الجزء الأول
المقدمة
المقصد الأول
في ذكر نسبه عليه الصلاة والسلام، وتعداد آبائه الكرام
من لدن نبي الله آدم أبي البشر، صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر النبيين وسلم، إلى أبيه سيدنا عبد الله بن عبد المطلب، ولمع من أخبارهم، ونوادر آثارهم، ومقادير أعمارهم، وفيه ذكر كيفيه التناسل، وذكر قابيل وهابيل، وقتال أبناء قابيل، وذكر نوح والطوفان والسفينة، وذكر عوج بن عنق، وإلهام الله العربية عدة قبائل من أولاد عابر، وهو النبي هود - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام - ثم افتراق العرب إلى العدنانية والقحطانية، وذكر طسم وجديس وتبع، وذكر العمالقة وقطورا والسميدع وجرهم وبني إسماعيل، وخروج عمرو بن عامر مزيقيا، وتفرق قومه إلى مكة وهم خزاعة، وإلى المدينة وهم الأوس والخزرج، وإلى الشام وهم ملوك غسان، وإلى العراق وهم ملوك الحيرة: النعمان بن المنذر وقومه، وإلى غير هؤلاء، وذكر ولاة مكة في الجاهلية وقبلها من زمن الخليل - عليه الصلاة والسلام - ، وذكر بناة الكعبة: قصي ثم قريش ثم ابن الزبير ثم الحجاج بعد ذكر من قبلهم، وذكر قريش الأباطح، وقريش الظواهر، وقريش العازبة، وقريش العائدة، ولعقة الدم، وذكر حليف المطيبين، وحلف الفضول، وحلف الأحابيش، وذكر حرب الفجار الأول، وحرب الفجار الثاني، وذكر الحمس والحلة والطلس من قريش وغيرهم، وذكر النسيء وكيفية الإنساء، وذكر الإجازة من عرفة إلى منى، ومنها إلى مكة ومتولى ذلك، وذكر الحكام من قريش، وذكر طمع عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي أن يملك قريشاً ويتملك عليهم من جانب قيصر، وذكر بني عبد مناف والحجابة والسقاية والرفادة والقيادة، وذكر وفادة عبد المطلب في وجوه قومه إلى سيف بن ذب يزن مهنئين له بالملك، وذكر زمزم وغيرها مما حفرته قريش بمكة من الآثار، وذكر الفيل وأصحابه وغير ذلك.
المقصد الثاني
في أحواله عليه الصلاة والسلام. وفيه سبعة أبواب:
الباب الأول: في الحمل به وولادته ورضاعه، وموت عمه أبي طالب، وزوجته السيدة خديجة، وخروجه إلى الطائف.
الباب الثاني: في ذكر هجرته إلى المدينة الشريفة، والغار وما حوى، ولحاق سراقة بن مالك، وشعر أبي جهل، وخيمتي أم معبد، وذكر أم عفى، ولقى عبد الله بن مسعود، وكيفية دخول المدينة ومواجهة الأنصار، ونزوله بقباء وبناء مسجدها، وغير ذلك.
الباب الثالث: في ذكر أعمامه وعماته، وأبناء أعمامه وأبنائهم، وأبناء عماته وأبنائهن.
الباب الرابع: في ذكر زوجاته المدخول بهن، وأخبارهن ومناقبهن ووفاتهن، ومن مات في حياته منهن، ومن توفى عنهن، ومن عقد بهن ولم يدخل، ومن خطبهن ولم يعقد، وسراريه.
الباب الخامس: في أولاده - عليه الصلاة والسلام - وأولادهم، وتراجم كل واحد منهم.
الباب السادس: في ذكر مواليه وخدامه وإمائه، وكتابه وأمرائه، ومؤذنيه وخطبائه، وحداته وشعرائه، وخيله وسلاحه، وغنمه ولقاحه، وثيابه وأثاثه، وما يتبع ذلك.
الباب السابع: في الحوادث من أولي سني الهجرة، المشتمل على غزواته وبعوثه وسراياه ومعجزاته، وما خص به من حميد مزاياه، وسائر حالاته وتقلباته إلى حين وفاته.
المقصد الثالث
في ذكر الخلفاء الأربعة
وذكر خلافة الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين وفيه: ذكر ما وقع في سقيفة بني ساعدة، وتخلف علي وبني هاشم وبعض الصحابة عن المبايعة، ومحاجة فاطمة أبا بكر في فدك العوالي، ووفاة سعد بن عبادة سيد الخزرج، وإرسال أبي بكر الصديق أبا عبيدة بن الجراح إلى علي برسالة، وجواب علي عنها، وتفسير غريبهما، وذكر الأحاديث الدالة على خلافة الصديق، واختلاف الناس في تأويلاتها، وذكر الاعتراضات عليها وأجوبتها، وذكر أقاويل أكابر أهل البيت في الثناء على الشيخين والترحم عليهما، وذكر إبطال ما ينسبه أهل الأهواء إليهما، وذكر نسب الصديق وإسلامه وصفته، وقتاله أهل الردة، وقتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة، واستعداء أخيه متمم بن نويرة على خالد عند الصديق، وقصة الصديق مع دغفل النسابة، وما ورد من الآيات والأحاديث في شأنه خاصة، وذكر أولاده، ووفاته.(1/1)
ومثل ذلك لكل من الخلفاء الأربعة بعده، وقصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع عمر بن معدي كرب، وذكر الشورى وما آل إليه أمرها، ووقعة القادسية، وذكر الأمور المنقومة على عثمان وجوابه عنها، وذكر وقعة الجمل، ووقعة صفين، وذكر التقاء الحكمين بدومة الجندل، وذكر مكر معاوية لعمرو بن العاص، ومناظرة ابن عباس للخوارج حين أرسله علي إليهم، ووقعة النهروان وقتل ذي الثدية المخرج، ومراسلات معاوية رضي الله عنه إلى علي - كرم الله وجهه - وجواب علي عنها، ومراسلات معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة، وإلى محمد بن أبي بكر الصديق، وجوابهما إليه، وذكر بعض أقضية علي - كرم الله وجهه - وشعره، ومراث قيلت فيه.
المقصد الرابع
وفيه سبعة أبواب: الباب الأول: في ذكر الدولة الأموية، وفيه: ذكر قصة هند بنت عتبة بن ربيعة والدة معاوية - رضي الله عنه - ، وصلح الحصن بن علي مع معاوية، ونزوله عن الخلافة له بشروط اشترطها الحسن، وفى له معاوية بكلها أو جلها، واستلحاق معاوية زياد بن سمية إلى نسب أبي سفيان وما قيل في ذلك، وقتل زياد حجر بن عدي وأصحابه من شيعة علي - كرم الله وجهه - وموت زياد ابن أبيه، وذكر سياسات معاوية التي ملك بها الجنود، وأحكمت له بها العقود، وذكر عهد معاوية لابنه يزيد بالخلافة، وذكر توجه الحسين إلى الكوفة، واستشهاده بكربلاء على التفصيل، وذكر مناقب الحسين بن علي - رضي الله عنهما - وذكر ولاية الوليد بن عتبة على الحجاز، وعزل عمرو بن سعيد الأشدق، وذكر خلع أهل المدينة يزيد، ووقعة الحرة، وحصار مكة، وذكر بيعة عبد الله بن الزبير، وذكر انتقاض أمر عبيد الله بن زياد، ورجوعه إلى الشام، وذكر مسير الخوارج إلى ابن الزبير، ثم مفارقتهم إياه، وذكر خروج سليمان بن صرد الخزاعي في التوابين من الشيعة للأخذ بثأر الحسين بن علي - رضي الله تعالى عنهما - ، وذكر المختار بالكوفة وأخباره، وذكر مسير ابن زياد إلى المختار، وخلاف أهل الكوفة عليه وغلبه إياهم، وذكر شأن المختار مع ابن الزبير، وذكر مقتل ابن زياد، وذكر مسير مصعب بن الزبير وقتله إياه، وذكر مسير عبد الملك بن مروان إلى العراق، وقتله مصعب بن الزبير، وذكر زفر بن الحارث الكلابي بقرقيسياء، وتوجيه عبد الملك بن مروان الحجاج إلى مكة لقتل عبد الله بن الزبير، وذكر ولاية المهلب حرب الأزارقة، وولاية الحجاج على العراق.
وذكر وثوب أهل البصرة على الحجاج، وذكر شبيب بن يزيد الحروري، وذكر فرسان الجاهلية والإسلام، وذكر وفاة الحجاج، وقصة وضاح اليمني مع أم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك وهي عربية ذكرها ابن حمدون في التذكرة وغيره، وبناء الوليد بن عبد الملك جامع دمشق المعروف بجامع بني أمية، وغيره ذلك.
الباب الثاني: في ذكر الدولة العباسية، وفيه ذكر قيام أبي مسلم الخراساني بالدعوة العباسية، وذكر الشيعة ومبادئ دولهم، وذكر كيفية بناء المنصور مدينة بغداد، وذكر توسيع المسجد الحرام وتربيعه للمهدي العباسي، وإيقاع الرشيد بالبرامكة، واختلاف الناس في أسباب نكبتهم، وذكر فتح المعتصم عمورية، وظهور القرامطة أيام المكتفي علي بن المعتضد العباسي، وظهور النار من الحرة الشرقية بالمدينة النبوية، وشرح واقعة التتار، ومبدأ أمرهم، وقتلهم الخليفة المستعصم العباسي آخر خلفاء بغداد، وغير ذلك.
الباب الثالث: في ذكر الدولة العبيدية - المسمين بالفاطميين - ، وفيه ذكر الخلاف في صحة نسبهم، وذكر افتتاح المعز الفاطمي مصر على يد عبده جوهر الرومي الصقلي، وذكر عجارف الحاكم بأمر الله منهم وكيفية مقتله، وفتنة البساسيري ببغداد، وخطبته بها للمستنصر الفاطمي، وإخراج الخليفة القائم بأمر الله العباسي إلى حديثة عانة، وإعادة الملك طغرلبك إياه، وذكر الغلاء الشديد والقحط العظيم بديار مصر سنة اثنتين وستين وأربعمائة في خلافة المستنصر الفاطمي المذكور، وغير ذلك.
الباب الرابع: قي ذكر الدولة الأيوبية الكردية، وفيه ذكر قتل شاور، وذكر العاضد آخر خلفاء العبيديين، وذكر نور الدين الشهيد محمود بن زنكي، وذكر القاضي الفاضل، واستكتاب صلاح الدين يوسف بن أيوب إياه، وصلب صلاح الدين عمارة اليمني وقاضي مصر وجماعة. لتمالئهم على قصد سوء، وذكر الوزير جمال الدين الأصفهاني الجواد المشهور ومدفنه بالمدينة الشريفة، وغير ذلك.(1/2)
الباب الخامس: في الدولة التركمانية، ووقائع آثارهم.
الباب السادس: في ذكر دولة الشراكسة، وبدائع أخبارهم.
الباب السابع: في ذكر الدولة العثمانية أعدل سلاطين الإسلام، أدام الله دولتهم إلى يوم القيامة. وفيه ركوب السلطان سليم خان بن بايزيد على إسماعيل شاه بعد مراسلته، وذكر مراسلة السلطان سليمان خان لإمام اليمن الإمام المطهر، وجواب الإمام إليه، وذكر عمارة سور المدينة الشريفة، وعمارة كريمية وهي أم السلاطين عين عرفة، وذكر ابتداء تعمير المسجد الحرام في دولة السلطان سليم بن سليمان خان، وإتمامه في دولة السلطان مراد بن سليم خان، وغير ذلك.
وأما الخاتمة فتشتمل على ثلاثة أبواب
الباب الأول منها: في ذكر نسب الطالبيين، وذكر المشاهير من أعقابهم، وفيه ذكر الأئمة الاثنى عشر، وتراجم كل، وذكر بني حسين أمراء المدينة الشريفة، وواقعة الخوارزمي مع البديع الهمذاني في مجلس أبي جعفر محمد بن موسى بن أحمد، من عقب موسى الكاظم، وذكر دخول دعبل الخزاعي على الإمام موسى الكاظم، وإنشاده قصيدته في آل البيت التائية المشهورة، وغير ذلك.
الباب الثاني منها: في ذكر من دعا منهم إلى المبايعة، وذكر مكان دعائه وزمانه، وما جرى على كل قائم منهم من خليفة زمانه، وتعدادهم، من علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - إلى يومنا هذا، وفيه ذكر اختلاف الشيعة، وانقسام مذاهبهم إلى الزيدية وإلى الرافضة، وانقسام الرافضة إلى اثنى عشرية ويخصون باسم الإمامية، وإلى الإسماعيلية، ومنهم في الاعتقاد القرامطة مع اختلاف بينهم في سياق الإمامة، وذكر الفرقة الكيسانية، وذكر مراسلات المنصور العباسي مع محمد النفس الزكية ابن عبد الله المحض ومقتله، وذكر الأئمة القائمين بالدعوة في قطر اليمن، وغير ذلك.
الباب الثالث منها: في ذكر من ولي مكة المشرفة من آل أبي طالب إلى يومنا هذا، وفيه ذكر آل أبي الطيب وأخبارهم، والهواشم وآثارهم، والقتادات وهم ولاتها إلى هذا الأوان، فلا أخلى الله منهم الزمان والمكان، وذكر بعض تراجم لبعض الأعيان الكرام من أهل الحرمين ومصر والشام، ممن توفي بعد الألف إلى عام إتمامه. جعله الله مشمولاً بالخير والرضا في بدئه وختامه.
ولما تم تأصيله وترتيبه، وكمل تربيع مقاصده وتبويبه، سميته تسمية مطابقة لوصفه في الواقع، ضابط لسنة تاريخه، بعد أن حوم شاهين الفكر حتى ظننته عليها غير واقع، فكانت التسمية تاريخاً له، وذلك من أبدع البدائع وأفضل النيل، لم يتفق ذلك في الزمن الخالي، إلا لأحمد الفضل بأكثر في كتابه وسيلة المآل، في عد مناقب الآل، فرفع به علم تبجحه منتصباً وجر الذيل، وهي: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي وقدمته لحضرة سيد الشرفا، وسيل الخلفا، ومفرد آل بيت المصطفى، وجعلته خدمة له برسمه، وتوجته بلقبه الشريف واسمه، جامع أشتات المكارم والفضائل، حاوي محاسن الأواخر والأوائل، سلالة البيت النبوي، وزلال الغيث الروي، مظهر الملك ومعهده، ومجدد بنائه ومشيده، ومحيي ما أمحل من أرض العفاة بوابل جوده، وحائز إرث النبوة والخلافة عن آبائه وجدوده، من أعطاه الله من صنوف الإعزاز والتمكين ما لم يعطه لغيره، ودانت له الأيام حتى ذلك الأسود في حالتي إقامته وسيره، وخدمته الأيام والليالي، وباهت به من درج في الحقب الخوالي، ووجدت الناس في أيامه السعيدة أماناً من الحوادث، وانطلقت الألسن بالدعاء لجنابه فهو إن شاء الله للأعمار وارث، فأيامه مواسم، وطرق هباته نواسم، وثغور الأيام فرحاً به في رحابه بواسم، وسعادات تدبيره لأدواء اللأواء حواسم، وربوع الجور والعدوان في أيامه طوامس، ويقال طواسم.
أمنّا به الدهر المخوف فكلّما ... له قام داعٍ بالسلامة أمنّا(1/3)
الذي قع رضع ثدي المجد، من زمن حصوله في المهد، وافترش حجر الفضل، في حال كونه شاباً وكهل. ما ذهب إلى شيء إلا شيده وأيد برهانه، ولا انتحى أمراً إلا وساعده مساعد القضاء وأعانه. له محبة وهيبة في النفوس، وجلالة وعظمة أسها في القلوب مغروس. صاحب اليد الرحيبة في المكان الضيق، والخصال الشريفة التي تأخذ بمجامع القلوب، فكل ذي لب إليها شيق. حاد الذهن سريع الإدراك، قد خصه الله بالمناقب التي سارت بها الركبان والأفلاك، والأخلاق التي ليس للنسيم لطفها، ولا للرياض نضرتها وظرفها. فهو نعمة من الله على المسلمين يجب الاعتراف بقدرها، ومنة على العباد لا يقام بشكرها، وحجة لا يسع الحاسد لها الجحود، وآية تشهد بأنه زمام هذا الوجود، أصبح به الدهر يميس إعجاباً، والأزمنة عبد هرمها عادت بزمنه شباباً، منيع السيادة ونبعتها، وصيت المكارم وسمعتها، له خلق لو مزج بماء البحر نفى ملوحته، وأصفى كدورته، ينابيع الجود تتفجر من أنامله، وربيع السماح يضحك عن فواضله، قد نشر الله في الآفاق ذكره، وأطال في كل المواطن نعته وخبره، ومهد بحسن سياسته وتدبيره الأقطار الحجازية وعمر، وبسط العدل في رعيته وعمهم ببره وغمر، ومكارمه لم تنلها الغمائم، ومحاسنه تسجع بأوصافها الحمائم، الإمام العالم العادل، والهمام الأعظم الكامل، الوافر فضله، البسيط ظله، الطويل مجده، المديد سعده، ذو القريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة، والكلمات الفاضلة الموجزة، فهو كالشريعة المحمدية التي نسخت الشرائع، وظهر على كافور الأيام ومسك الليالي نورها الساطع، منشر رفات المجد وناشر آياته، وسابق غايات الفضل وتالي آياته، سلطان الحجاز المدعو له على منابره الشريفة، المستغني بشهرته عن الإطناب بالإيجاز في مناقبه المنيفة، حامي حمى الحرمين الشريفين بسمهريه وحسامه، النامي في حفظ المحلين المنيفين أجره بشديد قيامه، أجل ملوك هذا البيت، وأعظم من ركب صهوة أدهم وامتطى ظهر كميت، المنتخب من آل عبد مناف ولؤي - سيدنا ومولانا الشريف أحمد ابن مولانا المرحوم الشريف زيد بن محسن بن الحسين بن الحسن بن أبي نمى. لا زال النصر لملكه خادماً، والعز لأعقابه وزيراً ملازماً، وعلم رفعته على رءوس الأشهاد قائماً، وقلم السعد بمنشور مهابته على صحائف الدهر راقماً، وثغر الزمان بمزيد سروره باسماً، وكل من القضاء والقدر بدوام سموه حاكماً، ولسائر أموره على السداد بارماً، ولا برح النصر والسعد مقرونين بعذبات علمه، والآجال والأرزاق في ماضي سيفه وقلمه، والتوفيق مستصحب العالي، ارائه ومصائب الحوادث أصدقاء اعدائه أمين أمين أمين ليكون نخفة لمجلسة العالي وعندليب أنس على غصن انبساطه في رياض المحضر يصدح بالسجع الحالي. أسأل الله أن يرزقه منه مسحة قبول، بجاه جده الرسول، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وقد آن أوان الشروع في مقصود الكتاب، فنقول بعون الملك الوهاب.
المقصد الأول
في ذكر نسبه عليه الصلاة والسلام
وتعداد آبائه الكرام من لدن نبي الله آدم أبي البشر - صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر النبيين وسلم - إلى أبيه سيدنا عبد الله بن عبد المطلب، ولمع من أخبارهم ومقادير أعمارهم ففي ذلك نقول، متوكلين على الله مستمدين من الرسول: قال صاحب تاريخ الخميس: لما أراد الله تعالى خلق آدم - عليه الصلاة والسلام - قال للملائكة: " إِنّيِ جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةٌ " البقرة، فأجابوا بقولهم: " أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا " البقرة،؟ فرد عليهم: " إِنّيِ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ " البقرة وفي الآية الأخرى: " إِنّيِ خَلِقُ بَشَرَا مِن طينِ فَإِذَا سَوَّيّتُهُ " الآية فسجد الملائكة، فكان من إبليس ما اقتضى لعنه وبعده، ونصب العداوة لآدم - عليه السلام - وذريته.
قال في بحر العلوم: لما قالت الملائكة: " أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ... " الآية البقرة أراد الله أن يظهر فضل آدم - عليه الصلاة والسلام - عليهم، فعلمه ما لا يعلمون. قال ابن عباس وقتادة والضحاك: علمه اسم كل شيء، حتى القصعة والقصيعة والمغرفة.(1/4)
ثم لما طرد إبليس، وأهبط من الجنة بسبب الامتناع من السجود لآدم، أصر على عداوته، ووقف على باب الجنة، وتعبد هنالك ثلاثمائة وستين عاماً؛ انتظاراً لأن يخرج منها أحد يأتيه بخبر آدم - عليه السلام - وحواء، فبينما هو كذلك إذ خرج طائر موشى مزين يتبختر في مشيته، فلما رآه إبليس قال: أيها الطائر ما اسمك؟ قال: اسمي طاوس، قال: من أين أقبلت؟ قال: من حديقة آدم وبستانه، قال: ما الخبر عن آدم؟ قال: هو بخير في أحسن حال وأطيبه، ونحن من خدامه، فقال: وهل تستطيع أن تدخلني؟ فقال: لا أقدر، ولكن أدلك على من يقدر، فقال: افعل، فذهب الطاوس إلى الحية، وكانت يومئذ كأعظم البخاتى، وكانت أحسن حيوانات الجنة: لا أربع قوائم كالإبل، من زبرجد أخضر، وفيها كل لون، رأسها من الياقوت الأحمر، ولسانها من الكافور، وأسنانها من الدر، وذوائبها كذوائب الجواري الأبكار، فقال لها الطاوس: إن خلقا بباب الجنة يقول: عندي نصيحة لآدم، فمن يذهب بي أعلمه؟ فخرجت الحية إليه، وقالت: إني أدخلك الجنة، ولكن أخاف من لحوق البلاء، فقال لها إبليس، أنت في ذمتي وجواري، لا يلحقك مكروه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: اقتلوا الحية ولو في الصلاة، وإنما أمر بذلك إبطالاً لذمة إبليس.
فقالت الحية: أنا أخاف أن يصيبني مثل ما أصابك، فقال لها إبليس: أنا أعطيك جوهرة أينما تضعينها تكون لك جنة، فأعطاها إبليس، فجعلتها في فيها، فتخرجها في الليل، وتضعها حيث شاءت تستضيء بها.
وفي العرائس: قالت الحية: كيف أدخلك الجنة ورضوان لا يمكنني من ذلك؟ فقال إبليس: أنا أتحول ريحاً، فاجعليني بين أنيابك، فتدخليني وهو لا يعلم، فأطبقت عليه فاها بعد أن تحول ريحاً، فقال لها إبليس: اذهبي بي إلى الشجرة التي نهى آدم عنها، فلما انتهت الحية إلى تلك الشجرة، تغنى إبليس بمزمار، فلما سمع آدم وحواء صوت المزمار جاء إليه يسمعان فإذا هو ريح خارج من فم الحية، فأعجبهما الصوت، فتقدما إليه شيئاً فشيئاَ حتى وقفا عليه، وهما يظنان أن الحية هي التي تتغنى، فقال لهما إبليس...، فقالا: نهينا عن قرب هذه الشجرة، فقال: " مَا نَهَكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ " الأعراف، إلى: " فَدّلَّهُمَا بِغُرُورٍ " الأعراف، قسما كاذباً فهو - لعنه الله - أول من حلف كاذباً، وأول من غش، وأول من حسد، لعنه الله وأعاذنا منه.
فسبقت حواء إلى الشجرة، فتناولت منها خمس حبات، فأكلت واحدة وخبأت واحدة وأعطت آدم ثلاث حبات، فأعطى حواء منها واحدة وأمسك حبتين.
قيل: لما خبأت حواء إحدى الحبات من زوجها آدم - عليه السلام - صار خبء النساء عن أزواجهن بعض الأشياء عادة لهن، ولإمساك آدم لنفسه حبتين من الثلاث وإعطاء حواء واحدة منها، شرع للذكر مثل حظ الأنثيين. فأوحى الله إلى آدم: لأدمين حواء في الشهر مرتين، فاعترت آدم عليها الرحمة، فأوحى إليه: قد علمنا ما لحقك على حواء من الرأفة والشفقة، وقد رفعت عنها وبناتها هم النفقة.
ولما أكلا من الشجرة، تطاير عنهما لباسهما، وبدت لهما سوآتهما، فطلبا ورقاً من أشجار الجنة، فكلما طلبا شجرة، تعالت عنهما، إلا شجرة التين، فتدلت لهما، فأخذا منها وسترا سوأتيهما.
ثم أهبطوا من الجنة، آدم وحواء وإبليس، أهبط آدم بسرنديب، جبل عال يراه البحريون من مسافة أيام، وأثر قدمي آدم - عليه الصلاة والسلام - عليه مغموستان في البحر.
وحواء بجدة، والحية بأصفهان، وإبليس بأبلة. ويرى على هذا الجبل كل ليلة كهيئة البرق من غير سحاب، ولا بد له في كل يوم من مطر يغسل أثر قدميه - عليه السلام - . ويقال: إن الياقوت الأحمر يؤخذ من ذلك الجبل تحدره السيول والأمطار إلى الحضيض.
وروى أن آدم - عليه السلام - لما أهبط، كانت رجلاه على الأرض، ورأسه في السماء يسمع دعاء الملائكة وتسبيحهم، فكان يأنس بذلك، فهابته الملائكة، واشتكت نفسه إلى الله تعالى، فنقص قامته إلى ستين ذراعاً.
ولما يبس ما كان على آدم من ورق الجنة وتناثر كان هو السبب لوجود الأفاويه ببلاد الهند؛ كالجوز والقرنفل والفلفل والهيل وأشباهها، فكان ذلك المتناثر بذراً لها؛ فسبحان الحكيم جل وعلا.(1/5)
فلما عريا بعد تناثره ولبسه شكا آدم - عليه السلام - ذلك إلى جبريل، فجاءه بأمر الله بشاة عظيمة من الجنة لها صوف عظيم كثير، وقال لآدم: قل لحواء تغزل من هذا الصوف وتنسج، فمنه لباسك ولباسها، فغزلت حواء ذلك الصوف، ونسجت منه لنفسها درعاً وخماراً، ولآدم قميصاً وإزاراً.
ثم دعا آدم ربه، فقال: يا رب كنت جارك في دارك آكل رغداً منها حيث شئت، فأهبطتني إلى الأرض، وكلفتني مشاق الدنيا. فأجابه الله: يا آدم، بمعصيتك كان ذلك، إن لي حرماً بحيال عرشي، فانطلق؛ فإن لي فيه بيتاً، ثم طف به كما رأيت ملائكتي يحفون بعرشي، فهنالك أستجيب لك ولأولادك من كان منهم في طاعتي، فقال: يا رب، وكيف لي بذلك المكان فأهتدى إليه؟ فأمر الله جبريل فتوجه به إلى الحج، فصارت المسافات تطوى له، وكانت خطوة آدم مسيرة ثلاثة أيام، ولم يزل يسير حتى وصل إلى جدة؛ لأنه شم رائحة ورق الجنة الذي كان على حواء، قال: يا حواء، أتراني أنظر إليك نظرة؟ فنادته الجبال: تسير في أثرها تدركها، فسار إلى قرن، فائره جبريل فأحرم فأنزل الله البيت المعمور فاوقفه في الهواء بحيث يراه فيعرفه حيال المهاة البيضاء التي هي موضع البيت ومنها دحيت الأرض، وهي أم القرى، فأوحى الله إليه أن طف بالبيت وصل عنده واسأل حاجتك، وأخبره بمكان حواء، فلما رأته، جاءت إليه تبكي، فعرفها جبريل بالتوبة والمغفرة، فسجدت لله تعالى شكراً، وتطهرت وتوضأت فأهلت بعمرة ولبت. وأتى بها جبريل إلى جميع مواقفها، وجمع بينهما جبريل في جمع، فسمى بذلك لاجتماعهما.
وقيل: بل تعارفا بعرفات، وبهما سمى ذلك المحل عرفات، فبادرت إليه وتعانقا.
ولما أكمل حجة ووقف بمنى، قال له جبريل: تمن على ربك ما شئت؛ فلذلك سمى ذلك المحل منى، كما هو أحد الوجوه في تسميته بذلك. وقرب قرباناً، وحلق له جبريل رأسه بياقوتة من الجنة، ثم أمره الله أن يتخذ لحواء منزلاً خارج الحرم إلى أوان الحج، ففعل.
وفي كتاب المبتدا: أن آدم لم يكن يأ حواء منذ هبطا إلى الأرض، ولا خطر بقلبه ولا قلبها ذكره حياءً من الله تعالى فأوحى الله إليه يا آدم، ما هذا الجزع وأنت صفوتي وأبو المصطفى رسولي، فأبشر بنعمتي وكرامتي أنت وزوجك حواء، فألم بها، فبشر حواء، فسجدت شكراً لله، ثم باشرها، فحملت منه، فولدت ذكراً وأنثى في بطن، فسمت الولد قابيل، والأنثى إقليميا، ثم واقعها فحملت بهابيل وأخته ليوذا، ثم حملت بطناً ثالثاً فولدت توأمين، وأولادها يكثرون ويمشون بين يديها، والنور لا ينتقل من وجه آدم. ولم تزل حواء تلد في كل تسعة أشهر ولدين ذكراً وأنثى، فقيل: إن جميع من ولدت مائتا ولد في مائة بطن في كل بطن ولدان، إلا شيثاً وعنق، فإنها ولدتهما مفردين كل واحد في بطن.
وقيل: ولدت له خمسمائة بطن بألف ذكر وأنثى.
وسيأتي حديث شيث قريباً، وحديث عنق ذكر ابنها عوج بن عنق، عند ذكر قتل موسى إياه، عليه الصلاة والسلام.
وفي روضة الأحباب: كانت الأرض تطوى لآدم في كل خطوة اثنان وخمسون فرسخاً حتى بلغة مكة في زمن قليل، فكل موضع أصابه قدمه، صار عمراناً، وما بين قدميه مفازاً وقفراً.
وفي قوله تعالى: " فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَتٍ " البقرة قال ابن بابويه: أخبرنا أبو جعفر محمد، والحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر قال: الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه هي قوله: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت التواب الرحيم، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين.
ولما رجع آدم - عليه السلام - من الحج، وجد ولده قابيل قتل ولده هابيل، ولم يدر ما يصنع به، فحمله على عاتقه في جراب وقد أروح، وأنتن، شدخ رأسه بين حجرين.
قيل: عند عقبة حراء.
وقيل: بعقبة أيلة.
وقيل: بالقدس.
وبسبب قتله: شاكت الأشجار، وتغيرت الأطعمة، وحمضت الفواكه، وتمرر الماء.
فحزن آدم على هابيل حزناً عظيماً.(1/6)
وسبب قتله أن من شرع آدم - عليه السلام - تزويج أنثى البطن الأول بذكر البطن الثاني، لأن حمل حواء توأم، فولد قابيل وأخته إقليميا، وولد هابيل وأخته ليوذا، وكانت أخت قابيل بديعة جداً، فكره قابيل أن يعطيه إياها، وأرادها لنفسه، فقربا إلى الله قرباناً، فمن قبل قربانه أخذ إقليميا، فقال هابيل: أنا راض بكل ما حكمت، قربت أو لا، تقبل مني أو لا، فقال قابيل: تقرب، فخرجا إلى جبل من جبال مكة، وقيل إلى منى، ثم قرب كل منهما قربانه، فكان قربان هابيل من أبكار غنمه وأسمنها بسماحة وطيب نفس، وقربان قابيل قمحاً لم يبلغ وأكثره زيوان.
وعن أبي جعفر محمد الباقر بن علي: قرب قابيل من زرعه ما لم ينق، وقام هابيل يدعو الله وقابيل يغني ويلهو، وإذا رأى هابيل يصلي يضحك، وقال: أظن صلاتك لتخدع آدم ليزوجك أختي، لئن تقبل قربانك لأقتلنك، فقال هابيل: " إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَقِينَ " المائدة الآيات، فنزلت نار بيضاء من السماء يسمع لها زجل بالتسبيح، فرفعت قربان هابيل، فوثب إليه قابيل ليبطش به قائلاً: والله لأقتلنك، فتركه هابيل وانصرف ليعلم أباه، فلحقه قابيل، قيل: بعقبة حراء دون ثبير، وقيل: في موضع آخر، كما تقدم.
قال الإمام العلامة الحسن بن علي الحائني في كتابه المسمى: حقيبة الأسرار، وجهينة الأخبار، في معرفة الأخيار والأشرار فذكر فيه زوائد أحببت إيرادها تكملة للفائدة، وإن كان بعضها قد تقدم، قال: روينا عن مشايخنا بسندنا المتقدم - وكان سرد سنداً لا نطول بذكره - عن الشيخ منتجب الدين أبي الحسن علي بن عبيد الله ابن الحسن المدعو حسكاً، عن الحسين بن الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين ابن بابويه، يرفعه إلى جابر، عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: سئل أمير المؤمنين، هل كان في الأرض خلق من خلق الله يعبدون الله قبل آدم وذريته؟ قال نعم، كان في السموات والأرض خلق من خلق الله يقدسون الله ويسبحونه ويعظمونه بالليل والنهار لا يفترون؛ فإن الله لما خلق الأرضين، خلقها قبل السموات، ثم خلق الملائكة روحانيين لهم أجنحة يطيرون بها حيث شاء الله، فأسكنهم الله فيما بين أطباق السموات يقدسونه، واصطفى منهم إسرافيل وميكائيل وجبرائيل، ثم خلق في الأرض الجن روحانيين لهم أجنحة فحلقهم دون الملائكة وحفضهم أن يبلغوا مبلغ الملائكة في الطيران وغيره، وأسكنهم فيما بين أطباق الأرضين السبع وفوقهن يقدسون الله لا يفترون، ثم خلق خلقاً دونهم لهم أبدان وأرواح بغير أجنحة يأكلون ويشربون، نسناس أشباه خلقهم وليسوا بإنس، وأسكنهم أوساط الأرض على ظهرها مع الجن يقدسون الله لا يفترون، وكان الجن تطير في السماء، فتلقى الملائكة فيسلمون عليهم ويزورونهم ويستريحون إليهم ويتعلمون منهم الخير، ثم إن طائفة من الجن والنسناس الذين خلقهم الله وأسكنهم أوساط الأرض، تمردوا وبغوا في الأرض بغير الحق، وعلا بعضهم على بعض من العتو وسفك الدماء فيما بينهم، وجحدوا الربوبية، وأقامت الطائفة المطيعون على طاعة الله، وباينوا الطائفتين من الجن والنسناس الذين عتوا عن أمر الله، فحط الله أجنحة الطائفة العاتية من الجن، فكانوا لا يقدرون على الطيران إلى السماء لما ارتكبوا من الذنوب.
وكانت الطائفة المطيعة من الجن تطير إلى السماء الليل والنهار على ما كانت عليه، وكان إبليس - واسمه الحارث - ، يظهر للملائكة أنه من الطائفة المطيعة.
ثم خلق الله خلقاً على خلاف خلق الملائكة، وعلى خلاف خلق الجن، وعلى خلاف خلق النسناس، يدبون كما تدب الهوام في الأرض، يأكلون ويشربون كما تأكل الأنعام من مراعي الأرض، كلهم ذكران ليس فيهم أنثى، لم يجعل الله فيهم شهوة النساء ولا حب الأولاد ولا الحرص ولا طول الأمل ولا لذة عيش، لا يلبسهم الليل ولا يغشاهم النهار ليسوا ببهائم ولا هوام، لباسهم ورق الشجر وشربهم من العيون الغزار والأودية الكبار.(1/7)
ثم أراد الله أن يفرقهم فرقتين، فجعل فرقة خلف مطلع الشمس من وراء البحر، فكون لهم مدينة أنشأها لهم تسمى جابرسا، طولها اثنا عشر ألف فرسخ في اثني عشر ألف فرسخ، وكون عليها سوراً من حديد يقطع الأرض إلى السماء، ثم أسكنهم فيها، وأسكن الفرقة الأخرى خلف مغرب الشمس من وراء البحر، وكون لهم مدينة أنشأها لهم تسمى جابلقا طولها اثنا عشر ألف فرسخ في اثني عشر ألف فرسخ، وكون لهم سوراً من حديد يقطع إلى السماء، وأسكن الفرقة الأخرى فيها.
لا يعلم أهل جابرسا بموضع أهل جابلقا، ولا يعلم أهل جابلقا بموضع أهل جابرسا، ولا يعلم بهم أهل أوساط الأرض من الجن والنسناس.
فكانت الشمس تطلع على أهل أوساط الأرض من الجن والنسناس، فينتفعون بحرها ويستضيئون بنورها، ثم تغرب في عين حمثة؛ فلا يعلم بها أهل جابلقا إذا غربت، ولا يعلم بها أهل جابرسا إذا طلعت؛ لأنها تطلع من دون جابرسا، وتغرب من دون جابلقا، فقيل: يا أمير المؤمنين، كيف يبصرون ويحيون، وكيف يأكلون ويشربون، وليس تطلع عليهم؟! فقال - رضي الله عنه - : إنهم يستضيئون بنور الله، فهم في أشد ضوء من لون الشمس، ولا يرون الله خلق شمساً ولا قمراً ولا نجوماً ولا كواكب لا يعرفون شيئاً غيره، قيل: يا أمير المؤمنين، فأين إبليس عنهم؟ قال: لا يعرفون إبليس، ولا يسمعون بذكره، ولا يعرفون إلا الله وحده لا شريك له، لم يكتسب أحد منهم قط خطيئة، ولم يقترف إثماً، لا يسقمون ولا يهرمون ولا يموتون إلى يوم القيامة، يعبدون الله لا يفترون، الليل والنهار عندهم سواء.
قال: وإن الله أحب أن يخلق خلقاً، وذلك بعد ما مضى للجن والنسناس سبعة آلاف سنة، فلما كان من خلق الله أن يخلق آدم للذي أراد من التدبير والتقدير فيما هو مكونه في السموات والأرضين، كشط عن أطباق السموات، ثم قال للملائكة: انظروا إلى أهل الأرض من خلقي من الجن والنسناس، هل ترضون أعمالهم وطاعتهم؟! فاطلعوا ورأوا ما يعملون من المعاصي وسفك الدماء والفساد في الأرض بغير الحق، فأعظموا ذلك، وغضبوا لله، وأسفوا على أهل الأرض، ولم يملكوا غضبهم، وقالوا: يا ربنا، أنت العزيز الجبار الظاهر العظيم الشأن، وهؤلاء كلهم خلقك الضعيف الذليل في أرضك، كلهم يتقلبون في قبضتك، ويعيشون برزقك، ويتمتعون بعافيتك، وهم يعصونك بمثل هذه الذنوب العظام، لا تغضب عليهم، ولا تنتقم منهم لنفسك بما تسمع منهم وتري، وقد عظم ذلك علينا وأكبرناه فيك، فلما سمع الله تعالى الملائكة، قال: إني جاعل في الأرض خليفة؛ فيكون حجتي على خلقي في أرضي، فقالت الملائكة: سبحانك " أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ " البقرة فقال الله تعالى: يا ملائكتي " إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ " البقرة، إني أخلق خلقاً بيدي أجعل من ذرياته خلفائي على خلقي في أرضي، ينهونهم عن معصيتي، وينذرونهم، ويهدونهم إلى طاعتي، ويسلكون بهم طريق سبيلي، أجعلهم حجة لي عذراً أو نذراً، وألقى الشياطين من أرضي، وأطهرها منهم، فأسكنهم في الهواء وأقطار الأرض والفيافي؛ فلا يراهم خلق ولا يرون شخصهم؛ فلا يجالسونهم ولا يخالطونهم، ولا يواكلونهم ولا يشاربونهم، وأنفر مردة الجن العصاة من نسل بريتي وخلقي وخيرتي، ولا يجاورون خلقي، وأجعل بين خلقي وبين الجان حجاباً فلا يرى خلقي شخص الجن، ولا يجالسونهم ولا يشاربونهم، ولا يتهجمون بهجمهم، ومن عصاني من نسل خلقي الذي عظمته واصطفيته لنفسي، أسكنهم مساكن العصاة، وأوردهم موردهم ولا أبالي، فقالت الملائكة: " لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنَتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ " البقرة، فقال للملائكة: " إِنّيِ خَلِقٌ بَشَراً مِن صَلْصَلٍ مَنْ حَمَاءٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَجِدِينَ " الحجر، وكان ذلك من الله تقدمة للملائكة قبل أن يخلقه؛ احتجاجاً منه عليهم، وما كان الله ليغير ما بقوم إلا بعد الحجة عذراً أو نذراً، فأمر تبارك وتعالى ملكاً من الملائكة، فاغترف غرفة بيمينه، فصلصلها في كفه فجمدت، فقال الله عز وجل: منك أخلق.(1/8)
وفي رواية: اغترف تبارك وتعالى غرفةً من الماء العذب الفرات، فصلصلها فجمدت، فقال لها: منك أخلق النبيين والمرسلين وعبادي الصالحين والأئمة المهديين، والدعاة إلى الجنة وأتباعهم إلى يوم القيامة، لا أسأل عما أفعل وهم يسألون - يعني: خلقه - ، ثم اغترف غرفة من الماء المالح الأجاج ذات الشمال، فصلصلها فجمدت، فقال لها: منك أخلق الجبارين والفراعنة وأئمة الكفر الدعاة إلى النار وأتباعهم إلى يوم القيامة، وشرط في هؤلاء النداء، ولم يشترط في أصحاب اليمين النداء، ثم خلط الطينتين، ثم أكفأهما ثلاثة قدام عرشه.
وروى أنه تعالى فرق الطينتين، ثم رفع لهما ناراً، فقال: ادخلوها بإذني، فدخلها أصحاب اليمين، وكان أول من دخلها محمد وآل محمد - عليه السلام - ثم اتبعهم أولو العزم وأوصياؤهم وأتباعهم، فكانت عليهم برداً وسلاماً، وأبى أصحاب الشمال أن يدخلوها، فقال للجميع: كونوا طيناً بإذني، ثم خلق آدم عليه السلام، قال: فمن كان من هؤلاء لا يكون من هؤلاء، ومن كان من هؤلاء لا يكون من هؤلاء.
ثم قال العالم - عليه السلام - للذي حدثه من مواليه: فما ترى من ترف أصحابك فمما أصابهم من لطخ أهل الشمال، وما رأيت من حسن سيما ووقار في مخالفيك فمما أصابهم من لطخ أصحاب اليمين.
وروى أن جبريل - عليه السلام - أتى الله فأمره بأربع طبقات: بيضاء، وحمراء، وغبراء، وسوداء من حزن الأرض وسهلها، ثم أتاه بأربع مياه: عذب، ومالح، ومر، ونتن، وأمره بأن يفرغ الماء في الطين، فلم يفضل من الطين شيء يحتاج إلى الماء، ولا من الماء شيء يحتاج إلى الطين، وجعل الماء العذب في حلقه ليجد لذة المطعم والمشرب، والمالح في عينيه ولولا ذلك لذابتا، والمر في أذنيه ولولا ذلك لدخلها الهوام، والمنتن في أنفه ليجد به الإنسان الروائح الطيبة.
وروى في القبضة التي من الطين الذي خلق منه آدم: أن الله أمر جبريل أن ينزل إلى الأرض؛ يبشرها أن الله يخلق منها خلقاً يكون صفوة له يسبحونه إلى يوم القيامة، ويجعل مستقره ومستقر ولده بين أطباقها يخلقهم منها ويعيدهم إليها. ففعل ذلك جبريل، فاهتزت وابتهجت وقامت تنتظر أمر الله، فلما أراد الله أن يتم وعده، أرسل جبريل ليقبض منها كما أمره، فلما مد يده إليها، ارتعدت واستعاذت منه، وقالت: أسألك بعزة الله إلا ما أمسكت عني، فتوقف إجلالاً للقسم، ورجع، وقال: يا رب، تعوذت بك. فأرسل الله إسرافيل، فقالت له مثل ذلك، فرجع. فأرسل الله ميكائيل، فقالت له مثل ذلك، فرجع. فأرسل إليها عزرائيل فهبط ومعه حربة فركزها في وسط الأرض ركزة ارتجت واهتزت لها الأرضون وماجت وارتعدت، فمد يده، فقالت له كما قالت لمن قبله، فقال لها: اسكتي؛ فإكراهك أحب إلي من معصية ربي، وأعوذ بالله أن أرجع إليه حتى آخذ منك قبضة. ثم قبض قبضة من كل لون منها.
فعن وهب أنه نودي بعد أربعين يوماً: يا ملك الموت، ما الذي صنعت؟ فأخبره بما قالت الأرض، فقال: وعزتي وجلالي لأسلطنك على قبض أرواحهم، فأعلمها أنك راد عليها جميع ما أخذته منها ومعيده إليها. فنزل عزرائيل إلى الأرض فقال: أيتها الأرض، لا تحزني؛ فإني راد عليك الذي أخذته منك بإذن الله تعالى، وجاعله في طباقك كما أمرني ربي وسماني ملك الموت. فلما جاء ملك الموت بالقبضة أمره الله أن يضعها على باب الجنة، فوضعها على باب جنة الفردوس، وأمر الله خازن الجنة أن يعجنها من ماء التسنيم، فعجنها وقد مضى من يوم الجمعة سبع ساعات؛ لأن قبضته أخذت في آخر الساعة السادسة وأول السابعة، ثم صارت طيناً على باب الجنة حتى صارت لازباً، ثم حمأ مسنوناً في الساعة الثامنة فلما صوره الله تعالى فأحسن صورته، جعله أجوف جسداً فخاراً، إلى أن بقي من يوم الجمعة ساعة واحدة من النهار الذي مقداره ألف سنة مما تعدون، تلك الساعة مقدارها من سني الدنيا ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر.
آدم وحواء(1/9)
اشتقاق آدم، قيل: من الأدمة، وهي نوع سمرة، وقيل: من أديم الأرض، فإذا سمى به ثم نكر صرف، وقيل: اسم الأرض الرابعة أديم، وخلق آدم منها؛ فلذلك قيل: خلق من أديم الأرض، وقيل: أديم الأرض أدنى الأرض الرابعة إلى اعتدال؛ لأنه خلق وسط من الملائكة، وأن الله تعالى خلقه من أنواع متضادة وطبائع مختلفة؛ لأنه من تراب الأرض، فجاء فيه من كل شيء فيها، فعيناه من ملحها، وأذناه من مرها، وشفته ولسانه وفوه من عذبها، ويداه ورجلاه من حزنها، وصدره من سهلها، وبطنه وإبطاه من حمئها، ومفاصله من حرها ولينها، وعروقه وأعضاؤه وعظامه من صخرها.
وكان سكان الأرض قبله الجن، وقيل: الجن والبن، وقيل: الطم والرم. ولما أهلكهم الله وجعل آدم بدلهم، فقالت الملائكة ما قالت، فقال تعالى: " إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ " البقرة، وعن الجواد: أن الله خلق آدم؛ وكان جسده طيناً، وبقي أربعين سنة ملقى تمر به الملائكة، وتقول: لأمر ما خلقت. وكان إبليس يدخل من فيه، ويخرج من دبره؛ فلذلك صار ما في جوف ابن آدم منتناً خبيثاً.
وفي المروج: تركه حتى أنتن وتغير أربعين سنة، وذلك قوله: " من حمإ مسنون " الحجر يقول: منتن.
وصوره ثم تركه بلا روح من صلصال كالفخار حتى أتى عليه مائة وعشرون سنة، وقيل: أربعون سنة، وهي قوله تعالى: " هَلْ أَتَى عَلَى الإِنَسنِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمّ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً " الإنسان؛ فكانت الملائكة تمر به فزعين منه، وكان أشدهم فزعاً إبليس، كان يمر به فيضربه برجله فيطهر له صوت صلصلة كظهوره من الفخار، ويدخل من فيه ويخرج من دبره، ويقول: لأمر ما خلقت، ثم نفخ فيه الروح يوم الجمعة السادس من نيسان، قال كعب: إن روح آدم ليست كأرواح الملائكة ولا غيرها من الأرواح، فضلها الله تعالى بقوله: " فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَجِدِينَ " الحجر فأمر روحه أن يغمسها في جميع الأنوار، ثم أمرها أن تدخل في جسد آدم من أنفه، فقالت: مكان ضيق فنوديت: ادخلي كرهاً واخرجي كرهاً. فدخلت في منخريه، ثم ارتفعت في خياشيمه، ووصلت إلى دماغه، وماجت في رأسه؛ فأبصر وسمع وشم وتنفس، وصار بين عينيه كالغرة البيضاء يتلألأ، فهو نور رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: دخلت من اليافوخ إلى عينيه، ففتحها، وجعل ينظر لنفسه حياً، فرأى في سرادق العرش مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. ولم يقدر على الكلام، فصارت الروح إلى أذنيه فسمع تسبيح الملائكة. ثم جعلت تمر في جسده ودماغه والملائكة تنظر إليه، وإن الروح انفتلت نازلة إلى عنقه، ثم إلى صدره وجوفه، وتفرقت في جميع أعضائه وعصبه وعروقه، فأمر آدم على رأسه، ووجهه فعطس.
وقيل: إن الروح لما وصلت إلى الخياشيم عطس.
فلما لحقت اللسان، قال بلغة عربية فصيحة، وهي لغة أهل الجن : الحمد لله، فناداه الرب: يرحمك الله ربك يا أبا محمد؛ لهذا خلقتك، وهذا لك ولولدك، ولكل من قال قولك.
ولم تزل الروح تجري في جسده إلى أن وصلت ركبتيه، فاستعجل ليقوم فسقط، فقال تعالى: " وَكَانَ الإِنَسنُ عَجُولاً " الإسراء ولما بلغت الساقين والقدمين، استوى جالساً وقام على قدميه في يوم الجمعة عند زوال الشمس، فنظرت الملائكة إليه كأنه الفضة البيضاء، فسقطت كلها سجوداً كما أمرهم الله تعالى، إلا إبليس فأبى أن يكون مع الساجدين، فقال الله تعالى: ما منعك أن تسجد لآدم، فعصيتني وكنت لي طائعاً تنكر على الجن العصيان، وأنت تجتهد في عبادتي، وسألتني أرفعك إلى سماواتي، وأبحتك الولوج من سماء إلى سماء، وأنزلتك مع الملائكة إلى الأرض حتى أخلوا الجن الذين أنت منهم، فما منعك ألا تكون مع الساجدين كما أمرتك؟! وخفت أن تكون دون آدم في الفضل؛ فرجعت إلى أصلك الأول، وعصيت كقومك، ونقضت عهدي وميثاقي؛ فبعداً لك وسحقاً، فقال إبليس: " أَنَاْ خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ " الأعراف والنار خير من الطين، وأنا كنت أطؤه وهو تراب، وأنا عبدتك قبله، فقال له: " فَاخْرُجْ مِنْهَا " الحجر يعني: من السموات، أو من الرحمة، أو الجنة " فَإِنَّكَ رَجِيمٌ " الحجر.(1/10)
ولما قام آدم، أمره الله تعالى أن يمضي إلى الملائكة، فيقول لهم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ففعل. وكان من ردهم عليه: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فقال الله تعالى: هذه تحيتك وتحية ولدك إلى يوم القيامة، وهي تحية أهل الجنة، ثم قال الله تعالى: أنتم قلتم قبل أن أنفخ فيه الروح: لم نر خلقاً أكرم على الله ولا أعلم منا، فأنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، بعد أن كشف عن ملكوته؛ لتنظر الملائكة وآدم إلى ما في السموات والأرض وما بينهما، وأذن لأمم البحر، فطفت فوق الماء، فقالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا، فأبان الله فضل آدم على جميع خلقه بما خصه من العلم بمعاني الأسماء.
قيل: علمه جميع خلقه.
وقيل: علمه جميع الأسماء والصناعات وعمارة الأرض والأطعمة والأدوية واستخراج المعادن وغرس الأشجار ومنافعها، وجميع ما يتعلق بعمارة الدين والدنيا.
وقيل: علمه أسماء الأشياء كلها، ما خلق وما لم يخلق بجميع اللغات التي يتكلم بها ولده بعده؛ فأخذ عنه ولده اللغات، فلما تفرقوا، تكلم كل قوم بلسان ألفوه، وتطاول الزمان على ما خالف ذلك، فنسوه.
وسئل الصادق - رضي الله عنه - عن قوله تعالى: " وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا " البقرة، فقال: الأرضين والجبال والشعاب والأودية، ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط مما علمه.
وقيل: علمه ألقاب الأشياء وخواصها، وهو أن الفرس يصلح لماذا؟ والحمار لماذا؟ إلى غير ذلك وهذا أبلغ؛ لأن معاني الأشياء لا تتغير بتغير الأزمان بخلاف الألقاب.
ثم اختلف في تعليمه: فقيل: أودع قلبه معرفتها، وفتق لسانه بها، فكان يتكلم بها، وكان ذلك معجزاً له - عليه السلام - ناقضاً للعادة، فقال: يا آدم، أنبئهم بأسمائهم؛ فعن ابن عباس: أنه تكلم بسبعين لساناً أحسنها العربية. ثم أمر الملائكة لتحمله على أكتافها؛ ليكون عالياً عليها، ويقولون: قدوس قدوس، واصطفت الملائكة عشرين ألف صف، وأعطى آدم من الصوت ما بلغهم، ووضع له منبر الكرامة، وعليه ثياب من السندس الأخضر، وعليه ضفيرتان مرصعتان بالجوهر محشوتان مسكاً وعنبراً من فرقه إلى قدميه، على رأسه تاج من الذهب له أربعة أركان في كل ركن درة يغلب ضوءها الشمس، وفي أصابعه خواتم الكرامة، فانتصب قائماً وسلم، فأجابته الملائكة، فصار ذلك سنة. ثم خطب فقال: الحمد لله الذي لم يزل، فصار سنة أيضاً. ثم ذكر علم السموات والأرضين وما بينهما بعد أن أثنى على الله بما هو أهله، فجعل يخبرهم باسم كل شيء من البر والبحر حتى الذرة والبعوضة، فتعجبت الملائكة من علمه وسبحت وقدست، فقال الله تعالى: " أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إنّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ " البقرة ثم نزل من منبره وقد زاده الله من نوره أضعافاً؛ وفي ذلك دلالة على ارتفاع قدر آدم عليهم.
وعن أبي عبد الله أنه قال: سجدت الملائكة لآدم، ووضعوا جباههم على الأرض وعنه أنه لما أمر إبليس بالسجود، فقال: يا رب، وعزتك، إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنك عبادة ما عبدك أحط قط مثلها؛ فقال له الله تعالى: إني أحب أن أطاع من حيث أريد. وفي المروج. قال: يا رب، أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين، والنار أشرف من الطين، وأنا الذي كنت متخلفاً في الأرض، وأنا الملبس بالريش والموشح بالنور والمتوج بالكرامة وأنا الذي عبدتك في سماءك وأرضك فقال له: " اخرُج مِنْهَا... " الآية الأعراف فسأله المهلة إلى يوم يبعثون.
قال بعضهم: فعند ذلك، تغيرت خلقته، ونظرت الملائكة إلى سوء منظره، فوثبت عليه بحرابها يلعنونه ويقولون: رجيم رجيم، ملعون ملعون. فأول من طعنه جبريل ثم الملائكة من جميع النواحي، وهو هارب بين أيديهم حتى ألقوه في البحر المسجور.
واضطربت الملائكة، وارتجت السموات من جراءات إبليس في مخالفة أمر الله تعالى، وقد كان السجود لله والطاعة لآدم، ولكن ظن لعنه الله أن التفاضل بالأصول؛ فأخطأ في القياس. على أن الطين الذي خلق منه آدم أنور من النار، والنار من الشجر، والشجر من الطين، فغضب عليه، فسأله الإنظار، فأجابه.
وسئل العالم عن السبب في إجابته فقال: إنه لما أهبط إلى الأرض يحكم فيها، فغير وبدل، غضب عليه، فسجد له سجدة أربعة آلاف سنة، فجعل الله تلك السجدة سبباً للإجابة في النظرة إلى يوم الوقت المعلوم.(1/11)
ثم إن الله مسح ظهر آدم، فأخرج ذريته كهيئة الذر بيضاء وسوداء، ذكوراً وإناثاً، تاماً وناقصاً، صحيحاً وسقيماً على ما هو خالقها. ثم قال له: هذه ذريتك، فقال: يا رب، ألا سويت بينهم وعافيت الجميع؟ فقال: إني أحب أن أشكر، وأنا أعلم بخلقي، فنظر آدم إلى طائفة من ذريته تتلألأ وجوههم، فقال: يا رب، من هؤلاء الذين علت أنوارهم على غيرهم؟ فقال: هؤلاء الأنبياء من ذريتك، فقال: يا رب، كم عددهم؟ قال: مائة ألف نبي، وأربعة وعشرون ألف نبي، منهم ثلاثمائة وخمسة عشر مرسلون، أنت أولهم، ومحمد ابنك حبيبي آخرهم، وهو صاحب النور العظيم الذي في أسارير وجهك، وهو خاتم الأنبياء، وأشرفهم شريعة، وأفضلهم أمة، ولولاه ما خلقتك ولا خلقت جنة ولا ناراً ولا أرضاً ولا سماءً، فأمن آدم، فقال الله تعالى: قد زدتك فضلاً وكرامة وكنيتك به، أنت أبو محمد، فاعرف منزلته مني، وإذا أردت حاجة، فاسألني بحقه أقضها لك وهو أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع، وأول قارع لأبواب الجنة، وأول من يدخلها، وقد شرفتك به، وهو النور الذي في أسارير وجهك ينتقل منك إلى زوجك حواء، فإذا رأيته انتقل، فاعلم أني نقلته من ظهرك، وسأنقله من بطن إلى ظهر، ومن ظهر إلى بطن، إلى أن يأتي زمانه، ولا أنقله إلا في الأصلاب الزكية والأرحام الطاهرة، فإذا رأيته انتقل إلى ولدك، فخذ عليه العهد والميثاق ألا يضعه إلا في أطهر النسوان، وأنا المتولي لذلك إلى حين مولده. ثم أمر الله ذلك الذر أن يقوموا عن يمين آدم وشماله، فقال الله: اختر إحدى الطائفتين. فاختار اليمين، وهم الأنبياء والمرسلون لما رأى من أنوارهم، وأخبره بأسمائهم نبياً نبياً ورسولاً رسولاً، وعرفه أعمالهم وشرائعهم وما يلقون من المهم، ثم قال الله تعالى: هؤلاء ذريتك آخذ ميثاقهم أن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئاً، وعلي أرزاقهم، قال: نعم، فقال الله تعالى: من ربكم؟ فقالوا إلهاماً: أنت ربنا وخالقنا فقال الله: يا آدم اشهد، واشهدوا يا ملائكتي، وأشهد أنا وكفي بي شهيداً؛ لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. ثم ردهم إلى ظهر آدم، وقد أخذ عليهم العهد والميثاق، ثم قال الله تعالى: يا آدم، قد كشف عن بصرك، فأريتك جميع خلقي، ولم يخف عليك شيء، فهل رأيت لك فيهم شبيهاً؟ فقال: لا يا رب، لقد فضلتني فلك الحمد كثيراً، فاجعل لي زوجاً مني أسكن إليها وآنس بها ونسبحك ونقدسك جميعاً، فقال تعالى: إني فاعل ذلك، وتنسلان خلقاً خلقته في ظهرك، ولي في ذلك تدبير، وأنا على كل شيء قدير.
فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : لما خرج إبليس من الجنة، بقي آدم وحده فاستوحش، فخلقت له حواء ليسكن إليها؛ وذلك أن الله تعالى ألقى عليه النوم، وذلك في أول نعسة نعس، فنام، فأخذ منه ضلعاً وخلق منه حواء، وهو أول ضلعه القصير الأيسر مما يلي قلبه، ثم أراه في منامه بقدرته كيف خلقها وهي أول رؤيا رآها، ثم انتبه فإذا عند رأسه امرأة جالسة أشبه به خلقاً ووجهاً إلا أنه أعظم في الطول والجسم والحسن والجمال، فقال الله تعالى: هذه مثلك ومن جنسك، وهي زوجك. فأنس بها وسكن إليها.
وفي حديث ابن عباس: فسألا من أنت؟ قالت: امرأة، قال: لم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي، فقالت الملائكة: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي، فعندها قال الله تعالى: " اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ " البقرة وسميت امرأة؛ لأنها خلقت من المرء، يعني: آدم، وسمى النساء نساء؛ لأنه لم يكن لآدم أنيس غير حواء.
وفي كتاب النبوة: خلق الله آدم من الطين، وخلق حواء من آدم، فهمة الرجال الماء والطين وهمة النساء الرجال.
وفي حديث بدء النسل، عن جعفر بن محمد، قيل: فإن أناساً يقولون: إن حواء خلقت من ضلعه الأيسر؟ فقال: تعالى الله عن ذلك ألم يكن لله من القدرة ما يخلق لآدم زودة من غير خلقه، ويبقى لمتكلم أهل الشيعة سبيلاً إلى قوله: إن آدم كان ينكح بعضه بعضاً، ثم ذكر نزول نزله ومنزله.
وقيل:: إن معنى كونها أخذت من ضلع آدم: أن المراد الضلع الحسابي؛ فإنها ضلع من أضلاع آدم؛ كما هو مقرر في علم الأوفاق، قال بعض المغاربة في كلامه على وفق زحل: هذا؛ فإن جملة أعداد حروف الوفق خمسة وأربعون هي مجموع قولك آدم؛ لأن كل ضلع منه، وكل ب ط د ز ه ج و ا ح(1/12)
شطر من أشطاره جملته خمسة عشر، وهو جملة اسم حواء، قال: وله مناسبة ظاهرة من حيث إن حواء خلقت من ضلع آدم، وقد ظهر مع هذا اسم حواء في الوفق في السطر الثالث، وهو واح بتقديم وتأخير.
وسمعت عن بعض علماء عصرنا: أن المراد بكونها أخذت من ضلعه هذا المعنى.
قلت: أذكر في هذا القول بيتاً في معناه وهو:
من كان آدم جملاً في سنّه ... هجرته حوّاء السّنين من الدّما
وهو مما يطارح به الأدباء، ففيه نوع رقة، يدريها من طبعه فيه دقة. انتهى وعن وهب: أن الله خلق حواء من فضل طينة آدم على صورته.
وفي رواية: أنها كانت في طول آدم وحسنه، ولها سبعمائة ضفيرة، مرصعة بالياقوت، محشوة بالمسك، وكانت متوجة على صورة آدم، غير أنها أرق منه جلداً، وأخفى صوتاً، وأدعج عيناً، وأملح ثغراً وألطف بناناً، وألين كفاً.
وروى أنه لما ابتدع له خلق حواء، وقد ألقى عليه السبات، جعلها في موضع النقرة التي بين وركيه؛ لكي تكون المرأة تبعاً للرجل، فأقبلت تتحرك، فانتبه لتحركها، فلما انتبه، نوديت أن تنحى عنه، فلما نظر إليها، نظر إلى خلق حسن يشبه صورته غير أنها أنثى، فكلمها وكلمته بلغته، فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا خلق خلقني الله تعالى كما ترى، فقال آدم عند ذلك: يا رب، ما هذا الخلق الحسن الذي قد آنسني قربه والنظر إليه؟ فقال الله تعالى: يا آدم، هذه أمتي حواء، فتحب أن تكون معك فتؤنسك وتحدثك، وتكون تابعة لأمرك؟ فقال: نعم يا رب، لك علي بذلك الحمد والشكر ما بقيت، قال: فاخطبها إلي؛ فإنها أنثى، وقد تصلح لك زوجة للشهوة، وألقى الله تعالى عليه الشهوة، وقد علمه قبل ذلك المعرفة لكل شيء، فقال: يا رب، إني أخطبها إليك، فما رضاك لذلك؟ قال: مرضاتي أن تعلمها معالم ديني. قال: ذلك لك يا رب إن شئت ذلك لي، فقال: قد شئت ذلك، وقد زوجتكها فضمها إليك، فقال لها آدم: إلي فأقبلي، فقالت: بل أنت، فأمره الله تعالى إن يقوم إليها، فقام، ولولا ذلك، لكان النساء يقمن إلى الرجال.
وعن جعفر بن محمد: أنه فضل من طينة آدم فضلة، فخلق الله منها النخلة، فذلك إذا قطع رأسها، لم تنبت وتحتاج إلى اللقاح، وهي أول شيء اهتز على وجه الأرض.
وعن ابن عباس: بقي من طينة آدم شيء، فخلقه، فجاء منه الجراد.
وقيل: إن حواء خلقت من قبل أن يدخل آدم الجنة، ثم أدخلا معاً.
فعن كعب: أن الله خلق الميمون لآدم قبل خلق بألف عام من الكافور والمسك والزعفران. ومزج بماء الحيوان، وله عرفان من المرجان، وناصيته من الياقوت، وحوافره من الزبرجد، بسرج من زبرجد، ولجام من ياقوت، وله أجنحة من ألوان الجوهر، فاستوى على ظهره. وخلق لحواء ناقة استقرت عليها، وسار إلى الجنة وحواء من ورائه، ولم يبق فيها طائر ولا شجرة إلا وتثنى على آدم، وإذا في وسط الجنة سرير له سبعمائة قائمة، عليه فرش من السندس والإستبرق، وبين الفرش كثبان العنبر والمسك، فجلسا عليه، وكان آدم ينزل عن السرير، فيمشي وحواء خلفه تسحب ضفائرها، والملائكة تنثر عليهما من نثار الجنة حتى يرجعان.(1/13)
قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن سعيد: وألقى الله في قلب آدم محبة حواء، والشغف بها، فجعل يرد بصره عنها، وكان لونها كلون اللؤلؤة البيضاء الصافية، رقيقة البشرة، رخيمة الكلام، لينة الأطراف، قد طهرت وقدست وكسيت نوراً وبهجةً وجمالاً ودلالاً وكمالاً، وتوجت وقرطت وسورت ودملجت وكللت غدائرها باللؤلؤ، وكان الله تعالى قد كساها وكسا آدم من قبلها عوضاً من الجلد لباساً من الظفر الذي بقي في أطراف الأصابع، أبقاه الله له زينة على أطراف أناملهم يتوارثونه عنه؛ فكان لباسهما حينئذ، وكان له نور ساطع؛ كاللؤلؤ الأبيض لا يتدنس ولا يبلى وكان آدم أجمل من حواء: طوله ستون ذراعاً، ووجهه كالدر الياقوت الأحمر، بشعر أسود أجعد على بياضه، وله عينان كحلاوان، وأنف أقنى، وفم أسنانه كالدر المنظوم، وشفتان حمراوتان، وبطن كبطن القباطي، وعرقه يفوح كالمسك، ولا يتغير منه ذلك على طول المدة إلى أن مات، وكان كلما ازداد إليها نظراً، ازداد لها محبة، فأوحى الله إليه: إني ما خلقتها منك إلا لك زوجاً وإلفاً، فأزوجكها بعهدي وميثاقي حتى أسكنكما جنتي ودار كرامتي، على أن تطيعاني ولا تخالفا أمري، فقال: يا رب، أنا فاعل ذلك، وممتثل أمرك وما تشرطه علي، فأمر الله جبريل أن يكون الخاطب، ورب العالمين الولي، والملائكة الشهود، فخطب جبريل، وزوج الله حواء بآدم، وقال له: هات صداق أمتي، قال: وما هو؟ قال: سبحني ألف تسبيحة على نفس واحد. فسبح خمسمائة وانقطع. فقال: هذا معجل الصداق، والخمسمائة مؤجلة؛ فلهذا جعل في المهر المعجل والمؤجل. فلما زوجه الله بها، أمر رضوان يزخرف الجنة لعرسه، وأن يوضع لآدم منبر من النور، فعلاه آدم وحواء إلى جانبه، وألبسهما من حلل الجنة وتوجهما، وأمر الخزنة أن تنثر عليهما اللؤلؤ والمسك، وأمر الملائكة بالتقاط نثار آدم تبركاً به، وأمر رضوان يخرج له فرساً من خيول الجنة، فأخرج له فرساً من الكافور له جناحان أخضران، منظومان بالدر والياقوت عليه سرج من الجنة ولجام من النور، فركبه، فلما استوى في ظهره جمح، وكان جمحه تسبيحاً وتقديساً، فألهم الله آدم أن قال: " سُبْحَنَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرِنِينَ " الزخرف، ثم أخرج لحواء ناقة من نوق الجنة من العنبر الأشهب، عليها هودج من اللؤلؤ، وقبة من الياقوت الأحمر، قد غشيت بالإستبرق، وخطامها وكورها من اللؤلؤ الرطب الأبيض، فلما استوت حواء في وسط القبة، أسبلت عليها الستور، وأمر الملائكة أن يزفوهما إلى الجنة، ويمشوا بين أيديهما ووراءهما وحولهما يهللون ويكبرون، فطافت الملائكة بفرس آدم وناقة حواء، وهما يخترقان صفوف الملائكة في طرق السموات، ولا يمرون بملأ إلا سلموا عليهما، ورحبوا بهما، وقالوا: هنيئاً لك يا آدم بما أعطاك وزوجك حواء، طوبى لك يا آدم وبعداً لإبليس عدوك، حتى انتهيا إلى باب الجنة أمر الله تعالى للملائكة أن يوقفهما حتى يأمرها وينهاه ويحذره عدوه، فأوقفوه، فمما قال: هذه جنتي أبحتك إياها، وجعلتها مسكناً لك ولزوجك: " وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تقرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّلِمِينَ " البقرة، وأمر الله بإبليس، فوقف بين يدي آدم، وقال له: " إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى " الآية طه احفظ وصيتي، وكن باقياً على عهدي وتكر معصيتي، وقد أبحتك الجنة كلها إلا هذه الشجرة، فإياك أن تقربها فتكون ظالماً لنفسك، ومتى أكلتها، خالفت أمري، وأخرجتك من جواري.
فقال آدم: قد سمعت ولا أعصى لك أمراً، ولا أقبل من عدوي صرفاً ولا نصراً. فأي شجرة هي حتى أعرفها وأتجنبها؟ فأمر الله رضوان، فأوقفه عليها، وقال له ولحواء: احذرا أن يغويكما عدوكما، فإنه حريص على إخراجكما من الجنة، فإياكما أن تطيعاه، فإن أكلتما بدت سوءاتكما، وغضب عليكما ربكما، فعرف آدم الشجرة، وعرف موضعها.
واختلف في الشجرة، فقيل: شجرة البطم، وهو القمح، وكانت الحبة منها كالكلوة من البعير أحلى من العسل وألين من الزبد، وهي الفوم بالعبرانية، وكان لون حبها كلون الثلج.
وقيل: إنها التينة.
وقيل: الكرمة.
وقيل: شجرة الخلد التي كانت الملائكة تأكل منها.
وقيل: شجرة الكافور.(1/14)
وعن ابن بابويه بإسناده يرفعه إلى عبد السلام بن صالح الهروي قال: قلت للرضا - عليه السلام - أخبرنا عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء - عليهما السلام - ما كانت، فقد اختلف الناس فيها؟ فقال: يا أبا الصلت، إنما الشجرة بالجنة تحمل أنواعاً، فكانت شجرة الحنطة، وفيها عنب وليست كشجر الدنيا.
وترجل آدم عن الفرس وحواء عن الناقة، وأقبلا يأكلان من ثمار الجنة، ويشربان من أنهارها ما أحبا لبنا أو ماءً أو خمراً، والأغصان تميل عليهما ليأخذا منها، فإذا أخذ أنبت الله موضع المأخوذ خيراً منه، ويأكلان من الطير ما أرادا مشوياً ومطبوخاً، وكلما أكلا عضواً، أنبت الله مكانه، فإذا اكتفيا، انتفض الطائر طيراً كما كان بإذن الله تعالى، فيرفرف بجناحه عليهما، ويقول بصوت مطرب: الحمد لله الذي جعلني طعاماً لأوليائه.
ثم يأتيهما غلمان مخلدون، فيضعون بين أيديهما موائد الدر والياقوت عليها الأطعمة والفواكه، ويحفون مجلسهما بالطيب والرياحين والأشربة فيأكلون ويشربون، والغلمان على رءوسهما بأكواب الذهب وأباريق الفضة وقوارير الياقوت فيها أنواع الأشربة، والدواب والطير وغير ذلك يسلمون عليهما ويهنئونهما بالنعيم، ويقولون: فضل الله آدم على جميع خلقه.
وكان الله ألبس آدم خاتماً من النور، وقال: هذا خاتم العز خلقته لك؛ فلا تنس فيه عهدي، وإن نسيته، خلعته عنك وألبسته من لا ينسى عهدي وأورثه خلافتي، فقال: يا رب، من هذا الذي تورثه خلافتك؟ فقال له: ولدك سليمان أجعله نبياً ملكاً على سائر ولدك وعلى سائر الجن، وكان في إصبع آدم له نور عظيم كالشمس، فلما نسى العهد، طار الخاتم من إصبعه حتى استجار بركن من أركان العرش، وقال: يا رب، هذا آدم رفضني، وأنت قد طهرتني، فقال له: استقر فلك الأمان؛ فكان هنالك حتى وهبه الله لسليمان، عليه السلام.
ولم يزل آدم في الجنة وحواء، وإبليس يتجسس عن أخبارهما، ويسأل كل من خرج من الجنة عنهما، ولا يقدر أن يدخلها؛ لأن خدامها كانت تطرده وتعلمه أن آدم وزودته مقيمان في نعيم الجنة، فكان يتقدم إلى باب الجنة فيقف على قدميه مسبلاً جناحيه يسبح، ربه ويقدسه بصوت شجي، ودواب الجنة وطيرها ووحشها تأنس بصوته، وتقف تسمع منه ويسألونه أن يسألهم حاجة.
وكان الطاوس رئيس طيور الجنة رأسه من درة بيضاء، وعيناه ياقوتتان صفراوان، وجناحاه من جوهر مختلف الألوان، تراصيعه وعنقه من لجين، قد كلل بالياقوت الأحمر، ورجلاه من جوهر مختلف الألوان في الصبغ والأنوار، ومنقاره من زبرجد أخضر، وكان إذا نشر ذنبه، وصفق بجناحيه، وغرد بصوته، يطرب كل من سمعه.
وكانت الحية سيدة دواب الجنة لها أربع قوائم سماوية البطن، خضراء الظهر، بيضاء العنق، حمراء الرأس، رقشاء الذوائب، لها بصيص ونور يتلألأ؛ فكانت هي والطاوس أكثر من اغتر بإبليس وافتتن بصوته وتسبيحه، وكان يقول لهما: عندي الاسم الأعظم، الذي لا يدعوا به أحد إلا أجيب، وإني خائف عليكما أن تخرجا من داركما هذه، فلو تعلمتماه ودعوتما الله به لأجاب دعاءكما! فقالا: أيها الملك، علمنا إياه لندعو به أن يخلدنا الله في الجنة، فقال: لا أعلمكما إلا أن تدخلاني الجنة من حيث لا يعلم رضوان ولا الخزنة والولدان، فقالا: ومن أين نقدر على ذلك؟ فقال للحية: تدخليني في وبرك، ويسترني الطاوس بجناحه؛ فتدخلاني ولا يشعر بكما أحد، وأعلمكما الاسم الأعظم، ففعلا معه ذلك حتى دخلا به، فلما دخلها نكص على عقبيه، وخرج عنهما، فلم يرياه. وقصد إبليس آدم فأغواه، وقد ورد هذا من طريق النبط.(1/15)
وقيل: إن إبليس كان يسأل دواب الجنة وطيرها أن يدخلوه ليكلم آدم؛ فلا يجيبونه، وكانت حواء قد أنست بالحية وأحبتها، وكانت الحية تجىء إليها في كل يوم تسلم عليها وتخرج إلى باب الجنة، فتقف هناك، وإن إبليس - لعنه الله - طلب من الطاوس الدخول، فقال له: لو أن الحية أخذتك في حنكها وبين وبرها، وأنا أسترك بجناحي، لبلغت مرادك، فهي ممن يأنس إليها آدم وحواء. فقال إبليس: إن فعلت لأشكرنك عمري كله. فأتى الطاوس إلى الحية، وكلمها، فقالت: أخاف أن أطرد من الجنة كما طرد هو وأكون في سخط الله، فقال لها: كلميه ليعلم أني كلمتك، فجاءت مع الطاوس إلى باب الجنة من حيث تنظر إلى إبليس وينظر إليها، فكلمها إبليس بتذلل ومسكنة، فرحمته لما رأت من بكائه، وقالت: أخاف أن أكون في سخط الله كأنت !! فقال لها: أنت لست مثلي؛ لأنك لم تؤمري بشيء فخالفت كما خالفت أنا أمره في السجود.
وإذا أدخلتني في وبر صدرك وحنكك، فأكلم آدم وحواء، وترديني إلى مكاني، فأجابته.
وكان الطاوس يحض الحية على أن تفعل، فأخذته في وبرها مختفياً وأوقفته، وانطلقت إليهما وقالت لهما: الطير والوحش والدواب بعثوني إليكما للتبرك بكما، فأقبل آدم وحواء نحو باب الجنة، فسبقتهما، ووقفت مع الطاوس وأخذت إبليس في صدرها والطاوس إلى جنبها يخفي إبليس، وأقبل آدم ووقف على باب الجنة، وأقبل إبليس يكلم آدم من حنك الحية وهما يظنان أنها هي التي تكلمهما، فقال إبليس - لعنه الله - : أليس الله أباح لكما الجنة تأكلان من ثمارها؟ قالا: بلى، إلا أنه نهانا عن شجرة واحدة، فقال: صدقتما، تلك شجرة الخلد والحياة، ومن أكل منها عرف الخير والشر وعاش أبداً لم يمت وخلد في الجنة، وما نهاكما إلا أن تكونا ملكين أن تكونا من الخالدين، فقالا وهما يظنان أنه الحية: أحقاً ما تقولين أيتها الحية؟ فقال إبليس: حقاً أقول، وكرر القسم بالله إنه لهما لمن الناصحين فقال آدم: كيف نأكل ما نهانا الله عنه، وأوعدنا إن أكلنا البعد عن جواره، وقد أباح لنا ما فيه الكفاية؛ فأقبل على حواء، وقد اشتغل آدم عن كلامه بالسلام على الطيور، وجعل إبليس يحلف لها ويقول: أقبلي مني وكلي وأطعمي آدم لتكونا مخلدين. وهي تظن أنها الحية، فأقبلت على آدم، وسألته أن يأكل، فقال: يا حواء، أنسيت عهد الله إليك وإلي في هذه الشجرة؟ فرجعت عن قولها، وكانت كلما ذكرت لآدم، زجرها فانصرفا، وحواء تود لو أن آدم طاوعها، فتجره إلى الشجرة فيأبى. فقال إبليس للحية: هل لك أن تعاوديني كرةً أخرى فأكلمهما؟ ففعلت، فلما دخلت به الجنة وقفت، فصفر صفيراً أطرب به أهل الجنة، ويسمع آدم وحواء، فامتلآ سروراً. فلما علم أنه أطربهما، ناح نياحةً أحزن بها آدم وحواء، فقالا له - وقد نسيا؛ " وَلَقَدَ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ " طه وقد خرج من صدر الحية: مالك بعد أن أطربت عدت إلى الحزن، والجنة لا حزن فيها ولا نياحة؟ فقال: صفرت وأطربت حين سمعت أنكما في السرور، ثم ذكرت أنكما تخرجان إلى دار الغموم، فنحت حزناً عليكما. فتنفس آدم - عليه السلام - الصعداء، فقال إبليس: الآن ظفرت به، وتركه ومضى، فاتبعته حواء مستوقفة له وقد طمع فيا بانفرادها عن آدم، فقالت: يا عبد الله، هل عندك حيلة في الخلود في الجنة؟ فقال: نعم، فأصغت إليه فقال: إنك ستخرجين إلى دار المذلة والتعب، وعندي لك أمان من ذلك: الشجرة التي نهيتما عنها، لو أكلتما منها لخلدتما أبداً، وكانت سمعت منه هذا الكلام وهو في صدر الحية مرة أخرى، فقالت: هذا هو الحق، وقد أعلمتني به الحية، فوافق كلامها كلامك وتمت عليها وسوسته، وصح عندها قوله، وقالت له: قدم نصيحتك إلى آدم كما قدمتها إلي، فقال: أخاف ألا يقبل مني، فقالت: أنا أعينك عليه، فوسوس إليه، أي: ألقى في قلبه النصيحة، فاستشار آدم حواء، فأشارت عليه بالأكل منها، ففر آدم، فكانت تلحقه وترده ليأكل منها، وجعل إبليس يأكل منها ويلتفت إليهما، فتقدم آدم إليه، وأقسم عليه أن يصدقه ما هذه الشجرة؟ فقال إبليس: لولا ما أقسمت علي، لما أعلمتك، هذه شجرة الخلد التي من أكل منها خلد في الجنة، فذاقا منها بأن تناولا شيئاً قليلاً من ثمرها على خوف شديد.
وقيل: إن حواء جنت وأكلت وأطعمت آدم.(1/16)
وقيل: قطعت ثلاثة فدميت مواضعها ودمعت، فقيل لها: يا حواء كما أدمعت الشجرة فكذلك تدمعين على مصائبك ولا تصبرين على البكاء، وكما أدميتيها كذلك تدمين. فعوقبت بالحيض في كل شهر.
فقال إبليس للحية: أخرجيني فقد بلغت مرادي. فأخرجته كما أدخلته إليها، والطاوس معها وهو يلومها، وإبليس واقف ينظر إليهما، ويسمع مشاجرتهما ويضحك فرحاً بما تم له على آدم وحواء، وكان الملعون علم أن من أكل منها بدت عورته ومن بدت عورته، أخرج من الجنة، فكلما أكلا تقلص عنهما لباسهما، وظهر لكل واحد منهما عورة صاحبه، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة حتى صار كالثوب.
وقيل: إن آدم استتر بورق التين، وحواء بورق الموز.
وفي كتاب الوصية استترا بورق الموز؛ فروى أن آدم تناول ورقتين، فضم طرفيهما، واتزر بإحداهما وارتدى بالأخرى، فعورة الرجل ما بين السرة والركبة. وخصفت حواء أوراقاً غطت بها جميع بدنها إلا وجهها ويديها؛ فصارت عورة المرأة جميع بدنها إلا الوجه والكفين.
وعن ابن عباس: ما ذاق آدم من تلك السنابل سنبلةً واحدة حتى طار التاج عن رأسه وعرى عن لباسه، وكذلك حواء نزعت خواتمها وزينتها وانتفضت ذوائبها من الجوهر، وصاح آدم صيحة فلم يبق أحد في الجنة إلا ناداه: يا عاصي يا عاصي، أهكذا كان العهد بينك وبين ربك؟! وانفضت عنه الأشجار ونادته: يا عاصي، وآدم ينادي: الأمان الأمان. وحواء تروم ستر نفسها بشعرها فلا تقدر، والنداء عليها: يا عاصية. فقعدت ووضعت رأسها على ركبتيها حتى لا يراها أحد. فأتى جبريل فأخذ بناصيته، فقال: أيها الملك ارفق بي، فقال: لا أرفق بعاص، فاضطرب آدم وارتعد حتى ذهب كلامه، ونوديت حواء: من فعل بك هذا؟ فقال: غرني عدوي، وما كنت أظن أحداً يحلف بك كاذباً، فقيل لها: اخرجي مغرورة، فقد جعلتك ناقصة العقل والدين والميراث، وجعلتك أسيرة أيام حياتك، وحرمتك الجمعة والجماعة والسلام والتحية، وقضيت عليك الطمث وجهد الحبل والولادة والطلق، ولتكوني أكثر حزناً وجزعاً وأقل صبراً. فلما خرجت إلى باب الجنة فإذا هي بآدم، فصاحت صيحة عظيمة: يا لها حسرة، وقالت: دعني يا جبريل أنظر إلى الجنة. وجعلت تلتفت بحسرة واكتئاب. ثم أتى بالطاوس مقطعاً ريشه من طعن الملائكة، وجبريل يقوله له: اخرج من الجنة أبداً، فإنك مشئوم أبداً. وكذلك الحية وقد صارت ممسوخةً ممنوعة من النطق، مشقوقة اللسان، والملائكة تقول لها: لا رحمك الله، ولا رحم الله من يرحمك. وبرز آدم إلى السموات، وحجبت حواء عنه فلم يرها.
وعن الحجر: أن آدم ولى هارباً حياء من الله وهو يقول: أهلكتني يا حواء وهلكت. فجلست حواء إلى الأرض، وتجللت بشعرها، ورفعت رأسها إلى العرش، فتوارث ذلك بناتها منها عند المصائب: يرفعن رءوسهن إلى السماء صارخات، ونكس آدم رأسه حياءً من ربه هارباً في الجنة، فتوارث ذلك منه بنوه إذا أصاب أحداً مصيبة، نكس رأسه إلى الأرض، وربما بحثها بأصبعيه، فأتاه النداء من الجهات: ألست فاراً مني يا آدم؟ فقال: يا رب، وأين أفر منك؟ وإن لم تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين.
ولما مر آدم في الجنة يعدو، علقت شجرة من الجنة بشعره فأوقفته وكلمته في رأسه، فلما خرج من الجنة أخرجت تلك الشجرة معه. قيل: إنها شجرة العليق؛ سميت بذلك؛ لأنها تعلقت بآدم؛ فهي لا تنبت إلا في السباخ، ولم ينتفع منها بشيء.
وهذه الجنة جنة من جنات السماء لا جنة الخلد؛ لأن تلك لا ينقطع أكلها، ولا تكليف فيها.
وعن جعفر بن محمد: إن الجنة التي أخرج منها آدم جنة من جنات الدنيا، تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنات الخلد لم يخرج منها أبداً.(1/17)
وقيل: هي الأرض، وقوله: " اهْبِطُواْ " البقرة لا يدل على كونها في السماء؛ كقوله تعالى: " اهْبطُواْ مِصْراً " البقرة فقال الله تعالى لآدم وحواء " أَلَم. أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ " الأعراف قال آدم: يا رب، حواء أطعمتني، قالت حواء: يا رب، الحية قالت: إنها شجرة الخلد، قال الله للحية: لم قلت ذلك؟ قالت: يا رب، بل إبليس قال لهما، قال الله تعالى: " اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فيِ الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَعٌ إِلَى حِينٍ " البقرة فلهذا العداوة بينهم إلى يوم القيامة، وفرق بين العداوتين؛ فإن عداوة آدم إيمان وعداوة إبليس عصيان؛ فالعداوة ناشئة بين الذريتين وإبليس خفير الحية، وابن آدم يروم قتلها ليخفر ذمته، والحية دائبة تريد أن تلسعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوا الحية حيث رأيتموها، وأخفروا ذمة الشيطان.
ثم قال الله لآدم: يا آدم، ما أسرع ما نسيت عهدي، اخرج من جواري؛ فلا يجاورني من عصاني، فأن آدم أنة وزفر زفرة كاد أن يموت أسفاً. وأمر الله تعالى جبريل أن يأخذ بعضدي آدم ويسوقه، وحواء خلفه لها زفير وشهيق، فأخذ بيده ليخرجه، فقال: اللهم، بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين تب علي، فأوحى الله إليه: اهبط إلى الأرض حتى أتوب عليك فيها. فهبط وأهبط معه من الجنة بذر كل شيء من الثمرات، فلما استوى على الأرض، مد بصره، فرأى إبليس قد سبقه إلى الأرض.
وبإسنادنا عن ابن بابويه يرفعه إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أكل آدم من الشجرة، رفع رأسه إلى السماء، فقال: أسألك بحق محمد إلا رحمتني، فأوحى الله إليه: ومن محمد؟ فقال: تبارك اسمك، لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك، فإذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس أحد أعظم عندك قدراً ممن جعلت اسمه مع اسمك، فأوحى الله إليه: يا آدم، إنه لآخر النبيين من ذريتك، فلولا محمد ما خلقتك.
وروى: أن آدم لما أهبط، لم يصعد إلى شجرة إلا صعد إبليس حياله شجرة مثلها، فرفع آدم يده وقال: يا رب، إنك تعلم أني لم أطقه، وأنا في جوارك، وقد أهبطته إلى الأرض معي، فلا طاقة لي به، فأوحى الله إلي: يا آدم، السيئة منك ومن ولدك سيئة، والحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة، قال: يا رب، زدني، فأوحى الله إليه: لا يأتي من ولدك بمثل الجبال من الذنوب تائباً منها إلا غفرت له، قال: يا رب، زدني، فأوحى الله إليه: أغفر الذنوب ولا أبالي، قال: حسبي، قال إبليس: قد حلت بيني وبينه ومنعتني منه، فأوحى الله إليه: لا يولد له ولد إلا ولد لك ولدان، قال: يا رب، زدني، فأوحى الله إليه: تجري مجرى الدم، قال: يا رب، زدني، فأوحى الله إليه: " يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَنُ إِلاَّ غُرُوراً " النساء قال: حسبي، فصار ضداً لآدم ولولده منذ ذلك اليوم، فأخرجهما وابتلاهما بالتكليف والمشقة وسلبهما ثياب الجنة؛ لأن إنعامه عليهما كان تفضلاً، فله منعه تشديداً للبلوى والامتحان، كما يفقر بعد الغنى، ويميت بعد الإحياء، ويسقم بعد الصحة، ثم قال الله تعالى للحية: أنت التي خفرك عدوي؛ فإن آدم وبنيه يخفرون ذمته فيك حيث وجدوك ولا ينفعك إبليس شيئاً، ثم مسح قوائمها وقال لها: قد أذهبت جمالك وجعلت رزقك في التراب، قالت: لا بل أمشي على بطني كالحوت في الماء، فقال الله تعالى: وتتكلمين أيضاً؟! فشق لسانها وأخرسها عن الكلام فهي تسمع وتبصر ولا تقدر على الكلام، وليس شيء من البهائم والدواب إلا يكلم بعضه بعضاً إلا الحية.
وقال للطاوس: أما أنت فكنت أحسن الطيور، فلأزيلن جمالك، ولأجعلنك لا تطير، فمسح جماله، وأزال إكليله وشقق رجليه، وأزال حلته، وحسن نغمته، فإذا نظر إلى رجليه يصيح أسفاً.
وأنزل الله تعالى آدم بالهند على جزيرة سرنديب على جبل الرهون، وعليه الورق الذي خصفه فيبس فذرته الريح في بلاد الهند، فيقال: إن علة الطيب بتلك البلاد من ذلك الورق؛ ولذلك خصت تلك البلاد بالعود والقرنفل وسائر أنواع الطيب، وكذلك الجبل لمعت عليه اليواقيت؛ فكان منه الماس، وفي بحره أنواع الجواهر.(1/18)
وقيل: أهبط على جبل يقال له: واسم يشرف على واد يقال له: سرنديب.
وعن جعفر بن محمد: أهبط على الصفا، وحواء على المروة، وكانت امتشطت حواء في الجنة، فلما صارت إلى الأرض، حلت ضفيرتها فانتثر منها العطر الذي كانت امتشطت به في الجنة فطارت به الريح فألقت أكثره في الهند؛ فلذلك صار العطر بالهند.
وفي العلل: أنها حلت عقيصتها، فأرسل الله على ما كان فيها من الطيب ريحاً تهب به في المشرق والمغرب.
وفي رواية: أن الصفا سمى بذلك؛ لأن المصطفى هبط عليه، وسميت المروة؛ لأن المرأة هبطت عليه، وهما جبلان عن يميني الكعبة وشمالها.
وعن وهب: أهبط آدم في على جبل في شرقي أرض الهند يقال له: واسم، وأهبط حواء بجدة؛ وإنما سميت جدة، لأن جبريل قال لهما: تفارقتما جداً، وأهبط إبليس بميسان، وأهبطت الحية بأصفهان والطاوس ببراري عدن، وجعل بعضهم عدواً لبعض إلى يوم القيامة.
وعن كعب: أهبط آدم بالهند على جبل يقال له: نود، وحواء بجدة، وإبليس برستاق ميسان، والحية بأصفهان، والطاوس بالبحر، ثم أمره الله تعالى أن يسير إلى مكة، فطوى له الأرض، فصار على كل مفازة يمر بها خطوة، ولم يقع قدمه في شيء من الأرض إلا صار عمراناً، وكان جبريل يأتيهما بأرزاقهما من الجنة، ثم احتبس الرزق عنهما فاشتد جوعهما، فنزلا إلى الوادي، فالتقيا وأكلا من ثمر الأراك، وروى: من الحنطة والطحين والعجين والخبز، وأخرج معه - حين خرج من الجنة صرة من الحنطة بعد أن استأذن ربه أن يتزود منها، أي: من الجنة، فقال له: خذ من الشجرة التي أكلتما منها؛ فهي غذاؤكما وغذاء نسلكما إلى يوم القيامة كما عصيتماني، فأخذ الصرة وثلاثين قضيباً من الشجرة مودعة أصناف الثمار من شجر الجنة منها عشرة لها قشر، وهي: الجوز، واللوز، والبندق، والفستق، والخشخاش، والسايلوط، والنارنج، والموز، والبلوط، والرمان، وعشرة ذات نوى، وهي: الخوخ، والمشمش والإجاص، والرطب، والعبير، أو النبق والزعرور، والعناب والمقل، والقراصيا، ومنها عشرة لا قشر لها، وهي: التفاح، والسفرجل، والعنب، والكمثرى، والتين، والتوت، والأترج، والقثاء، والخيار والبطيخ.
وعن وهب: أول ما علم بهبوط آدم النسر فألفه وبكى معه، وكان على ساحل البحر ينتظر حوتاً ليؤنسه، فلما ظهر الحوت من الماء أخبره النسر أنه رأى خلقاً عظيماً يقوم ويقعد ويجيء ويذهب، فقال الحوت: إن كان ما تقول حقاً فقد جاء ما ليس منه مفر، لا في البر ولا في البحر.
وفي رواية: أنه قال: يستخرجني من بحري، ويستخرجك من برك.
فأخرج آدم من الجنة في آخر الساعة الثانية عشرة من يوم الجمعة، وأنزل إلى الأرض، في أول ساعة من ليلة السبت، فكان مقامه في الجنة منذ دخلها إلى أن أخرجه منها ساعة واحدة من ساعات اليوم الذي مقداره ألف سنة، مقدار تلك الساعة من سني الدنيا ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، وبقي مصوراً طيناً فخاراً صلصالاً على باب الجنة خمس ساعات إلى أن نفخ فيه الروح، وأهبط على الجبل عند غروب الشمس من يوم الجمعة وأول ساعة من ليلة السبت، وألقى الله السبات على كل حي تلك الليلة إلا الملائكة؛ فإنها لا تنام، فبقي آدم على الجبل حائراً منفرداً ينظر يميناً وشمالاً لا يرى شيئاً إلا السماء والنجوم وما كان أبصرها، فرأى وحشة وظلام الأفق، وكان أول ليلة من نيسان، فبكى بكاء شديداً حتى أصبح صباح السبت، وجاء نور النهار، فسبح الله وكبره، وكذلك حواء، وقالا: هذا من النور الذي نعرفه في الجنة إلا أنه ليس بذلك، ولما طلعت الشمس بحرها، خافا أن يكون عذاباً فازداد بكاؤهما، فأعلمهما جبريل أن هذه الشمس، وأنه لا ضرورة فيها، فسكنا مما كانا فيه، ونظر آدم إلى الجبال والأودية والأشجار والأنهار فبكى وقال: أين هذا مما كنا فيه من الجنة؟! ولما طلع النهار، ألقت حواء الطيب والجواهر، ووضعت يديها على رأسها صارخة من الوحشة، فاتخذ ذلك بناتها سنة في المصائب، وإن آدم لولا تأخير أجله لمات خوفاً من الوحشة، فأوحى الله إلى جبريل أن قل له: هذا كله بخطيئتكما؛ إذ لم تطيعا أمري بعد أن حذرتكما من عدوكما، وسأجمع بينك وبين زوجك، فتب إلي وادعني واستغفرني، أستجب لك وأغفر لك وأنا الغفور الرحيم، فأعلمه جبريل، وصعد إلى السماء، فقال: يا جبريل، أتتركني فريداً وحيداً؟ فقال له: بذلك أمرني ربي.(1/19)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم هبط إلى الأرض مسوداً، فضجت الملائكة إلى الله تعالى، فأمره الله تعالى أن يصوم الأيام البيض، فلما صام الثالث عشر ذهب ثلث السواد، فلما صام الرابع عشر ذهب ثلثاه، فلما صام الخامس عشر ابيض كله، ثم ناداه مناد: يا آدم، هذه الأيام لك ولولدك، من صامها في كل شهر فكأنما صار الدهر.
وروى أن جبريل قال: يا آدم، حياك الله وبياك، فقال: أما حياك فأعرفه، فما بياك؟ قال: أضحكك، فسجد آدم ورفع رأسه، وقال: رب زدني جمالاً، فأصبح وله لحية سوداء كالحمم، فضرب بيده إليها وقال: يا رب ما هذه؟ فقال: هذه اللحية زينتك بها وذكران ولدك إلى يوم القيامة.
قال ابن بابويه في العلل: وهذا الخبر صحيح.
وفي قوله تعالى: " فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبّهِ كَلِمَتٍ فَتابَ عَلَيْهِ " البقرة قال الحائني في الحقيبة: فقد روينا بإسنادنا المتقدم، عن ابن بابويه قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر قال: الكلمات التي تلقاهن آدم من ربه، فتاب عليه قال: اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين.
ومن كتاب القضايا في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رواية محمد بن زريق، عن سلمة ابن الوضاح الأسواني، عن محمد بن خلاد الكوفي، عن عطية، عن وهب، عن جعفر بن محمد، عن علي، عن أبيه، عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصية... ومر فيها إلى أن قال: قال علي: أرأيت قول الله في كتابه: " فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبّهِ كَلِمَتِ " البقرة ما تلك الكلمات؟ قال: يا علي، إن الله تبارك وتعالى أهبط أدم بالهند، وحواء بجدة، والملعون إبليس بميسان، والحية بأصبهان، ولم يكن في الجنة شيء أحسن من الحية، وكانت من دواب الجنة، وكان لها خلق كخلق البعير، وقوائم كقوائمه، وعنق كعنقه، فأتى إبليس فقال: أيتها الحية، احمليني على ظهرك حتى تدخليني الجنة، فقالت: إنه لا ينبغي لأحد أن يركبني إلى يوم القيامة، قال: إني أتمثل ريحاً فأدخل في شدقك ولا تحمليني، ففعلت، فلما دخل الجنة، آغوى آدم ونزعه. فغضب الله على الحية، فقطع قوائمها، وجعلها تمشي على بطنها، وجعل رزقها في التراب، وقال: لا يرحم الله من يرحمك، وغضب على الطاوس، ولم يكن في الجنة أحسن من الحية والطاوس، فقبح الله من الطاوس رجليه؛ لأنه هو الذي دل إبليس على الشجرة وأخبره بها، فأقام آدم بالهند مائة سنة واضعاً يده على أم رأسه ينوح على نفسه بالعبرانية، فبعث الله جبريل فقال له: يا آدم، إن الرب يقرئك السلام، ويقول: أليس أنا الذي خلقتك بيدي، ونفخت فيك من روحي، وأسجدت لك ملائكتي، وأسكنتك جنتي، وزوجتك حواء أمتي، وحذرتك عدوي، فعصيتني وأطعت عدوي؟! فما هذا البكاء، وأنا أعلم ما بكيت له؟ فقال: يا جبريل، كيف لا أبكي وقد أخرجت من جوار ربي إلى دار البلاء، ودار السغب والنصب؟! قال جبريل: يا آدم، قل هذه الكلمات، قال: يا جبريل، يا حبيبي، وما أقول؟ قال: قل: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، عملت سوءاً وظلمت نفسي، فارحمني، إنك أنت أرحم الراحمين. سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، عملت سوءاً وظلمت نفسي، تب علي، إنك أنت التواب الرحيم.(1/20)
وكان آدم بالهند وحواء بجدة على شق البحر قائمة قد تمعط شعرها، وتلبد على وجهها، وقشفت من الشمس، فرفعت يديها إلى السماء داعية باكية حزينة على ما حل بها قائلة: إلهي، أمتك حواء متضرعة إليك ضعيفة حيرانة قد أحطت بها خطيئتها وأوبقها سوء فعلها. إلهي، وقد طالت علي وحشتي، وعظمت مصيبتي، وذلك كان لتفريطي وإضاعتي ما أمرتني به. وقد أخبرني بديع فطرتك آدم قريني الذي خلقتني منه؛ أن النور الذي في أسارير وجهه نور ولد من أولاده اسمه محمد، وبه كنيته بأبي محمد؛ أنك لا تسأل به إلا أجبت، وأنك من أجله خلقتني، وخلقت السموات والأرض، وبرأت البرايا، فبحقه عليك وبموضعه منك إلا ما رحمت ضعفي ولهفي، وتبت علي، وغفرت لي، وجمعت بيني وبين آدم صفيك حتى أراه، وأعلم ما هو فيه؛ فنك غفور رحيم. اللهم، إني عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي، وتب علي، واعصمني، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وأنت التواب الرحيم.
وعن ابن عباس: بكت حواء، فأنبت الله من دموعها القرنفل والأفاويه، وبقيت شاخصة ببصرها إلى السماء، ووضعت يديها على رأسها، فورث بناتها ذلك، وحملت الريح صوت آدم بالكلمات التي علمه إياها جبريل - عليه السلام - فاستبشرت، وقالت: كلمات لم أسمع بمثلها قد جعلها الله توبة. وارتفع دعاؤهما في وقت واحد، وخرقت أصواتهما الحجب حجاباً حجاباً، وكل ملأ من الملائكة دعا لهما من سماء إلى سماء إلى تحت العرش، فأجاب الله دعاءهما وأوحى إلى حواء: إني قد غفرت لك ولآدم خطيئتكما، وتبت عليكما، وأنا التواب الرحيم.
فتقدمي إلى مكة وصومي شهر رمضان كما صام آدم. فصامت، والملائكة في كل ليلة تأتيها بفطرها من الرطب.
وقيل: إن النخلة عندها في الحجاز نزلت، ومنها كان يحمل إلى آدم كل ليلة؛ فلهذا الحجاز بلد النخل. ولما تم شهر رمضان، قال آدم: كنت أنظر إلى ملائكتك يطوفون ببيت تحت عرشك، ويسبحون حوله، فآنس بهم، وقد اشتهيت أن لو كان في الأرض مثله أطوف به وأسجد حوله. فأوحى الله إليه: يا آدم، أنا الذي ألهمتك أن تقول ذلك، لما سبق في علمي من عمارة بيت في الأرض لك ولولدك، أظهر مكانه وأعظم ذكره، وشأنه، حيال ذلك البيت الذي رأيته تحت عرشي، أبوئ مكانه لولد من ولدك يبنيه ويرفع قواعده ويجعله حجاً لولدك إلى يوم القيامة، يأتون إليه من كل فج عميق، يريدونه وقد أثقلت الخطايا ظهورهم، فأغفر لهم كل خطيئة، فسر إليه أبوئك مكانه، فيعظم ذكره وشأنه، فمن يلوذ به صادقاً فهو ضيفي، فأنا أكرم الأكرمين.
فتأهب آدم للمسير، وأرسل الله إليه جبريل بعصا من آس الجنة يتوكأ عليها في مسيره، وتكون له عوناً على خطواته، فلما رآها آدم، بكى وقبلها ووضعها على عينيه ووجهه، وقال: يا جبريل، أترى ربي يعيدني إلى الجنة؟ فقال: يا آدم، ما تاب عليك إلا وهو رادك إليها، فلا تيأس من رحمة الله، فأخذ العصا بيده وشد عليه ما بقي من الورق، وقد نسفت الريح أكثره بالهند، وناداه الجبل: يا صفوة الله، كنت آنس بك، وأفتخر على جبال الأرض، فإلى أين ترحل عني؟ فقال آدم: بأمر ربي هبطت عليك، وبأمره ارتحلت عنك. فبكى الجبل بكاء شديداً لفراقه، فبارك فيه آدم وشرفه بنبات من أطيب الشجر وأكثرها منفعة.
وسار آدم، وجبريل يهديه الطريق، والعصا بيده يطوي المفاوز والقفار والبحار، فكانت بين الخطوة والخطوة قفراً سبسباً لا عمارة فيها، وفي مواضع عصاه بساتين حول تلك المدينة، وهكذا يكون إلى يوم القيامة. ولم يزل يسير حتى وصل إلى جدة، فوجد أثر حواء؛ لأنه شم رائحة الورق الذي كان عليها، فسميت جدة لذلك. وقال: يا حواء، أتراني أنظر إليك نظرة؟! فنادته الجبال التي مرت عليها: تسير في أثرها تدركها، إن شاء الله تعالى. فسار إلى قرن، فأمره جبريل، فأحرم ولبى بلا مخيط تشبيهاً بالورق الذي كان عليه. وأنزل الله البيت المعمور، فأوقفه في الهواء بحيث يراه فيعرفه المهاة البيضاء التي هي موضع البيت، ومنها دحيت الأرض، وهي أم القرى.(1/21)
فأوحى الله إليه أن كن محرماً فطف بالبقعة المباركة، وصل عندها، واسألني جميع حاجتك، وأنا مجيب الدعاء. فأحرم ولبى ودخل الحرم ونظر إلى البيت المعمور في الهواء، وناداه الله: ائت الربوة الحمراء التي في وسط المهاة البيضاء، فطف حولها سبعاً، ثم صل عندها ركعتين؛ فهي بقعة بيتي الحرام. ففعل، وأنبع الله زمزم التي أخرجها بعد ذلك إسماعيل، فشرب وتوضأ وأنبت الله له الموز فكان يأكل منه. وأخبره بمكان حواء، فلما رأته جاءت إليه تبكي، فبشرها جبريل بالتوبة والمغفرة، فسجدت شكراً لله تعالى، وتطهرت وتوضأت، فأهلت بعمرة وأحرمت ولبت وأتى بها جبريل إلى جميع مواقفها، وجمع جبريل بينهما في جمع فسمى بذلك لاجتماعهما فيه.
وقيل: بل تعارفا بعرفات، فبادرت إليه وتعانقا وبكيا، ثم أخرجها من الحرم إلى الجبل، وأتى بظبي من البرية فذبحه وسلخه ودبغ جلده وكسا به حواء، فصارت السنة أن تكسو الرجال النساء.
وبقي آدم إلى أن استهل ذو الحجة، وأوقفه جبريل على أعلام الجبل، وعلمه مناسك الحج والوقوف بمنى والدعاء والطواف حول البيت إلى تمام الحجة الحرام، وأنزل الله إليه كبشاً فذبحه فسال دمه واضطرب، ففزع آدم وارتعد؛ لأنه لم يكن أبصر موت شيء، فضمه جبريل إلى صدره، وقال له: اطمئن؛ هذا قربان يقبل الله به نسكك، ويغفر ذنبك، ويكون سنة لبنيك من بعدك.
ثم أمره جبريل فسلخه، وأخرج كرشه، فنفض ما فيه وغسله جميعه، ثم أمره أن يعيد إلى جوف الكرش ما أخرجه منه، وأن يشق الجلد ويبسط على وجه الأرض والصوف مما يلي الأرض، وأن يضع الكبش المسلوخ على الجلد، وأن يقصر من شعر حواء، ففعل وأمر حواء، فأخذت المدية فحلقت رأسه، وجعل يدعو وحواء خلفه تؤمن على دعائه.
فلما فرغ من دعائه، جاءت نار بيضاء من السماء ليس لها دخان ولا لهب، فأخذت الكرش وجلده وصوفه وما كان فيه، ثم ارتفعت به إلى السماء، فأوحى الله إليه: إني قد قبلت قربانك وأعطيتك جميع ما سألت، وأنا ذو الفضل العظيم، وكذا أفعل بمن قصد بيتي بعدك في هذا الشهر، لا أقبل هذا في غيره؛ ليكون ميقاتاً معلوماً. فتمم حجه، ورمى الجمار غيظاً لإبليس ورجماً. فلما فرغ من حجه، أخذ جبريل بيد آدم وحواء وجاء بهما إلى ساحل البحر مما يلي جدة، وقال: إن الله أحل لك جميع ما في هذا البحر صغر ذلك أو كبر، أيها السمك أقبل بإذن الله، فجاءت أصنافاً، فقال له: خذ ما تريد، فأخذ سمكتين عظيمتين، وعلمه فجمع حطباً، وقرع المدية بالحجر، فخرج نار وشواهما. فقال آدم: الحمد لله الذي جعل لنا من هذا طعاماً. ثم انصرف إلى مكة وودعهما جبريل، وبقي آدم وحواء ليس لهما ثالث، فعادا إلى الحرم فسكناه.
وعن أبي نصر، عن إبراهيم بن محرز، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر قال: إن آدم نزل من الهند، فبنى الله تعالى البيت، وأمره أن يأتيه ويطوف به أسبوعاً، وقضى مناسكه كما أمر الله تعالى، فقبل توبته وغفر له، فقال آدم: يا رب، ولذريتي من بعدي، فقال: نعم، من آمن بي وبرسلي.
وفي رواية عبد الحميد بن أبي الديلم، عن جعفر بن محمد: أن آدم اعتزل حواء حتى فرق بينهما، فكان يأتيها نهاراً فيتحدث عندها، فإذا كان الليل خشى أن تغلبه نفسه فرجع، فمكث بذلك ما شاء الله، ثم أرسل إليه جبريل فقال: السلام عليك يا آدم الصابر لبليته، إن الله بعثني إليك؛ لأعلمك المناسك التي يريد الله أن يتوب عليك بها، وأخذ بيده منطلقاً حتى أتى مكان البيت، فنزل غمام من السماء، فقال له جبريل: يا آدم، خط برجلك حيث أظلك الغمام؛ فإنه قبلة لك ولآخر عقب من ذريتك. فخط آدم هناك برجله، فانطلق به إلى منى فأراه مسجد منى، فخط برجله بعد ما خط موضع المسجد الحرام وبعد ما خط البيت.
ثم انطلق إلى عرفات، فأقام على المعرف، ثم أمره عند غروب الشمس أن يقول: " رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا " الأعراف سبعاً؛ ليكون سنة في ولده معترفين بذنوبهم هناك.(1/22)
ثم أمره فأفاض من عرفات، ثم انتهى إلى جمع، فبات ليلته بها، وجمع فيها بين الصلاتين في وقت العتمة في ذلك الموضع إلى ثلث الليل، وأمره إذا طلعت الشمس أن يسأل الله التوبة والمغفرة سبع مرات؛ ليكون سنة في ولده، فمن لم يدرك عرفات، فأدرك جمعاً، فقد أدرك حجه وأفاض من جمع إلى منى ضحوة، فأمره أن يقرب إلى الله قرباناً؛ ليتقبل الله منه، ويكون سنة في ولده، فقرب قرباناً فتقبل منه قربانه، فأرسل الله ناراً من السماء فقبضته، فقال جبريل: يا آدم ارمه بسبع حصيات، ففعل، فذهب، فقال جبريل: إنك لن تراه بعد مقامك هذا أبداً. ثم انطلق به إلى البيت، فأمره أن يطوف سبع مرات، ففعل، فقال جبريل: حلت لك زوجتك.
وعن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله قال: لما أفاض آدم من عرفات، تلقته الملائكة، فقالت له: بر حجك يا آدم، أما إنا قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
وفي حديث وهب بن منبه اليماني؛ أن آدم بكى على الجنة مائتي سنة، فعزاه الله بخيمة من خيام الجنة، فوضعها له بمكة في موضع الكعبة، وتلك الخيمة من ياقوتة حمراء لها بابان شرقي وغربي، من ذهب، منظومتان، معلق فيها ثلاثة قناديل من تبر الجنة، تلتهب نوراً، وأنزل الركن وهو ياقوتة بيضاء من ياقوت الجنة، وكان كرسياً لآدم - عليه السلام - يجلس عليه، وإن خيمة آدم لم تزل في مكانها حتى قبضه الله تعالى، ثم رفعها الله إليه، وبنى بنو آدم موضعها بيتاً من الحجارة والطين، ولم يزل معموراً، وأعتق من الغرق ولم يغرقه الماء، حتى ابتعث الله إبراهيم.
وذكر وهب أن ابن عباس أخبره: أن جبريل وقف على النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه عصابة خضراء قد علاها الغبار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا الغبار؟ قال: إن الملائكة أمرت بزيارة البيت، فازدحمت؛ فهذا الغبار مما تثير الملائكة بأجنحتها.
وعن عبد الله بن سيابة، عن أبي عبد الله قال: طاف آدم بالبيت مائة عام ما ينظر إلى حواء، ولقد بكى على الجنة حتى صار على خديه مثل النهرين العظيمين من الدموع، ثم أتاه جبريل فقال: حياك الله وبياك. فلما أن قال: حياك، تبلج وجهه فرحا، ولما قال: بياك، ضحك. ومعنى بياك. أضحكك. قال: ولقد قام على باب الكعبة وثيابه جلود الإبل والبقر.
فقال: اللهم أقلني عثرتي، وأعدني إلى الدار التي أخرجتني منها، فقال الله جل ثناؤه: وقد أقلتك عثرتك، وسأعيدك إلى الدار التي أخرجتك منها.
وعن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله حين أهبط آدم من الجنة أمره أن يحرث بيده، فيأكل من كدها بعد نعيم الجنة، فجعل يحار ويبكي على الجنة مائتي سنة، ثم إنه سجد لله سجدة، فلم يرفع رأسه ثلاثة أيام بلياليها. فقيل: جاء جبريل بالحب على قدر بيض النعامة، أبيض من الزبد، وأحلى من العسل وبثورين من ثيران الفردوس وبالحديد، فقال: ما لي ولهذه الحبة التي أخرجتني من الجنة؟ فقال جبريل: هذا غذاؤك وغذاء أولادك في الدنيا. فعقد النير على أرقابهما، وحرث وبذر، ووقف من التعب، فقال له جبريل: اصبر إلى أوان حصاده، فاجمعه وادرسه وأذره وأخرج حقه يوم حصاده، ثم اطحنه واعجنه واخبزه وكله بعد عرق الجبين.
قال كعب: فما زال الحب زاكياً في عصر آدم وشيث إلى زمن إدريس، كفر الناس فنقص إلى مقدار بيض الدجاج. وفي زمن عيسى نقص مقدار بيض الحمام؛ لقولهم فيه وفي أمه ما قالوا، فلما قتلوا يحيى، عاد إلى قدر الحمص، ثم صار إلى ما ترى.
وعن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله قال: لما بكى آدم على الجنة، وكان رأسه في باب من أبواب الجنة، كان يتأذى بالشمس فحط من قامته، وقيل: إنه لما أهبط إلى الأرض، وأكل من الطعام، وجد في بطنه ثقلاً فشكى ذلك إلى جبريل، فقال: يا آدم فتنح، فنحاه، فأحدث وخرج منه الثقل.(1/23)
وفي كتاب المبتدا: أن الله أمر آدم أن يتخذ لحواء منزلاً خارج الحرم، لا تدخله إلى أوان الحج، ففعل، وكان الجن أعواناً لها رجالاً ونساء، بعد أن نفر آدم منهم؛ لأنهم قبيلة إبليس لعنه الله - فأمنه الله منهم؛ لأنهم المؤمنون إلى أن حملت حواء بشيث، وانتقل نور رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فأمر الله بدخولها إلى الحرم كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلل الله له الحيوان المحلل فيما يحتاج إليه من ركوب وغيره، وأعانه على ذلك الجن المؤمنون، فكان يشرب من ألبانها، ويكتسي من أصوافها، ويأكل من لحومها هو وحواء، وأنزل الله له سنداناً ومطرقة وكلبتين، وأمره أن يأخذ الحديد من المعادن، فيصنع آلة الحرث والحصاد وما يحتاج إليه، واستعان على ذلك بالجن، وكانت الأرض في ذلك الزمان أخرجت معادنها من سائر ما فيه منفعة، وأرسل إلى الرياح والسحاب، فارتاع آدم وحواء؛ لأنهما لم يكونا رأيا سحاباً ولا سمعا رعداً، ولا رأيا برقاً، فخافا غضب الله؛ لأنه حال بينهما وبين السماء والشمس، فأوحى الله إليه: إن هذه سحابة رحمتي؛ لتروي الأرض؛ لتحرث وتبذر فتنبت أضعافاً مضاعفة، فيكون منها غذاؤك أنت وولدك.
فلما نزل المطر، شربا واغتسلا، وأنزل الله إليه جميع أنواع الحبوب المأكولة، وعلمه كيف يحرث والجن تعاونه، فأخصبت الأرض وأينع الشجر في شهر واحد، وأقبلا يجنيان ويأكلان، وعلمته الجن كيف يدرس ويذري، فلما صفا حبه ذاقه فلم يجد له لذة، فقال لحواء: يوشك لهذا عمل غير هذا، فقط الجن حجارة، وعلموه كيف يطحن ويعجن ويخبز ويؤكل، فأوقد جبريل لهما ناراً في تنور من الحجارة، وأمره أن يأخذ من ملح الأرض وسمسها، ويخلط في العجين، فصارت في السنة في الطعام البداءة بالملح، فأكلا وشبعا، وقالا: كنا في الجنة في راحة من هذا، ما أردناه حضر بين أيدينا.
ثم وحدا في بطونهما ثقلاً ومغصاً شديداً فاضطربا حتى بكيا، فأتاهما جبريل، فقال لهما: امشيا إلى سيف البحر، وكان قريباً. وقال لآدم: اجلس بين حجرين، وأفض بقبلك ودبرك إلى الأرض؛ ليذهب ما تجده، ثم تطهر بالماء. وتفعل حواء كذلك. وانصرف عنهما. ففعل آدم، فتحرك بطنه وجاش ووجد ألماً شديداً حتى بكى، وانفتق قبله ودبره، وخرج البول والغائط، فوجد رائحة كريهة واستراح، وكذلك حواء. ثم تطهرا بالماء وانصرفا؛ فشكرا الله كثيراً وعجبا مما خرج منهما.
ولما كان من الغد، جاعا، فتركا الأكل خيفةً، فأوحى الله إلى آدم أنه أبرك الثمر وأنفعه وأكثره منفعة، فجمعه وعصره بمعاونة الجن، ثم أكل من الزيت، فوجد له لذة، فقال لحواء: إنه لطيب، ولكن بعد التعب والنصب الشديد.
وصنعت له الجن المغرفة والفأس والمنشار والذي لا بد منه لبني آدم، وعملن المرادن لحواء للغزل، فنسجت لآدم ثوباً من القطن، وكساء من الصوف، ثم لها مثل ذلك وفرشا وغطاء ودثاراً من البرد، فمكثا بذلك ما شاء الله، فإذا جاء أوان الحج، حجا، وأنزل الله على آدم الخيمة التي تقدم ذكرها في حديث وهب، ولم يزل هذا دأبه ما شاء الله تعالى.
وأما كيفية التناسل، ففي كتاب المبتدا: أن آدم لم يكن يطأ حواء منذ هبطا إلى الأرض ولا خطر بقلبه ولا بقلبها ذكره حياءً من الله تعالى، فأوحى الله إليه: يا آدم، ما هذا الجزع وأنت صفوتي وأبو المصطفى رسولي ومن قبله من الأنبياء، فأبشر بنعمتي وكرامتي أنت وحواء زوجتك أمتي فألم بها، فبشر حواء، فسجدت شكراً لله تعالى. وسأل آدم ربه عن دوي كان يسمعه في ظهره إذا سبح، وعن لمعان النور الذي في وجهه، فأخبره الله أن هذا نور ابنك محمد، والدوي الذي تسمعه تسبيحه، وإني سأنقله من صلبك إلى حواء، وأجعل نوره في وجهها حتى يخرج في وجه ولد لكما مبارك أجعل في ذريته الكتاب والحكمة، وأعطيه البطش والقوة، وأخصه بالشرف والفضيلة بعدك، فإذا انتقل إلى حواء، فلا يخفى عليك، فلا تلم بها عند حملها به حتى تلده طاهراً مطهراً، وإني أحفظه من الشياطين والمردة الملاعين. فإذا انتقل إليها، فمرها بدخول الحرم إجلالاً للنور الذي معها، فإذا وضعته وكبر فأبشر بالخير وسلني بحقه كل ما تريد، وزوجه أطهر النسوان، وخذ عليه العهد بحفظ هذا النور، وأن يأخذ على ولده كما أخذت أنا عليك، وأنا الحافظ له بعيني التي لا تنام.(1/24)
وكان آدم بعد هذا العهد لا يقرب حواء حتى تتطهر وتغتسل هي، وجاءها الحيض سبعة أيام، فإذا كان وقت الصلاة سبحت وكبرت، ولما انقطع اغتسلت، ثم باشر حواء فحملت منه، وبان وثقل عليها وتغير لونها، وانتفخ بطنها وتحرك الجنين، وسفران الجن حولها يقلن لها: هكذا الحبل، وستلدين كما ولدنا نحن.
فلما كان الشهر التاسع، أصابها من شدته ما لم يصب أنثى حتى يبست يديها ورجليها، ووقعت لا حركة بها، ونساء الجن يبكين رحمة لها، وآدم يدعو ويقول: يا رب، وعدك وعدك، يا من لا يخلف الميعاد. فأذن الله تعالى بخلاصها، وولدت ولدين ذكراً وأنثى، وسال لبنها، وأمر الله آدم أن يأمرها بقطع سررها، وسمت الذكر قابيل والأنثى إقليميا، وهما ينشآن في اليوم كالشهر، وفي الشهر كالسنة، وآدم منعزل عنها في مدة الرضاعه، فأوحى الله إليه: إني لم أحرم عليك زوجك في رضاعها؛ فهي حلال لك، وإنما نهيتك عن ذلك عندما ترى نور محمد قد انتقل إليها. أما في الحمل بغيره، فهي حلال، فلا تنعزل عنها. فبشرها بذلك وأراد الإلمام بها، فقالت: يا صفوة الله، ما تذكر ما قاسيته في مخاضي؟! فأوحى الله إليه: إن الذي قاسته أول مرة لا يصيبها مثله ولا عشر عشره، وإنما وقع ذلك أول مرة لتخفف عنها الذنوب التي تقدمت لها في معاونتها إبليس على الأكل من الشجرة، ففرحت وطابت بذلك نفسها.
وعن عمارة بن زيد الأنصاري: أن آدم واقع حواء، فحملت بأول بطن كان بعد مائة سنة، ثم واقعها فحملت - أيضاً - بهابيل وتؤمته ليوثا، فلم تلق فيهما ما لقيت في أول بطن، فأرضعتهما وفطمتهما، ثم حملت ببطن ثالث، فولدت توءمين، وأولادها يكبرون ويمشون بين يديها، والنور لا ينتقل عن وجه آدم، وحواء تلد في كل تسعة أشهر ولدين ذكراً وأنثى، فسمى الذكر: قاين، وقيل: قابيل، وسمى الأنثى: ليوذا، ثم عاود الغشيان، فاشتملت على ذكر وأنثى، فسمى الذكر: هابيل، والأنثى إقليميا، فزوج أخت قاين لهابيل، وأخت هابيل لقاين إلى أن كثر النسل، وولدت حواء لآدم خمسمائة بطن بألف ذكر وأنثى.
وبإسنادنا المتقدم، عن ابن بابويه، عن أبيه، عن محمد بن يحيى العطار، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن محمد بن أورمة، عن النوفلي، عن علي بن داود اليعقوبي، عن مقاتل بن مقاتل، عمن سمع زرارة يقول: سئل أبو عبد الله عن بدء النسل من آدم كيف كان؟ فإن ناساً عندنا يقولون: إن الله تعالى أوحى إلى آدم أن يزوج بناته من بنيه، وإن هذا الخلق كله أصله من الأخوة والأخوات، فمنع أبو عبد الله عن ذلك، وقال: نبئت أن بعض البهائم نكرت له أخته، فلما نزا عليها ونزل، ثم علم أنها أخته، عزم على غرموله بأسنانه حتى قطعه فخر ميتاً.
وفي حديث آخر: تنكرت له أمه، ففعل هذا بعينه، فكيف الإنسان في فضله وعلمه، غير أن جيلاً من هذه الأمة الذي يرون أنهم رغبوا عن علم أهل بيوتات أنبيائهم، فأخذوه من حيث لم يؤمروا بأخذه؛ فصاروا إلى ما ترون من الضلال. وحقاً أقول: ما أراد من يقول هذا إلا تقوية لحجج المجوس.
ثم أنشأ يحدثنا كيف كان بدء النسل فقال: إن آدم - صلوات الله عليه - ولد له سبعون بطناً، فلما قتل قابيل هابيل، جزع جزعاً شديداً قطعه عن إتيان النساء؛ فبقي لا يستطيع أن يغشى حواء خمسمائة سنة. ثم وهب الله له شيئاً وهو هبة الله، وهو أول وصي أوصى إليه من بني آدم في الأرض، ثم وراءه بعده يافث، فلما أدركا وأراد الله أن يبلغ بالنبل ما ترون، أنزل بعد العصر في يوم خميس حوراوين من الجنة، اسمهما: نزلة، ومنزلة؛ فأمره الله أن يزوجها شيثاً، وأن يزوج منزلة من يافث، فزوجهما منهما، فولدت لشيث غلاماً، وليافث جارية، فأمر الله آدم حين أدركا أن يزوج بنت يافث من ابن شيث، ففعل، فولد للصفوة من النبيين والمرسلين من نسلهما، ومعاذ الله أن يكون ذلك على ما قالوه من الإخوة والأخوات ومناكحتهما، والحديث طويل.
وفي علل الشرائع والأحكام، عن الباقر محمد بن علي: أن أحد ابني آدم تزوج الحوراء، وتزوج الآخر من الجن، فولدتا جميعاً، فما كان في الناس من جمال وحسن خلق فمن حوراء، وما كان من سوء خلق فمن بنت الجان، وأنكر تزويج بنيه من بناته.(1/25)
وروى الشيخ أبو عبد الله محمد بن سعيد الحجري، في كتاب مبتدا الخلق: أن قابلي أكبر أولاد آدم، وأنه لما مضى من عمره وتوءمته عشرون سنة، ولهابيل وأخته تسع عشرة سنة، فوض أمر الحرث إلى قابيل، وأمر الغنم والرعي إلى هابيل، وكان قابيل مولعاً باللهو واللعب، وهابيل يكثر الشكر والتسبيح، ويأتي إلى إخوته وأبيه بالسمن واللبن والجبن، وكانت أمه وإخوته يحبونه ويقدمونه على قابيل، وكان يحسده لذلك، وأولاد حواء بعضهم مع قابيل في الحرث، وبعضهم مع هابيل في الرعي، وأن الله أوحى إلى آدم أن زوج ذكران بنيك بإناثهم، ولا يحل لأحد من بني بنيك أن ينكح أخته، وخالف بين ذكر كل بطن وأنثاه، فأول ما أراد أن يمتثل أمر الله في ولديه هابيل وقابيل؛ لأنهما أكبر أولاده، فأراد زواج قابيل لتوءمة هابيل ليوذا ولهابيل توءمة قابيل إقليميا، فأبى قابيل حسداً لأخيه، وقال لأبيه: أنا أولى بأختي، وهي أحب إلي من أخت هابيل، وامتنع أن يسلم أخته إلى هابيل، فقال آدم: أخاف عليك إن عصيت ربك أن تقع فيما وقعنا فيه، فأقسم ألا يترك له أخته إلا ببرهان من الله، فقال آدم: اذهبا، فقربا قرباناً إلى الله، وليقف كل واحد وبين يديه قربانه، وليكن أفضل ما عندكم وأطهره وأطيبه؛ فإن الله لا يقبل إلا الطيب، فأيكما قبل قربانه فهو أحق بإقليميا. فقال هابيل لأبيه: أنا راض بكل ما حكمت قربت أو لا، تقبل مني أو لا. وقال قابيل: نقرب. فخرجا إلى جبل من جبال مكة، وقيل: إلى منى، ثم قرب كل واحد منهما قربانه، فكان قربان هابيل من أبكار غنمه وأسمنها بسماحة نفس، وقربان قابيل قمحاً لم يبلغ وأكثره زيوان.
وفي كتاب الوصية: عمد إلى شر ما كان له من الطعام والعصير فقربه.
وعن أبي جعفر محمد بن علي: قرب قابيل من زرعه ما لم ينق، وقام هابيل يدعو الله، وقابيل يغني ويلهو، وإذا رأى هابيل يصلي يضحك ويقول: أظن صلاتك لتخدع آدم ليزوجك بأختي لئن تقبل قربانك لأقتلنك. فتركه هابيل وانصرف؛ ليعلم أباه، فلحقه قابيل قبل عقبة حراء دون جبل ثبير، وقيل: في موضع آخر غيره.
وفي مروج الذهب: يقال: إنه اغتاله في برية، ويقال: إن ذلك كان بأرض الشام من بلاد دمشق.
فوثب إليه يعضه بفمه طالباً موته؛ فلا يراه يموت، ويضربه بيده. فتمثل إبليس على صورة بعض إخوته، وقد اصطاد ظبياً، ثم أخذ حبلاً فقمطه به وألقاه على جنبه، وأخذ حجرين فضرب أحدهما بالآخر، فانكسرت من أحدهما شظية لها حرف حد، فأخذها فشحطها على حلق الظبي فذبحه، ثم احتمله ومضى لسبيله، وقابيل يراه. فأخذ حجراً فشدخ به رأسه، وقيل: كسره وذبحه ببعضه.
فلما قتله وسال دمه ورآه يضطرب لخروج روحه، عقبته الندامة وتبرأ منه الشيطان، ونخر إبليس نخرة أجابته مردته من كل أوب واتخذ ذلك عيداً، وهو اليوم الذي اتخذته المجوس عيداً لهم.
ولما قتله فتحت الأرض فاها؛ لتبتلعه دمه فزجرت، وقيل لها: أشربت دماً سفك بغير حق ظلماً، لئن عدت لمثل ذلك لألعننك سبع لعنات. فأقسمت ألا تبلع دماً. وأن قابيل ارتعشت يداه حين قتل أخاه وبقي حائراً مبهوتاً ينظر إليه ميتاً ملقى على وجه الأرض.
وعن وهب: لما أراد قابيل أن يقتل أخاه هابيل، لم يدر كيف يصنع، فعمد إبليس إلى طائر، فرضخ رأسه بحجر فقتله، فتعلم قابيل، فساعة قتله أرعش جسده ولم يعلم ما يصنع، فأقبل غراب يهوي على الحجر الذي دمغ أخاه فجعل يمسح الدم بمنقاره، وأقبل غراب آخر حتى وقع بين يديه فوثب الأول على الثاني فقتله، ثم هز بمنقاره فواراه، فتعلم قابيل.
وعن الصفار، عن محمد بن أبي الحسين بن أبي الخطاب، عن محمد بن إسماعيل بن جابر، وعبد الكريم بن عمرو بن عبد الحميد بن أبي الديلم، عن أبي عبد الله: أن الله بعث إليه جبريل فأجنه، فقال قابيل: " يَوَيْلَتَي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ " المائدة يعني به: مثل هذا الغراب الذي لا أعرفه جاء ودفن آخر ولم أهتد لذلك.
ويقال: إنه حمله على عاتقه إلى أبيه وأمه، فعلما أنه هو الذي قتله، فقال له آدم: يا ويلك، قتلت أخاك حيث تقبل قربانه، عليك لعنة الله ولعنة الملائكة.(1/26)
وأقبلت حواء تنوح وتصرخ، فلما رأى قابيل ذلك، توارى عنهما ينوح على نفسه وسوء فعله، فمن نياحته: ويلي ومن له مثل ويلي استوجبت لقتله سخط ربي، ويلي قتلت هابيل شقيقي وابن أبي وأمي، ومن كان مستقره في صلب أبي فيا شقوتي وويلي، ومن له مثل ويلي، استوجبت لقتله سخط ربي. فيقال: إنه حمله على عاتقه، وهو يبكي وينوح من واد إلى واد، ومن جبل إلى جبل حتى أنتن وجاف وسال عليه صديده، فألقاه إلى الأرض، ووقف ينظر إليه نادماً. فبعث الله غراباً كما قال سبحانه.
ويقال: إن إبليس كان رمى أنثاه بحجر فقتلها، فلما رآها الغراب تعب وصاح ونتف رشه حزناً، ثم بحث الأرض برجليه ومنقاره حتى دفنها، ووضع الحجر الذي شدخ به إبليس رأسها على الموضع الذي دفنها فيه، ثم صرخ صرخات، وناح نوحات، وصفق بجناحيه وطار، فقال قابيل: " يَوَيْلَتَي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابٍ فَأُوَرِيَ سَوْءَةَ أَخِي " المائدة؛ كما وارى أنثاه؟! فحفر له حتى واراه في الحفرة، وطمر عليه التراب، فهو أمل ميت دفن في الأرض.
ثم تركه ورجع ولم يقدر يقع في عين أبيه، وأبعد عن آدم وعن مكة.
وفي رواية: أنه لما رجع إلى آدم، فقال له: يا قابيل، أين هابيل؟ قال: ما أدري، وما بعثتني راعياً له، فانطلق فوجد هابيل مقتولاً، فقال: لعنت من أرض كما قبلت دم هابيل، فبكى آدم على هابيل أربعين ليلة، ثم إن آدم سأل ربه أن يهب له ولداً، فولد له غلام فسماه هبة الله؛ لأن الله - عز وجل - وهبه له، فأحبه آدم حباً شديداً... والحديث طويل.
وروى: أنه لم يوار سوءة أخيه، وانطلق هارباً حتى أتى وادياً من أودية اليمن في شرقي عدن، فكمن فيه زماناً، وبلغ آدم ما صنع قابيل بهابيل فوجده قتيلاً، قلت هذا يخالف ما قبله المنقول عن كتاب العرائس أن قابيل وضع هابيل في جراب وحمله على عاتقه حتى أروح وأنتن. وفيه وفى إبليس: " رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ " فصلت لأن قابيل أول من سن القتل؛ فلا يقتل مقتول إلى يوم القيامة إلا كان شريكه فيه.
وسئل جعفر الصادق بن محمد الباقر عن هذه الآية، فقال: هما هما. وإن آدم حزن على هابيل حزناً شديداً، وبكاه ورثاه بهذه الأبيات، وهي أول شعر قيل في الأرض:
تغيّرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبرٌّ قبيح
تغيّر كلّ ذي طعم ولونٍ ... وقلّ بشاشة الوجه الصّبيح
وبدّل نبتها أثلاً وخمطاً ... بجنّاتٍ من الفردوس فيح
وجاورنا عدو ليس يغني ... لعينٌ لا يموت فنستريح
فيا هابيل إن تقتل فإنّي ... عليك اليوم مكتئبٌ قريح
بكت عيني وحقّ لها بكاها ... ودمع العين منسكبٌ يسيح
فأورث في الضمير لهيب نارٍ ... مقيمٌ فيه هابيل الذّبيح
رماه أخوه ذو الفجرات ظلماً ... وبغياً منه قابيل الشحيح
فيلعنه الإله بما جناه ... وصعّر خدّه وله القبوح
فيقال: إن إبليس - لعنه الله - أجابه بقوله: من الوافر
تنحّ عن البلاد وساكنيها ... ففي الفردوس ضاق بك الفسيح
وكنت بها وزوجك في رخاءٍ ... من الدّنيا وعيشك مستريح
فما انفكّت مكايدتي ومكري ... إلى أن فاتك الثّمن الربيح
فلولا نعمة الجبّار أضحى ... بكفّك من جنان الخلد ريح
أهاجك آدم الدّهر الكدوح ... فدمعك هاطلٌُ هتنٌ يسيح
وجاءتك المصائب عادياتٍ ... وسوف عليك ترجع أو تروح
فلا تبكي فإنّك غير خالٍ ... من الأحزان ما صحبتك روح
وعندك بغيتي ولديك ثأري ... وولدك بعد موتك لا أُريح(1/27)
قال عمارة بن زيد: لما هرب قابيل، أرسل الله إليه ملكاً فقال له: أين أخوك هابيل؟ فقال: ما كنت عليه رقيباً، فقال له الملك: إن الله يقول لك: إن صوت أخيك لينادي من الأرض أنك قتلته، فمن الآن أنت ملعون، وإذا عملت بيدك حرثاً؛ فإن الأرض لا تعطيك شيئاً أبداً، ولا تزال فزعاً تائهاً في الأرض أبداً، وإنه سيقتل خيار ولدك، ويكون موتك أسفاً على من قتل من ذريتك، ثم انصرف الملك عنه، فقال: لقد عظمت مصيبتي، من أين يغفرها لي ربي؟ ثم إنه سلط الله عليه الفزع من كل شيء لو مر به الذباب، توهم أنه يقتله، وكان طول عمره حزيناً خائفاً، وإبليس معه في شرقي عدن.
وبقي آدم مائة سنة حزيناً لا يضحك، فأوحى الله إليه: يا آدم، إن الله يعزيك ويأمرك بالصبر؛ ليوجب لك الأجر؛ فلا تكبرن عليك مصيبة قابيل؛ فقد وجبت عليه اللعنة، وهابيل أجعله قائد الشهداء يوم القيامة إلى الجنة، وقابيل قرين إبليس في النار، فتعز أنت وحواء، وقولا: إنا لله وإنا إليه راجعون، وأنا وهب لك ولداً صديقاً نبياً، في ذريته الملك والنبوة إلى يوم القيامة، وعلامته أن يولد وحده، فإذا ولد فسمه شيثا هبة الله. فضحك آدم - عليه السلام - وخرج من الحرم، فبشر حواء بذلك.
ثم إن قابيل استحوذ عليه الشيطان، وحمل أخته إقليميا إلى صحارى عدن، فنكحها خلافاً لأبيه وربه، فأتى منها بأولاد انتشروا في الأرض، ونكح بعضهم بعضاً من أم وأخت وعمة وخالة، وأطاعوا إبليس، فكانوا حزبه، وآدم ينهى بنيه أن يقربوا الأرض التي هم فيها، فكانوا لا يقربونهم ولا يجاورونهم.
وأما وفاة آدم - عليه السلام - : فقد روى الشيخ أبو عبد الله محمد بن سعيد - رحمه الله - : أن الله سبحانه أمر آدم أن يتقدم إلى شيث بالوصية، وأخذ العهد عليه والميثاق بأنه خليفته على بنيه، وألا يضع النور الذي في جبهته إلا في الطاهرات من النساء. فسجد آدم شكراً لله تعالى، وأخذ على ولده العهد والميثاق بذلك. وأمره أنه إذا انتقل النور إلى ولده أن يأخذ عليه العهد كذلك. ثم إنه جمع أولاده وأشهدهم على شيث، وأعلمهم أنه وصيه، وأمرهم بطاعته وعدم معصيته، وحذرهم بني قابيل اللعين؛ فإنهم مع إبليس وجنوده عدو لي وعدو لكم، ثم قال: وأمكم حواء أشفقوا عليها، وتحننوا على إخوتكم، والطفوا بأولادكم، ولا تؤثروا شيئاً على طاعة ربكم، وحجوا واقضوا مناسككم كما رأيتموني أقضي، وقربوا القربان؛ لتعلموا رضا الله عنكم.
فلما غمره الوجع والملائكة تعوده وتسأل عنه، وقد أحدق به بنوه، وحواء عند رأسه لا ترقأ لها عبرة لفراقه، فلما مات، علم جبريل ابنه شيث غسله وتكفينه والصلاة عليه.
وأما مدفنه: ففيه خلاف بين الأمم، فقال قوم من أهل الكتاب: دفن في مشارق الفردوس.
وقال علي بن أبي طالب: دفن بمكة.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : دفن في غار بجبل أبي قبيس، يقال له: غار الكنز.
وقيل: بمنى عند منارة مسجد الخيف؛ قاله الذهبي في تاريخ دول الإسلام، وعمره ألف سنة.
وفي مختصر ربيع الأبرار لابن سلكويه: أن آدم لما احتضر قال لابنه: أوصيك أن تطلي جسدي بدهن ومر ولبان مما أهبط عليه من الجنة؛ فإنه إذا طلي به الميت، لم ينفصل شيء من عظامه حتى يبعثه الله تعالى. وأوصيك أن يكون معك دهن ومر حيثما ذهبت؛ فإن الشيطان لا يقربك، وأن تجعل جسدي في تابوت، وتجعلني في مفازة في وسط الأرض.
ومات يوم الجمعة، وصلى عليه في الساعة التي أخرج فيها من الجنة لست ليال خلون من نيسان، وعمره تسعمائة وستون سنة أو ألف.
وقيل: إنه مات عن أربعين ألفاً من ولده وولد ولده.
وفي مروج الذهب للمسعودي: توفي عن ألفي ألف من ولده وولد ولده، وناحوا عليه مائة وأربعين يوماً.
وفي كتاب الوصية: ثم حمل نوح جسده زمن الطوفان في السفينة، وجعله فاصلاً حاجزاً بين الذكور والإناث من كل نوع، كما سيأتي عند ذكر نوح، عليه الصلاة والسلام.
وأما حواء: فعن وهب: أنها لم تعرف بموت آدم حتى سمعت بكاء الوحوش والطير، فقامت فزعة وصاحت صيحة شديدة، فأقبل إليها جبريل وصبرها؛ فلم تصبر دون أن لطمت وجهها ودقت صدرها، فورث ذلك بناتها إلى يوم القيامة. ثم إنها لزمت قبر آدم أربعين يوماً لا تطعم الزاد ولا الرقاد، فأخبرها جبريل باقتراب أجلها. فشهقت شهقة عظيمة ومرضت مرضاً شديداً، وهبط ملك الموت فسقاها شراب الموت، ففارقت الدنيا.(1/28)
وفي كتاب المبتدا: أنه لما مات آدم، جزعت عليه حواء جزعاً شديداً ولم تنم ليلاً ولا نهاراً، ولم تأكل إلا ما يسد رمقها، ولم تمس طيباً ولا توسدت بوسادة، وكانت تخرج في كل ثلاث ساعات إلى قبر آدم في بناتها تبكيه، فأرسل الله إليها جبريل سلاها وأمرها بالصبر، فسجدت شكراً لله تعالى، ولم تلبث بعد ذلك إلا قليلاً. ذكر أنها عاشت بعده ستة أشهر، وأنها لما حضرتها الوفاة، شدد الله عليها النزاع؛ ليكفر بذلك خطيئتها ويرفع درجتها، ودعت أكبر بناتها وهي فهوائيل، وكانت تشبهها في جمالها وكمالها، وقالت لها: يا بنية، إني أحس بالموت الذي أخذ أباك، وقد اضطرب جسمي، وطار نومي، وخفق فؤادي. خمري رأسي، وشدي علي ثيابي، وطهري بيتي ومصلاي ومحرابي وفراشي وما حولي؛ فيوشك أن يحضرني رسل ربي، وربما أغلب من هول ما ينزل بي، فيتغير عقلي، وينكشف بعض بدني، فلا تغفلي عني، ولا تفتري عن ذكر الله عن رأسي، فإذا أنا مت، فغمضي عيني، وشدي لحيي إلى رأسي، وسجيني بثوبي، وخمري رأسي ووجهي، واستقبلي به قبلة ربي، ومددي أعضائي. أي بنية، أحس روحي من كل عرق تجذب، ومن كل عظم تنزع، ونفسي كأنما تخرج من سم الخياط، وكأني بين السماء والأرض. وإذا خرجت روحي، فتولي أنت غسلي بالماء والسدر وترا، وكفنيني في أطهر أثوابي، وذري علي شيئاً من الطيب الذي لا لون له، وعليك بالدعاء عند موتي، وعليك بحفظ بعلك ورحمة ولدك والتحنن على إخوتك وقلة المخالفة لهم، والله خليفتي عليك.
ثم توجهت إلى القبلة وبكت وقالت: إلهي، أمتك وأم نبيك محمد صلى الله عليه وسلم إلا ما هونت على أمتك سكرات الموت، يا رب، والحياء منك يمنعني أن أسألك ما سألك آدم عند موته من ريحان الجنة وثمارها. فبكت الملائكة لها، وسألت الله أن يهون عليها الموت، فقال: أنا أرحم بأمتي منكم، وأنا أرحم الراحمين. وأوحى الله إلى رضوان أن يخرج من حور الجنة عشرة بريحان وثمار ويبشرنها بالرضا والمغفرة والعود إلى الجنان. فخرجن بأيديهن أطباق الذهب والياقوت مخمرة بمناديل من الإستبرق من ثمار الجنة ورياحينها، ويبشرنها بالجنة، فوضعته على عينها وشمته وبكت، وقالت: أليس ربي راضياً عني؟ فقلن: بلى يا حواء، وأنت صائرة إلى الجنة حيث صار آدم، فخفف عن حواء بهذه البشارة، وهبط ملك الموت وأمره الله أن يسهل عليها، فماتت حواء - صلوات الله عليها - فبكين بناتها، وفهوائيل فعلت ما أمرتها، وأنزل الله كفناً وخيوطاً من الجنة، فكفنتها فيه فهوائيل، وأعلمت إخوتها فصلى عليها ابنها شيث، كما صلى على أبيه آدم، ثم دفنها بالقرب منه.
وكان موتها يوم الجمعة، وبكت عليهما السماء والأرض، وجاء إبليس - لعنه الله - إلى قبريهما وبكى عليهما ملياً وانتحب، ثم قال يرثيهما بهذه الأبيات: من مجزوء الكامل
قد متما وسبقتماني ... وحللتما دار الأمان
وبقيت بعدكما على ... سنن المذلّة والهوان
متفرّداً بغواية ال ... ثقلين من إنس وجان
ومطيّتي موقوفةٌ ... بين التّلهّب والأمان
إذ ما بقيت ومتّما ... فإليكما أمداً رهاني
وفي إبليس وآدم والحية والطاوس وحواء يقول عدي بن زيد قصيدة يذكر فيها بدء الخلق إلى أن وصل إلى قصة آدم وحواء - عليهما السلام - فقال: من البسيط
سعى الرّجيم إلى حوّا بوسوسةٍ ... غوت بها وغوى معها أبو البشر
؟خلقان، من مارج إنشاء خلقته ... وآخرٌ من تراب الأرض والمدر
أنشاهما ليطيعاه فخالفه ... إبليس عن أمره للحين والقدر
فأبلس الله إبليساً وأسكنه ... داراً من الخلد بين الروض والشّجر
فاغتاظ إبليس من بغي ومن حسدٍ ... فاحتال للحيّة الرّقطاء والطير
فأدخلاه بأيمانٍ مؤكّدةٍ ... أعطاهما بيمينٍ كاذبٍ غدر
هناك سرّ إلى حوّا بوسوسةٍ ... أردت بغرّتها معها أخا القدر
فأُهبطوا بمعاصيهم وكلّهم ... فاني المحلّ فقيد العين والأثر
فأهبط الله إبليساً وأوعده ... ناراً تلهّب بالتّسعير والشرر
وأنزل الله للطّاوس رحمته ... من صوته ورمى رجليه بالنّكر(1/29)
وأعقب الحيّة الحسناء حين عصت ... مسح القوائم بعد السّعي كالبقر
وأعقب اللّه حوّا بالّذي فعلت ... بالطّمث والطّلق والأحزان والفكر
ولما مات آدم وحواء، طمع إبليس في بنيهما، وجاء إلى شيث، فسلم عليه وكلمه كلاماً أظهر فيه الندم على فعله بأبيه وأمه ما فعل، وأن يكون عونه على أولاد قابيل، فلعنه شيث وطرده وتهدده بأنه يدعو عليه وإن كان منظراً، فخرج إبليس من بين يديه خائفاً أن يدعو عليه فيجتمع عليه خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فولى آيساً منه.
وقام شيث في بنيه وإخوته خطيباً، وأعلمهم ما أراد إبليس، وحذرهم منه ومن أولاد قابيل، قال: فإنهم أعداؤكم في الدين وحزب إبليس، فجعل بعضهم يحذر بعضاً من مخالطة بني قابيل والتحرز مما نهاهم الله عنه.
ولما أيس إبليس من شيث، رجع إلى قابيل، وزين له ألا يمنع ذكراً من إخوته وبناته ليكثر النسل، وأن يبيحهم الشركة الواحد والاثنين والثلاثة في الواحدة ولا يمنعهم مرادهم، فقبل قابيل قوله، واشترك الجماعة في الواحدة، وما من ولد إلا وإبليس له فيه شركة. وكان لإبليس أولاد فاختلطوا معهم وتربوا جميعاً.
تذنيب عن مقاتل قال: قلت لأبي عبد الله: كم كان طول آدم - عليه الصلاة والسلام - حين أهبط إلى الأرض، وحواء كم كان طولها؟ فقال: وجدنا في كتاب علي - رضي الله عنه - أن الله تعالى لما أهبط آدم وزوجته من الجنة، كانت رجلاه على ثنية الصفا، ورأسه دون أفق السماء، وأنه شكى إلى الله ما يصيبه من حر الشمس، فصير طوله سبعين ذراعاً بذراعه، وجعل طول حواء خمساً وثلاثين ذراعاً.
وفي العرائس: كان يمشي بين الجبال والمفاوز، فكل موضع أصاب قدمه صار قرية، وكل موضع استقر فيه صار مدينة، وكل موضع صلى فيه، صار مسجداً، ولما مضى من الدنيا خمسمائة عام، كثر ولده وولد ولده، فأرسل الله إليه يحكم فيهم بما أنزل الله، وهم خمسون صلاة في اليوم والليلة، والزكاة والصوم والاغتسال من الجنابة، فحكم بذلك حتى توفاه الله تعالى.
ولما أهبط نزل معه خمسة أشياء: أحدها: العصا، وهي من آس الجنة، وسبب ذلك أنه كان يأكل الحنطة فبقيت بقية في أسنانه فأخذ عوداً بعد أن احتاج إلى التخليل، فبقي في يده يتخلل به فأهبط وهو معه، وتوارثه أبناؤه إلى أن وصل إلى موسى، فصار معجزة له، فهو عصا موسى.
وثانيها: خاتم كان معه، فلما سقطت عنه الحلل، وذهب تاجه عن رأسه، أخذه فجعله في فيه، فتوارثه الذرية إلى أن وصل إلى سيدنا سليمان بن داود؛ فصار آية ملكه.
وثالثهما: الحجر الأسود، وكان من جواهر الجنة، قصده أهل الجنة حين نزل، فأخذه، فتمسك به فصار حجراً، فأهبط وهو معه، فأمر بجعله ركناً من أركان الكعبة.
ورابعها: قطعة من عود من شجر لم يبك عليه، فوثب فحرق بالنار، فاعتذر فجعل منه الطيب.
وخامسها: ورق التين وارى هو وحواء به سوءاتهما فلما تناثر بعد بنيه، وعريا في الدنيا، شكا آدم إلى جبريل العري، فجاءه بشاة من الجنة لها صوف كثير، وقال له: قل لحواء تغزل من هذا الصوف وتنسج، فمنه لباسك ولباسها، فغزلت ونسجت.
ولما كانت حواء سبباً لأكل آدم من القمح وعريه، جعل عليها أن تغزل وتكسوه، ولما ثقل عليها ذلك العمل، جعل نفقتها عليه، ولما ثقل عليه، جعل حظ الزوج في الميراث ضعف حظ الزوجة. كذا في المدارك.
قال العلامة ابن الضياء في البحر العميق: أهبط آدم من باب التوبة، وحواء من باب الرحمة، وإبليس من باب اللعنة، والطاوس من باب الغضب، والحية من باب السخط. وأهبط بين الظهر والعصر من باب من سماء الدنيا، يقال له: باب المبزم، حذاء البيت المعمور، وقيل: من باب المعراج، وكان مكثه في الجنة نصف يوم من أيام الآخرة وخمسمائة عام، على سرنديب اسم جبل بالهند، وقيل: على الجودي، ومكث عليه يبكي مائة عام حتى نبت العشب من دموعه، وكان رأسه يمس السحاب، فصلع فتوارثت الصلع ذريته، وحط قامته إلى ستين ذراعاً بذراعه.(1/30)
ثم ذكر ما يستدل به على قدر ذراعه المستدل به على معرفة طول قامته بذراعه فقال: قدم علينا حاجاً عام ست عشرة رجل شريف دلوالي، وذكر أنه دخل بلاد سرنديب، وأن أهلها كفار، وأنه صعد جبل سرنديب، وكان صعوده فيه من طلوع الفجر، ووصل أعلاه غروب الشمس، قال: وفوق الجبل جبل آخر على هيئة المنارة وقدرها بل أعلى، يصعد إلى أعلى هذا الجبل بسلاسل من حديد يضع الإنسان فيها رجله، ويتعلق إلى أن يصعد إلى أعلاه، وأنه لا يمكن صعوده إلا على هذه الصفة.
قال: وفوق هذا الجبل - أيضاً - جبل صغير فيه أثر قدم أبينا آدم - عليه السلام - غائصاً في الحجر على سمت القبلة بحيث إن القائم عليه يستقبل القبلة وله خمس أصابع، وذكر أنه قاس طول قدمه وعرضه وطول إبهامه بمنديل كان معه وعلم على ذلك علامات.
قال العلامة ابن الضياء المذكور: فرأيت هذا المنديل معه، فقست طول قدمه من رأس الإبهام إلى آخر العقب، فكانت ثلاثة أذرع وثلثي ذراع، وطول إبهامه إلى المفصل شبر وعرض القدم ثلاثة أشبار وأربع أصابع، كل ذلك بذراع الحديد.
وذكر ذلك السيد أنه لم ير إلا قدماً واحداً، وأن تحته غديراً في صخرة ممتلئاً ماء أحلى من العسل، وله عينان تجريان إحداهما عن يمين القدم، والأخرى عن يساره ينصبان إلى أسفل الجبل ثم إلى البحر، ومسيل ماء العينين بشم وتراب العين اليمين سيلان، وذكر أن المطر لا يزال على هذا الجبل في كل يوم من أيام السنة لا ينقطع أصلاً، ولكنه في بعض الأيام رشاش بغير جود. انتهى كلام ابن الضياء في بحره.
ووجه حصول الفائدة بمقدار طول آدم يؤخذ من معرفتنا لطول قدمه؛ إذ المعلوم أن مقدار القدم شبر، وأن الشبر نصف ذراع صاحبه؛ فشبران منه هما مقدار الذراع منه من المفصل إلى رءوس أصابع اليد، فيكون طول ذراع آدم - عليه السلام - سبعة أذرع وثلث ذراع بذراع الحديد، فحيث كان طوله ستين ذراعاً بذراع نفسه فيكون أربعمائة وأربعين ذراعاً بذراع الحديد. وهذه فائدة قل أن توجد، فلله الحمد.
فائدة في بيان زمان خلق آدم - عليه السلام - قال في الفتوحات المكية: انتهى خلق المولدات من الجمادات والنباتات والحيوانات بانتهاء إحدى وسبعين ألفاً.
قال بعض من تكلم على ذلك: مراد الشيخ أن مدة خلق الإنسان من الأفلاك والدنيا والآخرة والجنة والنار كلها في هذه المدة.
قال: فلما خلق الله الفلك الأول، دار دورة غير معلومة الانتهاء لغير الله تعالى؛ لأنه ليس فوقه شيء محدود من الأجرام يقطع فيه، وإلا كان خلق في جوفه شيء متميز الحركة؛ فدار أربعة وخمسين ألف سنة من السنين المذكورة، وهي الإحدى والسبعين ألف سنة، فخلق الدنيا على انتهاء أربع وخمسين ألف سنة. ثم بعد 9000 سنة خلق الآخرة، أي: الجنة والنار، فكانت بعد مضي ثلاث وستين ألف سنة من الماضي من 71000، ثم لما وصل الوقت المعين في علمه تعالى لإيجاد هذا الخليفة، بعد أن مضى من عمر الدنيا سبعة عشر ألف سنة، ومن الآخرة ثمانية آلاف سنة - أمر الله بعض ملائكته أن يأتيه بقبضة من كل أجناس تربة الأرض، فأتاه بها إلى آخر الخلق، وهو معلوم. انتهى.
وبالاختصار: فخلق المولدات إحدى وسبعون ألفاً، فالفلك هو الأول، ثم بعد أربع وخمسين ألف سنة خلق الدنيا، ثم بعد ثلاث وستين ألفاً خلق الآخرة، ثم بعد واحد وسبعين ألف سنة، خلق آدم، فخلقه بعد مضي إحدى وسبعين ألف سنة من العالم الطبيعي. وهذا ملخص كلامه في الفتوحات في الباب السابع والمائتين منها.
وبالإسناد المتقدم عن ابن بابويه قال: حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن أحمد الأسواري، حدثنا محمد، عن محمد بن ميمون، عن الحسن، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أباكم كان طوالاً كالنخلة السحوق ستين ذراعاً.
وفي كتاب نقش الخواتيم: اتخذ آدم خاتماً مكتوباً عليه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله، والجمهور يخالف هذا. وسئل أمير المؤمنين عن خلق الشعير مم؟ فقال: إن الله أمر آدم أن ازرع مهمات اخترت لنفسك، وجاءه جبريل بقبضة من الجنة من الحنطة، فقبض آدم على قبضة، وحواء على قبضة، فقال آدم: لا تزرعي أنت. فلم تقبل، فزرع آدم جاء حنطة، وزرع حواء جاء شعيراً.(1/31)
تكميل فيه تعليل: ذكر الشيخ الجليل عماد الإسلام محيي الدين أبو عبد الله محمد بن علي المعروف بابن عربي - قدس الله سره - في كتاب فصوص الحكم: أن الله أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه، وكان كمرآة غير مجلوة، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة، وروح تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنها في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير، فكانت الملائكة كالقوى الروحانية والحسية التي هي النشأة الإنسانية. قال الشارح الإمام عبد الرزاق بن أبي الغنائم الفاسي - رحمه الله تعالى - : فكانت القوى الروحانية النفسانية ملائكة وجود الإنسان؛ لأن قوى العالم اجتمعت فيه بأسرها؛ فالإنسان عالم صغير، والعالم إنسان كبير بوجود الإنسان فيه؛ لأن أحدية جميع الموجود التي ناسب بها العالم الحضرة الإلهية لم توجد في جميع أجزائه إلا في الإنسان، وكان الإنسان مختصراً من الحضرة الإلهية؛ ولهذا قال: إن الله خلق آدم على صورته، ويسمى هذا المذكور إنساناً وخليفة، فأما الإنسانية فلأن نشأته تحوي الحقائق كلها، وجميع مراتب الوجود العلوية والسفلية بأحدية الجمع الذي ناسب بها حقيقة الحقائق، وهي الجمعية المذكورة؛ إذ لا شيء في النشأتين إلا وهو موجود فيه، أي: لا مرتبة في الوجود إلا وشيء منها فيه، فناسب الكل، وأنس به، فسمى إنساناً؛ لأنه عالم صغير، والعالم يسمى إنساناً كبيراً باعتبار آخر، وهو أنه يلحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي به يكون النظر، وهو المعبر عنه بالبصر؛ لأن الله تعالى نظر به إلى الخلق فرحمهم؛ فلهذا سمى إنساناً أيضاً، فتم العالم ووجوده بمظهريته لأسمائه تعالى كلها.
قال الشيخ: فهو من العالم كفص الخاتم من الخاتم، وهو محل النقش والعلامة التي يختم الملك بها خزائنه، وشبه العالم بالخاتم؛ لأنه خلقه، ومن حيث إن الإنسان من جملة أجزاء العالم، انتقش بنقوش العلوم التي في الحضرة الإلهية، وحمل سر أسمائه وصفاته، وختم به العالم بأسره، فشبهه بالفص من الخاتم، وسماه خليفة؛ لأجل هذا؛ لأن نقش اسمه الأعظم، وهو الذات، مع الأسماء كلها منقوش في قلبه الذي هو فص الخاتم؛ فيحفظ به خزانة العالم بجميع ما فيه على النظام المعلوم والنسق المضبوط؛ لأنه الحافظ خلقه؛ لأن الإنسان الكامل هو الحافظ خلق الله بالحكمة الأحدية والواحدية لأسمائه البالغة التي هي نقش قلبه، وهي العدالة، أعني: صورة الوحدة في عالم الكثرة الذي هو خزانة القوابل والآلات كلها؛ كما يحفظ الختم الخزائن ما دام ختم الملك عليها، لا يجسر أحد على فتحها إلا بإذنه؛ فلا يزال العالم محفوظاً ما دام فيه هذا الإنسان الكامل، ولو لم يكن آدم كذلك، لم يكن خليفة؛ لأن الخليفة يجب أن يعلم مراد المتخلف وينفذ أمره، ولو لم يعلم بجميع صفاته، لم يمكنه إنفاذ أمره، وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا من الأسماء التي يرث الحق بها جميع من في العالم من الناس والدواب والأنعام وغيرها، فليس بخليفة عليهم، فما صحت الخلافة إلا للإنسان الكامل، فاستحقاق آدم الخلافة إنما يكون بالصورتين: إنشاء صورته الظاهرية من حقائق العالم، وصورته الباطنة.
قال الشارح - قدس سره - : حيث جمع فيه الحقائق الكونية؛ فلم يبق في صور العالم وقواه شيء إلا وفيه نظيره وإنشاء صورته الباطنة على صورته تعالى؛ فإنه سمع بصير عالم؛ فيكون متصفاً بالصفات الإلهية متسمياً بأسمائه؛ ولذلك قال: كنت سمعه وبصره، ما قال: كنت عينه وأذنه، ففرق بين الصورتين صورة العالم وصورة الحق، وكما كان الحق في آدم ظاهراً بصورته، كذلك في كل موجود، لكن ليس لشيء من العالم مجموع ما للخليفة.
فإن قلت: فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: خلق الله آدم على صورته وهذا يقتضي التجسيم:(1/32)
فالجواب: أن الهاء في صورته راجعة إلى آدم؛ رداً على من يقول: كان آدم عظيم الجثة طويل القامة رأسه قريب من السماء كما في بعض الأخبار؛ فكان المعنى أن الله خلقه على الصورة التي قبض عليها لم تتغير بزيادة ولا نقصان. ووجه ثان: وهو أن هذا الكلام خرج على سبب معروف؛ لأن الزهري روى عن الحسن أنه كان يقول: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل من الأنصار، وهو يضرب وجه غلام له، وهو يقول: قبح الله وجهك، ووجه من تشبهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بئسما قلت؛ فإن الله خلق آدم على صورته، يعني: صورة المضروب. وذكر السيد المرتضى - رضي الله عنه - في التنزيه جواباتٍ أخر لا نطول بذكرها، وما أومأ إليه الشيخ - قدس سره - أدق طريقة وأحسن معنى، ومن تأمل غرائب خلقة آدم ومات احتوت عليه من إحكام التركيب على ما ذكره المشرحون، علم أن بارئه واحد لا ثاني له: من المتقارب
وفي كلّ شيءْ له آيةٌ ... تدلّ على أنّه واحد
ودفنت حواء إلى جانب آدم، رأسها إلى رأسه ورجلاها عند رجليه.
قلت: كذا ذكر عن وهب، وأكثر الرواة على أنها دفنت بجدة بالمحل المعروف بها.
قابيل عليه اللعنة: كان آخر هلاك نسله في زمن الطوفان، وكانوا أعداء لأولاد شيث - عليه السلام - ولم يبق الطوفان منهم أحداً. زوجته إقليميا أخته وكان أكبر أولاده شوهل، رزقه الله من الجمال والحسن ما لم يرزق أحداً من ولد آدم، وكذا توءمته، واسمها نوهة، وكان تسلم جميع أمور أبيه، وذلك أن قابيل لما قتل أخاه، دعا عليه آدم وحواء، فذهل عقله، فكان لا يعي قولاً ولا يفقه شيئاً، فتلاعب به إبليس، وقال له: إن أباك آدم وأمك حواء قد ماتا وما بقي من يقوم مقامه، والرأي أن تغزو أخاك ومن معه قبل أن يغزوكم، فلم يبق لك منه مخافة، ولا سيما ومعنا عنق بنت أبيك آدم، وقد علمت قوتها وطاعة الجن لها بما معها من السحر، فأرسل قابيل ابنه شوهل، وأمره بطاعة إبليس فيما يشير إليه في قتال شيث. ثم أرسل إلى عنق فبادرت إليه بالمردة، ولم يكن سلاح إلا السكاكين على مثال التي ذبح بها آدم قربانه، فأخذوها وشدوا أزرهم، وساروا نحو شيث.
وأوحى الله إلى شيث يعلمه، ووعده بالنصر عليهم، فجمع شيث إخوته وبنيه، فأعدوا لهم، وأخذوا عصيهم وسكاكينهم، وجلسوا ينتظرون حتى قرب بنو قابيل وإبليس ومردته، وهو الملك على الجن، وعنق المقدمة على المردة والسحرة، فأمر شيث بالخروج إليهم، فشدوا عليهم أزرهم وأخذوا مديهم بأيمانهم وعصيهم، وخرجوا إلى ملتقاهم، وكان أول قتال جرى بين بني آدم مما يلي الطائف.
وأخرج شيث الصحف، وتوسل إلى الله بها، وإخوته يؤمنون على دعائه، وبرزت بنو قابيل للقتال، وشبت الحرب بينهم وشيث كاره، وأنزل الله عليه النصر، وكلما عملت السحرة شيئاً، أبطله الله تعالى، فلما صار وقت الظهر، توسل شيث إلى الله تعالى بأنوار محمد صلى الله عليه وسلم، فأمر الله جبريل أن ينزل ومعه من الملائكة مدد، فلما رأى إبليس ذلك، قال لمردته: ارتكوا بني آدم بعضهم لبعض؛ فلا قدرة لكم على الملائكة. ثم غاص في الأرض هارباً وبنوه خلفه، وقتلت الملائكة منهم بحرابها ما لا يحصى، وانهزم ولد قابيل؛ لانهزام الجن، وقتل منهم المؤمنون خلقاً كثيراً وهرب الباقون.
وعرض شيث على الأسرى الإيمان، فأبوا، فأمر بقتلهم، ولم يبق منهم أحد، ورد الله كيد إبليس في نحره وغلب جند الله، ورجع شوهل وقد خلص من القتل إلى أبيه بمن سلم معه، وأعلمه بمن قتل من أولاده، فحزن قابيل ومات أسفاً وحزناً وحسرةً وندامة كما أعلمه الملك.(1/33)
فلما هلك قابيل، فرح إبليس بموته، وكان قد اختفى منه لئلا يوبخه على رأيه ومشورته وهربه، وعلم أنه بموته يتمكن من بنيه، فأظهر الحزن، وقال: لا تدفنوه وأنا أصنع لكم تمثالاً من الحجارة، فأدخلوه فيه، واجعلوه في بيت من بيوتكم، فإذا أراد أحدكم أن يراه فليدخل إليه ويسلم عليه فتكونون كأنكم لم تفقدوه؛ حيل واستدراجاً منه لعبادة الأصنام، فنحت لهم حجراً من البلور، وصور فيه صورته، وجعله مجوفاً قطعتين تلتصق إحداهما بالأخرى، وأمرهم أن يدخلوه في ذلك التمثال، وأمر ألا يدخل عليه أحد إلا بأمر شوهل، وأن كل من يدخل إليه يسجد له ثلاث سجدات ويقبل يده، وجعله عيداً في كل سنة مثل اليوم الذي مات فيه، فإذا كان ذلك اليوم يدخلون أفواجاً أفواجاً وقد رفع غشاؤه وهو من وراء البلور كأنه حي، وإذا خلا به شوهل يخاطبه إبليس على لسان الصنم؛ فيظن شوهل أنه قابيل ولا يكلم سواه، ووكل إبليس بالصنم مارداً يسمع حوائج من يدخل إليه فيجيء بها إلى إبليس يوماً بيوم، فإذا كان الليل، أراه في منامه ما يفعل في الذي أراد استدراجاً لكفرهم وهم لا يشعرون، فبقوا على ذلك مدة، وقد بلغ إبليس منهم مراده.(1/34)
وقد روينا عن محمد بن موسى المتوكل، عن عبد الله بن جعفر، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محجوب، عن محمد بن النعمان الأحول، عن يزيد بن معاوية، قال: سمعت أبا جعفر يقول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم: إن إبليس اللعين أول ما صور صورة على مثال آدم ليفتن به الناس ويضلهم عن عبادة الله تعالى، وكان ود في ولد قابيل، وكان خليفة قابيل على ولده وعلى من بحضرتهم في سفح الجبل يعظمونه ويسودونه، فلما أن مات، جزع عليه إخوته وخلف عليهم ابناً يقال له سواع، فلم يغن غناء أبيه منهم، فأتاهم إبليس في صورة شيخ، فقال: قد بلغني ما أصبتم به من موت ود عظيمكم، فهل لكم أن أصور لكم على مثال ود صورةً تستريحون إليها وتأنسون بها؟ فقالوا: افعل، فعمد الخبيث إلى الآنك، فأذابه حتى صار مثل الماء، ثم صور لهم صورة مثل ود في بيته، فتدافعوا على الصورة يلثمونها ويضعون خدودهم عليها ويسجدون إليها. وأحب سواع أن يكون التعظيم والسجود له، فوثب على صورة ود، فحكها حتى لم يدع منها شيئاً، وهموا بقتل سواع فوعظهم، وقال: أنا أقوم لكم بما كان يقوم به ود، وأنا ابنه، فإن قتلتموني لم يكن لكم رئيس، فمالوا إلى سواع بالتعظيم والطاعة، ثم لم يلبث سواع أن مات، وخلف ابناً يقال له: يغوث، فجزعوا على سواع، فأتاهم إبليس، وقال: أنا الذي صورت لكم صورة ود، فهل لكم أن أجعل لكم مثل سواع على وجه لا يستطيع أحد أن يغيره؟ قالوا: فافعل، فعمد إلى عود من شجر الخلاف، فنجره ونصبه لهم في منزل سواع، وإنما سمى ذلك العود خلافاً؛ لأن إبليس عمل منه صورة سواع على خلافة صورة ود، فسجدوا له وعظموه، وقالوا ليغوث: ما نأمنك على هذا الصنم أن تكيده كما كاد أبوك مثال ود، فوضعوا على البيت حراساً وحجاباً، ثم كانوا يأتون الصنم في يوم واحد، ويعظمونه أشد مما كانوا يعظمون سواعاً، فلما رآى ذلك يغوث، قتل الحراس والحجاب ليلاً، وجعل الصنم رميماً، فلما بلغهم ذلك أقبلوا ليقتلوه، فتوارى منهم، فطلبوه، ورأسوه، وعظموه ثم مات وخلف ابناً يقال له: يعوق، فأتاهم إبليس فقال: قد بلغني موت يغوث، وأنا جاعل لكم مثاله في شيء لا يقدر أحد أن يغيره، قالوا: فافعل، فعمد الخبيث إلى حجر جزع أبيض، فنقره بالحديد حتى صور لهم مثال يغوث، فعظموه أشد مما مضى، وبنوا عليه بيتاً من الحجر، وتبايعوا ألا يفتحوا باب ذلك البيت إلا في رأس كل سنة وسميت البيعة حينئذ؛ لأنهم تبايعوا وتعاقدوا عليه؛ فاشتد ذلك على يعوق، فعمد إلى ريطة وحلفاء، فألقاها في الحائط بالنار ليلاً فأصبح القوم وقد احترق البيت والصنم والحرس وارفض الصنم ملقى، فجزعوا، وهموا بقتل يعوق، فقال لهم: إن قتلتم رئيسكم، فسدت أموركم، فلم يلبث أن مات يعوق، وخلف ابناً يقال له: نسر، فأتاهم إبليس فقال لهم: بلغني موت عظيمكم، فأنا جاعل لكم مثال يعوق في شيء لا يبلى، فقالوا: افعل، فعمد إلى الذهب وأوقد عليه النار حتى صار كالماء، وعمل مثالاً من الطين على صورة يعوق، ثم أفرغ الذهب فيه، ثم نصبه لهم في ديرهم، واشتد ذلك على نسر، ولم يقدر على دخول ذلك الدير، فانحاز عنهم في قرية قريبة من إخوته يعبدون نسراً والآخرون يعبدون الصنم، حتى مات نسر، وظهرت نبوة إدريس - عليه السلام - فبلغه حال القوم، وأنهم يعبدون صنماً على مثال يعوق، وأن نسراً كان يعبد من دون الله، فسار إليهم بمن معه حتى نزل مدينة نسر وهم فيها، وهزمهم وقتل من قتل وهرب من هرب، فتفرقوا في البلاد، وأمر بالصنم فحمل وألقى في البحر، فاتخذت كل فرقة منهم صنماً، وسموها بأسمائها، فلم يزالوا بعد ذلك قرناً بعد قرن لا يعرفون إلا تلك الأسماء.
ثم ظهرت نبوة نوح - عليه السلام - فدعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده، وترك ما كانوا يعبدون من الأصنام، فقال بعضهم: " لاَ تَذَرُونَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً " نوح فعلى هذا كانت - بسبب أولاد قابيل، لعنة الله - عبادة الأصنام.
وفي العلل: أن أصل عبادة النيران قابيل - لعنه الله - فإنه لما لم يتقبل الله منه قربانه، أتاه إبليس، وقال له: إنما قبلت النار قربان أخيك؛ لأنه يعبدها، فقال: وأنا أعبد ناراً أخرى، فبنى بيوت النار، ولم يرث منه ولده إلا عبادة النيران. وهو أول من بنى للنار البيوت.(1/35)
وعن ابن بابويه، عن محمد بن علي ماجيلويه، عن محمد بن يحيى العطار، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن ابن أورمة، عن عمر بن عثمان، عن العبقري، عن أسباط، عن رجل حدثه عن علي بن الحسين؛ أن طاوساً قال في المسجد الحرام: أول دم وقع على وجه الأرض دم هابيل حين قتله قابيل، وهو يومئذ قتل ربع الناس، فقال زين العابدين: ليس كما قال؛ إن أول دم وقع على الأرض دم حواء حين حاضت يومئذ، فقتل سدس الناس، كان يومئذ آدم وحواء وقابيل وهابيل وأختاهما بنتين كانتا. ثم قال: هل تدرون ما صنع بقابيل؟ فقال القوم: لا ندري، فقال: وكل الله به ملكين يطلعانه مع الشمس إذا طلعت، ويغربان به إذا غربت، وينضحانه بالماء الحار في حر الشمس حتى تقوم الساعة.
وبهذا الإسناد عن ابن أورمة، عن الحسن بن علي، عن ابن أبي بكير، عن أبي جعفر: إن بالمدينة لرجلاً أتى المكان الذي فيه ابن آدم، فرآه معقولاً مع عشرة موكلين به يستقبلون بوجهه الشمس، حيث ما دارت في الصيف، ويوقدون حوله النار، فإذا كان الشتاء، يصبون عليه الماء البارد، وكلما هلك رجل من العشرة، أخرج أهل القرية رجلاً فقال له: يا عبد الله، ما قصتك؟ لأي شيء ابتليت بهذا؟ فقال: لقد سألتني عن مسألة ما سألني أحد عنها قبلك، أنت أكيس الناس، وإنك لأحمق الناس.
وبهذا الإسناد عن ابن أرومة، عن عبد الله بن محمد، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله قال: كانت الوحوش والطير والسباع وكل شيء خلقه الله مختلطاً بعضه ببعض، فلما قتل ابن آدم أخاه، نفرت وفزعت، فذهب كل شيء إلى شكله.
هابيل: صاحب القربان المقتول زوج أخت قابيل - لعنه الله - وكان آدم - عليه السلام - قسم ماله بينهما؛ فجعل هابيل راعي غنم، وجعل قابيل حراثاً، وكان آدم أمر بتابوت، ثم جعل فيه علمه والأسماء والوصية، ثم دفعه إلى وصية شيث، وقال: إذا حضرتك الوفاة، وأحسست بذلك من نفسك، فالتمس خير ولدك وأكثرهم لك صحبة وأفضلهم، فأوصل إليه بما أوصيت به إليك.
ولما مات آدم وحواء، طمع إبليس في بنيهما، وجاء إلى شيث، فسلم عليه، وكلمه كلاماً أظهر فيه الندم على فعله بأبيه وأمه ما فعل، وأن يكون عونه على أولاد قابيل، فلعنه شيث وطرده وتهدده بأن يدعو عليه، وإن كان منظراً، فخرج إبليس آيساً منه، وقام شيث في بنيه وإخوته خطيباً، وأعلمهم ما أراد إبليس وحذرهم منه ومن أولاد قابيل، قال: فإنهم أعداؤكم في الدين، فجعل بعضهم يحذر بعضاً من مخالطة بني قابيل؛ كما تقدم ذكر ذلك.
فلما أيس إبليس من شيث، رجع إلى قابيل، وزين له ألا يمنع ذكراً من إخوته وبنات أخيه ليكثر النسل، وأن يبيح لهم شركة الواحد والاثنين والثلاثة في الواحدة، ولا يمنعهم مرادهم، فقبل قابيل قوله، واشتركت الجماعة في الواحدة، وما من ولد إلا وإبليس فيه شركة، وكان لإبليس أولاد اختلطوا معهم، وتربوا جميعاً، والعياذ بالله تعالى.
وشيث هو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة على محل خيمة آدم التي كانت من الجنة، وأنزل الله عليه خمسين صحيفة لخمس ليال خلون من رمضان، وكان مدة عمره تسعمائة واثنتي عشرة سنة، وكانت تنزل صحيفة بعد صحيفة بالأمر بعد الأمر، وأعلمه أن عند انقضاء نزولها يكون انقضاء عمره، وأن آخر صحيفة الوصية لولده أنوش، فلما استوفاه، علم أن عمره قد نفد.
ولما حضرته الوفاة، أوحى الله إليه أن يستودع التابوت والاسم الأعظم ابنه أنوش - ومعناه الصادق - ابن نزلة، فأحضره وسلم إليه التابوت وعهود الأنبياء، وأمره بمثل ما كان أمره آدم به من وضع النور المحمدي في أطهر النساء، وقال: إن أدركت نبوة نوح، فسلم إليه العلم والتابوت، فأقام أنوش بعد شيث بكل ما أمر به أبوه شيث، وتزوج نعم، وكانت من أشبه النساء بحواء، فلما بنى بها، حملت بالنور، ففرح أنوش، وولدت له قينان والنور في وجهه كالكوكب الدري، وأولاد قابيل في تمردهم قد لقي منهم أنوش تعباً كثيراً. ثم مات أنوش وله من العمر تسعمائة وخمسون سنة، وله إخوة وبنات انقرضوا جميعاً، وقينان صاحب النور محفوظاً من إبليس وجنوده، تزيد أنواره في كل يوم وبركاته على بني أبيه وأعمامه، وهم في جهاد مع بني قابيل أفضى الملك فيهم إلى ابنه طهمورث.(1/36)
ثم قام قينان - ومعناه المستولي - فقام مقام أبيه وتزوج عيطول، وول له مهيائيل، ومعناه الممدوح. ولما كبر وعلمه أبوه أنوش الصحف التي لأبيه آدم وشيث وجميع ما علمه أبوه من قبل، فخرج أفصح أهل زمانه وأشجعهم وأكملهم براعةً وفضلاً، والنور المحمدي في وجهه يزداد كل يوم إشراقاً حتى صار له خمسون سنة، وظهر ملك عوج بن عنق، فطغى وأفسد في الأرض، واشتد الأمر، وتزوج عيطول، فولد له منها مهيائيل بن قينان بن أنوش.
ولما حضرت الوفاة قينان، مات في تموز، وعمره تسعمائة وعشرون سنة.
فقام بالمر بعده ابنه مهيائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم - عليه الصلاة والسلام - وتولى النظر في أمر بني آدم بعد أبيه، وعاش ثمانمائة سنة وخمساً وتسعين سنة، وهو أول من بنى المدن، واستخرج المعادن، وبنى مدينة بابل.
ثم ولد لمهيائيل يرد، ويقال: يارد، ومعناه الضابط، فقام مقام أبيه، وفي زمنه عملت الأصنام، ورجع من رجع عن الإسلام من أولاد شيث مع أولاد قابيل.
ثم ولد ليرد أخنوخ، بهمزة وحذفها، والمشهور: أنه بخاءين معجمتين، وقيل: الأولى حاء مهملة، وهو النبي إدريس - عليه السلام - وهو هرمس الهرامس المثلث بالنبوة والحكمة والملك، أمه ادينا بنت ابيال، سمى إدريس؛ لكثرة درسه صحف آدم وشيث، والجمهور على أنه أول نبي بعث بعد آدم بمائتي سنة، ونزل عليه ثلاثون صحيفة، وهو أول من خاط الثياب ولبسها، وكانوا من قبل يلبسون جلود البقر، فأرسله الله إلى قومه وبني أبيه وبني قابيل، وهو أول من خط بالقلم، وهو الذي بنى الأهرام بمصر، وقيل: بناهما دومع بن الزبان، ابن فرعون يوسف، وقيل: سودي، وقيل غير ذلك.
وعلى ذكر الأهرام قال ابن الجوزي: ومن عجائب الهرمين أن سمك كل واحد منهما أربعمائة ذراع، وهما من الرخام والمرمر، مكتوب فيهما: أنا بنيتهما بملكي، فمن يدعي قوة في ملكه فليهدمهما؛ فإن الهدم أيسر من البناء. وكان المأمون العباسي، لما دخل الديار المصرية، أراد هدمهما؛ فلم يقدر على ذلك، فاجتهد وأنفق أموالاً عظيمةً حتى فتح في أحدهما طاقة صغيرة، فوجد خلف الطاقة من الأموال قدر الذي أنفقه وكتاباً فيه: قد علمنا أنك تأتي في عصر كذا، وتروم الهدم، ولا تستطيع أكثر من ذلك، فجعلنا لك ما أنفقت، فلا تتعب؛ فأنشد المأمون في ذلك: من الكامل
أنظر إلى الهرمين واسمع منهما ... ما يرويان عن الزّمان الغابر
لو ينطقان لخبّرانا بالّذي ... فعل الزّمان بأوّل وبآخر
وهي عدة أهرام، إلا أن أكبرها هرمان اثنان، وقد ذكرتها الشعراء قديماً وحديثاً في موارد الوعظ تارة، والغزل أخرى وغيرهما، قال أبو الطيب: من الكامل
أين الّذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلّف الآثار عن سكّانها ... حيناً فيدركها الفناء فتتبع
وقال آخر: من الرجز
مصر الّتي من حسنها ... قد قيل فيها إرم
لمّا جفت عشّاقها ... بدا عليها الهرم
وقال آخر - وفي تورية ظريفة - : من البسيط
قالوا علا نيل مصر في زيادته ... حتّى لقد بلغ الأهرام حين طما
فقلت هذا عجيبٌ في دياركم ... أنّ ابن ستّة عشرٍ يبلغ الهرما
وأحسن ما سمعت في وصفهما قول عمارة اليمني شاعر الدولة العبيدية حيث يقول: من الطويل
خليليّ ما تحت السّماء بنيّةٌ ... تماثل في إتقانها هرمي مصر
بناءٌ يخاف الدّهر منه وكلّ ما ... على ظاهر الدّنيا يخاف من الدّهر
تنزّه طرفي في بديع بنائها ... ولم يتنزّه في المراد بها فكري
رجع: وعن جعفر الصادق بن محمد الباقر، إذا دخلت الكوفة فائت مسجد السهلة؛ فصل واسأل الله حاجتك لدينك ودنياك؛ فإن مسجد السهلة بيت إدريس - عليه السلام - الذي كان يخيط فيه ويصلي، ومن دعا فيه بما أحب، قضى الله له حوائجه، وأجير من مكروه الدنيا.(1/37)
قال في تاريخ الخميس: وفي لباب التأويل: لما ولد لإدريس ابنه متوشلخ، ومضى من عمره ثلاثمائة وخمس وستون سنة، رفع إلى السماء، قال تعالى: " وَرَفَعْنَهُ مَكَاناً عَلِيّاً " مريم كان رفعه إلى السماء الرابعة على ما قاله كعب الأحبار وغيره؛ أنه سار ذات يوم في حاجة، فأصابه حر الشمس، فقال: يا رب، إني مشيت يوماً، فكيف من يحملها على خمسمائة عام في يوم واحد؟ اللهم، خفف عنه من حرها وثقلها فأصبح الملك ووجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعهد، فسأل الله عن سبب ذلك، فقال تعالى: عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها وثقلها فأجبته، فقال: يا رب، اجمع بيني وبينه، واجعل بيني وبينه خلة. فأذن له حتى أتى إلى إدريس، فقال له: اشفع لي إلى ملك الموت؛ ليؤخر أجلي فأزداد شكراً وعبادة، فقال الملك: لا يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها، وأنا مكلمه، فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى إلى ملك الموت، فقال له: لي إليك حاجة، صديق لي من بني آدم يستشفع بي إليك؛ لتؤخر أجله، فقال ملك الموت: ليس ذلك إلي، ولكن إن أحببت أعلمته بأجله فيقدم لنفسه، قال: نعم، فنظر في ديوانه فقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبداً، قال: فكيف ذلك؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس، قال الملك: أنا أتيتك وتركته هناك، قال: انطلق فما أراك تجده إلا ميتاً، فانطلق الملك فوجده ميتاً.
وقال وهب: كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض، فعجب منه الملائكة وحبب إليهم، واشتاق ملك الموت إلى لقياه، فاستأذن ربه، فأذن له، فأتاه زائراً، فقال له إدريس: يا ملك الموت، أذقني الموت ورد علي روحي بعد ذلك لأجتهد في العبادة، فقال له: لو عملت كرب الموت لما تمنيته، فقال: لأزداد بذلك جداً إلى جدي، فقال له ملك الموت: الموت والحياة بإذن الله، فسل ربك ما تريده، فأوحى الله إليه: نوله ما طلب، وهو عليه ذلك، فإذا بلغت روحه خياشيمه وعينيه، فلا تنزعها واتركه ساعة واحدة، ثم أعد روحه إلى جسده. فاستقبل نزع روحه في ساعة واحدة برفق حتى بلغ بها خياشيمه وعينيه، فصار بمنزلة الميت ساعة، فذاق الموت، ثم أطلق روحه إلى جسده وبقي يومه وليلته لا يقدر أن يتحرك، وولده متوشلخ وجميع قوله يبكون وقد أيسوا منه، ثم أفاق وقد أوهنه ذلك، فلما كان في بعض الأيام زاره ملك الموت، وكانت الملائكة من زمن آدم - عليه السلام - تجالس مؤمني بني آدم، وتخالطهم وتصافحهم وتكلمهم إلى زمن نوح؛ لصلاح الزمان وأهله.
وذكر في كتاب حقيبة الأسرار، وجهينة الأخبار: أن الملك الموكل بالشمس لما استأذن ربه في زيارة إدريس، فهبط عليه، قال لإدريس: يا نبي الله، هبطت لأكافئك، فسلني حاجتك، فسأله أن يعرفه الفلك ودورانه ومنازل الشمس والقمر ومطالعها ومغاربها وسيرها ولبثها وحسابها، فقال: سوف أستأذن ربي، فأمره الله أن يعلمه جميع ذلك ويطلعه على سره؛ فلذلك كان إدريس أعلم أهل الأرض بالنجوم وجريان الأفلاك، ووضع كتباً كتبها بيده، وهو أول من اتخذ الآلات لجريان الأفلاك، وقدر الساعات والدقائق والدرج وما هو أدق من ذلك من الثواني والثوالث، وإلى الآن من كتبه لمع في أيدي الناس.
ثم إن إدريس سأل ملك الشمس عن أجله، فقال له الملك: ما لي بذلك من علم، فسأل له ملك الموت عن أجله... إلى آخر ما تقدم ذكره عن تاريخ الخميس.
فلما أفاق، قال له: يا ملك الموت، أدخلني النار لأزداد رهبة، ففعل بإذن ربه، ثم قال: أدخلني الجنة، ففعل بإذن ربه، ثم قال له: اخرج لتعود إلى مقرك، فتعلق بشجرة، وقال: لا أخرج: فبعث الله إليهما مالكاً حكماً، فقال له ملك الموت بحضرة مالك: ألا تخرج؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال لأن الله تعالى قال: " كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ " آل عمران وقد ذقته، وقال تعالى: " وَإِن مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا " مريم وقد وردتها، وقال تعالى: " وَمَا هُم مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ " الحجر فلست بخارج، فأوحى الله إلى ملك الموت: بإذني دخل وبإذني لا يخرج. انتهى.
فائدة: أربعة من الأنبياء أحياء؛ اثنان في السما إدريس، وعيسى - عليهما الصلاة والسلام - واثنان في الأرض: الخضر، وإلياس على القول بنبوته.(1/38)
متوشلخ خلف أباه إدريس بعد رفعه سالكاً طريقه، وعاش ستمائة وستين سنة، وقد تزوج وولد لمك. ولم يزل متوشلخ يدبر أمر الله تعالى، ويستحفظ ما استودع على منهاج آبائه يهدي إلي الحق وإلى صراط مستقيم، ونهى عن صحبته بني قابيل، فخالفه من قومه جماعة أضاعوا الدين، فلقي منهم تعباً عظيماً.
ولما رفع إدريس، طمع إبليس في المؤمنين فأطاعوه، وتأهب متوشلخ للحج، وتخلف عنه من كان في قلبه مرض. فلما أخذ في المناسك، أقبل إبليس إلى بني قابيل، فقال لهم: إن إدريس مات، ومتوشلخ لا رجال معه إلا قليل، فإن أردتم أخذ الثأر ونصرة آلهتكم، فهذا اليوم الذي كنت أعدكم به. فاجتمعوا إلى ملكهم ماهيل بن جاشم، فقالوا: أيها الملك، قد علمت ما قد أسره أولاد شيث وما قتلوه من آبائنا وإخواننا، وكنا نهابهم لمقام إدريس، والآن ابنه متوشلخ غلام غر لا معرفة له بالحروب، وهو غائب عن ديار بني أبيه في مكة، ودياره خالية فيها ذراريه وأهله مع من أسر منا، فلو سرت بنا إليهم لأخذ الثأر واستنقذت الأسرى فاستعبدنا ذراريهم كما فعلوا بنا. فسمع ماهيل كلامهم، وأطمعته نفسه فيما قالوا: وتأهبوا للمسير، فجاءهم إبليس في صورة شيخ كبير السن، فاجتمعوا يسألونه كم له من العمر؟ فزعم أنه من ولد قابيل تفرد في بعض الجزائر فعظموه، وسألهم فعرفوه بعزمهم، فبكى على كبر سنه وقال: فمن يتولى الآن على أمر شيث؟ فقالوا: غلام لا معرفة له بالحرب، اسمه متوشلخ بن إدريس، قال: سمعت به، فما فعل؟ قالوا: مات - يعني إدريس - وبقي معه طائفة قليلة، والباقون معنا، وقد ساروا ليحجوا وتركوا من سبوا منا في منازل إدريس، فرأينا أن ننتهز الفرصة ونفعل بهم ما فعلوا بنا، قال لهم: نعم ما رأيتم، ولكن ما يؤمنكم أن يسمع متوشلخ بذلك؛ فيكر راجعاً ويقاتل عن أهاليه القتال الشديد؟! وإني أرى لكم رأياً إن قبلتم نصحي، فقالوا له: قل نسمع، قال: من الرأي أن تتفرقوا فرقتين، وتجعلوا أبطالكم ومن تتقون به في الذين يسيرون إلى الحرم؛ فيشغلون متوشلخ عن المجيء إلى أهله، وتسير الفرقة الأخرى لأخذ الذراري، فليس عندهم من يمنع. فصدقوه، وانتخبوا الأبطال لمكة وملكهم ماهيل في أوائلهم، وقدم ابنه مخوائيل على الفرقة الأخرى، وأمره بالمسير إلى منازل المؤمنين يسبي ويضرب ولا يطلع أحداً على أمره، وسار ماهيل إلى مكة وابنه مخوائيل إلى الذراري، ومتوشلخ لما فرغ من مناسكه، رأى في منامه كأن الأرض صارت ناراً من حولهم مضرمة، وأنه كلما أراد الخروج منا، لم يجد سبيلاً، غير أنها لا ضرر عليه منها، فأخبر المؤمنين فسألوه تأويلها فقال: سنلقي أمراً يصدنا في طريقنا عن قصدنا وتضيق الأرض بنا، إلا أني أرجو الفرج من الله تعالى، فقالوا: فوضنا أمرنا إلى الله تعالى واستعنا به، فما ساروا إلا قليلاً حتى أشرفوا على ماهيل في بني قابيل بجموع عظيمة، فقال متوشلخ: هذا والله تأويل رؤياي، فما أنتم فاعلون؟ قالوا: ليس إلا قتالهم حتى يحكم الله بيننا، فنزلوا بإزائهم ذلك اليوم وباتوا ففي الصبح زحف ماهيل بأصحابه إلى متوشلخ، فضعفت أنفس المؤمنين، فقال متوشلخ، لا تنظروا إلى كثرتهم وقلتكم؛ فإن الله يخذلهم وينصركم، فقالوا: إنهم جاءونا على أهبة وعدة، ونحن حجاج على غير أهبة، فقال: اصبروا، واعلموا أن الله لم يزل ناصركم وناصر آبائكم؛ بذلك وعدكم وهو لا يخلف الميعاد، وابتدرهم بنو قابيل بالقتال، فاقتتلا قتالاً شديداً إلى الليل، فحال الظلام بينهم، وقتل من أولاد قابيل عالم كثير، ولم يقتل من أصحاب متوشلخ غير رجل واحد، فقال متوشلخ: ألم أخبركم أن الله ناصركم؟! وألقى الله في قلب ماهيل وقومه الرعب، وقال بعضهم لبعض: قد علمتم ما كان منا بالأمس مع هذه الشرذمة القليلة العدد والعدد، ونخاف إن شبت الحرب بيننا أن تكون علينا الدائرة فيفنونا، وإن انهزمنا كان عاراً علينا، ويلحقون بإخواننا في ديارهم فينالون منهم مرادهم، فقال ماهيل: ليس لنا إلا القتال إلا أن نعلم أن إخواننا وصلوا إلى مطلوبهم.(1/39)
وكان شيعمة ملك الجن المؤمن، حج تلك السنة مع متوشلخ وطائفة من الجن المؤمنين، فلما كان صباح ذلك اليوم إذا هم بابن أخي شيعمة واسمه سهلب جاءه صارخاً وأخبرهم بما جرى من مخوائيل بن ماهيل على الذراري والأهل، وأنه تركهم في أضيق حال، فلما سمعه شيعمة، صاح صيحة عظيمة في بنيه وقومه ومن معه، فاجتمعوا إليه، فقال: يا ويحكم، أعينوني وأعينوا أصحابكم. ثم سار في قومه إلى منازل المؤمنين مغيثاً، فلما رآه إبليس، خافه وانزوى عنه.
وأما متوشلخ: فإنه لما أعلمه شيعمة بما جرى على قومه، بكى بكاءً شديداً، وضج بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى مع المؤمنين، وقال: إن الدعاء خير نافع، وقد حيل بيننا وبين قومنا، ولم يبق لنا غير الدعاء إلى الله تعالى، فقال متوشلخ، نعم ما رأيتم وأشرتم، ثم جمع قومه وتوسل إلى الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وساعدهم سائر المخلوقات والملائكة والسموات، كل يسأل في هلاك أعدائهم بني قابيل، فهبط جبريل في ملأ من الملائكة في أيديهم الحراب، وقد أحاط أصحاب ماهيل بذراري المؤمنين وإبليس يقول: لا مانع لهم سوى شيعمة، ونحن له، فلما رأى إبليس الملاكة هرب ولحقه بعده جنده، فأمر جبريل بقتل من لحقوه منهم، فصاح جبريل فيهم صحية عظيمة، وقعوا على وجوههم منها صعقين، فمات منهم الثلث، ومسخ الله الثلث الثاني فيلة؛ فهو أول مسخ وقع في بني آدم، والثلث الثالث صعقوا، فلما أفاقوا، نظروا إلى الفيلة، ففزعوا ولم يكونوا رأوها قبل ذلك، فولوا منهزمين إلى ديارهم، فاتبعتهم الفيلة حسداً لهم؛ إذ مسخوا دونهم، فقتلت أكثر من بقي منهم، ورجع الباقون إلى منازلهم، فلما رآهم الذين تخلفوا منهم، ارتاعوا ولم يعلموا كيف الخبر، فاقتحمت عليهم الفيلة البيوت وكسرت كل ما مرت به، فظنهم المقيمون في الديار وحوشا فمانعوهم عن الدخول، فحميت صدور الفيلة، فكان الفيل يقتل ولده وأخاه وزوجه وأباه ويعلوهم برجله، ويأخذ الواحد منهم بمشفره فيرفعه إلى الهواء، ثم يلقيه إلى الأرض، ولم يزالوا كذلك أياماً حتى وصل إليهم من كانوا شاهدوا مسخهم، فأعلموهم الخبر، وقالوا: نحن بقية الثلث الثالث الذين نجوا من الموت والمسخ، وأكثرنا هلك جوعاً وعطشاً، فصدقوهم، وقصد كل فيل منزله، واجتمع أهله حوله يبكون والفيلة تضرب الأرض بأنفسها.
وأما ماهيل: فإنه قيل قلقاً عظيماً، وطال عليه مصابرته لمتوشلخ ليمسكه عن اللحاق بقومه، وأرسل رجلاً ليأتيه بخبر ابنه مخوائيل الذي أرسله لذراري المؤمنين في منازلهم ومتوشلخ لا يعلم بما جرى، وأرسل إليه أولاد شيعمة بما حل بمخوائيل بن ماهيل، فلما جاءه البشير، فجاءه الرسول، وأخبره بالمسخ والهلاك وانقلاب الباقين إلى الديار بعد أن مات أكثرهم جوعاً وعطشاً، فخافوا أن يحل بهم مثل ذلك؛ فولوا على أعقابهم هاربين، فتبعهم متوشلخ وقتل منهم خلقاً كثيراً وأخذ أموالهم وسلاحهم، وتقطعوا في الأرض فهلكوا، ووصل أقلهم إلى أهليهم، فلقيتهم الفيلة فأنكروها، وقالوا: كيف يكونون إخواننا وما هم إلا من وحش البر، جاءوا يريدون ديارنا لما غبنا عنهم، ثم ناوشوهم الحرب، والفيلة تخضع لهم لعلهم يراجعون بصائرهم ويعرفون أنهم منهم، فأبوا إلا هلاكهم، فلما رأت الفيلة ذلك، تضافروا عليهم فقتلوا أكثرهم، وأقاموا ثلاثة أيام يقتتلون، قد سلط الله بعضهم على بعض، ولا يقتل فيل واحد حتى يقتل جماعة منهم، حتى تفانوا وقتلت الفيلة عن آخرها.
ولما هلكوا، فرح إبليس بذلك وبلغ منهم مراده، ولم يجسر أن يتعرض للمؤمنين خوفاً أن تحل به نقمة من الله، ولم يكن بعد ذلك بينهم قتال ولا حرب إلى أن جاء الطوفان، فأهلكهم الله بكفرهم.
ورجع متوشلخ بمن معه من المؤمنين إلى ديارهم سالمين منصورين، فرأوا أهاليهم على حال السلامة، فانعزل بمن معه من المؤمنين إلى ديارهم سالمين منصورين إلى جبل، يقال له: راسخ، وكان جبلاً حصيناً كثير الشجر والخيرات، فاتخذوه مسكناً وتركوا المدن التي كانوا فيها، وأعرضوا عن التعرض لمن بقي من ولد قابيل، وانبث ولد قابيل في الأرض وانتشروا إلى البحر مما يلي الشمال والجنوب، وعبدوا الأصنام ونكحوا الأمهات والأخوات والبنات، وإبليس يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً. ولم تزل هذه أفعالهم إلى زمن نوح، عليه السلام.(1/40)
ولما استوطن متوشلخ الجبل، أنفذ وصية أبيه إدريس، وخطب شلجم بنت جندل، وكانت من أولاد شيث، وكانت أجمل النساء وأكملهن عقلاً وفضلاً، فدخل عليهم وأعلمها بالنور المحمدي، وأقام معها مدة وولد له أولاد كثيرة، والنور لم ينقل من وجهه، فتزوج بعدها صدوقاً أختها، فلم ينتقل النور إليها. ولم يزل يتزوج امرأة بعد أخرى إلى خمس عشرة امرأة ما منهن إلا ويرزق أولاداً منها، فأمسك عن التزويج لينظر ما يكون، وكان له ابن عم قد قتل في قتال إدريس لبني قابيل، وله ابنة صبية رباها إدريس، وعلمها الكتب وكتبتها، وكفلها بعد إدريس متوشلخ واسمها شملة، فرأته وماهم عليه من الهم لأجل حبس النور، فسألته فأعلمها، فقالت: يا ابن العم، إذا أراد الله نقل النور عنك، اختار له من بنات عمك فلا تغتم، فألقى الله في قلبه أنها هي، فقال لها: يا شملة، هل لك أن تكوني أنت التي أرجوها لهذا النور؟ فخجلت وولت مستحيية، فأحضر جماعة من وجوه قومه وخطبها وتزوجها، فحملت منه من أول ليلة، وأصبحت والنور في غرتها، فسجد الله شكراً وبشرها بذلك، ففرحت، وتممت أشهرها، فولدت غلاماً والنور في جبهته، فسماه لمك، ورباه أحسن تربية، وعلمه الكتابة والصحف، وبانت عليه دلائل السؤدد، حتى إذا بلغ من العمر أربعين سنة، حضرت متوشلخ المنية... خمسمائة سنة إلا اثني عشر، فأقعده بين يديه وأوصاه بوصية أبيه، وعهد إليه في النور، وأخذ عليه الميثاق ألا يضعه إلا في أطهر النساء من بني أبيه وأعمامه، فأخذ ذلك لمك بالقبول، وضمن ذلك له من نفسه، ومات متوشلخ، فسلك به لمك مسلك آبائه وأجداده في التغسيل والتكفين والصلاة عليه ودفنه، سنة من تقدم من آبائه، عليهم الصلاة والسلام.
قال في بحر الأنساب: لمك بلام مفتوحة وميم ساكنة وكاف، وقيل: اسمه لامك، وكان رجلاً أشقر، قد أعطى قوةً وبطشاً. فتزوج امرأة يقال لها: فيسوس بنت بركائيل، وقيل: إنه خرج يوماً إلى البرية، فإذا بامرأة في نهاية الجمال ترعى غنماً، فسألها عن اسمها، فقالت: أنا فيسوس بنت الحيد بن عتويل بن لامك بن قابيل بن آدم - عليه السلام - فقال لها: كم سنك؟ فقالت: مائة سنة وعشر سنين، وكانت تبلغ المرأة مائتي سنة. فمضى إلى أبيها وتزوج بها، ولما تمت أشهرها، وضمت غلاماً والنور في جبهته فسماه نوحاً، وفرح به فرحاً شديداً، وكان لمك يضرب بيده إلى أعظم شجرة فيقلعها من أصلها. وأقبل بعد دفن أبيه متوشلخ على درس الصحف والعمل بما فيها، ووعظ قومه وهم أقل من مائة، واحتاجوا إلى أولاده قابيل، وكان الرجل منهم ينزل إلى أولاد أبيه، فيعطفون عليه، ويأمرونه بالدخول في دينهم والنزول من الجبل، فيأبى المؤمنون ويقولون: إن كنتم ترعون الرحم بيننا، فافعلوا ولا تردونا عن دين آبائنا. ولمك ينهاهم عن ذلك فيقولون: إنا جياع، فيقول: لو لم تخضعوا لهؤلاء المرتدين منكم، لرزقكم الله كما يرزق الطير، فاصبروا تؤجروا.
ولما ولد نوح - عليه السلام - رأى إبليس ليلة ولادته الملائكة نزلت من السماء ودارت بالجبل؛ فعلم أن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقل، فسأل فقيل: إن لمك رزق ولداً والنور انتقل إليه. فطمع أن يصل إليه فلم يقدر، فجعل يعطف على كل من ارتد من ولد أبيه وبني قابيل كيداً منه، وكانوا بنو قابيل قد أنسوا من الجبل حتى لم يبق بيت من المؤمنين به إلا دخله بنو قابيل، وكلما عرضوا على لمك النزول إلى منازلهم، أبي ونفر خوفاً على ابنه نوح، وكان يخفيه عنهم ولا يظهره، وأدخله إلى مغارة في الجبل، وأمه معه، والصحف التي لآبائه عندها؛ احتفاظاً بها واحترازاً على ما فيها من إبليس وبني قابيل، وعلمه أبوه لمك جميع ما علمه أبوه متوشلخ، وأوصاه بوصية آبائه، وأخذ عليه العهد والميثاق كما أخذه عليه أبوه.
واجتهد نوح في العبادة في تلك المغارة، ولا يتركه أبوه يخرج منها ولا أحداً يدخل عليه. فلما بلغ من العمر خمساً وثلاثين سنة، مرض أبوه لمك، فلما أحس بالموت جدد الوصية، وحذره إبليس وبني قابيل، وسلمه الاسم الأعظم والتابوت ومواريث الأنبياء، ومات وعمره تسعمائة وتسع وسبعون سنة. وفي مروج الذهب: تسعمائة واثنان وثلاثون سنة.(1/41)
فقام بالأمر بعده نوح - عليه الصلاة والسلام - وهو أول أولي العزم، وشيخ المرسلين والأب الثاني، وصاحب الفلك، وآدم الثاني؛ لأنه لا عقب إلا منه، وله إخوة درجوا جميعاً والعقب من نوح وحده.
ولد - عليه السلام - بعد موت آدم في الألف الأولى، وبعث في الألف الثانية، وهو ابن أربعمائة سنة، ولبث في قومه: " أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً " كما في الآية الشريفة العنكبوت واسمه - قبل - عبد الأعلى، وإنما سمي نوحاً؛ لأنه بكى على قومه خمسمائة عام. وفي رواية: اسمه عبد الملك، وفي أخرى: عبد الغفار، وفي أخرى: عبد الجبار.
وهو أول نبي بعد إدريس. وكان نجاراً، ألهمه الله ذلك؛ فعمل أبواباً؛ لأنه خاف على الصحف من بني قابيل، فعمل باباً على المغارة التي هي فيها، وأوثقه وقفل عله احتفاظاً بها، وكان لا يأخذ على النجارة أجراً. وكان بنو قابيل يعرفون محله ويعظمونه، وإذا أراد أحد منهم الجلوس عنده انتهره، وإذا جلس إليه أحد من قومه المرتدين وعظه. وكان معروفاً بينهم.
وعن وهب: إن نوحاً كان إلى الأدمة ما هو، دقيق الوجه، رأسه طويل، عظيم العينين، دقيق الساقين، كثير لحم الفخذين، ضخم السرة، طويل اللحية، عريضاً طويلاً جسيماً، فبعثه الله وهو ابن أربعمائة سنة وخمسين سنة، فلبث فيهم المدة المذكورة في القرآن يدعوهم إلى الله تعالى؛ فلا يزدادون إلا طغياناً، ومضى ثلاثة قرون من قومه؛ فكان الرجل يأتي بابنه وهو صغير فيوقفه على رأس نوح - عليه السلام - ويقول له: يا بني، إن بقيت بعدي، فلا تطع هذا. ثم لما دعاهم سراً فلم يجيبوه، أيده الله بروح القدس وأمره بإظهار الدعوة، والملك يومئذ في بني راسب وأهل مملكته وعوج بن عنق، وقيل: كان لهم ملك يقال له: درمسيل بن عوبيل بن لامك بن جنح بن قابيل، وكان جباراً عاتياً يعبد هو وقومه الأصنام. قوم إدريس الخمسة: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق ونسر، ثم كثروا حتى صار لهم ألف صنم وسبعمائة صنم. فدعاهم نوح علانية؛ فلم يجيبوه؛ فلم يزل يدعوهم تسعمائة سنة وخمسين، كلما مر منهم قرن، اتبعه قرن على مذهب آبائهم، وآمن به بعض ولد شيث، فقالوا له: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون يعيرونه بقلة الأموال، وأنهم لا عز لهم ولا سلطان.
ثم إنه نزل إلى بني قابيل من الجبل في يوم عيد لهم، وهم عكوف على أصنامهم، فوقف على نشز عال من الأرض يشرف عليهم، ووضع إصبعيه في أذنيه ورفع صوته - وكان جهوري الصوت - فقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا معبود سواه، " اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِن ذُنُوبِكُمْ... " الآية نوح يا قوم، إني مرسل إليكم، فإن استقمتم استقام أمركم، وإن أعرضتم أتاكم وعيده حتى لم يبق أحد منكم على وجه الأرض، ويدخلكم النار وبئس المصير. وما قلت لكم هذا إلا بأمر ربي، فإن تقبلوا ترشدوا، وإن تتولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. فوقعت الأصنام على وجوهها، فآمن كل من كان مؤمناً على عهد أبيه لمك. وقيل: أول من آمن امرأة اسمها عمود، فتزوجها وأولدها ساماً وياماً وحاماً. ثم امرأة من قومه اسمها واهلة، فأولدها يافث وكنعان، ثم ارتدت وعادت إلى دينها الأول. ولما رأوا ما حل بالأصنام وثبوا إليه، وقالوا: إنا لنراك في ضلال مبين، أما رضيت بالمشاركة حتى تدعي أنك رسول الله إلينا، ونحن نعلم أنك في الطريقة المحمودة منذ كنت صغيراً، وقد اعتراك جنون. " إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ... " الآيات المؤمنون فسبوه وهموا به، فمنع دونه المؤمنون، وأخذت الحمية أقاربه في النسب، فخاف الرؤساء أن تقع بينهم فتنة فتركوه، فأوحى الله إليه أن اصبر عليهم، فرجع نوح إلى موضعه وبقي قومه الذين ارتدوا يقولون: ما نعرف نوحاً منذ نشأ إلا صادقاً، وإنا نظن أن الذي جاء به حق، فسحبهم بنو قابيل على وجهوهم، وأعلموا الدرمسيل وهو ملكهم بما قالوه، فقال: إن نوحاً من أشرف قومه حسباً وأكرمهم أماً وأباً، وقومه وإن دخلوا في دينكم لا يرضون بأذيته، وأخاف أن تتفرق كلمتكم ويقع بأسكم بينكم، ونوح لا خوف عليكم منه، فاصبروا عليه وداروا أهله. فأجابوه بالسمع والطاعة.(1/42)
وكانت شريعته التوحيد، وخلع الأنداد، والفطرة، والصلاة، وصيام شهر رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فأرسل إليه الملك رجلاً اسمه العملس، وكان فصيحاً فاضلاً في جماعة من الرؤساء، فقال له: يا نوح، أنا رسول، وناصح لك ألا تتعرض إلى سب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، فقد صبروا عليك وحملوك على الجنون، وقد أغريت الضعفاء، وآباؤك كانوا أقوى منك بأساً، وكانوا يعدونهم العذاب، فما أصابهم شيء، وماتوا أعزاء، فاتركهم وأنت ودينك، فقال له نوح: أما قومك الذين ماتوا، ولم يصبهم شيء، فإني لم أدركهم، " إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبّي " الشعراء وأما الذين معي ف - " مَا أَنَاْ بِطَارِدِ المُؤْمِنِينَ " الآية الشعراء، فقال له: يا نوح، إن كنت قلت هذا لفقرك فنجمع لك مالاً ونقدمك علينا، فقال " وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ العَلَمِينَ " الشعراء فقالوا: " لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَنُوحُ لَتكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ " الشعراء فقال: توكلت على الله ربي وربكم ولست براجع عما دعوتكم إليه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، حتى يحكم الله بيني وبينكم، وهو خير الحاكمين. ثم تركهم وانصرف، ثم عاد إليهم بعد مدة في عيد آخر ووقف على نشز عال، وفعل بهم مثل الأول، فقالوا: " يَنوحُ قَدْ جَدَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَلَنَا... " الآية، إلى: " الصَّدِقِينَ " هود وإن أبيت قتلناك. وما زال يدعوهم فيكذبونه ويضربونه إلى إن مات الجيل الأول، ونشأ أبناؤهم على ذلك، وانقرض الجيل الثاني، وجاء الجيل الثالث، ونوح يعذر وينذر، فلما طال الأمر قالوا: يا نوح أما لميعادك من آخر؟! وجاء رجل منهم وابنه على عاتقه، فقال لابنه: إن عشت بعدي فلا تسمع من هذا المجنون، فقال الصبي: أنزلني عن عاتقك، فأنزله، فأخذ الصبي حجراً وضرب به رأس نوح - عليه السلام - فشجه وسال دمه، فصبر واحتسب، وكانوا يعجبون من شدة صبره.
وفي بعض الأيام ضربوه، وداسوا بطنه، فلما أفاق، لم يقدر على النهوض، فشكا إلى ربه، فأوحى إليه أن يدعو عليهم بعد أن ضربوه أوجع ضرب، وخنقوه حتى غشي عليه وتركوه كالميت، فقال: اللهم، أنت العالم بما يفعل عبادك، اللهم، اهدهم وصبرني عليهم. فأوحى الله إليه: إنه لم يبق في أصلاب الرجال مؤمن ولا مؤمنة، وإنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون، أي: لا تحزن عليهم، فقال: إنما كنت أصبر طمعاً في إيمانهم، فإذا كان سبق القول بأنهم لن يؤمنوا، رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً. فلما سمع قومه دعاءه، خافوا إجابة الدعوة، وقالوا: تدعوا علينا، وأنت بين أظهرنا، إذا كان هذا منك، فاخرج عنا، ولا تجاورنا لا أنت ولا من معك، فقال: إن آمنتم بالله، سألته الرضا عنكم والعفو عما سلف، وإن أبيتم ليس لكم عندي إلا الدعاء، فضربوه حتى كسروا رجله اليمنى، وضربوا الذين معه حتى وقعوا كالموتى مصرعين، وجروا بأرجلهم، ولم يزالوا ثلاثة أيام لا يستطيعون حركة.
وفي ربيع الأبرار للزمخشري: روى الضحاك، عن ابن عباس: كان نوح يضرب في قومه ثم يلف في البلد، ثم يلقي في بيته، فيرون أنه مات، فيخرج فيدعوهم إلى الله، فلما قام نوح قال: إنه قد أوحى إلي أنه ينزل بكم القحط ويعقم نساؤكم، وقد أجل الله لكم أجلاً لا يزيد ولا ينقص، وإنه بعد أربعين سنة من يومكم هذا يأتيكم الطوفان، ماء يغرقكم ويغرق الأرض كلها حتى لا يبقى منكم أحد، فلا تلوموا إلا أنفسكم، فقالوا: قد سمعنا هذا منك من قديم الزمان، وزدت اليوم زيادة ما سمعها منك آباؤنا وهي ضربك أجلاً أربعين سنة، فإن آمنا بك وأطعنا، وإلا جاءنا طوفان، ماء من السماء، فأغرقنا وجميع من في الأرض إلا من آمن بك، وإنا ننتظرك إلى هذا الأجل، فإذا تمت أربعون سنة، ولم نر شيئاً حل لنا قتلك، فانصرف عنهم، فأمره الله أن يغرس شجرة، فغرسها، فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم أمره أن يقطعها بعد ما غرسها بأربعين سنة، فيتخذ منها سفينة.
روى الشيخ أبو عبد الله محمد بن سعيد بإسناده: أنه غرس الساج.(1/43)
وعن ابن عباس: قالت الحواريون لعيسى بن مريم: لو أحييت لنا رجلاً شهد السفينة، فحدثنا عنها، فأتى كثيباً من تراب، فأخذ كفاً منه، وقال: هذا قبر حام ابن نوح - عليه السلام - فضرب الكثيب بعصاه، وقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه، وقد شاب، فقال له عيسى - عليه السلام - : هكذا هلكت؟ قال: لا، مت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة فشبت، قال: حدثنا عن السفينة، فقال: طبقة فيها الدواب والوحوش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير، وعلمه جبريل كيف يديرها، وجعل يقطع الخشب، ويضرب الحديد ويهيىء مدة الفلك من القار وغيره. وأمره أن يطليها بالقار من داخلها وخارجها، وتم عملها في سنتين، وشاركه في عملها سام وحام ويافث ويام، وكان كلما عمل شيئاً أفسده قومه ليلاً، فدعا عليهم، فابتلاهم الله بالعشا فكانوا لا يرون شيئاً.
وفي تاريخ الخميس، وحياة الحيوان: قال نوح: يا رب، أمرتني أن أصنع الفلك، ولي أيام في صناعتها، كل ما صنعته بالنهار يفسده قومي بالليل، فأوحى الله إليه: يا نوح، خذ كلباً يحرسها بالليل.
وفي الكشاف: لما كان نوح يقطع الخشب، ويضرب الحديد، ويهيئ ما يحتاج إليه الفلك من القير وغيره، جعل قومه يمرون عليه في عمله، ويقولون: يا نوح، صرت نجاراً بعد النبوة، وكانوا يأتون ليلاً لما يعلمه نهاراً فيفسدونه، فيسخرون منه ويقولون: تتخذ بيتاً تسير به على الماء، فأين الماء الذي يحمل هذا البيت؟! لقد خرف نوح، فيقول: " إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ... " الآية هود ولم يزل هذا دأبه حتى فرغ، فجاءت على شكل لم ير مثله، وقومه يخرجون إليها أفواجاً أفواجاً يتعجبون ثم أوحى الله إليه عندما بقي من الأربعين السنة سبعة أيام أن ينادي بالسريانية أن يجتمع إليه جميع الحيوان، فلم يبق حيوان إلا حضر، ما خلا الفأر والسنور فإنهما لم يخلقا بعد، وإنما خلقا في السفينة كما يذكر على الأثر، فحمل فيها من كل زوجين اثنين، فلما شكا إليه أهل السفينة سرقين الدواب بعد أن ركبوا فيها، مسح جبين الخنزير فعطس فسقط من أنفه زوج فأر، فأتى على السرقين، ثم شكوا إليه أذى الفأر، فمسح بين عيني الأسد فعطس فسقط من أنفه زوج سنور، فاختفى الفأر.
وفي تفسير الهروي: أنه لم يحمل الحية والعقرب حتى ضمنا أنهما لن يضرا أحداً ذكر نوحاً - عليه السلام - فمن قرأ: " سَلَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَلَمِينَ " الصدقات عند خوف ضررهما، لن يضراه.
ولم يحمل نوح - عليه السلام - إلا ما يتوالد ويبيض، أما ما يتولد من الطين من الحشرات؛ كالبق والبعوض، وما يتولد من العفونات، كالدود والذباب، فلم يحمل منها شيئاً.
وأمر الله الرياح الأربع أن تحشر إلى نوح جميع ما يحمل في السفينة، فأقبلت المخلوقات أفواجاً أفواجاً حتى وقفت على أمام الفلك، فقال قومه: هذه زيادة في السحر، وجعل يضرب بيده على الزوجين فتقع يمناه على الذكر ويسراه على الأنثى، حتى أكمل العدد، وانصرف الباقون في الليل.
هذا في أول يوم من السبعة الأيام الباقية من الأربعين سنة الموعود بالعذاب بعد مضيها.
وفي اليوم الثاني: حشرت إليه الوحوش، فأخذ من كل زوجين اثنين؛ كالحيوانات في اليوم الأول، وقومه ينظرون ويتعجبون من تزاحم الوحوش عليه إلى آخر النهار.
وفي اليوم الثالث: أتت البهائم.
وفي اليوم الرابع: أمر بحمل النبات الذي يقتات به بنو آدم، ومن جميع الشجر والحبوب وقوت جميع ما في السفينة، وأمره الله أن يضع تابوتاً من شجر الشمشار؛ فيحمل فيه جسد آدم - عليه السلام - ويجعله حاجزاً في الفلك بين الرجال والنساء في الطبقة الأولى، وجعل السباع والدواب في الطبقة السفلى، وألقى الله الحمى على الأسد، فاشتغل بنفسه عن الدواب وجعل الطير والوحوش في الثانية، وأطبق عليها، وجعل العليا لبني آدم.(1/44)
وقال في مروج الذهب: أول ما حمل نوح - عليه السلام - من الطير الدرة، وآخر ما حمل الحمار، فتلكأ ودخل صدره، وتعلق إبليس بذنبه، فجعل نوح - عليه السلام - يقول: ويحك ادخل، فينكص، حتى قال: ادخل ولو كان الشيطان معك تحمله، زلت على لسانه، فلما قال ذلك، خلى الشيطان سبيله، فدخل ودخل معه، فقال نوح: ما أدخلك يا عدو الله؟ فقال: ألم تقل: ادخل ولو كان الشيطان معك؟ فقال: اخرج يا عدو الله عني، فقال: لا بد لك أن تحملني، فكان على ما يزعمون على ظهر السفينة، ونهى نوح - عليه السلام - أن يقع ذكر على أنثاه، فغشى الكلب الكلبة، فوشى بهما الهر فأنكر، فدعا نوح ربه: إن كان الهر صادقاً أن يمسك ذكر الكلب في الكلبة ففعل، فأمسكته الكلبة، فشكا الكلب إلى نوح فضيحة الهر إياه، فدعا نوح على الهر فافتضح بالصراخ.
قال في حقيبة الأسرار: ولما كان اليوم السابع آخر الميعاد، أوحى الله إليه أن يركب السفينة، إذا فار التنور بالماء - وهو التنور الذي في بيت ابنك سام - فجاء نوح إلى بيت ابنه، فقال لزوجة ابنه، واسمها رحمة، وكانت أحب نساء بنيه وهي تخبز خبزاً يرون أن يحملوه في السفينة: يا رحمة، إن آية الطوفان من هذا التنور، فإذا رأيت الماء فار منه فأسرعي إلى الفلك. وكان التنور من حجر أسود، ورثه نوح من أبيه وورثه أبوه من جده من لدن آدم - عليه السلام - وكانت حواء تخبز فيه، وكانوا يتوارثونه تبركاً به، وكان من عمل آدم - عليه السلام - وقيل: كان في دار نوح - عليه السلام - يعني: ورده من أرض الشام.
ولما أصبح في اليوم السابع، ولم يبق له شيء يحتاج إليه، وإن رحمة فرغت من خبزها، وهي تخرج آخر رغيف، والنار يضرم جمرها؛ إذ بدرها الماء من تحت الحجر، وبقدرة الله تعالى فار، ولم يدخل نوح السفينة كل ما أراد، فأخبرته ابنته أن التنور فار، فقام - عليه السلام - إلى الماء فختمه فوقف حتى أدخل السفينة ما أراد، ثم فض الختم، وكشف الطبق، ففار الماء وفاض، فقال نوح - عليه السلام - : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هلك والله قومي، فأوحى الله إليه: لا تحزن على هلاكهم، فاركب الفلك ومن معك من المؤمنين، وما آمن معه إلا قليل، ثمانون نفساً، منهم أولاده الثلاثة سام وحام ويافث، والأصح أن أولاده زيادة على الثمانين لم سيأتي.
فأسرع نوح إلى منزل رحمة فإذا الماء قد ملأ المنزل ويخرج من أبوابه كالنهر، وله غليان ونشيش، ما يمر بشيء إلا أغرقه وأحرقه، فأسرع إلى الفلك ونادى بالمؤمنين: النجاة النجاة، وقومه يتعجبون من استعجاله في الركوب، وإذا الصراخ في بيوتهم وأسواقهم، واضطربت الناس وارتفعت الزمات، والماء يتزايد ويغلي، ونوح على باب الفلك قد شمر عن ساعديه، وأخذ المجذاف ليدفع به السفينة في الماء، والمؤمنون يبكون من هول ما عاينوا.
وكان دخول السفينة لعشر مضين من رجب؛ فدخل الفلك وغطاه عليه وعلى من معه، وفتح الله أبواب السماء بالمطر من غير سحاب، فنزل بغير كيل، وطغى على الخزان وأخرجت الأرض ماءها، وانفجرت الجبال كل نقطة من السماء عين في الأرض، فكان ينبع من تحت أقدامهم وحوانيتهم وبيوتهم، ولا يقع على بيت إلا هدمة ولا على شيء إلا أحرقه، ولولا أن الله أمره ألا يضر السفينة لأحرقها بحرارته وملوحته. ووقع الصراخ وغدوا إلى نوح، فإذا هو ومن معه في السفينة والمطر يفتح خنادق، ولا يصيب السفينة، ونوح وأولاده يبكون على قومهم وخوفاً من العذاب، والملائكة تقول لهم: لا تبكوا، بعداً للقوم الظالمين.(1/45)
وركب ملكهم واسمه الدرمسيل كما تقدم في عبيده وحشمه نحو السفينة، فأحرق الماء أرجلهم، وقد انقلبت الأرض بالصراخ، ورأى الماء لا يصيب السفينة، فصح عنده أنه أمر الله تعالى، وتفرق من كان حوله من الناس وهم ينادونه: أيها الملك، قتل الماء أكثرنا، فنادى: ي نوح، ما هذا؟ فقال: يا عدو الله - ولم يكن قال له ذلك أبداً؛ لأنه كان يرفق به ويداريه - : هذا الذي كنت أنذرتكم به، فبينما هو يكلمه إذ نبع الماء من تحت حوافر فرسه، فولى هارباً ولم يؤمن فغرق في موضعه، وأمهل الله عليهم بقية يومهم، وطفت السفينة على وجه الماء فأطبقها وهم ينظرون إليه، فتسنموا الجبال والروابي، ولم يكن فيهم صبي إلا واحد كانت أمه تحبه حباً شديداً فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فبلغها الماء، فصعدت إلى ثلثيه، فبلغها الماء، فاستوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيدها حتى ذهب بهم الماء، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم تلك المرأة، ودعا نوح ابنه كنعان، وقيل: اسمه يام، فأبى وقال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، يعني به: النجف، جبلاً لم يكن على وجه الأرض أعظم منه ارتفاعاً، فأوحى الله إليه: أيعتصم بك منى؟ فتقطع الجبل وصار رملاً دقيقاً، وانخفض مكانه؛ فصار بعد أن نضب الماء بحراً، فسمى ذلك البحر: نى، ثم جف بعد ذلك، فقيل: ني جف، فخففه الناس نجف. كذا أورده في العلل صاحب مروج الذهب العلامة المسعودي.
ولما ركب نوح السفينة ومن معه من الكوفة، قال: " ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْربهَا وَمُرْسَهَا " هود فقيل: إن الماء ارتفع على أعلى جبل في الأرض أربعين ذراعاً، ووكل الله بالسفينة سبعين ملكاً يحفظونها، ودوى الماء كالرعد القاصف، والسفينة تشقه شقاً عنيفاً، ونوح ينادي العفو العفو يا الله، وأظلم الجو، وأتاه جبريل بلؤلؤة تطلع من مشرق السفينة؛ فيعلمون بها الشرق والغرب، والقبلة والشمال، وتمشى في سقف السفينة طول النهار لمعرفة الساعات، فإذا وصلت إلى المغرب، طفىء نورها وتصير ليلاً على هيئة القمر في زيادته ونقصانه أول الشهر هلال، وتزداد حتى تصير بدراً، ثم تنقص كذلك حتى تصير هلالاً. ولم تزل السفينة تطوف الأرض إلى موضع الكعبة، فطافت أسبوعاً، ثم عادت إلى جدة وطلبت الحبشة، ثم عادت إلى الروم إلى جبال الأرض المقدسة جارية لا تفتر شرق الأرض وغربها إلى مدة ستة أشهر.
روى أن نوحاً - عليه السلام - نام في السفينة، فهبت ريح، فانكشفت عورته، فضحك حام ويافث، فزجرهما سام وستره فانتبه وسأل سام فأخبره، فقال: اللهم غير ما في صلب حام حتى لا يولد له إلا السودان، وغير ما في صلب يافث، واجعل ذريتهما خولاً لذرية سام، فجميع السودان والحبش والهند والسند من حام، وجميع الترك والصين والصقالبة ويأجوج ومأجوج من يافث ابن نوح، وجميع العرب والعجم والروم وفارس من سام بن نوح - عليه السلام.
ثم إن الماء بعد ستة أشهر جعل ينقص، فأول ما ظهر جبل أبي قبيس بمكة فأوحى الله إلى الجبال: إني مرسٍ على أحدكم السفينة، فتطاولت وشمخت، إلا الجودى - جبل بالموصل كان من أكبر الجبال وأعلاها - فتواضع لله، وقال: أنا أقل من أن ترسو السفينة علي، فأمر الله الملائكة بوضعها عليه عاشر المحرم، ويقال: إن الجودى من جبال الجنة، ثم إن الأرض بلغت ماءها، وأراد ماء السماء النزول معه فأبت الأرض فصار بحاراً وأنهاراً وهو المروى عن أهل البيت.
وفي كتاب الوصية: صار بحراً حول الدنيا، فماء البحر الموجود الآن من بقية ذلك الماء، وهو ماء سخط، ألم تره يغرق فيهلك إلى الآن، والعياذ بالله تعالى.
فأرسلت على الجودى شهراً، إلا أنهم لم يعرفوا على أي شيء أرست، وانجاب السحاب وطلعت الشمس، وفتح نوح باب السفينة فدخل الضوء وبان في السماء قوس قزح؛ فكان ذلك آية بينه وبين الله تعالى أنه أمان من الغرق.
قيل: كان عليه وتر وسهم، فنزع الوتر والسهم علامة للأمان، فكبر نوح ومن معه، وانتفضت الطيور، وتحركت الوحوش، فأرسل نوح - عليه السلام - الغراب لينظر هل بقي من الماء على وجه الأرض شيء، واستنظره سبعة أيام؛ فلم يعد، واشتغل بأكل جيفة دابة غرقت بالطوفان ونسي ما توجه إليه، فلعنه نوح - عليه السلام - وقال: اللهم قتر رزقه وبغضه إلى بني آدم، وقيده في مشيه، وحشي لا يستأنس، مبغوض في بني آدم.(1/46)
ثم بعث الحمامة وانتظرها، فلم تجد في الأرض قراراً، فوقفت على شجرة الزيتون بأرض سبأ، وحملت ورقة زيتون بمنقارها، ورجعت إليه. ثم بعثها بعد أيام، فأتت وادي الحرم، فأول ما نضب الماء عن موضع الكعبة، فخضبت رجليها وتطوقت بطينتها وكانت حمراء، فرجعت في أسرع وقت، فقالت: يا نبي الله، قد نضب الماء عن الأرض. وقيل: إنها انطلقت إلى المشرق والمغرب، وعادت مسرعة وقالت: يا نبي الله، هلكت الأرض. ومن عليها. وأما الماء فلم أر إلا ببلاد الهند، ولم يبق على وجه الأرض إلا الزيتون، فإنه أخضر لم يتغير، فبارك في شجر الزيتون، ودعا للحمامة: اللهم، اجعلها أبرك الطيور، وأزكاها، وآنسها ببني آدم، وأكثرها فراخاً، وجملها بطوق عوضاً عن هذا الطين الأحمر، واخضب رجليها. فاستجاب الله دعاءه، وفيها يقول الشاعر من قصيدة: من الوافر
فأرسلها نبيّ الله نوحٌ ... لتنظر هل عفا ربّ السّماء؟!
فآبت وهي قد صُبغت بماءٍ ... وفي أعناقها طين البراء
وفي منقارها ورقٌ قليلٌ ... أقامته على صدق الوفاء
فأكرمها رسول الله نوحٌ ... وأكثر في المقالة بالدّعاء
وطوّقها وسرولها إلهٌ ... تعالى ربّنا ذو الكبرياء
فكن لله خالقنا مطيعاً ... فجنّة ربّنا للأتقياء
ذكرت بقوله وطوقها وسرولها قول الشاعر فيها: من الخفيف
زعموا أنّ للحمامة حزناً ... فأُراها في الحزن ليست هنالك
خضبت كفّها وطوّقت الجيد ... وغنّت وما الحزين كذلك
وأقام نوح - عليه السلام - ينتظر الأمر من ربه ثلاثين يوماً، وقد اخضر الجبل ونبتت العشب، فأوحى الله إليه: " اهْبِطْ بِسَلَمٍ مِنَّا... " الآية هود فنزل من السفينة بمن معه، فرأى العظام قد تفرقت من الماء الحار؛ فهاله ذلك واشتد حزنه، فأوحى الله إليه: هذا أثر دعوتك، أما إني آليت على نفسي ألا أعذب خلقي بمثل هذا أبداً. وأمره بأكل العنب الأبيض، فأكله فأذهب الله عنه الحزن، وكان ذلك لخاصية فيه. ونزل نوح في الأرض ومعه ثمانون نفساً من ذكر وأنثى غير أولاده الثلاثة سام وحام ويافث، فسمى ذلك المحل: قرية الثمانين، وهي قرية من نواحي جزيرة ابن عمر عند الجودى، فهي أول قرية بنيت بعد الطوفان، سميت بعدد الذين خرجوا من السفينة، وإليها ينسب الإمام أبو القاسم عمر بن ثابت الثمانيني النحوي.
قال في معالم التنزيل: وعقد نوح في وسط الجامع قبة، فأدخل إليها أهله وولده والمؤمنين، إلى أن مصر الأمصار، وأسكن أولاده البلدان، فسميت الكوفة قبة الإسلام بسبب تلك القبة.
ثم إن نوحاً استخلف ابنه يافث، وأخذ ساماً وحجا، وأخذ معه الركن والمقام وأودعاه جبل أبي قبيس. ولما رجع، قسم الأرض بين بنيه الثلاثة: فأعطى حاماً المغرب والسواحل، وأعطى يافث المشرق إلى مطلع الشمس، وأعطى ساماً الشام واليمن.
ولما صار لسام أربعمائة سنة، انتقل النور المحمدي إلى زوجته، فلما كملت أشهرها رزقت أرفخشد، فأحسن تربيته، وأوحى الله إلى نوح: إن نبوتك قد انقضت فاجعل الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء عند سام؛ فإني لا أترك الأرض بغير عالم يكون حجة لي على خلقي، وبشر المؤمنين بأن الله سيفرج عنهم بنبي اسمه هود يهلك من كفر به بالريح، فمن أدركه فليؤن به، فدعا ساماً وسلم إليه مواريث الأنبياء، وأمره ونهاه.
وروى عن سعد بن عبد الله، عن ابن إبراهيم بن هاشم، عن علي بن الحكم، عن بعض أصحاب أهل البيت، عن أبي عبد الله قال: عاش نوح ألفي سنة وخمسمائة عام، ثم جاءه ملك الموت وهو في الشمس، فقال: السلام عليك، فرد نوح - عليه السلام - وقال: ما جاء بك؟ قال: جئت لأقبض روحك، قال: فدعني أدخل من الشمس إلى الظل، فقال له: نعم، فتحول، فقبض روحه، فجهزه ابنه كما أوصاه، وصلى عليه هو وإخوته، ودفنوه في الموضع الذي مات فيه، قال بعض المؤرخين: دفن بحضرموت، وقيل: بمكة.
وروى: أن قبر بظهر الكوفة.
قال في الأنس الجليل تاريخ القدس والخليل: إن قبره بكرك نوح.
وبين نوح وآدم - عليهما الصلاة والسلام - عشرة آباء، ومن السنين ألفا سنة ومائتان واثنان وأربعون، وكان أقل أعمار قوم نوح ثلاثمائة سنة.(1/47)
قال المسعودي في المروج: إن عقب من كان مع نوح في السفينة دثر بالوباء، فنسل الخليقة منه وحده، يعني: من أبنائه الثلاثة: سام وحام ويافث؛ قال تعالى: " وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ " الصافات فهو أبو الأنبياء، وكانت رسالته عامة.
ولما قبض، قام بعده ابنه سام بأمر الله تعالى، وآمن به شيعة نوح - عليه السلام - ولما انقضت أيامه، أوحى الله إليه أن يستودع الاسم الأعظم وميراث الأنبياء ابنه أرفخشد، فدعاه وأوصى إليه بما أوصاه به نوح - عليه السلام - ومات وعمره ستمائة سنة، وله من الأولاد إرم وأرفخشد وفلوج وياشور والأسود وغيرهم.
ومن ذرية سام النبي: صالح - عليه السلام - وهو صالح بن عبيد بن عابر بن إرم ابن سام، ومن ذريته أصبهان بن فلوج بن سام، ومن ذريته فارس ونبط ابنا ياشور بن سام، ومنهم عاص وعبيد ابنا عوص بن إرم بن سام، ومنهم بوان بن إيران بن الأسود بن سام، وهو صاحب الشعب شعب بوان، وهو عدة قرى ومياه متصلة وعليها الأشجار حتى غطت تلك القرى؛ فلا يراها الإنسان حتى يدخلها؛ قال أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي فيه: من الوافر
مغاني الشّعب طيباً في المغاني ... بمنزلة الرّبيع من الزّمان
وقال آخر: من الرجز
شعب بوّان قرار الذّاهب ... فثمّ تكفى راحة النّوائب
وقال آخر: من الطويل
إذا أشرف المكروب من رأس تلعةٍ ... على شعب بوّان استراح من الكرب
وهو أحد جنان الدنيا الأربعة: غوطة دمشق، ونهر الأُبلة، وصفد سمرقند، وشعب بوان. ومنهم كرمان - بالفتح والكسر - بن فلوج بن سام، ومنهم لقمان الحكيم بن عاد الأخرى ابن شداد باني إرم ذات العماد أخي شديد بن عاد الأولى بن عوص بن إرم بن سام.
وأما يافث بن نوح، فله من الأولاد بوبان ويأجوج ومأجوج وناويل والخزر والفرنج والصقالبة وقبرس وقسطنطين وكرم وكرد وتاريس وكادي إلى اثنين وعشرين قبيلة، خرج من هذه القبائل ثمانمائة قبيلة، خرج منها أمم لا تعد ولا تحصى.
استخلفه أبوه نوح على المؤمنين، لما أخذ بيد ابنه سام، وتوجه إلى الكعبة، وختم السفينة وأوصاه بها، وقال له، يا بني، استوص بأخيك حام، ووله بعض أمورك وأحسن إليه، فقال سام: يا أبت، لا أقطع أمراً دونه، فشكره نوح - عليه السلام - على ذلك، وجعل له المشرق، ودعا له بأن يكون الملك في ولده.
وحضرت يافث الوفاة فأوصى إلى أخيه سام ببنيه، فمات ودفنه سام وحام حزناً عليه، وكان عمره خمسمائة وخمسين سنة.
وأما حام، فقال وهب بن منبه: كان رجلاً أبيض حسن الصورة والوجه، فغير الله لونه وألوان ذريته بدعوة أبيه نوح - عليه السلام - عليه فمنه جميع السودان من النوبة والبربر والزنج والحبشة والقبط، ومن ذريته مصر بن بيصر بن حام، وهو الذي سميت البلاد المعروفة مصر باسمه، ومن ذريته - أيضاً - الهند والسند ابنا حام.
وكيفية دعاء نوح - عليه السلام - عليه أن قال: ملعون حام، عبيد لإخوته، ثم قال: مبارك سام، ويكثر الله يافثاً في مسكن سام.
وفي كتاب المبتدا: قال عبد الله بن سلام: إن حاماً لم يطأ زوجته؛ لأن أباه قال في دعائه: اللهم، غير ما في صلب حام حتى لا يولد له إلا السودان مدة حياة نوح خوفاً من دعوته حتى مات، فطال ذلك عليه، ثم إنه جامع زوجته، فلما حملت، ولدت له غلاماً أسود ومعه جارية سوداء، فسمى الغلام كوشاً، فلما رأى سوادهما، فزع وجاء إخوته، وقال: إني رأيت خلقاً لم أر مثله، فسألت زوجتي لا يكون قربها شيطان؟ فقالت: ما قربني أحد غيرك، فقالا له: هذه دعوة أبيك نوح، فاغتم لذلك ثم أمسك عن وطئها دهراً طويلاً، ثم واقعها فحملت وولدت ولدين أسودين، فهم حام أن يجب نفسه، فمنعاه، ثم طال عليه الأمر، ثم واقعها فولدت غلاماً وجارية أسودين، فسمى الغلام كنعان، ثم مات حام وأوصى إلى سام، فدفنه إلى جانب أخيه يافث، وكان عمره حينئذ خمسمائة وسبعين سنة، ومن ذرية حام جميع السودان والحبش كما تقدم، والهند والسند، وهما ابنا يرقن بن يقضن بن حام.(1/48)
قال العلامة المسعودي في المروج: يقال: إن هذا الاسم - يعني الهند - مأخوذ من التهنيد، وهو لغة: سلب العقل من المحبة والعشق والهوى، قد هندته النساء؛ فهو مهند، أي: سلبته عقله؛ ولذلك كثر في النساء اسم هند. ثم استطرد فقال: ويقال: إن أهل بلد الهند أكثر البلدان جهلاً بالدين، وأصحها عقلاً في أمور الدنيا؛ مثل الحساب والصنائع، وهم ابتدعوا الجبر والمقابلة، ونصبوا الأحرف التسعة، ومنهم صصه واضع الشطرنج، وقصة تمنيه على الملك في مقابلة وضعه له بالتضعيف أعجب من وضعه.
قلت: في ذكرى ورود حديث فيها هو: الهند بلاد الغفلة عن ذكر الله، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال المسعودي: ويحكى أن الزنى والفساد ببلد الهند أكثر منه من كل بلد من بلدان الدنيا؛ لقول الفلاسفة: إن شهوة النكاح إنما تكون أكثرها فيما يقطعه الخاتن والخافضة من ذكر الغلام وفرج الجارية، فلما كانت الهند لا تستعمل لا في الذكر ولا في الأنثى، كثر عندهم الزنى؛ لكثرة الشبق في الرجال والنساء؛ للعلة المذكورة، وكذلك كل بلد حاله في ترك الختان حال الهند.
وليس في الهند شيء من النخل ولا من الكرم، ولا يعرفونهما إلا بالوصف أو يجلب إليها.
ومن جهل أهل الهند: أن أحدهم يبيع رأس نفسه فيقطعه بيده على أن يعود حياً بعد ثلاثة أيام، ومن ذلك: أن أحدهم يطرح نفسه في النار بحضرة أبيه وأخيه وابنه وأقاربه؛ فلا يمنعه منهم أحد ويغبطونه على ذلك ويحمدونه، وعجائب من مثل هذه الأفعال تأباها البهائم، وتفر إلى الحياة خوفاً من الموت؛ ذكر هذا أبو الفتح أحمد بن المطرف في كتاب الترتيب.
قلت: ورأيت في مروج الذهب ما نصه: الهند تعذب أنفسها بالنار، وقد تيقنت أن ما ينالها من النعيم في المستقبل مؤجلاً هو ما أسلفته وعذبت به أنفسها في هذه الدار معجلاً. ومنهم من يسير إلى الملك فيستأذنه في إحراقه نفسه، ثم يدار به في الأسواق، وقد أججت له نار عظيمة، وقد وكل بها ناس لإيقادها، فيسير في الأسواق والشوارع قدامه الطبول والصنوج، وعلى بدنه أنواع من الحرير قد مزقها على جسده، وحوله إخوته وقرابته وأهله، وعلى رأسه إكليل من الريحان، وقد قشر جلدة رأسه العليا، وقد وضع مكانها الجمر، وقد عمل عليه الكبريت والسندروس، فيسير وهامته تحترق وروائح دماغه تفوح، وهو يتبختر ويمضغ التنبل وحب الفوفل إلى أن ينتهي على تلك الحالة إلى النار، وقد صارت كالتل العظيم.
قال: ولقد حضرت ببلاد من الهند يقال لها: صيمور، فرأيت فتى من فتيانهم وقد طيف به على ما ذكرنا، فلما دنا من النار، أخذ الخنجر فوضعه على فؤاده فشقه، ثم أدخل يده الشمال فقبض على كبده، فجذب منها قطعة وهو يتكلم، قم قطعها بالخنجر، ودفعها إلى بعض إخوانه تهاوناً بالموت - ولذة بالنقلة، ثم أهوى بنفسه في النار، فسبحان مقسم العقول، لا إله غيره.
أقول: ذكرت بقول المسعودي الهند تعذب أنفسها... إلى آخر ما ذكره قول القاضي ناصح الدين أبي بكر أحمد بن الأرجاني قاضي تستر الشاعر المشهور في وصف الشمعة حيث يقول: من البسيط
صفراء هنديّةٌ في اللون إن نعتت ... والقدّ والدّين إن أتممت تشبيها
فالهند تقتل بالنّيران أنفسها ... وعندها أنّها إذ ذاك تُحييها
وهذان البيتان له من قصيدة يمدح بها قاضي القضاة بفارس طاهر بن محمد، صدرها بوصف الشمعة بما لم يسبق إلى مثله في سالف الأعصار، ولم يشق له إلى غابر الزمن غبار، وهي طويلة مشهورة.
قال: ومن قلة عقولهم وسفاهة أحلامهم المغالاة في اللعب بالشطرنج بما فيه ذهاب المال؛ بل النفس، والأغلب على استعمالهم اتخاذه من العاج يجعلون كل قطعة كالشبر في عرض ذلك، وإذا لعبوا بها، قام الواحد على قومه، والأغلب عليهم في اللعب القمار على الثياب والمال والجواهر، وربما نفد ما عنده أحدهم؛ فيلعب على قطع عضو من أعضائه، ويجعل في جانبه قدراً صغيراً من النحاس على نار فحم فيها دهن لحم أحمر؛ فيغلي ذلك الدهن وهو دهن مدمل للجرح ماسك للدم، فإذا قمر وقطعت أعضاؤه واحداً بعد واحد، غمس يده في ذلك الدهن فاندمل، ثم عاد إلى اللعب، وربما توجه عليه اللعب في قطع جميع أصابعه وكفه وذراعه وزنده، وكل ذلك يستعمل له الكي بذلك الدهن، وهو دهن أحمر عجيب يعمل من أخلاط وعقاقير بأرض الهند، قال: وما ذكرناه عنهم مستفيض عن فعلهم.(1/49)
ثم قال: والهند تتخذ الفيلة وتتناتج في أرضهم، ولها بها آفة عظيمة من حيوان يعرف بالزبرق، وهو دابة أصغر من الفهد، أحمر ذو زغب، له عينان براقتان، عجيب سريع الوثبة، يبلغ في وثبته الثلاثين والأربعين والخمسين ذراعاً وأكثر، فإذا أشرف على الفيلة، رش عليها بوله بذنبه فيحرقها، وربما لحق الإنسان فقتله، وربما تعلق الخائف من الناس منها بأكبر ما يكون من شجر الساج، فإذا عجز عنه، لطىء بالأرض ووثب، فإن لم يلحق في وثبته، رش بوله إلى أعلى الشجرة، فإذا لم يصبه وضع رأسه في الأرض وصاح صياحاً عجيباً غيظاً، فيخرج من فيه قطع دم ويموت من ساعته. وأي موضع من الشجرة أصابه شيء من بوله أحرقه، ومرارة هذا الحيوان ومذاكيره سم ساعة، تدخره الملوك وتسقي به السلاح؛ فيقتل من أدنى جراحه من ساعته. ومذاكيره كمذاكير كلاب الماء التي يخرج منها الجندبادستر.
وكلب الماء هذا - أيضاً - مشهور عند الصيادلة ببلاد الهند، وهو فارسي معرب، وإنما هو كند، وتفسيره الخصية.
والدابة المتقدم ذكرها - وهي الزبرق - لا تأوي إلى موضع يكون فيه النوشان، وهو الكركدن، وتهرب منه كما يهرب منها الفيل، سبحان الله، أبدان مسلطة على أبدان، والفيلة تهرب من السنور ولا تقف لها ألبتة ولو ضربت.
وقد أخذت ملوك ملوكاً بتخلية السنانير بين أيدي الفيلة ففروا وكسروا.
والفيلة لا تنتج ولا تتوالد إلا بأرض الزنج والهند، وتتخذ الزنج الدرق من جلده وأذنه، وخرطومه: أنفه، ويوصل به الطعام والشراب إلى جوفه، وهو شيء بين الغضروف واللحم والعصب، وبه يقاتل، ومن يصيح.
وكل حيوان ذي لسان فأصل لسانه إلى داخل وطرفه إلى خارج، إلا الفيل فبالعكس. والهند تزعم أنه لولا ذلك لتكلم إذا كلم لحدة فطنته.
وقد قيل: أحذق الحيوانات وأفطنها بعد بني آدم القرد والفيل وقد أهدى للمتوكل العباسي قرد صائغ وفيل خياط. ذكر هذا العلامة السيوطي.
ويظهر من جباه الفيلة ورءوسها عرق كالمسك والطيب، تراعي ذلك الطيب أهل الهند في القليل من الزمان الذي يكون فيه؛ فتأخذه وتحمل عليه بعض أدهان طيبة؛ فيكون أغلى طيبها والمستظرف عندها الذي يستعمله الملوك والخواص لضروب من المنافع: منها طيب الرائحة التي تفوق سائر الروائح الطيبة، ومنها ما يؤثر في الإنسان عند شمه من ظهور الشبق في الرجال والنساء، والطرب والنشاط والأريحية، وكثير من فتاك الهند تستعمله عند اللقاء في الحروب؛ لأنه يشجع القلب ويقوي النفس ويحث على الإقدام، وأكثر ما يظهر هذا العرق من الفيلة عند اغتلامها وهيجانها، وإذا كان ذلك منها تهرب سواسها ورعاتها عنها، ولا تفرق بين من تعرف وبين غيره من الناس.
وظهور هذا العرق منها في وقت من السنة لا دائماً وإذا واجه الكركدن حال هيجانه لا يهرب من الكركدن؛ بل يهرب منه الكركدن حينئذ؛ لأن الفيل عند ذلك سكران لا يعقل ولا يميز، وإذا ند عنه ذلك الفصل، واسترجع، عاد إلى بلده على مسيرة شهر أو أكثر، وهو في سكره فيبقى عليلاً نحو مدة هيجانه، ولا يكون هذا العرق إلا في الفحول من الفيلة وذوي الجرأة والإقدام منها.
ثم قال: وأما السند فإنهم جيل معروفون في بلادهم يقال: سند فلان إلى الجبل إذا ارتفع، سموا بذلك لارتفاع في أرضهم، والسند كالرابية من الأرض، والجمع: سنود وأسناد. والإسناد: مصدر أسندت الحديث إلى فلان، أي: رفعته إليه، ويقال للناقة الموثقة الخلق: سناد، والسناد: عيب من عيوب القوافي.
فرجع: فقام أرفخشد مقام أبيه سام أحسن قيام، وتزوج، فولد له شالغ - بشين معجمة، وألف، ولام مفتوحة، وغين معجمة، ويقال: بالخاء المعجمة - ومعناه: الوكيل، أمه شبروما بنت سيدوك. فاستودعه أبوه أرفخشد النور والحكمة ومواريث الأنبياء.(1/50)
ومات أرفخشد - ومعناه: مصباح مضيء - وله من العمر أربعمائة سنة وخمس وستون سنة، فقام بأمر أبيه والمؤمنون معه قليلون؛ لأن إبليس جعل يغوي بني آدم لما مات أرفخشد بكل طريق، وإذا نزل واحد من بني سام إلى بني يافث وحام، ورأى ما هم فيه من اللذات والشراب والزنا وأنواع الطرب، افتتن بذلك، فهجروا بلادهم وتتبعوا القوم، وصار الرجل يجذب من بني أبيه وهم كل يوم ينقصون، وتم لإبليس مراده ولم يبق من شالغ إلا قليل من بني أبيه لا طاقة لهم ببني يافث وحام، واشتد كفرهم أكثر مما كان عليه بنو قابيل اللعين، إلا أنهم لا يتقاتلون ولا يغزو بعضهم بعضاً ولا يتعرض كافرهم لمؤمنهم. واختطوا الأرض وملئوها عرضاً وطولاً، وشكت الأرض إلى الله منهم. وتزوج شالغ وولد له عابر، وهو هود - عليه السلام - ومعنى شالغ الرسول، وشالغ وبنو أبيه قد سكنوا الموضع الذي نزل فيه نوح؛ لئلا يضايقوا بني حام ويافث، وقد رضوا منهم بالمتاركة. وكان بنو يافث قدموا عليهم رجلاً منهم وملكوه اسمه خامر بن يافث، وكثر بغيهم، وإبليس نكر بعضهم على بعض، ولم يزالوا على ذلك طول عمر شالغ إلى أن حضرته الوفاة، فأمر أن يستودع الاسم الأعظم والحكم والنور ابنه عابر، وهو هو النبي - عليه السلام - فدعاه وأوصى إليه وأخذ علي العهد في النور المحمدي، وقبض شالغ وعمره أربعمائة سنة، فسلك به مسلك آبائه، ودفنه إلى جانب أبيه، فاضطربوا بعد موت شالغ وتباغضوا.
وفي زمنه ملك عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح الذي تنسب إليه القبيلة، كان رجلاً خياراً شديد الخلق يعبد القمر. رأى من صلبه أربعة آلاف ولد، منهم شديد وشداد وعلوان، وكانت بلاده متصلة باليمن، وهي بلاد الأحقاف وسنجار والدم والدهناء ويبرين إلى عمان وحضرموت، وكان يقال لعقبة: عاد؛ كما يقال لبني تميم: تميم، ثم يقال للأولين منهم: عاد الأولى، وإرم، تسمية لهم باسم جدهم، ولمن بعدهم: عاد الأخيرة؛ قال تعالى: " وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى " النجم وكانوا أعطوا من الخلق والقوة ما لم يعط أحد من بني آدم قبلهم ولا بعدهم؛ ولذلك تبجروا فسموا جبارين، واحتقروا من سواهم من الخلق من ولد يافث وحام، وهم الذين ملكوا سائر الأقاليم. وكان على أولاد سام ببابل كيومرث بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح، وهو أول ملك ببابل، وقسم عاد الأرض بين ولديه شديد وشداد، فهلك شديد وكان أظلم وأطغى من أبيه عاد، ومات عاد وله من العمر ألف ومائتا سنة، فرجع الملك إلى شداد بن عاد وقوم هذا هم عاد الثانية، وهم الذين قالوا: " مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً " فصلت روى أن الرجل منهم كان يحمل الصخرة على الحي فيهلكهم، وكان طول الرجل منهم مائة وعشرين ذراعاً بذراعهم وعرضه ستون ذراعاً، وكان أحدهم يضرب الجبل الصغير فيقطعه، وكانوا يسلخون العمد من الجبال؛ فيجعلون طول العمد مثل طول الجبل الذي يسلخونه من أسفله إلى أعلاه، ثم ينصبون العمد فيبنون فوقها القصور.
وأراد شداد ملك الأرض كلا فوجه إلى بني يافث وبني حام وبقية بني سام من أهل بيته وقومه ثلاثة نفر مع كل واحد منهم عشرة آلاف من الجبابرة من ولد عاد، ووجه إلى أولاد سام الذين ببابل ابن أخيه الضحاك بن علوان بن عاد، وهو الذي تسميه العجم ايراسف. ولما جاءهم، هرب منه ملكهم جمشيد؛ لعلمه أن لا طاقة له بقتال الجبابرة الذين معه، فطلبه الضحاك حتى ظفر به، فامتلخ أمعاءه ونشره بمنشار وملك أرضه ومملكته، ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم: الكنعانيون. ووجه إلى ديار حام ابن عمه الوليد بن عمليق، وبه سمى العمالقة، وهو ابن دومع ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وكان على بني حام ملكة يقال لا بطريا أخت حوريا التي بنى لها جبير المؤتفكي العملاقي مدينة الإسكندرية، فوصل الوليد بن عمليق إليها واستولى وغلب على ملكها وقتلها وملك مصر وعمر عمراً طويلاً، وهو الذي بنى الأهرام على أحد الأقوال.
ولما مات ولي مصر ابنه الريان بن الوليد بن عمليق.(1/51)
ووجه إلى ولد يافث ابن أخيه غانم بن علوان أخا الضحاك بن علوان، وكان ملك يافث قراسيات بن ترك بن يافث بن نوح، فغلبه غانم واستولى على ملكه وأرضه، ولم يزل شداد ملكاً إلى أن بنى المدينة وأخذته الصيحة عند إرادة دخولها، فتولى بعده رجل يقال له: الخلجان بن عتيد آخر عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وانتقلوا من ديارهم إلى الأحقاف من عمان إلى حضرموت فزعاً مما أصاب قومهم من الصيحة، وقصة بناء المدينة ووصفها مذكور مشهور لا نطول بذكره.
قال ابن بابويه: وجدت في كتاب المعمر بن عثمان: أنه ذكر عن هشام بن سعيد الرحال قال: وجدنا بالإسكندرية حجراً مكتوباً فيه: أنا شداد بن عاد، وأنا الذي شيدت العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وجندت الأجناد، وسددت بساعدي السواد، فبنيتها إذ لا شيب ولا موت، وإذا الحجارة مثل الطين في اللين، وكنزت كنزاً في البحر لم يخرجه أحد حتى تخرجه أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم تزوج شالخ مرجانة - وقيل: معلب - بنت عويلم، فولدت له عابر - بعين مهملة وباء موحدة مفتوحة - وكان أشبه ولد آدم بآدم، فلما وضعته سمعت النداء والأصوات من كل مكان: هذا نور محمد صلى الله عليه وسلم، يكسر كل صنم، ويقتل كل من طغى وكفر. فخرج عابر أكمل قومه جمالاً، وقد أرسل بنبوة خاصة. ومن حديثه أنه لما أهلك الله شداداً وغيبت عنهم المدينة وطلبوها فلم يجدوها، ولوا عليهم أخا عاد، واسمه الخلجان بن عوص بن إرم بن سام بن نوح؛ كما تقدم، وانتقلوا من تلك الديار فزعاً مما أصاب قومهم إلى الأحقاف والأحقاف رمال ما بين عمان إلى حضرموت، ومضى لهم سنون لا يدينون بدين ولا يعرفون الله، وملكوا الأرض كلها وقهروا أهلها بقوتهم، وبقي الولاة الثلاثة المتقدم ذكرهم مع من معهم بمصر وغيرها كما هم قد ملكوا البلاد بعد شداد.
وقطن هؤلاء بالأحقاف وكانوا إحدى عشرة قبيلة: العتود والجلود، وصداء، ودقل، وزمر وشود، وزمل، وحمد، والصمود، وجاهد، ومناف. فجاءهم إبليس في صورة شيخ يرتعد، وزعم أنه من أولاد شيث، وأنه كان على سيف البحر مما يلي جدة قد انفرد لعبادة ربه، وسألهم: ما الذي أوقعكم إلى هذه الأحقاف والرمل وغيرها أخصب وأحسن؟ فحدثوه حديث هلاك عاد والمدينة. فضحك وقال: هل سمعتم أحداً في الأرض لا رب له؟ قالوا: لا، قال: لو كان معه رب يعبده ويسجد له ما أصابه شيء كما كان مع آبائه الأولين. وها هو معي يحفظني ويرعاني، وأخرج لهم صنماً لطيفاً من الذهب الأحمر عيناه من الياقوت الأزرق، فوضعه وسجد له، وقد وكل مارداً كلما سجد قال له المارد: ارفع رأسك، وسلني ما بدا لك، فلما سمعوا ذلك قالوا: هذا هو الحق، ونحن لا إله لنا، وسنشاور ملكنا الخلجان، فنحت لهم إبليس حجراً وأمرهم أن يبنوا له بيتاً ويمنعوه فيه، ففعلوا، ووكل به مارداً، وقال لهم: اجعلوا هذا اليوم عيداً تذبحون عنده وتتقربون إليه بالقرابين، يخاطبكم بجميع ما تريدون، فسجدوا له، فخاطبهم المارد بقوله: يا أهل عاد، لو كان هذا الفعل منكم قديماً ما كنت أهلكت ملككم شداد، والآن قد عفوت عنكم، فاستقيموا على عبادتي، أؤمنكم من كل سوء وأخصب بلادكم، وسماه لهم: الهناة؛ فصار صنم الخلجان، وهو أول صنم اتخذته عاد، فاتخذت كل قبيلة منهم صنماً سموه باسم سيد قبيلتهم.
ولم يزالوا كذلك عاكفين على عبادة الأصنام حتى أذن الله في هلاكهم.(1/52)
ثم إن الله جعل يتابع لهود المنامات حتى إذا أعلمه في نومه أنه مرسله إلى قومه، وقد ألهمه عبادته، وشرح صدره لقبول ذلك، وبلغ أربعين سنة، أرسل الله إليه جبريل فقال له: إن الله أرسلني إليك بأنك الذي ألهمك بين قومك توحيده، واختارك لرسالته، فاشدد حيازيمك، وانطلق إلى عاد قومك برسالة ربك، فأنذرهم بآياته وخوفهم عقابه، فقال هود: السمع والطاعة لأمر ربي، ثم قام فشد وسطه، وأخذ عصا في يده، وأتى قومه في ناديهم وأبلغهم رسالته، وأنذرهم عذابه، وأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً وأن يرفضوا هذه الأصنام التي اتخذوها آلهة، وقال لهم: " يَقَومِ اعْبُدُوْ اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يَقَومِ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَيَقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ " إلى قوله " صِرَطٍ مُسْتَقِيمٍ " الآيات هود قال بعض الأعلام: فكذبوه وقالوا: " قَالُواْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِنَ الْوَعِظِينَ " الشعراء ثم إنهم بطشوا به وخنقوه وتركوه كالميت، فبقي يومه وليلته مغشياً عليه، فلما أفاق قال: رب، قد علمت ما فعل بي قومي، ثم أعاد عليهم القول فقالوا: يا هود، اترك عنا ما تقول؛ فإن بطشنا بك الثانية نسيت الأولى، فقال: ارجعوا إلى الله وتوبوا إليه، وأوحى الله إليه: يا هود، قد أبلغت به، فارجع عنهم يومك ذلك؛ فإن لهم وقتاً آخذهم فيه أخذ عزيز مقتدر، ثم لما رأى قومه وعظه وتحذيره، آمن رؤساء قبيلته، ففت في أعضاء سائرها، فجعل الله يهديهم بقوله، حتى حصل معه ثلاث قبائل، فأمره الله بمحاربتهم فحاربهم، فكانت الحرب بينهم سجالاً. ولما رأوا أن لا طاقة لهم بقتاله ومن معه، أجمعوا أن يستغيثوا بعوج بن عنق على هود ومن معه فيكفيهم أمره، فأجابهم وأتى، فأوحى الله إلى هود إني مخفيك أنت ومن معك عن أعينهم؛ فلا يرونك، وتقاتلهم كما تحب وهم لا يصلون إليك؛ فأعلم هود المؤمنين فزادهم إيماناً.
وإذ انجر الكلام إلى ذكر عوج بن عنق، فلنذكره وأمه، قال في القاموس: عوج ابن عنق، ولد في منزل آدم - عليه السلام - وعاش إلى زمن موسى، ويحكى عن خلقه شناعة. انتهى.
وأمه عنق بنت آدم لصلبه، وقيل: اسمها عناق بألف قبل القاف، وهي أول بغي على وجه الأرض من ولد آدم، وعملت السحر وجاهرت بالمعاصي، وخلق الله لها عشرين إصبعاً في كل يد، طول كل إصبع ذراعان بذراعها، في كل إصبع ظفران حديدان؛ كالمنجلين العظيمين وكانت مساحة مجلسها من الأرض جريباً، فلما بغت، خلق الله لها أسوداً كالفيلة، وذئاباً كالإبل، ونسوراً كالحمر؛ فسلطهم عليها فقتلوها وأكلوها.
وفي كتاب المبتدا: أن حواء حملت بعنق وحدها في بطن، ولم تحمل ولداً واحداً إلا شيث وهذه المشئومة، فرأت في منامها كأن حية لها رأس عظيم خرجت منها، وكأنها طارت ساعة، ووقعت على الأرض، فشرقت وغربت، وأنها لم تقصد لوجه من الوجوه إلا اشتعل ناراً ودخاناً وقصت رؤياها على آدم، فقال: أحسبك اشتملت على ولد نسأل الله السلامة من شره فكادت أن تموت حواء في وضعها، ونظرت إليها على غير صورة بنيها، وذلك أن الله أشنع صورتها وعظم خلقها.(1/53)
وأصح ما جاء في صفتها: ما روي عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - أنه خطب فذكر الجبارين، وذكر عوجاً ابنها فوصفها وهو على المنبر، فقال: إن أول بغي على وجه الأرض عنق بنت آدم، خلقها الله خلقاً لم يخلق أحداً من بني آدم مثلها؛ وذلك أنه كان لها في كل يد عشرون إصبعاً؛ في كل إصبع ظفران كالمنجلين، ومجلسها من الأرض قدر جريب، وكان ضوء وجهها كلهب النار. وإن الله لما أخرجها إلى الدنيا ورآها آدم وحواء، ارتاع منها، وقال: بئسما ولدت يا حواء، فقالت: يا صفوة الله، هل لي ولك في قدرة الله اعتراض؟! وكان لا يكفيها لبن حواء، فتحلب لها الإبل والأغنام ولم تكفها، وتشب في اليوم كغيرها في الشهر، وفي الشهر كغيرها في السنة، فما آن فطامها إلا وقد غلظ أمرها وكثر شرها على بني أبيها. وسمتها حواء عنق، وهي بالعربية المشئومة. وجعلت تؤذي إخوتها، ومتى ما علقت بأحد خرقت ثيابه وأدمته وكسرت كل ما تقع يدها عليه، وزاد شرها، وكانت إذا نهتها حواء عن شيء، لا تعمل غيره، وإذا همت أن تمنعها، خافتها على نفسها لعظم خلقها؛ لأنه ما في بني آدم أعظم من خلقها. وجعل إخوتها يهابونها ولا يأوون موضعاً تكون فيه، وآدم يشنؤها. فلما رأت منهم ذلك، كانت تخرج إلى الصحراء وتطلب البر وتحتال على الوحش والطير فتأكلها. ولما رآها إبليس، استحسن صورتها فتصور لها في صورة تقاربها وجاءها وهي خالية بنفسها، فحياها فأجابته، وقالت له: من أنت؟ فإني لم أرك قبل هذا، فقل: صدقت يا عنق، أنا من ولد قابيل أخيك الذي هرب من أبيه، فما يمنعك أن تأتينا في منازلنا؛ فإن أباك وأمك يشنئونك ولا خير عندهم. فسارت معه إلى عند قابيل وولده، فلم تمنع من جاءها عن نفسها حتى حملت بعوج، وأراد الله أن يجعله حديثاً في الأرض فولدته أعظم منها، فقال لها إبليس: يا عنق، هل لك أن أجعلك ملكة الجن مثل ما كان أبوك ملك الإنس؟ فقالت: وكيف ذاك؟ فقال: إن الله أعلم أباك الاسم الذي كان إذا دعي به أجاب، فكتبه لأمك حواء، وهو في عضدها في كتاب من الفضة علقته عليها حرزاً مني ومن ولدي، فلا سبيل لنا عليها، فإن قدرت أن تأخذيه وتهربي به إلى عند قابيل، ثم إنك تدعين به فيما أردت فإنه يكون وتملكين الجن، وأول من يطيعك أنا وجندي، وكان الكتاب في يد حواء لا يفارقها، فعادت عنق ورصدتها حتى حاضت وأزالته من يدها فسرقته وخرجت به إلى البر، فقال لها إبليس: قد ملكت ما تحبين فادعي بما شئت، فقالت: اللهم، إني أسألك بحق هذا الاسم ألا تجعل لأبي وأمي علي سبيلاً، وسخر لي إبليس وجنوده فيما أحب وأريد، فقال لها إبليس: مرينا بأمرك، فأمرته أن يحملها إلى بني قابيل، فلما رأوها عجبوا من خلقها وأعلموا قابيل عن حالها فأعلمته وأعلمه إبليس بالاسم الأعظم، فقال له قابيل: هل لك من حيلة نأخذه منها، فنحن أحق به، فقال له إبليس: رفقاً لئلا تشعر بذلك فتهلكنا، وكانت أي شيء أرادته يحضره لها إبليس، فأول ما عمل لها الخمر فشربت مع بني قابيل تدعو لنفسها من استحسنته، وإبليس يجتهد في تحصيل الاسم الأعظم، ولما أن زنت وحاضت وشربت ولم تفارق الاسم الأعظم في أيام حيضها بدله الله بالسحر، فرفعه عنها، فكانت إذا أرادت العمل لا يتم لها، فعلم إبليس أن الله رفعه عنها إجلالاً له، وأن الذي بقي معها هو السحر، فسألها فيه فأخرجته إليه ثقة بمودته، فعمل إبليس به، وانتشر السحر في بني قابيل، وغلب عليهم إبليس واستعبدهم، وأخرج لهم المزامير والعيدان وجميع الملاهي، وعنق لا ترد يد لامس.
وحملت بعوج ولم تعلم ممن حملت به، فلذلك نسب إليها، فربته حتى عظم وقوي وبقي يطوف الأرض جبلاً جبلاً، ولم يسلطه الله على أحد من خلقه إلى زمن موسى - عليه السلام - فأراد أن يرمي عسكره بالجبل، فجعله الله طوقاً في عنقه، وقتله موسى - عليه السلام - كما سيأتي قريباً.(1/54)
قلت: ومن كانت هذه أمه، فغير عجيب أن يكون عدواً للأنبياء، وقد قيل: إنه ما زال يفتك بالأنبياء ويقتل إلى أن هلك - لعنه الله تعالى - وأغار على الأنبياء حتى قتل ثمانمائة وأربعة عشر نبياً. وروى أنه جاء إلى نوح مستغيثاً؛ ليحمله في السفينة، فخافه نوح، فقال له عوج: لا بأس عليك يا نوح مني، دعني أمشي مع سفينتك؛ فإني أعلم أن سفينتك لا تسعني ولا تحملني، فأوحى الله إلى نوح: ذر عوجاً ولا تخف منه؛ فإنه لا قدرة له عليك، فقال له نوح: ضع يدك على مؤخر السفينة؛ فإن الله قد أمرني بذلك. فبلغ الماء ركبتيه، وفي رواية: ما بلغ نصف ساقيه، وكان لا يأوي إلى المدن ولا تسعه إلا الصحارى وكهوف أعدها لنفسه تكنه من الأمطار وحر الشمس.
سئل عوج: ما أعجب ما رأيت؟ قال: كنت أخوض البحر دائماً إلى ساقي أو إلى ركبتي أو إلى حقوي أو إلى صدري، فبلغت موضعاً وضعت فيه رجلي فلم أبلغ قراره فرجعت هارباً، فاعترضتني حية فأخذتها بيدي ورفعتها حتى ظهر بياض إبطي ولم يظهر له رأس ولا ذنب. وعثر على نقباء موسى الاثنى عشر حين أرسلهم إلى أريحا بلد الجبارين عيوناً، فأخذهم في كمه مع فاكهة كان حملها من بستان، فنثرهم بين يدي الملك فردهم الملك إلى موسى ليعلموه بما عاينوه.
قال في الأنس الجليل، تاريخ القدس والخليل: كان طول عوج ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع، وكان يحتجر بالسحاب ويشرب منه، وكان يضرب بيده فيأخذ الحوت من قاع البحر، ثم يرفعه إلى السماء فيشويه بعين الشمس فيأكله. انتهى رجعنا إلى استغاثة قوم هود الكافرين بعوج على هود وقومه المؤمنين، استغاثوا به وضمنوا له إن كفاهم هوداً ومن معه أن يفوضوا له فرضاً يكون عليهم وعلى بنيهم أبداً، وكان عوج أعظم خلقه من عاد، كان أعظمهم يصل إلى ركبته أو وسطه، وكان إذا جاع قصد إلى مدينة من المدن؛ فيأتيهم بحزمة حطب يضعها على باب المدينة، فتسد بابها وتعلو على السور، فإذا رأوا الحطب، علموا أنه جاع؛ لأنه جعل ذلك علامة لجوعه ومنفعة لهم؛ فيكفيهم ذلك الحطب طول سنتهم، فيجمعون له من كل منزل مما يأكلون على أقدارهم؛ فيضعونه له في الصحراء فيأخذه وينصرف، وهذا كان دأبه.
فلما قدم بالحطب إلى قوم هود الكافرين، شكوا إليه أمر هود وقومه المؤمنين، وسألوه أن يعينهم عليه، فقال لهم: أروني عسكره أكفيكم أمره، فوعدوه يوماً بعينه ليقاتلوا فيه هوداً وقومه، حتى إذا كان ذلك اليوم يداهم هوداً - عليه السلام - بالقتال، وكان هود إذا شاء، ظهر لهم بمن معه فيقاتلهم، وإن شاء يغيب بمن معه فلا يرونه؛ صرفاً من الله لبصرهم عن رؤيته، فأتاهم عوج، فلما أبصره قوم هود ارتاعوا، فقال لهم هود: لا ترتاعوا، وأخبرهم بصرف الله أبصار أعدائه عنهم فلا يرونهم، فازدادوا إيماناً كما تقدم ذكر ذلك.
ثم اختفى هود بمن معه، فأبصر عوج قوم هود - عليه السلام - الكافرين، فقطع من الجبل قطعة على قدر العسكر على عاتقه فألقاها على العسكر، فقتل كل من وقعت عليه، وكلما انفلت واحد منهم أخذ كفاً من تراب فدفنه فيه، فلما رأوا ذلك، صاح الباقون: يا عوج، نحن أصحابك، قتلتنا وتركت هواً، فقال: إنما جئتكم لأهلك لكم عسكراً، ولم أجد غير هذا، فقالوا: إن هوداً سحر أعيننا فيرونا ونحن لا نراهم، وإنما جئنا بك لتكون عوناً لنا، وإذا كان الأمر كذلك، فانصرف عنا، فتركهم وانصرف، وكذلك أراد أن يعمل بقوم موسى في التيه؛ فإنه وقف على عسكرهم وهم لا يشعرون، وكان فرسخين في فرسخين، فقطع من الجبل قطعة ليطبقها عليهم، فأرسل الله تعالى هدهداً في منقاره حجر مذرب من حجر السامور، فضرب وسط الحجر بالحجر فوقع في عنقه، وأخبر الله موسى، فخرج بعصاه إليه، وكان طول موسى عشرة أذرع وعصاه مثلها ونزا من الأرض مثلها، وضربه على أسفل كعبه فقتله - ذكر ذلك ابن فضل الله في إملائه - وعمره ثلاثة آلاف وستمائة سنة.
قلت: قال العلامة شمس الدين بن القيم في كتابه المسمى بالمنار المنيف في الصحيح والضعيف كلاماً بين فيه بطلان قصة عوج إلى أن قال: ولا ريب أن هذا وأمثاله من وضع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل وأتباعهم. انتهى(1/55)
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير في كتابه المسمى بالبداية والنهاية في قصة عوج ابن عنق: جميع ما يحكون عنه هذيان لا أصل له، وهو من مختلقات زناديق أهل الكتاب، ولم يكن قط على عهد نوح، ولم يسلم من الكفار أحد، انتهى.
وقال العلامة جلال الدين السيوطي - رحمه الله تعالى - في آخر جواب عن سؤاله عنه: والأقرب في أمره أنه كان من بقية عاد، وأنه كان له طول في الجملة مائة ذراع أو شبه ذلك، لا هذا القدر المذكور، وأن موسى - عليه السلام - قتله بعصاه، هذا القدر الذي يحتمل قبوله، انتهى. يعني بذلك: ما رواه أبو الشيخ في كتاب العظمة قال: حدثنا إسحاق بن جميل، حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا أبو بكر بن عياش، حدثنا الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كان أقصر قوم عاد سبعين ذراعاً وأطولهم مائة ذراع. انتهى ثم إن هوداً دعا على قومه أن يبتليهم الله بالخوف والجوع فأمسك الله عنهم القطر، فهلكت مواشيهم وجفت أشجارهم واغبرت أرضهم، وكانت بلاد رمل، فأسرع القحط والجفاف إليها، فلما أحسوا بالهلاك، اجتمعوا وقالوا: قد كان هود يخوفنا ونكذبه، أترون أن نأتي إليه فنسأله أن يسأل ربه فيسقينا، أو نتركه ونتوجه إلى مكة، فنستسقي كما كان يفعل آباؤنا. فأوفدوا إلى مكة وفداً يستسقون لهم، وهم: قيل بن عقير، ونعير بن هزال، ومرثد بن مسعد بن عفير، كان مرثد مؤمناً يكتم إيمانه، وجلهم بن الحصين ابن خال معاوية بن بكر، ولقمان بن عاد، وأصحاب النسور، فانطلق كل رجل منهم مع قوم من رهطه حتى بلغ عددهم تسعين رجلاً، فنزلوا بمكة على معاوية بن بكر، وكانوا أخواله وأصهاره، فأكرمهم وأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان، قينتان.
فلما رأى معاوية بن بكر مكثهم، وقد بعثهم القوم يتغوثون لهم، شق عليه ذلك وصعب عليه، واستحيا أن يأمرهم بالخروج فيظنون أنه ثقل عليه مكانهم عنده، فشكا إلى قينتيه، فقالتا: اعمل شعراً تغنيهم به لعله يخرجهم ويذكرهم ما جاءوا له من طلب السقيا، فقال معاوية شعراً فتغنتا به، وهو قوله: من الوافر
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعلّ اللّه يصبحنا غماما
فيسقي أرض عادٍ إنّ عاداً ... قد امسوا لا يبينون الكلاما
وقد كانت نساؤهم بخيرٍ ... فقد أمست نساؤهم أيامى
وإنّ الوحش يأتيهم جهاراً ... ولا يخشى لعاديٍّ سهاما
وأنتم ههنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم تماما
فقبّح وفدكم من وفد قومٍ ... ولا لقّوا التّحيّة والسّلاما
فقال بعضهم: لقد صدقت المغنية؛ إنما بعثكم قومكم تستسقون لهم، فقال لهم مرثد المؤمن: والله، لا تسقون بدعائكم، ولكن بطاعة نبيكم هود، وأظهر حينئذ إيمانه، فقالوا: يا مرثد، لا تقدم معنا؛ فإنك قد اتبعت دين هود، فتخلف مرثد ومعه لقمان، فمضوا واستسقوا، فرفعت لهم ثلاث سحائب: حمراء وبيضاء وسوداء، ونادى مناد: يا قيل، اختر لقومك، فقال: اخترت السوداء، فكان فيها كما قال تعالى:(1/56)
قَالُواْ هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ " الأحقاف " سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَنِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً " الحاقة فدخلت بينهم فصرعتهم فهربوا إلى البيوت، فكانت تقلع البيت من أساسه فتضرب به البيت الآخر فتطحنهما معاً، وتحمل الإبل والنساء والرجال وتقلع الشجر من أصولها، فقال سبعة من عاد رأسهم الخلجان، وهو ملكهم وأعظمهم جسماً: قوموا نقف على شفير الوادي، وكانوا قد زووا أهاليهم في شعب ذلك الوادي فترد الريح، فوقفوا وكشفوا عن صدورهم، وقالوا: من أشد منا قوة؟ فصرعتهم الريح، وتركتهم كما قال تعالى: " كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ " الحاقة ولم يبق إلا الخلجان وحده، فتقدم إلى الجبل وهو يبكي، وأخذ بجانب منه فهزه فاهتز في يده، فعرض هود عليه التوبة فأبى، فجاءته الريح فدخلت تحت قدميه، وأمسك الجبل فرفعته هو والجبل في يده قد شد عليه من أصله إلى الهواء، ثم قلب الريح على أم رأسه ولم يبق من عاد واحد، واعتزل هود ومن معه من قومه المؤمنين في حظيرة وما يصيبهم منها إلا ما يلين جلودهم، ثم أرسل الله عليهم طيوراً سوداً فنقلتهم كلهم إلى البحر: " فَأَصْبَحُواْ لاَ يُرًى إِلاَّ مَسَكِنُهُمْ " الأحقاف ثم تقدم هود ومن آمن معه من ديارهم التي سخط الله عليهم فيها إلى الشحر، فسكنوا هنالك.
ولما مات هود - عليه السلام - قبر بمكة، وقيل: بحضرموت، وهو الصحيح، عند الكثيب الأحمر، وقبره معروف هنالك.
وروى ابن إسحاق أن أبا سفيان صخر بن حرب بن أمية وعبد الله بن زيد أقبلا من الشام، فلما وصلا إلى وادي القرى، لقيهما رجل من عاد فقال: أطعموني، فجعل يلف كل ما قدم إليه لفاً، ثم قال: احملوني، فضاقوا به ذرعاً وكرهوا صحبته، فأطعمه عبد الله بن زيد وحمله على بعير، فجعل يسحب ركبتيه لطولهما، فلما انتهى إلى وادي العقيق، قال العادي لعبد الله: إنك حملتني وأطعمتني، فأحب أن أكافئك، فاتبعني ولا تلتفت، فتبعه إلى الوادي، فقال: انظر إلى مسقط ظلي فاحفر عنده، فانطلق عبد الله وحفر، فإذا صخرة عظيمة فقال: اقلعها، فلم يطق، فرفعها العادي بأصبعه، وانحدر وعبد الله معه إلى سرب في الأرض، فإذا سراج يزهر، وإذا برجلين من قوم عاد ميتين، فقال له العادي: إن هذين صاحباي، فإذا مت فضمني إليهما، واحتمل من المال حاجتك، ثم اخرج وضع الصخرة على السرب ولا تلتفت حتى تخرج من الشعب، وعمد العادي إلى ريشة قد نتف جانبيها نحواً من ذراع، فأدخلها فخارةً فيها شبه القطران، ثم أخرجها فأدخلها منخره، ثم غمسها الثانية فأدخلها منخره الآخر، ثم صاح صيحة كاد عبد الله يهلك منها، ومات العادي، فضمه عبد الله إلى صاحبيه، واحتمل من المال حاجته، ووضع الصخرة على السرب - بعد جهد جهيد - ومضى، فكان أكثر قريش مالاً. انتهى قال المسعودي: وقد كان في ملك النمرود بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح - عليه السلام - هيجان الريح التي أسقطت صرح النمرود وفي إقليم بابل من ارض العراق، فبات الناس ولسانهم سرياني، فلما أصبحوا تفرقت لغاتهم على اثنين وسبعين لساناً، فسمى الموضع بابل لتبلبل الألسنة به، فصار من كان من ولد سام بن نوح تسعة عشر لساناً، وفي ولد حام ستة عشر لساناً، وفي ولد يافث سبعة وثلاثون لساناً، وكان من تكلم بالعربية يعربن وجرهم، وعاد، وجديس، وطسم، وعبيد، وثمود، وعملاق، ووبار، وعبد ضخم فسار يعرب بن قحطان بن عابر وهو هود عليه السلام ابن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بمن تبعه من ولده وولد ولده، وهو يقول: من الرجز
أنا ابن قحطان الهمام الأنبل ... يا قوم سيروا في الرّعيل الأوّل
نحو يمين الشّرق في تمهّل ... أنا البديٌّ باللسان المنهل
ذي المنطق الب ... يّن غير المشكل
فحل باليمن.
وسار بعده عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح بولده ومن تبعه، فحل بالأحقاف من بلاد عمان إلى حضرموت واليمن، وتفرق هؤلاء في الأرض وانقرضوا، وملكهم جيرون بن سعيد بن عاد وحل بدمشق فمصر مصرها، وجمع عمد الرخام والمرمر وشيد بنيانها، وهذا الموضع في وقتنا سوق من أسواقها بباب المسجد يعرف بباب جيرون.(1/57)
وسار بعد عاد ثمود بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ومن تبعه من ولده وغيرهم؛ فنزلوا الحجر بين الشام ومكة إلى قرح، وسار طسم وجديس بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح؛ فنزلوا اليمامة، وسار عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح فنزلوا أكناف الحرم والتهائم، ومنهم من سار إلى مصر والمغرب. وقد ذكر أن هؤلاء بعض فراعنة مصر، وبعض الناس ألحق العمالقة بعيص بن إسحاق بن إبراهيم، عليه السلام.
ثم سار وبار بن أميم بن لاوذ بن إرم بن سام؛ فنزل أرض وبار - الأرض المعروفة برمل عالج - فبغوا في الأرض فأصابتهم نقمة فهلكوا جميعاً.
قال الشاعر: من مخلع البسيط
ومرّ دهرٌ على وبار ... فهلكت جهرةً وبار
ثم سار عبد خم بن إرم بن سام بن نوح، فنزلوا الطائف، فهلكوا ببعض غوائل الدهر ورثوا، فيهم يقول الأزدي: من المنسرح
وعبد ضخم إذا نسبتهم ... أبيض وجه الحجا مع النّسب
وابتدعوا منطقاً بخطّهم ... فبيّن الخطّ صحّة العرب
وذكر أنهم أول من كتب بالعربية، ووضع الأحرف أ... ت ث، وسار جرهم بن قحطان - واسمه يقطان بن قحطان - وجرهم لقب له، وطافوا البلاد حتى نزلوا بمكة.
وسار أميم بن لاوذ بن إرم بن سام، فحل بأرض فارس، ونصب كيومرث بن أميم ملكاً عليهم.
وسار عبيل بن عوص بن إرم بن سام بن نوح - عليه السلام - في ولده ومن تبعه، فنزلوا بالجحفة بين مكة والمدينة، فهلكوا بالسيل فسمى الموضع بالجحفة؛ لإجحافه عليهم.
وكان يثرب بن قامة بن مهلئل بن إرم بن عبيل نزل بالمدينة فسميت باسمه، فهلك أولئك ببعض غوائل الدهر، وأقصدتهم سهامه، فقال بعض ولده ممن رثاهم شعراً: من الخفيف
عين جودي على عبيل وهل ير ... جع ما فات فيضها بانسجام؟!
عمّروا يثرباً وليس بها سف ... رٌ ولا سارحٌ ولا ذو سنام
غرسوا لينها ببحرٍ معينٍ ... ثمّ حفّوا الفسيل بالآجام
قال في حقيبة الأسرار: وكان في ولد سام بن نوح رجل يقال له: بواط بن لاوذ، كان على دين آبائه لم يشرك، وله أولاد كثير ضلوا، وكان يحبهم ولا يقدر أن يفارقهم، وكان قد أفهمه الله تعالى جميع اللغات، فلما قوي اضطرابهم، خاف أن يقتتلوا ويفتن بعضهم بعضاً، وكانوا قد أهلهم للعربية؛ لأنهم من أولاد سام بن نوح، فقال لهم: اعقدوا لي لواء وراية أرفعها للناس، وأفهم كل طائفة ما أقول لهم، فعقدوا له لواء على رمح طويل، فرفعه بيده، ثم جاء فأركزه في وسط القوم، وأشار إليهم بيده أن اجتمعوا واسمعوا، فاجتمع القوم حوله وأنصتوا، فجعل يلتفت إلى قوم بعد قوم ويكلمهم كلاً بلسانه، فلما سمعوا ذلك منه، فرحوا وقالوا: يا فلان، ما هذا الذي جرى علينا؟ وكانوا يعرفون عقله وعلمه. فقال لكل قوم بلسانهم: هذه عقوبة عاقبكم الله بها بسبب كفركم وعصيانكم وترككم طاعة ربكم، كما فعل بمن كان قبلكم من الطوفان حتى لم يبق أحداً، ولولا أن الله وعد أباكم نوحاً ألا يهلك أحداً بعد الطوفان بعذاب عام - لسلط عليكم عذاباً يهلككم به، ولكن عاقبكم باختلاف ألسنتكم وتغير لغاتكم، وفي ذلك عبرة لكم، فقالوا: صدقت يا شيخنا، فأشر علينا ما نصنع، فألهمه الله تعالى أن قال: تفرقوا في البلاد، وليأخذ كل رجل منكم طائفته وأهل بيته ومن هو على لسانه وينحاز إلى جهة من الأرض يسكنونها ولا يدخل عليه أحد غيره، فاستدعى ألوية وعقدها ودفع كل لواء إلى رئيس منهم بلسانه على حدة، فجعل أولاد يافث مع اختلاف لغاتهم فرقة ولهم لواء، وقال: عليكم بمهب الشمال، ولكم من المجرة إلى منتهاها. ودفع لواء إلى بني حام وقال: أنتم عليكم بمهب الجنوب، ولكم من مطلع سهيل إلى منتهاها وهو المغرب. فافترق هؤلاء من المشرق، وهؤلاء من المغرب، وعقد لواء ثالثاً لبني سام، وقال: عليكم بمهب الدبور، ولكم من بنات نعش إلى مطلع سهيل، ثم قال: وأما أنا فإني باق ههنا على هذا اللواء مع فالغ وذويه، ولي ولهم مهب الصبا. فمن أراد منكم أن يقيم معي فليفعل، وانحاز بمن معه إلى فالغ بن عابر، وتفرقت الأمم إلى المواضع المذكورة، وبقي فالغ بن عابر في موضعه، وكفاه الله شر الكفار من بني يافث وحام، وشتت الله شملهم.(1/58)
ولما هدم الله بناء ملكهم، بقي فالغ ومن معه من المؤمنين بقرية الثمانين، ولم يفارق قبور آبائه. وكان قد تزوج عابر فولد له فالغ، وهو عمود النسب المحمدي، وإلى عابر ترجع العرب قيسيها ويمنيها؛ فمن ولده قحطان بن عابر وجرهم بن قحطان، واسمه: يقطان، وجرهم لقبه.
قال العلامة المسعودي في كتابه المسمى مروج الذهب، ومعادن الجوهر: الصحيح الذي عليه أكثر أهل العلم والقدماء من كهلان وحمير والعلماء منهم أن قحطان بن عابر - وهو هود - بن شالخ بن أرفخشد بن نوح - عليه السلام - وعليه قول أبي الطيب من قصيدة يمدح بها: من الطويل
إلى الثّمر الحلو الّذي طيّىءٌ له ... فروعٌ، وقحطان بن هود له أصل
ولعابر الذي هو هود - عليه السلام - أولاد: منهم فالغ وهو عمود النسب المحمدي، وقحطان وملكان.
وقيل: إن ملكان هو ابن قحطان لا أخوه، وهو - يعني ملكان - والد الخضر، عليه السلام.
وولد لقحطان أحد وثلاثون ولداً ذكراً، فولد قحطان يعرب بن قحطان، وولد يعرب يشجب بن يعرب، وولد يشجب عبد شمس، ويقال: عبد الملك، وهو سبأ ابن يشجب، وسمى سبأ؛ لأنه أول من سبى السبايا؛ فولد سبأ رجلين: حمير بن سبأ، وكهلان بن سبأ. فالعقب الباقي من هذين الرجلين.
ولو كنا بصدد ذكر مطلق الأنساب، لذكرنا من فروع أنسابهم وفنون أخبارهم كثيراً، إلا أنا قصدنا ذكر العدنانية لا القحطانية؛ لمكان نسبه، عليه الصلاة والسلام.
وأم فالغ ميثا، وقيل: عروة بنت صيفن، وكان منه الجبابرة، وانقرضوا جميعاً، ولم يعقب فالغ إلا من ابنه أرغو، وقام بالأمر بعد أبيه عابر، وكان عمره مائتي سنة، فلما حضرته الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع النور والاسم الأعظم ابنه أرغو؛ كما سيأتي.
ومن حديث فالغ بن عابر ما ذكره صاحب كتاب المبتدا: أن الله تعالى لما أراد أن ينقل النور إلى فالغ، اختار أبوه امرأة من قومه، فلما انتقل النور إليها شكر الله تعالى، فلما تم حملها ووضعته رباه أحسن تربية وعلمه الصحف، فلما بلغ من عمره ثمانين سنة، مات أبوه فالغ بعد أن أخذ عليه العهد في النور، فسلك به مسلك آبائه ودفنه إلى جانب أبيه، وقد اضطرب قومه وافترقوا وتباغضوا وما اتفقوا على فالغ ولا أطاعوه، وبنوا لهم مدينة بابل ليسكنوا فيها، وكان طولها عشرة فراسخ في عرض ستة فراسخ، واجتمع فيها بنو حام وبنو يافث وبنو سام جميعهم، وفالغ ومن معه من المؤمنين قليلون فلم يسكنوا معهم ولا قربوا موضعاً هم فيه، بل كانوا في قرية الثمانين التي نزل بها نوح - عليه السلام - وأقام أولئك عليهم ملكاً يجمعهم اسمه جامر بن يافث، وهو أبو فارس الذي سميت به الفرس، فاجتمعوا إليه وقالوا: أيها الملك، لم يبق على وجه الأرض من يخالفك إلا فالغ ومن معه، وهم قليلون، فلو غزوناهم وتركناهم لنا عبيداً أو يدخلون في ديننا، فقال: افعلوا ما بدا لكم، وأرفدهم من بني حام ويافث بعسكر عظيم، وولى عليهم رجلاً اسمه شودب بن جرجان بن حام، وأمرهم أن يستأصلوهم، وأن يأتوه بفالغ أسيراً، وقد كان جامر بن يافث قد بنى له مدينة يسكنها خوفاً من الطوفان أن يعود؛ لأنه كان يحدث بأمر الطوفان، وأنه لم ينج منه أحد، وأن الماء ارتفع فوق الجبال، فأراد أن يعلي البناء أكثر مما كان الطوفان لحقه، حتى إذا عاد سما هو وقومه في أعاليه، فلما أكمل بناءه، سماه المجدل.(1/59)
وكان طوله في الهواء خمسة آلاف ذراع وعرضه ألفاً وخمسمائة ذراع، فلما فرغ منه، عزم على تجهيز العسكر لغزو فالغ، فباتوا تلك الليلة وهم أجمع ما كانوا وملكهم معهم؛ إذ أصبحوا بالغداة وقد تبلبلت ألسنتهم وهدم الله بنيانهم من القواعد، فخر عليهم السقف من فوقهم وأهلكهم الله، وذلك قوله تعالى: " فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَنَهُم مَنّ الْقَوَاعِدِ.. " الآية النحل فاشتغلوا بأنفسهم عن فالغ ومن معه، وأصبح كل قوم يتكلمون بلغة لا يعرفها القوم الآخرون، فحاروا واضطربوا ولم تفهم طائفة ما تقول الأخرى، فانحازوا فرقاً كل فرقة تتكلم بلسان، فكان الرجل ينحاز وأهل بيته معه يتكلمون بلغة واحدة يفهم بعضهم بعضاً، فإذا خالطهم أحد من غيرهم لا يفهمون قوله ولا يفهم قولهم، وانحازت طائفة منهم ألهمها الله العربية، فتكلموا بها، فأولئك الذين يقال لهم العرب، وهم العرباء من خصوص بني سام بن نوح، فمنهم عاد، وعبيل، وثمود، وجديس، وطسم، وعمليق، وأميم، وعبد ضخم، ووبار، ويثرب، وجرهم، كما تقدم ذكر ذلك قريباً؛ فهؤلاء من بني سام كلهم تكلموا بالعربية بإلهام لهم من الله تعالى، فنزلت بنو سام المجدل سرة الأرض، وهو ما بين ساتيدما إلى البحر وما بين اليمن إلى الشام، وجعل الله النبوة والكتاب والجمال والأدمة والبياض فيهم، ونزل حام مجرى الجنوب والدبور، ويقال لتلك الناحية: الداروم، وجعل الله فيهم أدمة وبياضاً قليلاً، فعمر بلادهم وسماهم ورفع عنهم الطاعون، وجعل في أرضهم الأثل والأراك والعشر والمغاث والنخل، وخزن الشمس والقمر في سمائهم.
ونزل بنو يافث الصفون مجرى الشمال والصبا، وفيهم الحمرة والشقرة، فأخلى الله لهم أرضهم، فاستدبروها وأخلى سماءهم، فليس يجري فوقهم شيء من النجوم السبعة الجارية؛ لأنهم صاروا تحت بنات نعش والجدي والفرقدين، وابتلوا بالطاعون.
ولحقت عبيل وعتيد بموضع يثرب، والعماليق بصنعاء، ثم انحدر بعضهم إلى يثرب، فأخرجوا منها عتيداً، فنزلوا بالجحفة.
ولحقت ثمود بالحجر وما يليه فهلكوا.
ثم لحقت طسم وجديس باليمامة، فهلكوا.
ولحقت أميم بأرض وبار، فهلكوا بها، وهي بين اليمامة وهجر ولا يصل إليها اليوم أحد، غلبت عليها الجن.
وإنما سميت وبار بوبار بن أميم.
وكانت الشام يقال لها أرض بني كنعان، ثم جاء بنو إسرائيل فقتلوا بها ونفوا باقيهم عنها. ذكر هذا صاحب كتاب حقيبة الأسرار، وهو فيه قليل مخالفة في البعض لما ذكره صاحب مروج الذهب، فما في المروج، أحق إليه بالعروج.
واختلف أهل التاريخ فيمن كان ملكهم بعد فارس بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح صاحب المجدل، فيل: هو كيومرث بن لاوذ بن أميم بن إرم بن سام بن نوح، ومعنى كيومرث: حي ناطق ميت. وقيل: ولوا عليهم هوشنك بيشداد، ومعناه: الدين الحاكم، فأخذ قومه بعبادة الله وترك الأوثان، وقام فيهم خطيباً، فحذرهم سخط الله تعالى وما فعل بقوم نوح وصاحب المجدل، وقال: قد بقيتم يا بني سام في موضعكم، ونبيكم فالغ صاحب النور، وقد وليتكم الآن، فمن دان بدين فالغ، وقال بشريعته، فأنا منه وهو مني، وله الأمن والمراعاة والإحسان، ومن أبي وجحد الرحمن، قتلته ولو كان أخي أو ابني، فاستقيموا أستقم لكم، واتقوا الله واعبدوه. فاتبعوه ودانوا بدين الله، وسلكوا شرائع نوح - عليه السلام - وكثر عددهم وأخصبت بلادهم، وفالغ فيهم، وهوشنك يوجه إليه في كل وقت ما يحتاج إليه هو والذين معه، وعمر هوشنك الأرض، وهندس المياه، وأجراها إلى العمائر، وأمر بقتل السباع واستعمال جلودها مدبوغة، وهو أول من ذبح البقر والغنم الوحش وأكل لحومها، وبنى المدائن.
ولما بنى مدينة السوس، سماه بلسانه الشوش، أي: الحسنة، ثم بنى مدينة تستر، سماها بلسانه: شوشتر، أي: هذه أحسن. وهو أول من اتخذ السجون، وسجن الناس فيها، وكان ملكه أربعين سنة، وعمره يوم موته سبعمائة سنة وأشهر.(1/60)
ثم ملك بعده طهمورث بن هماد؛ فسار سيرته وسلك طريقته، وبنى مرو وآمد وقلعة سارس بأصفهان، وكان ملكه ثلاثين سنة، وعمره يوم مات ستمائة سنة. وفي زمانه ولد لفالغ ابنه أرغو، وإليه انتقل النور فأخذ به فالغ طريقة آبائه وأجداده من تعليم الصحف ودين الله تعالى، ومات فالغ في زمن جمشيد وهو أخو طهمورث، ومعناه: السيد الشجاع، وهو الذي جند الأجناد وجعل الناس خمس طبقات: مقاتلة، ونساك وكتاب، وصناع، وخدام. وهو أول من أثار علم الطب، وطبع السيوف، وصبغ الثياب بالألوان المختلفة، واتخذ السراويلات، وبنى إصطخر وهمذان وطوس، وكان مدة ملكه ستمائة وستة عشر سنة، وهو الذي جاء في أيامه الضحاك بن علوان بن عاد، أرسله إليه شداد بن عاد، فهرب منه جمشيد فقتله الضحاك، واستوثق له الأمر، وغير عبادة الله وشرع نوح، وطغى وتجبر، وطلب أرغو بن فالغ صاحب النور المحمدي، فمنعه الله منه، واختفى هو ومن معه والضحاك في طلبه، وكان أرغو يسمى العابد وهو بهمزة مفتوحة فغين معجمة مضمومة، وكان منه جبابرة تملكوا وانقرضوا، ولا عقب له إلا من ساروغ، عاش أرغو مائتي سنة وثلاثين، وقام بعده ولده ساروغ.(1/61)
ومن حديث أرغو على ما في كتاب المبتدا: أن الضحاك بن علوان طلبه وأنه اختفى منه بمن معه وهو في طلبه، فقيل: إنه هرب ببنيه والعصابة القليلة التي معه إلى أن دخل إلى ديار بني يافث، وهناك مات - رحمه الله تعالى - وقد ولد له ساروغ، ونور محمد صلى الله عليه وسلم قد انتقل إليه، وهو الذي خرج بعد موت أبيه فالغ إلى ديار يافث؛ وذلك أنه سكن مغارة في بعض جبال تلك الأرض، وابتنى هناك قبة من الرصاص، وهي باقية إلى الآن؛ وذلك أن الله تعالى دل على معادن تلك الأرض كلها، فاستخرج الرصاص وعمل منه قبة، وأمر ولده أن يدفنوه فيها. وقد وصل إلى هذه القبة رجل من العرب من حمير في زمن معاوية بن أبي سفيان في وقعة كانت بينه وبين الروم، والرجل يعرف بعبد الله بن عمر الحيراني، وكان عالماً بأيام العرب ووقائعهم، حافظاً لأشعارهم، فلما وقعت الواقعة بين معاوية وملك الروم، أسر مع جملة من المسلمين، فلما جاء عيد الشعانين، جلس الملك للناس، وكان العيد ثلاثة أيام، فأول يوم يطعم أهل بيته ورؤساء الروم، والثاني رؤساء بلده وغيرهم من أصحاب الأموال، والثالث الغرباء والمساكين، وهو في الثلاثة الأيام جالس على سريره، والأطعمة تنقل بين يديه وبطارقته من حوله وهو ينظر إلى الناس، فإذا فرغ من عيده، قضى الحوائج وأطلق الأسرى وأحسن إلى الفقراء، فلما جاء اليوم الثالث قال: فأخرجت في الأسرى، لم آكل غير أني جعلت أتأمل في الملك ثم أمر بإصلاح شأني وتغيير حالي، وأحضرني وقربني، وقال: من أنت، فقد أنكرت أمرك يوم الطعام؟ فقلت: أيها الملك، ما رأيته منك أحب إلي من الطعام، فقال: لا شك أنك مميز عارف عاقل، فكساني وحملني على دابة، فكان كثيراً ما يسألني عن أيام العرب ووقائعها، فأخبره فيطرب، وكان فصيحاً بالعربية عالماً باللغة، وكان هو يحدثني بأحاديث بني إسرائيل والفرس والروم، وأمسكني عنده وأحبني، وكان أهل دولته يتوسلون بي في في حوائجهم، وكان يخلو بي ويسألني عن الدين والإسلام وصفة النبي وأخباره وقصته فأخبره. فقال لي يوماً: أريد السفر إلى موضع أهمني وتكون معي، فقلت: إلى أين؟ قال: إلى قبة من رصاص بنيت في أول الزمان لأنظر إليها، بيننا وبينها مفازة أربعة أشهر، وإن كان لا حيلة فيها؛ لأنها مطبقة لا يعرف لها باب، فسار ومعه بطارقة من جماعته وعبيده نحو مائة في مفازة غير مسكونة ولا معمورة، حتى انتهينا إلى قبة عالية من الرصاص على مقدار نصف جريب، فطفنا بها، فإذا هي قبة لا باب لها، فقال الملك: أرأيت؟ فقلت: نعم، قال: إنه كان على قلبي منها أمر عظيم، ولم أزل حتى وصلت إليها، فكيف الاستعلام بما في باطنها؟ فقلت: أيها الملك، إنها من الرصاص، ولو أردت حرقها وكسرها لفعلت في أقل مدة، فتبسم، وقل: هذا غير خاف علي، غير أنه في أم الكتاب الذي قرأت فيه حديثا أنه من أرادها بسوء هلك من ساعته، وقد تعرض لها جماعة فماتوا، فإياك أن تنطق بمثل هذا فتهلك الساعة، فتعجبت من كلامه، ثم ألهمني الله أن قلت للملك: إن أنت أذنت لي أيها الملك أن أستفتح، فأقرأ القرآن الذي أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن يك مانع من الجن دونها، فإنه يدحض ويهرب، وإن يك غير ذلك عرفناه، فقال: والله، ما جئت بك لغير هذا، فبدأت القراءة، واستفتحت معلنا صوتي، وأنا أطوف حولها، والملك معي، وكنت قد بدأت بأول القرآن، فلم أزل أقرأ سورة بعد سورة حتى انتهيت إلى سورة الرعد، قرأت هذه الآية: " وَلَوْ أَنَّ قُرْءَاناً سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ... " الآية الرعد فظهر لنا بابها، فسر الملك بذلك، فدخلت وأنا أقرأ ودخل الملك معي، وإذا في وسطها قبر عظيم عليه رخامة مزبور فيها خط؛ فلم أعرف أقرؤه، فنقلته حتى رجعنا، فطلب الملك من يقرؤه، فأتى برجل فقرأه لنا فإذا فيه مكتوب: أنا أرغو بن فالغ ابن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وتحت هذا مكتوب أبيات شعر وهي: من الخفيف
أنا أرغو بن فالغ المعتاص ... من ظلام الإشراك بالإخلاص
كنت بالله مؤمناً ربّ إدري ... س ونوحٍ ومؤمناً بالقصاص
قائلاً لا إله إلاّ الل ... ه إلهي ومن إليه مناصي
فأراد الضّحّاك ذو الكفر منّي ... أن أُضاهيه بالعمى والحياص(1/62)
فتركت البلاد طرّاً وأخلي ... ت له عن محلّتي وعراصي
وسكنت الكهوف دهراً طويلاً ... خائفاً هارباً من أهل المعاصي
لأنال الخلاص في دار ملكٍ ... يوم تعنو إلى إلهي النّواصي
وبنيت الّذي ترون بعون الل ... ه ذي المنّ من صفاح الرصاص
وأمرت البنين أن يقبروني ... جوفها في ملاحفي وقماصي
سوف يأتي بعدي بدهرٍ رسولٌ ... من بني هاشم الذُرى والأقاصي
عابدٌ قانتٌ رءوفٌ رحيمٌ ... باليتامى والبائسين الخماص
ليتني عمّرت حتّى أراه ... لأنال الحبا وفضل الخواص
وإنما سقنا هذا دليلاً على صحة الرواية في هرب أرغو بن فالغ صاحب نور رسول الله صلى الله عليه وسلم من الضحاك - لعنه الله - وأنه بقي في ذلك الموضع ما شاء الله تعالى، ومعه جماعة ممن آمن بالله، وزوجته ملكة بنت براكيل، وولد له ساروع بن أرغو هنالك، وعلمه جميع ما علمه من أب بعد أب من لدن آدم - عليه السلام - ثم مات أرغو ودفن بالقبة المذكورة، وكان قد وصى ولده ساروع أن يدفنه بها ففعل.
ولم يزل ساروع هنالك بعد موت أبيه أرغو، حتى هلك الضحاك بن علوان - لعنه الله - أخذه أفريدون، فأوثقه وصيره بجبال دنباوند، والعجم تزعم أنه موثوق بالحديد إلى اليوم يعذب هناك، قد أطال الله عمره.
ولما هلك، رجع ساروع بن أرغو في زمان أفريدون، وكان في ديار بكر وما والاها محفوظاً مكرماً بنور رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هكذا قرره صاحب كتاب المبتدا.
وساروع: بسين مفتوحة مهملة وألف بعدها وراء مهملة وعين مهملة، سمى به؛ لأنه كان يسارع للحروب، وكان ملكاً كبيراً مع النبوة، أمه عروة بنت كوعل، وله أعقاب وعشائر وأولاد وذرية جبابرة، وكلهم هلكوا، وكان عمره مائة وثلاثين سنة.
ولما حضرته الوفاة، أوحى الله إليه أن استودع الاسم الأعظم والنور ابنك ناحور، ففعل، وأوصى إليه.
فقام بعده ناحور وابنه نعمان أولد سارة: زوج الخليل إبراهيم وأم إسحاق، وقيل: إنها بنت ناحور - وناحور، بالنون والحاء غير المعجمة، تفسيره: النهار - القائم بأمر الله بعد أبيه.
قال في كتاب الوصية: فمن آمن به كان مؤمناً، ومن جحد بولايتهم كان كافراً، ومن جهل أمرهم كان ضالاً.
ثم أوحى الله إلى ناحور: استودع الاسم الأعظم تارحاً ابنك، ففعل وتوفى ناحور وهو ابن مائة وأربعين سنة.
وقام بعده ولده تارح بتاء مثناة فوق وألف وراء مهملة وحاء كذلك مهملة، وهو أزر في قول، وقيل: أزر عمه، وهو الملك ابن ناحور بن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، ومن غير عمود النسب هاران، وكان عمره مائتي سنة، وكان حجاراً يصنع أصنام قومه التي كانوا يعبدوها، وهو أبو إبراهيم.
وفي كتاب الوصية عن العالم أنه قال: كان آزر جداً لإبراهيم لأمه، وكان منجماً للنمرود، وهو ابن طهماسفان.
وفي منهاج الطالبين: كان في زمن إبراهيم نمرود بن كوش بن كنعان بن شداد، وقيل: نمرود بن كنعان ملك المشارق والمغارب، وهو الذي حاج إبراهيم في ربه، وكان في أرض بابل أخبره منجموه أن مولداً يولد في قريتك هذه يفارق دينكم، ويكسر أصنامكم، في شهر كذا من سنة كذا، فلما دخلت السنة المذكورة، بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى في قريته فحبسها إلا امرأة آزر ازما بنت شمر؛ فإنه لم يعلم بحملها، فكان لا يولد غلام في ذلك الشهر من تلك السنة إلا أمر بذبحه، فلما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت إلى مغارة كانت قريباً منها، فولدت فيها إبراهيم، وأصلحت من شأنه ما جرت به العادة، ثم سدت عليه فم المغارة وعادت إلى بيتها، وكانت تطالعه في المغارة؛ لتنظر ما يفعل فتجده حياً يمص إبهامه.
وقيل: إنه كان يغتذي من إبهامه.
وقيل: إن الله جعل رزق إبراهيم في أطرافه، وكان كلماً مص من أصابعه جعل الله له فيها رزقاً.
وكان آزر سأل أم إبراهيم عن حملها، فقالت: ولدت غلاماً ومات، وصدقها.(1/63)
وتربى إبراهيم في المغارة، وكان اليوم على إبراهيم كالشهر والشهر كالسنة على غيره، فلم يلبث إبراهيم فيما ذكر إلا خمسة عشر شهراً إلا قال لأمه: أخرجيني أنظر، فأخرجته، فتفكر في خلق السموات والأرض، ثم نظر في السماء فرأى كوكباً؛ كما قال الله تعالى، وسيأتي الكلام على تمام قصة إبراهيم، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قال الإمام أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي في كتاب العرائس: لما نجى الله خليله من نار النمرود ومن آمن به، خرج مهاجراً إلى ربه، وتزوج ابنة عمه سارة ابنة هاران، وبه سميت البلدة المشهورة التي يقال لها حران بقلب الهاء حاء، فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على نفسه ومن آمن معه، فقدم إلى مصر، وبها فرعون من الفراعنة الأول، وكانت سارة من أحسن النساء، وكانت لا تعصى إبراهيم، وبذلك أكرمها الله تعالى، فأتى إبليس إلى فرعون وقال: إن ههنا رجلاً معه امرأة من أحسن النساء، فأرسل الجبار إلى إبراهيم - عليه السلام - وقال: ما هذه المرأة منك؟ فقال: هي أختي، وخاف إن قال: امرأتي، أن يقتله، فقال: زينها وأرسلها إلي: فرجع إبراهيم إلى سارة، وقال لها: إن هذا الجبار قد سألني عنك، فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني عنده؛ فإنك أختي في كتاب الله؛ فإنه ليس مسلم في هذه الأرض غيري وغيرك، ثم أقبلت سارة إلى الجبار، وقام إبراهيم يصلي، وقد رفع الله الحجاب بينه وبين سارة ينظر إليها منذ فارقته إلى أن عادت إكراماً له وتطييباً لقلبه.
فلما دخلت سارة على الجبار، ورآها، دهش من حسنها، ولم يملك نفسه أن مد يده إليها فيبست يده على صدرها، فلما رأى ذلك، عظم أمره، وقال لها: سلي ربك أن يطلق يدي؛ فإني والله لا أوذيك، فقالت سارة: اللهم، إن كان صادقاً فيما يقول فأطلق يده، فأطلق الله يده، فوهب لها هاجر، وهي امرأة قبطية جميلة، وردها إلى إبراهيم، فأقبلت إليه، فلما أحس بها، انفتل من صلاته، فقالت: كفى الله كيد الفاجر، ووهبني هاجر، وقد وهبتها لك، لعل الله يرزقك منها ولداً. وكانت سارة قد منعت الولد حين أيست، فوقع إبراهيم على هاجر، فحملت بإسماعيل - عليه السلام - وأقام إبراهيم بناحية من أرض فلسطين بين الرملة وإيليا، وهو يضيف من يتيه، وقد أوسع الله عليه وبسط له في الرزق، وكان لوط بن هاران بن تارح ابن أخي إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وفي الكشاف: وكان لوط ابن أخت إبراهيم، عليه الصلاة والسلام.
وهو أول من آمن له يوم النار، وكان معه في هجرته وهو النبي المذكور في القرآن المبعوث إلى سدوم وسائر القرى الخمس المؤتفكة، وهي: سدوم، وعمورا، وحصورا، وصابورا، وفي الكشاف: صيعة، وصبور، وعمواء، ومي، وسدوم، وهي العظمى. وذكر أن سدوم جميع ما أقامت عامرة إحدى وخمسين سنة. قال الزمخشري: قرى قوم لوط كانت خمساً أهلك الله أربعاً بأهلها، وبقيت واحدة، وهي بلاد بين تخوم الحجاز مما يلي الأردن، وبلاد فلسطين إلا أن ذلك في حيز الشام خراب لا أنيس به ولا حسيس.
قال الثعلبي في العرائس: وإنما سمى لوط؛ لأن حبه ليط بقلب إبراهيم، أي: تعلق ولصق؛ فكان إبراهيم - عليه السلام - يحبه حباً شديداً، وهاجر معه إلى مصر، وعاد إلى الشام، فأرسله الله إلى أهل سدوم القرية التي قيل فيها أجور من قاضي سدوم، وكانوا أهل كفر وفاحشة، فقال لهم لوط أتقطعون السبيل، وتأتون في ناديكم المنكر؟! وكان قطعهم السبيل إتيان الفاحشة بمن ورد عليهم، إذا مر عليهم المار، أمسكوه وفعلوا به اللواط. وفي ناديه المنكر: نكاح بعضهم بعضاً.
وعن عائشة: كانوا يتحابقون في المجالس.
وعن ابن عباس: المنكر هو الحذف بالحصى، والرمي بالبنادق، والفرقعة للأصابع، ومضغ العلك، والسواك بين الناس، وحل الإزار، والسباب والفحش في المزاح.
وقيل: السخرية بمن مر بهم.
وقيل: المجاهرة في ناديهم بذلك العمل يرتكبونها معالنين بها لا يستتر بعضهم من بعض خلاعةً ومجانةً وانهماكاً في المعصية.(1/64)
وقالوا: لم يثر ذكر على ذكر قبل قوم لوط، فقال لوط: " أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَلَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِنْ أَزْوَجِكُم " الشعراء يعني: وجدكم تختصون بهذه الفاحشة، والعالمون على هذا القول كل ما ينكح من الحيوان، قاله في الكشاف. ومن أزواجكم يصلح أن يكون بياناً لما خلق، وأن يكون للتبعيض، ويراد بما خلق العضو المباح منهم وفي قراء ابن مسعود: ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم، وكانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم، فكذبوه، فلم يزدهم وعظه إلا تمادياً، فسأل الله فيهم، فأرسل الله الملائكة بقلب سدوم والمؤتفكات؛ فجعلوا طريقهم على إبراهيم - عليه السلام - فما لبث أن جاء بعجل حنيذ، فلم يأكلوا، فأوجس منهم خيفة، فقالت لهم زوجته سارة: ما لكم تمتنعون من طعام نبي الله؟ فبشروها بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، وكانت سارة يومئذ ابنة تسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة وعشرين سنة، فقالت: " ءَأَلِدُ وَأَناْ عَجُوزٌ... " إلى آخر الآيتين هود " فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَهِيمَ الرَّوْعُ " هو قال: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَي الْكِبَرِ إِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ " إبراهيم وسألهم فيما أتوا؟ فقالوا أتينا بهلاك قوم لوط، قال إبراهيم: يا جبريل، إن كان فيها خمسون بيتاً من المسلمين، أتهلكهم؟ فقال: لا، فقال إبراهيم: وأربعون؟ قال: لا، قال: وثلاثون؟ قال: لا، قال: وعشرة؟ قال: لا، قال: وواحد؟ قال: لا، " قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَبِرِينَ " العنكبوت فلما وصلت الملائكة إلى لوط، وهم في صورة مرد حسان الوجوه، رأوه تحت البلد يسقي زرعاً له وكان زارعاً، فقالوا له: هل من قرى عندك الليلة؟ فقال: إن أهل هذه القرية - لعنهم الله - قوم سوء ينكحون الرجال ويأخذون الأموال، فما أنتم؟ قالوا: نحن عبيد، وكان آخر النهار، فتركهم وذهب إلى البلد، وقال لامرأته: إن كتمت علي الليلة في ضيوف عندي عفوت عما مضى منك. وكانت إذا جاءه ضيف ليلاً توقد فوق السطح، وإن جاءه نهاراً تدخن، علامةً بينها وبين قومها، فوعدته الكتمان. فغدا بهم، وقال: لا تمشوا إلا في ظل الحائط، فقالوا: أمرنا سيدنا ألا نسلك إلا وسط الجادة، فلما وصلوا، أوقدت النار على السطح، فجاءوا إليه يهرعون؛ كما حكى الله تعالى عنهم ذلك، وقالوا له: يا لوط " أَوَلَمْ ننَنْهَك عَنِ الْعَلَمِينَ " الحجر فقال: " يَقَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ " هود يعني: بالتزويج لأكابركم، " فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ " هود فكان من جوابهم قولهم: " لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَناتِكَ... " إلى آخره هود فناشدهم الرحم وهم على العناد، فقال له جبريل: افتح لهم، فقال: " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ " هود وقال: من أنت؟ قال: جبريل، قال: بماذا أتيت؟ قال: بهلاكهم، قال: متى؟ قال: " إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ " هود فاستبطأ لوط ذلك، فقال له جبريل - عليه السلام - : " أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ " هود فضرب جبريل بجناحه فأعمى كل من في المدنية، وكان فيهم عابد وعالم؛ فكان العابد يقول لهم: ندعو عليه، والعالم يحذرهم وينهاهم عن مخالفته. فذهبوا إلى العابد ليدعو فدعا فلم يستجب له، فذهبوا إلى العالم، فقال لهم: احفظوا لوطاً؛ فإنه ما دام فيكم لم ينزل عليكم العذاب، فأحاطوا بداره جميعاً، وكان جبريل أمره أن يطلع ليلاً، فلما جاء عند الصبح رآه باقياً في مكانه، فقال: لم لا تطلع؟ فاعتذر بشدة اجتماعهم على داره، وأنه لا يمكنه ذلك، فضرب جبريل الأرض بقضيب فانفتح سرداب فيه قضيب من نور إلى ظاهر البلد، فقال: اتبعه، " وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصَابَهُمْ " هود فخرجوا مسرعين، فتبعتهم امرأته، فسمعت من خلفها هدة فالتفتت، فسقطت عليها صخرة فأهلكتها.
وفي الكشاف: قيل: إنها هلكت مع من خرج من القرية بما أمر عليهم من الحجارة؛ لكونها راضية ومحرشة، والراضي بالمعصية في حكم العاصي.(1/65)
وأما الأمطار: فعن قتادة: أمطر الله على شداد القوم حجارةً من السماء فأهلكتهم. قال الزمخشري: الحاصب لقوم لوط، وهي ريح عاصف فيها حصباء، وقيل: ملك كان يرميهم.
قال الشريف أبو محمد هارون المأموني: لما سمعت الصوت امرأة لوط، قالت: واقوماه، فأدركها حجر فقتلها؛ لأنهم كانوا قد أمطر الله عليهم حجارة من سجيل، فهلكت مع القوم. فلما كان الصبح، اقتلع جبرائيل أرضهم سدوم وقراها بمن فيها، وكان فيها أربعة آلاف ألف فرفعها من سبع أرضين حتى بلغ بها السماء، وسمع أهل السماء بنبح كلابهم وصياح ديكتهم، ولم يكفأ لهم إناء، ولم ينتبه لهم نائم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، وأمطر الله الحجارة على من لم يكن بالقرى فأهلكهم، وكان ذلك بعد مضي تسع وتسعين سنة من عمر إبراهيم، عليه السلام.
وعن أبي جعفر محمد بن علي الباقر - رضي الله عنهم - أن قوم لوط كانوا من أفضل قوم خلقهم الله تعالى، وكان من فضلهم أنهم إذا خرجوا للعمل، خرجوا بأجمعهم، وبقي النساء خلفهم، فحسدهم إبليس على عبادتهم، فكانوا إذا رجعوا، خرب إبليس ما يعملون، فرصدوه فإذا الذي يخرب متاعهم غلام حسن، فاجتمع رأيهم على قتله، وبيتوه عند رجل منهم، فلما كان الليل صاح، فقال له الرجل: مالك؟ فقال: كان أبي ينومني على بطني، فلم يزل بذلك الرجل حتى علمه يعمل بنفسه، فأولاً علمه إبليس، والثانية علمه هو، ثم انسل اللعين ففر منهم، فجعل الرجل يحدث بما فعل الغلام فأعجبهم، فوضعوا أيديهم فيه حتى اكتفى الرجال بالرجال، فجعلوا يرصدون مار الطريق يفعلون به، حتى تنكب الناس مدينتهم، ثم تركوا نساءهم، وأقبلوا على الغلمان، فلما رأى إبليس أنه قد أحكم أمره في الرجال، أتى إلى النساء وصير نفسه امرأة، وقال: إن رجالكم يفعل بعضهم ببعض، قالوا: نعم، ولوط بعضهم حتى استغنى النساء بالنساء.
فلما كملت عليهم الحجة أرسل الله جبرائيل وميكائيل وإسرافيل في زي غلمان عليهم أقبية، فمروا بلوط وهو يحدث إلى آخر ما تقدم.
وأما قبر لوط: فهو في قرية تسمى كفر بريك عند مسجد الخليل - عليه السلام - بنحو فرسخ، ونقل أن في المغارة الغربية تحت المسجد العتيق ستين نبياً، منهم عشرون مرسلاً. وهذا المكان مشهور بالفضل، ويزار على فرسخ من حرا، جبل صغير مشرف على بحيرة زغر، وبموضع قريات لوط مسجد بناه أبو بكر محمد بن إسماعيل الصاحي، فيه مرقد إبراهيم - عليه السلام - قد غاص في الصخر بنحو ذراع، يقال: إن إبراهيم - عليه السلام - لما رأى قريات قوم لوط في الهواء، وقف - أو رقد - ثم قال: أشهد أن هذا هو الحق اليقين؛ فلذلك سمى مسجد اليقين.
وكان بناء هذا المسجد في شهر شعبان سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، وبظاهر المسجد مغارة بها قبر فاطمة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - وعند قبرها رخامة مكتوب عليها بالكوفي: من البسيط
أسكنت من كان بالأحشاء مسكنه ... بالرّغم منّي بين التّرب والحجر
أفديك فاطمةٌ ممّا رميت به ... بنت الأئمّة بنت الأنجم الزّهر
ولنعد إلى تمام قصة إبراهيم - عليه السلام - إذ قصة لوط وقعت في البين؛ لاتصالها بها اتصال السمع بالعين: لما أوجس إبراهيم - عليه السلام - من الملائكة خيفة حين لم يأكلوا ما قدمه لهم، " قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ " أي: والحال أن امرأته، أي: إبراهيم ابنة عمه سارة: " قَائِمَةٌ " تخدمهم، " فَضَحِكَتْ " هود تعجباً أن يكون لها ولد بعد بلوغ تسعين عاماً، فالضحك على حقيقته المعروفة.
وقال مجاهد: ويمكن ضحكت: حاضت؛ تقول العرب: ضحكت الأرنب: إذا حاضت.
قال السدي: فحملت سارة بإسحاق، وكانت هاجر قد وقع عليها إبراهيم - عليه السلام - بعد أن وهبتها له سارة، فحملت بإسماعيل، فوضعتا، فشب الغلامان فتسابقا، فسبق إسماعيل، فأخذه إبراهيم وأجلسه في حجره وأجلس إسحاق إلى جانبه، فغضبت سارة، وقالت: عمدت إلى ابن الأمة، فأجلسته إلى حجرك، وعمدت إلى ابني فأجلسته إلى جانبك، وأخذها ما يأخذ النساء من الغيرة، فحلفت لتقطعن منها ثلاثة أعضاء أو تغيرن خلقتها. ثم ثاب إليها عقلها فتحيرت في يمينها، فقال إبراهيم: اخفضيها واثقبي أذنيها، ففعلت وحلت من يمينها، فصار ذلك سنة في النساء.
والخفاض للنساء كالختان للرجال.(1/66)
ثم إنه تهارش إسماعيل وإسحاق كما يتهارش الصبيان؛ فغضبت سارة على هاجر، وحلفت ألا تساكنها في بلد واحد، وطلبت من إبراهيم - على نبينا وعليه السلام وعلى سائر الأنبياء - أن يعزلها عنها، فأوحى إلى إبراهيم أن يأتي بهاجر وابنها إلى مكة، فذهب بها حتى قدم مكة، وهي إذ ذاك عضاه وسلم، وموضع البيت ربوة حمراء، فعمد بها إلى الحجر - بكسر الحاء - فأنزلها فيه، وأمرها أن تتخذ فيه عريشاً، ثم انصرف، فتبعته هاجر، فقالت: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت إذن لا يضيعنا، فرجعت عنه، وكان معها ماء في شن فنفد، فعطشت وعطش ابنها، فنظرت إلى الجبل، فلم تر داعياً ولا مجيباً، فصعدت على الصفا، ثم هبطت إلى المروة وعينها من ولدها، حتى نزلت إلى الوادي، فغابت عنه، فهرولت حتى صعدت الجانب الآخر فرأته، فاستمرت إلى أن صعدت المروة، فما رأت أحداً، فترددت كذلك سبعاً، فعادت إلى ولدها وقد نزل جبريل - عليه السلام - فضرب بجناحه الأرض، فنبع الماء، فرجعت هاجر إليه وحبسته عن السيلان، وهي تقول: زم زم تكررها، فسميت: زمزم لذلك. وفي لفظ النبوة " لولا أنا أعجلت لكانت عيناً معيناً، فشربت وأرضعت ابنها، وقال لها جبريل: لا تخافي الضيعة؛ فإن ههنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه.
وركب إبراهيم منصرفاً من يومه، وكان ذلك بوحي من الله تعالى.
قالوا: ثم مرت رفقة من جرهم تريد الشام، فرأوا طيراً تحوم على جبل أبي قبيس، فقالوا: إن هذا الطير يحوم على ماء، فتبعوه فأشرفوا على بئر زمزم، فقالوا لهاجر: إن شئت نزلنا معك والماء ماؤك، فأذنت لهم فنزلوا معها، فهم أول من سكن مكة على هذه الرواية؛ لكن الأصح أن العمالقة أول من سكنها؛ كما ذكر ذلك في ترتيب من بني البيت عبد اللطيف بن أبي كثير بقوله: من الطويل
بنى الكعبة الغرّاء عشرٌ ذكرتهم ... ورتّبتهم حسب الّذي أخبر الثّقه
ملائكة الرّحمن آدم وابنه ... كذاك خليل الله ثمّ العمالقة
وجرهم يتلوهم قصيٌّ قريشهم ... كذا ابن زبيرٍ ثمّ حجّاج لاحقه
وزاد بعضهم فقال: من الطويل
ومن بعد عام الأربعين لقد بنى ... مرادٌ حماه الله من كلّ طارقه
وقد ذكر الأزرقي من خبر العمالقة ما يقتضي سبقهم في سكنى مكة لجرهم؛ فإنه روى بسنده إلى سيدنا عبد الله بن العباس - رضي الله عنهما - أنه قال: كان بمكة حي يقال لهم: العماليق، من نسل عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وكانوا في عز وثروة، كانت لهم خيل وإبل وماشية تسعى حول مكة، وكانت العضاه ملتفة، والأرض مبقلة، وكانوا في عيش رخيٍّ، فبغوا في الأرض، وأسرفوا على أنفسهم، وأظهروا الظلم والإلحاد، وتركوا شكر الله تعالى، وكانوا يكرون الظل ويبيعون الماء، فسلبوا النعمة، وأخرجهم الله من مكة بأن سلط الله عليهم النمل حتى خرجوا من الحرم، ثم ساقهم الجدب حتى ألحقهم بمساقط رءوس آبائهم ببلاد اليمن، فتفرقوا وهلكوا. انتهى ولما نزلوا على زمزم أهدوا إليها عشرا من الغنم، فيقال: إن جميع أغنام بني إسماعيل من نسل تلك العشرة. وتوفيت هاجر أم إسماعيل وقبرها في الحجر، فتزوج إسماعيل من جرهم، فتكلم بلسانهم، فيقال لبني إسماعيل: العرب المستعربة، ويقال لجرهم وقحطان: العربة العاربة، ويقال لطسم وجديس وعبيل: العرب البائدة؛ لأنهم بادوا وهلكوا جميعاً.
قال العلامة المسعودي في مروجه: بنو نزار تنكر تعلم إسماعيل العربية من جرهم، وتدعي أن الله تعالى علمه هذه اللغة، قالوا: ولغة جرهم غير هذه اللغة؛ ونحن نؤيد ذلك، فقد وجدنا لغة بني قحطان تخالف لغة بني نزار، وذلك يقتضي إبطال قول من قال: إن إسماعيل أعرب بلغة جرهم. انتهى ما قاله المسعودي.(1/67)
قال التقي الفاسي، رحمه الله: قال ابن هشام - بعد أن ذكر أن قبرها وقبر ابنها جعلا في الحجر عند الكعبة - ما نصه: تقول العرب: هاجر وآجر، فيبدلون الألف من الهاء؛ كما قالوا في هراق الماء وأراق الماء. وهاجر من أهل مصر. وقال: حدثنا عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، عن عمر مولى غفرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الله الله في أهل الذمة، أهل الدرة، السود السحم الجعاد؛ فإن لهم نسباً وصهراً قال عمر مولى غفرة: نسبهم؛ لأن أم إسماعيل منهم، وصهرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسرى فيهم. قال ابن لهيعة: أم إسماعيل هاجر من قرية كانت أمام الفرما من مصر، والفرما: مدينة تنسب إلى صاحبها الذي بناها، وهو الفرما بن فيلفوس. وقيل: ابن فيلبس، ومعناه: محب الفرس. انتهى وقال العلامة أبو القاسم السهيلي في الروض الأنف: كانت هاجر لملك الأردن، واسمه صارون فيما ذكره القتيبي، دفعها إلى سارة حين أخذ سارة من إبراهيم إعجاباً منه بجمالها، فصرع مكانه لما أراد الدنو إليها، فقال: ادعي الله أن يطلقني. الحديث؛ كما تقدم ذكر ذلك؛ وهذا الحديث مشهور في الصحاح، فأرسلها وأخدمها هاجر، فوهبتها سارة لإبراهيم، وكانت هاجر قبل ذلك بنت ملك من ملوك القبط بمصر، والقبط أولاد قبط بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح، عليه السلام.
وذكر من حديث سيف بن عمر؛ أن عمرو بن العاص حين حاصر مصر، قال لأهلها: إن نبينا عليه الصلاة والسلام قد وعدنا بفتحها، وقد أمرنا أن نستوصي بأهلها خيراً؛ فإن لهم نسباً وصهراً، فقالوا: هذا نسب لا يحفظ حقه إلا نبي؛ لأنه نسب بعيد. وصدق، كانت أمكم امرأة لملك من ملوكنا، فحاربنا أهل عين الشمس، فكانت لهم علينا دولة، فقتلوا الملك واحتملوها، فمن هنالك تصيرت إلى أبيكم إبراهيم.
قلت: وقول السدى فيما تقدم: إن سبب إخراج إبراهيم هاجر إلى الحرم إنما كان بسبب غب سارة على هاجر حين تسابق الغلامان، وسبق إسماعيل إسحاق، ولإقعاد إبراهيم - عليه السلام - إسماعيل في حجره، وإقعاد إسحاق إلى جانبه، وقول سارة: عمدت إلى ابن الأمة، فأجلسته في حجرك... إلى آخره ليس بصحيح، وكذا قوله: تهارش إسماعيل وإسحاق كما يتهارش الصبيان، فغضبت ليس بصحيح، بل الصحيح: أن سبب إخراجها محض الغيرة؛ كما رأيته في غالب كتب السير ثم إنه ذكر أن إسماعيل كان طفلاً إذ ذاك لا يهارش ولا يسابق. انتهى(1/68)
وذكر النووي والسهيلي: أنها ماتت وسن ولدها إسماعيل عشرون سنة. وروى الأزرقي، عن ابن إسحاق؛ أن إبراهيم لما أمر ببناء البيت، أقبل من أرمينية على البراق حتى انتهى إلى مكة، وبها إسماعيل وعمره يومئذ عشرون سنة، وقد توفيت أمه قبل ذلك، وهذا يقتضي أن أمه توفيت وسنه دون عشرين؛ لأنها ماتت قبل قدوم إبراهيم، وقدم إبراهيم وإسماعيل ابن عشرين سنة، ثم إن إبراهيم - عليه السلام - استأذن سارة في زيارة ابنه وأمه، فأذنت له، واشترطت ألا ينزل عندها، فقدم إبراهيم - عليه السلام - وقد ماتت هاجر، فأتى ببيت إسماعيل، فوجد امرأته، فقال لها: أين صاحبك؟ فقالت: ذهب يتصيد، وكان إسماعيل يخرج من الحرم إلى الحل، فيصيد ما يتعيش به، فقال لها: هل عندك ضيافة من طعام أو شراب؟ قالت: ليس عندي شيء، فقال لها: إذا جاء زوجك، فأقرئيه مني السلام، وقولي له: غير عتبة بيتك، وذهب إبراهيم - عليه السلام - فلما جاء إسماعيل - عليه السلام - قالت له: جاءني رجل شيخ صفته كذا وكذا، أقرأك السلام، وقال: غير عتبة بيتك، فقال لها: الحقي بأهلك، وتزوج غيرها. فمكث إبراهيم مدة، ثم استأذن في الزيارة، فجاء إلى مكة، وقدم على منزل إسماعيل، فوجده غائباً في الصيد كذلك، فقال لامرأته: أين ذهب صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيد، ورحبت به، وقالت له: اجلس يرحمك الله، وجاءته بلحم ولبن وماء فأكل وشرب، وقالت له: يا عم، هلم حتى أغسل رأسك وأزيل شعثك، وجاءت بحجر - قيل: هو حجر المقام الذي بنى عليه الكعبة بعد - فجلس عليه فغاصت رجلاه في الحر، فغسلت شقه الأيمن ثم الأيسر، ثم أفاضت الماء على رأسه وبدنه إلى أن فرغت. فتوجه من عندها، وقال لها: إذا جاء صاحبك فأقرئيه مني السلام، وقولي له: قد استقامت عتبة بيتك، فالزمها، فلما جاء إسماعيل، وجد رائحة أبيه، فقال لها: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم، جاءني شيخ من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً، فأضفته وسقيته وغسلته، وهذا موضع قدميه، وحين توجه قال لي: أقرئي صاحبك مني السلام، وقال كذا وكذا، قال إسماعيل: نعم، أمرني أن أثبت معك. وقبل موضع قدمي أبيه من الحجر، وحفظه يتبرك به إلى أن بنى فيما بعد إبراهيم - عليه السلام - الكعبة.
ثم بعد ذلك: قدم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إلى مكة، وبنى الكعبة الشريفة، فلما فرغ من بنائها، أمره الله أن يؤذن في الناس بالحج، فقال: يا رب، وما عسى أن يبلغ مدى صوتي؟ فقال تعالى: عليك النداء، وعلينا البلاغ، فصعد على جبل ثبير - وقيل: في الحجون، وقيل: على ظهر الكعبة - ونادى: يا عباد الله، إن ربكم قد بنى بيتاً، وأمركم أن تحجوه، فحجوا، وأجيبوا داعي الله. فأسمع صوته جميع من في الدنيا ومن سيولد ممن هو في أصلاب الرجال وأرحام الأمهات، فأجابه من سبق في علم الله أنه سيحج: لبيك لبيك. وكان حج من حج بعدد تلبيته السابقة، إن خمساً فخمس، أو عشراً فعشر، أو أقل أو أكثر فبحسبه، فسبحان القدير على كل شيء لا إله غيره.
قال في الأعلام: روى كعب الأحبار، عن رجال قالوا: لما رأى إبراهيم في المنام أن يذبح ابنه، وتحقق أنه أمر ربه، قال لابنه: يا بني، خذ المدية والحبل، وانطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب لأهلنا، فأخذ المدية والحبل وتبع والده، فتمثل الشيطان رجلاً فأتى أم الغلام فقال: أتدرين أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: ذهب ليحتطب لنا من هذا الشعب، فقال لها الشيطان: لا والله، ما ذهب إلا ليذبحه، قالت: كلا، هو أشفق مني عليه وأشد حباً، قال: إنه يزعم أن الله أمره بذلك، قالت: فإن كان الله أمره بذلك فليطع أمره، فخرج الشيطان حتى أدرك الابن على أثر أبيه، وهو يمشي، فقال: يا غلام، أتدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: نحتطب لأهلنا من هذا الشعب، قال: كلا؛ زعم أن الله أمره بذبحك، فقال الغلام، فليفعل ما أمر الله به، وسمعاً وطاعةً لأمر الله تعالى، فأقبل الشيطان على إبراهيم، فقال: أين تريد أيها الشيخ بهذا الغلام؟ قال: أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه، فقال له: إني أرى الشيطان خدعك بهذا المنام الذي رأيته، وأنك تذبح ولدك وفلذة كبدك، فتندم بعد حيث لا ينفعك الندم، فعرفه إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وقال: إليك عني يا ملعون، والله لأمضين لأمر ربي، فنكص إبليس على عقبيه بخزيه وغيظه، ولم ينل من إبراهيم شيئاً.(1/69)
ويقال: إن مواضع الجمار الثلاث هي مواقف الشيطان الذي رجمه إسماعيل فيها لما اعترضه للغواية، بقي الرجم إليها سنةً في شرعنا دحضاً للشيطان.
فلما خلا به إبراهيم في الشعب - ويقال: كان ذلك في ثبير - قلت: المشهور في ثبير أنه المطل على مسجد الخيف، والمنحر المشهور في سفحه. وتصح الرواية؛ فإن المقابل يقال له: ثبير رم نص عليه العلامة الفاسي وغيره، وعدها سبعة أثبرة وبينها. انتهى ولما خلا به في الشعب، قال له: " يَبُنَيَّ إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ... " الآية الصافات فحدثت أن إسماعيل قال له عند ذلك: يا أبتاه، إذا أردت ذبحي، فاشدد وثاقي لا يصيبك من دمي فينقص أجري؛ فإن الموت شديد، ولا آمن أن أضطرب عنده إذا وجدت مسه، واستحد شفرتك حتى تجز علي، فإن أنت أضجعتني فاكفني على وجهي، ولا تضجعني لشقي؛ فإني أخشى إن نظرت إلى وجهي أن تدركك الرأفة، فتحول بينك وبين أمر ربك، وأن ترد قميصي إلى أمي، فعسى أن يكون إسلاء لها ما بقي، فقال له إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، فيقال: إنه ربطه بالحبل كما أمره فأوثقه، ثم حد شفرته، ثم تله للجبين، أي: صرعه إلى الأرض، واتقى النظر إلى وجهه، ثم أدخل الشفرة حلقه فقلبا جبريل - عليه السلام - في يده، ثم اجتذبها إليه: " وَنَدَيْنَهُ أَن يَإِبَرهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا... " الآية الصافات فهذه ذبيحتك فداءً لابنك فاذبحها دونه، وأتاه بكبش من الجنة.
قال الفاكهي: ذكر أهل الكتاب وكثير من العلماء: أن الكبش الذي فدى به إسماعيل هو الكبش المتقبل من قربان ابني آدم قابيل وهابيل، حين قربا قرباناً، وهو الذي قربه هابيل، كما في الآية الشريفة؛ روى ذلك بسنده عن ابن عباس.
فانظر - رحمك الله - إلى طاعة هذا الوالد لأمر الله تعالى من ذبح قرة عينه وقطعة كبده، وإلى طاعة هذا الولد لأمر والده وانقياده لذلك راضياً مستسلماً باذلاً روحه لله تعالى، وانظر إلى هذه الوالدة الشفيقة الرحيمة وإطاعتها لأمر الله تعالى وأمر زوجها. انتهى ثم ولد لإسماعيل - عليه السلام - من زوجته آسية بنت مضاض بن عمرو الجرهمي اثنا عشر رجلاً، منهم نابت أو نبت، وقيدار، ويطور.
قال ابن هشام في السيرة: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي قال: ولد لإسماعيل بن إبراهيم اثنا عشر رجلاً: نابت، وقيدار، وأدبيل، ومبسام، ومسمع، وماشي، ودوما، وأذر، وتيماء، ويطور، ونبش، وقيذما، كلهم من آسية، وقيل: رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، وكان أكبرهم نابت.
وقال السهيلي: أكبرهم قيدار.
ورأيت للبكرى ما هو صريح أن دومة الجندل البلد المعروفة بلد أكيدر التي غزاها خالد بن الوليد، عرفت بدوما بن إسماعيل، وكان نزلها. فلعل ذلك مغير منه. وذكر أن الطور سمى بيطور بن إسماعيل النبي - عليه الصلاة والسلام - ولعله محذوف الياء إن كان يصح ما قاله.
وأما الذي قاله أهل التفسير في الطور، فهو كل جبل ينبت الشجر، فإن لم ينبت شيئاً، فليس بطور.
وفي كتاب التيجان: قال وهب: حدثني ابن عباس - رضي الله عنهما - أن إبراهيم الخليل - صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر النبيين وسلم - دخل ذات يوم وعلى عنقه قيدار بن إسماعيل صغيراً، فجاء إليه يعقوب وعيص ابنا ابنه إسحاق، فأخذهما إلى صدره، فنزلت رجل قيدار اليمنى على رأس يعقوب. ورجله اليسرى على رأس عيص، فغضبت أمهما، فقال لها إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - : لا تغضبي؛ فإن أرجل أولاد هذا الذي على عنقي على رؤوس هؤلاء بمحمد صلى الله عليه وسلم. انتهى وخبر ابن عباس هذا يدل على أن نسب عدنان يرجع إلى قيدار بن إسماعيل، وهو الذي رجحه السهيلي وجماعات، لا إلى نابت بن إسماعيل.
وعاش إسماعيل مائة وثلاثين عاماً، ومات ودفن بالحجر مع أمه. وعمود النسب المحمدي قيدار، وكان هو الملك في زمانه بعد إسماعيل، وكان هو صاحب إبل إسماعيل، وهو معنى قيدار.
ثم ولد لقيدار زيد، وهو الهميسع، ثم ولد للهميسع أدد، ثم ولد لأدد أد، ثم ولد لأد عدنان.(1/70)
قال العلامة أبو القاسم السهيلي في شرحه لسيرة ابن هشام المسمى بالروض الأنف: قال القتيبي: وما فوق عدنان إلى إسماعيل من الأسماء مضطرب فيه؛ فالذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه انتسب إلى عدنان لم يتجاوزه؛ بل قد روى من طريق ابن عباس؛ أنه لما بلغ عدنان قال: كذب النسابون مرتين أو ثلاثاً، وروى عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: إنما ننسب إلى عدنان، وما فوق ذلك لا ندري ما هو.
وأصح شيء يروى فيما فوق عدنان إلى إسماعيل ما ذكره الدولابي أبو بشر، من طريق موسى بن يعقوب عن عبد الله بن وهب بن زمعة الزمعي، عن عمته، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: معد بن عدنان بن أدد بن زند بالنون بن اليرى بن أعراق الثرى. قالت أم سلمة: فزند هو الهميسع، واليرى هو نبت، وأعراق الثرى هو إسماعيل؛ لأنه ابن إبراهيم، وإبراهيم - عليه السلام - لم تأكله النار؛ كما أن النار لا تأكل الثرى.
وأصحاب الأخبار لا يختلفون في بعد المدة بين عدنان وإسماعيل، ويستحيل في العادة أن يكون بينهما أربعة آباء أو سبعة؛ كا ذكره ابن إسحاق أو عشرة أو عشرون؛ فإن المدة أطول من ذلك كله؛ وذلك أن معد بن عدنان كان في مدة بخت نصر ابن اثنتي عشرة سنة، وذكر أن الله تعالى أوحى في ذلك الزمان إلى إرميا بن حلقيا؛ أن اذهب إلى بخت نصر، فأعلمه أني قد سلطته على العرب، واحمل معداً على البراق كيلا تصيبه النقمة فيهم؛ فإني مستخرج من صلبه نبياً كريماً أختم به الرسل صلى الله عليه وسلم. فاحتمل معداً على البراق إلى أرض الشام، فنشأ في بني إسرائيل، وتزوج امرأة هناك اسمها معانة بنت جوشن من بني ريث بن جرهم، ويقال: إن اسمها ناعمة، وبينه وبين إبراهيم في ذلك النسب نحو من أربعين جداً. وقد ذكرهم كلهم أبو الحسن المسعودي على اضطراب في الأسماء وتغيير في الألفاظ؛ ولذلك - والله أعلم - أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع نسب عدنان إلى إسماعيل؛ لما فيه من التخليط والتغيير للألفاظ وعواصة تلك الأسماء مع قلة الفائدة في تحصيلها.
ثم ولد لعدنان ابنان: معد وهو عمود النسب المحمدي، وعك. وكان رجوع معد إلى أرض الحجاز بعد ما رفع الله بأسه عن العرب، ورجعت بقاياهم التي كانت في الشواهق إلى محالهم ومياههم، بعد أن دوخ بلادهم بخت نصر، وخرب المعمور، واستأصل أهل حضور، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: " وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً... " الآية الأنبياء وذلك لقتلهم شعيب بن ذي مهدم، أرسله الله إليهم وقبره بصبر جبل باليمن، وليس بشعيب الأول صاحب مدين. وكذلك أهل عدن قتلوا نبياً لم اسمه حنظلة بن صفوان؛ فكان سطوة الله بالعرب لذلك، نعوذ باله من غضبه وأليم عقابه.
واشتقاق عدنان، من عدن بالمكان: إذا أقام به. ولعدنان ابنان آخران: عكك، وعمرو. واشتقاق معد فيه ثلاثة أقوال، أقربها: من المعد، بسكون العين، وهو القوة.
ثم ولد لمعد نزار، وقضاعة، وقنص، وإياد؛ لكن المشهور في قضاعة أنه من القحطانية لا العدنانية؛ شاهد ذلك قول الشاعر: من الرجز
نحن بنو الشّيخ الهجان الأزهر ... قُضاعة بن مالك بن حمير
إلا أن يكون كذلك سمى، ونزار هو عمود النسب المحمدي، وهو اسم نقل من النزر، وهو القليل، وكان معد حين ولد له نزار، ونظر إلى نور النبوة الذي كان ينتقل في الأصلاب إلى عبد الله، فرح فرحاً شديداً، ونحر جزائر كثيرة وأطعم وقال: إن هذا كله نزر لحق هذا المولود. وقيل: سبب التسمية قول كسرى الأول حين وفد إليه: أي ابن كسى. فضائل بيسار، وجسم نزار، فالله أعلم أيا كان ذلك.
ثم ولد لنزار أربعة: مضر، وهو عمود النسب المحمدي، وربيعة، وإياد، وأنمار، ومضر هو أول من سن للعرب حداء الإبل، وكان أحسن الناس صوتاً، وفي الحديث: لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مؤمنين ذكره الزبير بن أبي بكر.(1/71)
قال صاحب تاريخ الخميس: توفى نزار عن بنيه الأربعة، وهم: مضر، وربيعة، وإياد، وأنمار، تخالفوا في قسمة مخلفه، وكان قد قال لهم: إن اختلفتم في ذلك، فعليكم بالأفعى الجرهمي، وكان بنجران، فذهبوا إليه، وكان ذا رأي وحنكة، فلما كانا بأثناء الطريق إذا هم بأثر بعير، فقال مضر: هذا البعير أزور، وقال ربيعة: وأعور، وقال إياد: وأبتر، وقال أنمار: وشرود. ثم ساروا فوجدوا صاحب البعير يطلبه في الشعاب والدحال، فقالوا له: بعيرك أزور؟ فقال: نعم، قالوا: فأبتر؟ قال: نعم، قالوا: وأعور؟ قال: نعم، قالوا: وشرود؟ قال: نعم، فلم يشك الرجل أنهم غرماؤه، فلازمهم إلى أن وصلوا إلى الأفعى الجرهمي، فقال صاحب البعير: لا أدعك أيها الشيخ أو تحكم بيني وبين هؤلاء اللصوص: ذهب بعير لي، فالتمسته فإذا وصفه عند هؤلاء الرجال فهم الفعلة، فسألهم الأفعى عن البعير، فأقسموا أنهم لم يروا البعير، ولا علم لهم به وإنما قلنا ما قلناه بالذكاء والفطنة، فقال مضر: أما أنا، فرأيت إحدى يديه ثابتة الوطأة، صحيحة الأثر، ورأيت الأخرى غير ثابتة الوطأة فاسدة الأثر، فعلمت أنه أزور؛ لاعتماده على إحدى يديه بشدة، فأثرت في الأرض تأثيراً ظاهراً، والأخرى بخلافها. وقال ربيعة: علمت أنه أعور؛ لأني رأيته رعيه في الفلاة لجهة واحدة. وقال إياد: رأيت مبركه، فنظرت إلى روثه مجتمعاً تحت المخرج، فعلمت أنه أبتر، ولو كان ذيالاً لمصع به يمنة ويسرة. وقال أنمار: رأيته بينما هو في قطعه مخصبة إذ تركها وتجاوزها إلى قطعة أخرى دونها، فعلمت أنه شرود يذكر الطلب فيدع المرعى الخصيب حذاراً. فقال الأفعى للرجل: التمس بعيرك، فليسوا بأصحابه. ثم ذكروا للأفعى مخلف أبيهم نزار، وأخبروه بأمره إياهم بالرضا بقسمته بينهم، فقال: القبة الحمراء، وما أشبهها فهو لمضر، فقيل لأولاده: مضر الحمراء. والفرس الخضراء وما أشبهها من البقر والغنم لإياد، فقيل لأولاده: إياد النعم. وما فضل من نقد وأثاث وسلاح لأنمار، فقيل لأولاده: أنمار الفضل وكان الأفعى قد أضافهم ثلاثة أيام، ذبح لهم الذبائح، وسقاهم الخمر، وقد دس إليهم من يوصل إليه خبرهم غير عالمين به، فمما سمع منهم قول مضر: ما رأيت كاليوم لحماً قط إلا أنه غذى بلبن كلبة. وقال ربيعة: ما رأيت كاليوم خمراً قط إلا أن كرمتها نبتت على قبر. وقال إياد: ما رأيت كاليوم خبزاً قط، إلا أن التي عجنته حائض. وقال أنمار: ما رأيت كاليوم رجلاً سرياً قط لولا أنه ينسب إلى غير أبيه. فذهب الرجل إليه، فأخبره بقولهم، فكلم خدمه عن الشاة التي ذبحوها لهم فقالوا: كانت تدجن عندنا، فولدت كلبة لنا فارتضعت هذه الشاة منها، فجاءت أسمن الغنم، فاخترناها لفرط سمنها. ثم سأل صاحب حانته عن الخمر فقال: هي من كرمة على قبر أبيك أغذى الكرم عنباً. ثم سأل العاجنة فوجدها حائضاً. ثم دخل على أمه، فسألها وتهددها على الجحد، وأمنها على الصدق، فقالت: إن أباك الملك المطاع في قومه لم يرزق ولداً فخشيت ضياع الملك، فمكنت الخباز من نفسي، فوقع علي فأتيت بك. فخرج إلى القوم وسألهم: بم علمتم ذلك؟ فقال مضر: رأيت اللحم فوق الشحم، فعلمت أنه غذى بلبن كلبة؛ فكذلك لحوم الكلاب فوق شحومها، وقال ربيعة: إن الخمر تحدث أنساً فرأيت من هذه حزناً، فعلمت أنها اكتسبت من ثرى القبر حزناً. وقال إياد: علمت أن العاجنة حائض؛ لأني رأيت الخبزة غير مسغسغ باطنها في الثريد بل ظاهرها. وقال أنمار: رأيتك قدمت لنا الطعام ولم تحضر معنا عليه لغير شاغل، فعلمت أن هذا من لؤم الآباء، ومن انتسبت إليه كريم لا لئيم، فقضيت بذلك عليك. فقال الأفعى: ارحلوا؛ فما أنتم إلا شياطين. فرجعوا إلى منازلهم. فلما ضوت الرعاة بإبلهم وتعشوا، قام مضر يوصى رعاة الإبل - وفي يد أنمار عظم يتعرقه، فدحى به في ظلمة الليل، وهو لا يبصر، فأصاب عين أخيه مضر، ففقأها، وصاح مضر: عيني، عيني، واضعاً يده عليها. وتشاغل به أخواه، فركب أنمار بعيراً من كرائم الإبل، فلحق بديار اليمن، وولد له بجيلة وخثعم، فكان هذا هو السبب لسكناه اليمن، وتدير بنيه إياها، والمنشأ للاختلاف في نسبة أنمار وإدخاله في نسب اليمن، والصحيح ما ذكرنا.
ثم ولد لمضر ابنان: إلياس، وقيس غيلان بالمعجمة، وقيل: بالمهملة، وقيل: إن قيساً ابن إلياس لا أخ له.
وفي اشتقاق إلياس أقوال:(1/72)
منها: أنه من الألس، وهو اختلاط العقل.
ومنها: أنه من الألس وهو الخديعة.
وثالثها: وهو الأرجح: أنه من قولهم رجل أليس: إذا كان شجاعاً لا يفتر؛ قال العجاج: من الرجز
أليس عن حوبائه سخيّ
وإلياس عمود النسب المحمدي، ثم تزوج بخندف، واسمها ليلى أو سلمى بنت حلوان بن إلحاف بن قضاعة، فولد له منها ثلاثة أولاد: عمرو، وعامر وعمير، فنشئوا وشبوا في حياة والديهم، فاعترضت ذات يوم أرنب في إبل إلياس فنفرت، فخرج عمرو وعامر وأبوهما إلياس، فأدرك عمرو الإبل فردها، فلقب مدركة، ولحق عامر الأرنب فذبحها وطبخها، فلقب طابخة، وأما عمير، فلم يخرج من البيت وانقمع فيه - أي: أقام - فلقب قمعة: فلما أقبل هو وابناه عمرو وعامر إذا بأمهما سلمى تمشي فقال لها: إلى أين تخندفين؟ فقالت: ما زلت أخندف في أثركم، فلقبت خندفاً، ثم أطلقوا هذا اللفظ على القبيلة؛ كما هو المعتاد في إطلاق اسم جد القبيلة عليها نفسها؛ قالت هند ابنة عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ترثي أباها حين قتل يوم بدر: من التقارب
أيا عين بكّى بدمع سرب ... على خير خندف لم ينقلب
تداعى له رهطه غدوةً ... بنو هاشم وبنو المطّلب
يذيقونه حدّ أسيافهم ... يجرّونه عارياً قد سلب
ذكره ابن هشام في سيرته.
والخندف: مشية فيها تمدد وتعطف بنوع بطر وإسراع.
ثم ولد لمدركة خزيمة، تصغير واحدة الخزم، وهو مثل الدوم يتخذ من سعفه الحبال. وتصنع من أسافله خلايا للنحل، وله ثم لا يأكله الناس، ولكن تتألفه الغربان وتستطيبه.
ثم ولد لخزيمة كنانة، ثم تزوج كنانة برة بنة مر أخت تميم بن مر؛ ذكره ابن قتيبة في كتاب المعارف، فأولدها النضر، ثم تزوج النضر هنداً بنت عدوان بن عمرو بن قيس عيلان؛ فأولدها مالكاً، ثم تزوج مالك جندلة بنت الحارث الجرهمي، فأولدها فهرا، وهذا قيل هو لقب له، والفهر من الحجارة الطويلة، وما يملأ الكف، وأما اسمه فقريش، وقيل: بل اسمه فهر، ولقبه قريش.
أقول: قال في بحر الأنساب: فما فوق فهر إلى النضر لا يكون قرشياً، وما دونه قرشي. وقيل: إن قريشاً لقب للنضر؛ فعلى هذا ما فوق فهر إلى النضر قرشي، وهو الذي رجحه النووي تبعاً لكثيرين.
واشتقاق قريش: من التقرش، وهو التكسب؛ لأنهم أرباب تجارة واكتساب، وقيل: من التقريش، وهو التجميع؛ لتجمعهم وتحيزهم بمكة ونواحيها، ويقال: منه اشتقاق القرش؛ للمعاملة المعروفة؛ لأنه قطعة من الفضة مجتمعة، هذا إن كان اللفظ فيه بالقاف، فإن كان بالغين - كما قد يسمع - فلا اشتقاق.
وقيل: من القرش اسم دابة شديدة بالبحر؛ قال أبو أمية الجمحي: من الخفيف
وقريشٌ هي الّتي تسكن البح ... ر بها سمّيت قريشٌ قريشا
تأكل الغثّ والسّمين ولا تت ... رك منها لذي الجناحين ريشا
هكذا في الوجود حيّ قريش ... يأكلون الأنام أكلاً كريشا
سلّطت بالعلوّ في لجّة البح ... ر على سائر البحور جيوشا
ولهم آخر الزّمان نبيٌّ ... يكثر القتل فيهم والخموشا
ثم ولد لفهر غالب. ثم ولد لغالب لؤي. قال السهيلي في روضه: وهو تصغير اللأي وهو الثور؛ الوحشي وأنشد: من الكامل
يعتاد أُدحيةً بقين بقفرةٍ ... ميثاء يسكنها اللأّي والفرقد
وقال بعضهم: اللأي: البقرة الوحشية؛ قال: وسمعت أعرابياً يقول لآك هذه بكم؟ وأنشد في وصف فلاة: من الطويل
كظهر الّلأي لو تبتغي ريّةً بها ... نهاراً لأعيت في بطون الشّواجن
والشواجن: شعب الجبال: والرية: مقلوب ورية من ورى الزند، وهي الحراق الذي يشعل به الشرر من الزناد.
ثم ولد للؤي كعب، أمه سلمى بنت محارب؛ وهذا كعب أول من سمى يوم الجمعة، وكان يسمى يوم العروبة؛ فكانت قريش تجتمع إليه في هذا اليوم فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ويعلمهم أنه من ولده، ويأمرهم باتباعه والإيمان به، وينشد قوله: من البسيط
يا ليتيني شاهدٌ فحواء دعوته ... إذا قريشٌ تبغّى الحقّ خذلانا
وقد ذكر الماوردي هذا الخبر، عن كعب في كتاب الأحكام السلطانية.(1/73)
وكعب: إما منقول من الكعب الذي هو قطعة من السمن، أو من كعب القدم، وهو عندي أشبه؛ لقولهم في وصف الشجاع: ثبت ثبوت الكعب، وجاء في خبر عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - أنه كان يصلي عند الحجر وحجارة المنجنيق تمر بين أذنيه، وهو لا يلتفت إليها كأنها كعب راتب، أي: ثابت.
ثم ولد لكعب مرة وعدي، ومرة: عمود النسب، وهو منقول من وصف الحنظلة والعلقمة، وكثيراً ما يسمون حنظلة وعلقمة وعكرمة، وهي شدة ظلمة الليل.
ومرة: قال بعضهم أحسبه منقولاً من النبات؛ لأن أبا حنيفة ذكر أن المرة بقلة تقلع فتؤكل بالخل والزيت، يشبه ورقها ورق الهندباء.
أمه: وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر.
ثم ولد لمرة كلاب بن مرة، وتيم بن مرة، ويقظة بن مرة. عمود النسب المحمدي كلاب بن مرة، أمه: نعم بنت ثعلبة بن مالك بن كنانة، من أزد الشراة، وهو إما منقول من المصدر الذي هو معنى المكالبة؛ نحو كالبت العدو مكالبةً وكلاباً، وإما من الكلاب جمع كلب؛ لأنهم يريدون الكثرة كما سموا سباع وأنمار. وقد قيل لأبي الدقيس الأعرابي: لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء؛ نحو: كلب، وذئب، وسنان، وعبيدكم بأحسن الأسماء؛ نحو: مرزوق، ورباح؟ فقال: إنا نسمي أبناءنا لعدونا، وعبيدنا لأنفسنا، يريد: أن الأبناء عدة للأعداء، وسهام في نحورهم، فاختاروا لهم هذه الأسماء.
ثم ولد لكلاب قصي واسمه زيد وهو تصغير قصى وهو البعيد لأنه بعد عن قومه كما سيأتي بيانه، وهو وأخوه زهرة بن كلاب من فاطمة بنت عمرو بن سعد بن سبل الذي يقول فيه الشاعر، وكان أشجع أهل زمانه: من الرمل
لا أرى في النّاس شخصاً واحداً ... فاعلموا ذاك كسعد بن سبل
فارسٌ أضبط فيه عسرة ... فإذا ما عاين القرن نزل
فارسٌ يستدرج الخيل كما ... يدرج الحرّ القطامي الحجل(1/74)
قال الأزرقي: وزهرة أكبرهما، فتزوج ربيعة بن حرام أمهما المذكورة، وزهرة رجل بالغ وقصي فطيم أو في سن الفطيم، فاحتملهما ربيعة إلى بلاده من أرض عذرة من مشارف الشام، وتخلف زهرة في قومه، فولدت فاطمة لربيعة رزاح بن ربيعة وكان أخا قصي من أمه، ولربيعة بن حرام من امرأة أخرى ثلاثة بنين: حسن، ومحمود وجلهمة بنو ربيعة، فبينما قصى بن كلاب في أرض قضاعة لا ينتمي إلا إلى ربيعة بن حرام إذ وقع بينه وبين رجل من قضاعة شيء، وكان قصي قد بلغ. فقال له القضاعي بعد أن عيره بالغربة: ألا تلحق بنسبك وقومك؛ فإنك لست منا. فمضى إلى أمه - وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي - فسألها عما قال، فقالت له: أنت والله يا بني خير منه وأكرم، أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وقومك عند البيت الحرام وما حوله. فأجمع قصي الخروج إلى قومه واللحاق بهم، وكره الغربة في أرض قضاعة، فقالت له أمه: يا بني، لا تعجل بالخروج حتى يدخل علينا الشهر الحرام فتخرج في حاج العرب؛ فإني أخشى عليك. فأقام قصي حتى دخل الشهر الحرام، وخرج في حاج قضاعة، حتى قدم مكة، فعرف قومه فضله وقدموه وأكرموه، وكانت خزاعة مستولية على البيت وعلى مكة، وقريش حلول وصرم وبيوتات متفرقة في قومهم من بني كنانة، فكانت خزاعة تتوارث ذلك بينهم كابراً عن كابر، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية، فخطب قصي إلى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حبى، فعرف حليل نسبه فزوجه، فأتى منها بأربعة بنين: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي. فكثر أولاد قصي وأولاد أولاده، وكثرت أموالهم وعظم شرفهم، وكان حليل يلي أمر البيت ومكة، فأقام قصي حتى ولدت له حبى عبد الدار، وهو أكبر أولاده، وعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي، وكان حليل يفتح البيت، فإذا اعتل، أعطى ابنته حبى المفتاح ففتحته، فإذا اعتلت أعطت المفتاح زوجها قصياً أو بعض أولادها، وكان قصي يعمل في حيازته إليه، وقطع ذكر خزاعة معه، فلما حضرت حليلاً الوفاة، نظر إلى قصي وإلى ما انتشر له من الولد من ابنته حبى، فرأى أن يجعلها في ولد ابنته، فدعا قصياً فجعل له ولاية البيت، وسلم إليه المفتاح، وقال: يكون عند حبى، فلما هلك حليل، أبت خزاعة أن تدعه وذاك، وأخذوا المفتاح من حبى، فمشى قصي إلى رجال من قومه من قريش وبني كنانة، فدعاهم إلى القيام معه في ذلك وأن ينصروه ويعضدوه، فأجابوه إلى النصرة، وأرسل قصي إلى أخيه لأمه رزاح بن ربيعة، وهو ببلاد قومه من قضاعة يدعوه إلى نصرته، ويعلمه ما حالت خزاعة بينه وبين ولاية البيت الموصى له من حليل بن حبشية الخزاعي المذكور، ويسأله الخروج. فقام رزاح في قومه، فأجابوه إلى ذلك، فخرج رزاح بن ربيعة ومعه إخوته من أبيه: حسن ومحمود وجلهمة بنو ربيعة بن حرام فيمن معهم من قضاعة مجتمعين لنصر قصي والقيام معه.
فلما اجتمع الناس بمكة، خرجوا إلى الحج، فوقفوا بعرفة وبجمع مع أخيه رزاح من قضاعة.
فلما كان آخر أيام منى أرسلت قضاعة إلى خزاعة يسألونهم أن يسلموا إلى قصي ما جعله له حليل، وعظموا عليهم القتال في الحرم، وذكروهم عاقبة الظلم والبغي بمكة، وذكروهم بما كانت فيه جرهم، وما آلت إليه. فأبت خزاعة أن يسلموا ذلك، فاقتتلوا بمفضى مأزمي منى من قبليها، فسمى ذلك المكان بالمفجر، لما فجر وسفك فيه من الدماء واقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت القتلى بين الفريقين، وفشت فيهم الجراحات، وحاج العرب من مضر واليمن مستكفون ينظروه إلى قتالهم، ثم تداعوا إلى الصلح، فدخلت قبائل العرب بينهم، وعظموا على الفريقين سفك الدماء والفجور في الحرم، فاصطلحوا على أن يحكموا بينهم عمرو بن عوف بن كعب، وكان رجلاً شريفاً، فقال لهم: موعدكم فناء الكعبة غداً، فاجتمع الناس وعدوا القتلى، فكانت في خزاعة أكثر منها في قريش وكنانة. فلما اجتمع الناس بفناء الكعبة، قام عمرو بن عوف فقال: ألا إني قد شدخت ما بينكم من دم تحت قدمي هاتين؛ فلا تباعة لأحد على أحد في دم، وإني قد حكمت لقصي بحجابة البيت وولاية أمر مكة دون خزاعة لما كان جعل له حليل، وأن يخلي بينه وبين ذلك وألا تخرج خزاعة من مساكنها من مكة وأطرافها. فسلمت خزاعة لقصي ذلك، ومن ذلك اليوم سمى عمرو الشداخ، وجمع قصي قريشاً بمكة فسمى مجمعاً، قال الشاعر: من الطويل(1/75)
أبوكم قصيٌّ كان يدعى مجمّعاً ... به جمّع الله القبائل من فهر
وأنتم بنو زيدٍ وزيدٌ أبوكم ... به زيدت البطحاء فخراً على فخر
هم نزلوها والمياه قليلةٌ ... وليس بها إلاّ كهول بني عمرو
يعني: كهول خزاعة، واستمرت خزاعة مقيمة بمكة على رباعهم وسكناهم لم يحركوا، ولم يخرجوا منها، فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الإسلام، فهم الآن على قريب منها وقال قصي يشكر أخاه رزاح بن ربيعة: من الوافر
أنا ابن العاصمين بني لؤيٍّ ... بمكّة مولدي، وبها ربيت
لي البطحاء قد علمت معدٌّ ... ومروتها رضيت بها رضيت
وفيها كانت الآباء قبلي ... فما سويت أُخيّ وما سويت
رزاحٌ ناصري وبه أُسامى ... فلست أخاف ضيماً ما حييت
وفي قول: إن حليلاً أوصى بمفتاح الكعبة لابنته حبى، فقالت: لا أقدر على السدانة، فجعل ذلك إلى ابن غبشان رجل من خزاعة، وكان سكيراً فأعوزه في بعض الأيام ما يأخذ به الخمر، فباع مفتاح البيت بزق خمرٍ، فاشتراه قصي، فصار في المثل: أخسر من صفقة أبي غبشان وقال الشاعر: من الوافر
أبو غبشان أظلم من قصيّ ... وأظلم من بني فهر خزاعه
فلا تلحوا قصيّاً في شراه ... ولوموا شيخكم إذ كان باعه
وقال الآخر يهجو خزاعة: من الوافر
إذا افتخرت خزاعة من قديم ... وجدنا فخرها شرب الخمور
وباعت كعبة الرّحمن جهراً ... بزقٍّ، بئس مفتخر الفجور
فلما صار المفتاح إلى قصي، تناكرت له خزاعة، وكثر كلامها عليه، ومنعوا من إمضاء ذلك، فأجمع على حربهم، فحاربهم وأخرجهم من مكة؛ هكذا في بعض الروايات؛ لكن الرواية الأولى أكثر طرقاً وأتقن رواةً.
فولى قصي أمر البيت ومكة وجمع قومه، فملكوه على أنفسهم، وكانوا يحترمون أن يسكنوا مكة، ويعظمونها أن يبنوا فيها بيتاً مع بيت الله تعالى، وكانوا يكونون بمكة نهاراً، فإذا أمسوا خرجوا منها إلى الحل، ولا يستحلون الجنابة بمكة، فلما جمع قصي على قومه اليد، بنى الكعبة، ثم أذن لهم أن يبنوا بيوتاً بها وأن يسكنوا، وقال لهم: إن سكنتم الحرم حول البيت، هابتكم العرب، ولم تستحل قتالكم، ولا يستطيع أحد إخراجكم، فقالوا له: أنت سيدنا، ورأينا لرأيك تبع؛ فجمعهم حول البيت، وفي ذلك يقول القائل: من الطويل
أبوكم قصيٌّ كان يدعى مجمّعاً ... به جمّع الله القبائل من فهر
وأنتم بنو زيدٍ وزيدٌ أبوكم ... به زيدت البطحاء فخراً على فخر
وابتدأ هو، فبنى دار الندوة، والندوة في اللغة: الاجتماع؛ ومنه النادي للمكان المجتمع فيه، وكانوا يجتمعون فيها للمشورة وغيرها من المهمات؛ فلا تنكح امرأة ولا يتزوج زوج من قريش إلا فيها، ولا تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع من قريش إلا في داره ليشق عليها فيها درعها ثم تدرعه، فتنطلق إلى أهلها، ويدخلها كل قريش، ومن غير قريش لا يدخلها إلا من بلغ الأربعين فما فوق.
وبنى الكعبة، وقسم جهاتها بين طوائف قريش، فبنوا دورهم حولها من جهاتها الأربع، وتركوا للطواف مقداراً يقال: إنه المفروش الآن حول البيت بالحجر والرخام المسمى بالمطاف الشريف، وشرعوا أبواب بيوتهم إلى نحو البيت الشريف، وتركوا بين كل بيتين طريقاً ينفذ منه إلى المطاف، إلى أن زاد عمر - رضي الله عنه - في المسجد، وتبعه عثمان، وتبعهما غيرهما.
ورتب قريشاً على منازلها في النسب بمكة، فجعل الأبطحي من قريش هو من كان من قريش الأباطح، وجعل الظاهري منهم من كان من قريش الظواهر، فقريش البطاح: قبائل بني عبد مناف: بنو عبد الدار، بنو أسد بن عبد العزى بن قصي، بنو زهرة بن كلاب، بنو مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي، بنو تيم بن مرة، بنو جمح، بنو سهم، بنو عدي بن كعب - وهؤلاء الثلاث القبائل مع بني مخزوم يسمون لعقة الدم - بنو حسل بن عامر بن لؤي. فهؤلاء قريش الأباطح أحد عشر قبيلة.
وأما قريش الظواهر: فهم أربع قبائل: بنو محارب بن فهر، بنو الحارث بن فهر، بنو الأدرم بن غالب بن فهر، بنو معيص بن عامر بن لؤي، وفي ذلك يقول ذكران مولى بني عبد الدار، مخاطباً للضحاك بن فهر بن عامر بن قيس الفهري الظاهري: من الطويل(1/76)
تطاولت للضّحّاك حتّى رددتّه ... إلى حسبٍ في قومه متقاصر
فلو شهدتني من قريشٍ عصابةٌ ... قريش البطاح لا قريش الظّواهر
ولكنّهم غابوا وأصبحت شاهداً ... فقبّحت من حامي ذمار وناصر
فريقان منهم ساكنٌ بطن يثربٍ ... ومنهم فريقٌ ساكنٌ بالمشاعر
وأما الأحلاف من قريش، فخمس قبائل: بنو عبد الدار، بنو سهم، بنو جمح، بنو عدي، بنو مخزوم.
وأما المطيبون الذين تحالفوا، وغمسوا أيديهم في الطيب، فسمى حلف المطيبين: بنو عبد مناف، بنو أسد، بنو عبد العزى، بنو تيم، بنو الحارث بن لؤي، خمس قبائل أيضاً؛ قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي من قصيدة: من الخفيف
ولها في المطيّبين جدودٌ ... ثمّ نالت ذوائب الأحلاف
إنّها بين عامر بن لؤيٍّ ... حين تدعى وبين عبد مناف
وروى الحسن الأثرم، عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: كانت قريش الظواهر يغيرون على بني كنانة، يغيرهم عمرو بن ود العامري، إلا أن بني الحارث بن فهر دخلت بعد ذلك مكة؛ فهم من البطاح، وهم يد مع المطيبين في حلفهم الذي كانوا عقدوه.
قال: وأما قريش العازبة: فإنهم ولد سامة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وقد ذكر الفاكهي سبب تسميتهم بذلك، فقال: حدثنا الزبير بن أبي بكر قال: وأما ولد سامة بن لؤي، وهم قريش العازبة، وإنما سموهم العازبة؛ لأنهم عزبوا عن قومهم، فنسبوا إلى أمهم ناجية بنت حزم بن زبان، وهو علاف، وكان أول من اتخذ الرحال العلافية فنسبت إليه. واسم ناجية ليلى، وإنما سميت ليلى ناجية؛ لأنها صارت في مفازة فعطشت فاستسقت سامة بن لؤي، فقال لها: بين يديك، وهو يريها السراب، حتى جاءت الماء فشربت فنجت، فسميت ناجية.
قال: وأما قريش العائذة: فهم بنو خزيمة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، وسبب تسميتهم بذلك ذكرها الزبير - أيضاً - فقال: وإنما قيل لخزيمة بن لؤي عائذة؛ لأن عبيد بن خزيمة تزوج عائذة بنت الخمس بن قحافة بن خثعم، فولدت له مالكاً وتيماً؛ فسموا عائذة باسم أمهما.
قال الزبير: وكانت العرب تنفس قريشاً وتعير أهل الحرم منها بالمقام بالحرم، فأسموها العصب.
وفي قريش رهط يقال لهم: الأجربان، وهم بنو بغيض بن عامر بن لؤي، وبنو محارب بن فهر، وكان هذان الرهطان متحالفين، وكانا يدعيان الأجربين؛ لبأسهما وقهرهما من ناوأهما، فهما الأجربان من أهل تهامة.
ومن أهل نجد رهطان كذلك، يقال لهما الأجربان، هما عبس وذبيان.(1/77)
ولما ذكرت بناء قصي الكعبة الشريفة، أحببت ذكر بناء قريش وابن الزبير والحجاج إياها متمماً للفائدة، فقلت: ثم بنت قريش الكعبة؛ قال خاتمة الحفاط والمحدثين مولانا الشيخ محمد الصالحي في كتابه المسمى: سبل الرشاد في سير خير العباد: سببه أن امرأة جمرت الكعبة، فعلقت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة، فأحرق الشرار أخشابها، وأحرق قرني كبش إسماعيل، وكانا معلقين بها ظاهرين، ودخلها سيل عظيم، فصدع جدرانها بعد توهنها بالنار، فأجمعوا على هدمها وبنائها، فلما غدوا على هدمها، خرجت لهم تلك الحية التي كانت تحرس الجب، سوداء الظهر، بيضاء البطن، رأسها كرأس الجدي، فمنعتهم، فلما رأو ذلك، اعتزلوا عند مقام الخليل، فقال لهم الوليد بن المغيرة: يا قوم، ألستم تريدون بهدمها الإصلاح؟ قالوا: بلى، قال: فإن الله لا يهلك المصلحين، ولكن لا تدخلوا في بنائها إلا طيب أموالكم، لا تدخلوا فيه مال ربا ولا ميسر ولا مهر بغي؛ فإن الله لا يقبل إلا طيباً، ففعلوا، ثم وقفوا عند المقام ساعة يدعون، فقالوا: اللهم، إن كان لك في هدمها رضاً، فاشغل عنا هذا الثعبان، فأقبل طائر من جو السماء كهيئة العقاب أسود الظهر أبيض البطن أصفر الرجلين، والحية على الجدار فاغرة فاها، فأخذ برأسها وطار بها إلى أجياد الصغير، فقالوا: نرجوا أن يكون ربنا قد رضي عملكم، فاهدموا. فهابت قريش الهدم، فقال الوليد: أنا أبدؤكم؛ فإني شيخ، فإن أصابني أمر كان قد دنا أجلي، فعلاه بالعتلة يهدم، فتزعزع تحت رجله حجر، فقال: اللهم لم نرع، إنما أردنا الإصلاح، فهدم يومه أجمع، وقالت قريش: نخاف أن ينزل به إذا أمسى شيء، فلما أمسى لم ير بأساً، فأصبح غادياً على عمله، فهدمت قريش معه حتى بلغوا الأساس الذي وضعته الملائكة، وهو ما رفع عليه الخليل القواعد، فأدخل الوليد العتلة، فانفلقت فلقة، فأخذها وهب بن عمير، ففرت من يده وعادت لمحلها، وبرقت من تحتها برقة كادت تخطف الأبصار، ورجفت مكة بأسرها، فعند ذلك أمسكوا، ثم لما عمروا وقلت عليهم النفقة أجمعوا على أن يقصروا عن القواعد، ويحجروا على ما قصروا من بناء البيت بجدار يطاف من ورائه، وقدر ما أبقوا فيه من البيت ستة أذرع وشبر، وقال: ارفعوا بابها حتى لا تدخلها السيول، ولا يرقى إليها إلا بسلم، ولا يدخلها إلا من أردتم، فبنوا أربعة أذرع، ثم كسوها وبنوها حتى بلغ ارتفاعها ثمانية عشر ذراعاً، زادوا تسعة أذرع على بناء الخليل، وبنوها مدماكاً من حجر ومدماكاً من خشب، وجعلوا سقفها مسطحاً وأقاموه على ست دعائم في صفين، وبنوا درجة من بطنها من خشب في الركن الشامي. وزوقوها وصوروا الأنبياء والملائكة والشجر، وجعلوا لها باباً واحداً وكسوها الحبرات اليمانية.
قال ابن هشام: لما اقتسمت قريش جوانب البيت للعمارة، كان شق البيت لبني زهرة وبني عبد مناف، وما بين الركن الأسود واليماني لبني مخزوم، ومن انضم إليهم من قريش، وظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم، وشق الحجر لبني عبد العزى وبني عدي وبني كعب، وأحضروا الحجارة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة، وهو ابن خمس وثلاثين سنة على الصحيح، حتى انتهى الهدم إلى حجارة خضم كأسنمة الإبل، فضربوها بالمعول، فخرج برق كاد أن يخطف الأبصار، فانتهوا عند ذلك الأساس. ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصم القبائل، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه، وكادوا يقتتلون على ذلك، فقال لهم أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم - وكان شريفاً مطاعاً - : اجعلوا الحكم بينكم لأول من يدخل من باب الصفا، فقبلوا ذلك منه، وكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين أقبل، وكان يسمى في الجاهلية الأمين؛ لأمانته وصدقه، فقالوا جميعاً: رضينا بحكمه، ثم قصوا عليه قصتهم، فقال صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوباً، فأتى به، فوضع الركن فيه، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بطرف من هذا الثوب، فحمله من أربعة أطراف الثوب أربعة من وجوه القبائل وأشرافها وزعمائها، ورفعوه إلى محاذاة موضعه، فتناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثوب، ووضعه بيده الشريفة في محله؛ فكان الأشراف والزعماء خدماً له صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول هبيرة بن أبي وهب المخزومي: من الطويل(1/78)
تشاجرت الأحياء في فصل خطّةٍ ... جرت طيرهم بالنّحس من بعد أسعد
تراموا بها بالبغض بعد مودّةٍ ... وأوقد ناراً بينهم شرّ موقد
فلمّا رأينا الأمر قد حان جدّه ... ولم يبق شيءٌ غير سلّ المهنّد
رضينا وقلنا العدل أوّل طالع ... يجئ من البطحاء من غير موعد
ففاجأنا هذا الأمين محمّدٌ ... فقلنا رضينا بالأمين محمّد
بخير قريشٍ كلّها أمر ديمة ... وفى اليوم مع ما يحدث الله في غد
فجاء بأمرٍ لم ير النّاس مثله ... أعمّ وأرضى في العواقب والبدي
أخذنا بأطراف الرّداء وكلّنا ... له حصّةٌ من رفعه قبضة اليد
فقال ارفعوا حتّى إذا ما علت به ... أكفّهم والى به خير مسند
وكلٌّ رضينا فعله وصنيعه ... فأعظم به من رأى هادٍ ومهتد
وتلك يدّ منه علينا عظيمةٌ ... يروح بها هذا الزّمان ويغتدي
انتهت.
أقول: طالما بحثت عن أهل الزعامة والرياسة من الأربعة الآخذين بطرف الرداء حتى ظفرت بأسمائهم على التعيين في مروج الذهب للمسعودي، وهم: عتبة بن ربيعة بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، والأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وأبو حذيفة بن المغيرة بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، وقيس بن عدي السهمي.
وأما بناء عبد الله بن الزبير لها، قال في المسامرة: روينا من حديث الأزرقي قال: جلس رجال من قريش بالمسجد الحرام: حويطب بن عبد العزى، ومخرمة بن نوفل، فتذاكروا بناء قريش الكعبة وما هاجهم إلى ذلك، فذكروا ما تقدم ذكره آنفاً، وذكروا كيف كان بناؤها قبل ذلك، فقالوا: كانت الكعبة مبنية برضم يابس ليس بمدر، وكان بابها بالأرض ولم يكن لها سقف، والكسوة إنما تدلى على الجدار من خارج تربط من أعلى الجدار من باطنها بصخور عظام، وكان عن يمين الداخل لها جب يوضع فيه ما يهدى إليها من مال وغيره، ولما سرقت جرهم منه، بعث الله تعالى حية تحرسه، فلم تزل حارسة لما فيه خمسمائة سنة، حتى أخذها العقاب حين أرادت قريش تجديدها فمنعهم، كما تقدم ذكر ذلك.
وذكروا بناء عبد الله بن الزبير، فقالوا: لما أبطأ عبد الله بن الزبير عن بيعة يزيد، وتخلف وخشي منه، لحق بالحرم ليمتنع به وجميع مواليه، وجعل يظهر عيب يزيد وعدم صلاحيته للخلافة؛ لما هو عليه من الفسوق ويثبط الناس عنه، فبلغ يزيد ذلك، فآلى ألا يؤتى به إلا مغلولاً، وأرسل إليه رجلاً من أهل الشام في خيل يعظم عليه الفتنة، فقال له: لا يستحل الحرم بسببك؛ فإنه غير تاركك ولا تقوى عليه، وقد أقسم ألا يؤتى بك إلا مغلولاً، وقد صنع لك غلاً من فضة وتلبس فوقه الثياب وتبر قسم أمير المؤمنين، فالصلح خير عاقبته، وأجمل بك وبه، فاستمهله أياماً، وشاور أمه أسماء، فأبت أن يذهب مغلولاً، وقالت: يا بني، عش كريماً، أو مت كريماً، ولا تمكن صبيان بني أمية فتلعب بك، فالموت أجمل بك من هذا. فامتنع في مواليه ومن يألف من أهل بيته وأهل مكة وغيرهم، فكان يقال لهم: الزبيرية.(1/79)
فبينما يزيد على تعبئة الجيوش إليه؛ إذ أتى يزيد الخبر بما فعل أهل المدينة بعماله وبمن بالمدينة من بني أمية، وإخراجهم إياهم منها، ما عدا من كان من ولد عثمان بن عفان، فجهز إليهم مسلم بن عقبة المري، وكان مريضاً في بطنه الماء الأصفر، فأباح المدينة وفعل ما سيذكر عنه في وقعة الحرة، ثم سار إلى مكة يريد ابن الزبير فمات بالمشلل، وولي الحصين بن نمير بوصية إليه من يزيد، فوصل إلى مكة وقاتل بها ابن الزبير أياماً، ونصب المنجنيق على جبل أبي قبيس ومقابله، وجمع ابن الزبير من معه وتحصن بهم في المسجد، وضربت خيام يستظلون بها من الشمس، فكان يرميهم بالنفط والمنجنيق؛ فتصيب الحجارة الكعبة حتى تخرقت كسوتها عليها، وصارت كأنها جيوب النساء، وأوهن رمي المنجنيق الكعبة، واحترقت من رمي النفط وهي مبنية بناء قريش السابق مدماك حجر وآخر من خشب الساج، وقيل: كان احتراقها من نار أو قدها رجل من جماعة ابن الزبير في بعض تلك الخيام مما يلي الصفا بين الركن اليماني والحجر الأسود، والمسجد يومئذ ضيق، خصوصاً من تلك الجهة، فطارت شرارة إلى خيمة منها، فاحترقت كسوة الكعبة ثم منها إلى الخشب الذي بين البناء، وكان احتراقها يوم السبت ثالث ربيع الأول من سنة 64، وتصدع الحجر الأسود، فضعفت جدران الكعبة حتى إنها يقع عليها الحمام فتتناثر حجارتها، ففزع لذلك أهل مكة والشام جميعاً، فورد الخبر بنعي يزيد هلال ربيع الآخر، وأنه توفي لأربع خلت من ربيع الآخر منها، فأرسل ابن الزبير إلى الحصين بن نمير رجالاً من قريش، فكلموه وأعظموا عليه ما أصاب الكعبة منهم، وقالوا له: قد توفي أمير المؤمنين، فعلى ماذا تقاتل؟ ارجع إلى الشام حتى تنظر ماذا يجتمع عليه أمر صاحبك، يعنون: معاوية بن يزيد. فلم يزالوا به حتى رجع إلى الشام، وكان رجوعه لخمس من ربيع الآخر من السنة المذكورة.
ثم شاور ابن الزبير الناس في هدم الكعبة، فأشار عليه ناس غير كثير بهدمها، وقال له ابن عباس: دعها على ما أقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها؛ فلا تزال كذلك فيتهاون بحرمتها، ولكن ارممها، فقال ابن الزبير: ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه، كيف أرقع بيت الله وأنا أنظر إليه على ما ترون من الوهن؟! وكان ممن أشار عليه بالهدم: جابر بن عبد الله الأنصاري، وعبيد بن عمير، وعبد الله بن صفوان بن أمية، وكان يحب أن يكون هو الذي يردها؛ كما قال عليه الصلاة والسلام على قواعد إبراهيم.
فلما أراد الهدم، خرج أهل مكة إلى منى خوفاً من نزول عذاب، فأمر بالهدم، فما اجترأ على ذلك أحد، فلما رأى خوفهم علاها وأخذ المعول، وجعل يهدمها ويرمي أحجارها، فلما رأوا أن لا بأس عليه اجترءوا فهدموا معه، وأصعد ابن الزبير فوقها عبيداً من الحبش يهدمون؛ رجاء أن يكون فيهم الجيش الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: إنه يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة فهدمها والناس معه حتى ألصقها بالأرض من جوانبها الأربعة.
وكان ابتداء الهدم النصف من جمادي الآخرة من السنة المذكورة، أعني: سنة أربع وستين من الهجرة، ولم يقرب ابن عباس من حين هدمت حتى فرغ منها، وأرسل لأبن الزبير يقول: لا تدع الناس تغير القبلة، انصب لهم حول الكعبة الخشب، واجعل عليه الستر يطوف الناس من ورائه ويصلون إليه، ففعل. وقال ابن الزبير: سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي: إن قومك استقصروا في بناء البيت، لما عجزت عنهم النفقة، فتركوا منها أذرعاً، ولولا حداثة قومك بجاهلية، لهدمت الكعبة وأخذت ما تركوا منها وجعلت لها بابين موضوعين بالأرض شرقياً يدخل منه، وغربياً يخرج منه، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا الباب؟ قلت: لا، قال: تعززاً؛ لئلا يدخلها إلا من أرادوا؛ فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعونه يرتقي حتى إذا كاد أن يدخلها دفعوه فسقط، فإن بدا لقومك، فهلم أريك ما تركوا في الحجر منها فأراها قريباً من سبعة أذرع.(1/80)
ثم نزل بالحفر إلى أن انتهى إلى أساس إبراهيم؛ فوجده داخلاً في الحجر نحواً من ستة أذرع وشبر، فإذا أحجاره داخل بعضها في بعض، فأدخل عبد الله بن مطيع العتلة في ركن، فتحركت الأركان كلها، ورجعت مكة، وخاف الناس، وندم من أشار بالهدم، فقال ابن الزبير: اشهدوا، وأراد أن يبنيها بالورس، فقيل له: إن الورس يذهب، لكن ابنها بالقصة، فوصفت له قصة صنعاء، فبعث بأربعمائة دينار فأخذت له، وسأل عن محل أخذ قريش الحجارة، فأخبر، فنقل له قدر ما يحتاج، ثم وضع البناء على ذلك الأساس، ووضع حذاء باب الكعبة على مدماك على الشاذروان، وجعل الباب الآخر بإزائه في ظهرها. وكان قد جعل الحجر في ديباجة وأدخله في تابوت، وقفل عليه ووضعه عنده في دار الندوة، وجعل ما كان من حلية في خزانة الكعبة في دار شيبة بن عثمان، فلما بلغ البنيان موضع الحجر، نقر في حجرين من المدماك الأعلى وطوق بينهما، وأمر ابنه عباداً وجبير بن شيبة بن عثمان أن يجعلوا الركن في ثوب، وقال: إذا دخلت الصلاة، فاحملوه وضعوه في محله، وأنا أطيل الصلاة، فإذا فرغتم فكبروا حتى أخفف، وكان ذلك في صلاة الظهر في حر الشمس، فلما أقيمت الصلاة، خرجا به من دار الندوة وشقا الصفوف حتى دخلا به الستر الذي دون البناء، فوضعه عباد بن عبد الله بن الزبير، وأعانه جبير بن شيبة، فلما أقراه موضعه وطوقا عليه كبرا، فخفف الصلاة، وتسامع الناس، فغضبت رجال من قريش فقالوا: قد وقع هذا في الجاهلية حين فتنت قريش، فحكموا فيه أول من يدخل فلما بلغ البناء ثمانية عشر، قصر طولا لموجب ما أدخله مما كان في الحجر، فاستسمج ذلك؛ لأنها صارت عريضة لا طول لها، فقال: كان طولها قبل قريش تسعة، فزادت قريش تسعة، فبناها سبعة وعشرين بزيادة تسعة أخرى، وجعل فيها ثلاث دعائم، وأتى برخام من صنعاء يقال: إنه من الحصن الأبلق، فجعله من الروازن التي في سقفها للضوء، وجعل لكل باب مصراعين، وكان في بناء قريش مصراعاً واحداً، وجعل الميزاب في الحجر، فلما فرغ منها، خلقها أعلاها وأسفلها ظاهراً وباطناً، وكساها القباطي، وقال: من كانت لنا عليه طاعة، فليخرج وليأت بعمرة من التنعيم، ولينحر ما قدر عليه، ومن لم يقدر فليتصدق بقدرته. ونحر هو مائة بدنة، وخرج ماشياً والناس مشاة، ولم ير أكثر نحراً وصدقة من ذلك اليوم، فهذه هي العمرة التي يفعلها الناس يوم السابع والعشرين من رجب المسماة: عمرة الأكمة.
وأما بناء الحجاج إياها: فكان في سنة ثلاث وسبعين؛ وذلك أنه لم يزل البيت على حاله إلى أن قتل الحجاج ابن الزبير في السنة المزبورة، فبعد قتله استأذن عبد الملك بن مروان فيما أحدثه ابن الزبير في الكعبة، فكتب إليه عبد الملك أن يهدم الجانب الذي يلي الحجر - بكسر الحاء - خاصة، وأن يكبس به البيت، ويرفع الباب الشرقي إلى حده الأول، ويغلق الباب الغربي، ففعل ذلك. ثم بلغ عبد الملك أن ما فعله ابن الزبير على حديث عائشة صحيح حدث به الحارث بن عبد الله بن ربيعة المخزومي، وأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الملك: وددت والله أني كنت تركت ابن الزبير وما عمل، ولو بلغنا هذا ما أمرنا بخلافه. انتهى.
قلت: قد ظهر مما ذكر أن الحجاج لم يعمر الكعبة جميعها، وإنما هدم الجانب الشمالي، وأخرج ما أخرجته قريش، وكبس بنقضه جوف الكعبة، ورفع الباب الشرقي وسد الغربي، فعده في بناة الكعبة تسامح.
ثم لم يزل البيت الشريف قائماً منذ بناه الحجاج في رجب سنة ثلاث وسبعين إلى يوم الخميس عشري شعبان من سنة 1049، فكان سقوطه فيه، فعمره السلطان المرحوم مراد بن أحمد خان، وتمت العمارة في سنة الأربعين بعد الألف، وقدر تلك المدة ألف سنة إلا أربعاً وعشرين سنة، ونرجو ألا ينقضها إلا أشراط الساعة الموعود بها في الحديث الشريف.
وكان قصي أول من ملك من بني كعب بن لؤي، أصاب ملكاً فأطاعه قومه. وله كلمات تؤثر عنه، منها: من أكرم لئيماً أشركه في لؤمه، ومن استحسن قبيحاً نزل إلى قبحه، ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان، ومن طلب فوق قدره استحق الحرمان.
وكان قد اجتمع لقصي ما لم يجتمع لغيره من المناصب؛ فكان بيده: الحجابة، والسقاية، والرفادة، واللواء، والقيادة.
فالحجابة: هي سدانة البيت الشريف، أي: تولية مفتاحه، والقيام بخدمته.(1/81)
وأما السقاية: فإسقاء الحجيج كلهم الماء العذب، وكان عزيزاً بمكة يجلب إليها من خارجها؛ فيسقيه الحجاج، وينبذ لهم فيه التمر والزبيب.
وأما الرفادة: وذلك إطعام الطعام لسائر الحجاج تمد لهم الأسمطة في أيام الحج.
وكانت السقاية والرفادة مستمرين إلى أيام الخلفاء ومن بعدهم من الملوك والسلاطين.
قال التقي الفاسي، رحمه الله: إن الرفادة كانت في زمن الجاهلية وصدر الإسلام واستمرت إلى أيامنا.
قال: والطعام يصنع بأمر السلطان كل عام للناس بمنى حتى ينقضي الحج.
قال العلامة قطب الدين: وأما في زماننا فلا يفعل شيء من ذلك.
قال في الأرج المسكي في التاريخ المكي: وكانت الخلفاء قائمين بالرفادة إلى أن كان زمن معاوية؛ فجعل لها محلاً معيناً بمكة يطبخ فيه الطعام للقادمين علينا جميع السنة.
وأما السقاية: فكانت إلى العهد القريب؛ لكن لا ينبذ فيها إلا نادراً، ثم انقطعت من قرب لعدم الحاجة إليها؛ لكثرة وجود الماء بمكة، ولله الحمد والمنة.
ولم تزل هذه المناصب في أيدي أولاد قصي إلى أن جاء الله بالإسلام، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح عام ثمان من الهجرة، وقد صارت الحجابة إلى عثمان بن أبي طلحة من بني عبد الدار، وصارت السقاية إلى العباس بن عبد المطلب، فقبض النبي صلى الله عليه وسلم على السقاية والحجابة، فقام العباس فبسط يده، وقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، اجمع لي الحجابة إلى السقاية، فقال صلى الله عليه وسلم: أعطيكم ما ترزءون فيه ولا ترزءون به، فقام بين عضادتي باب الكعبة فقال: ألا إن كل دم أو مال أو مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي هاتين، إلا سقاية الحاج وسدانة الكعبة، فإني قد أمضيتها لأهلهما على ما كانتا عليه في الجاهلية.
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة والسقاية، مفتاحك يا عثمان؛ إن اليوم يوم بر ووفاء، وقد أنزلت تلك الآية المشهورة في سورة النساء، وهي قوله تعالى: " إِنَّ اللَّهَ يَأَمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَنَتِ إِلَى أَهْلِهَا " النساء فقال: خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم ما استقمتم إلا ضال أو ظالم.
قال في الأرج المسكي: كان لمكة ولاة من أهل الجاهلية، وعدة ملوك تفرقوا في ممالك متصلة ومنفصلة، فمنهم المسمون بأبي جاد، وهوز، وحطي، وكلمن، وهو الأعظم، وسعفص وقريشات، وهم بنو المحض بن جندل. فأبجد: كان ملك مكة وما يليها من الحجاز، وهوز وحطي ملكين ببلاد وج، وهي أرض الطائف وما اتصل به من أرض نجد، وكلمن وسعفص وقريشات كانوا ملوكاً بمدين، وقيل ببلاد مضر، وكان كلمن وحد على بلاد مدين.
وروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعروة بن الزبير؛ أنهما قالا: أول من وضع الكتاب العربي قوم من الأوائل نزلوا في عدنان بن أد بن أدد، أسماؤهم: أبجد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، فوضعوا الكتاب العربي على أسمائهم، ووجدوا أحرفاً ليست من أسمائهم، وهي الثاء والخال والذال والضاد والظاء والغين، فسموها الروادف، يريد: ثخذ ضظغ.
وروى أن هذه الكلمات من أسماء الشياطين.
وروى: أنها أسماء لملوك مدين فقط، وأن رئيسهم كلمن، وأنهم هلكوا يوم الظلمة المذكور في الكتاب العزيز وهم قوم شعيب على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام فقالت أخت كلمن ترثيه: من مجزوء الرمل
كلمن هدّم ركنى ... هلكه وسط المحلّه
سيّد القوم أتاه ال ... حتف ناراً وسط ظلّه
وقال رجل من أهل مدين يرثيهم كذلك: من الطويل
ألا يا شعيب قد نطقت مقالةً ... سبقت بها عمرا وحيّ بني عمرو
ملوك بني حطّي وهوّز منهم ... وسعفص أهلٌ في المكارم ذي الغمر
هم صبّحوا أهل الحجاز بغارةٍ ... كمثل شعاع الشّمس أو مطلع الفجر
وذكر ابن الجوزي في المضحكات: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لقي أعرابياً فقل له: هل تحسن أن تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قال له: فاقرأ أم القرآن، فقال الأعرابي: والله، ما أحسن البنات، فكيف الأم؟! قال: فضربه، ثم سلمه إلى معلم، فمكث فيه حيناً، ثم هرب وأنشأ يقول: من الوفر(1/82)
أتيت مهاجرين فعلّموني ... ثلاثة أسطر متتابعات
كتاب الله في رقٍّ صحيح ... وآيات القرآن مفصّلات
وخطّوا لي أبا جادٍ بياناً ... وقالوا سعفص وقريّشات
وما أنا والكتابة والتّهجي ... وما حظّ البنين من البنات
ثم ولي أمر البيت بعدهم الخليل - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - فأقام دعائمه، فكان يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، ثم وليه ابن ابنه نابث بن إسماعيل، ثم العماليق هم أولاد عمليق أو عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، فضيعوا حرمة البيت، واستحلوا منه أموراً عظائم، فأخرجهم الله من الحرم: سلط الله عليهم النمل، فخرجوا إلى عدن، وإلى المدينة الشريفة.
ثم وليها بعدهم أبناء جرهم بن قحطان بن عابر - وهو هود النبي؛ كما تقدم ذكر ذلك - ابن شالغ بن أرفخشد بن سام بن نوح، عليه السلام.
وقيل: إن جرهماً ليس هو ابن قحطان؛ بل إنما هو ملك من الملائكة أذنب ذنباً، فأهبط إلى أرض مكة، فتزوج امرأة من العماليق، فولدت له جرهماً، فلذلك يقول الحارث بن مضاض الجرهمي: من الرجز
لا همّ إنّ جرهماً عبادك ... ألنّاس طرفٌ وهم تلادك
وهم قديماً ... عمّروا بلادك
قلت كأن الإشارة بقوله: تلادك إلى أن هذا القول دليل لكون أبي جرهم من الملائكة، يستنتج ذلك من كون معنى الطريق: المال المستجد، والتلاد: المال القديم المستأصل. ولا شك أن جنس الملك أقدم وجوداً من جنس بني آدم، ولكنه كما ترى دليل لا يلمس إلا بالأكف الرخصة الناعمة.
وأول من ملك من جرهم: مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هني بن نبت بن جرهم بن قحطان.
قال الأزرقي: حدثني جدي قال: حدثني سعيد بن سالم بن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن إسحاق، فذكر شيئاً من خبر إسماعيل بن إبراهيم - عليهما وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام - وشيئاً من خبر بني إسماعيل، ثم قال: ثم توفي نابت بن إسماعيل، فولى بعده مضاض بن عمرو الجرهمي وهو جد نابت بن إسماعيل أبو أمه، وضم بني نابت وبني إسماعيل إليه، وصاروا إلى جدهم أبي أمهم مضاض بن عمرو المذكور، ومع أخوالهم من جرهم، وجرهم وقطورا يومئذ أهل مكة، وعلى جرهم مضاض بن عمرو ملكاً عليهم، وعلى قطورا رجل منهم يقال له: السميدع ملكاً عليهم، وكانا حين ظعنا من اليمن أقبلا سيارة، فلما نزلا مكة، رأيا بلداً طيباً وآجاماً وشجراً، فأعجبهما، ونزلا به: فنزل مضاض بن عمرو بن معه من جرهم أعلى مكة وقعيقعان، فجاز ذلك، ونزل السميدع يعشر من دخل من أسفلها ومن كدى، وكل في قومه على حاله، لا يدخل واحد منهما على صاحبه في ملكه.
ثم إن جرهماً وقطورا بغى بعضهم على بعض، وتنافسوا الملك بها، فاقتتلوا، وشبت الحرب بينهم على الملك وولاية الأمر مع مضاض وبني نابت بن إسماعيل وبني إسماعيل وإليه ولاية البيت دون السميدع؛ فلم يزل البغي حتى سار بعضهم إلى بعض ؛ فخرج مضاض بن عمرو بن قعيقعان في كتيبة سائراً إلى السميدع، ومع كتيبته عدة من الرماح والدرق والسيوف والجعاب، فيقعقع ذلك معه، فسمى ذلك الجبل بقعيقعان لذلك. وخرج السميدع بقطورا من أجياد معه الخيل والرماح؛ فيقال: ما سمى ذلك الموضع أجياداً إلا بخروج الخيل الجياد مع السميدع منه، حتى التقوا بفاضح، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل السميدع وفضحت قطوراً، فيقال: ما سمى فاضح فاضحاً إلا بذلك.
ثم إن القوم تداعوا إلى الصلح، فساروا حتى نزلوا المطابخ، شعباً بأعلى مكة، يقال له: شعب عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، فأصطلحوا بذلك الشعب، وأسلموا الأمر إلى مضاض بن عمرو، فلما جمع أمر مكة وصار ملكها له دون السميدع، نحر للناس وطبخ فأطعمهم، فيقال: ما سمى المطابخ مطابخ إلا بذلك.
قال: وكان الذي بين مضاض بن عمرو والسميدع أول بغي كان بمكة فيما يزعمون، فقال مضاض بن عمرو الجرهمي في تلك الحرب يذكر السميدع وفعله وبغيه والتماسه ما ليس له: من الطويل
ونحن قتلنا سيّد الحيّ عنوةً ... فأصبح فيها وهو حيران موجع
وما كان يبغي أن يكون سواؤنا ... بها ملكاً حتّى أتانا السّميدع(1/83)
فذاق وبالاً حين حاول ملكنا ... وعالج منّا غصّةً تتجرّع
فنحن عمرنا البيت كنّا ولاته ... ندافع عنه من أتانا وندفع
وما كان يبغي أن يلي ذاك غيرنا ... ولم يك حيٌّ قبلنا ثمّ يمنع
وكنّا ملوكاً في الدّهور الّتي مضت ... ورثنا ملوكاً لا ترام فتوضع
قال ابن إسحاق: وقد زعم بعض أهل العلم أنه إنما سميت المطابخ، لما كان تبع نحر بها وأطعم، وكانت منهلاً له.
وذكر المسعودي، رحمه الله: وقدم السميدع على وجه يخالف ما ذكره الأزرقي، وأفاد في ذلك ما بعده، فاقتضى ذلك ذكر ما فيه مما يلائم خبر المشار إليهم مما لا بد من ذكره؛ لارتباط الكلام به: قال المسعودي: ولما اسكن الله إبراهيم وولده مكة مع أمه هاجر ثم قال: وكان من خبر إسماعيل وخبر هاجر ما كان، إلى أن أنبع الله زمزم أقحط الشحر واليمن، فتفرقت العماليق وجرهم، ومن هنالك من عاد، فيممت العماليق نحو تهامة يطلبون المرعى المخصبة، وعليهم السميدع بن هوثر بن قيطور بن كركر بن عملاق، فلما أمعنت بنو كركر في السير وقد عدمت الماء والمرعى واشتد بهم الجهد، أقبل السميدع بن هوثر يرتجز بشعر لهم يحثهم على المسير ويشجعهم فيما نزل بهم: من الرجز
سيروا بني كركر في البلاد ... إنّي أرى ذا الدّهر في فساد
قد ساد من قح ... طان ذو الرّشاد
فأشرف روادهم على وادي مكة، فنظروا إلى الطير ترفع وتخفض، فاستبطنوا الوادي، فنظروا إلى العريش على الربوة الحمراء - يعني: عريش هاجر الذي صنعته في موضع البيت الشريف؛ لأنه ذكر أنه كان ربوة حمراء - وفي العريش هاجر وإسماعيل.
ثم قال: فسلم الرواد عليها، واستأذنوها في نزولهم، وشربهم من الماء، فأنست إليهم، وأذنت لهم في النزول، فتلقوا من عداهم من أهلهم وأخبروهم خبر الماء، فنزلوا الوادي مطمئنين مستبشرين بالماء، ولما أضاء لهم الوادي من نور النبوة وموضع البيت الحرام.
ثم قال: تسامعت جرهم ببني كركر، ونزولهم الوادي، وما فيه من الخصب ودرور الضروع، وهم في حال قحط، فساروا نحو مكة وعليهم الحارث بن مضاض بن عمرو بن سعد بن رقيب بن ظالم بن نبت بن جرهم، حتى أتوا الوادي ونزلوا على مكة واستوطنوا الدار مع إسماعيل ومن تقدمهم من العماليق من بني كركر، وقد قيل في بني كركر: إنهم من جرهم؛ فإن السهيلي ذكر ما يقتضي أن قطورا الذين منهم السميدع هذا من جرهم، والأشهر أنهم من العماليق، والله أعلم.(1/84)
وذكر الشيخ فتح الله بن موسى بن حماد الأندلسي - في كتاب له نظم فيه السيرة لابن إسحاق - خبراً طويلاً فيه ما يخالف ما ذكره المسعودي والسهيلي في نسب جدهم وجرهم، وفيه ما يخالف ما ذكره ابن إسحاق في سبب تسمية قعيقعان وأجياد وفاضح والمطابخ، فاقتضى ذكره لإفادة ذلك وغيره من الفوائد، وهو : أن إلياس بن مضر قال: سألت عمي إياد بن نزار عن أصل ماله - وكان متمولاً - فذكر أنه مرت عليه سنون، ولم تبق له سوى عشرة أبعر يعود بكراها على أهله، وذكر أنه كان أكبر إخوته الثلاثة: مضر، وربيعة، وأنمار، ثم قال: فخرج إياد إلى الشام بجماله، فلم يجد من يكتري منه، فسمع صوتاً كالرعد ينادي: من يحملني إلى الحرم، وله وقر جمله دراً وياقوتاً وعقياناً؟ ولا يجيبه أحد. فتتبع الصوت إلى ان وجد رجلاً أعمى كالنخلة السحوق، ولحيته تناطح ركبتيه، فهمه ذلك، فقال: يا شيخ، عندي حاجتك، فدنا منه فقال: أنت إياد بن نزار يرد الحارث بن مضاض إلى مكة من طول غربته، فقال: كم جملاً عندك؟ قال: عشرة، قال: تكفيني؟ قلت: هل معك غيرك؟ قال: لا، ولكني إنما أركب الجمل يوماً ويختل، فقلت: قد لفظت له بحمله؛ فلا أعود، وبيننا وبين مكة عشر مراحل، فحملته، وكلما خر جمل قطرته إلى آخر وأبدلت غيره، إلى أن عارضنا مكة، فقال: يا بني، إني أحس الجمل يجمزني جمزاً، وأظنه واقعاً حول جبل المطابخ، قلت: نعم، قال: اسمع آخر كلامي، قلت له: نعم، قال: أنا الحارث بن مضاض بن عبد المسيح بن نضلة بن عبد المدان بن حشرم بن عبد يا ليل بن جرهم بن قحطان بن هود - عليه السلام - كنت ملك مكة وما والاها إلى هجر ومدين وثمود، وكان أخي عمرو بن مضاض ملكاً قبلي، وكنا نعلق التيجان على رءوسنا يوماً، ويوماً نعلقها بباب الحرم، فحضر يهودي بدر وياقوت، فاشترى منه أخي ما شاء الله، وأنصفه في الثمن وأوفاه، فباع أفخره على السوقة، فسمع أخي فانتزع جميع ما كان معه، فاغتال اليهودي حارس التاج بباب الحرم فقتله وحمل التاج، فلم يعرف الخبر إلا من رآه ببيت المقدس، فأرسل أخي إلى ملكهم قاران من سبط بنيامين بن يعقوب بن إبراهيم أن يرده، ويأخذ حق اليهودي، فلم يفعل، فخرج إليهم أخي في مائتي ألف وخمسين ألفاً من أجناده ومن العمالقة وقضاعة، واستنصر قاران يا سيف هرقل فخرج إلينا في مائتي ألف وجماعة من أهل الشام، فساروا إلينا ونزلوا شرقي هذا الجبل، ونزلنا غربيه، وأوقد كلنا النيران وطبخوا وطبخنا فسمى هذا جبل: المطابخ، ثم نزلنا قعيقعان فتقعقعنا نحن وهم بالحجن والسلاح، فسمى الجبل: قعيقعان، ثم لما اصطففنا، خرج أخي، وقال: أنا الملك عمرو بن مضاض، فابرز إلي يا سيف، فمن ظفره الله كان الملك فه، فقتله أخي على ربوة فاضح، فنزل إليه فجره برجله، وفضحه بذلك، فسميت تلك الربوة ربوة فاضح، وامتنع قاران من الوفاء بما التزمه سيف فقاتلناهم، فقتل أخي قاران فانهزموا، وتبعناهم إلى بيت المقدس فأذعنوا للطاعة، فتزوج أخي منهم برة بنت شمعون، ولم يكن في زمانها أجمل منها، فشفعت عنده أن يرحل عن قومها، فرحل، فلما بلغ مكة وكان عندها مائة رجل من أعيان بني إسرائيل رهائن على الطاعة، فلما كانوا بأجياد، سمت زوجته، حسكة من حديد وألقتها في فراشهن فلما نام عليه شيك بتلك الحديدة فمات، وهربت الزوجة في الرهائن المائة على نجب أعدوها، فلحقناهم وأحضرناهم، فأمرت بقتلهم، فقال أولهم للسياف: لا تخفض ولا ترفع وانزل بسيفك على الأجياد، فسمى موضع قتلهم، بأجياد، وملكت وتزوجت بعده، وقصدتني بنو إسرائيل بجنود عظيمة ومعهم تابوت آدم - عليه السلام - الذي فيه السكينة والزبور، فهزمتهم وأخذت جرهم التابوت، فدفنته في مزبلة، فنهيتهم، فعصوني، فأخرجته ليلاً ووضعت مكانه تابوتاً يشبهه، ونهاهم عنه الهميسع بن نبت بن قيدار بن إسماعيل، فأبوا، فأعطيته التابوت، فسلط الله عليهم - هم والعمالقة - عللاً كثيرة، فماتوا غلا من كره فعلهم، فملكت ابني عمراً وخرجت أجول في الأرض، فضربت الأمثال بغربتي، ثم سار به إياد إلى شعب الأثل عند غيضة زيتون، فقال: يا بني، قد خلونا وثالثنا الشاهد العالم الواحد، وإذا أسديت إلى المرء نعمة، وجب عليه شكرها، وقد أسديت إلي نعمة وجب علي شكرها، فعلي لك النصيحة أو أقع في الفضيحة، أنبئك بما ينجيك، والذي به أهديك أحب إلي مما يغنيك. يا بني، هل ولد في(1/85)
آل مضر مولود اسمه محمد؟ قلت: لا، قال: إنه سيولد، ويأتي حينه، ويعلو دينه، ويقبل أوانه، ويشرف زمانه، فإن أدركته، فصدق وحقق، وقبل الشامة التي بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، وقل له: يا خير مولود، دعوت إلى خير معبود، فأجب ولا تجب. ثم أتى إلى صخرة مطبقة على صخرة، فقلعها ودخل منها سرباً، إلى أن دخل بيتاً فيه أربعة أسرة: سرير خال، وثلاثة عليها ثلاثة رجال، وفي البيت كرسي در وياقوت وعقيان ولجين، فقال لي: خذ وقر جملك ولا غير، وقال لي: هذا الذي على يسار سريري الخالي مضاض أبي، والذي على يساره ابنه عبد المسيح، والذي على يساره ابنته نفيلة، وعلى رأس نفيلة لوح من رخام فيه مكتوب: أنا نفيلة بنت عبد المدان، عشت خمسمائة سنة في ظل الملك؛ فلم ينجني من الموت. وعلى رأس عبد المسيح: أنا عبد المسيح بن مضاض عشت مائة سنة، وركبت مائة فرس، وافتضضت مائة بكر، وقتلت مائة مبارز، وهزمت الروم بالروزب - لعله اسم مكان - ولم يكن لي بد من الموت. ثم استوى على سريه الخالي، وإذا على رأسه لوح مكتوب فيه: أنا الحارث بن مضاض، عشت أربعمائة سنة، ملكت مائة سنة، وطفت في الأرض ثلاثمائة سنة، متغرباً بعد هلاك قومي جرهم، ثم قال: يا بني، ناولني القارورة التي في تلك الكوة، فناولته إياها فشرب نصفها وادهن بنصفها، وقال: إذا أتيت إخوتك وقومك وقالوا لك: من أين هذا المال؟ قل لهم: إن الشيخ الذي حملته هو الحارث بن مضاض الجرهمي، فهم يكذبونك، فقل لهم: إن آيتي الحجر المدفون بجوار زمزم، وفيه مقام إبراهيم الخليل، وفي الحرج الذي يليه شعر الحارث، وهو قوله: مضر مولود اسمه محمد؟ قلت: لا، قال: إنه سيولد، ويأتي حينه، ويعلو دينه، ويقبل أوانه، ويشرف زمانه، فإن أدركته، فصدق وحقق، وقبل الشامة التي بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، وقل له: يا خير مولود، دعوت إلى خير معبود، فأجب ولا تجب. ثم أتى إلى صخرة مطبقة على صخرة، فقلعها ودخل منها سرباً، إلى أن دخل بيتاً فيه أربعة أسرة: سرير خال، وثلاثة عليها ثلاثة رجال، وفي البيت كرسي در وياقوت وعقيان ولجين، فقال لي: خذ وقر جملك ولا غير، وقال لي: هذا الذي على يسار سريري الخالي مضاض أبي، والذي على يساره ابنه عبد المسيح، والذي على يساره ابنته نفيلة، وعلى رأس نفيلة لوح من رخام فيه مكتوب: أنا نفيلة بنت عبد المدان، عشت خمسمائة سنة في ظل الملك؛ فلم ينجني من الموت. وعلى رأس عبد المسيح: أنا عبد المسيح بن مضاض عشت مائة سنة، وركبت مائة فرس، وافتضضت مائة بكر، وقتلت مائة مبارز، وهزمت الروم بالروزب - لعله اسم مكان - ولم يكن لي بد من الموت. ثم استوى على سريه الخالي، وإذا على رأسه لوح مكتوب فيه: أنا الحارث بن مضاض، عشت أربعمائة سنة، ملكت مائة سنة، وطفت في الأرض ثلاثمائة سنة، متغرباً بعد هلاك قومي جرهم، ثم قال: يا بني، ناولني القارورة التي في تلك الكوة، فناولته إياها فشرب نصفها وادهن بنصفها، وقال: إذا أتيت إخوتك وقومك وقالوا لك: من أين هذا المال؟ قل لهم: إن الشيخ الذي حملته هو الحارث بن مضاض الجرهمي، فهم يكذبونك، فقل لهم: إن آيتي الحجر المدفون بجوار زمزم، وفيه مقام إبراهيم الخليل، وفي الحرج الذي يليه شعر الحارث، وهو قوله: كأن لم يكن... الأبيات الآتي ذكرها.
ثم قال: ناولني القارورة الأخرى، فناولته فشربها، فصاح صيحة، فمات لحينه، فخرجت بما معي من المال. انتهى قال الفاسي بعد ذكره لهذا الخبر الغريب: فانظر إلى ما اشتملت عليه هذه الحكاية من المخالفة لما نقله صاحب السيرة من أن هذا الشعر لعمرو بن الحارث بن مضاض، وهو هنا لوالده، قال: ويمكن الجمع بأن يكون ولده تمثل بما قاله والده لما فارقوا مكة ثانياً، والله أعلم بالحقائق.(1/86)
فأقامت جرهم في ولاية البيت ثلاثمائة سنة، ثم أخرجهم منها بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة؛ لأنهم رأوا استحلال جرهم لحرمة البيت، حتى إنه فسق رجل منهم بامرأة في جوف الكعبة فمسخا حجرين فوضعتهما خزاعة بعد ذلك، أحدهما على الصفا، والآخر على المروة، بعد أن كانا في جوف الكعبة، وهما إساف ونائلة، فقام فيهم مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو خطيباً فقال: يا قوم، احذروا البغي، فقد رأيتم من كان قبلكم من العمالقة حين استخفوا بالبيت، فلم يعظموه، أخرجوا، وتفرقوا في البلاد، وتمزقوا كل ممزق. فلا تستخفوا بحق بيت الله يخرجكم الله تعالى منها فتهلكوا. فلم يطيعوه، ودلاهم الشيطان بغرور، وقالوا: من يخرجنا ونحن أعز العرب وأكثرها رجالاً وسلاحاً؟ فقال لهم: إذا جاء أمر الله، بطل ما تقولون. فلما رأى مضاض بن عمرو ذلك، عمد إلى غزالين من ذهب كانا في الكعبة في جبها الكائن بجوفها المجعول لحفظ ما يهدي إليها من الأموال والذخائر والنفائس وإلى ما فيه من الأموال والأسياف المهداة للكعبة، فدفنها في بئر زمزم، وكان قد نضب ماؤها، فحفرها بالليل وأعمق، ودفن فيها الغزالين وتلك الأموال، وطمس البئر إلى أن أخذ جميع ذلك عبد المطلب حين أرشد إلى حفرها في النوم بعد ذلك وضربها صفائح وجعلها باباً للكعبة.
واعتزل جرهماً وأخذ معه بني إسماعيل وخرج من مكة، فجاءت بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة وغسان بن خزاعة، وأخرجت جرهماً من البلاد، ووليت بنو بكر أمر البيت وصاروا أهله، وجاءهم بنو إسماعيل، فكانوا قد اعتزلوا الحرب بين جرهم وبين بني بكر، ولم يدخلوا بينهما، فسأل بنو إسماعيل من بني بكر السكنى بمكة؛ وخئولتهم جرهم هم ولاة البيت وإليهم أمره لا تنازعهم بنو إسماعيل في ذلك؛ لخئولتهم وقرابتهم، فلما ضاقت عليهم مكة، انتشروا في الآفاق؛ فلا يأتون قوماً ولا ينزلون منزلاً ولا يدخلون بلداً إلا أظهرهم الله عليهم بدينهم، وهم يومئذ على دين إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - فأذنت بنو بكر لبني إسماعيل في السكنى، واستأذنهم مضاض بن عمرو، وكان قد اعتزل الحرب - أيضاً - بين الفريقين جرهم وبني بكر بن عبد مناف بن كنانة فأبوا ذلك، وقالوا: من قارب الحرم من جرهم في السكنى معهم بمكة، فدمه هدر، فدخلت إبل لمضاض بن عمرو مكة، فأخذتها بنو بكر، وصاروا ينحرون منها ويأكلون، فتبع مضاض بن عمرو أثرها فوجدها دخلت مكة، فسلك الجبال حتى علا على أبي قبيس يبصر إبله ببطن الوادي، فأبصر الإبل تنحر وتؤكل ولا سبيل إلى استنقاذها، ورأى إن هبط الوادي قتل، فولى منصرفاً إلى أهله وقال: من الطويل
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ... أنيسٌ ولم يسمر بمكّة سامر
ولم يتربّع واسطاً فجنوبه ... إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر
بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
وأبدلنا عنها الأسى دار غربةٍ ... بها الذّئب يعوي والعدوّ محاصر
وكنّا ولاة البيت من عهد نابتٍ ... نطوف بهذا البيت والخير حاضر
وكنّا لإسماعيل صهراً وجيرةً ... وأبناؤه منّا ونحن الأصاهر
فأخرجنا منها المليك بقدرةٍ ... كذا قبلنا بالنّاس تجري المقادر
وصرنا أحاديثاً وكنّا بغبطةٍ ... كذلك عضّتنا السّنون الغوابر
وسحّت دموع العين تجري ببلدةٍ ... بها حرمٌ أمنٌ وفيها المشاعر
بوادٍ أنيسٍ لا يطار حمامه ... ولا برحت تأوي إليه العصافر
وفيها وحوشٌ لا ترام أنيسةٌ ... إذا خرجت منها فليست تغادر
فيا ليت شعري هل يعمّر بعدنا ... جيادٌ ومفضى سيله والظّواهر
وهل فرجٌي يأتي بشيءٍ نريده ... وهل جزعٌ ينجيك ممّا تحاذر
وانطلق مضاض بن عمرو ومن تبعه من اليمن، وهم محزونون على مفارقة مكة.(1/87)
ثم ولي أمر مكة والبيت بنو إياد بن نزار، كان أمر البيت إلى رجل منهم يقال له: وكيع بن سلمة بن زهر بن إياد بن نزار، فبنى صرحاً بأسفل مكة عند سوق الخياطين، وجعل فيه محلاً يقال له: الحزورة، وبها سمى ذلك المحل: حزورة إلى الآن، وجعل فيها سلماً يرقاه، وكان يزعم أنه يناجي الله تعالى، وكان يقول: ربكم ليجزين بالخير ثواباً، وبالشر عقاباً، وكان يقول: من في الأرض عبيد لمن في السماء، ولما حضرته الوفاة جمع قومه فقال: اسمعوا وصيتي، الكلام كلمتان، والأمر بعد البيان، من رشد فاتبعوه، ومن غوى فارفضوه، وكل شاة معلقة برجلها، ولما مات رثاه بشر الحجبي فقال: من المتقارب
ونحن إيادٌ عباد الإله ... ورهط مناجيه في السّلّم
ونحن ولاة حجاب العتيق ... زمن النّخاع على جرهم
ثم ولي مكة مضر، وسبب ولايتهم بها: أن رجلاً من إياد ورجلاً من مضر خرجا يتصيدان، فمرت بهم أرنب، فاكتنفاها يرميانها، فرماها الإيادي، فزل سهمه، فنظم قلب المضري فقتله، فبلغ الخبر مضر، فاستغاثت بفهم وعدوان إلا قتله، ورأت إياد من مضر علامة الظفر عليهم، فطلبوا أجل ثلاثة أيام، فوافقهم مضر على ذلك وأجابوهم إليه، فخرجت إياد بعد المدة إلى جهة المشرق، فتبعتهم فهم وعدوان فقالوا: ردوا نساء مضر المتزوجات فيكم، فقالوا: لا تقطعوا قرابتنا، اعرضوا على النساء فأية امرأة اختارت قومها رددتموها، وإن أحبت الذهاب مع زوجها أعرضتم عنها، قالوا: فكان أول من اختار أهله امرأة من إياد.
وممن ولي مكة من مضر: أسد بن خزيمة وضبة، وهو الذي ولي الحجاز واليمن لسليمان بن داود - عليهما الصلاة والسلام - وفيه يقول الشاعر: من المتقارب
وقد كان ضبّة ربّ الحجا ... ز تجبى إليه إتاواتها
فمن كلّ ذي إبلٍ ناقةٌ ... ومن كلّ ذي غنمٍ شاتها
وهذا ضبة هو وأخوه أد ابنان لطابخة بن إلياس بن مضر.
ثم ولي أمر البيت ومكة خزاعة وسبب ولايتهم لها: أنه لما وقع لإياد ما وقع، وكانت إياد اقتلعوا الحجر الأسود ليسافروا به، فحملوه على بعير، فبرك ولم يقم، ثم على بعير آخر فكذلك، فلما رأوا ذلك، دفنوه تحت شجرة، وكانت تراهم امرأة من النساء اللاتي معهم من خزاعة، فلما أن رجعت إلى مضر ورأتهم يجتهدون في تحصيل الحجر مظهرين من التعب؛ لعدم وجدانه، قالت لقومها: إني أعلم محله، فخذوا عليهم العهد أن يولوكم حجابة البيت إن دللتموهم عليه، فأخذ خزاعة من مضر ذلك، فدلتهم المرأة عليه، فأخذوه وأعادوه مكانه فصار لهم حكم ولايته بهذا السبب، وكانت مدة ولايتهم ثلاثمائة سنة.
وسار بعض التبابعة لإرادة هدم البيت وتخريبه، فقامت دونه خزاعة، وقاتلت عليه أشد القتال، وأول من ملك منهم: عمرو بن لحي بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن مزيقيا بن ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس بن ثعلبة ابن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب ابن يعرف بن قحطان؛ هكذا نسبه ابن هشام، وابن حزم، وابن الكلبي.
وقد اختلف في سبب ملك خزاعة لمكة: فذكر صاحب الأرج المسكي فيما تقدم قريباً: أن سبب ذلك دلالة تلك المرأة الخزاعية مضر على موضع الحجر لما دفنته إياد حال خروجهم، واشتراط خزاعة على مضر توليتهم حجابة البيت وأخذهم العهد عليهم في ذلك فولوه.
وذكر الزبير بن بكار، عن أبي عبيدة شيئاً من خبر خزاعة وجرهم؛ فقال: اجتمعت خزاعة ليحلوا من بقي من جرهم، ورأس خزاعة عمرو بن لحي، واسم لحي ربيعة، فاقتتلوا ووقعت بينهم حروب شديدة طويلة، ثم إن خزاعة غلبت جرهماً على البيت، وخرجت جرهم حتى نزلت وادي إضم، فجاءهم سيل بالليل فهلكوا جميعاً، قال أمية بن أبي الصلت من شعر له:
وجرهمٌ دمثوا تهامة في الد ... دهر فسالت بجمعهم إضم(1/88)
وكان عمرو بن لحي أول من غير دين إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - فإنه خرج إلى الشام واستخلف على البيت ومكة رجلاً من بني ضخم، يقال له: آكل المروة، وعمرو بن لحي يومئذ وأهل مكة على دين إبراهيم - على نبينا عليه الصلاة والسلام - فلما قدم الشام، نزل بالبلقاء، فوجد قوماً يعبدون أوثاناً فقال: ما هذه الأنصاب التي أراكم تعبدونها؟ فقالوا: أرباب نتخذها، نستنصر بها على عدونا فننصر، ونستشفى بها من المرضى فنشفى، فوقع قولهم في نفسه، فقال: هبوا لي منها واحداً أتخذه ببلدي؛ فإني صاحب بيت الله الحرام، وإلي وفد العرب من كل أوب، فأعطوه صنماً يقال له: هبل، فحمله حتى نصبه للناس، فتابعته العرب على ذلك.
وروى الأزرقي خبراً طويلاً في ولاية خزاعة بعد جرهم، فتزوج لحي أبو عمرو فهرة ابنة عامر بن عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي ملك جرهم، فولدت له عمرو بن لحي هذا، وبلغ مكة وفي العرب من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده في الجاهلية، وهو الذي قسم بين العرب - في حطمة حطموها - عشرة آلاف ناقة، وقد كان أعور عشرين فحلاً، وكان الرجل في الجاهلية إذا ملك ألف ناقة فقأ عين فحل إبله، فكان قد فقأ عشرين فحلاً، وكان أول من أطعم الحاج بمكة سديف الإبل ولحمها على الثريد، وعم في تلك السنة جميع حاج العرب بثلاثة أثواب من برود اليمن، وكان قد ذهب شرفه كل مذهب؛ فكان قوله فيهم ديناً متبعاً لا يخالف، وهو الذي بحر البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، وسيب السوائب، ونصب الأصنام حول الكعبة، وجاء بهبل فنصبه في جوف الكعبة، فكانت قريش والعرب تستقسم عنده بالأزلام، وهو أول من غير الحنيفية دين إبراهيم وإسماعيل - عليهما الصلاة والسلام - وكان أمره بمكة مطاعاً لا يعصى، وكان بمكة رجل من جرهم على دين إبراهيم، وكان شاعراً، فقال لعمرو بن لحي حين غير دين إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - : من مجزوء الكامل
يا عمرو لا تظلم بمك ... كة إنّها بلدٌ حرام
سائل بعادٍ أين هم ... وكذاك تخترم الأنام
وبنى العماليق الّذي ... ن لهم بها كان السّوام
فلما سمع عمرو بن لحي هذا الشعر، أخرجه من مكة، فنزل بإضم من أعراض مدينة النبي صلى الله عليه وسلم نحو الشام، فقال الجرهمي يتشوق إلى مكة: من الطويل
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً ... وأهلي معاً بالمأزمين حلول
وهل أرينّ العيس تنفخ في البرى ... لها بمنىً والمأزمين زميل
منازل كنّا أهلها لم يحل بنا ... زمانٌ بها فيما أراه يحول
مضى أوّلونا قانعين بشأنهم ... جميعاً وغالتنا بمكّة غول
واستمر ملكهم لها ثلاثمائة سنة، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية، وهو القائل: من الرجز
واد حرامٌ طيره ووحشه ... نحن ولاته فلا نفشّه
وابن مضاضٍ قائمٌ يهشّه ... يأخذ ما يهدي له يمشّه
وحليل هذا هو آخر من ولي البيت من خزاعة.
أقول: ورأيت في تاريخ الفاسي خمسة أقوال في سبب خروج جرهم من مكة، منها هذان القولان، وثلاثة لم أذكرها تركاً للتطويل من غير كبير فائدة، والله أعلم أيها كان هو.
ثم ولي أمر مكة: قريش، وهم ولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وقيل: ولد النضر بن كنانة، وقد تقدم الكلام على هذا.
وأول من ولي منهم: قصي بن كلاب، تقدم ذكر ذلك. ثم تزوج قصي بعاتكة بنت فالح بن مالك بن ذكوان من بني سليم، فأتى منها بعبد مناف، وعبد العزى، وعبد الدار، وعبد قصي.
قال السهيلي في شرح سيرة ابن هشام: عبد مناف اسمه المغيرة، وهو منقول من الوصف، والهاء فيه للمبالغة؛ أي: أنه مغير على الأعداء أو مغير من أغار الحبل: إذا أحكمه فتلاً.
وعبد مناف كان يلقب: يقمر البطحاء؛ كما ذكره المؤرخون. وكانت أمه حبى بنت حليل قد أخدمته مناة، وهو صنم عظيم كان لهم، فكان يسمى به، فكان يقال له: عبد مناة، ثم نظر أبوه قصي، فوجد اسمه يوافق عبد مناة بن كنانة، فحوله إلى عبد مناف؛ ذكره البرقي. انتهى(1/89)
قال العلامة التقي الفاسي: روينا عن الزبير بن بكار، حدثني أبو الحسن الأثرم، عن أبي عبيدة، قال أبو عبيدة: حدثنا خالد بن أبي عثمان قال: كان قصي أول من ثرد الثريد، فأطعم بمكة، وسقى اللبن، بعد نابت بن إسماعيل، فقال قائل ولم يسموه هاشماً:
أشبعهم زيد قصي لحماً ... ولبناً محضاً وخبزاً هشيماً.
وقال الزبير: حدثني عمرو بن أبي بكر الموئلي، عن عبد الحكم بن سفيان بن أبي نمر، قال: لما ولد لقصي أول ولد سمته أمه عبد الدار، فذكر ما ذكره السهيلي آنفاً فيه، قال: وإنما سمى عبد الدار؛ لأنه حين هدم الكعبة، وأراد بناءها، حضر الحج قبل بنائها، وهي مهدومة، فأحاط عليها داراً من خشب، وربطها بالحبال لتدور الناس من وراء الدار فولد له إذ ذاك، فسماه عبد الدار.
وأما عبد بن قصي: فإنه إنما سماه في الأول عبد قصي؛ فكان بذلك يدعى، ثم أمال اسمه، فقيل: عبد بن قصي.
وقال غير الموئلي: قال قصي: ولد لي، فسميت اثنين بإلهيّ - يعني: مناة والعزى - وسميت الثالث بداري، وسميت الرابع بنفسي، يعني: عبد الدار وعبد قصي. انتهى وقولي: ثم تزوج قصي بعاتكة... إلى آخره هكذا في المواهب وسيرة اليعمري ابن سيد الناس وغيرهما: أن أم عبد مناف وإخوته هي عاتكة بنت فالح، وهو مخالف لما ذكره السهيلي والفاسي والأزرقي: أنها حبى بنت حليل بن حبشية، ونص عبارة الأزرقي: فأقام قصي معها، وولدت له عبد الدار، وهو أكبر ولده، وعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي، وقد تقدمت، فلعل أن يكون أكبر أولاده عبد الدار من حبى، وعبد مناف من عاتكة. لكن عبارته صريحة في أن الجميع من حبى، فلينظر وجه التوفيق.
وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه هو وإخوته. فلما مرض قصي قال لابنه عبد الدار: لألحقنك بالقوم يا بني، وإن كانوا شرفوا عليك. فأعطاه الحجابة وسلم إليه المفتاح، وقال: لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له، وأعطاه السقاية واللواء، وقال: لا يشرب أحد بمكة إلا من سقايتك، ولا يعقد لواء لقريش لحربها إلا أنت بيدك، وجعل له الرفادة، وقال: لا يأكل أحد من أهل الموسم إلا من طعامك.
والرفادة: خراج تخرجه قريش من أموالها في كل موسم، فتدفعه إلى قصي فيصنع به طعاماً للحاج، فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد، وكان قصي فرض ذلك على قريش حين جمعهم، وقال لهم: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته وحرمه، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الأضياف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاماً وشراباً أيام الحجيج حتى يصدروا عنكم.
فجعل قصي كل ما كان بيده من المناصب إلى ولده عبد الدار بن قصي، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء من صنعه، فكان أمره في قومه من قريش حياته ومماته كالدين المتبع، لا يعمل بغيره، لعظم شأنه ونفوذ سلطانه.
قال ابن إسحاق: ثم إن قصياً هلك، فقام بهذه المناصب ولده عبد الدار بعده، ثم إن عبد مناف تزوج بعاتكة بنت مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان من بني سليم، فأتى منها بهاشم وعبد شمس والمطلب، ولهم أخر رابع يسمى نوفلاً من امرأة أخرى، يقال لها: واقدة بنت عمرو المازنية، فهو فذ والثلاثة أشقاء، والأولان من الثلاثة توءمان، يقال: خرجا وجبهة أحدهما متصلة بجبهة الآخر، ففصلا بالحد فتقطر الدم، فقال بعض الكهان: إنه سيقع بين ذريتهما دم إلى آخر الأبد، فأنت ترى ما جرى بين بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وبين بني هاشم بن عبد مناف من الدماء قديماً وحديثاً، والأمر لله سبحانه، وقد أشار إلى ذكر الإخوة طالب بن أبي طالب في قصيدة يرثي بها القتلى من قريش يوم بدر: من الطويل
ألا إنّ عيني أنفدت دمعها سكبا ... تُبكّي على كعب وما إن ترى كعبا
ألا إنّ كعباً في الحروب تخاذلوا ... وأرداهم ذا الدّهر واجترحوا ذنبا
وعامر تبكي للملمّات غدوةً ... فيا ليت شعري هل أرى لهما قربا
هما أخواي لن يعدّا لغيّةٍ ... تعدّ ولن يستام جارهما غصبا
فيا أخوينا عبد شمسٍ ونوفلاً ... فدىً لكما لا تبعثوا بيننا حربا
ولا تصبحوا من بعد ودٍّ وأُلفةٍ ... أحاديث فيها كلّكم يشتكي النّكبا(1/90)
ألم تعلموا ما كان في حرب داحسٍ ... وجيش أبي يكسوم إذ ملئوا الشّعبا
فما إن جنينا في قريشٍ عظيمةً ... سوى أن حمينا خير من وطئ التّربا
أخا ثقةٍ في النّائبات مرزأ ... كريماً نثاه لا بخيلاً ولا ذربا
يطيف به العافون يغشون داره ... يؤمّون نهراّ لا نزوراً ولا صربا
ثم إن بين عبد مناف هؤلاء الأربعة هاشماً وعبد شمس - وبه كان يكنى عبد مناف، يقال: أبا عبد شمس - والمطلب ونوفلاً - : أجمعوا على أن يأخذوا ما بيدي بني عبد الدار من الحجابة والسقاية واللواء والرفادة، ورأوا أنهم أحق بذلك منهم؛ لشرفهم وفضلهم، وتفرقت قريش بينهم، منهم من يرى أن عبد مناف أحق بهذه المآثر من بني عبد الدار، ومنهم من يرى إبقاء بي عبد الدار على ما جعله جدهم قصي لأبيهم عبد الدار، فأجمعوا على الحرب، فترفقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد مناف على رأيهم يرون أنهم أحق به من بني عبد الدار لمكانهم وشرفهم في قومهم، وكانت طائفة من بني عبد الدار يرن أنه لا ينزع منهم ما كان قصي جعله إلى أبيهم عبد الدار. وكان صاحب أمر بني عبد مناف عبد شمس بن عبد مناف بن قصي؛ وذلك أنه كان أسن بني عبد مناف. وكان صاحب أمر عبد الدار عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، وكان بنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة بن كعب، وبنو الحارث بن فهر بن مالك بن النضر مع بني عبد مناف، وكان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص، وبنو عدي بن كعب مع بني عبد الدار.
وخرجت عامر بن لؤي ومحارب بن فهر فلم يكونوا مع أحد من الفريقين. فعقد كل قوم على أمرهم حلفاً مؤكداً على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً ما أرسى ثبير، وما بل بحر صوفه فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيباً - أخرجتها لهم عاتكة بنت عبد المطلب، وقيل: البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب - فوضعوها في أحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة توكيداً على أنفسهم، فسمى هذا الحلف: حلف المطيبين، فتطيب بذلك بنو عبد مناف، وبنو أسد، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسموا المطيبين. وتعاقد بنو عبد الدار، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي وبنو مخزوم، ونحروا جزوراً وقالوا: من أدخل يده في دمها، فلعق منها فهو منا، ففعلوا ذلك، هؤلاء القبائل يسمون: لعقة الدم، وتحالفوا على التناصر، وألا يسلم بعضهم بعضاً، ما أرسى ثبير، فسموا الأحلاف لذلك.
ثم سوند بين القبائل وألزم بعضهم بعضاً، فعينت بنو عبد مناف لبني سهم، وعينت بنو أسد لبني عبد الدار، وعينت بنو زهرة لبني جمح، وعينت بنو الحارث ابن فهر لبني عدي بن كعب.
ثم قال: لتكف كل قبيلة ما أسند إليها. فبينما الناس على ذلك قد أجمعوا للحرب، إذ تداعوا للصلح، فاصطلحوا على أن تكون السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد مناف، واللواء والحجابة ودار الندوة لبني عبد الدار، فتراضوا على ذلك، وتحاجز الناس عن الحرب، وثبت كل قوم على حلفهم، فلم يزالوا عليه حتى جاء الإسلام، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة.
وحيث انجر الكلام إلى ذكر حلف المطيبين، وحلف الفضول، وحلف الأحابيش، وحرب الفجار الأول والفجار الثاني، روينا في السيرة لابن إسحاق تهذيب ابن هشام روايته عن زياد البكائي شيئاً من خبره، ونص ذلك على ما في السيرة: قال ابن هشام: وأما حلف الفضول: فحدثني زياد بن عبد الله، عن محمد بن إسحاق قال: تداعت قبائل من قريش إلى حلف، فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي؛ لشرفه وسنه، فكان حلفهم عنده، وهم: بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً - من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس - إلا قاموا وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك: حلف الفضول.(1/91)
قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي؛ أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت. انتهى وقد ذكر الزبير بن بكار سبب حلف الفضول فقال: سببه أن رجلاً من أهل اليمن قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه رجل من بني سهم، فلوى الرجل بحقه، فسأل بضاعته فأبى عليه، فقام على الجبل فقال: من البسيط
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكّة نائي الدّار والنّفر
وأشعثٍ محرمٍ لم تقض عمرته ... بين الإله وبين الحجر والحجر
هل مخفرٌ لبني سهم لخفرتهم ... فعادلٌ أم ضلالٌ مال معتمر
إنّ الحرام لمن تمّت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فلما نزل من الجبل، أعظمت ذلك قريش، فتكلموا فيه، فقال المطيبون: والله، لئن قمنا في هذا لتغضبن الأحلاف. وقال الأحلاف: والله، لئن تكلمنا في هذه ليغضبن المطيبون، فقال ناس من قريش: تعالوا فلنكن حلفاً فضولاً دون المطيبين ودون الأحلاف، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان، وصنع لهم يومئذ طعاماً كثيراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم قبل أن يوحى إليه، وهو ابن خمس وعشرين سنة، فاجتمعت بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة بن كلاب وبنو تيم بن مرة، ثم عمدوا إلى ماء من زمزم، فجعلوه في جفنة ثم بعثوا به إلى البيت، فغسلت فيه أركانه، ثم أتوا به فشربوه. وكان عتبة بن ربيعة بن أمية بن عبد شمس يقول: لو أن رجلاً وحده خرج من قومه، لخرجت من بني عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول، وليست عبد شمس في حلف الفضول.
وذكر بعض العلماء أن سببه غير ذلك، وهو أن قيس بن شيبة السلمي باع متاعاً من أبي بن خلف فلواه، وذهب بحقه، فاستجار برجل من بني جمح؛ فلم يقم بجواره، فقال قيس: من الرجز
يا لقصيّ كيف هذا في الحرم ... وحرمة البيت وإخلاف الذّمم
أُظلم لا يمنع ... عنّي من ظلم
فبلغ الخبر عباس بن مرداس فقال: من البسيط
إن كان جارك لم تنفعك ذمّته ... وقد شربت بكأس الذّلّ أنفاسا
فأت البيوت وكن من أهلها صدداً ... لا يلق نادبهم فحشاً ولا باسا
وثمّ كن بفناء البيت معتصماً ... تلق ابن حربٍ وتلق المرء عبّاسا
ساقي الحجيج وهذا ياسرٌ فلجٌ ... والمجد يورث أخماساً وأسداسا
فقام العباس وأبو سفيان حتى ردا إليه حقه؛ فحينئذ اجتمعت هذه البطون من قريش، وتحالفوا على رد الظلم بمكة وألا يظلم أحد أحداً إلا منعوه وأخذوا حقه من ظالمه.
وقيل: إن تسميته بذلك قول قوم من قريش: هذا، والله فضل من الحلف، فسمى: حلف الفضول.
وقال آخرون: تحالفوا على مثال حلف تحالف عليه في الزمان السابق قوم من جرهم، وكانت أسماؤهم الفضل بن سراعة، والفضل بن وداعة، والفضل بن قضاعة، فسمى هذا الحلف بذلك لذلك.
وقدم بعد حلف الفضول رجل من ثمالة فباع سلعة له من أبي بن خلف بن وهب ابن حذافة بن جمح فظلمه، وكان سيئ المخالصة، فأتى الثمالى أهل حلف الفضول، فأخبرهم، فقالوا: اذهب إليه فأخبره أنك قد أتيتنا، فإن أعطاك حقك، وإلا فارجع إلينا، فأتاه فأخبره بما قال له أهل حلف الفضول، وقال: فما تقول؟ فلم يلبث أن دخل البيت فأخرج إليه حقه فأعطاه، فقال الثمالى: من الطويل
أيعجزني في بطن مكّة ظالماً ... أُبيٌّ ولا قومي لديّ ولا صحبي
وناديت قومي بارقاً لتجيبني ... وكم دون قومي من فيافٍ ومن شهب
ويأبى لكم حلف الفضول ظُلامتي ... بني جمحٍ والحقّ يؤخذ بالغصب(1/92)
وقيل: إن أول من قام به من قريش ودعا إليه بعد نداء الرجل اليمني صاحب البضاعة بتلك الأبيات على الجبل يستعدي على السهمي: هو الزبير بن عبد المطلب، فقال: إن هذا الأمر ما ينبغي لنا أن نمسك عنه، فطاف في بني هاشم وبني زهرة وبني أسد وبني تيم، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان، وتحالفوا بالله لنكونن يداً للمظلوم على الظالم حتى نؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفه، وما رسا ثبير وحراء في مكانه، وعلى التوادد والتعاقل. فتم ذلك إلى أن جاء الإسلام، وفي ذلك يقول الزبير بن عبد المطلب: من الوافر
حلفت لنعقدن حلفاً عليهم ... وإن كنّا جميعاً أهل دار
نسمّيه الفضول إذا عقدنا ... يعزّ به الغريب لدى الجوار
ويعلم من حوال البيت أنّا ... أُباة الضّيم نمنع كلّ عار
وأما حلف الأحابيش مع قريش: فقد قال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن قال: تحالفت قريش والأحابيش، فصارت الأحابيش حلفاً لقريش دون بني كنانة، والذين جروا حلفهم لقريش بنو عبد مناف بن قصي، والأحابيش: هم بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، والحياء، والمصطلق بن خزاعة والقارة: بنو الهون بن خزيمة بن مدركة، ومالك وملكان ابنا كنانة، وهذيل كلهم: يداً واحدة مع قريش، وكانت خزاعة كلها إلا الحياء والمصطلق مع بني مدلج، وكان تحالف قريش والأحابيش على الركن، يقوم رجل من قريش، والآخر من الأحابيش؛ فيضعان أيديهما على الركن؛ فيحلفان بالله وبحرمة هذا البيت والمقام والركن والشهر الحرام على النصر على الخلق جميعاً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى التعاون والتعاقل، وعلى من عاداهم من الناس جميعاً، ما طلعت الشمس من مشرقها وما غربت من مغربها، تدونا ونديكم إلى يوم القيامة.
قلت: ورأيت في بعض كتب السير: إنما سموا الأحابيش؛ لعقدهم ذلك الحلف عند جبل بأسفل مكة، يقال له: حبشي، فالله تعالى أعلم بالحقائق.
وأما يوم الفجار الأول: فقال الفاكهي عند ذكر الفجار الأول، وما كان فيه بين قريش وقيس عيلان وسبب ذلك: حدثنا عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله، عن محمد بن إسحاق قال: ثم هاج يوم الفجار الأول بين قريش ومن كان إليها من كنانة كلا وبين قيس عيلان، سببه أن رجلاً من بني كنانة كان عليه دين لرجل من بني نضر بن معاوية بن بكر بن هوازن، فأعدم به الكناني، فوافاه النضري بسوق عكاظ بقرد معه، فوقف به في السوق فقال: من يبعني مثل هذا بمالي على فلان ابن فلان الكناني وإنما أراد بذلك تعيير الكناني وقومه، فمر به رجل من كنانة، فضرب القرد بالسيف فقتله أنفاً مما يقول النضرين فصرخ النضري في قيس، وصرخ الكناني في بني كنانة، فتجاوز الناس حتى كاد أن يكون بينهم قتال، ثم تداعوا إلى الصلح ويسر الخطب في أنفسهم، فتراجع الناس وكف بعضهم عن بعض، ولم يكن بينهم إلا ذلك.
ويقال: بل سببه أن فتية من قريش قعدوا إلى امرأة من بني عامر في هيئة جميلة، وهي في درع فضل، وكذلك كن نساء العرب تفعل، فأعجبهم ما رأوا من حسن هيئتها، فقالوا لها: يا أمة الله، أسفري لنا عن وجهك ننظر إليك، فأبت عليهم، فقام غلام منها إلى خلفها فشك درعها إلى ظهرها بشوكة والمرأة لا تدري، فلما قامت انكشف الدرع عن دبرها، فضحكوا، وقالوا: منعتينا أن ننظر إلى وجهك، فقد نظرا إلى دبرك، فصاحت المرأة ببني عامر فضجت، فتجاوز الناس، ثم ترادوا ورأوا أن الأمر دون ذلك.
وقيل في السبب: إن رجلاً من بني غفار بن مدركة بن خندف، يقال له: أبو ميسرة كان عارفاً من العراف متعنتاً في نفسه بسوق عكاظ، فمد رجله وقال: من الرجز
أنا ابن مدركة بن خندف ... من يطعنوا في عينه لم يطرف
ومن تكونوا ... قومه يغطرف
أنا والله أعز العرب، فمن زعم أنه أكرم مني فليضربها بالسيف، فضربها رجل من قيس بالسيف، فخدشها خدشاً غير كبير، فتجاوز الناس عند ذلك، حتى كاد أن يكون بينهم قتال ثم تراجعوا ورأوا أنه لم يكن كبير أمر، فكل هذا الحديث يقال في سبب حرب الفجار الأول، والله أعلم أي ذلك كان هو.(1/93)
وأما حرب الفجار الثاني: فقال العلامة التقي الفاسي: قال ابن هشام: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة - فيما حدثني أبو عبيدة النحوي، عن أبي عمرو بن العلاء قال: هاج حرب الفجار بين قريش ومن معها من بني كنانة وبين قيس عيلان. وكان الذي هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أجاز لطيمة للنعمان بن المنذر واللطيمة: البعير يحمل الطيب والجواهر والثياب والتجارة، وإجازتها إيصالها سالمةً إلى مقصدها في خفارته فقال له البراض بن قيس أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة: أتجيزها يا عروة على كنانة؟ قال عروة: نعم، وعلى الخلق أجمعين. فخرج فيها عروة الرحال، وخرج البراض، يطلب غفلته حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية غفل عروة فوثب عليه البراض، فقتله في الشهر الحارم؛ فلذلك سمى: حرب الفجار، وقال البراض في ذلك: من الوافر
وداهيةٍ تهمّ النّاس قبلي ... شددتّ لها بني بكرٍ ضلوعي
هدمت بها بيوت بني كلابٍ ... وأرضعت الموالي بالضّروع
رفعت لها بذي طلاّل كفّي ... فخرّ يميد كالجذع الصّريع
وقال لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب يحث على الطلب بدم عروة الرحال: من الوافر
فبلّغ إن عرضت بني كلاب ... وعامر والخطوب لها توالي
وأبلغ إن عرضت بني نميرٍ ... وأخوال القتيل بني هلال
بأنّ الوافد الرّحّال أمسى ... مقيماً عند تيمن ذي طلال
وهذه الأبيات من أبيات له ذكرها ابن هشام. قال ابن هشام: فأتى آت قريشاً فقال: إن البراض قد قتل عروة وهم في الشهر الحرام بعكاظ، فارتحلوا وهوازن لا تشعر، ثم بلغهم الخبر فاتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل، ودخلوا الحرم، فأمسكت عنهم هوازن، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياماً، والقوم متنابذون، على كل قبيلة من قريش وكنانة رئيس منهم وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم، وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت أنبل على أعمامي أي: أرد عنهم نبل عدوهم إذا رموهم.
قال ابن إسحاق: وإنما سمى حرب الفجار بما استحل فيه هذان الحيان - كنانة وقيس عيلان - من المحارم بينهم وكان قائد قريش وكنانة حرب بن أمية بن عبد شمس، فكان أول الأيام بعد يوم نخلة، فالتقوا بعكاظ، وكان يسمى: يوم شيظمة؛ فكانت هوازن من وراء السيل، وقريش وبنو كنانة في بطن الوادي. وقال لهم حرب بن أمية: إن انتحت قريش، فلا تبرحوا مكانكم، وعبأت هوازن وأخذت مصافهم، وعبأت قريش وكان على إحدى المجنبتين عبد الله بن جدعان، وعلى الأخرى كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وحرب بن أمية في القلب، فكانت الدائرة أول النهار لكنانة على هوازن، حتى إذا كان آخر النهار، وصبرت هوازن، فاستحر القتل في قريش، فلما رأى ذلك الذي في بطن الوادي من كنانة، مالو إلى قريش وتركوا مكانهم، فلما فعلوا ذلك، استحر القتل بهم، فقتل تحت رايتهم ثمانون رجلاً، فكان هذا اليوم - وهو يوم شيظمة - لهوازن على كنانة.
ثم كان يوم العبلاء، قال: حدثني الأزدي، قال: حدثني محمد عن أبي عبيدة قال: وجمع هؤلاء وهؤلاء، فالتقوا يوم العبلاء - وهو الجبل إلى جنب عكاظ - ورؤساؤهم الذين كانوا يوم شيظمة بأعيانهم، فكانت الدائرة لهوازن على كنانة أيضاً.
ثم كانوا يوم سرب، قال: ثم جمع الفريقان، فالتقوا عند قرن الخيول، فاقتتلوا بسرب من عكاظ، وعليهم رؤساؤهم الذين كانوا قبل، ولم يكن يوم أعظم منه يومئذ، وحمل يومئذ ابن جدعان ألفاً على ألف بعير فالتقوا، وقد كان لهوازن على كنانة يومان متواليان: يوم شيظمة، ويوم العبلاء، فخشوا مثلهما، وحافظوا يومئذ، وقيدت بنو أمية فيه أنفسهم، وحافظت بنو مخزوم وصبرت، وكذلك صبرت هوازن، وذلك أن عكاظ بلد لهم به نخل وأموال. فلم يعبوا شيئاً فقاتلوا حتى أمسوا وانهزموا.(1/94)
ثم قال: حدثني محمد بن الضحاك، عن أبيه قال: العنابس: حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان بنو أمية بن عبد شمس، وإنما سمو العنابس؛ لأنهم قيدوا أنفسهم يوم عكاظ، وقاتلوا قتالاً شديداً فشبهوا بالأسد، والأسد يقال له: العنبس، ولابن الزبعري فيهم أشعار بليغة، وقد ذكروا أن خويلد بن أسد وهو أبو السيدة خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم عكاظ عل بني أسد بن عبد العزى.
ثم كان يوم الجزيرة، حدثني الأزدي قال: حدثني محمد بن حبيب الهاشمي، عن أبي عبيدة قال: كانت فيه الدائرة لهوازن على كنانة، وهي حرة إلى جنب عكاظ مما يلي مهب جنوبها لمن يقبل، يريد مكة في مهب صبائها، حتى تنقطع دون قرن، قتل فيه أبو سفيان بن أمية. ومن كنانة ثلاثة رهط، وقتل ورقاء بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن عمرو بن عامر.
فهذه أيام الفجار الخمسة التي تراجفوا فيها في أربع سنين، أولهن يوم نخلة حين تبعتهم هوازن فكان كفافاً لا ولا، ثم يوم شيظمة، وكان لهوازن على كنانة، ثم يوم عكاظ وهو يوم العبلاء، فكان لهوازن على كنانة أيضاً، ثم يوم سرب، وهو يوم عكاظ الثاني كان لبني كنانة على هوازن، ولم يكن بينهم يوم أعظم منه، ثم يوم الجزيرة وهو آخر أيامهم. قال: ثم كان الرجل يلقى الرجل أو الرجلين أو أكثر من ذلك أو أقل فيقتتلون، فربما قتل بعضهم بعضاً، فلقي ابن محمية أخو بني الدئل بن بكر. أخا خداش بن زهير بالصفاح، فقال زهير: إني حرام جئت معتمراً، فقتله، ثم ندم، فقال لهم: إن العامري المعتمر لم آت فيه عذراً لمعتذر.
ثم إن الناس تداعوا إلى الصلح والسلم على أن يدي الفضل من القتلى الذين فيهم أي الفريقين أفضل على الآخر، فتواعدوا عكاظ وتعقادوا وتوافقوا على أن يتموا ذلك، وجعلوا بينهما أمداً يلتقون فيه لذلك، فأبى وهب بن معتب وطف على قومه، وجعل لا يرضى بذلك، حتى يدركوا ثأرهم، فقال في ذلك أمية بن جدعان: من الكامل
ألمرء وهبٌ وهب آل معتّبٍ ... ملّ الغواة ومن يماطل يملل
يسعى ليوقدها بجزل وقودها ... وإذا تعايا صلح قومك تأتلي
واندس وهب حتى مكرت هوازن بكنانة، وهم على الصلح، فبعث خيلاً عليها مسلمة بن شعل البكائي، وخالد بن هوذة في ناس من بني هلال، ورئيسهم ربيعة بن أبي طيبان، وناس من بني نصر عليهم مالك بن عوف، فأغاروا على بني ليث بصفراء الغميم، وهم غارون فقاتلوهم، وجعل مالك بن عوف يرتجز، وهو أمرد يومئذ: من الرجز
أمرد يهدي حمله شيب اللحى
قلت: وهذا مالك بن عوف هو الرئيس على هوازن أيام يوم حنين حين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهزمهم، ثم رجعوا إلى الطائف إلى حصنهم، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤذن له في فتحه فرجع عنه وقال: اللهم، اهد ثقيفاً، وائت بهم، ثم أتوه مسلمين بعد ذلك. انتهى.
وهذا اليوم هو أول يوم ذكر فيه مالك بن عوف، فقتلت بنو مدلج يومئذ عبيد بن عوف البكائي، وسبيع بن أبي المؤمل بن محارب، ثم انهزمت بنو الليث، فاستحر القتل ببني الملوح بن يعمر، فقتلوا منهم ثلاثين رجلاً سوى النساء وساقوا البهائم، ثم أقبلوا فعرضت لهم خزاعة وطمعوا فيهم، فقاتلوهم، فلما رأوا أنهم لا بد لهم منهم قالوا: اعرضونا من غنيمتكم عراضة، قال: فحملوا سريتهم، ثم إن الناس تداعوا إلى الصلح ورهنوا رهاناً بالوفاء، بل مات من كان له الفضل في القتلى، وتم الصلح، ووضعت الحرب أوزارها.(1/95)
قال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن حماد بن موسى، عن عبد الله بن عون بن الزبير، قال: حدثني حكيم بن حزام قال: لما توافت كنانة وقيس من العام القابل بعكاظ بعد العام الأول الذي كانوا التقوا فيه، ورأس الناس حرب بن أمية، خرج معه عتبة بن ربيعة وهو يومئذ في حجر حرب، فمنعه حرب أن يخرج وقال: يا بني أنا لك، فاقتاد راحلته وتقدم في أول الناس؛ فلم يدر به حرب إلا وهو في العسكر، قال حكيم بن حزام: فنزلنا عكاظ، ونزلت هوازن بجمع كبير، فلما أصبحنا ركب عتبة جملاً ثم صاح في الناس: يا معشر مضر، علام تتفانون بينكم؟ هلموا إلى الصلح؟ فقالت هوازن: وماذا تعرض؟ قال: أعرض أن أعطي دية من أصيب، قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، قالوا: قد قبلنا، فأصلح الناس ورضوا بما قال عتبة، وأعطوهم أربعين رجلاً من فتيان قريش - وكنت فيهم، يعني القائل نفسه وهو حكيم بن حزام - قال: فلما رأت بنو عامر أن الرهن قد صار في أيديهم، رغبوا في العفو، فأطلقوهم أجمعين.
قال الزبير: وسمعت عبد الله بن عبد الله بن عمر يقول: لم يسد محلق من قريش إلا عتبة بن ربيعة هذا، وأبو طالب بن عبد المطلب، فإنهما سادا بغير مال. انتهى قلت: الداء قديم، وهذا عتبة بن ربيعة هو أبو هند بنت عتبة زوج أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، وهي والدة معاوية بن أبي سفيان، فهو جد معاوية لأمه.
وكلام مغلطاي في سيرته يقتضي أن أيام الفجار ستة؛ لأنه قال: وأيام الفجار على ما قاله السهيلي، والصواب أنها ستة.
أقول: قد ذكرت فيما تقدم أن الصحيح أنها خمسة، وعددتها بأسمائها وأماكنها لا ستة ولا أربعة، والله أعلم.
وكان حلف الفضول بعد حرب الفجار؛ لأنها كانت في شعبان، وكان حلف الفضول في ذي القعدة قبل المبعث بعشر سنين، فكان حلف الفضول أكرم حلف يسمع به وأشرفه في العرب، وكان في دار عبد الله بن جدعان؛ كما تقدم، قاله العلامة التقي الفاسي. انتهى ولنذكر شيئاً من خبر عبد الله بن جدعان، هذا الذي كان حلف الفضول في داره: هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي التيمي، يكنى: أبا زهير، من رهط أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - كان من رؤساء قريش وأجودهم، وله في الجود أخبار مشهورة.
منها: أنه كانت له جفنة للأضياف يستظل في ظلها في الهاجرة؛ لأن في غريب الحديث لابن قتيبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان في الهاجرة، قال ابن قتيبة: كانت جفنته يأكل منها الراكب على بعيره، وسقط فيها صبي فغرب، أي: مات.
ومنها - على ما قاله ابن هشام بن الكلبي - : كان له مناديان ينادي أحدهما بأسفل مكة، والآخر بأعلاها، وكان أحدهما سفين بن عبد الأسد، والآخر أبا قحافة، وكان أحدهما ينادي: ألا من أراد اللحم والشحم، فليأت دار ابن جدعان، وينادي الآخر: إن من أراد الفالوذج، فليأت دار ابن جدعان، وهو أول من أطعم الفالوذج بمكة؛ ذكر هذا الفاكهي في أخبار مكة.
ومنها: أن أمية بن أبي الصلت قبل أن يمدح ابن جدعان كان قد أتى بني الريان من بني الحارث بن كعب؛ فرأى طعام بني الريان لباب البر والشهد والسمن، وكان طعام ابن جدعان التمر والسويق ويسقي اللبن، فقال أمية: من الكامل
ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم ... فرأيت أكرمهم بني الرّيّان
ألبرّ يلبك بالشّهاد طعامهم ... لا ما يعلّلنا بنو جدعان
فبلغ خبر شعره عبد الله بن جدعان، فأرسل ألفي بعير إلى الشام تحمل إليه البر والشهد والسمن، وأمر منادياً ينادي على الكعبة: ألا هلموا إلى جفنة عبد الله بن جدعان، فقال أمية بن أبي الصلت عند ذلك: من الوافر
له داع بمكّة مشمعلٌّ ... وآخر فوق كعبتها ينادي
إلى ردح من الشّيزى عليها ... لباب البرّ يلبك بالشّهاد(1/96)
وقد كان عبد الله بن جدعان في بدء أمره صعلوكاً ترب اليدين، وكان مع ذلك شريراً فاتكاً لا يزال يجني الجنايات؛ فيعقل عنه أبوه وقومه، حتى أبغضته عشيرته ونفاه أبوه وحلف أن لا يؤويه أبداً لما أثقله به من الغرم وحمل الديات، فخرج في شعاب مكة حائراً دائراً يتمنى الموت ينزل به، فرأى شقاً في جبل، فظن فيه حية فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله فيستريح، فلم ير شيئاَ، فدخل فيه، فإذا فيه ثعبان عظيم له عينان تقدان كالسراجين فحمل عليه الثعبان، فأفرج له، فانساب عنه مستديراً بدارة عندها بيت، فخطا خطوة أخرى، فأقبل عليه الثعبان كالسهم فأفرج عنه، فانساب عنه قدماً لا ينظر إليه، فوقع في نفسه أنه مصنوع، فأمسكه بيده فإذا هو مصنوع من ذهب وعيناه ياقوتتان، فكسره وأخذ عينيه، ودخل البيت، فإذا جثث طوال على سرر طوال لم ير مثلهم طولاً وعظماً، وعند رءوسهم لوح من فضة فيه تاريخهم، وإذا هم رجال من ملوك جرهم، وآخرهم موتاً الحارث بن مضاض صاحب الغربة الطويلة الذي استأجر من إياد العشرة الأبعرة؛ كما تقدم، عليهم ثياب لا يمس منها شيئاً إلا انتثر كالهباء من طول الزمن، وشعر مكتوب في لوح فيه عظات.
وقال ابن هشام: كان اللوح من رخام، وكان فيه: أنا نفيلة بن عبد المدان بن خشرم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود النبي - عليه السلام - عشت خمسمائة عام، وقطعت غور الأرض باطنها وظاهرها في طلب الثروة والمجد والملك، فلما حصلته لم يكن ذلك ينجيني من الموت، وتحته مكتوب: من الخفيف
قد قطعت البلاد في طلب الثّر ... وة والمجد قالص الأثواب
وسريت البلاد قفراً لقفرٍ ... بشبابي وقوّتي واكتسابي
فأصاب الرّدى بنات فؤادي ... بسهام من المنايا صياب
فانقضت شرّتي وأقصر جهلي ... واستراحت عواذلي من عتابي
ودفعت البيضاء بالحلم لمّا ... نزل الشّيب في محلّ الشّباب
صاح هل ريت أو سمعت براعٍ ... ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب
ثم نظر، فإذا في وسط البيت كوم عظيم من الياقوت واللؤلؤ والزبرجد، فأخذ منه ما أخذ، ثم علم على الشق بعلامة، وأغلق بابه بالحجارة، وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته بعد ذلك كلهم فسادهم، وجعل ينفق من ذلك الكنز، ويطعم الناس، ويفعل المعروف.
وفي كتاب ري العاطش وأنس الواحش لأحمد بن عمار: أن ابن عدنان ممن حرم الخمر في الجاهلية بعد أن كان مغرى بها، وذلك أنه سكر ليلة، فطفح ومد يده إلى القمر، فأخبر بذلك حين صحا، فحلف لا يشربها أبداً. ولما كبر وهرم، أرادت قبيلته بنو تيم أن يمنعوه من تبذير ماله ولاموه في العطاء، فكان يدعو الرجل، فإذا دنا منه، لطمه لطمة خفيفة، ثم قال: قم فأنشد لطمتك، واطلب ديتها، فإذا فعل ذلك، أعطته بنو تيم من مال ابن جدعان حتى يرضى عن لطمته.
وفي صحيح مسلم: أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: يا رسول الله، إن ابن جدعان كان يطعم الطعام ويقري الضيف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال: لا؛ لأنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. انتهى وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بأن يستطلع خبر القتلى من قريش يوم بدر، قال: انظروا أبا جهل، فإن في ساقه أثراً، كنت تزاحمت أنا وهو في مائدة ابن جدعان فزحمته، فوقع، فخدشت ساقه؛ فذلك الأثر بها، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ثم هلك ابن جدعان.
أقول: ذكر الفاكهي في وفاة ابن جدعان هذا، خبراً غريباً فقال: هلك عبد الله ابن جدعان، فبكته الجن والإنس، فأما بكاء الجن: فحدثني إبراهيم بن يوسف المكي قال: حدثنا إسماعيل بن زياد، عه ابن جريج؛ أن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: إن النباش بن زرارة أخا حاجب بن زرارة التميمي، وكان حليفاً لقريش، قال: خرجنا تجاراً في الجاهلية، وعبد الله بن جدعان حي حين خرجنا، فلما سرنا نحو خمس عشرة ليلة، نزلنا ذات ليلة، واشتهينا أن نصبح بذلك المكان، قال: فنام أصحابي وأصابني أرق شديد، فإذا هاتف يهتف يقول: من الطويل
ألا هلك البهلول غيث بني فهر ... وذو العزّ والمجد التّليد وذو الفخر
فأجبته: من الطويل(1/97)
ألا أيّها النّاعي أخا المجد والذّكر ... من المرء تنعاه لنا من بني فهر؟
فأجابني الهاتف: من الطويل
نعيت ابن جدعان بن عمرو أخا النّدى ... وذا الحسب القدموس والمنصب الفخر
قال: فأجبته: من الطويل
لعمري لقد نوّهت بالسّيّد الّذي ... له الفضل معلومٌ على ولد النّضر
فأخبر وأخبر إن علمت وفاته ... فإنّك قد أخبرت جلاًّ من الأمر
فأجابني الهاتف: من الطويل
مررت بنسوان يخمّشن أوجهاً ... عليه صباحاً بين زمزم والحجر
قال: فأجبته فقلت: من الطويل
متى قد ثوى، عهدي به منذ جمعةٍ ... وستّة أيّام لغرّة ذا الشّهر
فقال الجني: من الطويل
ثوى منذ أيّام ثلاثٍ كواملٍ ... مع الصّبح أو في الصّبح مع وضح الفجر
قال: فاستيقظت الرفقة، وهي تتراجع بنعي ابن جدعان، وقال: إن كان أحد نعى بعز وشرف، فقد نعى ابن جدعان، فقال الجني: من الوافر
أرى الأيّام لا تبقي عزيزاً ... لعزّته ولا تبقي ذليلا
فأجبته فقلت: من الوافر
ولا تبقي من الثّقلين حيّاً ... ولا تبقي الجبال ولا السهولا
ثم ذكر شيئاً من رثاء الإنس لا نطول بذكره.
رجع: فلم يزل عبد الدار يلي حجابة البيت وولاية دار الندوة واللواء حتى هلك، فجعل قبل هلكه الحجابة بعده إلى ابنه عثمان بن عبد الدار، وجعل دار الندوة إلى ابنه عبد مناف بن عبد الدار، فكانت قريش إذا أرادت التشاور في أمرها، فتحتها لهم عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، أو بعض ولده، أو ولد أخيه. وكانت الجارية إذا بلغت، دخلت دار الندوة، ثم شق عليها بعض ولد عبد مناف بن عبد الدار درعها، ثم درعها إياه، وانقلبت إلى أهلها فحجبوها، وذلك كما كان يفعله قصي بن كلاب، ولم يزل بنو عثمان بن عبد الدار يلون الحجابة دون ولد عبد الدار، ثم وليها عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، ثم وليها ولده أبو طلحة عثمان بن طلحة حتى كان فتح مكة، فقبضها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أيديهم وفتح الكعبة ودخلها، ثم خرج من الكعبة مشتملاً على المفتاح، فقال له العباس بن عبد المطلب: بأبي أنت وأمي، يا رسول الله، أعطنا الحجابة مع السقاية، فقال: أعطيكم ما ترزءون فيه ولا ترزءون به، وأنزل الله الآية: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ " النساء ثم دعا عثمان بن طلحة، فدفع إليه المفتاح، وقال: خذوها يا بني طلحة، بأمانة الله سبحانه وتعالى، واعملوا فيها بالمعروف خالدة تالدة، لا ينزعها منكم - ما استقمتم - إلا ضال أو ظالم، فلما خرج عثمان بن طلحة بن أبي طلحة إلى الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أقام ابن عمه شيبة بن أبي طلحة، فلم يزل يحجب هو وولد أخيه وهب بن عثمان.
وأما اللواء: فكان في أيدي بني عبد الدار جميعهم، يليه منهم ذو السيف والشرف في الجاهلية، حتى كان يوم أحد، فقتل عليه تسعة منهم، أشار إلى ذلك حسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وسلم فيما قاله من الشعر يوم أحد بقصيدة هي هذه: من الخفيف
منع النّوع بالعشاء الهموم ... وخيالٌ إذا تغور النّجوم
من حبيب أصاب قلبك منه ... سقمٌ فهو داخلٌ مكتوم
يا لقومي هل يقتل المرء مثلي ... واهن البطش والعظام سئوم
لو يدبّ الحوليّ من ولد الذّر ... ر عليها لأندبتها الكلوم
شأنها العطر والفراش ويعلو ... ها لجينٌ ولؤلؤٌ منظوم
لم تفتها شمس النّهار بشيءٍ ... غير أنّ الشّباب ليس يدوم
إنّ خالي خطيب جابية الجو ... لان عند النّعمان حين يقوم
وأنا الصّقر عند باب ابن سلمى ... يوم نعمان في الكبول سقيم
وأُبيٌّ وواقدٌ أطلقا لي ... يوم راحا وكبلهم مخطوم
ورهنت اليدين عنهم جميعاً ... كلّ كفٍّ جزءٌ لها مقسوم
وسطت نسبتي الذّوائب منهم ... كلّ دارٍ فيها أبٌ لي عظيم
وأبى في سميحة القائل الفا ... صل يوم التقت عليه الخصوم(1/98)
تلك أفعالنا وفعل الزّبعري ... خاملٌ في صديقه مذموم
ربّ حلمٍ أضاعه عدم الما ... ل وجهلٍ غطا عليه النّعيم
إنّ دهراً يبور فيه ذوو العل ... م لدهرٌ هو العتوّ الزّنيم
لا تسبّنّني فلست بسبّي ... إنّ سبي من الرّجال الكريم
ما أُبالي أنبّ بالحزن تيسٌ ... أم لحاني بظهر غيبٍ لئيم
ولي البأس منكم إذ رحلتم ... أسرةٌ من بني قصيٍّ صميم
تسعةٌ تحمل اللواء وطارت ... في رعاعٍ من القنا مخزوم
وأقاموا حتّى أُبيحوا جميعاً ... في مقامٍ وكلّهم مذموم
بذم عاتكٍ وكان حفاظاً ... أن يقيموا، إنّ الكريم كريم
وأقاموا حتّى أُزيروا شعوباً ... والقنا في نحورهم محطوم
وقريشٌ تفرّ منّا لواذاً ... أن يقيموا وخفّ منها الحلوم
لم تطق حمله العواتق منهم ... إنّما يحمل اللواء النّجوم
والشاهد في قوله: تسعة تحمل اللواء، وانظر إلى قوله: إن الكريم كريم ما ألطفه وأصدقه !! وأما السقاية والرفادة والقيادة: فلم تزل لعبد مناف بن قصي يقوم بها حتى توفي، فولى بعده ابنه هاشم بن عبد مناف، ويطعم الناس في كل موسم ما يجتمع عنده من ترادف قريش، فلم يزل على ذلك حتى أصاب الناس جدب شديد، فخرج هاشم إلى الشام، فاشترى من ماله دقيقاً وكعكاً، فقدم به مكة، فهشم ذلك الكعك، ونحر الجزور، وطبخها وجعلها ثريداً، وأطعم الناس - وكانوا في مجاعة شديدة - حتى أشبعهم، فسمى بذلك هاشماً، ولم يزل هاشم على ذلك حتى توفي.
وكان عبد المطلب يفعل ذلك، فلما توفى، قام بذلك أبو طالب في كل موسم حتى جاء الإسلام وهو على ذلك.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل بمال يعمل به ذلك الطعام مع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حين حج بالناس سنة تسع، وعمله النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
ثم أقام أبو بكر في خلافته، ثم عمر، ثم عثمان، ثم الخلفاء، وهلم جرا.
وهو طعام الموسم الذي يطعمه الخلفاء في أيام الحج بمكة ومنى، حتى تنقضي أيام الموسم.
قلت: قد انقطع هذا الطعام أوائل القرن العاشر. انتهى وأما السقاية: فكانت كذلك في يد عبد مناف، فكان يسقي الناس من بئر كرادم وبئر خمر على الإبل في المزاود والقرب، ثم يسكب ذلك الماء في حياض من أدم بفناء الكعبة يرده الحاج حتى يتفرقوا، فكان يستعذب ذلك الماء. وكان قصي قد حفر آباراً بمكة، وكان الماء بمكة عزيزاً، إنما يشرب الناس من آبار خارجة عن الحرم. فأول ما حفر قصي بمكة بئراً يقال لها: العجول، فكان موضعها في دار أم هانئ بنت أبي طالب بالحزورة.
قلت: قد ذكرت هذه البئر، وما آلت إليه وما أبدل عنها، فكان العرب يردونها ويتزاحمون عليها.
وحفر قصي - أيضاً - بئر عند الردم عند دار أبان بن عثمان، ثم دثرت، فسلمها جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ثم حفرها هاشم بن عبد مناف بدراً، وحفرها - أيضاً سجلة، وهي البئر التي يقال لها: بئر جبير بن مطعم، دخلت في دار القوارير.
أقول: دار القوراير محلها اليوم المدرسة القايتبائية، ذكرها جار الله وغيرها، وكانت منزلاً للسلاطين إذا وردوا للحج. انتهى فلم تزل سجلة لولد هاشم حتى وهبها أسد بن هاشم للمطعم بن عدي، حين حفر عبد المطلب زمزم، فاستغنوا عنها.(1/99)
ويقال: إنما وهبها له عبد المطلب، وسأله المطعم بن عدي بأن يضع حوضاً من أدم إلى جنب زمزم يسقي فيه من ماء بئره، فأذن له في ذلك فكان يفعله، فلم يزل هاشم بن عبد مناف يسقي الحاج حتى توفي، فقام بأمر السقاية بعده ولده عبد المطلب بن هاشم، فلم يزل على ذلك حتى حفر زمزم، فكانت لعبد المطلب إبل كثيرة، فإذا كان الموسم، جمعها ثم يسقي لبنها بالعسل في حياض من أدم عند زمزم، ويشتري الزبيب والتمر فينبذه بماء زمزم ويسقيه الحاج؛ لأنه يكسر غلظ ماء زمزم، وكانت إذ ذاك غليظة جداً، وكان الناس إذ ذاك لهم في بيوتهم أسقية فيها الماء من هذه البئار ينبذون فيها القبضات من الزبيب والتمر؛ لأنه يكسر عنهم غلظ ماء آبار مكة، فلبث عبد المطلب على ذلك حتى توفي، فقام بأمر السقاية بعده العباس بن عبد المطلب؛ فلم تزل في يده، وكان للعباس كرم بالطائف، فكان يحمل زبيبه إلى السقاية، وكان يداين أهل الطائف ويقتضي منهم الزبيب، فينبذ ذلك كله، ويسقيه الحاج من أيام الموسم حتى تنقضي، في الجاهلية وصدر الإسلام، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، فقبض السقاية من العباس بن عبد المطلب والحجابة من عثمان بن طلحة، فقام بين عضادتي باب الكعبة، فقال: ألا إن كل دم أو مأثرة كانت في الجاهلية، فهي تحت قدميّ هاتين، وأول دم أهدره دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، إلا سقاية الحاج وسدانة الكعبة، فإني قد أمضيتهما لأهلهما على ما كانتا عليه في الجاهلية فقبضها العباس - رضي الله عنه - فكانت في يده حتى توفي، فوليها بعده ولده عبد الله بن العباس، وكان يفعل فيها كفعله دون بني عبد المطلب، وكان محمد بن الحنفية كلم فيها ابن عباس، فقال له ابن عباس: مالك ولها، نحن أولى بها في الجاهلية والإسلام، وقد كان أبوك علي تكلم فيها، فأقمت البينة - طلحة بن عبيد الله، وعامر بن ربيعة، وأزهر بن عبد عوف، ومخرمة بن نوفل - أن العباس بن عبد المطلب كان يليها في الجاهلية بعد عبد المطلب، وجدك أبو طالب في إبله في باديته بعرفة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها لعباس يوم الفتح دون بني عبد المطلب، فعرف ذلك من حضر. فسكت عنه محمد ابن الحنفية؛ فكانت بيد عبد الله بن العباس، لا ينازعه منازع ولا يتكلم فيها متكلم، فكانت بيد ولده وولد ولده إلى أن انقرضوا.
وأما القيادة وهي عبارة عن قيادة الجيوش وضم أمرها والمسير بها إلى مغزاها، وأن يكون هو الرئيس المطاع فيها، عن رأيه يصدرون ويردون؛ فوليها من بني عبد مناف: عبد شمس بن عبد مناف أخو هاشم بن عبد مناف شقيقه، ثم وليها من بعده أمية بن عبد شمس، ثم من بعده ولده حرب بن أمية بن عبد شمس، فقاد الناس يوم عكاظ في حرب قريش وقيس عيلان، وفي حرب الفجار الأول والثاني، وقاد قبل ذلك في حرب قريش وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة.
ثم توفي حرب، فكان ابنه أبو سفيان بن حرب يقود قريشاً، حتى كان يوم بدر فقاد الناس عتبة بن ربيعة بن أمية بن عبد شمس، وكان أبو سفيان في العير؛ فخرج عتبة من مكة بالنفير، فلما كان يوم أحد، قاد الناس أبو سفيان بن حرب، ثم قاد الناس لذلك يوم الأحزاب، وكانت هي آخر غزوة غزتها قريش النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: إنهم لا يغزونا بعدها بل نحن نغزوهم؛ فكان كما قال صلى الله عليه وسلم.
فلما هلك عبد مناف، قام هاشم ابنه مقامه بالسقاية والرفادة، وحقيقة اسمه: عمرو، وهو اسم منقول من أحد أربعة أشياء: إما من العمر الذي هو مدة الحياة، أوئمن العمر بفتح العين، وهو حلم الأسنان، ومنه الحديث: أوصاني جبرائيل - عليه السلام - بالسواك، حتى خشيت على عمورى، أو من العمرى الذي هو طرف الكم، يقال: سجد على عمري، أي: كميه، أو من العمر الذي هو القرط، قال المعري: من البسيط
وعمر هندٍ كأنّ الله صوّره ... عمرو بن هندٍ يسو النّاس تعنينا
وزاد أبو حنيفة وجهاً خامساً فقال: أو من العمر الذي هو اسم لنخل السكر، قال: كان ابن أبي ليلى يستاك بعسيب العمر، ذكر الخمسة السهيلي في الروض الأنف.(1/100)
فكان هاشم موسراً، وهو أول من سن الرحلتين: رحلة الشتاء، ورحلة الصيف، وأول من أطعم الطعام الثريد بمكة، ولقب هاشماً؛ لأنه وقع غلاء في بعض السنين بمكة، فأتى بالكعك من الشام وهشمه وثرده وأطعم الناس في تلك المجاعة، فقال عبد الله بن الزبعري السهمي في ذلك: من الكامل
قل للّذي طب السّماحة والنّدى ... هلاّ مررت بآل عبد مناف
هلاّ مررت بهم تريد قراهم ... منعوك من ضرٍّ ومن إلحاف
كانت قريشٌ بيضةً فتفلّقت ... فالمحّ خالصها لعبد مناف
ألرّائشين وليس يوجد رائشٌ ... والقائلين هلمّ للأضياف
والملحقين فقيرهم بغنيّهم ... حتّى يعود فقيرهم كالكافي
والقائلين بكلّ وعدٍ صادقٍ ... والآمرين برحلة الإيلاف
سفرين سنّهما له ولقومه ... سفر الشّتاء ورحلة الأصياف
عمرو الّذي هشم الثّريد لقومه ... قومٍ بمكّة مسنتين عجاف
ثم تزوج هاشم بسلمى بنت عمرو من بني النجار، وكانت قبله تحت أحيحة بن الجلاح، فولدت له عمرو بن أحيحة، ثم ولدت لهاشم: عبد المطلب بن هاشم، فهو أخو عبد المطلب لأمه، واسمه عامر في قول ابن قتيبة، وشيبة الحمد في قول ابن إسحاق، وهو الصحيح.
قيل: إنما سمى شيبة الحمد؛ لأنه ولد وفي رأسه شيب، وأما غيره من العرب ممن سمى شيبة، فإنهم قصدوا في أنفسهم بهذا الاسم التفاؤل لهم ببلوغ سن الحنكة والرأي؛ كما سموا: مهرم، وكبير.
وإنما قيل له: عبد المطلب؛ لأن أباه هاشماً قال لأخيه المطلب، وهو بمكة حين حضرته الوفاة: أدرك عبدك بيثرب؛ لأنه كان بيثرب عند أمه سلمى بنت عمرو النجارية، فمن ثم قيل له: عبد المطلب، فغلب على اسمه.
وقيل: إن سبب ذلك: أن عمه المطلب بن عبد مناف لما جاء به إلى مكة رديفه، كان بهيئة رثة؛ فكان إذا سئل عنه يقول: هو عبدي، حياءً أن يقول: ابن أخي، فلما أحسن من حاله، وجمله، أظهر أنه ابن أخيه، فغلب عليه عبد المطلب، وهجر اسمه الصريح الخالص.
وهو أول من خضب بالوسمة، وعاش مائة وعشرين سنة؛ قاله ابن هشام.
وقال في المواهب: وأربعين سنة، وهو لدة عبيد بن الأبرص - بفتح العين، على صيغة الجمع - إلا أن عبيداً توفي قبله بعشرين سنة، قتله النعمان بن المنذر التنوخي.
وعبيد هذا هو صاحب أولى المجمهرات في الشعر التي مطلعها: من مخلع البسيط
عيناك دمعهما سروب ... كأنّ شأنيهما شعيب
وكان عبد المطلب طويلاً جسيماً عظيماً فصيحاً جواداً.
ثم هلك هاشم بغزة من أرض الشام تاجراً، فولى السقاية والرفادة أخوه المطلب ابن عبد مناف، وكان ذا شرف في قومه، وكان يسمى الفيض؛ لسماحته وفضله، وكان أصغر أبناء عبد شمس وهاشم؛ لأنهما توءمان، ثم توفي بردمان من أرض اليمن، وتوفي عبد شمس بمكة، وتوفي نوفل بن عبد مناف بالعراق.
قال ابن إسحاق: وكان أول ولد عبد مناف ملكاً هاشم مات بغزة، ثم عبد شمس، ثم المطلب، ثم نوفل، وقال مطرود بن كعب الخزاعي يرثيهم: من البسيط
يا عين جودي وأذري الدّمع وانهمري ... وابكي على الشّمّ من كعب المغيرات
وابكي على كلّ فيّاض أخي ثقةٍ ... ضخم الدّسيعة وهّاب الجزيلات
صعب البديهة لا نكسٍ ولا وكلٍ ... ماضي العزيمة متلاف الكريمات
صقر توسّط من كعبٍ إذا انتسبوا ... بحبوحة المجد والشّمّ الرّفيعات
ثمّ اندبي الفيض والفيّاض مطلباً ... واستخرطي بعد فيضاتٍ بجمّاتي
أمسى بردمان عنّا اليوم مغترباً ... يا لهف نفسي عليه بين أموات
وابكي لك الويل إمّا كنت باكيةً ... لعبد شمس بشرقيّ البنيّات
وهاشم في ضريحٍ وسط بلقعةٍ ... تسفى الرّياح عليه بين غزّات
ونوفلٌ كان دون القوم خالصتي ... أمسى بسلمان في ردم المرمّات
لم ألق مثلهم عجماً ولا عرباً ... إذا استقلت بهم أُدم المطيّات
أمست ديارهم منهم معطّلةً ... وقد يكونون زيناً في السّريّات(1/101)
يا عين وابكي أبا الشّعث الشّجيّات ... يبكينه حسّراً مثل البليّات
يبكين أكرم من يمشي على قدم ... ينعوه بدموعٍ بعد عبرات
يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه ... سمح السّجيّة بسّام العشيّات
ما في القروم لهم عدلٌ ولا خطرٌ ... ولا لمن تركوا شرف المنيعات
أبناؤهم خير أبناءٍ وأنفسهم ... خير النّفوس لدى جهد الأليّات
زين البيوت الّتي خلوا مساكنها ... فأصبحت منهم وحشاً خليّات
أقول والعين لا ترقا مدامعها لا يبعد الله أصحاب الرّزيّات
قال الفاكهي: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعيد، قال: حدثنا إسحاق بن البهلول، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن القرشي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد مناف: عز قريش، وأسد ركنها، وعضدها، وعبد الدار: رءوسها، وأوائلها، وعدي: جناحها، ومخزوم: ريحانتها، وأراكتها في نصرتها، وجمح وسهم: عديدها، وعامر: ليوثها، وفرسانها، والناس تبع لقريش، وقريش تبع لولد قصي. انتهى قلت: وبنو قصي تبع لبني هاشم، وقد قال قبلي القائل وهو على طريقة الترقي: من المتقارب
قريشٌ خيار بني آدم ... وخير قريشٍ بنو هاشم
وخير بني هاشم أحمدٌ ... رسول الإله إلى العالم
ومما يوافق معناه ويخالف مبناه قول الآخر: من السريع
محمّدٌ خير بني هاشم ... فمن تميمٌ وبنو دارم؟!
وهاشمٌ خير قريشٍ وما ... مثل قريشٍ في بني آدم
قال محمد بن سهل الأزدي: سمعت هشام بن الكلبي يذكر عن أبيه، قال: سئل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن قريش؟ فقال: أما بنو هاشم، فأصدق قريش في النوم واليقظة، وأكرمها أحلاماً، وأضربها بالسيف، وأما بنو عبد شمس، فأبعدها همماً، وأمنعها لما وراء ظهورهم، وأما بنو مخزوم، فريحانة قريش تحب حديث رجالها، وتشتهي تزويج نسائها، وسئل عن قوم من قريش؟ فقال: زعانفة.
وأخبر عبد الله بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدثنا محمد بن الحسين الشامي، قال: حدثنا النضر بن عمرو، قال: حدثني بكر بن عامر العمري، عن عامر بن عبد الملك المسمعي، قال: دخل دغفل النسابة الشيباني على معاوية، فقال له معاوية: أخبرني عن بني هاشم، فقال: شداد أنجاد، ذوو ألسنة حداد، وهم سادة السياد، قال: فأخبرني عن بني أمية، قال: في الواسطة من القلادة، في الجاهلية سادة، وفي الإسلام ملوك وقادة، قال: فأخبرني عن بني المطلب، قال: نيب مقشعرة، أصابتها قرة، لا تسمع لها جرة، ولا ترى لها درة، قال: فأخبرني عن بني نوفل، قال: اسم ولا حسيس، قال: فأخبرني عن بني أسد، قال: ذوو شؤم ونكد، وبغي وحسد، قال: فأخبرني عن بني زهرة، قال: فاش، وحلم الفراش، قال: فأخبرني عن تيم بن مرة، قال: كثير أوغادهم، عبيد من سادهم، ولا يرى منهم قائد يقودهم، قال: فأخبرني عن بني مخزوم، قال: معزى مطيرة، أصابتها القشعريرة، إلا بني المغيرة؛ فإنهم أهل التشدق في الكلام، ومصاهرة الكرام، قال: فأخبرني عن بني جمح، قال: كلهم ظلف، إلا بني خلف، قال: فأخبرني عن بني عدي بن كعب، قال: أهل دناءة الأخلاق؛ إن استغنوا شحوا، وإن افتقروا ألحوا.
وأما الحكام من قريش بمكة، فقال الفاكهي: حدثنا محمد بن النجار الصنعاني، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني بشير بن تميم بن عبد الحارث بن عبيد بن عمير بن مخزوم، قال: كان أول من حكم في الجاهلية بالقسامة والدية عبد المطلب؛ حكم بالقسامة في رجل، وبمائة من الإبل في رجل، وكان عقل أهل الجاهلية الغنم.(1/102)
قال العلامة التقي الفاسي، رحمه الله: حدثني حسن بن حسين الأزدي، قال: حدثنا محمد أبو جعفر، عن الكلبي في الحكام من قريش، قال: فمن بني هاشم: عبد المطلب بن هاشم، والزبير أبو طالب ابنا عبد المطلب، ومن بني أمية: حرب ابن أمية، وأبو سفيان بن حرب، ومن بني زهرة: العلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة، ومن بني مخزوم: العدل، وهو الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، ومن بني سهم: قيس بن عدي بن سعد بن سهم، والعاص بن وائل بن هاشم ابن سعيد بن سهم، ومن بني عدي بن كعب: نفيل بن عبد العزى بن رزاح. انتهى ولم يكن أحد من هؤلاء متملكاً على بقية قريش، وإنما ذلك بتراض من قريش عليه؛ لما فيه من حسم مواد الشر، فلما رأى ذلك عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، طمع أن يملك قريشاً ويتملك عليهم، قال الزبير بن بكار: حدثني علي بن صالح، عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، قال: خرج عثمان بن الحويرث، وكان من أظرف قريش وأعقلها حتى قدم على قيصر، وقد رأى موضع حاجتهم إليه ومتجرهم من بلاده، فذكر له مكة ورغبه فيها، وقال: تكون زيادة على ملكك؛ كما ملك كسرى صنعاء، فملكه عليهم، وكتب له إليهم، فلما قدم عثمان إليهم، قال: يا قوم، إن قيصر من قد علمتم أمانكم ببلاده، وما تصيبون من التجارة في كنفه، وقد ملكني عليكم، وإنما أنا ابن عمكم، وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ، والعكة من السمن والإهاب، فأجمع ذلك ثم أبعث به إليه. وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام؛ فلا تتجروا به ويقطع مرفقكم منه، فلما قال لهم ذلك، خافوا قيصر، وأخذ بقلوبهم ما ذكر من متجرهم، فأجمعوا على أن يعقدوا على رأسه التاج عشيةً، وفارقوه على ذلك، فلما طافوا عشية، بعث الله إليه ابن عمه أبا زمعة الأسود بن المطلب بن أسد، فصاح على أحفل ما كانت قريش في الطواف، فقال: عباد الله، ملك بتهامة؟! فانحاشوا إليه انحياش حمر الوحش، ثم قالوا: صدقت واللات والعزى، ما كان بتهامة ملك قط، فانتقضت قريش عما كانت قالت له، ولحق بقيصر يعلمه.
ثم روى الزبير بسنده: أن قيصر حمل عثمان على بغلة عليها سرج عليه الذهب حين ملكه، قال الزبير: قال عمي: وكان عثمان بن الحويرث حين قدم مكة بكتاب قيصر مختوم في أسفله بالذهب.
وذكر الزبير خبراً فيما انتهى إليه أمر عثمان بن الحويرث، وملخص ذلك: أنه لما خرج إلى قيصر بالشام بعد امتناع قريش من تمليكه، فسأل تجار قريش بالشام عمرو ابن جفنة الغساني عامل قيصر أن يفسد على عثمان عند قيصر، فسأل عمرو في ذلك ترجمان قيصر، فأخبر الترجمان قيصر عن عثمان، وترجم عليه بأن عثمان يشتم الملك، فأمر قيصر بإخراج عثمان، ثم تحيل عثمان حتى عرف من أين أُتي، ودخل على قيصر وعرف ما يقتضي أن الترجمان كذب عليه ومالأ أعداءه، فكتب قيصر إلى عمرو بن جفنة يأمره أن يحبس لعثمان من أراد حبسه من تجار قريش بالشام، ففعل ذلك عمرو، ثم سم عثمان فمات بالشام، انتهى.
قال: وحدثنا حسن بن حسين الأزدي، قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: كانت الرياسة أيام بني قصي إلى عبد مناف بن قصي، كان القائم بأمور قريش والمنظور إليه فيها، ثم أفضى ذلك بعده إلى ابنه هاشم بن عبد مناف، فأقام ذلك أحسن قيام، فلم يكن له نظير من قريش ولا مساو، ثم سارت الرياسة بعده لعبد المطلب، في كل قريش رؤساء، غير أنهم كانوا يعرفون لعبد المطلب فضله وتقدمه وشرفه، فلما مات عبد المطلب، صارت الرياسة لحرب بن أمية، فلما مات حرب، تفرقت الرياسة والشرف بين عبد مناف وغيرهم من قريش.
وقال الفاكهي: قال لنا الزبير: قال محمد بن الحسن: كان هؤلاء الأربعة من بني عبد مناف: هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل، أول من رفع الله بهم قريشاً، وكانت قريش إنما كانت تتجر بمكة، وتتبضع مع من يخرج من الأعاجم إليها، فركب هاشم، فأخذ له حبلاً، يعني: عهداً من قيصر، فاتجروا إلى الشام، وركب عبد المطلب، فأخذ له حبلاً من ملوك اليمن، فتجروا إلى اليمن بذلك الحبل، يعني: العهد والذمة، وركب نوفل، فأخذ لهم حبلاً من النجاشي، فتجروا بذلك إلى أرض الحبشة.(1/103)
وروى الزبير، عن محمد بن الحسن، عن العلاء بن الحسين، عن أفلح بن عبد الله بن العلاء، عن أبيه وغيره من أهل العلم، قالوا: هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل هم الزينون، وبنو هاشم وبنو المطلب يدان، فإن دهمهم غيرهم، صاروا يداً واحدة، على ذلك كانوا في الجاهلية دون جميع بني عبد مناف.
قلت: ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: نحن وبنو المطلب هكذا وشبك بين أصابع يديه، وهما البصران يسميان بذلك، وعبد شمس ونوفل يروهما الأنهران.
قال: وكانت العرب تسمى هاشماً والمطلب وعبد شمس ونوفلاً: أقداح النضار؛ فإن دهمهم غيرهم اجتمعوا فصاروا يداً واحدة، وكان يقال لهم جميعهم أيضاً: المجيرون؛ قال آدم بن عبد العزى بن عمرو بن عبد العزى: من الرمل
يا أمين اللّه إنّي قائلٌ ... قول ذي دينٍ وبرٍّ وحسب
عبد شمسٍ لا تهنها إنّما ... عبد شمسٍ عمّ عبد المّطلب
عبد شمس كان يتلو هاشماً ... وهما بعد لأُمٍّ ولأب
فائدة أحببت إيرادها لمناسبها، وهي: ذكر من ولي الإجازة بالناس من عرفة ومزدلفة ومنى من العرب، في ولاية جرهم وخزاعة وقريش على مكة، والحمس والحلة والطلس والنسيء: أما الأول ممن ولي الإجازة للناس بالحج من عرفة: فقال ابن إسحاق: كان الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر هو الذي يليها من عرفة وولده من بعده، وكان يقال له ولولده: صوفة، وإنما ولي الغوث بن مر ذلك؛ لأن سببه أن أمه كانت امرأة من جرهم وكانت لا تلد، فنذرت لله إن هي ولدت ذكراً أن تتصدق به على الكعبة عبداً لها يخدمها ويقوم عليها، فولدت الغوث، فكان يقوم على الكعبة بخدمتها في الدهر الأول مع أخواله من جرهم، فولي الإجازة بالناس من عرفة؛ لمكانه الذي كان به من الكعبة، فقالت أمه: من الرجز
إنّي جعلت ربّ من بنيّه ... ربيطةً بمكّة العليّه
فباركنّ لي بها أليّه ... واجعله لي من صالح البريّه
ثم استمر ولده من بعده.
قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد قال: كانت صوفة تدفع بالناس من عرفة، وتجيز لهم إذا نفروا من منى، فإذا كان يوم النفر، أتو لرمي الجمار، ورجل من صوفة يومئ للناس لا يرمون، فكان ذوو الحاجات المستعجلون يأتون له، فيقولون له: قم فارم حتى نرمي، فيقول: لا والله، حتى تميل الشمس؛ فيظل ذوو الحاجات الذين يحبون التعجيب يستعجلونه بذلك، ويرمونه بالحجارة، ويقولون له: ويلك قم فارم، فيأبى عليهم، حتى إذا مالت الشمس، قام فرمى، ورمى الناس معه.
قال ابن إسحاق: فإذا فرغوا من رمي الجمار، فأرادوا من منى، أخذت صوفة بجانبي العقبة، فحبسوا الناس، قالوا: أجيزي صوفة، فلم يجز أحد من الناس حتى يمروا، فإذا نفرت صوفة ومضت، خلى سبيل الناس، فانطلقوا بعدهم، فكانوا كذلك حتى انقرضوا.
فورث ذلك من بعدهم بنو سعد بن زيد مناة بن تميم، فكانت في بني سعد في آل صفوان بن الحارث بن شجنة.
قال ابن هشام: صفوان هو ابن الحارث بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب ابن سعد بن زيد مناة بن تميم، قال: فكان صفوان هو الذي يجيز للناس بالحج من عرفة، ثم بنوه من بعده، حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام هو كرب بن صفوان، قال أوس بن مغراء السعدي: من البسيط
لا يبرح النّاس ما حجّوا معرّفهم ... حتّى يقال أجيزوا آل صفوانا
وهذا البيت من قصيدة له يفخر فيها.
وأما الإجازة من المزدلفة، فكانت في عدوان فيما حدث به زياد بن عبد الله، عن محمد بن إسحاق، يتوارثون ذلك كابراً عن كابر، حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو سيارة عميلة بن الأعزل، ففيه يقول شاعر العرب: من الرجز
نحن دفعنا عن أبي سيّاره ... وعن مواليه بني فزاره
حتّى أجاز سالماً حماره ... مستقبل القبلة يدعو جاره
وذكر الزبير بن بكار خبر الإجازة من المزدلفة، فأفاد ما لم يفده ابن إسحاق، فاقتضى ذلك ذكرنا له، قال بعد أن ذكر خبر الإجازة من عرفة قال أبو عبيدة: والإجازة الثانية من جمع غداة النحر إلى منى، وكان ذلك إلى بني زيد بن عدوان بن عمرو بن قيس عيلان بن مضر، وكان آخر من ولي ذلك منهم أبو سيارة عميلة بن الأعزل بن خالد بن سعد الحارث، وكان يجيز على حماره.(1/104)
قال السهيلي: فكانت له أتان عوراء خطامها من ليف.
وكان يقال في المثل: أصح من حمار أبي سيارة، قال أبو الحسن الأثرم: قال أبو عبيدة: أظنه كان سميناً. وقال محمد بن الحسن: عاش حمار أبي سيارة أربعين سنة لا يصيبه فيها عرض، فل: أصح من عير أبي سيارة.
قال الزبير بن بكار: حدثني إبراهيم بن المنذر، عن عبد العزيز بن عمران، قال: أخبرني عقال بن شيبة قال: فلم تزل الإجازة في صوفة حتى أخذتها عدوان، حتى أخذتها قريش.
قلت: هذا صريح في خلاف ما تقدم من أن الإجازة من عرفة في آل صوفة استمرت إلى آخر الإسلام، وكان آخرهم كرب بن صفوان، وكذلك الإجازة من مزدلفة استمرت في عدوان حتى كان آخرهم أبا سيارة عميلة بن الأعزل، فلعل قائل هذا أشار إلى ما وقع لقصي من أخذ ذلك من صوفة وعدوان، ثم ترك ذلك قصي؛ لأنه كان يراه ذنباً فتركه.
وذكر القاضي: حدثني أحمد بن سليمان، قال: حدثني أبو زيد بن مبارك، قال: حدثني أبو ثور، عن ابن جريج، قال وقال مولى ابن عباس: كانت الحمس من عدوان يقومون بالمزدلفة حتى يدفعوهم ومن يعرف بعرفة من المزدلفة غداة جمع، وكان يدفع بهم أبو سيارة على حمار له عرى، وكان يقول: أشرق ثبير، كيما نغير، وكان كرب بن صفوان يأخذ بالطريق، فلا يفيض أحد من عرفات حتى يجيز، وكانوا يقفون ولا يعرفون الوقوف بها فيقيمون ويفتخرون بآبائهم وأفعالهم ويسألون لدنياهم، فأنزل الله: " فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً " الآية البقرة فإذا غربت الشمس، سار كرب بن صفوان نحو جمع، ويسيرون خلفه، لكل حي مجيز، حتى يأتون الحمس في جوف الليل بالمزدلفة، فيقفون معهم، وقد أخذ الطريق لا يخرج أحد قبل طلوع الشمس، فإذا أصبحوا، قام أبو سيارة عميلة بن الأعزل العدواني، فقال: أشرق ثبير، كيما نغير، قال ذو الأصبع العدواني، واسمه حرثان بن عمرو: من الهزج
عذير الحيّ من عدوا ... ن كانوا حيّة الأرض
بغى بعضهم ظلماً ... فلم يرع على البعض
ومنهم كانت السّادا ... ت والموفون بالقرض
ومنهم من يجيز النّا ... س بالسّنّة والفوض
وأما سبب تسمية الغوث وبنيه بصوفة - فيما تقدم من قوله: وكان يقال له ولبنيه صوفة - فذكر أبو عبد الله؛ أنه حدثه أبو الحسن الأثرم، عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي، قال: إنما سمى الغوث بن مر صوفة؛ لأنه كان لا يعيش لأمه ولد، فنذرت به إن عاش لتعلقن برأسه صوفة، ولتجعلنه ربيطاً للكعبة، ففعلت، فقيل له: صوفة ولولده من بعده، وهو الربيط، ويقال: سبب التسمية أنها لما ربطته عند البيت أصابه الحر، فمرت به وقد سقط وذوى واسترخى، فقالت: ما ضار ابني إلا صوفة. والله أعلم أيهما سبب التسمية، ويحتمل اجتماعهما ويكون سببه للسابق.
وأما الحمس والحلة، فذكر خبرهم غير واحد من أهل الأخبار، منهم الزبير بن بكار، فإنه قال: حدثني إبراهيم بن المنذر بن عبد العزيز بن عمران، قال: الحمس: قريش، وكنانة، وخزاعة، ومن ولدته قريش خاصة من العرب، وإنما سموا الحمس بالكعبة؛ لأنها حمساء حجرها أبيض يضرب إلى السواد.
قال: وكانت لها سيرة، كانوا لا يأقطون أقطاً، ولا يسلون سمناً، ولا يبيعون داراً، ولا يقفون إلا بالمزدلفة، ولا يطوفون بالبيت عراة، ولا يسكنون في بيوت الشعر.
وقال غيره: كانوا يعظمون الشهور الحرم، ويتعاطون الحقوق، ويدحرون عن الظلم، وينصفون المظلوم.
قال: وحدثني محمد بن فضالة، عن مبشر بن حفص، عن مجاهد، قال: الحمس: قريش، وبنو عامر بن صعصعة، وثقيف، وخزاعة، ومدلج، وعدوان، والحارث بن عبد مناة، وعضل أتباع قريش، وسائر العرب حلة.
قال: وحدثني محمد بن حسن، عن محمد بن طلحة، عن موسى بن محمد، عن أبيه، قال: لم تكن الحمس بحلف، ولكنه دين شرعته قريش وأجمعوا عليه. وكانت الحلة لا تطوف في حجها إلا في ثياب جدد، أو ثياب أهل الله سكان الحرم، ويكرهون أن يطوفوا في ثياب عملت فيها المعاصي، فمن لم يجد طاف عرياناً، ومن طاف من الحلة في ثيابه، ألقاها، فإذا فرغ فلم ينتفع بها ولا غيره حتى تبلى. وكانت المرأة تطوف عارية، وتضع كفها على هنها، ثم تقول: من الرجز
أليوم يبدو بعضه أو كلّه ... وما بدا منه فلا أُحلّه(1/105)
قال: وكانت الحمس تطوف في ثيابها، وكانت الحلة تخرج إلى عرفات، وتراه موقفاً ومنسكاًن وكان موقفها بالعشي دون الأنصاب، ومن آخر الليل مع الناس بقزح من المزدلفة، وكان بعض الحلة لا يرى الصفا والمروة، وبعضهم يراها، وكان الذين يرونها خندف، وسائر الحلة لا يرونها.
فلما جاء الله بالإسلام، أمر الله الحمس أن يقفوا بعرفة مع الحلة، وأن يفيضوا من حيث أفاض الناس منها مع الحلة، وأمر الحلة أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وقال: " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ... " الآية البقرة؛ وذلك أن ناساً قالوا: ما كان أهل الجاهلية ممن يطوف بهما يطوف بإساف ونائلة، وكان إساف على الصفا، ونائلة على المروة، فأعلمهم الله عز وجل أنهما مشعر. انتهى وقيل: سبب تسميتهم بالحمس غير ما ذكر، وهو أنهم إنما سموا حمساً؛ لشجاعتهم، والحماسة الشجاعة.
وقيل: سبب التسمية بذلك لشدتهم في دينهم، والأحمس المتشدد في دينه.
وأما الطلس: فيهم طائفة من العرب تطوف بالبيت على صفة تختص بها، ذكرهم السهيلي؛ فقال بعد أن ذكر شيئاً في خبر الحمس والحلة: وكانوا يأتون من أقصى اليمن طلساً من الغبار، يطوفون بالبيت في تلك الثياب الطلس، فسموا بذلك، ذكره محمد بن حبيب. انتهى والطلس - أيضاً - لقب لجماعة من أعيان السلف؛ لكونهم لا شعر في وجوههم، منهم عبد الله بن الزبير الأسدي، وشريح بن الحارث القاضي قاضي الكوفة فوق ستين سنة.
وأما النسىء، قال العلامة التقي الفاسي: قال الأزرقي فيما رويناه عنه بسندنا: حدثني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن محمد بن إسحاق، عن الكلبي فيما رواه عن أبي صالح مولى أم هانىء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وذكر شيئاً من خبر الحلة والحمس - ثم قال ابن إسحاق: قال الكلبي: فكان أول من أنسأ الشهور من مضر مالك بن كنانة؛ وذلك أن مالك بن كنانة نكح إلى معاوية بن ثور الكندي، وهو يومئذ في كندة، وكانت النسأة قبل ذلك في كندة؛ لأنهم كانوا قبل ذلك ملوك العرب من ربيعة ومضر، فنسأ ثعلبة بن ملك، ثم نسأ بعده الحارث بن ملك بن كنانة، وهو القلمس، ثم نسأ بعده سرير بن القلمس، ثم كانت النسأة في بني فقيم من بني ثعلبة حتى جاء الإسلام، وكان آخر من نسأ منهم أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن عبد فقيم، وهو الذي جاء في زمن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الحجر الأسود، فلما رأى الناس يزدحمون عليه، قال: أيها الناس، أنا له جار، فأجيزوا، فخفقه عمر بالدرة، ثم قال: أيها الجلف الجافي، قد ذهب عزك بالإسلام. فكل هؤلاء قد نشأ في الجاهلية، انتهى.
ذكر صفة الإنساء
روى الأزرقي بسنده إلى ابن إسحاق، عن الكلبي في الخبر الذي فيه ما سبق ذكره في أول من نسأ الشهور، قال: والذي ينسأ لهم إذا أرادوا ألا يحلوا المحرم، قام بفناء الكعبة يوم الصدر، فقال الذي ينسأ: أيها الناس، لا تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم؛ فإني أجاب ولا أعاب لقول قلته؛ فهنالك يحرمون المحرم ذلك العام، وكان الجاهلية يسمون المحرم: صفر الأول، وصفر: صفر الآخر، ويقولون: صفران وشهرا ربيع وجماديان ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة؛ فكان ينسأ الإنساء سنة، ويترك سنة، فيحلوا الشهور المحرمة، ويحرموا الشهور التي ليست بمحرمة، وكان ذلك من فعل إبليس - لعنه الله تعالى - ألقاه على ألسنتهم فرأوه حسناً، فإذا كانت السنة التي ينسأ فيها، يقوم ويخطب بفناء الكعبة، ويجمع الناس إليه يوم الصدر، فيقول: أيها الناس، إني قد أنسأت العام صفر الأول، يعني: المحرم، فيطرحونه من الشهور ولا يعتدون به، ويبتدئون العدة بعده، فيقولون لصفر شهر ربيع الأول: صفران ويقولون لشهر ربيع الآخر وجمادي الأولى: شهرا ربيع، ويقولون لجمادي الأخرى ورجب: جماديان، ويقولون لشعبان: رجب، ولشهر رمضان: شعبان، ويقولون لشوال: شهر رمضان، ولذي الفطرة: شوال، ولذي الحجة: ذو القعدة، ولصفر الأول، وهو المحرم الشهر الذي أنسأه: ذو الحجة، فيحجون تلك السنة في المحرم، فيبطل من هذه السنة شهراً ينسأه.(1/106)
ثم يخطبهم في السنة الثانية في وجه الكعبة - أيضاً - فيقول: أيها الناس، لا تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم، فإني أجاب ولا أعاب لقول قلته، اللهم، إني قد أحللت دماء المحلين طيئ وخثعم في الأشهر الحرم من بين العرب، فيغزونهم ويطلبون بثأرهم ولا يقفون عن حرمات الناس في الأشهر الحرم؛ كما تفعل غيرها من العرب، وكان سائر العرب من الحلة والحمس لا يعدون في الأشهر الحرم على أحد ولو لقي أحدهم قاتل أبيه وأخيه، ولا يستاقون إعظاماً للشهور الحرم، إلا خثعم وطيىء، فإنهم كانوا يعدون في الأشهر الحرم؛ فهنالك يحرمون من تلك السنة الشهر المحرم، وهو صفر الأول، ثم يعدون الشهور على عدتهم التي عدوها في العام الأول، فيحجون في كل سنة حجتين، ثم ينسأ في السنة الثانية، فينسأ صفر الأول في عدتهم هذه، وهو صفر الآخر في العدة المستقيمة حتى تكون حجتهم في صفر أيضاً، وكذلك الشهور كلها حتى يستدير الحج في كل أربع وعشرين سنة إلى المحرم الذي ابتدءوا منه الإنساء، يحجون في الشهور كلها في كل شهر حجتين، فلما جاء الله بالإسلام، أنزل الله في كتابه العزيز: " إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ... " الآية التوبة انتهى.
وقال السهيلي: وأما نسؤهم للشهر الحرام، فكان على ضربين: أحدهما: هذا الذي ذكره ابن إسحاق من تأخير المحرم إلى صفر؛ لحاجتهم إلى شن الغارات، وطلب الثارات.
والثاني: تأخير الحج عن وقته؛ تحرياً منهم للسنة الشمسية؛ فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يوماً أو أكثر قليلاً، حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة؛ فيعود إلى وقته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في عام حجة الوداع: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض؛ فكانت حجة الوداع في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته الأصلي، ولم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة غير تلك الحجة، وذلك لإخراج الكفار الحج عن وقته، ولطوافهم بالبيت عراة - والله أعلم - إذ كانت مكة في حكمهم حتى فتحها الله على نبيه، عليه الصلاة والسلام.
ثم ولي عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقام لقومه وللحجاج ما كانت آباؤه تقيمه من قبله، وشرف في قومه شرفاً لم يبلغه أحد من آبائه، فأحبه قومه وعظم خطره فيهم، وكان أكبر أولاده الحارث، لم يكن أول أمره غيره، وكان يكنى به، فيقال: يا أبا الحارث، فقال له ابن عمه عدي بن نوفل بن عبد مناف: يا عبد المطلب، أتستطيل علينا وتتعاظم وأنت فذ لا ولد لك؟ فقال له عبد المطلب: أو بالقلة تعيروني؟ فو الله نذر علي، لئن آتاني الله عشرة من الولد، لأنحرن أحدهم عند الكعبة. فلما كمل له عشرة من الولد، جمعهم فأخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأطاعوه، وقالوا له: أوف بنذرك، وافعل ما شئت، قال: ليأخذ كل واحد منكم قدحاً فليكتب اسمه عليه، ثم ائتوني، ففعلوا، فقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضرب على هؤلاء بقداحهم - والقدح: سهم لا نصل له ولا ريش - فأعطى كل واحد منهم قدحه، وكان عبد الله هو أصغرهم سناً وأحبهم إلى والده، ثم ضرب صاحب القداح، فخرج السهم على عبد الله، فأخذه عبد المطلب بيده، وأخذ الشفرة، ثم أقبل على أساف - وهو صنم على الصفا - ليذبح عنده، فجذب العباس عبد الله من تحت رجل والده حتى أثر في وجهه شجة لم تزل ترى في وجه عبد الله إلى أن مات، فقامت قريش عن أنديتها، وقالوا: لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه فيذبحه، فما بقاء الناس على هذا؟! ولكن اعذر فيه إلى ربك، فنفديه بأموالنا، وكان بالحجاز عرافة كاهنة لها تابع من الجن، فانطلقوا حتى قدموا عليها، وقص عليها عبد المطلب قصته وخبر نذره.
ويقال: إن نذره لذلك لم يكن سببه تعيير عدي بن نوفل له، فأجابه بقوله: أو بالقلة تعيروني، لئن رزقني الله عشرة من الولد... إلى آخر ما تقدم، بل إنما كان النذر: لما رأى في المنام زمزم، وأرشد إلى مكانها بعلامة أريها فيه، فقال عند ذلك: لئن رزقني الله عشرة من الولد حتى يعينوني على حفرها لأنحرن أحدهم.(1/107)
وعلى كل حال: فالمنذور هو نحر أحد أولاده العشرة، والاختلاف في سبب عقد النذر هل هو التعيير له بقلة الولد وهي الرواية الأولى، أو حصول الإرشاد إلى محل زمزم وحفرها، والإعانة على ذلك، وذلك أنه بينما عبد المطلب بن هاشم نائم في الحجر إذ أتى فأمر بحفر زمزم، قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت، فقال: احفر طيبة، قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد، جئت إلى مضجعي - ، فنمت فيه، فجاءني، فقال: احفر المصونة قلت: وما المصونة؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برة، قلت: وما برة؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد، نمت كذلك فجاءني، فقال: احفر زمزم، قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبداً ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل، وهي شرف لك ولولدك، وكان هناك غراب أعصم لا يبرح عند الذبائح مكان الفرث والدم.
فلما بين له شأنها، ودل على موضعها، وعرف أن المنام قد صدق، غدا بالمعول، ومعه ابنه الحارث ليس معه يومئذ ولد غيره، فجعل يحفر ثلاثة أيام حتى بدا له الطي، فعرفت قريش أنه أدرك حاجته، فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقاً، فأشركنا معك، قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم، قالوا له: فأنصفنا؛ فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فافعلوا، بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم، قال: نعم، وكانت بأشراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أمية، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، والأرض إذ ذاك مفازة، قال: فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز، فني ما كان عند عبد المطلب وأصحابه من الماء، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما تخوفوا منه، قال لقومه: ما ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفل كل رجل منكم حفرة لنفسه بما بكم الآن من بقية الرمق والقوة، فكلما مات رجل على شفير حفرته، ألقاه فيها من بقي مه رمق منكم، قالوا: نعم ما أمرت به، فقعدوا ينتظرون عطشاً، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله، لنضربن في الأرض؛ فلعل الله يرزقنا ماء ببعض البلاد، فتقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به، انفجرت عين ماء عذب من تحت خفها، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب هو وأصحابه، واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش، فقال: هلموا إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا، فجاءوا فشربوا واستقوا، ثم قالوا: قد والله قضى الله لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه المفازة لهو الذي سقاك، فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجع ورجعوا معه.
ويقال: إن عبد المطلب قام يحفر هنالك، فجاءت قريش فقالوا: لا تحفر في مسجدنا، فقال: إني لحافر هذه البئر، ومجاهد من صدني عنها، فطفق يحفر هو وابنه الحارث، وليس له يومئذ ولد غيره، فسعت إليهما ناس من قريش ونازعوهما، حتى إذا اشتد عليه الأذى، نذر لئن ولد له عشر بنين، ثم بلغوا معه حتى منعوه عمن يريد منعه، وسهل الله عليه حفر زمزم - لينحرن أحدهم عند الكعبة، فلما بلغوا عشرة وأراد ذلك، وقع ما تقدم ذكره. انتهى وورد أن عبد المطلب كان نائماً في الحجر إذ رأى مناماً، فانتبه فرقاً مرعوباً، وأتى كهنة قريش وقص عليهم رؤياه، فقالوا: تأويل رؤياك: ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السموات والأرض، وليكونن في الناس علماً مبيناً. فتزوج ابنة عمرو بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وحملت في ذلك الوقت بعد الله الذبيح. وقصة ذبحه سببها نذر أبيه عبد المطلب ذبح أحد أولاده إذا رزقه الله عشرة ذكور؛ كما تقدم آنفاً.(1/108)
وكانت زمزم مجهولة الموضع، إلى أن رفع عنها الحجاب برؤيا منام رآها عبد المطلب دلته على حفرها بأمارات عليها، وقد كان مضاض بن عمرو الجرهمي، أو عمرو بن الحارث الجرهمي لما أحدث قومه بحرم الله الحوادث، وقيض الله إياداً فأخرجوهم من مكة، عمد عمرو هذا إلى ذخائر الكعبة - من الغزالين والأسياف وغير ذلك - وأخرجها من الجب الذي كان بالكعبة معداً لوضع ذلك، فأخذ جميع ذلك، وجعله في زمزم، وطمها وعفى أثرها، وفر إلى اليمن بقومه، فلم تزل زمزم من ذلك العهد مجهولة إلى أن رآها عبد المطلب، فأراد ذبح ولده عبد الله فمنعه أخواله بنو مخزوم، وفي الرواية الأولى منعه العباس فاجتذبه من تحت رجل ولده، ولا مانع من وقوع السببين، ويكون المنع منهم بعد الاجتذاب من العباس، ثم احتفرها وكانت له فخراً وعزاً.
فذهبوا، فقالت لهم العرافة: ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي، فرجعوا من عندها، ثم عادوا إليها، فقالت لهم: كم الدية فيكم؟ فقالوا: عشر من الإبل، فقالت لهم: قربوا عن ولدكم عشراً من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه، واستمروا كذلك إلى أن يخرج السهم عليها فانحروها، فقد رضي ربكم ونجى ولدكم، فخرجوا حتى قدموا مكة، فقربوا عشراً من الإبل، وضربوا بالقداح، فخرج السهم على عبد الله، واستمروا في كل مرة يزيدون عشراً فعشراً حتى بلغت الإبل مائة فخرج السهم عليها، فأعادوها ثانية وثالثة فخرج السهم على الإبل، فنحروها، وتركت لا يمنع من لحمها آدمي ولا وحش ولا طير.
قال الزهري: كان عبد المطلب أول من سن دية النفس مائة من الإبل، فجرت في قريش، ثم في العرب، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام.
وذكر الحافظ النيسابوري بسنده عن سعيد بن عمرو الأنصاري، عن أبيه، عن كعب الأحبار؛ أن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى عبد المطلب ونام في الحجر، فانتبه مكحولاً مدهوناً قد كسى حلة البهاء والجمال، فبقي متحيراً لا يدري من فعل به ذلك، فأخذه أبوه هاشم بيده، ثم انطلق به إلى كهنة قريش، فأخبرهم بذلك، فقالوا له: اعلم أن إله السموات قد أذن لهذا الغلام أن يتزوج، فزوجه أبوه قيلة، فولدت له الحارث وهو أكبر أولاده، وبه كان يكنى؛ كما تقدم ذكر ذلك. ثم ماتت فزوجه بعدها هنداً بنت عمرو، وكان عبد المطلب تروح منه رائحة المسك الإذفر، ونور رسول الله صلى الله عليه وسلم يضىء في غرته، وكانت قريش إذا أصابها قحط تأخذ بيده، فتخرج به إلى جبل ثبير، فيتقربون به إلى الله تعالى ويسألونه أن يسقيهم الغيث، فكان يغيثهم ويسقيهم ببركة نور محمد صلى الله عليه وسلم غيثاً عظيماً.
وعند الحاكم في مستدركه: عن معاوية بن أبي سفيان: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه أعرابي، فقال: يا رسول الله، خلفت البلاد يابسة والماء يابساً، هلك المال وضاع العيال، فعد على مما أفاء الله عليك يا بن الذبيحين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه. ويعني بالذبيحين: عبد الله، وإسماعيل بن إبراهيم، وإن كان قد ذهب بعض العلماء إلى أن الذبيح إسحاق.
قال ابن القيم: ومما يدل على أن الذبيح إسماعيل: أنه لا ريب أن الذبح كان بمكة، وكذلك جعلت القرابين يوم النحر كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمى الجمار تذكيراً بشأن إسماعيل وأمه وإقامة لذكر الله تعالى، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه.
ثم قال: ولو كان الذبح بالشام - كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم - لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة، وروى عن عمر بن عبد العزيز: أنه سأل رجلاً أسلم من علماء اليهود: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين، إن اليهود ليعلمون أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدونكم يا معشر العرب أن يكون أباً لكم للفضل الذي ذكره الله تعالى عنه، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق؛ لأن إسحاق أبوهم؛ كذا في المواهب اللدنية.
وقد استشكل أن عبد المطلب نذر نحر أحد بنيه إذا بلغوا عشرة، وقد كان تزويجه هالة أم ابنه حمزة بعد وفائه بنذره، فحمزة والعباس إنما ولدا بعد الوفاء بنذره، وإنما كان أولاده عشرة.(1/109)
قال السهيلي: ولا إشكال في هذا؛ فإن جماعة من العلماء قالوا: كان أعمامه - عليه الصلاة والسلام - اثني عشر؛ وهو قول الأكثر. وإن صح قول من قال: إنهم عشرة لا يزيدون، فالولد يقع على البنين وبنيهم حقيقةً لا مجازاً، فكأن عبد المطلب قد اجتمع له من ولده وولد ولده عشرة رجال حين الوفاء بنذره. وقد تقدم أن عبد الله كان أصغر بني أبيه عبد المطلب، وهو غير معروف، فلعل الرواية أصغر بني أمه، وإلا فحمزة كان أصغر من عبد الله، والعباس كان أصغر من حمزة، فكيف يستقيم أن يكون عبد الله أصغر أولاد عبد المطلب؟! وروى عن العباس أنه قال: أذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاثة أعوام ونحوها، فجيء به حتى نظرت إليه، وجعل النساء يقلن لي: قبل أخاك، فقبلته، فكيف يصح أن يكون عبد الله أصغر أولاد بنيه؟! لكن يحتمل وجه لصحته أن تكون الرواية أصغر بني أمه، أو تكون الرواية لذلك أصغر بني أبيه، ويكون المراد أنه أصغر بني أبيه حين أريد نحره، ثم ولد له بعد ذلك حمزة والعباس. انتهى قلت: يعكر على هذا التوجيه الرواية السابقة التي فيها اجتذاب العباس لعبد الله من تحت رجل عبد المطلب؛ إذ هي مصرحة بوجوده؛ بل ببلوغه حد الرجولية رأياً وفعلاً؛ فليتأمل ولينظر وجه التوفيق.
وقيل لعبد المطلب في صفة زمزم: لا تنزف أبداً ولا تذم، وهذا برهان عظيم؛ لأنها لم تنزف من ذلك الحين إلى اليوم قط، وقد وقع فيها حبشي، فنزحت من أجله، فوجدوا ماءها. يفور من ثلاثة أعين أقواها وأكثرها ماء عين من ناحية الحجر الأسود، ذكر هذا الحديث الدارقطني.
وقوله: لا تذم فينظر، فقد كان خالد بن عبد الله القسري عامل الوليد بن عبد الملك على مكة يذمها ويسميها أم جعلان، واحتفر بئراً خارج مكة باسم الوليد ابن عبد الملك، وجعل يفضلها على زمزم، ويحمل الناس على التبرك بها دون زمزم جرأة منه على الله وقلة حياء منه، وهو الذي كان يفصح بلعن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - على المنبر هناك، وإنما ذكرنا هذا ليعلم أنها قد ذمت، لكن من الرمل
لا يضرّ البحر أمسى زاخراً ... أن رمى فيه سفيهٌ بحجر
وأول من اتخذ للكعبة باباً من حديد عبد المطلب، ضربه من تلك الأسياف التي وجدها في زمزم حين احتفرها، وهي التي أودعها مضاض بن عمرو الجرهمي باطن زمزم وطمها، واتخذ حوضاً لزمزم يسقي منه؛ فكانوا يخربونه بالليل حسداً له، فلما غمه ذلك، قيل له في المنام: قل: لا أحلها لغسل، وهي لشارب حل وبل، وقد كفيتهم. فلما أصبح قال ذلك، فكان بعد ذلك من أرادها بمكروه، رمى بداء في جسده حتى انتهوا عنه.
فائدة: كانت قريش قبل حفر زمزم، اتخذت أبياراً بمكة، فذكروا أن قصياً كان يسقي الحجيج في حياض من أدم، فكان ينقل الماء إليها من آبار خارجة عن مكة، منها بئر ميمون الحضرمي، وكان ينبذ لهم الزبيب، ثم احتفر قصي العجول في دار أم هانىء بنت أبي طالب، وهي أول سقاية حفرت بمكة، فلم تزل العجول قائمة حياة قصي وبعد موته حتى كبر عبد مناف بن قصي، فسقط فيها رجل من بني جعيل، فعطلوها واندفنت واحتفرت كل قبيلة بئراً. واحتفرت سجلة. وأما خم: فهي بئر مرة، وهي من خممت البيت: إذا كنسته.
وأما غدير خم الذي عند الجحفة: فسمى بغيضة عنده، يقال لها: خم.
وأما زم: فبئر بني كلاب بن مرة.
وأما شغية: فبئر بني أسد.
وأما سنبلة: فبئر بني جمح، وهي بئر بني خلف بن وهب بن جمح.
وأما الغمر: فبئر بني سهم.
قلت: البئر التي يقال لها: العجول في دار أم هانىء، قد حفرت بعد أن دفنت واستمرت إلى أن دفنها المستنجد العباسي لما وسع المسجد الحرام، وأدخل دار أم هانىء فيه، واحتفر عوضها البئر التي عند باب الحزورة على يسار الخارج من المسجد المعروفة في زماننا بالشرشورة يغسل فيها الموتى غالباً. انتهى. والحديث شجون، يجر الفن منه إلى فنون.
ولنرجع إلى ما كنا، ونتم ما عنه أبنا، من ذكر عبد المطلب، فنقول: ولما قدم أبرهة ملك اليمن من قبل النجاشي لهدم بيت الله الحرام، وذلك أنه بنى كنيسة، وأراد صرف الحاج إليها، فأصبح ذات يوم وإذا هو بالكنيسة قد تبرز فيها رجل من كنانة، فحلف ليهدمن بيت عز العرب، وهو الكعبة، فسار بجيش كالليل، يسير كالسيل، وبلغ عبد المطلب ذلك، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصل إلى هدم البيت؛ لأن للبيت رباً يحميه.(1/110)
ثم جاء مقدم خيل لأبرهة، فاستاق إبلاً لقريش فيها أربعمائة ناقة لعبد المطلب، فركب عبد المطلب في قريش حتى طلع جبل ثبير، فاستنارت دائرة غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبينه كالهلال، فانتشر شعاعها على البيت الحرام مثل ضوء السراج. فلما نظر عبد المطلب إلى ذلك قال: يا معشر قريش، ارجعوا، قد كفيتم هذا الأمر، فوالله ما استدار هذا النور مني إلا أن يكون الظفر لنا، فرجعوا متفرقين، ثم قصد عبد المطلب إلى خباء أبرهة، فإذا هو على سرير الذهب، فلما وقع نظر أبرهة على عبد المطلب، أكبره أن يقعده تحته، ولم يرض أن يقعد معه على السرير، فنزل على الأرض وأعظمه وأجله، وسأله ما الذي أتى بك؟ فقال: إبل لي استاقها بعض جيشك، فقال أبرهة للترجمان: قل له: لقد عظمت أولاً في عيني، فلما تكلمت انحطت رتبتك عندي، قال عبد المطلب: ولم ذاك؟ قال: لأنك قد علمت أني إنما أتيت لهدم هذا البيت، وهو عزك وعز آبائك، فلم يكن لك هم إلا الإبل وردها عليك، فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه، فشأنك وإياه، ثم أمر بردها عليه.
وروى أنه لما حضر عبد المطلب إلى أبرهة، أمر سائس فيله الأبيض العظيم - الذي كان لا يسجد لأبرهة كما تسجد الفيلة - أن يحضر بين يديه، فلما نظر الفيل إلى وجه عبد المطلب برك كما يبرك البعير وخر ساجداً وأنطقه الله، فقال: السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب؛ كذا رواه في المنظوم والمفهوم.
ثم قام عبد المطلب حتى أتى البيت، وأخذ بحلقتي الباب، وقال: من مجزوء الكامل
لاهمّ إنّ المرء يم ... نع رحله فامنع حلالك
لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم أبداً محالك
وانصر على آل الصّلي ... ب وعابديه اليوم آلك
إن كنت تاركهم وكع ... بتنا فأمرٌ ما بدا لك
ولما وصل الجيش ومعهم الفيل، وكان فيلاً عظيماً لم ير مثله عظماً اسمه محمود، فلما كان بالمغمس، برك، فضربوه في رأسه بالمعاول ضرباً شديداً فأبى، فوجهوه إلى جهة اليمن، فقام مسرعاً. ثم أرسل الله عليهم طيراً أبابيل من البحر، مع كل طائر ثلاثة أحجار كل حجر زنة طسوج حجر في منقاره، وحجران في رجليه كأمثال العدس، هيئة تصيب الفارس في قنة رأسه، فتقطع أمعاءه، وتخرج من دبره، فخرجوا هاربين يتساقطون بكل طريق، فكان الحجر يغوص في الأرض من شدة وقعه، وأصيب أبرهة بداء في جسمه، فتساقطت أنامله أنملة أنملة، وسال منه الصديد والقيح والدم، وما مات حتى اندع قلبه. وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَبِ الْفِيلِ... " السورة الفيل ثم قام عبد المطلب منشداً لما بدد الله شملهم وهدهم، وخيب أمالهم وصدهم: من الرمل
أيّها الدّاعي الّذي أسمعتني ... ثمّ ما بي عن نداكم من صمم
إنّ للبيت لربّاً مانعاً ... من يرده بأثامٍ مصطلم
رامه تبّع فيما حشدت ... حميرٌ والحيّ من آل قدم
فانثنى عنه وفي أوداجه ... خارجٌ أمسك عنه بالكظم
قلت والأشرم ترمي خيله ... إنّ ذا الأشرم غرٌّ بالحرم
نحن آل الله فيما قد مضى ... لم يزل ذاك على عهد ابرهم
نحن دمّرنا ثموداً عنوةً ... ثمّ عاداً قبلها ذات الإرم
نعبد الله وفينا سنّةٌ ... صلة القربى وإيفاء الذّمم
لم تزل لله فينا حجّةٌ ... يدفع الله بها عنّا النّقم
وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك: من الخفيف
إنّ آيات ربّنا بيّناتٌ ... لا يماري بهنّ إلاّ كفور
حبس الفيل بالمغمّس حتّى ... ظلّ يحبو كأنّه معقور
وفي تاريخ الخميس: أن الحجر كان أكبر من العدسة، وأصغر من الحمصة.
عن ابن عباس: أنه رأى منها عند أم هانئ خرزات مخططةً كالجذع الظفاري.
فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي جاءوا منها يسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله تعالى بهم من نقمة: من الرجز
أين المفرّ والإله الطّالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال أيضاً: من الوافر(1/111)
ألا حيّيت عنّا يا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا
ردينة لو رأيت ولا تريه ... لنا جنب المحصّب ما رأينا
إذن لعذرتني وحمدتّ أمري ... ولم تأسى على ما قلت مينا
حمدت اللّه إذ أبصرت طيراً ... وخفت حجارةً تلقى علينا
وكلّ القوم يسأل عن نفيلٍ ... كأنّ عليّ للحبشان دينا
قال العلامة ابن الجوزي: ثم إن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله على فرس ينظر إلى القوم، فرجع يركض ويقول: هلك القوم، فخرج عبد المطلب وأصحابه وغنموا أموالهم. انتهى وفي الكشاف: ودوي أبرهة - أي: مرض - فتساقطت أنامله وآرابه عضواً عضواً حتى قدموا به صنعاء، وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، فهلك.
وعن عكرمة: أصابته جدرية، وهو أول جدري ظهر في الأرض.
قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عقبة؛ أنه حدثه أنه أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام.
قال مقاتل: إن السبب الذي جر أصحاب الفيل أن فتية من قريش خرجوا تجاراً إلى أرض النجاشي، فدنوا من ساحل البحر - وثمة بيعة للنصارى تسميها قريش الهيكل - فنزلوا فأججوا ناراً، فاشتووا، فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف، فهاجت الريح فاضطرم الهيكل ناراً، فانطلق الصريخ إلى النجاشي، فأسف غضباً للبيعة، فبعث أبرهة لهدم الكعبة.
وقال فيه - يعني مقاتل - : إنه كان بمكة يومئذ أبو مسعود الثقفي، وكان مكفوف البصر يصيف بالطائف ويشتو بمكة، وكان رجلاً نبيهاً نبيلاً تستقيم الأمور برأيه، وكان خليلاً لعبد المطلب، فقال له عبد المطلب: ماذا عندك؟ هذا اليوم لا نستغني عن رأيك، فقال أبو مسعود لعبد المطلب: اعهد إلى مائة من الإبل، فاجعلها لله، وقلدها نعلاً، ثم بثها في الحرم، لعل بعض هذه السود أن يعقر منها فيغضب رب هذا البيت فيأخذهم، ففعل ذلك عبد المطلب، فعهد القوم إلى تلك الإبل، فحملوا عليها وعقروا بعضها، وجعل عبد المطلب يدعو فقال أبو مسعود: إن لهذا البيت رباً يمنعه، وقد نزل تبع اليمن صحن هذا البيت، وأراد هدمه، فمنعه الله وابتلاه وأظلم عليه ثلاثة أيام، فلما رأى تبع ذلك، رجع عن نيته وكساه القباطي البيض وعظمه ونحر له الجزائر فانظر كيف جهته؟ فنظر عبد المطلب فقال: أرى طيراً بيضاً نشأت من شاطىء البحر، فقال أبو مسعود: ارمقها ببصرك أين قرارها؟ قال: أراها تدور على رءوسنا، قال: هل تعرفها؟ قال عبد المطلب: لا والله ما أعرفها، فما هي بنجدية ولا تهامية ولا غربية ولا شامية، قال: ما قدرها؟ قال: أشباه اليعاسيب، في مناقيرها حصى كأنها حصى الخذف، قد أقبلت كالليل يكسع بعضها بعضاً، أمام كل فرقة طير يقودها، أحمر المنقار، أسود الرأس، طويل العنق. فجاءت حتى إذا حاذت معسكر القوم، كرت فوق رءوسهم، فلما توافت الرجال كلها، أهالت ما في مناقيرها وأرجلها على من تحتها، على كل حجر مكتوب اسم صاحبه، ثم إنها انصاعت راجعة من حيث جاءت، فلما أصبحنا انحطا من ذروة الجبل، فمشيا رتوة، فلم يؤنسا أحداً، ثم دنوا رتوة، فلم يسمعا حساً، فقالا: بات القوم ساهرين فأصبحوا نياماً، فلما دنوا من عسكر القوم فإذا هو خامدون، فعمد عبد المطلب فأخذ فأساً من فئوسهم، فحفر حتى أعمق في الأرض فملأه من الذهب الأحمر والجوهر، وحفر لصاحبه فملأه، ثم قال له أبو مسعود: اختر لي على نفسك، فقال عبد المطلب: إني لم آل أجعل أجود المتاع إلا في حفرتي فهو لك، وجلس كل منهما على حفرته ونادى عبد المطلب في الناس، فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعاً، وساد عبد المطلب بذلك وبغيره قريشاً وأعطته المقادة.
فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود في أهليهما في غنىً من ذلك المال، ودفع الله عن كعبته.
وفي الكشاف: أن أهل مكة احتووا على أموالهم، وإلى هذه القصة أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: إن الله حبس عن أهل مكة الفيل وسلط الله عليهم رسوله والمؤمنين. قيل: كان أبرهة هذا جد النجاشي الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم ومات وصلى عليه.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين بمكة مقعدين يستطعمان. وروى أن الله أرسل سيلاً فذهب بهم موتى إلى البحر.(1/112)
فلما هلك أبرهة، ومزق الحبشة كل ممزق، أقفر ما حول هذه الكنيسة، وكثرت السباع حولها والحيات، فلا يستطيع أحد أن يأخذ مما فيها شيئاً إلى زمن السفاح أبي العباس، فذكروا له أمرها، فبعث إليها أبا العباس بن الربيع عامله على اليمن ومعه أهل الحزم والجلادة، فخربوها وحصلوا منها مالاً كثيراً.
ثم بعد ذلك: عفى رسمها وانقطع خبرها؛ كذا في حياة الحيوان.
وقال في سيرة ابن هشام: فلما هلك أبرهة، ملك الحبشة ملك بعده ابنه يكسوم بن أبرهة، ثم ملك اليمن من الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة، فلما طال البلاء على أهل اليمن، خرج سيف بن ذي يزن الحميري حتى قدم على قيصر ملك الروم، فشكا إليه ما هم فيه، وسأله أن يخرجه عنهم ويليهم هو ويبعث إليهم من شاء من الروم، فلم يشكه، فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق، فشكا إليه أمر الحبشة، فبعثه النعمان مع وفده إلى كسرى، فدخل عليه فقال: أيها الملك، غلبنا على بلادنا الأغربة، قال كسرى: أي الأغربة، الحبشة أم السند؟ قال: الحبشة، فجئتك لتنصرني ويكون ملك بلاد لك، قال كسرى: بعدت بلادك مع قلة خيرها، فلم أكن لأورط جيشاً من فارس بأرض العرب، لا حاجة لي بذلك، ثم أجازه بعشرة آلاف درهم وكساه كسوة حسنة، فلما قبض ذلك سيف، خرج فجعل ينثر ذلك الورق للناس، فقال: وما أصنع بهذا؟ ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة، يرغبه فيها، فجمع مرازبته، فقال: ماذا ترون في أمر هذا الرجل؟ فال قائل: أيها الملك، إن في سجونك رجالاً قد حبستهم للقتل، فلو أنك بعثتهم معه، فإن هلكوا، كان ذلك الذي أردت بهم، وإن ظفروا، كان ملكاً ازددته، فبعث معه كسرى من كان في سجونه - وكانوا ثمانمائة رجل - واستعمل عليهم وهرز، وكان ذا سنة فيهم وأفضلهم حسباً وبيتاً. فخرج سيف في ثمان سفائن، فغرقت سفينتان ووصل إلى ساحل عدن ست سفائن، فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه، وقال له: رجلي ورجلك حتى نموت جميعاً أو نظفر، قال وهرز: أنصفت، وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن وجمع إليه جنده، فأرسل إليه وهرز ابناً له ليقاتلهم، فقتل ابن وهرز، فزاده ذلك حنقاً عليهم، فلما تواقف الناس على مصافهم، قال وهرز: أروني ملكهم، فقالوا له: أترى رجلاً على الفيل عاقداً تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء؟ قال: نعم، قالوا: ذاك ملكهم، قال: اتركوه، فوقف طويلاً، ثم قال: علام هو؟ قال: على البغلة، قال وهرز: بئست الحمالة، ذل وذل ملكه، إني سأرميه، فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا، فاثبتوا حتى أوذنكم؛ فإني قد أخطأت الرجل، وإن رأيتم القوم قد استداروا ولاذوا به؛ فإني قد أصبته، فاحملوا عليهم، فأمر بحاجبيه فعصبا له، ثم رماه، فشك الياقوتة التي بين عينيه، فتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه، ونكس عن دابته، فاستدارت الحبشة ولاذت به، وحملت عليهم الفرس، فانهزموا وقتلوا، وهربوا في كل وجه. وأقبل وهرز ليدخل صنعاء، حتى إذا أتى بابها قال: لا تدخل رايتي منكسة أبداً، اهدموا الباب، فهدم ثم دخلها ناصباً رايته.
قال ابن إسحاق: فأقام وهرز والفرس باليمن، فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين من اليمن اليوم.
قال ابن هشام: طاوس اليماني من هؤلاء الأبناء.
ثم مات وهرز، فأمر ابنه المرزبان على اليمن، ثم عزل وأمر باذان، فلم يزل عليها حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وكان ملك الحبشة لليمن قبل ذلك أرياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم، ثم مسروق، الذي قتله وهرز.(1/113)
قال: وسبب ملك الحبشة لليمن أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأصنام، وكان في قرية من قراها قريبة من نجران - ونجران القرية العظمى التي إليها جماع تلك البلاد - ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها ميمون الراهب، ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث إليه الثامر ابنه عبد الله بن الثامر مع غلمان أهل نجران، فكان عبد الله إذا مر بصاحب الخيمة، أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم ووحد الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم، وكان يعلمه فكتمه إياه، وقال: يا بن أخي، إنك إن تحمله أخشى ضعفك عنه. والثامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر؛ كما يختلف إليه الغلمان، فلما رأى عبد الله أن ميمون قد ضن بالاسم الأعظم عليه، وتخوف ضعفه عنه، عمد إلى قداحه فجمعها ثم لم يبق لله اسماً يعلمه إلا كتبه حتى كتبها في القداح لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أوقد لها ناراً ثم جعل يقذفها فيها قدحاً قدحاً حتى إذا مر بالاسم الأعظم، قذف فيها بقدحه، فوثب القدح من النار حتى خرج منها لم تضره النار شيئاً، فأخذه ثم أتى به صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي كتمه عنه، فقال له: ما هو؟ قال: هو كذا وكذا، قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع، فقال: أي ابن أخي، قد أصبته، فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل، فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحداً به ضراء إلا قال: يا عبد الله أتوحد الله، وتدخل في ديني، وأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم ويدعو له فيشفى، حتى لم يبق بنجران أحد به ضراء إلا أتاه فاتبعه على أمره فدعا له فعوفي، فرفع أمره إلى ملك نجران فقال له: أفسدت علي أهل مدينتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك، فقال عبد الله: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح من رأسه فيقع على الأرض ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه نجران - بحور لا يقع فيا شيء إلا هلك - فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه ذلك، قال له عبد الله بن الثامر: إنك لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به، فإن فعلت ذلك استطعت ذلك، فسلطت علي فتقتلني، قال: فوحد الله ذلك الملك، وشهد شهادة عبد الله بن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده، فشجه شجة غير كبيرة، فقتله وهلك الملك مكانه.
واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى - عليه الصلاة والسلام - من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هناك كان أصل النصرانية بنجران، هذا حديث محمد بن كعب القرظي برواية محمد بن إسحاق عنه، والله أعلم.
وقال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل نجران، عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم؛ أنه حدث أن رجلاً من أهل نجران في زمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حفر خربة من خرائب نجران ليقضي حاجته؛ فوجد عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعداً واضعاً يده على ضربة في رأسه ممسكاً عليها بيده، فإذا تأخرت يداه عنها انبعث دماً، وإذا أرسلت يداه ردهما عليه، فأمسك دمه، وفي يده خاتم مكتوب فيه: ربي الله؛ فكتب إلى عمر - رضي الله عنه - يخبره، فكتب إليهم عمر أن أقروه على حاله، وردوا عليه الدفن الذي كان عليه، ففعلوا.(1/114)
وفي أنوار التنزيل: روى أن ملكاً كان له ساحر، فضم إليه غلاماً ليعلمه السحر، وكان في طريق الغلام راهب، فسمع الغلام من الراهب، ومال قلبه إليه، فرأى الغلام ذات يوم في طريقه حية قد حبست الناس، فأخذ حجراً، وقال: اللهم، إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها، فقتلها بالحجر، فكان الغلام بعد ذلك يبرئ الأكمه والأبرص، ويشفى من البلاء، وعمى جليس الملك، فأبرأه، فسأله الملك عمن أبرأه، فقال: ربي، فغضب فعذبه، فدل الغلام على الراهب، فلم يرجع الراهب عن دينه، فقد بالمنشار، وأبى الغلام الرجوع عن دينه، فأرسل به إلى جبل ليطرحه من ذروته، فرجف بالقوم، فهلكوا ونجا، فأجلسه في سفينة ليغرق، وقال في المدرك: فذهب به إلى قرقور، فلججوا به ليغرقوه، فدعا، فانكفأت السفينة بمن معه، فغرقوا ونجا، فقال للملك: لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد، وتصلبني على جذع نخلة، وتأخذ سهماً من كنانتي، وتقول: باسم رب الغلام، ثم ترميني به، فرماه فوقع السهم في صدغه، فأمسك بيده عليه فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر، فأمر بأخاديد أوقدت فيها النيران، فمن لم يرجع عنهم عن دينه، طرحه فيها، حتى جاءت امرأة معها صبي رضيع، فتقاعست، فقال الصبي: يا أماه، قفي ولا تقاعسي؛ فإنك على الحق. فألقى الصبي وأمه في النار.
وفي سيرة ابن هشام: لما تنصر أهل نجران، سار إليهم ذو نواس اليهودي، فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل، فخدد لهم الأخدود، فحرق بالنار، وقتل بالسيف، ومثل بهم حتى قتل منهم قريباً من عشرين ألفاً، ففي ذي نواس وجنوده أنزل الله تبارك وتعالى قوله: " قُتِلَ أَصْحَب الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ... " الآيات البروج.
قلت: سمعت من إملاء شيخنا العلامة، الذي لم يحتج لبيان فضله إلى علامة، مولانا الشيخ محمد بن علاء الدين البابلي نظماً عزاه للعلامة السيوطي فيعد من تكلم في المهد، فبلغ بهم عشرة أنفس هو قوله: من الطويل
تكلّم في المهد النّبي محمّدٌ ... ويحيى وعيسى والخليل المكرّم
ومبري جريج ثمّ شاهد يوسفٍ ... وطفلٌ لدى الأُخدود يرويه مسلم
وطفلٌ عليه مرّ بالأمة الّتي ... يقال لها تزني ولا تتكلّم
وماشطةٌ في عهد فرعون طفلها ... وفي زمن الهادي المبارك يختم
وبعضهم زاد مريم - عليها السلام - ولم يثبت.
وقول: المبارك يريد الصحابي المشهور والد عبد الله بن المبارك التابعي المشهور. انتهى.
قال ابن إسحاق: وأفلت منهم بعد وقوع التحريق رجل يقال له: ذو ثعلبان، على فرس له، فسلك الرميل، فأعجزهم، فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر، فاستنصره على ذي نواس المحرق لهم صاحب الأخدود وجنوده، وأخبره بما بلغ منهم، فقال له: بعدت بلادك، ولكني أكتب لك إلى ملك الحبشة؛ فإنه على هذا الدين - يعني النصرانية - وهو أقرب إلى بلادك.
فكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأر قومه، فقدم ذو ثعلبان على النجاشي بكتاب قيصر، فبعث معه سبعين ألفاً من الحبشة، وأمر عليهم رجلاً منهم يقال له: أرياط، ومعه في جنده أبرهة الأشرم، فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن، ومعه ذو ثعلبان، وسار ذو نواس الحميري في حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن، فلما التقوا، انهزم ذو نواس وأصحابه، فلما رأى ذو نواس وأصحابه ما نزل به وبقومه، وجه فرسه في البحر، ثم ضربه، فدخل وخاض به ضحضاح البحر حتى أفضى به إلى غمرة، فأدخله فيها، فكان آخر العهد به.(1/115)
ودخل أرياط اليمن، فملكها، وأقام سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي الذي كان من جملة جيشه، فتفرقت الحبشة بينهما، فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم، ثم سار أحدهما على الآخر، فلما تقارب الناس، أرسل أبرهة إلى أرياط: إنك لا تصنع إلا أن تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئاً بعد شيء، فابرز إلي وأبرز إليك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده. فأرسل إليه أرياط يقول: أنصفت، فخرج إليه أبرهة، وكان رجلاً حكيماً قصيراً - وكان على دين النصرانية - وخرج إليه أرياط، وكان رجلاً جميلاً طويلاً وفي يده حربة له، وخلف أبرهة غلام له يقال له: عيودة يمنع ظهره، فرفع أرياط الحربة، فضرب بها أبرهة يريد يافوخه، فوقعت على جبهة أبرهة، فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته، فلذلك سمى أبرهة الأشرم، وحمل عيودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله، فانصرف جند أرياط إلى أبرهة، فاجتمعت عليه الحبشة باليمن.
فلما بلغ ذلك النجاشي غضب غضباً شديداً، وقال: عدا على أميري، فقتله من غير أمري، ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته، فلما بلغ ذلك أبرهة، حلق رأسه وملأ جراباً من تراب اليمن، ثم بعثه إلى النجاشي، وكتب معه: أيها الملك، إنما كان أرياط عبدك، وأنا عبدك، اختلفنا في أمرك وكل طاعة لك، إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط لها وأسوس منه، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك، وبعثت إليه بجراب من تراب أرضي؛ ليضعه تحت قدميه، فيبر قسمه في. فلما انتهى ذلك إلى النجاشي، رضي عنه، وكتب إليه أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري. فأقام أبرهة باليمن حتى كان ولد ولده أبرهة الذي قصد إلى تخريب الكعبة، فإن أبرهة المذكور جد أبرهة الآتي لتخريب الكعبة، فأصابه ما أصابه مما تقدم ذكره.
ولما استقر سيف بن ذي يزن الحميري باليمن بعد أن دخلها صحبة وهرز الذي أنفذه معه كسرى، وقتل أبرهة الآتي لتخريب الكعبة، واستقر في تخت ملكه، ونزل بقصر غمدان في صنعاء اليمن - أتته وفود العرب من كل صوب للتهنئة، فكان من أعظمهم عبد المطلب في جماعة من وجوه قومه، وكان خروج عبد المطلب ومن صحبه إلى سيف ذي يزن في السنة السادسة من مولده - عليه الصلاة والسلام - قاله ابن الأثير في نهايته، فبشره بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسله.
وذكر العلامة ابن الجوزي في المنتظم في أخبار الأمم العرب والعجم، حديث قدوم سيف بني ذي يزن الحميري فقال: لما ظهر جد سيف على الحبشة، وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسنين، أتته وفود العرب ووجوهها وأشرافها وشعراؤها للتهنئة، ثم أتته وفود قريش فيهم عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وقصي بن عبد الدار بن قصي، وسيف في صنعاء في رأس قصر له يقال له: غمدان.
وغمدان هو القائل فيه أمية بن أبي الصلت الثقفي يمدح سيف بن ذي يزن المذكور قوله: من البسيط
لا يطلب الثّأر إلاّ كابن ذي يزنٍ ... تيمّم البحر للأعداء أحوالا
أتى هرقلاً وقد ساءت إجابته ... فلم يجد عنده النّصر الذي سالا
ثمّ انثنى عند كسرى بعد تاسعةً ... من السّنين يهين النّفس والمالا
حتّى أتى ببني الأحرار يحملهم ... تخالهم فوق متن الأرض أجبالا
للّه درّهم من فتيةٍ صبرٍ ... ما إن رأيت لهم في النّاس أمثالا
أرسلت أُسداً على وسد الكلاب فقد ... أضحى شديدهم في البأس فلاّلا
فاشرب هنيئاً فقد شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا
هذي المكارم لا قعبان من لبنٍ ... شيبا بماءٍ فعادا بعد أبوالا
هذي المكارم لا ثوبان من عدنٍ ... خيطا زماناً فعادا بعد أسمالا(1/116)
أقول: قوله: شالت نعامتهم هو كناية في كلام العرب عن تفرق القوم وتبددهم وذهابهم قتلاً أو موتاً أو غيرهما، والأصل فيه استعماله لتفرقهم بالارتحال خاصة عن منهلهم المورود لهم في محلتهم، فإذا ارتحلوا يقال: شالت نعامتهم، أي: ارتفعت بكرتهم عن النعامة، وهي الخشبة المعترضة على شفير البئر على الزرنوقين، وهما المسميان اليوم قرني البئر، فما دام الحي مجتمعين تكون نعامتهم تلك على منهلهم يستقون بها الماء، فإذا ارتحلوا، رفعوا النعامة فنقلوها إلى منهل آخر؛ فيكون شولها - أي: ارتفاعها - كناية عن رحيلهم، ثم توسع فيه بما ذكر.
وفي القاموس: غمدان - كعثمان - : قصر باليمن بناه يشرخ بن الحارث بن صيفي بن سبأ بن كهلان جد بلقيس - بأربعة وجوه أحمر وأصفر وأبيض وأخضر، وبنى داخله قصراً بسبعة سقوف بين كل سقفين أربعون ذراعاً انتهى.
فلما وصلوا إليه إذا هو متضمخ بالعنبر ينطف ويبص المسك في مفرق رأسه، وعليه رداءان أخضران متزر بأحدهما مرتد بالآخر، عن يمينه وشماله الملوك وأبناء الملوك والأقيال، فأخبر بمكانهم فأذن لهم فدخلوا عليه، فدنا عبد المطلب واستأذنه في الكلام، فقال له: إن كنت ممن يتكلم بين أيدي الملوك فتكلم. فقال: إن الله عز وجل أحلك أيها الملك محلاً رفيعاً، باذخاً شامخاً منيعاً، وأنبتك نباتاً طابت أرومته، وعظمت جرثومته، وثبت أصله وبسق فرعه، في أطيب موطن، وأكرم معدن، وأنت - أبيت اللعن - ملك العرب ونابها، وربيعها الذي به تخصب، ورئيسها الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا منه خير خلف، فلن يهلك من أنت خلفه، ول يمد ذكر من سلفك سلفه، أقدمنا الذي أفرحنا، فنحن وفد التهنئة، لا وفد الترزئة.
فقال له الملك: من أنت أيها المتكلم؟ فقال: أنا عبد المطلب بن هاشم، قال: ابن أختنا؟ قال: نعم.
قلت: قول سيف: ابن أختنا يشير به إلى أن عبد المطلب أمه سلمى بنت عمرو من بني النجار، وهم يرجعون إلى حمير.(1/117)
ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: مرحباً وأهلاً، وناقة ورحلاً، فأرسلها مثلاً، وكان أول من تكلم بها: ومناخاً سهلاً، وملكاً ربحلاً، يعطى عطاءً جزلاً، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف مكانتكم، وقبل وسيلتكم، فأنتم أهل الليل والنهار، لكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم، وانهضوا إلى دار الضيافة والفود، فنهضوا، وأجرى عليهم الأنزال، فأقاموا كذلك شهراً لا يصلون إليه، ولا يؤذن لهم بالانصراف، ثم إن الملك انتبه لهم انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب، فأدناه، ثم قال له: يا عبد المطلب، إني مفض إليك من سر علمي أمراً لو غيرك يكون لم أبح له به، ولكن رأيتك موضعه، فأطلعتك طلعه، فليكن عندك مطوياً حتى يأذن الله - عز وجل - فيه إني أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون، الذي أخذناه لأنفسنا، واحتجبناه دون غيرنا، خبراً عظيماً، وخطراً جسيماً، فيه شرف الحياة، وفضيلة الممات، للناس كافة، ولرهطك كافة، ولك خاصة، فقال عبد المطلب: لقد أتيت بخبر أيها الملك، ما سر بمثله وافد قوم، ولولا هيبة الملك وإجلاله لسألته عن بشارته إياه ما أزداد به سروراً، فقال الملك: هذا حين الذي يولد فيه ولد اسمه محمد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، والله عز وجل باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً، يعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداء، ويضرب بهم الناس عن عرضن ويستبيح بهم كرائم أهل الأرض، تخمد به النيران، ويعبد به الرحمن، ويدحر به الشيطان، وتكسر به الأوثان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهي عن المنكر ويبطله، فقال له عبد المطلب: عز جارك، ودام ملكك، وعلا كعبك، فهل الملك مفصح عنه مزيد إفصاح، فقد وضح بعض الاتضاح، فقال له سيف: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك، فهل أحسست بشيء مما ذكرته لك؟ قال: نعم أيها الملك، كان لي ابن وكنت به معجباً، وعليه رفيقاً، وبه شفيقاً، وإني زوجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت منه بغلام سميته محمداً، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه، فقال له الملك: إن الذي قلت لك كما قلت، فاحفظ ابنك، واحذر عليه من اليهود؛ فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة في أن تكون لك الرياسة، فينصبون لك الحبائل، ويبتغون لك الغوائل، وهم فاعلون ذلك وأبناؤهم من غير شك، ولولا ني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت إليه بخيلي ورجلي حتى أجعل يثرب دار ملكي؛ فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق: أن يثرب دار استحكام أمره، وأهل نصرته وموضع قبره، ولولا أني أقيه الآفات وأحذر عليه العاهات، لأعليت على حداثة سنه أمره، ولأوطأت أسنان العرب كعبه، ولكن صار إليك ذلك ممن معك.
ثم دعا بالقوم فدخلوا، فأمر لكل منهم بعشرة أعبد، وعشرة إماء، وحلتين من حلل البرود، وخمسة أرطال من الذهب، وعشرة أرطال من الفضة، وكرش مملوء عنبراً، ومائة من الإبل، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: إذا جاء الحول، فائتني بما يكون منه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فمات سيف قبل أن يحول عليه الحول، هذا حديث مشهور، ومن أولاد سيف بحمص وعقبهم بها. انتهى.
ولما انصرف عبد الله مع أبيه من نحر الإبل، مر على امرأة من بني أسد بن عبد العزى، واسمها قيلة بنت نوفل - وقيل: رقية - وهي أخت ورقة بن نوفل، وذكر البرقي، عن هشام بن الكلبي؛ أن اسمها: فاطمة بنت مر الخثعمية، كانت من أجمل النساء، وكانت قرأت الكتب فرأت النور في وجهه، وكان عبد الله أحسن رجل رئي في قريش، فقالت له: هل لك في أن تقع علي ولك مثل الإبل التي نحرت عنك؟ فقال لها: أنا مع أبي، ولا أستطيع خلافه، ثم قال لها: من الرجز
أمّا الحرام فالممات دونه ... والحلّ لا حلّ فأستبينه
فكيف بالأمر الّذي تنوينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه(1/118)
ثم مضى به أبوه حتى أتى وهب بن عبد مناف وهو يومئذ سيد بني زهرة نسباً وشرفاً، فزوجه ابنته آمنة، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً، فزعموا أنه دخل عليها حين ملكها مكانه، فوقع عليها يوم الاثنين من أيام منى في شعب أبي طالب، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج من عندها، فأتى المرأة، فقال لها: هل لك فيما قلت بالأمس جلاً؟ قالت: كان ذلك بالأمس، وأما اليوم فلا، فقالت: إني امرأة والله لست بصاحبة ريبة، وإنما رأيت النور الذي كان معك بالأمس، فأردت أن يكون فيّ، فأبى الله أن يجعل إلا حيث شاء إلا حيث شاء، إلا حيث شاء.
فهو محمد رسول الله، ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن نبت - أو نابت - بن إسماعيل بن إبراهيم - هذا على قول من قال: إن عمود النسب المحمدي من نبت أو نابت.
وقال غيره: إن عمود النسب المحمدي قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم؛ وهو الذي رجحه السهيلي؛ كما تقدم - : ابن تارح بن ناحور بن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر ابن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك - أو لامك - ابن متوشلخ بن أخنوخ - أو خنوخ - ابن يرد - أو يارد - ابن مهيائيل - أو مهلائيل - ابن قينان - أو قاين - ابن أنوش بن شيث بن آدم صلوات الله وسلامه عليه.
انتهى المقصد الأول
المقصد الثاني
في بيان أحواله عليه الصلاة والسلام
وفيه سبعة أبواب:
الباب الأول: في الحمل به، وولادته، ورضاعه، وموت عمه أبي طالب، وزوجته السيدة خديجة، وخروجه للطائف.
الباب الثاني: في ذكر هجرته الشريفة، إلى المدينة الشريفة.
الباب الثالث: في ذكر أعمامه وعماته.
الباب الرابع: في ذكر أزواجه.
الباب الخامس: في ذكر أولاده، عليه الصلاة والسلام.
الباب السادس: في ذكر مواليه، وخدامه، وإمائه، وكتابه، وأمرائه، ومؤذنيه، وخطبائه، وحداته، وشعرائه، وخيله، وسلاحه، وغنمه، ولقاحه، وما يتبع ذلك.
الباب السابع: في الحوادث من أول سني الهجرة إلى وفاته، عليه الصلاة والسلام.
فنقول؛ متوكلين على الله مستمدين من الرسول - :
الباب الأول من المقصد الثاني
في الحمل به، وولادته، ورضاعه
وموت خديجة، وأبي طالب، وخروجه إلى الطائف
لما أذن الله تبارك وتعالى للنور المحمدي، والشخص الأحمدي، أن ينتقل من عبد الله بن عبد المطلب، إلى آمنة بنت وهب، وقد اندرس في الوجود أعلام الإيمان والإسلام، وفشا فيه مجاهل الظلم والإظلام، ونبذ الناس الطاعة وكشفوا بالمحارم عن وجه الحياء قناعه - كان انتقال النور الصمدي، بالذر المحمدي، فكان الحمل به ليلة الجمعة في شعب أبي طالب.
وفي سيرة اليعمري: حملت به آمنة في أيام التشريق عند الجمرة الوسطى.
وكان سن عبد الله إذ ذاك ثلاثين سنة، ولما حملت به، أمر الله تعالى خازن الجنان أن يفتح أبوابها تعظيماً لنور محمد صلى الله عليه وسلم، وهبط جبريل بلوائه الأخضر، فنصبه على ظهر الكعبة.
قال في المواهب: واختلف في مدة الحمل به؛ فقيل: تسعة أشهر، وقيل: عشرة، وقيل: ثمانية، وقيل سبعة، وقيل: ستة.
ولما تم من حمله شهران - وفي سيرة مغلطاي: قبل ولادته بشهرين - توفي أبوه عبد الله، وقيل: إنما توفي حين كان النبي صلى الله عليه وسلم في المهد؛ قاله الدولابي؛ والأرجح المشهور هو الأول.
وذكر أهل السيرة أن آمنة لم تحمل حملاً ولا ولداً غيره، وكذا أبوه عبد الله لم يولد له ولد غيره - عليه الصلاة والسلام - ولذلك لم يكن له أخ ولا أخت؛ لكن كان له ذلك من الرضاعة، وأما قول بني زهرة: نحن أخوال النبي صلى الله عليه وسلم فلكون أمه آمنة منهم.(1/119)
وفي الصفوة: قال محمد بن كعب: خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام في تجارة مع جماعة من قريش، فلما رجعوا، مروا بالمدينة، وعبد الله كان مريضاً، فتخلف بالمدينة عند أخوال أبيه بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضاً شهراً، ومضى أصحابه وقدموا مكة وأخبروا عبد المطلب، فبعث إليه ولده الحارث والزبير - على قول ابن الأثير - فوجدوه قد توفي - ودفن بدار النابغة، وهو رجل من بني عدي بن النجار، فرجع الحارث، فأخبر أباه، فوجد عليه وجداً شديداً، وتوفي وعمره خمس وعشرون سنة.
وقيل غير ذلك؛ إذ قد تقدم عن سيرة اليعمري: أن سنه حال التزوج ثلاثون سنة.
وترك عبد الله أم أيمن جارية حبشية اسمها بركة، فورثها - صلى الله عليه وسلم وأعتقها يوم تزوجه بخديجة، هاجرت فأصابها عطش في طريقها، فدليت إليها دلو من السماء، فشربت ورويت، فما أصابها عطش بعد ذلك، فكانت تتعمد الصوم في أيام شدة الصيف؛ لتظمأ فما تظمأ. وحضرت يوم حنين، فكانت تمشي بين صفوف المسلمين قائلة: سبت الله أقدامكم تريد الدعاء لهم بتثبيت الأقدام، فقال لها - عليه الصلاة والسلام - : اسكتي يا أم أيمن، فإنك عسراء اللسان؛ قاله الذهبي زوجها النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد، وماتت في خلافة عثمان.
وخلف - أيضاً - خمسة أجمال، وقطعة من النم، وكانت أم أيمن المذكورة محصنة.
واختلف في عام ولادته: فالأكثرون: أنها عام الفيل؛ وبه قال ابن عباس، ومن العلماء من حكى الاتفاق عليه: قال العلامة ابن الجوزي في التلقيح: اتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين في شهر ربيع الأول عام الفيل، واختلفوا فيما مضى من ذلك الشهر على أربعة أقوال: أحدها: ولد لاثني عشر ليلة خلت منه.
والثاني: لليلتين.
والثالث: لثمان، وهو قول المحدثين كلهم أو جلهم.
الرابع: لعشر خلون منه.
وفي المواهب: ولد بعد الفيل بخمسين يوماً، وهلك أصحاب الفيل لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم، وكان أول المحرم تلك السنة بالجمعة، وذلك في عهد كسرى أنوشروان لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملكه، وعاش بعد مولده صلى الله عليه وسلم سبع سنين، وثمانية أشهر؛ فكان ملكه تسعاً وأربعين سنة وثمانية أشهر، وقال فيه - عليه الصلاة والسلام - : ولدت في زمن الملك العادل كسرى أنوشروان؛ كذا قاله ابن الأثير في أسد الغابة.
واختلف في مكانه ولادته - عليه الصلاة والسلام - فقيل: ولد بمكة في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج.
وقيل: بالشعب.
وقيل: بالردم.
وقيل: بعسفان.
والمشهور: أنه ولد في الدار التي تعرف بدار محمد بن يوسف الثقفي، بزقاق معروف: بزقاق المولد في شعب مشهور: بشعب بني هاشم، من الطرف الشرقي لمكة، تزار ويتبرك بها الآن.
قال الإمام أبو القاسم السهيلي: ذكر ابن مخلد في تفسيره: أن إبليس - لعنه الله تعالى - رن أربع رنات: حين لعن، وحين أهبط، وحين ولد النبي صلى الله عليه وسلم وحين أنزلت فاتحة الكتاب.
وفي الكشاف، وأنوار التنزيل: الفترة بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - ستمائة أو خمسمائة وتسع وستون سنة، وبينهما أربعة أنبياء: ثلاثة من بني إسرائيل، وواحد من العرب، وهو خالد بن سنان العبسي، ثم قال: أما خالد بن سنان، فروى أنه كان في زمن كسرى أنوشروان، وأنه كان يدعو الناس إلى دين عيسى، وكان بأرض بني عبس، وأطفأ النار التي كانت تخرج من بئر هناك، وتحرق من لقيته من عابر السبيل وغيرهم.
قال في مروج الذهب: ظهرت في العرب نار، فكادوا بها يفتتنون، وسالت سيلاً، فأخذ خالد هراوته ودخل فيها، وهو يقول: بدا بدا، كل هذا مؤد إلى الله الأعلى، لأدخلنها وهي نار تلظى، ولأخرجن منها وثيابي تندى، فأطفأها، ولما حضرته الوفاة قال لإخوته: إذا دفنت، فستجيء عانة من حمير، يقدمها عير أبتر، فيضرب قبري بحافره، فإذا رأيتم ذلك فانبشوا عني، فإني أخرج وأخبركم بجميع ما يكون وما هو كائن. فلما مات ودفن، رأوا ما قال، وأرادوا أن يحفروا عنه، فكره ذلك بعضهم وقالوا: نخاف السبة. وأتت ابنته رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقرأ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " الإخلاص فقالت: كان أبي يقولها.(1/120)
وجرجيس أدرك بعض حواري عيسى - عليه السلام - أرسل إلى بعض ملوك الموصل بدعوة فقتله، فأحياه الله، ففعل به ذلك مراراً، فأمر بنشره أجزاء وإحراقه وإذرائه في دجلة، فأهلكه الله وجميع أهل مملكه؛ كما وردت به الأخبار عن أهل الكتاب ممن آن؛ ذكر ذلك وهب بن منبه.
وفي كتاب الابتداء والسير: وحبيب النجار بأنطاكية من أرض الشام، وبها ملك متجبر بعد التماثيل والصور، فصار إليه اثنان من تلاميذ عيسى، دعواه، فحبسهما وضربهما، فعززا بثالث شمعون الصفا؛ كما أخبر عنهم تعالى بقوله: " إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا... " الآية يس ومنهم: حنظلة بن صفوان نبي بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - أرسل إلى أصحاب الرس، قوم ابتلاهم الله تعالى بطير عظيم لها عنق طويل من أحسن الطيور، كان فيها من كل لون فسميت: العنقاء؛ لطول عنقها، ولأنها تغرب بكل ما خطفته، فانقضت على جارية وضمتها بين جناحين لها صغيرين غير الجناحين الكبيرين، ثم ذهبت بها، فضربتها العرب مثلاً، فقالوا: طارت به عنقاء مغرب، فشكوا ذلك إلى نبيهم حنظلة بن صفوان، فدعا عليهما، فأصابتها الصاعقة فأهلكتها.
ثم إنهم قتلوا نبيهم حنظلة، لما قدم يدعوهم إلى الله تعالى، فأوحى الله تعالى إلى نبي من الأسباط يأمر بخت نصر أن يسير إليهم، فأتى عليهم، فذلك قوله تعالى: " فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا إِذَا هُم مِنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَكِنِكُمْ لَعَلَكُمْ تُسْئَلُونَ قَالُواْ يَوَيْلَنَا إِنَا كُنَّا ظَلِمِينَ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَتهُمْ حَتَّى جَعَلْنَهُمْ حَصِيداً خَمِدِينَ " الأنبياء.
ومن أصحاب الفترة: أسعد بن كرب الحميري، كان مؤمناً بالنبي قبل مبعثه بسبعمائة سنة فقال: من المتقارب
شهدتّ على أحمدٍ أنّه ... رسولٌ من الله باري النّسم
فلو مدّ عمري إلى عمره ... لكنت وزيراً له وابن عم
وهو أول من كسا الكعبة الأنطاع والبرود.
ومنهم: قس بن ساعدة الإيادي، وكان حكيم العرب، قال الأعشى: من الطويل
وأحكم من قسٍّ وأجرا من الّذي ... لدى الفيل من خفان أصبح جاذرا
قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد من إياد، وسألهم عنه، فقالوا: هلك، فقال: رحمه الله، كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل أحمر، وهو يقول: يأيها الناس، اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، أما بعد: فإن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبراً، نجوم تمور، وبحار لا تغور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، أقسم الله قس بن ساعدة قسماً حقا، لئن كان في الأمر رضا ليكونن بعده سخط إن لله ديناً هو أرضى من دين أنتم عليه، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا، أم نزلوا فناموا؟! سبيل مؤتلف، وعمل مختلف. وقال أبياتاً لا أحفظها، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : أنا أحفظها يا رسول الله، فقال: هاتها، فقال: من مجزوء الكامل
في السّابقين الأوّلي ... ن من القرون لنا بصائر
لمّا رأيت موارداً ... للقوم ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأوائل والأواخر
لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله قساً، إني لأرجو أن يعبث أمة وحده.(1/121)
ومنهم: أصحاب الأخدود في مدينة نجران باليمن في ملك ذي نواس القاتل الذي شاتر، وكان على دين اليهود، فبلغه أن قوماً بنجران على دين المسيح بن مريم، فسار إليهم واحتفروا الأخدود؛ كما ذكرهم الله تعالى بقوله: " قُتِلَ أَصْحَبُ الأُخْدُودِ " البروج وأتى بامرأة معها طفل، فتقهقرت عن النار عند الأخدود، فتكلم طفلها، وقال: يا أماه، قفي ولا تقاعسي؛ فإنك على الحق، وهم على دين النصرانية في ذلك الوقت مؤمنين موحدين، فمضى منهم رجل، يقال له: ذو ثعلبان إلى قيصر يستنجده، فكتب له إلى النجاشي؛ لأنه كان أقرب إليهم داراً، فكان من أمر الحبشة وعبورهم إلى أرض اليمن وتغلبهم عليها ما كان، إلى أن كان من أمر سيف بن ذي يزن واستنجاده بكسرى وإمداده له بمن كان في حبسه وأميرهم وهرز، وظفر سيف على الحبشة، ما هو مشهور.
ومنهم أمية بن أبي الصلت الثقفي، كان يتجر إلى الشام، فلقي أهل الكتابين وأخبروه أن نبياً يبعث في العرب، فلما بلغه ظهوره - عليه الصلاة والسلام - اغتاظ وتأسف، ثم أتى المدينة يسلم، فرده الحسد، فرجع إلى الطائف، فبينما هو يشرب مع فتية إذ صاح غراب ثلاثة أصوات وطار، فقال: أتدرون ما قال؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول: إن أمية لا يشرب الكأس الثالثة حتى يموت، فقالوا: لتكذبن، وقالوا: احسوا كأسكم، فلما انتهت إليه أغمى عليه فسكت طويلاً، ثم أفاق يقول: لبيكما لبيكما، هأنذا لديكما، ثم أنشأ يقول: من الخفيف
إنّ يوم الحساب يومٌ عظيمٌ ... شاب فيه الصّغير يوماً طويلا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رءوس الجبال أرعى الوعولا
كلّ عيشٍ وإن تطاول دهراً ... صائرٌ مرّةٌ إلى أن يزولا
ثم شهق شهقة، فكانت فيها نفسه.
وقد ذكر العلماء بأمثال العرب وأخبار من سلف: أن السبب في كتابة قريش واستفتاحها بقولهم: باسمك اللهم هو أن أمية بن أبي الصلت خرج إلى الشام في نفر من ثقيف وقريش وغيرهم، فلما قفلوا راجعين، نزلوا منزلاً واجتمعوا لعشائهم؛ إذ أقبلت حية صغيرة حتى دنت منهم، فحصبها بعضهم في وجهها، فرجعت عن سفرتهم، وقاموا إلى إبلهم وارتحلوا من منزلهم، فلما برزوا من المنزل، أشرفت عليهم عجوز من كثيب رمل متوكئة على عصا لها، فقالت: ما منعكم أن تطعموا رحيمة الجارية اليتيمة التي جاءتكم عشية؟ قالوا: وما أنت؟ قالت: أم العوام، أيمت منذ أعوام، أما ورب العباد لتفرقن في البلاد، ثم ضربت بعصاها في الأرض، فأثارت الرمل، ثم قالت: أطيلي إيابهم، ونفري ركابهم، فنفرت الإبل كأن على كل ذروة بعير شيطاناً، ما نملك منها شيئاً حتى افترقت في الوادي، فجمعناها من آخر النهار إلى غد ولم نكد، فلما أنخنا لنركب، طلعت العجوز، فعادت بالعصر لفعلها الأول، وعادت لمقالتها: ما منعكم أن تطعموا؟! إلى آخر ما قالته أولاً، فتفرقت الإبل، فجمعناها من بكرة النهر إلى العشاء ولم نكد، فلما أنخنا لنركب، طلعت وفعلت مثل فعلها الأول والثاني فنفرت الإبل، فأمسينا في ليلة مقمرة ويئسنا من ظهرنا، فقال بعض القوم لأمية بن أبي الصلت: أين ما كنت تخبرنا به عن نفسك؟! فتوجه إلى ذلك الكثيب الذي أتت منه العجوز حتى هبط من ناحية أخرى، ثم صعد كثيباً آخر حتى هبط منه، ثم رفعت له كنيسة فيها قناديل، وإذا رجل على بابها معترض أبيض الرأس واللحية، قال أمية: فلما وقفت عليه، قال - بعد أن رفع رأسه إلى - : إنه لمتبوع؟ قلت: أجل، قال: ما حاجتك؟ فحدثه حديث العجوز وفعلها، فقال: صدقت وليست بصادقة، هي امرأة يهودية، هلك زوجها منذ أعوام، وإنها لم تزل تصنع بكم ذلك حتى تهلككم إن استطاعت، قال أمية: فما الحيلة؟ قال: أجمعوا ظهركم، فإذا جاءت وفعلت ما كانت تفعله، فقولوا لها سبعاً فوق، وسبعاً أسفل: باسمك اللهم؛ فإنها لن تضركم شيئاً، فرجع أمية إلى أصحابه، فأخبرهم بما قال له، فجاءت ففعلت كما كانت تفعل، فقالوا لها ما قال الرجل، فلم تضرهم، فلما رأت الإبل، قالت: عرفت صاحبكم، ليبيض أعلاه وليسود أسفله، فلما أدركهم الصبح، نظروا إلى أمية قد ابيض في عذاريه وفي رقبته وصدره، واسود أسفله، فلما قدموا مكة، ذكروا هذا الحديث، فكان أول ما كتب أهل مكة: باسمك اللهم، واستمروا كذلك إلى أن جاء الإسلام، فرفع ذلك وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم انتهى. ذكر ذلك المسعودي في مروج الذهب.(1/122)
وفي صحيح البخاري: عن سلمان الفارسي؛ أنه قال: فترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة، ومن إبراهيم إلى نوح ألفا سنة وستمائة وأربعون سنة، ومن نوح إلى آدم ألف سنة.
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صار ابن شهرين، كان يتزحلق مع الصبيان في كل جانب، وفي ثلاثة أشهر كان يقوم على قدميه، وفي أربعة أشهر كان يسمك الجدار ويمشي، وفي خمسة أشهر حصل له قدرة على المشي، ولما تم له ستة أشهر، كان يسرع في المشي، وفي سبعة أشهر كان يسعى ويعدو إلى كل جانب، ولما مضى عليه ثمانية أشهر، كان يتكلم بحيث يفهم كلامه، وفي تسعة أشهر تكلم بكلام فصيح، وفي عشرة أشهر كان يرمي السهام؛ كذا في شواهد النبوة.
قال في المواهب: وخرج أبو نعيم، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان من دلالة حمل آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة، وقالت: حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة، وهو إمام الدنيا وسراج أهلها، ولم يبق سري لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوساً، ومرت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار بشر بعضها بعضاً، وله في كل شهر من شهور حمله نداء في الأرض، ونداء في السماء؛ أن أبشروا فقد آن أن يظهر أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم ميموناً مباركاً.
ولما تم من حملها شهران، توفي عبد الله؛ كما تقدم ذكره.
وقالت آمنة ترثي عبد الله والده عليه الصلاة والسلام: من الطويل
عفى جانب البطحاء من ابن هاشمٍ ... وجاور لحداً خارجاً في الغماغم
دعته المنايا دعوةً فأجابها ... وما تركت في النّاس مثل ابن هاشم
عشيّة راحوا يحملون سريره ... تعاوره أصحابه في التّزاحم
فإن تك غالته المنايا وريبها ... فقد كان معطاءً كثير التّراحم
ومن شعر عبد الله بن عبد المطلب والد نبينا - عليه الصلاة والسلام - نقله الصفدي في ترجمته، وذكره خاتمة الحفاظ الجلال السيوطي في كتابه مسالك الحنفا في حكم إيمان والدي المصطفى قوله: من الطويل
لقد حكم السّارون في كلّ بلدةٍ ... بأنّ لنا فضلاً على سائر الأرض
وأنّ أبى ذو المجد والسّؤدد الّذي ... يسار به ما بين نشزٍ إلى خفض
وجدّي وآباءٌ له أثّلوا العلا ... قديماً بطيب العرض والحسب المحض
قال القطب النهرواني في بعض تذاكره، ومن خطه نقلت: قد ذيل على هذه الأبيات صاحبنا العلامة الشيخ عبد النافع بن محمد بن عراق بيتين على لسان عبد الله ابن عبد المطلب فقال: من الطويل
وقد جاء من صلبي نبيٌّ معظّمٌ ... يشفّعه الرّحمن في موقف العرض
وما لنبيٍّ غيره مثل فخره ... فهل مثل هذا المجد في الطّول والعرض
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : لما توفي عبد الله، قالت الملائكة: إلهنا وسيدنا ومولانا، بقي نبيك يتيماً، فقال الله تعالى: أنا حافظ له ونصير، وقيل لجعفر الصادق: لم يتم النبي صلى الله عليه وسلم من أبويه؟ فقل: لئلا يكون عليه حق لمخلوق؛ نقله عنه أبو حيان في البحر.
وروى أبو نعيم، عن عمرو بن قتيبة؛ قال: سمعت أبي وكان من أوعية العلم، قال: لما حضرت ولادة آمنة، قال الله تعالى تلك السنة لنساء الدنيا: ليحملن ذكوراً كرامةً لمحمد صلى الله عليه وسلم.(1/123)
وعنه: عن ابن عباس قال: كانت آمنة تحدث وتقول: أتاني آتٍ حين مر بي من حملي ستة أشهر في المنام، وقال: يا آمنة، حملت بخير العالمين، فإذا ولدتيه فسميه محمداً، واكتمي شأنك، ثم لما أخذني ما يأخذ النساء، ولم يعلم بي أحد، وإني لوحيدة في المنزل وعبد المطلب في طوافه، فسمعت وجبة عظيمة، ثم رأيت كأن جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي، فذهب عني الروع وكل وجع أجده، ثم التفت فإذا بشربة بيضاء فتناولتها فأصابني نور عال، ثم رأيت نسوة كالنخل طوالاً كأنهن من بنات عبد مناف يحدقن بي، فبينهما أنا أتعجب وأقول: واغوثاه، من أين علمن بي؟ فقلن لي: نحن آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وهؤلاء من الحور العين، فبينما أنا كذلك إذا بديباج أبيض قد مر بين السماء والأرض، وإذا بقائل يقول: خذاه عن أعين الناس، ورأيت رجالاً وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق من فضة، ثم نظرت فإذا أنا بقطعة من الطير قد أقبلت حتى غطت حجرتي، مناقيرها من الزمرد، وأجنحتها من الياقوت، وكشف الله عن بصري، فرأيت مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت ثلاثة أعلام مضروبات: علماً بالمشرق، وعلماً بالمغرب، وعلماً على ظهر الكعبة، فأخذني المخاض، فوضعت محمداً صلى الله عليه وسلم فنظرت إليه فإذا هو ساجد قد رفع إصبعيه إلى السماء كالمتضرع المبتهل، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت حتى غشيته فغيبته عني، فسمعت منادياً: طوفوا به مشارق الأرض ومغاربا، وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته، ويعلموا أنه سمى فيها الماحي، لا يبقى من الشرك شيء إلا محي في زمنه.
قال ابن الجوزي في التلقيح: لا يعرف في العرب من تسمى بمحمد قبله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة، طمع آباؤهم حين سمعوا بذكر محمد صلى الله عليه وسلم وبقرب زمانه، وأن يبعث بالحجاز: أن يكون ولداً لهم: أحدهم محمد بن سفيان بن مجاشع جد الفرزدق الشاعر التميمي، والآخر: محمد بن أحيحة بن الجلاح بن الجريش بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، والآخر: محمد بن حمران بن ربيعة: كان آباء هؤلاء قد وفدوا علم بعض الملوك، وكان عنده علم بالكتاب الأول، فأخبرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم باسمه، وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملاً، فنذر كل واحد منهم إن ولد ل ذكر أن يسميه محمداً، ففعلوا.
فائدة: ذكر الحسين بن محمد الدامغاني في كتابه: شوق العروس، وأنس النفوس؛ نقلاً عن كعب الأحبار؛ أنه قال: اسم النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل الجنة: عبد الكريم، وعند أهل النار: عبد الجبار، وعند أهل العرش: عبد الحميد، وعند الملائكة: عبد المجيد، وعند الأنبياء: عبد الوهاب، وعند الشياطين: عبد القهار، وعند الجن: عبد الرحيم، وفي الجبال: عبد الخالق، وفي البر: عبد القادر، وفي البحر: عبد المهيمن، وعند الحيتان: عبد القدوس، وعند الهوام: عبد الغياث، وعند الوحوش: عبد الرزاق، وعند السباع: عبد السلام، وعند البهائم: عبد المؤمن، وعند الطيور: عبد الغفار، وفي التوراة: مودود، وفي الإنجيل: طاب طاب، وفي الصحف: عاقب، وفي الزبور: فاروق، وعند الله: طه ويس، وعند المؤمنين: محمد صلى الله عليه وسلم.
روى مخزوم بن هانئ المخزومي، عن أبيه، وكان له مائة وخمسون سنة، قال: لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى أنوشروان، فسقطت منه أربع عشرة شرفة، وكانت له اثنتان وعشرون شرفة، وانشق صدعاً ظاهراً، وهذه آية، وبناؤه إلى الآن كذلك.
قلت: أخبرني من رآه فقال: هو - يعني الشق - مستطيل من أعلى الجدار إلى أسفله في كنف الإيوان الأيسر، وسعة فتحة الشق مدخل رجل، وعرض جداره فوق خمسة أذرع كذا أخبرني، وقد سألت غيره فطابق قوله. انتهى.
وخمدت نار فارس، وكان لها أكثر من ألف عام لم تخمد، وهي التي يعبدونها.
وغاضت بحيرة ساوة، وهي بين همذان وقم، وكانت أكثر من ستة فراسخ في الطول والعرض، وكان يعبر فيها بالسفن، وبقيت كذلك ناشفة يابسة على هؤلاء القوم حتى بنيت موضعها مدينة ساوة الباقية اليوم.(1/124)
وأرى الموبذان كأن إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عراباً، حتى عبرت دجلة وانتشرت في بلاد فارس، فلما أصبح، تجلد كسرى وجلس على سرير ملكه، ولبس تاجه، وأرسل إلى الموبذان فقال: يا موبذان، إنه سقطت من إيواني أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، فقال الموبذان، وأنا أيها الملك، رأيت إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عراباً، حتى عبرت دجلة وانتشرت في بلاد فارس، قال كسرى: فما ترى ذلك يا موبذان؟ وكان موبذان أعلمهم، قال: حدث يكون من جانب العرب، فكتب حينئذ: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، ابعث إلي رجلاً من العرب يخبرني عما أسأله عنه، فبعث إليه عبد المسيح بن حيان بن عمرو الغساني، قيل: كان له من العمر قريب من أربعمائة سنة، فقال له كسرى: يا عبد المسيح، هل عندك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ فقال: يسألني الملك، فإن كان عندي منه علم أعلمته، وإلا فأعلمه بمن عنده علم، فأخبره برؤيا الموبذان، فقال: علمه عند خال لي يسكن مشارف الشام، يقال له: سطيح، واسمه: ربيع بن ربيعة بن ماذر بن منصور بن ذئب، كاهن لم يكن مثله في بني آدم، وكان خلقه عجيباً؛ عن ابن عباس: إن الله خلق سطيحاً الغساني كلحم على وضم، ليس له عظم ولا عصب ولا جمجمة والكفين، ولم يتحرك منه إلا لسانه، قيل: لكونه مخلوقاً من ماء امرأتين تساحقتا، ولم يقدر على القيام والقعود، إلا أنه إذا غضب، نفخه الريح، فيجلس لا غير، وكان وجهه في صدره، لم يكن له رأس ولا عنق، وقد علم له سرير من السعف والجريد، فإذا أريد نقله إلى مكان يطوى من رجله إلى ترقوته كما يطوى الثوب، فيوضع على ذلك السرير، فيذهب به إلى حيث يشاء، وإذا أريد تكهنه وإخباره بالمغيبات، يحرك وطب المخيض، فينتفخ ويمتلىء ويعلو النفس فيخبر عن المغيبات، وكان يسكن الجابية، وهي مدينة من مشارف الشام.
وفي حياة الحيوان الكبرى: روى أنه ولد شقيق وسطيح في الليلة التي ماتت فيها طريفة الكاهنة امرأة عمرو بن عامر مزيقيا الآتي ذكرها - إن شاء الله تعالى - في المقصد الرابع، ودعت بسطيح قبل أن تموت، فتفلت في فيه، وأخبرت أنه سيخلفها في علمها وكهانتها، ودعت بشقيق، ففعلت به مثل ذلك ثم ماتت، وقبرها بالجحفة. انتهى.
هذا سطيح، وأما شق: فهو بكسر الشين، كان شق إنسان، له يد واحدة، ورجل واحدة، وعين واحدة، وذكران، من ولده خالد بن عبد الله القسري، عامل بني أمية على مكة.
قيل: كانت ولادة سطيح في أيام سيل العرم، وخرج من مأرب مع رهط من الأزد في أيام تفرق الناس منها، وعاش إلى زمن ولادته - عليه الصلاة والسلام - فكان له من العمر قريب من ستمائة سنة.
وعن وهب بن منبه: سئل سطيح من أين لك علم الكهانة؟ قال: إن لي قريناً من الجن كان قد استمع أخبار السماء في زمان كلم الله موسى في الطور، فيقول لي من ذاك أشياء، وأنا أقولها للناس. انتهى.
فقال كسرى لعبد المسيح: اذهب إلى سطيح واسأله فأخبر بما يخبرك به، فخرج عبد المسيح حتى قدم على سطيح، وهو مشرف على الموت، فأنشد عبد المسيح رجزاً، فلما سمعه سطيح، رفع رأسه إليه، وقال: عبد المسيح، من بلد نزيح، على جمل مسيح، جاء إلى سطيح، وقد وافاه على ضريح، بعثك ملك ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة، فانتشرت في بلاد فارس، يا عبد المسيح، إذا ظهرت التلاوة، وبعث صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوة، وانقطع وادي سماوة، وخمدت نار فارس، لم تكن بابل للفرس مقاماً، ولا الشام لسطيح شاماً، يملك منهم ملوك وملكات، على عدة تلك الشرفات، ثم تكون هنات وهنات، وكل ما هو آت آت، ثم مات.
وفي معجم ما استعجم: السماوة - بكسر السين، وتخفيف الميم - : مفازة بين الكوفة والشام، وقيل: بين الموصل والشام، من أرض كلاب. وقال الأصمعي: السماوة: أرض قليلة العرض، كثيرة الطول، سميت بذلك لعلوها وارتفاعها. انتهى.
فرجع عبد المسيح إلى كسرى، وأخبره بما قال سطيح، فقال كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً كانت أمور، فملك منهم عشرة ملوك في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان، رضي الله عنه.
وروى أن عبد المسيح هذا هو الذي صالح خالد بن الوليد على الحيرة، وكان ذلك المال أول مال ورد على أبي بكر الصديق، رضي الله عنه.(1/125)
ولنذكر غزوة خالد بن الوليد للحيرة ومصالحة أهلها إياه على المال المذكور؛ إذ الكلام يجر بعضه بعضاً، فالمسئول من الناظر التسامح والإغضاء، فنقول.
قال العلامة المسعودي في تاريخه المسمى بمروج الذهب، ومعادن الجوهر، ومن كتابه نقلت: ذكر جماعة من الإخباريين وذوي العلم بأيام العرب، منهم هشام ابن محمد الكلبي، وأبو مخنف لوط بن يحيى، وشرقي بن القطامي؛ أن خالد بن الوليد المخزومي لما أقبل يريد الحيرة في سلطان أبي بكر - رضي الله عنه - بعد فتح اليمامة، وقتل مسيلمة الكذاب، فلما رآه أهل الحيرة، تحصنوا في القصر الأبيض، وقصر القادسية، وقصر بني ثعلبة، وهذه أسماء قصور كانت بها، فلما نظر خالد إلى أهل الحيرة ورآهم تحصنوا، أمر العسكر فنزلوا نحو النجف، وأقبل خالد ومعه ضرار بن الأزور الأسدي، فوقف حيال قصر بني ثعلبة، فجعل العباديون يرمونهما بالخذف، فجعل فرسه ينفر، فقال له ضرار: ليس لهم مكيدة أعظم من هذه، ومضى خالد إلى عسكره، فبعث إلى أهل الحيرة أن أرسلوا إلينا رجلاً من عقلائكم وذوي أنسابكم نسأله عن أمركم، فبعثوا إليه عبد المسيح بن عمرو بن قيس الغساني هذا، وهو الرسول إلى سطيح لتعبير رؤيا الموبذان، فأقبل عبد المسيح، فنظر إليه خالد بن الوليد، فقال له: من أين قص أثرك أيها الشيخ؟ فقال: من صلب أبي، فقال له خالد: فمن أين جئت؟ قال: من بطن أمي، فقال خالد فعلام أنت ويحك؟ قال: على الأرض، فقال له: ففيم أنت لا كنت؟ فقال: في ثيابي، فقال خالد: أتعقل لا عقلت؟ قال عبد المسيح: إي والله وأقيد، فقال خالد: ابن كم أنت؟ فقال: ابن رجل واحد، فقال خالد: اللهم أخزهم أهل بلدة فما يزيدوننا إلا عماه، أسأله عن الشيء، فيجيب عن غيره، قال: كلا والله ما أجبتك إلا عما سألتني عنه، فسل عما بدا لك، فقال خالد: أعرب أنتم أم نبط؟ فقال عبد المسيح: عرب استنبطنا، ونبط استعربنا، قال خالد: فحرب أنتم أم سلم؟ قال: لا بل سلم، قال: فما بال هذه الحصون؟ قال: بنيناها للسفيه نحبسه حتى يأتي الحليم فينهاه، فقال خالد: كم أتت لك من السنين؟ قال خمسون وثلاثمائة، قال خالد: فما أدركت؟ قال: أدركت سفن البحر ترفأ إلينا في هذا النجف بمتاع الصين والهند، وأمواج البحر تضرب ما تحت قدميك، وبيننا اليوم وبين البحر ما تعلم، ورأيت المرأة من الحيرة تأخذ مكتلها على رأسها لا تتزود إلا رغيفاً واحداً، فلا تزال تمشي في قرى متصلة، وعمائر متصلة، وأشجار مثمرة، وأنهار جارية، وغدران غدقة حتى ترد الشام، فوجم خالد لذلك.
قال الراوي: ومع عبد المسيح سم ساعة يقلبه بيده، فقال له خالد: ما هذا معك؟ قال: سم ساعة، قال: ما تصنع به؟ قال: أتيتك: فإن يكن عندك ما يسرني ويوافق أهل بلدتي، قبلته وحمدت الله، وإن تكن الأخرى، لم أكن أول سائق إلى أهل بلدتي ذلاً وبلاء، فآكل هذا السم وأستريح من الدنيا، فإنما بقي من عمري اليسير، فقال له خالد: هاته فأخذه ووضعه في راحلته، ثم قال: بسم الله وبالله، بسم الله رب الأرض والسماء، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثم اقتحمه فتخللته غشية وضرب بذقنه على صدره، ثم سرى عنه، فأفاق كأنما نشط من عقال، قال: فانصرف الغساني المذهب - وهم النسطورية من النصارى - إلى قومه فقال: يا قوم، جئتكم من عند شيطان يأكل سم ساعة فلا يضره، صالحوه وأخرجوه عنكم، فالقوم مصنوع لهم، وأمرهم مقبل، ومر بني ساسان مدبر، وسيكون لهذه الملة شأن يغشى الأرض، قال: فصالحوا خالداً على مائة ألف ألف درهم وتاج، فرحب عنهم خالد بن الوليد، رضي الله تعالى عنه.
قلت: قال ابن الجوزي: والحيرة بينها ويبن الكوفة ثلاثة أميال، ولم يزل عمرانها يتناقص من الوقت المذكور إلى صدر خلافة المعتضد العباسي، فاستولى عليها الخراب، وقد كان السفاح أول خلفاء بني العباس والمنصور والمهدي والرشيد ينزلونها ويطلبون المقام بها؛ لطيب هوائها، وصفاء جوها، وصحة تربتها، وصلابتها، وقرب الخورنق منها، وقد كان فيا رهبان، فلحقوا بغيرها من البلاد لتداعي خرابها.
قال المسعودي: وأقفرت من أنيس في هذا الوقت - يعني: وقت تصنيف كتابه المروج، وهو سنة اثنتين وثلاثمائة - وتوحشت إلا من الضب والبوم.
وذكر كثير من أهل الدراية أن سعدها سيعود في المستقبل بالعمران، وكذلك الكوفة، والله تعالى أعلم.(1/126)
قال الشيخ بدر الدين الزركشي: والصحيح أن ولادته - عليه الصلاة والسلام - كانت نهاراً، قال: وأما ما روى من تدلي النجوم، فضعفه ابن دحية؛ لاقتضائه أن الولادة ليلاً، قال: وهذا لا يصلح أن يكون تعليلاً؛ فإن زمان النبوة صالح للخوارق، ويجوز أن تسقط النجوم نهاراً.
فإن قلت: إذا قلنا بأنه ولد ليلاً فأيما أفضل: ليلة القدر، أو ليلة مولده - عليه الصلاة والسلام ت أفضل من ليلة القدر؟ أجيب: بأن ليلة مولده - عليه الصلاة والسلام - أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة: أحدها: أن ليلة المولد ليلة ظهوره، وليلة القدر معطاة له، وما شرف بظهور ذات المشرف من أجله أفضل مما شرف بسبب ما أعطيته، ولا نزاع في ذلك؛ فكانت ليلة المولد بهذا الاعتبار أفضل.
الثاني: أن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها، وليلة المولد شرفت بظهوره صلى الله عليه وسلم فيها، ومن شرفت به ليلة المولد أفضل ممن شرفت به ليلة القدر على الأصح المرتضى؛ فتكون ليلة المولد أفضل.
الثالث: أن ليلة القدر وقع التفضيل فيها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم وليلة المولد الشريف وقع التفضيل فيها على سائر الموجودات؛ فهو الذي بعثه الله رحمة للعالمين، فعمت به النعمة على جميع الخلائق؛ فكانت ليلة المولد أعم نفعاً؛ فكانت أفضل.
قال في الجمع الغريب، فيما يسر الكئيب: قال أهل السير: أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه آمنة ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام.
ثم أرضعته ثويبة جارية عمه أبي لهب، وهي التي بشرته بولادته، فأعتقها فرحاً بابن أخيه، ثم بدت عداوته له - عليه الصلاة والسلام - فأثابه الله على ذلك بأن سقاه ليلة كل اثنين في مثل نقرة الإبهام بلبان أمه، وقد رأى العباس أبا لهب بعد موته في النوم، فقال له: ما حالك؟ فقال له: في النار، إلا أنه خفف عني كل ليلة اثنين وأمصني من بين إصبعي هاتين ماءً بارداً، وأشار له إلى إصبعيه، وأن ذلك بإعتاقه ثويبة فرحاً عندما بشرته بولادة ابن أخيه وإرضاعها له، وكانت قد أرضعت قبله عمه حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا عبد الله سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وهو ابن عمته بلبن ابنها مسروح الذي تزوج بزوجته بعد وفاته النبي صلى الله عليه وسلم وهي المعروفة بأم سلمة، وأرضعت ابن عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.
ثم أرضعته حليمة بنت عبد الله السعدية بلبن ابنها عبد الله من زوجها الحارث بن عبد العزى، جاء بعد البعثة وأسلم، وظهر له - عليه الصلاة والسلام - عند حليمة آيات كثيرة، وعندها شق صدره، وملىء إيماناً وحكمه.
قيل: وأرضعته خولة بنت المنذر، وأم أيمن دايته وحاضنته بعد موت أمه، وله حين حضنته أربع سنين.
وردته حليمة إلى أمه بعد سنتين؛ فكان عند أمه آمنة إلى أن بلغ ست سنين، فخرجت به إلى أخوال أبيه بني عدي بن النجار تزورهم، ومعها أم أيمن تحضنه، فأقامت به عندهم شهراً، ثم رجعت به إلى مكة، فلما كانت بالأبواء، توفيت وقبرها هنالك.
روى أبو نعيم من طيق الزهري عن أم سماعة بنت رهم، عن أمها، قالت شهدت آمنة في علتها التي ماتت بها ومحمد صلى الله عليه وسلم غلام له خمس سنين، فنظرت إلى وجهه، ثم قالت: من الرجز
بارك فيك الله من غلام ... يا بن الّذي من حومة الحمام
نجا بعون الملك العلاّم ... فودى غداة الضّرب بالسّهام
بمائةٍ من إبلٍ سوام ... إن صحّ ما أبصرت في المنام
فأنت مبعوثٌ إلى الأنام ... من عند ذي الجلال والإكرام
تبعث في الحلّ وفي الحرام ... تبعث بالتّحقيق والإسلام
دين أبيك البرّ إبراهام ... فالله ينهاك عن الأصنام
أن لا تواليها مع الأقوام
ثم قالت: كل حي ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى، وأنا ميتة وذكري باق، ولقد تركت خيراً، وولدت طهراً، ثم ماتت، فسمع من نوح الجن عليها قولهم: من الرجز
نبكي الفتاة البرّة الأمينة ... ذات الحيا والعفّة الرّزينة
زوجة عبد الله والقرينة ... أُمّ نبيّ الله ذي السّكينة
وصاحب المنبر بالمدينة ... صارت لدى حفرتها رهينة(1/127)
روى إسحاق بن راهويه، وأبو يعلى، والطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم، عن حليمة، قالت: قدمتك مكة في نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء في سنة شهباء، فقدمت على أتان لي ومعي صبي لنا وشارف والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلنا ذلك أجمع، صبينا لا يجد في ثديي ما يغنيه ولا شارفنا ما يغذيه، فقدمنا مكة، فو الله ما علمت امرأة منا إلا أخذت رضيعاً غيري. فلما لم أجد غيره، قلت لزوجي: والله، إني لأكره من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم، فلآخذنه، فذهبت فإذا هو مدرج في ثوب صوف أبيض من اللبن، يفوح منه المسك وتحته حريرة خضراء راقد على قفاه يغط، فأشفقت أن أيقظه من نومه لحسنه وجماله، فدنوت منه رويداً، فوضعت يدي على صدره، فتبسم ضاحكاً، وفتح عينيه لينظر إلي، فخرج من عينيه نور وصل عنان السماء وأنا أنظر، فقبلته بين عينيه، وأعطيته ثديي الأيمن، فأقبل عليه ما شاء من لبن، فحولته إلى الأيسر فأبى، وكانت تلك حاله بعد.
قال أهل العلم: أعلمه الله أن له شريكاً فألهمه العدل.
قالت: فروى وروى أخوه، ثم أخذته فما هو إلا أن جئت به رحلي، فقام صاحبي - تعني زوجها - إلى شارفنا تلك، فإذا إنها لحافل، فشرب وشربت حتى روينا وبتنا بخير ليلة، فقال صاحبي: يا حليمة، والله إني لأراك قد أخذت خيراً، وفي رواية ذكرها في المنطق المفهوم: فلما نظر صاحبي إلى هذا، قال: اسكتي واكتمي أمرك، فمن ليلة ولد هذا المولود أصبحت الأحبار قواماً على أقدامها لا يهنأ لها عيش النهار ولا نوم الليل، قالت حليمة: فودع الناس بعضهم بعضاً، وودعت أنا أم النبي صلى الله عليه وسلم ثم ركبت أتاني وأخذت محمداً صلى الله عليه وسلم بين يدي.
قالت: فنظرت إلى الأتان، وقد سجدت نحو الكعبة ثلاث سجدات، ورفعت رأسها إلى السماء، ثم مشت حتى سبقت دواب الناس التي كانت معي، وصار الناس يتعجبون مني ويقلن النساء لي وهن ورائي: يا بنت أبي ذؤيب، أهذه أتانك التي كنت عليها، وأنت جائية معنا تخفضك تارة، وترفعك أخرى؟! فأقول: تالله إنها هي، فيتعجبن منها ويقلن: إن لها لشأناً عظيماً، قالت: فكانت أتاني تنطق، وتقول: والله، إن لي لشأناً، ثم شأناً، بعثني بعد موتي، ورد سمني بعد هزلي، ويحكن يا نساء بني سعد، إنكن لفي غفلة، أتدرين من على ظهري؟! على ظهري خير النبيين، وسيد المرسلين، وخير الأولين والآخرين، وحبيب رب العالمين.
قالت حليمة فيما ذكره ابن إسحاق وغيره: ثم قدمنا منازل بني سعد، فلا أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح شباعاً لبناً، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: اسرحوا حيث يسرح راعي غنم بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة، وتروح أغنامنا شباعاً لبناً. فلله درها من بركة !.
وأخرج البيهقي، وابن عساكر، عن ابن عباس قال: كانت حليمة تحدث أنها أول ما فطمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، فلما ترعرع، كان يخرج ينظر إلى الصبيان يلعبون فيجتنبهم.
وقد روى ابن سعد، وأبو نعيم، وابن عساكر، عنه: كانت حليمة لا تدعه يذهب مكاناً بعيداً، فغفلت عنه؛ فخرج مع أخته الشيماء إلى البهم، فخرجت حليمة تطلبه حتى تجده، فوجدته مع أخته، فقالت: في هذا الحر؟ فقالت أخته: يا أمه، ما وجدنا حراً، رأيت غمامة تظل عليه، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت معه حتى انتهى إلى هذا الموضع.
قال أهل السير: كانت سنة العرب في المولود إذا ولد في استقبال الليل كفئوا عليه قدراً حتى يصبح، ففعلوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم فأصبحوا وقد انشق عنه القدر، وهو شاخص ببصره إلى السماء.
وفي المنتقى: أن أمه لما ولدته صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى جده عبد المطلب، فجاءه البشير وهو جالس في الحجر معه ولده ورجال من قومه، فقام هو ومن كان معه، ودخل عليها، فأخبرته بما كانت رأته مما تقدم ذكره، وما قيل لها، وما أمرت به، فأخذه عبد المطلب، فأدخله جوف الكعبة، وقام عندها يدعو الله تبارك وتعالى له، ويشكره على ما أعطاه، وأمر بالجزائر، فنحرت ودعا رجالاً من قريش، فحضروا وطعموا.
وفي بعض الكتب: كان ذلك يوم سابعه، يعني عقيقته.(1/128)
فلما فرغوا من الأكل، قالوا: ما سميته؟ قال: سميته محمداً. قالوا: رغبت عن أسماء آبائه؟ قال: أردت أن يكون محموداً في السماء لله، وفي الأرض لخلقه، فحقق الله رجاءه.
ولما ولدته أمه آمنة، أرضعته ثلاثة أيام، ثم أرضعته ثويبة الأسلمية جارية عمه أبي لهب أياماً قبل قدوم حليمة من قبيلتها، ثم أرضعته حليمة كما تقدم.
روى أنه أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم ثمان نسوة غير أمه: ثويبة، وحليمة، وخولة بنت المنذر، وأم أيمن، وامرأة سعدية غير حليمة، وثلاث نسوة من سليم اسم كل واحدة عاتكة، وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: أنا ابن العواتك من سليم؛ كذا قاله الإمام السهيلي ناقلاً له عن بعض العلماء؛ لكن المشهور: أن العواتك المشار إليهن في الحديث المذكور: عاتكة بنت هلال بن فاح بن ذكوان السلمية، وهي أم عبد مناف جده، والثانية: عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان السلمية - أيضاً - وهي أم هاشم بن عبد مناف، والثالثة: عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان، وهي أم وهب أبي أمه آمنة؛ فهي جدته أم أبي آمنة. فالأولى عمته، والثانية والثالثة عمته، وبنو سليم يفتخرون بهذه الولادة.
وكانت أخته من الرضاعة تحضنه وترقصه فتقول: من الرجز
هذا أخٌ لي لم تلده أُمّي ... وليس من نسل أبي وعمّي
فديته من مخول معمّ ... فأنمه اللهمّ فيما تنمي
وأخرج البيهقي، والخطيب البغدادي، وابن عساكر، عن العباس بن عبد المطلب، قال: قلت: يا رسول الله، دعاني للدخول في دينك أمارة لنبوتك؛ رأيتك في المهد تناغي القمر، وتشير إليه بإصبعك، فحيث أشرت إليه مال، فقال صلى الله عليه وسلم: إني كنت أحدثه ويحدثني، ويلهيني عن البكاء، وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش.
وفي سيرة الواقدي: أنه صلى الله عليه وسلم تكلم في أوائل ما ولد، وذكر ابن سبع في الخصائص أن مهده صلى الله عليه وسلم كان يتحرك بتحريك الملائكة له.
قال في المواهب: قالت حليمة: ومن العجائب أني ما رأيت له بولاً، ولا غسلت له وضوءاً قط، وكانت له طهارة ونظافة، وكان له في كل يوم وقت واحد يتوضأ فيه ولا يعود حتى يأتي وقته الآخر من الغد، ولم يكن شيء أبغض إليه من أن يرى جسده مكشوفاً، فكنت إذا كشفت عن جسده يصيح حتى أستره عليه، وكان لا يبكي قط، ولا يسيء خلقه.
وروى عن ابن عباس: كانت حليمة تحدث أنها أول ما فطمته - عليه الصلاة والسلام - تكلم، فقال: الله أكبر كبيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
وفي تاريخ الخميس، عن المنتقي: قالت حليمة: انتبهت ليلة من الليالي، فسمعته يتكلم بكلام لم أسمع كلاماً قط أحسن منه، فقال: لا إله إلا الله قدوساً قدوساً، نامت العيون والرحمن لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو أول ما تكلم، فكنت أتعجب من ذلك، فلما بلغ المنطق، لم يمس شيئاً إلا قال: بسم الله، ولم يتناول شيئاً بيساره بل بيمينه، وكنت قد اجتنبت الزوج إلا إن اغتسلت منه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمت له سنتان كاملتان، فبينما هو قاعد في حجري ذات يوم إذ مرت به غنيمات، فأقبلت شاة من الغنم حتى سجدت له، وقبلت رأسه، ثم رجعت إلى صواحباتها. وكان ينزل عليه كل يوم نور كنور الشمس فيغشاه ثم ينجلي عنه.
قال العلامة القسطلاني: ولما ترعرع صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الصبيان، وهم يلعبون فيجتنبهم.
وفي المنتقى: كان أخواه من الرضاع يخرجان فيمران بالغلمان فيلعبان معهم، فإذا رآهم النبي صلى الله عليه وسلم، اجتنبهم، وأخذ بيد أخويه، وقال لهما: إنا لم نخلق لهذا.
ولما مضت له سنتان من مولده، قالت حليمة: فصلته، وقدمنا به على أمه، ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما نرى من بركته. وكلمنا أمه، وقلنا: لو تركتيه عندنا حتى يغلظ، فإنا نخشى عليه وباء مكة، ولم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به، فوالله إنه لبعد مقدمنا بشهرين أو بثلاثة أشهر مع أخيه من الرضاع خلف بيوتنا؛ إذ أتانا أخوه يشتد فقال: يا أماه، ذلك أخي القرشي قد جاء رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه وشقا بطنه. قالت حليمة: فخرجت أنا وأخوه وأبوه نشتد نحوه فوجدناه قائماً منتقعاً لونه، فاعتنقه أبوه، وقال: أي بني، ما شأنك؟ قلت: هذه هي المرة الأولى من مرات شق صدره الشريف؛ كما سيأتي.(1/129)
فقال - عليه الصلاة والسلام - جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني، ثم شقا بطني، ثم استخرجا منه شيئاً، فطرحاه ثم رداه كما كان، فرجعنا به، فقال أبوه: يا حليمة، لقد خشيت أن يكون ابني هذا قد أصيب، فانطلقي نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما يتخوف، قالت حليمة: فاحتملناه حتى قدمنا به على أمه، فقالت: ما لكما رددتماه، وقد كنتما حريصين عليه؟ قالا: نخشى الأحداث عليه، فقالت أمه آمنة: ما ذاك بكما، فاصدقاني ما شأنكما؟ فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره، فقالت: خشيتما عليه الشيطان، كلا والله، ما للشيطان عليه سبيل؛ فإنه لكائن لابني هذا شأن، فدعاه عنكما.
وقد وقع شق صدره الشريف مرة أخرى عند مجيء جبريل بالوحي في غار حراء، وهذه هي المرة الثانية، ومرة أخرى عند الإسراء وهي المرة الثالثة.
وعن حليمة أنها قالت: لما تم له سنتان، قال لي: يا أماه، مالي لا أرى أخوي؟ أي: بالنهار، قالت: يا بني، إنهما يرعيان غنيمات لنا، قال: فما لي لا أخرج معهما؟ قالت: أتحب ذلك؟ قال: نعم، فلما أصبح، دهنته وكحلته وعلقت في عنقه خيطاً فيه جزع يمان، فنزعه ثم قال لي: مهلاً يا أماه؛ فإن معي من يحفظني، قالت: ثم دعوت بابنيّ، فقلت لهما: أوصيكما بمحمد خيراً، لا تفارقاه، وليكن نصب أعينكما، فخرج مع أخويه في الغنم، فبينما هو قائم معهما، إذ أتاه الرجلان المذكوران وهما جبرائيل وميكائيل، ومعهما طشت من ذهب فيه ماء بثلج، فاستخرجاه من الغنم والصبية، فشقا بطنه، وشرحا صدره، واستخرجا منه نكتة سوداء، وغسلاه بذلك الماء والثلج وحشى إيماناً وحكمة، ومسحا عليه، وعاد كما كان، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته فوزن، فرجح بهم، ثم قال: زنه بمائة فوزن فرجح، ثم قال: زن بألف فوزن فرجح، ثم قال: دعه عنك فلو وزنته بأمته كلها لوزنها.
وفي رواية: ثم قال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثم قال: خط بطنه، فخاطه، وجعل الخاتم بين كتفيه؛ كما هو الآن.(1/130)
وفي الحديث: إن خاتم النبوة لم يكن قبل ذلك، قالت حليمة: فحملناه إلى مخيم لنا، فقال الناس: اذهبوا به إلى كاهن ينظر إليه ويداويه، فقال صلى الله عليه وسلم: ما بي شيء مما تكرهونه، وإني أرى نفسي سليمة وفؤادي صحيحاً بحمد الله تعالى، قال الناس: أصابه لمم أو طائف من الجن، قالت حليمة: فغلبوني على رأيي حتى انطلقت به إلى الكاهن، فقصصت عليه قصته من أولها إلى آخرها، فقال الكاهن: دعيني أسمع من الغلام؛ فإنه أبصر بأمره منكم؛ تكلم يا غلام، قالت: فقص ابني محمد قصته من أولها إلى آخرها عليه، فوثب الكاهن على قدميه، وضمه إلى صدره، ونادى بأعلى صوته: يا للعرب، من شر قد اقترب، اقتلوا هذا الغلام، واقتلوني معه؛ فإنكم إن تركتموه، وبلغ مبلغ الرجال، ليسفهن أحلامكم، وليبدلن أديانكم إلى رب لا تعرفونه، ودين تنكرونه، قالت حليمة: فلما سمعت مقالته، انتزعته من يده، وقلت: أنت أعته وأجن من ابني، ولو علمت أن هذا يكون منك ما أتيتك به، اطلب لنفسك من يقتلك فإنا لا نقتل ابني محمداً صلى الله عليه وسلم فاحتملت به وأتيت به منزلي، فما بقي يومئذ بيت في بني سعد إلا وجد منه ريح المسك، وكان ينقض عليه في كل يوم طيران أبيضان يغيبان في ثيابه ولا يظهران، فلما رأى أبوه ذلك، قال لي: يا حليمة، إنا لا نأمن على هذا الغلام، وخشيت عليه من أتباع الكهنة، فألحقيه بأهله قبل أن يصيبه عندنا شيء، قالت حليمة: فلما عزمت على ذلك، سمعت صوتاً في جوف الليل ينادي: ذهب ربيع الخير، وأمان بني سعد، هنيئاً لبطحاء مكة إذ كان مثلك فيها، فالآن قد أمنت أن تخرب أو يصيبها بؤس بدخولك إليها يا خير البشر، قالت: فلما أصبحت ركبت أتاني، ووضعت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي، فلم أكن أقدر مما كنت أنادي يمنة ويسرة، حتى انتهيت به إلى الباب الأعظم من أبواب مكة وعليه جماعة مجتمعون، فنزلت لأقضي حاجة، وأنزلت النبي صلى الله عليه وسلم فغشيني كالسحابة البيضاء، وسمعت صوتاً شديداً، ففزعت وجعلت ألتفت يمنة ويسرة، ونظرت، فلم أر النبي صلى الله عليه وسلم فصحت: يا معشر قريش الغلام الغلام، قالوا: وما الغلام؟ قلت: محمد بن آمنة، فجعلت أبكي وأنادي: وامحمداه، فبينما أنا كذلك إذ أنا بشيخ كبير قد استقبلني، فقال: ما لك أيتها السعدية؟ قلت: إن لي قصة عظيمة، محمد بن آمنة أرضعه ثلاث سنين لا أفارقه ليله ولا نهاره، فعيشني الله به وأنضر وجهني، وجئت لأؤدي لأمه الأمانة؛ ليخرج من عهدي وأمانتي، فاختلس مني اختلاساً قبل أن تمس قدمه الأرض، فقال الشيخ: لا تبكي أيتها السعدية، ادخلي على هبل فتضرعي إليه، فلعله يرده عليك؛ فإنه القوي على ذلك، العالم بأمره، فقلت: أيها الشيخ، كأنك لم تشهد ولادة محمد ليلة ولد ما نزل باللات والعزى، فقال: أيتها السعدية، إني أراك جزعة، وأنا أدخل على هبل، وأذكر أمرك له، فقد قطعت أكبادنا ببكائك، ما لأحد من الناس على هذا صبر، قالت: فقعدت مكاني متحيرة، ودخل الشيخ على هبل، وعيناه تذرفان بالدموع، فسجد طويلاً، وطاف به أسبوعاً، ثم نادى: يا عظيم المنة، يا قوياً في الأمور، إن منتك على قريش كثير، وهذه السعدية مرضعة محمد تبكي، قد قطع بكاؤها الأنياط، فإن رأيت أن ترده عليها إن شئت، فارتج والله الصنم، وتنكس ومشى على رأسه، وسمعت منه صوتاً يقول: أيها الشيخ، أنت في غرور، مالي ولمحمد؟ وإنما يكون هلاكنا على يديه، وإن رب محمد لم يكن ليضيعه، بل يحفظه، أبلغ عبدة الأوثان أن معه الذبح الأكبر إلا أن يدخلوا في دينه.(1/131)
قال: فخرج الشيخ فزعاً مرعوباً يسمع لسنه قعقعة، ولركبه اصطكاك، فقال لي: يا حليمة، ما رأيت من هبل مثل هذا، فاطلبي ابنك إني لأرى لهذا الغلام شأناً عظيماً، قالت: فقلت لنفسي: كم تكتمني أمره عن جده عبد المطلب، أبلغيه الخبر قبل أن يأتيه من غيرك، قالت: فدخلت على جده عبد المطلب، فلما نظر إلي قال: يا حليمة، مالي أراك جزعة باكية، ولا أرى معك محمداً؟ فقلت: يا أبا الحارث، جئت بمحمد أسر ما كان، فلما صرت على الباب الأعظم من أبواب مكة، نزلت لأقضي حاجتي، فاختلس مني اختلاساً قبل أن تمس قدمه الأرض، فقال لي: اقعدي يا حليمة، ثم علا الصفا فنادى: يا آل غالب، فاجتمعت إليه الرجال، فقالوا له: نعم، يا أبا الحارث، فقد أجبناك، فقال لهم: إن ابني محمداً فقد، فقالوا له: اركب يا أبا الحارث حتى نركب معك، قالت: فركب عبد المطلب، وركب الناس معه، فأخذ بأعلى مكة، فانحدر بأسفلها، فلم ير شيئاً، فلما لم ير شيئاً، ترك الناس، فاتزر بثوب وارتدى بآخر، وأقبل إلى البيت الشريف فطاف به أسبوعاً وأنشأ يقول: من الرجز
يا ربّ ردّ راكبي محمّدا ... ردّ إليّ واتّخد عندي يدا
أنت الّذي جعلته لي عضدا ... لا يبعد الدّهر به فيبعدا
يا ربّ إن محمّدٌ لم يوجدا ... فجمع قومي كلّهم تبدّدا
قالت: فسمعنا منادياً ينادي من جو الهواء: معاشر الناس، لا تضجوا؛ فإن لمحمد رباً لا يضيعه ولا يخذله، قال عبد المطلب: يأيها الهاتف، من لنا به وأين هو؟ قال: بوادي تهامة، فأقبل عبد المطلب راكباً متسلحاً، فلما صار في بعض الطريق، تلقاه ورقه بن نوفل، فسارا جميعاً فبينما هما كذلك؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، وفي رواية: بينما أبو مسعود الثقفي وعمرو بن نوفل يدوران على رواحلهما إذا هما برسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً عند شجرة الطلحة، وهي الموز يتناول من ورقها، فأقبل عليه عمرو، وهو لا يعرفه، فقال له: من أنت يا غلام؟ فقال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، فاحتمله بين يديه على الراحلة حتى عبد المطلب.
روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: لما رد الله محمداً صلى الله عليه وسلم على عبد المطلب، تصدق بألف ناقة كوماء، وخمسين رطلاً من الذهب، ثم جهز حليمة بأفضل جهاز.
قال في تاريخ الخميس: روى نافع بن جبير: أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بعد رد حليمة إياه لها، فلما توفيت، ضمه وكفله جده عبد المطلب، ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه منه ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام، وكان يجلس على فراشه، وكان أولاده لا يجلسون عليه.
قال ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله قال: كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، وكان لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالاً له، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي حتى يجلس عليه، فيذهب أعمامه ليؤخروه عنه؛ فيقول عبد المطلب: دعوا ابني، ويمسح على ظهره، ويقول: إن لابني هذا شأناً؛ كذا قاله ابن الأثير في أسد الغابة.
وقال قوم من بني مدلج - وهم مشهورون بالقيافة - : يا عبد المطلب، احتفظ به؛ فإنا لم نر قدماً أشبه بالقدم الذي في مقام إبراهيم منه، فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء في ابن أخيك، وقال عبد المطلب لأم أيمن وكانت تحضنه: لا تغفلي عن ابني؛ فإن أهل الكتاب يزعمون أنه نبي هذه الأمة، وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلا قال: علي بابني، فيؤتى به إليه، فلما حضرت عبد المطلب الوفاة، أوصى به أبا طالب.
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه رمد شديد، فعولج بمكة، فلم يغن عنه، فقيل لعبد المطلب: إن في ناحية عكاظ كاهناً يعالج الأعين، فركب إليه عبد المطلب فناداه، ودير الراهب مغلق عليه لا يجيبه، فتزلزل به ديره حتى خاف أن يسقط عليه، فخرج مبادراً، فقال: يا عبد المطلب، إن هذا الغلام نبي هذه الأمة، ولو لم أخرج إليك، لخر ديري، فارجع به واحفظه لا يغتاله بعض أهل الكتاب، ثم عالجه.(1/132)
وروى عن رقيقة بنت صيفي بن هاشم؛ أنها قالت: تتابعت على قريش سنون، حتى يبست الضروع، وقدت العظام، فبينما أنا راقدة إذ أنا بهاتف يصرخ بصوت صحل يقول: يا معشر قريش، إن هذا النبي المبعوث منكم، هذا إبان نجومه، أي: هذا وقت ظهوره، فحيهلا بالحيا والخصب، ألا فانظروا منكم رجلاً طوالاً عظاماً أبيض بضاً أشم العرنين سهل الخدين له فخر يكظم عليه وسنة تهدي إليه. ويروى: رجلاً وسيطاً عظاماً جساماً أوطف الأهداب ألا فليخلص هو وولده، وليدلف إليه من كل بطن رجل، ألا فليشنوا الماء وليمسوا من الطيب وليطوفوا بالبيت سبعاً وفيهم المطيب الطاهر لذاته، ألا فليستسق الرجل وليؤمن القوم ألا فغثتم ما شئتم.
قالت: فأصبحت مذعورة قد وقف جلدي وذهل عقلي واقتصصت رؤياي ونمت في شعاب مكة فوالحرمة والحرم إن بقي بها أبطحي إلا قال: هذا شيبة الحمد عبد المطلب، والتأمت عنده قريش وانقض إليه رجل من كل بطن، فشنوا الماء، ومسوا الطيب، وطافوا بالبيت سبعاً، ورفع عبد المطلب ابنه محمداً صلى الله عليه وسلم على عاتقه، وهو يومئذ ابن سبع سنين، وارتقوا أبا قبيس، فدعا واستسقى وأمن القوم، قالت: فما وصلوا البيت حتى انفجرت السماء بمائها وامتلأ الوادي، قالت: وسمعت شيوخ العرب يقولون لعبد المطلب: هنيئاً لك يا أبا البطحاء، وفي ذلك يقول قائلهم: من البسيط
بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... لمّا فقدنا الحيا واجلوّذ المطر
فجاد بالماء جونى له سبلٌ ... سحّاً فعاشت به الأنعام والشّجر
واجلوذ المطر: امتد وقت تأخره. والجوية: هي الحفيرة المستديرة الواسعة الوسط، وكل منفتق جوي؛ كذا في نهاية ابن الأثير.
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر ثمان سنين وشهراً وعشرة أيام، مات جده عبد المطلب، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتذكر موت عبد المطلب؟ قال: نعم، وأنا يومئذ ابن ثمان سنين، وقيل: كان ابن تسع سنين، وقيل: عشر، وقيل: ست، وقيل: ثلاث.
وقد تقدم ذكر عمر عبد المطلب، وأنه عاش مائة وعشرين، وفي المواهب: مائة وأربعين سنة، وقد عمى قبل موته، ودفن على ما ذكره ابن عساكر بالحجون؛ كذا في شفاء الغرام للعلامة التقي الفاسي.
ولما توفي عبد المطلب، كفله عمه أبو طالب، فضمه إليه، وكان يحبه حباً شديداً لا يحب أولاده كذلك، ولا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج معه متى يخرج.
قالت أم أيمن: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي خلف جنازة عبد المطلب. انتهى.
وقد كانت أم أيمن بركة دايته وحاضنته بعد موت أمه، فكان - عليه الصلاة والسلام - يقول لها: أنت أمي بعد أمي، فشب صلى الله عليه وسلم مطهراً من دنس الجاهلية مبرأً من العيب، وأعطى كل خلق جميل حتى لم يكن يعرف إلا بالأمين، فلما بلغ اثنتي عشرة وشهرين وعشرة أيام، خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام، فرأى ببصرى بحيرا الراهب، فعرفه بصفته، فأخذه بيده فقال: هذا رسول رب العالمين، قيل: وما علمك بذلك؟ قال: لم يبق حين أقبل حجر ولا شجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدان إلا لنبي، وإنا نجده في كتبنا، وقال لأبي طالب: لئن قدمت به إلى الشام، لتقتلنه اليهود؛ فرده خوفاً عليه.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة ثانية إلى الشام مع ميسرة غلام خديجة في تجارة لها، وعمره خمس وعشرون إلا أربعة عشر يوماً بقين من ذي الحجة، فلما قدم الشام، باع تجارته بسوق بصرى، ونزل تحت شجرة قريباً من صومعة نسطور، فقال: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي، وكان ميسرة يرى في الهاجرة ملكين يظلانه من الشمس، فلما رجع، تزوج بخديجة بنت خويلد بن أسد بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يوماً، زوجها منه عمها عمرو بن أسد، أصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشاً.
ولما بلغ خمسة وثلاثين، خافت قريش أن تنهدم الكعبة من السيول، فأمروا بأقوم النجار أن يبنيها، وشهد - عليه الصلاة والسلام - بنيانها، وهو الذي وضع الحجر الأسود بيده حين تنازع القبائل فيمن يضعه حتى كادوا يقتتلون، وقد تقدم ذكر ذلك مفصلاً في المقصد الأول.(1/133)
ولما بلغ أربعين سنة، اختصه الله تعالى وبعثه برسالته؛ ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - : أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه، أي: يتعبد، حتى جاءه الحق وهو في الجبل، يوم الاثنين سابع عشر رمضان، فقال له جبريل: أبشر يا محمد، إنك رسول هذه الأمة، وقال: " اقْرَأْ " العلق فقال - عليه الصلاة والسلام - : ما أنا بقارئ، فغطه ثم أرسله، وتكرر ذلك، فقال: " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِي خَلَقَ " العلق إلى: " يَعْلَمْ " العلق وذكر أبو نعيم أن جبريل وميكائيل شقا صدره وغسلاه، ثم قالا: اقرأ. انتهى وأنبع له جبريل عين ماء، فتوضأ وصلى ركعتين، فجاء إلى خديجة وعلمها الوضوء وصلى بها كما فعل جبريل، فقال مقاتل: فكان فرض الصلاة ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشى، حتى فرضت خمس صلوات ليلة الإسراء.
وكانت خديجة ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل شيخ كبير، ترك الأوثان، ورجع إلى النصرانية، يكتب بالعربية من الإنجيل المكتوب بالعبراني، وصار يعرف ما فيه، فقالت له وقد عمى: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك ما يقول، فذكر له ما رآه، فقال له: أبشر، فإنك نبي مرسل، وهذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني كنت حياً إذ يخرجك قومك، فقال: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم يلبث ورقة أن توفي.
فآمن بالنبي حينئذ أبو بكر، ثم علي، وقيل: علي فأبو بكر، ثم زيد بن حارثة، ثم عثمان، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وغيرهم أرسالاً.
وأمره الله تعالى أن يصدع بما أمر به، فعاداه قومه وآذوه ومن آمن به وتبعه، فأذن لهم في الهجرة إلى الحبشة في رجب سنة خمس من النبوة، فهاجر اثنا عشر رجلاً وأربع نسوة، أولهم عثمان وزوجته رقية ابنته - عليه الصلاة والسلام - وأبو حذيفة وزوجته سهيلة، وأبو سلمة، والزبير، ومصعب، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان ابن مظعون، وعامر بن ربيعة بن كريز العبشمي وزوجته ليلى، وأبو سبرة بن أبي رهم: وحاطب بن عمرو، وسهيل بن وهب، وعبد الله بن مسعود الهذلي.
قيل: وأميرهم عثمان بن مظعون، وأنكره الزهري، وقال: لم يكن لهم أمير، وخرجوا مشاة إلى البحر، فاستأجروا سفينة بنصف دينار، وكان أول من خرج إلى الهجرة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وزوجته رقية.
وأخرج يعقوب بن سفيان بسند موصول إلى أنس قال: أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقالت امرأة: قد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال: إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط. فوفدوا على ملكها النجاشي، واسمه أصحمة بن مجرى، فأكرمهم، فلما رأت قريش استقرارهم في الحبشة وأمنهم، أرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة بهدايا وتحف من بلادهم إلى النجاشي، وكان معهم عمارة بن الوليد ليردهم إلى قومهم، فأبى ذلك وردهما خائبين.
قال في تاريخ الخميس: قال محمد بن إسحاق: كان من لحق من المسلمين بأرض الحبشة ثلاثة وثلاثين رجلاً، ومن النساء إحدى عشرة امرأة قرشية وتسع عربيات، فلما سمعوا بمهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً وثمان نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس سبعة، وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون.
وفي ذخائر العقبي للمحب الطبري: إن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما فتن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، أشار عليهم أن يحلقوا بأرض الحبشة، وقال: إن بها ملكاً لا تظلم الناس ببلاده، فاخرجوا إليه، فخرجوا أرسالاً.(1/134)
قالت: فلما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار من النجاشي، فأمنا على ديننا، وعبدنا ربنا لا نؤذي، فلما بلغ قريشاً ذلك، بعثوا إلى النجاشي رجلين جلدين من قريش بهدايا إلى النجاشي مستطرفة من متاع مكة من الأديم وغيره، كان الأدم يعجب النجاشي أن يهدي إليه، فجمعوا له هدية عظيمة فيها أدم كثير، ولم يتركوا بطريقاً من بطارقته إلا أهدوا إليه هدية، ثم بعثوا الرجلين عمرو بن العاص وعبد الله ابن أبي ربيعة المخزومي، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي، ثم قدما إلى النجاشي هديته واسألاه أن يسلمهم إليكما. فلما قدما، دفعا هدية البطارقة إليهم، ثم دفعا هدية النجاشي إليه، وقالا: إنه قد صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لنردهم إليهم، فقال بطارقته، صدقوا أيها الملك، فارددهم إليهم، فغضب النجاشي، ثم قال: لا والله لا أرد إليكما قوماً جاوروني، فنزلوا ببلادي، وجاءوا إلي، واختاروني على من سواي حتى أدعوهم، فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان، سلمتهم إليهما، وإن كانوا غير ذلك، منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني، فأرسل إليهم فدعاهم، فلما أن جاءهم رسوله، اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قال: نقول: والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم. وأرسل النجاشي، فجمع بطارقته وأساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، فلما دخلوا عليه، قال لهم: إن هؤلاء يزعمون أنكم فارقتم دينهم، فأخبروني ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا في دين آخر؟ فتكلم جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك، كنا أهل جاهلية لا نعرف الله ولا رسوله، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة، وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام والصدقة، وكل ما يعرف من الأخلاق الحسنة، ونهانا عن الزنى والفواحش وقول الزور وقذف المحصنات وكل ما يعرف من السيئات، وتلا فينا تنزيلاً لا يشبهه شيء، فصدقناه وآمنا به وعرفنا أن ما جاء به هو الحق من عند الله، فعبدنا الله وحده لا شريك له، وحرمنا ما حرم علينا، وفعلنا ما أحل لنا، ففارقنا عند ذلك قومنا فآذونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا وبلغوا منا ما نكره ولم نقدر على الامتناع، أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نخرج إلى بلادك اختياراً لك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك، فقال له النجاشي: هل معكم مما جاءكم به عن الله عز وجل؟ فقال له جعفر: نعم، قال: فاقرأه علي، فقرأ عليه جعفر صدراً من كهيعص؛ فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفتهم حتى اخضلت لحاهم ومصاحفهم، ثم قال النجاشي: والله، إن هذا الكلام والكلام الذي جاء به موسى ليخرجان من مشكاة واحدة، ثم قال النجاشي لعمرو بن العاص ورفيقه: أعبيد لكم هم؟ قالا: لا، قال: فلكم عليهم دين؟ قالا: لا، قال: فخلوا سبيلهم، قالت أم سلمة: فلما خرجنا، قال عمرو بن العاص: لآتينه غداً فأتهمهم بما أستأصل به خضراهم، فقال له عبد الله ابن أبي ربيعة، وهو أتقي الرجلين: فإن لهم رحماً، وفي رواية: فإن للقوم رحماً، وإن كانوا قد خالفوا، فما نحب أن نبلغ ذلك منهم، فقال عمرو: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، فلما كان الغد، غدا إليه عمرو، فدخل فقال: أيها الملك، إنهم يخالفونك ويقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، إنهم يقولون: إنه عبد، فأرسل إليهم فاسألهم، قال النجاشي: إن لم يقولوا في عيسى مثل قولي، أخرجتهم من أرضي، فأرس النجاشي إلى القوم، قالت أم سلمة: فكانت الدعوة الثانية أشد علينا من الأولى، فاجتمعوا، فقال بعضهم(1/135)
لبعض: قد عرفتم أن عيسى إلهه الذي يعبده، وقد عرفتم أن نبيكم صلى الله عليه وسلم جاءكم بأنه عبد، وأن ما يقولون هو الباطل، فماذا تقولون؟ قال جعفر: نقول والله فيه ما قال عز وجل وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه، قال لهم: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال جعفر: نقول فيه ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم؛ أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً فقال: ما عدا عيسى بن مريم ما تقولون مثل هذا العود، فنخرت أساقفته نخرة، أي: تكلمت بلغتهم، فقال لهم النجاشي: وإن نخرتم، ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم: الآمنون - ما أحب أن آذى منكم رجلاً وإن لي دبراً من ذهب، والدبر بلسانهم: الجبل، ث قال: ردوا عليهما هداياهما؛ فلا حاجة لي بها، فوالله، ما أخذ الله مني رشوة حين رد علي ملكي، وما أطاع في الناس فأطيعهم فيه، فردوا عليهما هداياهما، فعادا خائبين، ثم قال: مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، وأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك، لأتيته حتى أُقبل نعله، ثم دعا النجاشي فلاناً القس، وفلاناً الراهب، فأتاه أناس منهم فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ قالوا: أنت أعلم بما نقول، فقال النجاشي: وأخذ العود، فقال ما تقدم... ثم قال للمسلمين: أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم، فأمر منادياً ينادي: من آذى واحداً منهم فأغرموه أربعة دراهم، ثم قال: أيكفيكم هذا؟ قالوا لا، قال: فأضعفوها. قد عرفتم أن عيسى إلهه الذي يعبده، وقد عرفتم أن نبيكم صلى الله عليه وسلم جاءكم بأنه عبد، وأن ما يقولون هو الباطل، فماذا تقولون؟ قال جعفر: نقول والله فيه ما قال عز وجل وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه، قال لهم: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال جعفر: نقول فيه ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم؛ أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً فقال: ما عدا عيسى بن مريم ما تقولون مثل هذا العود، فنخرت أساقفته نخرة، أي: تكلمت بلغتهم، فقال لهم النجاشي: وإن نخرتم، ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم: الآمنون - ما أحب أن آذى منكم رجلاً وإن لي دبراً من ذهب، والدبر بلسانهم: الجبل، ث قال: ردوا عليهما هداياهما؛ فلا حاجة لي بها، فوالله، ما أخذ الله مني رشوة حين رد علي ملكي، وما أطاع في الناس فأطيعهم فيه، فردوا عليهما هداياهما، فعادا خائبين، ثم قال: مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، وأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك، لأتيته حتى أُقبل نعله، ثم دعا النجاشي فلاناً القس، وفلاناً الراهب، فأتاه أناس منهم فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ قالوا: أنت أعلم بما نقول، فقال النجاشي: وأخذ العود، فقال ما تقدم... ثم قال للمسلمين: أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم، فأمر منادياً ينادي: من آذى واحداً منهم فأغرموه أربعة دراهم، ثم قال: أيكفيكم هذا؟ قالوا لا، قال: فأضعفوها.
فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج إلى المدينة، وظهر بها، أتاه المسلمون فقالوا: أيها الملك، إن نبينا قد خرج إلى المدينة، فظهر بها وقتل الذين كنا حدثناك عنهم، وقد أردنا الرحيل، فزودنا، فزودهم وحملهم، ثم قال: يا جعفر، أخبر صاحبك بما صنعت إليكم، وهذا صاحبي معكم، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنه محمد رسول الله، وقل له يستغفر لي.
قال السهيلي: روى أن وقعة بدر حين انتهى خبرها إلى النجاشي - رحمه الله تعالى - علم بها قبل من عنده من المسلمين، فأرسل إليهم، فلما دخلوا عليه إذ هو قد لبس مسحاً وقعد على التراب والرماد، فقالوا: ما هذا أيها الملك؟ فقال: إنا نجد في الإنجيل أن الله سبحانه إذا أحدث بعبده نعمة، وجب على العبد أن يحدث الله تواضعاً، وإن الله قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة، وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم بلغني أنه التقى هو وأعداؤه بواد يقال له: بدر كثير الأراك، كنت أرعى فيه الغنم على سيدي، وهو من بني ضمرة، وأن الله قد هزم أعداءه فيه ونصر دينه. انتهى(1/136)
وقد دل هذا الخبر على طول مكثه في بلاد العرب، فمن هنا - والله أعلم - تكلم بلسان العرب، وتعلم ما فهم به سورة مريم حين قرأها عليه جعفر بن أبي طالب حتى بكى واخضلت لحيته بالدمع؛ كما تقدم.
وروى أنه قال: إنا نجد في الإنجيل: أن اللعنة تقع في الأرض إذا كانت إمارة الصبيان. وكانت وفاة النجاشي في رجب سنة تسع من الهجرة، ونعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، وصلى عليه بالبقيع، رفع إليه سريره بأرض الحبشة حتى رآه، وهو بالمدينة، فصلى عليه، وتكلم المنافقون فقالوا: صلى على هذا العلج، فأنزل الله: " وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ... " الآية آل عمران.
وفي رواية يونس، عن ابن إسحاق؛ أن أبا نيزر مولى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : كان ابناً للنجاشي نفسه، وأن علياً - رضي الله عنه - وجده عند تاجر بمكة فاشتراه منه، وأعتقه مكافأة لما صنع أبوه مع المسلمين.
وذكر أن الحبشة عرج إليه أمرها بعد موت النجاشي، وأنهم أرسلوا وفداً منهم إلى نيزر، وهو مع علي ليملكوه ويتوجوه، فأبى، وقال: ما كنت لأطلب الملك بعد أن منّ علي بالإسلام، قال: وكان نيزر من أطول الناس قامة وأحسنهم وجهاً، ولم يكن لونه كألوان الحبشة، ولكن إذا رأيته قلت: رجل من العرب.
قال جعفر: فخرجنا حتى أتينا المدينة، فتلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتقني، ثم قال: أنا أسر بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر؟ ووافق ذلك فتح خيبر، فقام رسول النجاشي، فقال: هذا جعفر، فاسأله ما صنع به صاحبنا؟ فقال جعفر: فعل كذا وكذا، وزودنا وحملنا وشهد ن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وقال: قل له يستغفر لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم دعا ثلاث مرات: اللهم اغفر للنجاشي، فقال المسلمون: آمين، قال جعفر: فقلت لرسول النجاشي: فأخبر صاحبك بما رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى قول النجاشي: ما أخذ الله مني رشوة حين رد علي ملكي... إلى آخره أنه لم يكن لأبيه غيره، وكان أبوه ملك قومه، وكان للنجاشي عم، له من صلبه اثنا عشر رجلاً، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشة فيما بينها: لو قتلنا أبا النجاشي، ثم ملكنا أخاه، فتوارث ملكه بنوه؛ فإنهم اثنا عشر رجلاً يمكث فيهم الملك زماناً، فعدوا على أبي النجاشي، فقتلوه، ثم ملكوا أخاه، ونشأ مع عمه وكان لبيباً حاذقاً، فغلب على أمر عمه، ونزل منه كل منزل، فلما رأت الحبشة مكانه منه، قالت الحبشة: والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه، وإنا لنتخوف أن يملكه علينا فيقتلنا أجمعين، لقد عرف أنا قتلنا أباه، فمشوا إلى عمه، فقالوا: إنا قتلنا أبا هذا الغلام، وقد عرف أنا قتلناه، وملكناك علينا، فإنا نتخوف على أنفسنا منه، فاقتله أو أخرجه من بلادك، فقال: ويحكم قتلتم أبا بالأمس وأقتله اليوم؟ اذهبوا فأخرجوه من بلادكم فبيعوه في هذا السوق، فأخرجوه إلى السوق وأقاموا فيه، فجاء تاجر، فاشتراه بستمائة درهم، فأخذه في سفينة، فانطلق به حتى إذا كان العشي من ذلك اليوم، هاجت سحابة من سحائب الحريق فخرج عمه يستمطر، فأصابته صاعقة فأحرقته، فرجعوا إلى بنيه، فإذا هم ليس فيهم خير، فقالت الحبشة بعضهم لبعض: هلك والله ملككم، تعلمون أن ملككم الذي بعتموه، فإن كان لكم في ملككم حاجة، فأدركوه، فخرجوا في طلبه، فأدركوا التاجر وأخذوه منه، ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج وأقعدوه على سرير الملك، فملكوه، فجاءهم التاجر فقال: أعطوني دراهمي كما أخذتم غلامي، قالوا: لا والله لا نفعل، قال: والله لأشكونكم إلى الملك، فجاء إلى مجلس الملك، فقال: أيها الملك، إني ابتعت غلاماً، ثم أتاني باعته، فانتزعوه مني، فسألتهم مالي، فأبوا أن يعطوني، فنظر النجاشي إليه، فقال: والله لتعطنه ماله، أو ليضعن يده في يد عبده، فيذهب به حيث يشاء، فقالوا: بلى نعطيه ماله، فكان هذا من النجاشي أول ما اختبر من صلابته في دينه وعدله في ملكه. انتهى.
والكلام يجر بعضه بعضاً، فالمسئول من الناظر التسامح والإغضاء: وكان عمرو بن العاص سافر بامرأته، فلما ركبوا البحر، كان عمارة قد هوى امرأة عمرو وهويته؛ لأنه كان جميلاً وسيماً عزيزاً في قريش.(1/137)
قلت: وهو الذي قالت قريش عنه لأبي طالب: خذ عمارة بن الوليد وتبناه بدلاً عن محمد صلى الله عليه وسلم وادفع إلينا محمداً نقتله، فقال لهم أبو طالب: تعطوني ولدكم أغذوه لكم، وأدفع لكم ابني تقتلونه ! بئسما سفهت به أحلامكم. وهو أيضاً أحد الرجلين اللذين حكى الله تعالى عنهما قول قريش: " لَوْلاَ نُزّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ " الزخرف أرادوا بالقريتين: مكة، والطائف، وبعظيم مكة هذا: عمارة بن الوليد بن المغيرة، وبعظيم الطائف: عروة بن مسعود الثقفي. انتهى فلما هويها وهويته عزما على دفع عمرو في البحر، فدفعا عمراً فسقط في البحر، فسبح عمرو ونادى أصحاب السفينة فأخذوه، فرفعوه إلى السفينة، فأضمرها عمرو في نفسه، ولم يبدها لعمارة، بل قال لامرأته، قتلني ابن عمك عمارة لتطيب بذلك نفسه، فلما انتهيا إلى أرض الحبشة مكر عمرو بعمارة، فقال له: إني كتبت إلى قومي بني سهم ليبرءوا من دمي لك، فاكتب أنت لبني مخزوم قومك ليبرءوا من دمك لي؛ حتى تعلم قريش أنا قد تصافينا، فكتب عمارة لبني مخزوم وتبرءوا من دمه لبني سهم، فقال شيخ من قريش: قتل والله عمارة، وعلم أنه مكر به عمرو، ثم أخذ عمرو يحرض عمارة على التعرض لامرأة النجاشي: وقال له: أنت امرؤ جميل، وهن النساء يحببن الجمال من الرجال، فلعلها أن تشفع لنا عند الملك في قضاء حاجتنا، ففعل عمارة، فلما رأى عمرو ذلك، وتكرر عمارة على امرأة الملك، ورأى إنابتها إليه، أتى الملك مستنصحاً، وجاءه بأمارة عرفها الملك من امرأته، كان عمارة أطلع عمراً عليها، وهي قليل بياض فوق ركبها اسم الفرج، فلما أخبره بذلك، أدركته غيرة الملوك، وقال: لولا أنه جاري لقتلته، ولكن سأفعل به ما هو شر من القتل. ثم دعا بالسواحر فأمرهن أن يسحرنه، فنفخن في إحليله نفخة طار منها هائماً على وجهه حتى لحق بالوحوش في الجبال، فكان يرى آدمياً فتوحش، فكان ذلك آخر العهد به إلى زمن عمر - رضي الله عنه - فجاء ابن عمه عبد الله بن ربيعة إلى عمر، واستأذنه أن يذهب إليه لعله يجده فأذن له عمر في ذلك، فسار عبد الله بن ربيعة إلى أرض الحبشة، ولم يزل في الفحص عن أمره حتى أخبر أنه في جبل يرد مع الوحوش إذا وردت ويصدر معها إذا صدرت، فسار إليه حتى كمن له في طريقه إلى الماء، فإذا هو قد غطاه شعره، وطالت أظفاره حتى كأنه شيطان، فقبض عليه عبدا لله، وجعل يذكره بالرحم ويستعطفه، وهو ينتفض منه ويقول: أرسلني يا بجير، أرسلني يا بجير، وكان اسم عبد الله بن ربيعة المذكور بجيراً، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم: عبد الله، فأبى عبد الله أن يرسله حتى مات عمارة بين يديه، وهذا خبر مشهور اختصره بعض من ألف السير كما ذكرنا، وطوله أبو الفرج الأصبهاني، وهذا حاصله. انتهى ثم بلغهم بأرض الحبشة: أن أهل مكة قد سجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا، وذلك حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ سورة النجم حتى بلغ: " أَفَرَءَيْتُمُ الَّلتَ وَالْعُزَّى وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى " النجم، ألقى الشيطان في أمنيته، أي: في تلاوته هاتين الجملتين: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. فلما ختم السورة سجد وسجد معه المشركون؛ لتوهمهم أنه ذكر آلهتهم بخير، فمشى ذلك في الناس، وأظهره الشيطان حتى بلغ أرض الحبشة ومن بها من المسلمين، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا معه صلى الله عليه وسلم، وقد أمن المسلمون بمكة، فأقبلوا سراعاً من الحبشة. والغرانيق: جمع غرنوق، وغرنيق، وهي في الأصل: الذكور من طيور الماء، سميت بذلك؛ لبياضها. وقيل: هو الكركي. والغرنوق - أيضاً - هو الشاب الأبيض الناعم، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله وتشفع لهم، فشبهت بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع.
قلت: وهذه القصة قد وهن أصلها وادعى وضعها جماعات من العماء؛ منهم القاضي عياض، والفخر الرازي، والبيهقي، وقال البيهقي: رواة هذه القصة مطعونون، وأيضاً: فقد روى البخاري في صحيحه قراءة سورة النجم وسجود المسلمين معه صلى الله عليه وسلم والمشركين والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق، ثم قال: وقيل: إنها من وضع الزنادقة ولا أصل لها. انتهى(1/138)
وصححها جماعة؛ منهم ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن المنذر وأخرجها من طرق، وكذا ابن مردويه، والبزار، وابن إسحاق في السيرة، وموسى بن عقبة في المغازي، وأبو معشر في السيرة؛ كما نبه عليه الحافظ عماد الدين بن كثير وغيره، لكن قال: إن طرقها كلها مرسلة، وإنه لم يرها مسندة من وجه صحيح.
وإذا تقرر ذلك، تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله: تلك الغرانيق... إلى آخره فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره؛ لأنه يستحيل عليه - عليه الصلاة والسلام - أن يزيد في القرآن عمداً ما ليس منه، وكذا سهواً إذا كان مغايراً لما جاء به من التوحيد؛ لمكان عصمته؛ وقد سلك العلماء في ذلك مسالك: فقيل: جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة وهو لا يشعر، فلما علم بذلك، أحكم الله آياته؛ وهذا أخرجه الطبري، عن قتادة، ورده عياض بأنه لا يصح؛ لكونه لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا ولاية للشيطان عليه: لا في اليقظة ولا في النوم.
وقيل: إن الشيطان ألجأه إلى قول ذلك، فقال بغير اختياره؛ ورده ابن العربي بقوله تعالى؛ حكاية عن الشيطان: " وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مَن سُلْطَنٍ " إبراهيم قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك، لما بقي لأحد قوة على طاعة.
وقيل: لعله قال ذلك توبيخاً للكفار؛ قال عياض: وهذا جائز إذا كان هناك قرينة تدل على المراد، ولا سيما قد كان الكلام في ذلك الوقت جائزاً في الصلاة؛ وإلى هذا نحا الباقلاني.
وقيل: إنه لما وصل إلى قوله: " وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى " النجم خشى المشركون أن يأتي بعدها شيء بذم آلهتهم، فبادروا إلى ذلك الكلام، فخلطوا في تلاوته عليه الصلاة والسلام - على عادتهم في قولهم: " لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ " فصلت ونسب ذلك إلى الشيطان؛ لكونه الحامل لهم على ذلك، والمراد: شيطان الإنسان.
وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن، فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات، ونطق بتلك الكلمات محاكياً نغمة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه، فظنها من قوله وأشاعها.
قال: وهذا الأخير أحسن وجوه التأويل في هذه القصة؛ ويؤيده ما ورد عن ابن عباس من تفسير " تَمَنَّى " الحج تلا، وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل، وقال: معنى " فِي أُمْنِيَّتِهِ " الحج أي: في تلاوته؛ فأخبر الله تعالى في هذه الآية أن سنة الله في رسله إذا قالوا قولاً وزاد الشيطان فيه من قبل نفسه؛ فهذا نص في أن الشيطان زاد في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله. انتهى ولما رجعوا سراعاً من الحبشة، ثم تحققوا قبل دخول مكة بساعة خلاف ذلك، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفياً، وكذلك لما تبين للمشركين عدم مدح النبي آلهتهم رجعوا إلى أشد ما كانوا عليه.
فلما اشتد إيذاء المشركين للمسلمين، أذن لهم صلى الله عليه وسلم في الهجرة الثانية، فهاجر ثلاثة وثمانون رجلاً وثمان عشرة امرأة، فيهم جعفر بن أبي طالب، وأم سلمة، وغيرهما، فأقاموا في الحبشة على أحسن حال حتى رجعوا إليه - عليه الصلاة والسلام - كما تقدم ذكر ذلك.(1/139)
ولما رأت قريش عزة النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه، وعزة أصحابه بالحبشة، وفشوا الإسلام في القبائل، اجتمعوا وأجمعوا على أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم، فكتبه منصور بن عكرمة، أو بغيض بن عامر، فشلت يده، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، فانحاز الهاشميون غير أبي لهب والمطلبيون إلى أبي طالب في شعبه سنتين أو ثلاثاً حتى جهدوا، وكان لا يصل إليهم القوت إلا خفية، حتى قام رجال خمسة في نقض الصحيفة، وهم، هشام بن الحارث بن حبيب بن خزيمة بن مالك بن حسل ابن عامر بن لؤي العامري، وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وزهير ابن أبي أمية بن المغيرة، وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم عاتكة ابنة عبد المطلب، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام بن الحارث بن أسد الأسدي؛ وذلك أن بني هاشم والمطلب جهدوا ولم يصل إليهم شيء إلا سراً حتى إن حكيم بن حزام بن خويلد حمل غلامه قمحاً يريد عمته خديجة ابنة خويلد - رضي الله عنها - فلقيه أبو جهل؛ فتعلق به، وأراد أن يفضحه، فانتصر له أبو البختري بن هشام، وقال: خل سبيله، فأبى أبو جهل، فأخذ له لحي جمل فضربه به فشجه ووطئه وطئاً شديداً، فلما مضت تلك المدة، قام أولئك النفر الخمسة في نقض الصحيفة، وكان رأسهم هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث لعزته بعمه لأمه الذي هو أخو عبد المطلب؛ ومن ثم كان واصلاً لبني هاشم؛ فكان يأتيهم بالبعير عليه الطعام إلى فم الشعب، فيخلع خطامه ويضربه حتى يدخل.
فمشى هشام هذا إلى زهير بن أمية المخزومي، وهو ابن عاتكة ابنة عبد المطلب، فقال له: يا زهير، أرضيت بأن تأكل الطعام، وتشرب الماء، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث ما علمت؟! وشدد عليه حتى قال: أبغنا ثالثاً، قال: قد وجدت المطعم بن عدي، قال: أبغنا رابعاً، فذهب إلى أبي البختري، واستنخاه أيضاً، فقال: وهل من معين؟ فذكر له أولئك فقال: أبغنا خامساً، فذهب إلى زمعة ابن الأسود، واستنخاه فقال: هل من أحد؟ فذكر له القوم، فاجتمعوا بالحجون، وأجمعوا على نقضها، فقال لهم زهير: وأنا أول من يتكلم، فلما أصبحوا، غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير فطاف سبعاً، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، إنا نأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكي لا يبايعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة، فقال أبو جهل: كذبت والله ما تشق، فقال زمعة لأبي جهل: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت، وقال أبو البختري: صدق زمعة، ما نرضى ما كتب فيها ولا نقر به، فقال المطعم: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها، فقال أبو جهل: هذا أمر بيت بليل، اشتور فيه بغير هذا المكان، وأبو طالب جالس، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا: باسمك اللهم.
ولا يعارض ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أخبر أبا طالب أن الله سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أثبتته، ومحت منها الظلم والقطيعة والبهتان، فقال له أبو طالب: أربك أخبرك بهذا؟ قال: نعم، فأخبرهم بذلك فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن صدق فانتهوا عن قطيعتنا، وإلا دفعته إليكم، فنظروها، فإذا هي كما قال - عليه الصلاة والسلام - فازدادوا أشراً.
ووجه عدم المعارضة: أنه لا مانع من أنهم لما نظروا ذلك، وازدادوا أشراً، قام أولئك الخمسة المذكورين في إزالتها من أصلها، فسعوا في نقضها وبذلوا جهدهم فيه.
قال الشارح الجوجري: ويحتمل أن أبا طالب إنما أخبرهم بعد سعيهم في نقضها. انتهى قال العلامة ابن حجر الهيتمي: ويبعده أن الإخبار حينئذ ليس له كبير جدوى.
قلت: إن كان الإخبار بعد الاطلاع عليها، فلا ريب في عدم أصل الجدوى فضلاً عن كبيرها، وإن كان الإخبار قبل تنزيلها بعد السعي في نقضها؛ كما هو ظاهر فحواه، فجدواه جدواه، فلا بعد في احتماله بعد. انتهى ولما مزقت الصحيفة، وبطل ما فيها، قال أبو طالب - فيما كان من أولئك النفر الذين قاموا في تمزيقها يمدحهم في فعلهم - هذه القصيدة: من الطويل
ألا هل أتى بحريّنا فعل ربّنا ... على نأيهم والله بالنّاس أرود(1/140)
فيخبرهم أنّ الصّحيفة مزّقت ... وأن كلّ ما لم يرضه اله مفسد
تراوحها إفكٌ وسحرٌ مجمّعٌ ... ولم يلف سحرٌ آخر الدّهر يصعد
جزى الله رهطاً بالحجون تبايعوا ... على ملإ يهدي لحزمٍ ويرشد
قعوداً لدى خطم الحجون كأنّهم ... مقاولةٌ بل هم أعزّ وأمجد
أعان عليها كلّ صقرٍ كأنّه ... إذا ما مشى في رفرف الدّرع أجرد
جرىءٌ على جلّ الخطوب كأنّه ... شهابٌ بكفّي قابسٍ يتوقّد
من الأكرمين من لؤيّ بن غالبٍ ... إذا سيم خسفاً وجهه يتربّد
طويل النّجاد خارجٌ نصف ساقه ... على وجهه يسقى الغمام ويسعد
عظيم الرّماد سيّدٌ وابن سيّدٍ ... يحضّ على مقري الضّيوف ويحشد
ويبني لأبناء العشيرة صالحاً ... إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد
ألظّ بهذا الصّلح كلّ مبرّإٍ ... عظيم اللواء أمره ثمّ يحمد
قضوا ما قضوا في ليلهم ثمّ أصبحوا ... على مهلٍ وسائر النّاس رقّد
هم رجعوا سهل بن بيضاء راضياً ... وسرّ أبو بكرٍ بها ومحمّد
متى شرك الأقوام في جلّ أمرنا ... وكنّا قديماً قبلها نتودّد
وكنّا قديماً لا نقرّ ظلامةً ... وندرك ما شئنا ولا نتشدّد
فيالقصيّ هل لكم في نفوسكم ... وهل لكم فيما يجىء به غد
فإنّي وإيّاكم كما قال قائلٌ ... لديك البيان لو تكلّمت أسود
أسود: جبل كان قد قتل فيه قتيل ولم يعرف قاتله، فقال أولياء المقتول هذه المقالة يعنون بها أن هذا الجبل لو تكلم لأبان عن القاتل ولعرف بالجاني، ولكنه لا يتكلم، فذهبت مقالتهم مثلاً، وقد أشار صاحب الهمزية إلى ذلك بقوله: من الخفيف
فتيةٌ بيّتوا على فعل خيرٍ ... حمد الصّبح أمرهم والمساء
يا لأمرٍ أتاه بعد هشامٍ ... زمعةٌ إنّه الفتى الأثّاء
وزهيرٌ والمطعم بن عديٍّ ... وأبو البحتريً من حيث شاءوا
نقضوا مبرم الصحيفة إذ شد ... دت عليهم من العدا الأنداء
أذكرتنا بأكلها أكل منسا ... ة سليمان الأرضة الخرساء
وبها أخبر النّبيّ وكم أخ ... رج خبئاً له الغيوب خباء
وكان ذلك في السنة العاشرة من البعثة.
ثم بعد ذلك بثمانية أشهر وأحد وعشرين يوماً، مات عمه أبو طالب، ثم خديجة بعده بثلاثة أيام على الصحيح في رمضان، وكان - عليه الصلاة والسلام - يسمى ذلك العام: عام الحزن، وكانت مدة إقامتها معه - عليه الصلاة والسلام - خمساً وعشرين سنة على الصحيح.
وبعد أيام من موتها: تزوج بسودة بنت زمعة، ثم خرج إلى الطائف بعد موت خديدة بثلاثة أشهر في ليال بقين من شوال سنة عشر من النبوة، وهي سنة خمسين من مولده، لما ناله من قريش بعد موت أبي طالب، وكان معه زيد بن حارثة، فأقام شهراً يدعوا أشراف ثقيف إلى الله تعالى، فلم يجيبوه وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم وصبيانهم يسبونه.
قال موسى بن عقبة: ورجموا عراقيبه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء، وكان إذا أذلقته الحجارة، قعد على الأرض؛ فيقيمونه بعضديه؛ فإذا مشى، رجموه وهم يضحكون، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شج في رأسه مراراً.
وفي البخاري من حديث عائشة - رضي الله عنها - : فانطلقت عنهم وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني فإذا فيها جبريل.(1/141)
وذلك بعد أن دعا صلى الله عليه وسلم في طريقه بالدعاء المشهور، وهو: اللهم، إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، وأنت رب المستضعفين، إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني، أم إلى صديق قريب كلفته أمري؟! إن لم تكن غضباناً علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تنزل بي غضبك، أو تحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك أورده ابن إسحاق، ورواه الطبراني في كتاب الدعاء: فناداني فقال: إن الله قد سمع قومك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فقال ملك الجبال: إن شئت، أن أطبق عليهم الأخشبين؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً.
ولما بلغ - عليه الصلاة والسلام - خمسين سنة، قدم عليه جن نصيبين، ولم يعلم بهم حتى نزلت؛ " وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ " الأحقاف فأسلموا وكانوا سبعة، قيل: وكانوا يهوداً، ولذا قالوا: " أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى " الأحقاف وفي الترمذي: قرأ عليهم سورة الرحمن، كلما قرأ: " فَبِأَيّ ءَالاَءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ " الرحمن قالوا: لا بشيء من نعمائك ربنا نكذب.
وبعد إحدى وخمسين وتسعة أشهر: أسرى به إلى بيت المقدس، وشق وغسل قلبه وملئ إيماناً وحكمة، وهي المرة الرابعة.
ثم أتى بالبراق، فركبه وعرج به إلى السموات السبع، فسلم على من بهن من الأنبياء والملائكة، حتى بلغ سدرة المنتهى، وفرض عليه وعلى أمته خمسون صلاة في اليوم والليلة، فلم يزل يراجع ربه فيسقط عنه عشراً عشراً إلى الخمس، حتى قال تعالى: هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي، ولما رجع أخبر قومه، فكذبوه إلا من وقاه الله، وارتد جمع بعد الإسلام، وسألوه أمارة، فأخبرهم بقدوم العير يوم الأربعاء، ثم لم تقدم حتى كادت الشمس أن تغرب، فدعا الله عز وجل، فحبس له الشمس حتى قدمت كما وصف، وسألوه عما في المسجد الأقصى، فجلاه الله له فصار ينظر إليه ويجيبهم عن كل ما يسألونه عنه، ووضع له جنب بيت عقيل أو عقال.
وكان صلى الله عليه وسلم يوافي الموسم كل عام، ويبلغ الحاج في منازلهم، وفي أسواقهم: عكاظ، ومجنة، وذي المجاز.
أما ذو المجاز: فهو سوق عند عرفة كانت العرب إذا حجت، أقامت بسوق عكاظ شهر شوال، ثم تنتقل عنه إلى سوق مجنة؛ فتقيم فيه عشرين يوماً من ذي القعدة، ثم تنتقل إلى سوق ذي المجاز، فتقيم به أيام الحج.
وكانوا في سوق عكاظ يتفاخرون ويتناشدون الأشعار المشعرة بفخر كل قبيلة؛ يقال: عكظ الرجل صاحبه: إذا فاخره وغلبه بالمفاخرة، فسمى عكاظ بذلك لذلك.
وعكاظ هو المسمى الآن بأرض نخلة، ويسمى بالمضيق، وبه الآن عيون ونخيل وزروع ومساكن؛ كذا ذكره السهيلي، رحمه الله.
وأما سوق مجنة: فهو بأسفل مكة على يريد منها؛ فلم يجد من ينصره حتى جاءت الأنصار وهم الأوس والخزرج، فأسلم منهم ستة نفر؛ كما هو المشهور، وقيل: اثنان؛ كما ذكره الشمس البرماوي؛ كما سيأتي بيانه في الباب الثاني من المقصد الثاني على الأثر.
ثم أذن الله لنبيه بالهجرة إلى المدينة الشريفة؛ قاله ابن عباس بقوله تعالى: " وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ... " الآية الإسراء أخرجه الترمذي، وصححه الحاكم.
الباب الثاني من المقصد الثاني
في ذكر هجرته إلى المدينة الشريفة
قال أهل السير: لما وقعت البيعة الأولى بالعقبة، وكان المبايع له فيها ستة أنفار من الأنصار، وقيل: اثنان: أسعد بن زرارة، وذكوان بن عبد القيس، ثم الثانية فلقيه فيها اثنا عشر رجلاً فيهم خمسة من الستة الأولين، وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة، وعوف بن عفراء، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، ولم يكن فيهم جابر بن عبد الله بن رئاب؛ فلم يحضرها.(1/142)
وأما السبعة تمام الاثنى عشر، وهم: معاذ بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء أخو عوف المذكور، وذكوان بن عبد القيس الزرقي، وقيل: إنه دخل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فسكنها معه، فهو مهاجري أنصاري قتل يوم أحد، وعبادة بن الصامت بن قيس، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة البلوري، والعباس بن عبادة بن نضلة، وهؤلاء من الخزرج.
ومن الأوس رجلان: أبو الهيثم بن التيهان من بني عبد الأشهل، وعويم بن ساعدة، فأسلموا وبايعوا.
ثم لما وقعت في ذي الحجة من السنة الثالثة عشرة من النبوة قبل الهجرة بثلاثة أشهر بيعة العقبة الكبرى الثالثة، قدم مكة في موسم الحج قريب من خمسمائة نفر.
وفي رواية: ثلاثمائة نفر من الأوس والخزرج.
وخرج معهم مصعب بن عمير إلى مكة، اتفق منهم سبعون رجلاً، قال ابن إسحاق: ثلاثة وسبعون نفساً لاقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعدهم أن يحضروا العقبة في الليلة الثانية من ليالي التشريق؛ فكانت تلك الليلة هي ليلة العقبة الكبرى الثالثة، وهي معروفة مبينة.
قال في الوفا: لما أبرم عقد المبايعة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل المدينة، ولم يقدر أصحابه أن يقيموا بمكة من أذى المشركين، ولم يصبروا على جفوتهم رخص لهم في الهجرة إلى المدينة، فتوجه مصعب بن عمير إلى المدينة ليفقه من أسلم من الأنصار، ثم توالى خروجهم بعد العقبة الأخيرة هذه، فخرجوا أرسالاً، منهم: عمر ابن الخطاب، وأخوه زيد بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، وصهيب، وحمزة، وزيد بن حارثة، وعبيدة بن الحارث، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وغيرهم، ولم يبق معه صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، ذكره ابن إسحاق وغيره.
وفي صحيح البخاري: تجهز أبو بكر الصديق قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك؛ فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده، ودق السمر - وهو الخبط - أربعة أشهر ليسمنا وينتظره صلى الله عليه وسلم متى يؤمر بالهجرة إلى المدينة.
فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا منعةً وأصحاباً بغير ديارهم، ووجدوا مهاجراً قريباً يهاجرون إليه، عرفوا أن قد عزم أن يلحق بهم وسيحميه المدنيون، فخافوا خروجه إليهم وحذروا تفاقم أمره، فاجتمعوا بدار الندوة للمشاورة. وقال ابن دريد في الوشاح: إنهم كانوا خمسة عشر رجلاً. وقال ابن دحية: كانوا مائة.
ولما قعدوا للتشاور تبدى لهم إبليس في صورة شيخ نجدي؛ لأنهم قالوا: لا يدخلن عليكم أحد من تهامة؛ لأن أهواءهم مع محمد، فلذلك تمثل اللعين في صورة شيخ نجدي، فدخل، فقالوا له: من أدخلك خلوتنا بغير إذننا؟ قال: أنا شيخ من قبيلة نجد، وجدت وجوهكم مليحة ورائحتكم طيبة، أردت أن أسمع كلامكم وأقتبس منه شيئاً، ولقد أعرف مقصودكم، وإن كنتم تكرهون جلوسي عندكم خرجت. فقالت قريش: رجل نجدي لا يضركم حضوره.
فقال بعضهم لبعض: إن محمداً قد كان من أمره ما علمتم، وإن والله لا نأمن منه الوثوب علينا بمن اتبعوه، فأجمعوا فيه رأياً. فقال أبو البختري بن هشام: أرى أن تحبسوه وتشدوا وثاقه في بيت ما لبابه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك الشعراء من قبله كزهير والنابغة، فصرخ الشيخ وقال: بئس الرأي رأيتم، والله لو حبستموه لخرج أمره من وراء الباب إلى أصحابه؛ فوثبوا وانتزعوه من أيديكم. قالوا: صدق الشيخ. وقال هشام بن عمرو: أرى أن تحملوه على جمل، وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم منه. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما أتى به؟ فو الله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن ينزل على حي من أحياء العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يبايعوه، ثم يسير بهم حتى يطأكم. فقالوا: صدق والله الشيخ.(1/143)
فقال أبو جهل لعنه الله: والله إن لي فيه لرأياً لا أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا وما هو يا أبا الحكم؟ قال: رأيي أن تأخذوا من كل قبيلة شاباً جلداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتىً سيفاً صارماً، ثم يعمدون إليه فيضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه؛ فإنكم إن فعلتم ذلك تفرق دمه في القبائل كلها، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، فإن رضوا منا بالعقل عقلناه لهم.
فقال الشيخ النجدي: القول ما قال هذا الرجل، هو أجودكم رأياً، لا أرى لكم غيره. قال ابن إسحاق: وكان فيما أنزل الله في ذلك قوله: " وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَكِرينَ " الأنفال وقوله عز وجل: " أًمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ تَتَرَّبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ " الطور قال ابن هشام: المنون: الموت، وريبها ما يريب ويعرض منها. قال أبو ذؤيب الهذلي في مرثيته لبنيه الثمانية التي مطلعها: من الكامل
أمن المنون وريبها تتفجّع ... والدّهر ليس بمعتبٍ من يجزع
ولما استقر رأي قريش على قتل النبي صلى الله عليه وسلم بعد المشاورة، جاءه جبريل وأخبره بذلك، وقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك. وأذن الله له عند ذلك بالخروج. ولما أمره بذلك سأل عمن يهاجر معه، فقال: أبو بكر الصديق.
وعن ابن عباس: أن الله لما أذن لنبيه بالهجرة خاطبه بهذه الآية " وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقِ وَأًخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِي مِن لَّدُنكَ سُلْطَناً نَّصِيراً " الإسراء الآية. أخرجه الترمذي وصححه هو والحاكم كذا في الوفاء والمواهب وفي العمدة: أمر أن يقول ذلك عند الهجرة، وكان أبو بكر حين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة قال له: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبً، فطمع أبو بكر أن رسول الله إنما يعني نفسه، فابتاع راحلتين فحبسهما يعلفهما كما تقدم ذكر ذلك.
وعن عروة عن عائشة أم المؤمنين: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخطئ أن يأتي بيت أبي بكر طرفي النهار إما بكرة أو عشية، حتى إذا كان يوم أذن له في الهجرة أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها.
قلت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء به عليه الصلاة والسلام في هذه الساعة إلا لأمر حدث. فلما حضر تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس عليه الصلاة والسلام، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء. فقال عليه الصلاة والسلام أخرج عني من عندك. فقال: إنما هما ابنتاي، وفي رواية: إنما في البيت أهلك وأختها؛ لأنها كانت معقوداً عليها منه صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله قد أذن لي في الهجرة. فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله. قال: نعم قالت عائشة: رأيت أبي يبكي من الفرح، وما كنت أظن أحداً يبكي من الفرح. فقال أبو بكر: فخذ إحدى راحلتي هاتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إلا بالثمن. فقال أبو بكر: بالثمن، وكان ثمنها ثمانمائة درهم. قال ابن سعد: وعاشت إلى زمن خلافة أبي بكر، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع، وهي الجدعاء. قاله ابن إسحاق. وقال: إنها من نعم بني الجريش.
قالت عائشة: فجهزناهما أحب الجهاز، ووضعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت بها فم الجراب، وبالقطعة الأخرى فم السقاء، فلذلك سميت ذات النطاقين رواه البخاري.
قال ابن إسحاق: واستأجر أبو بكر من بني الديل هادياً خريتاً يقال له: عبد الله بن الأريقط وكان مشركاً - أو قال على دين الكفار - فأمنه ودفع إليه الراحلتين وواعده غار ثور بعد ثلاث، وأمر أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة - وكان راعياً لأغنام حول جبل ثور - أن يخرج عليها الغنم بعد هزيع من الليل، وأمر ابنه عبد الله بن أبي بكر أن يستمع ما يقول الناس فيهما نهاراً، ويأتيهما بذلك إذا أمسى ليلاً فيخبرهما بما كان في ذلك اليوم من الخبر، وكان يفعل ذلك.(1/144)
وفي أنوار التنزيل: الغار: ثقب في أعلى ثور، وثور: جبل. قال في القاموس: يقال ثور؛ نسبة إلى ثور بن عبد مناة، نسب الجبل إليه. قال ابن جبير في رحلته: جبل ثور في مكة على ثلاثة أميال. وفي بعض كتب اللغة: ثور: أبو قبيلة من مضر، وهو ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخة، وهم رهط سفيان الثوري رضي الله عنه، نسب إليه الجبل، وفيه الغار المذكور في القرآن العظيم الذي دخله النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر، ويقال له: ثور أطحل، وقال بعضهم: اسم الجبل: أطحل، والبحر يرى من أعلى هذا الجبل، وفيه من كلب نبات الحجاز، وفيه ألبان، وفيه شجرة من حمل منها شيئاً لم تلدغه الهامة.
ولما كانت العتمة من تلك الليلة اجتمع المشركون بمكة على باب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ترصدوه حتى ينام فيثبون عليه فيقتلونه. وفي الوفا: اجتمعت قريش إلى باب الدار، فقال أبو جهل: لا تقتلوه حتى يجتمعوا - يعني الخمسة من الخمس القبائل - وجعل يقول لهم: هذا محمد يزعم: إن بايعتموه غلبتم العرب والعجم، ويكون لكم في الآخرة جنات تأكلون منها، وإن لم تبايعوه يكون لكم ذبح في الدنيا، ويوم القيامة نار تحرقون فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، كذا أقول وكذا يكون، وأنت أحدهم.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتماعهم ومكانهم قال لعلي: نم على فراشي، واتشح بردائي الحضرمي الأخضر؛ فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم، فرد هذه الودائع إلى أهلها. وكانت الودائع تودع عنده صلى الله عليه وسلم لصدقة وأمانته. فبات علي كرم الله وجهه على فراشه صلى الله عليه وسلم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، ولما خرج قام على رءوسهم، وقد ضرب الله على أبصارهم، ونزل تلك الليلة أول سورة يس، فأخذ قبضة من تراب، وجعل ينثر على رءوس القوم وهو يقرأ: " إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَقِهِمْ أَغْلَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلَنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ " يس وتلا " وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً " . الإسراء ثم أتى منزل أبي بكر. ثم خرجا من خوخة كانت له في ظهر البيت وعمد إلى غار ثور، ولم يعلم بخروجهما إلا على وآل أبي بكر، وأقام المشركون ساعة فجعلوا يتحدثون فأتاهم آت فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: أن نصبح فنقتل محمداً. قال: قبحكم الله وخيبكم، أو ليس قد خرج عليكم، وجعل على رءوسكم التراب ! قال أبو جهل: أو ليس هو ذاك مسجى ببرده، الآن كلمنا.
وذكر أهل السيرة: أن السبب المانع لهم من التقحم عليه في الدار مع قصر الدار، وأنهم إنما جاءوا لقتله - هو أنهم لما هموا بالولوج عليه صاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: والله إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا ستر حرمتنا، فهذا الذي أقامهم حتى أصبحوا ينتظرون خروجه، ثم طمست أبصارهم عند خروجه. فلما أصبحوا قام علي من الفراش، فلما رآه أبو جهل قال: صدقنا ذلك المخبر.
فاجتمعت قريش وأخذت الطرق، وجعلت الجعائل لمن جاء به، وانصرفت عيونهم فلم يجدوا شيئاً. وفي رواية: لما قام علي من الفراش قالوا له: أين صاحبك؟ فقال: لا علم لي. قيل: إنهم ضربوا علياً وحبسوه ساعة ثم تركوه، واقتصوا أثر النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم. روى أنه لم يبق أحد من الذين وضع على رءوسهم التراب إلا قتل يوم بدر.
وأنشأ علي - رضي الله عنه - يقول هذه الأبيات: من الطويل
وقيت بنفسي خير من وطئ الثّرى ... فنجّاه ذو الطّول الإله من المكر
وقيت بنفسي خير من وطئ الثّرى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إلهٍ خاف أن يمكروا به ... فنجّاه ذو الطّول الإله من المكر
وبات رسول الله في الغار آمناً ... موقّىً وفي حفظ الإله وفي ستر
وبتّ أُراعيهم وما يثبتونني ... وقد وطنت نفسي على القتل والأسر
قال الفقير إلى الله تعالى: وقد سمعت بأبيات أربعة في مثل معنى هذه الأبيات الأربعة وزيادة لبعض الفضلاء وهي: من الكامل(1/145)
أمجادلي فيمن رويت صفاته ... عن " هَلْ أَتَى " وشرفن من أوصاف
أتظنّ تأخير الإمام نقيصةً ... والنّقص في الأطراف لا الأشراف
زوج البتول ووالد السّبطين وال ... فادي النّبي ونجل عبد مناف
أو ما ترى أنّ الكواكب سبعةٌ ... والشّمس رابعةٌ بغير خلاف
وقوله في البيت الأول هل أتى أراد به ما روى الترمذي أنه رضي الله عنه كان عنده ستة أرغفة يريد بها العشاء مع زوجته وولديه وخادمه، فوقف عليه سائل، وكان رضي الله عنه ومن ذكر طاوين يوماً وليلة ويوماً، فورد عليه سائل فقال: مسكين مسكين، فدفع إليه كرم الله وجهه الستة الأرغفة وطوى ومن معه. ثم وجد مثلها فجاء عند الليل سائل فوقف قائلاً: يتيم منقطع يتيم، فأعطاه إياها وطوى ومن معه. ثم وجد مثلها فجاءه عند الليل سائل فوقف قائلاً: أسير أسير، فأعطاه إياها. فأنزل الله في شأنه الآيات في سورة " هَلْ أَتَى عَلَى الإِنَسنِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً " الإنسان إلى قوله " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتيِماً وَأَسِيراً " الإنسان أخرج هذه القصة غير واحد من المحدثين، وإن ضعفها بعض النقاد. انتهى قال الغزالي في الإحياء: إن ليلة بات علي بن أبي طالب على فراش النبي صلى الله عليه وسلم أوحى الله إلى جبريل وميكائيل: إني قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كل منهما الحياة، فأوحى الله إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب؛ آخيت بينه وبين محمد، فبات على فراشه؛ يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة؟ اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه. فكان جبريل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه ينادي: بخ بخ، من مثلك يا بن أبي طالب؛ يباهي بك الله ملائكته؟ فأنزل الله تعالى: " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ " البقرة.
ولما سار النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر إلى الغار جعل أبو بكر يمشي ساعة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وساعة خلفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بالك يا أبا بكر تفعل ذلك؟ فقال: أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي أمامك. وروى عن أبي بكر أنه قال لعائشة: لو رأيتني ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ صعدنا الجبل، فأما قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطرتا دماً، وأما قدماي فعادتا كأنهما صفوان. فقالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتعود الحفاء.
وفي معالم التنزيل لما وصل إلى فم الغار قال أبو بكر: يا رسول الله، مكانك حتى أستبرئ لك الغار. وكان الغار مشهوراً بكونه سكن الهوام. قال: ادخل. فدخل فرأى غاراً مظلماً، فجلس وجعل يلمس بيده، كلما وجد جحراً شق ثوبه فألقمه إياه، حتى فعل ذلك بثوبه كله، فبقي جحر ألقمه عقبه.
وفي الرياض النضرة: فجعل الأفاعي والحيات يضربنه. وعلى كلا التقديرين لدغته الحية تلك الليلة. قال أبو بكر: قد كانت اللدغة أحب إلي من أن يلدغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال أبو بكر: ادخل يا رسول الله؛ فإني قد بوأت لك مكاناً. فدخل فاضطجع. وأما أبو بكر فكان متألماً من لدغة الحية، فلما أصبحا رأى النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر أثر الورم، فسأله عنه فقال: من لدغة الحية، فقال: هلا أخبرتني؟ فقال: كرهت أن أوقظك. فمسحه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فذهب ما به من الورم والألم، ثم قال: فأين ثوبك؟ فأخبره بما فعل، فعند ذلك رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة.
قلت: نظرت إلى بعض غلاة الروافض، فإذا هو لابس طاقية لباد وقد خاط عليها مما يلي ناصيته التعيسة خرقة زرقاء في طول وعرض الخنصر، فأخبرت أن فرقة منهم تعمل ذلك حباً للحية وشكراً لها لما فعلت في الصديق رضي الله تعالى عنه، يعتقد ذلك عملاً صالحاً يثاب عليه ! أخزاه الله في دنياه وأخراه.(1/146)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فعطش عطشاً شديداً، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى صدر الغار فاشرب. قال أبو بكر: فانطلقت إلى صدر الغار، فشربت ماء أحلى من العسل، وأبيض من اللبن، وأذكى رائحة من المسك، ثم عدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شربت؟ قلت: نعم. قال: ألا أبشرك يا أبا بكر؟ قلت: بلى يا رسول الله. فقال: إن الله تبارك وتعالى أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن اخرق نهراً من جنة الفردوس إلى صدر الغار، ليشرب أبو بكر فقلت: يا رسول الله، ولي عند الله هذه المنزلة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، وأفضل؛ والذي بعثني بالحق لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان له عمل سبعين نبياً. أخرجه الملا في سيرته. كذا في الرياض النضرة للمحب الطبري.
قال السهيلي في الروض الأنف: ورد في الصحيح عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهما في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ وروي أيضاً أنهم لما انتهوا إلى باب الغار وقد أنبت الله عليه شجرة الراء - كما سيأتي - رأى أبو بكر القافة فاشتد حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن قتلت فإنما أنا رجل من قريش، وإن قتلت أنت هلكت الأمة. فعندها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا " التوبة ألا ترى كيف قال: لا تحزن ولم يقل: لا تخف لأن حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم شغله عن خوفه على نفسه، ولأنه - أيضاً - رأى ما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم من النصب، وكونه في ضيق من الغار مع فرقة الأهل ووحشة الغربة، وكان أرق الناس على رسول الله وأشفقهم؛ عليه فحزن.
وقول الله تعالى " فَأَنَزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ " التوبة قال أكثر أهل التفسير: يريد: على أبي بكر، فالضمير له. وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت السكينة عليه، وقوله " وَأَيَّدَهُ بِجُنُودِ لَّمْ تَرَوْهَا " التوبة الهاء فيه راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والجنود: الملائكة، أنزلهم عليه الغار فبشروه بالنصر على أعدائه، فأيده ذلك وقواه على الصبر، وقيل: أيده بجنود لم تروها، يعني يوم بدر وحنين وغيرهما من مشاهده. وقد قيل: الهاء راجعة على النبي صلى الله عليه وسلم في الموضعين عليه، وأيده جميعاً، وأبو بكر تبع له، فدخل في حكم السكينة بالمعنى، وكان في مصحف حفصة: فأنزل الله سكينته عليهما، وقيل: إن حزن أبي بكر عندما رأى بعض الكفار يبول عند باب الغار كما سيأتي ذكره قريباً؛ فأشفق أبو بكر أن يكونوا قد رأوهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن؛ فإنهم لو رأونا لم يستقبلونا بفروجهم عند البول، إن لقريش نخوة، ولما تشاغلوا بشيء عن أخذنا.(1/147)
فائدة: زعمت الرافضة أن في قوله عليه الصلاة والسلام لأبي - بكر رضي الله عنه - غضا منه وذماً له؛ فإن في حزنه ذلك إن كان طاعة فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن الطاعة، فلم يبق إلا أنه معصية. فقال لهم على طريقة الجدل: قد قال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم " فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ " يس وقال تعالى " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " آل عمران وقال لموسى عليه الصلاة والسلام " خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ " طه وقالت الملائكة للوط عليه الصلاة والسلام - حين قيل لهم هذا كانوا في معصية - فقد كفرتم، ونقضتم أصلكم في وجوب العصمة للإمام المعصوم في زعمكم وهو من غير الأنبياء، فكيف بهم؟ وإنما قوله عليه الصلاة والسلام: لا تحزن وقوله تعالى لأنبيائه، مثل هذا تسكين لإيحاشهم وتيسير لهم وتأنيس، لا على جهة النهي الذي زعموا، ولكن كما قال تعالى " تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ " فصلت وهذا القول إنما يقال لهم عند المعاينة، وليس - إذ ذاك - أمر بطاعة ولا نهي عن معصية. فانتبه للصواب أيها العبد الموفق، المأمور بتدبر كتاب الله تعالى، لقوله " إِذْ يَقُولُ لِصَحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا " التوبة كيف كان معهما بالمعنى وباللفظ؛ أما المعنى فكان معهما بالنصر والإرشاد والهداية، وأما اللفظ فإن اسم الله تعالى كان يذكر إذا ذكر رسوله وإذا دعى فقيل: يا رسول الله، أو فعل رسول الله، ثم كان لصاحبه أبي بكر كذلك يقال: يا خليفة رسول الله، وفعل خليفة رسول الله، فكان يذكر مع ذكرهما بالرسالة وبالخلافة، ثم ارتفع ذلك فلم يكن لأحد من الخلفاء ولا يكون. انتهى ما قاله السهيلي في الروض.
قلت: قوله: ثم ارتفع ذلك صحيح؛ لأنه لما ولي عمر - رضي الله عنه - استثقل دعاؤه بيا خليفة خليفة رسول الله حتى جاء أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين، فاستمرت تلك عليه وعلى الخلفاء بعده إلى آخر الدهر. وأما قوله: ولا يكون فيه نظر؛ إذ كان يصح في عمر وعثمان وعلى ذلك المعنى لو قيل، لكنه ترك لما ذكر من الاستثقال والاكتفاء بأمير المؤمنين. والله أعلم.
وحكى الواقدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل الغار دعا شجرة كانت أمام الغار، فأقبلت حتى وقفت عند فم الغار؛ فحجبت أعين الكفار. قال السهيلي: وذكر قاسم ابن ثابت في الدلائل فيما شرح من الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل الغار أنبت الله على بابه الراء. قال عاصم: قال ابن ثابت: وهي شجرة معروفة من أعلاث الشجر، تكون مثل قامة الإنسان، ولها خيطان وزهر أبيض، تحشى منه المخاد فيكون كالريش لخفته ولينه. وأخرج البزار: أن الله أمر العنكبوت فنسجت على وجه الراء، وأرسل حمامتين فوقفتا وباضتا في أسفل النقب، وإن ذلك مما صد المشركين، وأن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين. وفي المواهب اللدنية: أخرج أبو نعيم في الحديث، عن عطاء بن ميسرة، قال: نسجت العنكبوت مرتين: على داود حين كان يطلبه طالوت، ومرة هذه على النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
قلت: وكذا نسجت على الغار الذي دخله عبد الله بن أنيس لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم لقتل سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي بعرنة فقتله ثم احتمل رأسه، ودخل في الغار فنسجت عليه العنكبوت، وجاء الطلب فلم يجدوا شيئاً فانصرفوا راجعين. وفي تاريخ ابن عساكر: أن العنكبوت نسجت - أيضاً - على عورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما صلب عرياناً في سنة إحدى وعشرين ومائة في دولة هشام بن عبد الملك؛ فإنه قتل بالكوفة في المصاف، وكان قد خرج وبايعه خلق كثير، فحاربه نائب العراق يوسف بن عمر، وظفر به فقتله وصلبه عرياناً، وبقي جسده مصلوباً أربع سنين.
روى أن المشركين كانوا يعلمون محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه، فذهبوا لطلبه على باب أبي بكر وفيهم أبو جهل، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر فقالوا لها: أين أبوك؟ فقالت: لا أدري. فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشاً خبيثاً - فلطم خدها لطمة خرج منها قرطها وسقط، ثم انصرفوا فوقعوا في طلبهما.(1/148)
وفي الاكتفاء: فقدت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجدوه بمكة أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافة يتبعون أثره في كل جهة، فوجد الذي ذهب جهة ثور أثره هناك، فلم يزل يتبعه حتى انقطع لما انتهى إلى ثور، وشق على قريش خروجه عليه الصلاة والسلام، وجزعوا لذلك؛ فطفقوا يطلبونه بأنفسهم فيما قرب منهم، ويرسلون من يطلبه فيما بعد عنهم، وجعلوا مائة بعير لمن رده عليهم. ولما انتهوا إلى فم الغار - وقد كانت العنكبوت ضربت على بابه - قال قائل منهم: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: ما أربكم في الغار؟ إن عليه لعنكبوتاً أبعد من ميلاد محمد، قيل: فلذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل العنكبوت وقال: إنها جند من جنود الله.
وفي رواية: أقبل فتيان من مشركي قريش، ومعهم قائف من قاف بني مدلج وهم المشهورون بالقيافة بين العرب، فالتمسوا أثرهما فقصوه إلى أن دنوا من فم الغار، قال القائف: والله ما جاز مطلوبكم هذا الغار، فعند ذلك حزن أبو بكر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا قال: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه لرآنا. ثم دنا بعضهم فبال في أسفل النقب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لقريش نخوة، وإنه لو رآك لما كشف سوءته قبلك. وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما بالك باثنين الله ثالثهما.
وفي معالم التنزيل: لم يكن حزن أبي بكر جزعاً من الموت، وإنما اشفاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: إن أقتل فأنا رجل من قريش، وإن قتلت هلكت الأمة ولم يعبد الله. فجعلوا يضربون حول الغار يمنة ويسرة ويقولون: لو دخل الغار لانكسر بيض الحمام، وتفسخ نسج العنكبوت. فلما سمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الله تعالى قد حمى حماهما بالحمام، وصرف عنهما كيدهم بالعنكبوت، أشار إلى ذلك البوصيري رحمه الله تعالى: من البسيط
ظنّوا الحمام وظنّوا العنكبوت على ... خير البريّة لم تنسّج ولم تحم
وقاية الله أغنت عن مضاعفةٍ ... من الدّروع وعن عالٍ من الأُطُم
وقال في همزيته: من الخفيف
وكفته بنسجها عنكبوتٌ ... ما كفته الحمامة الحصداء
ولله در القائل: من الوافر
ودود القزّ إن نسجت حريراً ... يجمّل لبسه في كلّ زيّ
فإن العنكبوت أجلّ منها ... بما نسجت على رأس النّبيّ
وقد تقدم أن عامر بن فهيرة اتبع أثره حتى يعفى عليه بأظلاف الغنم، فخرج معهما رديف أبي بكر يخدمهما. وعامر بن فهيرة أسلم وكان حسن الإسلام، عذب في الله فاشتراه أبو بكر فأعتقه، وشهد بدراً وأحداً، وقتل يوم بئر معونة، وهو ابن أربعين سنة قتله عامر بن الطفيل. وهو من مولدي الأزد. أسود اللون، ذكر ذلك كله موسى ابن عقبة عن ابن شهاب. وأقاما في الغار ثلاثة أيام - الجمعة والسبت والأحد - وركبا ليلة الاثنين، ومعهما دليلهما عبد الله بن أريقط، وكان ماهراً خريتاً، فسلك بهما أسفل مكة ثم مضى بهما إلى ساحل من عسفان، ثم سلك بهما على أسفل أمج، ثم نزل على قديد حيث خيام أم معبد، عاتكة بنت خالد الخزاعية، من بني كعب، وكانت بقديد وفي معجم ما استعجم: من قديد إلى المسلك ثلاثة أميال، بينهما خيمة أم معبد، امرأة برزة جلدة تحتبى بفناء الخيمة، ومعنى برزة تخرج للناس.(1/149)
وفي خلاصة الوفا: قديد، كزبير: قرية جامعة بطريق مكة كثيرة المياه. فنزلوا عندها فسألوها لحماً وتمراً ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين، فقالت: والله لو كان عندي شاة ما أعوزكم القرى، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ فقالت: خلفها الجهد عن الغنم. قال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك. فقال لها: أتأذنين لي أن أحلبها؟ فقالت: بأبي أنت وأمي، إن رأيت بها حلباً فاحلبها، فدعا بالشاة فاعتقلها، ومسح ضرعها فتفاجت ودرت، ودعا بإناء يربض الرهط - أي: يشبع الجماعة - حتى يربضوا فحلب فيه ثجاً حتى علاه البهاء وسقى القوم حتى رووا ثم شرب آخرهم، ثم حلب فيه مرة أخرى، ثم غادره عندها وذهبوا، فقلما لبث حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً، وكن هزالاً مخهن قليل. واسم أبي معبد قال السهيلي: لا يعرف، وقال العسكري: اسمه أكثم بن أبي الجون. فلما رأى اللبن قال: ما هذا يا أم معبد؟ أنى لك هذا؟ والشاء عازب حيال؟ ولا حلوبة بالبيت؟ فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك. فقال: صفيه يا أم معبد. فقالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه نجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور أكحل، أزج أقرن، شديد سواد الشعر، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما به وعلاه البهاء، أكمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأعلاهم من قريب، حلو المنطق فصل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن. ربعة لا تشنؤه عين من طول، ولا تشنؤه من قصر، غصن بين غصنين، وهو أنضر الثلاثة منظراً وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به؛ إذا قال أنصتوا، وإن أمر تبادروا لأمره. محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
قال أبو معبد: هذا - والله - صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً. فخرج أبو معبد في أثرهم ليسلم، فيقال أدركهم ببطن دلم فبايعه وانصرف. وفي الصفوة: بلغنا أن أم معبد هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمت.
قال رزين: أقامت قريش أياماً لا يدرون أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى طريق سلك، حتى سمعوا بعد ذهابهما بأيام هاتفاً أقبل من أسفل مكة بأبيات يغني بها غناء العرب عالياً بين السماء والأرض، والناس يسمعون الصوت ويبتغونه ولا يرون صاحبه، حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول: من الطويل
جزى اللّه ربّ النّاس خير جزائه ... رفيقين حلاّ خيمتي أُمّ معبد
هما نزلا بالبرّ ثمّ ترحّلا ... فأفلح من أمسى رفيق محمّد
فما حملت من ناقةٍ فوق رحلها ... أبرّ وأوفى ذمّةً من محمّد
فيالقُصيّ ما زوى الله عنكم ... به من فعالٍ لا تُجارى وسؤدد
ليهن بني كعبٍ مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلو أُختكم عن شاتها وإنائها ... فإن أنتم تستشهدوا الشّاة تشهد
دعاها بشاةٍ حائل فتحلّبت ... له بصريحٍ ضرّة الشّاة مزبد
فغادرها رهناً لديها لحالبٍ ... يردّدها في مصدرٍ ثمّ مورد
وقيل: كان الهاتف القائل هذه الأبيات يسمع صوته الجهوري على أبي قبيس. ولما سمع هذه الأبيات حسان بن ثابت قال هذه الأبيات: من الطويل
لقد خاب قومٌ زال عنهم نبيّهم ... وقد سرّ من يسري إليكم ويغتدي
ترحّل عن قومٍ فزالت عقولهم ... وحلّ على قومٍ بنورٍ مجدّد
هداهم به بعد الضّلالة ربّهم ... وأرشدهم، من يتبع الحقّ يرشد
وهل يستوي ضلاّل قومٍ تسفّهوا ... عمىً وهداةٌ يهتدون بمهتدي
لقد نزلت منه على أهل يثربٍ ... ركاب هدىً حلّت عليهم بأسعد
نبيّ يرى ما لا يرى النّاس حوله ... ويتلو كتاب الله في كلّ مشهد
وإن قال في يومٍ مقالة غائبٍ ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد(1/150)
ليهن أبا بكرٍ سعادة جدّه ... بصحبته؛ من يسعد الله يسعد
ومما يسئل عنه في هذه القصة أن يقال: هل استمرت هذه البركة في شاة أم معبد بعد ذلك اليوم، أم عادت إلى حالها الأول؟ ففي الخبر عن هشام بن حبيش الكعبي أنه قال: أنا رأيت تلك الشاة وإنها لتؤدم أم معبد وجميع صرمها، أي أهل ذلك الماء. فقد ظهر أنها استمرت.
ومر صلى الله عليه وسلم على تعهن صخرة. وروى: أن امرأة تسكن تعهن يقال لها: أم عقى فحين مر بها النبي صلى الله عليه وسلم استسقاها فلم تسقه، فدعا عليها فمسخت صخرة، فهي تلك الصخرة. ثم مر بعبد يرعى غنماً فاستسقاه اللبن فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا عناقاً حملت أول، وما بقي لها لبن، فقال: ادع بها، فاعتقلها صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال الراعي: من أنت؟ فوالله ما رأيت مثلك. قال: أو تكتم علي حتى أخبرك؟ قال: نعم. قال: فإني محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ. فقال: إنهم ليقولون ذلك. قال: أشهد أنك نبي، وأن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك. قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا.
قال أبو بكر رضي الله عنه: ثم قلت أنى الرحيل - يعني من المكان الذي نحن به عند الراعي المذكور - فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك المدلجي، فقلت: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا. قال: لا تحزن، إن الله معنا. حتى إذا دنا منا، وكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة: قلت: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الله اكفنا بما شئت فساخت قوائم فرسه إلى صدرها في أرض صلد، فوثب عنها وقال: يا محمد، قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهماً: فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لي فيها. فأطلق، فرجع إلى أصحابه وجعل لا يلقى أحداً إلا قال: كفيتم، ما ههنا. فلا يلقى أحداً إلا رده. وإن أبا جهل - لعنه الله - لما سمع قصة سراقة أنشأ هذين البيتين: من الطويل
بني مدلج إنّي أخاف سفيهكم ... سراقة يستغوي بنصر محمّد
عليكم به ألاّ يفرّق جمعكم ... فيصبح شتّى بعد عزّ وسؤدد
ولما سمع سراقة شعر أبي جهل قال: من الطويل
أبا حكم والله لو كنت شاهداً ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأنّ محمّداً ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكفّ القوم عنه فإنّني ... أرى أمره يوماً ستبدو معالمه
بأمر يودّ النّاس فيه بأسرهم ... بأنّ جميع النّاس طرّاً يسالمه
قال الشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس في سيرته: سراقة بن مالك بن جعشم الكناني يكنى أبا سفيان. روى سفيان بن عيينة عن أبي موسى عن الحسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسراقة هذا بعد إسلامه وهو بالمدينة: كيف بك إذا لبست سواري كسرى ! فلما أتى عمر - رضي الله عنه - بسواري كسرى ومنطقته وتاجه في وقعة القادسية، وظفر جنده رضي الله عنه بالغنيمة فأتى بذلك مع ما أتى به إليه، دعا سراقة ابن مالك هذا فألبسه السوارين.
وكان سراقة رجلاً أزب الذراعين كثير شعرهما، وقال له: ارفع يديك وقل: الله أكبر، الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابياً من بني مدلج. فرفع صوته وقال ذلك. وكان سراقة شاعراً مجيداً، وهو الذي قال لأبي جهل: أبا حكم والله لو كنت شاهداً... الأبيات التي ذكرناها.(1/151)
روى عنه من الصحابة ابن عباس وجابر، وروى عنه سعيد بن المسيب، وابنه محمد بن سراقة، وروى لسراقة البخاري والأربعة، وجاء سراقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، أرأيت الضالة ترد على حوض إبلي ألي أجر إن سقيتها؟ فقال صلى الله عليه وسلم في الكبد الحري أجر وهو السائل عن متعة الحج أللأبد هي؟ توفي سنة أربع وعشرين في خلافة عثمان رضي الله عنهما، وقيل: في خلافة علي رضي الله عنه وكرم وجهه. انتهى.
وذكر ابن إسحاق: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في دخوله الغار مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرهم وطلب سراقة إياهم هذه الأبيات: من البسيط
قال النّبيّ ولم يجزع يوقّرني ... ونحن في سدفةٍ من ظلمة الغار
لا تخش شيئاً فإنّ اللّه ثالثنا ... وقد تكفّل لي منه بإظهار
وإنّما كيد من تخشى بوادره ... كيد الشّياطين كادته لكفّار
والله مهلكهم طرّاً بما كسبوا ... وجاعل المنتهى منهم إلى النّار
وأنت مرتحلٌ عنهم وتاركهم ... إمّا غدوّاً وإمّا مدلجٌ ساري
وهاجرٌ أرضهم حتّى يكون لنا ... قومٌ عليهم ذوو عزٍّ وأنصار
حتّى إذا الليل وأرانا جوانبه ... وسدّ من دون ما يخشى بأستار
سار الأُريقط يهدينا وأينقه ... ينعبن بالقوم نعباً تحت أكوار
حتّى إذا قلت قد أنجدن عارضنا ... من مدلجٍ فارسٌ في منصبٍ واري
فقال كرّوا فقلنا إنّ كرّتنا ... من دون ذلك نصر الخالق الباري
إن يخسف الله بالأحوى وفارسه ... فانظر إلى أربعٍ في الأرض غوّار
فهيل لمّا رأى أرساغ مهرته ... يرسخن في الأرض لم تحفر بمحفار
فقال هل لكم أن تطلقوا فرسي ... وتأخذوا موثقاً من نصح إسراري
فادعو الّذي كفّ عنكم أمر غدوتنا ... يطلق جوادي فأنتم خير أبرار
فقال قولاً رسول الله مبتهلاً ... يا ربّ إن كان ينوي غير إخفار
فنجّه سالماً من شرّ دعوتنا ... ومهره مطلق من كلّ آسار
فأظهر الله إذ يدعو حوافره ... وفاز فارسه من هول أخطار
قلت: أنكر بعض العلماء نسبة هذا الشعر إلى الصديق رضي الله عنه، وهو كذلك، وأنا أنكره أيضاً؛ لما فيه من الركة والسماجة التي مالها حاجة. قال العارف بالله تعالى محمد بن موسى بن النعمان في كتابه المسمى: مصباح الظلام، في المستغيثين بسيد الأنام، في اليقظة والمنام: روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت: أقلت في أبي بكر شيئاً؟ قال: نعم. قال: قل فأسمع. فقال: من البسيط
إذا تذكّرت شجواً من أخي ثقةٍ ... أُذكر أخاك أبا بكرٍ بما فعلا
خير البريّة أتقاها وأعدلها ... بعد النّبيّ وأوفاها بما حملا
والثاني التّالي المحمود مشهده ... وأوّل النّاس حقّاً صدّق الرّسلا
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدوّ به إذ صعّد الجبلا
وكان حبّ رسول الله قد علموا ... من البريّة لم يعدل به رجلا
وخرج بهم على الساحل، ثم أجاز عسفان، ثم عارض الطريق بعد إلى أن أجاز قديداً، ثم سلك الحرار، ثم أجاز على تثنية المرة، ثم سلك مدلجة لقف، ثم استبطن مدلجة مجلح، ثم بطن مرجح من ذي العصوين، ثم أجاز القاحة، ثم هبط العرج، ثم أجاز في ثنية العائر عن يمين ركوبه، ثم هبط رئم، ثم قدم قباء من قبل العالية.(1/152)
قال الذهبي: روى البخاري في صحيحه من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها قالت: إن المسلمين بالمدينة لما سمعوا بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يغدون إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حر الشمس، فركب بريدة بن الخصيب في سبعين من بني أسلم، وقال الزهري، أخبرني عروة أن الزبير كان في ركب تجار بالشام، فقفلوا إلى مكة فعارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بثياب بياض، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً فقال له: من أنت؟ قال: بريدة، فالتفت إلى أبي بكر وقال: برد أمرنا وصلح، ثم قال له: وممن؟ قال: من أسلم، قال لأبي بكر: سلمنا ثم قال: ممن؟ قال من بني سهم، قال: خرج سهمك؛ فأسلم بريدة والذين معه جميعاً.
فلما أصبحوا قال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء، فحل عمامته ثم شدها في رمح، ثم مشى بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا نبي الله، تنزل على من؟ فقال: أنزل على بني النجار، أخوال جدي عبد المطلب؛ لأكرمهم بذلك، فلما أصبح غداً حيث أمر، فلما كان يوم دخوله جلسوا كما كانوا يجلسون، حتى إذا رجعنا وحميت القائلة، إذا رجل من اليهود أشرف من أطم، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يملك أن صاح: يا بني قيلة، هذا جدكم قد أقبل، أي: حظكم وسعدكم.
فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوه بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم، وكان شيخاً صالحاً عابداً، يوم الاثنين من ربيع الأول، فطفق من لم يعرف النبي صلى الله عليه وسلم يسلم على أبي بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر يظله بردائه، فعرف الناس عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلبث في بني عمرو بن عوف أربعين ليلة، وأسس مسجدهم. أقبل النبي صلى الله عليه وسلم مردفاً أبا بكر وهو شيخ، يعني فيه مبادئ الشمط، والنبي شاب لا يعرف. فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا بين يديك؟ فيقول: رجل يهديني الطريق، وإنما يعني طريق الخير.
وفي الوفاء للعلامة السيد السمهودي رحمه الله: روى رزين عن أنس بن مالك قال: كنت إذ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ابن تسع سنين، فأسمع الغلمان والولائد يقولون: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فمكثا في حرث في طرف المدينة.
وفي رواية: فنزلا جانب الحرة. فأرسلا رجلاً من أهل البادية ليؤذن بهما الأنصار، فاستقبلهما زهاء خمسمائة رجل من الأنصار، حتى انتهوا إليهما، فنزل في بني عمرو بن عوف بقباء على كلثوم بن الهدم. ولرزين: نزل في ظل نخلة، ثم انتقل إلى دار كلثوم، وفي رواية: على سعد بن خيثمة. ووجه الجميع بين الروايتين أن أول نزوله كان على كلثوم بن الهدم. ولكن عينوا له مسكناً في دار سعد بن حيثمة يكون الناس فيه، وذلك لأن سعداً كان عزباً لا أهل له، ويسمى منزله منزل الغرباء.
قال المطرزي: وبيت سعد بن خيثمة أحد الدور التي قبلي مسجد قباء، وهي التي تلي المسجد في قبلته، يدخلها الناس إذا رأوا مسجد قباء ويصلون فيها. وهناك أيضاً دار كلثوم بن الهدم. وفي تلك العرصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلاً قبل خروجه إلى المدينة، وكذلك أهله عليه الصلاة والسلام، وأهل أبي بكر حين قدموا بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وهن سودة وعائشة وأمها أم رومان، وأختها أسماء، وهي حامل بعبد الله بن الزبير، فولدت بقباء قبل نزولهم المدينة.
ونزل أبو بكر بالسنح على خبيب بن يساف، أحد بني الحارث بن الخزرج، وقيل على خارجة بن زيد بن رهم. وعن سعد بن عبد الرحمن بن أبي رقيش عن عبد الرحمن بن زيد بن حارثة قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر حرتنا هو وأبو بكر، ثم ركبا فأناخ على عذق عند بئر غرس قبل أن تبزغ الشمس. وقوله عند بئر غرس: الظاهر أنه تصحيف، ولعله بئر عذق؛ لبعد بئر غرس عن منزله صلى الله عليه وسلم بقباء بخلاف بئر عذق.(1/153)
ولما نزل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعامر بن فهيرة على كلثوم قال كلثوم لمولى له: يا نجيح، أطعمنا رطباً. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنجيح التفت إلى أبي بكر فقال: أنجحنا. فأتوا بقنو من أم جودان فيه رطب منصف وزهو، فقال: هذا عذق أم جودان. فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك في أم جودان. وكان لكلثوم بن الهدم مربد، وهو الموضع الذي يبسط فيه التمر لييبس، فأخذ منه صلى الله عليه وسلم فأسسه مسجداً. كذا في رواية ابن زبالة وغيره.
وفي الصحيح عن عروة: أقام في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس مسجده الذي أسس على التقوى. وقد اختلف في المراد بقوله تعالى " لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لمّسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ " التوبة فالجمهور على أن المراد به مسجد قباء، ولا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم في مسجد المدينة: هو مسجدكم هذا؛ إذ كل منهما أسس على التقوى.
وعن جابر بن سمرة قال: لما سأل أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى لهم مسجداً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليقم بعضكم فليركب الناقة، فقام أبو بكر فركبها، فحركها فلم تنبعث، فرجع فقعد. فقام عمر فركبها فلم تنبعث، فرجع فقعد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليقم بعضكم فيركب الناقة فقام علي، فلما وضع رجليه في غرز الركاب وثبت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخ زمامها فسارت حتى وقفت حيث المسجد اليوم، فقال: ابتنوا على مدارها فإنها مأمورة، ثم قال: يا أهل قباء، ائتوني بأحجار من الحرة. فجمعت عنده أحجار كثيرة، فخط قبلتهم، فأخذ حجراً فوضعه، ثم قال: يا أبا بكر، خذ حجراً فضعه إلى جنب حجري، ثم قال: يا عمر، خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر أبي بكر ثم قال: يا عثمان، خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر عمر.
وفي الصحيحين عن ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي قباء راكباً أو ماشياً. وعنه أيضاً: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من صلى فيه كان كعدل عمرة، وروى ابن زبالة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى الأسطوانة الثالثة في مسجد قباء التي في الرحبة. وعن سعيد بن عبد الرحمن قال: كان في موضع الأسطوانة المخلقة الخارجة في رحبة المسجد. قال ابن رقيشي: حدثني نافع: أن عمر كان إذا جاء مسجد قباء صلى إلى الأسطوانة المخلقة. يقصد بذلك مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الأول. وروى ابن زبالة عن عبد الملك بن بكير عن أبي ليلى عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في مسجد قباء إلى الأسطوانة الثالثة في الرحبة إذا دخلت من الباب الذي بفناء دار سعد بن خيثمة.
قال السيد السمهودي رحمه الله: الباب المذكور هو المشدود اليوم بظهر رسمه من خارج المسجد من جهة المغرب، وكان شارعاً في الرواق الذي يلي الرحبة من السقف القبلي، فالأسطوانة الثالثة في الرحبة هي التي عندها اليوم محراب في رحبة المسجد؛ لانطباق الوصف المذكور عليها، فهي المرادة بقول الواقدي: كان المسجد في موضع الأسطوانة المخلقة الخارجة في رحبة المسجد، وهي التي كان ابن عمر يصلي إليها.
وأقام صلى الله عليه وسلم بقباء يوم الأثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، ثم أرسل إلى بني النجار أخوال جده عبد المطلب، فجاءوا متقلدين سيوفهم فسلموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وقالوا: اركبا آمنين مطاعين، فركبا يوم الجمعة، واجتمعت بنو عمرو بن عوف وقالوا: أخرجت ملالاً لنا، أم تريد داراً خيراً من دارنا؟ قال: إني أمرت بقرية تأكل القرى، فخلوها - أي ناقته - فإنها مأمورة. فسار حتى أدركته الجمعة في بني سالم، فصلاها بمن معه في بطن الوادي وادي ذي صلت - وفي سيرة ابن هشام: وادي رانوناء، وكانوا أربعين رجلاً وقيل: مائة، وكانت هذه أول جمعة جمعها في الإسلام حين قدم المدينة. وقيل: إنه كان يصلي الجمعة في مسجد قباء في إقامته هناك، على قول من قال: إنها كانت أربعين يوماً، وخطب يومئذ خطبة بليغة - يعني في بني سالم - وهي أول خطبة خطبها عليه السلام في الإسلام.(1/154)
وروى عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي أنه بلغه عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صليت في المدينة في بني سالم بن عوف أنها هي هذه: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسل بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط، وضل ضلالاً بعيداً.
أوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصي به المسلم أخاه أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك ذكر، وإن تقوى الله - لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربه - عون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية - لا ينوي بذلك إلا وجه الله - يكن له ذخراً في عاجل أمره، وذخراً فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما يقدم. وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد، والذي صدق قوله وأنجز وعده ولا خلف لذلك؛ فإنه يقول: " مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّمٍ لِلْعَبِيدِ " ق فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية؛ فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً، ومن يتق الله فقد فاز فوزاً عظيماً. وإن تقوى الله توقي مقته وعقوبته وسخطه، وتبيض الوجوه، وترضى الرب، وترفع الدرجة.
خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله؛ فقد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله؛ ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده، وهو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، ولا قوة إلا بالله. وأكثروا ذكر الله. ثم اعلموا أنه خير من الدنيا وما فيها، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفيه ما بينه وبين الناس، وذلك بأن الله يقضي الحق على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون عليه، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم ركب صلى الله عليه وسلم ناقته القصوى، والناس عن يمينه وشماله وخلف، منهم الراكب ومنهم الماشي، فاعترضه الأنصار فلا يمر بالدار إلا قالوا: هلم إلى العز والمنعة والثروة. فيقول لهم خيراً ويدعو لم ويقول: إنها مأمورة خلوا سبيلها، فمر ببني سالم فقام إليه عتبان بن مالك ونوفل بن عبد الله بن مالك والعجلان، وهو آخذ بزمام راحلته يقول: يا رسول الله، انزل فينا فإن فينا العدة والعدد والحلقة - يعني السلاح - ونحن أصحاب الفضاء والحدائق والدرك يا رسول الله. كان الرجل من العرب يدخل هذه البحرة خائفاً فيلجأ إلينا فنقول: توقل حيث شئت. فجعل عليه الصلاة والسلام يبتسم ويقول: خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة.
وقام إليه عبادة بن الصامت ونضلة بن العجلان فجعلا يقولان: يا رسول الله، انزل فينا. فيقول: إنها مأمورة. ثم أخذ عن يمين الطريق حتى جاء بني الحبلي وأراد أن ينزل على عبد الله بن أبي بن سلول. فلما رآه وهو عند مزاحم - اسم لأطم - محتبياً قال عبد الله بن أبي: اذهب إلى الذين دعوك فانزل عليهم. فقال سعد ابن عبادة: يا رسول الله، لا تجد في نفسك من قوله، فقد قدمت علينا والخزرج تريد أن تملكه علينا، وإنهم لينظمون له الودع ليتوجوه.
قلت: وهذا عبد الله وهو رأس المنافقين، ورأس أهل الإفك المشار إليه بقوله تعالى: " وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ " النور مات على كفره ونفاقه لعنه الله تعالى. ثم قال سعد بن عبادة: ولكن هذه داري. فمر ببني ساعدة فقال له المنذر بن عمرو وأبو دجانة: يا رسول الله، إلى العدد والثروة والقوة والجلد، وسعد ابن عبادة يقول: ليس في قومي أكثر عذقاً ولا أوسع فم بئر مع الثروة والعدد والحلقة. فيقول عليه الصلاة والسلام: بارك الله عليكم. ويقول: يا أبا ثابت، خل سبيلها؛ فإنها مأمورة.(1/155)
ثم مر ببني عدي بن النجار أخوال جده عبد المطلب، فقام إليه أبو سليط وصرمة ابن أبي أنيس فقالا: يا رسول الله، نحن أخوالك، هلم إلى العدد والمنعة والقوة مع القرابة، لا تجاوزنا إلى غيرنا، ليس أحد من قومنا أولى بك منا لقرابتنا لك. فقال: خلوا سبيلها، فإنها مأمورة. فسارت حتى استناخت في موضع المسجد، فلم ينزل عن ظهرها، فقامت ومشت قليلاً وهو صلى الله عليه وسلم لا يهيجها. ثم التفتت فكرت راجعة إلى مكانها الأول وبركت به ووضعت جرانها على الأرض فنزل عنها، فأخذ أبو أيوب الأنصاري رحلها فحمله إلى داره، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم في بيت من دار أبي أيوب، ثم دعته الأنصار إلى النزول عليهم فقال صلى الله عليه وسلم: المرء حيث رحله، فمضت كلمته عليه الصلاة والسلام مثلاً.
ولما بركت الناقة خرجن جواري بني النجار يضربن الدفوف ويقلن: من الرجز
نحن جوارٍ من بني النّجار ... يا حبّذا محمّد من جار
قلت: أبو أيوب اسمه خالد بن يزيد - أو زيد - هو من بني النجار، أخوال جده عبد المطلب. فقال لهن النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبنني؟ قلن: نعم يا رسول الله. قال: والله وأنا أحبكن. قالها ثلاثاً.
وعن أفلح مولى أبي أيوب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه، نزل أسفل وأبو أيوب في العلو، فانتبه أبو أيوب فبات ليله لم ينم فقال: نمشي فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فتحول هو وأهله في جانب. فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: الأسفل أرفق بي، فقال أبو أيوب: لا أعلو سقيفة أنت في تحتها. فتحول أبو أيوب إلى السفل والنبي صلى الله عليه وسلم إلى العلو، وأقام صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب سبعة أشهر بتقديم السين.
قال في الروض الأنف: منزل أبي أيوب الذي نزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تصير بعده إلى أفلح مولى أبي أيوب، فاشتراه منه - بعد ما خرب وتثلمت حيطانه - المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار بحيلة احتالها عليه المغيرة، ثم أصلح المغيرة ما وهي من البيت، وتصدق به على أهل بيت من فقراء المدينة، فكان بعد ذلك أفلح يقول للمغيرة: خدعتني، فيقول له المغيرة: لا أفلح من ندم. انتهى.
وهي في شرفي المسجد المقدس. ثم بيعت فاشتراها الملك المظفر لشهاب الدين غازي، ابن الملك العادل، سيف الدين بن أبي بكر بن شادي مع عرصة الدار، وبناها مدرسة للمذاهب الأربعة تعرف اليوم بمدرسة الشهابية. ومن إيوان قاعتها الصغرى خزانة صغيرة جداً، مما يلي القبة فيها محراب يقال إنه مبرك ناقته صلى الله عليه وسلم، وذلك على رواية أنها بركت عند دار أبي أيوب رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: إن هذا البيت بناه تبع الأول لما مر بالمدينة للنبي صلى الله عليه وسلم ينزله إذا قدم المدينة، فتداول البيت الملاك إلى أن صار إلى أبي أيوب، وهو من ذرية الحبر الذي أسلمه تبع كتابه للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل ساكناً عند أبي أيوب حتى بنى مسجده وحجرة في المربد.
قال في المواهب: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بناء المسجد الشريف قال: يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم. قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى، فأبى ذلك وابتاعه بعشرة دنانير أداها من مال أبي بكر. قال أنس: وكان في مواضع نخل وخرب ومقابر مشركين، فأمر بالقبور فنبشت وأخرج منها العظام، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطعت، ثم أمر باتخاذ اللبن فاتخذه وبنى المسجد، وسقفه بالجريد، وجعلت عمده خشب النخل، صف النخل، فنصب في قبلة المسجد، أي: جعله سواري في جهة القبلة ليسقف عليها، وجعل عضادتيه حجارة، وجعل قبلة المسجد المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باباً في آخره يقال له: باب الرحمة، والباب الذي يدخل منه، وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه، وجعل أساسه قريباً من ثلاثة أذرع، وبنى بيوتاً إلى جانبه باللبن، وسقفها بجذوع النخل والجريد. فلما فرغ من بنائه بنى لعائشة في البيت الذي يليه شارعاً إلى المسجد، وجعل سودة بنة زمعة في البيت الآخر الذي يليه، أي: الباب الذي يلي آل عثمان. ثم تحول من دار أبي أيوب إلى مساكنه التي بناها.(1/156)
قال البلاذري: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب، ووهبت له الأنصار كل فضل كان في خططها، وقالوا: خذ منا منازلنا. فقال لهم خيراً. وكان أبو أمامة أسعد بن زرارة يجمع بمن يليه في مسجد له، فكان عليه الصلاة والسلام يصلي بهم في، ثم إنه سأل أسعد أن يبيعه أرضاً متصلة بذلك المسجد، وهي مربد التمر، كانت في يده ليتيمين في حجره يقال لهما: سهل وسهيل، ابني رافع بن عمرو بن عائذ بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، وكان مسجد أسعد الذي بناه جداراً مجدراً ليس عليه سقف، وقبلته إلى القدس.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده فضرب اللبن وعجن الطين وقرب ما يحتاجون إليه، فقام عليه الصلاة والسلام فوضع رداءه، فلما رأى ذلك المهاجرون والأنصار وضعوا أرديتهم وجعلوا يرتجزون فيقولون: من الرجز
لئن قعدنا والنّبيّ يعمل ... ذاك إذن لعمل مضلّل
قال في المواهب: وروينا أنه صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم اللبن في ثيابه ويقول وهو ينقل: من الوسيط
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
اللهمّ إنّ العيش عيش الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة
قال: قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم ببيت شعر غير هذا. وقيل: إن الممتنع عليه إنشاء الشعر لا إنشاده. ولا دليل على منع إنشاده متمثلاً. وقوله هذا الحمال هو بالحاء المهملة، أي: المحمول من اللبن، أبر عند الله من حمال خيبر، أي الذي يحمل منها من التمر والزبيب ونحو ذلك. وفي رواية المستملي بالجيم. انتهى.
وعن الزهري: وكان عثمان بن مظعون رجلاً متنظفاً، فكان يحمل اللبنة في ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه ونظر إلى ثوبه، فإن أصابه شيء من التراب نفضه، فنظر إليه علي بن أبي طالب فأنشأ يقول: من الرجز
لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائماً وقاعدا
ومن يرى عن التّراب حائدا
فسمعها عمار بن ياسر فجعل يرتجز بها وهو لا يدري من يعني بها، فمر بعثمان ابن مظعون، فقال له: يا بن سمية بمن تعرض وتشتمه، لتكفن أو لأعترضن به وجهك - لحديدة كانت بيده - فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل بيت أم سلمة فغضب، ثم قال الصحابة لعمار: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غضب فيك، ونخاف أن ينزل فينا قرآن، فقال: أنا أرضيه كما غضب. فقال: يا رسول الله، مالي ولأصحابك، قال: مالك ولهم؟ قال: يريدون قتلي؛ يحملون لبنة لبنة ويحملون علي اللبنتين والثلاث. فأخذ بيده فطاف به في المسجد. وجعل يمسح وفرته بيده من التراب ويقول: يا بن سمية لا يقتلك أصحابي، ولكن تقتلك الفئة الباغية وقال ابن إسحاق: وسألت غير واحد من أهل العلم بما يشعر عن هذا الرجز، يعني قوله لا يستوي... إلى آخره.
فقالوا: بلغنا أن علي بن أبي طالب ارتجز به، فلا ندري أهو قائله أم غيره، وإنما قال علي ذلك مطايبة ومباسطة كما هي عادة الجماعة إذا اجتمعوا على عمل، وليس ذلك طعناً منه على عثمان بن مظعون.
وفي الصحيح: كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فقال عليه الصلاة والسلام: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار فيقول عمار: أعوذ بالله من الفتن. فقتل عما في حرب معاوية بصفين تحت راية علي، رضي الله عنه وكرم وجهه.
وعن أسامة عن أبيه قال: كان الذين أسسوا المسجد جعلوا طوله مائة ذراع والعرض مثله أو دونه كما تقدم ذكر ذلك. وروى رزين عن جعفر بن محمد عن أبيه، قال: بناء مسجده عليه الصلاة والسلام لبنة لبنة ثم بالسعيدة لبنة ونصف أخرى، ثم كثروا فقالا: يا رسول الله، لو زيد فيه، ففعل، فبنى بالذكر والأنثى، وهما لبنتان مختلفتان. وقال: رفعوا أساسه قريباً من ثلاثة أذرع بالحجارة ولم يسطح، فشكوا الحر، فجعلوا خشبه وسواريه جذوعاً، وظللوه بالجريد ثم بالخصف، فلما وكف عليهم المطر طينوا عليه بالطين. وكان جداره قبل أن يظلل قامة وشيئاً، وجعل وسطه رحبة. وبنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة على نعت بناء المسجد من لبن وجريد، وكان باب عائشة مواجه الشام، وكان بمصراع واحد من عرعر أو ساج.(1/157)
ولما تزوج عليه الصلاة والسلام أزواجه بنى لهن حجراً وهن تسعة أبيات. قال أهل السير: ضرب عليه الصلاة والسلام بيوتهن ما بين بيت عائشة وبين القبلة والشرق إلى الشام، ولم يضربها في غربيه، وكانت خارجة من المسجد مديرة به، إلا من المغرب فكانت أبوابها شارعة في المسجد. وعن محمد بن هلال: أدركت بيوت أزواجه عليه الصلاة والسلام من جريد، مستورة بمسوح الشعر، مستطيرة إلى القبلة والشرق والشام، ليس في غربي المسجد منها شيء.
وفي دلائل النبوة: قال محمد بن عمر: كانت لحارثة بن النعمان منازل قرب المسجد وحوله، فلما أحدث عليه الصلاة والسلام أهلاً تحول له حارثة عن منزله، حتى صارت كلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان في المسجد موضع مظلل تأوي إليه المساكين يسمى الصفة، وكان عليه الصلاة والسلام يدعوهم بالليل فيفرقهم على أصحابه، وتتعشى طائفة منهم معه عليه الصلاة والسلام.
قال الحافظ الذهبي: إن القبلة - قبل أن يحول استقبال بيت المقدس إلى الكعبة - كانت في شمالي المسجد، فلما حولت القبلة إلى الكعبة بقي حائط المسجد الأول مكان أهل الصفة. وقال الحافظ ابن حجر: الصفة مكان مؤخر المسجد، مظلل، أعد لنزول الغرباء ومن لا مأوى له، فكانوا يكثرون فيه تارة ويقلون أخرى، بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر.
وقد سرد أسماءهم أبو نعيم في كتابه المسمى بالحلية فزادوا على المائة. وكان المسجد على هذه الهيئة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فزاد فيه عمر بن الخطاب مائتي ذراع من جهة الشام فقط سنة 17 فوسعه، ولم يغير شيئاً؛ بل بناه على ما بنى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، ثم وسعه عثمان، ثم وسعه عمر ابن عبد العزيز بأمر الوليد سنة 93، ثم زاد فيه المهدي مائة ذراع من جهة الشام فقط سنة 161، ثم جدده المأمون وزاد فيه وذلك سنة....، ثم الملك الأشرف قايتباي عمارة لا غير سنة 888، وإلى يومنا هذا بناؤه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ويقال: إنه صلى الله عليه وسلم لم يقم في قباء إلا أربعة عشر يوماً وقيل: ثمانية عشر، ولحقه بها بعد ثلاث علي بن أبي طالب، وكان قد تخلف عنه بمكة لرد ودائع وأمانات كانت للناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاطمة بنت أسد والدته، وفاطمة ابنة عمه حمزة، رضوان الله عليهم أجمعين.
الباب الثالث من المقصد الثاني
في ذكر أعمامه
عليه الصلاة والسلام وأولادهم، وعماته وأولادهن.
قال العلامة ابن الجزري في التلقيح: كان عليه الصلاة والسلام له اثنا عشر عماً بنو عبد المطلب، أبوه عبد الله ثالث عشرهم: عبد الله، أبو طالب، الزبير، حمزة، حجل، المقوم، العوام، ضرار، العباس، الحارث، قثم، أبو لهب، مصعب. وقيل: نوفل الملقب بالغيداق. وقال العلامة شمس الدين عبد الدائم بن شرف الدين موسى العسقلاني البرماوي رحمه الله: اثنا عشر فعدهم: الحارث أول أولاد عبد المطلب وبه كان يكنى فيقال: يا أبا الحارث، وأبو طالب، والزبير، وعبد الكعبة، والمقوم، وحجل - واسمه المغيرة - والغيداق، وقثم مات صغيراً، وضرار، وأبو لهب - واسمه عبد العزى - وحمزة، والعباس، وهما اللذان أسلما من أعمامه.
وقال العلامة الطبري في كتابه ذخائر العقبى، في مناقب ذوي القربى: أولاد عبد المطلب ثلاثة عشر: عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحارث، وأبو طالب واسمه عبد مناف، والزبير، وحمزة، وأبو لهب واسمه عبد العزى، والغيداق، والمقوم، وضرار، والعباس، وقثم، وعبد الكعبة، وجحل بتقديم الجيم وهو السقاء الضخم. وقال الدراقطني: بتقديم الحاء مكسورة قبل الجيم الساكنة، وهو القيد والخلخال، ويسمى المغيرة. وقيل: كانوا اثنى عشر فأسقط المقوم، وقيل: هو لقب عبد الكعبة. وقيل: كانوا أحد عشر فأسقط الغيداق وحجل، وقيل: عشرة، وقيل: تسعة، كلهم ماتوا قبل البعثة إلا أربعة: أبو طالب وأبو لهب والحمزة والعباس، أسلم الأخيران بلا خلاف واختلف في إسلام أول الأولين. وست عمات: البيضاء بنت عبد المطلب تكنى بأم حكيم، ودرة، وعاتكة، وأروى، وأمية، وصفية. وسيأتي ذكرهن وذكر من ولدن، بعد ذكر الذكور من أبنائه وأبنائهم قريباً.(1/158)
ولنذكر أعمامه جميعاً، ونبدأ بتقديم حمزة والعباس على غيرهما، وإن كان أكبر كالحارث بن عبد المطلب، فإنه - كما تقدم - أكبر أولاد عبد المطلب، لأن الإسلام قدمهما فنقول: أما حمزة فأمه هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، أسلم في السنة الثانية من البعث بعد دخوله عليه الصلاة والسلام دار الأرقم، وقبل إسلام عمر رضي الله عنه بثلاثة أيام، وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة، فعز به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفت عنه قريش قليلاً من أذاها، فقال حين أسلم هذه الأبيات: من الوافر
حمدتّ الله حين هدى فؤادي ... إلى الإسلام والدّين الحنيف
لدينٍ جاء من ربّ عزيزٍ ... خبيرٍ بالعباد بهم لطيف
إذا تليت رسائله علينا ... تحدّر دمع ذي اللبّ الحصيف
رسائل جاء أحمد من هداها ... بآياتٍ مبيّنة الحروف
وأحمد مصطفىً فينا مطاعٌ ... فلا تغشوه بالقلب العنيف
فلا والله نسلمه لقومٍ ... ولمّا نقض فيهم بالسّيوف
وشهد بدراً وقتل بها شيبة بن ربيعة مبارزة. وأول راية عقدها النبي صلى الله عليه وسلم كانت لحمزة في أول سرية بعثها؛ أرسله يعترض عيراً لقريش فيها أبو جهل بن هشام، فلما تصافوا حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، كما سيأتي ذكر ذلك في باب: الحوادث من سنة هجرته إلى وفاته صلى الله عليه وسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: خير أعمامي حمزة رواه الحافظ الدمشقي.
وقصة سبب إسلامه ذكرها صاحب تاريخ الخميس وغيره، وهي أنه صلى الله عليه وسلم كان جالساً عند الصفا، فمر به أبو جهل - لعنه الله - فشتمه وآذاه، وقال فيه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبد الله بن جدعان القرشي التيمي في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف أبو جهل عنه فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحاً قوسه راجعاً من قنصه، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لا يمر على ناد من أندية قريش إلا وقف وسلم. فلما مر بالمولاة - وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته - قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت اليوم ما لقي ابن أخيك من أبي الحكم بن هشام، وجده فآذاه وسبه، وبلغ به ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد. فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله تعالى به من كرامته، فخرج يسعى لم يقف على أحد مغذاً لأبي جهل أن يوقع به فعلاً.
فلما دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة عظيمة فقال: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول؟ فاردد علي ذلك إن استطعت، فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبا جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله سببت ابن أخيه سباً قبيحاً. وتم حمزة على إسلامه ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم. فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه صلى الله عليه وسلم، وأنشد حمزة تلك الأبيات السابقة.
وكان إسلام حمزة يوم ضرب أبو بكر، وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الأرقم وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً، ألح أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال: يا أبا بكر، إنا قليل، فلم يزل يلح عليه حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نواحي المسجد، وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وكان أول خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله، فثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين يضربونهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً ووطىء أبو بكر وضرب ضرباً شديداً، ودنا منه عتبة بن ربيعة وأدخل إصبعه في عينه، وجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرفهما بوجهه، وأثر ذلك على وجه أبي بكر رضي الله عنه حتى صار لا يعرف.(1/159)
وجاءت بنو تيم تتعادى، فأجلوا المشركين عن أبي بكر، وحمل أبو بكر في ثوب حتى أدخلوه بيته ولا يشكون في موته، فرجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن قتل أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، ورجعوا إلى أبي بكر، وجعل أبوه أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجابهم آخر النهار فقال: ما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا لأم الخير: انظري تطعمينه شيئاً أو تسقينه إياه. فلما خلت به وألحت عليه جعل يقول: ما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله ما لي علم بصاحبك. قال: فاذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت إلى أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسأل عن محمد صلى الله عليه وسلم، قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمداً، وإن تحبى أن أمضى معك إلى ابنك. فقالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فرنت أم جميل وأعلنت بالصياح، وقالت: إن قوماً نالوا منك هذا لأهل فسق، وإني لأرجو أن ينقم الله لك.
قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع، قالت: هو صالح سالم. قال: فأنى هو؟ قالت: في دار الأرقم. قال: فإن لله على ألا أذوق طعاماً ولا شراباً أو آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمهلنا حتى هدأت الرجل، وسكن الناس، خرجنا به يتكىء حتى أدخلناه على النبي صلى الله عليه وسلم. فأكب عليه فقبله وأكب عليه المسلمون، ورق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه رقة شديدة. فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي، ليس بي إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه امرأة برة بولدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله تعالى، وادع لها عسى أن يستنقذها الله بك من النار، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله عز وجل فأسلمت.
وأقاموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً وهم تسعة وثلاثون رجلاً فأسلم حمزة ذلك اليوم ورجع، وكان له من الولد ذكران وأنثى: عمارة وبه يكنى، ويعلى. وكان - أيضاً - يكنى به قليلاً ولم يعقبا، والأنثى: فاطمة، تزوجها عمرو بن سلمة المخزومي، ربيبه عليه الصلاة والسلام، ابن أم سلمة زوجته عليه الصلاة والسلام، وأمها زينب بنت عميس، أخت أسماء بنت عميس واستشهد حمزة رضي الله عنه في وقعة أحد؛ قتله وحشي، غلام لجبير بن مطعم بن عدي، وعده العتق على قتله حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم بعمه طعمة بن عدي، فقتله غيلة لا مبارزة.
وعن سعيد بن المسيب كان يقول: كنت أعجب لقاتل حمزة؛ كيف ينجو حتى أنه مات غريقاً في الخمر رواه الدارقطني على شرط الشيخين. وقال ابن هشام: بلغني أن وحشياً لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان. وكان عمر يقول لقد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة. ولما رأى صلى الله عليه وسلم حمزة قتيلاً بكى، فلما رأى ما مثل به شهق. وذلك أن هند ابنة عتبة بن ربيعة لما قتل أباها وعمها وأخاها: أبو عبيدة بن الحارث وحمزة وعلي مبارزة لم تزل هي والنسوة اللاتي كن معها يوم أحد يجدعن آناف القتلى وآذانهم، ونظمت من ذلك أساور ومخانق وخلاخل، وأعطت أساورها ومخانقها وخلاخلها لوحشي، ثم عمدت إلى بطن حمزة فشقتها وأخرجت كبده فلاكتها، فلم تستطع سيغها فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة ثم أنشدت: من الرجز
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر ... ولا أخي وعمّه وبكري
شفيت نفسي وقضيت نذري ... شفيت وحشيّ غليل صدري
فشكر وحشيّ عليّ عمري ... حتّى ترمّ أعظمي في قبري
فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب فقالت: من الرجز
خزيت في بدرٍ وبعد بدر ... يا ابنة وقّاعٍ عظيم الكفر
صبّحك الله غداة الفجر ... في الهاشمّيين الطّوال الغرّ
بكلّ قطّاعٍ حسامٍ يفرى ... حمزة ليثي وعليٌّ صقري
إذ رام شيبٌ وأبوك غدري ... فخضّبا منه ضواحي النّحر
ونذرك السّوء ... فشرّ نذر(1/160)
وقد ذكرها صلى الله عليه وسلم بذلك حين أسلمت وبايعت يوم فتح مكة فقال: أنت هند؟ فبايعته بيعة النساء المشار إليها في الآية " يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً " الممتحنة إلى آخر هذه الآية كما تقدم ذكر جميع ذلك. وعن أبي هريرة: وقف عليه الصلاة والسلام على حمزة وقد قتل ومثل به، فلم ينظر منظراً كان أوجع لقلبه منه. رواه أبو عمرو وصاحب الصفوة.
وعن ابن شاذان من حديث ابن مسعود: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً قط أشد من بكائه على عمه حمزة بن عبد المطلب، وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته، وانتحب حتى نشغ من البكاء يقول: يا حمزة، يا عم رسول الله وأسد رسول الله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف البركات، يا ذاباً عن وجه رسول الله - والنشغ: الشهيق - حتى بلغ به الغشى. ثم قال: لئن أمكنني الله تعالى لأمثلن بسبعين من قريش. فأنزل الله تعالى عليه آخر سورة النحل " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ " النحل إلى آخر السورة. فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أصبر وأحتسب عندك مصيبتي.
وقوله تعالى في الآية " وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ " النمل قيل: لا تحزن على هؤلاء القتلى؛ فإنهم شهداء الدارين، أو: لا تحزن على عدم إيمان قريش؛ فيكون الضمير لهم، قيل: وهو الأولى؛ لأنه هو الذي يقتضيه ما بعده وهو " وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ " النمل لعدم تفرق الضميرين على الثاني دون الأول. قاله بعض محشي البيضاوي.
وصلى عليه فكبر سبعين تكبيرة، رواه البغوي في معجمه. وقد روى أنس بن مالك: أن شهداء أحج لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يصل عليهم، أخرجه أحمد وأبو داود، فيحمل أمر حمزة على التخصيص.
وكان سن حمزة يوم قتل تسعاً وخمسين سنة، ودفن هو وابن أخته عبد الله بن جحش في قبر واحد في سفح أحد حيث الوقعة، رضي الله عنه، وكان له من الولد عمارة، أمه خولة بنت قيس بن فهر النجاري، ويعلى. قال مصعب: لم يعقب واحد منهما، ولم يحفظ عن أحد منهما رواية. وولد ليعلى خمسة رجال وماتوا عن غير عقب. وابنة اسمها فاطمة - وقيل اسمها أمامة - من زينب بنت عميس الخثعمية، تزوجها عمر بن أبي سلمة، عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن زوجته أم سلمة، وهي التي اختصم في حضانتها علي وجعفر وزيد: فقال علي: ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي كذلك، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: الخالة بمنزلة الأم، وفيه دلالة على أن من نكحت لا يسقط حقها من الحضانة. وعن علي: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تتزوج ابنة حمزة؛ فإنها أحسن فتاة في قريش؟ فقال: أليس قد علمت أنها ابنة أخي من الرضاعة، وأن الله عز وجل قد حرم بالرضاعة ما حرم من النسب أخرجه البغوي في معجمه. انتهى وأما العباس بن عبد المطلب وكنيته أبو الفضل، فأمه نثلة ويقال نثيلة بنت جناب ابن كلب بفتح الجيم وتشديد النون بن النمر بن قاسط، ويقال: إنها أول عربية كست البيت بالديباج. وسبب الكسوة أن العباس ضل وهو صبي، فنذرت إن وجدته لتكسون البيت. وكان العباس جميلاً وسيماً أبيض، له ضفيرتان، معتدلاً، وقيل: كان طوالاً.
ولد قبل الفيل بثلاث سنين، وكان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين أو ثلاث، وكان رئيساً في قومه، وإليه عمارة المسجد الحرام. وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العقبة يعقد له البيعة على الأنصار، وكان عليه الصلاة والسلام يثق به في أمره كله، ولما شدوا وثاقه في أسرى بدر سهر صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، فقيل ما يسهرك يا رسول الله؟ قال: أنين العباس. فقام رجل فأرخى من وثاقه، وفعل ذلك بالأسارى كلهم، ذكره أبو عمر وصاحب الصفوة.(1/161)
وقيل: كان يكتم إسلامه، وخرج مع المشركين يوم بدر فقال عليه الصلاة والسلام: من لقى منكم العباس فلا يقتله، فإنه خرج مستكرهاً. فأسره كعب بن عمرو، ففادى نفسه ورجع إلى مكة. وروى من حديث أبي اليسر: أنه أسر العباس. وقيل للعباس - وكان جسيماً - كيف أسرك وهو دميم الخلقة، ولو شئت لجعلته في كفك؟ فقال: ما هو إلا أن لقيني فظهر في عيني كالخندمة. انتهى. قلت: الخندمة، بالخاء المعجمة، جبل من جبال مكة معروف، قاله في القاموس.
وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا عباس، افد نفسك وابني أخيك - عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث - وحليفك عقبة بن عمرو. وقال: إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني. قال: صلى الله عليه وسلم: الله أعلم بما تقول، إن يك ما تقول حقاً فإن الله يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا. وذكر موسى ابن عقبة: أن فداءهم كان أربعين أوقية ذهباً. وفي رواية من حديث ابن عباس: أنه جعل على العباس مائة أوقية، وعلى عقيل ثمانين. فقال العباس. القرابة صنعت هذا. فأنزل الله تعالى " يَأَيُهَا النَّبِيُّ قُل لِمَن فِي أَيْدِيكُم مِنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ " الأنفال فقال العباس بعد ذلك: وددت لو كنت أخذ مني أضعافها لقوله تعالى " يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ " .
وكان العباس - فيما قاله أهل العلم بالتاريخ - قد أسلم قديماً وكان يكتم إسلامه. وقيل: إنه أسلم يوم بدر. وسبب إسلامه أنه خرج لبدر بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها المشركين، فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأبى عليه الصلاة والسلام وقال: أما شيء خرجت تعين به علينا فلا نتركه كذلك. فقال العباس: تركتني فقيراً أتكفف الناس. وفي رواية: قريشاً. فقال عليه الصلاة والسلام: فأين الذهب الذي دفنته أنت وأم الفضل تحت رجل السرير وقت خروجك من مكة؟ فقال العباس: وما يدريك؟ قال: أخبرني ربي. فقال العباس: أشهد أنك صادق؛ فإن هذا لم يطلع عليه إلا الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله ثم أقبل إلى المدينة مهاجراً، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بالأبواء، وكان أبو اليسر معه في فتح مكة وبه ختمت الهجرة.
وقال عمرو: أسلم قبل فتح خيبر، وكان يكتم إسلامه ويسره ما يفتح الله به على المسلمين، وأظهر إسلامه يوم فتح مكة، وشهد حنيناً والطائف وتبوك. ويقال - أيضاً - : إن إسلامه كان قبل بدر أيضاً، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون يثقون به، وكان يحب القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه صلى الله عليه وسلم: إن مقامك بمكة خير لك. وذكر السهيلي في الفضائل: أن أبا رافع لما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس أعتقه.(1/162)
خبر أبي رافع: اسمه أسلم. وقال ابن معين: اسمه إبراهيم. وقيل هرمز. كان عبداً قبطياً فوهب للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعتقه لما بشره بإسلام العباس، فكان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما قدم أبو سفيان بن الحارث من بدر إلى مكة سأله أبو لهب - وكان قد تخلف عن الخروج إلى الحرابة فلم يشهد بدراً - عن خبر قريش فقال له أبو سفيان: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا. وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض، والله لا يقوم لها شيء. قيل: وكان جلوسهما للمحادثة بهذا الأمر عند خباء العباس جنب زمزم. قال: فلما سمع ذلك أبو رافع وكان في الخباء ينحت أقداحاً له، قال: وكان الإسلام قد دخلنا، فرفعت طرف الخباء فقلت: والله تلك الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضربني في وجهي، ثم احتملني فضرب بي الأرض. فقامت أم الفضل إلى عمود فضربت به رأس أبي لهب، وقالت: استنقصته أن غاب عنه سيده:! فقام منكسراً، فوالله ما عاش سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة، وهي قرحة كانت العرب تتشاءم بها، وأنها تتعدى أشد العدوى؛ فتباعد عنه بنوه حتى قتله الله بها، وبقي بعد موته ثلاثاً لا تقرب جنازته ولا تدفن. فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته، ثم قذفا عليه بالحجارة من بعيد، كذا. ورواه كذا في الروض الأنف. قلت: في حفظي عن كبار مشايخي أن محل الحفرة التي ألقى فيها أبو لهب هي الآن محطة العجم من سوق المعلاة. والله أعلم.
وكان عليه الصلاة والسلام يكرم العباس بعد إسلامه ويعظمه، ووصفه صلى الله عليه وسلم فقال: أجود الناس وأحناهم عليهم. رواه الفضائلي. في معجم البغوي: العباس عمي، وصنو أبي، من آذاه فقد آذاني. وذكر السهيلي في الفضائل: أن العباس أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قام إليه وقبل بين عينيه ثم قال: هذا عمي، فمن شاء فليباه بعمه فقال العباس: نعم القول يا رسول الله قلت. قال ولم لا أقول هذا وأنت عمي، وصنو أبي وبقية آبائي، ووارثي خير من أخلف من أهلي.
وقال عليه الصلاة والسلام: يا عم، لا ترم منزلك أنت وبنوك غداً حتى آتيكم فإن لي فيكم حاجة. فلما أتاهم اشتمل عليهم بملاءة ثم قال: يا رب، هذا عمي وصنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي، فاسترهم من الناس كستري إياهم بملاءتي هذه قال: فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت. رواه ابن غيلان والسهمي، ورواه ابن السري، ورواه ابن الترمذي من حديث ابن عباس بلفظ: فألبسنا كساء ثم قال: اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنباً. اللهم احفظه وولده وقال: حسن غريب.
وعن ابن عبد الباقي من حديث أبي هريرة: اللهم اغفر للعباس وولد العباس ولمن أحبهم. وروى البغوي أنه صلى الله عليه وسلم قال: لك يا عم من الله حتى ترضى وروى السهمي في الفضائل: أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا عباس، إن الله عز وجل غير معذبك ولا أحداً من ولدك ! وفي المناقب للإمام أحمد - رضي الله عنه - أن العباس قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة قال: هل ترى في السماء؟ قلت: نعم، قلت: الثريا. قال: أما إنه يلي هذه الأمة بعددها من صلبك. وروى السهمي من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: ألا أبشرك يا عم؟ قلت: بلى، بأبي أنت وأمي. فقال عليه الصلاة والسلام: إن من ذريتك الأصفياء، ومن عترتك الخلفاء.
ومن حديث أبي هريرة: فيكم النبوة والمملكة ومن حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا بكر، هذا العباس قد أقبل وعليه ثياب بيض، وسيلبس ولده من بعده السواد وعن جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليكونن من ولد العباس ملوك يكونون أمراء أمتي يعز الله بهم الدين. قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: هذا حديث غريب من حديث عمرو بن دينار عن جابر خرجه الأصفهاني.
وتوفي رضي الله عنه في خلافة عثمان قبل مقتله بسنتين بالمدينة الشريفة يوم الجمعة لاثنتي عشرة - وقيل: لأربع عشرة - ليلة خلت من رجب، وقيل: من رمضان سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وثلاثين من الهجرة، بعد أن كف بصره وهو ابن ثمان وثمانين سنة، أدرك منها في الإسلام اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع، ودخل قبره ابنه عبد الله بن العباس، رضي الله عنهما.(1/163)
وفي البخاري: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك فدنا من المدينة الشريفة قال: إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر وهذا يؤيد معنى ما روى: نية المرء خير من عمله فإن نية هؤلاء أبلغ من أعمالهم؛ فإنها بلغت بهم مبلغ أولئك العاملين بأبدانهم، وهم على فرشهم في بيوتهم، فالمسابقة إلى الله وإلى الدرجات العلى بالنيات والهمم لا بمجرد الأعمال. ولما أشرف عليه الصلاة والسلام على المدينة قال: هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه.
ولما دخل قال العباس: يا رسول الله قد امتدحتك فائذن لي. قال: قل لا يفضض الله فاك. فقال: من المنسرح
من قبلها طبت في الظّلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
ثمّ هبطت البلاد لا بشرٌ ... أنت ولا مضغةٌ ولا علق
بل نطفةٌ تركب السّفين وقد ... ألجم نسراً وأهله الغرق
تنقل من صالبٍ إلى رحمٍ ... إذا مضى عالمٌ بدا طبق
حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء دونها النّطق
وردت نار الخليل مكتتماً ... في صلبه أنت كيف يحترق
وأنت لمّا أشرقت ال ... أرض وضاءت بنورك الأُفق
فنحن في ذلك الضّياء وفي الن ... نور وسبل الرّشاد نخترق
وعالياً قدرك الرّفيع وفي ... معناك حسنا يميلها النّسق
قدّاً تثنّيك والقوام إذاً ... غصناً رطيباً قوامك الرّشق
ووجهك البدر إذ يضىء ومن ... شعرٍ لك الّليل يحلك الغسق
أضاء منك الوجود نور سناً ... وفاح مسكاً نسيمك العبق
قوله من قبلها إضمار قبل الذكر لظهور المعنى، وهو وارد في كلامهم كثيراً، والمراد بها الدنيا أو الأرض، أي: كنت طيباً في صلب آدم حيث كان في الجنة. وقوله: تركب السفين يريد به: حال كونه في صلب أبيه نوح؛ فإنه الراكب السفين. وقوله ألجم نسراً يريد به: الذي كان يعبده قوم نوح. والنطق: جمع نطاق، وهي أعراض من جبال بعضها فوق بعض، أي: نواحي وأوساط منها، شبهت بالنطق التي تشد في الأوساط، ضربه مثلاً في ارتفاعه وتوسطه في عشيرته، وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال. قوله حتى احتوى بيتك أراد به: شرفه ومجده صلى الله عليه وسلم الشاهد على فضله، أي: احتوى أعلى مكان من نسب خندف؛ إشارة إلى القبيلة. وهذا الاسم - أعني خندف - لزوجة إلياس بن مضر، واسمها سلمى بنت عمران بن الحاف بن قضاعة، وله قصة تقدمت، سميت القبيلة بها فقيل خندف ومنها ما هنا. انتهى.
وكان له من الذكور تسعة، وقيل: عشرة، ومن الإناث ثلاث: الفضل وبه كان يكنى، وعبد الله، وعبد الرحمن، وقثم، ومعبد، وأم حبيب. والثانية والثالثة: صفية، وأمينة من أمة. وأم هؤلاء - ما عدا صفية وأمينة - لبابة الكبرى، الهلالية، أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، روى أنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة. وكثير وتمام شقيقان أمهما أم ولد، والحارث بمفرده من أم هذلية، وعون هو العاشر على الرواية الثانية. وروى صبيح ومسهر ولم يتابع عليهما ابن الكلبي قتل هذا الحارث سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وقيل: مات في طاعون عمواس، وهو أول طاعون في الإسلام بالشام سنة ثمان عشرة في خلافة عمر، وقيل: قتل يوم اليرموك في خلافة أبي بكر، رضي الله عنه.
أما الفضل بن العباس فكان أكبر أولاد العباس وبه كان يكنى، لم يزل اسمه جاهليةً وإسلاماً، وكان أجمل الناس وجهاً. ولما دفع عليه الصلاة والسلام من مزدلفة إلى منى أردفه فمر ظعن يجرين، فجعل الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر، فحول النبي صلى الله عليه وسلم يده إلى الشق الآخر. أخرجه مسلم. وفي رواية غيره: قال العباس: لويت عنق ابن عمك يا رسول الله. قال: رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما.(1/164)
شهد الفضل فتح مكة، وغزا حنيناً وثبت يومئذ، وشهد حجة الوداع. وهو الذي كان يصب الماء في غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية، وعلي يغسله. استشهد بأجنادين، بلد من نواحي دمشق، في وقعة بين المسلمين والروم، أميرها عمرو ابن العاص وأبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، كل منهم على طائفة. وقيل: بطاعون عمواس. ولم يخلف غير ابنة تزوجها بعد الحسن بن علي أبو موسى الأشعري فولدت له موسى، ومات عنها فتزوجها عمر بن طلحة بن عبيد الله. ويقال: خلفت أيضاً ابناً اسمه عبد الله، ولم يثبت ذلك. انتهى.
وأما عبد الله فهو الحبر، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بريقه، ودعا له: اللهم بارك فيه وانشر منه - أو أكثر - وعلمه الحكمة وسماه ترجمان القرآن. وروى أنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين، وقيل: وأنا ابن خمس عشرة. وكان طويلا، أبيض مشرباً بالشقرة، جسيماً وسيماً صبيح الوجه، شهد مع علي الجمل وصفين والنهروان، وقالت أمه: لما وضعته أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، وحنكه من ريقه، وسماه عبد الله. ثم ناولنيه فقال: اذهبي بأبي الخلفاء. رواه ابن حبان وغيره.
وقد ملأ عقبه الأرض، حتى قيل: إنهم بلغوا في زمن المأمون ستمائة ألف واستبعد. كذا في المواهب.
توفي - رضي الله عنه - بالطائف سنة ثمان وستين - أيام ابن الزبير - وهو ابن أربع وسبعين سنة، وقيل: سبعين، وقيل: إحدى وسبعين. وصلى عليه محمد بن الحنفية وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة، وضرب على قبره فسطاطاً.
قال العلامة جمال الدين محمد الشامي في سيرته: أخرج الطبراني عن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال: بدت لنا معشر الأنصار حاجة إلى الوالي - وكان الذي طلبنا إليه أمراً صعباً - فمشينا إليه برجال من قريش وغيرهم فكلموه، وذكروا له وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا، فذكر لهم صعوبة الأمر، فعذره القوم، وألح ابن عباس عليه، فوالله ما وجد الوالي بداً من قضاء حاجته. فخرجنا فإذا القوم أندية. قال حسان: فضحكت وأنا أسمعهم، إنه والله كان أولاكم بها، إنه والله صبابة النبوة، ووراثة أحمد، وتهذيب أعراقه، وأسرع شبه طباعه. فقال القوم: أجمل بها حسان، فقال ابن عباس: صدقوا فأجمل. فأنشأ حسان يمدح ابن عباس رضي الله عنهم: من الطويل
إذا ما ابن عبّاس بدا لك وجهه ... رأيت له في كلّ معمعةٍ فضلا
إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ ... بملتقطاتٍ لا ترى بينها فضلا
كفى وشفى ما في النّفوس فلم يدع ... لذي إربةٍ في القول جدّاً ولا هزلا
سموت إلى العليا بغير مشقّةٍ ... ونلت ذراها لا دنيّاً ولا وغلا
خلقت طبيعا للمروءة والنّدى ... مليحاً ولم تخلق كهاماً ولا جبلا
فقال الوالي: ما أراد بالكهام غيري، والله بيني وبينه. انتهى مروياته رضي الله عنه ألف وستمائة وستون حديثاً.
وكان له من الولد سبعة: خمسة ذكور، والسادس والسابع أنثيان: العباس، وعلي، والفضل، ومحمد وعبيد الله، ولبابة، وأسماء. وأما عبيد الله فقيل: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، استعمله علي بن أبي طالب على اليمن، وأمره على الموسم فحج بالناس سنة ست وثلاثين، فلما كان سنة ثمان وأربعين بعثه أيضاً على الموسم، وبعث معاوية ذلك العام يزيد بن شجرة الرهاوي ليقيم الحج. فلما اجتمعا سأل كل منهما صاحبه أن يسلم له فأبى، واصطلحا على أن يصلي بالناس شيبة بن عثمان الحجبي.
وروى أن معاوية بعث بسر بن أرطأة العامري إلى اليمن وعليها عبيد الله بن العباس هذا من قبل علي، فتنحى عبيد الله، واستولى بسر عليه، فبعث علي - رضي الله عنه - جارية بن قدامة السعدي؛ فهرب بسر، ورجع عبيد الله بن عباس فلم يزل عليها حتى قتل علي. وكان عبيد الله هذا أحد الأجواد المشهورين، كان يقال: من أراد الجمال والعفة والسخاء فليأت ولد العباس: الجمال للفضل، والعفة لعبد الله، والسخاء لعبيد الله. مات عبيد الله بالمدينة سنة ثمان وخمسين.(1/165)
وأما عبد الرحمن بن عباس ومعبد فولدا على عهده صلى الله عليه وسلم، وقتلا شهيدين بإفريقية في خلافة عثمان مع عبد الله بن أبي سرح سنة خمس وثلاثين، واستعمل الثاني منهما علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه على مكة. ويقال: ما من إخوة أشد تباعد قبور من بني العباس: الفضل بدمشق، وعبد الله بالطائف، وعبيد الله بالمدينة، وعبد الرحمن ومعبد بإفريقية، وقثم بسمرقند.
وأما قثم فهو أحد السبعة المشبهين برسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو لدة الحسن بن علي ورضيعه. وعن ابن عباس: أنه كان له ابن يقال له: قثم، يضعه على صدره وهو يقول: من الرجز
خير البنين ذا قثم ... شبيه ذي الأنف الأشم
نبيّ ربٍ ذي نعم ... برغم أنف من رغم
وقثم هذا آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه آخر من خرج من قبره من نزل فيه. وقيل: إن المغيرة بن شعبة آخر من خرج من قبره عليه الصلاة والسلام ممن نزل فيه؛ لأنه ترك خاتمه في القبر فلما خرج قال: نسيت خاتمي، فنزل ثانياً فكان آخر الناس عهداً به عليه الصلاة والسلام. وأنكر كونه آخراً ابن عباس فقال: آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم أخي قثم بن العباس. وولاه علي بن أبي طالب رضي الله عنه مكة زمن معاوية وأبي قتادة الأنصاري فلم يزل عليها حتى قتل علي رضي الله عنه وكرم وجهه، ثم خرج إلى سمرقند مع سعيد بن عثمان زمن معاوية - فاستشهد بها وقبره في قبة عالية تعرف بمزار شاه زنده يعني السلطان الحي - خارج سور سمرقند.
وأما كثير بن عباس: فأمه أم ولد، رومية اسمها سبا، وقيل: حميرية. ولد قبل وفاته - عليه الصلاة والسلام - بأشهر - وكان فقيهاً فاضلاً ذكياً، روى عنه الأعرج وابن شهاب الزهري.
وأما تمام: فأمه وأم أخيه قبله واحدة وهي سبا الرومية أو الحميرية. روى عنه عليه الصلاة والسلام: لا تدخلوا علي قلحاً، استاكوا، فلولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ولاه علي رضي الله عنه المدينة، وكان قد استخلف قبله سهيل بن حنيف حين توجه إلى العراق، ثم عزله واستجلبه لنفسه، ووفي تماماً ثم عزله، وولي أبا أيوب الأنصاري ثم أشخص أبا أيوب الأنصاري واستخلفه، فلم يزل تمام والياً فيها إلى أن قتل علي. وكان تمام أشد الناس بطشاً، وله عقب.
قال أيوب بن بكار: كان للعباس عشرة بنين ستة منهم من أم الفضل، لبابة الهلالية، فيهم يقول يزيد الهلالي: من الرجز
ما ولدت نجيبةٌ من فحل ... كستّةٍ من بطن أُمّ الفضل
أكرم بها من ... كهلةٍ وكهل
وهم: الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، وقثم، ومعبد، وعبد الرحمن. وقد تقدم أنهم أشقاء، وهم ستة سابعتهم أم حبيبة شقيقتهم.
وأما عون: فقال ابن عمرو: لم أقف على اسم أمه، وأصغرهم سناً تمام. وكان العباس أبوه يحمل ويقول: من الرجز
تمّوا بتمّام فصاروا عشره ... يا ربّ فاجعلهم كراماً برره
واجعل لهم ذكراً ... وأنم الشّجرة
وأما الإناث من أولاد العباس فثلاث: أم حبيب، وقد روى من حديث أمها أم الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو بلغت أم حبيب بنت العباس وأنا حي لتزوجتها فتوفي صلى الله عليه وسلم قبل أن تبلغ، فتزوجها الأسود بن عبد الأسد، أخو أبي سلمة بن عبد الأسد، فولدت له رزق بن الأسود. ولبابة وصفية وأمينة، تزوج أمينة عباس بن عيينة بن أبي لهب؛ فولدت له الفضل الشاعر، ولا رواية لها ولا لصفية، وهي الثالثة من بنات العباس.
وروى الطبري في ذخائر العقبى ابنة رابعة للعباس تسمى أم كلثوم، وروى عنها وعن أختها أم حبيب محمد بن إبراهيم التيمي.(1/166)
وأما أبو طالب فاسمه عبد مناف. ولما مات جده عبد المطلب كافله، كان له عليه الصلاة والسلام من العمر ثمان سنين، كفله عمه أبو طالب بوصية من عبد المطلب؛ لكونه شقيق والده عبد الله. وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة عن عطرفة قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادي وأجدب العيال، فهلم فاستسق. فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب وألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه - وما في السماء قزعة - فأقبل السحاب من ههنا وههنا، وأغدق وانفجر له الوادي، وأخصب البادي والنادي وفي ذلك يقول أبو طالب: من الطويل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل
وهو من قصيدة نحو ثمانين بيتاً، قالها لما تولت عنه وتمالأت عليه قريش، ونفروا عنه عليه الصلاة والسلام. وأولها: من الطويل
ولمّا رأيت القوم لا ودّ عندهم ... وقد قطّعوا كلّ العرى والوسائل
وقد جاهرونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدوّ المزايل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحةٍ ... وأبيض عضبٍ من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطى وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل
أعبد منافٍ انتم خير قومكم ... فلا تشركوا في أمرنا كلّ واغل
فقد خفت إن لم يصلح الله أمركم ... تكونوا كما كانت أحاديث وائل
أعوذ بربّ النّاس من كلّ طاعن ... علينا بسوءٍ أو ملحٍّ بباطل
وثورٍ ومن أرسى ثبيراً مكانه ... وراق ليرقى في حراءٍ ونازل
وبالبيت حقاً حلّ في بطن مكّةٍ ... وبالله إنّ الله ليس بغافل
لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّبٌ ... لدينا ولا يعنى بعوراء باطل
كذبتم وبيت اللّه نُبزي محمّداً ... ولمّا نطاعن عنده ونناضل
ونسلمه حتّى نصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قومٌ في الحديد إليكم ... نهوض الرّوايا تحت ذات الصّلاصل
وينهض قومٌ نحوكم غير عزّلٍ ... ببيضٍ حديثٍ عهدها بالصّياقل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاّك من آل هاشمٍ ... فهم عنده في رحمةٍ وفواضل
لعمري لقد كلّفت وجداً بأحمدٍ ... وإخوته دأب المحبّ المواصل
فمن مثله في النّاس أيّ مؤمّلٍ ... إذا قاسه الحكّام عند التّفاضل
حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غير طائشٍ ... يوالي إلهاً ليس عنه بغافل
وميزان حقٍّ ما يعول شعيرةً ... ووزّان حقٍّ وزنه غير عائل
فوالله لولا أن أجىء بسبّةٍ ... تجرّ على أشياخنا في المحافل
لكنّا اتّبعناه على كلّ حالةٍ ... من الدّهر جدّاً غير قول التّهازل
فأصبح فينا أحمدٌ ذا أرومةٍ ... تقصّر عنها سورة المتطاول
حدبت بنفسي دوهه وحميته ... ودافعت عنه بالذّرا والكلاكل
جزى الله عنّا عبد شمسٍ ونوفلاً ... عقوبة شرٍّ عاجلٍ غير آجل
قلت: لم أظفر من هذه القصيدة إلا بنحو السبعة والثمانية الأبيات في غالب كتب السير، ولم أزل أطلبها حتى ظفرت بغالبها من تاريخ العلامة الحافظ محمد بن أحمد ابن عثمان الذهبي المسمى دول الإسلام فنقلتها منه ولله الحمد.(1/167)
وقوله: ذات الصلاصل: رأيت في تاريخ التقي الفاسي رحمه الله ما نصه: بئر صلاصل في الجانب الذي يكون على يمين الصاعد إلى منى، ولعل ذلك نسبتها إلى صلصل بن أوس بن مجاسر بن معاوية بن شرف من بني عمرو بن تميم؛ لأن الفاكهي روى بسنده عن هشام بن الكلبي، عن أبيه، قال: كانت العرب في أشهر الحج على ثلاثة أهواء: منهم من يفعل المنكر، وهم المحلون الذين يحلون الأشهر الحرم فيغتالون فيها ويسرقون، ومنهم من كان يكف عن ذلك، ومنهم أهل هوى شرعه لهم صلصل بن أوس بن مجاسر المذكور، في قتال المحلين. ثم قال بعد أن ذكر المحرمين: وكانوا يسمونهم الصلاصل؛ لأن صلصل شرع ذلك لهم، وكانوا ينزلون على بئر قرب منى ثم يتفرقون على الناس منها، وكانت البئر تسمى بئر صلصل، انتهى.
قلت: قول أبي طالب تحت ذات صلاصل يعنيها؛ كأنه يريد تشبيه القوم الثائرين للمدافعة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأولئك القوم النازلين عند البئر، ويكون وجه الشبه الجرأة والإقدام إن كانت الرواية بالزاي المعجمة في الزوايا جمع زوية للجماعات الكامنين هناك. وإن كانت الرواية بالراء المهملة فيها فيكون وجه التشبيه الثقل بالحديد والسلام كثقل الروايا بالماء القراح. وهذه البئر هي المسماة الآن عند العامة بئر صراصر، براءين مهملتين، وهي معروفة، انتهى. ومعنى نناضل هنا: نناظر ونجادل ونخاصم. ونبزى، بضم النون والباء ساكنة، أي: نقهره ونغلب عليه.
وأنشأ أبو طالب أبياتاً منها قوله من الطويل
وشقّ له من إسمه ليجلّه ... فذو العرش محمودٌ وهذا محمّد
فقال حسان وضمن ذلك: من الطويل
ألم تر أنّ الله أرسل عبده ... بآياته والله أعلى وأمجد
أغرّ عليه للنّبوّة خاتمٌ ... من الله مشهورٌ يلوح ويشهد
وضمّ الإله اسم النّبيّ إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد
وشقّ له من إسمه ليجلّه ... فذو العرش محمودٌ وهذا محمّد
نبيٌّ أتانا بعد يأسٍ وفترةٍ ... من الدّين والأوثان في الأرض تعبد
وأرسله ضوءاً منيراً وهادياً ... يلوح كما لاح الصّقيل المهنّد
قال العلامة ابن التين: في شعر أبي طالب دلالة على أنه كان يعرف النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، لما أخبره بحيرا الراهب وغيره من شأنه. وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن ابن إسحاق ذكر أن إنشاء أبي طالب لهذا الشعر كان بعد البعث، ومعرفة أبي طالب بنبوته عليه الصلاة والسلام جاءت في كثير من الأخبار.
قال الذهبي: قال محمد بن إسحاق: أتت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أعز فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصرته واتخذه لك ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك؛ فقد أفسد أحلامنا وعاب آلهتنا، وخالف دينك ودين آبائك نقتله، فإنما رجل كرجل. فقال: والله بئسما تأمرونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله لا يكون أبداً. فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: والله يا أبا طالب، لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً. فقال: والله ما أنصفوا، ولكنك قد أجمعت على خلافي ومظاهرة القوم على، فاصنع ما بدا لك. فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم. فقال أبو طالب: من الطويل
ألا قل لعمرو والوليد ومطعمٍ ... ألا ليت حظّي من حياطتكم بكر
من الخور صخّابٌ كثيرٌ رغاؤه ... يرشّ على السّاقين من بوله قطر
أرى أخوينا من أبينا وأُمّنا ... إذا سئلا قالا: إلى غيرنا الأمر
أخصّ خصوصاً عبد شمس ونوفلاً ... هما نبذانا مثل ما تنبذ الخمر
وفي حياة الحيوان: مات أبو طالب في نصف شوال من السنة العاشرة من البعثة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ابن سبع وأربعين سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوماً، وأبو طالب ابن بضع وثمانين سنة. وقال ابن الجوزي: قبل هجرته بثلاث سنين.(1/168)
روى سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أخاه العباس وعبد الله بن أمية وأبا جهل بن هشام، فقال: يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله. فقال أبو جهل: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه. ويقول له أبو جهل: أترغب.... إلى آخره، فلما رأى حرص النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي، والله لولا مخافة قريش أن تقول إني إنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها. فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنيه فسمعه، فقال: يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته بها. فقال صلى الله عليه وسلم: لم أسمعه. كذا في رواية ابن إسحاق أنه أسلم عند الموت.
ورواه البيهقي في الدلائل من طريق يونس بن بكير، لكن قال: إنه منقطع. والحديث أثبت لأبي طالب الوفاة على الكفر والشرك، كما روينا في الصحيح من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه حتى قال: آخر ما كلمهم به أبو طالب قوله: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك. فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: " مَا كَانَ لِلنَّبِيّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى " التوبة وأنزل الله في أبي طالب: " إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ " القصص وفي مسند الإمام أحمد من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن حبة العرنى، قال: رأيت علي بن أبي طالب ضحك على المنبر حتى بدت نواجذه. ثم سئل بعد فقال: ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصلي ببطن نخلة فقال: ماذا تصنعان يا ابن أخي؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقال: ما بالذي تصنعان من بأس، ولكن والله لا تعلوني استى أبداً. فذكرت ذلك فضحكت تعجباً من قول أبي. انتهى. ذكره الذهبي في تاريخه وفي الصحيح: إن ابن عباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك؟ قال: نعم، وجدته في غمرات النار فأخرجته إلى ضحضاح منها. وروى البخاري حديث الضحضاح، ولفظه: ما أغنيت عن عمك؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، في ضحضاح من نار، منعل نعلين من حديد يغلي منهما دماغه. قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أبا طالب بعد موته بيده الشريفة وأنسى باطن قدميه فلم يمسحهما، فكان مس العذاب لهما وذلك أنه لما ثبت قدماه ثبوتاً معنوياً على الشرك كان العقاب عليهما. قال ابن عباس رضي الله عنهما: عارض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وصلتك رحم وجزاك الله خيراً يا عم.
وفي معالم التنزيل: الكفر أربعة أنواع: كفر الإنكار، وكفر الجحود، وكفر النفاق، وكفر العناد. أما كفر الإنكار فهو ألا يعرف الله بالقلب ولا يعترف باللسان. وأما كفر الجحود فهو أن يعرف الله بقلبه، ولكن لا يقر بلسانه ككفر إبليس، وكفر اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم من هذا القبيل. قال تعالى: " فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ " البقرة أي: جحدوا وأما كفر النفاق فهو أن يقر باللسان ولا يعتقد بالقلب. وأما كفر العناد فهو أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه، ولكن لا يدين به ولا يكون منقاداً مطيعاًن ككفر أبي طالب؛ فإنه قال في شعر له: من الكامل
ولقد علمت بأنّ دين محمّدٍ ... من خير أديان البريّة دينا
لولا الملامة أو حذاري سبّةٍ ... لوجدتّني سمحاً بذاك مبينا
ودعوتني وعلمت أنّك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينا
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتذى أُوسّد في التّراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضةٌ ... واجهر وقرّ بذاك منك عيونا
وجميع الأنواع الأربعة سواء في أن الله تعالى لا يغفر لأصحابها إذا ماتوا عليها، نعوذ بالله منها.(1/169)
وحكى عن هشام بن السائب الكلبي - أو أبيه - أنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال: يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه، وإني أوصيكم بمحمد خيراً فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به. وقد جاء بأمر قبله الجنان، وأنكره اللسان، مخافة الشنآن. وايم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل الوبر، والأطراف، والمستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره؛ فخاض بهم غمرات الموت؛ فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً، ودورها خراباً، وضعفاؤها أرباباً، فإذا أعظمهم إليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده. قد محضته العرب ودادها، وأصفت له فؤادها، وأعطت له قيادها. يا معشر قريش، كونوا له ولاة، ولحرمه حماة، والله لا يسألك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سع. ولو كان لنفسي مدة، ولأجلي تأخير، لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي ثم هلك، ودفن بصدر الشعب أعلى الحجون.
وجملة أولاده أربعة ذكور وأنثيان، أكبرهم طالب وبه كان يكنى، ثم ولد له بعد عشر سنين عقيل، ثم بعد عشر سنين جعفر، ثم بعد عشر سنين علي. والأنثيان هند أو فاختة، وتكنى بأم هانىء؛ بابن كان لها اسمه هانئ، والأخرى جمانة. وأما طالب فهو القائل: من الرجز
لاهمّ إمّا يغزونّ طالب ... في عصبةٍ مخالفٌ محارب
في مقنبٍ من تلكم المقانب ... فليكن المسلوب غير السّالب
وليكن المغلوب ... غير الغالب
قال هذا الشعر عند خروج قريش لمنع العير في وقعة بدر، ومحاربة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي وقعة بدر الكبرى. وكان بين طالب في القوم وبين بعض قريش محاورة فقالوا: والله لقد عرفنا يا بني هاشم - وإن خرجتم معنا - أن هواكم مع محمد صلى الله عليه وسلم. فرجع طالب إلى مكة فقال هذه الأبيات.
قلت: لم أفهم معنى هذه الأبيات، وهي كما تراها، نقلتها من نسخة قديمة من سيرة ابن هشام، تاريخ كتبها سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، مصححة مقروءة، فلا غلط في اللفظ ولا تصحيف، إلا أن المعنى يحتاج إلى تبيين وتوقيف، إذ المغلوب غير الغالب، والمسلوب غير السالب، ولم يظهر لي وجه في صحة المعنى. إلا أن تكون لفظة غير مصحفة من لفظة عين؛ فيكون هكذا: فليكن المسلوب عين السالب بنصب المسلوب على أنه خبر كان متوسطاً واسمها عين، فيكون دعاء منه على قريش بالسلب لهم والغلبة عليهم انتهى.
قال المحب الطبري في الرياض النضرة، في مناقب العشرة: عن أبي الحجاج مجاهد بن جبير قال: كان من نعم الله تعالى على علي بن أبي طالب، ومما أراد الله به من الخير، أن قريشاً أصابتهم شدة ومجاعة، وكان أبو طالب في مبدأ أمره مقلاً ذا عيال كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس عمه: يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله، فآخذ من بنيه رجلاً، وتأخذ رجلاً فنكفيهما عنه. قال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا لا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه. فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما. وفي رواية: وطالباً. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله رسولاً؛ فآمن به علي وصدقه، وأخذ العباس جعفراً، ولم يزل جعفر عند الناس انتهى. ولكل من علي وجعفر وعقيل عقب، وأكثرهم عقباً علي رضي الله عنه، وسيأتي ذكرهم عند ذكر خلافته رضي الله تعالى عنه.(1/170)
وأما عقيل بن أبي طالب فلم يزل اسمه جاهلية وإسلاماً عقيلاً، ويكنى أبا يزيد، وكان قد خرج مع كفار قريش مكرهاً يوم بدر، فأسر ففداه عمه العباس، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً قبل الحديبية، وشهد غزوة مؤتة. روى أنه عليه الصلاة والسلام قال له: يا أبا يزيد، إني أحبك حبين: حباً لقرابتك، وحباً لما كنت أعلم من حب عمي إياك. وكان أعلم قريش بأنسابها وأعرفهم بأيامها، وكان مبغضاً إليهم؛ لأنه كان يعد مساويهم، وكانت له قطيفة تفرش في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليها، ويجتمع عليه في علم النسب وأيام العرب. وكان أسرع الناس جواباً، وأحضرهم مراجعة في القول وأبلغهم في ذلك.
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن عقيلاً جاء إلى علي بالعراق فسأله، فقال له علي رضي الله عنه: إن أحببت أن أكتب لك إلى مالي بينبع فأعطيك منه. فقال له عقيل: لأذهبن إلى رجل أوصل لي منك. فذهب إلى معاوية. وقال أبو عمرو: غاضب عقيل علياً وخرج إلى معاوية وأقام عنده، فزعموا أن معاوية قال يوماً بحضرة عقيل: هذا أبو يزيد، لولا علمه بأني خير له من أخيه ما أقام عندي وتركه. فقال عقيل: أخي خير لي في ديني، وأنت خير لي في دنياي، وقد آثرت دنياي، وأسأل الله خاتمة خير.
وتوفي عقيل في خلافة معاوية. يروي أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط قال له: غلبك أبو تراب على الثروة والعدد. فقال عقيل: نعم وسبقني وإياك إلى الجنة. فقال الوليد: أما والله إن شدقيك لمتوضمتان من دم عثمان. فقال له عقيل: مالك ولقريش؟ إن أنت فيهم إلا كمنيح الميسر. فقال الوليد: والله إني لأرى أهل الأرض لو أشركوا في قتله لوردوا صعوداً. فقال له عقيل: كلا، أما ترغب لهم عن صحبة أبيك. وذكر أنه حضر ومعه كبشر له إلى مجلس علي - كرم الله وجهه - فقال علي يمازحه بعد أن استقر بهما المجلس: أحد الثلاثة أحمق. فقال عقيل: أما أنا وكبشي فلا. فتضاحكا طويلاً. كذا في دول الإسلام للعلامة الذهبي.
ومن أولاد عقيل: مسلم بن عقيل، الذي قتله أهل الكوفة حين سيره الحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين إليهم برسالة قبله، وجميعهم من فاطمة بنت أسد بن هاشم.
وأما جعفر بن أبي طالب فيكنى أبا عبد الله، أسلم قديماً، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية ومعه زوجته أسماء بنت عميس، وولدت له ثمة ابنيه عبد الله ومحمداً، فحصلت له الهجرتان، وقد تقدم ذكر جواره بأرض الحبشة، وما جرى له هو وأصحابه مع النجاشي؛ بسبب ما قاله عمرو بن العاص للنجاشي، وقراءة جعفر سورة الكهف بين يدي النجاشي.
وأما أم هانىء فتزوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي، وولدت له أولاداً، وهرب إلى نجران ومات بها مشركاًن وهو القائل يوم أحد يذكر قومه ويفتخر: من البسيط
ما بال همّ عميدٍ بات يطرقني ... بالود من هند إذ تعدو عواديها
باتت تعاتبني هندٌ وتعذلني ... والحرب قد شغلت عنّي مواليها
مهلاً فلا تعذليني إنّ من خلقي ... ما قد علمت وما إن لست أُخفيها
مساعفٌ لبني كعب بما كلفوا ... حمّال عبءٍ وأثقال أُعانيها
وقد حملت سلاحي فوق مشترف ... ساطٍ سبوحٍ إذا يجري يباريها
كأنّه إذ جرى عيرٌ بفدفدةٍ ... مكدّمٌ لاحقٌ بالعون يحميها
من آل أعوج يرتاح النّديّ له ... كجذع شعراء مستعلٍ مراقيها
أعددتّه ورفاق الحدّ منتخلاً ... وما رنا لخطوبٍ قد أُلاقيها
هذا وبيضاء مثل النّهي محكمةٌ ... لظّت عليّ فما تبدو مساويها
سقنا كنانة من أطراف ذي يمنٍ ... عرض البلاد على ما كان يزجيها
قالت كنانة أنّى تذهبون بنا ... قلنا النّخيل فأمّوها ومن فيها
نحن الفوارس يوم الجرّ من أُحدٍ ... هابت معدٌّ فقلنا نحن نأتيها
هابوا ضراباً وطعناً صارماً خذماً ... ممّا يرون وقد ضمّت قواصيها
ثمّت رحنا كأنّا عارضٌ برد ... وقام هام بني النّجّار يبكيها
كأنّ هامهم عند الوغى فلقٌ ... من قيض ربدٍ نفته عن أداحيها(1/171)
أو حنظلٌ زعزعته الرّيح في غصنٍ ... بالٍ تعاوره منها سوافيها
قد نبذل المال سحّاً لا حساب له ... ونطعن الخيل شزراً في مآقيها
وليلةٍ يصطلي بالفرث جازرها ... يختصّ بالنّفر المثرين داعيها
في ليلةٍ من جمادي ذات أنديةٍ ... جربا جماديّةٍ قد بتّ أسريها
لا ينبح الكلب فيها غير واحدةٍ ... من القريس ولا تسري أفاعيها
أوقدتّ فيها لذي الضّرّاء جاحمةً ... كالبرق ذاكية الأركان أُحميها
أورثني ذاكم عمرٌو ووالده ... من قبله كان بالمثنى يغاليها
كانا يبارون أنواء النّجوم فما ... دنت عن السّورة العليا معاليها
فأجابه حسان بن ثابت - رضي الله عنه - فقال: من البسيط
سقتم كنانة جهلاً من سفاهتكم ... إلى الرسول فجند اللّه مخزيها
أوردتموها حياض الموت ضاحيةً ... فالنّار موعدها والقتل لاقيها
جمّعتموهم أحابيشاً بلا حسبٍ ... أئمّة الكفر غرّتكم طواغيها
ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت ... أهل القليب ومن ألقينه فيها
كم من أسيرٍ فككناه بلا ثمنٍ ... وجزّ ناصيةٍ كنّا مواليها
وإنما أوردتها وجوابها لاشتمالها على المباني الراسخة والمعاني الشامخة.
وأم هانئ هذه هي التي صلى - عليه الصلاة والسلام - في بيتها يوم الفتح صلاة الضحى ثمان ركعات في ثوب واحد مخالفاً بين طرفيه، فروت ذلك، وقالت: وكان قد التجأ إليها بعض أصهارها من بني مخزوم - قيل: هو الحارث بن هشام وآخر معه - فقالت: يا رسول الله، إن أخي علياً لا تأخذه في الله لومة لائم، وإني أخاف أن يعلم بمن لجأ إلي فيقتله، فاجعل من دخل دار أم هانئ آمناً حتى يسمع كلام الله. وفي رواية: إن أخي أراد قتلهما، وإني قد أجرتهما. فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ. ثم قال: هل عندك من طعام نأكله؟ فقالت: ليس عندي إلا كسر يابسة، وإني لأستحي أن أقدمهن إليك. قال: هلمي بهن. فكسرهن في ماء وملح فقال: هل من إدام؟ فقالت: ما عندي يا رسول الله إلا شيء من خل. فقال: هلميه. فصبه على طعامه فأكله، ثم حمد الله تعالى، ثم قال: نعم الإدام الخل يا أم هانئ، لا يفقر بيت فيه خل. أخرجه الطبراني بهذا السياق.
ومن أولادها من هبيرة جعدة بن هبيرة، وقد استعلمه علي رضي الله عنه حين أفضت إليه الخلافة، وهو القائل: من الطويل
أنا من بني مخزوم إن كنت سائلاً ... ومن هاشم أُمّي لخير قبيل
فمن ذا الّذي يبأى علّى بخاله ... وخالي عليٌّ ذو النّدى وعقيل
قلت: لعل قبيلاً مضاف إلى ياء المتكلم تخلصاً من الوقوع في الضرورة أو ورطة عيب الإقواء. والله أعلم.
وأما جمانة بنت أبي طالب فتزوجها ابن عمها أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وولدت له، ولم يسند عنها شيء، ذكر ذلك الدارقطني. وأما أبو عمرو فلم يذكرها؛ فلعله لم يثبت إسلامها عنده؛ لأنه لا يذكر إلا من أسلم، فلم يذكرها لذلك، وذكرها ابن قتيبة وأبو سعد في شرف النبوة في جملة أولاد أبي طالب.(1/172)
وأما الحارث فهو كما سبق أكبر أولاد عبد المطلب وبه كان يكنى. مات قبل البعثة. وله من الأولاد خمسة ذكور: أبو سفيان، ونوفل، وربيعة، والمغيرة، وعبد شمس. وأنثى واحدة وهي أروى. أما أبو سفيان بن الحارث، وهو الأول من أولاد الحارث ذكراً، وأخو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة؛ أرضعتهما حليمة السعدية، وكان ترب رسول الله صلى الله عليه وسلم يألفه إلفاً شديداً قبل النبوة، فلما بعث عليه الصلاة والسلام عاداه وهجاه وهجا أصحابه، وكان شاعراً. قال الذهبي: وعن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اهجوا قريشاً؛ فإنه أشد عليهم من رشق النبل. وأرسل إلى عبد الله بن رواحة فقال: اهجهم، فهجاهم، فلم يرضه عليه الصلاة والسلام هجوه، فأرسل إلى كعب بن مالك كذلك فهجاهم فلم يرضه، ثم أرسل إلى حسان فلما دخل قال: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه، ثم أدلع لسانه فجعل يحركه، ثم قال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم به فري الأديم. فقال عليه الصلاة والسلام: لا تعجل؛ فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسباً، فأته حتى يخلص لك نسبي فأتاه حسان ابن ثابت، ثم رجع فقال: يا رسول الله، قد أخلص لي نسبك، والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين. فقال: من الطويل
لقد علم الأقوام أنّ ابن هاشمٍ ... هو الغصن ذو الأفنان لا الواحد الوغد
وأنّ سنام المجد من آل هاشمٍ ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
ومن ولدت أبناء زهرة منهم ... كرام ولم يلحق عجائزك المجد
ولست كعبّاسٍ ولا كابن أُمّه ... ولكن لئيمٌ لا يقوم له زند
وما لك فيهم محتد غير ملصق ... فدونك فالصق مثل ما لصق القرد
وإنّ امرأً كانت غزيّة أُمه ... وسمراء مغمور إذا بلغ الجهد
وأنت زنيمٌ ليط في آل هاشمٍ ... كما ليط خلف الرّاكب القدح الفرد
وقال حسان: عدمت بنيتي - تصغير بنت - ورأيت في نسخة: ثنيتي، وفي أخرى: نشيتي، وكلها يقع به القسم بينهم، وفي رواية: عدمنا خيلنا: من الوافر
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النّقع مطلعها كداء
يبارين الأعنّة مسرجاتٍ ... تلطّمهنّ بالخمر النّساء
فإمّا تعرضوا عنّا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلاّ فاصبروا لجلاد يومٍ ... يعزّ الله فيه من يشاء
وقال الله قد أرسلت عبداً ... يقول الحقّ ليس به خفاء
وقال اللّه قد سيّرت جنداً ... هم الأنصار عرضها اللقاء
لنا في كلّ يومٍ من معدٍّ ... سبابٌ أو قتالٌ أو هجاء
وجبريلٌ رسول الله فينا ... وروح الله ليس له كفاء
وصرح بخطاب أبي سفيان خاصة فقال:
هجوت محمّداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت مباركاً برّاً حنيفاً ... رسول الله شيمته الوفاء
أتهجوه ولست له بكفءٍ ... فشرّكما ليخركما الفداء
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
فإنّ أبى ووالده وعرضي ... لعرض محمّدٍ منكم وقاء
لساني صارمٌ لا فلّ فيه ... وبحري لا تكدّره الدّلاء
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حسان، إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله.
قالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هجاهم حسان فشفى وأشفى. وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه غير هذه الأبيات الهمزية قبل فتح مكة.(1/173)
وفي مغازي ابن عقبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خالداً أن يدخل من أسفل مكة، ونهاه عن القتال، فلما دخل من أسفلها قاتل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟ قال خالد: هم بدءونا بالقتال، ووضعوا فينا السلاح وأشعروا بالنبل، وقد كففت يدي ما استطعت. فقال عليه الصلاة والسلام: ما قضى الله خير. ويقال: قال أبو بكر يومئذ: يا رسول الله، إني أراني في المنام وأراك دنونا من مكة، فخرجت إلينا كلبة تهر، فقال عليه الصلاة والسلام: ذهب كلبهم وأقبل درهم. ثم التفت إلى أبي بكر مبتسماً حين رأى الخيل يلطمن بالخمر، أي: ينفضن الغبار عن الخيل، فاستنشده هذه الأبيات لحسان، فأنشده إياها.
أقول تحتاج هذه السبعة الأبيات الدالية إلى تفسير مبناها وتفصيل معناها. أما قوله بنو بنت مخزوم فأراد بهم عبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم، والزبير بن عبد المطلب، وأبا طالب بن عبد المطلب، والبيضاء بنت عبد المطلب، ومرة، وعاتكة، وأروى، وأميمة؛ فهؤلاء الثلاثة الذكور والخمس الإناث أشقاء؛ أمهم جميعاً فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمرو بن مخزوم، وهي المرادة بقوله بنو بنت مخزوم.
وأما قوله ومن ولدت أبناء زهرة منهم فيريد بذلك حمزة، والمقوم، وحجل، وصفية؛ فهم أشقاء أيضاً؛ أمهم هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة.
وأما قوله ولست كعباس ولا كابن أمه يعني أخاه ضراراً، وهما شقيقان أيضاً أمهما نثلة بنت جناب بن كلب بن النمر بن قاسط. وأما الحارث بن عبد المطلب فهو مفرد، وأمه سمراء بنت جندب بن هجير بن عامر بن صعصعة، وابنه أبو سفيان هذا المقصود بالهجاء كذلك مفرد لا شقيق له، وأمه غزية بنت قريش بن طريف من ولد فهر بن مالك، وقيل له شقيق يسمى قثم بن الحارث مات صغيراً.
والمعنى أن حساناً جعل تفرد أبي سفيان من غزية أمه تفرد أبيه من سمراء أمه غمزاً في نسبه مضمراً، ثم أفصح بإخراجه أصالة من النسب في قوله في البيت الأخير: وأنت زنيم... إلى آخره، كما أفحش في قوله في البيت الثاني ووالدك العبد لعله أراد معنى العبودية لله، وروى عنه بالمعنى الذي يقتضيه هجاؤه. وعلى الجملة فلله در حسان فيما أتى به في هجاء هذا السيد الكريم ذي النسب الصريح اللباب الصميم؛ إذ هو من أكبر أولاد عبد المطلب ومن به كان يكنى فيقال: يا أبا الحارث، كما تقدم ذكر ذلك، لكن يستحق العزيز المذلة بتطاوله على الأعز، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. ولكنه ولله الحمد أسلم؛ فإنه لما كان عام الفتح ألقى الله في قلبه الإسلام، فخرج متنكراً فتصدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه، فتحول إلى الجانب الآخر فأعرض عنه، قال أبو سفيان: فقلت: أنا مقتول قبل أن أصل إليه، وذلك بطريق الأبواء مقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة، فأسلم وحسن إسلامه.
ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم حياء منه، وأسلم معه ابنه جعفر فأسلما قبل دخول مكة. وقيل: بل لقيه هو وابنه بين السقيا والعرج فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما، فقالت له أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لا يكن ابن عمك أشقى الناس بك. وقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه: يا أبا سفيان، ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: " تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَطِئِينَ " يوسف فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولاً منه، ففعل ذلك أبو سفيان رضي الله عنه، فقال عليه الصلاة والسلام " الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّحِمِينَ " يوسف.
قال أبو سفيان: وسرت معه حتى شهدت فتح مكة وحنيناً، فلما لقينا العدو بحنين اقتحمت فرسي وبيدي السيف صلتا، والله يعلم أني أريد الموت دونه وهو ينظر إلي، فقال له العباس: يا رسول الله، أخوك وابن عمك أبو سفيان فارض عنه. فقال: قد علت فغفر الله كل عداوة عادانيها. ثم التفت إلي فقال: أخي لعمري. فقبلت رجله في الركاب.
وكان أبو سفيان ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفر، ولم تفارق يده لجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/174)
وكان الذين يشبهون رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة: جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، والحسن بن علي رضي الله عنه، وعبد الله بن عامر ابن عمته البيضاء المكناة أم حليمة، وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، وأبو سفيان بن الحارث هذا رضي الله عنه.
وكان صلى الله عليه وسلم يحب أبا سفيان بن الحارث وشهد له بالجنة، فقال: أبو سفيان بن الحارث من شبان الجنة، وقال: أبو سفيان خير أهلي أو: من خير أهلي.
ولما حضرت أبا سفيان الوفاة قال لأهله: لا تبكوا علي، فإني لم ألمم بخطيئة منذ أسلمت. ومات رضي الله عنه بالمدينة بعد استخلاف عمر سنة عشرين من الهجرة، وصلى عليه عمر رضي الله عنه، ودفن قيل: بالبقيع، وقيل: بدار عقيل بن أبي طالب، وحفر قبر نفسه قبل أن يموت بثلاثة أيام، فكان له من الأولاد جعفر الذي أسلم معه وشهد حنيناً مع النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي في خلافة معاوية، وعبد الله رأى النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه، وأبو الهياج قيل: اسمه عبد الله أو علي، فهم ثلاثة وابنة رابعة واسمها عاتكة تزوجها معتب بن أبي لهب، وولدت له.
وأما نوفل بن الحارث بن عبد المطلب - وهو الثاني من أولاد الحارث ذكراً - وكان أسن من إخوته ومن جميع من أسلم من بني هاشم، فأسر يوم بدر؛ ففداه العباس، أو هو فدى نفسه، وذلك أنه لما أسر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افد نفسك برماحك التي بجدة، قال: والله ما علم أحد أن لي بجدة رماحاً بعد الله، أشهد أنك رسول الله. وفدى نفسه بها وكانت ألف رمح. ثم شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنيناً والطائف، وكان ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأني أرى رماحك تقصف أصلاب المشركين. وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين العباس بن عبد المطلب، وكانا شريكين في الجاهلية متفاوضين في المال متحابين، توفي بالمدينة في خلافة عمر، وصلى عليه وشيعه للبقيع، ووقف على قبره حتى دفن.
وكان له من الولد: الحارث، وعبد الله، وعبيد الله، والمغيرة، وسعيد، وعبد الرحمن، وربيعة؛ فهم سبعة؛ فأما الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب فهو الذي يقال له: ببة؛ لأن أمه هند ابنة أبي سفيان بن حرب بن أمية كانت ترقصه وهو طفل فتقول: من الرجز
لأُنحكنّ ببّة ... جاريةً خدبّه
مكرمةً محبّه ... تحبّ أهل الكعبه
والخدبة: العظيمة السمينة، والخدب: العظيم السمين الجافي.
وكان الحارث هذا قد اصطلح عليه أهل البصرة حين توفى يزيد بن معاوية، وخرج ابن الأشعث، فلما هزم هرب إلى همذان فمات بها.
وقال الواقدي: كان الحارث بن نوفل على عهده عليه الصلاة والسلام، ولد له عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه ودعا له. وكانت تحت الحارث هذا درة بنت أبي لهب بن عبد المطلب، واستعمله عليه الصلاة والسلام على بعض أعماله بمكة، واستعمله أبو بكر أيضاً، وقيل: إنه مات بالبصرة بعد أن اختطها داراً في ولاية عبد الله بن عامر بن كريز، فمات بها آخر خلافة عثمان رضي الله عنهما.
وأما المغيرة بن نوفل بن الحارث فيكنى أبا يحيى، بابن له من أمامة بنت الربيع التي أمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان المغيرة تزوجها بعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه، شهد صفين مع علي، وولاه القضاء عثمان بن عفان. ولد المغيرة المذكور بمكة قبل الهجرة وقيل: بعدها، ولم يدرك من حياته عليه الصلاة والسلام غير ست سنين، وهو الذي تلقى عبد الرحمن بن ملجم - لعنه الله حين ضرب علياً، فلما علم الناس به حمل عليهم بسيفه فأفرجوا له، فتلقاه المغيرة هذا بقطيفة فرماها عليه، واحتمله وضرب به الأرض، وقعد على صدره، وانتزع السيف من يده، وكان أسداً وافراً.
وأما عبد الله بن نوفل فكان جميلاً يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولي القضاء بالمدينة لمعاوية وهو أول قاضٍ له بها.
وأما عبيد الله بن نوفل، وسعيد بن نوفل، فقد روى عنهما العلم.
وأما عبد الرحمن بن نوفل، وربيعة بن نوفل، فذكر الدارقطني: أن لا لقيا لهما ولا رواية.(1/175)
وأما ربيعة بن الحارث، وهو الثالث من أولاد الحارث بن عبد المطلب ذكراً، ويكنى أبا أروى، فكانت له صحبة، وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة: ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي هاتين، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أنا واضعه دم آدم بن ربيعة بن الحارث، وذلك أنه كان قتل لربيعة بن الحارث المذكور ابن سمي آدم، وقيل: تمام، وأبطل عليه الصلاة والسلام الطلب به في الإسلام، ولم يجعل لربيعة في ذلك تبعة، وأطعمه عليه الصلاة والسلام مائة وسق من خيبر كل عام، وكان أسن من العباس بنحو سنة، وكان شريك عثمان في التجارة، توفي في آخر خلافة عمر رضي الله عنه. وله من الولد العباس بن ربيعة وعبد المطلب بن ربيعة وعبد الله بن ربيعة، وشهد العباس وعبد الله صفين مع علي، وللعباس واقعة غريبة سأذكرها في وقعة صفين إن شاء الله تعالى.
والحارث بن ربيعة وأمية بن ربيعة وعبد شمس بن ربيعة، ذكر هؤلاء الثلاثة الدارقطني، وآدم بن ربيعة - وكان هذا ذا قدر عظيم - أقطعه عثمان داراً بالبصرة، وأعطاه مائة ألف درهم، وله أولاد من أم فراس بنت حسان بن ثابت، وكذلك عدة بنات لم تذكر أسماؤهن، منهن: أروى بنت ربيعة، وهند تزوجها حيان بن منقذ الأنصاري النجاري، فولدت له يحيى بن حيان. قال المحب الطبري: ولم أظفر بأسمائهن ولا بعددهن، وإنما ذكرن على سبيل الإجمال.
وأما المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب - وهو الرابع من أولاد الحارث الستة - فله صحبة، قيل: إن المغيرة اسم لأبي سفيان فهو عينه، والصحيح أنه أخوه فهو غيره.
وأما عبد شمس بن الحارث بن عبد المطلب، فهو الخامس من أولاد الحارث بن عبد المطلب، سماه عليه الصلاة والسلام عبد الله، ومات بالصفراء في حياته عليه الصلاة والسلام فكفنه في قميصه، وقال سعيد: أدركته السعادة، وله عقب بالشام يقال لهم المنازرة لقلتهم، لا يكادون يزيدون على ثلاثة أشخاص. وفي معجم البغوي: لا عقب له.
وأما أبو لهب بن عبد المطلب، واسمه عبد العزى، فقد كناه أبوه بذلك لحسنه وإشراق وجهه، وله من الأولاد ثلاثة ذكور وأنثيان: عتبة، وعتيبة، ومعتب، ودرة، وسبيعة - إن كانت غير درة - وإلا فالأربعة، أسلم الأول والثالث من الذكور - وهما من أم جميل حمالة الحطب ابنة حرب بن أمية أخت أبي سفيان بن حرب - أسلما يوم الفتح، وكانا قد هربا من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما قدم مكة عليه الصلاة والسلام قال: يا عباس، أين ابنا أخيك عتبة ومعتب لا أراهما؟ قال العباس: فقلت: يا رسول الله، تنحيا فيمن تنحى من مشيخة قريش. فقال: اذهب إليهما فائتني بهما. قال العباس: فركبت إليهما بعرفة فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكما. فركبا معي فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهما إلى الإسلام، فأسلما وبايعهما، وسر بإسلامهما، وشهدا معه حنيناً والطائف. وفقئت عين معتب بحنين، وكان فيمن ثبت ولم ينهزم. ولم يخرجا بعد من مكة، ولم يأتيا المدينة، ولهما عقب.
وروى الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: لما نزلت " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ " الشعراء خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه: ! قالوا: من هذا الذي يهتف؟ قيل: محمد. فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج من خلف هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك. ألهذا جمعتنا؟ فنزلت " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ " المسد كذا في صحيح مسلم.
وروى ابن عيينة عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: لما نزلت سورة تبت أقبلت أم جميل بنت حرب زوجة أبي لهب ولها ولولة وبيدها فهر وهي تقول: من الرجز
مذمّماً قليناودينه أبيناوأمره عصينا(1/176)
والنبي صلى الله عليه وسلم بالمسجد وأبو بكر معه، فقال: يا رسول الله، قد أقبلت هذه، وإنها امرأة بذيئة، فلو قمت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها لن تراني. فجاءت فلم تره، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد أخبرت أنه هجاني، فوالله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، والله إني لشاعرة. فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: لا ورب البيت ما هجاك، وإنه لا يقول الشعر. فقالت: أنت عندي مصدق. فانصرفت وهي تقول: لقد علمت قريش أني ابنة سيدها. فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: إنها لم ترك يا رسول الله. فقال عليه الصلاة والسلام: لم يزل عندي ملك يسترني منها بجناحه.
قال أبو الزناد: عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: انظروا قريشاً كيف يصرف الله عني شتمهم ولعنهم، يشتمون مذمماً ويعلنون مذمماً، وأنا محمد النبي صلى الله عليه وسلم كذا في التلقيح للعلامة ابن الجوزي رحمه الله.
ولما نزلت سورة تبت قال أبو لهب لولديه عتبة وعتيبة: رأسي من رأسكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد. وكانتا تحتهما: رقية تحت عتبة، وأم كلثوم تحت عتيبة، ففارقاهما ولم يكونا دخلا بهما، فصانهما الله تعالى عنهما. ولما فارقاهما جاء عتيبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كفرت بدينك وفارقت ابنتك، لا تحبني ولا أحبك. ثم سطا عليه وشق قميصه وهو خارج نحو الشام تاجراً، فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك. وأبو طالب حاضر، فوجم لها. فقال له: ما كان أغناك عن دعوة ابن أخي. فخرج في تجر من قريش حتى نزلوا مكاناً بالشام يقال له: البلقاء ليلاً، فأطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أمي، هو والله آكلي كما دعا علي محمد، أقاتلي ابن أبي كبشة وهو بمكة وأنا بالشام؟ روى أنهم جمعوا متاعهم وقصدوه وناموا حوله وعليه، فجاء الأسد فجعل يشم وجوههم، ثم ألقى ذنبه فضربه ضربة واحدة فخدشه، فقال: قتلني. ومات. وفي رواية: أن الأسد أقبل يتخطاهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه. ذكره الدولابي. كذا في الذخائر.
قلت: قول عتيبة أقاتلي ابن أبي كبشة يعني النبي صلى الله عليه وسلم، هو كقول أبي سفيان بن حرب، وهو عند ملك الروم لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وسأل أبا سفيان عن نسب النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، ورأى أبو سفيان ما رأى من خوف هرقل - : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة حين أصبح يخافه ملك بني الأصفر. وكقول غيره من كفار قريش: قال ابن أبي كبشة، وفعل ابن أبي كبشة.
ونسبة النبي صلى الله عليه وسلم إليه فيها أقوال؛ قيل: إنها كنية أبيه لأمه وهب بن عبد مناف، وقيل: كنية أبيه من الرضاعة الحارث بن عبد العزى، وقيل: إن سلمى أم عبد المطلب كان أبوها عمرو بن لبيد يكنى أبا كبشة، والأشهر من هذه الأقوال كلها عند الناس أنهم شبهوه برجل كان يعبد الشعري وحده دون العرب، فشبهوه بخروجه عن دين قومه كخروج المشبه به، ونسبوه إليه بسبب هذه المشابهة. وذكر الدارقطني اسم أبي كبشة هذا في المؤتلف والمختلف فقال: اسمه وخز بن غالب، وهو خزاعي. انتهى. كذا في الروض الأنف للعلامة السهيلي.
وأما درة بنت أبي لهب فأسلمت، تزوجها نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، فولدت له أبا سلمة والوليد وعقبة، وروت عن أبي هريرة أن أختها سبيعة بنت أبي لهب شكت إليه عليه الصلاة والسلام أذى الناس لها بقولهم لها بنت حطب النار: وقيل: إن سبيعة لقب لدرة فهي عينها لا غيرها، وزيد عليهما فروى: خالدة، ولا رواية لهما. قاله الدارقطني.(1/177)
وأما الزبير بن عبد المطلب فله ثلاثة أولاد: ذكر واحد وهو عبد الله، وابنتان: أم حكيم، وضباعة أم عبد الله بن الزبير، فأمه عاتكة بنت أبي وهب، أخت هبيرة بن أبي وهب زوج أم هانئ بنت أبي طالب، أدرك الإسلام وثبت معه عليه الصلاة والسلام يوم حنين، شهد أجنادين في خلافة أبي بكر، واستشهد بها، بعد أن قتل جماعة من الروم وجدوا حوله قتلى، ثم أثخنته الجراحة فمات. وذكر الواقدي فقال: كان أول قتيل من الروم بطريق معلم برز ودعا إلى البراز، فبرز إليه عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب هذا فقتله عبد الله ولم يتعرض لسلبه، ثم برز آخر يدعو إلى البراز فبرز إليه أيضاً عبد الله فاقتتلا بالرمحين ثم صارا إلى السيفين، فضربه عبد الله على عاتقه وهو يقول: خذها وأنا ابن عبد المطلب، فقطع سيفه وأسرع في منكبه. ثم ولى الرومي منهزماً، فعزم عليه عمرو بن العاص ألا يبارز، فقال عبد الله: إني والله ما أجد أني أصبر، فلما التحمت السيوف وأخذ بعضها بعضاً وجد في ربضة من الروم عشرة حوله قتلى وهو بينهم قتيل، وكانت سنه نحواً من ثلاثين سنة ولم يعقب.
وأما ضباعة بنت الزبير، وهي التي أمرها عليه الصلاة والسلام بالاشتراط في الحج - يعني اشتراط التحلل بوقوع المرض - فكانت تحت المقداد بن الأسود الكندي، وأما أم حكيم فكانت تحت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، قاله ابن قتيبة.
وأما الغيداق، والمقوم، وحجل، وضرار، والعوام، وقثم - على العدة المصدرة التي عدها ابن الجوزي - فلم يذكر القسطلاني وابن هشام لهم عقباً.
والحاصل أن جملة بني أعمامه صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرون: اثنان منهم لم يسلما: طالب بن أبي طالب، وعتيبة بن أبي لهب أكيل السبع، والباقون أسلموا ولهم صحبة، وأما أولاد أبي طالب: فعقيل وجعفر وعلي. وأما بنو العباس فعشرة: الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحيم، وقثم، ومعبد، وكثير، والحارث، وعون، وتمام. وأما بنو الحارث بن عبد المطلب فخمسة: أبو سفيان، ونوفل، وربيعة، والمغيرة، وعبد شمس. كذا عدهم صاحب تاريخ الخميس.
قلت: وليس منهم عبيدة بن الحارث بن المطلب كما توهم بعضهم فعدهم به ستة؛ إذ الكلام في بني الحارث بن عبد المطلب، لا في أبناء المطلب؛ فهو ابن ابن عم أبيهم لا أخوهم، وعبارته في ترجمة عبيدة بن الحارث هي: عبيدة بن الحارث ابن المطلب، كان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، وأسلم قبل دخوله دار الأرقم، ثم شهد بدراً وجرح بها، وتأخرت وفاته حتى وصل وادي الصفراء فدفن بها وهو ابن ثلاث وستين سنة. انتهى قلت: وهو المبارز لعتبة بن ربيعة يوم بدر؛ فإنه صرع عتبة، وعتبة ضربه في نصف ساقه فقطعها، فذلك هو الجرح الذي مات به. وأما بنو لهب فثلاثة عتبة وعتيبة ومعتب. وأما بنو حمزة فعمارة ويعلى. وأما بنو الزبير بن عبد المطلب فواحد: عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب. فهؤلاء خمسة وعشرون رجلاً. وإن جملة بنات أعمامه صلى الله عليه وسلم عشر: اثنتان لأبي طالب: أم هانىء وجمانة، وثلاث للعباس: أم حبيبة وصفية وأمينة. وواحدة لأبي لهب اسمها درة، وواحدة لحمزة اسمها فاطمة.
وأما عماته وأولادهن: فعماته ست: البيضاء، وعاتكة، وأروى، وبرة، وأميمة، وصفية. أما البيضاء، وتكنى أم حليم، فهي توأم عبد الله، والد النبي صلى الله عليه وسلم، تزوجا كريز بن ربيعة بن عبد شمس فولدت له عامراً، وهذا عامر هو الذي ينسب إليه الشعب بمكة المعروف بشعب عامر، كذا رأيته في شفا الغرام للعلامة الفاسي، وهو والد عبد الله بن عامر الذي تفل في فمه النبي صلى الله عليه وسلم وهو طفل فتسوغها وازدردها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لمسقى، وهو أحد السبعة المشابهين له صلى الله عليه وسلم في الخلقة، وقد تقدم ذكرهم، وهو الذي شق نهر البصرة حين كان عاملاً عليها لعثمان رضي الله عنه، ولي العراق وخراسان وهو ابن أرع وعشرين سنة، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: يا بني عبد شمس، هو من صلبكم، وهو بنا أشبه منه بكم. ثم ولدت البيضاء المذكورة لكريز بعد عامر أختاً له اسمها أروى، وهي أم عثمان بن عفان رضي الله عنه، فعامر خال عثمان، وابنه عبد الله بن عامر ابن خاله، وعثمان ابن عمة عبد الله بن عامر المذكور.(1/178)
وأما عاتكة ابنة عبد المطلب، فتزوجها أبو أمية المخزومي، فأنجب منها عبد الله وزهيراً. فأما عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي فأسلم، وكان قبل إسلامه شديد العداوة له - عليه الصلاة والسلام - وللمسلمين، وهو الذي قال: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ثم إن خرج مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه في الطريق بين السقيا والعرج مريداً مكة عام الفتح فتلقاه، فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام، ثم تلقاه فأعرض عنه مرة أخرى، حتى دخل على أخته لأمه، أم سلمة، وسألها أن تشفع له، فشفعها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة مسلماً وحنيناً والطائف، فرمى يوم الطائف بسهم فقتل فمات شهيداً، وهو الذي قال له المخنث في بيت أم سلمة: يا عبد الله، إذا فتح الله عليكم الطائف غداً فإني أدلك على بادية بنت غيلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، إن مشت تثنت، وإن قعدت تبنت، وإن تحدثت تغنت، وإن لبين فخذيها لكالعقب المكفى. قال: فدخل عليه الصلاة والسلام على أم سلمة حينئذ فسمعه يتكلم بهذا الكلام، فقال: اخرج فقد غلغلت النظر يا عدو الله.
وفي رواية من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان يدخل على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مخنث. قالت: وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة. ثم قال صلى الله عليه وسلم: لا يدخل عليكم هذا بعد اليوم، فحجبوه. وقوله تقبل بأربع... إلى آخر ما قال سيأتي بيانه في المقصد الرابع قبل الخاتمة إن شاء الله تعالى، فالأليق تأخيره عن ذكره في معرض ذكر أعمامه وعماته عليه الصلاة والسلام.
وأما زهير بن أمية فأسلم وعد من المؤلفة قلوبهم، وهو أحد القائمين في نقض الصحيفة القاطعة المتقدم ذكرها، والإشارة إليها في قول الإمام أبي سعيد البوصيري وزهير والمطعم بن عدي... إلى آخره. وأبو أمية هذا هو والد أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مشيرة الحديبية بالحلق، التي كانت زوجة أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.
وعاتكة هذه هي صاحبة الرؤيا في قصة بدر. قال ابن هشام: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام بتجارات لقريش قال: هذه عير قريش فيها تجارتهم وأموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها. فانتدب الناس. فخف بعضهم وثقل بعضهم. وذلك أنه لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً، وكان أبو سفيان في العير، وكان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان والرجلان عن أمر الناس، حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استفز أصحابه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك، واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشاً ويستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم، عن عكرمة، عن ابن عباس، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، قالا: وقد رأت عاتكة ابنة عبد المطلب قبل قدوم ضمضم بثلاث رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: والله يا أخي، لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدثك. فقال لها: ما رأيت؟ قالت: رأيت الليلة راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث. فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار منها إلا دخلها فلقة من تلك الصخرة.(1/179)
قال العباس: والله إنها لرؤيا، وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد. ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان له صديقاً فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لابنه عتبة، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش في أنديتها. قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش، يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا. فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قلت: وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة. فقلت: وما رأت؟ فقال أبو جهل: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقاً ما تقول فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب.
قال العباس: فو الله ما كان مني إليه كبير إلا أني جحدت ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئاً. قال: ثم تفرقنا. فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ثم لم يكن عندك غيرة لشيء! قال: قلت: قد والله فعلت، ما كان مني إليه كبير أمر، وايم الله لأتعرضن له، فإن عاد لأكفيكنه. قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب، أرى أن قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه، قال: فدخلت المسجد فرأيته، فو الله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأق به، وكان رجلاً خفيفاً حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر.
قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتد، قال: قلت في نفسي: ماله - لعنة الله عليه - أكل هذا فرقاً من أن أشاتمه؟ قال: فإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره قد جع بعيره، وحول رحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة ! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أدري أن تدركوها، الغوث الغوث ! قال: فشغله عني، وشغلني عنه ما جاء من الأمر، فتجهز الناس سراعاً فخرجوا إلى بدر، وكانت القتلة في أشرافهم ورءوسهم وصناديدهم، وأعز الله الإسلام وأهله. فهذه رؤيا عاتكة المشار إليها بقوله: وهي صاحبة الرؤيا في قصة بدر.(1/180)
وأما أروى ابنة عبد المطلب فكانت تحت عمير بن وهب بن عبد بن قصي بن كلاب، أسلم رضي الله عنه، ولإسلامه قصة، هي أنه لما كانت وقعة بدر وقتل من قتل من أشرافهم وصناديدهم، منعت قريش النياحة على من قتل إظهاراً للجد والثبات، فاجتمع صفوان بن أمية وعمير ابن وهب وكان هذا عمير في الجاهلية شيطاناً من الشياطين، وهو الذي حرز لقريش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر، فضرب بفرسه بطن الوادي ثم قال: القوم ثلاثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون. وهم كذلك كانوا في الحقيقة ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً. ثم رجع واستبطن الوادي وقال: توهمت أن للقوم كميناً، فلم أجد، ولكني - يا معشر قريش - رأيت المنايا على البلايا، نواضح يثرب تحمل السم الناقع، لا ملجأ لهم ولا منعة إلا سيوفهم، والله لئن أصابوا منا كما نصيب منهم لبطن الأرض خير من ظهرها. فاجتمع هو وصفوان بعد وقعة بدر، فقال عمير: لولا أن لي صبية وأهلاً لذهبت حتى أغتال محمداً، أصل إليه بالمدينة في طلب ابني. وكان له ابن أسر يوم بدر، فضمن له صفوان كفاية أولاده وأهله، وأن يجعلهم أسوة أهله، ويقوم عليهم بما يحتاجون، فاتفقا على ذلك وأن يعطيه ما يعطيه، فخرج عمير حتى قدم المدينة المشرفة وأناخ بباب المسجد، فأقبل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخذ بمجامع ثوبه في صدره وحمائل سيفيه، ودخل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً كذلك قال: أرسله يا عمر؟ ادن يا عمير. فدنا إليه، فقال له عليه الصلاة والسلام: ما الذي أقدمك؟ قال: لهذا الأسير الذي في أيديكم. فقال له عليه الصلاة والسلام: فما بال هذا السيف معك؟ فقال عمير: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا يوم بدر شيئاً؟ ثم قال له: إنما أتيت من أجل فداء ابني. قال عليه الصلاة والسلام: ألم تجلس أنت وصفوان بن أمية بالحجر فتذاكرتما مصاب قريش، فقلت ما قلت، وشكوت خوف ضيعة صبيتك وأهلك فضمن لك صفوان القيام بالنفقة عليهم والكفاية لهم؟ قال: من أخبرك بهذا؟ فلم يكن أحد معنا. قال: أخبرني الله عز وجل. قال: صدق الله وصدقت، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
هذا وصفوان بعد ذهاب عمير كان يقول: سيأتيكم يا أهل مكة أمر يسر كل ذي حزن. فلما طالت المدة، وجاء الخبر بإسلام عمير غضب صفوان، ومنع النفقة على أولاد عمير وأهله، فهذا سبب إسلامه رضي الله عنه.
فولدت له طليب بن عمير، أسلم طليب وهاجر إلى الحبشة، وشهد بدراً وقتل بأجنادين، وكان سبباً في إسلام أمه كما ذكره الواقدي. ثم خلف عليها بعد موت عمير كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، أمها غزية بنت جندب أم الحارث ابن عبد المطلب؛ فهي شقيقته، وكأن حساناً لما جعله فذاً في السبعة الأبيات المتقدم ذكرها لم يعتبرها شقيقة له للأنوثة التي ليست موضعاً للفخر، فنبذ ابنه أبا سفيان بانفراده من سمراء، وبتره بانفراده من غزية.
وكيفية سببيته في إسلام أمه أروى هي أنه لما أسلم طليب في دار الأرقم ثم خرج، دخل على أمه أروى بنت عبد المطلب فقال لها: تبعت محمداً وأسلمت لله عز وجل. فقالت: إن أحق من واددت وعضدت ابن خالك، والله لو قدرنا على ما تقدر عليه الرجال لمنعناه وذببنا عنه. فقال لها طليب: ما يمنعك أن تسلمي وتتبعيه؟ فقد أسلم أخوك حمزة. قالت: أنظر ما يصنع أخواتي، ثم أكون إحداهن. قال: فقلت: إني أسألك بالله إلا أتيته فسلمت عليه وصدقتيه، وشهدت أن لا إلا الله. قال: فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ثم كانت تعضد النبي صلى الله عليه وسلم بلسانها، وتحض على نصرته والقيام بأمره.
وقال الزبير بن بكار: كان طليب من المهاجرين الأولين، وقتل بأجنادين شهيداً ولا عقب له، وقيل: قتل يوم اليرموك. والله أعلم.(1/181)
وأما برة بنت عبد المطلب فكانت عند أبي رهم بن عبد العزى العامري، فولدت له أبا سبرة بن أبي رهم، ثم خلف عليها عبد الأسد بن هلال المخزومي، فولدت له أبا سلمة بن عبد الأسد الذي كان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، واسم أبي سلمة عبد الله، أسلم وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين، وهو أول من هاجر إلى المدينة، وهو أيضاً أول من هاجر إليها، وكانت هجرته قبل بيعة العقبة، لما آذته قريش حين قدم من الحبشة، وقد بلغه إسلام من أسلم من الأنصار، فخرج مهاجراً إليها، وشهد بدراً، وجرح جرحاً اندمل، ثم انتقض عليه فمات منه.
وتزوج عليه الصلاة والسلام زوجته أم سلمة بعده، قالت أم سلمة: دخل علي أبا سلمة وقد شق بصره فأغمضه، وقال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فصاح ناس من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون. ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المقربين. اللهم افسح له في قبره ونوره له. أخرجه البخاري ومسلم. ثم قال لها: قولي اللهم إني أحتسب عندك مصيبتي واخلف علي خيراً منه. فقالت: وهل خير من أبي سلمة؟ فأخلف الله علي منه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان هو خيراً. أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وأما أميمة بنت عبد المطلب فكانت تحت جحش بن رئاب، فولدت له عبد الله، وعبيد الله، والبصير الملقب أبا أحمد، وزينب، وأم حبيبة، وحمنة. أما عبد الله بن جحش فهو ابن أخت حمزة، مثل به كما مثل بحمزة، وعبد الله هذا يعرف بالمجدع في الله؛ جدع أنفه وأذناه يومئذ.
وكان سعد بن أبي وقاص يحدث أنه لقيه يوم أحد أول النهار فخلا به وقال له عبد الله: يا سعد، هلم فلندع الله، وليذكر كل منا حاجته وليؤمن الآخر. قال سعد: فدعوت الله أن ألقى فارساً شديداً جريئاً من المشركين فأقتله فآخذ سلبه. فقال عبد الله: آمين. ثم استقبل عبد الله القبلة وقال: اللهم لقني اليوم فارساً شديداً بأسه شديداً جرده فيقتلني ويجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غداً تقول لي: يا عبد الله، فيم جدع أنفك؟ فأقول: فيك يا رب وفي رسولك فتقول لي: صدقت. قل يا سعد: آمين، فقلتها. ثم مررت به آخر النهار قتيلاً مجدع الأنف والأذنين، وإن أنفه وأذنيه معلقتان في خيط، ولقيت أنا فلاناً من المشركين فقتلته وأخذت سلبه.
وذكر الزبير بن بكار: أن سيف عبد الله بن جحش انقطع يوم أحد فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجوناً فعاد في يده سيفاً صقيلاً فقاتل به، وكان ذلك السيف يسمى العرجون، ولم يزل حتى بيع من بغا التركي بمائة دينار، والذي قتل عبد الله بن جحش هو الأخنس بن شريق، وكان عبد الله حين قتل ابن بضع وأربعين سنة، ودفن مع حمزة رضي الله عنهما.
وأما عبيد الله بن جحش فأسلم وهاجر بزوجته رملة بنت أبي سفيان إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ثم تنصر وارتد عن الإسلام والعياذ بالله تعالى، ومات هناك، وسيأتي ذكر زينب في زوجاته عليه الصلاة والسلام.
وأما حمنة فكانت تحت مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، فلم يولد له منها، ثم تزوجها طلحة بن عبيد الله التيمي فولدت له محمداً وعمران، وهي التي استحيضت وسألت النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثها في باب الاستحاضة مشهور.
وأما أم حبيبة - ويقال: أم حبيب - فكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وكانت تستحاض أيضاً، وأهل السير يقولون: المستحاضة حمنة، والصحيح أنها استحيضت، وقد قيل: إن زينب أيضاً كانت استحاضت.
وأما أبو أحمد الملقب بالبصير، فكان سلفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كانت تحته الفارعة بنت أبي سفيان، مات بعد وفاة أخته زينب في سنة عشرين.
وكان عبد الله بن جحش أول من سن الخمس في الغنيمة للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يفرض، ثم افترض بعد ذلك. واستشاره وأبا بكر النبي صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فأشارا بالفداء، وأشار عمر بالقتل. وكان أول لواء عقد له، وقيل: لحمزة، وقيل: لعبيدة ابن الحارث.(1/182)
وأما صفية ابنة عبد المطلب، فأمها هالة بنت وهب بن عبد مناف، وشهدت الخندق، وقتلت رجلاً من اليهود، وضرب لها عليه الصلاة والسلام بسهم، وروت عنه حديثاً رواه عنها الزبير. وقتلها لليهودي هو أنه لما كانت في النساء والذراري رأت يهودياً يدور حول الحصن يريد اغتيالاً، فقالت لحسان بن ثابت - وكان مع النساء والذراري فيه - ألا تتسور له تقتله؟ فقال: ما لي وله يا ابنة عبد المطلب؟ ثم إنها احتزمت وأخذت بيدها عموداً فضربت به اليهودي فقتلته، ثم قالت: يا حسان، انزل إليه فاسلبه؛ فإني امرأة وهو رجل، فقال حسان: ما لي ولسلبه يا بنة عبد المطلب؟ قال السهيلي عند ذكر حسان حين جعل في الآطام مع النساء والذراري ما نصه: قيل إن حساناً كان جباناً شديد الجبن؛ وقد دفع هذا بعض العلماء وقال: إنه حديث منقطع الإسناد، وقال: لو صح هذا لهجي به حسان؛ فإنه كان يهاجي فحول الشعراء كضرار وابن الزبعري وغيرهما، وكانوا يناقشونه ويردون عليه، فما عيره أحد منهم بجبن ولا وصمه به؛ فدل ذلك على ضعف حديث ابن إسحاق، وإن صح فلعل حساناً كان معتلاً في ذلك اليوم بعلة منعته من شهود القتال. انتهى ما قاله السهيلي.
قلت: ورأيت في كتب السير: إن حساناً أصابته علة أحدثت فيه الجبن، ولم يكن أول أمره جباناً وإلا لعير به كما قاله السهيلي، وقد سألت بعض حذاق الأطباء عن هذا فقال: نعم، ذلك مذكور عندنا. والله أعلم.
وكانت في الجاهلية تحت الحارث بن حرب بن أمية، فولدت له صيفي بن الحارث، ثم هلك عنها فخلف عليها العوام بن خويلد أخو خديجة، فولدت له الزبير والسائب وعبد الكعبة. فأما الزبير فأسلم قديماً وهو ابن ثمان سنين أو ست عشرة، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين، ولم يتخلف عنه صلى الله عليه وسلم في غزاة، وقتل يوم الجمل غيلة، وسيأتي ذكره عند ذكر وقعته. وأما عبد الكعبة فهو مذكور من أولاد صفية.
توفيت بالمدينة في خلافة عمر رضي الله عنه سنة عشرين من الهجرة ولها ثلاث وسبعون سنة، ودفنت بالبقيع.
فهؤلاء عماته صلى الله عليه وسلم وأولادهن، أسلم منهن صفية بيقين، واختلف في إسلام عاتكة وأروى. والأشقاء من أولاد عبد المطلب: عبد الله والزبير وأبو طالب، والخمس الإناث ما عدا صفية؛ كلهم من فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمر بن مخزوم. وحمزة وحجل والمقوم وصفية أشقاء أمهم هالة بنت وهب، وكذلك بقيتهم أشقاء كالعباس وضرار وقثم؛ فإنهم من نثلة بنت جناب، ما عدا أكبر أولاد عبد المطلب وهو الحارث؛ فإنه فذ أمه سمراء بنت جندب كما تقدم عند ذكر أبيات حسان بن ثابت رضي الله عنه في أبي سفيان.
وأما أولاد عماته صلى الله عليه وسلم فأحد عشر رجلاً وثلاث بنات عرفن، أما الرجال: فعامر بن البيضاء بن كريز بن ربيعة بن عبد شمس، وعبد الله وزهير ابنا عاتكة بن أبي أمية المخزومي، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وعبد الله وعبيد الله والبصير الملقب أبا أحمد - بنو أميمة بنت عبد المطلب من جحش بن رئاب، وطليب بن أروى من عمير بن وهب المخزومي، والزبير السائب وعبد الكعبة بنو صفية من العوام بن خويلد، كلهم أسلموا وثبتوا على الإسلام إلا عبيد الله بن جحش، كما تقدم؛ فإنه ارتد وتنصر بالحبشة ومات بها.
وأما الإناث فزينب وأم حبيبة وحمنة بنات أميمة من جحش، وذكر للبيضاء بنات ولم يذكر عددهن ولا أساميهن سوى أروى من كريز المذكور، وهي أم عثمان بن عفان، فهن بها أربع. وذكر لبرة ابن من أبي رهم فيكون ثاني عشر أبناء العمات.
وأما جداته عليه الصلاة والسلام من جهة أبيه؛ فأم أبيه عبد الله بن عبد المطلب - فاطمة بنت عمر بن عائذ بن عمرو بن مخزوم، وأم عبد المطلب سلمى بنت عمرو النجارية، وكانت قبل هاشم تحت أحيحة بن الجلاح، فولدت له عمرو بن أحيحة، فهو أخو عبد المطلب لأمه، وله - أو لأبيه - القصيدة المرثية البليغة التي يستشهد أهل المعاني منها بقوله: من المنسرح
ألألمعيّ الّذي يظنّ بك الظ ... ظنّ كأن قد رأى وقد سمعا
وقبله قوله:
إنّ الّذي جمع السّماحة والس ... سؤدد والمجد والتُّقى جمعا
وهي طويلة. مطلعها:
أيّتها النّفس أجملي جزعا ... إنّ الّذي تحذرين قد وقعا
ولعلي أن أظفر إن شاء الله تعالى بها فألحقها بما هنا.(1/183)
وأم هاشم هي عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان من بني سليم، وأم عبد مناف عاتكة البيضاء بنت فالح بن مالك بن ذكوان من بني سليم، وأم قصي فاطمة بنت سعد بن سبل من أزد السراة، وأم كلاب نعم بنت سرير بن ثعلبة بن مالك بن كنانة، وأم مرة وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهم، وأم كعب سلمى بنت فهر - أو فهم - وأم لؤي وحشية بنت مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة، وأم غالب سلمى بنت سعد بن هذيل، وأم فهر جذلة ابنة الحارث الجرهمي، وأم مالك هند بنت عدوان بن عمرو بن قيس عيلان، وأم النضر برة أخت تميم بن مر، ذكره ابن قتيبة في كتاب المعارف. فالجدة الأولى مخزومية، والثانية نجارية، والثالثة سلمية، والرابعة سلمية أيضاً، والخامسة أزدية، والسادسة كنانية، والسابعة فهمية، والثامنة فهرية أو فهمية؛ لإيهام الخط فيها، والتاسعة كنانية، والعاشرة هذلية، والحادية عشرة جرهمية، والثانية عشرة قيسية من قيس عيلان، والثالثة عشرة مرية.
وأما جداته من جهة أمه فأم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب - برة بنت عبد العزى بن قصي بن كلاب، وأم أبيها وهب عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان من سبي سليم، وأم مرة أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، وأم أم حبيب برة بنت عوف بن عبيد بن عدي بن كعب بن لؤي، وأم برة قلابة بنت الحارث بن صعصعة بن عائذ بن لحيان بن هذيل، وأم قلابة هند بنت يربوع من ثقيف؛ فالجدة الأولى والثانية والثالثة من أمهات أمه عليه الصلاة والسلام قرشيات، والرابعة لحيانية هذلية، والخامسة ثقفية، ففي كل قبيلة من قبائل العرب له عليه الصلاة والسلام علقة نسب.
وأما إخوته من الرضاعة فحمزة عمه، وأبو سلمة بن عبد الأسد؛ أرضعتهما معه ثويبة جارية عمه أبي لهب بلبن ابنها مسروح بن ثويبة، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أرضعته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حليمة السعدية، وعبد الله وأنيسة وحذافة وتعرف بالشيماء، الثلاثة أولاد حليمة. وقد روى أن خيلاً له عليه الصلاة والسلام أغارت على هوازن فأخذوا هذه الشيماء في جملة السبي، فقالت: أنا أخت نبيكم - أو صاحبكم - فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له: يا محمد، أنا أختك، فرحب بها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، ودمعت عيناه وقال لها: إن أحببت أقيمي عندي مكرمة محببة، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك. قالت: بل أرجع إلى قومي؛ فأسلمت وأعطاها صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية ونعماً وشيئاً ذكره ابن قتيبة. ويقال: إنه عليه الصلاة والسلام قال لها حين قالت: أنا أختك: ما آية ذلك؟ قالت: عضة في ظهري منك خفيفة إذ كنا نروح في البهم. والله تعالى أعلم. وإلى هذا الإشارة في قول البوصيري رحمه الله تعالى: من الخفيف
وأتى السّبي فيه أُخت رضاعٍ ... وضع الكفر قدرها والسّباء
بسط المصطفى لها من رداءٍ ... أيّ فضلٍ حواه ذاك الرّداء
الباب الرابع من المقصد الثاني
في ذكر أزواجه الطاهرات
أمهات المؤمنين وسراريه
لا خلاف بين أهل السير والعلم بالأثر أن أزواجه عليه الصلاة والسلام اللاتي دخل بهن إحدى عشرة امرأة: ست من قريش، وأربع عربيات، وواحدة من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران، وهي صفية بنت حيي بن أخطب. وكونهن أمهات المؤمنين إنما هو في تحريم نكاحهن، ووجوب احترامهن، لا في جواز النظر إليهن والخلوة بهن، لا يقال بناتهن أخوات المؤمنين، ولا آباؤهن ولا أمهاتهن أجداد وجدات المؤمنين، ولا إخوتهن وأخواتهن أخوال وخالات المؤمنين.
قال البغوي: هن أمهات المؤمنين من الرجال دون النساء، روى ذلك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في قضية: أنا أم رجالكم لا أم نسائكم، وهو جار على الصحيح عند أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول: أن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال. وقال: وكان صلى الله عليه وسلم أباً للرجال والنساء، ويجوز أن يقال: أبو المؤمنين في الحرمة، وفضلت زوجاته عليه الصلاة والسلام على النساء، وثوابهن وعقابهن مضاعف، ولا يحل سؤالهن إلا من وراء الحجاب، وأفضلهن خديجة وعائشة، ويأتي تحقيق ذلك قريباً. انتهى ولنذكرهن على ترتيب تزوجه بهن عليه الصلاة والسلام:(1/184)
فأولهن خديجة، ثم سودة بنت زمعة، ثم عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ثم زينب بنت خزيمة، ثم أم سلمة، ثم زينب بنت جحش، ثم جويرية بنت الحارث، ثم أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب، ثم صفية بنت حيي، ثم ميمونة بنت الحارث العامرية.
أما أم المؤمنين خديجة رضي الله عنه فهي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، كانت تدعى في الجاهلية الطاهرة، وكانت قد ذكرت وهي بكر لورقة بن نوفل فلم يقض بينهما نكاح. وفي السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين قال ابن شهاب: تزوجت خديجة قبله عليه الصلاة والسلام رجلين: الأول منهما: عتيق ابن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، فولدت له جارية اسمها هند فأسلمت وتزوجت. وفي سيرة مغلطاي: ولدت له عبد الله، وقيل: عبد مناف، ثم خلف عليها بعده أبو هالة النباش بن زرارة التميمي، أخو حاجب بن زرارة، ويقال له: هند، فولدت له رجلاً يقال له: هند، وامرأة يقال لها: هالة، ويكنى بها. وفي رواية: المتزوج لها أولاً أبو هالة، ثم بعده عتيق، ولم يذكر ابن قتيبة غير الأول، فأما هند بن أبي هالة المسمى هنداً - أيضاً - فهو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم، عاش مسلماً إلى أن قتل مع علي يوم الجمل، وقيل: بالبصرة في الطاعون، فازدحم الناس على جنازته وتركوا جنائزهم وقالوا: ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان فصيحاً بليغاً وصافاً؛ وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن وأتقن.
قلت: وعلى نعته غالب أحاديث الكتاب المسمى بالشمائل وروايته، وكان يقول: أنا أكرم الناس أماً وأباً وأخاً وأختاً، أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمي خديجة، وأخي القاسم بن محمد، وأختي فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم. وأما الجاريتان - وهما هند التي من عتيق وهالة التي من النباش بن زرارة - فقال ابن قتيبة وأبو سعيد وأبو عمرو: لم نظفر من أخبارهما بشيء.
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ خمساً وعشرين سنة قال له عمه أبو طالب: أنا رجل معيل لا مال لي، وقد اشتد الزمان، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في تجارتها، فلو ذهبت إليها وقلت لها في ذلك لعلها تقبل، وبلغ خديجة ذلك فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وقالت: أعطيك ضعف ما أعطى رجلاً من قومك. وفي رواية: أتى إليها أبو طالب فقال لها: هل لك أن تستأجري محمداً؟ فقد بلغنا أنك استأجرت ببكرين ولسنا نرضى لمحمد دون أربع بكرات، فقالت خديجة: لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألت لحبيب قريب؟! فقال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا رزق ساقه الله إليك. فخرج عليه الصلاة والسلام مع غلامها ميسرة، ووقعت له القصة مع نسطور الراهب... إلى آخر ما هو مذكور في محله من كتب السير المفردة لذلك.
ولما رجع عليه الصلاة والسلام بالتجارة من الشام، وربحت التجارة الدرهم أربعة دراهم؛ قالت نفيسة بنت منية: أرسلتني خديجة دسيساً إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به. قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال عليه الصلاة والسلام: فمن هي؟ قلت: خديجة. قال: وكيف لي بذلك؟ قلت: علي، فأنا أفعل. فذهبت إلى خديجة فأخبرتها، فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن ائت ساعة كذا وكذا. وصنعت طعاماً وشراباً ودعت أباها - والصحيح أنه عمها وهو عمرو أخو خويلد، والعرب تسمى العم والداً؛ فإن أباها خويلد مات قبل حرب الفجار، وحرب الفجار كانت وسنه عليه الصلاة والسلام عشرون عاماً كما تقدم ذكره - ونفراً من قريش فطعموا وشربوا، فقالت خديجة: إن محمد بن عبد الله يخطبني، فزوجها منه عليه الصلاة والسلام، فخلقته وألبسته حلة، وكذلك كانوا يصنعون إذا زوجوا نساءهم، والضمير في خلقته ورديفه إلى عمها المزوج لها عمرو بن خويلد المذكور لا إليه عليه الصلاة والسلام.(1/185)
قال في السمط الثمين للمحب الطبري: وحضر أبو طالب ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء معد، وعنصر مضر، وجعلنا سدنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس. ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوزن به رجل إلا رجح به؛ فإن كان في المال قلة فإن المال ظل مائل وأمر حائل، ومحمد قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها ما آجله وعاجله من مالي كذا، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل جسيم.
فلما أتم أبو طالب خطبته تكلم ورقة بن نوفل فقال: الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله، لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا علي معاشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على أربعمائة دينار. ثم سكت ورقة. فقال أبو طالب: قد أحببت أن يشركك عمها، فقال عمها عمرو بن خويلد: اشهدوا علي يا معشر قريش أني قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد. وشهد على ذلك صناديد قريش.
وفي السمط الثمين: أصدقها عشرين بكرة. وفي المواهب عن الدولابي: أصدقها اثنتي عشرة أوقية ذهباً ونشاً. قالوا: وكل أوقية أربعون درهماً والنش: نصف أوقية. ولا منافاة بين هذا وبين من قال أصدقها أبو طالب لقوله في الخطبة من مالي كذا؛ لجواز كون أبي طالب أصدقها، وزاد عليه الصلاة والسلام في صداقها، فكان الكل صداقاً.
وذكر الملا في سيرته: لما تزوج عليه الصلاة والسلام خديجة ذهب ليخرج، فقالت له خديجة: إلى أين يا محمد؟ اذهب فانحر جزوراً أو جزورين وأطعم الناس، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أول وليمة أولمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: أمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف، وقالت: يا محمد، مر عمك أبا طالب أن ينحر بكراً من بكارك، وأطعم الناس على الباب، وهلم فقل مع أهلك. فأطعم الناس ودخل، فقال مع أهله خديجة، فأقر الله عينه. وفرح أبو طالب بذلك فرحاً شديداً وقال: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب، ودفع عنا الهموم.
وأم خديجة فاطمة بنت زائدة بن الأصم، تزوج صلى الله عليه وسلم خديجة ولها من العمر أربعون سنة وبعض أخرى، وله خمس وعشرون سنة، وقيل: إحدى وعشرون سنة، والأول عليه الأكثرون. وكانت مدة إقامتها معه عليه الصلاة والسلام أربعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية أيام، خمس عشر سنة منها قبل الوحي والباقيات بعده، إلى أن توفيت وهي ابنة خمس وستين سنة، ولم يكن يومئذ يصلي على الجنائز.
ولا خلاف في أنها أول امرأة تزوج بها عليه الصلاة والسلام، ولم يتزوج قبلها ولا عليها. وكانت وفاتها قبل الهجرة بثلاث سنين، ودفنت بالحجون، وولدت له عليه الصلاة والسلام أولاده كلهم، ما عدا إبراهيم؛ فإنه من مارية القبطية، وسيأتي ذكرها آخر الباب. قال حكيم بن حزام بن خويلد: توفيت عمتي خديجة بنت خويلد فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون، ونزل صلى الله عليه وسلم في قبرها. وفي المواهب اللدنية: وكانت خديجة أول من آمن من الناس. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن خديجة قد أتتك بإناء فيه طعام وإدام وشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب. والمراد بالقصب: اللؤلؤ المجوف.
قال ابن إسحاق: كان عليه الصلاة والسلام لا يسمع شيئاً من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرجا لله عنه بخديجة إذا رجع إليها؛ تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس حتى ماتت. وعن عبد الرحمن بن يزيد: قال آدم عليه الصلاة والسلام: إني لسيد البشر يوم القيامة، إلا رجلاً من ذريتي نبياً من الأنبياء يقال له: أحمد؛ فضل علي باثنتين: زوجته عاونته فكانت له عوناً وكانت زوجتي عوناً علي، وأعانه الله على شيطانه فأسلم وكفر شيطاني. أخرجه الدولابي كما ذكره الطبري. وخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: أفضل نساء الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنة عمران، وآسية امرأة فرعون.(1/186)
قال الشيخ ولي الدين العراقي: خديجة أفضل أمهات المؤمنين على الصحيح المختار، وقيل: عائشة. وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في شرح بهجة الحاوي المسمى بالغرر البهية، في شرح البهجة الوردية: أفضلهن خديجة وعائشة، وفي أفضليتهما خلاف، صحح ابن العماد تفضيل خديجة لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة حين قالت له: لا تزال تلهج بذكر خديجة، إن هي إلا عجوز من عجائز قريش، كأني أنظر إلى حمرة شدقيها ودردرها، وقد رزقك الله خيراً منها. فقال عليه الصلاة والسلام: لا والله ما رزقني خيراً منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأعطتني مالها حين حرمني الناس. وسئل ابن داود: أيهما أفضل؟ فقال: عائشة أقرأها النبي صلى الله عليه وسلم السلام عن جبريل، وخديجة أقرأها السلام جبريل من ربها على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أفضل.
وقيل له: فمن أفضل خديجة أم فاطمة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاطمة بضعة مني فلا أعدل ببضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً. ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنة عمران. واحتج من فضل عائشة بما احتجت به هي من أنها في الآخرة مع النبي صلى الله عليه وسلم في الدرجة، وفاطمة مع علي فيها.
وسئل العلامة السبكي عن ذلك فقال: الذي نختاره وندين الله به أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من أمها خديجة، ثم أمها خديجة، ثم عائشة. ثم استدل لذلك بما تقدم بعضه. وأما خبر الطبراني: خير نساء العالمين مريم بنة عمران، ثم خديجة بنت خويلد، ثم فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، ثم آسية امرأة فرعون فأجاب عنه ابن العماد بأن خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومه لا باعتبار السيادة، واختار السبكي أن مريم أفضل من خديجة لهذا الخبر للاختلاف في نبوتها.
وقال ابن النقاش: إن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام ومؤازرتها ونصرتها وقيامها في الدين لله بمالها ونفسها لم يشركها فيه أحد لا عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وتأثير عائشة في آخر الإسلام في حمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من الأمر ما لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها مما تميز به عن غيرها. وفي مسيرة الشامي: روى الطبراني برجال الصحيح عن الزهري، قال: لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت بعد أن مكثت عنده صلى الله عليه وسلم أربعاً وعشرين سنة وأشهراً.
وروى الطبراني بسند فيه من لا يعرف، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة من عنب الجنة. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بالشيء يقول: اذهبوا به إلى بيت فلانة؛ فإنها كانت صديقة لخديجة رواه ابن حبان والدولابي. وفي رواية: فإنها كانت تحب خديجة، وفي رواية: جاءت عجوز إليه صلى الله عليه وسلم فقال لها من أنت؟ فقالت: جثامة المزنية. فقال: كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
وعن عائشة رضي الله عنها: كانت عجوز تأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيبش لها ويكرمها. وفي لفظ: كانت تأتي النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقلت: يا رسول الله، من هذه؟ وفي لفظ: بأبي أنت وأمي؛ إنك لتصنع بهذه العجوز ما لم تصنع بأحد، وفي لفظ: فلما خرجت قلت: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟! فقال: يا عائشة، إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان. وفي لفظ: فإن كرم العهد من الإيمان. انتهى(1/187)
وأما أم المؤمنين سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس القرشية، فأمها الشموس بنت قيس بن زيد بن لبيد ابن أخي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد أم عبد المطلب، فأسلمت قديماً وبايعت، وكانت تحت ابن عم لها يقال له: السكران بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن عامر بن لؤي أخي سهيل بن عمرو وسهل بن عمرو وسليط وحاطب، أسلم السكران زوجها معها قديماً وهاجراً جميعاً إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها، وقيل: إنه مات بالحبشة، وولدت له ابناً اسمه عبد الرحمن، قتل في حرب جلولاء - اسم قرية من قرى فارس، وقعت تلك الحرب فيها - وتزوجها صلى الله عليه وسلم بمكة بعد موت خديجة بأيام في السنة العاشرة من النبوة قبل أن يعقد على عائشة، وهذا قول قتادة وأبي عبيدة، ولم يذكر ابن قتيبة غيره. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل: تزوجها بعد عائشة، روى القولان عن ابن شهاب. ويجمع بين القولين بأنه صلى الله عليه وسلم عقد على عائشة قبل سودة، ودخل بسودة قبل عائشة، والتزويج يطلق على كل من العقد والدخول، وإن كان المتبادر إلى الفهم الأول.
وللبخاري: توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين، فلبث سنتين، أو قريباً من ذلك، ونكح عائشة وهي بنت ست سنين، ثم بنى بها بالمدينة وهي بنت تسع سنين بتقديم التاء. قال في السيرة الشامية: قال ابن كثير: والصحيح أن عائشة عقد عليها قبل سودة، ولم يدخل بعائشة إلا في السنة الثانية من الهجرة. وأما سودة فإنه دخل بها بمكة. وسبقه إلى ذلك أبو نعيم، وجزم به الجمهور ومنهم قتادة وأبو عبيدة معمر بن المثنى والزهري.
قال في تاريخ الخميس: روى أنه لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة مظعون فقالت: يا رسول الله، ألا تتزوج؟ قال: من؟ قالت: إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً. قال: فمن البكر؟ قالت: ابنة أحب الخلق إليك أبي بكر. قال: ومن الثيب؟ قالت سودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول. قال: فاذهبي فاذكريهما علي. فدخلت بيت أبي بكر وقالت: يا أم رومان، ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة: قالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي. فجاء أبو بكر فقالت له: ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة. قال: وهل تصلح له؛ إنما هي ابنة أخيه !. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك قال ارجعي إليه فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي. فرجعت فذكرت ذلك له. قال: انظري.
قالت أم رومان: إن مطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه، فوالله ما وعد وعداً قط فأخلفه - تعني: أبا بكر - فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الفتى فقالت: يا ابن أبي قحافة لعلك تصبي صاحبنا، تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك. قال أبو بكر لمطعم بن عدي: أقول هذه تقول؟ قال: إنها تقول ذلك. فخرج أبو بكر من عنده وقد أذهب الله ما في نفسه من عدته التي وعده بها، فخرج فقال لخولة: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعته فزوجه إياها، وعائشة يومئذ بنت ست سنين كما مر. ثم خرجت خولة حتى دخلت على سودة بنت زمعة فقالت: ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك عليه. قالت: وددت ذلك، ادخلي على أبي واذكري له ذلك، وكان شيخاً كبيراً قد أدركته السن، وقد تخلف عن الحج، فدخلت عليه فذكرت له، فقال: كفؤ كريم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه إياها، فجاء أخوها عبد الله بن زمعة، فجعل يحثو التراب على رأسه أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة. فلما أسلم قال: إني لسفيه يوم أحثو التراب على رأسي أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أختي. رواه الطبراني برجال ثقات، والإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها بسند جيد.(1/188)
قال العلامة محمد الشامي: روى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت سودة بنت زمعة تحت السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو العامري، فرأت في المنام كأن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل يمشي حتى وضع رجله على رقبتها، فأخبرت زوجها بذلك فقال: لئن صدقت رؤياك لأموتن وليتزوجنك محمد، ثم رأت في المنام ليلة أخرى أن قمراً انقض عليها وهي مضجعة، فأخبرت زوجها فقال: لئن صدقت رؤياك لم ألبث إلا يسيراً حتى أموت، وتتزوجين من بعدي. فاشتكى السكران من يومه، فلم يلبث إلا قليلاً حتى مات، وتزوجها عليه الصلاة والسلام.
وروى أبو عمر عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أسنت سودة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هم بطلاقها فقالت: لا تطلقني وأنت في حل مني، فأنا أريد أن أحشر في أزواجك، وإني قد وهبت يومي لعائشة، وإني لا أريد ما تريد النساء. فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات عنها مع سائر من توفى عنهن من أزواجه صلى الله عليه وسلم ورضى عنهن.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه عام حجة الوداع: هذه ثم ظهور الحصر. قال: فكن كلهن يحججن إلا زينب وسودة هذه، فكانتا تقولان: والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ماتت بالمدينة في خلافة عمر رضي الله عنه. هذا هو المشهور في وفاتها. ونقل ابن سعد عن الواقدي: أنها توفيت سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية. أصدقها عليه الصلاة والسلام أربعمائة دينار، قال هذا الشمس البرماوي في مختصر سيرته.
وأما أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، القرشية، التيمية، فأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر، روى أبو بكر بن خيثمة، عن علي بن زيد عن القاسم بن محمد: أن أم رومان، زوج أبي بكر، أم عائشة، لما دليت في قبرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان، ولدت عائشة بعد البعثة بأربع سنين أو خمس.
وروى ابن الجوزي في الصفوة عنها رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أتكنيني؟ قال: تكنى بابنك. يعني عبد الله بن الزبير ابن أختها أسماء بنت أبي بكر.
وروى ابن حبان عنها قالت: لما ولد عبد الله بن الزبير - ابن أختها أسماء - أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريقه عليه الصلاة والسلام، وقال: هو عبد الله وأنت أم عبد الله. وقيل: إنها ولدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولداً مات طفلاً. وهذا غير ثابت، والصحيح الأول.
وروى الإمام أحمد والشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أريتك في المنام قبل أن أتزوجك مرتين، وفي لفظ: ثلاث ليال، جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك فإذا هي أنت، فأقول: إن يكن من عند الله يمضه. وروى الترمذي وحسنه ابن عساكر عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جاءني بك جبريل في خرقة خضراء فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة.
وروى الطبراني برجال ثقات، والإمام أحمد في المناقب والمسند، والبيهقي بإسناد حسن، عن أبي سلمة بن عبد الله بن حاطب، عن عائشة قالت: لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم، امرأة عثمان بن مظعون - فذكر الحديث المتقدم في خطبة سودة - وتمام: فقالت لخولة: قولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فملكها. قالت عائشة: فتزوجني، ثم لبثت سنتين فلما قدمنا المدينة نزلنا بالسنح في دار بني الحارث بن الخزرج، قالت: فإني لأترجح بين عذقين وأنا ابنة تسع، فجاءت بي أمي من الأرجوحة ولي جميمة، ثم أقبلت تقودني حتى وقفت عند الباب وأنا أنهج، فمسحت وجهي بشيء من ماء، وفرقت جميمتي، ودخلت بي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البيت رجال ونساء، فأجلستني في حجرة، ثم قالت: هؤلاء أهلك يا رسول الله، فبارك الله لك فيهن وبارك لهن فيك. قالت: فقام الرجال والنساء، فبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله ما نحرت على من جزور، ولا ذبحت من شاة، ولكن جفنة كان يبعث بها سعد بن عبادة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/189)
وروى ابن حبان زيادة بعد قولها: وأنا أنهج فقلت: هه هه حتى ذهب نفسي، فأخذت شيئاً من ماء فمسحت به وجهي، ثم دخلت بي الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن فأصلحوا شأني، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا، فأسلمتني إليه، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا. ثم ذكرت قولها: فما نحرت... إلى آخر الحديث.
وروى مسلم والنسائي عنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة ست، وبنى بي وأنا ابنة تسع، وكنت ألعب بالبنات، وكن جوار يأتيني، فإذا رأين رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقنعن منه، وكان صلى الله عليه وسلم يسربهن إلي.
وروى ابن سعد عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب بالبنات فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: خيل سليمان. فضحك عليه الصلاة والسلام.
وروى الإمام أحمد في مسنده عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: كنت صاحبة عائشة رضي الله عنها التي هيأتها وأدخلتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي نسوة، فوالله ما وجدنا عندها قرى إلا قدحاً من لبن، قالت: فشرب منه صلى الله عليه وسلم ثم ناوله عائشة فاستحيت الجارية. فقلت لا تردن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخذته على حياء فشربت منه، ثم قال: ناولي صواحبك. فقلن: لا نشتهيه. فقال: لا تجمعن جوعاً وكذباً. فقلت: يا رسول الله، إنا إذا قلنا لشيء نشتهيه لا نشتهيه يعد ذلك كذباً؟ قال: إن الكذب يكتب كذباً حتى تكتب الكذيبة كذيبة.
وروى الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نسائه كان أحظى عنده مني؟ قال أبو عبيدة، معمر بن المثنى: تزوجها عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة بسنتين - قلت: يعني عقد عليها، كما تقدم التنبيه عليه - في شوال وهي ابنة ست سنين، فكانت تستحب أن يبتنى بنسائها في شوال. قال أبو عاصم: إنما كره الناس أن تدخل النساء في شوال لطاعون وقع في شوال في الزمن الأول. وروى أبو بكر ابن أبي خيثمة عن الزهري قال: لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً غير عائشة. وروى ابن حبان وأبو بكر عنها: تزوجني عليه الصلاة والسلام وأنا ابنة ست، ودخلت عليه وأنا ابنة تسع. ومكث عندها تسع سنين، ومات عنها وهي ابنة ثمان عشرة سنة.
وروى الترمذي وصححه عن عبد الله بن زياد الأسدي قال: سمعت عماراً يقول: هي زوجته في الدنيا والآخرة. قال أبو الحسن الخلعي عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، إنها ليهون على الموت أني قد رأيتك زوجتي في الجنة. وروى ابن عساكر بلفظ: ما أبالي الموت منذ علمت أنك زوجتي في الجنة. وروى الطبراني بإسناد حسن عن عمرو بن العاص، قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قيل: فمن الرجال؟ قال: أبوها.
وروى أبو يعلى والبزار بسند حسن عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: ما يبكيك؟ قلت: سبتني فاطمة. فقال: يا فاطمة أسببت عائشة؟ قالت: نعم. قال: أليس تحبين من أحب؟ قالت: بلى. وتبغضين من أبغض؟ قالت: بلى. قال: فإني أحب عائشة فأحبيها. قالت فاطمة: لا أقول لعائشة شيئاً يؤذيها أبداً. وروى النسائي عنها: ما علمت حتى دخلت علي زينب بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسبك إذا قلبت لك بنت أبي بكر ذريعتيها ثم أقبلت علي فأعرضت عنها. حتى قال لي صلى الله عليه وسلم: دونك فانتصري. فأقبلت عليها حتى رأيتها قد يبست ريقتها في فمها ما ترد على شيئاً، فرأيته صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه.
وروى البخاري في الأدب عن عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنت، والنبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها، فأذن لها فدخلت فقالت: إن أزواجك أرسلنني يسألنك العدل في بنت أبي قحافة. قال: أي بنية أتحبين ما أحب؟ قالت بلى. قال: فأحبي هذه. فقامت فخرجت فحدثتهن. فقلن: ما أغنيت عنا شيئاً، فارجعي إليه. فقالت: والله لا أكلمه فيها أبداً.(1/190)
وروى ابن أبي خيثمة أن النساء قلن لأم سلمة: قولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الناس تأتيك هداياهم يوم عائشة، فقل للناس يهدوا إليك حيث ما كنت، فإنا نحب الخير كما تحبه عائشة. فلما جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له ذلك، فأعرض عنها. فلما ذهب جاء النساء إلى أم سلمة يقلن: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: قد قلت له، فأعرض عني. فقلن لها: عودي فقولي له أيضاً. فلما دار إليها قالت له مثل ذلك، فقال لها: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فوالله ما منكن امرأة ينزل علي الوحي في ثوبها إلا عائشة.
وروى أبو عمرو بن السماك أن عائشة قالت: إني لأفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأربع: ابتكرني ولم يبتكر امرأة غيري، ولم ينزل عليه القرآن منذ دخل علي إلا في بيتي، ونزل في عذري قرآن يتلى، وأتاه جبريل بصورتي مرتين قبل أن يملك عقدي.
وروى الطبراني والبزار برجال ثقات، وابن حبان عنها، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب النفس، فقلت: يا رسول الله، ادع لي. فقال: اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر، وما أسرت وما أعلنت. فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. أسرك دعائي؟ فقالت: ما لي لا يسرني دعاؤك؟ فقال: فوالله إنها لدعوتي لأمي في كل صلاتي. وروى أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها.
وروى ابن عساكر عنها: أنه كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام، فقال لها: من ترضين بيني وبينك، أترضين بعمر بن الخطاب؟ قالت: لا، مر فظ غليظ. قال عليه الصلاة والسلام: أترضين بأبيك بيني وبينك؟ قالت: نعم. فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هذه من أمرها كذا ومن أمرها كذا. قالت فقلت: اتق الله ولا تقل إلا حقاً. قالت: فرفع أبو بكر يده فرثم أنفي وقال: أنت لا أم لك يا ابنة أم رومان، تقولين الحق أنت وأبوك ولا يقوله صلى الله عليه وسلم؟ فابتدرني منخراي كأنهما عزلاوان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم ندعك لهذا. قالت: ثم قام إلى جريدة في البيت، وجعل يضربني بها، فوليت هاربة منه، فلزقت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقسمت عليك لما خرجت، فإنا لم ندعك لهذا. فلما خرج قمت فتنحيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ادني مني. فأبيت أن أفعل، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: لقد كنت من قبل شديدة اللصوق لي بظهري.
وروى مسلم والنسائي والدارقطني عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم إذا كنت علي راضية وإذا كنت علي غضبى. قالت: فقلت: بم تعلم ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا كنت راضية قلت: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم. قلت: صدقت يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك.
وروى الترمذي والنسائي وابن عدي والإسماعيلي عن عائشة رضي الله عنه قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فسمعنا لغطاً وصوت صبيان، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا الحبشة يزفنون ويلعبون بحرابهم في المسجد والصبيان حولهم، فقال: يا عائشة، تعالي فانظري. وفي رواية النسائي: يا حميراء، أتحبين أن تنظري إليهم؟ فقلت: نعم، فوضعت خدي على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يسترني بردائه، فجعلت أنظر بين المنكب إلى رأسه، فجعل يقول يا عائشة، أما شبعت، أما شبعت؟ وفي رواية: حسبك. قلت: يا رسول الله، لا تعجل. فقام ثم قال: حسبك. قلت: لا تعجل يا رسول الله، إني أحب النظر إليهم. تقول عائشة: قد بلغت القصد من النظر إليهم، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه. وفي لفظ: فأقول: لا؛ لأنظر منزلتي عنده. ولقد رأيته يزاوج بين قدميه، إذ طلع عمر فارفض الناس عنهم والصبيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فروا من عمر.(1/191)
وروى البرقاني عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأقبل عليه - عليه الصلاة والسلام - فقال: دعها. فلما غفل غمزتهما فخرجتا. وقالت: كان يوم عيد تلعب السودان بالدف والحراب... إلى آخر الحديث الأول.
وروى النسائي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: زارتنا سودة يوماً، فجلس عليه الصلاة والسلام بيني وبينها، إحدى رجليه في حجري والأخرى في حجرها، فحملت له حريرة - أو قالت خزيرة - فقلت: كلي، فأبت، فقلت: كلي أو لألطخن وجهك، فأبت، فأخذت من القصعة شيئاً فلطخت به وجهها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفع رجله عن حجرها لتبعد مني، وقال: الطخي وجهها. فأخذت من القصعة شيئاً ولطخت به وجهي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.
وروى ابن أبي شيبة عن قيس بن وهب، قال: قلت لعائشة: أخبريني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: أو ما تقرأ القرآن " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقِ عَظِيمٍ " نون. قالت: جاءني عليه الصلاة والسلام مع أصحابه فصنعت لهم طعاماً وصنعت له حفصة طعاماً، فسبقتني حفصة، فقلت للجارية: انطلقي فاكفئي قصعتها. فلحقتها وقد هوت أن تضع بين يديه عليه الصلاة والسلام فكفأتها، فانكسرت القصعة وانتثر الطعام، فجمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيها من الطعام على الأرض، وبعث بقصعتي فدفعها إلى حفصة فقال: ظرفاً مكان ظرف. قالت: فما رأيت في وجهه تغيراً. وروى النسائي عن أم سلمة: أنها أتت بطعام في صحفة لها.
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن الله عز وجل أنزل الخيار، فبدأ بعائشة وقال: إني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى يأتي أبو بكر. قالت: ما هو؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا.... " الأحزاب إلى آخر الآية، فقالت: أفيك أستأمر أبي؟! بل أختار الله ورسوله.
وروى أبو طاهر عن الشعبي والطبراني بإسناد حسن، عن عمرو بن الحارث بن المصطلق، قال: بعث زياد بن أمية مع عمرو بن الحارث بهدايا وأموال إلى أمهات المؤمنين، ففضل عائشة عليهن، فجعل رسوله يعتذر إلى أم سلمة وصفية، فقلن: يعتذر إلينا زياد، فقد كان يفضلها من كان أعظم علينا تفضيلاً من زياد: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها قالت: فضلت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم بخصال عشر. قيل وما هن يا أم المؤمنين؟ قالت: لم ينكح بكراً غيري، ولم ينكح امرأة أبوها مهاجر غيري، وأنزل الله براءتي من السماء، وجاءه جبريل بصورتي من السماء في حريرة وقال: تزوجها فإنها امرأتك، وكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد، ولم يكن يصنع ذلك بأحد من نسائه، وكان يصلي وأنا معترضة بين يديه، وكان ينزل عليه الوحي وهو معي، ولم يكن ينزل عليه وهو مع أحد من نسائه، وقبضه الله وهو بين سحري ونحري، ودفن في بيتي، ورأيت جبريل ولم يره أحد من نسائه.
وروى الترمذي وصححه وابن أبي خيثمة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ما أشكل علينا - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - حديث قط فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً. وروى الطبراني عن الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو جمع نساء هذه الأمة فيهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كان علم عائشة أكثر من علمهن. وروى الحكم بسند حسن عن مسروق أنه كان يحلف بالله لقد رأيت الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عائشة عن الفرائض. وروى الطبراني عن موسى بن طلحة: ما رأيت أحداً كان أفصح من عائشة. وروى أبو عمر وابن عساكر عن عروة بن الزبير قال: ما رأيت أحداً أعرف بالقرآن، ولا بفريضة، ولا بحلال ولا بحرام، ولا بفقه، ولا بطب، ولا بحديث العرب، ولا بنسب من عائشة.(1/192)
وروى عن عروة - وقد قيل له: ما أرواك - وكان أروى الناس للشعر - فقال: ما روايتي في رواية عائشة؟ ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعراً. وروى الإمام أحمد عن عروة - أيضاً - أنه كان يقول لعائشة: يا أماه، لا أعجب من فقهك؛ أقول: زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس؛ أقول: ابنة أبي بكر وكان أعلم - أو من أعلم - الناس بأيام العرب وأنسابها، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو وأين هو؟ فضربت على منكبه وقالت: أي عرية - تصغير عروة - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم - وفي لفظ: كثرت أسقامه - آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فكانت تنعت له الألعاق، وكنت أعالجها، فمن ثم.
وروى الحاكم وأبو عمر وابن الجوزي، عن الزهري، قال: لو جمع علم الناس كلهم، ثم علم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكانت عائشة أوسعهم علماً.
وروى الإمام أحمد في الزهد والحاكم عن الأحنف بن قيس، قال: سمعت خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلى الخلفاء وهلم جرا، فما سمعت لكلام مخلوق منهم أفخم ولا أحسن من في عائشة.
وروى ابن أبي خيثمة عن سفيان بن عيينة قال: قال معاوية بن أبي سفيان: يا زياد، أي الناس أعلم؟ قال: أنت يا أمير المؤمنين. قال: أعزم عليك. قال: أما إذا عزمت علي فعائشة. وروى البلاذري عن القاسم بن محمد، قال: كانت عائشة قد استقلت بالفتوى زمن أبي بكر وعمر وعثمان، وهلم جرا إلى أن ماتت.
وعنها رضي الله عنها قالت: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي، واضعة ثوبي عني وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر والله ما دخلته إلا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر.
وروى أبو يعلى وأبو الشيخ ابن حيان - وسنده حسن - عن عائشة قالت: كان متاعي فيه خفة، وكان على جمل قارح، وكان متاع صفية فيه ثقل، وكان على جمال ثفال بطىء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حولوا متاع عائشة على جمل صفية، وحولوا متاع صفية على جمل عائشة. فلما رأيت ذلك قلت: يا لعباد الله، غلبتنا هذه اليهودية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم عبد الله، إن متاعك فيه خف، ومتاع صفية فيه ثقل، فأبطأ بالركب، فحولنا متاعها على بعيرك، وحولنا متاعك على بعيرها. فقالت عائشة: ألست تزعم أنك رسول الله؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أو فيّ شك؟ فقلت: ألست تزعم أنك رسول الله، فهلا عدلت؟ فسمعني أبو بكر وكان فيه غرب - أي حدة - فأقبل علي ولطم وجهي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا أبا بكر. فقال: يا رسول الله، أما سمعت ما قالت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الغيرة لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه.
وروى ابن أبي خيثمة عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت له: إذا أنا مت فادفني مع صواحبي بالبقيع وكانت وفاتها في رمضان ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت منه على الصحيح عند الأكثرين، سنة ثمان وخمسين من الهجرة، وصلى عليها أبو هريرة خليفة مروان بالمدينة.
روى لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف ومائتا حديث وعشرة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم منها على مائة وأربعة وسبعين حديثاً، وانفرد الأول بأربعة وخمسين حديثاً والثاني بمائة وسبعين. وروى عنها خلق كثير من الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
وأما أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - فأمها زينب بنت مظعون، أسلمت وهاجرت، وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت خنيس بن حذافة السهمي، هاجرت معه ومات عنها بعد غزوة بدر، فلما تأيمت ذكرها عمر على أبي بكر وعثمان فلم يجبه واحد منهما إلى زواجها، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحه إياها في شوال سنة ثلاث من الهجرة، وطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم تطليقة واحدة ثم راجعها؛ نزل عليه الوحي راجع حفصة؛ فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة روى عنها جماعة من الصحابة والتابعين.(1/193)
وفي تاريخ الخميس: توفي عنها زوجها خنيس - أو حبيش - بن حذافة بالمدينة بعد شهوده بدراً معه عليه الصلاة والسلام، فعرضها عمر أبوها على أبي بكر فلم يجبه بشيء، ثم عرضها على عثمان فلم يجبه بشيء، فشكا عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله عرضت على عثمان حفصة فأعرض عني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك في خير من ذلك أتزوج أنا حفصة وأزوج عثمان أم كلثوم أخرجه أبو عمر وقال: حديث صحيح.
وعن ربعي بن حراش عن عثمان أنه خطب إلى عمر ابنته فرده، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. فلما راح إليه عمر قال له: أدلك على خير لك من عثمان، وأدل عثمان على خير له منك، قال: نعم يا نبي الله. قال: تزوجني ابنتك، وأزوج عثمان ابنتي. أخرجه الخجندي. قلت: ما رواه الخجندي يخالف ما تقدم عن تاريخ الخميس؛ فإنه ذكر فيه أن عمر رضي الله عنه عرض ابنته على عثمان وأعرض عمان عنه، وما رواه الخجندي خطب عثمان إلى عمر ابنته فرده، فلينظر وجه الوفاق. والله أعلم.
وتزوج عثمان أم كلثوم بعد رقية، تزوج عليه الصلاة والسلام حفصة، ثم إنه عليه الصلاة والسلام طلقها، فأتاها خالاها قدامة بن مظعون وعثمان بن مظعون، فبكت وقالت: والله ما طلقني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شبع. روى أنه لما بلغ خبر طلاقها أباها عمر حثا على رأسه التراب وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعد هذا. فنزل جبريل من الغد وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن جبريل أتاني فقال لي: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة.
وفي رواية: هم بطلاقها ولم يطلق. وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فمن ذلك سكت عنك وأعرضت، فكانت عند النبي صلى الله عليه وسلم قريباً من ثمان سنين.
قال العلامة الشامي: كان زوجها خنيس - بالخاء المعجمة بعدها نون ثم ياء وسين، ممن شهد بدراً، فعاد إلى المدينة فمات بها من جراحات أصابته يوم بدر.
توفيت حفصة في شعبان سنة خمس وأربعين بالمدينة في خلافة معاوية، وبكى عليها مروان بن الحكم أمير المدينة، وحمل سريرها بعض الطريق، ثم حمل أبو هريرة إلى قبرها، فنزل في قبرها عبد الله وعاصم ابنا عمر رضي الله عنهم، وسالم وعبد الله وحمزة أبناء عبد الله بن عمر، وقد بلغت ستين سنة. وقيل: ماتت سنة ثنتين وأربعين، وأوصت إلى عبد الله أخيها بما أوصى إليها أبوها عمر، وتصدقت بمال لها وقفته بالغابة.
مروياتها سبعون حديثاً، اتفق البخاري ومسلم منها على أربعة، وانفرد مسلم بستة، والباقية في سائر الكتب.
وأما أم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف ابن هلال الهلالية، فتزوجها عليه الصلاة والسلام في رمضان من السنة الثالثة من الهجرة، تكنى أم المساكين لإطعامها إياهم، كانت تحت عبد الله بن جحش في قول الزهري، قتل عنها يوم أحد فتزوجها عليه الصلاة والسلام، ولم تلبث عنده عليه الصلاة والسلام إلا شهرين أو ثلاثة أشهر.
توفيت في حياته صلى الله عليه وسلم، وقيل: مكثت عنده ثمانية أشهر، ذكره الفضائلي. قال الشامي في سيرته: قال قتادة بن دعامة: كانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطفيل بن الحارث بن عبد المطلب، ولما خطبها عليه الصلاة والسلام جعلت أمرها إليه فتزوجها، وأشهد وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشاً. روى الطبراني برجال الصحيح عن ابن إسحاق: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين، كانت قبله عند الحصين - أو عند الطفيل - بن الحارث بالمدينة وهي أول نسائه موتاً.
قال ابن الكلبي: كانت عند الطفيل بن الحارث فطلقها، فتزوجها أخوه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب فقتل عنها يوم بدر شهيداً، ثم خلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج أختها لأمها ميمونة. قال ابن أبي خيثمة: كانت تسمى أم المساكين في الجاهلية، وأرادت أن تعتق جارية لها سوداء فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تفدين بها بني أخيك أو بني أختك من رعاية الغنم.(1/194)
وأما أم المؤمنين أم سلمة هند - وقيل: رملة والأول أصح - بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم بن نقطة بن مرة بن كعب بن لؤي، واسم أبي أمية سهيل، ويقال له: زاد الراكب وقال أبو عمرو: تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أربع في شوال، كذا في السمط الثمين. قال في المواهب: تزوجها في ليال بقين من شوال من السنة التي مات فيها أبو سلمة، ومات أبو سلمة سنة أربع وقيل سنة ثلاث، وكانت أم سلمة سمعت منه - عليه الصلاة والسلام - يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها قال: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له، وكانت قبله - عليه الصلاة والسلام - تحت أبي سلمة، عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وكانت هي وزوجها المذكور أول من هاجر إلى أرض الحبشة، فولدت له بها زينب، وولدت له بعد ذلك سلمة وعمر ودرة.
وقيل: هي أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة. ولما مات زوجها أبو سلمة خطبها عمر رضي الله عنه فأبت، فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم، إن فيّ خلالاً ثلاثاً: أنا امرأة شديدة الغيرة، وأنا امرأة مصبية، وأنا امرأة ليس هنا أحد من أوليائي فيزوجني. فغضب عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشد مما غضب لنفسه حين ردته، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله أن يذهبها عنك، وأما ما ذكرت من صبيتك فإن الله سيكفيهم، وأما ما ذكرت من أوليائك، فما أحد منهم يكرهني فقالت لابنها عمر: زوجني عليه. قلت: لعل هذا من خصوصياته عليه الصلاة والسلام؛ إذ قواعد مذهبنا أن الابن لا يزوج أمه إلا إن كان ابن ابن عم لها، والله سبحانه أعلم، فيزوج بجهة العصوبة حينئذ لا بجهة البنوة. انتهى قال صاحب السمط الثمين: رواه بهذا السياق هدبة بن خالد وصاحب الصفوة. وخرج أحمد والنسائي طرفاً منه، ومعناه في الصحيح، وفيه دلالة على أن الابن يلي العقد على أمه، وعندنا أن إنما زوجها بالعصوبة لأنه ابن ابن عمها، لأن أبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله، وأم سلمة هند بنت سهل ابن المغيرة بن عبد الله، ولم يكن من عصبتها أحد حاضراً غيره.
وكانت أم سلمة من أجل الناس، روى عن عائشة أنها قالت: لما تزود رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة حزنت حزناً شديداً لما ذكروا لي من جمالها، فاطلعت حتى رأيتها - والله - أضعاف ما ذكرت لي في الحسن، فذكرت ذلك لحفصة - وكانتا يداً واحدة - فقالت: لا والله إن هذا إلا لغيرة، ما هي كما يقولون. فتلطفت بها حفصة حتى رأتها فقالت: رأيتها، لا والله، ما هي كما يقولون ولا قريباً مه وإنها لجميلة. قالت عائشة فرأيتها بعد، فكانت كما قالت حفصة، ولكن كنت غيراء.
وفي السمط الثمين، في مناقب أمهات المؤمنين: أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إني لم أنقصك عما أعطيت فلانة، يعني زينب بنت خزيمة، وكانت قد ماتت قبلها، قيل لأم سلمة: ما أعطى فلانة؟ قالت: أعطاها جرتين تضع فيهما حبها ورحى ووسادة من أدم حشوها ليف. ثم انصرف حاطب، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيها، فلما رأته وضعت زينب أصغر ولدها في حجرها، فرجع عليه الصلاة والسلام، ثم عاد مرة ثانية ففعلت ذلك أيضاً، ففطن عمار فأقبل مسرعاً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان أخاها لأمها - وانتزعه من حجرها، وقال: هاتي هذه المقبوحة المشقوحة التي منعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرها في حجرها فقال: أين زناب؟ قالت: أخذها عمار. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فكانت أم سلمة في النساء كأنها لم تكن منهن، ولا تجد ما يجدن من الغيرة.(1/195)
قلت: هذا لا يخالف ما تقدم من قولها له عليه الصلاة والسلام في ابتداء الخطبة: أنا امرأة شديدة الغيرة؛ لأنها كانت كذلك قبل الدعوة بإذهاب غيرتها، وما هنا بعدها. انتهى. قال أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم سلمة على متاع قيمته عشرة دراهم. وروى أنه لما تزوجها نقلها إلى بيت زينب بنت خزيمة بعد موتها، فدخلت فرأت جرة فيها شعير ورحى وبرمة فطحنته ثم عجنته ثم عصدته في البرمة فأدمته بإهالة، وروى عن هند بنت الحارث الفراسية قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لعائشة مني شعبة ما نزلها مني أحد فلما تزوج أم سلمة قيل: يا رسول الله ما فعلت تلك الشعبة؟ فسكت، فيوجب أن أم سلمة نزلتها.
قال في السيرة الشامية: مات زوجها أبو سلمة سنة أربع، شهد بدراً وأحداً، ورمى به بسهم في عضده فمكث شهراً يداويه ثم برأ الجرح. بعثه - عليه الصلاة والسلام - هلال المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً من مهاجره، وبعث معه مائة وخمسين رجلاً إلى قطن جبل بنجد، فغاب تسعاً وعشرين ليلة، ثم رجع إلى المدينة فانتقض جرحه فمات منه لثمان خلون من جمادي الآخرة سنة أربع، فاعتدت أم سلمة وحلت لعشر بقين من شوال من السنة المذكورة، فتزوجها عليه الصلاة والسلام في ليال بقين من شوال المذكور. ولو لم يكن من فضلها إلا مشورتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحلق في قصة الحديبية لما امتنع منه أكثر أصحابه - لكفاها.
وروى أبو الحسين الخلعي عن عمرو بن شعيب: أنه دخل على زينب بنت أبي سلمة فحدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند أم سلمة فجعل حسناً من شق، وحسيناً من شق، وفاطمة في حرجه، وقال: " رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ " هود، وأنا وأمي أم سلمة جالسان، فبكت أم سلمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك من أهل البيت.
وروى عمر الملا عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر دخل على نسائه واحدة واحد، يبدأ بأم سلمة؛ لأنها أكبرهن، ويختم بعائشة.
وروى الإمام أحمد عن موسى بن عقبة عن أمه عن أم كلثوم قالت: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال: يا أم سلمة، إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة فهي لك، فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، وردت إليه هديته، فأعطى كل واحدة منهن أوقية، وأعطى أم سلمة المسك والحلة.
وروى عنها قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، فأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضي عليك الماء فتطهري.
وروى الإمام أحمد والشيخان عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة، وكتب كتاب الصلح بينه وبينهم، فلما فرغ قال للناس: قوموا فانحروا ثم احلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قالها ثلاثاً، فلما فرغ قالت أم سلمة: يا رسول الله، لا ترى أحداً منهم يفعل ذلك حتى تنحر بدنك، وتدعو الحلاق فيحلقك، فخرج ففعل، فلما رأوا ذلك قاموا ونحروا حتى كادوا يقتتلوا على الحلاق، وجعل بعضهم يحلق بعضاً.
توفيت أم سلمة في خلافة يزيد بن معاوية سنة إحدى وستين على الصحيح - واستخلف يزيد سنة ستين - بعد ما جاءها الخبر بقتل الحسين بن علي رضي الله عنه، ولها من العمر أربع وثمانون سنة على الصواب.
وروى الطبراني بسند رجاله ثقات عن الهيثم بن عدي قال: أول من مات من أزواجه عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش، وآخرهن موتاً أم سلمة هذه.
وكان لها ثلاثة أولاد: سلمة أكبرهم وعمر وزينب أصغرهم، ربوا في حجر النبي صلى الله عليه وسلم.
واختلف فيمن زوجها من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقيل: ولدها عمر كما تقدم، وقيل: غيره، وعليه الأكثرون. وزوج سلمة هذا النبي صلى الله عليه وسلم أمامة، وقيل: فاطمة بنة حمزة بن عبد المطلب. وعاش سلمة إلى خلافة عبد الملك بن مروان ولم تحفظ له رواية. وأما أخوه عمر بن أبي سلمة فله رواية، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وله تسع سنين، ومولده كان بالحبشة، واستعمله علي رضي الله عنه على فارس والبحرين، وتوفي بالمدينة سنة ثلاثة وثمانين في خلافة عبد الملك.(1/196)
وأما زينب بنت أبي سلمة فولدت بأرض الحبشة وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل؛ فنضح في وجهها شيئاً من الماء؛ فلم يزل ماء الشباب في وجهها حتى كبرت وعجزت. قال العطاف: قالت أمي: رأيت وجه زينب وهي عجوز كبيرة ما نقص من وجهها شيء، تزوجها عبد الله بن زمعة بن الأسود الأسدي وولدت له، وكانت من أفقه أهل زمانها رضي الله عنها.
ولما ماتت أم سلمة دفنت بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، وقيل: سعيد بن زيد، وكان عمرها أربع وثمانين سنة.
وأما أم المؤمنين زينب بنت جحش، وأمها أمية بنت عبد المطلب بن هاشم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها من زيد بن حارثة، فمكثت عنده مدة ثم طلقها، فلما انقضت عدتها منه قال صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: اذهب فاذكرني لها، فقال زيد: فذهبت فجعلت ظهري إلى الباب فقلت: يا زينب، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، فقالت: ما كنت لأحدث شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل. فقامت إلى مسجد لها فأنزل الله تعالى: " فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَكَهَا " الأحزاب فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن، أخرجه مسلم. وقال المنافقون: حرم محمد نساء الولد وقد تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله تعالى: " مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِن رِجَالِكُمْ " الأحزاب الآية. فكانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: زوجكن آباؤكن وزوجني الله من فوق سبع سموات، رواه الترمذي وصححه. وكان اسمها برة فسماها عليه الصلاة والسلام زينب.
وعن أنس: لما تزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو صلى الله عليه وسلم كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، وقام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس. ثم إنهم قاموا، فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت لأدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى: " يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيّ " الأحزاب الآية. تزوجها صلى الله عليه وسلم هلال ذي القعدة سنة أربع من الهجرة وهي بنت خمس وثلاثين سنة يومئذ، كذا في مختصر سيرة البرماوي. وقال في المواهب: سنة خمس، وقيل: سنة ثلاث، وهي أول من مات من أزواجه بعده.
وروى ابن أبي شيبة وابن منيع بسند صحيح عن أنس قال: أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على زينب فأشبع المسلمين خبزاً ولحماً، ثم خرج فصنع كما كان يصنع إذا تزوج، فأتى أمهات المؤمنين فسلم عليهن وسلمن عليه ودعا لهن، ثم رجع وأنا معه.
وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت زينب هي التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حسن المنزلة عنده - عليه الصلاة والسلام - وما رأيت امرأة قط خيراً من زينب وأتقى لله وأصدق حديثاً وأوصل للرحم وأعظم صدقة.
وروى أبو يعلى بسند حسن عن أبي برزة رضي الله عنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسع من النساء، فقال يوماً: خيركن أطولكن يداً فقامت كل واحدة تضع يدها على الجدار، فقال: ليس أعني هذا، أصنعكن يدين. وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولكن لحاقاً بي أطولكن يداً قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً، قالت: وكانت أطولنا يداً زينب؛ أنها كانت تعمل بيدها وتتصدق. وفي لفظ البخاري: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش. وكانت امرأة قصيرة ولم تكن بأطولنا، فعرفنا حينئذ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد طول اليد بالصدقة.(1/197)
وروى الطبراني عن راشد بن سعد قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزله ومعه عمر بن الخطاب، فإذا هو بزينب تصلي وهي تدعو في صلاتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها لأواهة. وقالت عائشة: لقد ذهبت زينب حميدة فقيدة مفزعاً لليتامى والأرامل. وروى ابن الجوزي عن عبد الله بن رافع، عن برزة بنت رافع، قالت: لما جاءنا العطاء بعث عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها، فلما أدخل عليها قالت: غفر الله لعمر، غيري من أخواتي أقدر مني على قسم هذا. قالوا: هذا كله لك. قالت: سبحان الله، واستترت منه بثوب وقالت: صبوه واطرحوا عليه ثوباً، ثم قالت: أدخلي يدك، فاقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان - من أهل رحمها وأيتامها - فغرفته حتى ما بقي منه بقية تحت الثوب، فقالت لها برزة بنت رافع: غفر الله لك يا أم المؤمنين، والله لقد كان لنا في هذا حق، قالت: لكم ما تحت الثوب، فوجدنا تحته خمسة وثمانين درهماً، فرفعت يدها إلى السماء فقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا. فماتت قبله.
قال في الروض الأنف: زينب بنت جحش كان اسمها برة بضم الباء وتخفيف الراء فسماها عليه الصلاة والسلام زينب اسم أبيها جحش بن رياب فقالت: يا رسول الله، لو غيرت اسم أبي، وإن البرة ضفيرة. فقال لها: لو كان أبوك مسلماً سميته باسم من أسمائنا أهل البيت، ولكن قد سمى جحشاً، والجحش أكبر من البرة. ذكر هذا الحديث مسنداً في كتاب المؤتلف والمختلف أبو الحسن الدارقطني. قلت: أصل البرة حلقة تجعل في أنف البعير ليذل بها فينقاد، تكون من فضة أو حديد، وقد تجعل للذلول لقصد الزينة كما كانت في جمل أبي لهب الذي غنمه عليه الصلاة والسلام، فأهداه إلى الكعبة عام الحديبية ليغيظ المشركين حين يرونه. والله أعلم.
توفيت سنة ستة وعشرين، وصلى عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وعاشت ثلاثاً وخمسين سنة.
وأما أم المؤمنين جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، بكسر الضاد المعجمة وتخفيف الراء، المصطلقية - فكانت تحت سافع بن مسافع، بالسين المهملة والفاء، ابن صفوان المصطلقي؛ كانت وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري في غزوة المريسيع - وهي غزوة بني المصطلق - سنة خمس، وقيل: ست، وكاتبت ثابتاً على نفسها، ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث، وكان من أمري ما لا يخفى عليك، ووقعت في سهم ثابت بن قيس، وإني كاتبت على نفسي فجئت أسألك في كتابتي. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك في فيما هو خير لك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أوفي عنك كتابتك وأتزوجك. قالت: قد فعلت.
وتسامع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية فأرسلوا ما بأيديهم من السبي فأعتقوهم وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: فما رأيت امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها. أعتق بسببها مائة أهل بيت من بني المصطلق، أخرجه أبو داود من حديث عائشة. وقال ابن هشام ومقاتل: اشتراها عليه الصلاة والسلام من ثابت وأعتقها وتزوجها، وأصدقها أربعمائة درهم. وعن ابن شهاب: سباها صلى الله عليه وسلم يوم المريسيع فحجبها وقسم لها وكانت ابنة عشرين سنة، وكان اسمها برة فحوله صلى الله عليه وسلم وسماها جويرية، كما تقدم في زينب بنت جحش.
وروى ابن سعد عن أبي قلابة قال: جاء أبو جويرية فقال: لا يسبى مثلها فخل سبيلها. فقال عليه الصلاة والسلام: بل أخيرها. قال: قد أحسنت، فأتى أبوها إليها فقال: إن هذا الرجل قد خيرك فلا تفضحينا. قالت: إني أختار الله ورسوله.
وروى الطبراني مرسلاً برجال الصحيح عن الشعبي، قال: كانت جويرية ملك النبي صلى الله عليه وسلم، فأعتقها وجعل عتقها صداقها، وأعتق كل أسير من بني المصطلق.
وروى الطبراني برجال الصحيح عن مجاهد، قال: قالت جويرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أزواجك يفخرن علي ويقلن: لم يتزوجك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ألم أعظم صداقك؟ ألم أعتق أربعين من قومك؟ توفيت في ربيع الأول سنة خمسين، وقيل: ست وخمسين، وصلى عليها مروان ابن الحكم وهو أمير المدينة، وقد بلغت من السن سبعين سنة.(1/198)
وأما أم المؤمنين، أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وقيل: اسمها هند، والأول أصح - فأمها صفية بنت أبي العاص، وكانت تحت عبيد الله بن جحش، وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ثم تنصر وارتد عن الإسلام - والعياذ بالله تعالى - فمات على النصرانية، وكان يقول للمسلمين: صأصأتم وأبصرنا، وثبتت زوجته أم حبيبة هذه على الإسلام.
واختلف في نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها وموضع العقد، فقيل: إنه عقد عليها بأرض الحبشة سنة ست، روى أنه عليه الصلاة والسلام بعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ليخطبها عليه، فزوجه إياها، وأصدقها النجاشي عنه - عليه الصلاة والسلام - أربعمائة دينار، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة. وروى أن النجاشي أرسل إليها جارية أبرهة فقالت لها: إن الملك يقول لك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجك منه، فأرسلت أم حبيبة إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلت، وأعطت جارية أبرهة سوارين وخواتم من فضة سروراً بما بشرتها به، فلما كان العشى أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا، فخطب النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أما بعد فقد أجبت ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصدقتها أربعمائة دينار ذهباً، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم.
فتكلم خالد بن سعيد بن العاص فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أما بعد فقد أجبت إلى ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ودفعت الدنانير إلى خالد فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا، فقال النجاشي: اجلسوا، فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج. فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا.
وكان ذلك في المحرم سنة سبع، على ما قاله الشمس البرماوي. وقد قيل إن عقد النكاح عليها بالمدينة بعد رجوعها من الحبشة، والمشهور الأول. وكان أبوها أبو سفيان حال نكاحها بمكة مشركاً محارباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لما بلغه تزوجه صلى الله عليه وسلم بها: مثل ذلك الفحل لا يقرع أنفه توفيت سنة أربع وأربعين.
وأما أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب بن سعية، بفتح السين وسكون العين المهملة وبالمثناة تحت، ابن ثعلبة بن عبيد من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران عليه الصلاة والسلام، وأمها ضرة، بفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء، ابنة السموأل، فكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، بضم الحاء وفتح القاف وسكون المثناة التحتية، فقتل يوم خيبر في المحرم سنة سبع من الهجرة. قال أنس: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وجمع السبي جاءه دحية بن خليفة الكلبي فقال: يا رسول الله، أعطني جارية، فقال: اذهب فخذ جارية. فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير ما تصلح إلا لك. قال: ادعوه بها، فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذ جارية من السبي غيرها. قال فأعتقها وتزوجها. فقال له ثابت: يا أبا حمزة - يعني أنس بن مالك؛ فإنه كان يكنى بأبي حمزة، وهو الراوي - ما أصدقها؟ قال: نفسها؛ أعتقها وتزوجها. ثم نادى: من كان عنده شيء فليجىء به. قال فبسط نطعاً فجعل الرجل يجيء بالأقط، وجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن، فحاسوا حيساً، فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/199)
وفي رواية: فقال الناس: لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد؟ قالوا: إن حجبها فهي امرأة، وإن لم يحجبها فهي أم ولد. فلما أراد أن يركب حجبها. ورجعنا إلى المدينة فرأيته عليه الصلاة والسلام يحوي لها وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيرها فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب، ثم انطلقت حتى إذا رأينا جدر المدينة هششنا إليه فرفعنا مطايانا، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطيته، قال: وصفية خلفه قد أردفها، قال: فعثرت مطية رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرع وصرعت، قال: فليس أحد من الناس ينظر إليه وإليها حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسترها. قال فدخلنا المدينة، فخرجن جواري نسائه يتراءينها ويشمتن بصرعتها رواه الشيخان. وهذا لفظ مسلم.
وروى جابر أنه صلى الله عليه وسلم أتى بصفية يوم خيبر وأنه قتل أباها وأخاها، وأن بلالاً مر بهما بين المقتولين، وأنه صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن يعتقها فترجع إلى من بقي من أهلها أو تسلم فيتخذها لنفسه، فقالت: أختار الله ورسوله. أخرجه في الصفوة. وأخرج تمام في فوائده من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: هل لك فيّ؟ قالت: يا رسول الله، لقد كنت أتمنى ذلك في الشرك، فكيف إذ أمكنني الله منه في الإسلام. وأخرج أبو نعيم من حديث ابن عمر: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة فقال: ما هذه الخضرة؟ فقالت: كان رأسي في حجر أبي الحقيق وأنا نائمة فرأيت قمراً وقع في حجري، فأخبرته بذلك فلطمني وقال: تمنين ملك يثرب.
وبنى بها صلى الله عليه وسلم لما بلغ سد الصهباء، فصنع حيساً في نطع. قال أنس: وأمرني فدعوت له من حوله فكانت تلك وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى عن صفية رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: يا ابنة حيي ما يبكيك؟ قالت: بلغني أن حفصة وعائشة ينالان مني ويقولان: إنا نحن خير منها، نحن بنات عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه. قال: ألا قلت لهن: كيف تكن خيراً مني وأبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو يعلى بأسانيد رجال الصحيح عن صفية رضي الله عنها قالت: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من الناس أحد أكره إلي منه، قتل أبي وزوجي، فما زال يعتذر إلي ويقول: يا صفية إن أباك ألب علي العرب، وفعل وفعل، حتى ذهب ذلك من نفسي، فما قمت من مقعدي ومن الناس أحد أحب إلي منه.
قلت: حديث أبي يعلى هذا يشكل على الحديث الذي أخرجه تمام؛ إذ صريح حديثه تمنيها النبي صلى الله عليه وسلم لمحبتها إياه، ومفهوم هذا صريح الكراهة وتبيين سببها، والله أعلم، فلينظر وجه التوفيق بينهما. وفي رواية عنها قالت: ما رأيت أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته ركب بي من خيبر على عجز ناقته ليلاً، فجعلت أنعس فضرب رأسي مؤخرة الرحل، فيقول يا هذه مهلاً يا بنت حيي، حتى إذا جاء سد الصهباء قال: أما إني أعتذر يا صفية مما صنعت بقومك، إنهم قالوا لي كذا وكذا.
وروى أبو عمر الملا في سيرته عنها قالت: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسائه. فلما كان ببعض الطريق برك جملي، وكنت من أحسنهن ظهراً فبكيت، فجاء عليه الصلاة والسلام فجعل يمسح دموعي بردائه وبيده، وجعلت لا أزداد إلا بكاء، وهو صلى الله عليه وسلم ينهاني، فلما أكثرت زبرني.
وروى أبو عمر أن جارية لصفية قالت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن صفية تحب السبت وتصل اليهود، فبعث إليها عمر فسألها، فقالت: أما السبت فإني لا أحبه منذ أبدلني الله يوم الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً فأنا أصلها. ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: الشيطان. قالت: اذهبي فأنت حرة.
توفيت رضي الله عنها في رمضان سنة خمس وخمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين، ودفنت بالبقيع مع صواحباتها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن أبي خيثمة: بلغني أنها ماتت زمن معاوية، وورثت مائة ألف درهم بقيمة أرض وعرض، وأوصت لابن أخيها بالثلث، وكان يهودياً.(1/200)
وأما أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية، وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث من ولد حماطة بن حمير، فتزوجها عليه الصلاة والسلام لما كان بمكة معتمراً سنة سبع بعد غزوة خيبر، وكانت أختها الثانية أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث تحت العباس بن عبد المطلب، وأختها لأمها الثالثة أسماء بنت عميس تحت جعفر، وسلمى أختها الرابعة بنت عميس تحت حمزة، وكانت جعلت أمرها إلى العباس زوج أختها فأنكحها النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فلما رجع بنى بها بسرف حلالاً. ذكره أبو عمر.
وفي الصحيح من أفراد مسلم عنها: أنه عليه الصلاة والسلام تزوجها وهو حلال. زاد البرقاني بعد قوله تزوجها: وبنى بها حلالاً. فيحمل قوله وهو محرم على أنه داخل في الحرم، ويكون العقد وقع بعد انقضاء العمرة، ثم خرج منه إلى سرف وابتنى فيه وهو على عشرة أميال من مكة. قلت: وهو محل على يمين الداخل إلى مكة. كان داثراً فعمره الشيخ العلامة المرحوم محمد بن سليمان المغربي فيما عمر من المآثر، رحمه الله تعالى.
كانت ميمونة قبله عليه الصلاة والسلام تحت أبي رهم بن عبد العزى، وقيل: بل تحت أخيه عبد الله، وقيل: بل تحت حويطب بن عبد العزى، ويقال: إنها وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام جاءتها وهي على بعيرها فقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله. وقيل: الواهبة نفسها غيرها. وكان اسمها برة فسماها النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة، وهي خالة ابن عباس وخالد بن الوليد.
وأخواتها أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث زوج العباس بن عبد المطلب أم ابن عباس، ولبابة الصغرى بنت الحارث، كانت تحت أبي بن خلف الجمحي فولدت له علياً بن أبي، وعزة بنت الحارث، كانت تحت زياد بن عبد الله بن مالك الهلالي، فهؤلاء إخوتها لأبيها وأمها.
ولها أخوات من أمها، الأولى: أسماء بنت عميس كانت تحت جعفر بن أبي طالب فولدت له عبد الله ومحمداً وعوناً، ثم لما قتل في غزوة مؤتة - اسم لمكان - خلف عليها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فولدت له محمد بن أبي بكر، ثم خلف عليها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فولدت له يحيى. الثانية: سلمى بنت عميس، وكانت تحت حمزة بن عبد المطلب، فولدت له أمة الله بنت حمزة، وقيل: أمامة بنت حمزة، ثم خلف عليها شداد بن أسامة بن الهادي الليثي، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن. الثالثة: سلامة بنت عميس، كانت تحت عبد الله بن كعب ابن منبه الخثعمي. الرابعة: زينب بنت خزيمة، كانت تحت عبد الله بن جحش، فقتل عنها يوم أحد فتزوجها صلى الله عليه وسلم، وهي المسماة أم المساكين كما تقدم ذكر ذلك في ترجمتها، وكان يقال: أكرم أصهار عجوز في الأرض هند بنت عوف بن زهير بن الحارث أم ميمونة المذكورة، وأم أخواتها أصهارها العباس وحمزة ابنا عبد المطلب، الأول: على لبابة الكبرى بنت الحارث منها، والثاني: على سلمى بنت عميس منها، وجعفر وعلي ابنا أبي طالب كلاهما على أسماء بنت عميس الأول قبل أبي بكر والثاني بعد أبي بكر، وشداد بن أسامة بن الهادي الليثي على سلمى بنت عميس منها بعد وفاة حمزة بن عبد المطلب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بنتها زينب بنت خزيمة، كذا في السمط الثمين، في مناقب أمهات المؤمنين بتصرف حسن يسير.
زوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة عمه العباس بن عبد المطلب - كما تقدم ذكره - وأصدقها عنه أربعمائة درهم. قال ابن إسحاق: كان صداق نسائه عليه الصلاة والسلام أربعمائة درهم، وروى مسلم عن عائشة قالت: كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثر نسائه اثنى عشر أوقية ونشاً. قالت: أتدري ما النش؟ قلت: لا. قالت: نصف أوقية. فذلك خمسمائة درهم، فذلك صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال في تاريخ الخميس: وهذا أولى بالصحة؛ لأنه متفق على صحته، ولأن راويه معه زيادة علم، كذا في السمط الثمين.(1/201)
وروى ابن أبي خيثمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث في عمرة القضاء، وأقام بمكة ثلاثاً، وكان قد شرطت عليه قريش حين صدره أن يأتي معتمراً في العام القابل السيوف في القرب، وألا يعتمر غير ثلاث، فلما جاء خطب ميمونة وأقام بمكة ثلاثاً. وأتاه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث فقالوا: إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا، فقال عليه الصلاة والسلام: لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعت لكم طعاماً فحضرتموه، فقالوا: لا حاجة لنا بطعامك فاخرج، فخرج بميمونة بنت الحارث حتى أعرس بها بسرف ماتت رضي الله عنها بسرف أيضاً - وهو الموضع الذي بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه - ودفنت في موضع قبتها التي ضربها لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين البناء بها، وذلك سنة إحدى وستين، وروى الطبراني برجال ثقات عن محمد بن إسحاق قال: ماتت ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحرة سنة ثلاث وستين، وصلى عليها ابن عباس، ودخل في قبرها رضي الله عنهما وعنهن أجمعين.
فهؤلاء أزواجه اللاتي دخل بهن، لا خلاف في ذلك بين أهل السير والعلم بالأثر وماتت خديجة وزينب بنت خزيمة منهن في حياته عليه الصلاة والسلام، وتوفى عن التسع البواقي بلا خلاف، وعن أم ولد هي مارية بنت شمعون القبطية، أم ابنه إبراهيم.
وقد ذكر أنه عليه الصلاة والسلام عقد على نسوة لم يدخل بهن، وخطب نسوة ولم يعقد عليهن. أما اللاتي عقد عليهن ولم يدخل بهن، فذكر في تاريخ الخميس، والمواهب، وذخائر العقبى أن عدتهن اثنتا عشرة امرأة: الأولى: الواهبة نفسها له صلى الله عليه وسلم، واختلف من هي، فقيل: أم شريك القرشية العامرية، اسمها غزية - بضم الغين وفتح الزاي وشد الياء - بنت دودان، وقيل: بنت جابر بن عون، وكان ذلك بمكة، وكانت قبله عليه الصلاة والسلام تحت أبي العسكر بن تميم بن الحارث الأزدي، فولدت له شريكاً. وذكر ابن قتيبة في المعارف عن أبي اليقظان: أن الواهبة نفسها خولة بنت حكيم السلمي، ويجوز أن تكونا وهبتا نفسيهما من غير تضاد، وعن عروة بن الزبير قال: كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل؟ فلما نزلت " تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُئوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ " الأحزاب قالت عائشة: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. رواه الشيخان.
وهذه خولة هي زوج عثمان بن مظعون، ويجوز أن يكون ذلك منها قبل عثمان، ولذلك قال الفضائلي: فلما أرجأها تزوجها عثمان. ويجوز أن يكون ذلك وقع منهما بعد وفاته. وفي الكشاف وغيره من التفاسير: واختلف في أنه أهل اتفق أن تهب امرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ولم تطلب مهراً أم لا؟ فعن ابن عباس: لم يكن عنده أحد منهن، وآية " وَامْرَأَةً مُؤمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيّ " الأحزاب بيان حكم في المستقبل، والقائل باتفاق ذلك ذكر أربعاً: ميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بن خزيمة بن الحارث الهلالية، وأم شريك المذكورة، وخولة بنت حكيم.
الثانية: خولة بنت الهذيل بن هبيرة، تزوجها عليه الصلاة والسلام، فيما ذكره الجرجاني في نسائه، وهلكت في الطريق قبل وصولها إليه، ذكره أبو عمرو وأبو سعيد.
الثالثة: عمرة بنت يزيد بن الجون الكلابية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني عقد بها؛ إذ الباب معقود لمن عقد عليها ولم يدخل، وهو معنى التزوج في جميع هذا الباب، فتعوذت منه، فقال لها: لقد عذت بمعاذ؛ فطلقها، وأمر أسامة بن زيد فمتعها ثلاثة أثواب. وقال أبو عمر: هكذا روى عن عائشة. وقال قتادة: كان ذلك في امرأة من سليم، وقال أبو عبيدة: إنما كان ذلك في امرأة يقال لها: أسماء بنت النعمان بن الجون، ويقال في عمره هذه: إن أباها وصفها للنبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال في وصفها: وأزيدك أنها لم تمرض قط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لهذه عند الله من خير، ثم طلقها.(1/202)
الرابعة: بنت النعمان بن الجون - بفتح الجيم - بن شراحيل، أجمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها، واختلفوا في سبب فراقه لها، فقال قتادة وأبو عبيدة: سببه أنه لما دعاها قالت له: أنت تعال، وأبت أن تجيبه: وقيل: قالت: أعوذ بالله منك؛ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد عذت بمعاذ؛ وقد أعاذك الله مني. وفي رواية: قد أعذتك؛ الحقي بأهلك. قيل: إن نساءه صلى الله عليه وسلم علمنها ذلك؛ فإنها كانت من أجمل النساء فخفن أن تغلبهن عليه؛ فقلن لها: إنه يحب إذ دنا منك أن تقولي له أعوذ بالله منك. وقيل: قلن لها: إذا أردت أن تحظي عنده تعوذي بالله منه. فلما دنا منها قالت ذلك، فقال لها ما قال؛ فطلقها ثم سرحها إلى أهلها، فكانت تسمي نفسها الشقية، فخلف عليها المهاجر بن أبي أمية المخزومي، فأراد عمر أن يحده فقالت: لم يدخل بي، وأقامت البينة على ذلك. وقيل المتعوذة غيرها. قال أبو عبيدة: ويجوز أن تكونا تعوذتا. وقال آخرون: وجد بها وضحاً، فقال: الحقي بأهلك. وقيل في اسمها: أميمة، وقيل: أمامة.
الخامسة: مليكة بنت كعب الليثية، وقال بعضهم: هي المستعيذة، وقيل: دخل بها، والأول أصح، أي: إنه لم يدخل بها. ومنهم من ينكر تزويجها منه أصلاً، عليه الصلاة والسلام.
السادسة: فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي، تزوج بها بعد وفاة ابنته زينب، وخيرها حين نزلت آية التخيير فاختارت الدنيا، ففارقها. فكانت بعد ذلك تلتقط البعر وتقول: أنا الشقية، اخترت الدنيا. هكذا رواه ابن إسحاق، لكن قال أبو عمر: هذا عندنا غير صحيح؛ لأن ابن شهاب يروي عن عروة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم حين خير أزواجه بدأ بها، فاختارت الله ورسوله، وتابع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وقال قتادة وعكرمة: كان عنده صلى الله عليه وسلم عند التخيير تسع نسوة وهن اللاتي توفى عنهن. وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام تزوجها سنة ثمان، وقيل: إن أباها قال: إنها لم تصدع قط، فقال عليه الصلاة والسلام: لا حاجة لي بها. قلت: وقد تقدم نظير هذا القول في شأن المرأة الثالثة من هذا الصنف، وهي عمرة بنت يزيد، فلعل الأصح الأولى أو التالية أو كلتاهما.
السابعة: العالية - بعين مهملة - بنت ظبيان - بظاء مشالة فموحدة فتحتية - ابن عمرو بن عوف، تزوجها عليه الصلاة والسلام، وكانت عنده ما شاء الله، ثم طلقها، وقل من ذكرها. قال أبو عرم: ومقتضى ذلك أن تكون ممن دخل بهن. وقال أبو سعد: طلقها حين دخلت عليه صلى الله عليه وسلم وروى أبو القاسم الطبراني، عن الزهري، عن أبي أمامة بن حنيف، فذكر حديثاً طويلاً وفيه: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم العالية بنت ظبيان، وفارق أخت بني عمرو بن الجون الكندية من أجل بياض كان بهما. قال الزهري: وبلغنا أنها تزوجت قبل أن يحرم على الناس نكاح أزواجه عليه الصلاة والسلام، ونكحت ابن عم لها من قومها وولدت فيهم.
الثامنة: قتيلة - بضم القاف وفتح المثناة الفوقية وسكون الياء التحتية - بنت قيس، أخت الأشعث بن قيس الكندي، زوجها منه أخوها في سنة عشر من الهجرة، ثم انصرف إلى حضرموت فحملها، فقبض عليه الصلاة والسلام سنة إحدى عشرة قبل وصلوها إليه. وقيل: تزوجها قبل وفاته بشهرين. وقال قائلون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بأن تخير، فإن شاءت ضرب عليها الحجاب وكانت من أمهات المؤمنين، وإن شاءت الفراق فلتنكح من شاءت، فاختارت النكاح فتزوجها عكرمة ابن أبي لهب بحضرموت. فبلغ ذلك أبا بكر فقال: هممت أن أحرق عليها بيتها. فقال له عمر رضي الله عنه: ما هي من أمهات المؤمنين، ما دخل عليها صلى الله عليه وسلم ولا ضرب عليها الحجاب. وقال بعضهم: لم يوص فيها - عليه الصلاة والسلام - بشيء، ولكنها ارتدت حين ارتد أخوها الأشعث بن قيس. وبذلك احتج عمر على أبي بكر - رضي الله عنهما - بأنها ليست من أمهات المؤمنين بارتدادها، لا بسبب عدم دخول عليه الصلاة والسلام.
التاسعة: سبأ بنت أبي الصلت السلمية، تزوجها عليه الصلاة والسلام ومات قبل أن يدخل بها. وقال ابن إسحاق: طلقها قبل أن يدخل بها.
العاشرة: شراف - بفتح الشين المعجمة وتخفيف الراء وبالفاء - بنت خليفة الكلبية، أخت دحية بن خليفة الكلبي، تزوجها صلى الله عليه وسلم فماتت قبل دخوله عليه الصلاة والسلام بها.(1/203)
الحادية عشرة: ليلى بنت الخطيم - بفتح الخاء المعجمة وكسر الطاء - ابن عدي ابن عمرو بن سوار بن ظفر - بالظاء المشالة والفاء - الأنصارية، أخت قيس بن الخطيم. روى ابن أبي خيثمة وأبو سعد من طريق هشام بن محمد بن السائب، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبلت ليلى بنت الخطيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مول ظهره إلى الشمس، فضربت على منكبيه، فقال: من هذا؟ أكله الأسود - وكان كثيراً ما يقولها - فقالت: أنا بنت مطعم الطير ومباري الريح، أنا ليلى بنت الخطيم، جئتك لأعرض عليك نفسي فتزوجني. قال: قد فعلت. فرجعت إلى قومها فقالت: قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: بئسما فعلت؛ أنت امرأة غيرى والنبي صلى الله عليه وسلم صاحب نساء تغايرن عليه؛ فيدعو الله عليك، فاستقيليه نفسك. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أقلني. قال: قد أقلتك فتزوجها مسعود بن أوس بن سواد بن ظفر، فولدت له، فبينما هي في حائط من حيطان المدينة تغتسل إذ وثب عليها الذئب، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أكله الأسود، فأكل بعضها فأدركت فماتت.
الثانية عشرة: امرأة من غفار تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها فنزعت ثيابها فرأى بكشحها بياضاً فقال: الحقي بأهلك، ولم يأخذ مما آتاها شيئاً. أخرجه الإمام أحمد وروى ابن عساكر عن قتادة: أنها لما دخلت عليه وجردها رأى بها وضحاً فردها، وأوجب لها المهر، وحرمت على من بعده.
قلت: زاد العلامة محمد الشامي في عدتهن، فذكر أنهن ست وعشرون، فذكر الاثنتي عشرة المذكورة، ثم زاد فذكر أم حرام، كذا في حديث سهل بن حنيف - رضي الله عنه - عند الطبراني.
وذكر سلمى بنت نجدة - بالنون والجيم - كما في الإشارة والزهري بخط مغلطاي، وقال في المورد: بنت بحيرة بن الحارث الليثية. ونقل عن أبي سعد عبد الملك النيسابوري في كتاب شرف المصطفى أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكحها فتوفى عنها، وأبت أن تتزوج بعده.
وذكر سبأ بنت سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب فقال: ذكرها ابن سعد عن نافع عن ابن عمر، وهي بالموحدة بعد السين المهملة.
وذكر سناء - بفتح السين المهملة - بنت أسماء بن الصلت بن حبيب بن جابر بن حارثة بن هلال بن حرام بن سماك بن عوف بن امرئ القيس، من بني حرام بن سليم، السلمية، ذكرها أبو جيدة فيما رواه ابن أبي خيثمة عنه، وابن حبيب فيمن تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلقها قبل أن يدخل بها. وحكى الوشاطي عن بعضهم أن سبب موتها أنه لما بلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها سرت بذلك حتى ماتت من الفرح.
ثم ذكر الشاة بنت رفاعة. ثم ذكر الشنباء - بشين معجمة فنون فموحدة - بنت عمر الغفاري. روى ابن عساكر من طريق سيف بن عمر التميمي، والمتفضل بن غسان القلابي، في تاريخه من طريق عثمان، ابن مقسم، عن قتادة: لما دخلت عليه - عليه الصلاة والسلام - لم تكن إلا مدة يسيرة، ومات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم على بقية من ذلك فقالت: لو كان نبياً لما مات أحب الناس إليه وأعزهم عليه، فطلقها وأوجب لها المهر، وحرمت على الأزواج، ذكر هذا ابن رشد في السيرة النبوية. ثم ذكر ليلى بنت حكيم الأنصارية الأوسية، ثم ذكر مليكة بنت كعب الكنانية.
روى ابن سعد عن محمد بن عمر، وعن أبي معشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وكانت تذكر بجمال بارع، فدخلت عليها عائشة فقالت لها: أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك؟ وكان أبوها قتل يوم فتح مكة، قتله خالد بن الوليد، فاستعاذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلقها، فجاء قومها فقالوا: يا رسول الله، إنها صغيرة، وإنها لا رأي لها، وإنها خدعت، فارتجعها. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذونه أن يزوجوها قريباً لها من بني عذرة فأذن لهم. قال محمد بن عمر: وأصحابنا ينكرون ذلك، ويقولون: لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانية قط.
ثم ذكر آخرهن هند بنت يزيد المعروفة بابنة البرصاء سماها أبو عبيدة معمر ابن المثنى في أزواجه عليه الصلاة والسلام. وقال أحمد بن صالح: هي عمرة بنت يزيد المتقدمة.(1/204)
تنبيه: قد تقدم أن المراد بعد الدخول عليها الوطء؛ فإن من هؤلاء من مات قبل الدخول، وهي أخت دحية بن خليفة الكلبي باتفاق، واختلف في مليكة وسناء: أماتتا أو طلقهما، مع الاتفاق على عدم دخوله بهما. وفارق عليه الصلاة والسلام بعد الدخول بالاتفاق بنت الضحاك وبنت ظبيان، وقبله باتفاق عمرة وأسماء والغفارية واختلف في أم شريك: هل دخل بها مع الاتفاق على الفرقة. والمستقيلة التي جهل حالها. والمفارقات باتفاق سبع، واثنتان على خلف، والميتات في حياته أربع: خديجة بنت خويلد، وزينب بنت خزيمة بعد الدخول، وأخت دحية، وبنت الهذيل قبله باتفاق. ومات عليه الصلاة والسلام عن عشر: واحدة لم يدخل بها. فهن ثلاث وعشرون امرأة.
قلت: يشكل قوله: فارق عليه الصلاة والسلام بعد الدخول باتفاق بنت الضحاك وبنت ظبيان على إيرادهما في هذا الباب المعقود لمن عقد عليها ولم يدخل بها، وإن قلنا في التوجيه: لعله على رواية في ذلك منع من ذلك قوله بالاتفاق، فليتأمل.
وذكر في شرف النبوة أن جملة أزواجه عليه الصلاة والسلام إحدى وعشرون امرأة، طلق منهن ستاً، ومات عنده منهن خمس، وتوفي عن عشر: واحدة لم يدخل بها.
وكان يقسم لتسع، في الصحيحين عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام كان يقسم لثمان ولا يقسم لواحدة. قال عطاء بن أبي رياح: هي صفية بنت حيي بن أخطب. قلت: هذا على رواية من روى أنه لم يعقد عليها ولم يحجبها المتقدم خلافها وعدها في أمهات المؤمنين انتهى. ولقوله تعالى " تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُئْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ " الأحزاب ترجى، بالهمز وتركه: تؤخر. وتؤوي، بضم، يعني: تترك مضاجعة من تشاء منهن وتضاجع من تشاء منهن. روى أنه أرجأ منهم سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة، وكان يقسم لهن ما شاء كما شاء. وأوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب بنت جحش. أرجأ خمساً وآوى أربعاً. كذا ذكره المنذري.
وأما اللاتي خطبهن ولم يعقد عليه فعدة نسوة: الأولى منهن: امرأة من بني عمرو بن عوف بن سعد بن دينار، قال أبو اليقظان: خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها فقال: إن بها برصاً - وهو كاذب - فرجع فوجدها برصاء، ويقال: إن ابنها هو المسمى شبيب بن البرصاء بن الحارث بن عوف المزني، ذكره ابن قتيبة. وقال ابن الأثير جازماً: هي أم شبيب البرصاء الشاعر.
الثانية: امرأة قرشية يقال لها: سودة، خطبها عليه الصلاة والسلام، وكانت مصبية فقالت: إن لي صبية أكره أن يتضاغوا عند رأسك بكرة وعشية. فقال عليه الصلاة والسلام: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش؛ أحناهن على ولد في صغره، وأرعاهن لبعل في ذات يده وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم، فدعا لها صلى الله عليه وسلم وتركها.
الثالثة: امرأة تدعى صفية بنت شامة، كان عليه الصلاة والسلام أصابها في السبي فخيرها بين نفسه الكريمة وبين زوجها فاختارت زوجها.
الرابعة: امرأة لم يذكر اسمها، قيل: إنه عليه الصلاة والسلام خطبها فقالت: أستأمر أبي. فلقيت أباها وأذن لها، فعادت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: قد التحفنا غيرك.
الخامسة: أم هانئ بنت أبي طالب، خطبها عليه الصلاة والسلام فقالت: إني امرأة مصبية، واعتذرت إليه فعذرها. عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني. قال العلامة الشامي: خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه أبي طالب، وخطبها هبيرة المخزومي، فزوجها أبو طالب هبيرة، فعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو طالب: يا بن أخي إنا قد صاهرنا إليهم، والكريم يكافئ الكريم. ثم فرق الإسلام بين أم هانئ وهبيرة، فخطبها عليه الصلاة والسلام فقالت: كنت أختك في الجاهلية فكيف في الإسلام، وإني امرأة مصبية.(1/205)
وروى الطبراني برجال ثقات قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما لي عنك رغبة يا رسول الله، ولكن ما أحب أن أتزوج وبني صغار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش... إلى آخر ما تقدم في شأن سودة القرشية. وفي رواية عن أبي صالح عن أم هانئ، قالت قبل نزول هذه الآية " يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَجَكَ " الأحزاب الآية: أراد أن يتزوجني فخطبني فنهى عني أني لم أهاجر. وفي رواية الترمذي: فلم أكن أحل له لأني لم أكن من المهاجرات، كنت من المطلقات يعني كان إسلامها بعد فتح مكة.
السادسة: الجندعية امرأة من جندع، وهي ابنة جندب بن ضمرة، وأنكرها بعض الرواة.
السابعة: ضباعة - بالضاد المعجمة وتخفيف الموحدة والعين المهملة - بنت مام ابن قرط - بفتح القاف والطاء المهملة - ابن سلمة، خطبها عليه الصلاة والسلام من ابنها سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، أسلمت قديماً وهاجرت، ذكرها ابن الجوزي وابن عساكر في هذا الباب، وكانت من أجمل نساء العرب وأعظمهن خلقاً، وكانت إذا جلست أخذت من الأرض شيئاً كثيراً، وكانت تغطي جسدها مع عظمه بشعرها، وكانت تحت هوذة - بفتح الهاء وسكون الواو والذال المعجمة - ابن علي الحنفي، فمات عنها، فتزوجها عبد الله بن جدعان، فلم يلق بخاطرها فسألته طلاقها ففعل، فتزوجها هشام بن المغيرة فولدت له سلمة، وكان من خيار عباد الله، فلما هاجرت خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابنها سلمة فقال: يا رسول الله، ما عنك مدفع. قال: فاستأمرها. قال: نعم، فأتاها فأخبرها فقالت: إنا لله، أفي رسول الله تستأمرني؟ ارجع إليه فقل له: نعم. وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذهاب ابنها: إن ضباعة ليست كما تعهد، قد كثرت غضون وجهها، وسقطت أسنانها من فيها. فلما رجع ابنها سلمة وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالت سكت عنه.
الثامنة: نعامة، لم يذكر اسم أبيها، وهي من سبي بني العنبر، فكانت جميلة، عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها فلم يلبث أن جاء زوجها، ذكره في ذيل الاستيعاب.
وعرض عليه صلى الله عليه وسلم امرأتان فردهما لمانع شرعي: الأولى: أمامة، وقيل: فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، فقال صلى الله عليه وسلم: هي ابنة أخي من الرضاع، والثانية: عزة - بفتح العين المهملة والزاي المشددة - بنت أبي سفيان بن حرب، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تحل لي لمكان أختها أم حبيبة المسماة رملة بنت أبي سفيان، وحديثهما في الصحيح.
وأما سراريه فروى ابن أبي خيثمة عن أي عبيدة معمر بن المثنى قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ولائد: مارية، وريحانة، وجميلة، ونفيسة.
أما مارية القبطية فهي بنت شمعون - بفتح الشين المعجمة - أم ولده إبراهيم، أهداها له المقوقس القبطي: صاحب مصر والإسكندرية سنة سبع من الهجرة، وبعث معها أختها سيرين بنت شمعون وخصياً يقال له: مأبور، وألف مثقال ذهب، وعشرين ثوباً من قباطي مصر، وبغلة شهباء وحماراً أشهب، وهو الذي يقال له: يعفور، وعسلاً من عسل بنها - بباء مكسورة فنون ساكنة - قرية من قرى مصر بارك النبي صلى الله عليه وسلم في عسلها لما أعجبه، والناس اليوم يفتحون الباء. فأسلمت وأسلمت أختها، وكانت مارية بيضاء جميلة أنزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعالية، وكان يختلف إليها إلى أن ماتت في المحرم سنة عشر.
وروى البزار والضياء المقدسي في صحيحه عن علي رضي الله عنه، قال: كثر على مارية أم إبراهيم في قبطي ابن عم لها، هو مأبور المذكور، كان يزورها فيختلف إليها، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ هذا السيف فانطلق به، فإن وجدته عندها فاقتله. قال قلت: يا رسول الله، أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة لا يسبقني شيء حتى أمضي لما أمرتني به، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ قال: فافعل. فأقبلت متوشحاً السيف ووجدته عندها فاخترطت السيف، فلما رآني أقبلت نحوه عرف أني أريده، فأتى نخلة فرقاها ثم رمى بنفسه. قال قتادة: ثم شغر برجله فإذا هو أجب أمسح ما له قليل ولا كثير. فغمدت السيف، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: الحمد لله الذي يصرف عنا أهل البيت.(1/206)
وروى البزار بسند جيد عن أنس قال: لما ولد إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية جاريته وقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم منه شيء حتى أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال: السلام عليك أبا إبراهيم.
ووهب عليه الصلاة والسلام أختها سيرين بنت شمعون لحسان بن ثابت فهي أم ولده عبد الرحمن بن حسان كذا في سيرة الشامي، إلا قوله وهب ففي المواهب. وقال في الروض الأنف: أعطى عليه الصلاة والسلام حسان جاريته سيرين بضرب صفوان بن المعطل له. قلت: كان السبب في ضرب صفوان بن المعطل حساناً بالسيف في وجهه ما كان من حسان من الخوض في حديث الإفك؛ لأنه المرمي به عائشة. وفي ذكرى أن حساناً عمى آخر عمره، وكان سببه تلك الضربة من صفوان. فأعطاه عليه الصلاة والسلام سيرين أخت مارية هذه، وهي أم عبد الرحمن بن حسان الشاعر، وكان عبد الرحمن يفخر بأنه ابن خالة إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روت سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً قالت: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم خللاً في قبر ابنه إبراهيم فأصلحه وقال: إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه.
وأما ريحانة فهي بنت شمعون أيضاً؛ من سبي بني قريظة، وقيل: من سبي بني النضير، والأول أظهر، وكانت متزوجة فيهم رجلاً يقال له: الحكم، وكانت جميلة وسيمة، وقعت في سبي بني قريظة، فكانت صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فخيرها بين الإسلام ودينها فاختارت الإسلام، فأعتقها وتزوجها وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشاً، وأعرس بها في المحرم سنة ست في بيت سلمى بنت قيس النجارية بعد أن حاضت حيضة، وضرب عليها الحجاب، فغارت عليه غيرة شديدة فطلقها تطليقة فأكثرت البكاء، فدخل عليها وهي على تلك الحال فراجعها، ولم تزل عنده حتى ماتت مرجعه من حجة الوداع سنة عشر، ودفنت بالبقيع، وقيل: كانت موطوءة له بملك اليمين، وهذا جزم به خلائق. قال في المواهب: وكان صلى الله عليه وسلم يطؤها بملك اليمين، وقيل: أعتقها وتزوجها.
وأما جميلة فأصابها من السبي، فأكدنها نساؤه وخفن أن تغلب عليه.
وأما نفيسة فوهبتها له زينب بنت جحش، وكان هجرها - يعني زينب - في صفية بنت حيي ذا الحجة والمحرم وصفر، فلما كان في شهر ربيع الأول الذي قبض فيه النبي صلى الله عليه وسلم رضى عن زينب ودخل عليها فقالت: ما أدري ما أجزيك به، فوهبتها له. كذا ذكره الشامي ناقلاً لكلام أبي عبيدة معمر بن المثنى. انتهى.
الباب الخامس من المقصد الثاني
في أولاده
عليه الصلاة والسلام، وما اتفق عليه منهم، وما اختلف فيه
جملة ما اتفق عليه ستة: ذكران: القاسم، وإبراهيم. وأربع بنات: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، رضي الله عنهم. وكلهن أدركهن الإسلام، وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم واختلف فيما سواهن. فقيل: لم يكن له عليه الصلاة والسلام سواهم، والمشهور خلافه. قال ابن إسحاق: كان له الطيب، والطاهر أيضاً. فيكون على هذا جملتهم ثمانية: أربعة ذكور، وأربع إناث. وقال الزبير بن بكار فيما رواه الطبراني برجال ثقات: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم - غير إبراهيم والقاسم عبد الله، وهو قول أكثر أهل النسب. وقال الدارقطني: وهو لا يثبت. وصححه الحافظ عبد الغني المقدسي. وسمي عبد الله بالطيب والطاهر؛ لأنه ولد بعد النبوة، فتكون على هذا جملتهم سبعة، ثلاثة ذكور وأربع إناث. وقيل: كان له عليه الصلاة والسلام الطيب والمطيب ولدا في بطن، والمطهر والطاهر ولدا في بطن. فيكون على هذا جملتهم أحد عشر.
قال ابن إسحاق: ولد أولاده كلهم - غير إبراهيم - قبل الإسلام، ومات البنون قبل الإسلام وهم يرضعون. وهو مأخوذ من قول غيره: إن عبد الله ولد بعد النبوة، ولذلك يسمى بالطيب الطاهر. والأصح قول الجمهور إنهم ثلاثة ذكور القاسم، وعبد الله، وإبراهيم. والبنات المتفق عليهم كلهن من خديجة بنت خويلد الأسدية، إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية.
قال محمد بن عمر: كانت سلمى، مولاة صفية بنت عبد المطلب، هي قابلة خديجة في أولادها، وكانت خديجة تعق عن كل غلام بشاتين، وعن الجارية بشاة. وكان بين كل ولدين لها سنة. وكانت تسترضع وتعد - بضم التاء وكسر العين - ذلك قبل ولادها.(1/207)
وأكبر بناته صلى الله عليه وسلم زينب، كما ذكره الجمهور، وقال الزبير بن بكار وغيره: أكبر بناته رقية، والأول أصح. وقال الزبير فيما نقله أبو عمرو عنه: ولد له صلى الله عليه وسلم القاسم وهو أكبر ولده، ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. هكذا الأول فالأول. وقيل: رقية أكبر من أم كلثوم وهو الأشبه؛ لأن عثمان رضي الله عنه تزوجها أولاً في أول إسلامه، وهاجرت معه، وماتت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عزوة بدر، وجاء بشيره إلى المدينة بالنصر وقد نفضوا أيديهم من دفنها. وبسبب تمريضها تخلف عثمان عن شهود وقعة بدر، ثم أم كلثوم بعدها بعد وقعة بدر.
والظاهر أن الكبيرة تزوج أولاً وإن جاز خلافه، والأكثر على أن فاطمة أصغرهن سناً، ولا خلاف أن أكبرهن سناً زينب، قاله في الخميس. ثم مات القاسم بمكة وهو أول ميت مات من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مات عبد الله أيضاً بمكة. وقال ابن إسحاق: ولدت خديجة رضي الله عنها زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم القاسم ثم الطاهر ثم الطيب. فأما القاسم والطيب والطاهر فماتوا في الجاهلية. وأما بناته فأدركهن الإسلام كلهن وهاجرن معه.
قال أبو عمرو وقال علي بن عبد العزيز الجرجاني: أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم: القاسم وهو أكبر أولاده، ثم زينب. وقال ابن الكلبي: زينب، ثم القاسم، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، ثم عبد الله. هكذا ذكره على سبيل الإجمال، وسيأتي ذكرهن على التفصيل. والمتحصل من مجموع الأقوال الأصح منها أنهم سبعة، ثلاثة ذكور: القاسم وإبراهيم وعبد الله المسمى بالطيب والطاهر، وأربع بنات متفق عليهن، وكلهم من خديجة بنت خويلد، إلا إبراهيم كما تقدم.
روى الهيثم بن عدي عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ولدت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم عبد العزى وعبد مناف. قال الذهبي في الميزان والحافظ في اللسان: هذا من افتراء الهيثم على هشام. وقال أبو الفرج بن الجوزي: الهيثم كذاب لا يلتفت إلى قوله. قال شيخنا ابن ناصر: لم يسم عليه الصلاة والسلام عبد مناف ولا عبد العزى قط، والهيثم كذبه البخاري وأبو داود والعجلي والساجي. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار. وقال في المورد: ولا يجوز لأحد أن يقول: إن هذه التسمية وقعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولئن قيل: إن هذه التسمية وقعت - يعني على فرض صحة رواية الهيثم - فيكون من غيره صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون ولد هذا المولود والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بعبادة ربه أو بغير ذلك من شئونه، وسماه بعض أهل خديجة بذلك، ولم يسمعه عليه الصلاة والسلام ولم يره، أو يكون أحد من شياطين الإنس والجن اختلق ذلك لما ولد أحد أولاده المذكورين؛ ليدخل في ذلك لبساً في قلب ضعيف الإيمان، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك غيّره، أو يكون ذلك مما الله تعالى عالمه. وأورد الطحاوي في مشكل الحديث، والبيهقي في السنن، وأبو سعد النقاش، والجوزقاني في الموضوعات، وغيرهم - ما نقله الهيثم عن هشام بن عروة، ولم ينقل أحد من الثقات ما نقله الهيثم عن هشام. كذا في سيرة الشامي.
قال الإمام العلامة، شيخ الأطباء، علاء الدين بن نفيس - رحمه الله: لما كان مزاجه صلى الله عليه وسلم شديد الاعتدال لم يكن أولاده إناثاً فقط؛ لأن ذلك إنما يكون لحرارة المزاج، ولما كان مزاج النبي صلى الله عليه وسلم معتدلاً فيجب أن يكون له بنون وبنات، وبنوه يجب ألا تطول أعمارهم، وإذا طالت بلغوا إلى سن النبوة، وحينئذ فلا يخلوا إما أن يكونوا أنبياء أو لا يكونوا كذلك، ولا جائز أن يكونوا أنبياء، وإلا لما كان هو خاتم النبيين، ولا يجوز أن يكونوا غير أنبياء وإلا كان نقصاً في حقه وانحطاطاً عن درجة كثير من الأنبياء؛ فإن كثيراً من الأنبياء كان أولادهم أنبياء أيضاً. وأما بنات هذا النبي صلى الله عليه وسلم فيجوز أن تطول أعمارهن؛ لأن النساء لسن بأهل للنبوة. انتهى.(1/208)
أما سيدنا القاسم ابن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أكبر أولاده عليه الصلاة والسلام كما تقدم، وبه كان يكنى، وهو أول من مات منهم بمكة قبل النبوة، مات صغيراً، عاش حتى مشى، وقيل: عاش سنتين، وقيل: عاش سبل ليال: قاله مجاهد، وخطأه الملا وقال: الصواب أنه عاش سبعة عشر شهراً. وقال ابن فارس: بلغ أن يركب الدابة وأن يسير على النجيب. وقال السهيلي: بلغ المشي، غير أن رضاعته لم تكمل. وروى يونس بن بكير عن أبي عبد الله الجعفي عن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم قال: كان القاسم بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيب، فلما قبض قال العاص بن وائل: لقد أصبح محمد أبتر، فنزلت " إِنَّا أَعْطَيْنَكَ الْكَوْثَرَ " الكوثر أي: عن مصيبتك يا محمد. قال العلامة محمد الشامي: فهذا يدل على أن القاسم مات بعد البعثة، خلاف ما تقدم أنهم ماتوا قبلها، يعني البنين الثلاثة.
وروى الطيالسي وابن ماجه والحربي عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها رضي الله عنهما، قالت: لما هلك القاسم قالت خديجة: يا رسول الله، درت لبينة القاسم، فلو كان الله أبقاه حتى يتم رضاعه، قال عليه الصلاة والسلام: إن تمام رضاعه في الجنة. زاد ابن ماجه فقالت لو أعلم ذلك لهون علي. قال: إن شئت دعوت الله فأسمعك صوته. فقالت: بل أصدق الله ورسوله. قال الحفاظ الذهبي: وهذا ظاهر جداً في أنه مات في الإسلام بعد البعثة، لكن في السند ضعف. وروى البخاري في تاريخه الأوسط من طريق سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة: أن القاسم مات قبل الإسلام، وهذا يؤيد الأول السابق أنهم درجوا صغاراً قبل البعثة.
وأما سيدنا عبد الله ابن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات صغيراً بمكة كما تقدم، ويقال له: الطيب والطاهر، ثلاثة أسماء، وهو قول أكثر أهل السير والعلم، قاله أبو عمرو. وقال الدارقطني: هو الأثبت، ويسمى عبد الله بالطيب والطاهر؛ لأنه ولد بعد النبوة، أي: على خلاف في ذلك كما تقدم ذكره، فبه كانت جملتهم سبعة: ثلاثة ذكور وأربع إناث كما تقدم.
وأما سيدنا إبراهيم ابن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من مارية القبطية، وقد تقدم ذكرها في سراريه عليه الصلاة والسلام. ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة بالعالية، قاله مصعب بن الزبير. وروى ابن سعد عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معجباً بمارية القبطية وكانت بيضاء جميلة، فأنزلها عليه الصلاة والسلام على أم سليم بنت ملحان، وعرض عليها الإسلام فأسلمت، فوطئها بالملك، وحولها إلى مال له بالعالية، وكان من أموال بني النضير، وكانت فيه في الصيف وفي خرافة النخل، فكان يأتيها هناك، وكانت حسنة الدين، وولدت له عليه الصلاة والسلام غلاماً فسماه إبراهيم، وعق عنه بشاة يوم سابعه، وحلق رأسه وتصدق بزنة شعره فضة على المساكين، وأمر بشعره فدفن في الأرض. وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت إلى زوجها أبي رافع فأخبرته بان مارية قد ولدت غلاماً، فجاء أبو رافع إليه عليه الصلاة والسلام فبشره فوهب له عبداً. وغار نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، واشتد عليهم حين رزق منها الولد، كذا في سيرة الشامي. قلت: سلمى هي مولاة صفية بنت عبد المطلب، وقد تقدم أنها قابلة خديجة على أولادها منه صلى الله عليه وسلم، ووصفها هنا بمولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء فيه؛ إذ مولاة عمة الشخص مولاته.
وروى ابن سعد والزبير بن بكار، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، قال: لما ولد إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنافس فيه نساء الأنصار؛ أيتهن ترضعه، وأحببن أن يفرغن مارية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما يعلمن من ميله إليها، فدفعه عليه الصلاة والسلام إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد بن النجار وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد بن النجار، وكانت ترضعه، فكان يكون عند أبويه في بني النجار ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بردة فيغتسل عندها ويؤتى بإبراهيم، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بردة قطعة نخل.(1/209)
وروى الشيخان عن أنس رضي الله عنه: أنه عليه الصلاة والسلام دفع إبراهيم إلى أم سيف وهو قين، أي: حداد بالمدينة يقال له: أبو سيف، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعته حتى انتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره، وقد امتلأ البيت دخاناً، فأسرعت في المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهيت في المشي إلى أبي سيف، فقلت: يا أبا سيف، أمسك؛ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمسك، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبي فضمه إليه، وقال ما شاء الله أن يقول.
وروى - أيضاً - عن أنس رضي الله عنه: ما رأيت أحداً أرحم بعياله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان ابنه إبراهيم مسترضعاً في عوالي المدينة، فكان يأتيه ونحن معه فيدخل البيت، وإنه ليدخن، وكان ظئره قيناً فيأخذه فيقبله.
مات إبراهيم سنة عشر من الهجرة، قاله الواقدي جازماً به وقال: يوم الثلاثاء لعشر خلون من ربيع الأول.
وكسفت الشمس يوم موته فقالوا: كسفت لموته، فقام خطيباً عليه الصلاة والسلام فقال فيها: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوف الله بهما عباده. فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة والدعاء والاستغفار.
وفي صحيح البخاري: عاش سبعة عشر شهراً أو ثمانية عشر. عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فانطلق به إلى النخل الذي فيه إبراهيم، فدخل وإبراهيم يجود في نفسه، فوضعه عليه الصلاة والسلام في حجره، فلما مات دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الرحمن بن عوف: تبكي يا رسول اله، أو لم تنه عن البكاء؟ قال: إنما نهيت عن النوح، وعن صوتين أخنعين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة، خمش وجه وشق جيب ورنة الشيطان. وفي رواية إنما نهيت عن النياحة، وأن ينعت الميت بما ليس فيه ثم قال: وإنما هذه رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم، يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، ويوم جامع - وفي رواية - لولا أنه أجل محدود، ووقت صادق - لحزنا عليك حزناً أشد من هذا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب. وروى ابن ماجه والحكيم الترمذي عن أنس: لما قبض إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: لا تدرجوه في أكفانه حتى أنظر إليه. فأتاه فانكب عليه وبكى.
واختلف هل صلى عليه، فروى الإمام أحمد وابن سعد من طريق جابر الجعفي وهو ضعيف عن البراء، والبيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه، وأبو داود والبيهقي عن عطاء بن أبي رباح مرسلاً أنه عليه الصلاة والسلام صلى على ابنه إبراهيم، زاد البيهقي: في القاعة وهو موضع الجنائز، زاد أنس وكبر عليه أربعاً، وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً.
وعن مكحول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على شفير قبر ابنه إبراهيم فرأى فرجة في اللحد فناول الحفار مدرة، وقال: إنها لا تضر ولا تنفع، ولكنها تقر عين الحي، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي بأصبعه ويقول: إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه. قلت: هو معنى الحديث المتقدم الذي روته سيرين أخت مارية، وقد ذكرته في ذكرها عند ذكر أختها. وروى ابن سعد عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، عن أمه سيرين أخت مارية، قالت: حضرت موت إبراهيم فرأيته - عليه الصلاة والسلام - كلما صحت أنا وأختي مارية ما ينهانا، فلما مات نهانا عن الصياح وغسله الفضل بن عباس ورسول الله، والعباس جالس إلى جنبه، ونزل في حفرته الفضل بن عباس وأسامة بن زيد. ولما دفن إبراهيم رش على قبره وأعلم بعلامة، قال: وهو أول قبر رش.
وروى ابن سعد عن رجل من آل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دفن إبراهيم قال: هل من أحد يأتي بقربة؟ فأتى رجل من الأنصار بقربة ماء، فقال عليه الصلاة والسلام: رشها على قبر إبراهيم.
وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مات إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن له مرضعة في الجنة، ولو عاش لكان صديقاً نبياً، ولو عاش لتعتقت أخواله القبط وما استرق قبطي قط.(1/210)
وروى العلامة محمد بن يوسف الشامي في سيرته: اشتهر على الألسنة أنه عليه الصلاة والسلام لقن ابنه إبراهيم بعد الدفن قال: قل الله ربي، ورسولي أبي. وهذا شيء لم يوجد في كتب الحديث، وإنما ذكره المتولي في تتمته بلفظ: روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن إبراهيم قال: قل: الله ربي، ورسولي أبي، والإسلام ديني، فقيل: يا رسول الله، أنت تلقنه، فمن يلقننا؟ فأنزل الله: " يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ " إبراهيم الآية. - والأستاذ أبو بكر بن فورك في كتابه المسمى بالنظامي. وروى ابن سعد عن الزهري مرسلاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ملكتم القبط فأحسنوا إليهم؛ فإن لهم ذمة وإن لهم رحماً. وعن ابن كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً وروى الطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الله الله في قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم فيكونوا لكم عدة وأعواناً في سبيل الله.
وأما السيدة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا خلاف أنها أكبر بناته صلى الله عليه وسلم، إنما الخلاف فيها وفي القاسم: أيهما ولد أولاً؟ قال ابن إسحاق: سمعت عبد الله بن محمد بن سليمان الهاشمي يقول: ولدت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة ثلاثين من مولده عليه الصلاة والسلام، وأدركت الإسلام وهاجرت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم محباً فيها، وتزوجها ابن خالتها أبو العاص - واسمه لقيط - على الأكثر، وقيل: هشيم، وقيل: مهشم - بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، أمه هالة بنت خويلد، فلذا كان ابن خالة زينب.
روى عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالاً وتجارة وأمانة، فقالت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: زوجه، وكان عليه الصلاة والسلام لا يخالفها، وذلك قبل أن ينزل عليه، فزوجه زينب رضي الله عنها. فلما أكرم الله نبيه بنبوته آمنت خديجة وبناتها فلما نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً بأمر الله تعالى ودينه أتوا أبا العاص بن الربيع هذا فقالوا: فارق صاحبتك ونحن نزوجك بأي امرأة شئت، فقال: لا والله لا أفارق صاحبتي، وما يسرني أن لي بها أفضل امرأة من قريش.
وفي الخميس: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان الإسلام فرق بين زينب وبين أبي العاص، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقدر أن يفرق بينهما، وكان مغلوباً عليه بمكة، قال أبو محمد، عبد الملك بن هشام في سيرته بعد أن ذكر مثل ما تقدم فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سارت قريش إلى بدر سار فيهم أبو العاص بن الربيع فأصيب في الأسارى يوم بدر، فكان بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عائشة، قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء زوجها أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها. قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها قلادتها فافعلوا. قالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوه، وردوا عليها الذي كان لها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه العهد - أو هو وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم ذلك أن يخلي سبيل زينب إليه، أو كان شرط ذلك عليه في إطلاقه، ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلم ما هو، إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخلى سبيله بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتياني بها. فخرجا إلى مكانهما ذلك بعد بدر بشهر أو شيعه، فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها، فخرجت تجهز.(1/211)
قال: قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر قال: حدثت عن زينب أنها قالت: بينا أنا أتجهز بمكة للحوق بأبي لقيتني هند بنت عتبة بن ربيعة، زوجة أبي سفيان بن حرب فقالت: يا بنة محمد، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك؟ قالت: فقلت: ما أردت ذلك. قالت هند: أي ابنة عم، لا تفعلي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك أو بما تصلين به إلى أبيك، فإن عندي حاجتك فلا تضطني مني؛ فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال. قالت: والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل. قالت: ولكني خفتها، فأنكرت أن أكون أريد ذلك وتجهزت.
فلما فرغت من جهازها قدم لها حموها، كنانة بن الربيع، أخو زوجها لقيط بن الربيع، المكنى أبا العاص - بعيراً فركبته، وأخذ قوسه وكنانته ثم خرج بها نهاراً يقود بها وهي في هودج لها. وتحدث بذلك رجال من قريش، فأخذوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى الفهري، فروعها بالرمح وهي في هودجها، وقيل: نخس بعيرها، فقمص بها فسقطت على صخرة، وكانت المرأة حاملاً فيما يزعمون، فلا ريعت طرحت ما في بطنها، وبرك حموها على ركبتيه، ونثر كنانته ثم قال: والله لا يدنوا منها رجل إلا وضعت فيه سهماً، فتكركر الناس عنه، وأتى أبو سفيان في جلة من قريش فقال: أيها الرجل، كف عنا نبلك حتى نكلمك فكف فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا بما دخل علينا من محمد؛ فيظن الناس، إذ أخرجت بنته علانية على رءوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك على ذل أصحابنا من مصيبتنا التي كانت، وأن ذلك بنا ضعف ووهن، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك من ثورة. ولكن ارجع بالمرأة، حتى إ ذا هدأت الأصوات، وتحدثت الناس أن قد رددناها، فسلها سراً وألحقها بأبيها.
فرجع بها كنانة. فاستخبر فيها بنو هاشم وبنو أمية، فقالت بنو أمية: نحن أحق بها - لكونها تحت ابن عمهم أبي العاص - فكانت عند هند بنت عتبة بن الربيع، فكانت هند تقول لها: هذا في سبب أبيك. قال: فأقامت ليالي حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلاً حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أرسل زيد بن حارثة وصاحبه قال لزيد: خذ خاتمي فأعطها. فانطلق زيد فلم يزل يتلطف حتى لقي راعياً فقال: لمن ترعى؟ قال: لأبي العاص. فقال: لمن هذه الغنم؟ قال: لزينب بنت محمد، فسار معه شيئاً ثم قال: هل لك إن أعطيتك شيئاً فتعطيها إياه ولا تذكره لأحد؟ قال: نعم. فأعطاه الخاتم. فانطلق الراعي فأدخل الغنم وأعطاها الخاتم، فعرفته فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل. قالت: فأين تركته؟ قال: بمكان كذا. فسكتت حتى إذا جاء الليل أخبرت زوجها، فتجهزت، فأخرج بها أخاه كنانة بن الربيع حتى أسلمها إلى زيد وصاحبه كما تقدم.
فلما جاءته قال لها زيد: اركبي بين يدي على بعيري، فقالت: لا، ولكن اركب أنت بين يدي، فركب وركبت خلفه حتى أتت المدينة قال عروة: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هي أفضل بناتي، أصيبت فيّ. فبلغ ذلك علي بن الحسين فانطلق إلى عروة فقال: ما حديث بلغني عنك تحدثه تنقص به حق فاطمة؟ قال عروة: ما أحب أن لي بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها، وإنما بعد فلك عليّ ألا أحدث به. أخرجه الدولابي.
قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: فقال أبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف في الذي كان من أمر زينب: من الطويل
أتاني الّذي لا تقدر النّاس قدره ... لزينب فيهم من عقوقٍ ومأثم
وإخراجها لم يخز فيه محمّدٌ ... على مأقط وبيننا عطر منشم
وأمسى أبو سفيان من حلف ضمضمٍ ... ومن حربنا في رغم أنفٍ ومندم
قرنّا ابنه عمراً ومولى يمينه ... بذي حلقٍ جلد الصّلاصل محكم
فأقسمت لا تنفكّ منّا كتائبٌ ... سراة خميس في لهام مسوّم
نروع قريش الكفر حتّى نعلّها ... بخاطمةٍ فوق الأُنوف بميسم
نُنزّلهم أكناف نجدٍ ونخلةٍ ... وإن يتهموا بالخيل والرّجل نُتهم(1/212)
مدى الدّهر حتّى لا يعوج سربنا ... ونلحقهم آثار عادٍ وجرهم
ويندم قومٌ لم يطيعوا محمّداً ... على أمره وأيّ حين تندّم
فأبلغ أبا سفيان إمّا لقيته ... لئن أنت لم تخلص سجوداً وتسلم
فأبشر بخزيٍ في الحياة معجّلٍ ... وسربال نارٍ خالدا في جهنّم
وقوله قرنا ابنه عمراً ومولى يمينه يريد به عقبة بن عبد الحارث بن الحضرمي؛ لأنه أسر يوم بدر هو وعمرو بن أبي سفيان بن حرب؛ لأن حلف الحضرمي وذويه كان إلى حرب بن أمية ومن بعده إلى أبي سفيان بن حرب.
ولما انصرف الذين خرجوا إلى زينب ليردوها إلى مكة عند خروجها أول مرة مع كنانة بن الربيع، لقيتهم هند بنت عتبة بن ربيعة فقالت لهم: من الطويل
أفي السّلم أعياراً جفاءً وغلظةً ... وفي الحرب أشباه النّساء العوارك
وقال كنانة بن الربيع المذكور في أمر زينب: من الطويل
عجبت لهبّارٍ وأوباش قومه ... يريدون إخفاري ببنت محمّد
ولست أُبالي ما حييت فديدهم ... وما استجمعت قبضاً يدي بالمهنّد
قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي إسحاق الدوسي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية أنا فيها فقال لنا: إن ظفرتم بهبار بن الأسود والرجل الذي سبق معه إلى زينب - قال ابن هشام: وقد سمى ابن إسحاق الرجل بعينه فقال: هو نافع بن عبد قيس - فحرقوهما بالنار. قال: فلما كان الغد بعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني كنت أمرتكم بتحريق هذين الرجلين إن أخذتموهما، ثم رأيت أنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا الله، فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما.
قال ابن إسحاق: فأقام أبو العاص بمكة وأقامت زينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرق بينهما الإسلام بالمدينة، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجراً إلى الشام - وكان رجلاً مأموناً - بمال له وأموال لرجال من قريش أبضعوها معه، فلما خرج من تجارته وأقبل قافلاً لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابوا ما معه وأعجزهم هرباً، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته فاستجار بها فأجارته، وجاء في طلب ماله، فلما خرج عليه الصلاة والسلام إلى صلاة الصبح - كما حدثني به يزيد ابن رومان - فكبر وكبر الناس معه صرخت زينب من صف النساء: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. قال: فلما سلم عليه الصلاة والسلام من الصلاة أقبل فقال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت قالوا: نعم. قال: أما والله الذي نفسي بيده ما علمت بشيء حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم.
ثم انصرف عليه الصلاة والسلام فدخل على ابنته فقال: أي بنية، أكرمي مثواه، ولا يخلص إليك؛ فإنك لا تحلين له. قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى السرية التي أصابت مال أبي العاص فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث علمتم، وقد أصبتم له مالاً، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فىء الله الذي أفاء لكم فأنتم أحق به. قالوا: يا رسول الله بل نرده عليه. قال: فردوه عليه. حتى إن الرجل ليأتي بالدلو، ويأتي الآخر بالشنة والإداوة، حتى إن أحدهم ليأتي بالشظاظ، حتى ردوا عليه ماله بأسره لا يفقد منه شيئاً. ثم احتمل إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله وما كان أبضع معه. ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً. قال إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوفي أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أدها الله سبحانه إليكم وفرغت منها أسلمت.
ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فحدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: رد النبي صلى الله عليه وسلم إليه زينب عن النكاح الأول لم يحدث شيئاً بعد ست سنين.(1/213)
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة أن أبا العاص بن الربيع لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين قيل له: هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال؛ فإنهما هي أموال المشركين؟ فقال أبو العاص: بئسما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي.
قال في المواهب: ردها له عليه الصلاة والسلام بالنكاح الأول بعد سنتين، وقيل: بعد ست سنين، وقيل: قبل انقضاء العدة فيما ذكره ابن عقبة، وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ردها له بنكاح جديد سنة سبع من الهجرة.
ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول سنة ثمان من الهجرة فغسلتها أم أيمن وسودة بنت زمعة وأم سلمة، وصلى عليها عليه الصلاة والسلام، ونزل في قبرها ومعه أبو العاص وجعل لها نعشاً، فكانت أول من اتخذ لها ذلك.
وعن أبي عمر: لما دفن عليه الصلاة والسلام ابنته زينب جلس عند القبر، فتربد وجهه ثم سرى عنه، فسئل عن ذلك، فقال: ذكرت ابنتي زينب وضعفها وعذاب القبر؛ فدعوت الله ففرج عنها. وايم الله لقد ضمت ضمة سمعها ما بين الخافقين. أخرجه سعيد بن منصور في سننه. وروى الطبراني عن رجال الصحيح عن عروة ابن الزبير: أن زينب لم تزل وجعة مما وقع من الإسقاط بسبب فعل هبار بن الأسود حتى ماتت، فكانوا يرون أنها شهيدة.
ولدت زينب من أبي العاص غلاماً يقال له: علي، توفي وقد ناهز الحلم، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته يوم الفتح، ومات في حياته عليه الصلاة والسلام. وولدت له جارية يقال لها: أمامة، أخت علي المذكور، تزوجها علي بن أبي طالب بعد موت السيدة فاطمة بوصية منها، ولم تلد له، وقيل: ولدت له محمداً وعليه كثيرون، وقتل عنها.
وكان عليه الصلاة والسلام يحب أمامة هذه، وكان يحملها على عاتقه في الصلاة، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رأسه من السجود أعادها.
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى والطبراني، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم قلادة من جزع معلمات بالذهب، ونساؤه مجتمعات في بيت كلهن، وأمامة بنت أبي العاص جارية تلعب في جانب البيت بالتراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كيف ترين هذه؟ فنظرنا إليها فقلنا: يا رسول الله، ما رأينا أحسن من هذه قط ولا أعجب. فقال: ارددنها إلي، فوالله لأضعنها في رقبة أحب أهل البيت إلي. قالت عائشة: فأظلمت علي الأرض بيني وبينه؛ خشية أن يضعها في رقبة غيري منهن، ولا أراهن إلا أصابهن مثل الذي أصابني، ووجمنا جميعاً سكوتاً، فأقبل بها حتى وضعها في رقبة أمامة بنت أبي العاص، فسرى عنا.
وكان تزوجها علي بن أبي طالب - كما تقدم - من الزبير بن العوام؛ لأنه كان أبوها أبو العاص أوصى بها إلى الزبير، فكان وصيه عليها، فزوجها بعلي رضي الله عنهما. فلما قتل علي رضي الله عنه وكرم وجهه تزوجها المغيرة بن نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب، وكان علي قد أمره بذلك بعده؛ لأنه خاف أن يتزوجها معاوية. وولدت له يحيى وبه كان يكنى، وقيل لم تلد فلا عقب لزينب، وماتت عنده سنة خمسين من الهجرة. روى أن علياً رضي الله عنه قال لها حين حضرته الوفاة: إني لا آمن أن يخطبك معاوية؛ فإن كان لك في الرجال حاجة فقد رضيت لك المغيرة بن نوفل عشيراً.
فلما انقضت عدتها كتب معاوية إلى مروان يأمره أن يخطبها ويبذل لها مائة ألف دينار، فلما خطبها أرسلت إلى المغيرة بن نوفل: إن هذا - تعني معاوية - أرسل يخطبني؛ فإن كان لك بنا حاجة فأقبل. وخطبها إلى الحسن بن علي فزوجها منه. خرج ذلك أبو عمر. وذكر الدولابي: أن علياً لما أصيب وأرسل معاوية إلى مروان يخطبها له، قال لها المغيرة: اجعلي أمرك إلي فأنا خير لك منه، ففعلت، فدعا رجالاً فقال: اشهدوا أني قد تزوجتها وأصدقتها كذا وكذا. وعاش بعد زينب زوجها أبو العاص وتزوج بنت سعيد بن العاص إلى أن هلك بالمدينة في خلافة عثمان، وأوصى إلى الزبير بن العوام كما تقدم. رضي الله عنهم أجمعين.
ذكر السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره ثلاث وثلاثون سنة، وسماها رقية، وأسلمت حين أسلمت أمها خديجة، وبايعته حين بايعه النساء.(1/214)
قال قتادة بن دعامة ومصعب بن الزبير فيما رواه ابن أبي خيثمة عنهما: كانت رقية تحت عتبة بن أبي لهب، وأم كلثوم تحت عتيبة، فلما نزلت سورة تبت قال لهما أبوهما: رأسي من رأسكما حرام إن لم تفارقها ابنتي محمد، ففارقاهما ولم يكونا قد دخلا بهما؛ كرامة من الله لهما وهواناً لابني أبي لهب. فتزوج رقية عثمان بن عفان، وهاجر بها الهجرتين إلى الحبشة والمدينة، وتوفيت عنده. وكان زواجه بها في الجاهلية. قاله الدولابي. والذي ذكره غيره أنه كان بعد إسلامه.
وعن عائشة رضي الله عنها: أتت قريش عتبة بن أبي لهب فقالوا: طلق ابنة محمد، ونحن نزوجك أي امرأة شئت، فقال: إن زوجتموني ابنة أبان بن سعيد بن العاص فارقتها. فزوجوه ففارقها. وقد تقدم في ذكر الأعمام كيفية هجرتها مع زوجها عثمان إلى الحبشة، وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عنها المرأة من قريش كيف رأتها، وقوله عليه الصلاة والسلام: صحبهما الله، إن كان عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط.
وكانت رقية ذات جمال رائع فكان يقال: أحسن زوج رآه إنسان مع زوجها. قال محمد بن قدامة: روينا أن فتيان أهل الحبشة كانوا يعرضون لرقية ينظرون إليها ويتعجبون من جمالها، فآذاها ذلك، فدعت عليهم فهلكوا جميعاً.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أوحى إلي أن أزوج كريمتي عثمان بن عفان. خرجه الطبراني في معجمه.
قال مصعب الزبيري: توفيت رقية عند عثمان بالمدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الكبرى، وتخلف عثمان بسبب مرضها عن غزوة بدر فلم يشهدها، وكان تخلفه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب له بسهمه وأجره. عن ابن شهاب: أن مرضها هو أنه أصابتها الحصبة فمرضت، وماتت بالمدينة سنة اثنتين من الهجرة، وجاء بشيره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بنصرة بدر - وهو زيد بن حارثة - وعثمان قائم على قبر رقية قد نفض هو ومن معه أيديهم من دفنها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لما عزي عليه الصلاة والسلام برقية قال: الحمد لله، دفن البنات من المكرمات.
ولدت رقية لعثمان ولداً بالحبشة سماه عبد الله. قال مصعب: بلغ ست سنين، وقيل: سنتين، فنقره في عينه ديك فورم وجهه ومرض فمات، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل أبوه عثمان في حفرته. وقيل: إنه مات وهو رضيع. وقال قتادة: لم تلد رقية لعثمان شيئاً، وغلطوه، والأول أصح كما تقدم، رضي الله عنهما.
ذكر السيدة أم كلثوم رضي الله عنها: هي أكبر من فاطمة، سماها - عليه الصلاة والسلام - أم كلثوم ولم يعرف لها اسم؛ إنما تعرف بكنيتها. أسلمت حين أسلم أخواتها، وبايعت معهن، وهاجرت حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما توفيت رقية تزوجها عثمان بن عفان في ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة، وبنى بها في جمادي الآخرة.
وروى ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تزوج عثمان أم كلثوم على مثل صداق رقية وعلى مثل صحبتها.
وقد تقدم قبل هذا أنها كانت تحت عتيبة بن أبي لهب، ثم فارقها قبل دخوله بها فخلف عليها عثمان بن عفان بعد موت أختها رقية.
وعن قتادة أن عتيبة فارق أم كلثوم، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كفرت بدينك وفارقت ابنتك، لا تحبني ولا أحبك، ثم سطا عليه وشق قميصه وتفل، فرجع التفل في وجه التافل فاحترق مكانه في وجهه، وكان خارجاً إلى الشام تاجراً فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك. فأكله السبع. والقصد قد تقدمت في ذكر أعمامه عليه الصلاة والسلام بما أغنى عن الإعادة هنا.
قال في الخميس: روي عن سعيد بن المسيب قال: آم عثمان بن عفان رضي الله عنه من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمت حفصة بنت عمر من زوجها خنيس بن حذافة السهمي، فمر عثمان بعمر رضي الله عنهما، فقال عمر له: هل لك في حفصة؟ فلم يجب. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: هل أدلك على خير من ذلك؟ أتزوج أنا حفصة، وأزوج عثمان خيراً منها أم كلثوم. خرجه أبو عمر، ثم قال: حديث صحيح.
وإنما كان امتناع عثمان رضي الله عنه؛ لأنه سمع أنه عليه الصلاة والسلام يذكر حفصة.(1/215)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أتاني جبريل فأمرني أن أزوج عثمان ابنتي. وقالت عائشة في ذلك: كن لما لا ترجو، أرجى منك لما ترجو؛ فإن موسى عليه الصلاة والسلام خرج يلتمس ناراً، فرجع بالنبوة. خرجه إلى الحسن أبو نعيم البصري. قلت: عقد هذا الأثر عن عائشة بعض الأدباء شعراً في أبيات أربعة هي قوله: من الخفيف
كُن لما لا يرجى من الأمر أرجى ... منك يوماً لما له أنت راجي
إنّ موسى مضى ليقبس ناراً ... من شهابٍ يلوح والليل داجي
فانثنى راجعاً وق كلّم الل ... ه وناجاه، وهو خير مناجي
وكذا الكرب حين يشتدّ بالمر ... ء فأدنى لسرعة الإنفراج
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عثمان: لما ماتت امرأتي، رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بكيت بكاء شديداً، فقال عليه الصلاة والسلام: ما يبكيك؟ قلت: أبكي على انقطاع صهري منك. قال: فهذا جبريل يأمرني بأمر الله أن أزوجك أختها. والذي نفسي بيده، لو أن عندي مائة بنت يمتن واحدة بعد واحدة زوجتك أخرى حتى لا يبقى بعد المائة شيء. هذا جبريل أخبرني أن الله يأمرني أن أزوجك أختها، وأن أجعل صداقها مثل صداق أختها. أخرجه الفضائلي الرازي.
ماتت أم كلثوم سنة تسع من الهجرة، وصلى عليها أبوها صلى الله عليه وسلم، وغسلتها أسماء بنت عميس وصفية بنت عبد المطلب، وشهدت أم عطية غسلها، فروت قوله عليه الصلاة والسلام: اغسليها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك - إن رأيتن ذلك - بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن آذنني. فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوه وقال: أشعرنها إياه. قالت: ومشطناها ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها. وعنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: ابدأن بميامنها ومواضع السجود منها.
وعن ليلى بنت قائف الثقفية قالت: كنت ممن غسل أم كلثوم، فكان أول ما أعطانا عليه الصلاة والسلام الحقو، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت في الثوب الآخر قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على الباب معه كفنها، فناولنا ثوباً ثوباً. خرجه الدولابي.
وعن أنس: شهدنا مدفن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كلثوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على شفير القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة أهله؟ فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله. فقال: انزل في قبرها. فنزل. خرجه البخاري. وروى أنه نزل في حفرتها علي والفضل بن عباس وأسامة بن زيد، وأن أبا طلحة استأذنه عليه الصلاة والسلام في النزول معهم فأذن له، ذكره أبو عمر. ولا تضاد بين هذا وما قبله المخرج في البخاري؛ إذ يجوز أن يكون استأذن أولاً فقال عليه الصلاة والسلام ذلك ليثبت لأبي طلحة موجب اختصاصه بالنزول. وقد رويت هذه القصة في رقية وهو وهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حال دفن رقية حاضراً، بل كان في غزوة بدر كما تقدم، وإنما كان حاضراً في وفاة هذه أم كلثوم ودفنها.
قال السهيلي في شرح سيرة ابن هشام: ما الحكمة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن ابنته أم كلثوم: أيكم لم يقارف الليلة أهله؟ فقال أبو طلحة: أنا، وقد كان عثمان أحق بذلك من؛ لأنه كان بعلها؟ قال ابن بطال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرم عثمان النزول في قبرها، وقد كان أحق الناس بذلك لأنه كان بعلها وفقد منهم علقاً لا عوض له؛ لأنه حين قال النبي صلى الله عليه وسلم أيكم لم يقارف الليلة أهله سكت عثمان ولم يقل أنا؛ لأنه كان قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه، ولم يشغله الهم بالمصيبة وانقطاع صهره من النبي صلى الله عليه وسلم عن المقارفة؛ فحرم بذلك ما كان حقاً له، وكان أولى به من أبي طلحة وغيره، وهذا بين في معنى الحديث، ولعله عليه الصلاة والسلام قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئاً؛ لأنه فعل فعلاً حلالاً، غير أن المصيبة لم تبلغ منه مبلغاً يشغله حتى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير تصريح، ولم يكن لعثمان رضي الله عنه من أم كلثوم شيء من الولد رضي الله عنها.(1/216)
ذكر السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال في الصفوة: ولدت فاطمة وقريش تبني الكعبة قبل النبوة بخمس سنين، وهي أصغر بناته صلى الله عليه وسلم، وولدت الحسن ولها إحدى وعشرون سنة، بعد الهجرة بثلاث سنين، وقال أبو عمر ولدت فاطمة سنة إحدى وأربعين من مولده عليه الصلاة والسلام. وهو مغاير لما تقدم من رواية ابن إسحاق من أن أولاده عليه الصلاة والسلام كلهم ولدوا قبل النبوة إلا إبراهيم بالاتفاق، وإلا عبد الله على قول ادعى قائله أن ذلك سبب تلقيبه بالطيب الطاهر.
روى مرفوعاً: إنما سميت فاطمة لأن الله تعالى قد فطمها وذريتها من النار. أخرجه الحافظ الدمشقي. وروى النسائي: لأن الله فطمها ومحبيها من النار. وسميت بتولاً - والبتل: القطع - لانقطاعها عن نساء زمانها فضلاً وديناً وحسناً، وقيل: لانقطاعها عن الدنيا إلى الله سبحانه وتعالى، وكذا قاله ابن الأثير.
وعن أبي جعفر قال: دخل العباس على علي وفاطمة رضي الله عنهم، وأحدهما يقول للآخر أينا أكبر؟ فقال العباس: ولدت أنت يا علي قبل بناء قريش البيت بسنوات، وولدت أنت يا فاطمة وقريش تبني البيت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن خمس وثلاثين سنة، قبل النبوة بخمس سنين. أخرجه الدولابي.
وكان عليه الصلاة والسلام يحب فاطمة حباً شديداً، فتزوجت بعلي رضي الله عنه في السنة الثالثة من الهجرة، وقيل: بعد أحد، وقيل: بعد بنائه عليه الصلاة والسلام بعائشة بأربعة أشهر ونصف، وكان العقد في رجب، وقيل: في رمضان، وقيل: تزوج بها في صفر من السنة الثانية من الهجرة وبنى بها في ذي الحجة من السنة المذكورة، وكان سنها حال تزويجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف، وسن علي رضي الله عنه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر، وقيل غير ذلك. ولم يتزوج عليها رضي الله عنها حتى ماتت.
عن أنس رضي الله عنه قال: جاء أبو بكر ثم عمر يخطبان فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت ولم يرجع إليهما شيئاً. فانطلقا إلى علي يأمرانه بطلب ذلك، قال علي: فنبهاني لأمر، فقمت أجر ردائي. كذا في المواهب. وفي سيرة الشامي: روى الطبراني وابن أبي خيثمة وابن حبان في صحيحه من طريق يحيى بن يعلى الأسلمي، والبزار من طريق محمد بن ثابت بن أسلم - وهما ضعيفان - عن أنس بن مالك، وابن أبي خيثمة والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن ثابت: إن عمر ابن الخطاب أتى أبا بكر فقال: ما يمنعك أن تتزوج فاطمة بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا يزوجني، قال: إذا لم يزوجك فمن يزوج؟ إنك من أكرم الناس عليه وأقدمهم في الإسلام. قال: فانطلق أبو بكر إلى بيت عائشة فقال: يا عائشة، إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نفس وإقبالاً عليك فاذكري له أني ذكرت فاطمة فلعل الله عز وجل أن ييسرها لي. قال فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأت منه طيب نفس وإقبالاً فقالت: يا رسول الله، إن أبا بكر ذكر فاطمة وأمرني أن أذكرها، فقال صلى الله عليه وسلم: حتى ينزل القضاء. فرجع إليها أبو بكر فقالت: يا أبتاه، وددت أني لم أذكر له الذي ذكرت.
وقال يحيى: إن أبا بكر رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لقد عرفت مني صحبتي وتقدمي في الإسلام، وأني وأني، فقال عليه الصلاة والسلام: وما ذاك؟ قال: تزوجني فاطمة. فسكت عنه أو قال فأعرض عنه. فرجع أبو بكر إلى عمر فقال: هلكت وأهلكت. قال عمر رضي الله عنه: وما ذاك؟ قال أبو بكر: خطبت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عني. وقال ابن ثابت فانطلق عمر إلى حفصة ابنته فقال لها: إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم إقبالاً عليك فاذكري له أني ذكرت فاطمة، لعل الله أن ييسرها إلي. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حفصة قالت حفصة: وجدت منه إقبالاً وطيب نفس، فذكرت له أن عمر يذكر فاطمة رضي الله عنها. فقال: حتى ينزل القضاء. وقال ابن ثابت: فأتى عمر رسول الله فقعد بين يديه فقال: يا رسول الله، قد علمت مني صحبتي وقدمي في الإسلام وأني وأني. قال: وما ذاك؟ قال: تزوجني فاطمة. فأعرض عنه. فرجع عمر إلى أبي بكر فقال له أبو بكر: إنه ينتظر أمر الله تعالى فيها.(1/217)
فانطلق عمر إلى علي رضي الله عنه. وقال يحيى بن يعلى: إن أبا بكر وعمر قالا: انطلق بنا إلى علي حتى نأمره أن يطلب منه مثل الذي طلبنا. فقال علي: فأتياني وأنا في سبيل، فقالا: ابنة عمك تخطب. فنبهاني لأمر، فقمت أجر ردائي، طرف على عاتقي وطرف آخر في الأرض، حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بن ثابت: ولم يكن لعلي مثل عائشة ولا مثل حفصة، فلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إني أريد أن أتزوج فاطمة، قال: فافعل. قال: ما عندي إلا درعي الخطمية... الحديث.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الطبراني من طريق يحيى بن العلاء قال: كانت فاطمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يذكرها أحد إلا صد عنها حتى يئسوا منها، فلقى سعد بن معاذ علياً رضي الله عنه فقال له: إني والله ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبسها إلا عليك، فقال له علي: هل ترى ذلك؟ ما أنا بأحد الرجلين، ما أنا بصاحب دنيا يلتمس ما عندي، وقد علم ما لي بيضاء ولا صفراء، وما أنا بالكافر الذي يترفق بها عن دينه، يعني يتألفه. إني لأول من أسلم. فقال له سعد بن معاذ: إني أعزم عليك لتقر بها عيني فإن لي في ذلك فرحاً. قال علي رضي الله عنه: أقول ماذا؟ قال سعد تقول: جئت خاطباً إلى الله ورسوله فاطمة بنت محمد. فانطلق علي رضي الله عنه فعرض للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ثقيل حضر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان لك حاجة يا علي؟ قال: أجل جئت خاطباً إلى الله تعالى وإلى رسوله بنت محمد. فقال له: مرحباً. كلمة ضعيفة. فرجع علي إلى سعد فقال له: قد فعلت الذي أمرتني به فلم يزد على أن مرحب بي كلمة ضعيفة. فقال سعد: أنكحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث بريدة عند البزار والطبراني برجال ثقات غالبهم رجال الصحيح، والنسائي والدولابي: أن نفراً من الأنصار قالوا لعلي: لو خطبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: لو كانت عندك فاطمة. فدخل علي على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حاجة ابن أبي طالب؟ فقال: يا رسول الله، ذكرت فاطمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحباً وسهلاً. لم يزجه عليهما. فخرج على أولئك الرهط من الأنصار وهم ينتظرونه فقالوا: ما وراءك؟ قال: لا أدري غير أنه قال لي: مرحباً وأهلاً. قالوا: يكفيك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما، أعطاك الأهل والرحب.
وفي حديث ابن عباس: فقال سعد: أنكحك والذي بعثه بالحق، إنه لا خلف ولا كذب عنده. أعزم عليك لتأتينه غداً فتقول: يا رسول الله، متى تبنيني بأهلي؟ فقال علي: هذه أشد من الأولى، أولاً أقول: يا رسول الله، حاجتي؟ قال سعد: قل كما أمرتك. فانطلق علي فقال: يا رسول الله، متى تبنيني بأهلي؟ قال: الليلة إذا شاء الله.
قال في التنقيح: روى عن علي نفسه أنه قال: قالت لي مولاتي: هل علمت أن فاطمة خطبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا. قالت: خطبت، فما ينعك أن تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزوجك. قلت: ما عندي شيء أتزوج به. قالت: فإنك إن جئته يزوجك فما زالت ترغبني حتى دخلت عليه - عليه الصلاة والسلام - وكانت له - عليه الصلاة والسلام - جلالة وهيبة، فلما قعدت بين يديه أفحمت، فوالله ما قدرت أتكلم فقال: ما جاء بك؟ ألك حاجة؟ فسكت، فقال: لعلك جئت تخطب فاطمة. قلت: نعم. قال: فهل عندك شيء تستحلها به؟ فقلت: لا والله. فقل: ما فعلت بالدرع التي أسلحتكها؟ فقلت: عندي والذي نفسي بيده، إنها الحطمة، ما ثمنها إلا أربعمائة درهم. قال: قد زوجتك بها، فابعث إلينا بها فإن كانت لصداق بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه ابن إسحاق.
وعن علي رضي الله تعالى عنه، قال: كان مما أصبت يوم بدر شارفاً، وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفاً أخرى، فكنت آتي عليهما بالآجر فأبيعه وأجمعه لأدفع ما يتحصل من ثمن ذلك في مهر فاطمة رضي الله عنها، فكانتا معلقتين بالفناء، وكان حمزة رضي الله عنه في حجرة قريباً منهما في شرب من الأنصار يشربون الخمر قبل تحريمها، وقينتان تغنيانهم، فقالتا في غنائهما هذه الأبيات: من الوافر
ألا يا حمز للشُّرف النّواء ... وهنّ معقّلاتٌ بالفناء(1/218)
ضع السكّين في اللبات منها ... وخضبهنّ حمزة بالدّماء
وعجّل من أطايبها لشربٍ ... قديداً من طبيخٍ أو شواء
فلما سمع حمزة اخترط سيفه وخرج إلى الشارفين فشق بطنهما وأخرج من أكبادهما، ثم اجتب أسنمتهما وأتى بذلك علي رضي الله عنه، فأتاني الخبر فأتيت، فلما رأيتهما لم أملك عيني، فدخلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجال من المهاجرين والأنصار فأخبرته، فقام يجر رداءه وقاموا معه، حتى دخل على حمزة وهو ثمل وعيناه جمرتان، فوقف على رأسه وقال: ما هذا الذي فعلته يا حمزة؟ فصعد حمزة النظر في النبي صلى الله عليه وسلم وصوبه ثم قال: إن أنتم يا بني عبد المطلب إلا بعيد أبي، فرجع عنه صلى الله عليه وسلم، ومشى القهقري حتى خرج.
قلت: لم يكن بكاء علي رضي الله تعالى عنه حرصاً منه على الدنيا، حاشاه من ذلك، وإنما هو حزن لتوهم فوات ما هما وسيلة في تحصيله من تزوجه بفاطمة رضي الله تعالى عنها، ولذا قال رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم حين قال: هل عندك شيء تستحلها به؟ قال: لا والله. هذا والشرف جمع شارف، وهي الناقة الشابة، والنواء - بكسر النون مشددة - جمع ناوية، وهي السمينة الممتلئة شحماً، والني بالفتح: الشحم. قال أبو الطيب في وصفها: من الكامل
فتبيت تُسئد مسئداً في نيّها ... إسآدها في المهمه الإنضاء
وهذا في البيت مما تدور فيه أفهام الرواة، ولا يشفى داء معناه إلا أطباء النحاة. والله أعلم.
وقال يحيى بن يعلى: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما عندك يا علي؟ فقال: فرسي وبدني، ودرعي، يعني الحطمة. فقال عليه الصلاة والسلام: أما فرسك فلا بد لك منه، وأما بدنك فبعها. فبعتها بأربعمائة وثمانين درهماً. فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعها في حجره فقبض منها قبضة فقال: أي بلال، ابتع لنا بها طيباً، والباقي ادفعه إلى أم أيمن. وقال: يكون فيما يصلح المرأة، وزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة ابن الجوزي في تلقيحه: قال أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم دعاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا أنس، اخرج فادع لي أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة، والزبير، وعدة من الأنصار. قال أنس: فدعوتهم، فلما اجتمعوا عنده وأخذوا مجالسهم - وكان علي غائباً في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم - فقال النبي صلى الله عليه وسلم خاطباً خطبة العقد: الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع سلطانه، المرهوب من عذابه وسطوته، النافذ أمره في سمائه وأرضه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. إن الله سبحانه، وتبارك اسمه، وتعالت عظمته، جعل المصاهرة نسباً لاحقاً، وأمداً مفترضاً أوشج به الأرحام، وألزم الأنام، فقال عز من قائل: " وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً " الفرقان فأمر الله تعالى يجري إلى قضائه، وقضاؤه إلى قدره، ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب " يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثّبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَبِ " الرعد إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة بنت خديجة من علي ابن أبي طالب، فاشهدوا أني قد زوجته على أربعمائة مثقال فضة إن رضي علي بذلك. ثم دعا عليه الصلاة والسلام بطبق من بسر فوضع بين أيدينا ثم قال: انتهبوا. فانتهبنا. فبينا نحن ننتهب إذ دخل علي رضي الله عنه، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ثم قال: إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة بنت محمد على أربعمائة مثقال فضة إن رضيت. فقال علي: قد رضيت بذلك يا رسول الله.(1/219)
قال في المواهب: والعقد لعلي وهو غائب محمول على أنه كان له وكيل حاضر، أو على أنه لم يرد به العقد بل إظهار ذلك، ثم عقد معه لما حضر، أو على تخصيصه بذلك، جمعاً بينه وبين ما ورد مما يدل عل اشتراط القبول على الفور. قلت: لا حاجة إلى هذا الحمل؛ إذ قد صرح في الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد الإيجاب عند حضور علي رضي الله عنه بقوله: إن الله زوجك فاطمة بنت محمد إلى آخره، ووقع القبول من علي على الفور، وهو ما ذكره صاحب المواهب في الحمل الثاني. والله أعلم.
ثم أمرهم أن يجهزوها، فجعل لها شريط مشرط، ووسادة من أدم حشوها ليف. وروى الإمام أحمد في المناقب عن علي رضي الله عنه، قال: جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة في خميلة وقربة ووسادة من أدم حشوها ليف. وروى أبو بكر بن فارس، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: وكان فراش علي وفاطمة ليلة عرسهما إهاب كبش.
وروى الطبراني من طريق مسلم بن خالد الزنجي حدثني جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله عنه، قال: حضرنا عرس علي بن أبي طالب على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأينا عرساً أحسن منه، هيأ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم زبيباً وتمراً فأكلنا. وروى عن أسماء بنت عميس - بسند ضعيف - قالت: دخلت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على درع ممشق بمغرة ونصف قطيفة بيضاء وقدح، وإن كانت تستر بكم درعها ومالها خمار، رضي الله عنها. وقالت - يعني أسماء - أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم آصعاً من تمر ومن شعير فقال: إذا دخلن عليك نساء الأنصار فأطعميهن منه.
وروى الطبراني من طريق عون بن محمد ابن الحنفية عن أسماء بنت عميس أيضاً قالت: أهديت جدتك فاطمة إلى جدك علي رضي الله عنه، فما كان حشو فراشهما ووسادتهما إلا ليف. ولقد أولم عليها فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته، رهن درعه عند يهودي بشطر من شعير. ورواه الدولابي عن أسماء بنت عميس: كان وليمتها آصعاً من شعير وتمر وحيس. وفي حديث ابن عباس: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فقال: يا بلال، إني قد زوجتك ابنتي ابن عمي، وأنا أحب أن يكون من سنة أمتى إطعام الطعام عند النكاح، فخذ شاة وأربعة أمداد أو خمسة، فاجعل لي قصعة لعلي أدعو عليها المهاجرين والأنصار، فإذا فرغت منها فآذني بها. فانطلق ففعل لما أمره به، ثم أتاه بالقصعة فوضعها بين يديه، فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رأسها ثم قال: أدخل على الناس دفعة دفعة، فجعل الناس يردون، كلما فرغت دفعة وردت أخرى حتى فرغ الناس، ثم مد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى ما فضل منها فتفل فيه وبرك وقال: يا بلال، احملها إلى أمهاتك وقل لهن يأكلن منها ويطعمن من يعتريهن.
وعند الطبراني برجال الصحيح في حديث أسماء بنت عميس، قالت: لما أهديت فاطمة إلى علي - رضي الله عنهما - لم تجد في بيته إلا رملاً مبسوطاً، أي سعفاً، مرمولاً منسوجاً، ووسادة حشوها ليف وجرة وكوزاً، فجاءت السيدة فاطمة مع أم أيمن، وقعدت في جانب البيت، وأم أيمن في جانب، وأرسل عليه الصلاة والسلام لعلي: لا تقرب أهلك حتى آتيك، فجاء عليه الصلاة والسلام فقال: ههنا أخي؟ فقالت أم أيمن: أخوك وقد زوجته ابنتك ! قال: إنه أخي. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فقال لفاطمة: ائتي بماء، فقامت إلى قعب في البيت فأتت فيه بماء، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومج فيه، ثم قال لها: تقدمي، فتقدمت فنضح بين ثدييها ورأسها وقال: اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني بماء، فعلمت الذي يريد، فملأت القعب ماء فأخذه ومج فيه، وصنع بعلي مثل ما صنع بفاطمة، ثم قال: اللهم بارك فيهما وبارك لهما في أبنائهما. وفي لفظ: بارك لهما في نسلهما. ثم قال: ادخل بأهلك، فباسم الله والبركة. وفي رواية: فدعا بإناء فسمى، ثم قال فيه ما شاء الله أن يقول، ثم مسح صدر علي ووجهه به، ثم دعا فاطمة فقامت إليه تعثر في مرطها من الحياء، فنضح عليها من ذلك الماء ثم قال لها: أما إني لم آل أن أنكحتك أحب أهلي إلي. ثم قال: اللهم بارك... إلى آخر ما تقدم.(1/220)
وأورد الضياء المقدسي في صحيحه قال: قالت أسماء بنت عميس: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سواداً من وراء الستر أو من وراء الباب فقال: من هذا؟ قلت: أسماء. قال: أسماء بنت عميس؟ قلت: نعم يا رسول الله، جئت كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن الفتاة يبنى بها الليلة ولا بد لها من امرأة تكون قريباً منها إن عرضت لها حاجة أفضت بها إليها. قالت أسماء: فدعا لي بدعاء، إنه لأوثق عملي عندي، ثم قال لعلي: دونك أهلك. ثم خرج، فما زال يدعو لهما حتى توارى في حجره.
تنبيه: تقدم أن علياً رضي الله عنه أصدقها درعاً وأنه باع الدرع وأصدقها أربعمائة درهم، قال أبو جعفر: يشبه أن يكون العقد وقع على الدرع كما دل عليه حديث علي رضي الله عنه، وبعث بها علي ثم ردها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبيعها، فباعها وأتاه بثمنها من غير أن يكون بين الحديثين تضاد. وقد ذهب إلى مدلول كل واحد من الحديثين قائل، فقال بعضهم: كان مهرها رضي الله عنها الدرع، ولم يكن هناك بيضاء ولا صفراء، وقال بعضهم: كان مهرها رضي الله عنها أربعمائة وثمانين درهماً أو مثقالاً من فضة.
تنبيه آخر: قد تضمن حديث ابن عباس، وحديث علي رضي الله عنهما، وحديث أنس - أن الذي حثه على تزويج فاطمة متضاد ولا تضاد بينها؛ لاحتمال أن تكون مولاته حثته أولاً، ثم أبو بكر وعمر أو بالعكس، ثم خرج لذلك فلقيه الأنصار فحثوه على ذلك من غير أن يكون أدهم علم بالآخر.
تنبيه آخر: يحتمل أن تريد أسماء بما روته في حديثها عن وليمته رضي الله عنه - ما قام به هو نفسه غير ما جاء به الأنصار من الحيس والتمر؛ جمعاً بين الحديثين، وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع لها مع ذلك الآصع من التمر والشعير، وأن يكون ما جاء به الأنصار وليمة الرجال، وما دفعه لها وليمة النساء كما دل عليه حديثها. والله أعلم.
روى الطبراني برجال الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة وعلي عندها وهما يضحكان، فلما رأياه سكتا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لكما كنتما تضحكان فلما رأيتماني سكتما؟ فبادرت فاطمة فقالت: بأبي أنت يا رسول الله، قال هذا: أنا أحب إلى رسول الله منك، فقلت: بل أنا أحب إلى رسول الله منك. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أنت ابنتي ولك رقة الولد، علي أعز علي منك. وفي رواية أبي داود الطيالسي والطبراني والحاكم والترمذي والبغوي، عن أسامة بن زيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أحب أهلي إلي فاطمة.
وروى الطبراني عن أبي هريرة: أن علي بن أبي طالب قال: يا رسول الله، أينا أحب إليك أنا أم فاطمة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: فاطمة أحب إلي منك، وأنت أعز علي منها. وروى الطبراني وابن السني وأبو سعد النيسابوري في شرف النبوة، عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك.
وروى الطبراني عن أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - قالت: خطبني علي - رضي الله عنه - فبلغ ذلك فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أسماء متزوجة علي بن أبي طالب. فقال: ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله.
وعن ابن عباس والمسور بن مخرمة رضي الله عنهم: أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمعت ذلك أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح ابنة أبي جهل. فصعد صلى الله عليه وسلم المنبر وقال: أما بعد فإني لست أحرم حلالاً ولا أحلل حراماً، ولكن إن كنت متزوجها فرد علينا بنتنا، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبداً. زاد المسور في روايته: إن بني هاشم وبني المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن لهم إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها. أخرجه الشيخان والترمذي. وابنة أبي جهل هذه اسمها جويرية، أسلمت وبايعت، تزوجها عتاب بن أسيد، ثم أبان بن سعيد بن العاص.(1/221)
قلت: أخبرني الثقة أنه حضر مجلس الإمام المرحوم المقدس، السيد الشريف الإمام الحق، والقائم الصدق، أمير المؤمنين، المتوكل على الله، إسماعيل بن القاسم، الإمام الداعي بقطر اليمن كأسلافه الطاهرين، نور الله ضريحه، وجعل الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه، وكان يقرئ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري، والمجلس غاص بالسادة العلماء، والقادة الفضلاء، وكان إلى جنبه العلامة، المستغنى عن التعريف، والعلامة، مجمع بحري المعقول والمنقول، منبع نهري الفروع والأصول، مولانا وشيخنا، الفقيه، صالح ابن المرحوم المهدي، عرف بالمقبلي - فقرأ القارئ قطعة من هذا الحديث كما هو شأن البخاري في اقتطاعه بعض الحديث شواهد لأبواب يترجم لها هي قوله: فاطمة بضعة مني... إلى آخره، فبين له المرحوم الإمام المعنى من ذلك، فإذا بشخص من الحاضرين هو القارئ عينه قال: يا مولانا، أين عمر بن الخطاب عن هذا الحديث وقد أغضبها وآذاها؟ فقال الإمام رحمه الله: ما أغضبها ولا آذاها عمر، ولكن هذا والله وأشباهه من أكاذيب الروافض على عمر رضي الله عنه. ثم التفت الإمام إلى الفقيه صالح وقال: ما تقولون؟ فقال الفقيه: هذا الحديث له أول، وهو وارد عنه عليه الصلاة والسلام بسبب وقصة. وأورد الحديث وقصته هذه المذكورة. فرحم الله من سلف، وأبقى لنا الفقيه فهو خير خلف. انتهى.
وروى الإمام أحمد، والبيهقي في الشعب عن ثوبان رضي الله تعالى عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر: آخر عهده إتيان فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة. وروى أبو عمر عن أبي ثعلبة: كان عليه الصلاة والسلام إذا قدم من سفر أو غزو بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم أتى فاطمة رضي الله عنها، ثم أتى أزواجه. وروى أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ولا هدياً ولا حديثاً برسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامها وقعودها من فاطمة. وروى ابن حبان عنها أيضاً: ما رأيت أحداً أشبه كلاماً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة رضي الله عنها، إذا دخل صلى الله عليه وسلم عليها قامت إليه فقبلته، وأخذت بيده وأجلسته مكانها. فدخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه فأسر إليها فبكت، ثم أسر إليها فضحكت. فقلت: كنت أحسب أن هذه المرأة على النساء، فإذا هي امرأة منهن، بينا هي تبكي إذا هي تضحك. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عن ذلك فقالت: أسر إلى أنه ميت فبكيت، ثم أسر إلى أني أول أهله لحوقاً به فضحكت. وروى الطبراني برجال الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن ملكاً في السماء لم يكن زارني فاستأذن ربه في زيارتي، فبشرني وأخبرني أن فاطمة سيدة نساء أمتي. وروى عن عائشة رضي الله عنها: ما رأيت أفضل من فاطمة غير أبيها. وروى أبو يعلى برجال الصحيح عن عائشة أيضاً قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة من فاطمة رضي الله عنها إلا أن يكون والدها.
وروى أبو يعلى برجال الصحيح، وابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه قال: قلت لأمي فاطمة بنت أسد: أكفي فاطمة بنت محمد سقاية الماء والذهاب في الحاجة، وتكفيك خدمة الداخل، الطحن والعجن. وروى الطبراني عن عمران ابن الحصين رضي الله عنه قال: إني جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت فاطمة فقامت بحذاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادني يا فاطمة. فدنت دنوة. ثم قال: ادني يا فاطمة. فدنت دنوة. ثم قال: ادني يا فاطمة. فدنت حتى قامت بين يديه. قال عمران: فرأيت صفرة قد ظهرت على وجهها وذهب الدم، فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، ثم وضع كفه بين ترائبها ورفع رأسه فقال: اللهم مشبع الجوعة، وقاضي الحاجة، ورافع الضيقة، لا تجع فاطمة بنت محمد. قال عمران: فرأيت صفرة الجوع قد ذهبت عن وجهها وظهر الدم، ثم سألتها بعد ذلك فقالت: ما جعت بعد ذلك.(1/222)
وروى الإمام أحمد بسند جيد عن علي رضي الله عنه: أنه قال لفاطمة رضي الله عنها ذات يوم: لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء أباك سبي، فاذهبي فاستخدميه. فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يدي. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما جاء بك، أي بنية؟ قالت: جئت لأسلم عليك. فاستحيت أن تسأله ورجعت. فقال لها علي: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله. فأتيا جميعاً رسول الله صلى الله عليه وسلم لله فقال علي: يا رسول الله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: يا رسول الله، لقد طحنت حتى مجلت يدي، وقد جاءك الله بسبي وسعة، فأخدمنا. فقال: والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، فرجعا، فأتاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطيت رءوسهما تكشف أقدامها، وإذا غطيت أقدامهما تكشف رءوسهما، فقال: مكانكما. ثم قال: ألا أخبركما بخير مما سألتما؟ قالا: بلى. قال: كلمات علمنيهن جبريل قال: تسبحان دبر كل صلاة عشراً وتحمدان عشراً وتكبران عشراً، فإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين.
وروى الطبراني بسند حسن عن فاطمة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاها فقال: أين ابناي؟ يعني حسناً وحسيناً. قالت: أصبحنا وليس في بيتنا شيء يذوقه ذائق. فقال علي: أذهب بهما فإني أخاف أن يبكيا عليك وليس عندك شيء، فأخذهما فذهب بهما إلى فلان اليهودي. فتوجه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما في مربد بين أيديهما فضل من تمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تقلب ابني قبل أن يشتد الحر؟ قال علي: أصبحنا وليس في بيتنا شيء، فلو جلست يا رسول حتى أجمع لفاطمة تمراً. فكان يجمع لها بعمله فيكل دلو يمتحه تمرة. فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمع لفاطمة شيء من التمر، فجعله علي في حجزته. ثم أقبل فحمل النبي - صلى الله عليه وسلم أحدهما، وحمل علي الآخر حتى أقبلا بهما.
وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه: أن بلالاً - رضي الله عنه - أبطأ عن صلاة الصبح، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حبسك؟ قال: مررت بفاطمة وهي تطحن والصبي يبكي فقلت: إن شئت كفيتك الرحى وكفيتني الصبي، وإن شئت كفيتك الصبي وكفيتني الرحى. فقالت: أنا أرفق بابني منك، فذاك الذي حبسني.
وروى البزار، وتمام في فوائده، والطبراني، وابن عدي، والعقيلي، والحاكم، عن ابن مسعود، وابن شاهين، وابن عساكر من طريق آخر عنه، والطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاطمة أحصنت فرجها فحرمها الله عز وجل وذريتها على النار زاد العقيلي: قال أبو كريب: هذا للحسن والحسين ولمن أطاع الله منهم وفي لفظ: إن الله عز وجل غير معذبك ولا ولدك. وروى الخطيب البغدادي أن الإمام علي بن موسى الرضا سئل عن هذا الحديث فقال: هذا خاص بالحسن والحسين. قال العلامة محمد الشامي: الصواب أن هذا الحديث سنده قريب من الحسن، والحكم عليه بالوضع غلط. وروى تمام والحاكم والطبراني عن علي رضي الله عنه، وأبو بكر الشافعي عن أبي هريرة، وتمام عن أبي أيوب، وأبو الحسين بن بشران والخطيب عن عائشة والأزدي عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنهم بأسانيد ضعيفة إذا انضم بعضها إلى بعض أفاد قوة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: يأيها الناس - وفي لفظ: يأهل الجمع - غضوا أبصاركم ونكسوا رءوسكم حتى تجوز فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم إلى الجنة. وفي لفظ: حتى تمر على الصراط، فتمر وعليها ريطتان خضراوتان.
ذكر أولادها رضي الله تعالى عنها وعنهم: قال الليث بن سعد رحمه الله تعالى: تزوج علي.
فاطمة رضي الله تعالى عنهما فولدت له حسناً وحسيناً ومحسناً - بميم مضمومة فحاء مهملة فسين مشددة مكسورة - وزينب وأم كلثوم ورقية وقال: ماتت صغيرة دون البلوغ.
وسيأتي ذكر الحسن في خلافته، وذكر الحسين في خلافة يزيد بن معاوية إن شاء الله تعالى. وأما محسن فمات صغيراً. وكلهم ولدوا قبل وفاته عليه الصلاة والسلام.(1/223)
وتزوجت زينب بنت فاطمة ابن عمها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وماتت عنده، وقد ولدت له علياً وعوناً وجعفراً وعباساً وأم كلثوم. قال الشامي في سيرته: أولاد زينب المذكورة من عبد الله بن جعفر موجودون بكثرة، العقب منه في علي وأخته أم كلثوم، ابني عبد الله بن جعفر، ويقال لمن ينسب لهؤلاء: جعفري.
ولا ريب أن لهؤلاء شرفاً، وتكلم عليهم من عشرة أوجه: الأول: أنهم من آل النبي وأهل بيته بالإجماع، لأن آله هم المؤمنون من بني هاشم والمطلب. الثاني: أنهم من ولده وذريته بالإجماع. الثالث: أنهم يشاركون الحسن والحسين وينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفرق بين من يسمى ولد النبي وبين من ينسب إليه.
الرابع: هل يطلق عليهم أشراف؟ والجواب الشرف على اصطلاح أهل مصر يطلق على أنواع: عام لجميع أهل البيت وخاص بالذرية، فيدخل في الأول الزينبيون، والثاني وهو أخص منه شرف النسبة، وهو مختص بالحسن والحسين.
الخامس: تحرم عليهم الصدقة بالإجماع لأن بني جعفر من الآل. السادس: يستحقون سهم ذوي القربى بالإجماع.
السابع: يستحقون من وقف بركة الحبش بالإجماع لأن نصفها وقف على الأشراف، وهم أولاد الحسن والحسين، ونصفها على الطالبيين، وهم ذرية علي بن أبي طالب: محمد ابن الحنفية وإخوته جعفر بن أبي طالب وذرية عقيل بن أبي طالب، وثبت هذا الوقف على هذا الوجه عند قاضي القضاة بدر الدين بن يوسف السنجاري ثاني عشر ربيع الآخر سنة أربعين وستمائة، ثم اتصل ثبوته عند شيخ الإسلام العز بن عبد السلام في تاسع عشر ربيع الآخر من السنة المذكورة، ثم اتصل ثبوته عند قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ذكر ذلك ابن المتوج في كتابه إيقاظ المتأمل.
الثامن: هل يلبسون العلامة الخضراء؟ الجواب: لا يمنع منها من أرادها من شريف أو غيره، يعني من المذكورين، ولا يؤمر بها من تركها من شريف أو غيره؛ لأنها إنما حدثت سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بأمر الملك الأشرف شعبان بن حسن ابن محمد بن قلاوون ملك مصر، أقصى ما يكون أنه أحدث التميز بها لهؤلاء من ذرية الحسن والحسين عن غيرهم، وقد يستأنس لأختصاصها بهم بقوله تعالى: " يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل أَزَوجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ " الأحزاب: فقد استدل بها بعض العلماء على تخصيص أهل العلم بلباس يختصون به من تطويل وإدارة طيلسان ونحو ذلك ليعرفوا فيجلوا تكريماً للعلم ويسألوا ويمتثل قولهم؛ إذ عظم الهيئة له دخل أي دخل، وهذا وجه حسن والله أعلم.
التاسع: هل يدخلون في الوصية على الأشراف أم لا؟.
العاشر: هل يدخلون في الوقف على الأشراف أم لا؟ الجواب: إن وجد من الموصي والواقف نص يقتضي دخولهم أو خروجهم اتبع، وإلا فقاعدة الفقه أن الوصية والوقف ينزلان على عرف البلد، وعرف مصر - من عهد الخلفاء الفاطميين إلى الآن - أن الأشراف لقب لكل حسني وحسيني فلا يدخلون على مقتضى هذا العرف، وإنما دخلوا في وقف بركة الحبش لأن واقفها نص على أن نصفها على الأشراف ونصفها على الطالبيين.
ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم عقب إلا من ابنته فاطمة رضي الله عنها، فانتشر نسله الشريف منها من جهة السبطين الحسن والحسين فقط، ويقال للمنسوب لأولهما حسني ولثانيهما حسيني، وقد يضم للحسيني من يكون من ذرية إسحاق بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب الإسحاقي، فيقال: الحسيني الإسحاقي، وإن إسحاق هذا هو زوج السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي، ويقال: بنت زيد بن الحسن، فالحسن أخوها لا أبوها والأكثرون على الأول، ولد له منها القاسم وأم كلثوم ولم يعقب.
وأما الجعافرة المنسوبون إلى عبد الله بن جعفر، فلهم - أيضاً - شرف لكنه يتفاوت، فمن كان منهم من زينب بنت فاطمة الزهراء رضي الله عنها فهو الشرف، ومن كان من ولده من غيرها، مع كون من كان من زينب لا يوازون شرف المنسوبين للحسن والحسين لمزيد شرفهما. وكذا يوصف العباسيون بالشرف لشرف بني هاشم. قال الحافظ ابن حجر في الألقاب: وقد لقب به - يعني الشرف - كل عباسي ببغداد وعلوي بمصر. وفي شيوخ ابن الرفعة شخص يقال له: الشريف العباسي.(1/224)
وأما أم كلثوم فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكانت صغيرة دون البلوغ حال خطبتها، روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى علي - رضي الله عنه وكرم وجهه - في عدة من المهاجرين والأنصار يخطب ابنته أم كلثوم فقال: أما والله ما بي من توق إلى شهوة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل نسب وسبب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري؛ فأحببت أن آخذ بمصاهرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له علي رضي الله عنه: إنها صغيرة. فقال: قد قبلت. فزوجه بها. فأرسلها علي رضي الله عنه ذات يوم إلى عمر رضي الله عنه بقطيفة فقالت له: يقول لك أبي انظر إلى هذه القطيفة. فلما أقبلت إلى عمر وأخبرته بما قال لها أبوها وأرته القطيفة، قال عمر: قولي لأبيك قد رأينا وقبلنا. ثم إنه لمس ساقها فنهرته، وأتت إلى أبيها غضبى وقالت: أرسلتني إلى شيخ مجنون لمس ساقي، والله لولا أنه أمير المؤمنين لهشمت أنفه. فقال لها: إنه زوجك، فقد زوجتك إياه. وأرسل لها عمر أربعين ألفاً مهراً وبنى بها رضي الله عنه، وقتل عنها بعد أن ولدت له زيداً الأكبر ورقية. فأما زيد الأكبر فعاش إلى أن ارتحل، فرمى في حنين بحجر مات به، أصابه به خالد بن أسلم مولى أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطأ، ولم يترك عقباً. كذا في الجمع الغريب.
وأما رقية فتزوجها إبراهيم بن نعيم النحام وماتت عنده وليس لها عقب. قال في وسيلة المآل قال ابن إسحاق: حدثني والدي إسحاق، حدثني بشار، عن الحسن المثنى ابن الحسن السبط قال: لما تأيمت أم كلثوم من عمر بن الخطاب دخل عليها أخواها الحسن والحسين فقالا لها: أنت كما عرفت بنت سيدة نساء العالمين، وإنك والله إن أمكنت علياً لينكحنك بعض أبنائه، وإن أردت أن تصيبي بنفسك مالاً عظيماً لتصيبنه. فوالله ما قاما حتى دخل علي رضي الله عنه علي فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر منزلتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: صدقت رحمك الله وجزاك عنا خيراً. ثم قال: أي بنية، إن الله قد جعل أمرك بيدك، فأنا أحب أن تجعليه بيدي. فقالت: أي أبت، إني والله امرأة أرغب فيما ترغب فيه النساء، وأحب أن أصيب ما تصيب النساء من الدنيا، وإني أريد أن أنظر في أمر نفسي. فقال: لا والله يا بنتي ما هذا من رأيك، ما هو إلا رأي هذين. ثم قام فقال: والله لا أكلم أحداً منهما أو تفعلين. فأخذا بثيابه وقالا: اجلس يا أبت، فوالله ما على هجرتك من صبر، اجعلي أمرك بيده. فقالت: قد جعلت. فقال: قد زوجتك من عون بن جعفر - يعني ابن أخيه - وإنه لغلام. ثم رجع علي رضي الله عنه إلى بيته وبعث إليها بأربعة آلاف درهم، وبعث إلى ابن أخيه عون فأدخلها عليه. قال راويه الحسن بن الحسن: فوالله ما سمعت بمثل عشق منها له منذ خلقني الله عز وجل، فهلك عنها، فزوجها والدها علي رضي الله عنه من أخي عون بن جعفر، محمد بن جعفر، فولدت له جارية ماتت صغيرة ثم هلك عنها، ثم زوجها من أخيهما عبد الله بن جعفر، فماتت عنده ولم تلد له شيئاً فلا عقب لها.
وكان موتها هي وولدها من عمر المسمى زيداً الأكبر، المقتول خطأ بيد خالد بن أسلم مولى زوجها عمر - رضي الله عنه - في وقت واحد، وصلى عليهما ابن عمر، قدمه الحسن بن علي، وكان فيهما سنتان: إحداهما عدم توريث أحدهما من الآخر، والأخرى تقديم زيد على أمه مما يلي الإمام، حكاه أبو عمر. قلت: لا يشكل على قوله صلى عليهما ما تقدم من أن زيداً رمى في حنين خطأ؛ لجواز تأخر موته به إلى وقت موت أمه. والله أعلم.(1/225)
رأيت في تاريخ ابن السبكي في حوادث سنة ست وخمسين وثلاثمائة قال: استهلت والخليفة المطيع لله العباسي والسلطان معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي، وعملت الروافض في يوم عاشوراء بدعتهم الشنعاء وداهيتهم الصلعاء، من تغليق الدكاكين، وتعليق المسوح السود، ونثر النتن في الأسواق والجيف، وخروج النساء حاسرات عن وجوههن وصدورهن ينحن على الحسين. ولما كان ثالث عشر ربيع الأول توفي معز الدولة بعلة الذرب، وصار لا يثبت في معدته شيء بالكلية، ولما أحس بالموت أظهر التوبة عن سب الشيخين، وأناب إلى الله عز وجل، ورد كثيراً من المظالم، وتصدق بكثير من أمواله وأعتق خلقاً كثيراً من مماليكه، وعهد إلى ابنه بختيار عز الدولة بن معز الدولة، وسببه أنه كان قد اجتمع بعض العلماء فكلمه في السنة والترضي، وأخبره أن علياً زوج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: والله ما سمعت بهذا قط ! ورجع إلى السنة والترضي ومتابعة الأمة بذلك.
ذكر وفاة فاطمة رضي الله عنها: روى بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: توفيت فاطمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة من الهجرة، ودفنها علي بن أبي طالب ليلاً. وروى الطبراني برجال الصحيح - إلا أن جعفراً لم يدرك القصة ففيه انقطاع - عن جعفر بن محمد بن علي - رضي الله عنهم - قال: مكثت فاطمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر، وما رؤيت ضاحكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنهم امتروا في طرف نابها. وروى الطبراني عن عبد الله بن محمد بن عقيل منقطعاً - لأن عبد الله لم يدرك القصة - أن فاطمة رضي الله تعالى عنها لما حضرتها الوفاة أمرت علياً فوضع لها، فاغتسلت وتطهرت، ودعت بثياب أكفانها ثياب غلاظ خشن، فلبستها ومست من حنوط، ثم أمرت علياً ألا تكشف إذا قبضت، وأن تدرج كما هي. وروى الإمام أحمد بسند فيه من لا يعرف عن أم سلمة قالت: اشتكت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شكواها التي قبضت فيها فكنت أمرضها، فأصبحت يوماً كأمثل ما رأيتها في شكواها، قالت: وخرج علي لبعض حاجة فقالت: يا أمه، اسكبي لي غسلاً فسكبت لها غسلاً فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغتسل. ثم قالت: يا أمه، أعطيني ثيابي الجدد فأعطيتها فلبست. ثم قالت: يا أمه، قدمي فرشي وسط البيت ففعلت، فاضطجعت واستقبلت القبلة وجعلت يدها تحت خدها ثم قالت: يا أمه، إني مقبوضة الآن وقد تطهرت فلا يكشفني أحد. فقبضت مكانها. فجاء علي فأخبرته بالذي قالت وبالذي أمرتني، فقال علي رضي الله تعالى عنه: والله لا يكشفها أحد، فاحتملها فدفنها بغسلها ذلك ولم يكشفها ولا غسلها أحد.
وروى أبو نعيم عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنها قالت لأسماء بنت عميس: يا أسماء، إني قد استقبحت هذا الذي يصنع بالنساء، يطرح على المرأة الثوب فيصفها. قالت أسماء: يا بنة رسول الله، ألا أريك شيئاً رأيته بالحبشة؟ فدعت بجريد رطب فحتته ثم ألقت عليه ثوباً فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله؛ تعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا مت فغسليني أنت وعلي، ولا يدخل علي أحد، ثم اصنعي بي هكذا. فلما توفيت صنع بها ما أمرت به بعد أن غسلتها أسماء وعلي.
وروى أنها لما توفيت - رضي الله عنها - جاءت عائشة - رضي الله عنها - تريد أن تدخل على غسلها فقالت لها أسماء: لا تدخلي. فرجعت إلى أبيها أبي بكر فشكت إليه وقالت: إن هذه الخثعمية - تعني أسماء بنت عميس - تحول بيني وبين بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمنع النساء أن يدخلن على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلت لها مثل هودج العروس، فقالت أسماء: أمرتني ألا يدخل عليها أحد، وأريتها هذا الذي صنعته وهي حية فأمرتني أن أصنع ذلك لها. فقال أبو بكر رضي الله عنه: اصنعي ما أمرتك به. ثم انصرف. قلت: حديث أسماء هذا مضاد لحديث أم سلمة وفيه من لا يعرف كما ذكره الأئمة النقاد. والله أعلم.(1/226)
وتوفيت وسنها ثمان وعشرون سنة، كذا في الصفوة. وفي ذخائر العقبى: تسع وعشرون سنة. وقال عبد الله بن حسن بن علي بن أبي طالب: ابنة ثلاثين سنة. وقال الكلبي: ابنة خمس وثلاثين سنة. ومنشأ هذا الاختلاف الاختلاف في مولدها: هل كان قبل النبوة أو بعدها؟ وقد علمت أن الأصح من مولدها أنه كان قبل النبوة بخمس سنين حال بناء قريش الكعبة وسنه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك خمس وثلاثون سنة، وماتت سنة إحدى عشرة من الهجرة في رمضان كما تقدم، فتكون سنها حين ذلك تسعاً وعشرين على ما ذكره صاحب ذخائر العقبى.
وعن مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء فحضرها أبو بكر وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف، فلما وضعت ليصلي عليها قال علي: تقدم يا أبا بكر، قال أبو بكر: وأنت شاهد يا أبا الحسن؟ قال: نعم تقدم، فوالله لا يصلي عليها غيرك. فصلى عليها أبو بكر، ودفنت ليلاً. أخرجه البصري، وابن السمان في الموافقة.
وهذا مغاير لما جاء في الصحيح أن علياً لم يبايع أبا بكر حتى ماتت فاطمة، وجريان هذا مع عدم المبايعة يبعد في الظاهر والغالب. وإن جاز أن يكونوا لما سمعوا بموتها حضروها، فاتفق ذلك ثم بايع بعده، كذا في الرياض النضرة. وأما موضع قبرها رضي الله عنها فذكره الحافظ أبو عمر بن عبد البر: أن الحسن لما توفي دفن إلى جانب أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبر الحسن معروف بجنب قبر العباس. ويذكر لفاطمة ثمة قبر، فتكون على هذا مع الحسن في قبة العباس، فينبغي أن يسلم عليها هنالك. وروى أن أبا العباس المرسي كان إذا زار البقيع وقف أمام قبة العباس، وسلم على فاطمة رضي الله عنها. ويذكر أنه كشف له عن قبرها ثمة. وعن عبد الرحمن بن جعفر بن محمد أنه كان يقول: قبر فاطمة بيتها الذي أدخله عمر بن عبد العزيز في المسجد.
مروياتها في كتب الأحاديث ثمانية عشر حديثاً، المتفق عليه منها واحد، والباقي في سائر الكتب. رضي الله تعالى عنها.
//الباب السادس من المقصد الثاني
في ذكر مواليه وخدامه وكتابه وأمرائه
ومؤذنيه وخطبائه وجداته وشعرائه وخيله وسلاحه وغنمه ولقاحه وما يتبع ذلك:
أما مواليه صلى الله عليه وسلم فمنهم: أسامة، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن زيد، وأبوه زيد بن حارثة، أعتقه عليه الصلاة والسلام وزوجه مولاته أم أيمن، واسمها بركة، فولدت له أسامة، وكان زيد قد أسر في الجاهلية فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة فاستوهبه عليه الصلاة والسلام منها. ذكر قصته محمد بن إسحاق في السيرة، وأن أباه وعمه أتيا مكة فوجداه، فطلبا أن يفدياه، فخيره النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يدفع لهما أو يبقى عنده، فاختار أن يبقى عنده عليه الصلاة والسلام. وفى رواية الترمذي قال: يا رسول الله، لا أختار عليك أحداً أبداً. واستشهد في غزوة مؤتة، رضي الله عنه. ومات ابنه أسامة هذا بالمدينة - أو بوادي القرى - سنة أربع وخمسين.
ومنهم: ثوبان، لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين.
وأبو كبشة أوس - ويقال: سليم - من مولدي مكة، شهد بدراً.
ومنهم: شقران - بضم الشين - واسمه صالح الحبشي، ويقال: فارسي، شهد بدراً، وهو مملوك ثم عتق، قاله الحافظ ابن حجر. قال: وأظنه مات في خلافة عثمان.
ومنهم: رباح - بفتح الراء وبالموحدة - الأسود، وكان يأذن عليه أحياناً إذا انفرد، وهو الذي أذن لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في المشربة.
ويسار الراعي، وهو الذي قتله العرنيون.
ومنهم: زيد، أبو يسار - وليس زيد بن حارثة والد أسامة - ذكره ابن الأثير.
ومنهم: مِدعَم - بكسر الميم وفتح العين - عبد أسود كان لرفاعة بن زيد الضبَيبي - بضم الضاد - المعجمة وبالباء المفتوحة على صيغة التصغير - فأهداه - رفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنهم: أبو رافع واسمه أسلم القبطي، وكان للعباس فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم. فلما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام عمه العباس أعتقه. توفي قبل عثمان بيسير.
ومنهم: ابن زيد الجذامي.(1/227)
ومنهم: سفينة بوزن كبيرة. واختلف في اسمه فقيل: طهمان، وقيل: كيسان، وقيل: مهران. سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة لأنهم كانوا حملوه شيئاً كثيراً في السفر.
ومنهم: مأبور القبطي، أخو مارية القبطية الذي أهدي إليه معها.
ومنهم: واقد أو أبو واقد.
ومنهم: سلمان الفارسي أبو عبد الله، ويقال له: سلمان الخير، أصله من أصفهان، وقيل: من رامهرمز، أول مشاهده الخندق، وهو المشير بعمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم مات سنة أربع وثلاثين، يقال: بلغ من العمر ثلاثمائة سنة.
ومنهم: سمعون بن زيد، قال ابن حجر: حليف الأنصار، ويقال: مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. شهد فتح دمشق، وقدم مصر، وسكن بيت المقدس.
ومنهم: أبو بكرة، نفيع بن الحارث سمى بذلك لأنه تدلى ببكرة من حصن الطائف إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله صلى الله عليه وسلم: " من نزل إلينا فهو حر " .
ومن النساء: أم أيمن الحبشية وسلمى أم رافع ومارية وريحانة وسيرين أخت مارية وغير ذلك.
قال ابن الجوزي: مواليه ثلاثة وأربعون، وإماؤه إحدى عشرة.
وأما خدامه صلى الله عليه وسلم فمنهم: أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد، الأنصاري، الخزرجي، يكنى أبا حمزة خدم النبي صلى الله عليه وسلم تسع أو عشر سنين، ودعا له صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة " . فقيل: بلغت أولاده المائة. قال أبو هريرة: ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم منه. توفي سنة ثلاث وتسعين - وقيل: اثنتين، وقيل: إحدى - وقد جاوز مائة سنة.
ومنهم: ربيعة بن كعب الأسلمي، صاحب وضوئه عليه الصلاة والسلام، توفي سنة ثلاث وستين.
ومنهم: أيمن بن أم أيمن، صاحب مطهرته صلى الله عليه وسلم استشهد يوم حنين.
ومنهم: عبد الله بن مسعود بن غافل - بالغين والفاء - ابن حبيب الهذلي، أحد السابقين الأولين شهد بدراً والمشاهد كلها، كان صاحب وسادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسواكه ونعليه وطهوره، كان يلي ذلك كله، وكان إذا قام النبي صلى الله عليه وسلم ألبسه نعليه، وإذا جلس جعلهما في ذراعه حتى يقوم. وكان قصيراً طوله ذراع، توفي بالمدينة، قيل: بالكوفة سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة ثلاث.
ومنهم: عقبة بن عامر بن قيس بن عمرو الجهني، وكان صاحب بغلته، يقودها به في الأسفار، روينا عنه أنه قال: بينما أنا أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم في نقب من تلك النقاب، إذ قال لي: يا عقبة اركب، فأجللت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أركب مركبه، ثم أشفقت أن يكون معصية. قال: فركبت هنية ثم نزلت، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم وقدت، قال لي: يا عقبة، ألا أعلمك من خير سورتين قرأهما الناس؟ فقلت: بلى، بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فقال " قُل أَعُوذُ بِرَبِّ اَلفَلَق " ِ الفلق: ا، و " قُل أَعُوذُ بِرَب اَلنَاس " الناس: 1 الحديث. رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وكان عقبة عالماً بكتاب الله والفرائض، فصيحاً شاعراً مفوهاً، ولاه معاوية مصر سنة أربع وأربعين، ثم صرفه عنها بمسلمة بن مخلد، وتوفى سنة ثمان وخمسين.
ومنهم: أسلع بن شريك صاحب راحلته صلى الله عليه وسلم، في الطبراني.
ومنهم سعد مولى أبي بكر، وقيل سعيد، ولم يثبت وروى عنه ابن ماجة. ومنهم: أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، أسلم قديماً، وتوفى بالربذة، وستأتي قصته مع عثمان رضي الله عنه في خلافته، توفي سنة إحدى وثلاثين وصلى عليه ابن مسعود، ثم مات ابن مسعود بعده في ذلك اليوم، قال ابن الأثير وابن حجر: سنة اثنتين وثلاثين.
ومنهم: مهاجر مولى أم سلمة.
ومنهم: حنين والد عبد الله مولى ابن عباس، وكان يخدمه - عليه الصلاة والسلام - ثم وهبه لعمه العباس.
ومنهم: نعيم بن ربيعة الأسلمي.
ومنهم: أبو الحمراء، مولاه صلى الله عليه وسلم وخادمه، واسمه هلال بن الحارث وابن ظفر. توفي بحمص، رضي الله عنه.
ومنهم: أبو السمح، خادمه عليه الصلاة والسلام، واسمه إياد.
ومن النساء: بركة، أم أيمن الحبشية، وهي والدة أسامة بن زيد كما تقدم. ومنهن: خولة، جدة حفص.
ومنهن: سلمى، أم رافع، زوج أبي رافع.
ومنهن: ميمونة بنت سعد.
ومنهن: أم عياش، مولاة رقية بنته صلى الله عليه وسلم.
وأما كتابه: فالخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم.(1/228)
وأول من كتب له بمكة عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري أحد بني عامر بن لؤي، أسلم وكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين بمكة، فلما فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دمه فيما أهدر من الدماء، فجاء إلى عثمان فغيبه ثم أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن أهل مكة، واستأمن له رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فصمت عليه الصلاة والسلام طويلاً ثم قال: نعم. فلما انصرف عثمان قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ماصمت إلا لتقتلوه " . فقال رجل: هلاّ أومأت إلينا يا رسول الله ؟ فقال: " ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين، ثم أسلم ذلك اليوم وحسن إسلامه، ولم يظهر منه بعد ذلك ما ينكر.
وهو أحد الفضلاء الكرماء من قريش، عرف فضله وجهاده. وكان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح مصر، ولاه عثمان رضي الله عنه مصر سنة خمس وعشرين ففتح الله على يده إفريقية، وكان فتحاً عظيماً بلغ سهم الفارس فيه ثلاثة آلاف مثقال، وكان معه عبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير. وغزا بعد إفريقية السوادَ من أرض النوبة سنة إحدى وثلاثين، وغزوة السواري في بدر الروم، واعتزل الفتنة حين قتل عثمان، فأقام بعسقلان وقيل: بالرملة، ودعا الله عز وجل أن يقبضه ويعجل وفاته وختم عمره بالصلاة، فسلم من صلاة الصبح التسليمة الأولى، ثم هما بالتسليمة الثانية فتوفى سنة ست وثلاثين وهو الصحيح، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة تسع وخمسين. قال خليفة بن خياط: ووهم من عدَ والده أبا سرح في كتابه. ومنهم: طلحة بن عبيد الله، أحد العشرة، استشهد يوم الجمل سنة ست وثلاثين وهو ابن ثلاث وستين سنة.
ومنهم: الزبير بن العوام بن خويلد، أحد العشرة - أيضا - قتل كذلك سنة ست وثلاثين يوم الجمل.
ومنهم: أبي بن كعب - بضم الهمزة وفتح الباء - هو أبي بن كعب بن المنذر ابن قيس، الخزرجي، الأنصاري، أبو المنذر، أو أبو الطفيل، سيد القراء. شهد العقبة الثانية وبدراً وما بعدها، وهو أحد فقهاء الصحابة وأقرؤهم لكتاب الله عز وجل، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أمرني أن أقرأ عليك " لَم يكَن:ُ البينة: ا، لأن فيها " رَسُول مِنَ الله يَتلُوا صحفاً مُطَهَرة فِيهَا كُتب قَيمَة " البينة: 2، 3، روى ابن أبي شيبة وخيثمة ذلك. وهو أول من كتب الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا المنذر، وكناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا الطفيل بولده الطفيل بن أبي. مات أبي سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين، وقيل: اثنتين وعشرين، وقيل سنة ثلاثين في خلافة عثمان رضي الله عنه.
ومنهم الأرقم بن أبي الأرقم، عبد مناف بن أسد بن جندب المخزومي، كان من السابقين إلى الإسلام، هاجر وشهد بدراً وما بعدها، ثم توفي وله خمس وثلاثون سنة.
ومنهم: ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه، وهو ثابت بن قيس بن شماس بن مالك، الأنصاري، الخزرجي، أبو عبد الله، وقيل: أبو محمد، خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد له بالجنة. شهد أحداً وما بعدها من المشاهد، قتل يوم اليمامة شهيداً في أيام أبي بكر سنة إحدى عشرة، وكان خرج مع خالد بن الوليد إلى قتال مسيلمة بها، فلما التقوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم حفر كل واحد منهما لنفسه حفرة وثبتا وقاتلا حتى قتلا، وعلى ثابت درع له نفيسة فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينا رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال له: إني أوصيك، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعها، إني لما قتلت أمسِ مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي، ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يستنُّ في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة. فائت خالداً فمره أن يأخذها، فإذا قدمت على أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن علىَّ من الدَّين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق. فأتى الرجل خالداً فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها. وحدث أبا بكر فأجاز وصيته، ولا يُعلم أحد أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت هذا.(1/229)
ومنهم: خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن سعيد، القرشي، الأموي، أسلم قديماً، وقيل: إنه أول من كتب " بسم الله الرحمن الرحيم " قيل: إنه أسلم بعد أبي بكر فكان ثلث الإسلام، وقيل غير ذلك. هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وأقام بها بضع عشر سنين، وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه الذي نقش عليه " محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، الذي وقع في بئر أريس.
ومنهم: زيد بن ثابت - رضي الله عنه - وهو زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري النجاري، كان هو ومعاوية ألزمهم لذلك. وروى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب يهود ليقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتبوا إليه، فتعلمه في خمسة عشر يوماً وروى ابن أبي هاشم عنه قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لواضع القلم على أذني فأمر بالقتال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه، إذ جاء أعمى فقال: كيف بك يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت " ليسَ على الأعمَى حَرَج النور: 61. قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهو ابن إحدى عشرة سنة، شهد أحداً وما بعدها، وقيل أول مشاهده الخندق، وهو أحد فقهاء الصحابة والذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أفكه الناس إذا خلا في منزلة وأزمهم إذا جلس مع القوم. مات سنة ست وخمسين. وروى الإمام أحمد وأبو داود عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: لما قدم عليه الصلاة والسلام المدينة ذهبت إليه فأعجب بي، فقيل: يا رسول الله هذا غلام من بني النجار، ومعه مما أنزل عليك بضع عشرة سورة. فاْعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا زيد، تعلم كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتابي. فما مر بي نصف شهر حتى نقلته وحذقته، فكنت أكتب إليهم وأقرأ له كتبهم كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي ويكتب له أيضاً المراسلات. وكان يكتب لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما، وقد قال فيه صلى الله عليه وسلم " أفرضكم زيد " . وكان عمر رضي الله عنه يستخلفه إذا حج، وكان معه حين قدم الشام، وهو الذي تولى قسم غنائم اليرموك. وكان عثمان أيضاً يستخلفه إذا حج، وكان على بيت المال لعثمان. توفي بالمدينة سنة أربع وقيل سنة ست وقيل إحدى وقيل ثلاث وقيل خمس وخمسين وقيل سنة أربعين وقيل إحدى وقيل ثلاث وأربعين. رضي الله تعالى عنه.
ومنهم السجل رضي الله عنه. روى أبو داود والنسائي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول في هذه الآية " يَومَ نَطوِي السماء كطي السِجِل " ِ الأنبياء: 104، قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم. وروى ابن مردويه وابن منده من طريق حمدان بن سعيد عن ابن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم كاتب يقال له السجل، فأنزل الله تعالى " يَومَ نَطوي السماء كطي اَلسِجِلِ للكتب " الأنبياء: 104، والسجل هو الرجل بالحبشية ورواه أبو نعيم لكن قال: حمدان بن علي، ووهم ابن منده في قوله ابن سعيد. قال ابن منده: تفرد به حمدان. قال الحافظ: فإن كان هو ابن علي فهو ثقة وهو معروف، واسمه محمد بن على مهران من أصحاب أحمد، ولكن رواه الخطيب في ترجمة حمدان بن سعيد فترجحت رواية ابن منده. ونقل الخطيب عن البرقاني أن الأزدي قال: تفرد به ابن نمير من كبار الثقات. فهذا الحديث صحيح بهذه الطرق، وغفل من زعم أنه موضوع. نعم إنه ورد ما يخالفه، فروى الربعي والعوفي عن ابن عباس قال في هذه الآية: كطي الصحيفة على الكتاب. وكذلك قال مجاهد وغيره. قال الحافظ ابن كثير: وعرضت هذا الحديث - أي حديث ابن عباس السابق - على الحافظ المزي فأنكره جداً، وأخبرته أن ابن تيمية كان يقول:إنه حديث موضوع وإن كان في سنن أبي داود، قال المزي: وأنا أقوله. انتهى. قال الحافظ: وهذه مكابرة.(1/230)
ومنهم معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية القرشي الأموي العبشمي ولى لعمر رضي الله عنه الشام، وأقره عثمان. قال ابن إسحاق: وكان أميراً عشرين سنة وخليفة عشرين سنة. وروى في مسند الإمام أحمد من طريق العرباض بن سارية قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم الله صلى الله عليه وسلم يقول " اللهم علم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب " وهو مشهور بكتابة الوحي. وروى الإمام أحمد ووصله أبو يعلى فقال عن معاوية، والطبراني، ورجال الأولين رجال الصحيح عن سعيد بن عمر بن سعد ابن أبي وقاص أن أبا هريرة اشتكى، وأن معاوية آخذ الإداوة، فبينما هو يوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع رأسه إليه مرة أو مرتين وهو يتوضأ فقال: " يا معاوية إن وليت أمراً فاتق واعدل " ولفظ الصغير للطبراني برجال وثقوا وفيهم خلاف وفى سنده انقطاع عن مسلمة بن مخلد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية " اللهم علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب، ومكن له في البلاد " مات في رجب سنة ستين وقد قارب الثمانين.
ومنهم شرحبيل - بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الحاء المهملة، بعدها باء مكسورة فتحتية ساكنة - ابن حَسنة وهي أمه.
ومنهم خالد بن الوليد سيف الله، أسلم بين الحديبية والفتح، مات سنة إحدى أو اثنتين وعشرين.
ومنهم عمرو بن العاص أسلم عام الحديبية، ولي إمرة مصر مرتين وهو الفاتح لها، ومات بها سنة نيف وأربعين وقيل بعد الخمسين.
ومنهم المغيرة بن شعبة الثقفي، أسلم قبل الحديبية، ولي إمرة البصرة ثم الكوفة. مات سنة خمسين على الصحيح.
وأما أمراؤه عليه الصلاة والسلام فمنهم: باذان بن سامان من ولد بهرام، أمره صلى الله عليه وسلم على اليمن، وهو أول أمير في الإسلام، وأول من أسلم من ملوك العجم. وأمر صلى الله عليه وسلم على صنعاء خالد بن سعيد بن العاص، وولى زياد بن لبيد الأنصاري حضرموت، وولى أبا موسى الأشعري زبيد وعدن، وولى معاذ بن جبل الجند، وولى أبا سفيان بن حرب نجران، وولى ابنه يزيد تيماء، وولى عَتاب بن أسيد - بفتح العين المهملة وتشديد المثناة فوق وفتح الهمزة وكسر السين المهملة - مكة وإقامة الموسم والحج بالمسلمين سنة ثمان من الهجرة وهو عام فتحها، وولى علي بن أبي طالب القضاء باليمن، وولى عمرو بن العاص عُمان.
وأما مؤذنوه عليه الصلاة والسلام فأربعة: اثنان بالمدينة: بلال وسعد بن عائذ أو ابن عبد الرحمن المعروف بسعد القرظ أو القرظي، واثنان بمكة عمرو بن أم مكتوم وأبو محذورة.
أما بلال فهو ابن رباح وأمه حمامة، مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وهو أول من أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤذن بعده لأحد من الخلفاء، إلا أن عمر رضي الله عنه لما قدم الشام حين فتحها أذن بلال فتذكر الناس النبي صلى الله عليه وسلم قال أسلم مولى عمر رضي الله عنه: فلم أر أكثر باكياً من يومئ. وتوفى بلال سنة سبع عشرة أو عشرين بداريا ودفن بباب كيسان وله بضع وستون سنة، وقيل دفن بحلب، وقيل بدمشق.
وأما سعد بن عائذ أو ابن عبد الرحمن القرظي مولى عمار فأذن له عليه الصلاة والسلام بقباء. وبقي إلى ولاية الحجاج على الحجاز وذلك سنة أربع وسبعين من الهجرة.
وأما عمرو بن أم مكتوم القرشي الأعمى فأسلم وأذن له عليه الصلاة والسلام وهاجر إلى المدينة.
وأما أبو محذورة بالحاء المهملة والذال المعجمة واسمه أوس الجمحي المكي أبو معير - بكسر الميم وسكون العين وتحريك التحتية - مات بمكة سنة تسع وخمسين وقيل تأخر إلى بعد ذلك قال في الروض الأنف: وأبو محذورة الجمحي واسمه سلمة بن معير وقيل سمرة - : فإنه لما سمع الأذان وهو مع فتية من قريش خارج مكة أقبلوا يستهزئون ويحكون صوت المؤذن غيظاً، فكان أبو محذورة هذا من أحسنهم صوتاً فرفع صوته مستهزئاً بالأذان، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به فمثل بين يديه وهو يظن أنه مقتول، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته وصدره بيده الشريفة، قال: فامتلأ قلبي والله إيماناً ويقيناً، وعلمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان وعلمه إياه، فأمره أن يؤذن لأهل مكة وهو ابن ست عشرة سنة، فكان مؤذنهم حتى مات، ثم عقبه بعده يتوارثون الأذان.(1/231)
وكان هؤلاء المؤذنون المذكورون منهم من يرجع الأذان ويثني الإقامة، وبلال لا يرجع ويفرد الإقامة، فأخذ الشافعي بإقامة بلال، وأهل مكة أخذوا بأذان أبي محذورة وإقامة بلال، وأخذ أبو حنيفة وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة، وأخذ أحمد بأذان بلال وإقامته، وخالفهم مالك في الموضعين إعادة التكبير وتثنية لفظ الإقامة.
وكان خطيبه عليه الصلاة والسلام ثابت بن قيس بن شماس - بمعجمة وميم مشددة وآخره سين مهملة، وهو خزرجي، شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكان خطيبه وخطيب الأنصار، واستشهد يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة، وقد تقدم ذكره.
وأما شعراؤه صلى الله عليه وسلم فمدحه بالشعر جماعة من رجال الصحابة ونسائهم، جمعهم لحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس في قصيدة ثم شرحها في مجلدة سماها فتح المدح ورتبهم على حروف المعجم قارب بهم المائتين.
وأما شعراؤه الذين كانوا بسبب المناضلة عنه والهجاء لكفار قريش - فإنهم ثلاثة: حسان بن ثابت بن المنذر بن عمرو بن حرام الأنصاري، وكان يقبل بالهجو على أنسابهم، دعا له عليه الصلاة والسلام فقال " اللهم أيده بروح القدس " فيقال إنه أعانه جبريل عليه السلام بسبعين بيتاً. وفى الحديث " إن جبريل مع حسان ما نافح " أي دافع، والمراد هجاء المشركين ومجاوبتهم على أشعارهم. ولما جاءه عليه الصلاة والسلام بنو تميم وشاعرهم الأقرع بن حابس - فنادوه: يا محمد اخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك، فإن مدحنا زين وذمنا شين - فلم يزد عليه الصلاة والسلام على أن قال: ذلك الله إذا مدح زان واذا ذم شان، إني لم أبعث بالشعر ولم أؤمر بالهجر، ولكن هاتوا. فأمر عليه الصلاة والسلام ثابت بن قيس خطيبه أن يجيب على خطبتهم، فخطب ثابت فغلبه، فقام شاعرهم الأقرع بن حابس فقال: من الطويل.
أَتَينَاكَ كَيْمَا يَعْرِفَ الناسُ فَضلَنَاإِذَا خَالَفُونَا عِندَ ذِكْرِ المَكَارِمِ
وَأَنا رُؤُوسُ الناسِ في كُل مَعشَرِ ... وَأن لَيسَ في أَرضِ الْحِجَازِ كَدَارِمِ
فأمر - عليه الصلاة والسلام - حساناً أن يجيبه فقال: من الطويل.
بَنِي دَارِمِ لاَ تَفخَرُوا إِن فَخرَكُمْ ... يَعُودُ وَبَالاً عِندَ ذِكرِ المَكَارِم
هَبَلتُمْ عَلَينَا تَفْخَرُونَ وَأَنتُمُ ... لَنَا خَوَل مَا بَين ظِئرٍ وَخَادِمِ
وكان أول من أسلم شاعرهم، عاش حسان مائة وعشرين سنة: ستين منها في الجاهلية وستين في الإسلام. وكذا عاش أبوه ثابت وجده المنذر وجد أبيه حرام، كل واحد منهم مائة وعشرين سنة. وتوفي حسان سنة أربع وخمسين من الهجرة. قلت: وهؤلاء الوفد الذين أنزل في شأنهم " إنَ اَلًذِين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ اَالحجُراتِ أَكْثَرُهُم لا يعَقِلُونَ ولو أَنهُم صَبَروا... " الحجرات: 54، الآية والله أعلم.
وعبد الله بن رَواحة، وكان يعير قريشاً بالكفر.
وكعب بن مالك، وكان يخوفهم بالحرب. وكانوا لا يبالون قبل الإسلام بأهاجي ابن رواحة ويألمون من أهاجي حسان. فلما دخل من دخل منهم الإسلام وجد أهاجي ابن رواحة أشد وأشق. قال في زاد المعاد: وكان أشدهم على الكفار حسان ابن ثابت وكعب بن مالك يعيرهم بالشرك والكفر.(1/232)
وأما حُداته فأربعة: أنجشة - بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الجيم وبالشين المعجمة - كان عبداً أسود حسن الحداء يحدو بالنساء، فحدا بأمهات المؤمنين في حجة الوداع فأسرعت الإبل، فقال عليه الصلاة والسلام: " رويدك يا أنجشة، رفقاً بالقوارير " رواه الشيخان. وفى صحيح مسلم: وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاد حسن الصوت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رويدك يا أنجشة لا تكسر القوارير " يعني ضعفة النساء. وفي المواهب: كان يحدو وينشد القريض والرجز، فقال عليه الصلاة والسلام له ذلك القول، يشبههن بالقوارير من الزجاج؛ لأنه يسرع إليهن الكسر، فلم يأمن عليهن أن يصيبهن أو يقع في قلوبهن حداؤه فأمره بالكف، وفى المثل: الغناء رقية الزنا. وقيل أراد أن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي واشتدت فأزعجت الراكب وأتعبته، فنهاه عن ذلك بقوله: " رفقاً بالقوارير " لأن النساء يضعفن عن شدة الحركة. هذه عبارته. قلت: لا ريب أن هذا هو المراد من الحديث، والعلة في النهي لا سواه. يؤيده ما رواه ابن سعد عن مجاهد عن طاوس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فبينا هو يسير بالليل ومعه رجل يسايره إذ سمع حادياً يحدو وقوم أمامه، فقال لصاحبه: " لو أتينا حادى القوم " . فقربنا حتى غشينا القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ممن القوم؟ " فقالوا: من مضر. فقال عليه الصلاة والسلام: " وأنا من مضر. دنا حادينا يسمع حاديكم فسمعنا حاديكم فأتيناكم " . زاد طاوس: " نسمع حداءه " . فقالوا: يا رسول الله، أما إن أول من حدا منا رجل في سفر، ضرب غلاماً له على يده بعصا فانكسرت يده فجعل الغلام يقول وهو يشير: يا يداه يا يداه. فسارت الإبل على صوته وقطحت أودية بسرعة ويؤيده أيضاً قول الشاعر: من مجزوء الكامل:
إِن كُنْتَ تنكِرُ أَن في ال ... أَلحَانِ تَأثِيراً ونَفْعَا
فَانْظُرْ إِلَى الإبِلِ الَتِي ... لاَ شَك أَغْلَظُ مِنْكَ طَبْعَا
تُصْغِي إِلَى صَوْتِ الحُدَا ... ه فَتَقْطَعُ الفَلَوَاتِ قَطْعَا
والعجب من صاحب المواهب كيف جعل المعنى الأول هو المراد من الحديث فجعل علة النهي خوف أن يصيبهن أو يقع في قلوبهن حداؤه. وأردفه بإيراد المثل الدْى أورده فليته لم يورده، وهو معنى غير لائق التعليل به في آحاد حرائر نساء المسلمين، فكيف يعلل به في المحدو بهن في الواقع وهن أمهات المؤمنين. على أن تشبيه النساء بالقوارير من الزجاج في الضعف وسرعة الكسر إليها إنما يلائم المعنى الثاني الذي حكاه بصيغة التمريض، فما مرضه هو الصحيح، وما صححه فقدمه هو المريض، إذ لا تمكن صحته إلا بضرب من المجاز، مع أنك أيها المنصف لو نظرت إليه في جادة الشرع وجدته قريباً من عدم الجواز. والله أعلم.
وعامر بن الأكوع - بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح الواو وبالعين المهملة - هو عم سلمة بن الأكوع. وفي البخاري من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسرنا ليلاً. فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر، ألا تسمعنا من هنياتك؟ وكان عامر رجلاً شاعراً، فنزل يحدو بالقوم: من الرجز
تَاللهِ لَؤلاَ الله مَا اهْتَدَينَا ... وَلاَ تَصَدقْنَا وَلاَ صَفينَا
فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا أَتَيْنَا ... وَثَبتِ الأَقْدَام إِن لاَ قَيْنَا
وَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَينَا ... إِنا إِذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا
وَبِالصيَاحِ عَوًلُوا عَلَيْنَا
وفى رواية في هذا الرجز زيادة:
إِن الَذِينَ قَدْ بَغَوا عَلَينَا ... إِذَا أَرَادُوا فِتنَةً أَبَيْنَا
ونَحْنُ عَنْ فَضلِكَ مَا اسْتَغنَينَا(1/233)
فقال عليه الصلاة والسلام: من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الأكوع. قال: يرحمه الله. فقال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله، لو أمتعتنا به. وفى رواية أحمد: فجعل عامر يرتجز ويسوق الركاب. وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل من السير ينزل بعضهم فيسوقها ويحدو في تلك الحال. وقوله عليه الصلاة والسلام: من هذا السائق؟ فقالوا: عامر بن الأكوع، فقال: يرحمه الله، فقال رجل من القوم: وجبت. أي ثبتت له الشهادة، وستقع قريباً. وكان معلوماً عندهم أن من دعا له بهذا الدعاء في مثل هذا الموطن استشهد، فلذلك قالوا: هلا أمتعتنا به؟ أي وددنا أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر؛ لنتمتع بمصاحبته ورؤيته مدة. واستشهد رضي الله عنه يوم خيبر.
وعبد الله بن رَواحة كان يحدو بين يديه عليه الصلاة والسلام في السفر، روى الترمذي في الشمائل من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة آخذ بزمام راحلته يرتجز فيقول: من الرجز
خَلوا بَني الكُفَارِ عَن سَبِيلِهِ ... قَذ أَنْزَلَ الرحمَنُ في تَنزِيلِهِ
بِأَن خَيرَ القَتْلِ في سَبِيلِهِ ... أليَومَ نَضرِبكُم عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْباً يُزِيلُ الْهَامَ عن مَقِيلِهِ ... وَيُذهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
يَارَب إني مُؤْمِن بِقِيلِهِ ... إني رَأَيتُ الحَق في قَبُولِهِ
والبراء بن مالك: قال أنس: كان البراء بن مالك يحدو بالرجال، وأنجشة يحدو بالنساء.
ومن حراسه أبو قتادة الأنصاري حارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى اسمه أقوال: أشهرها الحارث بن ربعي. شهد أحداً والمشاهد كلها. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وسبعين حديثاً. قيل إنه شهد بدراً ولم يصح.
ومنهم أبو ريحانة رجل من الأنصار، روى الإمام أحمد برجال ثقات، والطبراني عنه رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فأتينا ذات ليلة على شرف فبتنا عليه، فأصابنا عليه برد شديد، حتى رأيت من يحفر في الأرض حفرة فيدخل فيها ويلقي عليه جحفته يعنى الترس. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بالناس قال: " من يحرسنى الليلة وأدعو الله دعاء يكون فيه فضلاً؟ " فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله. ففتح عليه الصلاة والسلام بالدعاء فأكثر منه. قال أبو ريحانة: فلما سمعت ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: أنا رجل آخر. فقال: " ادنه فدنوت " . فقال: " من أنت؟ " فقلت: أنا أبو ريحانة. فدعا لي بدعاء دون دعائه للأنصاري.
ومنهم سعد بن معاذ يوم بدر حين نام في العريش، ذكره ابن عبد قيس.
ومنهم المغيرة بن شعبة حين وقف على رأسه بالسيف يوم الحديبية وعروة بن مسعود الثقفي يكلمه عليه الصلاة والسلام ويلمس لحيته، فضرب المغيرة يده بنعل السيف وقال: اكفف يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان إذ ذاك عروة لم يسلم. ومنهم محمد بن مسلمة، حرسه يوم أحد.
ومنهم الزبير بن العوام يوم الخندق.
ومنهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي بوادي القرى. ذكره ذكوان بن عبد قيس.
ومنهم أبو أيوب الأنصاري وقت دخوله بصفية بخيبر أو ببعض الطرق، فدعا له عليه الصلاة والسلام فقال له: " حرسك الله يا أبا أيوب كما بت تحرس نبيه " . قال السهيلي في الروض الأنف: فحرس الله أبا أيوب بهذه الدعوة، حتى أن الروم لتحرس قبره ويستسقون به، وذلك أنه غزا مع يزيد بن معاوية سنة خمسين من الهجرة، فلما بلغوا القسطنطينية توفي أبو أيوب هناك شهيداً. وكان قد أوصى إلى يزيد أن يدفنه في أقرب موضع من مدينة الروم، فركب المسلمون ومشوا به حتى إذا لم يجدوا مساغاً دفنوه، فسألتهم الروم عن شأنهم فأخبروهم أنه كبير من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الروم ليزيد بن معاوية: ما أحمقك وأحمق من أرسلك، أأمنت أن ننبشه بعدك فنحرق عظامه؟ فأقسم لهم يزيد لئن فعلوا ذلك ليهدمن كل كنيسة لهم بأرض العرب، وينبش قبورهم. فحينئذ حلفوا له بدينهم ليكرمن قبره وليحرسنه ما استطاعوا، فذلك أثر دعوته عليه الصلاة والسلام.(1/234)
ومنهم سعد بن أبي وقاص بوادي القرى، روى أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز اللغوي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: بات رسول الله ء صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: " ليت رجلاً صالحاً يحرسني " . قالت: إذ سمعت: السلام عليكم. فقال: " من هذا " . لم قال: أنا سعد بن أبي وقاص، أنا أحرسك يا رسول الله. قالت: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه.
ومنهم عباد بن بشر، وهو الذي كان على حرسه، فلما نزلت آية " والله يعصمك مِنَ الناس " المائدة: 67، خرج عليه الصلاة والسلام فأخبرهم وصرف الحرس.
وأما خيله عليه الصلاة والسلام: فالسكب - بفتح السين وسكون الكاف - يقال فرس سكب أي كثير الجري كأنما يصب جريه صبا، وأصله من سكب الماء يسكبه.
وهو أول فرس ملكه، اشتراه عليه الصلاة والسلام بعشر أواق، وكان أغر محجلاً طلق اليمنى كميتا. وقال ابن الأثير: كان أدهم.
والمرتجز: سمي به لحسن صهيله، مأخوذ من الرجز الذي هو ضرب من الشعر. وكان أبيض، وهو الذي شهد فيه خزيمة بن ثابت فجعل عليه الصلاة والسلام شهادته بشهادة رجلين وقال: من شهد له خزيمة كفى. أو كما قال صلى الله عليه وسلم. والظرب - بالظاء المعجمةآخره موحدة - : واحد الظراب للجبل الصغير، سمي به لكبره وسمنه، وقيل: لقوته وصلابة رجليه، أهداه له فروة بن عمرو الجذامي واللحيف - بالمهملة والفاء - : أهداه له ربيعة بن أبي البراء. سمي لسمنه وكبره، كأنه يلحف الأرض أي يغطيها بذيله لطوله، فعيل بمعنى فاعل، يقال لحفت الرجل باللحاف طرحته عليه. ويروى بالجيم وبالخاء المعجمة، رواه البخاري ولم يتحققه، والمعروف بالحاء المهملة قاله ابن الأثير في النهاية.
واللزاز سمى به لتلززه واجتماع خَلقه، لز به الشيء لزق به كأنه يلزق بالمطلوب لسرعته، وهذا أهداه له المقوقس.
والورد: قال ابن سعد: أهداه له تميم الداري رضي الله تعالى عنه، فأعطاه عمر فحمل عليه في سبيل الله، ثم وجده يباع برخص فاشتراه.
وسبحة - بالضم والموحدة: من قولهم فرس سابح إذا كان حسن مد اليدين في الجري - : قال ابن التين: هي فرس شقراء اشتراها من أعرابي من جهينة بعشر من الإبل.
فهذه سبعة متفق عليها. وذكر ابن بنين فيما حكاه الحافظ الدمياطي: البحر في خيله عليه الصلاة والسلام، قال: وكان اشتراه من تجر قدموا من اليمن فسبق عليه مرات، فجثا عليه الصلاة والسلام على ركبتيه ومسح وجهه وقال: ما أنت إلا بحر، فسمى بحراً. قال ابن الأثير: وكان لونه كميتاً.
والسجل - بكسر السين المهملة وسكون الجيم - ذكره علي بن محمد بن الحسين ابن عبدوس الكوفي، ولعله مأخوذ من قولهم سجلت الماء فانسجل إذا صببته فانصب.
وذو لملة - بكسر اللام وشد الميم - ذكره ابن حبيب.
وذو العُقار - بضم العين وشد القاف - وحكى بعضهم تخفيفها.
والسرحان - بكسر السين المهملة وسكون الراء - ذكره ابن خالويه.
والطرف - بكسر الطاء وسكون الراء بعدها - ذكره ابن قتيبة في المعارف، وذكر أن في رواية أنه هو الذي اشتراه عليه الصلاة والسلام من الأعرابي وشهد له خزيمة ابن ثابت فيه.
والمرتجل - بكسر الجيم - ذكره ابن خالويه، من قولهم ارتجل الفرس ارتجالاً إذا خلط العَنَق بشيء من الهملجة.
والمرواح - بكسر الميم - من أبنية المبالغة كالمطعام، مشتق من الريح لسرعته، أو من الرواح لتوسعه في الجرى، أهداه له قوم من مذحج، ذكره ابن سعد. وملاوح - بضم الميم وكسر الواو - ذكره ابن خالويه.
والمندوب: ذكره بعضهم في خيله صلى الله عليه وسلم وكان دفتا سرجه من ليف.
وأما سلاحه عليه الصلاة والسلام فكان له تسعة أسياف: مأبور: وهو أول سيف ملكه عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يقال: إنه قدم به إلى المدينة في الهجرة.
العضب - بعين مهملة وضاد معجمة - ومعناه القاطع، أرسله إليه سعد بن عبادة حين سار إلى غزوة بدر.(1/235)
ذو الفقار: لأنه كان وسطه مثل فقار الظهر، ويجوز في فائه الفتح والكسر، وصار إليه يوم بدر، وكان للعاصي بن منبه بن الحجاج الجمحي، فكان هذا السيف لا يفارقه عليه الصلاة والسلام يكون معه في كل حرب يشهدها صلى الله عليه وسلم، وكانت قائمته وقبيعته وحلقته وذؤابته وبكراته ونعله من فضة، وهو الذي صار إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقيل: لاسيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي.
القلعي - بضم القاف وفتح اللام - وهو الذي أصابه من قلع: موضع بالبادية.
البتار أي: القاطع.
الحتف: وهو الموت.
المخذم: وهو القاطع.
الرسوب، أي: الذي يمضي في الضربة ويغيب فيها، وهو فعول من رسب يرسب إذا ذهب إلى أسفل، وإذا ثبت أصاب عليه الصلاة والسلام المخذم. والرسوب من الفلس بضم الفاء وسكون اللام اسم صنم كان لطيء.
وكان له سيف اسمه...
وأرماحه عليه الصلاة والسلام: المثوى، قال ابن الأثير: سمى بذلك لأنه يثوى المطعون به من الثوى وهو الإقامة. والمثنى، ورمحان آخران.
وكان له عليه الصلاة والسلام حربة كبيرة اسمها البيضاء، وحربة صغيرة دون الرمح شبه العكازة يقال لها العنزة، وكانت تركز أمامه ويصلي إليها في السفر، وبذلك اغتر بعض العنزيين فقال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، ظناً منه أنها القبيلة التي هو منها، وإنما هي العكازة كما رأيت.
وأما أدراعه عليه الصلاة والسلام فسبع: ذات الفضول بالضاد المعجمة لطولها، أرسلها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وهي التي رهنها عليه الصلاة والسلام عند أبي الشحم اليهودي على ثلاثين صاعاً من شعير، وكان الدين إلى سنة. وذات الوشاح، وذات الحواشي، والسغدية - بالسين المهملة والغين المعجمة - وهي درع عكبراء لقينقاعي، قيل: وهي درع داود عليه الصلاة والسلام التي لبسها حين قتل جالوت. وفضة وكان أصابها من بني قينقاع، والبتراء لقصرها، والخرنق باسم ولد الأرنب، وكان عليه - عليه الصلاة والسلام - يوم أحد درعان: ذات الفضول وفضة. وكان عليه يوم خيبر درعان: ذات الفضول والسغدية.
وأما أقواسه عليه الصلاة والسلام فكانت ستة: الأولى الزوراء، وثلاث من سلاح بني قينقاع: الروحاء والصفراء وشوحط. والكتوم كسرت يوم أحد فأخذها قتادة. والسداد.
وكانت له جعبة تسمى الكافور.
وكانت له منطقة من أديم فيها ثلاث حلق من فضة والإبزيم من فضة والطرف من فضة وأما أتراسه فكان له عليه الصلاة والسلام ترس اسمه الزلوق، يزلق عنه السلاح وترس يقال له العتق.
وترس أهدى إليه فيه صورة عقاب أو كبش، فوضع يده عليه فأذهب الله تلك الصورة.(1/236)
وأما غنمه ولقاحه فكانت له مائة شاة. وكانت له سبع أعنز ترعاهن أم أيمن جاريته الحبشية. وكانت له من اللقاح: القصوى وهي التي هاجر عليها إلى المدينة. والعضباء، والجدعاء ولم يكن بهما عضب ولا جدع وإنما سميتا بذلك. وقيل: كان بأذنها عضب. وقيل العضباء والجدعاء واحدة. والعضباء هي التي كانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فشق ذلك على المسلمين، فقال عليه الصلاة والسلام: " إن حقاً على الله ألا يرفع شيئاً من هذه الدنيا إلا وضعه وغنم عليه الصلاة والسلام يوم بدر جملاً لأبي جهل في أنفه برة من فضة فأهداه إلى الكعبة يوم الحديبية ليغيظ بذلك المشركين. وكانت له خمسة وأربعون لقحة أرسل بها إليه سعد ابن عبادة. وكان له عليه الصلاة والسلام من البغال خمس: الأولى شهباء أهداها له المقوقس مع مارية وأختها فيما أهداه إليه عليه الصلاة والسلام. والثانية فضة أهداها له فروة بن عمرو الجذامي. والثالثة أهداها له ابن العكماء صاحب أيلة. الرابعة: من دومة الجندل. الخامسة أهداها له النجاشي. وقيل إنهن ست والسادسة أهداها له كسرى. قال في المواهب: وفيه نظر. وكان له عليه الصلاة والسلام من الحمير عفير أهداه له المقوقس. وكان له آخر يسمى يعفور. أخرج ابن عساكر عن أبي منظور قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أصاب حماراً أسود، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمار فكلمه الحمار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اسمك. فقال يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدي ستين حماراً كلهم لا يركبهم إلا نبي، وقد كنت أتوقعك أن تركبني لم يبق من نسل جدي غيري ولا من الأنبياء غيرك، قد كنت قبلك لرجل يهودي وكنت أتعثر به عمداً فكان يجيع بطني ويضرب ظهري فقال له عليه الصلاة والسلام: فأنت يعفور، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه إلى باب الرجل فيأتي الباب فيقرعه برأسه فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى بئر كانت لأبي الهيثم بن التيهان الأنصاري فتردى فيها جزعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات رواه أبو نعيم بنحوه من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. وكان له عليه الصلاة والسلام فسطاط يسمى الكن وكان له محجن قدر ذراع أو أكثر يمشي ويركب به يعلقه بين يديه على بعير. وكانت له مخصرة تسمى العرجون، وكان له قضيب من الشوحط يسمى الممشوق. وكان له قدح يسمى الريان، وآخر يسمى مغيثاً، وآخر مضبب بسلسلة من فضة في ثلاثة مواضع منه، وآخر من عيدان بفتح العين اسم شجرة معروفة، وآخر من زجاج، وتور من حجارة بالتاء المثناة فوق يسمى المخضب، وركوة تسمى الصادرة، ومخضب من نحاس، ومغتسل من صفر، ومدهن، وربعة إسكندرية تجعل فيها المرآة، ومشط من عاج وهو الذبل، ومكحلة يكتحل منها عند النوم. وكان في الربعة أيضاً المقراض والسواك. وهذه الربعة أهداها له المقوقس صاحب إسكندرية مع مارية وما معها وكانت له قصعة تسمى الغراء بأربع حلق، وكان له صاع ومد وقطيفة وسرير قوائمه من ساج وفراش من أدم حشوه ليف، وخاتم من فضة ملوي بفصه، وخاتم فضة فصه منه يجعله في يمينه، وقيل كان أولاً في يمينه ثم حوله إلى يساره منقوش عليه " محمد رسول الله " ثلاثة أسطر. قال الإمام الإسنوي: في حفظي أن أول الأسطر قرأت " محمد " ، ثم فوقه " رسول " ، ثم فوقه " الله " . فسطر اسم الله الأعلى.
وأهدى له النجاشي خفين سادجين فلبسهما.
وكان له عليه الصلاة والسلام ثلاث جبات يلبسهن في الحرب، وجبة سندس أخضر وجبة ممالسة، وعمامة يقال لها السحاب وأخرى سوداء. صلوات الله وسلامه عليه.
الباب السابع من المقصد الثاني:
في الحوادث
من أول سنى هجرته إلى وفاته، عليه الصلاة والسلام.
لما دخل - عليه الصلاة والسلام - المدينة الشريفة، أقام بها عشر سنين، وقبض في الحادية عشرة؛ تتجمد له في كل سنة أمور وشرائع لا تنحصر؛ فلنذكر شيئاً من ذلك على الترتيب، نبدأ بما في كل سنة من غزوة، ثم من سرية، ثم من غيرهما.
حوادث السنة الأولى من الهجرة(1/237)
لما استقر - عليه الصلاة والسلام بالمدينة واجتمع عليه أصحابه وقاموا بنصره، وصارت المدينة لهم دار إسلام، ومعقلاً وملجأ يلجئون إليه - شرع الله تعالى جهادَ الأعداء؛ فبعث البعوث والسرايا، وغزا وقاتل هو وأصحابه؛ حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً أفواجاً، وكان عدد مغازيه التي خرج فيها بنفسه: سبعاً وعشرين، قاتل في تسع منها بنفسه: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف؛ وهذا على قول من قال: إن مَكَةَ فتحت عنوة. وكانت سراياه التي بعث بها: سبعا وأربعين سرية، وقيل: إنه قاتل في بني النضير.
قال في فتح الباري: السرية - بفتح السين، وكسر الراء، وتشديد التحتية - : هي التي تخرج بالليل، والسارية: هي التي تخرج بالنهار. وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تخفي ذهابها، وهذا يقتيى أنها أُخذت من السر، ولا يصح: لاختلاف المادة.
وهى قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه، وهي من مائة إلى خمسمائة، فما زاد على خمسمائة، يقال له: منسر بالنون ثم السين المهملة، فإن زاد على الثمانمائة سمي: جيشاً فإن زاد على أربعة آلاف سمي: جحفلاً والخميس: الجيش العظيم، وما افترق من السرية يسمى: بَعْثاً، والكتيبة: ما اجتمع ولم ينتشر.
وكان أول بعوثه - عليه الصلاة والسلام - على رأس سبعة أشهر في رمضان، بعث حمزة بن عبد المطلب، مرة على ثلاثين رجلاً من المهاجرين، وقيل: من الأنصار، وفيه نظر؛ لأنه لم يبعث أحداً من الأنصار حتى غزا بهم بدراً.
خرج حمزة - رضي الله عنه - ومن معه يعترضون عيراً لقريش، فيهم أبو جهل اللعين، فلقيه في ثلاثمائة راكب، فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص، فلما تصافوا حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان - عليه الصلاة والسلام - قد عقد له لواءً أبيض.
واللواء: هو العلم الذي يحمل في الحرب؛ يعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش نفسْه، وقد يدْفعه لمقدم العسكر، وقد صرح جماعة من أئمة اللغة بترادف اللواء والراية: لكن روى أحمد والترمذي، عن ابن عباس: كانَت رَايَة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداءَ ولواؤُه أبيضَ ومثله عند الطبراني عن بريدة وعند ابن عدي عن أبي هريرة، وزاد فيه: مكتوب: " لا إله إلا الله محمد رسول الله " وهو ظاهر في التغاير؛ فلعل التفرقة بينهما عرفية.
وذكر ابن إسحاق وكذا أبو الأسود عن عروة، أن أول ما حدثت الرايات يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية، انتهى.
ثم فيها سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب إلى " بطن رابغ " في شوال في ستين رجلاً، وعقد له - عليه الصلاة والسلام - لواءً أبيض، حمله مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فلقي أبا سفيان بن حرب وكان على المشركين - وقيل: مكرز بن حفص، وقيل: عكرمة بن أبي جهل - في مائتين من المشركين، ولم يكن بينهم قتال؛ إلا أن سعد بن أبي وقاص رَمَى بسهم؛ فكان أولَ سهم رمى به في سبيل الله في الإسلام قال ابن إسحاق: وكانت راية عبيدة أولَ راية عقدت في الإسلام وقد تقدم أن أول راية عقدت لحمزة: وإنما أشكل أمرهما؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعثهما معا فاشتبه ذلك على الناس.
وهذا يشكل بقولهم: إن بعث حمزة كان على رأس سبعة أشهر؛ لكن يحتمل أن يكون - عليه الصلاة والسلام - عقد رايتهما معاً، ثم تأخر خروج أبي عبيدة إلى رأس الثمانية؛ لأمرٍ اقتضاه.
ثم فيها سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار - بخاء معجمة فراءين مهملتين - وهو: واد يصب بالحجاز في الجحفة، كان ذلك في ذي القعدة على رأس تسعة أشهر، وعقد له لواء أبيض، حمله المقداد بن الأسود في عشرين رجلاً، يعترض عيراً لقريش، فخرجوا على أقدامهم فصبحوا صبح خامسة، فوجدوا العير قد مرت بالأمس.(1/238)
ثم فيها - غير ما سبق قريباً من بناء المسجد والمساكن - دعاؤه صلى الله عليه وسلم بنقل وباء المدينة إلى مهيعة برية مسبعة، وهي الجحفة؛ وسبب ذلك وَعكُ أبي بكر - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة، وذلك أنه روى أن هواء المدينة كان عَفِناً وخماً يكون فيه الوباء، وكانت مشهورة بالوباء في الجاهلية: فإذا دخلها غريب نهق نهيق الحمار؛ يسمونه: التعشير، يقال له: إذا أردت أن تسلم من الوعك والوباء، فانهق نهيق الحمار، فإذا فعل سلم: فاستوخم المهاجرون هواء المدينة ولم يوافق أمزجتَهُم، فمرض كثير منهم، وضعفوا حتى لم يقدروا على الصلاة قياماً.
وفي سنن النسائي، وسيرة ابن هشام: أن الصديق لما قدم المدينة أخذته الحمى وعامرَ بنَ فهيرةَ وبلالاً، قالت عائشة: فدخلتُ عليهم وهم في بيتٍ واحد، قبل أن يضرب علينا الحجاب، فقلت: يا أبت، كيف أصبحت؟ فقال: من الرجز:
كُل امرِئٍ مُصَبحٌ فِي أَهلِهِ ... وَالمَوتُ أدنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
فقلت: إنا لله، إن أبي ليهذي! فقلت لعامر بن فهيرة: كيف تجدك؟ فقال: من الرجز:
لَقَذ وَجَدتُ المَوتَ قَبل ذَوْقِهِ ... وَالمَرءُ يَأتي مَوتُهُ مِن فَوقِهِ
كُل امرِئٍ مُجَاهِد بِطَوقِهِ ... كَالثورِ يَحمِي أَنْفَهُ بِرَوْقِهِ
قالت فقلت: هذا - والله - لا يدري ما يقول! ثم قلت لبلال: كيف أصبحت؟ وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته، ويقول: من الطويل:
أَلاَ لَيتَ شِعْرِي هَل أَبِيتَن لَيْلَة ... بِفَخ وَحَولِي إِذخِرْ وَجَلِيلُ؟!
وَهَل أَرِدَن يَوماً مِيَاهَ مَجَنة ... ويَبدُو لِعَينِي شَامَة وَطَفِيلُ؟!
ثم يقول: اللهم العن عتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء. قالت عائشة: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حباً، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها إلى مهيعة " ، فأجاب الله دعاءه، فجعل هواءها صحيحاً موافقاً لأمزجة الغرباء، ونقل وباءها وحماها وعفونة هوائها إلى الجحفة وهي - يومئذ - كانت دارَ اليهود ولم يكن بها مسلم؛ يقال: كانت لا يدخلها الطير إلا حم.
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي قال: " رأيت امرأة ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة.
قال صاحب الخميس نقلاً عن الصفوة: مَهِيعة - كمعيشة كلتاهما بالمثناة - التحتية - : اسم للجحفة.
قلت: المشهور: أنها بسكون الهاء وفتح الياء التحتية: بوزن مَسْبعة كما تقدم. وفي تشويق الساجد إلى أشرف المساجد: الجحفة - بضم الجيم، وسكون الحاءِ - قريةٌ تسمى مهيعة على خمس مراحلَ من مكة وهي ميقاتُ أهل مصر والمغرب، وهي بقرب رابغ محاذية له على يسار الذاهب إلى مكة، بينها وبين البحر ستة أميال.
وغدير خم على ثلاثة أميال من الجحفة لم يُسرة عن الطريق، وهذا الغدير تصب فيه عين، وحوله شجر كثير ملتف، وهي الغيضة التي تسمى خم، وبهذا الغدير قال - عليه الصلاة والسلام - في خطبته هنالك: من كنت مولاه فعلى مولاه، " اللهم والِ من والاه... " إلىآخره، وذلك منصَرَفَه من حجة الوداع، يوم ثامن من ذي الحجة الحرام.
وفيها وَآخَى بعد مقدمه إلى المدينة بخمسة أشهر، بين المهاجرين والأنصار - وكانوا تسعين كل طائفة خمسة وأربعون - على الحق والمساعدة والتوارث، وكانوا كذلك؛ حتى نزل بعد بدر قوله تعالى: " وَأُولوا اًلأرحامِ بَعضهم أَولى بَعض " الأنفال: 75 وكتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار.
وفيها وادع اليهود، وأقرهم، واشترط عليهم ولهم.
ذكر السبب في كون اليهود بالمدينة:(1/239)
قال السهيلي في روضه: السبب في ذلك - مع أن المدينة وسط أرض العرب، واليهود أصلهم من أرض كنعان - هو أن بني إسرائيل كانت تغير عليهم العماليق من أرض الحجاز، وكانت منازلهم: يثرب والجحفة إلى مكة فشكَت بنو إسرائيل ذلك إلى موسى - عليه وعلى نبينا وسائر النبِيينَ أفضل الصلاة والسلام - فوجه إِلَيهِمْ جيشاً، وأمرهم أن يقتلوهم ولا يبقوا منهم أحداً، ففعلوا،وتركوا منهم ابن ملك لهم كان غلاماً حسناً؛ فرقوا له، يقال للملك: الأرقم بن أبي الأرقم - فيما ذكره الزبير بن بكار - ثم رجعوا إلى الشام وموسى قد مات، فقالت لهم بنو إسرائيل: قد عصيتم وخالفتم: فلا نؤويكم، فقالوا: نرجع إلى البلاد التي غلبنا عليها فنكون بها، فرجعوا إلى يثرب فاستوطنوها وتناسلوا بها، إلى أن نزلت عليهم الأوس والخزرج ابنا ثعلبة بن قيس، بعد سيل العَرم وتفرقهم من بلاد اليمن به؛ ذكر ذلك أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني.
والذي قاله غيره: أن طائفة من بني إسرائيل لحقت بأرض الحجاز حين دَوّخ بخت نصر البابلي بلادَهُم، وجاس هو وقومُه خلال ديارهم فحينئذ لحق من لحق منهم بالحجار كقريظة والنضير، وسكنوا خيبر والمدينة.
وأما يثرب فاسم رجل من العماليق، أول من نزل بها، وقد تقدم ذكر هذا في المقصد الأول من هذا الكتاب وفيها أُرِي عبدُ الله بن زيد بن عبد ربه الأذانَ، ووافقه جَمع في رؤياه.
وبعد شهر من مقدمه زِيدَ في صلاة الحضر؛ على قول من قال: أول ما فرضت ركعتين، وهو الذي صح من حديث عائشة والأكثر على: أنها فرضت تامة، ثم خففت بالقصر فيْ السفر؛ لقوله تعالى: " فَلَيسَ عَليكم جنَاح أَن تقصروا مِنَ اَلصَلَوةَ " النساء: 101، الآية.
فيؤوّل حديث عائشة: إما بأن المعنى: أول ما فرضت ركعتين بعدهما تشهد وسلام، أي: وقبل ذلك كانت الأربع بلا تشهد أول، ويكون معنى قولها: أقرت في السفر أي: من غير زيادة ركعتين أخريين، وقيل: في التأويل - أيضاً - غير ذلك.
وفيها بعد دخوله - عليه الصلاة والسلام - المدينة أسلم عبد الله بن سلام، وكان اسمه: الحصين، فسماه - عليه الصلاة والسلام - عبد الله، وهو من ولد يوسف الصديق بن يعقوب، عليهما السلام.
وفيها كان ابتداء خدمة أنس للنبي صلى الله عليه وسلم. وفيها أسلم سلمان الفارسي.
وفيها ولد عبد الله بن الزبير، جاءت أمه أسماء بنت أبي بكر حاملاً به بعد الهجرة، فنفِسَتْ به في قباء، في شوال من السنة المذكورة وهي الأولى وقال الذهبي: في السنة الثانية من الهجرة: وفي المواهب وتاريخ اليافعي وأسد الغابة: ولد بالمدينة على رأس عشرين شهراً من الهجرة وقيل: في السنة الأولى وقال الحافظ ابن حجر: المعتمد أنه ولد في السنة الأولى: للحديث المتفق عليه.
ومحل بسط أحوال هذه الحوادث كتب السير المدونة لذلك: المتناولة المشهورة المسالك؛ لكنا أردنا التبرك بنفح عبيرها، والتكفف بيسيرها عن تيسيرها.
حَوَادِث السنَةِ الثانِيَةِ مِنَ الهِجرَةِ
فيها كانت غزوة الأبواء؛ خرج - عليه الصلاة والسلام - في صفر، وهي أول مغازيه: كما ذكره ابن إسحاق وهي من ودان، على ستة أميال أو ثمانية مما يلي المدينة؛ ولتقاربهما أطلق عليها غزوة ودان أيضاً.
وودان: قرية من أمهات القرى، وقيل: واد في الطريق، يقطعه المصعدون من حجاج المدينة.
روى أنه - عليه الصلاة والسلام - استخلف على المدينة سعد بن عبادة؛ فيما قاله ابن هشام وخرج في صفر في ستين رجلاً من أصحابه: يعترض عير قريش وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فلما بلغ الأبواء، تلقى سيد بني ضمرة مخشي بن عمرو الضمري، فصالحه على مَا سيذكر؛ فانصرف - عليه الصلاة والسلام - إلى المدينة، بعد ما وادع مخشي بن عمرو وصالحه، وكانت الموادعةُ والمصالحة على أن بني ضمرة لا يغزونه، ولا يكثرون عليه جمعاً، ولا يعينون عدواً، ولم يلق كيداً، أي: حرباً.
وفيها غزوة بواط اسم جبل لجهينة، على أربعة برد من المدينة، في ربيع الأول من السنة المذكورة: يعترض عيراً لقريش فيها أمية بن خلف، فرجع ولم يلق كيداً.
بواط: بفتح الباء والواو، والطاء المهملة.(1/240)
وفى الخلاصة: رَضوَى كسكرى " جبل على يوم من ينبع، وأربعة أيام من المدينة ذو شعاب وأودية، وبه مياه وأشجار، وهذا هو المعروف، ومنه تقطع حجارة المسان، وهو أول تِهَامة، وهو مما وقع بالمدينة من الجبل الذي تجلى الله - سبحانه وتعالى - فصار لهيبته جبلاً ورضوى: من جبال الجنة، وفي رواية: من الجبال التي بني منها البيت وفي الحديث: رضوى رضي الله عنه، وقدس قدسه الله، وأحد جبل يحبنا ونحبه.
وتزعم الكيسانية المنسوبون إلى كيسان - وهو لقب للمختار بن أبي عبيد الثقفي - داعية محمد بن الحنفية، أنه مقيمْ برضوى حَي يرزق، وينشدون لذلك أبياتاً لدعبل فيه، سيأتي ذكرها عند ذكره، رضي الله عنه.
خرج - عليه الصلاة والسلام - في هذه الغزوة في مائتي رجل من قريش، وكان في العير ألفان وخمسمائة بعير، فسْار فلم يلق كيداً فرجعْ إلى المدينة.
وفيها غزوة بدر الأولى في ربيع الأول؛ لطلب كرز بن جابر الفهري؛ لما أغار على سرح المدينة بشغر بلغ سفوان فلم يلحق كرزاً، وتسمى بدراً الأولى؛ لقرب سفوان المذكور من بدر؛ هكذا ذكرها الشمس البرماوي قبل غزوة العشيرة، وذكرها صاحب المواهب والخميس مؤخرة عن غزوة العشيرة، مؤرخة بعدها بعشرة أيام.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وحمل اللواء علي بن أبي طالب.
وفيها غزوة العشيرة؛ بالشين المعجمة، والتصغير،آخرها هاء؛ لم يختلف أهل المغازي في ذلك وفي البخاري: العشير، والعسيرة بالتصغير، والأولى بالمعجمة بلا هاء، والثانية بالمهملة وبالهاء.
وأما غزوة العسرة - بالمهملة من غير تصغير - فهي غزوة تبوك، وستأتي.
ونسبت هذه الغزوة إلى المكان الذي وصلوا إليه، وهو موضع لبني مدلج بينبع.
قلت: أفادني بعض مشايخي من أهل مصر أن محلها هو محطة الحاج المصري الآن بينبع جائياً وذاهباً.
خرج إليها صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى، وقيل: الأخرى، في مائة وخمسين رجلاً، وقيل: في مائتين، ومعهم ثلاثون بعيراً يعتقبونها، وحمل اللواء حمزة بن عبد المطلب؛ خرج يريد قريشاً حالَ صدورها من مكة إلى الشام بالتجارة، فخرج إليها ليغنمها، فوجدها قد مضت.
ووادع بني مدلج من كنانة، وكانت نسخة الموادعة فيما ذكره غير ابن إسحاق: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لبني مدلج؛ فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم، على ألا يحاربوا في دين الله ما بل بدر صوفة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم لنصره أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله وذمة رسوله " .
واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي.
وقال ابن إسحاق - يعني: على مقتضى رواية من قدم غزوة العشيرة على بدر الأولى - : لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة العشيرة، لم يقم بالمدينة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر، وبَلغهَا صاحب المواهب فقال: عشر ليال، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة.
وشغر كزفر: جبل بأصل جماء أم خالد، وسفوان - بفتحات - : وادٍ من ناحية بدر، وبه سميت هذه الغزوة بدراً الأولى.
وفيها في رجب - كما في المواهب والخميس - كانت سرية عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي، إلى بطن نخلة، على ليلة من مكة.
ونخلة - بلفظ مفردة النخل - : موضع على يوم وليلة من مكة، وهي التي ينسب إليها بطن نخلة، الوارد فيها حديث استماع جن نصيبين لقراءته صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح بها سورةَ الجن، المعنيين بقوله تعالى: " وإذ صَرَفنآ إليك نَفَراً مِنَ اَلجِنِ " الأحقاف: 29، سبعة أو ثمانية: شاصر، وماص، ومنشي، وناشي، والأحقب، وعمر بن جابر، وزوبعة، وسرق؛ والأصح أنهم سبعة وأن الأحقب صفة لأحدهم.
وهما نخلتان: شامية ويمانية، فالشامية: تنصب من الغمير، واليمانية من بطن قرن المنازل، وهو طريق اليمن إلى مكة، فإذا اجتمعا فكانا واحداً فهو السد، ثم يضمهما بطن مَر.(1/241)
بعثه - عليه الصلاة والسلام - في ثمانية من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد وقيل: اثنا عشر رجلاً - : سعد بن أبي وقاص الزهري، وعكاشة بن محصن الأسدي، وعتبة بن غزوان بن جابر السلمي، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة العبشمي، وسهيل بن بيضاء الحارثي، وعامر بن ربيعة الوائلي العنزي، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف التميمي، وخالد بن البكير الليثي: كل اثنين منهم يعتقبان بعيراً.
وكتب له - عليه الصلاة والسلام - كتاباً وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به، ولا يستكره أحداً من أصحابه على المسير معه: فلما سار عبد الله يومين فتح الكتاب؛ فإذا فيه: " إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم " وفي رواية: فإذا فيها: " بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك؛ حتى تنزل بطن نخلة فترصد بها عير قريش: لعلك أن تأتي لنا بخبر " .
فلما نظر في الكتاب قال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه: " قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة؛ لنرصد بها قريشاً؛ حتى آتي إليه بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، وأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد، وسلك على المجاز حتى إذا كان فوق الفرع بمحل يقال له بحران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً؛ فتخلفا في طلبه، وحبسهما ابتغاؤه، ومضى عبد الله بن جحش في بقية أصحابه.
وفي الوفاء: مضى العشرة حتى نزلوا نخلة، فمرت بهم عير قريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة لقريش، فمنهم عمرو بن الحضرمي - واسم الحضرمي: عبد الله - والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان، فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريباً منهم، فقال عبد الله: إن القوم قد رعبوا منكم، فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم، فحلقوا رأس عكاشة فأشرف عليهم، فلما رأوه أمنوا، وقالوا: قوم عمار لا بأس عليكم منهم، وتشاور القوم فيهم - وذلك آخر يوم من رجب - فقالوا: لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم، وليمتنعن عليكم به؛ ولئن قتلتموهم لنقتلنهم في الشهر الحرام.
وفي الكشاف: كان ذلك اليوم أول يوم من رجب، وهم يظنونه من جمادى الأخرى، فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم؛ فرمى واقد بن عبد الله الليثي عمرو ابنَ الحضرمي بسهم فقتله، واستأسروا عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأعجزهم الباقون هرباً.
وأقبل عبد الله بن جحش بالعير والأسيرين، وقد عزل عبد الله بن جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلم خُمُس تلك الغنيمة، وقسم باقيها بين أصحابه، وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من الغنائم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أحل الله الفيء بعد ذلك، فأمر بقسمه، وفرض الخمس فيه - وقع على ما كان صنعه عبد الله بن جحش في تلك العير.
فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام " ، فوقفَ العيرَ والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، سُقِطَ في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوتهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدماء، وأخذوا الأموال، وأسروا الرجال، وعَير بذلك أهلُ مكة مَن فيها من المسلمين، وقالوا: يا معشر الصبَأة، قد استحللتم الشهر الحرام، وقاتلتم فيه، وكتبوا في ذلك تشنيعاً وتعييراً.
قال ابن إسحاق: فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان.(1/242)
قلت: قول ابن إسحاق هذا، يرد قول الكشاف السابق قريباً، أن ذلك اليوم أول يوم من رجب، ويرده أيضاً قول أصحاب عبد الله بن جحش: " لئن تركتم القوم... إلىآخره " إذ تمحيض تعليلهم عدمَ تركهم إلى غد، بتخوفِ امتناعهم بدخول الحرم قاضٍ بما قاله ابن إسحاق حملاً لكلام فرسان الكلام على التقسيم الصرف الغير المتداخل، ولا يستقيم إلا إذا كان ذلك اليوم آخر يوم من رجب، لا أول يوم من شعبان، وإن جاز خلافه، والله أعلم.
وقالت اليهود: نتفاءل على رسول الله: عمرو بن الحضرمي قتله واقد؛ عمرو: عمرت الحرب، والحضرمي: حضرت الحرب، وواقد: وقدت الحرب فجعل الله ذلك عليهم لا لهم؛ فلما كثر الناس في ذلك: أنزل الله تعالى على رسوله: " يَسألونَكَ عَنِ الشهرِ الحَرَام قِتَالِ فِيه قُل قِتَال فِيهِ كبَير وصَد عَن سبِيلِ اَللهَ وكفر به وَاَلمسجِدِ اَلحرامِ وَإخراجُ أهلِه مِنهُ أكبَرُ عِندَ اَللهِ والفِتنَةُ أكبَرُ مِنَ اَلقَتل " البقرة: 217، أي: إن أنكرتموه في الشهر الحرام، فقد كان صدودُكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجُكم أهلَه - أكبرَ عند الله من قَتل من قُتِل منكم، والفتنة أكبر من القتل، وكانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه؛ فذلك أكبر عند الله من القتل.
فلما نزل القرآن بهذا الأمر، وفرج الله عن المسلمين ما هم فيه من المشاق قبض - عليه الصلاة والسلام - العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فك عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان؛ فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم " فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فأما الحكم بن كيسان: فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عنده - عليه الصلاة والسلام - حتى قتل يوم بئر معونة شهيداً، وأما ابن عبد الله: فلحق بمكة فمات كافراً.
فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه: حين نزل القرآن - طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجرَ المجاهدين؟ فأنزل الله: " إنَ اَلذينَ آمنَوا وَالذِينَ هَاجروا وَجاَهَدُوا في سبِيلِ اللهِ أولئكَ يَرجوُنَ رَحمَتَ الله وَاَللهُ غَفُور رحِيم " البقرة:218، فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء قال ابن هشام: وهي أول غنيمة غنمها المسلمون.
قال: وقال عبد الله بن جحش في ذلك: من الطويل.
تعُدّونَ قَتْلِى فِي الحَرامِ عَظيمَةً ... وَأَعظَمُ مِنهُ لَو يَرَى الرشدَ رَاشِدُ
صُدُودُكُمُ عَما يَقُولُ مُحَمًد ... وَكُفر بِهِ، وَاللهُ رَاءٍ وَشَاهِد
وَإِخْرَاجُكم من مَسجِدِ الله أَهلَهُ ... لِئَلا يُرَى لله فِي البَيتِ سَاجِدُ
فَإنا وَإِن عَيرتُمُونا بِقَتلِهِ ... وَأَرجَفَ بِالإسلاَمِ بَاغٍ وَحَاسِدُ
سَقَينَا مِنِ ابنِ الحَضْرَمي رِمَاحَنَا ... بِنَخلَةَ لَما أَوقَدَ الحَربَ وَاقِدُ
وَسَارَ ابنُ عَبدِ الله عُثمانُ بَينَنَا ... يُنَازعُهُ غُل منَ القِد عَانِدُ
وفيها في نصف شعبان - وقيل: في نصف رجب - يوم الاثنين، وقيل: في جمادى الآخرة يوم الثلاثاء بعد ستة عشر شهراً من مقدمه المدينة، وقيل: سبعة عشر، وقيل: ثمانية عشر - حولت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة.
وقال الحربي: قدم - عليه الصلاة والسلام - المدينة، في ربيع الأول فصلى إلى بيت المقدس إلى تمام السنة، وصلى في سنة اثنتين من الهجرة ستة أشهر، ثم حولت القبلة.
روي أنه صلى الله عليه وسلم زار أم بشر، أم البراء بن معرور، في بني سلمة فصنعت له طعاماً، فتغدى هو وأصحابه، وجاءت صلاةُ الظهر، فصلى بأصحابه في مسجد القبلتين - ركعتين من الظهر نحو الشام، ثم أُمِرَ أن يستقبل الكعبة وهو راكع في الركعة الثالثة، فاستدار إلى الكعبة واستقبل الميزاب، ودارت الصفوف خلفه، ثم أتم الصلاة؛ فسمي: مسجد القبلتين.
قال ابن سعد: قال الواقدي: هذا أثبت من قول من قال: إنها في مسجده، عليه الصلاة والسلام.
وقيل: إن الصلاة كانت صلاة العصر؛ يشهد له حديث البراء في البخاري.(1/243)
وأما أهل قباء: فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني كما في الصحيحين؛ وهذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به وإن تقدم نزوله: لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء، والله أعلم.
وفيها كان فرض صيام رمضان، بعد تحويل القبلة بشهر، في شعبان؛ على رواية من روى أن تحويل القبلة كان في رجب وفيها فرضت زكاة الفطر قبل العيد بيومين، وذلك قبل أن تفرض زكاة الأموال، وقيل: إن الزكاة فرضت فيها، وقيل: قبل الهجرة، والله أعلم وفيها غزوة بدر الكبرى، وتسمى: العظمى، والثانية، وبدر القتال وهي قرية مشهورة، نسبت إلى بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة أول من نزلها، وقيل: نسبت لبدر بن الحارث حافر بئرها، وقيل: بدر: اسم للبئر التي بها سميت بدراً لاستدارتها ولصفائها ورؤية البحر فيها.
قال ابن كثير: وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ووضع فيه الشرك وخرب محله؛ هذا مع قلة عدد المسلمين، وكثرة العدو مع ما كانوا عليه: من سوابغ الحديد، والعدة الكاملة، والخيول المسومة، والخُيَلاء الزائد، فأعز الله رسولَه، وأظهر وحيه وتنزيلَه، وبيض وجه النبي وقبيلَه، وأخزى الشيطان وجيلَه؛ ولهذا قال ممتنا على عباده المتقين: " وَلَقَد نصًرَكمٌ اَللهُ ببدرِ وَأَنتم أَذِلة " اَل عمران: 123 أي: قليل عددكم لتعلموا أن النصر من عند الله لا بكثر العَددِ والعدَدِ، فقد كانت هذه الغزوة أعظَم الغزوات في الإسلام.
وحكى الواقدي - بعد أن ذكر الأقوال في سبب تسميتها بدراً - إنكار ذلك كله عن غير واحد من شيوخ بني غفار؛ قالوا: إنما هي مأوانا ومنازلنا، وما ملكها أحد قط يقال له: بدر،وإنما هي عَلم عليها كغيرها من البلاد، وهي على ثمانية وعشرين فرسخاً من المدينة.
قال ابن هشام في السيرة: إن رسول الله لما سمع بأبي سفيان صخر بن حرب، مقبلاً من الشام في عير لقريش عظيمة، فيها أموال لهم وتجارة من تجاراتهم، وفيها ثلاثون رجلاً من قريش أو أربعون، منهم: أبو سفيان بن حرب، ومخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وعمرو بن العاص بن وائل، وهي العير التي كان خرج إليها - عليه الصلاة والسلام - فوصل إلى العشيرة حال إقبالها من مكة فلم يدركها، فرجع إلى المدينة، فأخبره جبريل بقفول العير من الشام، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه المسلمين، فقال: " هذه عير قريش قد أقبلت، فيها أموالهم فاخرجوا إليها؛ لعل الله أن ينفلكموها " فانتدب المسلمون، فخف بعضهم، وثقل بعضهم؛ وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله ص يلقى حرباً، وكانت العير زهاء ألف، وفى أحمالها: من التمر والشعير والبر والزبيب، وغير ذلك.
وكان أبو سفيان بن حرب، حين دنا من الحجاز، يتجسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان تخوفاً عن أمر الناس، حتى أصاب خبراً من بعض الركبان: أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك، واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشا؛ فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم، فقبل وصول ضمضم إلى مكة بثلاثٍ، رأت عاتكةُ بنت عبد المطلب رؤيا أفزعتها، وهي الرؤيا التي تقدم ذِكرُنَاهَا في ذكر أعمامه وعماته - عليه الصلاة والسلام - بما أغنى عن إعادتها هنا.
وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من المدينة لاثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان؛ كذا في المواهب.
وقال ابن هشام: لثمان ليال وكان القتال يوم الجمعة صبيحة السابع عشر من رمضان، وقيل: التاسع عشر منه: والأول أصح.
ولما وصل ضمضم إلى مكة وفعل ما فعل، وحثهم على الخروج فقال: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمةَ! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوثَ الغوثَ! طلع أبو جهل على ظهر الكعبة فنادى: النجاءَ النجاء!، على كل صعب وذلول، عيركم وأموالكم؛ إن أصابها محمد لن تفلحوا إذن أبداً. فتجهز الناس سراعاً، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟! كلا والله، ليعلمن غير ذلك!.
وقولهم: كعير ابن الحضرمي، يشيرون بذلك إلى العير التي غنمها عبد الله بن جحش في سريته إلى بطن نخلة لما المتقدم ذكرها في حوادث السنة الأولى قبل هذه السنة.(1/244)
فكانوا بين رجلين: إما خارج، أو باعث مكانه، وأوعبت قريش، ولم يتخلف من أشرافها أحد، إلا أَن أبا لهب بن عبد المطلب تخلف، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة؛ كانت له عليه أربعة آلاف درهم أفلس بها، فاستأجره بها على أن يجزي عنه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح، أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود، وكان شيخاً جليلاً جسيماً، فأتاه عقبة بن أبي معيط، وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه، بمجمرة يحملها فيها نار، حتى وضعها تحت ثوبه، ثم قال له: يا أبا صفوان، استجمر؛ فإنما أنت من النساء. فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به ثم تجهز وخرج مع الناس.
ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا على المسير، ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب والعداوة، وقالوا: نخشى أن يأتونا من خلفنا؛ وكاد ذلك أن يثبطهم ويثنيهم، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم - وكان من أشراف كنانة - وقال لهم: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فساروا.
وفي الاكتفا لأبى بكر الكلاعي: أنهم كانوا يرونه في كل منزل على صورة سراقة لا ينكرونه، حتى كان يوم بدر والتقى الجمعان، وكان في صف المشركين آخذاً بيد الحارث بن هشام، أو بيد أخيه أبي جهل بن هشام، ورأى الملائكة نزلت من السماء، ورأى جبريلَ محتجراً ببرد يمشى بين يديه عليه الصلاة والسلام وبيده اللجام يقود الفرس، وما ركب بعد، وعلم أنه لا طاقةَ له بهم نكص على عقبيه مولياً هارباً، فقال له الحارث: إلى أين، أفِرَاراً من غير قتال، أتخذلنا في هذه الحالة؟! فقال: إني أرى ما لا ترون، ودفع في صدر الحارث فانطلق: فانهزم الناس.
ولما قدموا مكة قالوا: هزمَ الناسَ سراقةُ، فبلغ ذلك سراقة فقال: بلغني أنكم تقولون: إني هزمت الناس، فوالله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فقالوا: أما أتيتنا يوم كذا وكذا؟! فحلف لهم، فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان!.
وروى عن السدي والكلبي أنهما قالا: كان المشركون حين خرجوا من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أهدى الفئتين، وأعلى الجندين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدينين؛ ففيه نزلت: " إن تَستَفتحوا فَقَد جَاءكمُ اَلفتح " الأنفال: 19.
وكان عدة المسلمين: ثلاثمائة وثلاثة عشر، وفي البخاري والكشاف: ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً.
وفي الحديث: قال - عليه الصلاة والسلام - لأصحابه يوم بدر: " أنتم اليوم كعدد المرسلين، وأصحاب طالوت يوم عبروا النهر " : سبعة وسبعون منهم من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار، معهم ثلاثة أفراس: فرس المقداد ابن لأسود - والأسود، تبناه، واسم أبيه الحقيقي: عمرو - وفرس الزبير بن العوام، واسمه: اليعبوب، وفرس مَرثد بن أبي مرثد الغنوي. وكان معهم من الدروع: تسعة، وفي رواية: ستة، ومن السيوف: ثمانية أسياف، ومن الظهر: سبعون بعيراً.
وثمانية من المسلمين لم يشهدوها لعذر؛ إنما ضرب لهم - عليه الصلاة والسلام - بأجرهم وسهمهم، فكانوا كمن حضرها: ثلاثة من المهاجرين: عثمان بن عفان: تخلف: لتمريض رقية زوجته - رضي الله عنه - بنته - عليه الصلاة والسلام - في مرضها التي ماتت فيه في غيبته - عليه الصلاة والسلام - في هذه الغزوة.
والثاني والثالث: طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد؛ بعثهما - عليه الصلاة والسلام - عينين يتجسسان خبر العير، فسارا حتى بلغا الخرار فكمنا هناك فمرت بهما العير، فبلغه - عليه الصلاة والسلام - الخبر فخرج من: المدينة ورجعا إلى المدينة ولم يعلما بخروجه - عليه الصلاة والسلام - فقدماها بخبر العير فلم يجداه، وفي رواية: كان قدومهما المدينة في اليوم الذي كانت فيه الوقعة، فرجعا إليه فلقياه منصرفاًَ من بدر، فضرب لهما بسهمهما وأجرهما؛ فكانا كمن حضر.
وخمسة من الأنصار.
أبو لبابة: رده من الطريق إلى المدينة، بخلافة المدينة.
وعاصم بن عدي العجلاني: استعمله على أهل العوالي، وحارثة بن حاطب: بعثه من الروحاء إلى بني عمرو بن عوف.
والرابع والخامس: الحارث بن الصمة، وخوات بن جبير؛ سقطا من البعير فأصابهما بعض كسرة فردهما من الطريق.
وأما عدد المشركين: فكانوا ألفاً، وقيل: تسعمائة وخمسون رجلاً، معهم من الخيل: مائة، ومن الظهر: سبعمائة، ومعهم القيان والدفوف.(1/245)
ولما نظر - عليه الصلاة والسلام - إلى أصحابه، ورأى قلة عَددهم وعُددهم، قال: " اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسُهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم عالة فأغنهم " فاستجيبت دعوته - عليه الصلاة والسلام - ففتح الله عليه؛ فما منهم رجل إلا رجع بخير، وجمل أو جملين، واكتسوا وشبعوا.
ودفع - عليه الصلاة والسلام - اللواء - وكان أبيض - إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وكان أمامه - عليه الصلاة والسلام - رايتان سوداوان: إحداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها: العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار.
وكانوا يعتقبون السبعين البعير؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي - يعتقبون بعيراً.
وفي الكشاف يعتقب النفر منهم البعير الواحد وفي الحديث: إذا كان عقبة النبي صلى الله عليه وسلم يقولان له: اركب يا رسول الله حتى نمشي عنك، فيقول لهما: " ما أنتما بأقوى على المسير مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما " .
قال ابن إسحاق: فسلك طريقَهُ من المدينة إلى مكة على نقب المدينة ثم على العقيق ثم على ذي الحليفة، ثم على أولات الجيش - قال ابن هشام: ذات الجيش - ثم مر على تربان ثم على ملل، ثم على عميس الحمام ثم، على صخيرات اليمام ثم على السيالة ثم على فج الروحاء ثم على شوكة وهي على الطريق المعتدلة.
حتى إذا كان بعرق الظبية لقوا رجلاً من الأعراب، فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبراً، فقال له الناس: سَلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوَ فيكم رسول الله؟!.
فقالوا: نعم، فسلم عليه، ثم قال: إن كنتَ رسولَ الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه: فقال له سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري: لا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل إلي أنا أخبرك عن ذلك: نزوتَ عليها؛ ففي بطنها سخلة؛ فقال له - عليه الصلاة والسلام - : " أفحشت على الرجل " . ثم أعرض عن سلمة. ثم نزل سجسج وهي بئر الروحاء.
وأخذ عليه الصلاة والسلام بالروحاء عيناً له من جهينة حليفاً للأنصار، يدعى: ابن الأريقط، فأتاه بخبر القوم، وسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ارتحل من الروحاء حتى إذا كان بالمنصرف ترك طريق مكة، بيسار، وسلك ذات اليمين على النازية يريد بدراً، فسلك في ناحية منها حتى جزع وادياً يقال له: صفان بين النازية وبين مضيق الصفراء ثم على المضيق ثم انصب به، حتى إذا كان قريباً من الصفراء بعث بسبس بن عمرو الجهني حليفَ بني ساعدة، وعدي بن أبي الزغباء الجهني إلى بدر يتجسسان له الأخبار عن أبي سفيان وعيره، فمضى العينان حتى نزلا بدراً فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شناً لهما فاستقيا فيه، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء، فسمعا جاريتين من جواري الحاضرة يتلازمان على الماء، والملزومة تقول للازمة: إنما ترد العير غداً أو بعد غد، فأعمل لهم، ثم أقضيك الذي لك. فقال مجدي بن عمرو صدقت، ثم خلص بينهما. فلما سمع عدي وبسبس ذلك، جلسا على بعير لهما ثم انطلقا؛ حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، ثم تقدم أبو سفيان العير حذراً، حتى ورد الماء، فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسست أحداً؟ قال: ما رأيت أحداً؛ إلا أن راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مناخَهُمَا فأخذ من أبعار بعيرهما ففتته؛ فإذا فيه كسرات النوى، فقال: هذه والله علائفُ يثرب، فرجع إلى أصحابه سريعاً، فصرف وجه عيره عن الطريق، فساحل بها وترك بدراً بيسار، وانطلق حتى أسرع.
قال ابن إسحاق: ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قدم العينان، فلما استقبل الصفراء - وهي قرية بين جبلين - سأل عن اسم جبليهما؛ فقالوا: اسم أحدهما: مسلح، والآخر: مخرى، وسأل عن أهلها؟ فقيل له: يسمون: بني النار، وبني حراق، بطنان من غفار، فكرههما والمرورَ بينهما، فتركهما والصفراء بيسار، وسلك ذات اليمين على وادِ يقال له ذفران.
وفي خلاصة الوفا: ذفران: واد معروف، قبل الصفراء بيسير يصب سيله فيها من المغرب، يسلكه الحاج المصري في رجوعه إلى ينبع، فيأخذ ذات اليمين كما فعله - عليه الصلاة والسلام - في ذهابه إلى غزوة بدر، وبه مسجد يتبرك به على يسار السالك إلى ينبع وأظنه مسجد ذفران.(1/246)
وفي القاموس: ذفران - بكسر الفاء - : واد قرب الصفراء.
قال: ولما نزل ذفران أتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش.
وفي الكشاف: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بذفران نزل عليه جبريل فقال: " يا محمد، إن الله وعدك إحدى الطائفتين: إما العير وإما قريش " فحينئذ استشار أصحابه فقال: " ما تقولون؟ إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحب إليكم أم النفير؟ " قالوا: العير أحب إلينا من لقاء النفير، فتغير وجهه - عليه الصلاة والسلام - ثم رد عليهم فقال: " إن العير قد مضت من ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل " . قالوا: يا رسول الله، عليك بالعير ودع العدو، فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر وأحسن، ثم قام سعد بن عبادة فقال: انظر أمرك وامض لما أمرت؛ فوالله! لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله؛ فنحن معك، والله! ما نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: " فَاَذهَب أَنتَ وَرَبك فَقاتلاَ إنَا ههُنَا قاعِدون " المائدة: 24، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، ما دامت منا عين تطرف، نقاتل عن يمينك وعن يسارك، ومن بين يديك ومن خلفك، فوالذي بعثك بالحق! لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له خيراً، ثم قال - عليه الصلاة والسلام - : " أشيروا علي " وإنما يريد الأنصار؛ وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا؛ نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا؛ فكان - عليه الصلاة والسلام - يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرة إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو بعيد عن بلادهم؛ فلما قال ذلك قال له سعد بن معاذ: كأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك مواثيقنا على السمع والطاعة فامض - يا رسول الله - لما أردت؛ فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضتَ بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا؛ وإنا لصُبُر في الحرب، صُدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك؛ فسر بنا على بركة الله.
فقال: " سيروا وأبشروا؛ فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله! لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم! " .
ثم ارتحل - عليه الصلاة والسلام - من ذفران فسلك على ثنايا يقال لها: الأصافر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له: الدَّبة بفتح الدال المهملة، وتشديد الباء الموحدة وفي القاموس: الدبة: موضع قرب بدر.
قال ابن إسحاق: وترك الحنان بيمين، وهو: كثيب عظيم كالجبل؛ ثم نزل قريباً من بدر فركب هو ورجل من أصحابه قال ابن هشام: الرجل: هو أبو بكر الصديق وسار حتى نزل على شيخ من العرب، فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه، فقال لهما الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أخبرتنا أخبرناك " . قال: وذاك بذاك؟ قال: " نعم قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فَإن كان صدقني الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي فيه قريش. فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نحن من ماء " ، ثم انصرفا عنه. قال: يقول الشيخ: ما من ماء؟ من ماء العراق؟ أراد - عليه الصلاة والسلام - أن يوهمه أنه من العراق، وكان العراق يسمى: ماءً؛ لكثرة الماء فيه، وإنما أراد - عليه الصلاة والسلام - أنه خلق من نطفة من ماء.(1/247)
ثم رجع - عليه الصلاة والسلام - إلى أصحابه، فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص - في نفر من أصحابه - إلى ماء بدر، يلتمسون الخبر، فأصابوا راوية لقريش، فيها غلام أسود لبني الحجاج، اسمه: أسلم، وغلام لبني العاص بن سعيد عريض بن يسار، وفر الباقون وكانوا كثيراً، وأول من بلغ قريشاً من الفرار: رجل اسمه عجير، فبلغهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا آل غالب، هذا ابن أبي كبشة مع أصحابه، قد أخذوا راويتكم مع غلامين منا أيها الوراد، فوقع في جيشهم انزعاج واضطراب وخوف، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلامين سألوهما، وهو - عليه الصلاة والسلام - يُصلي، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان صاحبِ العير، فضربوهما، فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما، وسلم - عليه الصلاة والسلام - من صلاته فقال: " إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله! إنهما لقريش، أخبراني عن قريش " قالا: هم والله وراء هذا الكثيب العقنقل فقال لهما: " كم القوم؟ " .فقالا: كثير. قال: " كم عدتهم؟ " .قالا: ما ندري. قال: " كم ينحرون كل يوم من الإبل؟ " قالا: يوماً تسعاً، ويوماً عشراً. فقال - عليه الصلاة والسلام - : " القوم بين التسعمائة والألف " . ثم قال لهما: " فمن فيهم من أشراف قريش؟ " قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عديبن نوفل، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية ابن خلف، ونُبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو بن عبد ود العامري فأقبل - عليه الصلاة والسلام - على الناس قائلاً: " هذه - والله - مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها " .
قال ابن إسحاق ولما أقبلت قريش ونزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا؛ فقال: إني أرى فيما يرى النائم وإني لبين النائم واليقظان: إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرس، حتى وقف ومعه بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان، وفلان فعد رجالاً ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش - ثم رأيته ضرب في لبة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه، فبلغت هذه الرؤيا أبا جهل، فقال: وهذا - أيضاً - نبي من بني المطلب، سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا!.
قال ابن هشام: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش:إنكم إنما خرجتم لتمنعوا رجالكم وأموالكم وعيركم، فارجعوا. فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدراً وكانت بدر موسماً من مواسم العرب، يجتمع لهم بها سوق في كل عام - فنقيم عليها ثلاثاً، فننحر الجزر ونطعم الطعام، ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان بالدفوف، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا؛ فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها، فامضوا. فوافوها فَسُقوا كئوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان!.
وقال أبي بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي - وكان حليفاً لبني زهرة - : يا بني زهرة، قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمةَ بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا علي عارها وارجعوا: فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في ضيعة، لا تسمعوا ما يقول هذا - يعني: أبا جهل - فرجعوا فلم يشهدها زُهري.
وقيل: إن سبب رجوعه بهم: أنه خلا بأبي جهل حين تراءى الجمعان، فقال: يا أبا الحكم، أترى أن محمداً يكذب؟ فقال أبو جهل: كيف يكذب على الله، وقد كنا نسميه الأمين؛ لأنه ما كذب قط، ولكن إذا اجتمعت في بني عبد مناف: السقاية، والرفادة، والحجابة، والمشورة، ثم تكون فيهم النبوة، فأي شيء بقي لنا؟! فحينئذ انخنس أبي ببني زهرة - وكانوا ثلاثمائة رجل - فسمي الأخنس من ذاك؛ لذلك فلم يشهد بدراً زهري، فأطاعوه وكان فيهم مطاعاً؛ كذا في الروض الأنف، ولم يبق بطن من قريش إلا وقد نفر منه ناس: إلا بني عدي بن كعب لم يخرج منهم أحد؛ فلم يشهد بدراً من هاتين القبيلتين: بني زهرة وبني عدي - أحد.(1/248)
وروى أن أبا سفيان لقي بني زهرة، فقال: يا بني زهرة لا في العير ولا في النفير؟! وهو أول من قالها؛ قالوا: أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع.
ولما بلغ أبا سفيان قولُ أبي جهل: والله، لا نرجع... إلى آخر ما قاله - قال: واقوماه!، هذا عَمَل عمرو بن هشام، يعني: أبا جهل.
ولما بلّغ أبو سفيان العيرَ إلى مَكة لحق بقريش، فمضى معهم وشهد بدراً، وجرح - يومئذ - جراحاتٍ، وأفلت هارباً ولحق بمكة راجلاً.
قال ابن إسحاق: ومضى القوم، وكانت بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة، فقالوا: والله، لقد عرفنا يا بني هاشم - وإن خرجتم معنا - أَن هواكم لَمَعَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فرجع طالب إلى مكة مع من رجع، وقال تلك الأبيات المتقدم ذكرها:
لا هم إما يغزون طالب... إلى آخره.
ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل، ونزل - عليه الصلاة والسلام - بطن الوادي، وهو يليل بين بدر وبين العقنقل الذي خلفه قريش في العدوة الدنيا أي: القربى إلى المدينة من بطن يليل، وبعث الله السماءَ وكان الوادي دهساً، فأصاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم المسير، وأصاب قريشاً منها ما لم يقدروا معه أن يرتحلوا، فخرج - عليه الصلاة والسلام - يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء ببدر فنزل به.
روى أنه في الليلة السابقة على يوم الحرب، غلب النوم والأمنة على المسلمين؛ بحيث لم يقدروا أن يكونوا أيقاظاً، روى عن الزبير أنه قال: سلط علي النوم، بحيث كلما أردت أن أجلس يلقيني النوم على الأرض، وكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال سعد بن أبي وقاص: رأيتني تقع ذقني بين ثديي، فلما أنتبه أسقط على جنبي. وكان مشركو قريش بقرب منهم، وقد غلبهم الخوف، فبعث - عليه الصلاة والسلام - عمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود إليهم، فرجعا وقالا: يا رسول الله، غلب على المشركين الخوفُ؛ حتى إذا صهلت خيلهم، ضربوا وجوهها من شدة الخوف.
وروى أن المسلمين قاموا، فاحتلم أكثرهم وأجنبوا، وقد غلب المشركون على الماء، فتمثل لهم الشيطان فوسوس إليهم، وقال: كيف تُنصرون وقد غُلبتم على الماء، وأنتم تظلون محدثين مجنبين والحال أن آية التيمم لم تنزل بعد وتزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله؟! فأشفقوا، فأرسل الله عليهم السماء حتى سال الوادي، فاتخذوا الحياض، وشربوا وسقوا الركاب، واغتسلوا وتوضئوا، وملئوا الأسقية، وانطفأ الغبار، وتلبدت لهم الأرض؛ حتى ثبتت عليها الأقدام ولم يمنع السير، وزالت عنهم الوسوسة وطابت النفوس؛ كما قال تعالى: " إذ يُغَشِيكُم اَلنُعاسَ أَمنًةَ منهُ... " - الآية الأنفال: 11.
ولما كانت " العدوة القصوى مناخ قريش أرضاً سهلة لينة، لم تبلغ أن تكون رملاً، وليس هو بتراب - أصابهم ما لم يقدروا أن يرتحلوا معه؛ فبادر - عليه الصلاة والسلام - حتى نزل على ماء من بدر، فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله، أهذا منزل أنزلكه الله؛ ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟! فقال - عليه الصلاة والسلام - : " بل هو الرأي والحرب والمكيدة " . قال: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني لك حوضاً فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال - عليه الصلاة والسلام - : " لقد أشرت بالرأي " . فنهض - عليه الصلاة والسلام - بالناس حتى أتى أدنى ماء من القوم فنزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه، فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
وكان نزوله عشاء ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان؛ كما مر.
ولما نزل، قام مع جماعة من أصحابه يسير في عرصة بدر، ويضع يده على الأرض، ويقول: " هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان " ؛ يرى أصحابه مصارع صناديد قريش، فوالله ما تجاوز أحد منهم الموضعَ الذي عين له.
وقال سعد بن معاذ: " يا رسول الله، ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ونعد عندك - ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانتِ الأخرى قعدت على ركائبك؛ فلحقت بمن وراءنا من قومنا؛ فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حباً لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك " .(1/249)
فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير، ثم بني لرسول الله عريشاً فكان فيه وفي الخلاصة للسيد السمهودي: مسجد بدر مكان العريش الذي بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر عنده، وهو معروف عند النخيل، والعين قريب منه، وبقربه في جهة القبلة مسجدَ آخر تسميه العامة: مسجد النصر لم أقف فيه على شيء.
قال ابن إسحاق: وارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت، فلما رآها - عليه الصلاة والسلام - تصوب من الكثيب إلى الوادي، قال: " اللهم، هذه قريش قد أقبلت بخيَلائها وفخرها وحديدها؛ تحادك وتكذّب رسولك: اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة " .
ثم قال - وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل أحمر - : " إن يكن في أحدِ من القوم خير، ففي راكب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا " .
وكان رجل من غفار يدعى: خفاف بن رحضة، بعث إلى قريش - حين مروا به - ابناً له بجزائر أهداها عليهم، وقال: إن أحببتم أمدكم بسلاح ورجال، فأرسلوا إليه: أن وصلتك رحم؛ فقد قضيت الذي عليك، ولعمري إن كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله، كما يزعم محمد وأصحابه؛ فما لأحد بالله من قِبَل.
فلما نزل الناس أقبل ناس من قريش حتى وردوا حوضه - عليه الصلاة والسلام - فيهم حكيم بن حزام، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " دعوهم " . فما شرب أحد منه إلا قتل يومه، ما عدا حكيم بن حزام فإنه لم يقتل، ثم أسلم بَعدُ، فحسن إسلامه، فكان إذا حلف واجتهد في يمينه قال: والله الذي نجاني من ماء بدر.
ولما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي، فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد، فدار بفرسه حول العسكر، ثم رجع فقال: ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلاً أو ينقصونه؛ ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد؟ فضرب في بطن الوادي، حتى أبعد فلم ير شيئاً، فرجع فقال: ما رأيت شيئاً؛ ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل السم الناقع، قوم لا منعة لهم ولا ملجأ إلا سيوفهم! والله، ما أرى أن يُقتل منهم رجل حتى يُقتلَ منكم رجل فإن أصابوا أعدادهم منكم، فلا خير في العيش بعد ذلك: فَروا رأيكم.
ولما سمع حكيم بن حزام كلام عمير، مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها المطاع؛ هل لك في التي لا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر!؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي، قال عتبة: قد فعلت، أنت علي بذلك إنما هو حليفي فعلي عقله، وما أصيب من ماله، فائت ابن الحنظلية - يعنى: أبا جهل، واسم أمه: أسماء بنت مخرمة إحدى بني نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة - فإني لا أخشى أن يُشجر أمر الناس غيره؛ ثم قام عتبة خطيباً فقال: يا معشر قريش، إنكم - والله - ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً، والله لئن أصبتموهم لا يزال الرجل ينظر في وجه رجلٍ يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فان أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك كفاكم ولم تتعرضوا لما يكره.
قلت: وهذا مصداق قوله - عليه الصلاة والسلام - : " إن يكن في أحد من القوم خير، ففي راكب الجمل الأحمر؛ إن يطيعوه يرشدوا " .
قال حكيم بن حزام: فانطلقت حتى جئت أبا جهل، فوجدته قد نثل درعاً له من جرابها فهو يهيئها، فقلت: يا أبا الحكم، إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا - للذي قاله عتبة - فقال أبو جهل: انتفخ - والله - سحر عتبة، حين رأى محمداً وأصحابه، كلا - والله - لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ذاك ولكنه قد رأى محمداً وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه؛ فقد تخوفكم عليه يعني: أبا حذيفة ابن عتبة، وكان قد أسلم قبل، وكان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ.
وفي رواية عن حكيم: فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن ورائه، وإذا ابن الحضرمي واقفٌ على رأسه، وهو يقول: قد فسخت عقدي من بني عبد شمس، وعقدي إلى بني مخزوم. قال حكيم: فجئت إلى عتبة وهو متكئ على خفاف بن رحضة الغفاري - المهدي الجزرَ السابق ذكرها - فأخبرته بمقالة أبي جهل، فقال عتبة: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو؟!.
وانتفاخ السحر: تقوله العرب للجبان؛ كناية عن الفزع.(1/250)
ومصفر استه: إنما قاله عتبة: لأن أبا جهل كان به بعض بَرَص في أليته، فكان يرد بالزعفران.
فغضب أبو جهل وطلع في وجهه الشر؛ فسل سيفه وضرب به متن فرسه، فقال له خفاف بن رحضة: بئس الفأل تفاءلت به.
ثم بعث أبو جهل إلى ابن الحضرمي فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثَأرَكَ بعينك؛ فقم وانشد خفرتك ومقتل أخيك.
فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صاح: واعمراه! واعمراه! فحميت الحرب، وحقب أمر الناس، واستوسقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد أبو جهل على الناس الرأي، الذي دعاهم إليه عتبة بن ربيعة.
وخرج الأسود بن عبدْ الأسد المخزومي - وكان رجلاً شرساً سيئ الخلق - فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه أو لأموتن دونه فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة، فأطن قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض: فوقع على ظهره تشخب رجله دماً، ثم حباً إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد بر يمينه، فأتبعه حمزة فضربه؛ حتى قتله في الحوض.
ثم التمس عتبة بن ربيعة بيضةً ليدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسعه؟ لعظم هامته أو انتفاخها، فلما رأى ذلك اعتجر ببرد له على رأسه، ثم خرج بين أخيه شيبة ابن ربيعة وولده الوليد بن عتبة بن ربيعة، حتى إذا نصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه ثلاثة من الأنصار: عوف ومعوذ ابنا الحارث، وعبد الله بن رواحة، فقالوا لهم: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة.
وقال ابن إسحاق: إن عتبة قال للثلاثة من الأنصار حين انتسبوا له: أكَفَاء كرام؛ إنما نريد من قومنا ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج لنا أَكفَاءنا من قومنا؛ فقال - عليه الصلاة والسلام - : قم يا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، قم يا حمزة بن عبد المطلب، قم يا علي بن أبي طالب فلما دنوا منهم قالوا: من أنتم. قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي، قالوا: نعم، أكفَاء كرام، فبارز عبيدة وكان أسن القوم - عتبة بن ربيعة، وبارز حمزةُ شيبة، وبارز علي الوليد بن عتبة.
فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدةُ وعتبةُ بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي على عتبة فذففا عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه.
قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس، ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: " إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل " . ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، معه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فكانت وقعة بدر يوم الجمعة، صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان؛ كما تقدم.
قال ابن إسحاق: وحدثني حبان بن واسع بن حبان، عن أشياخ من قومه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قِدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار، قال ابن هشام وهو مستنصل من الصف، فطعن في بطنه بالقدح وقال: " استو يا سواد " . فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل؛ فأقدني. قال: فكشف رسول الله ص عن بطنه، وقال: " استقد " . قال: فاعتنقه وقبل بطنه، فقال: " ما حملك على هذا يا سواد؟ " قال: يا رسول الله، حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك، أن يمس جلدي جلدك؟ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير.
قال ابن إسحاق: ثم عدَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف، ورجع إلى العريش، فدخله ومعه فيه أبو بكر، ليس معه فيه غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر؛ يقول - فيما يقول: " اللهم، إن تَهلِك هذه العصابةُ اليوم لا تُعبد " ؛ وأبو بكر يقول: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك!.
وقد خفق رسول الله خفقة وهو في العريش، ثم انتبه فقال: " أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع! " .
قال ابن إسحاق: وقد رُمي مهجع، مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بسهم فقُتل؛ فكان أول قتيل من المسلمين، ثم رمي حارثة بن سراقة أحد بني عدي ابن النجار، وهو يشرب من الحوض، فأصاب نحره فقتل.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم، وقال: " والذي نفس محمد بيده!(1/251)
لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر؛ إلا أدخله الله الجنة " قال: فقام عمير بن الحُمام أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن، فقال: بخ بخ، فما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء! قال: فقذف التمرات من يده، وأخذ السيف بيده فقاتل القوم حتى قتل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن عوف بن الحارث وهو ابن عفراء قال: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده؟ قال: " غمسُه يَده في العدو حاسراً " . قال: فنزع درعاً كانت عليه فقذفها، ثم آخذ سيفه فقاتل القوم، حتى قتل.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري، حليف بني زهرة، أنه حدثه لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض، قال أبو جهل: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة فكان هو المستفتح على نفسه.
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ حفنة من الحصباء، فاستقبل بها قريشاً، ثم قال: " شاهت الوجوه " . ثم نفحهم بها، فأمر أصحابه فقال: " شدوا " فكانت الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم. فلما وضع القومُ أيديهم يأسرون، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، متوشح بالسيف، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كرة العدو - رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟! " فقال: " أجل يا رسول الله، كانت أولَ وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخانُ في القتل أحب إلي من الاستبقاء للرجال " .
قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ: " إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم، قد أُخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يقتله؛ فإنه إنما خرج مستكرهاً " .
قال فقال أبو حذيفة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا، ونترك العباس؛ والله! إن لقيته لألحمنه بالسيف قال ابن هشام: ويقال لألجمنه.
قال ابن إسحاق: فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " يا أبا حفص فقال عمر: والله، إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص أيضرب وجه عم رسول الله ؟! " فقال عمر: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه بالسيف فوالله لقد نافق.
قال: فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمنٍ من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفاً، إلا أن تكفرها عني الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيداً.
قال ابن إسحاق: وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري بن هشام: لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم وبني المطلب، فلقيه المجذر بن زياد البلوي حليف الأنصار من بني سالم بن عوف، فقال المجذر لأبي البختري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك - ومع أبي البختري زميل له قد خرج معه من مكة، وهو: جنادة بن مليحة بن زهير بن الحارث بن أسد، وجنادة: من بني ليث واسم أبي البختري: العاصي قال: وزميلي؟ فقال له المجذر: لا والله، ما نحن بتاركي زميلك؛ وما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك.
قال: لا والله إذن لأموتن أنا وهو جميعاً؛ لا تحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصاً على الحياة. فقال أبو البختري - حين نازله المجذر وَأَبى إلا القتال - يرتجز:
لَنْ يُسلِمَ ابْنُ حُرة زَمِيلَهْ ... حَتى يَمُوتَ أو يَرَى سَبِيلَه
فاقتتلا، فقتله المجذر بن زياد، وقال المجذر في قتله أبا البختري:
إِمَا جَهِلْتَ أَوْ نَسِيتَ نَسَبي ... فَأَثبتِ النسبَةَ أَني من بَلِي(1/252)
أَلطَّاعِنِينَ بِرِمَاحِ اليَزَنِي ... وَالضارِبيِن الكَبشَ حَتى يَنحَنِي
بَشرْ بِيُتْمِ من أَبِيهِ البَختَرِي ... أَو بَشرَن بِمِثلِهَا مِني بَنِي
أَنا الَّذِي يُقَالُ: أَصْلِي مِنْ بَلِي ... أَطعُنُ بِالصعدَةِ حَتى تَنثَنِي
وَأَعْبِط انقِزنَ بِعَضبٍ مَشْرَفي ... أُرزِمُ لِلمَوتِ كَإرزامِ المَرِي
فَلاَ تَرَى مُجَذراً يَفرِي فَرِي
المري: الناقة التي يستنزل لبنها على عسر.
قال ابن إسحاق: ثم أتى المجذر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " والذي بعثك بالحق، لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به، فأبى إلا أن يقاتلني، فقاتلته فقتلته " .
قال: وحدثني يحمى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، وحدثنيه أيضاً عبد الله بن أبي بكر وغيرهما، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: كان أمية بن خلف صديقاً لي بمكة وكان اسمي: عبد عمرو، فسميت حين أسلمت: عبد الرحمن، فكان يلقاني فيقول: يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سماكه أبوك؟! فأقول: نَعَم فيقول: إني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئاً أدعوك به، أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول: وأما أنا فلا أدعوك لما لا أعرف، قال: فكان إذا دعاني: يا عبد عمرو، لم أجبه. قال: فقلت له: يا أبا علي، اجعل ما شئت. قال: فأنت عبد الإله. قال، فقلت: نعم. قال: فكنت إذا مررت به فيقول: يا عبد الإله فأجيبه، فأتحدث معه؛ حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه علي بن أمية آخذ بيده، ومعي أدراع قد استلبتها، فلما رآني قال: يا عبد عمرو، فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله، فقلت: نعم. فقال: هل لك في، فأنا خير لك من هذه الأدراع. قلت: نعم، ها الله إذن! فطرحت الأدراع وأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟! قال ابن هشام: أراد باللبن: أن من أسرني افتديت منه بالإبل الكثيرة اللبن.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن سعيد بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال لي أمية بن خلف - وأنا بينه وبين ابنه آخذ بأيديهما - : يا عبد الإله، من الرجل منكم الْمعلم بريشة نعامة في صدره؟ قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. قال عبد الرحمن: فوالله، إني لأقودهما إذ رآه بلال معي، وكان هو الذي يعذب بلالاً بمكة على ترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحد أحد. فلما رآه بلال قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا. قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة وأنا أَذُب عنه. قال: فأخلف رجل السيف فضرب رِجْل ابنِهِ فوقع، قال: وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، قال: فقلت له: انج بنفسك ولا نجاء بك، فوالله ما أغني عنك شيئاً. قال: فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما.
قال: فكان عبد الرحمن بن عوف يقول: يرحم الله بلالاً، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث عن ابن عباس، قال: حدثني رجل من بني غفار، قال: أقبلت أنا وابن عم لي، حتى أصعدنا في جبل يشرف على بدر، ونحن مشركان؛ ننتظر الوقعة: على من تكون الدائرة فننتهب مع من ينتهب، قال: فبينا نحن في الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلاً يقول: أقدم حيزوم. فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا فكدت أَهْلِك، ثم تماسكت وحيزوم: اسم فرس جبريل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة - وكان قد شهد بدراً - قال بعد أن ذهب بصره. لو كنت اليوم - ببدر ومعي بصري، لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك فيه ولا أتمارى.
قال: وحدثني أبي، إسحاقُ بن يسار، عن رجال من بني مازن بن النجار، عن أبي داود المازني - وكان شهد بدراً - قال: إني لأتبع رجلاً من المشركين يوم بدر؛ لأضربه، إذ وقع رأسهُ قبل أن يصل إليه، سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري.(1/253)
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن عباس، قال: كانت سيما الملائكة يوم بدر، عمائمَ بيضاء قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين: عمائم حمراء.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: العمائم: تيجان العرب، وكان سيما الملائكة يوم بدر: عمائم بيضاء قد أرخوها على ظهورهم، إلا جبريل، فإنه كانت عليه عمامة صفراء.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن مقسم، عن ابن عباس: ولم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عدداً ومدداً لا يضربون.
قال ابن إسحاق: وأقبل أبو جهل يومئذ يرتجز؛ يقاتل وهو يقول:
ما تَنْقمُ الحَرب العَوَانُ مِني ... بَازِلُ عَامَينِ حَدِيث سِني
لِمِثل هَذا وَلَدَتني أُمي
قال ابن هشام: وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: أحد أحد قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، أمر بأبي جهل بن هشام أن يلتمس في القتلى، وكان أولُ من لقي أبا جهل، كما حدثني ثور بن زيد عن عكرمة عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن أبي بكر أيضاً قد حدثني ذلك قالا: قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة: سمعت القوم، وأبو جهل في مثل الحرجهّ قال ابن هشام: الحرجة: الشجر الملتف وفي الحديث: عن عمر بن الخطاب، أنه سأل أعرابياً عن الحرجة؟ فقال: هي شجرة بين الأشجار لا يصل راع إليها وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، قال: فلما سمعتها جعلتها من شأني، فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملتُ عليه، فضربته ضربة أطنت قدمه من نصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت؛ إلا بالنواة تطيح من تحت مِرضَخَةِ النوى حين يضرب بها.
قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلتُ عامة يومي وإني لأسحبها خلْفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم وطئت بها عليها، حتى طرحتها.
قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان.
ثم مر بأبي جهل - وهو عقير - معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته، فتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل. فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل، حين أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتمس في القتلى، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - انظروا - إن خفي عليكم في القتلى - إلى أثر جرح في ركبته، إني ازدحمت أنا وهو يوماً على مائدة لعبد الله بن جُدعان ونحن غلامان، فكنت أسن مْنه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه: فجحشت إحداهما جحشاً لم يزل أثره به.
قال عبد الله بن مسعود: فوجدته بآخر رمق فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه، قال: وقد كان ضبث بي مرة بمكة فآذاني ولكزني، ثم قلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبما أخزاني، أعمد من رجل قتلتموه - وفي رواية: أعظم من رجل قتله قومه - أخبرني لمن الدبرة اليوم والدبرة: الغلبة والظفر قال: قلت: لله ولرسوله.
قال ابن إسحاق: فزعم رجل من بني مخزوم أن ابن مسعود كان يقول: قال لي: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعباً، قال: ثم احتززت رأسه، ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل بن هشام. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله الذي لا إله غيره؟ " قال: وكانت يمْين رسول الله. قال: قلت: نعم، والله الذي لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي، أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص - ومر به - : إني أراك كأن في نفسك شيئاً، أراك تظن أني قتلت أباك: إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، فأما أبوك فإني مررت به، وهو يبحث بحث الثور بروقه، فحدتُ عنه، وقصد له ابنُ عمه علي فقتله.(1/254)
قال ابن إسحاق: وقاتل عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي حليف بني عبد شمس ابن عبد مناف، يوم بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جزلاً من حطب، فقال: " قاتل بهذا يا عكاشة " . فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه: فعاد سيفاً في يده طويل القامة شديد المتن أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله به على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى: العون، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم الردة وهو عنده: قتله طلحة بن خويلد الأسدي.
قال ابن هشام: ونادى أبو بكر الصديق ابنه عبد الرحمن - وهو يومئذ مع المشركين - : أين مالي يا خبيث؟ فقال عبد الرحمن: من السريع.
لَمْ يَبْقَ غَيْرُ شِكَة وَيَعْبُوبْ ... وَصَارِم يَقتُلُ ضُلالَ الشيب
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا في القليب، طرحوا فيه؛ إلا ما كان من أمية بن خلف، فإنه انتفخ في درعه فذهبوا ليحركوه فتزايل، فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة. فلما ألقوهم في القليب، وقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني قد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً؟ " قال فقال له أصحابه: يا رسول الله، أتكلم قوماً موتى؟! فقال لهم: " لقد - علموا أن ما وعدهم ربهم حق " قالت عائشة: والناس يقولون: لقد سمعوا ما قلت لهم: فإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد علموا.
قال ابن إسحاق: وحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل، وهو يقول: " يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام فعد من كان منهم في القليب هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟! فإني وجدت ما وعني ربي حقاً " . فقال المسلمون: يا رسول الله، أتنادي أقواماً قد جيفوا؟! فقال: " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا " .
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - يوم قال هذه المقالة - : " يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم! كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس " . ثم قال: " هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ " للمقالة التي قالها.
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت: من الوافر:
عَرفْتُ ديَارَ زَيْنبَ بِالْكَثيبِ ... كَخَط الْوَحي في الوَرقِ الْقَشِيبِ
تَدَاوَلَهَا الريَاحُ وَكُلُّ جَونِ ... مِنَ الْوَسْمِي مُنهمِرٍ سَكُوب
فَأَمْسَى رَسْمُهَا خلقاً وَأَمْسَت ... يَباباً بَعْدَ سَاكِنهَا الْحَبِيبَ
فَدِعْ عَنْكَ التَّذَكرَ كُل يَوْمٍ ... وَرَُّد حَرَارَة الصَدْرِ الْكَئِيَبِ
وَخبرْ بِالذِي لا عَيْبَ فِيهِ ... بِصِدْقِ غَيرِ إِخْبَارِ الْكَذُوب
بِمَا صَنعَ المَليكُ غَدَاةَ بدر ... لَنَا في المُشْركينَ مِنَ النَّصيبَ
غَدَاةَ كَأن جَمعَهُمُ حِرَاء ... بَدَت أَرْكَانُهُ جُنْحَ الغُرُوب
فَلاقَيْنَاهُمُ مِنَّا بِجَمْعٍ ... كَأُلسْدِ الغَابِ مرْدَانٍ وَشيبِ
أَمَامَ محمدٍ قَدْ وَازرُوهُ ... عَلَى الأَعْداء في لَفْح الحُرُوبِ
بِأَيْدِيهِمْ صَوَارمُ مُرْهَفات ... وكلُّ مجرَّب خاظي الكُعُوبِ
بَنُو الأَوْسِ الغَطَارِفُ وازرتها ... بَنُو النجار في الذين الصَّليبِ
فَغَادَرْنَا أَبَا جَهْلٍ صَرِيعاً ... وَعُتْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا بالجُبُوبِ
وَشَيْبَةَ قَدْ تَرَكنَا فِي رِجَالِ ... ذَوِي حَسَب إِذَا نُسِبُوا حَسِيب
يُنَادِيهم رَسُولُ الله لما ... قَذَفنَاهُمْ كَبَاكِبَ فِي القَلِيبِ(1/255)
أَلَمْ تجدُوا كَلاَمِيَ كَانَ حَقاً ... وَأَمرُ الله يأخُذُ بِالقُلوب
فَمَا نَطَقُوا؛ وَلَوْ نَطَقُوا لَقَالُوا: ... صَدَقْتَ، وَكُنْتَ ذَا رَأي مُصيبِ
قال ابن إسحاق: ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم أن يلقوا في القليب، أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - إلى وجه ابنه أبي حذيفة بن عتبة، فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: " يا أبا حذيفة، لعلك قد داخلك من شأن أبيك شيء " أو كما قال صلى الله عليه وسلم فقال: لا والله يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً؛ وكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام، فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر، بعد الذي - كنت أرجوه له؛ أحزنني ذلك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيراً.
وكان الفتيةُ الذين قتلوا ببدر، ونزل فيهم من القران - فيما ذكر لنا: " إنَ اَلَذِينَ تَوَفتهُمُ اَلملائكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِم قَالوا فِيمَ كنتم قَالوُا كناَ مُستَضعَفينَ في اَلأرَض قَالُوا ألَم تكَن أَرضُ الله وَاسِعَةَ فَتهَاجِروا فيهَا فأؤُلَئكَ مَآوَاهُم جَهَنَمُ وَسَاءت مَصِيراً " ، النساء:97، فتيةَ مسمين: من بني أسد بن عبد العزى بن قصي: الحارث بن زمعة؛ ومن بني مخزوم: أبو قيس ابن الفاكه، وقيس بن الوليد بن المغيرة ومن بني جمح: علي بن أمية بن خلف، ومن بني سهم: العاص بن منبه: وذلك أنهم كانوا أسلموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما هاجر إلى المدينة حبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة وفتنوهم، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر، فأصيبوا به جميعاً.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما في العسكر مما جمع الناس، فجمع، فاختلف فيه المسلمون: فقال من جمعه: هو لنا، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه: والله لولا نحن ما أصبتموه، ولنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم! وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يخلص إليه العدو. والله ما أنتم بأحق به منا، لقد رأينا أن نقاتل العدو إذ منحنا الله أكتافهم، ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، ولكن خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرةَ العدو فقمنا دونه؟ فما أنتم بأحق به منا.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي - واسمه: صدي بن عجلان - قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال. فقال: فينا - أصحاب بدر - نزلت، حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقُنا، فنزعه الله، من أيدينا فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء؛ يقول: على سواء.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: حدثني بعض بني ساعدة، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة، قال: أصبت سيف بني عائذ المخزوميين الذي يسمى: المرزبان يوم بدر، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوا ما في أيديهم من النفل، أقبلت حتى ألقيته في النفل، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئاً يسأله فعرفه الأرقم بن أبي الأرقم، فسألَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه.
قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الفتح عبد الله بن رواحة، بشيراً إلى أهل العالية بما فتح الله على رسوله وعلى المؤمنين، وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر - حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي كانت عند عثمان بن عفان، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان بن عفان - زيد بن حارثة قد قدم، قال: فجئته وهو واقفٌ بالمصلى قد غشيه الناس، وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وزمعة بن الأسود، وأبو البختري العاص بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، قال قلت: يا أبت، أحق هذا؟ قال: نعم، والله يا بني.(1/256)
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً إلى المدينة ومعه الأسارى من المشركين، وفيهم: عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث بن كلدة، واحتمل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معه النفل الذي أصيب من المشركين، وجعل على النفل عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف ابن مبذول بن عمرو بن غنم بن مالك بن النجار، فقال راجز من المسلمين - قال ابن - هشام: يقال: هو عدي بن أبي الزغباء: من الرجز.
أَقم لَهَا صُدُورَها يَا بَسْبَسُ ... لَيس بِذي الطفح لَهَا معَرسُ
وَلاَ بِصَحرَاءِ غُمَيرٍ مَخبِسُ ... إن مَطَايَا القَومِ لاَ تُحَبسُ
فَحَملُهَا عَلَى الطَرِيقِ أَكيسُ ... قَد نَصَرَ اللهُ وَفر الأَخنَسُ
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على الكثيب بين المضيق وبين النازية يقال له سَيَر إلى سرحة به، فقسم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين، على السواء.
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين، فقال لهم سلمة بن سلامة - كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان - : ما الذي تهنئوننا به؟! فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعَاً كالبدن المعلقة، فنحرناها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: " أي ابن أخي، أولئك الملأ " .
قال ابن هشام: يريد بالملأ: الأشراف والرؤساء.
قال ابن إسحاق: حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء قتل النضر بن الحارث صبراً، قتله عليّ بن أبي طالب؛ كما أخبرني بعض أهل العلم من أهل مكة. قال ابن إسحاق: ثم خرج حتى إذا كان بعرق الظبية قتل عقبة بن أبي معيط.
قال ابن إسحاق: والذي أسر عقبةَ عبدُ الله بن سلمة أحدُ بني العجلان، فقال عقبة - حين أمر رسول الله بقتله - : فمن للصبية يا محمد؟! قال: " النار " . فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري، أخو بني عمرو بن عوف؛ كما حدثني أبو عبيدة بن عمار بن ياسر.
قال ابن هشام: ويقال قتله علي بن أبي طالب، فيما ذكره ابن شهاب الزهري وغيره.
ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الموضع أبو هند مولى فروة بن عمرو البياضي.
قال ابن هشام: وقد كان تخلف عن بدر، ثم شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حجام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أبو هند امرؤ من الأنصار، فأنكحوه وانكحوا إليه " ففعلوا.
قال ابن إسحاق: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قال: قدم بالأسارى، حين قدم بهم، وسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند آل عفراء في مناحهم على عوف ومعوذ ابني عفراء، قال: وذلك قبل أن يضرب عَلَيْهِن الحجاب.
قال: تقول سودة: والله إني لعندهم، إذ أُتينا فقيل: هؤلاء الأسارى قد أتى بهم، قالت: فرجعت إلى بيتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وإذا أبو يزيد سهيلُ بن عمرو في ناحية من الحجرة، مجموعةً يداه إلى عنقه، قالت: فلا والله ما ملكت نفسي، حين رأيت أبا يزيد كذلك، أن قلت: أي أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم، ألا متم كراماً؟! فوالله ما أنبهني إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت: " يا سودة، أعلى الله وعلى رسوله تحرضين؟ " قالت: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، ما ملكت نفسي، حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه، أن قلت ما قلت.(1/257)
قال ابن إسحاق: وحدثني نبيه بن وهب، أخو بني عبد الحارث أن رسول الله حين أقبل بالأسارى، فرقهم بين أصحابه، وقال: اسْتوصوا بالأسارى خيراً. قال: فكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم، أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه، في الأسارى، فقال أبو عزيز: مر بي أخي مصعبُ بن عمير، ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شُد يديك به؛ فإن أمه ذات متاع؛ لعلها تفديه منك. قال: وكنت في رهط من الأنصار، حتى أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم، خصوني بالخبز وأكلوا التمرة لوصية رسول الله ص إياهم بنا، فما تقع في يد رجل كسرة من الخبز إلا نفحني بها. قال: فأستحيي فأردها عليه، فيردها علي ما يمسها.
قال ابن إسحاق: وكان أبو عزيز صاحبَ لواء المشركين بعد النضر بن الحارث.
قال ابن إسحاق: فلما قال أخوه مصعب لأبي اليسر - وهو الذي أسره - ما قال، قال له أبو عزيز: يا أخي، هذه وصاتك بي؟! فقال أخوه مصعب: إنه أخي دونك، قال فسألت أمه عن أغلى ما فدى به قرشي؟ فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت بأربعة آلاف درهم ففدته بها.
قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش، الحيسمان بن عبد الله الخزاعي، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم ابن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام. فلما جعل يعدد أشراف قريش، قال صفوان بن أمية - وهو قاعد في الحجر - : والله، إن يعقل هذا فاسألوه عني، فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية. قال: هو ذاك جالساً في الحجر، وقد - والله - رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: ناحت قريش على قتلاها، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمداً وأصحابه: فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء.
وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الأسود، وعقيل ابن الأسود، والحارث بن زمعة بن الأسود، وكان يحب أن يبكي على بنيه، قال: فبينما هو كذلك، إذ سمع نائحة من الليل، فقال لغلام له - وقد ذهب بصره: - انظر هل أُحل النحب؟! هل بكت قريش على قتلاها؟! لعلي أبكي علْى أبي حكيمة يعني: زمعة فإن جوفي قد احترق. قال: فلما رجع إليه الغلام قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته.
قال: فذاك حين يقول الأسود: أمن الوافر:
أَتَبْكِي أنْ يَضِلَّ لهَا بَعِير ... وَيَمنعها مِنَ النومِ السهُودُ؟!
فَلا تَبْكي عَلَى بَكْر، وَلكنْ ... عَلَى بَدرٍ تَقَاصَرت الجُدُودُ
عَلَى بَدرٍ لسَرَاةِ بني هُصَيْص ... وَمَخزُومٍ وَرَهطِ أَبي الوَليدِ
وَبَكًي إن بَكَيتِ عَلى عَقِيلٍ ... وَبَكًي حَارثاً أَسَدَ الأُسُودِ
وَبَكي وَلاَ تَسمِي جَمِيعاً ... وَمَا لأبِي حَكِيمَةَ مِنْ نَدِيدِ
أَلاَ قَدْ سَادَ بَعْدَهُمُ رِجَالٌ ... وَلَوْلا يَوْمُ بدر لَمْ يَسُودُوا
قال ابن إسحاق: وكان في الأسارى: أبو وداعة بن ضبيرة السهمي، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: " إن له بمكة ابناً كيساً تاجراً ذا مال، وكأنكم به قد جاء في طلب فداء أبيه " . فلما قالت قريش: لا تعجلوا في فداء أسراكم؛ لا يأرب عليكم محمد وأصحابه قال المطلب بن أبي وداعة - وهو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عني - : صدقتم لا تعجلوا، وانسل من الليل فقدم المدينة فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم فانطلق به، ثم بعثت قريش في فداء الأسارى، فقدم مكرز بن حفص بن الأخيف في فداء سهيل بن عمرو، وكان الذي أسره مالك بن الدخشم، أخو بني سالم بن عوف، فقال: من المتقارب:
أَسَرْتُ سُهَيْلاً فَلاَ أَبتَغِي ... أَسِيراً بِهِ مِنْ جَمِيعِ الأُمَمْ
وَخِنْدِفُ تَعلَمُ أَن الْفَتَى ... فَتَاهَا سُهَيلٌ إِذَا يُظلمْ
ضَرَبْتُ بِذِي الشَفْرِ حَتَى انثَنَى ... وَأَكرَهْتُ نَفْسي عَلَى ذِي العَلَمْ
وكان سهيل أعلم؛ وهو المشقوق من الشفة العليا.
قال ابن هشام: وبعض أهل العلم بالشعر ينكر هذا الشعر لمالك بن الدخشم.(1/258)
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عمرو بن عطاء، أخو بني عامر بن لؤي، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، انزع ثنيتي سهيل بن عمرو؛ يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيباً في موضع أبداً.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أمثل به؛ فيمثل الله بي؛ وإن كنت نبياً " .
قال ابن إسحاق: وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر - في هذا الحديث: " إنه عسى أن يقوم مقاماً لا تذمه " وقد ذكر هذا المقام ابن هشام.
قال ابن إسحاق: فلما قاولهم فيه مكرز، وانتهى إلى رضاهم، قال: هات الذي لنا. قال: اجعلوا رجلي مكان رجله، وخلوا سبيله؛ حتى يبعث إليكم بفدائه. فخلوا سبيل سهيل، وحبسوا مكرزاً عندهم، فقال مكرز: من الطويل:
فديتُ بأذوادٍ ثَمَانٍ سِبَا فَتى ... يَنَالُ الصمِيمَ غُرمُهَا لاَ الموالِيَا
رَهَنتُ يَدِي والمالُ أَيْسَرُ من يَدِي ... علي وَلَكِني خَشيتُ المخَازِيَا
وقلتُ سُهْيل خَيْرُنَا فاذهَبُوا بهِ ... لأبنَائِنَا حتَى ندِيرَ الأَمَانِيَا
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: كان عمرو بن أبي سفيان بن حرب قال ابن هشام: أم عمرو بنت أبي عْمرو: أخت أبي معيط بن أبي عمرو - أسيراً في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسارى بدر.
قال ابن هشام: أسره علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: قيل لأبي سفيان: افد عمراً ابنك، فقال: أيجمع علي دمي ومالي؟! قتلْوا حنظلة وأفدى عمراً؛ دعوه في أيديهم يمسكونه ما بدا لهم. قال: فبينا هو كذلك محبوس بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال، أخو بني عمرو بن عوف، ثم أحد بني معاوية - معتمراً ومعه مرية له، وكان شيخاً مسلماً في غنم له بالبقيع، فخرج من هنالك معتمراً ولا يخشى الذي صنع به، لم يظن أنه يحبس بمكة إنما جاء معتمراً، وقد كان عهد قريش لا يعرضون لأحد جاء حاجاً أو معتمراً إلا بخير، فعدا عليه أبو سفيان ابن حرب فحبسه بابنه عمرو، ثم قال أبو سفيان: من الطويل:
أرهط ابْن أكَال أَجيبُوا دُعاءهُ ... تَعَاقدتمُ لاَ تُسلِمُوا السد الكَهلاَ
فَإن بني عَمْرو لِئَام أَذِلة ... لَئِن لَم يَفُكوا عَق أَسِيرهِمُ الكَبلاَ
فأجابه حسان بن ثابت: من الطويل:
لَو كَانَ سَعدٌ يَوْمَ مَكَةَ مُطلَقاً ... لأَكثَر فِيكم قَبل أن يُؤسَرَ القَتلاَ
بِعضْبٍ حُسامٍ أوْ بِصَفْرَاءَ نَبْعَةِ ... تَحِن إِذَا مَا أُنبضَت تحفز النبلاَ
ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله4 صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان: يفكوا به صاحبهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد.
قال ابن إسحاق: وأبو عزة عمرو بن عبد الله بن عثمان بن أهيب بن حذافة بن جمح، وكان محتاجاً ذا بنات، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال، فامنن علي، فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عليه ألا يظاهر عليه أحداً أبداً، فقال أبو عزة في ذلك: يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر فضله في قومه: من الطويل:
منْ مُبْلغ عَني الرسُول مُحَمَداً ... بِأنكَ حَق والمليكُ حَمِيدُ
وَأَنتَ امرؤ يَدْعُو إِلى الحَق والهدَى ... عَلَيك مِن الله العظيمِ شَهيدُ
وأَنتَ امرؤٌ بُوئْتَ فِينَا مبَاءة ... لهَا دَرَجَاتٌ سَفلَة وصعُودُ
فَإِنَّكَ مَنْ حَارَبتَهُ لَمحُارَب ... شَقي وَمن سالمتَهُ لسعِيدُ
وَلكن إذَا ذُكرْتُ بَدراً وَأَهْلَهُ ... تَأَؤبَ مَا بي حَسرَة وَقُعُودُ
قال ابن هشام: وكان فداء المشركين يومئذ أربعة آلاف درهم؛ إلا من لا شيء له فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/259)
حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: فلما انقضى أمر بدر، أنزل الله - عز وجل - فيه من القران الأنفال بأسرها، وكان مما أنزل فيها من اختلافهم في النفل، حين اختلفوا فيه: " يسئلَونَكَ عَنِ الأنَفَال قُلِ اَلأنفَالُ للهِ وَاَلرَسُولِ فَآتَقُوا اَللهَ وَأَصلِحُوا ذَاتَ بَينكمُ وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتمُ مُّؤمِنين " الأنفال:1 فكان عبادة بن الصامت - فيما بلغني - إذا سئل عن الأنفال قال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل يوم بدر، فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقنا، فرده على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه بيننا عن بواء يقول: على السواء وفي ذلك تقوى الله وطاعته، وطاعة رسوله، وصلاح ذات البين ثم ذكر القوم ومسيرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عرف القوم أن قريشاً ساروا إليهم، وإنما خرجوا يريدون العير طمعاً في الغنيمة، فقال: " كَمَا أَخرَجَكَ رَبُك مِن بَيتك باَلحق وَإنَّ فَرِيقاً مِنَ اَلمُؤمنِينَ لَكاَرِهُونَ يجادلوُنَكَ في الحَقِّ بعَد َمَا تبينَ كأنَما يسُاقُونَ إِلَى اَلمَوتِ وَهُم يَنظُرُونَ " الأنفال: 5،6 أي: كراهية للقاء القوم، وإنكاراً لمسير قريش حين ذكروا لهم " وَإذ يَعِدُكُمُ اَللهُ إِحدىَ اَلطَائفتينِ أَنهَا لَكُم وَتَوَدُونَ أَن غَيرَ ذَاتِ اَلشَوكةِ تَكونُ لَكم " الأنفال: 7، أي: الغنيمة دون الحرب " وَيُرِيد الله أَن يحِق ألحَق بكلمتهِ ويقطَعَ دَابِرَ اَلكافِرِينَ " الأنفال: 7، أي: بالوقعة التي أوقع بصناديد قريش وقادتهم يومئذ؛ تأييداً لدين الحق، دين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وهذه تسمية من شهد بدراً من المسلمين، ثم من قريش، ثم من بني هاشم بن عبد مناف، وبني المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وحمزة بن عبد المطلب بن هاشم أسد الله وأسد رسوله عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وزيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي أنعم الله عليه ورسوله عليه السلام.
قال ابن إسحاق: وآَنسَة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو كبشة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو مرثد كناز بن حصين بن يربوع، وابنة مرثد بن أبي مرثد حليفاً حمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخواه طفيل والحصين ابنا الحارث، ومسطح واسمه: عوف بن أثاثة بن عباد بن المطلب.
ومن عبد شمس: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، تخلف على امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه، قال: وأجري يا رسول الله؟! قال: " وأجرك " ، وأبو حذيفة بن ربيعة بن عبد شمس، وسالم مولى أبي حذيفة، واسم أبي حذيفة هذا: مهشم. وسالم: سائبة لثبيتة بنت يعار بن زيد، سيبته فانقطع إلى أبي حذيفة فتبناه.
قال ابن إسحاق: وزعموا أن صبيحاً مولى أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، تجهز للخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مرض فحمل على بعيره أبا سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ثم شهد صبيح بعد ذلك المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وشهد بدراً من حلفاء بني عبد شمس، ثم من بني أسد بن خزيمة: عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد، وعكاشة بن محصن، وشجاع بن وهب بن ربيعة، وأخوه عقبة بن وهب، ويزيد بن رقيش بن رئاب، وأبو سنان بن محصن، وابنه سنان بن أبي سنان، ومحرز بن نضلة ابن عبد الله، وربيعة بن أكثم أخي عكاشة بن محصن بن سخبرة بن عمرو بن لكيز ابن عامر بن غنم بن دودان بن أسد.
ومن حلفاء بني كبير بن غنم بن دودان بن أسد: ثقف بن عمرو، وأخواه: مالك ابن عمرو، ومدلج.
قال ابن هشام: مدلاج بن عمرو، وهم من بني حجر آل بني سليم.
وأبو مخشي حليف لهم. قال ابن هشام: أبو مخشي: طائي، واسمه: سويد بن مخشي.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان بن جابر من بني قيس بن عيلان، وخباب مولى عتبة بن غزوان.
ومن بني أسد بن عبد العزى بن قصي: الزبير بن العوام، وحاطب بن أبي بلتعة، وسعد مولى حاطب.(1/260)
قال ابن هشام: حاطب بن أبي بلتعة لخمي، وسعد مولاه كلبي.
ومن بني عبد الدار بن قصي: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وسويبط بن سعد بن حريملة.
ومن بني زهرة بن كلاب: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث ابن زهرة، وسعد بن أبي وقاص، وأخوه عمير بن أبي وقاص.
ومن حلفائهم: المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن قضاعة.
قال ابن إسحاق: وعبد الله بن مسعود من هذيل، ومسعود بن ربيعة من القارة. قال ابن هشام: القارة: لقب لهم يقال: قد أنصف القارة من راماها، وكانوا رماة.
وذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة من خزاعة، وإنما قيل له: ذو الشمالين؛ لأنه كان أعسر، واسمه: عمير. وخباب بن الأرت من بني تميم، ويقال: من خزاعة.
ومن بني تيم من مرة: أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - واسمه: عتيق، وقيل: عبد الله، ولقب بعتيق، لحسن وجهه وعتقه: وبلال بن رباح مولى أبي بكر، مولد من مولدي بني جمح، لا عقب له. وعامر بن فهيرة، مولى أبي بكر - رضي الله عنه - مولد من مولدي الأسد، لا عقب له. وصهيب بن سنان من النمر بن قاسط، ويقال: مولى عبد الله بن جُدعان، ويقال: إنه رومي، وقيل: كان أسيراً في الروم فاشترى منهم، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " صهيب سابق الروم " وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، كان بالشام لما قدم بعد رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر فكلمه فضرب له بسهمه، فقال: وأجري يا رسول الله؟. قال: " وأجرك " .
ومن بني مخزوم بن يقظة: أبو سلمة بن عبد الأسد، وشماس بن عثمان بن الشريد، والأرقم بن أبي الأرقم عبد مناف بن أسد، وعمار بن ياسر قال ابن هشام: عنسي من مذحج ومعتب بن عوف بن عامر من خزاعة، حليف لهم، وهو الذي يقال له: معتب بن حمراء.
ومن بني عدي بن كعب: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزي، وأخوه زيد ابن الخطاب، ومهجع مولى عمر - رضي الله عنه - من أهل اليمن أول من قتل بين الصفين رمى بسهم قال ابن هشام: مهجع من عك وعمرو بن سراقة، وأخوه عبد الله بن سراقة، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع ابن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم حليف لهم، وخولى بن أبي خولى، ومالك ابن أبي خولى؛ حليفان لهم، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب من عنز بن وائل، وعامر بن البكير بن عبد ياليل، وعاقل بن البكير، وخالد بن البكير، وإياس بن البكير حلفاء بني عدي بن كعب، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: قدم بعد بدر فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه، قال: وأجرى يا رسول الله. قال: " وأجرك " . ومن بني جمح: عثمان بن مظعون، وابنه السائب، وأخواه: قدامة بن مظعون، وعبد الله بن مظعون، ومعمر بن الحارث بن معمر.
ومن بني سهم: خنيس بن حذافة بن قيس.
ومن بني عامر بن لؤي، ثم من بني مالك بن حسل بن عامر: أبو سبرة بن أبي رهم، وعبد الله بن مخرمة بن عبد العزى، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، خرج مع أبيه سهيل بن عمرو، فلما نزل الناس بدراً فر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدها معه، وعمير بن عوف مولى سهيل بن عمرو، وسعد بن خولة حليف لهم.
قال ابن هشام: سعد بن خولة من اليمن.
ومن بني الحارث بن فهر: أبو عبية، وهو: عامر بن عبد الله بن الجراح، وسهيل بن وهب بن ربيعة، وأخوه صفوان بن وهب، وهما ابنا بيضاء، وعمرو بن أبي سرح بن ربيعة، وعمرو بن الحارث بن زهيرة الخمسة من هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث.
فجميع من شهد بدراً من المهاجرين، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره - ثلاثة وثمانون رجلاً.
قال ابن هشام: وكثير من أهل العلم - غير ابن إسحاق - يذكرون في المهاجرين ببدر من قريش، ثم من بني هاشم: العباس بن عبد المطلب عمه - عليه الصلاة والسلام - وفي بني عامر بن لؤي: وهب بن سعد بن أبي سرح، وحاطب بن عمرو، وفي بني الحارث بن فهر: عياض بن أبي زهير.(1/261)
قال ابن إسحاق: وشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين من الأنصار، ثم من الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ثم من بني عبد الأشهل بن جشم ابن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس - : سعد بن معاذ بن النعمان ابن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وعمرو بن معاذ بن النعمان، والحارث ابن أوس بن معاذ بن النعمان، والحارث بن أنس بن رافع بن امرئ القيس.
ومن بني عبيد بن كعب بن عبد الأشهل: سعد بن زيد بن مالك بن عبيد، ومن بني زاعوراء بن عبد الأشهل ويقال: زعوراء، فيما قاله ابن هشام: سلمة بن سلامة ابنْ وقش بن زغبة بن زاعوراء، وعباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زاعوراء، وسلمة ابن ثابت بن وقش، ورافع بن يزيد بن كرز بن سكن بن زاعوراء، والحارث بن خزمة ابن عدي، ويقال: خزيمة بن عدي، حليف لهم من بني عوف بن الخزرج، ومحمد ابن مسلمة بن خالد، حليف لهم من بني حارثة: وسلمة بن أسلم بن حريش، حليفهم من بني حارثة.
قال ابن إسحاق: وأبو الهثيم بن التيهان، وعبيد بن التيهان.
قال ابن هشام: ويقال: عتيك بن التيهان.
قال ابن إسحاق: وعبد الله بن سهل.
قال ابن هشام: عبد الله بن سهل: أخو بني زعوراء، ويقال: من غسان.
قال ابن إسحاق: ومن بني ظفر، ثم من بني سواد بن كعب قال ابن هشام: ظفر ابن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس: قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر بن سواد، وعبيد بن أوس بن مالك بن سواد، وهو الذي يقال له: مقرن؛ لأنه قرن أربعة أسرى في يوم بدر، وهو الذي أسر عقيل بن أبي طالب يومئذ.
قال ابن إسحاق: ومن بني عبد بن رزاح بن كعب: نصر بن الحارث بن عبد، ومعتب بن عبيد ومن حلفائهم من بليّ عبد الله بن طارق ثلاثة نفر، ومن بني حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس: مسعود بن سعد بن عامر بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة قال ابن هشام: ويقال: مسعود بن عبد سعد وأبو عبس بن جبر بن عمرو بن زيد بن جشم، ومن حلفائهم من بلي: أبو بردة بن نيار من بني عمرو بن الحاف بن قضاعة.
ومن بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، ثم من بني ضبيعة: عاصم بن - ثابت بن قيس، وقيس أبو الأقلح بن عصمة بن مالك، ومعتب بن قشير بن مليل بن زيد بن العطاف بن ضبيعة، وأبو مليل بن الأزعر بن زيد بن العطاف بن ضبيعة، وعمرو بن معبد بن الأزعر بن زيد بن العطاف بن ضبيعة قال ابن هشام: عمير بن معبد وسهل بن حنيف بن واهب بن العكيم من بني عمرو، الذي يقال له: بحزج ابن حنش بن عوف.
ومن بني أمية بن زيد بن مالك: مبشر بن عبد المنذر بن زنبر بن زيد بن أمية، ورفاعة بن عبد المنذر، وسعد بن عبيد بن النعمان، وعويم بن ساعدة، ورافع ابن عنجدة - وعنجدة: أمه - وعبيد بن أبي عبيد، وثعلبة بن حاطب. وزعموا أن أبا لبابة ابن عبد المنذر، والحارث بن حاطب خرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعهما، وأمر أبا لبابة على المدينة فضرب لهما بسهمين مع أصحاب بدر.
قال ابن هشام: ردهما من الروحاء؛ قال ابن هشام: وحاطب بن عمرو بن عبيد ابنْ أمية، واسم أبي لبابة: بشير.
قال ابن إسحاق: ومن بني عبيد بن زبد بن مالك: أنيس بن قتادة بن ربيعة بن خالد بن الحارث بن عبيد، ومن حلفائهم من بلي: معن بن عدي بن الجد بن العجلان بن ضبيعة، وثابت بن أقرم بن ثعلبة، وعبد الله بن سلمة بن مالك، وزيد بن أسلم بن ثعلبة، وربعي بن رافع بن زيد، وخرج عاصم بن عدي بن الجد بن عجلان، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب له بسهمه مع أصحاب بدر.
ومن بني ثعلبة بن عمرو بن عوف: عبد الله بن جبير بن النعمان، وعاصم بن قيس بن ثابت.
قال ابن إسحاق: وسالم بن عمير بن ثابت، وأبو ضياح بن ثابت بن النعمان، والحارث بن النعمان بن أمية، وخوات بن جبير بن النعمان: ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم مع أهل بدر.
ومن بني جحجبى بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف: منّر بن محمد بن عقبة ابن أحيحة بن الجلاح.
ومن حلفائهم من بني أنيف: أبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة.
قال ابن إسحاق: ومنْ بني غنم بن السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس: سعد بن خيثمة بن الحارث، ومنذر بن قدامة، ومالك بن قدامة بن عرفجة.
قال ابن إسحاق: والحارث بن عرفجة.
قال ابن هشام: عرفجة بن كعب بن النحاط بن كعب بن حارثة بن غنم.(1/262)
قال ابن إسحاق: وتميم مولى بني غنم.
ومن بني معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف: جبر بن عتيك بن الحارث بن قيس بن هيشة بن الحارث بن أمية بن معاوية، ومالك بن نميلة حليف لهم من مزينة، والنعمان بن عصر حليف لهم من بلى.
فجميع من شهد بدراً من الأوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ضرب له بسهمه وأجره - أحد وستون رجلاً.
قال ابن إسحاق: وشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين، ثم من الأنصار، ثم من الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ثم من بني الحارث ابن الخزرج، ثم من بني امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج - : خارجة بن زيد بن أبي زهير، وسعد بن ربيع بن عمرو بن أبي زهير، وعبد الله بن رواحة بن امرئ القيس، وخلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو ابن حارثة بن امرئ القيس.
ومن بني زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج: بشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس بن زيد، وأخوه سماك بن سعد؛ قال ابن هشام ويقال: جلاس، وهو عندنا خطأ.
ومن بني عدي بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج: سبيع بن قيس بن عيشة بن أمية بن مالك بن عامر بن عدي، وعباد بن قيس بن عيشة أخوه. قال ابن إسحاق: وعبد الله بن عبس.
ومن بني أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج: يزيد بن الحْارث بن قيس بن مالك بن أحمر.
ومن بني جشم بن الحارث بن الخزرج، وزيد بن الحارث بن الخزرج، وهما التوءمان - : خبيب بن أساف بن عتبة بن عمرو بن خديج بن عامر بن جشم، وعبد الله ابن زيد بن ثعلبة، وأخوه حريث بن زيد بن ثعلبة، زعموا، وسفيان بن بشر.
قال ابن هشام: سفيان بن نسر بن عمرو بن الحارث بن كعب بن زيد.
قال ابن إسحاق: ومن بني جدارة بن عوف بن الحارث بن الخزرج: تميم بن يعار بن قيس بن عدي بن أمية بن جدارة، وعبد الله بن عمير بن عدي بن أمية بن جدارة، وزيد بن المزين بن قيس، وعبد الله بن عرفطة بن عدي بن أمية بن جدارة.
ومن بني الأبجر، وهم بنو خُدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج: عبد الله بن ربيع بن قيس بن عمرو بن عباد بن الأبجر.
ومن بني عوف بن الخزرج، ثم من بني عبيد بن مالك بن سالم بن غنم بن عوف بن الخزرج، وهم بنو الحبلى قال ابن هشام: الحبلى سالم بن غنم: سمي به لعظم بطنه: - عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن مالك بن الحارث بن عبيد، وسلول أم أبيّ، وأوس بن خولي بن عبد الله بن الحارث بن عبيد.
ومن بني جزء بن عدي بن مالك بن سالم: زيد بن وديعة بن عمرو بن قيس بن جزء، وعقبة بن وهب بن كلدة، حليف لهم من بني عبد الله بن غطفان، ورفاعة بن عمرو بن زيد، وعامر بن سلمة بن عامر، حليف لهم من اليمن وأبو خميصة معبد ابن عباد بن قشير بن المقدم بن سالم بن غنم، وعامر بن البكير حليف لهم.
ومن بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، ثم من بني العجلان بن زيد بن غنم بن سالم: نوفل بن عبد الله بن نضلة بن مالك بن العجلان.
ومن بني أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف: عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم، وأخوه أوس بن الصامت.
ومن بني دعد بن فهر بن ثعلبة بن غنم: النعمان بن مالك بن ثعلبة بن دعد، والنعمان الذي يقال له: قوقل.
ومن بني قربوش بن غنم بن أمية بن لوذان بن سالم: ثابت بن هزال بن عمرو ابن قربوش، ويقال: قربوس بالمهملة.
ومن بني مرضخة بن غنم: مالك بن الدخشم قال ابن إسحاق: ومن بني لوذان ابن غنم بن سالم: ربيع بن إياس بن عمرو بن غنم بن أمية بن لوذان، وأخوه ورقة ابن إياس، وعمرو بن إياس حليف لهم من أهل اليمن.
قال ابن هشام: ويقال عمرو أخو ربيع وورقة.
قال ابن إسحاق: ومن حلفائهم من بلى، ثم من بني غصينة وغصينة: أمهم؛ كما قال ابن هشام، وأبوهم: عمرو بن عمارة: المجذر بن زياد، واسم المجذر: عبد الله بن عمرو بن زمزمة، وعباد، ويقال: عبادة بن الخشخاش بن عمرو بن زمزمة، ونحاب بن ثعلبة بن خزمة، ويقال: نحاث بن ثعلبة، وعبد الله بن ثعلبة ابن خزمة بن أصرم.
قال ابن هشام: وزعموا أن عتبة بن ربيعة بن خالد بن معاوية حليف لهم من بهراء قد شهد بدراً.
قال ابن هشام: عتبة بن بهز من بني سليم.(1/263)
ومن بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، ثم من بني ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة: أبو دجانة سماك بن أوس بن خرشة بن لوذان، والمنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة ابن لوذان.
ومن بني البدي بن عامر بن عوف بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة: أبو أسيد ماْلك بن ربيعة بن البدي، ومالك بن مسعود وهو إلى البدي.
ومن بني طريف بن الخزرج بن ساعدة: عبد ربه بن حق بن أوس بن وقش بن ثعلبة بن طريف، ومن حلفائهم من جهينة: كعب بن حمار بن ثعلبة قال ابن هشام: ويقال: كعب بن جماز وهو من غبشان وضمرة وزياد وبسبس بنو عمرو، ويقال: ضمرة وزياد ابنا بشر، وعبد الله بن عامر من بلي.
ومن بني جشم بن الخزرج، ثم من بني سلمة بن سعد، ثم من بني حرام بن كعب بن غنم: خراش بن الصمة بن عمرو بن الجموح، والحباب بن المنذر بن الجموح، وعمير بن الحمام بن الجموح، وتميم مولى خراش بن الصمة، وعبد الله بن عمرو بن حرام، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ بن عمرو بن الجموح، وخلاد بن عمرو بن الجموح، وعقبة بن عامر بن نابي، وخبيب بن الأسود مولى لهم، وثابت بن ثعلبة بن زيد بن الحارث بن حرام، وثعلبة الذي يقال له: الجذع، وعمير بن الحارث بن ثعلبة.
قال ابن هشام: وكل ما كان - ها ههنا - الجموح، فهو: الجموح بن زيد بن حرام، إلا ما كان من جد الصمة، فإنه الجموح بن حرام.
قال ابن إسحاق: ومن بني عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة، ثم من بني خنساء بن سنان بن عبيد: بشر بن البراء بن معرور بن صخر بن خنساء، والطفيل بن مالك بن خنساء، والطفيل بن النعمان بن خنساء، وعبد الله بن الجد بن قيس بن صخر بن خنساء، وسنان بن صيفي بن صخر بن خنساء، وعتبة بن عبد الله بن صخر ابن خنساء، وجبار بن صخر، وخارجة بن حمير، وعبد الله بن حمير حليفان لهم من أشجع، من بني دهمان.
قال ابن هشام: ويقال: جبار بن صخر بن أمية بن خناس.
قال ابن إسحاق: تسعة نفر.
ومن بني خناس بن سنان بن عبيد: يزيد بن المنذر بن سرح بن خناس، ومعقل ابن المنذر بن سرح، وعبد الله بن النعمان بن بلدمة، والضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بن عبيد، وسواد بن زريق بن ثعلبة بن عبيد قال ابن هشام: ويقال: سواد بن رزن بن زيد بن ثعلبة ومعبد بن قيس بن صخر بن حرام، وعبد الله بن قيس بن صخر بن حرام.
ومن بني النعمان بن سنان بن عبيد: عبد الله بن عبد مناف بن النعمان، وجابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان، وخليدة بن قيس بن النعمان، والنعمان بن سنان مولى لهم.
ومن بني سواد بن غنم بن كعب بن سلمة، ثم من بني حديدة بن عمرو بن غنم ابن سواد: أبو المنذر، وهو يزيد بن عامر بن حديدة، وسليم بن عمرو بن حديدة، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعنترة مولى سليم بن عمرو.
قال ابن هشام: عنترة: من بني سليم بن منصور ثم من بني ذكوان.
ومن بني عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن غنم: عبس بن عامر بن عدي، وثعلبة بن غنمة بن عدي، وأبو اليسر، وهو: كعب بن عمرو بن عباد بن عمرو بن غنم بن سواد، وسهل بن قيس بن أبي كعب بن القين بن كعب بن سواد، وعمرو بن طلق بن زيد بن أمية بن سنان بن كعب بن غنم، ومعاذ بن جبل بن عمرو.
قال ابن هشام: إنما نسب ابن إسحاق معاذ بن جبل في بني سواد، وليس منهم؛ لأنه فيهم.
قال ابن إسحاق: والذين كسروا آلهة بني سلمة: معاذ بن جبل، وعبد الله بن أنيس، وثعلبة بن غنمة، وهم في بني سواد بن غنم.
قال ابن إسحاق: ومن بني زريق بن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج، ثم من بني مخلد بن عامر بن زريق، ويقال: عامر بن الأزرق: قيس بن محصن بن خالد بن مخلد، وأبو خالد، وهو: الحارث بن قيس ابن خالد بن مخلد، وجبير بن إياس بن خالد بن مخلد، وأبو عبادة، وهو: سعد بن عثمان بن خلدة بن مخلد، وأخوه عقبة بن عثمان بن خلدة بن مخلد، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد، ومسعود بن خلدة بن عامر بن مخلد.
ومن بني خلدة بن عامر بن زريق: أسعد بن يزيد بن الفاكه بن زيد بن خلدة، والفاكه بن بشر بن الفاكه بن زيد بن خلدة.
قال ابن هشام: بسر بن الفاكه، معاذ بن ماعص بن قيس بن خلدة؛ وأخوه عائذ ابن ماعص بن قيس بن خلدة، ومسعود بن سعد بن قيس بن خلدة.(1/264)
ومن بني العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق: رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان، وأخوه خلاد بن رافع بن مالك بن العجلان، وعبيد بن زيد بن عامر بن العجلان.
ومن بني بياضة بن عامر بن زريق: زياد بن لبيد بن ثعلبة بن سنان بن عامر بن عدي بن أمية بن بياضة، وفروة بن عمرو بن وذفة بن عبيد بن عامر بن بياضة، ورجيلة - بالمعجمة - وعطية بن نويرة بن عامر بن بن عامر بن بياضة، وخليفة بن عدي بن عمرو بن مالك بن عامر بن فهيرة بن بياضة. قال ابن هشام: ويقال: عليفة.
ومن بني حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج: رافع بن المعلى بن لوذان بن حارثة بن عدي بن زيد بن ثعلبة بن زيد مناة بن حبيب.
ومن بني النجار، وهو: تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، ثم من بني غنم ابن مالك بن النجار، ثم من بني ثعلبة بن عبد عوف بن غنم: أبو أيوب خالد بن زيد ابن كليب بن ثعلبة.
ومن بني عسيرة بن عبد عوف بن غنم: ثابت بن خالد بن النعمان بن خنساء بن عسيرة. قال ابن هشام: ويقال: عشيرة.
قال ابن إسحاق: ومن بني عمرو بن عبد بن عوف بن غنم: عمارة بن حزم بن زيد بن لوذان بن عمرو، وسراقة بن كعب بن عبد العزى بن غزية بن عمرو.
ومن بني عبيد بن ثعلبة بن غنم: حارثة بن النعمان بن زيد بن عبيد، وسليم بن قيس بن قهد، واسمه: خالد بن قيس بن عبيد.
ومن بني عائذ بن ثعلبة بن غنم، ويقال: عابد، بالموحدة والمهملة - : سهيل بن رافع بن أبي عمرو بن عائذ، وعدي بن أبي الزغباء، حليف لهم من جهينة.
ومن بني زيد بن ثعلبة بن غنم: مسعود بن أوس بن زيد، وأبو خزيمة بن أوس بن زيد بن أصرم بن زيد، ورافع بن الحارث بن سواد بن زيد.
ومن بني سواد بن مالك بن غنم: عوف ومعوذ ومعاذ، بنو الحارث بن رفاعة بن سواد؛ بنو عفراء، والنعمان بن عمرو بن رفاعة بن سواد ويقال: نعيمان؛ فيما قال ابن هشام وعامر بن مخلد بن الحارث بن سواد، وعبد الله بن قيس بن خالد بن خلدة بن الحارث بن سواد، وعصيمة حليف لهم من أشجع، ووديعة بن عمرو حليف لهم من جهينة، وثابت بن عمرو بن زيد بن عدي بن سواد، وزعموا أن أبا الحمراء مولى الحارث بن عفراء شهد بدراً.
ومن بني عامر بن مالك بن النجار، وعامر مبذول، ثم من بني عتيك بن عمرو بن مبذول: ثعلبة بن عمرو بن محصن بن عمرو العتكي، وسهل بن عتيك بن عمرو ابن النعمان، والحارث بن الصمة بن عمرو بن عتيك، كسر به في الروحاء، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره.
ومن بني عمرو بن مالك بن النجار، وهم: بنو حديلة، ثم من بني قيس بن عبيد ابن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار: أبي بن كعب بن قيس، وأنس بن معاذ بن أنس بن قيس.
ومن بني عدي بن عمرو بن مالك بن النجار: أوس بن ثابت بن المنذر بن حرام ابن عمرو بن زيد مناة بن عدي، وأبو شيخ بن أبي ثابت بن المنذر بن حرام؛ أخو حسان بن ثابت، وأبو طلحة، وهو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام.
ومن بني عدي بن النجار، ثم من بني عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار: حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر، وعمرو بن ثعلبة ابن وهب بن عدي، وهو أبو حكيم، وأبو سليط: وهو أسيرة بن قيس بن عمرو، وعمرو أبو خارجة بن قيس بن مالك بن عدي بن عامر، وثابت بن خنساء بن عمرو ابن مالك بن عدي بن عامر، وعامر بن أمية بن زيد بن الحسحاس بن مالك بن عدي ابن عامر، ومحرز بن عامر بن مالك بن عدي، وسواد بن غزية بن أهيب، حليف لهم من بلي، ويقال: سواد.
قال ابن إسحاق: ومن بني حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار: أبو زيد قيس بن سكن بن قيس بن زعوراء بن حرام، وأبو الأعور بن الحارث بن ظالم بن عبس بن حرام، وسليم بن ملحان، وحرام بن ملحان.
ومن بني مازن بن النجار، ثم من بني عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن ابن النجار: قيس بن أبي صعصعة، واسم أبي صعصعة: عمرو بن زيد بن عوف، وعبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف، وعصيمة حليف لهم من بني أسد بن خزيمة.
ومن بني خنساء بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن: أبو داود عمير بن عامر بن مالك بن خنساء، وسراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء.
ومن بني ثعلبة بن مازن بن النجار: قيس بن مخلد بن ثعلبة بن صخر بن حبيب ابن الحارث بن ثعلبة.(1/265)
ومن بني دينار بن النجار، ثم من بني مسعود بن عبد الأشهل بن حارثة بن دينار ابن النجار: النعمان بن عبد عمرو بن مسعود، والضحاك بن عبد عمرو بن مسعود، وسليم بن الحارث بن ثعلبة بن كعب بن حارثة بن دينار، وهو أخو الضحاك، والنعمان ابني عبد عمرو، لأمهما؛ وجابر بن خالد بن عبد الأشهل بن حارثة، وسعد بن سهيل بن عبد الأشهل.
ومن بني قيس بن مالك بن كعب بن حارثة بن دينار بن النجار: كعب بن زيد بن قيس، وبجير بن أبي بجير، حليف لهم من عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان، ثم من بني جذيمة بن رواحة.
قال ابن إسحاق: فجميع من شهد بدراً من الخزرج: مائة وسبعون رجلاً.
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم يذكر في الخزرج ببدر في بني العجلان بن زيد ابن غنم: عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان، ومليل بن وبرة بن خالد بن العجلان، وعصمة بن الحصين بن وبرة بن خالد بن العجلان.
وفي بني حبيب بن عبد: حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج، وهم من بني زريق، وهلال بن المعلى بن لوذان بن حارثة بن عدي بن زيد بن ثعلبة بن مالك بن زيد مناة بن حبيب.
قال ابن إسحاق: فجميع من شهد بدراً من المسلمين من المهاجرين والأنصار، ومن ضرب له بسهمه وأجره ثلاثمائة رجل وأربعة عشر رجلاً؛ ثلاثة وثمانون من المهاجرين، ومن الأوس واحد وستون، ومن الخزرج مائة وسبعون رجلاً.
واستشهد من المسلمين يوم بدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قريش، ثم من بني المطلب بن عبد مناف: عبيدة بن الحارث بن المطلب: قتله عتبة بن ربيعة، قطع رجله فمات بالصفراء.
ومن بني زهرة بن كلاب: عمير بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة؛ أخو سعد بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة، حليف لهم من خزاعة.
ومن بني عدي بن كعب بن لؤي: عاقل بن البكيرة حليف لهم من بني سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، ومهجع مولى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
ومن بني الحارث بن فهر: صفوان بن بيضاء.
ومن الأنصار، ثم من بني عمرو بن عوف: سعد بن خيثمة، ومبشر بن عبد المنذر ابن زنبر، ويقال: مرة بن زنبر.
ومن بني الحارث بن الخزرج: يزيد بن الحارث، وهو الذي يقال له: ابن فسحم.
ومن بني سلمة، ثم من بني حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة: عمير بن الحمام.
ومن بني حبيب بن عبد حارثة: رافع بن المعلى، ومن بني النجار: حارثة بن سراقة بن الحارث، ومن بني غنم بن مالك بن النجار: عوف ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد، وهما ابنا عفراء نقل صاحب تاريخ الخميس العلامة حسين بن محمد الديار بكري، عن الجلال الدواني، عن كبار مشايخه - أن الدعاء مستجابٌ عند ذكر أصحاب بدر، رضي الله تعالى عنهم ونفعنا بهم.
تسميةُ من قتل من المشركين يوم بدر:
من قريش، ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف: حنظلة بن أبي سفيان بن حرب ابن أمية بن عبد شمس: قتله زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال: اشترك فيه حمزة، وعلي، وزيد؛ قاله ابن هشام. وعتبة بن ربيعة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وأخوه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن عتبة. والحارث وعامر ابنا الحضرمي حليفان لهم: قتل عامراً عمارُ بن ياسر، وقتل الحارث النعمان بن عصر، حليف الأوس؛ فيما قال ابن هشام.
وعمير بن أبي عمير وابنه موليان لهم: قتل عميراً سالم مولى أبي حذيفة.
قال ابن إسحاق: وعبيدة بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس: قتله الزبير بن العوام، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية: قتله علي بن أبي طالب، وعقبة بن أبي معيط: قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، أخو بني عمرو بن عوف - صبراً.
قال ابن هشام: ويقال: علي بن أبي طالب.
قال ابن إسحاق: وعتبة بن ربيعة: قتله عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.
قال ابن هشام: اشترك فيه هو وحمزة وعلي.
قال ابن إسحاق: وشيبة بن ربيعة: قتله حمزة بن عبد المطلب. والوليد بن عتبة بن ربيعة: قتله علي بن أبي طالب. وعامر بن عبد الله، حليف لهم من بني أنمار ابن بغيض: قتله علي بن أبي طالب.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: الحارث بن عامر بن نوفل: قتله - فيما يذكرون - خبيب بن أساف، أخو بني الحارث بن الخزرج. وطعيمة بن عدي بن نوفل: قتله علي بن أبي طالب، ويقال: حمزة بن عبد المطلب.(1/266)
ومن بني أسد بن عبد العزي: زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، قال ابن هشام: قتله ثابت بن الجذع، أخو بني حرام، ويقال: اشترك فيه علي وحمزة وثابت.
قال ابن إسحاق: والحارث بن زمعة: قتله عمار بن ياسر؛ فيما قال ابن هشام.
وعقيل بن الأسود بن المطلب: قتله حمزة وعلي. وأبو البختري العاصي بن هشام: قتله المجذر بن زياد البلوي. ونوفل بن خويلد بن أسد، وهو ابن العدوية عدي خزاعة، أخو خديجة - رضي الله عنها - وكان من شياطين قريش، وهو الذي قرن أبا بكر الصديق وطلحة بن عبيد الله، حين أسلما؛ فكانا يسميان: القرينين لذلك، قتله علي بن أبي طالب.
ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف ابن عبد الدار: قتله علي بن أبي طالب صبراً، عند عود رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء فيما يذكرون قال ابن هشام: ويقال: النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة وزيد بن مليص، مولي عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار: قتله بلال بن رباح مولى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وقيل قتله المقداد بن عمرو.
قال ابن إسحاق: ومن تيم بن مرة: عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم: قتله علي بن أبي طالب، ويقال: قتله عبد الرحمن بن عوف. وعثمان بن مالك بن عبيد الله بن عثمان بن كعب: قتله صهيب بن سنان.
ومن بني مخزوم بن يقظة بن مرة: أبو جهل بن هشام، واسمه: عمرو بن هشام ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، ضربه معاذ بن عمرو بن الجموح، فقطع رجله، وضربَ ابنُه عكرمة، يد معاذ فطرحها، ثم ضربه معوذ بن عفراء؛ حتى أثبته وتركه وبه رمق، ثم ذفف عليه عبد الله بن مسعود، واحتز رأسه حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به أن يلتمس في القتلى.
والعاصي بن هشام بن المغيرة: قتله عمر بن الخطاب.
ويزيد بنْ عبد الله حليف لهم من بني تميم. قال ابن هشام: ثم أحد بني عمرو ابن تميم وكان شجاعاً قتله عمار بن ياسر. قال ابن إسحاق: وأبو مسافع الأشعري حليف لهم: قتله أبو دجانة الساعدي. وحرملة بن عمر حليف لهم: قتله خارجة بن زيد بن أبي زهير، أخو بني الحارث بن الخزرج، ويقال: قتله علي بن أبي طالب؛ قالهما ابن هشام.
وحرملة من بني الأسد، ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة: قتله علي بن أبي طالب، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة: قتله عمار بن ياسر، ويقال: علي بن أبي طالب؛ ورفاعة بن أبي رفاعة بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم: قتله سعد ابن الربيع، أخو بلحارث بن الخزرج، فيما قال ابن هشام.
والمنذر بن أبي رفاعة بن عائذ: قتله معن بن عدي بن الجد بن العجلان حليف لهم. وعبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة بن عائذ: قتله علي بن أبي طالب، والسائب ابن أبي السائب بن عائذ.
قال ابن هشام: والسائب بن أبي السائب: شريك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء في الحديث فيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم الشريكُ السائبُ لا يشاري ولا يماري " وكان أسلم فحسن إسلامه فيما بلغنا.
قال: وذكر ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس: أن السائب بن أبي السائب بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش، وأعطاه يوم الجعرانة من غنائم حنين، وذكر غير ابن إسحاق أن الذي قتله: الزبير بن العوام.
قال ابن إسحاق: والأسود بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم: قتله حمزة بن عبد المطلب. وحاجب بن السائب قتله علي بن أبي طالب. وعويمر بن السائب بن عويمر: قتله النعمان بن مالك القوقلي مبارزة، فيما قال ابن هشام وعمرو بن سفيان وجابر بن سفيان، حليفان لهم من طيئ: قتل عمراً يزيد بن رقيش، وقتل جابراً أبو بردة بن نيار.
ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي: منبه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، قتله أبو اليسر أخو بني سلمة، وابنه العاصي بن منبه بن الحجاج: قتله علي بن أبي طالب، ونبيه بن الحجاج: قتله حمزة بن عبد المطلب، وسعد بن أبي وقاص: اشتركا فيه فيما قاله ابن هشام وأبو العاص بن قيس بن علي ابن سعيد بن سهم: قتله علي بن أبي طالب، ويقال: النعمان بن مالك القوقلي، ويقال: أبو دجانة. وعاصم بن أبي عوف بن صبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم: قتله أبو اليسر أخو بني سلمة.(1/267)
ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي: أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح: قتله رجل من الأنصار من بني مازن، وقيل: قتله معاذ بن عفراء، وخارجة بن زيد، وخبيب بن أساف؛ اشتركوا فيه. وابنه علي بن أمية بن خلف: قتله عمار بن ياسر. وأوس بن معير بن لوذان بن سعد بن جمح: قتله علي ابن أبي طالب، ويقال: قتله الحصين بن الحارث بن المطلب، وعثمان بن مظعون؛ اشتركا فيه، فيما قاله ابن هشام.
ومن بني عامر بن لؤي: معاوية بن عامر، حليف لهم من عبد القيس: قتله علي ابن أبي طالب، ويقال: عكاشة بن محصن. ومعبد بن وهب، حليف لهم من بني كلب بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث: قتله خالد وإياس ابنا البكير، ويقالة أبو دجانة.
قال ابن إسحاق: فجميع من أحصى لنا من قتلى قريش يوم بدر: خمسون رجلاً.
قال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة معمر بن المثنى، عن أبي عمرو؛ أن قتلى بدر من المشركين كانوا سبعين رجلاً، والأسرى كذلك، وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب، وفي كتاب - الله عز وجل: " أوَ لمَا أَصابتكمُ مصِيبَة قد أَصَبتُم مِثلَيها " اَل عمران: 165، يقول لأصحاب أحد وكان من استشهد منهم سبعين رجلاً، يقول: قد أصبتم يوم بدر مثلي من استشهد منكم بأحد سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً.
قال: وأنشدني أبو زيد الأنصاري لكعب بن مالك: من الكامل:
فأَقَامَ بِالعَطَنِ المُعَطنِ مِنهُمُ ... سَبعُونُ عُتبَةُ مِنهُمُ وَالأَسوَدُ
قال ابن هشام: يعني قتلى بدر. وهذا البيت في قصيدة له في حديث يوم أحد، سأذكرها في موضعها؛ إن شاء الله تعالى.
وممن لم يذكر ابن إسحاق من هؤلاء السبعين القتلى من بني عبد شمس بن عبد مناف: وهب بن الحارث من بني أنمار بن بغيض حليف لهم، وعامر بن زيد حليف لهم من اليمن.
ومن بني أسد بن عبد العزى: عقبة بن زيد حليف لهم من اليمن، وعمير مولى لهم.
ومن بني عبد الدار بن قصي: نبيه بن زيد بن مليص، وعبيد بن سليط، حليف لهم من قيس.
ومن بني تيم بن مرة: مالك بن عبيد الله بن عثمان، أسر فمات في الأسارى فعد في القتلى، ويقال: وعمرو بن عبد الله بن جُدعان.
ومن بني مخزوم بن يقظة: حذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة؛ قتله سعد بن أبي وقاص، وهشام بن أبي حذيفة بن المغيرة: قتله صهيب بن سنان، وزهير بن أبي رفاعة: قتله أبو أسيد مالك بن ربيعة، والسائب بن أبي رفاعة: قتله عبد الرحمن بن عوف، وعائذ بن السائب بن عويمر: أسر ثم افتدى، فمات في الطريق من جراحة جرحه إياها حمزة بن عبد المطلب، وعمير حليف لهم من طيئ وخيار حليف لهم من القارة.
ومن بني جمح بن عمرو: سبرة بن مالك حليف لهم.
ومن بني سهم بن عمرو: الحارث بن منبه بن الحجاج: قتله صهيب بن سنان، وعامر بن أبي عوف بن صبيرة، أخو عاصم: قتله عبد الله بن سلمة العجلاني، ويقال: أبو دجانة
تسمية من أسر من المشركين يوم بدر:
قال ابن إسحاق: وأسر من المشركين من قريش يوم بدر، ثم من بني هاشم بن عبد مناف: عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب.
ومن بني المطلب بن عبد مناف: السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب، ونعمان بن عمرو بن علقمة بن المطلب.
ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: عمرو بن أبي سفيان بن حرب، والحارث بن أبي وجرة بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، ويقال: ابن أبي وحرة - بالحاء المهملة - وأبو العاص بن نوفل بن عبد شمس، وأبو العاص بن الربيع بن عبد العزى ابن عبد شمس؛ ومن حلفائهم: أبو ريشة بن أبي عمرو، وعمرو بن الأزرق، وعقبة ابن عبد الرحمن بن الحضرمي.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: علي بن الخيار بن عدي بن نوفل، وعثمان بن عبد شمس ابن أخي غزوان بن جابر، حليف لهم من بني مازن بن منصور؛ وأبو ثور حليف لهم.
ومن بني عبد الدار بن قصي: أبو عزيز بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، والأسود بن عامر حليف لهم، ويقولون: نحن بنو الأسود بن عامر بن عمرو بن الحارث بن السباق.
ومن بني أسد بن عبد العزى بن قصي: السائب بن أبي حبيش بن المطلب بن أسد، والحويرث بن عباد بن عثمان بن أسد.
قال ابن إسحاق: وسالم بن شماخ حليف لهم.(1/268)
ومن بني مخزوم بن يقظة بن مرة: خالد بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وصيفي ابن أبي رفاعة بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وأبو المنذر بن أبي رفاعة بن عائذ، وأمية بن أبي حذيفة بق المغيرة، وأبو عطاء عبد الله بن أبي السائب بن عائذ، والمطلب بن حنطب بن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم، وخالد بن الأعلم حليف لهم، وهو - فيما يذكر - كان أول من ولى فاراً منهزماً، وهو الذي يقول: من الطويل:
لَسنَا عَلَى الأدبارِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقدَامِنَا يَقطُرُ الدمُ
قال ابن هشام ويروي: ولسنا على الأعقاب. وخالد بن الأعلم: من خزاعة، ويقال: عقيلي.
قال ابن إسحاق: ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب: أبو وداعة بن صبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم، كان أول أسير افتدى من أسارى بدر، افتداه ابنه المطلب بن أبي وداعة. وفروة بن قيس بن عدي بن حذافة بن سعد بن سهم، وحنظلة بن قبيصة بن حذافة، والحجاج بن الحارث بن قيس بن عدى بن سعيد.
ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص: عبد الله بن أبي خلف بن وهب بن حذافة ابن جمح، وأبو عزة عمرو بن عبد الله بن عثمان بن أهيب بن حذاقة بن جمح، والفاكه مولى أمية بن خلف، وهو يزعم أنه من بني الشماخ بن محارب بن فهر، ووهب بن عمير بن وهب، وربيعة بن دراج بن العنبس بن أهبان بن وهب.
ومن بني عامر بن لؤي: سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسان بن عامر أسره مالك بن الدخشم، أخو بني سالم بن عوف. وعبد بن زمعة بن قيس بن عبد شمس.
ومن بني الحارث بن فهر: الطفيل بن أبي قنيع، وعتبة بن عمرو بن جحدم.
فجميع من حفظ لنا من الأسارى ببدر ثلاثة وأربعون رجلاً.
قال أبن هشام: وبقي من جملة العدد رجل لم أذكر اسمه، وممن لم يذكر ابن إسحاق من الأسرى: من بني هاشم بن عبد مناف: عتبة حليف لهم من بني فهر، ومن بني المطلب بن عبد مناف: عقيل بن عمرو، حليف لهم، وأخوه تميم بن عمرو وابنه.
ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: خالد بن أسيد بن أبي العيص، وأبو العريض يسار مولى العاص بن أمية.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: نبهان مولى لهم.
ومن بني أسد بن عبد العزى بن قصي: عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث.
ومن بني عبد الدار: عقيل حليف لهم من اليمن.
ومن بني تيم بن مرة: مسافع بن عياض بن صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم، وجابر بن الزبير حليف لهم.
ومن بني مخزوم: قيس بن السائب.
ومن بني جمح بن عمرو: عمرو بن أبي بن خلف، وأبو رهم بن عبد الله، حليف لهم؛ وحليف لهم آخر ذهب عني اسمه، وموليان لأمية بن خلف، أحدهما: نسطاس، وأبو رافع غلام أمية بن خلف.
ومن بني سهم بن عمرو: أسلم مولى نبيه بن الحجاج.
ومن بني عامر بن لؤي حبيب بن جابر، والسائب بن مالك.
قال ابن إسحاق: ومن بني الحارث بن فهر: شافع وشفيع حليفان لهم من اليمن.
قلت: العجب من ابن هشام أنه لم يذكر العباس بن عبد المطلب في جملة الأسرى، وقد ذكره غيره ويدل له الحديث الشريف: " إني لم أبت من أنين العباس فاحللوا من وثاقه " أو كما قال صلى الله عليه وسلم!.
وكان مما قيل في بدر من الشعر، وترادَّ به القوم بينهم لما كان فيه، قول حمزة ابن عبد المطلب - يرحمه الله - قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها ونقيضتها: من الطويل:
أَلَم تَرَ أَمْراً كَانَ مِنْ عَجَب الدَهْرِ ... وَلِلحَينِ أَسبَاب مُبَينةُ الأَمر
وَمَا ذَاكَ إِلاَّ أَنَ قَوْماً أَفَادَهُم ... فَخَانُوا تَوَاصَوا بِالعُقُوقِ وَبِالكُفر
عَشِيةَ رَاحُوا نَحْوَ بَدْرٍ بِجَمعِهِمْ ... فَكَانُوا رُهُوناً لِلركِيةِ من بَدرِ
وَكُنا طَلَبْنَا العِيرَ لَمْ نَبْغِ غَيْرَهَا ... فَسَاروا إِلَينَا فالتقينا عَلَى قَدرِ
فَلَمّا التَقَيْنَا لَمْ تَكُنْ مَثْنَوِيةٌ ... لَنَا غَيرَ طَعنٍ بِالمثقفَةِ السمرِ
وَضَرْب بِبِيضِ يَخْتَلِي الْهَامَ حَدهَا ... مُشَهَرَةِ الألوَانِ بَينةِ الأَثر
وَنَخنُ تَرَكْنَا عُتْبَةَ الْغَي ثَاوِياًوَشَيْبَةَ فِي قَتلَى تَجَرجَمَ فِي الجَفرِ(1/269)
وَعَمْرو ثَوَى فِيمَنْ ثَوَى مِن حُمَاتِهِم ... فَشُفت جُيوبُ النائِحَاتِ عَلَى عَمرِو
جُيُوبُ نِسَاء مِنْ لُؤَي بْنِ غَالِب ... كِرَام تَفَزعنَ الذوَائِبَ من فِهرِ
أُولئكَ قَوْم قُتلُوا فِي ضَلاَلِهِم ... وَخَلوا لِوَاءً غَيرَ مُختَضَرِ النصرِ
لِوَاءَ ضَلاَلِ قَادَ إِبْلِيسُ أَهْلَهُ ... فَخَاسَ بِهِم إِن الخَبِيثَ إِلَى غَدرِ
وَقَالَ لَهُم إِذْ عَايَنَ الأَمْرَ وَاضِحَاً:بَرِئتُ إِلَيكُم مَا بي اليَومَ من صَبرِ
فَإني أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ وَإننِي ... أَخَافُ عِقَابَ الله، وَالله ذُو قَسرِ
فَقَدمَهُم لِلحَين حَتى تَوَرطُوا ... وَكَانَ بِمَا لَم يَخبُرِ القَومُ ذَا خُبرِ
فَكَانُوا غَداةَ البِئْرِ ألفاً ؤجَمعُنَا ... ثَلاثَ مِئِينٍ كالمُسَدمَةِ الزهرِ
وَفِينَا جُنُودُ الله حِينَ يُمِدنَا ... بِهِم فِي مَقَامٍ ثَم مُستَضوِح الذكر
فَشَد بِهِم جِبرِيلُ تَختَ لِوَائِنَا ... لَدَى مَأزِق فِيهِ مَنَايَاهُمُ تَجرِي
فأجابه الحارث بن هشام بن المغيرة فقال من الطويل:
أَلاَ يَا لَقَومِي لِلصبَابَةِ وَالهَجرِ ... وَللحُزنِ مِنًي وَالحَرَارَةِ فِي الصدرِ
وَللدمعِ من عَينَيَ جوداً كَأنهُ ... فَرِيد هَوى من سِلك نَاظِمِهِ يَجرِي
عَلَى البَطَلِ الحُلوِ الشَمَائِلِ إِذ ثَوَى ... رَهِينَ مقَامٍ لِلركِيةِ من بَدرِ
فَلاَ تَبعَدَن يَا عَمرُو من ذِي قَرَابَةٍ ... وَمِن ذِي نِمَامٍ كَانَ ذا خُلُقٍ غَمرِ
فَإِن يَكُ قؤنم صَادَفُوا مِنكَ دولَةً ... فلا بُد لِلأيَامِ من دول الدهرِ
فَقَد كُنتَ فِي صَرفِ الزمَانِ الذِي مَضَى ... تُرِيهِم هَوَاناً مِنكَ ذا سُبُلٍ وَعرِ
فَإن لاَ أَمُت يَا عَمرُو أَترُككَ ثَائِراً ... وَلا أبقِ دبقيا فِي إِخَاءٍ وَلاَ صِهرِ
وأَقطَعُ ظَهراً من رِجَالٍ بِمَعشَرِ ... كِرَام عَلَيهِم مِثل مَا قَطَعُوا ظَهرِي
أَغَرهُمُ مَا جَمعُوا من وَشِيظَة ... وَنَحنُ الصمِيمُ فِي القَبَائِلٍ من فِهرِ؟!
فَيَالَ لُؤَي ذببُوا عَن حَرِيمِكُم ... وَآلِهَة لاَ تَترُكُوهَا لِذي الفَخرِ
تَوَارَثَهَا آبَاؤُكمْ وَوَرِثتُمُ ... أَوَاسِيهَا والبَيتَ ذا السقفِ وَالسترِ
فَمَا لحليم قَد أَرَادَ هَلاَكَكُمفَلاَ تَغذرُوهُ آلَ غَالِبَ من عُذرِ
وَجِدوا لِمًنْ عَادَيتُمُ وَتَوَازَرُوا ... وَكُونُوا جَمِيعاً فِي التأسي وَفي الصبرِ
لَعَلكُمُ أَن تَثأَرُوا بِأَخِيكُمُ ... وَلاَ شَيْء إِن لَنم تَثأَرُوا بِذَوِي عَمرِو
بمُطرِدَاتٍ فِي الأكُف كَأنَهَا ... وَمِيضٌ تُطِيرُ الهَامَ بَينَة الأَئر
كأن مَدب الذر فَوقَ مُتُونِهَا ... إذَا جُردَت يَوماً لأعدَائِهَا الخُزرِ
قال ابن هشام: أبدلنا في هذه القصيدة كَلمتين مِما رَوَى ابن إسحاق، وهما الفَخر في آخر البيت العاشر، وفَمَا لِحَلِيم في أول البيت الثاني عشر لأنه نال فيهما من النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: ولم أر أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها ولا نقيضتها، وإنما كتبناها لأنه يقال: إن عمرو بن عبد الله بن جدعان قتل يوم بدر، ولم يذكره ابن إسحاق في القتلى، وذكره في هذا الشعر.
قال ابن إسحاق: وقال علي بن أبي طالب: من الطويل:
أَلَم تَرَ أَن الله أَبْلَى رَسُولَهُ ... بَلاَءَ عَزِيزٍ ذِي اقتِدَارٍ وذِي فَضلِ؟!
بِمَا أَنزَلَ الكُفارَ دَارَ مَذَلةٍ ... فَلاَقَوا هَوَانا من إسَارٍ وَمِن قَتل
فَأمسَى رَسُولُ الله قَد عَز نَصرُهُ ... وَكَانَ رَسولُ الله أُزسِلَ بِالعَدلِ(1/270)
فَجَاءَ بِفُرقَانٍ مِنَ الله مُنزَلٍ ... مُبَينَةٍ آيَاتُهُ لِذَوِي العَقلِ
فَآمَنَ أَقوَام بِذَاكَ وَأيقَنُوا ... فَأَمسَوا بِحَمدِ الله مُجتَمِعِي الشملِ
وَأنكَرَ أَقوَام فَزَاغَت قُلُوبُهم ... فَزَادهمُ ذُو العَرشِ خَبلاً عَلَى خَبل
وَأَمكَنَ مِنهُمْ يَومَ بَدرٍ رَسُولَهُ ... وَقَوماً غِضَاباً فِعلُهُم أَحسَنُ الفِعلِ
بأَيديهِمُ بِيض خِفَافْ عَصَوا بِهَا ... وقَد حَادَثُوهَا بِالجلاَءِ وَبِالصقلِ
فَكَم تَرَكُوا من نَاشِئ ذِي حَمِية ... صَرِيعاً وَمِن ذِي نَجدةٍ مِنهُمُ كَهلِ
تَبِيتُ عُيُونُ النَائِحَاتِ عَلَيهِمُ ... تَجُودُ بِإِسبَالِ الرشَاشِ وَبِالوَيلِ
نَوَائِح تَنعَى عُتْبَةَ الغَي وَابنَهُ ... وَشَيبَةَ تَنعَاهُ وَتَنعَى أَبا جَهلِ
وَذَا الرجلِ تَنعَى وَابنَ جُدعَانَ فِيهِم ... مُسَلبَة حَرى مُبَينَةَ الثُّكل
ثَوَى مِنْهُمُ فِي بِئْرِ بدر عِصَابَةٌ ... ذَوُو نَجَدَاتٍ فِي الحُرُوبِ وَفي المَحلِ
دَعَا الغَيُّ مِنْهُم من دَعَا فَأَجَابَهُ ... وَللغَيِّ أَسبَاب مُرَمقَةُ الوَصلِ
فَأَضحَوا لَدَى دَارِ الجَحِيمِ بمعزِلٍ ... عَنِ الشغبِ وَالعُدوَانِ في أَشغَلِ الشغلِ
فأجابه الحارث بن هشام بن المغيرة، فقال من الطويل:
عَجِبتُ لأَقوَام تَغَنَّى سَفِيههُم ... بِأَمرِ سَفَاهٍ ذِي اعتِرَاض وَذِي بُطل
تَغَنَّى بِقَتلَى يَومِ بَدرٍ تَتَابَعُوا ... كِرَام المَسَاعِي من غُلاَمٍ وَمِن كَهلِ
مَصَالِيتُ بِيض مِنْ ذُؤَابَةِ غَالِبٍ ... مَطَاعِينُ في الهَيجَا مَطَاعِيمُ في المَحلِ
أُصيبُوا كِرَاماً لَمْ يَبِيعُوا عَشِيرَةً ... بِقَوم سِوَاهُم نَازِحِي الدارِ وَالأَصلِ
كَمَا أَصبَحَت غَسانُ فِيكُمْ بِطَانَةً ... لَكُم بَدَلاً مِنا فَيَا لَكَ من فِعلِ
عُقُوقاً وإِثْماً بَيناً وَقَطِيعَةً ... يَرَى جَورَكُم فِيهَا ذَوُو الرَّأي وَالعَقلِ
فَإِن يكُ قَوم قَدْ مَضَوا لِسَبِيلِهِم ... وَخَيرُ المَنَايَا مَا يَكُونُ مِنَ القَتلِ
فَلا تَفرَحُوا أَنْ تَقتُلُوهُم فَقَتلُهُمْ ... لَكُم كَائِن خَبلاً مُقِيماً عَلَى خَبل
فَإنكُمُ لَنْ تَبْرَحُوا بَعْدَ قَتلِهِمْ ... شَتِيتاً هَوَاكُم غَير َمُجتَمِعِي الشملِ
بِفَقدِ ابنِ جُدْعَانَ الحَمِيدِ فعَالُهُ ... وَعُتبَةَ وَالمَدعُو فِيكُم أَبا جَهلِ
وَشَيبَةُ فِيهِم وَالْوَلِيدُ وفِيهِمُ ... أُمَيةُ مَأوَى المُقتِرِينَ وَذُو الرِّجلِ
أُولئِكَ فَابكِ ثم لاَ تَبْكِ غَيرَهُم ... نَوَائِحُ تَدعُو بِالرزِيةِ وَالثكلِ
وَقولُوا لأهلِ الْمَكَتَينِ تَحَاشَدُوا ... وَسِيرُوا إِلَى آطَامِ يَثربَ ذِي النخلِ
جَمِيعاً وَحَامُوا آلَ كَعبِ وَذَبِّبُوا ... بخَالِصَةِ الألوَانِ مُحدَثَةِ الصقلِ
وإلاَّ فَبِيتُوا خَائِفِينَ وَأَصبِحُوا ... أًذَلَّ لِوَطءِ الوَاطِئِينَ مِنَ النعلِ
عَلَى أنَّنِي، وَاللاتِ، يَا قَومِ فَاعلَمُوا ... بِكُم وَاثق أَلاَّ تقيمُوا عَلَى تَبل
سِوَى جَمْعِكَم لِلسَّابِغَاتِ وَلِلْقَنَا ... وَلِلبِيضِ والْبِيضِ القَوَاطِعِ وَالنبلِ
وقال ضرار بن الخطاب بن مرداس، أخو بني محارب بن فهر: من الطويل:
عَجِبتُ لِفَخرٍ الأوسِ، وَالحَينُ دَائِرُ ... عَلَيهِم غَداً، وَالدهرُ فِيهِ بَصَائِرُ
وفَخرِ بَنِي النَّجَّارِ أَن كَانَ مَعشَر ... أُصِيبُوا بِبَدر كُلهُم ثَمَّ صَابِرُ(1/271)
فَإِن تَكُ قَتْلَى غُودِرَتْ مِنْ رِجَالِنَا ... فَإِنا رِجَالاً بَعدهم سَنُغَادِرُ
وَتَردِي بِنَا الْجُرد ُالعَنَاجِيج وَسطَكُمبَنِي الأَوسِ حَتى يَشفِىَ النفسَ ثَائِرُ
وَوَسطَ بَني النجارِ سَوْفَ نَكُرُّهَا ... لَهَا بِالقَنَا وَالدارِعِينَ زَوَافِرُ
فَنَترُك صَرعَى تَعْصِبُ الطيرُ حَوْلَهُم ... وَلَيسَ لَهُم إِلا الأَمَانِي نَاصِر
وَتَبكِيهِمُ مِنْ أَهْلٍ يَثْرِبَ نِسْوَةٌ ... لَهُن بِهَا لَيل عَنِ النومِ سَاهِرُ
وَذَلِكَ أَنا لاَ تَزَالُ سُيُوفُنَا ... بِهِنَّ دَم مِما يُحَارِبنَ مَائِرُ
فَإِنْ تَظْفَرُوا فِي يَوْم بَدْرٍ فَإِنمَا ... بِأَحْمَدَ أَمسَى جَدكُم وَهوَ ظَاهِرُ
وَبالنفَرِ الأخْيَارِ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ ... يُحَامُونَ فِي اللأوَاءِ وَالمَوت حَاضِرُ
يُعَدُّ أَبُو بَكْر وَحَمْزَةُ فِيهمُ ... ويُدْعَى عَلِى وَسطَ من أَنتَ ذَاكِرُ
أُولئكَ لاَ مَنْ نَتَجَتْ فِي دِيَارِهَا ... بَنُو الأوسِ وَالنجارِ حِينَ تُفَاخِرُ
وَلَكِن أَبُوهُمْ مِن لُؤَي بْنِ غَالِب ... إِذَا عُدتِ الأَنسَابُ كَعب وعَامِرُ
هُمُ الطاعِنُونَ الْخَيْلَ فِي كل مَعْرَكٍ ... غَدَاةَ الهِيَاجِ الأَطيَبونَ الأكَابِرُ
فأجابه كعب بن مالك، أخو بني سلمة؛ فقال: من الطويل:
عَجِبتُ لأمرِ الله، وَالله قَادِرُ ... عَلَى مَا أَرَادَ لَيسَ لله قاهِرُ
قَضَى يَوْمَ بدر أَنْ نُلاَقِيَ مَعْشَراً ... بَغَوْا، وسَبِيلُ البَغي بِالناسِ جَائِرُ
وَقَد حَشَدُوا وَاسْتَنْفَرُوا مَنْ يَلِيهِمُ ... مِنَ الناسِ حَتَى جَمعُهُم مُتَكَاثِرُ
وَسَارَت إِلَيْنَا لاَ تُحَاوِلُ غَيْرنَا ... بِأَجمَعِهَا كَعب جَمِيعاً وَعَامِرُ
وَفِينَا رَسُول الله، وَالأَوْسُ حَوْلَهُ ... لَهُ مَعْقِل مِنهُم عَزيزٌ وَنَاصِرُ
وَجَمْعُ بَنِي النجارِ تَحْتَ لِوَائِهِ ... يَمِيسُونَ فِي المَاذِي وَالنَّقعُ ثَائِرُ
فَلَما لَقِينَاهُمْ، وَكُل مُجَاهِدٌ ... لأصحَابِهِ مُستبسِلُ النفسِ صَابِرُ
شَهِدْنَا بأن الله لاَ رَبَّ غَيرُهُ ... وأَن رَسُولَ الله بِالحق ظَاهِرُ
وَقَد عُرِّيَت بِيض خِفَافٌ كَأَنهَا ... مَقَابِيسُ يُزهِيهَا لِعَينيك شَاهِرُ
بِهن أَبَدْنَا جَمْعَهُمْ فَتَبَددوا ... وَكَانَ يُلاَقِي الحَين من هُوَ فَاجِرُ
فَكب أَبُو جَهْلٍ صَرِيعاً لِوَجْهِهِ ... وَعُتبَةُ قَد غَادرنَهُ وَهوَ عَاثِرُ
وشَيبَةَ والتَيْمِيَّ غَادرْنَ فِي الْوَغَى ... وَمَا مِنهُمُ إِلا بِذِي الْعَرش كافِرُ
فَأَمسَوا وَقُودَ النارِ فِي مُستقرهَا ... وَكُل كَفُورٍ في جَهَنمَ صَائِرُ
تَلظى عَلَيهِم وهي قد شَب حَميَهَا ... بِزُبرِ الحَديدِ وَالحِجَارَةِ سَاجِرُ
وَكَانَ رَسُولُ الله قد قَالَ: أَقبِلُوا ... فَوَلوا، وَقَالُوا: إِنمَا أنتَ سَاحِرُ
لأمرٍ أَرَادَ الله أَن يَهلِكُوا بِهِ ... وَلَيسَ لأَمرٍ حَمَّهُ الله زَاجِرُ
وقال عبد الله بن الزبعري السهمي؛ يبكي قتلى بدر - قال ابن هشام: وتروى للأعشى بن زرارة بن النباش، أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم، حليف بني نوفل بن عبد مناف؛ قال بن إسحاق: حليف بني عبد الدار - : من الكامل:
مَاذَا عَلَى بَدرٍ وَمَاذا حَولَهُ ... من فِتيةٍ بِيضِ الوُجُوهِ كِرَامِ
تَرَكُوا نُبَيهاً خَلفَهُم ومُنَبهاً ... وَابنَي رَبِيعَة خَيرَ خَصم فِئَامِ
والحَارِثَ الفَياضَ يَبرقُ وَجهُهُ ... كَالبَدرِ جَلى لَيلَةَ الإظلاَم(1/272)
وَالعَاصِيَ بنَ مُنَبهٍ ذَا مِرةٍ ... رُمحاً تَمِيماً غَيرَ ذي أَوصَامِ
تَنمِي بِهِ أَعرَاقُهُ وَجُدودُهُ ... وَمَآثِرُ الأَخوَالِ وَالأَعمَام
وَإذا بَكَى بَاكٍ فَأَعوَلَ شَجوَهُ ... فَعَلَى الرئيسِ المَاجِدِ ابنِ هِشَام
حَيَّا الإلهُ أبا الوَلِيدِ وَرَهطَهُ ... رَب الأَنامِ وَخَصَّهُ بِسَلاَمِ
فأجابه حسان بن ثابت الأنصاري فقال: من الكامل:
إِبكِ بَكَت عَينَاكَ ثُم تَبَادرت ... بدِمَ يَعُل غُرُوبَهَا سَجّامِ
مَاذَا بَكَيتَ بِهِ الذِينَ تَتَابَعُوا؟! ... هَلا ذَكَرتَ مَكَارِمَ الأَقوَامِ!
وَذَكَرتَ مِنَّا مَاجِداً ذَا هِمَّةٍ ... سَمح الخَلاَئِقِ صادق الإقدامِ
أَعني النبِي أَخَا الْمَكَارِمِ وَالندَى ... وَأَبر من يولِي عَلَى الأًقسَامِ
فَلَمِثلُهُ وَلَمِثلُ ما يَدعُو لَهُ ... كَانَ الممدحَ ثم غَيرَ كَهَامِ
وقال حسان بن ثابت - أيضَاً - :من الكامل:
تَبَلَت فُؤَادكَ فِي الْمَنَامِ خَرِيدَة ... تَشفِي الضجِيعَ بِبَارِد بسَامِ
كَالمسكِ تَخلِطُهُ بِمَاءِ سَحَابَةٍ ... أَو عَاتِقٍ كَدمَ الذبيح مُدامِ
نُفُج الحَقِيبَةِ بَوصُهَا مُتَنضّد ... بَلهَاءُ غَيرُ وَشِيكَةِ الأَقسَامِ
بُنِيَت عَلَى قَطَنٍ أَجَم كَأَنهُ ... فُضُلاً إِذا قَعَدَت مَداكُ رُخَامِ
وَتكادُ تَكسَلُ أَن تَجِيءَ فِرَاشَهَا ... فِي جِسمِ خَرعَبَةٍ وَحُسنِ قَوَامِ
أَما النهَارَ فَلاَ أُفَتَّرُ ذِكرَهَا ... وَالليل تُوزِعُنِي بهَا أَحلاَمِي
أَقسَمتُ أَنسَاهَا وَأَتركُ ذِكرَهَا ... حَتى تُغَيبَ فِي الضرِيحِ عِظَامِي
يَا من لِعَاذِلَةٍ تَلُومُ سَفَاهَةً ... وَلَقَد عَصَيتُ عَلَى الهَوَى لُوامِي
بَكَرَت عَلَى بِسُحرَةٍ بَعدَ الكَرَى ... وَتَقَارُبٍ من حَادِثِ الأيامِ
زَعَمَت بِأَن المَرءَ يُكربُ عُمرَه ... عَدَم لِمُعتَكِرٍ مِنَ الأصرَامِ
إِن كنتِ كاذِبَةَ الذِي حَدثتِنِي ... فَنَجَوتِ مَنجَى الحَارِثِ بنِ هِشَامِ
تَرَكَ الأَحِبةَ أَن يُقَاتِلَ دونَهُم ... وَنَجَا بِرَأسِ طِمِرةِ وَلجامِ
يذَرُ العَنَاجِيجَ الجيَادَ بِقَفرَة ... مَر الدمُوكِ بِمُحصَد وَرِجَامِ
مَلأت بِهِ الفَرجَين فَارمَدت بِهِ ... وَثَوَى أَحِبتُهُ بشَر مقَامِ
وبَنُو أبِيهِ وَرَهطُهُ في مَعرَكٍ ... نَصَرَ الإله بِهِ ذوِي الإسلاَمِ
طَحَنَتهُمُ، والله يُنفذُ أَمرَهُ ... حَرب يُشَب سَعِيرُها بِضِرَامِ
لَولاَ الإلَهُ وَجَريُهَا لَتَرَكنَهُ ... جَزَرَ السبَاع وَدسنَهُ بِحَوَامِ
من بَين مَأسور يُشَد وَثَاقهُ ... صَقرٍ إِذا لاقَى الأَسِنَّةَ حَامِي
ومُجَدلِ لاَ يَستَجِيبُ لِدَعوَةٍ ... حَتى تَزُولَ شَوَامِخُ الأَعلاَم
بِالعَارِ وَالذل المُبَينِ إِذ رَأَى ... بِيضَ السيُوفِ تَسُوقُ كُل هُمَامِ
بِيَدَي أَغَرَّ إِذَا انتَمَى لَم يُخزِه ... نَسَبُ القِصَارِ سَمَيدَعٍ مِقدام
بِيضْ إِذا لاَقَت حَدِيداً صَممَت ... كَالبَرقِ تَحتَ ظلام كُلً غَمَامِ
فأجابه الحارث بن هشام - فيما ذكر هشام - فقال: أمن الكامل:
الله أَعلَم مَا تَرَكتُ قِتَالَهُم ... حَتى حَبَوا مهرِي بِأَشقَرَ مُزبِدِ
وَعَلِمتُ أَني إِنْ أُقَاتِلْ واحداً ... أُقتَلْ وَلاَ يُنْكِي عَدُوي مَشهَدِي
فَصَددتُ عَنْهُم وَالأحِبَّةُ فِيهِمُ ... طَمَعاً لَهُمْ بِعِقَابِ يَومٍ مُفسِدِ(1/273)
قال ابن إسحاق: قالها الحارث؛ يعتذر من فراره يوم بدر وتركهِ أخاه أبا جهل بن هشام.
قلت: رأيت في كتاب ألف با للبلوي نقلاً عن الأصمعي وجماعات: أحسن ما قيل في الاعتذار عن الفرار: قول الحارث بن هشام هذه الثلاثة الأبيات. وخالفه من أئمة اللغة والأدب خلف الأحمر ومن تبعه، فقال: أحسن ما قيل في الاعتذار عن ذلك: قول هبيرة بن أبي وهب المخزومي، زوج أم هانئ بنت أبي طالب: حيث يقول من الطويل:
لَعَمْرُكَ مَا وليْتُ ظَهْرِي مُحَمداً ... وَأَصْحَابَهُ جُبْنَا وَلاَ خِيفَةَ القَتْلِ
وَلَكِننِي قَلَبْتُ طَرْفي فَلَمْ أَجِدْ ... لِسَيْفِي مَصَالاً إِن ضَرَبْتُ وَلاَنَبلِى
وَقَفتُ فَلَمَا خِفْتُ ضَيْعَةَ مَوْقِفِي ... فَرَرْتُ لِعَودِ كَالهِزَبرِ إِلَى الشبلِ
ولعمري! كلتا القطعتين غايتان في المعنى المراد؛ ما لبليغ إلى أفضل منهما منتجع ولا مراد؛ إلا أن الذي يحدوني إليه فكري وذوقي؛ ويجذبني بِردني وطوقي: هو ما ذهب إليه الأصمعي؛ فهل أنت أيها الناظر معي؛ فإن معي على ذلك شهوداً معدله؛ تثبت لعبد الملك الفخر له.
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت - أيضا - : من الوافر:
لَقَد عَلِمَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَ بَدرٍ ... غَدَاةَ الأَشرِ وَالقَتلِ الشدِيدِ
بِأَنا حِينَ تَشْتَجِرُ الْعَوَالِي ... حُمَاةُ الْحَرْبِ يَوْمَ أَبِي الوَلِيدِ
قَتَلنَا ابْنَى رَبِيعَةَ يَوْمَ سَارَا ... إِلَيْنَا فِي مُضَاعَفَةِ الحدِيدِ
وَفَر بِهَا حَكِيم يَومَ جَالَت ... بَنُو النجارِ تَخطِرُ كَالأُسُودِ
وَوَلَّتْ عِنْدَ ذَاكَ جُمُوعُ فِهرِ ... وَأَسْلَمَهَا الحُوَيرِثُ من بَعِيدِ
لَقَدْ لاَقَيْتُمُ ذلاًّ وَقَتْلاً ... جَهِيزاً نَافِذاً تَحتَ الوَرِيدِ
وَكُل القَوم قَدْ وَلَّوْا جَمِيعاً ... وَلَمْ يلْوُوا عَلَى الحَسَبِ التلِيدِ
وقال طالب بن أبي طالب؛ يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبكي أصحاب القليب: من الطويل:
أَلاَ إِن عَيْنِي أَنْفَدَت دمْعَهَا سَكْبَا ... تُبَكي عَلَى كَعب وَمَا إِن تَرَى كَعبَا
أَلاَ إِن كَعباً فِي الْحُرُوبِ تَخَاذَلُواوَأَردَاهُمُ ذَا الدهر وَاجتَرَحُوا ذَنبَا
وَعَامِرُ تَبكِي لِلْمُلِماتِ غُدْوَةً ... فَيَا لَيتَ شِعرِي هَل أَرَى لَهُمَا قُربَا؟!
هُمَا أَخَوَايَ لَنْ يُعَدَّا لِغَيةٍ ... تُعَد وَلَنْ يُستَامَ جَارُهُمَا غَصبَا
فَيَا أَخَوَيْنَا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوفَلاًفِدَى لَكُمَا لاَ تَبعَثُوا بَينَنَا حَربَا
وَلاَ تُصبِحُوا مِنْ بَعدِ وُد وَأُلفَةٍ ... أَحَادِيثَ فِيها كُلكُم يَشتَكِي النكبَا
أَلَمْ تَعلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍوَجَيشِ أَبِي يَكسُومَ إذ مَلَئُوا الشعبا
فَلَولاَ دِفَاعُ الله لا شيء غَيرُهُ ... لأَصبَحتمُ لاَ تَمنَعُونَ لَكُم سِربَا
فَمَا إن جَنَينَا في قُرَيْشٍ عَظِيمةً ... سِوَى أَن حَمَينَاخَيرَ من وَطِئَ التربَا
أَخَا ثِقَةٍ في النائِبَاتِ مرَزأً ... كَرِيماً نَثَاهُ لاَ بَخِيلاً وَلاَ ذَربَا
يُطِيفُ بِهِ العَافُونَ يَغْشَوْنَ بَابَهُ ... يَؤُمُونَ نَهراً لاَ نَزُوراً وَلاَ صَربَا
فَوَالله لاَ تَنفَك نَفْسِي حَزِينَةً ... تَمَلمَلُ حَتى تَصدُقُوا الخَزرَجَ الضربَا
وقال ضرار بن الخطاب الفهري؛ يرثي أبا جهل: من الطويل:
ألا مَنْ لِعَينٍ بَاتَتِ الليْلَ لَمْ تَنم ... تُرَاقِبُ نَجماً فِي سَوَاد مِنَ الظلم
كَأن قَذْى فِيهَا وَلَيسَ بِهَا قَذى ... سِوَى عَبرَةٍ من جَائِلِ الدمعِ تَنسَجِم
فَبَلغ قُريشاً أن خَير نَدِّيهَا ... وَأَكرَمَ من يَمشي بِسَاقٍ عَلَى قَدَم
ثوَى يَومَ بَدرٍ رَهْن خَوصاءَ رَهْنُهَا ... كَرِيم المسَاعِي غَيرُ وَغدٍ وَلاَ بَرَم(1/274)
فآليتُ لاَ تَنْهَل عَيني بِعَبْرَةٍ ... عَلَى هَالِك بَعدَ الرئِيسِ أبي الحَكم
عَلَى هَالِكٍ أَشْجَى لُؤَيََّ بنَ غَالبٍ ... أَتَتهُ المَنَايَا يَومَ بَدرٍ فَلَم يرِمْ
تَرَى كِسَرَ الخَطِّيِّ فِي نحر مُهْرِهِ ... لدَى بَائِنٍ من لحمِهِ بَينَهَا خِذَم
وَمَا كَانَ لَيْث سَاكِنٌ بَطْنَ بيشَة ... لَدَى غَلَلٍ يَخرِي بِبَطحَاءَ في أَجَم
بِأَجرَأَ مِنهُ حِينَ تَخْتَلِفُ الْقَنَا ... وتُدعَى نَزَالِ في القُمَاقِمَةِ البُهُم
فَلاَ تَجزعُوا آلَ المغيرَةِ واصبِروا ... عَلَيهِ، وَمَن يَجزَع عَليهِ فَلَم يُلَم
وَجِدوا؛ فإن الْمَوتَ مَكْرُمَة لكم ... وَمَا بَعدَهُ فِي آخِرِ العَيشِ من نَدم
وَقَد قُلتُ: إن الريحَ طَيبَةٌ لكم ... وَعِز المقام غَيرَ شَكٍّ لِذِي فَهَم
قال ابن إسحاق: وقال أمية بن أبي الصلت؛ يرثي من أصيب من قريش يوم بدر: من مجزوء الكامل:
أَلاَّ بَكَيْتَ عَلَى الْكِرَا ... مِ بَنِي الكِرامِ أُولي المَمَادِح
كَبُكَا الحَمَامِ عَلَى فُرو ... عِ الأَيكِ في الغُصنِ الجَوانِح
يَبكِينَ حَرَّى مُسْتَكي ... ناتِ يَرُحنَ مَعَ الروَائِح
أمثَالُهُن البَاكِيَا ... تُ المُعولاَتُ مِنَ النَّوَائِح
مَن يَبكِهم يَبكِي عَلَى ... حُزنٍ وَيَصدُقُ كُل مَادِح
مَاذَا بِبَدْر والْعَقن ... قَلِ من مَرَازِبَةٍ جَحَاجِح
فَمَدَافِعِ البَرقين فَالْ ... حَنانِ من طَرفِ الأَوَاشح
شُمط وشُبانٍ بَهَا ... لِيلِ مَغَاوِيرِ وَحَاوِح
أَلاَّ تَرَوْنَ لِمَا أَرَى ... وَلَقَد أَبَانَ لِكُلِّ لاَمِح
أن قَدْ تَغَيرَ بَطْنُ مَك ... كَةَ فَهيَ مُوحِشَةُ الأَباطِح
مِن كُل بِطْرِيقٍ لِبِط ... ريق نَقِي اللونِ وَاضِح
دُعموصِ أَبْوَابِ المُلُو ... كِ وَجَائِب لِلخَرقِ فَاتح
مِنَ السراطمةِ الخلاَ ... جِمَةِ المَلاَوثَةِ المنَاجِح
القَائلينَ الفَاعِلي ... ن الاَمِرِينَ بِكُلِّ صَالِح
أَلمُطْعِمِينَ الشَحْمَ فَو ... قَ الخُبزِ شَحماً كالأَنافِح
نُقُلِ الجفَانِ مَعَ الجِفَا ... نِ إِلى جِفَانٍ كالمنَاضح
لَيسَت بِأَصْفَارٍ لمَن ... يَعفُو وَلاَ رح رَحَارح
لِلضيْفِ ثُم الضيفِ بع ... د الضَّيفِ والبسُطِ السلاَطِح
وهُبِ المِئينَ مِنَ المِئي ... نَ إِلَى المِئينَ مِنَ اللوَاقِح
سَوق المَؤبلِ لِلمؤب ... بلِ صادِرات عن بلادِح
لِكرامِهِمْ فَوقَ الكِرَا ... مِ مَزِيةٌ وَزنَ الروَاجِح
كَتَثَاقُلِ الأرَطَالِ بِال ... قسطَاسِ في الأَيدِي الموَائح
خَذَلتهُمُ فِئَة وَهُم ... يَحمُونَ عَورَاتِ الفَضَائِح
ألضارِبِينَ التًقْدُمِي ... يَةَ بِالمُهندَةِ الصفَائِح
وَلَقَدْ عَنَانِي صَوتُهُم ... من بَين مستسقٍ وَصَائِح
لله درُّ بَنِي عَلِى ... يٍ أَيمٍ مِنهُم وَنَاكِح
إن لَم يُغِيروا غَارَةً ... شَعوَاءَ تُجحِرُ كُل نَابِح
بالمُقربَاتِ المُبعِدَا ... تِ الطامِحَاتِ مَعَ الطوَامِح
مُرداً عَلَى جردٍ إِلَى ... أُسُد مُكَالِبَةٍ كَوَالِح
وَيُلاقِ قِرنٌ قِرنَهُ ... مَشيَ المُصَافِحِ لِلمُصَافِح
بِزُهَاءِ أَلْف ثُم أَل ... ف بَينَ ذِي بدَن وَرَامِخ(1/275)
وقال أمية بن أبي الصلت؛ يبكي زمعة الأسود، وقتلى بني أسدة: من الخفيف:
عَينُ بَكي بِالمُسْبلاتِ أبا الْحَا ... رِثِ لاَ تَذخَرِي عَلَى زَمَعَه
إِبكِى عَقيلَ بنَ أًسْوَد أَسَدَ الْبَأ ... سِ لِيَومِ الهِياجِ وَالدفعَه
فَعَلَى مِثلِ هُلْكِهِم خَوَت الجَو ... زَاءُ لاَ خَانَة ولاَ خَدَعَه
وًهُمُ الأُسرَةُ الوَسِيطَةُ من كَع ... ب وَفِيهِم كَذروَةِ القَمَعَه
أَنبَتُوا من مَعَاشِر شَعَرَ الرأ ... سِ وَهُم أَلحَقُوهُمُ المنعَه
فَبَنُو عَمِّهِم إِذَا حَضَرُوا البَأ ... س عَلَيهِم أكبادهم وَجِعَه
وَهُمُ المُطْعِمُونَ إِنْ قَحَطَ القَط ... رُ وَحَالَت فَلاَ تَرَى قَزَعَه
قال ابن إسحاق: وقال أبو أسامة معاوية بن زهير بن قيس بن الحارث بن سعد بن ضبيعة بن مازن بن عدي بن جشم بن معاوية، حليف بني مخزوم. قال ابن هشام: وكان مشركاً، وكان مر بهبيرة بن أبي رهم، وهم منهزمون يوم بدر وقد أعيي هبيرة، فقام وألقى عنه درعه وحمله ومضى به، قال ابن هشام: وهذه أصح أشعار أهل بدر: من الوافر:
وَلَمَّا أن رَأَيْتُ القَومَ خفوا ... وَقَد شَالَت نَعَامَتُهُم لِنَفرِ
وأَن تُرِكَت سَرَاةُ القَومِ صَرعَى ... كَأَن خيارهم أذبَاحُ عِترِ
وَكَانَت جمة وَافَت حماماً ... وَلُقينَا المنَايَا يَومَ بَدرِ
نَصُدُ عَن الطَرِيقِ وأَدْرَكُونَا ... كَأَن زُهَاءَهم غَطيَانُ بَحرِ
وَقَالَ القَائِلُونَ: مَنِ ابْنُ قَيسٍ؟ ... فقُلْتُ: أبو أسَامَةَ غَيرَ فَخْر
اَنا الجُشَمِيُّ كَيْمَا يَعرِفُوني ... أُبَينُ نِسبتي نَقراً بِنَقرِ
فإِن تَكُ فِي الغَلاَصِمِ مِنْ قُرَيْشِ ... فَإِني من مُعَاويَةَ بنِ بَكرِ
فَأَبْلِغ مَالِكاً لَمَّا غُشِينَاوَعِندَكَ مالِ إن نبَّأتَ خُيرِي
وأَبْلِغْ إن عَرَضتَ القَوْمَ عَنَّا ... هُبَيْرةَ وَهوَ ذُو عِلم وَقَدرِ
بِأَني إن دعيتُ إلى أُفَيْدٍ ... كَرَرتُ وَلم يَضق بِالكَر صَدري
عَشِيةَ لا يُكَرُ عَلَى مُضَافٍ ... وَلاَ ذِي هِمةٍ مِنهُم وَصِهرِ
فَدُونَكم بَنِي لأي أَخَاكُم ... وَدُونَكِ مَالِكَاً يَا أم عَمرو
فَلَولاَ مَشْهَدِي قَامَت عَلَيهِ ... مُوقفَةُ القَوَائِمِ أُم أَجرِ
دَفُوع للقُبُورِ بمَنْكِبَيهَا ... كأن بوَجهها تَحمِيمَ قِدرِ
فَأُقْسِمُ بالذِي قَدْ كان ربي ... وأَنْصَابٍ لَدَى الجمَرَاتِ مُغرِ
لَسَوفَ تَرَونَ مَا حَسَبِي إِذَا مَا ... تَبَدلَتِ الجلودُ جُلُودَ نمر
فَمَا إنْ خَادرٌ من أُسْد تَرْج ... مُدِل عَنبس في الغيل مجرِى
فَقَد أَحمَى الأَبَاءة من كُلافٍ ... فَمَا يَدنُو لَهُ أَحَدٌ بنفرٍ
بِخلٍّ تعجز الحُلَفَاء عَنْهُ ... يَوَاثِبُ كُل هجهَجَةٍ وَزَجرِ
بِأَوشَكَ سَورَةً مِني إذَا مَا ... حَبَوْتُ لَهُ بقَرْقَرَةٍ وَهَدْرِ
ببيض كالأَسِنة مُرهَفاتٍ ... كَأَن ظُبَاتِهِن جحيمُ جَمْرِ
وأكلف مجنإ من جِلدِ ثَورٍ ... وَصَفْراءِ البُرَايَةِ ذَاتِ أَزْرِ
وأَبْيَضَ كالغدِيرِ ثَوَى عَلَيهِ ... عُمَيْر بالمداوِسِ نصْف شَهْرِ
أُرَفلُ في حَمَائِلِهِ وأمشي ... كَمِشيَةِ خَادرٍ لَيْثِ سِبَطْرِ
يَقُولُ لِيَ الفَتَى سَعد هَدِيّاً ... فَقُلتُ: لعله تقريب غدر
وَقُلت: أبا عدي لاَ تَطُرْهُمْ ... وَذَلِكَ إنْ أَطَعْتَ الْيَوْمَ أَمْري
كَدَأْبِهِمُ بِفَرْوةَ إِذ أَتَاهُمْ ... فَظَلَّ يُقَادُ مَكتوفاً بضفرِ(1/276)
وقالت هند بنت عتبة بن ربيعة، ترثي أباها يوم بدر: من المتقارب:
أعَينَيَّ جُودَا بِدمعٍ سَرِب ... عَلَى خَيرِ خِنْدِفَ لَمْ يَنْقَلِبْ
تَدَاعَى لهُ رَهطُهُ غُدوَةَ ... بَنُو هَاشِم وَبَنُو المُطَّلِبْ
يُذيقُونَهُ حَدَّ أَسيَافِهم ... يَعُلُونَهُ بَعدَ ما قَدْ عَطِبْ
يَجرُونَهُ وَعَفِيرُ الترَابِ ... عَلَي وَجْهِهِ عَارِياً قَدْ سُلِبْ
وَكَانَ لَنَا جَبَلاً رَاسِياً ... جَمِيلَ المَرَاةِ كَثِيرَ العُشُبْ
فأمَا بُريٌّ فَلَم أَعنه ... فَأوتيَ مِنْ خَيْرِ مَا يَحْتَسِبْ
وقالت هند - أيضاً - : من الطويل:
يَريبُ عَلَيْنَا دَهْرُنَا فَيَسُوءُنَا ... وَيَأبَى فَمَا نَأْتِي بِشيء يغالبهْ
أَبَعدَ قَتِيلٍ من لُؤَيِّ بنِ غَالِب ... يُرَاعُ امْرؤٌ إنْ مَاتَ أَوْ مَاتَ صَاحِبُهْ
أَلاَ رُبَّ يَوْم قَدْ رزِئتُ مُرَزأً ... تَرُوح وتَغدُو بِالجزِيلِ مَوَاهِبُه
فَأَبلِغ أبا سُفْيَانَ عَنّي مَألُكاً ... فإن أَلقهُ يوماً فَسَوفَ أُعَاتبُه
فَقَد كَانَ حَربٌ يَسْعَرُ الحْربَ؛ إنهُ ... لِكُلً امرِئ في الناس مَولى يُطَالِبُه
قال ابن إسحاق: وقالت - أيضاً - : مجزوء الكامل:
لله عَينَا من رَأَى ... هُلكاً كَهُلكِ رِجَاليَه
يَا رُب بَاكٍ لِي غَداً ... في النائِبَاتِ وَبَاكِيَه
كَم غَادَرُوا يَومَ القَلِي ... ب غَدَاةَ تلك الوَاعِيَه
مِن كُل غَيْث فِي السنِي ... نَ إِذَا الكَوَاكِب خَاوِيَه
قَد كُنْتُ أَحْذَرُ مَا أَرَى ... فَاليومَ حق جذارِيَه
قَد كُنتُ أَحذَرُ مَا أَرَى ... فَأَنا الغَداةَ مُوَاميه
بل رُب قائلة غَدَاً: ... يا وَيحَ أُمٍّ مُعَاويه
وقالت أيضَاً: من الرجز:
يَا عَينُ بَكي عُتبَه ... شَيخاً شَديد الرَّقَبَه
يُطعِمُ يومَ المسبغَبه ... يَدفعُ يومَ المغلبه
إِني عليه حَربَه ... مَلهُوفَةٌ مستلبه
لنهبطن يثربَه ... بغارة منثعبَه
فيها الخيول مقربه ... كل جواد سلهبه
وقالت صفية بنت مسافر بن أبي عمرو بن أْمية بن عبد شمس؛ تبكي أهل القليب الذين أصيبوا يوم بدر من قريش - : من البسيط:
يَا مَنْ لِعين قَذَاهَا عَائِرُ الرَمَدِ ... حَد النهَارِ وَقرنُ الشمْسِ لَم يَقد
أُخبرتُ أنَّ سَرَاةَ الأكْرَمِينَ مَعاً ... قد أحرَزَتهُم مَنَايَاهُم إِلَى أَمَدِ
وَفَر بالقَومِ أَصْحَابُ الركَابِ وَلَم ... تَعطِف غَدَاتَئِذ أُم عَلَى وَلَدِ
قومي صَفِيَّ وَلاَ تَنْسَى قَرَابَتَهُم ... وإن بَكَيتِ فَمَا تَبكِينَ من بُعُدِك
كَانُوا سُقُوبَ سَمَاءِ البيت فَانقصفتْ ... فَأَضبَحَ السقف مِنهَا غَيرَ ذِي عُمُدِ
وقالت صفية - أيضا - : من الهزج:
أَلاَ يَا مَنْ لعين لِلت ... تَبكِّي دمعها فان
كَغَرْبَيْ دالِجٍ يَسْقِي ... خِلالَ الغَيثِ الدان
وَمَا لَيْثُ غَريفٍ ذُو ... أَظَافِيرَ وَأَسنَان
أبُو شِبْلَين وَثابٌ ... شَديد البَطش غرثان
كَحِبي إِذْ تَوَلى و ... وُجُوهُ القَومِ أَلوَان
وَبالكَف حُسَامٌ صَا ... رِم أَبْيَضُ ذُكرَان
وَأَنتَ الطَاعِنُ النجلاَ ... ءَ مِنهَا مُزبِذ آن
قال ابن إسحاق: وقالت هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب، ترثي عبيدة بن الحارث بن المطلب: من الطويل:
لَقَد ضمن الصفراء مجْداً وَسُؤدداً ... وَحِلْماً أصيلاً وَافِرَ اللبِّ وَالعقلِ
عُبيدةَ فابكِيهِ لأَضيافِ غُربَةٍ ... وَأَرملةٍ تهوي لأشعثَ كالجذلِ(1/277)
وَبكيه للأقوام فِي كُل شَتوَةٍ ... إِذَا احمَرَّ آفاقُ السمَاء مِنَ المحل
وَبَكيه للأَيْتَام، وَالريحُ زفزف ... وَتَشبِيبِ قدر طالما أزبَدَت تَغْلِي
فَإِن تُصبح النيرَانُ قد مَاتَ ضَوْءُهَا ... فقد كانَ يذكيهن بِالحطَبِ الجَزلِ
لِطَارِقِ ليْلِ أوْ لمُلتَمِس القرى ... وَمُستنبحٍ أَضحى لديه على رسلِ
وقالت قتيلة بنت الحارث، أخت النضر بن الحارث: من الكامل:
يا راكبا إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسةِ وأنت موفقُ
أَبلعْ بها ميتاً بأنَّ تحتةَّ ... مَا إن تَزَالُ بِهَا النجَائِبُ تخفقُ
مِني إِلَيكَ وَعَبرة مسفوحةً ... جَادًت بوَاكِفها وأُخرَى تخنُق
هل يسمعني النضرُ إنْ نَادَيْتُهُ ... أَم كَيْفَ يسمعُ ميت لا ينطق؟!
أَمُحَمَدٌ يَا خَيْرَ ضنء كَريمَةٍ ... فِي قومها، والفحل فحل مُغرِق
مَا كَانَ ضركَ لَوْ مَنَنْتَ وَربَّمَا ... مَن الفتَى، وهُوَ المغيظُ المحنقُ
أَو كُنْتَ قَابِلَ فِديَةٍ فَلَيُنْفَقَنْ ... بِأَعَز مَا يغلو بِهِ ما يُنفقُ
فالنضْرُ أقرب مَنْ أَسرْتَ قَرَابَة ... وَأَحقهُم إن كان عِتق يعتقُ
ظَلتْ سُيُوفُ بني أبِيهِ تنوشُهُ ... لله أَرحَام هُنَاكَ تُشققُ
صَبْراً يُقَادُ إلى المنيةِ مُتْعباً ... رَسْفَ المُقيدِ وهو عَانِ مُوثَقُ
قال ابن هشام: فيقال - والله أعلم - : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر، قال: " لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه " .
قال ابن إسحاق: وكان فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر عقب شهر رمضان، فلما قدم المدينة لم يقم بها إلا سبع ليال، حتى غزا بنفسه يريد بني سُليم.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق فبلغ ماء من مياههم، يقال له: الكدر، فأقام عليه ثلاث ليالي، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً، فأقام بها شوال وذا القعدة، وأفدى في إقامته تلك جل الأسارى من قريش.
أمر بني قينقاع:
قينقاع - بضم النون في الأشهر، ويجوز فتحها وكسرها - : بطن من اليهود لهم شجاعة وصبر.
خرج صلى الله عليه وسلم يوم السبت نصف شوال، على رأس عشرين شهراً من الهجرة، حاصرهم خمس عشرة ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب: فنزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم، وعلى أن له أموالهم، ولهم النساء والذرية، فلحقوا بأذرعات. وأخذ من حصنهم سلاحاً كثيراً.
وقد كانت الكفار - بعد الهجرة - مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: قسم: وادعهم - عليه السلام - على ألا يحاربوه ولا يؤلبوا عليه عدواً، وهم طوائف اليهود الثلاث: قريظة، والنضير، وبنو قينقاع.
وقسم: حاربوه ونصبوا له العداوة؛ كقريش.
وقسم: تركوه وانتظروا ما يئول إليه أمره؛ كطوائف من العرب: فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة، وبالعكس كبني بكر، ومنهم من كان معه ظاهراً ومع عدوه باطناً، وهم المنافقون.
وكان أولَ من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع، فحاربهم - عليه الصلاة والسلام - في شوال بعد وقعة بدر.
قال الواقدي: بشهر، وأغرب الحاكم؛ فزعم أن إجلاء بني قينقاع وبنى النضير، كان في زمن واحد، ولم يوافَقْ على ذلك؛ لأن إجلاء بني النضير كان بعد بدر بستة أشهر - على قول عروة - أو بعد ذلك بمدة طويلة؛ على قول ابن إسحاق.(1/278)
وكان من أمر بني قينقاع: أن امرأة من العرب جلست إلى صائغ يهودي، فراودها على كشف وجهها فأبت؛ فعمد إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءَتها فضحكوا منها فصاحت؛ فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله؛ فشدت اليهود على المسلم فقتلوه؛ ووقع الشر بين المسلمين وبين بني قينقاع، فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استخلف أبا لبابة بن عبد المنذر، فحاصرهم أشد الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وكان اللواءُ بيد حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، فقذف الله في قلوبهم الرعب، ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن له أموالهم، ولهم النساء والذرية؛ فأمر - عليه الصلاة والسلام - المنذر بن قدامة بتكتيفهم، وكلم عبدُ الله بن أبي ابن سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وألح عليه من أجلهم؛ فأمر - عليه الصلاة والسلام - أن يجلوا وتركهم من القتل، وأمر بأن يجلوا من المدينة فلحقوا بأذرعات، فما كان أقل بقاءهم فيها!. وأخذ من حصنهم سلاحاً وآلة كثيرة.
وكانت بنو قينقاع حلفاءَ لعبد الله ابن سلول وعبادة بن الصامت، فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم، فقال: " يا رسول الله، أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم، ففيهم وفي عبد الله أنزل: " يأيُهَا الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذوْا اليهودَ والنَصَارى أوْلِياءَ بعْضُهُمُ أولياءَ بعضٍ " إلى قوله: " فإنَ حِزْبَ الله هُمُ الغالِبوْنَ " المائدة: 51 - 56.
ثم غزوة السويق: سميت بذلك؛ لأنه كان أكثرَ زاد المشركين، وتسمى أيضاً: غزوة الكُدر بضم الكاف وسكون الدال المهملة؛ اسم لماء هناك.
وهم مائتا راكب فيهم أبو سفيان، خرج صلى الله عليه وسلم لهم يوم الأحد، خامس ذي الحجة، على رأس اثنين وعشرين شهراً من الهجرة.
وقال ابن إسحاق: في صفر في مائتي رجل من المهاجرين والأنصار، وقيل: في ثمانين راكباً.
وكان سبب هذه الغزوة: إن أبا سفيان حين رجع بالعير من بدر إلى مكة، نذر ألا يمس النساء والدهن، حتى يغزو محمداً - عليه الصلاة والسلام - فخرج في مائتي راكب من قريش؛ ليبر يمينه، حتى أتوا العريض ناحية من المدينة على ثلاثة أميال، فحرقوا نخلاً وقتلوا رجلاً من الأنصار، فرأى أبو سفيان أن قد انحلت يمينه، فانصرف بقومه راجعين، وخرج - عليه الصلاة والسلام - في طلبهم في مائتين من المهاجرين والأنصار، وجعل أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب السويق - وهي عامة أزوادهم - يتخففون للهرب؛ فيأخذها المسلمون، فلم يلحقهم - عليه الصلاة والسلام - فرجع إلى المدينة، وكانت غيبته خمسة أيام.
وفي ذي الحجة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد، وأمر بالأضحية.
وفيه مات عثمان بن مظعون.
وفى هذه السنة تزوج علي بفاطمة، رضي الله عنهما
حوادث السنة الثالثة
فيها غزوة غَطَفان، وهي غزوة ذي أمر بفتح الهمزة والميم، وسماها الحاكم: غزوة أنمار، وهي بناحية نجد، وكانت لثنتي عشرة مضت من ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهراً من الهجرة.
وسببها: أن جمعاً من ثعلبة ومحارب، تجمعوا يريدون الإغارة، جمعهم دعثور بن الحارث المحاربي - وسماه الخطيب: غورث، وغيره غورك - وكان شجاعاً: فندب صلى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين فارساً، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان فلما سمعوا بمهبطه صلى الله عليه وسلم هربوا في رؤوس الجبال، فأصابوا رجلاً منهم من بني ثَعلَبة، فأُدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الإسلام وضمه إلى بلال.
وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم مطر؛ فنزع ثوبيه ونشرهما على شجرة: ليجفّا، واضطجع تحتها وهم ينظرون، فقالوا لدعثور: قد انفرد محمد فعليك به، فأقبل ومعه سيف، حتى قام على رأسه صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني اليوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " الله " . فدفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " من يمنعك منى؟ " قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام، وأنزل الله: " يا أَيُهَا اَلَذِين آمَنُوا اَذكُرُوا نِعمَتَ الله عليكم إِذ هَم قَوم أَن يبسُطوا إِلَيكُم أَيديَهُم... " المائدة: 11 الآية.(1/279)
ويقال: كان ذلك في ذات الرقاع، ثم رجع صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيداً، وكانت غيبته إحدى عشرة ليلة.
وفيها غزوة نجران، وتسمى: غزوة بني سُليم من ناحية الفرَع: بفتح الفاء والراء؛ كما قيده السهيلي وقال في القاموس: ونجران وتضم: موضع بناحية الفرع، كما رأيته بخطه، بضم الفاء لا غير.
وسببها: أنه بلغه - عليه الصلاة والسلام - أن بها جمعاً كثيراً من بني سُليم، فخرج في ثلاثمائة رجل من أصحابه، فوجدوهم قد تفرقوا في مياههم، فرجعوا ولم يلق كيداً، وكان قد استعمل على المدينة ابن أم مكتوم؛ كما قاله ابن هشام، وكانت غيبته عشر ليال.
وفيها سرية زيد بن حارثة إلى القَرْدة بفتح القاف وسكون الراء؛ كما ضبطه ابن الفرات، اسم ماء من مياه نجد وسببها - كما قال ابن إسحاق - : أن قريشاً خافوا من طرقهم التي يسلكون منها إلى الشام، حين كان من وقعة بدر ما كان فسلكوا طريق العراق، فخرج معهم تجار منهم أبو سفيان بن حرب، ومعهم فضة كثيرة وعند ابن سعد بعثه صلى الله عليه وسلم لهلال جمادى الآخرة على رأس ثمانية وعشرين شهراً من الهجرة، في مائة راكب؛ يعترض عيراً لقريش فيها صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى، ومعهم مال كثير وآنية، فأصابوها وقدموا بالعير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخمسها، فبلغ الخمس قيمة عشرين ألف درهم وعند مغلطاي: خمسة وعشرين ألف درهم، وذكرها ابن إسحاق قبل قتل ابن الأشرف.
ومن حوادثها: سرية محمد بن مَسْلمة وأربعة معه إلى كعب بن الأشرف اليهودي، لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهراً من الهجرة روى أبو داود والترمذي، من طريق الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، أن كعب بن الأشرف كان شاعراً يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعر، فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذاه، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ أن يبعث رهطاً ليقتلوه. وفى رواية قال - عليه الصلاة والسلام - : " من لنا بابن الأشرف؟ " وفي أخرى: " من لكعب بن الأشرف؟ " أي: من ينتدب لقتله؛ فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا، وقد خرج إلى قريش، وجمعهم إلى قتالنا، وقد أخبرني الله بذلك. ثم قرأ على المسلمين: " أَلم تَرَ إِلَى اَلذينَ أُوتُوا نصَيباً مِّنَ اَلكتاب يُؤمِنوُنَ باَلجِبتِ والطاغوتِ وَيَقُولوُنَ لِلَذِينَ كَفَرُوا هؤلاءِ أَهدىَ مِنَ اَلَذِينَ آمَنوُا سَبيلاً أُؤلَئكَ اَلذينَ لَعَنَهُمُ الله " ُ النساء: 51، 52 وفي الإكليل: فقد آذانا بشعره وقوى المشركين.
وفى رواية ابن إسحاق: فقال محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل: أنا له يا رسول الله، أنا أقتله، قال: فافعل إن قدرت على ذلك، قال: يا رسول الله، إنه لا بدَ لنا أن نقول، قال: قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل من ذلك، فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة، وأبو نائلة - بنون وبعد الألفِ تحتانية - سلكان بن سلامة، وكان أخا كعب من الرضاعة، وعبادة بن بشر، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر، وهؤلاء الخمسة من الأوس وفي رواية ابن سعد: فلما قتلوه وبلغوا بقيع الغرقد كَبروا، وقد قام عليه السلام تلك الليلة يصلي، فلما سمع تكبيرهم، كبر وعرف أنهم قد قتلوه، ثم انتهوا إليه فقال: أفلحت الوجوه، قالوا: وجهك يا رسول الله، ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله على قتله.
وفي كتاب شرف المصطفى: إن الذين قتلوا كعباً حملوا رأسه في مخلاة إلى المدينة، فقيل: إنه أول رأس حمل في الإسلام.
وأصاب ذباب السيف الحارث بن أوس، فجرح ونزفه الدم، فتفل عليه الصلاة والسلام على جرحه، فلم يؤذه بعد.
وفيها غزوة أحد يوم السبت تاسع شوال حين جمعت قريش لقتاله ثلاثة آلاف، فيهم سبعمائة دارع، ومائتا فارس، وثلاثة آلاف بعير، وخمس عشرة امرأة، والمسلمون ألف رجل، وقال صلى الله عليه وسلم لِلرُماة: " لا تتغيروا " ، فلما تغيروا انهزموا، وقتل من المسلمين سبعون، ومنهم حمزة، وشج جبينه صلى الله عليه وسلم، وكسرت رَبَاعيته، ودخل في وجنته حلقتان من المغفر، وشقت شفته، وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون، وثبت ومعه أربعة عشَرَ رجلاً، ونصره الله عليهم، فرجع من يومه آخر النهار.(1/280)
وكان سببها؛ كما ذكره ابن إسحاق، عن شيوخه، وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، وأبو الأسود، عن عروة وابن سعد، قالوا: ومن قال منهم ما حاصله: إن قريشاً لما رجعوا من بدر إلى مكة، وقد أصيب أصحاب القليب، ورجع أبو سفيان بِعيره، قال عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وجماعة ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر: يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه - يعنون عير أبي سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة - لعلنا أن ندرك منه ثأراً، فأجابوه لذلك، فباعوها، وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار، وفيهم - كما قال ابن إسحاق وغيره - أنزل الله تعالى: " إن اَلَذين كَفَرُوا ينفِقُونَ أَموالَهُم ليصدوا عَن سَبيلِ الله فَسَيُنفقُونَهَا ثُمَ تَكوُنُ عليهم حَسرة ثُمً يُغلبَوُن " ، الأنفال: 36.
واجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب العباس بن عبد المطلب كتاباً يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم، وسار بهم أبو سفيان حتى نزل بهم ببطن الوادي من قبل أحد مقابل المدينة، وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر، وأري صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال: والله، لقد رأيت خيراً، رأيت بقراً تذبحُ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت إني أدخلت يدي في درع حصينة، فأما البقر: فناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في سيفي: فهو رجل من أهل بيتي يقتل.
وقال ابن عقبة: ويقول رجال: كان الذي بسيفه ما قد أصاب وجهه؛ فإن العدو أصابوا وجهه الشريف يومئذ، وكسروا رَباعيته، وجرحوا شفته.
وفى رواية قال - عليه الصلاة والسلام - : " وأولت الدرع الحصينة بالمدينة، فامكثوا فإن دخل القوم الأزقة قاتلناهم، ورُمُوا من فوق البيوت " فقال أولئك القوم: يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم، فصلى عليه الصلاة والسلام بالناس الجمعة، ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك، ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي، ثم دخل - عليه الصلاة والسلام - بيته ومعه صاحباه أبو بكر وعمر - فعمماه وألبساه، وصف الناس ينتظرون خروجه - عليه الصلاة والسلام - فقال لهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، فردوا الأمر إليه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبس لأمته - وهي بالهمز، وقد يترك تخفيفاً، الدرع - وتقلد سيفه، فندموا جميعاً على ما صنعوا، فقالوا: ما كان لنا أن نخالفك فاصنَعْ ما شئت، فقال: " ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " .
وفي حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي والطبراني وصححه الحاكم نحو حديث ابن إسحاق، وفيه إشارة النبي صلى الله عليه وسلم ألاَ يبرحوا من المدينة، وإيثارهم بالخروج لطلب الشهادة، ولبسه اللأمة وندامتهم على ذلك، وقوله: " لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل " ، وفيه: " إني رأيت إني في درع حصينة... " الحديث وعقد - عليه الصلاة والسلام - ثلاثة ألوية: لواء للأوس بيد أسيد بن الحضير، ولواء للمهاجرين بيد علي بن أبي طالب، وقيل: بيد مصعب بن عمير، ولواء للخزرج بيد الحباب بن المنذر، وقيل: بيد سعد بن عبادة، وفي المسلمين مائة دارع، وخرج السعدان أمامه يعدوان، سعد بن معاذ وسعد بن عبادة دارعين، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وعلى الحرس تلك الليلة محمد بن مَسلمة، وأدلج - عليه الصلاة والسلام - في السحر، وكان قد رد جماعة من المسلمين لصغرهم، منهم أسامة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، والنعمان ابن بشير قال مغلطاي: وفيه نظر.
وكان المسلمونَ ألف رجل، ويقال: تسعمائة، والمشركون ثلاثة آلاف رجل، فيهم سبعمائة دارع، ومائتا فرس، وثلاثة آلاف بعير، وخمس عشرة امرأة، ونزل - عليه السلام - بأحد، ورجع عنه عبد الله بن أبي في ثلاثمائة ممن تبعه من قومه من أهل النفاق. ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالانصراف لكفرهم، بمكانٍ يقال له الشوطُ، ويقال: بأحد، ثم صف المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة.(1/281)
قال ابن عقبة: وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل وجعل على الرماة - وهم خمسون رجلاً - عبد الله بن جبير، وقال: لو رأيتمونا يتخطفنا الطير؛ فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزَمْنَا القومَ ووطئناهم؛ فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم؛ كذا في البخاري من حديث البراء.
وفي حديث ابن عباس عند أحمد والطبراني والحاكم: أنه صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع، ثم قال: " احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نُقْتَلُ فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا، فلا تشركونا " .
وقال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يأخذ هذا السيف بحقه؟ " فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك، فقال: وما حقه يا رسول الله؟. قال: " أن تضرب به في وجه العدو حتى ينحني " ، قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه، وكان رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، فلما رآه - عليه الصلاة والسلام - يتبختر قال: " إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن " قال الزبير بن العوام - فيما قال ابن هشام - : فقلت: والله، لأنظرن ما يصنع أبو دجانة، فاتبعته، فأخذ عصابة حمراء، فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج عصابة الموت، فخرج وهو يقول: من الرجز:
أنا الذي عاهدَنِي خليلِي ... ونحْنُ بالسفْحِ لدى النخِيلِ
ألا أقومَ الدَهْرَ في الكَيولِ ... أَضْربْ بسيفِ الله والرَسولِ
فجعل لا يلقى أحداً من المشركين إلا قتله.
وقوله: الكَيول - بفتح الكاف، وتشديد المثناة التحتية - : مؤخر الصفوف، وهو فيعول من كالَ الزند يكيلُ كيلاً: إذا كبا، ولم يخرج ناراً، فشبه مؤخر الصف به، لأن من كان فيه لا يقاتل. قال أبو عبيدة: ولم يسمع إلا في هذا الحديث.
وقتل شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف، والتقى حنظلة الغسيل وأبو سفيان، فضربه شداد بن أوس فقتله، فقال: " إن حنظلة لتغسله الملائكة " ، فسألوا امرأته جميلة أخت عبد الله بن أبي، فقالت: خرج وهو جُنُب. فقال: - عليه الصلاة والسلام - : " لذلك غسلته الملائكةُ " وبذلك تمسك من قال من العلماء: بأن الشهيد يغسل إذا كان جنبَاً.
وقتل علي طلحة بن أبي طلحة صاحب لواء المشركين، ثم حمل لواءهم عثمان ابن أبي طلحة، فحمل عليه حمزة، فقطع يده وكتفه، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، فحسوا الكفار بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر وكانت الهزيمة، فولى الكفار لا يلوون على شيء، ونساؤهم يدعون بالويل، وتبعهم المسلمون حتى أجهضوهم ووقعوا ينهبون العسكر، ويأخذون ما فيه من الغنائم.
وفي البخاري: قال البراء: فقال أصحاب عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قالوا: والله لنأتينَّ الناسَ فلنصيبن من الغنائم، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين.
وفي حديث عائشة عند البخاري - أيضاً - : لما كان يوم أحد، هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت مع أخراهم.
وعند أحمد والحاكم، من حديث ابن عباس: أنهم لما رجعوا، اختلطوا بالمشركين، والتبس العسكران، فلم يتميزا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض.
وفي رواية غيرهما: ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله، فكَر بالخيل، وتبعه عكرمة بن أبي جهل، فحملوا على من بقي من النفر الرماة، فقتلوهم وأميرهم عبد الله بن جبير.
وفي البخاري: أنهم لما اصطفوا للقتال، خرج سباع، فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فشد عليه فكان كأمس الذاهب، وكان وحشي كامناً تحت الصخرة، فلما دنا منه رماه بحربته حتى خرجَت من بين وركيه، فكان آخر العهد به انتهى.
وكان مصعب بن عمير قاتل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الذي قتله ابن قمئة، وهو يظنه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصاح ابن قمئة: إن محمداً قتل، ويقال: كان ذاك أزب العقبة ويقال: بل إبليس لعنه الله، تصوَر في صورة جعال، وقال: أي عباد الله، أخراكم أي: احترزوا من جهة أخراكم، فعطف المسلمون وقتل بعضهم بعضاً، وهم لا يشعرون، وانهزم طائفة منهم إلى جهة المدينة، وتفرق سائرهم، ووقع القتل فيهم.(1/282)
وقال ابن عقبة: ولما فقد - عليه الصلاة والسلام - قال رجل منهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فارجعوا إلى قومكم ليؤمنوكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم فإنهم داخلوا البيت، وقال رجل منهم: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل، أفلا تقاتلون على دينكم، وعلى ما كان عليه نبيكم، حتى تلقوا الله عز وجل شهداء، منهم أنس بن مالك بن النضر، شهد له بها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، قال في عيون الأثر: كذا وقع في هذا الخبر أنس بن مالك، وإنما هو أنس بن النضر عم أنس بن مالك بن النضر. انتهى.
وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انكَشفُوا عنه، وثبت معه من أصحابه أربعة عشر رجلاً من المهاجرين، فيهم أبو بكر الصديق وسبعة من الأنصار.
وفي البخاري: لم يبق معه - عليه الصلاة والسلام - إلا اثنا عشر رجلاً، فأصابوا منا سبعين. وكان - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، سبعين أسيراً وسبعينَ قتيلاً، فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرات، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء، فقد قتلوا، فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبتَ يا عدُو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك فقال: يوم بيوم.
وتوجه صلى الله عليه وسلم يلتمس أصحابه، فاستقبله المشركون، فرموا وجهه، فأدموه وكسروا رباعيته، والذي جرح وجهه عبد الله بن قمئة، وعتبة بن أبي وقاص أخو سعد هو الذي كسر رباعيته؛ ومن ثم لم يولد له ولد من نسله فيبلغ الحنث، إلا وهو أبخر أو أهشَمُ، أي: مكسور الثنايا من أصلها يعرف ذلك في عقبه.
وقال ابن هشام، في حديث أبي سعيد الخدري: إن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فكسر رباعيته اليمنى السفلَى، وجرح شفته السفلى، وإن عبد الله بن هشام الزهري شجه في جبهته، وإن ابن قمئة جرح وجنتة، فدخلَتْ حلقتان من المغفر في وجنته، ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها للمسلمين.
وفي رواية: وهشموا البيضة على رأسه - أي: كسروا الخوذة - ورموه بالحجارة حتى سقَطَ في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر، فأخذه على بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائمَاً، ونشبتْ حلقتا المغفر في وجنته، وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته، ثم ازدرده، فقال - عليه الصلاة والسلام - من أصاب دمي دمه، لم تصبه النار؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى حكم دمه، عليه السلام.
وفي الطبراني من حديث أبي أمامة قال: رمى عبد الله بن أبي قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فشج وجهه وكسر رباعيته، فقال: خذها وأنا ابن قمئة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أقمأك الله " - وهو يمسح الدم عن وجهه - فسلط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة.
وروى ابن إسحاق، عن حميد الطويل، عن أنس قال: كسرتْ رباعيته صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجه، وجعل يمسحه ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم؟! فأنزل الله تعالى: " لَيسَ لَك مِنَ اَلأمرِ شَيء أَوْ يَتوبَ عَلَيهِم أَوْ يُعَذِبَهُم فإنهم ظالِمُونَ " آل عمران: 128 ورواه أحمد والترمذي والنسائي من طريق حميد.
وعند ابن عائذ من طريق الأوزاعي: بلغنا أنه لما جرح صلى الله عليه وسلم يوم أحد، أخذ شيئاً ينشف دمه وقال: " لو وقع منه شيء على الأرض، لنزل عليهم العذاب من السماء " ، ثم قال: " اللهم، اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون " .
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: ضُرِبَ وجهُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يومئذ بالسيف سبعين ضربة، ووقاه الله شرها كلها، قال في فتح الباري: وهذا مرسل قوي، ويحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها أو المبالغة. انتهى.(1/283)
وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد فيما قاله ابن هشام، فخرجت أول النهار حتى انتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فقصت أباشر القتال، وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراحة، إلى أن أصابني ابن قمئة - أقمأه الله - لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقبل يقول: دلوني على محمد، فلا نجوتُ إن نجا. قالت: فاعترضْتُ له فضربني هذه الضربة، ولكن ضربته ضرباتٍ على ذلك، ولكن عدو الله عليه درعان، قالت أم سعد بن الربيع: فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور.
وتَرّسَ دون رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما قاله ابن إسحاق - أبو دجانة بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو ينحني عليه حتى كثر عليه النبل وهو لا يتحرك.
ورمى سعد بن أبي وقاص دولن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد: فلقد رأيته يناولني النبل، ويقول: " ارم سعد، فداك أبي وأمي " ، حتى إنه يناولني السهم ما له نصل، فيقول: " أرم به " ، فيعود منصلاً.
وأصيبت عين قتادة بن النعمان حتى وقعتْ على وجنته، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وردها إلى موضعها، وقال: " اللهم، اكسه جمالاً " ، فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظراً. ورواه الدار قطني بنحوه.
ورمى أبو رهم الغفاري كلثوم بن الحصين بسهم، فوقع في نحره، فبصق عليه صلى الله عليه وسلم فبرئ.
وانقطع سيف عبد الله بن جحش، فأعطاه صلى الله عليه وسلم عرجوناً، فعاد في يده سيفاً فقاتل به، وكان ذلك السيف يُسَمَّى العرجون ولم يزل يتوارثُ حتى بيع من بُغا التركي من أمراء المعتصم بالله في بغداد بمائتي دينار. وهذا نحو حديث عكاشة السابق في غزوة بدر، إلا أن سيف عكاشة كان يسمى العَوْن.
واشتغَلَ المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج، ويبقرون البطون، وهم يظنون أنهم أصابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشراف أصحابه، وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك، قال: عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما عرفوه، نهضوا ونهض معهم نحو الشعب معه أبو بكر وعمر وعلي ورهط من المسلمين، فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، أدركه أبيّ بن خلف وهو قول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فقالوا: يا رسول الله، يعطف عليه رجل منا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: " دعوه " ، فلما دنا، تناول - عليه الصلاة والسلام - الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها - عليه الصلاة والسلام - انتفض بها انتفاضَةَ تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله - عليه الصلاة والسلام - فطعنه طعنة - وقع عن فرسه، ولم يخرج له دم، فكسر ضلعاً من أضلاعه، فلما رجع إلى قريش قال: قتلني محمد والله، قالوا: ليس عليك يا أبا علي من بأس، فقال: أليس كان قد قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله، لو بصق على لقتلني.
قلت: نعم قد كان أبي هذا يلاقي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فيقول له: إن معي فرساً أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه، فيقول - عليه الصلاة والسلام - له: " بل أنا أقتلك عليه " ، فذلك قول أبيّ: أليس قد قال لي... إلى آخره - فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة. رواه البيهقي وأبو نعيم، ولم يذكر: فكسر ضلعاً من أضلاعه.
قال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أبيّ بن خلف ببطن رابغ فإني لأسير ببطن رابغ بعد هويّ من الليل إذ نار تأجج لي فهبتها، وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح: العطش! وإذا رجل يقول: لا تسقه؛ فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أبيُّ بن خلف. ورواه البيهقي.
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب، ملأ علي بن أبي طالب درقته من المهراس - وهو صخرة منقورة تسع كثيراً من الماء. فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: اشتد غضب الله على من أدمى وجه نبيه وصلى النبي - عليه الصلاة والسلام - يومئذ الظهر قاعداً من الجراح التي أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعوداً.(1/284)
قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلنَ بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخلعنَ الآذان والأنوف، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.
ولما أراد أبو سفيان الانصرافَ، أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال؛ إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعْلُ هبل، اعلُ هبل، وكان أبو سفيان حين أراد الخروج إلى أحد، كتب على سهم:، نعم، وعلى الآخر: لا، وأجالهما عند هبل، فخرج سهم، نعم، فخرج إلى أحد، ولما قال: اعل هبل، أي: زد علواً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: " أجبه " ، فقال: الله أعلى وأجل، لا سواء؛ قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فقال: إن لنا عُزى ولا عُزى لكم، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم " . ولما انصرف أبو سفيان وأصحابه، نادى أبو سفيان بأعلى صوته: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال: - عليه الصلاة والسلام - لرجل من أصحابه: قل له: " نعم، هو بيننا وبينكم موعد " .
وذكر الطبراني: أنه لما انصرف المشركون، خرج النساء إلى الصحابة يعنهم، فكانت فاطمة فيمن خرج، فلما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم، اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته بالماء فيزداد الدم، فلما رأت ذلك، أخذت شيئاً من حصير، فأحرقته بالنار، وكمدته به حتى لصق بالجرح، فاستمسك الدم، ثم أرسل - عليه الصلاة والسلام - محمد بن مَسلمة - كما ذكره الواقدي - فنادى في القتلى: يا سعد بن الربيع - مرة بعد أخرى - فلم يجبه، حتى قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني أنظر ما صنعت؟ فأجاب بصوتٍ ضعيف، فوجدته جريحَاً في القتلى وبه رمق، فقال سعد: أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلامَ وقل له: يقول لك: جزاك الله عنا خَيرَ ما جزى نبيُّاً عن أمته، وأبلغْ قومك عنى السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، ثم مات.
وقتل أبو جابر، فما عرف إلا ببنانه، أي: أصابعه، وقيل: أطرافها، وأحدها بنانة.
وخرج رسول الله يلتمسُ حمزة، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به، فجدع أنفه وأذناه، فنظر - عليه الصلاة والسلام - إلى شيء لم ينظر إلى شيء أوجع لقلبه منه، فقال: " رحمة الله عليك، لقد كنت فعولاً للخير، وصولاً للرحم، أما والله، لأمثلن بسبعين منهم مكانك " ، قال: فنزلت عليه خواتيم سورة النحل: " وَإِن عَاقَبتم فَعَاقِبوُا.... " إلى آخر الآية النحل: 126، فصبر، وكفَّر عن يمينه، وأمسك عما أراد.
وممن مثل به كما مثل بحمزة: عبد الله بن جحش ابن أخت حمزة، ولذا يعرف بالمجدَّع في الله، وكان حين قتل ابن بضع وأربعين سنة، ودفن مع حمزة في قبر واحد.
ولما أشرف - عليه الصلاة والسلام - على القتلى قال: أنا شهيد على هؤلاء، ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
وفي رواية عبد الله بن ثعلبة: قال - عليه الصلاة والسلام - لقتلى أحد: زملوهم بجراحهم.
وروى أبو بكر بن مردويه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا جابر، ألا أخبرك؟ ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحاً فقال: سلني أعطك، قال: أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب عر وجل: إنه سبق مني أنهمِ لا يرجعون إلى الدنيا، قال: أي رب، فأبلغ من ورائي " ، فأنزل الله: " وَلا تحسَبَنَ الَذِينَ قُتِلوا في سبِيلِ الله أَتموتَاً بَل أحيَاءٌ.... " الآية آل عمران: 169.
وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخوانَنَا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم " ، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآيات: " وَلا تَحسَبَنَ اَلذَينَ قُتِلوا... " آل عمران: 169، رواه أحمد.(1/285)
قال بعض من تكلم على هذا الحديث: قوله ثَم: " تأوي إلى قناديل " مصداقه قوله: " والشهداء عِندَ رَبهن لَهُم أرُهُم وَنوُرُهُم " الحديد: 19، وإنما تأوي إلى تلك القناديل ليلاً، وتسرح نهاراً، وبعد دخول الجنة في الآخرة لا تأوي إلى تلك القناديل، وإنما ذلك في البرزخ.
وقال مجاهد: الشهداء يأكلون من ثمار الجنة. وقد ورد هذا القول؛ ويشهد له: ما وقع في مسند ابن أبي شيبة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الشهداء بنهر - أو على نهر - يقال له: بارق، عند باب الجنة في قباب خضر، يأتيهم رزقهم منها بكرةً وعشياً.
قال الحافظ عماد الدين بن كثير: الشهداء أقسام، منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هنالك، ويغدي عليهم برزقهم هناك ويراح.
قال: وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه بشرى لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة - أيضَا - وتسرح فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة. قال: وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه غير واحد من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتسعة؛ فإن الإمام أحمد رواه عن الشافعي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عبد الرحمن ابن كعب بن مالك، عن أبيه يرفعه: " نسمة المؤمن طائر تعلقُ في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه " وقوله تعلق أي: تأكل؛ وفي هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائرٍ في الجنة. وأما أرواح الشدهداء ففي حواصل طير خضر، فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها؛ فنسأل الله الكريم المنمان أن يميتنا على الإيمان.
وقد استشهد يوم أحد من المسلمين سبعون؛ فيما قاله مغلطاي وغيره، وقيل: خمسة وستون أربعة من المهاجرين، وروى ابن منده من حديث أبي بن كعب قال: استشهد من الأنصار يوم أحد أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة، وصححه ابن حبان من هذا الوجه.
وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون رجلاً، وقَتل - عليه السلام - بيده أبيَّ بن خلف، وحضرت المَلائكة يومئذ، ففي حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم في صحيحه: أنه رأَى عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض، قال: ما رأيتهما قبل ولا بعد - يعني جبريل وميكائيل - يقاتلان كأشد القتال وفيه كما قدمناه في غزوة بدر أن قتال الملائكة معه صلى الله عليه وسلم لا يختصُّ بيوم بدرة خلافاً لمن زعمه؛ كما نص عليه النووي في شرح مسلم كما قدمته، والله أعلم.
ولما بكى المسلمون على قتلاهم سُر المنافقون وظهر فسق اليهود.
تنبيه: ذكر القاضي عياض في الشفاء، عن القاضي أبي عبد الله بن المرابط من المالكية؛ أنه قال: من قال: " إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم هزم " يستتاب، فإن تاب وإلا قتل لأنه تنقصه؛ إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته؛ إذ هو على بصيرة من أمره ويقين عصمته انتهى. وهذا موافق لمذهبنا، لكن قال العلامة البساطي من المالكية: هذا القائل إن كان يخالف في أصل المسألة - أعني: حكم التائب - فله وجه، وإن وافق على أن التائب لا تقبل توبته، فمشكل. انتهى وقد كان في قصة أحد: وما أصيب به المسلمون من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة: منها تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية، وشؤْمَ ارتكاب المنهي؛ لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَ يبرحوا منه.
ومنها عادة الرسل أن تبتلي وتكون لهم العاقبة، والحكمة أن لو انتصروا دائماً، لدخل في المسلمين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائماً لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين؛ ليتميز الصادق من الكاذب، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفياً عن المسلمين، فلما جرت هذه القصة، وأظهر أهل النفاق ما أظهروا من الفعل والقول، عاد التلويح تصريحَاً، وعرف المسلمون أن لهم عدواً في دورهم، واستعدوا لهم وتحرزوا منهم.
ومنها: أن في تأخير النصر في بعض المواطن هَضْماً للنفس وكسراً لشماختها، فلما ابتلي المسلمون، صَبَرُوا وجزع المنافقون.
ومنها: أن الله تعالى هيأ لعباده المؤمنين منازلَ في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسبابَ الابتلاءِ والمحنِ ليصلوا إليها.(1/286)
ومنها: أنه أراد هلاك أعدائه، فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كُفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحص ذنوب المؤمنين ومحق بذلك الكافرين.
وكان مما قيل من الشعر في يوم أحد قول هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ ابن عبد بن عمران، بن مخزوم، قال ابن هشام: عائذ بن عمران، بن مخزوم: من البسيط:
مَا بَالُ هَم عَمِيدٍ بَاتَ يَطْرُقُنِي ... بِالْوُد من هِنْدَ إِذْ تَعْدُو عَوَادِيهَا
بَاتَتْ تُعَاتِبُنِي هِنْدٌ وَتَعْذِلُنِي ... وَالحَربُ قَدْ شُغِلَت عَني مَوَالِيهَا
مَهْلاً فَلاَ تَعذِلِينِي؛ إِن مِنْ خُلُقِيمَا قَد عَلِمتِ، وَمَا إِنْ لَسْتُ أُخْفِيهَا
مُسَاعِف لِبَنِي كَعبٍ بِمَا كَلِفُوا ... حَمّالُ عِبْء وأَثقَالٍ أُعَانِيهَا
وَقَدْ حَمَلْتُ سِلاَحِي فَوْقَ مُشتَرِفٍ ... سَاطٍ سَبُوحٍ إِذَا يَجْرِي يُبَارِيهَا
كَأنهُ إِذْ جَرَى عَير بِفَدفَدَةِ ... مُكَدم لاَحِقٌ بِالْعُونِ يَحْمِيهَا
مِن آلِ أَعْوَجَ يَرْتَاحُ الندىُ لَهُ ... كَجِذْعِ شَعْرَاءَ مُسْتَعْلٍ مَرَاقِيهَا
أَعددتُهُ وَرُقَاقَ الحَدِّ مُنتَخَلاًَ ... وَمَارِنَا لِخُطُوب قَدْ أُلاَقِيهَا
هَذَا وَبَيضَاءَ مِثلَ النهى مُحكَمَةً ... لُطت عَلَيَّ فَمَا تَبدُو مَسَاوِيهَا
سُقنَا كِنَانَةَ من أَطرَافِ ذِي يَمَنٍ ... عُرْضَ البِلاَدِ عَلَى مَا كَانَ يُزجِيهَا
قالَت كِنَانَةُ: أَنّى تَذهَبُونَ بنَا؟ ... قُلنَا: النخِيلَ؛ فَأَموهَا وَمَنْ فِيهَا
نَحنُ الْفَوَارِسُ يَوَمَ الْجَر من أُحُدِ ... هَابَتْ مَعَد، فَقُلنَا: نَخنُ نَأْتِيهَا
هَابُوا ضِرَاباً وَطَعناً صَادِقاً خَذِماً ... مِمّا يَرَونَ وَقَد ضُمتْ قَوَاصِيهَا
ثُمتَ رُحْنَا كَأَنا عَارِضٌ بَرِد ... وَقَامَ هَامُ بَنِي النجارِ يَبكِيهَا
كَأَن هَامَهُمُ عِنْدَ الوَغَى فِلَق ... من قَيْضِ رُبد نَفَتْهُ عَنْ أَدَاحِيهَا
أَوْ حَنظَل زَعزَعَتْهُ الريحُ فِي غُصُنٍ ... بَالِ تَعَاوَرُهُ مِنهَا سَوَافِيهَا
قَد نَبذُلُ الْمَالَ سَحّا لاَ حِسَابَ لَهُ ... وَنَطعُنُ الْخَيلَ شَزْراً فِي مَآقِيهَا
وَلَيلَةٍ يَصْطَلِي بِالفَرثِ جَازِرُهَا ... يَخْتَص بِالنقَرَى الْمُثرِينَ دَاعِيهَا
وَلَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَندِيَةٍ ... جَرْبَا جُمَادِيةِ قد بِتُ أَسرِيهَا
لاَ يَنْبَحُ الْكَلْبُ فِيهَا غَيْرَ وَاحِدةٍمِنَ الْقَرِيسِ وَلاَ تَسْرِي أَفَاعِيهَا
أَوْقَدْتُ فِيهَا لِذِي الضراءِ جاحمة ... كَالْبَرقِ ذَاكِيَةَ الأَرْكانِ أَحْمِيهَا
أَورَثَنِي ذَاكُمُ عَمْرٌو وَوَالِدُهُ ... مِنْ قَبلِهِ كَانَ بِالْمَثْنَى يُغَالِيهَا
كَانُوا يبَارُونَ أَنوَاءَ النجُومِ فَمَا ... دَنّتْ عَنِ السورَةِ الْعلْيَا مَسَاعِيهَا
فأجابه حسان بن ثابت فقال: من البسيط:
سُقتُم كِنَانَةَ جَهلاً مِنْ سَفَاهَتِكُمٍ ... إِلَى الرَسُولِ فَجُنْدُ الله مُخْزِيهَا
أَوْرَدتُمُوهَا حِيَاضَ المَوتِ ضاحِيَة ... فَالنارُ مَوعِدُهَا وَالْقَتْلُ لاَقِيهَا
جَمَعتُمُوهُمْ أَحَابِيشاً بِلا حَسَب ... أَئِمةَ الْكُفْرِ غَرتكُمْ طَوَاغِيهَا
أَلا اعتَبَرْتُم بِخَيْلِ الله إِذْ قَتَلَت ... أَهلَ القَلِيبِ وَمَن أَلقَينَهُ فِيهَا؟!
كَمْ من أَسِيرٍ فَكَكنَاهُ بِلا ثَمَن ... وَجَز نَاصِيَةِ كُناً مَوَالِيهَا
قال ابن هشام: أنشدنيها أبو زيد الأنصاري لكعب بن مالك، قال: وبيت هبيرة ابن أبي وهب وهو: من البسيط:
وَلَيلَةٍ يَصطَلِي بِالفَرثِ جَازِرُهَا ... يَخْتَصُ بِالنقَرَى المُثرِينَ دَاعِيهَا(1/287)
يروى لجنوب أخت عمرو ذي الكلب الهذلي في أبيات لها في غير يوم أحد.
قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يجيب هبيرة بن أبي وهب: من الطويل:
أَلاَ هَل أَتَى غَسانَ عَنَا وَدُونَهُم ... مِنَ الأَرضِ خَرق سَيرُهُ مُتَنَعنِعُ؟
صَحَارٍ وَأَعلاَم كَأن قَتَامَهَا ... مِنَ البُعدِ نَقع هَامِد مُتَقَطعُ
تَظَل بِهِ البُزْلُ العَرَامِيسُ رُزحاً ... وَيَخلُو بِهِ غَيثُ السنِينَ فَيُمرعُ
بِهِ جِيَفُ الْحَسرَى يَلُوحُ صَلِيبُهَا ... كَمَا لاَحَ كَتانُ التجَارِ الْمُوَضعُ
بِهِ العِينُ وَالآرَامُ يَمشِينَ خِلفَةً ... وَبِيضُ نَعَامِ قَيضُهُ يَتَفَلعُ
مَجَالِدُنَا عَن دِينِنَا كُل فَخْمَةِ ... مُذربةٍ فِيهَا القَوَانِسُ تَلمَعُ
وَكُل صَمُوتٍ فِي الصوَانِ كَأَنًهَا ... إِذَا لُبِسَتْ نَهيٌ مِنَ المَاءِ مُتْرَعُ
وَلَكِنْ بِبَدرٍ سَائِلُوا من لَقِيتُمُ ... مِنَ الناسِ، وَالأَتبَاءُ بِالغَيب تَنفَعُ
وَإِنا بِأَرضِ الخَوفِ لَو كَانَ أَهْلُهَا ... سِوَانَا لَقَد أَجلَوا بِلَيْل فَأَقشَعُوا
إِذَا جَاءَ مِنا رَاكِبٌ كَانَ قَولُهُ ... أَعِدوا لِمَا يُزجِي ابنُ حَربٍ وَيَجْمَعُ
فَمَهمَا يُهِم الناسَ مِمَا يَكيِدُنَا ... فَنَحنُ لَهُ من سَائِرِ الناسِ أَوسَعُ
فَلَو غَيرُنَا كَانَتْ جَمِيعَاً تَكِيدُهُ ال ... بَرِيةُ قد أَعطَوا يَدَاً وَتَوَرعُوا
نُجَالِدُ لاَ تَبغِي عَلَينَا قَبِيلَة ... مِنَ الناسِ إِلأ أَن يُهَانُوا وَيُفظَعُوا
وَلَمَا ابتَنَوا بِالْعِرضِ قَالَ سَرَاتُنَاعَلاَمَ إِذَا لَم نَمنَع العِرضَ نَزرَعُ؟!
وفِينَا رَسُولُ الله نَتبَعُ أَمرَهُ ... إِذَا قَالَ فِينَا الَقَولَ لاَ نَتَظَلَعُ
تَدَلى عَلَيهِ الرُوحُ من عِنْدِ رَبهِ ... يُنَزلُ من جَو السمَاءِ وَيُرفَعُ
نُشَاوِرُهُ فِيمَا نُرِيدُ وَقَصرُنَا ... إِذَا مَا اشتَهَى أَنَّا نُطِيعُ وَنَسْمَعُ
وَقَالَ رَسُولُ الله لَمَّا بَدَوا لَنَا:ذَرُوا عَنكُمُ هَولَ الْمَنِياتِ وَاطْمَعُوا
وَكُونُوا كَمَن يَشرِي الحيَاةَ تَقَرُباً ... إِلَى مَلِكِ يُحيَا لَدَيهِ وَيُرْجَعُ
وَلَكِن خُذُوا مِيثَاقَكُم وَتَوَكَّلُوا ... عَلَى الله؛ إِن الأَمْرَ لله أَجْمَعُ
فَسِرنَا إِلَيهِمْ جَهرَةً فِي رِحَالِهِم ... ضُحَياً عَلَينَا الْبيضُ لاَ نَتَخَشعُ
بِمَلْمُومَةٍ فِيهَا السنَوَرُ وَالْقَنَا ... إذا ضربوا أقدامها لا تورع
فَجئنَا إِلَى مَوْجٍ مِنَ الْبَحْرِ وَسْطَهُ ... أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثَلاَثَةُ آلاف وَنَحْنُ نصيةً ... ثلاث مئين إن كثرنا فأربع
نُغَاوِرُهُمْ تَجْرِي الْمَنِيةُ بَينَنَا ... نشارعهم حوض المنايا ونشرع
تَهَادَى قِسِيُّ النبْعِ فِينَا وَفِيهِم ... وما هو إلا اليثربي المقطع
وَمَنْجُوفَة حِرْمِية صَاعِدِيةً ... يذر عليها السم ساعة تصنع
تَصُوبُ بِأَبْدَانِ الرجَالِ وَتَارَةً ... تمر بأعراض البصار تقعقع
وَخَيْل تَرَاهَا بِالْفَضَاءِ كَأَنهَا ... جراد صبا في قرة يتريع
فَلَمَا تَلاَقَيْنَا وَدَارَت بِنَا الرَحَا ... وليس لأمر حمُّه الله مدفع
ضَرَبْنَاهُمُ حَتَى تَرَكْنَا سَرَاتَهُم ... كأنهم بالقاع خشب مصرع
لَدُنْ غُدْوَةً حَتَى اسَتَفَقْنَا عشيةً ... كأن ذكانا حر نار تلفع
وَرَاحُوا سِرَاعاً مُوجَعِينَ كَأَنهُمْ ... جهام هراقت ماءه الريح مقلع(1/288)
وَرُحْنَا وَأُخْرَانَا بِطَاء كَأَننَا ... أسود على لحم ببيشة ضلع
فَنِلْنَا وَنَالَ الْقَوْمُ مِنا وَرُبمَا ... فعلنا ولكن ما لدى الله أوسع
وَدَارَتْ رَحَانَا وَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمُ ... وقد جعلوا كل من الشر يشبع
وَنَحْنُ أُنَاس لاَ نَرَى الْقتْلَ سُبة ... على كل من يحمي الدمار ويمنع
جِلادٌ عَلَى رَيْبِ الْحَوَادِثِ لاَ نَرَى ... على هالك عيناً لنا الدهر تدمع
بَنُو الْحَرْبِ لاَ نَعْيَا بِشَيْءٍ نَقُولُهُ ... ولا نحن مما جرت الحرب نجزع
بَنُو الْحَرْبِ إِنْ نَظْفَرْ فَلَسنَا بِفُحَّشٍ ... ولا نحن من أظفارنا نتوجع
وَكُنَّا شِهَاباً يَتَقِي الناسُ حَرَهُ ... ويفرج عنه من يليه ويسفع
فَخَرْتَ عَلَىَ ابْنَ الزبَعْرَي وَقَدْ سَرَى ... لكم طلب من آخر الليل متبع
فَسَلْ عَنْكَ في عَلْيَا مَعَد وَغَيْرِهَا ... من الناس من أخزى مقاماً وأشنع؟!
ومَنْ هُوَ لَمْ تَتْرُكْ لَهُ الحَرْبُ مَفْخَراً؟! ... ومن خده يوم الكريهة أضرع؟!
شدَدْنَا بِحَوْلِ الله وَالنصرِ شَدَةً ... عليكم وأطراف الأسنة شرع
فَكُرُ الْقَنَا فِيكُمْ كَأن فُرُوعَهَا ... عَزَالَى مَزَادٍ مَاؤُهَا يَتَهَزع
عَمَدْنَا إِلَى أَهْلِ اللوَاءِ وَمَنْ يَطِرْبذِكْرِ اللوَاءِ فَهْوَ فِي الْحَمْدِ أَسْرَعُ
فَخَانُوا وَقَدْ أَعْطَوْا يَداً وَتَخَاذَلُواأبى الله إِلاَّ أَمْرَهُ وَهْوَ أَصنَعُ
قال ابن هشام: وكان كعب قد قال: مجالدنا عن جذمنا كل فخمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيصلح أن تقول: مجالدنا عن ديننا؟ " فقال كعب: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فهو أحسن " فقال كعب: مجالدنا عن ديننا.
قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعري في يوم أحد: من الرمل:
يَا غُرَابَ الْبَيْنِ أَسْمَعْتَ فَقُلْ ... إِنمَا تَنْطِقُ شيئاً قَدْ فعِلْ
إِن لِلْخَيْرِ وَللشَر مَدَى ... وَكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ
والْعَطِيَّاتُ خِسَاسٌ بَيْنَنَا ... وَسَوَاء قَبْرُ مُثْرٍ وَمُقِلْ
كُلُّ عَيْشٍ وَنَعِيمٍ زَائِل ... وَبَنَاتُ الدَّهْرِ يَلْعَبْنَ بِكُلّ
أَبْلِغَا حَسانَ عَني آيَةً ... فَقَرِيضُ الشّعْرِ يَشْفِي ذَا الْغُلَلْ
كَمْ تَرَى بالْجَر مِنْ جُمْجُمَةٍ ... وَأَكُفٍّ قَدْ أُتِرَّتْ وَرِجِلْ
وسرابِيلَ حِسَانٍ عَرِيَتْ ... عَنْ كُمَاةٍ أُهْلِكُوا فِي الْمُنْتَزَلْ
كَمْ قَتَلْنَا مِنْ كَرِيمٍ سَيدٍ ... مَاجِدِ الجَدَيْنِ مِقْدَام بَطَلْ
صَادِقِ النَّجْدَةِ قَرْمٍ بَارعٍ ... غَيْرِ ملْتَاثِ لَدَى وَقْعِ الأَسَلْ
فَسَلِ الْمِهْرَاسَ مَا سَاكِنُهُ ... بَيْنَ أَقْحَافٍ وَهَامِ كَالْحَجَلْ
لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرِ شَهِدُوا ... جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الأَسَلْ
حِينَ حَكَتْ بِقُبَاءِ بَرْكَهَا ... واسْتَحَزَ الْقَتْلُ فِي عَبْدِ الأَشَلْ
ثُم خَفُّوا عِنْدَ ذَاكُمْ رُقَّصاً ... رَقَصَ الْحَفَّانِ يَعْلُو فِي الْجَبَلْ
فَقَتَلْنَا الضعْفَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ ... وَعَدَلْنَا مَيْلَ بَدْرٍ فَاعْتَدَلْ
لاَ ألُومُ النفْسَ إِلا أَنَّنَا ... لَوْ كَرَرْنَا لَفَعَلْنَا الْمُفْتَعَلْ
بسُيُوفِ الهِندِ تَغلُو هَامَهُم ... عَلَلاً تَعلُوهُمُ بَعدَ نَهَل
فأجابه حسان بن ثابت: من الرمل:
ذهبَت يَابنَ الزبَعرَي وَقعَةٌ ... كَانَ مِنا الفَضلُ فِيهَا لَو عَدَل(1/289)
ولَقَد نِلتُنم وَنلنَا مِنكُمُ ... وَكَذَاكَ الحَربُ أَحيَاناً دُوَل
نَضَعُ الأَسيَافَ فِي أَكتَافِكُم ... حَيثُ نَهوَى عَللاً بَعدَ نَهَل
نُخرِجُ الأَصبَحَ من أَستَاهِكُم ... كَسُلاحِ النيبِ يَأكُلنَ العَصَل
إِذ تُوَلونَ عَلَى أَعقَابِكُم ... هَرَباً فِي الشعبِ أَشبَاهَ الرّسَل
إِذ شددنَا شَدة صَادِقَةً ... فَأَجَأناكُم إِلَى سَفحِ الجَبَل
بِخَنَاطِيلَ كَأَشدَافِ المَلاَ ... من يُلاَقُوهُ مِنَ الناسِ يُهَل
ضَاقَ عَنا الشِّعبُ إِذ نَجزَعُهُ ... وَمَلأَنَا الفُرطَ مِنهُ وَالرِّجل
بِرِجَالِ لَستُمُ أَمثَالَهُم ... أُيدُوا جِبرِيلَ نَصراً فَنَزَل
وَعَلَونَا يَومَ بَدرِ بِالتقَى ... طَاعَة الله وَتَصدِيق الرُسُل
وَقَتَلنا كُل رَأس مِنهُم ... وَقَتَلنا كُل جَحجَاحٍ رفل
وَتَرَكنَا فِي قُرَيش عَورةً ... يَومَ بَدر وَأَحَادِيثَ المثل
وَرَسُولُ اللهِ حَقاً شَاهِد ... يَومَ بَدرٍ والتنَابِيلُ الهُبَل
في قريش من جُمُوعِ جَمعُوا ... مِثل ما يُجمَعُ في الخِصبِ الهمَلْ
نَحنُ لا أَمثَالُكُم ولد استهَا ... نَحضُرُ البَأسَ إِذَا البَأسُ نَزَل
قال ابن هشام: وأنشدني أبو زيد الأنصاري: وأحاديث المثل، والبيت الذي قبله. وقوله: " في قريش من جموع جمعوا " عن غير ابن إسحاق قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يبكي حمزة بن عبد المطلب وقتلى أحد من المسلمين: من المتقارب:
نَشَجْتَ وَهَلْ لَكَ من مَنشَجِ ... وَكُنتَ مَتَى تَذكِر تلجَجِ
تَذَكرَ قَومِ أَتَانِي لهم ... أَحَادِيثُ فِي الزمَنِ الأَعوَجِ
فَقَلبُكَ مِنْ ذِكْرِهِمْ خَافِق ... مِنَ الشوقِ والحُزُنِ المنضَجِ
وَقَتلاَهُمُ في جِنَانِ النعِيمِ ... كِرَامُ المدَاخِلِ والمخرَجِ
بِمَا صَبَرُوا تَختَ ظِلً اللوَاءِ ... لواءِ الرسُولِ بذي الأَضْوُجِ
غَدَاةَ أَجَابَت بأسيافها ... جميعاً بَنُو الأًوْس والخزرجِ
وأشياع أحْمَدَ إذْ شايعوا ... عَلَى الحق ذِي النورِ والمنْهج
فَمَا بَرِحُوا يَضربُونَ الكُمَاةَ ... وَيَمْضُونَ في القَسْطَلِ المُرهَجِ
كَذَلِكَ حَتَى دَعَاهُم مَلِيكٌ ... إِلَى جَنةٍ دَوْحَةِ المَولجِ
فَكُلهُمُ مَاتَ حُرَّ البَلاَءِ ... عَلَى مِلةِ الله لَمْ يَحرَجِ
كَحَمزَةَ لمّا وَفَى صَادِقاً ... بِذِي هَبةٍ صَارِم سَلجَجِ
فَلاَقَاهُ عَبْدُ بَنِي نَوْفَلِ ... يُبَربِرُ كالجملِ الأَدْعَجِ
فأَوجَرَهُ حَربَةً كَالشهَابِ ... تَلَهبُ في الهب المُوهَجِ
وَنُعمانُ أوفى بميثَاقِهِ ... وَحَنظَلَةُ الخيرِ لم يُحنَجِ
عن الحَق حَتى غَدَت رُوحُهُ ... إِلَى مَنْزِلِ فَاخِرِ الزبْرج
أولئكَ لاَ مَنْ ثوى مِنْكُمُ ... مِنَ النارِ في الدرَكِ المُرْتَجِ
فأجابه ضرار بن الخطاب الفهري: من المتقارب:
أيجْزَعُ كَعْب لأشياعِهِ ... ويبكي من الزمن الأعوج؟!
عَجِيجَ المُذَكِّي رَأَى إِلفَهُ ... تَرَوحَ فِي صَادِرٍ مُحنَجِ
فراحَ الروَايَا وَغادَرْنَهُ ... يُعَجْعِجُ قَسْراً وَلَم يُحْدَجِ
فَقُولاَ لِكَعْب: يُثَن البُكَا ... وَللنيءِ مِنْ لَحمِهِ ينضجِ
لمصرَعِ إِخوانِهِ في مَكَر ... مِنَ الخيل ذِي قَسطَلِ مُرهجِ
فَيَا لَيْتَ عَمراً وَأَشيَاعَهُ ... وَعُتبَةَ في جَمعِنَا السورَجِ
فيشفُوا النفُوسَ بِأَوتَارِهَا ... بِقَتلَى أُصيبَت مِن الخَزرَجِ(1/290)
وَقَتْلَى من الأوْسِ في مَعْرَكٍ ... أُصيبوا جميعاً بِذِي الأضْوُجِ
وَمَقْتلِ حَمْزَةَ تَحْتَ اللوَاءِ ... بِمُطَّرِدٍ مَارِنٍ مُخْلَجِ
وَحَيْثُ انَثَنى مُصْعَب ثَاوياً ... بِضَرْبَة ذي هَبةٍ سَلْجَجِ
بِأُحْدِ، وأَسْيَافُنَا فِيهمُ ... تَلَهَبُ كَاللَهَبِ المُوهِجِ
غَدَاةَ لقينَاكُمُ في الحَديدِ ... كَأُسْدِ البَرَاحِ فَلَمْ نُعنَجِ
بِكُل مُجَلَحَةٍ كَالعُقَابِ ... وَأَجْرَدَ ذِي مَيْعَةٍ مُسْرَج
فَدُسْنَاهُمُ ثَم حَتَّى انثَنَوْا ... سِوَى زَاهِقِ النفْسِ أَوْ مُحْرَجِ
قال ابن هشام: وبعض أهل العلم بالشعر ينكرُ هذا لضرار، وقول كعب: ذي النور والمنهج عن أبي زيد الأنصاري.
قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعري في يوم أحد: من الطويل:
ألاَ ذرَفَتْ مِنْ مقلَتَيْكَ دُمُوعُ ... وَقَدْ بَانَ مِنْ حَبْلِ الشَبَابِ قُطُوعُ؟!
وشَط بِمَنْ تَهْوَى المزَارُ وَفَرَّقَتْ ... نَوَى الحي دَار بِالحَبِيبِ فَجُوعُ
وَلَيْسَ لِمَا وَلى عَلَى ذي حَرَارَة ... وإِنْ طَال تَذْرَافُ الدُمُوع رُجُوعُ
فذَرْ ذَا، وَلَكِنْ هَلْ أَتَى أُمَ مَالِكٍ ... أَحَادِيثُ قَوْمِي، والحدِيثُ يشيعُ
وَمَجْنَبُنَا جُرْداً إِلَى أَهْلِ يثْرِب ... عَنَاجيجَ مِنْهَا مُتْلَدٌ وَنَزِيعُ
عَشيةَ سِرْنَا فِي لهامٍ يَقُودنَا ... ضَرُورُ الأَعَادِي للصدِيقِ نَفُوعُ
نَشُدُ عَلَيْنَا كُل زَغْفٍ كَأَنهَا ... غَدِير بِضَوْجِ الوَادِبَيْنِ نَقِيعُ
فَلَمَا رَأَوْنَا خَالَطَتْهُمْ مَهَابَة ... وَعَايَنَهمْ أمْر هُنَاكَ فَظِيعُ
وَوَدُّوا لَوَ أن الأَرْضَ يَنْشَق ظَهْرُهَا ... بِهِمْ وَصَبُورُ القَوْمِ ثَم جَزُوعُ
وَقَدْ عُريَتْ بِيض كَأَن وَميضَهَا ... حَرِيق تَرَقى فِي الأَباءِ سَرِيعُ
بِأَيْمَانِنَا نَعْلُو بِهَا كُلَّ هَامَةٍ ... وَمِنْهَا سِمَام لِلْعَدُو ذَرِيعُ
فَغَادرْنَ قَتْلَى الأَوْسِ عَاصِبَةً بِهِمْ ... ضِبَاعٌ وَطَيْر يَعتَفِينَ وقُوعُ
وَجَمْعُ بَنِي النجارِ فِي كُل تَلْعَةٍ ... بِأَبْدَانِهِمْ مِنْ وَقْعِهِن نَجِيعُ
وَلَوْلاَ عُلُوُّ الشعْبِ غَادَرْنَ أَحْمَداً ... وَلَكِنْ عَلاَ، والسمهَرِيُ شَرُوعُ
كَمَا غَادَرَتْ في الكر حَمْزَةَ ثَاوِياً ... وفِي صَدرِهِ مَاضِي الشَبَاةِ وَقِيعُ
وَنُعْمَانَ قَدْ غَادرْنَ تَحْتَ لِوَائِهِ ... عَلَى لَحْمِهِ طَيْر يَحِفْنَ وُقُوعُ
بِأُحْدٍ وَأَرْمَاحُ الكُمَاةِ يَرُدْنَهُمْ ... كَمَا غَالَ أَشْطَانَ الدِّلاَءِ نُزُوعُ
فأجابه حسان بن ثابت فقال. من الطويل:
أَشَاقَكَ مِنْ أم الولِيدِ ربُوعُ ... بلاقِعُ مَا مِنْ أَهْلِهِنَّ جَمِيعُ؟
عَفَاهُنَّ صَيْفِيُّ الريَاحِ وَوَاكِف ... مِنَ الدلْوِ رَجاف السَّحَابِ هَمُوعُ
فَلَمْ يَبْقَ إلا مَوْقِدُ النارِ حَوْله ... رَوَاكِدُ أَمثَالُ الحمام كنوعُ
فَدَعْ ذِكْرَ دَارٍ بددتْ بَيْنَ أَهْلِهَا ... نَوى لِمَتينَاتِ الحبَالِ قَطُوعُ
وَقُلْ إنْ يَكُنْ يَوم بِأُحْدٍ يَعُدُّه ... سَفِيه فَإن الحَقَّ سَوْفَ يَشيعُ
فَقَدْ صَابَرَتْ فِيهِ بَنُو الأَوْسِ كُلهُم ... وَكَانَ لَهُمْ ذِكْر هُنَاكَ رَفِيعُ
وَحَامى بَنُو النَجَّارِ فِيهِ وَصابروُا ... وَمَا كَانَ مِنْهُمْ في اللقَاءِ جزوعُ
أمام رسُولِ الله لا يخذلُونه ... لَهُمْ نَاصِرٌ مِنْ ربهِمْ وَشَفِيعُ(1/291)
وَفَوْا إذْ كَفَرْتُمْ يا سَخِينَ بِرَبكُموَلاَ يَسْتَوِي عَبْدٌ وَفَى وَمُضيعُ
بِأَيْدِيهمُ بِيض إِذَا حَمِشَ الوَغَى ... فَلاَ بُدَّ أنْ يَرْدَى لَهُنَّ صرِيع
كما غَادَرَتْ في النقْعِ عُتْبَةَ ثَاوِيَاً ... وسَعْدَاً صَرِيعاً، والوشِيجُ شُروعُ
وَقَدْ غَادَرَتْ تَحْتَ العَجَاجةِ مُسْنَداً ... أُبيَّا وَقَدْ بَل القَمِيصَ نَجِيعُ
بكف رَسُولِ الله حَيْثُ تَنَصَبَتْ ... عَلَى القَومِ مِمَّا قَدْ يُثِرْنَ نُقُوعُ
أُولئِكَ قَوْمٌ سَادَة مِنْ فُرُوعِكُمْ ... وَفِي كُل قَوْمٍ سَادَةٌ وَفُرُوعُ
بِهِن نُعِزُّ الله حَتَى يُعِزّنَاوَإِنْ كَانَ أَمْر يَا سَخِينَ فظيعُ
فَلاَ تَذْكُرُوا قَتْلَى وَحَمْزَةُ فِيهِم ... قَتِيل ثَوَى لِلَّهِ وَهْوَ مُطِيعُ
فَإِن جِنَانَ الخُلْدِ مَنْزِلَة له ... وَأَمْرُ الَّذِي يَقْضِي الأُمُورَ سَرِيعُ
وَقَتْلاَكُمُ فِي النَّارِ أَفْضَلُ رِزْقِهِم ... حَمِيم مَعَاً في جَوْفِهَا وضَرِيعُ
قال ابن إسحاق: وقال عمرو بن العاص في يوم أحد: من الطويل:
خَرَجْنَا مِنَ الفيفا عليهم كأنَّنَا ... مَعَ الصبْحِ مِنْ رَضْوى الحبيكُ المنطقُ
تَمَنَّتْ بَنُو النَّجَّارِ جَهْلاً لِقَاءنَالَدَى جَنْبِ سَلْعٍ، وَالأمَانيُّ تَصْدُقُ
فَمَا رَاعَهم بِالشر إِلاَ فُجَاءة ... كَرَادِيسُ خَيل فِي الأَزِقةِ تَمرُقُ
أَرَادوا لِكَيمَا يَستبِيحُوا قِبَابَنَا ... وَدُونَ القِبَاب اليَومَ ضَرب مُحَرقُ
وكانَت قِبَاباً أومنَت قبل مَا تَرَى ... إذَا رَامَهَا قوم أُبِيحُوا وأُخنِقُوا
كأن رؤوس الخزرجيين غُدوَة ... وَأَيمَانَهُم بِالمشَرفِيةِ بَزوَقُ
فأجابه كعب بن مالك فيما ذكر ابن هشام فقال: من الطويل:
ألا أبلغا فهراً عَلَى نَأيِ دَارِهَا ... وعندَهُمُ من عِلمنَا اليَومَ مَصدَقُ
بِأَنا غَدَاةَ السفحِ من بَطنِ يَثرِبٍ ... صَبَرنَا، وَرَايَاتُ المَنيةِ تَخفِقُ
صَبَرْنَا لهم والصبر مِنا سَجِية ... إِذَا طَارَتِ الأَبرَامُ نَسمُو وَنَرتُقُ
عَلَى عَادة تِلكُم جَرَينَا بِصَبرِنَا ... وَقِدماً لَدى الغَايَاتِ نَجرِي فَنَسبِقُ
لَنَا حَومَةً لاَ تُستَطَاعُ يَقُودُهَا ... نَبِي أتى بِالحَق عَف مُصَدقُ
أَلاَ هَل أتى أَفنَاءَ فِهرِ بن مَالِكٍ ... مُقَطعُ أَطرَافٍ وَهَام مُفَلقُ؟!
وقال عمرو بن العاص: من مجزوء الكامل:
لَما رَأَيتُ الحربَ يَن ... زو شَرهَا بِالرضفِ نَزوَا
وَتَنَازَلَت شَهبَاءُ تَل ... حُو الناسَ بِالضراء لحوَا
أَيقَنتُ أَن الموتَ حَق ... ق، وَالحياةُ تَكُونُ لغوَا
حَملتُ أَثوَابي عَلَى ... عَتَدِ يَبُذُّ الخيلَ رَهوَا
رَبِذ كَيَعفُورِ الصرِي ... مةِ رَاعَهُ الرامُونَ دَحوَا
شَنِجِ نَسَاهُ ضَابِطِ ... لِلخَيل إرخَاءً وَعَدوَا
فَفِدى لهم أُمي غَدَا ... ة الرَوعِ إِذ يَمشُونَ قَطوَا
سَيراً إِلَى كَبشِ الكَتي ... بَةِ إِذ جَلَتهُ الشَمسُ جَلوَا
قال ابن إسحاق: فأجابه كعب بن ى فقال: من البسيط:
أَبلِغ قُرَيشاً وَخَيرُ القولِ أَصدَقهُ ... وَالصدقُ عِندَ ذَوِي الألبَابِ مَقبُولُ
أن قد قَتَلنَا بِقَتلاَنا سَرَاتَكُمُ ... أَهلَ اللًوَاءِ فَفِيمَا يَكثُرُ القِيلُ
وَيَومَ بَدرٍ لقينَاكُم لَنَا مَدَد ... فِيهِ مَعَ النصرِ مِيكالَ وَجِبرِيل
إن تَقتُلُونَا فَدِينُ الحق فِطرَتُنَا ... والقتلُ في الحق عِندَ اللهِ تَفضِيلُ(1/292)
وإن تَرَوا أمرَنَا فِي رَأيِكُم سفَهاً ... فَرَأى من خَالَفَ الإسلاَمَ تَضلِيلُ
فَلاَ تَمَنوا لِقَاحَ الحربِ واقتَعِدُوا ... إِن أَخَا الحربِ أَصدى اللوْنِ مَشغُولُ
إِن لكم عِندنَا ضَرباً تُرَاحُ لَهُ ... عُرجُ الضبَاعِ لَهُ خَذم رَعَابِيلُ
إنا بَنُو الحربِ نَمرِيهَا وَنَنتُجُهَا ... وَعِندَنَا لِذوِي الأضغَانِ تَنكِيلُ
إن يَنجُ مِنهَا ابنُ حَرب بَعدَ مَا بَلَغَت ... مِنهُ الترَاقِي وَأَمرُ الله مَفْعُولُ
فَقَد أَفَادَت لَهُ حلماً وَمَوعظةَ ... لِمَن يكُونُ لَهُ لُبٌّ وَمَعقُولُ
وَلَو هَبَطتُم بِبَطنِ السيل كَافَحَكُم ... ضَرب بِشَاكِلَةِ البَطحَاءِ تَرعيلُ
تَلقَاكُمُ عُصَب حَولَ النبِي لهم ... مِمَا يُعِدونَ لِلهَيجَا سَرَابِيلُ
من جِذمِ غَسانَ مسترخٍ حَمَائِلُهُم ... لاَ جُبَنَاءُ وَلاَ ميل مَعَازِيلُ
يَمشُونَ تَحتَ عَمَايَاتِ القِتَالِ كَمَا ... تَمشِي المصَاعِبةُ الأُدمُ المَرَاسِيلُ
أَو مِثل مشي أُسُود الطلِّ أَلثقَهَا ... يَومُ رَذَاذٍ مِنَ الجَوزَاء مَشمُولُ
فِي كُل سَابِغَةٍ كَالنهي مُحكَمَةٍ ... قِيَامُهَا فَلَج كَالسيفِ بُهلُولُ
تَرُدُ حَدَّ قِرَانِ النبلِ خَامسئَةً ... وَيَرجِعُ السيفُ عَنهَا وَهوَ مَفْلُولُ
وَلَو قَذَفتم بِسَلع عَق ظُهُورِكُمُ ... وَللحَيَاةِ وَدَفعِ الموتِ تَأْجِيلُ
مَا زَالَ فِي القَومَ وَتر منكُمُ أبداً ... تَعفُو السلاَمُ عَلَيهِ وَهُوَ مَطْلُولُ
عَبد وَحُر كَرِيم مُوثَق قَنَصاً ... شَطرَ المَدينةِ مَأسُورٌ وَمَقْتُولُ
كُنا نُؤملُ أُخرَاكم فَأَعجَلَكُم ... مِنا فَوَارِسُ لاَ عُزلٌ وَلاَ مِيلُ
إِذَا جَنَى فِيهِمُ الجَانِي فَقَد عَلِمُوا ... حَقاً بِأَن الذِي قَدْ جَرَّ مَحمُولُ
مَا يَجنِ لاَ يَجنِ من إِثمٍ مُجَاهَرَةً ... وَلاَ مَلُوم وَلاَ فِي الغرمِ مَخْذُولُ
وقال حسان بن ثابت يذكر عدة أصحاب اللواء يوم أحد من الخفيف:
مَنَعَ النومَ بِالعشاءِ الهُمُومُ ... وخَيَال إِذَا تَغُورُ النجُومُ
من حبيب أصاب قلبك منه ... سَقَمٌ فَهوَ دَاخِلٌ مَكْتُومُ
يَا لَقَوْمي هَلْ يَقتُلُ المرءَ مِثْلي ... وَاهِنُ البَطش والعِظامِ سَئُومُ؟
لَوْ يَدِب الحولِيُّ من وَلَدِ الذرْ ... رِ عَلَيْهَا لأَنْدَبَتْهَا الكُلومُ
شَأْنُها العِطْرُ والفِراشُ وَيَعْلُو ... هَا لجينٌ وَلُؤلؤٌ مَنْظُومُ
لَم تَفُتْهَا شَمْسُ النهَارِ بشيء ... غَيْرَ أن الشبَابَ لَيْسَ يَدُوم
إن خَالِي خَطِيبُ جَابيَة الجو ... لاَنِ عِنْدَ النعْمَانِ حِينَ يَقُومُ
وأنا الصقْرُ عِنْدَ بَابِ ابْنِ سَلْمَى ... يَومَ نُعْمَانُ في الكُبُولِ سَقيِمُ
فَأُبى وَوَاقِد أُطْلقَا لِي ... يَوْمَ رَاحَا وَكَبْلُه مَحْطومُ
وَرَهَنْت اليَدَين عَنْهُم جميعاً ... كُل كَف جُزءٌ لَهَا مَقْسُومُ
وَسَطَتْ نِسْبَتِي الذوَائِبَ مِنْهُمْ ... كُل دَارٍ فِيهَا أَب لِي عَظِيمُ
وَأَبِي في سُمَيْحَة القَائِل الْفَا ... صِلُ يَوْمَ الْتَقَتْ عَلَيهِ الْخُصُومُ
تِلكَ أَفْعَالُنَا وَفِعْلُ الزبَعْرَي ... خَامِل فِي صَدِيقِهِ مَذْمُومُ
رُب حِلْمِ أَضَاعَهُ عَدَمُ المَا ... لِ، وَجَهْلٍ غَطَى عَلَيْهِ النَّعِيمُ!(1/293)
إِن دَهْراً يَبُورُ فِيهِ ذَوُو الْعِل ... م لَدَهْز هُوَ الْعَتُوُّ الزنِيمُ
لاَ تَسُببنِي فَلَسْتَ بِسِبِّي ... إن سِبي مِنَ الرجَالِ الْكَرِيم
مَا أبالِي أنب بِالْحَزْنِ تَيْس ... أمْ لَحَانِي بِظَهْرِ غَيْبٍ لَئِيمُ
وَليَ الْبَأسُ مِنْكُمُ إِذْ رَحَلْتُم ... أُسْرَة مِنْ بَنِي قُصَي صَمِيمُ
تِسْعَة تَحْمِلُ اللوَاءَ وَطَارَتْ ... فِي رعَاعٍ مِنَ الْقَنَا مَخْزُومُ
وَأَقَامُوا حَتَى أُبِيحُوا جَمِيعاً ... فِي مَقَامٍ وَكُلُهُمْ مَذْمُومُ
بِدَمٍ عَانِكٍ وَكَانَ حِفَاظاً ... أَنْ يُقيمُوا إن الْكَرِيمَ كَرِيمُ
وَأَقَامُوا حَتَى أُزِيرُوا شَعُوباً ... وَالْقَنَا فِي نُحُورِهِمْ مَحْطُومُ
وَقُرَيْش تَفِرُّ مِنا لِوَاذَاً ... أَنْ يُقِيِمُوا وَخَف مِنْهَا الْحُلُومُ
لَمْ تطِقْ حَملَهُ العَوَاتِقُ مِنْهُمْ ... إِنَّمَا يَحْمِلُ اللوَاءَ النُّجُومُ
قال ابن هشام: وأنشدني أبو عبيدة للحجاج بن علاط السلمي يمدح علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ويذكر قتله طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار صاحب لواء المشركين يوم أحد: من الكامل:
لله أَيُّ مذَنب عَنْ حُرْمَةٍ ... أَعْنِي ابْنَ فَاطِمَةَ الْمُعِم الْمُخْوِلاَ
سَبَقَت يَدَاكَ لَهُ بِعَاجِلِ طَعْنَةٍ ... تَرَكتْ طُلَيْحَةَ لِلْجَبِينِ مُجَدَّلاَ
وَشَدَدْتَ شَدَةَ بَاسِلٍ فَهَزَمْتَهُمْ ... بِالْجَر إِذْ يَهْوُونَ أَخْوَلَ أَخْوَلاَ
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت يبكي حمزة بن عبد المطلب، ومن أصيب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من مجزوء الكامل:
يَامَيُّ قُومِي فَاندُبِن ... نَّ بِسُحْرَةٍ شَجْوَ النَّوَائِحْ
كَالْحَامِلاَتِ الوَقرَ بِالْث ... ثقْلِ الْمُلحَاتِ الدَوَالِحْ
أَلْمُعْولاَتِ الْخَامِشَا ... تِ وُجُوهَ حُرَاتٍ صَحَائِحْ
وَكَأن سَيْلَ دُمُوعِهَا الْ ... أَنْصَابُ تُخْضَبُ بِالذبَائِحْ
يَنْقضْنَ أَشْعَاراً لَهُنْ ... نَ هُنَاكَ بَادِيَةَ الْمَسَائِحْ
وَكَأَنهَا أَذْنَابُ خَي ... لٍ بالضُحَى شُمْسِ رَوَامِحْ
مِنْ بَيْنِ مَشْرُورِ ومَج ... زورٍ يُذَعْذَعُ بِالْبَوَارِحْ
يَبْكِينَ شَجوَ مُسَلبَا ... تٍ كَدَحَتْهن الكَوَادِحْ
وَلَقَدْ أَصَابَ قلُوبَهَا ... مَجل لَهُ جُلَب قَوَارِح
إِذ أَقْصَدَ الْحِدْثَانُ مَنْ ... كُنا نُرجي إِذْ نُشَايِحْ
أَصْحَابَ أُحدِ غَالَهُمْ ... دَهْر أَلَمَّ لَهُ جَوَارحْ
مَنْ كَانَ فَارِسَنَا وَحَا ... مِيَنَا إِذَا بُعِثَ الْمَسَالِح
يَا حَمْزَ، لاَ وَالله لاَ ... أَنسَاكَ مَا صُرَّ اللقَائِح
لِمُنَاخِ أَيتَامٍ وَأَضْ ... يَافٍ وَأَرْمَلَةٍ تلاَمِحْ
وَلمَا يَنُوبُ الدَهْر فِي ... حَرْبٍ لحَربٍ وهي لاَقِحْ
يَا فَارِساً يَا مِدْرَهاً ... يَا حَمْزَ قَدْ كُنْتَ المُصَامِحْ
عَنا شَدِيدَاتِ الْخُطُو ... بِ إِذَا يَنُوبُ لَهُن فَادِحْ
ذَكَرْتَنِي أَسَدَ الرسُو ... لِ وَذَاكَ مِدْرَهُنَا المُنَافِح
عَنا وَكَانَ يُعدُ إذ ... عُدَ الشَرِيفُونَ الْجَحَاجِح
يَعْلَو القَماقِمَ جَهرَة ... سَبط اليَدَينِ أغر وَاضِح
لاَ طَائِش رَعِش وَلاَ ... ذو عِلًةٍ بِالحملِ آنِح(1/294)
بَحْر فَلَيسَ يُغِب جَا ... راً مِنهُ سَيب أَو مَنَادِح
أَوْدىَ شَبَابُ أُولي الحَفَا ... ئِظِ وَالثًقِيلونَ المَراجِح
أَلمُطعِمُونَ إِذَا المَشَا ... تِي مَا يسفقوهُن نَاضِح
لَحْمَ الجِلاَدِ وَفَوقَهُ ... من شَحمِهِ شُطَب شَرَائح
لِيُدَافِعُوا عَن جَارِهِم ... مَا رَامَ ذوُ الضغنِ المُكَاشِح
لَهفي لشبانٍ رُزِئ ... نَاهُم كَأَنهم المَصَابِح
شُم بَطَارِقَةٍ غَطَا ... رِفَة خَضَارِمَةٍ مسَامِح
أَلْمُشْتَرُونَ الحَمدَ بِال ... أموَالِ إِن الحَمدَ رَابِح
وَالْجَامِزُونَ بِلُجْمِهِم ... يَوماً إِذَا مَا صَاحَ صَائِح
مَنْ كَانَ يُرمَى بِالنوَا ... قِرِ من زَمَانٍ غَيرِ صَالِح
مَا إِنْ تَزَالُ رِكَابُةه ... يَرسِمن فِي غُبرٍ صَحَاصِح
رَاحَت تَبَارَي وَهوَ فِي ... رَكْب صُدُورُهم رَوَاشِح
حَتَى تَئُوبَ له الْمَعَا ... لِي لَيسَ من فَوزِ السفَائِح
يَا حَمزَ، قد أَوْحَدْتَنِي ... كَالعُودِ شَذَّبَهُ ألكَوَافِح
أَشكُو إِلَيكَ وَفَوقَك الت ... تُربُ المُكَوَرُ وَالصَّفَائِح
مِنْ جنْدَلٍ يلْقِيهِ فَوْ ... قَكَ إِذ أَجَادَ الضرحَ ضَارح
فِي وَاسِع يَحثُونَه ... بِالتربِ سَوّته المَمَاسِح
فَعَزَاؤُنا أَنا نَقُو ... لُ وَقَولنَا بَرح بَوارح:
مَنْ كَانَ أَمسَى وَهوَ عَم ... مَا أَوقَعَ الحِدثَانُ جَانِح
فَلْيأَتِنَا فَلْتَبك عَيْ ... نَاهُ لِهَلكَانَا النوافِح
أَلْقَائِلِينَ الْفَاعِلِي ... نَ ذَوِي السمَاحَةِ وَالمَمَادِح
مَنْ لاَ يَزَالُ نَدى يَدَي ... ه لَهُ طِوَالَ الدهر مَائِح
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان، وبيته: المطمعون إذا المشاتي، وبيته: والجامزون بلحمهم، وبيته: من كان يرمي بالنواقر عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت - أيضَاً - يبكي حمزة بن عبد المطلب: من السريع:
أتعرِفُ الدارَ عَفَا رَسمَهَا ... بعد صوبَ المسبلِ الهاطِلِ
بَين السرَادِيحِ فأُدمَانَة ... فَمدفَعِ الروحَاءِ فِي حَائِلِ
سَأَلتُهَا عَن ذَاكَ فَاستَعجَمَت ... لَم تَدرِ مَا مَرجُوعَة السائِلِ
دَع عَنكَ داراً قد عَفَا رَسمُها ... وابكِ عَلَى حَمزَةَ ذِي النائِلِ
ألمَالِئ الشيزَى إِذا أَعصَفَت ... غَبرَاءُ في ذِي الشبِمِ المَاحِلِ
والتارِكِ القِرنَ لَدَى لِبدةٍ ... يَعثُرُ فِي ذِي الخُرُصِ الذابِلِ
وَاللاّبِسِ الخَيلَ إِذا أخجَمت ... كَالليثِ فِي غَابَتِهِ الْبَاسِلِ
أَبيَضُ فِي الذروَةِ من هَاشِم ... لَم يَمرِ دونَ الحَق بِالْبَاطِلِ
مَال شهِيداً بَين أَسيَافِكُم ... شلَت يَدا وَحشِي مِنْ قَاتِلِ
أَي امرِئ غَادرَ فِي أَلةِ ... مَطرورَةٍ مَارِنَةِ العَامِلِ
أَظلَمَتِ الأَرضُ لِفِقدانِهِ ... وَاسوَدّ نُورُ القمَرِ الناصِلِ
صلى عَلَيهِ الله فِي جَنةٍ ... عَالِيَةٍ مُكرَمَةِ الداخِلِ
كُنا نَرَى حَمزَةَ حِرزاً لَنَا ... في كُل أَمرٍ نَابَنَا نَازِلِ
وَكَانَ فِي الإسلاَمِ ذَا تُدرإ ... يكفِيكَ فَقدَ القَاعِدِ الْخَاذِلِ
لاَ تَفرَحِي يَا هِندُ وَاستَجلِبي ... دمعاً وَأَذرِي عَبرَةَ الثاكِلِ
وَابكِي عَلَى عتبَةَ إِذ قَطه ... بالسيفِ تَحتَ الرهَجِ الْجَائِلِ
إِذ خَر فِي مَشيَخَةٍ مِنكُمُ ... من كُلِّ عَاتٍ قَلْبُهُ جَاهِلِ(1/295)
أَردَاهُمُ حَمزَةُ فِي أُسرةٍ ... يمشُونَ تَحتَ الحَلَقِ الْفَاضِل
غَدَاةَ جِبرِيلُ وَزِيرٌ لَهُ ... نِعمَ وَزِيرُ الفَارِسِ الْحَامِلِ
وقال كعب بن مالك يبكي حمزة بن عبد المطلب: من الكامل:
طَرَقَت هُمُومُكَ فَالرقَادُ مُسَهدُ ... وَجَزِعتَ أن سُلِخَ الشَبَابُ الأَغيَدُ
وَدَعَتْ فُؤَادَكَ لِلْهَوَى ضمْرِية ... فَهَوَاكَ غَوْرِي وَصَحْبُك منْجِدَ
فَدَعِ التَّمَادي فِي الْغَوَايَةِ سَادِراًقَدْ كُنْتَ فِي طَلَبِ الْغَوَايَةِ تُفْنَدُ
وَلَقَدْ أنى لَكَ أَنْ تَنَاهَى طَائِعاً ... أَوْ تَسْتَفِيقَ إِذَا نَهَاكَ الْمُرْشِدُ
وَلَقَدْ هُدِدْت لِفَقدِ حَمْزَةَ هَدَّةَ ... ظَلَتْ بَنَاتُ الْجَوْفِ مِنْهَا تُرْعَدُ
وَلَوَ انهُ فُجِعَتْ حِرَاءُ بِمِثْلِهِ ... لَرَأَيْتَ رَاسيَ صَخْرِهَا يَتَبَدَّدُ
قِرْم تمَكَّنَ فِي ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ ... حَيْثُ النبُؤَةُ وَالندَى وَالسؤْدَدُ
وَالْعَاقِرُ الْكُوَمِ الْجِلاَدِ إِذَا غَدَتْ ... رِيح يَكَادُ الْمَاء مِنْهَا يَجْمُدُ
وَالتَّارِكُ الْقِرْنَ الْكَمِيَّ مُجَدَلاً ... يَوْمَ الْكَرِيهَةِ وَالْقَنَا يَتَفَصَدُ
وَتَرَاهُ يَرْفُلُ فِي الْحَدِيدِ كَأَنَّهُ ... ذُو لِبدَةٍ شَثْنُ الْبَرَاثِنِ أَرْبَدُ
عَم النَّبِي مُحَمَدِ وَصَمِيُّهُ ... وَرَدَ الحِمَامَ فَطَابَ ذاًكَ الْمَوْرِدُ
وَأَتَى الْمَنِيةَ مُعْلَماً فِي أُسْرَةٍنَصَرُوا النًبِيَّ وَمِنْهُمُ الْمُسْتَشْهِدُ
وَلَقَدْ إِخَالُ بِذَاكَ هِنْداً بُشرَتْ ... لِتُمِيتَ دَاخِلَ غُصَّةٍ لاَ تَبْرُدُ
مِما صَبَحْنَا بِالْعَقَنْقَلِ قَوْمَهَا ... يَوْماً تَغَيَّبَ فِيهِ عَنْهَا الأَسْعَدُ
وَبِبِئْرِ بَدْرٍ إِذْ يَرُد وُجُوهَهُمْ ... جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَدُ
حَتَّى رَأيْتُ لَدَى النبِيِّ سَرَاتَهُمْ ... قِسْمَيْنِ: نَقْتُلُ مَنْ نَشَاءُ ونَطْرُدُ
فَأَقَامَ بِالْعَطَنِ الْمُعَطَنِ مِنْهمُ ... سَبْعونَ عُتْبَةُ مِنْهُمُ وَالأَسْوَدُ
وَابْنَ الْمُغِيرَةِ قَدْ ضَرَبنَا ضَرْبَة ... فَوْقَ الْوَرِيدِ لَهَا رَشَاش مُزْبِدُ
وَأُمَية الْجُمَحِيُ قوم مَيْلَهُ ... عَضْبٌ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ مُهَندُ
فأَتَاكَ فَلُّ الْمُشْرِكِينَ كَأَنهُم وَالْخَيْلُ تَثْفُنُهُمْ نًعَام شُرَدُ
شَتٌانَ مَن هُوَ فِي جَهَنمَ ثَاوِياً ... أَبَدَاً وَمَنْ هُوَ فِي الجِنَانِ مُخَلَّدُ
وقال كعب - أيضا - يبكي حمزة عبد المطلب: من المتقارب:
صَفِية قُومِي وَلاَ تَعْجِزِي ... وَبَكِّي النسَاءَ عَلَى حَمْزَةِ
وَلاَ تَسْأَمِي أَنْ تُطِيلى البُكا ... عَلَى أَسَدِ الله فِي الْهِزةِ
فَقَدْ كَانَ عِزاً لأَيْتَامِناَ ... وَلَيثَ الْمَلاَحِمِ فِي الْبِزةِ
يُرِيدُ بِذَاكَ رِضَا أَحْمَدٍ ... وَرِضْوَانَ فِي الْعَرشِ وَالْعِزةِ
وقال كعب - أيضا - في يوم أحد: من المتقارب:
إِنكِ عَمْرَ أَبِيكِ الْكَرِي ... م إِنْ تَسْأَلِي عَنْكِ مَنْ يَجْتَدِينَا
فَإنْ تَسْأَلِي ثُم لاَ تُكْذَبِي ... يُخَبرْكِ مَنْ قَدْ سَأَلْتِ الْيَقِينَا
بِأًنا لَيَالِيَ ذَاتِ الْعِظَا ... مِ كُنا ثِمَالاً لِمَنْ يَعْتَرِينَا
تَلُوذُ النَّجُودُ بِأَذْرَائِنَا ... مِنَ الضر فِي أَزَمَاتِ السّنِينَا
بِجَدوَى فَضُولِ أُولِي وُجْدِنَا ... وَبِالصَبْرِ وَالْبَذْلِ فِي الْمُعْدمِينَا
وَأَبقَت لَنَا جَلَمَاتُ الْحُرُو ... بِ مما نُوَازِي لَدُنْ أَنْ برِينَا(1/296)
مَعَاطِنَ تَهْوِي إِلَيْهَا الْحُقُو ... قُ يَحْسَبُهَا مَنْ رَآهَا الْفَتِينَا
تُخَيسُ فِيهَا عِتَاقُ الجما ... لِ صُحْماً دَوَاجِنَ حُمْراً وَجُوناً
وَدفاعَ رَجْلٍ كَمَوْجِ الْفُرَا ... تِ يَقْدُمُ جَأْوَاءَ جُولاً طَحُونَا
تَرَى لَوْنَهَا مِثْلَ لَوْنِ النجُو ... مِ رَجْرَاجَةً تُبْرِقُ الناظِرِينَا
فَإِن كُنْتَ عَنْ شَأْنِنَا جَاهِلاً ... فَسَلْ عَنْه ذَا الْعِلْمِ مِمَنْ يَلِينَا
بنَا كَيْفَ نَفعَلُ إِن قَلَّصَتْ ... عَوَاناً ضَرُوساً عَضُوضاً حَجُونَا
أًلَسْنَا نَشُدُ عَلَيْهَا الْعِصا ... بَ حَئَى تَدر وَحَتَى تَلِينَا؟!
وَيَوْمِ لَهُ رَهَجْ دَاِئم ... شَدِيدِ التَهَاوُلِ حَامِي الإِرِينَا
طَوِيلٍ شَدِيدِ أُوَارِ الْقِتَا ... لِ تَنْفِي قَوَاحِزُهُ الْمُقْرِفِينَا
تَخَالُ الكُمَاةَ بِأًعْرَاضِهِ ... ثِمَالاً عَلَى لَذةٍ مُتْرَفِينَا
تَعَاوَرُ أَيْمَانهُمْ بَيْنَهُمْ ... كُئُوسَ الْمَنَايَا بحَد الظبِينَا
شهِدْنَا فَكُنا أُولي بَأْسِهِ ... وَتَحْتَ الْعَمَايَةِ وَالْمُعْلَمينَا
بِخُرْسِ الحَسِيسِ حِسَانِ رِوَاءٍ ... وَبُصْريَّةٍ قَدْ أَجِمنَ الْجُفُونَا
فَمَا يَتفَلِلْنَ وَمَا ينحَنِينَ ... وَمَا يَنْتَهيِنَ إِذَا مَا نُهِينَا
كَبَرقِ الْخَرِيفِ بِأَيدِي الكُماًةِ ... يُفَجعْنَ بِالظل هَاماً سُكُونَا
وَعَلًمَنَا الضربَ اَبَاؤُنَا ... وَسَوْفَ نُعَفمُ أيضاً بَنِينَا
جِلاَدَ الكُمَاةِ وَبَذلَ التلاَ ... دِ عَنْ جُل أَحْسَابِنَا مَا بَقِينَا
إِذَا مَر قِرن كَفَى نَسْلُهُ ... وَأَورَثَهُ بَعدَهُ آخَرِينَا
نَشِب وَتَهلِكُ آبَاؤُنَا ... وَبَينَا نُرَبي بَنِينَا فَنِينَا
سَأَلتُ بِكَ اننَ الزبَعرَي فَلَم ... آُنبأكَ فِي القَومِ إِلا هَجِينَا
خَبِيثاً تُطِيفُ بِكَ المُندِيَاتُ ... مُقِيماً عَلَى اللؤمِ حِيناً فَحِينَا
تَبَجستَ تَهجُو رَسُولَ المَلي ... كِ قَاتَلَكَ الله جِلْفاً لَعِينَا
تَقُولُ الخَنَا ثُم تَرْمِي بِهِ ... نَقِي الثيَابِ تَقِيا أَمِينَا
قال ابن هشام: أنشدني بيته: بنا كيف نفعل، والبيت الذي يليه، والبيت الثالث منه، وصدر الرابع منه، وقوله: نشب وتهلك آباؤنا، والبيت الذي يليه، والثالث منه - أبو زيد الأنصاري: قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك - أيضاً - في يوم أحد: من البسيط:
سَائلْ قُرَيشاً غَدَاةَ السفحِ من أحُدٍمَاذَا لَقِينَا وَمَا لاَقَوْا مِنَ الهَرَبِ؟!
كُنا الأُسُودَ وَكَانُوا النمْرَ إِذْ زَحَفُوا ... ما إن نُرَاقِبُ من إِل وَلاَ نَسَبِ
فَكَمْ تَرَكْنَا بِهَا مِنْ سَيد بَطَل ... حَامِي الذمَارِ كَرِيمِ الْجَد وَالْحَسَبِ
فِينَا الرسُولُ شِهَاب ثَم نَتبَعُهُ ... نُور مُضِيء لَهُ فَضْل عَلَى الشُهُبِ
أَلْحَقُّ مَنْطِقُهُ وَالْعَدْلُ سِيرَتُهُفَمَنْ يُجِبْهُ إِلَيْهِ يَنْجُ مِنْ تَبَبِ
نَجدُ المُقَدَمِ مَاضِي الْهَم مُعْتَزِم ... حِينَ القُلُوبُ عَلَى رَجْفٍ مِنَ الرعُبِ
يَمْضِي وَيَذْمُرُنَا مِنْ غَيْرِ مَعصِيَةٍكَأَنهُ الْبَدرُ لَم يُطْبَعْ عَلَى الْكَذِبِ
بَدَا لَنَا فَاتبَعنَاهُ نُصَدقُهُ ... وَكَذبوه فَكُنا أَسْعَدَ العَرَبِ
جَالُوا وَجُلْنَا فَمَا فَاءُوا ولا رَجَعُواوَنَحْنُ نَثفِنُهُم لَمْ نَأْلُ فِي الطلَبِ(1/297)
لَيسَا سَوَاءً وَشَتى بَيْنَ أَمرِهِمَا ... حِزبُ الإِلَهِ وَأَهلُ الشركِ وَالنصُبِ
قال ابن هشام: أنشدني من قوله: نمضي ويذمرنا إلى آخرها - أبو زيد.
قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن رَواحة يبكي حمزة بن عبد المطلب - قال ابن هشام: أنشدنيها أبو زيد الأنصاري لكعب بن مالك - : من الوافر:
بَكَت عَينِي وحق لَهَا بُكَاهَا ... وَمَا يُغنِي البُكَاءُ وَلاَ العَوِيلُ
علَى أَسَدِ الإلَهِ غَدَاةَ قَالُوا ... أَحَمْزَةُ ذَاكُمُ الرَجُلُ القَتِيلُ؟!
أُصِيبَ المُسْلِمُونَ بِهِ جَمِيعاً ... هُنَاكَ وَقَدْ أُصِيبَ بِهِ الرسُولُ
أبا يَعْلَى لَكَ الأَرْكَانُ هُدت ... وَأَنتَ الْمَاجِدُ البَرُ الْوَصُولُ
عَلَيْكَ سَلاَمُ رَبكَ فِي جِنَانٍ ... مُخَالِطُهَا نَعِيمٌ لاَ يَزُولُ
أَلاَ يَا هَاشِمُ الأخيَار صَبْراً ... فَكُل فعَالِكُمْ حَسَنْ جَمِيلُ
رَسُولُ الله مُصْطَبِر كَرِيم ... بِأَمْرِ الله يَنْطِقُ إِذْ يَقُولُ:
أَلاَ مَنْ مُبلِغ عَني لُؤَياً ... فَبَعْدَ الْيَوْمِ دَائِلَة تَدُولُ
وَقَبْلَ الْيَومِ مَا عَرَفُوا وَذَاقُوا ... وَقَائِعنَا بِهَا يُشْفَى الْغَلِيلُ
نَسِيتُمْ ضرْبَنَا بِقَلِيبِ بدر ... غَدَاةَ أَتَاكُمُ الْمَوتُ الْعَجِيلُ
غَدَاةَ ثَوَى أَبُو جَهْلِ صَرِيعاً ... عَلَيْهِ الطيْرُ حَائِمَةً تَجُولُ
وَعُتْبَةُ وَابْنُهُ خَرا جَمِيعاً ... وَشَيْبَةُ عَضَّهُ السيْفُ الصَقِيلُ
وَمَتْرَكُنَا أُمَيةَ مُجْلَعِبا ... وَفِي حَيْزُومِهِ لَدْنٌ نَبِيلُ
وَهَام بَنِي رَبِيعَةَ سَائِلُوهَا ... فَفِي أَسْيَافِنَا مِنْهَا فَلُولُ
أَلاَ يَا هِنْدُ لاَ تُبْدِي شَمَاتاً ... بِحَمْزَةَ إِن عِزكُمُ ذَلِيلُ
أَلاَ يَا هِنْدُ فَابْكِي لاَ تَملي ... فَأَنْتِ الْوَالِهُ الْعَبْرَي الْهَبُولُ
قال ابن إسحاق: وقال كعب أيضاً من المتقارب:
أَبْلِغْ قُرَيْشاً عَلَى نأْيِهَا ... أَتَفْخَرُ مِناً بمَا لَمْ تَلِ؟!
فَخَرْتُمْ بِقَتْلَى أَصَابَتْهُمُ ... فَوَاضِلُ مِنْ نِعَمِ الْمُفْضِلِ
فَحَلُوا جِنَاناً وَأَبْقَوْا لَكُمْ ... أُسُوداً تُحامِي عَنِ الأَشْبُلِ
تُقَاتِلُ عَنْ دِينِهَا وَسْطَهَا ... نَبِي عَنِ الْحَقً لَمْ يَنْكُل
رَمَتهُ مَعَد بِعُورِ الْكَلاَمِ ... وَنَبْلِ الْعَدَاوَةِ لاَ تأْتَلِي
قال ابن إسحاق: وقال ضرار بن الخطاب في يوم أحد: من البسيط:
مَا بَالُ عينك قَدْ أَزْرَى بِهَا السهُدُ ... كَأَنمَا جَالَ فِي أَجْفَانِهَا الرَمَدُ
أَمِنْ فِرَاقِ حَبِيبِ كُنْتَ تَأْلَفُهُقَدْ حَالَ مِنْ دُونهِ الأَعْدَاءُ والْبُعُدُ؟!
أَمْ ذَاكَ مِنْ شَغْبِ قَوْمٍ لاَ جَدَاءَ بِهِمْإِذَا الْحرُوب تَلَظت نَارُهَا تَقِدُ؟!
مَا يَنْتَهُونَ عَنِ الْغَي الَذِي رَكِبُوا ... وَمَا لَهُمْ مِنْ لُؤَي وَيْحَهُمْ عَضُدُ
وَقَدْ نَشَدْنَاهُم بِالله قَاطِبَةً ... فَمَا تَرُدُهُم الأَرْحَامُ وَالنشَدُ
حَتَى إِذَا مَا أَبَوْا إِلا مُحَارَبَةًوَاسْتَحصَدَتْ بَيْنَنَا الأَضْغَانُ والْحِقَدُ
سِرنَا إِلَيْهِم بِجَيْش فِي جَوَانِبِهِ ... قَوَانِسُ الْبيض وَالْمَحبُوكَةُ السردُ
وَالْجرْدُ تَرْفُلُ بِالأَبْطَالِ شَازِبَةً ... كأنهَا حِدَأ فِي سَيْرِهَا تُؤَدُ
جَيْش يَقُودُهُمُ صَخْر وًيرْأَسُهُمْ ... كأَنهُ لَيْثُ غَابٍ هَاصِرْ حَرِدُ
فأَبْرَزَ الْحَينُ قَوْماً مِنْ مَنَازِلِهِمفَكَانَ مِنَّا وَمِنْهُمْ مُلْتَقَى أُحُدُ(1/298)
فَغُودِرَتْ مِنْهُمُ قَتْلَى مُجَدَلَةً ... كَالْمَعْزِ أَصرَدَهُ بِالصَرْدَحِ الْبَرَدُ
قَتْلَى كِرَام بَنُو النجارِ وَسطَهُمُ ... وَمُصعَبٌ مِنْ قَنَانَا حَوْلَهُ قِصَدُ
وَحَمْزَةُ الْقَرْمُ مَصرُوعٌ تُطِيفُ بِهِثَكْلَى وَقَد حُز مِنهُ الأَنْفُ وَالْكَبِدُ
كَأَنهُ حِينَ يَكْبُو فِي جَدِيتِهِ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَفِيهِ ثَعْلَب جَسِدُ
حُوَارُ نَاب وَقَدْ وَلَى صَحَابَتُهُ ... كَمَا تَوَلَى النعَامُ الْهَارِبُ الشُردُ
مُجَلحِينَ وَلاَ يَلْوُونَ قَدْ مُلِئُوا ... رُعْباً فَنَجتْهُمُ العَوْصَاءُ والكُؤُدُ
تَبْكِي عَلَيْهِمْ نِسَاء لاَ بُعُولَ لَهَا ... مِنْ كُل سَالِبَةٍ أَثْوَابُهَا قِدَدُ
وَقَدْ تَرَكْنَاهُمُ لِلطيْرِ مَلْحَمَة ... وَلِلضبَاعِ إِلَى أَجْسَادِهِم تَفِدُ
وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكي أخاها حمزة بن عبد المطلب من الطويل:
أَسَائِلَة أَصحَابَ أُحْدٍ مَخَافَةً ... بَنَاتُ أَبِي مِنْ أَعجمٍ وَخَبِيرِ
فَقَالَ الْخَبِيرُ: إِنَّ حَمْزَةَ قد ثَوَى ... وَزِيرُ رَسُولِ الله خَيرُ وَزِيرِ
دَعَاهُ إِلَهُ الْحَق ذُو الْعَرْشِ دَعوَةَ ... إِلَى جَنَةٍ يَحْيَا بِهَا وَسُرورِ
فَذَلِكَ مَا كنَا نُرَجي وَنَرْتَجِي ... لَحمزَةَ يَوْمَ الْحَشرِ خَيْرَ مَصِيرِ
فَوَالله لاَ أَنْسَاكَ مَا هَبتِ الصبَا ... بُكَاءً وَحُزْناً مَحضَرِي ومَسِيرِي
عَلَى أَسَدِ الله الَذِي كَانَ مِدرَهاً ... يَذُودُ عَنِ الإسلامِ كُل كَفُورِ
فَيَا لَيتَ شِلوِي عِندَ ذَاكَ وَأَعظُمِي ... لَدَى أَضْبُع تَعتَادُنِي وَنُسُورِ
أَقُولُ وَقَد أَعلَى النعِيَ عَشِيرَتِي: ... جَزَى الله خيراً من أَخٍ وَنَصِيرِ
قال ابن هشام: أنشدني بعض أهل العلم بالشعر قولها: بكاء وحزنا محضري ومسيري.
وقالت نعم امرأة شماس بن عثمان تبكي شماساً، وأصيب يوم أحد، فقالت من البسيط:
يَا عَين جُودِي بِفَيض غَيرِ إِبسَاسِ ... عَلَى كَرِيم مِنَ الفِتيَانِ لَباسِ
صَعبِ الْبَدِيهَةِ مَيمُونِ نَقِيبَتُهُ ... حَمالِ أَلوِيَةِ رَكابِ أَفرَاسِ
أَقُولُ لَما أَتَى الناعِي لَهُ جَزَعاً: ... أَودى الجَوَادُ وَأَودى المطعِمُ الكَاسِي
وَقُلتُ لَما خَلَت مِنهُ مَجَالِسُهُ: ... لاَ يُبعِد الله عَنا قُربَ شَمَاسِ
فاْجابها أخوها وهو أبو الحكم بن سعيد بن يربوع يعزيها فقال: من البسيط:
إِقنَى حَيَاءَكِ فِي سِترٍ وَفِي كَرَمٍ ... فَإِنمَا كَانَ شَمَاس مِنَ الناسِ
لاَ تَقتُلِي النفسَ إِذ حَانَت مَنِيتُهُ ... فِي طَاعَةِ الله يَومَ الروعِ وَالْبَاسِ
قَد كَانَ حَمزَةُ لَيثَ الله فَاصطَبِرِي ... فَذَاقَ يَؤمَئِذٍ مِنْ كَأسِ شَماسِ
وقالت هند بنت عتبة حين انصرف المشركون عن أحد: من الطويل:
رَجَعتُ وَفِي نَفسِي بَلابِلُ جَمةٌ ... وَقَد فَاتَنِي بَعضُ الذِي كَانَ مَطلَبِي
مِنَ أصحَابِ بَدرٍ من قُرَيشٍ وَغَيرِهِم ... بَنِي هَاشِم مِنهُم وَمِن أَهلِ يثرب
وَلَكِنني قد نِلتُ شيئاً وَلَم يَكُن ... كَمَا كُنتُ أرجُو فِي مَسِيري ومَركَبِي
قال ابن هشام: أنشدني بعض أهل العلم بالشعر قولها: وقد فاتني بعض الذي كان مطلبي وبعضهم ينكرها لهند.
ومنها: غزوة حمراء الأسد:(1/299)
أقام بها يطلب العدو الاثنين والثلاثاء، ورجع بعد خمس للمدينة، وهي على ثمانية أميال عن المدينة عن يسار الطريق إذا أردت الحليفة، وكانت صبيحة يوم أحد لست عشرهَ مضت، أو لثمان خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهراً من الهجرة: لطلب عدوهم بالأمس، ونادى مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يخرج معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، أي: من شهد أحداً. وإنما خرج - عليه السلام - مرهباً للعدو؛ ليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليِظنوا به قوَة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم، وظفر - عليه الصلاة والسلام - في مخرجه ذلك بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص، فأمر بضرب عنقه صبراً.
قال الحافظ مغلطاي: وحرمت الخمر في شوال، ويقال: سنة أربع. انتهى.
قال أبو هريرة، فيما رواه أحمد: حرمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما. فأنزل الله: " يَسئَلوُنَكَ عَنِ الخمرِ وَاَلمَيسِر قُل فِيهِمَا إِثمِ كبير وَمَناَفِعُ لِلنَّاسِ... " إلى آخر الآية البقرة: 219، فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال فيهما إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوماً من الأيام، صلى رجل من المهاجرين أمَ أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فأنزل الله آية أغلَظَ منها: " يأَيُّهَا اَلذَّينَ آمَنوُا لا تَقرُبوا اَلصَّلَوةَ وَأنتُم سُكاَرَى حَتَّى تعلَمُوا مَا تقولونَ " النساء:43، وكان الناس يشربون، ثم نزلت اَية أغلظ من ذلك: " يا أَيُهَا الذَينَ آمَنُوا إنمَا اَلخمُر وَاَلْمَيسِرُ... " ، إلى: " لَعَلكم تُفلِحُون " المائدة: 90، قالوا: انتهينا ربنا والميسر: القمار وغيره.
وولد الحسن بن على في هذه السنة.
ومنها: سرية محمد بن مَسْلمة في أربعة إلى كعب بن الأشرف اليهودي الشاعر رابعَ عَشَرَ ربيع، فقتله الله في داره ليلاً.
وسرية زيد بن حارثة هلال جمادى الآخرة في مائة راكب إلى القَردة؛ يعترض عيراً لقريش، فيها صفوان بن أمية، فأصابوها، فبلغ خمسها عشرين ألف درهم.
حوادث السنة الرابعة
فيها غزوة بني النضير - بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة المبسوطة - : قبيلة كبيرة من اليهود، في ربيع الأولى سنة أربع، وذكرها ابن إسحاق في الثالثة.
قال السهيلي: وكان ينبغي أن يذكرها بعد بدر؛ لما روى عقيل بن خالد وغيره، عن الزهري قال: كانت غزوة بني النضير بعد بئر معونة، مستدلاً بقوله تعالى: " وَأَنزَلَ اَلَذِينَ ظاهَرُوهُم من أَهلِ اَلكِتاب مِن صياصهم " لأحزاب: 26، قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وهو استدلالْ واهٍ؛ فإن الآية نزلت في شأن بني قريظة: فإنهم الذين ظاهروا الأحزاب، وأما بنو النضير، فلم يكن لهم في الأحزاب ذِكر، بل كان من أعظم الأسباب في جمع الأحزاب ما ذكر من إجلائهم؛ فإنه كان من رؤوسهم حيي بن أخطب، وهو الذي حَسّنَ لبني قريظة الغدر وموافقة الأحزاب، حتى كان من هلاكهم ما كان؛ فكيف يصير السابقُ لاحقاً؟! انتهى.
وقد تقدم أن عامر بن الطفيل أعتَقَ عمرو بن أمية، لما قتل أهل بئر معونة، عن رقبة عن أمه، فخرج عمرو إلى المدينة، فصادف رجلين من بني عامر معهما عَقد وعهد من رسول الله ص لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو: من أنتما؟ فذكرا له أنهما من بني عامر، فتركهما حتى ناما، فقتلهما عمرو، وظَن أنه ظفر ببعض ثأر أصحابه، فأخبر رسول الله ص بذلك، فقال: لقد قتلتَ قتيلين لأَدِيَنهُمَا.(1/300)
قال ابن إسحاق: وخرج - عليه الصلاة والسلام - إلى بني النضير يستعين بهم في دية القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية للجوار الذي كان صلى الله عليه وسلم عقده لهما، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف، فلما أتاهم - عليه السلام - يستعينهم في ديتهما، قالوا: يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببتَ مما استعنتَ بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إِنكم لن تجدوه على مثل هذا الحال - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم - قالوا: مَن رجل يعلو هذا البيتَ، فيلقي هذه الصخرة عليه، فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه الصخرة - ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - قال ابن سعد: فقال سلام بن مشكم لليهود لا تفعلوا، والله ليُخبَرَن بما هممتم، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه.
قال ابن إسحاق: وأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخَبَرُ من السماء بما أراد القوم، فقام - عليه الصلاة والسلام - مظهراً أنه يقضي حاجة، وترك أصحابه في مجلسهم، ورجع مسرعاً إلى المدينة. واستبطأ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقاموا في طلبه حتى انتهوا إليه، فأخبرهم بما أرادت اليهود من الغدر به.
قال ابن عقبة: ونزل في ذلك قوله تعالى: " يا أيها اَلَذِين آمَنُو اَذكُرُوا نعمةَ آلله عليّكم إذ هَمَّ قَوم أَن يَبسُطوا إِلَيكم أَيدِيَهُم... " الآية المائدة: 11، قال ابن إسحاق: فأمر - عليه الصلاة والسلام - بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، ثم سار بالناس حتى نزل بهم، فحاصرهم ست ليال.
قال ابن إسحاق: فتحصنوا منه بالحصون، فقطع النخل وحرقها وخرب، فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهَى عن الفساد، وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتخر يبها؟!.
قال السهيلي: قال أهل التأويل: وقع في نفوس بعض المسلمين من هذا الكلام شيء، حتى أنزل الله: " مَا قَطَعتُم مِن لينَةٍ... " الآية الحشر: ه، واللينة أَلْوَانُ التمر ما عدا العجوة والبرني؛ ففي هذه الآية: أنه صلى الله عليه وسلم لم يقطع من نخلهم إلا ما ليس بقوت للناس، وكانوا يقتاتون العجوة، وفي الحديث: " العجوة من الجنة، وتمرها يغذو أحسن غذاء " والبرنيُ - أيضاً - كذلك: ففي قوله تعالى: " مَا قَطعتُم مِن لينَةٍ... " الحشر: ه، - ولم يقل: من نخلة على العموم - : تنبيه على كراهة قطع ما يقتات، ويغذو من شجر العدو إذا رجى أن يصل إلى المسلمين.
قال ابن إسحاق: وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج، منهم عبد الله بن أبي ابن سلول بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا؛ فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم، خرجنا معكم، فتربصوا، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فلم ينصروهم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم عن أرضهم، ويكف عن دمائهم.
وعن ابن سعد: أنهم حين همُّوا بغدره صلى الله عليه وسلم، وأعلمه الله بذلك بعث إليهم محمد ابن مَسلمة أن اخرجوا من بلدي، فلا تساكنوني بها وقد هممتم بما هممتم من الغدر، وقد أجلتكم عشراً، فمن رئي منكم بعد ذلك، ضربت عنقه، فمكثوا على ذلك أياماً يتجهزون، وتكاروا من الناس إبلاً، فأرسل إليهم عبد الله بن أبي أن لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصونكم فإن معي أَلفين من قومي من العرب يدخلون حصنكم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان. فطمع حُيَي بما قال ابن أبي، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. فأظهر صلى الله عليه وسلم التكبير وكَبر المسلمون بتكبيره، وسار إليهم - عليه الصلاة والسلام - في أصحابه، فصلى العصر بفِناء بني النضير، وعلي يحمل رايته. فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاموا على حصونهم معهم النبل والحجارة، واعتزلهم ابن أبي ولم يعنهم، وكذا حلفاؤهم من غطفان، فيئسوا من نصرهم، فحاصرهم صلى الله عليه وسلم وقطع نخلهم، وقال لهم - عليه السلام - : " اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملَتِ الإبلُ إلا الحلْقَةَ " - وهي بإسكان اللام - قال في القاموس: الدرع. فنزلت اليهود على ذلك.
وكان حاصرهم خمسة عشر يوماً، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم، ثم أجلاهم عن المدينة.(1/301)
قال محمد بن مسلمة: وحملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بعير، فلحقوا بخيبر، وحزن المنافقون عليهم حزناً شديداً، وقبض صلى الله عليه وسلم الأموال، ووجد من الحلقة خمسين درعاً وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفاً، وكانت بنو النضير صفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حبساً لنوائبه، ولم يسهمْ منها لأحد من المسلمين؛ لأنهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وإنما قذف الله في قلوبهم الرعب، وجلوا من منازلهم إلى خيبر، ولم يكن ذلك عن قتال من المسلمين لهم، فقسمها - عليه الصلاة والسلام - بين المهاجرين؛ ليرفع بذلك مؤنتهم عن الأنصار؛ إذ كانوا قد قاسموهم الأموال والديار، غير أنه أعطَى أبا دجانة، وسهل بن حنيف لحاجتهما وفي الإكليل: وأعطى سعد بن معاذ سيفَ ابن أبي الحقيق، وكان سيفاً له ذِكرٌ عندهم.
غزوة بدر الأخيرة:
وهى الصغرى، وتسمى: بدر الموعد، وكانت في شعبان بعد ذات الرقاع؛ كذا في المواهب.
قال الحافظ شرف الدين البرماوي: هلال ذي القعدة: وذلك أن أبا سفيان قال يوم أحد: الموعدُ بيننا وبينكم رأس الحول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فخرج، ومعه ألف وخمسمائة، فأقاموا بها ثلاثة أيام، وباعوا ما معهم من التجارة، فربحوا الدرهم درهمَيْنِ، وخرج أبو سفيان إلى مَر الظهران، فرجع؛ لأنه كان عام جدب، فنزل في حق المؤمنين: " فَاَنقَلَبُوا بِنِعمَة مِنَ اَللهِ وَفَضلٍ... " الآية آل عمران: 174.
قال ابن إسحاق: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من غزوة ذات الرقاع، أقام بها جمادى الأولى إلى آخر رجب، ثم رجع في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان، ويقال: كانت في هلال ذي القعدة، فخرج - عليه السلام - ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه، وعشرة أفراس، واستخلف على المدينة عبد الله بن رَواحة، وأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان، وخرج أبو سفيان حتى نزل مَجَنة من ناحية مر الظهران، ويقال: عسفان، ثم بدا له الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصبٌ ترعونَ فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، لأن عامكم هذا عامُ جدب، وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتهم تشربون السويق، وأقام - عليه الصلاة والسلام - ببدرٍ ثمانية أيام، وباعوا ما معهم من التجارة، فربحوا الدرهم درهمين، وأنزل الله في المؤمنين: " اَلَذِينَ اَستَجَابوُا لِلهِ وَاَلرًسُولِ... " إلى قوله: " فَاَنقَلَبوُا بِنِغمَة مِنَ الله وَفضلٍ لَم يمسسهم سوءٌ... " الآية آل عمران: 172: 174، والصحيحُ أن هذه الآية نزلت في حمراء الأسد؛ كما نصَّ عليه العماد بن كثير.
وفيها غزوة ذات الرقاع عاشر المحرم؛ لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن أنمار جمعوا الجموع، فخرج في أربعمائة، فوجدوا أعراباً هربوا في الجبال، وغاب خمسة عشر يوماً، وصلى بها صلاة الخوف.
واختلف فيها متى كانَت؟ فعند ابن إسحاق: بعد بني النضير، سنة أربع، في شهر ربيع وبعض جمادى وعند ابن سعد وابن حبان في المحزم سنة خمس وجزم أبو معشر بأنها بعد بني قريظة في ذي القعدة سنة خمس، فتكونُ ذات الرقاع في آخر السنة وأول التي تليها.
وقد جنح البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر؛ واستدل لذلك بأمور، ومع ذلك ذكرها قبل خيبر؛ فلا أدري هل تعمد ذلك: تسليماً لأصحاب المغازي أنها كانت قبلها، أو أن ذلك من الرواة عنه، وأشار إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسماً لغزوتَين مختلفتين: كما أشار البيهقي إليه على أن أصحاب المغازي مع جزمهم بأنها كانَتْ قبل خيبر مختلفون في زمانها. انتهى.
والذي جزم به ابن عقبة تقدمها، لكن تردد في وقتها، فقال: لا ندري كانت قبل بدر أو بعدها، أو قبل أحد أو بعدها. وهذا التردد لا حاصل له، بل الذي ينبغي الجزم به أنها بعد غزوة بني قريظة؛ إذ صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شرعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في ذات الرقاع فدل على تأخيرها بعد الخندق.(1/302)
ثم قال عند قول البخاري: وهي بعد خيبر؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، وإذا كان كذلك وثبت أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع، لزم أنها كانت بعد خيبر، قال: وعجيب من ابن سيد الناس كيف قال: جعل البخاري حديث أبي موسى هذا حجة في أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر، قال: وليس في خبر أبي موسى ما يدل على شيء من ذلك. انتهى كلام ابن سيد الناس.
قال: وهذا النفي مردود، والدلالة من ذلك واضحة.
قال: وأما الدمياطى، فادعى غلط الحديث الصحيح، وأن جميع أهل السير على خلافه، وقد تقدم أنهم مختلفون في زمانها، فالأولى الاعتماد على ما ثبت في الحديث الصحيح.
وأما قول الغزالي: إنها آخر الغزوات، فهو غلطٌ واضح، وقد بالغ ابن الصلاح في إنكاره، وقال بعض من انتصر للغزالي: لعلَه أراد آخر غزوة صليت فيها صلاة الخوف،وإنما أسلم أبو بكرة بعد غزوة الطائف بالاتفاق. انتهى.
وأما تسميتها بذات الرقاع: فلأنهم رقعوا فيها راياتهم قاله ابن هشام.
وقيل: الشجرة في ذلك الموضع، يقال لها: ذات الرقاع.
وقيل: الأرض التي نزلوا بها فيها بقع سود وبقع بيض؛ كأنها مرقعة برقاعٍ مختلفةٍ، فسميتْ ذات الرقاع لذلك، وقيل: إن خيلهم كان بها سوادٌ وبياض؛ قاله ابن حبان.
وقال الواقدي: سميت بجبل هناك فيه بقع.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا لعله مستند ابن حبان، ويكون قد تصحف عليه بخيل. قال: وأغرب الداودي، فقال: سميت ذات الرقاع: لوقوع صلاة الخوف فيها؛ فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها. انتهى.
قال السهيلي: وأصحُّ من هذه الأقوال كلها ما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع: لما نعصب من الخرق على أرجلنا.
وكان من خبر هذه الغزوة - كما قاله ابن إسحاق - أنه صلى الله عليه وسلم غزا نجداً، يريد: بني محارب وبني ثعلبة - بالمثلثة - من غطفان بفتح الغين المعجمة والطاء المهملة؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - بلغه أنهم جمعوا الجموع، فخرج في أربعمائة من أصحابه، وقيل: سبعمائة، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، وقيل: أبا ذر الغفاري، حتى نزلَ نخلاً - بالخاء المعجمة، موضعاً من نجد من أراضي غطفان - قال ابن سعد: فلم يجد في محالهم إلا نسوة فأخذهن. وقال ابن إسحاق: فلقي جمعاً منهم، فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد أخاف الناس بعضهم بعضاً حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف الناس.
قال ابن سعد: وكان ذلك أول ما صلاها، وقد رويت صلاة الخوف من طرق كثيرة - وسيأتي الكلام، إن شاء الله تعالى، على ما تيسر منها - وكانت غيبته صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة خمس عشرة ليلة.
وفي البخاري: عن جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة، تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة، فاخترطه - يعني: سَلَهُ من غمده - فقال: تخافني؟ قال: " لا " ، قال: من يمنعك مني؟ قال: " الله " ، وفي رواية أبي اليمان عند البخاري في الجهاد قال: من يمنعك مني. ثلاث مرات، وهو استفهام إنكاري، أي: لا يمنعك مني أحد، وكان الأعرابي قائماً على رأسه والسيف في يده والنبي صلى الله عليه وسلم جالس لا سيف معه.
ويؤخذ من مراجعة الأعرابي له في الكلام: أن الله سبحانه منع نبيه، وإلا فما الذي أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه إلى الحظوة عند قومه بقتله. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " الله يمنعني منك " إشارة إلى ذلك؛ ولذلك لما أعادها الأعرابي، لم يزده على ذلك الجواب. وفي ذلك غاية التَهَكُمِ وعدم المبالاة به.
وذكر الواقدي في نحو هذه القصة: أنه أسلم، ورجع إلى قومه، فاهتدى به خلق كثير. وقال فيه: إنه رمي بالزُلَّخة حين هم بقتله صلى الله عليه وسلم، فندر السيف من يده، وسقط إلى الأرض. والزُلَّخَة - بضم الزاي المشددة، وتشديد اللام، والخاء المعجمة - : وجع يأخذ في الصلب.(1/303)
وقال البخاري: قال مسدد، عن أبي عوانة، عن أبي بشر: اسم الرجل غورث بن الحارث أي: على وزن جعفر. وحكى الخطابي فيه غويرث بالتصغير، وقد تقدم في غزوة غطفان، وهي غزوة ذي أمر بناحية نجد مثل هذه القصة لرجلِ اسمه دعثور، وأنه قام على رأسه صلى الله عليه وسلم بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - : " الله " . ودفع جبريل صدره، فوقع السيف من يده، وأنه أسلم.
قال في عيون الأثر: والظاهر أن الخبرين واحدٌ. وقال غيره من المحققين: والصواب أنهما قصتان في غزوتين.
وفي هذه القصة فرط شجاعته، وقوة يقينه، وصبره على الأذى، وحلمه على الجهال.
وفي انصرافه صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة أبطأ جمل جابر بن عبد الله، فنخسه - عليه الصلاة والسلام - فانطلق متقدماً بين يدي الركاب، ثم قال: أتبيعنيه؟ فابتاعه منه، وقال: لك ظهره إلى المدينة، فلما وصلها، أعطاه الثمن وأرجح، ووهب له الجمل. والحديث أصله في البخاري؛ ولا حجة فيه لجواز بيع وشرط؛ لما وقع فيه من الاضطراب، وقيل غير ذلك مما يطول ذكره.
وفيها غزوة دومة الجندل لخمس بقين من ربيع الأول؛ لما بلغه أن بها جمعاً كثيراً يظلمون الناس، فلم يجدوا بها إلا نعماً وشاءً، فأصاب من ذلك وأقام أياماً. وهي بضم الدال، مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال، وبُعدها من المدينة خمس عشرة، أو ست عشرة ليلة.
قال أبو عبيدة والبكري: سُمِّيَتْ بدوم بن إسماعيل كان نزلها وكانت على رأس تسعة وأربعين شهراً من الهجرة.
وكان سببها أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن بها جمعاً كثيراً يظلمون من مرَ بهم، فخرج - عليه الصلاة والسلام - لخمس ليال بقين من ربيع، في ألف من أصحابه: فكان يسير الليل، ويكمن النهار، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، فلما دنا منهم لم يجد إلا النعم والشاء، فهجم على ماشيتهم ورعاتهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دُومة، فتفزَقوا. ونزل - عليه الصلاة والسلام - بساحتهم، فلم يلق بها أحداً، فأقام بها أياماً وبث السرايا وفرَّقها، فرجعوا ولم يصب منهم أحد.
ودخل المدينة في العشرين من ربيع الآخر.
وفيها سرية أبي سلمة هلال المحرم إلى قطن في مائة وخمسين، يطلب طليحة، وسلمة ابني خويلد، فلم يجدوهما ووجدوا إبلاً وشاء، فأصابوا منها، ولم يلق كيداً.
وعبد الله بن أنيس وجهه إلى سفيان بن خالد الهذلي بعرنة وهو وادي عرفة، خامس المحرم لما بلغه صلى الله عليه وسلم أنه يجمع لحربه، فقال له عبد الله: جئتك لأكون معك. ثم اغترهُ فقتله.
والمنذر بن عمرو إلى بئر معونة في صفر ومعه القراء، وهم سبعون، فقتلهم رِعل وذكوان وعُصَية فقنت صلى الله عليه وسلم يدعو عليهم شَهراً.
ومرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى الرجيع بين مكة وعسفان في صفر في عشر أو ستة على الخلاف، لما سأله عضل والقارة أن يرسل معهم من يعلمهم شرائع الإسلام، فأرسل مرثداً، وعاصم بن ثابت، وخبيب ابن عدي، وزيد بن الدثنة، وخالد بن أبي البكير، وعبد الله بن طارق، وأخاه لأمه مغيث بن عبيد، فغدروا بهم فقتلوهم، إلا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، فأسروهما وباعوهما في مكة، فقتلوهما، وصلى خبيب قبل أن يقتل ركعتين، فهو أول من سن ذلك.
وفيها رجم اليهودي واليهودية اللذين زنيا.
وقصرت الصلاة إن قلنا: كان فرضها أربعاً.
وفرض التيمم: لكن نص الشافعيُ في الأم أنه في المصطلق، وذلك إما في الخامسة أو السادسة أو الرابعة.
وخسف القمر، وزلزلت المدينة، وسابق بين الخيل.
حوادث السنة الخامسة
فيها غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق ثاني شعبان، خرج صلى الله عليه وسلم ومعه كثير بشر، وثلاثون فرساً، فحملوا على القوم حملة واحدة، فما انفك منهم إنسان، بل قتل عشرة وأسر سائرهم، وغاب ثمانية وعشرين يوماً، وكان فيها قصة الإفك، والنهي عن العزل.
قال في المواهب: والمُصْطَلِق: بضم الميم، وسكون الصاد المهملة، وفتح الطاء المشالة المهملة، وكسر اللام بعدها قاف، وهو لقب، واسمه جذيمة بن سعد ابن عمرو بطن من خزاعة. وكانت يوم الاثنين، لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس. وفي البخاري: قال ابن إسحاق: سنة ست. وقال موسى بن عقبة: سنة أربع انتهى.(1/304)
وسببها: أنه بلغه - عليه الصلاة والسلام - أن رئيسهم الحارث بن أبي ضرار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابوه وتهيئوا للمسير، فبعث - عليه الصلاة والسلام - بريدة بن الخصيب الأسلمي يعلم علم ذلك، فأتاهم، ولقي الحارث بن أبي ضرار، فكلَمه ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخرج - عليه الصلاة والسلام - مسرعاً في بشر كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزوة قَط مثلها، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وقادوا الخيل، وكانت ثلاثين فرساً، وخرجت عائشة وأم سلمة. وبلغ الحارث ومن معه مسيره - عليه الصلاة والسلام - فسيء بذلك هو ومن معه، وخافوا خوفاً شديداً، وتفزَقَ عنهم من كان معهم من العرب، وبلغ - عليه الصلاة والسلام - المريسيع، وصف أصحابه، ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة، وتراموا بالنبل ساعة، ثم أمر - عليه الصلاة والسلام - فحملوا حملة رجل واحد، وقتلوا عشرة، وأسروا سائرهم، وسبوا النساء والرجال والذرية، والنعم والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد. كذا ذكره ابن إسحاق.
والذي في صحيح البخاري، من حديث ابن عمر: يدل على أنه أغار عليهم على حين غفلة منهم، فأوقع بهم؛ ولفظه: أغار على بني المصطلق، وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلهم، وسبى ذراريهم وهم على الماء فيحتملُ أن يكون حين الإيقاع بهم سبوا قليلاً، فلما كثر عليهم القتال، انهزموا بأن يكون لما دهمهم وهم على الماء، وتصافوا، ووقع القتال بين الطائفتين، ثم بعد ذلك وقعت الغلبة عليهم.
قيل: وفي هذه الغزوة نزلت آية التَيَمُمِ، قال في فتح الباري قوله: في بعض أسفاره، قال ابن عبد البر في التمهيد: يقال: إنه كان في غزوة بني المصطلق، وجزم بذلك في الاستذكار، وسبقه إلى ذلك ابن سعد وابن حبان.
وغزوة المصطلق هي غزوة المريسيع، وفيها كانت قصة الإفك لعائشة، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أيضاً، فإن كان ما جزموا به ثابتاً، حمل على أنه سقط منها في تلك السفرة مرتين؛ لاختلاف القصتين؛ كما هو بين في سياقهما.
قال: واستبعد بعض شيوخنا ذلك: لأن المريسيع من ناحية مكة بين قُديد والساحِل: وهذه القصة كانت من ناحية خيبر؛ لقولها في الحديث: " حتى إذا كنا في البيداء، أو بذات الجيش " وهما بين المدينة وخيبرح كما جزم به النووي.
قال: وما جزم به مخالف لما جزم به ابن التين؛ فإنه قال: " البيداء هو ذو الحليفة بالقرب من المدينة من طريق مكة، وذات الجيش وراء ذي الحليفة " . وقال أبو عبيد البكري في معجمه: أدني إلى مكة من ذي الحليفة، ثم ساق حديث عائشة هذا، ثم قال: وذات الجيش من المدينة على بريد، قال: وبينها وبين العقيق سبعة أميال، والعقيق من طريق مكة لا من طريق خيبر، فاستقام ما قاله ابن التين.
وقد قال قوم بتعدد ضياع العقد، ومنهم: محمد بن حبيب الإخباري، فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع، وفي غزوة بني المصطلق.
واختلف أهل المغازي في أي هاتين الغزوتين كانت أولاً، قال الداودي: كانت قصة التيمم في غزاة الفتح. ثم تردد في ذلك. وروى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت آية التيمم لم أدرِ كيف أصنعُ فهذا يدلُ على تأخرها عن غزوة بني المصطلق: لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة وهي بعدها بلا خلاف، وكان البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى، وقدومه كان وقت إسلام أبي هريرة. ومما يدلُ على تأخر القصة - أيضاً - عن قصة الإفك: ما رواه الطبراني، من طريق يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى، فسقط عقدي حتى حبس الناس على التماسه، فقال لي أبو بكر: يا بنية، في كل سفرة تكونين عناءً وبلاءً على الناس؟! فأنزل الله الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة. وفي إسناده محمد بن حميد الرازي، وفيه مقال.
وفي سياقه من الفوائد بيان عتاب أبي بكر الذي أبهم في حديث الصحيح، والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين. انتهى.(1/305)
وفي هذه الغزوة قال ابن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمعه زيد بن أرقم ذو الأذن الواعية، فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأرسل إلى ابن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فأنزل الله تعالى: " إذا جاءكَ اَلمُنافِقُونَ... " المنافقون: ا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله صدقك يا زيد " رواه البخاري.
وكانت غيبته في هذه الغزوة ثمانية وعشرين يوماً. ثم قال حسان بن ثابت يعتذر من الذي كان قال في شأن عائشة - رضي الله عنها - : من الطويل:
حَصَان رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافلِ
عَقِيلَةُ حَي مِنْ لُؤَي بْنِ غَالِب ... كِرَامِ المَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذَّبَةْ قد طَيبَ الله خِيمَها ... وَطَهَّرَهَا مِنْ كُل سُوءٍ وَبَاطِلِ
فَإِنْ كُنتُ قد قُلْتُ الذِي قَدْ زَعَمْتُمُ ... فَلاَ رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَىَ أَنَامِلِي
وَكَيف وَوُدي مَا حَيِيتُ وَنُصرَتِي ... لآلِ رَسُولِ الله زَيْنِ المحافِلِ
لَهُ رَتَبٌ عَالٍ عَلَى الناسِ كُلهِم ... تَقَاصر عَنْهُ سَوْرَةُ المُتَطَاوِلِ
فَإِن الذِي قد قِيلَ لَيْسَ بِلاَئِطٍ ... وَلَكِنهُ قَوْلُ امْرِئٍ بِيَ مَاحِلِ
قال ابن هشام: بيته عقيلة حي، والبيت الذي بعده، وبيته: له رتب عال عن أبي زيد الأنصاري.
وحدثني أبو عبيدة: أن امرأة مدحت بنت - أو ببيت - حسان بن ثابت عند عائشة، فقالت: من الطويل:
حَصَانْ رَزَانٌ مَا تُزَن برِيبَةٍ ... وَتُصبحُ غَرْثَى مِنْ لحُومِ الغَوَافِلِ
فقالت عائشة: لكن أبوها.
فمن روى ببيت حسان يقول: أبوها، أي: أبوا هذه الصفة أن يقولوها حينئذ، ومن روى بنت حسان فمعنى أبوها أنه ليس مثلها.
قال ابن إسحاق: وقال قائل من المسلمين في ضرب حسان وأصحابه في فريتهم على عائشة: من الطويل:
لَقَدْ ذَاقَ حَسّانُ الذِي كَانَ أَهْلَهُ ... وَحَمنَةُ إِذ قَالُوا هَجِيراً وَمِسْطَحُ
تَعَاطَوْا بِرَجمِ الغَيبِ زَوْجَ نَبِيهِمْوَسَخْطَةَ ذِي الْعَرْشِ الكَرِيمِ فَأُبْرِحُوا
وَآذَوْا رَسُولَ الله فِيهَا فَجُلًلُوا ... مَخَازِيَ تَبْقَى عَمَّمُوهَا وَفُضحُوا
وَصُبتْ عَلَيهِمْ مُحْصَدَاتْ كَأَنهَا ... شَآبِيبُ قَطْرٍ مِنْ ذُرَى المُزْنِ تَسْفَحُ
وفيها غزوة الخندق وهي الأحزاب في ذي القعدة. كان المسلمون ثلاثة آلاف، والمشركون عشرة آلاف مع أبي سفيان، فحفر صلى الله عليه وسلم وأصحابه الخندق بإشارة سلمان الفارسي على عادة بلاده، وتداعوا للبراز نحو أربعة عشر يوماً، فأرسل الله ريحاً هزمت الكفار.
فلما انصرف، جاءه جبريل، فقال: إن الملائكة ما وضعت السلاح بعدُ، وإن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فمضى فحاصرهم خمسة عشر يوماً، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ، وكان ضعيفاً، فحكم بقتل الرجال وسبي الذراري والنساء، فقال صلى الله عليه وسلم: حكمت فيهم بحكم الله. وفرغ من ذلك خامس ذي الحجة.
وفيها فرض الحج، أو في السادسة، ورجح أو في الثامنة، أو التاسعة، أو العاشرة، أو قبل الهجرة، أو غير ذلك: أقوال.
وفيها نزلت آية الحجاب.
قال في المواهب: هي الأحزاب، جمع حزب، أي طائفة، فأما تسميتها بالخندق، فلأجل الخندق الذي حفر حول المدينة بأمره - عليه الصلاة والسلام - ولم يكن اتخاذ الخندق من شأن العرب، ولكنه من مكايد الفرس، وكان الذي أشار بذلك سلمان الفارسي، فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حُصِرْنَا خندقنا علينا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفره، وعمل فيه بنفسه ترغيباً للمسلمين.
فأما تسميتها بالأحزاب، فلاجتماع طوائف المشركين على حرب المسلمين، وهم قريش وغطفان واليهود ومن معهم، وقد أنزل الله فيه هذه القصة صدراً من سورة الأحزاب.(1/306)
واختلف في تاريخها، فقال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع وقال ابن إسحاق: في شوال سنة خمس وبذلك صرح غيره من أهل المغازي، ومال البخاري إلى قول موسى بن عقبة، وقواه بقول ابن عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة؛ فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق، وهو ابن خمس عشرة، فأجازه؛ فيكون بينهما سنة واحدة. وأُحدٌ كانت سنة ثلاث: فيكون الخندق سنة أربع، ولا حجة فيه إذا ثبت لنا أنها كانت سنة خمس؛ لاحتمال أن يكون ابن عمر في أحد كان أول ما طعن في الرابعة عشرة، وكان في الأحزاب استكمل الخمس عشرة؛ وبهذا أجاب البيهقي، وقال الشيخ ولي الدين بن العراقي: والمشهور أنها في السنة الرابعة.
وكان من حديث هذه الغزوة: أن نفراً من يهود خرجوا حتى قدموا على قريش مكة، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. فاجتمعوا لذلك، واستعدوا له، ثم خرج أولئك اليهود حتى جاؤوا غَطَفَانَ من قيس عيلان، فدعوهم إلى حربه - عليه الصلاة والسلام - وخبروهم أنهم سيكونون معهم عليهم، وأن قريشاً قد بايعوهم على ذلك، واجتمعوا معهم، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عُيينة بن حصن في فَزَارَةَ، والحارث بن عوف المريّ في مرة، وكانت عدتُهُم فيما ذكره ابن إسحاق عشرة آلاف، والمسلمون ثلاثة آلاف وقيل غير ذلك.
وذكر ابن سعد: أنه كان مع المسلمين ست وثلاثون فرساً.
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحزاب، وبما أجمعوا عليه من الأمر، ضرب على المسلمين الخندق، فعمل فيه - عليه الصلاة والسلام - ترغيباً للأجر، وعمل معه المسلمون، فدأب ودأبوا، وأَبطَأَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين في عملهم ذلك ناسٌ من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف عن العمل.
وفي البخاري: عن سهل بن سعد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق، وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اللهُمَّ لاَ عَيشَ إِلا عَيشُ الآخِرَهْ ... فَاغْفِر للأنْصَارِ والمهَاجِرَهْ
والأكتاد - بالمثناة الفوقية - : جمع كَتِد، بفتح أوله وكسر المثناة، وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وفي بعض نسخ البخاري: أكبادنا بموحدة، وهو موجه على أن يكون المراد به ما يلي الكبد من الجنب.
وفي البخاري - أيضاً - عن أنس: فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
اللهم لاَ عَيْشَ إِلا عَيشُ الآخِرَهْ ... فَاغْفِر للأنْصَارِ والمهَاجِرَهْ
فقالوا مجيبين له: من الرجز:
نحنُ الذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّداً ... عَلَى الجِهَادِ مَا بَقِينَا أبَداً
قال ابن بطال: وقوله: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة " هو من قول ابن رَوَاحَةَ تمثل به - عليه الصلاة والسلام - وعند الحارث بن أبي أسامة من مرسل طاوس زياة في آخر الرجز: من الرجز:
وَالعَنْ إِلَهِي عُضَلاً والقَاره ... هُم كَلَفُونَا ثِقَلَ الحجَارَهْ
وفي البخاري من حديث البراء قال: لما كان يوم الأحزاب، وخندق صلى الله عليه وسلم، رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشَّعْرِ، فسمعته يرتجز بشعر ابن رَواحة وهو ينقل التراب ويقول: من الرجز:
اللهم لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَينَا
وَلاَ تَصَدقْنَا ولاَ صَليْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَينَا
وَإنْ أَرَادُوا فِتْنَةً آَبيْنَا
قال: يمد بها صوته. وفي رواية له أيضاً:
إِن الأُلى قد بَغَوا عَلَيْنَا
إِذَا أَرَادُوا فِتْنَة أَبَيْنَا
وفي حديث سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، أنه حين ضرب في الخندق، قال:
بِسْمِ الإِلَهِ وَبِهِ بَدِينَا
وَلَو عَبَدنَا غَيْرَهُ شَقِينَا
حَبَّذَا رَبا وَحَبذَا دِينَا
قال في النهاية: يقال: بَدِيت بالشيء - بكسر الدال - أي: ابتدأتُ به، فلما خففت الهمزة كُسِرَت الدال فانقلبت الهمزة ياءً، وليست من بنات الياء انتهى.
وقد وقع في حفر الخندق آيات من أعلام نبوته - عليه الصلاة والسلام - .(1/307)
منها: ما في الصحيح عن جابر، قال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة - وهي بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على التحتانية، وهي: القطعة الصلبة - فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقام وبطنُه مشدود بحجر، ولنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب، فعاد كثيباً أهيل، أو: أهيم: كذا بالشك من الراوي.
وفى رواية الإسماعيلي باللام من غير شك.
والمعنى: أنه صار رملاً يسيل فلا يتماسك، وأهيم: بمعنى أهيل، وقد قيل في قوله: " فَشَاربوُنَ شُرب اَلهِيم " الواقعه: 55، المراد: الرمال التي لا يرويها الماء. وقد وقع عند أحمد والنسائي، في هذه القصة، زيادة بإسناد حسن، من حديث البراء قال: لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرضت لنا في بعض الخندق صخرهً لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فأخذ المعول فقال: " باسم الله " ، فضرب ضربة فنثر ثلثها، وقال: " الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة! " ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال: " الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، وإني والله لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن " ضرب الثالثة فقال: " باسم الله " ، فقطع بقية الحجر فقال: " الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة " .
ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم: ما ثبت في الصحيح في حديث جابر، من تكثير الطعام القليل يوم حفر الخندق: كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
وقد وقع عند موسى بن عقبة، أنهم أقاموا في عمل الخندق قريباً من عشرين ليلة، وعند الواقدي: أربعاً وعشرين، وفى الروضة للنووي: خمسة عشر يوماً، وفى الهدي النبوي، لابن القيم: أقاموا شهراً.
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجمع السيول، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وتهامة، ونزل عيينة بن حصن في غَطَفان، ومن تبعهم من أهل نجد إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، وكانوا ثلاثة آلاف رجل، وضرب هنالك عسكره، والخندقُ بينه وبين القوم: وكان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد بن عبادة: وكان صلى الله عليه وسلم يبعث الحرس إلى المدينة خوفاً على الذراري من بني قريظة.
قال ابن إسحاق: وخرج عدو الله حُيي بن أخطب، حتى أتى كعبَ بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان وَادَعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاقده، فأغلق كعب دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، وقال: ويحك يا حيي، إنك امرؤ مشئوم، وإنى قد عاهدت محمداً؛ فلستُ بناقض ما بيني وبينه: فإني لم أر منه إلا وفاءً وصدقاً. فقال: ويلك افتح! فلم يزل به حتى فتح له، فقال: يا كعب، جئتك بعز الدهر، جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال، ومن دونهم غطفان، وقد عاهدوني على ألا يبرحوا؛ حتى يستأصلوا محمداً ومن معه. فلم يزل به حتى نقض عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن عبد الله بن الزبير، قال: كنتُ يوم الأحزاب أنا وعمرو بن أبي سلمة، مع النساء في أطم حسان، فنظرتُ فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثاً، فلما رجعت قلت: يا أبت رأيتك تختلف. قال: رأيتني يا بني؟ قلت: نعم. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم " ، فانطلقتُ، فلما رجعتُ جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: " فداك أبي وأمي " أخرجه الشيخان وقال الترمذي: حديث حسن.(1/308)
وفي رواية أصحاب المغازي: فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن معاذ وسعد بن عبادهَ، ومعهما ابن رواحة وخوّات بن جبيرة ليعرفوا الخبر، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم: نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرءُوا من عقده وعهده، ثم أقبل السعدان، ومن معهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: عضل والقارة، أي: كغدرهما بأصحاب الرجيع، فعظم عند ذلك البلاءُ واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم: حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، وأنزل الله تعالى: " وإذ يقُولُ اَلمناقُونَ وَاَلّذَينَ فِي قُلوُبِهِم مَّرَض ما وعَدَنَا اَللهُ وَرَسُوله إلا غرورا الأحزاب: 12 الآيات، وقال رجال ممن معه: " يا أهلَ يَثرِبَ لا مُقامَ لَكم فَاَرجِعُوا " الأحزاب: 13، وقال أوس بن قيظي: إن بيوتنا عورة من العدو؛ فَأذَنْ لنا نرجع إلى ديارنا فإنها خارج المدينة.
قال ابن عائذ: وأقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي على فرس له؛ ليوثبه الخندق، فوقع في الخندق فقتله الله، وكَبُر ذلك على المشركين، فأرسلوا إني رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه، فرد إليهم صلى الله عليه وسلم: " إنه خبيث الدية فلعنه الله ولعن ديته ولا نمنعكم أن تدفنوه، ولا أَرَبَ لنا في ديته " .
وأقام - عليه الصلاة والسلام - والمسلمون، وعدوهم يحاصرهم، ولم يكن بينهم قتال؛ إلا مراماة بالنبل؛ لكن كان عمرو بن عبد ود العامري اقتحم هو ونفر معه، بخيولهم من ناحية ضيقة من الخندق، حتى صاروا بالسبخة، فبارزه علي فقتله، وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة فقتله الزبير، وقيل: قتله علي، ورجعت بقية الخيول منهزمةً، ورُمى سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل وهو - بفتح الهمزة والمهملة، بينهما كاف ساكنة - : عِرق في وسط الذراع؛ قال الخليل: هو عرق الحياة، يقال: إنني كل عضو منه شعبة، فهو في اليد: الأكحل، وفى الظهر: الأبهر، وفى الفخذ: النسا؛ إذا قطع لم يرقأ الدم. وكان الذي رَمَى سعداً ابنُ العرقة أحد بني عامر بن لؤي، قال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار. ثم قال سعد: اللهم إن كنت أبقيتَ من حربِ قريشٍ فأبقني لها؛ فإني لا قَوْمَ أحب إلي أن أجاهد، من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه.
وأقام - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه بضع عشرة ليلة، فمشى نعيم بن مسعود الأشجعي وهو مخف إسلامه، فثبط قوماً عن قوم، وأوقع بينهم شراً؛ لقوله له - عليه الصلاة والسلام - : " الحرب خدعة " فاختلفت كلمتهم.
وروى الحاكم عن حذيفة، قال: لقد رأيتنا - ليلة الأحزاب - وأبو سفيان ومن معه من قومنا وقريظة أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة أشد ظلمة ولا ريحاً منها، فجعل المنافقون يستأذنون، ويقولون: بيوتنا عورة؛ فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جاثٍ على ركبتي، ولم يبق معه إلا ثلاثمائة فقال: " اذهب فَأتِني بخبر القوم " . قال: فدعا لي: فأذهبَ الله عنى القر والفزع، فدخلت عسكرهم، فإذا الريح فيه تجاوز شبراً، فلما رجعت رأيت فوارسَ في طريقى، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم.
وفى رواية: أن حذيفة لما أرسله - عليه الصلاة والسلام - ليأتيه بالخبر، سمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، إنكم - والله - ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الخف والكُراع، واختلفنا وبنو قريظة، ولقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل، ووثب على جمله، فما حل عقال يده إلا وهو قائم.
ووقع في البخاري: أنه - عليه الصلاة والسلام - قال يوم الأحزاب: " من يأتينا بخبر القوم " فقال الزبير: أنا. ثم قال: " من يأتينا بخبر القوم؟ " فقال الزبير: أنا؛ قالها ثلاثاً.
وقد أشكل ذكر الزبير في هذه، فقال ابن الملقن: وقع هنا أن الزبير هو الذي ذهب، والمشهور: أنه حذيفة بن اليمان.(1/309)
قال الحافظ ابن حجر: هذا الحصر مردود؛ فإن القصة التي ذهب الزبير، لكشفها، غير القصة التي ذهب حذيفة لكشفها؛ فقصة الزبير كانت لكشف بني قريظة، هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، ووافقوا قريشاً على محاربة المسلمين؟ وقصة حذيفة كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق، وتمالأت عليه الطوائف، ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف، وحذرت كل طائفة من الأخرى، وأرسل الله عليهم الريح واشتد البرد تلك الليلة فانتدب - عليه الصلاة والسلام - من يأتيه بخبر قريش؛ فانتدب له حذيفة بعد تكراره طلبَ ذلك، وقصته في ذلك مشهورة، لما دخل بين قريش في الليل وعرف قصتهم.
وفى البخاري، من حديث عبد الله بن أبي أوفى، قال: دعا رسولُ صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال: " اللهم منزل الكتاب، سريعَ الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم " .
وروى أحمد عن أبي سعيد، قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله، هل من شيء تقوله؛ فقد بلغت القلوبُ منا الحناجر؟ قال: نعم " اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا " قال: وضرب الله وجوهَ أعدائنا بالريح.
وفي ينبوع الحياة لابن ظفر: قيل: إنه صلى الله عليه وسلم دعا فقال: " يا صريخَ المكروبين، يا مجيبَ المضطرين، اكشف هَمي وغمي وكربي، فإنك ترى ما نزل بي وبأصحابي " فأتاه جبريل فبشره بأن الله يرسل عليهم ريحاً وجنوداً، فأعلم أصحابه ورفع يديه قائلاً: " شكراً شكراً " . وهبت ريح الصبا ليلاً، فقلعت الأوتاد، وألقت عليهم الأبنية، وكفأت القدور، وسفت عليهم التراب، ورمتهم بالحصباء، وسمعوا في أرجاء عسكرهم التكبير وقعقعة السلاح؛ فارتحلوا هرباً في ليلتهم، وتركوا ما استثقلوه من متاعهم قال: فذلك قوله تعالى: " فَأَرسَلنا عَليهِم رِيحاً وَجُنوداً لم تروها... " الأحزاب: 9.
وفى البخاري: عن علي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: " ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً؛ كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس " ومقتضى هذا: أنه استمر اشتغاله بقتال المشركين حتى غابت الشمس.
ويعارضه ما في صحيح مسلم لما عن ابن مسعود، أنه قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر، حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شغلونا عن الصلاة الوسطى... " الحديث. ومقتضى هذا: أنه لم يخرج الوقت بالكلية.
قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد - مشيرا إلى الجمع بين ما في البخاري وما في مسلم - : فلا تعارض، الحبس انتهى ذلك الوقت إلى الحمرة ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب، انتهى.
وفى البخاري: عن عمر بن الخطاب، أنه جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش، وقال: ما كدتُ أصلى العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله ما صليتها " . فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان،فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب وقد يكون ذلك للاشتغال بأسباب الصلاة وغيرها.
ومقتضى هذه الرواية المشهورة: أنه لم يفت غير العصر، وفي الموطأ: الظهر والعصر، وفي الترمذي لما عن ابن مسعود: أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، وقال: ليس بإسناده بأس؛ إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله فمال ابن العربي إلى الترجيح وقال: الصحيح أن التي، اشتغل عنها صلى الله عليه وسلم واحدة، وهي العصر.
وقال النووي: طريق الجمع بين هذه الروايات: أن وقعة الخندق بقيت أياماً، فكان هذا في بعض الأيام وهذا في بعضها.
قال: وأما تأخيره - عليه الصلاة والسلام - صلاة العصر حتى غربت الشمس، فكان قبل نزول صلاة الخوف.
قال العلماء: يحتمل أنه آخرها نسياناً لا عمداً؛ وكان السبب في النسيان الاشتغال بأمر العدو. ويحتمل أنه آخرها عمداً للاشتغال بالعدو؛ فكان هذا عذراً في تأخير الصلاة قبل نزول صلاة الخوف، وأما اليوم فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العدو والقتال: بل يصلي صلاة الخوف على حسب الحال.(1/310)
وقد اختلف في المراد بالصلاة الوسطى، وجمع الحافظ الدمياطي في ذلك مؤلفاً مفرداً سماه كشف المغطى، عن الصلاة الوسطى " فبلغ تسعة عشر قولاً، وهى: الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، أو جميع الصلوات - وهو يتناول الفرائض والنوافل، واختاره ابن عبد البر - والجمعة - وصححه القاضي حسين في صلاة الخوف من تعليقته - والظهر في الأيام والجمعة يوم الجمعة، والعشاء؛ لأنها بين صلاتين لا تقصران، والصبح والعشاء، أو الصبح والعصرة لقوة الأدلة: فظاهر القرآن: الصُبْح، ونص السنة: العصر، وصلاة الجماعة، أو الوتر وصلاة الخوف، أو صلاة عيد الأضحى، أو الفطر، أو صلاة الضحى، أو واحدة من الخمس غير معينة، أو الصبح أو العصر على الترديد، وهو غير القول السابق، أو التوفيق، انتهى.
وانصرف صلى الله عليه وسلم من غزوة الخندق، يوم الأربعاء، لسبع ليال بقين من ذي القعدة، وكان قد أقام بالخندق خمسة عشر يوماً، وقيل: أربعة وعشرين يوماً، وقال - عليه الصلاه والسلام - : " لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا " وفى ذلك علم من أعلام النبوة؛ فإنه - عليه الصلاة والسلام - اعتمر في السنة السادسة فصدته قريش عن البيت، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها، وكان ذلك سبب فتح مكة، فوقع الأمر كما قال - عليه الصلاة والسلام - وسيأتى ذلك، إن شاء الله تعالى.
وقد أخرج البزار من حديث جابر، بإسناد حسن، شاهداً لهذا، ولفظه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب - وقد جمعوا له جموعاً كثيرة - : " لا يغزونكم بعدها أبداً، ولكن أنتم تغزونهم " ولما دخل صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الأربعاء هو وأصحابه، ووضعوا السلاح، جاءه جبريل - عليه السلام - معتجراً بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها قطيفة ديباج، وفي البخاري، من حديث عائشة: " أنه لما رجع صلى الله عليه وسلم ووضع السلاح، اغتسل، وأتاه جبريل، فقال: " قد وضعت السلاح؟! " والله ما وضعناه؛ اخرج إليهم وأشار إلى بني قريظة " وعند ابن إسحاق: " إن الله يأمرك، يا محمد، بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزلَ بهم " ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً فأذّن في الناس: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة.
وعند ابن عائذ: " قم فشد عليك سلاحك؛ فوالله لأدقنهم دق البيض على الصفا " . وبعث يومئذ منادياً ينادي: يا خيل الله، اركبي.
وعند الحاكم والبيهقي: وبعث علياً على المقدمة، وخرج صلى الله عليه وسلم في أثره.
وعند ابن سعد: ثم سار إليهم في المسلمين، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ستة وثلاثون فرساً. قال: وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، على ما قاله ابن هشام، ونزل - عليه الصلاة والسلام - على بئر من آبار بني قريظة، وتلاحق به الناس، فأتى رجال بعد العشاء الآخرة، ولم يصلوا العصرح لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله تعالى بذلك ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفى البخاري، عن ابن عمر: أعرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم.
كذا وقع في جميع النسخ من البخاري أنهَا العَضرُ، واتفقَ جميع أهل المغازي، ووقع في مسلم أنهَا الظهرُ، مع اتفَاقِ البخاري ومسلم على روايته عن شيخِ واحد بإسناد واحد؛ ووافق مسلماً أبو يعلى وآخرون.
وجمع بين الروايتين: باحتمال أن يكون بعضهم - قبل الأمر - كان صلى الظهر وبعضهم لم يصلها، فقيل لمن لم يصلها: لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها: لا يصلين أحد العصر.
وجمع بعضهم: باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر وللطائفة التي بعدها: العصر، والله أعلم.(1/311)
قال ابن إسحاق: وحاصرهم - عليه الصلاة والسلام - خمساً وعشرين ليلة، حتى أجهدهم الحصار وعند ابن سعد: خمس عشرة وعند ابن عقبة: بضع عشرهَ ليلة - وقذف الله في قلوبهم الرعب، فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا، فقال لهم: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني أعرض إليكم خلالاً ثلاثاً؛ فخذوا أيها شئتم قالوا: وما هي؟ قال: نبايع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون به على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم فأبوا.
قال: فإذا أبيتم علئ هفه، فَهَلُم نقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالاً مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلاً؛ حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلِك نهلك ولم نترك وراءنا ما نخشى عليه. فقالوا: أي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟!.
قال:فإن أبيتم علي هذه، فإن الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من، محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ؟!.
وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ابعث إلينا أبا لبابة - وهو رفاعة بن عبد المنذر - نستشره في أمرنا؛ فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم وقالوا: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم. وأشار بيده أنه الذبح.
قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما، حتى عرفت أني خنت الله ورسوله!.
ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، فلم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح من مكاني هذا، حتى يتوب الله علي مما صنعت. وعاهد الله: أَلا يطأ بني قريظة أبداً، ولا أرى في بلد خنتُ الله ورسوله فيه أبداً.
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرُه - وكان قد استبطأه - قال: " أما لو جاءني لاستغفرتُ له، وأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه " . قال: وأقام أبو لبابة.
وقال أبو عمر: وروى وهب، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر: أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة، حتى ذهب سمعه فكاد لا يسمع، وكاد يذهب بصره، وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة، أو أراد أن يذهب لحاله: فإذا فرغ أعادته.
وعن عبد الله بن قسط أن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة، قالت أم سلمة: فسمعتُ رسول صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك، قالت: فقلت: ممَّ تضحك، أضحك الله سنك؟! قال: " تيب على أبي لبابة " . قالت: أفلا أبشره، يا رسول الله! قال: " بلى، إن شئت " . قال: فقامت على باب حجرتها - وذلك قبل أن يضرب الحجاب - فقالت: " يا أبا لبابة، أبشر! فقد تاب الله عليك " . قالت: " فثار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده. فلما مر عليه خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه.
وروى البيهقي في دلائله، بسنده عن مجاهد، في قوله تعالى: " اعتَرَفوُا بِذُنوبِهِم... " التوبة: 102، قال: هو أبو لبابة: إذ قال لقريظة ما قال، وأشار إلى حلقه بأن محمداً يذبح إن نزلتم على حكمه.
وقد روينا عن ابن عباس، ما دل على أن ارتباطه بسارية المسجد، كان بتخلفه عن غزوة تبوك - كما قال ابن المسيب - قال: وفي ذلك نزلت هذه الآية.(1/312)
ولما اشتد الحصار ببني قريظة أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكَم فيهم سعد بن معاذ، وكان قد جعله في خيمةٍ في المسجد الشريف لامرأة من أسلم، يقال لها: رفيدة، وكانت تداوي الجرحى، فلما حكَمه أتاه قومُه فحملوه على حمارة وقد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين قال - عليه الصلاة والسلام - " قوموا إلى سيدكم " . فأما المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، وأما الأنصار فيقولون: عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم. فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء؛ فقال - عليه الصلاة والسلام - : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " والرقيع: السماء، سميت بذلك لأنها رُقعت بالنجوم.
ووقع في البخاري قال: " قضيتَ فيهم بحكم الله " . وربما قال: " بحكم الملِكِ " بكسر اللام.
وفى رواية محمد بن صالح: " لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات " .
وفى حديث جابر، عن ابن عائذ فقال: " احكم فيهم يا سعد " . فقال: الله ورسوله أحق بالحكم. قال: " قد أمرك الله أن تحكم فيهم " .
وفى هذه القصة جواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم، وهي مسألة اختلف فيها أهل أصول الفقه، والمختار: الجواز، سواء كان في حضرته أم لا؛ وإنما استبعد المانعُ وقرعَ الاعتماد على الظن مع إمكان القطع، ولا يضر ذلك. لأنه بالتقرير يصير قطعياً وقد ثبت وقوع ذلك بحضرته صلى الله عليه وسلم: كما في هذه القصة وغيرها.
وانصرف صلى الله عليه وسلم - يوم الخميس لسبع ليال - كما قاله الدمياطي أو لخمس، كما قاله مغلطاي - خلون من ذي الحجة.
وأمر - عليه الصلاة والسلام - ببني قريظة فأدخلوا المدينة، وحفر لهم أخدود في السوق، وجلس - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه، وأُخرجوا إليه فضربت أعناقهم، فكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة.
وقال السهيلي: المكثر يقول: إنهم ما بين الثمانمائة إلى التسعمائة.
وفى حديث جابر، عند الترمذي والنسائي وابن حبان، بإسناد صحيح: إنهم كانوا أربعمائة مقاتل، فيحتمل - في طريق الجمع - أن يقال: إن الباقين كانوا أتباعاً، واصطفى صلى الله عليه وسلم لنفسه الكريمة ريحانة فتزوجها، وقيل: كان يطؤها بملك اليمين، وأمر بالغنائم فجمعت فأخرج الخمس من المتاع والسبي، ثم أمر بالباقي فبيع ممن يريده، وقسمه بين المسلمين فكانت على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهماً، للفرس سهمان، ولصاحبه سهم، وصار الخمس إلى محمية بن جزء الزبيدي، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتق منه ويهب ويُخدم منه من أراد، وكذلك بما صار إليه من الرثة، وهو: السقط من المتاع.
وأنفجر جرحُ سعد بق معاذ، فمات شهيداً. وفى البخاري: أنه دعا: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك، من قوم كذبوا رسولك، اللهم إِني أظن أنك قد وضعتَ الحرب، فافجرها واجعل موتي فيها، فانفجرت من ليلته، فلم يرعهم إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا جرح سعد يغذو - أي: يسيل، يقال إذا الجرح: إذا سال ما فيه دماً - فمات منها.
وقد كان ظن سعد مصيباً، ودعاؤه في هذه القصة مجاباً؛ وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش - من بعد وقعة الخندق حربٌ يكون ابتداء القصد فيها من المشركين: فإنَّه صلى الله عليه وسلم تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة، وكاد الحرب أن يقع بينهم، فلم يقع: كما قال تعالى: " وهُوَ اَلذي كَفَّ أيديَهُم عَنكم وَأَيدِكُم عنهُم بِبَطنِ مَكَةَ من بَعدِ أَن أَظْفَرَكم علَيهِم " الفتح: 24. ثم وقعت الهدنة واعتمر - عليه الصلاة والسلام - من قابل، واستمر ذلك إلى أن نقضوا العهد، فتوجه إليهم غازياً ففتحت مكة فعلى هذا فالمراد بقوله: " أظن أنك قد وضعت الحرب " أي: لن يقصدونا محاربين، وهو كقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا تغزونهم ولا يغزونكم " كما تقدم.(1/313)
وقد بين سبب انفجار جرح سعد، في مرسل حميد بن هلال عند ابن سعد، ولفظه: أنه مرت به عنز وهو مضطجع، فأصاب ظلفُها موضعَ النحر، فانفجرت حتى مات وحضر جنازته سبعون ألف ملك، واهتز لموته عرش الرحمن؛ رواه الشيخان.
قال النووي: اختلف العلماء في تأويله، فقالت طائفة: هو على ظاهره، واهتزاز العرش: تحركه فرحاً بقدوم روح سعد، وجعل الله تعالى في العرش تمييزاً حصل به هذا، ولا مانع منه: كما قال تعالى: " وَإن مِنهَا لَمَا يهبِطُ من خَشْيَة الله " البقرة: 74، وهذا القول هو ظاهر الحديث، وهو المختار.
قال المازري: قال بعضهم: وهو على حقيقته وإن العرش تحرك لموته؛ قال: وهذا لا ينكر من جهة العقل: لأن العرش جسم من الأجسام؛ يقبل الحركة والسكون، قال: لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك؛ إلا أن يقال: إن الله تعالى جعل حركته علامة للملائكة على موته.
وقال آخرون: المراد بالاهتزاز: الاستبشار والقبول، ومِنْهُ قول العرب: فلان يهتز للمكارم، لا يريدون: اضطرابَ جسمه وحركته، وإنما يريدون: ارتياحه إليها وإقباله عليه.
قال الحربي: وهو كناية عن تعظيم شأنِ وفاته، والعرب تنسبُ الشيء المعظم إلى أعظم الأشياء، فيقولون: أظلمت لموت فلان الأرض، وقامت له القيامة.
وقال جماعة: المراد: اهتزاز سرير الجنازة، وهو النعش، وهذا القول باطل يرده صريح الروايات التي ذكرها مسلم، والله أعلم، انتهى وقيل: المراد باهتزاز العرش: اهتزاز حَمَلة العرش، وصحح الترمذيُ من حديث أنس، قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ، قال المنافقون: ما أخف جنازته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الملائكةَ كانت تحمله " .
وعن البراء قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال صلى الله عليه وسلم: " أتعجبون من لين هذه؟ لمَنَاديلُ سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين " هذا لفظ رواية أبي نعيم في مستخرجه على مسلم.
والمناديل: جمع منديل - بكسر الميم في المفرد - وهو معروف.
قال العلماء: هذه إشارة إلى عظم منزلة سعد في الجنة، وأن أدنى ثيابه فيها خير من هذه؛ لأن المنديل أدنى الثياب؛ لأنه معد للوسخ والامتهان، فغيره أفضل منه، انتهى.
وأخرج ابن سعد وأبو نعيم، من طريق محمد بن المنكدر، عن محمد بن شرحبيل بن حسنة، قال: قبض إنسان يومئذ من تراب قبره قبضة، فذهب بها، ثم نظر إليها بعد ذلك فإذا هي مسك. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله سبحان الله " حتى عُرِفَ ذلك في وجهه. فقال: " الحمد لله! لو كان أحد ناجياً من ضمة القبر لنجا منها، ضُم ضَمّة ثم فرج الله عنه " .
وأخرج ابن سعد عن أبي سعيد، قال: كنت فيمن حفر لسعد قبره، فكان يفوح علينا المسك كلما حفرنا.
قال الحافظ مغلطاي، وغيره: في هذه السنة فُرِضَ الحج. وقيل: سنة ست، وصححه غير واحد، وهو قول الجمهور. وقيل: سنة سبع. وقيل: سنة ثمان، ورجحه جماعة من العلماء، وسيأتي البحث في ذلك، إن شاء الله تعالى.
حَوَادِثَ السنَةِ السَّادِسَةِ
فيها غزوة بني لحيان في ربيع الأول انتهى فيها صلى الله عليه وسلم إلى غران - وادٍ عند عسفان - في مائتي رجل فهربوا، فأقام يوماً أو يومين، يبعث السرايا لكل ناحية فلم يجدوا أحداً، فرجع للمدينة بعد تسعة عشر يوماً قائلاً: " آيبون تائبون لربنا حامدون " .
وفى المواهب: لحيان؛ بكسر اللام وفتحها؛ لغتان - في ربيع الأول سنة ست من الهجرة. وذكرها ابن إسحاق في جمادى الأولى في رأس ستة أشهر من قريظة.
قال ابن حزم: الصحيح أنها في الخامسة.(1/314)
قالوا وَجَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاصم بن ثابت وأصحابه وَجْداً شديداً، فأظهر أنه يريد الشام، وعسكر في مائتي رجل، ومعهم عشرون فرساً، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، ثم أسرع المسيرة حتى انتهى إلى بطن غران، - واد بين أمج وعسفان - وبينها وبين عسفان خمسة أميال، حيث مصاب أصحاب الرجيع الذين قتلوا ببئر معونة، فترحم عليهم ودعا لهم، فسمعت به بنو لحيان، فهربوا في رؤوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يوماً أو يومين يبعث السرايَا في كل ناحيةِ، ثم خرج: حتى أتى عسفان، فبعث أبا بكر في عشرة فوارس؛ لتسمع به قريش فيذعرهم، فأتوا كراع الغميم، ثم رجعوا، ولم يلقوا أحداً، وانصرف ولم يلق كيداً: وهو يقول: " آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون " .
وغاب عن المدينة أربع عشرة ليلة.
وقيل: سبع عشرة ليلة.
وفيها غزوة الغابة؛ وهي غزوة ذي، قَرَدٍ في ربيع الأول في خمسمائة؛ غاب خمس ليال، وصلى صلاة الخوف أيضاً.
وقَرَد بفتح القاف والراء، وبالدال المهملة، وهو ماء على بَرِيد من المدينة، قبل الحديبية.
وعند البخاري: أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام، وفى مسلم نحوه.
قال مغلطاي: وفى ذلك نظرة لإجماع أهل السير على خلافها. انتهى.
قال القرطبي شارح مسلم: لا يختلف أهل السيرة أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية.
وقال الحافظ ابن حجر: ما في الصحيح من التاريخ لغزوة ذي قرد أصح مما ذكره أهل السير. انتهى وسببها: أنه كان لرسول الله عشرون صلى الله عليه وسلم لقحة؛ وهي ذوات اللبن القريبة العهد بالولادة؛ ترعى بالغابة، وكان ابن أبي ذر فيها، فأغار عليهم عيينة بن حصن الفِزَاري ليلة الأربعاء في أربعين فارساً، فاستاقوها، وقتلوا ابن أبي ذر.
وقال ابن إسحاق: كان فيهم رجل من غفار وامرأة، فقتلوا الرجل، وسبوا المرأة، فركبت ناقة ليلاً حين غفلتهم تريد النبي صلى الله عليه وسلم، ونذرت؛ لئن نجت، لتنحرنها، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك، فقال: " لا نذر في معصية، ولا لأحد فيما لا يملك " .
ونودي: يا خيل الله اركبي، وكان أول ما نودي بها.
وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسمائة، وقيل: سبعمائة، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة يحرسون المدينة، وقد كان عقد للمقداد بن عمرو لواء في رمحه، وقال له: " امض؛ حتى تلحقك الخيول، وأنا على أثرك " ، فأدرك أخريات العدو، وقتل أبو قتادة مسعدة فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه وسلاحه، وقتل عكاشة بن محصن أبان بن عمرو، وقتل من المسلمين محرز بن نضلة قتله مسعدة.
وأدرك سلمة بن الأكوع القوم؛ وهو على رجليه، فجعل يرميهم بالنبل، ويقول: من الرجز:
خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع
يعني: يوم هلاك اللئام، من قولهم: لئيم راضع؛ أي: رضع اللؤم في بطن أمه.
وقيل: معناه: اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره، وتدرب بها، ويعرف غيره.
ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس والخيول عشاء.
قال سلمة: فقلت: يا رسول الله؛ إن القوم عطاش، فلو بعثتني في مائة رجل؛ استنقذتُ ما في أيديهم من السرح، وأخذت بأعناق القوم، فقال صلى الله عليه وسلم: " ملكتَ فأسجح " ؛ وهي بهمزة قطع، ثم سين مهملة، ثم جيم مكسورة، ثم حاء مهملة؛ أي: فارفق وأحسن، والسجَاحة السهولة؛ أي: لا تأخذ بالشدة، بل ارفق، فقد حصلت النكاية في العدو، ولله الحمد. ثم قال: " إنهم الآن ليقرون في غطفان " . وذهب الصريخ إلى بني عمرو بن عوف، فجاءت الأمداد، فلم تزل الخيل تأتي، والرجال على أقدامهم، وعلى الإبل؛ حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ب " ذي قرد " ، فاستنقذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقي؛ وهي عشر، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ب " ذى قرد " صلاة الخوف، وأقام يوماً وليلة، ورجع وقد غاب خمس ليال، وقسم في كل مائة من أصحابه جَزوراً ينحرونها.
وفيها غزوة الحديبية؛ هلال ذي القعدة في ألف وأربعمائة، وبايع بيعة الرضوان، تحت الشجرة على الموت؛ حين أرسل عثمان، فحبسوه في مكة ثلاثة أيام، ثم جاء سهيل بن عمرو في الصلح، فواعدهم صلى الله عليه وسلم في عشر سنين، فأقام بضعة عشر يوماً هناك؛ وهو معتمر، فتحلَل من عمرته ورجع، فنزلت عليه في الطريق سورة الفتح.(1/315)
وفي المواهب: الحديبية - بتخفيف الياء، وتشديدها - : بئر سمي المكان بها.
وقيل: شجرة وقال المحب الطبري: قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم، وهي على تسعة أميال من مكة، خرج - عليه السلام - من المدينة يوم الاثنين هلال ذي القعدة سنة ست من الهجرة للعمرة، وأخرج معه زوجته أم سلمة، في ألف وأربعمائة، ويقال: وخمسمائة، وقيل: ألف وثلاثمائة، والجمع بين هذه الأقوال أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال: ألف وخمسمائة، جبر الكسر، ومن قال: وأربعمائة، ألغاه، ويؤيده رواية البراء: ألف وأربعمائة أو أكثر، واعتمد على هذا الجمع النووي.
وأما رواية:ألف وثلاثمائة؛ فيمكن حَمْلُها على ما اطلع عليه، واطلع غيره على زيادة مائتين؛ لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة.
وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة؛ فلم يوافقه أحد عليه؛ قاله استنباطاً من قول جابر: نحرنا البدنة عن عشرة، وكانوا نحروا سبعين بدنة؛ وهذا لا يدل على أنهم لم ينحروا غير البدن، مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلاً.
وجزم موسى بن عقبة؛ أنهم كانوا ألفاً وستمائة.
وعند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع: ألف وسبعمائة.
وحكى ابن سعد ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرين. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ولم يخرج معه بسلاحِ، إلا سلاح المسافر؛ السيوف في القرب. وفي البخاري في المغازي: عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان ب " ذي الحليفة " قلد الهدى وأشعر، وأحرم منها.
وفي رواية: أحرم منها بعمرة، وبعث عيناً له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إِذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه، فقال: إن قريشاً جمعوا لك جموعاً، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادُوك عن البيت ومانعوك. فقال: " أشيروا علي أيها الناس؛ أترون أن أميل إِلى عيالهم، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله؛ خرجت عامداً لهذا البيت؛ لا تريد قتال أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه، قاتلناه. قال: " امضوا على اسم الله " .
وروى أحمد: كان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية للبخاري: حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين " . فوالله ما شعر بهم خالد؛ حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثَّنية التي يهبط عليهم منها، بركت راحلته، فقال الناس: حل حل. فألحت، يعني: تمادتْ على عدم القيام، فقالوا: خلأت القصوى، خلأت القصوى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما خلأت القصوى، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل " ؛ أي: حبسها الله عن دخول مكة؛ كما حبس الفيل عن دخولها.
ومناسبة ذلك: أن الصحابة لو دخلوا مكة، على تلك الصورة، وصدهم قريش - لوقع بينهم القتال المفضي إِلى سفك الماء، ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل، لكن سبق في علم الله أنه سيدخل في الإسلام منهم خَلْق كثير، وسيخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياهَا " . ثم زجرها، فوثبت.
قال: فعدل عنهم؛ حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء - يعني: حفرة فيها ماء قليل - يتبرضه الناس تبرضاً؛ أي: يأخذونه قليلاً قليلاً، فلم يلبث الناس؛ حتى نزحوه، وشُكِيَ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش بالري؛ حتى صدروا عنه.(1/316)
فبينما هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نَفَرٍ من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية " معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادُوك عن البيت. والعُوذ - بالذال المعجمة - : جمع عائذ؛ وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالُهَا؛ يريد: أنهم خرجوا لهم بذوات الألبان من الإبل؛ ليرووا بألبانها، ولا يرجعوا؛ حتى يمنعوه، أو كني بذلك عن النساء معهن الأطفال، والمراد: أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم؛ لإِرادة طول المقام؛ ليكون أدعى إِلى عدم الفرار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنا لم نأت لقتال أحدٍ، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب، فأضرت بهم، فإِن شاءوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإِن أظهر؛ فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، فعلوا، وإلاً فقد جموا - يعنى: استراحوا - وإن أبوا، فوالذي نفسي بيده؛ لأقاتلنهم على أمري؛ حتى تنفرد سالفتي - أي: صفحة العنق؛ كنى بذلك عن القتل - أو لينفذن الله أمره " . فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق؛ حتى أتى قريشاً، فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً فإِن شئتم أن نعرضه عليكم، فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. فقال: سمعته يقول كذا وكذا. فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فقام عروة بن مسعود، فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون؛ أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا عليّ - أي: تمنعوا من الإجابة - جئتكم بأهلي وولدي، ومن أطاعني. قالوا: بلى. قال: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد - أي: خصلة خير وصلاح - اقبلوها، ودعوني آته. فأتاه؛ فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد؛ أرأيت إن استأصلتَ قومك، هل سمعتَ بأحدٍ من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وِإن تكن الأخرى، فإني والله لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أشواباً - يعنى: أخلاطاً - من الناس خليقاً أن يفرُّوا ويدَعوك. فقال له أبو بكر - رضي الله عنه - : امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه، أو ندعه؟ قال العلماء: وهذا مبالغة من أبي بكر في سَب عروة، فإِنه أقام معبود عروة؛ وهو صنمه مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نِسبته الفرار إِليهم.
والبَظر - بالموحدة المفتوحة، والظاء المعجمة الساكنة - : قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، واللات: اسم صنم؛ والعرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذم. انتهى.
فقال عروة: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر. فقال: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي؛ لم أجزك بها، لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي ص، فكلما تكلم، أخذ بلحيته ص - والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي، ومعه السيف، وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ص ضرب يده بنعل السيف، وقال: اكفف يدك عن لحية النبي ص.
قال العلماء: وقد كانت عادةُ العرب؛ أن يتناول الرجل لحية من يكلمه، لاسيما عند الملاطفة، وفي الغالب إِنما يصنع ذلك النظير بالنظير، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يفضي لعروة؛ استمالةً وتأليفاً، والمغيرة يمنعه؛ إجلالاً للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً.
قال: فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غُدَر، ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء " . ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينه؛ فيرى أنهم ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة، إلا وقعتْ في يد رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم أمراً، ابتدروا لأمره، وإِذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدُّون إِليه النظر تعظيماً له.(1/317)
قال في فتح الباري: فيه إشارة إلى الرد على ما خشيه من فرارهم؛ فكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحبه هذه المحبة، ويعظمه هذا التعظيم؛ كيف يظن به أنه يفر عنه، وشحلمه لعدوه، بل هم أشد اغتباطاً به وبدينه ونصره. من هذه القبائل التي تداعى بعضها لمجرد الرحم. والله أعلم. انتهى.
قال: فرجع عُروة إِلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ رأيتُ ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن يتنخم نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإِذا أمرهم، ابتدروا أمره، وإذا توضَأ، كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدُون إِليه النظر تعظيماً له، وِإنه قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها.
فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البُدنَ، فابعثوها له. فبعثوها له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد أعلمت، وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
فقام رجل منهم يقال له: مِكرَزُ بن حفص - بكسر الميم، وسكون الكاف، وفتح الراء بعدها زاي - فقال: دعوني آته. فلما أشرف عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذا مكرز، وهو رجل فاجر " . فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه؛ إذ جاء سهيلُ بن عمرو، قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة؛ أنه لما جاء سهيل قال النبي ص: " إنه قد سهل من أمركم ما صعب " .
وفي رواية ابن إسحاق: فأرسلت قريش سهيل بن عمرو، فقالت: اذهب إِلى هذا الرجل، فصالحه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا " . فلما انتهى إِلى النبي صلى الله عليه وسلم جرى بينهما القول؛ حتى وقع بينهما الصلحُ على أن توضع الحربُ بينهم عشر سنين، وأن يأمن بعضهم بعضاً، وأن يرجع عنهم عامهم هذا.
وقال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات اكتب بيننا وبينك كتاباً. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم علياً، وقال: " اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم " . فقال سهيل: أما الرحمن الرحيم؛ فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم؛ كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب: " باسمك اللهم " . ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله.
وفي حديث عبد الله بن مغفل عند الحاكم: فكتب: هذا ما صالح محمد رسولُ الله أهل مكة... الحديث.
فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسولُ الله ما صددناك، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " والله إني لرسول الله، وِإن كذبتموني " . وفي رواية له - يعنى: البخاري ولمسلم: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: " امحه " ، فقال: ما أنا بالذي أمحاه؛ وهي لغة في أمحوه.
قال العلماء: وهذا الذي فعل علي من باب الأدب والمستحب؛ لأنه لم يفهم من النبي صلى الله عليه وسلم تحتم محو علي نفسه، ولهذا لم ينكر عليه، ولو حتم محوه لنفسه، لم يجز لعلي تركه. انتهى. ثم قال صلى الله عليه وسلم: " أرني مكانها " . فأراه مكانها، فمحاها، وكتب: " ابن عبد الله " .
وفي رواية البخاري في المغازي: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، وليس يحسن أن يكتب، فكتب مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله " .
قال في فتح الباري: وقد تَمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجي، وادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بيده بعد أن لم يكن يُحْسن أن يكتب، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه، ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله يخالف القرآن؛ حتى قال قائلهم شعراً: من البسيط:
بَرِئتُ مِمن شَرَى دُنيَا بِآخِرَةٍ ... وَقَالَ: إِن رَسُولَ الله قَدْ كَتَبَا(1/318)
فجمعهم الأمير، فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة، وقال: هذا لا ينافي القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن؛ أنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن. قال تعالى: " وَمَا كنتَ تَتلُوا مَن قَبله مِن كِتابِ ولا تَخُطهُ بيمِينِك " العنكبوت: 48، وبعد أن تحققت أمنيته، وتقررت بذلك معجزته، وأمن الارتياب في ذلك - لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم؛ فتكون معجزة أخرى.
وذكر ابن دحية: أن جماعة من العلماء وافقوا الباجي على ذلك؛ منهم شيخه: أبو ذر الهروي، وأبو الفتح النيسابوري، وآخرون من علماء إفريقية.
واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق مُجَالد، عن عون بن عبد الله: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب، وقرأ.
قال مجاهد: فذكرته للشعبي، فقال: صدق، قد سمعت من يذكر ذلك.
وقال القاضي عياض: وردت آثارٌ تدل على معرفته حروف الخط، وحسن تصورها؛ كقوله لكاتبه: " تضع القلم على أذنك، فإنه أذكر لك " وقوله لمعاوية: " ألق الدواة، وحرف القلم، وفرق السين ولا تعور الميم " إلى غير ذلك.
قال: وهذا وإن لم يثبت أنه كتب، فلا يبعد أن يرزق علم وضع الكتابة، فإِنه أوتي علم كل شيء.
وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث، وعن قصة الحديبية بأن القصة واحدة، والكاتب فيها هو علي بن أبي طالب، وقد صرح في حديث المسور بن مخرمة؛ بأن علياً هو الذي كتب؛ فيحمل على أن النكتة في قوله: " فأخذ الكتاب، وليس يحسن أن يكتب " ؛ لبيان أن قوله: " أرني إياها " أنه إنما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع عليّ من محوها؛ لكونه كان لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك: فكتب فيه حذف تقديره: فمحاها فأعادها لعلي فكتب، أو أطلق كتب بمعنى: أمر بالكتابة؛ وهو كثير؛ كقوله: كتب إِلى كسرى وقيصر.
وعلى تقدير حمله على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم؛ وهو لا يحسن الكتابة؛ أن يصير عالماً بالكتابة، ويخرج عن كونه أميَّاً؛ ككثير من الملوك.
ويحتمل أن يكون جرب يده بالكتابة حينئذ، وهو لا يحسن، فخرج المكتوب على وفقِ المرادة فيكون معجزة أخرى في ذلك الوقت خاصاً، ولا يخرج بذلك عن كونه أمياً.
وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني أحد أئمة الأصول من الأشاعرة، وتبعه ابن الجوزي، وتعقب ذلك السهيلي وغيره؛ بأن هذا وإن كان ممكناً، ويكون آية أخرى، لكنه يناقض كونه أمياً لا يكتب، وهي الآية التي قامت بها الحجة، وأفحم الجاحد، وانحسمت الشبهة، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك، لعادت الشبهة.
وقال المعاند: كان يحسن يكتب، لكنه كان يكتم ذلك، قال السهيلي: والمعجزات يستحيلُ أن يدفع بعضها بعضاً، والحق أن معنى قوله: فكتب أمر علياً أن يكتب. انتهى.
قال: وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة يستلزم مناقضة المعجزة، ويثبت كونه غير أمي - نظر كبير. والة أعلم. انتهى.
وأما قوله: " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " ، وقوله: " أما الرحمن الرحيم، فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم... " إلى آخره - فقال العلماء: وافقهم - عليه الصلاة والسلام - في ترك كتابة: بسم الله الرحمن الرحيم، وكتب: باسمك اللهم، وكذا وافقهم في: محمد بن عبد الله، وترك كتابة: رسول الله؛ للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح؛ مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور، أما البسملة، وباسمك اللهم فمعناهما واحدْ، وكذا قوله: محمد بن عبد الله هو أيضاً رسوله، وليس في ترك وصف الله تعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصفه صلى الله عليه وسلم هنا بالرسالة ما ينفيها، فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب ما لا يحل من تعظيم آلهتهم، ونحو ذلك. انتهى.
قال في رواية البخاري: فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. فقال صلى الله عليه وسلم: " على أن يخلوا بيننا وبين البيت؛ فنطوف به، فقال سهيل: والله لا تتحدَث العرب؛ أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل. فكتب. فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل؛ وإن كان على دينك، إلا رددته إِلينا. قال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ الضغطة - بالضم - قال في القاموس: الضيق والإكراه. انتهى.(1/319)
فإن قلت: ما الحكمة في كونه - عليه الصلاة والسلام - وافق سهيلاً على أنه لا يأتيه منهم رجل؛ وإن كان على دين الإسلام، إلا يرده إِلى المشركين؟.
فالجواب؛ أن المصلحة المترتبة على هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة، وفوائده الظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة، وإسلام أهلها كلهم، ودخول الناس في دين الله أفواجَاً، وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي، ولا يخلون بمن يعلمهم بها مفصَّلة، فلما حصل صلح الحديبية، اختلطوا بالمسلمين، وجاءوا إلى المدينة، وذهب المسلمون إِلى مكة، وخلوا بأهليهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته، وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيراً من ذلك، فمالت نفوسُهم إِلى الإيمان؛ حتى بادر خلق كثير منهم إِلى الإسلام قبل فتح مكة؛ فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلاً إِلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح، أسلموا كلهم، لما كان قد تمهد لهم من الميل، وكانت العرب غير قريش في البوادي؛ قال الله تعالى: " إِذَا جَاءَ نصرُ الله وَالفَتحُ وَرَأيت الناسَ يَدخلوُنَ في دِينِ الله أفوَاجاً " النصر: 1، 2، فالله ورسوله أعلم. انتهى.
قال في رواية البخاري: فبينماهم كذلك؛ إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده؛ قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه: بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إِليّ، فقال صلى الله عليه وسلم: " إنا لم نمض الكتاب بعد " ، قال: فوالله إِذن لا أصالحك على شيء أبداً. قال النبيُ صلى الله عليه وسلم: " فأجزه إِلي " ، قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: بلى فافعل. قال: ما أنا بفاعلِ. قال مكرز: بلى، قد أجزنا ذلك.
قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أُرَدُ، إِلى المشركين، وقد جئت مسلماً؛ إلا ترون ما قد لقيت؟ وكان عُذبَ في الله عذاباً شديداً.
زاد ابن إسحاق: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا جندل، اصبر، واحتسب؛ فإِنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً " . ووثب عمر يمشي إِلى جنبه، ويقرب منه قائم السيف، ويقول: اصبر؛ فإِنما هم المشركون، وإن دم أحدهم كدم الكلب. يعرض له بقتل أبيه، فلما لم يفعل، قال عمر: ضنَّ الرجل بأبيه.
قال الخطَابي: تأوَّل العلماءُ ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين: أحدهما: أن الله قد أباح التقية للمسلم؛ إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإِيمان، إن لم يمكنه التورية، فلم يكن رده إِليهم إسلاماً لأبي جندل إِلى الهلاك مع وجود السبيل إِلى الخلاص من الموت بالتقية.
والوجه الثاني: أنه إنما رده إِلى أبيه، والغالب أن أباه لم يبلغ به إِلى الهلاك، وإن عذبه، أو سجنه، فله مندوحة بالتقية أيضاً.
وأما مايخاف عليه من الفتنة: فإِن ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين.
واختلف العلماء: هل يجوز الصلح مع المشركين؛ على أن يرد إليهم من جاء مسلماً من عندهم أم لا؟ فقيل: نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل، وأبي بصير.
وقيل: لا وأن الذي وقع في القصة منسوخ، وأن ناسخه حديث: " أنا بريء من مسلم بين المشركين " ؛ وهو قول الحنفية.
والشافعية تفصل بين العاقل، والمجنون والصبي؛ فلا يُرَدان.
وقال بعض الشافعية: مناط جواز الرد أن يكون المسلم؛ بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب. والله أعلم.(1/320)
قال في فتح الباري: قال في رواية البخاري: فقال عمر بن الخطَاب: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ألستَ نبي الله حقاً؟ قال: " بلى " . قلت: ألستَ على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: " بلى " . قلت: فلم نعطي الدَنية في ديننا إذن؟ قال: " إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري " . قلت: أو لست كنت تحدثنا؛ أنا نأتي البيت، فنطوف به؟ قال: " بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ " قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال؛ فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبيَّ الله حقاً؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: أيها الرجل؛ إنه رسول الله ص وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه؛ فوالله إنه على الحق. قلت؛ أو ليس كان يحدثنا؛ أنا سنأتي البيت، فنطوف به؟ قال؛ بلى، أفأخبرك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا. قال: إنك آتيه فمطوف به.
قال العلماء: لم يكن سؤال عمر - رضي الله عنه - وكلامه المذكور شَكاً، بل طلباً لكشف ما خفي عليه، وحثاً على إِذلال الكفار، وإظهار الإِسلام؛ كما عرف في خلقه، وقوته في نصرته الدين، وإِذلال المبطلين. وأما جواب أبي بكر لعمر - رضي الله عنهما - بمثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الدلائل الظاهرة على عظم فضله، وبارع علمه، وزيادة عرفانه ورسوخه وزيادته في كل ذلك على غيره.
وكان الصلح بينهم مدة عشر سنين؛ كما في السير، وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر.
ولأبي نعيم في مسند عبد الله بن دينار: كانت أربع سنين؛ وكذا أخرجه الحاكم في البيع من المستدرك، والأول أشهر.
وكان الصلح على وضع الحرب؛ بحيث يأمن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وألاً يدخل البيت إلا العام القابل ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجلبان السلاح؛ وهو القراب بما فيه. والجلبان - بضم الجيم، وسكون اللام - : شبه الجراب؛ من الأدم؛ يوضع فيه السيف مغموداً.
ورواه القتيبي: بضم الجيم واللام وتشديد الباء، وقال: هي أوعية السلاح بما فيها. وفي بعض الروايات: إلا بجلبان السلاح: السيف، والقوس وِإنما اشترطوا ذلك؛ ليكون علماً وأمارة السلم؛ إذ كان دخولهم صلحاً.
وقال مكي بن أبي طالب القيرواني في تفسيره: وبعث - عليه الصلاة والسلام - بالكتاب إليهم مع عثمان بن عفان، وأمسك سهيل بن عمرو عنده، فأمسك المشركون عثمان، فغضب المسلمون.
وقال مغلطاي: فاحتبسته قريش عندها، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل، فدعا الناس إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت.
وقيل: على إلا يفروا. انتهى.
ووضع النبي صلى الله عليه وسلم شماله في يمينه، وقال: هذه عن عثمان.
وفي البخاري: فقال صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: " هذه بيعة عثمان " ؛ فضرب بها على يده... " الحديث.
ولما سمع المشركون بهذه، خافوا فبعثوا بعثمان وجماعة من المسلمين. وفي هذه البيعة نزل قوله تعالى: " إنَ الذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوقَ أيدِيهِم " الفتح: 10 وقوله تعالى: " لقد رضي اللهُ عَنِ المُؤمنِينَ " الآية الفتح: 18.
وحلق الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحروا هداياهم بالحديبية.
قال مغلطاي: وأرسل الله ريحاً، فحملت شعورهم، فألقتها في الحرم، وأقام صلى الله عليه وسلم بالحديبية بضعة عشر يوماً، وقيل: عشرين يوماً، ثم قفل، وفي نفوس بعضهم شيء؛ فأنزل الله تعالى سورة الفتح يسليهم بها، ويذكرهم نعمة الله، فقال تعالى: " إنّا فَتحَنَا لَكَ فَتحاً مُبِيناً " الفتح: 1، قال ابن عباس، وأنس، والبراء بن عازب: الفتح هنا فتح الحديبية، ووقوع الصلح بعد أن كان المنافقون يظنون أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إِلى أهليهم أبداً؛ أي: حسبوا إلا يرجعوا، بل يقتلون كلهم.
وأما قوله تعالى: " وَأثابهُم فَتحُاً قَرِيباً " الفتح: 18، فالمراد فتح خيبر؛ على الصحيح؛ فإنها وقعت فيها المغانم الكثيرة للمسلمين.(1/321)
وقد روى أحمد، وأبو داود، والحاكم، عن مجمع بن حارثة؛ قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا، وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً عند كراع الغميم، وقد جمع الناس قرأ عليهم: " إنَا فَتحَنَا لَكَ فَتحاً مُبينَاً " الفتح: 1، الحديبية، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتبايعوا بيعة الرضوان، وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس، وفرح المسلمون بنصر الله.
وأما قوله تعالى: " إذَا جَاءَ نصَرُ الله وَالفَتحُ " النصر: 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: " لاً هجرة بعد الفتح " ففتح مكة بالاتفاق.
قال الحافظ ابن حجر: فبهذا يرتفع الإِشكال، وتجتمع الأقوال، والله أعلم. ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وفي هذه السنة: كسفت الشمس، وظَاهَرَ أوس بن الصامت من امرأته خَولَةَ.
وفيها: استسقى في رمضان، ومطر الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أصبح من الناس: مؤمن بالله، وكافر بالكواكب " قاله مغلطاي.
وجزم الدمياطي في سيرته؛ بأن تحريم الخمر كان في سنة الحديبية، وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني النضير، وهي بعد أحد؛ وذلك سنة أربع؛ على الراجح.
وفيه نظر؛ لأن أنساً كان الساقي يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادي بتحريمها، بادر فأراقها، ولو كان سنة أربع، لكان أنس يصغر عن ذلك.
وأخرج النسائي والبيهقي بسندٍ صحيحٍ، عن ابن عباس: إِنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثمل القوم، عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا، جعل الرجل يرى في وجهه ورأسه الأثر، فيقول: صنع هذا أخي فلان؛ وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن فيقول: والله لو كان بي رحيماً ما صنع بى هذا؛ حتى وقعت في قلوبهم الضغائن؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية " يأيُهَا الذِينَ آمَنُوا إنما الخمرُ وَالميسِرُ " إلى " فَهَل أنتم مُنتَهُونَ " المائدة: 90، 91، فقال ناس من المتكلفين: هي رجس؛ وهي في بطن فلان وفلان، وقد قتل يوم أحد؛ فأنزل الله: " لَيسَ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالحاتِِ جناح فِيمَا طَعمُوا " إلى " المحسنين " المائدة: 93، وآية تحريم الخمر نزلت في عام الفتح قبل الفتح. والله أعلم.
وفيها: سرية محمد بن مَسلمة في ثلاثين راكباً إِلى القرظاء من بني بكر بن كلاب بضرية، وهي على سبع ليال من المدينة، عاشر المحرم، فلما أغاروا عليهم، هربوا فغنم، وجاء آخر المحرم، ومعه ثمامة بن أثال أسيراً.
وعكاشة بن محصن الأسدي في ربيع الأول إلى ماء لبني أسد؛ يقال له: عمرة مرزوق، في أربعين، فغنم، ولم يلق كيداً.
ومحمد بن مسلمة أيضاً إلى ذي القصَة في ربيع الأول معه عشرة إِلى بني ثعلبة، وهم مائة فقتلوا، إلا ابن مسلمة. فبعث إليهم أبا عبيدة في ربيع الآخر بأربعين رجلاً، فغنموا نعماً وشاءً، وأسروا رجلاً فأسلم.
وزيد بن حارثة في ربيع الآخر إِلى بني سليم بالجموع، فغنموا نعماً وشاء.
ثم إِلى العيص في جمادى الأولى، ومعه مائة وسبعون راكباً يعترض عيراً لصفوان بن أمية، فأسر منهم ناساً، منهم أبو العاص بن الربيع، فأجارته زوجته: زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إِلى الطَرَف، ماء على ستة وثلاثين ميلاً من المدينة في جمادى الآخرة بخمسة عشر لبني ثعلبة، فأصاب نعماً وشاء.
ثم إلى حسمى وراء وادي القرى في جمادى الآخرة إِلى قوم من جذام، قطعوا الطريق على دحية، فقتل منهم قتلاً ذريعاً، وأصاب مغانم كثيرة، ثم ردها عليهم صلى الله عليه وسلم جميعها لما جاءه زيد بن رفاعة، وسأله في ذلك، وأسلم.
ثم إلى وادى القرى في رجب، فقتل من المسلمين قتلى، وارتث زيد.
ثم إلى أم قرفة فاطمة بنت ربيعة الفزارية بناحية وادي القرى، فربطها بين بعيرين حتى ماتت.
وفي مسلم: أن أمير هذه السرية أبو بكر.
وعبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في شعبان يدعو أهلها إلى الإسلام، فأسلم كثير بن الأصبغ بن عمر الكلبي، وكان نصرانياً، فتزوج عبد الرحمن ابنته تماضر، فولدت له أبا سلمة بن عبد الرحمن. وضرب الجزية على من لم يسلم. وعلي بن أبي طالب إلى بني سعد بفدك، فغنم نعماً وشاء.
وعبد الله بن عتيك لقتال أبي رافع عبد الله - أو سلام - ابن أبي الحقيق، على الخلاف فيه، في رمضان، ومعه أربعة نفر، فقتلوه في داره بخيبر.(1/322)
وعبد الله بن رَواحة في ثلاثين رجلاً إلى أسير بن رزام اليهودي بخيبر، فقتل، وقتل معه نحو الثلاثين.
وكرز بن جابر في عشرين رجلاً إلى العرنيين الذين اجتووا المدينة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا من لقاحه ويتداووا، فلما أصبحوا، قتلوا راعِي النبي صلى الله عليه وسلم يساراً النوبي، واستاقوا اللقاح، فأتى بهم فقطع أيديهم وسمل أعينهم وكانوا ثمانية، ونزل: " إِنمَا جَزؤوا الذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ رَرَسُولَهُ... " الآية المائدة: 33.
وعمرو بن أمية الضمري، انظر ومعه سلمة بن أسلم؛ ليصادفا غرة من أبي سفيان بن حرب، فيقتلاه، ففطن لذلك وهرب.
وسبب ذلك: أن أبا سفيان أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يقتله غدراً، فأقبل الرسول ومعه خنجر ليغتاله، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا ليريدُ غدراً، فجذبه أسيد بن الحضير بداخلة إزاره، فإذا بالخنجر فسقط في يده، فقال صلى الله عليه وسلم: " اصدقنى ما أنت؟ " قال: وأنا آمن؟ قال: " نعم " ، فأخبره بخبره، فخلى عنه صلى الله عليه وسلم.
وبعث عمرو بن أمية، ومعه سلمة بن أسلم، ويقال: جبار بن صخر إلى أبي سفيان، وقال: إن أصبتما منه غرة فاقتلاه.
ومضى عمرو بن أمية يطوف بالبيت ليلاً، فرآه معاوية بن أبي سفيان، فأخبر قريشاً بمكانه، فخافوا وطلبوه، وكان فاتكاً في الجاهلية، فحشد له أهل مكة وتجمعوا، فهرب عمرو وسلمة، فلقي عمرو عبيد الله بن مالك التميمي فقتله وقتل آخر، ولقي رسولَين لقريش بعثا يتجسسان الخبر، فقتل أحدهما وأسر الآخر، فقدم به المدينة، فجعل عمرو يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو - عليه الصلاة والسلام - يضحك.
حوادث السنة السابعة
فيها غزوة خيبر في جمادى الأولى، وقاتل بها صلى الله عليه وسلم أشد القتال، وقتل من أصحابه خمسة، ومن اليهود ثلاثة وتسعون، وفتحها الله عليه حصناً حصناً.
وفيها حرم لحوم الحمر الأهلية، ونهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم، وألاً توطأ جارية حتى تستبرأ، وعن متعة النساء. ووضعت له السم في الشاة زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم، فأخبرته الذراع بذلك.
وفتح وادي القرى في جمادى الآخرة بعد ما حاصرهم أربعاً أو أكثر، وصالحه أهل تيماء على الجزية.
قال في المواهب: هي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام.
قال ابن إسحاق: خرج صلى الله عليه وسلم في بقية المحرم سنة سبع، فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها.
وقيل: كانت في آخر سنة ست، وهو منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم.
قال الحافظ ابن حجر: والراجح ما ذكره ابن إسحاق.
ويمكن الجمع: بأن من أطلق سنة ست، بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي، وهو ربيع الأول.
وأغرب ابن سعد وابن أبي شيبة، فرويا من حديث أبي سعيد الخدري: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان، وإسناده حسن؛ لكنه خطأ، ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت.
وتوجيهه: بأن غزوة خيبر كانت ناشئة عن غزوة الفتح، وغزوة الفتح خرج صلى الله عليه وسلم فيها في رمضان جزماً.
قال: وذكر الشيخ أبو حامد في التعليقة أنها كانت سنة خمس، وهو وهم، ولعله انتقال من الخندق إلى خيبر.
وكان معه - عليه الصلاة والسلام - ألف وأربعمائة راجل، ومائتا فارس، ومعه أم سلمة زوجته.
وفي البخاري: من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسرنا ليلاً، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر، هل تسمعنا من هنيهاتك؟ وكان عامرٌ رجلاً شاعراً، فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهُمً لولا أنتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاً تَصَدقْنَا ولا صَلَيْنَا
فَاغفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا أبقينَا ... وَثَبت الأقدامَ إِنْ لاقَيْنَا
وَألقِيق سَكِينةً عَلَينَا ... إِنا إِذَا صِيحَ بِنَا أتَيْنَا
وَبالصيَاح عَولُوا عليْنَا
وفي رواية إياس بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أحمد في هذا الرجز زيادة:
إِن الذِينَ قَد بَغُوا عَلَيْنَا ... إِذَا أرادُوا فِتنَةً أبَينا
وَنَحنُ عَن فضلِكَ مَا استغنَيْنَا(1/323)