا عنها، فولهت به، وتطامن لها؛ فلصقت به، ومال عنها، فمالت إليه، واشتمل دونها؛ فاشتملت عليه. حبوة حباه الله بها، وعاقبة بلغه الله إياها، ونعمة سربله الله جمالها، ويد أوجب الله عليه شكرها، وأمة نظر الله به إليها، ولطالما حلقت فوقه في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت لفتها، ولا يرتصد وقتها، والله أعلم بخلقه، وأرأف بعباده، يختار ما كان لهم الخيرة.(1/386)
وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة، ومعدن الرسالة، وكهف الحكمة، ولا يجحد حقك فيما أتاك ربك، ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك، وقربى أمس من قرابتك، وسن أعلى من سنك، وشيبة أروع من شيبتك، وسيادة بها عرق من الجاهلية، وفرع من الإسلام والشريعة، ومواقف ليس لك فيها من جمل ولا ناقة، ولا تذكر منها في مقدمة ولا ساقة، ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع، ولا تخرج منها ببازل ولا هُبع.
فإن عذرت نفسك فيما تهدر به شقشقتك من صاغيتك، فاعذرنا فيما تسمع منا في لين وسكوت، مما لا تبعده منه، ولا تناضله عليه، ولئن حدبت بهذا نفسك، لينتحين عليك ما ينسيك الأولى، ويلهيك عن الآخرة، ولو علم من ضننا به ما في أنفسنا له وعليه؛ لما سكت، ولا اتخذت أنت وليجة إلى بعض الأرب، فأما أبو بكر الصديق، فلم يزل حبة سويداء قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلاقة همه، وعيبة سره، ومثوى حربه، ومفزع رأيه ومشورته، وراحة كفه، ومرمق طرفه، وذلك كله بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار، شهرته مغنية عن الدلالة عليه، ولعمري إنك أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة، لكنه أقرب قربة، والقرابة لحم ودم، والقربة روح ونفس، وهذا فرق وقد عرفه المؤمنون؛ ولذلك صاروا أجمعين، ومهما شككت فيه، فلا تشك أن يد الله مع الجماعة، ورضوانه لأهل الطاعة، فادخل فيما هو خير لك اليوم، وأنفع لك غداً، والفظ من فيك ما تعلق بلهاتك، وانفث سخيمة صدرك عن ثفاتك، فإن يك في الأمد طول، وفي الأجل فسحة فستأكله مريئاً، أو غير مرئ، وستشربه هنيئاً، أو غير هنئ، حين لا راد لقولك إلا من كان منك، ولا تابع لك إلا من كان طامعاً فيك، يمض إهابك، ويفري قادمتك، ويزري على هديك.
هناك تقرع السن من ندم، وتجرع الماء ممزوجاً بدم، وحينئذ تيأس على ما مضى من عمرك، ودارج قومك، فتود أن لو سقيت بالكأس التي أبيتها، ورددت إلى الحال التي استبريتها، ولله تعالى فينا أمر هو بالغه، وغيب هو شاهده، وعاقبة هو المرجو لضرائِها، وهو الولي الحميد، الغفور الودود.
قال أبو عبيدة - رضي الله عنه - : فمشيت متزملاً أتوجأ كأنما أخطو على أم رأسي؛ فرقاً من الفرقة، وشفقاً على الأمة، حتى وصلت إلى علي - رضي الله تعالى عنه - في خلاء، فأبثثته الكلام كله، وبرئت إليه منه، ورفقت به، فلما سمعها ووعاها، وسرت في أوصاله حمياها.
قال: حلت معلوطة، وولت مخروطة، حل لا حليت التعبيس أدنى لها من قول لعا.
إحْدَى لَيَالِيكَ فَهيسِى هيسي ... لا تَنْعَمِي بالنومِ والتَّعْرِيسِ
نعم يا أبا عبيدة أكل هذا في أنفس القوم، يجتمعون إليه ويصطفقون.
قال أبو عبيدة فقلت لا جواب لك عندي إلا السكوت، إنما أنا قاض حق الدين، وراتق فتق الإسلام، وساد ثلمة الأمة، يعلم الله ذلك من خلجان قلبي، وقرارة نفسي. قال علي - رضي الله عنه - : والله ما كان قعودي في كسر هذا البيت؛ قصداً للخلافة، ولا إنكاراً للمعرفة، ولا زراية على مسلم، بل لما وقذني به رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقه، وأودعني من الحزن بفقده، وذلك إني لم أشهد بعده مشهداً إلا جور لي حزناً، وذكرني شجواً، وإن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره، فقد عكفت على عهد الله أنظر فيه، وأجمع ما تفرق منه، رجاء ثواب معد لمن أخلص عمله ونيته لربه.
على إني ما علمت أن التظاهر عليَّ واقع، ولا لي عن الحق الذي سيق إليَّ دافع، وإذا كان قد أفعم الوادي لي، وحشد النادي من أجلي، فلا مرحباً بما ساء أحداً من المسلمين، وفي النفس كلام لولا سابق قول، وسالف عهد، لشفيت غيظي بخنصري وبنصري، وخضت لجتي بأخمصي ومفرقي، لكني ملجم إلى أن ألقى ربي عز وجل، وعنده أحتسب ما نزل بي، وأنا عادل إلى جماعتكم، ومبايع لصاحبكم، وصابر على ما ساءني، وسركم؛ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وكان الله على كل شيء شهيداً.(1/387)
قال أبو عبيدة - رضي الله تعالى عنه - : فعدت إلى أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - فقصصت القول على غره، ولم اختزل شيئاً من حلوه ومره. فلما كان صباح يومئذ وافى علي - رضي الله عنه - ، فخرق إلى أبي بكر الصفوف، وبايعه، وقال خيراً، ووصف جميلاً، وجلس زمناً، واستأذن في القيام، ونهض، فتبعه عمر؛ تكرمة له، واستئثاراً لما عنده، فقال له علي: ما قعدت عن صاحبكم؛ كارهاً له، ولا أتيته؛ فرقاً منه، وإنما أقول ما أقول تعلة، وإنى لأعرف مسمى طرفي، ومخطي قدمي، ومنزع قوسي، وموقع سهمي، ولكني قد أزمت على فاسي؛ ثقة بالله في الأدالة في الدنيا والآخرة. فقال عمر - رضي الله عنه - : كفكف غربك، واستوقف سربك، ودع العصا بلحائها، والدلاء برشائها، فإنا من خلفها؛ وورائها، إن قدحنا أورينا، وإن متحنا أروينا، وإن جرحنا أدمينا، وإن نصحنا أربينا، - لقد سمعت أمانيك التي لغوت بها عن صدر مقصور بالجوى، ولو شئت لقلت على مقالتك، ما إذا سمعته ندمت على ما قلته.
زعمت أنك قعدت في كسر بيتك؛ لما وقذك به رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقه، أفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقذك وحدك، ولم يقذ سواك، بل مصابه أعظم وأعز من ذلك، فإن من حق مصابه ألا يصدع شمل الجماعة بكلمة لا عصام لها، ولا يزرى على اختيارها، بما لا يؤمن كيد الشيطان في عقباها.
هذه العرب حولنا والله لو تداعت علينا في مصبح يوم؛ لم نلتق في ممساه، وزعمت أن الشوق بك إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره، فمن الشوق إليه نصرة دينه، ومؤازرة أولياء الله تعالى جده، ومعاونتهم فيه؛ وزعمت أنك عكفت على عهد الله؛ تجمع ما تبدد منه، فمن العكوف على عهده: النصيحة لعباده، والرأفة على خلقه، وبذل ما يصلحون به، ويرشدون إليه. وزعمت أنك لم تعلم أن التظاهر عليك واقع، ولك عن الحق الذي سبق إليك دافع!! فأي تظاهر وقع عليك، وأي حق لك ليطردونك، قد علمت ما قالت الأنصار لك بالأمس سراً وجهراً، وما تقلبت عليه بطناً وظهراً، فهل ذكرتك، أو أشارت بك، أو وجدنا رضاها عندك؟! هؤلاء المهاجرون، من الذي قال منهم بلسانه تصلح لهذا الأمر، أو أومأ بعينه، أو همهم في نفسه؟! أتظن أن الناس قد ضلوا من أجلك، وعادوا كفاراً زهداً فيك، وباعوا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ تحاملاً عليك؟! لا والله، ولكنك اعتزلت تنتظر الوحي، وتتوكف مناجاة الملك لك، ذاك أمر طواه الله - عز وجل - بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أكان الأمر معقوداً بأنشوطة، أو مسدوداً بأطراف ليطة؟! كلا والله، إن العناية لمحلقة، وإن الشجرة لمورقة، ولا عجماء بحمد الله إلا وقد أفصحت، ولا عجفاء إلا وقد سمنت، ولا شوكاء إلا وقد لقحت.
ومن أعجب شأنك قولك لولا سابق قول، وسالف عهد؛ لشفيت غيظي، وهل ترك الدين لأحد من أهله أن يشفي غيظه بيده ولسانه، تلك جاهلية قد استأصل الله شأفتها، ودفع عن الناس آفتها، واقتلع جرثومتها، وهور ليلها، وغور سيلها، وأبدل منها الروح والريحان، والهدى والبرهان.
وزعمت أنك ملجم، فلعمري إن من اتقى الله عز وجل، وآثر رضاه، وطلب ما عنده، أمسك لسانه، وأطبق فاه، وجعل سعيه لما وراءه.
فقال علي - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - : والله ما بذلت ما بذلت وأنا أريد نكثه، ولا أقررت بما أقررت وأنا أبغي حولاً عنه، وإن أخسر الناس صفقة عند الله من آثر النفاق، واحتضن الشقاق، وبالله سلوة من كل كارث، وعليه التوكل في جميع الحوادث. ارجع إلى منزلك يا أبا حفص، ناقع القلب، مبرود الغليل، فسيح البال، فليس وراء ما سمعته، وقلته إلا ما شد الأزر، ويضع الإصر والوزر، ويجمع الألفة، ويرفع الكلفة، ويوقع الزلفة، بمعونة الله عز وجل، وحسن توفيقه.
قال أبو عبيدة - رضي الله عنه - : فانصرف عمر - رضي الله عنه - وهذا أصعب ما مر بناصيتي بعد فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو حيان: وروى لنا هذا كله أبو حامد، ثم أخرج لنا أصله، فقابلناه به فما كان غادر منه إلا ما لا بال له، فأما ما رواه أبو منصور الكاتب، فإنه خالف في أحرف في حواشي الكتاب كل حرف بإزاء نظيره الذي هو مبدل منه، وقد كان أبو منصور بلغة العرب أبصر، وفي غرائبها أنفذ، وإنما قدمت رواية أبي حامد؛ لأنه بشأن الشريعة أعلم، ولأعاجيبها أحفظ، وفيما أشكل منها أفقه، فكان إسناد الحديث من جهته.(1/388)
وقال لنا أبو منصور الكاتب في حديثه: ولما حضر علي إلى أبي بكر - رضي الله تعالى عنهما - قال له أبو بكر - رضي الله عنه - : إن عصابة أنت فيها لمعصومة، وإن أمة أنت فيها لمرحومة، ولقد أصبحت عزيزاً علينا، كريماً لدينا، نخاف الله إذا سخطت، ونرجوه إذا رضيت، ولولا إني شدهت لما أجبت لما دعيت إليه، ولقد حط الله عن ظهرك ما أثقل به كاهلي، وما أسعد من نظر الله إليه بالكفاية، وإنا إليك محتاجون، وبفضلك عالمون، وإلى الله - عز وجل - بك في جميع الأحوال راغبون.
شرح ما وقع في هذه الرسالة من الغريب:
المفن: الذي يتصرف في كل فن. المخلط: الذي يخلط بعض الأمور ببعض.
المزيل: الذي يفصل بعضها عن بعض. المعنى: الذي يتصرف في المعاني. الجوى: الهوى الجواء: الناحية. المتنفس: الاستراحة، والاتساع السقيفة: سقيفة بني ساعدة، التي اجتمع فيها الأنصار عند موت النبي.صلى الله عليه وسلم الفن: النوع، يجمع على فنون. المتن، في الحديث: نصه على وجهه، وهو من كل شيء ظهره. الحقاق: جمع حقة، وهو وعاء يجعل فيه الطيب والأعلاق، والغوص: الدخول في الشيء الغامض. نسيج وحده: أي فريد ما له نظير، وأصله في الثوب الرفيع الذي لا مثال له يصنع له منسج وحده، لا ينسج عليه غيره، فاستعير ذلك للرجل الذي لا نظير له في فنه. سرد الحديث: نصه، ووصل إسناده. الهنة: اللطيف من كل شيء.
رحض عرها: أزال مكروهها، وأصله من العر، وهو: داء يأخذ الإبل، فيكوي غير المصاب به؛ فيشفي. قال الشاعر: من الطويل:
كَذِى العر يكوى غَيْره وَهْوَ رَاتِعُ
التلكؤ: التأخر. الشماس: النفار. التهمهم، والهمهمة: كلام لا يصرح به. النفاس: المنافسة والحسد. ذات البين: الحال المتصلة، من قوله تعالى: " لَقَد تقَطَعَ بَينكَتم " الأنعام: 94، الظهير: المعين الذي يشد به الظهر. يُدمن أرضه بالسرجين أي: يصلحها به. مثاءة، والثأي: الفساد، وأصله في الخرز، وهو: أن يثقب الخرزة؛ فيصير الاثنتين واحدة، يقال: أثأت الخرز؛ فهو مُثأَى. المغبوط: الذي يتنافس فيه. خوار العنان، يقال: فرس خوار العنان، إذا كان راكبه يصرفه حيثما أراد؛ فضرب مثلاً. الدوح: الشجر العظيم. الردء: العون. يندمل: يبرأ. السبر: إدخال فتيل في الجرح؛ ليرى قدر عمقه. غير آل: أي مقصر، من الألو، وهو: التقصير. الجهد - بالضم - : الطاقة، وبالفتح: الغاية، وقد يسوى بينهما. القالى: المبغض الكاره. الجد: التشمير والاجتهاد. مغرقة: أي يغرق فيه. مفرقة: من الفرق، وهو: الفزع والروع، يقول: يفزع من السير فيه. الجو: الهواء. أكلف: أغبر. أغلف: شديد الظلمة. جلواء: ظاهرة النجوم. صلعاء: لا نبات فيها. الصعود: المرتفع، وبضم الصاد: المصدر، وكذلك الهبوط بالفتح: المكان المنحدر، وبالضم: المصدر الشنوف: المبغض. العنوف: الشديد الثالب: الطاعن. الضغن: العداوة. رائد البوار: قائد الهلاك. شجار الفتنة: الشجار؛ خشب الهودج، ضربه مثلاً. يدلى بالغرور: الإدلاء:. الإدخال في الأمر، وأصله إدخال الدلو في البئر. القعة: التأخر، والقعود عن الأمر، وهو مأخوذ من قولهم: وقع الرجل، فهو وقع؛ إذا اشتكى لحم قدميه، ولم يقدر على المشي. الثقوب: الناقة الغزيرة اللبن، قال: والصواب ثقوب العداوة، والثقوب: الحطب، وما يهيج به النار. يزجى: يسير. الناجذ: آخر الأضراس. أقاد ضالتك: ردها. الحوص بالحاء المهملة: ضيق في العين، وبالمعجمة غور فيها. الصعداء: النفس العالي، والغضب، والهم. ولا يغيص: أي ما يبين، ولا يفهم. الهدى الطريق المستقيم. الضراء من الشجر، وكذلك الخمر: يقال يمشي فلان لفلان الضراء، إذا كان يخفي له العداوة حتى يجد فرصة، قال الشاعر:
يمشى الضراء ويتقي(1/389)
وأصله أن يستتر الصائد من الصيد حتى يرميه. ينقبض: أي يضيق. الفضاء: المتسع من الأرض. الشنان: جمع شنة، وهي القربة البالية اليابسة. القعقعة: صوتها إذا حركت للبعير الشارد سكن، يضرب مثلاً لمن يهمد بما لا حقيقة له. الوعوعة: صوت الذئب. الشنآن: العداوة. يربب، ويشبب، وأصله من شب النار، إذا أوقدها. الغمار: الماء الكثير، وهو: جمع غمرة؛ لغمره من يدخل فيه. الأمراس: الحبال التي يستسقى بها. الصاب: الصبر. نكرع: نشرب. العُباب: الموج. العِياب، جمع عيبة: وعاء كبير. تحدج: تنظر. تشحذ: تحد. النشب: الضياع. السبد: الوبر، يعني الإبل. اللبد: الصوف، يعني الغنى، تقول العرب: ما له سبد، ولا لبد. الهلة: الفرحُ، وما يسر به الرجل. البلة: أصلها الرطوبة، ثم استعمل بمعنى الصلة. الرحب: السعة. الذلاقة: الفصاحه. المكنونات: المستورات. الأعطان: مبارك الإبل بعد الورد عند الماء. المخبور: المجرب. أرهص: قدم. وأصل قلص شمر الأردان: الأكمام. يظلع: يعرج. عطا: تناول. المض، والمضض، والمضاضة: الحرقة، واللجاجة في الأمر. الأجاج: ضد العذب. ولا تحلم: يقال: حلم الأديم إذا وقع فيه السوس. والعضب: القاطع. نبا ينبو: إذا ضرب؛ فلم يقطع. يجاحش: يدافع، يتضاءل، يتصاغر. ينتفج: أي يتفرشح. الحوجاء: الحاجة. اللوجاء: إتباع، وتداخل في الأمر. التعريض: ضد التصريح، الكناية كذلك. يختلج: يضطرب. العصابة: الجماعة. حدب: مشفق، الشجراء: جمع شجير، وهو الصديق. أصفقت: اجتمعت. الإيالة: السياسة. نشرا: النشر: أن تنتشر الغنم في المرعى؛ فتعدو عليها الذئاب. السدى: الشيء المهمل. العدا: الأعداء. العرى: العريان. العباهل: الإبل التي لا حافظ لها. الطلاحي: التي كلت؛ فلم تقدر على النهوض. المباهل: الإبل التي لا تمنع أخلافها؛ فيحلبها كل من أراد. صدع بملء فيه: أظهر بكلامه، ودفاعه بيده أي: الذائد الدافع. الحائط: الحافظ الذي يحوط، وكذلك الواقي. الهادي الذي يمشي إلى الأمر الأسدّ. الحادي: الذي يمشى وراء الإبل. اليافوخ: أصل الدماغ. الصوى: علامة تجعل في الطريق؛ يهتدى بها: أوضح: بين. الرادع: القامع. الغاوي: الضال المفسد. الضغن: العداوة. الغل: البغض. الثمام: شجر ضعيف. هنيهة: أي ساعة. ذوق من القول: أي طرف. المحلمة: أن يحلم في أشياء لا حقيقة لها. الملحمة: موضع القتال. المقحمة: دخول الإنسان فيما لا ينبغي. التأليف: التعطيف، والتسكين. الفتر: ما بين السبابة والإبهام. مشوبة: أي ممزوجة. معتل: أي مستضعف. الرفغ: أصل الفخذ. الصالي: المتسخن بالنار.(1/390)
القرار: المكان الذي يستقر به الماء. لعيّ وسي: السي: إتباع العي، كقولهم حسن بسن، وشيطان ليطان، وجائع بائع. الرتق: ضد الفتق. الرهق: فساد الشيء. الخنزوانة: التكبر. الفراش: عظام رقاق. الشجا: ما يغص به من عود، وعظم، وشبهه. الوحرة: الحقد. الشراسيف: أطراف الضلوع. الدحس: ورم يصيب الدابة في حافرها، شبه به الانتفاخ من الغضب. الداس البحث عن الأخبار، والتجسس. الخور: الضعف. لبست بسببه جلد النمر: يقال: لبس فلان لفلان جلد النمر، إذا تنكر، وتهيأ لحربه. الشحناء: العداوه. السرى: سير الليل. ابن أنقد - بالدال المهملة - : القنفذ. العوان: التي كان لها زوج. الخمرة: شد الخمار على الرأس. الحَصان: المرأة العفيفة. الخبرة: الاختبار. الفرعاء: الكثيرة الشعر. الخال: الحديدة التي يفرق بها الشعر. محتبس: مقيد. معبد: مذلل. ملمس، أي: ما يلمس. مانس: أي تأثير. المزع: القطع. الأثرة: أي ما يؤثر به الرجل دون غيره: أي يخص. مأمونة على الرتق، والفتق: يعني الإصلاح، والفساد. مفتئتا: يعنى بغير اختيارهم. الحمية: الأنفة. انتكث رشاها نقض حبلها. انتضب ماؤها: يقال نضب الماء، إذا جف، وأنضبته أنا، وانتضبته. الأيد: القوة. بأي تدرع: من الدرع. ولهت: أي حنت. تطامن: انخفض. الحبوة: العطية سربله: ألبسه سربالها. قربى أمس: أي ألصق. العرق: الأصل. البازل: الجمل المسن. الهبع: الصغير من أولاد الإبل، وهو الذي يولد في آخر زمن النتاج، فإن ولد في أوله، فهو رُبع. تهحر به شقشقتك: يقال هدر البعير، إذا صاح، والشقشقة: ما يخرج من حلقه عند هديره. الصاغية: القرابة. المناضلة: المراماة بالسهام. حدبت: أي أنفت، وقيل: خضعت، وهو لا معنى له هنا، والصواب الأول. الفظ: اطرح. السخيمة: العداوة. النفاث: ما ينفث به. يمض إهابك: أي يشق جلدك. ويفري قادمتك: أي يقطع، والقادمة: ريش مقدم الجناح، جمعها قوادم. استبرأتها: أي تخليت منها. التزمل: الالتفاف. أتوجى: أتعارج. حلت معلوطة: أي نزلت، والمعلوطة: الناقة وسم عنقها بالنار، واسم تلك السمة العلاط. مخروطة: أي دقيقة المؤخر، وهو مكروه في الإبل، ويقال للناقة إذا زجرت. حل حل: يقال حلحلت بالإبل، إذا قلت لها: حل حل، فإذا لم تزدجر يقال: حل لا حليت: أي لا ظفرت، ولا فزت. فهيسى هيسى: يضرب مثلاً لمن وقع في داهية، وأمر عظيم يحتاج إلى الانزعاج وترك الإخلاد إلى الراحة، وفي القاموس هيسى هيسى على الكسر: يضرب للتمكن من الأمر، والإغراء به انتهى. والهيس: السير الشديد، وأصل هذا المثل أن طسماً أوقعت بجديس، وأبادتها بسبب قصة - أمرها يطول - جرت بينهما، فقال في ذلك بعض الرجال هذا المثل الذي ضرب عليّ - رضي الله تعالى عنه - في هذه الرسالة. لعَا: هذه كلمة تقال عند العرب للعاثر إذا عثر؛ دعاء له معناها: انتعش، وقم. على غره: يقال: طويت الثوب على غره - بفتح الغين المعجمة، وبالراء المهملة، والهاء - : أي على طيه الأول، يضرب مثلاً للأمر الذي لم يغير عما كان عليه. مخطي قدمي: حيث تخطو قدمي. أزمت على فاسي: فاس اللجام: ما يدخل منه في فم الفرس، يقال: أزم الفرس على فاس اللجام، إذا عض عليه استعارة للسكوت. الأدالة: هي انقلاب الأمور. الغرب: الحد. اللحاء: القشر. الرشاء: الحبل. أورينا: من أورى الزند، إذا ظهر منه النار. الماتح - في قوله: وإن متحنا: الذي يخرج الدلو، ومن أمثالهم: أعرف من الماتح باست المائح. مقصور: مقروح. الجوى: داء يعترى في الجوف. العصام: حبل القربة، يضرب به مثلاً. المؤازرة: المعاونة. تداعت: أي دعا بعضها بعضاً.(1/391)
العهد - هنا - : القران. الهمهمة: كلام لا يصرح به. الأنشوطة: العقدة التي تجبذ بطرفها؛ فتنحل. الليطة: قشر البيضة. الغيابة: ما أظل الإنسان فوق رأسه، كالسحابة أو الغبرة. محلقة: أي مستديرة. استأصلها: انتزعها من أصلها. الشأفة: قرحة تخرج في القدم؛ فتكوى، يضرب بها مثلاً. الجرثومة - بضم الجيم والثاء المثلثة الأصل، وجرثومة كل شيء: أصله، والجرثومة: ما يجتمع في أصل الشجر. هوَّر ليلها: أصله من هور الرجل البنيان، إذا هدمه، فيريد أذهب ليلها. النكث: النقض. حولاً: أي تحولاً. احتضن: أي تأبط، والحضن: الإبط. الشقاق: الخلاف. ناقع القلب: أي يرتوي. مبرود الغليل: الغليل: حرقة العطش. الفسيح: الواسع. اللبان: الصدر الأزر: القوة. الوزر: الثقل، وأراد هنا الإثم. الإصر: الثقل. شدهت: أي تحيرت. الكاهل: أعلى المنكبين.
انتهت الرسالة، وقد نقلتها من كتاب المسامرة للشيخ الأكبر العارف بربه: سيدي محي الدين بن عربي، وقد بالغت في تصحيحها وضبطها، وبذلت في ذلك وسعي وجهدي، وقابلتها بنسخة أخرى؛ فصحت إن شاء الله تعالى، ولته الحمد والمنة. قلت: هذه الرسالة وإن أوردها الإمام المذكور في كتابه المزبور، فعندي في صحة اتصالها لمن رويت عنه - وهو أبو النفاخ مولى أبي عبيدة، عن أبي عبيدة، رضي الله عنه - وَهم بلا شك؛ إذ فيها ألفاظ نسبت إلى عمر - رضي الله عنه - تحيل العادة نطقه بها في حق مثل علي - رضي الله تعالى عنهما - خصوصاً قوله: ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك، وما هذا الشجا، وما هذه الوحرة، وما هذا الدحس والدلس، وما هذا الذي لبست؛ وقوله: يمض إهابك، ويفري قادمتك؛ وقوله: تقرع السن من ندم، وتشرب الماء ممزوجاً بدم، إلى غير ذلك من الألفاظ الفاضحة، والكلمات الجارحة، فحمى الله تعالى عمر أن يقول مثل هذه الألفاظ في حق مثل عليّ الذي يقول هو فيه: لولا علي لهلك عمر، إذ مثل هذه الألفاظ ما صدرت من بعضهم لبعض في زمن الجاهلية الجهلاء، فكيف بعد الإسلام، وامتلاء قلوبهم وأسماعهم بأنوار النبوة وأخبار السماء.
وكذلك ما فيها من قول علي - رضي الله تعالى عنه - : حلت معلوطة...إلى آخر ما رواه عن علي مما يشعر، بل يصرح بعدم رضاه بالبيعة لأبي بكر وسكوته، وتمثيله بقوله: أزمت على فاسي، والتصريح بأن التظاهر واقع عليه، وأنه إنما ترك شفاء غيظه؛ لسابق قول وسالف عهد - يعنى من النبي صلى الله عليه وسلم - بالوصية له بترك القتال كما تدعيه الروافض، وقوله: وإني عادل إلى جماعتكم ومبايع لصاحكبم، وصابر على ما ساءني وسركم، وغير ذلك من الألفاظ التي نسبت إليه مما تدل تعريضاً وتصريحاً على عدم رضاه بالبيعة لأبي بكر، وأنه مقهور عليها، مضطهد فيها، معدول عنه بها، مخذول في أمرها كما هو عقدة عقيدة الروافض، فإنهم اعتقدوا ذلك، ولم يفطنوا لما يلزم على ذلك من نسبة القبائح والرذائل إلى الإمام المعصوم في زعمهم التي لا تضاف إلى من له أدنى شهامة، ولا يرضى بها كريم ولا ذو كرامة: من اتصافه بالجبن والذلة، مع اتصافه بضدهما عند كل أهل ملة، بل وجميع بني هاشم، ومن يليهم من جملة المهاجرين، ومن السكوت عن الحق، والإقرار على الظلم والعق، ومن تواطؤ الصحابة جميعهم على الحيف والظلم والجهالة: المنفي ذلك عنهم بشهادة: لا تجتمع أمتي على ضلاله.
فلا تغتر بما حوته هذه الرسالة المجهولة رجال الإسناد؛ فتعدل إليها عما تقدم مما روته أئمة الحديث الخبراء النقاد، وكان الصواب ألا تثبت في إصدار ولا إيراد، ولكن جرى قلم التقدير بما أراد.
وقد اطلعت على قصيدة في تفصيل ما يلزم من قال بعدم أهلية أبي بكر للخلافة، وأن علياً منع عنها قهراً؛ فسكت عجزاً، وبايع قسراً، وهي للعلامة الفهامة الشيخ عبد الحي الشامي، نظمها في ذيل كتاب صنفه الإمام عبد الله بن أسعد اليافعي، نفع الله به في هذا المعنى، فاستكتب الشيخ المذكور الكتاب المذكور رجل من السادة الأشراف؛ فكتب له، وكتب هذه القصيدة في ذيله عن نظمه، وهي: من الرجز:
محاسنٌ لنَشرها أشَم ... في طَيها طَودُ العُلَى الأشّم
معارج ليسَ إلى سَنَامِهَا ... إلا قَوى العزمَاتِ يَسمُو
أُقعِدَ عَنها قصراً أمثالُنَا ... ونَالَهَا حرّ الأديمِ شَهمُ(1/392)
صَاحبَة التوفيق في سلُوكِهِ ... فهمهُ الأهم فالأهم
ونحنُ لا هذا ولا تِلكَ ولا ... لنا بِمَا تَحتَ النقابِ عِلمُ
كأنْما المقصودُ من وجودنا ... نفس تطاعُ وهوى يؤم
نقرأ آثارَ الألى بهم عَلاً ... عنِ الحضيضِ في الحظوظِ عزم
فنتمنى أن نفوزَ فوزَهُم ... بأنفسِ بالفوزِ لا تهم
تلكَ الأمانِي المصدرات أهلها ... بالغُرم من حيثُ يرجى الغُنمُ
سبحانَكَ اللهُم يا أولى بنا ... هَبنَا لكَ اللهُم يعفو الجُرمُ
لا حولَ إلا بكَ أي مَهرَب ... للعبدِ عن حكمِ قضاه حَتمُ
رُحمَاكَ يا ذا الطولِ نرجو أبدَاً ... في كُل ما يخصُ أو يعُم
فلا تَكلنَا للقوَى واسلُك بنا ... مَسلَكَ قوم لرضاكَ أموا
ألقومُ خيرُ القومِ لا يشقى بهم ... جليسُهُم ولا يهيه هَم
ألسادةُ الطهرُ مصابيحُ الدجَى ... بلِ الهدَى والجَهل مُدْلهم
ألتائبونَ العابدونَ الحامِدو ... ن الراكعونَ الساجدُونَ الرحمُ
ألعارفونَ بالإلَهِ الغارفو ... نَ من عطاهُ الخائفونُ الكتمُ
هُمُ الغياثُ للعبادِ وبهم ... تحيا البلادُ ويزولُ الغَم
وهم محل نظرِ الإله من ... عبادهِ هم الرُقى والسّم
طوبَى لِمَن صفَت له قلوبُهُم ... وويحَ من له بسوءٍ هَمُّوا
إذ هُم على بينة من ربهِم ... وَمَن عداهُم هَمج وبَهْمُ
سارَت بهم نجائبُ القصدِ على ... منهجِ صدقٍ ما نحاه فدْمُ
فمنهمُ أهلُ القبابِ والألَى ... خاضو العبابَ حيث ضَل الفهمُ
ومنهمُ الأفرادُ لم يعرجُوا ... على سوى التفريدِ مذ ألَموا
ومنهُمُ أهُل الخفاءِ والفنا ... ومنهُمُ من بالظهورِ يَنمُو
وَمِنهُمُ أهلُ السطا مظاهراً ... جلالَ عدلٍ يقتضيه الحكمُ
ومنهمُ مظاهرُ الرحمةِ وال ... جمالِ فضلاً عَم فيه الحلمُ
كلاً نمد هؤلا وهَؤُلا ... ءِ مِنْ عطاهُ وعطاهُ الجَم
وكُلهُم على افتراقِ حالِهِم ... يجمعُهُم مِنَ التصوُفِ اسمُ
فليتَ شعري ما الذي ينكرُهُ ... من أمرِهِم قوم عَمُوا وصَموا
أينكرونَ رفضَهُم لذاتِهِم ... في الله حتى ما بها مُلِم؟!
أم قَطعَهم مألوفَهُم أم زهدهُم ... في الجاهِ والرتبةِ مهما تَسمو
أم دَفنَهُم وجودَهُم في تربةِ ال ... خُمُولِ عافِ اسمُهُم والرسمُ
أم صَبرهم على الأذَى أم صفحهُم ... مع اقتدارٍ إن رُمُوا أن يُصْمُوا
أم كونَهُم مذ بايَعُوا الله على ... نفوسِهم بشأنها ما اهتَموا
قد استوَى عندهم في جَنبِ مَر ... ضاة الإلهِ مَدحُهم والذمُ
تراهُمُ كالأرضِ يُلقَى فوقها ال ... قُبحُ فيبدى الحسنَ منها الكتمُ
مآثر حباهُم الله بها ... من دونِ عليا مستماها النجمُ
ماذا عسَى يحصى المديح من ثنا ... قومٍ لهم في الذكرِ ذكْر ضَخمُ
أعَزهم ذو العِز أن يعرفَهم ... من لا له مِنَ اليقينِ سَهمُ
فهم خبايا في زوايا غَيرَةِ ال ... لَّهِ وفي طرزِ الوجودِ رَقْمُ
حياهُمُ الله وأحيانا بِهم ... لَعَلنا إليهمُ نُضَم
وقَدسِ اللهُم رُو ... حَ اليافعي إنه بمثلِهِ يُؤْتَم
جزاه مولانا الرضَا فإنه ... مصَنف بحر حجى خِضَم
قد قامَ بالله وقالَ الحق في ... تأليفِهِ والحق لا يغم(1/393)
فهو كتابْ قد حوَى مباحثَاً ... يُلقَمُ أحجاراً لديها الخصمُ
ومن يكُن قيامه لله لا ... لنفسِهِ فَدَسْتُهُ الأتم
حبرته برسمِ مولى أصلُهُ ... أزكَى الأصولِ فهو عنه يَسمو
فَرعُ الذينَ هم أئمة الورَى ... وهم معاقلُ الهُدَى والعصْمُ
بيتُ النبي والذين حُبهم ... دِينِي وإيماني به يتم
كُل كمالٍ في الورَى فإنما ... هم روحُهُ والعالمونَ جسمُ
تَوارَثُوا ملكَ المعالِي خلفاً ... عن سلفٍ كل أتاه قسمُ
ما نال من قربِ الإلهِ نائلٌ ... إلا بهم وما مقالِي زَعمُ
مدينةُ العلمِ علي بابُهَا ... نص به لدى الجدالِ حسمُ
يَأهلَ بيتِ لا يضامُ جارُهم ... إني بكُم يا قومُ مستذمُّ
وليسَ إلا أنتُمُ وَسِيلَتِي ... يَومَ عَنِ الرضيع تسلو الأُم
أنتُم لخيرِ عدة وعدة ... إذا نبا السيف وطاش السهم
أعظِم بكُم غوثاً إذا عظيمة ... توهن الجِلد لها والعظمُ
أنتم ضياءُ الكونِ كل زمنِ ... تنيرُهُ منكم بُدُور تِم
كيفَ وشمسُ الفلواتِ جدكم ... لكُم تسامى عربها والعُجمُ
لا والذي أعلى به أقدارَكُم ... لأنتُمُ الأعلَونَ حقاً فاسموا
هذا هو الفخر الذي لا يُدعَى ... حسبُ الدعِي خزيُهُ والإثمُ
وما جرَى مِنَ العظائِمِ التي ... من كَيهَا على القلوبِ وسمُ
تلكَ بأمرِ الله والله له مشيئةٌ ... في خلقِهِ وحُكمُ
ما كانَ في أم الكتابِ مبرمَاً ... فمستحيل حَلهُ والبرمُ
ومَن بهذا الفضلِ أولَى منكُمُ ... والأمثلُونَ للأشد سمُّوا
على لسانٍ صادقِ مُنَبأ ... بالغيبِ وحيَا ليس فيه رَجمُ
هذا على أني كنتُ لم أطِق ... سماعَ مجرى الطف أو أصم
كأن وقعَ ذكرِهِ في مسمعِي ... وقعُ الحسامِ بالحشا يحم
حتى أريتُ ما به من حُكمٍ ... عن رُتَب لأهلها تتمُّ
سعادة قَعسَاء دُونَ بعضها ... يَهُونُ كُل كارثٍ يهُم
نالَ بها جَهدَ الشقاءِ أهلُهُ ... وفَازَ بالزلفَى ذووها العظْمُ
وهذه الدنيا أقَل خطراً ... من أن تكونَ للحَبِيبِ قسمُ
وأنتمُ الأحبابُ والحب وما ... للفضلِ غَير بيتكُم ملُم
بحبكُم قدمَ من قدمه ال ... له على الأمةِ فهو القدمُ
برغمِ أنفِ رافضي مُفرِط ... مفرطٍ فيما عليه الجَم
عجنتُ من عصبة إفك أبغضوا ... حبيبَ من إلى هواه انضمُوا
وهو أحب صاحب إلى الإما ... مِ حسبما دَل عليه العِلمُ
قد نسبوا إلى علي نسبةً ... يجل عنها قدرُهُ وَيسمُو
إذ يزعمونَ غَصبَ قوم حقهُ ... وهوَ كما علمتُ ذاك القرمُ
فأيُّ وجهٍ لسكوتِ مثلِهِ ... عَن مِثلِها إن صَح هذا الزعمُ
كيفَ نقول يا غلاة الأمر فِي ... قَضيَّةٍ ما جَاءَ فيها حُكْمُ؟!
أجاهلاً كانَ علي أن ما ... قَد تَم بَغيٌ ولديْكُم علْمُ؟!
حاشا جنابَ باب حصنِ العلمِ أن ... يجهَلَ أمراً ضرُهُ أعَم
أو قيلَ أغضَى عالماً يلزمَكُم ... إقرارُهُ الظالمُ وهو ظُلْمُ
وهذه أدهَى من الألى استَحوا ... مِنَ الإمامِ ويحَكُم وزمُوا
أعاجزاً كان عنِ الدفاعِ أم ... خافَ المماتَ وهو ذاكَ الشهمُ؟!
رأت بنو هاشِمَ حقاً دونه ... حيلَ وعَن صاحِبِهم لم يَحْمُوا(1/394)
جُبن بهم أم بالسيوفِ فللٌ ... أم بالرقَى قد حُل منهم عَزمُ؟!
أم أجمَعَ الكل على الباطِلِ من ... أجلِ أبي بكرٍ؟! لبئسَ الزعْمُ
أهكذا من حَب قومَاً ينتحِى ... تنقيصَهم أينَ الذكا والفهْمُ؟!
كيف يقالُ في الصحابةِ الكِرا ... مِ إنهم بغَيرِ حق هَمُوا
وهم أجلُ رتبةً مما إلى ... جنابِهم في ضمنِ ذا ينضُم
حاشا قلوباً أرضعَت ثدي الهُدَى ... في مهدِ قربِ الوحي مما نموا
لو علموا حَقيةَ الأمرِ لَمَا ... خِيفَ لديهم في الإله خَصْمُ
بل عصبَةُ الجهلِ بحمقِ رأيهم ... قد حاولوا أن يَمدَحُوا فذموا
عَزَوا إِلى الكاملِ في مِدحتهم ... نقائصاً سماعُهَا يُصِم
نبرأ مما هم عليه جملةً ... إلى الذي إلَيْه فيه الحُكْمُ
ونرتجي منه هِدايَةً إِلى ... مناهِجِ الحق لها نَؤُمُ
وبالرسولِ والذينَ مَعَهُ ... لقد تشفعنَا لما يهُم
أوفِر لنا اللهُم من حُبهِمُ ... حظاً بهم لِشَمْلنِا يَلُم
واجعل لنا هذا الكتابَ حُجة ... ومشرعاً له رضَاكَ خَتمُ
وارحَم به مؤلفاً وكاتبَاً ... وقارئاً وسامعَاً يأتم
واجزِ الجزاءَ الأوفر الأوفى لِمَن ... بكتبه استَخدَمَنَا لتَسمُو
السيّد ابن السيد ابن سيدٍ ... عقد فخارِ لم يشنهُ فَصمُ
عبد الكريم ابن الكَرِيم صِنوه ... فَخُلُق ومَحتِد وإسمُ
بِجَدهِ وجِدهِ وجُوعدهِ ... لُذ واعتصِم واغنَ عَدَاكَ العُدمُ
خدمتُ علياه به ممتثلاً ... لأمرِهِ وهوَ على حَتمُ
أعملتُ أقلامي به قامَت على ... أُم الرءوسِ طاعَة تَؤُمُ
لا بِدعَ أن طابَت فمن تاريخِهِ ... محاسنٌ لنَشرِها أشَم
مَعَ اعترافِي بالقصُورِ راجياً ... منه الذي عَودنِيهِ الحلمُ
حسبُ الطروسِ مفخراً أن نالها ... بسَعيها في راحَتَيكُم لَثْمُ
أو قصر المَدح ففي تاريخِهِ ... محامدَ لُحسنِهِ تَتِم
والحاصل أنه وردت الأحاديث في شأن خلافة أبي بكر الصديق، وهي الأحاديث الأربعة عشر الآتية المستدل على حقية خلافته، وأحقيته بها المصدر بها الأحاديث الآتية، فإنها تنبيه سابق منه - عليه الصلاة والسلام - وتقرير لاحق من الصحابة، وشهادة منهم بصحة خلافته، وأنها لم تكن إلا بحق، إذ بعضها مصرح بخلافته على الترتيب الواقع منه - عليه الصلاة والسلام - تارة من فهم الصحابة، خصوصاً أحاديث مرائيه صلى الله عليه وسلم فإنها أحاديث متفق على صحتها، وكذلك حديث الأمر بالاقتداء بأبي بكر وفهم الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - من ذلك التنبيه على الخلافة، وحديث استخلافه - عليه الصلاة والسلام - لما ذهب صلى الله عليه وسلم؛ ليصلح بين بني عمرو بن عوف بقباء، وحديث استخلافه عليها - أيضاً - في مرض وفاته، وهو من أوضح الأدلة، وعليه اعتمد عمر وعلي وغيرهما من الصحابة في الاستدلال على خلافته، وعلى أحقيته بها، ووجهه أنه كان - عليه الصلاة والسلام - قد تأهب للنقلة إلى ربه، فعين أبا بكر - رضي الله تعالى عنه - للإمامة، ثم عورض بعرض غيره عليه لذلك؛ فمنع منه ثم لما تقدم غيره - كره ذلك، وصرح بالمنع، ثم أكده بتكرار المنع، فقال: لا، لا، لا، ثم أردف ذلك بما فيه تعريض بالخلافة بل تصريح بقوله: " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " فذكر ذلك بتكرار. كل ذلك مع علمه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك مظنة الخلافة، فإنه كان - عليه الصلاة والسلام - إمامهم في الصلاة والحاكم عليهم، فلما أقام أبا بكر ذلك المقام مع توفر هذه القرائن الحالية، والمقالية علم أنه أراد ذلك.(1/395)
وفي قوله: " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " إشارة، بل أفصح عبارة، ولولا اعتماده صلى الله عليه وسلم على تلك الإشارة المصرحة بإرادة الخلافة؛ لما أهمل أمرها، وأشار إلى أن العدول عن أبي بكر إلى غيره من الوقائع العظيمة في الدين بقوله: " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " وإنما كان عدم التصريح بها منه صلى الله عليه وسلم اكتفاء بنصبه إماماً عند إرادة الانتقال عنهم وإحالته على فهم ذلك عنه، ولم يصرح بالتنصيص عليها لأنه ممتثل لما يوحى إليه، لا ينفذ شيئاً إلا بأمر ربه بالتنصيص؛ لينفذ قضاؤه وقدره سبحانه في ابتلاء قوم عميت أبصارهم بما ابتلاهم به، وليس فضل من انقاد للحق بزمام الإشارة، ودله نور بصيرته عليه كغيره، فإن من لم يعتقد ذلك بعد بلوغ هذه الأحاديث، والعلم بتلك القرائن الحالية والمقالية، فالظاهر عناده ورده للحق بعد تبينه.
ومنها حديث الحوالة - يعني المرأة التي تعني الموت - فقال: " ائتي أبا بكر " ، وهو من أدل الأدلة وأوضحها، وحديثها من أصح الأحاديث، وإن صحت الزيادة على ما رواه مسلم، وهي قوله - عليه الصلاة والسلام - : " فإنه الخليفة بعدي " كان ذلك نصاً في الباب.
وكحديث إرادة كتب العهد، وقوله صلى الله عليه وسلم " فإني أخاف أن يتمنى متمن، أو يقول قائل أنا أول " ، وفي رواية: " كيلا يطمع في الأمر طامع، أو يتمنى متمن " ، ثم قال: " ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " ، وفي رواية: " أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليه " وهذا صريح في الباب أنه نص على إمامته بتوليه من جهته صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يكتب بل عرف بأنه يكون الخليفة بعده، فجعل الله سبحانه ذلك بإجماع المسلمين، فعلم بما تقرر إجماع الصحابة ومن بعدهم على حقية خلافة الصديق، وأنه أهل لها، وذلك كاف لو لم يرد نص عليها، بل الإجماع أقوى من النصوص التي لم تتواتر لأن مفاده قطعي ومفادها ظني، وحكى بأسانيد صحيحة عن سفيان الثوري: من قال إن علياً كان أحق بالولاية من أبي بكر فقد خطأ المهاجرين والأنصار، وما أراه يرتقع له مع هذا عمل إلى السماء.
وأخرج الدارقطني، عن عمار بن ياسر نحوه.
كيف والنصوص القرآنية والسنية ظاهرة، أما نصوص السنة الدالة على خلافته الواردة عنه صلى الله عليه وسلم فقد ذكرنا بعضها هنا إجمالاً، وسيأتي باقيها في ذكر الأحاديث التي في شأن أبي بكر، وهي الأربعة عشر حديثاً التي في أولها المستدل بها عليها.
وأما النصوص القرآنية فمنها قوله تعالى: " يا أيها الذِينَ آمَنوا مَن يَرتَدَ مِنكُم عَن دينه فسوفَ يَأتِي اللهُ بِقَوم يُحُبهُم وَيُحِبونَه " إلى قوله: " واسِع عَلِيمُ " المائدة: 54، وذلك أنه لما ارتدت العرب بعد موته - عليه الصلاة والسلام - جاهدهم أبو بكر والصحابة حتى ردهم إلى الإسلام، كما سيأتي شرح ذلك قريبَاً، ومنها قوله تعالى: " قُل ئللمُخَلَفِينَ مِنَ الأعرإبِ سَتدعَونَ إِلىَ قَومٍ أولي بَأسِ شَدِيدِ " إلى " أليمَاً " الفتح: 16، أخرج ابن أبي حاتم عن جويرية أن هؤلاء القوم هم بنو حنيفة، ومن ثم قال ابن أبي حاتم، وابن قتيبة، وغيرهما: هذه الآية حجة على خلافة الصديق؛ لأنه الذي دعا إلى قتالهم.
وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري سمعت الإمام أبا العباس بن سريج يقول: خلافة الصديق في القرآن في هذه الآية، قال: لأن أهل العلم أجمعوا على أنه لم يكن بعد نزولها قتال دعوا إليه إلا دعاء أبي بكر لهم وللناس إلى قتال أهل الردة، ومن منع الزكاة، قال: فذل ذلك على وجوب خلافة أبي بكر الصديق، وافتراض طاعته؛ إذ أخبر الله أن المتولي عن ذلك يعذبه عذابَاً أليمَاً.(1/396)
قال ابن كثير: ومن فسر القوم بأنهم فارس والروم، فالصديق هو الذي جهز الجيوش إليهم وتمام أمرهم كان على عهد عمر، وعثمان وهما فرعا الصديق - رضي الله تعالى عنهم - فإن قلت يمكن أن يراد بالداعي في الآية النبي صلى الله عليه وسلم أو علي، رضي الله تعالى عنه قلت: لا يمكن ذلك مع قوله لن تتبعونا، ومن ثم لم يدعوا إلى محاربة لأولئك في حياته صلى الله عليه وسلم إجماعاً، وأما علي فلم يتفق له في خلافته قتال لطلب الإسلام أصلاً بل لطلب الإمامة ورعاية حقوقها، وأما من بعده فهم عندنا ظلمة، وعند غيرنا كفار؛ فتعين أن ذلك الداعي الذي يجب باتباعه الأجر الحسن الموعود به في الآية، وبعصيانه العذاب الأليم الموعود به فيها أيضاً - أحد الخلفاء الثلاثة، وحينئذ فيلزم عليه خلافة أبي بكر على كل تقدير؛ لأن حقية خلافة الأخيرين فرع عن حقية خلافته؛ إذ هما فرعاها الناشئان عنها، المترتبان عليها.
ومنها قوله تعالى: " وَعَدَ اللهُ الذَينَ آمَنُوا مِنكم وَعمِلوُا الصالحاتِ ليستَخلِفَنهُم في الأرضِ " إلى قوله " لا يشركِوُنَ بيِ شَيئاً " النور: 55، قال العلامة ابن كثير: هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق، رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن عبد الرحمن بن عبد الحميد المهري قال: إن خلافة أبي بكر، وعمر، في كتاب الله بقوله تعالى: " وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا " النور: 55 الآية.
ومنها قوله تعالى: " للِفُقَراء المُهاجِرينَ " إلى قوله " أُؤلَئك هُمُ الصادقونَ " الحشر: 8، وجه الدلالة تسمية الله إياهم صادقين، ومن شهد له الله سبحانه بالصدق لا يكذب، فعلم أن ما أطبقوا عليه من قولهم لأبي بكر يا خليفة رسول الله، هم صادقون، فحينئذ كانت الآية شاهدة على خلافته، أخرجه الخطيب البغدادي عن الإمام أبي بكر بن عياش.
ومنها قوله تعالى: " اهدِنَا الصراط المُستَقِيم صرَاط الذين أنعمتَ عليهِم " الفاتحه: 6، 7 قال الفخر الرازي: هذه الآية تدل على خلافة أبي بكر؛ لأن تقدير الآية اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، والله تعالى بين في الآية الأخرى الذين أنعم عليهم بقوله: " فَأؤلَئك الذَينَ أنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النبِيينَ وَالصدِيقِينَ وَالشُهَداء وَالصالِحينَ " النساء: 69، ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم - أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فكان معنى الآية أن الله أمر أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر، وسائر الصديقين، ولو كان أبو بكر ظالمَاً؛ لما جاز الاقتداء به، فثبت بما ذكرناه دلالة الآية على إمامة أبي بكر وحقيتها.
واعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم ينص بالخلافة على أحد بعينه عند الموت، وإنما وردت منه ظواهر تدل على أنه علم بإعلام الله تعالى له أنها لأبي بكر، فأخبر بتلك الظواهر، ولم يؤمر بالتنصيص على أحد بعينه، وقد مرت الإشارة إلى هذا المعنى فيما تقدم قريباً، ولو وجب على الأمة مبايعة غير أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لبالغ - عليه الصلاة والسلام - في تبليغ ذلك الواجب إليهم، بأن ينص عليه نصاً جلياً بنقل شهير حتى يبلغ الأمة ما لزمهم، فلما لم ينقل ذلك - مع توفر الدواعي إلى نقله - دل على أنه لا نص.(1/397)
وتوهم أن عدم تبليغه للأمة؛ لعلمه بأنهم لا يأتمرون بأمره، فلا فائدة في التبليغ باطل، فإن ذلك غير مسقط عنه وجوب التبليغ عليه الصلاة والسلام، ألا ترى أنه بلغ سائر التكاليف للآحاد الذين علم منهم أنهم لا يأتمرون، فلم يسقط العلم بعدم ائتمارهم التبليغ عنه، واحتمال أنه بلغ أمر الإمامة سراً للواحد والاثنين، وأنه نقله كذلك لا يفيد؛ لأن سبيل مثل هذه الشهرة؛ لصيرورته بتعدد التبليغ وكثرة المبلغين أمراً مشهوراً، إذ هو من أهم الأمور لما يتعلق به من مصالح الدين والدنيا، مع ما فيه من دفع ما قد يتوهم فيه من إثارة الفتنة، واحتمال أنه بلغ ذلك مشتهراً، ولم ينقل، أو نقل ولم يشتهر فيما بعد عصره باطل أيضاً، إذ لو اشتهر لكان سبيله أن ينقل نقل الفرائض؛ لتوفر الدواعي على نقل مهمات الدين، فالشهرة هنا لازمة لوجود النص، فحيث لا شهرة لا نص بالمعنى المتقدم - يعني على التعيين - لواحد بعينه لا لعلي، ولا لغيره؛ فلزم من ذلك بطلان ما تنقله الروافض وغيرهم من الأكاذيب، يسوّدون به أوراقهم من نحو أنت الخليفة من بعدي مخاطباً به علياً كرم الله تعالى وجهه، ومن خبر سلموا على علي بإمرة المؤمنين مما لا وجود له فضلاً عن اشتهاره، كيف وما نقلوه من هذين الحديثين وما شابههما مما يرونه حديثاً من قوله صلى الله عليه وسلم لعلي أنت قاضي دِيني بكسر الدال، وما يرونه حديثاً - أيضاً - من قوله صلى الله عليه وسلم علي خير البشر؛ فمن أبي فقد كفر، فهذه الأحاديث كذب، باطلة، موضوعة مفتراة عليه صلى الله عليه وسلم، ألا لعنة الله على الكاذبين!!.
ولم ينقل أحد من أئمة الحديث أن شيئاً من هذه الأحاديث بلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها، بل كلهم مجمعون على أنها افتراء، وكذب محض، وبناء مرفض من أبناء رفض، فإن زعم هؤلاء الجهلة الكذبة على الله، ورسوله، وعلى أئمة الإسلام، ومصابيح الظلام أن هذه الأحاديث صحت عندهم - قلنا لهم: هذا محال؛ إذ كيف تنفردون بصحة تلك الأخبار مع أنكم لم تتصفوا قط برواية، ولا بصحبة محدث، ويجهل تلك الأحاديث مهرة الحديث، وسُياقه الذين أفنوا أعمارهم في الرحلات والأسفار البعيدة، وبذلوا جهدهم في طلبه وفي السعي إلى كل من ظنوا عنده قليلاً منه، حتى جمعوا الأحاديث، ونقبوا عنها، وعلموا صحيحها من سقيمها، ودونوها في كتبهم على غاية من الاستيعاب ونهاية من التحرير!!.
وكيف لا والأحاديث الموضوعات جاوزت مئات الألوف، وهم مع ذلك يعرفون واضع كل حديث منها، وسبب وضعه، والحامل لواضعه على الكذب، والافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزاهم الله خير الجزاء، إذ لولا حسن صنعهم؛ لاستولى المبطلون والمتمردة المفسدون على الدين، وغيروا معالمه، وخلطوا الحق بكذبهم حتى لا يتميز عنه؛ فضلوا، وأضلوا ضلالاً مبيناً، لكن لما حفظ الله تعالى على نبيه شريعته من الزيغ والتبديل، وجعلوا من أكابر علماء أمته في كل عصر طائفة على الحق لا يضرهم مَن خذلهم؛ لم يبال الدين بهؤلاء الكذبة المبطلين الجهلة؛ فلذلك قطعت العادة المطردة القطعية بكذبهم واختلاقهم فيما زعموه من نص على علي صح عندهم دون غيرهم، إن هذا إلا اختلاق، نعوذ بالله من مثله.
وأما قول عمر - رضي الله تعالى عنه - كانت بيعة أبي بكر فلتة، لكن وقى الله شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فهذه اللفظة مما تشبث به الروافض، وقالوا: إنها قادحة في حقية خلافة أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - ؛ وذلك من غباوتهم وجهالاتهم؛ إذ لا دلالة في ذلك لما زعموه؛ لأن معناه أن الإقدام على مثل ذلك من غير مشورة الغير، ومن غير حصول الاتفاق عليه مظنة للفتنة، فلا يقدمن أحد على مثل ذلك، على أني أقدمت عليه، فسلمت على خلاف العادة ببركة صحة النية، وخوف الفتنة لو حصل توان في هذا الأمر.
لا أنها فلتة بمعنى على غير الحق والصواب، فهذا شيء عجاب، وهذا أحد متعلقاتهم التي يعتمدونها، وعقائدهم التي يعتقدونها، وسيأتي بيانها قريباً إن شاء الله تعالى.(1/398)
فإن قيل ما ذكرتموه مما أوردتموه في حق أبي بكر، واستدللتم به على أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم معارض بما جاء في حق علي رضي الله عنه، فقد وردت أحاديث تدل على أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنها حديث سعد بن أبي وقاص، وابن عباس " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي " قال له ذلك، وقد استخلفه لما ذهب إلى غزوة تبوك. أخرجه الشيخان، وأحمد في مسنده، والحافظ أبو القاسم الدمشقي في الموافقات، وغيرهم؛ وجه الدلالة أن موسى استخلف هارون عند ذهابه إلى ربه، فمقتضى التنظير بينهما أن يكون خليفته عند ذهابه إلى ربه كما كان هارون من موسى، وذلك ظاهر جلي.
ومنها حديث يوم غدير خُم " مَن كنت مولاه فعلي مولاه... " إلى آخر الحديث. أخرجه أحمد، وأبو حاتم، والترمذي، والبغوي، وفي بعض طرقه " ألستم تعلمون إني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا بلى يا رسول الله - قال من كنت مولاه فإن هذا - يعني علياً - مولاه " وجه الدلالة أن المولى في اللغة: العتيق، والمعتق، وابن العم، والعصبة، ومنه: " خِفْتُ المَواَليَ مِن ورائي " مريم: 5، وسموا بذلك؛ لأنهم يلونه في النسب من الولي، وهو القرب. ويطلق على الحليف، والجار، والناصر، ومنه قوله تعالى: " ذلِكَ بِأنَ اللهَ مَولَى الذينَ آمَنُوا وَأنَ الكَفرينَ لا مولى لَهُم " محمد: 11، وفي قول ابن عرفة والولي، ومنه الآية، قال بعضهم: أي وليهم والقائم بأمرهم، وأما الكافر، فقد خذله، وعاداه ومنه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: " أي امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل " .
فهذه ثمانية أوجه لا يصح الحمل على شيء من الأربعة الأول منها؛ إذ لا معنى له في الحديث، وكذا لا يصح على المعنى الخامس إلا على وجه بعيد، فإنه يراد بالحليف الناصر والمتبادر إلى الذهن خلافه، إذ الحليف من وجدت منه صورة المحالفة حقيقة، والمجاز خلاف الظاهر، وكذا لا يصح الحمل على المعنى السادس، وهو الجار إلا أن يريد به المجير - بمعنى الناصر - ومنه: " وإني جار لكم " : أي مجير فرجع إلى معنى الناصر، فتعين أحد المعنيين الناصر والمولى بمعنى المتولي، وأيا ما كان أفاد المقصود، إذ معناه من كنت متولي أمره، والناظر في مصلحته، والحاكم عليه - فعلي في حقه كذلك.
ويقابل هذا المعنى بقوله " ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين، من أنفسهم " وما ذاك إلا لما ذكرناه من النظر فيما يصلحهم وفي الأحكام عليهم، أو يكون معناه من كنت ناصره، ومنصفه ممن ظلمه، والآخذ له بحقه وبثأره - فعلي من حقه كذلك، وقد تعذر وصفه بذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فتعين أن يكون المراد به بعد وفاته. ومنها وهو أقواها سنداً ومتناً حديث عمران بن حصين " إن علياً مني، وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي " . أخرجه أحمد، والترمذي، وأبو حاتم. وحديث بريدة " لا تقع في علي؛ فإنه مني، وأنا منه، وهو وليكم بعدي " أخرجه أحمد. وحديثه الآخر " من كنت وليه فعلي وليُّه " وجه الدلالة أن الولي في اللغة المولى، قاله الفراء، والمتولي، ومنه " أنَتَ ولي فيِ آلدُنيَا وَالآخِرةَ " يوسف: 101، أي متولي أمري فيهما، وضد العدو - يعني - المحب والناصر. ولا يتجه حمله على المحب، ولا على المتولي؛ إذ لا يكون لتقييده بالبعدية معنى في الحديثين الأولين، فإنه - رضي الله عنه تعالى - كان محباً متولياً للمؤمنين حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته، والحديث الثالث محمول على الأولين في إرادة البعدية حملاً للمطلق على المقيد، فتعين أحد المعاني الثلاثة، وأنا ما كان أفاد المقصود.
أما بمعنى الناصر، فقد تقدم توجيهه في الحديث قبله.
وأما معنى الأول - فإن حمل المولى على معنى المحب، فلا تصح إرادته بمعنى المتولي فظاهر في المقصود بل صريح، والله أعلم.
قلنا: الجواب من وجهين: أما الأول: فإن الأحاديث المعتمد عليها في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - متفق على صحتها، وهذه الأحاديث غايتها أن تكون حسنة، وإن صح منها شيء عند بعضهم، فلا يصلح معارضَاً، لما اتفق عليه.(1/399)
ومن عجيب أمر هؤلاء الجهلة أنا إذا استدللنا عليهم بالأحاديث الصحيحة الدالة صريحَاً على خلافة أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - كخبر: " اقتدوا باللذين من بعدي " ، وغيره من الأخبار الناصة على خلافته، قالوا: هذا خبر واحد، ولا يغني فيما يطلب فيه اليقين. وإذا أرادوا أن يستدلوا على ما زعموه من النص على خلافة علي - أتوا بأخبار لا تدل على زعمهم، كخبر: " من كنت مولاه " ، وخبر: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " مع أنها آحاد، وإما بأخبار باطلة كاذبة متيقنة البطلان واضحة الوضع والبهتان، لا تصل إلى درجة الأحاديث الضعيفة التي هي أدنى مراتب الآحاد، كخبر: " أنت الخليفة من بعدي " ، وما بعده، مما تقدم ذكره آنفاً. فتأمل هذا التناقض الصريح والجهل القبيح.
لكنهم؛ لفرط جهلهم وعنادهم وميلهم عن الحق، يزعمون التواتر فيما يوافق مذهبهم الفاسد، وإن أجمع أهل الحديث والأثر على أنه كذب موضوع مختلق، ويزعمون فيما يخالف مذهبهم أنه آحاد بل وباطل - وإن اتفق أولئك على صحته وتواتر روايته - تحكماً منهم وعناداً، أو زيغاً عن الحق، فقوتلوا، وبكل شر قوبلوا.
الوجه الثاني: من وجهي الجواب تسليم صحتها، مع بيان أن لا دليل لهم فيها.
أما قوله في الحديث الأول: " إن موسى استخلف هارون عند ذهابه إلى ربه... " إلى آخر ما قيل. قلنا: الجواب من وجهين: الأول - نقول: هذا عدول عما نطق به لسان الحال والمقال، فإنه عليه الصلاة والسلام - قال لعلى تلك المقالة حين استخلفه لما توجه إلى غزوة تبوك، وذلك استخلاف حال الحياة، فلما رأى تألمه، بسبب التخلف - إما أسفاً منه على الجهاد، أو بسبب ما عرض له من أذى المنافقين على ما سنبينه إن شاء الله تعالى قريباً - قال له تلك المقالة؛ إيذاناً له بعلو مكانته منه إلى إقامته مقام نفسه، فالتنظير بينه وبين هارون إنما كان من استخلاف موسى له منضماً إلى الأخوة، وشد الأزر، والعضدية، وكان ذلك كله حال الحياة مع قيام موسى فيما استخلفه بعد، يشهد بذلك صورة الحال، فليكن الحكم في علي كذلك منضماً إلى ما ثبت له من أخوة النبي صلى الله عليه وسلم، وشد أزره وعضده به، غير أنه لا يشاركه في النبوة كما شارك هارون موسى، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: " إلا أنه لا نبي بعدي " ، أو بعد بعثتي، على سبيل التنظير، ولا إشعار في ذلك بما بعد الوفاة، لا بنفي، ولا بإثبات، بل نقول: ولو حمل على ما بعد الوفاة لم يصح تنزيل علي من النبي في منزلة هارون من موسى لانتفاء ذلك في هارون فإنه لم يكن الخليفة بعد موسى هارون، وإنما كان الخليفة بعده يوشع بن نون، وأما هارون فقد مات في حياة موسى، فعلم قطعاً أن المراد به الاستخلاف حال الحياة؛ لمكان التشابه، ولا يوجد إلا في حال الحياة؛ لا يقال: عدم استخلاف موسى هارون بعد وفاته؛ إنما كان لفقد هارون حينئذ، ولو كان هارون حياً لاستخلفه، ولم يستخلف غيره؛ بخلاف علي مع النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يتم دليلكم أن لو كان هارون حياً بعد وفاته، واستخلف غيره - لأنا نقول: الكلام معكم في تبيين أن المراد بهذا القول: الاستخلاف في حال الحياة؛ لمكان التنزيل منزلة هارون من موسى، ومنزلة هارون من موسى في الاستخلاف لم تتحقق إلا في حال الحياة؛ فثبت أن المراد به ما تحقق، لا أمر آخر وراء ذلك. وإنما يتم متعلقكم منه أن لو حصل استخلاف هارون بعد وفاة موسى.
ثم نقول: هب أن المراد: الاستخلاف عند الذهاب إلى الرب، فلم قلتم: إن ذلك بالموت، وإنما يكون ذلك كذلك أن لو لم يكن إلا به، وهو ممنوع؛ إذ الذهاب المراد إلى الرب - سبحانه - في الحياة أيضاً، وهل كان ذهابُ موسى إلى ربه إلا في حال حياته؟! والصلاة: مناجاة، والدعاء كذلك، والحجاج والعمار وفدُ الله تعالى؛ فهل الذهاب إلى شيء من ذلك إلا ذهاباً إلى الرب حقيقة، ومطابقتها أوقع من مطابقة الذهاب بالموت؛ فكل ذاهب إلى طاعة ربه ذاهب إلى ربه؛ لأنه متوجه إليه بها، وإن كان في بعض التوجه أوقع منه في غيره، وهذه كالأنواع منه؛ فيكون النبي صلى الله عليه وسلم استخلف علياً وهو ذاهب إلى ربه، بالخروج إلى طاعته في الجهاد؛ كما استخلف موسى هارون في حال حياته ذاهباً إلى ربه سبحانه، والله أعلم.(1/400)
الوجه الثاني: أن سياق هذا القول خبر، ولو كان المراد به: ما بعد الوفاة، لوقع - لا محالة - كما وقع كل ما أخبر بوقوعه؛ فإن خبره صلى الله عليه وسلم حق وصدق؛ " وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى، إن هُوَ إِلا وَحي يوحَى " ، النجم: 3، 4، ولما لم يقع عُلم قطعاً أنه لم يرد ذلك، وقوله - عليه الصلاة والسلام - " إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي على أهلي " فإنه صلى الله عليه وسلم لم يستخلفه إلا عليهم، والقرابةُ مناسبة لذلك. وأما على المدينة فالمستخلف: محمد بن مسلمة، وقيل: سباع بن عرفطة، وذكره ابن إسحاق فقال: خَلفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك علياً على أهله وأمره بالإقامة فيهم، فأرجفَ المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استثقالاً. قال: فأخذ علي سلاحه وخرج، حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف، فقال: يا نبي الله، زعم المنافقون أنك ما خلفتني إلا أنك استثقلتني، فتخففت مني، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " كذبوا، ولكني خلفتك لما تركت ورائي؛ فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك؛ ألا ترضى - يا علي - أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي " . أو يكون المعنى: إلا وأنت خليفتي في أهلي في هذه القضية، على تقدير عموم استخلافه في المدينة؛ إن صح ذلك. ويكون ذلك لمعنى اقتضاه في تلك المدة عَلِمَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهله غيره؛ يدل عليه: أنه صلى الله عليه وسلم استخلف غيره - رضي الله تعالى عنه - في قضايا كثيرة، ومرات عديدة.
أو يكون المعنى: الذي يقتضيه حالك وأمرك: ألا أذهب في جهةٍ إلا وأنت خليفتي؛ لأنك مني بمنزلة هارون من موسى؛ لمكان قربك وأخذك عني، لكن قد يكون شخوصُكَ معي في وقت أنفع لي من، استخلافك، أو يكونُ الحال يقتضي أن المصلحةَ في استخلافِ غيرك؛ فيتخلف حكم الاستخلاف عن مقتضاه، بمعارض أقوى منه يقتضي خلافه؛ وليس في شيءِ من هذا كله دليل على أنه الخليفةُ بعد موته صلى الله عليه وسلم.
وأما الحديث الثاني: فقوله فيه: " فتعين أحد معنيين: إما الناصر، وإما المولى " بمعنى المتولي، فنحن نقول بموجبه، لا بالتقدير الذي قدروه، والمعنى الذي عليه نزلوه؛ لا بل يكون التقدير: من كنتُ ناصرَهُ فعلي ناصرهُ؛ لأن علياً جلَّى من الكروب في الحروب ما لم يجله غيره، وفتح الله على يديه في زمنه صلى الله عليه وسلم ما لم يفتح على يد غيره؛ وشهرةُ ذلك تغني عن الاستدلال عليه. والتطويل فيه. وإذا كان بهذه المثابة كان ناصراً من كان النبي صلى الله عليه وسلم ناصره؛ لما أشاد الله به من دعائم الإسلام المثبتة لربها منه في عنق الخاص والعام، بنصرة المسلمين وإشادة منار الدين؛ ويكون المعنى: من كنت ناصرَهُ فعلي ناصره، وإن كان ذلك واجباً على كل أحد من الصحابة - بل من الأمة - لكن أثبت بذلك لعلي نوع اختصاصٍ؛ لأنه أقربهم إليه، وأولادهم بالانتصار لمن نصره.
وهذا أولى من حمل الناصر على المعنى الذي ذكروه؛ لما يستلزم ذلك من المفسدة العظيمة والوصمة الفظيعة، في جلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، على ما سنقرره في الجواب عن الحديث الثالث، الذي أخرجه أحمد والترمذي، عن عمران بن حصين، مما يدل على أنه لا يجوز حمله، على معنى الاستخلاف بعده - عليه الصلاة والسلام - ولا على معنى المتولي؛ ليكون التقدير: فعليي وليه، أي: متولي أمره بعدي، فلا يصح ذلك؟ إذ الإجماع منعقد على أنه لم يرد صلى الله عليه وسلم ذلك في الحالة الراهنة؛ فيكون هذا الحديث الثاني كالحديث الثالث، الذي سيأتي الكلام عليه مستوفي قريباً.
على أنا نقول: لم لا يجوز أن يكون المراد: الولي المنعم؛ استعارة من مولى العتق، التفاتاً إلى المعنى المتقدم آنفاً في معنى الناصر؛ فيكون التقدير: من أنعم الله عليه بالهداية على يدي نبيه إلى الإسلام والإيمان، حتى اتصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مولاه - فقد أنعم الله عليه - أيضاً - باستقامة أمر دينه، وأمانه من أعداء الدين وخذلانهم، وقوة الإسلام، وإشادة دعائمه - على يد علي بن أبي طالب، بما اختص به من دون غيره، مما تقدم بيانه، مما يصحح الاتصاف بأنه مولى له أيضاً.
وقد حكى الهروي، عن أبي العباس: أن معنى الحديث: من أحبني وتولاني، فليحب علياً وليتولهُ.(1/401)
قال في الرياض النضرة: وفي هذا عندي بُعدْ - يعني: ما حكاه الهروي - إذ كان قياسهُ على هذا التقدير أن يقول: من كان مولاي، فهو مولى علي، ويكون المولى: بمعنى الولي، ضد العدو، فلما كان الإسناد إلى اللفظ على العكس من ذلك، بطل هذا المعنى. ولو قال، معناه: من كنت أتولاه وأحبه، فعلي يتولاه ويحبه؛ كان أنسبَ للفظ الحديث، وهو ظاهر لمن تأمله.
نعم: يتجه ما ذكره الهروي من وجه آخر. بتقدير حذفٍ في الكلام، على وجه الاختصار، تقديره: من كنت مولاه، فسبيلُ المولى - يعني: وحقه - أن يحب ويتولى، فعلي - أيضاً - مولاه؛ لقربه مني ومكانته من تأييد الإسلام، فيحبه وليتوله كذلك.
وأما الحديث الثالث: فقولهم: فيتعين حمل الولي على الناصر،أو المتولي... إلى آخر ما قالوه. قلنا: الجواب عنه من وجهين - أيضاً - : الأول: القول بالموجب على المعنيين، مع البيان بأنه لا دليل لكم فيه.
أما على معنى الناصر: فلما بيناه في الحديث قبله.
وأما بمعنى المتولي: فقد كان ذلك؛ إذ قد تولى علي - رضي الله عنه - أمر الأمة بالخلافة، وإن كان بَعدَ من كان بعده؛ فقد صدق عليه - رضي الله تعالى عنه - أنه تولى الأمة بعلي - عليه الصلاة والسلام - حقيقةً. ومثل هذا قد ورد، وسيأتي في مناقب عثمان - رضي الله تعالى عنه - أنه صلى الله عليه وسلم رأى في منامه حوريةَ فقال لها: لمن أنت؟ فقالت: للخليفة من بعدك، عُثْمَانُ؛ وحينئذ فتكون فائدةُ ذكرِه صلى الله عليه وسلم ذلك؛ للتنبيه على فضيلة علي - رضي الله تعالى عنه - والتمرنِ على محبته؛ فإنه سيلي عليكم، ويتولى أمركم، ومن تتوقع إمرته فالأولى أن يمرن القلبُ على مودته ومحبته ومجانبة بغضه؛ ليكون أدعى إلى الانقياد، وأسرع للطواعية، وأبعد عن الخلف.
ويشهد لهذا المعنى وغيره. حثه صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة على أهل بيته عموماً، وعلى علي خصوصاً. ويرشد إليه - أيضاً - ما ابتدأ به صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، ولفظه - عند الطبراني، بسند صحيح - : أنه صلى الله عليه وسلم خطب بغدير خم، ثامن عشر ذي الحجة، مرجعه من حجة الوداع، تحت شجرات بُرِّح له ما تحتها بعد صلاة الظهر، فقال: " أيها الناس، إنه قد نبأن اللطيفُ الخبير: أنه لم يُعَمر نبي إلا نصف عمر الذي يليه من قبله؛ وإني لأظن أني بوشك أن أُدعى فأجيب، وإن مسئول وإنكم مسئولون، فماذا أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وجهدت، ونصحت؛ فجزاك الله خيراً. فقال: " ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حق، وناره حق، وأن الموت حق، وأن البعث بعد الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟! " قالوا: بلى نشهد بذلك. قال: " اللهم، أشهد! " . ثم قال: " أيها الناس، إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم " وفي رواية " ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ " قالوا: بلى. قال: " فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وَالِ من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه أينما دار " . ثم قال: " أيها الناس، إني فَرَطُكم، وإنكم واردون على الحوض، حوضاً عرضه كما بين بُصرى إلى صنعاء، فيه عدد نجوم السماء قِدحانٌ من فضة، وإني سائلكم حين تردون علي، وإني تارك فيكم الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما: الثقل الأكبر: كتاب الله - عز وجل - سببٌ طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فاستمسكوا به لا تضلوا ولا تبدلوا، وعترتى أهل بيتي؛ فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " .
ويشهد له - أيضاً - أن سبَب ذلك - كما نقله الحافظ شمس الدين بن الجوزي، عن ابن إسحاق: أن علياً - رضي الله تعالى عنه - تكلم فيه بعضُ من كان معه في اليمن، فلما قضى صلى الله عليه وسلم حجه، خطب هذه الخطبة؛ تنبيهاً على قدره، ورداً على من تكلم فيه؛ كبريدة بن الحصيب؛ كما في البخاري: أنه كان يبغضه. وسبب ذلك: ما صححه الذهبي، أنه خرج معه إلى اليمن فرأى منه جفوة فنقصه للنبي، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتغير، فقال: " يا بريده! لا تقع في عليّ؛ فإن علياً مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي " .(1/402)
ولا يجوز حمله على أنه المولى عقبَ وفاته صلى الله عليه وسلم في الأحاديث كلها؛ لوجوه: الأول: أن لفظ الحديث لفظ الخبر، ممن لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ولو كان المراد به كذلك، لوقع لا محالة كما وقع كل ما أخبر عنه؛ فلما لم يقع ذلك دَلَّ على أن المراد به غيره.
لا يقال: لم لا يجوز أن يكون المراد بلفظ الخبر: الأمر؟ لأنا نقول: يلزم على ذلك محذوران: الأول: صرف اللفظ عن ظاهره، وذلك مرجوح، والظاهر راجح؛ فوجب العمل به.
الثاني: أن ذلك - يعنى: أمر الخلافة - أمز عظيم مهم في الدين، تتوفر عليه دواعي المسلمين، ومثل ذلك لا يكتفى فيه بالألفاظ المجملة؛ بل يجب فيه التصريح بنص الظاهر.
الوجه الثاني: لزوم مفسدة عظيمة في الحمل على ذلك، هي: نسبةُ الأمة إلى الاجتماع على الضلالة، واعتقادُ خطأ جميع الصحابة باجتماعهم على تولية أبي بكر - رضي الله تعالى عنهم - وذلك منفي بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتي على ضلالة " . وما ذكرناه: في المصير إليه دفع لهذا المحذور، ونفي للظلم والخطأ عن الجم الغفير، المشهود لهم بأنهم كالنجوم: من اقتدى بأيهم اهتدى؛ خصوصاً من أمَرَ بالاقتداء به من بعده وشهد بالرشد لمن أطاعه.
وما تدعيه الرافضة: من أن علياً ومن تابعه في ترك المبادرة إلى بيعة أبي بكر؛ إنما بايعوه بعد ذلك تقية؛ فلا إجماع على بيعة أبي بكر في نفس الأمر - فهذا غايةُ الفساد لما يلزم عليه من نسبة القبائح والرذائل. وقد قدمنا بيان ذلك وكيفية مبايعته؛ من إرسال ابنه الحسن إلى أبي بكر، وخطبة علي - كرم الله وجهه - واعتذاره بالعذر الحسن الجميل؛ فانظره في أول خلافة الصديق، رضي الله تعالى عنه.
الثالث: أن الأحاديث الواردة في أبي بكر، دلت على أنه الخليفةُ عقيب وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد بين وجه دلالتها - كما ستراها قريباً - على خلافته، مصدراً بها الأحاديث الواردة في شأنه. وأحاديث علي - رضي الله تعالى عنه - مترددةٌ بين احتمالين، في الحمل على أحدِهما توفيق بين الأحاديث كلها، ونفى للمحذور اللازم في حق الصحابة كما قررناه؛ وفي الحمل على الثاني إلغاء لبعضها وتقرير لذلك المحذور؛ فكان الحمل على ما يحصل به التوفيق، وينفي به المحذور - أولى؛ عملاً بالأحاديث كلها، وكيف يتطرق خلافُ ذلك إلى الوهم، وقد روى عن علي وغيره من الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - ما يشهد بصحته، وتتبادر الأفهام عند سماعه إلى أنه مانع من تطرق تلك الأوهام؟! أم كيف يحل اعتقاد غير ذلك، والإجماعُ على خلافه؟ فالإجماع على خلافة أبي بكر قاضِ بالقطع بحقيتها؛ لأن مفَادَ الإجماع القطعُ، ومفاد خبر الواحد ظني؛ ولا تعارض بين قطعي وظني؛ بل يعمل بالقطعي ويلغي الظني، على أن الظني لا عبرةَ به، جملة كافية عند الشيعة.
فإن قيل: أي إجماعِ انعقد، مع تخلف مثل: علي، وطلحة، والزبير، وبني هاشم أجمع، والمقداد، وخالد بن سعيد بن العاص، وابن عباس، وأبي ذر، وعمار بن ياسر، وهؤلاء من جِلةِ أهل العقد والحل؟!.
قلنا: كان تأخرهُم: إما لتأثر خواطرهم بترك المشاورة في أمر البيعة والاستبداد بها دونهم؛ فإن الزبير وطلحة قد أفصحا بذلك، وبادرا بالبيعة في اليوم الثاني. وإما للتروي اجتهادا منهم، فلما ظهر لهم الأمر بايعوا، والله أعلم بالحقائق سبحانه.
الوجه الثالث - من أوجه الجواب عن الحديث الثالث: لم لا يجوز أن يكون الولي هنا بمعنى: المحب الموالي، ضد العدو؟! والتقدير: وهو متوليكم ومحبكم بعدي، ويكون المراد بالبعدية هنا: البعدية في الرتبة، لا بعدية وفاته صلى الله عليه وسلم أي: المتقدم في تولي المسلمين ومحبتهم: أنا، ثم على في الدرجة الثانية؛ لمكانته مني وقربه ومناسبته؛ فهو أولى بمحبة من أحبه، وتولى من أتولاه، ونصرة من أنصره، وإجارة من أجيره.(1/403)
والحاصل: أن هذا الحديث - يعني: حديث: " من كنت مولاه " - ليس نصاً على إمامة علي - كرم الله وجهه - وكيف يكون نصاً ولم يحتج به هو، ولا العباس - رضي الله تعالى عنهما - ولا غيرهما وقت الحاجة إلى الاحتجاج؛ وإنما احتج به علي في خلافته؛ يقول راوي ذلك، أبو الطفيل - كما عند أحمد والبزار: جمع علي الناس بالرحبة - يعني: بالعراق - لما آلتْ إليه الخلافةُ، فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال لهم: أُشهد الله من شهد يوم غدير خم إلا قام، ولا يقوم رجل يقول: نبئت وبلغني، إلا رجل سمعتْ أذناه ووعى قلبه؛ فقام سبعةَ عشرَ صحابياً - وفي رواية: - ثلاثون - فقال: هاتوا ما سمعتم، فذكروا الحديث المتقدم، ومن جملته: " من كنت مولاه فعلي مولاه " ، فقال: صدقتم، وأنا عَلَى ذلك من الشاهدين. فلو كان نصاً لاحتج به ومنع غيره، كما منع أبو بكرِ الأنصار بخبر: الأئمة من قريش فأطاعوه، مع كونه خبرَ واحدٍ، وتركوا الإمامة وادعاءها لأجله؛ فكيف - حينئذ - يتصور وجود نص جلي يقيني لعلي، وهو بين قوم لا يعصون خبرَ الواحد في أمر الإمامة، وهم من الصلابة في الدين بالمحل الأرفع؛ بشهادة بذلهِمُ الأنفسَ والأموالَ ومهاجرتهم الأهل والأوطانَ وقتلهم الأولاد والآباءَ في نصرةِ الدين، ولم يحتج علي عليهم بذلك النص الجلي، بل ولا قال أحد منهم - عند طلع النزاع في أمر الإمامة - : لم يتنازعون فيها، والنص الجلي قد عين فلاناً لها. فإن زعم زاعم أن علياً قال لهم ذلك، فلم يطيعوه - كان جاهلاً ضالاً مفترياً منكراً للضروريات؛ فلا يلتفت إليه؛ فإنه لم يقله - كرم الله وجهه - إلا عندما آلت إليه الخلافة؛ بشهادة راويه أبي الطفيل، ولم يحتج به عند وفاته صلى الله عليه وسلم، فسكوتُه عن الاحتجاج به إلى أيام خلافته، قاض على من عنده أدنى فهم وعقل - بأنه عَلِمَ منه أنه لا نص فيه على خلافته عقيب وفاته صلى الله عليه وسلم.
على أن علياً نفسَهُ صرح بأنه صلى الله عليه وسلم لم ينص عليه، ولا على غيره؛ كما سيأتي عنه.
وفي البخاري وغيره، حديث خروج علي والعباس من عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقول العباس - وقد أخذ بيد علي - : إنك بعد ثلاث عبدُ العصا، والله لأرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفي في وجعه هذا، وإني لأعرف الموت، في وجوه بني عبد المطلب؛ فلنذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأله: فيمن يكون هذا الأمر؛ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أمرناه فأوصى بنا. فقال علي: والله؛ إِن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَنَاهَا، لا يعطيناها الناسُ أبداً فهذا صريح فيما ذكرناه، من أنه صلى الله عليه وسلم لم ينص على أحد عند موته، وكل عاقل يجزم بأن حديث: " من كنت مولاه " ليس نصاً في إمامة علي؛ وإلا لَم يَحتج هو والعباس إلى مراجعته صلى الله عليه وسلم المذكورة في حديث البخاري، مع قرب العهد جداً بيومئذ بينهما نحو الشهرين، وتجويز النسيان على سائر الصحابة السامعين لخبر يوم الغدير، مع قرب العهد - وهم من هم في الحفظ والذكاء والفطنة، وعدم التفريط والغفلة فيما سمعوه منه صلى الله عليه وسلم - محال عادي، يجزم العاقل بأدنى بديهة أنهم لم يقع منهم نسيان ولا تفريط وبأنهم حالَ بيعتهم لأبي بكر، كانوا ذاكرين لذلك الحديث عالمين به وبمعناه؛ فزعم الشيعة والرافضة: أن الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - علموا هذا النص ولم ينقادوا له؛ عناداً أو مكابرة بالباطل، وقولهم: إنما تركها علي - رضوان الله عليه - تقية كذب وافتراء أيضاً؛ لما قدمناه فيما مر، ومنه: إنما كان في منعة من قومه وعشيرته، مع كثرتهم وشجاعتهم، وأنه احتج أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - على الأنصار لما قالوا: منا أمير ومنكم أمير بخبر: الأئمة من قريش فكيف سلموا له هذا الاستدلال، ولأي شيء لم يقولوا: ورد النص على إمامة علي، فكيف تحتج أنت بمثل هذا العموم؟!.(1/404)
وقد أخرج البيهقي عن أبي حنيفة النعمان بن ثابت - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: أصل عقيدة الشيعة: تضليل الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم. وإنما نبه علي الشيعة؛ لأنهم أقل فحشاً في عقائدهم من الرافضة؛ وذلك لأن الرافضة يقولون بتكفير الصحابة؟ لأنهم عاندوا بترك النص على إمامة علي - رضي الله تعالى عنه - بل زاد أبو كامل، وهو من رؤوسهم المتقدمين، فكفر علياً؛ زاعما أنه أعان الكفارَ على كفرهم، وأيدهم على كتمان ذلك، وعلى ستر ما لا يتم الدين إلا به؛ لأنه لم برو عن علي - كرم الله وجهه - أنه احتج بالنص على إمامته؛ بل تواتر عنه: إن أفضلَ الأمة: أبو بكر وعمر فإنه قبل من عمر إدخاله إياه في الشورى.
وقد اتخذ الملحدون كلام هؤلاء السفلة الكَذَبة ذريعةً لطعنهم في الدين والقرآن، وقد تصدى بعض الأئمة للرد عليهم، ومن جملة ما قاله أولئك الملحدون: كيف يقول الله: " كنُتُم خيرَ أُمةٍ أُخرِجَت لِلناسِ " آل عمران: 110، وقد ارتدوا بعد وفاة نبيهم، إلا نحو ستة أنفس منهم؛ لامتناعهم من تقديم أبي بكر وعدم رضاهم ببيعته؟! فانظر إلى حجة الملحد تجدها عينَ حجة الرافضة، قاتلهم الله تعالى أني يؤفكون! بل هم أشد ضرراً على الدين من اليهود والنصارى، وسائر فرق الضلال! كما صرح به علي - رضي الله عنه - بقوله: " تفترق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، شرها؛ من ينتحل حبنا ويفارق أمرنا " ووجهه: ما اشتملوا عليه من افترائهم قبائحَ البدع وغاياتِ العناد والكذبَ، حتى تسلطت الملاحدةُ بسبب ذلك على الطعن في الدين وأئمة المسلمين؛ بل قال القاضى أبو بكر الباقلاني: إن فيما ذهبت إليه الرافضةُ مما ذكر، إبطالاً للإسلام؛ لأنه إذا أمكن اجتماعُ الصحابة على الكتم للنصوص، أمكن فيهم الكذبُ والتواطؤ عليه لغرض؛ فيمكن أن سائر ما نقلوه من الأحاديث زور، ويمكن أن القرآن عُورضَ بما هو أفصح منه - كما تدعيه اليهود والنصارى فكتمته الصحابة؛ وكذا ما نقله سائر الأمم عن جميع الرسل: يجوز الكذب فيه والزور والبهتان؛ لأنهم أقروا ذلك في هذه الأمة التي قد جاء القرآن بأنها خير أمة أخرجت للناس؛ فادعاؤهم إياه في باقي الأمم أحرى وأولى. فتأمل المفاسد التي ترتبت على ما أصَّلَهُ هؤلاء!.
وقد أخرج البيهقي عن الشافعي - رضي الله عنه - ما من أهل الأهواء أشد زوراً من الرافضة!.
وكان إذا ذكرهم عابهم بالرذالة والسقاطة، وأنهم لا يتوجه معهم خطاب، ولا يرجعون إلى رشد ولا إلى صواب.
وعن الحسن بن أبي الحسن البصري، قال: لما قدم علي، - رضي الله عنه - البصرة في أثر طلحة والزبير، يريد قتالهم؛ قال له ابن الكواء وقيس بن عباد: يا أمير المؤمنين، ألا تخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت فيه، ستتولى على الأمة وتضرب الناس بعضهم ببعض، أعَهْدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك، فحدثنا به؛ فأنت الموثوق به المأمون على ما سمعت؟! قال: أما أن يكون عندي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فلا والله، لَئِنْ كنت أولَ من صدق به لا أكونُ أول من كذب عليه، ولو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عهد بذلك، ما تركت أخوي تيم وعدي يقومان على منبره، ولقاتلتهما لو لم أجد إلا بردي؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُقتل قتلاً ولم يمت فجأة، مكث في مرضه أياماً وليالي، يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس وهو يرى مكاني، ولقد أرادتِ امرأة من نسائه صرفَهُ عن أبي بكر، فأبى وغضب، وقال: " أنتن صواحبُ يوسف! يظهرن خلاف ما يبدين؛ مروا أبا بكر فليصل بالناس " فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم وقعنا في أمورنا، ثم اخترنا لدنيانا من رضِيَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لديننا، وكانت الصلاةُ أعظمَ أركان الإسلام وقواعِد الدين؛ فبايَعنا أبا بكر فكان لذلك أهلاً، لم يختلف عليه منا اثنان، فأديتُ إلى أبي بكر حقه، وعرفتُ له طاعته، وغزوتُ معه في جنوده، وكنتُ آخذ إذا أعطاني وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدودَ بسوطي.
فلما قُبِضَ ولاها عمر، فأخذ بستة صاحبه وما يعرف من أمره، فبايعناه ولم يختلف عليه منا اثنان، فأديتُ إلى عمر حقه، وعرفت له طاعته، وغزوتُ معه في جنوده، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني وأضرب بين يديه الحدودَ بسوطي.(1/405)
فلما قبض تذكرتُ في نفس قرابتي وسابقتي وفضلي، وأنا أظن أن لا يعدل بي، ولكن خَشِي ألا يعملُ الخليفةُ بعده ذنباً إلا لحقه في قبره؛ فأخرج منها نفسه وولده، ولو كانت محاباة منه لآثر ولده، ولكن برئ منها إلى ستةِ نفر من قريش أنا أحدهم. فلما اجتمع الرهطُ تذكرتُ في نفسي قرابتي وسابقتي، وأنا أظن أن لن يعدلوا بي، فأخذ عبدُ الرحمن بن عوف مواثيقَ على أن نسمع ونطيع لِمَنْ ولاه الله - عز وجل - أمرنا، ثم أخذ بيدِ عثمان فضربَ يدي على يده، فنظرت في أمري فَإِذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا ميثاقي قد أُخِذَ لغيري، فبايعنا عثمان، فأديتُ له حقهُ، وعرفتُ له طاعته، وغزوتُ معه في جنوده، وكنتُ آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضربُ بين يديه بسوطي.
فلما أصيب عثمان نظرتُ في أمري، فإذا الخليفتان اللذان أخذاها بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما في الصلاة قد مضيا، وهذا الذي أخذ له ميثاق قد أصيبَ، فبايعني أهلُ الحرمين وأهلُ هذين المصرين.
أخرجه أبو أحمد حمزة بن الحارث، وأبو الفضل ابن خيرون، والدارقطني، وابن عساكر، والذهبي، وغيرهم، وابن السمان في الموافقة، وزاد بعد قوله:وأهل هذين المصرين قوله: ثم إن معاوية بن أبي سفيان جاء يضربني بأهل الشام، فكنت - والله - أحق بها منه، والله لو أن أبا بكر حين بويع نازعوه لقاتل؛ ولو أن عمر نوزع حين بويع لقاتل فقالا: صدقت، يا أبا الحسن، وبررت واحتججت، وكنت أحق بها منه. وفي رواية عبدة أنهما قالا له: أخبرنا عن قتالك هذين الرجلين - يعنيان: طلحة والزبير - وهما صاحباك في الهجرة، وفي بيعة الرضوان، وفي الشورى، قال: بايعاني بالمدينة، وخلعاني بالبصرة، ولو أن رجلاً بايع أبا بكر ثم خلعه، قاتلناه؛ ألا ولو أن رجلاً بايع عمر ثم خلعه، قاتلناه. قلت: كأني أنظر وأسمع رافضي الاعتقاد ينكر هذه الروايةَ ويبطل إسنادها، وينقض مبناها، ويقوض عمادها؛ إلا قوله فيها: " وأنا أظن أن لا يعدلوا بي... إلى قوله: فبايعنا عثمان فإنه يتخذ ذلك شبهةَ دليلٍ وبرهانٍ؛ لما يعتقده من الكذب والباطل والبهتان، عليه من الله ما يستحق!.
قلت: ومن جملة زعم الرافضة: أن علياً إنما سكت عن النزاع والثيار في أمر الخلافة وطلبها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه ألا يوقع بعده فتنة ولا يسل سيفاً. وسمعت من بعض غُلاتِهِم: أن علياً كان يتحدث مع فاطمة في شأن الخلافة، وكأنها تلومه في سكوته، فأذن المؤذن حينئذ، فقال لها علي - رضي الله عنه - : لا لولا خوفي انقطاع هذا الصوت أو الذكر - مشيراً إلى الأذان - لجعلتُ أرضها سماءها فإن صح كلام هذا الغالي، فقد اختلفت العلتان عليهم: الوصية في الأول، والخوف في الثاني، وكلاً العلتين معلولٌ بأنه افتراء وكذب وضلالة، وحمق وغباوة وجهالة عما يترتب على ذلك؛ إذ كيف يعقل مع هذا الذي زعموه أنه جعله إماماً والياً على الأمة بعده، ومنعه من سل السيف على من امتنع من قبول الحق ولو كان ما زعموه صحيحاً، لما سل - كرم الله وجهه - السيفَ في حرب صفين وغيرها، وقاتل بنفسه وأهل بيته وشيعته، وبارز الألوفَ منهم وحده؛ أعاذه الله من مخالفة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً، فكيف يتعقلون أنه صلى الله عليه وسلم يوصيه بعدم سل السيف على من يزعمون فيهم أنهم مجاهرون بأقبح أنواع الكفرة من مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم، ودفع من نَصَ على أنها له، والتمالؤِ والاجتماعِ على إعطائها لغير من هي له، ومنع فاطمة - رضي الله عنها - إرثها بغير دليل، فهما ومن نحا نحوهما عندهم مرتدون؛ حماهم الله من ذلك ورضي الله عنهم! فجهادُ مثل هؤلاء حتم على الأمة عموماً، وعلى الخليفة خصوصاً.(1/406)
قال بعض أئمة أهل البيت النبوي من العترة الطاهرة: وقد تأملتُ كلماتِهم - يعني الرافضة - فرأيت قوماً أعْمَى اللهُ بصائرهم؛ فلم يبالوا بما يترتب على مقالتهم من المفاسد؛ ألا ترى إلى قولهم: إن عمر - رضي الله عنه - قاد علياً بحمائل سيفه، وحصر فاطمة فهابت، فأسقطت ولدا اسمه المحسن، فقصدوا بهذه الفرية القبيحة، والغباوة التي أورثتهم العار والبوار والفضيحة؛ إيغارَ الصدور على عمر - رضي الله تعالى عنه - ولم يبالوا بما يترتب ويلزم على ذلك؛ من نسبةِ علي إلى الذلة والعجز والخَوَر؛ بل نسبة جميع بني هاشم، وهم أهل النجدة والنخوة والأنفة، إلى ذلك العار الذي لا أقبحَ منه عليهم؛ بل نسبة جميع الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - ! إلى ذلك مع ما استفاض وتواتر عنهم من غيرتهم لنبيهم ودينهم، وشدة غضبهم عند انتهاك حرماته، حتى قاتلوا فقتلوا الآباءَ والأبناءَ؛ في طلبهم مرضاة الله تعالى، ومرضاة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يُتَوَهَّمُ إلحاقُ أدنى نقصِ، أو السكوت على باطل من هؤلاء العصابة الكمل، الذين طهرهم الله من كل رجس ودنس ونقص، على لسان نبيه في الكتاب والسنة، كما تقدم - بواسطة صحبتهم له صلى الله عليه وسلم، وموته وهو راض عنهم، وبسبب صدقهم في محبته واتباعه؛ إلا عبد أضله الله وخذله؛ فباء منه تعالى بعظيم الخسار والبوار؛ وأحله نار جهم وبئس القرار؛ نسأل الله السلامة من الموبقات، في الحياة وبعد الممات! آمين!.
ولهذه الطائفةِ الرذلة شبه، لا حاجةَ لنا إلى إيرادها؛ وتسويد الطِّرْس بسوادها، فقد ردها الأئمة المتقدمون والمتأخرون في غير ما كتاب؛ وأماطوا عن مشوهاتها الخمار والنقاب.
وقد رَوَتْ أقاويلَ الأئمة المعتبرين من أهل البيت، في الترضي عن الشيخين وتوليهما، والثناء عليهما - الأئمةُ الحفاظُ الذين عليهم المعوّل في معرفة الحديث والآثار، وتمييز صحيحها من سقيمها بأسانيدهم المتصلة.
فمنها: ما أخرجه أبو نعيم عن الإمام الحسن المثنى ابن الحسن السبط، أنه لما قيل له ذلك - أي: أن خبر: " من كنت مولاه فعلي مولاه " نصُّ في إمامة عليِّ قال: أما والله، لو يعني بذلك الإِمارة والسلطان، لأفصح لهم به؛ فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان أنصحَ للمسلمين، ولقال لهم: " يا أيها الناس، هذا ولي أمري، والقائم عليكم بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا. ما كان من هذا شيء " ، فوالله! لئن كانَ الله ورسولهُ اختارَا عليَّاً لهذا الأمر والقيامِ به للمسلمين من بعده، ثم تَرَكَ علي أمر الله ورسوله أنْ يقومَ به، أو يعذر فيه إلى المسلمين - إنْ كانَ أعظم الناس خطيئةَ لَعَلي؛ إذ ترك أمر الله ورسوله، وحاشاه من ذلك!.
وفي رواية عنه: ولو كان هذا الأمر كما تقول، وأن الله اختار علياً للقيام على الناس؛ لكان أعظم الناس خطيئةً؛ أنْ ترك أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقم به، فقال الرجل: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كنت مولاه " فقال الحسن ما تقدم ذكره. وأخرج الدارقطني عن الإمام أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - أنه لما قدم المدينة سألَ أبا جعفر محمد الباقر عن أبي بكر وعمر، فترحم عليهما، فقال له أبو حنيفة: إنهم يقولون عندنا بالعراق: إنك تتبرأ منهما، فقال: معاذ الله؛ كذبوا ورب الكعبة. ثم ذكر لأبي حنيفة تزويجَ عليً ابنتَه أم كلثوم بنت فاطمة من عمر - رضي الله تعالى عنه - وأنه لو لم يكن لها أهلاً لما زوجه إياها، فقال له أبو حنيفة: لو كتبت إليهم؛ فقال: لا يطيعونني بالكتب. وتزويج علي أم كلثوم لعمر - رضي الله عنه - يقطع ببطلان ما زعمته الرافضة فيه.
قلت: وجه القطع: ما يلزم أن علياً زوج ابنته أم كلثوم من كافرٍ - على زعمهم الفاسد - معلومٍ كفرُه وسببُ كفره؛ فيبطلوا أصلَهم في اعتقاد العصمةِ لواجبها؛ إذ تزويج الكافر بالمسلمة حرام بنص: " لا هُنَ حِل لَهم ولا هُم يحلوُنَ لَهنُ " الممتحنة: 10، وهذه الرواية عن الحسن وأشباههُا من الروايات زوز عندهم وافتراء، وكذب صراح لا شبهة فيه ولا مراء؛ لأنها تَفُت في أعضادهم وتنكث قواهم، وتبت قوتهم وتحل عراهم.(1/407)
ومنها: ما أخرجه الدارقطني، عن عبد الله المحض بن الحسن المتقدم ذكره، لقب بالمحض؛ لأنه أول من جمع ولادةَ الحسن والحسين؛ لأن أمه فاطمة بنت الحسين - رضي الله تعالى عنهم - وكان شيخَ بني هاشم ورئيسهم - : أنه سئل: أتمسح على الخفين؟ فقال: أمسح عليهما؛ قد مسح عمر - رضي الله تعالى عنه - فقال له السائل: إنما أسألك أنتَ، أتمسح عليهما؟ قال: ذلك أعجزُ لك، أخبر عن عمر وتسألني عن رأيي!؟ فعمر خيرٌ مني وملء الأرض من مثلي، فقيل له: هذا تقية؟ فقال: نحن بين القبر والمنبر، اللهم هذا قولي في السر والعلانية، فلا يسمع قولي أحد بعدي. ثم قال: من هذا الذي يزعم أن علياً كان مقهوراً، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأمر، فلم ينفذه.؛ فكفى بهذا إزراء ومنقصة.
ومنها: ما أخرجه الدارقطني، عن ولد عبد الله المحض، وهو السيد محمد الملقب بالنفس الزكية؛ أنه قال - لما سئل عن الشيخين - : لَهُمَا عندي أفضلُ من علي.
ومنها: ما أخرجه، عن محمد الباقر، أنه قال: أجمع بنو فاطمة على أن نقول في الشيخين أحسنَ ما يكون من القول.
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عن جعفر الصادق، عن أبيه محمد الباقر؛ أن رجلاً جاء إلى أبيه زين العابدين علي بن الحسين - رضي الله تعالى عنهم - فقال له: أخبرني عن أبي بكر، فقال: عن الصديق؟ فقال الرجل: وتسميه الصديق؟! فقال له: ثكلتك أمك! وقد سماه صديقاً رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار؛ ومن لم يسمه صديقَاً، فلا صدق الله قولَهُ في الدنيا ولا في الآخرة، فأحب أبا بكر وعمر. ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عن عروة عن عبد الله: سألت أبا جعفر محمداً الباقر، عن حلية السيف؟ فقال: لا بأس بها، قد حلي أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - سيفه، قال: قلت: وتقول: الصديق؟! قال: نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل: الصديق، فلا صدق الله قولَهُ في الدنيا والآخرة. وأخرجه ابن الجوزي في صفة الصفوة وزاد: فوثب وثبةً واستقبل، فقال: نعم الصديق، نعم الصديق.
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عن جعفر الصادق، أنه قال: ما أرجو من شفاعة علي ضيئاً؛ إلا وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله، ولقد ولدني مرتين.
ومنها: ما أخرجه عن زيد بن علي، أنه قال لمن تبرأ منهما: أعلم - والله - أن البراءةَ من الشيخين - البراءةُ من علي؛ فتقدم أو تأخر.
ومنها: ما أخرجه الحافظ عمر بن شبة، أن زيداً هذا قيل له: إن أبا بكر انتزع من فاطمةَ فَدكَ، فقال: إنه كان رحيماً، وكان يكره أن يغير شيئاً تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتته فاطمة - رضي الله تعالى عنها - فقالت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني فدك، فقال: هل لك بينه؟ فشهد لها علي وأم أيمن، فقال لها: فبرجل وامرأة تستحقينها؟! ثم قال زيد: والله، لو رجع الأمرُ فيها إلي لقضيتُ بقضاء أبي بكر، رضي الله تعالى عنه.
ومنها: ما أخرجه عنه - أيضاً - قال: انطلقتِ الخوارج فبرئت ممن دون أبي بكر وعمر، ولم يستطيعوا أن يقولوا فيهما شيئاً، وانطلقتم أنتم فطفرتم - أي: وثبتم - فوق ذلك؛ فبرئتم منهما، فمن بقي؟! فوالله! ما بقي أحد إلا برئتم منه. يخاطب بذلك الرافضة لما قالوا له: ابرأ من الشيخين ونحن نبايعك، فأبى. فَقَالوا: إنا نرفضك. فقال: اذهبوا، فأنتم الرافضة. فمن حينئذ سموا الرافضة، وسميت شيعتهُ بالزيدية.
ومنها: ما أخرجه ابن عساكر، عن سالم بن أبي الجعد، قلت لمحمد ابن الحنفية: هل كان أبو بكر أولَ القوم إسلاماً. قال: لا. قلت: فبم علا أبو بكر وسبق، حتى لا يذكر أحد غير أبي بكر. قال: لأنه كان أفضلَهم إسلاماً حين أسلم، حتى لحق بربه.
ومنها: ما أخرجه الدارقطني، عن سالم بن أبي حفصة - وهو شيعي؛ لكنه ثقة - قال: سألت أبا جعفر محمد بن على وجعفر بن محمد، عن الشيخين؛ فقالا: يا سالم، تولهما وابرأ من عدوهما؛ فإنهما كانا إمامَي هدَى.
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عنه، قال: دخلت على أبي جعفر فقال: وأراه قال ذلك من أجلي - : اللهم، إني أتولى أبا بكر وعمر وأحبهما، اللهم إن كان في نفسي غير هذا، فلا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.(1/408)
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عنه: دخلتُ على جعفر بن محمد، وهو مريض، فقال: اللهم إني أحب أبا بكر وعمر وأتولاهما، اللهم إن كان في نفسي غير هذا، فلا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنها: ما أخرجه عنه - أيضاً - قال: قال لي: يا سالم، أيسب الرجل جَدَهُ؟! أبو بكرٍ جدي، لا نالتني شفاعة محمد إن لم أكن أتولاهما وأبرأ من عدوهما.
ومنها: ما أخرجه عن جعفر الصادق، أنه قيل له: إن فلاناً يزعم أنك تتبرأ من أبي بكر وعمر، فقال: برئ الله من فلان، إني لأرجو أن ينفعني الله بقرابتي من أبي بكر، ولقد مرضت فأوصيت إلى خالي عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، رضي الله تعالى عنهم.
ومنها: ما أخرجه هو والحافظ عمر بن شبة، عن كثير، قلت لأبى جعفر محمد ابن علي: أخبرني، أظَلَمَكم أبو بكر وعمر من حقكم شيئاً؟ فقال: ومُنزلِ القرآنِ على عبده ليكون للعالمين نذيراً، ما ظلمنا من حقنا ما يزن حبة خردل. قال: قلت: أفأتولاهما، جعلني الله فداك؟! قال: نعم يا كثير، تولهما في الدنيا والآخرة. قال: وجعل يصك عنق نفسه، ويقول: ما أصابكَ فبعنقي، ثم قال: برئ الله ورسولهُ من المغيرة بن سعيد وأبي زينب؛ فإنهما كذبا علينا أهلَ البيت.
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عن بسام الصيرفي، قلت لأبي جعفر: ما تقول في أبي بكر وعمر. فقال: والله، إني لأتولاهما وأستغفر لهما، وما أدركت أحداً من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما.
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عن إمام المذهب محمد بن إدريس الشافعي - رضي الله تعالى عنه - عن جعفر بن أبي طالب، قال: وَليَنا أبو بكر خيرُ خليفة، وأرحَمُه لنا وأحنَاهُ علينا. وفي رواية: فما وَليَنا أحد من الناس مثله. وفي أخرى: فما رأينا قط مَنْ كان خيرَاً منه.
ومنها: ما أخرجه - يعني؛ الدارقطني - أيضاً، عن أبي جعفر محمد الباقر، أنه قيل له: إن فلاناً حدثني أن علي بن الحسين قال: " وَنَزَعنَا مَا في صُدُورِهِم مِّن غِلٍّ " الحجر: 147، نزلت في أبي بكر وعمر وعلي، قال: والله فيهم نزلت؛ ففيمن نزلت إلا فيهم؟! قيل: فأي غل هو؟ قال: غل الجاهلية؛ إن بني تيم وبني عدي وبني هاشم، كان بينهم شيء في الجاهلية، فلما أسلم هَؤلاءِ القومُ تحابوا، فأخذتْ أبَا بكر الخاصرةُ، فجعل علي يسخن يده ويكمد بها خاصرةَ أبي بكر، فنزلت هذه الآية فيهم.
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عن على أن هذه الآية نزلت في هذه البطون الثلاثة: تيم، وعدي، وبني هاشم، وقال: منهم أنا وأبو بكر وعمر.
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عن محمد الباقر، أنه قيل له: هل كان أحد من أهل البيت يسب أبا بكر وعمر؟ قال: معاذ الله! بل يتولونهما ويستغفرون لهما ويترحمون عليهما.
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عن أبي جعفر - أيضاً - عن أبيه علي بن الحسين - رضي الله تعالى عنهم - أنه قال لجماعة خاضوا في أبي بكر وعمر ثم في عثمان - : ألا تخبروني، أنتم المهاجرون الأولون: " الذِينَ أُخْرِجُوأ مِن دِياَرِهِم وَأموَالِهِم يبتَغُونَ فَضلاً مِّنَ اللهِ وَرِضوَاناً وَيَنصرون الله وَرَسُولَه أُؤلَئكَ هُمُ الصّاَدِقوُنَ " ؟! الحشر: 18، قالوا: لا. قال: فأنتم: " وَآلذَينَ تَبَوُّءوا الدَّارَ وَالإيمانَ مِن قبلِهم يحبِونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم ولا يجدونَ في صدُورِهم حَاجَةَ مما أُوتوُ وَيُؤثِرونَ عَلى أنفُسِهم... " إلى " المُفلحُونَ " ؟ الحشر: 9، قالوا: لا. قال: أما أنتم فقد برئتم أن تكونوا في أحد هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم منَ: " وَالَذِين جَإءُو مِن بعدهمِ يَقُولونَ رَبًنَا اغْفِر لنا ولإخواننا الذينَ سَبَقُونَا بالإيمانِ " إلى " رَءوف رَحيِم... " الحشر: 10.
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عن فضيل بن مرزوق، سمعت إبراهيم بن الحسن ابن الحسن أخا عبد الله بن الحسن، يقول: والله؛ قد مَرَقَت علينا الرافضة كما مرقت الحرورية عَلَى عَلِيً.
ومنها: ما أخرجه عنه - أيضاً - سمعت الحسن بن الحسن، يقول لرجل من الرافضة: لئن أمكن الله منكم، لنقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولا نقبل منكم توية.(1/409)
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عن محمد بن حاطب، قال: ذكر عثمان عند الحسن والحسين، فقال: هذا أمير المؤمنين - أي: علي - أتاكم الآن يخبركم عنه، إذ جاء علي قال الزهري: ما أدري: أسمعهم يذكرون عثمان، أم سألوه عنه فقال علي - رضي الله تعالى عنه - : عثمان من الذين " اتقَوا وآمَنُوا ثُمَ اتقوأ وأحسَنُوأ والله يُحِبُ المحسنِينَ المائدة: 93.
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عن محمد بن حاطب، من طرق؛ قال: دخلتُ عَلَى علي - رضي الله عنه - فقلت: يا أمير المؤمنين، إني أردت الحجاز، وإن الناس يسألوني، فما تقول في قتل عثمان؟ وكان علي متكئاً فجلس، فقال: يا بن حاطب، والله! إني لأرجو أن أكونَ أنا وهو كما قال تعالى: " وَنَزَعنَا مَا في صُدورِهِم مِن غِلٍ " الحجر: 47، الآية.
ومنها: ما أخرجه الدارقطني - أيضاً - عن سالم بن أبي الجعد، قال: كنت جالساً عند محمد ابن الحنفية فذكروا عثمان، فنهانا محمد وقال: كفوا. فغدونا يوماً آخر، فنلنا منه أكثر مما كان قبل، فقال: ألم أنهكم عن هذا الرجل؟! قال: وابن عباس جالس عنده، فقال: يا بن عباس، أتذكر عشية الجمل وأنا عن يمين علي، وفي يدي الراية، وأنت عن يساره إذ سمع هدة في المربد، فأرسل رسولاً، فجاء الرسول، فقال: هذه عائشة تلعن قتلةَ عثمان في المربد، فرفع علي يديه حتى بلغ بهما وجهه مرتين أو ثلاثاً، وقال: أنا ألعن قتلة عثمان، لعنهم الله في السهل والجبل!. قال: فصدقه ابن عباس. ثم أقبل علينا، فقال: فيّ وفي هذا لَكُم شاهدُ عدل.
وأخرج عن مروان بن الحكم، أنه قال: ما كان أحد أدفعَ عن عثمان من علي؟ قيل له: فما بالكم تسبونه على المنابر؟ قال: إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك.
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عن الحسن بن محمد ابن الحنفية، قال: يا أهل الكوفة، اتقوا الله - عز وجل - ولا تقولوا في أبي بكر وعمر ما ليسا له بأهل.
وأخرج - أيضاً - عن جندب الأسدي، أن محمد بن عبد الله بن الحسن آتاهُ قوم من أهل الكوفة والجزيرة، فسألوه عن أبي بكر وعمر، فالتفت إلي وقال: انظر إِلى أهل بلدك يسألوني؛ لَهُما عندي أفضل من علي!.
وأخرج آدم عن عبد الله بن الحسن، أنه قال: والله! لا يَقبَلُ الله توبةَ عبد تبرأ منهما، وإنهما ليعرضان على قلبي فأدعو الله - عز وجل - لهما أتقرب به إلى الله، عز وجل.
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عن عبد الجبار الهمداني، أن جعفراً الصادقَ أتاهم، وهم يريدون أن يرتحلوا من المدينة، فقال: إنكم - إن شاء الله - من صالحي مصركم، فأبلغوهم عني: من زعم إني إمام مفترَضُ الطاعة، فإني منه بريء؛ ومن زعم إني بريء من أبي بكر وعمر، فأنا منه بريء.
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عنه - رضي الله عنه - أنه قال: إن الخبثاء من أهل العراق يزعمون أنا نقع في أبي بكر وعمر، وهما والداي؛ أي: لأن أمه: أم فروة، ابنةُ القاسم الفقيه ابن محمد بن أبي بكر، وأمها: أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكرة ومن ثم سبق له قوله: ولدني أبو بكر مرتين.
ومنها: ما أخرجه - أيضاً - عن أبي جعفر محمد الباقر، قال: من لم يعرف فضلَ أبي بكر وعمر، فقد جهل بالسنة. قال بعض الأئمة: صدق والله، إنما نشأ من الشيعة والرافضة وغيرهما، ما نشأ من البدع والضلالات؛ من جهلهم بالسنة.
وفي الطيوريات بسنده إلى جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: قال رجل لعلي - رضي الله عنه - : نسمعك تقول في الخطبة: اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين المهديين، فمَن هم؟ فاغرورقت عيناه، فقال: هما حبيبا نبيي، أبو بكر وعمر، إماما الهدى وشيخَا الإسلام، ورَجُلا قريش، المقتدَى بهما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مَنِ اقتدى بهما عُصِم، ومن اتبع آثارهما هُدِيَ الصراطَ المستقيم، ومن تمسك بهما فَهُوَ من حزب الله.(1/410)
قلت: ومنها: ما رأيته في شرح المقاصد للعلامة السعد التفتازاني - رحمه الله - ونصه: نعم.. ما قال المأمون العباسي: وجدت أربعة في أربعة: الزهد في المعتزلة، والكذب في الرافضة، والمروءة في أصحاب الحديث، وحب الرياسة في أصحاب الرأي. ثم قال: أولاد الوَصيً الموسومون بالدراية؛ المعتصمون بالرواية، لم تكن معهم هذه التعصبات والأحقاد؛ ولا هذه البواطن الخبيثة في سوء الاعتقاد، ولم يذكروا عن الصحابة إلا الكمالات؛ والترضي عنهم والترحم عليهم في سائر الحالات، ولم يسلكوا مع رؤساء المذاهب من علماء الإسلام؛ إلا طريق الإجلال والإعظام؛ وها هو الإمام علي الرضي ابن الإمام موسى الكاظم، مع جلالة قدره؛ ونباهة ذكره، وكمال علمه وهداه؛ وورعه وتقاه، قد كتب على ظهر كتاب عهد المأمون له بالخلافة، ما ينبئ عن قبول عهده؛ ووفور شكره وحمده، والتزام ما شرط عليه، فكتب في أثناء سطور العهد تحت قول المأمون: وسميته الرضي: رضي الله تعالى عنك وأرضاك وتحت قوله: وتكون له الإمرة الكبرى بعدي: بل جُعلتُ فداك وفي موضع آخر وصَلَتكَ رَحِم، وجزيت خيزاً قال: وهذا العهد بخطهما موجود إلى الآن؛ في المشهد الرضوي بخراسان؛ وآحادُ الشيعةِ في هذا الزمان لا يسمحون بالترضي عن كبار الصحابة؛ فضلاً عن بني العباس؛ فقد رضوا منهم رأساً برأس.
ومن البين الواضح - فيما أوردنا هذه الروايات في شأنه - ما كتبه أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب: قد جعلتُ هكذا لآل بني كاكلة على كافة بيت مال المسلمين، كل عام مائتي مثقال ذهباً عيناً إبريزاً. كتبه عمر بن الخطاب.
فكتب أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - : للهِ الأمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعذُ ويَومَئِذٍ يفرح المُؤمنونَ بِنَصر الله " الروم: 4،. أنا أول من اتبع أمرَ من أعز الإسلام، ونصر الدين والأحكام، ورسمتُ بمثل ما رسم لآل بني كاكلة في كل عام، مائتي مثقال ذهباً عيناً إبريزاً، واتبعت أثره وجعلت لهم مثل ما رسم عمر؛ إذ وجب علي وعلى جميع المسلمين اتباع ذلك. كتبه علي بن أبي طالب.
وهذا بخطهما موجود الآن في ديار العراق.
فهذه أقاويل الأئمة المعتبرين من أهل البيت، رواها عنهم الأئمة الحفاظ الذين عليهم المعول في معرفة الحديث والآثار، وتمييز صحيحها من سقيمها، بأسانيدهم المتصلة؛ فكيف يسع المتمسكَ بحبل أهل البيت الزاعمَ حبهم، أن يعدل عما قالوه؟ من تعظيم أبي بكر وعمر، واعتقادهم خلافتهما، وما كانا عليه، وقد صرحوا بتكذيب من نقل عنهم خلافه، ومع ذلك ينسب إليهم ما تبرءوا منه ورأوه ذماً في حقهم، حتى قال الإمام زين العابدين بن علي بن الحسين - رضي الله عنهم - يا أيها الناس، أحبونا حب الإسلام، فوالله! ما برح بنا حبكم حتى صار علينا عاراً. وفي رواية: حتى بغضتمونا إلى الناس؛ أي: بسبب ما نسبوه إليهم مما هم براء منه، فلعن الله مَنْ كَذَبَ على هؤلاء الأئمة، ورماهم بالزور والبهتان!.
أفْضَلِيةُ أبي بَكْرِ الصديق
رضي الله عنه:
اعلم: أن الذي أطبق عليه علماء الأمة، واْجمع عليه عظماء الأئمة: أن أفضل هذه الأمة: أبو بكر الصديق، ثم عمر. ثم اختلفوا: فالأكثرون على أن الأفضل: عئمان، ثم علي؛ وهو المشهور عن الإمام مالك، رضي الله تعالى عنه.
وجزم الكوفيون، ومنهم. سفيان الثوري، بتفضيل علي على عثمان.
وقيل بالوقف عند التفاضل بينهما، وهو رواية عن مالك؛ فقد حكى أبو عبد الله المازني عن المدونة أن مالكاً سئل: أي الناس أفضل بعد نبيهم؟ فقال: أبو بكر ثم عمر. ثم قال: أو في ذلك شك؟! فقيل: وعلي وعثمان؟ فقال: ما أدركت أحداً. ممَنْ يُقْتدي به يفضل أحدهما على الآخر.
ومال إلى الوقف إمامُ الحرمين عبد الملك بن أبي محمد الجويني، فقال في كتابه المسمى ب " الإرشاد " ما نصه: لم يقم عندنا دليل قاطع على تفضيل بعض الأئمة على بعض؛ إذ العقل لا يشهد على ذلك، والأخبار الواردة في فضائلهم متعارضة، ولا يمكن تَلَقي التفضيل من مَنعِ إمامةِ المفضولِ، ولكن الغالبَ على الظن: أن أبا بكر أفضل الخلائق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمر أفضلهم بعده، وتتعارض الظنون في عثمان وعلي، انتهى.(1/411)
ونقل الوقفَ ابنُ عبد البر عن جماعة من السلف، ويحيى القطان، وابن معين. وأما حكاية أبي منصور الإجماعَ على أفضلية عثمان عَلَى عَلِي، فمدخولة، وإن نقل ذلك عنه بعضُ الحفاظ؛ لما بيناه من الخلاف.
ثم الذي مال إليه أبو الحسن الأشعري إمام الأشاعرة: أن تفضيلَ أبي بكر على من بعده قطعي؛ وخالفه القاضي أبو بكر الباقلاني، فقال: إنه ظني، وهو الذي اختاره إمام الحرمين في إرشاده وجزم به صاحب المفهم في شرح مسلم، ويؤيده قول ابن عبد البر في الاستيعاب: ذكر عبد الرزاق عن معمر، قال: لو أن رجلاً قال: علي عندي أفضل من أبي بكر وعمر، لم أعنفه؛ إذا ذكر فضل الشيخين وأحبهما وأثنى عليهما بما هما له أهل، فذكرتُ ذلك لوكيع فأعجبه واشتهاه، انتهى.
وليس ملحظُ عدمِ تعنيفهِ قائل ذلك، إلا أن التفضيلَ المذكورَ ظني لا قطعي.
فإن قلت: قد نقل ابن عبد البر أن السلف اختلفوا في تفضيل أبي بكر على عَلِي فقد روي عن سلمان، وأبي ذر، والمقداد بن عمرو، وخباب بن الأرت، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن أرقم، وعمار بن ياسر - أن علياً أول من أسلم، وفضله هؤلاء على غيره؛ فكيف يصح الإجماع مع خلاف هؤلاء، وهم من أعيان الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين؟!.
قيل - في جواب ذلك - : أما عن الأول، وهو قوله: إن السلف اختلفوا... - فبأن الأئمة إنما أعرضوا عن هذه المقالة - يعنى قوله: اختلفوا لشذوذها؛ ذهاباً إلى أن شذوذ المخالف لا يقدح فيه، أو رأوا أنها حادثة بعد انعقاد الإجماع؛ فكانت تلك المقالةُ في حيز الطرح والرد.
وأما عن الثاني: فلا يقتضي من تفضيلهم علياً، أنهم قائلون بأفضليته على أبي بكر مطلقاً؟ بل إما من حيث تقدمه عليه إسلاماً؛ بناء على القول بذلك، أو مرادهم بتفضيل علي عَلَى غيره: من عدا الشيخين؛ لقيام الأدلة الصريحة الصحيحة على أفضليتهما على من عداهما.
فإن قلت؛ ما مستند الإجماع على أفضلية أبي بكر عَلَى علي؟ فَان كانت من أدلة الكتاب أو السنة، فقد قال الإمام أحمد بن حنبل - وناهيك به علماً وزهداً وورعاً وديناً! - : لم يرد في حق أحدٍ من الآيات والأحاديث، ما ورد في حق علي - رضي الله تعالى عنه - وإن كانت من غيرهما من الأشياء التي يستحق بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل، فقد قال الإمام أبو الحسن علي بن الحسين بن على المسعودي؛ مبيناً لذلك؛ بقوله: الأشياء التي يستحق بها أصحاب رسول الله في الفضل هي: السبق إلى الإيمان، والهجرة، والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والقربى منه، والقناعة، وبذل النفس له، والعلم بالكتاب والتنزيل، والجهاد في سبيل الله، والورع، والزهد، والقضاء، والحلم، والفقه، والعلم؛ وكل ذلك فلعلي منه النصيب الأكبر والحظ الأوفر، إلى ما انفرد به من قوله: " أنت أخي " ، وهو صلى الله عليه وسلم لا ضد له ولا ند، وقوله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " وقوله: " من كنت مولاه فعلي مولاه " وقوله - في حديث الطائر: " اللهم أدخل إلي أحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر " فدخل علي - رضي الله تعالى عنه - فهذا وغيره من فضائله وما اشتمل عليه من الخصال مما تفرق في غيره.
قلت: قد صرحوا بأن الإجماع حجة على كل أحد، وإن لم يعرف مستنده؛ لأن الله عصم هذه الأمة من أن تجتمع على ضلالة؛ ويحل على ذلك؛ بل يصرح به قولهُ تعالى: وَمَن يشاقِقِ الرَسُولَ مِن بَعدِ مَا تَبَين لَهُ الهُدَى وَيَتبع غيرَ سَبِيلِ المُؤمنِينَ نوله مَا تَوَلىَ وَنُصلِهِ جَنهم وسَاءَت مَصِيراً " النساء: 115.
على أنا نقول: كثرة ورود الآيات والأحاديث لا يستلزم أفضليةَ من وردت في حقه، على من ورد دونها في حقه؛ إذ قد تكون الآية الواحدة والحديث الواحد يدلان على مجامعِ فضائلَ ومزايا مناقبَ، لا تدل عليها آيات كثيرة وأحاديث كذلك؛ فلا شاهد لكم في قول الإمام أحمد، - رضي الله تعالى عنه - وحديث: " ما فضلكم أبو بكر بصلاة ولا ولا إنما فضلكم بشيء وقر في صدره " وأمثال هذا الحديث، يرد تنميقاتِ المسعودي وتصنيفاته. والحق: أن في كون الإجماع حجةً قطعيةً، خلافاً.
فالذى عليه الأكثرون: أنه حجة قطعية مطلقاً؛ فيقدم على الآحاد كلها، ولا يعارضه دليلٌ أصلا، ويكفر أو يبدعُ ويضلِّل مخالفُه.
وقال الإمام الرازي، والآمدي: إنه ظني مطلقاً.(1/412)
والحق في ذلك التفصيل: فما اتفق عليه المعتبرون حجة قطعية، وما اختلفوا فيه: كالإجماع السكوتي، والإجماع الذي ندر مخالفه، فهو ظني. وقد علمت - بما قررته لك - أن لهذا الإجماع مخالفاً نادراً، وهم الجماعة المذكورون: سلمان، ومن بعده، فهو وإن لم يعتد به في الإجماع؛ لكنه يورثه انحطاطاً عن الإجماع الذي لا مخالف له؛ فالأول ظني وهذا قطعي، وكان الأشعري من الأكثرين القائلين بأنه قطعي مطلقاً، كما تقدم ذلك عنه.
ومما يؤيد أنه ظني: أن المجمعينَ أنفسهم لم يقطعوا بالأفضلية المذكورة، وإنما ظنوها فقط، كما هو المفهوم من عباراتهم وإشاراتهم؛ وسبب ذلك: أن المسألة اجتهادية، وقد وردت في أبي بكر وعلي نصوص ظاهرة في تفضيل كل، وهي لا تفيد القطع؛ لأن غالبها في المحلين آحادْ، والآحاد ظنية الدلالة، فكيف تفيد القطع؟! وليس الاختصاصُ بكثرةِ أسباب الثواب، موجباً الزيادةَ المستلزمةَ للأفضلية: قطعاً، بل ظناً؛ لأنه تفضُّلٌ من الله تعالى.
وثبوتُ الإمامة لأبي بكر وحقيتها - وإن كان قطعيا؛ للإجماع عليها - لا يفيد القطع بأفضليته على علي، بل غايته الظن، كيف ولا قاطع على بطلان إمامة المفضولِ مع وجود الفاضل؟! بل صحتها هو مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - لكننا وجدنا السلف فضلوهما على من عداهما، وحسن ظننا بهم قاضٍ - بأنهم لو لم يطلعوا على دليل في ذلك، لما أطبقوا عليه؛ فلزمنا اتباعهم فيه ظناً، وتفويض ما هو الحق فيه يقيناً إلى الله تعالى. بل وجدنا أنه ورد عن على نفسه، أن أبا بكر أفضل الأمة.
قال العلامة الذهبي: وقد تواتر عنه ذلك: في خلافته، وكرسي مملكته، وبين الجم الغفير، ثم بسط الأسانيد الصحيحة في ذلك. قال: ورواه عن عليّ نيف وثمانون نفساً، وعَددَ منهم جماعة، ثم قال: فقبح الله الرافضة ما أجهلهم!.
وأخرج الدارقطني عنه - رضي الله تعالى عنه - قال: لا أجد أحداً فضلني على أبي بكر وعمرة إلا حددته حدَّ المفتري.
وصح عن مالك، عن جعفر الصادق، عن أبيه الباقرة أن علياً وقف على عمر بن الخطاب، وهو مسجى بعد موته، فقال: ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء، أحداً أحب إلي أن ألقى الله بصحيفتِه، مِنْ هذا المسجى!، ثم قال: صلى الله عليك يا عمر، ودعا له.
وأخرج الدارقطني، أن أبا جحيفة كان يرى أن علياً أفضل الأمة، فسمع أقواماً يخالفونه، فحزن حزناً شديداً، فقال له علي - بعد أن أخذ بيده - : ما أحزنك، يا أبا جحيفة؟ فذكر له الخبر، فقال له: إلا أخبرك بخير الأمة؟! خيرها: أبو بكر وعمر. قال أبو جحيفة: فأعطيتُ الله عهداً ألا أكتم هذا الحديثَ بعد أن شافهني به علي ما بقيت.
وقول الشيعة والرافضة: إنما ذكر ذلك عَلِيٌّ تِقَيَّة، كذبٌ وافتراء على الله؛ إذ كيف يَتَوهم ذلك مَنْ له أدنى عقل أو فهم، مع ذكره له في زمن خلافته على منبر الكوفة، وهو لم يدخلها إلا بعد فراغه من حرب أهل البصرة، وذلك أقوى ما كان أمراً وأنفذ أحكاماً، وذلك بعد مدة مديدة من موت أبي بكر وعمر؛ فكيف يتعقل وقوع مثل هذه التقية المشئومة عليهم، التي أفسدوا بها غالب عقائد أهل البيت النبوي؛ لإظهارهم لهم كمالَ المحبة والتعظيم، فمالوا إلى تقليدهم، حتى قال بعضهم: من أعز الأشياء في الدنيا شريف سني. فلقد عظمت مصيبة أهل البيت بهؤلاء الفَسَدَة الأراذل، وما أحسن ما أبطل به الباقر هذه التقية المشئومة لما سئل عن الشيخين؟ فقال: إني أتولاهما، فقيل له: إنهم يزعمون أن ذلك منك تقية؟ فقال: إنما نخاف الأحياء، لا نخاف الأموات، فعل الله بهشام بن عبد الملك كذا وكذا، أخرجه الدار قطني وغيره.(1/413)
فانظر ما أبين هذا الاحتجاج وأوضحه؛ فقد صرح لهم ببطلان تلك التقية المشئومة عليهم، واستدل لهم على ذلك بأن اتقاء الشيخين بعد موتهما لا وجه له؛ إذ لا سطوةَ لهما حينئذ، ثم بين لهم - بدعائه على هشام بن عبد الملك، الذي هو والي زمنه، وشوكتُه قائمة - أنه إذ لم يتقه، مع أنه يُخاًف ويُخشَى؛ لسطوته وملكه وقوته وقهره - فكيف مع ذلك يتقي الأمواتَ الذين لا شوكة لهم ولا سطوة؟! وإذا كان هذا حالُ الباقر، فما ظنك بحال علي الذي هو أعظم إقداماً وشجاعة، وشدةَ بأس، وكثرة عَدَدٍ وعُدَدٍ، وأنه لا يخاف في الله لومة لائم، مع ذلك فقد صح؛ بل تواتر عنه، ما مر من مدح الشيخين والثناء عليهما، وأنهما أفضل الأمة، ومر - أيضاً - الأثرُ الصحيحُ عن مالك عن جعفر الصادق عن أبيه الباقر، أن علياً وقف على عمر، وهو مسجى بثوبه، فقال ما تقدم؛ فما أحوج علياً أن يقول ذلك تقية!، وما أحوج الباقر أن يرويه لابنه الصادق تقية؛ وما أحوج الصادق أن يرويه لمالك تقية!! فكيف يَسَعُ العاقلَ أن يترك مثلَ هذا الإسناد الصحيح، ويحمله على التقية المنقوضِ أساسُها، المنكوث أمراسُها؟! وما أحسن ما سلكه بعض الشيعة المنصفين كعبد الرزاق؛ فإنه قال: أفضل الشيخين بتفضيل علي إياهما على نفسه، وإلا لما فضلتهما عليه، كفى بي زوراً أن أحبه ثم أخالفه!.
ومما يكذبهم في دعوى التقية المشئومة عليهم: ما أخرجه الدارقطني، أن أبا سفيان بن حرب قال لعلي بأعلى صوته - لما بايع الناس أبا بكر - : غلبكم على هذا الأمر أذل بيت في قريش - يعني: قبيلة أبي بكر، وهي تيم، فإنها أضعف قبيلة في قريش؛ وإنما عزت بكون أبي بكر وطلحة منها - أما والله لأملأنها عليه خيلاً ورَجِلاً إن شئت. فقال له علي: لا يا عدو الإسلام وأهله، فما ضر ذلك الإسلامَ وأهلَهُ.
إذا تقرر هذا فالواجب على كل مؤمن بالله ورسوله عموماً، وعلى أهل البيت النبوي خصوصاً - : اتباع سلفهم في ذلك، والإعراض عما يرشد إليه الروافض؛ من قبيح الجهل والعناد، والخطأ الذي يكون لهم أوخمُ زاد يوم المعاد، فالحذرَ الحذرَ! مما يُلقونه؛ من أن مَنِ اعتقد تفضيل أبي بكر على علي - رضي الله تعالى عنهما - كان كافراً؛ لأن مرادهم بذلك: أن يقرروا - عند من يلقون إليه - تكفيرَ الأمة من الصحابة والتابعين، ومَن بعدهم من أئمة الدين وعلماء الشريعة وعوامهم، وأنه لا مؤمنَ غيرهم. وهذا - والعياذ بالله! - يؤدي إلى هدم قواعد الشريعة من أصلها، وإلغاء العمل بكتب السنة، وبما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أهل بيته وصحابته؛ إذِ الرواي لجميع آثاره وأخباره بأسرها، بل والناقلُ للقرآن في كل عصر من عصر النبي صلى الله عليه وسلم وهلم جرا الصحابةُ والتابعون وعلماء الدين؛ إذ ليس لنحوِ الرافضي رواية، ولا دراية يدورن بها فروع الشريعة، وإنما غاية أمرهم: أن يقع في خلال بعض الأسانيد من هو رافضي، والكلام في قبوله معروف عند أئمة الأثر ونقاد الحديث؛ فإذا قدحوا فيهم قدحوا في الكتاب والسنة، وأبطلوا الشريعة رأساً، وصار الأمر كما في الجاهلية الجهلاء؛ فلعنة الله وأليمُ عقابِه وعظيمُ نقمته، عَلَى من يفتري على الله وعلى نبيه، بما يؤدي إلى إبطال ملته وهدم شريعته!.
وكيف يسع العاقل أن يعتقد كفرَ السواد الأعظم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، من غير موجب للتكفير، مع إقرارهم بالشهادتين وقبولهم لشريعة نبيهم؟! وهب أن علياً أفضلُ من أبي بكر في نفس الأمر، أليس القائلون بأفضلية أبي بكر معذورين؛ لأنهم إنما قالوا ذلك؛ لأدلة صرحت به، وهم مجتهدون؛ والمجتهد إذا أخطأ فله أجر؛ فكيف يقال - حينئذ - بالتكفير؟! وهو لا يكون إلا بإنكار مجمعٍ عليه معلوم من الدين بالضرورة عناداً؛ كالصوم والصلاة. وأما ما يحتاج إلى نظر واستدلال، فلا كفر بإنكاره.
وانظر إلى إنصافنا معشر - أهل السنة - فإننا لم نكفر القائلين بأفضلية علي عَلَى أبي بكر، وإن كان ذلك عندنا خلافَ ما أجمعنا عليه في كل عصر منا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل أقمنا لهم العذر المانع من التكفير؛ ومَن كفرهم؛ فلأمور أخر من قبائحهم انضمت إلى ذلك.(1/414)
فالحذر الحذر! من اعتقاد كفر من قلبه مملوء بالإيمان بغير مقتضٍ؛ تقليداً للجهال الضلال الغلاة الغواة، وتأملْ ما صح وثبت عن علي وأهل بيته؛ من تصريحهم بتفضيل الشيخين عَلَى علي؟ خلافاً لهؤلاء الطائفة الحمقاء، وإن حمل علي التقية الباطلة المشئومة عليهم، فلا أقل من أن يكون عذراً لأهل السنهَ في اتباعهم لعليّ وأهل بيته فيما نقل عنهم؛ فإنهم لم يكشفوا عن قلب علي حتى يعلموا أن ذلك منه تقية؛ بل قرائن أحوالِه، وما كان عليه من الشجاعة والإقدام، وأنه لا يهاب أحداً، ولا يخشى في الله لومة لائم؛ إذ قد استفاض عن علي - رضي الله تعالى عنه - أنه كان لا يبالي بأحدٍ حتى قيل للشافعي - رضي الله تعالى عنه - ما نفر الناس عن علي إلا أنه كان لا يبالي بأحد. فقال الإمام الشافعي - رضي الله تعالى عنه - : إنه كان زاهداً، والزاهد لا يبالي بالدنيا وأهلها؛ وكان عالماً، والعالمُ لا يبالي بأحد؛ شجاعاً، والشجاع لا يبالي بأحد؛ وشريفاً، والشريف لا يبالي بأحد. أخرجه البيهقي - : وهي أدلة قاطعة بعدم التقية؛ فلا أقل أن يجعلوا ذلك منه شبهة لأهل السنة مانعةً من اعتقادهم كفرَهم؛ سبحانك هذا بهتان عظيم!.(1/415)
قلت: هاهنا واقعة عجيبة، وآية باهرة، وكائنة غريبة، وكرامة ظاهرة؛ ذكرها الشيخ الأستاذ الإمام العارف، قدوة المحققين، أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان الأنصاري، في كتابه المسمى مصباح الظلام في المستغيث بسيد الأنام في اليقظة والمنام قال: أخبرنا الشيخان الإمامان: الحافظ زكي الدين، أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، إذناً؛ ورشيد الدين أبو الحسين يحيى بن علي القرشي، سماعاً؛ قالا: أنبأنا القاضي الفقيه المكين، جمال الدين، أبو طالب أحمد ابن القاضي المكين، أبي الفضل عبد الله بن أبي علي الحسين بن حديد الكناني، سماعاً؛ أنبأنا الحافظ، أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السلفي، أنبأنا الشيخ أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار، بانتحالي عليه؛ أنبأنا عبد العزيز؛ أنبأنا أبو بكر المفيد، حدثنا أحمد بن عبد الأعلى الأجيادي، حدثني صالح بن عبد الله القرشي، حدثني عبيد الله بن سليمان، عن شهر بن حوشب، قال: كنت أخرج إلى الجبانة. وأصلي على الجنائز، إلى أن أيأس من مجيء الجنائز فأدخل، فخرجت ذاتَ يوم فلقيتُ رجلين قد تواثبا، وعليهما ثياب صوف، وقد أدمى أحدهما صاحبه، فدخلت لأفرق بينهما، وقلت: أرى ثيابكما ثيابَ الأخيار، وفعالكما فعال الأشرار، فقال لي الذي أدمى صاحبه: دعني ما تدري ما يقول؟ قلت: ما يقول؟ قال: يقول: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وإن أبا بكر وعمر كفرا بعد إسلامهما، فارتدا عن الإسلام وقاتلا المسلمين، ويكذبُ القدر، ويرى رأىَ الخوارج، ويبتدع في الدين. فقلت له: هكذا تقول؟! قال: نعم. فقلت لصاحبه: دعه، فإن لك وله رَباً بالمرصاد. فقال: لا أدعه، أو يحكمَ الله بيني وبينه. فقلت: بماذا. وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي. فنظر إلى أتون بحذائه، وقد أوقده صاحبه، ويريد أن يطبق عليه، فقال لي: ندخل جميعاً إلى هذا الأتون؛ فمن كان منا على حق نجا، ومن كان على باطل احترق. فقلت للآخر: أتفعل ذلك؟ قال: نعم. فتقدما إلى صاحب الأتون متلببين، وقالا: لا تطبق الباب فإنا نريد أن ندخله، فمنعهما. فقالا: لابد لنا أن ندخله. فقال: ما شأنكما؟ وما الذي حملكما على هذا؟ فحدثاه بالقصة، فناشدهما الله ألا يفعلا، فأبيا، فقال السني للبدعي: أتتقدم أو أتقدم؟ فقال له البدعي: بل تقدم أنت. فتقدم السني فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وقال: اللهم! إنك تعلم أن ديني واعتقادي أن خير الناس بعد رسولك أبو بكر الصديق، الذي نصر رسولك وواساه بنفسه وماله، حيث كان أول من أسلم، ووازره على أمره، وآمن به وبما جاء به؛ حيث ليس أحد غيره " ثاني اثنينِ إِذ هُما فِي الغارِ " التوبة: 40، فذكر من فضائله - ثم عمر بن الخطاب الذي أعززت به الإسلام، وفرقت به بين الحق والباطل، ثم عثمان بن عفان زوج ابنتي رسولك صلى الله عليه وسلم، الذي جهز جيش العسرة، وقام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم في نوائبه - وذكر فضائله - ثم علي بن أبي طالب ابن عم رسولك، وزوج ابنته فاطمة الزهراء أعز الخلق، وأبو ولديه الحسن والحسين، وكاشف الكروب عن وجه رسولك - وذكر فضائله - وإني أؤمن بالقدر خيره وشره، وبما آمن به رسولك، وما نهى عنه، ولا أرى رأي الخوارج، وأؤمن بالبعث والنشور، وأنك الحي المبين، ليس كمثلك شيء، وإنك تبعث من في القبور، وأتبع ولا أبتدع. ثم قال: اللهم هذا ديني واعتقادي، فإن كنتُ على الحق فبرد عليّ هذه النار كما بردتها على إبراهيم، واصرف عني حرها ولهبها وأذاها بحولك وقوتك؛ فإني إنما أفعل هذا غيرةَ لدينك. وما جاء به رسولك، وأؤمن بالله. ثم دخل الأتون. وتقدم البدعي فحمد الله مثل حمده، ثم قال: الذي أدين به أن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، ثم ذكر من فضائله مثل ما ذكر السني، ولا أعرف لأحد غيره حقاً؛ لأن أبا بكر كفر بعد إسلامه وقاتل المسلمين وارتد عن الدين، وكذلك عمر. ثم ذكر ما يذهب إليه من البدعة ويكذب به ثم قال: اللهم هذا ديني واعتقادي. وقال كما قال صاحبه ودخل، فأطبق صاحب الأتون عليهما، وانصرف على أنهما محترقان قد جنيا على أنفسهما، وبقيتُ وحدي لا أريد الانصرافَ؛ حتى يتبين لي أمرهما، فلم أزل أنتقل من فيء إلى فيء، وعيني إلى الأتون حتى زالت الشمس، فسقط الطابق وَخَرَجَ علي السني(1/416)
وجبينه يعرق، فقمت إليه وقبلت وجهه، وقلت له: كيف كنت؟! فقال: بخير، أدخلت إلى مجلس مفروش بأنواع الفرش، وفيه أنواع الرياحين والخدم، فنومت على الفراش إلى الساعة، ثم جاءني جاءِ فقال: قم فقد حان لك أن تخرج من هاهنا، وقت الصلاة قم فصل، فخرجت. قال: فسألته عن غريمه، فقال: ما أعلم حاله. ووجهنا خلف صاحب الأتون، فجاء ومعه حديدة، فلم يزل يطلبه بها، حتى وقعت في موضع من بدنه فجره، وأخرجه وقد صار حممة إلا جبهته، فإنها بلونها الأصلي عليها سطران مكتوبان يقرؤهما الصادر والوارد: هذا عبد طغى وبغى، وكفر بأبي بكر وعمر، آيس من رحمة الله فأغلق الناس دكاكينهم ثلاثة أيام لم يفتحوها؛ يتناوبونه فينظرون إليه، ويسمعون من السني حديثه، وتاب من كان يشتم أبا بكر وعمر هنالك، وكانوا نحو أربعة آلاف نفس، انتهى. اللهم ارض عنهم وعنا بهم، ولا تجعل لأحد منهم في عنقنا ظلامة بجودك وكرمك!!.بينه يعرق، فقمت إليه وقبلت وجهه، وقلت له: كيف كنت؟! فقال: بخير، أدخلت إلى مجلس مفروش بأنواع الفرش، وفيه أنواع الرياحين والخدم، فنومت على الفراش إلى الساعة، ثم جاءني جاءِ فقال: قم فقد حان لك أن تخرج من هاهنا، وقت الصلاة قم فصل، فخرجت. قال: فسألته عن غريمه، فقال: ما أعلم حاله. ووجهنا خلف صاحب الأتون، فجاء ومعه حديدة، فلم يزل يطلبه بها، حتى وقعت في موضع من بدنه فجره، وأخرجه وقد صار حممة إلا جبهته، فإنها بلونها الأصلي عليها سطران مكتوبان يقرؤهما الصادر والوارد: هذا عبد طغى وبغى، وكفر بأبي بكر وعمر، آيس من رحمة الله فأغلق الناس دكاكينهم ثلاثة أيام لم يفتحوها؛ يتناوبونه فينظرون إليه، ويسمعون من السني حديثه، وتاب من كان يشتم أبا بكر وعمر هنالك، وكانوا نحو أربعة آلاف نفس، انتهى. اللهم ارض عنهم وعنا بهم، ولا تجعل لأحد منهم في عنقنا ظلامة بجودك وكرمك!!.
تنبيه: حكى الخطابي عن بعض مشايخه أنه كان يقول: أبو بكر خير من علي، وعلي أفضل من أبي بكر. فقال بعض العلماء: إن هذا تهافت من القول؛ لأنه لا معنى للخيرية إلا الأفضلية، فإن أريد أن خيرية أبي بكر من وجه وأفضلية علي من وجه لم يكن ذلك من محل الخلاف، ولم يكن الأمر في ذلك خاصاً بأبي بكر وعلي بل أبو بكر وأبو عبيدة مثلاً يقال فيهما ذلك، فإن الأمانة التي في أبي عبيدة خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بها بقوله: " أبو عبيدة أمين هذه الأمة " ولم يخص أبا بكر بمثلها، فيكون أبو عبيدة خيراً من أبي بكر فيها فحسب ومن جهتها فقط لما تقرر في الأصول أن المفضول قد توجد فيه مزايا لا توجد في الفاضل، فلا يكون وجودها مقتضياً لتفضيله على الفاضل عليه بل ولا مساراته، فإن أراد شيخ الخطابي أن أبا بكر أفضل مطلقاً إلا أن علياً وجدت فيه مزايا لم توجد في أبي بكر مثل قوله - عليه الصلاة والسلام - " أقضاكم علي " فكلامه صحيح، وإلا فكلامه في غاية التهافت والسقوط، خلافاً لمن انتصر له ووجهه بما لا يجدي بل لا يفهم. وقد سئل شيخ الإسلام الإمام أبو زرعة العراقي عمن اعتقدِ في الخلفاء الأربعة على الترتيب المعلوم ولكنه أحب أحدهم أكثر هل يأثم أم لا؟ فأجاب بأن المحبة قد تكون لأمر ديني وقد تكون لأمر دنيوي فالمحبة الدينية لازمة للأفضلية فمن كان أفضل كانت محبتنا الدينية له أكثر، فمتى اعتقدنا في واحد منهم أنه أفضل ثم أحببنا غيره من جهة الدين أكثر كان ذلك تناقضاً. نعم إن أحببنا غير الأفضل أكثر من محبة الأفضل لأمر دنيوي كقرابة أو إحسان أو نحوهما فلا تناقض في ذلك ولا امتناع فلا إثم، فمن اعترف بأن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، لكنه أحب علياً أكثر من أبي بكر مثلاً، فإن كان يدعي محبها أنها المحبة الدينية فلا معنى لذلك إذ المحبة الدينية اعتقادها لازم لاعتقاد الأفضلية كما تقدم فهذا المحب لعلي أكثر محبة دينية على دعواه مع اعتقاده أفضلية أبي بكر عليه لم يعتقد أفضلية أبي بكر حقيقة وإنما هو معترف بها بلسانه فقط وأما بالقلب فلا إذ هو مفضل لعلي بقلبه لزوماً لكونه أحبه محبة دينية زائدة على محبة أبي بكر وهذا لا يجوز. أما إذا كانت محبة المحب أكثر محبة دنيوية لكونه من ذرية علي أو لإحسان من علي أو من بنيه إليه أو لغير ذلك من المعاني فلا امتناع في ذلك. انتهى.(1/417)
قلت: لا يظهر صحة دعوى التلازم فعلى مدعيها بيان الملازمة ليعتمد فيعتقد ودونه خرط القتاد. وأما قوله وهذا لا يجوز أقول فيه هذا لا يجوز، إذ قد صرح علماؤنا بأن من اعترف للشيخين بحقهما وفضلهما ثم أحب علياً أكثر لاتصال نسبه به صلى الله عليه وسلم وقربه منه القرب الذي لا يشابه وكشف الكروب عن وجهه في المضايق ونحوهما كان ذلك الحب قربة إلى الله مثاباً صاحبه مأجوراً لا آثماً مأزوراً ولو لم يكن له بعلي نسبة اتصال ولا إحسان ولا نحوهما مما جعله مسوغاً لجواز ذلك، هذا هو مذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة فالعجب من هذا المجيب فيما أجاب، وأعجب منه إقرار العلامة ابن حجر عليه.
فى الكتاب في تاريخ ابن الجوزي المسمى بالمنتظم في أخبار الأمم والعرب والعجم قصيدة للإمام العلامة يحيى بن سلامة بن الحسين بن محمد أبو الفضل الحصنكي - نسبة إلى حصن كيفا - أحببت إيراد شيء منها قال: من الرجز:
تقاسمُوا يومَ الوداعِ كبدي ... فَليْسَ لي منذ تَوَلَّوْا كَبِدُ
على الجفونِ رَحَلُوا وفي الحشا ... ءِ قَيَّلوا وماءَ عيني وَرَدُوا
وأدمُعي مسفوحة وَكبِدِي ... مقروحةٌ وغلتي ما تبردُ
وصَبْوَتِي دائَمة ومُقْلَتي ... داميَة ونَوْمهُا مشردُ
تيمني منهُم غزال أغيدُ ... يا حَبذا ذاكَ الغزالُ الأغيَدُ
حُسامُهُ مجرد وصرحُهُ ... ممرد وخدُهُ مورَّدُ
وصُدْغُهُ فوْقَ احمرارِ خَدهِ ... مبلبل مُعَقرب مجعَدُ
كأنما نكْهتُهُ وريقُهُ ... مِسْكٌ وخَمْر والثنايا بَرَدُ
يقعدُهُ عند القيامِ ردفُهُ ... وفي الحشا مِنْهُ المقيمُ المقعدُ
له قوائم كقضيبِ بانةٍ ... يهتزُّ قصداً ليس فِيهِ أودُ
قال: وهي طويلة جداً. ثم خرج من التغزل إلى مدح أهل البيت، وذكر الأئمة الاثني عشر - رحمهم الله تعالى - فقال:
يا سائِلي عَنْ حُب أهل البيتِ هَلْ ... أقر إيماناً به أم أجْحَدُ
هيهاتَ ممزوج بلحْمي ودمِي ... حُبهُمُ وهْوَ الهدَى والرشَدُ
حيدَرَة والحَسَنانِ بعدَهُ ... ثم علي وابنُهُ محمدُ
وجعفَرُ الصادقُ وابْنُ جعفرٍ ... موسَى ويتلُوه علي السَّيد
أعني الرضا ثم ابنُهُ محمَدٌ ... ثم علي وابنهُ المسَددُ
والحسن الثاني ويتلُو تلوهُ ... محمَدُ بن الحسَنِ المنتقدُ
فإنهُمْ أئمتي وسادَتِي ... وإن لحاني معشَر وقيدُوا
أئِمةٌ أكرِم بهم أئمةً ... أسماؤُهُمْ مسرودَةٌ تَطَرِدُ
هم حُججَ الله على عبادهِ ... وهُمْ إليه منهجٌ ومقصدُ
قوم لهم فضلْ ومجد باذخ ... يعرفُهُ المشركُ والموحدُ
قومٌ لهم في كل أرضٍ مشهد ... لا بَل لهم في كلِّ قَلْب مشهَدُ
قومٌ مِنى والمشعرانِ لَهُمُ ... والمروتانِ لهم والمسجِدُ
قوم لهم مكَّةُ والأبطَحُ وال ... خيفُ وجَمْعٌ والبقيعُ الغرقَد
ثم ذكر مقتل الحسين إلى أن قال:
ولستُ أهواكُمْ ببغْضِ غَيركم ... إني إذن أشْقى بكُمْ لا أسعَد
فلا يظن رافضي أنني ... وافَقتُهُ أو خارجي مفسدُ
محمد والخلفاءُ بعدَهُ ... أفضَلُ خَلقِ الله فيما أجدُ
هُم أسَسُوا قواعد الدين لنا ... وهُم بَنَوا أركانَهُ وشَيدوا
ومَن يخُن أحمَدَ في أصحابِهِ ... فخصمُة يومَ المعادِ أحمَدُ
هذا اعتقادي فالزمُوُه تفلحُوا ... هذا طريقي فاسلُكُوهُ تَهْتَدُوا
والشافِعِي مذهبي مذهبُهُ ... لأنه في قَوْلِهِ مؤيدُ
إني بإذْنِ الله ناجِ سابقٌ ... إذا أتَى الظالمُ والمفَندُّ(1/418)
نسب أبي بكر الصديق
رضي الله تعالى عنه:
هو أبو بكر الصديق ابن أبي قُحافة، عثمان بن عمرو بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة ابن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، القرشي التيمي، يلتقي معه - عليه الصلاة والسلام - في مرة، وبينه وبين مرة كما بينه - عليه الصلاة والسلام - وبين مرة؛ ستة آباء؛ فهذه موافقة اتفقت بينهما في النسب؛ كما اتفقت في العمر، على أصح الأقوال.
أمه: أم الخير - لفظاً ومعنى! - سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم، بنت عم أبيه؛ هكذا ذكره جمهور أهل النسب، ومن شذ فقال: بنت صخر بن عامر بن عمر بن كعب، فجعلها ابنةَ عمه - فليس بصحيح.
أسلم أبوه أبو قحافة، عثمان بن عمرو بن كعب، يوم الفتح، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاش مدة حياته صلى الله عليه وسلم ومدة خلافة ولده، ومات في خلافة عمر، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله تعالى عنهما - قالت: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى، حال دخوله مكة عام الفتح، قال أبو قحافة لابنةِ له من أصغر ولده: أي بنية، أظهري بي على أبي قبيس. قالت: والحال أنه قد كف بصره، قالت: فأشرفت به عليه، فقال: أي بُنية، ماذا ترين. قالت: أرى سواداً مجتمعاً. قال: تلك الخيل. قالت: وأرى رجلاً يسعى بين يدي السواد، مقبلاً ومدبراً. قال: أي بنية، ذاك الوازع الذي يؤم الخيل ويتقدم إليها. ثم قالت: قد - والله! - انتشر بالوادي. فقال: والله لقد دفعت الخيل، فأسرعي بي إلى بيتي، فانحطت به وتلقته الخيل قبل أن يصل إلى بيته - وفي عنق الجارية طوق من فضة، فتلقاها رجل فاقتلعه من عنقها.
قالت: فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ودخل، والمسجد، أتاه أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هلا تركت الشيخَ في بيته؛ حتى أكون أنا آتيه؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحق أن يأتي إليك من أن تأتي إليه. قال فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: " أسلم " فأسلم. وكان رأسه كالثغامة، فقال - عليه الصلاة والسلام: " غيروا هذا عن شعره " . ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته فقال: أنشد الله والإسلامَ طوق أختي! " فقال: يا أختي احتسبي طوقك، فوالله إن الأمانة اليومَ في الناس لقليل. أخرجه أحمد، وأبو حاتم، وابن إسحاق.
وفى رواية بعد قوله - عليه الصلاة والسلام - : " هلا تركت الشيخ حتى أكون أنا آتيه " : فقال أبو بكر: أردت يا رسول الله، أن يأجره الله - عز وجل - فوالذي بعثك بالحق نبياً، لأنا كنت أشد فرحاً بإسلام أبي طالب، مني بإسلام أبي؛ ألتمس بذلك قرة عينك، قال عليه - الصلاة والسلام - : " صدقت " .
وقوله: " الوازع " : هو الذي يتقدم الصف، فيصلحه، ويقدم، ويؤخر في الجيش، ومنه قول الحسن: " لابد للناس من وازع " ، أي سلطان يكف بعضهم عن بعض.
والثغامة: واحدة الثغام، نبت أبيض يشبه الشيب به.
وأسلمت أمه - رضي الله تعالى عنها - أم الخير سلمى بنت صخر قديماً في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم ذكره الحافظ الدمشقي، وصاحب الصفوة ولد - رضي الله تعالى عنه - بعد مولده - عليه الصلاة والسلام - بسنتين وأشهر بمكة، وكان منشأه بمكة، لا يخرج منها إلا لتجارة، وكان ذا مال جزيل في قومه، وثروة تامة، وإحسان، وتفضل فيهم، وكان من رؤساء قريش في الجاهلية، وأهل مشورتهم، ومحبباً فيهم.
ولما جاء الإسلام أكره على ما سواه، ولم يفعل، ودخل في الإسلام أكمل دخول.
وكان من أعف الناس في الجاهلية، وقالت عائشة - رضي الله تعالى عنها - : لقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية. رواه ابن عساكر بسند صحيح.
صفته
رضي الله تعالى عنه(1/419)
كان نحيفا، أبيض، حسن القامة، خفيف العارضين، أجنأ لا يستمسك إزاره في حقويه، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع. رواه ابن سعد، عن عائشة، رضي الله تعالى عنها وقوله: " أجنأ " بالجيم والهمز - : أي منحنياً، يقال منه: جنأ يجنو - بالقصر - جنوءاً، ومنه يسمى الترس مجنأً لانحنائه، ويقال: أحنا - بالحاء غير مهموز - بمعناه، والأشاجع: جمع أشجع بوزن إصبع، هي أصول الأصابع التي تتصل بأصول ظاهر الكف.
كان - رضي الله عنه - يلقب بالصديق في الجاهلية، لما عرف منه الصدق.
قال ابن إسحاق عن الحسن البصري وقتادة: وأول! ما اشتهر به صبيحة ليلة الإسراء.
وروى الحاكم قال حماد عنه عن النزال بن سبرة قال قلنا لعلي - رضي الله تعالى عنه - يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن أبي بكر. قال: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة، رضيه لديننا، فنرضاه لدنيانا وسمى بعتيق؛ لأن أبا قحافة كان له ثلاثة أولاد عتيقاً ومعتقاً ومعيتقاً، وروى عن ابن منده وابن عساكر، عن موسى بن طلحة، قلت لأبى طلحة: لم سمي أبو بكر عتيقاً. قال كانت أمّه لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به البيت الشريف، ثم قالت: اللهم إن هذا عتيق البيت فهبه له.
وروى ابن عساكر عن عائشة - رضي الله عنها - قالت؛ اسم أبي بكر الذي سماه أهله به عبد الله، ولكن غلب عليه اسم عتيق. وفي لفظ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سماه عتيقاً.
واختلف في أي وقت لقب عتيقاً فروى أبو يعلى في مسنده، وابن سعد، والحاكم وصححه عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: والله إني لفي بيتي ذات يوم ورسول الله في الفناء، والستر بيني وبينه إذ أقبل أبو بكر، فقال - عليه الصلاة والسلام - : من سره أن ينظر إلى عتيق من النار؛ فلينظر إلى أبي بكر: وإن اسمه الذي سماه أهله لعبد الله فغلب عليه اسم عتيق.
وروى الترمذي والحاكم عنها أن أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: أنت عتيق الله من النار، فيومئذ سمي عتيقاً وروى الطبري والبزار بسند جيد عن عبد الله بن الزبير، قال: كان اسم أبي بكر عبد الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت عتيق الله من النار. قال في الرياض النضرة: ولا تضاد بين هذه الأحاديث كلها، إذ يصح أن يكون أحد الأبوين لقبه بذلك ثم تابعه الآخر عليه، أو لمعنى آخر، ثم استعملته قريش وأقرته عليه ثم أقر عليه بعد ذلك، وما روي عن عائشة من قولها فمن يومئذ سمي عتيقاً فمعناه والله أعلم فمن ذلك اليوم اشتهر به حتى لا يعرف له اسم سواه.
الآيات في شأن أبي بكر الصديق
رضي الله تعالى عنه:
الآية الأولى قوله تعالى: " وَسَيُجَنَبُها الأتقَى الَذِي يُؤتى مالَه يَتَزكى " الليل: 17، 18، إلى آخر السورة. قال ابن الجوزي: أجمعوا أنها نزلت في أبي بكر، ففيها التصريح بأنه أتقى من سائر الأمة، والأتقى هو الأكرم عند الله، بدليل: " إِنَّ أكرَمَكم عِندَ اللهِ أتقاكُم " الحجرات: 13، والأكرم عند الله هو الأفضل. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني: أن أبا بكر أعتق سبعة كلهم يعذب في الله؛ فأنزل الله قوله: " وَسَيُجَنَبُهاً الأتقى " الليل: 17.
الآية الثانية قوله تعالى: " واليلِ إذا يغشَى والنَهارِ إذا تجلى وَما خَلقَ الذكر والأُنثَى إِنَّ سَعيَكم! لَشَتى " الليل: ا: 4، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أن أبا بكر اشترى بلالاً من أمية بن خلف وأبى بن خلف ببردة وعشرة أواق، فأعتقه لله تعالى؛ فأنزل الله هذه الآية؛ إشارة إلى أن سعي أبي بكر وأمية وأبي مفترق فرقاناً عظيماً، فشتان بينهما.
الآية الثالثة قوله تعالى: " ثانيَ اثنين إذ هُما في الغارِ إذ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَخزَن إن اللهَ مَعنا " ، إلى قوله " لم تَروها " التوبة: 40 أجمع المسلمون على أن المراد بالصاحب هنا أبو بكر، ومن ثم من أنكر صحبته كفر إجماعاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أن الضمير في " فأنزَلَ الله سكينَتَهُ عليه " التوبة: 40، لأبى بكر أي: ولا ينافيه " وأيدَهم بجُنود " ،التوبة: 40 إرجاعاً للضمير في كل بما يليق به، وجلالة ابن مسعود قاضية بأنه لولا علم في ذلك نصاً لما حمل الآية عليه مع مخالفة ظاهرها له.(1/420)
الآية الرابعة قوله تعالى: " والذيِ جاء بِالصدِقِ وَصَدَّقَ بِه أُؤلئكَ هم المُتَّقُونَ " ، الزمر: 33. أخرج البزار وابن عساكر أن علياً - رضي الله تعالى عنه - قال في تفسيرها: الذي جاء بالحق هو محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق به هو أبو بكر. قال ابن عساكر. هكذا الرواية " بالحق " ، ولعلها قراءة لعلي، رضي الله تعالى عنه.
الآية الخامسة قوله تعالى: " ولمَن خافَ مَقامَ رَبهِ جَنَتان " ِ الرحمن: 46 أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب: أنها نزلت في أبي بكر.
الآية السادسة قوله تعالى: " وَشاوِرهُم في الأمرِ " آل عمران: 159. أخرج الحاكم عن ابن عباس أنها نزلت في أبي بكر وعمر، ويؤيده الخبر الآتي في الأحاديث " إن الله أمرني أن أستشير أبا بكر وعمر " .
الآية السابعة قوله تعالى: " فإنَّ الله هُوَ مَولاه وَجِبرِيلُ وَصالِحُ المُؤمنِينَ " التحريم: 4. أخرج الطبراني عن ابن عمر وابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - : أنها نزلت فيهما.
الآية الثامنة قوله تعالى: " وَوَصَينا الإنسان بِوَالِدَيهِ إِحسَاناً حَمَلَتهُ أُمُهُ كرهاً " إلى قوله: " يوُعَدونَ " ، الأحقاف: 15، 16. أخرج ابن عساكر عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن ذلك جميعه نزل في أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - ومن تأمل ذلك وجد فيه من عظيم المنقبة له والمنة عليه، ما لم يوجد لأحد من الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
الآية التاسعة قوله تعالى: " وَلا يأتَلِ أُولوُا الفَضلِ مِنكُم والسَّعَةِ أن يُؤتوا أُولِي القُربىَ " إلى قوله " والله غَفور رَحِيم " النور: 22، نزلت في أبي بكر - رضي الله تعالى عنه، كما في البخاري وغيره - لما حلف لا ينفق على مسطح بن، أثاثة بن عباد بن المطلب بن هاشم؛ لكونه كان من جملة من رمى عائشة بالإفك، الذي تولى سبحانه براءتها منه بالآيات العشر التي أنزلها سبحانه في شأنها أول سورة النور، ولما نزلت قال أبو بكر: " بلى، والله يا ربنا، إنا لنحب أن تغفر لنا، وأعاد لمسطح ما كان ينفقه عليه وفي رواية للبخاري عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - في حديث الإفك الطويل: فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة، لقرابته منه وفقره - والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله قوله: " وَلا يأتَلِ أُولوُا الفَضلِ " النور: 22 وذكر الآية السابقة. ثم قالت: قال أبو بكر: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه، وقال: والله لا أنزعها أبداً تنبيه: علم من حديث الإفك المشار إليه أن من نسب عائشة - رضي الله تعالى عنها إلى الزنا كان كافراً، وهو ما قد صرح به أئمتنا وغيرهم؛ لأن في ذلك تكذيب النصوص القرآنية، ومكذبها كافر بإجماع المسلمين. وبه يُعلم القطع بكفر كثيرين من غلاة الروافض؛ لأنهم ينسبونها إلى ذلك، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
الآية العاشرة قوله تعالى: " هُوَ الذي يصلي عَلَيكم وَمَلائكَتُهُ لِيُخرِجَكُم مِنَ الظُلُماَتِ إلى النور " الآية الأحزاب: 43 أخرج عبد بن حميد عن مجاهد: لما نزلت " إِن الله وَملائكته... " الأحزاب: 56، قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أنزل الله عليك خير إلا أشركنا فيه، فنزلت: " هُوَ الذي يِصلي عَليكم... " الآية.
الآية الحادية عشرة قوله تعالى: " إِنَّ الذِينَ قالوُأ رَبَنُا اللهُ ثُمَ استقامو " الأحقاف: 13. عن ابن عباس: نزلت في أبي بكر، رضي الله تعالى عنه. ذكره الإمام الواحدي المفسر المشهور.
الآية الثانية عشرة: قوله تعالى: " أفمَن يُلقَى في النارِ خير أم من يأتي آمِناً يومَ القِيامَةِ " فصلت: 40 عن ابن عباس: هذا أبو جهل، وهذا أبو بكر. حكاه الإمام الثعالبي.
الآية الثالثة عشرة قوله تعالى: " حَتى إذا بَلَغَ أشده وَبلغَ أربَعِينَ سنةً " إلى " وإني مِنَ المُسلِمينَ " ! الأحقاف: 15 عن ابن عباص نزلت في أبي بكر فاستجاب الله له فأسلم والده وأولاده كلهم. رواه عقيل بن خالد الأربلي الآية الرابعة عشرة قوله تعالى: " لا يستوَي مِنكم مَن أنفَقَ مِن قَبل الفَتحِ وَقاتل " الحديد: 0ا. قال الكلبي: نزلت في أبي بكر. ذكره الواحدي(1/421)
الآية الخامسة عشرة قوله تعالى: " لا تَجدُ قوماً يؤمَنوُنَ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ... " المجادلة: 22 عن ابن جريج أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم، فصكه أبو بكر، صكة شديدة؛ فسقط منها، ثم ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم. قال: " أو فعلته؟! " قال: نعم، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " فلا تعد إليه " . فقال أبو بكر: والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته، فنزلت هذه الآية. أخرجه الواحدي والإمام أبو الفرج الآية السادسة عشرة قوله تعالى: " إلا تنصُرُوه فَقَد نَصَرَهُ اللهُ " الآية التوبة: 40. أخرج ابن عساكر عن سفيان بن عيينة، قال: عاتب الله المسلمين كلهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أبا بكر وحده فإنه خرج من المعاتبة، ثم قرأ " إلا تنصُرُوهُ فَقَد نَصرهُ اللهُ " الآية.
الأحاديث في شأن أبي بكر الصديق
رضي الله تعالى عنه:
منها صافية الدلالة على خلافته، وهى أربعة عشر حديثاً: الحديث الأول - أخرج الشيخان عن جبير بن مطعم، قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، فقالت أرأيت إن جئت، ولم أجدك؟ كأنها تقول الموت. قال: " إن لم تجديني، فأتى أبا بكر " ، وأخرج ابن عساكر، عن ابن عباس قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله شيئاً، فقال لها تعودين، فقالت: يا رسول الله، إن عدت فلم أجدك؟ تعرض بالموت. فقال: " إن جئتني، ولم تجديني؛ فأتي أبا بكر، فإنه الخليفة بعدي " .
الحديث الثاني - أخرج أبو القاسم البغوى بسند حسن، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله يقول: " يكون خلفي اثنا عشر خليفة، أبو بكر لا يلبث إلا قليلاً " قال الأئمة: هذا صدر حديث مجمع على صحته، وارد من طرق عدة. أخرجه الشيخان وغيرهما. فمن تلك الطرق: " لا يزال هذا الأمر عزيزاً ينصرون على من ناوأهم عليه إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش " . رواه عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل، بسند صحيح. ومنها: " لا يزال هذا الأمر صالحاً " . ومنها " لا يزال ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً " ومنها " لا يزال أمر أمتي قائماً حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش " ، زاد أبو داود " فلما رجع إلى منزله أتته قريش، فقالوا ثم يكون ماذا؟ قال ثم يكون الهرج " ، وعن ابن مسعود بسند حسن: أنه سئل كم يملك هذه الأمة من خليفة. فقال: سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل " قال القاضي عياض: لعل المراد بالاثني عشر في هذه الأحاديث: أنهم يكونون في مدة عزة الخلافة، وقوة الإسلام، واستقامة أموره، والاجتماع على من يقوم بالخلافة، وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أمية، ووقعت بينهم الفتن زمن الوليد بن يزيد، فاتصلت تلك الفتن إلى أن قامت الدولة العباسية، فاستأصلوا أمرهم.(1/422)
قال العلامة ابن حجر العسقلاني في فتح الباري في شرح البخاري: كلام القاضي عياض هذا أحسن ما قيل في هذا الحديث، فرجحه لتأيده بقوله في بعض طرقه الصحيحة: " كلهم يجتمع عليه الناس " والمراد باجتماعهم: انقيادهم لبيعته، والذي اجتمعوا عليه الخلفاء الثلاثة ثم على علي - رضي الله عنه - إلى أن وقع أمر الحكمين في صفين، وتسمى معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمعوا على معاوية عند صلح الحسن، ونزوله عن الخلافة ثم على ابنه يزيد، ولم ينتظم للحسين - رضي الله عنه - أمر بل قتل، ثم لما مات يزيد اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل عبد الله بن الزبير، ثم على أولاده الأربعة الوليد، فسليمان، فيزيد، فهشام، وتخلل بين سليمان ويزيد: عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين الأربعة، فجملتهم أحد عشر والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فاجتمعوا عليه لما مات عمه هشام، فولى نحو أربع سنين، ثم قاموا عليه؛ فقتلوه، وانتشرت الفتن، وتغيرت الأحوال من يومئذ، ولم يتفق أن تجتمع الناس على خليفة بعد ذلك؛ لوقوع الفتن بين من بقي من بني أمية، ولخروج المغرب عن العباسيين باستيلاء عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الملك الملقب بالداخل عليه، وانفرط الأمر إلى أن لم يبق من الخلافة إلا الاسم، بعد أن كان يخطب لعبد الملك في جميع أقطار الأرض شرقاً وغرباً، يميناً وشمالاً، مما غلب عليه المسلمون، ولا يتولى أحد في بلدة إمارة في شيء إلا بأمر الخليفة.
وقيل: اثنا عشر خليفة في مدة الإسلام إلى القيامة، يعملون بالحق وإن لم يتوالوا، ويؤيده قول أبي الجلد: كلهم يعمل بالهدي ودين الحق، منهم رجلان من أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم، فعليه المراد بالهرج الفتن الكبار كالدجال وما بعده.
وقيل: المراد بالاثني عشر: الخلفاء الأربعة، والحسن ومعاوية، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز في الأمويين. قيل: ويحتمل أن يضم إليهم المهتدي العباسي؛ لأنه في العباسيين كعمر بن عبد العزيز في الأمويين، والظاهر العباسي أيضاً لما أوتيه في العدل، ويبقى الاثنان المنتظران، أحدهما: المهدي من آل بيت محمد.
قلت: لعل هذا القول الثاني أقرب إلى المراد من كلام سيد العباد.
الحديث الثالث: أخرج أحمد، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه عن حذيفة، وأخرج الطبراني من حديث أبي الدرداء، والحاكم من حديث ابن مسعود، وروى أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه عن حذيفة: " إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، وتمسكوا بهدي عمار، وما حدثكم به ابن مسعود فصدقوه " ، والترمذي عن ابن مسعود، والروياني عن حذيفة، وابن عدي عن أنس: " اقتدوا باللذين من بعدي من أصحاب أبي بكر وعمر، واقتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود " .
الحديث الرابع: أخرج الشيخان، عن أبي سعيد الخدري قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فقال: " إن الله تعالى خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله " فبكى أبو بكر، وقال: بل نفديك بأبائنا وأمهاتنا، فعجبنا لبكائه أن أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخبر عنه، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من أمن الناس على في صحبته وماله - أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين باب إلا سُد إلا باب أبي بكر " ، وفي لفظ للبخاري ومسلم: " لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر " . قال العلامة ابن حجر الهيتمي: في هذه الأحاديث إشارة إلى خلافة الصديق - رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه - ؛ لأن الخليفة يحتاج إلى القرب من المسجد؛ لشدة احتياج الناس إلى ملازمته له للصلاة وغيرها.
الحديث الخامس - أخرج الحاكم وصححه، عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سله إلى من ندفع صدقاتنا بعدك؟ فأتيته، فسألته، فقال: إلى أبي بكر قال ابن حجر: ومن لازم دفع الصدقات إليه كونه هو الخليفة، إذ هو متولي قبض الصدقات.(1/423)
الحديث السادس: أخرج مسلم، عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: " ادعي لي أباك وأخاك؛ حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن، أو يقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر " . أخرجه أحمد وغيره من طرق عنها، وفي بعضها: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: " ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه أحد " ، ثم قال: " دعيه، مَعاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر " . وفي رواية عبد الله بن أحمد: " أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر " .
الحديث السابع: أخرج الشيخان، عن أبي موسى الأشعري قال: مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتد مرضه، فقال: " مُروا أبا بكر فليصل بالناس " . قالت عائشة: يا رسول الله، إنه رجل رقيق، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلى بالناس، فقال: " مروا أبا بكر فليصل بالناس " ، فعادت فقال: " مروا أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف " ، فأتاه الرسول، فصلى بالناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية أنها لما راجعته فلم يرجع لها، قالت لحفصة: قولي له: يأمر عمر، فقالت له، فأبى حتى غضب، فقال: " وَكانَ الإنسان أكثرَ شَيءٍ جَدَلا " ، الكهف: 54 أنتن - أو إنكن لأنتن - صواحب يوسف يظهرن خلاف ما يخفين " .
قال العلامة ابن حجر - رحمه الله تعالى - : واعلم أن هذا الحديث متواتر؛ فإنه ورد في حديث عائشة وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن زمعة وأبى سعيد الخدري وعلى بن أبي طالب وحفصة، وفي بعض طرقه عن عائشة: قد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك يوماً، حملني على كثرة مراجعته؛ أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبداً، وكنت أرى أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر، - رضي الله تعالى عنه - وفي حديث ابن زمعة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة، وكان أبو بكر غائباً، فتقدم عمر فصلى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا، لا، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر " ، وفي رواية عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال له: " اخرج، وقل لأبي بكر: يصلي بالناس " ، فخرج فلم يجد على الباب إلا عمر في جماعة ليس فيهم أبو بكر، فقال: يا عمر صل بالناس، فلما كبر - وكان صيتاً - سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، قال: " يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر " .
قال العلامة ابن حجر: قال العلماء: في هذا أوضح دلالة على أن الصديق أفضل الصحابة على الإطلاق، وأحقهم بالخلافة وأولاهم.
قال الأشعري: قد علم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الصديق أن يصلي بالناس مع حضور المهاجرين والأنصار، ومع قوله: " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " ، فدل على أنه أقرؤهم: أي أعلمهم بالقران. انتهى.
وقد استدل الصحابة أنفسهم به على أنه أحق بالخلافة منهم، منهم عمر، وقد مر كلامه في المبايعة، ومنهم علي فقد أخرج ابن عساكر عنه قال: لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس، وإني لشاهد وما أنا بغائب وما بي مرض، فرضينا لدنيانا من رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا، قال العلماء: وكان معروفاً بأهلية الإمامة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.(1/424)
وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما، عن سهل بن سعد قال: كان قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاهم بعد الظهرة ليصلح بينهم - قلت: بنو عمرو بن عوف: هم أهل قباء من الأنصار - فقال - عليه الصلاة والسلام - لبلال: " يا بلال إن حضرت الصلاة، ولم آتِ فمر أبا بكر فليصل بالناس " ، فلما حضرت صلاة العصر أقام بلال الصلاة، ثم أمر أبا بكر، فصلى ووجه ما تقرر أن الأمر بتقدمته للصلاة - كما ذكر - فيه الإشارة أو التصريح بأحقيته للخلافة؛ إذ القصد الذاتي من نصب الإمام إقامة شعائر الدين على الوجه المأمور به من أداء الواجبات، وترك المحرمات، وإحياء السنن، وإماتة البدع، وأما الأمور الدنيوية وتدبيرها: كإستيفاء الأموال من وجوهها، وإيصالها لمستحقيها، ودفع الظلم، ونحو ذلك - فليس مقصوداً بالذات، بل ليتفرغ الناس لأمور دينهم؛ إذ لا يتم تفرغهم له إلا إذا انتظمت أمور معايشهم بنحو الأمن على الأنفس والأموال، ووصول كل ذي حق إلى حقه، فلذلك رضي صلى الله عليه وسلم لأمر الدين - وهي الإمامة العظمى - أبا بكر الصديق بتقديمه للإمامة في الصلاة كما ذكر، ومن ثم اجتمعوا على ذلك كما مر.
وأخرج ابن عدي، عن أبي بكر بن عياش قال: قال لي الرشيد: يا أبا بكر كيف اختار الناس أبا بكر الصديق؟ قلت: يا أمير المؤمنين، سكت الله، وسكت رسوله، وسكت المؤمنون. قال الرشيد: والله ما زدتني إلا عماء. قال: يا أمير المؤمنين، مرض النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أيام، فدخل عليه بلال فقال: يا رسول الله، من يصلي بالناس؟ قال: " مروا أبا بكر يصلي بالناس " ، فصلى أبو بكر بالناس ثمانية أيام، والوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسكوت الله عز وجل، وسكت المؤمنون؛ لسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعجبه، وقال: " بارك الله فيك " الحديث الثامن: أخرج ابن حبان، عن سفينة: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع في أسّ البناء حجراً، وقال لأبي بكر: ضع حجرك إلى جنب حجري، ثم قال لعمر: ضع حجرك إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال لعثمان: ضع حجرك إلى جنب حجر عمر، ثم قال: هؤلاء الخلفاء بعدي. قال أبو زرعة: إسناده لا بأس به، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، والبيهقي في الدلائل، وغيرهما.
الحديث التاسع - أخرج الشيخان، عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت كأني أنزع بدلو بَكرة - بسكون الكاف - على قليب، فجاء أبو بكر، فنزع ذَنوباً ممتلئة ماء أو قريبة من ممتلئة أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً، والله يغفر له. ثم جاء عمر، فاستقى، فاستحالت غرباً - أي دلوا عظيماً - فلم أر عبقرياً يفري فَريَهُ - أي رجلاً قوياً شديداً يعمل عمله - حتى روى الناس، وضربوا بعطن " والعطن: مناخ الإبل إذا رويت.
قال بعض العلماء: هذا المنام مثال لما، جرى للخليفتين من ظهور آثارهما الصالحة وانتفاع المسلمين بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صاحب الأمر، فقام بذلك أكمل قيام، وقرر قواعد الدين، ثم خلفه أبو بكر، فقاتل أهل الردة، وقطع دابرهم. ثم خلفه عمر، فامتنع الإسلام في زمنه، وكثرت الفتوحات، فشبه أمر المسلمين بقليب فيه الماء الذي فيه حياتهم وصلاحهم، وشبه أميرهم بالمستقى لهم منها، وليس في قوله - عليه الصلاة والسلام - : " ويغفر الله له " نقص ولا إشارة إلى أنه وقع منه ذنب، وإنما هي كلمة كانت العرب تقولها عند الاعتناء بالأمر الحديث العاشر - أخرج أبو بكر الشافعي في الغيلانيات، وابن عساكر عن حفصة: أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أنت اعتللت قدمتَ أبا بكر، قال: " لست أنا أقدمه، ولكن الله قدمه " .(1/425)
الحديث الحادي عشر - أخرج أحمد، عن سفينة، وأخرجه - أيضاً - صاحب السنن، وصححه ابن حبان وغيره، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " الخلافة بعدي ثلاثون عاماً ثم تكون ملكاً عضوضاً " قال العلماء: لم يكن في الثلاثين بعده إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن. ووجه الدلالة منه أنه حكم بحقية الخلافة عنه في أمر الدين هذه المدة دون ما بعدها، وحينئذ فيكون هذا دليلاً واضحاً في حقية خلافة كل من الخلفاء الأربعة، وقيل لسعيد بن جمهان: أن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم، فقال: كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك.
فإن قلت: ينافي هذا خبر الاثني عشر خليفة السابق.
قلت: لا ينافيه لأن هذا للكمال، فيكون المراد بهذا: الخلافة الكاملة ثلاثون سنة، وهي منحصرة في الخلفاء الأربعة والحسن؛ لأن مدته هي المكملة للثلاثين، والمراد فيما تقدم: مطلق الخلافة التي فيها كمال وغيرها؛ لما مر أن من جملتهم نحو يزيد بن معاوية على القول الثاني السابق فليس الخلفاء المذكورون على هدا القول حاوين من الكمال ما حواه الخمسة المذكورة هنا.
الحديث الثاني عشر - أخرج الدار قطني والخطيب، وابن عساكر عن علي - رضي الله تعالى عنه - قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سألت الله أن يقدمك ثلاثاً فأبى إلا تقديم أبي بكر " .
الحديث الثالث عشر - أخرج ابن سعد، عن الحسن قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أزالُ أراني أطأ في غدران الناس. قال: لتكونن من الناس بسبيل. قال: ورأيت في صدري كالرقمتين. قال: سنتين.
الحديث الرابع عشر - أخرج البزار - بسند حسن - عن أبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول دينكم بدأ نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكاً وجبرية " وجه الدلالة منه أنه أثبت لخلافة أبي بكر أنها خلافة؛ إذ هي التي وليت مدة النبوة والرحمة، وحينئذ فيلزم حقيتها، ويلزم من حقيتها حقية خلافة بقية الخلفاء الراشدين.
وأخرج ابن عساكر عن محمد بن الزبير قال: أرسلني عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري أسأله عن أشياء، فجئته، فقلت له: اشفني فيما اختلف فيه الناس، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر. فقال: أو في هذا شك؟! أي والله الذي لا إله إلا هو لقد استخلفه، ولهو كان أعلم به، وأتقى له، وأشد له مخافة من أن يثبت عليها لو لم يأمره.
فهذه الأحاديث التي استدل بها على حقية خلافته - رضي الله تعالى عنه - .
الحديث الخامس عشر - روى الديلمي عن علي - رضي الله عنه - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني جبريل، قلت: يا جبريل، من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر وهو يلي أمر أمتك من بعدك " .
الحديث السادس عشر - روى تمام عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أتاني جبريل فقال: يا محمد، إن الله - تبارك وتعالى - أمرك أن تستشير أبا بكر " .
الحديث السابع عشر - روى الإمام أحمد برجال الصحيح، عن أبي البختري قال: قال عمر لأبي عبيدة: أمسك يدك حتى أبايعك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أنت أمين هذه الأمة " فقال أبو عبيدة: ما كنت لأتقدم بين يدي رجل أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمنا، فأمنا حتى مات.
الحديث الثامن عشر - روى ابن سعد، عن موهب مولى أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قلت لجبريل ليلة أسرى بي: إن قومي لا يصدقونني، فقال: يصدقك أبو بكر، وهو الصديق " .
الحديث التاسع عشر - روى الديلمي، عن أم هانئ - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله بعثني إلَيكم، فقلتم: كذبت، فقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي " .
الحديث العشرون - روى الخطيب والديلمي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دعوا لي صاحبي فإني بعثت إلى الناس كافة، فلم يبق أحد إلا قال: كذبت، إلا أبو بكر الصديق، فإنه قال: صدقت، صدقت " .
الحديث الحادي والعشرون - روى أبو نعيم، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما كلمت في الإسلام أحداً إلا أبى علي، وراجعني في الكلام، إلا ابن أبي قحافة " .(1/426)
الحديث الثاني والعشرون - روى عبد الله ابن الإمام أحمد وابن مردويه والديلمي، عن ابن عباس، والطبراني عن أبي أمامة، والبخاري والترمذي عن أبي سعيد الخدري، والطبراني في الكبير عن كعب بن مالك، وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن ابن مسعود، وابن عساكر عن جابر، والإمام أحمد والبخاري عن ابن الزبير، والبخاري عن ابن عباس، والشيرازي في الألقاب عن سعد، ومسلم عن ابن مسعود، والطبران، في الكبير عن أبي واقد - رضي الله تعالى عنهم - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أبو بكر صاحبي، ومؤنسي في الغار، فاعرفوا له قدره " . وفي لفظ؟ " ما من أحد أمن علي في بدء صحبته، وذات يده من أبي بكر: زوجني ابنته، وخرج معي إلى دار الهجرة " وفي لفظ: " ما لأحد علينا يد إلا وقد كافأناه عليها ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يكافئه الله تعالى بها يوم القيامة " .
الحديث الثالث والعشرون - روى الشيخان عن عمرو بن العاص، والترمذي وقال حسن صحيح غريب، وابن ماجه عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أحب الناس إلي عائشة، ومن الرجال أبوها " .
الحديث الرابع والعشرون - روى أبو داود وأبو نعيم والحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أتاني جبريل، فأخذ بيدي، فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي، قال أبو بكر: وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه. قال: أما إنك - يا أبا بكر - أول من يدخل الجنة من أمتي " .
الحديث الخامس والعشرون - روى ابن عساكر عن أبي المقداد - رضي الله تعالى عنه - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى رجلاً يمشي أمام أبي بكر، فقال: " أتمشي أمام من هو خير منك؟ إن أبا بكر خير من طلعت عليه الشمس وغربت " .
الحديث السادس والعشرون - روى أبو نعيم في فضائل الصحابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أتمشي أمام من هو خير منك؟! ألم تعلم أن الشمس لم تشرق على أحد، أو تغرب خير من أبي بكر إلا النبي ين والمرسلين؟! " .
الحديث السابع والعشرون - روى الديلمي عن عرفجة بن صريح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أنا سيف الإسلام، وأبو بكر سيف الردة " .
الحديث الثامن والعشرون - روى أبو نعيم في الحلية عن أنس - رضي الله تعالى عنه - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة " .
الحديث التاسع والعشرون - روى الخطيب في المتفق والمفترق بسنده عن عائشة - رضي الله عنها - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الناس كلهم يحاسبون إلا أبا بكر " .
الحديث الثلاثون - روى الديلمي عن جابر - رضي الله تعالى عنه - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تأتي الملائكة بأبي بكر مع النبي ين والصديقين، تزفه إلى الجنة زفاً " .
الحديث الحادي والثلاثون - روى الإمام أحمد وابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما نفعني مال قط إلا مال أبي بكر " .
الحديث الثاني والثلاثون - روى عبدان المروزي وابن قانع، عن بهزاد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس، احفظوني في أبي بكر؛ فإنه لم يسؤني منذ صحبني " .
الحديث الثالث والثلاثون - روى ابن مردوية وأبو نعيم والخطيب وابن عساكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس: " يا عم رسول الله، إن الله جعل أبا بكر خليفتي على دين الله ووحيه؛ فاسمعوا له تفلحوا، وأطيعوا ترشدوا " .
الحديث الرابع والثلاثون - روى ابن مردويه عن أنس والحاكم عن جابر - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر، إن الله أعطاك الرضوان الأكبر. قال أبو بكر: وما رضوانه الأكبَرُ؟ قال: إن الله سيتجلى للخلق عامة، ويتجلى لَكَ خاصةً " .
الحديث الخامس والثلاثون - عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول: " عرج بي إلى السماء، فما مررت بسماء إلا وجدت فيها اسمي مكتوباً محمد رسول الله، وأبو بكر الصديق خلفي " . أخرجه ابن عرفة العبدي والثقفي وا لأصفهاني.(1/427)
الحديث السادس والثلاثون - أخرج صاحب الصفوة عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي بكر، من سره أن ينظر إلى مثل عيسى في الزهدة فلينظر إليه " .
الحديث السابع والثلاثون - أخرج الملا في سيرته، وأبو نعيم في فضائله، عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: هبط جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف ملياً يناجيه، فمر أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - ، فقال جبريل - عليه السلام - : يا محمد هذا ابن أبي قحافة. فقال: يا جبريل، أو تعرفونه في السماء؟! فقال: والذي بعثك بالحق لهو في السماء أشهر منه في الأرض، وإن اسمه في السماء الحليم.
الحديث الثامن والثلاثون - اخرج ابن السمان - في الموافقة - عن ابن عباس قال: جاء أبو بكر وعلي - رضي الله تعالى عنهما - يزوران قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بعدة أيام، فقال علي لأبي بكر: تقدم يا خليفة رسول الله، فقال أبو بكر ما كنت لأتقدم رجلاً سمعت رسول الله يقول فيه: علي مني بمنزلتي من ربي، فقال علي: ما كنت لأتقدم رجلاً سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: " ما منكم من أحد إلا وقد كذبني غير أبي بكر، وما منكم من أحد يصبح إلا على بابه ظلمة إلا باب أبي بكر " . فقال أبو بكر: سمعتَ النبي يقوله؟! قال: نعم. فأخذ أبو بكر بيد علي، فدخلا جميعاً.
الحديث التاسع والثلاثون - أخرج المهري في مشيخته عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اليوم الرهان، وغداً السباق، والغاية الجنة، والهالك في النار حل النار، وأنا الأول، وأبو بكر المصلي، وعمر الثالث، والناس بعدُ على السنن، الأول فالأول " .
الحديث الأربعون - أخرج الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الحربي السكري، من حديث أبي بن كعب، أنه قال: إن أحدث عهدي بنبيكم صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بخمس ليال، دخلت عليه وهو يقلب يديه، ويقول: " إنه لم يكن من نبي إلا وقد اتخذ من أمته خليلاً، وإن خليلي من أمتي أبو بكر بن أبي قحافة، ألا وإن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً " .
قال في الرياض النضرة: والأحاديث النافية للخلة أصح وأثبت فإنه قد ورد - وأوردته فيما تقدم - حديث: " لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً " الحديث. وإن صحت هذه الرواية في هذا الحديث الذي أوردته الان المثبت للخلة فيكون الله تعالى قد أذن له - عليه الصلاة والسلام - عند تبريه من خلة غير الله - تبارك وتعالى - ، مع تشوقه لخلة أبي بكر لولا خلة الله - في اتخاذ أبي بكر خليلاً؛ مراعاة لجنوحه إليها؛ وتعظيماً لشأن أبي بكر، ولا يكون ذلك انصرافاً عن خلة الله عز وجل، بل الخلتان ثابتتان كما تضمنه الحديث، إحداهما لتشريف المصطفى صلى الله عليه وسلم، والأخرى لتشريف أبي بكر.
الحديث الحادي والأربعون - أخرج الحافظ السلفي عن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر أخي في الدنيا والآخرة، رحم الله أبا بكر، وجزاه عن رسول الله خيراً.
الحديث الثاني والأربعون - أخرج الحافظ ابن عبيد وصاحب الصفوة عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال، فنزل جبريل، فقال جبريل: يا محمد، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال؟! قال: يا جبريل، أنفق ماله علي قبل الفتح. قال: فإن الله يقرأ عليك السلام، ويقول لك: قل له: أراضٍ عني أنت في فقرك هذا أم ساخط. فقال أبو بكر: أسخط على ربي؟! أنا عن ربي راض، أنا عن ربي راض، أنا عن ربي راض " .
الحديث الثالث والأربعون - أخرج عبد الرزاق، والبغوي في المصابيح عن أنس - رضي الله تعالى عنه - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر " - رضي الله تعالى عنه - وفي رواية عن أبي أمامة " أرحم هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر " . خرجه في الفضائل.(1/428)
الحديث الرابع والأربعون - أخرج الحافظ الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي عن جابر بن عبد الله - رضي الله تعالى عنه - قال: " كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يطلع عليكم رجل لم يخلق الله بعدي أحداً خيراً منه ولا أفضل، وله شفاعة مثل شفاعة النبي ين، فما برحنا حتى طلع أبو بكر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، وقبله، والتزمه " .
الحديث الخامس والأربعون - عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير أصحابي أبو بكر " .
الحديث السادس والأربعون - أخرج صاحب الفضائل عن جابر - رضي الله عنه - قال: كنا عند باب النبي صلى الله عليه وسلم نقول في المهاجرين والأنصار، نتذاكر الفضائل، فارتفعت أصواتنا، فخرج - عليه الصلاة والسلام - علينا، وقال: " فيم أنتم؟! " قلنا: نتذاكر الفضائل، قال: " لا تقدموا على أبي بكر أحداً، فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة " .
الحديث السابع والأربعون - أخرج أبو نعيم البصري والغيلاني عن إسماعيل بن أبي خالد قال؛ بلغني أن عائشة - رضي الله تعالى عنها - نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا سيد العرب، فقال: أنا سيد ولد آدم، وأبوك سيد كهول العرب، وعلي سيد شباب العرب.
الحديث الثامن والأربعون - أخرج سعيد بن منصور والحاكم أبو عبد الله عن عمرو بن شرحبيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت كأني في غنم سود فيها غنم بيض، فلم أستبن السود من كثرة البيض، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله هذه العرب ولدتَ فيها، ثم تدخل العجم؛ فلا تستبين العرب من كثرتهم، فقال - عليه الصلاة والسلام - : كذلك عبرها الملك بسحر " .
الحديث التاسع والأربعون - أخرج تمام في فوائده وأبو سعيد النقاش عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أتاني جبريل - عليه السلام - فقال: يا محمد، إن الله - تبارك وتعالى - يأمرك أن تستشير بأبي بكر " .
الحديث الخمسون - عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يسمر عند أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - الليلة في الأمر من أمر المسلمين، وإنه سمر عنده ذات ليلة، وأنا معه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجنا معه، فإذا برجل قائم يصلي بالمسجد، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع قراءته فما كدنا نعرفه، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد " .
الحديث الحادي والخمسون - عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله كره من السماء أن يخطأ أبو بكر في الأرض " .
الحديث الثاني والخمسون - أخرج أبو حاتم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتى البقيع، فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة حتى يحشروا بين الحرمين " .
الحديث الثالث والخمسون - أخرج الملا في سيرته عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول من يرد على الحوض يوم القيامة أبو بكر الصديق " .
الحديث الرابع والخمسون - أخرج أبو الغطريف عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لكل نبي رفيق، ورفيقي أبو بكر " وعن الزبير بلفظ " اللهم إنك جعلت أبا بكر رفيقي في الغار، فاجعله رفيقي في الجنة " .
الحديث الخامس والخمسون - أخرج الخطيب البغدادي، والملا بمعناه، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة، نصب لإبراهيم منبر أمام العرش، ونصب لي منبر أمام العرش، ونصب لأبي بكر كرسي فيجلس عليه ثم ينادي مناد: يا لك من صديق بين خليل وحبيب " .
الحديث السادس والخمسون - أخرج أبو الحسن العتيقي، وصاحب الديباج، وصاحب الفضائل عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت لجبريل - حين أسرى بى إلى السماء: يا جبريل، هل على أمتي حساب؟ قال كل أمتك عليها حساب ما خلا أبا بكر، فإذا كان يوم القيامة، قيل له: يا أبا بكر، أدخل، فيقول؛ ما أدخل حتى يدخل معي كل من أحبنى في الدنيا.(1/429)
الحديث السابع والخمسون - عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت ليلة أسرى بي مكتوباً حول العرش في فرندة خضراء بقلم من نور: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أبو بكر الصديق قلت: الفرندة - بفتح الفاء والراء المهملة - : ثوب معروف، معرب.
الحديث الثامن والخمسون - أخرج أبو حاتم عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع إلى المدينة من عمرة الجعرانة، بعث أبا بكر أميراً على الحج، فحج بالناس. وعن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر، يؤذنون بمنى ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
الحديث التاسع والخمسون - عن عبد الله بن عمر الليثي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس الصبح، وأن أبا بكر كبر، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم بعض الخفة؛ فقام، ففرج الصفوف. قال: فكان أبو بكر لا يلتفت، فلما سمع الحس من ورائه عرف أنه لا يتقدم إلى ذلك المقام إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخنس وراءه في الصف، فرده - عليه الصلاة والسلام - مكانه. وفي رواية ابن إسحاق؛ فدفع في ظهره، وقال: صل بالناس. وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر، فصلى قاعداً عن يمين أبي بكر وقوله: " خنس " : أي انقبض، وتأخر.
الحديث الستون - أخرج الإمام أحمد ومسلم في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أصبح منكم اليوم صائماً. قال أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع منكم جنازة. قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا. فقال - عليه الصلاة والسلام - : ما اجتمعت في امرئ إلا في خل الجنة " .
وفى رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصبح، فلما قضى صلاته، قال: " أيكم اليوم أصبح صائماً؟ فقال عمر: أما أنا يا رسول الله، بت لا أحدث نفسي بالصوم؛ فأصبحت مفطراً. فقال أبو بكرة أنا يا رسول الله بت الليلة، أحدث نفسي بالصوم؛ فأصبحت صائماً. قال: فأيكم اليوم عاد مريضاً. فقال عمر: يا رسول الله، إنا صلينا الساعة، ولم نبرح، فكيف نعود المريض؟! فقال أبو بكر: أنا، يا رسول الله، أخبروني أن أخي عبد الرحمن بن عوف وجع، فجعلت طريقي عليه، فسألت عنه، ثم أتيت المسجد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأيكم اليوم تصدق بصدقة؟ فقال عمر مثل ما قال أولاً، فقال أبو بكر: أنا، يا رسول الله لما جئت من عند عبد الرحمن بن عوف دخلت المسجد، وإذا بسائل يسأل وابن لعبد الرحمن بن أبي بكر معه كسرة خبز، فأخذتها منه، فناولتها السائل. فقال - عليه الصلاة والسلام - لأبى بكر: أبشر بالجنة، أبشر بالجنة. مرتين.
الحديث الحادي والستون - أخرج ابن السمان في الموافقة عن صلة بن زفر قال: كان أبو بكر إذا ذكر عند علي قال: السمان. والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبوبكر.
الحديث الثاني والستون - أخرج الشيخان والإمام أحمد والترمذي وأبو حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أنفق زوجين في سبيل الله نودي إلى الجنة يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعى من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعى من باب يسمى الريان. فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - : نعم، وأرجو أن تكون منهم. قلت: فسر بعض العلماء قوله - عليه الصلاة والسلام: " زوجين " ، فقال: قريبان أو عبدان. وقال الحسن البصري: شيئاًن متغايران، درهم ودينار، درهم وثوب، وخف ولجام. وقال العلامة الباجي: يحتمل أن يريد بذلك العمل من صلاتين، أو صيام يومين. والأصل في الزوج: الصنف، والنوع من كل شيء، ومنه قوله تعالى: " أزوَجاً مِن نَباتٍ شَتى " طه:53 أي أصنافاً. وكل شيئين مثلين كانا أو غير مثلين فهما زوجان، وكل واحد منهما زوج، والمراد: وأنفق نوعين من ماله في سبيل الله(1/430)
الحديث الثالث والستون - أخرج الإمام أحمد عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن طير الجنة كأمثال البخت، ترعى من شجر الجنة " . قال أبو بكر: يا رسول الله، إن هذه لطير ناعمة، فقال - عليه الصلاة والسلام - : أكلها أنعم منها - قالها ثلاث مرات - وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها.
الحديث الرابع والستون - عن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة حوراً خلقهن الله من الورد، يقال لهن: " الورديات " ، لا يتزوج بهن إلا نبي أو صديق أو شهيد، وإن لأبي بكر منهن أربعمائة " .
الحديث الخامس والستون - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدخل رجل الجنة فلا يبقى أهل دار، ولا أهل غرفة إلا قالوا مرحباً، إلينا إلينا. قال أبو بكر: يا رسول الله، ما توى على هذا الرجل في ذلك اليوم. قال: أجل، وأنت هو يا أبا بكر " . خرجه أبو حاتم هكذا بالتاء معدّى ب " علي " . والتوى - بالقصر - : الهلاك.
الحديث السادس والستون - عن عبد خير عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الخير ثلاثمائة وستون خصلة، إذا أراد الله بعبد خيراً جعل فيه واحدة منهن، فأُدْخل بها الجنة " . قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله هل في شيء منهن. قال: نعم، جمع من كل " . خرجه في الفضائل، وأخرجه ابن البهلول من حديث سليمان بن يسار، وقال: حديث حسن.
الحديث السابع والستون - أخرج الواحدي في أسباب النزول عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر يوم بدر، وقد أراد أن يتقدم في أول الجند، فمنعه، وقال: " أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري " .
الحديث الثامن والستون - أخرج الملا في سيرته عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: رأيت رسول الله إذا أقبل أبو بكر صافحه النبي صلى الله عليه وسلم، وعانقه، وقبل فاه، فقال علي - رضي الله عنه - : أتقبل فاه أبي بكر؟! فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا الحسن، منزلة أبي بكر عندي كمنزلتي من ربي.
الحديث التاسع والستون - أخرج الخلعي والملا وصاحب فضائله عن علي - رضي الله تعالى عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر: " يا أبا بكر، إن الله قد أعطاني ثواب من آمن به منذ خلق الله آدم إلى أن بعثني، وإن الله أعطاك ثواب من آمن منذ بعثني إلى أن تقوم الساعة " . قلت: تأمل ما يدل عليه هذا الحديث العظيم من المحبة والتكريم والفضل العميم.
الحديث السبعون. أخرج الحافظ السلفي في مشيخته عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حب أبي بكر واجب على أمتي " .
الحديث الحادي والسبعون - عن عبد الله بن أبي أوفى قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمر، إني أشتاق إلى إخواني، فقال عمر يا رسول الله، أفلسنا إخوانك؟؛ قال: لا، أنتم أصحابي، ولكن إخواني قوم آمنوا بي، ولم يروني، قال: فدخل أبو بكر على بقية ذلك، فقال له عمر: يا أبا بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني أشتاق إلى إخواني، فقلت له: ألسنا إخوانك؟! قال: لا، أنتم أصحابي، ولكن إخواني قوم آمنوا بي، ولم يروني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر ألا تحب قوماً بلغهم أنك تحبني، فأحبوك بحبك إياي؟ فأحببهم أحبهم الله " . أخرجه ابن فيروز.
الحديث الثاني والسبعون - خرج ابن السمان عن قيس بن أبي حازم قال: التقى أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، فتبسم أبو بكر في وجه علي - رضي الله تعالى عنهما - ، فقال له علي: مالك تتبسم؟! فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يجوز أحد الصراط إلا من كتب له علي بن أبي طالب الجواز، فضحك علي، وقال: ألا أبشرك يا أبا بكر! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يكتب علي الجواز إلا لمن أحب أبا بكر.(1/431)
الحديث الثالث والسبعون - عن أنس أن يهودياً أتى أبا بكر، فقال: والذي بعث موسى كليما إني لأحبك، فلم يرفع أبو بكر إليه رأسه؛ تهاونا باليهودى. قال! فهبط جبريل على النبي !في، فقال: " يا محمد، العلي الأعلى يقرئك السلام، ويقول لك: قل لليهودي - الذي قال لأبى بكر: إني أحبك: إن الله - عز وجل - قد حاد عنه في النار خلتين: لا توضع الأنكال في قدميه، ولا الغل في عنقه؛ بحبه لأبي بكر. قال فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فأحضره، وأخبره الخبر، فرفع رأسه إلى السماء، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد، رسول الله حقاً، والذى بعثك بالنبوة لا ازددت لأبي بكر إلا حباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هنيئاً هنيئاً " .
الحديث الرابع والسبعون - أخرج ابن بشران وصاحب الفضائل عن علي - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ينادي مناد أين السابقون الأولون. فيقال: من؟ فيقول: أين أبو بكر الصديق. فيتجلى الله لأبي بكر الصديق خاصة وللناس عامة.
الحديث الخامس والسبعون - أخرج أبو داود عن ابن عمر: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمته بعده أبو بكر ثم عمر، فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينكره وفي البخاري عن محمد ابن الحنفية: قلت لأبي - يعني علياً رضي الله عنه - أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: أبو بكر. قلت: ثم مَنْ؟ قال: عمر - وخشيت أن يقول عثمان - قلت: ثم أنت. قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين قال ذلك في تمكنه، وقوة ولايته على منبر الكوفة، وأبو بكر وعمر قد ماتا، فأي تقية تكون إذ ذاك، وأي طعم يبقى لها، وأي نتيجة فيها، وأي عقل لمدعيها؟!.
الحديث السادس والسبعون - أخرج الطبراني عن أسعد بن زرارة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن روح القدس جبريل أخبرني: أن خير أمتك بعدك أبو بكر " .
الحديث السابع والسبعون - أخرج ابن مهدي؛ والطبراني عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبو بكر خير الناس إلا أن يكون نبي " .
الحديث الثامن والسبعون - أخرج الديلمي عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أبو بكر مني، وأنا منه، وأبو بكر أخي في الدنيا والآخرة " ، رضي الله تعالى عنه.
الحديث التاسع والسبعون - أخرج الديلمي عن سمرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أُمرت أن أولي الرؤيا أبا بكر " .
الحديث الثمانون - أخرج الترمذي عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأبي بكر: " أنت عتيق من النار " .
الحديث الحادي والثمانون - عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: " أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار " .
الحديث الثاني والثمانون - أخرج أبو يعلى في مسنده، وأبو سعيد، والحاكم وصححه، عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: إني لفي بيتي ذات يوم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في الفِناء والستر بيني وبينهم، إذ أقبل أبو بكر، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " من سره أن ينظر إلى عتيق من النار، فلينظر إلى أبي بكر؟! وأن اسمه الذي سماه به أهله عبد الله، فغلب عليه اسم عتيق.
الحديث الثالث والثمانون - أخرج الحاكم بسند جيدة أن عائشة قالت: جاء المشركون إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال أبو بكر: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، فقال: لقد صدق. قالوا: فأنت تصدقه يا أبا بكر؟! فقال: إني لأصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة.
الحديث الرابع والثمانون - أخرج الطبراني عن معاذ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت إني وضعت في كفة، فعدلتها، ثم وضع أبو بكر في كفة وأمتي في كفة، فعدلها " وللحديث بقية اقتصرت منها على محل الشاهد.
الحديث الخامس والثمانون - أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والضياء عن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال: " عشرة في الجنة: أبو بكر في الجنة... " الحديث وله تتمة، ستأتي.(1/432)
الحديث السادس والثمانون - أخرج الترمذي عن علي - رضي الله عنه - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله أبا بكر، زوجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالاً من ماله، وما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر " .
قال العلامة ابن حجر: وقوله: " وحملني إلى دار الهجرة " ينافيه حديث البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الراحلة التي هاجر عليها من أبي بكر إلا بالثمن، إلا أن يجمع بأنه أخذها منه أولاً بالثمن، ثم أبرأ أبو بكر ذمته من الثمن. انتهى. قلت: تعليل أئمة الحديث امتناعه - عليه الصلاة والسلام - من الأخذ إلا بالثمن، يقصد أن تكون الهجرة تامة خالصة لله تعالى من سائر وجوهها، لا مشركية لمخلوق فيها، ولا منة - ينافي هذا الجمع، إذ بالإبراء تتحقق الشركة، والله تعالى أعلم.
الحديث السابع والثمانون - أخرج ابن عساكر عن المقداد قال: استب عقيل بن أبي طالب وأبو بكر، وكان أبو بكر نساباً، غير أنه تحرج من قرابة عقيل من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأعرض عنه، وشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقام - عليه الصلاة والسلام - على الناس، فقال: ألا تدعوا لي صاحبي؟! ما شأنكم وشأنه؟! فوالله ما منكم رجل إلا على باب قلبه ظلمة، إلا باب أبي بكر فإن على بابه النور، ولقد قلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وأمسكتم الأموال، وجاد لي بماله، وخذلتموني، وواساني واتبعني " .
الحديث الثامن والثمانون - أخرج البخاري عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جز ثوبه خُيَلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " ، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " إنك لست تصنع ذلك خيلاء " .
الحديث التاسع والثمانون - أخرج ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله بن الزبير: لما نزلت " وَلَو أنَّا كَتَبنا عَلَيهم أنِ اقتُلُوا أنفُسَكُم " النساء: 66، قال أبو بكر يا رسول الله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت، فقال صلى الله عليه وسلم: " صدقت " .
الحديث التسعون - أخرج ابن أبي حاتم، وأبو نعيم عن سعيد بن جبير قال: قرئت عند النبي صلى الله عليه وسلم يا أيتها النفسُ المُطمَئِنَةُ " الفجر: 27، فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن هذا لحسن، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " أما إن الملك سيقولها لك عند الموت " .
الحديث الحادي والتسعون - أخرج الطبراني في الكبير وابن شاهين في السنة عن ابن عباس موصولاً قال: " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غديراً، فقال: ليسبح كل رجل إلى صاحبه، فسبح كل رجل منهم إلى صاحبه حتى بقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر حتى اعتنقه " .
الحديث الثاني والتسعون - أخرج ابن عساكر من طريق مجمع الأنصاري عن أبيه قال: إن كانت حلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتشبك حتى تصير كالأسوار، وإن مجلس أبي بكر منها لفارغ، لا يطمع فيه أحد من الناس، فإذا جاء أبو بكر جلس ذلك المجلس عن يمينه - عليه الصلاة والسلام - ، وأقبل - عليه الصلاة والسلام - بوجهه، وألقى إليه حديثه، وسمع الناس. قلت: تأملها، فيا لها منقبة، حلت من يفاع المجد أعلى مرقبة.
الحديث الثالث والتسعون - أخرج ابن عساكر عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حب أبي بكر وشكره واجب على كل أمتي " . وأخرج مثله من حديث سهل ابن سعد.
الحديث الرابع والتسعون - أخرج ابن عساكر: أنه قيل لأبي بكر في مجمع: هل شربت الخمر في الجاهلية. فقال أعوذ بالله، فقيل له: ولم؟ قال: كنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيعاً عرضه ومروءته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " صدق أبو بكر، صدق أبو بكر " .
الحديث الخامس والتسعون - أخرج الحاكم في الكنى، وابن عدي في الكامل، والخطيب في تاريخه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أبو بكر وعمر خير الأولين والآخرين، وخير أهل السموات، وخير أهل الأرضين، إلا النبي ين والمرسلين " .
الحديث السادس والتسعون - أخرج الطبراني عن أبي الدرداء: " اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر؛ فإنهما حبل الله الممدود، من تمسك به فقد تمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها " .(1/433)
الحديث السابع والتسعون - أخرج الترمذي عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء، ووزيران من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء: فجبريل، وميكائيل؛ وأما وزيراي من أهل الأرض: فأبو بكر، وعمر " .
الحديث الثامن والتسعون - أخرج أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بينما راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منه شاة، فطلبه الراعي، فالتفت إليه الذئب، فقال: استنقذها مني فمن لها يوم السبع، يوم لا راعي لها غيري؟ فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أؤمن بذلك، وأبو بكر " .
الحديث التاسع والتسعون؛ أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد والطبراني عن جابر بن سمرة وابن عساكر عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل الدرجات العلا ليراهم من هو أسفل منهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم " .
الحديث المائة - أخرج ابن عساكر عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل عليين ليشرف واحدهم على الجنة، فيضيء وجهه لأهل الجنة كما يضيء القمر ليلة البدر، وإن أبا بكر وعمر منهم، وأنعما " .
الحديث الحادي والمائة - أخرج الحاكم وصححه، والترمذي عن عبد الله بن حنطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر، فقال: " هذان السمع والبصر " .
الحديث الثاني والمائة - أخرج أبو نعيم - في الحلية - عن ابن عباس، والخطيب عن جابر، وأبو يعلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أبو بكر وعمر مني بمنزلة السمع والبصر من الرأس " .
الحديث الثالث والمائة - أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لكل نبي خاصة من أصحابة، وإن خاصتي من أصحابي أبو بكر وعمر " .
الحديث الرابع والمائة - أخرج ابن عساكر عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لكل نبي وزيران، ووزيراي وصاحباي: أبو بكر وعمر " .
الحديث الخامس والمائة - أخرج ابن عساكر عن علي والزبير - رضي الله عنهما - : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير أمتي بعدي أبو بكر وعمر " .
الحديث السادس والمائة - أخرج الخطيب في تاريخه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سيد كهول أهل الجنة أبو بكر وعمر، وإن أبا بكر في الجنة مثل الثريا في السماء.
الحديث السابع والمائة - أخرج ابن النجار عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما قدمت أبا بكر وعمر، ولكن الله قدمهما " .
الحديث الثامن والمائة - أخرج ابن قانع عن الحجاج التيمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من رأيتموه يذكر أبا بكر وعمر بسوء فإنما يزيل الإسلام " .
الحديث التاسع والمائة - أخرج ابن عساكر عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " القائم بعدي في الجنة، والذي يقوم بعده في الجنة، والثالث، والرابع في الجنة " .
الحديث العاشر والمائة - أخرج ابن عسماكر عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أربعة لا يجتمع حبهم في قلب منافق، ولا يحبهم إلا مؤمن: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي " .
الحديث الحادي عشر والمائة - أخرج البخاري - في تاريخه - والنسائي والحاكم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر " وعدد أشخاصاً ستة.
الحديث الثاني عشر ومائة - أخرج الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار - وهم جلوس فيهم أبو بكر وعمر - فلا يرفع إليه أحد منهم بصره إلا أبو بكر وعمر؛ فإنهما كانا ينظران إليه، وينظر إليهما، ويتبسمان إليه، ويتبسم إليهما " .
الحديث الثالث عشر ومائة - أخرج الترمذي والحاكم عن ابن عمر والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم، فدخل المسجد، وأبو بكر وعمر: أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، وهو آخذ بأيديهما، وقال: " هكذا نبعث يوم القيامة " .
الحديث الرابع عشر ومائة - أخرج البزار عن أبي أروى الدوسي قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر وعمر، فقال: " الحمد لله الذي أيدني بكما " .(1/434)
الحديث الخامس عشر ومائة - أخرج عبد الله ابن الإمام أحمد عن أنس - مرفوعاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إني أرجو لأمتي - في حبهم لأبى بكر وعمر - ما أرجو لهم في قول لا إله إلا الله " .
الحديث السادس عشر ومائة - أخرجه أبو يعلى عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتاني جبريل - آنفاً - فقلت - يا جبريل، حدثني بفضائل عمر، فقال: لو حدثتك بفضائل عمر مدة ما لبث نوح في قومه - ما نفدت فضائله، وإنه لحسنة من حسنات أبي بكر " .
الحديث السابع عشر ومائة - أخرج أحمد عن عبد الرحمن بن غنم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: " لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما " .
الحديث الثامن عشر ومائة - أخرج الطبراني عن سهل قال: لما قدم - عليه كالصلاة والسلام - من حجة الوداع صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: " أيها الناس، إن أبا بكر لم يسؤني قط، فاعرفوا له ذلك، أيها الناس، إني راض عن أبي بكر " .
الحديث التاسع عشر ومائة - أخرج ابن سعد عن بسطام بن مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: " لا يتأمر عليكما أحد بعدي " .
الحديث العشرون وماثة - أخرج ابن عسماكر مرفوعاً: " حب أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما كفر " .
الحديث الحادي والعشرون ومائة - أخرج ابن عساكر - أيضاً - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " حب أبي بكر وعمر من السنة " .
الحديث الثاني والعشرون ومائة - أخرج محمد بن يحيى في الزهريات عن أبي ذر قال: " هجرتُ يوماً من الأيام، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من بيته، فسألت عنه الخادم، فأخبرني أنه ببيت عائشة، فأتيته وهو جالس ليس عنده أحد من الناس، وكان حينئذ أرى أنه في وحي، فسلمت عليه، فرد علي السلام، ثم قال: ما جاء بك؟ قلت: الله ورسوله، فأمرني بالجلوس، فجلست إلى جنبه لا أسأله عن شيء إلا ذكره لي، فمكث غير كثير، فجاء أبو بكر يمشى مسرعاً، فسلم، فرد عليه السلام، ثم قال؛ ما جاء بك؟ قال: الله ورسوله، فأشار بيده إلى ربوة مقابل النبي صلى الله عليه وسلم أن اجلس، فجلس، ثم جاء عمر، ثم جاء عثمان، فجلسا إلى جانب أبي بكر، ثم قبض عليه الصلاة والسلام سبع أو تسع حصيات، فسبحن حتى سمع لهن حنين كحنين النحل في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ناولهن أبا بكر، وجاوزني، فسبحن في كف أبي بكر، ثم أخذهنَ منه، فوضعهن في الأرض، فخرسن، ثم ناولهن عمر فسبحن في كفه، ثم أخذهن فوضعهن في الأرض فخرسن، ثم ناولهن عثمان فسبحن في كفه، ثم أخذهن فوضعهن في الأرض فخرسن.
قال العلامة ابن حجر: تأمل سر إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهن لأبي بكر من يده قبل وضعهن في الأرض بخلافه في عمر وعثمان، فعلم أن ذلك لمزيد قرب أبي بكر حتى صير يده ليست أجنبية من يد النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يفصل بينهما بزوال حبات تلك الحصيات، بخلافه في عمر وعثمان.
الحديث الثالث والعشرون والمائة - أخرج الملا في سيرته أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله افترض عليكم حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج، فمن أنكر فضلهم؛ فلا تقبل منه الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج " .
الحديث الرابع والعشرون ومائة - أخرج الشيخان وأحمد وغيرهم عن أبي موسى الأشعري: أنه خرج إلى المسجد، فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: وجه هاهنا، فخرجت في أثره حتى دخل بئر أرشي، فجلست عند الباب - وبابها من جريد - حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته، فتوضأ، فقمت إليه فإذا هو جالس على بئر أرشي، وتوسط قفها، فجلست عند الباب، فقلت: لأكونن بواباً للنبي صلى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكر فدق الباب، فقلت: من هذا. قال: أبو بكر، فقلت: على رسلك، ثم ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: هذا أبو بكر يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، وهكذا حين جاء عمر، وهكذا حين جاء عثمان، وزاد بعد " بشره الجنة " قوله: " على بلوى تصيبه " .(1/435)
الحديث الخامس والعشرون ومائة - أخرج الحافظ عمر بن محمد بن خضر الملا في سيرته أن الشافعي - رضي الله تعالى عنه - روى بسنده: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " كنت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أنواراً على يمين العرش قبل أن يخلق الله صلى الله عليه وسلم بألف عام، فلما خلق أسكنا ظهره، ولم نزل ننتقل في الأصلاب الطاهرة حتى نقلني الله إلى صلب عبد الله، ونقل أبا بكر إلى صلب أبي قحافة، ونقل عمر إلى صلب الخطاب، ونقل عثمان إلى صلب عفان، ونقل علياً إلى صلب أبي طالب، ثم اختارهم لي أصحاباً، فجعل أبا بكر صديقاً، وعمر فاروقاً، وعثمان ذا النورين، وعلياً وصياً، فمن سب أصحابي فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله، ومن سب الله أكبه في النار على منخريه " .
الحديث السادس والعشرون ومائة - أخرج المحب الطبري - في الرياض النضرة: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أخبرنى جبريل أن الله تعالى - لما خلق آدم، وأدخل الروح في جسده أمرني أن آخذ تفاحة من الجنة فأعصرها في حلقه، فعصرتها في فيه، فخلق الله من النقطة الأولى أنت يا محمد، ومن الثانية أبا بكر، ومن الثالثة عمر، ومن الرابعة عثمان، ومن الخامسة علياً، فقال آدم: يا رب من هؤلاء الذين أكرمتهم؟ فقال تعالى: هؤلاء خمسة أشياخ من ذريتك، وهم أكرم عندي من جميع خلقي " . قال العلامة ابن حجر: أي أنت أكرم الأنبياء والرسل، وهم أكرم أتباع الرسل، فلما عصى آدم ربه، قال: يا رب، بحرمة أولئك الأشياخ الخمسة الذين فضلتهم إلا تبت علي، فتاب عليه.
الحديث السابع والعشرون ومائة - عن محمد بن كعب القرظي لما اشتكى أبو طالب شكواه التي مات فيها قالت له قريش: أرسل إلى ابن أخيك يرسل إليك من الجنة التي ذكرها ما يكون لك شفاء، فجاء رسوله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر جالس معه، فقال؛ إن عمك يقول لك: إني ضعيف سقيم، فأرسل إلي من جنتك ما يكون شفاء، فقال أبو بكر: إن الله حرمها على الكافرين، فرجع الرسول فأخبرهم بمقالة أبي بكر، فحملوا عليه بأنفسهم، ثم أرسلوه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما قال أبو بكر: " إن الله حرمها على الكافرين " .
الحديث الثامن والعشرون ومائة - أخرج في الفضائل - وقال حسن صحيح - عن عائشة رضي الله تعالى عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: " لا تعجل، وأتِ أبا بكر فإنه أعلم قريش بأنسابها حتى يمحض لك نسبي " .
الحديث التاسع والعشرون ومائة - عن ابن عمر: لما كانت الليلة التي ولد فيها أبو بكر الصديق أقبل ربكم على جنة عدن، فقال: " وعزتي وجلالي لا أدخلك إلا من أحب هذا المولود " أخرجه الديلمي. قال في بحر الأنساب، ونقله في الرياض عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: حدثني علي بن أبي طالب من فيه قال: لما أمر الله - تبارك وتعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام خرج وأنا معه وأبو بكر، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - وكان مقدماً في كل خير، وكان رجلاً نسابة فتقدم، وقال: ممن القوم؟ فقالوا: من ربيعة، فقال: أي ربيعة أنتم، من هامتها أم لهزمتها؟ فقالوا بل من الهامة العظمى، فقال أبو بكر: وأي هامتها العظمى. قالوا: من ذهل الأكبر، فقال: أفيكم عوف الذي يقال فيه: " لا حر بوادي عوف؟ " قالوا: لا. قال: أفيكم جساس بن مرة حامي الذمار، ومانع الجار؟ قالوا: لا. قال: أفيكم بسطام بن قيس أبو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا. قال: أفيكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها. قالوا: لا. قال: أفيكم المزدلف صاحب العيافة والندوة؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا، قال أبو بكر: فلستم ذهل الأكبر، أنتم ذهل الأصغر، فقام إليه غلام من بني شيبان حين بقل وجهه يقال له: " دغفل " ، فقال: من الرجز:
إِن عَلَى سائِلِنا أنْ نَسْألَهْ ... والعِبء لا تَعْرِفُهُ أوْ تَحْمِلُهْ(1/436)
يا هذا، إنك قد سألتنا فأخبرناك، ولم نكتمك شيئاً من أمرنا، فمن الرجل؟ فقال أبو بكر: من قريش، فقال الفتى: بخ بخ، أهل الشرف والرياسة، فمن أي القرشيين أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة. قال الفتى: أمكنت - والله - من سواء الثغرة، أمنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر، وكان يدعى في قريش مجمعاً؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه، وأهل مكة مسنتون عجاف؟ قال: لا. قال: أفمنكم شيبة الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء الذي كان وجهه كالقمر في الليلة الداجية؟ قال: لا. قال: فمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل الرفادة أنت؟ قال: لا. فاجتذب أبو بكر زمام ناقته راجعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الغلام: من الرجز:
صادَفَ در السبلِ دراً يَدْفَعُة ... يَهِيضُهُ طَوراً وطَوراً يَصْدَعُهْ
أما - والله - لو ثبت؛ لأخبرتك من أي قريش أنت. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال علي: فقلت: يا أبا بكر، لقد وقعت من الأعرابي على باقعة. قال: أجل، يا أبا حسن، ما من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالمنطق.(1/437)
قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليه السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر، وسلم، وقال: ممن القوم؟ قالو: من شيبان بن ثعلبة. فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر الناس، وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان مفروق أدنى القوم مجلساً، فقال أبو بكر: كيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: علينا الجهد، ولكل قوم جهد قال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال: إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة، ويديل علينا آخرى ثم التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لعلك أخو قريش؟ قال أبو بكر: لقد بلغكم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا هو ذا. فقال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلام تدعونا يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلس، فقام أبو بكر يظله بثوبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أدعوكم، إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، والي أن تعزروني وتنصروني، فإن قريشاً قد ظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد " ، فقال مفروق بن عمرو: وإلام تدعونا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلاماً أحسن من هذا، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قُل تَعالوا أتلُ ما حَرَمَ رَبكُم عَليكُم... " إلى قوله " فَتَفَرَقَ بِكم عَن سبيلِه ذَلِكم وَصاكُم به لَعَلَكم تَتَقونَ " الأنعام: 150 - 153، فقال مفروق: وإلام تدعونا يا أخا قريش؟ قال: فتلا رسول الله: " إِنَ الله يأمُرُ بِالعَدِل والإحسَانِ " النحل: 9 الآية. قال مفروق: دعوت - والله - يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك. وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا، فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعك على دينك؛ لمجلس جلسنا إليك ليس له أول ولا آخر - زلة في الرأي، وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر. وكأنه أحب أن يشرك المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى بن حارثة: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيها جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا، ومتابعتك على دينك، وإنا نزلنا بين صريين اليمامة والسماوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذان الصريان؟ فقال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى، فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا ألا نحدث حدثاً، ولا نؤوي محدثاً، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش، مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك مما يلي مياه العرب فعلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لم ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ " قال النعمان بن شريك: اللهم، فلك ذلك. فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أيّها النبي إِنّاً أرسَلناكَ شاهِداً وَمُبَشراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى الله بِإِذنِهِ وَسِراجاً مُّنِيراً " لأحزاب: 45، 46 ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم قابضاً على يد أبي بكر، وهو يقول: " أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها! بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم " .(1/438)
قال فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سُر بما كان من أبي بكر ومعرفته بأنسابهم هذا ما ظفرت به من الأحاديث الخاصة به، وأما ما ورد مشتركاً بينه وبين عمر رضي الله تعالى عنهما، أو مع الثلاثة، أو مع الأربعة، أو مع العشرة - فشيء كثير لم أورد منه إلا شيئاً، وما ورد في الثناء عليه من الصحابة، والسلف الصالح من الآثار والمناقب من: زهده، وتقواه وورعه، وهداه، وحياطته للدين، والقيام بأمر المسلمين، ومصالحهم، والشفقة على الأمة، والنصح لها، واقتفاء ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وسماعه لتلك وفي غير حضرته، لم أورد منه شيئاً أصلاً، وإلا لاستوعب الكتاب أجمع.
ولما اشتهرت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بالنواحي ارتدت طوائف من العرب عن الإسلام، ومنعوا الزكاة، فخرج أبو بكر في المهاجرين والأنصار، فقال له عمر: ألف الناس، وارفق بهم، فقال له أبو بكر: أجبار في الجاهلية، وخوار في الإسلام؟! إنه قد انقطع الوحي، وتم الدين، أينقص وأنا حي؟! ثم خرج لقتالهم حتى بلغ نقعاء بحذاء نجد، وهربت الأعراب بذراريهم، فكلم الناس أبا بكر، وقالوا: ارجع إلى المدينة، وأمر على الجيش رجلاً، فما زالوا به حتى رجع، وبعث خالداً، وأمره أن يقاتل الناس على خمس، من ترك واحدة منهن قاتله كما يقاتل من ترك الخمس جميعاً: على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج إلى البيت من استطاع إليه سبيلاً.
وأمر على الأنصار خاصة ثابت بن قيس بن شماس، وأمر خالداً أن يصمد لقتال طليحة الأسدي، فسار وعدة من معه ألفان وسبعمائة إلى ثلاثة آلاف، ووجه عكاشة ابن محصن الأسدي، وثابت بن أقرم الأنصاري إلى طليحة، فانتهيا إلى قطن، فصادفا به ابنا لطليحة متوجهاً إلى أبيه بثقله، فقتلاه، وأخذا ماله، فساق وراءهم طليحة - بعد أن علم بما فعلاه - هو وأخوه سلمة، فقتلا عكاشة وثابتاً، فسار خالد فقاتل طليحة، فهزمه الله تعالى، وكان طليحة بطلاً شديد البأس في القتال، وقال طليحة في قتله عكاشة، وثابت بن أقرم: من الطويل:
فَما ظَنكُم بِالقَومِ إذ تَقْتُلُونَهُم ... ألَيسُوا وإن لم يُسْلِمُوا بِرِجالِ
أقمتُ لَهُمُ صَدرَ الحِمالَةِ إنها ... مُعَوَّدةٌ قَتل الكُماةِ نزالِ
فَيوماً تَراها في الجلالِ مَصُونَةً ... وَيَوماً تَراها غَيرَ ذاتِ جلالِ
فإن يَكُ أولادٌ أُصِبنَ وَنِسوَةٌ ... فَلَن تَذْهَبُوا فَرغاً بِقَتْلِ حبالِ
عَشِيةَ غادَرتُ بنَ أقْومَ ثاوِياً ... وَعُكاشَةَ الغَنمِيَّ عِندَ مجالِي
وكان من شأن طليحة أنه تنبأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول: إن ذا النون يأتيه، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد ذكر ملكاً عظيماً، فلما كان زمن أبي بكر فيمن ارتد، فبعث أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد إليه، فلما انتهى إلى عسكره، ووجده قد ضربت له قبة من أدم وأصحابه حوله، فقال خالد: ليخرج إلي طليحة، فقالوا لا تصغر نبينا، هو طلحة، فخرج إليه، فقال له خالد: إن من عهد خليفتنا أن يدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، فقال: يا خالد أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.(1/439)
فلما سمع خالد ذلك انصرف عنه، وعسكر بالقرب منه على ميل، فقال عيينة بن حصن لطليحة: لا أبا لك، هل أنت مرينا بعض نبوتك؟ قال: نعم. وكان قد بعث عيوناً له حين سار خالد من المدينة مقبلاً إليهم فعرفوا خبر خالد، فقال: لئن بعثتم فارسين على فرسين أغرين محجلين من بني نصر بن قعين، أتوكم من القوم بعين، فهيئوا له فارسين فبعثوهما، فخرجا يركضان، فلقيا عينا لخالد مقبلا إليهم، فقالا: ما خبر خالد؟ وقالا: ما وراءك. قال: هذا خالد بن الوليد في المسلمين قد أقبل، فزادهم فتنة وقال: ألم أقل لكم؟! فلما كان السحر نهض خالد إلى طليحة فيمن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما التقى الجمعان تزمل طليحة في كساء له زاعماً انتظار الوحي، فلما طال ذلك على أصحابه، وألح عليهم المسلمون بالسيف - قال له عيينة بن حصن: هل أتاك بعد؟ فقال من تحت الكساء: لا، والله ما جاء بعدُ، فقال له عيينة: تباً لك آخر الدهر! ثم جذبه جذبة، جلس منها، وقال: قبح الله هذه من نبوة، فجلس طليحة، ثم قال له عيينة: ما قيل لك. قال: قيل لي إن لك مرجى كمرجاه، وأمراً لا تنساه. فقال له عيينة: أظن قد علم الله تعالى أن سيكون لك أمر لا ننساه، هذا كذاب، ما بورك لنا ولا له فيما نطلب، ثم هرب عيينة وأخوه، فأدركوه وأسروه، وأفلت أخوه، وهرب طليحة منهزماً، وأسلمه شيطانه حتى قدم الشام فأقام عند بني حنيفة الغسانيين حتى فتح الله تعالى أجنادين، وتوفي أبو بكر - رضي الله عنه تعالى كذا في المحاسن والمساوي - ثم أسلم طليحة، وحسن إسلامه.
قال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال: لما سار خالد - وكان سيفاً من سيوف الله ورسوله - فأسرع المسير حتى نزل ببزاخة، وجمع له هناك العدو بنو أسد وغطفان، فاقتتلوا حتى قتل من العدو خلقاً كثيراً، وأسر منهم أساري، فأمر خالد بالحضر أن تبنى ثم أوقد فيها النيران، وألقى الأساري فيها، وقتل في ذلك الوجه مالك بن نويرة التميمى.
قال ابن إسحاق: أتى خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لمالك بن نويرة في رهط من قومه بنى حنظلة، فضرب أعناقهم، وسار في أرض بني تميم، فلما غشوا قوماً منها أخذوا السلاح وقالوا نحن مسلمون، فقيل لهم: ضعوا السلاح فوضعوه، ثم صلى المسلمون فصلوا، فروى سالم بن عبد الله عن أبيه قال: قدم أبو قتادة الأنصاري على أبي بكر فأخبره بقتل مالك بن نويرة وأصحابه، فجزع لذلك، ثم ودى مالكاً ورد السبي والمال.
وهو مالك بن نويرة بن شداد اليربوعى التميمي فارس ذي الخمار، وذو الخمار فرسه. كان فارساً شجاعاً مطاعاً في قومه، وفيه خُيلاء، كان يقال له: الجفول لكثرة سفره، وكان من فرسان العرب وشجعانهم، وذوي الرأي والردافة في الجاهلية، وكانت لبني يربوع أيام آل المنذر، ومعنى الردف: أن يجلس مجلس الملك إذا غاب، وعن يمينه إذا جلس، فإذا شرب الملك شرب الردف بعده، وللردف إتاوة تؤخذ مع إتاوة الملك، وفي ذلك يقول راجزهم:
وَمَنْ يُنافِرْ آلَ يَرْبوعٍ يَجِدْ ... ألمَجْلِسَ الأيْمَنَ واًلرِّدَف النجدْ
قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فولاه صدقة قومه بني يربوع ثم ارتد، فلما نازله خالد بعد وفاته - عليه الصلاة والسلام - قال: أنا آتي بالصلاة دون الزكاة. فقال له: أعلمت أن الصلاة والزكاة معاً لا تقبل واحدة دون الأخرى؟ فقال: قد كان صاحبك يقول ذلك. قال خالد: وما تراه لك صاحباً؟ ولقد هممت أن أضرب عنقك، ثم تجاوز طويلاً فصمم خالد على قتله، فكلمه أبو قتادة الأنصاري وابن عمر، فكره كلامهما، وقال لضرار بن الأزورة اضرب عنقه، فجاءت امرأته ليلى بنت سنان، كاشفة وجهها - فألقت نفسها عليه، فالتفت مالك إلى زوجته وقال: أنت التي قتلتيني، وكانت في غاية الجمال، قال خالد: بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام، فقال: أنا على الإسلام. قال: اضرب عنقه؛ فضرب عنقه، وجعل رأسه إحدى أثافي القدر، وطبخ فيها طعام. فقالت امرأة من قومه حين رأته: اصرفوا وجه مالك عن النار، فوالله لقد كان حديد الطرف في الغارات، غضيض الطرف عن الجارات، لا يشبع ليلة يضاف، ولا ينام ليلة يخاف، ثم تزوج خالد بالمرأة، فقال أبو زهير السعدي من أبيات: من الطويل:
قَضَى خالدَ بَغياً عَلَيهِ لِعِرْسِهِ ... وَكانَ لَهُ فِيها هَوَى قَبل ذَلِكَ(1/440)
ويذكر أن أخا مالك بن نويرة - متمم بن نويرة - قدم المدينة، فأنشد أبا بكر مندبة ندب بها أخاه، وناشده في دم أخيه، منها قوله مخاطباً لضرار بن الأزور: من الكامل:
نِعمَ القَتِيلُ إِذاً الرياحُ تَنَوحَت ... خَلفَ البُيُوتِ قَتلتَ يابْنَ الأزْوَرِ
ثم توجه إلى أبي بكر فقال: من الكامل:
وَدَعَوتَهُ بِاللّه ثُم غَدَرتَهُ ... لَو هُوْ دَعاكَ بِذِمَة لَمْ يَغْدرِ
فقال أبو بكر: والله ما دعوته، ولا غمرته، فقال أخوه متمم بقية أبياته المشهورة، وانحط على فرسه وكان أعور، فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء، فقام إليه عمر بن الخطاب، فقال: وددت لو رثيت أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك، فقال متمم: والله لو علمت أن أخي صار إلى ما صار إليه أخوك لم أرثه، ولم أحزن عليه - يعنى الجنة - قلت: وهذا الجواب من متمم يؤيد صحة الرواية بارتداده، وقال له عمر - رضي الله تعالى عنه - يوماً: حدثنا عن أخيك، فقال: أسرت مرة في حي عظيم من أحياء العرب، فأقبل أخي مالك، فما هو إلا أن طلع على الحاضرة، فما كان أحد قاعداً إلا قام، ولا بقيت امرأة إلا تطلعت من خلال البيوت، فما نزل عن جمله حتى تلقَوه بي في رمتي. قلت: الرمة - بضم الراء وشد الميم: الخطام من الليف، أطلقت ههنا على الحبل الذي ربط به، فقال عمر - رضي الله عنه - : إن هذا لهو الشرف ومن شعر مالك قوله: من الكامل:
ولقَد عَلِمتُ ولا مَحالةَ أننِي ... لِلحادِثاتِ، فَهَل تَرَيْني أجزَعُ؟؟؟
أفنَينَ عاداً ثم آلَ مُحَرقٍ ... فَتَرَكْنَهُمْ بَدَداً وما قَدْ جمعُوا
وعَددتُ أيامِي إلى عِرق الثرَى ... ودَعَوتُهُم فعلمتُ أنْ لَمْ يسمَعُوا
ذَهبُوا فَلَم أدركهُمُ، ودهَتهُمُ ... غَولُ الليالِي والطَريقُ المَهيَعُ
ومنه قوله: من الطويل:
وقالُوا لي استأسِر فإنكَ آمِنٌ ... فَقُلتُ إنِ استأسَرتُ إني لخائِن
عَلامَ تَرَكتُ المشرَفي مضاجِعي ومطرداً فيه المنايا كَوامِنُ
فإن تَقْتلوني بَعدَ ذاك فإنني ... أمُوتُ بمقْدارٍ وَتبْقَى الضَغائِنُ
ثم كلمه في السبي والمال فرد إليه أبو بكر السبي والمال. وله مندبة أخرى يقول فيها: من الطويل:
وَكُنا كَنَدْماني جُذيمَةَ حقْبَةً ... مِنَ الدهرِ حتَى قيل لَنْ يَتَصَدَعا
فَلَما تَفَزقنا كأني وَمالِكاً ... لِطُولِ اجتِماعٍ لَمْ نَبِتْ ليْلةً مَعا
؟ذكر أولاده
رضي الله تعالى عنه:
كان له ستة: ثلاثة بنين، وثلاث بنات، أما البنون: فعبد الله أكبر أولاده الذكور، أمه قتيلة - بالتصغير، وقيل بالتكبير - من بني عامر بن لؤي، شهد فتح مكة وحنيناً والطائف مع النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً، وجرح بالطائف، وبقي إلى خلافة أبيه، ومات فيها، رماه في وقعته بسهم أبو محجن الثقفي، فبرئ منه ثم انتقض عليه الجرح فمات به، وترك سبعة دنانير فاستكثرها أبوه أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - ولم يعقب.
والثاني - عبد الرحمن بن أبي بكر، يكنى أبا عبد الله، أسلم في هدنة الحديبية، وهاجر إلى المدينة، وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان من الشجعان. له مواقف في الجاهلية والإسلام مشهورة، وأبلى في فتوح الشام بلاءً حسناً، وكان ممن شهد بدراً مع المشركين، ثم من الله تعالى عليه بما من على أمه: أم رومان بنت الحارث من بني فراس بن غنم بن كنانة، أسلمت وهاجرت. مات فجأة سنة ثلاث وخمسين بعد وفاة معاوية قبل أن تتم البيعة ليزيد، بجبل قرب مكة، فأدخلته أخته شقيقته عائشة الحرم، ودفنته، وأعتقت عنه، وكان شهد الجمل معها، وله عقب. مروياته ثمانية أحاديث.(1/441)
ومحمد بن أبي بكر، ويكنى أبا القاسم كان من نساك قريش، أمه: أسماء بنت عميس الخثعمية وكانت من المهاجرين الأولين، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب، وهاجرت معه إلى الحبشة، ولما استشهد جعفر بمؤته من أرض الشام تزوجها أبو بكر - رضي الله عنه - فولدت له محمداً بذى الحليفة، لخمس بقين من ذي القعدة سنة عشر من الهجرة، ولما توفي أبو بكر - رضي الله تعالى عنه وعنها - تزوجها علي بن أبي طالب، ونشأ محمد بن أبي بكر هذا في حجر علي - رضي الله تعالى عنه - وكان على راحلة علي - رضي الله عنه - يوم الجمل، وشهد معه صفين، وولاه عثمان في أيامه مصر وكتب له العهد، ثم اتفق مقتله - يعني عثمان - قبل وصوله - يعني محمداً - إليها، وولاه علي - كرم الله وجهه - مصر بعد رجوعه من صفين فوقع بينه وبين عمرو بن العاص حرب، فهزم محمد بن أبي بكر وقتل، وأكثر المؤرخين على أنه أحرق في جوف حمار ميت، يقال: كان ذلك قبل قتله، وقيل: بعد القتل.
وأما البنات: فعائشة أم المؤمنين شقيقة عبد الرحمن، وقد تقدم ذكرها في زوجاته عليه الصلاة والسلام.
وأسماء بنت أبي بكر، شقيقة عبد الله، وهي أكبر بناته، وهي ذات النطاقين - وتقدم ذكر سبب تسميتها بذلك عند ذكر الهجرة تزوجها الزبير بمكة، وولدت له عدة أولاد: المنذر، وعروة أحد الفقهاء السبعة، والمهاجر، وعبد الله، وخديجة، وأم الخير، وعائشة، ثم طلقها، فكانت مع ولدها عبد الله حتى قتل، وعاشت بعده خمسة أيام، وكانت من المُعَمرين، بلغ عمرها مائة سنة وعميت، وكان موتها بمكة، وسيأتي لها مزيد ذكر عند خلافة ابنها عبد الله بن الزبير.
وأم كلثوم، وهي أصغر بناته - رضي الله تعالى عنها - وهي التي تركها أبو بكر في بطن بنت خارجة، كان أبو بكر قد نزل عليه، وتزوج ابنته، وتوفي عنها وتركها حبلى فولدت بعده أم كلثوم، فاحتالت له حتى أمسك عنها، فتزوجها طلحة بن عبيد الله ذكر هذا ابن قتيبة وغيره، وابن عبد البر في الاستيعاب، وابن الجوزي في الصفوة.
ذكر وفاته
رضي الله تعالى عنه:
قال في الرياض: قال أهل السير توفي أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وذكره في الصفوة العلامة ابن الجوزي، وقال في الخميس: قال ابن إسحاق: توفي يوم الجمعة لتسع بقين من الشهر المذكور، وذكره أبو عمرو، والأول أصح لما روت عائشة قالت: لما ثقل أبو بكر قال: أي يوم هذا. قلنا: يوم الاثنين. قال: وأي يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: يوم الاثنين. قال: فإني أرجو فيما بيني وبين الليل، فإن مت في ليلتي، فلا تنتظروا بي الغد، فإن أحب الأيام والليالي إليّ أقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. خرجه الإمام أحمد بسنده. كذا في الرياض.
قال: وكان عليه ثوب فيه ردغ من زعفران، أو مِشق - بكسر الميم وسكون الشين المعجمة - : وهي المغرة. قال: فإذا أنا مت، فاغسلوا لي ثوبي هذا، وضموا إليه ثوبين جديدين، وكفنوني في ثلاثة أثواب. قالوا: ألا نجعلها كلها جدداً؟ قال: إنما هي للمهلة، وهي بضم الميم وقال بعضهم بكسرها الصديد والقيح، وحكى بعض العراقيين فيها الفتح.
ولما مات - رضي الله تعالى عنه - غسلته زوجته أسماء بنت عميس بوصية منه، وصب عليها الماء ابنه عبد الرحمن، ولما كفن حمل على السرير الذي كان ينام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سرير عائشة من خشب الساج منسوج بالليف، وبيع في ميراث عائشة، فاشتراه رجل من موالي معاوية بأربعة آلاف درهم، فجعله للناس يحملون عليه موتاهم بالمدينة، وصلى عليه عمر بن الخطاب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه المنبر، وكبر أربعاً، ودفن إلى جنب قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وألصق لحده بلحده، ونزل في قبره عمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن بن أبي بكر، ودفن ليلاً، وكان آخر ما تكلم به رضي الله عنه: رب توفني مسلماً وألحقني بالصالحين.(1/442)
وروى الليث بن سعد عن علوان عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه، فسلمت عليه، وسألته كيف أصبحت؟ فقال: بحمد الله بارئاً، أما إني على ما ترى وجع، وجعلتم لي شغلاً مع وجعي، جعلت لكم عهداً بعدي، واخترت لكم أحبكم لنفسي، فكلكم وَرِمَ لذلك أنفه رجاء أن يكون الأمر له ثم قال: أما إني لا آسي على شيء إلا على ثلاث فعلتهن، وثلاث لم أفعلهن، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن: وددت إني لم أكن كشفت بيت فاطمة، وتركته وإن أغلق على الحزب، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قذفت الأمر في عنق عمر وأبي عبيدة، ووددت أني لما كنت وجهت خالد بن الوليد إلى أهل الردة، أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون وإلا كنت لهم مدداً وردءاً؛ ووددت إني يوم أتيت بالأشعث أسيراً ضربت عنقه، فإنه يخيل إلى أنه لا يكون شر إلا طار إليه؛ ووددت أني يوم أتيت بالعجاج الأسلمي لم أكن حرقته، وقبلته، وأطلقته، ووددت أني حيث وجهت خالد بن الوليد إلى الشام، وجهت عمر إلى العراق، فأكون قد بسطت يميني وشمالي في سبيل الله؛ ووددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن هذا الأمر، ولا ننازعه أهله، وأني سألته: هل للأنصار في هذا الأمر شيء؟ وأني سألته عن العمة وبنت الأخ، فإن في نفسي منهما حاجة. رواه هكذا - أو أطول من هذا - ابن وهب عن الليث بن سعد إلى عبد الرحمن بن عوف.
وروى القاسم عن عائشة أن أبا بكر حين حضره الموت قال: إني لا أعلم عند آل أبي بكر غير هذه اللقحة، وغير هذا الغلام الصيقل، وكان يعمل سيوف المسلمين ويخدمنا، فإذا مت فادفعيهما إلى عمر. قال: فلما دفعتهما قال عمر: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده.
حكى ابن عمر قال: كان سبب موت أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - كمداً على موت النبي صلى الله عليه وسلم ما زال يذيبه حتى مات. والكمد: الحزن المكتوم.
وعن عائشة - رضي الله عنها - كان أول مرضه أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الأخرى، وكان يوماً بارداً فحم خمسة عشر يوماً، لا يخرج إلى الصلاة، وكان يأمر عمر بن الخطاب يصلي بالناس، فدخل عليه الناس؛ يعودونه، وكانت عائشة لما ثقل تتمثل بقول الشاعر: من الطويل:
أعاذِلُ ما يُغْنِي الحذارُ عَنِ الفَتَى ... إِذا حَشرَجَتْ يَوماً وضاقَ بَها الصدرُ
فقال لها أبو بكر: لا تقولي هذا، ولكن قولي " وَجاءت سكرةُ المَوتِ بِالحَقَّ ذَلِكَ ما كنتَ مِنهُ تحيدُ " ق: 19، ثم إنها تمثلت بقول أبي طالب: من الطويل:
وأبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمامُ بِوجْهِهِ ... ثمالِ اليتامَى عِصْمَةٍ لِلأًرامِل
فقال لها: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الناس له لما دخلوا عليه، يعودونه: ألا ندعو لك طبيباً، ينظر إليك؟ فقال: قد نظر إلي، فقالوا: ما قال لك؟ قال: قال لي إني فعال لما أريد.
قال الواقدي: توفي - رضي الله تعالى عنه - ليلة الثلاثاء، لثمان بقين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة، أسلم وهو ابن سبع وثلاثين، وعاش في الإسلام ستاً وعشرين سنة، ومدة خلافته سنتان وثلاثة أشهر واثنتا عشرة ليلة، من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوصى أن يدفن إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ذكر ذلك.
قال جابر بن عبد الله الأنصاري: فانطلقنا، ودفعنا الباب، وقلنا: هذا أبو بكر. ففتح الباب، ولم ندر من فتحه لنا، وليس في البيت أحد، وقال: ادخلوا فادفنوه، ولا نرى شخصاً. قال في شواهد النبوة سمعوا صوتاً يقول: ادفنوا الحبيب إلى حبيبه.
ولما توفي أبو بكر كان أبوه حياً بمكة، وعاش بعده ستة أشهر وأياماً.
مروياته في كتب الحديث: مائتان واثنان وأربعون حديثاً. رضي الله تعالى عنه، وأرضاه وجعل الجنة منقلبه ومثواه، ونفعنا به، آمين.
خلافة أمير المؤمنين عمر الفاروق
رضي الله عنه:
أخرج الواقدي من طرق: أن أبا بكر - رضي الله عنه - لما ثقل دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإنْ، فقال عبد الرحمن بن عوف: هو والله - أفضل من رأيك فيه.(1/443)
ثم دعا عثمان بن عفان، فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال: أنت أخبرنا به، فقال: وإن، فقال: اللهم علمي به: أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله.
وشاور معهما سعيد بن زيد، وأسيد بن الحضير، وغيرهما من المهاجرين والأنصار، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضا ويسخط للسخط، الذي يسره خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، ثم دخل عليه بعض الصحابة، فقال قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن تولية عمر علينا، فقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني، فأجلس، فقال أبالله تخوفني؟! خاب من يَزَوَد من أمركم بظلم!! أقول: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك، أبلغ عني من وراءك ما قلت.
ثم دعا عثمان فقال اكتب: " بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني قد استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطعيوا وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم إلا خيراً، فإن عدل فذلك ظني فيه وعلمي به، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظملوا أي منقلب ينقلبون. والسلام عليكم ورحمة الله " .
ثم أمر بالكتاب فختمه، ثم أمر عثمان فخرج بالكتاب مختوماً، فبايع الناس لمن فيه، ورضوا به ورأيت في الجمع الغريب ما نصه - بعد قوله: " فبايم الناس لمن فيه " : حتى مر الكتاب بعلي - رضي الله تعالى عنه - فقال: بايعنا لمن فيه وإن كان عمر - بزيادة الواو قبل إن، وفي رواية أخرى بحذف الواو.
قلت: يؤيد رواية عدم الواو ما ذكره في الرياض النضرة، وعبارته: " روى أن أبا بكر لما ثقل أشرف على الناس من كوه، فقال: يأيها الناس، إني قد عهدت عهداً، أفترضون به؟ قال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله، فقال علي: لا نرضى إلا أن يكون عمر، قال: فإنه عمر. انتهى. ثم دعا عمر - رضي الله عنه - خالياً، فأوصاه بما أوصاه به، ثم خرج من عنده، فرفع أبو بكر يده، فقال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة فعملت فيهم بما أنت به أعلم، واجتهدت لهم رأيي فوليت عليهم خيرهم وأقواهم وأحرصهم على ما أرشدهم، فقد حضرني من أمرك ما حضر، فأخلفني فيهم، فهم عبادك، ونواصيهم بيدك، أصلح ولايتهم، واجعله من خلفائك الراشدين، وأصلح له رعيته.
وفي الصفوة: أول ما تكلم به عمر - رضي الله تعالى عنه - حين صعد المنبر أن قال: اللهم إني شديد فليني، وإني ضعيف فقوني، وإني بخيل فسخني.
وعن الحسن: أول خطبة خطبها: حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني ابتليت بكم، وابتليتم بي، فما كان بحضرتنا باشرنا، ومهما غاب عنا وليناه أهل القوة والأمانة، فمن يحسن نزده حسنى، ومن يسئ نعاقبه ثم قال: بلغني أن الناس قد هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشدد علينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فكيف الآن وقد صارت الأمور إليه؟! ولعمري من قال ذلك فقد صدق، كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت عبده وخادمه حتى قبضه الله، وهو راض عني ولله الحمد، وأنا أسعد الناس بذلك، ثم ولي أبو بكر، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدتي بلينه فأكون سيفاً مسلولاً حتى يغمدني، فما زلت معه كذلك حتى قبضه الله نعالى - وهو عني راض، ولله الحمد، وأنا أسعد الناس بذلك، ثم إني وليت الآن أموركم، اعملوا أن تلك الشدة قد تضاعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، وأما أهل السلامة في الدين والقصد فإنما اللين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلمه أحد أو يتعدى عليه حتى أضع خده بالأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق، ولكم علي أيها الناس، ألا أخبأ عنكم شيئاً من خراجكم، وإذا وقع عندي ألا يخرج إلا بحقه، ولكم علي ألا ألقيكم في المهالك، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا. أقول! قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(1/444)
قال سعيد بن المسيب: ولي عمر، فزاد في الشدة في مواضعها واللين في مواضعه، وكان أباً للعيال حتى أنه كان يمشي إلى المغيبات، ويقول: ألكن حاجة حتى أشتريها لكن؟ فإني أكره أن تخدعن في البيع والشراء، فيرسلن معه بجواريهن، ومن كان ليس لها شيء اشترى لها من عنده وهو أول من قال: أطال الله بقاءك، قالها لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأخرج ابن عساكر عن إسماعيل بن زياد، قال: مر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على المساجد في رمضان وفيها القناديل، فقال: نور الله على عمر في قبره كما نور علينا مساجدنا.
وأوليات عمر مفردة بالتأليف، وذكر هذا العلامة جلال الدين السيوطي في تاريخه.
قال ابن الجوزي في المنتظم: روى أن أبا طلحة خرج في ليلة مقمرة، فرأى عمر - رضي الله عنه - قد دخل بيتاً ثم خرج منه، فلما أصبح أبو طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا فيه عجوز عمياء مقعدة. فقال لها أبو طلحة: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ فقالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا بما يصلحني، ويخرج عني الأذى والقذى.
ولما رجع رضي الله عنه من الشام إلى المدينة - انفرد عن الناس؛ ليتعرف أخبار رعيته، فمر بعجوز لها خباء، فقصدها، فقالت: يا هذا، ما فعل عمر؟ قال: قد أقبل من الشام سالماً، فقالت: لا جزاه الله عني خيراً. قال لها: ولم؟ قالت: لأنه ما فاتني من عطائه منذ ولي أمر المسلمين دينار ولا درهم، فقال: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع؟! فقالت: سبحان الله: ما ظننت أن أحداً يلي على الناس، ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها. فبكى عمر، فقال: واعمراه بك أتدافعه منك حتى العجائز، ثم قال لها: يا أمة الله، بكم تبيعيني ظلامتك من عمر؟ فإني أرحمه من النار، فقالت: لا تهزأ بي، يرحمك الله؟ فقال عمر: لست بهزاء - فلم يزل بها حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين ديناراً - فبينما هو كذلك إذ أقبل: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما - فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فوضعت العجوز يدها على رأسها، وقالت: واسوأتاه، شتمت أمير المؤمنين في وجهه، فقال: لا عليك، يرحمك الله.
ثم طلب وفاء فلم يجده، فقطع قطعة من مرقعته، وكتب فيها: " بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما اشترى عمر ظلامتها منذ ولي إلى يوم كذا بخمسة وعشرين ديناراً، فما تدعيه عند وقوفه في المحشر بين يدي الله تعالى فهو منه بريء شهد على ذلك من فلانة: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود " .
قال أبو طلحة: ثم دفع الكتاب إلي، وقال: إذا مت فاجعله في كفني؛ ألقى به ربي عز وجل.
وأخباره في مثل هذا كثيرة جداً، وإنما ذكرت هذا منها، لما جر إليه ذكره بالشدة واللين والرفق والشفقة على المسلمين.
ذكر نسبه
رضي الله عنه:
هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح ابن عدى بن كعب بن لؤي، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي، أمه: حنتمة بنت هاشم بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وقال طائفة بنت هشام بن المغيرة، ومن قال ذلك فقد أخطأ، ولو كانت كذلك لكانت أخت أبي جهل بن هشام، والحارث بن هشام، وإنما هي بنت هاشم، وهاشم وهشام أخوان
ذكر إسلامه
قال ابن إسحاق: كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة.
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، فقلت: هذا - والله - شاعر كما قالت قريش، فقرأ: " إِنَّهُ لَقَولُ رَسُول كرَيم وَما هُوَ بِقولِ شاعِر قَلِيلأً ما تؤمنوُنَ " الحاقة: 40، 41. قال: فقلت: كاهن، فقال: عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ: " وَلا بِقَولِ كاهِن قَلِيلاً ما تذَكَرونَ تنزِيل من رب العاَلمِينَ وَلَو تَقَؤَلَ عَلَينا بَعضَ الأقاوِيلِ " إلى " حَاجِزين " الحاقة:42، 47،. قال: فوقع الإسلام من قلبي كل موقع. خرجه أحمد.(1/445)
وفي طريق آخر عن أنس بن مالك قال: خرج متقلداً السيف، فلقيه رجل من بني زهرة، فقال أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمداً، قال: وكيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمداً؟! فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبأت، وتركت دينك الذي أنت عليه، فقال الرجل: لا تلمني، ولم أختك وخَتنك إن كنت تلوم، فإنهما قد صبآ. فمشى عمر حتى أتاهما وعندهما رجل من المهاجرين يقال له خباب بن الأرت، فلما سمع خباب حس عمر - توارى في البيت، فدخل عليهما، وكانوا يقرءون سورة طه فسكتوا، فقال: ما هذه الهمهمة التي سمعتها عندكم؟ فقال: ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبأتما، فقال له خَتنه أرأيت يا عمر، إن كان الحق في غير دينك؛ فوثب عمر على ختنه، فوطئه وطأً شديداً، فجاءته أخته فدفعته عنه، فنفحها نفحة بيده، فحمى وجهها، فقالت غضبي: ويلي يا عمر، أرأيت أن الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
فلما تبين عمر قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه، وكان عمر يقرأ الكتب، فقالت له أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ، فقام فتوضأ ثم أخذ الكتاب، فقرأ " طه " إلى قوله: " إِنني أنا اللهُ لا إِلَهَ إلا أناَ فاعبدني وأقِمِ الصَّلَوةَ لِذِكرِي " طه: 14، فقال عمر: دلوني على محمد، فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر، فإنى أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس: " اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين، عمر بن الخطاب، أو عمرو بن هشام " ، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا.
فانطلق عمر حتى أتى الدار. قال: وعلى الباب حمزة، وطلحة، وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: عمر، فلما رأى حمزة وجل القوم من عمر - قال حمزة: نعم، هذا عمر، وإن يرد الله به خيراً يسلم، وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هيناً، قال: والنبي داخل يوحى إليه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عمر، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه، فقال: " ما أنت بمنته عني يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما لم ينزل بالوليد بن المغيرة. اللهم اهد عمر بن الخطاب، اللهم أعز الدين بعمر بن الخطاب " . فقال عمر: أشهد أنك رسول الله، فأسلم عمر، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البيت تكبيرة سمعت من أعلى مكة.
فقال عمر: يا رسول الله علام نخفي ديننا ونحن على الحق؟ قال: يا عمر إنا قليل. قال عمر: والذي بعثك بالحق لا يبقى مجلسْ جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان. ثم خرج وطاف بالبيت، ثم مر بقريش وهم ينظرونه، فقال له أبو جهل ابن هشام - وهو عم والدته حنتمة بنت هاشم بن المغيرة المخزومي - : زعم فلان أنك صبوت، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله؛ فوثب عليه المشركون، ووثب عمر على عتبة بن ربيعة، فبرك عليه، وجعل يضربه، وأدخل إصبعيه في عينيه، فجعل عتبة يصيح؛ فتنحى الناس عنه. فقام عمر فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ شريف من، دنا منه حتى أحجم الناس عنه، واتبع المجالس التي كان يجلس فيها بالكفر، فأظهر الإسلام فيها.
ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر عليهم، فقال: ما يحبسك بأبي أنت وأمي؟! فوالله ما بقي مجلس جلست فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإسلام غير هائب ولا خائف، فخرج - عليه الصلاة والسلام - في صفين من أصحابه، عمر بن الخطاب في يمينهما، وحمزة بن عبد المطلب في يسارهما، حتى طاف بالبيت وصلى الظهر معلنا. ثم انصرف إلى دار الأرقم هو ومن معه أخرجه أبو القاسم الدمشقي في الأربعين الطوال.
وعن ابن مسعود: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر. أخرجه البخاري وأبو حاتم.
وعنه - أيضاً - قال: كان إسلام عمر فتحاً، وهجرته نصراً، وإمارته رحمة، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا، وصلى عند الكعبة، وصلينا معه أخرجه الحافظ السلفي.(1/446)
وخرج الخلعي طرفاً من هذه القصة، وقال: فقال عمر: لا نعبد الله سراً بعد اليوم، فأنزل الله " يا أيَها النبيُ حَسبُكَ اللهُ وَمَنِ اتبعك مِنَ المُؤمينَ " الأنفال: 64، وكان ذلك أول ما نزل من القرآن في تسمية الصحابة مؤمنين، وكان عمر عند ذلك ينصب راية للحرب بمكة، ويحاربهم على الحق، فيقول لأهل مكة: والله لو بلغت عدتنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا، أو لتركناها لكم.
وعن صهيب قال: لما أسلم عمر جلسنا حول البيت حلقاً حلقاً، وانتصفنا ممن غلظ علينا.
وعن علي - رضي الله عنه - : ما سمينا مؤمنين - حتى أسلم عمر. خرجه في الفضائل.
وعن ابن مسعود: لما أسلم عمر أظهر الإسلام، ودعا إلى الله؛ علانية.
وعن ابن عباس قال: لما أسلم عمر قال المشركون: انتصف القوم مِنا.
وهو أول من مصر الأمصار كالكوفة والبصرة، وحقق كلمته في إعلاء كلمة الله، ففتح الفتوحات العظيمة في المواضع العديدة، فتح مصر والشام ثم الروم ثم القادسية، ثم انتهى الفتح إلى حمص وحلوان والرقة والرُها وحرّان ورأس العين والخابور ونصيبين وعسقلان وطرابلس، وما يليها من السواحل، وبيت المقدس وبيسان واليرموك والأهواز وقيسارية وتستر ونهاوند والري وما يليها وأصفهان وبلاد فارس وغيرها.
ومع هذا كله بقى على حاله كما كان قبل الولاية في لباسه وزيه وأفعاله وتواضعه، يسير منفرداً في سفره وحضره من غير حرس ولا حجاب، لم تغيره الأمور ولم يستطل على مسلم بلسانه، ولا يحابي أحداً في الحق. وكان لا يطمع الشريف في حيفه، ولا يشفق الضعيف من عدله، ولا يخاف في الله لومة لائم، وينزل نفسه من مال الله منزلة رجل من أوساط المسلمين، وجعل فرضه كفرض رجل من المهاجرين، وكان يقول: أنا ومالكم كولي اليتيم إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، أراد: أنه يأكل ما تقوم به بنيته لا يتعداه.
قال مجاهد: تذاكر الناس في مجلس ابن عباس، فأخذوا في فضل أبي بكر ثم في فضل عمر، فلما سمع ابن عباس ذكر عمر بكى بكاءً شديداً حتى أغمي عليه، ثم قال: يرحم الله عمر، قرأ القرآن، وعمل بما فيه، فأقام حدود الله كما أمر لا تأخذه في الله لومة لائم، لقد رأيت عمر أقام الحد على ولده فقتله.
قلت: قصة إقامة الحد على ولده ذكرها في الرياض النضرة، وبعضها عن عمرو ابن العاص قال: بينما أنا بمنزلي بمصر إذ قيل: هذا عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، وأبو سرعة يستأذنان عليك، فقلت: يدخلان، فدخلا وهما متنكران، فقالا: أقم علينا الحد؛ فإنا أصبنا البارحة شراباً وسكرنا. قال: فزبرتهما وطردتهما. فقال لي عبد الرحمن: إن لم تفعل خبرت والدي عمر إذا قدمت عليه. قال عمرو: فقلت إني إن لم أقم عليهما الحد غضب علي عمر وعزلني، قال: فأخرجتهما إلى صحن الدار، فضربتهما الحد، وأدخلت عبد الرحمن ناحية إلى بيت من الدار، فحلق رأسه، وكانوا يحلقونه مع الحدود، والله ماكتبت لعمر بحرف مما كان، حتى إذا كان كتابه جاءني فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر إلى عمرو بن العاص، عجبت لك وجوابك عَلي وخلافك عهدي فما أراني إلا عاذلك تضرب عبد الرحمن في بيتك وتحلق رأسه في بيتك، وقد عرفت إن هذا ليخالفني، إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلتَ: هو ولد أمير المؤمنين، وقد عرفت إني لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق، فإذا جاءك كتابي - فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع، والسلام. فبعثت به كما قال أبوه، وكتبت إلى عمر أعتذر إليه بأني ضربته في صحن داري، فبالله الذي لا يحلف بأعظم منه إني لأقيم الحدود في صحن داري على المسلم والذمي، وبعثت بالكتاب مع عبد الله بن عمر، فقدم عبد الرحمن على أبيه عمر، فدخل وعليه عباءتِي يستطيع المشي من سوء مركبه، فقال له عمرة يا عبد الرحمن، فعلت وفعلت فكلمه عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، قد أقيم عليه الحد. فلم يلتفت إليه، وأمر بإقامة الحد عليه، فجعل عبد الرحمن يقول: إني مريض، وأنت قاتلي. فأقام عليه الحد ثانياً، وحبسه، فمرض ومات. انتهى.
قال ابن قتيبة وأبو عمر وصاحب الصفوة: كان عمر بن الخطاب من المهاجرين السابقين، ممن صلى إلى القبلتين، وشهد بدراً والحديبية وبيعة الرضوان وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجر علانية.(1/447)
عن ابن عباس قال: قال علي: ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً إلا عمر بن الخطاب فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى في يده سهماً، واحتضن عنزته، ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً متمكناً، ثم أتى المقام فصلى متمكناً، ثم وقف على حلقهم واحدة واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه، أو يؤتم ولده، أو يرمل زوجته - فليلقني وراء هذا الوادي. ثم مضى. خرجه ابن السمان في الموافقة.
وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عنه راض، وبشره بالجنة، وأخبره أن الله جعل الحق على لسانه وقلبه، وأن رضاه وغضبه عدل، وأن الشيطان يفر منه، وأن الله أعز به الإسلام، واستَبشر أهل السماء بإسلامه، وسماه عبقرياً ومحدثاً وسراج أهل الجنة، ودعاه صاحب رحا وافرة العرب، يعيش حميداً ويموت شهيداً، إنه رجل لا يحب الباطل، ولو كان بعده نبي لكان عمر وكل هذا وغيره يأتي في الأحاديث الواردة مع الآيات في شأنه.
قال صاحب الصفوة: وهو أول من عس بنفسه في عمله، وحمل الدرة، وأدب بها وكانت أهيب من سيف الحجاج، وكانت تخافه ملوك الروم وفارس وغيرهما، وكان - رضي الله تعالى عنه - إذا كان في سفر نادى الناس في المنزل عند الرحيل: ارحلوا أيها الناس، فيقول القائل: يا أيها الناس، هذا أمير المؤمنين قد ناداكم، تقدموا فاستقوا وارحلوا، ثم ينادي الثانية: الرحيل، فيقول الناس: اركبوا؛ فقد نادى أمير المؤمنين الثانية؛ فاذا استقلوا قام فرحل بعيره وعليه غرارتان، إحداهما: فيها سويق، والأخرى: فيها تمر وبين يديه قربة وخلفه جفنهَ، فكلما نزل جعل في الجفنة من السويق، وصب عليه من الماء وسط شنارة - قال: والشنارة مثل النطع الصغير - من جاءه لحاجة أو يستقضى قال له: كل من هذا السويق والتمر.
ثم يرحل فيأتي المكان الذي رحل الناس منه، فإن وجد متاعاً ساقطاً أخذه؛ وإن وجد أحداً فيه عرج أو عرض لدابته أو بعيره - يكارى له، ويسوق به، فيتبع آثار الناس؛ فإذا أصبح الناس من الغد لم يفقد أحد متاعاً له سقط منه إلا قال: حتى يأتي أمير المؤمنين، فيطلع عمر وإن جمله مثل المشجب مما عليه من المتاع للناس، فيأتي الرجل، ويقول: يا أمير المؤمنين، إداوتي، فيقول: هل يغفل الرجل الحليم عن إداوته التي يشرب فيها، ويتوضأ للصلاة منها؟! أو كل ساعة أبصر، أو كل الليل أكلأ عيني من النوم، ثم يدفع إليه إداوته؛ ويقول الآخر: يا أمير المؤمنين، قوسي؛ ويقول آخر: رشائي؛ أو ما وقع منهم فيصفونه فيدفعه إليهم.
ولما بلغ الشام تلقوه ببرذون وثياب، فكلموه أن يركب البرذون؛ ليراه العدو؛ فيكون ذلك أرهب بلباس البياض، ويطرح الفرو الذي عليه، فأبى، فألحوا عليه، فركب البرذون بفروته وثيابه، فهملج به البرذون وخطام ناقته بعد في يده، فنزل وركب راحلته، وقال: لقد غرني هذا حتى خفت أن أنكر نفسي. ذكر هذا كله أبو حذيفهَ إسحاق بن بشر في فتوح الشام.
قال العلامة ابن الجوزي: لما بعث عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص لحرب القادسية - كتب إليه وهو بالقادسية أن وجه نضلة الأنصاري إلى حلوان العراق؛ فيغزو أهلها، فبعث سعد بن أبي وقاص نضلة الأنصاري في ثلاثمائة فارس، فساروا حتى أتوا حلوان فأغاروا على أهلها، وأصابوا غنيمة وسبياً، وأثقلوا بذلك حتى أرهقتهم صلاة العصر وكادت الشمس أن تغرب، فألجأ نضلة السبي والغنيمة إلى سفح جبل؛ وقام فأذن فقال: " الله أكبر الله أكبر " ، فأجابه مجيب من الجبل: كبرتَ كبيراً يا نضلة؛ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: كلمة الإخلاص يا نضلة؛ ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال: هو الذي بشرنا به عيسى بن مريم وعلى رأس أمته تقوم القيامة؛ ثم قال: حي على الصلاة، فقال: طوبى لمن سعى إليها، وواظب عليها؛ ثم قال: حي على الفلاح، فقال: قد أفلح من أجاب داعي الله؛ ثم قال: الله كبر الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: أخلصت الإخلاص كله يا نضلة، حرم الله تعالى بها جسدك على النار.(1/448)
فلما فرغ نضلة من أذانه قام فقال: من أنت يرحمك الله، أملك أم طائف من الجن أم من عباد الله؟! قد سمعنا صوتك، فأرنا صورتك وشخصك، فإن الوفد وفد رسول الله ووفد عمر بن الخطاب، فانفلق الجبل عن هامة كالرحى، أبيض الرأس واللحية، عليه طمران من صوف، فقال: أنا زريب بن برتمك، وصي العبد الصالح عيسى بن مريم، أسكنني هذا الجبل، ودعا لي بطول البقاء إلى حين نزوله من السماء، قال: فسأل نضلةَ والخلق الذين معه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد قبض؛ فسأل عن أبي بكر، فقالوا: قد قبض؛ ثم سألهم عن عمر، فقالوا: حي، ونحن جيشه، فقال: أقرئوه مني السلام، وقولوا له: يا عمر، سدد وقارب، فقد وُفيَّ الأمر، وأخبروه بهذه الخصال التي أخبركم بها: يا عمر، إذا ظهرت هذه الخصال في أمة محمد فالهرب، الهرب؛ إذا استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وانتسبوا إلى غير مناسبهم، وانتموا إلى غير مواليهم ولم يرحم كبيرهم صغيرهم، ولم يوقر صغيرهم كبيرهم، وترك الأمر بالمعروف فلم يؤمر به، وترك النهي عن المنكر فلم ينه عنه، ويعلم عالمهم العلم؛ ليجلب به الدنيا، ويأتي المطر فيضاً، والولد غيظاً، وطولوا المنارات، وفضضوا المصاحف، وزخرفوا المساجد، وأظهروا الرشا، وشيدوا البنا، واتبعوا الهوى، وباعوا الدين بالدنيا، وقطعت الأرحام، وبيعت الأحكام، وأكلوا الربا، وصار الغنى عزاً، والفقر ذُلاً، وخرج الرجل من بيته فقام إليه من هو خير منه؛ وسلم عليه، وركبت الفروج السروج. قال: ثم غاب عنهم فلم يروه، فكتب بذلك نضلة إلى سعد، وكتب به سعد إلى عمر - رضي الله عنه - ، فكتب عمر إلى سعد: أن سر أنت بنفسك ومن معك من المهاجرين والأنصار حتى تنزلوا ذلك الجبل، فإن لقيته فأقرئه مني السلام، فخرج سعد في أربعة آلاف من المهاجرين والأنصار وأبنائهم حتى نزلوا ذلك الجبل، ومكث سعد أربعين يوماً، ينادي بالصلاة، فلم يجد جواباً، ولم يسمع خطاباً، فكتب بذلك إلى عمر - رضي الله عنه.
صفته
رضي الله عنه:
عن زر بن حبيش - رضي الله عنه - قال: كان عمر - رضي الله عنه - أبيض، أبهق، يشبه لون الجص بياضاً، لا يكون له دم ظاهر، وكان طوالاً، أصلع، أبلج، شديد حمرة العينين، كث اللحية، خفيف عارضيها، سلتا، كثير الشعر، في أطرافه صهبة، أعسر أيسر - يعني يعمل بكلتا يديه - أروح كأنه راكب والناس مشاة - قال الجوهري: الأروح: هو الذي يتباعد صدور قدميه ويتدانى عقباه - وكان لا يغير شيبه، فقيل له: يا أمير المؤمنين، ألا تغيره. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة " ، وما لنا نغيره!!.
الآيات النازلة بما أشار به عمر
رضي الله تعالى عنه في قضايا متعددة:
فمنها: اتخاذ مقام إبراهيم مصلى! عن طلحة بن مصرف قال: قال عمر: يا رسول الله، أليس هذا مقام أبينا إبراهيم. قال: بلى. قِال عمر: فلو اتخذته مصلى. فأنزل الله تبارك وتعالى: " واتخذوا مِن مَقامِ إِبرَاهيمَ مُصَلى " البقرة: 125.
ومنها: مشورته في أساري بدر عن ابن عباس عن عمر قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله، بنو العم والعشيرة والإخوان، أرى أن نأخذ منهم الفداء، فيكون لنا قوة على المشركين، وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام؛ فيكونون لنا عضداً. قال: " فما ترى يا بن الخطاب؟ " قلت: يا رسول الله، ما أرى الذي يراه أبو بكر، ولكن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده، فقدمهم لنا نضرب أعناقهم. قال: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلته، وقال: مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى إذ قال: " إن تعُذِّبهم فإنَهُم عِبادُك وإن تَغفِر لَهُم فإنَكَ أنتَ العَزيِزُ الحكيم " المائدة: 118، ومثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال: " وَقالَ نوُح رَب لا تَذَر عَلَى الأرض مِنَ الكافِربنَ دَياراً إِنَّكَ إن تَذَرهُم " الآية نوح: 26، 27.(1/449)
ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الفداء، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان، قلت: يا نبي الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك. فإن وجدت بكاء، وإلا تباكيت لبكائكما، فقال: لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة منه - فأنزل الله: " ما كان لِنبَيٍ أن يَكوُنَ لَه أسرَى حَتَى يُثخِنَ في الأرَضِ ترُديُونَ عَرَضَ الدُنيا واللهُ يُرِيدُ الآخِرَة واللهُ عَزيزُ حَكِيم لَولا كِتاب مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمسَّكم فِيما أخَذْتم عَذابٌ عَظِيمٌ " الأنفال: 67، 68. أخرج هذا الحديث مسلم في صحيحه.
وعند البخاري معناه بزيادة قوله: إنه قتل من المشركين سبعين، وأسر سبعين، وبزيادة: ولكن أن تمكن علياً من عقيل، فيضرب عنقه، وحمزة من فلان - أخيه - فيضرب عنقه، وفلانا من فلان، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، ثم ذكر معنى ما بعده، وزاد: فلما كان يوم أحد من العام القابل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وشج وجهه، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وأنزل الله - عز وجل - : " أوَ لمَّا أصابتكمُ مُصِيبَةٌ قَد أصبتم مِثلَيها قلتم أنىَّ هَذا قُل هوَ مِنْ عِندِ أنفُسِكُم إنَ اللهَ عَلىَ كلِ شَيئٍِ قَدِير " آل عمران: 165.
وروى: أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: لقد كاد يصيبنا بخلافك شر يا بن الخطاب وفي رواية: لو نزل بنا عذاب ربي. وفي رواية: لو عذبنا في هذا الأمر - يعني عذاباً ظاهراً، فلا ينافي ما وقع لهم يوم أحد - لما نجا منه غير عمر. خرجها القلعي ومنها: قوله تعالى: " عَسَى ربه إِن طَلَقَكنّ أن يُبدِله، أزواجاً خَيراً مِنكنُ " التحريم: 5، وذلك أنه لما بلغه - رضي الله عنه - شيء في معاتبة أمهات المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهن: لتكففن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ليبدلنه أزواجاً خيراً منكن، فقالت له إحداهن: يا عمر أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟! فأنزل الله هذه الآية المذكورة: " عَسَى ربه إِن طَلقَكنَُ أن يبدله أزوجاً... " الآية. أخرجه البخاري ومسلم وأبو حاتم.
ومنها: أنه لما أمر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتجبن، قالت له زينب: وإنك علينا يا بن الخطاب، والوحي ينزل في بيوتنا، فأنزل الله: " وإذا سأًلتُمُوهُنَ مَتاعاً فَسئلُوهُن مِن وراء حجِاب " الآية الأحزاب: 53. أخرجه أحمد.
وفي رواية الطبراني عن عائشة قالت: كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيساً في قعب، فمر عمر - رضي الله عنه - فدعاه فأكل معنا، فأصابت أصبعي أصبعه، فقال: حس - وهذه كلمة يقولها الإنسان من العرب إذا أصابه ما مَضه أو أحرقه كالجمرة والضربة ونحوهما كذا في الصحاح - أوهٍ، لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، فنزلت آية الحجاب.(1/450)
ومنها: قوله تعالى: " فإن الله هُوَ مَولاهُ وَجِبرِيلُ وَصاَلِحُ المُؤْمنِينَ والملائكة بَعدَ ذَلكَ ظَهِير " التحريم: 4 عن ابن عباس أن عمر حدثه، قال: لما اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه وكان له وجد عليهن؛ فاعتزلهن في مشربة من خزانته - قال عمر: فدخلت لمسجد، فإذا الناس ينكثون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، قلت: لأعلمهن هذا اليوم، وذلك قبل الأمر بالحجاب، فدخلت على عائشة بنت أبي بكر، فقلت: يا ابنة أبي بكر، بلغ من أمرك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!؟ قالت: ما لي ومالك يا بن الخطاب، عليك بنفسك؛ فأتيت حفصة بنت عمر، فقلت: يا حفصة، لو علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك، ولولا أنا لطلقك. قال: فبكت أشد بكاء. قال: فقلت لها: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خزانته. قال: ذهبت، فإذا أنا برباح: غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً على أسكفة الغرفة، مدلياً رجليه على نقير يعني جذعاً منقوراً، فقلت: يا رباح، استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة، ثم نظر إلي وسكت، قال: فرفعت صوتي، فقلت: استأذن يا رباح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يظن بي ربما جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني أن أضرب عنقها الآن لضربت عنقها. قال: فنظر رباح إلى الغرفة، ونظر إلي، ثم قال هكذا؛ يعني أشار بيده أن أدخل، فدخلت، فإذا هو - عليه الصلاة والسلام - مضطجع على حصير وعليه إزاره، فجلس، وإذا الحصير قد أثر في جسده، وقلبت عيني في الخزانة، فإذا ليس فيها شيء من الدنيا غير قبضتين من شعير وقبضة من قرص نحو صاعين، وإذا أفيق معلق أو أفيقان. قال: فابتدرت عيناي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما يبكيك؟ " فقلت: يا رسول الله، ما لي لا أبكي وأنت صفوة الله ورسوله وخيرته من خلقه، وهذه الأعاجم: كسرى وقيصر، في الثمار والأنهار وأنت هكذا، فقال: يا ابن الخطاب، أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ فقلت: بلى يا رسول الله فأحمد الله فما تكلمت في شيء إلا أنزل الله تصديق قولي من السماء. قال: فقلت يا رسول الله، إن كنت طلقت نساءك تظاهرن عليك، فإن الله - عز وجل - وجبريل معك، وأنا وأبو بكر وصالح مؤمنين، فأنزل الله - عز وجل - : " وإن تَظاهَرا عَلَيهِ فإن الله هوَ مَولاهُ وَجِبرِيلُ وصالِحُ المُؤمنِينَ " الآية التحريم:4. قال فما أخبرت بذلك نبي الله، وأنا أعرف الغضب في وجهه حتى رأيت وجهه يتهلل، وكشر؛ فرأيت ثغره - وكان أحسن الناس ثغراً صلى الله عليه وسلم - فقال: " إني لم أطلقهن " فقلت: يا نبي الله، فإنهم قد أشاعوا: أنك طلقت نساءك، أفأخبرهم أنك لم تطلق؟ قال: " إن شئت " فقمت على باب المسجد، فقلت: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، فأنزل الله في الذي كان من شأني وشأنهم: " وإذا جاءهُم أمر مِنَ الأمَنِ أو الخوفِ أذاعُوا بهِ وَلَو رَدوُه إِلَى الرَسُولِ وَإلى أُولي الأمرِ منِهم لعَلِمَهُ الذَينَ يستَنبِطونه مِنهُم " النساء:83. قال عمر: فأنا الذي استنبطه منهم. خرجه أبو حاتم والبخاري ومسلم.
وفي رواية لأبي حاتم - أيضاً - قال له عمر: لو اتخذت يا رسول الله فراشاً أوبر من هذا؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - : يا عمر ما لي وللدنيا - أو ما للدنيا وما لي - إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب سائر في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة، ثم راح وتركها. خرجها الثقفي في الأربعين.(1/451)
ومنها: منعه - رضي الله عنه - للنبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على المنافقين. عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول، جاء إليه عبد الله بن عبد الله، وكان قد أسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبي قد مات، وسأله أن يعطيه قميصه، يكفنه فيه، وأن يصلي عليه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوبه - عليه الصلاة والسلام - وقال: لا تصل عليه وقد قال يوم كذا وكذا - وشرع يعدد عليه قوله - فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: " أخر عني يا عمر " فقال له عمر: ألم ينهك الله أن تستغفر لهم؟ فلما أكثر عليه قال: " إنما خُيرت " - يعني قوله: أستغفِرلهم أو لا تَستَغفِر لهمُ إن تستَغفِر لَهم سَبعِينَ مَرة " التوبة: 80 - فاخترت، ولو علمت إني إذا زدت على السبعين يغفر لهم لزدت عليها، فصلى رسول صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيراً حتى أنزل الله الآيتين في سورة براءة: " ولا تصلِّ عَلَى أحد منهُم ماتَ أبداً وَلا تقُم على قَبرِه " إلى " وَهُم فاَسِقُونَ " التوبة:84. قال عمر: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال لما نزلت: " استَغفِر لَهم أو لا تستَغفِر لَهمُ إن تستَغفِر لَهم سَبعِينَ مرَةَ فَلَن يَغفِرَ الله لَهم " التوبة: 80 قال: فلأزيدن على السبعين واحداً في الاستغفار، فقال له عمر: والله لا يغفر لهم سواء استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم.
ومنها: موافقته في قوله: " فَتَبارَكَ اللهُ أحسنُ الْخَالقِينَ " المؤمنون: 114. عن أنس بن مالك لما نزل قوله تعالى: " وَلَقَد خلقنا الإنسانَ مِن سُلالة مِّن طِينِ " إلى قوله: " ثُمَ أنشأًنَاهُ خلقاً آخَرَ " المؤمنون: 12، 14 فقال عمر: فتبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت " فَتبارَكَ اللهُ أحسنُ الخالقِينَ " المؤمنون: 14 أخرجه الواحدي في أسباب النزول، وفي رواية فقال صلى الله عليه وسلم قبل نزولها: أتزيد في القرآن يا عمر. فنزل جبريل بما قال عمر: " فَتَبارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ " .
ومنها: موافقته لقوله تعالى: " سُبحانك هذا بهتَانُ عَظِيم النور: 16 وذلك أنه صلى الله عليه وسلم استشار عمر في قصة الإفك في أمر عائشة حين قيل فيها من الإفك ما قيل، فقال عمر: يا رسول الله، من زوجكها؟ قال: الله تعالى، فقال عمر: أفتظن أن ربك دلس عليك فيها؟ سبحانك! هذا بهتان عظيم، فأنزل الله على وفق ما قال عمر: " سُبحَانك هذا بهتان عظِيم " .
ومنها: موافقة معنوية. روى عن علي - رضي الله عنه - : أن عمر انطلق إلى اليهود، فقال: إني أسألكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجدون وصف محمد في كتابكم؟ قالوا: نعم. قال: فما يمنعكم من اتباعه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولاً إلا كان له من الملائكة كفيل، وإن جبريل هو الذي يكفل محمداً، وهو الذي يأتيه، وهو عدونا من الملائكة وميكائيل سلمنا، فلو كان هو الذي يأتيه اتبعناه.(1/452)
قال عمر: فإني أشهد أنه ما كان ميكائيل ليعادي سلم جبريل، وبأن جبريل ما كان يسالم عدو ميكائيل. قال: فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا صاحبك يا بن الخطاب، فقام إليه، وقد أنزل الله عليه: " قُل مَن كانَ عَدُوّاً لجِبرِيلَ فإنه نَزله عَلى قَلبِكَ... " إلى قوله " عَدُو للكافِرِينَ " البقرة:97، 98، فقال: والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لأخبرك بقول اليهود، فإذا اللطيف الخبير قد سبقني بالوحي، فقرأ - عليه الصلاة والسلام - هذه الآية، وقال له: قد وافقك ربك يا عمر ومنها: تحريم الخمر والميسر، وذلك أن عمر كان حريصاً على تحريمها، وكان يقول: اللهم بين لنا في الخمر، فإنه يذهب المال والعقل، فنزل قوله تعالى: " يَسئَلوُنَكَ عَنِ الخمرِ والمَيسر قُل فِيهِما إِثم كبِير " البقرة: 219، الآية، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر، فتلا بها عليه، فلم ير فيها بياناً، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فأنزل الله - تعالى - : يا أيُها الذِينَ آمَنُوا إنَما الخمرُ والميسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجسٌ من عَمَلِ الشَيطانِ فاجَتنبُوه " إلى قوله " فَهَل أنتمُ منَتهُونَ " المائدة: 90 فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاها عليه، فقال عمر عند ذلك: انتهينا يا ربنا، انتهينا ومنها: آية الاستئذان. عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل غلاماً من الأنصار إلى عمر بن الخطاب وقت الظهر، فدخل على عمر، فوافاه على حالة كره عمر رؤيته عليها، فقال: يا رسول الله وددت لو أن الله أمرنا، ونهانا في حال الاستئذان، فنزلت: يا أيُّها الذَين آمَنُوا ليسَتئذنكم الذينَ مَلَكَت أيمانكم والذِين لم يبلغُوُا الحلمُ مِنكم " النور:58. خرجه أبو الفرج، وخرجه صاحب الفضائل، وزاد بعد قوله: فدخل عليه: وكان نائماً وقد انكشف بعض جسده.
ومنها: قوله تعالى: " ثُلة منَ الأولينَ وقليل مِنَ الآخِريِنَ " الواقعة: 13 14، بكى عمر، وقال: يا رسول الله، وقليل من الآخِرين، آمنا بالله، وصدقنا برسوله، ومن ينجو منا قليل! فأنزل الله: " ثلة منَ الأولينَ وَثُلَة تمنَ الآخِرينَ " الواقعة: 39، 40 فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر، وقال: لقد أنزل الله كما قلت: " ثُلة مِنَ الأوَلينَ وَثُلَه مِنَ الآخِرينَ " .
ومنها: موافقته في التوراة. عن طارق بن شهاب قال: دخل يهودي إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فقال: أرأيت قوله تعالى: وَسارِعُوا إِلىَ مَغْفِرَة من ربكم وَجنَةٍ عَرضها السمَاواتُ والأرضُ " آل عمران:133، فأين النار؟ فقال للصحابة: أجيبوه، فلم يكن عندهم فيها شيء، فقال له عمر: أرأيت النهار إذا جاء ملأ السماوات والأرض؟ قال: بلى. قال: فأين الليل؟! قال: حيث شاء الله. قال: عمر: فالنار حيث شاء الله عز وجل. قال اليهودي: والذي نفسك بيده، يا أمير المؤمنين، إنها لفي كتاب الله المنزل على موسى كما قلت ومنها: الإشارة في الخروج إلى بدر، وذلك أنه - عليه الصلاة والسلام - استشار أصحابه في الخروج إلى غزوة بدر، فأشار عمر - رضي الله عنه - بالخروج، فنزل قوله تعالى: " كَما أخرَجَكَ رَبكَ مِن بيتك بِالحق وإنَ فَرِيقاً مِنَ المُؤمنينَ لَكارِهُونَ " الأنفال: 5 وكان عمر من المحبين للخروج، وهو المشير به ومنها قصته في الصيام لما جامع زوجته بعد الانتباه في الليل، وكان ذلك محرماً في أول الإسلام، فنزل قوله تعالى: " أحل لُكم ليلَةَ الصِيامِ الرفَثُ إلىَ نسائكم " البقرة:187 أخرجه أحمد في مسنده.(1/453)
ومنها قوله تعالى: " فَلا وَرَبك لا يؤمِنوُنَ حَتى يُحَكِموُكَ " النساء:65 أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الأسود قال: اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى بينهما، فقال المقضي عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب، فأتيا إليه، فقال الرجل: قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا، فقال: ردنا إلى عمر، فقال له عمر: أكذلك كان؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل ثم خرج مشتملاً على السيف، فضرب به عنق الذي قال ردنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه قتل عمر - والله - صاحبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن " ، فأنزل الله تبارك وتعالى: " فَلا وَرَبك لا يؤمِنونَ حَتَى يُحَكَموُكَ فيما شَجَر بينهُم ثُم لا يَجِدُون في أنفُسِهمْ حرجاً مما قَقيَتَ وَيسُلِموُا تسلِيماً " النساء: 65 فأهدر - عليه الصلاة والسلام - دم الرجل لإخبار الله بكفره، وبرئ عمر - رضي الله عنه - من قتله، وأثيب عليه.
ومنها: ما أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي من طريق ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن كعب الأحبار قال: ويل لملك الأرض من ملك السماء، فقال عمر: إلا من حاسب نفسه. فقال كعب: والذي نفسي بيده إنها محبرة في التوراة كما قلت، فخر عمر ساجداً لله سبحانه.
وعن علي - رضي الله تعالى عنه - : إن عمر ليقول القول، فينزل القران بتصديقه، وعنه - أيضاً - كنا نقول: إن في القرآن لكلاماً من كلام عمر، ورأياً من رأيه، رضي الله عنه وأرضاه.
الأحاديث في شأن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه:
الحديث الأول - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم أعز الدين بأحب الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب، أو بعمرو بن هشام " يعني أبا جهل، فكان عمر أحبهما إليه. أخرجه الإمام أحمد والترمذي.
الحديث الثاني - ما أخرجه ابن السمان في الموافقة عن علي - رضي الله تعالى عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب " وروى مثله ابن مسعود وعائشة وغيرهما.
الحديث الثالث - أخرج أبو حاتم والدار قطني والحلقي والبغوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما أسلم عمر أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، لقد استبشر أهل السماءبإسلام عمر. قال ابن عباس، وكيف لا يكون ذلك، ولم يصعد للمسلمين صلاة ظاهرة، ولا نسك معروف إلا بعد إسلامه حين قال: والله لا نعبد الله سراً بعد هذا اليوم.
الحديث الرابع - عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب " أخرجه أحمد والترمذي.
الحديث الخامس - ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد يكون في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد، فهو عمر بن الخطاب " وتفسير محدَّثون: ملهمون، أي يلهمون الصواب.
الحديث السادس - عن سعد بن أبي وقاص قال: دخل عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يسألنه، ويستكثرنه رافعات أصواتهن، فلما استأذن عمر انقمعن وسكتن وابتدرن للحجاب، فدخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، لما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب، فقال عمر: يا عدوات أنفسهن، أتهابنني، ولا تهابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقلن: أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بن الخطاب، إن الشيطان ما لقيك سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك " . أخرجه الشيخان وأحمد والنسائي قلت: أفعل هنا ليس على وصفه من الزيادة، بل هو مستعمل لأفعل الفعل كما في: " وَبعولتهن أحق بردهن " البقرة:228 الناقص واراشح أحد لا نبي الله.
الحديث السابع - أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينما أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، قلت: لمن هذا القصر. قالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرتك، فوليت مدبراً " ، فبكى عمر، وقال: أمنك أغار يا رسول الله(1/454)
الحديث الثامن - أخرج الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينما أنا نائم شربت لبناً حتى إني أنظر إلى الري يجرى في أظفاري، ثم ناولته عمر. قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: " العلم " .
الحديث التاسع - أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بينما أنا نائم رأيت الناس عرضوا على وعليهم قُمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ الركبة، ومنها ما يبلغ أنصاف الساقين، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره. قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين " .
وفي رواية للحكيم الترمذي: بالدين إن القميص يستر العورة في الدنيا، والدين يسترها في الآخرة، ويحجبها عن كل مكروه، والأصل فيه: " وَلباسُ التقوى ذلك خير " الأعراف: 26، واتفق المعبرون على ذلك أعني تعبير القميص بالدين، وإن ذلك يدل على بقاء آثار صاحبه من بعده. قال ابن العربي: إنما أول القميص بالدين؛ لأنه يستر عورة الجهل كما أن القميص يستر عورة البدن، وأما غير عمر فما يبلغ ثديه: هو ما يستر قلبه عن الكفر وإن عصى، وما يبلغ أسفل منه وفرجه باد: هو من لم يستر رجله عن المشي للمعصية، والذي يستر رجله: هو الذي احتجب بالتقوى من جميع الوجوه، والذي يجر قميصه زاد على ذلك بالعمل الصالح الخالص.
وقال العارف ابن أبي جمرة: المراد بالناس في الحديث: مؤمنو هذه الأمة، والمراد بالدين: امتثال الأوامر واجتناب النواهي. وكان لعمر في ذلك المقام العالي. ويؤخذ من الحديث أن كل ما يرى في القميص من حسن أو غيره عبر بدين لابسه، ونقصه إما بنقص الإيمان أو العمل، وفي الحديث: أن أهل الدين يتفاضلون في الدين بالقلة والكثرة وبالقوة والضعف، وهذا من أمثلة ما يحمد في المنام، ويذم في اليقظة شرعاً أعني جر القميص، لما ورد من الوعيد في جره خيلاء.
الحديث العاشر - أخرجه أحمد والترمذي عن ابن عمر، وأبو داود والحاكَم عن أبي ذر، وأبو يعلى والحاكم عن أبي هريرة، والطبراني عن بلال ومعاوية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه " .
الحديث الحادي عشر - أخرج الترمذي عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إني أنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر،، وأخرج ابن عدي عنها:رأيت شياطين الإنس والجن فروا من عمر " .
الحديث الثاني عشر - أخرج ابن ماجة والحاكم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول من يصافحه الحق عمر، وأول من يأخذ كتابه بيمينه عمر، له شعاع كشعاع الشمس فيدخل الجنة عمر " والمصافحة هنا: كناية عن مزيد الإنعام والاتصال، وهو أن أبا بكر أول من يدخل الجنة، فيجمع بحمل الأولية على التشبيه، أي أول من يدخلها بعد أبي بكر.
الحديث الثالث عشر - أخرج البزار عن ابن عمر وابن عساكر عن أبي هريرة والصعب بن جثامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عمر سراج أهل الجنة " .
الحديث الرابع عشر - أخرج البزار عن قدامة بن مظعون عن عمه عثمان بن مظعون قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا غلق العتبة وأشار بيده إلى عمر، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش هذا بين أظهركم " .
الحديث الخامس عشر - أخرج الطبراني في الأوسط والحكيم في نوادر الأصول عن ابن عباس قال: جاء جبريل - عليه السلام - إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " أقرئ عمر السلام، وأخبره أن؛ غضبه عز، ورضاه حكم " ، وفي رواية " أتاني جبريل، فقال: أقرئ عمر السلام، وقل له: إن رضاه حكم، وإن غضبه عز " .
الحديث السادس عشر - أخرج ابن عساكر وابن عدي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما في السماء ملك إلا وهو يوقر عمر، ولا في الأرض شيطان إلا وهو يفرق من عمر " .
الحديث السابع عشر - أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة: " إن الله باهى بأهل عرفة عامة، وباهى بعمر خاصة " .
الحديث الثامن عشر - أخرج الطبراني والديلمي عن الفضل بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحق بعدي مع عمر حيث كان، يدور معه حيث دار " .
الحديث التاسع عشر - أخرج الطبراني عن سديسة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلا خر لوجهه " .(1/455)
الحديث العشرون - أخرج الطبراني عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال لي جبريل ليبكين الإسلام على موت عمر " رضي الله عنه.
الحديث الحادي والعشرون - أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أبغض عمر فقد أبغضني، ومن أحب عمر فقد أحبني، وإن الله باهى بالناس عشية عرفة عامة، وباهى بعمر خاصة، وإنه لم يبعث الله نبياً إلا كان في أمته محدَث، وإن يكن في أمتي منهم أحد، فهو عمر " قالوا: يا رسول الله، كيف محدث؟ قال: تتكلم الملائكة على لسانه.
الحديث الثاني والعشرون - أخرج أبو داود عن عمر: أن رسول الله قال: له: " لا تَنسَنا يا أخي من دعائك،، وفي رواية قال له: " يا أخي أشركنا في صالح دعائك، ولا تَنسَنا " .
الحديث الثالث والعشرون - أخرج النجار عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الصدق بعدي مع عمر حيث كان " .
الحديث الرابع والعشرون - أخرج أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه عن أنس والشيخان عن جابر وأحمد عن بريدة بن الحصيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من قريش، فظننت إني أنا هو، فقلت: ومن هو؟ قالوا: عمر بن الخطاب، فلولا ما علمت من غيرتك لدخلته " .
الحديث الخامس والعشرون - أخرج الطبراني وابن عدى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عمر معي، وأنا مع عمر، والحق بعدي مع عمر حيث كان " .
الحديث السادس والعشرون - أخرج الترمذي والحاكم عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما طلعت الشمس على خير من عمر " قلت: المراد: بعد أبي بكر، جمعا بينه وبين ما ورد من مثله في حق أبي بكر رضي الله عنهما.
الحديث السابع والعشرون - أخرج ابن سعد عن أيوب بن موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وعمر الفاروق فرق الله به بين الحق والباطل " .
الحديث الثامن والعشرون - أخرج الطبراني عن عصمة بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا: " ويحك إذا مات عمر فإن استطعت أن تموت فمت " .
الحديث التاسع والعشرون - أخرج في المصابيح عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أشد أمتي في أمر الله عمر " .
الحديث الثلاثون - عن الحسن الفردوسي قال: لقي عمر أبا ذر فأخذ بيده فعصرها، فقال أبو ذر: دع يدي يا قفل الفتنة، وعرف عمر أن لكلمته أصلاً، فقال: يا أبا ذر، ما قفل الفتنة؟ فقال أبو ذر: جئتَ يوماً ونحن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فكرهتَ أن تتخطى رقاب الناس، فجلست في أدبارهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا تصيبكم فتنة ما دام هذا معكم " خرجه المخلص الذهبي والرازي والملا في سيرته، ومعناه في الصحيح من حديث حذيفة، ولفظه: قال: كنا عند عمر، فقال أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة. قال حذيفة: قلت: أنا، فقال: هات، فقلت: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ، فقال عمر: ليس هذا أريد، أريد التي تموج كموج البحر. قال: قلت: مالك ولها يا أمير المؤمنين؟ إن بينك وبينها باباً مغلقاً، فقال: يكسر الباب أو يفتح. قال: لا بل يكسر. قال ذلك أحرى ألا يغلق. قال: قلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم عن الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غد الليلة؛ فإني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط. قال: فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب، فقلنا لمسروق: سله، فسأله، فقال: عمر. أخرجه البخاري ومسلم.(1/456)
عن عبد الله بن سلام أنه مر بعبد الله بن عمر وهو نائم، فحركه برجله، وقال: من؟ قال: أنا عبد الله بن عمر، فقال: قم يا بن قفل جهنم، فقام عبد الله وقد تغير وجهه حتى أتى والده عمر، فقال له: ما سمعه من عبد الله بن سلام، فقال عمر: الويل لعمر إن كان بعد عبادة أربعين سنة، ومصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقضاياه في المسلمين بالاقتصاد أن يكون مصيره إلى جهنم، قالى: فقام عمر، وتقنع بطيلسانه، وألقى الدرة على عاتقه، فاستقبله عبد الله بن سلام، فقال له عمر: بلغني عنك أنك قلت لابني: يا بن قفل جهنم، قال ابن سلام: نعم. قال: فكيف قلت إني في جهنم حتى أكون قفل جهنم؟! قال: معاذ الله يا أمير المؤمنين أن تكون في جهنم، ولكنك قفل جهنم. قال كيف؟! قال: أخبرني أبي عن آبائه عن موسى بن عمران - عليه السلام - عن جبريل: أنه قال: " يكون في أمة محمد رجل يقال له: عمر بن الخطاب أحسن الناس ديناً، وأحسنهم يقيناً، ما دام فيهم فالدين عال، واليقين فاش، فاستمسك بالعروة الوثقى من الدين فجهنم مقفلة، فإذا مات عمر فرق الدين، وافترق الناس على فرق عن أهواء، وفتحت أقفال جهنم فيدخل فيها.
الحديث الحادي والثلاثون - عن عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا كان يوم القيامة وحشر الناس، جاء عمر بن الخطاب حتى يقف في الموقف، فيأتيه شيء أشبه شيء به، فيقول له: جزاك الله خيراً، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا الإسلام، جزاك الله عني يا عمر خيراً، ثم ينادى مناد: ألا لا يدفعن لأحد كتاب حتى يدفع لعمر بن الخطاب، ثم يعطى كتابه بيمينه ويؤمر به إلى الجنة. قال: فبكى عمر، وأعتق جميع ما يملكه وهم إذ ذاك تسعة عشر " .
الحديث الثاني والثلاثون - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر ذات يوم وتبسم، ثم قال: " أتدري يا بن الخطاب لم تبسمت إليك؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: إن الله - عز وجل - نظر إليك بالشفقة والرحمة ليلة عرفة، وجعلك مفتاح الإسلام " .
الحديث الثالث والثلاثون - عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عمر بن الخطاب أول من يسلم عليه الحق يوم القيامة، وكل أحد مشغول بأخذ الكتاب وقراءته " أخرجه في الفضائل.
الحديث الرابع والثلاثون - عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عمر بن الخطاب من أهل الجنة " أخرجه أبو حاتم.
الحديث الخامس والثلاثون - عن زيد بن أبي أوفى: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر ابن الخطاب: " أنت معي في الجنة ثالث ثلاثة " .
الحديث السادس والثلاثون - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ينادي مناد يوم القيامة: أين الفاروق؟ فيؤتى، فيقول: مرحباً بك يا أبا حفص، هذا كتابك إن شئت فاقرأه، وإن شئت فلا، فقد غفرت لك، ويقول الإسلام: يا رب، هذا عمر أعزني في دار الدنيا فأعزه في عرصات القيامة، فعند ذلك يحمل على ناقة من نور، وقد كسى حلتين لو نشرت إحداهن لغطت الخلائق؛ ثم يسير بين يديه سبعون ألف لواء؛ ثم ينادي مناد: يأهل الموقف هذا عمر فاعرفوه " خرجه الفضائلي.
الحديث السابع والثلاثون - عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحب عمر عمر الله قلبه بالإيمان " ، أخرجه الفضائلي.
الحديث الثامن والثلاثون - عن مالك بن أنس - رضي الله عنه - قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا. قال فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: ائت عمر ومره أن يستسقي للناس فإنهم يسقون، وقل له: عليك الكيس، الكيس، فأتى الرجل عمر فأخبره، فبكى عمر، وقال: يا رب، ما آلو إلا ما عجزت عنه. خرجه البغوي في الفضائل وأبو عمرو.
الحديث التاسع والثلاثون - عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتقوا غضب عمر، فإن الله يغضب لغضبه " خرجه الملا في سيرته وصاحب النزهة.
وفي رواية: " لا تغضبوا عمر فإن الله يغضب إذا غضب " .(1/457)
الحديث الأربعون: عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ثوباً أبيض على عمر، فقال: أجديد قميصك أم غسيل؟ فقال عمر: بل جديد، فقال صلى الله عليه وسلم: " البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً " . قال عبد الرزاق: وافقه الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد ويعطيك الله قرة العين في الدنيا والاخرة " . أخرجه أبو حاتم.
وعن عمر وقد قرأ يوماً على المنبر: " جَناتُ عَدنِ يدخُلونها " الرعد: 33 هل تدرون ما جنات عدن؟ قصر في الجنة له خمسة آلاف باب، على كل باب عشرون ألفاً من الحور العين، لا يدخله إلا نبي، وهنيئاً لصاحب هذا القبر، وأشار إلى قبره - عليه الصلاة والسلام - ، أو صديق وأشار إلى قبر أبي بكر الصديق، أو شهيد وأنى لعمر الشهادة وهو بجزيرة العرب، ثم قال: إن الذي أخرجني عن حنتمة بنت هاشم بن المغيرة - يعنى أمه - قادر أن يسوقها إلى. قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : فساقها الله إليه على يد شر خلقه مجوسي عبد مملوك للمغيرة بن شعبة، كما سيأتي ذكر هذا بالأثر عند ذكر وفاته، رضي الله تعالى عنه.
الحديث الحادي والأربعون - عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كيف بك يا بن الخطاب إذا جاءك منكر ونكير، وهما ملكان فظان، غليظان، أسودان، أزرقان، ألوانهما كالليل الدامس، أصواتهما كالرعد القاصف، عيونهما كالشهب الثواقب، أسنانهما كالرماح، يسحبان شعورهما على الأرض، بيد كل منهما مطرقة لو اجتمع الثقلان لم يقدروا على حملها، يسألانك عن ربك وعن نبيك؟ فقال عمر - رضي الله عنه - : أيأتياني وأنا ثابت كما أنا؟ قال: نعم. قال عمر: فسأكفيكهما - وفي رواية بفيهما الحجر - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق نبياً لقد أخبرني جبريل: أنهما يأتيانك ويسألانك، فتقول أنت: الله ربى فمن ربكما. ومحمد نبي فمن نبيكما؟ والإسلام ديني فما دينكما. فيقولان: واعجباه! ما ندري نحن أرسلنا إليك أم أنت أرسلت إلينا؟! خرجه عبد الواحد بن محمد بن علي المقدسي في كتابه التبصرة.
الحديث الثاني والأربعون: روى الحاكم في تاريخه عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رضا الله رضا عمر، ورضا عمر رضا الله تبارك وتعالى " .
الحديث الثالث والأربعون: عن أبي هريرة: " لو لم أبعث فيكم لبعث عمر، إن الله - عز وجل - أيد عمر بملكين يوفقانه ويسددانه، فإذا أخطأ صرفاه حتى يكون صواباً " ، أخرجه الديلمي في مسند الفردوس.
أقول: هذا ما ظفرت به من الأحاديث الواردة في شأنه خاصة، وما ورد مشتركاً بينه وبين أبي بكر أو مع الثلاثة أو مع الأربعة أو مع العشرة فهي كثير، لم أورد منه شيئاً، وكذلك ما ورد في الثناء عليه من الصحابة والسلف الصالح من المناقب والكرامات والصلابة في الدين والزهد والخوف من الله وغير ذلك من أوصافه الجميلة ومزاياه الجليلة، فهي كثير مبسوط مسطر، لم أورد منه شيئاً؛ طلباً للاختصار، واعتماداً على ما ذكره المؤلفون في محاله.
ذكر وفاته شهيداً
رضي الله عنه:
قال الذهبي: قال سعيد بن المسيب: إن عمر لما نفر من مني أناخ بالأبطح، ثم كوم كومة من بطحاء، ثم استلقى ورفع يديه إلى السماء فقال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط. ثم رجع إلى المدينة، فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن.
وقالت عائشة - رضي الله عنها - : لما كان آخر حجة حجها عمر بأمهات المؤمنين مررت بالمحصب، فسمعت رجلاً على راحلة رفع عقيرته، فقال: من الطويل:
أبعد قَتِيلٍ بالمدينة أظْلَمَتْ ... له الأرضُ تهتز العِضَاهُ بأسوقِ؟!
جزى الله خيراً من إمامٍ وباركتْ ... يَدُ الله في ذاك الأدِيمِ الممزقِ
فمن يَسْعَ أو يركبْ جناحي نعامةٍ ... ليدركَ ما قدمتَ بالأمس يُسْبَقِ
قَضيْتَ أموراً ثم غادرتَ بَعْدها ... بَوائِقَ في أكمامِها لم تُفَتَقِ
وما كنْت أخْشَى أنْ تكونَ وفاتُهُ ... بكفي سَبَنْتَى أهرتِ الشِّدقِ أزْرقِ(1/458)
قالت: فلم ندر ذا الراكب من هو، وكنا نتحدث أنه من الجن، فرجع عمر من تلك الحجة، وطعن في ذي الحجة وقولها: لما كان آخر حجة؛ وذلك لأن سيدنا عمر - رضي الله عنه - حج عشر سنين متواليات بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم آخرهن سنة ثلاث وعشرين من الهجرة حج بهن في الهوادج عليهن الستور، ووصى عليهن ابنه عبد الرحمن، فكان ينزلهن في الشعب، لا منفذ له صوناً لهن، وينزل هو عند بابه.
وروي عن سيدنا عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه لما وصل إلى المدينة قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك. كذا في البخاري.
وقال معدان بن أبي طلحة اليعمري: خطب عمر بعد رجوعه إلى المدينة يوم جمعة، فذكر نبي الله وأبا بكر، ثم قال: رأيت كأن ديكاً نقرني نقرة أو نقرتين، وإني لا أراه إلا لحضور أجلي، وإن قوماً يأمرونني أن أستخلف، وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته، فإن عجل بى أمري فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راض: عثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن ابن عوف، وسعد.
وقال الزهري: كان عمر لا يأذن لسبي قد احتلم في دخول المدينة حتى كتب إليه المغيرة بن شعبة - وهو عامله على الكوفة - يذكر له أن عنده غلاماً عنده صنائع، ويستأذنه أن يدخل المدينة، ويقول؛ إن عنده أعمالاً كثيرة يحسنها فيها منافع للناس، إنه: حداد، نقاش، حجار؛ فأذن له أن يرسل به، وضرب عليه المغيرة بن شعبة مائة درهم في الشهر، فجاء إلى عمر فشكا كثرة الخراج عليه، فقال له عمر: ما خراجك بكثير وأنت تحسن هذه الصنائع، فانصرف ساخطاً يتذمر، ويقول: وسع عدل عمر العالمين غيري، فمكث عمر ليالٍ ثم دعاه، فقال له: ألم أخبر أنك لو تشاء لصنعت رحى تطحن بالريح. فالتفت إلى عمر عابساً، وقال: لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها، فلما ولى قال عمر لأصحابه: توعدني العبد آنفاً، ثم اشتمل العبد واسمه: فيروز، وكنيته: أبو لؤلؤة على خنجر ذي رأسين، فقبضه في وسطه، فكمن له في زاوية من زوايا المسجد في الغلس، وكان عمر يقول للناس حال القيام للصلاة: أقيموا صفوفكم قبل أن يكبر، فجاء هذا الغلام المجوسي: فيروز أبو لؤلؤة، وقام حذاءه في الصف، فلما كبر عمر للصلاة ضربه بين كتفيه وفي خاصرته فسقط.
قال عمرو بن ميمون: إني لقائم في الصلاة وما بيني وبين عمر إلا ابن عباس، فما هو إلا أن كبر بعد أن ضرب، فسمعته - رضي الله عنه - يقول: قتلني الكلب، وطار العلج، لا يمر على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة أو تسعة، فطرح رجل عليه برنساً وضمه، فلما علم عدو الله أنه مأخوذ نحر نفسه، ثم قال عمر - رضي الله عنه - : الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي على يد أحد يدعي الإسلام.
قال ابن خلكان: ذكر أنه لما طعن عمر اختار من الصحابة - رضي الله عنهم - الستة النفر الذين تقدم ذكرهم، وكان سعد غائباً، فأرسل إليه، فجعل أمره إلى عبد الرحمن بن عوف كما سأذكره، وجعل ابنه عبد الله بن عمر مشيراً، وليس له من الأمر شيء، وأمر المسور بن مخرمة - وفي رواية أمر أبا طلحة الأنصاري - أن يكون في خمسين رجلاً يكونون مع هؤلاء النفر أهل الشورى، قال فإنهم فيما أحسب يجتمعون في بيت، فقم أنت في أصحابك على بابه فلا تترك أحداً يدخل عليهم، ثم إن اتفقوا على واحد إلى ثلاثة أيام، وإلا فاضربوا أعناق الكل؛ فلا خير للمسلمين فيهم، ولو افترقوا فرقتين فالفرقة التي فيها عبد الرحمن بن عوف وأوصى أن يصلي بالناس صهيب بن سنان الرومي في تلك الثلاثة الأيام.
عن أبي الحويرث قال: لما مات عمر، ووضع؛ ليصلى عليه، أقبل علي وعثمان أيهما يصلي عليه، فقال لهما عبد الرحمن بن عوف: إن هذا لهو الحرص على الإمارة، لقد علمتما ما هذا إليكما، وقد أوصى به إلى غيركما، يا صهيب تقدم فصل عليه.(1/459)
قال الذهبي: قال سالم بن عبد الله بن عمر: دخل أصحاب الشورى ما عدا سعداً فإنه كان غائباً على عمر - رضي الله تعالى عنه - فنظر إليهم، ثم قال: إني نظرت لكم في أمر الناس، فلم أجد عند أحد شقاقاً إلا أن يكون فيكم، ثم قال مخاطباً عثمان وعلياً وابن عوف: إن قومكم لن يدَعوا أن يؤمروا أحدكم أيها الثلاثة، فإن كنتَ على شيء من أمر الناس يا عثمان، فلا تحملن بني أبي معيط على رقاب الناس، وإن كنت يا بن عوف على شيء من أمر الناس فلا تحملن بني زهرة على - رقاب الناس، وان كنت يا بن أبي طالب على شيء من أمر الناس، فلا تحملن بني هاشم على رقاب الناس، قوموا فتشاوروا، وأمروا أحدكم. فقاموا يتشاورون. قال بن عمر: فدعاني عثمال؛ ليدخلني في هذا الأمر، فقلت له: لم يدخلني أمير المؤمنين معكم، وقلت: وكيف تؤمروني وأمير المؤمنين حي؟ فكأنما أيقظتهم، فقال عمر: أمهلوا فإذا حدث بي حادث فأمروا.
قال الذهبي: فلما دفن اجتمع هؤلاء الرهط أهل الشورى، فقال عبد الرحمن لعثمان خلوة: إن لم أبايعك فبمن تشير علي؟ فقال: أشير عليك بعلي، وقال لعلي: إن لم أبايعك فبمن تشير علي؟ فقال: بعثمان، ثم قال لطلحة: أما أنا وأنت فلا نريدها، فبمن تشير علي؟ فقال: أشير بعثمان، ثم إن عبد الرحمن بن عوف قال: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، وقد كان سعد جعل أمره إلى عبد الرحمن بن عوف، وقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، فخلا عبد الرحمن بن عوف وعلي وعثمان، فقال عبد الرحمن: أنا لا أريدها، فأيكما يبرأ من هذا الأمر لصاحبه، فيجعله لله، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم، وليحرصن على صلاح الأمة؟ فسكت الشيخان: علي، وعثمان. فقال عبد الرحمن: اجعلاه إلي والله علي لا آلوكم عن أفضلكم. قالا: نعم، فخلا بعلي، وقال له: لك من القدم في الإسلام والقرابة ما قد علمت، الله عليك وعهده، لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرتُ عليك لتسمعن وتطيعن؟ قال علي: نعم. ثم خلا بعثمان، فقال له مثل ذلك. فقال: نعم.
فلما أخذ ميثاقهما نودي في الناس: الصلاة جامعة، فخرج عبد الرحمن عليه عمامة النبي صلى الله عليه وسلم التي عممه إياها، متقلداً سيفه، وصعد المنبر، فوقف طويلاً يدعو سراً، ثم قال: يا أيها الناس، إني قد سألتكم سراً وجهراً، ثنا ووحدانا على أمانتكم، فلم أجدكم تعدلون عن أحد هذين الرجلين: علي، وعثمان. قم إلي يا علي، فقام علي - رضي الله عنه - ووقف جنب المنبر، فأخذ بيده، فقال: تبايعني على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر؟ فقال علي: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي.
ثم قال عبد الرحمن: يا عثمان، قم. فقام فأخذ بيده في موقف علي، وقال له: كما قال لعلي، فقال عثمان: اللهم نعم. فرفع عبد الرحمن بن عوف رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، ثم قال: اللهم اشهد، اللهم إني جعلت ما في رقبتي في رقبة عثمان. قال: فازدحم الناس على عثمان يبايعونه حتى غشوه عند المنبر، فأقعد على الدرجة الثانية من المنبر، وعبد الرحمن قاعد في مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر فوقه، قال: وتلكأ علي، فقال عبد الرحمن: " فَمَن نكَثَ فإنما يَنكُثُ عَلى نَفسِه " الفتح: 10، فرجع علي، وشق الناس حتى وصل إلى عثمان، وبايعه وهو يقول خدعة، وأي خدعة!!.
وبقي عمر - رضي الله عنه - بعد طعنه ثلاثة أيام، وكان طعنه يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة.
قال العلامة الشامي في سيرته: أرسل عمر - رضي الله عنه - وهو جريح ابنه عبد الله إلى عائشة - رضي الله عنها - فقال له: قل لها يقرأ عمر عليك السلام - ولا تقل أمير المؤمنين؛ فإني اليوم لست أميرهم - وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فجاء إليها عبد الله بن عمر، فسلم، واستأذن؛ فدخل، فوجدها تبكي، فقال لها؛ فأذنت وقالت: كنت أردته - تعني مكان القبر - لنفسي، ولأوثرنه اليوم على نفسي.
فلما أقبل عبد الله من عندها قيل لعمر: هذا عبد الله. قال: ارفعوني، فأسنده رجل، فقال لعبد الله: ما لديك؟ فقال عبد الله: الذي تحب، أذنت عائشة. قال: الحمد لله، ما كان شيء أهم إلي من ذلك، فإذا أنا قبضت فاحملوني، ثم سلم وقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردت فردوني إلى مقابر المسلمين.(1/460)
وأوصاهم أن يقصدوا في كفنه، ولا يتغالوا.
وغسله ابنه عبد الله، وحمل على سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلي عليه صهيب في مسجده صلى الله عليه وسلم، وكبر عليه أربعاً، ودفن يوم الأحد هلال المحرم سنة أربع وعشرين وهو ابن ثلاث وستين سنة علي الصحيح، فنزل في قبره ابنه عبد الله، وعثمان بن عفان وسعيد بن زيد.
كانت مدة خلافته عشر سنين، وستة أشهر، وخمس ليال.
قال الذهبي: لما توفي عمر أظلمت الأرض، فجعل الصبي يقول: يا أماه أقامت القيامة؟ فتقول: لا يا بني، ولكن قتل عمر.
ذكر أولاده
رضي الله عنه:
كان له ثلاثة عشر: تسعة ذكور، وأربع إناث، الأول عبد الله، وكان يكنى أبا عبد الرحمن، أسلم مع أبيه صغيراً بمكة، وصاحب مع أبيه وأمه وهو ابن عشر سنين، وشهد المشاهد كلها بعد أحد.
قال الدارقطني: استصغره النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشهد الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فشهد المشاهد كلها. كان عالماً مجتهداً عابداً لزوماً للسنة فاراً من البدعة ناصحاً للأمة، رؤى في الكعبة ساجداً يقول في سجوده: يا رب، ما يمنعني من مزاحمة قريش على هذه الدنيا إلا خوفك. أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " إن عبد الله رجل صالح " .
قال نافع: أعتق ألف نسمة أو زاد، عاش إلى زمان عبد الملك بن مروان.
قال أبو اليقظان: زعموا أن الحجاج دس له رجلاً قد سم زج رمحه، فزحمه في الطريق، وطعنه في ظهر قدمه، فدخل عليه الحجاج، فقال له: يا أبا عبد الرحمن من أصابك؟ قال: أنت أصبتني. قال: وَلم تقول هذا يرحمك الله؟! قال: حملتَ صلاح في بلد لم يكن يحمل السلاح فيه، فمات، فصلي عليه عند الردم، ودفن في حائط أم خرمان.
قلت: هذا الحائط لا يعرف اليوم بمكة ولا حولها، وإنما بالأبطح موضع يقال له: الخرمانية فلعله نسب إلى أم خرمان. وقال غير أبي اليقظان: دفن ب " فخ " هو موضع مشهور وهو ابن أربع وثمانين سنة، وله عقب منهم: عبد الرحمن، سالم، وكان عبد الله هذا من الصلاح والدين والعقل عن أحوال الدنيا على جانب الأعظم، فمن ذلك ما نقله العلامة الصفدي في تذكرته، فقال: هجت عاتكة بنت عبد الرحمن زوجها ابن أبي عتيق بهذين البيتين: من الكامل:
ذهبَ الإلهُ بما تعيشُ به ... وَقَمَرتَ لبد أيما قَمَرِ
أنفقتَ مالَكَ غير مُحتَشِمٍ ... في كُل زانِيَةِ وفي الخَمْرِ
وكان ابن أبي عتيق هذا صاحب دعابة وفكاهة، فأخذ البيتين المذكورين في رقعة، وخرج فإذا هو بعبد الله بن عمر المشار إليه، فقال له: يا أبا عبد الرحمن اقرأ هذا وأشر علي برأيك، فلما قرأها قال له: ما ترى فيمن هجاني بهذا؟ قال له ابن عمر: أرى أن تعفو عنه، وتصفح، فقال ابن عتيق: والله لئن لقيت قائلهما لأ..كنه، فأربد لون عبد الله بن عمر، وأخذته رعدة واختلاط، فقال لابن أبي عتيق: ما هذا غضب الله عليك؟! فقال له: هو ما قلت لك، والله لأفعلنها. وافترقا.
فلما كان بعد أيام لقيه عبد الله بن عمر، فأعرض عنه مولياً، فقال ابن أبي عتيق: مت يا أبا عبد الرحمن إني لقيت قائل ذلك الشعر ف..كنه، فصعق ابن عمر، وليط به، فلما رأى ابن أبي عتيق ما ناله دنا منه، وسارَّه في أذنه، وقال: والله إن الشعر لامرأتي وهي التي فعلتُ بها، فقام ابن عمر - رضي الله عتهما - وقبل بين يه. انتهى ما ذكره الصفدي.
قلت: رأيت في كتاب أنساب قريش للزبير بن بكار: ابن أبي عتيق هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم.(1/461)
وقريب من هذه ما وقع لولده سالم بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - وهو ما رأيته بخط العلامة: نجم الدين بن عمر بن فهد القرشي، ما نصه: أخبرنا أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي، وذكر سنداً، انتهى فيه إلى الزبير بن بكار قاضي مكة قال: حدثني عمي عن أشعب الطماع قال: كان عبد الله بن عمرو ابن عثمان بن عفان شفعني وبسخني ويدعوني، فأحدثه وألهيه، فمرض، ولهوت عنه في بعض جرياتي أياماً، ثم جئت منزلي، فقالت لي زوجتي بنت رومان: ويحك أين كنت؟ عبد الله بن عمرو كان ينفعك، مرض، فهو يقلق بالنهار ويسهر بالليل، أرسل إليك؛ تلهيه وتعلله فلم يجدك. قلت: إنا لله، ثم فكرت ساعة، ثم قلت: هات لي قارورة دهن خلوفية ومنديل الحمام، ففعلت، وخرجت أريد الحمام، فمررت بسالم بن عبد الله بن عمرة فقال لي: يا أشعب، هل لك في هريس أهديتْ إلي؟ قلت: نعم، جعلني الله فداك، فدعا بها؛ فأتى بصحفة كبيرة فأكلت حتى شبعت، فجعلت أتكاره عليها، فقال: ويحك يا أشعب لا تقتل نفسك!! فإن ما فضل عنك نبعث به إلى بيتك. قلت: وتفعل؟ قال: ما أردت إلا ذاك، فكففت يدي، فبعث بها إلى بيتي، وخرجت فدخلت الحمام فاطليت، ثم صببت علي دهن الخلوفية، ثم سكبت علي ماء، وخرجت وعلي صفرة الدهن، وقد صار لوني أصفر كأنه الزعفران. قال فلبست أطماري، وعصبت رأسي، وأخذت معي وصبة، ثم خرجت أمشي متكئاً عليها حتى جئت باب عبد الله بن عمرو بن عثمان، فلما رأني حاجبه قال: ويحك يا أشعب ظلمناك، وغضضنا منك، وأنت قد بلغتَ ما أرى من العلة. قال: قلت: أدخلني على سيدي أخبره، فأدخلني عليه، فإذا عنده سالم بن عبد الله بن عمر، أتى إليه، يعوده، وعبد الله بن عمرو بن عثمان المذكور: ابن أخت سالم بن عبد الله المذكور، فقال لي عبد الله بن عمرو بن عثمان: ويحك يا أشعب ظلمناك، وغضضنا عليك، وقد بلغتَ من العلة ما أرى؟ قال: فتضاعفت، ثم قلت: أي سيدي، كنت عند بعض من أغشاه فأصابني قيء وبطن، فما حملت إلى منزلي إلا جنازة، فبلغني عنك، فخرجت أدب إليك. قال أشعب: فنظر إلي سالم، قال لي: أشعب؟ قلت: أشعب. قال: ألم تكن عندي آنفاً. قلت: ومن أين أكون عندك جعلني الله فداك، وأنا أموت؟! فجعل سالم يمسح عينيه، ثم يقول: لم تأكل الهريس آنفاً عندي؟ فأقول: هل بي آكل جعلني الله فداك مع العلة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، يا أشعب إني لأرى الشيطان يتمثل على صورتك، ما أرى مجالستك تحل. قال أشعب: وفطن بي عبد الله بن عمرو، فقال لي:أشعب، أتخدع خالي؟! اصدقني خبرك. قال: قلت: بالأمان؟ قال: بالأمان، حدثته حديثي، فضحك ضحكاً شديداً طويلاً، انتهى. والحديث شجون، يجر الفن منه إلى فنون.
والثانى من أولاده الذكور - رضي الله عنه - عبد الرحمن الأكبر شقيقه، أمهما: زينب بنت مظعون، أخت عثمان بن مظعون الجمحي.
والثالث: زيد الأكبر، أمه: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، رمي بحجر فمات، وقد تقدم ذكره عند ذكر أمه أم كلثوم هذه، رضي الله عنها.
والرابع: عاصم، أمه: أم كلثوم جميلة بنت عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح، حمى الدبر، وهي التي كان اسمها: عاصية، فسماها عمر: جميلة، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليغير لها اسمها فسماها كما سماها عمر: جميلةً، وقد تقدم ذكر ذلك.
والخامس: زيد الأصغر. والسادس: عبيد الله، أمهما: مليكة بنت جرول الخزاعية: كان عبيد الله شديد البطش، ولما قتل عمر قتلَ الهرمزان، وقتل جفينة وهو رجلٌ نصراني وقتل ابنة صغيرة لأبى لؤلؤة؛ فأخذ عثمان عبيد الله ليقتص منه، فاعتذر بأن عبد الرحمن بن أبي بكر أخبره أنه رأى أبا لؤلؤة والهرمزان وجفينة - وهو الرجل النصراني من أهل الحيرة - يدخلون يتشاورون، وبينهم خنجر له رأسان، مقبضه في وسطه، فقتل عمر صبيحة تلك الليلة. فاستدعى عثمان عبد الرحمن بن أبي بكر فسأله، فقال: انظروا إلى السكين، فإن كانت ذاتَ طرفين؛ فما أرى القوم إلا قد اجتمعوا على قتله. فنظروا إليها فوجدوها كما وصف عبد الرحمن، فقال عمرو بن العاص: قتل أمير المؤمنين بالأمس، ويقتل ابنه اليوم؟! والله هذا لا يكون أبداً! فترك عثمان قتله.(1/462)
ثم لحق عبيدُ الله بمعاوية حين أفضت الخلافة إلى علي - كرم الله وجهه - خشية أن يقيده على بالهرمزان وصاحبه والبنتِ. ولما كان يومُ صفين، خرج مع معاوية، فقتل يومئذ.
والسابع: عبد الرحمن الأوسط، أمه أم ولد اسمها: لهية، وهو المكنى ب " أبي شحمة " المحدود في الخمر، الميتِ به؛ جزم بذلك الدارقطني.
والثامن: عبد الرحمن الأصغر، أمه أم ولد.
والتاسع: عياض بن عمر، أمه: عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وهي أخت سعد بن زيد؛ أحد العشرة، زوج أخت عمر: فاطمة بنت الخطاب، وهى التي قتل عنها - رضي الله عنه - فتزوجها بعده الزبيرُ بن العوام.
وأما البنات الأربع: فحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكرها في باب أزواجه - عليه الصلاة والسلام - وهي شقيقة عبد الله وعبد الرحمن الأكبر.
والثانية: رقية بنت أم كلثوم، وهى شقيقة زيد الأكبر.
والثالثة؛ فاطمة، أمها: أم حكيم بنت الحارث بن هشام.
والرابعة: زينب، أمها: أم ولد اسمها فكيهة؛ ذكر ذلك كله ابن قتيبة وصاحب " الصفوة " .
وههنا حكاية ظريفة، وقعت لسيدنا عمر مع عمرو بن معدي كرب الزبيدي، أحببت إيرادها، وهى ما ذكره المسعودي في كتابه " مروج الذهب " ومنه نقلت؛ قال: بعث عمر بن الخطاب إلى عمرو بن معدي كرب: أن أرسلْ إليَّ سيفَك الذي تحضر به الحروب، المسمى ب " الصمصامة " ، فأرسل إليه به في قراب خَلقٍ بالٍ، فأخذه عمر ثم ضربَ به في الضريبة، فلم يَحكِ، فرماه من يده، ثم بعث إلى عمرو يستدعيه، فلما حضر قال له عمر: إن هذا سيفك، ضربت به فلم يحك. فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أرسلت تطلب السيف فأرسلت إليك بالسيف، ولم أرسل إليك بالزند الذي تضرب به، فعلاه عمر بالدرّة، فقال عمرو: الحمى أضرعتني به. ثم قال له عمر: أخبرني عن السلاح، قال: ما تريد منه؟ فقال عمر: ما تقول في الرمح؟ فقال: أخوك، وربما خانك فانقصف. قال: فما تقول في السهام؟ قال: رسل المنايا: فمنها طائش، ومنها مصيب. قال: فما تقول في الدروع؟ قال: لا ترد أجلاً قد حضر، وإنها لحصن حصين. قال: فما تقول في الترس؟ قال: نِعْمَ الجُنة، وعليه تدور الدوائر. قال: فما تقول في السيف؟ قال: عنده تبكيك أمك. قال: صف لي الحرب. فقال: الحرب مرة المذاق؛ إذا كشفت عن ساق، من صبر فيها عرف؛ ومن تهور فيها تلف، ثم أنشد: من الكامل:
الحَربُ أولَ ما تَكُونُ فتيةٌ ... تَسْعَى بِزِينَتها لِكُل جَهُولِ
حَتى إِذا حَمِيَتْ وشَب ضِرامُها ... عادَتْ عَجُوزاً غَيْرَ ذاتِ خَلِيلِ
شَمطاءَ جَرت شَعْرَها وَتَنَكرَتْ ... مَكرُوهَةً لِلَّثْمِ والتَقْبِيلِ
ثم قال: إني سائلك يا عمرو، هل انصرفت عن فارس قط؟ فقال عمرو: لأحدثنك حديثاً لم أحدث به أحداً غيرك؛ خرجت في خيل بني زبيد أريد بني كنانة، فأتينا قوماً سراة، فقال عمر - رضي الله عنه - : كيف علمت أنهم سراة؟ قال: رأيت مرابط خيل، وقدوراً تكفأ، وقباباً حمراً جديدة، ونعماً كثيرة وشاء. قال عمرو: فأهويت إلى أعظمها قبة، بعد ما حوينا السبي، وكان بيتاً منتبذاً من البيوت، فنظرت إليه، واذا بامرأة بادية الجمال على فرش لها. قال: فلما نظرت إلي والى الخيل، استعبرت، فقلت: ما يبكيك؟ قالت: والله ما أبكي على نفسي؛ ولكن أبكي حسداً لبنات عمي، سلمن وابتلى أناس دونهن. فقلت أنا - في ظني - : والله! إنها لصادقة. فقلت لها: وأين هن؟ قالت: في هذا الوادي وراءك. فقلت لأصحابي: لا تحدثوا شيئاً حتى آتيكم. ثم همزتُ فرسي حتى علوت كثيباً، فإذا كلام أصهب الشعر أهدب أقنى، يخصف نعلاً له، وسيفه بين يديه، وفرسه عنده، فلما نظر إلي نبذ النعل من يده، ثم أخذ سلاحه وأشرف على الكثيب، فلما نظر إلى الخيل محيطةً ببيته، أقبل نحوي ثم حمل علي يقول: من الرجز:
آقُولُ لما مَنَحَتنِي فاها
وألْبَسَتنِي بُكْرَة رِداها
إِذَن سأجوي الْيَوْمَ مَنْ جَواها
فَلَيْتَ شِعْري اليَومَ ما دهاها
الخيْلُ تَبغِيها عَلَى خواها
حَتى إذا خَلا بِها خواها
قال عمرو: فقدمت عليه، وأنا أقول: من الرجز:
عَمرو عَلَى طُولِ الوِجا دَهاها
بِالخيلِ يَبغِيها عَلَى خَواها
حَتى إِذا خَلا بِها خَواها(1/463)
وحملت عليه، فإذا هو أروع من نهر؛ فراغ عني، ثم حمل علي فضربني بسيفه ضربة صرعني بها؛ فلما أفقت من صرعتي، حملت عليه، فراغ عني، ثم حمل علي فصرعني، واستاق ما في أيدينا من الغنيمة. ثم أفقتُ واستويت على فرسي، فلما رآني أقبل، وهو يقول: من الرجز:
انا ابْنُ عَبْدِ اللهِ مَحْمُودُ الشيَمْ
وَخَيْرُ مَنْ يَمْشي بِساقٍ وَقَدَمْ
عَدُوُهُ يَفْدِيهِ مِنْ كُل السقَمْ
قال عمرو: فحملت عليه، وأنا أقول من الرجز:
أنا ابْنُ ذِي التَقْلِيدِ في الشهْرِ الأصَمْ
أنا ابْنُ ذِي الإكلِيل قتال البُهَمْ
مَن يَلقَني يَردَى كَما أردَتْ إِرَمْ
أُنزِلُهُ لحماً عَلَى ظَهْرِ وَضَمْ
فراغ - والله - عني، ثم ضربني، ثم صرخ صرخة، فرأيت الموت - والله؛ يا أمير المؤمنين - ليس دونه شيء، وخفته خوفاً لم أخف أحداً قط قبله مثله، فقلت له: من أنت؛ فوالله! ما اجترأ علي أحد قط إلا عامر بن الطفيل؛ لإعجابه بنفسه، وعمرُو بن كلثوم؛ لسنه وتجربته؟! قال: بل من أنت، أخبرني وإلا قتلتك. قال عمرو: فقلت: أنا عمرو بن معدي كرب. فقال: وأنا ربيعة بن مكدم.
ثم قلت: اختر مني إحدى ثلاث: إن شئت اجتلدنا بالسيف حتى يموت أعجزنا، وإن شئت اصطرعنا، وإن شئت السلم؛ فإنك حدث وبقومك إليك حاجة. فقال: بل هذه الثلاث إليك. قال عمرو: فاخترت السلم. فقال لي: ألق سيفك، وانزل عن فرسك. قال عمرو: فقلت يا بن أخي، قد جرحتني جرحين، ولا يزال بي، فوالله: ما كف حتى نزلت عن فرسي، فأخذ بعنانه، ثم أخذ بيده في يده فانصرفنا إلى الحي، وأنا أجر رجلي، حتى طلعنا على الخيل، فلما رأوني همزوا خيولهم إلى نحوي، وأرادوا ربيعة، فناديتهم: إليكم عنه، فمضى - والله - كأنه ليث، حتى شقهم ثم أقبل إلي، وقال: كأن أصحابك يريدون غير الذي أردت، فصمتَ والله القوم لم يتكلم أحد، وأعظموا ما رأوا. فقلت: يا ربيعة بن مكدم، لا يريدون إلا خيراً؛ وإنما سميته ليعرفه القوم، ومضينا معه حتى نزل، فقامت إليه صاحبته وهى ضاحكة فمسحت وجهه، ثم أقبل بإبل فنحرت، وضرب علينا القباب، فأقمنا عنده يومين وانصرفنا.
قال عمرو: ثم غزوت بعد زمان في صناديد قومي بني كنانة فأخذنا عيالهم، ومنهم امرأة ربيعة بن مكدم وكان غائباً، فبلغه ذلك فأقبل في الطلب على فرس عري ومعه رمح بلا سنان، فلما لحق بنا قال لي: يا عمرو، خل عن الظعينة وما معك، فلم ألتفت إليه، ثم أعادها فلم ألتفت إليه. ثم قال: يا عمرو، إما تقف لي أو أقف لك، فوقفت، وقلت: قد أنصف القارة من راماها؛ فقف لي يا ابن أخي، فوقف، فحملت عليه وأنا أقول: من الرجز:
أنا ابنُ ثور ثم فَتَّاق الدَلَق
لستُ بمأمونٍ ولا في حَرَق
وأستُرُ القومَ إذا احمرَّ الحَدَق
إذا الرجالُ عَضهُم فوق الترَق
وَجدتني بالسيف فَتَّاقَ الحلق
حتى إذا ظن أن قد خالطه السنان إذا هو نقب لفرسه، ومر السنان على ظهر الفرس، ثم وقفت له، فحمل علي وهو يقول: من الرجز:
أنا الكِناني الغُلامُ لا برح ... كم من هِزَبرٍ رامَني قَدِ انشَرَح
فقرع رأسي بالرمح، ثم قال: إليك يا عمرو، فلولا إني أكره قتلك لقتلتك. فقلت: لا ينصرف إلا أحدنا. فحملت عليه، حتى إذا ظن أن قد خالطه السنان إذا هو حزام لفرسه، ثم إنه حمل علي فقرع رأسي بالرمح ثانية وقال: خذها إليك ثانية، وإنما العفو مرتان. فصاحت به امرأته: السنان له درك. فأخرج سناناً من بين إزاره كأنه شعلة نار، فركبه على رمحه، فلما نظرت إليه وذكرت طعنته بغير سنان، قلت له: خذ الظعينة. فقال: دعها وانج بنفسك. فقالت بنو زبيد: تتركها لغلام؟ فقلت: والله لقد رأيت الموت الأحمر في سنانه وسمعت صريره في تركيبه. فانصرفنا، ورجع بالظعينة والغنيمة.(1/464)
ومثلها ما رأيته في كتاب المحاسن والمساوى، قال: وَفَدَ على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أعرابي يستحمله، فقال له: خذ بعيراً من إبل الصدقة، فنظر إلى بعير منها استحسنه واختاره فتعلق بذنبه، ونازعه البعير نفسه ونقر فاقتلع ذنبه في يده، فقال له عمر: يا أخا العرب، هل رأيت أشد منك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، خرجت بامرأة من أهلي أريد بها زوجها، فنزلت منزلاً أهله خلوف، فأنخت بها إلى جانب، ودنوت من الحوض، فإذا رجل قد أقبل معه ذود له، فصرف ذوده إلى الحوض، وأقبل نحو المرأة لا أدري ما يريد، فلما قرب منها ساورها، فنادتني، فلما انتهيت إليه إذا هو قد خالطها، فجئت لأدفعه، فأخذ رأسي ووضعه بين ذراعه وجنبه؛ فما استطعت أن أتحرك حتى قضى ما أراد، ثم قام عنها فأطلقني بعد، ثم احتلب من ذوده فروى، ثم ذهب فاضطجع، وقالت المرأة: نعم الفحل هذا، لو كانت لنا منه سخلة. فأمهلته حتى امتلأ نوماً، ثم قمت إليه فضربت ساقه بالسيف فقطعت، فوثب، فهربت وعليه الدم، فرماني بساقه، فأصابت بعيري فقتلته، فقال عمر: فما فعلت المرأة؟ فقال الرجل الأعرابي: هذا حديث الرجل. فكرر عليه عمر السؤال مراراً في كلها يقول: هذا حديث الرجل.
خلافة أمير المؤمنين عثمان
ذى النورين، رضي الله عنه:
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي، الأموي، العبشمي. يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جده عبد مناف، فهو أقربهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - أمه أروَى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، أسلمت، رضي الله عنها، رواه أبو بكر بن مخلد. وأمها البيضاء، أم حكيم بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اسمه في الجاهلية والإسلام عثمان، ويكنى أبا عمرو، وأبا عبد الله، والأولى أشهر. قيل: إنه ولدت له رقية ولداً أسماه عبد الله فاكتنى به فمات، وولد له عمرو فاكتنى به إلى أن مات، ويدعى ب " ذي النورين " ؛ لأنه تزوج بإبنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقية وأم كلثوم، ولم يعلم أحد تزوج بإبنتي نبي غيره. وقيل: إنه إذا دخل الجنة زفت له برقيتين، وقيل: لأنه كان يجمع القرآن في الوتر؛ فالقران نور، وقيام الليل نور، وقيل غير ذلك.
وهو من السابقين الأولين، وصلى إلى القبلتين، وهاجر الهجرتين، وهو أول من هاجر إلى الحبشة فاراً بدينه، ومعه زوجته رقية، رضي الله عنهما. وعد من البدريين، ومن أهل بيعة الرضوان، ولم يحضرهما. وكان سبب غيبته عن بدر أن زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضت، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجلوس ليمرضها، وقال له: لك أجر رجل شهد بدراً، وضرب له بسهمه من غنيمتها.
وأما غيبته عن بيعة الرضوان؛ فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية إلى مكة. عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: " لما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان إلى أهل مكة، دعا رسول الله أصحابه إلى البيعة، وقال: إن عثمان في حاجة لله ورسوله، فضرب بإحدى يديه على الأخرى، وقال: هذه عن عثمان، فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم له خيراً من أيديهم لأنفسهم " . خرجه الترمذي وإنما أرسله عليه الصلاة والسلام لعزته فيهم، ولو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه؛ لأنه كان له في قريش محبة وعزة لا توصفان، حتى ضربوا بذلك المثل فقالوا: أحبك الرحمن، حب قريش عثمان.
وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راضٍ، وبشره بالجنة، ودعا له بالخصوص غير مرة؛ فأثرى وكثر ماله، وكانت له شفقة ورحمة ورأفة على المسلمين. فلما ولي زادت رحمته وتواضعه ورأفته برعيته، وكان يُطعِمُ طَعامَ الإمارة، ويأكل الخل والزيت.
وجهز جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيراً بأحلاسها وأقتابها، وأتم الألف بخمسين فرساً، وقال قتادة: حمل على ألف بعير وسبعين فرساً، واشترى بئر رومة بخمسة وثلاثين ألفاً وسبَّلها. وله من أفعال الخير وأنواع البر ما يطول ذكره.
ولد بمكة. قلت: لم أظفر بتعيين موضع ولادته في كلام أحد ممن يعتمد كلامه. افتتح في أيامه الإسكندرية، وسابور، وافريقية، وقبرص، وسواحل الروم، واصطخر الآخرة، وفارس الأولى، وخوزستان، وطبرستان، وكرمان، وسجستان، وساحل الأردن، ومرو، والأساورة.(1/465)
ذكر إسلامه
رضي الله تعالى عنه:
قال في الرياض النضرة، في مناقب العشرة: عن عمرو بن عثمان - رضي الله عنهما - قال: كان إسلام عثمان أبي فيما حدثنا عن نفسه قال: كنت رجلاً مشتهراً بالنساء، وإني ذات ليلة بفناء الكعبة قاعد في رهط من قريش، إذ أتينا فقيل لنا: إن محمداً أنكح عتبة بن أبي لهب رقية، وكانت رقية ذات جمال رائع. قال عثمان: - فدخلتني الحسرة، لم لا أكون أنا سبقت إلى ذلك، فلم ألبث أن انصرفت إلى منزلي، فأصبت خالة لي قاعدة، وهى سعدى بنت كريز، وكانت قد ظرفت وتكهنت عند قومها، فلما رأتني قالت: من الرجز:
أبشِر وحُيَّيتَ ثَلاثاً تَترَى ... أتاكَ خيرٌ ووُقِيتَ شرا
أُنكِحتَ والله حَصاناً زَهراً ... وأنتَ بَكرٌ ولَقِيتَ بِكرا
وافيتها بنتَ عَظيمٍ قَدرا ... لله أمرٌ قَدَ أشاد ذِكرا
قال عثمان: فعجبت من قولها فقلت: يا خالة ما تقولين؟ فقالت: يا عثمان، من الرجز:
لَكَ الجَمالُ ولَكَ اللسانُ ... هَذا نَبي مَعَه البُرهانُ
أرسلَهُ محبه الديانُ ... فاتبَعهُ لا يعبأ لَكَ الأوثانُ
قال: قلت يا خالة، إنك لتذكرين شيئاً ما وقع ذكره في بلدنا فأبينيه لي. قالت: محمد بن عبد الله، رسول من عند الله، جاء بتنزيل الله، يدعو إلى الله، ثم قالت: مصباحه مصباح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، وقرنه نطاح، دانت له البطاح، ما ينفع الصياح، لو وقع الذباح، وسلت الصفاح، ومدح الرماح، قال: ثم انصرفت ووقع كلامها في قلبي، فجعلت أفكر فيه. وكان لي مجلس عند أبي بكر، فأتيته، فأصبته في مجلس ليس عنده أحد، فجلست إليه؛ فرآني منكسراً؛ فسألني عن أمري، وكان رجلاً شايباً، فأخبرته بما سمعت من خالتي، فقال: يا عثمان، ويحك!! إنك رجل حازم لا يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأوثان التي يعبدها قومنا؟! أليست حجارة لا تضر ولا تنفع، صم لا تبصر ولا تسمع؟ قلت: بلى والله، إنها كذلك. فقال: والله صدقتك خالتك. هذا محمد بن عبد الله قد بعثه الله برسالته إلى خلقه، فهل لك أن تأتيه فتسمع منه؟ قلت: بلى. فوالله ما كان بأسرع من أن مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي بن أبي طالب يحمل ثوباً، فلما رآه أبو بكر قام فسارَّه في أذنه بشيء، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد ثم أقبل علي فقال: يا عثمان أجب الله إلى جنته؛ فإني رسول الله إليك والي خلقه - قال: فوالله ما تمالكتُ حين سمعت قوله أن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، ثم لم ألبث أن أتزوج رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي إسلام عثمان تقول خالته سعدى المذكورة من الطويل:
هَدَى الله عثماناً بِقَولي إلى الهُدَى ... وأرشَدَهُ والله يَهدِي إلى الحق
فَتابَع بالرأي السديدِ محمداً ... وَكانَ برأي لا يحيدُ عن الصدْقِ
وأنكَحَهُ المبعوثُ بالحق بِنتهُ ... فَكانَ كَبَدرِ مازَجَ الشَّمْسَ في الأُفْقِ
فِدَى لَكَ يا بْنَ الهاشِمِيين مُهجتي ... فأنتَ أمينُ الله أُرْسِلْتَ للخَلْقِ
وأسلمت أخت عثمان آمنة بنت عفان، وأسلم إخوته لأمه الوليد وخالد وعمارة، أسلموا يوم الفتح، خرجه الفضائلي.
صفته
رضي الله تعالى عنه:
كان رضي الله عنه رجلاً مربوعاً، ليس بالقصير ولا بالطويل، حسن الوجه، بوجنته نكات جدري، أقنى الأنف، من أجمل الناس، رقيق البشرة، خفيف الجسم، عظيم اللحية طويلها، أسمر اللون، كثير الشعر، ذو جمة أسفل من أذنيه، ضخم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، أصلع، وبكثرة شعر رأسه ولحيته كان أعداؤه يسمونه نعثلاً، كما سيأتي ذكر ذلك.
عن أسامة بن زيد قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحفة فيها لحم إلى عثمان، فدخلت عليه فإذا هو جالس مع رقية ما رأيت زوجاً أحسن منهما، فجعلت مرة أنظر إلى عثمان ومرة أنظر إلى رقية. فلما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دخلت عليهما؟ قلت: نعم. قال: هل رأيت زوجاً أحسن منهما؟ قلت: لا " . خرجه البغوي في معجمه، والحافظ الدمشقي.(1/466)
وفى سيرة الشامي: لما بويع عثمان رقى المنبر بعد العصر أو قبل الزوال يومئذٍ، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله، ثم قال: أيها الناس، إنكم في بقية آجالكم؛ فبادورا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، ولا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. واعتبروا بمن مضى من القرون وانقضى، ثم جدوا ولا تغفلوا. أين أبناء الدنيا وإخوانها؟ أين الذين شيدوها وعمروها وتمتعوا بها طويلاً، ألم تلفظهم؟ ارموا بالدنيا خير رمي، واطلبوا الآخرة حيث رغب الله عز وجل فيها؛ فإنه سبحانه ضرب لكم مثلاً فقال: " واضرِب لَهُم مَثَلَ الحياة الدنيا كَمَاءٍ أنزلتَه مِنَ السَمَاءِ... " إلى " ...مُقتَدرِاً " الكهف: 45 فاتقوا الله، إن تقوى الله غنم، وإن أكيس الناس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. إن الله أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها. إن الدنيا تفنى، والآخرة تبقى؛ فلا تشتغلوا بالفانية عن الباقية؛ فإن الدنيا منقطعة والمصير إلى الله تعالى، واتقوا الله؛ فإن تقواهُ جنة من سأله، ووسيلة عنده " واذكروا نعمَتَ اللهِ عليكُم إذ كُنتم أعداءً " آل عمران: 103 الآية. ثم نزل.
أخرج ابن سعد عن الزهري قال: ولي عثمان اثنتي عشرة سنة فلم ينقم الناس عليه شيئاً مدة ست سنين، بل كان أحب إلى قريش من عمر؛ لأن عمر كان شديداً عليهم، فلما ولي عثمان لان لهم ووصلهم، ثم توانى في أمورهم، واستعمل أقاربه - أهل بيته في الست السنين الأواخر، وأعطاهم المال متأولاً في ذلك الصلة التي أمر الله بها، وقال: إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما، وإني أخذته فقسمته في أقربائي - فكان ذلك مما نقم عليه.
وأخرج ابن عساكر عن الزهري قال: قلت لسعيد بن المسيب: هل أنت مخبري كيف كان قتل عثمان، ما كان شأن الناس وشأنه ولم خذله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال ابن المسيب: قتل عثمان مظلوماً، ومن قتله كان ظالماً، ومن خذله كان معذوراً. قلت كيف قال: لأنه لما ولي كره ولايته نفر من الصحابة؛ لأنه كان يحب قومه، وكان كثيراً ما يولي بنى أمية ممن لم يكن له صحبة، وكان، من أمرائه ما ينكره الصحابة، فكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم، فلما كان في الست الأواخر استأثر ببني عمه فولاهم دون غيرهم، وأمرهم بتقوى الله.
ولما كانت سنة خمس وثلاثين خرج المصريون وغيرهم على عثمان، قال إسماعيل بن أبي خالد: لما نزل أهل مصر الجحفة وأتوا يعاتبون عثمان في هذه الأشياء، صعد عثمان المنبر فقال: أيكم يذهب إلى هؤلاء القوم فيسألهم ما نقموا منا وما يريدون؟ وكان القوم الذين من مصر نحو أربعمائة، فقال المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص: نحن نذهب، فلما وصلا إليهم ردوهما أقبح رد. فقام علي فقال: أنا أذهب إليهم، فذهب فقال: ما الذي نقمتم على عثمان؟ فذكروا الأمور الستة عشرة المذكورة، فأجابهم عن الأول بأن دعواهم إسرافه في بيت المال فإنما كان من مال نفسه.
وأما عن الثاني وهو الحمى، فأجاب بأني إنما حميته لإبل الصدقة كما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك؛ فقالوا: إنك زدت. فقال: إنما زدت لإبل الصدقة لما زادت، ولم أحم بإبلي ولا لغنمي، وليس هذا مما ينقم على الإمام.
وأما الثالث وهو حمى سوق المدينة، فأجاب بأنه افتراء عليه ولا أصل له.
وأما الرابع وهو حمى البحر، فليس كذلك، وإنما لما كان متسعاً في المال منبسطاً في التجارات حمى سفينه أن يُحمل فيها متاع غير متاعه.
وأما الخامس وهو ضربي لابن مسعود، فإنه إنما كان للأدب حين امتنع من إتيانه بالمصحف ليجتمع الناس على مصحف واحد؛ فكان لي ذلك؛ فأحرقت مصحفه وكان من أكبر المصالح؛ فإنه لو بقي في أيدي الناس أدى ذلك إلى فتنة كبيرة في الدين؛ لكثرة ما فيه من الشذوذ، رولحذفه المعوذتين مع شهرتهما - وأما هجري له فلم تزل هذه سيمة الخلفاء قبلي.(1/467)
قلت: وهجره إياه ليس بأعظم من هجر علي أخاه عقيلاً وأبا أيوب الأنصاري حين فارقاه بعد انصرافه من صفين، وذهب إلى معاوية ولم يوجب ذلك طعناً عليه ولا عيباً فيه. وقد روي عن أعرابي من هَمذان دخل المسجد فرأى ابن مسعود وحذيفة وأبا موسى يطعنون على عثمان فقال: أنشدكم الله لو أن عثمان ردكم إلى أعمالكم وعطاياكم أكنتم ترضرن؟ قالوا: اللهم نعم. فقال الهمداني: اتقوا الله يا أصحاب محمد ولا تطغوا على أئمتكم. ولما كان تلقيه به مما يكره؛ فإن منصب الخلافة لا يحتمل ذلك، وليس هذا بأعظم من ضَربِ عُمَرَ سَعدَ بن أبي وقاص بالدرة على رأسه حين لم يقم له، وقال له: إنك لم تهب الخلافة، فأردتُ أن تعرف أن الخلافة لم تهبك. ولم يغير ذلك سعداً ولا رآه عيباً. وكذلك ضرب أبي بن محب حين رآه يمشي وخلفه قوم، وقال: إن هذه مذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
وأما السادس وهو قصة عبادة، فهي دعوى باطلة وكذب مختلق.
وأما السابع وهو قولهم: إن عبد الرحمن ندم على توليته فكذب صريح، ولو كان كذلك لصرح بخلعه إذ لا مانع له؛ فإن أعيان الصحابة على زعمهم منكرون ناقمون أحداثه، والناس تبع لهم، فلا مانع من خلعه. فكيف يصح ما وصفوا به كل واحد منهما في حق الآخر؟ وإنما الذي صح في قصته أن عثمان استوصى منه، فإن عبد الرحمن كان يبسط عليه من القول لا يبالي ما يقول. ويروى أن عثمان قال له: إني أخاف يا بن عوف أن يبسط من دمي.
وأما الثامن وهو ضرب عمار فقد حلف أنه لم يكن ذلك عن أمره، وذلك أن عماراً جاء هو وسعد إلى المسجد، وأرسلا إلي أن ائتنا، فإنا نريد أن نذاكرك أشياء فعلتها، فأرسلت إليهما إني عنكم اليوم مشغول فانصرفا وموعدكما يوم كذا وكذا. فانصرف سعد وأبي عمار أن ينصرف، فأعدت إليه الرسول فأبى، فتناوله رسولي بغير أمري، والله ما أمرته ولا رضيت بضربه، وهذه يدي لعمار فليقتص مني إن شاء.
وأما التاسع وهو انتهاك حرمة كعب ابن عبدة الفهري، قال: فقد استرضيته؛ إذ كتبت إليه، فلما دخل علي قلت: يا كعب، كتبت إليك كتاباً غليظاً، ولقد كتبت إلى بعض الذي هتكت مشورتك، ولكنك خدشتني وأغضبتني حتى نلت منك ما نلت، ونزعت قميصي ودعوت بسوط ودفعته إليه، وقلت: قم فاقتص مني ما ضربتك، فقال كعب: أما إذ فعلت فأنا أدعه لله لا أكون أول من اقتص من الأئمة. ثم صار بعد من خواصِّي.
وأما العاشر وهو تركي إقامة الحد على عبيد الله بن عمر؟ فما ذاك إلا بخوفي ثوران فتنة عظيمة من قبله؟ لأنه كان بنو تميم وبنو عمي مانعين من قتله ودافعين عنه، وكان بنو سهم أيضاً مانعين من ذلك، حتى قال عمرو بن العاص: قتل أمير المؤمنين بالأمس فيقتل ابنه اليوم.لا يكون وإلله هذا أبداً، ومال في بني سهم. فلما رأيت ذلك اغتنمت تسكين الفتنة، وقلت: أمره إلي وسأرضي أهل الهرمزان عنه.
وأما الحادي عشر وهو انفرادي بأقوال شاذة، فلم يزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على نحو ذلك ينفرد الواحد منهم بما يقول ويخالفه الباقون؛ وهذا علي بن أبي طالب في مسألة بيع أم الولد على مثل ذلك، وفي الفرائض عدة مسائل على هذا النحو لكثير من الصحابة، فلم أنفرد بهذا المعنى.
وأما الثاني عشر فهو هتكي حرمة الأشتر - فهل أثار الفتنة في هذه القصة إلا فعل الأشتر بالكوفة من هتك حرمتي وتسليط العامة على ضرب عاملي بلا اعتذار عن الأمر بنفيه بل ذلك أقل ما يستوجب، ثم لم ينفعه ذلك حتى سار من الشام إلى الكوفة وأضرم نار الفتنة.
وأما الثالث عشر وهو إتمامي الصلاة بمنى؛ فعذري في ذلك ظاهرة لأني ممن لا يوجب القصر في السفر وأنا أبيحه فيه، وأيضاً هي مسألة اجتهادية، فقولي لا يوجب تكفيراً ولا فسقاً.
وأما الرابع عشر وهو نفيي لأبي ذر؛ فلتجاسره علي وتجبيهي بالكلام الخشن ومفسدة علي، وإثارة الفتنة، وتأدية ذلك التجاسر لإذهاب هيبتي وتقليل حرمتي؛ ففعلت ما فعلت؛ صيانة لمنصب الشريعة، وإصابة لحرمة الدين.
قلت: كان عذر أبي ذر فيما كان يدعو عثمان - رضي الله تعالى عنه - إلى ما كان عليه صاحباه من التجرد عن الدنيا والزهد فيها - مخالفة عثمان إلى أمور مباحة من اقتنائه الأموال، وجمعه الغلمان الذين يستعان بهم على الحروب، وكل منهما على هدى من الله تعالى.(1/468)
وأما الخامس عشر وهو ردي الحكم، فقد استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في رده إلى المدينة فوعدني بذلك، فلما ولي أبو بكر سألته في ذلك فقال: كيف أرده إليها وقد نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقلت له: بوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياي بذلك، فقال أبو بكر: لم أسمعه يقول لك ذلك، ولم يكن لي أنا بينة على ذلك. ثم لما ولي عمر سألته ذلك فأبى ولم يردده بقول الواحد، فلما وليت قضيت بعلمي، وكان قد تاب وأصلح عما كان طرد لأجله مما تقدم ذكره، وإغاثة التائْب مما يحمد.
رأما السادس عشر وهو عزل ابن مسعود وعمرو بن العاص ونحوهما، فأما عمرو العاص فإنما عزلته؛ لأن أهل مصر أكثروا شكايته، وأما ابن مسعود فلما بلغني عنه، ولم تزل الأئمة على مثل ذلك، ولم يكن قصدي من منع عطائه حرمانه ألبتهَ، وإنما التأخير إلى غاية اقتضى نظري التأخير إليها، فكان لما قضى الله وصلت به ورثته، ولعله كان أنفع لهم فأزال عنهم وعثتهم، وأرسل إلى ابن أبي سرح يتهدده، ورجعوا إلى أوطانهم.
قلت: وأحسن ما يقال في الجواب عن جميع ما ذكر أنه عليه الصلاة والسلام قد أخبر عن وقوع فتنة عثمان، وأنه على الحق في حديث كعب بن عجرة كما سيأتي، وفي رواية على الهواء أخرجها أحمد، وأخبر أنه يقتل ظلماً كما في حديث ابن عمر الآتي أيضاً، وأمر باتباعه عند ثوران الفتنة كما في حديث مرة بن كعب كما يأتي، فمن شهد له عليه الصلاهَ والسلام أنه على الحق وأنه يقتل ظلماً وأمر باتباعه - كيف - يتطرق الوهم إلى أنه على الباطل. ثم قد ورد في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام أخبره أن الله يقمصه بقميص، وأن المنافقين يريدونه على خلعه، فأمره ألا يخلعه، وأمره بالصبر فامتثل أمره ! وصبر على ما ابتلى به، وهذا من أدل دليل، أنه كان على الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فمن خالفه يكون على الباطل، فكيف وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الذين أرادوا خلعه بالنفاق؛ فعلم بالضرورة أن كل ما روي عنه مما يوجب الطعن عليه أمر بين مفتري عليه مختلق وبين مجهول، وعلى تقدير صحته يحمل على أحسن الحالات، فيكون معه على الحق تصديقاً لخبر النبوة المقطوع بصدقه.
ولما بلغ عبد الرحمن بن عوف قول عثمان فيه ما قال أرسل إلى عثمان يقول: ما تخلفت عن بدر، ولا فررت يوم أحد، ولا خالفت سنة عمر؛ فأرسل إليه عثمان: تخلفت عن بدر لأن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شغلتني بمرضها. أما يوم أحد فقد عفا الله عني. وأما سنة عمر فوالله ما استطعتها أنا ولا أنت.
ثم لما كان شوال من السنة المذكورة خرجوا كالحجاج حتى نزلوا بقرب المدينة، فخرج أهل مصر في سبعمائة. وأمراؤهم: عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة ابن بشر الليثي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة السكوني، والغافقي بن حرب الحكي، ومعهم ابن السوداء.
وخرج أهل الكوفة في مائتين، فيهم: زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر المسمعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم، وهو مقدمهم.
وخرج أهل البصرة في نحو مائة وخمسين، فيهم: حُكيم بن جبلة، وذَريح بن عباد العبدي، وبثر بن شريح القيسي، وعليهم: حرقوص بن زهير السعدي.(1/469)
فأما أهل مصر فكانوا يشتهون علياً. وأما أهل البصرة فكانوا يشتهون الزبير. وأما أهل الكوفة فكانوا يشتهون طلحة، فخرجوا ولا تشك كل فرقة أن أمرها يتم دون الأخرى حتى كانوا من المدينة على ثلاث فقدم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خشب وتقدَم ناس من أهل الكوفة فنزلوا الأعوص. وجاء زياد بن النضر، وعبد الله بن الأصم ليكشفا خبر المدينة فدخلا فلقيا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وطلحة والزبير، وعلياً، فقال: إنما نؤم هذا البيت ونستعفي من بعض عمالنا واستأذنوهم للناس، فكلهم أبى ونهى، فرجعا فاجتمع من أهل مصر نفر فأتوا علياً. ومن أهل البصرة أنفر، فأتوا الزبير. ومن أهل الكوفة نفر فأتوا طلحة وقال كل فريق منهم: إن بايعنا صاحبنا وإلا كدناهم، وفرقنا جماعتهم ثم كررنا حتى نبغتهم. فأتى المصريون علياً وهو في عسكر عند أحجار الزيت وقد سرح ابنه الحسن إلى عثمان واجتمعوا عليه فسلم المصريون على علي وعرضوا له، فصاح بهم وطردهم وقال: لقد علم الصالحون أنكم ملعونون فارجعوا لا صحبكم الله تعالى. فانصرفوا وفعل طلحة والزبير نحو ذلك. وأزال عثمان شكواهم وعزل عنهم ابن أبي سرح، وكتب لمحمد على مصر بعد أن اختاروه، فذهب القَوم وأظهروا أنهم راجعون إلى بلادهم، فذهب أهل المدينة إلى منازلهم، فلما بلغ القوم إلى عساكرهم كروا بهم وفجأوا أهل المدينة فدخلوها وضجوا بالتكبير ونزلوا في مواضع عساكرهم وأحاطوا بعثمان. وقالوا: من كف يده فهو آمن، ولزم الناس بيوتهم، فأتى علي رضي الله عنه وقال: ما ردكم بعد ذهابكم. قالوا وجدنا مع بريد كتاباً بقتلنا.
وقال الكوفيون والبصريون: نحن نمنع إخواننا المصريين وننصرهم، فعلم الناس أن ذلك مكر منهم.
وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستمد بهم فساروا إليه على الصعب والذلول فبعث معاوية إليه حبيب بن مسلمة الفهري. وبعث إليه ابن أبي سرح معاوية بن خديج، وسار إليه من الكوفة القعقاع بن عمرو.
فلما كان يوم الجمعة صلى عثمان بالناس وخطب فقال: يا هؤلاء اتقوا الله، فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فامحوا الخطأ بالصواب فإن الله لا يمحو السيئ إلا بالحسن، فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا أشهد بذلك، فأقعده حكيم بن جبلة، فقام زيد بن ثابت فقام إليه من ناحية أخرى محمد بن أبي قتيرة فأقعده وتكلم فأفظع.
وثار القوم بأجمعهم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد. وحصبوا عثمان حتى صرع نحو المنبر فغشي عليه فاحتمل وأدخل الدار.
وكان المصريون لا يطمعون في أحد من أهل المدينة أن ينصرهم إلا ثلاثة فإنهم كانوا يراسلونهم: محمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن جعفر، وعمار بن ياسر.
قال: وأستقبل أناساً منهم: زيد بن ثابت، وأبو هريرة، وسعد بن مالك، والحسن بن علي، فنهضوا لنصرة عثمان، فبعث إليهم عثمان يحلف عليهم: أن ينصرفوا فانصرفوا.
وأقبل علي حتى دخل على عثمان هو وطلحة والزبير يعودونه من صرعته، ثم رجعوا إلى منازلهم.
قال الواقدي: وقولهم: وجدنا بريداً معه كتاب بقتلنا: هو أنهم لما كانوا ب " البويب " وفي رواية ب " ذي خشب " رأوا جملاً عليه ميسم الصدقة فأخذوه فإذا غلام أسود لعثمان ففتشوا متاعه بعد أن سألوه فتارة يقول: أنا عبد لمروان،وتارة: لفلان، فلما فتشوه وجدوا قصبة من رصاص فيها كتاب في جوف الإداوة في الماء ففتحوه فإذا هو: إلى عبد الله بن أبي سرح أن: افعل بفلان كذا واقتل فلاناً واقطع رجل فلان ويده، وعدد جماعة من القوم واثبت في عملك حتى يأتيك أمري: وعلى الكتاب ختم بخاتم عثمان. قال الواقدي؛ فحدثني عبد الله بن الحارث عن أبيه لما رجعوا إلى المدينة أتوا علياً فقالوا له ألم تر إلى عدو الله؟ فقم معنا. قال: والله ما أقوم معكم.
قالوا: فلم كتبت إلينا؟.
قال: والله ما كتبت إليكم. فنظر بعضهم إلى بعض وخرج علي من المدينة. فانطلقوا إلى عثمان فقالوا: كتبت فينا بكذا، فقال: إنما هما اثنتان: تقيمون رجلين من المسلمين، يعني شاهدين، أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو - ما كتبت ولا علمت. قالوا: كيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه خاتمك ولا تعلم به؟ وزعموا أنه خط مروان وسألوه أن يدفعه إليهم فأبى وعلموا أنه لم يحلف كاذباً ولزموا بيوتهم.(1/470)
فقال عثمان: قد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم على الخاتم. فقالوا: قد أحل الله دمك ونقض العهد والميثاق. وحصروه في الدار.
وروى بشر بن شغاف عن عبد الله بن سلام قال: بينما عثمان يخطب إذ قام إليه رجل فنال منه، فوذأته فاتذأ. فقال رجل؛ لا يمنعك مكان ابن سلام أن تسب نعثلاً فإنه من شيعته. فقلت له: لقد قلت عظيماً في الخليفة من بعد نوح.
أقول: وذأته: زجرته، وقمعته. وقالوا لعثمان نعثلاً؛ تشبيهاً له برجل مصري اسمه: نعثل، كان طويل اللحية. والنعثل في اللغة: ذكر الضباع.
وكان عمر يشبه بنوح في الشدة. ولما أخذت من يد عثمان العصا وهو قائم يخطب وكان الآخذ لها جهجاه بن عمرو الغفاري، وكسرها بركبته وقعت الآكلة في ركبته والعياذ بالله تعالى.
ثم إنهم أحاطوا بالدار وحصروه.
قال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن قال: لما كثر الطعن على عثمان تنحى علي إلى ماله بالبقيع، فكتب عثمان: أما بعد فقد بلغ الحزام الطُّبيين، وجاوز السيل الزبى، وبلغ الأمر فوق قدره، وطمع في الأمر من لا يدفع عن نفسه من الطويل:
فإنْ كُنْتَ مأكُولاً فَكُنْ خَيرَ آكِلٍ ... وإلا فادْرِكني وَلَما أُمزقِ
وعن أبان بن عثمان: لما ألحوا على عثمان بالرمي خرجت حتى أتيت علياً فقلت: يا عم أهلكتنا الحجارة. فقام معي فلم يزل يرمي حتى فتر كتفه ثم قال: يا بن أخي اجمع حشمك ثم يكون هذا شأنك.
وعن أبي إدريس الخولاني أنه قال: أرسل عثمان إلى سعد فأتاه فكلمه فقال له حد: أرسل إلى علي. فإن أتاك ورضي صلح الأمر. قال: فأنت رسولي إليه. فأتاه فقاام معه علي فمرا بمالك الأشتر، فقال الأشتر لأصحابه: أين يريد هذا. قالوا: يد عثمان. فقال: والله لئن دخل علي عثمان لتقتلن عن آخركم. فقام إليه في أصحابه حتى اختلجه عن سعد، وأجلسه في أصحابه وأرسل إلى أهل مصر: إن كنتم تريدون قتله فأسرعوا. فدخلوا عليه فقتلوه وعن أبي حبيبة: لما اشتد الحصار على عثمان قالوا له - يعني الذين عنده في الدار فكانوا قريباً من ستمائة فيهم مروان بن الحكم - : ائذن لنا في القتال. قال: أعزم على من كانت لي عليه طاعة أن لا يقاتل، أيما عبد من عبيدي أغمد سيفه فهو حر.
وعن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: بعث عثمان المسور بن مخرمة إلى معاوية أنه محصور، ويأمره أن يجهز له جيشاً سريعاً. فلما قدم على معاوية ركب معاوية لوقته هو وسالم بن عقبة، ومعاوية بن خديج فساروا من دمشق إلى عثمان عشراً فدخل نصف الليل على عثمان وقبل رأسه وقال له عثمان: أين الجيش؟ قال ما جئت إلا ثالث ثلاثة، فقال عثمان لا وصل الله رحمك ولا أعز بعيرك ولا جزاك خيراً، فوالله لا أقتل إلا فيك ولا ينقم على إلا من أجلك.
فقال: بأبي أنت وأمي لو بعثت إليك جيشاً فسمعوا عاجلوك بالقتل ولكن معي نجائب فاخرج معي، فما شعر بي أحد فوالله ما هي إلا ثلاث حتى ترى معالم الشام، فقال: بئسما أشرت به وإني لن أحسمه. فأسرع معاوية راجعاً، وورد المسور يريد المدينة ولقي معاوية ب " ذي المروة " فقدم على عثمان وهو رام لمعاوية غير عاذر له. فلما كان في آخر حصره بعث المسور ثانياً إلى معاوية يستنجده فقال معاوية: إن عثمان أحسن فأحسن الله به، ثم غير فغير الله به. فشدد المسور عليه، فقال معاوية: تركتم عثمان حتى إذا كانت نفسه في حنجرته قلتم: اذهب فادفع عنه الموت وليس ذاك بيدي. ثم أنزله في مشربة على رأسه فما دخل عليه داخل حتى قتل عثمان. ولما أنكر عثمان، وحلف بعد أن أحضروا الكتاب ونصوه بمحضر من الصحابة فيهم طلحة، وعلي، والزبير، وسعد - لم يبق أحد إلا حنق على عثمان وزاد ذلك غضباً وحنقاً أعوان أبي ذر، بما فعله بأبي ذر، وقبيلة هذيل، بما فعله في ابن مسعود، وبني مخزوم، بما فعله بعمار بن ياسر.
قلت: قد تقدم ذكر ما فعله مع أبي ذر، وابن مسعود، وعمار، وأرسل علي بالحسنين وأرسل الزبير بابنه عبد الله، وطلحة بابنه، وأبناء غيرهم وأمروهم وهم شاكوا السلاح أن يحرسوا عثمان رضي الله عنه، فلما دخلوا على عثمان قال لهم أعزم عليكم إلا ما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم، فقال ابن الزبير: نحن نعزم على أنفسنا ألا نبرح.(1/471)
قال الأوزاعي: حدثنى محمد بن عبد الملك بن مروان أن المغيرة بن شعبة دخل على عثمان فقال: إنك إمام العامة، وقد نزل بك ما ترى، وإني أعرض عليك خصالاً؛ إما أن تخرج فتقاتلهم فإن معك عدداً وقوة. وإما أن تخرق لك باباً آخر فتقعد على ركائبك فتلحق ب " مكة " فإنهم لن يستحلوا دمك وأنت بها. وإما أن تلحق ب " الشام " ففيها معاوية. فقال عثمان: أما أن ألحق ب " الشام " فلن أفارق دار هجرتي، وأما أن أقاتل، فلن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يلحد رجل من قريش ب " مكة " يكون عليه نصف عذاب العالم.
وروى نافع عن ابن عمرة أصبح عثمان يحدث الناس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يقول له " أفطر عندنا " فأصبح صائماً وقتل يومه.
وقال ثمامة بن حزن القشيري يوم الدار وأشرف عليهم عثمان، فقال: ائتوني بصاحبيكم اللذين ألباكم - فدعيا له كأنهما جملان أو حماران، فقال:؟ أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس فيها ماء - عذب غير بئر رومة فقال: من يشتريها فيكون دلوه كدلاء المسلمين وله في الجنة خير منها. فاشتريتها، وأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها حتى أشرب من الماء المالح؟؟! قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله والإسلام هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتري بقعة بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها وزدتها في المسجد وأنتم تمنعوني اليوم أن أصلي فيه؟؟! قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على ثبير ب " مكة " ، فتحرك وعليه أبو بكر، وعمر، وأنا، فقال: اسكن ثبير، فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان. قالوا: اللهم نعم. فقال: الله أكبر شهدوا ورب الكعبة أني شهيد. ثم قال: ولكن طال عليكم أمري واستعجلتم وأردتم خلع سربال سربلنيه الله، وإني لا أخلعه حتى أموت أو أقتل.
ثم أشرف عليهم ذات يوم، قال ابن عمر: فقال: عَلامَ تقتلونني؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إسلام، أو زنا بعد حصان، أو رجل قتل نفساً " . فوالله ما زنيت في الجاهلية ولا في الإسلام، ولا قتلت نفساً، ولا كفرت قال الحسن: حدثني وثاب قال: بعثني عثمان فدعوت له الأشتر فقال: ما يريد الناس. قال: ثلاثاً يخيرونك بين الخلع وبين أن يقتص منك فإن أبيت فإنهم قاتلوك. فقال: ما كنت لأخلع سربالاً سربلنيه الله، وبدني ما يقوم بقصاص. ثم حاصره أولئك القوم حتى منعوه الماء، فأشرف عليهم يوماً فقال: أفيكم علي؟ قالوا: لا. قال أفيكم سعد. قالوا: لا. فسكت ثم قال: ألا أحد يسقينا ماء؟ فبلغ ذلك علياً فبعث إليه بثلاث قرب فجرح بسببها جماعة من موالي بني هاشم حتى وصلت إليه. وبلغ علياً أن عثمان يراد قتله فقال: إنما أردنا منه مروان، فأما عثمان فإنا لا ندع أحداً يصل إليه.
ورمى الناس عثمان بالسهام حتى خضب بالدماء على بابه فأصاب مروان سهم وخضب محمد بن طلحة وشج قنبر مولى علي، فخشي محمد بن أبي بكر أن يغضب بنو هاشم لشأن الحسن فلا يتم لهم ما أرادوه، فاتفق هو وصاحباه وتسوروا من دار حتى دخلوا عليه ولا يعلم أحد؛ لأنهم كانوا فوق البيوت ولم يكن مع عثمان إلا امرأته، فدخل محمد فأخذ بلحيته ثم قال بها حتى سمع وقع أضراسه، وقال: يا نعثل قد أخزاك الله. فقال: لست بنعثل، ولكني عبد الله وأمير المؤمنين، فقال: ما أغنى عنك معاوية، ما أغنى عنك عبد الله بن عامر، ما أغنى عنك فلان وفلان، فقال له عثمان: أرسل لحيتي، فوالله لو يراك أبوك لساءه مكانك مني، فقال: إن ما يراد بك أشد من ذلك. وطعن جنبه بمشقص، وقيل: إنه أطلق لحيته وتراخت يده فرجع وقال: اللهم إني أشهدك إني بريء من دم عثمان. وكذلك قالته امرأتة نائلة وقالت: لكنه هو الذي أدخلهما يعني الرجلين كنانة بن بشر، وسودان بن حمران، ورفع كنانة مشاقص فوجأ بها في أذن عثمان فمضت حتى دخلت حلقه ثم علاه بالسيف وضرب جبينه بعمود حديد وضربه سودان بن حمران المرادي، فقتله ووثب عليه عمرو بن الحمق وبه رمق فطعنه تسع طعنات وقال ثلاث لله، وست لما في نفسي عليه.(1/472)
وعن رَيطة مولاة أسامه قالت: جاء رجل من خلف عثمان بسعفة فضرب بها جبهته، فرأيت الدم يسيل وهو يمسحه، ويقول: اللهم لا يطلب بدمي غيرك. وجاء آخر فضربه بالسيف على صدره فأفقصه، وتعاوروه بأسيافهم فرأيتهم ينتهبون بيته. وقال الشعبي: جاء رجل من " تُجيب " من المصريين والناس حول عثمان فأسبل سيفه ثم قال: أفرجوا، ففرجوا له فوضع ذباب سيفه في بطن عثمان فأمسكت زوجته نائلة بنت الفرافصة السيف لتمنع عنه فجز السيف أصابعها. وقيل الذي قتله رجل يقال له حمار. ووجدوه وعنده زوجته نائلة وهو يقرأ في المصحف صائماً.
وعن الزهري قال قتل عند صلاة العصر، وشد عبد لعثمان على كنانة بن بشر فقتله، فشد سودان بن حمران على العبد فقتله.
وقال أبو نضرة: عن أبي سعيد ضربوه فجرى الدم من المصحف على قوله: " فَسَيَكفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السَمِيع العَلِيم " البقرة:137 قال فإنها في المصحف ما حكت، فإن أبا خريت ذكر أنه ذهب هو وسهيل المري فأخرجوا إليهما المصحف إذا قطر الدم على الآية المذكورة.
وعن الزهري قلت لسعيد بن المسيب: هل أنت مخبري كيف كان قتل عثمان. قال: قتل مظلوماً ومن خذله كان معذوراً ومن قتله كان ظالماً. إنه لما استخلف كره ذلك ناس من الصحابة الذي يحب قومه ويوليهم وكان يكون منهم ما يكره الصحابة فيستعتب فيهم فلا يعزلهم، فلما كان في الست السنين الأواخر استأثر ببني عمه فولاهم وما اشترك معهم فولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر، فمكث عليها، جاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه. وقد كان قبل ذلك منه هنات إلى ابن مسعود وأبي ذر وعمار، فحنق عليه قومهم.
قلت: قد ذكرت فيما تقدم أسباب ذلك. انتهى.
وجاء المصريون يشكون ابن أبي سرح فكتب إليه يتهدده فأبى أن يقبل وضرب بعض من أتاه ممن شكا فقتله فخرج من أهل مصر ستمائة رجل وقيل سبعمائة فنزلوا المسجد وشكوا إلى الصحابة صنع ابن أبي سرح بهم فقام طلحة فكلم عثمان بكلام شديد وأرسلت إليه عائشة تقول: أنصفهم من عاملك ودخل عليه علي وكان متكلم القوم فقال: إنما يسألونك رجلاً مكان رجل، وقد ادعوا فتكه دماً فاعزله واقض بينهم. فقال: اختاروا رجلاً أوليه عليكم، فأشاروا عليه بمحمد بن أبي بكر فكتب عهده وخرج معه عدد من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر، وبين ابن أبي سرح، فلما كان محمد ومن معه على مسيرة ثلاث من المدينة وقيل بعد أن وصلوا إلى " عقبة أيلة " إذا هم بغلام أسود على بعير مسرعاً فسألوه فقال وجهني أمير المؤمنين إلى عامل مصر، فقالوا: هذا عامل مصر يعني محمد بن أبي بكر ففتشوه فإذا إداوة تقلقل فشقوها، فإذا فيها كتاب عثمان إلى ابن أبي سرح فجمع محمد من عنده من الصحابة ففكوا الكتاب بمحضر منهم فرجعوا إلى المدينة، وكان ما كان فيما تقدم ذكره. انتهى.
ثم لما قتلوه هربوا من حيث دخلوا ثم صرخت المرأة فلم يسمع صراخها، لما في الدار من الجلبة فصعدت إلى الناس وأخبرتهم، فدخل الحسن والحسين وابن الزبير وغيرهم فوجدوه مذبوحاً. وبلغ علياً وطلحة والزبير الخبر فجاءوا وقد ذهبت عقولهم ودخلوا عليه فرأوه مذبوحاً. فقال علي: كيف قتل وأنتم على الباب؟! ولطم الحسن وضرب صدر الحسين وشتم ابن الزبير وابن طلحة، فقالوا لم يؤت من جهتنا بل تسور عليه من الدار، وخرج علي غضباناً إلى منزله فجاء الناس يهرعون إليه ليبايعوه فقال: ليس ذلك إليكم إنما ذاك إلى أهل بدر، فمن رضوه فهو خليفة، فلم يبق أحد من البدريين إلا أتى علياً. ثم خرج إلى المسجد فصعد المنبر فكان أول من صعد إليه طلحة فبايعه بيده اليمنى وكانت شلاء لأنه وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من سهم يوم أحد فشلت، فكانت كالفأل السوء لخلافة علي، فإنه لم يتهن فيها بل من حرب إلى حرب إلى أن قتل - رضي الله تعالى عنه - كما سيذكر جميع ذلك فيما يأتي قريباً، ثم بايعه الزبير وسعد والصحابة جميعاً، ثم نزل فدعا الناس وطلب مروان فهرب منه هو وأقاربه.(1/473)
قال الإمام الذهبي في تاريخه دول الإسلام: كان قاتلوا عثمان يدا واحدة في الشر، وكان حثالة من الناس قد ضووا إليهم، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين خذلوه كرهوا الفتنة فظنوا أن الأمر لا يبلغ قتله، فلما قتل ندموا على ما صنعوا في أمره. ولعمري لو قاموا أو قام بعضهم فحثا في وجوه أولئك التراب لانصرفوا خاسئين، لكن الفتن لها أسباب، نعوذ بالله منها ومن أسبابها.
وعن الشعبي قال: ما سمعت في مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك: من الطويل:
فَكَف يَدَيهِ ثم اغلَقَ بابَهُ ... وأيقَنَ أن الله ليسَ بِغافلِ
وقالَ لأهْلِ الدار: لا تَقْتلوهُمُ ... عَفا الله عن كل امرئِ لم يقاتل
فَكَيف رأيتَ الله صَب عليهمُ ال ... عداوَةَ والبَغضاءَ بَعد التَواصُلِ
وقال حسان يرثيه من الخفيف:
خَذَلَتهُ الأنصارُ إِذ حَضَر المَو ... تُ وَعابَت وُلاتهُ الأنصارُ
مَن عذيري مِنَ الزبَيرِ ومن طَل ... حَةَ هاجا أمراً له مِقدارُ
فَوَلِيه محمدُ بْنُ أبي بَك ... رِ عِياناً وخَلفهُ عَمارُ
وقال أيضاً من البسيط:
مَنْ سَرهُ الموتُ صِرْفاً لا مِزاجَ لَهُ ... فَليأتِ مأسَدةً في دارِ عثمانا
ضَحوْا بأشمَط عُنوانُ السجودِ بِهِ ... يُقَطعُ الليلَ تَسبيحاً وقرآنا
صَبراً فِدى لَكُمُ أمي وَما وَلَدت ... قَد ينفعُ الصبرُ في المَكروهِ أحيانا
لَتَسمَعُن وَشِيكاً في دِيارِكُمُ ... الله أكَبر يا ثاراتِ عثمانا
ورثته زوجته بنت الفرافصة التي كفها قطعت بالسيف من الطويل:
ألا إِن خيرَ الناسِ بَعدَ ثلاثةٍ ... قَتيِلُ التجِيبي الذي جاء من مصرِ
فَما ليَ لا أبْكي وَتَبكِي قَرابَتِي ... وَقَد غَيبوا عَنا فُضُولَ أبي عَمْرِو
وقال الوليد بن عقبة من الطويل:
بَنِي هاشِمٍ إِنا وَما كانَ بيننا ... كَصَدعِ الصفا ما يرمض الدهر شائِبُه
بني هاشمٍ كَيْفَ المودةُ بَينَنا ... وسيفُ ابنِ أروَى عِندكم وَخَزائِنُه
بني هاشم رُدُوا سِلاحَ ابن أُخْتكُم ... وَلا تَنهَبُوه لا تَحِل نَهاًئِبُه
غَدَرتُم بِهِ كيما تَكُونُوا مَكانه ... كما غَدَرَتْ يوماً بِكِسْرَى مَرازِبُهْ
فأجابه عتبة بن أبي لهب - رضي الله عنه - من الطويل:
فإن تسألونا سيفَكُم إن سيفَكُم ... أضِيعَ وألقاه لَدى الرَوْعِ صاحِبُه
سَلُوا أهلَ مصرٍ عن سلاحِ ابن أُختِنا ... فَهُم سَلَبُوهُ سَيْفَهُ وخَزائِبُه
وكأنَ وليَّ الأمرِ بَعدَ محمدٍ ... علينا وفي كُل المواطن صاحِبُهْ
علي إِلى أن أظهَرَ الله دينَهُ ... وأنتَ مع الأشْقَين فيمَن يحارِبه
وأنت امرؤ من أهل صنوانَ نازحْ ... فَما لَكَ فينا من حَمِيمٍ تُعاتِبُهْ
وَقَد أنزلَ الرحْمَنُ أنكَ فاسِق ... فما لك في الإِسلام سَهم تُطالِبُهْ
قال ابن لهيعة: عن يزيذ بن أبي حبيب قال: بلغني أن الركب الذين ساروا إلى عثمان عامتهم جُنّوا والعياذ بالله.
وروى عمر بن علي بن الحسين عن أبيه قال: قال مروان: ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم، يعني: علياً عن عثمان. قال فقلت: ما بالكم تسبونه على المنابر. قال: " لا يستقيم الأمر إلا بذلك " رواه ابن خيثمة بإسناد قوي عن عمر وكان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسون ومائة ألف دينار.
وقال الليث بن أبي سليم: عن طاوس، عن ابن عباس سمع علياً يقول: والله ما قتلت عثمان ولا أمرت، ولكن غلبت. يقول ذلك ثلاثا. وجاء نحوه عن علي من طرق. وجاء عنه أنه لعن قتلة عثمان.
وقال قتادة: ولي عثمان اثنتي عشرة سنة غير اثني عشر يوماً.(1/474)
وقال السدي: قتل يوم الجمعة لثمان خلون من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين بعد العصر، ودفن ب " البقيع " بين العشاءين ليلة السبت وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وهو الصحيح، وقيل: ست وثمانين. واختلف في مدة الحصار فقيل أكثر من عشرين يوماً، وعن عبد الله بن فروخ شهدته دفن في ثيابه بدمائه ولم يغسل، رواه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند، وخرجته نائلة وهى تصرخ ومعها سراج فقال لها جبير بن مطعم: أطفِئي السراج لا يُفطن لنا. ثم انتهوا إلى البقيع، فصلى عليه جبير بن مطعم، وخلفه أبو جهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم وزوجتاه نائلة وأم البنين وهما دلياه في حفرته على الرجال الذين نزلوا في قبره، ولحدوا له وغيبوا قبره وتفرقوا.
والمكان الذي دفن فيه يقال له: حش كوكب، أي: بستان رجل يسمى: كوكباً، خارج البقيع أو في طرفه الأقصى. وروى أن نائلة بنت الفرافصة كانت مليحة الثغر جداً فكسرت ثناياها بحجر، وقالت: والله لا يجتليكن أحد بعد عثمان، رضي الله تعالى عنه.
وقال حسان بن ثابت من البسيط:
يا لَلرجالِ لأمرٍ هاجَ لي حُزناً ... لَقَد عَجِبتُ لِمَن يَبكِي عَلَى الدمَن
إِني رأيتُ وَلي الله مُضطَهداً ... عُثمانَ يَهوي إِلَى الأحداثِ في كَفَنِ
ومن المتقارب:
لَعَمرُ أبِيكَ فَلا تَكذِبَ ... لَقَد ذَهبَ الخَيْرُ إِلا قَلِيلا
لَقَد سَفِهَ الناسُ في دِينهِم ... وَخَلَّى ابنُ عَفانَ شَراً طَوِيلا
قال العلامة ابن الجوزي في المنتخب: قال شعبة: أخبرني عبد الرحمن، سمعت أبي يقول: سمعت علياً - رضي الله تعالى عنه - يقول: قتل الله عثمان وأنا معه، قال أبو حمزة: فذكرته لابن عباس فقال صدق علي، يقول: الله قتل عثمان ويقتلني معه.
وقد روى شعبة عن حبيب بن الزبير عن عبد الرحمن بن الشرود أن علياً - رضي الله عنه - قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى فيهم: " وَنَزَعنا ما في صُدورِهِم من إخواناً علىَ سُرُر متقابليِنَ " الحجر: 43، وقال عبد الله بن شوذب: حدثني زهدم الحرمي، قال: كنت في سمر عند ابن عباس فقال: لأحدثنكم حديثاً: إنه لما كان من أمر هذا الرجل - يعني: عثمان - ما كان. قلت لعلي: اعتزل هذا الأمر فوالله لو كنت في جحر لأتاك الناس حتى يبايعوك وأيم الله ليتأمرن عليه معاوية، ذلك بأن الله تعالى يقول: " وَمَن قُتِلَ مَظلُوماً " الإسراء: 33 الآية، كما قال في الرياض. وعن محمد بن عبد الله أن الحكم بن عبد الملك بن مروان قال: لما قتل عثمان ألقي على المزبلة. قال سهم بن حبيش - وكان ممن شهد مقتل عثمان - : فلما أمسينا قلت لئن تركتم صاحبكم حتى يصبحَ مثلُوا به فلما كان من الليل أتاه اثنا عشر رجلاً منهم حويطب بن عبد العزى، وحكيم بن حزام، وجبير بن مطعم، وعبد الله بن الزبير، وجدي مروان بن الحكم، فاحتملوه فلما ساروا به إلى المقبرة ليدفنوه فإذا هم بقوم من بني مازن فقالوا: والله لئن دفنتموه هنا لنخبرن الناس غداً فاحتملوه وكان على الباب وإن رأسه يقول طق طق حتى صاروا به إلى حش كوكب فاحتفروا له، فلما أخرجوه ليدفنوه صرخت ابنته عائشة وكان مصباح في حق، فقال لها ابن الزبير: لئن لم تسكتي لأضربن الذي فيه عيناك، فسكتت فدفنوه خرجه القلعي.
قال: ولما حملناه وسرنا غشينا سواد من خلفنا فهبناهم حتى كدنا نفر منهم فإذا مناد: لا روع عليكم اثبتوا، فإنا جئنا نشهده معكم. وكان ابن خنيس يقول: هم الملائكة. أخرجه ابن الضحاك وعن هارون بن يحيى أن عثمان جعل يقول حين ضرب والدماء تسيل على لحيته: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أستعينك وأستعيذك على جميع أموري، وأسألك الصبر على بليتي.
الآيات في شأن عثمان
رضي الله عنه:
منها قوله تعالى: " الذينَ يُنفِقُونَ أموَالهُم في سَبِيلِ اللهِ ثُمَ لا يتبِعُونَ ما أنفَقُوا مَناً وَلا أذى " البقرة:262 الآية، عن أبي سعيد الخدري: أنها نزلت في عثمان، رضي الله تعالى عنه.
ومنها قوله تعالى: " إنَ الذَّين سبَقَت لَهُم منا الحسنى " الأنبياء: 101. الآية، عن محمد بن حاطب قال سمعت علياً - رضي الله تعالى عنه - يقول: " إنَ الذَينَ سبَقَت لَهُم مِنا الحسنى " الأنبياء: 101 عثمان. خرجه الحاكمي.(1/475)
ومنها عن ابن عباس في قوله تعالى: " هَل يستَوِي هُوَ وَمَن يَأمُر بالعَدل وَهُوَ عَلى صراط مُّستَقِيم " النحل: 76، هو عثمان. خرجه البخاري.
ومنها قوله تعالى: " أمَن هُو قَانِت آناء اليلِ ساجِداً وَقائماً يحذَرُ الآخِرَةَ وَيَرجوا رَحمَةَ رَبه " الزمر:9 عن ابن عمر قال: إنها نزلت في عثمان - رضي الله تعالى عنه - . خرجه الواحدي في الفضائل.
الأحاديث في شأن عثمان
رضي الله تعالى عنه:
الحديث الأول: عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: هاجر إلى أرض الحبشة عثمان - رضي الله عنه - وخرج معه بابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية، فلما أبطأ عليه خبرهما جعل يتوكف الأخبار، فقدمت امرأة من قريش من الحبشة، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فقالت: أنا رأيتهما. فقال - عليه الصلاة والسلام - : على أي حال رأيتهما؟ قالت: رأيتهما وقد حملها على حمار وهو يسوق بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صحبهما الله، إن كان عثمان أول من هاجر إلى الله عز وجل " . أخرجه خيثمة بن سليمان والملا في سيرته.
الحديث الثاني: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أوحى إلي أن أزوج كريمتي عثمان بن عفان " خرجه الطبراني. وفي رواية: " بنتي " ، يعني: رقية، وأم كلثوم.
الحديث الثالث: عن أبي هريرة قال: لقي النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان عند باب المسجد فقال: يا عثمان هذا جبريل أخبرني أن الله قد أمرني أن أزوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية وعلى مثل صحبتها " . أخرجه ابن ماجة القزويني، وأبو سعيد النقاش.
وفي رواية ابن عباس: " والذي نفسي بيده لو أن عندي مائة تموت واحدة بعد واحدة زوجتك أخرى حتى لا يبقى من المائة شيء " .
الحديث الرابع: عن أبي هريرة قال: دخلت على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة عثمان وفي يدها مشط فقالت خرج من عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً رجلت رأسه فقال: كيف تجدين أبا عبد الله؟ قلت: خير الرجال. قال: أكرميه فإنه من أشبه أصحابي بي خلقاً الحديث الخامس: أخرج الملا عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن عثمان بن عفان أشبهُ الناس بي خلقاً وخلقاً وديناً وسمتاً وهو ذو النورين، زوجته ابنتي وهو معي في الجنة كهاتين " وحرك السبابة والوسطى.
الحديث السادس: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عثمان أحمى أمتي وأكرمها " .
الحديث السابع: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيته كاشفاً عن فَخِذَيهِ أو عن ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له، وهو على تلك الحال فحدثه، ثم استأذن عمر فآذن له، وهو على تلك الحالة فحدثه، ثم استأذن عثمان، فجلس - عليه الصلاة والسلام - وسوى ثيابه، فدخل فتحدث، فلما خرجوا قلت: يا رسول الله، دخل أبو بكر فلم تهش له ولم تبال به، ثم دخل عمر فلم تهش له ولم تبال به، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك. فقال - عليه الصلاة والسلام - : " ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة " خرجه أحمد ومسلم وأبو حاتم.
الحديث الثامن: عنها أيضاً قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: " وددت لو أن عندي بعض أصحابي. قالت: فقلت: يا رسول الله ألا ندعو لك أبا بكر؟ فسكت. قالت: فقلنا: عمر؟ فسكت. قالت: فقلنا؛ عثمان؟ قال:نعم فأرسلنا إلى عثمان " . خرجه الترمذي.
الحديث التاسع: عن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان فقال: يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حض - عليه الصلاة والسلام - على الجيش، فقام عثمان فقال: يا رسول الله مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال: ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المنبر وهو يقول: " ما على عثمان ما فعل بعدهن، ما على عثمان ما فعل بعدهن " خرجه الترمذي.
وقال أبو عمر: جهز عثمان جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيراً وأتم الألف بخمسين فرساً. وفي رواية عن قتادة: حمل على ألف بعير وسبعين فرساً.(1/476)
الحديث العاشر: عن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بعشرة آلاف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة؛ فصبها في حجره - عليه الصلاة والسلام - ، فرأيته - عليه الصلاة والسلام - يقلبها في حجره ويقول: " ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم " . خرجه الترمذي وأحمد.
الحديث الحادي عشر: عن بشر بن بشير السلمي عن أبيه قال: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكان لرجل من بنى غفار بئر يقال لها: رومة يبيع القرب منها بمد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تبيعها ببئر في الجنة؟ " فقال: يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي بئر غيرها، ولا أستطيع ذلك. قال: فبلغ ذلك عثمان، فاشتراها منه بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اجعل لي مثل الذي جعلت له عيناً في الجنة، فإنً قد اشتريتها وجعلتها للمسلمين.
الحديث الثاني عشر: عن الأحنف بن قيس قال: انطلقت حاجاً فمررت بالمدينة، فبينما نحن بمنزلنا إذ جاءنا جاءٍ فقال: الناس مجتمعون في المسجد، فانطلقت أنا وصاحبي، فإذا الناس مجتمعون على نفر في المسجد، قال الأحنف: فتخللتهم حتى قمت عليهم وإذا علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وسعد، فلم يكن أسرع مما جاء عثمان عليه ملاءة صفراء قد قنع بها رأسه فقال: أههنا علي؟ قالوا: نعم. قال: أههنا الزبير؟ قالوا: نعم. قال: أههنا طلحة؟ قالوا: نعم. قال: أههنا سعد؟ قالوا: نعم. قال: أنشدكم الله الذي لا إله إلا هو، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له " فابتعته بعشرين ألفاً فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: قد ابتعته، فقال " اجعله في مسجدنا وأجره لك؟ فقالوا اللهم نعم. ثم قال: أنشدكم الله الذي لا إله إلا هو، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من يبتاع بئر رومة غفر الله له " فابتعتها بخمسة وثلاثين ألفاً فقال: " اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك؟ " . فقالوا: اللهم نعم. ثم قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر في وجوه القوم فقال: " من يجهز هؤلاء غفر الله له " - يعني جيش العسرة - فجهزتهم حتى لم يفقدوا عقالاً ولا خطاماً؟ قالوا: اللهم نعم. قال اللهم اشهد ثلاثاً. أخرجه الدارقطني وأبو حاتم وأحمد.
الحديث الثالث عشر: أخرج أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فتحرك الجبل حتى سقطت حجارته بالحضيض، فركضه - عليه الصلاة والسلام - برجله وقال " اسكن حراء، فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان " . ومثله في الترمذي إلا أنه ذكر ثبيراً مكان حراء.
الحديث الرابع عشر: أخرج الترمذي عن أنس قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة فبايع الناس بيعة الرضوان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن عثمان في حاجة الله وفي حاجة رسوله " فضرب - عليه الصلاة والسلام - إحدى يديه على الأخرى، وقال: " هذه عن عثمان " فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خيراً من أيديهم لأنفسهم.
ونسبة الحاجة إلى الله تعالى على طريق الاستعارة والتمثيل المعروف في علم البيان.
الحديث الخامس عشر: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا بنا نعود عثمان " . قلنا: عليل يا رسول الله؟ قال: نعم. فقام صلى الله عليه وسلم واتبعناه حتى أتى منزل عثمان فاستأذن فأذن له فدخل ودخلنا فوجدنا عثمان مكبوباً على وجهه، فقال له: " مالك يا عثمان لا ترفع رأسك. فقال: يا رسول الله إني أستحيي يعني من الله تعالى - قال: ولم ذاك؟ قال: إني أخاف أن يكون علي غضبان. - فقال - عليه الصلاة والسلام - ألست صاحب بئر رومة، ومجهز جيش العسرة، والزائد في مسجدي، وباذل المال في رضا الله ورضائي، ومن تستحيي منه ملائكة السماء؟ هذا جبريل يخبرني عن الله عز وجل أنك نور أهل السماء، ومصباح أهل الأرض، وأهل الجنة.(1/477)
خرج المُلاَّ عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل من أهل مصر وحج البيت فرأى قوماً فقال: من هؤلاء. قالوا: هؤلاء قريش. قال: فمن الشيخ فيهم. قالوا: عبد الله بن عمر. فقال الرجل: يا بن عمر إني سائلك فحدثني هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد. قال نعم. قال: تعلم أنه تغيب عن بدر؟ قال: نعم. قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال الرجل: الله أكبر وقام. فقيل لابن عمر إن هذا يقول إنك وقعت في عثمان. قال: أو قد فعل ذلك؟ قالوا إنه يقول ذلك. قال: فردوه، فردوه. فقال: أعقلت ما قلت لك؟ قال الرجل: نعم سألتك: أشهد عثمان بيعة الرضوان فقلت: لا، وسألتك: أشهد بدراً، فقلت: لا، وسألتك: أكان ممن استزله الشيطان، فقلت؛ نعم. فقال ابن عمر: أبين لك: أما فراره يوم أحد، فأشهد أن الله تعالى عفا عنه وغفر له.
قلت: يشير إلى قوله تعالى: " إنَ الذِينَ تَوَلَوا مِنكم يَومَ التَقىَ الجَمعان " ِ إلى قوله " وَلقد عَفا اللَهُ عَنهُم " آل عمران: 155 وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية وكانت مريضة فتخلف ليمرضها بأمره صلى الله عليه وسلم وقال له: " إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه " .
وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز بمكة منه لبعثه مكانه فكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال - عليه الصلاة والسلام - بعد أن وضع إحدى يديه على الأخرى: " هذه يميني عني وشمالي عن عثمان " ، قال عثمان - رضي الله عنه - : كانت بيعة الرضوان فيَّ وضرب صلى الله عليه وسلم عني بشماله على يمينه وشمال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من يميني.
قلت: وقول عثمان كانت بيعة الرضوان في أي بيميني، وذلك أنه قد ورد أن سببها أنه أشيع أن عثمان قتل بمكة قتله المشركون فكان هذا هو السبب في أن دعاهم - عليه الصلاة والسلام - إلى المبايعة فمعنى الظرفية هنا السببية مثل " دخلت النار امرأة في هرة " .
وَزِيدَ والظَّرفِيةَ اسْتَبِنْ ببا ... وفي وَقَد يبينانِ السبَبا
فدخل في جوار أبان بن سعيد بن العاص ابن عمه وحمله على السرج وأردف خلفه، فلما قدم به إلى مكة قال له: طف يا بن عم، فقال عثمان: يا بن عم إن لنا صاحباً لا نبتاع أمراً حتى يكون هو الذي يعمله فنتبع أثره صلى الله عليه وسلم.
الحديث السادس عشر: عن إياس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع لعثمان بإحدى يديه على الأخرى قال الناس: هنيئاً لأبي عبد الله الطواف بالبيت. فقال - عليه لصلاة والسلام - : " لو مكث عثمان كذا كذا ما طاف حتى أطوف " . أخرجه ابن الضحاك. قلت: قد أشار إلى ذلك البوصيري صاحب الهمزية بقوله: من الخفيف:
وأبي أن يَطُوفَ بالبيْتِ إِذْ لَم ... يَدنُ مِنْهُ إِلَى النبي فِناءُ
فَجزتهُ عَنها ببيعةِ رضوا ... نَ يَد من نبيهِ بَيْضاءُ
أدَبٌ عِندَهُ تَضاعَفتِ الأع ... مال بالتركِ حَبذا الأدُباءُ
الحديث السابع عشر: عن فاطمة بنت عبد الرحمن عن أمها أنها سألت عائشة وأرسلها عمها فقالت: إن أحد بنيك يقرئك السلام ويسألك عن عثمان فإن الناس قد شتموه، فقالت عائشة: لعن الله من لعنه، والله لقد كان قاعداً عند نبي الله صلى الله عليه وسلم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسند ظهره إلي، وإن جبريل ليوحي إليه القرآن وإني لأمسح العرق عن جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه يقول له: اكتب يا عثيم، فما كان الله لينزل تلك المنزلة إلا كريماً على الله ورسوله. أخرجه أحمد والحاكم.
الحديث الثامن عشر: روى ابن عساكر وأبو نعيم والطبراني في الأوسط عن بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم ارض عن عثمان " ثلاثاً وفي رواية: " رضيت عن عثمان فارض عنه " ، وفي لفظ: " غفر الله لك يا عثمان ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما كان منك وما هو كائن إلى يوم القيامة " .
الحديث التاسع عشر: أخرج ابن عدي في الكامل، وابن عساكر، والديلمي، عن ابن عمر: رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنا والله لنشبه عثمان بأبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام " .(1/478)
الحديث العشرون: روى ابن عساكر، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والله ليشفعن عثمان في سبعين ألفاً من أمتي قد استوجبوا النار حتى يدخلهم الله الجنة " .
الحديث الحادي والعشرون: روى أبو نعيم، وابن عساكر، عن جابر - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عثمان وليي في الدنيا والآخرة " رضي الله عنه.
الحديث الثاني والعشرون: أخرج ابن عساكر، عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عثمان في الجنة " .
الحديث الثالث والعشرون: أخرج الترمذي عن طلحة، وابن ماجة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لكل نبي رفيق في الجنة، ورفيقي فيها عثمان بن عفان " .
الحديث الرابع والعشرون: أخرج الترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه عن مرة بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتنة فقرَّ بها، فمر رجل مقنع في ثوب، فقال: " هذا يومئذ على الهدى " فقمت إليه فإذا هو عثمان بن عفان، فأقبلت إليه بوجهي فقلت: هذا. قال: نعم.
الحديث الخامس والعشرون: عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: رأيت رسول صلى الله عليه وسلم في المنام متعلقاً بالعرش، ثم رأيت أبا بكر آخذاً بحقوي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رأيت عمر آخذاً بحقوي أبي بكر، ثم رأيت عثمان آخذاً بحقوي عمر، ثم رأيت الدم منصباً من السماء إلى الأرض فحدث الحسن بهذا الحديث وعنده ناس من الشيعة فقالوا: ما رأيت علياً؟ قال؛ ما كان أحد أحب إلي أن أراه آخذاً بحقوي النبي صلى الله عليه وسلم من علي، ولكن إنما هى رؤيا: فقال لهم أبو مسعود - عقبة ابن عمرو - : إنكم لتجدون على الحسن في رؤيا رآها، لقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة وأصاب المسلمين جهد حتى عرفت الكآبة في وجوه المسلمين والفرح في وجوه المنافقين، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والله لا تغيبن حتى يأتيكم الله برزق " . فعلم عثمان أن الله ورسوله تصدقاً، فوجه راحلته فإذا هو بأربعة عشر راحلة فاشتراها وما عليها من الطعام فوجه منها سبعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجه سبعاً إلى أهله. فلما رأى المسلمون العير قد جاءت عرف الفرح في وجوههم، والكآبة في وجوه المنافقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا. فقالوا: أرسل به عثمان هدية إليك. قال أبو مسعود: فرأيته - عليه الصلاة والسلام - رافعاً يديه يدعو لعثمان بدعاء ما سمعته يدعو لأحد قبله ولا بعده مثله: اللهم أعط لعثمان وافعل لعثمان، رافعاً يديه حتى رأيت بياض إبطيه. خرجه القزويني الحاكمي.
الحديث السادس والعشرون: عن أبي سعيد الخدري قال: رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الليل إلى أن طلع الفجر يدعو لعثمان: " اللهم إني رضيت عن عثمان فارض عنه " فما زال رافعاً يديه يدعو حتى طلع الفجر.(1/479)
الحديث السابع والعشرون: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: مكث آل محمد صلى الله عليه وسلم أربعة أيام ما يطعمون شيئاً حتى تضاغوا صبياننا. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عائشة هل أصبتم شيئاً بعدي؟ فقلت: من أين إن لم يأتنا الله عز وجل به على يديك؟ فتوضأ وخرج مستخفياً يصلي ههنا مرة وههنا مرة. قالت: فأتى عثمان من آخر النهار فاستأذن، فهممت أن أحجبه، ثم قلت: هو رجل من مكاثير الصحابة لعل الله عز وجل إنما ساقه إلينا ليجري على يديه خيراً، فأذنت له فقال: يا أماه، أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: يا بني ما طعم آل محمد منذ أربعة أيام شيئاً، دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم متغيراً ضامر البطن، فأخبرته بما مال لي وما رددت عليه. قالت: فبكى عثمان، وقال: مقتاً للدنيا. ثم قال: يا أم المؤمنين ما كنت بحقيق أن ينزل بك بعض الأمر ثم لا تذكرينه لي، ولعبد الرحمن بن عوف، ولثابت بن قيس، ثم خرج فبعث إلينا بأحمال من دقيق، وأحمال من حنطة، وأحمال من التمر وبملوح وثلاثمائة درهم في صرة. ثم قال: يبطئ هذا عليكم. ثم بعث بخبز وشواء كثير فقال: كلوا أنتم واصنعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يجيء، ثم أقسم على أن لا يكون مثل هذا إلا أعلمته به. قالت ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عائشة: هل أصبتم بعدي شيئاً؟ قلت: يا رسول الله قد علمت أنك إنما خرجت تدعو إلى الله عز وجل، وقد علمت أن الله لا يرد سؤالك. فقال: ما أصبتم؟ قلت: كذا وكذا حمل بعير دقيقاً، وكذا وكذا حمل بعير حنطة، وكذا وكذا حمل بعير تمراً وثلاثمائة درهم في صرة، وخبزاً وشواء كثيراً. قال ممن. قلت: عثمان بن عفان.
قلت: قد بكى وذكر الدنيا بالمقت وأقسم علي أن لا يكون مثل هذا إلا كلمته. فلم يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج إلى المسجد فرفع يديه وقال: " اللهم قد رضيت عن عثمان فارض عنه " وكررها ثلاثاً ودعا له كثيراً. أخرجة الحافظ أبو القاسم الدمشقي في الأربعين.
الحديث الثامن والعشرون: عن جابر قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة رجل ليصلي عليه فلم يصل عليه، فقيل: يا رسول الله ما رأيناك تركت الصلاة على أحد قبل هذا. قال: " فإنه كان يبغض، عثمان، فأبغضه الله عز وجل " . خر جه الترمذي.
الحديث التاسع والعشرون: عن عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " يوم يموت عثمان تصلي عليه ملائكة السماء " قلت يا رسول الله: عثمان خاصة أو الناس عامة. قال: " عثمان خاصة " . خرجه الحافظ الدمشقي الحديث الثلاثون: أخرج الحافظ ابن بشران عن علي بن أبي طالب أنه قال: قلت با رسول الله من أول من يحاسب يوم القيامة؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: عمر. قلت: ثم من؟ قال: أنت يا علي. قلت: يا رسول الله أين عثمان؟ قال:إني سألت عثمان حاجة سراً فقضاها سراً، فسألت الله أن لا يحاسب عثمان إلا سراً " .
عن عبد الرحمن بن مهدي قال: كان لعثمان شيئاًن ليسا لأبى بكر ولا لعمر: صبر نفسه حتى قتل ظلماً. وجمعه الناس على مصحف.
عن أنس بن مالك أن حذيفة قدم على عثمان وكان يتمارى أهل الشام في فتح أرمينية، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرِك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل إلى حفصة: أن أرسلي بالصحف ننسخها في المصحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أنزل بلسانهم. ففعلوا. وأرسل إلى كل أفق مصحفاً، وأمر بما سوى ذلك من القرآن على كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. خرجه البخاري.
الحديث الحادي والثلاثون: عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما أسرى بي دخلت جنات عدن فناولني جبريل تفاحة فانفلقت عن حوراء عيناء مرضية كأن مقادم عينيها أجنحة النسور، فقلت: لمن أنت. فقالت: للخليفة المقتول ظلماً عثمان بن عفان. خرجه خيثمة بن سليمان، والحاكمي " .(1/480)
الحديث الثاني والثلاثون: عن مرة بن كعب النمري قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة إذ قال: كيف تصنعون في فتنة تثور في أقطار الأرض كأنها صياصي البقر؟ قالوا: فنصنع ماذا يا رسول الله؟ قال عليكم بهذا وأصحابه فاتبعوا هذا وأصحابه. قال فأسرعت حتى عقلت الرجل فقلت: هذا يا نبي الله؟ قال هذا. فإذا هو عثمان بن عفان. خرجه أبو حاتم وأحمد وقال فيه: فأسرعت حتى غبت فلحقت بالرجل، فقلت: هذا يا نبي الله. ثم ذكر ما بقي.
الحديث الثالث والثلاثون: عن أبي حبيبة قال سمعت أبا هريرة وعثمان محصور يستأذن في الكلام فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنها تكون فتنة واختلاف. قلنا: يا رسول الله فماذا تأمرنا. قال: عليكم بالأمير وأصحابه " وأشار إلى عثمان ابن عفان. خرجه القزويني الحاكمي.
الحديث الرابع والثلاثون: عن زيد بن أبي أوفى أنه - عليه الصلاة والسلام - دعا عثمان وقال: ادن أبا عمرو فلم يزل يدنو منه حتى ألصق ركبتيه بركبتيه، ثم نظر - عليه الصلاة والسلام - إلى السماء وقال: سبحان الله ثلاث مرات، ثم نظر إلى عثمان وكانت أزراره محلولة فزرها صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال: اجمع عِطْفَى ردائك على نحرك. قال: إن لك لشأناً في أهل السماء أبا عمرو، وترد علي الحوض وأوداجك تشخب دماً، فأقول لك: من فعل بك هذا. فتقول فلان وفلان. وذلك كلام جبريل. خرجه أبو الخير الحاكمي، وأبو القاسم الدمشقي.
الحديث الخامس والثلاثون: أخرج الصوفي عن عبد الله بن عمر أنه - عليه الصلاة والسلام قال لعثمان: " يا عثمان إن كساك الله قميصاً وأرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه، فو الذي نفسي بيده لئن خلعته لا ترى الجنة حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط " .
الحديث السادس والثلاثون: عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يشفع عثمان يوم القيامة في مثل ربيعة ومضر " . خرجه الحاكمي القزويني.
الحديث السابع والثلاثون: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة يؤتى بعثمان وأوداجه تشخب دماً، اللون لون الدم، والرائحة رائحة المسك، يكسى حلتين من نور، فينصب له منبر على الصراط فيجوز المؤمنون بنور وجهه وليس لمبغضه منه نصيب " . خرجه المُلاَّ في سيرته.
الحديث الثامن والثلاثون: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على كتف عثمان فقال: " كيف أنتم إذا قتلتم إمامكم وتجالدتم بأسيافكم، وورث دهماءكم شراركم، فويل لأمتي إذا فعلوه " . خرجه الحاكمي.
الحديث التاسع والثلاثون: عن أبي سهلة قال: قال عثمان يوم الدار:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى عهداً وإني صابر عليه " أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح. خرجه أحمد فزاد: قال قيس فكانوا يرونه ذلك اليوم.
الحديث الأربعون: عن عبد الله بن سلام قال: أتيت عثمان وهو محصور أسلم عليه، فقال: مرحباً بأخي مرحباً بأخي، أفلا أحدثك ما رأيت الليلة في المنام؟ قلت نعم. قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: حصروك. فقلت نعم. فقال عطشوك؟ قلت نعم. فأدلى دلوا من ماء فشربت حتى رويت، فإني لأجد برداً بين كتفي وبين قدمي. فقال: إن شئت نصرت عليهم وإن شئت أفطرت عندنا. قال ابن سلام: فأصبح صائماً وقتل من يومه، رضي الله عنه.
الحديث الحادي والأربعون: عن أبي ذر عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال لعثمان: " كيف أنت يا عثمان إذا جئتني وأوداجك تشخب دماً، فأقول من فعل هذا بك. فتقول: بين خاذل وآمر، إذ نادى مناد من تحت العرش: إن الله تعالى قد حكم عثمان في القاتل والخاذل " . أخرجه الديلمي في مسند الفردوس قلت: هذا ما ظفرت به مما ورد في شأنه خاصة. وأما ما ورد في شأنه مع الاثنين أو مع الثلاثة أو مع الأربعة أو مع العشرة فلم أورد منه. وكذلك ما ورد في نعته ومناقبه من الأحوال الجميلة، والمناقب الجليلة، وصلاته وصيامه، وإعتاقه الألوف رجالاً ونساءً، وختمه القرآن في ركعة واحدة وغير ذلك، فلم أورد منه شيئاً، وكذا ما قيل فيه من الثناء من الصحابة، والسلف فلم أورد منه شيئاً؛ لكثرته وشهرته في موضعه من الكتب المفردة لذلك.
ذكر أولاده
رضي الله عنه:(1/481)
كان له من الولد ستة عشر: تسعة ذكور، وسبع إناث. أما الذكور فعبد الله الأكبر أمه فاختة بنت غزوان وبه كان يكنى. وعبد الله الأصغر أمه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هلك صغيراً، وقيل بلغ ست سنين فنقره ديك في عينه فكان سبب موته. وعمرو وكان أسنهم وبه كان يكنى بعد عبد الله الأكبر، وهو - يعني عمراً - أكثرهم عقبا، وتوفي بمنى. وخالد وهو الذي كان بيده المصحف الذي قطر عليه دم عثمان حين قتل. وأبان شهد الجمل مع عائشة، وعقبه كثير. وعمرو له عقب أيضاً أمهم بنت جندب بن الأزد. وسعيد والوليد أمهما فاطمة بنت الوليد وعبد الملك أمه أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزاري. وأما الإناث فمريم أخت عمرو لأمه. وأم سعيد أخت سعيد لأمه وعائشة. فأم أبان وأم عمرو وأمهن رملة بنت شيبة بن ربيعة، ومريم أمها نائلة بنت الفرافصة، وأم البنين وأمها أم ولد.
وفى دول الإسلام كانت مدة خلافته رضي الله عنه اثنتي عشرة سنة وأحد عشر يوماً أو أربعة عشر يوماً.
وقال في الرياض: قال ابن إسحاق كانت مدة خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً، وقيل: وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وقيل: ثمانين سنة، وقيل: ست وثمانين سنة، قال قتادة: وقيل ثمان وثمانين، وقيل: ابن تسعين.
قال الواقدي: لا خلاف عندنا في القول الأول أنه الأصح رضي الله عنه.
خلافة أمير المؤمنين أبي الحسنين علي بن أبي طالب
رضي الله عنه:
هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، أقربهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسباً يجتمع معه - عليه الصلاة والسلام - في عبد المطلب الجد الأدنى، وينسب إلى هاشم، فيقال: القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبويه، وأخوه بالمؤاخاة، وصهره على ابنته، وأبو السبطين، وأول هاشمي ولد بين هاشميين، وأول خليفة من بني هاشم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد العلماء الربانيين، والشجعان المشهورين، والزهاد المذكورين، والسابقين إلى الإسلام، لم يسجد لصنم قط، وبات ليلة الهجرة على فراشه صلى الله عليه وسلم يقيه بنفسه، وخلفه بمكة؛ ليرد الودائع التي كانت عنده صلى الله عليه وسلم، وكان يحمل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم العظمى في القتال فيتقدم بها في نحر العدو، وشهد معه المشاهد كلها وأبلى فيها بلاءً حسناً، وبايعه على الموت، وكان أشجع الناس ما بارز أحداً قط إلا قتله، وكان إذا ورد عليه مال لم يترك منه شيئاً حتى يقسمه، وكان يكنس بيت المال ليصلى فيه، ولا يخص بالولايات إلا أهل الديانات، وكان - عليه الصلاة والسلام - إذا لم يغز بنفسه لم يعط سلاحه إلا علياً، وشهد له - عليه الصلاة والسلام - بالشهادة في تحريك حِراء.
روى أن معاوية قال لضرار يا ضرار، صف لي علياً. قال: أعفني يا أمير المؤمنين. قال معاوية: لتصفنه. قال ضرار: أما إذ لابد من وصفه: كان - والله - بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، وتتفجر ينابيع العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس إلى الليل ووحشته، كان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا ولربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مرافقه - وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه - قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: " يا دنيا غري غيري، إلي تعرضت أم إلي تشوقت، يا صفراء اصفري، ويا بيضاء بيضي، هيهات قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وخطرك حقير،، من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق " . قال: فبكى معاوية، وقال: " رحم الله أبا حسن كان - والله - كذلك، فكيف حزنكم عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح واحدها في حجرها.
أخرج الدولابي وأبو عمرو قال ابن عباس: أعطى علي تسعة أعشار العلم، ووالله لقد شاركهم في العشر الباقي، وإذا ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل عنه إلى غيره.(1/482)
روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن بعجة بن عبد الله الجهني قال تزوج رجل امرأة أفولدت له غلاماً لستة أشهر، فاتهمها؛ فأمر عثمان برجمها فبلغ ذلك علياً - رضي الله عنه - فأتاه فقال له: ما تصنع. قال عثمان ولدت غلاماً لستة أشهر وهل يكون ذلك؟! فقال له علي: أما سمعت الله يقول: " وَحَملهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهراً " الأحقاف: 15، وقال: " حولين كامِلَين لِمَن أرادَ أن يُتِمَ الرضاعَةَ " البقرة: 233، فلم نجده بقي إلا ستة أشهر، فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا، علي بالمرأة، فوجدها قد فرغ منها، وكان من قولها لأختها: يا أخية لا تحزني، فوالله ما كشفت ثوبي لأحد قط غيره. وقال: فشب الغلام بعد فاعترف به الرجل، وكان أشبه الناس به قال: فرأيت الرجل بعد يتساقط عضواً عضواً عياذاً بالله.
قال سعيد بن المسيب: لم يكن أحد يقول: سلوني غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو أول من أسلم وأول من صلى، وأجمعوا أنه صلى إلى القبلتين، وهاجر، ولم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام علياً، وكان يكنى أبا حسن، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم صديقاً، وكان يكنى أبا قثم وأبا تراب كناه النبي صلى الله عليه وسلم بهما، وكانت أحب الكنى إليه. وما أحسن قول بعضهم من الوافر:
إِذا ما رَمِدَتْ عَيني فَكُحلي ... تُرابٌ مَس نَعلَ أبي تُرابِ
هُوَ البَكاءُ في المِحرابِ لَيلاً ... هُوَ الضحاكُ في يَومِ الضرابِ
أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. قال أبو عمرو: هي أول هاشمية ولدت هاشمياً، أسلمت ودفنت بالمدينة، وشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولى دفنها، وأشعرها قميصه، وأضجعها في قبرها.
وروى الطبراني في الكبير والأوسط برجال الصحيح عن أنس بن مالك قال: ماتت فاطمة بنت أسد: أم علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - فَدَخَل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عند رأسها، فقال: رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيباً وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة، ثم أمر أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فألبسها إياه وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود؛ يحفرون قبرها، فلما بلغوا اللحد حفر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرج ترابه، ثم لما فرغ اضطجع فيه، ثم قال: الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين، وكبر عليها أربعاً، وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر الصديق قال ابن عباس فلما سوى عليها التراب قيل: يا رسول الله، رأيناك صنعت شيئاً لم نرك صنعته لأحد، فقال: إني ألبستها قميصي؛ لتلبس من ثياب الجنة، واضطجعت في قبرها؛ لأخفف عنها من ضغطة القبر، إنها كانت أحسن خلق الله إلي صنعاً بعد أبي طالب.
ولد - رضي الله عنه - وأبوه غائب، فسمته أمه حيدرة: وهو اسم الأسد، فلما قدم أبوه كره هذا الاسم، وسماه: علياً.
صفته - رضي الله عنه - : كان رضي الله تعالى عنه فوق الربعة من الرجال، أدعج العينين عظيمهما، حسن الوجه كأنه قمر ليلة البدر، ضخم البطن، عظيم المشاش، ضخم الذراعين، عظيم اللحية قد ملأت صدره، إن عاينته من قريب قلت أسمر، أصلع شديد الصلع.
عن أبي سعيد الرسمي قال: كنا نبيع الثياب على عواتقنا في السوق، فإذا رأينا علياً قد أقبل قلنا بُزُرك شكم فيقول علي: ما تقولون؟ قلنا نقول: عظيم البطن قال أجل، أعلاه علم وأسفله طعام.
وكان عظيم المنكبين لمنكبيه مشاش كمشاش السبع الضاري، لا يبين عضده من ساعده قد أدمج إدماجاً، شئن الكفين، عظيم الكراديس، أصلع ليس في رأسه شعر إلا من خلفه.
وعن أبي لبيد قال: رأيت علي بن أبي طالب يتوضأ، فحسر العمامة عن رأسه، رأيت رأسه مثل راحتي، عليه مثل خط الأصابع من الشعر.(1/483)
وعن الشعبي أنه قال: رأيت علي بن أبي طالب ورأسه ولحيته قطنة بيضاء، وكان إذا مشى تكفأ، وإذا أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه، فلم يستطع أن يتنفس، وهو قريب إلى السمن، شديد الساعد واليد، وإذا مشى إلى الحرب هرول، ثبت الجنان، ما صارع قط أحد إلا صرعه، ما اعتلى ضريبة إلا قد، ولا اعترض إلا قط، شجاع منصور على من لاقاه رضي الله عنه.
عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن: أنه بلغه أن علي بن أبي طالب والزبير أسلما، وهما ابنا ثمان سنين.
وقال ابن إسحاق: أسلم وهو ابن عشر سنين، وعن الحسن أسلم علي، وهو ابن خمس عشرة سنة، وقيل: أربع عشرة، وهو يختلف إلى الكتاب له ذؤابة. حكاه الجندري.
عن عاصم بن عمر قال: لقي عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب، فقال: يا أبا الحسن، نشدتك بالله هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاك الأمر؟ قال: إن قلت لك، فماذا تصنع أنت وصاحبك؟ فقال: أما صاحبي فقد مضى، وأما أنا فوالله لأخلعنها من عنقي في عنقك، فقال علي: جدع الله أنف من أبعدك من هذا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلني عَلماً، فإذا أنا مت فمن خالفني ضل. أخرجه السمان في الموافقة.
عن محمد ابن الحنفية قال: أتى رجل وعثمان محصور، فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة. قال: فقام علي، قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً، فقال: حل لا أم لك، قال فأتى على الدار وقد قتل الرجل، فأتى داره فدخلها وأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا على الباب ودخلوا، فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولابد للناس من خليفة، وإنه لم نَرَ أحداً أحق بها منك، فردد، فأبوا. قال: فإذا أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن ائتوا المسجد، فمن شاء أن يبايعني بايعني، فخرج إلى المسجد، فبايعه الناس.
وعن المسور بن مخرمة قال: قتل عثمان وعلي في المسجد، فمال الناس إلى طلحة، قال: فانصرف علي يريد منزله، فلقيه رجل من قريش عند موضع الجنائز، فقال: انظروا إلى رجل قتل ابن عمه وسلب ملكه، قال: فولى علي راجعاً لرقي المنبر، فقيل: ذاك علي على المنبر، فمال الناس إليه، فبايعوه وتركوا طلحة. أخرجه في المناقب وغيره.
ولا تضاد بين هذا وما قبله، بل يحمل على أن طائفة من الناس أرادوا بيعة طلحة، والجمهور أتوا علياً في داره، وسألوه فأجابهم على ما تقدم تقريره، فخرج بعد انصرافهم عنه في بعض شئونه، فلما سمع كلام ذلك الرجل خشي الخلف بين الناس، فصعد المنبر في وقته ذلك وبادر إلى البيعة لهذا المعنى لا لحب المملكة، وخشية فواتها؛ فإنه الزاهد فيما سوى الله، ولا قيمة لسماع كلام ذلك الرجل.
قال ابن إسحاق: إن عثمان لما قتل بويع علي بن أبي طالب بيعة العامة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايع أهل البصرة، وبايع له أهل اليمن وبالمدينة طلحة والزبير، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، وتخلف عن بيعته نفر، فسئل عنهم، فقال: أولئك قوم قعدوا عن الحق، ولم يقوموا مع الباطل.
بويع - رضي الله تعالى عنه - يوم السبت تاسع عشر ذي الحجة الحرام من سنة خمس وثلاثين من الهجرة.
قال العلامة الحافظ الذهبي: روى عن أبي حارثة، وأبي عثمان النهدي قالا: لما أتى معاوية الخبر أرسل إلى حبيب بن مسلمة الفهري، فقال: أشر علي برجل ينفذ بأمري ولا يقصر، قال: ما أعرف لذلك غيري. قال: أنت لها، وجعل على مقدمته يزيد بن شجعة الحميري في ألف، وقال: إن قدمت يا حبيب، وقد قتل فلا تدعن أحداً أشار إليه ولا أعان عليه إلا قتلته، وإن أتاك الخبر قبل أن تصل فأقم حتى أنظر، وبعث يزيد بن شجعة في ألف على البغال، يقودون الخيل معهم الإبل عليهم الروايا، فأغذ السير فأتاه خبر قتله بقرب خيبر، ثم أتاه النعمان بن بشير معه القميص الذي قتلوه فيه بالدماء، وأصابع نائلة امرأة عثمان قد قطعها السيف حين أرادت الدفاع عنه، والخصلة الشعر من لحية عثمان، أرسلت ذلك أم حبيبة بنت أبي سفيان ابن حرب زوجته عليه الصلاة والسلام، فرجعوا، فلفه معاوية في القميص على منبر دمشق والأصابع معلقة فيه، فآلى رجال من أهل الشام لا يأتون النساء، ولا يمسِون الغسل إلا من حلم، ولا ينامون على فراش حتى يقتلوا قتلة عثمان أو تفنى أرواحهم، وبكوه سنة فلما كانت سنة ست وثلاثين، كانت فتنة الجمل.(1/484)
قال العلامة المسعودي في كتابه المسمى مروج الذهب ومعادن الجوهر: قال ابن عباس: قدمت من مكة إلى المدينة بعد قتل عثمان بخمسة أيام، فجئت لأدخل على علي، فقيل لي: عنده المغيرة بن شعبة، فجلست بالباب ساعة، فخرج المغيرة علي، وقال: متى قدمت؟ قلت: الساعة، فدخلت عَلَى علي، فسلمت عليه، فقال لي: أين لقيت الزبير وطلحة؟ قلت: بالمراصف، وكانا قد استأذنا عليّاً في العمرة، فقال لهما: لعلكما تريدان البصرة أو الشام، فأقسما أنهما لا يقصدان غير مكة للعمرة، وكانت عائشة بها قد خرجت من قبل حاجة، ثم قال علي: ومن معهما؟ قلت: أبو مسعود بن الحارث بن هشام المخزومي في فتية من قريش، فقال علي: أما إنهم لن يدعوا أن يخرجوا يقولون: نطلب بدم عثمان، والله يعلم إنهم قتلة عثمان، فقلت له: أخبرني عن شأن المغيرة ودخوله عليك، فقال: جاءني بعد مقتل عثمان بيومين، فقال: إنني ناصح لك، وإني أشير عليك بإبقاء عمال عثمان، فأكتب إليهم بإبقائهم على أعمالهم، فإذا بايعوك، واطمأن أمرك - عزلت من كرهت، وأبقيت من أحببت، فقلت: والله لا أداهن في ديني، ولا أعطي الرياء في أمري.
قال فإن كنت قد أبيت فانزع من شئت، وأثبت معاوية فإن له جرأة وهو في أهل الشام مسموع منه، ولك حجة في إبقائه فقد كان عمر ولاه الشام كلها، وعثمان بعده، فقلت: والله لا أستعمل معاوية يومين، فخرج من عندي على إشارته، ثم عاد إلي بعد يوم، فقال: إني أشرت عليك بما علمت، فنظرت في الأمر فإذا أنت مصيب لا ينبغي أن تأخذ أمرك بخدعة، ولا يكون لك فيه دلسة.
قال ابن عباس، فقلت لعلي: أما أول ما أشار به عليك: فقد نصحك، وأما الآخر: فقد غشك. وإني أشير عليك بتثبيت معاوية فإن بايع لك فلك على أن أنقله من منزله.
فقال علي: والله لا أعطي معاوية إلا السيف حتى يدخل في الحق، وتمثل بقول القائل: من الطويل:
فَما مِيتَةٌ إن مِتها غَيرَ عاجِزٍ ... بِعارِ إِذا ما غالَتِ النفسُ غَولَها
فقلت: وهو والله لا يعطيك إلا السيف حتى يغلب بباطله حقك، قال علي: وكيف ذاك؟؟! قلت: إنك تطاع اليوم، وتعصى غداً، وإنه يطاع، ولا يعصى.
فلما انتشر علي على أصحابه وكان ابن عباس إذ ذاك بالبصرة قال علي - كرم الله وجهه - : لله در ابن عباس!! كأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق.
وفي رواية: فقلت له بعد تمثله بالبيت: يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع، أما سمعت قوله صلى الله عليه وسلم: " الحرب خدعة " ؟ قال: بلى، فقلت: أما والله لئن أطعتني لأصدرن لهم بعد ورد، ولأتركنهم ينظرون في أدبار الأمور كما لا يدرون ما كان وجهها في غير نقض ولا إثم، فقال لي: يا بن عباس، لست من هناتك ولا هنات معاوية في شيء، تشير علي برأي فيه فإذا عصيتك، فأطعني، فقلت فأنا أفعل، وأيسر ما لك عندي الطاعة، فقال: سر إلى الشام فقد وليتكها. قلت:؟ ما هذا برأي، يضرب عنقي بعثمان؟ وأدنى ما هو صانع أن يخلصني. قال علي: ولمَ.؟ قلت: لقرابتي منك، فإن كل من حمل عليك حمل علي، ولكن اكتب إلى معاوية: فمنه، وعِدهُ، فأبى علي، وقال: والله لا كان هذا أبداً، ثم تلا " وَما كنُتُ مُتخَذَ المُضِلِينَ عضداً " الكهف: 51.
وروى الواقدي عن رجاله قال: كان يعلى بن منية التميمي عامل عثمان على اليمن، فوافى الموسم عام قتل عثمان، فجاء إلى عائشة وهي بمكة للحج، فقال: قد قتل خليفتك الذي كنت تحرصين عليه، فقالت: برئت إلى الله من قاتله.
وعن الوليد بن عبد الله قال: قال يعلى بن منية: أيها الناس، من خرج يطلب بدم عثمان فعلي جهازه، وكان معهم بمكة عبد الله بن عامر بن كريز عامل عثمان على البصرة، فهرب منها لما أخذ البيعة بها لعلي على الناس جارية بن قدامة السعدي، وأعطى يعلى بن منبه عائشة أربعمائة ألف درهم، وقال: هذه من عين ما لي أقوى بها من طلب بدم عثمان، فبلغ علياً قوله، فقال: من أين له، سرق اليمن، ثم جاء وأعطاها كراعاً وسلاحاً، والجمل الذي عليه هودجها واسمه عسكر، فلما انكشفوا يوم الجمل هرب يعلى المذكور.(1/485)
قال الذهبي: لما قتل عثمان سقط في أيدي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فبايعوا علياً رضي الله عنه، ثم إن طلحة، والزبير، ومروان، وعائشة، ومن تابعهم من بني أمية - رأوا أنهم لا يخلصهم مما وقعوا فيه من توانيهم في نصرة عثمان إلا أن يقوموا في الطلب بدمه، والأخذ بثأره ممن قتله، فسار طلحة والزبير من المدينة، واستأذنا علياً في العمرة، فقال لهما ما تقدم، فأقسما أنهما يريدان مكة للعمرة، وكانت عائشة بمكة حاجة، فاجتمعوا ومعهم يعلى بن منية عامل اليمن، وعبد الله بن عامر عامل البصرة، فأرادوا الشام، فصدهم عبد الله بن عامر، وقال: إن معاوية لا ينقاد إليكم ولا يعطيكم من نفسه الظنة، لكن هذه البصرة لي بها صنائع وعدة، فجهزهم بألف ألف درهم، وسار القوم نحوها في نحو ستمائة راكب، فانتهوا بالليل إلى ماء لبني كلاب يعرف بالحوأب، فعوت كلابه على الركب، فسألت عائشة عن اسم هذا الماء، فقيل لها: الحوأب فذكرت قوله صلى الله عليه وسلم لنسائه وعائشة معهن: " أيتكن صاحبة الجمل الأدب أو الأدبب تنبحها كلاب الحوأب تنجو بعد ما كادت " ؛ فاسترجعت، وقالت: ردوني إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا حاجة لي في المسير هذا، فقال لها الزبير: تالله ما هذا بالحوأب وأشار إلى جبل هناك، ولقد غلط من أخبرك.
فأتوا إلى البصرة، فخرج إليهم عثمان بن حنيف الأنصاري عامل على عليها، فمانعهم، وجرى بينهم قتال، ثم اصطلحوا على ترك الحرب إلى قدوم علي، فلما كان بعض الليالي أسروا عثمان، ونتفوا لحيته، وقتلوا سبعين رجلاً، فهم أول من قتل في الإسلام ظلماً.
وتشاح الزبير وطلحة في الصلاة بالناس، ثم اتفقوا لهذا يوم وللآخر يوم، وسار علي - رضي الله عنه - من المدينة بعد أربعة أشهر معه أربعة آلاف، حتى انتهى إلى الربذة، وفاته طلحة والزبير، وكان أرادهم، فانصرف حين فاتوه إلى العراق وأرسل ابنه الحسن وعمار بن ياسر إلى الكوفة؛ يستنفران له الناس، وكتب من الربذة إلى أبي موسى الأشعري - وكان ولاه على الكوفة - فقال أبو موسى: إنما هي فتنة، فثبط الناس، فبلغ ذلك علياً فولى على الكوفة بدله قرظة بن كعب الأنصاري، وكتب إلى أبي موسى: اعتزل عملنا يا بن الحائك مذموماً مدحوراً، فما هذا أول يومنا منك، وخر مع الحسن وعمار نحو سبعة آلاف وخمسمائة وستون رجلاً فيهم الأشتر النخعي، وقال عمار لأهل الكوفة: أما - والله - إني لأعلم أنها - يعني عائشة - زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها لينظر أتبغونه أم إياها؟ فخرج القوم مع الحسن وعمار حتى قدموا على علي بذي قار - اسم مكان - فسار في نحو عشرة آلاف، حتى أتى البصرة.
قال أبو عبيدة: كان على خيل علي يوم الجمل عمار بن ياسر، وعلى الرجل محمد بن أبي بكر الصديق، وعلى الميمنة علي بن الهيثم السدوسي، ويقال: عبد الله بن جعفر، وعلى الميسرة الحسين بن علي، وعلى المقدمة عبد الله بن عباس، ودفع اللواء إلى ابنه محمد ابن الحنفية، وكان على خيل طلحة والزبير طليحة، وعلى الرجل عبد الله بن الزبير، وعلى الميمنة عبد الله بن عامر بن كريز، وعلى الميسرة مروان بن الحكم، وكان اللواء مع عبد الله بن حكيم بن حزام المخزومي، وقال المطلب بن زياد عن السدي: شهد مع علي يوم الجمل مائة وثلاثون بدرياً، وسبعمائة من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم.(1/486)
قلت: ورأيت نقلاً عن الشعبي: أنه بالغ، فقال: لم يشهد الجمل من الصحابة إلا علي وعمار وطلحة والزبير، وهو مخالف لما نقله الثقات غيره، وذكر عن المنذر ابن أبي الجارود فيما حدث به الفضل بن الحباب الجمحي عن ابن عائشة عن معن بن عيسى: أنه لما قدم على البصرة دخل مما يلي الطف، قال ابن الجارود: فخرجت، أنظر إليه، فورد في موكب عظيم وله ألف فارس يقدمهم فارس على فرس أشهب عليه قلنسوة وثياب بيض متقلداً سيفاً معه راية، وإذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض مدججين في الحديد والسلاح، فقلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد، وقيل: ابن زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه مقدمه المدينة، وأقام في بيته إلى أن عمر المسجد النبوي، وبيوت نسائه، وهؤلاء الأنصار معه، ثم تلاه فارس آخر عليه عمامة صفراء، وثياب بيض متقلداً سيفاً متنكباً قوساً معه راية على أشقر في نحو ألف فارس، فقلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا حذيفة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين، ثم تلاه فارس آخر على فرس كميت معتماً بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء، وعليه قباء أبيض، متقلداً سيفاً، متنكباً قوساً في نحو ألف فارس من الناس، ومعه راية، فقلت: من هذا؟ فقيل: أبو قتادة بن ربعي الأنصاري، ثم تلاه فارس آخر على فرس أدهم عليه ثياب بيض، وعمامة سوداء قد مد لها بين يديه، ومن خلفه شديد الأدمة عليه سكينة ووقار رافعاً صوته بالقران معه راية في ألف فارس من الناس مختلفي الألوان والتيجان من شيوخ، وكهول وشيب وشباب عليهم السكينة والوقار، كأنما أوقفوا ليوم الحساب، وأثر السجود في جباههم فقلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا عمار بن ياسر المخزومي في عدة من الصحابة المهاجرين والأنصار وأبنائهم، ثم تلاه فارس على فرس أشقر، وعليه ثياب بيض، متقلداً سيفاً، تخط رجلاه في الأرض طولاً في ألف من الناس الغالب على تيجانهم الصفرة والبياض، معه راية صفراء، فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي في عدة من الأنصار وأبنائهم وغيرهم من قحطان، ثم تلاه فارس آخر على فرس، أشكل ما رأينا أحسن منه عليه ثياب بيض، وعمامة سوداء، أسدلها بين يديه، ومن خلفه، وبيده لواء، فقلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا عبيد الله بن العباس أخو عبد الله، ثم تلاه موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأولين قبله، فقلت: من هذا؟ قيل: هذا قثم بن العباس.
ثم أقبلت الرايات والمواكب يتلو بعضها بعضاً، واشتبكت الرماح، ثم ورد موكب فيه خلق من الناس عليهم السلاح والحديد مختلفي الرايات، في أوله راية عظيمة، في أوله فارس كأنه قد كسر، وجبر نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق، حوله أمم كأنما على رءوسهم الطير، عن يمينه شاب حسن الوجه، وبين يديه شاب مثلهما، قلت: من هؤلاء؟ فقيل لي: هذا علي بن أبي طالب، وأما من عن يمينه فالحسن وعن شماله الحسين، وهذا محمد ابن الحنفية بين يديه معه الراية العظمى، وهذا الذي خلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهؤلاء أولاد عقيل وغيرهم من فتيان بني هاشم، وهؤلاء المشايخ من أهل بدر الذين شهدوها مع النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فسار علي - رضي الله تعالى عنه - حتى نزل بالموضع المعروف بالزاوية، فصلى أربع ركعات، وعفر خديه في التراب، وقد خلط ذلك بدموعه، ثم رفع يديه يدعو، ثم بعث رجلاً من أصحابه يقال له: مسلم معه مصحف يدعوهم إلى الله تعالى، فرموه بسهم، فقتلوه، فحمل إلى علي، فقالت أم مسلم: من الرجز:
يا رَب إن مُسلِماً أتاهُم ... يَتلُو كِتابَ اللهِ لا يَخْشاهُمْ
فَخَضبُوا من دَمِهِ لِحاهُم ... وأمهُ قائِمَة تَراهُمْ
ثم إن علياً - رضي الله عنه - راسل القوم وناشدهم، فأبوا إلا القتال فكانت وقعة الجمل.(1/487)
قال الإمام الذهبي في تاريخه: اصطف الفريقان - وليس لطلحة ولا لعلي رأسي الفريقين قصد في القتال، بل ليتكلما في اجتماع الكلمة - فترامى أوباش الطائفتين، وشبت نار الحرب، وثارت النفوس، وبقي طلحة يقول: أيها الناس أنصِتوا. والفتنة تغلى، فقال: أف فراش النار وذباب طمع، وقال: اللهم خذ لعثمان مني اليوم حتى ترضى، إنا داهنا في أمر عثمان، كنا بالأمس يداً على من سوانا، وأصبحنا اليوم جبلين من حديد يزحف أحدنا إلى صاحبه، وقد كان مني في أمر عثمان ما لا أرى كفارته إلا بسفك دمي.
وعن عكرمة عن ابن عباس قال: لما كان علي بالربذة متوجهاً إلى البصرة للقتال قام إليه ابنه الحسن، فبكى بين يديه، وقال له: ائذن لي فأتكلم.
قال: تكلم، ودع عنك أن تحن حنين الأمة.
فقال: لقد كنت أشرتُ عليك بالمقام، وأنا أشير به عليك الآن، إن للعرب جولة، ولو رجعت إليها عوازب أحلامها لضربوا إليك آباط الإبل حتى يستخرجوك، ولو كنت في مثل جحر الضب.
فقال علي: أتراني - لا أبا لَكَ: - كنتُ منتظراً كما ينتظر الضبع اللدم.
وعن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عم له: أنه لما كان يوم الجمل نادى علي في الناس: لا تراموا أحد بسهم، وكلوا القوم فإن هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة.
ثم إن القوم نادوا بأجمعهم: يا ثارات عثمان.
قال: وابن الحنفية أمامنا برتوة معه اللواء، فمد علي - رضي الله عنه - يديه، وقال: اللهم كب قتلة عثمان لوجوههم.
ثم إن الزبير قال لأساورة معه: ارموهم ولا تبلغوا، فكأنه إنما أراد أن ينشب القتال، فلما نظر أصحاب علي إلى النشاب لم ينتظروا أن يقع إلى الأرض وحملوا عليهم فهزموهم.
وخرج علي رضي الله عنه بنفسه حاسراً على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى: يا زبير اخرج إلي. فخرج شاكي السلاح حتى التقت أعناق دوابهما فقيل ذلك لعائشة، فقالت: واخفرتك يا أسماء!.
فقيل لها: الزبير شاكي السلاح وعلي حاسر، فاطمأنت قليلاً، فقال له علي: ويحك يا زبير ما الذي أخرجك؟! قال: دم عثمان.
فقال علي: قتل الله أولانا بدم عثمان، ثم قال له: أتذكر يا زبير يوم لقيت رسول الله وضحكتُ إليه وأنت معه، فقلت: ما يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك: ليس به زهو، أتحبه يا زبير؟ فقلت: والله إني لأحبه، فقال لك: إنك ستقاتله، وأنت له ظالم.
فقال الزبير: أستغفر الله، لو ذكرتها ما خرجت، فكيف أرجع الآن، وقد التقت حلقتا البطان، هذا والله العار الذي لا يغسل أبداً. فقال علي: يا زبير ارجع بالعار قبل أن يُجْمَعَ العار والنار، فرجع الزبير وهو يقول: من البسيط:
إِختَرتُ عاراً عَلَى نارٍ تُؤَججُه ... أني يَقُومُ بِها خَلق مِنَ الطينِ
نادَى علي بِأمرٍ لَست أجهَلُهُ ... عاز لَعَمْرُكَ في الدنيا وفي الدينِ
فَقُلْتُ حَسْبُكَ مِنْ عَذل أبا حَسَنٍ ... فَبَغضُ هَذا الَذِي قَد قُلْتَ يَكفِيني
فقال له ابنه عبد الله بن الزبير: إلى أين تذهب؟ فقال أذكرني علي أمراً كنت نسيته. قال: لي الأمر كذلك، لكن فررت من سيوف بني هاشم، فإنها حداد يحملها فتية أنجاد. فقال راويه: قال له: جبنا جبنا.
فقال لا والله، ولكنه أذكرني أمراً أنسانيه الدهر فاخترت العار على النار، أباِلجبن تعيرني لا أبا لك؟! ثم قلع سنان رمحه وسار في ميمنة علي، فقال علي: أفرجوا له فقد هاجوه، ثم رجع فشد في الميسرة، ثم رجع فشد في القلب، ثم رجع وقال لابنه: أيفعل هذا جبان؟! ثم مضى منصرفاً بوادي السباع.
والأحنف بن قيس التميمي منحاز في قومه من بني تميم، فأتاه رجل فقال: هذا الزبير مار، فقال ما أصنع بالزبير وقد جمع بين جيشين عظيمين يقتل بعضهم بعضاً وها هو صار إلى منزله سالماً، فلحقه عمرو بن جرموز بوادي السباع، وقد نزل الزبير للصلاة، فأتاه من خلفه فطعنه، وهو في الصلاة.
ثم استسقى الزبير لبناً فشربه فخرج من جرحه، فمات رحمه الله، فاحتز رأسه وأتى به وسيفه وخاتمه إلى علي رضي الله عنه فقال علي: يا أعرابي تبوأ مقعدك من النار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قاتل ابن صفية في النار " .
وقال علي: طالما جلا الكروب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حلول الحين ومقدار السوء!.
وقال قاتله لما قال له علي ما قال: من المتقارب:(1/488)
أتَيْتُ علياً بِرأسِ الزبيرِ ... وَقَد كُنتُ أرْجُو بِهِ الزلفَهْ
فَبَشَرَ بِالنارِ قبل العِيانِ ... وَلَيسَت بِشارَة ذي التُحفَه
لَسيانِ عِندِيَ قَتل الزبَيرِ ... وَضَرْطَةُ عَيرِ بِذِي الْجُحفَهْ
وقال حسان بن ثابت يرثيه: من الطويل:
أقامَ عَلَى هَدْي النبِي وَهَديِهِ ... حَوارِيُّهُ والقولُ بِالْفِعْلِ يَكْمُلُ
أقامَ عَلَى مِنْهاجِهِ وَطَريقِهِ ... يُوالي وَلي الحَق والحَق أعْدَلُ
هُوَ الفارِسُ المَشهُورُ والبَطَلُ الذِي ... يَصُولُ إذا ما كانَ يَوْم محَجل
ِإذا كَشفَت عن ساقِها الحَرب حَثَّها ... بِأبْيَضَ سَباقٍ إِلى الموتِ يرفُلُ
فَما مِثلُه فيهِم وَلا كانَ قَبلَهُ ... وَلَيْسَ يَكُونُ الدهْرَ ما دامَ يَذْبُلُ
ثَناؤُكَ خَير من فِعالِ مَعاشِرٍ ... وَفِعلكَ يابْنَ الهاشميةِ أفْضلُ
فَكَمْ كربَةٍ ذَب الزبَيرُ بِسَيفِهِ ... عَنِ المُصطَفَى واللهُ يُعْطِى فَيُجْزِلُ
وفيه يقول بعض بني آل الزبير: من الكامل:
جَدي ابنُ عمة أحمدٍ وَوَزِيرُهُ ... عِندَ البَلاء وَفارِسُ الشُعَراءِ
وَغَداةَ بَدرٍ كانَ أولَ فارِسٍ ... شَهِدَ الوَغَى في اللأمةِ الصفْراءِ
نَزَلَتْ بِسيماهُ المَلائِكُ نُضرَةً ... بِالحَوضِ يَؤو تألبِ الأعْداءِ
وقال جرير يرثيه: من الكامل:
إن الرزيةَ من تَضَمنَ قَبرَهُ ... وادِي السباعِ، لِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
لَما أتَى خَبَرُ الزبيرِ تَواضَعَت ... سُورُ المَدِيَنةِ والجِبالُ الخُشعُ
وقالت زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، أخت سعيد بن زيد أحد العشرة الكرام رضي الله تعالى عنهم: من الكامل:
غَدرَ ابنُ جُرمُوزٍ بِفارِسِ مُهجَة ... يَومَ اللقاءِ وَكانَ غيْرَ معَذرِ
يا عَمرو لَو نَبهتهُ لَوَجَدتهُ ... لا طائِشاً رَعِشَ البَنانِ وأبتَرِ
ونادى علي رضي الله عنه بعد رجوع الزبير طلحة فقال: يا أبا محمد، ما الذي أخرجك. قال: الطلب بدم عثمان.
قال علي: قتل الله أولانا بدم عثمان، أما سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم وال من والاه " ، وأنت أول من بايعني ثم نكثت، وقد قال الله تعالى " فَمَن نكث فإنما يَنكث علَىَ نَفسِه " الفتح: 10، فقال طلحة: أستغفر الله، ثم رجع.
فقال مروان: رجع الزبير ويرجع طلحة، والله لا أطلب ثأري بعد اليوم.
فرمى مروان طلحة بسهم شك ساقه بجنب فرسه، فما زال ينشج حتى مات.
وفي رواية أنه قال: هذا ممن أعان على قتل عثمان. والتفت إلى أبان بن عثمان وقال له: قد كفيناك بعض قتلة أبيك ثم اقتتلوا فقطعت على خطام الجمل سبعون يداً مختمة، كُلما أخذ رجل بخطامه قطعت يده، وكلهم من بني ضبة، وهم يرتجزون بقولهم:
نَحنَ بَنُو ضَبةَ أصحابُ الجَمَل ... لا نَرهَبُ المَوتَ إِذا المَوتُ نَزَل
رُدُوا عَلَينا شَيخنا ثم بجل ... عُثمان رُدوهُ بِأطراف الأسَل
قال العلامة إبراهيم البيهقي في كتابها المحاسن والمساوئ: لما سارت عائشة أقبلت في هودج من حديد، وهى تنظر من ينظر قد صير لها فيه، فقالت لرجل من ضبة وهو آخذ بخطام جملها: أين ترى علي بن أبي طالب؟ فقال لها هو ذاك رافعاً يديه إلى السماء فنظرت عائشة إليه ثم قالت: ما أشبهه بأخيه، فقال الضبي ومن أخوه. قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبذ خطام جملها من يده، ومال إلى علي، كرم الله وجهه.
وعن الحسن البصري أن الأحنف بن قيس قال لعائشة - رضي الله عنها - يوم الجمل: يا أم المؤمنين هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المسير؟ قالت: اللهم لا. فقال: هل وجدتيه في كتاب الله تعالى؟ قالت: ما نقرأ إلا ما تقرءون.
قال: فهل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بشيء من نسائه إذا كان في قلة والمشركون في كثرة. قالت: اللهم لا.
قال الأحنف: فإذن ما هو ذنبنا؟!.(1/489)
وحمل أصحاب الجمل على ميمنة على وميسرته فكشفوهما، فأتى علياً بعض ولد عقيل، وهو يخفق نعاساً فقال: يا أمير المؤمنين، ما هذا النعاس؟.
فقال له علي: اسكت يا بن أخي إن لعمك يوماً لا يعدوه، والله ما يبالي عمك أوقع على الموت أو الموت وقع عليه.
ثم بعث إلى ولده محمد ابن الحنفية، وكان صاحب رايته، كما تقدم ذكره وقال له: احمل على القوم، فأبطأ محمد بالحملة، وكان بإزائه قوم من الرماة ينتظر نفاد سهامهم، فأتاه عَلِي، فقال: هلاَّ حملت على القوم؟ فقال: ما أجد متقدما إلا على سنان، وإني أنتظر نفاد سهامهم. فقال له علي: احمل بين الأسنة فإن للموت عليك جنة.
فحمل محمد فشك بالرماح والنبل، فأتاه علي فضربه بقائم سيفه وقال له: أذرعك عِزق سوء من أمك؟! وأخذ الراية من يده، وحمل وحمل الناس معه، فما كان القوم إلا كرماد اشتد به الريح في يوم عاصف، ورمى الهودج بالنشاب حتى صار كأنه قنفد، وصرخ صارخ: اعقروا الجمل فعقره رجل اختلف في اسمه، وكان الهودج ملبساً بالدروع وداخله أم المؤمنين، وهي تشجع الناس الذين حول الجمل، لا قوة إلا بالله!.
ثم إنها ندمت وندم علي عَلَى ما وقع.
ثم أتى علي - كرم الله وجهه - إلى الهودج فضرب أعلاه بقضيب في يده فقال: أبهذا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم يا حميراء؟! والله ما أنصفك الذين أخرجوك إذ أبرزوك، وصانوا حلائلهم.
فسُمِعَ صوت من الهودج: ملكت فأسجح.
ولما سقط الجمل بعد الوقعة أتى محمد بن أبي بكر، فحط هودجها عن الجمل أدخل يده، فقالت: مَن؟ قال: أقرب الناس إليك قرابة، وأبغضهم إليك محمد بن أبي بكر، يقول لك أمير المؤمنين: هل أصابك شيء؟ فقالت: ما أصابني إلا سهم لم يضر في شيئاً. والتقى الأشتر مالك بن الحارث النخعي من فرسان علي، هو عبد الله بن الزبير من فرسان الجمل فاعتركا وسقطا عن فرسيهما، وطال اعتراكهما فعلاه الأشتر ولم يجد سبيلاً إلى قتله، والناس يجولون وعبد الله بن الزبير ينادي ويقول: من مجزوء الخفيف:
أُقتُلُونِي وَمالِكاً ... وافتُلُوا مالِكاً مَعِي
فلا يسمعه أحد لشدة الصياح ووقع الحديد على الحديد، ولا يراهما راء لظلمة النقع وترادف العجاج. وكلم خزيمة بن ثابت علياً فقال يا أمير المؤمنين: لا ينكس اليوم برأس محمد واردد إليه الراية، فدعا به ورد إليه الراية ثم قال له: من الرجز:
إِطعَن بِها طَعنَ أبِيكَ تُحْمَدِ
لا خير في الحَرْب إِذا لَمْ تُوقَدِ
بالمَشْرَفِي والقنا المُسَدَدِ
ثم استسقى علي، فأتى بعسل وماء، فحسا حسوة فقال: هذا الطائفي، وهو غريب بهذا البلد، فقال له عبد الله بن جعفر: أما يشغلك ما نحن فيه عن علم هذا؟! فقال: والله يا بني ما ملأ صدر عمك شيء من أمور الدنيا.
ثم جهز علي - رضي الله عنه - عائشة وبعث معها أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر، وثلاثين رجلاً وعشرين امرأة من ذوات الدين والشرف من نساء عبد القيس، وهمدان، وألبسهن العمائم وقلدهن السيوف، وقال: لا تعلمن عائشة أنكن نسوة.
فكن هن اللاتي يلين جملها وخدمتها وبعث على ابن عباس إلى عائشة يأمرها بالخروج إلى المدينة مع من هيأهم للخروج بها، فدخل عليها ابن عباس بغير إذنها وأخذ وسادة فجلس عليها، فقالت: يا بن عباس أخطأت السنة، دخلت بغير إذننا وجلست على رحلنا بغير أمرنا. فقال لها: لو كنت في البيت الذي خلفك صلى الله عليه وسلم فيه ما دخلنا إلا بإذنك، ولا جلسنا إلا بأمرك، إن أمير المؤمنين يأمرك بسرعة الأوبة، والتأهب للرجوع للمدينة، ثم خرج ابن عباس من عندها.(1/490)
ثم أتاها علي في اليوم الثاني، ومعه الحسن والحسين وباقي أولاده وأولاد إخوته، ونساء من بنى هاشم وغيرهم من شيعته من همدان، فلما بصرن به النساء صحن في وجهه: يا قاتل الأحبة. فقال: لو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في البيت، وأشار إلى بيت من البيوت كان قد اختفى فيه مروان بن الحكم، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عامر وغيرهم، فضرب من كان مع علي - رضي الله عنه - بأيديهم إلى قوائم سيوفهم لما علموا أن في البيت ناساً حذراً من الاغتيال، فقالت له عائشة بعد كلام طويل كان بينهما: إني أريد أن أكون معك فأسير إلى قتال عدوك عند مسيرك، فقال: ارجعي إلى البيت الذي تركك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألته تأمين ابن أختها عبد الله بن الزبير؛ لأنه ابن أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة. وتكلم الحسن والحسين في مروان فأمنه، وأمن الوليد بن عقبة، وولده عثمان وغيرهم من بني أمية، وأمن الناس جميعاً وقال - رضي الله عنه - كما قال - عليه الصلاة والسلام - : " من دخل داره فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن " .
ثم ارتحلت عائشة فلما وصلت المدينة الشريفة، قالت: كنت بخير في مسيري، وقد أعطى ابن أبي طالب فأكثر، ولكنه بعث معي رجالاً أنكرتهم، فعرفها النسوة حالهن حينئذ فقالت: ما ازددت والله يا ابن أبي طالب إلا كرماً، وددت إني لم أخرج هذا المخرج وأني أصابني كيت وكيت، من أمور شاقة ذكرتها، وإني قيل لي: تخرجين فتصلحين بين المسلمين فكان ما كان.
ثم ولى على البصرة ابن عباس وسار إلى الكوفة، ثم بعث إلى الأشعث بن قيس فعزله عن أذربيجان، وأرمينية وكان عاملاً لعثمان عليها، وصرف جريراً عن همدان، وكان عاملاً لعثمان عليها، وكان في نفس الأشعث عليه من ذلك شيء، فكان منه الميل إلى خديعة عمرو بن العاص قد أراد به تحكيم أبي موسى الأشعري، كما سيأتى.
روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان بين العباس، وعلى بن أبي طالب مباعدة، فلقيت علياً فقلت له: إن كان لك في النظر إلى عمك حاجة فإنه وجع، وما أراك تلقاه. فوجم لها علي، وأقبل على يده ورجله يقبلهما ويقول: يا عم، ارض عني رضي الله عنك. قال: قد رضيت عنك. ثم قال: يا بن أخي كنت قد أشرت عليك بأشياء فلم تقبل مني، فرأيت في عاقبتها ما كرهت، وها أنا الآن أشير عليك برأي آخر، فإن قَبلته وإلا نالك ما نالك، فقال علي: وما الذي أشرت به علي يا عم؟ قال: أشرت عليك لما مرض - عليه الصلاة والسلام - أن تسأله فإن كان الأمر فينا أعطاناه، وإن كان في غيرنا أوصى بنا، فقلتَ: إِنْ منعناها لم يعطناها أحد؛ فمضت تلك؛ فلما قُبِضَ عليه الصلاة والسلام أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة فدعوناك إلى أن نبايعك، فقلتُ: ابسط يدك لنبايعك؛ فإنا إن بايعناك لم يختلف عليك منافي، وإن بايعك بنو عند مناف لم تختلف عليك قريش، وإن بايعتك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب، فقلتَ في جهاز النبي شغل وليس على ثوب، فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة فقلتَ: ما هذا يا عم؟ قلت: هذا ما دعوناك إليه فأبيت، فقلت: سبحان الله ويكون هذا؟! قلت: وهل يرد مثل هذا؟ ثم أشرت عليك حين طعن عمر ألا تدخل نفسك في الشورى؛ فإنك إن اعتزلتهم قدموك، وإن ساويتهم تقدموك، فدخلت معهم فكان ما رأيت.
وها أنا أقول لك: أرى هذا الرجل - يعنى عثمان بن عفان - يأخذ في أمور، وكأني بالعرب وقد سارت إليه حتى ينحر كما تنحر الجزور، والله لئن كان ذلك وأنت بالمدينة ليرمينك الناس بدمه، ولئن فعلوا لا تنال من هذا الأمر شيئاً إلا بعد شر لا خير معه انتهى. قال ابن عباس: فكان الأمر كما قال أبي رضي الله تعالى عنهم أجمعين.(1/491)
وعن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر قال: كان إياس بن معاوية لي صديقاً، فدخلنا على عبد الرحمن بن القاسم بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وعنده جماعة يتذاكرون السلف؛ ففضل قوم أبا بكر وقوم عمر وقوم علياً - رضي الله عنهم - ؛ فقال إياس: إن علياً يرى أنه كان أحق الناس بالأمر، فلما بويع أبو بكر، ورأى أنهم قد اجتمعوا عليه، وأن ذلك قد أصلح العامة - اشترى صلاح العامة بنقض رأي الخاصة - يعني بني هاشم - ثم لما ولي عمر فعل مثل ذلك به وبعثمان، فلما قتل عثمان، واختلف الناس، وفسدت الخاصة والعامة، وجد أعواناً فقام بالحق ودعا إليه - رضي الله عنه وكرم وجهه - . كذا في المحاسن للبيهقي.
قال المسعودي: وكانت وقعة الجمل يوماً واحداً، وقتل من أهل البصرة وغيرهم ثلاثة عشر ألفاً، ومن أصحاب على سبعة آلاف، وقيل: خمسة آلاف. وقال العلامة الذهبي: قتل بينهما ثلاثون ألفاً وكانت يوم الخميس لعشرِ خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين المذكورة، قتل فيها المشاهير: طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي أحد العشرة المبشرة، وهو أول قتيل يوم الجمل بعد مسلم الجهني الذي أمره على أن يدعو القوم بالمصحف إلى ما فيه فرمي بسهم فقتل، وقد ذكرنا أن مروان من جيش طلحة والزبير، وأنه القاتل له بسهم رماه به. وقال مجالد عن الشعبي قال: رأى علي - رضي الله عنه - طلحة ملقى قتيلاً، فنزل فمسح التراب عن وجهه ولحيته وهو يترحم عليه ويقول: ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة ثم قال: عزيز علي أبا محمد أن أراك مجدلاً في الأودية. ثم قال: إلى الله أشكو عُجَري وبُجري. قال الأصمعي: معناه: سرائري وأحزاني ولها معانٍ أخر مذكورة في اللغة. وقال الليث عن طلحة بن مصرف: فدفنا طلحة على شاطئ الكلاء بالمدّ التشديد، وهو مرسى المراكب، فرآه بعض أهله في المنام يقول له: ألا ترى؟ نجوني من هذا الماء قد غرقت - ثلاث مرات يقولها - فنبشوه فإذا هو أخضر كأنه السلق، فنزحوا عنه الماء فاستخرجوه، فإذا ما يلي الأرض من لحيته ووجهه قد أكلته الأرض، فاشتروا له داراً من دور أبي بكر بعشرة آلاف فدفنوه بها.
ومِمن قتل فيها محمد بن طلحة، وكان زاهداً عابداً، صالحاً ديناً قواماً. ذكر ابن سعد أن محمد بن طلحة بن عبيد الله تقدم فأخذ بخطام الجمل، فحمل عليه رجل، فقال له: أذكرك حاميم، فطعنه فقتله، ثم قال: من الطويل:
وأشعَثَ قَوامِ بآياتِ رَبهِ ... قَلِيلِ الأذَى فِيما تَرَى العَين مُسْلِم
هَتَكْتُ لَهُ بالرمحِ جَيبَ قَمِيصِهِ ... فَخَر صَرِيعاً لليدَينِ وَلِلْفَمِ
يذَكرُنِي حامِيمَ والرُمحُ شاجِرٌ ... فَهَلا تَلا حامِيمَ قَبْلَ التقَدُمِ
عَلَى غَير ِشَيْءِ غَير أن لَيسَ تابِعاً ... علياً وَمَن لا يَتبَعِ الْحَق يَنْدَمِ
فسار على ليلته في القتلى معه النيران، فمر بمحمد بن طلحة هذا قتيلاً فقال لابنه حسن: يا حسن، محمد السجاد ورب الكعبة!. ثم قال: أبوه صرعه هذا المصرع، لولا بره بأبيه ما خرج. فقال له الحسن: ما كان أغناك عن هذا يا أبت؟! فقال: مالي ولك يا حسن.
وممن قتل حُكيم بن جبلة العبدى، كان متديناً عابداً، شريفاً مطاعاً بطلاً، وهو أحد من سار إلى الفتنة وألب على عثمان، وهو من جماعة علي، ولم يزل يقاتل حتى قطعت رجله فأخذها وضرب بها الذي قطعها فقتله، ثم أخذ يقاتل ويقول: من منهوك الرجز:
يا ساقُ لَن تُراعِي ... إِن مَعَي ذراعِي
أحمِي بِهِ كُراعِي
حتى نزفه الدم فاتكأ على المقتول الذي قطع رجله فمر به رجل فقال: من قطع رجلك؟ فقال: وسادتي هذه. ثم أتاه أسحيم الحداني فقتله. وذكر المدائني أنه رأى رجلاً مصلم الأذنين، فسأله عن قصته، فذكر أنه خرج يوم الجمل ينظر القتلى، فنظر إلى رجل منهم يخفق رأسه وهو يقول: من الطويل:
لَقَد أورَدتنا أمُناً حَومةَ الرَدَى ... فَلَم نَنصَرِفْ إلا وَنَحْنُ رِواءُ
أطَعنا بَنِي تَيمِ لِشِقوَةِ جَدِّنا ... وَما تَيمُ إِلا أعبُدٌ وإماءُ(1/492)
فقلت: سبحان الله!! تقول هذا عند الموت، قل لا إله إلا الله. فقال يا بن اللخناء، أتأمرني بالجزع عند الموت؟ فوليت عنه متعجباً، فقال: ادن مني لقني الشهادة، فصرتُ إليه فلما قربت منه استدناني، ثم التقم أذني فذهب بها، فجعلت ألعنه وأدعو عليه، فقال: إذا صرت إلى أمك فقالت لك: من فعل هذا بك؟ فقل: عمير بن الأهلب الضبي، مخدوع المرأة التي أرادت أن تكون أمير المؤمنين.
ثم كانت في سنة سبع وثلاثين وقعة صفين؛ اسم مكان كانت به الوقعة. وذلك أن سيدنا علياً - كرم الله وجهه ورضى الله عنه - وَجَه جرير بن عبد الله وهو المقول فيه: من الرجز:
لَولا جَرِير هَلَكَت بَجِيلَه ... نِغمَ الفَتَى وَبِئسَتِ القَبِيلَهْ
إلى معاوية، وقد كان الأشتر النخعي حذر علياً من إرساله جريراً وخوفه من ذلك، فقال جرير: ابعثني فإنه لم يزل بي مستنصحاً وداداً، فآتيه فأسأله أن يسلم إليك هذا الأمر، وأدعو الشام إلى طاعتك. فقال الأشتر لسيدنا علي: لا تبعثه فوالله لأظن هواه هواهم ونيته نيتهم، فقال علي: دعه حتى ننظر ما يأتي إلينا به، فبعث به، وكتب إلى معاوية يعلمه بمبايعة المهاجرين والأنصار واجتماعهم عليه، ونكث الزبير وطلحة وما أوقع الله بهما، وأمره بالدخول في طاعته، وأعلمه أنه من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة. فلما قدم عليه جرير دافعه وسأله الإقامة أياماً، وقد كان كتب معاوية إلى عمرو بن العاص فقدم إليه، وأعطاه مصر طعمة، فأشار عمرو بالبعث إلى وجوه الشام، وأن يلزم علياً دم عثمان ومقاتلته. فقدم جرير على علي، فأخبره خبرهم، واجتماع أهل الشام مع معاوية على قتاله، وأنهم يبكون على عثمان ويقولون: إن علياً قتله، وإنهم لا بد لهم من قتاله حتى ينفوه ومن معه أو يعينهم، فقال الأشتر لعلي: قد كنت أخبرتك بعداوته وغشه، يعنى جريراً، ولو أرسلتني لكنت خيراً من هذا الذي أرخى جناحه، وأقام حتى لم يدع باباً يرجو معاوية فتحه إلا فتحه، ولا باباً يخافه إلا غلقه. فقال له جرير: لو كنت ثم لقتلوك، لقد ذكروا أنك من قتلة عثمان، فقال: لو رأيتهم والله يا جرير لم يعيني جوابهم، ولا ثقل علي خطابهم، ولحملت معاوية على خطة أعجلته فيها عن الفكر، ولو أطاعني أمير المؤمنين فحَبَسك وأشباهك في مجلس فلا تخرجون منه حتى تستقيم هذه الأمور. فخرج جرير إلى الرحبة من شاطئ الفرات، وكتب إلى معاوية يعلمه بما نزل به، وأنه أحب مجاورته فكتب إليه معاوية يأمره بالمسير إليه، وبعث معاوية إلى المغيرة ابن شعبة يقول له: قد ظهر من رأي ابن أبي طالب وما كان تقدم من توعده لك في طلحة والزبير، فما الذي بقي من رأيه فينا؟.
وذكر يحيى بن عبيد قال: قال أبو مسلم الخولاني وجماعة لمعاوية: أأنت تنازع علياً أم أنت مثله. فقال: لا والله، إني لأعلم أن علياً أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً وأنا ابن عمه، وإنما أطالب بدمه؟ فأتوا علياً فقولوا له فليدفع إلي قتلة عثمان وأسلم له. فأتوا علياً فكلموه بذلك فلم يدفعهم إليه.
وحدث يحيى الجعفي أن معاوية قال لجرير بن عبد الله البجلي المذكور: اكتب إلى علي أن يجعل لي الشام وأنا أبايعه. وقال: وبعث الوليد بن عقبة إلى معاوية يقول: من الطويل:
مُعاوِيَ إِن الشامَ شامُكَ فاعتَصِم ... بِشامِكَ لا تُدخِلْ عَلَيْنا الأفاعِيا
وَحامِ عَلَيها بِالقَنابِلِ والقَنا ... وَلا تَكُ مَحْبُوسَ الذراعَيْنِ دانِيا
فإن علياً ناظرٌ ما لِجَيْشِهِ ... فأهدِ لَهُ حَرْباً تُشِيبُ النواصِيا(1/493)
وعن جابر الجعفي، عن الشعبي قال: لما ظهر أمر معاوية دعا علي - رضي الله عنه - رجلاً وأمره أن يسير إلى دمشق فيعقل راحلته على باب المسجد ويدخل بنية السفر؛ ففعل الرجل، فسألوه: من أين جئت؟ قال: من العراق. قالوا: ما وراءك؟ قال: تركت علياً قد حشد إليكم ونهد في أهل العراق. فلما بلغ الخبر معاوية نودي: الصلاة جامعة، وامتلأ المسجد، فصعد معاوية المنبر فتشهد ثم قال: إن علياً قد نهد إليكم في أهل العراق، فما الرأى؟ فضرب الناس بأذقانهم إِلَى صدورهم، ولم يرفع أحد طرفه إليه، فقام ذو الكلاع الحميري فقال: عليك امْرأي يعني الرأي، وعلينا امفِعالُ - يعني الفعال - فنزل معاوية ونودي في الناس: اخرجوا إلى عسكركم، ومن تخلف بعد ثلاث أخل بنفسه. فخرج رسول علي حتى وافاه فأخبره بذلك، فأمر علي فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن رسولي الذي أرسلته إلى الشام قد قدم علي، وأخبرني أن معاوية قد نهد إليكم في أهل الشام، فما الرأي؟ فقال أهل المسجد: يا أمير المؤمنين، الرأي كذا، الرأي كذا. فلم يفهم علي كلامهم من كثرة من تكلم وكثرة اللغط، فنزل وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب بها ابن أكالة الأكباد - يعني معاوية - فسار علي وكان مسيره من الكوفة إلى صفين لخمس خلون من شوال سنة ست وثلاثين، واستخلف على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عمر الأنصاري، واجتاز علي المدائن ثم الأنبار، ثم سار حتى نزل الرقة، وسار معاوية من الشام فسبق علياً إلى صفين، فالتقوا بصفين؛ فكانت وقعة صفين لسبع بقين من المحرم من سنة سبع وثلاثين، وشبت الحرب بينهم أول صفر من السنة المذكورة، وكان على ميمنة علي الأشعث بن قيس الكندي، وعلى الميسرة عبيد الله بن العباس، وعلى الرجالة عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقتل يومئذ، ومن أمراء علي الأحنف بن قيس التميمي، وعمار بن ياسر، وعدي بن حاتم الطائي، والأشتر مالك بن الحارث النخعي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وشبث بن ربعي الرياحي، وسعيد بن قيس الهمداني؛ فكان رئيس همدان، والمهاجر بن خالد بن الوليد المخزومي، وغيرهم. فكان علي في خمسين ألفاً، وقيل: تسعين ألفاً. وقيل: مائة ألف، وكان على ميمنة معاوية عمرو بن العاص، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وكان لواؤه مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي، ومن أمرائه أبو الأعور السلمي، وزفر بن الحارث، وذو الكلاع الحميري، ومسلمة بن مخلد، وبسر بن أرطاة العامري، وحابس بن سعد الطائي، ويزيد بن أبي هبيرة السكوني، وغيرهم. وكان معاوية في سبعين ألفاً، وقيل: في مائة ألف وعشرين ألفاً، فاقتتلوا أياماً، ووقع القتال وعلي على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: رضي الله عنه: من الرجز:
مِن أيً يَومَي مِنَ المَوتِ أفِر ... أيومَ لَم يُقَدرَ أم يَومَ قُدر
وحمل وحملوا معه؛ فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض، وعلى لا يمر بفارس إلا قده وهو يقول: من الرجز:
أضْرِبُهُم وَلا أرَى مُعاوِيَة
الأمرَةَ العَينِ العَظِيمَ الحاوِيَة
تَهوِي بِهِ في النارِ أُم هاوِيَة
وقيل: إن الشعر لبديل بن ورقاء الخزاعي.
قال الزهري: اقتتلوا أياماً حتى قتل خلق كثير، قتل من أهل الشام خمسة وأربعون ألفاً، ومن أهل العراق خمسة وعشرون ألفاً، واقتتلوا قتالاً لم تقتَتِل هذه الأمة مثله قط، وغلب أهل العراق على قتلى حِمص، وغلب أهل الشام على قتلى أهل العالية وفي كتاب المحاسن والمساوئ كتب أمير المؤمنين يوم صفين إلى معاوية بن أبي سفيان: ما لك تقتل الناس بيننا؟ ابرز إلي، فإن قتلتني استرحت مني، وإن قتلتك استرحت منك. فقال له عمرو: أنصفك الرجل فابرز إليه، قال: كلا يا عمرو، أردت أن أبرز إليه فيقتلني وتثب على الخلافة بعدي؟ قد علمت قريش أن ابن أبي طالب أشدها وأسدها، ثم أنشأ يقول: من الكامل:
يا عَمرُو قَدْ أسْرَرتَ تُهمَةَ غادرِ ... بِرِضاكَ لي تَحْتَ العَجاجِ بِرازِي
ما لِلْمُلُوكِ وَللْبِرازِ وإنما ... حَتْفُ المُبارِزِ خَطْفَة مِنْ بازِي
إِن الذِي سَولتَ نَفسَكَ طالِباً ... قَتْلِى جَزاكَ بِما نَوَيْتَ الْجازِي(1/494)
فَلَقَدْ كَشَفْتَ قِناعَها مَذمُومَةً ... وَلَقَدْ لَبِسْتَ لَها ثِيابَ الحازِي
فأجابه عمرو بقوله من الوافر:
مُعاوِيَ إِنَّنِي لَمْ أجنِ ذَنباً ... وَما أنا بِالذِي يُدْعَى بِحازِي
فَما ذَنبِي بِأن نادَى علي ... وَكَبشُ القَوْمِ يُدْعَى لِلْبِرازِ
فَلَو بارَزْتَهُ لَلَقِيتَ قِرْناً ... حَدِيدَ النابِ سَهْماً ذا اعْتِزازِ
أجَبْناً في العَشِيرَةِ يا بن هِندِ ... وَعِنْدَ الباهِ كالتَيْسِ الحِجازِي
ثم إن معاوية أقسم على عمرو بمبارزة علي؛ فبرز، فلما التقيا سل علي سيفه فكشف عمرو ثوبه عن عورته وقال: مكره أخاك لا بطل، فحول علي - رضي الله عنه - وجهه عنه، وقال: قبحت قال السهيلي: جاء عمرو بن العاص إلى معاوية فقال له: إن عمار بن ياسر قد قتل، قال معاوية: فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: " تقتلك الفئة الباغية " . فقال معاوية لعمرو: رحضت في بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذي أخرجه. فبلغ قوله علياً فقال: إذا ما قتل حمزة إلا النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي أخرجه.
واختلط الناس بالناس، وبطل النبل، وقصفت الرماح، وأجنهم الليل، وتنادوا بالشعار، وتكادم القوم؛ فكان يعتنق الفارسان فيقعان في الأرض جميعاً عن فرسيهما. قلت: التكادم: التعاضض، من الكدم، وهو العض.
وفي ليلة الجمعة - وهي ليلة الهرير - كان جملة من قتله علي في يومها وليلتها خمسمائة وثلاثة وعشرين رجلاً، أكثرهم في اليوم، وكان إذا قاتل رجلاً لم يكن بضرب إلا قتل. وانكسفت الشمس، وتقطعت الألوية والرايات، ولم يعرفوا مواقيت الصلاة؛ فقال معاوية لعمرو: هات مخبآتك وأدركنا مما نحن فيه، ولك مصر طعمة. فقال: ناد في العسكر برفع المصاحف، فنودي فوجد في العسكر أكثر من خمسمائة مصحف، فأمر برفعها على الرماح وأن ينادوا: بيننا وبينكم كتاب الله.
وفي ذلك يقول النجاشي بن الحارث: من الطويل:
فأصبَحَ أهلُ الشامِ قَد رَفَعُوا القَنا ... عَلَيها كِتابُ الله خَيرُ قرانِ
وَنادوا عَلِياً: يابن عَم مُحَمدٍ ... أما تَتَقِي أن يَهلِكَ الثقَلانِ
فلما رأى أهل العراق ذلك؛ قالوا: نجيب إلى كتاب الله، وأحب القوم الموادعة، وقال لعلي كثير من أصحابه: قد أعطاك معاوية الحق، دعاك إلى كتاب الله فاقبل منه. وكان أشد القوم في ذلك الأشعث بن قيس الكندي؛ فقال علي: يا أيها الناس، إنه لم ينزل بي من أمركم ما أحب حين قدحتكم الحرب، وقد - والله - أخذت منكم وتركت، وإني كنت بالأمس الأمير فأصبحت اليوم مأموراً، وقد أحببتم البقاء قال الأعمش: حدثني من رأى علياً يوم صفين يصفق بيديه، ويعض على إبهامه، ويقول: يا عجباً أعصى ويطاع معاوية!! فقال له الأشتر: يا أمير المؤمنين، إن معاوية لا خلف له من رجاله، ولك بحمد الله الخلف، ولو كان له مثل رجالك لما كان له مثل صبرك ولا نصرك، فاقرع الحديد بالحديد واستعن بالله.(1/495)
فقالا الأشعث: يا أمير المؤمنين، إنا لك اليوم على ما كنا بالأمس، وليس ندري كيف يكون غداً، وقد والله فل الحديد وكلت البصائر - وتكلم بكلام كثير - ولكن إن شئت أتيتُ معاوية فسألته ما يريد؟ قال علي: اذهب إليه. فأتاه فقال له معاوية: نرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله في كتابه، تبعثون رجلاً منكم ترضون به وتختارونه، ونبعث رجلاً منا، ونأخذ عليهما العهد والميثاق أن يعملا بكتاب الله. فصوب الأشعث قوله. وذهب إلى علي؛ فقال أكثر القوم: رضينا وسمعنا وأطعنا. فاختار أهل الشام عمرو بن العاص، وقال الأشعث ومن ارتد بعد ذلك إلى رأى الخوارج: رضينا نحن بأبي موسى الأشعري. فقال علي: عصيتموني أولاً فلا تعصوني الآن؟ إني لا أرتاح إلى أبي موسى. فقال الأشعث: لا نرضى إلا أبا موسى. قال علي: ويحكم ليس هو بثقة، فعل كذا وكذا، وقد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب شهراً حتى أمنته، ولكن هذا عبد الله بن عباس. فقال الأشعث وأصحابه: والله لا يحكم فينا مضريان. قال علي: فالأشتر. فقالوا وهل أشعل ما نحن فيه إلا الأشتر. فقال علي: فاصنعوا ما أردتم وافعلوا ما بدا لكم. فبعثوا إلى أبي موسى وأفهموه بالقضية، وقيل لأبي موسى: قد اصطلح الناس، فقال الحمد لله. قيل: وقد جعلوك حكماً، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون فافترقوا بعد أن صيروا الأجل إلى شهر رمضان من العام القابل على اجتماع الحكمين في موضع عدل بين الكوفة والشام يسمى دومة الجندل، وكان الوقت الذي كتبت فيه الصحيفة بالرضا بالحكمين لأيام بقين من صفر سنة سبع وثلاثين، وقرأ الأشعث الصحيفة على الناس ماراً بها فرحاً وسروراً؛ فقال عروة بن أدية: أتحكمون يا أشعث في دين الله وأمره ونهيه الرجال؟ لا حكم إلا لله. وهو أول من قالها، ونبذ سيفه على الأشعث فهمز فرسه عن الضربة فأصابت عجز الفرس، ونجا الأشعث. وفي فعل عروة بالأشعث يقول رجل من تميم: من الخفيف:
غروُ يا عروَ كُل فِتنَة قَومٍ ... سَلَفَت إِنما تَكُونُ فُتَينَه
ثَم تَنمُو وَيَعظُمُ الَخطبُ فِيها ... فاخذَرَن غِب ما صَنَعتَ عريَّه
أعَلَى الأشعَث المعصب بالتا ... ج حَمَلتَ السلاحَ يا بن أديه
فانظُرِ اليَوْمَ ما يقُول علي ... واتبِعهُ فَذاكَ خَيرُ البَرِيهْ
عن صعصعة بن صوحان قال: خرج يوم صفين رجل من أصحاب معاوية يقال له: كريز بن الصباح الحميري، فوقف بين الصفين وقال: من يبارز؟ فخرج إليه رجل من أصحاب علي فقتله، فوقف عليه فقال: من يبارز؟ فخرج إليه آخر من أصحاب علي فقتله وألقاه على الأول، فقال: من يبارز؟ فخرج إليه الثالث فقتله وألقاه على الأولين وقال: من يبارز؟ فأحجم الناس عنه، وأحب من كان في الصف الأول أن يكون في الآخر، فخرج إليه علي على بغلة رسول الله البيضاء فشق الصفوف، فلما انفصل منها نزل عَنِ البغلة وسعى إليه فقتله، وقال: من يبارز. فخرج إليه رجل آخر فقتله وألقاه على الأول، ثم قال: من يبارز؟ فخرج إليه رجل فقتله وألقاه على الأولين ثم قال: من يبارز؟ فخرج إليه آخر فقتله وألقاه على الثلاثة، ثم قال: يا أيها الناس، إن الله عز وجل يقول: " الشهرُ الحرامُ بِالشهرِ الحرام والحُرماتُ قِصاص " البقرة: 194، ولو لم تبتدئوا هذا ما ابتدأناه. ثم رجع إلى مكانه.
عن ابن عباس وقد سأله رجل أكان علي يباشر القتال يوم صفين. فقال ابن عباس: والله ما رأيت رجلاً أطرح لنفسه في متلف من علي، ولقد كنت أراه يخرج حاسر الرأس بيده السيف إلى الرجل الدارع فيقتله. أخرجها الواحدي. ذكر أبو مخنف لوط بن يحيي، عن ابن الأغر التميمي قال: بينا أنا واقف بصفين إذ مر العباس بن ربيعة بن الحارث بن المطلب مكمل في سلاحه، وعيناه تبرقان من تحت المغفر كأنهما شعلتا نار أو عينا أرقم، وبيحه صفيحة يمانية يقلبها والمنايا تلوح في شفرتيها، وهو على فرس صعب. فبينما هو يبعثه ويلين من عريكته، إذ هتف به هاتف من صف معاوية يقال له: عزاز بن أرقم لزهل الشامي: يا عباس، هلم إلى النزول. قال فنزل العباس إلى الشامي وهو يقول: من البسيط:
الله يَعْلَمُ أنَّا لا نُحِبكُمُ ... وَلا نَلُومُكُم إذ لَم تُحِبونا(1/496)
ثم زحف كل منهما إلى صاحبه، وكف الفريقان عنهما ينظرون ما يكون من الرجلين فتكافحا بسيفيهما نهارهما، لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته، إلى أن لحظ العباس فتقاً في درع الشامي فأهوى إليه بيده وهتكه إلى ثندوته، ثم عاد لمجاولته وقد انفرج له بعض الدرع فضربه العباس ضربة انتظم بها جوائح صدره؛ فحول وجهه وكبر الناس تكبيرة ارتجت الأرض من تحتهم بها، فإذا قائل يقول " قاتِلُوهُم يعُذِبهُمُ الله بأيدِيكم " التوبة: 14 الآية. قال ابن الأغر: فالتفت فإذا علي بن أبي طالب، فقال لي: يا بن الأغر من المبارز لعدونا؟ قلت ابن أخيكم، هذا العباس بن ربيعة، فقال علي للعباس: ألم أنهك وعبد الله بن عباس أن تحلا بمركز كما لو تناشر آخرنا؟ قال العباس: إن ذلك كما قلت. قال علي: فما عدا مما بدا. قال العباس أفأدعى إلى البراز باسمي فلا أجيب؟ فقال علي: طاعتك إمامك أولى من إجابة عدوك. وتغيظ واستطار، ثم تطامن وسكت ورفع يديه مبتهلاً وقال: اللهم اشكر للعباس واغفر ذنبه. وتأسف معاوية على عزاز بن أرقم ثم قال: ألا رجل شري نفسه يطلب بدم عزاز؟ فانتدب له رجلان من لخم من أهل البأس من صناديدهم، قال: فاذهبا فأيكما قتل العباس فله مائة أوقية من التبر، ومثلها من اللجين، وبعددها من برود اليمن؛ فأتياه فدعواه للبراز وصاحا بين الصفين: يا عباس اخرج إلى الداعي، فقال العباس: إن لي سيداً أريد أوامره، فأتى علياً وهو في جناح الميمنة يخوض الناس فأخبره الخبر، فقال علي: والله لود معاوية أنه ما بقي من بني هاشم نافخ ضرمة إلا طعن في بطنه؛ إطفاءً لنور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. ثم قال: يا عباس، ناقلني سلاحك بسلاحي؛ فناقله علي، ووثب على فرس العباس، وقصد اللخميين فلم يشكا أنه العباس، فقالا له: أذن لك صاحبك؟ فحرج أن يقول نعم؛ فقال: " أُذِنَ لِلَذِينَ يُقاتَلُونَ بِأنهُم ظُلِمُوا " الحج: 39 الآية، وكان العباس أشبه الناس في جسمه وركوبه بعلي - رضي الله تعالى عنه - فبرز له أحدهما فكأنما أخطأ رأسه، ثم برز الآخر فألحقه بالأول، ثم أقبل يقول: " الشهرُ الحرامُ بِالشهرِ الحرام " البقرة: 194 الآية، ثم قال: يا عباس، خذ سلاحك وهات سلاحي، فإن عاد لك أحد فعد لي. ونمى الخبر إلى معاوية. فقال: قبح الله اللجاج، وما ركبته قط إلا خذلت، فقال عمرو بن العاص: المخذول - والله - اللخميان، فقال له معاوية: اسكت أيها الرجل؛ فليس هذا من شأنك، قال عمرو: فإن لم يكن الله رحم اللخميين ولا أراه يفعل، قال معاوية: ذاك والله أضيق لحجتك، وأخسر لصفقتك، قال عمرو: قد علمت ذلك، ولولا مصر وولايتها لركبت المسحاة عنها؛ فاني أعلم أن ابن أبي طالب على الحق، وأنا على هذه، فقال له معاوية: مصر والله أعمتك، ولولا مصر لألفيت بصيراً. وكان مع علي من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ألفان وثمانمائة، قتل منهم خمسة وعشرون صحابياً.
ولما تفرقوا - علي إلى الكوفة ومعاوية إلى الشام - كثر اختلاف الكلمة بين أصحاب علي، وتفاوت الرأي، وعدم انتظام الأمور، وتبرأ الأخ من أخيه، وتضارب القوم بنعال السيوف، وقيل بالنعال، وتسابوا، ولام كل الآخرَ. ولما وصل علي الكوفة انحاز عنه ستة آلاف، وقيل اثنا عشر ألفاً من القوم وغيرهم؟ فنزلوا حَرَوراء، قرية من قرى الكوفة، وجعلوا شبيب بن ربعي التميمي عليهم، فخرج إليهم علي وأدخلهم جميعاً الكوفة، فجعلوا ينادون علياً وهو على المنبر: جزعت من البلية، ورضيت بالقضية، وقبلت الدنية، لا حكم إلا لنّه. فقال علي: حكم الله انتظم فيكم، فيقولون: " وَلَقَد أُوحِيَ إليك وإلى الذَينَ مِن قَبلِكَ لَئِن أشركَت ليحبطن عمُلُكَ " الزمر: 65 الآية، فيقول علي - رضي الله عنه - : " إنَ وَعدَ الله حق وَلا يَستخفَنك الذينَ لا يوقنوُن " الروم: 60.
//بسم الله الرحمن الرحيم
مناظرة ابن عباس للخوارج(1/497)
قال الذهبي: قال عكرمة بن عمار: حدثني أبو زميل قال: حدثني ابن عباس قال: لما اجتمعت الخوارج قلت لعلي - رضي اللّه تعالى عنه - : أبرد بالصلاة لعلي آتى القوم قال: فإني أخافهم عليك. قلت: كلا. فقال: أنت وذاك. فلبس حلتين من أحسن الحلل، وكان جهيراً جميلا. قال: فأتيت القوم، فلما رأوني قالوا: مرحباً بابن عباس، فما هذه الحلة؟ قلت: وما تنكرون من ذلك. لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة من أحسن الحلل. قال: ثم تلوت عليهم: قل مَن حرم يؤمنونَ اللهِ التي أخرج لِعبَاده " " الأعراف: 32 " الآية. قالوا: فما جاء بك؟ قلت: جئتكم من عند أمير المؤمنين، ومن عند أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصهره، فأقبل بعضهم على بعض، وقالوا: لا تكلموه فإن الله تعالى يقول: " بَل هُم قَوم خَصِمونَ " " الزخرف: 58 " وقال بعضهم: وما يمنعنا من كلام ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى كتاب الله. فقالوا: ننقم عليه خلالا ثلاثاً: أحدها: أنه حكم الرجال في دين الله، وما للرجال وحكم الله؟ الثانية: أنه قاتل، ولم يسب، ولم يغنم، فإن كان قد حل قتالهم فقد حل سبيهم، وإلا فلا. الثالثة: أنه محا نفسه من إمرة المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير المشركين.
قال ابن عباس: هل غير هذا؟ فقالوا: حسبنا هذا. فقال لهم: أرأيتم إن خرجت لكم من كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أراجعون أنتم؟ قالوا: وما يمنعنا؟ قال: أما قولكم إنه حكم الرجال في أمر الله - تعالى - فإني سمعت الله - تعالى - يقول في كتابه: " يحكُمُ به ذوَا عَدل مِنكُم " " المائدة: 95 " ، وذلك في ثمن صيد أرنب ونحوه قيمته ربع درهم، فوض الله - تعالى - فيه الحكم إلى الرجال، ولو شاء أن يحكم لحكم، وقال: " وإن خِفتم شِقَاقَ بَينِهِمَا فَاَبعَثُوا حَكَمَاً مِن أهلِه وَحَكَمَاً مِّن أهلِهَا " الآية " النساء: 35 " ، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. قلت: وأما قولكم قاتل، ولم يسب؛ فإنه قاتل أمكم؛ لأن الله - تعالى - يقول: " وَأَزوَجُه أمَهاتهم " " الأحزاب: 6 " فإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها أمكم فما حل سباؤها، فأنتم بين ضلالتين، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم - قلت: وأما قولكم إنه محا اسمه من إمرة المؤمنين، فإني أنبئكم عن ذلك: أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، جرى الكتاب بينه وبين سهيل بن عمرو كتاب الصلح والهدنة، فقال: يا علي، اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك الدخول، ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك - فقال عليه الصلاة والسلام - : اللهم إنك تعلم أني رسولك، ثم أخذ الصحيفة، فمحاها بيده، ثم قال: يا علي، اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله... إلخ فوالله ما أخرجه ذلك عن النبوة، أخرجت من هذه. قالوا: نعم. قال: فرجع ثلثهم، وانصرف ثلثاهم، وقتل سائرهم على الضلالة يوم النهروان كما يأتي قريباً ذكره.
قال عوف: حدثنا أبو نضرة عن أبي سعيد: " تفترق أمتي فرقتين، تمرق بينهما مارقة، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق " ، وهكذا رواه قتادة وسليمان التيمي عن أبي نضرة.(1/498)
قاْل المسعودي: فاجتمع الثلث الباقي من الخوارج في أربعة آلاف - قلت: ظهر أن المسعودي رجح رواية أنهم كانوا اثني عشر ألفاً فكان الثلث أربعة آلاف - وبايعوا عبد الله بن وهب الراسبي، ولحقوا بالمدائن، وقتلوا عامل علي عليها عبد اللّه بن خباب، ذبحوه ذبحاً، وبقروا بطنه وبطن امرأته، وكانت حاملا وقتلوا غيرها من النساء، وكان علي قد انفصل عن الكوفة في خمسة وثلاثين ألفاً، ثم ساروا إلى النهروان، وأتى إلى علي من قبل عامله على البصرة ابن عباس - ثلاثة آلاف فيهم الأحنف بن قيس، وذلك سنة ثمان وثلاثين، فنزل علي - رضي الله عنه - إلى الأنبار، والتأمت عليه العساكر، فسار حتى أتى إلى النهروان، فبعث إليهم علي بالحارث بن مرة العبدي رسولا، يدعوهم إلى الرجوع، فقتلوه، وبعثوا إلى علي - رضي الله تعالى عنه - إن تبتَ من حكومتك، وشهدت على نفسك بالكفر بايعناك، وإن أبيت فاعتزلنا حتى نختار لأنفسنا إماماً فإنا منك برآء، فقال علي - كرم اللّه وجهه - : سيروا إلى القوم فإنكم تجدونهم قد عسكروا بالرملة، فوالله لا يفلت منهم عشرة، ولا يقتل منكم عشرة، فأشرف عليهم. وقد عسكروا بالرملة على حسب ما قاله لأصحابه رضي اللّه تعالى عنه، ثم أتى عليهم، فلم يفلت منهم إلا سبعة، ولم يقتل من أصحاب على إلا تسعة، فقال: الله أكبر لقد صدق رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أخبرني بذلك، ثم أمر ينظر المخدج من بين القتلى، وهو ذو الثدية: لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة، عليه شعرات سود، إذا مدت اللحمة امتدت حتى تحاذي بطن يده، ثم تترك فتعود إلى منكبه، فلما وجدوه بين القتلى، ثني علي - رضي الله عنه - رجله ونزل فخر ساجداً، ومر بهم وهم صرعى، فقال: لقد صرعكم من غركم؟ قالوا: ومن غرهم؟ قال: الشيطان.
التقاء الحكمين بدومة الجندل
لما كان رمضان من السنة المذكورة وصل من قبل علي أبو موسى الأشعري في أربعمائة، أميرهم شريح بن هانئ ووصل من قبل معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة كذلك، أميرهم شرحبيل بن السمط، فلما تدانى القوم من الموضع الذي كان الاجتماع فيه - قال ابن عباس لأبي موسى: إن علياً لم يرض بك حكماً لفضل عندك والمقدمون عليك كثيرون، وإنما الناس أبوا غيرك، وإني أظن لشر يراد بهم، وقد ضم داهية العرب معك، فمهما نسيت فلا تنس أن علياً بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وليست فيه خصلة تباعده عن الخلافة، وليس في معاوية خصلة تقربه من الخلافة.
وكان معاوية قد وصى عمراً، فقال: يا أبا عبد الله إن أهل العراق قد أكرهوا علياً على أبي موسى، وإن أهل الشام راضون بك، وقد ضم إليك رجل طويل اللسان، قصير الرأي، فأجد الحز، وطبق المفصل، ولا تلقه برأيك كله.
فلما اجتمعا قال عمرو لأبي موسى: تكلم، ولا تقل إلا خيراً، فقال أبو موسى: بل تكلم أنت، فقال عمرو: ما كنت لأفعل، ولا أقدم نفسي عليك، ولك حقوق كلها واجبة لسنك وصحبتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت حقيق، فتكلم أبو موسى فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر الحدث الذي حل بالإسلام، ثم قال: يا عمرو، هلم إلى أمر يجمع الله به الألفة، ويلم الشعث وذات البين، فجزاه عمرو خيراً، ثم قال عمرو: إن للكلام أولاًَ وآخراً، ومتى تنازعنا الكلام خطباً لم يبلغ آخره حتى ينسى أوله، فاجعل ما كان من كلام يتصادق عليه في كتاب يصير إليه أمرنا.
قال أبو موسى: فاكتب، فدعا عمرو بصحيفة وغلام له كاتب فتقدم إليه أن يبدأ به أولا دون أبي موسى؛ لما أراد من المكر، ثم قال له بحضرة الجماعة: اكتب فإنك شاهد علينا، ولا تكتب شيئاً يأمرك به أحدنا حتى تستأمر فيه الآخر، فإذا أمرك فاكتب، وإذا نهاك عنه فانته حتى يجتمع رأينا.(1/499)
اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تقاضى عليه فلان وفلان، فكتب، وبدأ بعمرو، فقال له عمرو: لا أم لك تقدمني قبله كأنك جاهل حقه؟ فبدأ باسم أبي موسى عبد الله بن قيس، وكتب: تقاضيَا على أنهما يشهدان أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى... الآية، ثم قال عمرو: نشهد أن أبا بكر خليفة رسول الله عمل بكتاب الله وسنة رسوله حتى قبضه الله إليه، وقد أدى الحق الذي عليه. قال أبو موسى: اكتب، ثم ذكر في عمر ما ذكر في أبي بكر، ثم قال: اكتب: وإن عثمان ولي هذا الأمر باجتماع المسلمين، وشورى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، وإنه كان مؤمناً، فقال أبو موسى: ليس هذا مما قعدنا له، فقال عمرو: والله لا بد أن يكون مؤمناً أو كافراً، فقال أبو موسى: مؤمناً، فقال عمرو فمره يكتب، فقال أبو موسى للكاتب: اكتب، فكتب، فقال عمرو: ظالماً قتل أو مظلوماً. فقال أبو موسى: بل قتل مظلوماً، قال عمرو أو ليس قد جعل الله لولي المظلوم سلطاناً يطلب بدمه. قال أبو موسى: بلى، قال عمرو: فعلى ذلك قاتله يقتل أينما وجد، قال أبو موسى: نعم، قال عمرو: فهل تعلم لعثمان ولياً أقرب من معاوية؟ قال: لا، قال عمرو: أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيث وجد حتى يقتله أو يعجزه. قال أبو موسى: بلى، قال عمرو: قل للكاتب اكتب، فأمره أبو موسى؛ فكتب، فقال عمرو فإنا نقيم الحجة البينة أن علياً قتل عثمان، قال أبو موسى: هذا أمر قد حدث في الإسلام، وإنما اجتمعنا لغيره فهلم إلى أمر يصلح الله به أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عمرو وما هو؟ قال أبو موسى: قد علمت أن أهل العراق لا يحبون معاوية، وأهل الشام لا يحبون علياً، فهلم نخلَعهما، ويستخلف عبد الله ابن عمر - وكان زوج بنته - فقال عمرو: ويفعل ذلك عبد الله، قال أبو موسى: نعم إذا حمله الناس عليه، فعزم عمرو إلى كل ما مال إليه أبو موسى، فصوبه، فقال عمرو: هل لك في سعد، وعدد جماعة؟ فأبى أبو موسى إلا عبد الله بن عمر، فجعل عمرو الصحيفة بعد أن ختماها تحت قدمه، وقال أرأيت إن رضي أهل العراق بعبد الله بن عمر، وأباه أهل الشام أنقاتلهم. قال: لا، فإن رضي أهل الشام به وأباه أهل العراق أنقاتل أهل العراق؟ قال: لا، قال عمرو: وأما إذا رأيت الصلاح في هذا الأمر، والخير للمسلمين، فقم واخطب الناس، واخلع صاحبينا جميعاً، وتكلم باسم هذا الرجل الذي يستخلف، فقال أبو موسى: بل أنت قم، فاخطب، فأنت أحق بذلك، فقال عمرو: ما أحب أن أتقدمك، وما قولي وقولك للناس إلا قول واحد، فقم راشداً، فقام أبو موسى: فحمد الله، وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس، إنا نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا في الأمن والصلاح ولم الشعث وحقن الدماء وجمع الألفة، خلعنا علياً ومعاوية، وقد خلعت علياً كما خلعت عمامتي هذه، ثم أهوى إلى عمامته، فحولها عن رأسه، واستخلفنا رجلاَ صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وصحب أبوه النبي فبرز في سابقته، وهو عبد الله بن عمر، فأطراه فرغب الناس فيه، ثم نزل، فقام عمرو: فحمد الله، وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس، إن أبا موسى قد خلع علياً، وأخرجه من الأمر الذي يطلب، وهو أعلم به، ألا وإني قد خلعت علياً معه، وأثبت معاوية علي وعليكم، وإن أبا موسى قد كتب في الصحيفة: أن عثمان قتل مظلوماً شهيداً، وأن لوليه سلطاناً يطلب بدمه، وله طاعتنا، وبيعتنا على الطلبا بدم عثمان، فقال أبو موسى: كذب عمرو لم استخلف معاوية، ولكنا خلعناه وعلياً، فقال عمرو: بل كذب أبو موسى قد خلع علياً، ولم يخلع معاوية.
قلت: ورأيت وجهاً آخر في كيفية ذلك ذكره المطرزي شارح المقامات في شرحها، فقال إن عمرو بن العاص قال لأبي موسى بعد أن أظهر له عمرو الموافقة على تولية عبد الله بن عمر، وصوب رأيه في ذلك: قم فاخلع علياً، ثم انزل، فإذا نزلت، قمت أنا فخلعت صاحبي معاوية، وأقمت عبد الله بن عمر كما أشرت، فإن تك وثبة من الشيعة قوبلت بها دونك، فلما قام عمرو بعد أبي موسى فعل ما فعل، ثم نزل قائلا: إن الله - تعالى - يقول: " وَمَن قُتِلَ مَظلُومُاً فَقد جَعلنا لِوليهِ سُلطانَاً فَلا يسرِف في القَتل إنهُ كاَنَ مَنصُوراً " " الإسراء: 33 " .(1/500)
ووجدت في مروج الذهب وجهاً آَخر في ذلك هو: أنهما لما اتفقا على خلع علي ومعاويةّ، اتفقا على أن يجعلا الأمر شورى بعد ذلك، يختار الناس لهم رجلا صالحاً يصلح، ففعل عمرو ما فعل.
وفي رواية أن أبا موسى قال له حينئذ: لعنك الله، غدرت، وفجرت، إنما مثلك كمثل الكلب، ثم ركله فألقاه لجنبه على الأرض، وارتحل أبو موسى، ولحق بمكة حياء، ولم يعد إلى الكوفة، وقد كان بها أهله وولده، وآلى ألا ينظر إلى وجه علي أبداً ما بقي، ومضى عمرو وسعد بن أبي وقاص إلى بيت المقدس.
قال المسعودي: قال ابن عباس يخاطب أبا موسى: من الوافر:
أبا موسَى بُليتَ وكُنت شيخاً ... قريبَ العفو مخزونَ اللسانِ
وما عَمرو صفاتكَ يا بنَ قيسٍ ... فيا لله مِنْ شيخِ يماني
فأمسيت العشيةَ ذا اعتذارِ ... ضعيفَ الرأيِ منكوب الجنان
فعض الكف من ندمٍ وماذا ... يَرُد عليكَ عضكَ للبنانِ
وفي مثل هذا المعنى يقول خزيمة بن هالك الأسدي: من البسيط:
لو كان للقومِ رأي يُعصَمُونَ بِهِ ... عِندَ الخطوبِ رمَوكُم بابن عباسِ
لكنْ رموكمْ بِوَغد مِن ذوي يَمَنٍ ... لم يدر ما ضَربُ أخمَاسٍ بأَسدَاسِ
ولما انصرف الفريقان من حيث كانا إلى حيث جاء دخل عمرو بن العاص ستراً له، ولم يأت معاوية، فأرسل معاوية يدعوه، فقال عمرو: إنما كنت آتيك إذ كانت لي إليك حاجة، فأما إذا كانت الحاجة إلينا، فأنت أحق أن تأتينا، فعلم معاوية ما قد دفع إليه، فخمر الرأي، وأعمل الحيلة، فأمر بطعام كثير يصنع، ثم دعا الخاصة ومواليه، فقال لهم: إني سأغدو إلى هذا، فإذا دعوت بالطعام قدموا مواليه، وأهله، فليجلسوا قبلكم، فإذا شبع الرجل منهم، فقام، فليجلس رجل منكم مكانه، فإذا خرجوا، ولم يبق في البيت غيركم - فأغلقوا الباب، واحذروا أن يدخل منهم أحد إلا أن آمركم.
وغدَا عليه معاوية وعمرو جالس على فرشه، فلم يقم له عنه ولا دعاه إليه، فجاء معاوية، فجلس على الأرض، واتكأ على ناحية الفراش، وذلك أن عمراً كان عند نفسه أنه ملك الأمر وإليه التصريف حيث يشاء بندب الخلافة من يرى فخرج بينهما كلام كثير، فكان فيما قاله عمرو لمعاوية: هذا الكتاب - وأشار إلى صحيفة التحاكم بينه وبين أبي موسى السابق ذكرها - عليه خاتمي وخاتمه، قد أقر بأن عثمان قتل مظلوماً، وأخرج علياً من هذا الأمر، وعرض علي رجالا هم لهذا الأمر أهل، وبهذا، الأمر إلي استخلف عليه من شئت، فقد أعطاني أهل الشام عهدهم ومواثيقهم على الرضا بمن أختاره، فجاء معاوية، وضاحكه، وداعبه يحوله عما كان فيه، ثم قال: يا أبا عبد اللّه هل من غداء؟ فقال عمرو: أما شيء يسع ما ترى فلا واللّه، فقال معاوية: هلم غدائي، فجئ بالطعام المعد فوضع، فقال معاوية: يا أبا عبد اللّه ادع مواليك وأهلك، فدعاهم، فقال عمرو: فادع أصحابك ومواليك، قال: نعم يأكل أصحابك أولا، ثم يجلس هؤلاء بعد، فجعلوا كلما قام رجل من أصحاب عمرو جلس موضعه رجل من أصحاب معاوية، حتى لم يبق من أصحاب عمرو واحد، فقام الذي وكله بالباب فأغلقه، فقال له عمرو: فعلتها؟! فقال: نعم، والله بيني وبينك أمران أيهما شئت فعلت، قال: ما هما؟ قال: البيعة، أو قتلك ليس والله غيرهما، قال عمرو: فأذن لغلامي وردان؛ أستشيره، وأنظر رأيه. قال معاوية: لا تراه، والله ولا يراك إلا قتيلا أو على ما قلت لك. قال عمرو: فأوف إذن بطعمة مصر. قال: هي لك ما عشت.
فاستوثق كل منهما من صاحبه، وأحضر معاوية الخواص من أهل الشام، ومنع أن يدخل معهم من حاشية عمرو أحد، فقال لهم عمرو قد رأيت أن أبايع معاوية فلم أر أحداً أقوى على هذا الأمر منه، فبايعه أهل الشام، وانصرف معاوية إلى منزله خليفة.(2/1)
قال العلامة البيهقي في كتاب المحاسن: عن عمرو بن الأصم قال؟: حدثنا رجل من بني هاشم، فقال أصلح الله الأمير، ألا أحدثك بفضائل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب. قال نعم. قال: حدثني أبي، قال: حضرت مجلس محمد ابن عائشة البصرة إذ قام إليه رجل من وسط الحلقة، فقال، يا أبا عبد الرحمن، من أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير - وعد العشرة ما عدا علياً - فقلت: فأين علي؟ فقال: ما هذا؟ تسألني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن نفسه، قال: بل عن أصحابه، فقال إن الله تعالى يقول: " فَقُل تعَالَوا نَدعُ أَبناءنا وَأبناءكمُ ونساءنا ونساءكم وَأنفُسَنَا وَأَنفُسَكم " " آل عمران: 61 " ، كيف يكون أصحابه مثل نفسه.(2/2)
وعن عطاء، كان لعلي - رضي الله تعالى عنه - موقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، إذا خرج أخذ بيده، فلا يخطو خطوة إلا قال: اللهم هذا علي ابتغى مرضاتك؛ فارض عنه، حتى يصعد المنبر. وروى أبو عثمان قاضي الري عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، قال: كان عبد الله بن عباس يحدث على شفير زمزم ونحن عنده، فلما قضى حديثه قام إليه رجل فقال: يا بن عباس، إني رجل من أهل الشام، رأيتهم يتبرءون من علي ويلعنونه؛ فقال ابن عباس: لعنهم الله تعالى في الدنيا والآخرة، وأعد لهم عذاباً مهيناً، ألبعد قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو أنه لم يكن أول ذكران العالمين إيماناً بالله ورسوله، وأول من صلى وركع وعمل بأعمال البر؟. قال الشامي: إنهم والله ما ينكرون من قرابته وسابقيته، غير أنهم يزعمون أنه قتل الناس. فقال ابن عباس: ثكلتهم أمهاتهم، إن علياً أعرف بالله ورسوله وبحكمهما منهم، فلم يقتل إلا من استحق القتل. فقال: يا بن عباس، إن قومي جمعوا لي نفقة، وأنا رسولهم إليك وأمينهم، لا يسعك أن تردني بغير حاجتي، فإن القوم هالكون في حقه؛ ففرج عنهم فرج الله عنك. فقال ابن عباس: يا أخا الشام، إن مثل علي بن أبي طالب في هذه الأمة في عمله وفضله كمثل العبد الصالح، الذي لقيه موسى - عليه السلام - حين انتهى إلى ساحل البحر فقال: " هَل أَتبعك على أن تُعلِمَنِ مِمَا علمتَ رُشداً " " الكهف: 66 " قال العالم: " إنَك لَن تستَطِيعَ معي صبراً وكيف تصبِر " " الكهف: 67 - 68 " ، الآية. فلما خرق السفينة لم يصبر موسى، وترك ما ضمن له من ترك السؤال في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، وكان العالم أعلم بما يأتي من موسى، وكبر على موسى الحق وعظم؛ إذ لم يكن يعرفه وهو نبي مرسل، فكيف أنت يا أخا أهل الشام وأصحابك، إن علياً لم يقتل إلا من كان يستحق القتل، وإني أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند أم سلمة زوجته إذ أقبل علي يريد الدخول، فنقر نقراً خفيفاً، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم نقره فقال: يا أم سلمة، قومي فافتحي الباب، فقالت: يا رسول الله، من ذا الذي يبلغ خطره أن أستقبله بمحاسني، فقال: يا أم سلمة، إن طاعتي طاعة الله عز وجل، قومي فافتحي؟ فإن بالباب رجلا ليس بالخرق ولا بالنزق ولا بالعجل في أمره، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يا أم سلمة، إن تفتحي الباب له فلن يدخل حتى يخفي عليه الوطء. فلم يدخل حتى غابت عنه، وخفي عليه الوطء، فلما لم يحس لها حركة دفع الباب ودخل، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، وقال: يا أم سلمة، هل تعرفين هذا؟ قالت: نعم، هذا علي بن أبي طالب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، هذا علي، سيط لحمه بلحمي، ودمه بدمي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى؛ إلا أنه لا نبي بعدي، يا أم سلمة، هذا علي سيد المؤمنين، وأمير المسلمين، وموضع سري وعلمي، وبابي الذي الرأي إليه، وهو الوصي على أهل بيتي والأخيار من أمتي، وهو أخي في الدنيا والآخرة، وهو معي في السناء الأعلى، اشهدي يا أم سلمة أن علياً يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، قال ابن عباس: وقتلهم للّه رضا، وللأمة صلاح، ولأهل الضلالة سخط. فقال الشامي يا بن عباس، من الناكثون؟ قال: الذين بايعوا علياً بالمدينة ثم نكثوا؛ فقاتلهم بالبصرة، وهم أصحاب الجمل، وأما القاسطون معاوية وأصحابه، والمارقون أهل النهروان ومن معهم. فقال الشامي: يا بن عباس، ملأت صدري نوراً وحكمة، وفرجت عني فرج اللّه تعالى عنك، أشهد أن علياً مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
وكتب معاوية إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أما بعد، فلو علمنا أن الحرب تبلغ منا ومنك ما بلغت لم نحثها بعضاً على بعض، وإنا - وإن كنا قد غلبنا على عقولنا - بقي لنا منها ما نرم به ما مضى ونصلح ما بقي، وقد كنت سألتك الشام على أنه لا يلزمني لك طاعة، وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو، ولا تخاف من القتل إلا ما أخاف، وقد - واللّه - بردت الأحقاد، وذهبت الأدغال، ونحن بنو عبد مناف، وليس لبعضها على بعض فضل يستذل به العبد، ويسترق به حر، والسلام.(2/3)
فكتب إليه علي بن أبي طالب: من علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد، فقد جاءني كتابك؛ تذكر فيه أنك لو علمت أن الحرب تبلغ منا ومنك بلغت لم نحثها بعضاً على بعض، فإنا وإياك نلتمس منها غاية لم ندركها بعد. وأما طلبك مني الشام؛ فلم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس، وأما استواؤنا في الخوف والرجاء؛ فلست أمضي على الشك مني على اليقين، وليس أهل الشام على الدنيا بأحرص من أهل العراق على الآخرة. وأما قولك إنا بنو عبد مناف فليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا الطليق كالمهاجر، ولا المبطل كالمحق، وفي أبينا فضل النبوة التي قتلنا بها العزيز، وبعنا بها الحر، والسلام.
ثم كتب معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة عامل علي على مصر: أما بعد، فإنك يهودي ابن يهودي، وإن ظفر أحب الفريقين إليك عزلك واستبدل بك، وإن ظفر أبغضهما إليك نكل بك وقتلك، وكان أبوك أوتر قوسه ورمى غرضه، فأكثر الحر وأخطأ المفصل.
قلت: هذا من معاوية يشير به إلى منع أبيه سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر، ثم عن بيعة عمر، وطمعه أن يكون هو الخليفة، وجمع قومه الخزرج في ذلك حتى اجتمعوا إلى سقيفة بني ساعدة كما تقدم ذكر ذلك عند ذكر خلافة أبي بكر الصديق، فخذله قومه، وأدركه يومه؛ فمات بحوران ضريراً.
فكتب إليه قيس: أما أنت فوثني ابن وثني، دخلت في الإسلام كرهاً وخرجت منه طوعاً، لم يتقدم إيمانك ولم يحدث نفاقك، وكان أبي أوتر قوسه ورمى غرضه، فشعب به من لم يبلغ عقبه ولا نشق غباره، ونحن أنصار الدين الذي منه خرجت، وأعداء الدين الذي فيه دخلت. ولما صرف علي - رضي الله عنه - قيس بن سعد عن مصر، وولي مكانه محمد بن أبي بكر كتب محمد إلى معاوية: من محمد بن أبي بكر، إلى الغاوي معاوية بن صخر، أما بعد، فإن الله بعظمته وسلطانه خلق خلقه بلا عبث منه، ولا ضعف في قوة، ولا حاجة به إلى خلقهم، ولكنه خلقهم عبيداً، وجعل منهم غوياً ورشيداً، وشقياً وسعيداً. اختار على علم واصطفى وانتخب منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فانتخبه بعلمه، واصطفاه لرسالته، وائتمنه على وحيه، وبعثه رسولاَ ودليلا؛ فكان أول من أجاب وأناب، وأذعن وصدق وأسلم - أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب، صدقه بالغيب المكتوم، وآثره على كل حميم، ووقاه بنفسه كل هول، وحارب حربه وسالم سلمه، فلم يبرح مبتذلاَ لنفسه ساعات الليل بالخوف والخشوع والخضوع، حتى برز شارقاً لا نظير له ممن اتبعه، ولا مقارب له في فعله، وقد رأيتك تنال منه وأنت أنت، وهو هو؛ أصدق الناس نية، وأفضلهم ذرية، وخير الناس زوجة، وأفضل الناس ابن عم أخوه الساري بنفسه يوم مؤتة - قلت: يريد به جعفرَاً الطيار - رضي الله عنهما - وعمه سيد الشهداء يوم أحد، أبوه الذاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن حوزته، وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم الغوائل، وتجتهدان في إطفاء نور الله، وتجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه الأموال، وتؤلبان عليه القبائل، على ذلك مات أبوك، وعليه خليفته والشهيد عليك من تدني، ولجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤساء النفاق، والشاهد لعلي أنصاره الذين ذكرهم بفضله، وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار، فهم معه كتائب وعصائب يرون الحق في اتباعه، والشقاء في خلافه، فكيف بك - لك الويل - تعدل نفسك بعلي؟ وهو وارث رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليه، وأبو ولده، وأولى الناس به اتباعاً، وأقربهم به عهدَاً؛ يخبره بسره ويطلعه على أمره، وأنت عدوه؛ فتمتع في دُنياك ما استطعت بباطلك، وليمددك ابن العاصي في غوايتك، فإن أجلك قد انقضى، وكبرك قد دهى، ثم تبين لك لمن تكون العاقبة العليا، واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي أمنت كيده، ويئست من روحه، فهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرة، وَالسلام على من اتبع الهدى.(2/4)
فكتب إليه معاوية: من معاوية بن أبي صخر، إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر، أما بعد، فقد أتاني كتابك، تذكر فيه ما الله أهله في عظمته وقدرة سلطانه، وما اصطفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع كلام كثير فيه لك تضعيف، ولأبيك فيه تعسيف، وذكرت فضل علي بن أبي طالب، وقدم سوابقه، وقرابته من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومواساته إياه في كل هول وخوف، فكان احتجاجك علي وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك، فأحمد رباً صرف هذا الفضل عنك وجعله في غيرك؛ فقد كنا وأبوك معاً نعرف فضل علي وحقه لازم لنا مبرز علينا، فلما اختار الله لنبيه ما عنده، وأتم له ما وعده، وأظهر دعوته، وأفلج حجته، وقبضه إليه - كان أبوك وفاروقه أول من انتزع حقه وخالفه عن أمره، على ذلك اتفقا واتسقا، ثم إنهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما، وتلكأ عليهما؛ فهما به الهموم وأرادا به العظيم، ثم إنه بايع لهما وسلم إليهما، فأقاما لا يشركانه في أمرهما، ولا يطلعانه على سرهما، حتى قبضهما اللّه تعالى، ثم قام ثالثهما عثمان فهدى هديهما وسار سيرتهما، فعبته أنت وصاحبك، حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي، فطلبتما له الغوائل، وأظهرتما عداوتكما، حتى بلغتما فيه مناكما؛ فخذ حذرك يا بن أبي بكر، وقس شبرك بفترك؛ فإنك تقصر أن توازي أو تساوي من يزن حلمه الجبال، ولا تلين على قسر قناته، ولولا فعل أبيك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ولسلمنا إليه، ولكنا رأينا أباك فعل به ذلك من قبلنا فأخذنا بمثله، فعب أباك بما بدا لك أَو دع، والسلام على من أناب. كذا ذكره المسعودي وهو من كبار الجماعة؛ كذا أورد هذه المكاتبة ومد بها باعه. فقبح اللّه من كان اختراعه.
ثم وجه معاوية عمرو بن العاص إلى مصر في أربعة آلاف، معه معاوية بن خديج، وأبو الأعور السلمي وفاء لعمرو بما وعده، وكان عليها محمد بن أبي بكر والياً من جهة علي فاقتتلا، فظفر عمرو بمحمد ووضع في جيفة حمار، وأحرق فيها. قيل: وضع حياً، وقيل: بعد قتله، فبلغ ذلك معاوية فسر، وبلغ علياً فحزن أشد حزن على محمد رحمه اللّه تعالى. ثم ولى على الأشتر مالك بن الحارث النخعي، وبعثه إليها في جيش مكان محمد بن أبي بكر، فمات بالطريق، ويقال: إن معاوية دس إلى دهقان أن يسمه فسمه في شربة عسل؛ فما استقر في جوفه حتى هلك؛ فأتى من كان معه على الدهقان ومن كان معه، وإنه لما بلغ معاوية الخبر قال: لله جنود منها العسل.
ذكر وفاته: قال ابن خلكان: سببها أنه اجتمع من بقي من الخوارج، فتذكروا أصحاب النهروان وترحموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم. وقال غيره: سببها أنه لما طال النزاع بين علي ومعاوية تعاقدوا على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فانتدب لذلك ثلاثة نفر عبد الرحمن بن ملجم المرادي، والبرك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكر التميمي - أيضاً - فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا لكم بعلي، وقال البرك: أنا لكم بمعاوية، وقال عمرو: أنا لكم بعمرو بن العاص. واتعدوا أن يكون القتل ليلة السابع عشر من رمضان، وكان اجتماعهم لهذا التعاقد بمكة، فسار عبد الرحمن إلى علي بالكوفة، وسار البرك بن عبد الله إلى معاوية بالشام، وسار عمرو بن بكر إلى عمرو بن العاص بمصر، فلما دخل ابن ملجم الكوفة عازماً على ذلك، وكان قد اشترى سيفاً بألف دينار، وسقاه السم حتى نفضه، وكان في خلال ذلك يأتي علياً فيستحمله فيحمله، وينشد علي - رضي الله تعالى عنه - إذا رآه: من الوافر:
أُريدُ حَيَاتَهُ ويُريدُ قَتلِي ... عذَيري من خَلِيلي من مُرَادِ
ثم يقول: هذا والله قاتلي، قيل: فما يمنعك منه؟ قال: إنه لم يقتلني بعد. وقيل له: إن ابن ملجم يسم سيفه، وقال: إنه سيقتلك قتلة تتحدث بها العرب؛ فبعث إليه وقال له: تسم سيفك؟ قال: لعدوي وعدوك، فخلي عنه، وقال: ما قتلني بعد.(2/5)
وعن عبد الله بن مطيع، قال: خطبنا علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لتخضبن هذه من هذه. فقال الناس: أعلمناه لَنَتِرَنهُ ولَنَترن عشيرته، قال: أنشدكم بالله أن يقتل بي غير قاتلي. وقعت عين ابن ملجم على قطام امرأة رائعة جميلة كانت ترى رأي الخوارج، كان على قتل أباها وأخاها بالنهروان، فخطبها ابن ملجم، فقالت له: آليت ألا أتزوج إلا على مهر لا أريد سواه، ثلاثة آلاف وعبد وقينة وقتل علي بن أبي طالب. فقال ابن ملجم: والله لقد قصدت قتل علي بن أبي طالب، وما أقدمني هذا المصير غيره، ولكن لما رأيتك آثرت تزويجك. قالت: ليس إلا بالذي قلت لك. قال لها: يغنيني أو يغنيك قتل علي، وأنا أعلم أني إذا قتلته لم أفلت. قالت: إن قتلته ونجوت فهو الذي أردت، ويهنيك العيش مني، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها. فقال لها: لك ما اشترطت. فقالت: سألتمس من يشد ظهرك؛ فبعثت إليه بابن عم لها يدعى: وردان بن مخالد؛ فأجابها، ولقي ابن ملجم شبيب بن بحر الأشجعي، فقال: يا شبيب هل لك في شرف الدنيا والآخرة. قال: وما هو؟ قال: تساعدني على قتل علي بن أبي طالب. قال: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئاً إمراً، كيف تقدمُ على ذلك؟ قال: إنه رجل لا حرس له، ويخرج إلى المسجد منفردَاً دون من يحرسه، ننتظره حين يخرج إلى المسجد فنكمن له في المسجد، فإذا خرج إلى الصلاة قتلناه، فإن نجونا نجونا، وإن قتلنا سعدنا بالذكر في الدنيا والجنة في الآخرةَ. فقال له: ويلك، إن علياً ذو سابقة في الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، والله ما ينشرح قلبي لقتله. قال: ويلك!، إنه حكم الرجال في دين اللّه، وقتل إخواننا الصالحين فنقتله ببعض من قتل، فلا تَشكن في دينك. فأجابه وأْقبلا حتى دخلا على قطام، وهي معتكفة في المسجد الأعظم في قبة ضربتها لنفسها، فدعت لهم، وأخذوا أسيافهم، وجلسوا أمام السدة التي يخرج منها علي، وكان - رضي اللّه تعالى عنه - في شهر رمضان الذي قتل فيه يفطر ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند عبد اللّه بن جعفر، ولا يزيد على ثلاث لقم، ويقول: أحب أن ألقى اللّه وأنا خميص.
ولما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها أكثر الخروج والنظر إلى السماء، وجعل يقول: والله ما كذبت ولا كذبت، وإنها الليلة التي وعدت. فلما خرج إلى صحن الدار قاصداً الخروج إلى المسجد، إذا أوز يَصِحن في وجهه فطردوهن، فقال: دعوهن، فإنهن نوائح، فخرج إلى الصلاة من باب السدة، فبدره شبيب فضربه فأخطأه، وضربه ابن ملجم على موضع الصلع من رأسه، وقال: الحكم للّه يا علي لا لك ولا لأصحابك. فقال علي: فزت ورب الكعبة، لا يفوتكم الكلب، فشد الناس عليه من كل جانب فحمل ابن ملجم عليهم بسيفه؛ فأفرجوا له وتلقاه المغيرة بن نوفل بقطيفة فرمى بها عليه، ثم احتمله فرمى به الأرض، وجلس على صدره، ثم أوثقوه. وأما شبيب فهرب خارجاً من باب كندة.
ولما أخذ عبد الرحمن قال علي: احبسوه، فإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به، وإن لم أمت فالأمر إلي في العفو والقصاص. أخرجه أبو عمر، وكذا في الرياض.
قال ابن الجوزي: بقي علي يوم الجمعة ويوم السبت، وتوفي ليلة الأحد، وقيل: توفي من يوم الجمعة، وكان الفتك به ليلة سبع عشرة في رمضان كوقعة بدر، وقيل: صبيح ليلة ثالث عشرة، وقيل: لإحدى عشرة ليلة خلت، وقيل: بقيت، وقيل: لثمان عشرة ليلة خلت منه، ذكر هذا كله ابن عبد البر في الاستيعاب، وفي ذلك يقول الفرزدق: من الطويل:
فلم أر مَهراً سَاقه ذُو سماحةٍ ... كَمَهرِ قطام بين عرب وأَعجُمِ
ثلاثةُ آلافٍ وعَبد وقينة ... وضربُ علي بالحسامِ المصمم
فلا مَهرٌ أغلَى مِن علي وإن علا ... ولا فَتك إلا دونَ فتكِ ابنِ ملجمِ
وغسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، ومحمد ابن الحنفية يصب الماء.
وروى هارون بن سعد أنه كان عند علي مسك أوصى أن يحنط به، وقال: إنه من حنوط رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخرجه البغوي. وصلى عليه الحسن وكبر عليه أربعاً، وقيل: سبعاً، وقيل: تسعاً.
وقيل: إن علياً - رضي الله تعالى عنه - أوصى أن يخفى قبره؛ لعلمه أن الأمر يصير إلى بني أمية، فلم يأمن أن يمثلوا بقبره.(2/6)
وقد اختلف في قبره، فقيل: في زاوية الجامع بالكوفة، وقيل: بالرحبة من الكوفة، وقيل: بقصر الإمارة منها، وقيل: بنجف الحيرة في المشهد الذي يزار به اليوم، وأصح ما قيل: إنه مدفون بقصر الإمارة بالكوفة.
قال العلامة السيوطي في تاريخه: قال شريك: نقله ابنُهُ الحسن يريد به المدينة، فكان في مسيرهم ما أخرج ابن عساكر عن ابن عبد العزيز قال: لما قتل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حملوه ليدفنوه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما هم في مسيرهم ليلا إذ ند الجمل الذي هو عليه؛ فلم يدروا أين ذهب، ولم يقدروا عليه، فلذلك يقول أهل العراق: هو في السحاب وقيل: إن البعير الذي هو عليه وقع في بلاد طيئ، فأخذوه ودفنوه. انتهى ما قاله السيوطي.
وقال العلامة الدميري في حياة الحيوان الكبرى: التحقيق أن علياً - رضي الله تعالى عنه - لا يعرف قبره على الحقيقة. قلت: ذكر ابن خلكان أن الرشيد خرج يوماً إلى الصيد فانتهى به إلى موضع قبر على المشهور الآن بالمشهد، فأرسل فُهوداً على صيد، فتبعت الصيد إلى مكان القبر، ووقفت الفهود عنده ولم تتقدم إلى الصيد، فعجب هارون الرشيد من ذلك؛ فجاء رجل من أهل الحيرة فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت إن دللتك على قبر ابن عمك علي بن أبي طالب، ألي عندك ملزمة؟ قال: نعم. قال: هذا قبره. فقال له الرشيد: من أين علمته؟ قال: كنت أجيء مع أبي فيزوره، وأخبرني أبي أنه كان يجئ مع جعفر الصادق - رضي الله عنه - فيزوره، وأن جعفراً كان يجئ مع أبيه محمد الباقر فيزورهُ، وكان الباقر يجيء مع أبيه زين العابدين علي بن الحسين فيزوره، وكان الحسين أعلمهم بمكان القبر، فأمر الرشيد بأن يحجر على الموضع، وكان أول الناس وضع فيه، ثم تزايدت الأبنية فيه في أيام ملوك السامانِية وأيام بني حمدان، وتفاقمت بزيادة في أيام ملوك الديلم بني بويه، قال: وعضد الدولة منهم هو الذي أظهره ظهوراً عظيماً، وعمر المشهد عمارة حسنة، وأوصى أن يُدفن هناك فدفن.
قال الحافظ الذهبي: سئل علي وهو على منبر الكوفة عن قوله تعالى: " رِجال صدقُوا أُولَئكَ عاهدُوا اَللَهَ عليه فَمِنهُم مَن قضى نَحبَهُ ومِنهُم مَن يَنتَظِر " " الأحزاب: 23 " ، فقال: اللهم اغفر، هذه الآية نزلت في وفي عمي حمزة، وفي ابن عمي عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فأما عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم بدر، وأما حمزة فقضى نحبه شهيداً يوم أحد، وأما أنا فأنتظر أشقاها يخضب هذه من هذا - وأشار إلى لحيته ورأسه - عهد عهده إلي حبيبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.
ولما أصيب دعا الحسن والحسين فقال لهما: أوصيكم بتقوى الله، ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تبكيا على شيء زوى منها عنكما، وقولا الحق، وارحما اليتيم، وأعينا الضعيف، واصنعا للآخرة، وكونا للظالمين خصمَاً وللمظلوم أنصاراً، وأعطوا لله، ولا تأخذكم في الله لومة لائم. ثم نظر إلى ولده محمد ابن الحنفية فقال له: هل حفظت ما أوصيت به أخويك؟ قال: نعم. فقال له: أوصيك بمثله. ثم قال: أوصيك بتوقير أخويك؛ لعظم حقهما عليك، ولا تؤثر أمراً دونهما. ثم قال لهما: سيفكما وابن أبيكما أوصيكما به؛ فإنه أخوكما، وقد علمتما أن أباكما يحبه. ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله إلى أن قبض كرم اللّه وجهه.
وعن هشيم مولى الفضل؛ لما مات علي قام الحسين ومحمد ابن الحنفية إلى ابن ملجم فقطعاه عضواً عضوَاً وسملا عينيه بمسمار حديد حمى ولم يتأوه، فلما جودل قطع لسانه فصاح، فقيل له: فقال: والله ما صياحي جزعاً من الموت، لكن خشيت أن تمر بي ساعة من الدنيا لا أذكر الله فيها ولما أرادوا فعل ذلك نهاهما الحسن؛ عملا بوصية والده فلم يمتثلا لشدة حزنهما، ثم جعل في قوصرة، وأوقد النار، وأحرقت جيفته أم الهيثم بنت الأسود النخعية، وقيل: بل أمر الحسن بضرب عنقه فضربت. من أغرب ما سمعته قول عمران بن حطان بن ظبيان السدوسي البصري أحد رءوس الخوارج يمدح ابن ملجم قاتل الإمام علي كرم اللّه وجهه وسود وجهيهما: من البسيِ:
يا ضربَة مِن تقي ما أرادَ بها ... إلا لِيَبلُغَ مِن ذي العرشِ رِضوَانَا
إني لأَذْكُرُهُ يوماً فأحسبُهُ ... أوفى البريةِ عند الله ميزانَا
أكرم بقومِ بطونُ الطيرِ قبرهُمُ ... لم يخلطُوا دينَهُم بغياً وعدوانَا(2/7)
قال الذهبي: لما بلغ شعره هذا عبد الملك بن مروان أدركته الحمية فنذر دمه فوضع عليه العيون فلم تحمله أرض.
وكان سن علي - رضي اللّه تعالى عنه - خمسَاً وستين سنة، ذكر ذلك أبو بكر أحمد بن الدارع في كتاب مواليد أهل البيت، ولم يذكره غيره، وقيل: سبع وخمسون، وقيِل: ثمان وخمسون، وقيل: ثلاث وستون، وعليه الأكثرون.
صحب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة، وعمره إذ ذاك اثنتا عشرة سنة، ثم هاجر فكان معه بالمدينة عشر سنين، ثم عاش من بعده ثلاثين سنة.
ومما رثي به علي - رضي الله تعالى عنه - قول أبي الأسود الدؤلي: من الوافر:
ألا يا عَيْنُ ويحَكِ أَسْعدينَا ... ألا تَبكِينَ أمِيرَ المؤمنينا
تبكي أم كلثوم عَليهِ ... بعبرتها وقَدْ رأتِ اليَقينَا
ألا قُل للخوارجِ حيثُ كانوا ... فلا قَرت عيونُ الحاسدينا
أفي شَهرِ الصيامِ فَجَعتُمُونَا ... بخيرِ الناسِ طُراً أجمعينَا
قتلتُم خَيرَ مَنْ ركبَ المطايا ... وذَللها ومَنْ رَكِبَ السفينَا
ومَن لَبِسَ النعالَ ومَنْ حذاها ... ومَنْ قرأ المثانِي والمبينَا
وكُل مناقبِ الخيراتِ فيه ... وحب رسولِ رَب العالمينا
لقد علمتْ قريش حَيثُ كانَتْ ... بأنكَ خيرُهُم حسباً ودِينا
إذا استقبلْتَ وجَهَ أبي حُسَيْنٍ ... رأيتَ البدرَ فوقَ الناظِرِينا
وكنا قبل مقتلِهِ بخَيرٍ ... نرى مَوْلَى رسولِ اللّه فينا
يُقيم الحق لا يرتَابُ فيه ... ويعدلُ في العدا والأقربينا
وليس بكاتِمٍ علمَاً لدَيْهِ ... ولم يخلَقْ من المتسخرِينا
كأنَّ الناسَ إذ فقدوا علياً ... نعام حارَ في بَلَدِ سبينا
فلا تشمت معاوية بْنَ حربٍ ... فإن بقيةَ الخلفاءِ فينا
وقال بكر بن حماد يرثي علياً كرم الله وجهه، ويرد على عدو اللّه عمران بن حطان قوله في عدو اللّه ابن مُلجم: من البسيط:
قلْ لابنِ ملجمَ والأقدارُ غالبةْ ... هدمْتَ وَيْلَكَ للإسلامِ أركانا
قتلْتَ أفضَلَ مَنْ يمشي على قَدَمٍ ... وأولَ الناسِ إسلاماً وإيمانا
وأعلَمَ الناسِ بالإسْلامِ ثُم بما ... سَن الرسولُ لنا شرعاً وتبيَانَا
صِهْرَ النبي ومولاه وناصِرَهُ ... أضحَتْ مناقبه نوراً وبرهانا
وكان منه عَلَى رغْمِ الحسودِ له ... مكانَ هارونَ من مُوسى بن عِمْرَانا
وكَانَ في الحربِ سيفاً ماضياً ذَكَرا ... ليثاً إِذَا لَقِيَ الأقرانُ أقرانا
ذكَرْتُ قاتلَهُ والدمْعُ منحدر ... فقلتُ سبحانَ رب الناسِ سبحانَا
إني لأحسبُهُ ما كانَ من بَشَرٍ ... يخشى المعادَ ولكن كان شَيطانا
أشقَى مراد إذا عدت قبائلها ... وأخسَر الناسِ عِندَ الله ميزانا
كعاقِرِ الناقةِ الأُولى التِي جلَبَت ... على ثمودٍ بأرضِ الحجرِ خُسرَانا
قد كانَ يخبرُهُم أن سوفَ يخضبها ... قَبل المنيةِ أزمانَا فأزمانا
فلا عفا اللُه عنه ما تحملَهُ ... ولا سَقَى قَبرَ عمرانَ بنِ حِطانا
لقولِهِ في شقي ظل مجتَرماً ... وقال ما قاله ظُلمَاً وعُدوانا:
يا ضربةَ من تَقِي ما أراد بها ... إلا ليبلُغَ مِن ذي العرشِ رِضوانا
بل ضربة مِن غوي أورثَتهُ لظى ... فسوفَ يلقى بِها الرحمَنَ غَضبَانا
كأنه لم يرد قصداً بضربتِهِ ... إلا ليَصلي عذَابَ الخُلدِ نيرانا
وقال الصفي الحلي يمدح علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه: من الخفيف:
جمِعَت في صفاتِكَ الأضدادُ ... فلهذا عَزت لكَ الأندادُ
زاهِدٌ حاكم عليم شجاع ... ناسك فاتك فقير جَوَاد
هِمَم ما جُمِعنَ في بَشَرٍ قَط ... طُ ولا حَازَ مثلَهُن العبادُ(2/8)
خلق يخجل النسيمَ مِن اللط ... فِ وبأس يذوب منه الجمادُ
فلِهذا تعمقَت فيكَ أقوا ... م بأقوالِهِم فزانُوا وزادُوا
وغلَت في صفاتٍ فضلِكَ يَاسِي ... ن وحَاميمُ هل أتى ثم صَادُ
ظهرَت منك للورَى مكرمَاتْ ... فأقرت بفضلِكَ الحسادُ
إن يكذب بها عداكَ فَقَد كَذ ... ذبَ مِن قبلُ قومُ لوطٍ وعادُ
أنتَ سِر النبي والصنو وابن ال ... عَم والطهرُ والأخُ المستجادُ
لو رأَى مثلَكَ النبيُ لآخا ... ه وإلا لأخطَأَ الإنتقادُ
وبكُم بأهَلَ النبي ولم يُل ... ف لكُم خامس سواه يُرَادُ
كنتَ نفسَاً له وعِرسُكَ وابنا ... كَ لدَيهِ النساءُ والأولادُ
جَل معناك أن يحيطَ به الشع ... رُ ويُحصِي صفاتِكَ التعدَادُ
إنما اللُه عنكُمُ أذهبَ الرج ... سَ فردت بغيظها الحسادُ
ذاكَ مَدْحُ الإلهِ فيكُم فإِن فُه ... تُ بَمدحٍ فذاك قول معادُ
وقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين من قصيدة فيه: من الطويل:
رأَوا نعمة للِه ليسَت عليهمُ ... عليكَ وفضلا بارعاً لا تنازعُهْ
فعَضوا من الغيظِ الطويلِ أكفهُم ... عليكَ ومَن لم يرضَ فالله خادعُه
مِن الدينِ والدنيا جميعاً لَكَ المنَى ... وفَوقَ المنَى أخلاقُهُ وطبائعُهْ
الآيات في شأن علي كرم اللّه وجهه
منها عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: " اَلذينَ يُنفِقون أموالَهُم بِاَلليلِ وَالنهارِ سراً وَعَلانية " " البقرة: 274 " ، قال: " نزلت في علي بن أبي طالب؛ كانت معه أربعة دراهم فأنفق بالليل درهماً وفي النهار درهمَاً، ودرهماً في السر ودرهماً في العلانية، فقال له - عليه الصلاة والسلام - : ما حملك على هذا؟ قال: أستوجب على الله ما وعدني، فقال - عليه الصلاة والسلام - : إن لك ذلك " وتابع ابن عباس مجاهد وابن المسيب ومقاتل.
ومنها قوله تعالى: " أَفَمَن كاَنَ مُؤمناً كمن كاَن فَاسِقَاً لا يستَون " " السجدة: 18 " ، نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عتبة " ، أخرجه الحافظ السلفي. وعن ابن عباس أن الوليد بن عتبة قال لعلي: أنا أحد منك سناناً وأبسط منك لساناً وأملأ كتيبة، فقال له علي: اسكت، إنما أنت فاسق تقول الكذب، فأنزل الله الآية تصديقاً لعلي. قال قتادة: لا والله ما استويا عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة. ثم أخبر عن الفريقين فقال: " أَمَا اَلذِينَ آمنَوُا... " " السجدة: 19 " ، أخرجه الواقدي.
ومنها قوله تعالى: " أفمنَ وَعدناه وَعداً حسنُاً فهَوَ لاقيهِ " " القصص: 61 " ، الآية قال مجاهد: نزلت في علي وحمزة وأبي جهل.
ومنها قوله تعالى: " إنَ اَلذَينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا اَلصالِحاتِ سيَجعَلُ لهمُ الرحمن وُداً " مريم: 96 " قال ابن الحنفية: لا يبقى مؤمن إلا وفي قلبه ود لعلي وأهل بيته. أخرجه الحافظ السلفي.
منها قوله تعالى: " هذانِ خصمَانِ اختَصَمُوا في رَبّهِم " " الحج: 19 " ، إلى قوله: " وهدوا إلى صراط الحميد " " الحج: 24 " ، وعن أبي ذر، كان يقسم: لنزلت هذه الآية في علي وحمزة وعبيدة بن الحارث بن المطلب حين بارزوا عتبة بن ربيعة وأخاه شيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر. أخرجه مسلم.
ومنها قوله تعالى: " أَفَمنَ شرح اللَهُ صَدرَه لِلإسلام " " الزمر: 22 " ، الآية، نزلت في علي وحمزة وأبي لهب وأولاده، فعلي وحمزة شرح الله صدرهما للإسلام، لهب وأولاده قست قلوبهم، ذكره أبو الفرج.
وعن علي - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه الآية " يا أيها الَذِينَ آمنَوُا إذا ناجيتم اَلرَسُولَ فَقَدِّمُوا بين يدي نجواكم صدقة " " المجادلة: 12 " ، قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ما ترى، أدينار؟ قلت: لا يطيقونه. قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد. فنزلت " أأشفقتم أن تقدموا " " المجادلة: 13 " ، فبي خفف اللّه عن هذه الأمة. أخرجه أبو حاتم.(2/9)
ومنها قوله تعالى: " ويطعِمُونَ اَلطعَامَ عَلىَ حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً " " الإنسان: 8 " قال ابن عباس: آجر على نفسه فسقى نجيلاً بشيء من شعير ليلة حتى أصبح، فلما أصبح قبض الشعير فطحن منه فجعل منه شيئاً ليأكلوه، يقال له: الحريرة؛ دقيق بلادهن، فلما تم نضاجه أتى مسكين يسأل، فقال: أطعموه إياه، ثم صنعوا الثلث الثاني، فلما تم نضاجه أتى يتيم فسأل، فقال: أطعموه إياه، ثم صنعوا الثلث الباقي فلما تم نضاجه أتى أسير من المشركين فسأل، فقال: أطعموه إياه، فأطعموه إياه؛ وطووا يومهم، فنزلت. وهذا قول الحسن وقتادة، أن الأسير كان من المشركين، قال أهل العلم: وهذا يدل على أن الثواب مرجو فيهم، وإن كانوا من غير أهل الملة، وهذا إذا كان ما أعطوه من غير الزكاة والكفارة كما هنا.
قلت: يحتمل أن يكون الجار والمجرور مطلقاً بالفعل على فعل مضاف، ليكون المعنى: أتى من ديار المشركين أسير الصادق بكونه مؤمناً. بل هذا الاحتمال أولى من اعتباره صفة للأسير المؤدي إلى تعيين كونه من المشركين، المحوج إلى التوجيه بقوله. قال أهل العلم: وهذا يدل.... إلى آخره.
وعن ابن عباس أنه قال: ليس في كتاب الله عز وجل: " يا أَيُهَا اَلذَين آمَنُوا " " البقرة: 104 " إلا وعلى أولها وآخرها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن، وما ذكر علياً إلا بخير. أخرجه أحمد في المناقب.
الأحاديث في شأن أبي الحسنين
كرم الله تعالى وجهه
الحديث الأول: عن أبي ليلى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الصديقون ثلاثة: حبيب النجار، مؤمن آل يس، الذي قال: " يَا قوم اَتبِعُون أَهدكُم سَبِيلَ اَلرشَادِ " " غافر: 38 " . وحرمل، مؤمن آل فرعون، الذي قال: " أَتَقتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبيِّ اللهُ " " غافر: 28 " . وعلي بن أبي طالب، وهو أفضلهم أخرجه أحمد في المناقب.
الحديث الثاني: عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب: " سلام عليك أبا الريحانتين؛ فعن قليل يذهب ركناك، والله خليفتي عليك " ، فلما قبض عليه الصلاة والسلام قال: هذا أحد الركنين الذي قال - صلى الله عليه وسلم - فلما ماتت فاطمة قال: هذا الركن الآخر. أخرجه أحمد في المناقب أيضاً.
الحديث الثالث: عن سهل بن سعد، أن رجلا جاءه فقال: هذا فلان - لأمير من أمراء المدينة - يدعوك تسُب علياً على المنبر، قال: أقول ماذا؟ قال: تقول له أبا تراب. قال: فضحك سهل وقال: والله ما سماه أبا تراب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان اسم أحب إليه منه؛ دخل علي على فاطمة ثم خرج، فجاء - عليه الصلاة والسلام - فقال: أين ابن عمك؟ فقالت: كان بيني وبينه شيء، فغاضبني وخرج، ولم يَقِل عندي، وها هو مضطجع في المسجد. فخرج - عليه الصلاة والسلام - فوجد رداءه قد سقط عن ظهره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح التراب عن ظهره ويقول: اجلس أبا تراب. أخرجه البخاري ومسلم وأبو حاتم. الحديث الرابع: عن معاذة العدوية، سمعت علياً على منبر البصرة يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر.
الحديث الخامس: عن أبي ذر قال: سمعتّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: أنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، يعسوب المؤمنين. وفي رواية: الدين، أخرجهما الحاكمي.
الحديث السادس: عن عمر بن الخطاب، قال: كنت أنا وأبو عبيدة وأبو بكر وجماعة من الصحابة، إذ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم منكب علي فقال: " علي، أنت أول المؤمنين إيماناً، وأول المسلمين إسلاماً، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى " . أخرجه ابن السمان.
الحديث السابع: عن زيد بن أرقم، قال: " كان أول من أسلم علي بن أبي طالب " . أخرجه أحمد والترمذي وصححه. وفي رواية: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، وصلى معه علي يوم الثلاثاء " . وفي رواية عن ابن عباس: " علي أول من أسلم بعد خديجة " . قال أبو عمرَو وهذا حديث صحيح الإسناد، ولا مطعن لأحد في رواته. قلت: هو يعارض ما تقدم عن ابن عباس في أبي بكر، والصحيح: أن أبا بكر أول من أظهر إسلامه؛ فلا تعارض.(2/10)
الحديث الثامن: عن معاذة العدوية، قالت: سمعت علياً على منبر البصرة يقول: " أنا الصديق الأكبر؛ آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم أبو بكر " . أخرجه ابن قتيبة في المعارف.
الحديث التاسع: عن سلمان، أنه قال: أول هذه الأمة وروداً علي نبيها أولها إسلاماً علي بن أبي طالب. وقد روى مرفوعَاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه: " أول هذه الأمة وروداً على الحوض... " الحديث. وفي رواية: " أولكم ورودَاً على الحوض أولكم إسلاماً، علي بن أبي طالب " . أخرجه ابن القلعي. وعن عفيف ابن الأشعث، عن قيس الكندي، قال: كنت امرءاً تاجرَاً، قدمت للحج فأتيت العباس بن عبد المطلب أبتاع منه بعض تجارتي، قال: فوالله إني عنده بمنى، إذ خرج علينا رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى السماء، فلما رآها قام يصلي، ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء فقامت خلفه، ثم خرج غلام حين راهق الحلم، فقام معه يصلي، قال عفيف: فقلت للعباس: من هذا؟ قال: هذا محمد ابن أخي، فقلت: من هذه المرأة؟ قال: هذه امرأته خديجة بنت خويلد، قلت: فمن هذا الغلام. قال: هذا ابن عمه علي بن أبي طالب. قلت: فما الذي يصنع؟ قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه أحد على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه سيفتح كنوز كسرى وقيصر، قال: فكان عفيف يقول: لو كان اللّه رزقني الإسلام يومئذ فأكون ثانياً مع علي بن أبي طالب. وقد أسلم فيما بعد وحسن إسلامه.
وعن علي نفسه قال: صليت قبل أن يصلي الناس بسبع سنين. وفي رواية عنه أيضَاً: عبدت اللّه قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين. أخرجه أبو عمر. وقال علي - رضي اللّه عنه - : أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة، وفينا نزلت " هذانِ خَصْمَانِ اَختَصَمُوا في رَبّهِم " " الحج: 19 " ، في مبارزتنا يوم بدر، أنا وحمزة وعبيدة مع شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. أخرجه البخاري عنه.
الحديث العاشر: عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا علي، إنك أول من يقرع باب الجنة فيدخلها بغير حساب بعدي " أخرجه الإمام علي بن موسى الرضي في مسنده.
الحديث الحادي عشر: عن أنس - رضي اللّه عنه - قال: كان عنده صلى الله عليه وسلم طير أهدى إليه، وكان مما يعجبه أكله فقال: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي فأكل معه " . أخرجه الترمذي والبغوي في المصابيح، وأخرجه الجزري، وزاد بعد قوله: " فجاء علي فقال استأذن على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما عليه إذن، ثم جاء فرددته ثم دخل الثالثة أو الرابعة، فقال - عليه الصلاة والسلام - لعلي: ما حبسك عني - أو ما أبطأك عني - يا علي. قال: جئت فردني أنس، وكان أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يا أنس، ما حملك على ما صنعت؟ قلت: رجوت أن يكون رجلا من الأنصار، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أنس، أو في الأنصار خير من علي أو أفضل من علي؟ " أخرجه البخاري.
الحديث الثاني عشر: عن معاذة الغفارية، قالت: كان لي أنس بالنبي صلى الله عليه وسلم، أخرجُ معه في الأسفار، وأقوم على المرضى وأداوي الجرحى، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة وعلي خارج من عنده، فسمعته يقول: يا عائشة إن هذا أحب الرجال إلي وأكرمهم علي؛ فاعرفي له حقه وأكرمي مثواه " أخرجه الخجندي.
الحديث الثالث عشر: عن البراء، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " علي منى بمنزلة رأسي من جسدي " أخرجه الملا.
الحديث الرابع عشر: عن سعد بن أبي وقاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " أخرجه البخاري ومسلم. وفي رواية عنه قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجرف طعن ناس من المنافقين في أمر علي وقالوا: إنما استخلفه استثقالاَ، فخرج علي فحمل سلاحه حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالجرف فقال: يا رسول اللّه، ما تخلفت عنك في غزاة قط قبل هذه، وقد زعم المنافقون أنك خلفتني استثقالا. فقال: " كذبوا، ولكن خلفتك لما ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي، أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. إلا أنه لا نبي بعدي " .(2/11)
الحديث الخامس عشر: عن أسماء بنت عُميس، قالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم إني أقول كما قال أخي موسى: اجعل لي وزيراً من أهلي، أخي علياً " أشدد به أزري وأشركه في أمري... " إلى " بصيراً " أخرجه الإمام أحمد.
الحديث السادس عشر: عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي يوم غزوة تبوك: " أما ترضى أن يكون لك من الأجر مثل ما لي، ولك من المغنم مثل ما لي؟ " أخرجه الخلعي.
الحديث السابع عشر: عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد ثقيف حين جاءوه: " لتسلمن أو لأبعثن عليكم رجلا مني، أو قال مثل نفسي فليضربن أعناقكم، وليسبين ذراريكم، وليأخذن أموالكم " . قال عمر: فوالله ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ، فجعلت أنصب صدري رجاء أن يقول هو هذا. قال: فالتفت إلى علي، وأخذ بيده وقال: هو هذا، هو هذا. أخرجه عبد الرزاق في جامعه وأبو عمر.
الحديث الثامن عشر: عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من نبي إلا وله نظير من أمته، وعلي نظيري، أخرجه الخلعي.
الحديث التاسع عشر: أخرج ابن السمان في الموافقة قال: جاء أبو بكر وعلي يزوران قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بسبعة أيام فقال علي: تقدم يا خليفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: ما كنت لأتقدم رجلا سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول فيه: " علي مني بمنزلتي من ربي " .
الحديث العشرون: عن سلمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزءين فجزء أنا وجزء علي " . أخرجه أحمد في المناقب.
الحديث الحادي والعشرون: عن حبشي بن جنادة قال: كنت جالساً عند أبي بكر فقال: " من كانت له عدة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقام رجل فقال: يا خليفة رسول الله، وعدني بثلاث حثيات من تمر، ثم قام فقال: أرسلوا إلى علي، فأتى فقال: يا أبا الحسن، إن هذا يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعده بثلاث حثيات من تمر فاحثها له، قال: فحثاها بمرة لا تزيد واحدة على الأخرى، فقال أبو بكر: صدق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال لي ليلة الهجرة ونحن خارجون من الغار نريد المدينة: " يا أبا بكر كفي وكف علي في العدد سواء " أخرجه ابن السمان في الموافقة.
الحديث الثاني والعشرون: عن أبي أيوب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد صلت الملائكة عليَ وعلى علي؛ لأنا كنا نصلي ليس معنا مصل غيرنا " أخرجه أبو الحسن الخلعي.
الحديث الثالث والعشرون: عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما أسري بي مررت على ملك جالس على سرير من نور، وإحدى رجليه في المشرق والأخرى في المغرب، وبين يديه لوح ينظر فيه، والدنيا كلها بين عينيه، والخلق بين يديه وركبتيه، ويده تبلغ المشرق والمغرب، فقلت: يا جبريل، من هذا؟ قال: هذا عزرائيل، تقدم فسلم عليه، فتقدمت فسلمت عليه، فقال: وعليك السلام يا أحمد، ما فعل ابن عمك علي. فقلت: وهل تعرف ابن عمي علياً. فقال: وكيف لا أعرفه وقد وكلني الله بقبض أرواح الخلائق ما خلا روحك وروح ابن عمك علي بن أبي طالب، فإن الله يتوفاه كما شئته " أخرجه الملا في سيرته.
الحديث الرابع والعشرون: عن عمرو بن شاس الأسلمي - وكان من أهل بيعة الرضوان - قال: خرجت مع علي إلى اليمن فجفاني في سفري حتى وجدت في نفسي عليه، فلما قدمت المدينة أظهرت شكايته في المسجد حتى بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، فلما رآني حدد النظر إلي حتى إذا جلست قال: " والله يا عمرو، والله لقد آذيتني، قلت: أعوذ بالله أن أؤذيك يا رسول الله. فقال: بلى، من آذى علياً فقد آذاني " . أخرجه أحمد. وفي رواية " أي عمرو، من أحب علياً فقد أحبني، ومن أبغض علياً فقد أبغضني، ومن آذى علياً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه " .
الحديث الخامس والعشرون: عن أم سلمة، قالت: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحب علياً فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغض علياً فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله " أخرجه المخلص والحاكمي.(2/12)
الحديث السادس والعشرون: عن ابن عباس، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب، فقال له: " أنت سيد في الدنيا، سيد في الآخرة، من أحبك فقد أحبني، وحبيبك حبيبي، وحبيبي حبيبك، وعدوك عدوي، وعدوي عدوك، والويل لمن أبغضك " أخرجه أحمد في المناقب.
الحديث السابع والعشرون: عن ابن عباس، أنه مر بعد ما كف بصره بمجلس من مجالس قريش وهم يسبون علياً؛ فقال لقائده: ما سمعت من هؤلاء يقولون؟ قال: يسبون علياً. فقال لقائده: ردني إليهم، فرده، فقال: أيكم الساب الله؟ قالوا: سبحان الله من يسب اللّه فقد أشرك. فقال: أيكم الساب لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالوا: سبحان الله! من يسب رسول اللّه فقد كفر. فقال: أيكم السابُّ لعلي؟ قالوا: أما هذا فقد كان. قال: فأنا أشهد باللّه لقد سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " من سب علياً فقد سبني، ومن سبني فقد سب اللّه، ومن سب الله عز وجل أكبه في النار على منخره " ، ثم ولَى عنهم، فقال لقائده: ما سمعتهم يقولون. قال: ما قالوا شيئاً. قال: فكيف رأيت وجوههم حين قلت ما قلت؟ فقال: من الكامل:
نظروا إليكَ بأعْينِ محمرَةٍ ... نَظَرَ التيوسِ إلى شفارِ الجازرِ
قال ابن عباس: زدني فداك أبي. فقال:
خزرُ الحَوَاجِبِ ناكسو أذقانِهِم ... نَظَرَ الذليلِ إلى العزيزِ القَاهرِ
قال ابن عباس: زدني فداك أبي. قال: ما عندي غيرهما. قال ابن عباس: لكن عندي. فقال:
أحياؤُهُمْ خزْي على أمواتِهِمْ ... والميتُونَ مسبة للغابِرِ
الحديث الثامن والعشرون: عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعلي: " من أطاعك فقد أطاع اللّه، من عصاك فقد عصاني " أخرجه الإسماعيلي في معجمه. وفي رواية " من أطاعني فقد أطاع اللّه ومن أطاعك فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى اللّه ومن عصاك فقد عصاني " أخرجه الخجندي.
الحديث التاسع والعشرون: أخرج أحمد في المناقب عن أبي ذر أيضَاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا علي من فارقني فقد فارق الله، ومن فارقك فقد فارقني " .
الحديث الثلاثون: عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما - : " آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فجاء علي تدمع عيناه، قال: يا رسول الله، آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أنت أخي في الدنيا والآخرة " . وفي رواية: " ألا ترضى أن أكون أخاك؟ قال: بلى يا رسول الله، رضيت. قال: فأنت أخي في الدنيا والآخرة " أخرجه الخلعي.
الحديث الحادي والثلاثون: عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يقول: " أنا عبد الله وأخو رسول الله، لا يقولها غيري إلا كذب " . أخرجه أبو عمر.
الحديث الثاني والثلاثون: عنه أيضاً، قال: " طلبني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فوجدني في حائط نائمَاً، فضربني برجله وقال: قم، فواللّه لأرضينك، أنت أخي وأبو ولدي تقاتل على سنتي، من مات على عهدي فهو في كنز الجنة، ومن مات على غير عهدي فقد قضى نحبه، ومن مات محبك بعد موتك ختم اللّه له بالأمن والأمان، ما طلعت الشمس أو غربت " . أخرجه أحمد في المناقب.
الحديث الثالث والثلاثون: عن علي - رضي الله عنه - " جمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب منهم من يأكل الجذعة ويشرب الفرق، فصنع لهم مداً من طعام فأكلوا حتى شبعوا، وبقى الطعام كما هو كأنه لم يمس، ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كأنه لم يمس، فقال: يا بني عبد المطلب، إني بعثت إليكُمْ خاصة وإلى الناس عامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي. فلم يقم إليه أحد، قال علي: فقمت وكنت أصغر القوم، فقال: اجلس، ثم قال ذلك مرات، كل ذلك أقوم إليه فيقول: اجلس، حتى كان في الثالثة ضربت يده على يدي " . أخرجه أحمد في المناقب. وفي رواية لما نزل قوله تعالى: " وَأَنذر عَشِيَرتَكَ اَلأَقرَبين " " الشعراء: 214 " ، دعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجالا من أهله فأطعمهم حتى شبعوا فقال: " من يضمن عني ديني ومواعيدي، ويكون معي في الجنة؟ " فقال علي: أنا. فقال صلى الله عليه وسلم: " تقضي ديني ومواعيدي " . أخرجه أحمد في المناقب. قلت: الفرق: مكيال يسع ثلاثة آصع.(2/13)
الحديث الرابع والثلاثون: عن جابر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " علي باب الجنة مكتوب لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه علي أخو رسول اللّه " ، وفي رواية: " مكتوب على باب الجنة محمد رسول الله، علي أخو رسول اللّه، قبل أن تخلق السموات والأرض بألفي سنة " أخرجهما أحمد في المناقب.
الحديث الخامس والثلاثون: عن عبد اللّه بن عباس قال: كنت أنا والعباس جالسين عند نبي اللّه صلى الله عليه وسلم، إذ دخل علي بن أبي طالب، فسلم فرد عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم السلام، وقام إليه وعانقه، وقبل بين عينيه، وأجلسه عن يمينه، فقال العباس: يا رسول اللّه، أتحب هذا؟ فقال: يا عم واللّه للُّه أشد حبُّاً له مني، إن اللّه جعل ذرية كل نبي من صلبه، وجعل ذريتي من صلب هذا " . أخرجه أبو الخير الحاكمي.
الحديث السادس والثلاثون: عن البراء بن عازب، قال: كُنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم، فنودي فينا: " الصلاة جامعة، وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فصلى الظهر وأخذ بيد علي، وقال: ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى. فقال: من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار " زاد أحمد في المناقب: " وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه " ورواه أكثر من ثمانية عشر صحابياً.
ولقي عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب بعد ذلك فقال له: هنيئَاً لك يا بن أبي طالب؛ أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة. وعن سالم، قيل لعمر: إنك تصنع بعلي شيئاً ما نراك تصنعه بأحد من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال: إنه مولاي.
وعن عمر وقد جاءه أعرابيان يختصمان فقال لعلي: اقض بينهما يا أبا الحسن، فقضى علي بينهما، فقال أحدهما: هذا يقضي بيننا. فوثب إليه عمر وأخذ بتلبيبه وقال: ويحك! أتدري من هذا. هذا مولاي ومولى كل مؤمن، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن. وعنه وقد نازعه رجل في مسألة فقال له: بيني وبينك هذا الجالس - وأشار إلى علي بن أبي طالب - فقال الرجل: هذا الأبطن؟ فنهض عمر عن مجلسه، وأخذ بتلبيبه ورفعه من الأرض، ثم ضرب به الأرض، فقال: أتدري من صغرت؟ مولاي ومولى كل مؤمن أو مسلم. أخرجهن ابن السمان. قلت: غدير خم موضع بين مكة والمدينة بالجحفة، أو هو قريب منها على يمين الذاهب إلى المدينة.
الحديث السابع والثلاثون: عن عمران بن حصين، قال: " بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليها علياً. قال: فمضى على السرية فأصاب جارية، فأنكروا عليه، وتعاقد أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إذا لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه بما صنع. قال عمران بن حصين: وكان المسلمون إذا قدموا من سفر بدءوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليه، ثم انصرفوا إلى رحالهم. فلما قدمت السرية سلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله، ألم تر أن علياً صنع كذا وكذا فأعرض عنه، ثم قام الثاني فقال مثل مقالته، فأعرض عنه، ثم قام الثالث فقال مثل مقالته، فأعرض عنه. ثم قام الرابع فقال مثل ما قالوا، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والغضب يعرف في وجهه فقال: ماذا تريدون من علي؟ ثلاث مِرَارٍ. إن علياً مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي " . أخرجه الترمذي وأبو حاتم وأحمد.(2/14)
الحديث الثامن والثلاثون: عن بريدة بن الخصيب قال: بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سرية وأمَّر عليها رجلا وأنا فيها، فأصبنا سبياً، فكتب الرجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ابعث لنا من يخمسه. فبعث علياً، وفي السبي وصيفة هي أفضل السبي، قال: فخمس وقسم، قال فخرج ورأسه يقطر، فقلنا يا أبا الحسن، ما هذا؟ قال: ألم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي، فإني قسمت وخمست فصارت في الخمس، ثم صارت من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ثم صارت من آل علي ووقعت بها. فكتب الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقلت للرجل: ابعثني مصدقَاً فبعثني. قال بريدة: فجعلت أقرأ الكتاب وأقول: صدق، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم يدي والكتاب، وقال لي: تبغض علياً. قلت: نعم. قال: فلا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حباً، فوالذي نفسي بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة. قال بريدة: فما كان من الناس أحد بعد قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحب إلي من علي. وفي رواية: " لا تقع في علي؛ فإنه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي " . أخرجهما الإمام أحمد بن حنبل.
الحديث التاسع والثلاثون: عن بريدة أيضاً: " من كنت وليه فعلي وليه " أخرجه أبو حاتم.
الحديث الأربعون: عن بريدة أيضَاً قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " إذا جمع اللّه الأولين والآخرين يوم القيامة ونصب الصراط على جسر جهنم ما جازها أحد حتى كانت معه براءة بولاية علي بن أبي طالب " . أخرجه الحاكمي.
الحديث الحادي والأربعون: عن ابن مسعود، قال: أنا رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخذ يد علي وقال: " هذا وليي وأنا وليه، واليت من والاه وعاديت من عاداه " أخرجه الحاكمي. وعن أبي صالح قال: لما حضرت ابن عباس الوفاة قال: اللهم إني أتقرب إليك بولاية علي بن أبي طالب. أخرجه أحمد في المناقب.
الحديث الثاني والأربعون: عن عمار بن ياسر، وأبي أيوب الأنصاري، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حق عَلي على المسلمين حق الوالد على الولد " أخرجه الحاكمي.
الحديث الثالث والأربعون: عن أبي رافع مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب اللواء يوم أحد، قال جبريل: يا رسول اللّه، إن هذه لهي المواساة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا مني وأنا منه، فقال جبريل: وأنا منكما يا رسول اللّه " . أخرجه أحمد في المناقب.
الحديث الرابع والأربعون: أخرج أحمد في المناقب عن علي - رضي اللّه عنه - قال لما كانت ليلة يوم بدر قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من يسقي لنا من الماء؟ فأحجم القوم، فقام علي فاحتضن قربة ثم أتى بئراً بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها، فأوحى الله - عز وجل - إلى جبريل وميكائيل وإسرافيل تأهبوا لنصرة محمد وحزبه، فسقطوا من السماء لهم لغط يذعر من يسمعه، فلما صاروا بالبئر سلموا عليه من عند آخرهم.
الحديث الخامس والأربعون: عن أبي الحمراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليلة أسري بي إلى السماء نظرت إلى ساق العرش الأيمن، فرأيت كتاباً فهمته: محمد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أيدته بعلي ونصرته به " . أخرجه الملا في سيرته.
الحديث السادس والأربعون: عن ابن عباس، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فإذا طائر في فيه لوزة خضراء، فألقاها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فقبلها ثم كسرها، فإذا في جوفها ورقة خضراء مكتوب فيها " لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، نصرته بعلي " أخرجه أبو الخير الحاكمي.(2/15)
الحديث السابع والأربعون: عن جابر: أنهم يوم رجعوا من الجعرانة إلى المدينة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه حتى إذا كان بالعرج ثوب بالصبح، فلما كان استواء المنكبين سمع الرغوة خلف ظهره، فوقف عن التكبير، فقال: هذه رغوة ناقة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلعل أن يكون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نصلي معه، فإذا علي عليها، فقال له أبو بكر: أمير أم رسول. فقال: لا، بل رسول، أرسلني ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج، قال جابر: فقدمنا مكة فلما كان قبل التروية بيوم، قام أبو بكر فخطب الناس، فعلمهم مناسكهم، حتى إذا فرغ قام علي، فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. ثم لما كان يوم النحر خطب الناس أبو بكر، فحدثهم عن إفاضتهم، وعن نحرهم، وعن مناسكهم، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر يخطب الناس فحدثهم كيف يرمون وكيف ينفرون، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها " . أخرجها أبو حاتم.
وفي رواية عن علي قال: لما نزلت عشر آيات من براءة دعا النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال لي: أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه، فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم، فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه، فلما رجع أبو بَكرٍ بعد الحج أتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول اللّه نزل فيّ شيءٌ. قال: لا، ولكن جبريل جاءني وقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك.
الحديث الثامن والأربعون: عن السيدة فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قالت: خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في عشية عرفة فقال: " إن الله تعالى قد باهى بكم وغفر لكم عامة، وبعلي خاصة، وإني رسول اللّه غير محاب بقرابتي " أخرجه أحمد.
الحديث التاسع والأربعون: عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادعوا لي سيد العرب - يعني علياً - قالت عائشة: ألست بسيد العرب؟ فقال: أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب. فلما جاء أرسل إلى الأنصار، فأتوه فقال لهم: " يا معشر الأنصار، ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: " هذا علي فأحبوه بحبي، وأكرموه بكرامتي، إن جبريل أخبرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل " . أخرجه الفضائلي.
الحديث الخمسون: عن عبد اللّه بن أسعد بن زرارة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليلة أسري بي انتهيت إلى ربي عز وجل، فأوحى إليّ، أو أمرني - شك الراوي - في علي أنه سيد المسلمين وولي المتقين وقائد الغر المحجلين " .
الحديث الحادي والخمسون: عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: " أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة " أخرجه أبو عمر وأبو الخير الحاكمي.
الحديث الثاني والخمسون: عن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل نبي وصي ووارث، وإن علياً وصيي ووارثي " . أخرجه البغوي في معجمه.
الحديث الثالث والخمسون: عن أنس، قال: قلنا لسلمان: سل النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ وصيه. فقال سلمان: يا رسول الله، من وصيك؟ فقال: يا سلمان، من كان وصي موسى. قال: يوشع. قال: فإن وصيي ووارثي وصهري يقضي ديني، ينجز موعدي، علي بن أبي طالب. أخرجه أحمد في المناقب. زاد غيره: أن علياً قال له: يا رسول الله، وما أرث منك. قال: ما ورث الأنبياء من قبلي. قال: وما ورث الأنبياء من قبلك؟ قال: كتاب ربهم وسنة نبيهم.
الحديث الرابع والخمسون: عن الحسين بن علي، عن أبيه، عن جده، قال: أوصى النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يغسله، فقال علي: أخشى أَلاَ أطيق ذلك، قال: إنك ستعان علي، قال: فقال علي: فواللّه ما أردت أن أقلب عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عضواً إلا قلب لي. أخرجه ابن الحضرمي.
الحديث الخامس والخمسون: عن محمد ابن الحنفية، عن أبيه، قال: قال سول اللّه صلى الله عليه وسلم: " إنْ ولد لك غلام فسمه باسمي وكنه بكنيتي، وهذا رخصة لك دون الناس.(2/16)
الحديث السادس والخمسون: عن الحسن بن علي، قال: كان رأس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجر علي وهو يوحي إليه، فلما سرى عنه قال: يا علي، صليت العصر. قال: لا. قال: اللهم أنت تعلم أنه كان في حاجتك، وفي حاجة رسولك، فرد عليه الشمس. فردها عليه وصلى وغابت الشمس. أخرجه الدولابي. وفي رواية عن أسماء بنت عميس بلفظ: فأقبلت الشمس لها خوار حتى ارتفعت قدر ما كانت في وقت العصر؛ فصلى، ثم رجعت فغربت. وفي رواية عنها أيضاً: فرجعت الشمس حتى بلغت نصف المسجد. قال في الرياض: قال علماء الحديث: هو حديث موضوع، ولم ترد الشمس لأحد، وإنما حبست ليوشع بن نون.
الحديث السابع والخمسون: عن أنس بن مالك في قصة زواج علي بفاطمة، وقد تقدم ذلك دعاؤه لعلي وفاطمة حتى أتى بالماء فنضح عليهما وقال: اللهم إني أعيذها بك وذُريتها من الشيطان الرجيم. أخرجه أبو حاتم.
الحديث الثامن والخمسون: عن ابن عباس لما زوج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاطمة لعلي قالت: " يا رسول اللّه، زوجتني برجل فقير لا شيء له، فقال صلى الله عليه وسلم: أما ترضين يا فاطمة أن الله اختار من أهل الأرض رجلين فجعل أحدهما أباك والآخر بعلك " .
أخرجه الملا في سيرته.
الحديث التاسع والخمسون: عن ابن عباس أيضَاً قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فغشيه الوحي، فلما أفاق قال: أتدري ما جاء به جبريل. قلت: اللّه ورسوله أعلم. قال: أمرني أن أزوج فاطمة من علي، فانطلق فادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير، وعدة من الأنصار، فقال: إن اللّه تعالى قد أمرني أن أزوج فاطمة بنت خديجة من علي بن أبي طالب، فاشهدوا أني قد زوجته على أربعمائة مثقال فضة إن رضي علي بن أبي طالب بذلك. ثم دعا بطبق من بسر فوضعه بين أيدينا، ثم قال: انتهبوا. فانتهبنا. فبينما نحن ننتهب إذ أقبل علي بن أبي طالب، فلما دخل قال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يا علي إن اللّه أمرني أن أزوجك فاطمة، وقد زوجتكها على أربعمائة مثقال إن رضيت. قال: قد رضيت يا رسول اللّه. قال: ثم قام علي فخر ساجداً شكراً للّه تعالى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: جعل اللّه منكما الكثير الطيب، وبارك اللّه فيكما، قال أنس: فواللّه لقد أخرج منهما الكثير الطيب. أخرجه أبو الخير الحاكمي.
الحديث الستون: عن أنس، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ قال لعلي: هذا جبريل يخبرني أن الله عز وجل زوجك فاطمة، وأشهد على تزويجها أربعين ألف ملك، وأوحى إلى شجرة طوبى أن انثري عليهم الدر والياقوت؛ فنثرته عليهم، فابتدرت الحور العين يلقطن في أطباق الحر والياقوت، فهم يتهادونه بينهم إلى يوم القيامة. أخرجه الملا في سيرته.
الحديث الحادي والستون: عن أم سلمة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم جلل الحسن والحسين وفاطمة وعلياً كساء وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " . أخرجه الترمذي.
الحديث الثاني والستون: عن زيد بن أرقم: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين: " أنا حرب لمن حاربهم، سلم لمن سالمهم " أخرجه الترمذي. وفي رواية عن أبي بكر الصديق قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ختم ختمة وهو متكئ على فرش عربية، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: " معشر المسلمين، أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لمن حاربهم، وليُ من والاهم، لا يحبهم إلا سعيد الجد، طيب المولد، ولا يبغضهم إلا شقي الجد، ردئ الولادة " .(2/17)
الحديث الثالث والستون: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما حضرته الوفاة: ادعوا لي حبيبي فدعوا له أبا بكر، فلما نظر إليه وضع رأسه ثم قال: ادعوا لي حبيبي فدعوا له عمر، فلما نظر إليه وضع رأسه ثم قال: ادعوا لي حبيبي فدعوا له علياً، فلما رآه أدخله معه في الثوب الذي كان عليه، فلم يزل يحضنه حتى قبض ويده عليه " أخرجه الرازي. قلت: قد تقدم في ذكر وفاته - عليه الصلاة والسلام - أن أبا بكر - رضي الله عنه - يوم وفاته صلى الله عليه وسلم كان غائباً بالسنح لما رآه أصبح مفيقاً يوم الاثنين، فأذن له - عليه الصلاة والسلام - فلم يعد إلا وقد توفي - عليه الصلاة والسلام - فلينظر وجه التوفيق بين ذاك وبين قوله هنا: فدعوا له أبا بكر، فلما نظر إليه وضع رأسه. ولو لم تقيد هذه الواقعة بقوله: لما حضرته الوفاة لكان وجه التوفيق ممكناً، يحمل وقوعها على ما قبل عزم أبي بكر إلى السنح، فليتأمل.
الحديث الرابع والستون: عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يوم خيبر " لأعطين الراية غداً رجلا يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، يفتح الله على يديه قال: فبات الناس يدوكون - أي: يخوضون ويموجون ليلتهم - أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال عليه الصلاة والسلام: أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: يشتكي عينيه، قال: فأَرسلوا إليه. فلما جاء بصق في كفه ومسح بها عينيه، ودعا له؟ فبرأ لوقته حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يقولوا مثلنا. قال: انفذ على رسلك - أي: امض على تؤدتك؛ كما تقول: على هينتك - حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق اللّه تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم. أخرجه البخاري ومسلم وأبو حاتم.
الحديث الخامس والستون: عن محدوج بن زيد الهذلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أما علمت يا علي، أنه أول من يدعى يوم القيامة بي؟!، فأقوم عن يمين العرش في ظله فأكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بالأنبياء بعضهم على أثر بعض، فيقومون سماطين عن يمين العرش، ويكسون حللا من الجنة. ألا إني أخبرك يا علي أن أمتي أول الأمم يحاسبون يوم القيامة، ثم أبشرة فأول ما يدعى بك لقرابتك مني، فيدفع إليك لوائي - لواء الحمد - وهو أول لواء تسير به بين السماطين. آدم وجميع خلق اللّه يستظلون بظل لوائي يوم القيامة، وطوله مسيرة ألف سنة، سنانه ياقوتة حمراء، قبضته فضة بيضاء، زجه درة خضراء، وله ثلاث ذوائب من نور، ذؤابة في المشرق، وذؤابة في المغرب، والثالثة في وسط الدنيا، مكتوب عليه ثلاثة أسطر: الأول: بسم الله الرحمن الرحيم، الثاني: الحمد للّه رب العالمين، الثالث: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، طول كل سطر مسيرة ألف سنة، وعرضه مسيرة ألف سنة، فتسير باللواء والحسن عن يمينك والحسين عن يسارك، حتى تقف بيني وبين إبراهيم في ظل العرش، ثم تكسى حلة من الجنة، ثم ينادي منادٍ تحت العرش: نعم الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك علي، أبشر يا علي، إنك تكسى إذا كسيت، وتدعى إذا دعيت، وتحيا إذا حييت " . أخرجه أحمد في المناقب.
وأخرج الملا في سيرته زيادة: قيل: يا رسول اللّه، وكيف يستطيع على أن يحمل لواء الحمد. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: وكيف لا يستطيع ذلك؟ وقد أعطى خصالا شتى: صبراً كصبري، وحسنَاً كحسن يوسف، وقوة كقوة جبريل.
الحديث السادس والستون: عن ابن عباس، قال: كان علي حامل راية النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر والمشاهد كلها، ولما كسرت يد علي - رضي اللّه عنة - يوم أحد؛ فسقط اللواء من يده، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ضعوه في يده اليسرى، فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة.(2/18)
الحديث السابع والستون: عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " إن فيكم من يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله. قال أبو بكر: أنا هو يا رسول اللّه. قال: لا. قال عمر: أنا هو يا رسول اللّه. قال: لا، ولكن خاصف النعل، وكان أعطى نعله عليُّاً يخصفها. ومثل هذا ما رواه علي نفسه من قوله فيه يوم الحديبية: " يا معشر قريش، لتنتهن أو ليبغين اللّه عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن اللّه قلبه على الإيمان، قالوا: من هو يا رسول الله. قال: هو خاصف النعل. ثم التفت علي إلى من عنده وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كذب علي متعمدَاً فليتبوأ مقعده من النار " . أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
الحديث الثامن والستون: عن ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسد أبواب المسجد إلا باب علي " . أخرجه الترمذي. وفي رواية: فتكلم في ذلك ناس، فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب إلا باب علي، فقال فيه قائلكم، وإني واللّه ما سددت شيئاً ولا فتحته. ولكني أمرت بشيء فاتبعته " . أخرجه أحمد.
الحديث التاسع والستون: عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا علي، لا يحل لأحد يُجنب في هذا المسجد غيري وغيرك " . أخرجه الترمذي.
الحديث السبعون: عن أنس بن مالك، قال: " كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأى عليّاً مقبلا فقال: يا أنس، قلت: لبيك. قال: هذا المقبل حجتي على أمتي يوم القيامة " . أخرجه النقاش.
الحديث الحادي والسبعون: عن - علي رضي اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " أنا دار الحكمة، وعلي بابها " ، وفي أخرى: " أنا مدينة العلم، فمن أراد العلم فليأته من بابه " .
الحديث الثاني والسبعون: عن معقل بن يسار، قال: " وضأت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: هل لك في فاطمة نعودها. فقلت: نعم. فقام يتوكأ عليَ حتى دخلنا على فاطمة، فقلنا: كيف تجدينك؟ قالت: اشتد حزني، واشتدتْ فاقتي، وطال سقمي. فقال: أو ما ترضَيْنَ أن زَوجْتُك أقدمهم سلماً، وأكثرهم علمَاً، وأعظمهم حلماً " . أخرجه أحمد، وزاد القلعي: " زوجتك سيداً في الدنيا والآخرة " .
الحديث الثالث والسبعون: عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أقضى أمتي علي " . أخرجه في المصابيح. وقال سعيد بن المسيب: لم يكن أحد من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: سلوني غير علي بن أبي طالب. وعن أبي الطفيل، قال: شهدت علياً يقول: سلوني، والله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به، وسلوني عن كتاب اللّه، فواللّه ما مِنْ آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار؟ " أم في سهل أم في جبل؟ " . أخرجه أبو عمر.
الحديث الرابع والسبعون: عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: اتختصم الناس بسبع ولا يحاجك أحد من قريش، أنت أولهم إيماناً باللّه، وأوفاهم بعهد اللّه، وأقومهم بأمر اللّه وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في الرعية، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند اللّه مزية " . أخرجه الحاكمي.
الحديث الخامس والسبعون: عن علي رضي اللّه عنه، قال: بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً فقلت: يا رسول اللّه، بعثتني إلى قوم ذوي أسنان، وأنا شاب لا أعلم القضاء، فوضع يده على صدري فقال: إن اللّه يهدي قلبك ويثبت لسانك، يا علي، إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما تسمع من الأول؛ فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء فيما اختلفا. قال علي: فما أشكل عليَّ قضاء بعد ذلك " . أخرجه الإسماعيلي والحاكمي.
الحديث السادس والسبعون: عن جابر " دعا النبي صلى الله عليه وسلم علياً يوم الطائف فانتجاه، فقال الناس: لقد أطال نجواه مع ابن عمه، فقال صلى الله عليه وسلم: ما انتجيته ولكن الله انتجاه " .(2/19)
الحديث السابع والسبعون: عن علي - كرم اللّه وجهه - قال: " انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم حتى أتينا الكعبة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس واصعد على منكبك، فذهبت لأربض به، فرأى مني ضعفَاً فنزل، وجلس إليَ نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال لي: اصعد على منكبي، فصعدت على منكبه، قال: فنهض فخُيل لي أن لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت إلى البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله، ومن بين يديه ومن خلفه، حتى استمكنت منه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقذفه، فقذفته؛ فتكسر كما تتكسر القوارير، ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت؛ خشية أن يرانا أحد من الناس، وذلك صنمهم الأكبر.
الحديث الثامن والسبعون: روى أبو سعيد في شرف النبوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أوتيت ثلاثاً لم يؤتهن أحد ولا أنا؛ أوتيت صهرَاً مثلي ولم أوت أنا مثلي، وأوتيتَ زوجة صديقة مثل ابنتي ولم أوت أنا مثلها زوجة، وأوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أوت من صلبي مثلهما، ولكنكم مني وأنا منكم " . وأخرج معناه الإمام علي بن موسى الرضا في مسنده بزيادة ولفظه: " يا علي أعطيت ثلاثاً لم يجتمعن لغيرك، مصاهرتي وزوجتك وولديك، والرابعة لولاك ما عرف المؤمنون " .
الحديث التاسع والسبعون: عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " أعطيت في علي خمساً هي أحب إلي من الدنيا وما فيها، أما واحدة: فهي تكأتى عليه بين يدي الله - عز وجل - حتى يفرغ من الحساب، وأما الثانية: فلواء الحمد بيده، آدم ومن ولده من تحته، الثالثة: فواقف على عقر حوضي يسقى من عرف من أمتي، وأما الرابعة: فساتر عوراتي ومسلمي إلى ربى - عز وجل - وأما الخامسة: فلست أخشى عليه أن يرجع زانياً بعد إحصان، ولا كافرَاً بعد إيمان " . أخرجه أحمد في المناقب. قلت: التكأة: بضم التاء وبالهمز: ما يتكأ عليه، وعقر الحوض، بضم العين وإسكان القاف: آخر الحوض.
الحديث الثمانون: عن عبد الله بن أبي أوفى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة بنتي، وأنت أخي ورفيقي، ثم تلا " إِخوَناً عَلىَ سُرُر مُتقابلين " الحجر: 47 " ، أخرجه أحمد في المناقب.
الحديث الحادي والثمانون: عن ابن عمر، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: " يا علي، يدك في يدي تدخل معي يوم القيامة حيث أدخل " . أخرجه الحافظ الدمشقي.
الحديث الثاني والثمانون: عن أنس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي وعمار وسلمان الفارسي " . أخرجه ابن السري.
الحديث الثالث والثمانون: عنه - أيضاً - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " نحن بني عبد المطلب سادات أهل الجنة، أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي " . أخرجه ابن البري.
الحديث الرابع والثمانون: عن علي - رضي اللّه عنه - : دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنا في المنام فاستسقى الحسن والحسين، قال: فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى شاة لنا بكر فحلبها فدرَت، فجاء الحسين، فنحاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت فاطمة: لكأنه أحبهما إليك. قال: لا، ولكنه - يعني الحسن - استسقى قبله. ثم قال: إني وإياك وهذين وهذا الراقد في مكان واحد يوم القيامة " . أخرجه أحمد في المسند.
الحديث الخامس والثمانون: عن عبد اللّه بن عمر، قال: بينما أنا عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجمع المهاجرين والأنصار إلا من كان في سرية - أقبل علي يمشي. وهو متغضب، فقال: " من أغضب هذا فقد أغضبني " . فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا علي؟ قال: أذاني بتولك. قال: أما ترضى أن تكون معي في الجنة والحسن والحسين وذرياتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذرياتنا، وأشياعنا عن أيماننا وشمائلنا " . أخرجه أحمد في المناقب، وأبو سعيد في شرف النبوة.
الحديث السادس والثمانون: عن علي - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " يا علي إن لك كنزاً في الجنة، وإنك ذو قرنيها، فلا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة " . أخرجه الهروي في غريبه. وقوله قرنيها، أي: طرفيها.(2/20)
الحديث السابع والثمانون: عنه - رضي الله عنه - وكرم وجهه - قال: " كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة فمررنا على حديقة، فقلت: يا رسول اللّه، ما أحسنها؛ قال: لك في الجنة أحسن منها " . أخرجه أحمد في المناقب. وفي رواية: " فلما خلا الطريق اعتنقني وأجهش باكياً. فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟ قال: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي. فقلت: في سلامة أمن، ديني. قال: في سلامة من دينك " .
الحديث الثامن والثمانون: عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " يا علي، إن لك في الجنة ما لو قسم على أهل الأرض لوسعهم " .
الحديث التاسع والثمانون. عن أنس - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " علي يزهر بأهل الجنة كما يزهر كوكب الصبح بأهل الدنيا " . أخرجه أبو الخير القزويني. ويزهر: يضيء، يقال: زهرت النارُ زهرَاً: أضاءت.
الحديث التسعون: عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " لما أسري بي إلى السماء أخذ جبريل بيدي وأقعدني على درنوك من درانيك الجنة، وناولني سفرجلة، فكنت أقلبها، إذ انفلقت وخرجت منها حوراء لم أر أحسن منها، فقالت: السلام عليك يا محمد. قلت: وعليك السلام. قالت: أنا الراضية المرضية، خلقني الجبار من ثلاثة أصناف: أعلاي من عنبر، ووسطي من كافور، وأسفلي من مسك، عجنني بماء الحيوان، ثم قال: كوني فكنت، خلقني لأخيك وابن عمك علي بن أبي طالب " . أخرجه الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم في مسنده.
الحديث الحادي والتسعون: عن حذيفة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " إن اللّه اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإن قصري في الجنة وقصر إبراهيم متقابلان، وقصر علي بن أبي طالب بين قصري وقصر إبراهيم فيا له من حبيب بين خليلين " .
الحديث الثاني والتسعون: عن سلمان، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة ضرب لي قبة حمراء على يمين العرش، وضرب لإبراهيم قبة خضراء عن يسار العرش، وضرب فيما بينهما لعلي بن أبي طالب قبة من لؤلؤ بيضاء، فما ظنكم بحبيب بين خليلين " . أخرجه الحاكمي.
الحديث الثالث والتسعون: عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا علي، معك يوم القيامة عصا من عصي الجنة تذود بها المنافقين عن الحوض " أخرجه الطبراني. وفي رواية عن علي - رضي الله عنه - : قال " لأذودن بيدي هاتين القصيرتين عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم رايات الكفار والمنافقين؛ كما تذاد غرائب الإبل عن حياضها " . أخرجه أحمد في المناقب.
الحديث الرابع والتسعون: عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: " لك يوم القيامة ناقة من نوق الجنة تركبها، وركبتيك مع ركبتي وفخذك مع فخذي، حتى تدخل الجنة " أخرجه أحمد في المناقب.
الحديث الخامس والتسعون: عن عبد اللّه بن الحارث قال: قلت لعلي بن أبي طالب: أخبرني بأفضل منزلتك من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: نعم، بينما أنا عنده وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته قال: " يا علي، ما سألت الله - عز وجل - من الخير إلا سألت لك مثله، وما استعذت باللّه من الشر إلا استعذت لك مثله " أخرجه المحاملي.
الحديث السادس والتسعون: عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " ما اكتسب مكتسب مثل فضل علي، يهدي إلى الهدى، ويرد عن الردى " أخرجه الطبراني.
الحديث السابع والتسعون: عن بريدة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم. قيل: يا رسول اللّه، فسمهم لنا. قال: علي منهم. يقول ذلك ثلاثاً " . أخرجه أحمد والترمذي.
الحديث الثامن والتسعون: عن ابن عباس: أن علياً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه وعانقه وقبل بين عينيه، فقال العباس: أتحب هذا يا رسول اللّه. فقال: يا عم، والله للّه أشد حباً له مني " أخرجه أبو الخير القزويني.(2/21)
الحديث التاسع والتسعون: عن إبراهيم بن عبيد بن رفاعة الأنصاري، عن أبيه، عن جده، قال: " أقبلت من بدر ففقدنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فنادى الرفاق بعضهم بعضَاً: أفيكم رسول اللّه؟ فوقفوا حتى جاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومعه علي بن أبي طالب، فقالوا: يا رسول اللّه، فقدناك. فقال: إن أبا الحسن وجد مغصَاً في بطنه فتخلفت عنده " . أخرجه أبو عمر.
الحديث المائة: عن أم عطية، قالت: بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جيشَاً فيهم علي بن أبي طالب، قالت: فسمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو رافع يديه يقول: " اللهم لا تمتني حتى تريني علياً " أخرجه الترمذي.
الحديث الحادي والمائة: عن علي، قال: كنت شاكيَاً فمر بي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخراً فارفع عني، وإن كان بلاء فصبرني.
فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ فأعدت عليه، فضربني، وقال " اللهم عافه أو اشفه " - شعبة الشاك - قال: فما اشتكيت وجعي ذاك بعد " . أخرجه أبو حاتم.
الحديث الثاني والمائة: عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليُّاً، ثم بعث رجلا خلفه، وقال " ادعه، ولا تدعه من ورائه " أخرجه الدارقطني.
الحديث الثالث والمائة: عن علي، قال: أهدى لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم حلة سيراء مسيرة بحرير، إما سداؤها وإما لحمتها، فبعثها النبي صلى الله عليه وسلم إليّ؛ فقلت: يا رسول الله، ما أصنع بها. فقال: لا أرضي لك شيئاً وأكرهه لنفسي، فشققت منها أربعة أخمرة خماراً لفاطمة بنت أسد أم علي، وخماراً لفاطمة بنت محمد، وخمارَاً لفاطمة بنت حمزة، وذكر فاطمة أخرى " . أخرجه الضحاك.
الحديث الرابع والمائة: عن عبد الأعلى بن عدي البَهْراني أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دعا علياً يوم غدير خم فعممه وأرخى عذبة العمامة من خلفه.
الحديث الخامس والمائة: عن علي، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " من أحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة " أخرجه أحمد والترمذي.
الحديث السادس والمائة: عنه - رضي الله تعالى عنه - : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لعهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق " أخرجه مسلم وأبو حاتم.
الحديث السابع والمائة: عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحب علياً منافق، ولا يبغضه مؤمن " أخرجه الترمذي. وعن جابر بن عبد الله: " ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغضهم علياً " .
الحديث الثامن والمائة: عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن يستمسك بالقضيب الأحمر الذي غرسه اللّه في جنة عدن كله فليستمسك بحب علي " أخرجه أحمد في المناقب.
الحديث التاسع والمائة: عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " حب علي يأكل الذنوب كما تأكل النار الحطب " أخرجه الملا في سيرته.
الحديث العاشر والمائة: عن أنس، قال: " دَفع علي بن أبي طالب إلى بلال درهماً ليشتري بطيخاً، قال: فاشترى به. فأخذ بطيخة فقورها فوجدها مرة، فقال: يا بلال رد هذا على صاحبه وائتني بالدرهم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل أخذ حبك على الشجر والبشر والمدر، فما أجاب إلى حبك عذب وطاب، وما لم يجب خبث ومر. وإني أظن هذا مما لم يجب " . أخرجه الملا. وفي هذا دلالة على أن العيب الحادث إذا كان مما لا يطلع على العيب القديم إلا به لا يمنع الرد.
الحديث الحادي عشر ومائة: عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب علياً في حياته وبعد مماته " أخرجه أحمد.
الحديث الثاني عشر ومائة: عن عمار بن ياسر، قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " يا علي، طوبى لمن أحبك وصدقك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك " . أخرجه ابن عرفة.(2/22)
الحديث الثالث عشر ومائة: عن علي - رضي اللّه عنه - قال: قال لِي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فيك مثل من عيسى، أبغضه اليهود حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلته بالمنزلة التي ليس بها " ، ثم قال علي - رضي اللّه عنه - : " يهلك في رجال مُحب مفرط يقرظني بما ليس في، ومُبغض مفترٍ يحمله شنآني على أن يبهتني " . أخرجه أحمد في المسند. ومعنى بهتوا: كذبوا عليه، والبهت: الكذب وقول الزور.
الحديث الرابع عشر ومائة: عن أبي الجمراء، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في فهمه، وإلى إبراهيم في حكمه، وإلى زكريا بن يحيى في زهده، وإلى موسى بن عمران في بطشه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب " أخرجه الحاكمي والقزويني.
الحديث الخامس عشر ومائة: عن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت: رأيت أبا بكر يكثر النظر إلى وجه علي، فقلت: يا أبت، رأيتك تكثر النظر إلى وجه علي فقال: يا بنية، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " النظر إلى وجه علي عبادة " . أخرجه ابن السمان في الموافقة.
الحديث السادس عشر ومائة: عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " ما مررت بسماء إلا وأهلها يشتاقون إلى علي بن أبي طالب، وما في الجنة شيء إلا وهو مشتاق إلى علي بن أبي طالب " أخرجه الملا في سيرته.
الحديث السابع عشر ومائة: عن ابن عباس - أيضاً - : " أن رسول الله صف المهاجرين والأنصار صفين، ثم أخذ بيد علي والعباس من بين الصفين وضحك؛ فقال له رجل: من أي شيء ضحكت فداك أبي وأمي. قال: هبط علي جبريل بأن الله باهى بالمهاجرين والأنصار أهل السموات العلا، وباهى بك يا علي، وبك يا عباس حملة العرش " . أخرجه أبو القاسم في الفضائل.
الحديث الثامن عشر ومائة: عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: " بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أدعو عليَّاً، فأتيت بيته فناديته فلم يجبني، فعدت فأخبرت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال لي: عد إليه ادعه فإنه في البيت، قال أبو ذر: فعدت أناديه فسمعت صوت رحى تطحن، فشارفت فإذا الرحى تطحن، وليس معها أحد، فناديته، فخرج إليَ منشرحاً فقلت: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدعوك، فجاء، ثم لم أزل أنظر إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وينظر إلي فقال: يا أبا ذر، ما شأنك؟ فقلت: يا رسول اللّه، عجبت من العجب، رأيت رحى تطحن وليس معها أحد يديرها فقال: يا أبا ذر، إن للّه ملائكة يسيحون في الأرض قد وكلوا بمعونة آل محمد صلى الله عليه وسلم " أخرجه الملا في سيرته.
الحديث التاسع عشر ومائة: عن أبي سعيد الخدري، قال: اشتكى الناس علياً يومَاً، فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً، فسمعته يقول: " أيها الناس لا تشكوا علياً، فواللّه إنه لأخشى في ذات اللّه - عز وجل - أو في سبيل اللّه " . أخرجه أحمد.
الحديث العشرون ومائة: عن عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه - أنه قال: أشهد على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لسمعته وهو يقول: " لو أن السموات السبع والأرضين السبع وضعت في كفة؛ ووضع إيمان علي في كفة - لرجح إيمان علي " . أخرجه ابن السمان والحافظ السلفي.
الحديث الحادي والعشرون ومائة: عن - علي رضي اللّه عنه - قال: " قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يا علي، كيف أنت إذا زهد الناس في الآخرة، ورغبوا في الدنيا، وأكلوا التراث أكلا لماً، وأحبوا المال حبُّاً جمُّا، واتخذوا دين اللّه دخلا، ومال اللّه دولا؟ قلت: أتركهم وما اختاروا، وأختار اللّه ورسوله والدار والآخرة، وأصبر على مصيبات الدنيا وبلواها، حتى ألحق بك - إن شاء اللّه تعالى - قال: صدقت، اللهم افعل به ذلك " . أخرجه الحافظ أبو طاهر السلفي.(2/23)
الحديث الثاني والعشرون ومائة: عنه - رضي اللّه عنه - أيضاً، قال: " جعت بالمدينة جوعاً شديداً، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدراً فظننتها تريد بَلَهُ، فعاطيتها كل دلو بتمرة، فمددت ستة عشر دلواً حتى مجلت يدي، ثم أتيتها فقلت: بكلتا يدي هكذا بين يديها فعدت لي ست عشرة تمرة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأكل معي منها، وقال لي خيرَاً، ودعا لي " . أخرجه أحمد وصاحب الصفوة والفضائل. قوله مجلت يدي، أي: نفطت من العمل. وقوله فعاطيتها: من المعاطاة، وهي: المناولة، كأن كل واحد منهما أخذ بيد صاحبه على ذلك إذا عاقده عليه، وإن لم يوجد أخذ يد حساً.
الحديث الثالث والعشرون ومائة: عن سهل بن سعد: أن علي بن أبي طالب دخل على فاطمة، والحسن والحسين يبكيان؛ فقال: ما يبكيهما؟ قالت: الجوع. فخرج علي فوجد ديناراً في السوق فجاء إلى فاطمة فأخبرها، فقالت: اذهب إلى فلان اليهودي فخذ لنا به دقيقاً؛ فجاء إلى اليهودي فاشترى به دقيقَاً، فقال: أنت ختن هذا الذي يزعم أنه رسول الله؟ قال: نعم. قال: فخذ دينارك، ولك الدقيق. فخرج علي رضي اللّه عنه حتى جاء فاطمة فأخبرها، فقالت: اذهب إلى فلان الجزار، فخذ لنا بدرهم لحماً، فذهب علي فرهن الدينار على لحم بدرهم فجاء به، فعجنت الدقيق وخبزته، وأرسلت إلى أبيها فجاءهم، فقال: يا رسول اللّه، أذكر لك، فإن رأيته حلالا أكلنا. فذكرت له من شأنه، قال: كلوا باسم الله. فبينما هم مكانهم، إذا غلام ينشد الله والإسلام الدينار، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعى له فسأله، فقال: سقط مني في السوق. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يا علي، اذهب إلى الجزار فقل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أرسل إلي بالدينار ودرهمك علي. فأرسل به فدفع الدينار إلى الغلام " . أخرجه أبو داود.
الحديث الرابع والعشرون ومائة: عن أسماء بنت عميس، عن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتاها يوماً فقال: أين ابناي. يعني حسناً وحسينَاً. قالت: أصبحنا وليس في بيتنا ما يذوقه ذائق، فقال لي علي: أذهب بهما؛ فإني أتخوف أن يبكيا عليك وليس عندك شيء، فذهب بهما إلى فلان اليهودي، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما يلعبان في مشربة وبين أيديهما فضل من تمر، فقال - عليه الصلاة والسلام - : يا علي، ألا تنقلب بابني قبل أن يشتد عليهما الحر. قالت: فقال علي: يا رسول اللّه، أصبحنا وليس في بيتنا شيء، فلو جلست حتى أجمع لفاطمة تمرات؟ فجلس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعلي ينزع لليهودي كل دلو بتمرة، حتى اجتمع له شيء من تمر، فجعله في حجزته، ثم أقبل النبي صلى الله عليه وسلم يحمل أحدهما وعلي يحمل الآخر. أخرجه الدولابي في الذرية الطاهرة.(2/24)
الحديث الخامس والعشرون ومائة: أخرج الإمام أحمد عن علي - رضي الله تعالى عنه - : " أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما تزوج فاطمة، بعث معها بخميلة، ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحيين وسقاء وجرتين، فقلت لفاطمة ذات يوم: والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه. فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مما جاء بك يا بنية؟ قال: جئت لأسلم عليك. واستحيت أن تسأله ورجعت. فقلت: ما صنعت؟ قالت: استحييت أن أسأله. فأتيناه معاً. فقلت: يا رسول الله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: وقد طحنت حتى مجلت يدي، وقد جاء اللّه بسبي وسعة فأخذ منا. قال: لا والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم. ولكن أبيعه وأنفق عليهم أثمانهم، فرجعنا. فأتانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد دخلنا قطيفة لنا إذا غطينا رءوسنا انكشفت أقدامنا، وإذا غطينا أقدامنا انكشفت رءوسنا، فلما رأيناه ثرنا!، فقال: مكانكما. ثم قال: ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ قلنا: بلى. قال: كلمات علمنيهن جبريل فقال: تسبحان اللّه دبر كل صلاة عشراً وتحمدان عشرَاً وتكبران عشراً، وإذا أويتما إلى فراشكما سبحاً ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا ثلاثَاً وثلاثين. قال علي: فما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين " . قوله سنوت: استقيت. والسانية: الناضحة التي يستقى عليها الماء.
الحديث السادس والعشرون ومائة: عن البراء بن عازب قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام، وكنت فيمن سار معه، فأقام عليهم ستة أشهر لا يجيبونه إلى شيء، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وأمره أن يرسل خالداً ومن معه إلا من أراد البقاء مع علي فيتركه، قال البراء: وكنت مع من عقب مع علي، فلما انتهينا إلى أوائل اليمن، وبلغ القوم الخبر فجمعوا له، وصلى علي بنا الفجر، فلما فرغ صف بنا صفاً واحداً، ثم تقدم بين أيدينا فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ كتابه خرَ ساجداً وقال: السلام على همدان، السلام على همدان " . أخرجه أبو عمرو.
الحديث السابع والعشرون ومائة: عن عبيدة السلماني قال: " ذكر على الخوارج فقال: فيهم رجل مخدج اليد، لولا أن تبطروا لأخبرتكم بما وعد اللّه تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لمن قتلهم، قال: فقلت لعلي: أسمعته من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي ورب الكعبة، إي ورب الكعبة " . أخرجه مسلم.
الحديث الثامن والعشرون ومائة: عن ابن مسعود - رضي اللّه عنه - " أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتى منزل أم سلمة، فجاء علي فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: هذا قاتل القاسطين والناكثين والمارقين بعدي " . أخرجه الحاكم. القاسطون: الجائرون، من القَسْطِ، بفتح القاف، والقصود وهو الجور، والقِسط بكسر القاف: العدل.
الحديث التاسع والعشرون ومائة: أخرج الطبراني والحاكم وصححه عن أم سلمة قالت: " كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا غضب لم يجترئ أحد أن يكلمه إلا علي - رضي اللّه عنه " .
الحديث الثلاثون ومائة: أخرج الديلمي عن عائشة - رضي اللّه تعالى عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير أخوتي علي، خير أعمامي حمزة " .
الحديث الحادي والثلاثون وماته: أخرج الطبراني في الأوسط عن أم سلمه، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا على الحوض " .
الحديث الثاني والثلاثون ومائة: أخرج أبو يعلى عن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم التزم علياً وقبله وهو يقول: بأبي، الوحيد الشهيد بأبي، الوحيد الشهيد " .
الحديث الثالث والثلاثون ومائة: أخرج الحاكم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " علي إمام البررة، وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله " .(2/25)
الحديث الرابع والثلاثون ومائة: أخرج الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " علي باب حطة، من دخل منه كان مؤمناً، ومن خرج منه كان كافرَاً " .
الحديث الخامس والثلاثون ومائة: عن علي الرضي ابن الإمام موسى الكاظم: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أنت قسيم الجنة والنار، فيوم القيامة تقول النار: هذا لي وهذا لك " . وأخرج الدارقطني أن علياً قال للستة الذين جعل الأمر شورى بينهم كلاماً طويلا من جملته: أنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أنت قسيم النار يوم القيامة غيري؟ قالوا: اللهم لا.
الحديث السادس والثلاثون ومائة: أخرج ابن أبي شيبة أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: " أيها الناس، يوشك أن أقبض قبضاً سريعا فينطلق بي، وقد قَدمت إليكم القول معذرة إليكم، ألا إني مخلف فيكم الثقلين؛ كتاب اللّه عز وجل، وعترتي أهل بيتي " ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال: " هذا علي مع القرآن، والقرآن مع علي، لا يفترقان حتى يردا على الحوض فاسألهما ما خلفت فيهما " .
الحديث السابع والثلاثون ومائة: روى سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم، عن علي - رضي اللّه تعالى عنه - قال في قوله تعالى: " وَتعَيِها أُذُن وَاعيَة " " الحاقة: 12 " ، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " يا علي، إن اللّه تعالى أمرني أن أدنيك ولا أقصيك، وأن أعلمك وأن تعي، وحق لك أن تعي، سألت ربي أن يجعلها أذنيك " قال مكحول: وكان علي يقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فنسيته.
الحديث الثامن والثلاثون ومائة: روى الديلمي عن أنس أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " أعلم الناس بعدي علي بن أبي طالب " .
الحديث التاسع والثلاثون ومائة: روى الطبراني في الكبير عن محمد بن عبد اللّه ابن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعث علياً مبعثَا، فلما قدم قال: " اللّه ورسوله وجبريل عنك راضون " .
الحديث الأربعون ومائة: روى الخطيب والديلمي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " ذكر علي عبادة " .
الحديث الحادي والأربعون ومائة: روى الديلمي عن أبي ذر، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " علي مني ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي، حبه إيمان وبغضه نفاق " .
الحديث الثاني والأربعون ومائة. روى أبو نعيم في الحلية عن علي - رضي الله عنه - : أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له: " مرحباً بسيد المسلمين، وإمام المتقين " .
الحديث الثالث والأربعون ومائة: روى الديلمي، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعلي: " من أحبك فبحبي أحبك، فإن العبد ينال ولايتي إلا بحبك " .
الحديث الرابع والأربعون ومائة: روى أبو نعيم في الحلية، عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا علي، إن الله زينك بزينة لم تزين العباد بزينة أحي إلى اللّه منها؛ هي زينة الأبرار عند الله؛ الزهد في الدنيا؛ فجعلك لا ترزأ من الدنيا شيئاً، ولا ترزأ الدنيا منك شيئاً، ووهب لك حب المساكين، فجعلت ترضى بهم أتباعَاً، ويرضون بك إماماً " .
الحديث الخامس والأربعون ومائة: روى الخطيب والرافعي عن علي - رضي اللّه عنه - أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له: " سألت اللّه فيك يا علي أربعاً فمنعني واحدة وأعطاني ثلاثَاً: سألت الله أن يجمع عليك أمتي فأبى عَلَيَ، وأعطاني منك أن أول من تنشق الأرض عنه أنا وأنت، ومعي لواء الحمد وأنت تحمله بين يدي؛ تسبق الأولين والآخرين، وأعطاني أنك ولي المؤمنين بعدي " .
الحديث السادس والأربعون ومائة: روى ابن عساكر، عن عمار بن ياسر - رضي اللّه عنه - : أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " يا علي، ستقتلك الفئة الباغية، وأنت على الحق، فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني " .(2/26)
الحديث السابع والأربعون ومائة: عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن قال: نادى ملك من السماء يقال له: رضوان: " لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي " أخرجه الحسن بن عرفة العبدي. قلت: ذو الفقار هو سيف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غنمه يوم بدر، وكان سيف نبيه بن الحجاج فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم علياً كرم الله وجهه. قال أبو العباس: سمي بذلك لأنه كان به حفر صغار. الفقرة: الحفرة الصغيرة التي تكون فيه، والمفقر من السيوف الذي فيه خروز، والعامة تسميه المعَير. وفي ذكرى أن عدة الفقر في سيفه المذكور - كرم اللّه وجهه - ست عشرة فقرة.
الحديث الثامن والأربعون ومائة: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: " كان أبي يسمر مع علي - رضي اللّه عنه - وكان علي يلبس ثياب الصيف في الشتاء وثياب الشتاء في الصيف، فقيل له: لو سألته! فسأله، فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليَ يوم خيبر، وأنا أرمد العين؛ فقلت: يا رسول الله، إني أرمد العين؛ فتفل في عيني وقال: " اللهم أذهب عنه الحر والبرد " ، فما وجدت حراً ولا بردَاً منذ يومئذ، وقال: " لأعطين الراية غداً رجلا يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، يكون الفتح على يده " فتشوف لها أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأعطانيها " . أخرجه الإمام أحمد. وعن جابر بن عبد اللّه: أن علي بن أبي طالب حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه ففتحوها، وبعد ذلك لم يحمله أربعون رجلا. وفي طريق ضعيف: ثم اجتمع عليه سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب. أخرجها الحاكم.
الحديث التاسع والأربعون ومائة: حدثنا إبراهيم بن أحمد الفضائلي بإسناد يرفعه إلى أبي مالك الأشجعي رواه، " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هبط علي جبريل يوم حنين فقال: يا محمد، إن ربك تبارك وتعالى يقرئك السلام، ويقول: ادفع هذه الأترجة إلى ابن عمك ووصيك علي بن أبي طالب، قال فدفعتها إليه؛ فوضعها في كفه، فانفلقت نصفين، فخرج منها رق أبيض مكتوب فيه بالنور: تحية من الطالب الغالب إلى علي بن أبي طالب " .
الحديث الخمسون ومائة: أخرج الديلمي في " مسند الفردوس " ، عن سلمان، عنه صلى الله عليه وسلم: " كنت أنا وعلي نوراً بين يدي اللّه مطبقاً، يسبح اللّه ذلك النور ويقدسه قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق اللّه آدم ركب ذلك النور في صلبه فلم يزل في شيء واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب فجزء أنا وجزء علي " .
الحديث الحادي والخمسون ومائة: عن أم سلمة: " لو لم يخلق عليٌ ما كان لفاطمة كفؤ " . أخرجه في مسند الفردوس.
الحديث الثاني والخمسون ومائة: عن علي نفسه: " لو أن عبداً عبد اللّه مثل ما قام نوح في قومه، وكان له مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل اللّه، ومدَ في عمره حتى يحج ألف عام على قدميه، ثم قتل بين الصفا والمروة مظلوماً، ثم لم يوالك يا علي - لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها " . أخرجه الديلمي.
الحديث الثالث والخمسون ومائة: عن ابن عباس: " لو اجتمع الناس على حب علي بن أبي طالب لما خلق اللّه النار " . أخرجه الديلمي.
الحديث الرابع والخمسون ومائة: عن حذيفة: " مثل علي بن أبي طالب في الناس مثل " قُل هُوَ اَللَّهُ أَحَد " في القرآن " . أخرجه الديلمي أيضاً. انتهى.
قلت: هذا ما ظفرت به مما ورد في شأنه خاصة، وأما ما ورد في شأنه مع الواحد أو مع الاثنين أو مع الثلاثة أو مع الأربعة أو مع العشرة فلم أورد منه شيئاً أصلا، وكذلك ما ورد من الثناء عليه من الصحابة والأكابر والسلف الصالح، وما أثر من كراماته ومكاشفاته وزهده، وورعه وسماحته وحماسته، وفصاحته وعبادته، ومناقبه الحميدة، وشمائله الفريدة، فلم أورد من ذلك شيئاً، إذ لو رمت استيعاب بعض ذلك لخرج الكتاب بذلك عن وضعه المقصود بالذات، فاعتمدت على ما أثبته الأئمة الإثبات، وأوح بطون الكتب المصنفات.
ذكر أقضيته
رضي الله عنه
عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده قال: أتى عمر بن الخطاب بامرأة حامل قد اعترفت بالفجور فأمر برجمها، فتلقاها علي فقال: ما بال هذه؟ قالوا: أمر عمر برجمها، فردها علي وقال لعمر: هذه سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟ فقال عمر: كل أحد أفقه منك يا عمر، فضمها حتى وضعت غلاماً ثم ذهب بها إليه فرجمها.(2/27)
وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: أتى عمر بامرأة أجهدها العطش فمرت براع فاستسقته فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها ففعلت، فشاور الناس في رجمها فقال علي هذه مضطرة إلى ذلك فخل سبيلها ففعل.
وعن أبي ظبيان، قال: شهدت عمر أتى بامرأة قد زنت؛ فأمر برجمها، فانتزعها علي من بين أيديهم فردهم، فرجعوا إلى عمر فقالوا: ردنا علي، قال عمر: ما فعل هذا علي إلا لشيء، فأرسل إليه فجاء فقال: ما لك رددت هذه؟ قال: أنا سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يحتلم، وعن المبتلى حتى يعقل. قال: بلى، قال: فهذه مبتلاة بني فلان، فلَعله أتاها وغر بها. قال عمر: لا أدري. قال علي: وأنا لا أدري. فترك رجمها.
وعن مسروق أن عمر أتى بامرأة قد نكحت في عدتها ففرق بينهما، وجعل مهرها في بيت المال، وقال: لا يجتمعان أبداً، فبلغ ذلك علياً فقال: إن كان جاهلا فلها المهر بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما. فإذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب. فخطب عمر وقال: ردوا الجهالات إلى السنة. فرجع إلى قول علي - رضي الله عنهما - أخرج جميع ذلك ابن السمان في الموافقة. وأخرج حديث أبي ظبيان الإمام أحمد.
وعن ابن سيرين: أن عمر سأل الناس: كم يتزوج المملوك؟ فلم يجب أحد. فقال لعلي: إياك أعني يا صاحب المعافري - رداء كان عليه - فقال: اثنتين.
وعن محمد بن زياد قال: كان عمر حاجاً فجاءه رجل قد لطمت عينه فقال: من لطم عينك؟ قال: علي بن أبي طالب. فقال: لقد وقعت عليك عين اللّه، ولم يسأل ما جرى منه ولم لطمه؟، فجاء علي والرجل عند عمر، فقال علي: هذا الرجل يطوف وهو ينظر إلى الحُرم في الطواف، فقال عمر: أحسنت يا أبا الحسن. ثم أقبل على الرجل فقال: وقعت عليك عين من عيون اللّه عز وجل؛ فلا حق لك.
وعن حنش بن المعتمر: أن رجلين أتيا امرأة من قريش، واستودعاها مائة دينار. وقالا: لا تدفعيها إلى واحد منا دون صاحبه حتى نجتمع. فلبثا حولا ثم جاء أحدهما إليها وقال: إن صاحبي قد مات فادفعي إليَ الدنانير، فأبت. فثقل عليها بأهلها، فلم يزالوا بها حتى دفعتها إليه. ثم لبث حولاَ آخر فجاء الآخر وقال: ادفعي إلي الدنانير، فقالت: إن صاحبك جاءني فزعم أنك قد مت فدفعتها إليه. فاختصما إلى عمر، فأراد أن يقضي عليها، وروى أنه قال لها: ما أراك إلا ضامنة. فقالت: أنشدك الله أن تقضي بيننا أو ادفعنا إلى علي بن أبي طالب، فدفعهما عمر إلى علي وعرف أنهما قد مكرا بها فقال: أليس قلتما: لا تدفعيها إلى رجل منا دون الآخر. قال: بلى. قال: فإن مالك عندنا، اذهب فجئ بصاحبك حتى ندفعها إليكما.
وعن أبي سعيد الخدري، سمع عمر يقول لعلي - وقد سأله عن شيء فأجابه: أعوذ باللّه أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن. وعن يحيى بن عقيل قال: كان عمر يقول لعلي إذا سأله ففرج عنه: لا أبقاني الله بعدك يا علي. وعن محمد بن يحيى بن حبان بن منقذ، كان تحته امرأتان هاشمية وأنصارية، فطلق الأنصارية، ثم مات على رأس الحول، فقالت: لم تنقض عدتي، فارتفعوا إلى عثمان، فقال: هذا ليس لي به علم، فارتفعوا إلى علي بن أبي طالب فقال: تحلفين عند منبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن لم تحيضي ثلاث حيضات ولك الميراث، فحلفت فاشتركت في الميراث. أخْرجه ابن حرب الطائي.
وعن زر بن حبيش قال: جلس اثنان يتغديان، مع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة أرغفة، وجلس إليهما ثالث، واستأذن في أن يأكل من طعامهما فأذنا له، فأكلوا على السواء ثم ألقى إليهما ثمانية دراهم وقال: هذا عوض عما أكلت من طعامكما، فتنازعا في قسمها، فقال صاحب الخمسة: لي خمسة ولك ثلاثة، وقال صاحب الثلاثة: بل نقسمها على السواء. فترافعا إلى علي - كرم اللّه وجهه - فقال لصاحب الثلاثة: اقبل من صاحبك ما عرض عليك. قال: فقال ما أريد إلا الحق. فقال علي: لك الحق درهم واحد وله سبعة. قال: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين. قال: لأن الثمانية أربعة وعشرون ثلثَاً، لصاحب الخمسة خمسة عشر ولك تسعة، وقد استويت في الأكل وأكلت ثمانية وبقي لك واحد، وأكل صاحبك ثمانية وبقي له سبعة، وأكل الثالث ثمانية سبعة لصاحبك وواحد لك. فقال: رضيت الآن. أخرجه الخلعي.(2/28)
وعن علي - رضي اللّه عنه - أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فوجد أربعة قد وقعوا في حفرة حفرت ليصطادوا فيها الأسد، سقط أولا رجل فتعلق بآَخر وتعلق الآخر بآخر حتى تساقط الأربعة، فجرحهم الأسد فماتوا من جراحته، وتنازع أولياؤهم حتى كادوا يقتتلون، فقال علي: أنا أقضي بينكم، فإن رضيتم فهو القضاء، وإلا حجزت بعضكم عن بعض حتى تأتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليقضي بينكم. اجمعوا من قبائل الذين حفروا البئر ربع الدية وثلثها ونصفها ودية كاملة؛ فللأول ربع الدية؛ لأنه أهلك من فوقه، والذي يليه ثلثها لأنه أهلك من فوقه، وللثالث النصف؛ لأنه أهلك من فوقه، وللرابع دية كاملة. فأبوا أن يرضوا، فأتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلقوه عند مقام إبراهيم فقصوا عليه القصة، فقال: أنا أقضي بينكم واحتبي ببردة، فقال رجل من القوم: إن علياً قضى بيننا. فلما قصوا عليه ما قضاه أجازه. أخرجه أحمد في المناقب.
وعن الحارث عن علي: أنه جاءه رجل بامرأة فقال: يا أمير المؤمنين، دلست على هذه وهي مجنونة. قال: فصعد على بصره فيها وصوبه، وكانت امرأة جميلة فقال: ما يقول هذا؟ قالت: والله يا أمير المؤمنين ما بي جنون، ولكني إذا كان ذلك الوقت غلبتني غشية، فقال علي: خذها، ويحك!، وأحسن إليها، فما أنت لها بأهل. أخرجه أبو طاهر السلفي. قلت: هذه الربوح من النساء فسل عتها وتأمل قول الإمام لزوجها: ما أنت لها بأهل - رضي اللّه عنه وكرم وجهه.
وعن زيد بن أرقم قال: أتى على باليمن بثلاثة نفر وقعوا على جارية في طهر واحد، فولدت ولداً فادعوه، فقال لأحدهم: تطيب به نفساً لهذا؟ قال: لا. وقال للآخر: تطيب به نفساً لهذا؟ قال: لا. قال: أراكم شركاء متشاكسين، إني مقرع بينكم؛ فمن أصابته القرعة غرمته ثلثي القيمة وألزمته الولد، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما أجد فيها إلا ما قال علي.
وقد روي عنه - رضي اللّه عنه - أنه كان على منبر الكوفة فسأله سائل عن رجل هلك وخلَف أبوين وبنتين وزوجة، وهذه المسألة من أربعة وعشرين، وتعول بثمنها وتسمى المنبرية؛ لأنه سئل عنها وهو على المنبر يخطب وكانت خطبته على حرف العين، فقال: الحمد لله الذي يحكم بالحق قطعاً، ويجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآب والرجعى، فسئل عن هذه فقال: بديهة على فقر الخطبة: صار ثمن المرأة تسعاً. ثم استمر على أسلوب خطبته، رضي اللّه عنه وكرم وجهه.
وعن جميل بن عبد اللّه بن زيد قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم قّضاء قضي به علي فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " الحمد للّه الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت " . أخرجهما أحمد في المناقب.(2/29)
وعن ابن إسحاق: أن عثمان لما قتل، بويع علي بن أبي طالب بيعة العامة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايع له أهل البصرة، وبايع له بالمدينة طلحة والزبير، قال أبو عمرو: واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، وتخلف عن بيعته نفر فلم يكرههم، وسئل عنهم فقال: أولئك قوم قعدوا عن الحق، ولم يقوموا مع الباطل - كما تقدم ذكر ذلك. وتخلف عنه معاوية ومن معه بالشام، وكان منهم في صفين ما كان، ثم خرج عليه الخوارج فكفروه وكل من معه؛ إذ رضي بالتحكيم في دين اللّه بينه وبين أهل الشام، فقالوا: حكمت الرجال في دين الله، والله تعالى يقول: " إِنِ اَلحُكمُ إلا للَه " " يوسف: 40 " فقال علي كلمة حق أريد بها باطل ثم اجتمعوا وشقوا عصا المسلمين، ونصبوا راية الخلاف، وسفكوا الدماء وقطعوا السبيل؛ فخرج إليهم بمن معه فرام رجعتهم فأبوا إلا القتال، فقاتلهم بالنهروان فقتلهم واستأصل جمهورهم، ولم ينج منهم إلا القليل. ثم تشاوروا وتواعد منهم أولئك الثلاثة النفر: عبد الرحمن بن ملجم، والبرك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكر التميمي - أيضاً - على قتل أولئك الثلاثة علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فأما البرك؛ فإنه ضرب معاوية فأصاب أوراكه وكان عظيم الأوراك فقطع منه عرق النكاح فلم يولد له بعد ذلك، فلما أخذ قال: الأمان والبشارة؛ فقد قتل علي في هذه الليلة، فاستبقاه معاوية حتى جاء الخبر بذلك، فقطع يده ورجله وأطلقه، فرحل إلى البصرة فأقام بها حتى بلغ زياداً أنه تزوج وولد له، فقال: أيولد له وأمير المؤمنين لا يولد له؟. فقتله. قالوا: وأمر معاوية باتخاذ المقصورة من ذلك الوقت، يعني وقت أن ضرب.
وأما عمرو بن بكر؛ فإنه رصد عمرو بن العاص فاشتكى عمرو بطنه ذلك اليوم فلم يخرج للصلاة، فاستناب رجلاً من الناس من بني سهم يقال له: خارجة، فضربه عمرو بن بكر فقتله فأخذ، فلما دخل به على عمرو بن العاص ورآهم يخاطبونه بالإمارة قال: أو ما قتلت عمراً؟. قيل: لا، وإنما قتلت خارجة، فقال: أردت عمراً والله أراد خارجة، فقتله عمرو بن العاص، فسلم معاوية وعمرو وفاز علي بالشهادة، رضي اللّه عنه وكرم وجهه: من البسيط،
فليتَهَا إذ فدَت عمراً بخارجةٍ ... فدَت علياً بمَنْ شاءَت من البَشَرِ
وعن الزهري قال: قدمت دمشق وأنا أريد العراق، فأتيت عبد الملك لأسلم عليه، فوجدته في قبة على فراش يفوت القائم وتحته سماطان، فسلمت عليه ثم جلست؛ فقال لي: يا بن شهاب، أتعلم ما كان ببيت المقدس صباح مقتل علي؟ فقلت: لا، فقال: هلم. فقمت من وراء الناس حتى أتيت خلف القبة، وحول إلي وجهه، وأحنى علي، فقلت: ما كان؟. فقال: لم يرفع حجر من بيت المقدس إلا وجد تحته دم، فقال: لم يبق أحد يعرف هذا غيري وغيرك، فلا يسمعوا منك. فما حدثت به حتى ماتوا. أخرجه ابن الضحاك في الآحاد والمثاني.
ذكر أولاده
رضي اللّه تعالى عنه وكرم وجهه:
كان له من الولد أربعة عشر ذكراً وثمان عشرة أنثى: الحسن والحسين، وسيأتي ذكرهما؛ هذا عند خلافته وهذا عند دعوته. ومحسن مات صغيراً، أمهم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحمد الأكبر أمه خولة بنت إياس بن جعفر الحنفية، ذكره الدارقطني قال: وأخته لأمه عوابة بنت أبي مكمل الغفارية، وقيل: بل كانت أمه من سبى اليمامة فصارت إلى علي، وإنما كانت أمه لبني حنيفة سندية سوداء ولم تكن من أنفسهم، أعطاه إياها أبو بكر من سبى بني حنيفة. أخرجه ابن السمان.(2/30)
وعبد اللّه قتله المختار، وأبو بكر قتل ب الطف لما مع الحسين، أمهما ليلى بنت مسعود بن خالد النهشلي،، وهي التي، تزوجها عبد الله بن جعفر خلف عليها بعد عمه على جمع بين زوجة علي وابنته؛ فولدت له صالحاً وأم أبيها وأم محمد بني عبد الله ابن جعفر؛ فهم أخوة أبي بكر وعبد اللّه ابني علي لأمهما. ذكره الدارقطني. والعباس الأكبر وعثمان وجعفر وعبد اللّه قتلوا مع الحسين - أيضاً - أمهم أم البنين بنت حرام بن خالد الوحيدية الكلابية. ومحمد الأصغر أمه أم ولد قتل مع الحسين، ويحيى وعون، أمهما أسماء بنت عميس الخثعمية، فهما أخوا بني جعفر ابن أبي طالب، وأخوا محمد بن أبي بكر لأمهم؛ لأن علياً تزوج أسماء هذه بعد أبي بكر الصديق، وقد أتت من أبي بكر بمحمد. وأبو بكر تزوجها بعد قتل جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة، بعد أن ولدت منه عدة أولاد. وعمر الأكبر، أمه أم حبيب الصهباء التغلبية، سبية سباها خالد بن الوليد في الردة، فاشتراها علي كرم اللّه وجهه. ومحمد الأوسط، أمه أمامة بنت أبي العاص من زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر الإناث: أم كلثوم الكبرى، وزينب الكبرى، شقيقتا الحسن والحسين، ورقية شقيقة عمر الأكبر من أم حبيب المذكورة، وأم الحسن ورملة الكبرى، أمهما أم سعد بنت عروة بن مسعود الثقفي، وأم هانئ وميمونة ورملة الصغرى وزينب الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانه ونقية ونفيسة لأمهات أولاد، شتى، ذكرهم ابن قتيبة وصاحب الصفوة، فجملتهم اثنان وثلاثون ولداً، وعدهم الحافظ محمد بن يوسف الشامي في سيرته سبعة وثلاثين: عشرين ذكراً، وسبع عشرة أنثى. الحسن والحسين ومحسن ومحمد الأكبر وعمر الأكبر والعباس الأكبر، كلهم أعقبوا، ومحمد الأصغر قتل ب الطائف، والعباس الأصغر وعمر الأصغر وقتل ب الطف لما، وعثمان طفل، وجعفر قتل ب الطف، وجعفر مات طفلاً، وعبد اللّه الأكبر قتل ب الطف، وعبد اللّه مات طفلاً، وأبو علي يقال: قتل ب الطف، وعبد الرحمن وحمزة ورجاء وأبو بكر عتيق، يقال: قتل ب الطف، وعون درج، ويحيى مات طفلاً. وبناته: زينب الكبرى وزينب الصغرى وأم كلثوم الصغرى ورقية الكبرى ورقية وفاطمة الصغرى وفاخِتة وأمة اللّه وجمانة ورملة وأم سلمة وأم الحسين وأم الكرام وهي نفيسة وميمونة وخديجة وأمامة فالجميع سبعة وثلاثون، العقب منه في الحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية وعمر والعباس، هؤلاء الخمسة.
وتزوج بنات علي بنو عقيل وبنو العباس ما خلا أم كلثوم بنت فاطمة كانت تحت عمر بن الخطاب فولدت له زيداً ورقية ابني عمر بن الخطاب، ثم مات عنها عمر فتزوجها بعدهُ عبد اللّه بن جعفر فمات عنها، ثم تزوجها بعده أخوه محمد بن جعفر فجاء منها ببنت، ثم مات عنها محمد فتزوجها عون بن جعفر أخوهما فماتت عنده. وأم الحسن تزوجها جعفر بن هبيرة المخزومي، وفاطمة تزوجها سعيد بن الأسود من بني الحارث بن فهر.
كانت خلافته - رضي الله تعالى عنه - أربع سنين وتسعة أشهر ويوماً واحداً؟ وكانت مدة إقامته بالمدينة بعد أن ولي الخلافة أربعة أشهر، ثم صار إلى العراق، وقتل بالكوفة.
وللناس خلاف في مدة عمره قد تقدم، وكذلك في قدر خلافته، رضي اللّه عنه وكرم الله وجهه
ذكر شيء مما أثر من حكمه وكلماته وأشعاره
كان - رضي الله عنه - أفصح الناس وأعلمهم بالله، وأشدهم حباً وتعظيماً لخدمة لا إله إلا اللّه. وقيل له: ألا تحرس نفسك؟. قال: حارس كل إنسان أجله، وإن الأجل جنة حصينة. وقال - رضي اللّه عنه - : كونوا بقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل؛ فإنه لن يقبل عمل مع التقوى، وكيف يقبل عمل متقبل؟ وقال - رضي اللّه عنه وكرم وجهه - : ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير في أن يكثر علمك وحلمك، وتكون مشغولاً بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت اللّه تعالى، وإن أسأت استغفرت اللّه، ولا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: رجل أذنب ذنباً فهو يتدارك ذلك بتوبة، ورجل يسارع في الخيرات.
وقال - رضي الله تعالى عنه - : احفظوا عني خمساً فلو ركبتم الإبل في طلبهن لا تبلغوهن: لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي جاهل أن يسأل عالماً بعلم، ولا يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، الله أعلم. والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له.(2/31)
وقال - رضي الله تعالى عنه - : إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل؛ أما اتباع الهوى؛ فبعيد عن الحق، وأما طول الأمل؛ فينسي الآخرة. ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل. ألا إن الفقيه - كل الفقيه - الذي لا يُقَنطُ الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم من عذاب الله، ولا يرخص لهم في معاصي اللّه، ولا يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره. ولا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في عمل لا فهم فيه، ولا خير في قراءة لا تدبر فيها.
وقال - رضي الله تعالى عنه - : كونوا ينابيع العلم، مصابيح الليل، خلق الثياب، جدد القلوب، تُعرفون في ملكوت السماء، وتذكرون في الأرض. وقال - رضي اللّه تعالى عنه - : يأيها الناس، إنكم والله لو حننتم حنين الواله الثكلان، وجأرتم جؤار مبتلى الرهبان، وخرجتم من الأموال والأولاد في التماس القرب إلى اللّه عز وجل، وابتغاء رضوانه، وارتفاع درجة عنده، أو غفران سيئة - كان ذلك قليلاً فيما تطلبون جزيل ثوابه، والخوف من عذابه. والله لو سالت عيونكم رغبة ورهبة إليه سبحانه وتعالى، ثم عُمرتم عمر الدنيا مجدين في الأعمال الصالحة، ولم تبقوا شيئاً من جهدكم لما دخلتم الجنة بأعمالكم؛ ولكن برحمته سبحانه وتعالى. جعلنا الله وإياكم من التابعين والعابدين.
وقال - رضي الله تعالى عنه - لكُمَيل بن زياد: القلوب أوعية فخيرها أوعاها.
احفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، مع كل ريح يميلون، لم يستنيروا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، العلم خير لك من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، والمال تنقصه النفقة، العلم حاكم والمال محكوم عليه، محبة العالم دين يدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته، ومنفعة المال تزول بزواله، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. إن هاهنا - وأشار إلى صدره - علماً جماً لو أصبت له حملة، بلى أصيب لفتى غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدنيا للدين، فيستظهر بحجج اللّه تعالى على كتابه، وبنعمه على عباده، وينقاد لأهل الباطل، لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، منهوماً للذات، سلس القياد للشهوات، أو مغرى بجمع الأموال والادخار، أقرب شبهاً بِهِمُ الأنعام السائمة، كذاك يموت العلم بموت حامله. واللّه يأبى أن تخلو الأرض من قائم لله عز وجل بحجته؛ لئلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك هم الأقلون عدداً، الأعظم عند الله قدراً، بهم يدفع الله عز وجل عن حججه حتى يؤديها إلى نظرائهم، ويزرعها في قلوب أشياعهم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فاستلانوا ما استوعر منه المشركون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء اللّه في بلاده، ودعاته إلى دينه. هاه هاه شوقاً إلى رؤيتهم. استغفر الله. انصرف إذا شئت.
وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: ما انتفعت بكلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا بشيء كتبه إلي علي بن أبي طالب؛ فإنه كتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم. أما بعد، يا أخي، فإنك تسر بما يصل إليك مما لم يكن يفوتك، ويسوؤك ما لم تحركه، فما نلت يا أخي من الدنيا فلا تكن به فرحاً، وما فاتك فلا تكن به حزيناً، وليكن عملك لما بعد الموت. والسلام.
ومن كلامه - رضي الله تعالى عنه - لو انكشف الغطاء ما ازددت يقيناً. وقال: لزهد في كلمتين من القرآن " لِكيلا تأسوا عَلىَ مَا فَاتَكُم وَلا تَفرحوا بما آتاكم " " الحديد: 23 " . ومن كلامه في المناجاة: كفاني غنى أن تكون لي ربا، وكفاني فخراً أن أكون لك عبداً. أنت لي كما أحب، فوفقني لما تحب.
ومن كلامه في العلم: المرء مخبوء تحت طي لسانه، لا تحت طيلسانه؛ فتكلموا تعرفوا ما ضاع امرؤ عرف قدره.(2/32)
ومن كلامه في الأدب: أنعم على من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره. وقال - رضي اللّه عنه - : من وسع عليه في دنياه فلم يعلم أنه مُكِرَ به فهو مخدوع في عقله. وقال - رضي اللّه عنه - : الدنيا جيفة، فمن أراد شيئاً منها فليصبر على مخالطة الكلاب. وله كلمات كثيرة مشهورة قد أفردت بالتصنيف والجمع، وقد قرأت منها نسخة في نحو الثلاثة كراريس، رضي اللّه عنه.
وفي سيرة الشامي: أتى - رضي الله عنه - بفالوذج فوضع بين يديه فقال: إنك طيب الرائحة، حسن اللون، طيب الطعم، ولكن أكره أن أعود نفسي ما لم تعتد. وكان بالخورنق وهو يرعد برداً تحت قطيفة، فقيل له: إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال حظاً، فقال: واللّه ما أرزؤكم من مالكم شيئاً، إنها لقطيفتي التي خرجت بها من المدينة.
ومما يروى من شعره - رضي اللّه تعالى عنه - قوله: من الوافر:
حقيقَ بالتواضُعِ مَنْ يموتُ ... ويكفي المرءَ مِنْ دنياهُ قوتُ
فما للمرءِ يصبحُ ذا هُمُوم ... وحرصٍ ليس تدركُهُ النعوتُ
صنيعُ مليكِنَا حَسَن جميل ... وما أرزاقُهُ عنا تَفُوتُ
وقال جواباً لمعاوية عن كتاب منه يفتخر فيه: من الوافر:
محمد النبيُ أخِي وصِهْرِي ... وحمزَةُ سيدُ الشهداءِ عَمي
وجعفَر الذي يُمْسِي ويُضْحِي ... يطيرُ مع الملائكَةِ ابنُ أُمي
وبنتُ محمدِ سَكَنِي وعِرسي ... توسط لَحمهَا بدمِي ولَحْمِي
وسبطا أَحْمَدٍ ولدايَ مِنْهَا ... فمن فِيكُمْ له قسْم كقسْمِي
سبقْتُكُمُ إلى الإسلامِ طُرُّا ... صغيراً ما بلغتُ أوانَ حِلْمِي
وأوجَبَ لي الولاءَ معاً عليْكُمْ ... رسول اللّه يَوْمَ غديرِ خم
كتبها إلى معاوية حين أرسل إليه معاوية كتاباً يقول فيه: يا أبا الحسن، إن لي فضائل كثيرة، كان أبي سيد - أو قائد - قريش في الجاهلية، وصرت ملكاً في الإسلام، وأنا صهر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وخال المؤمنين، وكاتب الوحي. فقال علي: أَبالفضائل يفخر عليَ ابن أكالة الأكباد؟!، فكتبها وأرسلها إليه.
قال أبو عمرو الزاهد: سمعت ثعلباً يقول: اجتمعت رواة الشعر من الكوفيين والبصريين فلم يزيدوا على عشرة أبيات صحيحة لأمير المؤمنين علي، وأجمعوا أن ما كان زائداً على العشرة فهو منحول، ومن الصحيح قوله في السندرة: من الرجز:
أنا الذي سمتْنِ أمي حيدرَهْ
كليثِ غاباتٍ كريهِ المنظرَهْ
أفيهِمُ بالكيلِ كَيْل السندرَهْ
أضربُهُمْ ضرباً يبينُ الفقَرَهْ
وأترُكُ القِرْنَ بقاعٍ مقفرَهْ
أقتُلُ منهمْ سبعَة وعشرَهْ
كلُهُمُ أهلُ فسوقٍ فَجَرَهْ
وقال محمد بن عمرو البلخي: أنشدنا أبو محمد بن محمد القاضي عن أبيه عن جده لأمير المؤمنين علي - كرم اللّه وجهه - قوله: من الوافر:
أتَم الناسِ أعرفُهُمْ بقصهْ ... وأقمعُهُمْ لشهوتِهِ وحِرْصِهْ
فدانِ على السلامةِ مَن تُدَانِي ... ومَن لا ترضَ صحبتَهُ فأقصِه
ولا تستَغلِ عافية بشَيء ... ولا تستَرخِصَن أذى كرخصه
وخَل الفحصَ ما استغنيتَ عنه ... فكَم مستجلبٍ عطباً بفحصِه
ومما ينسب إليه كرم الله وجهه: من الطويل:
ألا هَلْ إلى طُولِ الحياةِ سبيل ... وأني وهذا الموتُ لَيسَ يحولُ
وإني وإنْ أصبَحْتُ بالموتِ موقناً ... فلي أَمَلٌ دونَ اليقينِ طويلُ
وللدهرِ ألوانْ تروحُ وتَغتَدِي ... وإن نفوساً بينهُن تسيلُ
أرى عللَ الدنيَا علي كثيرة ... وصاحبُهَا حتى المماتِ عليلُ
إذا انقطَعَتْ عني مِنَ العيشِ مُدتي ... فإن بكاءَ الباكياتِ قليلُ
وإن افتقادِي فاطماً بعد أحمدٍ ... دليلٌ على ألا يدومَ خليلُ
ولم أرَ إنسانا يرى عيبَ نفسِهِ ... وإن كان لا يَخفى عليه جَمِيلُ(2/33)
ومَن ذا الذي يَنجُو من الناسِ سالماً ... وللناسِ قَالْ بالظنونِ وقيل
أَجَلكَ قوم حِينَ صرتَ إلى الغنَى ... وكُلُ غني في العيونِ جليلُ
ولَيسَ الغنَى إلا غنى زَينَ الفتَى ... عشية يُقرِي أو غداةَ يُنِيلُ
ولم يفتقرْ يوماً وإن كان معدماً ... سخي ولم يستَغنِ قَط بخيلُ
ومنه قوله - كرم الله وجهه - يمدحه صلى الله عليه وسلم: من الطويل:
أقِيكَ بنَفْسِي أيها المصطفى الذِي ... هَدَانا به الرحمنُ مِنْ غُمةِ الجهلِ
وتَفدِيكَ حوبائي وما قَدرُ مهجتي ... ومَنْ أنتمِي منه إلى الفَزعِ والأصْلِ
ومَن كان لي مذ كُنتُ طفلا ويافعاً ... وأنعشَنِي بالعل منه وبالنهلِ
ومَنْ جده جَدي ومَن عمه أبي ... ومن أهلُهُ أمي ومن بنتُه أهْلِي
ومن حينَ آخَى بين مَن كان حاضراً ... دعاني وآخانِي وبَيَّن مِن فضلي
لكَ الفضلُ إني ما حييتُ لشاكر ... لإحسانِ ما أوليتَ يا خاتَمَ الرسْلِ
قلت: ومن الصحيح ما أورده المجد الفيروزابادي، صاحب القاموس فيه نقلا عن الملا في قوله: من البسيط:
تلْكُمْ قريش تمناني لتَقْتُلَنِي ... فلا وربكَ ما بروا ولا ظَفِرُوا
فإن هلكتُ فرهنٌ مهجَتِي لَهُمُ ... بذاتِ ودقينِ لا تبقِى ولا تذر
ونقل عنه أنه لم يصح عن علي غيرهما وهو محجوج بنقل الثقات غيره غيرهما. ومن ذلك ما رواه ابن عساكر عن نبيط الأشجعي قال: قال علي رضي الله عنه:
إذا اشتملَتْ على اليأسِ القلوبُ ... وضاقَ بما بِهِ الصدرُ الرحيبُ
وأوطنَتِ المكارِهُ واطمأنت ... وأَرسَت في أماكِنِهَا الخطُوبُ
ولمْ يرَ لانكشافِ الضُر وجه ... ولا أغنَى بحيلتِهِ الأريبُ
أتاكَ على قنوطٍ منْكَ غَوث ... يجئُ به القريبُ المستجيبُ
وكُل الحادثاتِ إذا تناهَت ... فموصول بها الفرَجُ القريبُ
ومن ذلك ما رواه الشعبي قال: قال علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - لرجل كره صحبة رجل: من الهزج:
لا تصحَب أخا الجهلِ ... وإياكَ وإياهُ
فكَمْ مِن جاهلٍ أردَى ... حليماً حينَ آخاهُ
يقاسُ المرءُ بالمرءِ ... إذا ما هُوَ ماشَاهُ
وللشيْءِ على الشيءِ ... مقاييسٌ وأشبَاهُ
وللقلْبِ على القلبِ ... دليلَ حِينَ يلقَاهُ
ومن ذلك ما رواه المبرد قال: كان مكتوباً على سيف علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: من البسيط:
للناس حرص على الدنيا بتدبيرِ ... وصَفْوُهَا لكَ ممزوج بتكديرِ
لم يُرْزَقُوهَا بفعلِ عندما قسمَت ... لكنهُم رُزِقُوهَا بالمقاديرِ
كم مِن أديبِ لبيبٍ لا تساعدُه ... وأحمقِ نال دنياهُ بتقصير
لو كان عَنْ قوةِ أو عَن مغالبةٍ ... طارَ البزاةُ بأرزاقِ العصافيرِ
روى عن حمزة بن حبيب الزيات: كان علي بن أبي طالب يقول: من المتقارب:
لا تُفشِ سركَ إلا إليكَ ... فَإنّ لكل نَصِيح نصيحاً
فإني رأيت غواةَ الرجالِ ... لا يَدَعُونَ أديمَاً صحيحَا
ومن ذلك ما رواه ابن عبد البر، عن الحارث الأعور، قال: سئل علي بن أبي طالب عن مسألة فدخل مبادراً، ثم خرج في حذاء ورداء وهو يتبسم، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنك كنت إذا سئلت عن المسألة تكون فيها كالمسلة المحماة، قال: إني كنت حاقناً ولا رأي لحاقن، ثم أنشأ يقول: من المتقارب:
إذَا المشكلاتُ تصديْنَ لي ... كشفْتُ حقائقهَا بالنظَرْ
وإنْ برِقَتْ في مخيلِ الصَوا ... بِ عمياءُ لا يجتليها البَصَرْ
مقنعة بغيوبِ الأمورِ ... وضعْتُ عليها صحيحَ الفِكَرْ
لساناً كشقشقةِ الأريحي ... ى أو كالحسامِ اليمانِي الذَّكَرْ(2/34)
وقلباً إذا استنطَقَتْهُ العيو ... نُ أربَى عليها تراهُ درَرْ
ولستُ بإمعةِ في الرجا ... لِ أسألُ هذا وذا ما الخَبَرْ
ولكنني مِدْرَهُ الأصغرَيْنِ ... أبينُ مِنْ صاحبي ما غمرْ
وقال ابن النجار: أخبرني يوسف بن المبارك بن كامل، قال: أنشدني أبو الفتح مفلح بن أحمد الرومي قال: أنشدنا أبو الحسين بن أبي القاسم التنوخي عن أبيه عن أجداده إلى علي بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - أنه قال: من المتقارب:
أصمُّ عن الكلمِ المحفظاتِ ... وأحلُمُ والحِلْمُ بي أشبَهُ
وإني لأترُكُ جَهمَ الكلامِ ... لكيلا أجابَ بما أكْرَهُ
إذا ما احترزْتُ سِفَاهَ السفيهِ ... علي فإنيَ لا أسفهُ
فكَمْ من فَتَى يعجبُ الناظرينَ ... له ألسُنٌ وله أوجُهُ
ينامُ إذا حَضَرَ المَكرُمَاتِ ... وعنْدَ الدناءة يسْتنْبِهُ
وأما خطبه ومواعظه ووصاياه فإنها لا تحصى، وأدناها لا يستقصي. رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكرم وجهه ومن والاه، آمين.
؟
خلافة أمير المؤمنين أبي محمد الحسن بن علي
بن أبي طالب رضي اللّه عنهما
قال الحافظ الذهبي في تاريخه دول الإسلام: قال جرير بن حازم: بايع أهل الكوفة الحسن بن علي بعد أبيه وأحبوه أكثر من أبيه، ثم سار حتى نزل بالمدائن، وبعث قيس بن سعد بن عبادة على المقّدمة في اثني عشر ألفاً، فبينما الحسن بالمدائن إذ نادى منادٍ: ألا إن قيساً قد قتل. فاختبط الناس وانتهبت الغوغاء سرادق الحسن حتى نازعوه بساطه تحته، وطعنه رجل من الخوارج بخنجر مسموم في فخذه؛ فوثب الناس على الرجل فقتلوه، لا رحمه اللّه، ونزل الحسن القصر الأبيض بالمدائن، وكاتب معاوية في الصلح. وقال نحو هذا ابن إسحاق والشعبي.
وروى أنه لما خلع نفسه قام فيهم فقال: ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم، لكن كنتم في مسيركم إلى صفين، ودينكم أمام دنياكم، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم. وتوجع الحسن من تلك الطعنة، ثم عوفي وللّه الحمد.
ثم سار الحسن يريد الشام، وأقبل معاوية، وكان اجتماعهما بمسكن وهي من أرض السواد من ناحية الأنبار. قّال ابن عيينة: حدثنا أبو موسى قال: سمعت الحسن البصري يقول: استقبل الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: واللّه إني لأرى كتائب لا تولى أو تقتل أقرانها. فقال معاوية، وكان خير الرجلين: أرأيت إن قتل هؤلاء هؤلاء من لي بذراريهم، من لي بأمورهم، من لي بنسائهم؟ قال: فبعث عبد الرحمن بن ميسرهَ فصالح الحسن معاوية وسلم الأمر له، وبايعه بالخلافة على شروط اشترطها ووثائق، وحمل إليه معاوية مالا، يقال: خمسمائة ألف. قلت: لم أجد تعيين هذه الخمسمائة ألف؛ هي دنانير أم دراهم فيما اطلعت عليه من التواريخ، وذلك في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين.
قال أبو عبد الله الهمداني محمد: حدثنا أبو العريف قال: لما ورد الحسن إلى الكوفة بعد مبايعته معاوية، قال له رجل من همدان يقال له أبو عامر: السلام عليك يا مذل المسلمين. فقال: لست بمذل المسلمين، ولكني كرهت أن أقتلكم على الملك. ثم قال له آخر: يا عار المسلمين. فقال: العار خير من النار.
ثم إن الحسن - رضي الله تعالى عنه - رجع مع آل بيته من الكوفة ونزل المدينة، وسمي هذا العام المذكور - وهو عام إحدى وأربعين - عام الجماعة لاجتماع الأمة على خليفة واحد، هو معاوية بعد نزول الحسن - رضي اللّه عنه - له بها.
ثم دخل معاوية الكوفة، وخرج عليه عبد الله بن أبي الحوساء بالنخلة، فسير عليه؛ فقتله، وخرج عليه بالبصرة خوارج فقتل فريقاً وأمن فريقاً. وسيأتي ذكر ذلك عند ذكر خلافته إن شاء الله تعالى.
مناقب الحسن بن علي
رضي الله تعالى عنه
هو الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، القرشي، الهاشمي، أبو محمد، سبط النبي صلى الله عليه وسلم وشبيهه، يكنى أبا محمد، أمه فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سيدة نساء العالمين، وهو سيد شباب أهل الجنة، وريحانة النبي صلى الله عليه وسلم ويلقب بالتقي والسيد.(2/35)
ولد منتصف رمضان سنة ثلاث من الهجرة، قال أبو عمر: هذا أصح ما قيل، وقيل: في شعبان، وقيل: سنة أربع، وقيل: سنة خمس، قال في الإصابة: والأول أثبت سماه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن، وعق عنه يوم سابع ولادته، وحلق شعر رأسه وتصدق بزنة شعره فضة، وهو خامس أهل الكساء. وقال أبو أحمد العسكري: سماه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن، وكناه أبا محمد، ولم يكن يعرف هذا الاسم في الجاهلية. وروى عن ابن الأعرابي عن الفضل، قال: إن اللّه تعالى حجب اسم الحسن والحسين حتى سمي بهما النبي صلى الله عليه وسلم ابنيه الحسن والحسين. قال: فقلت له: والذي باليمن؟ قال: ذاك حسن بسكون السين وحَسِين بفتح الحاء وكسر السين، ولا يعرف قبلهما إلا اسم رملة في بلاد ضبة قال ابن غنمة: من الوافر:
لأم الأرضِ ويل ما أجنت ... غداةَ أَضَرَّ بالحَسَنِ السبِيلُ
وعندها قتل بسطام بن قيس الشيباني.
قال علي: لما ولد الحسن رضي اللّه عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت: حرباً. قال: بل هو حسن، فلما ولد الحسين قال: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت: حرباً قال: بل هو حسين. فلما ولد الثالث قال: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت: حرباً، قال: بل هو محسن. ثم قال: سميتهم بأسماء ولد هارون، شبر وشبير ومشبر. وفضائله كثيرة مشهورة.
ولي الخلافة بعد أبيه - رضي اللّه تعالى عنه - لِعشر ليال بقين من رمضان، سنة أربعين من الهجرة - ستة أشهر، وبايعه أكثر من أربعين ألفَاً، ثم نزل عنها لمعاوية في النصف من جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين من الهجرة، وقيل: لخمس بقين من ربيع الأول، وقيل: في ربيع الآخر، قال ابن الأثير: قول من قال سنة إحدى وأربعين أصح ما قيل فيه، وأما من قال بنزوله سنة أربعين فقد وهم؛ وكان نزوله مصداق قول جده صلى الله عليه وسلم " إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " وأي شرف أعظم من شرف من سماه النبي صلى الله عليه وسلم سيداً؟! وروى أبو القاسم البغوي والدولابي، عن قابوس بن المخارق، قال: إن أم الفضل قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت كأن عضواً من أعضائك في بيتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيراً رأيت، تلد فاطمة غلاماً فترضعينه بلبن ابنك قثم. فولدت حسنَاً فأرضعته بلبن قثم. قالت: فجئت به يوماً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره فضرب كتفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم أرضعت ابني يرحمك اللّه؟.
وروى الإمام أحمد والشيخان وابن ماجة وابن حبان وأبو يعلى والطبراني في الكبير، عن أسامة بن زيد والطبراني في الكبير أيضاً، وابن عساكر، عن عائشة رضي اللّه عنهما: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه " .
وروى الشيخان وابن حِيان، عن البراء رضي اللّه عنه، قال: رأيت الحسن بن علي رضي اللّه عنهما على عاتق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " اللهم إني أحبه فأحبه " وروى البخاري عن أسامة بن زيد أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الحسن والحسين ويقول: " اللهم إني أحبهما فأحبهما " .
وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حاملا للحسن على عاتقه فقال رجل: نعم المركب ركبت. فقال عليه الصلاة والسلام: نعم الراكب هو " .
وروى الإمام أحمد في المناقب عن أبي زهر بن الأرقم، رجل من الأزد رضي اللّه تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول للحسن بن علي: " من أحبني فليحبه، فليبلغ الشاهد الغائب " ولولا عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثتكم.
وروى الطيالسي والبزار وابن عساكر، عن علي رضي الله عنه: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " من أحبني فليحب هذا " يعني الحسن. وروى ابن حبان عن أسامة ابن زيد قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الآخر، ويقول: " اللهم إني أرحمهما فارحمها " .
وروى الدولابي عن محمد بن عبد المؤمن، مولى بني هاشم: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الحسن مقبلا فقال: " اللهم سلمه وسلم منه " .(2/36)
وروى أبو سعيد بن الأعرابي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لا زلت أحب هذا الرجل - يعني حسناً - بعدما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يصنع، رأيت الحسن في حجر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهو يدخل لسانه في فمه أو لسان الحسن في فمه ثم قال: " إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه " .
وروى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه رأى الحسن بن علي رضي الله عنهما في بعض طرق المدينة فقال: اكشف عن بطنك - فداك أبي - حتى أقبل حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل، فكشف له عن بطنه فقبل سرته " .
وروى ابن أبي الدنيا وأبو بكر الشافعي، عن عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنهما قال: رأيت الحسن بن علي يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فيركبه على ظهره، فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل، ويأتي وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر.
وروى أبو سعيد الأعرابي، عن أبي سعيد رضي اللّه عنه، قال: جاء الحسن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فركب على ظهره، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، فأقامه على ظهره ثم ركع، ثم أرسله فذهب.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين عن محمد بن معشر اليربوعي، قال: قال علي للحسن ابنه، رضي الله عنهما: كم بَين الإيمان واليقين. قال: أربع أصابع. قال: بين. قال: اليقين ما رأته عينك، والإيمان ما سمعته أذنك وصدقت به. قال علي: أشهد أنك ممن أنت منه، ذرية بعضها من بعض.
وروى الدولابي، عن زيد بن الحسن، رضي الله عنهما، قال: خطب الحسن رضي اللّه عنه الناس حين قتل أبوه رضي اللّه عنه، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون، ولم يشركه الآخرون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيه الراية فيقاتل جبريل عن يمينه وميكائْيل عن يساره، فما يرجع حتى يفتح اللّه عز وجل عليه، ما ترك على ظهر الأرض صفراء ولا بيضاء إلا أربعمائة درهم فضلت من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله. ثم قال: يا أيها الناس، مَنْ عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، وأنا ابن الوصي، وأنا ابن البشير، وأنا ابن المنذر، وأنا ابن الداعي إلى اللّه بإذنه والسراج المنير، وأنا من أهل البيت الذين افترض اللّه محبتهم على كل مسلم، فقال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: " قُل لا أسألكم عليهِ أجراً إلا المَودةَ في اَلقُربى وَمَن يَقتَرِف حسنَةَ نزد لَه فِيهَا حُسناً " " الشورى: 23 " فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت.
قال صاحب السيرة الشامية: بايعه أكثر من أربعين ألفاً. وقال صالح ابن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: بايع الحسن تسعون ألفاً - بتقديم التاء - فترك الخلافة وصالح معاوية لما سار إليه من الشام، وسار إلى معاوية فلما تقاربا أرسل إلى معاوية يبذل له تسليم الأمر، على أن تكون الخلافة له بعده، وعلى ألا يطلب أحداً من أهل المدينة والحجاز بشيء مما كان في أيام بني أمية وغير ذلك. وظهرت المعجزة النبوية في قوله عليه الصلاة والسلام: " إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " .
ولم يسفك في أيامه محجمة دم، وهي نحو سبعة أشهر، وكان صلحهما لخمس بقين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وقيل: في النصف من جمادى الأولى من السنة المذكورة، على الخلاف المتقدم في ذلك، فإن مدة الخلافة التي ذكرها عليه الصلاة والسلام انتهت بخلافته ولم يبق إلا الملك، وقد صان اللّه تعالى أهل البيت منه.
قال أبو بشر الدولابي: أقام الحسن - رضي اللّه تعالى عنه - بالكوفة إلى ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وقتل عبد الرحمن بن ملجم، لعنه الله تعالى، ويقال: إنه ضربه بالسيف فاتقاه بيده فندرت وقتله. ثم سار إلى معاوية فالتقيا بمسكن من أرض الكوفة، كما تقدم نقل ذلك عن الذهبي، واصطلحا، وسلم إليه الأمر وبايع له لخمس بقين من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وأخذ منه خمسمائة ألف، كما تقدم نقل ذلك عن الذهبي.(2/37)
وروى الحافظ أبو نعيم وغيره عن الشعبي - رحمه اللّه تعالى - أنه قال: أما بعد، فإن أكيس الكيس التقي، وأحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت عليه أنا ومعاوية إنما هو حق لامرئ، فإن كان له فهو أحق بحقه، وإن كان لي فقد تركته له إرادة صلاح الأمة وحقن دمائهم " وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " " الأنبياء: 111 " ثم نزل.
قلت: رأيت في المسعودي أن عمرو بن العاص أشار على معاوية أن يأمر الحسن فيخطب، فكره معاوية ذلك، فألزمه عمرو وقال: أريد أن يبدو عيه في الناس؛ فإنه يتكلم في أمور لا يدري ما هي. فأمر معاوية الحسن فقام وتشهد في بديهته، ثم قال: يا أهل الكوفة، لو لم تذهل نفسي إلا لثلاث لذهلت: مقتلكم أبي، ونهبكم رحلي، وطعنكم فخذي. وإني قد بايعت معاوية فاسمعوا له وأطيعوا.
ومن مناقبه وجوده وزهده في الدنيا قوله: إني لأستحيي من اللّه عز وجل أن ألقاه ولم أمش إلى بيته، فمشى عشرين حجة من المدينة على رجليه، وإن الجنائب لتقاد بين يديه. وخرج من ماله مرتين، وقاسم الله ثلاث مرات، حتى إنه كان يعطي نعلا ويمسك نعلا. وقال محمد بن سيرين: ربما كان يجيز الواحد بمائة ألف. واشترى حائطاً من قوم من الأنصار بأربعمائة ألف، وإنه بلغه أنهم احتاجوا إلى ما في أيدي الناس فرده إليهم. ولم يقل لسائل قط: لا.
ولا يأنس به أحد فيدعه يحتاج إلى غيره، ورأى غلاماً أسود يأكل من رغيف لقمة ويطعم كلبَاً هنالك لقمة فقال: ما يحملك على هذا؟ فقال الغلام: إني أستحيي أن آكل ولا أطعمه، فقال الحسن: لا تبرح حتى آتيك، فذهب إلى سيده فاشتراه واشترى الحائط الذي هو فيه، وأعتقه وملكه الَحائط، فقال الغلام: يا مولاي، قد وهبت الحائط للذي وهبتني إليه.
وكان الحسن سيداً حليماً، زاهدَاً عاقلاَ، فاضلا، فصيحَاً، ذا سكينة ووقار، جواداً يكره الفتن وسفك الدماء، دعاه ورعه وزهده إلى ترك الخلافة وقال: خشيت أن يجئَ يوم القيامة سبعون ألفَاً أو أكثر تنضح أوداجهم دماً.
وكان من أحسن الناس وجهَاً، وأكرمهم وأجودهم وأطيبهم كلاماً، وأكثرهم حياء، وكان أكثر دهره صائماً، وكان فعله يسبق قوله في المكارم والجود، وكان كثير الأفضال على إخوانه؛ لا يغفل عن أحد منهم، ولا يحوجه إلى أن يسأله؛ بل يتقدمه بالعطاء قبل السؤال. وقال لأصحابه: إني أخبركم عن أخٍ كان من أعظم الناس في عيني، وكان الذي عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه، كان خارجاً عن سلطان بطشه؛ فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، انتهى.
وما سمع من الحسن كلمة فحش قط، وأعظم ما سمع منه: أنه كان بينه وبين شخص خصومة فقال: إنه ليس عندنا إلا ما رغم أنفه. قلت: هذا الشخص المبهم هو مروان بن الحكم الأموي.
وقيل له: إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إليّ من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة، فقال: رحم اللّه أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار اللّه عز وجل لم يتمن غير الحالة التي اختارها اللّه عز وجل. وهذا حد الوقوف على الرضا بما يصرف به القضاء.
ومن كلامه رضي اللّه عنه: كن في الدنيا ببدنك، وفي الآخرة بقلبك. وكان يقول لبنيه وبني أخيه: تعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يحفظه - أو قال يرويه - فليكتبه وليضعه في بيته. ورأى سيدنا أبو بكر الحسن - رضي اللّه عنهما - وهو يلعب مع الصبيان، فحمله أبو بكر على عاتقه وقال: بأبي، شبيه بالنبي ليس شبيهاً بعلي، وعلي رضي اللّه عنه يتبسم. وقد كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يجله ويعظمه، ويحترمه ويكرمه، وكذلك عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه.
وقد جاء الحسن والحسين يوم الدار وعثمان محصور، ومعهما السلاح ليقاتلا عن عثمان، فخشي عثمان عليهما، وأقسم عليهما ليرجعان إلى منازلهما، تطييباً لقلب علي وخوفاً عليهما، وكان علي - رضي اللّه عنه وكرم وجهه - أرسلهما وأمرهما بذلك، وكان علي يكرم الحسن إكراماً زائداً، ويعظمه ويبجله. وكان ابن عباس يأخذ الركاب للحسن والحسين إذا ركبا، ويرى هذا مِنَ النعم. وكان إذا طافا بالبيت يكاد الناس يحطمونهما مِما يزدحمون عليهما للسلام عليهما، رضي اللّه عنهما وأرضاهما.(2/38)
وكان عبد اللّه بن الزبير يقول: واللّه ما قامت النساء عن مثل الحسن. قال البيهقي في كتابه المحاسن والمساوئ: أتى الحسن بن علي رضي اللّه عنهما إلى معاوية بن أبي سفيان، وقد سبقه ابن عباس، فأمر معاوية بإنزالهما في محل فأنزلا، فبينما معاوية مع عمرو بن العاص ومروان بن الحكم وزياد بن أبيه، يتذاكرون قديمهم وحديثهم ومجدهم - إذ قال معاوية: أكثرتم الفخر، فلو حضر الحسن بن علي وابن عباس لقصرا من أعينكم.
فقال زياد: وكيف ذاك يا أمير المؤمنين. ما يقومان لمروان في غرب منطقه، ولا لنا في بواذخنا، فابعث إليهما حتى تسمع كلامهما. فقال معاوية لعمرو: ما تقول؟ قال: هذا إليك، فابعث إليهما في غد. فبعث معاوية ابنه يزيد إليهما فأتياه فدخلا عليه، وبدأ معاوية فقال: إني أجلكما وأرفع قدركما، عن المسامرة بالليل، ولا سيما أنت يا أبا محمد، فإنك ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب أهل الجنة. فتشكرا له. فلما استويا في مجلسهما وعلم عمرو أن الجرة ستقع به قال: والله لا بد أن أقول: فإن قهرت فسبيلي ذاك، وإن قهرت أكون قد ابتَدأت. فقال: يا حسن، إنا تفاوضنا فقلنا: إن رجال بني أمية أصبر عند اللقاء، وأمضى في الوغى، وأوفى عهداً، وأكرم خيما، وأمنع ذمارَاً لما وراء ظهورها من بني عبد المطلب.
ثم تكلم مروان فقال: وكيف لا نكون كذلك وقد قارعناكم فغلبانكم، وحاربناكم فملكناكم، فإن شئنا عفونا وإن شئنا بطشنا. ثم تكلم زياد فقال: ما ينبغي لهم أن ينكروا الفضل لأهله، ويجحدوا الخير في مظانه، نحن الحملة في الحروب، ولنا الفضل على سائر الناس قديمَاً وحديثاً.
فتكلم الحسن رضي الله عنه فقال: ليس من العجز أن يصمت الرجل عند إيراد الحجة، ولكن من الإفك أن ينطق بالخنا، ويصور الباطل بصورة الحق. يا عمرو افتخاراً بالكذب وجرأة على الإفك، ما زلت أعرف مثالبك الخبيثة أبديها مرة وأمسك أخرى، فتأبى إلا انهماكاً في الضلالة، أتذكر مصابيح الدجى وأعلام الهدى، وفرسان الطراد وحتوف الأقران، وأبناء الطعان، وربيع الضيفان، ومعدن النبوة، ومهبط العلم.
وزعمتم أنكم أحمى لما وراء ظهوركم، وقد تبين ذلك يوم بدر حين نكصت الأبطال، وتساورت الأقران، واقتحمت الليوث، واعتركت المنية، وقامت رحاها على قطبها وافترت عن نابها، وطار شرار الحرب، فقتلنا رجالكم، ومَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم على ذراريكم، فكنتم لعمري في هذا اليوم غير مانعين لما وراء ظهوركم.
ثم قال: وأما أنت يا مروان، فما أنت والإكثار في قريش، وأنت طليق وأبوك طريد، تنقلب من خزية إلى سوءة، ولقد جئ بك إلى أمير المؤمنين، فلما رأيت الضرغام قد دميت براثنه واشتبكت أنيابه كما قال: من الكامل:
ليث إذا سَمِعَ الليوثُ زئيرَهُ ... بَصبَصنَ ثم قذفْنَ بالأبعارِ
فلما من عليك بالعفو، وأرخى خناقك بعد ما ضاق عليك، وغصصت بريقك، لا تقعد منا مقعد أهل الشكر، ولكن تساوينا وتحاربنا، ونحن ممن لا يدركنا عار، ولا تلحقنا خزاية. ثم التفت إلى زياد فقال: وما أنت يا زياد وقريشاً، ما أعرف لك فيها أديماً صحيحاً، ولا فرعاً ثابتَاً، ولا قديماً بائتَاً، ولا منصباً كريمَاً، كانت أمك بغياً تداولها رجالات قريش وفجار العرب، فلما ولدت لم يعرف لك العرب والداً فادعاك هذا - يعني معاوية - بعد ممات أبيه ما لك افتخار، تكفيك سمية، ويكفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي علي بن أبي طالب، سيد المؤمنين، الذي لم يرتد على عقبيه، وحمزة سيد الشهداء، وجعفر الطيار، وأنا وأخي سيدا شباب أهل الجنة.
ثم التفت إلى ابن عباس فقال: يا بن عم، إنما هي بغاث الطير انقض عليها أجدل. فأراد ابن عباس أن يتكلم، فأقسم عليه معاوية أن يكف فكف، ثم خرجا. فقال معاوية: أجاد عمرو الكلام لولا أن حجته دحضت، وقد تكلم مروان لولا أنه يكفر، ثم التفت إلى زياد فقال: ما دعاك إلى محاورتهما. ما كنت إلا كالحجل في كف العقاب.
فقال عمرو لمعاوية: ألا رميت من ورائنا. فقال معاوية: إذا أشرككم في الجهل؟ أفاخر رجلا رسول الله جده؟!، وهو سيد من مضى ومن بقي، وأمه فاطمة سيدة نساء العالمين. ثم قال لعمرو: والله لئن سمع به أهل الشام لهى السوأة السوءاء. فقال عمرو: لقد أبقى عليك، ولكنه طحن مروان وزياداً، طحن الرحى بثفالها، ووطئها وطء البازل القراد بمنسمه.(2/39)
فقال زياد: قد والله فعل، ولكن معاوية يأبى إلا الإغراء بيننا وبينهم، لا جرم. واللّه لا شهدت مجلساً يكونان فيه إلا كنت معهما علي من فاخرهما. فخلا ابن عباس بالحسن، فقبل بين عينيه وقال: أفديك يا بن عم، واللّه ما زال بحرك يزخر، وأنت تصور، حتى شفيتني من أولاد البغايا.
ثم إن الحسن رضي اللّه عنه غاب أياماً ثم رجع حتى دخل على معاوية، وعنده عبد اللّه بن الزبير فقال معاوية: يا أبا محمد، إني أظنك تعباً نصبَاً، فأت المنزل فأرح نفسك. فقام الحسن، فلما خرج قال معاوية لعبد اللّه بن الزبير: لو افتخرت على الحسن، فإنك ابن حواري رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وابن عمته، ولأبيك في الإسلام، نصيب وافر، فقال ابن الزبير: أنا له. فرجع وهو يطلب ليلته الحجج، فلما أصبح دخل على معاوية وجاء الحسن رضي اللّه عنه، فحياه معاوية وسأله عن مبيته فقال: خير مبيت وأكرم مستفاض.
فلما استوى به مجلسه قال ابن الزبير: لولا أنك خوار في الحرب غير مقدام ما سلمت الأمر لهذا - يعني معاوية - وكنت لا تحتاج إلى اختراق الآفاق، وقطع المفاوز تطلب معروفه وتقوم ببابه، وكنت حريُّاً ألا تفعل ذلك، وأنت ابن علي ونائبه ونجدته، فما أدري ما الذي حملك على ذلك؟ ضعف رأي، أم وهدة مخبر؟ فما أظن لك مخرجاً من هاتين الخلتين. أما والله لو استجمع لي ما استجمع لك لعلمت أني ابن الزبير، وأني لا أنكس عن الأبطال، وكيف لا أكون كذلك، وجدتي صفية بنت عبد المطلب، وأبي الزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشد الناس بأساً، وأكرمهم حسبَاً في الجاهلية، وألوطهم برسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
فالتفت إليه الحسن وقال: أما واللّه لولا أن بني أمية تنسبني إلى العجز عن المقال لكففت عنك تهازيَاً، ولكن سأبين ذلك لتعلم أني لست بالعيي ولا الكليل اللسان، إياي تعير وعلي تفتخر؟ ولم يكن لجدك بيت في الجاهلية ولا مكرمة، فزوجه جدي صفية فتفاخر على جميع العرب بها وشرف بمكانها، فكيف تفاخر من هو من القلادة واسطتها، ومن الأشراف سادتها. نحن أكرم أهل الأرض، لنا الشرف الثاقب، والكرم الغالب.
ثم تزعم أني سلمت الأمر، فكيف يكون - ويحك - كذلك، وأنا ابن أشجع العرب، وقد ولدتني فاطمة سيدة نساء العالمين، لم أفعل - ويحك - ذلك جبناً ولا ضعفاً، ولكنه بايعني مثلك وهو يطلبني بترة، ويداجيني المودة، فلم أثق بنصرته لأنكم أهل بيت غدر، وكيف لا يكون كما أقول. وقد بايع أبوك أمير المؤمنين، ثم نكث بيعته، ونكص على عقبيه، واختدع حشية عن حشايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضل بها الناس، فلما خلف إلى الأعنة قتل بمضيعة لا ناصر له، وأتى بك أسيراً وقد وطئتك الكماة بأظلافها والخيل بسنابكها، واعتلاك الأشتر فغصصت بريقك، وأقعيت على عقبيك كالكلب إذا احتوشته الليوث.
فنحن - ويحك - نور البلاد وملاكها، وبنا يفتخر الأئمة، وإلينا تلقى مقاليد الأزمة. أتصول وأنت بمختدع الشاء؟، ثم أنت تفتخر على بني الأنبياء. لم تزل الأقاويل منا مقبولة، وعيك وعلى أبيك مردودة، دخل الناس في دين جدي طائعين وكارهين، ثم بايعوا أمير المؤمنين، فساروا إلى أبيك وطلحة حين نكثا البيعة وخدعا عرس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقتل أبوك وطلحة، وأتى بك أسيرَاً فبصبصت بذنبك وناشدته الرحم ألا يقتلك، فعفا عنك، فأنت عتاقة أبي، وأنا سيدك وسيد أبيك فذق وبال أمرك.
فقال ابن الزبير: اعذرنا يا أبا محمد، فإنما حملني على محاورتك هذا، وأحب الإغراء بيننا، فهلا إذ جهلتُ أمسكت عني؛ فإنكم أهل بيتَ سجيتكم الحلم والعفو. فقال الحسن: يا معاوية، انظر هل أكيع عند محاورة أحد؟ ويحك، أتدري من أي شجرة أنا، وإلى من أنتهي. انته قبل أن أسمك بميسم تتحدث به الركبان في الآفاق والبلدان. فقال ابن الزبير: هو لذلك أهل. فقال معاوية: فلا أراك تفتخر على أحد بعدها.(2/40)
واستأذن الحسن بن علي - رضي اللّه تعالى عنهما - على معاوية فأذن له، وعنده عبد اللّه بن جعفر وعمرو بن العاص، فلما أقبل قال عمرو: قد جاءكم الأقدُّ العييُ الذي كأن بين لحييه عبلة. فقال عبد اللّه بن جعفر: مه، فوالله لقد رمت صخرة ململمة تنحط عنها السيول، وتقصر دونها الوعول، ولا تبلغها السهام، فإياك الحسن إياك؛ فإنك لا تزال راتعاً في لحم رجل من قريش، ولقد رميت فما برح عمك، وقدحت فما أورى زندك. فسمع الحسن الكلام فلما أخذ الناس مجالسهم قال الحسن: يا معاوية، لا يزال عندك عبداً راتعاً في لحوم الناس. أما واللّه لئن شئت ليكونن بيننا ما تتفاقم فيه الأمور، وتحرج منه الصدور، ثم أنشأ يقول: من وافر:
أتأْمُرُ يا معاويَ عَبْدَ سهمٍ ... بشتْمِي والملا مِنَّا شهودُ
إذا أخذَت مجالسَهَا قريشٌ ... فقد علمَت قريش ما تريدُ
قَصَدتّ إليَّ تَشْتِمني سفاهاً ... لضغْنِ ما يزولُ وما يبيدُ
فما لَكَ مِنْ أبٍ كأبي تسامي ... به مَنْ قد تسامي أو تكيدُ
ولا جَدُ كجدي يا بن هندِ ... رسول الله إن ذكِر الجدودُ
ولا أم كأمي مِنْ قريشٍ ... إذا ما حُصلَ الحسبُ التليدُ
فما مِثْلي تهكّم يا بنَ هندٍ ... ولا مثلي تُجَارِيهِ العبيدُ
فمهلا لا تَهِج مني أمورَاً ... يشيبُ لها معاوية الوليدُ
وذكروا أن عمرو بن العاص قال لمعاوية ذات يوم: ابعث إلى الحسن بن علي فمره أن يخطب، فلعله أن يحصر فيكون ذلك مما يعير به. فبعث إليه معاوية فأصعده المنبر وقد جمع له الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، من عرفني فأنا الذي يعرف، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم أنا ابن البشير النذير، السراج المنير، أنا ابن من بعث رحمة للعالمين وسخطاً على الكافرين، أنا ابن من بعث إلى الجن والإنس، أنا ابن المستجاب الدعوة، أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من ينفض رأسه من التراب، أنا ابن أول من يقرع باب الجنة، أنا ابن من قاتلت معه الملائكة، نصر بالرعب من مسيرة شهر. في هذا الكلام ولم يزل حتى أظلمت الدنيا على معاوية فقال: يا حسن، قد كنت ترجو أن تكون خليفة ولست هناك، فقال الحسن: إنما الخليفة من سار بسيرة نبي الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بطاعة الله تعالى، وليس الخليفة من دان بالجور، وعطل السنن، واتخذ الدنيا أباً وأماً، ولكن ذاك ملك أصاب ملكاً تمتع به قليلا، وكان قد انقطع عنه فتعجل لذته، وبقيت عليه تبعته، فكان كما قال الله تعالى: " وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " " الأنبياء: 111 " ثم انصرف. فقال معاوية لعمرو: واللّه ما أردت إلا هتكي، ما كان أهل الشام يرون أن أحداً مثيلي حتى سمعوا من الحسن ما سمعوا.
وقدم عليه مرة أخرى، فوجد عنده عمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، والمغيرة بن شعبة، وصناديد قومه، ووجوه أهل اليمن وأهل الشام، فلما نظر إليه معاوية وثب وأقعده على سريره، وأقبل عليه بوجهه يريد السرور بمقدمه، فلما نظر مروان إلى ذلك حسده. وكان معاوية قد قال لهم: لا تحاوروا هذين الرجلين - يعني الحسن وابن عباس - فلقد قلداكم العار وفضحاكم عند أهل الشام.
فقال مروان: يا حسن، لولا صلة أمير المؤمنين وما قد بني له آباؤه الكرام من المحل والعلاء، ما أقعدك هذا المقعد، ولقتلك وأنت له مستوجب بقودك الجماهير، فلما أحسست بنا، وعلمت أَن لا طاقة لك بفرسان أهل الشام، وصناديد بني أمية - أذعنت بالطاعة، واحتجزت بالبيعة، وبعثت تطلب الأمان، أما والله لولا ذاك لأريق دمك، وعلمت أنا نعطي السيوف حقها عند الوغى، فاحمد اللّه تعالى إذا ابتلاك بمعاوية فعفا عنك، ثم صنع بك ما ترى.
فنظر إليه الحسن فقال: ويحك يا مروان، لقد تقلدت مقاليد العار في الحروب عند مشاهدتها، والمحاولة عند مخالطتها، نحن - هبلتك الهوابل - لنا الحجج البوالغ.(2/41)
ولنا إن شكرتم - عليكم النعم السوابغ - ندعوكم إلى النجاة وتدعوننا إلى النار، فشتان ما بين المنزلتين. تفخر ببني أمية وتزعم أنهم صُبر في الحروب أسد عند اللقاء؟ ثكلتك أمك؛ أولئك البهاليل السادة، والحماة القادة، بنو عبد المطلب، أما والله لقد رأيتهم وجميع من في هذا البيت ما هالتهم الأهوال، ولم يحيدوا عن الأبطال، كالليوث الضارية الباسلة الخفية فعندها وليت هارباً وأخذت أسيراً، فقلدت قومك العار، لأنك في الحروب خوار. أيراق دمي زعمت، أفلا أرقت دم من وثب على عثمان في الدار فذبحه كما يذبح الجمل، وأنت تثغو ثغاء النعجة، وتناديْ بالويل والثبور كالأمة اللكعاء، ألا دافعت عنه بيد، أو ناضلت عنه بسهم، لقد ارتعدت فرائصك، وغشي بصرك فاستغثت بي كما يستغيث العبد بربه؛ فأنجيتك من القتل ومنعتك منه، ثم تحث معاوية على قتلي، ولو رام ذلك معك لذبح كما ذبح ابن عفان.
أنت معه أقصر يداً وأضيق باعاً، وأجبن قلباً أن تجسرا على ذلك. ثم تزعم أني ابتليت بحلم معاوية، أما واللّه لهو أعْرَف بشأنه، وأشكر لما وليناه هذا الأمر، فمتى بدا له فلا يغضي جفنه على القذى معك، فواللّه لألحقن بأهل الشام بجيش يضيق عنه فضاؤها، ويستأصل فرسانها، ثم لا ينفعك عند ذلك الهرب والروغان، ولا ترد عنك الطلب يذرعك في الكلام.
فنحن من لا نجهل، آباؤنا القدماء الأكابر، وفروعنا السادة الأخيار، وانطق إن كنت صادقاً. فقال عمرو: ينطق بالخنا وتنطق بالصدق. ثم أنشأ يقول: من البسيط:
قد يَضْرطُ العيرُ والمكواةُ تأخذُه ... ويضرطُ العيرُ والمكواةُ في النارِ
ذق وبال أمرك يا مروان. وأقبل عليه معاوية فقال: قد نهيتك عن هذا الرجل فأنت تأبى إلا انهماكاً فيما لا يعنيك، أربع على رأسك، فليس أبوك كأبيه ولا أنت مثله، أنت ابن الطريد الشريد، وهو ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكريم، فقال ارم من دون قبضتك، وقم بحجة عشيرتك. ثم قال مروان لعمرو: طعنك أبوه فوقيت نفسك بخصيتك فلذلك تحذره. وقام مغضباً. فقال معاوية: لا تحاور البحور فتغمرك، ولا الجبال فتبهرك، واسترح من الاعتذار.
ولقي عمرو بن العاص الحسن بن علي - رضي اللّه عنهما - في الطواف فقال له: يا حسن، أزعمت أن الدين لا يقوم إلا بك وبأبيك. فقد رأيت الله عز وجل أقامه بمعاوية، فجعله رأسَاً بعد ميله، وَبَينا بعد خفائه، أفرضي اللّه قتل عثمان. أم من الحق أن تدور بالبيت كما يدور الحمار بالطحين؟ عليك ثياب كغرفئ البيض، وأنت قاتل عثمان. واللّه إنه لألمُّ للشعث، وأسهل للوعث، أن يوردك معاوية حياض أبيك.
فقال الحسن رضي اللّه عنه: إن لأهل النار علامات يعرفون بها، وهي الإلحاد لأولياء اللّه تعالى، والموالاة لأعداء اللّه تعالى، اللّه إنك لتعلم أن علياً رضي اللّه تعالى عنه لم يرتب في الأمر، ولم يشك في اللّه طرفة عين، وايم اللّه لتنتهين يا بن أم عمرو أو لأقرعن جبينك بكلام تبقى سمته عليك ما حييت، فإياك والإنزار علي؛ فإني مَنْ قد عرفت؛ لست بضعيف الغمزة، ولا بهش المشاشة، ولا بمرئ المأكلة، وإني من قريش في وسط القلادة يُعرف حسبي، ولا أدعي لغير أبي، وقد تحكمت فيك قريش فغلب عليك ألأمُهم نسبَاً وأعظمهم لعنة؛ فإياك عني فإنك رجس، وإنما نحن أهل بيت الطهارة أذهب اللّه عنا الرجس وطهرنا تطهيراً.
وقيل: واجتمع مرة أخرى بالحسن، فقال الحسن: قد علمت قريش بأسرها أني منها في أعز أرومتها؛ لم أطلع على ضعف، ولم أعكس على خسف، أعرف بشبهي، وأدعي لأبي. فقال عمرو: قد علمت قريش أنك من أقلها عقلاَ وأكثرها جهلاَ، وإن فيك خصالا لو لم يكن منها إلا واحدة لشملك خزيها كما شمل البياض الحلك. واللّه لتنتهين عما أراك تصنع، أو لألبسن لك حافة كجلد العائط أرميك من خللها بأحد من وقع الأثافي. أغرك منها أديمك عرك السلقة؟ ما لك طالما ركبت صعب المنحدر، ونزلت في عراص الوعرة التماساً للفرقة وارتصاداً للفتنة؟ ولن يزيدك اللّه تعالى فيها إلا ضياعة.(2/42)
فقال الحسن رضي الله تعالى عنه: أما واللّه لو كنت تسمو بحسبك، وتعمل برأيك، ما سلكت فج قصدٍ، ولا حللت رابية مجد. وايم اللّه لو أطاعني معاوية فجعلك بمنزلة العدو الكاشح؛ فإنك طالما طويت على هذا كشحك، وأخفيته في صدرك، وطمح بك الرجا إلى الغاية القصوى التي لا يورق فيها غصنك، ولا يخضر بها مرعاك، أما واللّه ليوشكن يا ابن العاص أن تقع بين لحيي ضرغام من قريش، فري ممتنع فروس ذي لبد، يضغطك ضغط الرحى للحب، لا ينجيك منه الروغان إذا التفت حلقتا البطان، انتهى.
وذكر هذا البيهقي في كتابه المسمى المحاسن والمساوئ: وكان لرجل على أبي عتيق مال فتقاضاه، فقال أبو عتيق: ائتني العشية في مجلس كذا فسلني عن بيت قريش، فأتاه الغريم في ذلك المجلس وفيه وجوه قريش والحسن بن علي، فقال الغريم: يا أبا عتيق إنا تلاحينا في بيت قريش ورضينا بك حكماً، فقال: آل حرب. فقال الغريم: ثم من؟ فقال: آل أبي العاص. فشق ذلك على الحسن.
فقال الغريم: فأين بنو عبد المطلب. فقال: لم أكن أظن أن تسألني عن غير بيت الآدميين؛ فأما إذ صرت تسألني عن بيت الملائكة، وعن رسول رب العالمين، وسيد كل شهيد، والطيار مع الملائكة، فمن يسامي هؤلاء فخراً إلا وهو منقطع دونهم. فانجلي عن الحسن رضي الله عنه. ثم قال لأبي عتيق: إني لأحسب أن لك حاجة. قال: نعم يا بن رسول اللّه، لهذا علي كذا وكذا. فاحتملها عنه، ووصله بمثلها.
وذكروا أن رجلين أحدهما من بني هاشم، والآخر من بني أمية، قال هذا: قومي أسمح، وقال هذا: قومي أسمح، قال: فاسأل أنت عشرة من قومك، وأسأل أنا عشرة من قومي، فانطلق صاحب بني أمية فسأل عشرة فأعطاه كل واحد منهم عشرة آلاف درهم، وأتى صاحب بني هاشم إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما فأمر له بمائة وخمسين ألف درهم، ثم أتى الحسين بن علي رضي الله عنهما فقال له: هل بدأت بأحد قبلي. قال: بدأت بأخيك الحسن، فقال: ما أستطيع أن أزيد على سيدي، فأعطاه مائة وخمسين ألف درهم. فجاء صاحب بني أمية يحمل مائة ألف من عشرة أنفس؛ وجاء صاحب بني هاشم يحمل ثلاثمائة ألف من نفسين، فغضب صاحب بني أمية فردها عليهم فقبلوها، وجاء صاحب بني هاشم فردها عليهما فأبيا أن يقبلاها، وقالا: ما كنا نبالي أخذتها أم ألقيتها في الطريق.
وقال أبو جعفر الباقر: جاء رجل إلى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما فاستعان به في حاجة فوجده معتكفاً فاعتذر إليه، فذهب إلى أخيه الحسن فاستعان به فقضى حاجته، وكان معتكفاً، وقال: لَقَضَاءُ حاجة أخٍ لي في اللّه عز وجل أحب إليَ من اعتكاف شهر.
وكان - رضي اللّه عنه - كثير التزويج، فكان لا تفارقه أربع حرائر، وكان مطلاقاً مصدقاً، وكان أبوه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول: يا أهل الكوفة، لا تزوجوه فإنه مطلاق، فيقولون: واللّه يا أمير المؤمنين، لو خطب إلينا كل يوم زوجناه منا، ابتغاء في صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورأى الحسن في منامه كأن مكتوباً بين عينيه " قُل هُوَ اَللَهُ أَحَد " " الإخلاص: 1 " فبلغ ذلك سعيد بن المسيب رضي اللّه عنه فقال: إن كان رأى هذه الرؤيا فقل ما بقي من أجله. فلم يلبث الحسن بن علي بعد ذلك إلا أياماً حتى مات. وقد أوصى أخاه الحسين ألا يطلب الخلافة، ورغبه في الزهد في الدنيا والعزوف عنها، إلى غير ذلك من وصايا كثيرة قال في آخرها: أبى اللّه أن يجعل فينا أهل البيت مع النبوة الخلافة والملك والدنيا؛ فإياك وسفهاء أهل الكوفة أن يستخفوك فيخرجوك، فتندم حيث لا ينفعك الندم، ثم رفع طرفه إلى السماء فقال: " اللهم إني أحتسب نفسي عندك، فإني لم أصب بمثلها، فارحم صرعتي، وآنس في القبر وحدتي، وأقل عثرتي، يا أرحم الراحمين " .
قال العلامة المسعودي في المروج؛ عن علي بن الحسين قال: دخل أبي الحسين على عمي الحسن حدثان ما سقى السم، فقام عمي الحسن لقضاء الحاجة ثم رجع فقال: لقد سقيت السم عدة مرات فما سقيت مثل هذه، ولقد لفظت طائفة من كبدي فرأيتني أنكثه بعود في يدي، فقال له أبي: يا أخي، من سقاك؟ قال له: وما تريد من ذلك؟ فإن كان الذي أظن فاللّه حسيبه، وإن كان غيره فما أحب أن يؤخذ بي بريءٌ، فلم يلبث أن توفي رضي الله تعالى عنه.(2/43)
وذكر بأن امرأته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي قد بعث إليها يزيد: إن احتلت في قتل الحسن وجهت إليك مائة ألف درهم وتزوجتك، فكان هذا الذي بعثها على سَمِّه. فلما مات وفى لها بالمال وأرسل إليها: إنا لم نرضك للحسن فكيف نرضاك لأنفسنا؟! واللّه أعلم بصحة ذلك.
وقال الشاعر النجاشي - وكان من شيعة علي - في شعر طويل يرثيه به، منه قوله: من السريع:
جَعْدَة ابكِيهِ ولا تَسْأَمي ... جعد بكاء المعول الثاكلِ
لم تسبلي الستْرَ على مثْلِهِ ... في الأرضِ مِنْ حافٍ ومن ناعلِ
وقال آخر: من المتقارب:
تَعَزَّ فكَمْ لكَ من سالف ... يفرجُ عنك عليلَ الحَزَنْ
بموتِ النبي وقَتْلِ الوصي ... وقَتْلِ الحُسَيْنِ وسم الحَسَنْ
وكانت وفاته لخمس خلون من ربيع الأول سنة خمسين، وقيل: اثنتين وخمسين من الهجرة، ودفن بالبقيع في قبة عمه العباس بن عبد المطلب.
ولما دفن وقف محمد ابن الحنفية أخوه على قبره فقال: لئن عزت حياتك فقد هزت وفاتك، ولنعم الروح روح تضمنها كفنك، ولنعم الكفن كفن تضمنه بدنك، وكيف لا يكون هذا وأنت عضيد الهدى، وعتيد التوى وخلف أهل التقى، وخامس أهل الكسا. غذتك بالتقوى أكف الحق، وأرضعتك ثدي الإيمان، وربيت في حجر الإسلام، فطب حياً وميتاً، وإن كانت أنفسنا غير سخية بفراقك، رحمك اللّه أبا محمد. ثم تمثل بقول القائل: من الطويل:
أأدهُنُ رأسي أم تطيبُ مجالسي ... وخدكَ معفور وأنتَ سليبُ؟!
سأبكِيكَ ما ناحَ الحمامُ بأيكةٍ ... وما اخضَر في أرضِ الحجازِ قضيبُ
غريباً وأكنافُ الحجازِ تحوطُه ... ألا كُل ما تحتَ الترابِ غريبُ
كان - رضي الله عنه - قد أوصى إلى أخيه الحسين أن يدفنه مع جده رسول الله صلى الله عليه وسلم إن وجد إلى ذلك سبيلاَ، فإن منعت فادفني بالبقيع. فلما مات لبس الحسين ومواليه السلاح وخرجوا به ليدفنوه، فخرج مروان بن الحكم في موالي بني أمية، وهو يومئذ عامل المدينة لمعاوية ليمنعه، فخرج أبو هريرة، فرده الحسين وأقسم عليه؛ فذهب بالحسن، فدفن بالبقيع في قبر في قبة العباس ودفن في هذا القبر أيضاً علي زين العابدين، وابنه محمد الباقر، وابنه جعفر الصادق، فهم أربعة في قبر واحد، أكرم به قبرَاً. وفي ذكرى أنه دفن فيه أيضَاً رأس الحسين أتى به من دمشق فدفن. والله أعلم.
ومشى مروان في جنازة الحسن وبكى؛ فقيل له: أتبكي عليه وقد كنت تفعل به ما تفعل. فقال: كنت أفعل ذلك مع من هو أعظم من هذا، وأشار إلى جبل أحد.
صفته
رضي اللّه عنه
كان أبيض اللون مشرباً بالحمرة، أدعج العينين، سهل الخدين، دقيق المسربة، ذا وفرة كأن عنقه إبريق فضة، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، ربعة، من أحسن الناس وجهاً، كان أشبه الناس برسول اللّه صلى الله عليه وسلم من تحت الصدر إلى الرأس. عمره سبع وأربعون سنة، وقيل: ثمان وأربعون، كان منها مع جده رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سبع سنين، ومع أبيه علي بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثين سنة، وعاش بعد وفاة أبيه علي كرم الله وجهه إلى حين وفاته رضي اللّه عنه عشر سنين، مدة خلافته منها ستة أشهر وثلاثة أيام.
أولاده تسعة عشر ولدَاً: تسعة ذكور، الحسن، وزيد، وحسين الأثرم، وعبد اللّه، وأبو بكر، وعبد الرحمن، والقاسم، وطلحة، وعمر، قاله البلاذري، وذكر المحب الطبري في ذخائر العقبى نقلا عن الدولابي أنهم خمسة: الحسن، وزيد، وعبيد اللّه، وعمر، وإبراهيم. وعن أبي بكر بن الدراع أنهم أحد عشر ذكرَاً وبنت: عبد الله القاسم، والحسن، وزيد، وعمر، وعبيد اللّه، وعبد الرحمن، وأحمد، وإسماعيل، والحسين، وعقيل، والأنثى: أم الحسن. وعلى كل الروايات: العقب منه في رجلين فقط هما زيد والحسن المثنى.
وكان قد أعقب - أيضاً - من الحسين الأثرم وعمر، لكن انقرض عقبهما، فلم يبق للحسن السبط إلا من هذين الشخصين: الحسن المثنى وزيد ابني الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وكرم وجهه.
المقصد الرابع
من الدولة الأموية إلى الدولة العثمانية
وفيه سبعة أبواب
الباب الأول
في الدولة الأموية(2/44)
لا يخفى أنه كان لبني عبد مناف في قريش محل من العدد والشرف لا يناهضهم فيه أحد من بطون قريش، وكان فخذاهم: بنو أمية وبنو هاشم حياً جميعاً يباهون بعبد مناف وينتمون إليه، وجميع قريش تعرف ذلك وتسلم لهما الرياسة عليهما؛ إلا أن بني أمية كانوا أكثر عددَاً من بني هاشم وأوفر رجالا، والعزة إنما هي بالكثرة؛ قال الشاعر: من السريع:
وَلستَ بِالأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصَى ... وَإنمَا العِزةُ لِلْكَاثِرِ
وكان لهم قبل الإسلام شرف معروف انتهى إلى حرب بن أمية، وكان رئيسهم يوم حرب الفجار الأول والثاني، وقد تقدم ذكره في سيرته صلى الله عليه وسلم.
وقد روى أن قريشاً تواقعوا ذات يوم وحرث مسند ظهره إلى الكعبة، فتبادر إليه غلمة منهم ينادون: يا عم، أدرك قومك! فقام يجر إزاره، حتى أشرف عليهم من بعض الروابي، ولوح بطرف ثوبه إليهم أن تعالوا، فتبادرت الطائفتان إليه بعد أن كان حَمِيَ وطيسهم.
وكان إذا مر مع أشراف قريش فوصلوا إلى ثنية أو حلق ربع لم يتقدمه أحد.
فلما جاء الإسلام ودهش الناس لما وقع من أمر النبوة والوحي وتنزل الملائكة وما وقع من خوارق الأمور، نسي الناس أمر العصبية مسلمهم وكافِرهم.
أما المسلمون: فنهاهم الإسلام عن أمور الجاهلية؛ كما في الحديث الشريف " إن اللّه أذهب عنكم حمية الجاهلية وفخرها؛ لأنا وأنتم بنو آدم، وآدم من تراب " .
وأما المشركون: فشغلهم ذلك الأمر العظيم عن أمر العصائب وذهلوا عنه حيناً من الدهر؛ ولذلك لما افترق أمر بني أمية وبني هاشم بالإسلام إنما كان ذلك الافتراق بحصار بني هاشم في الشعب لا غير، ولم يقع كبير فتنة؛ لأجل نسيان العصبيات والذهول عنها بالإسلام.
حتى كانت الهجرة وشرع الجهاد ولم تبق إلا العصبية الطبيعية التي لا تفارق، وهي نفرة الرجل على أخيه وجاره في القتل والعدوان عليه، فهذه لا يذهبها شيء ولا هي محظورة، بل هي مطلوبة ونافعة في الجهاد والدعاء إلى الدين.
كذا في تاريخ ابن خلدون.
قلت: قوله: ولم تبق إلا العصبية الطبيعية... إلى آخره صحيح لا شك فيه؛ مصداقه: قول صفوان بن أمية، عندما انكشف المسلمون يوم حنين؛ إذ قال - وهو إذ ذاك مشرك في المدة التي جعلها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم له مهلة ليسلم بعدها حين استمهله تلك في الإسلام، وفي حفظي أنه طلب مدة شهر فأعطاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مهلة شهرين، فخرج معه - عليه الصلاة والسلام - إلى حنين لأخيه لما سمعه يقول: ألا بطل السحر لا يرد هاربهم إلا البحر: " بِفِيكَ الكثكث لأن يربني رجل من قريش خير لي من أن يربني رجل من هوازن رئيسهم مالك بن عوف " فلا باعث له على قوله ذاك إلا العصبية الطبيعية لقومه قريش على هوازن.
ثم إن شرف بني عبد مناف لم يزل في بني أمية وبني هاشم، فلما هلك أبو طالب وهاجر بنوه مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وحمزة كذلك؛ ثم بعده العباس، والكثير من بني عبد المطلب وسائر بني هاشم - خلا الجو حينئذ من مكان بني هاشم بمكة واستغلظت رياسة بني أمية في قريش، ثم استلحمت مشيخة قريش من سائر البطون يوم بدر وهلك فيها عظماء من بني عبد شمس عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وعتبة بن أبي معيط، وغيرهم، فاستقل أبو سفيان بن حرب بشرف بني أمية والتقدم في قريش، وكان رئيسهم يوم أحد وقائدهم يوم الأحزاب، وهي وقعة الخندق.
ولما كان الفتح قال العباس - وكان صديقاً لأبي سفيان - للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول اللّه، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له ذكراً غداً - وكان ذلك ليلة دخول مكة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " ، ثم مَن على قريش بعد أن ملكهم يومئذ وقال: " اذهبوا فأنتم الطُلَقَاءُ " ، ثم أسلمت مشيخة قريش بعد ذلك، وشكت مشيخة قريش إلى أبي بكر ما وجدوا في أنفسهم من التخلف عن رتبة المهاجرين الأولين، وما بلغهم من كلام عمر - رضي الله تعالى عنه - في تركه شوراهم، فاعتذر إليهم أبو بكر وقال: أدركوا إخوانكم بالجهاد، وأنفذهم لحرب أهل الردة، فأحسنوا الغناء في الإسلام، وقَوَّموا الأعراب عن الجنف والميل.(2/45)
ثم لما ولي عمر، رمى بهم الرومَ وفارس، وأوعبت قريش في النفير إلى الشام وكان معظمهم هنالك، واستعمل يزيد بن أبي سفيان على الشام وطال أمد ولايته إلى أن هلك في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة، فولي عمر مكانه أخاه معاوية بن أبي سفيان، فأقره عثمان بعد عمر، فاتصلت رياستهم على قريش في الإسلام برياستهم قبيل الفتح التي لم تحل صبغتها ولا نسي عهدها أيام شغل بني هاشم بأمر النبوة وتبتد الدنيا من أيديهم بما اعتاضوا عنها من مباشرة الوحي وشرف القرب من اللّه تعالى برسوله.
وما زال الناس يعرفون ذلك لبني أمية، وانظر مقالة حنظلة بن زياد الكاتب لمحمد ابن أبي بكر: إن هذا الأمر إن صار إلى التغالب، غلبك بنو عبد مناف.
ولما هلك عثمان، واختلف الناس على علي، كانت عساكر علي أكثر عددَاً لمكان الخلافة والفضل، إلا أنها من سائر القَبائل من ربيعة ويمن وهمدان وخزاعة وغيرهم، وجموع معاوية إنما هي جند الشام من قريش شوكة مضر وبأسهم، نزلوا بثغور الشام منذ الفتح، وكانت عصبته أشد وأمضَى شوكة.
ثم كسر من جَنَاحِ علي - كرم الله وجهه - ما كان من أمر الخوارج، وشغل بهم إلى أن هلك، واجتمع الناس على الحسن من بعده، فحقن الدماء وسكن النائرة، ودفع الأمر إلى معاوية وخلع نفسه، واتفقت الجماعة على بيعة معاوية.
خلافة معاوية بن أبي سفيان
قال العلاَّمة ابن خلدون الحضرمي في تاريخه المسمى: بالعِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر: كان اتفاق الجماعة منتصف سنة إحدى وأربعين، وسمى ذلك العام عام الجماعة عندما نسي الناس النبوة والخوارق ورجعوا إلى أمر العصبية والتغالب وتعين بنو أمية للغلب على مضر وسائر العرب، ومعاوية يومئذ كبيرهم، فلم تتعده الخلافة ولا ساهمه فيها غيره، واستوت قدمه واستفحل شأنه واستحكمت في مضر رياسته وتوثق عهده، وأقام في سلطانه وخلافته عشرين سنة ينفق من بضاعة السياسة التي لم يكن أحد من قومه أوفر منه فيها؛ يدامل أهل الترشيح من ولد فاطمة وبني هاشم وآل الزبير وأمثالهم، وبصانع رءوس العرب وقرون مضر بالإغضاء والاحتمال والصبر على الأذى والمكروه، وكانت غايته في الحلم لا تدرك، وعصاه لا تقرع، ومرقاته فيه تزل عنها الأقدام: منها: ما روى أنه مازح عدي بن حاتم يومَاً يؤنبه بصحبة علي - رضي الله تعالى عنه - فقال له عدي: والله، إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن أدنيت إلينا شبراً من الشر، لندنين إليك من الشر باعاً، وإن حز الحلقوم وحشرجة الحيزوم، لأهونُ علينا من أن نسمع المساءة في علي - كرم الله تعالى وجهه - السيف يا معاوية، يبعث السيف، فقال معاوية: هذه كلمات حق فاكتبوها، وأقبل على عدي بالمقالة محدثاً.
أمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن أمية بن عبد شمس، أسلمت يوم فتح مكة وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الصفا، وعمر - رضي الله عنه - دونه، فجاءته في نسوة من قريش يبالِغنَ على الإسلام، وعمر - رضي الله عنه - يكلمهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أخذ عليهن أن لا يشركن بالله شيئاً، قالت هند: قد علمنا أنه لو كان مع الله غيره، لأغنَى عنا، فلما قال: " ولا يسرقن " قالت: لكنْ يا رسول اللّه، أبو سفيان رجل ممسك، وربما أخذتُ من ماله بغير علمه ما يصلح ولده، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " ، ثم قال: " أئنك لأنت هند؟! " قالت: نعم، يا رسول اللّه، اعْفُ عني! فقال: " عفا اللّه عنك " .
وفي رواية بعد قولها: نعم، يا رسول اللّه - أنه قال لها: " أأنتِ هند أكالة الكبود؟ " فقالت: أنبي حقود؟ وكان أبو سفيان حاضراً، فلما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " ولا يزنين " ، قالت: أتزني الحرة يا رسول اللّه؟ فلما قال لها: " ولا يقتلن أولادهن " ، قالت: والله ربيناهم صغاراً حتى قتلتهم أنت وأصحابك ببدر كباراً قال: فضحك عمر من قولها حتى مال، فلما قال: " ولا يعصينك في معروف " ، قالت: بأبي أنت وأمي ما أكرمك وأحسن ما دعوت إليه، واللّه، ما قصت مقامي هذا وأنا أضمر أن أخالفك في شيء.(2/46)
وروى عن حميد بن وهب قال: كانت هند بنت عتبة بن ربيعة قبل أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة وكان من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة تغشاه الناس من غير إذن، فخلا البيت ذات يوم فقام الفاكه، وهند فيه، وخرج لبعض حاجاته، وأقبل رجل ممن كان يغشى ذلك البيت فولجه، فلما رأى المرأة ولى هاربَاً، فأبصره الفاكه، فانتهى إليها، فوجدها راقدة فضربها برجله، وقال: من هذا الذي كان عندك. قالت: ما رأيت أحداً ولا انتبهت حتى أنبهتني، فقال لها؛ الحقي بأهلك، وتكلم فيها الناس، فخلا بها أبوها عتبة بن ربيعة، فقال لها: يا بنية، إن الناس قد أكثروا فيك فأنبئيني بذلك، فإن يكن الرجل صادقَاً، دسست إليه من يقتله فتنقطع عنا القالة، وإن يكن كاذباً حاكمته إلى بعض كهان اليمن!! قال: فحلفت له بما كانوا يحلفون به في الجاهلية؛ أنه كاذبٌ، فقال عتبة للفاكه: إنك قد رميت ابنتي بأمرٍ عظيمٍ، فحاكمني إلى بعض كهان اليمن.
فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم، وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف ومعهم هند ونسوة معها تأنسُ بهن فلما أشرفوا على بلاد الكاهن، تنكر حال هند وتغير وجهها، فقال لها عتبة: يا بنية، إني قد رأيتُ ما بكِ من تغير الحال، وما ذاك إلا لمكروه عندك، فقالت: لا، واللّه يا أبتاه، ما ذاك لمكروه، ولكني أعرفُ أنكم ستأتون بَشَراً يخطئ ويصيب، فلا آمنه أن يَسِمَنِي بِسِيمَاءَ تكون عليَ سُبة في العرب آخر الدهر، فقال لها أبوها: إني سوف أستخبره لك قبل أن ينظر في أمرك، فصفر لفرسه حتى أدلى ثم أدخل في إحليله حبة من الحنطة وأَوْكَأَ عليها بسير، وصبحوا الكاهن فنحر لهم وأكرمهم، فلما تغدوا، قال له عتبة: إنا جئناك لأمرِ وقد خبأت لك خبيئة أختبرك بها فانظر ما هو، قال الكاهن: بُرة في كمرة، قال عتبة: أريد أبين مِن هذا، قال: حبة بر في إحليل مهر، فقال عتبة: صدقت، انظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يدنو من إحداهنَ ويضربُ كتفها ويقول: انهضي، حتى دنا من هند فضرَبَ كتفها، وقال: انهضي غَيْرَ وسخاء ولا زانية، وستلدينَ ملكاً يقال له معاوية، فنظر إليها الفاكه فأخذ بيدها، فنترتْ يدها من يده، وقالت: إليك عني، فواللِّه، لأحرصن أن يكون من غيرك، فتزوَجها أبو سفيان، فجاءت منه بمعاوية بن أبي سفيان.
قال أهل العلم: وولدته في خيف مِني، فهو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي العبشمي، يلتقي مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في جده عبد مناف بن قصي.
ولما استقل معاوية بالخلافة بعد نزول الحسن له عنها، وسمي ذلك العام - وهو عَامُ إحدى وأربعين - عام الجَمَاعة كما تقدم ذلك؛ بعث عماله على الأمصار؛ فبعث على الكوفة المغيرة بن شعبة، ويقال: إن معاوية كان ولي على الكوفة أولا عبد الله بن عمرو بن العاص، فأتاه المغيرة بن شعبة متنصحاً، وقال: عمرو بمصر وابنه بالكوفة، فأنت بين نابي الأسد، فعزل معاوية حينئذِ عبد الله بن عمرو عن الكوفة، وولاها المغيرة بن شعبة وبلغ ذلك عمرو بن العاص، فقال لمعاوية: إن المغيرة يحتاز المال؛ فلا تَقدِرُ على رده منه، فاستعمل من يخافك؛ فقصر معاوية ولاية المغيرة على الصلاة، وولي على الخراج غيره.
ثم ولي على البصرة بُسر بن أرطاة العامري، وكان قد تغلب عليها حمران بن أبان عند صلح الحسن مع معاوية، فبعث إليه معاوية بُسراً، فخطب الناس وتعرض لعلي، ثم قال: أنشد الله رجلاَ يعلم أني صادق أو كاذب إلا صدقني أو كذبني، فقال له أبو بكرة - وهو صحابي مشهور اسمه نُفَيع بن الحارث بن كلدة الثقفي قلت: لقب بأبي بكرة؛ لأنه كان مع ثقيف في حصن الطائف حال حصار النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، فنادى - عليه الصلاة والسلام - : " من أتى إلينا، فله الأمان، وهو حر " ، فتدلى نفيع بن الحارث هذا من أعلى الحصن ببكرة، ونزل إليه - عليه الصلاة والسلام - وأسلم، فلقب لذلك بأبي بكرة - : " اللهم، لا نعلمك إلا كاذباً " ، فأمر به يسجن، فقام أبو لؤلؤة الضبي فدفع عنه.(2/47)
وكان على فارس من أعمال البصرة زياد ابن أبيه عاملا لعلي، فبعث إليه معاوية يطلبه بالمال، فقال زياد: صرفْتُ بعضه في وجهه، واستودعتُ بعضه للحاجة إليه، وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رحمه اللّه، ورضِيَ عنه - فكتب إليه معاوية بالقدوم، لينظر في ذلك فامتنع، فلما ولي بسر، جمع عنده أولاد زياد الأكابر: عبد الرحمن وعبيد اللّه وعباداً، وكتب إليه؛ لتقدمن أو لأقتلن بنيك، فامتنع زياد واعتزم بُسْر على قتلهم، فأتاه أبو بكر؛ وكان أخا زياد لأمه - وسيأتي ذكر ذلك - فقال لبسر: أخذتهم بلا ذنب، وصلح الحسن مع معاوية علَى أصحاب علي حيث كانوا، فأمهله بسر إلى أن يأتي كتاب معاوية، ثم قدم أبو بكرة على معاوية، وقال: إن الناس لم يبايعوا علَى قتل الأطفال، وإن بُسراً يريد قتل بني زياد، فكتب معاوية إلى بسر بتخليتهم، وجاء إلى السجن بعد الميعاد، ولم يبق منه إلا ساعة وهم موثقون للقتل، فأدركهم وأطلقهم بُسر.
ثم عزل معاوية بسراً وولى عليها عبد اللّه بن عامر بن كريز بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ثم ولى معاويةُ سنة اثنتين وأربعين على المدينة مروان بن الحكم، وعلى مكة خالد بن العاص بن هشام، ثم عزل مروانَ عن المدينة سنة تسع وأربعين، وولى مكانه عليها سعيد بن العاص، ثم عزله سنة أربع وخمسين، فرد إليها مروان بن الحكم.
ولما امتنع زياد ابن أبيه بفارس بعد مقتل علي - كما قدَمناه - وكان عبد الرحمن ابن أخيه لأمه أبي بكرة يلي أمواله بالبصرة - رفع إلى معاوية أن زياداً استودع أمواله عبد الرحمن، فبعث معاوية إلى المغيرة بالكوفة أن ينظر في ذلك، فأحضر عبد الرحمن، وقال: إن يَكن أبوك أساء إلي، فقد أحسن عمك، وأحسن العذر عنه عند معاوية.
ثم قدم المغيرة على معاوية، فذكر معاوية له ما عنده من الوجل باعتصام زياد بفارس، وقال: داهية العرب معه أموالُ فارس يدبر الحيل؛ فلا آمن أن يبايع لرجل من أهل البيت ويعيد الحرب جذعة، فاستأذنه المغيرة أن يأتيه ويتلطف له، ثم أتاه وقال: معاوية بعثني إليك وقد بايعه الحسن، ولم يكن هناك غيره، فخذ لنفسك قبل أن يستغني معاوية عنك، قال له زياد: أَشِر عَلَيَ، والمستشار مؤتمن، فقال المغيرة: أرى أن تشخص إليه وتصل حبلك بحبله وترجع عنه، فكتب إليه معاوية بأمانه وخرج زياد من فارس نحو معاوية فاعترضه عبد الله بن حازم السلمي في جماعة وقد بعثه عبد الله بن عامر ليأتيه به، فلما رأى عبد الله بن حازم كتاب الأمان تركه. فلما قدم زياد على معاوية، سأله عن أموال فارس، فأخبره بما أنفق وما حمله إلى علي وما بقي عنده مودعاً للمسلمين، فصدقه معاوية وقبضه منه، ويقال: إنه قال له: أخاف أن تكون مَكَرتَ بي فصالحني، فصالحه على ألفَيْ درهمِ بعث بها إليه واستأذنه في نزول الكوفة فأذن له، وكان المغيرة يكرمه ويعظمه.
وكتب إليه معاوية أن يُلزم زياداً، وحجر بن عدي، وسليمان بن صرد، وشبيب ابن ربعي، وابن الكواء، وابن الحمق، وهؤلاء أصحاب علي - رضي الله تعالى عنه - بالصلاة في الجماعة، فكانوا يحضُرُونَ الصلاة.
وفي سنة ثلاث وأربعين أو التي قبلها: كان استلحاق معاوية زيادَاً، قال العلامة ابن خلدون: كانت سُمَية أم زياد مولاة للحارث بن كلدة الثقفي الطبيب، وولدت منه أبا بكرة نفيع بن الحارث، ثم زوجها بمولى له، فأتتْ منه بابن سماه نافعاً، ثم إن أبا سفيان قد ذهب إلى الطائف في بعض حاجاته، فأصاب سمية هذه ببعض أَنكِحَةِ الجاهلية، وولدَت زياداً هذا ونسبته إلى أبي سفيان، وأقرَ لها به، إلا أنه كان يخفيه.
قلت: هذا ما ذكره ابن خلدون، ورأيتُ المسعودي في مروجه قال ما نصه: ذهب أبو سفيان إلى الطائف لتجارة، فنزل على أبي مريم السلولي - خَمار بالطائف - فقال لما طالت إقامته: إن ابنة عتبة لا أتمكنُ معها بامرأة، وقد طالت عزوبتي فأبغني بغياً، فقال أبو مريم: لا أعلم الآن إلا سمية أمة الحارث بن كلدة، قال: فأتني بها، فأتاه بها، ثم أخذ أبو سفيان بكُم درعها، فأدخلها في حجرة من الدار، ثم خرج وجبينه يرشحُ عرقاً ونفسه يتتابع. قال أبو مريم: فقلت له: كيف رأيتها. فقال: لا بأس بها لولا استرخاء في ثدييها، وذفر في إبطيها.(2/48)
قال ابن خلدون: ولما شَب زياد، سمت به النجابة، واستكتبه أبو موسى الأشعري لما كان على البصرة واستكفاه عمر - رضي اللّه عنه - في أمر، فحسن غَنَاؤه فيه، وحضر زياد عنده يعلمه بما صنع، فأبلغ ما شاء في الكلام، فقال عمرو ابن العاص، وكان حاضراً: لِلَهِ هذا الغلامُ!! لو كان أبوه من قريش ساق العَرَبَ بعصاه، فقال أبو سفيان وعلي - رضي الله عنه - يسمع: واللِّه إني لأعرف أباه، ومَنْ وضعه في رَحِمِ أُمهِ، فقال له علي - رضي اللّه تعالى عنه - : اسكُتْ، فلو سمع عمر هذا منك، كان إليك سريعاً.
ثم استعمل علي - رضي الله تعالى عنه - زياداً على فارس فضبطها، فكتب إليه معاوية يتهدده ويعرض له بولادة أبي سفيان إياه، فقام زياد في الناس خطيباً فقال: عجباً لمعاوية يخوفني وبيني وبينه ابن عم الرسول في المهاجرين والأنصار.
وكتب إليه علي - رضي اللّه تعالى عنه - : إني قد وليتك وأنا أراك أهلا، وقد كان من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل وكذب النفس لا توجبُ ميراثاً ولا نسباً، ومعاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، فاحذر ثم احذر، والسلام.
ولما قتل علي - رضي اللّه تعالى عنه - وصالح زياد معاوية وَضَعَ زياد مصقلة بن هبيرة الشيباني علَى معاوية؛ ليعرض له بنسب أبي سفيان ففعل، ورأى معاوية أن يستميله باستلحاقه فالتمس الشهادة بذلك ممن عَلِمَ لحوق نسبه بأبي سفيان، فشهد له رجل من أهل البصرة وألحقه، وكان أكثر شيعة عَلي ينكرون ذلك وينقمون على معاوية، حتى أخوه لأمه أبو بكرة.
وكتب زياد إلى عائشة - رضي اللّه تعالى عنها - في بعض الأحيان: من زياد ابن أبي سفيان يستدعي جوابها بهذا النسب؛ ليكون جوابها له حجة، فكتبت إليه: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد، وكان عبد اللّه بن عامر يبغض زياداً، فقال يوماً لبعض أصحابه: ابن سمية يقبح آثاري ويعترض معاوية، فأمر معاوية حاجبه عما لي، لقد هممت أن آتي قسامة من قريش أن أبا سفيان طرير سمية. فوصل الخبر إلى زياد، فأخبر به معاوية فأمر معاوية حاجبه أن يرد عبد الله بن عامر من أقصى الأبواب فرد، فشكا ذلك إلى ابنه يزيد، فركب معه وأدخله على معاوية، فلما رآه، قام من مجلسه ودخل إلى بيته، فقال يزيدة نقعد في انتظاره، فلم يزالا حتى خرج، وغدا ابن عامر يعتذر فيما كان منه من القول في زياد، فقال معاوية: إني لا أتكثر بزياد من قِفة، ولا أتعزَّز به من ذلة، ولكن عرفت حقاً للَه فوضعته موضعه.
وخرج ابن عامر يترضى زياداً ورضي معاوية له.
وفي استلحاق معاوية زياداً يقول يزيد بن مفرغ الحميري: من الوافر:
ألا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... مُغَلْغَلَة مِنَ الرَجُلِ اليَمَانِي
أَتَغْضَبُ أن يُقَالَ: أَبُوكَ عَفُّ ... وَتَرضى أَنْ يُقَالَ: أَبُوكَ زَانِي؟!
فَأَشْهَدُ أَن رَحمَكَ مِن زِيَادِ ... كَرَحْمِ الفِيلِ مِنْ وَلَدِ الأتانِ
وفي زياد وأخويه لأمه نُفَيع ونافع يقول حارث بن صريم الحارثي: من المنسرح:
إِن زِيَادَاً وَنَافِعاً وَأَبَا ... بَكرَةَ عِنْدِي مِنْ أَعْجَبِ العَجَبِ
إِن رجالا ثَلاَثَة خُلِقُوا ... مِنْ رَحْمِ أُنثَى مُخَالِفي النسَب
ذَا قُرَشي فِيمَا يَقُولُ وذَا ... مَولى وَهَذَا بِالزعم مِن عَرَب
وفي سنة خمس وأربعين: عزل معاوية الحارث بن عبد الله الأزدي عن البصرة، وولى عليها زياداً، وجمع له خراسان وسجستان، ثم جمع له السند والبحرين وعمان.
وفي البصرة خطب خطبته البتراء، وإنما سميت بتراء؛ لأنه لم يفتتحها بالحمد والثناء.
وفي سنة سبع وأربعين: كان الطاعون بالكوفة، وعليها المغيرة بن شعبة، فهرب منها ثم عاد إليها فمات، فضمها إلى زياد مع البصرة، فهو أول من جمع له ولاية العراقَين: البصرة والكوفة.
وفي سنة ثمان وأربعين قبض معاوية فدك من مروان بن الحكم، وكان وهبها له عثمان، رضي الله عنه.
وفي سنة خمسين: حج معاوية، وأمر بحمل المنبر من المدينة إلى الشام، فكسفت الشمس، ورئيت الكواكب، فجزع لذلك وأعظمه ورده إلى موضعه، وزاد فيه ست مراقٍ.(2/49)
وبعث جيشاً كثيفَاً إلى بلاد الروم مع سفيان بن عوف، وندب يزيد ابنه إلى الخروج معهم، فتثاقل فتركه، ثم بلغ الناس أن الغزاة أصابهم جوع ومرض، فأنشد يزيد: من البسيط:
أَهوِن عَلَي بما لاقَت جموعُهُمُ ... يَومَ الطوانةِ مِن حُمى ومن شُومِ
إِذَا اتَّكَأتُ عَلَى الأنماطِ مُرتَفقاً ... بِدَيرِ مرانَ عِندِي أُمُّ كُلثُومِ
قلت: أم كلثوم زوجته بنت عبد الله بن عامر بن كريز المتقدم ذكر قوله في زياد: لقد هممت أن آتي بقسامة...
فلما بلغ قوله هذا أباه معاوية، حلف ليلحقنهُ بهم، فسار يزيد في جمع كثير جمعه له معاوية، فيهم ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري، فأوغلوا في بلاد الروم وبلغوا القسطنطينية، وقاتلوا الروم عليها، فاستشهد أبو أيوب الأنصاري، ودفنوه قريباً من سورها، ورجع يزيد والعساكر إلى الشام.
وكان المغيرة بن شعبة أيام إمارته على الكوفة كثيراً ما يتعرض لَعِلي في مجالسه وخُطَبِهِ ويترحم على عثمان ويدعو له، وكان حجر بن عَدِي بن حاتم الطائي إذا سمعه يقول: إياكم قد أضل الله ولعن، ثم يقول: أشهد أنَّ مَن تذمون أَحَقُّ بالفَضلِ، وَمَن تُزكونَ أولَى بالذم، فيعذله المغيرة ويقول: يا حجر، اتق غضب السلطان وسَطوته؛ فإنها تهلك أمثالك لا يزيده على ذلك.
ولما كان آخر إمارته، قال في بعض أيامه مثل ما كان يقول، فصاح به حجر: مُر لنا بأرزاقنا؛ فقد حبستها عنا، وأصبحتَ مولعَاً بذم خَيرِ الناسِ، وصاح الناس به من جوانب المسجد: صدق حجر، فمُر لنا بأرزاقنا، فالذي أنت فيه لا يُجدي علينا نفعاً. فدخل المغيرة إلى بيته، وعذله قومه في جرأة حجر عليه بوهن سلطانه ويسخط عليه معاوية، فقال المغيرة: لا أحب أن أسعى بقتل أحد من أهل المصر، وسيأتي بعدي من يصنع معه مثل ذلك فيقتله.
ثم توفي المغيرة، وولى زياد كما تقدم، فلما قدم، خطب الناس وترحَم على عثمان، ولعن قاتله، فقال حجر ما كان يقول، فسكت عنه زياد، ورجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث، وبلغه أن حجراً تجتمع عليه شيعة علي ويعلنون بلعن معاوية والبراءة منه، وأنهم حصبوا عمرو بن حريث، فشخص زياد إلى الكوفة حتى دخلها، ثم خطب الناس وحُجرٌ جالس يسمع، فتهدده، وقال: لست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأدعه نكالا لمن بعده. ثم بعث إليه فامتنع من الإجابة، فبعث صاحب الشرطة شداد بن هيثم الهلالي إليه في جماعة، فسبهم أصحاب حجر، فجمع زياد أهل الكوفة وهددهم، فتبرءوا، فقال: ليدع كل رجل منكم عشيرته الذين عند حُجر، ففعلوا، حتى إذا لم يبق معه إلا قومه، قال زياد لصاحب الشرطة: انطلق إليه فائتني به طوعاً أو كرهاً. فلما جاء يدعوه، امتنع من الإجابة وحمل عليهم، وأشار عليه أبو القمطرة الكندي بأن يلحق بكندة فيمنعوه، هذا وزياد على المنبر ينتظر، ثم غشيهم أصحاب زياد، وضرب عمرو بن الحمق الخزاعي فسقط ودخل في دور الأزد فاختفي، وخرج حجر من أبواب كندة فركب ومعه أبو القمطرة إلى دور قومه واجتمع إليه الناس، ولم يأته من كندة إلا قليل.
ثم أرسل زياد وهو على المنبر إلى مدلج وهمدان ليأتوه بحُجر، فلما علم أنهم قصدوه، تسرَب من داره إلى النخع، ونزل على أخي الأشتر، وبلغه أن الشرطة تسأل عنه في النخع، فأتى الأزد، واختفى عند ربيعة بن ناجد، وأعياهم طلبه، فدعا زياد محمد بن الأشعث، وقال: لئن لم تأتني به، لأقطعنك إرباً إرباً. فاستمهله ثلاثة أيام، فأمهله حتى بعث حجر بن عدي إلى محمد بن الأشعث أن يأخذ له أماناً من زياد حتى يبعث به إلى معاوية، فجاء محمد بن الأشعث ومعه جرير بن عبد اللّه، وحجر بن زيد، وعبد الله بن الحارث أخو الأشتر، فاستأمنوا له زياداً، فأجابهم، ثم أحضروا حجراً فحبسه.(2/50)
ثم طلب أصحابه، فخرج عمرو بن الحمق الخزاعي من أصحاب حُجْر شيعة علي إلى الموصل، ومعه رفاعة بن شداد، فاختفى في جبل هنالك، فرفع خبرهما إلى عامل الموصل وهو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي - ابن أخت معاوية، ويعرف بابن أم الحكم - فسار إليهما فهرب رفاعة، وقبض على عمرو، وكتب إلى معاوية بذلك، فكتب معاوية إلى زياد: إن عمرو بن الحمق طعن عثمان تسع طعنات، وقال حين طعنه: ست للّه تعالى، وثلاث لما في نَفْسِي. فاطعنه يا زياد كذلك تسمع طعنات. فطعن فمات في الأولى والثانية، فكملتْ عليه ميتاً.
ثم جَد زياد في طلب أصحاب حجر، فأتى بقبيصة بن ضبيعة العبسي بأمان فحبسه، وجاء قيس بن عباد الشيباني برجل من قومه من أصحاب حجر فأحضره زياد، وسأله عن علي بن أبي طالب، فأثنى عليه فضربه وحبسه، وعاش قيس بن عباد حتى قاتل مع ابن الأشعث، ثم دخل بيته في الكوفة وسعى به إلى الحجاج فقتله، ثم أرسل زياد إلى عبد اللّه بن خليفة الطائب من أصحاب حجر، فتوارى عنه وجاء الشرط فأخذوه، ونادت أخته النوار بقومه فخلصوه، فأخذ زياد عدي بن حاتم، وهو في المسجد، وقال: ائتني بعبد الله بن خليفة الطائي وخبره، فقال له: آتيك بابن عمي تقتله؟! واللّه لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه، فحبسوه، فنكر الناس عليه ذلك وكلموه، وقالوا: تفعل هذا بصاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكبير طيئ؟! فقال زياد: أخرجه علَى أن يخرج ابن عمه عني، فأطلقه وأمر عدي عبد اللّه أن يلحق بجبلي طيئ، فلم يزل هنالك حتى مات. وأتى زياد بكريم بن عفيف الخثعمي من أصحاب حجر وغيره.
ولما جمع منهم اثنَي عشر في السجن، دعا رؤساء الأرباع، وهم يومئذ عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة، وخالد بن عروة على ربع تميم وهمدان، وقيس بن الوليد على ربع ربيعة وكندة، وأبو بردة بن أبي موسى على ربع مذحج وأسد، فشهدوا كلهم أن حجراً جمع الجموع وأظهر شتم معاوية ودعا إلى حربه، وزعم أن الإمارة لا تصلح إلا في الطالبيين ووثب بالمصر وأخرج العامل، وأظهر عذرَ أبي تراب والترحُمَ عليه.
أقول: نعم، رحمة اللّه عليه ورِضَاهُ، والبراءة من عدوه ومن أهل حربه.
وإن النفر الذين معه وهم رءوس أصحابه على مثل رأيه.
ثم استكثر زياد من الشهود، فشهد إسحاق وموسى ابنا طلحة، والمنذر بن الزبير، وعمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وغيرهم، وكتب في الشهود شريح بن الحارث القاضي وشريح بن هانئ.
ثم استدعى زيادُ وائل بنَ حُجر الحضرمي، وكثير بن شهاب، ودفع إليهما حُجْراً وأصحابه، وهم الأرقم بن عبد الله الكندي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي ابن فضيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، وعاصم بن عوت البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، وكرام بن حيان العنزي، وعبد الرحمن بن حسان العنزي - أيضاً - ومحرز بن شهاب التميمي، وعبد اللّه بن حوية السعدي، ثم أتبع هؤلاء الاثني عشر بعتبة بن الأخنس بن سعد بن بكر، وسعد ابن عمران الهمداني، وأمرهما أن يسيرا بهم إلى معاوية، ثم لحقهما شريح بن هانئ، وأرسل كتابَاً إلى معاوية دفعه إلى وائل بن حجر الحضرمي.
فلما انتهوا إلى مرج عذراء قرب دمشق، تقدم وائل وكثير إلى معاوية، وقرأ كتاب شريح بن هانئ، وفيه: بلغني أن زياداً كتب شهادتي، وإني أشهد على حُجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويديم الحج والعمرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حرامُ الدم والمال، فإن شئت فاقتله أو فدعه، فقال معاوية: ما أرى هذا إلاَ أخرج نفسه من شهادتكم، يعني: شريح بن هانئ. وحبس القوم بمرج عذراء حتى لحقهم عتبة بن الأخنس، وسعد بن عمران اللذَينِ ألحقهما بهم زياد،؟ وجاء عامر بن الأسود العجلي إلى معاوية، فأخبره بوصولهما، فاستوهب يزيد بن أسد البجلي عاصماً وورقاء ابني عمه، وقد كتب جرير يزكيهما، ويشهد ببراءتهما، فأطلقهما معاوية، وشفع وائْل بن حُجر في الأرقم، وأبو الأعور السلمي في ابن الأخنس، وحبيب بن سلمة في أخويه فتركهم، وسأله مالك بن هبيرة في السكوني فردهُ، فغضب وجلس في بيته.(2/51)
وبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعي، والحصين بن عبد اللّه الكلابي، وأبا شريف البدي إلى حجر وأصحابه، ليقتلوا منهم من أمر بقتله، فأتوهم وعرضوا عليهم البراءة من عَلِي، فأبوا وصَلوا عامة ليلتهم، ثم قدموا من الغد للقتل، فتوضأ حُجر وصلى وقال: والله لولا أن يظنوا بي الجزع من الموت، لاستكثرت منها، اللهم إنا نستعديك على أمتنا، أهل الكوفة يشهدون علينا، وأهل الشام يقتلوننا، ثم مَشَى إليه هدبة بن فياض بالسيف فارتعد، فقالوا له: كيف وأنت تزعم أنك لا تجزع من الموت، فابرأ من صاحبك ونحن ندعك! فقال: وما لي لا أجزع، وأنا بين القبر والكفن والسيف، وإن جزعت من القتل، لا أقول ما يسخط الرب فقتلوه، وقتلوا خْمسة معه: شريك بن شماد، وصيفي بن فضيل، وقبيصة بن ضبيعة، ومحرز ابن شهاب، وكرام بن حيان، وصلفوا عليهم ودفنوهم.
وجيء بعبد الرحمن بن حيان العنزي، وكريم الخثعمي إلى معاوية، فوعظه الخثعمي، وطلبه معاوية البراءة من علي، فسكت واستوهبه سمرة بن عبد الله الخثعمي، فوهبه له عَلَى ألا يدخل الكوفة، فنزل الموصل، ثم سأل معاوية عبد الرحمن بن حسان عن علي، فأثنى خيراً، ثم عن عثمان، فقال: أول من فتح باب الظلم، وأغلق باب الحق، فرده إلى زياد ليقتله شَر قِتلة، فدفنه زياد حياً، فهو سابع القوم.
وأما مالك بن هبيرة السكوني، فلما لم يشفعه معاوية في حُجر، جمع قومه وسار ليخلصه وأصحابه، فلقي القتلة وسألهم، فقالوا: تاب القوم، وسار إلَى عذراء فتيقن قتلهم، فأرسل في أثر القتلة، فلم يدركوهم، وأخبر معاوية بما فعل مالك، فقال: تلك حرارة يجدها في نفسه، وكأني بها قد طُفِئَت، ثم بعث إليه بمائة ألف، وقال: خفت أن يعيد القوم حرباً؛ فتكون على المسلمين أعظم من قتل حجر، فطابتْ نفس مالك. ولما بلغ عائشة خبر حجر وأصحابه، أرسلت عبد الرحمن بن الحارث إلَى معاوية تشفع، فجاء وقد قتلوا، فقال لمعاوية: أين غاب عنك حلم أبي سفيان. قال: حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سمية فاحتملت. وأسفت عائشة على قتل حُجر وكانت تُثنِي عليه.
قلت: وحجر هذا هو حجر بن عدي بن حاتم الطائي المشهور بالكرم، وأبوه عدي صحابي رضي اللّه تعالى عنه. وقيل: إن لحُجر ابنِهِ هذا صُحبَة، ولم يصح.
وفي سنة ثلاث وخمسين مات زياد ابن أبيه في رمضان بطاعون أصابه في يمينه خرجت بها قرحة يقال: إنها بدعوة عبد الله بن عمر بن الخطاب؛ وذلك أن زيادَاً كتب إلى معاوية: إني ضبطت العراق بشمالي، ويميني فارغة، فاشغلها بالحجاز، فكتب له عهداً بذلك، وجمع له الحجاز مع العراقَين، وخاف أهل الحجاز من ذلك.
قال العلامة المسعُودِي: لما سمع بولايته أهل المدينة اجتمع الكبير والصغير بمسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقدَموا ابن عمر فاستقبل القبلة ودعا معهم، وكان من دعائه أن قال: اللهم، اكفنا يمين زياد، وضَجوا إلى الله تعالى، ولاذوا بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام؛ لِعلمِهِم بظلمه وجوره وفسقه.
ولما خرجت بكفه تلك البثرة، حكها ثم مدت واسودت، فصارت آكلة سوداء، فاستدعى شريحاً القاضي، واستشاره في قطع يده، فقال له: لك رزق مقسوم، وأجل معلوم، وإني أكره إن كانت لك مدة أن تعيش أجذم، وإن حم أجلك، أكره أن تلقى ربك مقطوع اليد، فإذا سألك: لم قطعتها. قلت: بغضاً لك، وفراراً من قضائك، فقال: لا أبيت والطاعون في لحافِ واحدٍ، واعتزم عَلَى قطعها، فلما نظر إلى النار والمكاوي، جزع وتركه، وقيل: تركه لإشارة شريح القاضي، وعذل الناس شريحاً في تلك الإشارة، فقال لهم: وددت لو أن الله قطع يده يومَا، ورجله يوماً، وسائر جسمه يومَاً يوماً، ولكن المستشار مؤتمن.
وكان زياد قد جمع الناس بباب قصره يعرضهم على لعن علي بن أبي طالب، لعن اللّه اللاعنَ والعارضَ، فمن أبى عرضه على السيف.
وذكر عبد الرحمن بن السائب قال: حضرتُ فصرت إلى الرحبة، ومعي جماعة من الأنصار، فنمت فرأيت في منامي وأنا جالس في جماعة، رأيتُ شخصاً طويلا قد أقبل، فقلت: من هذا؟! قال: أنا النقاد ذو الرقبة، بعثت إلى صاحب هذا القصر، فانتبهت فزعاً فما كان إلا مقدار ساعة حتى خرج خارج من القصر، فقال: انصرفوا، فالأمير عنكم مشغول، وإذا به قد أصابه ما ذكرنا من البلاء في كفه - وفي ذلك يقول عبد الله بن السائب من أبيات: من البسيط:(2/52)
مَا كَانَ منتهياً عَما أَرَادَ بنا ... حتى أُتِيحَ لَهُ النقادُ ذو الرَقَبَة
فَأَسقَطَ الشق مِنهُ ضَربَةْ ثَبَتَت ... لَما تَنَاوَلَ ظُلماً صَاحِبَ الرحَبَة
قلت: صاحب الرحبة يريد به علي بن أبي طالب؛ لأنه دفن في رحبة مسجد الكوفة على أحد الأقوال في موضع قبره، وقد ذكرت الاختلاف فيه فيما تقدم - : فهلك وهو ابن خمس وخمسين، ودفن بالثومة من أرض الكوفة، لا رحمه الله.
قال يومَاً لجلسائه: من أنعَم الناس عيشاً. قالوا: أمير المؤمنين، قال: هيهات، فأين ما يَلْقَى من الرعية؟! قالوا: فأنت أيها الأمير، قال: فأين ما يَرِدُ علينا من الثغور والخراج؟ بل أنعمهم عيشاً: من له سداد من عَيْشٍ، وحَظ من دِينٍ، وامرأة حسناءُ رضيها ورضيته، لا يعرفنا ولا نعرفه.
ولما توفي زياد، قدم ابنه عبيد الله على معاوية، وهو ابن خمس وعشرين سنة، فقال له معاوية: من استعمل أبوك على المصرين. فأخبره، فقال معاوية: لو استعملك أبوك لاستعملتك، فقال له عبيد الله: أنشدك الله أن يقول لي أحد بعدك: لو استعملك أبوك لاستعملتك، فولاه خراسان من البصرة سنة خمس وخمسين، ووصاه فكان من وصيته: اتق اللّه، ولا تؤثرن على تقواه شيئاً؛ فإن في تقواه عوضاً، وَقِ عرضك من أن تذله، وإذا أعطيت عهداً، فأوف به، ولا تتبعن كثيراً بقليل، ولا يخرجن منك أمر حتى تبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك. وإذا لقيت عدوك فكبر أكبر من معك، وقاسمهم على كتاب اللّه، ولا تطُمعنَّ أحداً في غير حقه، ولا تؤيسن أحداً من حق هو له، ثم ودَعه وسار، وذلك في أول سنة أربع وخمسين من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والتحية.
ذكر أن معاوية تنازع إليه عمرو بن عثمان بن عفان - رضي اللّه تعالى عنه - وأسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - رضي اللّه عنه - في أرض، فقال عمرو لأسامة: كأنك تنكرني؟! فقال له أسامة: ما يسرني نسبك بولائي، فقام مروان بن الحكم، فجلس إلى جانب عمرو بن عثمان، فقام الحسن بن علي بن أبي طالب، فجلس إلى جنب أسامة، فقام سعيد بن العاص، فجلس إلى جنب مروان، فقام الحسين بن علي، فجلس إلى جنب الحسن، فقام عبد اللّه بن عامر بن كريز بن ربيعة بن عبد شمس، فجلس إلى جنب سعيد بن العاص، فقام عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، فجلس إلى جنب الحسين، فقام عبد الرحمن بن الحكم، فجلس إلى جنب عبد اللّه بن عامر، فقام عبد اللّه ابن العباس، فجلس إلى جنب عبد الله بن جعفر.
فلما رأى ذلك معاوية قال: لا تعجلوا أنا كنت شاهداً: إذ أقطعها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فقام الهاشميون فخرجوا ظاهرين، وأقبل عليه الأمويون، وقالوا: هلا كنت أصلحت بيننا؟! قال: دعوني، فو اللّه ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين إلا لبس على عقلي، وإن الحرب أولها نجوى، وأوسطها شكوى، وآخرها بلوى، ثم تمثل بأبيات عمرو بن معدي كرب: من الكامل:
أَلحَربُ أَولُ مَا تَكُونُ فَتية...............
وقد تقدم ذكرها في آخر خلافة عمر، رضي الله تعالى عنه.
ثم قال: ما في القلوب يشب الحروب، والأمر الكبير، يبعثه الأمر الصغير.
ومما ذكره المسعودي قوله: ضحك معاوية ذات يوم ضحكاً ذهب به كل مذهب، فقال عمرو بن العاص: لم تضحك يا أمير المؤمنين، أضحك اللّه سنك؟ فقال معاوية: أضحك من تغور ذهنك يوم بارزت علياً وابدائك سوءتك، أما واللّه يا عمرو، لقد واقعت المنايا، ورأيت الموت عياناً، ولو شاء لقتلك، ولكن أبي ابنُ أبي طالب في أمرك إلا تكرماً. فقال عمرو: أما والله، إني لعَن يمينك حين دعاك للبرازِ، فاحولت عيناك، وبدا سحرك، وبدا منك ما أكره ذكره؛ فمن نفسك فاضحك أو فدع.
دخل عبد اللّه بن عباس على معاوية وعنده وجوه قريش، فقال له معاوية إني سائلك عن مسائل، قال ابن عباس: سل عما بدا لك، قال: فما تقول في أبي بكر؟ قال: رحم اللّه أبا بكر، كان والله للفقراء رحيماً، وللقرآن تالياً، وعن المنكر ناهياً، وبربه عارفاً، ومن اللّه خائفاً، وعن الشبهاتِ زاجرَاً، وبالمعروف آمراً، وبالليل مصلياً، وبالنهار صائماً، ففاق أصحابه ورعَاً وكفافَاً، وسادهم زهداً وعفافاً، فغضب الله على مَن تنقصه أو طعن فيه.(2/53)
قال: ما تقول في عمر؟ قال: رحم الله عمر أبا حفص، كان والله كهف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومثنى الإحسان، ومحل الإيمان، وكهف الضعفاء، ومعقل الصفاء، قام بحق اللّه صابراً محتسباً، حتى أوضح الدين وفتح البلاد، وأمنَ العباد، فأعقب اللّه من يبغضه اللعنة إلى يوم القيامة.
قال فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: رحم اللّه عثمان، كان واللّه أكرمَ الخَفَرَة، وأفضل البررة، هجاداً بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر النار، نهاضاً إلى كل مكرمة، سباقَاً إلى كل مُنجِيَةِ، حَيِياً وفياً، صاحب جيش العسرة، وختَنَ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، فأعقب اللّه من طعن عليه لعنة اللاعنين إلى يوم القيامة.
قال: فما تقول في عَلِي بن أبي طالب: قال: رحم الله علياً، كان واللّه علم الهدى، وكهف التقى، وبدر الحجى، وبحر الندى، وطود النهى، وكهف الورى، داعياً إلى الحجة العظمى، مستمسكاً بالعروة الوثقى، خير من آمن واتقى، وأفضل من تقمص وارتدى، وأحب من انتعل وسعى، وأفصح من تنصت وقراً، وأكبر من شهد النجوى، سرى الأنبياء، والنبي المصطفَى، صاحب القبلتين، فهل يوازيه أحد، وأبو السبطين، فهل يقاربه بشر، زوجته خير النسوان، فهو بفرقه فاضل، وهو للأسود قتال، وفي الحروب يختال، لم تر عيني مثله، فعلى من تَنَقصَهُ لعنة الله والعباد إلى يوم القيامة.
قال معاوية: يا بن عباس، قد أكثرت في ابن عمك، فما تقول في أبيك العباس؟ فقال: رحم اللّه أبا الفضل، كان صنو نبي اللّه، وقرة عين صفي اللّه، سيد الأعمام، وله أخلاق آبائه الأمجاد، وأحلام أجداده الأجواد، تباعدت الأسباب عند فضله، صاحب البيت والسقاية، والمشاعِرِ والتلاوة، ولم لا يكون كذلك، وهو يشابه أكرم من دَب وهَب، عبد المطلب.
فقال معاوية: يا بن عباس، أشهد أنك نَبِيْهُ أهل بيتك، قال ابن عباس: ولم لا أكون كذلك، وقد قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل " .
وروى عن ابن عباس أنه قال: أتيت معاوية، وقد قعد على سريره وجميع أصحابه ووفود العرب عنده، فدخلْتُ وسلمت وقعدت، فقال معاوية: مَنِ الناسُ يا بن عباس؟ فقلت: نحن قال: فإذا غبتم. قلت: فلا أحد، قال: ترى أني قعدت هذا المقعد بكم. قلت: نعم، فبمن قعدت. قال: بمن كان مثل حرب بن أمية، قلت: من أكفأ عليه إناءه، وأجاره بردائه قال: فغضب، وقال: وارِ شخصك عني شهراً، فقد أمرتُ لك بصلتك وأضعفتها لك، فلما خرجت قلت لخاصته: ألا تسألوني ما الذي أغضب معاوية؟ قالوا: بلى، فقل بفضلك قال: إن أباه حرباً لم يلتق أحد من رؤساء قريش في عقبة ولا مضيق مع قوم، إلا لم يتقدم على حرب أحد حتى يجوزه أولا، فالتقى حرب مع رجل من بني تميم في عقبة، فتقدمه التميمي، فقال حرب: أنا حرب بن أمية، فلم يلتفت إليه التميمي، وجاز قبله، فقال حرب: موعدك مكة، فبقى التميمي دهراً، ثم أراد دخول مكة، فقال: من يجيرني مِنْ حرب بن أمية، فقالوا له: عبد المطلب، فقال التميمي: عبد المطلب أجل قدراً من أن يجير علي حرب، فأتى ليلا دار الزبير بن عبد المطلب، فدق عليه الباب، فقال الزبير لأخيه الغيداق: قد جاءنا رجل إما طالبُ حاجة، وإما طالبُ قِرى، وإما مستجير، وقد أعطيناه ما أراد، فخرج إليه الزبير، فقال منشدَاً: من الكامل:
لاقَيْتُ حَرْبَاً في الثنِيةِ مُقْبِلاَ ... والصُبْحُ أبلَجُ ضَوْءُهُ للسارِي
فدَعا بصَوتٍ واكْتَنَى لِيَرُوعَنِي ... وَدَعَا بِدَعوَتِهِ يُرِيدُ فَخَارِي
فتركْتُهُ كالكَلْبِ يَنْبَحُ وَحدهُ ... وأتيتُ أَهْلَ معالِمٍ وفَخَارِ
ليثاً هِزَبْراً يُسْتَجَارُ بقُربِهِ ... رَحْبَ المَبَاءَةِ مُكرِماً للجَارِ
وَلَقَدْ حَلَفْتُ بمكَةٍ وبِزمزمٍ ... والبيتِ ذي الأحجَارِ والأستارِ
إِن الزبيرَ لَمَانِعِي مِن خَوْفِهِ ... ما كَبرَ الحُجاجُ في الأَمصَارِ(2/54)
فقال الزبير: تقدم، فإنا لا نتقدَم من نجيره، فتقدم التميمي، فدخل المسجد، فرآه حرب فقام إليه فلطمه، فحمل عليه الزبير بالسيف، فعدا حتى دخل دار عبد المطلب، فقال: أجرني من الزبير، فأكفأَ عليه جفنةّ كان أبوه هاشم يطعم فيها الناس، فبقى تحتها ساعة، ثم قال له: اخرج، فقال: كيف أخرج وسبعة من ولدك قد احتبوا بسيوفهم على الباب؟ فألقى عليه عبد المطلب رداءَ كان كَساهُ إياه سيفُ ذو يزن لما قَدِمَ عليه، له طرتان خضراوان، فخرج عليهم به فعلموا أنه قد أجاره، فتفرقوا عنه.
وحضر مرة مجلس معاوية هو وعمرو بن العاص، فأقبل عبد الله بن جعفر، فلما نظر إليه ابن العاص قال: قد جاءكم رجل كثير الخلوات بالتمني، والمطربات بالتغني، يحب القيان، كثير مزاحه، شديد طماحه، صروف عن السنان، ظاهر الطيش، لين العيش، أخاذ بالسيف، منفاق بالسرف. فقال ابن عباس: كذبت والله أنتَ! وليس كما ذكرت، ولكنه لله ذكور، ولنعمائه شكور، وعن الخنا زجور، جواد كريم، سيد حليم، ماجد لهيم، إن ابتدأ أصاب، وإن سئل أجاب، غير حصر ولا هياب، ولا فحاش عياب، حل من قريش في كريم النصاب، كالهزبر الضرغام، الجريء المقدام، في الحسب القمقام، ليس يدعى لدعي، ولا يدنى لدني؛ كمن اختصم فيه من قريش شرارها، فغلب عليه جزارها، فأصبح ألأمها حسباً، وأدناها منصباً، ينوء منها بالذليل، ويأوي منها إلى القليل، مذبذب بين الحيين، كالساقط بين الفراشين، لا المضطر إليهم عرفوه، ولا الظاعن عنهم فقدوه، فليت شعري بأي قدم تتعرض للرجال، وبأي حسب تبارز عند النضال، أبنفسك فأنت الوغد الزنيم، أم بمن تنتمي إليه فأهل السفه والطيش، والدناءة في قريش، لا بشرف في الجاهلية شهروا، ولا بقديم في الإسلام ذكروا، غير أنك تتكلم بغير لسانك، وتنطق بالزور، بغير أركانك، واللّه لكان أبين للفضل، وأظهر للعدل، أن ينزلك معاوية منزلة العبد الحقيق، فإنه طالما أسلس دلوك، وطمح بك رجاؤك إلى الغاية القصوى.
فقال عبد الله بن جعفر لابن عباس: أقسمت عليك لَمَا أَمسَكت؛ فإنك عني ناضلت، ولي فاوضت، فقال ابن عباس: دعني والعبد؛ فإنه قد كان يهدر خالياً إذ لا يجد رامياً، قد أتيح له ضيغم شرس، للأقران مفترس، وللأرواح مختلس. فقال ابن العاص لمعاوية: دعني يا أمير المؤمنين أنتصف منه، فواللّه ما ترك شيئاً. فقال ابن عباس: دعه فلا يبقى المبقى إلا على نفسه، فواللّه، إن قلبي لشديد، وإن جوابي لعتيد، وبالله الثقة؛ كما قال نابغة بني ذبيان: من الوافر:
وَقَبلَكَ مَا قَذَعتُ وقَاذَعُونِي ... فَمَا نزر الكَلاَمُ وَمَا شَجَانِي
يَصُد الشاعِرُ العَرافُ عَني ... صُدودَ البَكْرِ عَنْ قَدَمِ هجَانِ
ولما بلغ غانمة بنت غانم القرشية سب معاوية وعمرو بن العاص بني هاشم، قالت لأهل مكة: أيها الناس، إن قريشاً سادَت فجادت، وملكَت فملكَتْ، وفضلت ففضلت، واصطفيت فاصطفت، ليس فيها كدر عيب، ولا أفن ريب، ولا حسروا طاغين، ولا جادوا نادمين، ولا المغضوب عليهم ولا الضالين، إن بني هاشم أطول الناس باعاً، وأمجد الناس أصلا، وأوسع الناس حلماً، وأكثر الناس عطاء، منا عبد مناف الذي يقول فيه الشاعر: من الكامل:
كَانَت قُرَيش بَيضَة فتفلقَت ... فَالمُحُ خَالِصُهَا لِعَندِ منافِ
وولده هاشم الذي هَشَمَ الثريد لقومه؛ وفيه يقول الشاعر: من الكامل:
عَمرُو الَّذِي هَشَمَ الثرِيدَ لقَومِهِ ... ورجالُ مَكةَ مسنِتُونَ عِجَافُ
ثم منا عبد المطلب الذي سُقِينَا به الغيث، وفيه يقول الشاعر: من الكامل:
ونحن سنى المحل قام شفيعنا ... بِمَكة يدعو والمياه تغور
وابنه أبو طالب عظيم قريش، وفيه يقول الشاعر: من الكامل:
أنبِئتُهُ مَلكاً فَقَامَ بحَاجَتِي ... وَترى العُلَيجَ خَاسِئاً مَذمُوما
ومنا العباس بن عبد المطلب، أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاه ماله؛ وفيه يقول الشاعر: من الطويل:
رَديفُ رَسُولِ اللّه لم أَرَ مثلَهُ ... ولا مِثلُهُ حَتى القيَامَةِ يُوجَد
ومنا حمزة سيد الشهداء؛ وفيه يقول الشاعر: من الوافر:
أَبَا يَعلَى لَكَ الأركَانُ هدت ... وأَنتَ الماجدُ البَرُ الوَصُولُ(2/55)
ومنا جعفر ذو الجناحَين، أحسن الناس حسباً، وأتمهم كمالاَ، ليس بغدار ولا ختال، بدله الله تعالى بكل يد جناحاً يطير بهما في الجنة؛ وفيه يقول الشاعر: من الطويل:
فَهاتُوا محاكي جَعفَرٍ وَعَلينَا ... أَلسنَا أَعَزَّ الناسِ عِندَ الحقائِقِ؟!
ومنا أبو الحسن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أفرس بني هاشم، وأكرم من احتفى وانتعل بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفيه يقول الشاعر: من الطويل:
وَهَذَا عَلي سَيدُ الناسِ فَاثقُوا ... علياً بِإسلاَمٍ تَقَدمَ مِن قَبل
ومنا الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب أهل الجنة؛ وفيه يقول الشاعر: من الوافر:
وَمَن يَكُ جَدهُ حَقاً نَبِياً ... فَإِن لَهُ الفَضِيلَةَ في الأَنامِ
ومنا الحسين بن علي حمله جبريل على عاتقه، وكفى بذلك فخرَاً؛ وفيه يقول الشاعر: من الطويل:
نَفى عَنْهُ عَيْبَ الآدَمِيينَ رَبُهُ ... وَمَنْ جَدُهُ جَد الحُسَيْنِ المُطَهَّرُ
ثم قالت: يا معشر قريش، واللّه ما معاوية بأمير المؤمنين، ولا هو كما يزعم، هو واللّه شانئ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وإني آتية معاوية، وقائلة له ما يعرق منه جبينه، ويكون منه أنينه.
فكتب عامل معاوية إليه بذلك، فلما بلغ معاوية أن غانمة قربت منه، أمر بدار ضيافة، فنظفت، وألقى فيها فرش، فلما دنت من المدينة استقبلها يزيد في حشمه ومماليكه، فلما دخلت المدينة، نزلت دار أخيها عمرو بن غانم، فقال لها يزيد: إن أبا عبد الرحمن يأمرك أن تصيري إلى ضيافته، وكانت لا تعرف يزيد، فقالت: من أنت كلأك اللّه؟ قال: يزيد بن معاوية، قالت: فلا رعاك اللّه يا ناقص لست بزائد، فتمعَّر لون يزيد، فأتى أباه فأخبره، فقال: هي أسن قريش، وأعظمهم حالا، قال يزيد: كم تعدُّ لها يا أمير المؤمنين. قال: كانت تعد على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أربعمائة عام، وهي بقية الكرام.
فلما كان من الغد، أتاها معاوية فسلم عليها، فقالت: على أمير المؤمنين السلام، وعلى الكافرين الهوان، ثم قالت: مَنْ منكم ابن العاص؟ قال عمرو: ها أنا ذَا، فقالت له: رأيتك تسب قريشاً وبني هاشم، وأنت أهل السب، وفيك السب، وإليك يعود السبُّ، يا عمرو، إني والله لعارفة بعيوبك وعيوب أمك، وإني أذكر لك ذلك عيبَاً عيباً: وُلدْتَ من أمة سوداء مجنونة حمقاء، تبول من قيام، وتعولها اللئام، إذا لامسها الفحل، كانت نطفتها أنفذ من نطفته، ركبها في يوم واحد أربعون رجلا، وأما أنت فقد رأيتك غاويَاً غير راشد، ومفسداً غير مصلح، ولقد رأيت فحل زوجتك على فراشك، فما غرت ولا أنكرت، وأما أنت يا معاوية، فما كنت في خير ولا رُبيتَ في نعمة، فما لك وبني هاشم؟! أنساء أمية كنسائهم، أم أعطى أمية في الجاهلية والإسلام ما أعطى هاشم؟ فكفي فخراً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال معاوية: أيتها الكبيرة، أنا كاف عن هاشم، قالت: فإني أكتب عليك عهداً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه أن يستجيب لي خمس دعوات، فأجعلُ تلك الدعوات كلها فيك، فخاف معاوية، وحلف لها ألا يسب بني هاشم أبدَاً.
فهذا آخر ما كان من أمرها معه.
قيل: قال رجل من قريش: ما أظن معاوية أغضبه شيء قط، فقال بعضهم: إن ذكرت أمه، غضب، فقال مالك ابن أسماء القرشي؛ أنا أغضبه إن جعلتم لي جُعْلا، ففعلوا فأتاه في الموسم فقال له: يا أمير المؤمنين، إن عينيك لتشبهان عينَي أمك، قال: نعم، كانتا عينين طالما أعجبتا أبا سفيان، ثم دعا معاوية مولاه شقران، فقال له: أعدد لأسماء دية ابنها، فإني قد قتلته. وهو لا يدري، فرجع وأخذ الجعل، فقيل له: إن أتيت عمرو بن الزبير، فقلت له مثل ما قلت لمعاوية، أعطيناك كذا وكذا، فأتاه فقال له ذلك، فأمر بضربه حتى مات، فبلغ معاوية موته، فقال: أنا واللّه قتلته، وبعث إلى أمه بتلك الدية التي أعدها، وأنشأ يقول: من الطويل:
أَلاَ قُلْ لأَسْمَاءِ المُنى أُم مَالِكٍ ... فَإِني لَعَمْرُ اللّه أَهْلَكْتُ مَالِكَا
وقيل لشريك القاضي؛ إن معاوية كان حليماً، فقال: كلا واللّه لو كان حليماً، لما سفه الحق وقاتل عَلِياً، عليه السلام.(2/56)
ولما مات سعيد بن العاص، وفد ابنه عمرو على معاوية، فاستنطقه، فقال: إن أول كل مركب صعب، وإن مع أمس غداً، فقال له معاوية: من أوصى بك أبوك؟ فقال: إنه أوصى إليَ، ولم يُوصِ بي، فقال معاوية: إن ابن سمية هذا لأشدق، فُسمي عمرو الأشدق من ذلك اليوم.
ودخل مالك بن هبيرة السلولي على معاوية، وكان شيخاً كبيرَاً، فأجلسه فحرك رجله فمدها فقال له معاوية: ليت لنا جارية لها مثل ساقيك، فقال متصلا: وبمثل عجيزتك يا أمير المؤمنين، فخجل معاوية، وقال: واحدة بواحدة.
ودخل عليه شريك بن الأعور، فقال له معاوية: أنت شريك، وما لله من شريك، وابن الأعور، والصحيح خير من الأعور، وإنك لدميم، والوسيم خير من الدميم، فبم سَودَكَ قومك؟ فقال له شريك: إنك لمعاوية وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعويت، فسميت معاوية، وإنك ابن حرب، والسلم خير من الحرب، وإنك ابن صخر، والسهل خير من الصخر، وإنك ابن أمية، وما أمية إلا أمة صغرت، فبم صرت أمير المؤمنين؟ فقال له معاوية: أقسمت عليك إلا خرجت عني، فخرج وهو يقول: من الوافر:
أَيَشْتُمُنِي مُعَاوِيَةُ بنُ حَربِ ... وَسَيفي صَارِم ومَعِي لسانِي
وَحَولِي مِنْ ذَوِي يَمَنٍ لُيُوث ... ضراغمة تَهَشُ إلى الطعانِ
وقال: أربيت على علي في أربع خصال: كان رجلا سره علنه، وكنت كتوماً لأمري، وكان لا يسعى حتى يفجأه الأمر، وكنت أبادر ذلك، وكان في أخبث جند وأشدهم ختلا، وكنت في أطوع جند، وكنت أحب منه إلى قريش، فثاب إلي ما شئت من جائح، وتفرق عنه.
ودخل يوماً على امرأته ميسون بنت بحدل أم يزيد ومعه خَصي، فاستترت منه، فقال: لم ذلك، وإنما هو بمنزلة امرأة؟! فقالت: كأنك ترى أن مُثلَتَكَ به تحلل ما حرم اللّه عليه مِني.
وروى أن عدي بن حاتم دخل على معاوية، فقال له معاوية: يا عدي، أين الطرفات؟ يعني بنيه طارفاً وطريفاً وطرفةَ، قال: قتلوا يوم صفين بين يدَي علي بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - فقال معاوية: ما أنصفك ابن أبي طالب؛ إذ قدم بنيك وأخر بنيه، فقال عدي: بل ما أنصفت أنا علياً: إذ قُتِلَ وبقيتُ.
قيل: قال عمرو بن العاص لمعاوية يا أمير المؤمنين، ما بقي من شبابك وتلذذك؟ قال: والله، ما بقى شيء يصيبه الناس من الدنيا إلا وقد أصبته أما النساء، فلا أرب لي فيهن ولا لهن، وأما الطيب، فقد شممته حتى ما أبالي به، وأما الطعام، فقد طعمت الحلو والحامض حتى لا أجد فرق ما بينهما، وأما الثياب، فقد لبست من لينها وجيدها حتى ما أبالي ما ألبس، فما شيء ألذ عندي من شربة ماء بارد في يوم صائف، ونظري إلى بني وبني بني يدرجون حولي، فأنت يا عمرو، ما بقي من لذتك؟ قال: أرض أغرسها وآَكل من ثمرتها وأنتفع بغلتها.
ثم التفت معاوية إلى وردان مولى عمرو بن العاص، فقال: يا وردان، ما بقي من لذتك؟ قال: صنائع كريمة أعقدها في أعناق الرجال لا يكافئوني عليها تكون لأعقابي من بعدي، فقال معاوية: تَباً لهذا المجلس؛ يغلبنا عليه هذا العبد.
وعلى هذا الذكر، قال قتيبة بن مسلم لوكيع بن الأسود: ما السرور؟ قال: لواء منشور، وجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير.
وقيل لحصين بن المنذر ما السرور؟ قال: مرأة حسناء، في دار قوراء، وفرس بالفناء. وقيل لبعضهم: أي الأمور أمتع؟ قال: الأماني، فليس سرور النفس بالجدة؛ إنما سرورها بالأمل والمنى؛ وأنشد: من البسيط:
إِذَا تَمَنيتُ بت الليلَ مُغتَبِطاً ... إِن المنَى رَأسُ أَمْوَالِ المَفَالِيسِ
لَولاَ المُنَى متَ مِن هَم ومِن جَزعَ ... إذا تذكرتُ ما في داخلِ الكِيسِ
وقيل لعبد اللّه بن الأهتم: ما السرور؟ قال: رفع الأولياء، وحط الأعداء.
وقال بعضهم: السرور توقيع نافذ، وأمر جائز.
وقيل لطرفة بن العبد: ما السرور؟ فقال: مطعم شهي، ومركب وطي، وملبس دفي.
وقيل للأعشى: ما السرور؟ فقال صهباء صافية، تمزجها غانية، بصوب غادية.
وقيل لمعن: ما السرور؟ فقال: مجلس يقل هذره، وعود يصفو وتره، وعقول تفهم ما أقول.
وقيل لمظلوم: ما السرور؟ فقال: كفاية ووطن، وسلامة وسكن.
وقيل لبعض العرب: ما السرور؟ فقال بنون أغيظ بهم عداتي، ولا تقرع معهم صفاتي.
وقيل لفتاة: ما السرور؟ فقالت: زوج يملأ قلبي جلالاَ، وعيني جمالا، وفنائي جِمالا.(2/57)
وقيل لطفيلي: ما السرور؟ فقال: ندامى تسكن صدورهم، وتغلي قدورهم، ولا تغلق دورهم.
وقيل لقانص: ما السرور؟ فقال: قسي مأطورة، وشرعة مشرورة، ونبال مطرورة.
وقال الشاعر: من الخفيف:
أَطْيَبُ الأطيباتِ قَتْلُ الأَعادِي ... واخْتيَال عَلى مُتُونِ الجيَادِ
وَأَيادٍ تَحْبُو بِهِن كَرِيماً ... إِن عندَ الكَريمِ تزكُو الأَيَادِي
وَرَسول يَأْتِي بِوَعْدِ حَبِيب ... وَحَبِيباً يَأتِي بِلاَ مِيعَادِ
وقال الآخر: من الخفيف:
أَطْيَبُ الأَطيَبَاتِ أَمْر وَنهي ... لا يُرَدَّانِ في الأمورِ الجِسَامِ
وامتطاءُ الخُيُولِ في كَنَفِ الأَم ... ن بِغَيْرِ الإِقدامِ والإِحجامِ
وَسماع الصَهِيلِ في لجبِ المَو ... كبِ تحتَ اللوَاءِ والأعلامِ
وقال الآخر: من الخفيف:
أَطيبُ الأطيباتِ طيبُ الزمانِ ... وندامَى المُنَعمَاتِ الغَوانِي
واحتساءُ العُقارِ في غُرَةِ الصُّبْا ... حِ على شَدْوِ مَاهِرَاتِ القِيَان
وَأَمَان مِن الهُمُومِ وَمَالْ ... لَيْسَ يُفْنِيهِ نَائِبُ الحَدَثَانِ
ولقد خرج بنا الاستطراد، إلى غير المراد، فنعود فنقول: وقدم زياد ابن أبيه على معاوية، فلما طال به المجلس، حدثه بحديث، فقال له معاوية: كذبت، فقال زياد: مهلاَ يا أمير المؤمنين، فواللّه، ما حللت للكلام حبوة إلا على بيعة الصدق، ولم أكذب، وحياة الكذب عندي موت المروءة، فاستحياه معاوية، وقال: يغفر اللّه لك يا أخي، فكأني أرى بك حرب بن أمية؛ في جميل شيمه وكرم أخلاقه.
وحكى عن معاوية؛ أنه قعد للناس في يوم عيد، ووضعت الموائد وبدر الدراهم للجوائز والصلات، فجاء رجل فقعد على كيس دنانير، والناس يأكلون، فصاح به الخدم: تنحَ، فليس لك هذا بموضع، فقال معاوية: دعوا الرجُلَ يجلس حيث أحبَّ، فأخذ الكيس وقام، فلم يجسر أحد أن يدنو منه، فقال الخدم: إنه قد نقص من المال كيس، فقال معاوية: أنا صاحبه، وهو محسوب لكم.
ويحكي عن معاوية بينما هو يسير وشرحبيل بن السمراء يسايره؛ إذ راثَتْ فرس شرحبيل، فساءه ذلك، فقال معاوية: يا أبا يزيد، إنه يقال: إن الهامة إذا عظمتْ، دلتْ على وفور الدماغ وصحة العقل، قال: نعم يا أمير المؤمنين، إلا هامتي؛ فإنها عظيمة وعقلي ضعيف ناقص، فتبسم معاوية، وقال: كيف ذاك، لله أنت؟ قال: لإعلافي دابتي مكوكين من شعير؛ فتبسم معاوية أيضاً، وحمله على فرس من مراكبه.
قال صاحب كتاب المحاسن والمساوئ: قيل لمعاوية: من رأيت شر الناس. فقال: علقمة بن وائل الحضرمي؛ قدم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أنطلق به إلى رجل من الأنصار أنزله عليه، فانطلقت معه وهو على ناقته وأنا أمشي في ساعة شديدة الحر وليس برجلي حذاء، فقلت: احملني يا عم، من هذا الحر؛ فإنه ليس على حذاء، قال: لست من أرداف الملوك، قلت: أنا معاوية بن أبي سفيان، قال: قد سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، فقلت: ألق إلي نعليك، قال: لا تقلهما قدماك، ولكن امش في ظل ناقتي، وكفاك بذلك شرفاً، وإن الظل لك كثير.
قال معاوية: فما مرَ بي مثل ذلك اليوم، ثم أدرك سلطاني فلم أؤاخذه بذلك؛ بل أجلسته على سريري هذا وقضيت حوائجه. انتهى.
كان صعصعة بن صوحان، وأخوه زيد، وقيل: يزيد بن صوحان، وكلاهما من شيعة علي من الفصحاء البلغاء، دخل صعصعة على معاوية، فسأله: ما السؤدد فيكم؟ قال: إطعام الطعام، ولين الكلام، وبذل النوال، وكف النفس عن السؤال، والتودد للصغير والكبير، وأن يكون الناس عندك شرعاً، ثم قال: ما المروءة والسيادة؟ قال: أخوان اجتمعا، فإن لقيا قهراً وإن كان بينهما قليل، وصاحبهما جليل، محتاجان إلى صيانة ونزاهة ودماثة وفراهة، قال: فهل تحفظ في ذلك شيئاً. قال: نعم، أما سمعت قول مرة بنِ ذهل الشيباني حيث يقول: من الكامل:
إن السيَادَةَ والمُرُوءَةَ علقَا ... حَيْثُ السمَاكُ من السماءِ الأعزلُ
وَإذَا تَقابلَ يجريانِ لغايةِ ... عَثَرَ الهَجِينُ وأَسلَمَتهُ الأَرجُلُ
ونجَا الصريحُ مع الغِيَاثِ مُعَوداً ... قربَ الجيادِ ولم يجِئْهُ الأَفكلُ(2/58)
قال معاوية: لو أن رجلا ضرب آَباط الإبل شرقاً وغرباً لفائدة هذه الأبيات ما عنفته.
ثم قال له: فمن الحليم؟ قال: من ملك غضبه، فلم يعجل، وأوحى إليه بحق أو باطل، فلم يقبل، ذلك الحليم يا معاوية.
ثم قال له: فمن الفارس فيكم الشجاع، حد لي فيه حَداً أسمعه منك، فإنك تضع الأشياء مواضعها يا بن صوحان. قال: الفارس من قصر أجله في نفسه، وضغم عن أمله بضرسه، وكانت الحرب عليه يومه أهون من أمسه، ذلك الفارس إذا أوقدت الحرب، واشتد بالأنفس الكرب، وتداعوا للنزال، وتسارعوا للقتال، وتخالسوا المهَج، واقتحموا بالسيوف اللجج. قال معاوية: زدني. قال: نعم الفارس كثير الحذر، يردد النظر، يلتفت بقلبه، ولا يدير خرزات صلبه. قال: أحسنت يا بن صوحان، فهل في مثل هذه الصفة من شعر؟ قال: نعم، لزهير بن جناب الكلبي قوله: من الخفيف:
فَارس يَكلأُ الصحَابَة مِنهُ ... بِحُسَام يمر مَر الحَرِيقِ
لاَ تَرَاهُ يَومَ الوَغَى في مَجَال ... يغفِلُ الضربَ لاَ وَلاَ في المَضِيقِ
مَن يَرَاهُ يَخَلهُ في الحربِ يَومَاً ... أنه تَائه مُضِل الطرِيقِ
فقال له معاوية: أحسنت كل الحسُن يا بن صوحان.
ومن حسن سياسات معاوية أن رجلا من أهل الكوفة قدم دمشق على بعير له بعد منصرفهم من صفين، فتعلق به رجل من أهل دمشق، وقال: هذه ناقتي أخذت مني بصفين، فرفع أمرهما إلى معاوية، فأقام الدمشقي خمسين رجلا يشهدون أنها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم الناقة، فقال الكوفي: أصلحك الله إنما هو جمل، وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم مضى، ودس إلى الكوفي من أحضره إليه، وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعف ثمنه، وبره وأحسن إليه، وقال له: أبلغ علياً أني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل.
ولقد بلغ من طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيره إلى صفين الجمعة يوم الأربعاء، وأعاروه رءوسهم عند القتال وجملوه بها، هكذا ذكره المسعودي في مروجه.
ثم انتهى بهم الحال إلى أن جعلوا لَعنَ علي - رضي الله تعالى عنه، وكرم وجهه - سُنَة ينشأ عليها صغيرهم، ويهلك عليها كبيرهم.
أقول: انظر إلى هذا النقل من المسعودي هل يخرج إلا من قلب مبغض، ويدخل إلا في أذن مبغض؟ سيما صلاته بهم الجمعة يوم الأربعاء، أي معنى فيه له؟! هب أن ما عداه على تقدير صحته له غرض فيه، وأما نسبة الصلاة، فليس القصد بها إلا نسبته إلى الاستخفاف بالدين، والتلاعب بعماده التي هي أعظَمُ ركنِهِ المكين، وقد علمت أن المسعودي هو من هو، وإذا كان اعتقادهم في الشيخين - وحاشاهما - ارتدادهما وهما من هما، فما ظنك بسواهما؟ وذكر بعض الإخباري أنه قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم وأهل الرأي منهم: من أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر. فقال الشامي: أراه إما لِصُّاً من لصوص القين، أو من قطاع الطريق.
وحكى الجاحظ أنه قال لرجل من أهل الشام وهو يريد الحج، وقد ذكر له البيت الشريف: يا أخي إذا أتيته فمن يكفني منه.
وقال - أيضاً - : إنه أخبره صديق له أنه قال له رجل وقد سمعه يصلي على محمد صلى الله عليه وسلم: ما تقول في محمد هذا، أرينَا هو؟ وذكر ثمامة بن أشرس قال: كنت ماراً بالسوق ببغداد، فإذا رجل يبيع كحلا ويصفه أنه ينجح لكل داء في العين، فنظرت إلى عينيه، فإذا واحدة برشاء، والأخرى موكوسة، فقلت له في ذلك فقال: أو هاهنا اشتكيت عيني يا أبله؟ إنما اشتكيتها بمصر، فقال أصحابه: صدق صدق.
قال المسعودي وذكر لي بعض إخواني من أهل العلم قال: كنا نقعد، فنتذاكر أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ومعاوية، ونذكر ما يذكره أهل العلم، وكان قوم من الناس منهم ينظرون إلينا فقال لي بعضهم، وكان أظرفهم وأعقلهم وأكبرهم لحية: كم تطنبون في علي ومعاوية وفلان وفلان؟ فقلت له: وما تقول أنت في ذلك؟ فقال: من تريد؟ قلت: علي. ما تقول فيه؟ قال: أليس هو أبا فاطمة؟ قلت: ومن كانت فاطمة؟ قال: امرأة النبي صلى الله عليه وسلم بنت عائشة أخت معاوية، قلت: فما كان من قصة علي. قال: قتل في غزاة حنين مع النبي صلى الله عليه وسلم.(2/59)
وفي الطيوريات عن سليمان المخزومي، قال: أذن معاوية للناس إذناً عامُّاً، فلما احتفل المجلس قال: أنشدوني ثلاثة أبيات لرجل من العرب، كل بيت منها قائم بمعناه، فسكتوا، ثم طلع عبد اللّه بن الزبير - رضي اللّه تعالى عنهما - فقال معاوية: هذا مِقْوَلُ العرب، وعلامتها أبو خبيب، فقال: مهيَم، قال معاوية: أنشدني ثلاثة أبيات لرجل من العرب كل بيت قائم بمعناه، قال بثلاثمائة ألف، قال: أو تساوي؟ قال: أنت بالخيار فأنت واف كاف، قال: هات، فأنشده للأفوه الأودي: من الوافر:
بَلَوْتُ الناسَ قرناً بعد قَرْنٍ ... فَلَم أَرَ غَيْرَ ختال وَقَالِي
فقال معاوية: صدقت، هيه، فقال: من الوافر:
وَذُقْتُ مَرَارَة الأَشْيَاءِ طُراً ... فَمَا طَعْم أَمَر مِنَ السؤَالِ
قال: صدقت، هيه، فقال: من الوافر:
وَلَمْ أَرَ في الخُطُوبِ أَشَد وقعاً ... وَأَصْعَبَ مِنْ مُعَادَاةِ الرجَالِ
قال معاوية: صدقت، ثم أمر له بثلاثمائة ألف.
قال العلامة الدميري في حياة الحيوان الكبرى: لما تزوَج معاوية ميسون بنت بحدل الكلبية أم يزيد بن معاوية، واتصلت به، وكانت ذاتَ جمالِ باهرٍ وحسن غامرٍ، أعجب بها معاوية وهيأ لها قصرَاً مشرفاً على الغوطة، وزينه بأنواع الزخارف، ووضع فيه من الأواني الفضة والذهب ما يضاهيه، ونقل إليه من الديباج الرومي الملون والفرش ما هو لائق به، ثم أسكنها مع وصائف لها؛ كأمثال الحور العين، فلبست يوماً أفخر ثيابها وتطيبتْ وتزينَتْ بما أعدَ لها من الحلي والجواهر التي لا يوجد مثلها، ثم جلست في روشنها وحولها الوصائف ونظرَتْ إلى الغوطة وأشجارها وأنهارها، وتجاوب الطير في أوكارها، واشتمَّتِ الأزهارَ والرياحينَ والنُوَّارَ، فتذكرت نجداً، وحنَّتْ إلى أترابها وأناسها، وذكرت مسقط رأسها، فبكت وتنهدت، فقال لها بعض حظاياها: ما يبكيك، وأنت في ملك يضاهي ملك بلقيس؟! فتنفست الصعداء، ثم أنشدت: من الوافر:
لَبَيْتٌ تَخْفُقُ الأَرْوَاحُ فِيهِ ... أَحَب إِلَيَ مِنْ قصرٍ مُنِيفِ
وَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَر عيني ... أَحَب إِلَيَ مِنْ لبسِ الشُّفوفِ
وأَكل كسيرةٍ في ظل بيتي ... أحبُّ إِلَيَ مِنْ أكلِ الرَّغيفِ
وأصواتُ الرياحِ بكل فج ... أحبُّ إليَ مِنْ نقرِ الدُفوفِ
وكَلْبٌ ينبحُ الطُرَاقَ دوني ... أَحَب إلَيَ مِنْ قِط أَلُوفِ
وَبَكْرٌ يتبعُ الأظعَانَ صَعْب ... أَحب إلَيَ مِنْ بَعْلٍ زَفُوفِ
وخرق مِنْ بني عَمي نَحِيف ... أَحَب إِلَيَ مِنْ عِلْجٍ عَنُوفِ
فلما دخل معاوية، عرفته الحظية بما قالت، وقيل: إنه سمعها وهي تنشد ذلك، فقال: ما رضيتْ بنت بحدل حتى جعلتني علجاً عنوفاً، هي طالق ثلاثاً، مروها فلتأخذ جميع ما في القصر، فهو لها، ثم سيرها إلى أهلها بنجد، وكانت إذ ذاك حاملاَ بيزيد، فولدته بالبادية، وأرضعته سنتين، وليتها لم تلد ولم ترضع!! ثم أخذه معاوية منها بعد ذلك.
وذكر العلامة أبو القاسم الحريري في درة الغواص أن عبيد بن شرية الجرهمي عاش ثلاثمائة سنة وأدرك الإسلام، فأسلم ودخل على معاوية بالشام، وهو خليفة، فقال له معاوية: حدثني بأعجب ما رأيت؟ فقال: مررت بقوم يدفنون ميتاً لهم، فلما انتهيت إليه، اغرورقت عيناي بالدموع؛ فتمثلت بقول الشاعر: من البسيط:
يَا قَلبُ إنكَ من أسماءَ مغرورُ ... فاذكُر ولَن ينفَعَنكَ اليَومَ تذكيرُ
قَد بحتَ بالحُب ما تُخفِيهِ مِن أَحَدِ ... حَتى جَرَت لَكَ أطلاَقٌ مَحَاضِيرُ
فَلستَ تَدرِي وَمَا تَدرِي أَعَاجِلُهَا ... أدنَى لِرُشدِكَ ذَا أَم فِيهِ تَأخِيرُ؟!
فَاستقدِرِ الله خَيراً وارضَيَن به ... فَبَينَمَا العُسر إذ دَارَت مياسيرُ
وبينما المرءُ في الأحيَاءِ مغتبط ... إذ قَد هَوَى الرمسَ تَعفُوهُ الأعَاصِيرُ
يَبكِي الغَرِيبُ عَلَيهِ لَيسَ يَعرِفُهُ ... وَذُو قَرَابَتِهِ في الحَي مَسرُورُ(2/60)
فقال لي شخص: أتعرفُ مَن يقول هذه الأبيات؟ قلت: لا واللّه، إلا أني أرويها منذ زمان، فقال: والذي يُحلَفُ به، إن قائلها هو صاحبنا الذي دفناه الساعة! وأنت الغريبُ الذي يبكي عليه وليس يعرفه؛ وهذا الذي خرج من قبره أَمَسُّ الناس به رحماً، وهو أسرهُم بموته كما وصف.
فتعجب معاوية من هذا الاتفاق الغريب، ووصله بمال عظيم.
وذكر أن أبا الأسود الديلي من شيعة علي دخل على معاوية خالياً، فتحادثا طويلا، فحبق أبو الأسود، فقال لمعاوية: إنها فلتة، فاكتمها علي، فقال معاوية: أفعل ذلك، فلما خرج من عنده، دخل على معاوية عمرو بن العاص، فأخبره عن ضرطة أبي الأسود، ثم خرج عمرو فلقي أبا الأسود بالسوق، فقال له: ما فعلت ضرطتك يا أبا الأسود؟ فقال أبو الأسود: كل ذي جوف ضروط، ثم غدا على معاوية فقال له: إن امرأ لم يؤمن على ضرطة حقيق ألاَ يؤمن على إمرة المؤمنين.
قال العلامة الذهبي - في دول الإسلام، عند ذكر عبيد اللّه بن زياد المعروف أبوه بزياد ابن أبيه عند الناس، وعند بني أمية بزياد بن أبي سفيان - : روى عن معاوية أنه كتب إلى زياد: أوفد علي ابنك عبيد اللّه، ففعل، فما سأله معاوية عن شيء إلا أنفذه فيه، حتى سأله عن الشعر، فلم يعرف منه شيئاً، فقال له معاوية: ما منعك من رواية الشعر؟ قال: كرهت أن أجمع كلام اللّه وكلام الشيطان في صدري، فقال: اغرب، والله لقَد وضعتُ رِجَلي في الركاب يوم صفين مراراً ما يمنعني من العزيمة إلا أبياتَ ابن الإطنابة حيث يقول: من الوافر:
أبُت لِي عِفَّتِي وَأبى حَيَائِي ... وأَخذِي الحمدَ بالثمَنِ الربيحِ
وإعطَائِي على الإعدام مَالِي ... وِإقدَامِي عَلَى البَطَلِ المُشِيحِ
وَقَولِي كُلمَا جَشَأَت وطاشت: ... مَكَانَكِ تُحمَدِي أَو تَستَرِيحِي
وكتب إلى أبيه فرواه الشعر، فما سقط عليه منه بعدُ شيء.
قلت: وإنما ذكرتها هاهنا لتعلقها بمعاوية؛ إذ الكلام فيه هنا.
قال معاوية يوماً على المنبر: أيها الناس، إن اللّه فضل قريشاً بثلاث؛ فقال لنبيه: " وَأنذر عَشِيرَتَكَ اَلأقربين " " الشعراء: 214 " ، ونحن عشيرته الأقربون، وقال: " وإنه لذكر لك ولقومك " " الزخرف: 44 " ونحن قومه، وقال " لإيلافِ قُرَيشٍ " " قريش: 1 " ونحن قريش، فقال له رجل من الأنصار: على رسلك يا معاوية؛ فإن الله تعالى يقول: " وكذبَ بِه قَومُكَ وَهُو اَلحق " " الأنعام: 66 " وأنتم قومه، وقال: " وَلمَا ضرِبَ ابنُ مَريَمَ مَثَلا إِذَا قَومك مِنهُ يصدُّون " " الزخرف: 57 " وأنتم قومه، وقال: " وَقَالَ اَلرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً " " الفرقان: 30 " وأنتم قومه، ثلاث بثلاث، ولو زدتنا لزدناك.
قال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت: دخل رهط من الأنصار على معاوية، فقّال لهم: يا معشر الأنصار، قريش خير لكم منكم لهم، فإن يكن ذلك لقتلَى أُحُد، فقد نلتم يوم بدر، وإن تكن للأثرة، فواللّه ما جعلتم إلى صلتكم سبيلا: خذلتم عثمان يوم الدار، وقتلتم أنصاره يوم الجمل، وصليتم بالأمر يوم صفين، فقال رجل منهم: يا أمير المؤمنين، أما قولك عن قتلى أحد، فإن قتيلنا شهيد، وحينا فائز. وأما قولك: الأثرة، فإن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمرنا بالصبر عليها. وأما قولك: إنا خذلنا عثمان يوم الدار، فإِنِ الأمر في عثمان إلا جَفَلَى.
وأما قولك: إنا قتلنا أنصاره يوم الجمل، فذاك ما لا نعتذر منه، وأما قولك: إنا صلينا الأمر يوم صفين، فإنا كنا مع رجل لم نأله خيراً، فإن لمتنا فرب ملوم لا ذنب له، ما مددت لنا شبراً من عذر إلا مددنا لك باعاً من خير، وإنك جدير بأن تستصفي قلوبنا من كدرها بفَضلِ حلمك، فقال: أفعلُ وكرامة، ثم أدناهم وأجزل حباءهم. كذا في المحاسن للبيهقي.
وعن محمد الخزاعي قال: دخلت بكارة الهلالية على معاوية، وكانت قد كبرت وغشي على بصرها، وضعفت قوتها، فسلمت وجلست، فرد عليها معاوية السلام، وقال لها: كيف أنت يا خالة؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: غَيرَكِ الدهْرُ، قالت: هو كذا؟ من عاش كبر، ومن مات قُبِر، فقال عمرو بن العاص: هي القائلة يا أمير المؤمنين: من الكامل:
يَا زَيْدُ دُونَكَ فَاحْتَفر في أَرْضِنَا ... سَيْفاً حُسَاماً في التُرابِ دَفِينَا(2/61)
قَدْ كُنْتُ أَخْبَؤُهُ لِيَوْمِ مُلمَّةٍ ... وَاليَوْم أَبرَزَهُ الزمَان مَصُونا
فقال مروان: هي واللّه القائلة - أيضاً - يا أمير المؤمنين: من الكامل:
أَتُرَى ابْنَ هِنْدٍ للخِلاَفةِ مَالِكاً ... هَيهَاتَ ذَاكَ وَإِنْ أراهُ بَعِيدُ
مَنتْك نَفْسُكَ في الخَلاَءِ ضَلاَلَة ... أَقْوَال عَمْرو وَالشَقي سَعِيدُ
وقال سعيد بن العاص: هي واللّه القائلة أيضَاً: من الكامل:
قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَمُوتَ وَلاَ أَرَى ... فَوقَ المَنَابِرِ مِنْ أُميةَ خَاطِبَا
اَللّه أَخرَ مُدتِي فَتَطَاوَلَتْ ... حَتَّى رَأَيْتُ مِنَ الزمَانِ عَجَائِبَا
فقالت: يا معاوية، إن هؤلاء جماعة حسنة، وأنا واللّه القائلة هذا جميعه، وما خفي عنك أكثر، فضحك معاوية، وقال لها: ليس يمنعنا ذلك من أداء حقك، وقضاء حوائجك، فما كان لك من حاجة فأبديها، قالت: أما في المجلس فلا، وانصرفت، فأرسل خلفها واسترضاها، وأعطاها عشرة آلاف درهم.
وعن سهل التيمي قال: حج معاوية فسأل عن امرأة من بني كنانة يقال لها: دارمة الحجازية الكنانية، فأخبروه بسلامتها، فأمر بإحضارها، فلما حضرت، وكانت سوداء، فقال لها: كيف أنت، يابنة حام؟ قالت: لست بابنة حام، إنما أنا امرأة من بني كنانة، قال: أتدرين لم أرسلت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا اللّه، قال: أردت أن أسألك لم أحببت علياً وأبغضتني وواليتِه وعاديتِني. قالت: أحببت علياً؛ لعدله في الرعية وقسمته بالسوية، وأبغضتك؛ لقتالك من هو أولى بالخلافة منك، وطلبك ما ليس بحق لك. وواليت علياً؛ لما عقد له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الولاية، ولحبه المساكين، وإعظامه لأهل الدين، وعاديتك بسفك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى. فقال لها معاوية: ورأيتِ علياً. قالت: نعم، قال: كيف رأيتِه؟ قالت: رأيته ما فتنه الملكُ الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك، قال: فهل سمعت من كلامه شيئاً. قالت: نعم، كان كلامه يجلو القلوب من العمى؛ كما يجلو القين الصدى، قال: فهل لك من حاجة؟ قالت: نعم، أعطني مائة ناقة حمراء فيها فحولها ورعاتها، قال: فما تصنعين بها؟ قالت: أغذي بلبنها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين العشائر، قال: فإذا دفعتها لك، أكون عندك في منزلة علي. قالت: لا واللّه، فقال معاوية: من الطويل:
إِذَا لَم أَجُدْ بِالحِلمِ مِني عَلَيكُمُ ... فَمَنْ ذَا الذي بَعْدي يُؤَملُ لِلْحِلْمِ؟!
خُذِيهَا هَنِيئاً واذكُرِي فِعْلَ ماجدٍ ... جَزَاكِ عَلَى حَرْبِ العداوةِ بِالسلْمِ
ثم قال لها: واللّه لو كان علي حياً ما أعطاك منها ناقة، قالت: لا واللّه، ولا وَبرَة؛ لأَنها من مال المسلمين.
واستأذنت أم البراء بنت صفوان على معاوية، فأذن لها، فدخلتْ وسلمت، وكان عليها ثلاثة دروع تسحب خلفها، ثم جلست، فقال لها: كيف أنت يابنة صفوان؟ قالت: كسلت بعد نشاط، وضعفت بعد قوة، فقال: شتَان بين لسانك اليوم وبين قولك: من الكامل:
يَا زَيْدُ دُونَكَ صَارِماً ذَا رَونَقِ ... عَضْبَ المحزة لَيسَ بالخَوَارِ
أسرجْ جَوَادَكَ مسرعاً ومُشَمرَاً ... للحَرْبِ غَير معودِ لِفِرَارِ
أَجِبِ الإِمامَ وَذب تَحتَ لوائهِ ... وَالْقَ العَدُوَ بِصَارِمٍ بَتَارِ
يا ليتني أَصْبَحْتُ غَيْرَ قعيدةٍ ... فَأذب عَنْهُ عَسَاكِرَ الفُجارِ
قالت: قد كان ذلك، ولكن عفا اللّه عما سلف، ومن عاد، فينتقم اللّه منه، قال: هيهات؛ أما واللّه لو عاد لعدتِ، ولكنه اخترم، قالت: أجل، والله، إني على بينة من ربي، وهدى من أمري، فقال بعض جلسائه: وهي القائلة ترثي علياً: من الكامل:
يَا لَلرجَالِ لهوْلِ عُظْمِ مُصيبَةِ ... حَلتْ فَلَيْسَ مُصَابها بالحَائِلِ
ألشَمْسُ كاسفَةٌ لِفَقْدِ إِمَامِنَا ... خَيْرِ الخلائِقِ والإمَامِ العَادِلِ
صِهْرَ النبي لَقَدْ نَفَذْتَ فؤَادنا ... وَالحَق أَصْبَحَ خَاضِعاً للبَاطِلِ(2/62)
فقال لها معاوية: قاتلك الله، ما أبقيت لنا من قول! ثم خرجت، فبعث لها معاوية بجائزة سنية.
وأخباره بمثل ذلك كثيرة شهيرة.
قيل: ذكر أنه جلس يوماً في مجلس كان له بدمشق، وكان ذلك المجلس مفتح جوانب يدخل منه النسيم من سائر جهاته، فبينما هو جالس ينظر، وكان يوماً شديد حر، لا نسيم فيه، وكان وسط النهار؛ إذ نظر إلى رجل يمشي نحوه، وهو يتلظى من حر الرمضاء، ويحجل في مشيته راجلا حافياً، فتأمله وقال لجلسائه: هل خلق اللّه رجلا أشقى ممن يحتاج إلى الحركة في مثل هذه الساعة؟ فقال بعضهم: لعله يقصد أمير المؤمنين، فأوصى حاجبه: إن طلبني هذا الأعرابي، فلا تمنعه من الدخول علي، فكان كذلك، فأدخله، فقال له معاوية: ممن الرجل؟ فقال: من تميم، قال: ما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ قال: جئتُ شاكياً، وبك مستجيراً، قال: ممن؟ قال: من مروانَ بنِ الحكمِ بما ملك، وأنشد: من الطويل:
مُعَاوِيَ يا ذا الحِلمِ والجودِ والفَضلِ ... وَيا ذا الندَى وَالعِلمِ وَالرشدِ وَالنبلِ
أَتيتُكَ لمَا ضَاقَ في الأَرضِ مَذهبي ... فَيَا غَوثُ لاَ تَقطَع رَجَائي مِنَ العَدلِ
وَجُد لِي بِإِنصَافٍ مِنَ الجَائِرِ الذي ... بَلاَني بِشيءِ كانَ أَيسَرُهُ قَتلِي
سَبَانِيَ سُعدَى وانبَرَى لخُصُومَتي ... وَجارَ ولم يعدِل وَغَاصَبني أَهلِي
وَهَم بقتلى غَيرَ أن مَنيتِي ... تَنَاءَت ولم أَستَكمِلِ الرزقَ مِن أَجلِي
فلما سمع معاوية إنشاده والنار تتوقد من فيه، قال: مهلا يا أخا العرب، اذكر قصتك، وأبِن عن أمرك، فقال: يا أمير المؤمنين، كانت لي زوجة وكنت لها محباً وبها كلفَاً، وكانت لي صرمة من إبل نستعين بها على قيام حالي، فأصابتنا سنة سنتَاءُ حطمَة شديدة أذهبتِ الخف والحافر؛ فبقيت لا أملك شيئاً. فلما ذهب ما بيدي، بقيت مهاناً ثقيلا على الناس، فلما علم أبوها ما بي من سوء الحال، أخذها مني وحجرني وطردني وأغلظ علي، فأتيت إلى عاملك مروان راجيَاً لنصرته، فلما أحضر أباها، سأله عن حالي، فقال: ما أعرفه قبل اليوم، فقلت: أصلح الله الأمير، إِن رَأَى أن يحضرها ويسألها عن قول أبيها فليفعل، فبعث خلفها وأحضَرَها، فلما حضرت بين يديه، وقعَتْ منه موقع الإعجاب، فصار لي خصماً، وعلي منكرَاً، وأظهر لي الغضب، وبعث بي إلى السجن، فبقيت كأنما خررت من السماء، واستهوت بي الريح في مكان سحيق، ثم قال لأبيها: هل لك أن تزوجها مني على ألف دينار وعشرة آلاف درهم لك، وأنا ضامن لك خلاصها من هذا الأعرابي؟ فرغب أبوها في المال، وأجابه إلى ذلك.
فلما كان من الغد، بعث إلي وأحضرني، ونظر إلي كالأسد الغضبان، وقال: يا أعرابي، طلق سعدى، فقلت: لا، فسلط علي جماعة من غلمانه، فأخذوني يعذبوني أنواع العذاب، فلم أجد بُداً من طلاقها، فأعادني إلى السجن، فمكثت فيه إلى أن انقضت عدتها، فتزوجها، ودخل بها وأطلقني، وقد أتيتك مستجيراً إليك ملتجئاً، وأنشد: من المجتث:
في القَلبِ مِنيَ نَار ... وَالنار فِيهَا استِعَارُ
وَالجسمُ مِني سَقِيمٌ ... فِيهِ الطبِيبُ يَحَارُ
وفي فؤادِيَ جَمر ... والجَمرُ فِيهِ شَرارُ
والعَين تنهل دمعاً ... فَدَمْعُهَا مِدرَارُ
وَلَيسَ إِلا بِربي ... ثُم الأَميرِ انتِصارُ
ثم اضطرب واصطكت لحياه، وصار مغشياً عليه، وأخذ يتلوى كالحية المقتولة، فلما سمع كلامه معاوية وإنشاده، قال: تعدى وظلم ابن الحكم في حدود الدين، واجترأ على حرم المسلمين، ثم قال: واللّه يا أعرابي، لقد أتيتني بحديث لم أسمع بمثله، ثم دعا بدواة وقرطاس، وكتب إلى مروان بن الحكم: قد بلغني أنك ظلمت واعتديت، وينبغي لمن كان والياً أن يكف بصره عن شهواته، ثم كتب إليه بعد كلام، فقال: من البسيط:
وَليتَ وَيحكَ أمراً لَستَ تُدرِكُهُ ... فَاستغفِرِ الله مِن فِعلِ امرئٍ زَاني
وَقَد أَتَانَا الفتَى المسكِين مُنتَحِباً ... يَشكُو إِلَينَا بِبَث ثُم أَحْزَانِ(2/63)
أُعطِي الإِلَهَ يَمِيناً لا أُكَفرُهَا ... نَعم وَأَبرأ من دينيِ وَدَيانِي
إن أَنتَ خالَفتَنِي فيما كَتبتُ به ... لأجعَلَنكَ لَحماً بَين عقبَانِ
طَلق سُعَادَ وعَجلهَا مُجَهزَة ... مع الكُمَيتِ ومَع نَصرِ بن ذبيانِ
ثم طوى الكتاب، وطبعه بخاتمه، واستدعى بالكميت ونصر بن ذبيان، وكان يستنهضهما للمهمات لأمانتهما، فأخذا الكتاب، وقدما المدينة، وأسلما الكتاب إلى مروان، فجعل يقرأ ويرتعد ويبكي، وأخبر سعدى وطلقها، وجهزها وصحبها الرجلان، وكتب إلى معاوية فصلا يقول فيه: من البسيط:
لا تعجَلن أميرَ المؤمنينَ فقَدْ ... أوفى بنذْرِكَ في رفْقِ وإِحسانِ
وما أَتَيتُ حَرَاماً حينَ أعجبني ... فكَيف أُدعَى باسمِ الخائِنِ الزانيِ؟!
أُعذر فإنكَ لو أبصَرْتَهَا لَجَرَت ... مِنْكَ الأمانِي على تِمْثَالِ إنسانِ
وَسَوفَ تَأتِيكَ شَمس لَيسَ يَعدِلُهَا ... عند الحقيقةِ مِنْ إِنْسِ وَلاَ جَانِ
وختم الكتاب ودفعه إلى الرسولين، وسلم إليهما الجارية، فوصلوا إلى معاوية، فقرأ الكتاب ثم قال: لقد أحسن في الطاعة، ثم أمر بإحضار الجارية، فلما رآها، رأى صورة لم ير مثلها، فخاطبها فوجدها فصيحة اللسان عذبة المنطق، فقال: عَلَي بالأعرابي، فأتى به وهو على غاية من سوء الحال، فقال: يا أعرابي، هل لك عنها من سلو، وأعيضك عنها ثلاث جوار نُهد أبكارٍ، مع كل جارية ألف دينار، وأقسم لك من بيت المال في كل سنة ما يكفيك، فقال الأعرابي: استجرت بعدلك من مروان، فبمن أستجير من جورك، ثم أنشد: من البسيط:
لاَ تَجْعَلني جَزَاكَ الله مِن مَلِكِ ... كَالمستجِيرِ مِنَ الرمْضَا إِلَى النارِ
أُردد سُعَادَ عَلَى حرانَ مُكْتَئِب ... يُمْسي ويُصْبح في هَم وَتَذْكَارِ
أَطْلِقْ وَثَاقي وَلاَ تَبْخَل عَلَي بها ... فَإِنْ فَعَلْتَ فإِني غَيْرُ كَفارِ
والله يا أمير المؤمنين لو أعطيتني ما حوته الخلافة ما أخذته دون سعاد، وأنشأ يقول: من الطويل:
أبى القلبُ إِلاّ حُبَّ سُعْدَى وَبُغضَتْ ... إِلَي نساء مَا لَهُن ذُنُوبُ
فقال معاوية: يا أعرابي، إنك مقر أنك طلقتها، ومروان طلقها، ونحن نخيرها، فإن اختارت سواك زوجناها، قال: افعل، فقال معاوية: ما تقولين، أيما أحبُّ إليك: أمير المؤمنين في عِزهِ وشرفه وسلطانه، أو مروان بن الحكم في عسفه وجوره، أو هذا الأعرابي في جوعه وفقره؟ فأنشدت: من البسيط:
هَذَا وَإِنْ كَانَ في جُوع وإِضرَارِ ... أَعَز عِندِيَ مِنْ قَوْمِي ومِنْ جارِي
وَصَاحِب التاجِ أو مَروَانَ عَامِلِهِ ... وَكُل ذي درهَم عِنْدِي وَدِينَارِ
ثم قالتَ: واللّه يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثة الزمان، ولا لغدرة الأيام؛ فإن لي معه صحبة قديمة لا تُنْسَى، ومحبة لا تبلَى، فأنا أحق من صبر معه في الضراء؛ كما تنعمت معه في السراء. فعجب معاوية من عقلها ومروءتها وموافاتها، وأمر لها بعشرة آلاف درهم، وردها إلى الأعرابي بعقد صحيح. انتهت.
قال ابن سعد في الطبقات افتخر الحسن بن علي في مجلس معاوية، فقال: أنا ابن ماء السماء، وعروق الثرى، وابن من ساد أهل الدنيا، بالحسب الثاقب، والشرف الفائق، والقدم السابق، أنا ابن من لرضاه رضي الرحمن، ثم رد وجهه للخصم، فقال: هل لك أب كأبي، أو قديم كقديمي، فإن تَقُلْ: لا، تُغْلَبْ، وإن تقل: نعم، تكذب، فقال الخصم: لا؛ تصديقاً لقولك، فقال سيدنا الحسن: من الكامل:
أَلحَق أَبْلَجُ لاَ تَزِيغُ سَبِيلُهُ ... وَالحَق تَعْرِفُهُ أُولُو الألَبَابِ(2/64)
وقال معاوية يومَاً وعنده أشراف الناس من قريش وغيرهم: أخبروني بأكرم الناس أباً وأماً، وعماً وعمَّة، وخالاَ وخالة، وجداً وجدةَ؟! فقام مالك بن العجلان، وأومأ إلى الحسن فقال: ها هو ذا ابن علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وعمه جعفر الطيار، وعمته أم هانئ بنت أبي طالب، وخاله القاسم ابن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وجده رسول اللّه، وجدته خديجة بنت خويلد، فسكت القوم ونهض الحسن. فقام رجل من بني سهم، فأنبَ ابن العجلان على مقالته، فقال ابن العجلان: ما قلتُ إلا حقُّاً، وما أحد من الناس يطلب مرضاة مخلوق بمعصية الخالق، إلا لم يعطه الله أمنيته في دنياه، ولم يختم له إلا بالشقاء في أخراه. بنو هاشم أرواكم عوداً، وأوراكم زنداً، كذلك يا معاوية؟ فقال: اللهم نعم.
عهد معاوية لابنه يزيد بالخلافة
ذكر ابن الجوزي بسنده قال: قَدِمَ المغيرة بن شعبة على معاوية، فشكا إليه الضعف واستعفاه فأعفاه، وأراد أن يولي سعيد بن العاص، وقال أصحاب المغيرة للمغيرة: إن معاوية قلاك، فقال لهم: رويداً، ونهض إلى يزيد، وعرض له بالبيعة، وقال: ذهب أعيان الصحابة وكبراء قريش وذَوُو أسنانهم، وإنما بقي أبناؤهم وأنت مني أفضلهم وأحسنهم رأياً وسياسة، وما أدري ما يمنع أمير المؤمنين من العَقْدِ لك، فأَدْلَى ذلك يزيد إلى أبيه، فاستدعاه وفاوضه في ذلك، فقال: قد رأيت ما كان من الاختلاف وسفك الدماء بعد عثمان، وفي يزيد ابنك خلف، فاعقد له يكون كهفاً للناس بعدك، فلا يكون فتنة ولا سفك للدماء، وأنا أكفيك الكوفة، ويكفيك زياد البصرة، فرد معاوية المغيرة إلى الكوفة وأمره أن يعمل في بيعة يزيد، فقدم الكوفة وذكر من يرجع إليه من شيعة بني أمية، فأجابوا، وأوفد منهم جماعة مع ابنه موسى ابن المغيرة، فدعوا معاوية إلى بيعة يزيد، فقال: وقد رضيتموه. قالوا: نعم، نحن ومن وراءنا، فقال: ننظر ما قدمتم له، ويقضي اللّه أمره، والأناة خير من العجلة.
ثم كتب إلى زياد يستشيره، فنكر زياد ذلك وأعظم أن يكاتب فيه، واستدعى عبد اللّه بن كعب النميري، وكانت له صحابة وله به ثقة، وقال له: دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحُفِ، إن معاوية كتب إلى أن أجمع الناس على بيعة يزيد، وهو يتخوف نفرة الناس ويرجو مطابقتهم ويستشيرني، وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون فيما أولع به من الصيد، فالق معاوية مؤدياً عني، وأخبره عن فعلات يزيد، وقل له: رويدك بالأمر، فقمن أن يتم لك ما تريد ولا تعجل، فقال له عبيد الله بن كعب: لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تمقت إليه ابنه، وأنا ألقى يزيد في سر من معاوية، فأخبره عنك بكتاب معاوية إليك يستشيرك في بيعته، وأنك تتخوف خلاف الناس لما ينقمون عليك، وأنك ترى له ترك ما ينقمون عليه لتستحكم الحجة على الناس ويسهل الأمر، وفي ذلك نصح يزيد، ورضا معاوية، والسلامة عن درك الأمة.
فقال له زياد: لقد رميت الأمر بحجره، اشخص علَى بركة اللّه، وكتب زياد إلى معاوية يأمره بالتؤدة وألا يعجل، فقبل ذلك معاوية، وبلغ عبيد الله بن كعب وصية زياد إلى يزيد، فكف عن كثير مما كان يصنع.
فلما مات زياد، اعتزم معاوية على العهد ليزيد، وقرأ كتابه على الناس باستخلافه يزيد إن حدث به حدث المَوت، فيزيد ولي عهده، فاستوثق له الناس على البيعة ليزيد غير خمسة نفر: الحسين بن علي، وابن عمر، وابن الزبير، وابن عباس، وعبد الرحمن بن أبي بكر.
فحج معاوية سنة إحدى وخمسين، فلما قدم مكة، بعث عن الحسين، وقال: يا بن أخي، قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر، أنت تقودهم، فما إربك إلى هذا الخلاف؟ قال الحسين: أرسل إليهم، فإن بايعوا فأنا منهم، ولا تعجل علي، فعاهده معاوية على الكتمان.
ثم بعث عن ابن الزبير فأجابه بمثل ما أجاب الحسين، وطلبه العهد فأبى وخرج، ثم بعث عن ابن عمر، فأجابه بمثل كلامهما وألان له القول بعض اللين؛ بأن قال: أخاف أن أدع الأمة كالضأن لا راعي لها، فقال له ابن عمر: أبايعك على أني أدخل بعدك فيما تجتمع عليه الأمة، فواللّه لو اجتمعوا بعدك على عبد حبشي، لدخلتُ معهم، وخرج فأغلق بابه، ولم يأذن لأحد.(2/65)
ثم بعث معاوية عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، فقال له: بأية يد أو رجل تُقدِمُ على معصيتي؟ فقال عبد الرحمن: أرجو أن يكون ذلك خيراً لي، فقال معاوية: والله لقد هممتُ أن أقتلك، قال عبد الرحمن: لو فعلت لأخذك اللّه في الدنيا والآخرة، ولم يذكر ابن عباس.
وقد ذكر في كيفية هذا الحديث طريق غير هذا ذكره الذهبي في تاريخه دول الإسلام، أحببت إيراده؛ لاشتماله على زيادة علم، ونصه: روى النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ذكوان مولى عائشة، قال: لما أجمع معاوية على أن يبايع لابنه يزيد، حج فقدم مكة في نحو من ألف رجل، فلما دنا من المدينة، خرج ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر، فلما قدم معاوية المدينة، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر ابنه يزيد، فقال: من أحق بهذا الأمر منه. ثم ارتحل فقدم مكة، فقضى طوافه ودخل منزله، فبعث إلى ابن عمر، فتشهد، وقال: أما بعد، يا بن عمر، إنك كنت تحدثني أنك لا تحب تبيت ليلة سوداء ليس عليك فيها أمير، وأنا أحذرك أن تشق عصا المسلمين أو تسعى في فساد ذات بينهم.
فقام ابن عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنك كانت قبلك خلفاء لهم أبناء ليس ابنك بخير من أبنائهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، ولكنهم اختاروا للمسلمين حيث علموا الخيار، وإنك تحذرني أن أشق عصا المسلمين، ولم أكن لأفعل، إنما أنا رجل من المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر، فإنما أنا رجل منهم. فقال معاوية: يرحمك اللّه، فخرج ابن عمر، ثم أرسل إلى ابن أبي بكر، فتشهد ثم أخذ في الكلام، فقطع عبد الرحمن عليه كلامه، فقال: إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى اللّه، وإنا واللّه لا نفعل، واللّه لتردن هذا الأمر شورى في المسلمين، أو لنردنها عليه جذعة، ثم وثب ومضى، فقال معاوية: اللهم، اكفنيه بما شئت، ثم قال: على رسلكَ أيها الرجلُ لا تشرفن على أهل الشام؛ فإني أخاف أن يسبقوني بنفسك حتى أخبر العشيرة أنك قد بايعْتَ، ثم كُنْ بعدُ علَى ما بدا لك من أمرك.
ثم أرسل إلى ابن الزبير فقال: يا بن الزبير، إنما أنت ثعلب رواغ، كلما خرج من جحر دخل آخر، وإنك عمدت إلى هذين الرجلين فنفخت في مناخيرهما، وحملتهما على غير رأيهما، فقال ابن الزبير: إن كنت قد مللت الإمارة، فاعتزلها، وهلم ابنك فلنبايعه، أرأيت إذا بايعنا ابنك معك، لأيكما نسمع ونطيع؟! لا نجمع البيعة لكما أبداً.
ثم راح وصعد معاوية المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار، زعموا أن ابن عمر وابن أبي بكر وابن الزبير لم يبايعوا يزيدَ، وقد سمعوا وأطاعوا وبايعوا، فقال أهل الشام: واللّه لا نرضى حتى يبايعوا على رءوس الأشهاد، وإلا ضربنا أعناقهم، فقال معاوية؛ سبحان اللّه! ما أسرع الناس إلى قريش بالشر، لا أسمع هذه المقالة من أحد منكم بعد اليوم، ثم نزل، فقال الناس: بايع ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر، وهم يقولون: لا واللّه، ما بايعنا، فيقول الناس: بلى، وارتحل معاوية فلحق بالشام.
وقال جويرية بن أسماء: سمعتُ أشياخَ المدينةِ يحدثون أن معاوية لما رحل عن مر داخلا مكة، قال لصاحب حرسه: لا تدع أحداً يسير معي إلا من حملته أنا، فخرج يسير وحده حتى إذا كان وسط الأراك، لقيه الحسين بن علي - رضي اللّه تعالى عنهما - قال: فوقف، وقال: مرحباً وأهلاَ بابن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب المسلمين، دابة لأبي عبد اللّه يركبها، فأتى ببرذون، فتحول عليه، ثم طلع عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال معاوية: مرحباً وأهلا بشيخ قريش وسيدها وابن صديق الأمة، دابة لأبي محمد، فأتى ببرذون فركب، ثم طلع ابن عمر فقال: مرحباً وأهلا بصاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وابن الفاروق، فدعا له بدابة فركبها، ثم طلع ابن الزبير، فقال: مرحباً بابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ثم دعا بدابة فركبها، ثم أقبل معاوية يسير بينهم لا يسايره غيرهم حتى دخل مكة.(2/66)
ثم كانوا أول داخل عليه، وآخر خارج، وليس لهم صباح إلا ولهم حباء وكرامة، ولا تعرَّض لهم بذكر شيء حتى قضى نسكه وترحلت أثقاله وقرب مسيره، فأقبل بعض القوم على بعض، فقال: أيها القوم، لا تخدعوا، إنه واللّه ما صنع بكم ما صنع لحبكم، ولا لكرامتكم ولا صنعه إلا لما يريد، فأعدوا له جواباً، فأقبلوا على الحسين، فقالوا: أنت يا أبا عبد اللّه، فقال: وفيكم شيخ قريش وسيدها هو أحق بالكلام، فقالوا لعبد الرحمن: يا أبا محمد، قال: لست هناك، وفيكم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد المسلمين، فقالوا لابن عمر: أنت، قال: لست بصاحبكم، ولكن، ولوا الكلام ابن الزبير، قال: نعم، إن أعطيتموني عهودكم ألا تخالفوني، كفيتكم الرجل، قالوا: ذاك لك.
قال: فأذن لهم معاوية، فدخلوا، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: قد علمتم مسيري فيكم، وصلتي لأرحامكم، وصفحي عنكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم وأحسن الناس فيكم رأياً، وإنما أردت أن تقدموه باسم الخلافة، وتكونون أنتم الذين تنزعون وتؤمرون وتقسمون، فسكتوا، فقال: ألا تجيبوني. فسكتوا، فأقبل على ابن الزبير، فقال: هات يا بن الزبير؛ فإنك لعمري صاحبُ خطبة القوم، قال: نعم، يا أمير المؤمنين، نخيرك ثلاث خصال، أيها ما أخذت فهو لك، قال: للّه أبوك اعرضهُن، قال: إن شئت، اصنع ما صنع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وإن شئت اصنع ما صنع أبو بكر، وإن شئت اصنع ما صنع عمر، قال معاوية: ما صنعوا؟ قال ابن الزبير: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعهد عهده ولم يستخلف أحداً، فارتضى المسلمون أبا بكر، فقال معاوية: إنه ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر؛ فإن أبا بكر رجل تقطع دونه الأعناق، وإني لست آمن عليكم الاختلاف، قال ابن الزبير: صدقت، واللّه ما تحب أن تدعنا، فاصنع ما صنع أبو بكر، قال معاوية: للّه أبوك، ما صنع أبو بكر؟ قال: عهد إلى رجل من قاصية قريش، ليس من رهطه فاستخلفه، فإن شئت أن تنظر أي الرجل من قريش ليس من بني عبد شمس فترضى به.
قال معاوية: فالثالثة ما هي؟ قال: تصنع ما صنع عمر، قال: وما صنع؟ قال: جعل الأمر شورى في ستة ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه وولا من رهطه، قال معاوية: فهل عندك غير هذا؟ قال: لا، قال: فأنتم؟ قالوا: ونحن أيضاً، فقال: أما إني قد أحببت أن أتقدم إليكم أنه قد أعذر من أنذر، وأنه كان يقوم القائم منكم إلي فيكذبني على رءوس الناس فأحتمل ذلك له، وإني قائم بمقالة إن صدقت فلي صدقي، وإن كذبت فلي كذبي، وإني أقسم بالله، لئن رد على إنسان منكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى يسبق إِلى رأسه، فلا يَرعَيَن رجل إلا على نفسه، ثم دعا صاحب حرسه، فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين، فإن ذهب رجل يرد على كلمة في مقامي هذا، فليضربا عنقه. ثم خرج وخرجوا معه حتى رقي المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يُستبد بأمر دونهم ولا يقضى أمر إلا عن مشورتهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد ابن أمير المؤمنين من بعده، فبايعوا باسم الله، قال: فضربوا على يده بالمبايعة، ثم جلس على رواحله، وانصرف الناس.
وفاة معاوية بن أبي سفيان
ذكر غير واحد: أنه لما ثقل في الضعف، وتحدث الناس أنه الموت، قال لأهله: احشوا عيني إثمداً وأوسعوا رأسي دهناً، ففعلوا وبرقوا وجهه بالدهن، ثم مهدوا له مجلساً وأسندوه، فأذن للناس فدخلوا وسلموا عليه قياماً، فلما خرجوا من عنده، أنشد قائلا: من الكامل:
وَتَجَلُّدِي للِشامِتِينَ أُرِيهِمُ ... أَني لِرَيبِ الدَّهرِ لاَ أَتَضَعضَعُ
فسمعه رجل من العلويين، فأجابه يقول: من الكامل:
وَإِذَا المَنِيةُ أَنشَبَت أَظفَارَهَا ... أَلفَيتَ كُل تَمِيمَةٍ لاَ تَنْفَعُ
وكان قد خطب الناس قبل موته، فقال: إني كزرع مستحصد، وقد طالت إمارتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي، ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه كما كان من قبلي خيرَاً منى، وقد قيل: من أحب لقاء الله، أَحب الله لقاءه، اللهم إني قد أحببتُ لقاءك، فأحبِبت لقائي، وبارك لي فيه.(2/67)
فلم يمض قليل حتى ابتدأ به مرضه، فدعا ابنه يزيد، وقال: يا بني، إني قد كفيتك الرحلة، ووطأت لك الأمور، وأخضعت لك رقاب العرب، وجمعت لك ما لم يجمع أحد، وإني لا أخاف عليك أن ينازعك هذا الأمر الذي استتب لك إلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد اللّه بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فأما ابن عمر: فرجل قد وقذته العبادة، وإذا لم يبق غيره بايعك، وأما الحسين: فإن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك، فظفرت به، فاصفح عنه؛ فإن له رحماً ماسة وحقاً عظيماً، وأما ابن أبي بكر: فإن رأي أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله، وليس له همة إلا في النساء، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، فإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك، وقد فزت عليه، فقطعه إرباً إرباً. هذا حديث الطبري عن هشام.
وله عن هشام من طريق آخر قال: لما حضرت معاوية الوفاة سنة ستين، كان يزيد غالْباً ببيت المقدس، فدعا بالضحاك بن قيس الفهري، وكان صاحب شرطته، ومسلم بن عقبة المري، فقال: أبلغا يزيد وصيتي: انظر أهل الحجاز؛ فإنهم أصلك، وأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أخف من أن يشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام، فليكونوا بطانتك وعيبتك، وإن رابك شيء من عدوك، فانتصر بهم، فإذا أصبتم، فاردد أهل الشام إلى بلادهم؛ فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم، تغيرت أخلاقهم، ولست أخاف عليك من قريش إلا ثلاثة - ولم يذكر في هذا الطريق عبد الرحمن بن أبي بكر، فنقص ذكره من الأربعة السابق ذكرهم - وقال في ابن عمر: قد وقذه الدين، فليس بملتمس شيئاً قبلك، وقال في الحسين: ولو أني صاحبه عفوت عنه، وأنا أرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه، وقال في ابن الزبير: إذا شخص إليك، فالبد له إلا أن يلتمس منك صلحاً، فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت.
وكانت وفاة معاوية منتصف رجب سنة ستين، وقيل جمادى الآخرة لتسع عشرة سنة وأشهر من ولايته.
وكان على خاتمه عبد الله بن حصين الحميري، وهو أول من اتخذ ديوان الخاتم، وكان سببه أنه أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم، وكتب بذلك كتاباً إلى زياد بالعراق، ففض عمرو الكتاب وصير المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه، أنكر معاوية وأخذ عمرَاً بردها وحبسه، فأدَّاهَا عنه أخوه عبد الله بن الزبير، فأحدث عند ذلك ديوان الخاتم.
صفة معاوية
كان رجلا أبيض جميلا، إذا ضحك انقلبت شفته العليا، وكان يخضب بالصفرة.
قال أبو عبد رب الدمشقي: رأيت معاوية يصفر لحيته كأنها الذهب.
وعن إبراهيم بن عبد اللّه بن قارظ قال: سمعت معاوية على منبر المدينة يقول: أين فقهاؤكم يا أهل المدينة. سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهى عن هذه القصة، ثم وضعها على رأسه أو خده، فلم أر على عروس ولا على غيرها أبهَى منها على معاوية.
ذكر مناقبه
ذكر المفضل الغلابي؛ أن زيد بن ثابت كان كاتب وحي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكان معاوية كاتبه فيما بينه وبين العرب؛ كذا قال.
وقد صح عن ابن عباس قال: " كنت ألعب، فدعاني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - وقال: ادع لي معاوية، وكان يكتب الوحي " .
وقال معاوية بن صالح، عن العرباض بن سارية سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يدعونا إلى السحور: " هلم إلى الغداء المبارك " ، ثم سمعته يقول: " اللهم، علم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب " رواه أحمد في مسنده.
وروى عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: " اللهم، علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب " .
وروى عبد الرحمن بن أبي عميرة - أيضَاً - يقول: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول لمعاوية: " اللهم، اجعله هاديَاً مهدياً، واهده واهد به " رواه الوليد بن مسلم وأبو مسهر عن سعيد نحوه. ورواه الترمذي، عن الذهلي، عن أبي مسهر.
وروى نعيم بن حماد، بسنده، عن يونس بن ميسرة، عن عبد اللَه بن بسر؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم استأذن أبا بكر وعمر في أمر، فقال: أشيرا عَلَي، فقالا: اللّه ورسوله أعلم، فقال: " ادْعُوَا معاوية وأحضراه أمركما؛ فإنه قوي أمين " .(2/68)
وروى عن وحشي بن حرب بن وحشي، عن أبيه، عن جده قال: أردفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم معاوية بن أبي سفيان خلفه فقال: ما يليني منك؟ قال: بطني، قال: " اللهم، املأه علماً " ، وقال خليفة: جمع عمر لمعاوية الشام كله، ثم أقره عثمان.
وقال مسلم بن جندب، عن أسلم مولى عمر، قال: قدم علينا معاوية وهو أَبَضُّ الناس وأجملهم، فحج مع عمر، وكان عمر ينظر إليه فيعجب له، ثم يضع إصبعه على متنه، ويرفعها عن مثل الشراك، ويقول: بخ بخ نحن إذن خير الناس أن جمع لنا خير الدنيا، والآخرة، فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، سأحدثك، إنا بأرض الحمامات والريف، فقال له عمر: سأحدثك ما بك إلطافك نفسك بأطيب الطعام، وتضحيك حتى تضرب الشمس منكبيك، وذوو الحاجات وراء الباب.
قال أسلم: فلما جئنا ذا طوى، أخرج معاوية حلة، فلبسها فوجد عمر منها رائحة طيبة، فقال عمر: يعمد أحدكم يخرج حاجاً تَفِلا حتى إذا جاء أعظم بلدان الله، أخرج ثوبيه؛ كأنهما كانا في الطيب فيلبسهما، فقال معاوية: إنما لبستهما لأَدخُلَ فيهما على عشيرتي، واللّه لقد بلغني أذاك هاهنا وبالشام، الله يعلم أني لقد عرفت الحياء فيه، ونزع معاوية الثوبين، ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما.
وقال أبو الحسن المدائني: كان عمر إذا نظر إلى معاوية، قال: هذا كسرى العرب.
وقال مجاهد، عن الشعبي، عن علي قال: لا تكرهوا إمرة معاوية، فإنكم لو فقدتموه رأيتم الرءوس تندر عن كواهلها.
وروى علقمة بن أبي علقمة، عن أمه، قالت: قدم معاوية المدينة، فأرسل إلى عائشة - رضي الله تعالى عنها - أن أرسلي إِلي بأنبجانية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشعره، فأرسلت بذلك معي أحمله، فأخذ الأنبجانية، فلبسها وغسل الشعر بماء، فشرب منه، وأفاض على جلده.
وروى أبو بكر الهذلي، عن الشعبي، قال: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة - يعني: عام أربعين من الهجرة - تلقته رجال قريش، فقالوا: الحمد للّه الذي أعز نصرك، وأعلى أمرك، فما رد عليهم جواباً حتى دخل المدينة، فعلا المنبر، ثم حمد الله، وقال: أما بعد، فإني والله ما وليت أمركم إلا وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة، فلم أجدها تقوم بذلك، وأردتها على عمل عمر، فكانت عنه أشد نفوراً، وحاولتها على مثل سنياتِ عثمان فأبت علي، وأين مثل هؤلاء. هيهات أن يدرك أحد فضلهم من بعدهم، غير أني سلكت بها طريقاً لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك، ولكل فيه مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة، وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم، فأنا خير لكم، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله، فارضوا مني ببعضه؛ فإنها لقائبة قوبها وإن السيل إذا جاء تترى وإن قل أغنى، وإياكم والفتنة فلا تهموا بها؛ فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة وتورث الاستئصال، وأستغفر الله لي ولكم. ونزل.
قال الحافظ الذهبي في دول الإسلام: قال جندل بن والق وغيره: حدثنا محمد ابن بشر، حدثنا مجالد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه. مجالد ضعيف.
وقد رواه الناس عن علي بن زيد بن جدعان، وليس بالقوي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، فذكره.
وروى عن أبي بكر بن داود، قال: هو معاوية بن تابوه رأس المنافقين، حلف أن يتغوَط فوق المنبر الشريف.
وقال بسر بن سعيد، عن سعد بن أبي وقاص، قال: ما رأيتُ أحداً بعد عثمان أقضَى بحق من صاحب هذا الباب، يعني: معاوية.
وعن أبي بكر بن أبي مريم، عن ثابت مولى أبي سفيان؛ أنه سمع معاوية يخطُبُ ويقول: إني لست بخيركم، وإن فيكم من هو خير مني عبد اللّه بن عمر، وعبد اللّه ابن عمرو، وغيرهما من الأفاضل، ولكني حسبت أن أكونَ أَنْكَاكم في عدوكم، وأنفعكم ولاية، وأحسنكم خلقاً.
قال همام بن منبه: سمعت ابن عباس يقول: ما رأيتُ رجلا كان أخلق للملك من معاوية؛ كان الناس يردون منه على أرجاء وادِ رحب، لم يكن بالضيق الحصر العصعص المتعصب. يعني ابن الزبير.
وقال أبو أيوب، عن أبي قلابة إن كعب الأحبار قال: لن يملك هذه الأمة أحد ما ملك معاوية.(2/69)
قلت: صدق كعب فيما قاله؛ فإن معاوية بقي خليفة عشرين سنة لا ينازعه أحد الأمر في الأرض جميعاً؛ بخلاف عبد الملك بن مروان وأبي جعفر المنصور وهارون الرشيد وغيرهم؛ فإنهم كان لهم مخالف وخرج عن حكمهم بعضْ الممالك.
وروى ضمام بن إسماعيل، قال: سمعت أبا قبيل حيي بن هانئ يخبر عن معاوية، وصعد المنبر يوم جمعة، فقال: أيها الناس، إن المال مالنا، والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا. فلم يجبه أحد. فلما كانت الجمعة الأخرى، قال مثل ذلك، فلم يجبه أحد. فلما كانت الجمعة الثالثة، قال مثل ذلك، فقام إليه رجل فقال: كلا، إنما المال مالنا، والفيء فيئنا، من حال بيننا وبينه، حكمناه إلى اللّه بأسيافنا. فنزل معاوية وأرسل إلى الرجل، فأدخل عليه، فقال القوم: هلك، ففتح معاوية الأبواب، ودخل الناس، فوجدوا الرجل معه على السرير، فقال معاوية: إن هذا أحياني، أحياه الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سيكون أئمة من بعدي يقولون، فلا يرد عليهم قولهم يتقاحمون في النار تقاحم القردة " ، وإني تكلمت، فلم يرد علي أحد، فخشيت أن أكون منهم، ثم تكلمت الجمعة الثانية، فلم يرد على أحد، فقلت في نفسي: إني من القوم، ثم تكلمت هذه الجمعة الثالثة، فقام هذا، فرد عليَ، فأحياني أحياه الله، فرجوت أن يخرجني اللّه منهم. فأعطاه وأجازه.
وروى عن خالد بن معدان، قال: وفد المقدام بن معدي كرب، وعمر بن الأسود، ورجل من بني أسد له صحبة على معاوية، فقال معاوية للمقدام: توفي الحسن، فاسترجع، فقال معاوية: أتراها مصيبة. قال المقدام: ولم لا، وقد وضعه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجره، وقال: " هذا مني، وحسين من علي " ، ثم قال معاوية للأسدي: ما تقول أنت؟ قال: جمرة أطفئَت، فقال المقدام: أنشدك اللّه، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن لبس الذهب والحرير، وعن جلود السباع والركوب عليها. قال: نعم، قال: فوالله، لقد رأيت هذا كله في بيتك يا معاوية، فقال معاوية: عرفت أني لا أنجو منك.
وكان يضرب المثل بحلم معاوية، وقد أفرد ابن أبي الدنيا، وأبو بكر بن أبي عاصم تصنيفاً مستقلا في حلم معاوية، فقال: إن رجلا شارط آخر على أن يضرب معاوية كَفاً، فلما فعله، التفت إليه معاوية، وقال: اذهب إلى صاحبك، وخذ شرطك، ولا تعد لمثلها. ثم إن هذا الرجل شارط آخر على مثلها في يزيد، فلما فعله، أمر بقطع يديه، فقال الرجل: إن كان لا بد فواحدة، فقال يزيد: واحدة للضرب، والأخرى للشرط، فقال له الرجل: غَرني حلم معاوية يا يزيد، فقال يزيد: تلك أمة قد خلت.
وعن قبيصة بن جابر قال: صحبت معاوية فما رأيتُ رجلا أثقل حلماً ولا أبطأ جهلا ولا أبعد أناة منه.
وقال جرير، عن مغيرة قال: أرسل الحسن بن علي، وعبد الله بن جعفر إلى معاوية يسألانه، فبعث إليهما بمائة ألف دينار، فبلغ ذلك علياً، فقال لهما: ألا تستحيان من رجل نطعن فيه غدوة وعشية تسألانه المال؟ قالا: لأنك حرمتنا، وجاد لنا.
وقال مالك: كان معاويةُ ينتف الشيب كذا وكذا سنة، وكان يخرج إلى الصلاة ورداؤه يحمل وراءه، فإذا دخل للصلاة جعل عليه، وذلك من الكبر.
وذكر غيره؛ أن معاوية أصابته اللقوة قبل أن يموت، وكان اطلع في بئر عادية في الأبواء لما حج، فأصابته اللقوة، يعني: بطل نصفه.
وعن الشعبي قال: أول من خطب الناس قاعداً معاويةُ، وذلك حين كَثُرَ شحمه، وعظم بطنه.
وعن ابن سيرين: أصاب معاوية لقوة، فاتخذ لحفاً خفافاً تلقى عليه، فلا يلبث أن يتأذى بها، فإذا أخذت عنه يسأل أن ترد عليه، فقال: قبحك الله من دار مكثت فيك عشرين سنة أميرَاً، وعشرين سنة خليفة، ثم صرت إلى ما أرى.
وروى عبد الأعلى بن ميمون بن مهران، عن أبيه؛ أن معاوية قال في مرضه: كنت أوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فنزع قميصه وكسانيه فرفعته، وخبأت قلامة أظفاره في قارورة، فإذا مت فاجعلوا القميص على جلدي، واسحقوا تلك القلامة واجعلوها في عيني، فعسى اللّه أن يرحمني ببركتها.
وقال أبو عمرو بن العلاء: لما حضرت معاوية الوفاة أنشد: من الطويل:
هُو المَوتُ لاَ يُنجَي مِنَ المَوتِ وَالذِي ... نُجَاوِزُ بَعدَ المَوتِ أَدهى وَأَقطَعُ
اللهم، أقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرج غيرك، فما وراءك مذهب.(2/70)
قال أبو مسهر: صلى عليه الضحاك بن قيس الفهري، ودفن بدمشق بين باب الجابية والباب الصغير.
قال العلامة المسعودي: وقبره يزار إلى الآن، عليه بيت مبني يفتح كل اثنين وخميس، وله من العمر ثمانون، وقيل: تسعون، وكان أميراً وخليفة أربعينَ سنةَ، منها أربع سنين في خلافة عمر، رضي الله عنه.
بيعة يزيد بن معاوية
قد مضَى أن معاوية جعل ابنه ولي عهده، وأكره الناس على ذلك، فلما توفي، لم يدخل في طاعة يزيد الحسين بن علي، ولا عبد الله بن الزبير، ولا من يشايعهما. قال أبو مسهر: حدثنا خالد بن يزيد، حدثني سعيد بن حريث، قال: لما كانت الغداة التي توفي ليلتها معاوية فزع الناس إلى المسجد، ولم يكن قبله خليفة بالشام غيره، فكنت فيمن أتى المسجد، فلما ارتفع النهار وهم يبكون في الخضراء، وابنه يزيد غائب، وبعث إليه البريد، وهو ولي عهده، وكان بحوارين، وكان نائبه على دمشق الضحاك بن قيس الفهري، فدفن معاوية، فلما كان بعد أسبوع، بلغنا أن ابن الزبير خرج بالمدينة وحارب.
وكان معاوية قد غشي عليه مرة، فركب بموته الركبان، فلما بلغ ذلك ابن الزبير، خرج، فلما كان يوم الجمعة، صلى بنا الضحاك، ثم قال: تعلمون أن خليفتكم يزيد قدم، ونحن غداً متلقوه، فلما صلى الصبح ركب فركبنا معه، فسار إلى ثنية العقاب، فإذا بأثقال يزيد، ثم سرنا قليلا، فإذا بيزيد في ركب معه أخواله من بني كلب، وهو علي بختي له رحل وريطة مثنية في عنقه، ليس عليه سيف ولا عمامة، وقد كان ضخماً سميناً قد كثر شعره وشعث، فأقبل الناس يسلمون عليه ويعزونه وهو ترى فيه الكآبة والحزن وخفض الصوت، والناس يعيبون ذلك منه، ويقولون: هذا الأعرابي الأمي ولي أمر الناس، والله سائل عنه، فسار، فقلنا: يدخل من باب توما، فلم يدخل، ومضى إلى باب شرقي، فلم يدخل منه وأجازه، ثم أجاز باب كيسان إلى باب الصغير، فلما وافاه أناخ ونزل، ومشى الضحاك بين يديه إلى قبر معاوية فصففنا خلفه وكبر أربعاً، فلما خرج من المقابر، أتى ببغلة، فركبها إلى الخضراء، ثم نودي: الصلاة جامعة لصلاة الظهر، فاغتسل ولبس ثياباً نفيسةَ، ثم جلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر موت أبيه، وقال: إنه كان يغزيكم البحر والبر، ولستُ حاملا أحداً من المسلمين في البحر. وإنه كان يشتيكم بأرض الروم، ولست مشتياً أحداً بها، وإنه كان يخرج لكُمُ العطاء ثلاثاً، وأنا أجمعه لكم كله. قال: فافترقوا وما يفضلون عليه أحدَاً.
وقال أبو بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس، قال: خطب معاوية، فقال: اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله فبلغه ما أملت وأعنه، وإن كانت إنما حملني على ذلك حب الوالد لولده وأنه ليس بأهل، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك.
وقال حميد بن عبد الرحمن: دخلنا على بشير، وكان صحابياً، فقلنا: استخلف يزيد فقال: يقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأنا أقول ذلك، ولكن لأن يجمع الله أمة محمد أحب إلي من أن تفترق. كذا في الذهبي.
بويع يزيد بعد موت أبيه، وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى مكة عمرو بن سعيد بن العاص الشهير بالأشدق، وعلى البصرة عبيد اللّه بن زياد، وعلى الكوفة النعمان بن بشير.
ولم يكن هم يزيد إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته، فكتب يزيد إلى الوليد بن عتبة بموت معاوية، وأن يأخذ حسيناً وابن عمر وابن الزبير بالبيعة من غير رخصة.
فلما أتى الوليد نعى معاوية، استدعى مروان بن الحكم، وكان منقطعَاً عنه بما كان يبلغه عنه، فلما قرأ مروان الكتاب بنعي معاوية، استرجع وترحَم، فاستشاره الوليد في أمر أولئك النفر، فأشار عليه أن يحضرهم لوقته، فإن بايعوا وإلا قتلتهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فيثب كل رجل منهم في ناحية، إلا ابن عمر؛ فإنه لا يحبُ القتال ولا يحب الولاية، إلا أن يرفع إليه الأمر.
فبعث الوليد لوقته عبد اللّه بن عمرو بن عثمان - وهو غلام حدث - فجاء إلى الحسين وابن الزبير في المسجد في ساعة لم يَكُنِ الوليد يجلس فيها للناس، وقال: أجيباً الأمير، فقالا: انصرف، الآن نأتيه.(2/71)
ثم حدسا فيما بعث إليهما فلم يَعْدُوَا ما وقع، وجمع الحسين فتيانه وأهل بيته وسار إليه، وأجلسهم بالباب، وقال: إن دعوتكم أو سمعتم صوتي عالياً، فادخلوا بأجمعكم. ثم دخل، فسلم ومروان عنده، فشكرهما الوليد على الصلة بعد القطيعة، ودعا لهما بصلاح ذات البين، فأقرأه الوليد الكتاب بنعي معاوية ودعاه إلى البيعة، فاسترجع وترحَّم، وقال: مثلي لا يبايع سِرُّاً ولا يكتفي بها مني، فإذا ظهرت للناس ودعوتهم، كان أمرنا واحداً، وكنت أول مجيب. فقال الوليد - وكان يحب المسالمة - : انصرف يا أبا عبد اللّه. وقال مروان للوليد: لا تقدر منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلَى بينك وبينه، ألزمه البيعة؛ وإلا اضرب عنقه. فوثب الحسين وقال: أنت تقتلني أو هو؟ كذبت واللّه، فانصرف إلى منزله يتهادَى بين مواليه، وهو يقول: من الخفيف:
لاَ ذَعَرتُ السَّوَامَ في فَلَقِ الصب ... حِ مُغِيراً وَلاَ ذَعَرْتُ يَزِيدَا
يَوْمَ أعطى مَخَافَةَ القَتلِ ضَيما ... وَالمَنَايَا صَدَدتَني أَن أَحِيدَا
وأخذ مروان في عذل الوليد، فقال: يا مروان، واللّه ما أحب أن لي ما طلعَت عليه الشمس من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت الحسين أن قال: لا أبايع.
وأما ابن الزبير، فإنه اختفى في داره، وجمع أصحابه، وألح الوليد في طلبه، وبعث مواليه فشتموه وتهددوه وأقاموا ببابه في طلبه، فبعث ابن الزبير أخاه جعفراً يلاطف الوليد، ويشكو ما أصابه من الذعر ويعده بالحضور من الغداة، وأن يصرف رسله من بابه، فبعث إليهم وانصرفوا. وخرج ابن الزبير من ليلته مع أخيه جعفر وحدهما، وأخذا طريق الفرع إلى مكة، فسرح الوليد الرجال في طلبه، فلم يدركوه ورجعوا وتشاغل بذلك عن الحسين سائِرَ يومه، ثم أرسل إلى الحسين يدعوه، فقال الحسين: أصبحوا وَتَروْنَ ونَرَى. وسار في الليلة الثانية ببنيه وبني أخيه إلا محمد بن الحنفية، وكان قد نصحه، وقال: تنح عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وابعث دعاتك إلى الناس، فإن أجابوك فاحمد الله، وإن اجتمعوا على غيرك فلم ينقص بذلك دينك ولا عقلك ولم تذهب به مروءتك ولا فضلك. وأنا أخاف أن تأتي مصرَاً أو قوماً؛ فيختلفون عليك؛ فتكون لأول الأسنة، فإذا خير الأمة نفساً وأباً أضيعها دمَاً وأذلها أصلا. قال له الحسين: فإني ذاهب، قال له: انزل مكة، فإن اطمأنت بك الدار، فبسبيل ذلك، وإن نأت بك، لحقت بالرمال وشعاب الجبال ومن بلد إلى بلد حتى تنظر مصير أمر الناس وتعرف الرأي. فقال: يا أخي، نصحتَ وأشفقتَ، فلحق بمكة، وبعث الوليد إلى ابن عمر ليبايع، فقال: إذا بايع الناس، وقيل: إن ابن عمر وابن عباس كانا بمكة ورجعا إلى المدينة، فلقيا الحسين وابن الزبير فأخبراهما بموت معاوية وبيعة يزيد، فقال ابن عمر: لا نفرق جماعة المسلمين. وقَدِمَ هو وابن عباس المدينة وبايعا عند بيعة الناس.
ولما دخل ابن الزبير مكة، وعليها عمرو بن سعيد بن العاص الشهير بالأشدق؛ كما تقدم ذكره، قال: أنا عائذ بالبيت، ولم يكن يصلي ولا يفيض معهم، ويقف هو وأصحابه ناحية.
ولما بلغ يزيد صنيع الوليد بن عتبة بأمر أولئك النفر وتوانيه في أمرهم، عزله عن المدينة، وولاها عمرو بن سعيد، فقدمها في رمضان، واستعمل على شرطته عمرو ابن الزبير بالمدينة لما كان بينه وبين أخيه عبد الله بن الزبير من البغضاء.(2/72)
قال العلامة ابن خلدون،: وولى يزيد بن معاوية عمرو بن سعيد بن العاص المدينة ومكة، والموسم والطائف، فقدم إلى المدينة سنة ستين في رمضان قبيل العتمة، فصلى العتمة بالناس، وقرأ: " لَم يَكنُ... " " البينة: 1 " و " إذَا زُلزِلتَ الأَرضُ " " الزلزلة: 1 " ، فلما أصبح، خرج على الناس وعليه قميص أحمر وعمامة حمراء، فصعد المنبر، فرماه الناس بأبصارهم، فقال: يا أهل المدينة، ما لكم ترموننا بأبصاركم كأنكم تريدون تقروننا سيوفكم؟! أنسيتم ما فعلتم؟! أما لو انتقم منكم في الأولى ما عدتم إلى الثانية. أغركم إذ قتلتم عثمان، فوجدتم صابراً حليماً وإمامَاً مواتياً، فذهب غضبه وذهبت أذاته، فاغنموا أنفسكم، فقد وليكم إمام بالشباب المقتبل، البعيد الأمل، وقد اعتدل جسمه، واشتدَ عظمه، ورمى الدهر ببصره واستقبله بأسره، فهو إن عض نهش، وإن وطئ فرش، لا يقلقله الحصى، ولا تقرع له العصا، فرعف وهو يتكلم على المنبر، فألقى إليه رجل عمامة مسح بها، فقال رجل من خثعم: دم على المنبر في عمامة، فتنة عمت وعلا ذكرها، ورب الكعبة.
ثم خرج عمرو بن سعيد إلى مكة، فقدمها قبيل التروية بيوم، وخرج الحسين - رضي الله تعالى عنه - فقيل لعمرو: خرج الحسين، فقال: اركبوا كُل بعير بين السماء والأرض في طلبه، قال: وكان الناس يتعجبون من قوله، فطلبوه فلم يدركوه، فكانت الفتنة المشهورة. انتهى. ذكر ذلك في ذكر العيافة والزجر والطيرة.
وأحضر نفراً من شيعة ابن الزبير بالمدينة، فضربهم من الأربعين إلى الخمسين إلى الستين، منهم المنذر بن الزبير، وابنه محمد، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، ومحمد بن عمار بن ياسر، وغيرهم.
ثم جهز البعوث إلى مكة سبعمائة ونحوها، وقال لعمرو بن الزبير: من نبعث إلى أخيك؟ فقال: لا تجد رجلا أبلى له مني، فجهز معه سبعمائة مقاتل.
وعذل مروان بن الحكم عمرو بن سعيد بن العاص في غزو مكة، وقال له: اتق الله، ولا تحل حرمه، فقال: والله لنغزونه في جوف الكعبة.
وجاء أبو شريح الخزاعي إلى عمرو بن سعيد فقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما أذن لي بالقتال فيها ساعة من نهار، ثم عادت كحرمتها بالأمس " ، قال له عمرو بن سعيد: نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ.
ويقال: إن الجيش كان عدته ألفَى مقاتل، وعلى مقدمته أنيس بن عمير الأسلمي، فلما قاربوا مكة، نزل أنيس بذي طوى، ونزل عمرو بالأبطح، وبعث إلى أخيه عبد اللّه أن بر يمين يزيد، فإنه حلف ألا يقبل بيعته إلا أن يؤتى به في جامعة؛ فلا تضرب الناس بعضهم ببعض؛ فإنك في بلد حرام.
فأرسل عبد اللّه بن الزبير من اجتمع معه من أهل مكة مع عبد اللّه بن صفوان بن أمية، فهزموا أنيساً بني طوى، وقتل أنيس في الهزيمة، وتخلف عن عمرو بن الزبير أصحابه، فدخل دار ابن علقمة وأجاره، وقال لأخيه عبد اللّه بن الزبير: قد أجرته، فأنكر ذلك عليه، وأجاز جواره، وقيل: إنه لم يجز جواره، وضربه بكل من ضربه عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة من جماعته، وحبسه بسجن عارم، ومات تحت السياط.
توجه الحسين بن علي إلى الكوفة واستشهاده بكربلاء
لما خرج الحسين من المدينة إلى مكة، لقيه عبد اللّه بن مطيع، وسأله: أين تريد؟ فقال: مكة، وأستخير اللّه فيما بعد، فنصحه ألا يقرب الكوفة، وذكره قتلهم أباه - وخذلانهم أخاه، وأن يقيم بمكة لا يفارق الحرم حتى يتداعى إليه الناس، ورجع عنه.
ونزل الحسين بمكة، فأقام الناس يختلفون إليه، وابن الزبير في جانب الكعبة يصلي ويطوف عامة النهار، ويأتي الحسين فيمن يأتيه؛ وعلم أن أهل الحجاز لا يلتفتون إليه مع الحسين.(2/73)
ولما بلغ أهل الكوفة بيعة يزيد، ولحاق الحسين بمكة، اجتمعت أهالي الكوفة والشيعة في منزل سليمان بن صُرَدَ الخزاعي، وكتبوا إليه؛ إنا حبسنا أنفسنا على بيعتك، ونحن نموت دونك، وإننا لم نبايع للنعمان بن بشير أمير الكوفة، ولا نجتمع معه في جمعة ولا عيد، ولو جئتنا أخرجناه، وبعثوا بالكتاب مع عبد اللّه بن سميع الهمداني، ثم كتبوا إليه ثانية بعد ليلتين نحو مائة وخمسين صحيفة، ثم ثالثة، يستحثونه للحاق بهم، فأجابهم الحسين: فهمت ما قصصتم، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، يكتب إلي بأمركم ورأيكم، فإن اجتمع ملؤكم على مثل ما قدمت به رسلكم، أقدم عليكم قريباً، ولعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق.
فسار مسلم ودخل المدينة، وصلى في المسجد النبوي، وودع أهله واستأجر دليلين من قيس، فضَلا الطريق، وعطش القوم، فمات الدليلان بعد أن أشارا إليهم بموضع الماء، وانتهوا إليه وشربوا ونجوا.
فتطير مسلم بذلك، وكتب إلى الحسين يستعفيه، فكتب إليه الحسين: إني خشيت ألاَ يكون حملك على ذلك إلا الجبن، فامض لوجهك، والسلام. فسار مسلم ودخل الكوفة أول ذي الحجة من سنة ستين، واختلفت إليه الشيعة، وقرأ عليهم كتاب الحسين، فبكوا ووعدوه بالنصر.
وعلم النعمان بن بشير أمير الكوفة بمكان مسلم، وكان حليماً يجنح إلى المسالمة، وكان على الكوفة حين مات معاوية، فلما بلغه خبر مسلم والحسين، قال: لاَبنُ بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من ابن بنت بَحدَل. فخطب وحذر الناس الفتنة وقال: لا أقاتل من لا يقاتِلُنِي، ولا آخذ بالظنة والتهمة، ولكن إن نكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فواللّه لأضربنكم بسيفي ما دام قائمه في يدي، ولو لم يكن لي ناصر. وقال له بعض حلفاء بني أمية: لا يصلح ما ترى إلا الغشم، وهذا الذي أنت عليه مع عدوك رأي المستضعفين، فقال: أكون من المستضعفين في طاعة اللّه أحب إلي من أن أكون من الأَعزينَ في معصية الله. ثم نزل عن المنبر.
فكتب عمارة بن الوليد، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، إلى يزيد بالخبر بضعف النعمان، وبقوله: لابن بنت رسول الله... إلخ، فابعث إلى الكوفة رجلا قوياً ينفذ أمرك، ويعمل عملك في عدوك، فأشار إلى يزيد سرجون الرومي كاتب أبيه بعبيد الله بن زياد، وكان منحرفاً عنه فقال له: إن أباك معاوية ولاه قبل موته، فكتب يزيد له بعهده على الكوفة مضافاً إلى البصرة، وبعث إليه مع مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة بن مسلم، وأمره بطلب مسلم بن عقيل وقتله أو نفيه.
وكان الحسين قد كتب إلى أشراف البصرة: الأحنف بن قيس، والمنذر بن الحارث، ومالكِ بن مسمع البكري، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وود وعمرو بن عبيد الله بن معمر يدعوهم إلى الكتاب والسنة وإماتة البدعة. وخشي المنذر أن يكون دسيساً من عبيد الله بن زياد، فأتاه بالرسول والكتاب من بين أصحابه، فقتل الرسول، ثم خطب الناس وأخبرهم بولايته الكوفة، واستخلافه أخاه عثمان بن زياد على البصرة، وتهددهم على الخلاف بالقتل، وأخذ الأدنى بالأقصى، والقريب بقريبه، ثم أَغَذ عبيد اللّه السير يسابق الحسين إلى الكوفة.
قال العلامة ابن خلدون: في خمسمائة، فتخلفوا عنه شيئاً فشيئاً.
وقال الحافظ الذهبي: في اثني عشر رجلاَ حتى دخل الكوفة وحده، ومر بالمجالس، فظنوه الحسين، فحيوا ورحبوا، وهو يسمع، وساءه ذلك، ثم انتهى إلى القصر في هجيج الناس يتبعونه، فأغلق النعمان الباب دونه يظنه الحسين، وقال: ما أنا بمسلم أمانتي إليك ولا أقاتلك، فدنا منه عبيد الله، وقال: افتح لا فتحت، فعرف صوته، وفتح له، وتفرق الناس.
ثم خطب لولايته ووعد بالإحسان للمحسن، والشدة على المريب والعاصي، وحذر من المخالفة، ثم أخذ العُرَفَاء بأن يكتبوا له الغرباء والحرورية وأهل الريب، ويضمن كل واحد ما في عرافته، ومن وجد في عرافته أحد لم يعرفه صلبه على باب داره. ثم نزل عن المنبر.(2/74)
وسمع مسلم بن عقيل بذلك، فأتى منزل هانئ بن عروة، وكان الحسين أمره بالنزول عليه، فاستجار به، فآواه على كره لمكانه؛ خشية العاقبة، وأقامت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ. ودعا ابن زياد مولى له وأعطاه مالاَ ودسه عليهم؛ ليأتيه بعلمهم، فأتاه مسلم بن عوسجة الأسدي، وهو يصلي بالمسجد - وكان من كبار دعاتهم - فقال له: أنا من أهل الشام، وأردت لقاء هذا الرجل الذي يبايع للحسين، فاقبض هذا المال وأدخلني عليه أبايعه، وإلا فخذ أنت بيعتي قبل لقائه؛ فأخذ بيعته وبقي يختلف إليه.
ومرض هانئ بن عروة، فأتاه عبيد اللّه بن زياد يعوده، وحمل أصحاب هانئ على الفتك با بن زياد، فقال: ما أحب ذلك في بيتي، ثم مرض شريك بن الأعور، أو تمارض. فقيل لابن زياد: إن شريكاً شاك يقئ الدم، وكان قد شرب المغرة فجعل يقيئها، فجاء ابن زياد يعوده، وكان قد نزل على هانئ وكان شديد التشيع شهد صفين مع علي، فقال لمسلم بن عقيل: إذا قلت: اسقوني، فاخرج واقتله، ثم اقصد القصر، فلا حائل دونه، وإن برثت من وجعي، كفيتك أمر البصرة.
فلما جاء عبيد اللّه بن زياد إلى منزل هانئ جبن مسلم عن قتله، وبقي شريك ينبهه لذلك ويقول: اسقوني، اسقوني فأبطأ عليه، فقال: ويحكم اسقوني، ولو كانت فيه نفسي، فلا يجيب، حتى خرج ابن زياد ولم يصنع مسلم شيئاً، وكان من أشجع الناس ولكن أخذته كبوة، فاعتذر عن قتله بأن هانئاً يكره ذلك في بيته، وبأن علياً حدثَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان قيد الفتك.
ثم قضى شريك بعد ثلاث، وصلى عليه عبيد الله بن زياد، ثم علم بعد ذلك بشأنه، فحلف لا يحضر جنازة عراقي.
ثم إن المولى الذي دسه ابن زياد بالمال اختلف إليه مسلم بن عوسجة بعد موت شريك، فأدخله على مسلم بن عقيل، فأخذ بيعته وقبض ماله، وأقام يختلف إليهم ويخبر ابن زياد بأحوالهم حتى تبين جلية الأمر، وكان هانئ انقطع عن عبيد الله بن زياد بعذر المرض، فدعا ابن زياد محمد بن الأشعث، وأسماء بن خارجة، وعمرو ابن الحجاج، والزبيدي، وعذل هانئاً في انقطاعه عنه وأنه بلغه برؤه من المرض، وقال: القوه فمروه ألا ينقطع عني، فلقيه القوم ولاموه في ذلك ثم حلفوا عليه واستركبوه معهم، ودخلوا به على ابن زياد، وكان مكرمَاً له، فقال له ابن زياد: يا هانئ، ما هذه الأمور التي تربض في دارك للمسلمين وأمير المؤمنين؟! وأخبره بشأن مسلم بن عقيل، فأنكر، فدعا ابن زياد المولى الذي دَسَه عليهم، ورآه هانئ فسقط في يده، ثم قال: والله، ما دعوت الرجلَ ولا علمت بشيء من أمره، وصدقه الخبر عن مجيئه إلى داره، واستجارته به واستحيائه من رده، وقد كان من أمره ما بلغك، وأنا الآن أعطيك عهداً ورهينة حتى أخرجه من داري وأعود إليك، فقال له ابن زياد: والله لا تفارقني حتى تأتيني به، فقال: آتيك بضيفي تقتله.؟ واللّه لا فعلت. ثم قام إليه مسلم بن عمرو الباهلي، ولم يكن هنالك أعز منه، فاستأذن ابن زياد ودخلا ناحية، ونصحه أن يأتي به؛ فإنه ابن عمهم وليسوا قاتليه ولا ضاربيه، وليس عليك في ذلك منقصة، وإنما دفعته إلى السلطان، فأبى ولج. وسمعه ابن زياد، فاستدناه، وقال: لئن لم تأتني به، لأضربن عنقَك، قال هانئ: إذن واللّه تكثر البارقة.
ويقال إن هانئَاً لما رأى الرجل الذي كان عيناً، قال: أيها الأمير، أنت آمن وأهلك، فسِرْ حيث شئت، فأشار ابن زياد إلى مهران مولاه، وهو قائم على رأسه، فأخذ بضفيرتي هانئ، وأخذ ابن زياد القضيب من يد مهران، ولم يزل يضرب وجه هانئ حتى كسر أنفه، ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته، ثم أغلق عليه في بيت. وجاء أسماء بن خارجة منكراً لذلك؛ لأن هانئاً جاء في جواره، وأمر به ابن زياد يطرد عنه وحبس، وأظهر محمد بن الأشعث الرضا وجلس، وبلغ عمرو بن حجاج أن هانئاً قتل، فأقبل في مذحج وأحاطوا بقصر ابن زياد، وأمر ابن زياد القاضي شريحاً أن يعلمهم بحياة هانئ بعد أن أدخله عليه فرآه حَياً، فأخبرهم فانصرفوا.(2/75)
وجاء الخبر إلى مسلم بن عقيل، وكان قد بايعه ثمانية عشر ألفاً، وحوله في الدار أربعة آَلاف، فنادى فيهم، وركب نحو قصر عبيد اللّه بن زياد، وأحاط به وامتلأ المسجد والسوق من الناس إلى المساء، وضاق بعبيد اللّه بن زياد أمره، وليس معه في القصر إلا نحو خمسين رجلا من أهل بيته ومواليه، وتسلل إليه الأشراف، وأمر كثير بن الحارث أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج؛ فيخذل عنه الناس، وأمر ابن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، ويرفع راية أمان لمن حماه من الناس، وبعث بمثل ذلك القعقاع بن شور الذهلي، وشبيب بن ربعي التميمي، ومجاز بن أبي أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن الضبابي، وترك وجوه الناس عنده استئناساً بهم، وخرج أولئك النفر على الناس فافترقوا عن مسلم بن عقيل إلى أن بقي في المسجد في ثلاثين، فخرج واختفى عند عجوز من ذوي ابن الأشعث، وتعرف إليها فأخفته.
وخرج ابن زياد إلى المسجد قبل العتمة ونادى في الناس، فامتلأ المسجد، وأحضر الحصين بن تميم، وكان على الشرط أن يفتش الدور، وشعر ابن العجوز بمسلم بن عقيل عند أمه، فأتى عبد الرحمن بن محمد الأشعث، فأخبره وأخبر أباه، فأخبر ابن زياد، فقال: ائتني به الساعة، وبعث معه عمر بن عبيد اللّه السلمي في سبعين من قيس، فلما أتوا الدار، وسمع مسلم بن عقيل الأصوات، خرج بسيفه وما زال يحمل عليهم، وقطعت شفته العليا، وسقطت ثنيتاه، وألقوا عليه النار والقصب وهو يقاتل حتى أثخن وعجز عن القتال، فأمنه ابن الأشعث، وحمله على بغل وانتزعوا سيفه، فقال: هذا أول الغدر وبكَى، فعذله عمرو بن عبيد اللّه السلمي فقال: إنما أبكي على الحسين وآله.
قلت: خَيبَ اللّه أهل العراق الخونة الفجار، وأحلَهم الدرك الأسفل من النار.
ثم قال مسلم لابن الأشعث: عساك أن تبعث تخبر الحسين بحالي ليرجع بأهل بيته ولا يغتر بأهل الكوفة، ففعل ذلك ابن الأشعث، ولقيه الرسول بزبالة، وقد جاءه كتاب مسلم في الأول يخبره بمن بايعه ويستحثه على السير، فقال الحسين حين قرأ كتاب الأشعث: كُل ما قدر كائن، وعند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا.
ثم أدخل محمد بن الأشعث مسلم بن عقيل على ابن زياد، وأخبره بما أعطاه من الأمان، فقال: ما بعثناك لتؤمنه، واستسقى مسلم وهو بباب القصر، فجاءه عمارة بن عقبة بماء بارد، فلم يطق الشرب لما كان يسيل من دم فيه، فتركه ودخل على ابن زياد، فقال له: لتقتلن، فقال: دعني لأوصي. فالتفت إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص، فناجاه بأن يقضي عنه دينه، ويواري جثته، ويبعث إلى الحسين يرده. ثم حاوره وأساء بعضهما على بعض، ثم أصعد فوق القصر وضربَتْ عنقه، تولى ذلك بكير بن عمران لضربة أصابه مسلم بها في الجولة عند الدار.
وكان ابن الأشعث قد تشفع في هانئ بن عروة، فوعد باستبقائه، فلما قتل مسلم، أخرج إلى السوق فضربت عنقه، وبعث ابن زياد بالرأسين إلى يزيد، فكتب إليه يزيد يشكره ويأمره بالاحتراس ووضع المراصد، فإن الحسين قد سار إليك. ثم طلب ابن زياد المختار بن أبي عبيد، وعبيد اللّه بن الحارث بن نوفل، وكانا جاءا مع مسلم بن عقيل، فحبسهما.
ولما أراد الحسين المسير إلى الكوفة بكتاب مسلمٍ السابقِ وأهل العراق جاءه عمرو بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي وهو بمكة، فقال له: بلغني أنك تريد العراق، فأنا مشفق عليك، تأتي بلداً فيه العمال والأمراء وبيوتُ الأموال، والناس عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك، فجزاه الحسين خيرَاً، وقال: لا بدَّ لي من ذلك، وأتاه ابن عباس بمثل ذلك فعصاهما. ثم ألم عليه ابن عباس وأشار عليه بالخروج إلى اليمن، فقال له الحسين: يا بن عمي، لا أنقض عزمي، قال: فإذ قد عصيتني، فلا تسر بنسائك ولا صبيانك؛ فإني أخاف أن تقتل وهم ينظرون كما قتل عثمان، ولقد أقررت عين ابن الزبير بخروجك من الحجاز؛ ثم التفت إلى ابن الزبير، فإذا هو في جماعة من قريش قد استعلاهم بالكلام، فجاء حتى ضرب بيده بين عضديه، فقال: أصبحت واللّه كما قال فأنشده: من الرجز:
يَا لَكِ من قُنبُرَةٍ بِمَعمَرِ ... خَلاَ لَكِ الجَو فَبِيضِي وَاصفِرِي
وَنَقرِي مَا شِئتِ أَن تُنَقرِي ... قَد رُفِعَ الفَخُّ فَمَاذَا تَنظُرِي(2/76)
خلا الحجاز من الحسين بن علي، وأقبلت تهدر في جوانبها، فغضب ابن الزبير، وقال: والله، إنك لترى أنك أحق بهذا الأمر من غيرك، فقال ابن عباس: إنما يرى ذلك من كان في حال مثلك، وأنا من ذلك على يقين، فقال ابن الزبير: وبأي شيء تحقق عندك أنك أَولَى بهذا الأمر مني. فقال ابن عباس: أنا أحق بمن تدلي بحقه، وبأي شيء تحقق عندك أنك أحق بهذا الأمر من سائر العرب إلا بنا؟ فقال ابن الزبير: تحقق عندي أني أحق بها منكم لشرفي عليكم قديماً وحديثاً، فقال ابن عباس: أنت أشرف أم مَن شَرُقتَ به؟ فقال ابن الزبير: إن من شرقت به زادني شرفاً إلى شرف قديم كان لي، قال: أفمني الزيادة أم منك؟ قال: بل منك، فتبسم ابن عباس، فقال ابن الزبير: يا بن عباس، دعني من لسانك هذا الذي تقلبه كيف شئت، والله لا تحبوننا يا بني هاشم أبداً، قال ابن عباس: صدقت؛ نحن أهل بيت مع الله - عز وجلَّ - لا نحب من أبغضه اللّه تعالى، فقال: ما ينبغي لك أن تصفح عن كلمة واحدة؟ فقال: إنما أصفح عمن أقر، وأما عمن هر فلا، والفضل لأهل الفضل، قال ابن الزبير: فأين الفضل؟ قال: عندنا أهل البيت، لا نَصرِفُهُ عن أهله؛ ولا نضعه في غير أهله، فنندم، قال ابن الزبير: فبظلم فلست من أهله، قال: بلى، إن نبذت الحسد، ولزمت الحدود، وانقضى حديثهم، وقام القوم فتفرقوا.
وكان خروج الحسين من مكة يوم التروية من سنة ستين، وسار مع أصحابه فلقي بالتنعيم عيراً مقبلة من اليمن عليها الورس والحلل، بعث بها بجير بن رومان عامل اليمن إلى يزيد فأخذها الحسين وأعطى أصحابه كراهم. ثم سار فرأى الفرزدق بالصفاح، فقال له: أخبرني عن الناس خلفك، فقال: القلوب معك - أو قلوبهم معك - وسيوفهم عليك مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، فقال الحسين: صدقت للّه الأمر يفعل ما يشاء، كل يوم هو في شأن.
ثم لحقه كتاب عبد الله بن جعفر مع ابنيه عون ومحمد يسأله باللّه في الانصراف والرجوع لا يهلك نفسه وأهل بيته، وإني في إثر كتابي. ثم جاءه كتاب عمرو بن سعيد بن العاص عامل يزيد على مكة مع أخيه يحيى بن سعيد بالأمان والترغيب، فلم يفعل، واعتذر بأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام يأمره بأمر، وهو ماض له.
ولما بلغ ابن زياد مسير الحسين من مَكة، بعث الحصين بن تميم التميمي صاحب شرطته، فنزل القادسية، ثم نظم الخيل ما بينه وبين خفان، وما بينه وبين القطقطانة إلى جبل لعلع، ولقي هنالك قيس بن مسهر الأسدي بكتاب الحسين من الحاجر إلى أهل الكوفة يعرفهم بقدومه، فبعث به الحصين إلى ابن زياد، فلما جاءه قال: اصعد القصر، فسب الحسين، فصعد وأدى رسالة أهل الكوفة وأنه فارقه بالحاجر ولعن ابن زياد وأباه واستغفر لعلي وبنيه، فأمر ابن زياد فرمى به من القصر فتقطع، وانتهى الحسين في مسيره إلى عبد اللَه بن مطيع، فعذله فيما جاء له، وناشده اللّه وحرمة الإسلام والعرب وبنات الرسول لا تأتي الكوفة فتقتلك بنو أمية، فأبى وسار، ولقيه خبر قتل مسلم بن عقيل بالثعلبية، فناشده اللّه أصحابه في الرجوع، فقال بنو عقيل: لا واللّه حتى نحرك ثأرنا، فقال الحسين: لا خير في العيش بعد هؤلاء.
ثم سار، فكان لا يمر بماء إلا اتبعه من عليه حتى انتهى إلى زبالة، فلقيه مقتل قيس بن مسهر الأسدي الذي ألقاه ابن زياد من أعلى القصر، فأعلم الناس الذين معه بذلك، وقال: قد خذلتنا شيعتنا، فمن أحب فلينصرف، وقصده أن يوطنهم على ما يقدمون، فافترقوا عنه ولم يبق معه إلا أصحابه الذين خرجوا معه من مكة، فسار إلى سرف، ثم سار منها إلى منتصف النهار، فلقيهم الحر بن يزيد التميمي، ولما رآه قال له بعض الناس معه: مل بنا إلى ذي جشم تجعله عن يسارك ونستقبل القوم من وجه واحد، ففعل، وسبقهم إلى الجبل فنزل، وجاء الحر في ألف فارس أرسله الحصين بن تميم من القادسية يستقبل الحسين، فقال الحسين: إني لم آتِ إلا بكتبكم ورسلكم، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من العهد أقدم مِصرَكُم؛ وإلا أرجع من حيث جئت، ثم حضرت الصلاة فصلى الحسين، وصلى الحر وأصحابه بصلاته.(2/77)
ثم استقبلهم وأنمى عليهم شأن الكتب وذم الولاة، فقال الحر: واللّه ما ندري ما هذه الكتب والرسل، فاستدعى بخرجين مملوءين صحفاً ونشرها، فقال الحر: لسنا من هؤلاء، وإنما أمرنا إذا لقيناك ألاَ نفارقك حتى نقدمك الكوفة على ابن زياد، فقال الحسين: الموت أدنى من ذلك، ثم أمر أصحابه فركبوا لينصرفوا، فمنعهم الحر، وطال بينهما الكلام، وقال الحر: لم أومر بقتالك، وإنما أمرت ألا أفارقك حتى أقدمك الكوفة فخذ طريقاً غير طريقها، وأكتبُ أنا إلى ابن زياد، واكتب أنت إليه وإلى يزيد، فعسى أن يأتي من الأمور ما يدفع عني أن أُبتلى بشيء من أمرك. فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وسار الحر معه، وهو يعظه ويذكره حقوق أهل البيت ووجوب طاعتهم، ويقدح له في ولاته وأمرائه بما كان معهم، ويذكُرُ له كتب أهل الكوفة ورسلهم، والحر يعظه، ويقول له: اتق الله في نفسك، فلئن قاتلت لتقتلن، فيقول: بالموت تخوفني؟! ويضرب الأمثال وينشد في الشجاعة.
فلما رآه الحر كذلك، عدل يسير عنه ناحية حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات - سمي بهجان ابن النعمان، كانت ترعى فيه - فإذا هو بأربعة فرسان دليلهم الطرماح بن عدي الطائي، وأجمح الحر حسهم فردهم، فقال الحسين: هم بمنزلة أصحابي وإلا ناجزتك، ثم أخبره بخبر الكوفة وقتل قيس بن مسهر، فبكى وقرأ: " فَمِنهُم مَّن قَضَى نَحبَه وَمنهُم مَن يَنتَظِر " " الأحزاب: 23 " ، ثم دعا لهم، وقال له الطرماح: ما أرى معك كثير أحد، ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين مع الحر، لكانوا أكثر من كفْئِكَ، فكيف بمن سار إليك من الكوفة، فلم تر عيناي جمعاً أكثر منهم، فأنشدك اللّه ألاَ تتقدم إليهم شبراً، وإن أردت، فسر معي، انزل جبلنا أجأ، فقد امتنعنا به واللّه من ملوك غسان وحمير والنعمان، ومن الأبيض والأحمر، وتجتمع إليك طيئ في عشرين ألفَاً لا يوصل إليك وفيهم عين تطرف، فجزاه خيراً، وقال: قد عاهدنا هؤلاء القوم الذين معنا، فلا بد من الوفاء لهم، فودعه الطرماح وانصرف.
فسار الحسين ومَرَ بقصر بني مقاتل، فرأى فسطاطاً لعبيد الله بن الحر الجعفي، فاستدعاه فقال: واللّه ما خرجت من الكوفة إلا فرارَاً من الحسين، فركب الحسينُ وجاءه ودعاه إلى النصرة، أو أن يكون ممن يكف، فأجابه إلى هذه.
ثم ركبوا من الغد، وأراد أن يفارق الحر، فمنعه؛ وإذا بكتاب من ابن زياد إلى الحر يأمره أن يجعجع بالحسين حتى يجيء كتابه ورسوله ولا ينزله إلا بالعراء في غير حصن ولا ماء، وقد أمرت الرسول أن يلزمك حتى يأتيني بإنفاذك أمري، فقرأ الحر الكتاب، وأعلم الحسين وأصحابه بما فيه فقالوا: دعنا ننزل في الغاضرية، فقال: لا أستطيع، وهذا الرجل قد بعث عيناً علي، فقال زهير بن القين، وكان صحبه من مكة: تعال نحاجز هؤلاء، فهم أهون علينا ممن يأتينا بعدهم، فقال: ما كنت لأبدأهم بالقتال، وذلك لليلتين من المحرم سنة إحدى وستين.
فلما كان الغد، قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف، وكان ابن زياد جهزه إلى حرب الديلم، وكتب له عهده على الري، فلما كان أمر الحسين، دعاه أن يقدم حربه، ثم يرجع إلى عمله، فاستعفاه، فقال: نعم، على أن ترد ولاية الري، فقال: أمهلني، واستشار أصحابه فكلهم نهاه، غير ابن أخته حمزة ابن المغيرة بن شعبة، وقال له: تفتدي من دم الحسين بسلطان الأرض لو كان لك، ثم غدا على ابن زياد واستعفاه ثانية، فقال له مثل الأول، قال: فإني سائر، وأقبل في الجيوش حتى نزل بالحسين، وبعث إليه يسأله ما جاء به. فقال: كُتُبُ أهل الكوفة، فأما إذ كرهوني، فأنا أنصرف عنهم، فكتب بذلك إلى ابن زياد، فكتب إليه أن يعرض على الحسين البيعة أو يمنعه ومن معه من الماء، فأرسل عمرو بن الحجاج إلى الشريعة، ومنعوهم الماء، واشتد عليهم العطش، فركبوا إلى الماء، وقاتلوا عليه، وملئوا قربهم، ثم بعث الحسين إلى عمر في اللقاء، فلقيه ليلا، وتحادثا طويلا وافترقا.(2/78)
وكان فيما قال له الحسين: دعوني أرجع إلى المكان الذي جئت منه، أو أذهب في الأرض العريضة حتى يستقيم أمر الناس. وكتب عمر بذلك إلى عبيد الله بن زياد يبشره بأن اللّه أطفأ النائرة وجمع الكلمة، فقبل ابن زياد ذلك، وقام إليه شمر بن ذي الجوشن منكراً لذلك، وقال: تقبل ذلك منه، وقد نزل بأرضك؟! ولئن رحل ولم تضع يدك في يده، ليكونن أعز، وتكون أعجز، ولكن لينزل على حكمك.
وقد بلغني أن الحسين وعمر باتا يتحادثان عامة ليلتهما بين العسكرين، فقال ابن زياد: نِعمَ ما رأيت، اخرج إليه أنت بهذا الكتاب؛ ليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، ويبعث بهم سلماً، وإن امتنعوا، فليقاتلهم، وإن أبى عمر من ذلك، فأنت الأمير، وابعث إلي برأسه، وكتب إلى عمر بذلك وعنفه على المطاولة والشفاعة، وأن يفعل ما أمره به، وإلا فليعتزل العسكر، ويخلي بين شمر وبينه، وكتب معه أماناً لبني علي بن أبي طالب من أم البنين بنت حذام، وهم العباس وعبيد اللّه وجعفر وعثمان، سأله الأمان لهم عبد الله ابن خالهم أبي المحل بن حرام، وكان حاضراً عند ابن زياد، فردوا أمانه، وقالوا: لا حاجة لنا فيه.
ولما أتى شمر إلى عمر، قال له: يا شمر، أظنك أنت تثنيه عما كتبت به إليه، وأفسدت علينا أموراً أرجو أن تصلح، والحسين والله لا يستسلم أبداً. ونهض إليه عشية تاسوعاء، فركب العباس أخو الحسين في عشرين فارساً وتلقاهم، فأخبروه بما جاء به من أمر ابن زياد، فجاء به إلى الحسين، فقال: ارجع إليهم، ووخرهم إلى الغداة، لنستكثر من الصلاة والدعاء والاستغفار، فوعدهم الحسين إلى الغداة: فإما رضينا، وإلا رعدناه.
فشاور عمر أصحابه، فأشار بعضهم بإمهاله، وهو عمرو بن الحجاج الزبيدي. فقال: واللّه لو كان من الديلم، لوجب إمهاله. وأشار قيس بن الأشعث بالمناجزة، وقال: ليصبحنك بالقتال، فرجع عمر، وجمع الحسين أصحابه، واستشارهم وجزاهم خيرَاً، وأذن لهم في الانطلاق، وقال: هذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملا، وافترقوا في البلاد، والقوم إذا أصابوني، لَهُوا عن غيري، فأبوا فقال: يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، واذهبوا فقد أذنت لكم، قالوا: ما تقول الناس؟ والله، لا نفعل، ولنقاتلن معك حتى نرد موردك، وقام إليه بعض أصحابه من غير عشيرته، فقال: كيف نتخلى عنك، ولم نعذر إلى اللّه في حقك، والله لا أفارقك حتى أكسر رمحي وسيفي وأقذفهم بالحجارة دونك حتى أموت.
وتكلم أصحابه بمثل ذلك فجزاهم خيرَاً، وسمعن أخواته بذلك فطفقن يعولن ويلطمن، حتى غشي على بعضهن، فجاء إليهن وعزاهن برسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومَن سلف من قومه وعاهَدنَ ألا يكثرن الصراخ عليه، ولا يشقفنَ الجيوب، ولا يخمشن الوجوه، ولا يدعين بالويل والثبور.
ثم أمر أن تدخل أطناب البيوت بعضها في بعض؛ ليستقبلوا العدو من أمامهم، ثم قاموا يصلون ويدعون ويستغفرون حتى أصبح، وذلك يوم عاشوراء.
وركب عمر بن سعد في التعبئة، وعبأ الحسين أصحابه اثنين وثلاثين فارساً وأربعين راجلا، وأعطى رايته أخاه العباس، وضرب للحسين فسطاط أمام أخبيته، فدخل فيه، واستعمل النورة، ثم أميث له المسك في جفنة، وأطلى به، ثم ركب ووضع المصحف أمامه، وقاتل أصحابه بين يديه وهو يدعو.
ثم تقدم على راحلته ونادى الناس، ووعظ وذكر بحقوقه، وقال: إن كذبتموني، فعندكم من يخبركم، سلوا جابر بن عبد الله وأبا سعيد وأنساً وسُهَيل بن سعد وزيد ابن أرقم يخبروكم بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقنا أهل البيت، أما في هذا حاجز يحجزكم عن دمي؟! تطلبوني بمالٍ أو دمٍ أو قصاصٍ؟! فلم يجيبوه. فنادى: يا شبيب بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا زيد بن الحارث، ألم تكتبوا إِلي بالقدوم؟ قالوا: لا، قال: بلى، قد فعلتم، فدعوني أنصرف إلى مأمني من الأرض، فقال له قيس: أفلا تنزل على حكم ابن زياد، وهو ابن عمك؟! قال: لا، والله لا أعطي يدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبد، عباد الله، إني عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربي وربكم من كل متكبرِ لا يؤمن بيوم الحساب.(2/79)
ثم أناخ راحلته، ونزل عنها وخرج زهير بن القين، وهو شاكي السلاح، وكان صحب الحسين من مكة، فوقف بين العسكر، ووعظ أهل الكوفة، ونصحهم ودعاهم إلى نصرة ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذلان ابن زياد، وأفحش في ذم عبيد اللّه وأبيه، وقال: يقتلانكم ويقطعانكم ويسملانكم ويقتلان أماثلكم، اذكروا حجر بن عدي، وهانئ بن عروة. فشتموه وأثنوا على ابن زياد، وقالوا: لا نبرح حتى نقتلكم أو نأسركم، فقال لهم: أعيذكم بالله أن تقتلوا ابن فاطمة، خلوا بينه وبين ابن معاوية؛ فإن يزيد يرضي منكم بدون هذا، ثم رماه شمر وشتمه، فتشاتما ساعة، ثم رده الحسين فرجع.
ولما زحف عمر بن سعد نحو الحسين، قال له الحر بن يزيد الذي كان جاء ليلازم الحسين: أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: نعم، قال: ولا تقبلون منه واحدة من الخصال التي عرض عليكم؟ فقال عمر: لو كان الأمر إلي، لفعلتُ، ولكن أميرنا أبى ذلك. ثم أقبل يدنو نحو الحسين حتى استراب به أصحابه، ولحق به، وقال: يا بن رسول اللّه، أنا صاحبك الحر الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، وواللّه لو ظننت أنهم لا يقبلون منك واحدة مما عرضت عليهم، أو يبلغون بك هذه المنزلة، ما فعلت الذي فعلت، وقد جئتك تائبَاً أموت دونك، أفتراها لي توبة؟ قال: نعم، يتوب الله عليك ويغفر لك. ثم انعطف إلى أصحابه وقال: ألا تقبلون من الحسين واحدة مما عرض عليكم؛ فيعافيكم اللّه من حربه وقتاله؟ فقال له عمر: قد حرصت على ذلك، وما وجدت إليه سبيلاَ، ثم نادى أهل الكوفة ووبخهم على أن دعوه وأسلموه، ثم منعوه من التوجه في بلاد اللّه العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته، فأصبح كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ومنعوه وأصحابه ماء الفرات يشربه اليهودي والنصرانيُ والمجوسيُ، وتمرغ فيه كلاب السواد وخنازيرهم وهو وأهله صرعى من العطش. بئسما خلفتم محمداً في ذريته، ودعا عليهم، فرموه بالنبل فرجع.
ثم تقدم عمر بن سعد برايته، ورمى بسهم، وقال: اشهدوا أنا أول رامٍ، وتبارز الناس، وقتل في البراز يسار مولى زياد، وسالم مولى عبيد الله بن زياد، قتلهما عبد الله بن عمير الكلبي، وكان قد لحق بالحسين من الكوفة ومعه امرأته، ثم حمل عمرو بن الحجاج على الحسين وأصحابه، فجثوا على الركب وأشرعوا نحوه الرماح، فلم يقدموا، وذهبوا ليرجعوا فأصابوهم بالنبل، فصرعوا منهم رجالا، وخرج يزيد بن حصين - من أصحاب الحسين - يبارز يزيد بن معقل، فبارزه فقتله آخر دونه.
وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري فقاتل وقتل، وقاتل الحر بن يزيد مع الحسين قتالاَ شديداً، وقتل من أصحاب عمرو، وصاح عمرو بن الحجاج بالناس يقاتلون فرسان المصر مستميتين، وهم قليلون وقل ما يبقون ولو رميتموهم بالحجارة لقتلتموهم، ووافقه عمر، فمنع الناس من المبارزة، ثم حمل عمرو بن الحجاج على جانب الحسين، واقتتلوا ساعة، وقتل مسلم بن عوسجة الأسدي، وانصرف عمرو ومسلم صريع، فجاء إليه الحسين ودعا له، ودنا منه حبيب بن مظاهر، واستوصاه، وقال: أوصي إليك بهذا أن تموت دونه وأشار إلى الحسين، فقال: أفعل، ثم قضى مسلم، وصاحَتْ جاريته، وسمعها شمر بن ربعي، وقد سمع أصحابه يقولون: قتلنا مسلم بن عوسجة، فنكر قتله وتسخط، وقال: أتفرحون لمثل مسلم؟! وعدد مواقفه، ثم حمل في الميسرة فثبتوا، ثم حملوا على الحسين وأصحابه من كل جانب وهم يكرهون ولا يحملون على جانب من خيل الكوفة إلا كشفوا.
وبعث عروة بن قيس وهو على خيل الكوفة إلى عمر بن سعد أن ابعث إلينا الرجال والرماة، فقال لشبيب بن ربعي: تقدم، فقال: مثلي لا يبعث في الرماة، وكان يكره ذلك القتال كله، فقال للحصين بن تميم: تقدم، فرشقوا الحسين وأصحابه بالنبل فعقروا خيولهم وأرجلوهم، وقاتل الحر بن يزيد أشد قتال إلى أن انتصف النهار، ولا يقدرون يأتونهم إلا من وجه واحد لاجتماع مضاربهم، فبعث عمر من يقوض تلك الأبنية.
وكان أصحاب الحسين يتخللون الأبنية فيقتلون الرجل يعرض أو ينهب، فأمر عمر بن سعد فأضرمت نار، ومنعت العدو من الجواز من جانبها، وبلغ شمر فسطاط الحسين ليحرقه بالنار، فصاح به الحسين والنساء، وجاء شبيب بن ربعي فزجره عن ذلك فرجع، واتبعه زهير بن القين في عشرة فكشفهم عن البيوت، وقتلوا من أصحاب شمر أبا عوزة الضبابي، وعطف عليهم فأصاب منهم.(2/80)
ثم حضر وقت الصلاة، وذكر أبو ثمامة الأنصاري بالصلاة، فقال الحسين: الإمهال لنصلي، ووقع الكلام في ذلك بين الحصين بن زيد من أهل الكوفة وحبيب ابن مظاهر من أصحاب الحسين. وقتل الحبيب رجل من بني تميم، وقتله الحصين. ولما قتل حبيب هد ذلك من الحسين، ثم حمل الحر بن يزيد، فقاتل حتى قتل، ثم صلى الحسين الظهر صلاة الخوف، ثم اشتد القتال بعد الصلاة، وخلصوا إلى الحسين، فاستقدم الحنفي أمامه، واستهدف لهم فرموه حتى سقط، وقاتل زهير بن القين حتى قتل، وأسر يافع بن هلال الجملي بعد أن قتل اثني عشر منهم، وقتله شمر، فتنافر أصحاب الحسين أن يقتلوا بين يَدَيهِ، فقتل منهم جماعة، ثم رموا بالحجارة من كل جانب، واستأذنه الضحاك بن عبد اللّه في الانصراف والنجاة، فأذن له وانصرف.
ثم خلص القوم إلى أهل البيت، فقتل علي الأكبر بن الحسين بعد أن حمل عليهم مراراً، فطعنه مرة بن منقذ فصرع، فجاء الحسين فحمله حتى وضعه بين يَدَي فسطاطه، ثم رمى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فقتل، ثم حمل آَخر على عون ابن عبد الله بن جعفر فقتل، ثم على عبد الرحمن بن عقيل فقتل، ثم على جعفر بن عقيل فقتل، ثم على القاسم بن الحسين فقتل، وجالوا عنده جولة وطئته فيها الخيل، ثم انجلت الغبرة والحسين قائم على فرسه وهو يفحص برجَليهِ، ثم احتمله فألقاه مع ابنه علي وقتلى أهل بيته.
ومكث الحسين طويلا من النهار والناس يتحاشَونَ قتله، ثم جاء مالك بن النسير من كندة، فضربه على رأسه بالسيف فأعماه، ودعا الحسين بابنه عبد الله وهو مُتَحَير فأجلسه في حجره، فرمى بسهم ذبحه، ثم رمى أبو بكر بن الحسين بسهم فقتل، ثم تقدم العباس بن علي وأخوته من أمه فقتلوا جميعاً، واشتد عطش الحسين، فجاء ليشرب من الفرات، فرمى حصين بن تميم بسهم في فمه فجعل يتلقى الدم ويدعو، ثم أقبل شمر بن ذي الجوشن في عشرة من رجالته، فحالوا بين الحسين وبين أهله، فقال: امنعوا أهلي ورحلي من طغامكم، فقال: ذلك لك، ثم حمل عليهم وحملوا عليه وأحاطوا به من يمينه وشماله.
وخرجت زينب تنادي فلقيت عمر بن سعد، فقالت: يا عمر، يقتل أبو عبد الله، وأنت تنظر؟ فبكى وزوى عنها وجهه، ثم نادى شمر: ماذا تنتظرون بالرجل؟ فحملوا عليه، وضرب زرعة بن شريك التميمي كتفه الأيسر وعلى عاتقه فأوهنه، ثم طعنه سنان بن قيس النخعي بالرمح، وقال لخولى بن يزيد الأصبحي: جز رأسه، فأرعد، فنزل إليه سنان فأخذ رأسه ودفعه إلى خولى، وسلب ما كان عليه، فأخذ سراويله بحر بن كعب وقطيفته قيس بن الأشعث، وكانت من خز، وسيفه رجل من دارم، وانتهب الناس ثقله ومتاعه وإبله وسلبوا نساءه.
وانتهوا إلى علي بن الحسين وهو مريض، وأراد الشمر قتله فمنعه حميد بن مسلم، وجاء عمر بن سعد وقال: لا يدخلن بيت النبوة أحد، ولا يعرض لهذا الغلام المريض، وليرد عليهم متاعهم. ولم ينج من القوم إلا اثنان. ونادى عمر بن سعد في أصحابه: من ينتدب للحسين؛ فيوطئه فرسه، وكان ابن زياد أمره بذلك، فانتدب عشرة فداسوه حتى رضوا ظهره وصدره، وكان به ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة، وقتل من أصحابه اثنان وسبعون رجلا، ودفنهم أهل الغاضرة من بني أسد. وقتلوا من أصحاب عمر بن سعد مائة وثمانين رجلا، فصلى عليهم ودفنهم.
وبعث برأس الحسين ورءوس أصحابه إلى ابن زياد مع شمر، وقيس بن الأشعث، وعمرو بن الحجاج، وعروة بن قيس، وأحضرها بين يديه، وجعل ينكت بقضيبه بين ثنيتي الحسين، فقال له زيد بن الأرقم: ارفع قضيبك عنها، فلقد رأيت شفتَي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما، ثم بكى، فزجره ابن زياد فخرج مغضبَاً.
ثم ارتحل عمر بن سعد إلى الكوفة بعد مقتلهم بيومين، ومعه نساؤهم وصبيانهم وبناتهم وعلي بن الحسين مريض، ومروا بالحسين وأصحابه صرعى فأعولوا ولطموا.(2/81)
ولما أدخلوا على ابن زياد، قال عبيد الله: من هذه؟ يشير إلى زينب، فقيل له: هذه زينب بنت فاطمة، فكلمها وأجابته، وأبلغَت فأغضبته حتى قال لها: هذه شجاعة ولقد كان أبوك شجاعاً، فقالت: ما للمرأة والشجاعة؟ ثم قال لعلي بن الحسين: ما اسمك؟ فأخبره، فقال: ألم يقتل الله علياً؟! فقال: " وَمَا كَانَ لِنَفسٍ أن تَمُوتَ إلا بإذنِ اَلله " " آل عمران: 145 " ، فقال: أنت واللّه منهم، ثم قال: انظروا هل أنبت؟ فقيل له: نعم، فقال: اقتلوه، فقال: ومن يوكل بهذه النسوة؟! وتعلقت به زينب، وقالت: يا بن زياد، حسبك، أما رويت من دمائنا؟ ثم اعتنقته، وقالت: إن قتلته فاقتلني معه، وقال علي: يا بن زياد، إن كان بينك وبينهن قرابة، فابعث معهن من يصحبهن بصحبة الإسلام.
ثم خطب الناس وتعرض للحسين، وشتمه بعض شيعته، وأمر بقتله وصلبه، ثم أمر برأس الحسين، فطيف به في الكوفة، ثم بعث به وبرءوس أصحابه إلى يزيد مع عمرو بن ذي الجوشن، ويقال: مع زفر بن قيس، وبعث معهم بالنساء والصبيان محمولاتٍ على الأقتاب، والغل في عنق علي بن الحسين ورقبته، فدخل على يزيد زفر بن قيس، فقال: ما وراءك؟ قال: أبشر بفتح اللّه وبنصره، ورد علينا الحسين في ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، وسرنا إليهم وسألناهم أن ينزلوا على حكم الأمير عبيد اللّه أو القتال، فاختاروا القتال، فغدونا عليهم مع شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل ناحية حتى أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، وجعلوا يهربون إلى غير وزر، ويلوذون بالآكام والحفر؛ كما لاذ الحمام من صقر، فما كان إلا جزر جزور، أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسامهم مجردة وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتعفر عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم، قال: فدمعت عينا يزيد، وقال: كنت أرضى من طاعتك بدون قتل الحسين، لعن اللّه ابن سُمَيةَ، أما والله، لو أني صاحبه، لعفوتُ عنه، فرحم اللّه الحسين.
أقول: بل لعن الله ابن ميسون قبل ابن سمية وبعده إلى يوم يبعثون.
ويقال: إن آل الحسين لما وصلوا إلى الكوفة، حبسهم ابن زياد، وبعث إلى يزيد بالخبر، فأمره بإرسالهم إليه، فبعثهم مع نخفر بن ثعلبة وشمر، ومعهما الثقل والرأس، وأنهما لما وضعا الرأس بين يديه وحدثاه، سمعت حديثهما هند بنت عبد الله بن عامر، وكانت تحت يزيد، فتسفعت بثوبها وخرجت، فقالت: يا أمير المؤمنين، رأس الحسين بن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: نعم، فأعولي عليه، عجل عليه ابن زياد، فقتله، قتله اللّه، ثم دخل عليه الناس والرأس بين يديه، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام: من الطويل،
أبى قَوْمُنَا أَن ينصِفُونَا فَأَنْصَفَت ... قَوَاضِبُ في أَيْمَانِنَا تَقْطُرُ الدمَا
تفلقْنَ هَاماً من رِجَالٍ أَعزة ... علينا وَهُمْ كانوا أَعَق وَأَظْلَمَا
ويقال: إنه استشهد ببعض أبيات قصيدة عبد اللّه بن الزبعري التي قالها في يوم أحد التي مطلعها قوله: من الرمل،
يَا غُراَبَ البَينِ أسمعتَ فَقُل ... إنمَا تَنْطِقُ شيئاً قَدْ فُعِلْ
ومنها قوله:
لَيْتَ أَشْيَاخي بِبدرِ شَهِدُوا ... جَزع الخَزرَجِ مِنْ وقعِ الأَسَلْ(2/82)
وإنه نكت في ثغر الحسين بقضيبه؛ كما فعل ابن زياد، فقال له أبو برزة الأسلمي ما قال زيد بن أرقم لابن زياد، ثم قال يزيد: يا حسين، والله لو أْني صاحبك ما قتلتك، ثم قال: أتدرون من أين أتى الحسين؟. قال: أبي خير من أبيه، وأمي فاطمة خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير منه، فأما أمه وجده فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يعتقد غير هذا، وأما أبي وأبوه، فقد تحاجا عند اللّه، وما علم الناس أيهما حكم له؛ ولكنه أتى من قبل الفقه، ولم يقرأ: " قُلِ اللهمَّ مالِكَ اَلمُلكَ تُؤتيِ اَلملك مَن تشَاءُ " " آل عمران: 26 " . ثم أدخل نساء الحسين عليه والرأس بين يديه فجعلت فاطمة وسكينة بنتا الحسين تتطاولان تنظران إلى الرأس، ويزيد يتطاول يستر عنهما الرأس، فلما أبصرنه صحنَ، فصاح نساء يزيد وبنات معاوية، فقالت فاطمة: أبناتُ رسول اللّه سبايا يزيد، فقال: يابنة أخي، كنت لهذا أكره، قالت: والله ما ترك لنا من خُرص، قال: أما إني سأوصل إليكن ما هو أعظم مما أخذ منكن، ثم أخرجن وأدخلن دور يزيد، فلم تبق امرأة في بيتهن إلا أتتهن وأقمْنَ المأتم، وسأل عما أخذ منهنَّ فأضعفه لهن. وكانت سكينة تقول: ما رأيت عدواً خيراً من يزيد بن معاوية.
ثم أدخل علي بن الحسين مغلولاً فقال: يا يزيد لو رآني رسول اللّه مغلولاً لفكني قال: صدقت، وأمر بفكه عنه، فقال: لو رآنا رسول اللّه على بعد لقربنا، فأمر به فقرب منه، وقال له: يا علي،. أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطْاني، فصنع اللّه به ما رأيته. فقال علي: " مَا أَصَابَ مِن مُصِيبة في اَلأرضِ ولا في أَنفُسِكُم إِلا في كتاب.. " " الآية الحديد: 22 " ، وقال يزيد: " وما أصابكم مِّن مُّصِيبةِ فَبِمَا كسبَت أيدِيكم " " الشورى: 30 " ، ثم سكت عنه وأمر بإنزاله وإنزال نسائه في دار جده، ثم لم يزل يذم من ابن زياد فعله في الحسين، ويقول: لعن اللّه ابن مرجانة، سأله أن يضع يده في يدي، أو يلحق بثغر حتى يتوفاه الله، فلم يجبه إلى ذلك، وقتله، وبغَّضني إلى المسلمين، وزرع العداوة لي عند البر والفاجر، مالي ولابن مرجانة، لعنه الله وغضب عليه.
ثم أمر النعمان بن بشير أن يجهزهم بما يصلحهم وبعث معهم إلى المدينة رجلاً من أهل الشام في خيل تسير معهم، ودعا علياً ليودعه، وقال له: لعن اللّه ابن مرجانة، واللّه لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة أبداً إلا أعطيته إياها، ولدفعت عنه الحيف بما استطعت، ولو بهلاك ولدي، ولكن قضى الله ما رأيت، فكاتبني بأية حاجة تكون لك، وأوصى بهم ذلك الرسول، فخرج بهم، فكان يسايرهم ليلاً من ورائهم بحيث لا يفوتون نظره عن حوائجهم، حتى دخلوا المدينة، فقالت فاطمة لأختها زينب: لقد أحسن إلينا هذا الرجل، فهل لك أن نصله بشيء؟. فقالت: ما معنا إلا حلينا، فأخرجتا سوارين ودملجين لهما، فبعثتا بذلك إليه واعتذرتا، فرد الجميع، وقال: لو كان الذي صنعته للدنيا، لكان في هذا ما يرضيني؛ وإنما صنعته للّه، ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان ابن زياد بعث إلى المدينة بخبر الحسين، وبها عمرو بن سعيد، فأعلم الناس وبكى نساء بني هاشم، فلما سمع عمرو أصواتهن، قال: ناعية بناعية عثمان، وفي الذهبي: قال يزيد اليزدي: حدثني من شافه الحسين بن علي، قال: رأيت أبنية مضروبة في الفلاة للحسين، فأتيته، فإذا شيخ يقرأ القرآن والدموعُ تسيل على خديه، فقلت: بأبي أنت وأمي، يا بن رسول اللّه، ما أنزلك هذه البلاد، والفلاة التي ليس بها أحد؟ ا فقال: هذه كتب أهل الكوفة إلي لأخرج، ولا أُرَاهُم إلا قاتلي، فإذا فعلوا ذلك، لم يدعوا لله حرمة إلا انتهكوها، فيسلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قرم الأمة؛ يعني: مقنعتها.
وروى الزبير بن بَكار، عن محمد بن حسن، قال: لما نزل عمر بن سعد بالحسين، وأيقن أنهم قاتلوه، قام في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: قد نزل بنا ما ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت حتى لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وإلا خسيس عيش كالمرعى الوبيل؛ ألا ترون الحق لا يعمل به، والباطل لا ينهَى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا ندماً.(2/83)
وقال خالد الحذاء، عن الجريري: إن الحسين لما أرهقه السلاح، قال: ألا تقبلون مني ما كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقبله من المشركين؟ قيل: وما كان يقبل منهم؟ قال: كان إذا جنح أحد منهم للسلم، قَبِلَ منه، قالوا: لا؛ قال: فدعوني أرجع، قالوا: لا، قال: فدعوني آتي أمير المؤمنين يزيد، فأضع يدي في يده، فقال له رجل: أبشر بالنار، فقال الحسين: بل إن شاء الله، برحمة ربي وشفاعة نبيي، فقاتل، فلما استحرَ القتل بأهله، فإنهم لا يزالون يقتلون واحداً بعد واحدِ، صاح الحسين: أما ذَاب يذبكم عن حريم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ فحينئذ خرج الحر بن يزيد بن الحارث الرياحي، فقاتل معه حتى قتل، وحمل الحسين بمفرده وقتل كثيراً من شجعانهم وهو يقول: من الطويل:
آَنا ابنُ عَلِي الخَيرِ مِن آلِ هَاشِمٍ ... كَفَانيَ هَذَا مَفخَراً حِينَ أَفْخَرُ
وَجَدي رَسُولُ الله أَكرَمُ مَن مشَى ... ونحنُ سِرَاجُ الله في الناسِ يُزْهِرُ
وفاطمَةٌ أُمي سُلاَلَةُ أَحمَدٍ ... وَعَمي يُدعَى ذا الجناحَيْنِ جَعفَرُ
وفِينَا كِتَابُ الله أُنزلَ صَادِقا ... وفينا الهُدَى والوَحيُ والخَيْرُ يُذكَرُ
وفي رواية: قيل: إنه لما جيء برأسه في طست، وضع بين يدي ابن زياد، فنكته بقضيبه وقال: من قتله؟ فقام رجل، قيل: هو الشمر بن ذي الجوشن، وقيل: سنان ابن أنس النخعي وكان قد طعن الحسين في ترقوته، ثم انتزع الرمح، فطعنه أخرى في ثواني صدره، فخر - رضي الله عنه - صريعاً، فقال لخولى بن يزيد: حز رأسه، فأرعدت يده، فنزل سنان فحز رأسه - لا رحمهم اللّه، ولا رضي عنهم: - كما تقدَم ذكر ذلك فقال: أنا. وأنشد: من الرجز:
أَوقِر رِكَابي فِضة وذهبا
إني قَتلتُ المَلِكَ المُحَجبَا
قَتلتُ خَيرَ الناسِ أُماً وأبَا
ومَن يُصَلي القبلتَينِ في الصبَا
وخَيرَهُم إذ ينسَبُونَ نَسَبَا
وذكر كيفية قتلهم بقوله: غدونا عليهم.. إلى آخر ما تقدم ذكره.
قال: فاسود وجهه في الحال، فغضب ابن زياد من قوله، وقال له: إذا علمت ذلك، فلم قتلته؟ والله، لا نلت مني خيراً، ولألحقنك به، ثم ضرب عنقه.
وقتل مع الحسين - رضي اللّه تعالى عنه - من أخوته وبنيه، وبني أخيه الحسن، ومن أولاد جعفر وعقيل تسعة عشرة نفراً، وقيل: أحد وعشرون.
قال الحسن البصري: ما كان على وجه الأرض يومئذ لهم شبيه، رضي اللّه عنهم.
وروى أبو معشر نجيح، عن بعض مشيخته؛ أن الحسين قال حين نزلوا كربلاء، ما اسمُ هذه الأرض؟ قالوا: كربلاء، قال: كرب وبلاء.
وروى شريك، عن مغيرة قال: قالت مرجانة لابنها عبيد الله: يا خبيث، قَتلتَ ابن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لا ترى الجنة أبداً.
قال المدائني: عن علي بن مدرك، عن جده قال: احمرت آفاق السماء بعد قتل الحسين ستة أشهر، يرى فيها كالدم، فحدثت بذلك شريحاً، فقال لي: ما أنت من الأسود؟ قلت: هو جدي أبو أمي، فقال: أما والله إن كان لصدقاً.
قلت: وما أشجَى قول أبي العلاء أحمد بن سليمان، الشهير بالمعري؛ فإنه أشار إلى هذا المعنى، فقال من قصيدة: من الخفيف
وَعَلَى الأفقِ من دِمَاءِ الشهِيد ي ... ن عَلِي وَنجلِهِ شَاهِدَان
فَهُمَا في أَوَاخِرِ الليلِ فَجَر ... انِ وَفي أُوليَاتِهِ شفَقَانِ
ثَبَتَا في قَمِيصِهِ لِيَجِيءَ ال ... حَشرَ مُستعدياً إِلَى الرَحْمَنِ
وكذا روى مثل ذلك سليمان بن حرب، عن حماد، عن ابن سيرين، قال لرجل: تعلم هذه الحمرة في الأفق مم هي؟. قال: لا، قال: من يوم قتل الحسين.
وقال جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن زياد، قال: قتل الحسين ولي أربع عَشرَةَ سنة، فلما قتل، صار الورس الذي في عسكرهم رماداً، وكان في قافلة من اليمن تريد العراق، فوافتهم حين قتله، واحمرت آفاق السماء، ونحروا ناقة في عسكرهم، وكانوا يرون في لحمها ناراً.
وقال حماد بن زيد: حدثني جميل بن مرة، قال: أصابوا إبلاً في عسكر الحسين يوم قتل، فنحروها وطبخوها، فصارت مثل العلقم.(2/84)
وقال قرة بن خالد: حدثنا أبو رجاء العطاردي قال: كان لنا جار من بلهُجَيْم، فقدم الكوفة، فقال: ما ترون هذا الفاعل ابن الفاعل، قتله اللّه؟ يعني: الحسين، رضي اللّه تعالى عنهما، قال أبو رجاء: فرماه اللّه بكوكبين من السماء، فطمسا عينيه، وأنا رأيته.
وقال معمر بن راشد: أول ما عرف الزهري تكلم في مجلس عبد الملك بن مروان، فقال له: تعلم ما فعلت حجار بيت المقدس يوم قتل الحسيِن؟! فقال الزهري: إنه لم يقَلب حجر فيه إلا وجد تحته دم عبيط.
قال جعفر بن سليمان: حدثتني أم سالم خالتي، قالت: لما قتل الحسين، مطرنا مطراً كالدم على البيوت والجدر.
وروى حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المنام نصف النهار أشعث أغبر، وبيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا؟. قال: هذا دَم الحسين وأصحابِهِ، ولم أزل منذ اليوم ألتقطه، فأحصي ذلك اليوم فوجدوه قتل يومئذ.
وقال حماد، عن عمار: سمعت أم سلمة تقول: سمعتُ الجن تبكي على الحسين وتنوح عليه.
وعن أبي جناب الكلبي قال: أتيتُ كربلاء، فقلت لرجل من أشراف العرب بها: بلغني أنكم تسمعون نوح الجن، فقال لي: ما تلقى أحداً إلا أخبرك أنه سمع ذلك، فقلت له: فأخبرني ما سمعت أنت؟ قال: سمعتهم يقولون: من مجزوء الكامل،
مَسَحَ الرَسُولُ جَبِينَه ... فَلَهُ بَريقٌ في الخُدُودٍ
أُبواهُ مِنْ علياً قُري ... شٍ جَدُهُ خَيْرُ الجدُودِ
رواه ثعلب في أماليه.
ولما دخل الرأس على يزيد، ووضع بين يديه، وأنشد البيتين المتقدم ذكرهما: منِ الطويل،
أبى قومُنَا أن ينصفُونَا...................
قال عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان بن الحكم: من الطويل،
لَهَام بجَنبِ الطفٌ أَوفى قَرَابَة ... مِنِ ابن زياد العَبد في النسَبِ الوغلُ
سُمية أمسَى نسلُهَا عدَدَ الحَصى ... وَبِنْتُ رَسُولِ اللّه لَيسَ لَهَا نسلُ
فضرب يزيد صدره، وقال: اسكت.
قال الحافظ الذهبي: روي عن أبي عبيدة، أن يونس بن حبيب حدثه قال: لما قتل الحسين وبنو أبيه، وبعث ابن زياد برءوسهم إلى يزيد، سر بقتلهم أولاً، ثم ندم ثانياً، فكان يقول: وما علي لو احتملت الأذى، وأنزلت الحسين مني، وحكمته فيما يريد، وإن كان في ذلك وهن في سلطاني؛ حفظاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورعاية لحقه وقرابته، لعن اللّه ابن مرجانة - يريد عبيد اللّه بن زياد - فإنه أخرجه واضطره، وقد كان سأله أن يخلي سبيله ويرجع من حيث أقبل، أو يأْتيني فيضع يده في يدي أو يلحق بثغر من الثغور، فأبى ذلك، ورده عليه، فأبغضني بقتله المسلمون.
قال المسعودي: كان قتل مسلم بن عقيل في اليوم الذي خرج فيه الحسين من مكة يوم التروية كما تقدم ذكره.
قال: لما قتل الحسين، وحمل رأسه إلى ابن زياد، خرجت بنت عقيل في نساء قومها حواسر حائرات؛ لما ورد عليهن من قتل السادات، وهي تقول شعراً: من البسيط،
مَاذَا تَقُولُونَ إن قَالَ النبِي لَكم ... ماذا فعلتم وأنتُم آخِرُ الأُمَمِ
بعترتي وَبِأهلي بعدَ مُفتَقَدي ... نصفْ أسارَى ونصف ضرجُوا بدَم
مَا كَانَ هَذَا جَزَائي إذ نَصحتُ لَكم ... أن تَخلُفوني بسُوء ِفي ذَوي رَحِمي
وقال المدائني، عن إبراهيم بن محمد، عن عمرو بن دينار: حدثني محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، قال: لما قتل الحسين ودخلنا الكوفة، لقينا رجل، فدخلنا منزله، فألحفنا فنمت، فلم أستيقظ إلا بحس الخيل في الأزقة، فحملنا إلى يزيد، فدمعت عيناه حين رآنا، وأعطانا ما شئنا، وقال: إنه سيكون في قومك أمر، فلا تدخل معهم في شيء، فلما كان من أهل المدينة ما كان، كتب مع مسلم بن عقبة المُري كتاباً فيه أماني، فلما فرغ مسلم من الحرة بعث إلي، فجئته وقد أيقنتُ بالموتِ، فكتبت وصيتي، فرمى إلي الكتاب، فإذا فيه: استوص بعلي بن الحسين خيراً، فإن دخل معهم في أمرهم فأمنهُ واعفُ عنه، وإن لم يكن معهم، فقد أصاب وأحسن.
وقال رزق اللّه بن عبد الوهاب الجبائي في الحسين - رضي اللّه عنه - شعراً: من الكامل،
رَأسُ ابنِ بنتِ محمدٍ ووصيه ... للمسلمينَ عَلَى قَنَاةٍ يُرْفَع(2/85)
والمُسْلِمُونَ بمنظرِ وبمسمَعِ ... لا جَازع فيهم ولا مُسْترجِعُ
أيقظتَ أجفاناً وكنت أنمتهَا ... وأنمتَ عيناً لم تَكن لك تَهجَعُ
مَا روضَة إلا تَمَنت أنها ... لَكَ تربة ولحظ قبركَ موضعُ
وقال أحمد بن عيسى الهاشمي معتذراً عن الكحل يوم عاشوراء: من مخلع البسيط،
لم أَكتَحِل في صَبَاحِ يوم ... أهرِقَ فيهِ دَم الحُسَينِ
إلا لحزنٍ وَذَاكَ أنى ... سودت حتى بَيَاضَ عَينِي
وقال بعضهم في مثل معناه شعراً: من مخلع البسيط،
وَلاَئِم لاَمَ في اكتِحَالِي ... يومَ أراقُوا دَمَ الحُسَين
قلتُ: دَعُوني أَحَق عُضو ... فِيهِ بِلبسِ السوادِ عَينِي
ومما قال أبو الحسين الجزار في ذلك شعراً: من الكامل
وَيَعُودُ عَاشُورَاءُ يُذكِرُنِي ... رُزءَ الحُسَينِ فَلَيتَ لَم يَعُدِ
يَا لَيتَ عَيناً فِيهِ قد كُحِلَت ... بمَرَاود لَم تَخلُ من رَمَدِ
يوم سبيلي حينَ أذكُرُه ... أَلا يدورَ الصبرُ في خَلَدِي
ويداً به لشماتةِ خُضِبَت ... مقطوعةٌ مِن زَندِهَا بِيَدِي
أما وَقَد قُتِلَ الحُسَينُ به ... فَأَبُو الحُسَينِ أحق بالكَمَدِ
مناقب الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه
هو الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، وريحانة النبي صلى الله عليه وسلم، ولد بالمدينة لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة على الصحيح، وقيل: ست، وقيل: سبع.
قال في الإصابة: وهذا القول الآخر ليس بشيء.
وكانت والدته البتول علقت به بعد أن ولدت أخاه الحسن بخمسين يوماً، وقيل: بطهر واحد.
ألقابه: الرشيد، والطيب، والرضي، والسيد، والزكي، والمبارك، والسبط، والتابع لمرضاة اللّه.
كان الحسين أشبه الخلق بالنبي صلى الله عليه وسلم من سرته إلى كعبه وروى أبو عمر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أبصرَتْ عيناي، وسمعَتْ أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو يقول له: تَرَق عينَ بقه. فرقى الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ثم قال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: افتح فاك، ثم قبله، ثم قال: اللهم، إني أحبه فأحبه.
روى خيثمة بن سليمان بن حيدرة - وقال أبو الحسن بن الهيثمي: رجاله كلهم ثقات - عن أبي هريرة - رضي اللّه عنه - قال: أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيدي، فانطلقنا إلى سوق بني قينقاع، فلما رجع دخل المسجد، فجلس، فقال: أين لُكَع؟ فجاء الحسين يمشي حتى سقط في حجره، فجعل أصابعه في لحية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ففتح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فمه وأدخل فاه في فيه، ثم قال: اللهم، إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه، قال أبو هريرة: فما رأيته قط إلا فاضت عيني دموعاً.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن يعلي العامري؛ أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام دعي إليه، فإذا حسين مع غلمان يلعبون في طريقه، فاستهوى رسول اللّه أم القوم ثم بسط يده، فطفق الصبي يفر هاهنا مرة، وهاهنا مرة، وجعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يضاحكه، ثم أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل إحدى يديه تحت ذقنه، والأخرى تحت قفاه، ثم أقام رأسه، فوضع فاه على فيه، وقال: " حسين مني، وأنا من حسين، رحم اللّه من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط " .
وروى ابن أبي عاصم، عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: لما قتل الحسين، وجيء برأسه إلى ابن زياد، فجعل ينكت بقضيب على ثناياه، وكان حسن الثغر، فقلت في نفسي: لأسوءنك؛ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل موضع قضيبك من ثنيته.
وروى عن أبي ظبيان قال: والله إن كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفرج رجليه، يعني: الحسين، ويقبل زبيبته.(2/86)
وروى ابن حبان، عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدلع لسانه للحسين، فيرى الصبي حمرة لسانه، فيهش إليه، فقال عيينة بن حصن بن بدر الفزاري: أراك تصنع هذا بهذا، فو الله ليكون لي الولد قد خرج وجهه وما قبلته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لا يرحم لا يرحم " رواه أبو عبيدة. وعنده: فإذا رأى الصبي حمرة لسانه، هش إليه.
وروى أبو الحسن بن الضحاك، عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعاب الحسين كما يمص الرجل التمرة.
وروى ابن حبان، وابن سعد، وأبو يعلى، وابن عساكر، عن جابر - رضي اللّه تعالى عنه - قال: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، وفي لفظ: إلى سيد شباب الجنة، فلينظر إلى الحسين بن علي، وإني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
وروى أبو القاسم البغوي، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: خلونا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل الحسين، فجعل ينزو على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى بطنه، فبال، فقمنا إليه، فقال - عليه الصلاة والسلام - : دعوه، ثم دعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بماء فصبه على ثوبه.
وروى سعيد بن منصور، والترمذي، وحسنه، عن يعلى بن مرة العامري - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسين مني، وأنا من حسين، أحب اللّه من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط " .
وروى الإمام أحمد، عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحسنُ والحسين سِبطانِ من الأسبَاطِ " .
وروى الطبراني في الكبير، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " من أحَب هذا - يعني الحسين - فقد أحبني " .
وروى الحاكم، عن أبي هريرة - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم، إِني أحبه فأحبه " يعني: الحسين.
وروى أبو القاسم البغوي بسنده، قال: خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة، فمر على باب فاطمة - رضي اللّه تعالى عنها - فسمع حسيناً يبكي، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " أما تعلمين أن بكاءه يؤذيني " .
وروى الطبراني في الكبير، وابن سعد، عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة، وأخبرني أن فيها مضجعه " .
وروى الإمام أحمد، عن ثابت، عن أنس - رضي اللّه تعالى عنه - قال: استأذن ملك المطر أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأذن له، فقال - عليه الصلاة والسلام لأم سلمة: " احفظي، علينا الباب لا يدخل أحد " ، فجاء الحسين فوثب حتى دخل، فجعل يصعد على منكب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال له ملك المطر: أتحبه؟. فقال - عليه الصلاة والسلام - نعم، قال: إن أمتك تقتله، وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه، قال: فضرب بيده، فأراه تراباً أحمر، فأخذت أم سلمة ذلك التراب، فصرته في طرف ثوبها،، قال: فكنا نسمع بقتله بكربلاء. ورواه البيهقي من حديث وهب بن ربيعة بن زياد، قال: أخبرتني أم سلمة - رضي اللّه تعالى عنها - أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اضطجَعَ ذات يوم، فاستيقظ وهو حائر، ثم اضطجع، فرقد، ثم استيقظ وهو حائر دون ما رأيتُ منه في المرة الأولى، ثم اضطجع فاستيقظ وفي يده تربة حمراء، وهو يقلبها، فقلت: ما هذه التربة، يا رسول اللّه؟! قال: " أخبرني جبريل؛ أن ابني هذا يقتل بأرض العراق، قال: فقلت: يا جبريل، أرني تربة الأرض، فقال: هذه تربتها " .
وروى البزار عن ابن عباس - رضي اللّه تعالى عنهما - قال: كان الحسين جالساً في حجره - عليه الصلاة والسلام - فقال له جبريل: أتحبه؟. فقال: كيف لا، وهو ثمرة فؤادي، فقال: إن أمتك ستقتله؛ ألا أريك موضع قبره؟! فقبض قبضة وإذا تربة حمراء.(2/87)
وروى الإمام أحمد، عن عبد الله بن نجي، عن أبيه، أنه سار مع أمير المؤمنين علي - كرم اللّه وجهه - فلما حازَى شط الفرات، قال: صبراً أبا عبد الله، قلت: ومما ذاك، يا أمير المؤمنين؟ قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعيناه تفيضان بالدمع، فقلت: مم ذلك يا رسول الله، صلى اللّه عليك؟ فقال: قام من عندي جبريل - عليه الصلاة والسلام - وأخبرني أن ابني الحسين يقتل بشط الفرات، وقال: هل لك أن أنعمك من تربته؟ فقلت: نعم، فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا.
وروى الإمام أحمد، عن أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدع أحدَاً يدخل، فجاء الحسين فمنعته، فبكى فخليته فدخل حتى قعد في حجره صلى الله عليه وسلم، فقال جبريل - عليه الصلاة والسلام - : إن أمتك ستقتله، فقال - عليه الصلاة والسلام - : تقتله، وهم مؤمنون؟ قال: نعم، وأراه من تربته. وفي رواية: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يا جبريلُ، أفلا أراجع ربي عز وجل. قال: لا؛ إنه أمر قد قضى وفُرغَ منه.
وروى الإمام أحمد، عن فاطمة - رضي الله عنها - أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: لقد دَخَلَ جبريل علي البيت، ولم يدخل علي قبلها، فقال: ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت، أريتك التربة التي يقتل بها، فأخرج تربة حمراء.
وروى البغوي، عن أنس بن الحارث - رضي اللّه عنه - قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " إن ابني هذا يقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك فلينصره " ، قال: فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء، فقتل مع الحسين، رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين.
وروى الملا، عن أم سلمة؛ أنها قالت: ناولني رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاً من تراب أحمر، وقال: إن هذا من تربة الأرض التي يقتل بها ابني - يعني: الحسين - فمتى صار دماً فاعلمي أنه قد قتل. قالت أم سلمة: فوضعته في قارورة، وكنت أقول: إن يوماً يتحول فيه دمَاً ليوم عظيم. وفي رواية: فأصبته يوم قتل الحسين، وقد صار دمَاً، قالت أم سلمة: فلما كانت ليلة قتل الحسين، سمعت قائلاَ يقول: من الخفيف:
أَيُّهَا القَاتِلُونَ جَهلا حُسَيناً ... أبشِرُوا بِالعَذَابِ وَالتَنْكِيلِ
قالت: فبكيت وفتحت القارورة، فإذا الحصيات قد خرجت دمَاً.
وأخرج ابن سعد قال: مر علي - رضي اللّه تعالى عنه - بكربلاء عند مسيره إلى صفين، وحاذى نينوى - اسم قرية على الفرات - فوقف وسأل عن اسم هذه الأرض، فقيل له: كربلاء، فبكى حتى بلت دموعه الأرض، ثم قال: هاهنا مناخ ركابهم، هاهنا مهراق دمائهم، فتية من آل محمد يقتلون بهذه العرصة، تبكي عليهم السموات والأرض.
ولما سير برأسه إلى يزيد، فنزلوا أول مرحلة، فجعلوا يشربون والرأس بين أيديهم، فبينما هم كذلك إذ خرجَت عليهم من الحائط يد معها قلم من حديد، فكتب سطراً بدم، وهو: من الوافر:
أَترجُو أُمة قَتَلَت حُسَيناً ... شَفَاعَةَ جَدهِ يَومَ الحسابِ؟!
فهربوا وتركوا الرأس. أخرجه منصور بن عمار.
وذكر غير واحد؛ أن هذا البيت وجد بحجر في دير راهب في كنيسة بأرض الروم، ولا يدري من كتبه، فسألوه، فقال: هذا مكتوب قبل مبعث نبيكم بثلاثمائة سنة.
وقد تقدم ذكر حمرة السماء.
قال ابن الجوزي: وحكمته أن غضبنا يؤثر حمرة الوجه، والحق تنزه عن الجسمية، فأظهر تأثر غضبه على من قتل الحسين بحمرة الأفق؛ إظهاراً لِعظَم الجناية.
قال: وإذا كان أنين العباس، وهو مأسور ببدر منع رسول الله صلى الله عليه وسلم النوم، فكيف بابنه الحسين، ولما أسلم وحشي قاتلُ حمزة، قال له: غيب وجهك عني؛ فإني لا أحب أن أرى من قتل الأحبة، والإسلام يجب ما قبله، فكيف بقلبه صلى الله عليه وسلم أن يرى من ذبح الحسين، وأمر بقتله، وحمل أهله على أقتاب الجمال سافرات الوجوه، ناشرات الشعور.
وأخرج أبو الشيخ أن جمعَاً يذكرون أنه ما من أحد أعان على قتل الحسين إلا أصابه بلاء قبل أن يموت.(2/88)
ونقل سبط ابن الجوزي عن السدي؛ أنه أضافه رجل بكربلاء، فتذاكروا هذا المعنى أي أنه ما من أحد أعان على قتل الحسين، أو شركهم في دمه بوجه، إلا مات أقبح ميتة، فكذب المضيف بذلك، وقال: إنه ممن حضر ولم يصبه شيء، فقام ليصلح السراج، فأخذته النار، فذهب ليطفئها بريقه، فالتهب فمه، فجعل ينادي: النارَ النارَ، وانغمس في الفرات، ومع ذلك دبت النار في جسده، فأحرقته، قال السدي: وأنا واللِّه، رأيته كالحممة.
وحكى سبطه، عن الواقدي؛ أن شيخاً حضر قتله فقط، فعمي، فسئل عن سببه؟ فقال: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم حاسراً عن ذراعه، وبيده السيف، وبين يديه نطع، ورأى عشرة من قاتلي الحسين مذبوحين بين يديه، ثم لعنه وسبه بتكثير سوادهم، ثم أكحله بمرود من دم الحسين، فأصبح أعمى.
وأخرج - أيضَاً - أن شخصاً منهم علق في لبب فرسه رأس العباس بن علي فرأى بعد أيام ووجهه أشد سوادَاً من القار، فقيل: إنك كنت أنضر العرب وجهاً، فقال: ما مرت علي ليلة مذ حملت ذلك الرأس إلا واثنان يأخذان بضبعي، ثم ينهضان إلى نار تؤجج، فيدفعاني فيها، وأنا أنكص فتسفعني كما ترى، ثم مات على أقبح حالة.
وذكر البارزي، عن المنصور؛ أنه رأى رجلا بالشام وجهه وجه خنزير، فسأله، فقال: إنه كان يلعن علياً كل يوم ألف مرة، وفي كل جمعة أربعة آلاف مرة وأولاده معه، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر منامَاً طويلا من جملته أن الحسن شكاه إليه، فلعنه ثم بصق في وجهه، فصار وجهه وجه خنزير، وصار آية للناس.
وروى البخاري في صحيحه، والترمذي، عن ابن عمرة أنه سأله رجل عن دم البعوض، أطاهر أم لا؟ فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، فقال ابن عمر: انظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة سبط ابن الجوزي في كتابه مرآة الزمان وغيره: المشهور أن يزيد لما وصل إليه الرأس الشريف، جمع أهل الشام، وجعل ينكت الرأس بالقضيب الخيزران، وتمثل بتلك الأبيات.
وقيل: بل ترحم على الحسين، وتنكر لابن زياد؛ لكنه قال: المشهور الأول.
وجمع بأنه أظهر الثاني، وأخفى الأول بقرينة أنه بالغ في رفعة ابن زياد حتى أدخله على نسائه، وبقرينة قوله البيتين السابق ذكرهما فيه، ثم قال: وليس العجب إلا من ضرب يزيد ثنايا الحسين بالقضيب وحمل آل النبي صلى الله عليه وسلم سبايا على أقتاب الجمال موثقين في الحبال، والنساء مكشفات الوجوه والرءوس. وذكر أشياء من قْبيح فعله.
قال: ويقال: إنه بعث بالرأس معهم إلى المدينة حين ردهم إليها.
وقيل: بل كان الرأس في خزانته؛ لأن سليمان بن عبد الملك رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يلاطفه ويبشره، فسأل الحسن البصري عن تعبير ذلك، فقال له: لعلك صنعت إلى آله معروفاً، قال سليمان: نعم، وجدت رأس الحسين في خزانة يزيد، فكسوته خمسة أثواب، وصليتُ عليه في جماعة من أصحابي وقبرته، فقال له الحسن البصري: إن ذلك سبب رضا النبي صلى الله عليه وسلم عليك، فأمر سليمان للحسن بجائزة حسنة.
قلت: رأيت في الذهبي ما نصه: قال عبد الصمد بن سعيد القاضي: حدثنا سليمان بن عبد الحميد البهراني، سمعت أبا أمية الكلاعي، سمعت أبا كريب، قال: كنتُ في القوم الذين توثبوا على الوليد بن يزيد، وكنت فيمن نهب خزانتهم بدمشق، فأخذت سفطاً، وقلت: فيه غنائي، فركبت فرسي وجعلته بين يدي، وخرجت من باب توما، ففتحته، فإذا بحريرة فيها قرطاس مكتوب عليه: هذا رأس الحسين بن علي، فحفرت له بسيفي، ودفنته، فاللّه أعلم أياً كان ذلك.
فلما فعل يزيد ما مر كان عنده إذ ذاك رسول قيصر، فقال متعجبَاً: إن عندنا في بعض الخزائن في دير حافر حمار عيسى، فنحن نحج إليه كل عام من الأقطار، وننذر النذور ونعظمه؛ كما تعظمون كعبتكم، وأنتم تفعلون هذا بابن بنت نبيكم، فأشهد أنكم على باطل.(2/89)
وقال آخر كان معه: بيني وبين داود سبعون أباً، وإن اليهود تعظمني وتحترمني، وأنتم تفعلون ما تفعلون في ابن نبيكم، قال: وكانت الحرس على الرأس الشريف، كلما نزلوا منزلا، رفعوه على رمح وحرسوه، فرآه راهب في دير، فسأل عنه، فعرفوه به، فقال: بئس القوم أنتم، لو كان للمسيح ولد، لأسكناه في أحداقنا، بئس القوم أنتم، هل لكُم في عشرة آلاف دينار، ويبيت الرأس عندي هذه الليلة. فقالوا: نعم، فأخذه وغسله وطَيبه ووضعه على فخذه، وقعد يبكي إلى الصبح؛ لأنه رأى نوراً ساطعاً من الرأس إلى السماء، ثم خرج عن الدير وما فيه وصار يخدم أهل البيت، فهنيئَاً له ثم هنيئاً.
وكان مع أولئك الحرس دنانير أخذوها من عسكر الحسين، ففتحوا أكياسها ليقتسموها، فرأوها خزفاً، وعلى أحد وجهي كل منها: " وَلا تحَسَبن اَللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعمَلُ اَلظالمُونَ " " إبراهيم: 42 " وعلى الآخر: " وَسَيَعلَمُ الذين ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلبِوُنَ " " الشعراء: 227 " .
قال أهل السير: لما سيق حريم الحسين إلى الكوفة كالأسارَى، بكى أهل الكوفة، فجعل زين العابدين بن علي بن الحسين يقول: إن هؤلاء يبكون من أجلنا، فمن ذا الذي قتلنا؟! وأخرج الحاكم من طرق متعددة أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: قال جبريل: قال الله تبارك وتعالى: إني قتلتُ بدمِ يحيى بن زكريا سبعينَ ألفاً، وإني قاتل بدم الحسين بن علي سبعين ألفاً وسبعين ألفاً وقتل هذه العدة بسببه لا يستلزم أنها بقدر عدة القاتلين له، فإنها فتنة أفضت إلى تعصبات ومقاتلات تفي بذلك.
ولاية الوليد بن عتبة على الحجاز، وعزل عمرو بن سعيد
ولما قتل الحسين، وبلغ خبره إلى مكة، قام ابن الزبير في الناس فخطبهم، وعظم قتل الحسين، وعاب من تولاه وأمر به، وترخم عليه، ولعن قاتله، وتعرض ليزيد بسماع الغناء والحداء وشرب الخمر وكلاب الصيد، وقد كان بويع سراً، وأظهر أنه عائذ بالبيت، فقال له أصحابه: أظهر بيعتك، فلم يبق بعد الحسين من ينازعك، فقال: لا تعجلوا. وبلغ يزيد الخبر بأمره، فحلف ليؤتين به إليه في جامعة مْصنع جامعة من فضة وبعث بها إليه؛ لتبر يمينه، فامتنع من رسله، ورجع يزيد، فأغراه بنو أمية بعمرو بن سعيد العامل بالحجاز، وقالوا: لو أراد لبعث به إليك؛ فعزله، وولى مكانه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فسار إلى الحجاز، ولحق عمرو بيزيد، وبين له مكايدة ابن الزبير، فعذره، وأقام الوليد يحاول غِرة ابن الزبير فيجده مستحذراً ممتنعَاً.
ثم كتب ابن الزبير إلى يزيد يعيبُ الوليد بأنه أخرق، لا يتجه لرشد، ولا يرعوي لعظة، فابعث رجلا سهل الخلق أرجو أن يسهل به من الأمور ما استوعر ويجمع به ما افترق، فعزل الوليد، وولي عثمان بن محمد بن أبي سفيان.
خلع أهل المدينة يزيد، ووقعة الحرة، وحصار مكة
لما ولي عثمان بن محمد بن أبي سفيان على أهل الحجاز سنة اثنتين وستين، بعث إلى يزيد وفداً من أهل المدينة، فيهم عبد الله بن حنظلة الغسيل، وعبد الله بن عمرو بن أبي حفص بن المغيرة، والمنذر بن الزبير، ورجال من أشراف أهل المدينة، فأكرمهم يزيد، وأجازهم بمائة ألف درهم لكل واحد منهم، واستأذنه المنذر في القدوم على ابن زياد في العراق، فأذن له، ورجع الوفد إلى المدينة، فقاموا بمعايب يزيد فقالوا: يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الخراب واللصوص، فنكر الناس شأنه، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على خلعه، وبلغ الخبر يزيد، فبعث إلى ابن زياد بحبس المنذر، وكان صديقاً له ولأبيه، فكره ذلك، وأذن له في الانصراف إلى بلده، فقدم المدينة، وعاب يزيد أعظم من الأولين، وحرض الناس عليه، فبعث يزيد النعمان بن بشير إلى المدينة لردهم عما كانوا فيه من الانتقاص، وأتاهم وخوفهم الفتنة، وقال: لا طاقة لكم بأهل الشام، وقال له عبد الله بن مطيع: يا نعمان، تفرق جماعتنا، وتفسد ما أصلح الله من أمرنا؟! فقال له النعمان: واللّه لكأني بك لو نزلَتْ بك الجموع، ودارت الحرب، ركبت بغلتك إلى مكة، وتركت هؤلاء المساكين - يعني الأنصار - يقتلون في مساكنهم، ومساجدهم، وعلى أبواب دورهم، فعصاه الناس، وانصرف إلى يزيد.(2/90)
فلما كان سنة ثلاث وستين وقد بايعوا لعبد اللّه بن الغسيل على خلع يزيد، وأخرجوا عثمان بن محمد بن أبي سفيان عامل يزيد عليهم، فاجتمع له بنو أمية ومواليهم في ألف رجل، وامتنعوا بدار مروان بن الحكم، وكتبوا إلى يزيد يستحثونه، فأمر عمرو بن سعيد أن يسير إليهم في الناس، فأبى، وقال: كنت قد ضبطت البلاد، والآن تهراق الدماء بالصعيد، فبعث إلى عبيد اللّه بن زياد بالمسير إلى المدينة، وحصار ابن الزبير بمكة، فأعظم غزو الكعبة مع ما كان منه من قتل الحسين، فأبى واعتذر، فبعث إلى مسلم بن عقبة المُري، وأخبره بخبر بني أمية، فقال: ما يكونون ألف رجل؟ قال الرسول: بلى، قال: فما استطاعوا القتال ساعة من نهار؟ هؤلاء أذلاء، دعوهم حتى يجهدوا في أنفسهم في جهاد عدوهم، فقال يزيد: ويحك، لا خير في العيش بعدهم؛ فاخرج بالناس، ويقال: إن معاوية أوصى يزيد إن حدث بك حدث من أهل المدينة، فارمهم بمسلم بن عقبة.
فتجهز مسلم، ونادى بالعطاء، ومعونة مائة دينار، فاجتمع له اثنا عشر ألفاً، فسار بهم إلى الحجاز، وقال له: ادع القوم ثلاثاً قبل القتال، وإذا ظهرت، فأبحها ثلاثاً بما فيها من مال ورثه وطعام وسلاح، فهو للجند، واكفف عنهم بعد الثلاث، وإن حدث بك حدث، فاستخلف الحصين بن نمير السكوني، واستوص بعلي بن الحسين خيرَاً، فقد أتاني كتابه، ولم يدخل مع الناس، وقد كان مروان بن الحكم لما أصاب بني أمية ما أصابهم رَغبَ إلى علي بن الحسين أن يكون حَرَمُهُ مع حَرَمِهِ، فأجابه وخرج بحرمه، وحرم مروان، ومنهم عائشة بنت عثمان إلى ينبع.
وقيل: بل بعثهم مع ابنه عبد اللّه إلى الطائف، ثم سار مسلم بالجيش، وبلغ أهل المدينة خبره، فاشتد حصارهم لبني أمية بدار مروان حتى أنزلوهم على أن يخرجوهم إلى الشام، ولا يظاهروا عليهم، ولا يدلوا على عوراتهم، وبعث أهل المدينة إلى الموارد بينهم وبين الشام، فألقوا فيها القطران، فأرسل اللّه السماء بالمطر، واستغنى العسكر عن الموارد، ولقي بني أمية مسلم بن عقبة بوادي القرى، فسأل عمرو بن عثمان بن عفان، واستشاره فقال: أخذوا علينا العهد ألا ندل على عورة، فقال: لولا أنك ابن عثمان، لضربت عنقك، ولا أقيل فيها قرشياً بعدك. ثم استدعى مروان بعد، فقال مروان لابنه عبد الملك: ادخل قبلي إليه يجتزئ بك، فدخل، فقال مسلم: هات ما عندك، قال: أرى أن تسير إلى أدنَى نخيلها، فإذا أصبحت، تركت المدينة ذات اليسار، ومضيت حتى تأتيهم من قبل الحرة مشرقاً، ثم تستقبل القوم، فإذا أشرقت الشمس، كانت في ظهوركم ووجوههم، وترون من أشعة سلاحهم ما لا يرون، ويتأذون بشعاع الشمس، ولا تتأذون ثم قاتلهم، فقال له مسلم: لله أبوك، أي امرئ وَلَدَكَ؟! ثم دخل مروان، وقال: إذا لقيت عبد الملك، فقد لقيتني، فقال: ما حملت من رجال قريش.
ثم ارتحل وعمل برأي عبد الملك، وأتاهم من قبل المشرق، ثم دعاهم، وقال: أنتم أصل أمير المؤمنين، وأنا أكره إراقة دمائكم، وإني أؤجلكم ثلاثاً، فإن راجعتم الحق، قبلت وسرت إلى مكة، وإن أبيتم، كنت قد أعذرت. ولما مضت الثلاث قال: ما تصنعون، يا أهل المدينة؟ قالوا: نحارب، فلاطفهم في الطاعة، لينصرف إلى مكة، فقالوا: لا ندعك تأتي بيت اللّه، وتلحد فيه، وتستحل حرمته. وكانوا قد خندقوا على أنفسهم، وكان عبد اللّه بن مطيع في قريش على ربع، وعبد الرحمن بن أزهر بن عوف على ربع، ومعقل بن صنان الأشجعي في المهاجرين على ربع، وأمير جماعتهم عبد الله بن الغسيل على الأنصار في أعظم تلك الأرباع.
قال الذهبي: كتب عبد اللّه بن جعفر إلى المدينة - وكان عند يزيد بالشام - ألا يعرضوا لجيشه، فورد مسلم بن عقبة، فمنعوه، ونصبوا له الحرب، ونالوا من يزيد، فأوقع فيهم، وأباحها ثلاثة أيام.
وقال الواقدي: أنبأنا ابن أبي ذئب، عن صالح بن أبي حسان، أنبأنا إسماعيل ابن إبراهيم المخزومي، قال: لما وثب أهل الحرة، وأخرجوا بني أمية عن المدينة، واجتمعوا على عبد اللّه بن حنظلة، وبايعوه على الموت، قال:؟ يا قوم، اتقوا اللّه فواللّه ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمَى بالحجارة من السماء.
قال: وكان ابن حنظلة يبيتُ تلك الليالي في المسجد، وما يزيد على أن يفطر على شربة من سويق ويصوم الدهر.(2/91)
وقال الذهبي: دخل عبد اللّه بن مطيع ليالي الحرة على ابن عمر، فقال له ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من نزع يَداً من طاعة، لم يكن له حجة يوم القيامة، ومن مات مفارقاً للجماعة، فإنه يموت ميتة جاهلية " .
وقال المدائني: توجه مسلم بن عقبة إلى المدينة في اثني عشر ألف رجل، ويقال: اثني عشر ألف فارس، وخمسة عشر ألف راجل.
قال السهيلي في روضه: وقعة الحرة كان سببها أن أهل المدينة خلعوا يزيد بن معاوية، وأخرجوا بني أمية، وأمروا عليهم عبد اللّه بن حنظلة الغسيل الذي غسلت أباه الملائكة يوم أُحد. ولم يوافق أهلَ المدينة على هذا الخلع أَحَدٌ من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصمد مسلم في العساكر، فانكشف أهل المدينة من كل جانب، ثم حمل ابن الغسيل، فانكشف العساكر، وانتهت إلى مسلم، فنهض في وجوههم بالرجال، واشتد القتال، ثم جاء الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب لابن الغسيل، فقاتل معه، ثم انتقى الشجعان يريد قتل مسلم، فحمل على أهل الشام، فانفرجوا، وجثت الرَجال أمامه على الركب، ومضَى نحو راية مسلم، فقتل صاحبها يظن أنه مسلم بن عقبة، فأخذ مسلم رايته، وسار وشدت الرجال أمامه، فصرع الفضل بن عباس، وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف.
وتقدمت خيل مسلم إلى ابن الغسيل، ومعه أخوه لأمه محمد بن ثابت بن قيس ابن شماس، وعبد اللّه بن زيد بن عاصم، ومحمد بن عمرو بن حزم، وأبلى محمد ابن سعد بن أبي وقاص، ثم انهزم الناس، وأباح مسلم المدينة ثلاثَاً للقتل واللهب، وأفزع ذلك الصحابة الذين بها، وخرج أبو سعيد الخدري؛ ليأوي إلى كهف في الجبل، فاعترضه رجل من العسكر لقتله فعرفه بنفسه، فتركه.
قال السهيلي: لما أرجف أهل المدينة بيزيد، دعا عبد اللّه بن عمر ببنيه ومواليه، فقال لهم: إنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وإنه واللّه لا يبلغني عن أحد منكم أنه خلع يدَاً من طاعة إلا كانت الفيصلَ بيني وبينه، ثم لزم بيته.
ولزم أبو سعيد الخدري بيته، فدخل عليه في تلك الأيام التي أبيحت المدينة فيها، فقيل له: من أنت أيها الشيخ. فقال: أنا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد سمعنا خبرك، ولنعم ما فعلت حين كففت يدك، ولزمت بيتك، ولكن هات المال، فقال: أخذه الذين دخلوا قبلكم علي وما عندي شيء، فقالوا: كذبت، ثم قالوا: أضجعوه، فأضجعوه، فجعل كل واحد يأخذ من لحيته خصلة، وأخذوا ما وجدوا حتى صوف الفرش، وحتى أخذوا زوجين من حمام كان صبيانه يلعبون بهما.
وأما جابر بن عبد اللّه الأنصاري، فخرج في ذلك اليوم يطوف في أزقة المدينة، وهو أعمى، والبيوت تنتهب وهو يعثر في القتلى، ويقول: تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له قائل: ومن أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أخاف المدينة، فقد أخاف ما بين جنبي " ، فحملوا عليه ليقتلوه، فأخذه منهم مروان بن الحكم، وأدخله بيته.
وقتل في ذلك اليوم من وجوه المهاجرين والأنصار ألف وسبعمائة رجل.
وقيل: من أخلاط الناس عشرة آلاف، سوى النساء والصبيان، ونهبوا وأفسدوا، واستحلوا الحرم، وعطلت الصلوات في مسجده - عليه الصلاة والسلام - ولم يبقَ في المسجد إلا سعيد بن المسيب جعل نفسه ولهاناً خبلا، فتركوه، وكان يقول: كنت أسمع عند مواقيت الصلاة همهمة من الحجرة المطهرة. وافتض فيها ألف عذراء، وإن مفتضَّها فعل ذلك أمام الوجه الشريف، والتمس ما يمسح به الدم، فلم يجد، ففتح مصحفاً قريباً منه، ثم أخذ من أوراقه ورقة، فتمسح بها، نعوذ بالله ما هذا إلا صريح الكفر وأنتنه.
ومن ذلك أن امرأة من الأنصار دخل عليها رجل من أهل الشام، وهي ترضع ولدها، وقد أخذ ما كان عندها، فقال لها: هاتي الذهب، وإلا قتلتك وقتلت ابنك، فقالت: ويحك إن قتلته، فأبوه أبو كبشة صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأنا من النسوة اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما خنت اللّه في شيء بايعت رسوله عليه، فأخذ الصبي من حجرها وثديها في فيه، وضرب به الحائط حتى انتثر دماغه في الأرض، والمرأة تقول: لو كان عندي شيء أفديك به يا ابني لفديتك، قال: فما خرج من البيت حتى اسودَ نصف وجهه، وصار مثلة في الناس.(2/92)
قال المؤلف: وأحسب هذه المرأة جدة لهذا الصبي لا أُماً له: إذ يبعد في العادة أن تبايع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم امرأة، وتكون يوم الحرة في سن من يُرْضِعُ.
والحرة التي يعرف بها هذا اليوم، يقال لها: حرة زهرة، بقرية كانت لبني زهرة قوم من اليهود، فقيل للقرية: زهرة، وكانت عامرة في الزمن الأول، يقال: كان فيها ثلاثمائة صائغ؛ ذكره الزبير بن بكار في فضائل المدينة.
ويقال: إن مسلماً لما حارب أهل المدينة، ووقف ابن الغسيل والناس لقتاله، خالفهم بنو حارثة من الأنصار، وأدخلوا أهل الشام من ناحيتهم، فانهزم الناس، وكان من هلك في الخندق أكثر ممن قتل.
ثم دعا مسلم الناس إلى بيعة يزيد على أنهم خَوَل له يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم بما شاء، ومن امتنع قتله، وجيء بعد يوم بيزيد بن عبد اللّه بن زمعة بن الأسود، ومحمد بن أبي الجهم بن حذيفة، فقالا: لا نبايع إلا على الكتاب والسنة، فقتلهما، وأنكر عليه مروان قتل فريق على أمان، فطعنه بالقضيب في خاصرته، وقال: واللّه، لو قلتها أنت لقتلتك.
ثم جيء بمعقل بن سنان، فقال له: والله لأقتلنك، فناشده اللّه والرحم، فقال: أما أنت لقيتني بطبرية ليلة انصرف وفدكم من عند يزيد، فأثنيت عليه شراً، وقلت: نرجح المدينة، فنخلع هذا الفاسق ابن الفاسق، ونبايع لرجل من أبناء المهاجرين، وإني آليت لا ألقاك بحيث أقدر على قتلك إلا قتلتك، ثم أمر به فقتل.
وجيء بيزيد بن وهب، فقال: أبايع على سنة عمر، فقتله، وشفع فيه مروان لصهر بينهما فلم يشفعه.
ثم جاء علي بن الحسين بين مروان وعبد الملك، وجلس بينهما فقال: تجيئني بين هذين لتأمن عندي، واللّه لو كان الأمر إليهما، لقتلتك، وإنما أمير المؤمنين أوصاني بك وأخبرني أنك كاتبته، ثم أجلسه معه على السرير، فقال: لعل أهلك فزعوا، فقال: نعم، فرده إلى بيته على دابته، ولم يلزمه البيعة؛ كما ألزم أهل المدينة.
ثم أحضر عبد الله بن عباس للبيعة، وكانت أمه كندية، فقال الحصين بن النمير: لا تبايع ابن أختنا إلا مثل ما بايع علي بن الحسين، فتركه.
ثم جاء عمرو بن عثمان بن عفان، ولم يكن خرج مع بني أمية، فقال: هذا الخبيث ابن الطيب، وأمر به فنتفت لحيته.
وكان ممن قتل في الحرة زيد بن عاصم الأنصاري، وعبيد الله بن عبد الله بن موهب، ووهب بن عبد الله بن زمعة، وعبد اللّه بن عبد الرحمن بن عاظب، والزبير ابن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب. وكان لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين.
وأتى خبر الواقعة لابن الزبير مع المسور بن مخرمة، فاستعد هو وأصحابه، وعرفوا أن مسلم بن عقبة نازل، ثم استخلف مسلم على المدينة روح بن زنباع الجذامي - وقيل: عمرو بن محرز الأشجعي - وشخص إلى مكة لقتال ابن الزبير، فمات بالمشلل، وقيل: بثنية هرشي، وأوصى الحصين بن نمير فقال: يا برذعة الحمار، لو كان هذا الأمر إليَ، ما وليتك هذا الجند، لكن أمير المؤمنين ولاك، فأسرع السير، وعجل المناجزة، ولا تمكن قريشاً من أذنك، ثم مات.
وسار الحصين بالناس، وقدم مكة لأربع بقين من المحرم، وقد بايع أهلها وأهل الحجاز لعبد اللّه بن الزبير، واجتمعوا عليه، ولحق به أهل المدينة، وقدم عليه نجدة ابن عامر الحنفي في الخوارج لمنع البيت، وخرج ابن الزبير للقاء أهل الشام، وعثرت البغلة بعبد الله فنزل، واجتمع إليه المسور بن مخرمة، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وجماعة من أصحابه، فقتلوا جميعاً، وصابرهم ابن الزبير إلى الليل، ثم انصرفوا وأقاموا يقاتلونه شهراً وبعض شهر، واحترق البيت.
يقال: قذفوه بالنار في المجانيق.
ويقال: كان أصحاب ابن الزبير يوقدون حول الكعبة، فعلقت شرارة منها بثوب الكعبة، واحترق خشب البيت.
والأول أصح؛ لأن البخاري ذكر في صحيحه: أن ابن الزبير لما احترقت الكعبة، تركها ليراها الناس محترقة؛ فتحز بهم على أهل الشام.
ثم لم يزل العسكر محاصرين لابن الزبير حتى جاءهم نعي يزيد لأول ربيع الثاني.
وفاة يزيد، وبيعة معاوية ابنه وملكه
ثم مات يزيد منتصف ربيع الأول سنة أربع وستين.(2/93)
قال العلامة الحافظ الذهبي: روى زحر بن حصين، عن جده حميد بن منهب، قال: زرت الحسن بن أبي الحسن، يعني: البصري، فخلوت به، فقلت: يا أبا سعيد، ما ترى ما الناس فيه؟ فقال لي: أفسد أمر الناس اثنان: عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف، فحملت، وقال: أين القراء، فحكم الخوارج، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة.
والآخر: المغيرة بن شعبة؛ فإنه كان عامل معاوية على الكوفة، فكتب إليه معاوية: إذا قرأت كتابي، فأقبل معزولا، فأبطأ عنه، فلما ورد عليه، قال: ما أبطأ بك؟ قال: أمر كنت أُوَطئُه وأهَيئُهُ، قال: وما هو؟ قال: البيعة ليزيد من بعدك، قال: أو فعلت؟ قال: نعم، قال: ارجع إلى عملك، فلما خرج المغيرة، قال له أصحابه: ما وراءك؟ قال: وضعت رجل معاوية في غرز غي لا يزال فيه إلى يوم القيامة، قال الحسن: فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة.
قال محمد بن مروان السعيدي: أنبأنا محمد بن أحمد بن سليمان الخزاعي، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن الحكم عن أبي عوانة، قال: كان معاوية يعطي عبد اللّه بن جعفر كل عام ألف ألف درهم، فلما وفد على يزيد، أعطاه ألفي ألف، فقال عبد الله ليزيد: بأبي أنت وأمي، فأمر له بألف ألف أخرى، فقال له عبد الله: واللّه، لا أجمعهما لأحد بعدك.
حدثنا محمد بن بشار بندار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عوف الأعرابي، حدثنا مهاجر أبو مخلد، حدثني أبو العالية، حدثني أبو مسلم، قال: قال أبو الدرداء: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية يقال له يزيد " أْخرجه الروياني في مسنده عن بندار. وفي رواية عن الأوزاعي، عن مكحول، عن أبي عبيدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزال أمر أمتي قائْماً بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية، يقال له يزيد " .
وقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب، قال رجل: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد أقمت عنده، فرأيته مواظباً للصلاة متحرياً للخير يسأل عن الفقه، قال: كان ذلك منه تصنعَاً لك ورياء.
وقال الزبير بن بكار في أنساب قريش: أنشدني عمي ليزيد قوله: من المديد:
آَبَ هَذَا الهَم فَاكتَنَعَا ... وَأَمَر النوْم فَامتَنَعَا
راعياً للنجمِ أرقبُهُ ... فَإذا ما كوكَب طَلَعَا
حام حتَّى إننِي لأَرَى ... أنه بالغَور قد وَقَعَا
ولها بالماطِرُون إِذَا ... أَكَلَ النمْلُ الذِي جَمَعَا
خرفةٌ حتَى إذا ربعَتْ ... نزلَت من جِلَقٍ بِيَعَا
في قباب وَسْطَ دسكرةِ ... حَوْلَهَا الزيتونُ قد ينَعَا
قلت: هذه الأبيات من قصيدة له، نصرانية تعشقها، وافتتَنَ بها، لعنه اللّه وإياها، وأساء عقباه وعقباها.
ومن شعره في الخمر: من الطوب:
أقولُ لصَحْب ضَمتِ الكَأسُ شَملَهُم ... وَدَاعِي صَبَابَاتِ الهَوَى يَتَرَنمُ
خُذُوا بنَصِيب مِن نَعِيمٍ وَلَذةٍ ... فكُل وَإِنْ طَالَ المدَى يَتَصرمُ
ومن شعره أيضاً فيها: من الطويل:
وَدَاعٍ دَعَانِي والثرَيا كأَنهَا ... قلائصُ قد أعنقْنَ خَلْفَ فَنِيقِ
وقال: اغْتنِم من دَهرنا غَفَلاَتِهِ ... فَعَقدُ ذِمَامِ الدهْرِ غَيرُ وَثِيقِ
وناولَنِي كَأساً كَأن بنانَهُ ... مخضبةٌ مِن لَوْنِهَا بِخَلُوقِ
إذا ما طغَى فيها الحَيَاءُ حسبتَهَا ... كَوَاكبَ عُز في سَمَاءِ عَقِيقِ
تَدُب دَبِيبَ النَّمْلِ في كُل مفْصلٍ ... وتَكْسُو وجُوهَ الشَّرْبِ ثَوبَ شَقِيقِ
وإنيَ مِنْ لَذاتِ دَهرِي لقانع ... بحلوِ حَدِيثٍ أَوْ بِمُرِّ عتيقِ
هَمَا مَا هُمَا لَم يَبْقَ شيء سِوَاهُمَا ... حَدِيثُ صَدِيقٍ أَو عَتِيقُ رَحِيقِ
ومما ينسب إليه يخاطب أباه معاوية عند نهيه إياه عن شرب الخمر قوله: من الطويل:
أَمِنْ شَرْبَةِ من ماءِ كَرمٍ شَرِبتهَا ... غضبتَ علي الآنَ طابَ لي السكْرُ(2/94)
سأشرَبُ فاغضَب لا رَضِيت كلاهما ... حبيب إلى قَلْبِي عُقُوقُكَ والخَمْرُ
توفي كما تقدم في ربيع الأول سنة أربع وستين، وله تسع وثلاثون سنة، وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر، ودفن بحوارين من أرض دمشق بمقبرة باب الصقر، وفيه يقول القائل: من الرجز:
يا أَيهَا القَبرُ بِحَوارِينَا ... ضَمَمتَ شَر الناسِ أَجْمَعِينَا
ورثاه شاعرهم الأخطل بقوله: من الطويل:
لَعَمريَ قَد دَلى إلى الفخدِ خَالدٌ ... جَنَازَةَ لاَ نِكسِ الفُؤَادِ ولا غمرِ
مُقِيم بحوَّارِينَ لَيسَ يَرِيمهَا ... سَقَتك الغَوَادِي مِنْ ثَرِيّ ومن قَبْرِ
قال في الإشاعة لأشراط الساعة في الباب الأول، وهو في الإمارات البعيدة التي ظهرت وانقضت، وهي كثيرة، إلى أن قال: ومنها ملك بني أمية يزيد ومن بعده، المشتمل على الفتَن العظام؛ كقطع الليل المظلم.
وعن عمران بن الحصين - رضي اللّه عنه - قال: أبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو أمية، وتكيف، وبنو حنيفة.
وعن أبي ذر - رضي اللّه تعالى عنه - : إذا بلغت بنو العاصي أربعين رجلا، اتخذوا عباد اللّه خولا، ومال اللّه دولا، وكتاب اللّه دخلاَ.
وعن علي - رضي اللّه تعالى عنه - قال: لكل أمة آفة، وآفة هذه الأمة بنو أمية.
وعن عمرو بن مرة ألجمني، قال: استأذن الحَكَم بن أبي العاصي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف صوته، فقال: " ائذنوا له حية ولد حية، لعنة اللّه عليه وعلى كل من يخرج من صلبه، إلا المؤمن منهم، وقليل ما هم " .
قلت: وهذا الاستثناء إشارة إلى عمر بن عبد العزيز، ومعاوية بن يزيد، ويزيد الناقص، والصالحِ منهم.
وعن ابن عمر: هجرتُ الرواح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو الحسن - رضي الله عنه - فقال له - عليه الصلاة والسلام - : " ادن " ، فلم يزل يدنيه حتى التقم أذنه، فبينما هو يسارُّهُ إذ رفع رأسه كالفزع، فإذا قارع يقرع بسيفه الباب، فقال - عليه الصلاة والسلام - لعلي: " اذهب فقده كما تقاد الشاة إلى حالبها، فإذا علي - كرم الله وجهه - يدخل الحكم بن أبي العاص آَخذَاً بأذنه، ولها زنمة حتى أوقفه بين يديه - عليه الصلاة والسلام - فلعنه نبي اللّه ثلاثاً، ثم قال: أجلسه ناحية، حتى راح إليه قوم من المهاجرين والأنصار، ثم دعاه فلعنه، ثم قال: " إن هذا سيخالف كتاب الله وسنة نبيه، وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء " ، فقال ناس من القوم: هو أقل وأذل من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: " بلى وبعضكم يومئذ شيعته " .
ثم إنه - عليه الصلاة والسلام - نفاه إلى الطائف، ولم يرده أبو بكر ولا عمر، ورده عثمان حين ولي الخلافة، وكان رده أحد الأمور التي نقمت عليه، رضي الله تعالى عنه.
قلت: وقد ذكرت ذلك وجوابه فيما تقدم في ترجمة عثمان، رضي الله عنه.
ومن الفتن التي وقعت في زمن يزيد قتل الحسين، ووقعة الحرة، وخراب المدينة بعد الحرة، ورمي الكعبة بالمنجنيق.
ومنها في زمن بني مروان قتل ابن الزبير، وهدم الكعبة، بعد رميها بالمنجنيق أيضاً، وتولية الحجاج، وأنه قتل مائة وأربعة وعشرين ألف نفس حراماً صبرَاً، سوى ما قتله في المحاربات، ووجد في حبسه ثمانون ألفاً منهم ثلاثون ألف امرأة، وكان حبسه مبلطَاً لا سقف له؛ ليتأذوا بالحر والبرد، وكان حبسه من حبسه ظلماً صرفاً وهوى نفس، حتى إنه وجد فيه من حبس لبولة بالها في جنب سور واسط البلد التي اختطَّها الحجاج.
ومنها: قتل زيد بن علي بن الحسين، وصلبه، وإحراقه بالنار، وقتل ولده يحيى في زمانْهم، وشربهم الخمر، وصلاتهم بالناس سكارى، وتقديم الجواري في المحراب للصلاة بالناس، وغير ذلك من أنواع القبائح.
بل نقل العلامة السيوطي في تاريخه للخلفاء؛ أن الوليد بن يزيد عزم على الحج؛ لأجل أن يشرب الخمر فوق الكعبة، فقتل قبل أن يبلغ مراده.(2/95)
وعن المسور بن مخرمة قال: قال عمر بن الخطاب لعبد الرحمن بن عوف: ألم يكن فيما تقرءونه: قاتلوا في الله آخر مرة كما قاتلتم أول مرة قال: متى ذاك؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء، وبنو مخزوم الوزراء. رواه الخطيب البغدادي، فكانت دولتهم لمفاسد كثيرة ومظالم لا تعد ولا تحصى... إلى أن قال: وأما بنو يزيد وبنو الحكم، فهم ملعونون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ولذا قال الإمام أحمد بن حنبل، حين سأله ابنه عن لعن يزيد. فقال الإمام: إن الله تعالى يقول: " فَهَل عَسَيتُم إِن تَوَليتم أَن تفسِدُوا في اَلأرض وَتُقَطعُوا أَرحَامَكُم أُولَئكَ اَلَذِينَ لعنَهُمُ اللَهُ... " الآية " محمد: 22 - 23 " وأي فساد وقطيعة أشد مما فعله يزيد يا بني.
وفي تاريخ أبي مخرمة المسمى: قلادة النحر، عن الشيخ نصر بن مجلي، وكان من الثقات العباد الصالحين، قال: رأيت علي بن أبي طالب في المنام، فقلت: يا أمير المؤمنين، تفتحون مكة، وتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يتم علي ولدك الحسين ما تم، فقال لي: أما سمعت أبيات ابن صيفي في هذا؟ قلت: لا، قال: اسمعها منه، ثم انتبهت فبادرت إلى دار ابن الصيفي، فذكرت له الرؤيا، فشهق وبكى، وحلف بالله إنها لم تخرج من فيه ولا من خطه إلى أحد، وما نظمها إلا في ليلته، ثم أنشدني: من الطويل:
مَلَكنَا وكَانَ العفوُ منا سجية ... فلما ملكتُم سَالَ بالدَمِ أبطَحُ
وَحللتُمُ قَتل الأسَارَى وطَالَمَا ... غَدونَا مِنَ الأَسرَى نَمُن ونَصفَحُ
وَحَسبُكُمُ هَذَا التفَاوُتُ بَينَنَا ... فكُل إِنَاءٍ بالذي فِيهِ يَنضَحُ
قلت: اسم ابن الصيفي: سعيد بن محمد أبو الفوارس التميمي، شاعر مشهور، وهو الملقب بحيص بيص، توفي سنة أربع وسبعين وخمسمائة في القرن السادس.
قال العلامة الدميري في حياة الحيوان: سئل الإمام أبو الحسن عماد الدين علي بن محمد الملقب بالكيا الهراسي من رءوس معيدي إمام الحرمين، عن يزيد بن معاوية. هل هو من الصحابة، وهل يجوز لعنه أم لا؟ فأجاب: إنه لم يكن من الصحابة؛ لأنه ولد في زمن عثمان، وأما جواز لعنه: ففيه لكل واحد من الإمام أبي حنيفة ومالك وأحمد قولان: تصريح وتلويحٌ، ولنا قول واحد: التصريح دون التلويح، وكيف لا يكون ذلك، وهو المتصيد بالفهد، واللاعب بالنرد، والمدمن على الخمر. وكتب فصلا طويلاَ أضربنا عن ذكره.
ثم قال: ولو مددت ببياض، لأطلقت العنان، وبسطت الكلام في مخازي هذا الرجل.
هذا وأما الغزالي فقد أفتى في هذه المسألة بخلاف ما أفتى به الكيّا، وبسط الكلام في ذلك.
قال العلامة محمد بن مصطفى كاتي في تاريخه المسمى: بغية الخاطر، ونزهة الناظر: كان ليزيد بن معاوية قرد سماه أبا قيس كان يركبه فوق حمار بسرج في المواكب، وله زي كزي راكبي الخيل من العمامة والكسوة ويجلسه في مجالس أنسه، وكان لهذا القرد من الفطنة وإدارك الأمور ما لا يدرك، فأركب مرة على حمار وحشيّ، ففرت به، فأنشد يزيد يقول: من الطويل:
تَمَسك أَبَا قَيسٍ بفَضلِ عِنَانِهِ ... فلَيْسَ عَلَيْهِ إنْ هَلَكْتَ ضَمَانُ
وبويع بعده ابنه معاوية، فمكث ثلاثة أشهر، ثم خطب الناس، وقال: إني ضعيف عن أمركم، وطلبت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر، فلم أجده، فطلبت ستة مثل أهل الشورى، فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم؛ اختاروا له، ودخل منزله، فمات يقال: مسموماً، وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وهلك ليومه بالطاعون. وقيل: إن معاوية بن يزيد أوصى الضحاك بن قيس أن يصلي بالناس حتى تجمع الناس على إمام.(2/96)
قال العلامة ابن السبكي: إن معاوية بن يزيد بن معاوية لما خلع نفسه، صعد المنبر، فجلس طويلا، ثم حمد اللّه وأثنى عليه، بأبلغ ما يكون من الحمد والثناء، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن ما يذكر به، ثم قال: أيها الناس، ما أنا بالراغب في الائتمار عليكم لعظيم ما أكرهه منكم، وإني أعلم أنكم تكرهونا - أيضاً - لأنا بلينا بكم وبليتم بنا، إلا أن جدي معاوية نازع هذا الأمر من كان أولى به منه ومن غيره، لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظيم فضله وسابقيته، أعظم المهاجرين قدرَاً، وأشجعهم قلبَاً، وأكثرهم علماً، وأولهم إيماناً، وأشرفهم منزلة، وأقدمهم صحبة، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره، وأخوه، زوجه ابنته - رضي الله تعالى عنها - وجعله لها بعلا، باختياره لها، وجعلها له زوجة باختيارها له، أبو سبطيه سيدَيْ شباب أهل الجنة، وأفضل هذه الأمة، تربية الرسول، وابنا فاطمة البتول - رضي اللّه تعالى عنها - حتى انتظمت لجدي معاوية الأمور، فلما جاءه القدر المحتوم، واخترمته أيدي المنون، بقي مرتهناً بعمله، فريداً في قبره، ووجد ما قدمت يداه، فرأى ما ارتكبه واعتداه.
ثم انتقلت الخلافة في أبي يزيد، فتقلد أمركم لهوى كان أبوه هويه فيه، ولقد كان أبي يزيد بسوء فعله وإسرافه على نفسه غَيْرَ خليق بالخلافة على أمهَ محمد صلى الله عليه وسلم، فركب هواه، واستحسن خطاه، وأقدم على ما قدم من جرأته على اللّه تعالى، وبغيه على من استحل حرمته من أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلتْ مدته، وانقطع أثره، وضاجع عمله، وصار حليف حفرته، رهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته، فهل عوقب بإساءته وجوزى بعمله؟! وذلك ظني. ثم اختنقته العبرة، فبكى طويِلاَ، وعلا نحيبه، وحمد اللّه، ثم قال: وصرت أنا ثالث القوم، والساخطُ عليَ أكثر من الراضي، وما كنت لأتحمل آثامكم، ولا يراني اللّه جلت قدرته متقلداً أوزاركم، وألقاه بتبعاتكم، فشأنكم وأمركم، فخذوه، ومن رضيتم به عليكم فولوه، فلقد خلعت بيعتي من أعناقكم، والسلام.
فقال له مروان بن الحكم، وكان تحت المنبر: أسنة عمرية يا أبا ليلى؟ فقال: اغدُ عني، أعن ديني تخدعوني، فواللّه ما ذقت حلاوة خلافتكم، فأتجرع مرارتها، ائتني برجال مثل رجال عمر، على أنه كان حين جعلها شورى وصرفها عمن لا يشك في عدالته ظلوماً. واللّه، لئن كانت الخلافة مغنمَاً، لقد نال أبي معها مغرماً ومأثمَاً، ولئن كانت شراً، فحسبه منها ما أصابه.
ثم نزل، فدخل عليه أقاربه وأمه، فوجدوه يبكي، فقالت له أمه: ليتك كنت حيضة، ولم أسمع بخبرك، فقال: وعدت والله ذلك، ثم قال: ويلي إن لم يرحمني ربي.
ثم إن بني أمية قالوا لمؤدبه القصوص: أنت علمته هذا، ولقنته إياه، وصددته عن الخلافة، وزينت له حب علي وأولاده - رضي اللّه تعالى عنهم - وحملته على ما وَسَمَنَا به من الظلم، وحسنت له البدع حتى نطق بما نطق، وقال ما قال! فقال: واللّه ما فعلته، ولكنه مجبول ومطبوع على حب علي وأولاده - رضي الله عنهم - فلم يقبلوا منه ذلك، وأخذوه ودفنوه حياً حتى مات، رحمه الله.
وتوفي معاويةَ - رضي اللّه تعالى عنه - بعد خلعه نفسه بأربعين ليلة - رحمه الله تعالى - وهو المسمى: معاوية الأصغر، وقيل بعد الخلع بتسعين ليلة، وكان عمره ثلاثَاً وعشرين سنة، وقيل: إحدى وعشرين، وقيل: ثمان عشرة، ويقال: إنه لما احتضر، قيل له: ألا تستخلف؟! فأبى، وقال: ما أصبت من حلاوتها، فلمَ أتحمل مرارتها.
ولم يعقب، رحمة اللّه عليه ورضوانه.
إظهار ابن الزبير للبيعة(2/97)
ولما هلك يزيد، بلغ الخبر إلى عبد اللّه بن الزبير بمكة قبل أن يعلم الحصين بن نمير ومن معه، وكان حصارهم قد اشتد، فناداهم ابن الزبير وأهل مكة: علام تقاتلون، وقد هلك صاحبكم؟ فلم يصدقوه. فلما بلغ الخبر الحصين، بعث إلى ابن الزبير، وواعده الأبطح ليلا، فالتقيا، فقال له الحصين: هلم نبايعك، فأنتَ أحق، وهذا الجند الذي معي هم وجوهُ أفلِ الشام وفرسانُهُم، واخرج معنا، فلا يختلف عليك اثنان على أن تؤمن الناس وتهدر لهم ما أصابوا من الدماء، فأبى من إهدارها، وكان الحصين يكلمه سراً، وهو يجهر، ويقول: والله لا أفعل، فقال الحصين: قَبحَ الله من يَعُدكَ بعدها داهية، ثم ارتحل إلى المدينة، وراجع ابن الزبير رأيه، فأرسل إليه: لا أسير إلى الشام، ولكن بايعوا لي هناك وأنا مؤمنكم، فقال الحصين: لا يتم إلا بحضورك، فهناك بنو أمية يطلبون الأمر، ومَر الحصين بالمدينة، فكانوا يتخوفون عسكره، وهم حذرون منهم إلى أن بعدوا. ثم وصلوا دمشق.
انتقاض أمر ابن زياد ورجوعه إلى الشام
لما جاء الخبر إلى ابن زياد بالبصرة بمهلك يزيد بن معاوية، ثم معاوية ابنه، واختلاف الناس بالشام، جمع الناس، فخطب ونعى يزيد وثلبه، فنهاه الأحنف، ثم تلطف لأهل البصرة، وقرر وسائله إليهم بالمهاجرة والمولد وحسن الآَثار في الجباية والعسكر وإصلاح السابلة وكف الأذى، وأعلمهم باختلاف الناس بالشام بعد يزيد، وقال: أنتم أعز الناس وأغناهم عن الناس وأوسعهم بلاداً، فاختاروا من تولون، وأنا أول راض به، فقال أهل البصرة: هلم فلنبايعك، فأبى، ثم ألحوا عليه ثلاثاً، فأجاب وبايعوه، ثم انصرفوا، وتناجوا ومسحوا أيديهم بالحيطان، وقالوا: يظن ابن مرجانة أن ننقاد له في الجماعة والفرقة. ولما بايعوه، أرسل إلى أهل الكوفة يعلمهم ببيعة أهل البصرة ويدعوهم إليها، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث، فجمع الناس وذكر لهم رسوله ذلك، فقام يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني، فقال: الحمد للّه الذي أراحنا من ابن سمية لا نبايعه وحَصَبَهُ، ثم تبعه الناس وحصبوه، ورجع بالخبر إلى ابن زياد، فبدا لأهل البصرة في بيعته وضعف سلطانه، وأقام لا تنفذ أوامره، ويحال بين أعوانه وبين الخصوم إذا سحبوهم، ثم جاء إلى البصرة سلمة بن ذؤيب التميمي الحضرمي، فنصب لواء في السوق، ودعا لابن الزبير، فبايعه ناس، وآتى الخبر ابن زياد، فجمع الناس، فقال: بلغني أنكم مسحتم أيديكم بالحيطان، وقلتم ما قلتم، وأنا الآن ترد أوامري، ويحال بين أعواني وبين طلبي، هذا سلمة بن ذؤيب يدعوكم إلى الخلاف فيجيبه منكم مجيبون.
فقال الأحنف: واللّه، نحن نأتيك بسلمة، فخرجوا ليأتوا به، فإذا جمعه قَد كثف والخرق قد اتسع، فبعدوا عن ابن زياد، ولم يرجعوا إليه، فدعا مقاتلة السلطان ليقاتلوا معه، فقالوا: إن أذن قوادنا في ذلك، وقال أخوته وأصحابه: ليس لنا خليفة نقاتل عنه، وإن كانت علينا هلكنا، وهلكت أموالنا، فعند ذلك أرسل إلى الحارث ابن قيس من بني جهضم ابن خزيمة بن مالك بن فهم من الأزد، وقال: إن أبي أوصاني بك إن أصابني الدهر بشيء. فعدد عليه قلة المكافأة منه ومن أبيه، وأقام عنده إلى الليل، ثم أردفه خلفه وخرج به. وفرق ابن زياد على مواليه الكثير مما كان في بيت المال وهو تسعة عشر ألف ألف مرتين. وسير به الحارث والناس يتحارسون خوفاً من الحرورية، ويمر بالناس فيسألونه، فيقول: أنا الحارث بن قيس، إلى أن أنزله بداره في الجهاضم، فأثنى عليه ابن زياد، وقال: اذهب بنا إلى مسعود بن عمرو؛ فقد علمت شرفه في الأزد وطاعتهم له؛ فأكون في داره وإلا فزق عليك أمر قومك، فجاء إلى مسعود، فتطير من ابن زياد، وما زال الحارث يلاطفه حتى سكن، وقال له: أفتخرجه من بيتك بعد ما دخله؟ فجعله في بيت أخيه عبد الغافر بن عمرو، ثم ركب هو والحارث وجماعة من قومه، وطافوا في الأزد، وقالوا لهم: ابن زياد فُقِدَ ولا نأمن أن يتهمونا به، فأصبحوا بالسلاح.(2/98)
وقيل: إن الحارث لم يلق مسعود بن عمرو، وإنما جاء بعبيد الله ومعه مائة ألف، وأتى بها امرأة مسعود، فطلب منها الجوار لابن زياد بأن تلبسه ثياب مسعود، فلما جاء مسعود تلطفوا به حتى رضي، وأصبح الناس في البصرة بغير أمير، ثم رفعوا رأيهم إلى قيس بن الهيثم السلمي، وكان أموياً، وإلى النعمان بن سفيان الراسبي، وكان هاشمياً يؤمران عليهم من يختارانه، فقدم النعمان عليهم عبد اللّه بن الحارث ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، ويلقب ببهُ، فرضيه الناس وبايعوه، وأنزلوه بدار الإمارة في جمادى الآخرة سنة أربع وستين.
ثم أنفق ابن زياد أموالا في جمع ربيعة والأزد، واتفقوا على أن يرد ابن زياد إلى إمارته، وركبوا لذلك، ورئيسهم مسعود بن عمرو، ورئيس ربيعة مالك بن مسمع، وتركوا ابن زياد في حيهم، وبعث مواليه معهم، وجاء مسعود فدخل المسجد وصعد المنبر، وأخبر الأمير عبد اللّه بن الحارث بذلك، وقيل له؛ اركب في بني تميم، وأصلح بين الناس، فأبى.
وجاء بنو تميم إلى الأحنف ليركبوه فتعلل ولم يركب، ثم أركب عباد بن حصين في بني عمرو بني تميم، وعيسى بن طلق بن سعيد بن زيد مناة، ومسعود يخطب فاستنزلوه وقتلوه، ثم قتلوا مالك بن مسمع ببيته، وهرب عبيد الله بن زياد فلحق بالشام، ولزم عبد الله بن الحارث بيته.
وكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير، فكتب إلى أنس بن مالك يصلي بالناس حتى بعث عمر بن عبيد اللّه بن معمر بعد ثلاثة أشهر، فحبس عبد الله بن الحارث، فأقام عمرو في ولايتها شهرَاً، ثم جاءه الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة المخزومي من قبل ابن الزبير، ويلقب القباع، وفي أيامه سار نافع بن الأزرق من البصرة إلى الأهواز.
وأما الكوفة، فلما طرد يزيد بن الحارث بن رويم رسول ابن زياد، اجتمع أهل الكوفة على عمر بن سعد بن أبي وقاص، ثم عزلوه، واجتمعوا على عامر بن مسعود ابن أمية بن خلف بن حذافة الجمحي، وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير، فأقره وأقام عاملا على الكوفة. وبلغه انتقاض أهل الري؛ فبعث محمد بن عمير بن عطارد التميمي، فهزمه أهل الري، فبعث إليهم عتاب بن ورقاء التميمي، فهزمهم، وقتل أميرهم الصرحان، ثم قدم الكوفة من قبل ابن الزبير عبد الله بن زيد الخطمي على الصلاة، وإبراهيم بن طلحة على الخراج، واستعمل محمد بن الأشعث بن قيس على الموصل، فاجتمع لابن الزبير أهل البصرة وأهل الكوفة ومَنْ بالقبلة من العرب، وأهل الجزيرة وأهل الشام إلا أهل الأردن.
بيعة مروان
ووقعة مرج راهط
ولما بويع ابن الزبير بمكة بيعته الظاهرة، ولي على مصر عبد الرحمن بن جحدر الفهري، وعلى المدينة عبيد الله بن الزبير، وأخرج بني أمية فلحقوا بالشام، وفيهم مروان بن الحكم، وأقام هناك، فمر به الحصين بن نمير مرجعه من مكة بعد موت يزيد، فأخبره بما دار بينه وبين ابن الزبير، وحرض بني أمية على طلب الأمر، وكان رأي مروان أن يسير إلى ابن الزبير فيبايع له بالخلافة، فقدم ابن زياد مْن العراق حين انتقضوا عليه، وأخرجوه، فسفه رأي مروان في ذلك، وحثه على طلب الأمر لنفسه، فقام لذلك وسار إلى دمشق، والضحاك بن قيس يومئذ قد بايعه أهلها على الصلاة بهم، حتى يجتمع الناس على إمام، وهو مع ابن الزبير، وهو يدعو له في السر، وزفر بن الحارث الكلابي بِقِنْسِرينَ على مثل رأيه، والنعمان بن بشير بحمص كذلك، وكان بفلسطين حسان بن مالك بن بحدل الكلبي عامل معاوية، وابنه وهواه في بني أمية، فسار إلى الأردن واستخلف على فلسطين رَوح بن زنباع، فأخرجه نائل ابن قيس وبايع لابن الزبير، وبايع أهل الأردن حسان بن مالك على أن يجنبهم بيعة خالد، وعبد الله ابني يزيد لصغرهما، وكتب حسان إلى الضحاك يعظم حق بني أمية، ويذم ابن الزبير بالفتنة، وخلع الأئمة، وكتب مع الرسول نسخة كتابه، وقال: إن لم يقرأ الضحاك على الناس؛ وإلا فاقرأ أنت هذا عليهم، فلما دفع الكتاب إلى الضحاك، حبسه وصعد المنبر، فلم يقرأه، فقرأ الرسول نسخته على الناس، فاضطربوا بين مصدق لحسان ومكذب، وتشاتموا ثم سكتوا، وقضى الضحاك صلاة الجمعة ودخل القصر، ثم خرج إلى المسجد واختلف قبائل قيس وكلب، قيس تدعو لابن الزبير ونصرة الضحاك، وكلب تدعو إلى بني أمية وهم أخوال عبد الله وخالد ابني يزيد، فاقتتلوا ثم افترقوا من يومهم.(2/99)
وبعث الضحاك إلى بني أمية يعتذر إليهم، ويواعدهم الاجتماع بحسان بن بحدل بالجابية، وكتبوا إليه جميعاً بذلك، وساروا نحو الجابية، ثم ثناه ثور بن معن السلمي عن رأيه في ذلك خشية أن يميل حسان إلى ابن أختهم خالد بن يزيد، وأشار إليه بالدعاء لابن الزبير، فخرج الضحاك ونزل بمَرج راهط، واجتمع بنو أمية وحسان بالجابية، وأقام يصفي بهم أربعين يوماً، وهم يشتورون، وأشار مالك بن هبيرة السكوني على الحصين بن نمير ببيعة خالد؛ لأن أباه يزيد ابن أختهم، فأبى حصين، وقال: تأتينا العرب بشيخ، ونأتيها بصبي؟ فقال مالك: واللّه لئن ولي مروان، لتكونُن عَبِيدَاً له ولقومه؛ فإنه أبو عشرة، وأخو عشرة، وعم عشرة، ثم قام رَوح بن زنباع، فخطب الناس، وذكر فضل ابن عمر وسابقيته وأشار إلى ضعفه، ثم ذكر ابن الزبير، وأثنى عليه بأبيه وأمه، ثم ذكر دخوله في الفتنة وسفك الدماء وشق العصا وخلع الأئمة، ومثل هذا لا يكون إمامَاً، فعليكم بمروان بن الحكم؛ فلا يكون صدع إلا شعبه، ولا تعدلوا عن الكبير إلى الصغير.
ثم اجتمع رأيهم على البيعة لمروان، ثم لخالد بن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص، على أن إمرة دمشق لعمرو، وإمرة حمص لخالد، وقال حسان لخالد: إن الناس أبوك لصغرك، وما أريد إلا أهل بيتك لكن فعلته؛ نظرَاً لكم.
ثم بايعوا مروان أول ذي القعدة سنة أربع وستين، وسار الناس من الجابية إلى الضحاك، وقد بعث النعمان بن بشير بحمص، فأمده بشرحبيل بن ذي الكلاع، وأملى زفر بن الحارث بأهل قنسرين، وقاتل ابن قيس بأهل فلسطين، فاجتمع على مروان كلب وغسان والسكاسك والسكون، وجعل على ميمنته: عمرو بن سعيد، وعلى ميسرته: عبيد الله بن زياد، وثار على الضحاك بدمشق يزيد بن أبي النمس الغساني، وكان مختفيَاً بها، فأخرج عنها عامله، وبايع لمروان، وأمده بالأموال والرجال والسلاح، واقتتل مروان والضحاك بمرج راهط عشرين ليلة وانهزم الضحاك، وقتله دحية بن عبد الله الكلبي، وقتل معه في المعركة ثمانون من أشراف أهل الشام، واستحكمت قيس بالقتل، وكانت الوقعة آخر سنة أربع وستين، وقيل في المحرم من سنة خمس، وآتى مروان برأس الضحاك فساءه، وبلغ خبر الهزيمة إلى النعمان بن بشير بحمص مع الفَل؛ فخرج هارباً بأهله وبنيه. فخرج في طلبه عمرو بن الخلي الكلاعي، فقتله وجاء برأسه، وهرب زفر بن الحارث من قنسرين، فلحق بقرقيسياء، وعليها عياض الجرشي كان يزيد ولاه فخدعه وغلبه عليها وتحضن بها، واجتمعت إليه قيس، وهرب نائل بن قيس الجذامي عن فلسطين، ولحق بابن الزبير بمكة، واستعمل مروان بعده على فلسطين رَوح بن زنباع، واستوسق الشام لمروان، وتزوج أم خالد بن يزيد.
وقيل: إن عبيد الله بن زياد جاء لبني أمية بتدمر، ومروان مجمع على المسير لابن الزبير، فثناه عن ذلك، وأخذ له البيعة على بني أمية، وأهل تَدمُر، وساروا إلى الضْحاك وهزموه.
فلما ملك مروان الشام، سار إلى مصر، وعليها عبد الرحمن بن جحدر الفهري يدعو لابن الزبير، فخرج للقائه وبعث مروان عمرو بن سعيد. فخالف عبد الرحمن إلى مصر، فرجع وانتقض أمره، وبايع الناس مروان، وملك مصر ورجع إلى دمشق، فبلغه أن مصعب بن الزبير أقبل في الجيوش، فبعث إليه عمرو بن سعيد، وحال بينه وبين الشام، وانهزم مصعب ورجع مروان إلى دمشق، فاستقر بها، وبعث عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة، وإذا فرغ منها، سار إلى العراق، وبعث حُبَيش بن دلجة القَيني إلى المدينة وعليها جابر بن الأسود بن عوف لعبد اللّه بن الزبير، فهرب منه جابر، وبعث الحارث بن أبي ربيعة جيشَاً من البصرة للقاء حبيش، فسار إليهم.
وبعث عبد اللّه بن الزبير عباس بن سهل بن سعد أميراً على المدينة ويسير في طلب حبيش حتى يوافي عسكر البصرة فيلحقهم بالربوة، وقتل حبيش واعتصم من عسكره بالمدينة خمسمائة فارس، فقتلهم عباس، وكان مع حبيش الحجاج وأبوه يوسف بن الحكم على جمل واحد، وكان عمرو بن سعيد لما رجع من قتال مصعب بفلسطين، أنهَى عنه إلى مروان أنه يقول: الأمر إلي من بعده، فشكا ذلك إلى حسان ابن بحدل، فقام في الناس وقال: بلغنا أن رجالاَ يتمنونَ أماني، قوموا فبايعوا لعبد الملك وعبد العزيز، فبايعوا من عند آخرهم، وولى ابن الزبير أخاه عبيد اللّه على المدينة، ثم عزله وولى مصعباً.
مفارقة الخوارج لابن الزبير(2/100)
كان الخوارج عند استبداد ابن زياد عليهم بالكوفة ومسير العساكر من الشام إلى ابن الزبير، قال لهم نافع بن الأزرق منهم؛ سيروا بنا إلى ابن الزبير نجاهد معه إن كان على رأينا، وإلا ندافع عن البيت، فجاءوا إليه وقاتلوا معه أهل الشام، ثم أرادوا اختبار رأيه فيهم فسألوه، وقال: ائتوني من الغداة، وجمع أصحابه بالسلاح، فلما جاءوا من الغد ونظر إليهم، فقال لهم ابن الأزرق: إن الرجل مزمع خلافكم، ثم قال عبيدة بن هلال من الخوارج: إن اللّه بعث محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الدين، فأجابه المسلمون، وعمل فيهم بكتاب اللّه حتى قبضه اللّه، واستخلف أبو بكر وعمر، فعملا بالكتاب والسنة، ثم استخلف عثمان، فحمى الحمى، وآثر القربَى، ورفع الدرةَ، ووضع السوط، ومزق الكتاب، وضرب منكري الجور، وآوى طريد الرسول، وضرب السابقين بالفضل، وحَرَمَهُمْ، وأخذ فيء اللّه الذي أفاء عليهم فقسمه في فساق قريش ومُجان العرب، فسارت إليه طائفة فقتلوه، فنحن أولياؤهم، ومن ابن عفان وأوليائه بريئون، فما تقول أنت. فقال ابن الزبير: أما الذي ذكرتم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو فوقه، وأما ما ذكرتم به أبا بكر وعمر فقد وُفقتم وأصبتم، وأما الذي ذكرتم به عثمان، فلا أعلم أن أحداً من خلق اللّه اليوم أعلم بعثمان وأمره مِني: نقموا عليه واستعتبوه فلم يدع شيئاً إلا أعتبهم، ثم جاءوه بكتاب له يأمر بقتلهم يزعمون أنه كتبه، فقال ما كتبته، وإن لم تكن بينة، حلفت لكم، فوالله ما جاءوا ببينة، ولا استحلفوه، ووثبوا عليه فقتلوه.
وأما ما عبتموه به، فليس كذلك، وأنا أشهدكم ومن حضر أني وليُ عثمان بن عفان، وعدوُّ أعدائه، قالوا: فبرئ اللّه منك، وتفرقوا.
فأقبل نافع بن الأزرق، وعبد اللّه بن صفار، وعبد اللّه بن إباض، وحنظلة بن نهيس، وبنو الماحوز عبد الله وعبيد الله والزبير، وكلهم من تميم حتى أتوا البصرة، وانطلق أبو طالوت من بكر بن وائل، وأبو فديك من قيس بن ثعلبة، وعطية بن الأسود من يشكر، فوثبوا مع أبي طالوت، ثم تركوه واجتمعوا على نجدة ابن عامر الحنفي، وكان من خبرهم ما يذكر عند ذكر الخوارج.
خروج سليمان بن صُرَدَ في التوابين من الشيعة
لما قتل الحسين، ورجع ابن زياد إلى الكوفة، تلاوم الشيعة على ما أضاعوه من أمر الحسين، وأنهم ودعوه ولم ينصروه، فندموا، وقالوا: لا كفارة لذلك إلا قتل قاتليه أو الموت دون ذلك؛ كما قال اللّه لبني إسرائيل: " فَتُوبُوا إِلىَ بَارِئكم فَاقتلوا أَنفُسَكُم " " البقرة: 54 " . واجتمعوا إلى خمسة نفر من رءوسهم سليمان بن صُرَد الخزاعي، وكانت له صحبة، والمسيب بن نجبة الفزاري، وعبد اللّه بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد اللّه بن وال التيمي من تيم بكر، ورفاعة بن شداد البجلي، وكانوا من خيار أصحاب علي، واجتمعوا في منزل سليمان بن صرد، وتفاوضوا في تلك الندامة، واعترفوا بذنبهم، واتفقوا على البيعة لسليمان بن صرد وطاعته، وأخرجوا من أموالهم النفقة على ذي الخلة من أشياعهم، وجعلوا قبض ذلك ونفقته لعبد الله ابن وال، وكتب سليمان إلى سعد بن حذيفة، وهو بالمدائن بما اعتزموا عليه، فقرأ الكتاب سعد على من هناك من الشيعة، وأجابوا بالموافقة والخروج عند الأجل الذي ضرب لهم، وكانوا يدعون إلى ذلك في السر منذ مقتل الحسين، والناس يجيبونهم نفراً بعد نفر.(2/101)
ولما هلك يزيد، دعا بعضهم إلى الوثوب على عمرو بن حريث خليفة ابن زياد على الكوفة، ثم رأوا أن الأمر لا يستتبُّ لهم بذلك؛ لأن قتلة الحسين هم جماعة الكوفة، فأقصروا عن ذلك، ووثب الدعاة في النواحي، واستجاب لهم الناس، ثم أخرج أهل الكوفة عمرو بن حريث، وبايعوا لابن الزبير، وقدم عبد اللّه بن يزيد الخطمي أميرَاً على الكوفة من قبله في رمضان سنة ثلاث وستين، ومعه إبراهيم بن محمد بن طلحة على الخراج، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وبلغ إلى عبد اللّه بن يزيد الخطمي خبر سليمان وأصحابه التوابين، وأشير عليه بحبسهم، وخُوف عاقبة أمرهم، فقال: نحن تاركوهم ما تركونا، وهم يطلبون قتلة الحسين ولسنا منهم، ثم خطب بمثل ذلك، وقال: والله ما قتلنا حسيناً، ولقد أصبْنَا بمقتله، وهؤلاء القوم الذين رفع إلينا أمرهم آمنون، فيسيرون إلى قاتلي الحسين، وهو ابن زياد فها هو على جسر مَنبج، وهو سائر إليكم، فسيروا إليه، وأنا ظهر لكم عليه، ولا يقتل بعضكم بعضاً.
فقام إبراهيم بن محمد بن طلحة فقال: يا أيها الناس، لا تغرنكم مقالة هذا المداهن، والله من خرج علينا لنقتلنه، ومن علمنا بخروجه، لنأخذن القريب بالقريب، والولي بالولي، والعريف بعرافته حتى يستقيم، فوثب عليه ابن نجبة وعبد اللّه بن وال وأساءوا إليه، ثم تشاتموا، وأنزل الأمير عن المنبر وخرج أصحاب سليمان يشترون السلاح ويتجهزون، والمختار يسفهُ رأيهم في ذلك ويرى أنه أبصر منهم.
وكان سبب قدوم المختار الكوفة أن الشيعة كانت تسب المختار بما كان منه من أمر الحسين وإشارته على عمه بالمدائن أن يقبض عليه لمعاوية، ولما جاء مسلم بن عقيل إلى الكوفة، نزل داره وبايعه ودعا، ثم جاء يوم خروجه من قريته بظاهر المدينة الكوفة، ففاته أمر ابن عقيل، ووقع في يد ابن حريث فأمنه، ثم رفع عمارة بن الوليد أمره إلى عبيد الله، فاعتذر بأنه كان مع ابن حريث، وشهد له فضرب عبيد اللّه وجهه بقضيب شتر عينه وحبسه، حتى قتل الحسين فبعث إلى عبد اللّه بن عمرة أن يشفع فيه إلى ابن زياد، وكان زوج أخته صفية بنت أبي عبيد، فشفعه على ألا يقيم بالكوفة، فخرج إلى الحجاز، وسأل في طريقه عن ابن الزبير. فقيل: إنه عائذ بالبيت ومبايع سراً، ولو كثر جمعه لظهر، فقال: هذه فتنة، واعتزم المختار على الطلب بدم الحسين من يومئذ.
وقدم إلى ابن الزبير، وأخبره خبر العراق، ودعاه إلى البيعة، فكتم أمره عنه، ففارقه وغاب بالطائف سنة، ثم رجع إلى مكة، ولم يأت ابنَ الزبير، وكان قد ظهر أمره، فدس عليه ابن الزبير عباس بن سهل بن سعد فلقيه وعذله عن تأخره عن ابن الزبير، فقال: كتم عني وأراني الاستغناء، فاستغنيت عنه، فحمله على لقائه معه، وحضر عند ابن الزبير ليلا وقال: أبايعك على ألا تقضي أمراً دوني، وأكون أول داخل، وتوليني أفضل عملك، فقال ابن الزبير: أبايعك على كتاب اللّه وسنة رسوله، فقال: لا، فبايعه ابن الزبير على ما أحب، وشهد معه قتال الحصين بن نمير، وأبلى فيه.
فلما هلك يزيد، وأطاع أهل العراق ابن الزبير، فإذا هو لا يستعمله، وبلغه الخبر عن الشيعة بالكوفة، ففارق ابن الزبير إليهم، وقدم الكوفة، ونزل في داره، واختلفت إليه الشيعة، وجاءه رءوس الناس من كندة وبني هند، وأخبروه بخبر سليمان بن صرد وأصحابه، وأنهم على المسير، فقال: إن ابن الزبير بعثني إليكم وأمرني بقتال الملحدين والطلب بدم أهل البيت، والدفع عن الضعفاء فبايعوه، وبعث إلى الشيعة الذين عند سليمان بن صرد بمثل ذلك ودعاهم إلى طاعته واستمالهم عن سليمان، فمال إليه طائفة منهم، وخرج سليمان نحو الجزيرة لشأنه، وجاء الناس إلى الأمير عبد اللّه يزيد الخطمي، وصاحبه إبراهيم بن محمد بن طلحة، منهم: شبيب بن ربعي، ويزيد بن الحارث بن رويم، فقالوا لهما: إن المختار يريد أن يثب عليكم وهو أشد من سليمان وجاءوا به، فقال عبد الله: ما كنت لآخذ أحداً على الظنة، وتولى إبراهيم أمره وحبسه، وقيل: إنما جاء المختار إلى الكوفة بأمر ابن الزبير، وإنه قال له: ابعثني أستخرج لك جنداً من شيعة على تقاتل بهم أهل الشام، فبعثه حتى إذا اجتمع إليه الناس، وثب على ابن مطيع عامل ابن الزبير بالكوفة، وكتب إليه: إن ابن مطيع داهن، وراسل عبد الملك؛ فأخرجهُ.(2/102)
وأما سليمان بن صُرَدَ فخرج في ربيع سنة خمس وستين، ونزل النخيلة، ثم استقبل عدد الناس، وأرسل من نادى في الكوفة بثأر الحسين، فجاء بعض وتثاقل بعض، والمختار يثبطهم، وأقام بالنخيلة ثلاثَاً، ثم سار في أربعة آلاف ونادى فيهم: من أراد الدنيا ومتاعها في الفيء والغنيمة فليرجع، وليس معنا إلا سيوفنا وزاد النقلة، فوافقوه، ثم أشار بعضهم بالرجوع إلى الكوفة ومناجزة قتلة الحسين، فأكثرهم هنالك، فقال سليمان: إنما قتله الذي عَبأَ الجنود إليه، ومنعه الأمان حتى يستسلم، وهو ابن زياد، ومن بعده أهون منه.
ولحقه أمير الكوفة عبد اللّه بن يزيد وإبراهيم بن محمد، فعذلاه في المسير، وأشارا عليه بالرجوع حتى نتجهز جميعاً لهذا العدو، فنلقاه بجمع كثيف، وقد كان بلغهم إقبال عبيد الله بن زياد من الشام في الجنود، فلم يوافقهما سليمان ولا أصحابه، وساروا لوجههم، وتخلف عنهم كثير من أصحابهم، وفي ذلك يقول عبد اللّه بن الأحمر يحرض: من الطويل:
صَحَوتُ وقد يَصحو الصبَا والغَوَانِيا ... وقُلتُ لأصحَابي: أَجِيبُوا المنَادِيَا
وقُولُوا لَهُ إذ قَامَ يَدعُو إِلى الهُدَى ... وقَبل الدُعا: لبيك لَبيك دَاعِيَا
ألا فَانْعَ خيرَ الناس جَداً ووالداً ... حُسَيناً إِذَا ما كُنْتَ للذينِ نَاعِيَا
لِيَبك حسينَاً مجتدٍ ذو خَصَاصةِ ... عديمٌ وأَيتَامٌ تشكى المواليا
وأضحَى حُسَين للرماحِ درِيئَة ... وغودر ذا دَرْسَين بالطف ثَاوِيَا
فيا لَيتَني إذ ذاكَ كنتُ شهدتهُ ... فضارَبتُ عنه الشامِتِينَ الأعَادِيَا
سَقَى الله أرضاً ضَمتِ المجدَ والثنَا ... بغَربِيةِ الطَّف الغَمَامَ الغَوادِيَا
فَيَا أُمة تَاهَت وضَلت سَفاهَة ... أنِيبُوا فَأَرضُوا الوَاحِدَ المُتَعَالِيَا
ثم ساروا يقدمهم من ذكر، وعبد الله بن الأحمر يقول: من الرجز:
خَرَجنَ يلمعنَ بنا أرسَالاَ ... عوابساً تَحمِلُنَا أبطَالا
نُرِيدُ أَن نَلقَى بِهَا القتالاَ ... ألقاسِطِينَ الغُدرَ الضلالاَ
وقد رَفَضنَا الوُلدَ والأَموالاَ ... والخَفِرَاتِ البِيضَ والحِجَالاَ
نُرضِي بِهِ ذا النعَمِ المِفضَالا
ثم انتهوا إلى قبر الحسين، فصاحوا وبَكوا، وجددوا التوبة من خذلانه، وأقاموا عنده يومَاً وليلة، فزادهم ذلك حنقاً، وبلغهم كتاب عبد اللّه بن يزيد يثنيهم عن المسير، فأبوا واستماتوا، ثم انتهوا إلى قرقيسيا على تعبئة، وبها زفر بن الحارث الكلابي متحصناً من مروان وقومه، ودخل إليه المسيب بن نجبة يطلبه في السوق لأصحابه، فأمر ابنه الهذيل فأخرج لهم سوقاً، وبعث إليهم بعلف ودقيق وجزائر، واستغنوا بها عن السوق إلا في غير الطعام، وأعطي المسيب ألف درهم وفرساً، فأخذ الفرس ورد المال، ثم خرج زفر من الغداة يودعهم، وأخبرهم بمن سار من الجيوش إليهم، وأنهم عدد كثير وأن أمراءهم الحصين بن نمير، وشرحبيل الكلابي، وأدهم بن محرز، وحملة بن عبيد الله الخثعمي، وعبيد اللّه بن زياد، فأقيموا معنا ونلقاهم جميعاً.
فأبى سليمان وأصحابه من ذلك، فأشار عليهم بوجه الرأي في السير والحرب وودعهم، فساروا مجدينَ إلى عين الوردة، فأقاموا بها خمساً وأراحوا، حتى إذا كانت عساكر الشام على يوم وليلة عنهم فخطبهم سليمان بن صرد وحرضهم، وقال: إن قتلت، فأمير الناس المسيبُ بن نجبة، فإن قتل، فعبد الله بن سعد بن نفيل، فإن قتل، فعبد الله بن وال، فإن قتل، فرفاعة بن شداد.(2/103)
ثم سرح المسيب في أربعمائة فارس يشن عليهم الغارة، فإن رأى ما أحب وإلا رجع، فسار يومه وليلته وجاء أصحابه بأعرابي، فسألوه عن العسكر، فقال: أدنى عسكر منكم شرحبيل بن ذي الكلاع على ميل، وقد اختلف هو وحصين بن نمير في الإمارة، وهما ينتظران أمر ابن زياد، فأغذوا إليهم السير، وأشرفوا عليهم، وهم غارُونَ وحملوا، فانهزم العسكر، وغنم أصحاب المسيب ما فيه ورجعوا إلى أصحابهم موقرين، وسرح ابن زياد الحصين بن نمير مسرعاً حتى نزل في اثني عشر ألفاً، ثم تراجعوا على التعبئة، ولما دنا بعضهم من بعض، دعاهم أهل الشام إلى الجماعة إلى مروان، ودعاهم أصحاب سليمان إلى إسلام عبيد اللّه بن زياد إليهم، وأنهم يخرجون أصحاب ابن الزبير من العراق، ويرد الأمر إلى أهل البيت، ثم اقتتلوا وكان الظهور لسليمان وأصحابه على الحصين، وأمده ابن زياد بثمانية آلاف فاقتتلوا من الغد على السواء، وتحاجزوا عند المساء.
ولما أصبح أهل الشام، أتاهم أدهم بن محرز الباهلي في عشرة آلاف مدداً، فقاتلوهم يوم الجمعة إلى ارتفاع الضحى، ولما رأى سليمان كثرتهم وما لقي أصحابه منهم، كسر جفن سيفه واستمات، واتبعه ناس منهم، فقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة، ثم قتل سليمان، وبعده المسيب بن نجبة بعد أن حمل مراراً، فأخذ الراية عبد اللّه بن سعد بن نفيل، وقاتل فجاءه، وهو في القتال الخبر من عبد اللّه بن سعد ابن حذيفة بمدد أهل المدائن في سبعين ومائة ومدد أهل البصرة مع المثنى بن مخرمة في ثلاثمائة، فقال: لو كان ذلك ونحن أحياء. ثم قتل عبد الله بن سعد، ونادوا عبد اللّه بن وال، فإذا هو قد اصطلى الحرب، فحمل رفاعة بن شداد حتى كشف عن أهل الشام، وجابَه، فأخذ الراية وقاتل، واستماتوا.
وتولى قتالهم عند المساء أدهم بن مخرمة، فقتل عبد الله بن وال وهو مقبل، وأراد رفاعة بن شداد الانصراف بالناس، فقال له بعض أصحابه: لا تفعل حتى يغشانا الليل، فنسير في دلجته على مهل، فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم وأصحاب رفاعة إلى معسكرهم، وقد قتل عامتهم وفشت الجراحة فيهم وفي خيلهم، فسار بالناس ليلته، وأصبح الحصين فلم يرهم، وانتهوا إلى قرقيسيا وأضافهم زفر ثلاثاً، وزودهم إلى الكوفة، وبلغ سعد بن حذيفة بن اليمان - من أهل المدائن - إلى هيت، فلقيه خبرهم فرجع، ولقيه المثنى بن مخرمة العبدي في أهل البصرة بصدد، وِأقاموا حتى جاء رفاعة وأصحابه فاستقبلوه، وبكوا وافترقوا إلى بلادهم، ودخل رفاعة الكوفة، وبعث إليه المختار بن أبي عبيد، وهو محبوس يدعوه إلى طاعته في الطلب بدماء أهل البيت وجهاد الملحدين، وأن سليمان لم يكن صاحبكم الذي تنتصرون به، وبلغ الخبر عبد الملك بن مروان بن الحكم، فخطب الناس وأعلمهم بموت سليمان بن صرد وأصحابه. ولأعشى همدان قصيدة طويلة يرثي بها أهل عين الوردة من التوَابين: سليمان بن صرد الخزاعي وأصحابه ويصف ما فعلوه فقال: من الطويل،
توجهَ مِن دُونِ الثويَّةِ سائراً ... إلى ابنِ زِيادٍ في الجموعِ الكَتَائِب
فَساروا وَهُم مِنْ بَين مُلْتَمِسِ التقَى ... وآخَرَ مما حُم بالأمسِ تَائب
فَلاقَوا بعيْنِ الوردِ جَيشَاً مشاكلاً ... عليهم بِبِيض قَاطِعَات قَواضِب
فَجَاءَهُمُ جمعْ مِنَ الناسِ بَعده ... جُمُوع كمَوْجِ البَحر من كُل جانبِ
فما بَرِحُوا حَتَى أُبِيدَت جُمُوعُهُم ... ولَم ينجُ مِنَهُم ثَم غَيرُ عَصَائب
وغودِرَ أهلُ الصبرِ صرعى فأصبحوا ... تُعَاوِرُهم ريحُ الصبَا والجَنَائِب
وأضحَى الخُزَاعِي الرئيسُ مُجدلاً ... كأن لَم يُقَاتِل مرة ويُحَارب
ورأسُ بني أزدِ وفارسُ قومِه ... جميعاً مع التيمي عاري المَنَاكِبِ
وعَمْرُو بنُ عمرو وابنُ بِشير وخالدٌ ... وبَكر وزيد والحُسَين بن غالبِ
أَبوا غَيرَ ضربٍ يُفْلِقُ الهَامَ حَده ... وطَعنٍ بأَطْرَاف الأسَنةِ لاَزبِ
فيا خيرَ جَيشٍ للعراقِ وأَهلِه ... سُقِيتُمْ روايا كُل أسحَمَ ساكبِ(2/104)
فَلاَ يَبْعَدن فُرْسَانُنَا وحُمَاتُنَا ... إِذَا البِيضُ أبدَت عَن خدامِ الكَوَاعِبِ
فإن تُقْتَلُوا فالقَتْلُ أكرَمُ مِيتَة ... وَكُل فتى يوماً لإحْدَى الشواعِبِ
وما قُتِلُوا حتى أَصَابُوا عصابة ... بِحز نُحُورٍ كالتيُوسِ الضَوَاربِ
وفي كتاب الأذكياء للحافظ أبي الفرج بن الجوزي قال: كان حويطب بن عبد العزى قد بلغ مائة وعشرين سنة، ستين منها في الجاهلية، وستين في الإسلام، فلما ولي مروان بن الحكم دخل عليه، فقال له مروان: ما سنك يا عم؟. فأخبره، فقال له مروان: تأخر إسلامك أيها الشيخ حتى سبقك الأحداث، فقال حويطب: والله لقد نهضت إلى الإسلام غير مرة كل ذلك يعوقني أبوك عنه وينهاني، ويقول: لا تَدع دين آبائك لدين محمد، فأسكت مروان وندم على سؤاله إياه، ثم قال له حويطب: أما أخبرك عثمان بن عفان ما كان لقي من أبيك حين أسلم، فازداد مروان غماً إلى غمه.
وحكى عن البختري بن عبيد، أنه قال: كنت عند معاوية بن أبي سفيان جالساً، وكان حسان من جلسائه - وليس بحسان بن ثابت الصحابي - فأقبل رجل على ناقة حمراء، وعليه برنس، ثم نزل عنها ومشى، حتى دنا من معاوية، وهو جالس، فسلم عليه، فضم له معاوية رجليه، فجلس الرجل على الطنفسة، ثم أقبل عليه معاوية بالحديث، فلما قام، انكشف البرنس، فرأيت عليه قميص كتان، ورأيت أثر مسح زقاق الزيت على قميصه، فقال حسان لمعاوية: من هذا الذي شغلك حديثه يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا رجل يرجو الخلافة من بعدي، فقال له حسان: ليس هذا الزيات بأهل لذلك يا أمير المؤمنين، قال معاوية: مهلاً يا حسان، هذا مروان بن الحكم!
خلافة عبد الملك بن مروان
بعد وفاة أبيه مروان
كان أبوه مروان عند ولايته تزوج أم خالد بن يزيد وهي بنت هاشم بن عتبة، فوقع بين خالد بن يزيد بن معاوية وبين بعض ولد مروان كلام، فقال لخالد: اسكت، فلست واللّه تُعَدّ لا في العير ولا في النفير، فقال له خالد: وهل كان في العير غير جدي، وفي النفير غير جدي، ولكن لو قلت: حبيلات وغنيمات والطائف، ورحم الله عثمان، قلنا: صدقت. انتهى.
قلت في قول خالد: جدي في العير جدي في النفير يشير إلى أن جده لأبيه أبا سفيان هو الذي كان في العير، وجده لأمه هو الذي كان في النفير، وهو عتبة بن ربيعة بن أمية بن عبد شمس لأن أم جده معاوية هي بنت عتبة.
وأما قوله: حبيلات فهي جمع حبلة، وهي أصل الكرمِ.
وقوله: غنيمات والطائف ورحم الله عثمان يعني يعيره بكون جده الحكم والد مروان نفاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فأقام ثمة عنده حبيلات وغنيمات واستمر إلى أثناء خلافة عثمان - رضي الله عنه - فرده إلى المدينة، وكان رده من جملة الأمور المنقومة على عثمان، رضي اللّه عنه.
وأراد مروان أن يقصر بخالد، لما كان حسان بن بحدل يميل إليه، فدخل خالد يوماً على مروان يمشي بين السماطين، فقال مروان: إنه لأحمق، وقال: تنح يا بن رطبة الاستِ يسقطه من عين أهل الشام، فتوجه إلى أمه، فقالت: اكتم خبرك، وأنا أكفيك؛ فلا تصير تسمعها منه، ودخل عليها مروان، فقال: هل قال لك خالد شيئاً. قالت: هو أشد لك تعظيماً من هذا، ثم قام عندها يوماً، فغطته بالوسادة، وتحاملت هي وجواريها عليه، فقتلته، وأراد عبد الملك أن يثأر منها، فقيل له: لا يسمع أن امرأة قتلت أباك.
ولادته سنة اثنتين من الهجرة، بويع في رجب سنة أربع وستين، وكانت الشوكة والغلبة لابن الزبير مدته خمسة عشر شهراً، و قيل: عشرة أشهر، وفاته في رمضان سنة خمس وستين، عمره ثلاث وستون، وقيل: أربع وستون، وقد كان بايع لولده عبد الملك، ثم بعده لولده الآخر عبد العزيز والد عمر بن عبد العزيز، رضي اللّه تعالى عنه.
وثوب المختار بالكوفة وأخباره(2/105)
لما قتل سليمان بن صرد، وقدم الشيعة إلى الكوفة، وكان المختار محبوساً كما مر، كتب إليهم من السجن يعدهم ويمنيهم ويعرفهم أن الذي بعثه ابن الحنفية لطلب الثأر، فقرأ كتابه رفاعة بن شداد، والمثنى بن مخرمة العبدي، وسعد بن حذيفة بن اليمان، ويزيد بن أنس، وأحمد بن شميط البجلي، وعبد اللّه بن شداد البجلي، وبعثوا إليه عبيد اللّه بن كامل منهم: إنا بحيث نسرك، وإن شئت أن نأتيك ونخرجك من الحبس فعلنا، فسر بذلك وأمهلهم.
ثم شفع فيه ابن عمر إلى عبد اللّه بن يزيد، وإبراهيم بن محمد بن طلحة، فأطلق، واستحلفاه ألا يخرج عليهم، ونزل بداره، واختلفت إليه الشيعة، وبايعوه، وقوي أمره.
ثم عزل ابن الزبير إبراهيم بن محمد بن طلحة، وعبد اللّه بن يزيد، واستعمل على الكوفة عبد الله بن مطيع، فقدمها في رمضان سنة خمس وستين، وخطب الناس بأن ابن الزبير أمره ألا يقسم فيئهم في غيرهم، وأن يسير فيهم بسيرة عمر وعثمان، ثم توعدهم على الخلاف، فقالوا: أما فيئنا، فلا يكون غير ذلك، وأما السيرة: فسيرة علي التي سار بها في بلادنا، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان ولا عمر، فقال ابن مطيع: نسير بكل سيرة ترضونها.
ثم بلغه أن المختار يدعو لأهل البيت، وبمن اجتمع له وأشاروا عليه بحبسه، فبعث إليه فاعتذر بالمرض.
وارتاب أصحاب المختار فيما بلغهم عن ابن الحنفية، فساروا إليه بمكة يسألونه واستأذنوه في اتباعه، فقال: وددت أن اللّه انتصَرَ لنا من عدونا بمن يشاء مِنْ خلقه. فرجعوا وأخبروا بذلك المختار، وقالوا له: قد أمرنا بنصرك، فجمع الشيعة، وأخبرهم بما قدم به أصحابهم من عند ابن الحنفية، وأنه أخبرهم رسوله، وأمركم باتباعي وطاعتي فيما دعوتكم إليه من قتال المحلين، والطلب بدماء أهل البيت، وشهد الوافدون بذلك، فاجتمعت الشيعة ومن جملتهم الشعبي وأبو شرحبيل.
وأشار عليه بعض أصحابه بدعاء إبراهيم بن الأشتر؛ ليقوي أمرهم به، فمضى إليه الشعبي في جماعة منهم، وذكر تقدم أبيه في ولاية علي، ودعاه إلى الطلب بدم الحسين وأصحابه، فقال: على أن تولوني، فقالوا: قد جاء المختار بتولية ابن الحنفية، وقد أمرنا بطاعته، فسكت إبراهيم.
ثم جاء المختار بكتاب ابن الحنفية إلى إبراهيم يسأله النصرة ويعده بالولاية العامة، وفيه: من محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر، ودفعه إليه الشعبي، وقرأه وقال: مازال ابن الحنفية يكاتبني، فلا يزيد على اسمه واسم أبيه، فشهد جماعة منهم أنه كتابه، وسكت الشعبي، وسأله إبراهيم بعد انصرافهم فقال: هؤلاء الذين يشهدون سادة القراء، ومشيخة المصر، وفرسان العرب، فكتب أسماءهم عنده، ثم حمل عشيرته على إجابة المختار، وصار يختلف إليه، وتواعدوا للخروج منتصف ربيع الأول سنة ست وستين.
ونما الخبر إلى ابن مطيع، فبعث إلى رءوس الناس في كل ناحية من الكوفة يوقظهم لذلك وألا يؤتوا من قبلهم، فاستعدوا، فركب إياس بن مضارب في الشرط، وأحاط بالسوق والقصر، ثم ركب إبراهيم بن الأشتر يريد المختار قبل الموعد بليلتين، وهو مظهر للسلاح، ولقي إياس بن مضارب، فارتاب به، وأراده على الإتيان لابن مطيع، فأبى، وطعنه فقتله، وافترق أصحاب إياس وجاءوا إلى ابن مطيع، وولى مكانه ابن راشد على الشرطة، ومضى إبراهيم إلى المختار وأخبره بالخبر، وبعثوا في الشيعة وتنادوا بثأر الحسين، ومضَى إبراهيم إلى النخع، فاستركبهم وسار بهم في المدينة ليلاً، وهو يتجنب المواضع التي فيها الأمراء، ثم لقيه بعضهم، فهزمهم ثم آخرين كذلك، ثم رجع إلى المختار، فوجد شبيبَ بنَ رَبعي وحجار بن أبجر العجلي يقاتلانه فهزمهما.(2/106)
وجاء شبيب إلى ابن مطيع، فأشار عليه بجمع الناس والنهوض إلى القوم فقد قوي أمرهم، فركب واجتمع الناس وتوافي إلى المختار نحو أربعة آلاف من الشيعة، وبعث ابن مطيع شبيب بن ربعي في ثلاثة آلاف وراشد بن إياس في أربعة آلاف، فسرح إليهم المختار إبراهيم بن الأشتر لراشد في ستمائة فارس وستمائة راجل، ونعيم بن هبيرة لشبيب في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل، واقتتلوا من بعد صلاة الصبح وقتل نعيم فوهن المختار لقتله، وظهر شبيب وأصحابه عليهم، وقاتل إبراهيم ابن الأشتر راشد بن إياس فقتله، وانهزم أصحابه، فركبهم القتل، وبعث ابن مطيع جيشاً كثيفاً، فهزمهم إبراهيم، ثم حمل على شبيب فهزمه، وزحف المختار فمنعه الرماة من دخول الكوفة، ورجع المنهزمون إلى ابن مطيع، فدهش، فشجعه عمرو ابن الحجاج الزبيدي، وقال له: اخرج واندب الناس، ففعل وقام في الناس، ووبخهم على هزيمتهم وندبهم، ثم بعث عمرو بن الحجاج في ألفين، وشمر بن ذي الجوشن في ألفين، ونوفل بن مساحق في خمسة آلاف، ووقف هو بكناسة، واستخلف على القصر شبيب بن ربعي، فحمل ابن الأشتر على ابن مساحق، فهزمه وأسره ثم مَن عليه، ودخل ابن مطيع القصر، وحاصره إبراهيم بن الأشتر ثلاثاً ومعه يزيد بن أنس وأحمد بن شميط.
ولما اشتد الحصار على ابن مطيع، أشار عليه شبيب بن ربعي بأن يستأمنَ المختار، ويلحق بابن الزبير وله ما بعده، فخرج عليهم مساء، ونزل دار أبي موسى، واستأمن القوم للمختار، فدخل القصر وغدا على الناس في المسجد، فخطبهم ودعا إلى بيعه ابن الحنفية، فبايعه أشراف الكوفة على الكتاب والسنة والطلب بدم الحسين، ووعدهم بحسن السيرة.
وبلغه أن ابن مطيع في دار أبي موسى، فبعث إليه بمائة ألف درهم، وقال: تجهز بهذه، وكان ابن مطيع قد فرق بيوت الأموال على الناس، وسار ابن مطيع إلى وجهه، وملك المختار الكوفة وجعل على شرطته عبد الله بن كامل، وعلى حرسه كيسان أبا عمرة، وجعل الأشراف جلساءه، وعقد لعبد الله بن الحارث بن الأشتر على أرمينية، ولمحمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان، ولعبد الرحمن بن سعيد ابن قيس على الموصل، وإسحاق بن مسعود على المدائن، ولسعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان، وأمره بقتال الأكراد وإصلاح السابلة، وولي شريحاً على القضاء.
ثم طعنت فيه الشيعة بأنه شهد على حجر بن عدي، ولم يبلغ عن هانئ بن عروة رسالته إلى قومه، وأن علياً عزله وأنه عثماني، وسمع ذلك هو، فتمارض، فجعل مكانه عبد اللّه بن عتبة بن مسعود، ثم مرض فولي مكانه عبد الله بن مالك الطائي.
مسير ابن زياد إلى المختار وخلاف أهل الكوفة عليه وغلبه إياهم
كان مروان بن الحكم لما استوثق له أهل الشام، بعث جيشين؛ أحدهما: إلى الحجاز مع حنيش بن دلجة القيني، وقد مر شأنه ومقتله، والآخر: إلى الكوفة مع عبيد اللّه بن زياد، وكان من أمره وأمر التوابين من الشيعة ما تقدَم، وأقام محاصراً لزفر بن الحارث بقرقيسيا، وهو مع قومه قيس على طاعة ابن الزبير، فاشتغل بهم عن العراق سنة أو نحوها، ثم توفي مروان، وولي بعده عبد الملك، فأقره على ولايته وأمره بالجد، وأيس من أمر زفر وقيس، فنهض إلى الموصل، فخرج عنها عبد الرحمن بن سعد عامل المختار إلى تكريت، وكتب إلى المختار بالخبر، فبعث يزيد بن أنس الأسدي في ثلاثة اَلاف إلى الموصل، فساروا إليها على المدائن، وسرح ابن زياد للقائه ربيعة بن المختار الغنوي في ثلاثة اَلاف، والتقيا ببابل، وعبأ في يد أصحابه وهو راكب على حماره وحرضهم، وقال: إن مت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، وإن هلك فعبد الله بن ضمرة العذري، وإن هلك فسعد الحنفي.
ثم اقتتلوا يوم عرفة، وانهزم أهل الشام وقتل ربيعة، وسار العسكر غير بعيد، فلقيهم عبد اللّه بن حملة الخثعمي قد سرحه ابن زياد في ثلاثة آلاف، فرد المنهزمين وأعاد القتال يوم الأضحى، فانهزم أهل الشام، وأثخنت فيهم أهل الكوفة القتل والنهب، وأسروا منهم ثلاثمائة فقتلوهم، وهلك يزيد بن أنس من آخر يومه، وقام بأمرهم ورقاء بن عازب خليفة، وهاب لقاء ابن زياد بعد يزيد، وقال: نرجع لموت أميرنا قبل أن يظهر علينا أهل الشام بذلك وصرف الناس.(2/107)
وتقدم الخبر إلى الكوفة، فأرجف الناس بالمختار، وأشيع أن يزيد قتل، وساء المختار رجوع العسكر، فسرح إبراهيم بن الأشتر في سبعة آلاف، وضم إليه حنيش يزيد، ثم تناجز ابن زياد فساروا لذلك، ثم اجتمع أشراف الكوفة عند شبيب بن ربعي - وكان شيخهم جاهلي إسلامي - وشكوا من سيرة المختار وإيثاره الموالي عليهم، ودعوه إلى الوثوب به، فقال: حتى ألقاه وأعذر إليه، ثم ذهب إليه وذكر له جميع ما ذكروه، فوعده الرجوع إلى رضاهم له، وذكر شأن الموالي وشوكتهم في الفيء، فقال: إن أعطيتموني عهدكم على قتال بني أمية وابن الزبير، تركتهم، فقال: اخرج إليهم بذلك، وخرج فلم يرجع، واجتمع رأيهم على قتاله، وهم: شبيب بن ربعي، ومحمد بن الأشعث، وعبد الرحمن بن سعد بن قيس، وشمر بن ذي الجوشن، وكعب بن أبي كعب الخثعمي، وعبد الرحمن بن مخنف الأزدي، وكان ابن مخنف أشار عليهم بأن يمهلوا لقدوم أهل الشام ومجيء أهل البصرة؛ فيكفونهم أمره قبل أن يقاتلكم بمواليكم وشجعانكم، وهو عليكم أشد، فأبوا رأيه، وقالوا: لا تفسد جماعتنا.
ثم خرجوا وشهروا السلاح، وقالوا للمختار: اعتزلنا، فإن ابن الحنفية لم يبعثك. قال: فتعالوا نبعث إليه الرسل مني ومنكم، وأخذ يعللهم بمثل هذه المراجعات، وكف أصحابه عن قتالهم ينظرون وصول إبراهيم بن الأشتر، وقد بعث إليه بالرجوع، فجاء والقوم مجتمعون ورفاعة بن شداد البجلي يصلي بهم، فلما وصل إبراهيم، عبأ المختار أصحابه، وسرح بين يديه أحمد بن شميط البجلي، وعبد اللّه بن كامل الشاكري، فانهزم أصحابهما وصبرا، وأمدهما المختار بالرجال والفرسان فوجَاً بعد فَوْج، وصار ابن الأشتر إلى مضر، وفيهم شبيب بن ربعي، وقاتلهم فهزمهم، واشتد ابن كامل على أهل اليمن، فرجع رفاعة بن شداد أمامهم إلى المختار، فقاتل معه حتى قتل، وقتل من أهل اليمن عبد اللّه بن سعيد بن قيس والفرات بن زفر بن قيس، وعمرو بن مخنف، وجرح أخوه عبد الرحمن، فمات، فانهزم أهل اليمن هزيمة قبيحة وأسر من الوادعيين خمسمائة أسير، فقتل المختار كل من شهد قتل الحسين منهم، وكانوا نصفهم وأطلق الباقين، ونادى المختار بالأمان إلا من شرك في دماء أهل البيت، وفر عمرو بن الحجاج الزبيدي وكان أشد من حضر قتل الحسين؛ فلم يوقف له على خبر، وقيل: أدركه أصحاب المختار، فأخذوا رأسه، وبعث في طلب شمر بن ذي الجوشن، فقتل طالبه، وانتهى إلى قرية الكلتانية، فارتاح يظن أنه نجا، وإذا في قرية أخرى بإزائه أبو عمرة صاحب المختار بعثه مصلحاً بينه وبين أهل البصرة، فنما إليه خبره، فبعث إليه وألقى شلوه للكلاب، وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلا أكثرهم من اليمن، وكانت آخر سنة ست وستين.
وخرج أشراف الناس إلى البصرة، وتتبع المختار قتلة الحسين، ودل عليهم عبيد الله بن أسد الجهني، ومالك بن الأشتر الكندي، وحمل بن مالك المحاربي، بالقادسية، فأحضرهم وقتلهم، ثم أحضر زياد بن مالك الضبعي، وعمران بن خالد الغنوي، وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي، وعبد اللّه بن قيس الخولاني، وكانوا نهبوا من الورس الذي كان مع الحسين، فقتلهم، وأحضر عبد اللّه وعبد الرحمن ابني طلحة، وعبد اللّه بن وهب الهمداني، ابن عمرو الأعشى، فقتلهم، وأحضر عثمان بن خالد الجهني، وابن أسماء بشر بن شميط القابسي، وكانا مشتركين في قتل عبد الرحمن بن عقيل وفي سلبه، فقتلهما، وحرقهما بالنار، وبحث عن حولي بن يزيد الأصبحي صاحب رأس الحسين، فجيء برأسه وحرق بالنار، ثم قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص بعد أن كان أخذ له الأمان من عبد اللّه بن جعدة بن هبيرة، فبعث أبا عمرة فجاءه برأسه وابنه حفص عنده، فقال: تعرف هذا؟ قال: نعم، ولا خير في العيش بعده، فقتله.(2/108)
وعن الهيثم بن حسن بن عمارة قال: قدم شيخ من خزاعة أيام المختار، فنزل على عبد الله بن أبي أبزي الخزاعي، فلما رأى ما تصنع شيعة المختار به من الإجلال والإعظام، جعل يقول: يا عباد اللّه أبالمختار يصنع هذا؟! والله، لقد رأيته يبيع بالإماء بالحجاز، فبلغ ذلك المختار، فدعا به وقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: الباطل، فأمر بضرب عنقه، فقال: لا واللّه لا تقدر على ذلك، قال: ولم؟! قال: أما إني أنظر إليك وقد فتحتَ مدينة دمشق حجراً حجراً وقتلت المقاتلة، وسبيت الذرية، ثم تصلبني على شجرة على نهر، والله إني لأعرف الشجرة الساعة، وأعرف شاطئ ذلك النهر، قال: فالتفت المختار إلى أصحابه، فقال لهم: أما إن الرجل قد عرف السحر، فحبس حتى إذا كان الليل بعث إليه، فقال: يا أخا خزاعة، أو مزاح عند القتل؟ فقال: أنشدك اللّه أن أقتل ضياعاً، قال: وما تطلب هاهنا؟ قال: أربعة آلاف درهم أقضي بها ديني، قال: ادفعوها له، وإياك أن تصبح بالكوفة. فقبضها وخرج ليلته.
وعنه قال: كان سراقة البارقي من ظرفاء أهل المدينة، فأسره رجل من أصحاب المختار، فآتى به المختار، وقال: أسرت هذا، فقال سراقة: كذب واللّه ما أسرني إنما أسرني رجل عليه ثياب بيض على فرس أبلق، فقال المختار: أما إن الرجل قد عاين الملائكة، خلوا سبيله فلما أفلت، أنشأ يقول: من الوافر:
أَلاَ أَبْلِغْ أبا إسحاقَ عَني ... بأَن البُلْقَ دُهْم مُصْمتَات
أرى عَيْنَي مَا لَمْ تَرْأَياهُ ... كِلاَنَا مولَع بِالتُرهَاتِ
كَفَرْتُ بِدِينِكُمْ وجعلتُ نَذْراً ... عَلي قِتَالَكُمْ حَتى المَمَات
ويقال: إن الذي بعث المختار على قتلة الحسين أن يزيد بن شراحيل الأنصاري قدم على محمد بن الحنفية، فقال له ابن الحنفية: يزعم المختار أنه لنا شيعة، وقتلة الحسين عنده على الكراسي يحدثونه. فلما سمع المختار ذلك، تتبعهم بالقتل، وبعث برأس عمر وابنه إلى ابن الحنفية، وكتب إليه أنه قتل من قدر عليه وهو في طلب الباقين، ثم أحضر حكيم بن طفيل الطائي، وكان رمى الحسين وأصاب سلب العباس ابنه، وجاء عدي بن حاتم ليشفع فيه، فقتله ابن كامل والشيعة قبل أن يصل حذراً من قبول المختار شفاعته.
وبحث عن مرة بن منقذ بن عبد القيس قاتل علي بن الحسين، فدافع عن نفسه، ونجا إلى مصعب بن الزبير، وقد شلت يده بضربة.
وبحث عن زيد بن رقاد الجنبي قاتل عبد اللّه بن مسلم بن عقيل رماه بسهمين، وقد وضع كفه على جبهته يتقي النبل، فأثبت كفه في جبهته، وقتله بالأخرى، فخرج بالسيف يدافع، فقال لهم ابن الكامل: ارموه بالحجارة، فرموه حتى سقط وأحرقوه حياً.
وطلب سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين فلحق بالبصرة.
وطلب عمرو بن صبيح الصدائي، فقتله طعنَاً بالرماح.
وأرسل في طلب محمد بن الأشعث، وهو بقريته عند القادسية، فهرب إلى مصعب وهدم المختار داره، وطلب آخرين كذلك من المتهمين بأمر الحسين، فلحقوا بمصعب وهدم دورهم.
شأن المختار مع ابن الزبير
كان على البصرة الحارث بن أبي ربيعة، وهو القباع عاملاَ لابن الزبير وعلى شرطته عباد بن حسين وعلى المقاتلة قيس بن الهيثم، وجاء المثنى بن مخرمة العبدي، وكان ممن شهد مع سليمان بن صرد، ورجع فبايع المختار وبعثه إلى البصرة يدعو له، فجاءه كثير من الناس، وعسكر لحرب القباع، فسرح إليه عباد بن الحسين، وقيس بن الهيثم في العساكر، فانهزم المثنى إلى قومه عبد القيس، وأرسل القباع عسكراً يأتون، فجاءه زياد بن عمرو العتكي، فقال له: لتردن خيلك عن إخواننا، أو لنقاتلنهم فأرسل الأحنف بن قيس، وأصلح الأمر على أن يخرج المثنى عنهم فسار إلى الكوفة.(2/109)
وقد كان المختار لما خرج المطيع من البصرة، كتب إلى ابن الزبير يخادعه ليتَم أمره في الدعاء لأهل البيت، وطلبه المختار بالوفاء لما وعده من الولاية، فأراد ابن الزبير أن يتبين الصحيح من أمره، فولى عمرو بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على الكوفة، وأعلمه بطاعة المختار وبعثه إليها، وجاء الخبر إلى المختار، فبعث زائدة بن قدامة في خمسمائة فارس، وأعطاه سبعمائة درهم، وقال: ادفعها إلى عمرو، فهي ضعف ما أنفق وأمره بالانصراف بعد أن تكمن خيلك، فإن أبى فَأَرِهِ الخيل، وكان كذلك، ولما رأى عمرو الخيل، أخذ المال، وسار نحو البصرة، واجتمع هو وابن مطيع في إمارة القباع قبل وثوب المثنى بن مخرمة.
وقيل: إن المختار كتب إلى ابن الزبير: إني اتخذت الكوفة داراً، فإن سوغتني ذلك وأعطيتني مائة ألف درهم، سرت إلى الشام، وكفيتك مروان، فمنعه من ذلك، وأقام المختار يصانعه ويوادعه ليتفرغ لأهل الشام.
ثم بعث عبد الملك بن مروان عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى، فكتب المختار إلى ابن الزبير يعرض عليه المدد، فأجابه أن يعجل بإنفاذ الجيش إلى جند عبد الملك بوادي القرى، فسرح شرحبيل بن ورس الهمداني في ثلاثة آلاف أكثرهم من الموالي، وأمره أن يأتي المدينة ويكاتبه بذلك، واتهمه ابن الزبير فبعث من مكة عباس بن سهل بن سعد في ألفين، وأمره أن يستنفر العرب، وإن رأى من جيش المختار خيلا، فناجزهم وأهلكهم. فلقيهم عباس بالرقيم، وهم على تعبئة، وقال: سيروا بنا إلى العدو الذي بوادي القرى، فقال ابن ورس: إنما أمرني المختار أن آتي المدينة، ففطن عباس لما يريد، وأنزلهم وجاءهم بالعلوفة والزاد وتخير ألفاً من أصحابه وحمل عليهم، فقتل ابن ورس وسبعين معه من شجعان قومه وأمن الباقين فرجعوا إلى الكوفة، ومات أكثرهم في الطريق. وكتب المختار إلى ابن الحنفية يشكو ابن الزبير ويوهمه أنه بعث الجيش في طاعته، ففعل ابن الزبير ما فعل، ويستأذنه في بعث الجيوش إلى المدينة، ويبعث ابن الحنفية عليهم رجلا من قبله فيعلم الناس أني في طاعتك، فكتب إليه ابن الحنفية: قد عرفت قصدك، ووفاءك بحقي، وأحب الأمور إلى الطاعة، فأطع اللّه وتجنب دماء المسلمين، فلو أردتُ القتال لوجدت الناس إلي سراعاً، والأعوان كثيراً، لكن اعتزلهم، واصبر حتى يحكم اللّه وهو خير الحاكمين!.
ثم دعا ابن الزبير محمد ابن الحنفية ومن معه من الشيعة وأهل بيته إلى البيعة، فامتنع، وبعث إليه ابن الزبير، وأغلظ عليه وعليهم، فاستكانوا وصبروا، فتركهم. وذكر المسعودي عن عمرو بن شيبة، عن مساور بن السائب، أن ابن الزبير خطب أربعين يوماً لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ما يمنعني أن أصلي إلا شمخ رجال بآنافها!.
ودخل عبد الله بن عباس على ابن الزبير، فقال له ابن الزبير: أنت الذي تؤنبني وتبخلني؟ قال ابن عباس: نعم، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس المسلم الذي يشبعُ ويَجُوعُ جاره " ، قال ابن الزبير: إني أكتُمُ بغضَكم أهلَ هذا البيت منذ أربعين سنة - وجرى بينهما خطب طويل.
وخطب ابن الزبير فقال: ما بال أقوام يفتون بالمتعة، ويتنقصون حواري رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين عائشة؟! ما بالهم أعمى اللّه بصائرهم كما أعمى أبصارهم - يعرض بابن عباس - فقال ابن عباس لقائده: اهدني إليه، فقال له: أما قولك في المتعة، فسل أمك تخبرك؛ فإن أول مجمر سطع للمتعة لمجمر سطع بين أمك وأبيك.
قلت: يريد متعة الحج لا متعة النكاح؛ فإن الزبير تزوج أسماء بنت أبي بكر في الإسلام من أبيها معلناً، فكيف تكونُ متعة نكاح؟ حمى اللّه الزبير عن ذلك، وحمى اللّه ابن عباس عن إرادة ما هنالك. انتهى.
وأما قولك: أم المؤمنين فبنا سميت أم المؤمنين، وضرب عليها الحجاب.
وأما قولك: حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد لقيته في الزحف - يعني حرب يوم الجمل - وأنا مع إمام هدى، فإن يكن على ما أقول، فقد كفر بقتاله، وإن يكن على ما تقول، فقد كفر بهربه.
ثم انصرف ابن عباس يقوده غلامه.
قلت: هذا الكلام عدم صحة معناه دليل على عدم صحة نسبته لابن عباس، رضي الله عنهما.(2/110)
أما أولا: فإن الزبير لم يهرب من علي يوم الجمل، وإنما لما ذكره علي - رضي اللّه تعالى عنه - بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك ستقاتله، وأنت له ظالم " تذكَّر. ورجع واستغفر؛ كما تقدم ذكر ذلك في وقعة الجمل.
وأما ثانياً: فلأنه ليس القتال ولا الهرس كفر إن فرض وقوع ذلك؛ إذ غاية ما فيه أنْ يكونْ خروجاً عن الإمام العادل لشبهة قامَت عند الخارج، وهو ليس بكفر بل معصية وفسوق؛ وتأمل قوله - عليه الصلاة والسلام - للزبير: " وأنت له ظالم " ولم يقل: وأنت كافر؛ وكذلك قوله - عليه الصلاة والسلام - لعمار: " تَقْتُلُكَ الفئة الباغية " ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - في الحسن مع معاوية وقومه: " وسيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " ؛ فسماهم مسلمين مع أنهم خارجون عن الحسن ظالمون له بقتالهم، فتأمل ذلك؛ لكن الراوي لهذه القصة المسعودي وهو من هو، وما هذا بأعجب مما رواه من قوله: أَكتُمُ بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة!.
وروى أن ابن الزبير خطب، فقال في أثناء خطبته: عذرت بني الفواطم أن يتكلموا، فما بال ابن الحنفية؟! فقال محمد ابن الحنفية: يا بن أم رومان، ومالي لا أتكلم؟! أليست فاطمة بنت محمد حليلة أبي، وأم أخوتي؟ أليست فاطمة بنت أسد جَدتي؟ أو ليست فاطمة بنت عمرو بن عائذ جدة أبي؟! أما والله لولا خديجة بنت خويلد بن أسد ما تركت في بني أسد عظماً إلا هشمته، وإن نالتني منهم المعايب، صبرت.
ولما استولى المختار على الكوفة، وأظهرت الشيعة دعوة ابن الحنفية، خاف ابن الزبير أن يتداعى الناس إلى الرضا به، فاعتزم عليهم في البيعة وتوعدهم بالقَتْل، وحبسهم بزمزم، وضرب لهم أجلا، وكتب ابن الحنفية إلى المختار بذلك فأخبر الشيعة ونحبهم، وبعث أمراء منهم في نحو ثمانمائة عليهم عبد اللّه الحذلي، وبعث لابن الحنفية أربعمائة ألف درهم، وساروا إلى مكة، فدخلوا المسجد الحرام وبأيديهم الخشب - كراهة إشهار السيف في الحرم - وطفقوا ينادون بثأر الحسين حتى انتهوا إلى زمزم، وأخرجوا ابن الحنفية، وقد كان بقي من أجله يومان واستأذنوه في قتال ابن الزبير، فقال: لا أستحل القتال في الحرم، ثم جاء باقي الجند، وخافهم ابن الزبير، وخرج ابن الحنفية إلى شعب علي، واجتمع له أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم المال وامتنع، ولما قتل المختار واستوثق أمر ابن الزبير، بعث إليه بالبيعة، فخافه على نفسه، وكتب لعبد الملك، فأذن له أن يقدم الشام حتى يستقيم أمر الناس، ووعده بالإحسان فخرج ابن الحنفية وأصحابه إلى الشام، ولما وصل مدين، لقيه خبر مهلك عمرو بن سعيد فندم، وأقام بأيلة وظهر للناس فضله وعبادته وزهده، وكتب له عبد الملك أن يبايعه، فرجع إلى مكة ونزل شعب أبي طالب، فأخرجه ابن الزبير إلى الطائف، وعذل ابن عباس ابن الزبير على شأنه، ثم خرج عنه ولحق بالطائف ومات هناك، فصلى عليه ابن الحنفية وعاش حتى أدرك حصار الحجاج لابن الزبير، ولما قتل ابن الزبير، بايع محمد ابن الحنفية لعبد الملك، وكتب عبد الملك إلى الحجاج بتعظيم حقه وبَسطِ أمله، ثم قدم الشام، وطلب من عبد الملك أن يرفع عنه، ففْعل.
وقيل: إن ابن الزبير بعث إلى ابن عباس وابن الحنفية في البيعة، فقالا: حتى يجتمع الناس على إمام؛ فإن هذه فتنة، فحبس ابن الحنفية في زمزم، وضيق على ابن عباس في منزله، فأراد إحراقهما، فأرسل المختار جيشه كما تقدَّم ونفس عنهما، فلما قتل المختار، قوي ابن الزبير عليهما، فخرجا إلى الطائف.
مقتل ابن زياد(2/111)
ولما فرغ المختار من قتال أهل الكوفة آخر سنة ست وستين، بعث إلى إبراهيم ابن الأشتر لقتال ابن زياد، وبعث معه بالكرسي الذي يستنصر به، وهو كرسي قد غشاه بالذهب، وقال للشيعة: هذا فيكم مثل التابوت في بني إسرائيل، فكثر السبئية، وأحضره قتال ابن زياد، فكان له الظهور، فازدادت الشيعة فتنة، ويقال: إنه كرسي علي بن أبي طالب، وإن المختار أخذه من ولد جعدة بن هبيرة، وكانت أمه أم هانئ بنت أبي طالب، فهو ابن أخت علي، ثم أسرع إبراهيم بن الأشتر السير، وأوغل في أرض الموصل، وكان ابن زياد قد ملكها كما مر، فلما دخل إبراهيم أرض الموصل، عبأ أصحابه، ولما بلغ نهر الخابور، بعث على مقدمته الطفيل بن لقيط النخعي، ونزل ابن زياد قريباً من النهر، وكانت قيس مضطغنة على بني مروان من وقعة المرج، وجند عبد الملك يومئذ كليب، فلقي عمير بن الحباب السلمي إبراهيم ابن الأشتر، ووعده بأن ينهزم بالميسرة، وأشار عليه بالمناجزة، ورأى عند ابن الأشتر ميلا إلى المطاولة فثناه عن ذلك، وقال: إنهم ملئوا منكم رعباً، وإن طاولتهم اجترءوا عليكم، قال: وبذلك أوصاني صاحبي، ثم عبأ أصحابه في السحر الأول يمشي ويحرض الناس حتى أشرف على القوم، وجاء عبد الله بن زهير السكوني بأنهم خرجوا على دهش وفشل، وابن الأشتر يحرض أصحابه ويذكرهم فعال ابن زياد وأبيه، ثم التقى الجمعان، وحمل الحصين بن نمير من ميمنة أهل الشام على ميسرة إبراهيم، فقتل علي بن مالك الخثعمي، ثم أخذ الراية قرة بن علي، فقتل، وانهزمت الميسرة كما كانوا، وحملت ميمنة إبراهيم على ميسرة ابن زياد، وهم يرجون أن ينهزم عمير بن الحباب كما وعدهم، فمنعته الأنفة من ذلك وقاتل قتالا شديداً، وقصد ابن الأشتر قلب العسكر وسواده الأعظم، فاقتتلوا أشد قتال حتى كانت أصوات الضرب بالحديد كأصوات القَصارين، وإبراهيم يقول لصاحب الراية: انغمس برايتك فيهم، ثم حملوا حملة رجل واحد، فانهزم أصحاب ابن زياد، وقال ابن الأشتر: إني قتلت رجلا تحت راية منفردة، شممت منه رائحة المسك، وضربته بسيفي فقصمته نصفين فالتمسوه، فإذا هو ابن زياد، فأخذ رأسه وأحرقت جثته.
وحمل شريك بن جدير التغلبي على الحصين من غير سلاح، فاعتنقه وجاء به أصحابه، فقتلوا الحصين، ويقال: إن الذي قتل ابن زياد هو ابن جدير هذا، وقتل شرحبيل بن ذي الكلاع، وادعى قتله سفيان بن يزيد الأزدي، وورقاء بن عازب الأسدي، وعبيد اللّه بن زهير السلمي، واتبع أصحاب ابن الأشتر المنهزمين، فغرق في البحر أكثر ممن قتل وغنموا جميع ما في العسكر، وطير ابن الأشتر البشارة إلى المختار، فأتته بالمدائن، وأنفذ ابن الأشتر عماله إلى البلاد، فبعث أخاه عبد الرحمن إلى نصيبين، وغلب على سنجار ودارة وما والاهما من أرض الجزيرة، وولى زفر ابن الحارث قرقيسيا، وحاتم بن النعمان الباهلي حَران والرهَا وسميساط، وعمير بن الحباب السلمي كفر توثا وطور عبدين، وأقام بالموصل، وأنفذ رءوس عبيد اللّه وقواده إلى المختار.
مسير مصعب إِلى المختار وقتله إياه
كان ابن الزبير في أول سنة سبع وستين - أو آخر سنة ست - عزل الحارث بن أبي ربيعة - وهو القباع - وولى مكانه أخاه مصعباً، فقدم البصرة، وصعد المنبر، وجاء الحارث فأجلسه مصعب تحته بدرجة، ثم خطب وقرأ الآَيات من أول القصص ونزل، ولحق به أشراف الكوفة، حين هربوا من المختار، ودخل عليه شبيب بن ربعي، وهو ينادي: واغوثاه، ثم قدم محمد بن الأشعث بعده، واستحثوه على المسير، وبعث عن المهلب بن أبي صفرة، وهو عامله على فارس ليحضر معه قتال المختار، فأبطأ، واعتل، فأرسل إليه محمد بن الأشعث بكتابه، فقال المهلب: ما وجد مصعب بريداً غيرك؟! فقال: ما أنا ببريد، ولكن غلبنا عبيدنا على آبائنا وحرمنا، فأقبل معه المهلب بالجموع والأموال، وعسكر مصعب عند الجسر.(2/112)
وأرسل عبد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة سِراً ليثبط الناس عن المختار، ويدعو الناس إلى ابن الزبير، وسار على التعبئة، وبعث في مقدمته عباد بن الحصين الحبطي التميمي، وعلى ميمنته عمر بن عبيد اللّه بن معمر، وسار ميسرته المهلب، وبلغ الخبر المختار، فقام في أصحابه وندبهم إلى الخروج مع ابن شميط، وعسكر بحمام أعين، وبعث برءوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر مع ابن شميط، فسار وعلى مقدمته ابن كامل الشاكري، وانتهى إلى المدار فعسكر قريباً من مصعب، ثم حمل عباد صاحب مقدمة مصعب على ابن شميط وأصحابه، فثبتوا وحمل المهلب على الميسرة على ابن كامل فثبت، ثم كَر المهلب وحمل حملة منكرة وصبر ابن كامل قليلا وانهزموا، وحمل الناس جميعاً على ابن شميط، فانهزم وقتل واستحرَّ القتل في الرجال، وبعث مصعب عباداً فقتل كل أسير أخذه، وتقدم محمد بن الأشعث في خيل من أهل الكوفة؛ فلم يحركوا منهزمَاً إلا قتلوه.
ولما فرغ مصعب منهم، أقبل فقطع الفرات، وسار إلى الكوفة، ولما بلغ المختار خبر الهزيمة ومن قتل من أصحابه، وأن مصعباً أقبل إليه في البر والبحر سار إلى مجمع الأنهار - نهر الجزيرة والسلحين والقادسية ونهر يوسف - فكسر الفرات فذهب ماؤه في الأنهار، وبقيت السفن سفن أهل البصرة في الطين، فخرجوا إلى الكسر وأزالوه وقصدوا الكوفة، وسار المختار فنزل حروراء بعد أن حصن القصر، وأدخل عدة الحصار.
وأقبل مصعب وعلى ميمنته المهلب، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني، وعلى الخيل عمرو بن عبد الله النهدي، ونزل محمد بن الأشعث فيمن هرب من أهل الكوفة بين العسكرين.
ولما التقى الجمعان، اقتتلوا ساعة وحمل عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي على من بازائه، فحطم أصحاب المختار حطمة منكرة وكشفوهم، وحمل مالك بن عمرو النهدي في الرجالة عند المساء على ابن الأشعث حملة منكرة، فقتل ابن الأشعث وعامة أصحابه، وقتل عبيد الله بن علي بن أبي طالب، وقاتل المختار، ثم افترق الناس عنه ودخل القصر، وسار مصعب من الغد فنزل السبخة، وقطع عنهم الميرة، وكان الناس يأتونهم بالقليل من الطعام والشراب خفية، ففطن مصعب لذلك فمنعه، وأصابهم العطش، فكانوا يصبون العسل في الآَبار ويشربون.
ثم إن المختار أشار على أصحابه بالاستماتة فتحنط وتطيب وخرج في عشرين رجلا منهم السائب بن مالك الأشعري فعذله، فقال: ويحك يا أحمق، وثب ابن الزبير بالحجاز، وابن نجدة باليمامة، ومروان بالشام، فكنت كأحدهم إلا أني طلبت بثأر أهل البيت إذ نامت عنه العرب، فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نية، ثم تقدم فقاتل حتى قتل على يد رجلين من بني حنيفة أخوين: طرفة وطراف ابني عبد اللّه بن دجاجة.
وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة لما رأى عزم المختار على الاستماتة تدلى من القصر واختفى عند بعض إخوانه، ثم بعث الذين بقوا بالقصر إلى مصعب، ونزلوا على حكمه، فقتلهم أجمعين، وأشار عليه المهلب باستبقائهم، فاعترض أشراف الكوفة ورجع إلى رأيهم، ثم أمر بكف المختار بن أبي عبيد فقطعت وسمرت إلى جانب المسجد، فلم ينزعها من هنالك إلا الحَجاج. وقتل زوجته خولة بنت النعمان ابن بشر زعمت أن المختار رجل كان يقول ربي اللّه وكان يصوم نهاره ويقوم ليله، وأنه بذل دمه للّه ولرسوله في طلب قتلة الحسين وأهل بيته، فاستأذن أخاه عبد الله وقتلها؛ كذا في تاريخ ابن خلدون.(2/113)
قال المسعودي: آتى مصعب بحريم المختار، فدعاهن إلى البراءة منه فقبلنَ، إلا حرمتان؛ إحداهما؛ فاطمة بنت سمرة بن جندب الفزاري، والأخرى: خولة بنت النعمان بن بشير الأنصاري، فكتب مصعب بخبرهما إلى أخيه عبد الله بن الزبير، فكتب إليه: إن رجعتا عما هما عليه وبرئتا، وإلا فاقتلهما، فلما طلب البراءة منهما، قالتا: كيف نبرأ من رجل يقول ربي الله، كان صائم النهار وقائم الليل، قد بذل دمه لله ورسوله في طلب قتلة ابن بنت نبيه وأهله وشيعته، فأمكنه اللّه منهم حتى شفى النفوس، وأبرد الأكباد، فعرضهما مصعب على السيف، فأجابت الفزارية وتبرأت منه ولعنته، وقالت: لو دعوتموني إلى الكفر مع السيف، لكفرت، وأما ابنة النعمان الأنصارية فأبت، وقالت شهادة أرزقها فأتركها؟! كلا إنها موتة ثم الجنة، وأقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، اللهم، اشهد أني متبعة نبيك وابن عمه وأهل بيته، ثم قدمت فقتلت، ففي ذلك يقول عمر بن أبي ربيعة: من الخفيف:
إِن مِن أَعجَبِ الأَعَاجِيبِ عِندِي ... قَتل حَسنَاءَ غَادَةٍ عطبُولِ
قَتَلُوهَا ظُلماً عَلَى غَيرِ جُزمٍ ... إن لِلهٍ دَرَّهَا مِن قَتِيلِ
كُتِبَ القَتلُ والقِتَالُ عَلَينَا ... وَعَلَى الغَانِيَاتِ جَر الذيُولِ
ثم كتب مصعب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويعده بالولاية على أعنة الخيل، وما غلب عليه من أرض العرب، وكتب إليه عبد الملك بولاية العراق، واختلف إليه أصحابه، وجنح إلى مصعب خشية مما أصاب من ابن زياد وأشراف الشام، فكتب إلى مصعب بالإجابة، وسار إليه فبعث على عمله بالموصل والجزيرة وأرمينية وأذربيجان المهلب بن أبي صفرة.
وقيل: إن المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة، وإنه بعث على مقدمته أحمد بن شميط، وبعث مصعب عبادَاً الحبطي، ومعه عبيد الله بن علي بن أبي طالب، وتوافوا ليلا، فناجزهم المختار من ليلته، وانكشف أصحاب مصعب إلى عسكرهم، واشتد القتال وقتل من أصحاب مصعب جماعة منهم محمد ابن الأشعث، فلما أصبح المختار وجد أصحابه قد توغلوا في أصحاب مصعب، وليس عنده أحد، فانصرف ودخل قصر الكوفة، وفقده أصحابه، فلحقوا به، ودخل القصر معه ثمانية آلاف منهم، وأقبل مصعب فحاصرهم أربعة أشهر يقاتلهم بالسيف كل يوم حتى قتل، وطلب الذين في القصر الأمان من مصعب، ونزلوا على حكمه فقتلهم جميعاً، وكانوا ستة آلاف رجل.
ولما ملك مصعب الكوفة، بعث عبد الله بن الزبير ابنه حمزة على البصرة مكان مصعب، فأساء السيرة، وقصر بالأشراف، ففزعوا إلى مالك بن مسمع، فخرج إلى الجسر وبعث إلى حمزة: الحق بأبيك، وكتب الأحنف إلى أبيه أن يعزله عنهم ويعيد لهم مصعباً، ففعل، وخرج بالأموال فعرض له مالك بن مسمع، وقال: لا ندعك تخرج بأعطياتنا، فضمن له عمر بن عبيد اللّه العطاء، فكف عنه، وقيل: إن عبد الله بن الزبير إنما رد مصعباً إلى البصرة عند وفادته عليه بعد سنة من قتل المختار، ولما رد إلى البصرة، استعمل عمر بن عبيد اللّه بن معمر على فارس، وولاه حرب الأزارقة، وكان المهلب على حربهم أيام مصعب وحمزة، فلما أراد أن يولي المهلب الموصل والجزيرة وأرمينية؛ ليكون بينة وبين عبد الملك، فاستقدمه واستخلف على عمله ابنه المغيرة، فلما قدم البصرة، عزله مصعب عن حرب الخوارج وبلاد فارس، واستعمل عليها عمر بن عبيد اللّه بن معمرة فكان له في حروبهم ما نذكره في أخبار الخوارج.
خلاف عمرو بن سعيد الأشدق ومقتله(2/114)
كان عبد الملك بعد رجوعه من قنسرين، أقام بدمشق زماناً، ثم سار لقتال زفر بن الحارث الكلابي بقرقيسيا، واستخلف على دمشق عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي - ابن أخته - وسار معه عمرو بن سعيد، فلما بلغ بطنان، انتقض عمرو، وأسرى ليلا إلى دمشق، وهرب ابن أم الحكم عنها، فدخلها وهدم داره، واجتمع إليه الناس فخطبهم ووعدهم، وجاء عبد الملك على أثره، فحاصره بدمشق، ووقع بينهما القتال أياماً، ثم اصطلحا وكتبا بينهما كتاباً وأمنه عبد الملك، فخرج إليه عمرو، ودخل عبد الملك دمشق فأقام أربعة أيام، ثم بعث إلى عمرو ليأتيه، فقال له عبد الملك بن يزيد بن معاوية وهو صهره وكان عنده: لا تأته؛ فإني أخشى عليك منه، فقال: والله لو كنت نائماً ما أيقظني، ووعد الرسول بالرواح إليه.
ثم آتى بالعشي ولبس درعه تحت القباء، ومضَى في مائة من مواليه، وقد جمع عبد الملك عنده بني مروان، وحسان بن بحدل الكلبي، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي، وأذن لعمرو فدخل، ولم يزل أصحابه يجلسون عند كل باب حتى بلغ غاية الدار وما معه إلا غلام، ونظر إلى عبد الملك والجماعة حوله فأحس بالشر، فقال للغلام: انطلق إلى أخي يحيى، وقل له يأتيني، فلم يفهم عنه، وأعاد عليه فيجيبه الغلام: لبيك؟ وهو لا يفهم، فقال له: اغرب عني، ثم أذن عبد الملك لحسان وقبيصة فلقيا عمراً، ودخل فأجلسه معه على السرير وحادثه زمناً، ثم أمر بنزع السيف، فأنكر ذلك عمرو، وقال: إنا للّه يا أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: أتطمع أن تجلس معي متقلدَاً سيفك؟! فأخذ عنه السيف، فقال له عبد الملك: يا أبا أمية إنك حين خلعتني حلفتُ بيمين، إن أنا رأيتك بحيث أقدر عليك أن أجعلك في جامعة، فقال بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين، قال: نعم، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية، فقال بنو مروان: أبر قسم أمير المؤمنين يا أبا أمية، فقال عمرو: قد أبر اللّه قسمك يا أمير المؤمنين.
فأخرج من تحت فراشه جامعة، وأمر غلاماً فجمعه فيها وسأله أن يخرجه على رءوس الناس، فقال: أمكراً عند الموت؟ ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير، فكسر ثنيته، ثم سأله الإبقاء، فقال عبد الملك: والله، لو علمتُ أنك تبقى إن أبقيت عليك، وتصلح قريش، لأبقيتك، ولكن لا يجتمع رجلان مثلنا في بلد، فشتمه عمرو، وخرج عبد الملك إلى الصلاة وأمر أخاه عبد العزيز بقتله، فلما قام إليه بالسيف، ذكره الرحم، فأمسك عنه وجلس، ورجع عبد الملك من الصلاة وغلقت الأبواب، فأغلظ على عبد العزيز، ثم تناول عمرَاً فذبحه بيده، وقيل: أمر غلامه ابن الزعيزعة فقتله.
وفقد الناس عمراً مع عبد الملك حين خرج إلى الصلاة، فأقبل أخوه يحيى في أصحابه وعبيدة، وكانوا ألفاً ومعه حميد بن حريث وزهير بن الأبرد، فهتفوا باسمه، ثم كسروا باب المقصورة، وضربوا الناس بالسيوف، وجرحوا الوليد بن عبد الملك، واقتتلوا ساعة، ثم خرج عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي بالرأس، فألقاه إلى الناس، وألقى إليهم عبد العزيز بن مروان بدر الأموال فانتهبوها وافترقوا، ثم خرج عبد الملك إلى الناس، وسأل عن الوليد، فأخبر بجراحته، وآتى بيحيى بن سعيد وأخيه عنبسة، فحبسهما وحبس بني عمرو بن سعيد، ثم أخرجهم جميعاً، وألحقهم بمصعب حتى حضروا عنده بعد قتل مصعب فأمنهم ووصلهم.
وكان بنو عمرو أربعة: أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومحمد، ولما حضروا عنده قال: أنتم أهل بيت ترون لكُم على جميع قومكم فضلا لن يجعله الله لكم، والذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثاً، وإنما كان قديماً في أنفس أوليائكم على أوليائي في الجاهلية، فقال سعيد: يا أمير المؤمنين تعد علينا أمرَاً كان في الجاهلية، والإسلام قد هدم ذلك، ووعد جنة، وحذر ناراً، وأما عمرو فهو ابن عمك، وقد وصل إلى الله وأنت أعلم بما صنعت، وإن أَخَذتَنَا بِهِ، فبطن الأرض خير لنا من ظهرها، فَرَق لهم عبد الملك وقال: أبوكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله، فاخترتُ قتله على قتلي، وأما أنتم فما أَرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم. وأحسن جائزتهم.
وقيل: إن عمراً إنما كان خَلعُهُ وقتله حين سار عبد الملك لقتال مصعب، طلبه أن يجعل له العهد بعده كما فعل أبوه؛ فلم يجبه إلى ذلك، فرجع إلى دمشق.
وقيل: كان عبد الملك استخلفه على دمشق، فعصى وامتنع بها، وكان قتله سنة تسع وستين.
مسير عبد الملك إلى العراق ومقتل مصعب(2/115)
ولما صفا الشام لعبد الملك، اعتزم على العراق، وأتته الكتب من أشرافهم يدعونه، فاستمهله أصحابه، فأبى وسار نحو العراق، وبلغ مصعبَاً مسيره فأرسل إلى المهلب بن أبي صفرة، وهو بفارس في قتال الخوارج يستشيره، وقد كان عزل عمر ابن عبيد الله بن معمر عن فارس وحرب الخوارج، وولى المهلب مكانه، وذلك حين استخلف هو على البصرة وجاء خالد بن عبيد اللّه بن خالد بن أسد إلى البصرة مختفياً داعية لعبد الملك عند مالك بن مسمع في بكر بن وائل والأزد، وأمده عبد الملك بعبيد اللّه بن زياد بن ظبيان، وحاربهم عمر بن عبيد اللّه بن معمر، ثم صالحهم على أن يخرجوا خالداً فأخرجوه، وجاء مصعب وقد طمع أن يدرك خالداً فوجده قد خرج، فسخط على ابن معمر، وسَب أصحابه، وضربهم وهدم دورهم، وخلعهم، وهدم دار مالك بن مسمع، واستباحها، وعزل ابن معمر عن فارس، وولى المهلب وخرج إلى الكوفة، فلم يزل بها حتى سار للقاء عبد الملك.
قلت: هكذا ذكره في العبر، ورأيت في المروج ما نصه: كان مصعب حين صفا له العراق بعد قتل المختار وأصحابه، خرج حتى انتهى إلى الموضع المعروف بباجميرا مما يلي الجزيرة، يريد الشام لحرب عبد الملك بن مروان، فبلغه مسير خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد من مكة إلى البصرة في عدة من مواليه وولده ناكثاً لبيعة أخيه عبد الله بن الزبير وداعية لعبد الملك، فحاربه مصعب فكسره، فخرج هارباً ببنيه حتى لحق بعبد الملك.
وهو كما ترى مخالفٌ لقول صاحب كتاب العبر.
وجاء مصعب وطمع أن يدرك خالداً فوجده قد خرج، فسخط على ابن معمر، وسبَّ أصحابه... إلى آخره.
قال الذهبي: يروى في بعض الآثار أن مصعباً لما سار عن الكوفة عشرة أيام يريد قتال عبد الملك بن مروان، كتب إلى زوجته سكينة ابنة الحسين بن علي، رضي اللّه عنه: من الطويل:
وَكَانَ عزيزاً أن أَبِيتَ وبَينَنَا ... سِفَار فَقَدْ أصبحتُ منكِ على عَشْرِ
وأَنكَاهُمَا للعَين واللهِ فاعلَمِي ... إذ ازددتُ مِثلَيهَا فصرتُ على شَهْرِ
وأَبكي لعيني منهما اليَومَ أنني ... أَخَافُ بألا نَلتَقِي آخِرَ الدَهْرِ
فلما جاءها الخبر بموته، قالت: من الطويل:
فَإِن تقتلوه تقتُلُوا الماجِدَ الذي ... يرى الموتَ إلا بالسيُوفِ حَرَامَا
وقبلك ما خَاضَ الحُسَين مَنِيَّة ... إلى السيفِ حتى أوردُوهُ حِمَامَا
وكان معه الأحنف، فتوفي بالكوفة، ولما بعث عن المهلب يسير معه إلى أهل البصرة أن يكون المهلب على قتال الخوارج، فرده، فقال له المهلب: إن أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم؛ فلا نتعدى، ثم بعث مصعب عن إبراهيم بن الأشتر، وكان على الموصل والجزيرة، فجعله على مقدمته، وسار حتى عسكر في مسكن، وسار عبد الملك وعلى مقدمته أخوه محمد بن مروان، وخالد بن عبد اللّه ابن خالد بن أسيد، فنزلوا قرقيسيا، وحصروا زفر بن الحارث الكلابي، ثم صالحه، وبعث زفر معه الهذيل ابنه في عسكر وسار عنه، فنزل بمسكن قريباً من عسكر مصعب، وفر الهذيل من زفر، ولحق بمصعب، وكتب عبد الملك إلى أهل العراق وكتبوا إليه وكلهم يشرط أصبهان، وآتى ابن الأشتر بكتابه مختومَاً إلى مصعب، فقرأه، فإذا هو يدعو إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فأخبره مصعب بما فيه، وقال: مثل هذا لا يرغب عنه، فقال إبراهيم: ما كنت لأتقفد الغدر والخيانة، ولقد كتب عبد الملك إلى أصحابك كلهم مثل هذا فأطعني، واقتلهم أو احبسهم في أبيض كسري، فأبى عليه مصعب، وأضمر أهل العراق الغدر بمصعب، وعذلهم قيس بن الهيثم ولامهم في طاعة أهل الشام، فأعرضوا عنه.(2/116)
ولما تدانى العسكران بعث عبد الملك إلى مصعب يقول: تعال نجعل الأمر شورى، فقال مصعب: ليس بيننا إلا السيف، فقدم عبد الملك أخاه محمدَاً، وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر، وأملى بالجيش، فأزال محمدَاً عن موقفه فأمده عبد الملك بعبد اللّه بن يزيد، فاشتد القتال، وقتل من أصحاب مصعب مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة، وأمد مصعب إبراهيم بعتاب بن ورقاء، فساء ذلك إبراهيم، ونكره، وقال: قد أوصيته لا يمدني بعتاب وأمثاله، وكان قد بايع لعبد الملك، فجر الهزيمة على إبراهيم، فقتل وحمل رأسه إلى عبد الملك، وتقدم أهل الشام، فقاتل مصعب ودعا رءوس العراق إلى القتال، فاعتذروا وتثاقلوا، فدنا محمد ابن مروان من مصعب وناداه بالأمان، وأشعره بغدر أهل العراق، فأعرض عنه، فنادى ابنه عيسى بن مصعب، فأذن له أبوه في لقائه، وبذل له الأمان وأخبر أباه، فقال: أظنهم يَفُونَ لك بذلك، فإن أحببت فافعل، قال: لا تتحدث نساء قريش أني رغبت بنفسي عنك، قال: فاذهب إلى عمك بمكة، فأخبره بصنع أهل العراق، ودعني، فإني مقتول، فقال: لا أخبر قرشياً عنك أبداً، ولكن الحق أنت بالبصرة، فإنهم على الطاعة، أو بأمير المؤمنين بمكة، فقال: لا تتحدت قريش عني أنني فررتُ، ثم قال لعيسى: تقدم يا بني أحتسبك، فتقدم في ناس وقتل وقتلوا، ولج عليه عبد الملك في قبول أمانِهِ، فأبى، ودخل سرادقه فتحنَّط ورمى السرداق فخرج، فقاتل، ودعاه عبيد الله بن زياد بن ظبيان إلى البراز، فشتمه وحمل عليه، فضربه فجرحه.
وخذل أهل العراق مصعباً حتى بقي في سبعة أنفس، فأثخنته الجراحة، فرجع إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فقتله، وجاء برأسه إلى عبد الملك، فأمر له بألف دينار، فلم يأخذها وقال: إنما قتلته بثأر أخي، وكان قطع الطريق فقتله صاحب شرطة مصعب، وقيل: إن الذي قتله زائدة بن قدامة الثقفي من أصحاب المختار، وأخذ عبيد اللّه رأسه وأمر عبد الملك به وبابنه عيسى، فدفنا بدير الجاثليق عند نهر دجيل، وكان ذلك سنة إحدى وسبعين.
قال الذهبي: لما بذل لمصعب الأمان - وقد بقي في سبعة نفر - أبى وبارز فعرقبت فرسه، وبقي راجلا فأقبل عبيد اللّه بن زياد بن ظبيان، وكان قد أثخن جراحاً. فاختلفا ضربتين سبقه مصعب بالضربة الأولى إلى رأسه فلم تؤثر ضربته إلا جرحاً، وضربه ابن ظبيان فقتله وأخذ رأسه إلى عبد الملك، فسجد، وقبض عبيد الله بن ظبيان على قائم سيفه، واجتذبه حتى آتى على أكثره، سله ليضرب به عبد الملك حال سجوده، ثم تذمم واسترجع، فكان يقول بعد ذلك: ذهب الفتك بين الناس إذ هممت فلم أفعل؛ فأكون قد قتلت عبد الملك ومصعباً ملكَي العرب في ساعة واحدة.
وكان قتله يوم الثلاثاء، لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى، سنة اثنتين وسبعين من الهجرة النبوية، ودفن هو وابنه بدير الجاثليق كما تقدم آنفاً.
وتمثل عبد الملك عند مجيء رأس مصعب بقوله: من الطويل:
نُعَاطِي الملوكَ الحق ما قَسَطُوا لنا ... ولَيسَ علينا قَتْلُهُم بِمُحَرَمِ
ولما رجع عبد الملك إلى الكوفة، ودخل قصر الإمارة، وضع الرأس بين يديه.
حدث المنقري، قال: حدثني سويد بن سعيد، قال: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي مسلم بن الحنفي؛ كنت مع عبد الملك بن مروان حين جيء إليه برأس مصعب بن الزبير، فرأى عبد الملك في اضطرابَاً، فسألني، فقلت: يا أمير المؤمنين، دخلت هذا القصر، يعني: قصر الإمارة بالكوفة، فرأيت رأس الحسين بين يَديْ عبيد اللّه بن زياد في هذا الموضع، ثم دخلته فرأيتُ رأسَ ابن زياد بين يَدَي المختار بن أبي عُبَيْدِ الثقفي، ثم دَخَلْتُهُ فرأيت رأسَ المختار بين يدي مصعب بن الزبير، وهذا مصعبْ بين يديك، فوثب عبد الملك متطيراً، وقال: لا أراك الله الخامس، وأمر بهدم القصر حجراً حجرَاً.
ثم دعا عبد الملك جند العراق إلى البيعة فبايعوه، وسار إلى الكوفة، فأقام بالنخيلة أربعين يوماً، وخطب الناس، فوعد المحسن وتوعد المسيء، وطلب يحيى ابن سعيد بن جعفر وكانوا أخواله فأحضروه وأمنه، ثم ولى أخاه بشر بن مروان على الكوفة، ومحمد بن نمير على همذان، ويزيد بن ورقاء بن رويم على الري، ولم يف لهم بأصفهان؛ كما اشترطوا عليه.(2/117)
وكان عبد الله بن يزيد بن أسد والد خالد القسري ويحيى بن مصدق الهمداني قد لجأ إلى علي بن عبيد اللّه بن عباس، ولجأ هذيل بن زفر بن الحارث، وعمرو بن يزيد الحكمي إلى خالد بن يزيد، فأمنهم عبد الملك، وصنع عمرو بن حريث لعبد الملك طعاماً، فأحضره بالخورنق، وأذن للناس عامة فدخلوا، وجاء عمرو بن حريث، فأجلسه معه على سريره، وطعم الناس، ثم طاف مع عمرو بن حريث على القصر يسأله عن مساكنه ومعالمه، ولما بلغ عبد الله بن خازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال: أمعه عمر بن معمر؟ قيل: لا، هو على فارس، قال: فالمهلب؟ وقيل: في قتال الخوارج، قال: فعباد بن الحصين؟ قيل: على البصرة، قال: أنا بخراسان: من الطويل:
خذيني فَأَجرِينِي جَعَارِ وَأَبشِرِي ... بِلَحمِ امرئٍ لم يَشهَدِ اليومَ نَاصِره
ثم بعث عبد الملك برأس مصعب إلى الكوفة، ثم إلى الشام، فنصب بدمشق، وأرادوا التطواف به، فمنعت من ذلك زوجة عبد الملك عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فغسلته ودفنته، وانتهى قتل مصعب إلى المهلب، وهو يحارب الأزارقة، فبايع الناس لعبد الملك بن مروان.
ولما جيء بخبر مصعب لعبد الله بن الزبير، خطب الناس فقال: الحمد الله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء؛ ألا وإنه لم يذل اللّه من كان الحق معه، وإن كان الناس عليه.
وقد أتانا من العراق خبر أحزننا؛ فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم عبد من عباد الله وعون من أعواني، ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق، أسلموه وباعوه بأقلٌ الثمن، فإن يقتل ثمة فواللّه، ما نموت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي العاص، فواللّه، ما قتل رجل منهم في الجاهلية ولا في الإسلام، ولا نموت إلا قعصاً بالرماح وتحت ظلال السيوف؛ ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد، فإن تقبل، فلا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر، لم أبك عليها بكاء الضرع المهين، أَقُولُ قولي هذا، وأستغفر اللّه لي ولكم.
ولما بلغ خبر مصعب البصرة، تنازع في ولايتها حمران بن أبان وعبد الله بن أبي بكر، واستعان حمران بعبد الله بن الأهتم، فغلب عليها، وكانت له منزلة عند بني أمية، فلما تمهد الأمر بالعراق لعبد الملك بعد مصعب، ولي على البصرة خالد بن عبد اللّه بن أسيد، فاستخلف عليه عبد الله بن أبي بكر، فقدم على حمران وعزله حتى جاءه خالد، ثم عزل خالدَاً سنة ثلاث وسبعين، وولى مكانه على البصرة أخاه بشراً، وجمع له المصرين، وسار بشر إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث، وولى عبد الملك على الجزيرة وأرمينية بعد قتل مصعب أخاه محمد بن مروان سنة ثلاث وستيِن، فغزا الروم، ومزقهم بعد أن كان هادن ملك الروم أيام الفتنة على ألف دينار، يدفعها إليه كل يوم.
أمر زفر بن الحارث بقرقيسيا
قد ذكرنا في وقعة راهط مسير زفر إلى قرقيسيا، واجتماع قيس عليه، وأقام بها يدعو لابن الزبير، ولما ولي عبد الملك، كتب إلى أبان بن عقبة بن أبي معيط، وهو على حمص، بالمسير إلى زفر، فسار وعلى مقدمته عبد اللّه بن رميث الطائي، فعاجله عبد الله بالحرب، وقتل من أصحابه نحو ثلاثمائة، ثم أقبل أبان، فواقع زفر وقتل ابنه وكيع بن زفر، وأوهنه، ثم سار إليه عبد الملك إلى قرقيسيا قبل مسيره إلى مصعب، فحصره ونصب عليه المجانيق، وقالت كلب لعبد الملك: لا تخلط معنا القيسية؛ فإنهم ينهزمون إذا التقينا مع زفر، ففعل، واشتد حصارهم، وكان زفر يقاتلهم في كل غداة، وأمره ابن الهذيل أن يحمل حتى يضرب فسطاط عبد الملك، ففعل وقطع بعض أطنابه، ثم بعث عبد الملك أخاه محمداً بالأمان لزفر وابنه الهذيل على أنفسهما ومَن معهما، وأن لهم ما أحبوا، فأجاب الهذيل وداخل أباه في ذلك، وقال: عبد الملك لنا خير من ابن الزبير، فأجاب على أن له الخيار، وأن ينزل حيث شاء، ولا يعين على ابن الزبير.(2/118)
وبينما الرسل تختلف بينهم، إذ قيل لعبد الملك: قد هدم من المدينة أربعة أبرجة، فترك الصلح وزحف إليهم، فكشفوا أصحابه إلى عسكرهم، ورجع إلى الصلح، واستقر بينهم على الأمان، ووضع الأموال ألا يبايع لعبد الملك حتى يموت ابن الزبير للبيعة التي له في عنقه وأن يدفع إليه مال نفسه في أصحابه، وتأخر زفر عن لقاء عبد الملك؛ خوفَاً من فعلته بعمرو بن سعيد، فأرسل إليه بقضيب النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إليه وأجلسه عبد الملك معه على سريره وزوج ابنه مسلمة الرباب بنت زفر، وسار عبد الملك إلى قتال مصعب، فبعث زفر بن الهذيل معه في عسكر، فلما قارب مصعباً، هرب إليه وقاتل مع ابن الأشتر حتى إذا قتلوا، اختفى الهذْيل في الكوفة حتى آمنه عبد الملك؛ كما مر.
مقتل عبد الله بن الزبير
كان عبد الملك لما بويع بالشام، بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة آلاف من أهل الشام، وأمره أن يعسكر بالعرصة، ولا يدخل المدينة، وعامل ابن الزبير يومئذ على المدينة الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر الجمحي، فهرب الحارث، وأقام ابن أنيف شهرَاً يصلي بالناس الجمعة بالمدينة ويرجع إلى معسكره، ثم رجع ابن أنيف إلى الشام، فرجع الحارث إلى المدينة، وبعث ابن الزبير سليمان ابن خالد الدورقي على خيبر وفدك، وبعث عبد الملك إلى الحجاز عبد الملك بن الحارث بن الحكم في أربعة آلاف، فنزل وادي القرى، وبعث سرية إلى سليمان بخيبر وهرب فأدركوه فقتلوه ومن معه، وأقاموا بخيبر وعليهم أبو القمقام، ونكر عبد الملك ذلك واغتم له، وقال: قتلوا رجلا صالحاً بغير ذنب، ثم عزل ابن الزبير الحارث بن حاطب عن المدينة، وولى مكانه جابر بن الأسود بن عوف الزهري، فبعث جابر إلى خيبر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة، فانهزم ابن القمقام وأصحابه أمامهم، وقتلوا صبراً.
ثم بعث عبد الملك طارق بن عمرو مولى عثمان، وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى ويمنع عمال ابن الزبير من الانتشار، ويسد خللا إن ظهر له بالحجاز، فبعث طارق خيلا إلى أبي بكر بخيبر، واقتتلوا، فأصيب أبو بكر في مائتين من أصحابه، وكتب ابن الزبير إلى القباع، وهو عامله على البصرة يستمده ألفَي فارس إلى المدينة، فبعثهم القباع، وأمر ابن الزبير جابر بن الأسود أن يسيرهم إلى قتال طارق ففعل، ولقيهم طارق فهزمهم، وقتل مقدمهم وقتل من أصحابه خلقَاً، وأجهز على جريحهم، ولم يستبق أسيرهم، ورجع إلى وادي القرى، ثم عزل ابن الزبير جابراً عن المدينة، واستعمل طلحة بن عبد اللّه بن عوف، وهو طلحة الندي، وذلك سنة سبعين، فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق.(2/119)
ولما قتل عبد الملك مصعبَاً، ودخل الكوفة، بعث منها الحجاج بن يوسف الثقفي في ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال ابن الزبير، وكتب معه الأمان لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا، فسار في جمادى سنة اثنتين وسبعين، فلم يعرض للمدينة، ونزل الطائف، وكان يبعث الخيل إلى عرفة وتلقاهم هناك خيل ابن الزبير، فينهزمون دائماً، وترجع خيل الحجاج بالظفر، ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره بضعف ابن الزبير وتفرُق أصحابه، ويستأذنه في دخول الحرم لحصار ابن الزبير ويستمده، فكتب عبد الملك إلى طارق باللحاق بالحجاج، فقدم المدينة في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، وأخرج عنها طلحة الندى عامل ابن الزبير، وولى مكانه رجلا من أهل الشام، وسار إلى الحجاج بمكة في خمسة آلاف، ولما قدم الحجاج مكة، أحرَم بحجة ونزل بئر ميمون، وحج بالناس، ولم يطف ولا سعى، وحصر ابن الزبير عن عرفة فنحر بدنه بمكة. ولم يمنع الحجاج من الطواف والسعي، ثم نصب الحجاج المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة، وكان ابن عمر قد حج تلك السنة فبعث إلى الحجاج بالكف عن المنجنيق لأجل الطائفين، ففعل، ونادى منادي الحجاج عقيب الإفاضة: انصرفوا إلى بلادكم، فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير، ورمى المنجنيق على الكعبة وألحتِ الصواعق عليهم في يومين، وقتلت من أهل الشام رجالا، فذعروا، فقال لهم الحجاج: لا تنكروا؛ فهذه صواعق تهامة، وإن الفتح قد حضر فأبشروا، ثم أصابت الصواعق من أصحاب ابن الزبير، فسرى عن أهل الشام، وكانت الحجارة تقع بين يدي ابن الزبير، وهو يصلي فلا ينصرف، ولم يزل القتال بينهم، وغلت الأسعار، وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح ابن الزبير فرسه، وقسم لحمه في أصحابه، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمُد من الذرة بعشرين، وبيوت ابن الزبير مملوءة قمحَاً وشعيراً وذرة وتمراً، ولا ينفق منه إلا ما يمسك الرمق يقوي به نفوس أصحابه، ثم أجهدهم الحصار.
وبعث الحجاج إلى أصحاب ابن الزبير بالأمان، فخرج إليه منهم نحو عشرة آلاف وافترق الناس عنه، وكان ممن فارقه ابناه حمزة وخبيب، وأقام ابنه الزبير حتى قتل معه، وحرض الحجاج الناس، وقال: قد ترون قلة أصحاب ابن الزبير وما هم فيه من الجهد والضيق، فتقدموا وملئوا ما بين الحجون إلى الأبواب، فدخل ابن الزبير على أمه أسماء، وقال: يا أمه، قد خذلني الناس حتى ولدي، والقوم يعطونني ما أردتُ من الدنيا فما رأيك؟ فقالت له: أنت أعلم بنفسك، إن كنت على حق، وتدعو إليه، فامض له؛ فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكِّن من رقبتك تلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا، فبئس العبد أنتَ أهلكْتَ نفسك ومن قتل معك، وإن قلت: كنت على حق، فلما وهن أصحابي، ضعفتُ، فليس هذا بفعل الأحرار ولا أهل الدين.
فقال: يا أمه، أخاف أن يمثلوا بي ويصلبوني، فقالت: يا بني، الشاة لا تألم بالسلخ، فامض على بصيرتك واستعز باللّه، فقبل رأسها، وقال: هذا رأيي الذي خرجتُ به داعياً إلى يومي هذا، وما ركنت إلى الدنيا، وما أخرجني إلا الغضب لله، وأن تستحلَّ حرماته، لكن أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة، وإني يا أمه في يومي هذا مقتول، فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عملا بفاحشة، ولم يخن ولم يغدر، ولم يظلم، ولم يقر على الظلم، ولم يكن عندي آثر من رضا اللّه تعالى، اللهم، لا أقول هذا تزكية لنفسي، لكن تعزية لأمي حتى تسلو عني. فقالت: إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلا، إن تقدمتنِي، أحتسبك، وإن ظفرتَ، سررت بظفرك، ثم قالت: اخرج حتى أنظر إلامَ يصير أمرك، فقال: جزاك الله خيرَاً، فلا تدعي الدعاء، فدعت له، فودعها وودعته، ولما عانقته للوداع، وقعت يدها على الدرع، فقالت: ما هذا صنيعُ مَنْ يريد ما تريد، فقال: ما لبسته إلا لأشد منك، فقالت: إنه لا يشد مني، فنزعها، وقالت له: البس ثيابك مشمرة.
ثم خرج فحمل على أهل الشام حملة منكرة، فقتل منهم، ثم انكشف هو وأصحابه، وأشار عليه بعضهم بالفرار، فقال: بئس الشيخ أنا في الإسلام إن أوقعت قومَاً قتلوا، ثم فررت على مثل مصارعهم.
وامتلأت أبواب المسجد بأهل الشام، والحجاج وطارق بناحية الأبطح إلى المروة، وابن الزبير يحمل على هؤلاء وهؤلاء وينادي أبا صفوان لعبد الله بن صفوان ابن أمية بن خلف، فيجيبه من جانب المعرك.(2/120)
ولما رأى الحجاج إحجامَ الناسِ عن ابن الزبير، غضب وترجل وصمد إلى صاحب الراية بين يديه، فتقدم ابن الزبير إليهم عنه وكشفه، ورجع فصلى ركعتين عند المقام، وحملوا على صاحب الراية، فقتلوه عند باب بني شيبة، وأخذوا الراية، ثم قاتلهم وابن مطيع معه حتى قتل.
ويقال: أصابته جراحة، فمات منها بعد أيام.
ويقال: إنه قال لأصحابه يوم قتل: يا آَل الزبير، لو طبتم لي نفساً عن أنفسكم، كنا أهل البيت في العرب اصطلمنا في الله، فلا يرعكم وقع السيوف، فإن ألم الدواء في الجراح أشد من وقعها، صونوا سيوفكم عما تصونون وجوهكم، وغضوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كل امرئ قرنه، ولا تسألوا عني ومن كان عني سائلا، فإني في الرعيل الأول، ثم حمل حتى بلغ الحَجُون، فأصابته جراحة في وجهه، فأرعش لها ودمى وجهه، ثم قاتل قتالا شديدَاً، وقتل في جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين، وحمل رأسه إلى الحجاج فسجد، وكبَّر أهل الشام، وسار الحجاج وطارق حتى وقفا عليه وبعث الحجاج برأسه، ورأس عبد الله بن صفوان، ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى عبد الملك، وصلب جثته منكسة على ثنية الحجون اليمني، وبعثت إليه أسماء في دفنه فأبى، وكتب إليه عبد الملك يلومه على ذلك، فخلى بينها وبينه.
ولما قتل عبد اللّه، ركب أخوه عروة، وسبق رسل الحجاج إلى عبد الملك، فرحب به وأجلسه على سريره، وجرى ذكر عبد اللّه، فقال عروة: إنه كان، فقال عبد الملك: وما فعل؟! قال: قتل، فخر ساجداً، ثم أخبره عروة أن الحجاج صلبه، واستوهَبَ جثته لأمه، فقال: نعم، وكتب إلى الحجاج ينكر عليه صلبه، فبعث بجثته إلى أمه، وصلى عليه عروة ودفنه، وماتت أمه بعده بخمسة أيام.
ولما فرغ الحجاج من ابن الزبير، دخل إلى مكة، فبايعه أهلها لعبد الملك، أمر بكنس المسجد من الحجارة والدم، وسار إلى المدينة، وكانت في عمله فأقام بها شهرين، وأرسل إلى الحسن بن الحسن، فقال: هات سيف رسول صلى الله عليه وسلم ودرعه، فقال: لا أفعل، قال: فجاء الحجاج بالسوط والعصا والسيف، وقال: والله لأضربنك بها حتى تبرد أو فأتني بهما، فقال الناس: يا أبا محمد، لا تتعرض لهذا الجبار، فجاء الحسن بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه، فوضعهما بين يديه، فأرسل الحجاج إلى رجل من آل أبي رافع، فقال له: هل تعرف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فخلطه بأسياف، ثم قال له: أخرجه، فأخرجه، ثم جاء بالدرع، فنظر إليها، فقال: هناك علامة، كانت على الفضل ابن عباس يوم اليرموك، فطعن بحربة فخرقت الدرع، فرفعوها فوجدوا الدرع، كما قال، فقال الحجاج للحسن: أما والله لو لم تجئني به، وجئت بغيره، لضربت به رأسك، وأساء إلى أهلها، وقال: أنتم قتلة عثمان. وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص؛ استخفافاً بهم كما يفعل بأهل الذمة؛ منهم: جابر بن عبد اللّه، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد، ونقلت عنه في ذم المدينة أقوال قبيحة أمره فيها إلى الله تعالى.
وقيل: إن ولاية الحجاج وما فعل فيها كانت سنة أربع وسبعين، وإن عبد الملك عزل عنها طارقاً، واستعمله، ثم هدم الحجاج بناء الكعبة الذي بناه ابن الزبير، وأخرج الحجر منه وأعاده إلى البناء الذي أْقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بناء قريش، ولم يصدق ابن الزبير في الحديث الذي رواه عن عائشة، فلما صح ذلك عند عبد الملك قال: وددت أني تركته، وما عمل.
ولاية المهلب حرب الأزارقة
ولما عزل عبد الملك خالد بن عبد اللّه عن البصرة واستعمل مكانه أخاه بشر بن مروان، وجمع له المصرين، أمره أن يبعث المهلب إلى حرب الأزارقة فيمن ينتخبه من أهل البصرة، ويتركه ورأيه في الحرب، وأن يبعث من أهل الكوفة رجلا شريفاً معروفاً بالبأس والنجدة والتجربة في جيش كثيف إلى المهلب؛ فيتتبعوا الخوارج حتى يهلكوهم، فأرسل المهلب جديع بن سعيد بن قبيصة ينتخب الناس من الديوان.(2/121)
وشق على بشر أن إمرة المهلب جاءت من عبد الملك، فقصر به، ودعا عبد الرحمن بن مخنف، فأعلمه بمنزلته عنده، وقال: إني أوليك جيش الكوفة لحرب الأزارقة، وكُن عند حسن ظني بك، ثم أخذ يغريه بالمهلَب، وألا يقبل رأيه ولا مشورته، فأظهر له الوفاق، وسار إلى المهلب، فنزلوا رام هرمز ولقي بها الخوارج، فخندق عليه على ميل من المهلب حيث يتراءى العسكران، ثم أتاهم نعي بشر بن مروان لعشر ليال من مقدمهم، وأنه استخلف على البصرة خالد بن عبيد اللّه ابن خالد، وافترق ناس من أهل المصرين إلى بلدهم، ونزلوا الأهواز، وكتب إليهم خالد بن عبيد اللّه يتهددهم ويحذرهم عقوبة عبد الملك إن لم يرجعوا إلى المهلب فلم يلتفتوا إليه، ومضوا إلى الكوفة واستأذنوا عمرو بن حريث في الدخول؛ فلم يأذَن لهم فدخلوا وأضربوا عن إذنه.
ولاية الحجاج على العراق
وقيل في سبب ولايته: إنه وفد على عبد الملك ومعه إبراهيم بن طلحة بن عبيد اللّه التيمي، وكان من رجال قريش علماً وعملا وزهداً ودينَاً. وكان الحجاج مسخراً له لا يترك من إجلاله شيئاً، فلما قدما على عبد الملك، أذن للحجاج بالدخول، فلما دخل، سلم ولم يبدأ بشيء إلا أن قال: يا أمير المؤمنين، قدمت عليك برجل من أهل الحجاز ليس له نظير في كمال المروءة والديانة وحسن المذهب والطاعة، مع القرابة ووجوب الحق، فقال عبد الملك: ومن هو؟ قال: إبراهيم ابن طلحة التيمي، فليفعل أمير المؤمنين به ما يفعل بأمثاله. فقال عبد الملك: أذكرتنا حقاً واجبَاً ورحمَاً قريبة، ثم أذن له، فلما دخل، قربه وأدناه، وقال له: إن أبا محمد ذكرنا ما لم نَزَل نعرفك به من الفضل وحسن المذهب، فلا تدعن حاجة إلا ذكرتها، فقال إبراهيم: إن أولى الأمور أن تفتتح به الحوائج ما كان فيه لله رضا، ولحق رسوله أداء، ولجماعة المسلمين نصيحة، قال: وما هو؟ قال: لا يمكن القول إلا وأنا خالٍ فأخلني، قال: أو دون أبي محمد؟ قال: نعم، فأشار عبد الملك إلى الحجاج، فخرج، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، إنك عهدت إلى الحجاج مع تغطرسه وتعجرفه وبعده عن الحق وركونه إلى الباطل، فوليته الحرمين، وبهما من أولاد المهاجرين والأنصار من قد علمت يسومهم الخسف ويقودهم بالعنف، ويطؤهم بطغام أهل الشام، ورعاع لا روية لهم في إقامة حق، ولا في إزالة باطل، ثم تظن أن ذلك ينجيك من عذاب الله، فكيف بك إذا جاثاك محمد صلى الله عليه وسلم للخصومة بين يدَيِ اللّه تعالى؟ أما والله إنك لن تنجو هنالك إلا بحجة تضمنُ لك النجاة، فاتق لنفسك أو دع.
وكان عبد الملك متكئَاً فاستوى، وقال: كذبتَ ومِنتَ فيما جئتَ به، ولقد ظَن بك الحجاجُ ظناً لم يجده فيك، فأنت المائن الحاسد، قال: فقام إبراهيم، وهو لا يبصر شيئاً، فلما جاوز الستر، لحقه لاحق، وقال للحاجب: امنع هذا من الخروج، وائذن للحجاج، فدخل فلبث ملياً، قال إبراهيم: ولا أشك أنهما في أمري، ثم خرج الإذن لي فدخلت، فلما كشف الستر إذا أنا بالحجاج خارج، فاعتنقني وقبل بين عيني، وقال: إذا جزى اللّه المتواخيين لفضل تواصلهما، فجزاك اللّه عني أفضل الجزاء، والله لئن بقيت، لأرفعن ناظريك، ولأتبعن الرجال غبار قدميك.
قال: قال إبراهيم: فقلت في نفسي، إنه ليسخر مني، فلما وصلت إلى عبد الملك، أدنى مجلسي كما فعل أولاَ، ثم قال: يا بن طلحة هل أعلمت الحجاج بما جرى، أو شاركَكَ أحد في نصيحتك؟! قلت: لا والله لا أعلم أحداً أظهر يَداً من الحجاج، ولو كنت محابياً أحدَاً بديني لكان هو، ولكني آثرت الله ورسوله والمسلمين، فقال عبد الملك: قد علمت صدق مقالتك، ولو آثرتَ الدنيا لكان لك في الحجاج أَمَلٌ، وقد عزلتُهُ عن الحرمين لما كرهتَ من ولايته عليهما، وأخبرته أنك أنت الذي استنزلتني له عنهما؟ استصغاراً للولاية، ووليته العراق لما هنالك من الأمور التي لا يدحضها إلا مثله، وإنما قلت ذلك؛ ليؤدي ما يلزمه من ذمامك، فاخرج معه فإنك غير ذام صحبته مع يدك عنده، قال إبراهيم: فخرجت مع الحجاج، فأكرمني أضعاف إكرامه الأول، واستدل الناس بذلك على مكارم عبد الملك وأخلاقه واعترافه بالحق وتيقظه في الأمور ودهائه.(2/122)
ثم ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف على الكوفة والبصرة سنة خمس وسبعين، وأرسل إليه وهو بالمدينة يأمره بالمسير إلى العراق، فسار على النجب في اثني عشر راكباً، حتى قدم الكوفة في شهر رمضان، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الخوارج، فدخل المسجد وصعد المنبر، وقال: علي بالناس، وظنوه من بعض الخوارج فهموا به، حتى تناول عمير بن ضابئ البرجمي الحصباء، وأراد أن يحصبه، فلما تكلم، جعلت الحصباء تسقط من يده، وهو لا يشعر بها ثم حضر الناس، وخطب خطبة عظيمة أحسنُ من أوردها المبرد في الكامل، تهدد فيها أهل الكوفة، وتوعدهم على التخلف عن المهلب، ثم نزل.
قلت: هذا ما أورده المبرد في كامله، فقال: وفي سنة خمس وسبعين، حج بالناس عبد الملك بن مروان، وخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسير على إمرة العراق الحجاج بن يوسف الثقفي، فسار من المدينة إلى الكوفة في اثني عشر راكباً بعد أن وهب البشير بها ثلاثة آلاف دينار، قال الوليد بن مسلم: حدثني عبيد الله بن يزيد بن أبي مسلم الثقفي، عن أبيه، قال: كان الحجاج عاملا لعبد الملك على مكة، فكتب إليه بولاية العراق، قال: فخرجت معه في نفر قليلين على النجائب، فلما كنا بماء قريب من الكوفة، نزل فاختضب وتهيأَ، وذلك يوم جمعة، ثم راح معتماً قد ألقى عذبة العمامة بين كتفيه متقلدَاً سيفه متنكباً قوسه، حتى نزل عند دار الإمارة عند مسجد الكوفة، وقد أذن المؤذن بالأذان الأول، فخرج عليهم وهم لا يعلمون، فجمَع بهم.
ثم صعد المنبر، فجلس عليه، فسكت، وقد اشرأبوا إليه وجثوا على الركب، وتناولوا الحصباء ليحصبوه بها، وقد كانوا حصبوا عاملا قبله، فخرج عليهم فسكت سكتة أبهتتهم وأحبوا أن يسمعوا كلامه، فكان بدء كلامه أن قال: يا أهل العراق، يا أهل الشقاق، يا أهل النفاق، والله، إن كان أمركم ليهمني قبل أن آتي إليكم، ولقد كنت أدعو الله أن يبتليكم بي، فأجاب دعوتي، ألا إني قد أسريت البارحة، فسقط مني سوطي، فاتخذت هذا مكانه - وأشار إلى سيفه - فو الله، لأجرنه فيكم جر المرأة ذيلها ولأفعلن وأفعلن.
قال يزيد: فرأيتُ الحصباء تتساقَطُ من أيديهم، وقال: قوموا إلى بيعتكم، فقامت القبائل قبيلة قبيلة تبايع، فيقول: من؟ فتقول: بنو فلان، حتى جاءت قبيلة فقال: من؟ قالوا: النخع، قال: منكم كَميل بن زياد؟ قالوا: نعم، قال: فما فعل؟ قالوا: أيها الأمير شيخ كبير، قال: لا بيعة لكم عندي، ولا تقربون حتى تأتوني به، قال: فأتوه به منعوشاً في سريره حتى وضعوه إلى جانب المنبر فقال الحجاج: لم يبق ممن دخل على عثمان الدار غير هذا، فدعا بنطع وضربت عنقه.
وقال أبو بكر الهذلي: حدثني من شهد الحجاج حين قدم العراق، فبدأ بالكوفة فنودي: الصلاة جامعة، فأقبل الناس إلى المسجد والحجاج متقلد قوساً عربية، وعليه عمامة خز حمراء متلثمَاً فقعد، وعرض القوس بين يديه، ثم لم يتكلم حتى امتلأ المسجد، قال محمد بن عمير: فسكت حتى ظننت أنه إنما يمنعه العِي، وأخذت في يدي كَفاً من حصباء أردت أن أضرب بها وجهه، فقام فوضع النقاب وتقلد قوسه وقال: من الوافر:
آَنا ابْنُ جَلاَ وَطَلاع الثنايا ... مَتَى أَضَعِ العمامَةَ تَعْرِفُوني
إني لأرى رءوساً قد أينعَتْ، وحان قطافها، كأني أنظر إلى الدما، بين العمائم واللحى،: من الرجز:
ليس بعشك فادرجي
قَد شَمرَت عن ساقها فَشَمرِي
هذا أَوَانُ الحَرْبِ فاشتدي زِيَمْ ... قد لَفهَا الليلُ بسَواق حُطَمْ
ليس برَاعِي إِبِل ولا غَنَمْ ... ولا بجَزارٍ على ظَهْر وَضَمْ
قَد لَفهَا الليلُ بعَصلَبي ... مهاجِر لَيْسَ بأعرابي(2/123)
إني والله ما أغمز غمز التين، ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد فُررت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وحذيت من الغابة، وإنكم يا أهل العراق طالما أوضعتم في الضلالة، وسلكتم سبيل الغواية، أما واللّه لألحينكم لحى العود، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، يا عبيد العصا، أنا الغلام الثقفي، لا أعد إلا وفيت، ولا أحلف إلا فريت، إنما مثلكم كما قال الله تعالى: " وَضَرَبَ اللَهُ مَثَلا قَرية كَانتَ آمِنَةَ مطمئنة يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَداً مِن كل مكان فكفَرَت بأَنعُمِ اللَهِ فَأَذاقَهَا اَللَهُ لِباسَ اَلجُوعَ وَاَلخَوفِ بِمَا كَانوا يَصنَعُونَ " " النحل: 112 " شاهت الوجوه؛ فإنكم أشباه ذلك، فاستوثقوا واستقيموا. أقسم باللّه، لتدعن الإرجاف، ولتقبلن على الإنصاف، ولتنزعنَّ عن القيل والقال، وكان وكان، والهبر وما الهبر؟، أو لأهبرنكم بالسيف يدع النساء أيامَى والولدانَ يتامَى، ألا إن أمير المؤمنين نثل كنانته بين يديه، فعجم عيدانها فوجدني أمرها عوداً وأصلبها مكسرَاً؛ فوجهني إليكم، فاستقيموا ولا يميلن منكم مائل. واعلموا أني إذا قلت قولا وفيت به، من كان منكم من بعث المهلب، فليلحق به، فإني لا أجد أحداً بعد ثالثة إلا ضربت عنقه. وإياي وهذه الزرافات، فإني لا أجد أحداً يسير في زرافة إلا سفكت دمه واستحللت ماله. ثم نزل.
هذا ما رواه المبرد، وزاد الذهبي بإسناد عن الثوري: قم يا غلامُ، فاقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، فقرأ: بسم اللّه الرحمن الرحيم. من عبد اللّه عبد الملك أمير المؤمنين إلى من في الكوفة، سلام عليكم، فسكتوا، فقال الحجاج: اكفف يا غلام، ثم أقبل عليهم، فقال: يسلم عليكم أمير المؤمنين، فلا تردون عليه شيئاً؟ هذا أدب ابن نهية، أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، أو لتستقيمن، اقرأ يا غلام، فقرأ قوله: السلام عليكم، فلم يبق في المسجد أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين أفضل السلام.
قلت: العصلبيُ: الشديد من الرجال، والسواق الحطم: العنيف في سوقه، الوضم: كل ما وقى به اللحم من الأرض، عجمت العود: إذا عضضته بنابك لتعرف أصلب هو أم رخو، الزرافات: الجماعات.
وحضر الناس عنده للعطاء واللحاق بالمهلب، فقام إليه عمير بن ضابئ وقال: أنا شيخ كبير عليل، وابني هذا أشد مني، فقال: هذا خير لنا منك، ثم قال: ومن أنت؟ قال: عمير بن ضابئ، قال: الذي دخل على عثمان في داره، وداس على ظهره، فكسر ضلعين من أضلاعه؟ قيل: نعم، فقال: يا عدو اللّه، أفلا بعثت إلى عثمان بدلا؟ قال: إنه حبس أبي، وكان شيخاً كبيراً، فقال: إني لأحسب في قتلك صلاح المصرين، وأمر به فقتل، وانتهب ماله.
وقيل: إن عتبة بن سعيد بن العاص هو الذي أغرى به الحجاج حين دخل عليه، ثم أمر الحجاج مناديه فنادى: ألا إن ضابئاً تخلف بعد ثالثة من النداء فأمر بقتله، وذمة الله بريئة ممن بات الليلة عن جند المهلب، فتسارع الناس إلى المهلب وهو برامهرمز، وجاءه العرفاء فأخذوا كتبه بموافاة العسكر، وقد كان من أخذ الحصباء بيده يريد أن يحصب بها الحجاج تساقط من يده خوفاً ورعباً، فثبتت مهابته في قلوبهم، وتحكم حينئذ في رقابهم.
وكان القاسم بن سلام يقول: قاتل الله أهل العراق، أين قبائلهم وعشائرهم وأهل الأنفة، وأين تجبرهم؟! قتلوا علياً، وطعنوا الحسن، وقاتلوا المختار، وعجزوا عن قتل هذا الملعون الدميم الصورة، وقد جاءهم في اثني عشر راكباً وهم في مائة ألف، ولكن ظهر به تصديق قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في قوله: اللهم سلط عليهم الغلام الثقفي.
ثم بعث الحجاج إلى البصرة الحكم بن أيوب الثقفي، وأمره أن يشتد على خالد ابن عبد الله، وبلغه الخبر، فقسم في أهل البصرة ألف ألف وخرج عنها.
ويقال: إن الحجاج أول من عاقب على التخلف عن البعوث بالقتل، قال الشعبي: كان الرجل إذا أخل بوجهه الذي يكتب إليه زمن عمر وعثمان وعلي، تنزع عمامته ويقام بين الناس، فلما ولى مصعب، أضاف إليه حلق الرءوس واللحي، فلما ولي بشر، أضاف إليه تعليق الرجل بمسمارين في يده في حائط، فيخرق المسمار يده، وربما مات، فلما جاء الحجاج، ترك ذلك كله، وجعل عقوبة من يخل بمكانه من الثغر أو البعث: القتل.(2/124)
ثم ولى الحجاج على السند سعيد بن أسلم بن زرعة، فخرج عليه معاوية بن الحارث العلافي، وأخوه، فغلباه على البلاد وقتلاه، فأرسل الحجاج مجاعة بن سعيد التميمي مكانه فغلب على الثغر، وغزا وفتح فتوحات، ومات بمكران لسنة من ولايته.
وثوب أهل البصرة على الحجاج
ثم خرج الحجاج من الكوفة، واستخلف عليها عروة بن المغيرة بن شعبة، وسار إلى البصرة وقدمها، وخطب كما خطب بالكوفة، وتوعد على القعود عن المهلب كما توعَد، فأتاه شريك بن عمر اليشكري وكان به فتق، فاعتذر به، وبأن بشر بن مروان قَبِلَ عذره بذلك، وأحضر عطاءه ليرد إلى بيت المال، فضرب الحجاج عنقه، وتتابع الناس متوجهين إلى المهلب، ثم سار حتى كان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخَاً فقام ليشد ظهره، وقال: يا أهل المصرين، هذا والله مكانكم حتى يهلك اللّه الخوارج، ثم قطع لهم الزيادة التي زادها مصعب في الأعطية، وكانت مائة مائة، وقال: لسنا نجيزها، فقال عبد الله بن الجارود: إنما هي زيادة عبد الملك، وقد أجازها أخوه بشر بأمره، فانتهره الحجاج، فقال له: إني لك ناصح، وإنه قول من ورائي، فمكث الحجاج أشهراً لا يذكر الزيادة، ثم أعاد القول فيها فرد عليه ابن الجارود مثل الرد الأول فقال له مصقلة بن كرب العبدي: سمعاً وطاعة للأمير فيما أحببنا وكرهنا؛ فليس لنا أن نرد عليه، فانتهره ابن الجارود وشتمه، وآتى الوجوه إلى عبد اللّه بن الجارود، فصوبوا رأيه، وقال له الهذيل بن عمران البرجمي، وعبد الله ابن حكيم بن زياد المجاشعي، وغيرهما: إن هذا الرجل مجمع على نقض هذه الزيادة، فتعال نبايعك على إخراجه من العراق، ونكتب إلى عبد الملك أن يولي علينا غيره، وإلا خلعناه، وهو يخافنا ما دامت الخوارج، فبايعوه سرَّاً وتعاهدوا.
وبلغ الحجاج أمرهم، فاحتاط وحذر، ثم خرجوا في ربيع سنة ست وسبعين، وركب عبد اللّه بن الجارود في عبد القيس على راياتهم، ولم يبق مع الحجاج إلا خاصته وأهل بيته، وبعث الحجاج يستدعيه، فأفحش في القول لرسوله، وصرح بخلع الحجاج، فقال له الرسول: تهلك قومك وعشيرتك، وأبلغه تهديد الحجاج إياه، فأمر به فضرب وأخرج، وقال: لولا أنك رسول لقتلتك.
ثم زحف ابن الجارود في الناس حتى غشي فسطاطه، فنهب ما فيه من المتاع والظهر وأخذوا زوجاته وانصرفوا عنه، وكان رأيهم أن يخرجوه ولا يقتلوه.
وقال الغضبان بن القبعثري الشيباني لابن الجارود: لا ترجع عنه، وحرضه على معاجلته، فقال: إلى الغداة.
وكان مع الحجاج عثمان بن قطن، وزياد بن عمرو العتكى صاحب الشرطة بالبصرة، فاستشارهما، فأشار زياد بأن يستأمن القوم وبلحق بأمير المؤمنين، وأشار عثمان بالثبات، ولو كان دونه الموت، ولا تخرج إلى أمير المؤمنين من العراق بعد أن رقاك إلى ما رقاك، وفعلت ما فعلت بابن الزبير، فقبل الحجاج رأى عثمان، وحقد على زياد في إشارته، وجاءه عامر بن مسمع يقول: قد أخذت لك الأمان من الناس، فجعل الحجاج يغالطه رافعاً صوته عليه ليسمع الناس، ويقول: واللّه لا أؤمنهم حتى يأتوني بالهذيل بن عمران، وعبد اللّه بن حكيم، ثم أرسل إلى عبيد بن كعب النميري أن ائتني فامنعني، فقال: إن أتيتني منعتك، فأبى.
وبعث إلى محمد بن عمير بن عطارد، وعبد الله بن حكيم بمثل ذلك، فأجابوه بمثله، ثم إن عباد بن الحصين الحبطي مَر بابن الجارود والهذيل وعبد اللّه بن حكيم يتناجون، فطلب الدخول معهم فأَبوا، فغضب وسار إلى الحجاج، وجاءه قتبية بن مسلم في بني أعصر للحمة القيسية، ثم جاءه سبرة بن علي الكلابي، وسعيد بن أسلم الكلابي، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي، فثابت إليه نفسه، وعلم أنه قد امتنع، وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع: إن شئت أتيتك، وإن شئت أقمت وثبطت عنك، فأجابه أن أقم. فلما أصبح إذا حوله ستة آلاف، وقال ابن الجارود لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما الرأي؟ قال: تركته أمس، ولم يبق إلا الصبر.(2/125)
ثم تزاحفوا، وعبأ ابن الجارود وأصحابه على ميمنته الهذيل، وعلى ميسرته ابن ظبيان، وتعبأَ الحجاج على ميمنته قتيبة بن مسلم أو عباد بن الحصين، وعلى ميسرته سعيد بن أسلم، وحمل ابن الجارود حتى جاز أصحاب الحجاج، وعطف الحجاج عليه، فعاد ابن الجارود بظهر، ثم أصابه سهم غرب فوقع ميتاً، ونادى منادي الحجاج بأمانِ الناس إلا الهذيل وابن حكيم، وأمر ألا يتبع المنهزمون، ولحق ابن ظبيان بعمان، فمات هنالك.
وبعث الحجاج برأس الجارود ورءوس ثمانية عشر من أصحابه إلى المهلب، ونصبت ليراها الخوارج فيتأسوا من الخلاف. وحبس الحجاج عبيد بن كعب، ومحمد بن عميرة لامتناعهما من الإتيان إليه، وحبس ابن القبعثري؛ لتحريضه عليه، فأطلقه عبد الملك.
وكان فيمن قتل مع ابن الجارود: عبد اللّه بن أنس بن مالك، فقال الحجاج: لا أرى إنساناً يعين علي، ودخل البصرة فأخذ ماله، وجاءه أنس، فأساء عليه، وأفحش في شتمه، فكتب أنس إلى عبد الملك يشكوه، فكتب عبد الملك إلى الحجاج يشتمه ويغلظ عليه في التهديد على ما فعل بأنس، وأن يجيء إلى منزله ويتنصل؛ وإلا نبعث من يضرب ظهره ويهتك ستره، قالوا: وجعل الحجاج في قراءته يتغير وجهه ويتمعَّر وجبينه يرشح عرقاً، ثم جاء إلى أنس بن مالك واعتذر إليه.
وفي غضون هذه الواقعة خرج الزنج بفرات البصرة، وقد كانوا خرجوا قبل ذلك في أيام مصعب، ولم يكونوا بالكثير، وأفسدوا الثمار والزروع، ثم جمع لهم خالد ابن عبد اللّه، وافترقوا قبل أن ينال منهم، وقتل بعضهم، وصلبهم.
فلما كانت هذه الوقعة، قدموا عليهم رجلاَ منهم اسمه رباح، ويلقب شير زنجي، أي: أسد الزنج، وأفسدوا، فلما فرغ الحجاج من ابن الجارود، أمر زياد بن عمرو صاحب الشرطة أن يبعث إليهم من يقاتلهم، فبعث إليهم ابنه حفصَاً في جيش، فقتلوه وانهزم أصحابه، فبعث جيشَاً فهزم الزنج وأبادهم.
مقتل ابن مخنف، وحرب الخوارج
كان المهلب وعبد الرحمن بن مخنف واقفَينِ للخوارج برامهرمز، فلما أمدهم الحجاج بالعساكر من الكوفة والبصرة، تأخر الخوارج من رامهرمز إلى كازرون، واتبعهم العسكر حتى نزلوا بهم، وخندق المهلب على نفسه، وقال ابن مخنف وأصحابه: خندقنا سيوفنا، فبيتهم الخوارج وأصابوا الغرة في ابن مخنف فقاتل وأصحابه حتى قتلوا، هكذا حديث أهل البصرة.
وأما أهل الكوفة، فذكروا أنهم لما نهضوا إلى الخوارج، اشتد القتال بينهم، ومال الخوارج على المهلب واضطروه إلى معسكره، وأمده عبد الرحمن بالخيل والرجال، ولما رأى الخوارج مدده، تركوا من شغل المهلب، وقصدوا عبد الرحمن، فقاتلوه، وانكشف عنه الناس وصبر في سبعين من قومه، فقاتلوا إلى آخر الليل، وقتلوا عن آخرهم.
وبعث الحجاج على عسكر ابن مخنف من أهل الكوفة عتاب بن ورقاء، وأمره أن يسمع للمهلب، فثقل ذلك عليه؛ فلم تحسن بينهما العشرة، وكان يترادان في الكلام، وربما أغلظ له المهلب، وأرسل عتاب إلى الحجاج يسأله العود، وكان خرق الخوارج وشبيب قد اتسع عليه، فصادف منه ذلك موقعَاً، واستقدمه وأمره أن يترك العسكر مع المهلب، فولى عليهم المهلب ابنه حبيباً، وأقام يقاتلهم بنيسابور نحواً من سنة، وتحركت الخوارج على الحجاج من سنة ست وسبعين إلى سنة ثمان، وشغل بحربهم، وأول من خرج منهم صالح بن مسرح منه بني تميم، بعث إليه العساكر فقتل، فولوا عليهم شبيباً، واتبعه كثير من بني شيبان، وبعث إليهم الحجاجُ العساكر مع الحارث بن عميرة، ثم مع سفيان الخثعمي، ثم الحرز بن سعيد، فهزموهم، وأقبل شبيب إلى الكوفة، فجاربه الحجاج وامتنع عليه، ثم سرح عليه العساكر، وبعث في أثرهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فهزموهم، ثم بعث عتاب بن ورقاء، وقتل منهم جماعة؛ كما نذكر ذلك كله في أخبارهم.(2/126)
وفي سنة ست وسبعين خرج صالح بن مسرح التميمي، وكان صالحاً ناسكاً مخبتاً، وكان بدارا والموصل لمله أصحاب يقرئهم ويفقههم، ويقص عليهم، ولكنه يحط على الخليفتين عثمان وعلي كدأب الخوارج، ويتبرأ منهما، ويقول: تيسروا رحمكم الله لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة، وللخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، ولا تجزعوا من القتل في الله؛ فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم، فلم يلبث أن أتاه كتاب شبيب بن يزيد من الكوفة فيه: أما بعد، فإنك شيخ المسلمين، ولن نعدل بك أحداً، وقد دعوتني، فاستجبت لك، وإن أردت تأخير ذلك، أعلمني؛ فإن الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمني المنية ولم أجاهد الظالمين، فيا له غبناً، ويا له فضلا متروكاً، جعلنا اللّه وإياك ممن يريد بعمله اللّه ورضوانه.
فرد عليه صالح الجواب، يحضه على المجيء، فجمع شبيب قومه، وقدم على صالح وهو بدارا، فتصمدوا مائة وعشرة أنفس. ثم وثبوا على خيل لمحمد بن مروان، فأخذوها، وقويت شوكتهم وأخافوا المسلمين، فندب محمد إلى قتالهم عدي بن عدي بن عميرة الكندي، فقاتلهم فهزم عدي، فندب لقتالهم خالد بن جزء السلمي، والحارث العامري، واقتتلوا أشد القتال، وانجاب صالح إلى العراق، فوجه الحجاج عسكراً عليهم سورة بن الحر، فاقتتلوا، ثم مات صالح مثخنَاً به الجراح في جمادى الآخرى من السنة المذكورة، وعهد إلى شبيب بن يزيد، فالتقى شبيب هو وسورة فانهزم سورة بعد قتال شديد، ثم سار شبيب، فلقي سعيد بن عمرو الكندي فاقتتلوا، ثم انصرف شبيب، فهجم الكوفة، وقتل بها أبا سليم مولى عنبسة بن أبي سفيان والد الليث بن سليم وغيره من المشاهير، ثم خرج عنها، فوجه الحجاج لحربه زائدة بن قدامة الثقفي ابن عم المختار في جيش كثير، فالتقوا أسفل الفرات، فهزمهم شبيب، وقتل زائدة، فوجه الحجاج لحربه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث؛ فلم يقاتلهم، وكان مع شبيب امرأته غزالة، وكانت معروفة بالشجاعة، ودخلت مسجد الكوفة تلك المرأة وقرأت وِردَهَا في المسجد، وكانت نفرت أن تصعد المنبر فصعدته.
ثم حار الحجاج في أمره مع شبيب، فوجه لقتاله عثمان بن قطن الحارثي، فالتقوا في آخر العام المذكور، فقتل عثمان وانهزم جمعه بعد أن قتل منهم ستمائة نفر، واستفحل أمر شبيب بن يزيد، فنزل المدائن، فندب الحجاج لقتاله أهل الكوفة كلهم، وعليهم زهرة بن حوية السعدي شيخ كبير قد باشر الحروب، وبعث إلى زهرة عِبد الملك من الشام سفيان بن الأبرد وحبيباً الحكمي مدداً بستة آلاف، اجتمع جميع الجيش خمسين ألفاً، وعرض شبيب بن يزيد جنوده بالمدائن، فكانوا ألف رجل، فقال: يا قوم، إن اللّه كان ينصركم، وأنتم مائة أو مائتان، فأنتم اليوم مئون، ثم ركب فأخذوا يتخلفون عنه ويتأخرون، فلما التقى الجمعان، لم يثبت معه إلا ستمائة، فحمل شبيب في مائتين على ميسرة الناس، فانهزموا واشتد القتال، وعتاب بن ورقاء جالس هو وزهرة بن حوية على طنفسة في القلب، فقال عتاب: هذا يوم كثر فيه العدد وقل فيه الغناء - يعني: النفع - والهفي على خمسمائة من رجال تميم.
وتفرق عن عتاب عامة الجيش وحمل عليه شبيب فقاتل عتاب ساعة وقتل، ووطئت الخيل زهرة بن حوية فهلك، فتوجع له شبيب لما رآه صريعَاً، فقال له رجل من قومه: والله، يا أمير المؤمنين، إنك لتتوجع لرجل من الكافرين، قال: إنك لست أعرف بصلاتهم مني، إني أعرف من قديم أمرهم مالا تَعرفُ، لو ثبتوا عليه كانوا إخواننا. ثم قال شبيب لأصحابه: ارفعوا عنهم السيف، ودعا الناس إلى طاعته وبيعته فبايعوه ثم هربوا ليلا، وهذا كله قبل أن يقدم جيش الشام الذي بعثه عبد الملك، فتوجه شبيب نحو الكوفة، وقد دخلها عسكر الشام، فشدوا ظهر الحجاج، وانتعش بهم، واستغنى عن عسكر الكوفة، وقال: يا أهل الكوفة، لا أعز اللّه من أراد بكم العز، الحقوا بالحيرة مع اليهود والنصارى، ولا تقاتلوا معنا، وحنق عليهم. وهذْا مما يزيدهم فيه بغضاً.
ثم إنه وجه الحارث بن معاوية الثقفي في ألف فارس في الكشف، فالتمس شبيب غفلتهم، فالتقوا، فحمل شبيب على الحارث فقتله، وانهزم من معه، ثم جاء شبيب فنازل الكوفة، وحفظ الناس السكك، وبنى شبيب مسجداً بطرف السبخة، فخرج إليه أبو الورد مولى الحجاج في عدة غلمان فقاتل حتى قتل، ثم خرج طهمان مولى الحجاج - أيضاً - في طائفة، فقتله شبيب.(2/127)
ثم إن الحجاج خرج من قصر الكوفة، فركب بغلا وخرج في جيش الشام، فلما التقى الجمعان، نزل الحجاج وقعد على كرسي، ثم نادى: يا أهل الشام، أنتم أهل السمع والطاعة، والصبر واليقين، لا يغلبن باطل هؤلاء حقكم، غضوا الأبصار، واجثوا على الركب، وأشرعوا إليهم الأسنة. وكان شبيب في الستمائة، فجعل مائتين معه كردوساً، ومائتين مع سويد بن سليم، ومائتين مع المحلل بن وائل، فحمل سويد عليهم حتى إذا غشي أطراف الأسنة، وثبوا في وجوههم يطعنونهم قدماً قدماً، فانصرفوا، فأمر الحجاج بتقديم كرسيه وصاح بأصحابه، فحمل عليهم شبيب، فثبتوا وطال القتال، فلما رأى شبيب صبرهم نادى: يا سويد، احمل على أهل هذه السكة، لعلك تزيل أهلها عنها، فتأتي الحجاج من ورائه، ونحن من أمامه، فحمل سويد بن سليم على أهل السكة، فرمى من فوق البيوت، فرد.
قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط الخارجي من قوم شبيب، قال: فقال لنا شبيب يومئذ: يا أهل الإسلام، إنما شرينا الله، ومن شرى اللّه، لم يكثر عليه ما أصابه شدة، كشداتكم في مواطنكم المعروفة، وحمل على الحجاج، فوثب أصحاب الحجاج طعنَاً وضرباً، فنزل شبيب وقومه فصعد الحجاج على مسجد شبيب في نحو عشرين رجلا، وقال: إذا دنوا فارشقوهم بالنبال، فاقتتلوا عامة النهار أشد قتال في الدنيا حتى أقر كل فريق للآخر.
ثم إن خالد بن عتاب بن ورقاء قال للحجاج: ائذن لي في قتالهم؛ فإني موتور - لأنه قتل أبوه عتاب بن ورقاء - وممن لا يتهم في نصيحته، فأذن له، فخرج في عصابة، ودار من ورائهم فقتل مصاداً أخا شبيب وغزالة امرأة شبيب، وأضرم النيران في عسكره، فوثب شبيب وأصحابه على خيولهم، فقال الحجاج: احملوا عليهم، فقد ارتعبوا، فشدوا عليهم فهزموهم، وتأخر شبيب في خاصة قومه، فذكر من كان مع شبيب: أنه كان ينعس، ويخفق برأسه، وخلفه الطلب، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك، فالتفت غير مكترث، ثم أكب يخفق، ثم قلت: إنهم دنوا، فالتفت، ثم أقبل يخفق، وبعث الحجاج إلى خيله أن دعوه في حرق النار، فتركوه ورجعوا.
ومَرَ أصحاب شبيب بعامل للحجاج على بلد بالسواد، فقتلوه، ثم أتوا بالمال على دابة، فشتمهم شبيب على مجيئهم بالمال، وقال: قد اشتغلتم بالدنيا، ثم رمى بالمال في الفرات.
ثم سار بهم إلى الأهواز، وبها محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله فخرج لقتاله، وسأله محمد المبارزة، فبارزه شبيب فقتله، ومضَى إلى كرمان، فأقام شهرين ورجع إلى الأهواز، فندب له الحجاج مقدمي جيش الشام سفيان بن الأبرد الكلبي، وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي، فالتقوا على جسر دجيل، فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، ثم ذهب شبيب، فلما صار على جسر دجيل، قطع الجسر فوقع شبيب وغرق.
وقيل: قفز به فرسه فألقاه في الماء وعليه الدرع، فقال له رجل: أغرقاً يا أمير المؤمنين؟ قال: ذلك تقدير العزيز العليم، وألقاه دجيل إلى ساحله ميتاً، وآتى به الحجاج.
قال أبو مخنف: فسمعتهم يقولون: إنه شق بطنه، فأخرج قلبه، وكان مجتمعاً صلباً كأنه صخرة، وأنه كان يضرب به الأرض، فيثب قامة الإنسان.
قلت: للّه أبو هذا البطل القرم الذي بارز الأقران، فكسرهم، وشتت شملهم وقهرهم يظفر في ستمائة على خمسين ألفَاً، هو شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس بن عمرو بن الصلت الشيباني، خرج بالموصل كما تقدم، فبعث إليه الحجاج خمسة قواد قتلهم واحداً بعد واحد، ثم سار إلى الكوفة، وحاصر الحجاج بها، وقاتله، وكانت امرأته غزالة من الشجاعة والفروسية قريباً منه، هرب الحجاج منها في بعض حروبه، فعيره بعض الناس: من الكامل:
أَسَد عَلي وَفي الحُرُوبِ نَعَامَةَ ... فَتخَاءُ تنفرُ مِن صَفِيرِ الصافِرِ
هَلا بَرَزتَ إِلَي غَزَالَة في الوَغَى ... بَل كان قلبُكَ في جَنَاحَي طَائِرِ
وكانت أمه تسمى جهيزة، تشهد الحروب كذلك.
قال بعضهم: رأيت شبيبَاً وقد دخل المسجد، وعليه جبة طيالسة عليها نقط من أثر المطر، وهو طويل أشمط، جعد، آدم اللون، فبقى في المسجد يرتج.
ولد سنة ست وعشرين من الهجرة، وغرق بدجيل سنة سبع وسبعين.
ولما حمل إلى عبد الملك عتبان الحروري من أصحاب شبيب، قال له عبد الملك: ألست القائل: من الطويل:
فإنْ كان مِنكُم كان مَروَانُ وابنُهُ ... وعَمرو ومنكُم هاشم وحبيبُ(2/128)
فمنا حُصَين والبطين وقَعنَب ... ومنا أَمِير المؤمنينَ شَبِيبُ
فقال عتبان: يا أمير المؤمنين، إنما قلت: ومنا أميرَ المؤمنين - ونصب على النداء - فاستحسن قوله وأطلقه.
وجهيزة أم شبيب هي التي يضرب بها المثل في الحمق، لأنها لما حملت، قالت: في بطني شيء ينفر، فقيل: أحمق من جهيزة. وروى عنها ما يدل على عدم الحمق؛ فإن عمرو بن شبيب قال: حدثني خلاد بن يزيد الأرقط قال: كان شبيب نُعِيَ إلى أمه، فيقال لها: إنه قد قتل، فلا تقبل، فلما قيل لها: إنه قد غرق، قبلت ذلك، وقالت: إني رأيتُ حين ولدته أنه خرج مني شهاب نار، فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء. كذا في دول الإسلام للحافظ الذهبي.
وفي سنة ثمان وثمانين: بني الحجاج مدينة واسط المدينة المعروفة؛ وذلك أن الحجاج كان ينزل أهل الشام إذا ورد الكوفة على أهل الكوفة، فضرب البعث عن أهل الكوفة إلى خراسان وعسكروا قريباً من الكوفة حتى يستتموا، فرجع منهم ذات ليلة فتى حديث عهد بعرس بابنة عمه، فطرق بيته فدق الباب فلم يفتح له إلا بعد هنيهة.
وإذا سكران من أهل الشام يستأذن وشكت عليه ابنة عمه مراودته إياها، فقال لها: ائذني له، فأذنت له، فجاء فقتله الفتى الكوفي، وخرج إلى العسكر وقال: ابعثي إلى الشاميين، وادفعي إليهم صاحبهم، ففعلت، فأحضروها عند الحجاج فأخبرته، فقال: صدقت، وقال للشاميين: لا قود له ولا عَقل؛ فإنه قتيل اللّه إلى النار، ثم نادى منادٍ: لا ينزل أحد على أحد. وبعث الرواد فارتادوا له مكان واسط، ووجد هنالك راهباً ينظف بقعة من النجاسات، فقال: ما هذه؟ قال: نجد في كتبنا أنه يبني هاهنا مسجد للعبادة، فاختط الحجاج مدينة واسط هنالك، وبني المسجد في تلك البقعة.
وفي تاريخ ابن خلكان: أن ابن الزبير لما ولي الخلافة بمكة ولى أخاه عبيد الله ابن الزبير المدينة، ولم يزل يقيم للناس الحج من سنة أربع وستين إلى سنة اثنتين وسبعين، فلما ولي عبد الملك، منع أهل الشام من الحج من أجل ابن الزبير؛ لأنه كان يأخذ الناس بالبيعة إذا حجوا، فضج الناس لما منعوا من الحج، فبنى عبد الملك قبة على صخرة بيت المقدس ومساجد الأمصار.
وقيل: إن أول من سن التعريف بالبصرة عبد الله بن عباس - رضي اللّه عنهما - لما كان عاملا عليها لعلي - رضي الله تعالى عنهما - وبمصر عبد العزيز بن مروان أخو عبد الملك، وببيت المقدس عبد الملك بن مروان.
ولما قتل عبد الملك مصعب بن الزبير، وأراد الرجوع، جاء إليه الحجاج، فقال: إني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير، فسلخته، فولني قتاله، فبعثه في الجيش المتقدم ذكره، فحصره أكثر من خمسين يوماً، وقيل: خمسة أشهر، وفعل ما فعل، وأرسل برأسه إلى عبد الملك، فأرسل عبد الملك بالرأس إلى عبد الله بن حازم السلمي، وهو عامل ابن الزبير على خراسان، وما والاها، وكان عبد اللّه بن حازم هذا من الأبطال والفرسان المعدودين المشهورين. ولقد سمعت عبارة في وصفه بالشجاعة، لم أسمع نظيرها في غيره، فما أحقها أن تكون في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛ فإنها غاية في المدح ما خلفها غاية، وهي قول بعض العرب فيه: ما استحيا شجاع قط أن يفر من عبد الله بن حازم السلمي. فتأملها بالذوق، تجدها تجذب المحامد بالطوق.
الشيء بالشيء يذكر: قال في العقد: فرسان الحروب في الجاهلية ربيعة بن مكدم من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة.
قلت: هو صاحب الواقعة مع عمرو بن معدي كرب التي تقدم ذكرها، كان يعقر على قبره في الجاهلية، ولم يعقر على قبر أحد قبله. وبنو فراس من الذين قال فيهم علي بن أبي طالب - رضي اللّه تعالى عنه - يمدحهم، ويذم أهل الكوفة: يا معشر الكوفة، من فاز بكم، فاز بالسهم الأخيب، أبدلكم اللّه بي من هو شر لكم، وأبدلني بكم من هو خير منكم، وددت واللّه أن لي بجمعكم وأنتم مائة ألف ثلاثمائة من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة.
وعنترة بن شداد العبسي، وعتبة بن الحارث بن شهاب، وأبو بداء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وزيد الخيل، وبسطام بن قيس، والأحيمر السعدي، وعامر ابن الطفيل، وعمرو بن عبد ود العامري، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي.(2/129)
وأما في الإسلام: فعلي بن أبي طالب، والزبير، وطلحة، ورجال من الأنصار، منهم: أبو دجانة الأنصاري، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وقيس بن سعد بن عبادة، وعباد بن الحصين، والأشتر بن مالك النخعي، وعبد اللّه بن الزبير، ومسلمة ابن عبد الملك بن مروان، وعمير بن الحباب، وقطري بن الفجاءة، والحريش بن هلال السعدي، وشبيب الحروري الخارجي، وعبد الله بن حازم السلمي المذكور.
وكان عبد اللّه بن حازم هذا عاملا لابن الزبير على خراسان وما والاها؛ كما تقدم ذكره، فلما أرسل إليه عبد الملك بن مروان برأس ابن الزبير، أرسله مع رجل من بني عامر بن صعصعة يدعوه إلى طاعته، وأن تكون له خراسان طعمة سبع سنين لا يسأل عن شيء منها، قال ابن حازم للرسول: لولا أن الرسل لا تقتل - وفي رواية: لولا خشية الفتنة من بني عامر وبني سليم - لضربت عنقك، ولكنْ كُل كِتَابَ صاحبك، فأكله، ثم أمر بالرأس فغسله وقَتله ودفنه.
وقيل: إنه بعثه إلى آل الزبير بالمدينة، فدفنوه مع جثته، حيث دفنت.
وعبد الملك أول من سمي بعبد الملك في الإسلام، كان مشدود الأسنان بالذهب، حازماً يقظاً لا يكلُ أمره إلى سواه، شديد البخل يلقب: رشح الحجر؛ لبخله، ويلقب - أيضاً - بأبي الذباب، لبخر كان في فيه؛ كذا قيل، مقدماً على سفك الدماء.
أوصى ابنه الوليد لما ثقل مرضه، فقال: يا وليد، لا ألفينك إذا وضعتني في حفرتي تعصر عينيك كالأمة الوكعاء، بل شمر وائتزر، والبس جِلد النمر، وادع الناس إلى البيعة، فمن قال برأسه كذا - أي: لا - فقل بالسيف كذا، أي: اضرب عنقه، ومن سكت، مات بدائه.
وكان عبد الملك يلقب قبل ذلك بحمامة المسجد لقبه به عبد اللّه بن عمر، وجاءته الخلافة وهو يقرأ في المصحف، فطبقه، وقال: سلام عليك، هذا فراق بيني وبينك.
وقيل لابن عمر: رأيتَ لو تفانوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن نسأل بعدهم؟ قال: سلوا هذا الفتى، يعني: عبد الملك بن مروان.
عن يونس بن ميسرة، عن عبد الملك؛ أنه قال وهو على المنبر: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من امرئ لا يغزو في سيبل الله، أو يجهز غازياً، أو يخلفه بخير، إلا أصابه الله بقارعة قبل الموت " .
وقال النضر بن محمد، وذكر سنداً إلى سحيم مولى أبي هريرة، عن أبي هريرة؛ أن عبد الملك بن مروان دخل عليهم، وهو غلام شاب، فقال أبو هريرة: هذا يملك العرب.
وقال جرير بن حازم، عن نافع؛ لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميراً، ولا أنسك، ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان.
وعن ابن عمر قال: ولد الناس أبناء، وولد مروان أباً.
قال مالك: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أول من صلى في المسجد ما بين الظهر إلى العصر عبد الملك بن مروان، وفتيان كانوا معه إذا صلى الإمام الظهر، قاموا فصلوا إلى العصر، فقيل لسعيد بن المسيب: لو قمنا فصلينا كما يصلي هؤلاء، فقال سعيد بن المسيب: ليست العبادة بكثرة الصلاة والصوم، إنما العبادة التفكر في أمر الله، والورع عن محارم الله.
وروى إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: ما جالست أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك بن مروان؛ فإني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه.
وقال أحمد بن إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، حدثنا أبي، عن أبيه، قال: لما نزل مسلم بن عقبة المري المدينة، دخلت المسجد النبوي، فجلست إلى جنب عبد الملك، فقال لي: أمن هذا الجيش أنت؟ قلت: نعم، قال: ثكلتك أمك، أتدري إلى من تسير، إلى أول مولود ولد في الإسلام.
قلت: مراده بالمدينة، فقد صح أن عبد الله بن الزبير أول مولود ولد بها، قيل: بقباء، وقيل: بالمدينة نفسها، ففرح المسلمون فرحاً شديداً، لأن اليهود تفوهوا بأنا سحرنا محمدَاً وأصحابه؛ فلا يولد لهم، فكان أول مكذب لهم، رضي الله عنه. انتهى.
وإلى ابن حَوَاري رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ابن ذات النطاقين، وإلى من حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما والله إن جئته نهارَاً، وجدته صائمَاً، وإن جئته ليلا لتجدنه قائمَاً، فلو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله كلهم اللّه جميعَاً في النار. فلما صارت الخلافة إلى عبد الملك، وجهنا مع الحجاج حتى قتلناه.(2/130)
قال الأصمعي: حدثنا عباد بن مسلم بن زياد، عن أبيه، قال: ركب عبد الملك ابن مروان بكراً، فأنشأ قائده يقول: من الرجز:
يا َأَيهَا البكرُ الذي أَرَاكَا
غَلَبتَ أهلَ الأرضِ في مَمشَاكا
وَيحَكَ هَل تعلَمُ مَنْ عَلاَكَا
خليفَةُ اللهِ الذي امتَطَاكَا
لَم يَحبُ بَكراً مِثل ما حَبَاكَا
فلما سمعه عبد الملك قال: إيهاً يا هناه، قد أمرت لك بعشرة آلاف درهم. ومما نقلته من العقد لابن عبد ربه القرطبي قال: مدح جرير الحجاج بأبيات منها قوله: من الوافر:
دَعَا الحَجاجُ مِثل دعاءِ نُوح ... فأسمَعَ ذا المعارجِ فَاسْتَجَابَا
فقال له الحجاج: إن الطاقة تَعجِزُ عن مكافأتك، ولكني موفدك على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، فسر بكتابي هذا إليه فسار إلى عبد الملك، فأنشده القصيدة التي مطلعها: من الوافر:
أَتصحُو أَم فؤادُكَ غَيرُ صَاحِ؟! ... .........
فقال عبد الملك: بل فؤادك يا ابن الفاعلة، حتى انتهى إلى قوله فيها: من الوافر:
تَعَزت أم حَزْرَةَ ثُم قالَتْ: ... رأيتُ الوارِدِينَ ذَوِي امتِيَاحِ
ثِقِي باللهِ ليسَ له شريك ... ومِنْ عندِ الخليفةِ بالنجاحِ
سأشكُر إن رَدَدتَ إِلَي ريشِي ... وأثبت القَوَادِمَ مِنْ جَنَاحي
أَلَستم خَيرَ مَن رَكِبَ المطايا ... وأندى العَالَمينَ بُطُونَ راحِ؟!
فلما قال هذا البيت استوى عبد الملك جالساً، وكان متكئَاً، ثم قال: من مدحنا فبمثل هذا فليمدح، ثم قال: يا جرير، أترى أم حزرة ترويها مائة ناقة من نعم كلب؟! فقال: إذا لم تروها، فلا أرواها الله، وقال: يا أمير المؤمنين، إن الإبل أباق، ونحن مشايخ، وليس بأحدنا فضل عن راحلته، فلو أمرت بالرعاة لها، فأمر له بثمانية أعبد، قال: وكانت بين يدي عبد الملك صحاف من فضة يقرعها بقضيب في يده فقال جرير: والمحلب يا أمير المؤمنين، وأشار إلى صحفة، فنبذها إليه بالقضيب، وقال: خذها، ففي ذلك يقول: من البسيط:
أَعطَوا هُنَيْدَةَ يَحدُوها ثمانيَةٌ ... ما في عطائِهمُ مَن ولا سَرَفُ
وروى هشام بن الكلبي، عن أبيه قال: دخل أعرابي إلى عبد الملك بن مروان، فمدحه وأحسن، وعنده جرير والفرزدق والأخطل، فقال له عبد الملك: أتعرف أهجَى بيت في الإسلام؟ قال: نعم؛ قول جرير: من الوافر:
فَغُض الطرفَ إنكَ من نُمَير ... فلا كَعْباً بَلَغْتَ ولا كلاَباً
قال: أصبتَ، فهل تعرف أرق بيت قيل في الإسلام؟ قال: نعم، قول جرير ما: من البسيط:
إِن العُيُونَ التي في طَرفِهَا حور ... قتلنَنَا ثم لم يُحيِينَ قَتلاَنا
يَصرَعنَ ذا اللب حتى لا حراكَ به ... وهُن أضعَفُ خَلقِ الله أركانا
قال عبد الملك: أحسنت، ثم قال: فهل تعرفُ أمدح بيت في الإسلام؟ قال: نعم، قوله فيك يا أمير المؤمنين: من الوافر:
أَلستُم خَيرَ مَن رَكِبَ المطايا ... وأَندَى العالَمينَ بُطُونَ رَاحِ؟!
قال: أحسنت، فهل تعرف جريرَاً؟ قال: لا، والله، وإني إلى رؤيته لمشتاق، فقال: هذا جرير، وهذا الفرزدق، وهذا الأخطل، فأنشأ الأعرابي يقول: من المتقارب:
فَحَيا الإلهُ أَبَا حَزرَةِ ... وَأرغَمَ أنفَكَ يا أَخْطَلُ
وَجَد الفرزدقِ أَتعِس به ... وَدَق خياشيمَكَ الجَندَلُ
فأنشأ الفرزدق يقول: من البسيط:
بَل أرغَمَ اللهُ أنفاً أنتَ حامِلُهُ ... يا ذا الخَنَا ومقَالِ الزور والخَطَلِ
ما أَنْتَ بالحَكَمِ الترضَى حكومتُهُ ... ولا الأَصِيلِ وَلاَ ذِي الرأيِ والجَدَلِ
فغضب جرير، وأنشأ يقول: من البسيط:
أَتَشْتُمَانِ سفَاهاً خَيرَكُم حَسَبَاً؟! ... فَفِيكُمَا وإلهي الزورُ والخَطَلُ
شَتَمْتُمَاهُ عَلَى رَفعِي وَوَضعِكُما ... لا زِلتُمَا في سِفَالٍ أيها الرَجُلُ
ثم نهض، فقبل يدي عبد الملك، وقال: يا مولاَيَ، جائزتي لجرير، فقال عبد الملك: وله مني مثلها. انتهى.(2/131)
وحكى الهيثم بن عدي؛ أن عبد الملك بن مروان بَعَثَ إلى عمر بن أبي ربيعة المخزومي، وإلى جميل بن معمر العذري صاحب بثينة، وإلى كثير عزة - وهو كثير ابن عبد الرحمن بن الأسود الخزاعي المدني - وأوقر ناقة ذهبَاً وفضة، ثم قال: لينشد كل واحد منكم ثلاثة أبيات، فأيكم كان أغزل شعرَاً، فله الناقة وما عليها، فقال عمر بن أبي ربيعة: من الطويل:
فَيَا ليتَ أني حِينَ تَدنُو منيتِي ... شَمَمتُ الذي ما بَين عينيكِ والفَمِ
وَلَيتَ طهوري كَانَ رِيقكِ بَعده ... ولَيتَ حَنُوطِي مِن مُشَاشِكِ والدمِ
وَلَيتَ سُلَيمَ في المنامِ ضَجِيعَتي ... لَدَى الجَنةِ الخضراءِ أو في جَهنمِ
وقال جميل: من الطويل:
حَلَقتُ يميناً يا بثينَةُ صادقاً ... فإن كُنْتُ فيها كاذباً فَعَمِيتُ
حلفتُ لها بالبُدنِ تدمى نحورُهَا ... لقد شَقِيَت نَفسِي بكُم وعنِيتُ
ولو أن رَاقي المَوتِ يَرقي جنازتي ... بمَنطِقِهَا في الناطِقِينَ حَيِيتُ
وقال كثير عزة: من الكامل:
بِأبي وأمي أَنتِ مِن معشوقةِ ... ظَفِرَ العدو بها فَغَيرَ حالَهَا
ومشَى إلي بعَيبِ عزةَ نسوةٌ ... جعل المليكُ خدودَهُن نِعَالَهَا
ولو أن عزةَ حاكَمَت شَمسَ الضحَى ... في الحُسنِ عند موفَّقٍ لَقَضَى لها
فقال عبد الملك: خذ الناقة يا صاحب جهنم.
وكان يقال: من أراد رِقَّة الغزل، فعليه بشعر عمر بن أبي ربيعة المخزومي، ومن شعره ما رواه ابن الأنباري: من الكامل:
لبثوا ثَلاَث مني بمَنزِلِ قلعةٍ ... وَهُمُ عِلى عرضٍ لَعمرُكَ ما هُمُ
متجاورينَ بغَيرِ دارِ إقامةٍ ... لو قد أجَد رحيلهم لم يَقدَمُوا
وَلهن بالبَيتِ العتيقِ لبانَة ... والبيتُ يعرفُهُن لو يتكلمُ
لَو كان حياً قبلهن ظعائناً ... حَياً الحطيمُ وجوهَهُن وزَمزَمُ
لكنهُ مما يطيفُ برُكنِهِ ... منهن صماء الصَدَى مُستعجمُ
وكأنهن وقد صدرنَ عشية ... بيض بأكنافِ الخيامِ منظمُ
وفي كتاب أنساب قريش للزبير بن بكار لعمر بن أبي ربيعة قوله: من الطويل:
نَظَرتُ إليها بالمحصَبِ من مِنى ... ولي نَظَر لولا التحرُّمُ عازمُ
فقلتُ أشمس أم مصابيحُ بيعَة ... بَدت لكَ تحت السُّجفِ أَم أنتَ حَالِمُ؟
بعيدة مَهوَى القُرطِ إما لنوفَل ... أَبُوهَا وإما عَندُ شَمسٍ وهَاشِمُ
فلم أستطِعهَا غَيرَ أَن قَد بَدَا لَنَا ... عشيةَ راحَت وَجهُهَا والمَعَاصِمُ
وقال الزبير بن بكار: أنشد ابن أبي عتيق سعيدَ بن المسيب قول عمر بن أبي ربيعة: من الخفيف:
أيها الراكبُ المجد ابتِدَارَاً ... قد قَضَى مِن تِهَامَةَ الأوطارا
إن يكُنْ قلبُكَ الغدَاةَ جَلِيداً ... ففؤادي بالحُب أمسَى مُعَارا
ليت ذا الدهرَ كان حَتماً علينا ... كُل يومَين حِجةَ واعتِمَارا
فقال سعيد بن المسيب: لقد كلف ابن أبي ربيعة المسلمين شططاً.
وروى الأصمعي، عن صالح بن أسلم، قال: قال عمر بن أبي ربيعة: إني قد أنشدت من الشعر ما بلغك وبلغ غيرك، ولكن ورب هذه البِنِية - يشير إلى الكعبة - ما حللت إزاري على فرج حرام قط.
حضر مجلس عبد الملك يوماً قوم من وجوه العرب، فقال لهم عبد الملك: أي المناديل أفضل؟ فقال بعضهم: مناديل مصر، كأنها غِرقِئُ البيض، وقال بعض: مناديل اليمن كأنها أنوار الربيع، فقال عبد الملك: ما صنعتم شيئاً، أفضلها ما قاله عبدة بن الطبيب حيث يقول: من البسيط:
لَما نزلنَا ضربنَا ظِل أخبيةٍ ... وفَارَ بالغَلي للقَومِ المراجيلُ
ورد وأشقَر لا يُؤنيه طابخُهُ ... ما قارَبَ النضْجَ منها فهو مأكولُ
ثم انثنينا عَلَى عُوج مسوَمةٍ ... أعرافُهُن لأيدينا مَنَادِيلُ
ثم قال: وما أطربني لقول طفيل الخيل: من البسيط:(2/132)
إني وإنْ قَلَّ مالي لا يُفَارِقُنِي ... مِثلُ النعامةِ في أوصالهَا طُولُ
تقريبُهَا المَرطَى والجَوزُ معتدلٌ ... كأنه سبد بالماءِ مغسُولُ
أو ساهم الوجهِ لم تقطَع أباجلُهُ ... يُصَانُ وَهوَ بيومِ الروعِ مبذولُ
قلت: وفي حفظي لابن المعتز في مثل هذا المعنى من وصف الفرس ما يعجب سماعه، ويحسن في الطروس إيداعه قوله: من الكامل:
ولقد وَطِئتُ الغيثَ يَحمِلُنِي ... طِرفٌ كلونِ الصبحِ حينَ وقد
يمشِي ويعرضُ في العِنَانِ كما ... صَدَفَ المعشقُ بالذلاَلِ وصَد
طارَتْ به رجل موقعةٌ ... رجامةٌ لحَصَى الطريقِ وَيَدْ
وكأنه مَوج يسيلُ إذا ... أطلقتَهُ، وإذا حبست جَمَد
وقول زيد الخيل: من الرمل:
يا بني الصيداء رُدُّوا فَرَسي ... إنما يُصنَعُ هذا بالذَّلِيلِ
لا تذيلوه فإني لم أكُن ... يا بني الصيْدَا لِمُهرِي بالمُذِيلِ
عَودُوهُ كَالذِي عَوّدتُهُ ... دلج الليلِ وَإِيطَاء القَتِيلِ
قيل: وفدت عزة على عبد الملك بن مروان، فلما دخلت سلَمَت، فرد عليها السلام، ورحب بها، وقال: ما أقدمك يا عزة؟ قالت: شدة الزمان، وكثرة الألوان، واحتباس القطر، قال: هل تروين لكثير: من الطويل:
وَقد زعَمَت أني تغيرت بعدها ... ومَنْ ذا الذي يَا عَز لا يتغير؟
قالت: أَروِي له هذا، ولكني أَروِي قوله في قصيدة له: من الطويل:
كأَني آُنادِي صَخرَة حِينَ أَعرَضَت ... مِنَ الصم لو تمشِي بها العُصمُ زَلتِ
قال: ما كنت لتصيرين إلى حاجته، أو تهبين نفسك لي، فأزوجك منه، قالت: الأمر إليك يا أمير المؤمنين، ما كنت لأزهد في هذا الشرف الباقي لي ما دامت الدنيا أن يكون أمير المؤمنين وليي، فعظم بذلك قدرها عنده، وأمر لها بمال، وكتب إلى كثير وهو بالكوفة؛ أن اركب البريد وعجل؛ فإني مزوجك عزة، وأتاه الكتاب وهو مضني من الشوق إليها، فرحل وأقبل نحوها، فلما كان ببعض الطريق إذا هو بغراب على شجرة بانة ينتف ريشه ويطايره، وكان كثير شديد الطيرَة، فلما رآه تَطَير وهَم بالانصراف، ثم غلبه شوقه، فمضى وهو مكروب لما رأى، حتى آتى ماء لبني نهد، فإذا هو برجل يسقي إبله، فنزل كثير عن راحلته واستظل بشجرة هناك، فأبصره النهدي وأتاه، وسأله عن اسمه ونسبه، فانتسب، فرحبَ به، فأخبره كثير عما رأى في طريقه، فقال: أما الغراب فغربة، وأما البانة فبين، وأما نتف ريشه ففرقة.
فتطير من ذلك ومشَى، حتى دنا من دمشق، فإذا بجنازة فاستعبر، وقال: أسأل الله خير ما هو كائن، فسأل عن الميت فإذا هي عزة، فخر مغشياً عليه، فعُرِفَ، وصب عليه الماء، فكان مجهوده أن بلغ القبر، فلما دفنت، انكب على القبر، وهو يقول: من الطويل:
سِرَاجُ الدجَى صقرُ الحَشَا منتهى المنى ... كَشَمسِ الضحَى نَوامة حينَ أُصبحُ
إذا ما مشت بين البيوتِ تخزلت ... ومالَت كما مال النزيفُ المرنحُ
تعلقتُ عزا وهيَ رود شبابها ... علاقة حُب كاد بالقَلبِ يرجحُ
أقولُ ونضوِى واقفٌ عند رَمسِها ... عليكِ سلامُ اللهِ والعَين تسفَحُ
فهلا فَدَاكِ الموتُ مَن أنتِ دونه ... ومَن هو أسوا منكِ دلا وأقبحُ
على أم بكرٍ رحمةٌ وتحية ... لها منك والنائي يود وينصحُ
منعمة لو يدرج النملُ بينها ... وبين حواشِي بردها كَادَ يجرحُ
وما نظَرَت عيني إلى ذِي بشاشةٍ ... من الناسِ إلا أنتِ في العينِ أملحُ
ثم بكى حتى غشي عليه فأفاق، وهو يقول: من الطويل:
ما أَعيَفَ النهدِي لا دَرَّ درهُ ... وأزجَرَهُ للطيْرِ لا طَارَ طائرُهْ
رأيتُ غراباً واقِعاً فَوقَ بَانَةٍ ... يُنَتفُ أعلَى ريشِهِ ويطايرُه
فقال غراب: ذا اغتراب من النوَى ... وبانَة بَين مِن حَبِيبِ تُعَاشِرُهْ
ثم لم ير ضاحكاً بعدها حتى أدركه الموت. انتهى.(2/133)
وقيل: كان جوثة الضمري صديقاً لعبد الملك بن مروان، ثم خرج عليه مع ابن الزبير، فلما استأمن الناس، قال عبد الملك لجوثة: أكنتُ مستحقاً منك أن تعين ابن الزبير على مع ما بيني وبينك؟! فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجلن علي حتى تسمعَ عذري، قال: هاته، قال: هل رأيتني قط في حرب أو سباق أو نضال إلا والفئة التي أنا معها مغلوبة مهزومة بسوء بختي وشؤمي؟! وإني خرجت مع ابن الزبير ليقتل على رسمي، فضحك منه عبد الملك وعفا عنه، وأحسن إليه.
وقال عبد الملك: كلكم يرشح نفسه لهذا الأمر، يعني: الخلافة، ولا يصلح له منكم إلا من كان له سيف مسلول، ومال مبذول، وعدل تطمئن إليه القلوب والعقول.
وقال لابنه الوليد: يا بني، اعلم أنه ليس بين السلطان وبين أن يملك الرعية أو تملكه الرعية، إلا حزم أو توان.
واصطبح في يوم شديد البرد، فدعا بزوج سمور وعمامة خز، فلبسهما، وأمر بكَوَانِينِ النارِ فأضرم فيها الفحم بين يديه، ثم دعا بمُضَحِكٍ له يُدعَى أبا الزعيريرة، فقال له عبد الملك: اخرج إلى الشتاء، فقل له: أرعد وأبرق كيف شئت، قد استعددنا لك. فخرج إلى صحن الدار، ثم عاد فقال: قد أديتُ رسالتَكَ إليه، فقال: أمَا أمير المؤمنين، فلا سبيل إليه، ولكن واللّه لأضربن ضبب أبي الزعيريرة ضرباً يدخله في حِر أمه، فضحك منه ووصله وخلع عليه من ثيابه.
وكان يقول: خلتان لا تدعوهما إن قدرتم: تعلم العربية، ولباس الثياب الفاخرة؛ فإنهما الزينة والمروءة الظاهرة.
وعن عوانة قال: جرى بين عروة بن الزبير، وبين عبد الملك بن مروان كلام أغلظ له عروة فيه، وكان الحجاج حاضراً فقال له: يا ابن العمياء، أتكلم أمير المؤمنين بمثل هذا؟! فقال له عروة: وما أنت وذاك يا ابن المتمنية؟ فضحك عبد الملك، وقال للحجاج: قد كنت غنياً عن هذا. وإنما أراد عروة: أن أم الحجاج وهي الفارعة بنت همام قالت: من البسيط:
هَل مِن سَبِيلِ إِلى خَمرِ فَأَشربَهَا؟! ... أَم هَل سَبِيل إِلَى نصرِ بنِ حَجاجِ؟!
وكان نصر بن حجاج هذا من أجمل أهل المدينة.
قلت: ذكروا أن عمر بن الخطاب خشي من وقوع الفتنة به، فنفاه من المدينة بعد أن حلق لمة كانت له؛ ففيه يقول الشاعر: من الخفيف:
حَلَقُوا رَأسَهُ لِيَزدَادَ قُبحاً ... غِيرَة مِنهُم عليه وشُحا
كان صبحاً عليه لَيل بهيم ... فَمَحَو لَيلَهُ وأَبقَوهُ صبحَا
وعن المدائني: جرى بين عبد الملك وعمرو بن سعيد بن العاص منازعة، فأغلظ له عمرو، فقال له خالد بن يزيد: يا عمرو، أمير المؤمنين لا يكلم بمثل هذا، فقال له عمرو: اسكت، فوالله لقد سلبوك ملكَكَ، ونكَحُوا أمك، فما هذا النصح الموشح بغش؟ أنت كما قال الشاعر: من الطويل:
كَمُرضِعَةٍ أولادَ أُخرَى وضيعَت ... بنيها فَلَم ترقع بذلك مَرقَعَا
وقدم الحجاج على عبد الملك بن مروان، فمر بخالد بن يزيد بن معاوية، وعنده رجل من أهل الشام، فقال الشامي لخالد: من هذا؟ يشير إلى الحجاج، فقال له خالد كالمستهزئ: هذا عمرو بن العاص، فعدل إليه الحجاج وقال: إني واللّه ما أنا بعمرو بن العاص، ولا ولدت عمراً ولا ولدني، ولكني ابن الغطاريف من ثقيف، والعقائل من قريش، ولقد ضربت بسيفي هذا أكثَرَ من مائة ألف، كلهم يشهد أنك وأباك وجدك من أهل النار، ثم لم أجد لذلك جزاء ولا شكراً، وانصرف عنه وهو يقول: عمرو بن العاص، عمرو بن العاص! وكان عبد الملك إذا دخل عليه رجل من أفق من الآفاق، قال له: أعفني من أربع، وقل بعدها ما شئت؛ لا تكذبني؛ فإن المكذوب لا رأي له، ولا تجبني عما لم أسألك؛ فإن فيما أسألك غنية عنه، ولا تطرني؛ فإني أعلم بنفسي منك، ولا تحملني على الرعية؛ فإني إلى الرفق بهم أحوج.
ذكر ابن خلكان؛ أن عبد الملك بن مروان لما عزم على الخروج لمحاربة مصعب بن الزبير، ناشدته زوجته عاتكة بنت يزيد ين معاوية ألا يخرج بنفسه، وأن يستنيب غيره، وألحت عليه في المسألة. فلما لم يسمع منها، بكت وبكى من حولها من جواريها وحشمها، فقال عبد الملك: قاتل الله كثيراًَ كأنه رأى موقفنا هذا حين قال: من الطويل:
إذا ما أرَادَ الغزوَ لم يَثنِ هَمه ... حَصَان عليها نَظمُ در يَزينُهَا(2/134)
نهتهُ فلما لم تَرَ النهيَ عاقَه ... بكَت فبكَى مما شجاها قَطِينهَا
ثم عزم عليها أن تقصر وخرج.
وروى جرير بن عبد الحميد لعبد الملك: من الطويل:
لَعَمري لقد عُمرتُ في الدهرِ بُرهَة ... ودانَت لِيَ الدُّنيا بِوَقعِ البَوَاترِ
فَأضحَى الذي قد كَانَ مما يَسُرنِي ... كلمح مَضَى في المزمناتِ الغوابرِ
فيا ليتني لَم أَغنَ في الملك ساعةَ ... ولم أَلهُ في لذاتِ عيشٍ نواضِرِ
وكنت كذي طِمرَينِ عاشَ ببُلغَةِ ... من الدهرِ حتى زارَ ضَتكَ المَقَابرِ
وعن يحيى الغساني قال: كان عبد الملك كثيراً ما يجلس إلى أم الدرداء في مؤخر المسجد بدمشق، فقالت له مرة: بلغني يا أمير المؤمنين؛ أنك شربت الطلا بعد النسك والعبادة، فقال: إي والله، والدماء.
وقال علي بن محمد: لما أيقَنَ عبد الملك بالموت، دعا مولاه أبا علاقة، فقال: والله، لوددت أني كنت منذ ولدت إلى يومي هذا جمالاَ.
ولم يكن له من البنات إلا واحدة وهي فاطمة، وكان قد أعطاها قرطي مارية والدرة اليتيمة، وقال: اللهم، إني لم أخلف شيئاً أهم إلي منها فاحفظها، فتزوجها عمر بن عبد العزيز.
ثم أوصى بنيه بتقوى اللّه، ونهاهم عن الفرقة والاختلاف، وقال: انظروا مسلمة، وأصدروا عن رأيه - يعني أخاهم - فإنه مجنكم الذي تجتنون به، ونابكم الذي عنه تفترون، وكونوا بني أم بررة، وكونوا في الحرب أحراراً، واحلولوا في مرارة، ولينوا في شدة، وكونوا كما قال ابن عبد الأعلى الشيباني: من الكامل:
إن القِدَاحَ إذا اجتمعنَ فَرَامَهَا ... بالكَسرِ ذو حَنَق وبطش أَيدِ
عَزت فلم تكسَر، وإن هيَ بُددَت ... فالكَسرُ والتوهِينُ للمتبددِ
يا ولدي، اتق الله فيما أخلفك فيه، واحفظ وصيتي، وخذ بأمري، وانظر أخي معاوية؛ فإنه ابن أمي، وقد ابتلى في عقله بما علمتَ، ولولاك لآثرته بالخلافة، فصل رحمه، واحفظني فيه، وانظر أخي محمد بن مروان، فأقره على الجزيرة ولا تعزله، وانظر أخاك عبد اللّه، فلا تؤاخذه، وأقرره على عمله بمصر، وانظر الحجاج، فأكرمه؛ فإنه هو الذي وطأ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد، ويدك على من ناوأك؛ فلا تسمعن فيه قول أحد، وأنت إليه أحوج منه إليك، ثم تمثل: من الوافر:
فَهَل مِنْ خالدٍ إما هَلَكنَا؟ ... وهَل بالمَوتِ يا للناسِ عَارُ؟!
ولادته في شهر رمضان، سنة خمس وعشرين من الهجرة، وجلوسه في شهر رمضان سنة خمس وستين، مدته إحدى وعشرون سنة وشهران، وفاته يوم الخميس نصف شوال سنة ست وثمانين، عمره إحدى وستون سنة.
خلف سبعة عشر ذكراً، وأنثى واحدة، ولي الخلافة منهم أربعة: الوليد، وسليمان، وهشام، ويزيد، وكان منهم ولد اسمه معاوية مشهور بالعِي والبلادة، طار يوماً باز من يده، فقال: أغلقوا أبواب المدينة حتى لا يخرج البازي، ووقف يوماً على باب طحان، فنظر إلى حمار له يدور بالرحى، وفي عنقه جلجل، فقال للطحان: لم جعلت هذا الجلجل في عنق هذا الحمار؟ فقال الطحان: ربما أدركتني سآمة، أو نمت، فإذا لم أسمع الجلجل، علمت أنه واقف، فصحت عليه، فقال له: أرأيت إن وقف الحمار، وحرك رأسه بالجلجل؟ فقال الطحان: من لي بحمار يكون عقله مثل عقل ابن أمير المؤمنين. وكان أبوه عبد الملك منع أن يمشي أحد بالليل بعد العشاء الأخيرة، فخرج ذات ليلة مع الشرط يدور في الطرق، فوجدوا رجلاَ، فلما رآهم الرجل، قعد على روث فرس، فقالوا له: لم خرجتَ؟ قال: خرجت لأقضي الحاجة، فتفُوه من يده، فإذا تحته روث فرس، فقالوا له في ذلك؟ فقال: لا عليكم ألا تبحثوا عن ذلك، يخرى كل إنسان ما أراد. فقال معاوية ابن عبد الملك: صدق واللّه، أطلقوه، فأطلقوه بعد أن استغربوا ضحكاً.
وكان عبد الملك يروم خلع أخيه عبد العزيز من ولاية العهد الذي كان عهده أبوه مروان لعبد الملك بن مروان، ثم من بعده لأخيه عبد العزيز بن مروان، والية لابنه الوليد، وكان قبيصة ينهاه عن ذلك، ويقول: لعل الموت يأتيه، وتدفع العار عن نفسك.(2/135)
وجاءه رَوح بن زنباع ليلة، وكان عنده عظيماً، ففاوضه في ذلك، فقال: لو فعلته، ما انتطح فيه عنزان، فقال: نصبح إن شاء الله، وأقام روح عنده، ودخل عليهما قبيصة بن ذؤيب من جنح الليل، وهما نائمان - وكان لا يحتجب عنه، وإليه الخاتم والسكة - فأخبره بموت عبد العزيز أخيه فقال عبد الملك لروح: كفانا الله ما نريد، ثم ضم مصر إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك.
ويقال: إن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له البيعة للوليد، فكتب عبد الملك إلى عبد العزيز: إني رأيت أن يصير الأمر إلى ابن أخيك، فكتب له عبد العزيز: إني أرى في ابني أبي بكر ما ترى في الوليد، فكتب عبد الملك إلى عبد العزيز أن يحمل خراج مصر، فكتب إلية: إني وإياك يا أمير المؤمنين، قد أشرفنا على عمر أهل بيتنا، ولا ندرى أينا يأتيه الموت فلا تفسد على بقية عمري. فَرَق له عبد الملك وتركه.
ولما جاء الخبر بموته - وذلك سنة أربع وثمانين - أمر الناس بالبيعة لولديه الوليد ابن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان، وكان على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي، فدعا الناس إلى البيعة، فأجابوا، إلا سعيد بن المسيب، فضربه ضرباً مبرحاً، وطاف به في الأسواق، وكتب عبد الملك إلى هشام يلومه، ويقول: إن سعيداً ليس عنده شقاق ولا خلاف، وقد كان ابن المسيب امتنع من بيعة ابن الزبير، فضربه جابر بن الأسود عامل المدينة لابن الزبير ستين سوطاً، وكتب ابن الزبير يلوم جابراً.
خلافة الوليد بن عبد الملك
قال الثعالبي: قال عبد الملك بن مروان: ولدت في شهر رمضان، وفطمت فيه، وبلغت الحلم فيه، ووليت الخلافة فيه، وختمت القرآن فيه، وأظن موتي فيه، فلما دخل شوال، أمن الوفاة فتوفي في شوال في سنة ست وثمانين؛ كما تقدم ذكره.
ولما دفن قال الوليد: إنا للّه وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا بأمير المؤمنين، والحمد للّه على ما أنعم به علينا من الخلافة، فكان أول من عزى نفسه وهنأها، ثم قام عبد الله بن همام السلولي فقال: من الرجز:
أَللهُ أعطَاكَ التي لا فَوقَهَا ... وَقَد أَرَادَ المُلحِدُونَ عَوقَهَا
عَنكَ ويَأبى الله إلا سَوقَهَا ... إلَيكَ حتى قَلدُوكَ طَوقَهَا
وبايعه ثم بايعه الناس بعده.
ثم صعد الوليد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، لا مقدم لما أخر اللّه، ولا مؤخر لما قدمه الله. وقد كان من قضاء الله وسابق علمه ما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت، وقد صار أبي إلى منازل الأبرار، وولي هذه الأمة بالذي يحق الله عليه من الشدة على المذنب، واللين لأهل الحق والفضل، وإقامة ما أقام اللّه من منازل الإسلام وأعلامه؛ من حج البيت، وغزو الثغور، وشن الغارة على أعداء الله؛ فلم يكن عاجزاً ولا مفرطاً. أيها الناس، عليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع المفرد. أيها الناس، من أبدى لنا نفسه، ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت، مات بدائه، ثم نزل.
عمارة المسجد النبوي على يد عامله على المدينة عمر بن عبد العزيز
كان الوليد عزل هشام بن إسماعيل المخزومي عن المدينة سنة سبع وثمانين، وولى عليها ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن مروان، فقدمها ونزل دار مروان، ودعا عشرة من فقهاء المدينة، فيهم الفقهاء السبعة المعروفون، فجعلهم أهل مشورته لا يقطع أمراً دونهم، فأمرهم أن يبلغوا الحاجات، والظلامات إليه، فشكروه وجزوه خيرَاً، ودعا له الناس.
ثم كتب إليه الوليد سنة ثمانين أن يدخل حجر أمهات المؤمنين في المسجد، وأن يشتري ما في نواحي المسجد من الدور حتى يجعله مائتي ذراع في مثلها، ويقدم القبلة، ومن أبي أن يعطيك ملكه، فقومه قيمة عدل، وادفع إليه الثمن، واهدم عليه الملك، ولك في عمر وعثمان أسوة في ذلك. فأعطاه أهل الأملاك ما أحب منها بأثمانها، وبعث الوليد إلى ملك الروم: إني أريد بناء المسجد النبوي، فبعث إليه ملك الروم بمائة ألف مثقال من الذهب، ومائة من الفعلة، وأربعين حملا من الفسيفساء، فبعث بذلك كله إلى عمر بن عبد العزيز، واستكثر معهم من فعلة الشام، وشرع في عمارته فعمره عمر بن عبد العزيز، ولم يغير شيئاً من مكانه الذي كان عليه(2/136)
في زمنه صلى الله عليه وسلم حتى إنه يأتي الجذع القائم فيقلعه، ثم يضع موضعه أساس الأسطوانة ويرفع البناء عليها؛ فلذا ترى بعض الأساطين متسعاً ما بينها، وبعضها متضايقاً؛ لأنها كانت كذلك في بناء عمر بن الخطاب الذي هو على بنائه عليه الصلاة والسلام.
ورزق الفقهاء والفقراء والضعفاء، وحرم عليهم سؤال الناس، وفرض لهم ما يكفيهم وضبط الأمور أتم ضبط.
ثم ولى سنة تسع وثمانين على مكة خالد بن عبد الله القسري، قال العبشمي، عن أبيه: كان الوليد دميماً سائل الأنف طويلاَ أسمر، به أثر جدري، أفطس، وبمقدم لحيته شمط، ليس في رأسه ولحيته غيره، إذا مشى يتبختر في مشيته، كان أبواه يترفانه، فشب بلا أدب ولا علم.
وروى يحيى الغساني؛ أن روح بن زنباع قال: دخلت يوماً على عبد الملك وهو مهموم، فقال لي: فكرت فيمن أوليه أمر العرب فلم أجده، فقلت: أين أنت عن الوليد؟ قال: إنه لا يحسن النحو، قال: فقال لي عبد الملك: رُح إلى العشية؛ فإني سأظهر كآبة فسلني، قال: فرحت إليه والوليد عنده، فقلت له: لا يسوءك اللّه، ما هذه الكآبة؟ قال: فكرت فيمن أوليه أمر العرب، فلم أجده، فقلت: أين أنت عن ريحانة قريش وسيدها الوليد؟ فقال لي: يا أبا زنباع، إنه لا يلي العرب إلا من تكلم بكلامهم، قال: فسمعها الوليد، فقام من ساعته، وجمع أصحاب النحو، وجلس معهم في بيت، وطبق عليه ستة أشهر، ثم خرج وهو أجهل مما كان، فقال عبد الملك: أما إنه قد أعذر؛ كذا قاله الحافظ الذهبي في الدول.
وروى سعيد بن عامر الضبعي، عن كثير أبي الفضل الطفاوي، قال: شهدت وليد بن عبد الملك صلى الجمعة والشمس على الشرف، ثم صلى العصر.
وبنو أمية معروفون بتأخير الصلوات عن أول أوقاتها؛ قال في مسامرة الأخبار: قال ابن الأنباري: حدثنا أبو عكرمة الضبي؛ أن الوليد بن عبد الملك قرأ على المنبر: " يا ليتَهَا كانتِ القَاضِيَةَ " " الحاقة: 27 " وضم التاء، وتحت المنبر عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن عبد الملك أخوه، فقال عمر بن عبد العزيز: وددتها والله عليك.
وعن أبي الزناد، قال: كان الوليد لحاناً كأني أسمعه على منبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا أهل المدينة.
وكان الوليد جباراً ظالمَاً، لكنه أقام الجهاد في أيامه، وفتحت في خلافته فتوحات عظيمة، وكان يختن الأيتام، ويرتب لهم المؤدبين، ويرتب للزمنَى من يخدمهم، وللأضراء من يقودهم من رقيق بيت المال، وعمر مسجده - عليه الصلاة والسلام - ووسَعه، وكان يبر حملة القرآن، ويقضي ديونهم.
وبنى الجامع الأموي في ذي القعدة سنة ست وثمانين؛ قال العلامة محمد بن مصطفى الشهير بكاتي في تاريخه بغية الخاطر: إن الوليد بنى بدمشق الجامع المشهور بجامع بني أمية، وشرع في بنائه أواخر سنة ست وثمانين، وحين شرع، احضر العملة من كل جهة، وعدتهم اثنا عشر ألف رجل، وأنفق في عمارته أربعمائة صندوق، في كل صندوق من الذهب العين ثمانية وعشرون ألف دينار ذهباً أحمر، وامتد بناؤه عشر سنين، وفيه عمود من المرمر يميل إلى الحمرة اشتراه بألف وخمسمائة دينار.
قال في خريدة العجائب: وفي محرابه عمودان صغيران من المرمر الأخضر، حصله من عرش بلقيس الملكة ابنة الهدهاد زوجة سليمان بن داود - عليهما السلام - وجعل في المسجد طاقات على عدد أيام السنة، تدخل الشمس في كل يوم من طاق من تلك الطاقات، وكانت فيه ستمائة سلسلة من ذهب للقناديل، وما زالت إلى أيام عمر بن عبد العزيز بعد سليمان بن عبد الملك، فجعلها في بيت المال، واتخذ عوضها صفراً وحديداً.
قال الذهبي: قال ضمرة، عن علي بن أبي عبلة سمع عبد اللّه بن عبد الملك ابن مروان قال: قال لي الوليد: كيف أنت والقرآن؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أختمه في كل جمعة، قلت: فأنت يا أمير المؤمنين؟ قال: وكيف مع الاشتغال، قلت: على ذلك؟ قال: في كل ثلاث، قال علي: فذكرت ذلك لإبراهيم بن أبي عبلة فقال: كان يختم في رمضان سبع عشرة ختمة.
وقال ضمرة: سمعت إبراهيم بن أبي عبلة يقول: رحم اللّه الوليد، وأين مثل الوليد؟! فتح الهند والسند، والأندلس وغيرها، وبنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووسعه، وبني مسجد دمشق، وكان يعطيني قصاع الفضة أقسمها على قراء بيت المقدس.(2/137)
غريبة: قال عمرو بن عبد الواحد الدمشقي، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبيه، قال: خرج الوليد بن عبد الملك من الباب الأصغر، فوجد رجلا عند الحائط عند المئذنة الشرقية يأكل وحده، فجاء حتى وقف على رأسه، فإذا هو يأكل خبزَاً وتراباً، فقال له الوليد: ما شأنك انفردت عن الناس؟ قال: أحببت الوحدة، قال: فما حملك على أكل التراب، أما في بيت مال المسلمين ما يجري عليك؟ قال: بلى، ولكن رأيت القنوع، قال: فرجع الوليد إلى مجلسه، ثم أحضره، فقال: إن لك لخبرَاً لتخبرني به، وإلا ضربت عنقك، قال: نعم، كنت جمالا ومعي ثلاثة أجمال موقرة طعاماً حتى أتيت مرج الصفر، فقعدت في خربة أبول، فرأيت البول ينصب في شق فأتبعته حتى كشفته، فإذا غطاء على حفير، فنزلت فإذا مال صبيب، فأنخت رواحلي، وحللت أعكامي، ثم أوقرتها ذهباً، وغطيت الموضع، فلما سرت عنه غير يسير، وجدت معي مخلاة فيها طعام، فقلت: أنا أترك الكسرة؟ ففرغتها، ورجعت لأملأها فخفي على الموضع، وأتعبني الطلب، فرجعت إلى الجمال فلم أجدها ولم أجد الطعام الذي أخرجته من المخلاة، فآليت على نفسي ألا آكل شيئاً إلا الخبز بالتراب، فقال الوليد: كم لك من الولد؟ فذكر عيالا، قال: يجري عليك من بيت المال، ولا تستعمل في شيء، فإن هذا هو المحروم، قال ابن جابر: فذكر لنا أن الجمال جاءت إلى بيت مال المسلمين، فأناخت عنده، فأخذها أمين الوليد، فطرحها في بيت المال. رواته ثقات؛ قاله الكناني.
وعن نمير بن عبد الله الصنعاني، عن أبيه، قال: قال الوليد: لولا أن الله ذكر آل لوط في القرآن، ما ظننت أن أحدَاً يفعل هذا.
وعن يزيد بن المهلب قال: لما ولاني سليمان بن عبد الملك خراسان، روعني عمر بن عبد العزيز، فقال لي: يا يزيد، اتق اللّه؛ فإني حين وضعت الوليد في قبره إذا هو يركض في أكفانه، يعني: يضرب الأرضْ برجليه.
دخل جرير على الوليد بن عبد الملك، وعنده عدي بن الرقاع العاملي، فقال الوليد لجرير؛ أتعرف هذا؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال: هذا عدي بن الرقاع، فقال جرير: شر الثياب الرقاِع، فممنْ هو؟ قال: من عاملة، قال جرير: الذين يقول تعالى فيهم: " عاَمِلَة ناصِبة تَصلى نَاراً حَاميَةَ " " الغاشية: 3 - 4 " ثم قال: من الطويل:
يُقَصرُ باعُ العامِلِي عن العُلاَ ... ولكنَّ أَيْرَ العامِلِي طويل
فقال له عدي: من الطويل:
أأمكَ كَانَت خَبرَتكَ بِطُولِهِ ... أَمَ أنْتَ امرُؤ لَمْ تَدْرِ كَيْفَ تَقُولُ؟!
فقال: لا؛ بل أنا امرؤ لم أدر كيف أقول، فوثب عدي إلى رجل الوليد يقبلها، ويقول: أجرني منه، فقال الوليد لجرير: لئن ذكرته في شعرك لأسرجنك وألجمنك حتى يركبك فتعيرك بذلك الشعراء.
قال المدائني: آتى الوليد بن عبد الملك برجل من بني عبس قد ذهبت عينه، فسأله عن سبب ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كان في بني عبس أكثر مني مالا وولداً، فآتى السيل فاجترف مالي وولدي، وبقي لي ولد صغير وبعير، فحملت الصبي وند البعير، فوضعت الصبي وتبعته فنفحني برجله، ففقأ عيني، فرجعت إلى ابني، فإذا الذئب يَلَغُ في دمه، فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة بن الزبير؛ ليعلم أن في الدنيا من هو أعظم مصيبة منه. انتهى.
قلت: ومصيبة عروة بن الزبير في رجله وولده شهيرة.
وفاة الحجاج
هو الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود الثقفي أمير العراق أبو محمد. ولد سنة أربعين، أو إحدى وأربعين، كان فصيحاً بليغاً مفوهاً، فاسقاً ظلوماً، غشومَاً سفاكاً للدماء، روى أنه لم يرضع الثدي حتى قال بعض الكهان: اذبحوا له ثلاث جدي، وألعقوه بعض دمها، وغسلوه بالدم، ففعلوا؛ فلذلك آتى يحب سفك الدم.
وولد بغير مخرج فَغُورَ له مخرج بالحديد.
قال أبو عمرو: ما رأيت أحداً أفصح من الحجاج، والحسن بن علي، والحسن أفْصحهما، وستأتي عدة من قتله صبراً، ومن كان في سجنه.
وقيل في سبب ولاية الحجاج ما ذكر بعض المؤرخين: أن الحجاج لم يزل في كنف أبيه، وكان أبوه رجلا نبيلا جليلَ القدر، إلى أن اتصل بروح بن زنباع من أمراء عبد الملك، ثم به، ولم يزل يترقى إلى أن ولي العراق والمشرق، وطار ذكره وعظم سلطانه.(2/138)
وأول ما علم من شهامته وجوره: أن أباه خرج من مصر يريد عبد الملك، ومعه ابنه الحجاج، فأقبل سليم بن عمرو القاضي، وكان من أورع الناس وأتقاهم، فقام إليه أبوه يوسف، فسلم عليه، وقال له: ألك حاجة إلى أمير المؤمنين؟ فقال: نعم، أن تسأله يعزلني عن القضاء، فقال يوسف: لوددت أن قضاة المسلمين كلهم مثلك، فكيف أسأله ذلك ثم انصرف، فقال الحجاج لأبيه: من هذا الذي قمت إليه؟ فقال: هذا سليم بن عمرو قاضي مصر وقاصهم، فقال: يغفر اللّه لك يا أبت، أنت ابن عقيل تقوم إلى رجل من كندة؟! فقال: واللّه إني لأرَى الناس ما يرحمون إلا بهذا وأشباهه، فقال واللّه، ما يفسد على أمير المؤمنين إلا هذا وأشباهه، يقعدون وتقعد أليهم أحداث، فيذكرون سيرة أبي بكر وعمر؛ فيخرجون على أمير المؤمنين، فواللّه لو أضيف إلَي هذا الأمر، لسألت أمير المؤمنين أن يجعل لي السبيل، فأقتل هذا وأشباهه، فقال له: اتق اللّه يا بني، والله إني لأظن أن اللّه خلقك شقيُّاً.
وأول ما أعجب به عبد الملك منه: أنه كان قد اتصل بروح بن زنباع، وصار من جملة شرطته، وكان روح بن زنباع بمنزلة نائب عبد الملك. توجه إلى الجزيرة لقتال زفر بن الحارث عندما عصى عليه بقرقيسيا، فأمر روح بن زنباع جماعة من أصحاب شرطته يحثون المتأخرين من العسكر في كل منزل، وكان الحجاج من جملتهم، فمر يوماً بعد رحيل العسكر بجماعة من خواصِّ روح في خيمة يأكلون، فأمرهم الرحيل، فسخروا منه أولا لمحلهم، وثانياً لمحل سيدهم، وقالوا له: انزل كُلْ واسكُتْ، فضرب بسيفه أطناب الخيمة، فسقطت عليهم، وأطلق فيها ناراً، فأحرقت أثاثهم، فقبضوا عليه، وأتوا به روح بن زنباع، وسمع عبد الملك الخبر، وطلبه وقال: من فعل هذا بغلمان روح؟ فقال: أنت يا أمير المؤمنين، أمرتنا بالاجتهاد فيما وليتنا، ففعلنا ما أمرت، بهذه الفعلة يرتدعُ من بقي من العسكر، وما على أمير المؤمنين أن يعوضهم ما احترق، وقد قامت الحرمة وتم المراد. فأعجب عبد الملك ذلك، وقال: إن شرطيكم لجلد. ثم أقره على ما هو عليه.
ولما طال الحصار والقتال بينه وبين زفر بن الحارث، أرسل عبد الملك رجاء بن حيوة وجماعة منهم الحجاج إلى زفر يدعوه إلى الصلح، فأتوا بالكتاب وقد حضرت الصلاة، فقام رجاء، فصلى مع زفر، وصَلى الحجاج وحده، فسئل عن ذلك. قال: لا أصلي مع منافق خارج عن أمير المؤمنين، وبارز عن طاعته، فسمع ذلك عبد الملك، فزاده عجباً بالحجاج، ورفع قدره، وولاه تبالة، وهي أول ما وَلِي، فخرج إليها، فلما قرب، سأل عنها، فقيل له: إنها وراء هذه الأكمة، فقال: أف لبلد تسترها أكمة، ورجع، فقيل في المثل: أهون على الحجاج من تبالة، ثم وصل إلى ما وصل إليه.
وزعم بعض الرواة أن أول أمر الحجاج أنه كان معلماً للصبيان، وكان يسمى كليباً، وفيه يقول الشاعر: من المتقارب:
أَيَنْسَى كُلَيب زَمَانَ الهُزَالِ ... وتَعلِيمَهُ سُورَةَ الكَوثَرِ
رَغِيف لَهُ فَلَكٌ مَا يُرَى ... وَآخَر كَالقَمَرِ الأَزْهَرِ
يشير إلى أن خبز المعلمين يختلف في الصغر والكبر بحسب اختلاف بيوت الصبيان، ثم صار دباغَاً؛ ويستدل على ذلك بحكايته مع كعب الأشقري؛ وذلك أن المهلب بن أبي صفرة لما أطال قتال الأزارقة، وكان الحجاج أرسله لذلك، كتب إليه يستبطئه في تأخير مناجزتهم، فقال المهلب لرسوله: قل له: إن الشاهد يَرَى ما لا يَرَى الغائب، فقال كعب الأشقر، وكان من جند المهلب: من الكامل:
إن ابنَ يوسُفَ غَرهُ مِن غَزْوِكُم ... خفضُ المقامِ بجَانبِ الأمْصَارِ
لو عَايَنَ الصَفين حِينَ تَلاَقَيَا ... ضَاقَتْ عليه برُحْبِهَا الأَقْطَارُ
ورأى معاوَدةَ الدباغ غنيمَة ... أيامَ كَانَ محَالِفَ الإِقْتَارِ(2/139)
فبلغت أبياته الحجاج، فكتب إلى المهلب بإشخاصه، فأشخصه المهلب إلى عبد الملك، وكتب إليه يستوهبه منه، فقدم كعب برسالة المهلب إلى عبد الملك، فاستنشده، فأعجبه ما سمع، وكتب إلى الحجاج يقسم عليه أن يعفو عن كعب، فلما دخل كعب على الحجاج، قال: إيه يا كعب ورأى معاودة الدباغ غنيمة، فقال: أيها الأمير، لوددت في بعض ما شاهدته في تلك الحروب، وما يرده المهلب من خطرها أن أنجُوَ منها وأكون حجاماً أو حائكاً، فقال له الحجاج: أولى لك، لولا قسم أمير المؤمنين، لما نفعك ما أسمع، فالحَق بصاحبك.
وروى ابن الكلابي، عن عوانة بن الحكم قال: سمع الحجاج تكبيرَاً في السوق، وهو في الصلاة، فلما انصرَفَ، صعد المنبر، فقال: يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق. قد سمعت تكبيراً ليس بالتكبير الذي يراد به اللّه في الترغيب، ولكنه الذي يراد به الترهيب، إنها عجاجة تحتها قَصف. أي بني اللكيعة، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، أَلاَ يربأ الرجل منكم على ظلعه، ويحسن حمل رأسه، وحقن دمه؛ فيبصر موضع قدمه؛ واللّه ما أرى الأمور تنتقل بي وبكم حتى أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها، وتأديباً لما بعدها.
وقال سيار أبو الحكم: سمعتُ الحجاج على المنبر يقول: أيها الرجل، وكلُكم ذلك الرجل، رجل خطم نفسه فزمها فقادها بخطامها إلى طاعة اللّه تعالى، وعنجها بزمامها عن معاصي اللّه.
قال مالك بن دينار: سمعت الحجاج يخطب فيقول: امرؤ زود نفسه قبل أن يكون الحساب إلى غيره، امرؤ نظر إلى ميزانه، امرؤ عقل عن اللّه أمره، امرؤ أفاق واستفاق، وأبغض المعاصي والنفاق، وكان إلى ما عند اللّه بالأشواق. فما زال يقول ذلك حتى أبكاني.
وروى أنه خطب، فقام إليه رجل فقال له: ما أصفق وجهك، وأقل حياءك، تفعل ما تفعل، ثم تقول هذا؟! فأخذوه، فلما نزل، دعا به فقال له، لقد اجترأت!! فقال: يا حجاج، أنت تجترئ على الله؛ فلا تنكره في نفسك، وأجترئ أنا عليك، فتنكره علي! فخلى سبيله.
وقال شريك، عن عبد الملك بن عمير قال: قال الحجاج يومَاً: من كان له بلاء، فليقم، فلنعطه على بلائه، فقام رجل، فقال: أعطني على بلائي، قال: وما بلاؤك؟ قال: قتلت الحسين، قال: وكيف قتلته؟ قال: دسرته بالرمح دسراً، وهبرته بالسيف هبرَاً، وما أشركت معي في قتله أحداً، قال: أما إنك وإياه لن تجتمعا في موضع واحد. وقال له: اخرج.
وروى صالح بن موسى الطلحي، عن عاصم بن بهدلة؛ أنهم ذكروا الحسين - رضي اللّه عنه - عند الحجاج فقال: لم يكن من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له يحيى بن يعمر: كذبت أيها الأمير، فقال له الحجاج: لتأتيني على ما قلت ببينة من كتاب اللّه تعالى أو لأقتلنك، فقرأ قوله تعالى: " وَمِن ذُرِيَّتِهِ دَاودَ وَسُلَيماَنَ وَأَيوُبَ وَيوُسُفَ وَمُوسَى وهاَرُونَ وكذَلِكَ نَجزي اَلمُحسِنِينَ وَزكرِيَا وَيحيىَ وَعِيسَى " " الأنعام: 84 - 85 " ، ثم قال: أخبرنا الله أن عيسى من ذرية إبراهيم بأمه، فقال الحجاج: صدقت، فما حملك على تكذيبي في مجلسي؟ قال: أخذ اللّه على الأنبياء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، قال: فنفاه الحجاج إلى خراسان.
قال أبو بكر بن عياش: سمعت الحجاج وذكر هذه الآية: " فَاتقوُا اللَّهَ مَا استطَعتم وَاسمَعُوا وَأَطِيعُوا " " التغابن: 16 " ، قال: هذه لعبد الله أمين اللّه وخليفته ليس فيها مثنوية، واللّه لو أمرتُ رجلا أن يخرج من باب هذا المسجد فأخذ من غيره لحل لي دمه وماله، والله لو أخذت ربيعة بمضر لكان لي حلالا، يا عجباً من عبد هذيل، يزعم أنه يقرأ قرآناً من عند اللّه ما هو إلا رجز من رجز الأعراب، واللّه لو أدركت عبد هذيل، لضربت عنقه. رواها واصل بن عبد الأعلى شيخ مسلم عن أبي بكر، فقال: قاتل اللّه الحجاج، ما أجرأه على اللّه، كيف يقول هذا في العبد الصالح الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود؟! قال أبو بكر بن عياش: ذكرت قوله هذا للأعمش. فقال: قد سمعته منه.
ورواها محمد بن يزيد عن أبي بكر، فزاد قوله: ولا أجد أحداً يقرأ على قراءته إلا ضربتُ عنقه، ولأحكنها من المصحف، ولو بضلع خنزير.(2/140)
قال ضمرة بن شوذب: ربما دخل الحجاج على دابته حتى يقف على حلقة الحسن البصري، فيستمع إلى كلامه، فإذا أراد الانصراف يقول: يا حسن، لا تمل الناس، فيقول له الحسن: أصلح اللّه الأمير، إنه لم يبق إلا من لا حاجة له.
قال الأصمعي: قال عبد الملك بن مروان للحجاج: إنه ليس أحد إلا وهو يعرف عيبه، فَعِب نفسك، فقال الحجاج: أعفني يا أمير المؤمنين، فأبى عليه، فقال: أنا لجوج حقود حسودٌ، فقال عبد الملك: ما في الشيطان أقبحُ مما ذكرت.
وقال يزيد بن هارون: أنبأنا العوام بن حوشب، حدثنا حبيب بن أبي ثابت، قال: قال علي - كرم الله وجهه - لرجل: لا مت حتى تدرك فتى ثقيف، قيل: يا أمير المؤمنين، ما فتى ثقيف؟ قال: ليقالن له يوم القيامة: اكفنا زاوية منا زوايا جَهنمَ، رجل يملك عشرين سنة لا يدع معصية للّه إلا ارتكبها.
وقال جعفر بن سليمان: حدثنا مالك بن دينار، عن الحسن؛ أن علياً كان على المنبر في العراق، فقال: اللهم، إني ائتمنتهم فخانوني، ونصحتهم فغشوني، اللهم فسلط عليهم غلام ثقيف يحكم في دمائهم وأموالهم بحكم الجاهلية.
وقد كوشف الإمام علي - كرم اللّه وجهه - بما سيقع من الحجاج، فقال ما قال: فكان كما قال.
قال أبو عاصم النبيل: حدثني جليس هشام بن أبي عبد اللّه، قال: قال عمر بن عبد العزيز لعنبسة بن سعيد: أخبرنى ببعض ما رأيت من عجائب الحجاج، قال: كنا جلوساً عنده ليلة، فأتى برجل، وكان قد نهى عن المشي بالليل بعد العشاء الأخيرة، فقال: ما أخرجك هذه الساعة، وقد قلت: لا أجد فيها أحداً إلا فعلت به؟! قال: أما واللّه لا أكذب الأمير، أغمي على أمي منذ ثلاث، وكنت عندها، فلما أفاقت الساعة، قالت: يا بني، أعزم عليك إلا رجعت إلى أهلك؛ فإنهم مغمومون بتخلفك عنهم، فخرجت، فأخذني الطائف، فقال الحجاج: ننهاكم وتعصوننا؟! يا غلام، اضرب عنقه، ثم أتى برجل آخر فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟ قال: واللّه لا أكذبك، لزمني غريم، فلما كانت الساعة أغلق الباب وتركني على بابه، فجاءني الطائف فأخذني، فقال: اضربوا عنقه، ثم أتى بآخر، فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟ قال: كنت مع شَرب أشرب فعربدوا، فخفت على نفسي فخرجْتُ، ففكَر الحجاج ساعة، ثم قال: رجل أحب المسالمة يا عنبسة، ما أراه إلا صادقاً فأخلوا سبيله.
فقال عمر بن عبد العزيز لعنبسة: فما قلتَ للحجاج شيئاً في ذلك؟ قال عنبسة: لا، فقال عمر لآذنه: لا تأذن لعنبسة إلا أن يكون في حاجة.
وقال بسطام بن مسلم، عن قتادة قال: قيل لسعيد بن جبير: خرجت على الحجاج؟! قال: إني والله ما خرجت عليه حتى كفر.
قال هشام بن حسان: أحصوا ما قتل الحجاج صبراً، فبلغ مائة وأربعة وعشرين ألفاً.
وقال عباد بن كثير: أطلق سليمان بن عبد الملك في غداة واحدة أحداً وثمانين ألف أسير، وعرضت السجون بعد موت الحجاج، فوجدوا فيها ثلاثة وثمانين ألفاً، منها ثلاثون ألفاً من النساء لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب.
وعن عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمم وجئنا بالحجاج لغلبناهم، ما كان يصلح لدنيا ولا لآخرة.
قال العباس الأزرق، عن السري بن يحيى قال: مَر الحَجاج في يوم جمعة، فسمع استغاثة فقال: ما هذا؟ قيل: أهل السجون يقولون: قتلنا الحر، فقال: قولوا لهم: " قَالَ اَخسئوُا فِيهَا وَلا تُكلِمُونِ " " المؤمنون: 108 " قال: فما عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة.
وبنى واسطاً في سنتين؛ قاله الأصمعي، وشرع فيها سنة ست وثمانين، قال في المحاسن: وهو أول من ابتنى مدينة في الإسلام، وهي واسط، وأول من قعد على سرير في الحرب، وأول من اتخذ المحامل، فقال فيه حميد الأرقط: من الرجز:
أَخزَى الإِلَهُ عَاجِلا وآجِلاَ
أَوَل عَبْدٍ عَمِلَ المَحَامِلاَ
عَبْدَ ثقيفٍ ذَاكَ أَزلاَ آَزِلاَ(2/141)
قال مسلم بن إبراهيم: حدثنا الصلت بن دينار، قال: مرض الحجاج فأرجف به أهل الكوفة، فلما عوفي، صعد المنبر، وهو ينثني على أعواده، فقال: يا أهل الشقاق والنفاق والمراق، نفخ الشيطان في مناخركم، فقلتم: ماتَ الحجاج، فمه؟ والله ما أرجو الخير إلا بعد المَوت. وما رضي اللّه الخلود لأحد من خلقه إلا لأهونهم عليه إبليس، وقد قال العبد الصالح سليمان: " رَب اَغفِر لِي وَهَبْ لِي مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعدي " " ص: 35 " . فكان ذلك، ثم اضمحل، فكأْن لم يكُن. يا أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل، كأني بكل حي ميت، وبكل رطب يابس، وكل امرئ في ثياب طهور إلى بيت حفرته، فحد له في الأرض خمسة أذرع طولاَ في ذراعين عرضاً، فأكلت الدود لحمه، ومصت من صديده ودمه.
قال محمد بن المنكدر: كان عمر بن عبد العزيز يبغضُ الحجاج، فنفس عليه بكلمة قالها عند الموت: اللهم اغفر لي؛ فإنهم يزعمون أنك لا تفعل.
وقال الأصمعي: أَنشَدَ الحجاج لما احتضر: من البسيط:
يَا رَب قَد حَلَفَ الأَعدَاءُ وَاجتَهَدُوا ... بأنَنِي رَجُلٌ مِن سَاكنِي النارِ
أيحلفُونَ عَلَى عمياءَ؟ وَيحَهُمُ ... ما عِلمُهُم بعظيمِ العَفوِ غَفَّارِ
فأخبر الحسن بذلك، فقال: إن نجا فبهما.
وروى أن الحسن حين أخبر بموت الحجاج، سجد شكراً للّه.
وقال ابن سيرين: إني لأرجو للحجاج ما أرجو لأهل لا إله إلا الله، فبلغ قوله الحسن - يعني البصري - فقال: أما واللّه ليخلفن اللّه رجاءه فيه.
قال ابن شوذب عن أشعث الحداني قال: رأيت الحجاج في منامي بحال سيئة، فقلت له: ما صنع الله بك؟ قال: ما قتلت أحداً قتلة إلا قتلني بها قتلة، ما عدا سعيد بن جبيرة فإني قتلت به سبعين قتلة، قلت: ثم مه؟ قال: ثم أمر بي إلى النار، قلت: ثم مه؟ قال: ثم أرجو ما يرجو أهل لا إله إلا اللّه.
قال ابن خلكان: مات بواسط، وعَفي قبره، وأجرى عليه الماء.
قال العلامة الذهبي: وعندي مجلد في أخبار الحجاج فيه عجائب، لكن لا أعرفُ صحتها.
توفي سنة خمس وتسعين قبل موت الوليد بسنة، ولما حضْرته الوفاة، استخلف على الصلاة ابنه عبد اللّه، وعلى عرب الكوفة والبصرة يزيد بن أبي كبشة، وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، وكتب إلى قتيبة بن مسلم الباهلي، وكان قد ولاه على خراسان: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجِدك وجهادك أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك، وصانع بك الذي تحب. فأتمَّ مغازيك، وانتظر ثواب ربك، ولا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك، حتى كأني أنظر إلى بلادك والثغر الذي أنت فيه.
قيل: أصيب الحجاج بمصيبة، وعنده رسول عبد الملك بن مروان، فقال الحجاج: ليت أني قد وجدت إنساناً يخفف عني ما أنا فيه؟ فقال له الرجل الرسول: أقول، أيها الأمير؟ قال له: قل، فقال: كل إنسان يفارقه صاحبه بموت أو بصلب أو يقع من فوق البيت أو يقع عليه البيت أو يغشى عليه أو يكون شيء لا نعرفه. فضحك الحجاج وقال: مصيبتي في أمير المؤمنين أعظم، حيث وجه مثلك رسولا.
وكان الحجاج مهيباً جداً لجرأته وإقدامه على سفك الدماء واشتداد عضده بمن أقامه أميراً؛ فكان يهابه عماله والخاصة والعامة؛ فمن ذلك ما ذكره في المروج: كتب عبد الملك بن مروان إليه: أنت عندي كسالم، والسلام. فلم يفهم الحجاج مراد عبد الملك بذلك، فكتب إلى قتيبة بن مسلم عامله على خراسان، وبعث كتاب عبد الملك مع الرسول إليه، فلما ورد الرسول عليه، ناوله الكتاب، ففزع، واضطرب قتيبة، فضرط فخجل واستحيا، فقرأ الكتاب، ثم أراد أن يقول للرسول: اقعد، فقال: اضرط، فقال الرسول: قد فعلت، فاستحيا قتيبة حياء أكثَرَ، وقال له: ما أردت أقول لك إلا اقعد، فغلطت، فقال الرسول: قد غلطت أنا وأنت قال قتيبة ولا سواء، أغلط من فمي، وتغلط من استك. ثم قال قتيبة: أعلم الأمير أن سالماً كان عبداً لرجل، وكان عنده أثيراً عزيزاً، وكان يسعى به إليه كثيراً؛ فقال: من الطويل:
يُدِيرُونَنِي عَن سَالِمِ وَأُدِيرُهُمْ ... وَجِلْدَة بَين العينِ والأتَفِ سَالِمُ
فلما آتى الحجاج بالرسالة، سُرَ بذلك، وكتب له به عهدَاً على خراسان بالتأييد. قلت: ورأيت في تاريخ الصفدي ما نصه: قال نافع مولى ابن عمر: كان ابن عمر يلقى سالماً ابنه فيقبله، ويقول: شيخ يقبل شيخاً.(2/142)
وقال خالد بن أبي بكر: بلغني أن عبد اللّه بن عمر كان يلام في حب ابنه سالم، فيقول: من الطويل:
يلومونني في سَالِمٍ وَأَلُومُهُم ... وَجِلْدَةُ بين العَينِ والأنفِ سَالِمُ
ورواه بعضهم: يديرونني وأديرهم.
قال الصفدي: اشتهر هذا البيت كثيراً، وروسل به، وكتب به عبد الملك إلى الحجاج. انتهى.
قلت: تفسير قتيبة ذلك بأن سالمَاً كان عبداً لرجل وكان عنده... إلى آخره لا يوافق ما ذكره الصفدي؛ أن البيت لعبد الله بن عمر في ابنه سالم بن عبد اللّه بن عمر والأصح التفسير الثاني لرواية نافع له عن عبد اللّه بن عمر، إلا أن يكون اللّه متمثلا به لا ناظمه؛ فيمكن ما قاله قتيبة.
وصَحَّف الجوهري، بل حرَف في صحاحِه، فقال: يقال للجلدة التي بين العين والأنف سالم، وأورد البيت.
قال الصفدي: وأنا شديد التعجب من صاحب الصحاح كونه ما فهم المعنى من البيت، وأن الكلام جارٍ على التشبيه، وأن سالماً عند أبيه بمنزلة هذه الجلدة من المكان المذكور لعزته.
قال الخطيب التبريزي: تبع الجوهري خاله إبراهيم الفارابي صاحب ديوان الأدب في غلط هذا الموضع. انتهى.
ولم يغير الوليد بعد موت الحجاج أحداً من عماله؛ بل أبقاهم حتى كان سليمان عبد الملك، فعزلهم جميعاً، واستعمل غيرهم.
وقال ابن حمدون في تذكرته: ذكر أن وضاح اليمن كان من أحسن الناس شكلا، وأجملهم وجهَاً، وكان يتبرقع في المواسم من العين، فحجت أم البنين زوجة الوليد عبد الملك، فرأت هذا، فهويته واستقدمته بمدح، فقدم ومدح الوليد بقصيدة فأجازه، وكانت أم البنين تأتي به إلى قصرها وتجلس معه، وإذا خافت، خبأته في صندوق، فأُهدِيَ إلى الوليد جوهر، فاستدعى بخادم، وأرسله به إلى أم البنين، فأتاها فجأة، ووضاح عندها، فرآها الخادم وهي تواريه في الصندوق، فطلب منها من الجوهر حجراً، فانتهرته وأبت، فآتى الوليد وأخبره بما رأى وعلم له الصندوق، فكذبه ونهره وضَرَبَ عنقه في الحال، وقام مسرعاً إلى أم البنين، وهي في مقصورتها تمتشطُ.
فجلس على الصندوق الذي أخبره به الخادم، وقال لها: ما أحب هذا البيت إليك دون البيوت؟! قالت: لأنه يضم حوائجي جميعاً، فقال: أريد أن تهبي لي صندوقاً من هذه الصناديق، قالت: دونك الجميع، فقال: ما أريد إلا واحدَاً، قالت: ارسم الذي تقصده، فقال: هذا الذي جلست عليه، قالت: خذ غيره؛ فإن لي فيه حوائج أحتاجها، قال: ما أريد غيره، قالت: خذه، فأمر الخادم بحمله إلى مجلسه، وحفر بئراً عظيمة، وأعمق فيها حتى وصل الماء، ودنا من الصندوق، فقال: يا صندوق، إنه بلغنا عنك خبر، فإن كان حقاً، قد كُفيناك، ودفناك، وانقطع خبرك، وإن كان باطلا، فإنما دفنا الخشب، وأهون به، ثم قذف به في البئر، وهال التراب عليه، وردت البسط على حالها، ولم ير الوليد ولا أم البنين في أحد منهما أثرَاً ولا تغيَّرَتْ مودة أحدهما للآخر، حتى فرق الموت بينهما، ولم ير وضاح بعدها أبداً.
قلت: فمن أين اتصل نبأ هذا الخبر والحالة هذه؟! وقد اختلف العقلاء في فعل الوليد هذا: هل يعد به من أهل المروءة والحياء والكرم؛ فبه يمدح، أم من أهل الدناءة والوقاحة والعار الذي يذم به؛ فبه يقدح؟ ذهب إلى كل منها عقلاء؛ لكَني أرجح كونه ثانياً لا أولا؛ إذ الشهم لا يبقى على صفحة عرضه الغبار، ولا يرضى بلباس العيب، ولو كان فوقه ألف دثار.
ومن شعر وضاح في جارية قد شَببَ بها قوله: من السريع:
قَالَتْ: أَلاَ لا تَلِجنْ دَارَنَا ... إِنَّ أَبَانَا رَجُلٌ غَائِر
قلْتُ: فإني طالب غِرة ... وإن سيفي صارِمٌ باترُ
قالتْ: فَإن البابَ ذو منعةِ ... قلتُ: فإني واثب كاسرُ
قالتْ: فإن الناسَ مِن دوننا ... قلتُ: فإني كاتم ماهرُ
قالت: فإن القصْرَ مِن دوننا ... قلْتُ: فإني فوقه طائرُ
قالتْ: فإِن البَحرَ من دوننا ... قلتُ: فإني سابح ماهرُ
قالت: فَحَولِي أخوة سَبعَة ... قلتُ: فإني لَهُمُ حاذرُ
قالت: فليث رابضْ دوننا ... قلتُ: فإني أَسَد ظافرُ
قالت: فإن الله مِن فوقنا ... قلتُ: فَرَبى راحم غافرُ(2/143)
قالت: لقد أَعيَيتَنَا حجةَ ... فائتِ إذا ما هَجعَ السامِرُ
واسقُط علينا كسُقُوطِ الندَى ... لَيلَةَ لا نَاهٍ ولا آمِرُ
وقال أبو عمر الضرير: توفي الوليد نصف جمادى الآخرة، سنة ست وتسعين بدير مران، وحمل على أعناق الرجال؛ فدفن بباب الصغير، وكان عمره إحدى وخمسين سنة، ومدة خلافته تسع سنين وثمانية أشهر، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وخلف أربعة عشر ولداً.
خلافة سليمان بن عبد الملك
قال ابن خلدون: أراد الوليد أن يمنع أخاه سليمان، ويبايع لولده عبد العزيز بن الوليد، فأبى سليمان، فكتب إلى عماله ودعا الناس إلى ذلك؛ فلم يجبه إلا الحجاج، وقتيبة بن مسلم، وبعض خواصه، وأستقدم سليمان، ثم استبطأه، فأجمع المسير إليه ليخلعه، فمات دون ذلك، ولما مات، بويع سليمان من يومه، وهو بالرملة، فعزل عمال الحجاج جميعهم، وأمر يزيد بن المهلب بنكبة آل عقيل قوم الحجاج وبني أبيه وبسط العذاب عليهم، فولى يزيد بن المهلب أخاه عبد الملك بن المهلب على ذلك، ففعله، ثم عزل قتيبة وقتله، وآتى إليه برأسه، وكان ذلك منه لموافقتهما الوليد على خلعه.
بويع بالخلافة في جمادى الآخرة سنة ست وتسعين بعد الوليد بالعهد المذكور من أبيهما، كان من خيار بني أمية، فصيحَاً مفوهاً، مؤثراً للعدل، محباً للغزو، وجهز الجيوش مع أخيه مسلمة بن عبد الملك؛ لحصار القسطنطينية. وقالت امرأة: رأيته أبيض، عظيم الوجه، مقرون الحاجبين، يضرب شعره منكبيه، ما رأيت أجمل منه.
وقال الوليد بن مسلم: حدثني غير واحد أن البيعة أتت لسليمان وهو بمشارف البلقاء، فأتى إلى بيت المقدس، وأتته الوفود، فلم يروا وفادة كانت أهنأ من الوفادة إليه، كان يجلس في قبة في صحن المسجد مما يلي الصخرة، ويجلس الناس على الكراسي، ويقسم الأموال، ويقضي الأشغال.
وقال سعيد بن عبد العزيز: ولي سليمان وهو إلى الشباب والتَرَفه ما هو، فقال لعمر بن عبد العزيز: يا أبا حفص، إنا ولينا ما قد ترى ولم يكن لنا بتدبيره عِلْم، فما رأيت من مصلحة العامة فَمُر به، فكان من ذلك عزل عمال الحَجاج، وإخراج من في سِجْنِ العراق، ومن ذلك كتابه: إن الصلاة قد أميتت فأحيوها وردوها إلى أول وقتها مع أمور حسنة كان يسمع من عمر فيها.
وعن الشعبي: لما حج سليمان بن عبد الملك سنة سبع وتسعين، فرأى الناس بالموسم، قال لعمر بن عبد العزيز: أما ترى هذا الخلق الذي لا يُحصِي عددهم إلا الله تبارك وتعالى، ولا يسع رزقهم غيره؟ قال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء اليوم رعيتك، وغداً هم خصماؤك، فبكى سليمان بكاء شديداً، ثم قال: باللّه أستعين.
وعن ابن سيرين قال: رحم الله سليمان بن عبد الملك، افتتح خلافته بخير، وختمها بخير، افتتحها بإحياء الصلوات لمواقيتها، واختتمها باستخلاف عمر بن عبد العزيز.
وفي الذهبي: قيل: كان من الأكلة المذكورين، فذكر محمد بن زكريا الغلابي، وليس بثقة، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن القرشي، عن أبيه، عن هشام بن سليمان قال: أكل سليمان بن عبد الملك أربعين دجاجة تشوى له على النار على صفة الكباب، وأكل أربعاً وثمانين كلوة بشحومها وثمانين جردقة.
وقال محمد بن عبد الحميد الرازي، عن ابن المبارك: إن سليمان لما حج آتى الطائف، فأكل سبعين رمانة، وخروفاً، وستين دجاجة، وآتى بمكوك زبيب طائفي، فأكله أجمع.
وعن عبد اللّه بن الحارث قال: كان سليمان بن عبد الملك أكولا.
وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى: ثنا أبي عن أبيه قال،: جلس سليمان بن عبد الملك في بيت أخضر، على وطاء أخضر، عليه ثياب خضر، ثم نظر في المرآة، فأعجبه شبابه وجماله، فقال: كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وكان أبو بكر صديقاً، وكان عمر فاروقَاً، وكان عثمان حيياً، وكان معاوية حليماً، وكان يزيد صبوراً، وكان عبد الملك سائساً، وكان الوليدُ جَباراً، وأنا الملك الشاب، فما دار عليه الشهر حتى مات.(2/144)