* محمد جمال الدين سرور: النفوذ الفاطمي في بلاد الشام والعراق - دار الفكر العربي - القاهرة - 1957م
* محمد عبد الله عنان: الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية - لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة - الطبعة الثانية - 1379هـ = 1959م
* محمد كرد علي: خطط الشام - دمشق - 1925م
* المقريزي (أحمد بن علي): السلوك لمعرفة دول الملوك - تحقيق محمد مصطفي زيادة وسعيد عبد الفتاح عاشور - القاهرة - 1973: 1956م
* النويري (أحمد بن عبد الوهاب): نهاية الأرب في فنون الأدب - الهيئة المصرية العامة - القاهرة - تواريخ مختلفة
* بن واصل الحموي: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب - تحقيق محمد جمال الدين الشيال - القاهرة - 1953م
* ياقوت الحموي: معجم البلدان - دار إحياء التراث العربي - بيروت - 1979م(5/133)
الجزء السادس
المغرب الإسلامي
تأليف:
أ. د. حسن علي حسن
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة
الفصل الأول
*المغرب الإسلامى
يمثل «المغرب الإسلامى» الجناح الغربى لأقاليم الدولة الإسلامية؛
وقد أسهم منذ اعتناق أبنائه الإسلام فى بناء صرح الحضارة
الإسلامية، ويمتد من «برقة» شرقًا حتى «المحيط الأطلسى» غربًا،
ويطل على «البحر المتوسط» شمالا.
وقد استخدم بعض المؤرخين لفظة «المغرب» بمعناها العام على
المنطقة الواقعة غرب «مصر» والممتدة من «برقة» حتى «المحيط
الأطلسى»، بينما أطلق آخرون لفظة «المغرب» على أقاليم بعينها،
ولذا قسموا المغرب إلى ثلاثة أقاليم متميزة هى:
1 - المغرب الأدنى: (أى إفريقية) وكانت قاعدته فى صدر الإسلام
مدينة «القيروان»، وقد اشتمل هذا الإقليم على عدة مدن منها:
«باجة» و «بونة» و «بنزرت» و «قسطيلة» و «صفاقس» و «قفصة»
و «تونس» و «سوسة»، وغيرها من المدن.
2 - المغرب الأوسط: ويمتد من «بجاية» إلى «وادى ملوية»، وقاعدته
مدينة «تلمسان»، ويشتمل على عدة مدن منها: «تنس» و «جيجل»
و «القلعة» و «المسيلة» و «طبنة» و «مليلة»، وغيرها من المدن.
3 - المغرب الأقصى: ويمتد من «وادى ملوية» و «جبال تازا» حتى
«المحيط الأطلسى»، وقاعدته مدينة «فاس» ثم «مراكش»، ويشتمل
على عدة مدن منها: «فاس» و «مكناسة» و «سلا» و «درعة».
السطح:
كان لمظاهر السطح فى بلاد «المغرب» دورًا أثر فى التاريخ
السياسى للمنطقة، بما اشتمل عليه من سهول ساحلية، وأودية
وجبال وصحراء ممتدة، وقد ظهر تأثير هذا فى عملية الفتح الإسلامى
للمغرب؛ إذْ استغرق نحو سبعين سنة، وينقسم سطح المغرب إلى
ثلاث مناطق متميزة هى:
1 - المنطقة الساحلية: وهى المنطقة المطلة على «البحر المتوسط»
و «المحيط الأطلسى»، ويفصلها عن الداخل سلسلة «جبال أطلس»،
التى تمتد من أقصى الغرب متجهة إلى الشرق. وتختلف المنطقة
الساحلية ضيقًا واتساعًا؛ تبعًا لاقتراب الجبال من البحر أو بعدها
عنه، فقامت تجمعات سكانية فى المناطق الساحلية الواسعة،
وساعدتها الظروف الطبيعة والأرض الخصبة والمناخ المعتدل على(6/1)
إقامة زراعة ناجحة، نتج عنها نمو اقتصادى، فأصبحت هذه المناطق
مطمعًا للمستعمرين من «الرومان» و «الوندال» و «البيزنطيين»؛ حيث
أقاموا فى هذه المناطق وأسسوا بها المدن والقواعد العسكرية.
إلى جانب السهل الساحلى تُوجد منطقة سهول داخلية، تكونت حول
مجارى الأنهار التى أسهمت إسهامًا بارزًا فى مدِّ السكان بما يلزمهم
من المياه، وربطت إقليم الساحل بالمناطق الداخلية؛ ولعل أبرز هذه
السهول: سهل «شادية» و «دكالة» بالمغرب الأقصى، وسهل «وادى
شليف» بالمغرب الأوسط، وسهل «وادى مجردة» بالمغرب الأدنى.
2 - منطقة الجبال: مثلت منطقة الجبال حاجزًا طبيعيا بين منطقة
السهول ومنطقة الصحراء، وقد وصفها «ابن خلدون» بقوله: «بقاصية
المغرب من أعظم جبال المعمورة بما أعرق فى الثرى أصلها. وذهبت
فى السماء فروعها، ومدت فى الجو هياكلها. ومثلت سياجًا على
ريف المغرب سطورها. وتبتدئ من ساحل البحر المحيط عند آسفى
وما يليها، وتذهب فى المشرق إلى غير نهاية».
وتبرز أهمية هذه الجبال فى الدور الذى لعبته فى تاريخ هذه البلاد؛
حيث وقفت سدا منيعًا فى وجه الطامعين من «الفينيقيين»
و «الرومان» و «الوندال» وغيرهم.
وقد حصرت جبال «أطلس التل» و «الأطلس الصحراوى» هضبة امتلأت
بالمراعى، فاستغلها السكان فى تنمية ثرواتهم الحيوانية بالمغرب
الأوسط، ويُطلق عليها: «منطقة الشطوط».
3 - منطقة الصحراء: وتنقسم إلى عدة أجزاء، أولها: منطقة
«الواحات»، وهى المنطقة التى تلى منطقة الجبال، وتمتد من «مصر»
شرقًا حتى «وادى درعة» فى جنوب «المغرب الأقصى».
وتعود أهمية هذه المنطقة إلى كونها حلقة الاتصال بين الأقاليم
المختلفة بالمغرب، كما كانت طريق القوافل والحجاج، لتوفر آبار
المياه بها، وتمتعها بالأمن الذى وفرته القبائل المقيمة بهذه المنطقة
نظير بعض المال، وقِصَر المسافة التى تقطعها القوافل إذا قيست
بطريق الساحل المحفوف بالمخاطر.(6/2)
وتلى منطقةُ «القبلات» منطقة «الواحات» من الناحية الجنوبية، وهى
آخر العمران فى الصحراء، وتضم: «فزان» فى «ليبيا»، و «بسكرة»
فى «الجزائر»، و «سجلماسة» فى «المغرب الأقصى»، وتمتعت
«القبلات» بمركز تجارى بارز؛ حيث كانت ملتقى قوافل التجارة
الآتية من الشمال أو من جنوب الصحراء الكبرى.
ثم تلت منطقةُ رمال الصحراء المعروفة بالعرق منطقة «القبلات»، وهى
بداية الصحراء الكبرى التى تنعدم فيها الحياة، وتتخللها الهضاب
المرتفعة المعروفة باسم: «الحمارات»، وقد أُطلق على هذه المنطقة
اسم: «مناطق الموت»؛ نظرًا إلى انعدام مظاهر الحياة بها.
سكان المغرب:
عاش بالمغرب قبل الفتح الإسلامى ثلاثة أنماط من السكان، لكل منها
سماته ومميزاته، هى:
1 - الروم: وهم الطبقة الحاكمة للشريط الساحلى للمغرب؛ إذ لم تمكنهم
طبيعة البلاد وصعوبة الحياة بها من التوغل إلى داخلها، فضلا عن
بغض القبائل لسلطة المستعمرين، واستقر بعض هؤلاء الروم هناك
واشتغلوا بالتجارة وزرعوا الأرض، إلى جانب عملهم بالإدارة
الحكومية.
2 - الأفارقة: وهم خليط من بقايا الأمم التى احتلت بلاد المغرب من
الرومان والوندال وغيرهم، وهم ليسوا من البربر، ولكنهم انصهروا
فى حياتهم الجديدة بمدن المغرب واستقروا بها، واختلطوا
بالمتحضرين من البربر، ولم تكن تجمعهم بأهالى البلاد إلا الحياة
المشتركة، المرتبطة بأسباب المعيشة.
3 - البربر: وهم الغالبية العظمى من سكان بلاد المغرب؛ وأصحاب
البلاد الأصليون، وقد تصدوا للفتح الإسلامى - فى أول الأمر- ثم لم
يلبثوا أن ساندوه، بعد أن اختلطوا بالمسلمين وعرفوا الدعوة
الإسلامية ومبادئها السامية، فأقبلوا على الإسلام وآمنوا به، وحملوا
رايته إلى «الأندلس»؛ مبشرين به ومدافعين عنه.
المغرب قبل الفتح الإسلامى:
تعرض إقليم المغرب قبل الفتح الإسلامى لموجات من الغزو الرومانى
والوندالى والبيزنطى، وعاشت المنطقة فى ظل سلطة أجنبية حاولت(6/3)
صبغها بحضارتها وأسلوبها فى الحياة على النحو الآتى:
- الحكم الرومانى للمغرب: بدأ أول اتصال بين المغرب والرومان حين
استولى الرومان على «إفريقية» فى سنة (146 ق. م)، ثم على
«نوميديا» فى سنة (46 ق. م)، واتجه الرومان منذ وطئت أقدامهم هذه
البلاد إلى بناء المدن على السواحل وفى الداخل؛ لاتخاذها مراكز
وقواعد لإقامة الحاميات الرومانية وحكام الولايات، وقد تضمنت هذه
المدن بين جنباتها كثيرًا من المنشآت والمعابد والساحات والملاعب
وغيرها، ويتضح ذلك فى مدينة وليلى التى بناها الرومان على رأس
جبل، وجعلوا لها أبوابًا عالية واسعة، ويبلغ طول سورها نحو ستة
أميال، وقد حوت هذه المدينة آثارًا وأنقاضًا كثيرة، ترسم صورة
لمعالم الحضارة الرومانية التى كانت قائمة فى تلك المنطقة، وقد
حاول الرومان نشر حضارتهم ولغتهم وديانتهم بين أهل المدن من
البربر، وبخاصة الذين كانوا يعملون بمزارعهم وضياعهم، لكنهم لم
يجدوا استجابة لمحاولاتهم، ولم تتمكن الحضارة الرومانية من فرض
نفسها بصورة واضحة على البربر، خاصة فى الداخل، حيث تضعف
السيطرة الرومانية.
- الحكم الوندالى للمغرب: خلف الوندالُ الرومانَ فى احتلال بلاد
المغرب سنة (429هـ)، ولم يكونوا أهل حضارة بل كانوا شعبًا
همجيا، عُرف بوحشيته وقسوته، فاهتم حكامه بفرض الضرائب التى
أثقلت كاهل المغربيين وجمعها، فضلا عن ذلك فقد خرَّب القائد
الوندالى «جنعديك» القلاع والحصون فى المدن المغربية باستثناء
«قرطاجنة» العاصمة، حتى لا يتحصن بها البربر ويشقوا عصا الطاعة
على الوندال، ومن ثَم لم يُخلف الوندال آثارًا حضارية بالمغرب، وكان
حكمهم بمثابة سحابة سوداء جثمت قرنًا من الزمان على أرض
المغرب.
- الحكم البيزنطى للمغرب: قامت الإمبراطورية البيزنطية على أنقاض
الإمبراطورية الرومانية، فاستعاد البيزنطيون الحكم فى بلاد المغرب
فى سنة (533م)، واهتموا بالعمارة وأنشئوا القصور والكنائس(6/4)
والحصون، ذات الطابع البيزنطى، التى تأثر بها المسلمون فى إنشاء
مساجدهم، واستخدموا ما تبقى من آثارهم فى تشييد أبنيتهم، ومع
ذلك لم تختلف سياسة البيزنطيين عن سابقيهم، ففرضوا الضرائب،
وتعسفوا فى جمعها، وانصرفت جهود حكامهم إلى جمع الأموال بكل
السبل، فأدى ذلك إلى تخلى المزارعين عن أراضيهم، واضطر التجار
إلى إغلاق متاجرهم، واتجه كثير من الناس إلى السلب والنهب، مما
أدى إلى قيام العديد من الثورات ضد هذا الظلم.
ولقد تركت هذه الأمم بصماتها على حياة البربر، وخاصة فى المدن
والمناطق الساحلية، كما تأثر الشعب المغربى بحضاراتهم على
مراحل متعاقبة من الزمن. ومما سبق نلمس تمركز الإدارة الأجنبية
بقواتها فى منطقة الساحل، وحرص هذه الإدارة على الاستفادة بقدر
ما تستطيع من خبرات البلاد، ولعل هذا يفسر مدى مقاومة المغاربة
للعرب، الذين مكثوا سبعين سنة فى محاولات دائبة ومستمرة لفتحها،
إذ عدُّوهم أجانب مثل غيرهم من الرومان والوندال فقاوموهم كل هذه
الفترة مقاومة شديدة.
الفتح الإسلامى للمغرب:
بعد أن فتحت مصر على يد القائد «عمرو بن العاص» سنة (21هـ =
642م)، كان من الطبيعى أن يمتد هذا الفتح تجاه المغرب فى «برقة»
و «طرابلس» باعتبارهما الامتداد الجغرافى الطبيعى للمنطقة، وإلى
رغبة المسلمين فى تخليص هذه الشعوب من قبضة المستعمرين،
وإتاحة الفرصة أمامها لتعرُّف الدين الإسلامى للدخول فيه والإيمان به.
وقد مرَّ الفتح الإسلامى لهذه البلاد بعدة مراحل هى:
المرحلة الأولى وهى مرحلة الاستطلاع:
وتبدأ من سنة (21هـ=642م) إلى سنة (49هـ= 669م) وتشمل هذه
المرحلة جهود ثلاثة من قادة الفتح الإسلامى وهم:
- عمرو بن العاص:
هو القائد العسكرى الخبير، والصحابى الجليل «عمرو بن العاص بن
وائل بن هاشم» الذى أعلن إسلامه فى العام الثامن الهجرى، وشارك
بدور بارز فى النشاط العسكرى للمسلمين فى عهد النبى - صلى الله(6/5)
عليه وسلم-، وعهد «أبى بكر الصديق»، فلما تولى «عمر بن
الخطاب» أمور الخلافة أسند إليه بعض المهام العسكرية، ومنها فتح
«مصر»، فلما فرغ من ذلك توجه بقواته إلى مدينة «برقة» فاستسلمت
للقائد المسلم دون قتال، ووافقت على شروطه، ودخل بعض أبنائها
فى الإسلام، وارتضى بعضها الآخر دفع الجزية مقابل الاحتفاظ
بعقيدته.
وكان أغلب سكان هذه المدينة من قبيلة «لواته» البترية. فلما اطمأن
«عمرو» إلى استقرار الأوضاع ببرقة قسّم قواته إلى جزئين، وخرج
على رأس أحدهما نحو «طرابلس»، وبعث بالجزء الثانى إلى «زويلة»
و «الواحات الداخلية»، حتى لا يكون الفتح مقصورًا على الشريط
الساحلى فحسب، ولكى يأمن الهجوم عليه من الخلف وقد دل عمرو
بن العاص بذلك على براعة عسكرية وخبرة بفنون القيادة ومعرفة
بأحوال المنطقة وطبيعتها.
كانت «طرابلس» مدينة حصينة ذات أسوار عالية فحاصرها فترة ثم
تمكن من فتحها بعد صدام لم يطل مع القوة البيزنطية الموجودة
بالمدينة، ولم يمكث «عمرو» طويلا بعد أن تم له فتح «طرابلس»،
وسارع بإرسال جزء من جيشه إلى مدينة «سبرت» لمفاجأتها قبل
أن تستعد لملاقاته، وفوجئ أهلها بالمسلمين على أبواب مدينتهم،
فسقطت دون عناء.
وكان يمكن لعمرو بن العاص أن يمضى فى مسيرته ليفتح إفريقية،
لكنه لم يكن ليفعل ذلك دون استئذان الخليفة «عمر بن الخطاب»
ومشاورته، فبعث إليه برسالة جاء فيها: «إن الله قد فتح علينا
طرابلس، وليس بينها وبين إفريقية إلا تسعة أيام، فإن رأى أمير
المؤمنين أن يغزوها، ويفتحها الله على يديه فعل». ولكن الخليفة
رفض رغبة «عمرو بن العاص» فى استمرار الفتح، لحرصه على حياة
الجنود، وعدم الزَّجِّ بهم فى ميادين بعيدة عن مقر الخلافة، خاصة
وأن الخليفة «عمر بن الخطاب» كان على علم ودراية بأحوال
إفريقية، ولديه انطباع بأنها تمثل خطورة شديدة على الجيش الفاتح
لكثرة ثوراتها واشتعال الفتن والقلاقل بها من حين إلى آخر، ولذا(6/6)
توقف الفتح ورجع «عمرو بن العاص» إلى «مصر» قبل منتصف سنة
(23هـ = 644م)، بعد أن مهَّد الطريق لمن سيأتى بعده.
عبدالله بن سعد بن أبى السرح:
أحد صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلم قبل الفتح
الإسلامى بمكة، وتولى إمارة «مصر» فى سنة (25هـ = 646م)، خلفًا
لعمرو بن العاص، فأخذ يصرف أمورها ويدبر شئونها، ويبعث
بالسرايا للإغارة على أطراف إفريقية، ولكنه شعر أن هذه السرايا لم
تعد كافية لتأمين الحدود الغربية لمصر، فبعث إلى الخليفة «عثمان
بن عفان» يستأذنه فى الخروج على رأس حملة عسكرية تجاه
إفريقية لتأمين «مصر» والمسلمين من الخطر البيزنطى المسيطر على
إفريقية، فتشاور الخليفة مع مَن حوله، ووافق على مطلب «ابن أبى
السرح»، وأمده بجيش كبير، ضم نخبة من الصحابة والتابعين بقيادة
«الحرث بن الحكم»، فلما وصل «مصر» انضم إلى قوات عبدالله بن
أبى السرح فصارت نحو عشرين ألفًا، وانطلق بها إلى إفريقية التى
كانت تحت حكم القائد البيزنطى «جريجوريوس» المعروف باسم
«جرجير» فى المصادر العربية.
استعد هذا القائد استعدادًا جيدًا لملاقاة المسلمين، وتحصن فى مدينة
«سبيطلة»، وعسكر المسلمون فى بلدة «قمونية» التى تبعد بضعة
أميال عن مدينة «سبيطلة»، ثم بدأت المفاوضات بين الطرفين،
وعرض المسلمون شروطهم كما أمر الإسلام، وهى: الإسلام، أو
الجزية، أو القتال، ولكن المفاوضات فشلت، وفشل معها الحل
السلمى، وبدأت المناوشات العسكرية بين الطرفين، وشعر المسلمون
بقوة البيزنطيين؛ لقوة تحصيناتهم وكثرة عدد جنودهم، وحين ظنوا
أن النصر لن يحالفهم أقبل عليهم «عبدالله بن الزبير» بمدد من
«المدينة» كان له أثر فى تحقيق النصر للمسلمين، ففتحوا مدينة
«سبيطلة» وقتلوا القائد البيزنطى «جُرجير»، وتمكنوا من الاستيلاء
على المعاقل والحصون، وجمعوا مغانم كثيرة، حتى إن سهم الفارس
بلغ ثلاثة آلاف دينار (للفرس ألفا دينار، ولفارسه ألف) وللراجل ألف(6/7)
وكان من المتوقع بعد هذا النصر العظيم أن يواصل المسلمون زحفهم
صوب «المغرب الأوسط»، إلا أن «عبدالله بن أبى السرح» قرر فجأة
العودة بجنده إلى «مصر»، ولعل الذى دعاه إلى ذلك ما علمه من
تأهب البيزنطيين واستعدادهم لخوض معركة شرسة ضد المسلمين
انتقامًا لمقتل «جرجير» وسقوط «سبيطلة»، فآثر عدم المخاطرة
بجنوده، واكتفى بما حقق، خاصة أن المسلمين لم تكن لهم قاعدة
عسكرية قريبة يلجأون إليها عند الحاجة، ولذا عاد بجيشه إلى
«مصر».
ثم توقف النشاط العسكرى فى إفريقية بعد ذلك لتوالى الأحداث
وتلاحقها فى المشرق، حيث ثار بعض الخارجين على الخليفة «عثمان
بن عفان»، وانتهى الأمر باستشهاده، فخلفه الإمام «على بن أبى
طالب»، ولم يلبث أن استشهد هو أيضًا، فتولى «معاوية بن أبى
سفيان» خلافة المسلمين.
معاوية بن حديج:
أدرك «معاوية بن أبى سفيان» أهمية إفريقية من الناحية
الاقتصادية، ودورها المؤثر فى البحر المتوسط، فضلا عن موقعها
المجاور لمصر الإسلامية، فأرسل «معاوية بن حديج» على رأس جيش
لمتابعة الجهاد فى إفريقية، فخرج إليها سنة (45هـ=665م)، والتقى
بالبيزنطيين عند «قمونية»، ودار قتال مرير بينهما أسفر عن انتصار
كبير للمسلمين، وقتل كثير من البيزنطيين، ثم مضى المسلمون نحو
«جلولاء» واستولوا عليها بعد قتال شديد.
وإلى هنا تنتهى المرحلة الأولى من مراحل الفتح التى أُطلق عليها:
«مرحلة الاستطلاع»، وترجع أهميتها إلى أنها مكنت المسلمين من
الاحتكاك بالبربر على أرض «المغرب»، ومعرفة أحوال هذه البلاد،
مما كان له أثر فى إقبال بعض سكان المنطقة من البربر -وبخاصة
فى «برقة» - على الإسلام.
المرحلة الثانية:
وهى مرحلة الارتكاز والانتشار، وتمتد من سنة (50هـ=670م) إلى سنة
(64هـ= 684م)، وتتضمن ولايتى: «عقبة بن نافع» الأولى والثانية،
وولاية: «أبى المهاجر دينار».
عقبة بن نافع:
تولى «عقبة بن نافع» إمرة الجيش فى سنة (50هـ=670م) وتوجه إلى(6/8)
إفريقية، ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يتوجه فيها إلى
إفريقية؛ إذ إنه اشترك من قبل فى حملة «عمرو بن العاص» على
«برقة»، وتولى فتح المناطق الداخلية بها، وأقام فيها فترة، ونشر
الإسلام بين سكانها، فأكسبه ذلك خبرة ومعرفة بأوضاع البلاد
وحالة سكانها.
انطلق «عقبة» على رأس قواته التى بلغت عشرة آلاف مقاتل إلى
إفريقية، متخذًا الطريق الداخلى، ومبتعدًا عن الطريق الساحلى؛
لكثرة القلاع والحصون البيزنطية على الساحل، ولرغبته فى استخدام
عنصر المفاجأة مع سكان الواحات، لتحقيق نصر سريع فتحقق له ما
أراد، واستولى على كثير من المدن والقلاع والحصون مثل: «ودن»،
و «جرمة» و «قصور فزان»، و «خادار»، و «غدامس»، كما استولى
على مدينتى «قنصة» و «قصطيلية».
رأى «عقبة» أن أفضل طريقة لتثبيت الفتح الإسلامى فى هذه
المنطقة هو بناء مدينة يسكنها الناس تصبح قاعدة عسكرية، وتكون
مركزًا لأعمال الفتح القادمة، فوقع اختياره على مكان مدينة
«القيروان»، وكان واديًا كثير الشجر، تأوى إليه السباع والوحوش
والهوام، فأعده هو ومَن معه من المسلمين وبنى به مسجدًا ودارًا
للإمارة، ثم بنى الناس دورهم حول المسجد، وظلت عمليات البناء هذه
حتى سنة (55هـ=675م).
وتجلَّت عبقرية «عقبة» فى حسن اختياره لمكان المدينة؛ إذ توافر
فيه البعد الكافى عن شواطئ البحر المتوسط، ليأمن المسلمون
غارات الأسطول البيزنطى المتكررة، والقرب من قبائل البربر ووسط
معاقلهم، وهى خطوة عملية فى سبيل اجتذابهم إلى الدين
الإسلامى، واندماجهم مع العرب الفاتحين، يضاف إلى ذلك أن موقع
«القيروان» كان على الطرق الموصلة إلى «مصر»، وبذلك ضمن
«عقبة» سلامة خطوط إمداده من «مصر»، ولكنه لم يستمر ليجنى
ثمرة جهوده، إذ تم عزله، وتولى «أبو المهاجر دينار» إمارة الجيوش
وولاية المغرب بدلا منه.
أبو المهاجر دينار:
أقبل «أبو المهاجر» على «القيروان»، وكره المقام فيها، فاختط(6/9)
لجنوده معسكرًا يبعد عنها نحو ميلين، ثم أقام به، وأخذ يوجه
نشاطه الدينى والعسكرى منه، ويروى أنه خرج على رأس حملة
كبيرة وصلت إلى مدينة «تلمسان»، كما فتح «جزيرة شريك»،
وعامل البربر بمودة وعرفهم بحقيقة الدين الإسلامى وعمل على
نشره بينهم، ولم يستمر «أبو المهاجر» طويلا؛ إذ تم عزله، وعودة
«عقبة ابن نافع» مرة ثانية.
عقبة بن نافع:
عاد «عقبة» إلى المغرب ثانية فى سنة (62هـ=682م)، بقرار من
الخليفة «يزيد بن معاوية بن أبى سفيان»، وقد اختلفت ولايته الثانية
عن سابقتها؛ إذ بينما تميزت ولايته الأولى ببعض الأعمال العسكرية
الداخلية فى «إقليم الواحات»، وقضاء الشطر الأكبر منها فى تأسيس
مدينة «القيروان» وتعميرها، نراه فى ولايته الثانية يقوم بغزوة
كبرى، يصل فيها إلى شواطئ «المحيط الأطلسى»، وقد انطلق عبر
الطريق الداخلى بعيدًا عن الساحل، ودخل فى معارك عنيفة مع الروم
حتى أجبرهم على الفرار، وتمكن من فتح أمنع حصونهم مثل:
«لميس»، و «باغاية»، ثم فتح «أذنة» قاعدة «الزاب»، واستولى على
مغانم كثيرة منها، بعد معارك ضارية مع أهلها، ثم اتخذ طريق
الساحل ليطرق أبواب «المغرب الأقصى»، وتم له ذلك، فكان أول
فاتح عربى تطأ قدماه هذا الإقليم، فبادر «بطنجة» أهم مدن الإقليم،
فأسرع حاكمها «يليان»، وقدم فروض الطاعة لعقبة مع كثير من
الهدايا والتحف، فانطلق «عقبة» عقب ذلك إلى مدينة «وليلى» ومنها
إلى بلاد «درعة» و «السوس» والتقى هناك مع جموع البربر فى
معركة حامية، وتمكن من هزيمتهم، وواصل مسيرته حتى بلغ المحيط.
ولم ينس خلال كل هذه الأحداث الهدف الأسمى الذى خرج من أجل
تحقيقه، فبنى مسجدًا بالسوس وآخر بدرعة وجعل بهما بعض فقهاء
المسلمين ودعاتهم، لتعليم سكان هذه البلاد قواعد الدين الجديد، ثم
أذن «عقبة» لجزء كبير من قواته بالعودة إلى «القيروان» لطمأنة
أهاليهم، بعد غياب استمر ما يقرب من عام، وبقى «عقبة» مع الجزء(6/10)
المتبقى من الجيش، وكان عدده نحو خمسة آلاف مقاتل.
استعان «كسيلة» زعيم البربر بالروم على العرب الفاتحين، وأعد كل
منهما عدته وجنوده لملاقاتهم، ثم قطعوا خط الرجعة على «عقبة»
ومَن معه عند «سهل تهودة»، فاقتتل الفريقان قتالا شديدًا،
واستشهد «عقبة» وعدد كبير ممن كانوا معه، ودخل «كسيلة» زعيم
البربر مدينة «القيروان»، فانتهت بذلك المرحلة الثانية من مراحل
الفتح.
المرحلة الثالثة:
وهى مرحلة إتمام الفتح، وتمتد من سنة (69هـ=688م) إلى سنة
(90هـ=709م)، وتشمل جهود ثلاثة من القادة الفاتحين، وهم: «زهير بن
قيس»، و «حسان بن النعمان»، و «موسى بن نصير».
- زهير بن قيس البلوى:
أحدث استشهاد القائد «عقبة بن نافع» ومن معه من أبطال المسلمين
أثرًا سيئًا فى نفوس المسلمين المقيمين بالقيروان، وضاعت جهودهم
فى الإقامة بالمنطقة؛ حيث زحف «كسيلة» وجنوده على «القيروان»،
وبذل «زهير بن قيس» - الذى خلف «عقبة» فى إدارة شئون البلاد- كل
جهوده فى بث الحماسة والحمية فى نفوس المقيمين بها، وحثهم
على الثبات بقوله: «يا معشر المسلمين، إن أصحابكم قد دخلوا الجنة،
وقد منَّ الله عليهم بالشهادة، فاسلكوا سبيلهم، ويفتح الله لكم دون
ذلك». ولكن الخوف كان قد سيطر على نفوس الناس، فآثروا الرحيل
على الإقامة، وذهبت كل جهود «زهير» سدىً، واضطر إلى التخلى
عن «القيروان»، وتوجه إلى «برقة» مع من استطاع الرحيل من
المسلمين، وظل بعض المسلمين - ذوى الظروف الخاصة- بالقيروان،
وطلبوا الأمان من «كسيلة» فمنحهم إياه، وأعلن نفسه أميرًا على
المدينة.
توقف النشاط العسكرى بالمغرب مدة خمس سنوات تقريبًا، بسبب
الأحداث التى واجهتها الخلافة الأموية فى دمشق، حيث توفى الخليفة
«يزيد بن معاوية» فاضطرب البيت الأموى نتيجة لذلك، ثم تولى
«مروان بن الحكم» الخلافة، وقامت ثورة «عبدالله بن الزبير» بمكة،
فاستنزفت هذه الثورة وقت وجهد «مروان بن الحكم» وابنه
«عبدالملك» من بعده.(6/11)
ثم تولى «عبدالملك بن مروان» الخلافة بدمشق فى سنة (65هـ=
685م)، فواجهته المشاكل والثورات العديدة، ولكن ذلك لم يمنعه من
التفكير فى أوضاع إفريقية، وضرورة استعادة نفوذ المسلمين بها،
واستشار من حوله فى ذلك، واستقر الرأى على ضرورة تجهيز حملة
جديدة، يكون على رأسها «زهير بن قيس»؛ لمعرفته بطبيعة المنطقة
وأحوال الناس هناك، فضلا عن شجاعته وحبه للجهاد، فأرسل
الخليفة بذلك إلى «زهير» ببرقة، وأمده بما تحتاج إليه هذه الحملة،
وحشد إليه وجوه العرب، ووفر له المال اللازم، فرتب «زهير» أموره،
وخرج للقاء «كسيلة» وجموع البربر والروم، فعلم «كسيلة» بتحركات
«زهير» وفضَّل الخروج لملاقاته خارج «القيروان». خشية أن ينضم
المسلمون المقيمون بها إلى جيش «زهير»، واختار منطقة «ممس»
التى تبعد مسافة يوم عن «القيروان»، لتكون معسكرًا لجنوده،
لوفرة المياه بها وقربها من الجبال، التى يمكن الاحتماء بها، أو
الهروب إليها إذا ما حلَّت الهزيمة بجنوده.
وصل «زهير» على رأس قواته إلى «القيروان»، واستراح خارجها
عدة أيام عبأ فيها قواته، وتجهز للمعركة، ثم انطلق للقاء «كسيلة»
وجموعه من البربر والروم عند «ممس»، ودارت بين الفريقين معركة
حامية؛ حمى فيها الوطيس، وكثر عدد القتلى من الفريقين، ولكن
المسلمين صمدوا، وتمكنوا من قتل «كسيلة»، فدبَّ الضعف والوهن
فى جموع البربر والروم، وتكاثر عليهم المسلمون من كل مكان،
وقتلوا منهم عددًا كبيرًا، وتتبعوهم حتى فروا من أرض المعركة؛
يجرون وراءهم أذيال الهزيمة المنكرة.
انتهز الروم فرصة رحيل الجيش الإسلامى من «برقة» إلى «القيروان»،
وقرروا مباغتة مدينة «برقة»، مستعينين ببعض قطع أسطولهم
الراسية على شواطئ «صقلية»، وانطلقوا بها صوب «برقة»، فلم
تستطع المدينة مقاومتهم وسقطت بين أيديهم، فألحقوا بها الدمار
واستولوا على ما فيها من أموال، فضلا عن السبايا والأسرى، ولما(6/12)
بلغت هذه الأنباء المؤلمة مسامع «زهير» أسرع بمن معه من الجنود
-وكانوا قلة- لنجدة المدينة، ولكن الروم كانوا كثرة، فخرجوا عليه
وعلى جنوده من كل مكان، وأسفر ذلك عن هزيمة المسلمين
واستشهاد «زهير».
- حسان بن النعمان:
لم يستطع الخليفة «عبدالملك بن مروان» اتخاذ موقف حاسم إزاء
الكارثة التى حلت بالمسلمين بإفريقية، نظرًا لانشغاله بثورة «عبدالله
بن الزبير»، فلما قضى عليها، عاوده التفكير ثانية فى إفريقية،
وكيفية معالجة أوضاعها، وبدأ فى البحث عن قائد جديد يتولى
مهمة قيادة حملة جديدة على إفريقية، ووقع اختياره على القائد
«حسان بن النعمان». الذى كانت له مكانة مرموقة لدى بنى أمية،
وحرصت الخلافة على أن تهيىء له عوامل النصر، فحشدت له أعدادًا
غفيرة من الجنود، ووفرت له العدة والعتاد اللازمين فانطلق «حسان»
إلى إفريقية على رأس جيش تعداده أربعون ألف مقاتل، وعزم على
القضاء على قوة الروم، وخطورتهم على التواجد الإسلامى بهذه
البلاد، وما إن وصل بجيشه إلى «القيروان» - على أرجح الآراء - فى
سنة (74هـ= 693م) حتى أخذ يستفسر ويسأل عن أماكن تجمعات
الروم، وعدد جنودهم، وأنواع معداتهم، فعلم أن «قرطاجنة» هى
مركز تجمعات الروم وعاصمتهم بإفريقية، فانطلق بقواته نحوها، ثم
حاصرها. وقد كانت مدينة حصينة وتضم أعدادًا كبيرة من الروم،
وكتب الله له شرف اقتحامها وفتحها بعد مشقة وجهد كبيرين، ثم
مضى نحو «صطفورة» وقضى على من بها من جنود الروم والبربر،
ثم توجه إلى «بنزرت» وفتحها؛ وقضى على معاقل الروم بها، ثم
عاد إلى «القيروان» لكى يرتاح الجند، ويستعدوا للمواجهة القادمة.
وبعث «حسان» بالعيون لمعرفة إمكانات «البربر» وأماكن
تجمعاتهم، وأخذ يسأل من حوله عنهم وعن زعمائهم، فعرف أن
هناك كاهنة تدعى «داهيا» من قبيلة «جرادة» البربرية، تمكنت
بادعاءاتها وكهانتها من السيطرة على معظم قبائل البربر، وبسطت(6/13)
نفوذها عليهم منذ ما يقرب من خمسة وثلاثين عامًا، وهى تقيم فوق
جبل «أوراس»، وقد اتخذته هى وأعوانها معقلاً وحصنًا.
وانطلق «حسان» بجنوده صوب معقل الكاهنة وجموعها من البربر،
والتقى الفريقان فى وادى «مسكيانة»، ودارت بينهما معركة
طاحنة، انتهت بهزيمة المسلمين، وانسحاب «حسان» بمن معه منها،
وعادوا إلى «برقة»، ثم بعث «حسان» بما حدث إلى الخليفة
«عبدالملك»، موضحًا له عوامل الهزيمة، ومدى قوة الكاهنة بمن معها
من حشود البربر، فبعث إليه الخليفة بأن يقيم بجنوده فى مكانه حتى
تعدّ الخلافة الإمدادات اللازمة لجولة أخرى، وامتثل «حسان» لقرار
الخليفة، وشيد هو ومَن معه مساكن للإقامة بها.
وكانت الكاهنة قد أسرت جماعة من المسلمين، وأبقت على حياتهم
لتعرف منهم أخبار المسلمين وإمكاناتهم، وقد استأثرت بخالد ابن
يزيد - أحد الأسرى -ومنحته عطفها، وجعلته فى منزلة ابنها،
فاستغل هذه الفرصة وأمدَّ قائده-سرًّا - بالمعلومات عن أوضاع
الكاهنة وأخبار معاونيها، ومن معها من البربر، فى الوقت نفسه
ظنت الكاهنة أن المسلمين مثلهم مثل بقية الغزاة الذين جاءوا إلى
هذه البلاد بغية الاستيلاء على أموالها وثرواتها وخيراتها، ولذا أمرت
أعوانها بتخريب البلاد وهدم حصونها ونهب أموالها، راجية من وراء
ذلك أن يرحل المسلمون عن هذه المنطقة لانعدام السبب الذى جاءوا
من أجله. ولاشك أن هذا تصور خاطئ، وظن ليس فى محله، لأن هدف
المسلمين الأوحد هو إتاحة الفرصة للشعوب لتعرُّف الإسلام، ونشر
العدل والمساواة بين الناس، وقد جاءت خطوة التخريب التى قام بها
أعوان الكاهنة بعكس ما كان متوقعًا، فضلا عن تدهور اقتصاد
البلاد، وسارع سكان هذه المدن باللجوء إلى المسلمين والاحتماء
بهم، مطالبين بإنقاذهم مما حل بهم على أيدى الكاهنة وأعوانها،
فكان لذلك أثره فى دعم قوة المسلمين. خاصة وأن أهل «قابس»
و «قفصة» وغيرهم، أمدوهم بالمال وأعلنوا لهم الطاعة.(6/14)
انطلق «حسان» بقواته لملاقاة الكاهنة، ودارت بينهما معركة عنيفة؛
أسفرت عن مقتل أعداد كثيرة من أتباع الكاهنة، ثم مقتل الكاهنة
نفسها عند بئر، عرف فيما بعد باسم: «بئر الكاهنة».
وهكذا استطاع «حسان» أن يقضى على مقاومة البربر مثلما قضى
من قبل على جحافل الروم، وعمد إلى تثبيت أقدام المسلمين فى
«إفريقية» و «المغرب الأوسط»، وقام ببعض الأعمال المهمة، التى من
شأنها تثبيت عملية الفتح فى المنطقة، فعمَّر مدينة «ترشيش»، وهى
تبعد نحو (12) ميلا عن شرقى «قرطاجنة»، لتكون ميناء عربيا
إسلاميا، بدلا من «قرطاجنة» البيزنطية التى تم هدمها فى المعارك،
ثم أنشأ بها دارًا لصناعة السفن، ليكفل حماية شواطئ المغرب
الإسلامية من تطلعات البيزنطيين وغاراتهم، واتبع «حسان» سياسة
جديدة فى إدارة شئون هذه البلاد، ووضع الأسس التى تجعل من
«المغرب» ولاية عربية؛ تعتمد على مواردها، دون الاعتماد على
غيرها فى شىء، ومن هذه الأسس:
أولاً: أنشأ إدارة حكومية، واعتبر أرض المغرب مفتوحة صلحًا لا عنوة
مع الذين أسلموا من أهلها، ومعنى ذلك أن يؤدوا عنها ضريبة
العشر، أما الأراضى التى كانت ملكًا للبيزنطيين ومَن قاوم الفتح من
الأفارقة وغيرهم، فقد اعتبرها «حسان» مفتوحة عنوة، ولذا اعتبرها
من أملاك المسلمين، واعتبر مَن وجدهم عليها موالى لهم، فكان لهذه
الناحية الاقتصادية المهمة أثر بالغ فى نفوس البربر.
ثانيًا: عمد إلى إشراك البربر بجيشه، ورغبهم بالغنائم، وعاملهم
معاملة الجند العرب فى الحقوق والواجبات، وأدى ذلك إلى مزيد من
الاحتكاك بين المسلمين والبربر، مما دفع الكثيرين منهم إلى الدخول
فى الإسلام.
ثالثًا: وزع مسئولية الحكم على القبائل المختلفة، واختص كل قبيلة
بناحية معينة تمشيا مع طبيعة البلاد.
ولهذه السياسة التى رسمها «حسَّان بن النعمان» وأرسى قواعدها
أعظم الأثر فى نفسية البربر، وفى علاقتهم بالعرب الفاتحين،(6/15)
وازدادت معرفتهم بالدين الجديد الوافد عليهم، ودخله الكثيرون منهم،
ودخل «المغرب» فى طور جديد من التنظيم السياسى، ثم عُزل
«حسان»، وعُيِّن «موسى بن نصير» مكانه.
- موسى بن نصير:
وصل الوالى الجديد «موسى بن نصير» إلى «القيروان»، سنة (86هـ=
705م)، فألقى على الناس فور وصوله خطبة، أعلن لهم فيها سياسته
التى سينتهجها لفتح بقية أقاليم المغرب، ثم انطلق موسى على رأس
قواته إلى قلعة «زغوان» التى على مسيرة يوم من «القيروان»،
واستولى عليها، فى الوقت الذى أرسل فيه أبناءه على رأس
مجموعات من الجند لإخضاع المناطق المحيطة بالقيروان، وقد نجحوا
فى تحقيق ما خرجوا من أجله، وكان هدف «موسى» من ذلك تأمين
خطوطه الخلفية إذا ما خرج للجهاد بالمغربين الأوسط والأقصى، فلما
تحقق له ما أراد، انطلق إلى «المغرب الأوسط» وأخضع قبائله، وفتح
قلاعه وحصونه، ثم انطلق إلى «المغرب الأقصى»، متَّبعًا سياسته
التى سار عليها فى جميع حملاته العسكرية، وتتمثل فى توزيع
نشاطه العسكرى فى شتى الاتجاهات فى آنٍ واحد، لبث الرعب فى
قلوب الأعداء، فأُجبر البربر على الفرار إلى المناطق البعيدة، ونجح
فى بسط نفوذ المسلمين على «المغرب الأقصى» حتى بلاد «درعة»،
ثم استولى بعد ذلك على «طنجة»، وكان أول مَن نزلها، واختط فيها
للمسلمين، وجعل عليها مولاه «طارق بن زياد».
وقد اتبع «موسى بن نصير» سياسة من سبقه من الولاة فى نشر
الدين الإسلامى بين صفوف «البربر»، وترك الدعاة يحفظون الناس
القرآن الكريم، ويعلمونهم تعاليم الدين، وكذلك بنى المساجد،
وأشرك البربر -مثلما فعل «حسان» من قبل- فى حكم البلاد. ويتضح
ذلك فى توليته «طارق بن زياد» -الذى يرجع نسبه إلى البربر- شئون
«طنجة» عاصمة «المغرب الأقصى» وأهم مدنه - آنذاك- وقد قاد طارق
-فيما بعد- جيشًا كبيرًا من البربر لفتح بلاد «الأندلس».
ثم صدرت الأوامر من قِبَل الخلافة باستدعاء «موسى»، فأسرع بتنفيذ(6/16)
الأمر، وترك ابنه «عبدالله» بالقيروان، خلفًا له فى إدارة «المغرب»،
وانطلق صوب المشرق فى سنة (96هـ= 715م)، فانتهت بعودته إلى
المشرق أعمال الفتح المختلفة؛ وبدأ بالمغرب عصر جديد؛ هو عصر
الولاة.
لقد استمرت أعمال فتح «بلاد المغرب» نحو سبعين سنة، وأخذ ذلك
جهدًا كبيرًا؛ بذلت فيه الخلافة الإسلامية كثيرًا من الرجال والأموال،
وهذا يغاير بصورة واضحة أعمال الفتح الأخرى التى قام بها
المسلمون فى الأقاليم الأخرى، مثل: «الشام» و «مصر»، وكان لذلك
أسبابه، مما أخَّرَ عملية الفتح.
أولاً - طبيعة المكان:
لعل من أبرز أسباب تأخر فتح «بلاد المغرب» هو بُعْد هذه المنطقة
عن مقر الخلافة الإسلامية، فضلاً عن طبيعة منطقة القتال، وهى
ساحل ضيق، تركزت فيه مقاومة البيزنطيين، وتجاورها جبال
شاهقة، لجأت إليها جموع البربر واعتصمت بها، يضاف إلى ذلك
وجود صحراء واسعة يشق على المحارب اجتيازها.
ثانيًا - البيزنطيون:
وهم الذين استعمروا هذه المنطقة منذ زمن بعيد، ولذلك عرفوا
أهميتها، ومقدار خيراتها وثرواتها، فدافعوا عنها بكل ما يملكون
رغبة منهم فى إبقاء هذا المورد الثَّرِّ، الذى يدعمون بما يحصلون عليه
منه اقتصاد بلادهم وبقاء حضارتهم، وقد عمد البيزنطيون إلى محاربة
المسلمين، فضلا عن تأليب جموع البربر عليهم، كما حدث فى علاقة
«كسيلة» معهم.
ثالثًا - سكان البلاد (البربر):
بات «البربر» لا يرحبون بأى قادم نحوهم، دفاعًا عن حريتهم
وأرضهم، وذلك ناتج عن القهر والذل والهوان الذى سيطر عليهم
أعوامًا طويلة على يد الاستعمار الأجنبى لبلادهم، وكانت المقاومة
أشد وأعنف من قبل هؤلاء الذين نالوا حظا من الحضارة، حيث كانوا
ملاصقين للبيزنطيين، ومتأثرين بدعايتهم.
رابعًا - المسلمون الفاتحون:
لعل الأحداث السياسية التى كان يمر بها المشرق الإسلامى، فضلا عن
الفتن والثورات التى انشغلت بها الخلافة الإسلامية - آنذاك - من بين
أسباب تأخر فتح «بلاد المغرب».(6/17)
الفصل الثاني
*عصر الولاة
- الولاة فى العصر الأموى:
تعد فترة تبعية المغرب للخلافة (عصر الولاة) - والتى تمتد من سنة
(96هـ = 715م) إلى سنة (184هـ =800م) - من أهم الفترات وأخطرها
فى تاريخ المغرب الإسلامى، وقد اختلفت هذه الفترة عن سابقاتها،
لأن فترة الفتح كان يغلب عليها النشاط العسكرى، واتسمت بالامتداد
والانحسار، والخوف والاضطراب، ولم يعرف المسلمون شيئًا من
الاستقرار بالمغرب إلا بعد تأسيس مدينة «القيروان» على يد «عقبة بن
نافع»، ثم تمَّ لهم الاستقرار بفضل جهود: «زهير بن قيس»، و «حسان
بن النعمان»، و «موسى بن نصير».
وقد اتسم عصر الولاة بسمات وصفات معينة؛ فهو عصر الاستقرار
العربى على أرض «المغرب»، ووضح فيه موقف الخلافة من المنطقة،
وما ترتب على ذلك من علاقة بين الخلافة والولاة، فضلا عن علاقة
الولاة بسكان هذه البلاد، يضاف إلى ذلك الأوضاع السياسية المختلفة
التى ترتبت على هذه العلاقات؛ حيث ثار «المغرب الأقصى» وانفصل
عن «الخلافة الأموية»، ثم انتقلت عدوى الثورة إلى المغربين الأوسط
والأدنى، وبذلت «الخلافة العباسية» جهودًا كبيرة، وأموالا طائلة،
ورجالا كثيرين، فى سبيل الحفاظ على هذه الأقاليم، ولكن الأمور
أسفرت عن مجرد سلطة اسمية للخلافة العباسية على «المغرب
الأدنى» مُمثَّلة فى قيام «دولة الأغالبة»، وقامت دويلات مستقلة
بالمغربين الأوسط والأقصى.
وسوف نعرض تاريخ هذا العصر، ونستعرض تاريخ ولاته، وهم:
- محمد بن يزيد:
استشار الخليفة «سليمان بن عبدالملك» فيمن يصلح لولاية إقليم
المغرب، فأشار عليه المحيطون به بمحمد بن يزيد مولى قريش، لما
يتمتع به من صفات الفضل والحزم، فوقع عليه اختيار الخليفة
«سليمان بن عبد الملك»، ومنحه ولاية «المغرب» وأوصاه بقوله: «يا
محمد بن يزيد اتق الله وحده لاشريك له، وقم فيمن وليتك بالحق
والعدل. اللهم اشهد عليه»، فعمل «محمد» بهذه الوصية منذ تولى(6/18)
مقاليد البلاد، واستقر بالقيروان، فأقام سياسة العدل بين سكان هذه
البلاد، وسار فيهم بأحسن سيرة، ثم عمد إلى تجديد النشاط
العسكرى، وأرسل السرايا والبعوث إلى أماكن متفرقة من أرض
المغرب، فحققت نجاحًا ملحوظًا فيما ذهبت من أجله، وعادت بالمغانم
الكثيرة والنصر المظفر. وظل «محمد بن يزيد» واليًا على «المغرب»
حتى وفاة «سليمان بن عبدالملك»، فعزل من ولايته بعد أن قضى
بها سنتين وعدة أشهر.
- إسماعيل بن عبدالله (100 - 101هـ= 718 - 719م):
اختاره الخليفة «عمر بن عبدالعزيز» لصفاته الحسنة وسمعته الطيبة،
لتولى هذا المنصب فى سنة (100هـ=718م)، وبعث معه مجموعة من
التابعين، منهم: «سعد بن مسعود التجيبى»، لمعاونته فى نشر
الإسلام، وتعليم الناس قواعده، وقد أثمرت سياسة «إسماعيل»
الطيبة بين الرعية، فى إقبال البربر على اعتناق الدين الإسلامى،
وأسلم جميع البربر فى أيامه كما ذكر «ابن خلدون».
ولاشك أن سياسة الدولة الإسلامية عامة، التى انتهجها الخليفة
العادل «عمر بن عبدالعزيز»، كان لها أثرها الواضح على كل أقاليم
الدولة، خاصة وأن الخليفة قد حرص على اختيار ولاة أكفاء؛
يتخلقون بأخلاق الإسلام، لذا أشار كثير من المؤرخين إلى الدور
الإيجابى الذى قام به «إسماعيل بن عبدالله» فى تعليم «البربر»
القرآن، وقواعد الحلال والحرام، وقد عُزل «إسماعيل» من منصبه
عقب وفاة الخليفة «عمر بن عبدالعزيز» فى سنة (101هـ= 720م)،
فتولى «يزيد بن أبى مسلم» ولاية «المغرب» خلفًا له.
- يزيد بن أبى مسلم:
لم يُقر الخليفة «يزيد بن عبدالملك» -الذى تولى الخلافة خلفًا لعمر بن
عبدالعزيز فى سنة (101هـ = 720م) - سياسة اللين والتسامح التى
انتهجها الخليفة السابق «عمر»، واستوجب ذلك تغييرًا عاما فى
سياسة الدولة، فعزل جميع الولاة، وعين آخرون مكانهم. وكان «يزيد
بن أبى مسلم» من بين الولاة الجدد.
أقبل «يزيد» إلى «القيروان» فى سنة (101هـ=720م)، وتولى مقاليد(6/19)
الأمور فيها، واتبع سياسة الشدة والحزم تجاه أهل «المغرب» مثلما
اتبعها مع أهل «العراق» من قبل، وفرض الجزية على مَن أسلم من
أهل الذمة ليزداد الدخل المالى فى خزينة الدولة، كما أنه خصَّ طائفة
من قبيلة «البتر» البربرية بحراسته دون غيرها، وأساء إلى آل
«موسى بن نصير» وبعض الشخصيات العربية المقيمة بالقيروان،
فأثار عليه ذلك حفيظة بعض حرسه من غير «البتر» وقتلوه.
- بشر بن صفوان:
تحرك «بشر» تجاه «المغرب» فى أواخر سنة (102هـ=721م)، وقد بدأ
أعماله بالتحقيق فى مقتل «ابن أبى مسلم»، واكتشف أن هناك
بعض المحرضين للجند على فعل ذلك لإشعال الفتنة، فأمر بإعدامهم
كما أمر بعزل «الحسن بن عبدالرحمن» والى «الأندلس» من منصبه،
وولى مكانه «عبدالله بن سحيم الكلبى»، ثم قام فى سنة (109هـ=
727م) بحملة بحرية على «جزيرة صقلية»، وعاد منتصرًا ومحملا بكثير
من المغانم والأسلاب، ثم مرض عقب عودته من هذه الغزوة، ومات فى
العام نفسه.
- عبيدة بن عبدالرحمن السلمى:
وصل القيروان فى سنة (110هـ=728م)، فأرسل «المستنير بن
الحبحاب الحرشى» أحد القادة العسكريين على رأس حملة بحرية إلى
«صقلية»، ولكن هذه الحملة لم تحقق نجاحًا، وغرقت معظم سفنها.
وقد عين «عبيدة» بعض الولاة من قِبله على «الأندلس» فى سنة
(114هـ=732م)، ثم توجه إلى مقر الخلافة بدمشق، وطلب إعفاءه من
منصبه، فأُجيب إلى مطلبه.
- عبيدالله بن الحبحاب:
وصل «عبيدالله» إلى «المغرب» فى سنة (116هـ=734م)، وبدأ ولايته
بتجهيز حملة بقيادة «حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع»، وبعث
بها لفتح بعض المناطق؛ لتأمين الأقاليم الإسلامية بالمغرب، فتوغلت
هذه الحملة حتى وصلت إلى «السوس الأقصى»، وأرض «السودان»،
وحققت الأهداف التى خرجت من أجلها.
وقد انتهج «عبيدالله» سياسة مغايرة لسابقيه، فأسرف فى جمع
الأموال مستخدمًا القسوة والقوة وشرع فى تخميس البربر، أى اعتبر(6/20)
من أسلم منهم ومن لم يسلم فيئًا للمسلمين، بخلاف ما اعتاد عليه
هؤلاء البربر حيث منح الولاة من أسلم منهم نفس الحقوق والواجبات
الخاصة بالمسلمين كما أنه أزكى نار العصبيات القبلية، حيث حابى
أبناء قبيلته من القيسية وأساء معاملة اليمنية وغيرهم، فكانت
النتيجة أن قامت الثورات المدمرة فى أقاليم «المغرب»، ودخل البربر
فى صراع مسلح مع ولاتهم من العرب، وترتب على ذلك انفصال
«المغرب الأقصى» عن سلطة الخلافة بدمشق.
كلثوم بن عياض القشيرى:
وقع اختيار الخلافة عليه، لتولى مقاليد الأمور بالمغرب، ومواجهة
الأحداث الخطيرة التى نشبت على أرضه، وتوجه على رأس جيش كبير
تعداده سبعون ألف مقاتل إلى هذه البلاد، ودعمته الخلافة بكل ما
يحتاج إليه، ووصل على رأس جيشه إلى «بقدورة» بالمغرب
الأقصى، ودخل فى معركة شرسة مع جحافل البربر، وقد انتهت هذه
المعركة بهزيمة جيش العرب، فضلا عن مقتل «كلثوم» نفسه ومعه
كثير من زعماء الجيش، وفرَّ الباقى إلى «طنجة» ومنها إلى
«الأندلس».
- حنظلة بن صفوان الكلبى:
كان «حنظلة» واليًا على «مصر»، وكان ذا كفاءة عالية وخبرة
كبيرة، فضلا عن إلمامه بأخبار «المغرب» وأوضاعه بحكم الجوار بين
«مصر» و «المغرب»، فوقع عليه اختيار الخليفة «هشام بن عبدالملك»
لتولى شئون «المغرب»، وأمره بالتوجه إليها فى سنة (124هـ=
742م)، فخرج على رأس جيش بلغ تعداده ثلاثين ألف مقاتل، قاصدًا
«القيروان»؛ لمواجهة أحداث المغرب.
ووصلت الأخبار إلى «حنظلة» بمسير البربر إليه فى جيشين كبيرين،
أحدهما بقيادة «عكاشة الصفرى الخارجى»، والآخر بقيادة
«عبدالواحد بن يزيد الهوارى»، وقد سار الجيشان فى طريقين
مختلفين، فاضطر «حنظلة» إلى لقاء كل جيش على حدة، وبدأ
بمحاربة جيش «عكاشة» وأنزل به هزيمة كبيرة؛ أعادت الثقة إلى
نفوس جيشه، ثم كان اللقاء الثانى بجيش «عبدالواحد» عند «باجة»،
ودارت بين الفريقين معركة عنيفة، انتهت بهزيمة جيش الخلافة،(6/21)
وعودة ما تبقى منه إلى «القيروان» استعدادًا لمحاولة ثانية. ثم حشد
«حنظلة» كل ما استطاع من قوة، وخرج للقاء البربر، ودارت بينهما
معركة، أثبت جيش «حنظلة» فيها كفاءة عالية وصبرًا على القتال،
فانتصر جيش الخلافة وقُتل «عبدالواحد» قائد البربر، فضلا عن مقتل
عدد كبير من جنوده، فمكن هذا النصر للأمويين فى البلاد، ودعم
وجودهم فيها، وعمد «حنظلة» إلى إقرار الأمن والطمأنينة فى
النفوس، ثم بعث بأخبار هذا النصر إلى مركز الخلافة «بدمشق» فى
شعبان سنة (125هـ= يونيو 743م)، فتوافق هذا الوقت مع وفاة
الخليفة «هشام بن عبدالملك»، وتولى «الوليد الثانى بن يزيد» خلفًا
له.
واجه «حنظلة» مشكلة كبيرة، تمثلت فى نزول «عبدالرحمن بن
حبيب» أحد زعماء العرب على شواطئ «تونس» قادمًا من «الأندلس»،
وقد استغل هذا الرجل اضطراب الأوضاع فى «دمشق»، وضعف والى
«القيروان» بسبب الحروب الكثيرة التى خاضها مع البربر، وسعى
إلى جمع عناصر من العرب والأفارقة والبربر حوله، ثم نزل بهم منطقة
«سمنجة» فى سنة (127هـ=745م)، استعدادًا للاستيلاء على
«القيروان» وعلى مركز السلطة فيها.
وحاول «حنظلة» معالجة الأمور بطريقة ودية، فاختار خمسين من
فقهاء «القيروان» وزعمائها، وأرسلهم إلى «عبدالرحمن» للتفاوض
معه، فألقى القبض عليهم وهدَّد بقتلهم إن لم يتخلَّ «حنظلة» عن
الإمارة، ويترك «القيروان» خلال ثلاثة أيام، وألا يأخذ من بيت المال
إلا ما يكفيه مئونة السفر، فوافق «حنظلة» على مطالب «عبدالرحمن»
حفاظًا على أرواح مَن بعث بهم إليه، وترك «القيروان» فى جمادى
الآخرة سنة (127هـ= مارس745م) فدخلها «عبدالرحمن».
ثم وافقت الخلافة على تعيينه واليًا على بلاد «المغرب».
الولاة فى العصر العباسى:
استقر «عبدالرحمن بن حبيب» بالقيروان فى سنة (127هـ)، وعمل
على الاستقلال بالمغرب، فواجه العديد من ثورات البربر، ولكنه تمكن(6/22)
من التغلب عليها، وهاجم معاقلهم، وقضى على تجمعاتهم، ثم أرسل
حملتين عسكريتين فى سنة (135هـ= 752م) إلى جزيرتى «صقلية»
و «سردانية»، فحققت الحملتان أهدافهما، وعادتا منتصرتين.
فلما قامت الدولة العباسية، أسرع «عبدالرحمن بن حبيب» بالخطبة
للعباسيين على المنابر، وأرسل لهم مبايعته وطاعته، فرحب به
الخليفة العباسى «أبو العباس السفاح» وأقرَّه على ولايته، ولكن
الأمور تغيرت فى عهد «أبى جعفر المنصور»، الذى تولى الخلافة
فى ذى الحجة سنة (136هـ= مايو 754م)، حيث أقر «عبدالرحمن»
على «المغرب» فى البداية، ثم توترت بينهما العلاقات، فخلع
«عبدالرحمن» طاعة العباسيين واستقل بحكم إقليم «المغرب الأدنى».
ولقد حاول «عبدالرحمن بن حبيب» نقل ولاية العهد من أخيه «إلياس»
إلى ابنه «حبيب»، فدبر له «إلياس» مؤامرة انتهت بقتله فى سنة
(137هـ=754م) بعد أن قضى نحو عشر سنوات بالحكم، أمضاها فى
معارك متصلة ضد الثائرين والخارجين، ومن ثَم ثارت جموع البربر،
وعادت الاضطرابات إلى المنطقة ثانية، وتمكن «إلياس» من إحكام
سيطرته على «القيروان»، إلا أن «حبيب بن عبدالرحمن» دخل فى
صراع طويل معه، وانتهى الأمر بمقتل إلياس فى سنة (138هـ= 755م)،
وتولى «حبيب» مقاليد الحكم بالقيروان، ولجأ عدد من أفراد أسرته
إلى قبيلة «درفجومة» البربرية، وكان زعيمها «عاصم بن جميل
كاهنًا» يدعى النبوة، فدخل «حبيب» فى حروب مع هذه القبيلة،
ولكنهم هزموه، فاضطر إلى الفرار، ودخل «عاصم» «القيروان»
واستحل حرماتها وخرَّب مساجدها وقضى على مظاهر حضارتها.
وهكذا سقطت «القيروان» فى قبضة هذه القبيلة التى أساءت معاملة
الناس، فاضطر بعضهم إلى اللجوء والاستنجاد بالخلافة العباسية،
ولجأ آخرون إلى «أبى الخطاب عبدالأعلى بن السمح المعافرى»
وكان أحد وجوه العرب، ويعتنق المذهب الإباضى، فهبَّ لنجدتهم،
وجمع مَن حوله من البربر المعتنقين لآراء الخوارج، وأثار فيهم(6/23)
الحمية، ثم خرج بهم لملاقاة قبيلة «درفجومة»، فاستولى على
«طرابلس»، ثم قصد «القيروان» فى سنة (141هـ= 758م)، وتمكن من
قتل «عاصم بن جميل» وعدد كبير من أتباعه، ودخل مدينة
«القيروان».
وحين علم الخليفة العباسى «أبو جعفر المنصور» بما حدث ببلاد
المغرب، عين «محمد بن الأشعث بن عقبة الخزاعى» على ولاية
«مصر»، وأمره بمعالجة الأمور بالمغرب، فاضطر «ابن الأشعث» بعد
فترة إلى الخروج بنفسه على رأس الجيش إلى «المغرب» للقضاء
على نفوذ الإباضية فيها، وقد تمكن من ذلك بعد عدة حروب، وقتل
«أبا الخطاب» وأتباعه، ثم دخل مدينة «القيروان» فى سنة (144هـ=
761م)، وتولى مقاليد الأمور بها، وبنى حولها سورًا كبيرًا لحمايتها،
ثم هاجم معاقل البربر، وقضى على تجمعاتهم، ولكنه أساء معاملة
جنده، فثاروا عليه، وأجبروه على التخلى عن الولاية، والعودة إلى
المشرق فى ربيع الأول سنة (148هـ= إبريل 765م).
- الأغلب بن سالم التميمى:
وقع اختيار الخلافة عليه لتولى إفريقية، لحزمه وشجاعته وسداد
رأيه، فدخل «القيروان» فى جمادى الآخرة سنة (148هـ= يوليو
765م)، وبلغه احتشاد البربر بقيادة «أبى قرة بن دوناس» الخارجى
فى «تلمسان» للتوجه إلى «القيروان»، فخرج «الأغلب» بجنوده
لملاقاتهم، ولكنهم انسحبوا إلى «المغرب الأقصى» دون قتال،
فانتهز «الحسن بن حرب الكندى» فرصة خروج الجيش من «القيروان»
واحتلها، فلما علم «الأغلب» بذلك دخل مدينة «قابس» استعدادًا لطرد
هذا المحتل، ثم دخل معه فى معركة حامية، واستشهد «الأغلب»،
وصمد جيشه، وتمكن من قتل «الحسن بن حرب» وهزيمة جيشه.
- عمر بن حفص:
وقع عليه اختيار الخلافة لتولى مهام إقليم «المغرب» عقب استشهاد
«الأغلب بن سالم التميمى»، وكان «عمر» رجلاً شجاعًا، ذا شخصية
قوية، فدخل مدينة «القيروان» فى سنة (151هـ= 768م)، وانتهج
سياسة جديدة تجاه أهلها وعاملهم بالحسنى، وتودد إلى زعمائها(6/24)
وأنزلهم منازلهم، فاستقرت له الأوضاع، وهدأت الأمور، ثم خرج إلى
مدينة «طبنة» لإصلاح أحوالها، وبناء سورها، ففاجأته جموع البربر،
وحاصرت مدينة «القيروان»، كما حاصرته مع جنوده بمدينة «طبنة»،
فلجأ إلى استعمال الحيلة، وأغدق بالأموال على الجيش المحاصر
لطبنة، فانصرف عدد كبير من جنود البربر عن المدينة، وتمكن «عمر»
من هزيمة الجزء المتبقى منهم، ثم دخل «القيروان» بالحيلة والتمويه،
وتولى مهمة الدفاع عنها، ولكن «إباضية» «طرابلس» بزعامة «أبى
حاتم» كانوا قد أحكموا حصارهم وسيطرتهم على «القيروان»، وظلوا
كذلك ثمانية أشهر، فساءت الأوضاع داخل المدينة، واضطر الناس
إلى أكل دوابهم وخيولهم، وفشلت كل محاولات «ابن حفص» لفك
الحصار عن المدينة، فخرج على رأس قواته، ودخل فى معركة
شديدة مع المحاصرين، فاستشهد هو وكثير من رجاله فى سنة
(154هـ = 771م) ودخل «الإباضية» بقيادة «أبى حاتم» المدينة.
- يزيد بن حاتم:
تولى «يزيد بن حاتم» إمرة «مصر» فى عهد الخليفة «أبى جعفر
المنصور» فى سنة (144هـ=761م)، وأثبت فيها كفاءة عالية، فوقع
عليه اختيار الخلافة ليكون واليًا على «المغرب»، وجهز له الخليفة
جيشًا كبيرًا، ضم تسعين ألف مقاتل، وتم تجهيزه بثلاثة ملايين درهم،
وخرج «يزيد» على رأس الجيش قاصدًا إفريقية، ووصلها فى سنة
(154هـ= 771م)، فانضمت إليه فلول الجند المنهزمة أمام «أبى حاتم»،
وتم اللقاء بين الجيش العباسى وجيش الخوارج بقيادة «أبى حاتم»
فى شهر ربيع الأول سنة (155هـ= فبراير 772م)، فكانت المعركة
حاسمة، وهُزم جيش الخوارج، وقتل قائده «أبو حاتم»، وبعث «يزيد»
بجنوده لاستئصال شأفة الخوارج ثم دخل «القيروان» رافعًا أعلام
العباسيين، وبث الطمأنينة فى نفوس أهلها، ومات «يزيد بن حاتم»
بالقيروان فى سنة (170هـ= 786م)، فخلفه ابنه «داود» فى الولاية.
- داود بن يزيد بن حاتم:
تولى «داود» مقاليد الأمور خلال فترة مرض والده كمعاون له، فلما(6/25)
مات والده، تولى إدارة البلاد ريثما تتخذ الخلافة قرارها، وواجه ثورة
الإباضية بحزم، وحافظ على ما حققه والده من انتصارات ومكاسب،
ولم يستمر فى الحكم سوى تسعة أشهر، ثم سلم مقاليد الأمور إلى
عمه «روح ابن حاتم»، وعاد إلى المشرق.
- روح بن حاتم:
اختاره الخليفة «هارون الرشيد» خلفًا لأخيه «يزيد» فقدم إلى إفريقية
فى سنة (170هـ=787م)، وتولى مقاليد أمورها، وأحدث تغييرات فى
إدارتها، وقضى على ثورات ما تبقى من البربر بها، فهدأت
أوضاعها، واستقر أمنها ثم مات «روح» فى رمضان سنة (174هـ=
يناير 791م).
- نصر بن حبيب:
اقتفى «نصر» سياسة الوالى السابق، وعدل بين الناس وحسنت
سيرته بينهم، ولكنه لم يستمر طويلا فى الولاية، حيث تم عزله بعد
سنتين وثلاثة أشهر قضاها فى الحكم.
- الفضل بن روح بن حاتم:
اختاره «الرشيد» بدلا من «نصر ابن حبيب»، فوصل إلى مدينة
«القيروان» فى سنة (177هـ= 793م)، وجعل ابن أخيه «المغيرة ابن
بشير بن روح» على مدينة «تونس»، وكان «المغيرة» غِرا تنقصه
التجارب والكياسة، فأساء معاملة الجند، وفرق بينهم فى المعاملة،
فثاروا عليه بقيادة «ابن الجارود» المعروف بابن عبدويه، وعزلوه
عن «تونس»، وأجبروه على تركها، فأدرك «الفضل بن روح»
خطورة الموقف، وأرسل «عبدالله بن يزيد» واليًا جديدًا على «تونس»
لتهدئة الموقف، ولكن الثوار قتلوه على أبواب المدينة، وشرعوا فى
استمالة قادة الجيش بالقيروان وزعماء الجند إليهم للتخلص من
«الفضل»، وقد نجحوا فى ذلك، وحاصروا مدينة «القيروان»، ثم
دخلوها، وأرغموا «الفضل» على تركها مع بعض أفراد أسرته، ولكن
«ابن الجارود» أرسل خلفه مَن يأت به إلى «القيروان» ثانية، وأودعه
السجن فترة، ثم قتله فى شعبان سنة (178هـ= نوفمبر 794م)، فلما
بلغ «الرشيد» ذلك بعث بيحيى بن موسى إلى «تونس» برسالة
ليُهدِّىء النفوس، ويدعو «ابن الجارود» إلى «بغداد»، فامتثل «ابن(6/26)
الجارود» للأمر، وهدأت الثورة، وعين الخليفة «الرشيد» «هرثمة بن
أعين» على إفريقية.
- هرثمة بن أعين:
تسلم «هرثمة» مهام منصبه بالقيروان فى ربيع الآخر سنة (179هـ=
يونيو 795م)، فنهج سياسة حسنة فى رعاياه، وأعاد إليهم
استقرارهم وأمنهم، ثم شرع فى العمران والبناء، فأنشأ سورًا حول
«طرابلس»، وبنى القصر الكبير بالمنستير، ولم تحدث فى عهده
ثورات ذات أهمية، سوى ثورة «عياض بن وهب الهوارى»، إلا أن
«هرثمة» استطاع القضاء عليها فى مهدها.
ظل «هرثمة» بإفريقية نحو سنتين ونصف السنة، ثم ألح على الخلافة
فى أن تعفيه من منصبه، فأجابه الخليفة إلى طلبه، وعاد «هرثمة»
إلى المشرق.
- محمد بن مقاتل العكى:
اختاره «الرشيد» لتولى إمرة بلاد «المغرب الأدنى»، فوصلها فى
رمضان سنة (181هـ= أكتوبر 797م)، ويبدو أنه لم يكن على دراية
بأوضاعها، وظروف الجند بها، فوقع فى عدة أخطاء، وقطع أرزاق
الجند، وأساء معاملة وجوه القوم وزعمائهم، فثاروا عليه بقيادة
«تمام بن تميم التميمى» ثم توجه بها إلى «القيروان» وحاصرها، ثم
دخل مع «العكى» فى معركة وهزمه فيها، ولكن «إبراهيم بن
الأغلب» والى «الزاب» من قبل «العكى» كانت له طموحات فى هذه
المنطقة، فأسرع إلى نجدته بقواته، وقضى على جموع الثائرين.
وعمد «إبراهيم بن الأغلب» إلى التقرب إلى أهالى «القيروان»
لتحقيق أهدافه ومطامعه بالمنطقة، وظهر بمظهر المدافع عن سلطة
الخلافة وممتلكاتها، وقد ساعدته كراهية الناس لابن مقاتل العكى
فى تحقيق مبتغاه، وطلب منه وجهاء القوم مراسلة «الرشيد» وإعلامه
بمسلك «العكى» العدائى تجاه السكان، ومطالبة الرعية بعزله،
فاستجاب لمطلبهم، وبعث إلى «الرشيد» برسالة وضح له فيها هذه
الأمور، فعينه «الرشيد» على هذه الولاية، ودخل «المغرب الأدنى»
فى مرحلة سياسية جديدة عقب تولية «إبراهيم بن الأغلب» عليه،
الذى سعى إلى تحقيق أهدافه، والاستقلال بحكم المنطقة عن(6/27)
الخلافة، وباتت السلطة الحقيقية فى يده، وأورثها من بعده أبناءه،
ولم تعد المنطقة مرتبطة بالخلافة سوى بالدعاء للخليفة على المنابر.
وهكذا انتهى عصر الولاة بالمغرب الأدنى وبدأ عصر الاستقلال
الذاتى وظل الحكم إرثًا فى «بنى الأغلب» بالمنطقة طيلة قرن من
الزمان حتى سقطت هذه الأسرة على أيدى الفاطميين فى سنة
(296هـ=909م).(6/28)
الفصل الثالث
*دولة الأغالبة
[184 - 296هـ=800 - 909م]:
قامت أربع دول إقليمية ببلاد المغرب فى الفترة من سنة (140هـ=
757م) إلى سنة (296هـ=909م)، وسوف نعرض لهذه الدول وفقًا
لأماكن تواجدها على خريطة «المغرب» دون التقيُّد بالزمن الذى قامت
خلاله هذه الدول، ونبدأ من ناحية الشرق بدولة الأغالبة، التى
تأسست بالمغرب الأدنى (ليبيا وتونس) فى سنة (184هـ= 800م) ثم
«الدولة الرستمية» بالمغرب الأوسط (الجزائر) فى سنة (161هـ=778م)،
ثم دولة «الأدارسة» بالمغرب الأقصى فى سنة (172هـ=788م)، وأيضًا
دولة «بنى مدرار» فى «سجلماسة» بجنوب «المغرب الأقصى» فى
سنة (140هـ=757م).
ينسب الأغالبة إلى «الأغلب بن سالم التميمى»، وهو عربى من قبيلة
«تميم»، التى شاركت فى القضاء على «الأمويين»، وإقامة «الدولة
العباسية»، وقد تولى «الأغلب» إفريقية فى سنة (148هـ=765م)، ثم
استشهد بها فى حربه ضد الطامعين بقيادة «الحسن بن حرب
الكندى».
إبراهيم بن الأغلب [184هـ=800م]:
تلقى «إبراهيم بن الأغلب» - فى نشأته الأولى - دروسه الدينية
بمسجد الفسطاط على يد الإمام «الليث بن سعد»، فلما بلغ مبلغ
الشباب التحق بالجندية، ثم جاء إلى «المغرب» وشارك فى أحداثها،
ثم ظهر على مسرح الأحداث فى إفريقية - كما سبقت الإشارة إليه -
فى عهد «محمد بن مقاتل العكى».
استقل «إبراهيم» بحكم «المغرب الأدنى» عن الخلافة، وعمد إلى
إقرار الأمن والاستقرار بهذا الإقليم، فضلاً عن تعريبه، واستكمال
نظامه الإدارى، وتنمية اقتصاده، فباتت «القيروان» مركزًا من مراكز
العلم والحضارة بالدولة الإسلامية، وظهرت أهمية المدن التابعة لها.
مثل: «تونس»، و «سوسة»، و «قابس»، و «قفصة»، و «توزر»،
و «نفطة»، و «طبنة»، و «المسيلة»، و «بجاية»، وغيرها. ولكن ذلك لم
يمنع من وقوع بعض الثورات بالمنطقة، مثل ثورة «عمران بن مجالد
الربيعى» الذى جمع حوله أهل «القيروان» فى محاولة للقضاء على(6/29)
حكم «الأغالبة»، ولكن محاولتهم باءت بالفشل، حيث تصدى لهم
«إبراهيم بن الأغلب» بحزم وشدة، واستمر فى منصبه حتى وافته
منيته فى شوال سنة (196هـ= يونيو 812م)، فذكره المؤرخون بأنه
كان أحسن الولاة سيرة، وأفضلهم سياسة، وأوفاهم بالعهد،
وأرعاهم للحرمة، وأرفقهم بالرعية، وأخلصهم لأداء واجبه.
أبو العباس عبدالله بن إبراهيم بن الأغلب [196هـ=812م]:
تولى «أبو العباس» «المغرب» خلفًا لوالده، فاستقامت له الأمور
واستقرت، ولكنه انتهج سياسة ضريبية سيئة، أسفرت عن سخط
الناس عليه، وظل «أبو العباس» بالحكم مدة خمس سنوات ثم مات من
جرَّاء قرحة أصابته تحت أذنه.
زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب [201هـ=816م]:
تولى «زيادة» مقاليد الحكم بالمغرب خلفًا لأخيه «أبى العباس»
واستمر فى هذه الإمارة حتى سنة (223هـ= 838م)، فتمتعت البلاد فى
عهده بالرخاء والازدهار، فضلا عن التشييد والعمران بالمدن
المغربية، مثل: «القيروان»، و «العباسية»، و «تونس»، و «سوسة»
وقد وجه «زيادة» قدراته العسكرية للقضاء على الثورات التى قامت
بالمنطقة، ومنها: ثورة «زياد بن سهل» المعروف بابن الصقلبية فى
سنة (207هـ=822م)، وثورة «عمرو بن معاوية العيشى» فى سنة
(208هـ=823م)، وثورة «منصور الطنبذى» فى سنة (209هـ=824م)،
وكذلك وجه «زيادة» كفاءته الحربية فى العناية بالأسطول
الإسلامى، ثم توجيهه لغزو بعض الجزر القريبة من «تونس»، وإليه
يرجع الفضل فى إعداد حملة بحرية كبيرة بقيادة «أسد بن الفرات»
لغزو الجزر القريبة من «تونس»، ثم تُوفى فى سنة (223هـ=838م).
أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب [223هـ=838م):
تولى الإمارة خلفًا لأخيه «زيادة» فى سنة (223هـ=838م)، ومكث بها
ما يقرب من ثلاث سنوات؛ نعمت البلاد خلالها بالهدوء والاستقرار،
وحرَّم «أبو عقال» صنع الخمور بالقيروان، وعاقب على بيعها
وشربها، فكان لذلك صداه الطيب فى نفوس الناس عامة، فضلا عن(6/30)
الفقهاء والعلماء، ومات «أبو عقال» بالقيروان فى سنة
(226هـ=841م).
أبو العباس محمد بن الأغلب [226هـ=841م]:
تولى الإمارة خلفًا لأبيه «الأغلب»، وظل بها أكثر من خمسة عشر
عامًا، اتسمت بالخلافات بين أبناء «الأسرة الأغلبية»، فضلا عن
محاولة أخيه «أحمد» الفاشلة للإطاحة به والوصول إلى الحكم، يضاف
إلى ذلك انتفاضات الجند التى لم يكتب لها النجاح بمنطقتى «الزاب»،
و «تونس»، وقد تُوفى «أبو العباس» فى سنة (242هـ) بالقيروان.
أبو إبراهيم أحمد بن محمد [242هـ=856م]:
تولى خلفًا لأبيه عقب وفاته فى سنة (242هـ)، وتميزت فترة حكمه
بالهدوء والاستقرار، وقد غلب الطابع الدينى على سلوكه، فكان
يخرج فى شهرى شعبان ورمضان من مقر إقامته ليوزع الأموال على
الفقراء والمساكين بالقيروان، واهتم «أبو إبراهيم» بالبناء والتعمير،
وزاد فى «مسجد القيروان»، وجدد «المسجد الجامع» بتونس، وحصَّن
مدينة «سوسة» وبنى سورها، كما اهتم بإمداد سكان المدن بمياه
الشرب، وقد تُوفى فى سنة (249هـ=863م).
أبو محمد زيادة الله الثانى [249هـ=863م]:
تولى «أبو محمد» خلفًا لأخيه «أبى إبراهيم أحمد»، ولم يستمر فى
منصبه سوى عام واحد، ثم تُوفى فى سنة (250هـ=864م).
أبو عبد الله محمد بن أحمد [250هـ=864م]:
خلف عمه «أبا محمد زيادة» فى الإمارة فى سنة (250هـ=864م). وقد
اشتهر «أبو عبدالله» بأبى الغرانيق؛ لولعه بصيد «الغرانيق»، وبنى
لذلك قصرًا كبيرًا، أنفق عليه أموالا كثيرةً، كما شاد الحصون
والمحارس الكثيرة على سواحل البحر المتوسط وتوفى «أبو
الغرانيق» فى سنة (261هـ).
إبراهيم بن أحمد [261هـ=875م]:
ولى أمور الحكم عقب وفاة أخيه «أبى الغرانيق» فى سنة
(261هـ=875م)، وامتد عهده أكثر من ثمانية وعشرين عامًا؛ ظهر
خلالها «أبو عبدالله الشيعى»، الذى استقطب إلى دعوته الشيعية
عددًا من القبائل، وقد اختلف المؤرخون فى تقييم شخصية «إبراهيم(6/31)
بن أحمد»، فذكر بعضهم أن عهده كان عهد استقرار وهدوء، وإقرار
للعدل، وتأمين للسبل، فضلا عن قيامه بإتمام بناء المسجد بتونس،
وبناء الحصون والمحارس على سواحل البحر، يضاف إلى ذلك
تأسيسه مدينة «رقادة»، وبناؤه جامعًا بها، فى حين يصفه «ابن
خلدون» بقوله: «وذكر أنه كان جائرًا، ظلومًا ويُؤخذ أنه أسرف فى
معاقبة المعارضين له بالقتل والتدمير، لكنه حاول فى أخريات أيامه
إصلاح ما أفسده، وبخاصة بعد ظهور داعية الشيعة «أبى عبدالله»
وانضمام كثير من الناس إلى دعوته، فأسقط المغارم، ورفع المظالم
عن طبقات الشعب الكادحة، كما تجاوز عن ضريبة سنة بالنسبة إلى
أهل الضياع، ووزع الأموال على الفقراء والمحتاجين، وختم حياته
بالجهاد فى «صقلية»، حيث مرض أثناء حصاره لإحدى المدن، ومات
ليُحمل ويدفن فى مدينة «بلرم» فى سنة (289هـ=902م)، وذكر «ابن
الأثير» أنه حُمل فى تابوت ودفن بالقيروان.
أبو العباس عبدالله بن إبراهيم [289هـ=902م]:
تولى الإمارة فى سنة (289هـ=902م)، ولم يستمر بها سوى عام
ونصف العام، حيثُ قُتل على يد ابنه «زيادة الله»، وكانت فترة حكمه
امتدادًا لسياسة والده «إبراهيم بن أحمد» فى الحكم، فبدأت عوامل
الضعف والوهن تدب فى أوصال دولة الأغالبة.
زيادة الله بن أبى العباس عبدالله [290هـ=903م]:
تولى «زيادة» الحكم عقب مقتل أبيه، وانتهج سياسة أبيه وجده،
وتتبع أفراد أسرته بالقتل، فى الوقت الذى نشط فيه «أبو عبدالله
الشيعى» وأحرز الانتصارات تلو الأخرى، واستولى على كثير من
المدن الأغلبية، ولم تفلح جيوش «زيادة» فى صده أو إيقاف زحفه،
فوجد «زيادة» نفسه عاجزًا عن الحفاظ على ملك آبائه وأجداده،
فآثر الهرب إلى «مصر»، وحمل معه كل ما استطاع حمله من مال
وعتاد، ورحل من «رقادة» فى (26من جمادى الآخرة عام 296هـ=
مارس 909م)، فباتت المدينة سهلة المنال «لأبى عبدالله الشيعى»،
فبعث «عروبة بن يوسف» أحد قادته للاستيلاء عليها، فدخلها دون(6/32)
قتال، وطويت بذلك صفحة «الأغالبة».(6/33)
الفصل الرابع
*الدولة الرستمية
[161 - 296هـ = 778 - 909م]:
عبدالرحمن بن رستم [162هـ=779م]:
بويع «عبدالرحمن» ليكون أول إمام للدولة الإباضية الناشئة فى ربوع
«المغرب الأوسط»، وقد كان أحد طلاب العلم، ودرس على يد «أبى
عبيدة مسلم ابن أبى كريمة»، فلما أتم تعليمه عمل على نشر
«المذهب الإباضى» ودعمه، ثم عينه «أبو الخطاب» نائبًا له على
«مدينة القيروان»، فاكتسب الخبرة الإدارية، وعرف طبائع الناس
وظروفهم، ولم يدخر جهدًا فى محاربة الولاة العباسيين، وجَمْع شمل
«الإباضية»، خاصة بعد مقتل «أبى الخطاب».
كان «عبدالرحمن» رجلاً زاهدًا، وذا صبر على الشدائد، وملتزمًا بكتاب
الله وسنة نبيه، واشترط على الناس حين وقع اختيارهم عليه للإمامة
أن يسمعوا له ويطيعوا ما لم يحد عن الحق، ثم اختط مدينة «تهيرت»،
ودخل فى طاعته العديد من القبائل مثل: «لماية»، و «سدرانة»،
و «مزاتة»، و «لواتة»، و «مكناسة»، و «غمارة»، و «أزداجة»،
و «هوارة»، و «نفوسة»، وقد افترشت هذه القبائل مساحات واسعة،
امتدت من «تلمسان» غربًا حتى «طرابلس» شرقًا.
ومضى «عبدالرحمن» فى حكم البلاد بالعدل، منتهجًا سياسة شرعية
فى إدارتها، مما أشاع الاستقرار والأمن بين الناس، فلما شعر بدنو
أجله اختار مجلسًا للشورى، ليُختار من بين أفراده مَن يصلح للإمامة
من بعده، واختار ابنه «عبدالوهاب» ضمن أفراد هذا المجلس، ثم مات
فى سنة (168هـ= 784م).
عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم [168هـ=784م]:
اختاره مجلس الشورى ليكون خلفًا لأبيه فى الإمامة، واتسم عهده
ببعض الاضطرابات والقلاقل، وواجه العديد من الثورات التى اتخذ
بعضها طابعًا مذهبيا، وبعضها الآخر طابعًا قبليا، فأثَّرت إلى حد
بعيد على «الدولة الرستمية»، وعلى رمزها الدينى المتمثل فى
الإمام. ومات «عبد الوهاب» فى سنة (198هـ=814م).
أفلح بن عبدالوهاب [198هـ= 814م]:
بويع الإمام «أفلح» خلفًا لأبيه، وكان ذا صفات طيبة، وجاءت مبايعته(6/34)
على عكس ما نهجه الخوارج فى تعيين الإمام، إذ اختاره أبوه للإمامة
قبل وفاته، وربما يرجع ذلك إلى طبيعة الظروف التى ألمت بالبلاد،
حيث أحاط الأعداء بمدينة «تهيرت»، وكان لابد من اختيار رجل شجاع
يتمكن من مواجهة الأعداء.
وقد اتسم عهد «أفلح» بالهدوء والاستقرار، وبلغت الدولة فى عهده
أوج ازدهارها، ونشطت التجارة، وأقبل الناس من كل مكان قاصدين
العاصمة «تهيرت»، وتُوفِّى الإمام «أفلح» فى سنة (240هـ)، إثر
حزنه الشديد على وقوع ابنه «أبى اليقظان» فى أيدى العباسيين.
أبو بكر بن أفلح بن عبدالوهاب [240هـ=854م]:
كان «أبو اليقظان» مرشحًا لمنصب الإمامة، ولكن وقوعه فى أيدى
العباسيين حال دون ذلك، وتولاها أخوه «أبو بكر» الذى لم يكن فى
شدة آبائه وأجداده وحزمهم، فضلا عن انغماسه فى الترف والنعيم
وميله إلى الراحة، وقد تفرغ لراحته وملذاته حين خرج أخوه «أبو
اليقظان» من سجن العباسيين وشاركه الحكم، ولكن «أبا بكر» دبر
مقتل «محمد بن عرفة» وهو من الشخصيات البارزة بالعاصمة،
ليتخلص من نفوذه، فكان ذلك سببًا فى نشوب الصراع بين طوائف
الدولة الرستمية، وحاولت كل طائفة تحقيق أهدافها من خلال المعارك
الطاحنة، التى أسفرت عن هزيمة حكام البيت الرستمى، واعتزال
«أبى بكر» منصب الإمامة.
أبو اليقظان محمد بن أفلح بن عبدالوهاب [268هـ= 881م]:
شهدت العاصمة «تهيرت» فترة من القلاقل والاضطرابات، ثم نجح
«أبو اليقظان» فى تهدئة الأوضاع ودخول العاصمة «تهيرت» فى
سنة (268هـ=881م)، فتولى منصب الإمامة، وتجنب سياسة التعصب
وتفضيل قبيلة بعينها على غيرها، وجلس لبحث شكاوى رعاياه
والبت فيها بنفسه، واستعان بمجلس الشورى الذى ضم إليه شيوخ
القبائل ووجهاءها، فاستقرت الأوضاع، وهدأت النفوس، وظل «أبو
اليقظان» يدير دفة الأمور فى دولته حتى وفاته فى سنة
(281هـ=894م).
أبو حاتم يوسف بن محمد [281هـ=894م]:(6/35)
تولى «أبو حاتم» الإمامة عقب وفاة والده «أبى اليقظان»، لأن أخاه
الأكبر «يقظان» كان غائبًا فى موسم الحج، وقد لعب العامة -بزعامة
«محمد بن رباح» و «محمد بن حماد» المعروفين بالشجاعة والنجدة-
دورًا بارزًا فى المطالبة ببيعة «أبى حاتم» بالإمامة لسخائه وكرمه،
ولكن هذا الدور الذى لعبه العامة أطمعهم فى التدخل فى شئون
الحكم وتحقيق المكاسب، فرفض «أبو حاتم» ذلك وضرب على أيديهم
وطردهم من المدينة، فعمدوا إلى تأليب القبائل ضده، ونجحوا فى
طرده من العاصمة «تهيرت»، وبايعوا عمه «يعقوب بن أفلح»
بالإمامة، فصار هناك إمامان من بيت واحد، يقفان وجهًا لوجه فى
صراعٍ دامٍ على السلطة، ولكن أحدهما لم يحقق نجاحًا ملموسًا على
الآخر، فاحتكما وعقدا هدنة، وعاد «أبو حاتم» إلى العاصمة إمامًا
على البلاد، وانسحب عمه «يعقوب» بعد أن حكم العاصمة «أربع
سنوات».
وقد حاول «أبو حاتم» إصلاح ما أفسدته الحروب داخل العاصمة
«تهيرت»، وكوَّن مجلسًا استشاريًا من زعماء القبائل ومشايخها
للاستعانة بهم فى إدارة البلاد، ولكن محاولاته الإصلاحية كانت
بمثابة صحوة الموت للبيت الرستمى، خاصة بعد أن ضعفت قوتهم
العسكرية فى محاولة لإنهاء الصراع الذى وقع حول مدينة
«طرابلس». وقد تآمر أفراد البيت الرستمى أنفسهم على حياة إمامهم
«أبى حاتم»، وقتلوه فى سنة (294هـ=907م).
اليقظان بن أبى اليقظان [294هـ=907م]:
بويع بالإمامة عقب مقتل أخيه فى سنة (294هـ=907م)، واتسم عهده
بالفتن والقلاقل، وتطلع مختلف القبائل والطوائف إلى الاستئثار
بالحكم، كما دبرت المؤامرات من داخل البيت الرستمى على يد
«دوسر» ابنة «أبى حاتم»، وتكاتفت فرق الخوارج مثل: «المالكية»
و «الواصلية» و «الشيعة» لإحباك الفتن والمؤامرات للإطاحة بالإمام،
وقد نجح «اليقظان» إلى حد بعيد فى كبح جماح هذه الطوائف والحد
من نشاطها، فهربت «دوسر»، ولجأت إلى «أبى عبدالله الشيعى»(6/36)
الذى نجح فى بسط نفوذه على مساحات كبيرة من أرض «المغرب»،
واستنجدت به للثأر لأبيها، فاستجاب لها، واتجه إلى «تهيرت»،
فخرجت لمقابلته وجوه أهل «تهيرت» ورحبوا بمقدمه، واستسلم
«اليقظان» لمصيره، وخرج مع بنيه إلى «أبى عبدالله»، فأمر بقتلهم
ودخل العاصمة فى سنة (297هـ= 910م)، واستولى على ما بها من
أموال ومغانم، فطويت صفحة «الدولة الرستمية».(6/37)
الفصل الخامس
*دولة الأدارسة
[172 - 300هـ = 788 - 913م]:
إدريس بن عبدالله (172هـ= 788م):
اضطهد العباسيون منذ اللحظة الأولى لقيام دولتهم أبناء عمومتهم من
العلويين، وأسرف بعض الخلفاء العباسيين فى ذلك، فأسفر الأمر عن
قيام عدة ثورات، كانت آخرها ثورة «الحسين بن على بن الحسن بن
الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب» على والى «المدينة» فى
سنة (169هـ=785م)، ولكن العباسيين استطاعوا قمعها، وقتلوا
زعيمها ومجموعة من أهل بيته.
وكان «إدريس بن عبدالله» ومولاه «راشد» ممن فرَّ من أرض المعركة،
واتجها إلى «مصر»، ومنها إلى «المغرب الأقصى»، ونزلا مدينة
«وليلى» عاصمة هذا الإقليم، ثم توجها إلى أميرها وزعيمها
«إسحاق بن محمد بن عبدالحميد الأوربى»، زعيم قبيلة «أوربة» التى
فرضت نفوذها وسيطرتها على مدينة «وليلى» وما حولها، وعرفه
«إدريس» بنفسه، وأعلمه بسبب فراره من موطنه «الحجاز»، ولجوئه
إلى بلاده، فرحب به «إسحاق» وآمن بدعوته، وبايعه بالإمامة،
وكذلك بايعته قبيلته «أوربة»، ومعها بقية القبائل فى رمضان سنة
(172هـ=788م)، ومن ثَم نجح «إدريس» فى تأسيس دولة حملت اسمه
بالمغرب الأقصى.
لكن ذلك أقلق الخلافة العباسية، خاصة بعد أن مدَّ «إدريس» نفوذه
إلى مدينة «تلمسان» بالمغرب الأوسط.
عمد الخليفة العباسى «الرشيد» إلى الحيلة للقضاء على نفوذ
«الأدارسة»، فقيل إنه بعث برجل يدعى «الشماخ» إلى «إدريس»،
فتظاهر بحبه لآل البيت، وفراره من بطش العباسيين، ولازم «إدريس»
فترة ثم اغتاله حين سنحت له الفرصة، وهكذا نجحت الخلافة العباسية
فى التخلص من «إدريس» أبرز المناوئين لها، وفقدت «دولة الأدارسة»
مؤسسها فى سنة (175هـ=791م) بعد ثلاث سنوات ونصف فقط من
قيامها.
إدريس بن إدريس بن عبد الله: [175 - 213هـ = 791 - 828م]:
بات مقعد الإمامة شاغرًا عقب اغتيال «إدريس»، والتف البربر حول
مولاه «راشد»، وانتظروا مولود «كنزة» جارية «إدريس بن عبدالله»،(6/38)
فلما وضعت حملها أسموه «إدريس» تبركًا باسم والده، وتعهده
«راشد» بالتربية والرعاية، ونشَّأه تنشأة دينية، حتى إذا بلغ الحادية
عشرة من عمره أقبلت القبائل على مبايعته بالإمامة، فدعا ذلك
الخلافة العباسية إلى التحرك ثانية للقضاء على هذه الدولة، وأوكلت
هذه المهمة إلى والى «المغرب الأدنى» «إبراهيم بن الأغلب» الذى
نجح فى استمالة مجموعة من البربر بأمواله وهداياه، ثم أوكل إليهم
مهمة قتل «راشد»، فقاموا بتنفيذها فى سنة (186هـ= 802م)، لكن
«الدولة الإدريسية» واصلت مسيرتها، وانتقلت كفالة «إدريس»
والوصاية عليه إلى «أبى خالد بن يزيد بن إلياس العبدى»، وجُدِّدت له
البيعة فى سنة (188هـ= 804م)، حين بلغ الثالثة عشرة من عمره،
وأصبح فى سن تؤهله لخلع الوصاية، وإدارة البلاد، وعزز مركزه
إقبال الوفود العربية من «القيروان» و «الأندلس» للعيش فى كنف
دولته فرارًا من بطش الحكام، فدعم بهم نفوذه، واتخذ منهم الوزراء
والكتاب والقضاة، وجعلهم بطانته وحاشيته، وقد شجعه هؤلاء على
بناء عاصمة جديدة لدولته، فبنى مدينة «فاس»، ثم استقر بها.
وفى سنة (197هـ= 813م) خرج «إدريس الثانى» على رأس قواته
لإخضاع «قبائل المصامدة» التى هددت أمن بلاده، ونجح فى ذلك
نجاحًا كبيرًا، وامتد نشاطه حتى منطقة «السوس الأقصى»، ودخل
مدينة «نفيس» ثم عاد إلى عاصمته «فاس»، وخرج فى العام التالى
صوب الشرق لتأمين حدود دولته، ودخل مدينة «تلمسان»، وأقام بها
ثلاث سنوات، يرتب أمورها، ويرمم مسجدها، ثم عاد إلى «فاس» فى
سنة (201هـ)، وظل فى الحكم حتى وافته المنية فى سنة
(213هـ=828م).
محمد بن إدريس بن إدريس (213 - 234هـ= 828 - 848م):
تولى «محمد» أكبر أبناء «إدريس الثانى» الإمامة فى سنة
(213هـ=828م)، فنفذ وصية جدته «كنزة» بتقسيم أقاليم الدولة بين
إخوته، فكان لذلك أثره السيئ على وحدة دولة «الأدارسة»، ولما
يمضِ على قيامها أربعون سنة بعد، وطمع كل أخٍ فى الاستقلال(6/39)
بإقليمه، وشقََّ عصا الطاعة على السلطة المركزية. ولكن «محمد بن
إدريس» تصدى لإخوته وضم ممتلكات أخويه «عيسى» و «القاسم»
بعد هزيمتهما إلى أخيه «عمر».
ولم تشهد البلاد بعد هذا التقسيم استقرارًا إلا فى بعض الفترات مثل:
عهد «يحيى بن محمد» الذى تولى الإمامة فى سنة (234هـ=848م)،
فازدهرت فى عهده مدينة «فاس» وشهدت تطورًا ملحوظًا فى
أنشطتها، ثم عهد «يحيى بن إدريس بن عمر بن إدريس» عام (292هـ=
905م)، الذى وصفه المؤرخون بأنه كان أعظم ملوك «الأدارسة» قوة
وسلطانًا وصلاحًا وورعًا وفقهًا ودينًا، وقد ظل بالحكم حتى سنة
(305هـ = 917م) حتى طرق «مصالة بن حيوس» أبواب مدن «المغرب
الأقصى»، فأطاعه «يحيى بن إدريس»، وبايع «أبا عبيد الله
المهدى»، فدخلت دولة «الأدارسة» منذ ذلك الحين فى طور التبعية
للفاطميين تارة، وللحكم الأموى بالأندلس تارة أخرى.(6/40)
الفصل السادس
*دولة بنى مدرار فى سجلماسة
[122 - 354 هـ = 740 - 965م]:
ساهمت الظروف السياسية التى مر بها إقليم «المغرب» عقب نجاح
الثورة التى قادها «ميسرة المضفرى الصفرى» ضد الدولة الأموية
فى سنة (122هـ=740م) فى استقلال «المغرب الأقصى» وانفصاله عن
الحكم الأموى، فأسهم ذلك -إلى جانب اضطراب الأوضاع فى إقليمى
«المغرب الأوسط» و «الأدنى» - فى قيام تجمع مذهبى فى جنوب
«المغرب الأقصى»؛ هو تجمع «الصفريين» الذين وجدوا بمنطقة
«سجلماسة» المجال المناسب لإقامتهم، ثم أسسوا مدينة تحمل اسم
المنطقة، لتكون نواة لدولة صفرية، وبايعوا «عيسى بن يزيد بن
الأسود» إمامًا لهم، وسانده «أبو القاسم سمكو» زعيم قبيلة
«مكناسة» بمبايعة قبيلته له، ولكن جماعة «الصفرية» - بعد خمس
عشرة سنة- أخذوا عليه بعض المآخذ، وأنكروا عليه بعض الأمور،
وقتلوه فى سنة (155هـ= 772م)، وقد تولى «أبو القاسم بن سمنون
بن واسول المكناسى بن مدرار» الحكم خلفًا لعيسى، وجعل الحكم
متوارثا فى أفراد «الأسرة المدرارية» حتى سقوط المدينة فى أيدى
الفاطميين، وقد توالى الأئمة بعد وفاة «مدرار»، حتى جاءت سنة
(174هـ= 790م) فتولى «اليسع بن أبى القاسم» الملقب بأبى منصور
شئون الحكم، وظل فى مقعد الإمامة حتى سنة (208هـ=823م)،
وشهدت المدينة فى عهده ازدهارًا اقتصاديا، ونفوذًا سياسيا كبيرًا،
لذا يعد «اليسع» المؤسس الحقيقى لدولة «بنى واسول» المعروفة
بدولة «بنى مدرار»، وامتد نجاح «اليسع» إلى تعمير العاصمة
«سجلماسة»، فشهدت فى عهده تطورًا واتساعًا، ومات «اليسع»
فى سنة (208هـ= 823م).
وتولى «مدرار» خلفًا لوالده فى سنة (208هـ= 823م)، ولقب نفسه
بالمنتصر، وظل بالحكم حتى سنة (223هـ=838م)، ونشب النزاع- خلال
هذه الفترة - بين أبناء «مدرار»، مما أضعف نفوذهم، وفكَّكَ وحدة
بيتهم.
وخلفه «محمد بن ميمون بن مدرار»، ووافاه أجله فى سنة (270هـ=
883م)، فتولى من بعده عمه «اليسع بن مدرار»، ودخل «عبيدالله(6/41)
المهدى» وابنه «القاسم» إلى «سجلماسة» فى عهده، فلما اكتشف
حقيقة أمرهما، قبض عليهما، وأودعهما السجن، فظلا به حتى أقبل
«أبو عبدالله الشيعى» على رأس قواته وخلصهما، ثم استولى على
المدينة فى سنة (296هـ=909م)، وحاول بعض أفراد البيت المدرارى
استرداد مدينتهم واستعادة حكمهم من قبضة الفاطميين، وقد حققوا
نجاحًا نسبيا فى ذلك، ولكن «جوهر الصقلى» تمكن من القضاء على
مُلكهم فى سنة (347هـ=958م)، وقبض على «الشاكر بالله» آخر
أمرائهم، وأودعه سجن مدينة «رقادة»، فمات به فى سنة (354هـ=
965م). وطويت صفحة التاريخ السياسى لمدينة «سجلماسة» فى
القرن الثالث الهجرى.(6/42)
الفصل السابع
*العلاقات الخارجية والأوضاع الحضارية للدول الأربعة
شهد المسرح الجغرافى لمنطقة «المغرب» فى الفترة من سنة (140هـ
=757م) إلى سنة (296هـ= 909م) قيام أربع دول على أرضه هى:
«دولة الأغالبة» بالمغرب الأدنى [184 - 296هـ= 800 - 909م)، و «الدولة
الرستمية» بالمغرب الأوسط (160 - 296هـ= 777 - 909م)، و «دولة
الأدارسة» بالمغرب الأقصى (172 - 300هـ = 788 - 912م)، و «دولة
بنى مدرار» بجنوب «المغرب الأقصى» (140 - 296هـ = 757 - 909م).
وقد سبقت الإشارة إلى أن تولية «إبراهيم بن الأغلب» إدارة «المغرب
الأدنى»، واستقلاله بها عن سلطة الخلافة، وتوريثه حكمها لأبنائه من
بعده؛ قد غيرت فى الوضع السياسى للمنطقة، إلا أن ذلك لم يمنع
الأمراء الأغالبة من استمداد سلطانهم مباشرة من الخليفة، والخطبة له
على المنابر، وكان كل خليفة جديد يجدد البيعة للأمير الأغلبى، كما
كان الأمير يجدد البيعة بدوره للخليفة، ويحلف له يمين الولاء
والإخلاص، ومعنى ذلك أنهم كانوا يستمدون شرعية حكمهم من
بيعتهم للخلافة، ومبايعتها لهم.
ولم يمنع استقلال الأغالبة بالمغرب الأدنى من تدخل الخلافة أحيانًا
فى بعض شئونهم، مثلما فعل الخليفة المعتضد مع «إبراهيم الثانى
بن أحمد» حين استبد بالرعية، وأنزل عقوبات غاشمة بثوار «تونس»
فى سنة (283هـ= 896م)، حيث عنفه الخليفة، وهدده بالخلع.
وهكذا حرص «الأغالبة» على إظهار ولائهم وارتباطهم بالخلافة
العباسية فى بغداد، وكانت انتصاراتهم تصل إلى بغداد أولا بأول،
وكان للخليفة نصيبه من المغانم والسبى فى بعض الأحيان، فضلا عن
الهدايا التى حرص الأمراء الأغالبة على إرسالها إلى الخلافة ببغداد.
أما «الدولة الرستمية» بالمغرب الأوسط، فكانت على خلاف مع
الخلافة العباسية؛ حيث عد العباسيون «إقليم المغرب» تابعًا لدولتهم
بعد سقوط «الدولة الأموية»، وعدوا الرستميين مقتطعين لجزء من(6/43)
الدولة العباسية؛ فنظروا إليهم نظرة عداء؛ كان لها أثر فى العلاقة
بينهما، فضلا عما بينهم من اختلافات مذهبية؛ حيث كان مذهب
العباسيين الرسمى هو مذهب أهل السنة، على حين اتخذ الرستميون
المذهب الإباضى مذهبًا رسميا لدولتهم.
وقد سبق قيام الدولة الرستمية عدة معارك بين جموع الإباضية وجنود
الخلافة؛ أسفرت عن مقتل «أبى الخطاب» زعيم الإباضية، وانتقال
«عبدالرحمن ابن رستم» نائب أبى الخطاب على القيروان إلى قبيلة
«لماية» التى ناصرته وساندته حتى بويع بالإمامة.
وتنوعت العلاقات بين الرستميين والعباسيين، فتارة تكون هادئة
مستقرة، كما حدث فى عهد «عبدالرحمن بن رستم» وابنه
«عبدالوهاب»، وتارة يشوبها التوتر والعداء كما حدث فى عهد
«أفلح بن عبدالوهاب»؛ حيث احتوت الخلافة الخارجين عليه، ورحبت
بهم فى «بغداد»، ثم بلغت العلاقة بينهما قمة العداء حين قبض
الخليفة «الواثق» على «أبى اليقظان محمد ابن أفلح»، وأودعه
السجن، وهو فى طريقه لأداء فريضة الحج، ولكن الأوضاع تحسنت
بينهما ثانية بعد أن أطلق الخليفة «المتوكل» سراح «أبى اليقظان»
وأكرمه، وسمح له بالعودة إلى بلاده.
وأما «دولة الأدارسة» فقد اتسمت علاقتها بالدولة العباسية بالعداء؛
حيث شكل قيام الأدارسة بالمغرب الأقصى خطرًا على ممتلكات الدولة
العباسية بالمغرب الأدنى (إفريقية)، وزادت خطورة «الأدارسة» بعد
أن أخضع «إدريس ابن عبدالله» «تلمسان» إلى سلطانه، وبنى بها
مسجدًا، ومعنى ذلك أنه تطلع إلى فصل «المغرب» عن بقية العالم
الإسلامى، وتوحيده تحت قيادته.
وقد استعانت الدولة العباسية بإبراهيم بن الأغلب والى إفريقية
للقضاء على «دولة الأدارسة» بالمغرب الأقصى لكنها لم تنجح فى
ذلك.
وقد وقفت «دولة بنى مدرار» موقفًا وسطًا بين القوى المتصارعة
بالمغرب، ولم تتخذ موقفًا عدائيا من الخلافة العباسية، بل اعترف
«المدراريون» بسلطان الخلافة وعملوا على مداراة «الأغالبة»،(6/44)
وتوثيق صلتهم بالرستميين، على الرغم من الاختلافات المذهبية بينهم.
ولم تنجح «سجلماسة» رغم اعتصامها بصحراء المغرب
الجنوبية، وموازنة سياستها مع «تهيرت» و «القيروان»، فى النجاة
مما آلت إليه على أيدى الفاطميين.
الأوضاع الحضارية:
شهدت منطقة «المغرب» خلال القرنين الثانى والثالث الهجريين قيام
عدة عواصم رئيسية هى: «القيروان»، و «تهيرت»، و «فاس»،
و «سجلماسة»، وقد لعبت هذه العواصم دورًا بارزًا ورئيسيا فى
مضمار الحضارة بالمنطقة على النحو الآتى:
أ - القيروان:
بناها «عقبة بن نافع» وأطلق عليها «القيروان» ومعناها فى
العربية: موضع اجتماع الناس والجيش، وقد شهدت هذه المدينة تطورًا
كبيرًا فى ظل «الأغالبة»، واستمرت عمليات البناء والتعمير على
أيديهم بها، وباتت مقر الولاة ومركز الحكم، وظلت محتفظة بمنزلتها
ومكانتها لدى «الأغالبة»، على الرغم من اتخاذهم عواصم جديدة
كالعباسة و «رقادة».
وقد تميزت هذه المدينة بالهدوء والاستقرار فى عهد «الأغالبة»،
على الرغم من الثورات المتعددة التى اندلعت هنا وهناك بالمنطقة،
وقد ساعد هذا الاستقرار على إيجاد نوع من التعاون بين فئات
الشعب على اختلاف أصولهم؛ حيث كان هناك العرب الذين مثلوا
الطبقة الحاكمة، وعاشوا بالقيروان منذ تأسيسها، فاكتسبوا مكانة
خاصة، واشتغلوا بالتجارة وغيرها، وعاش إلى جوارهم سكان البلاد
الأصليون من «البربر»، واختلطوا بهم، وعملوا بالزراعة والتجارة،
فضلا عن الأفارقة؛ وهم بقايا المسيحيين البيزنطيين واليهود، وقد
عاشوا يمارسون حياتهم فى ظل الحكم الأغلبى.
وقد شهدت «القيروان» ازدهارًا اقتصادياًّ كبيرًا، تمثل فى علاقاتها
المتعددة مع مَن حولها من المدن المغربية، وقصدتها القوافل التجارية
من كل أنحاء «المغرب»، كما خرجت منها القوافل قاصدة المدن
الأخرى، فانعكس هذا الرواج على أمراء البلاد وعامة الشعب.
ب - تهيرت:
جاء تخطيط هذه المدينة وبناؤها فى سنة (161هـ= 778م)، تلبية(6/45)
لاحتياجات جموع «الإباضية» التى استقرت بالمغرب الأوسط، وقد
توافرت لهذه المدينة أسباب الأمن والحماية؛ فهى منطقة داخلية
يتخللها نهران هما: «نهر مينة» الذى يجرى فى جنوبها مارا
بالبطحاء، ونهر آخر بشرقها يجرى من «عيون تاتش»، ومنه شرب
أهلها، ورووا بساتينهم وزراعاتهم، فتمتعت بالمراعى الواسعة،
والأراضى الزراعية المتنوعة، التى أسهمت فى ازدهار اقتصادها،
ورخاء أهلها الذين قامت على أكتافهم «الدولة الرستمية»؛ لأنهم من
القبائل التى كانت تدين بالمذهب الإباضى فى هذه المنطقة.
ولاشك أن وقوع العاصمة الرستمية «تهيرت» وسط معاقل «الإباضية»
المؤيدين لها ولمذهبها، كان له أكبر الأثر فى حمايتها واستقرارها،
ومنحها الفرصة كاملة لأداء دورها السياسى والحضارى بالمنطقة،
وانفرادها بحكم نفسها فى ظل زعامة إباضية، بعد أن تخلصت من
سيطرة الأمويين، ثم العباسيين من بعدهم.
وقد أحيطت المدينة بسور عظيم تتخلله مجموعة من الأبواب، لحمايتها
من هجمات أعدائها، وأنشئت بالقرب منها عدة حصون دفاعية، فضلا
عما أنشىء بداخلها من مساجد ودور وقصور، وأسواق عامرة،
حفلت بها، حيث إنها كانت ملتقى القوافل التجارية القادمة من جنوب
الصحراء، والمتجهة إليها، كما كانت ملتقى تجار الشرق والغرب،
وقد وفرت لها مراعيها الشاسعة ثروة حيوانية كبيرة؛ فضلا عن
الصناعة التى قامت بها على بعض المعادن التى استُخرجت من
باطنها، فأحدث ذلك كله رواجًا اقتصاديا، وانتعاشًا انعكست آثاره
على رفاهية السكان.
ج - فاس:
هى عاصمة «دولة الأدارسة»، وقد بدأ «الإمام إدريس» بناءها على
الجانب الشرقى لنهر «فاس» فى سنة (192هـ= 808م)، لازدحام
العاصمة القديمة «وليلى» بالوفود العربية التى قدمت من «القيروان»
و «الأندلس»، فضلا عن خوف «إدريس» من نوايا بعض جموع البربر
المحيطين به، وكان اختيار هذا المكان عاصمة لدولتهم صائبًا؛ فهو
فسيح تحيط به الأشجار والحشائش، وتنفجر المياه فيه من عيون(6/46)
«نهر سبو» وروافده، وقد دعا الإمام «إدريس» - حين وضع أساس
هذه المدينة - بقوله: اللهم اجعلها دار علم وفقه، يتلى فيها كتاب الله،
وتقام بها حدوده، وأن يُجعل أهلها متمسكين دائمًا بكتاب الله.
وقد قُسِّمت المدينة إلى قسمين هما: عدوة الأندلسيين، وعدوة
القرويين، واتخذت قبائل البربر مواضعها كما أقام الوافدون، فى
أماكن حددت لهم، وهكذا استطاع الأدارسة تدعيم سلطتهم بالمغرب
الأقصى، وباتت لمدينة «فاس» آثارها الدينية والاقتصادية بالمنطقة،
بعد أن حُرمت منها منذ انقضاء عهد «الرومان»، ومازالت هذه المدينة
تحتفظ بآثارها الحضارية - حتى الآن - على عكس «تهيرت»
و «سجلماسة» اللتين فقدتا ازدهارهما منذ أمد بعيد.
د - سجلماسة:
رأى «الصفريون» أن تكون لهم مدينة، بعد أن ازداد عددهم بالمغرب
الأقصى، تصبح نواة لدولة صفرية مستقلة بجنوب «المغرب الأقصى»،
فوقع اختيار «أبى القاسم سمكو بن واسول المكناسى» على منطقة
«سجلماسة»، التى كانت نقطة التقاء البربر المقيمين بها وحولها،
لتبادل السلع والبضائع.
وقد نجح المؤسسون لهذه المدينة فى اختيار البقعة المناسبة لها؛ إذ
تقع فى منطقة «تافللت» على طرف الصحراء، وبينها وبين جنوب
مدينة «فاس» مسيرة عشرة أيام، ومعنى ذلك أنها تقع فى منطقة
نائية، فأعطاها هذا البعد سياج أمن وأمان لها ولساكنيها.
وبدأ تخطيط «سجلماسة» فى سنة (140هـ=757م)، بصورة بسيطة،
حيث أسس «الصفريون» بها حصنًا فى وسط الساحة، سموه
«العسكر»، ثم أسسوا المسجد الجامع، ودار الإمارة، وشرع الناس
بعد ذلك فى إقامة دورهم، وقد ساهمت طوائف البربر من قبائل
«مكناسة» و «صنهاجة» و «زناتة» فى تأسيس هذه المدينة
وتعميرها، ثم تطورت بعد ذلك واتسعت، وأحيطت فى عهد «اليسع
بن مدرار» (208هـ= 823م) بسور كبير لحمايتها. وقد وصفها «ابن
حوقل» بقوله: «كانت القوافل تجتاز المغرب إلى سجلماسة، وسكنها(6/47)
أهل العراق، وتجار البصرة والكوفة والبغداديون الذين كانوا
يقطعون الطريق؛ فهم وأولادهم وتجاراتهم دائرة، ومفرداتهم دائمة،
وقوافلهم غير منقطعة إلى أرباح عظيمة وفوائد جسيمة ونعم
سابغة، قلَّ ما يدانيها فى بلاد الإسلام سعة حال».
ولقد تضافرت جهود القادة والولاة والدعاة فى القرن الأول الهجرى
على نشر الإسلام بين سكان «المغرب»، فأقبل البربر على اعتناقه،
وتعلمه وتفهمه دون الانخراط فى فرقة بعينها، أو الانضمام إلى
مذهب محدد، وكان الكتاب والسنة هما مصدر التشريع الأوحد فى
هذه المنطقة، فلما أقبل القرن الثانى الهجرى، تطورت مسيرة
الإسلام، نظرًا للتغيرات السياسية والمذهبية التى عاشتها «بلاد
المغرب»؛ حيث وضحت تيارات المذاهب، وتحددت ملامح الفرق، ومثل
المذهب المالكى والمذهب الحنفى القاعدة الشعبية العريضة لسكان
«المغرب»، وباتت «القيروان» مركز أهل السنة من المالكية، وظهرت
بها مجموعة من العلماء أمثال: «البهلول بن راشد» و «رباح بن يزيد»،
و «عبدالله بن فروخ»، و «ابن غانم الرعيثى»، و «أسد بن الفرات»،
وغيرهم، ومن ثم انتشر هذا المذهب عن طريقهم إلى بقية المدن
المغربية، بعد أن أرسوا قواعده بها.
وشاركت مدينة «فاس» التى أسسها «الأدارسة» أختها «القيروان»
فى الأخذ بهذا المذهب عن طريق الهجرات العربية الوافدة إليها عبر
المضيق من «الأندلس»، ثم انتشر هذا المذهب فى كل من: «تلمسان»
و «تونس» و «سوسة» و «صفاقس»، وغيرها من المدن المغربية.
ولقد شهد «المغرب» التيار الخارجى بشقيه «الصفرى» و «الإباضى»
فى العقد الثالث من القرن الثانى الهجرى، ونجح «الصفرية» فى
تأسيس «سجلماسة» فى سنة (140هـ)، كما نجح «الإباضية» فى
تأسيس «تهيرت» فى سنة (161هـ= 778م)، واعتنقت القبائل البربرية
مذهبيهما، وقامت على أكتافهم دولتاهما.
ثم وجد الشيعة والمعتزلة والمرجئة طريقهم إلى هذه البلاد، إلا أن(6/48)
صَوْتَى «المعتزلة» و «المرجئة» كانا خافتين، ولم يجدا صدىً يُذكر
لأفكارهما ودعوتيهما.
وتجدر الإشارة إلى أن المذهب المالكى قد لعب دورًا كبيرًا فى حياة
سكان «بلاد المغرب» السياسية والحضارية منذ القرن الثانى الهجرى
حتى وقتنا الحاضر، وصار الإمام مالك هو القدوة والمثل الأعلى
لأفعال وتصرفات المالكيين بالمغرب، وقلدوه فى معاشه وملبسه
وكيفية جلوسه للتدريس، وطريقته فى الحديث، كما تبوأ تلامذته
مكانة مرموقة بالمغرب.
ولم تقف الاختلافات المذهبية بالمغرب فى سبيل علاقاتها واتصالاتها
الفكرية بالعواصم والمدن الإسلامية بالمشرق، بل كانت اتصالاتها
مستمرة، وعلاقاتها وثيقة، وظهرت آثار احتكاك طلابها بعلماء
المشرق واضحة فى الحياة الدينية التى عاشتها المنطقة خلال القرن
الثالث الهجرى، وتوجَّه أبناء «تهيرت» و «فاس» و «سجلماسة» إلى
مدينة «القيروان»؛ لتحصيل العلم على أيدى علمائها، كما أَمَّ أبناء
«القيروان» مدن «تونس» و «سوسة» وغيرهما، لطلب العلم هناك،
ونهل جميعهم من معين الإسلام الذى لا ينضب، ودرسوا الفقه والأصول
والحديث والتفسير، وغيرها من العلوم.
وكان لكل من «القيروان» و «تهيرت» أثر سياسى وثقافى بارز فى
بلاد المغرب، وشهدتا ازدهارًا فكريا، ونهضة حضارية، واقتصادًا
قويا، وزخرًا بالفقهاء والعلماء، وأصبحتا مقصد طلاب العلم من كل
مكان، حتى نافستا العواصم الشرقية الكبيرة بالسماحة، وسعة
الأفق، ومناظرات العلماء. وقد شاركت مدينة «فاس» فى هذا الدور
بنهضتها الفكرية وازدهارها الحضارى، وأسهمت كذلك فى نشر
الإسلام والثقافة العربية.(6/49)
الفصل الثامن
*الدولة الفاطمية بالمغرب
[296 - 362هـ = 908 - 973م]
قامت «الدولة الفاطمية» ببلاد «المغرب» - وفق خطة مرسومة من قِبل
دعاة الشيعة - على أكتاف قبيلة «كتامة»، التى تنتمى إلى بربر
«البرانس»، وتميزت عن غيرها من القبائل بكثرة عددها، ومنعة
منطقة سكناها بجبال «الأوراس» بين مدينتى «بجاية»
و «قسنطينة»، فضلا عن عدم خضوعها لسلطة الولاة اعتزازًا بمنعتها
وقوة بأسها.
وقد وقف زعماء الشيعة على ما اتصفت به هذه القبيلة، واختار «ابن
حوشب» رئيس مركز الدعوة الشيعية باليمن «أبا عبدالله الحسين بن
أحمد الشيعى» للاتصال بوفد «كتامة» بموسم الحج، لنشر الدعوة
الشيعية بالمغرب، وإقامة الدولة المرتقبة هناك.
وقد تم لقاء «أبى عبدالله» بوفد «كتامة» بمكة، وجعله هذا الشيعى
يبدو كأنه جاء مصادفة، وبدأ يتعرَّف أحوالهم وميولهم المذهبية، ولم
يفصح عما أضمره وما جاء من أجله، ونجح فى استمالتهم والسيطرة
على قلوبهم بمكره ودهائه وعلمه وجدله، ثم تظاهر بعد انقضاء
موسم الحج برغبته فى السفر معهم إلى «مصر»، للتدريس لأبنائها،
فاصطحبوه معهم، فلما وصلوها، ألحوا عليه بمصاحبتهم إلى بلادهم،
فوافقهم، وذهب معهم إلى المغرب فى سنة (289هـ= 902م)، واتخذ
من «إيكجان» مستقرا له، لأنها نقطة التقاء حجاج «الأندلس»
و «المغرب الأقصى»، والمتوجهين لأداء فريضة الحج.
وبدأ «أبو عبدالله» فى تنفيذ خطته، وتظاهر بتعليم الصبية، وإلقاء
دروسه عليهم، فزاده ذلك مكانة ومنزلة بين أبناء «كتامة»، وذاع
صيته بين القبائل، وقصده البربر من أماكن متفرقة، لينهلوا من علمه،
ويستفيدوا من نصائحه، ثم عمد «أبو عبدالله» إلى مصارحة بعضهم -
بعد أن اطمأن إليهم- بحقيقة أمره، ورغبته فى إقامة دولة لآل البيت
تقوم على أكتاف قبيلة «كتامة»، لأن الروايات - كما ادَّعى لهم -
جاءت بذلك، وأخبرت عما ينتظرهم من عز الدنيا وثواب الآخرة.
وأخذ «أبو عبدالله» على عاتقه تنظيم صفوف أبناء «كتامة» وبعض(6/50)
أبناء القبائل الأخرى، وقسَّمهم إلى سبعة أقسام، وجعل على رأس
كل قسم منها داعية يطمئن إليه، فاستطاع بهذا الأسلوب العملى
إقامة مجتمع يدين بفكرة واحدة؛ هى إقامة الدولة المثالية التى
يحكمها إمام من آل البيت.
وقد اتخذ «أبو عبدالله الشيعى» من أبناء «كتامة» جندًا يدافعون
عن الدعوة، ويهاجمون القوى السياسية الموجودة بالمنطقة، وهى:
«الأغالبة» بالمغرب الأدنى، و «الرستميون» بالمغرب الأوسط، و «بنو
مدرار» بسجلماسة بجنوب «المغرب الأقصى» وبقايا «الأدارسة» بمدن
«المغرب الأقصى»، وترتَّب على ذلك دخول «أبى عبدالله الشيعى»
فى عدة معارك مع هذه القوى، كانت أشهرها معركة «كنيونة»،
التى انتصر فيها على «الأغالبة» فى سنة (293هـ= 906م)، ثم توالت
انتصاراته بعد ذلك، ودخل مدينة «رقادة» وقضى على نفوذ
«الأغالبة»، ثم دعا «المهدى الفاطمى» إلى «المغرب» لتسلم مقاليد
الأمور؛ فلبى الدعوة، وتخفَّى فى زى التجار حتى لا يقع فى قبضة
العباسيين، ودخل مدينة «رقادة» فى سنة (297هـ= 909م)، ثم بويع
بالإمامة.
الخلفاء الفاطميون بالمغرب:
حكم أربعة خلفاء فاطميين بلاد «المغرب» فى الفترة من سنة
(297هـ=909م) إلى سنة (365هـ= 975م)، وكان «المعز لدين الله
الفاطمى» هو آخر هؤلاء الخلفاء، حيث انتقل بالخلافة إلى
«القاهرة» التى اتخذها عاصمة جديدة للفاطميين، بعد أن تم له فتح
«مصر» على يد قائده «جوهر الصقلى» فى سنة (358هـ= 969م)،
والخلفاء الأربعة هم:
1 - المهدى: عبيد الله أبو محمد [297 - 322هـ= 909 - 934م].
2 - القائم: محمد أبو القاسم [322 - 334 هـ = 934 - 945م].
3 - المنصور: إسماعيل أبو طاهر [334 - 341هـ= 945 - 952م].
4 - المعز: معدّ أبو تميم [341 - 365 هـ = 952 - 975م].
وقد وُلد «المهدى» أول الخلفاء بالعراق فى سنة (266هـ = 880م)،
وتوفى بالمهدية فى سنة (322هـ = 934م)، ثم تلاه ابنه «محمد»
الذى ولد «بسَلَمْيه» فى المحرم سنة (278هـ = أبريل 891م)، ورحل(6/51)
مع أبيه إلى «المغرب»، وتولى الإمامة من بعده، ومات فى سنة
(334هـ= 945م)، فجاء من بعده ابنه «إسماعيل» الذى وُلد «بالمهدية»
فى الليلة الأولى من جمادى الآخرة فى سنة (303هـ= ديسمبر 915م)،
وبويع له فى شوال سنة (334هـ= 945م) وتوفى يوم الأحد فى الثالث
والعشرين من شوال سنة (341هـ= فبراير953م)، وكان فصيحًا بليغًا،
خطيبًا حاد الذهن، حاضر الجواب، ثم جاء «المعز» آخر الخلفاء
الفاطميين، فتولى الأمر بعد أبيه فى شوال من العام نفسه، وكان
عمره أربعًا وعشرين عامًا، وقد وُلد بالمحمدية فى يوم الاثنين 10 من
رمضان سنة (319هـ)، وكان أول الخلفاء الفاطميين الذين دخلوا
«مصر» وانتقلوا بالخلافة إليها، ومكث بها عامين وتسعة أشهر.
بعض المشكلات الداخلية:
حين قدم «المهدى» إلى بلاد «المغرب»، وجد أن داعيته «أبا عبدالله
الشيعى» قد استحوذ على قلوب الناس فيها، وأصبح ذا نفوذ وسلطة
كبيرين بالمنطقة، فأراد «المهدى» أن يحد من سلطاته ونفوذه،
فأنقلب عليه «أبو عبدالله» وتآمر ضده، وجمع زعماء «كتامة»
وأخبرهم بتشككه فى شخص «المهدى» وأنه ربما يكون شخصًا آخر
غير الذى دعا إليه، فبلغ هذا الأمر «المهدى»، فتخلص منه بالقتل،
فسخط الكتاميون وثاروا، وأتوا بطفل صغير وقالوا: إنه «المهدى»،
فحاربهم «المهدى الفاطمى» وقتل هذا الطفل.
ثم تعرضت «المغرب» فى عهد «القائم بالله» وابنه «أبى العباس» من
بعده لثورة «أبى يزيد مخلد بن كيداد اليغرنى»، الذى ينتمى إلى
قبيلة «يغرن» الزناتية، وقد ولد بالسودان، ونشأ بتوروز وتعلم بها،
ثم اتصل بالإباضية، ومن ثَم هاجم ما استحدثه المذهب الشيعى على
المجتمع المغربى، واجتمع الناس حوله، ورحل إلى «جبل أوراس»
عقب وفاة المهدى فانضمت إليه جموع القبائل، فقام بثورته
واستولى على العديد من المدن، واستغرقت ثورته نحو أربعة عشر
عامًا، فشملت عهد «القائم بالله» كله، وعامين من عهد «أبى(6/52)
العباس»، الذى تصدى لها وتمكن من القضاء عليها وعلى زعيمها
«أبى يزيد»، وسجل انتصاره هذا بإنشاء مدينة «المنصورية» فى
سنة (337هـ).
العلاقات الخارجية:
قام الفاطميون بحملات متكررة على «مصر» للاستيلاء عليها، ففشلت
جميعها، إلا حملة «جوهر الصقلى» الذى نجح فى دخول «مصر» فى
سنة (358هـ=969م) ثم أسس بها مدينة «القاهرة»؛ لتصبح عاصمة
الفاطميين، فانتقلت إليها الأسرة الفاطمية، وباتت «القاهرة»
عاصمتهم حتى سقوط دولتهم.
وقد سعى الفاطميون إلى بسط نفوذهم على بلاد الأندلس، بالدعوة
تارة، وبالحروب أخرى، ولكن جهودهم ضاعت هباءً، ولم تجد
دعوتهم صدى فى نفوس الأندلسيين من أهل السنة، فضلا عن أن
حكام الأندلس وقفوا لهم بالمرصاد وحصنوا بلادهم، وعززوا
أسطولهم، فتراجع الفاطميون عن ذلك، واتجهوا إلى «مصر».
واستهدف الفاطميون من اتخاذ «مصر» قاعدة لحكمهم تحقيق الأمن
والاستقرار لوجودهم، خاصة بعد أن اشتعلت فى وجوههم الثورات
الخطيرة التى كادت تودى بكيانهم على أرض «المغرب»، فضلا عن
أملهم فى تحقيق أهداف سياسية واقتصادية فى «مصر»؛ إذ إنها
بموقعها وثرواتها وإمكاناتها تحقق لهم ما يريدون من مال وثروات
وازدهار اقتصادى، كما أن الاستيلاء عليها يعد ضربة قاصمة
للعباسيين الذين قتلوا كثيرًا من أبناء البيت العلوى ولذا أرادوا
الانتقام منهم والثأر لأنفسهم.
النظم الفاطمية:
- الخلافة:
قامت الخلافة الفاطمية على أساس فكرة عصمة الإمام، وأسس
خلفاؤها لهذا الغرض مدارس خاصة لتعليم عقائد مذهبهم الذى يقوم
على تقديس الأئمة، وحاولوا نشرها فى «مصر» و «اليمن» و «بلاد
فارس» و «الهند» وفى غيرها من أنحاء العالم الإسلامى.
وقد تلقَّب الخلفاء بألقاب كثيرة منها: «الخليفة الفاطمى»، و «الخليفة
العلوى»، و «أمير المؤمنين»، و «الإمام»، و «صاحب الزمان»،
و «الشريف القاضى»، وساروا على نهج الأمويين والعباسيين فى(6/53)
تولية أبنائهم ولاية العهد؛ فكان الخليفة إذا شعر بدنو أجله، يعهد
بالخلافة إلى أحد أبنائه، ثم تتجدد هذه البيعة بعد وفاته، فلما
تسرب الضعف إلى الخلافة الفاطمية فى عهد «المستنصر»، أصبح
اختيار الخليفة بيد القادة وكبار رجال الدولة.
- الوزارة:
كانت الوزارة فى العصر الفاطمى الأول (308 - 465هـ= 920 - 1073م)
وزارة تنفيذ، لأن الخلفاء كانوا أقوياء، ويديرون أمور الدولة
بأنفسهم، ثم تحولت بمصر فى سنة (466هـ=1074م) إلى وزارة
تفويض، وبات الخلفاء منذ ذلك العهد - نظرًا لضعفهم- تحت نفوذ
الوزراء وسيطرتهم.
- الكتابة:
كانت الكتابة تلى الوزارة فى الرتبة فى عهد الفاطميين، وكان
الخلفاء يسندونها إلى مَن أنسوا فيهم الكفاءة والقدرة على معالجة
الأمور، وعُنى الفاطميون عناية فائقة بالشعراء والكتاب وغيرهم من
رجال الأدب، لنشر مذهبهم وإذاعة أبهتهم، وكان اختيار الكاتب يتم -
عادة - من بين مَن اشتهروا بسعة الاطلاع وجودة الأدب، وامتازوا
بدقتهم ومقدرتهم فى فن الإنشاء.
- الدواوين:
كانت هناك عدة دواوين، على رأس كل منها موظف كبير، ومنها:
«ديوان الجيش»: وكانت تعرض على صاحبه شئون الأجناد وخيولهم،
وما إلى ذلك.
و «ديوان الكسوة والطراز»: ويتولاه أحد كبار الموظفين من أرباب
الأقلام.
و «ديوان الأحباس»: وهو يشبه وزارة الأوقاف حاليا.
و «ديوان الرواتب»: ويشبه وزارة المالية الآن.
بناء المهدية:
حين بويع «المهدى» بالخلافة بالمغرب اتخذ من مدينة «رقّادة»
عاصمة له، إلا أن الظروف التى أحاطت به فى بداية عهده، جعلته
يفكر جديا فى اتخاذ عاصمة جديدة لدولته الوليدة، ليتحصن بها من
مؤامرات أعدائه، فنجح فى اختيار منطقة تبعد عن «القيروان» ستين
ميلا تقريبًا، يحيط بها البحر من جهات ثلاث، وهى على شكل يد
متصلة بزند، فأطلق عليها اسم: «المهدية»، وشرع فى تخطيطها
وتشييد مبانيها، وجعل لها بابين من الحديد، وأقام بها ثلاثة وستين(6/54)
صهريجًا، لتزويد المدينة بالمياه اللازمة، وبنى بها دارًا لصناعة
السفن، فصارت مرفأ مهما وسوقًا رائجة للسلع التى كانت تحملها
السفن إليها من «الإسكندرية»، وقد فرغ من بنائها فى سنة (305هـ=
917م)، ثم انتقل «المهدى» للإقامة بها فى سنة (308هـ= 920م)،
فاتسعت جنباتها، وزادت أسواقها، وازدهرت التجارة بها، وظلت
عامرة، وآهلة بالسكان، حتى استولى عليها خليفة الموحدين
«عبدالمؤمن بن على» فى سنة (555هـ=1160م).
النشاط المذهبى للفاطميين ببلاد المغرب:
شهدت المنطقة طوال عهود الخلفاء الفاطميين فى المغرب صراعًا
مذهبيا بين المالكية - غالبية أهل السنة - وبين الشيعة، الذين
استخدموا كل الوسائل الممكنة، لنشر مذهبهم وطمس معالم المذاهب
الأخرى، وجعلوا الوظائف قاصرة على الشيعة، واستبدلوا قواعد
مذهبهم بأحكام المذهب السنى، وعقدوا المجالس والمناظرات لإقناع
أهل البلاد بصحة مبادئهم، ثم لجئوا إلى العنف والرعب والاضطهاد
حين فشلت وسائلهم فى إدخال سكان البلاد فى مذهبهم، ففشلت
هذه الوسائل أيضًا، حتى عاد المذهب السنى مذهبًا رسمياً للبلاد فى
عهد «المعز ابن باديس».(6/55)
الفصل التاسع
*بنو زيرى بالمغرب
يرجع نسب «بنى زيرى» إلى قبيلة «صنهاجة» البربرية؛ التى تنتمى
إلى فرع من «البرانس»، ولم تكن «صنهاجة» مجرد قبيلة؛ بل كانت
شعبًا عظيمًا، لا يكاد يخلو قطر من أقطار «المغرب» من بطونه
وأفراده، مما دفع «ابن خلدون» إلى القول بأنهم يمثلون ثلث البربر.
وقد سكنت «صنهاجة» فى مساحات شاسعة؛ امتدت من «نول لمطة»
فى جنوب «المغرب الأقصى» إلى «القيروان» بإفريقية، وهى منطقة
صحراوية، آثروا السكنة فيها على غيرها من المدن الآهلة، لأنها- كما
علل «ابن خلدون» - تتوافق مع طباعهم، ورغبتهم فى الابتعاد عن
الاختلاط بالناس، والفرار من الغلبة والقهر.
وظهرت أسرة «بنى زيرى» -فى أول أمرها- فى طاعة الفاطميين،
وتعاونت معهم فى صد الأخطار التى تعرضت لها دولتهم بالمغرب،
وكان أول اتصال بينهما فى عهد «المنصور الفاطمى»، حين قدم
«زيرى بن مناد» وأهل بيته وقبيلته لمحاربة «أبى يزيد الخارجى»
فى سنة (335هـ=946م)، فخلع عليه «المنصور»، ووصله، وعقد له
على أهل بيته وأتباعه وقبيلته، فعظم شأنه، وصار «بنو زيرى»
أعوانًا وأتباعًا للفاطميين، ومن ثَم نشب الصراع بين الصنهاجيين،
وقبائل «زناتة»، لأن «زناتة» كانت دائمة الإغارة على ممتلكات
«الدولة الفاطمية».
وحين عزم «المعز» على الرحيل إلى «مصر» فى سنة (361هـ= 972م)
للانتقال إليها بخلافته، وقع اختياره على «يوسف بُلكِّين ابن زيرى
بن مناد الصنهاجى» ليتولى الإمارة بالمغرب خلفًا للفاطميين.
1 - يوسف بُلكِّين بن زيرى بن مناد الصنهاجى [362 - 373هـ= 973 -
983م]:
عينه «المعز» على ولاية «المغرب»، واستثنى من ذلك «طرابلس
المغرب»، و «أجدابية» و «سرت»، وعين معه «زيادة الله ابن القديم»
على جباية الأموال، وجعل «عبدالجبار الخراسانى» و «حسين بن
خلف» على الخراج، وأمرهما بالانقياد ليوسف بن زيرى.
واجه «يوسف» عدة ثورات واضطرابات بالمغرب، كان منها عصيان(6/56)
أهل «تهيرت»، ثم سيطرة قبيلة «زناتة» على مدينة «تلمسان»، وقد
توجه إلى «تهيرت» بجنوده وأعادها إلى طاعته، كما توجه إلى
«تلمسان» وأعادها إلى حكمه فى سنة (365هـ= 976م).
وفى سنة (373هـ=984م) خرج الأمير «يوسف» على رأس جيوشه
لاستعادة «سجلماسة» من أيدى بعض الثوار الذين استولوا عليها،
ولكنه أصيب بمرض أودى بحياته فى شهر ذى الحجة سنة (373هـ=
مايو 984م).
2 - المنصور بن يوسف بُلكِّين بن زيرى [373 - 386هـ= 984 - 996م]:
أوصى الأمير «يوسف بلكين» قبل وفاته بالإمارة من بعده لابنه
«المنصور» الذى كان بمدينة «أشير» حين بلغه خبر وفاة والده،
وأقبل عليه أهل «القيروان» وغيرها من المدن، لتعزيته، وتهنئته
بالولاية، فأحسن إليهم وقال لهم: «إن أبى يوسف وجدى زيرى،
كانا يأخذان الناس بالسيف، وأنا لا آخذهم إلا بالإحسان، ولست ممن
يُولَّى بكتاب، ويُعزل بكتاب»، وقصد «المنصور» من ذلك أن الخليفة
الفاطمى بمصر لا يقدر على عزله بكتاب.
وقد واجهت «المنصور» عدة مشاكل، كانت منها غارات قبائل
«زناتة» المستمرة على المدن المغربية فى سنة (374هـ = 985م)،
واستيلاء «زيرى بن عطية الزناتى» على مدينتى «فاس»
و «سجلماسة»، مما دفع «المنصور» إلى إرسال أخيه «يطوفت» على
رأس جيش كبير لمواجهة هذه القبائل، ودارت معركة كبيرة بين جموع
الفريقين، أسفرت عن هزيمة الصنهاجيين، وعودتهم إلى «أشير».
ثم تصدى الأمير «المنصور» فى سنة (376هـ= 986م) لعمه «أبى
البهار» الذى نهب مدينة «تهيرت»، ففر «أبو البهار» أمامه، ودخل
«المنصور» المدينة، وأعاد إلى أهلها الأمن والهدوء.
ثم تُوفى فى يوم الخميس (3 من ربيع الأول سنة 386هـ= مارس 996م)،
ودُفن بقصره.
3 - باديس بن المنصور [386 - 406هـ= 996 - 1015م]:
وُلد «باديس» فى سنة (374هـ=985م)، وتكنى بأبى مناد، وخلف أباه
على «المغرب» فى سنة (386هـ=996م)، وأتته الخلع والعهد بالولاية(6/57)
من «الحاكم بأمر الله الفاطمى» من «مصر»، وبايع للحاكم، وأعلن
تبعية بلاده لخلافته، ثم أقطع عمه «حماد بن يوسف» مدينة «أشير»،
وولاه عليها، وأعطاه خيلا وسلاحًا، وجندًا كثيرًا، فكانت هذه هى
نقطة البداية لانقسام «بنى زيرى» إلى أسرتين:
تحكم إحداهما بالمغرب الأدنى فى «ليبيا» و «تونس»، وتحكم الأخرى
- أسرة «بنى حماد» - فى «الجزائر»، متخذة من قلعة «بنى حماد»
مقرا للحكم. وانفرد «بنو حماد» بإقليم «الجزائر»، نظرًا لضعف قبضة
الأمير «باديس» على البلاد.
وقد واصل «باديس» مطاردة «زناتة، وأُخبر فى سنة (387هـ= 997م)
بأن «زيرى بن عطية الزناتى» قد اعتدى على مدينة «أشير»، فبعث
إليه بجيشه لمواجهته، ولكن الجيش هُزم على أيدى الزناتيين،
فاضطر الأمير «باديس» إلى الخروج بنفسه لمواجهتهم فى «أشير»،
فلما علم الزناتيون بذلك انطلقوا إلى الصحراء، وتركوا المدينة،
فدخلها «باديس»، وأقر الأمور بها، ثم مات فى سنة (406هـ= 1015م).
4 - المعز بن باديس [406 - 453هـ= 1015 - 1061م]:
أُخذت البيعة للمعز بمدينة «المحمدية»، وتولى الأمر يوم وفاة أبيه
وفرح الناس بتوليته لما رأوا فيه من كرم ورجاحة عقل، فضلا عن
تواضعه، ورقة قلبه، وكثير عطائه، على الرغم من حداثة سِنه.
وقد حدثت فى عهده بعض التطورات، حيث ألغى المذهب الشيعى،
وخلع طاعة الفاطميين، ودعا على منابره للعباسيين، وتصالح مع
أبناء عمومته الحماديين سنة (408هـ= 1017م)، وواصل مطاردة
«قبائل زناتة» جهة «طرابلس»، فى أبناء «حماد».
ثم أُصيب «المعز بن باديس» بمرض فى كبده أودى بحياته فى سنة
(453هـ= 1061م)، بعد حكم دام سبعًا وأربعين سنة.
5 - تميم بن المعز بن باديس [453 - 501 هـ = 1061 - 1108م]:
وُلد بالمنصورية فى منتصف رجب سنة (422هـ= يونيو 1031م)، ثم
تولى إمرة «المهدية» فى عهد والده «المعز» فى سنة
(445هـ=1053م)، ثم خلف والده فى الإمارة فى سنة (453هـ= 1061م)،(6/58)
فواجه عددًا من الاضطرابات والقلاقل، حيث سيطر العرب الهلاليون
على كثير من مناطق «إفريقية»، وثار عليه أهل «تونس» وخرجوا
عن طاعته، فأرسل إلى «تونس» جيشًا، حاصرها سنة وشهرين،
فلما اشتد الحصار على الناس، طلبوا الصلح، وعاد جيش «تميم» إلى
«المهدية»،ثم ثارت عليه مدينة «سوسة» فحاصرها وفتحها عنوة،
وأمن أهلها على حياتهم.
وقد تعرضت «المهدية» فى عهده لهجمات الهلالية، لكنه تمكن من
صدهم، ثم حاصر «قابس» و «صفاقس»، واستولى عليهما من أيدى
الهلالية الذين كانوا يحتلونهما. وعمد إلى مهادنة أبناء عمومته فى
«الجزائر»، وزوج ابنته للناصر بن علناس أمير «الجزائر»، وأرسلها
إليه فى موكب عظيم، محملة بالأموال والهدايا. ثم تُوفى فى سنة
(501هـ= 1107م).
6 - يحيى بن تميم بن المعز بن باديس [501 - 509هـ= 1107 - 1115م]:
ولد بالمهدية فى (26 من ذى الحجة سنة 457هـ)، وولى الإمارة
وعمره ثلاث وأربعون سنة وستة أشهر وعشرون يومًا، فوزَّع أموالا
كثيرة، وأحسن السيرة فى الرعية، ثم فتح قلعة «أقليبية» التى
استعصى على أبيه من قبل فتحها، كما جهز أسطولاً كبيرًا، كان
دائم الإغارة على الجزر التابعة لدولة الروم فى البحر المتوسط، ومات
فجأة فى يوم عيد الأضحى سنة (509هـ - 1115م).
7 - على بن يحيى بن تميم [509 - 515 هـ = 1115 - 1121م]:
لم يكن الأمير «على» حاضرًا بالمهدية - التى وُلد بها - حين وفاة
والده، فلما وصل إليه الخبر، حضر مسرعًا، ودفن والده، وتولى
الإمارة خلفًا له، ثم جهز أسطولاً كبيرًا لمهاجمة جزيرة «جَرْبَة»، لأن
أهلها قطعوا الطريق على التجار، وتمكن الأسطول من إخضاع
الجزيرة، وأمَّن الأمير أهلها وعفا عنهم، ثم قضى على عصيان
«رافع» عامله على «قابس»، الذى سعى إلى شق عصا الطاعة
وحشد الجموع لمهاجمة «المهدية». وقد تُوفى الأمير «على» فى
العشر الأواخر من شهر ربيع الآخر سنة (515هـ= يونيو 1121م).(6/59)
8 - الحسن بن على بن يحيى [515 - 543هـ= 1121 - 1148م]:
ولى الإمارة عقب وفاة والده الأمير «على»، وكان عمره آنذاك اثنتى
عشرة سنة، فقام «صندل الخصىّ» بإدارة شئون الحكم، إلا أنه
تُوفى بعد فترة قصيرة، فتولى القائد «أبو عزيز موفق» الإشراف
على أمور البلاد، وتمكن من صد الأسطول الرومى الذى هاجم بعض
حصون الزيريين فى سنة (517هـ= 1123م)، وكذلك ألحق الأمير
«الحسن» الهزيمة بجيش «يحيى بن عبدالعزيز بن حماد» أمير
«بجاية» الذى جاء لمهاجمة «المهدية» والاستيلاء عليها فى سنة
(529هـ= 1135م).
وفى سنة (537 - 543هـ= 1142 - 1148م) حل القحط بإفريقية واستغل
ملك «صقلية» ذلك وجهز أسطولاً كبيرًا، وتوجه به قاصدًا «المهدية»،
ولم يستطع «الحسن» الدفاع عنها، وهرب بأهله ومتاعه إلى أبناء
عمومته من «بنى حماد»، فوضعوه وأهله تحت الحراسة، ومنعوه من
التصرف فى شىء من أمواله، ودخل الروم مدينة «المهدية» دون
قتال أو ممانعة، فسقط حكم «بنى زيرى»، وسقطت إمارتهم، وكان
«الحسن بن على» آخر أمراء «الدولة الزيرية».
العلاقات الزيرية الفاطمية:
شكلت العلاقات الزيرية الفاطمية حجر الزاوية فى وضع «بنى زيرى»
بالمغرب؛ إذ أسفرت هذه العلاقات عن هجوم القبائل الهلالية على
أقاليم «الدولة الزيرية»، بمساعدة الفاطميين فى «مصر» وتوجيههم،
وكان ذلك سببًا رئيسيا فى سقوط «بنى زيرى» وانتهاء دولتهم،
كما اتخذ «المعز بن باديس» خطوات جريئة فى سبيل الاستقلال
بإمارته عن الخلافة الفاطمية، حين قاطع أهل «إفريقية» صلاة
الجمعة بالمساجد لأنها تمثل المذهب الشيعى، فضلا عن نبذ الرعية
للمذهب الشيعى وتمسكهم بالمذهب المالكى، وبدأ «المعز» فى
السعى إلى الاستقلال عن الفاطميين وراسل الخلافة العباسية فى
سنة (435هـ= 1044م)، وبعث رسولاً من قِبله إلى «بغداد» ليأتيه
بالعهد واللواء، ورحب «العباسيون» بذلك، للانتقام من الفاطميين،(6/60)
واسترجاع بعض مظاهر سيادتهم على هذه المناطق التى انفصلت
عنهم منذ زمن بعيد، وبعثوا بالعهد واللواء مع «غالب الشيرازى» أحد
رجالهم، ولكن «غالب» وقع فى قبضة الروم، وأرسلوه إلى
أصدقائهم الفاطميين بمصر، فأحرق الفاطميون العهد واللواء،
وطافوا بالرجل فى شوارع «القاهرة»، فقطع «بنو زيرى» علاقتهم
بالفاطميين، وعادوهم ولعنوهم على المنابر، ودعوا للعباسيين، ثم
دعموا استقلالهم وارتباطهم بالعباسيين، وهدموا دار «الإسماعيلية»؛
مركز نشر الدعوة الفاطمية بالبلاد، وغَيَّروا العملة، واتخذوا اللون
الأسود شعار العباسيين رمزًا لهم.
وقد حاولت الخلافة الفاطمية إرجاع العلاقات إلى ما كانت عليه
بالترغيب والترهيب حتى وصل «اليازورى» إلى منصب الوزارة وقبض
على مقاليد الأمور بالخلافة، فعمد إلى تشجيع القبائل الهلالية على
التوجه إلى «القيروان» وأطلق لها العنان فى التدمير والتخريب،
وامتلاك كل ما يقع تحت سيطرتها.
ويرجع تشجيع الوزير الفاطمى لهذه القبائل لعدة أمور، منها: رغبته
فى الانتقام من «المعز بن باديس»، وتوفير الأموال الطائلة التى
ستنفقها الجيوش إذا ما خرجت إلى المغرب لمحاربة «بنى زيرى»،
فضلاً عن أمله فى التخلص من القبائل الهلالية ذاتها؛ لأنها تشكل
مصدر إزعاج وقلق للسلطة الحاكمة بالقاهرة.
وقد فرض الوزير الفاطمى «اليازورى» دينارًا وبعيرًا لكل رجل من
«الهلالية»، فخرجت هذه القبائل قاصدة «القيروان» واستولت على
مدينة «برقة» دون مقاومة، وتقاسمت فيما بينها المناطق الشرقية،
واستأثرت بعض قبائل «بنى هلال» بالمناطق الغربية، واتجهت جموع
«دياب» و «عُرف» و «زغب». وبقية البطون الهلالية إلى «إفريقية»،
واستولوا على «سرت» و «أجدابية» ودمروها، كما دمَّروا بقية المدن
والقرى فى طريقهم إلى «القيروان».
وخرج «المعز بن باديس» بجيشه وجموع «زناتة» و «صنهاجة»
و «عبيدة» لملاقاة الهلاليين، ولكنهم تغلبوا عليه وهزموه على الرغم(6/61)
من أن عددهم كان لا يتجاوز ثلاثة آلاف فارس، فى حين بلغ تعداد
جيش «المعز» ثلاثين ألف مقاتل، وأسرع المعز إلى «القيروان» وأقام
حولها سورًا لحمايتها فى سنة (446هـ= 1054م)، ثم أمر السكان من
النساء والأطفال والشيوخ بالانتقال إلى مدينة «المهدية» الحصينة
للاحتماء بها، فلما يئس من حماية «القيروان»، انتقل برجال دولته
وحاشيته إلى «المهدية»، فدخلها الهلاليون فى سنة (449هـ=
1057م).
ولم يمكث «المعز» طويلا بعد سقوط «القيروان» والكثير من مدن
دولته، وتوفى بالمهدية فى سنة (453هـ= 1061م)، ومن ثَم انهار
الحكم الزيرى بالمنطقة، وتحكمت فيها القبائل الهلالية، وامتد
تأثيرهم السياسى حتى وصل إلى «المغرب الأوسط»، وهادنهم «بنو
حماد»، وأعطوهم نصف غلات بلادهم اتقاء لشرهم، ودفعًا لأذاهم
وخطرهم.
بعض المظاهر الحضارية لدولة بنى زيرى بالمغرب:
كانت الزراعة هى دعامة الحياة الاقتصادية فى المنطقة، التى تمتعت
بالهدوء والاستقرار فى ظل الحكم الزيرى فيما عدا الفترة التى
شهدت هجوم العرب الهلالية على البلاد، وقد ساعد تطور نظام الرى
على تطور الزراعة، فعرفت المنطقة زراعة «القطن» و «قصب السكر»
و «الشعير» وازدهرت زراعة «التمر» و «العنب» و «الموز»، ولعبت
تربية الأغنام دورًا مهما فى حياة الفلاح المغربى.
وقامت الأسواق المنتشرة بالمدن المغربية بدور مهم فى تنشيط
الحركة التجارية؛ حيث كانت هناك أسواق: البزازين، والجزارين،
والزجاجين، وسوق الدجاج، وسوق الغزل، وغيرها من الأسواق التى
ساعدت على ازدهار التجارة، وبخاصة فى مدينة «القيروان»،
فأصبحت «المغرب» بلدًا غنيا، وباتت قبلة تجار الشرق والغرب.
ونشطت حركة التصدير والاستيراد بها، واشتهرت مدينة «باجة»
بتصدير كميات كبيرة من «القمح»، كما صُدِّر «زيت الزيتون» عن
طريق ميناءى «سوسة» و «صفاقس» إلى بلدان المشرق، وبلاد
«أوربا»، فأدى هذا الازدهار إلى تطور الصناعات، وعرفت المدن(6/62)
المغربية صناعات «النسيج» و «الجلود»، و «الأوانى الفخارية»،
وغيرها من الصناعات المتنوعة.
أما الناحية الفكرية: فقد شهدت ازدهارًا كبيرًا وتطورًا ملحوظًا،
وبخاصة فى مدينة «القيروان» التى أصبحت فى طليعة العواصم
الإسلامية ذات الأثر فى تاريخ الفكر الإسلامى، وشهدت مساجد
المغرب المناظرات الفقهية والكلامية بين الشيعة، والمالكيين من أهل
السنة، وصمد علماء المذهب المالكى وفقهاؤه رغم ما لاقوه من سجن
وتعذيب على أيدى الشيعة الفاطميين، وتعلق السكان بهذا المذهب،
وأصبح مذهبهم الرسمى منذ ذلك الوقت حتى الآن.
وتطورت الحركة الأدبية فى عهد «المعز بن باديس» الذى اشتهر
بتشجيع أهل الأدب والعلم، وأحسن معاملتهم، مثلما أخبرعنه
«ياقوت» بقوله: وكانت «القيروان» فى عهده وجهة العلماء
والأدباء، يشدون إليها الرحال من كل فجّ، لما يرونه من إقبال
«المعز» على أهل العلم والأدب وعنايته بهم.
ثم كان لاختلاط الهلاليين بسكان «المغرب» أثره الكبير فى تعريب
جزء من هؤلاء السكان، حيث امتزج المغاربة بالعرب الهلاليين على مر
الأيام، وتزاوجا، فاختلطت الدماء، وتعلم سكان البلاد الأصليون لغة
الوافدين العرب، فانتشرت اللغة العربية فى مناطق كثيرة من
المغرب، ومن ثم انتشرت الثقافة العربية بهذه البلاد.(6/63)
الفصل العاشر
*دولة المرابطين
تمهيد:
شهد «المغرب الأقصى» خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين
فترة مزدهرة؛ عُدَّت من أخصب فترات حياته؛ حيث قامت على أرضه
أكبر دولتين عرفتهما المنطقة فى هذا الوقت، هما: «دولة
المرابطين»، و «دولة الموحدين»، اللتان أبرزتا شخصية «المغرب
الأقصى» باعتبارها دولاً مستقلة؛ قامت على أكتاف أبنائها،
وبسطت نفوذها على مناطق شاسعة بالشمال الإفريقى، فضلا عن
«الأندلس»، وشاركت مع غيرها فى إرساء قواعد الحضارة الإسلامية
فى غربى العالم الإسلامى، بنظمها، وحضارتها واقتصادها المزدهر،
ومبانيها، فضلا عن ثقافتها، وعلمائها ومفكريها.
- الأوضاع السياسية فى بلاد المغرب الأقصى قبل قيام دولة
المرابطين:
أصيبت «دولة الأدارسة» التى أسسها «إدريس بن عبدالله» بالمغرب
الأقصى فى سنة (172هـ = 788م) بالضعف والاضمحلال بعد دخول
جيوش «أبى عبدالله الشيعى» بقيادة «مصالة بن حيُّوس المكناسى»
إلى هذه المنطقة فى سنة (305هـ= 917م)، ومن ثَم مرت المنطقة بفترة
حالكة فى تاريخها، وباتت تدعو على منابرها للفاطميين تارة،
ولحكام «الأندلس» تارة أخرى، وخيَّمت عليها المنازعات القبلية
والحروب الطاحنة وتوزعت المنطقة بين القبائل المختلفة والأسر
المتناحرة، وانقسمت الخريطة السياسية للمغرب الأقصى إلى أربعة
تجمعات، هى:
1 - منطقة «فاس» وما حولها، وهى خاضعة لأمراء «مغرادة».
2 - منطقة «سلاوتادلا»، وكانت خاضعة لبنى يغرن.
3 - منطقة «سجلماسة» و «درعة»، وكانت خاضعة لبنى خزردن.
4 - إمارة «برغواطة» فى سهول «تامسنا».
أما «فاس»؛ فكانت خاضعة لأمراء «مغرادة»، وقد دخلها «زيرى بن
عطية» أول هؤلاء الأمراء فى سنة (377هـ= 987م)، واستوطن بها، ثم
جعلها قاعدة إمارته، ودخل فى عدة حروب مع «بنى يغرن»، ومع
جيوش «الدولة الأموية» التى كان خاضعًا لها، وقد انتهت هذه
الحروب بوفاة «زيرى» متأثرًا بجراحه فى سنة (391هـ= 1001م)،(6/64)
فلما ولى ابنه «المعز» الإمارة أصلح علاقته بالدولة الأموية فى
«الأندلس»، ثم توالى الأمراء على «فاس»، واتسمت فترة حكمهم
بكثرة الحروب، وكان «تميم بن معتصر بن حماد» الذى تولى فى
سنة (460هـ= 1068م) هو آخر الأمراء، وقد دخل فى صراع طويل مع
«المرابطين»، ولكنهم نجحوا فى دخول فاس فى سنة (462هـ=
1070م)، وقتل «تميم»، وطويت صفحة أمراء «مغرادة»، وتولى
المرابطون السلطة.
أما منطقة «سلاوتادلا»، فكانت خاضعة لأمراء «بنى يغرن»، الذين
دخلوا فى صراع مع أبناء عمومتهم من أمراء «مغرادة»، وكان آخر
أمرائهم هو «محمد بن تميم بن زيرى» الذى تولى الإمارة فى سنة
(448هـ= 1056م)، وقتل على أيدى المرابطين فى سنة (462هـ=
1070م).
أما «سجلماسة» و «درعة» فقد تولى حكمها «بنو خزردن» فى سنة
(366هـ= 976م)، واستمروا فى الحكم حتى أسقطهم المرابطون فى
سنة (477هـ= 1084م).
أما إمارة «برغواطة» - التى احتلت المناطق الساحلية جنوبى
«طنجة» إلى «آصيلا» واشتملت على مناطق «تامسنا» - التى أقامت
بها عدة قبائل من «زناتة»، فقد دخلت هذه الإمارة فى صراع مع
«بنى يغرن»، و «الأدارسة»، ثم مع المرابطين الذين قضوا على الحكم
فيها، وغيروا سياستها ونظمها.
قيام دولة المرابطين:
قامت «دولة المرابطين» على أساس دعوة دينية، نمت وازدهرت فى
«ديار الملثمين» بجنوب «المغرب الأقصى» بفضل جهود الفقيه
المالكى «عبدالله ابن ياسين»، الذى تمتع إلى جانب علمه وفقهه
ببعد النظر ونفاذ البصيرة، وتوجه إلى قبيلة «جدالة» بصحبة زعيمها
«يحيى بن إبراهيم»، ففرحت بمقدمه، ثم ما لبث هذا الفرح طويلا
حتى تحول إلى جفوة وإعراض حين بدأ «ابن ياسين» فى تغيير ما
ألفوه من عادات وملذات تخالف أحكام الدين، وحسبه الزعماء
والنبلاء ينتقص من حقوقهم، ويُسوِّى بينهم وبين مواليهم، وساءت
العلاقة بينهم وبين «ابن ياسين» ونهبوا داره وهدموها، واضطر هذا
الفقيه إلى الرحيل بمن تبعه إلى جزيرة منعزلة بالسنغال.(6/65)
وبدأ «ابن ياسين» فى هذه الجزيرة بإعداد التلاميذ ونشر الدعوة،
فذاع صيته، وكثر عدد أتباعه، فأطلق عليهم لقب: «المرابطين»،
ومضوا فى تنفيذ ما أمر به.
وقد بدأ المرابطون نشر دعوتهم بين قبيلة «جدالة» التى تمردت على
«ابن ياسين» من قبل، فقصدوا قبيلتى «لمتونة» و «سوقة» ونجحوا
فى نشر دعوتهم بينهما، فكان ذلك مدعاة لانضواء بقية القبائل تحت
لوائهم.
انتقال السلطة إلى قبيلة لمتونة:
تُوفِّى الأمير «يحيى بن إبراهيم الجدالى» فى سنة (447هـ= 1055م)،
فاختار «ابن ياسين» «يحيى بن محلاكاكين اللمتونى» قائدًا لجند
المرابطين، فنقل بذلك السلطة العسكرية من «جدالة» إلى «لمتونة»
التى كانت تتمتع بمكانة مرموقة بين بقية «قبائل الملثمين»، فضلا
عن سيطرتها على طرق التجارة الساحلية، وهكذا ظهرت قبيلة
«لمتونة» على مسرح الأحداث، وتتابع أبناؤها فى السلطة حتى
نهاية حكم المرابطين.
وفى سنة (447هـ= 1055م) استغاث فقهاء «درعة» و «سجلماسة»
بعبدالله بن ياسين لإنقاذ بلادهم من الفساد والظلم، فاستجاب لهذه
الدعوة، وخرج بجيشه متوجهًا إلى «درعة» و «سجلماسة»، وتمكن
من القضاء على أمراء «مغرادة»، وولى المرابطون عمالا تابعين لهم
على هذه البلاد.
ولم يستمر الهدوء طويلاً بمدينة «سجلماسة» وقامت بها ثورة؛
اضطرت المرابطين بقيادة «يحيى بن محلاكاكين» إلى العودة إليها،
ونجحوا فى إخماد ثورتها، إلا أن قائدهم «يحيى اللمتونى» استشهد
فى المعركة، فوقع اختيار «ابن ياسين» على الأمير «أبى بكر بن
عمر» فى سنة (448هـ= 1056م) لقيادة الجيوش، فانتقل «أبو بكر»
بالدعوة من مرحلة تلبية نداء المعونة لسجلماسة و «درعة» إلى مرحلة
الغزو المسلح للمغرب الأقصى، ودخل مع قبائل «برغواطة» التى
اعتنقت المجوسية فى عدة معارك، فأصيب الداعية «ابن ياسين» فى
إحداها بإصابات قاتلة أودت بحياته فى سنة (451هـ= 1059م).
وواصل «أبو بكر» جهاده، وفرَّق جموع «برغواطة»، واستأصل(6/66)
شأفتهم، ثم رجع إلى مدينة «أغمات» التى اتخذها عاصمة له. وقد
شاركه فى نشاطه المسلح ابن عمه «يوسف بن تاشفين الصنهاجى
اللمتونى»، الذى أثبت كفاءة عالية، ومقدرة فائقة، وحقق نجاحًا
بارزًا؛ غير أن أحداثًا ما وقعت بالصحراء، جعلت «أبا بكر» يتوجه
إلى الجنوب تاركًا قيادة بقية المرابطين لابن عمه «يوسف».
يوسف بن تاشفين:
يعد «ابن تاشفين» المؤسس الحقيقى لدولة المرابطين بالمغرب
الأقصى، وقد تجمعت فيه صفات الزعامة والشجاعة والقيادة والحزم،
والتفت حوله قلوب المرابطين، وشرع فى بناء مدينة «مراكش»
عاصمته الجديدة فى سنة (454هـ= 1062م) ونجح فى بسط نفوذه
على «المغرب الأقصى» فى سنة (467هـ= 1074م).
وقد نجح ابن «تاشفين» إلى جانب توحيد «المغرب الأقصى» فى
وقف الزحف النصرانى على «الأندلس»، وضمَّها إلى «دولة المرابطين»
التى اتسعت أطرافها وزادت خيراتها، وتمتعت بالازدهار والرقى فى
مختلف المجالات، ثم مرض «يوسف» فى سنة (498هـ= 1104م)، ثم
أسلم روحه فى سنة (500هـ= 1106م) ودفن بمدينة «مراكش».
على بن يوسف بن تاشفين:
ولى الأمير «على» الحكم واقتفى سياسة والده، وسار بين الناس
بالحكمة والعدل، واستعان بالفقهاء والعلماء فى حكم البلاد، فتبوأ
مكانة طيبة فى نفوس رعيته.
ومضى «على بن يوسف» فى استكمال الجهود الحربية التى بدأها
والده بالأندلس، وعبر إليها بنفسه أربع مرات؛ لتثبيت سلطان
المرابطين، ومواجهة الهجمات المتكررة للمسيحيين، فأحرز انتصارات
كبيرة، ونال رضا الخلافة العباسية.
تاشفين بن على:
تُوفِّى الأمير «على» فى سنة (537هـ= 1142م)، فتولى ابنُه
«تاشفين» الحكم من بعده، فدخل فى صراع مع دولة «الموحدين»،
ولم تفلح جهوده فى صد موجاتهم المتتابعة، وانتهى به الأمر إلى
«وهران»؛ حيث قُتل فى سنة (539هـ= 1144م)، فَفَتَّ ذلك فى عضد
الدولة، وسقطت أجزاء كثيرة منها فى أيدى الموحدين.
إسحاق بن على:(6/67)
حاول المرابطون الاحتفاظ بكيانهم المتداعى، وأمَّروا عليهم «إبراهيم
بن تاشفين» إلا أنه لم ينعم بالسلطة طويلا، حيث نازعه عليها عمه
«إسحاق بن على ابن تاشفين»، وتولى مكانه، ولكنه لم يستطع أن
يدفع حصار الموحدين بقيادة «عبدالمؤمن» خليفة «ابن تومرت» حول
العاصمة «مراكش» فى سنة (541هـ= 1146م)، فسقطت «مراكش» فى
يد «عبدالمؤمن» الذى أعمل فيها السيف وقضى على كثير من
أهلها، وترتب على ذلك سقوط «دولة المرابطين».
عوامل سقوط دولة المرابطين:
ضعفت القيادة العليا للمرابطين منذ تولى «على بن يوسف» حكم
البلاد، واستبد كثير من الأمراء بالأمر، ثم جاء الخلاف الخطير بين
«إبراهيم بن تاشفين» وعمه «إسحاق بن على» على السلطة، فى
الوقت الذى كان يزحف فيه الموحدون نحو العاصمة «مراكش».
يضاف إلى ذلك تخاذل الجند، فضلا عن الحروب المستمرة التى
خاضوها بالأندلس، فاستنزفت قواهم واقتصاد بلادهم، وظهور
شخصية «ابن تومرت» الذى نجح فى جذب أعداد كبيرة إليه.
فكان ذلك كله من أسباب سقوط «دولة المرابطين» وقيام «دولة
الموحدين».
العلاقات الخارجية لدولة المرابطين:
تركزت علاقات المرابطين فى جبهتى «الأندلس» و «الدولة العباسية»؛
حيث هبوا لنجدة «الأندلس» من النصارى الإفرنج، ثم قرروا -بعد عدة
معارك- ضمها إلى دولتهم، وظلت المعارك هى الطابع المميز لعلاقة
المرابطين بالممالك الإفرنجية فى الشمال الأندلسى.
أما علاقتهم بالعباسيين فقد بدأت بعد أن قاموا بنشر دعوتهم
بأرجاء «المغرب الأقصى»، ومن ثم اتصلوا بالخلافة واعترفوا بسلطة
الخليفة الروحية فى العالم الإسلامى، وطلبًا لتأييد «الخلافة
العباسية» لهم، وفى ذلك دعم لدعوتهم التى تأسست عليها دولتهم،
وكان الترحيب والاستجابة سمة العلاقة بين الجانبين.
الأوضاع الحضارية فى دولة المرابطين:
- الوزارة:
بعد أن وطَّد «يوسف بن تاشفين» دعائم دولته، وأخضع «الأندلس»(6/68)
لسلطته، اتخذ صهره «سير بن أبى بكر» وزيرًا له؛ حيث كان من أبرز
زعماء «لمتونة» وقادتها، وقد أسند «ابن تاشفين» إليه مهمة
الاستيلاء على مدن «الأندلس».
وإلى جانب الوزارة العسكرية، كانت هناك وزارة مدنية؛ اُختير معظم
مَن تقلدوها من الفقهاء الذين نالوا حظًّا كبيرًا من الثقافة العربية،
أمثال «مالك بن وهب» وزير «على بن يوسف».
وقد انقسم الوزراء من حيث إقامتهم إلى وزراء مركزيين، يقيمون
بمراكش بوصفها عاصمة البلاد، ووزراء إقليميين، تابعين للأمراء
المحليين. وتنوعت اختصاصات الوزراء وسلطانهم بالإشراف على
الشئون المالية، أو الاختصاص بالكتابة، أو بشئون العمال
والمتصرفين فى أموال الدولة، ذلك فضلا عن الوزير المختص بشئون
الحرب والفنون العسكرية.
- أمراء الأقاليم:
شمل إقليم «المغرب الأقصى» ست ولايات عدا العاصمة «مراكش»
وهذه الولايات هى: «فاس» و «سجلماسة» و «السوس» و «تلمسان»،
أما الصحراء و «سبتة» و «طنجة» فكانت إقليمًا واحدًا، ويتم اختيار
الولاة من الأسرة الحاكمة بمراكش أو من ذوى قرباهم، أو من القبائل
المؤسسة للدولة.
وقد تمتع ولاة «المغرب الأقصى» فى ظل «دولة المرابطين» بسلطات
واسعة، وكان من حقهم عزل وتعيين من دونهم من الولاة المحليين،
والقيام بتحركات عسكرية داخل مناطق نفوذهم، ولذا أشرف أمراء
المرابطين عليهم، ورسموا لهم السياسات وتابعوا تطبيقها، وحاسبوا
وعاقبوا على التقصير فيها.
- الدواوين:
عمل «يوسف بن تاشفين» بنظام الدواوين فى سنة (464هـ= 1072م)،
فأنشأ «ديوان الرسائل» (الإنشاء) وجعل عليه موظفًا كبيرًا عُرف
باسم: «الكاتب»، وأقام أربعة دواوين على مالية الدولة، وهى:
1 - «ديوان الغنائم ونفقات الجند».
2 - «ديوان الضرائب».
3 - «ديوان الجباية».
4 - «ديوان مراقبة الدخل والخرج».
- الشرطة:
اتخذ أمراء المرابطين الشرطة للمحافظة على أرواح الناس، وحماية
ممتلكاتهم، وصيانة حقوقهم، وقد أُطلق على صاحب الشرطة بالمغرب(6/69)
الأقصى لقب: «العريف» أو «صاحب الليل» لما يقوم به من الحراسة
ليلاً.
وكان على صاحب الشرطة معاونة الحكام وأصحاب المظالم وإقامة
الحدود والتعازير، وإشخاص الناس لذلك، فضلاً عن مراقبة أبواب
المدينة وتحصيناتها.
النظام القضائى:
أقام المرابطون نظامهم القضائى على الأسس القضائية التى أحكمها
الأمويون بالأندلس؛ إذ فصلوا بين السلطتين الإدارية والقضائية،
واستعان المرابطون بكثير من القضاة من مختلف المناطق مثل:
«موسى بن حماد الصنهاجى» الذى تولى القضاء بمراكش فى عهد
«على بن يوسف بن تاشفين»، وتُوفى فى سنة (535هـ=1140م)،
والقاضى «ابن ملجوم»، من «فاس»، وتولى القضاء بفاس ومات فى
سنة (543هـ= 1148م)، والقاضى «عياض بن موسى بن عياض
اليحصبى» من «سبتة»، وقد تولى القضاء بسبتة، وتُوفى بمراكش
فى سنة (544هـ= 1149م).
واشتُرِط فى القاضى أن يكون رجلا عاقلا حرا مسلمًا عادلاً، مع
السلامة فى السمع والبصر، وأن يكون عالمًا بالأحكام الشرعية، وأن
تكون مصادره فى القضاء الكتاب والسنة وما وقع عليه إجماع الأمة
والاجتهاد، والمتكلَّم به عند الفقهاء.
الحياة الاقتصادية فى دولة المرابطين:
شهد «المغرب الأقصى» فى عهد «دولة المرابطين» ازدهارًا اقتصادياً
ورخاءً فى مناحى الحياة كافة؛ حيث حرص المرابطون على النهوض
بالزراعة والصناعة والتجارة، واهتموا بالنظام المالى وإدارته وكيفية
جمعه وإنفاقه، واتخذ «يوسف بن تاشفين» حصنًا صغيرًا لحفظ
الأموال والسلاح، ثم دَوَّن لذلك الدواوين حين اتسعت أعمال دولته
واستقرت أوضاعها فجعل للمالية دواوين: «الغنائم»، و «نفقات
الجند»، و «الضرائب»، و «الجباية»، و «مراقبة الدخل والخرج»، وكان
الكتَّاب يقومون بتدوين النواحى المالية المختلفة، والعمال الذين
يقومون بجبايتها، وكان جمع أموال الزكاة والجزية المفروضة على
أهل الذمة يتم كل عام، أما غير ذلك من مصادر المال كالغنيمة
والعشور، فإنها كانت مرتبطة بظروفها.(6/70)
وكان المشتغلون بمالية الدولة -دائمًا- تحت المراقبة الشديدة،
والحساب المستمر، والعقاب السريع فى حالة التقصير.
وتأتى الزكاة فى مقدمة مصادر الدخل المالى لهذه الدولة، ثم تليها
الجزية المفروضة على أهل الكتاب نظير ما يتمتعون به من أمن
وحماية، وقد فُرضت الجزية على الرجال الأحرار العقلاء، ولم تُؤخذ من
النساء، ولا من الصبية والمجانين والعبيد، وكان مقدارها موكولاً إلى
ولاة الأمر واجتهادهم. أما فيما يتعلق بالضرائب، فإن المرابطين فى
بداية عهدهم التزموا بأحكام الشرع، ولم يفرضوا إلا ما جاء بالكتاب
والسنة، وألغوا ما عدا ذلك من الضرائب بالمغرب والأندلس، وشكلت
الغنيمة مصدرًا مهما من مصادر الدخل للدولة، نظرًا للمعارك الكثيرة
التى خاضها المرابطون ضد الإفرنج.
وقد ساهمت المصادر المالية المتنوعة فى الإنفاق على تجهيز
الحملات العسكرية المتكررة، وإقامة المنشآت، والإنفاق على أوجه
الإصلاح والتعمير، فضلا عن المرتبات والأرزاق، وأصدر المرابطون
العملات النقدية لتأكيد سلطانهم الاقتصادى.
واهتموا بالزراعة وما يتعلق بها، فشيد «على بن يوسف» قنطرة
على نهر «تانسيفت» لتوزيع المياه اللازمة للزراعة، فشهدت البلاد -
لخصوبة أرضها- وفرة فى المزروعات، وكذلك فى الغابات التى
نبتت فى أجزاء متفرقة من البلاد. فأمدت البلاد بكميات وفيرة من
الأخشاب التى استخدمت فى كثير من الصناعات مثل صناعة السفن.
وكان للصناعة دور بارز فى ازدهار اقتصاد «دولة المرابطين»؛ حيث
ازدهرت صناعات كثيرة ومتنوعة نتيجة استقرار الأوضاع، وتوافر
المواد الخام، ووجود الخبرة الصناعية المتمثلة فى الأيدى العاملة
التى حركت عجلة التصنيع، ودفعتها إلى الأمام.
وقد ظهرت عدة صناعات منها: صناعة السفن والزجاج، وأدوات
النحاس والحديد، واستخراج الزيوت من الزيتون، والسكر من القصب،
وكذلك صناعة الملابس من القطن والصوف، وصناعة دبغ الجلود.(6/71)
وشاركت التجارة فى دفع عجلة الاقتصاد بدولة المرابطين منذ
تأسيسها؛ حيث وجه أمراء هذه الدولة اهتمامهم إلى التجارة،
وعملوا على تنشيطها؛ بتشجيع التجار على ارتياد البلاد، ووفروا لهم
سبل الإقامة، وأنشأوا لهم الفنادق، مثلما فعل «يوسف بن تاشفين»
حين دخل مدينة «فاس» فى سنة (462هـ= 1069م).
وقد وُجدت المراكز التجارية فى أنحاء دولة المرابطين، وبخاصة فى
العاصمة «مراكش» التى حظيت باهتمام التجار، وصارت مركزًا للتجارة
الداخلية بين مدن الشمال والجنوب، كما كانت مدينة «فاس» مركزًا
تجارياًّ مهماًّ، لموقعها الممتاز فى قلب البلاد، وتوافر المحاصيل
الزراعية والصناعات المختلفة بها.
وارتبطت مراكز التجارة الخارجية بالمغرب الأقصى فى عهد
المرابطين، بعدة طرق برية يضاف إليها الطريق الملاحى الذى تنقل
التجارة بواسطته من هذه البلاد وإليها، وكانت أهم الطرق البرية
هى: الطريق الذى كان يربط البلاد بمنطقة «السنغال» و «النيجر»؛ إذ
كان يمر بسجلماسة «ودرعة» ومدن «المغرب الأقصى»، متجهًا إلى
«أودغشت»، ثم إلى منحنى «النيجر»، وهناك طريق الساحل الذى
يربط «دولة المرابطين» بالشرق حتى «مصر»، إلى جانب طريق آخر
من «أودغشت» و «سجلماسة»، تسير فيه القوافل بالصحراء حتى
«الواحات الداخلة» بمصر.
وكان للموانى المنتشرة على ساحل «البحر المتوسط» و «المحيط
الأطلسى» أثر كبير فى تنشيط حركة التجارة، فتنوعت صادرات
البلاد، وشملت: القطن، والقمح، والسكر، والزيتون، والزيت
المستخرج من الأسماك، والنحاس المسبوك، وغيرها من الصادرات.
أما أهم وارداتها، فكانت: الذهب، والزئبق، وبعض أنواع النسيج
البلنسى، والعطر الهندى، وبعض الواردات الأخرى.
الحياة الاجتماعية فى دولة المرابطين:
شكل البربر الغالبية العظمى من سكان «بلاد المغرب» الذين تأسست
على أيديهم دولة المرابطين، وقد شاركهم العرب فى الإقامة بالمنطقة(6/72)
منذ بدأت فتوح المسلمين لهذه البلاد، ثم جاءت القبائل العربية
الهلالية بعد ذلك إليها، وشاركهم السودانيون الذين انضموا إلى
جيوش المرابطين، فضلاً عن تواجد عنصر الروم والصقالبة الذين
عاشوا فى ظل المرابطين، واتخذ منهم بعض الأمراء حرسه الخاص،
كما استخدمهم بعض الأمراء فى جباية الأموال.
وقد تبوأت المرأة مكانة مرموقة فى المجتمع المرابطى، وتمتعت
بوضع كريم فى القبيلة الصنهاجية؛ إذ كانت تشترك فى مجلس
القبيلة، وتشارك فى الأمور المهمة. وبلغ احترام المرابطين للمرأة حدا
جعل القادة والأمراء يُلقبون أنفسهم بأسماء أمهاتهم، تقديرًا لدور
المرأة فى المجتمع، فنجد «ابن عائشة»، و «عبدالله بن فاطمة»،
وهما من أبرز قادة المرابطين.
وعاش أهل الذمة فى بلاد المرابطين إلى جانب غيرهم من طبقات
المجتمع وفئاته فى ظل حماية القيادة العليا للبلاد، وأصبحت طائفة
اليهود على قدر كبير من الثراء، ولكن بعض أهل الذمة عمدوا إلى
مساعدة أعداء البلاد، وتحريضهم على غزوها، فكان رد فعل أمراء
المرابطين هو نفى عدد كبير من هؤلاء، ومنْع اليهود من المبيت
بالعاصمة «مراكش»، والسماح لهم بالعمل نهارًا، والانصراف منها
ليلاً؛ وهو إجراء وقائى للحفاظ على العاصمة من المؤامرات
والدسائس والفتن، وبها ما بها من تجمعات الجند وقادة الجيوش،
وإدارة البلاد، فضلا عن كونها مقر أمير البلاد وأسرته وأعوانه
وحاشيته.
البناء والتعمير:
انتعشت حركة البناء والتعمير فى «دولة المرابطين»، وقد بدأها
الأمير «يوسف بن تاشفين» بتأسيس مدينة «مراكش» وبنائها،
وغيرها من المنشآت، وتبعه فى ذلك ابنه «على» والأمراء من بعده،
وامتازت مبانى المرابطين بالضخامة والقوة والاتساع، والاقتصاد فى
الزخرفة تمشيًا مع بساطتهم.
وتعد «مراكش» من أبرز أعمال المرابطين، وكان سبب بنائها، ازدحام
مدينة «أغمات» بقبائل المرابطين القادمين من الجنوب، يضاف إلى(6/73)
ذلك موقعها الاستراتيجى فى مفترق طرق الأطلس والصحراء، وقربها
من مواطن المصامدة الذين يشكلون غالبية السكان، وكذلك قربها من
صحراء المرابطين ومواطن «لمتونة»؛ حيث توجد الإمدادات العسكرية،
وتأسست «مراكش» على أرجح الآراء فى سنة (454هـ= 1062م)،
وشارك الأمير «يوسف» فى البناء لتشجيع من حوله فى المساهمة،
ثم بنى فيها ابنه الأمير «على» قصره المعروف بدار الحجر، وأحاطه
بالأسوار.
الحياة الفكرية:
عاشت «دولة المرابطين» نهضة فكرية مزدهرة، ازدهرت فيها علوم
الأدب واللغة والعلوم والفلسفة والطب، ووفد طلاب العلم على المدن
المغربية من كل مكان، وقد ساعد على ذلك تشجيع الأمراء المرابطين
للعلماء وطالبى العلم، فقصد العلماء العاصمة «مراكش»، وانتظم
الطلاب فى دراساتهم، واجتهد كل ذى موهبة فى إبراز ما لديه،
ورغب كثير من أبناء «المغرب» فى طلب العلم، لأن مناصب الدولة
ووظائفها كانت مقصورة على المتعلمين والمثقفين.
وأصبحت «مراكش» تضاهى «بغداد» فى ازدهار العلوم وكثرة
العلماء وشاركتها مدينة «فاس» التى أسسها «إدريس بن عبدالله»
فى المكانة، وظل مسجدها الكبير (جامع القرويين) مركز إشعاع
علمى يقصده طلاب العلم من كل مكان.
العلوم الدينية:
أسهمت الروح الدينية التى سادت «بلاد المغرب» منذ قيام «دولة
المرابطين» فى ازدهار العلوم الشرعية؛ مثل: علوم التفسير والحديث
والفقه والكلام، ووفود كثير من علماء الأندلس على مراكش وغيرها
فأسهموا فى دفع حركة التأليف، وشاركهم أبناء المغرب الذين
أقبلوا على الدراسة والبحث فى دفع هذه الحركة، فنبغ عدد كبير
من العلماء.
وعنى المغاربة بكتاب «الوجيز» فى التفسير لعبدالحق بن غالب بن
عطية المحاربى، المتوفى فى سنة (541هـ= 1146م)؛ حيث جمع فيه
«ابن غالب» خلاصة التفاسير كلها، وتحرَّى منها ما هو أقرب إلى
الصحة.
ونال علم الحديث عناية فائقة من ولاة الأمر، وكان «موطأ» الإمام(6/74)
«مالك» مدار الدراسات فى الدولة، وكذلك نشط علم الفقه، ولم ينل
علم الكلام الرعاية والعناية خلال حكم المرابطين، لأنهم نهجوا طريق
السلف، ولم يميلوا إلى الخوض فى هذا العلم.
الحياة الأدبية والعلمية:
ازدهر الأدب بنوعيه الشعر والنثر فى هذه الفترة باعتباره مظهرًا من
مظاهر الحركة الفكرية بالبلاد، وحظى الأدباء برعاية الولاة، وكان
بالبلاط المرابطى بعض كبار الكتاب والأدباء الأندلسيين، أمثال:
«أبى القاسم بن الجد»، و «ابن القبطرنة»، و «أبى عبدالله بن أبى
الخصال»، و «ابن خلدون» وغيرهم.
وقد أثر المذهب المالكى وعلماؤه وفقهاؤه فى توجيه الأدب
المغربى وجهة تميزت بالبساطة والوضوح، وبعدت عن الزخرف
والصنعة وبعدته عن تناول بعض الأغراض التى تناولها أدباء المشرق
مثل: «الخمريات»، التى تتنافى مع الجو الدينى الذى ساد البلاد.
المكتبات:
كثر عدد المكتبات التى ازدحمت بالمؤلفات فى عهد المرابطين، نظرًا
لكثرة العلماء والمؤلفين والكتاب، واهتمام ولاة الأمر بهم وتكريمهم
لهم، وقد ساعد ذلك على ازدهار الحركة الفكرية للبلاد.
ولم تكن الرغبة فى جمع الكتب مقصورة على ولاة الأمر، بل تعدتها
إلى أبناء الشعب، ودفع الكثير منهم مبالغ كبيرة لشراء مرجع أو
اقتناء كتاب. مثلما فعل القاضى: «عيسى بن أبى حجاج بن
الملجوم» الذى اشترى من «أبى على الغسانى» نسخة من «سنن
أبى داود» بخمسة آلاف دينار.
وكان منصب «أمين مكتبة الخزانة العلية» من المناصب الرفيعة فى
الدولة، ولا يتولاه إلا أحد أكابر العلماء المشهورين بالثقافة
والكفاءة ودقة التصنيف.
وقد تحددت أماكن كثيرة لبيع الكتب بدولة المرابطين، ففى
«مراكش» كانت متاجر بيع الكتب المخطوطة إلى جوار جامع
الكتبيين، وكانت فى «تلمسان» سوق لبيع الكتب. وهكذا ساهمت
المكتبات فى دفع تيار الثقافة بالبلاد، وتزويدها بما تحتاجه من
مختلف فروع العلم والمعرفة.(6/75)
الفصل الحادي عشر
*دولة الموحدين
ظهور المهدى بن تومرت:
لم تنعم «دولة المرابطين» بالهدوء والاستقرار منذ ظهور الداعية
«محمد ابن تومرت» على مسرح الأحداث، وقد نشأ «ابن تومرت»
نشأة دينية بقبيلة «هرنمة» إحدى قبائل المصامدة، ولكن ما تلقاه
من علوم فى وطنه لم يَرْوِ ظمأه، فسافر إلى المراكز الثقافية
المشهورة بالعالم الإسلامى، وبدأ رحلاته إلى «الأندلس» فى مطلع
القرن السادس الهجرى، ثم إلى المشرق مارَّا بالإسكندرية، ومنها إلى
«مكة» ثم إلى «بغداد» حيث التقى هناك بأكابر العلماء أمثال «أبى
بكر الطرطوشى»، واستغرقت رحلته فى طلب العلم نحو خمسة عشر
عامًا مكنته من التزود بقدر كبير من الثقافة والمعرفة، وتعرُّف أحوال
العالم الإسلامى، ومدى انقسام المسلمين وفرقتهم بالمشرق.
وبعد أن عاد إلى «المغرب» بدأ دعوته بمدن المغرب محاولاً إصلاح
الأوضاع الفاسدة وتغييرها. فوجدت دعوته قبولاً وترحيبًا من
الجماهير، ورفضًا شديدًا من الحكام؛ إذ رأوها خطرًا يهدد مصالحهم
ومراكزهم.
والتقى «ابن تومرت» خلال هذه الرحلة بعبد المؤمن بن على الذى
أصبح من أخلص تلاميذه، وصاحبه فى كل مكان يذهب إليه، ثم دخل
«ابن تومرت» العاصمة «مراكش» فى منتصف ربيع الأول سنة (515هـ=
1121م)، وقام بدوره فى الوعظ والإرشاد، واعترض على سياسة
الدولة فى بعض الأمور، فوصل خبره إلى الأمير «على بن يوسف»
الذى استدعاه، وجمع كبار العلماء والفقهاء لمناظرته.
وانتهى الأمر بطرده من العاصمة خشية التأثير على العامة وإضعاف
مراكز الفقهاء. وكانت الحصافة السياسية تقتضى سجن هذا الداعية
أو التحفظ عليه لخطورته على الدولة، وهو ما تحقق عقب مغادرة
«ابن تومرت» «مراكش»، إذ أعلن عن نياته فى مواجهة السلطة
الحاكمة، وخلعه الأمير «على بن يوسف»، وبايعه مَن حوله إمامًا
للدعوة الجديدة فى سنة (515هـ= 1121م)، واتخذ من مدينة «تينملل»
مقرا له، ومركزًا لدعوته، وشرع فى تحقيق أهدافه السياسية(6/76)
والدينية لإقامة خلافة إسلامية بالمغرب، ولم يدخر فى ذلك وُسعًا ولا
وسيلة إلا استغلها، وعمد إلى نشر دعوته بين السذج، وألَّف لهم فى
التوحيد والعقيدة بلغتهم البربرية حتى يسهل عليهم التعلم، ويسهل
عليه السيطرة عليهم، ومن ثم باتت له الكلمة العليا فى كل شئونهم.
وفاة ابن تومرت [524هـ= 1130م]:
شارك «ابن تومرت» فى الكفاح المسلح ضد «دولة المرابطين»،
وتذكر المراجع أنه اشترك فى تسع غزوات، وكانت معركة
«البحيرة» التى أصيب فيها الموحدون بالهزيمة هى السبب الرئيسى
فى خيبة أمل «ابن تومرت» ومرضه؛ حيث قتل فيها عدد كبير من
أتباعه، ولكن بقاء تلميذه ومساعده «عبد المؤمن بن على» على قيد
الحياة كان سببًا فى تخفيف هذه الصدمة، ومع ذلك لزم «ابن تومرت»
داره، واشتد عليه مرضه، وفارق الحياة فى سنة (524هـ= 1130م)،
وخلَّف وراءه حربًا مشتعلة على أرض «المغرب الأقصى».
عبدالمؤمن بن على:
حمل «عبدالمؤمن» أعباء الدعوة عقب وفاة أستاذه، وشُغل بتنظيم
شئون الموحدين، مدة عام ونصف العام، ثم شرع فى الكفاح ضد
المرابطين فى منطقة «الأطلس» جنوبى «مراكش» فى «وادى درعة»
و «بلاد السوس» و «بلاد جاحة» القريبة من «تينملل»، ثم استولى
الموحدون على «مراكش» عاصمة المرابطين فى سنة (541هـ=
1146م)، بعد كفاح دام أكثر من عشر سنوات كان النصر فيها حليفًا
للموحدين.
وقد نجح «عبدالمؤمن» فى إحكام قبضته وسيطرته على «المغرب
الأقصى» بعد سقوط دولة المرابطين بسقوط عاصمتهم «مراكش»، ثم
وجه اهتمامه إلى الشرق، وبعث بحملاته المتتابعة التى وصلت حتى
«طرابلس» بإفريقية، فساعد هذا النصر على تحقيق الوحدة
السياسية للمغرب الإسلامى، وتلقب «عبدالمؤمن» بلقب خليفة، واتخذ
من «مراكش» عاصمة للخلافة، ثم شرع فى تجهيز حملة كبيرة لدفع
النصارى عن مدن «الأندلس» فى سنة (556هـ= 1161م)، إلا أن مرضه
حال دون إتمام هذه الحملة، ومات فى سنة (558هـ= 1163م).
يوسف بن عبدالمؤمن:(6/77)
بويع «يوسف» فى سنة (558هـ= 1163م)، ليكون خلفًا لوالده.
وما إن استقر فى العاصمة حتى واجهته ثورة «مرزدغ الصنهاجى»
بجبال «غمارة»، فنجح فى القضاء عليها وتفريق أعوانها، ثم أمر
بقتل «مرزدغ»، وحمل رأسه إلى العاصمة «مراكش».
ووجه «ابن عبدالمؤمن» جُلَّ جهوده إلى دعم سلطة الموحدين
بالأندلس، وبعث بالحملات المتتابعة إليها، وخرج على رأس إحداها
فى سنة (566هـ= 1170م)، لتأمين ثغور «الأندلس» وضبطها
وإصلاحها، ثم خرج فى سنة (579هـ= 1183م) على رأس حملة كبيرة
إلى «الأندلس» لغزوها، إلا أنه أصيب بسهم عند أسوار «شنترين»،
فأسرع الجند بحمله والعودة به مصابًا إلى «مراكش»، فقضى نحبه
فى سنة (580هـ= 1184م).
المنصور الموحدى:
ولى «يعقوب بن يوسف بن عبدالمؤمن» خلفًا لوالده فى سنة (580هـ=
1184م)، ولقب نفسه بالمنصور، وتوزعت جهوده العسكرية فى أكثر
من ميدان؛ حيث قامت ثورة بزعامة «الجزيرى» الذى أخذ يدعو لنفسه
بين القبائل فى سنة (585هـ= 1189م)، فقضى عليها «المنصور»
وقتل زعيمها، ثم قامت ثورة أخرى ببلاد «الزاب» بزعامة رجل يدعى
«الأشلّ» فى سنة (589هـ = 1193م)، فكان مصيرها الفشل مثل
سابقتها.
أما ثورة «بنى غانية»، التى استهدفت إحياء «دولة المرابطين»
والدعاء للخلافة العباسية على المنابر بإفريقية، فكانت الخطر
الحقيقى الذى هدد «دولة الموحدين»، فوجّه «المنصور» إليها كل
جهوده للقضاء عليها، وعلى الرغم من تكرار المحاولة فإنه لم ينجح
فى القضاء عليها نهائياًّ.
وقد أولى «المنصور» «الأندلس» اهتمامه وعنايته، ودخل فى عدة
معارك مع الإفرنج؛ كانت أبرزها معركة «الأرك» فى سنة (591هـ=
1195م)، تلك التى أوقفت زحف النصارى، وزادت من هيبة الموحدين
ومكانتهم بالشمال الإفريقى، ثم أصيب المنصور بوعكة صحية أدت
إلى وفاته فى سنة (595هـ = 1199م).
الناصر الموحدى:
تولى «الناصر أبو عبدالله محمد بن يعقوب» خلفًا لوالده «المنصور»،(6/78)
فحدثت فى عهده بعض التطورات السياسية والعسكرية التى انتقلت
بدولة الموحدين من مرحلة القوة والسيادة إلى مرحلة الانهيار
والسقوط؛ حيث تمكن فى بداية حكمه من القضاء على ثورة «بنى
غانية» بإفريقية التى دخلها فى سنة (598هـ= 1202م)، وعاد منها
فى سنة (604هـ= 1207م)، بعد أن ولى على «إفريقية» «أبا محمد
عبد الواحد بن أبى حفص» أحد أشياخ الموحدين، فعكف «ابن أبى
حفص» على معالجة شئون «إفريقية»، ودعم سلطان الموحدين بها،
إلا أن ولاية «أبى حفص» كانت البداية لقيام «دولة الحفصيين»
بتونس؛ حيث استقل أبناؤه - بعد ذلك - بها وأسسوا ملكًا مستقلاً.
وقد فُجع الموحدون بهزيمة قاسية بالأندلس فى معركة «العقاب»
التى راح ضحيتها عدد كبير من الجند، مما أضعف «دولة الموحدين»
وأفقدهم هيبتهم، وأُصيب «الناصر» بالمرض، وتوفى فى سنة
(610هـ= 1213م).
وقد عرف الانهيار والضعف طريقهما إلى «دولة الموحدين» عقب وفاة
«الناصر»، ودخلت الدولة مرحلة من الفوضى، والصراع بين أفراد
البيت الموحدى، فضلاً عن اندلاع الثورات والقلاقل فى أماكن
متعددة، وظل هذا حالها حتى سنة (668هـ= 1269م)، التى قتل فيها
«أبو دبوس» آخر خلفاء الموحدين أمام أسوار العاصمة «مراكش»
التى دخلها «المرينييون» وقضوا على «دولة الموحدين». وقد تولى
عقب وفاة «الناصر» عدد من الخلفاء الضعاف، هم:
1 - أبو يعقوب يوسف الثانى المستنصر بالله [611 - 620هـ].
2 - أبو محمد عبدالواحد المخلوع [620 - 621هـ= 1223 - 1224م].
3 - أبو محمد عبدالله العادل [621 - 624هـ = 1224 - 1227م].
4 - المأمون أبو العلاء إدريس ابن يعقوب المنصور [624 - 630هـ= 1227
- 1233م].
5 - أبو محمد عبدالواحد الرشيد [630 - 640هـ= 1233 - 1242م].
6 - أبو الحسن على السعيد المقتدر بالله [640 - 646هـ= 1242 -
1248م].
7 - أبو حفص عمر المرتضى [646 - 665هـ = 1248 - 1267م].
8 - أبو العلاء إدريس الثانى (المعروف بأبى دبوس) [665 - 668هـ=(6/79)
1267 - 1269م].
العلاقات الخارجية:
انحصرت علاقات الموحدين الخارجية فى جبهتين هما: «الأندلس»،
و «الخلافة العباسية».
أما «الأندلس»، فقد استولى عليها الموحدون مع غيرها من المدن من
المرابطين، وساروا على نهج من سبقهم فى التصدى لعدوان
النصارى، وأعدوا الحملات، وخاضوا المعارك من أجل تحقيق هذا
الهدف، ولكن هزيمتهم فى معركة «العقاب» فى عام (609هـ=
1212م)، كانت بداية انحسار نفوذهم على أرض «الأندلس»، ومن ثَم
بدأت القوى النصرانية تحقق انتصاراتها حتى زالت «دولة الموحدين».
وقد اختلف موقف الموحدين من الخلافة العباسية عن موقف
المرابطين؛ حيث لم يعترف الموحدون بالعباسيين، واعتبروا أنفسهم
خلفاء، وأن مركز الخلافة مدينة «مراكش»، وليس «بغداد»، ودعموا
خلافتهم بالادعاء بأن «ابن تومرت» و «عبدالمؤمن» من نسل الرسول
عن طريق «الأدارسة»، واتخذوا اللون الأخضر شعارًا لهم كى يظهروا
ميلهم إلى الدعوة العلوية، وتشبهوا بالرسول فى تصرفاته وأفعاله.
الأوضاع الحضارية فى دولة الموحدين:
أولا: السلطة العليا فى البلاد:
عمد ابن تومرت تنظيم أصحابه فى نظام إدارى معين، وعلى قمة هذا
التنظيم الإدارى هيئة العشرة التى تختص بالعظيم من الأمور، ولم
يتركهم «ابن تومرت» إلا وقد عهد إلى «عبدالمؤمن بن على» أن
يتولى خلفًا له قيادة الموحدين.
وقد بويع «عبدالمؤمن» بيعتين: بيعة خاصة، وبيعة عامة، أما الخاصة
فكانت عقب وفاة «ابن تومرت» (524هـ= 1129م)، واقتصرت هذه
البيعة على أهل الجماعة.
وأما العامة فكانت فى سنة (527هـ= 1132م) على أرجح الأقوال.
وقد اتخذ خلفاء الموحدين الوزراء لمعاونتهم فى إدارة شئون البلاد،
وأصبح للخليفة وزير أو أكثر، وكان اختيار الوزير يتم عادة من
الأسرة الحاكمة أو من أسر وقبائل معينة، ثم أصبح الوصول إلى هذا
المنصب يتم وفقًا لصفات وشروط يجب أن تتوافر فيمن سيقع عليه
الاختيار لهذه المكانة.(6/80)
وقد تولى عدد من أفراد أسرة الخلافة منصب الوزارة، منهم: «عمرو»
ابن الخليفة «عبدالمؤمن»، وهو أول وزير من أسرة الخلافة، و «أبو
حفص بن عبدالمؤمن» أخو الخليفة «يوسف».
واختير عدد من الوزراء من أسرة «بنى جامع»، وقبيلة «هنتاتة»،
وقبيلة «كومية»، وأشهر وزرائهم على التوالى هم: «أبو العلاء
إدريس بن إبراهيم بن جامع»، و «أبو عمر بن أبى زيد الهنتانى»،
و «عبدالسلام بن محمد الكومى».
وهناك وزراء أهَّلتهم صفاتهم ومواهبهم لتولى هذا المنصب، مثل:
«أبى جعفر أحمد بن عطية».
ثانيًا: النظام الإدارى:
استعان الموحدون فى بداية عهدهم بأشياخهم فى تولى أقاليم
الدولة، ثم أنشأ الخليفة «عبدالمؤمن» بمراكش مدرسة جمع فيها
أولاده وثلاثة آلاف طالب من قبائل المصامدة، وزوَّدهم بمختلف
العلوم، وأشرف على تعليمهم إدارة شئون البلاد، وتدريبهم على
شئون الحرب والقتال، فلما أتموا تعليمهم استبدلهم بأشياخ
الموحدين فى تولى السلطة بأقاليم الدولة، ثم عين أبناءه بعد ذلك
على الأقاليم.
الدواوين:
اهتم الموحدون بإنشاء الدواوين المختلفة ويأتى فى مقدمتها ديوان
الإنشاء الذى يختص بالمراسيم السلطانية والرسائل الموجهة إلى
الولاة والقضاة، ولذا حشد له الخلفاء نخبة ممتازة من أدباء المغرب
والأندلس، ثم يأتى بعده «ديوان الجيش» الذى يتفرع إلى ديوانين
لكل منهما اختصاصه. كما كان هناك «ديوان الأعمال المخزنية» الذى
يشرف على تحصيل الأموال العامة، وعلى إنفاقها، ويراقب العمال
والمشرفين ويحاسبهم.
الشرطة:
كانت الشرطة من المناصب الإدارية المهمة التى اهتم بها الموحدون،
وظهر ذلك فى عهد «يوسف بن عبدالمؤمن» الذى زود المدن المغربية
بنخبة ممتازة من الرجال للسهر على أمنها وحمايتها، كما خُصص
للأسواق رجال من الشرطة لحمايتها من اللصوص والمتسللين.
النظام القضائى:
اتخذ الموحدون نظامًا قضائيًّا مشابهًا لنظام المرابطين، وحرص خلفاء(6/81)
الموحدين على تعيين كبار القضاة بأنفسهم، وأحاطوهم بالهيبة
والجلال، وجعلوهم نوعين، هما: قضاة المدن المغربية، وقاضى
الجماعة بالعاصمة، وكان قاضى الجماعة أعظم رتبة ومنزلة من بقية
القضاة، وهو يوازى قاضى القضاة بالمشرق، وكان مقصورًا على
قاضى «مراكش» وقاضى «قرطبة» ويتم تعيينه من الخليفة مباشرة.
ومُنح القضاة الحق فى مراقبة جميع العمال والولاة، وجمع بعضهم
بين وظائف القضاء والكتابة والمظالم، كما جمع بعضهم بين وظيفتى
القضاء بالمغرب و «الأندلس».
الحياة الاقتصادية فى دولة الموحدين:
نعمت البلاد بالرخاء الاقتصادى فى عهد الموحدين؛ إذ وضعوا نظامًا
مالياًّ دقيقًا، تمثل فى الإدارة المشرفة على الجوانب المالية فى
الجباية والإنفاق، فضلا عن وجود دواوين للمال بالعاصمة، وديوان
للمال بكل إقليم يختص بماليته، وأفرد الموحدون دارًا للإشراف على
النواحى المالية، كما استحدثوا منصب الوزير المسئول عن الشئون
المالية أطلقوا عليه اسم «صاحب الأشغال»، ومهمته استخراج الأموال
وجمعها وضبطها، وتعقب نظر الولاة والعمال فيها، ثم تنفيذها على
قدرها وفى مواقيتها، وكان يعاون صاحب الأشغال رؤساء الدواوين
المالية بالدولة.
فوفرت هذه المصادر إلى جانب الزكاة وخمس الغنائم أموالا كثيرة
لخزينة الدولة، أُنفق معظمها على إعداد الجيش فى البر والبحر،
ودفع مرتبات الوزراء ورجال البلاط والحشم والقضاة والفقهاء،
وكذلك فى الإنفاق على الطلبة المنتظمين بالمدرسة التى أنشأها
الخليفة «عبدالمؤمن»، كما أنفق منها على إنشاء المدن والقصور
والحصون وغيرها من المنشآت.
وأصدر الموحدون عملة نقدية من الدنانير والدراهم.
وقد اهتم الموحدون بالزراعة وشجعوا المزارعين على استغلال
الأرض، ووفروا لهم المياه اللازمة للزراعة، فتوافرت محاصيل القمح
والشعير، والقطن، وقصب السكر، وغير ذلك من المحاصيل، كما
نعمت البلاد بأصناف الفواكه المتنوعة مثل: العنب والتفاح والكمثرى،(6/82)
وغيرها، وانتشرت الغابات بالبلاد، وتوافر بها شجر الأَرْز والزان
والبلوط.
ونشطت الحركة الصناعية، وتوافرت المراكز الصناعية بالبلاد، مثل
مدينة «فاس» و «مراكش»،وغيرها من المدن التى تنوعت بها
الصناعات وضمت: صناعة الصابون، والتطريز، والدباغة، وسبك
الحديد والنحاس، وصناعة الزجاج، والفخار، وغير ذلك من الصناعات.
وازدهرت التجارة فى الداخل والخارج، وكثرت المراكز التجارية التى
أولاها الموحدون عنايتهم، وشيدوا بها عدة أسواق، كما شيدوا بها
الفنادق، كما ساهمت «مكناسة» فى دعم ازدهار التجارة حيث كانت
محطة للمسافرين يبيعون ويشترون بها، فضلاً عن وجود عدد من
الأسواق العامرة والتجارات المختلفة بها.
وتمتعت البلاد بنهضة تجارية خارجية، لوجود شبكة من الطرق التى
ربطت المدن المغربية بغيرها من المراكز التجارية، فضلاً عن وجود
عدد من الموانئ المطلة على «البحر المتوسط» و «المحيط الأطلسى»،
وكانت محطات للسفن المحملة بالبضائع القادمة أو الخارجة منها،
فتنوعت الصادرات مثل: القطن والقمح والسكر، وكذلك الواردات مثل:
الذهب وبعض أنواع النسيج البلنسى، والعطر الهندى.
ولعب ميناء «سبتة» على «البحر المتوسط»، وميناء «سلا» على
«المحيط الأطلسى»، دورًا بارزًا فى تنشيط الحركة التجارية فى ظل
حماية الأسطول الموحدى.
الحياة الاجتماعية فى دولة الموحدين:
شكلت قبائل المصامدة العنصر الرئيسى لسكان دولة الموحدين، وقد
استقرت بالمنطقة منذ زمن، واتخذت المعاقل والحصون والقلاع،
وشيدت المبانى والقصور، وامتهن أفرادها الزراعة وفلاحة الأرض،
ولم يحاولوا الهجرة من أرضهم، بل تمسكوا بها، ودافعوا عنها ضد
أى محاولة للاعتداء أو الاستيلاء عليها.
أما العنصر الثانى من سكان «دولة الموحدين» فهم العرب الهلالية
الذين ظهروا على مسرح الأحداث، وعمد الموحدون إلى تهجيرهم من
«إفريقية» إلى «المغرب الأقصى»، ليتخلصوا من ثوراتهم، كما(6/83)
استخدموهم فى عمليات الجهاد بالأندلس، فأقبلت أعداد كبيرة منهم
إلى «المغرب الأقصى»، وانتقلت أعداد أخرى إلى الإقامة بالأندلس
من خلال الحملات التى قام بها الموحدون هناك، ثم حدد الموحدون
إقامة بعض القبائل.
وقد تمتع العرب الهلالية بما يتمتع به جند الموحدين، وأقطعهم ولاة
الأمر بعض الأراضى، وأنفقوا عليهم النفقات الكبيرة، وأغدقوا عليهم
بالعطايا حتى يوفروا لهم الاستقرار ويبعدوهم عن الفتن وإثارة
القلاقل والاضطرابات.
ونالت المرأة حظها من التكريم والإنصاف والاحترام فى «دولة
الموحدين»، وأتاحت لها الظروف أن تنال حظا من العلوم المختلفة،
وقسطًا من ثقافة العصر وأدبه، وبرزت الكثيرات من النساء مثل:
«زينب» بنت الخليفة «يوسف بن عبدالمؤمن»، والشاعرة العالمة
«حفصة بنت الحاج الركونية»، و «فاطمة بنت عبدالرحمن».
وعاش أهل الذمة فى أنحاء متفرقة من البلاد، وكانت لهم أحياؤهم
بالعاصمة «مراكش» وبمدينة «سجلماسة»، وكانوا يشتغلون بالبناء.
البناء والتعمير:
اهتم الموحدون بالبناء والتعمير بالمغرب و «الأندلس»، وحظيت
«مراكش» و «الرباط» وغيرهما من المدن المغربية بكثير من المنشآت
الموحدية، وأنشأ الخليفة «عبدالمؤمن» «مدينة الفتح»، كما شيد
المساجد والقصور فى أنحاء متفرقة من البلاد، وكان «المنصور»
مولعًا بالعمارة، فشهدت البلاد نهضة معمارية استمرت طيلة عهده.
الحياة الفكرية:
شهدت «بلاد المغرب» حركة فكرية نشيطة فى عهد المرابطين،
واستمرت كذلك فى عهد الموحدين، وساعدها على ذلك استقرار
الأوضاع بالبلاد، والصلة الوثيقة بين «المغرب» و «الأندلس»، إلى
جانب رغبة الكثيرين من أبناء «المغرب» فى طلب العلم، فضلاً عن
تكريم الموحدين للعلماء، والمتعلمين ووصلهم بالعطايا، والهبات،
والإنفاق عليهم، كما كانت الأسس الدينية التى قامت عليها «دولة
الموحدين» سببًا فى انتعاش دراسة علوم الدين، وانتعاش الحركة
الفكرية.
المذهب المالكى:(6/84)
شن «ابن تومرت» حربًا شعواء على العلماء والفقهاء واتهمهم
بالجمود، ولكنه لم يستطع مهاجمة المذهب المالكى الذى رسخ فى
أذهان عامة الشعب وقلوبهم، وتحايل على ذلك بإعداد مُؤَلَّف جمع
فيه الأحاديث النبوية التى وردت بموطأ الإمام «مالك»، وحذف منها
معظم الإسناد للاختصار، فى محاولة لصرف أذهان الناس عن المؤلفات
المالكية، ثم جاء «عبدالمؤمن» من بعده وأمر بحرق كتب الفروع،
والاقتصار على الأحاديث النبوية. فلما تولى «المنصور الموحدى»
عمد إلى محو المذهب المالكى من البلاد، وجمع كتب المذهب المالكى
وحرقها، وأمر بجمع الأحاديث المتعلقة بالعبادات من كتب الأحاديث
مثل: «البخارى» و «مسلم» وغيرهما، وألزم الناس بدراستها وحفظها،
وعاقب علماء المذهب المالكى المتمسكين بتدريسه، وعلل ذلك بميله
إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة والأخذ بظاهرهما، وكراهيته
للخلافات التى امتلأت بها كتب الفروع، ولكن علماء المالكية لم يؤثر
فيهم التهديد والعقاب، وظلوا يكافحون فى سبيل بقاء مذهبهم
وتدريسه، فسُجن بعضهم مثل «ابن سعيد الأنصارى»، وتُوفى
بعضهم نتيجة التعذيب مثل: «أبى بكر الجيانى المالكى»، ومع ذلك
نجح هؤلاء العلماء فى إبقاء هذا المذهب وظل مذهب المالكية راسخًا
ببلاد المغرب.
العلوم الدينية:
ازدهرت العلوم الدينية بدولة الموحدين، وزاد الإقبال على تفسير
القرآن ودراسته باعتباره مصدر التشريع الأول للبلاد، وبرز عدد من
المفسرين منهم: «عبدالجليل بن موسى الأنصارى الأوسى» المتوفى
عام (608هـ= 1211م)، و «أبو بكر بن الجوزى السبتى»، كما لاقى
علم القراءات رعاية ولاة الأمر، واشتهر فيه: «أبو بكر بن يحيى بن
محمد بن خلف الإشبيلى» المتوفى عام (602هـ= 1205م)، و «على بن
محمد بن يوسف اليابرى الضرير» المتوفى عام (617هـ= 1220م).
أما علم الحديث فقد صار له شأن كبير واهتم به الخلفاء، وأمر الخليفة
«عبدالمؤمن» بحرق كتب الفروع، وردّ الناس إلى قراءة الحديث،(6/85)
وأملى ابنه «يوسف» وحفيده «المنصور» الأحاديث بنفسيهما على
الكُتاب لتوزيعها على الناس، واشتهر «أبو الخطاب بن دحية السبتى»
و «ابن حبيش» المتوفى عام (584هـ= 1188م)، و «القاضى عياض
السبتى» بتمكنهم من علم الحديث، ووضع بعضهم المصنفات فى هذا
العلم، أما فى مجال الفقه فقد وضع «ابن تومرت» كتابه «الموطأ»
على غرار «موطأ الإمام مالك» بعد حذف أسانيده.
ومن أعلام الفقه فى هذا العصر: «عبدالملك المصمودى» قاضى
الجماعة بمراكش، و «إبراهيم بن جعفر اللواتى» الفقيه المعروف
بالفاسى. ويعد كتاب: «الإعلام بحدود قواعد الإسلام» للقاضى عياض
من أبرز مؤلفات هذا العصر الفقهية.
وقد نال علم الكلام عناية الموحدين منذ قيام دولتهم؛ حيث دعا «ابن
تومرت» إلى دراسته، واتهم علماء المرابطين بالجمود لتحريمهم
دراسة هذا العلم، وقد اشتهر فى هذا العلم: «أبو عمرو عثمان بن
عبدالله السلالجى» المتوفى سنة (564هـ= 1168م)، و «محمد بن
عبدالكريم الغندلاوى الفاسى» المعروف بابن الكتانى المتوفى عام
(596هـ= 1200م).
الحياة الأدبية والعلمية:
تابعت اللغة العربية انتشارها بدولة الموحدين، لأنها لغة البلاد
الرسمية فى مكاتباتها ومعاملاتها وشئونها، وقد ساعد مجىء
العلماء إلى المدن المغربية على انتشار اللغة العربية وازدهارها، كما
كان لقدوم القبائل الهلالية إلى «المغرب الأقصى» واستيطانهم بعض
مناطق البلاد أكبرالأثر فى دعم اللغة العربية وانتشارها؛ لتمسك هذه
القبائل البدوية باللسان العربى وما فيه من مفردات وتراكيب وبلاغة
فى الأساليب. وازدهر الأدب بفرعيه الشعر والنثر، وبلغ درجة عالية
من الرقى، وكثرت محافله ببلاد المغرب، وأقبل ولاة الأمر على
تشجيعه ودعمه، وسعى المغاربة إلى المساواة بالأندلسيين الذين
يفتخرون بمنزلتهم الأدبية، فضلا عن رغبة المغاربة فى الوصول إلى
المناصب العليا التى لا يرقى إليها إلا ذوو العلم والأدب.(6/86)
وقد تدفق أدباء «الأندلس» وغيرهم على البلاط الموحدى؛ حيث
العطايا والمنح، وبرزت مجموعة من الشعراء منهم: «أحمد بن
عبدالسلام الجراوى»، و «أبو عبدالله محمد بن حبوس» من أهل
«فاس»، و «أبو بكر بن مجبر» من «شقورة»، وغيرهم كثير. وكانت
أبرز أغراض الشعر آنذاك هى الوصف والغزل والمدح.
حرص خلفاء الموحدين على تزويد أنفسهم من مختلف الثقافات، لدعم
موقف دولتهم، التى قامت على أساس دينى، ولذا تنوعت ثقافة
الخليفة «عبدالمؤمن»، وأجاد فى علوم الفقه والجدل والأصول، كما
حفظ الأحاديث النبوية، وأحاط بالنحو واللغة، والأدب، والتاريخ، وعلم
القراءات، والأنساب، وتنوعت ثقافة ابنه «يوسف»، حيث حظى بقسط
وافر من العلوم المختلفة حين كان واليًا من قِبل أبيه على «الأندلس»،
وكذلك كان «المنصور» عالمًا بالحديث والفقه واللغة.
أما طبقات الشعب فقد قامت المؤسسات التعليمية بتثقيفهم، سواء
بالمكتب أو الرباط أو المسجد أو المدرسة، وقد قامت المدرسة التى
أسسها الخليفة «عبدالمؤمن» بدور فعّال فى إثراء ثقافة طبقات
الشعب؛ إذ جمعت هذه المدرسة بين الدراستين النظرية والعملية.
وكان أبرز علومها النظرية هى: حفظ القرآن وتدريسه، ودراسة
«موطأ تومرت»، وحفظ «صحيح مسلم»، أما العلوم العملية، فكانت:
ركوب الخيل والرمى بالسهم والقوس، وتعليم السباحة فى بحيرة
صنعت من أجل ذلك بالمدرسة.
المكتبات:
سبقت الإشارة إلى ازدهار التأليف وكثرة عدد المكتبات العامة
والخاصة التى ازدحمت بمئات الكتب فى شتى فنون المعرفة بدولة
المرابطين، فلما قامت «دولة الموحدين»، أولى خلفاؤها هذا المجال
عنايتهم، وجمعوا الكتب من كل مكان، وحرصوا على اقتنائها.
وكانت هناك المكتبات العامة والخاصة إلى جانب مكتبات المساجد
والمدارس والزوايا، فضلا عن مكتبة الخزانة العلية التى أنشأها خلفاء
الموحدين، وزودوها بالكتب والمراجع من مختلف العلوم والفنون(6/87)
للاطلاع والدراسة كما كانت هناك «المكتبة الشارية» بسبتة، تلك
المكتبة التى أسسها «أبو الحسن على بن محمد الغافقى» المعروف
بالشارى، وقد جعلها وقفًا على علماء المغرب. وكذلك كانت هناك
أعداد كثيرة من المكتبات الخاصة، ومنها: مكتبة «ابن صقر»
المتوفى (569هـ= 1173م) بمراكش، ومكتبة «عبدالرحمن بن الملجوم»
بفاس، ومكتبة «عبدالرحمن بن موسى الأزدى الفاسى» المتوفى
(605هـ= 1208م)، وقد باعتها ابنته بأربعة آلاف دينار.(6/88)
الفصل الثاني عشر
*الدول المغربية بعد سقوط الموحدين
دولة بنى مرين بالغرب الأقصى:
[668 - 869 هـ= 1269 - 1465م]:
تمهيد:
كانت هزيمة الموحدين فى معركة «العقاب» بالأندلس فى سنة
(609هـ = 1212م) إيذانًا باضمحلال دولتهم؛ حيث تسببت هذه المعركة
فى سريان الضعف فى كيانات الدولة، بالإضافة إلى اعتلاء عرشها
مجموعة من الخلفاء الضعاف، وقيام عدد من الثورات وحركات
الانفصال التى حدثت بالدولة.
وقد استغلت القبائل المغربية ضعف الموحدين، وعدم قدرتهم على
التصدى لمحاولات الانفصال، فتأسست مجموعة من الدول على أرض
«المغرب»، وبسطت نفوذها وسلطانها على المنطقة، وهذه الدول
هى:
- دولة «بنى مرين» بالمغرب الأقصى [668 - 869هـ= 1269 - 1465م].
- ثم دولة «بنى وطاس» التى قامت على أنقاض دولة «بنى مرين»
بالمغرب الأقصى [869 - 962هـ= 1465 - 1555م].
- دولة «بنى زيان» بالمغرب الأوسط (الجزائر وتلمسان) [637 - 962هـ=
1239 - 1555م].
- «الدولة الحفصية» بإفريقية (تونس) [625 - 981هـ= 1519 - 1573م].
وهكذا فقد المغرب وحدته، وصارت تحكمه تجمعات قبلية فى أنحاء
متفرقة.
ينتمى المرينيون إلى قبائل «زناتة»، وهم - على أرجح الآراء- من
فرع بربر البتر، الذين كانوا ينتقلون من مكان إلى آخر سعيًا وراء
الماء والكلأ، وبدأ ظهورهم على مسرح الأحداث خلال عهد المرابطين
حيث شاركوا فى مجريات الأحداث بزعامة «المخضب بن عسكر» أحد
أبناء «بنى مرين»، وكان زعيمًا قويا مرهوب الجانب، ونجح فى
السيطرة على جميع «بلاد زناتة» و «بلاد الزاب»، فحاول المرابطون
مصانعته، وأرسلوا إليه الهدايا والأموال.
ثم انتقل ولاء المرينيين إلى الموحدين وساعدوهم فى إقامة دولتهم،
وتثبيت أقدامهم، وشاركوهم فى معاركهم بالميدان الأندلسى.
ولقد كان ضعف الموحدين سببًا رئيسيا فى انتقال «بنى مرين» من
المغربين الأدنى والأوسط إلى «المغرب الأقصى» حيث الخصب
والرخاء.
مراحل قيام دولة بنى مرين:(6/89)
أولا: مرحلة تثبيت أقدامهم فى مناطق التلول والأرياف: (592 - 614هـ
= 1191 - 1217م).
اتصف الأمير عبدالحق زعيم قبائل بنى مرين بالتقوى والصلاح
والشجاعة والعدل والعطف على الفقراء مما كان له أثره على جموع
المرينيين الذين التفوا حوله، وجذبوا إليهم عددًا من القبائل المغربية
التى انضمت إليهم، وعمدوا إلى التوسع وفرض النفوذ على حساب
الموحدين، ودخلوا فى عدة معارك كانت أشهرها معركة «وادى
نكور» التى خسرها الموحدون.
وقد حمل «عثمان بن عبدالحق» (614 - 637هـ=1217 - 1239م) راية
المرينيين عقب مقتل والده الأمير «عبدالحق»، فواصل حملاته
العسكرية، وفرض نفوذه على مساحات واسعة من أرض «المغرب»،
ثم دعا شيوخ القبائل واتفق معهم على خلع طاعة الموحدين، والقيام
بأمر الدنيا والدين، والنظر فى صلاح المسلمين، فعملوا على تحقيق
ذلك حتى عام (625هـ= 1228م)، فقوى شأنهم، وخضعت لهم جميع
قبائل «المغرب»، وسيطروا على جميع موانى «المغرب» التى امتدت
من «وادى ملوية» إلى «رباط الفتح».
ثانيًا: مرحلة الاستيلاء على المدن الكبرى:
وحمل أعباء هذه المرحلة فارس «زناتة» الأمير «أبو يحيى أبو بكر
ابن عبدالحق»، الذى كان بطلا شجاعًا، قوى الإرادة، حازم الرأى،
فقام بتأمين الجبهة الداخلية للمرينيين، وأخضعها لإشراف مالى
وإدارى دقيق، ثم واصل مهاجمة المدن المغربية الكبرى، واستولى
على «مكناسة»، و «فاس»، و «سلا»، و «رباط الفتح»،
و «سجلماسة»، و «درعة».
ثالثًا: المرحلة الأخيرة للاستيلاء على العاصمة مراكش:
هيأ الله لبنى مرين فى هذه المرحلة أن يقوم بقيادتهم الأمير «أبو
يوسف يعقوب بن عبدالحق» (656 - 685هـ = 1258 - 1286م)، الذى
اعتبرته المصادر سيد «بنى مرين» على الإطلاق، وبدأ عهده بمواجهة
بعض المشاكل التى واجهت المرينيين فى هذه الفترة، ودخل فى
عدة معارك مع الموحدين تمهيدًا لدخول العاصمة «مراكش».
وقد أعد «أبو يوسف» حملة كبيرة، ثم خرج بها من «فاس» فى(6/90)
شعبان سنة (666هـ=إبريل 1268م)، وعبر بها النهر المجاور لمدينة
«فاس»، ثم هاجم كل القوى والقبائل المعاونة للموحدين. ونجح فى
إخضاعها والسيطرة عليها، ثم كانت المعركة الأخيرة بين الموحدين
والمرينيين فى شهر المحرم سنة (688هـ= يناير 1289م) عند «وادى
غفو»، ودارت بين الفريقين معركة قوية، أسفرت عن هزيمة
الموحدين، ومقتل «أبى دبوس» خليفتهم، ثم دخل الأمير «أبو يوسف
يعقوب» العاصمة «مراكش» معلنًا سقوط «دولة الموحدين»، وقيام
«دولة بنى مرين».
استقرار دولة بنى مرين واتساعها:
ظلت «دولة بنى مرين» فى اتساعها ودعم استقرارها مدة خمس
وسبعين سنة، فى الفترة من سنة (685هـ= 1286م) إلى سنة (759هـ=
1359م)، وحكمها خلال هذه الفترة مجموعة من السلاطين الأقوياء،
هم:
1 - أبو يعقوب يوسف بن يعقوب [685 - 706هـ= 1286 - 1306م].
2 - أبو ثابت عامر بن أبى عامر [706 - 708هـ= 1306 - 1308م].
3 - أبو الربيع سليمان بن أبى عامر [708 - 710هـ= 1308 - 1310م].
4 - أبو سعيد عثمان (الثانى) بن يعقوب [710 - 732هـ= 1310 -
1332م].
5 - أبو الحسن على بن عثمان [732 - 749هـ = 1332 - 1348م].
6 - أبو عنان فارس المتوكل بن على [749 - 759هـ= 1348 - 1358م].
وقد اتسمت هذه الفترة بتوسع نفوذ «بنى مرين» بالمغرب
و «الأندلس»، على الرغم من الثورات الكثيرة والقلاقل المتتابعة التى
واجهتهم.
مرحلة ضعف بنى مرين وسقوط دولتهم [759 - 869هـ= 1358 - 1465م]:
كان مقتل السلطان «أبى عنان فارس المتوكل بن على» فى سنة
(759هـ= 1358م) إيذانًا بدخول «دولة بنى مرين» فى مرحلة الضعف
والانهيار؛ حيث انتقلت السلطة من أيدى «بنى مرين» إلى أيدى
الوزراء، فضلا عن فقدان الدولة لنفوذها، وانكماشها داخل حدودها
بالمغرب الأقصى، وتعرضها للأزمات الاقتصادية، والأوبئة والكوارث
الطبيعة، التى حلَّت بالمغرب الأقصى، مما عجَّل بسقوط الدولة، فى
عهد السلطان «عبدالحق بن أبى سعيد»، الذى تمكن الثوار من القبض(6/91)
عليه وقتله فى صبيحة يوم الجمعة (27من رمضان سنة 869هـ= 23
مايو 1465م).
العلاقات الخارجية:
تعددت العلاقات الخارجية لدولة «بنى مرين»، وشملت «الأندلس»،
و «دول المغرب» المختلفة، وتراوحت علاقتهم ببنى الأحمر بالأندلس
بين الود والعداء، وشابها الحذر والترقب، على الرغم من أنهما
تحالفا ضد الفرنج وهزموهما فى سنة (676هـ= 1277م) بالأندلس،
وانحصرت العلاقات بينهما فى أحايين كثيرة على التمثيل
الدبلوماسى وتبادل الرسائل.
وكانت علاقة المرنييين بجيرانهم من «بنى عبد الواد» بالمغرب
الأوسط علاقة عدائية لتضارب المصالح بينهما، وكانت فترات السلام
بينهما قليلة وقصيرة، لأن «بنى عبدالواد درجوا على نقض ما بينهما
من معاهدات، على الرغم من أن المرينيين سعوا إلى كسب ودهم؛
ليتفرغوا للجهاد بالأندلس، واضطر السلطان «أبو يوسف يعقوب بن
عبدالحق» إلى مهاجمة «المغرب الأوسط» وإلحاق هزيمة نكراء
بجيوش «بنى عبد الواد»، ثم عقد الصلح معهم.
وحاول «بنو عبدالواد» الإغارة على الحدود الشرقية لدولة «بنى
مرين» فى سنة (679هـ= 1280م)، فخرج إليهم المرينيون للدفاع عن
بلادهم وألحقوا بهم الهزيمة بالقرب من «تلمسان».
وفى سنة (698هـ= 1299م) حاصر السلطان «أبو يعقوب يوسف»
مدينة «تلمسان» ودام الحصار مدة سبع سنوات؛ ذاق فيها «بنو
عبدالواد» مرارة الحصار، ولم ينقذهم من الهلاك سوى مقتل السلطان
«أبى يعقوب» وعودة المرينيين بعدها إلى بلادهم.
ثم دخلت «دولة بنى عبدالواد» فى تبعية «بنى مرين» بعد أن غزاهم
السلطان «أبو الحسن على»، واستولى على عاصمتهم «تلمسان»
فى سنة (732هـ= 1332م)، ثم استغلت بقايا «بنى عبد الواد»
الخلافات التى دبت بالبيت المرينى وعادوا إلى عرش بلادهم فى
«تلمسان» سنة (749هـ= 1348م)، ولكنهم عادوا إلى تبعية «بنى
مرين» ثانية فى سنة (759هـ= 1358م)، وظلوا على عدائهم لبنى
مرين، وحاولوا العودة إلى «المغرب الأوسط» مرتين خلال فترة نفوذ(6/92)
الوزراء بدولة المرينيين، كانت الأولى فى سنة (772هـ= 1370م)،
والثانية فى سنة (791هـ= 1389م).
بعض مظاهر الحضارة:
- نظام الحكم والإدارة:
اتخذ «بنو مرين» وزراء تنفيذ حتى سنة (759هـ= 1358م)، وكانت
مهمة الوزير - آنذاك- تجهيز الجيوش والكتابة، أو الولاية على إقليم ما
لأهميته أو لخطورة أوضاعه، أو القيام بالحجابة على باب السلطان.
ثم تحول الوزراء من منفذين لأوامر السلاطين إلى مسيطرين على
مقاليد الحكم والبلاد، وبدأ ذلك من سنة (759هـ= 1358م) واستمر حتى
سقوط دولة «بنى مرين».
وكانت هناك طبقة الكُتاب التى أفرد لها السلاطين ديوانًا مستقلا
أُطلق عليه «ديوان الإنشاء والعلامة»، وضم هذا الديوان عددًا كبيرًا
من أئمة الفصاحة والبيان، منهم: «عبدالرحمن بن خلدون»،
و «عبدالمهيمن بن محمد الحضرمى»، و «أبو القاسم بن أبى مدين»،
وقد أسند السلاطين إلى كُتابهم بعض المهام الكبيرة - أحيانًا-
ليرفعوا من شأن هذه الوظيفة وشأن أصحابها.
وقد عرف البلاط المرينى «الحاجب» باسم «المزوار»، وكان يترأس
مجموعة الحرس السلطانى الذين عرفوا باسم «الجنادرة»، وكان
يشرف على السجون، وينفذ أوامر السلطان وعقوباته، ويتولى تنظيم
الناس لعرض مظالمهم على السلطان.
وقسم المرينيون دولتهم إلى تسعة أقاليم، تُدار بواسطة ولاة يعينهم
السلطان بنفسه، ويساعدهم بعض الموظفين الرئيسيين، وهم:
«صاحب القضية»، و «صاحب الشرطة» و «القاضى»،و «المحتسب».
وتضمن الجهاز الإدارى لدولة المرينيين عددًا من الدواوين، منها:
«ديوان الإنشاء والعلامة»، و «ديوان العسكر»، و «ديوان الخراج».
واحتفظ «بنو مرين» بأهمية القضاء وجلاله، واختص السلاطين بتعيين
«قاضى الجماعة» الذى كان له حق مراقبة صاحب الشرطة
والمحتسب، وشارك السلاطين معهم ولاة الأقاليم فى تعيين القضاة
العاديين، وجعلوا قاضيًا للعسكر، للفصل فى القضايا الخاصة بالجيش
والجنود.
الحياة الاقتصادية:(6/93)
شهدت «الدولة المرينية» رخاءً وازدهارًا فى نواحى الحياة كافة.
وجعل المرينيون كل إقليم من أقاليم دولتهم وحدة اقتصادية مستقلة،
وجعلوها جميعًا تحت إشراف الوزير المختص أو صاحب الأشغال، وقد
تعددت مصادر الدخل المالى وشملت الزكاة، والخراج، والجزية،
والضرائب، والغنائم، والمصادرات، وكذلك تنوعت أوجه الإنفاق
وشملت: الرواتب، والعطايا، ونفقات الجيش، والبناء والتعمير.
وقد ازدهرت الزراعة ببلاد «المغرب الأقصى» نظرًا لتوافر أسبابها؛
حيث تمتعت البلاد بعدد من الأنهار، إلى جانب الأمطار التى تسقط
على جهات متفرقة، مع تنوع المناخ، فضلا عن خصوبة التربة،
واهتمام السلاطين بالزراعة، فأسفر ذلك عن وفرة وتنوع فى
المحاصيل مثل: القمح، والفول، والشعير، والزيتون، وقصب السكر،
والبقول، وكذلك توافرت الفواكه والخضراوات، ونمت الغابات فى
مساحات واسعة، فأمدت البلاد بأنواع الأخشاب المختلفة لصناعة
السفن والمنازل وغير ذلك من الأغراض.
وشهدت الصناعة ازدهارًا ورواجًا كبيرًا، وتعددت أغراضها ونشطت
مراكزها، خاصة وأن الموحدين تركوا وراءهم صناعة مزدهرة بهذه
البلاد، وجاء المرينيون فازدهرت فى عهدهم صناعة عصر الزيتون
وصناعة السكر، واهتموا بالصناعات الحربية نظرًا لكثرة حروبهم،
ويُروى أنهم كانوا روَّادًا فى استعمال البارود، بل لعلهم - كما يقول
«ابن خلدون» - أول من استعمله فى صناعة المدافع التى استخدمت
فى قذف الأسوار وتحطيمها.
ولم يهمل «بنو مرين» التجارة، بل حرصوا على توفير الأمن للقوافل
واهتموا بالتجارة، وأكثروا من الأسواق المتخصصة، وزادوا من عدد
الحوانيت ووفروا الراحة للتجار، وأنشأوا لهم الفنادق مثل: «فندق
الشماعين»، الذى كان من أهم مراكز التجميع لكبار التجار.
وقد تعددت طرق التجارة، وأقام المرينيون علاقات تجارية مع كثير
من الأقطار، فنشطت التجارة الخارجية، وكان التجار المغاربة يحملون(6/94)
الذهب والصمغ من «السودان» إلى «الأندلس»، وقاموا بتصدير
المنسوجات الصوفية والجلدية إلى «أوربا»، واستوردوا الآلات
الحديدية والأحواض الرخامية، وكان لميناء «سبتة» وغيره من
الموانى دور بارز فى تسهيل عمليتى استيراد هذه البضائع
وتصديرها.
الحياة الاجتماعية:
تشكل المجتمع المرينى من عدة عناصر جاء البربر فى مقدمتها،
وجاءت «قبيلة هنتانة» التى تنتمى إليها الأسرة الحاكمة فى مقدمة
القبائل البربرية. ولاشك أن هذه القبيلة التى أسست «الدولة
المرينية» قد احتلت مركز الصدارة بالدولة، وتلتها فى المرتبة القبائل
الهلالية، ثم القبائل التركية، ثم بقايا الروم والفرنج الذين انضموا إلى
الجيش المرينى.
وقد اتسم بلاط المرينيين فى بداية عهدهم بالبداوة، ثم أخذوا بمظاهر
الرقى والترف بعد أن استقرت لهم أوضاع البلاد، وثبتت أركانها
وتنوعت احتفالات المرينيين، وتعددت بها مظاهر الأبهة والعظمة وكان
لاستقبال الوفود وتوديعها احتفال خاص يليق بالدولة، كما كان
الاحتفال بعيدى الفطر والأضحى، والمولد النبوى، من أهم ما حرص
عليه سلاطين هذه الدولة.
وحظى البناء والتعمير بمرتبة رفيعة لدى المرينيين، واهتموا به
اهتمامًا بالغًا، وشيدوا عدة مدن تأتى فى مقدمتها مدينة «فاس
الجديدة» أو «الدار البيضاء» التى أنشأها السلطان «يعقوب بن
عبدالحق»، فى سنة (674هـ= 1275م)، لتكون عاصمة لبلاده بدلا من
العاصمة القديمة «فاس» التى ازدحمت بالناس. كما بنى «يوسف بن
يعقوب» مدينة «المنصورة» أثناء حصاره لمدينة «تلمسان» سنة
(698هـ= 1299م) واختط بها قصره ومسجدًا، ومساكن للجند والدور
والفنادق والبساتين، ثم أُحيطت المدينة بسور كبير.
هكذا بنى المرينيون المساجد الكبيرة بشتى مدن «المغرب الأقصى»،
وعنوا بفرشها وتزويدها بالماء اللازم للوضوء، وكان المسجد الجامع
الذى بنى بفاس الجديدة سنة (677هـ= 1278م) من أهم هذه المساجد.(6/95)
وكانت المدارس من أهم المنشآت التى حرص المرينيون على إقامتها،
فأقاموا «مدرسة الصفارين» فى عهد السلطان «يعقوب» الذى عين
لها المدرسين، وأجرى على طلبتها النفقات اللازمة، وزودها بخزانة
للكتب، وبنى السلطان «أبو سعيد» عدة مدارس منها: مدرسة
العطارين، ومدرسة المدينة البيضاء، ومدرسة الصهريج.
ولم يغفل المرينيون إنشاء المستشفيات، فأقام السلطان «يعقوب بن
عبد الحق» عدة مستشفيات للمرضى والمجانين، ووفر لها الأطباء،
وأجرى عليهم المرتبات، كما خصص جزءًا كبيرًا من أموال الجزية
لرعاية الجذامى والعميان.
الحياة الفكرية:
ورث «بنو مرين» عن المرابطين والموحدين ثروة ثقافية كبيرة،
فأسهموا بدورهم فى زيادة هذه الثروة، وأنشئوا المؤسسات العلمية
كالمساجد والمدارس، ورحبوا بالعلماء القادمين من «الأندلس»
وغيرها؛ وشجعوهم على بذل ما لديهم دفعًا للحركة العلمية بالبلاد.
فاهتم العلماء بتفسير القرآن، وبرع عدد كبير منهم فى هذا العلم
أمثال: «محمد بن يوسف بن عمران المزداغى» المتوفى عام (655هـ=
1257م)، و «محمد بن محمد بن على» المعروف بابن البقال المتوفى
عام (725هـ= 1325م)، و «محمد بن على العابد الأنصارى» الذى اختصر
تفسير الزمخشرى المتوفى عام (762هـ= 1361م).
أما علم الحديث فقد ازدهر باعتباره المصدر الثانى للتشريع، ومن
أبرز علمائه: «عبدالمهيمن الحضرمى»، و «محمد بن عبدالرازق
الجزولى»، و «ابن رشيد» الذى تُوفى فى سنة (721هـ= 1321م).
وقد تقدم علم الفقه تقدمًا كبيرًا بسبب تشجيع سلاطين «بنى مرين»
للفقهاء؛ فكثرت المؤلفات، وظهر كثير من الفقهاء مثل: «محمد بن
محمد بن أحمد المقرى» المعروف بالمقرى الكبير المتوفى عام
(758هـ= 1357م)، و «أحمد بن قاسم بن عبدالرحمن الجذامى» الذى
عُرف بالقباب المتوفى عام (778هـ= 1376م).
وإلى جانب هذه العلوم الدينية ازدهرت علوم اللغة، والنحو والتاريخ،
والسير، والرحلات، والجغرافيا، والفلك، والرياضيات، والفلسفة(6/96)
والمنطق والطب، كما ازدهرت الحركة الأدبية، واشتهر عدد كبير من
الشعراء، مثل: «أبى القاسم رضوان البرجى» الذى تولى وظيفة
الإنشاء فى عهد «أبى عنان المرينى»، و «لسان الدين بن الخطيب»
أشهر الشعراء الأندلسيين الذين عاشوا مدة طويلة بالدولة المرينية،
وكذا اشتهر عدد كبير فى فن النثر، منهم: «ابن خلدون» و «ابن
مرزوق الخطيب».
وأسهمت المكتبات إسهامًا بارزًا فى تنشيط الحركة الفكرية، وكان
السلطان «أبو عنان المرينى» قد أفرد دارًا للكتب وزوَّدها بالكتب
فى شتى مجالات العلوم والمعرفة، واستخدم بها الأمناء لحفظ الكتب
وترتيبها وتصنيفها، وكذا لاستقبال الزائرين.
بنو وطاس بالمغرب الأقصى:
[869 - 962هـ= 1465 - 1555م]:
تمهيد:
«بنو وطاس» فخذ من قبيلة «بنى مرين»، ولكنهم ليسوا من فرع
الأسرة المرينية الحاكمة، وقد قامت علاقة حذرة بين أسرتى «بنى
وطاس» و «بنى مرين»، ثم تعدى «بنو وطاس» هذا الحذر، واتخذوا
موقفًا عدائيا من دولة «بنى مرين» منذ قيامها، وساندوا الموحدين
فى صراعهم معهم، ومن ثم عمد المرينيون- بعد قيام دولتهم واستقرار
الأوضاع لهم - إلى إحكام قبضتهم على حصن «تازوطا» الذى كان
مقر «بنى وطاس» فى ذلك العهد، ولكن الوطاسيين قاموا بثورة فى
سنة (691هـ= 1292م) للاحتفاظ بنفوذهم فى هذا الحصن، وامتدت
ثورتهم فشملت منطقة الريف، ثم طردوا الوالى المرينى وحاشيته،
وسيطروا على الحصن، مما دفع السلطان «يوسف بن يعقوب
المرينى» إلى تجهيز جيش كبير، وجعل عليه «عمر بن المسعود بن
خرباش» أحد قادته المخلصين، وأمره بالتوجه إلى حصن «تازوطا»،
ثم خرج السلطان بنفسه على رأس جيش آخر، وحاصر الجيشان الحصن
مدة عشرة أشهر، وتمكن «عمر» و «عامر» ابنا «يحيى بن الوزير
الوطاسى» زعيما الوطاسيين من الفرار بأموالهما إلى «تلمسان»،
ودخل السلطان الحصن، وأنزل العقاب بالوطاسيين ثم عاد إلى
عاصمته «فاس» فى آخر جمادى الأولى سنة (692هـ= أبريل1693م).(6/97)
وقد تآمر «زيان بن عمر الوطاسى» مع الأمير «أبى عبدالرحمن
المرينى» ضد والده السلطان «أبى الحسن»، فى محاولة للاستيلاء
على السلطة، ولكن محاولتهما باءت بالفشل، وسُجن الأمير، وفر
«الوطاسى» إلى «تونس».
وعلى الرغم من كل ما سبق فإن الوطاسيين نالوا حظا وافرًا من
المراكز العامة بالدولة المرينية، وتغلغل نفوذهم داخل مراكز الحكم
المدنى، وكذا العسكرى، ووصل بعضهم إلى منصب الوزارة، مثل:
«رحو بن يعقوب الوطاسى» الذى ولى الوزارة فى عهد السلطان
«عامر بن عبدالله المرينى»، واستمر إلى عهد «سليمان بن عبدالله»،
وتولى «عمر بن على الوطاسى» الإمارة فى مدينة «بجاية» فى عهد
«أبى عنان المرينى» فى سنة (759هـ= 1358م).
الأوضاع الداخلية بدولة بنى وطاس ثم سقوطها:
دخل «محمد الشيخ الوطاسى» سلطان الوطاسيين فى مواجهة
مستمرة - منذ أسس دولته- مع الفتن والقلاقل والثورات التى قامت
بالدولة على أيدى العرب الذين أغاروا على «فاس» و «مكناسة»
ودمروهما، ثم واجه ثورة «على بن راشد» فى «شفادن» وهى مدينة
قريبة من «البحر المتوسط» و «المحيط الأطلسى»، و «مضيق جبل
طارق»، ثم حاول «محمد بن أحمد المرينى» الاستقلال بمدينة «دبرو»
التى تقع شمال شرق «المغرب»، ونجح فى ذلك، وبسط نفوذه على
المناطق الغربية منها، فأدرك «محمد الشيخ» خطورته، وخرج
لمواجهته مرتين، كانت الأولى فى سنة (895هـ= 1490م)، وهُزم فيها
الوطاسيون، وكانت الثانية فى سنة (904هـ= 1498م)، وانتصر فيها
«بنو وطاس»، وعقد سلطانهم الصلح مع «محمد بن أحمد المرينى»،
وزوج السلطان ابنتيه لولدىّ الأمير «محمد»، فحل بينهما السلام.
وقد واجهت هذه الدولة ثورة بالمنطقة الجنوبية، قادها «عمرو بن
سليمان الشيظمى»، الشهير بالسياف، فى سنة (870هـ= 1465م)، ولم
تهدأ هذه الثورة إلا بعد أن اُغتيل «الشيظمى» على يد زوجته فى
سنة (890هـ= 1485م).
والواقع أن «بنى وطاس» لم يتمكنوا من فرض سلطانهم ونفوذهم(6/98)
على كل «المغرب الأقصى»، بل يمكن القول بأن نفوذهم لم يتجاوز
العاصمة «فاس»، واقتسمت القبائل والأشراف والزعامات المحلية
ومشايخ الصوفية باقى البلاد.
فأدى هذا إلى نشوب الاضطرابات والقلاقل بالبلاد، وتزايد
الانقسامات بها، واستغلال البرتغال والإسبان لهذه الأوضاع للتوسع
وفرض النفوذ ونشر المسيحية.
ثم بدأت مرحلة أخرى من الصراع بين الوطاسيين والسعديين الذين
حشدوا الناس إلى جانبهم بحجة الدفاع عن البلاد من خطر الإسبان
والبرتغال، وكانوا فى حقيقة الأمر يسعون لإسقاط «دولة
الوطاسيين»، ونجحوا فى السيطرة على بعض المدن المغربية، ثم
دخلوا «مراكش»، وفشل «بنو وطاس» فى صدهم، وتدخل العلماء
للصلح بينهما، ونجحت محاولتهم، واتفق الفريقان على اقتسام «بلاد
المغرب الأقصى»، ولكنهما دخلا فى صراع ثانية، وتوسع السعديون
على حساب أملاك الوطاسيين، ثم دخلوا مدينة «فاس»، وقتلوا
السلطان الوطاسى «أبا حسون على بن محمد بن أبى ذكرى» فى
يوم السبت (24 من شوال سنة 961هـ=22 من سبتمبر 1554م)، وبدأ
السعديون بقيادة «محمد الشيخ السعدى» فى فرض نفوذهم على
بقية المناطق التابعة للوطاسيين، وهكذا سقطت دولة «بنى وطاس».
العلاقات الخارجية:
تعددت العلاقات الخارجية بين «بنى وطاس» و «دول المغرب»، فضلا
عن الإسبان والبرتغال، وحاولوا كسب ود الحفصيين بتونس،
وبايعوهم، ولكن هذا الود لم يدم، لأن الحفصيين ساندوا ثورة
«الشيظمى» التى استمرت نحو عشرين عامًا، وكذلك حاول «بنو
وطاس» مسالمة الإسبان والبرتغال، وعقد «محمد الشيخ الوطاسى»
مؤسس الدولة معاهدة سلام مع البرتغال فى سنة (876هـ= 1471م)،
ولكن البرتغاليين نقضوا هذه المعاهدة، ثم توالت الاتفاقات بين
الطرفين.
وقد تطورت العلاقات بين «بنى وطاس» و «الإسبان»، أثناء الصراع
الذى دار بين «ابن حسون الوطاسى» والسعديين؛ حيث التمس «ابن
حسون» العون من الإسبان، وأعلن ولاءه لامبراطورهم، واستعداده(6/99)
لتسليمهم «بادس» فى مقابل مساعدته فى استرداد عرش «فاس»،
وساعده الاسبان بالسفن والأموال، ولكنه فشل فى استعادة عرشه،
فلجأ إلى البرتغال، وساندوه بالجنود والأموال وعدة الحرب، ولكن
هذه المساعدات لم تحقق أغراضها؛ إذ حاصرتها قوات الدولة
العثمانية واستولت عليها، مما جعل «ابن حسون» يلجأ إليهم طلبًا
للعون فى مقابل الاعتراف بسلطة الخليفة العثمانى، فمكَّنه
العثمانيون من العودة إلى عاصمته «فاس» ثانية فى سنة (961هـ=
1554م)، ثم مالبث الأتراك أن سيطروا على مقاليد الأمور بفاس،
وضاق الناس بذلك، فاضطر «ابن حسون» إلى تعويض الأتراك بمبالغ
مالية كبيرة للرحيل عن العاصمة، ففعلوا، وواصل «ابن حسون»
نشاطه ضد السعديين، حتى سقط قتيلا، ومن ثم سقطت «دولة بنى
وطاس».
بعض المظاهر الحضارية:
- النظام السياسى والإدارى:
كان الحكم وراثيا فى «بنى وطاس»، وكان السلطان يعين كبار
مستشاريه من كبار الشخصيات، وكان للسلطان أمين سر مهمته
الإشراف على أموال السلطان، كما كان السلطان يُعيِّن حكامًا على
كل مدينة، وجعل لهم الحق فى التصرف فى مواردها، وتزويد جيش
السلطان بالجنود من مدنهم، وتعيين وكلاء من طرفهم على القبائل
التى تسكن الجبال، وجباية الأموال، وأخضع السلطان كل ذلك
لسلطته، وأحكم قبضته على مقاليد الأمور، كما أخضع كل موارد
الدولة لخدمة الأغراض العسكرية.
واتخذوا الوزراء من أقاربهم، واستوزر «محمد الشيخ الوطاسى»
أخويه «محمد الحلو» و «الناصر أبا زكريا»، وعين مسعود بن الناصر
خلفًا لأبيه على الوزارة، وقد تنوعت اختصاصات الوزراء بين المهام
السياسية والحربية إلى جانب أعمالهم الإدارية.
وتنوعت الوظائف الإدارية وشملت: الباشا، والقائد، والقاضى،
والمحتسب، ويساعدهم مجموعة من الموظفين، منهم: الأمين والناظر،
وأمين المواريث. وقد نشطت حركات الاستقلال أثناء ضعف الحكومة
المركزية بفاس، وغياب سلطتها عن مناطق الأطراف، والمناطق
النائية.(6/100)
النواحى الاقتصادية:
نجحت الزراعة نجاحًا عظيمًا، كعادتها ببلاد «المغرب»، وكثرت
المحاصيل وزادت أنواع الفواكه، وساعدت هجرة الأندلسيين إلى
«بلاد المغرب» على إدخال النظم الزراعية الحديثة، واستحداث أنواع
كثيرة من المحاصيل بالبلاد.
وقد ترتب على ازدهار الزراعة قيام صناعات كثيرة، إلى جانب
الصناعات التى كانت موجودة من قبل، واشتهرت «فاس» بصناعات
الأحذية والأوانى النحاسية والخيوط والمنسوجات. وكذلك صناعة
الحلى.
ونشطت التجارة - خاصة فى أوقات السلم- وتوافرت الطرق الداخلية
التى تربط بين المدن، كما توافرت الطرق الرئيسية التى تسير فيها
القوافل من المدن المغربية وإليها، مثل: «سوسة» و «درعة» اللتين
حظيتا بنشاط تجارى كبير.
وتنوعت صادرات «المغرب» من الأوانى النحاسية، والمصنوعات
الجلدية والزجاجية، والقطنية والحريرية، وكذلك التمور بأنواعها
والتين والحلى، أما وارداتهم فكانت الذهب وبعض التوابل.
الحياة الاجتماعية:
لم تختلف طبقات المجتمع كثيرًا فى العهد الوطاسى عما سبقه من
عهود، واحتل الجيش مكانًا بارزًا، نظرًا لكثرة الحروب التى خاضها
الوطاسيون، وقد انقسم هذا الجيش إلى قسمين هما: الجيش النظامى،
وأفراده من البربر، ويضم: الفرسان والرماة وراشقى السهام،
والمشاة، والقسم الثانى: من المتطوعة من العرب وغيرهم، وقد عرف
جيش الوطاسيين نظام الحصون والحاميات.
وتوقف نشاط الوطاسيين العمرانى على مدينة «فاس»، ويرجع ذلك
إلى الأوضاع السياسية المضطربة التى سادت تلك الفترة، وانصراف
«بنى وطاس» إلى المعارك والحروب، وصرف إمكاناتهم المادية فى
التسليح والإنفاق على الجيش. وقد أدى كل ذلك إلى توقف النشاط
العمرانى، وتناقص عدد الفنادق والمستشفيات، وقلة الاهتمام
بالمرضى.
الحياة الفكرية:
شهدت العلوم الدينية نشاطًا ملحوظًا، وبرز عدد كبير من العلماء فى
المجالات كافة، منهم: «أبو عبدالله بن أبى جمعة الهبطى»، صاحب(6/101)
كتاب: «الوقف فى القرآن الكريم»، والمتوفى عام (930هـ= 1524م)،
والفقيه «محمد بن عبدالله بن عبدالواحد الفاسى» المتوفى عام
(894هـ= 1489م)، وألف «الوتشريشى» عدة كتب منها: «المعيار
المعزب، والجامع المعرب عن علماء إفريقية والأندلس والمغرب»، وهو
فى اثنى عشر جزءًا.
وفى علم التاريخ برز القاضى «أبو عبدالله محمد الكراسى
الأندلسى»، الذى ألف منظومة عن «بنى وطاس»، أسماها: «عروسة
المسائل فيما لبنى وطاس من فضائل». وتقع هذه المنظومة فى نحو
ثلاثمائة بيت، وهى المصدر الوحيد الذى يعتمد عليه المؤرخون فى
التأريخ لهذه الفترة، حيث لم يصل إليهم غيره.
ويعد كتاب «وصف إفريقيا» للجغرافى «حسن الوزان» من أهم الكتب
وأشهرها فى هذا المجال، وقد تناول فيه جغرافية «إفريقية»
عمومًا، و «المغرب الأقصى»، و «مملكة فاس»، و «مملكة مراكش»،
كما تناول العادات والتقاليد والحياة الاقتصادية والفكرية والدينية،
والنظم الإدارية.
وتنافس الشعراء والوعاظ - فى هذه الفترة- فى تأليف الخطب
والقصائد الحماسية؛ لحث الناس على جهاد الأسبان والبرتغال، ومن
أبرز هؤلاء المؤلفين «أبو عبدالله محمد بن عبد الرحيم التازى»
المتوفى عام (920هـ= 1514م)، وله مؤلف عنوانه: «تنبيه الهمم
العالية، والانتصار للملكة الذاكية، وقمع الشرذمة الطاغية، عجل الله
دمارها، ومحا ببواتر المسلمين آثارها».
ووجدت علوم اللغة اهتمامًا بالغًا، وألف «عبدالعزيز بن عبدالواحد
اللمطى الميمونى» ألفية فى النحو تضاهى ألفية «ابن مالك»، و «ابن
عبدالواحد»، وهو من أهل «فاس» وقد توفى عام (880هـ= 1475م)،
وكذلك قام العالم «أبو العباس أحمد بن محمد» المتوفى عام (995هـ=
1587م) بتدريس الفلك والحساب بجامع القرويين بفاس.
دولة بنى زيان:
[633 - 962هـ= 1235 - 1555م]
تمهيد:
ترجع تسمية هذه الدولة بهذا الاسم إلى «زيان بن ثابت»، والد
«يغمراس» مؤسسها، كما أنها تسمى بدولة بنى عبدالواد (العبد(6/102)
الوادية) نسبة إلى قبيلة «عبد الواد» التى ينتمى إليها «بنو زيان».
وقد قامت هذه الدولة بالمغرب الأوسط (الجزائر حاليا) وكان يحدها
غربًا «نهر ملوية»، ومدينة «قسنطينة» من الجانب الشرقى، وكانت
هذه المنطقة تضم عدة مدن منها: «بجاية»، و «الجزائر»، و «وهران»،
و «قسنطينة»، و «مليانة»، و «تلمسان».
قيام دولة بنى زيان:
شجع ضعف «دولة الموحدين» عقب هزيمتهم فى معركة «العقاب»
فى سنة (609هـ= 1212م)، بعض القوى على الاستقلال، فشجع ذلك
بدوره «بنى عبدالواد» على الاستقلال بالمغرب الأوسط، فاستولوا
على «تلمسان» فى سنة (627هـ= 1230م).
ويعد «يغمراس بن زيان» الذى تولى الإمارة بعد أخيه فى سنة
(633هـ= 1235م) هو المؤسس الحقيقى لهذه الدولة، حيث سالم جيرانه
من الموحدين كى لا يعرض دولته الناشئة لمعارك جانبية، تصرفه عن
تأسيس الدولة، وبنى سياسته فى هذه المرحلة على عاملين مهمين
هما:
العامل العسكرى:
جاور «الحفصيون» «بنى زيان» من جهة الشرق، وجاورهم «بنو
مرين» من الغرب، وهاجم «بنو حفص» مدينة «تلمسان» فى سنة
(640هـ= 1242م)، فهادنهم «بنو زيان» وبايعوهم، ودعوا على
منابرهم للحفصيين، وفى الوقت نفسه بعثوا بجنودهم إلى الجبال
واتخذوا من الإغارة على القوات الحفصية وسيلة لطردهم من
«تلمسان» و «المغرب الأوسط»، فاضطر الحفصيون إلى عقد الصلح
معهم وأعادوا «يغمراس» إلى مقر حكمه بتلمسان ثانية، وكذلك فعل
«بنو زيان» مع الموحدين فى سنة (646هـ= 1248م) ثم قاموا بغارات
كثيرة على القبائل الموجودة داخل «المغرب الأوسط»، مثل قبائل
«توُين» و «مغرادة».
العامل السلمى:
لم يكتف «يغمراس» بالمعارك والغارات، وعمد إلى تحصين بلاده
شرقًا وغربًا، وجاء بقبيلة «بنى عامر» وأقطعها نواحى «وهران»
و «تلمسان» لتكون حائط الصد لأعدائه، ثم دعم كيان دولته بمصاهرة
الحفصيين، حيث زوج إحدى بناته لعثمان ابن الأمير الحفصى «أبى(6/103)
إسحاق»، فأمن بذلك شرهم، وهجماتهم على الحدود الشرقية لدولته.
تطور دولة بنى زيان:
كانت القبيلة من أهم العوامل التى أثرت فى سياسة دولة «بنى
زيان» وكيانها؛ حيث دخلت هذه الدولة فى صراع طويل مع قبائل:
«بنى توُين» و «مغرادة» من البربر، و «بنى عامر سويد» من العرب،
لرفض هذه القبائل الخضوع لغيرها، ولتعصبها لبنى جلدتها
وقبيلتها، وشقت عصا الطاعة، ثم زادت حدة موقفها بعد وفاة
«يغمراس» فى سنة (681هـ= 1282م)، واضطر الأمير «عثمان» الذى
خلف والده «يغمراس» إلى مواجهتهم، فاستولى على «مازونة» من
«مغرادة» فى سنة (686هـ= 1287م)، ثم احتل مدينة «تنس»، ودخل
«إنشريش» ولكن هذا الاتساع عاد إلى الانكماش ثانية نتيجة احتلال
«بنى مرين» للمغرب الأوسط، وحصارهم «تلمسان» فى سنة (698هـ=
1299م)، وعادت القبائل مرة أخرى إلى التمرد والعصيان عقب وفاة
الأمير «عثمان»، فخرج إليهم الأمير «أبو زيان محمد الأول» (703 -
707هـ= 1303 - 1307م)، ثم خضعت هذه الدولة أكثر من مرة لدولة
بنى مرين مثلما حدث فى سنة (670 - 680هـ= 1271 - 1281م) وسنة
(689هـ= 1290م) وسنة (737 - 749هـ= 1336 - 1348م) ولكن بنى زيان
كانوا يرفضون هذا الخضوع، وينتهزون الفرصة للعودة إلى حكم
بلادهم.
وقد عاشت هذه الدولة فى حروب واضطرابات دائمة، ونشبت
الخلافات بين أفراد البيت الزيانى، وأدى التهافت على السلطة بينهم
إلى أن يشهر الولد السيف فى وجه أبيه، بل يتعدى ذلك، ويقتل
أباه، مثلما حدث مع «أبى تاشفين (الثانى) عبد الرحمن» (791 -
795هـ=1389 - 1393م) ووالده السلطان «أبى حمو موسى (الثانى) بن
يوسف»، حين خلع «تاشفين» أباه من السلطة، واستولى على
الحكم، ثم اعتقل أباه وإخوته فى سنة (788هـ= 1386م) فقامت حروب
بين أفراد هذه الأسرة، وعاد «أبو حمو» إلى عرشه، واستعان «ابنه
تاشفين» ببنى مرين عليه، وحاربه، ثم قتله وعاد «تاشفين» إلى
الحكم فى ظل التبعية لبنى مرين.
سقوط دولة بنى زيان:(6/104)
تفشت ظاهرة قتل السلاطين بدولة بنى زيان، وزاد التناحر بين أفراد
البيت الزيانى، وتكررت هجمات الاسبان على الشواطئ المغربية،
واستولوا على «مرسى وهران» فى سنة (911هـ= 1505م)، ثم
استولوا سنة (912هـ= 1506م) على «وهران» و «بجاية» و «تدلس»
وهى موانى تابعة «لبنى زيان»، وارتضى «أبو حمو الثالث» (909 -
923هـ= 1503 - 1517م) دفع ضريبة سنوية للإسبان لكى يبقى فى
مقعد الحكم، فاستنجد الناس بالأتراك العثمانيين لتخليصهم من هذا
الاحتلال، فأسرع لنجدتهم الأخوان «عروج» و «خير الدين» ابنا
«يعقوب التركى»، اللذان كانا يحملان المتطوعين فى السفن لإنقاذ
مهاجرى الأندلس، ونقلهم إلى أرض «المغرب»، ودارت معركة بين
الطرفين، وأرسلت إسبانيا بالإمدادات لتعزيز قواتها وحليفها «أبى
حمو» الذى فر إلى «وهران» للاحتماء بالقوة الإسبانية هناك،
وحاصر الإسبان مدينة «تلمسان» واستشهد «عروج» فى سنة
(924هـ= 1518م)، ومات «أبو حمو الثالث» فى السنة نفسها.
وتوالت الاضطرابات، وزاد التنافس على العرش، وأقبل السعديون من
«المغرب الأقصى» واستولوا على «تلمسان» فى سنة (957هـ=
1550م).
وانقسم البيت الزيانى إلى طوائف ثلاث: إحداها تضامنت مع الأتراك،
والأخرى استعانت بالأسبان، والأخيرة تحالفت مع السعديين، وتحرك
الأتراك، ودخلوا فى معركة مع السعديين وهزموهم، فعادوا إلى
«المغرب الأقصى»، ودخل الأتراك العاصمة «تلمسان». وكان آخر
حكام «بنى زيان» هو «الحسن بن عبدالله» (957 - 962هـ= 1550 -
1555م) الذى ثار عليه الناس لميله إلى الإسبان فخلعه الأتراك، وضموا
«تلمسان» إلى حكومة «الجزائر» التركية فى سنة (962هـ= 1555م).
العلاقات الخارجية:
كان موقع «الدولة الزيانية» بالمغرب الأوسط حافزًا للقوى الأخرى
بالمغرب على التطلع إليها، بغرض السيطرة وفرض النفوذ، ولعل هذا
هو ما فعله الموحدون، و «بنو مرين»، و «الحفصيون». وظلت العلاقات(6/105)
بين هذه الدولة وهذه القوى بين شَد وجذب، فتارة يخضع «بنو
زيان» للنفوذ الموحدى والمرينى والحفصى، وتارة ينعمون
باستقلالهم، وأخرى يمتد فيها نفوذهم إلى بعض مناطق المغربين
الأدنى والأقصى.
ولقد وقف «بنو زيان» فى بداية الأمر فى وجه الزحف الموحدى، إلا
أن الموحدين تمكنوا من إخضاعهم والسيطرة على «المغرب
الأوسط»، ودخل «بنو زيان» فى تبعية الموحدين، فلما قويت شوكة
«بنى زيان» كانت «دولة الموحدين» فى مرحلة الضعف والانهيار،
فبدأ الموحدون يتوددون إليهم ويهادنونهم، فخشى الحفصيون من
هذا التحالف، وتوجهوا إلى «تلمسان» واستولوا عليها فى سنة
(640هـ= 1242م) بمساعدة بعض قبائل «المغرب الأوسط»، واشترطوا
لعودة «بنى زيان» إلى الحكم أن يخلعوا طاعة الموحدين ويعلنوا
تبعيتهم للحفصيين، فقبل «بنو زيان» ذلك، وعادوا إلى حكم
«تلمسان». ولكن الموحدين لم يعجبهم هذا الوضع وحشدوا جيوشهم
وحاصروا «تلمسان»، فأعلن «بنو زيان» طاعتهم لهم، وساعدوهم
فى صراعهم مع المرينيين على الرغم من العلاقات المتوترة بينهما،
وظل هذا شأنهما حتى سقوط «دولة الموحدين» فى سنة (668هـ=
1269م). أما علاقة «بنى زيان» بالحفصيين، فكانت علاقة عداء؛
نظرًا لتضارب مصالح الدولتين، حيث رغبت كل منهما فى التوسع
على حساب الأخرى. وقد بدأت هذه العلاقات باستيلاء الحفصيين
على «تلمسان» فى سنة (640هـ= 1242م)، ثم بدأت بينهما
المفاوضات، وعاد «يغمراس» إلى عاصمته «تلمسان» وأعلن تبعيته
للحفصيين، ولكن «بنى زيان» لم يرضوا بهذه التبعية وأعلنوا
استقلالهم عن هذه التبعية فى عهد «المتوكل الزيانى» فى سنة
(868هـ= 1464م)، ومن ثم حاصرتهم جيوش الحفصيين فى «تلمسان»
فى سنة (871هـ= 1466م)، وهدموا أسوارها، وأجبروهم على إعلان
الطاعة والتبعية للحفصيين ثانية.
وقد عمد الحفصيون إلى إحداث الفُرقة، وإشعال الفتنة بين أفراد
البيت الزيانى، حتى يتسنى لهم إحكام قبضتهم عليهم، ويضمنوا(6/106)
تبعيتهم، وتم لهم ذلك واستمر حتى دبَّ الضعف والتفكك بين سلاطين
«بنى حفص» وأفراد أسرتهم، فوجه إليهم بنو زيان عدة ضربات
متوالية، وتمكنوا من هزيمتهم والاستيلاء على «تونس» فى سنة
(730هـ= 1330م).
وعلى الرغم مما سبق فقد شهدت العلاقات الزيانية الحفصية - أحيانًا-
بعض حالات الهدوء، وحسن الجوار، وتجلى ذلك حين صاهرهم
«يغمراس» وزوَّج ابنه «عثمان» إحدى بنات «أبى إسحاق الحفصى»
فى سنة (681هـ= 1282م).
بعض المظاهر الحضارية:
- النظام السياسى والإدارى:
كان الحكم فى «دولة بنى زيان» وراثيا، وكانت ألقاب حكامهم
تتراوح بين «أمير المسلمين» ولقب «السلطان»، وقد تفشت ظاهرة
قتل سلاطينهم على أيدى أفراد أسرتهم الحاكمة للوصول إلى
الحكم، كما فعل «تاشفين» مع والده «أبى حمو».
وتعددت المناصب الإدارية فى هذه الدولة، وجاء منصب «الوزارة»
فى مقدمتها، كما كان قاضى القضاة يتقدم مجموعة القضاة بالدولة،
وكذلك كان قائد الجيش من رجال هذه الدولة البارزين، ولذا كان
السلطان يختاره من أفراد أسرته، أو يتولى هو مكانه، ويخرج
بنفسه على رأس الجيوش. وكان ديوان الإنشاء والتوقيع من أبرز
الدواوين، لأنه يختص بالمراسيم السلطانية، ومراسلات الدولة مع
غيرها من الدول.
الحياة الاقتصادية:
تمتع «المغرب الأوسط» بسطح متنوع، جمع بين السهل الساحلى
والوديان الداخلية، وسلسلة جبال الأطلس، فضلاً عن تمتعه بمناخ
يختلف من منطقة إلى أخرى، وبتربة خصبة صالحة للزراعة، وبأنهار
منتشرة فى كل مكان مثل نهرى «شلف» و «سيرات»، وبعيون مائية
منبثة، وبأمطار تسقط على منطقة الساحل، فهيأت كل هذه العناصر
لقيام زراعة ناجحة، أولاها ولاة الأمر عنايتهم ورعايتهم، فتنوعت
المحاصيل الزراعية، كما ازدهرت صناعة الأقمشة الحريرية والصوفية،
وصناعة السجاد والبسط، وكذلك صناعة السفن الحربية والتجارية،
والأسلحة، والمصنوعات الجلدية، والمشغولات الذهبية والفضية
والنحاسية.(6/107)
وكان لموقع «المغرب الأوسط» دور كبير فى تنشيط التجارة،
باعتباره همزة الوصل بين المغربين الأدنى والأقصى، حيث تمتد
شواطئه، وتكثر موانيه المطلة على «البحر المتوسط»، فضلا عن طرق
التجارة المتعددة بجنوبه، والتى كانت تمر منها القوافل التجارية
القادمة من جنوب الصحراء قاصدة الموانى المطلة على «البحر
المتوسط»، لتكمل رحلتها إلى «أوربا» وغيرها من المناطق.
وقد تعددت صادرات «المغرب الأوسط»، وكان الصوف والأسلحة
والمنتجات الزراعية من أهم صادرات «بنى زيان» وأسهمت موانى:
«وهران» و «تنس» و «الجزائر» و «بجاية» إسهامًا بارزًا فى تنشيط
التجارة، وازدهار الاقتصاد، وكان ذلك سببًا رئيسيا فى اهتمام
سلاطين «بنى زيان» بالبناء والتعمير، فتنوعت فى عهدهم
المؤسسات وعُنوا بإنشاء المساجد والمدارس والقصور، والمنشآت
العسكرية، وكانت أبرز مساجدهم هى: «مسجد أبى الحسن» الذى
أمر «عثمان بن يغمراس» ببنائه سنة (696هـ= 1296م)، و «مسجد
الولى إبراهيم» الذى تم بناؤه فى عهد أبى حمو الثانى، كما شهد
عهد «أبى تاشفين الأول» نهضة عمرانية كبيرة.
وتعددت المدارس بتلمسان ووهران، وكانت أبرز هذه المدارس هى
«المدرسة التاشفينية» (أو المدرسة القديمة) التى أنشأها «أبو
تاشفين بن عبد الرحمن» (718 - 736هـ = 1318 - 1336م)، و «المدرسة
اليعقوبية» التى بناها «أبو حمو موسى الثانى»، وكان افتتاحها
فى الخامس من صفر سنة (765هـ= نوفمبر 1363م).
وبنى «بنو زيان» الحصون والأبراج والأسوار والقلاع العسكرية
لتحصين بلادهم، ومن أبرز قلاعهم: قلعة «تامز يزدكت» التى كانت
مركز مقاومتهم على الحدود الشرقية مع «بنى حفص».
الحياة الفكرية:
اهتم «بنو زيان» بتنشيط الحركة الفكرية فى بلادهم، ودعموها
بإنشاء المدارس والمساجد والكتاتيب والزوايا لتعليم الطلاب، ولم
يختلف أسلوب التعليم فى دولتهم عن مثيله فى «دولة بنى مرين»
و «دولة الحفصيين»، وامتلأت المؤسسات التعليمية بالعلماء(6/108)
المتخصصين فى كل علم وفن، وقد لقى هؤلاء من الدولة معاملة
حسنة وأغدقت عليهم المنح والعطايا، وولتهم المناصب الرفيعة حتى
ينهضوا بالمستوى التعليمى والفكرى فى البلاد.
واستعاد المذهب المالكى مكانته بدولة «بنى زيان» كما استعاده
فى بقية الدول الأخرى عقب سقوط «دولة الموحدين»، وازدهرت علوم
التفسير والفقه والحديث والمنطق والجدل والكلام، وغيرها من العلوم،
وتبوأت مجموعة من العلماء مكانة ممتازة لدى «بنى زيان»، منهم:
«أبو إسحاق إبراهيم بن يخلف التنسى» المتوفى عام (680هـ=
1281م)، و «أبو عبدالله محمد بن محمد المقرى» المتوفى عام (759هـ=
1358م) والذى تتلمذ على يديه مجموعة من العلماء النابغين، أمثال:
ابن الخطيب، وابن خلدون، والشاطبى وغيرهم.
وبرزت كذلك جماعة من العلماء فى علوم اللغة والأدب منهم: «أبو
عبدالله بن عمر بن خميس التلمسانى» المتوفى عام (708هـ= 1308م)،
وقد أشرف على «ديوان الإنشاء» بتلمسان فى عهد «عثمان بن
يغمراس»، و «أبو عبدالله محمد بن منصور القرشى التلمسانى» الذى
أنشأ «ديوان الرسائل» فى عهد أبى حمو الأول.
الدولة الحفصية:
[625 - 893 هـ= 1228 - 1488م]:
ينتسب الحفصيون إلى «أبى حفص عمر بن يحيى» الذى ينتمى إلى
«قبيلة هنتانة»، وهى من قبائل المصامدة التى عاشت بالمغرب
الأقصى، واتخذت المعاقل والحصون، وشيدت المبانى والقصور،
وامتهنوا الفلاحة وزراعة الأرض. وقد طمع الحفصيون فى الاستقلال
بإفريقية بعد هزيمة الموحدين فى معركة «العقاب» بالأندلس فى
سنة (609هـ= 1212م)، وعملوا على تحقيق ذلك حتى سنة (625هـ=
1228م)، فوصل «أبو زكريا بن عبدالواحد الحفصى» إلى مقعد
الإمارة بتونس، ومهد لقيام «دولة الحفصيين» حتى سنة (627هـ=
1230م) فبايعه الحفصيون واستقل عن طاعة الموحدين وضم إليه
«الجزائر» و «تلمسان».
وقد واجهت الدولة الحفصية عدة ثورات، إلا أنها تمكنت من القضاء
عليها فى عهد قوتها، فلما حل الضعف بخلفاء الأمير «أبى زكريا(6/109)
الحفصى»، زادت الخلافات بين أفراد الأسرة الحاكمة، وقامت الثورات
فى أماكن كثيرة، ولم يتمكن أمراء الحفصيين من مواجهة هذه
الاضطرابات، فحل الضعف بدولتهم حتى سقطت على أيدى العثمانيين
سنة (893هـ=1488م).
العلاقات الخارجية:
تنوعت علاقات «الدولة الحفصية»، وشملت «الأندلس»، و «أوربا»،
ودول: «بنى مرين» والوطاسيين والزيانيين.
واتسمت علاقتهم بالأندلسيين بالهدوء تارة وبالتوتر والمنافسة تارة
أخرى، وكذلك تمثلت علاقتهم بالأوربيين فى عدة حملات عسكرية،
عُرفت باسم الحروب الصليبية، وسعى الصليبيون إلى تحويل مسلمى
«المغرب الأدنى» إلى المسيحية، غير أن وباءً تفشى بالمعسكر
الصليبى، وتوفى لويس متأثرًا بهذا الوباء، فلجأ الصليبيون إلى
التفاوض والصلح مع الحفصيين، ثم الانسحاب فى سنة (669هـ=
1270م) ولكن الصليبيين عاودوا الهجوم على مدينة «طرابلس» فى
سنة (755هـ= 1354م)، واستولوا عليها واستباحوها، ولم يخرجوا
منها إلا بعد الحصول على قدر كبير من المال، ثم توالت حملاتهم
الصليبية بعد ذلك على بلاد «المغرب الأوسط» ومدنه.
وقد مرت العلاقات الحفصية المرينية بعدة مراحل ارتبطت بالأحوال
والظروف السياسية التى كانت تمر بها كل من الدولتين، واتسمت
هذه العلاقات بالصراع بين الطرفين، ودخول بنى حفص فى تبعية
«بنى مرين» فى أحايين كثيرة، ولكن ذلك لم يمنع من قيام بعض
العلاقات الطيبة فى فترة حكم «عثمان ابن أحمد المرينى» (801 -
823هـ = 1398 - 1420م)، و «عبدالحق بن سعيد المرينى» (863 -
869هـ = 1459 - 1465م).
- بعض المظاهر الحضارية:
الجانب السياسى والإدارى:
عرفت «دولة بنى حفص» نظام الخلافة، وكان الحكم بها وراثياًّ،
ويعاون الخليفة هيئة استشارية، يُطلق عليها اسم أشياخ البساط،
وجميعهم من قبيلة «هنتانة» التى تنتمى إليها الأسرة الحاكمة،
وكذلك عرفت هذه الدولة نظام الحجابة، وتطور هذا النظام لدرجة أن(6/110)
الحاجب كان يفصل فى الأمور دون الرجوع إلى الخليفة، وجاء منصب
الوزارة فى مرتبة تلى منصب الحجابة، ويأتى إلى جانبهما منصب
القضاء الذى أولاه الحفصيون عنايتهم لأهميته.
الحياة الاقتصادية:
تنوعت مصادر الدخل فى «دولة بنى حفص»، وشملت: الضرائب
والزكاة، والجزية، والمصادرات، والخراج، وانتعشت الزراعة وكثرت
المحاصيل، ونشطت الصناعات مثل: المنسوجات بأنواعها،
والصناعات الجلدية والزجاجية، وصناعة الأسلحة والسفن، واستخدم
«بنو حفص» عملة خاصة بهم ليؤكدوا استقلالهم.
الحياة الاجتماعية:
تشكل المجتمع الحفصى من عدة عناصر، وكانت قبيلة هنتاتة
البربرية فى مقدمة هذه العناصر، كما كان العرب المقيمون، والعرب
الهلالية ممن شكلوا هذا المجتمع، تضاف إليهم مجموعات الروم
والأتراك.
وشهدت «الدولة الحفصية» حركة واسعة فى البناء والتعمير، وأقام
الحفصيون المؤسسات التعليمية مثل: الكتاتيب، والزوايا والمساجد،
فقامت بدورها فى دعم العلوم المختلفة وتدريسها، ثم أنشأ
الحفصيون المدارس بالعاصمة «تونس»، وكانت أول مدرسة هى
«المدرسة الشماعية» التى أنشأها «أبو زكريا يحيى الأول» فى
سنة (633هـ= 1235م)، وتلتها «التوفيقية» فى سنة (650هـ= 1252م).
وأخذت «الدولة الحفصية» بالمذهب المالكى، واهتمت بالعلوم الدينية
مثل تفسير القرآن، وعلم الحديث، والفقه، وكذلك اهتم الحفصيون
بالعلوم العقلية مثل: المنطق والكيمياء والفلك وغيرها. وساهمت
المكتبات - التى زُوِّدت بالكتب فى شتى فروع المعرفة- فى تنشيط
الحركة الثقافية بالبلاد، وكذا ساهمت المجالس العلمية، التى شجعها
بعض الحكام الحفصيين فى إثراء النشاط العلمى ودعمه.
وقد أثمرت هذه الحركة الثقافية المزدهرة مجموعة من العلماء
البارزين فى شتى فروع العلم والمعرفة، فكان من الفقهاء «أبو
عبدالله محمد بن عرفة» المتوفى عام (802هـ= 1399م)، ومن
المحدثين: «أبو بكر بن سيد الناس» المتوفى عام (659هـ= 1261م)،(6/111)
ومن النحويين: «أبو الحسن على بن موسى» المعروف «بابن
عصفور» المتوفى عام (969هـ= 1561م)، ومن الشعراء: «حازم
القرطاجنى» المتوفى عام (684هـ= 1285م)، و «ابن الأبار» المتوفى
عام (662هـ= 1264م).
وقد أسهم هؤلاء وغيرهم فى دعم المعرفة، وتنشيط الثقافة،
ومؤازرة الحركة الفكرية فى دولة «بنى حفص».(6/112)
- المراجع:
* إبراهيم العدوي: الأمويون والبيزنطيون - مكتبة الأنجلو المصرية -القاهرة - 1953م.
* بن الأثير (عز الدين): الكامل ففي التاريخ - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولي - 1987م.
* أحمد بن أبي الضياف: إتحاف أهل الزمان - الدار التونسية للنشر - تونس - 1989م.
* بن حجرالعسقلاني (أحمد بن علي): الدرر الكامنة - دار الجيل - بيروت - 1414هـ = 1993م.
* الحسن الوزان: وصف إفريقية - ترجمه عن الفرنسية محمد حجي ومحمد الأخضر - دار الغرب الإسلامي - بيروت - الطبعة الثانية - 1983م.
* حسين مؤنس: تاريخ المغرب وحضارته - العصر الحديث للنشر والتوزيع - بيروت - الطبعة الأولى - 1413هـ = 1992م.
* بن الخطيب (لسان الدين محمد): الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية - رباط الفتح - 1936م.
* بن خلدون (عبد الرحمن بن محمد): تاريخ ابن خلدون - مؤسسة جمال للطباعة والنشر - بيروت - 1979م.
* بن أبي دينار (محمد بن أبي القاسم): المؤنس في أخبار إفريقية وتونس - تونس - 1303هـ.
* روبار برنشفيك: تاريخ أفريقية في العهد الحفصي - ترجمة: حمادي الساحلي - دار الغرب الإسلامي - بيروت - الطبعة الأولى - 1988م.
* بن أبي زرع (أبو الحسن علي بن عبد الله): الأنيس المطرب بروضة القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس - باريس - 1860م.
* السراج (محمد بن محمد): الحلل السندسية في الأخبار التونسية - تحقيق محمد الحبيب الهيلة - دار الغرب الإسلامي - الطبعة الأولي - 1985م.
* سعد زغلول عبد الحميد: تاريخ المغرب العربي - منشأة المعارف - الإسكندرية - 1979م.
* السلاوي (أحمد بن خالد): الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى - الدار البيضاء - 1954م.
* السيد عبد العزيز سالم: المغرب الكبير - العصر الإسلامي - القاهرة - 1964م.(6/113)
* بن عبد البر (يوسف بن عمر): الاستيعاب في معرفة الأصحاب - تحقيق: علي محمد البجاوي - دار نهضة مصر - القاهرة - بدون تاريخ.
* عبد الله علي علام: الدولة الموحدية بالمغرب - دار المعارف - القاهرة - 1964م.
* علي الجزنائي: زهرة الآس في بناء مدينة فاس - الجزائر - 1923م.
* بن القاضي (أحمد بن محمد بن العافية): جذوة الاقتباس فيمن حل من الأعلام بمدينة فاس - طبعة حجرية بمدينة فاس - 1309هـ.
* القلقشندي (أحمد بن علي): صبح الأعشى في صناعة الإنشا - دار الكتب المصرية - القاهرة - 1923م.
* المراكشي (عبد الواحد بن علي): المعجب في تلخيص أخبار المغرب - تحقيق: محمد العربي ومحمد سعيد العريان - القاهرة - 1962م.
* النويري (أحمد بن علي): نهاية الأرب في فنون الأدب - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1403هـ = 1983م.
* الهادي روجي: الدولة الصنهاجية - ترجمة: حمادي الساحلي - دار الغرب الإسلامي - بيروت - الطبعة الأولي - 1922م.(6/114)
الجزء السابع
المسلمون في الأندلس
تأليف:
أ. د. عبد الله جمال الدين
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة
الفصل الأول
*بلاد الأندلس
لمحة جغرافية:
تطلق كلمة الأندلس على الأجزاء التى سيطر عليها المسلمون من شبه
الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال)، وظلت تطلق على ما فى
أيديهم حتى عندما انحصر وجودهم فى مدينة «غرناطة» وحدها.
وتعود كلمة «الأندلس» فى أصولها إلى كلمة «الوندال»، وهى تعنى
مجموعة القبائل الجرمانية التى غزت أيبيريا فى القرن الخامس
الميلادى، وأقامت فى طرفها الجنوبى الذى كان آنذاك باسم
«أندلوسيا»، فلما فتح المسلمون هذه المناطق قيل لهم: إن هذه
أرض «وندلس» فحولها العرب إلى «أندلس»، وبقيت الكلمة مستخدمة
حتى نهاية الحكم الإسلامى.
ولاتزال كلمة «أندلوسيا» مستخدمة حتى اليوم فى «الإسبانية»،
وتطلق على ثمانى محافظات فى جنوب إسبانيا، هى: المرية،
وغرناطة، وجيان، وقرطبة، ومالقة، وقادش، وولبة، وإشبيلية.
وشبه الجزيرة الأيبيرية مخمسة الشكل، تصل مساحتها إلى (600)
ألف كيلو مترمربع، تحتل إسبانيا (6/ 5) من هذه المساحة، وهى
هضبة متوسطة الارتفاع، بها سلاسل جبلية كثيرة تشقها بالعرض،
ويفصل بين كل سلسلة جبلية وأخرى وادٍ يجرى فيه نهر بالعرض
أيضًا، وتنبع معظم هذه الأنهار من وسط شبه الجزيرة، وتصب فى
المحيط الأطلسى.
ويفصل أوربا عن شبه الجزيرة سلسلة جبال تغلق الطريق إلى
جنوبى فرنسا إلا من خلال ممرات، ومن هنا جاءت تسمية جبال
البرت، أى جبال الأبواب.
الثغور الإسلامية:
وجدت فى الأندلس ثلاثة ثغور عبارة عن مناطق حدودية بينها وبين
إسبانيا النصرانية، وهذه الثغور هى:
أ - الثغر الأعلى، وعاصمته سرقسطة ويواجه مملكة نبرَّة.
ب - الثغر الأوسط وعاصمته مدينة «سالم» ثم «طليطلة»، ويواجه
مملكتى قشتالة وليون.
ج - الثغر الأدنى، بين نهرى «دويرة» و «تاجة» وعاصمته طليطلة ثم
قورية.
وقد تمكن النصارى فى نحو القرن الرابع الهجرى من إقامة ثلاث
دويلات نصرانية، هى:
أ - ليون فى الشمال والشمال الغربى، وعاصمتها مدينة «ليون»،(7/1)
وتضم مملكتى «جليقية» و «أشتوريس».
ب - نبرّة، فى الشمال والشمال الشرقى؛ حيث تعيش قبائل
البشكنس، وعاصمتها «بنيلونة».
ج - قشتالة، وتقع بين مملكتى ليون ونبرة، وعاصمتها «برغش».
ومن هذه الدويلات الثلاث ستبدأ حركة المقاومة ضد الوجود الإسلامى
فى الأندلس.
عهود الحكم الإسلامى بالأندلس:
ظل المسلمون يحكمون الأندلس نحو ثمانية قرون منذ تم فتحها سنة
(92هـ)، إلى أن سقطت «غرناطة» آخر معاقلها بيد النصارى سنة
(897هـ)، وقد مرت البلاد بعهود يمكن إجمالها على النحو الآتى:
أولا: عهد الفتح (92 - 95هـ = 711 - 714م).
ثانيًا: عهد الولاة (95 - 138هـ = 714 - 755م).
ثالثًا: عهد الإمارة (138 - 316هـ = 755 - 928م).
رابعًا: عهد الخلافة (316 - 400هـ = 928 - 1009م).
خامسًا: عهد ملوك الطوائف (400 - 484 هـ = 1009 - 1091م).
سادسًا: عهد المرابطين والموحدين (484 - 620هـ = 1091 - 1223م).
سابعًا: مملكة غرناطة (620 - 897 هـ = 1223 - 1492م).
أولا: الفتح الإسلامى للأندلس:
كانت شبه الجزيرة الأيبيرية خاضعة لحكم القوط قبل الفتح الإسلامى،
ويتولى أمرها ملك ظالم يدعى رودريك (لذريق) فأبغضه الناس
وفكروا فى الثورة عليه وإبعاده عن الحكم بالاستعانة بالمسلمين
الذين دانت لهم بلاد الشمال لإفريقى، فقام بهذه الوساطة حاكم
«سبتة» الكونت يوليان، واتصل بطارق بن زياد قائد القوات الإسلامية
المعسكرة عند مدينة «طنجة» بالمغرب الأقصى والقريبة من مدينة
«سبتة».
وأقبلت الوفود على «طارق» تدعوه لعبور المضيق والوصول إلى
شبه الجزيرة، وتصور هؤلاء أن المسلمين سينزلون ضربة قاصمة
بالقوط ثم يعودون إلى بلاد المغرب محملين بالغنائم، وغاب عنهم أن
المسلمين حملة رسالة سامية، وأنهم مكلفون بتبليغها لكل الناس،
وأن ما يشغلهم قبل كل شىء هو نشر مبادئ دينهم السمحة وتعريف
الشعوب به.
وقد رحّب «طارق» بهذا الطلب ووجد فيه فرصة طيبة لمواصلة الفتح(7/2)
والجهاد، وأرسل إلى «موسى بن نصير» والى الأمويين على المغرب
يستأذنه فى فتح الأندلس، فنصحه باختبار مدى مقاومة القوط
بإرسال بعض السرايا إليهم، وبالتأكد من ولاء «يوليان» وصدق
كلامه، ثم أرسل «موسى بن نصير» إلى الخليفة الأموى «الوليد بن
عبدالملك» يستأذنه فى فتح «الأندلس»، ويشرح له حقيقة الأوضاع
هناك، فتردد الخليفة فى أول الأمر، خوفًا على المسلمين من
المخاطرة بهم فى بلاد لا عهد لهم بها من قبل، لكن «موسى» نجح
فى إقناعه بأهمية الفتح، وتم الاتفاق على أن يسبق الفتح حملات
استطلاعية.
وفى سنة (91هـ = 710م) أرسل «طارق بن زياد» بعثة استطلاعية
بقيادة «طريف بن زرعة» فنزلت فى الطرف الجنوبى لشبه الجزيرة،
ولم تلق مقاومة، وعادت بغنائم وفيرة، ومنذ ذلك الحين أُطلق اسم
«طريف» على إحدى تلك المناطق.
وقد شجعت نتيجة حملة «طريف» «طارق بن زياد» فعبر المضيق فى
(شعبان 92هـ = أبريل- مايو 711م)، وتجمع المسلمون عند الجبل
الذى يعرف من ذلك التاريخ بجبل طارق، وأقام «طارق» بتلك المنطقة
عدة أيام، بنى خلالها سورًا أحاط بجيوشه سمَّاه «سور العرب»، كما
أقام قاعدة عسكرية بجوار الجبل على الساحل؛ لحماية ظهره فى
حالة اضطراره إلى الانسحاب، هى مدينة الجزيرة الخضراء، أو جزيرة
«أم حكيم»، نسبة إلى جارية كان طارق قد حملها معه، ثم تركها
فى هذا المكان، وهذا الميناء يسهل اتصاله بميناء «سبتة» المغربى،
على حين يصعب اتصاله بإسبانيا لوجود مرتفعات بينهما، ولم يكتفِ
طارق بذلك، بل أقام قاعدة أمامية أخرى وبنى حصنًا، وطلب من
«يوليان» ومن معه من الجند حراسة هذا الموضع وحمايته من كل
هجوم منتظر.
ثم واصل «طارق» السير جنوبًا حتى بلغ الساحل الجنوبى لشبه
الجزيرة، ومشى فى محاذاته، وعبر نهرًا صغيرًا يسمى «وادى
لكه»، وأقام معسكره فى منطقة واسعة يحدها من الشرق «وادى
لكه»، ومن الغرب «وادى البرباط»، وهى منطقة سهلية واسعة تكثر(7/3)
فيها المدن، مثل: «قادش» على البحر، وإلى جوارها من الداخل مدينة
«شريش»، وفى الشمال على الطريق إلى «قرطبة» مدينة شذونة
(سيدونيا)، وفى ذلك السهل الواسع أخذ «طارق» ينظم قواته ويرتب
لمعركته انتظارًا للقاء القوط.
علم «لذريق» بمجىء القوات الإسلامية، وهو مشغول بمحاربة أعدائه
فى شمالى شبه الجزيرة، فأصيب بهلع ورعب عظيمين، وجمع
جنوده وانحدر بهم لمواجهة المسلمين، ووصلت أنباء تلك الحشود
الضخمة إلى «طارق بن زياد»، فكتب إلى «موسى بن نصير» يخبره
بذلك، فأمده بخمسة آلاف جندى صار بهم مجموع جنود المسلمين
بالأندلس (21) ألف جندى.
وصل «لذريق» إلى بلدة «شذونة» وأتم بها استعداداته، ثم اتجه
للقاء المسلمين ودارت بين الفريقين معركة فاصلة فى كورة
«شذونة» جنوب غربى إسبانيا، استمرت ثمانية أيام من (الأحد 82 من
رمضان إلى الأحد 5 من شوال سنة 29هـ = 91 - 62 يوليو 117م)،
وكانت معركة هائلة، اقتتل فيها الطرفان اقتتالا شديدًا حتى ظنوا
أنه الفناء، وكان النصر فى النهاية حليف المسلمين، وفر «لذريق»
من أرض المعركة، وتبعه المسلمون حتى أدركوه وقتلوه بالقرب من
بلدة «لورقة».
وبعد هذا النصر العظيم الذى حققه «طارق بن زياد»، وامتلاء أيدى
أصحابه بالغنائم - اتجه إلى الشمال فاستولى على بعض القلاع، ثم
عبر نهر الوادى الكبير قاصدًا مدينة «طليطلة» عاصمة القوط، وكانت
تبعد عن أرض المعركة بنحو ستمائة كيلومتر، وكلها جبال ووديان
ومضايق عسيرة، وقد تمكن المسلمون بعزيمتهم وإصرارهم وإيمانهم
الجياش من دخول العاصمة بعد مقاومة عنيفة من القوط.
وفى أثناء سير «طارق» إلى «طليطلة» أرسل جزءًا من قواته لفتح
«البيرة» كما أرسل «مغيث الرومى» إلى «قرطبة» ففتحها بعد
حصار دام ثلاثة أشهر، وكانت آنئذ معسكرًا رومانيا قديمًا يقع على
ضفة نهر الوادى الكبير وعندها بُنيت قنطرة حجرية على النهر.
وأثبت «طارق» بهذا التصرف أنه على خبرة واسعة بشئون الحرب(7/4)
وفنون القتال، لأن السيطرة على هذه القنطرة تيسّر له طريق العود.
استقر «طارق بن زياد» فى «طليطلة»، فهرب منها كبار القوط وكبار
رجال الدين الذين حملوا معهم ذخائر كنيستهم، فأدرك المسلمون
هؤلاء الفارين عند بلدة صغيرة تسمى قلعة «عبدالسلام»، وغنموا ما
كان معهم من ذخائر بالغة القيمة، وتجل عن الحصر، من بينها مذبح
الكنيسة الذى سموه «مائدة سليمان» - ولاصلة لنبى الله سليمان
بهذه المائدة - التى كانت من الزبرجد الخالص، ومزدانة بالجواهر،
وتوضع فى صدر الكنيسة وعليها الصلبان والكؤوس والكتب
المقدسة، وبعد أن حل الشتاء آثر «طارق» العودة إلى «طليطلة»،
وكتب إلى «موسى» يحيطه بأنباء الفتح وما أحرزه من نجاح،
ويطلب منه المدد.
موسى بن نصير والمشاركة فى فتح الأندلس:
قرر «موسى بن نصير» التوجه إلى الأندلس على رأس قوات مقدارها
ثمانية عشر ألفا معظمهم من العرب - على حين كان معظم جند طارق
من البربر - فغادر القيروان، ووصل إلى «طنجة» سنة (93هـ = 712م)،
ثم عبر المضيق ونزل الجزيرة الخضراء.
سار «موسى بن نصير» بجنوده فى غير الطريق الذى سلكه «طارق
بن زياد»، بناءً على نصيحة رجاله وحلفاء المسلمين؛ ليكون له شرف
فتح بلاد أخرى غير التى فتحها طارق، فنزل «شذونة»، واستولى
على حصنين كبيرين بجوارها، هما «قرمونة» وقلعة «وادى إبرة»،
ثم تقدم نحو «إشبيلية» فحاصرها حتى استسلمت وانسحبت حاميتها
إلى مدينة «لبلة» فى الغرب، وهى الآن مدينة برتغالية.
ثم اتجه «موسى» ناحية بلد كبير يحيط به سور حصين، تسمَّى
«ماردة» كان يعتصم به قسم كبير من جيش «لذريق»، فحاصرها
واشتد فى حصارها على الرغم مما كابده المسلمون من خسائر،
حتى استسلمت صلحًا فى (أول شوال سنة 94هـ = 30 من يونيو
713م)، وغنم المسلمون ما كان بها من ذخائر نفيسة.
وبعد شهر تقدم «موسى» نحو «طليطلة» حيث التقى بطارق عند نهر
«التاجو»، ثم سارا معًا لمواصلة الفتح، وفى أثناء ذلك حدثت ثورة(7/5)
معادية للمسلمين فى «إشبيلية»، فأرسل «موسى» ابنه «عبدالعزيز»
فقضى على تلك الثورة وفتح مدن: «لبلة» و «باجة» و «أكشونبة»
وهى تكوِّن النصف الجنوبى من البرتغال الآن، ثم وصل المسلمون
إلى ساحل المحيط الأطلسى من تلك الناحية.
استقر «موسى بن نصير» فى «طليطلة» فى شتاء سنة (95هـ =
714م)، وبدأ فى ممارسة عمله، باعتباره أول مسلم يحكم قطرًا
أوربيا، فأمر بضرب عملة إسلامية، مكتوب على أحد وجهيها
باللاتينية «شهادة أن لا إله إلا الله»، وعلى الوجه الآخر «ضربت فى
إسبانيا سنة (714م)»، ثم أرسل رسولين هما «على بن رباح
اللخمى»، و «مغيث الرومى» إلى الخليفة «الوليد بن عبدالملك»
يحملان إليه نبأ الفتح العظيم، وطرفًا من الذخائر والتحف التى غنمها
المسلمون.
وفى سنة (95هـ = 714م) اتجه «موسى» ناحية الشمال الشرقى
قاصدًا مدينة «سرقسطة» مفتاح منطقة «وادى أبرة» كلها ونجح فى
الاستيلاء عليها، ثم قام «حنش بن عبدالله الصنعانى» وهو من
التابعين الذى قدموا فى جيش «موسى ابن نصير» باختطاط جامع
سرقسطة، الذى أصبح واحدًِا من أكبر مساجد الأندلس، ثم فتح
«موسى» مدينة «وشقة»، وأتبعها فتح مدينة «لاردة» سالكًا بجيشه
الطريق الرومانى الكبير «المبلط» المسمى بالطريق القيصرى، وبدأ
فى الاستعداد للسير فى اتجاه «برشلونة».
وفى تلك الأثناء عاد «مغيث الرومى» من «دمشق» وطلب من
«موسى» أن يذهب إلى عاصمة الخلافة ومعه «طارق بن زياد» ليقدما
بيانًا شافيًا عن فتوحاتهما، فاستجاب «موسى» للطلب، ولكنه عزم
على إرجائه حتى يتم فتح الشمال الغربى والشرقى لشبه الجزيرة
الأيبيرية، وأمر طارقاً فواصل السير مع الطريق القيصرى، على حين
سار هو فى اتجاه الشمال الغربى، حتى وصل إلى خليج بسكاى
عند «خيخون».
وقد نجح «طارق» فى إخضاع منطقة «أراجون»، ثم اتجه غربًا ليلحق
بموسى، فاستولى على بعض الحصون، وعلى مدينتى «اشترقة»(7/6)
و «ليون»، وبهذه الإنجازات التى حققها القائدان شعرا أنهما أتما
فتح شبه الجزيرة، وأن بإمكانهما الآن تلبية دعوة الخليفة «الوليد»
وبخاصة أنه قد بعث برسول يتعجَّل عودتهما.
أخذ الفاتحان العظيمان طريق العودة إلى المشرق فى (ذى القعدة
95هـ = يوليو 714م) بعدما نظما شئون البلاد، ورسما سياسة
الحكومة، واتخذا «إشبيلية» عاصمة؛ لموقعها وقربها من البحر، ثم
أسرعا السير نحو العاصمة «دمشق» فوصلاها بعد تولية «سليمان بن
عبدالملك» الخلافة، خلفًا لأخيه «الوليد»، وظلا هناك ولم يعودا
لمواصلة الفتح.
وكان «موسى بن نصير» قد ترك ابنه «عبدالعزيز» واليًا على
الأندلس، فقضى أيام ولايته فى استكمال فتح شبه الجزيرة الأيبيرية،
فى شرقها وغربها، ففتح كورة تدمير (مرسية) صلحًا بعد أن
استسلم ملكها، وقضى على جيوب المقاومة ولذا عده بعض المؤرخين
ثالث فاتحى الأندلس، وكان معروفًا بالصلاح والتقوى والشجاعة
والإقدام، بارعًا فى تنظيم الحكومة وترتيب إدارتها، متبعًا سياسة
الرفق والاعتدال والوفاء بالعهد.
وبنجاح الفتح الإسلامى تنفس أهالى «الأندلس» نسيم الحرية، فقد
رفعت عنهم المغارم والأعباء، وعرف الناس سياسة التسامح
والإنصاف، وأمنوا على حياتهم وأموالهم وحرياتهم، وعاشوا حياة
العدل والمساواة، وترك لهم حق اتباع قوانينهم والخضوع لقضاتهم،
ولم يظلم أحد بسبب دينه أو عقيدته، ولم يفرض الإسلام عليهم فرضًا،
ومن أسلم عن طواعية ودون إكراه فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم،
ومن بقى على دينه لم يكلف بأكثر من الجزية. مقابل حمايته والدفاع
عنه وتأمين حقوقه.
حريق السفن وخطبة طارق:
يرتبط بفتح المسلمين للأندلس مسألة حرقهم لمراكبهم بعد عبورهم
المضيق، والخطبة التى ألقاها «طارق» بعد هذا العبور.
أما مسألة إحراق السفن فإن الدراسة التاريخية ترفض التصديق بقيام
مثل هذا العمل من «طارق»، فلم يكن المسلمون فى حاجة إليه(7/7)
ليخلصوا فى القتال ويتحمسوا له، لأن عملهم جهاد فى سبيل الله
ينتظر المسلم من ورائه النصر أو الشهادة، وقتال من أجل عقيدة
يفدونها بدمائهم وأرواحهم، كما أن إحراق السفن ليس عملا عسكريا
مناسبًا، لأنهم فى حاجة إليها بصفة دائمة للاتصال ببلاد المغرب.
وأما الخطبة المنسوبة إلى «طارق» والتى حث فيها المسلمين على
الجهاد، وقال فيها: أين المفر .. البحر من ورائكم والعدو أمامكم .. ،
فلا توجد كاملة فى المصادر الأندلسية الأولى، مما يشير إلى عدم
شيوعها ويقلل من الثقة بواقعيتها. وأنها مليئة بالسجع المتكلف
الذى لم يكن شائعًا فى ذلك العصر، كما أن طارقًا وأكثر جنوده
كانوا من البربر، ولايتوقع أن تكون لغتهم العربية إلى هذا المستوى
العالى من البيان، وهذا لايمنع أن يكون القائد قد ألقى كلمته فى
جنده البربر بلغتهم التى يفهمونها، ثم جاء من كتاب العرب من نقل
معانى تلك الخطبة إلى اللغة العربية، فأصابها شىء من التعديل
والتغيير.(7/8)
الفصل الثاني
*عهد الولاة بالأندلس
[97 - 138 هـ = 715 - 755 م].
يقصد بالولاة حكام الأندلس الذين عينتهم الحكومة الأموية فى دمشق،
أو والى الشمال الإفريقى الذى كانت الأندلس تابعة له أحيانًا، وقد
تولى على الأندلس خلال هذه الفترة (22) واليًا، حكم اثنان منهم
مرتين، وهذا يعنى أن متوسط فترة حكم الوالى تقل عن سنتين،
وهذا يعنى أن عدم الاستقرار هو السمة الغالبة على هذه الفترة،
ويعود ذلك إلى اضطراب السياسة العامة بعد وفاة «الوليد بن
عبدالملك» وانتشار العصبيات القبلية والشخصية، ونزاع العرب مع
البربر.
أيوب بن حبيب البلخى:
قتل «عبدالعزيز بن موسى بن نصير» والى الأندلس عندما وثب عليه
جماعة من الجند على رأسهم وزيره «زياد بن عذرة البلوى» أثناء
صلاته بأحد مساجد «إشبيلية»، وذلك فى (رجب 97هـ = فبراير
716م)، لتبدأ فترة عهد الولاة.
وقد آل أمر الأندلس إلى «أيوب بن حبيب البلخى» ابن أخت «موسى
بن نصير»، وهو من العرب الذين اشتركوا فى فتح هذه البلاد، ثم
استقروا بها، ورأوا أنهم أولى من غيرهم بحكم الأندلس، ولم تزد
ولاية «أيوب» على ستة أشهر لم يفعل فيها شيئًا يذكر سوى نقله
العاصمة من «إشبيلية» إلى «قرطبة» لأن موقعها أوسط وأقرب إلى
منازل جماعات العرب فى الشرق، والجنوب، والجنوب الشرقى.
الحر بن عبدالرحمن الثقفى:
لم تجر الأمور على النحو الذى أراده «أيوب»؛ إذ قام والى إفريقية
الذى تتبعه الأندلس بتعيين «الحر بن عبدالرحمن» واليًا عليها، ودام
حكمه سنتين وثمانية أشهر، بدأت فى (ذى الحجة 98هـ = يوليو
717م)، واستطاع خلالها أن يقمع المنازعات التى كانت بين العرب
والبربر، ويصلح الجيش، وينظم الإدارة، ويوطد الأمن.
وينسب إلى «الحر» إقامته دار الإمارة فى «قرطبة» فى مواجهة
«قنطرة الوادى»، وكانت من قبل مقرا للحاكم القوطى، فاعتنى بها
«الحر» وسمى القصر والأرض الواسعة أمامه على ضفة النهر «بلاط
الحر».(7/9)
وبعد أن تولى «عمر بن عبدالعزيز» الخلافة عزل «الحر» عن ولاية
الأندلس، لاضطراب النظام فى آخر عهده.
السمح بن مالك الخولانى:
كانت الأندلس تابعة لإفريقية من الناحية الإدارية، فلما ولى «عمر بن
عبدالعزيز» جعلها تابعة للخلافة مباشرة لأهميتها واتساعها، وأقام
عليها «السمح ابن مالك الخولانى» سنة (100هـ = 719م)، غير أن
تبعية «الأندلس» لإفريقية عادت مرة أخرى فى عهد «يزيد بن
عبدالملك».
ويعد «السمح» من خيرة ولاة «الأندلس»، فضلا وصلاحًا وكفاءة
وقدرة؛ حيث نظم شئون البلاد، وأعاد بناء القنطرة التى كانت مقامة
على الوادى الكبير، وكانت قد تهدَّمت ولم يعد الناس يستطيعون
العبور إلا فى السفن، وكان العرب فى أمسِّ الحاجة إلى قنطرة متينة
يستطيعون العبور إليها من الجنوب إلى عاصمتهم الجديدة، كما أعاد
الأمن والاستقرار إلى البلاد لحسن سياسته، وحمله الناس على طريق
الحق، ورفقه بهم.
ولم يكن «السمح بن مالك» كفءا من الناحية الإدارية فحسب، بل كان
أيضًا قائدًا عسكريا ممتازًا قام بحملة شاملة، اخترقت «جبال البرت»
من الشرق، وسيطر على عدد من القواعد هناك، واستولى على
«سبتمانيا» وأقام حكومة إسلامية بها فى هذا الوقت المبكر، واتخذ
من «أربونة» قاعدة للجهاد وراء «البرت»، وقد استشهد فى معركة
مع النصارى عند «تولوز» فى يوم عرفة من سنة (102هـ = 721م)،
فتولى القيادة «عبدالرحمن بن عبدالله الغافقى»، وأقر واليًا للأندلس
حتى يأتى الحاكم الجديد.
عنبسة بن سحيم الكلبى:
قدم إلى الأندلس فى (صفر سنة 103هـ = 722م)، وكان كالسمح بن
مالك صالحًا قويا، فأنفق وقته فى تنظيم الإدارة، وضبط النواحى،
وإصلاح الجيش، وإعداده لغزوات جديدة، وقد عبر «عنبسة» بجيوشه
«جبال البرت»، وتمكن من بسط سلطان المسلمين فى شرقى جنوب
فرنسا، وفى أثناء عودته داهمته جموع من الفرنجة، فأصيب فى
المعركة، ثم توفى سنة (107هـ = 725م).(7/10)
وبعد «عنبسة» توالى على «الأندلس» سبعة من الولاة بين سنتى
(107 - 112هـ = 725 - 730م) تفاقمت خلالها المشكلات، وازدادت
الاضطرابات، وانتشر الخلل والخلاف بين الزعماء ورجال القبائل فى
الأندلس، وتجددت المنازعات بين العرب البلدانيين (وهم العرب الذين
طال بهم المقام والعمل فى إفريقية حتى سمو بالبلدانيين)،
والشاميين، وهاجم الأعداء القواعد الإسلامية.
عبدالرحمن الغافقى:
ظلت الأمور تجرى على هذا النحو المضطرب حتى عُيِّن «الغافقى»
واليًا على الأندلس من قبل والى «إفريقية»، فى (صفر 112هـ = مارس
/ إبريل 730م) لتبدأ فترة ولايته الثانية، وقد أيد الخليفة هشام بن
عبدالملك ذلك الاختيار.
وكان «الغافقى» من كبار رجالات الأندلس عدلاً وصلاحًا، وقدرة
وكفاءة، نظَّم شئون البلاد، وأصلح نظم الحكم والإدارة، وعين
أصحاب الكفاءات فى المناصب المختلفة، وقمع الظلم، ورد إلى
النصارى كنائسهم وأملاكهم، وفرض ضرائب عادلة وعنى بتنظيم
الجيش وإصلاحه، وأنشأ فرقًا من العرب والبربر، وحصن القواعد
والثغور الإسلامية، وجمع أعظم جيش سيره المسلمون إلى فرنسا.
موقعة بلاط الشهداء:
فى أوائل سنة (114هـ = 732م) سار «الغافقى» بجيوشه نحو
الشمال وعبر جبال «البرت» من طريق «بنبلونة» ودخل فرنسا؛ حيث
قام بمعارك ناجحة ضد أعدائه، وفتح نصف فرنسا الجنوبى كله من
الشرق إلى الغرب فى بضعة أشهر، وواصل زحفه المظفر حتى
أشرف بجيشه على نهر اللوار، وهناك احتشد له «شارل مارتل»
بجيش ضخم من الفرنج والمرتزقة نصف العراة، ويتشحون بجلود
الذئاب، وتنسدل شعورهم الجعدة فوق أكتافهم العارية.
استولى المسلمون على مدينتى «بواتيه» و «تور»، ثم فاجأهم العدو
دون أن تشعر به طلائع المسلمين أو تحسن تقدير عدده، وأراد
عبدالرحمن أن يقتحم «اللوار» ففاجأه «شارل مارتل» بجموعه
الجرارة فارتد إلى السهل الواقع بين مدينتى «بواتيه» و «تور»،(7/11)
وعبر جيش الفرنج «اللوار» وعسكر غربى الجيش الإسلامى.
عزم «الغافقى» على لقاء العدو على الرغم من أن بعض قبائل البربر
فى جيشه كانت تتوق إلى الانسحاب بما تحمله من غنائم كثيرة، وأن
عدد جنوده قد قل بسبب تخلف حاميات كثيرة فى المدن والقرى
المفتوحة.
ودامت المعركة تسعة أيام دون أن يحقق الفريقان نصرًا حاسمًا،
وفى اليوم العاشر أبدى كلا الطرفين غاية الجلد والشجاعة، وظهر
الإعياء على الفرنج، وبدت علامات انتصار المسلمين، لكن حدث أن
افتتح الفرنج ثغرة فى معسكر غنائم المسلمين وارتفعت فيه صيحة
مجهول تقول إن معسكر الغنائم سيقع فى يد العدو، فارتدت قوات
كبيرة إلى ماوراء الغنائم لحمايتها، واختلت صفوف المسلمين، وبينما
يحاول «الغافقى» إعادة النظام إلى جيشه أصابه سهم أرداه من
فوق جواده قتيلا، فعم الاضطراب بين المسلمين، وكثر القتل فيهم،
واشتد الفرنج عليهم، لكنهم صبروا حتى جن الليل وافترق الجيشان
دون فصل فى (أوائل رمضان 114هـ = 21 أكتوبر 732م)، ثم انسحب
المسلمون نحو مراكزهم فى «سبتمانيا» تاركين غنائمهم.
وفى فجر اليوم التالى تقدم «شارل» بحذر فوجد المعسكرات
الإسلامية خالية إلا من الجرحى ومن لم يتمكنوا من مرافقة الجيش
المنسحب فذبحوهم، وخشى «شارل مارتل» الخديعة فاكتفى
بانسحاب المسلمين ولم يتعقبهم، وآثر العودة بجيشه إلى الشمال.
وكان مقتل «الغافقى» خسارة فادحة للمسلمين، وضربة شديدة
لمشاريع الخلافة فى الغرب؛ إذ أخفقت آخر محاولة بذلتها لفتح العالم
الغربى.
عبدالملك بن قطن الفهرى:
تولى «عبدالملك بن قطن الفهرى» بعد استشهاد «الغافقى»، فعبر
إلى الأندلس فى جيش من جند إفريقية فى أواخر سنة (114هـ =
732م) وسار إلى «أراجون» وهزم الثائرين فى عدة مواقع، ثم عبر
جبال البرت إلى بلاد «البشكنس» سنة (115هـ = 733م)، وكانت أشد
المقاطعات الجبلية مراسًا وأكثرها انتفاضًا وثورة، فشتت جندها(7/12)
وألجأهم إلى طلب الصلح، ثم اضطر بعد ذلك إلى أن يرتد إلى الجنوب
دون أن يتوغل كثيرًا فى أرض العدو، لقلة ما معه من الجند، ثم سخط
عليه الزعماء، ودب خلاف بين القبائل، وأدى ذلك إلى عزله.
عقبة بن الحجاج السلولى:
تولى سنة (116هـ = 734م) بعد «عبدالملك بن قطن» وكان رجلاً
عظيمًا مثل «الغافقى»، فنشر العدل ورد المظالم، وأنشأ المساجد
ودور العلم ونظم الجيش، وتوغل فى أراضى «جليقية» شمالى
الأندلس، واهتم بتحصين جميع المواقع الإسلامية، ومنح عناية خاصة
لثغر «أربونة» واتخذه قاعدة للجهاد، وأمد رجاله بالجند والذخيرة.
وكان يخرج للغزو كل عام على مدار خمس سنوات فى الجنوب
والشمال الشرقى من فرنسا، حتى أصبح نهر «الرون» رباط
المسلمين ومعقل فتوحاتهم بعد أن كان الفرنج قد استردوا مافى
أيدى المسلمين، وقد استشهد «عقبة» فى معركة مع الأعداء سنة
(121هـ = 739م)، فكان خاتمة الولاة المجاهدين وراء البرت.
عبدالملك بن قطن:
أقام عرب الأندلس «عبد الملك بن قطن» واليًا عليهم للمرة الثانية،
فكان عهده بداية عهد من الفتن والاضطرابات والحروب الأهلية؛ إذ
اشتعلت ثورة البربر بسبب تعصب العرب لبنى جنسهم وتعاليهم على
غيرهم، وكان معظم هؤلاء من «القيسية» الذين يرون أن الدولة
الأموية دولتهم، على حين كان العرب البلدانيون ومعظمهم من
«اليمنية» بعيدين عن هذه النزعة.
وقام البربر فى الأندلس أثناء ثورتهم بإخراج العرب من المناطق التى
شكلت أغلبية بربرية، وبخاصة «جليقية» ومناطق نهر تاجة وغيرها،
وظن «عبدالملك بن قطن» وهو كبير البلدانيين أن الثورة موجهة ضد
الشاميين، ثم مالبث أن تبين أنها موجهة إلى العرب جميعًا، وأن
البربر يسيرون فى جيوش ثلاثة: واحد منها متجه إلى «طليطلة»،
والثانى نحو «قرطبة»، والثالث نحو «الجزيرة الخضراء».
وفى تلك الأثناء كان «بلج بن بشر القشيرى» أحد قادة والى
المغرب محاصرًا فى «سبتة» مع عشرة آلاف من جنده من قبل البربر(7/13)
الذى ثاروا فى إفريقية ضد العرب، تلك الثورة التى انتقلت أصداؤها
إلى الأندلس، فثار البربر هناك ضد العرب.
وقد استغاث هؤلاء المحاصرون بوالى الأندلس «عبدالملك بن قطن»
وطلبوا منه أن يسمح لهم بالعبور إليه لمعاونته فى القضاء على
ثورة البربر، فاستجاب على مضض، وطلب من «بلج» أن يعود بمن
معه إلى شمال إفريقيا متى صلحت الأحوال.
وقد حقق هؤلاء مع «عبدالملك» انتصارات على البربر فى شذونة،
وقرطبة، ثم فى معركة حاسمة قرب طليطلة عند وادى سليط قرب
الجزيرة الخضراء فى أوائل سنة (124هـ = 742م)، وأخذ العرب
الشاميون يطاردون البربر، فتركوا أراضيهم فى الوسط والشمال
الغربى، وعادوا إلى إفريقيا فى هجرات جماعية تركت آثارًا سيئة
على مستقبل المسلمين فى الأندلس.
وكان من نتيجة تلك الهجرات أن تركت الأراضى شمالى نهر تاجة
خالية من المسلمين تقريبًا، فامتد إليها نفوذ نصارى الشمال،
فساحوا فيها، ولم يمر وقت طويل حتى أصبحت تلك الأراضى
نصرانية، وخسر المسلمون بذلك ربع شبه الجزيرة، نتيجة انقسامهم
وتفرقهم.
رفض «بلج» العودة إلى المغرب حسب الاتفاق، وقام بعزل
«عبدالملك» وزعم أنه الوالى الرسمى بتأييد من اليمانية، وانقسمت
الأندلس إلى معسكر للشاميين يضم مائتى ألف، وآخرللعرب البلدانيين
ضم مائة ألف، ونشبت معارك قتل فيها «بلج» ومع ذلك انتصر
الشاميون، وولوا على الأندلس «ثعلبة بن سلامة العاملى» فى (شوال
سنة 124هـ = أغسطس742م)، فحاول أن يعيد الأمن والاستقرار، لكن
الحكومة كانت قد ضعف سلطانها، وانقسمت البلاد إلى عدة مناطق
نفوذ، واشتعلت الحرب من جديد، ولم ينقذ الموقف إلا قدوم الوالى
الجديد.
أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبى:
أرسله والى إفريقية فقدم إلى «الأندلس» فى (رجب سنة 125هـ =
مايو 743م)، وبدأ ولايته بتأمين العرب البلدانيين والبربر على
ممتلكاتهم ومصالحهم، وحال بين الشاميين وبين إيذائهم، وعمل على(7/14)
القضاء على المنازعات القبلية بين السكان، ورأى بعد نصيحة ذوى
الرأى أن يفرق الشاميين فى مناطق لايوجد فيها بلدانيون أو
يمنيون، ويستقر كل فريق منهم بناحية ويأخذ ثلث خراج الأرض مقابل
أن يقدموا عددًا معينًا من الجند، كلما طلبت السلطات منهم ذلك، كما
تتبع الزعماء الخارجين وسلك معهم سبيل الحزم، وكان عادلا؛
فَرضى عنه الجميع.
غير أن «أبا الخطار» مالبث أن تخلى عن تلك السياسة الحكيمة،
ومال إلى قومه من اليمنية وتنكر للمُضَرية، فعادت المعارك بينه وبين
خصومه من جديد، وقتل بعضهم بعضًا، وانفضت عنه جنده، وعمت
الفوضى البلاد إلى أن تولى الفهرى.
يوسف بن عبدالرحمن الفهرى:
تولى الأندلس سنة (129هـ = 747م) دون مصادقة من إفريقية أو من
دمشق التى كانت قد بدأت فترة من الضعف فلم تتمكن الخلافة من
الإشراف على الولايات، واستقلت الأندلس بشئونها.
استقل «يوسف» بولاية الأندلس نحو عشرة أعوام، واتفق مع
«الصميل ابن حاتم» زعيم المضرية على أن يتداولا السلطة فيما
بينهما، لكن الأمور لم تستقر، وتجدد النزاع بين المضرية واليمنية، ولم
تستقر الأوضاع ليوسف إلا بعد مقتل زعيم اليمنية سنة (130هـ =
748م).
وقد حاول «يوسف» إصلاح الدولة، فنظم شئونها المالية، وقسم
البلاد إلى خمس ولايات إدارية على نحو ماكانت عليه زمن القوط، كما
عنى بتنظيم الجيش وإصلاحه، والقضاء على خصومه، وشغلت الخلافة
بمشاكلها عن الأندلس.
ثم ظهر فى شمال البلاد رجل يدعى «عامر بن عمرو بن وهب
العبدرى»، وبدأ يراسل الخليفة العباسى «أبا جعفر المنصور»،
وعين نفسه واليًا على الأندلس، وأصبح الشمال فى قبضته، وخرج
عن سلطان «يوسف» الذى توجه إلى «سرقسطة»، وحاصرها بشدة
سنة (137هـ = 754م) حتى استسلم «عامر»، ثم اتجه «يوسف» بعد
ذلك إلى «طليطلة».
وفى طليطلة جاء رسول من قرطبة بخبر مؤداه أن فتىً من بنى أمية
يدعى «عبدالرحمن بن معاوية» قد نزل فى ثغر المنكب بالأندلس،(7/15)
واجتمع حوله أشياع بنى أمية فى كورة غرناطة، وأن دعوته
انتشرت بسرعة فى الجنوب، وقد ذاع هذا الخبر فى جند يوسف
فأحدث فزعًا واضطرابًا، وتفرق عنه جنده، فاضطر هو و «الصميل»
بالعودة بمن معهما متوجهين إلى قرطبة؛ لمواجهة هذا الخطر الداهم،
وكان ذلك سنة (138هـ= 755م).
وأثناء هذه الفتن استولى الفرنج على جميع القواعد الإسلامية فى
الشمال ماعدا «أربونة» أمنع قلاع المسلمين فيما وراء جبال البرت،
وقد قاوم المسلمون بها، وصبروا على مدار أربعة أعوام، ولم تستسلم
إلا بعد خيانة القوط بها، وقد دخلها الفرنج، وخربوا مساجدها
ومعاهدها ودورها سنة (142هـ = 759م)، وبذلك انتهى الوجود
الإسلامى فيما وراء جبال البرت بعد أن استمر هناك ما يقرب من
نصف قرن، وقد حدث هذا فى الوقت الذى كانت فيه قوى الإسلام
فى شبه الجزيرة مشغولة بتمزيق بعضها بعضًا.
وقد استفادت المجموعة التى اعتصمت فى جبال «استوريا»
و «جليقية» فى شمالى غرب إسبانيا، والتى عرفت بمجموعة «بلاى»
من هذا التمزق، وأخذت تنمو مع الزمن، ويشتد ساعدها ابتداءً من
القرن الثامن الميلادى حتى صارت شوكة فى جنب المسلمين هناك.
وأدت الحروب المتوالية بين العرب بعضهم بعضًا، وبينهم وبين البربر
إلى مجاعة شديدة بلغت أقصاها سنة (136هـ = 753م)، وترتب عليها
تزايد حركة الهجرة إلى إفريقية وقلة عدد المسلمين فى شبه الجزيرة
الأيبيرية، ولايستثنى من ذلك سوى إقليم «سرقسطة» الذى كان
معظم سكانه من اليمنيين، فاستقروا به واشتغلوا بالزراعة.(7/16)
الفصل الثالث
*الدولة الأموية بالأندلس
عهد الإمارة الأموية الأندلسية
[138 - 316هـ = 755 - 928م].
عبدالرحمن الداخل يحكم الأندلس (138 - 172هـ = 755 - 788م):
سقطت الدولة الأموية بالمشرق سنة (132هـ = 749م)، واضطهد
العباسيون الأمويين، وطاردوهم فى كل مكان، لكن واحدًا منهم هو
«عبدالرحمن ابن معاوية بن هشام بن عبدالملك» تمكن من الوصول
إلى الأندلس، بعد أن عبر فلسطين ومصر، ثم لحق به مولاه «بدر»
وهو رومى الأصل، ومولاه «سالم» ومعهما شىء من المال
والجواهر، ثم وصل «عبدالرحمن» إلى «برقة» والتجأ إلى أخواله من
«بنى نفزة» - من برابرة طرابلس - وأقام عندهم مدة، ثم غادر إلى
المغرب الأقصى، وتجول هناك، متغلبًا على ما قابله من صعاب،
وأقام حينًا عند شيوخ البدو، وحينًا عند بعض رجال قبيلة زناتة،
وكان أثناء ذلك يدرس أحوال الأندلس، ويرقب الفرصة المناسبة للعبور
إليها.
وقد اتصل بمعونة مولاه «بدر»، الذى كان قد نزل بساحل «لبيرة»
فى كورة «غرناطة» موطن أهل «الشام» بموالى خلفاء البيت الأموى
والقرشيين عامة، وبالكلبية اليمنية، خصوم الوالى يوسف الفهرى، ثم
عبر عبدالرحمن إلى الأندلس فى ربيع سنة (137هـ = 754م)، ونزل
بثغر «المنكبّ» لموقعه الممتاز، وقد التف الناس حوله بما فى ذلك
جماعات البربر، على أمل أن ينقذهم من الأوضاع المتردية.
تقدم عبدالرحمن نحو العاصمة «قرطبة»، وجمع «يوسف الفهرى»
و «الصميل» ما أمكنهما من قوات، والتقى الفريقان عند «المصارة»
أو «المسارة» بالطرف الغربى، وتمكن عبد الرحمن من تحقيق انتصار
حاسم، دخل على إثره قرطبة وصلى بالناس الجمعة، وخطب الجند،
وعُد ذلك اليوم ميلادًا للدولة الأموية فى الأندلس، ولقب «عبدالرحمن بن
معاوية» بعبدالرحمن الداخل، لأنه أول من دخل الأندلس من بنى أمية
حاكمًا.
ولم يكن عمر «عبدالرحمن الداخل» حين حقق هذا الإنجاز يتجاوز
السادسة والعشرين من عمره، لكنه كان رجل الموقف، شحذت همته(7/17)
الخطوب والمحن، وأعدته لحياة النضال والمغامرة، فقضى بقية عمره
اثنين وثلاثين عامًا فى كفاح مستمر، لاينتهى من معركة إلا ليخوض
أخرى، ولايقمع ثورة إلا تلتها ثورة، ولم تبق بالأندلس ناحية أو مدينة
إلا ثارت عليه، ولاقبيلة إلا نازعته فى الرياسة، فكانت الأندلس طوال
عهده بركانًا يشتعل بنيران الحرب والثورة والمؤامرة، لكنه صمد لتلك
الخطوب جميعًا، واستطاع بما أوتى من حزم وحسن سياسة وبعد
الهمة والجلد والإقدام أن يغالب تلك الأخطار والقوى وأن يقبض على
زمام الأمور بالأندلس بيده القوية.
وقد تصور اليمنيون أن من حقهم ماداموا قد ناصروا «عبدالرحمن» أن
يفعلوا ما يشاءون، فينشروا الفوضى ويستولوا على أموال الناس،
ويغرقوا البلاد فى مستنقع العصبيات القبلية كما كان الحال من قبل،
لكن عبدالرحمن أثبت أنه لايفرق بين شامى أو بلدى، أو بين بربرى
ويمنى، فجميعهم يضمهم وطن واحد، وعليهم أن يخضعوا لسلطان
العاصمة المركزية.
غير أن تلك السياسة لم تعجب اليمنيين، وعدُّوها لونًا من الجحود
والنكران فثاروا عليه، لكنه تمكن من القضاء عليهم فى الجزيرة
الخضراء، وإشبيلية، وطليطلة، وباجة، معتمدًا على حشود البربر
وأهل البلاد وأعوان بنى أمية.
ولعل من أخطر الثورات التى واجهت عبدالرحمن ثورة «العلاء بن
مغيث الحضرمى»، من وجوه باجة ومن ذوى الرئاسة بها، وكان قد
كاتب «أبا جعفر المنصور» الخليفة العباسى، واستصدر منه سجلا
بولاية الأندلس، وجمع حوله جندًا عظيمًا، ورفع العلم الأسود شعار
العباسيين سنة (146هـ = 763م)، فاشتعلت باجة بنيران الثورة،
وتحالفت «شذونة» مع الثائر، فخرج عبدالرحمن من قرطبة ولجأ إلى
الدفاع أولا، فلما ضعف خصمه تحوَّل إلى الهجوم، ونشبت معارك
هزم فيها العلاء وتشتت جنده، وقتل الآلاف بما فيهم العلاء نفسه،
وحمل عبدالرحمن رءوس الزعماء والقادة وبعث بها إلى القيروان،
ووضع رأس العلاء فى سفط ومعه اللواء الأسود، وسجل المنصور(7/18)
بتوليته، وحمله بعض ثقاة التجار إلى مكة، وكان المنصور يحج،
وألقى هذا أمام سرادقه، فلما حمل إليه قال: «مافى هذا الشيطان
مطمح، فالحمد لله الذى جعل بيننا وبينه البحر».
ولم يكن على عبدالرحمن أن يواجه مشاكل الجنوب فقط بل شمالى
الأندلس أيضًا، فقد ثار عليه «سليمان بن يقظان» والى «برشلونة»
و «الحسين بن يحيى» والى «سرقسطة»؛ مستغلين طبيعة بلادهم
الجبلية وانشغال عبدالرحمن بحركات الثائرين فى الجنوب، ثم
استفحل خطرهم بعد انتصارهما على جيش أرسله عبدالرحمن.
ولم يكتفِ الثائران بذلك بل قدما على رأس وفد إلى «شارلمان
الأكبر» إمبراطور الدولة الفرنجية، وكان فى ولاية «سكونيا» شمالى
ألمانيا حاليا، واقترحا عليه غزو الولايات الأندلسية الشمالية، وتعهدا
بمعاونته ضد عبدالرحمن، وأن يعمل جميعهم على خلعه، وتسليم
البلاد إلى شارلمان والخضوع له.
وقد رحب شارلمان بهذا العرض واجتاز جبال البرت، والتقى بحلفائه
على نهر الإيرو عند سرقسطة، لكن حاكم سرقسطة عدل عن موقفه
فى آخر لحظة، ورفض تسليم مدينته لشارلمان، وحصّنها فتمكنت من
رد هجماته عليها، وكذلك فعل والى برشلونة، واضطر «شارلمان»
أن يرتد إلى بلاده بسبب ثورات قامت عليه سنة (161هـ = 778م)،
وهكذا شاءت العناية الإلهية أن يبوء عاهل الفرنج بالفشل بعد أن
اختلف معه هؤلاء الخارجون على عبدالرحمن، وانقلبوا إلى مقاومته.
وفى الوقت الذى كانت تجرى فيه هذه الحوادث فى الشمال، كان
عبدالرحمن فى الجنوب يحارب الثائرين عليه، فقضى على ثورة
مؤيدة للعباسيين فى «مرسية»، وقمع ثورات أخرى فى غرناطة
وطليطلة والجزيرة الخضراء، ثم توجه إلى سرقسطة فى جيش ضخم
وعقد صلحًا مع الثائرين بها، ثم عاد إليها مرة أخرى فحاصرها
وضربها بالمنجنيق، ثم اتجه إلى الشمال الشرقى واخترق بلاد
البشكنس، ففرض عليها الجزية، ثم عاد مظفرًا إلى قرطبة سنة
(167هـ = 783م) وبعدها عقد صداقة مع شارلمان استمرت بقية(7/19)
حياته، ثم قاد حملة سنة (168هـ = 784م) إلى طليطلة؛ حيث هزم زعيم
الفهرية هناك بعد معارك شديدة وقتال فى أكثر من موقع.
ولما شعر عبدالرحمن بهدوء نسبى، استدعى بنى أمية من المشرق،
فأقبل إليه كثيرون، استعان بهم فى تحمل بعض المسئوليات، لكنه
فوجئ بأن من بينهم من ينقم عليه، ويقيم ضده المؤامرات، فاضطر
إلى أن يعتمد على المخلصين من موالى بنى أمية ومن انضم إليه من
أهل البلاد، بالإضافة إلى قوة من الصقالبة اشتراهم صغارًا من بلاد
النصارى ورباهم تربية إسلامية، ونشأهم تنشأة عسكرية، وأصبح
هؤلاء عنصرًا أساسيا من عناصر القوة السياسية فى الأندلس.
وتُوفِّى عبدالرحمن فى (10من جمادى الآخرة 172هـ = 16 من أكتوبر
788م) بعد حياة طويلة قضاها فى كفاح متواصل، ومواجهة للصعاب
والأهوال، وأقام ملكًا ودولة فوق بركان يضطرم بالثورات والمؤامرة،
وأثبت أنه بطل فريد من أبطال التاريخ، لا يجود الزمان بمثله كثيرًا،
فتى شريدًا بلا أنصار وأعوان يفر من الموت الذى تعرضت له أسرته،
لكنه يستغل ظروف الأندلس فيقودها بكثير من الدهاء والحزم
والعزيمة والذكاء، ويقيم دولة على أسس إدارية وسياسية ومالية
ثابتة.
ويزيد من قيمة ما قام به أن من حكمهم تعودوا على الفوضى
والأنانية، وتقديم المصالح الشخصية على المصالح القومية، ولم يكن
باستطاعة عبدالرحمن إلا أن يعامل هؤلاء بما يستحقون من شدة
وقسوة، لكنه أصبح فى أخريات أيامه شديد الاستبداد، لايقبل
المناقشة من أحد حتى مولاه «بدر» غضب عليه، وأقصاه بعد طول
خدمة.
وأفضل ماتميز به؛ عقله المرتب وأسلوبه المنظم، فقد كان يدرس
مشاكله، ويتلقى أخبار الثورات بجنان ثابت، ثم يرسم خطته للقضاء
عليها، ويصفه ابن حيان أمير مؤرخى الأندلس بقوله: «كان راجح
العقل، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم .. متصل الحركة لايخلد
إلى راحة، ولايسكن إلى دعة، ولا يكل الأمور إلى غيره، ثم لاينفرد
فى إبرامها برأيه، شجاعًا، مقدامًا .. ».(7/20)
نظام حكومة عبدالرحمن:
لم يكن هناك نظام لولاية العهد، وكان اختيار ولى العهد يترك للأمير،
وأنشأ عبدالرحمن منصب الحجابة، وأحاط نفسه بمجموعة من الأعوان
يساعدونه فى القيام بمهام الحكم بدلا من الوزراء، وقد اختارهم فى
أول الأمر من بين أعوانه الذين استقبلوه وقاتلوا معه، فكانت
حكومته عربية شكلا وروحًا، ثم مال إلى البربر والموالى بعد أن
استراب فى العرب وشك فى ولائهم له، لثوراتهم المتعددة عليه.
وقد منح الجيش عناية خاصة، فجنَّد مائة ألف عدا حرسه البالغ
أربعين ألفًا من العرب والموالى والرقيق، كما عنى بالبحرية فى
أخريات حياته، وأنشأ عدة قواعد لبناء السفن.
عناية الداخل بالإنشاء والتعمير:
عنى «عبدالرحمن الداخل» عناية فائقة بالإنشاء والتعمير فى قرطبة
على الرغم من كثرة مشاغله، فحصَّن العاصمة وزينها بالحدائق،
وأنشأ منية الرصافة وقصرها العظيم فى الشمال الغربى على بعد
(4) كم من قرطبة، وقد أحاطها بالحدائق الزاهرة، وأطلق عليها
الرصافة، تخليدًا لذكرى الرصافة التى أنشأها جده «هشام بن
عبدالملك» بالشام، وكان هذا القصر يطل من ناحية الجنوب على
الحقول التى تفصله عن قرطبة، ويطل من الشمال على أرض واسعة
تسمى «فحص السرادق»، وقد اتخذ عبدالرحمن من ميدانها الفسيح
منازل لجنده وقواده، ومكانًا يتدرب فيه الجنود بصورة مستمرة
ومنتظمة.
كما بدأ عبدالرحمن سنة (150هـ= 767م) فى إنشاء سور قرطبة الكبير
الذى استمر العمل فيه أعوامًا، كما أنشأ مساجد محلية كثيرة فى
قرطبة وغيرها، وعلى رأسها المسجد الأموى الجامع الذى بدأ فى
إنشائه سنة (170هـ = 786م)، وجلب إليه الأعمدة الفخمة، والرخام
المنقوش بالذهب واللازورد؛ وبلغ ما أنفقه عليه 100 ألف دينار، ثم
زاد خلفاؤه من بعده فى هذا العمل، حتى أصبح أعظم مساجد
الأندلس.
ويقع هذا المسجد فى الجهة المقابلة لقصر الإمارة، وبينهما مساحة
واسعة استغلها عبدالرحمن فى إنشاء قصر خاص لنفسه، وعدد من(7/21)
القصور الصغيرة لآل بيته، أحاطها بالحدائق الغناء، وبسور يدور
حولها، وقد امتدت هذه القصور حتى وصلت إلى ضفة نهر الوادى
الكبير، فبنى عبدالرحمن قصور الإدارة ناحية النهر، وفتح بابًا فى
الشارع بين النهر والسور سمى «باب السدة»، فتح للجمهور،
ويفضى إلى المكاتب الحكومية، وإلى جانب باب السدة خُصِّصت
مواقع الكتَّاب الذين يعاونون الناس فى كتابة شكاواهم وطلباتهم،
والذين يشبهون من نسميهم اليوم بالكتاب العمومين.
ومن منشآت عبدالرحمن التى بناها فى قرطبة، «دار السكة» لضرب
النقود على النحو الذى كانت تضرب عليه نقود بنى أمية فى المشرق
من حيث الوزن والنقش.
هشام الأول بن عبدالرحمن المعروف بالرضى [172 - 180هـ = 788 -
796م]
خلف «هشام» أباه «عبدالرحمن» على حكم الأندلس، الذى اختاره لا
لأنه أكبر أبنائه، بل لما توسَّمه فيه من المزايا الخاصة، وقد أبدى
«هشام» لينًا وورعًا، وحسن سياسة، وبصرًا بالأمور، فجذب الناس
إليه بإقامته للحق وتحريه للعدل، ومعاقبته للولاة المقصرين.
ولم يعكر صفو أيام «هشام» إلا اشتعال بعض الثورات، منها: الثورة
التى قام بها أخواه «سليمان» و «عبدالملك»، وانتهت بالصلح سنة
(174هـ = 790م) على أن يقيما بعدوة المغرب، كما قاد حملة على
نصارى الشمال الذين أغاروا على البلاد، فنجح فى القضاء عليهم
سنة (175هـ = 791م) ثم تكررت حملاته عليهم، حتى قضى على
محاولاتهم التي استهدفت التوسع جنوبًا.
وأهم ما يتميز به عهد «هشام» ذيوع مذهب الإمام «مالك بن أنس»،
وحلوله محل مذهب الأوزاعى إمام أهل الشام الذى اتبعه الأندلسيون،
وكان الإمام مالك معاصرًا لهشام بن عبدالرحمن، كثير الثناء عليه،
وقد وفد بعض الأندلسيين إلى المشرق وتتلمذوا على الإمام مالك،
أمثال: الغازى بن قيس، وزياد بن عبدالرحمن المعروف بشيطون،
وغيرهما، فلما عادوا إلى الأندلس رحَّب بهم هشام، وسمح لهم
بتدريس مذهب «مالك»، وأخذ القضاة يصدرون أحكامهم بناءً عليه،(7/22)
واتخذ منهم هشام كبار قضاته ومستشاريه، وشيئًا فشيئًا أصبح
المذهب المالكى هو المذهب الرسمى للدولة.
وحرصت الإمارة الأندلسية على جعل اللغة العربية لغة الدواوين
الرسمية، ولغة الدرس والتعليم، ولم تكن تقبل إلا ما هو عربى، وكان
ذلك اتجاهًا عاما سار عليه الأمويون فى حياتهم وتبعهم الناس فى
ذلك، وبلغ من اهتمام هشام بالعربية أن جعلها لغة نصارى الأندلس
ويهودها، وترجم إليها الكتاب المقدس ونصوص الصلوات، وساعد ذلك
كله على التحول إلى الإسلام، وانتشار اللغة العربية وأصبحت الأندلس
مركزًا من أهم مراكز الحضارة العربية.
ويكاد يجمع المؤرخون على أن «هشاماً» كان رقيقًا تقيا، صارمًا
فى الحق، محبا للجهاد، أنفق كثيرًا من الأموال فى فداء الأسرى،
كما كان شغوفًا بالإصلاح والتعمير، فأتم بناء مسجد قرطبة الجامع،
وأنشأ مساجد أخرى، وزين «قرطبة» بكثير من الحدائق والمبانى،
وجدَّد قنطرة قرطبة التى بناها «السمح بن مالك»، ونظَّم وسائل
الرى، وجلب إلى الأندلس الأشجار والبذور.
وكان هشام يحب مجالس العلم والأدب، وبخاصة مجالس الفقه
والحديث، فقرَّب إليه الفقهاء والعلماء، وبوَّأهم أهم المناصب، خلافًا
لما كان عليه زمن والده، وقد ترتب على ذلك نتائج سياسية
واجتماعية ظهرت فيما بعد.
الحكم الأول بن هشام المعروف بالربضى [180 - 206هـ = 796 - 822م]
بدأ «الحكم» عهده بالجهاد ضد البشكنس (ثافارا)، لكنه اضطر إلى
تركه لمواجهة الثورات التى اشتعلت ضده فى الثغر الأعلى سنة
(181هـ = 797م)، وكان عمَّاه «سليمان» و «عبدالله» قد أتيا إليها
سرا واتصلا بملك الفرنج وطلبا مساعدتهما، ولما علم «الحكم» سار
بجيوشه إلى الشمال، فاضطر الفرنج إلى الانسحاب، فأحكم سيطرته
على هذه المناطق، وفى هذه الآونة حاول عمَّاه الإغارة على
قرطبة، فعاد الحكم وهزمهما، وقتل «سليمان»، على حين فرَّ «عبد
الله» إلى «بلنسية» والتزم الهدوء طوال فترة الحكم.(7/23)
وفى سنة (185هـ = 801م) سير «شارلمان»، جيشًا لغزو «برشلونة»،
وكان الحكم مشغولا بمطاردة الخارجين عليه، فلم يتمكن من نجدة
المدينة، فسقطت بعد كفاح مشرف، وقد استقل حكام القوط بهذه
المنطقة عن الفرنج بعد فترة وأنشئوا إمارة «قطلونية» النصرانية،
التى اتحدت مع مملكة أراجون، وتمكنوا من غزو الجانب الشرقى من
مملكة الإسلام فى الأندلس، وخسر المسلمون بذلك حصنًا منيعًا،
وارتدت حدود الأندلس إلى الثغر الأعلى بعد أن كانت قد تجاوزت
جبال البرت.
ولم تهدأ العواصف والثورات ضد الحكم، فاكتشف فى سنة (189هـ =
805م) مؤامرة للإطاحة به، لكنه أحيط علمًا بما يدبره خصومه فقضى
عليهم، وأعدم (72) منهم فى صورة بالغة القسوة، مما أثار غضب
أهل قرطبة وحنقهم عليه، كما قضى على الثورات المتكررة التى قام
بها أهالى طليطلة، مستخدمًا أسلوب القتل والاغتيال، حتى إن واليه
على طليطلة أعد وليمة دعا إليها كبار زعماء طليطلة، ثم أعدمهم،
وألقى جثثهم فى حفرة خلف القصر سنة (191هـ = 807م)، وفى تلك
الأثناء غزا الفرنج الثغر الأعلى وحاصروا مدينة «طرطوشة» لكن
المسلمين تمكنوا من هزيمتهم، وإنقاذ المدينة المحاصرة سنة (193هـ
=809م)، كما توالت حملات النصارى على أطراف الثغر الأدنى
والمنطقة التى بين نهرى دويرة والتاجة لبعدها عن قرطبة، وضعف
وسائل الدفاع عنها، وعانى المسلمون كثيرًا فى تلك المناطق من
جراء تلك الغزوات، ولما بلغت الأنباء مسامع «الحكم بن هشام» خرج
بنفسه سنة (194هـ = 810م) على رأس جيشه، وهزم النصارى فى
عدة مواقع وأسر وغنم غنائم كثيرة، كما أرسل فى العام التالى
جيشًا إلى الثغر الأعلى، غزا قطالونية، وهاجم برشلونة، وانتهى
الأمر بصلح دام حتى وفاة «شارلمان» سنة (198هـ= 814م)، ثم كانت
آخر غزوات الحكم سنة (200هـ = 815م) إلى «جليقية» حيث توغل
المسلمون فيها، ونشبت بينهم وبين النصارى مواقع حربية، انتهت
بهزيمة النصارى وارتدادهم إلى الداخل.(7/24)
وفى أواخر عهد الحكم اشتعلت فى «قرطبة» ثورة عنيفة سميت
ثورة الربض، بسبب كراهية «المولِّدين» للحاكم، وبغضهم له لصرامته
وقسوته، واتهامهم له بممارسة اللهو والشراب، والمبالغة فى فرض
الضرائب، وقد تأجج لهيب الثورة فى الربض الجنوبى المسمى
«شقندة» بصفة خاصة يوم (13 من رمضان 202هـ = 25 من مارس
818م) وتوجه الثوار إلى القصر، وتأهب الحكم ورجاله لردِّهم، وقد
نجحوا فى ذلك، ثم مالبث أن شقت قوات الحكم طريقها إلى النهر،
وعبرته إلى الضاحية الأخرى موطن الثائرين وأضرمت النيران فى
جوانبها، فأسرع الثوار إلى دورهم، لإطفاء النيران وإنقاذ الأهل
والعشيرة.
وفى هذه اللحظة أحاط الجنود بالثوار، وأوسعوهم قتلا ومطاردة
ونهبوا دورهم، واستمرت هذه المأساة ثلاثة أيام، فرَّ خلالها إلى
طليطلة من استطاع، ثم نودى بالأمان بعد أن هدأت الفتنة، ثم أصدر
الحكم قرارًا بهدم دور الثوار ولاسيما فى الضاحية التى شهدت ميلاد
الثورة، فتم محوها تمامًا، ثم أمر بإخراج الثائرين من قرطبة،
فتفرقوا فى الثغور، وعبر بعضهم إلى العدوة الأخرى بالمغرب،
وهاجر بعضهم إلى طليطلة وشمالى غربى الأندلس.
كما ركب نحو (15) ألفًا منهم سفنًا رست بهم فى ميناء الإسكندرية،
حيث أقاموا فيها، غير أن والى مصر «عبدالله بن طاهر» أجبرهم
على الرحيل، فتوجهوا إلى جزيرة «كريت» وفتحوها سنة (212هـ =
827م)، وأسسوا بها دولة زاهرة، بقيت هناك إلى أن استولى عليها
البيزنطيون سنة (350هـ = 961م).
وعلى الرغم من نجاح «الحكم» فى القضاء على هذه الحركة الثائرة،
فإن أهل «قرطبة» تضاعفت كراهيتهم له، وزاد من نفورهم منه ما
فرض عليهم من ضرائب.
مرض الحكم بعد ذلك، وأخذ البيعة لولى عهده فى حياته، وأبدى
أسفه لما وقع منه لأهل الربض، ثم مات فى (26 من ذى الحجة 206هـ
= 22 من مايو 822م) بعد أن لُقِّب بالربضى، نسبة إلى ماقام به من
أعمال شنيعة فى منطقة الربض الجنوبى.(7/25)
ولم يكن الحكم الربضى كأبيه محبا للعلماء والفقهاء، فتراجعت
مكانتهم فى زمنه وآثر عليهم حضور مجالس الإماء والشعراء،
وانصرف إلى حياة اللهو والصيد.
ويُعدُّ الحكم أول من أظهر هيبة الملك بالأندلس وفخامته، ورتَّب للبلاط
نظمه ورسومه، واستكثر من الموالى، فظهر «الصقالبة» بكثرة فى
بلاطه، وأسند إليهم معظم شئون الحكم والحرس الخاص، ووصل بهم
إلى مراتب القيادة والرياسة، كما كانت له شرطة قوية وعيون على
الناس.
وضمَّت حكومته شخصيات بارزة فى تاريخ الأندلس، منهم: «ابن
مغيث» الذى تولَّى حجابته، واستحدث منصبًا يهتم بشئون أهل الذمة،
سمَّى شاغله بالقومس أو «القمط».
وعلى الرغم من اشتعال الفتن والثورات فى عهد الحكم، فقد ازدهرت
العلوم والآداب ونبغ عدد كبير من الكتاب والشعراء والعلماء، منهم
«عباس بن ناصح الثقفى»، وابنه «عبدالوهاب»، و «أبو القاسم عباس
بن فرناس»، و «يحيى الغزال».
عبدالرحمن الثانى (الأوسط) بن الحكم [206 - 238هـ = 822 - 852م]
تولى «عبدالرحمن» الحكم فى (27 من ذى الحجة 206هـ = 822م)
بعهد من أبيه؛ وكان «عبدالرحمن» منذ صغره شغوفًا بدراسة الأدب
والحديث والفقه، ذا عقل مستنير، خبيرًا بشئون الحرب والسياسة،
هادئ الطباع، حسن العشرة، متقربًا إلى الناس، حازمًا فى أمره،
ولهذا كان مؤهلاً لإزالة ما خلفته إمارة أبيه الحكم من آثار سيئة.
وقد واجه «عبدالرحمن» فى أول ولايته سنة (207هـ = 823م) ثورة
فى «بلنسية» دامت عدة سنوات، ولم تنته إلا فى سنة (213هـ =
828م) حيث نجح فى القضاء عليها وإخماد فتنتها، كما واجه ثورة
فى قرطبة نجح فى القضاء عليها أيضًا.
استأنف «عبدالرحمن الثانى» برنامجه فى الجهاد مبكرًا، فأرسل فى
سنة (208هـ = 823م) حملة عسكرية بقيادة «عبدالكريم بن عبدالواحد
بن مغيث» إلى «ألبة والقلاع» بعد أن أغار ملك جليقية (ليون) على
مدينة سالم فى الثغر الأعلى، وقد نجحت الحملة فى إلحاق الهزيمة(7/26)
بالنصارى فى عدة مواقع، وخربت مدينة «ليون» وأحرقت حصونها،
وأطلقت سراح المسلمين، وألزمت القوات المعتدية بدفع جزية كبيرة
وعادت الحملة بقيادة «عبدالكريم» إلى قرطبة مثقلة بالغنائم، وكانت
تلك آخر غزوات هذا القائد المظفر الذى استمر يدافع عن الأندلس فى
ميادين القتال أكثر من ثلاثين سنة؛ حيث توفى فى سنة (209هـ =
824م)
ثم تعرَّضت البلاد لعدد من الثورات والفتن والقلاقل فى «طليطلة»
و «ماردة» دامت سنوات طوال، واستنفدت كثيرًا من الجهد والمال
وإراقة الدماء حتى تمكن «عبدالرحمن» من القضاء عليها.
عاود «عبدالرحمن» نشاط الجهاد، فبدأ يرسل الصوائف كل عام إلى
الشمال تارة إلى أطراف الثغر الأعلى لتشتبك مع الفرنجة، وتارة إلى
«ألبة والقلاع» حيث تغير على بلاد البشكنس وأطراف مملكة جليقية
(ليون)، وكان أحيانا يقود تلك الصوائف، مثلما فعل سنة (228هـ =
843م) حيث سار بجيشه إلى الشمال، وزحف على بلاد البشكنس،
وألحق بملكها الهزيمة، واضطر إلى طلب الأمان، وعاد عبدالرحمن
إلى قرطبة بعد أن وطد نفوذه هناك، وفرض هيبته وقوته على
البشكنس، حتى لايتجرءوا على مهاجمة أراضى المسلمين مرة أخرى.
غزوات النورمان:
المقصود بالنورمان: هم أهل الشمال سكان اسكنديناوه ودانيماركه،
الذين اشتهروا بجوب البحار ومحاولة التغلب على قسوة الجليد
وأهوال الطبيعة، وبدأت جموعهم تغزو فرنسا وشواطئ أوربا
الغربية فى أوائل القرن التاسع الميلادى، تحملهم سفن صغيرة ذات
أشرعة سوداء، تدخل مصبات الأنهار، وتنشئ لها مراكز داخل البلاد،
وتغير على المدن وتنهب خيراتها، ثم توقد النيران للتعمية، ثم تهرب
مسرعة.
وكان ظهور هؤلاء فى مياه الأندلس لأول مرة سنة (230هـ= 845م)؛
حيث جاء أسطول لهم فى ثمانين سفينة، ورسا فى مياه «إشبونة»
فكتب حاكمها إلى «عبدالرحمن» يخبره بذلك، وحدث احتكاك بين
هؤلاء والمسلمين مدة ثلاثة عشر يومًا، ثم سار الأسطول النورمانى(7/27)
إلى «قادش»، ومنها إلى «شذونة» ونهب كل ما وجده فى طريقه،
ثم اخترق نهر الوادى الكبير إلى «إشبيلية»، وظهر هناك بصورة
مفاجئة، ولما لم تكن هناك بحرية تدافع عن تلك المنطقة أو استعداد
لمواجهة هذا النوع من العمليات، فقد عاث النورمان فيها فسادًا لمدة
سبعة أيام، وأحرقوا الدور والمسجد الجامع، ثم غادروا مدينة
«إشبيلية»، وعسكروا فى الناحية الغربية منها.
وإزاء هذه التحركات هرع المسلمون لرد العدوان، ونشبت معارك
تفوق فيها النورمان فى أول الأمر، ثم هزمهم المسلمون بعد قتال
عنيف عند «طليطلة» شمالى «إشبيلية» فى (25 صفر سنة 230هـ =
845م) ولقى قائدهم مصرعه، وأحرقت ثلاثون سفينة من سفنهم،
فأقلعت السفن الباقية نحو الجنوب حيث غادروا مياه الأندلس بعد
أسابيع من الفزع والرعب.
نشأة الأسطول:
كان لمفاجأة النورمان أثرها، فبدأت الحكومة الأندلسية تعطى
الاهتمام الكافى للأسطول والتحصينات البحرية، فبنى «عبدالرحمن»
سورًا ضخمًا حول «إشبيلية»، واتخذ قواعد بحرية، ودورًا لصناعة
السفن فى «إشبونة» و «إشبيلية»، و «المرية» و «بلنسية» و «مالقة»،
وعنى بصناعة السفن الكبيرة، وأعد لها المقاتلة، وأصبح للأندلس
أسطولان، أحدهما فى المحيط الأطلسى ومركزه إشبونة، والآخر
فى البحر المتوسط وقاعدته مالقة.
وبدأت تظهر أهمية البحرية الأندلسية منذ منتصف القرن التاسع
الميلادى وأثمرت جهوده فى فتح الجزائر الشرقية (جزر البليار)،
وهى ميورقة ومنورقة ويابسة، وتم ضمهما إلى الإمارة الأندلسية
سنة (234هـ = 848م).
وقد أدرك النورمان أن الأندلس لن تكون فريسة سهلة لغزواتهم،
فسعوا إلى الصلح مع الأمير عبدالرحمن، وبعثوا رسلهم يطلبون
السلام، فأرسل الأمير إليهم الشاعر «يحيى الغزال» ردًا على
سفارتهم.
وبعد الانتهاء من مشكلة النورمان استأنف «عبدالرحمن» عمليات
الجهاد فى الشمال، فأرسل صائفة اخترقت قشتالة القديمة، وسارت(7/28)
فى اتجاه نابارَّا (نافار)، وغزت بنبلونة سنة (230هـ = 845م)، ثم
توجهت فى العام التالى صائفة إلى «جليقية»، وحاصرت «ليون»
عاصمتها، وحملت النصارى على اللجوء إلى الجبال، كما أرسل قوة
بحرية إلى جزيرتى ميورقة ومنورقة سنة (234هـ = 848م) تمكنت من
السيطرة عليهما.
وفى سنة (237هـ = 851م) قامت حرب بين المسلمين وبعض قوات
البشكنس الذين هاجموا أراضى المسلمين فى أطراف بلاد الثغر
الأعلى، انتهت بانتصار المسلمين.
وقد حرص «عبدالرحمن» على موالاة إرسال الصوائف فى كل عام
إلى الحدود الشمالية مما يلى «طليطلة» شمالا، لأن الصراع هناك كان
شديدًا، ولأن أهل طليطلة كانوا يستنجدون بالإمارات النصرانية فى
منازعاتهم مع الإمارة الأندلسية، ويستنجدون أيضًا بنصارى الشمال
وبخاصة ملوك ليون.
المتعصبون النصارى يثيرون فتنة فى الأندلس:
تعرضت البلاد فى أواخر عهد «عبد الرحمن» الأوسط لفتنة شديدة،
أملتها روح التعصب، فقد كره بعض القساوسة والرهبان سيطرة
الثقافة واللغة العربية على المجتمع، وانتشار الإسلام، فلجئوا إلى
الشكوى لموت الثقافة المسيحية وإلى مواجهة المسلمين وتحديهم فلم
يفلحوا، فراحوا يجهرون بسب النبى - صلى الله عليه وسلم - والإساءة
إليه، وإهانة المقدسات الإسلامية علنًا وعلى مرأى الناس وفى
الطرقات العامة.
وقد حمل رجال الشرطة هؤلاء القساوسة والرهبان إلى القضاة،
فكرروا الشىء نفسه أمامهم وأصروا على رأيهم، وحاول القضاة
استعمال الرفق معهم فى ثنيهم عن أفعالهم فلم ينجحوا، وتكررت
الجرائم، فاضطر القضاة إلى الحكم بإعدام هؤلاء المتعصبين، وقتل
كثير منهم فى صيف سنة (237هـ = 851م)، فعدهم أحبار النصارى
شهداء، وكان هذا هو هدف هؤلاء المتعصبين، وتأزم الموقف،
والتهبت نيران الفتنة.
واجه «عبدالرحمن» هذه المشكلة بما تستحقه من صبر، فطلب من
قادة النصارى عقد مجمع دينى فى قرطبة لمعالجتها بحكمة واتزان،(7/29)
فأوضح المجمع عواقب هذا العمل الوخيمة، وأن المعتدلين من
النصارى يبرءون منه ويستنكرونه، وكان من نتيجة ذلك استقرار
الأوضاع وعودة الوئام بين المسلمين والنصارى بفضل معالجة
عبدالرحمن وحسن تأنيه فى الأمور.
وفاة عبدالرحمن الأوسط:
توفى «عبدالرحمن» فى (3 من ربيع الآخر 238هـ = 23 من سبتمبر
852م) عن عمر يناهز (62) سنة، بعد أن حكم البلاد أكثر من إحدى
وثلاثين سنة، عدت من أزهى سنوات الحكم الإسلامى فى الأندلس،
فقد عاش الناس فى رخاء وعم الهدوء والاستقرار البلاد، وقام الحكم
على أسس من العدالة والنظام.
وقد اعتمد «عبدالرحمن الأوسط» على عدد من الزعماء والوزراء
والقادة المخلصين، وكان الوزراء يعقدون اجتماعاتهم فى قصر
«السدة» فى بيت يسمى بيت الوزارة، ويحمل «الحاجب» رئيس
الوزراء نتيجة مناقشاتهم للأمير، لاتخاذ ما يراه مناسبًا. وكان الوزير
يتقاضى مرتبًا شهريًا قدره (350) دينارًا وجرى عبدالرحمن على سنة
أبيه فى اصطفاء الموالى والصقالبة، وكان له خمسة آلاف، منهم
ثلاثة آلاف يرابطون إزاء أبواب القصر على الرصيف، وألفان على
أبواب القصر، وهم الذين كانوا يسمون الخرس بسبب عجمتهم.
ولم يكن عبدالرحمن الأوسط أميرًا فحسب، وإنما كان أديبًا شاعرًا
وعالمًا حكيمًا، أحاط نفسه بجماعة كبيرة من الشعراء والعلماء
والأدباء، كما كان أول من عُنى بجمع الكتب من أمراء الأندلس، وقد
أوفد شاعره «عباس بن ناصح» إلى المشرق يبحث له عن كتب،
فجمع منها طائفة كبيرة كانت نواة مكتبة قرطبة العظيمة، ومن
الشخصيات التى أحاطت به:
- على بن نافع:
الموسيقى المعروف بلقب زرياب (الطائر الأسود)، وكان قد غادر
بغداد إلى قرطبة، فاستقبله «عبدالرحمن الأوسط» بكل حفاوة،
وعاونه على إظهار فنه، فأنشأ معهدًا لتعليم الموسيقى وابتكر
طريقة لكتابتها، وأنشأ فرقة موسيقية تجمع بين العازفين
والمنشدين، واخترع وترًا خامسًا أدخل به تعديلا على العود، كما(7/30)
أدخل كثيرًا من مظاهر الحياة المتحضرة فى المجتمع الأندلسى،
وتوفى فى (ربيع الأول 238هـ= أغسطس 852م).
- عباس بن فرناس:
كان من رجال الحكم الربضى وابنه عبدالرحمن، وهو فيلسوف
ورياضى وشاعر وموسيقى وكيميائى، من أصل بربرى، توصل إلى
صناعة الزجاج من طحن الأحجار، واخترع آلة تسمى «الميقانة» تعتمد
على الظل فى معرفة الوقت، واشتهر بأول محاولة يقوم بها الإنسان
للطيران فى الجو، كما اخترع شيئًا شبيهًا بقلم الحبر، وقد أدركته
الوفاة فى عهد الأمير محمد بعد ذلك.
- يحيى بن الحكم الجيانى «الغزال»:
هو فيلسوف شاعر، من أصل عربى، ولد فى جيان بالأندلس، ولقب
بالغزال لأناقته وجمال هيئته، كان من الندماء المقربين من
عبدالرحمن الأوسط، فأعجب به وكلفه بالسفارة عنه إلى إمبراطور
الدول البيزنطية، فقام بمهمته خير قيام، فشجع ذلك النجاح الأمير
عبدالرحمن فبعث به إلى ملك النورمان فى الدنيمارك ليتباحث معه
فى أمر الصلح بين الدولتين. وتوفى يحيى الغزال سنة (250هـ=
864م).
المظاهر الحضارية فى عهد عبدالرحمن الأوسط:
ظهرت آثار الرخاء وترف الحضارة فى عهد عبدالرحمن فيما بناه
الناس من قصور جميلة، تم تزيينها بالأثاث الفاخر والفرش الوثيرة،
والجوارى الحسان اللاتى جلبن من المشرق، وانتشرت فى قرطبة
البيوت المحاطة بالحدائق المزدانة بالأشجار وأطلقوا عليها اسم
«المنى»، وتوسَّع بعض الأغنياء فى الحدائق المحيطة بهذه المنازل
حتى أصبحت رياضًا، أطلق عليها اسم «الجور»، وفى كل منها مكان
معد لغناء المغنيات.
وامتاز عهد عبدالرحمن بالأمن والسكينة. وازدهار الصناعة والزراعة
والتجارة، وازدياد موارد الدولة التى بلغت نحو مليون دينار سنويا
مكنت الأمير من الإنفاق على الحملات العسكرية وإقامة المنشآت
العامة، كما أشرفت الحكومة المركزية على أعمال الحكام من خلال
ديوان المظالم المختص بالنظر فى شكاوى الناس من تصرفات بعض
رجال الحكومة.(7/31)
ونالت إقامة المبانى والمنشآت قسطًا عظيمًا من عناية «عبدالرحمن
الأوسط»، فبنى مسجد إشبيلية الجامع، وزاد فى المسجد الجامع
بقرطبة قدر بهوين كبيرين من ناحية القبلة، ونقل المحراب إلى الجزء
الجديد، وأقام أعمدة أخرى، وأقواسًا فوق الأعمدة الأصلية، فكانت
الأقواس المزدوجة التى يعدها المعماريون من روائع العمارة
الإسلامية، وكان صحن المسجد مكشوفًا يدور حوله سور، وتزرع فيه
أشجار النارنج، ولهذا سُمِّى بهو النارنج، وهو الآن صحن الكنيسة.
ولايزال مسجد قرطبة الجامع باقيًا حتى اليوم بكل عقوده الإسلامية
وأروقته ومحاريبه، وقد تحوَّل إلى كاتدرائية فى القرن السادس
عشر الميلادى، وأقام المسيحيون هياكلهم فى عقوده الجانبية،
وبنوا مصلى على شكل صليب فى وسطه، وأزالوا كثيرًا من قباب
المسجد وزخارفه الإسلامية، وجعلوا مكانها زخارف نصرانية، وعلى
الرغم من ذلك فإن آيات القرآن الكريم، والنقوش الإسلامية لاتزال تزين
محاريبه الفخمة وأبوابه.
تجديد الشعر الأندلسى:
بدأت طلائع الشعر الشعبى الأندلسى فى الظهور فى عهد
عبدالرحمن الأوسط، وهو شعر يصاغ بعامية الأندلس التى هى خليط
من العربية والبربرية وغيرهما مع الالتزام بأوزان بحور الشعر العربى
وبخاصة بحرا الرمل والرجز، وهو ما عرف باسم «الزجل» وقد وصل
هذا الفن إلى أوج رقيه بعد ذلك فى زمن ملوك الطوائف على يد ابن
قزمان وغيره.
وقد برز من الشعراء فى هذا العصر «ابن عبدربه»، صاحب العقد
الفريد، ومؤمن بن سعيد، والشاعر الضرير أبو بكر بن هذيل.
الأمير محمد بن عبدالرحمن الأوسط [238 - 273هـ = 852 - 886م]
رشَّحه أبوه لولاية العهد، لأنه رأى أنه أصلح من يتولى الملك، وإن
لم يكن أكبر أبنائه، وقد وصفه المؤرخون بالاتزان والذكاء والعقل
وهدوء الأعصاب.
تولى الأمير «محمد» الحكم فى (4من ربيع الآخر 238هـ = 24 من
سبتمبر 852م)، وقدر له أن يقضى فترة حكمه فى إخماد الثورات(7/32)
ومواجهة أعداء دولته من النصارى، فخرج فى (المحرم سنة 240هـ =
يونيو 854م) على رأس جيشه إلى «طليطلة» لمواجهة الثائرين فيها
من المولدين والنصارى الذين استعانوا بملكى «ليون» ونبرة
«نافارة»، وقد سار الأمير ببعض قواته، وترك بقية جيشه متخفية
وراء تلال «وادى سليط»، فاغترت قوات طليطلة بقلة قوات الأمير
فخرجت لقتاله، وتظاهر الأمير بالهزيمة، وارتد إلى الخلف، وعندئذ
برزت بقية قوات المسلمين، وأطبقت على الثوار وحلفائهم من
النصارى ومزقتهم تمزيقًا، وقتل منهم ما بين أحد عشر إلى عشرين
ألفًا، بينهم كثير من القساوسة.
وعلى الرغم من ذلك فقد استمرت الفتنة فى طليطلة، وواصل
النصارى تحريضهم زاعمين أنهم يتعرضون لاضطهاد دينى
واجتماعى، فاضطر الأمير «محمد» إلى أن يخرج إلى «طليطلة» سنة
(244هـ = 858م) بعد أن أرسل حملتين قبل ذلك لم تنجحا فى إخماد
الفتنة، فحاصر المدينة، ولجأ إلى الحيلة فى تحقيق النصر، فهدم
قواعد القنطرة الكبيرة مع تركها قائمة، فلما احتشد الثائرون لقتاله
سقطت بهم القنطرة فى نهر تاجة وغرق منهم عدد كبير، ثم استخدم
كل إمكاناته فى سحق المدينة حتى استسلم أهلها وطلبوا الأمان
والصلح سنة (245هـ = 859م)، ثم حاكم الأمير كثيرًا من القساوسة
مشعلى الفتنة ونالوا جزاءهم، وخبت جذوة التعصب.
ويجدر بالذكر أن «طليطلة» تعد من أمنع مدن العصور الوسطى بسبب
موقعها على المنحدر الصخرى من نهر تاجة، وإحاطة النهر بهذا
المنحدر، ثم لما فيها من حصون قوية وأسوار عالية ضخمة.
ولم تكن «طليطلة» هى المدينة الثائرة وحدها، فقد قامت ثورات
أخرى فى شمال غربى الأندلس فى المناطق الجبلية هناك، وكانت
«ماردة» الواقعة فى النواحى الغربية المعروفة الآن باسم البرتغال
الموطن الرئيسى للمتمردين المولدين بزعامة «عبدالرحمن بن مروان
الجليقى» فخرج إليها الأمير محمد سنة (254 هـ = 868م)، وداهم
«ماردة» وهدم أسوارها وحصونها، فاضطر الثوار إلى طلب الأمان.(7/33)
ثم تجددت الثورة بعد ذلك بأعوام فى «ماردة» و «بطليوس»،
واستولى الثوار على بعض القلاع وتحصنوا بها وكثرت جموعهم، ولم
تفلح حملات الأمير محمد فى إخماد الفتنة والقضاء على الثورة،
وانتهى الأمر بقبول شروط زعيم الثائرين عبدالرحمن الجليقى، بأن
يستقل بحكم بطليوس، ويعفى من الفروض والمغارم، وأن يكون من
حلفاء الإمارة.
ولم تشغل تلك الثورات المتتابعة الأمير محمد عن أمر الجهاد، فتتابعت
حملاته العسكرية إلى «ألبة» و «القلاع» وهزمت النصارى فى عدة
مواقع، كما اتجهت إلى «نبرة» سنة (246هـ = 860م)، وقامت
بتخريب بنبلونة وحصونها وقراها لمدة أسابيع أسر خلالها ابن ملك
«نبرة»، وكان ملك «نبرة» قد تحالف مع ملك «ليون» وقاما بمهاجمة
الأراضى الإسلامية.
وكان يمكن للأمير «محمد» أن يحقق نتائج أفضل فى جهاده مع
النصارى لولا كثرة الثائرين عليه، واتساع أراضى البلاد ووعورتها،
مع قلة العرب بالمقارنة إلى المستعربين والمولدين الذين كثرت
ثوراتهم وقوى ميلهم إلى الاستقلال.
وكان على الأمير «محمد» أن يواجه خطر النورمان الذين عادوا
للهجوم على الأندلس من جديد، فجاءوا بسفنهم إلى «جليقية» فى
(62) سفينة عاثت فسادًا فى الشاطئ الغربى، لكن السفن الأندلسية
كانت متأهبة لها هذه المرة فطاردتها، فاتجهت نحو مدينة صغيرة
تسمى «باجة» تقع فى البرتغال اليوم، لكن المسلمين هزموهم هناك
واستولوا على بعض سفنهم، فاتجهت باقى السفن نحو الشواطئ
الجنوبية عند مصب الوادى الكبير، ثم انحدرت جنوبًا نحو مياه
الجزيرة الخضراء، وقد اتجهت وحدات الأسطول الإسلامى ناحية الغرب
وتمت تعبئة القوات وتجهيز السفن بالنفط والرماة، وحدثت معارك
برية وبحرية عند «شذونة» انتصر فيها المسلمون أولا، لكن السفن
النورمانية عادت وتغلبت ثم توجهت جهة الجزيرة الخضراء وأحرقوا
مسجدها الجامع وأفسدوا ونهبوا، ثم قصدت بعض سفنهم نحو عدوة(7/34)
المغرب ونزلوا شاطئ الأندلس الجنوبى، وجرت هناك معارك برية
وبحرية استمرت أشهرًا، فقد النورمان فيها كثيرًا من سفنهم،
فاتجهوا نحو شواطئ أسبانيا الشرقية، وعبرت وحدات منهم نهر
«ابرو» إلى «نافار»، فى حين أغارت وحدات أخرى على الجزائر
الشرقية وشواطئ «بروفانس» ومن هناك عبروا مصب نهر «الرون»
عائدين إلى بلادهم.
وهكذا لم يسلم من تخريب هؤلاء؛ لا الأندلس الإسلامية ولا إسبانيا
النصرانية، ولكن غزوتهم هذه المرة لم تكن مفاجئة ولم يتمكنوا من
القيام بعمل كبير، ولم يكن تأثير عملياتهم واسعًا كما حدث فى المرة
الأولى، وعلى كل حال فتلك آخر محاولة قام بها النورمان ضد
الأندلس، وانتهى خطرهم نهائيا، فلم نعد نسمع بهم بعد سنة (245هـ
= 859م).
ثورة عمر بن حفصون:
وهو من أصل إسبانى قوطى، ظهر فى جبل «ببشتر» ضمن سلسلة
الجبال بين «رندة» و «مالقة» التى تعد مأوى العصاة والخارجين
على القانون.
وقد قامت ثورة ابن حفصون فى ولاية «رية» بمحافظة «مالقة» الآن،
وقد التف حوله جماعة من المفسدين ونزلوا جميعًا بجبل «ببشتر»
شمال شرقى «رندة».
ويرجع السبب المباشر للثورة إلى إصرار الحكومة المركزية على بسط
سلطانها الكامل على النواحى كافة. وعنف الوالى مع المواطنين
وإرهاقهم وتشدده فى جباية الأموال ومطالبتهم بالعشور المتأخرة،
كل ذلك دون أن ينال سكان هذه المناطق الجبلية شيئًا من عناية
الحكومة المركزية، مما شحنهم بالغضب وجعلهم مهيئين للثورة.
وقد بدأ هؤلاء تمردهم وعدم استجابتهم لواليهم عام (265هـ= 878م)،
واعتصموا فى جبالهم، وحاول الأمير «محمد» إخماد حركتهم بالقوة
فلم يصل إلى ما يريد، وفى العام التالى أرسلت صائفة إلى كورة
«رية» اشتدت فى التعامل مع الثائرين وبقيت مع ذلك حركة العصيان
وعمت الإقليم كله وانتشرت الفوضى هنا وهناك.
فى وسط هذه الظروف ظهر «عمر بن حفصون»، وناب عن الناس فى(7/35)
تقديم مطالبهم للحكومة المركزية، لكنه لم يصل إلى شىء. وبدأ يُغِير
على أطراف الإقليم وينهب ويخرب؛ ثم يعود إلى الاعتصام بجبل «
ببشتر»، وقد سارع عامل «رية» إلى التوجه إليه لكنه تعرض للهزيمة
على يدى «ابن حفصون»، فساعد هذا على تقوية مركزه والتفاف
العصاة والمفسدين والأشرار حوله، وتولى على الإقليم عامل جديد،
اتجه إلى محاربة ابن حفصون الذى اعتصم بحصونه وانتهى الأمر
بهدنة بين الفريقين.
وقد رأى الأمير محمد ضرورة حسم ثورة ابن حفصون هذه فأرسل
إليه جيشًا كبيرًا على رأسه الوزير «هاشم بن عبدالعزيز»، الذى شدد
حصاره على «ابن حفصون»، حتى حمله ومن معه على التسليم
وحملهم جميعًا إلى قرطبة؛ حيث عفا الأمير «محمد» عن ذلك الثائر
وضمه إلى ضباطه لما لمسه فيه من شجاعة وفروسية.
اشترك «ابن حفصون» فى الحملات العسكرية التى قادها «المنذر بن
محمد» إلى الشمال، لكن الرجل كان بطبعه ميالا إلى التمرد والعمل
لحسابه الخاص؛ لذلك فرَّ هاربًا من جيش الإمارة، وعاد مرة أخرى
إلى الاعتصام بجبال «رية» وضم إليه كثيرًا من العصاة واستأنف
ثورته مرة أخرى سنة (271هـ = 884م)، ونشر الرعب فى المنطقة.
وفى صيف (273هـ = 886م) قاد «المنذر بن محمد» جيشًا توجه إلى
«ابن حفصون» لمقاتلته، وبدأ بالزحف على مدينة «الحامة» شمالى
شرقى «مالقة» حيث يوجد واحد من حلفاء «ابن حفصون» وقد سار
الأخير لنجدة حليفه، وحاصرهما «المنذر» مدة شهرين ثم خرجا لمقاتلة
جند الإمارة عندما أوشكت أقواتهما على النفاد، وبعد معركة عنيفة
هزم الثوار، وارتد «ابن حفصون» إلى «الحامة» واعتصم بها، وبينما
«المنذر» يحاصره ويشتد عليه تلقى نبأ وفاة والده فترك «الحامة»،
وعاد إلى قرطبة فى (29 صفر 273هـ =26 أغسطس 886م)، وبذلك
تنفس «ابن حفصون» الصعداء، واستأنف غاراته وفساده ونشر
سلطانه على «رية» و «رندة» و «أستجة» وغيرها.
سياسة الأمير محمد:(7/36)
عُنى الأمير محمد بالجيش بسبب الظروف التى عاشتها الإمارة فى
زمنه، وكان حريصًا على فرض أعداد من الفرسان على كل ناحية
أندلسية تحشد دائمًا للصوائف، وهؤلاء كانوا يسمون «الفرسان
المستقرين» يضاف إليهم حشود المستنفرة والمتطوعة، مما يدل على
ضخامة الجيش الذى كانت الإمارة تستطيع تعبئته.
كما عنى بالأسطول لحماية الشواطئ الغربية من ناحية، وغزو مملكة
«جليقية» من ناحية أخرى، واهتم بتحصين أطراف الثغور، وأقام
قلاعًا منيعة؛ لحماية مدينة «سالم» و «طليطلة»، وبنى حصونًا فى
«طلمنكة» و «مجريط» بمنطقة وادى الحجارة.
أما من ناحية سياسته الخارجية فقد جمعته مع أمراء المغرب
المعاصرين علاقة صداقة متينة خاصة «بنى رستم» فى «تيهرت»
و «بنى مدرار» فى «سجلماسة»، وكان يشاورهم فى أموره ويهتم
بأخبارهم ويستنصحهم، وتتردد الكتب والرسل بينه وبين هذه الدول
بهدف متابعة أخبار «بنى العباس» وأعمالهم فى إفريقية وبلاد
الشام. كذلك قامت علاقة صداقة بين الأمير «محمد» وملك «فرنسا»
وتبادلا الرسائل والهدايا.
أما من الناحية المالية فقد خفَّف الضرائب على المواطنين رغم حاجته
إلى المال للإنفاق على الجهاد والقضاء على الثورات المستمرة،
وكان يكتفى من أهل «قرطبة» بجهادهم ولايكلفهم أعباء مالية،
وكان الأمير «محمد» بارعًا فى مراجعة الحسابات وموازنة الدخل
والخرج، وقد ساعده هذا الضبط للأمور المالية على مواجهة بعض
المحن الطبيعية التى تعرضت لها الإمارة فى زمنه.
النظام الإدارى ومظاهر الحضارة:
فقد الصقالبة والجوارى كثيرًا من نفوذهم فى القصر أيام الأمير
«محمد» واستمر النظام الإدارى سائدًا كما كان أيام أبيه وتولى
مناصب الوزارة الرجال أنفسهم، ونظمت أعمال الوزراء وتحددت
اختصاصاتهم حتى أصبحت قريبة من اختصاص الوزراء فى أيامنا
هذه؛ حيث اختص كل واحد منهم بفرع من فروع الإدارة، وقدم وزراء
أهل الشام على غيرهم، وقد تولى الحجابة للأمير «محمد» «عيسى(7/37)
بن شهيد» وهو الذى تولى الحجابة لوالده ورشحه عنده لولاية العهد،
واجتمعت السلطات فى أيدى أسرتى بنى «شهيد» وبنى «أبى
عبدة» - من أعظم الأسر القرطبية آنئذ - ثم آل منصب الحجابة إلى
«هاشم بن عبدالعزيز» من أسرة مولَّدة، وكان وزيرًا أيام
«عبدالرحمن الأوسط» وأصبح من أكثر الوزراء حظوة عند الأمير
«محمد»، وهو من أشهر رجالات الحرب والسياسة. وكان مع ذلك من
الأدباء والشعراء المطبوعين.
ومن وزراء الأمير «محمد» «تمام بن عامر الثقفى» الشاعر المؤرخ
صاحب «أرجوزة» فى فتح «الأندلس» وأشهر لاعب شطرنج فى
زمنه، و «سليمان بن وانسوس» من أصل بربرى، وكان أديبًا تولى
خطة السوق والحسبة، ومنهم الكاتب البليغ «عبدالملك بن عبدالله ابن
أميتة».
وقوى نفوذ الفقهاء فى بلاط الأمير «محمد»، وكان لهم دور فى
توجيه سياسته مع النصارى، وكان متسامحًا معهم كما كان يفعل
أبوه، وقد أبقى عددًا منهم فى مناصبهم.
وقد عُرف الأمير «محمد» بالحلم والأناة ومودة آل بيته، كما كان
أديبًا ذواقة، يجتمع حوله أكابر الناس والعلماء والشعراء من أمثال:
«عباس بن فرناس» و «ابن عبدربه» و «ابن حبيب»، ومن أمثال: «بقى
بن مخلد» أعظم فقهاء الأندلس فى زمنه.
وعلى الرغم من أن أحداث فترة حكم الأمير «محمد» لم تتح له فرصة
كبيرة للقيام بأعمال إنشائية، فإنه أولى للمسجد الجامع فى قرطبة
اهتمامًا كبيرًا، فأتم الزيادة التى بدأها أبوه فى وسط الجامع وأقام
فيه المقصورة، وكان أول من اتخذها، وأصلح القسم القديم الذى
بناه جده «الداخل» وجدده، كما أصلح جوامع «استجة» و «شذونة»
وغيرها .. وأضاف زيادات لقصر الإمارة، وجدد «منية الرصافة»
واستجلب لها الأشجار النادرة واتخذها متنزهًا، وأنشأ منية خاصة
جنوب غربى قرطبة أسماها «منية كنتش» جعلها متنزهًا له كذلك.
الأمير المنذر بن محمد [273 - 275هـ = 886 - 888م].
كان «المنذر» ولى عهد أبيه ومحل ثقته، وفارسًا شجاعًا، وقائدًا(7/38)
متميزًا اعتمد عليه أبوه كثيرًا فى مواجهة المشاكل ومحاربة العصاة
وقيادة الحملات.
وفى أول ولاية «المنذر» عادت «طليطلة» إلى الثورة كعادتها،
وانضم إلى أهلها كثير من البربر، فأرسل الأمير حملة قضت على
الثورة وقتلت الألوف، وفى العام نفسه قام حاكم الثغر الأعلى بغزو
«ألبة والقلاع» ودخل فى حرب ضد النصارى وهزمهم، لكن أعظم
ماكان يشغل «المنذر» هو القضاء على «ابن حفصون»، بعد أن
استفحل خطره وانتشر سلطانه فى نواحٍ كثيرة وانضم إليه
المغامرون والثائرون والعصاة فى كل الأندلس.
وكان «ابن حفصون» صاحب دعوة سياسية تبغض العرب والبربر معًا،
وعنده نزعة إلى الاستقلال والتحرر؛ لأن العرب حملوا الناس فوق
طاقتهم وزادوهم رهقًا وهو إنما قام ليثأر لهم، وقد لقيت دعوته
استجابة لدى سكان المناطق الجبلية خاصة، وكان الرجل متواضعًا
يكرم الشجعان، فساعد ذلك على التفافهم حوله.
وقد أرسل «المنذر» بعض قواته، فاستردت قسمًا من الحصون التى
كان «ابن حفصون» قد سيطر عليها، وفى ربيع (274هـ = 887م)
خرج «المنذر» بنفسه مصممًا على القضاء على «ابن حفصون»
واجتثاث ثورته من جذورها، وقد نجح فى فتح بعض الحصون، وأسر
بعض أعوان ذلك الثائر، وبعث بهم إلى قرطبة حيث صلبوا، بينما بقى
«ابن حفصون» ممتنعًا بجبال «ببشتر».
ولما شدد «المنذر» حصاره وقطع كل علاقات «ابن حفصون»
بالخارج، لجأ «ابن حفصون» إلى الحيلة والخديعة وطلب الصلح على
أن يسير ومعه أهله وولده إلى «قرطبة» فوافق الأمير وبعث إليه فى
قلاعه بكل ما طلبه من الأدوات ووسائل النقل، وتم رفع الحصار،
وعاد الأمير بجيشه إلى قرطبة.
ولما لم يكن «ابن حفصون» وفيا؛ فقد هرب فى جنح الظلام وامتنع
مرة أخرى بجبال «ببشتر» مستفيدًا بما حصل عليه من زادٍ وأقوات
وإمدادات، فاشتد غضب الأمير ورجع لمحاصرته، وأصر على عدم
العودة إلى «قرطبة» إلا بعد القبض على «ابن حفصون» حيا أو ميتًا،(7/39)
ودام الحصار ثلاثة وأربعين يومًا بعدها مرض «المنذر»، وطلب من
أخيه «عبدالله» أن يحضر؛ لينوب عنه فى متابعة الحصار، ثم مات
تحت أسوار «ببشتر» بعد حكم لم يستمر أكثر من عامين وكان موته
فى (صفر 275هـ = يونيو 888م)، وتم رفع الحصار، وعاد الجيش إلى
«قرطبة»، ومرة أخرى يتنفس «ابن حفصون» الصعداء.
الأمير عبدالله بن محمد [275 - 300هـ = 888 - 912م].
ما كاد الأمير «عبدالله» يتولَّى الحكم حتى قامت الثورات ضده فى
المناطق الجبلية، بل تجاوزت ذلك إلى المدن والقواعد الكبرى، ولم
تعد تقتصر على القادة من المولدين بل تجاوزتهم إلى العرب أنفسهم،
وبرز العنصر البربرى واعتصم كثير من زعمائه فى الحصون النائية،
وتنوعت المعارك وتعددت بين العرب والمولدين وبين العرب والبربر،
وبين العرب أنفسهم بعضهم ضد بعض، وأعلن بعض زعماء العرب
استقلالهم فى «جيان» «البيرة» و «لورقة» و «مدينة سالم»، وغيرها.
واستقل زعماء البربر فى «الثغر الأعلى» و «بطليوس» و «مرسية»
وبعض مناطق «جيان» وغيرها، وأضحت «إشبيلية» مسرحًا لقتال
مرير بين العرب والبربر، ونشر «ابن حفصون» سلطانه فى أغلب
النواحى الجنوبية القريبة، ولم يبق لحكومة «قرطبة» إلا العاصمة
وضواحيها تمارس فيها سلطاتها وتخضع لسيطرتها.
وكان على الأمير «عبدالله» أن يواجه ذلك كله، ورأى أن أخطر ما
يواجهه هو ثورة «ابن حفصون»، وفى الوقت نفسه رأى «ابن
حفصون» أنه فى حاجة إلى فترة هدنة وسلام يستغلها فى
الاستعداد وتنظيم أموره، لذلك بعث يطلب الصلح مع الأمير، على أن
يستقر فى «ببشتر»، ويكون تابعًا للإمارة الأموية، فوافقه عبدالله
وأكرم رسله، وبعث أميرًا من عنده يشاركه فى حكم الإقليم، ولكن
لم تمض شهور حتى نكث بعهده، وطرد الأمير المشارك، وعاد يفسد
ويخرِّب ويغير على البلاد المجاورة.
سار الأمير بنفسه عام (276هـ= 889م) ووصل إلى منطقة «ببشتر»،
واجتاحها إفسادًا وتدميرًا، لكنه لم يصل إلى نتيجة وبقى اضطرام(7/40)
الثورة فى الجنوب.
وواصل «ابن حفصون» غاراته فى اتجاه الشمال حتى وصل إلى
ضواحى «قرطبة» بل حاول إحراق مخيم الأمير نفسه فى ضاحية
«شقندة» القريبة من العاصمة، وأصر الأمير على الخروج إليه وحشد
كل مااستطاع حشده من قوات، وذهب فى اتجاه حصن فى الجنوب
الشرقى من قرطبة يُسمى «حصن بلاى» كان «ابن حفصون» قد حشد
فيه قواته، والتقى الفريقان على فرع من فروع نهر الوادى الكبير
قريب من الحصن الذى يعتصم به «ابن حفصون»، ونجح فرسان
الأندلس فى إلحاق هزيمة بالجناح الأيمن لابن حفصون ومزقوا قواته؛
فركب الرعب قلوب بقية الثائرين، وفروا هاربين والخيل تتبعهم،
وقُتِل كثير منهم وفرَّ «ابن حفصون» إلى الجبال الجنوبية بمن معه
واستولى الأمير «عبدالله» على حصنه، ورغم أن ابن حفصون قد
أُصيب فى المعركة فإن الأمير آثر ألا يطارده، واتجه غربًا نحو
«أستجة» التى كانت تناصره، وحاصرها حتى استسلمت ثم سار إلى
«ببشتر» فلم يخرج زعيم الثوار لمواجهته وجبن عن لقائه، وأثناء
ارتداد جيش الأندلس راجعًا اشتبك ابن حفصون مع مؤخرته لكنه هزم
فى ربيع عام (278هـ = 891م).
وعلى الرغم من أن ثورة «ابن حفصون» لم تنته تمامًا فإنها قد وهنت
وأصبح الطريق ممهدًا للقضاء عليها.
وقد شهدت المناطق الجنوبية شرقى الأندلس ثورة القبائل العربية،
فقد رأت أن حكومة قرطبة تؤثر الموالى، وأن فى ذلك مهانة لها؛
فاستغلت اشتعال فتنة المولدين فى الجنوب والثغر الأعلى فقامت
بثورتها فى الجنوب متخذة من كورة البيرة «غرناطة» مركزًا لها،
وتزعم الثورة «يحيى بن صقالة القيسى» عام (275هـ = 888م)،
والتف العرب حوله وقام بمطاردة المولدين والنصارى، ولكنه قتل فى
موقعة معهم فخلفه «سوار بن حمدون القيسى»، وكان شجاعًا
ناصره قومه، ولذلك نجح فى انتزاع معظم حصون النصارى
والمولدين، ووصل نفوذه إلى قلعة رباح، ومنها زحف إلى البيرة،
حيث دارت معركة تسمى «معركة المدينة» بينه وبين جند الإمارة،(7/41)
انهزم فيها والى البيرة ووقع فى الأسر، وقتل كثير من رجاله، ثم
أطلق سراحه؛ فانضم إلى «ابن حفصون» وتحالف معه.
أما «سوار» فقد قوى أمره وتضاعف مؤيدوه، وتوجه نحو غرناطة
حيث دارت معارك بينه وبين المولدين، وتمكن من هزيمة «ابن
حفصون»، ولكن خصوم «سوار» دبروا له من قتله فى كمين فلم تدم
رئاسته للعرب إلا نحو عام، وخلفه سعيد بن سليمان بن جودى
السعدى زعيم هوازن، وكان معروفًا أيضًا بالفروسية والخطابة
والشعر، ونجح بفضل التفاف القبائل حوله من إلحاق الهزيمة بابن
حفصون مرارًا، ورأى الأمير «عبدالله» أن العرب يسيطرون على
البيرة فعين سعيداً واليًا عليها وبقى بها عدة أعوام ثم انتهى أمره
مقتولاً.
وآلت رئاسة العرب لمحمد بن أضحى الهمذانى صاحب حصن الحامة
(الحمة)، وأقر الأمير اختياره، وتجددت المعارك بينه وبين «ابن
حفصون» ولم تسفر عن نتيجة حاسمة، واستمر «محمد» رئيسًا على
المنطقة حتى تمكن «عبدالرحمن الناصر» فيما بعد من الاستيلاء على
حصن الحامة وغيره من المناطق الثائرة.
وقد اتسع نطاق الثورة بين المولدين والعرب فثار فى «بطليوس»
وغربى الأندلس عدد من زعماء المولدين، وقامت ثورات أخرى فى
عدد من المواقع شرقى الأندلس، واستمر بعض الزعماء على تمردهم
واستقلالهم حتى عهد الناصر.
أما إشبيلية فكانت مسرحًا لفتنة طال أمدها، ويرجع ذلك إلى طبيعة
سكانها الذين كانوا مزيجًا من العرب والمولدين والنصارى، وكان
سكانها العرب من أصحاب الثروات والنفوذ وقد جرى لها ما جرى
لغيرها، فظهر فيها ثائرون متطلعون للزعامة من أمثال بنى عبدة،
وبنى حجاج، وبنى خلدون، وإلى جانب هؤلاء وجد بعض المولدين
الأغنياء وكان التنافس بينهم وبين العرب شديدًا أدى ذلك إلى
فوضى واضطراب فى المجتمع.
ولم تشغل الثورات فى «إشبيلية» و «باجة» و «البيرة» و «تدمير»
وغيرها حكومة قرطبة عن العمل للقضاء على المولدين وزعيمهم
«عمر بن حفصون» فى الجنوب، ولم يمض عامان على هزيمته فى(7/42)
«بلاى» حتى أعاد تنظيم قواته، فأخذت الإمارة توالى إرسال
الحملات عليه فسار إليه «المطرف ابن الأمير عبدالله» فى سنة
(281هـ= 894م) وحاصره فى «ببشتر» وخرج الثائر للقتال، فانهزمت
قواته، وقتل أشجع قواده.
وما إن عاد جيش الأمير إلى قرطبة حتى جمع ابن حفصون مجموعة
وتوجه نحو «أستجه» فى الجنوب الغربى من العاصمة، واستولى
عليها ثانية عام (284هـ= 897م) فتوجه المطرف لقتاله فى العام التالى
واخترق الجزيرة الخضراء، وقام بالهجوم على بعض الحصون ووصل
إلى «ببشتر»، وقامت بعض المعارك التى لم تسفر عن شىء.
وفى عام (286هـ = 899م) أعلن «ابن حفصون» اعتناقه النصرانية
وتسمى باسم «صمويل»، وكان هذا بداية نهايته، فقد تخلى عنه
بعض جنده وقواده وظلوا معتصمين فى حصونهم، وأرسلوا يعلنون
ولاءهم للأمير عبدالله واستعدادهم للجهاد معه ضد «ابن حفصون»،
وحاول «ابن حفصون» من جانبه تقوية مركزه فعقد تحالفًا مع ملك
ليون، وبعض أمراء غربى الأندلس.
وعادت الحرب من جديد بين «ابن حفصون» يعاونه أمير «إشبيلية»
وبين جند الإمارة، وكان اللقاء الأول عند «استجة» وانتهى بهزيمة
«ابن حفصون» هزيمة منكرة عام (289هـ = 902م)، وتخلى عنه حليفه
«إبراهيم بن حجاج» وعاد إلى طاعة الأمير، وتوالت حملات الأمير بعد
ذلك ووصل إلى حصون «ابن حفصون» ومعقله فى «ببشتر»
وطاردته، وقد حطمت قوى هذا الثائر وأنهكته وأضعفت قواه إلا
أنها لم تصل إلى القضاء عليه تمامًا.
ويجدر بالذكر أن سلطة الأمير الأندلسى لم تنكمش كما انكمشت فى
عهد الأمير «عبدالله»، فلم تتجاوز سيطرته أحيانًا قرطبة وضواحيها
وقضى خمسة وعشرين عامًا هى مدة حكمه فى كفاح وصراع
دائمين بهدف حماية الدولة والحكم الأموى من الانهيار، وقد نجحت
جهوده فى تفرقة الثوار والسيطرة على بعض القواعد والحصون
المهمة، وفى استمالة بعض الزعماء من ذوى النفوذ، وكان ذلك
معاونًا للأمير عبدالرحمن الناصر فيما تحقق من نتائج فيما بعض.(7/43)
ولاينبغى هنا نسيان الجهد الذى قام به بعض القادة العسكريين
الموهوبين فى تحقيق النجاح للأمير «عبدالله» ويأتى على رأس
هؤلاء «بنو عبدة» موالى «بنى أمية» ومنهم: «أبو العباس أحمد بن
أبى عبدة» الذى قضى من عمره ثلاثين سنة يجاهد فى سبيل وحدة
الأندلس، وكذلك ابن أخيه «عبيدالله محمد بن أبى عبدة» الذى حقق
انتصارًا رائعًا على «ابن حفصون» فى حصن «بلاى»، والقائد «جعد
بن عبدالغافر» الذى أسهم كثيرًا فى إضعاف قوى «ابن حفصون»،
وكذلك الزعيم البربرى «سليمان بن دانوس».
ومن الطبيعى فى ظل هذه الفتن الدائمة ألا يتمكن الأمير «عبدالله»
من القيام بغارات ضد النصارى بسبب انشغاله بمحاربة الثائرين
والمتمردين، ولم يقم النصارى من جانبهم بأية محاولة ضد الأراضى
الإسلامية غير أن ملك ليون (جليقية) حاول إشعال الفتنة بين المسلمين
وتشجيع الثوار وعلى رأسهم «ابن حفصون» على العمل ضد حكومة
قرطبة.
ومن الحوادث البارزة فى زمن الأمير «عبدالله» فتح جزر «البليار» أو
الجزائر الشرقية، ومن المعروف أن «عبدالرحمن الأوسط» كان قد
أرسل حملة إلى «ميورقة» فلما كانت سنة (290هـ = 903م) سارت
إليها قوة بحرية من المجاهدين يقودها «عصام الخولانى»، وقامت
بمحاصرتها حتى تم فتحها، وتولى القائد إمارتها، ومنذ ذلك الحين
وهى جزء من الدولة الإسلامية.
وكان من الطبيعى أيضًا ألا يتسع عهد الأمير «عبدالله» للأمور
الإنشائية ولايذكر له فى هذا المجال إلا «الساباط» الموصل بين القصر
والمسجد الجامع وهو ممر مسقوف مبنى فوق عقد كبير يفضى من
القصر إلى الجامع ويتصل به قريبًا من المحراب.
كان الأمير «عبدالله» عالمًا أديبًا شاعرًا فصيحًا يتصف بالتواضع
والجود والبر بالفقراء، حريصًا على رفع الظلم والتخفيف من معاناة
الشعب، وقد خصص يومًا من كل أسبوع للفقراء، كما أقام بابًا
حديديا أسماه «باب العدل» تقدم عنده الشكاوى والتظلمات، وكان(7/44)
صارمًا عنيفًا مع الطغاة، فشاع العدل فى زمنه، وقد آثر الاحتشام
والتقشف فى حياته الخاصة.
وقد تولى الحجابة له «عبد الرحمن بن أمية بن شهيد»، ثم «سعيد بن
محمد بن السليم» ثم عزله ولم يولِّ أحدًا، واكتفى بالوزراء والكتاب،
وبرز من بينهم بدر الخصى الصقلبى. وقد اعتمد - بالإضافة إلى العرب
والبربر - على الموالى والفتيان، وقدَّم الموالى الشاميين على
البلدانيين كما فعل أبوه.
وقد جرى حادث مؤسف داخل الأسرة الأموية يتمثل فى قتل الأمير
«عبد الله» لولده «محمد» لاتهامه بالتواطؤ مع الثوار لكنه ندم على
ذلك، وتحول ندمه، إلى عطفٍ وبر بطفل للقتيل لم يكن قد تجاوز
عمره أسابيع ثلاثة عند مقتل أبيه فعنى بتربيته وتعليمه وجعله
موضع سره، وشاء الله أن يتولى هذا الطفل أمر الأندلس بعد جده
ويصبح أعظم حكامها على الإطلاق.
وللأمير أشعار جيدة خاصة فى الغزل والزهد، وكان يقرب الشعراء
ويؤثر مجالسهم ومجالس العلماء، ويأتى على رأس شعرائه «ابن
عبدربه» وغيره، و «بقى ابن مخلد» على رأس الفقهاء وأصحاب
الرأى الذين كان الأمير عبد الله يستشيرهم ويستأنس برأيهم.
وقد توفى الأمير «عبد الله» فى (أول ربيع الأول سنة 300هـ =
912م).
عبد الرحمن الناصر (العصر الذهبى لبنى أمية فى الأندلس
[300 - 350 هـ = 912 - 961 م].
بدأ «عبد الرحمن» حكمه فى (ربيع الأول سنة 300هـ = أكتوبر 912م)
بعد أن بايعه الجميع بنفس راضية فى المجلس الكامل بقصر قرطبة مع
وجود كثير من أعمامه، لكن «عبد الرحمن» اكتسب محبة الناس بحسن
أخلاقه وتوسطه بين الأمراء وأهل الدولة وبين جده فنال محبتهم
وولاءهم، وكان عليه أن ينهض بمهمة ثقيلة، فقد تعرضت الإمارة
للثورات من كل ناحية حتى أصبحت لايحسد عليها صاحبها، ولعل هذا
أحد الأسباب التى جعلت أعمام «عبد الرحمن» ينصرفون عن
منافسته، لشعورهم بعظم المسئولية التى تنتظر من يتولى الإمارة.
وقد أثبت هذا الشاب أنه يمكن إعادة بناء دولة ضعف بنيانها بالخلق(7/45)
المتين وحسن التدبير غير أنه لا ينبغى نسيان فضل الأمير «عبدالله»،
فلولا إصراره على تحطيم قوى الثائرين - خاصة «ابن حفصون» -
ولولا تدبيره شئون الدولة بالقليل من المال، ما استطاع «عبدالرحمن»
أن يوحد البلاد وينهض بها، وكذلك لا ينبغى نسيان فضل البيوت
العربية التى وقفت إلى جانب الإمارة تعاونها وتشترك معها فى
مواجهة المشاكل بأنواعها كافة.
عبدالرحمن والأوضاع الداخلية:
أدرك عبدالرحمن أنه لابد من مواجهة الكفاح ضده وعدم تمكينه من
تحقيق هدفه، فبدأ بإرسال جيش بعد أسابيع قليلة من ولايته إلى
قلعة «رباح» شمالى قرطبة لمواجهة ثائر من زعماء البربر يدعى
«الفتح بن موسى بن ذى النون» وتمكن من هزيمته، كما هزمت
الحملة نفسها بعض المتحالفين معه، وكان لهذا الانتصار فى مطلع
ولاية «عبدالرحمن» أثره فى إرهاب الثائرين.
ثم أرسل «عبدالرحمن» جيشًا فى (جمادى الأولى سنة 300هـ =
ديسمبر 912م) أعاد مدينة «أستجة» التى كان «ابن حفصون» قد
ضمها إليه، وقام القائد بهدم أسوارها وهدم قنطرتها، وانقطع رجاء
أهلها فى القيام بثورة، بعد ذلك جهز «عبدالرحمن» جيشًا ضخمًا
أنفق زمانًا طويلا فى إعداده واختار فرسانه بنفسه وزوده بكل ما
يحتاج إليه، وخرج على رأسه فى (شعبان سنة 300هـ = مارس
913م)، واتجه أولا إلى الجنوب الشرقى حيث انضم إليه أحد
المخلصين للإمارة، ثم مضى فى طريق «جيان»، وأرسل بعض قواته
إلى مالقة، وأمَّنها، وهناك عسكر فى قلب المنطقة التى ظن «ابن
حفصون» أنها معقله، وهنا رغب عدد من الثائرين فى الاستسلام
فمنحهم «عبدالرحمن» الأمان، ثم استولى على وادى أسن، وحصن
المنتلون، وأسر عددًا من حلفاء «ابن حفصون» فى ولاية «غرناطة»
واستولى على كل ما كان بيده فى ولاية «جيان»، ثم واصل سيره
حتى وصل إلى ساحل البحر، ومازال عبدالرحمن يجول فى تلك
الأنحاء ويستولى على حصونها المهمة واحدًا تلو الآخر حتى قضى(7/46)
على عناصر الثورة بها وبلغ عدد هذه الحصون نحو سبعين حصنًا، ثم
عاد إلى قرطبة أيام عيد الأضحى بعد غياب دام نحو ثلاثة أشهر.
ثم أرسل الأمير حملة حاصرت «إشبيلية» وهدمت أسوارها سنة
(301هـ = 913م) وانتهت بذلك ثورة العرب والمولدين فى هذه القاعدة
المهمة التى كان «ابن حفصون» يتعاون مع الثائرين بها، ورأى
الأمير أنه إذا حرمه من هؤلاء الحلفاء، فإنه سيستسلم من تلقاء
نفسه.
وفى (شوال من عام 301هـ = مايو 914م)، سار «عبدالرحمن» إلى
جبال «رنده» التى بها المعقل الرئيسى لابن حفصون - وكان قد بسط
نفوذه عليها ثانية - واستولى الأمير على عدد من الحصون فى
الطريق؛ حيث بدأ بمحاصرة قلعة «طرش» - شرقى مالقة - ثم سار إلى
حصون «رية» يفتحها الواحد وراء الآخر، والتقت قواته مع «ابن
حفصون» وتعرض الثائر وحلفاؤه لهزيمة مريرة اضطر إلى الارتداد
ناحية الغرب، واستولى «عبدالرحمن» على سفن كانت تحمل له زادًا
قادمًا من بلاد المغرب ثم توجه إلى الجزيرة الخضراء واقتحم
حصونها، ثم سار منها إلى «شذونة» ثم «قرمونة» ورجع بعد ذلك
إلى «قرطبة» بعد أن ضيق الخناق على «ابن حفصون».
وقد ظن «ابن حفصون» أنه إذا ارتد إلى النصرانية، فإن ذلك يكسبه
ولاء طائفة المستعربين فى الأندلس، لكن هذا الارتداد أضره فانصرف
عنه كثير من المسلمين والنصارى، بل إن أبناءه أنفسهم - باستثناء
ولد له وبنت - لم يوافقوا على التنصر، واضطر ابن حفصون إلى أن
يبعث برسالة إلى «عبدالرحمن الناصر» يطلب الصلح والأمان وقد
وافق الناصر على الفكرة مع الحذر من مكر الثائر وغدره، واتصل
بأكابر أعوانه ومنحهم الأمان، وتمت كتابة شروط الصلح، وبمقتضاها
دخل مائة واثنان وستون حصنًا فى طاعة الناصر، وقد سُرَّ كلا
الطرفين بهذا الصلح، وتلقى الناصر هدية قيمة من ابن حفصون بهذه
المناسبة وكافأه عنها بأضعافها.
وفى شهر (ربيع الأول سنة 306هـ = أغسطس 918م) مات «عمر بن(7/47)
حفصون» عن عمر يناهز اثنين وسبعين عامًا بعد أن قاد أكبر ثورة
قام بها المولدون ضد الإدارة الأموية فى غرب الأندلس كله، وتنفست
الحكومة الأموية بوفاته الصعداء بعد أن كان شاغلها الشاغل طوال
ثلاثين عامًا.
وقد سار «عبدالرحمن» بنفسه إلى مواطن ثورة «ابن حفصون»
وقضى على جيوب المقاومة بها وطهرها من آثاره، وصلى فى
مسجدها الجامع واستولى على كل معاقلها وحصونها، وأعدم ابنة
لابن حفصون لإصرارها على الارتداد إلى النصرانية، وانتهى بذلك أمر
تلك الثورة العنيدة تمامًا.
وقد بالغت المصادر الأوربية فى تصوير «عمر بن حفصون»، وقدمته
على أنه بطل قومى رمى إلى غاية نبيلة، وهى تحرير وطنه من نير
المتغلبين عليه ورده إلى ديانته النصرانية.
والحقيقة أن الرجل لم يكن أكثر من قاطع طريق وثائر عنيف ولم تكن
تدفعه أغراض قومية أو نبيلة، ولم تحمسه الشهامة أو العزة القومية،
بل إن كل ما قام به يتعارض مع الشرف والمروءة والشهامة.
أنفق عبدالرحمن الناصر بعد ذلك أربع سنوات فى القضاء على
حركات الثوار فى غربى الأندلس وجنوبها ولم يغفل لحظة عن مطاردة
العصاة، فحاصر «طليطلة» التى كانت معقلا للثوار مدة عامين حين
قام بالخروج فيها أحد زعماء المولدين حتى يئست واستسلمت وخرج
بنفسه فى أواخر (317هـ = 929م) متوجهًا ناحية الغرب وأنذر العصاة
وحاصر «بطليوس» وغيرها ومنع عنها كل مورد وضربها بشدة حتى
اضطرت إلى التسليم، وفعل الشىء نفسه فى «باجة» وفى
«أكشونة» قرب ساحل المحيط التى أتى الثائر بها معتذرًا فقبل
«الناصر» عذره.
وكما طارد الناصر العصاة فى الغرب طاردهم أيضًا فى شرق البلاد،
فبعث وزيره «ابن بسيل» لمقاتلة بنى ذى النون، فقصد معقلهم
«شنت بريه» واقتحمه وقتل رجاله ولم يتركه إلا بعد أن خضع له،
وفى سنة (317هـ = 929م) افتتحت مدينة «شاطبة» بعد أن ترددت
عليها الحملات العسكرية لمدة خمسة أعوام، وبذلك أخمدت كل(7/48)
الثورات فى أنحاء الأندلس كافة بعد أن بقيت نحو نصف قرن تستنفد
موارد البلاد وتمنعها من الجهاد ضد عدوها المتربص بها فى إسبانيا
النصرانية.
علاقة الناصر مع ملوك قشتالة وبنبلونة:
تعرضت الحدود الشمالية لقرطبة لأخطار جسيمة قبل أن يتولى
«عبدالرحمن الناصر»، وفى الأيام الأولى للناصر تمكن «ألفونسو
الثالث» ملك «اشتورياس» من الاستيلاء على حصون «قلمرية» - فى
البرتغال حاليا - كما سيطر على حصون ليون واشترقة وأماية
وسمورة منتهزًا فرصة انشغال الأمير فى المشاكل والثورات الداخلية،
وقام بتسكين أعداد كبيرة من نصارى الأندلس المستعربين الذين
هاجروا إلى الشمال واستقروا فى الممالك النصرانية، وعقب موت
«ألفونسو» الكبير هذا استولى خليفته على حصن «أرماج» -الذى
سيكون له شأن فى الصراع بين الإسلام والنصرانية زمن الناصر-
ومعنى ذلك أن مملكة «اشتورياس» توسعت وتضاعفت مساحتها
وأصبحت تسمى مملكة ليون فى الأيام الأولى لحكم الناصر، بل تجرأ
بعض قواد النصارى ووصلوا إلى ضفاف نهر «الدويرو».
وقد انتهز أمراء بنبلونة - عاصمة نبرة - وغيرها من الإمارات
النصرانية الصغيرة الواقعة جنوبى جبال «البرت» الفرصة، وتمكنوا
بمعاونة أصحاب الثغر الأعلى الأندلسى من تهديد المعاقل الإسلامية
فى «تطيلة» وغيرها، ونجح ملك قشتالة الجديد فى مد حدود دولته
لتشمل أراضى قشتالة الجديدة، التى كانت أراضى إسلامية بها عدد
قليل من المسلمين فى ذلك الوقت، كذلك أمكن لإمارة «قطالونية»
التى تمكن ملوك الإفرنجة من إنشائها فى عهد «عبدالرحمن
الداخل»، أن تتوسع أيضًا على حساب أراضى المسلمين.
وهكذا كان على عبدالرحمن الناصر عند توليه أن يواجه موقفًا بالغ
الخطورة على حدوده الشمالية من ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى
ساحل المحيط الأطلسى.
راميرو الثانى ملك ليون:
تولى «راميرو الثانى» الحكم فى «ليون» فى السنة نفسها التى(7/49)
تولى فيها «الناصر»، وكان «راميرو الثانى» ملكًا طموحًا دائب
الحركة، ولهذا بدأ فى العام الثانى لحكمه يهاجم أراضى المسلمين،
ووصل إلى «يابرة» - فى البرتغال الحالية - على رأس جيش بلغ
تعداده ثلاثين ألفًا وتصدى له عامل البلدة المسلم، ولكنه هُزِم وتمكن
النصارى من دخول البلد وارتكبوا مذبحة ضد أهلها وأسروا أربعة
آلاف، فيهم عدد من النساء والأطفال، وقد خشى عمال البلاد من
مهاجمة هذا الملك لبلادهم، فحصنوها وأحاطوها بالأسوار الحجرية
المتينة، ومع ذلك استطاع ملك ليون مهاجمة مدينة «ماردة» ونهب
أراضيها ودخل بعض حصونها وقتل فيها ألوف المسلمين، وأنشأ
هناك كنيسة تسمى كنيسة القديسة «ماريا الليونية».
وكان «عبدالرحمن» يؤثر فى أول الأمر غض الطرف عن محاربة
النصارى إلى أن يتمكن من تطهير الأندلس من الثائرين، لكن هذا
التخريب والفساد والعبث من جانبهم جعل الناصر يتخلى عن خطته،
فبعث بجيش قوى سنة (304هـ = 916م) التقى بجموع النصارى
وهزمهم فى عدة مواقع وعاد محملا بالغنائم وفى العام التالى ضج
المسلمون وطلبوا من الأمير إنقاذهم، فأرسل إليهم قوات يتزعمها
«أبو العباس أحمد بن محمد بن أبى عبدة» قائده الكبير، وقد استعد
له ملك النصارى وجهز أحسن مالديه من عدة وسلاح.
والتقى الفريقان بالقرب من بلدة «أرماج» وانهزم المسلمون وقتل
قائدهم وتتبع النصارى فلولهم لمسافات بعيدة، وكانت تلك نهاية
«أبى العباس أحمد بن محمد بن أبى عبدة» القائد المغوار صاحب
الفضل فى المحافظة على بقاء الإمارة الأموية طوال فترة حكم الأمير
«عبدالله»، وقد قام ملك النصارى بتعليق رأس هذا القائد العظيم على
سور البلدة المذكورة وبجواره خنزير برى نكاية به.
هنا أدرك «عبدالرحمن» أن الأمر جد خطير وبخاصة بعد تحالف ملك
ليون مع ملك نبرة، وسارت قواتهما معًا تريد الاستيلاء على مدينة
«طلبيرة» غربى «طليطلة» وفى الوقت نفسه توجهت قوات تابعة(7/50)
لملك «نبرة» لمهاجمة أراضى «بنى قسى» أصحاب «طليطلة»،
وأحرقت الزروع وعاثت فسادًا، وأحرقت بعض المساجد، ولهذا أعد
عبدالرحمن جيشًا ولَّى قيادته حاجبه «بدر بن أحمد» الذى احتشد له
النصارى من كل ناحية، وتقدم المسلمون كالسيل إلى حدود ليون
وهزموا النصارى هزيمة ساحقة فى موقعتين، ومع ذلك استمر
النصارى يغيرون على الأراضى الإسلامية، وجرت حروب كانت سجالا.
صمم عبدالرحمن على أن يخرج بنفسه لمقاتلة النصارى، فخرج من
قرطبة فى (13 من المحرم سنة 308هـ = أوائل يونيو سنة 920م) فى
جيش ضخم، وانضم إليه كثير من أهل الثغور، وقد اخترق أراضى
الثغر الأوسط من طليطلة شمالا واتجه إلى طريق ألبة والقلاع
«قشتالة»، ووصل إلى «قلونية» ونسف وخرب دون أن يعترضه
النصارى لأن ملكى ليون ونبرة كانا ينتظران بجموعهما فى الشمال.
وقد عرج «عبدالرحمن» على «تطيلة» واستولى على حصون مهمة
بها، ثم عبر نهر «إبرة» حيث وجد الملكين فى كامل قواتهما، وقد
أرادا استدراج الناصر إلى شُعَب الجبال، لكنه نجح فى سحبهما إلى
السهل المنبسط وعسكر غربى «بنبلونة» عند بلدة تسمى
«خونكيرا»، وعندما انحدر النصارى من الجبل إلى السهل، أوسعهم
المسلمون قتلا وأسرًا وفتكوا بالعديد من أساقفتهم وزعمائهم
ومزقوهم، ثم هدم عبدالرحمن حصونهم، وأصلح حصون المسلمين
بهذه النواحى، وجرت هذه الموقعة فى (6من ربيع الأول سنة 308هـ
= 26 من يوليو سنة 920م)، وقد استغرقت غزوة الناصر هذه ثلاثة
أشهر، وكانت أول غزوة له ضد ملوك النصارى.
لم ترتدع قوى النصرانية رغم ما تعرضوا له من هزائم وأخذوا
يهاجمون الأراضى الإسلامية، واستولوا على بعضها، لذلك خرج
«عبدالرحمن» إليهم مرة أخرى فى (المحرم سنة 312هـ = 17 من
أبريل 924م) وسلك اتجاه الشرق مخترقًا كورة تدمير فبلنسية، ثم
دخل إلى طرطوشة فسرقسطة ثم تطيلة، ثم دخل أراضى «نبرة» حيث
استولى على كثير من الحصون وهدمها، ثم قصد بعد ذلك بنبلونة -(7/51)
عاصمة مملكة نبرة - ودمرها وهزم ملكها، وأنهى مقاومته تمامًا
وفى طريق عودته إلى «قرطبة» عرج على «موسى بن ذى النون»
وقبل طاعته وقد استغرقت هذه الغزوة أربعة أشهر وعرفت بغزوة
«بنبلونة».
مات ملك ليون وحدثت مشاكل داخلية انتهت بتولية ملك جديد عمل
على توسيع الفتنة بين المسلمين، وكانت «طليطلة» آنئذٍ تقوم بثورة
معارضة، فقام الملك النصرانى بتشجيع الثوار، وبدأ «عبدالرحمن»
من ناحيه يرسل العلماء لحث الثوار على الطاعة، فلم يستجب أحد
مطمئنين إلى محالفة ملك النصارى لهم، لذلك اضطر الناصر إلى أن
يخرج إلى الثائرين فى قوات ضخمة فى (ربيع الثانى سنة 318هـ =
مايو 930م)، وبعد حصار شديد غادر عبدالرحمن المدينة وترك على
حصارها بعض قواته، ثم عاد إليها بعد عامين فسار ملك ليون لإنقاذ
«طليطلة» واستولى فى طريقه على حصن مجريط (مدريد) لكن
المسلمين استردوه، ففر ملك ليون واضطر أهل «طليطلة» إلى
التسليم، وانتهت بذلك ثورة من أخطر الثورات التى واجهها الناصر.
وواصل «عبدالرحمن» ضرباته فى بلاد الشمال، ولم يجد ملوك
النصارى مفرا من طلب الصلح، وأصبحوا من أتباع الناصر، يخطبون
وده ويطلبون العلاج فى عاصمته.
ولكن ملك ليون آلمه أن يخضع ملوك النصارى لأمير قرطبة، فحرضهم
على حربه وجمع جيشًا كبيرًا يواجه به المسلمين فاستعد له
عبدالرحمن استعدادًا كبيرًا؛ خاصة وقد تمكن الملك النصرانى من
الاستيلاء على حصن مجريط وهدد طليطلة سنة (320هـ = 932م) وقصد
الجيش النصارى عن طريق وادى الحجارة، ثم سار إلى سرقسطة
وبعث بقوات إلى «تطيلة» و «طرطوشة»، وتحول إلى أراضى «نبرة»
ليتلقى من ملكتها رسالة تعبر عن رغبتها فى السلم
والمصالحة، فوافق الأمير وأقر ابنها ملكًا على بلاد «البشكنس»، ثم
سار إلى أراضى «ألبة والقلاع» وخرب ونسف وعاث فى أراضى
ليون، فاجتمع له النصارى ودارت معركة عنيفة انتصر فيها المسلمون(7/52)
ووصل إلى مقربة من ليون، ثم ارتدت قواتهم شرقًا وأخذت تعيث فى
أراضى قشتالة وخربت عاصمتها «برغش» ثم عادت القوات الإسلامية
إلى قرطبة بعد أربعة أشهر.
وفى سنة (323هـ = 935م) خرج أسطول الناصر فى أربعين سفينة
من ثغر ألمرية إلى جزيرة ميورقة، ومنها إلى شواطئ الثغور
الفرنجية حيث حقق انتصارات كبيرة، وتوجه بعدها إلى برشلونة.
فاجتمع الفرنج لمقاتلته، ودارت بينه وبينهم مجتمعين معركة انتصر
فيها الأسطول الإسلامى، ثم رجع إلى طرطوشة حيث صدرت الأوامر
للقائد بالتوجه إلى سبتة وطنجة للتعامل مع الثائرين هناك، فظل
يتردد بين مراسى العدوة المغربية حتى شتاء العام التالى، ثم رجع
إلى مرسية فى (صفر سنة 324هـ = ديسمبر935م).
كان «عبدالرحمن» قد عقد صلحًا مع ملك ليون بناءً على رغبته، لكن
النصارى من البشكنس تحركوا واحتلوا بعض الحصون، وفى الوقت
نفسه ظهرت بوادر فتنة خطيرة فى سرقسطة، لأن أصحابها
التجيبيين لم يكونوا على وفاق مع حكومة قرطبة، وما كانت تعجبهم
سياسة «عبدالرحمن» التى تعمل على إخضاع الزعماء المحليين
بالإضافة إلى أن وجودهم بين الممالك النصرانية أعطاهم فرصة
التآمر والخروج على سلطان الحكومة المركزية، وقد رفض زعيمهم
بالفعل أن يشترك مع الناصر فى حملته الأخيرة ضد النصارى، بل
وتحالف مع ملك ليون ضد المسلمين، وانضم إليهما البشكنس، وبذلك
وقف الشمال كله متحالفًا ضد عبدالرحمن.
بعث الناصر بعض القوات التى تعاملت مع هؤلاء فى بعض المواقع،
وتمكنت حامية مجريط - أهم قلاع الثغر الأدنى - من رد هجوم ملك
«ليون» عليها، ثم خرج عبدالرحمن بنفسه على رأس جيش ضخم فى
(رجب سنة 325هـ = مايو 937م) فسار أولا إلى «طليطلة» لتأمين
أهلها وإرهاب النصارى، وسلمت له «وشقة» و «طلبيرة» غربى
«طليطلة».
بعد ذلك توجه الناصر إلى الثغر الأعلى عن طريق وادى الحجارة،
وقصد قلعة أيوب التى يعتصم بها زعيم التجيبيين، وعرض عبدالرحمن(7/53)
عليه الطاعة فرفض، واضطر إلى أن يدخل معه معركة عنيفة انهزم
فيها الثائر وطلب الأمان فوافق الناصر على تأمينه، وكان سقوط
قلعة أيوب هذه أول صدع خطير فى ثورة بنى تجيب.
ثم اتجه الناصر إلى ألبة والقلاع ففتح من حصونها سبعة وثلاثين
حصنًا، ثم ذهب إلى بنبلونة - عاصمة نبرة - لتأديب الناكثين.
وأخيرًا قبل اعتذار ملكتها وتوجه إلى تطيلة ومنها إلى سرقسطة
وقام ببعض العمليات الناجحة برا وبحرًا ضد ملك ليون وحلفائه،
واستمر يحاصر سرقسطة حتى طلب زعيم بنى تجيب الصلح فوافق
الناصر، وبذلك سقطت سرقسطة وحصونها المهمة فى يد الناصر،
وانهارت أخطر ثورة واجهها الناصر، وهى ثورة التجيبيين الذين
كانت بلادهم مركزًا يجمع القوى المعادية لخلافة قرطبة سواء أكانوا
من الثوار أم من زعماء النصارى.
ويلاحظ أن الناصر كان حريصًا على أن يعفو عن الثوار وأن يحسن
إليهم ويضمهم إلى جيشه، وبهذه السياسة الرشيدة استطاع أن
يستفيد من كل القوى المناوئة له عندما أحسن إليهم، وقد دخل الأمير
الأندلسى سرقسطة وأرسل منها ثلاثة جيوش توغلت فى أراضى ألبة
والقلاع وهزمت النصارى فى عدة مواقع، ثم عادت جميعًا إلى قرطبة
فى (18 من ربيع الأول 326هـ= أواخر يناير 938م) بعد ثمانية أشهر
قضوها فى العمليات الناجحة، وأراد الناصر أن يكرم زعيم «بنى
تجيب» فرده إلى «سرقسطة» وأعاده إلى مكانه وولاه كل مناصبه
السابقة.
مزق «عبدالرحمن الناصر» التحالف النصرانى الخطر وأخضع الشمال
الشرقى كله لسيطرته ولم يبق إلا ملك ليون بؤرة الفساد الحقيقى
فى هذه المناطق، وقد تم تجهيز جيش ضخم بلغت قواته نحو مائة ألف
جندى، وولى الناصر قيادته «نجدة بن حسين الصقلبى»، وكان
الصقالبة قد سيطروا فى هذه الآونة على كل مناصب القصر
والقيادة، وقد أثر ذلك على نفوس العرب وكان سببًا فى تدهور
قوى الجيش المعنوية.
وفى صيف عام (327هـ = 939م) سار الناصر وعبر نهر التاجة عند(7/54)
طليطلة ثم عبر نهر «دويرة» متجهًا نحو قلعة «شنت مانكش» حيث
كان ملك ليون قد عسكر مستعدا وحالفه «أمية بن إسحاق» وملكة
نبرة التى نقضت عهدها، وبذلك اتحدت قوى النصرانية من جديد
ووقفت صفا واحدًا فى مواجهة المسلمين.
وجرت بين الطرفين موقعة تعد من كوارث التاريخ الأندلسى، عرفت
بموقعة الخندق، وتفيض المصادر الإسبانية فى وصف ما حدث، بينما
تقدمها الرواية الإسلامية فى صورة مقتضبة، وقد جرت وقائعها على
باب قلعة «شنت منكش» (سيمانقة) وكانت الحرب سجالا، ثم انكشف
المسلمون انكشافًا لم يسمع بمثله وردهم العدو إلى خندق عميق
نسبت الموقعة إليه، وقد تساقط فيه المسلمون حتى امتلأ بهم عن
آخره وانكشف الناصر واستولى العدو على محلاته وما فيها من عدة
ومتاع وفقد مصحفه الشريف ودرعه.
وكان للخونة وعلى رأسهم «فرتون بن محمد الطويل» أثره فى
الهزيمة، وقد أعدمه الناصر جزاءً وفاقًا لخيانته، كما كان لتولية
قائد صقلبى أثره فى امتعاض العرب وتأثيره على روحهم المعنوية
أثناء القتال، وقد قتل ذلك القائد فى المعركة، وأسر من كبار
المسلمين «محمد بن هاشم التجيبى» وبقى فى أسر ملك ليون مدة
عامين حتى افتداه الناصر بمبلغ كبير.
وهذه خاتمة معارك الناصر الحربية، فلم يغز بعدها بنفسه واقتصر
تقليد شئون الثغر الأعلى على أكابر رجاله ممن ورثوا الصلابة والبأس
عن الأجداد، من أمثال آل تجيب وآل ذى النون وآل زروال وآل
الطويل وآل رزين وغيرهم، وكان الناصر يزورهم كل عام ويزودهم
بالعُدَد والسلاح، وقد استأمن «أمية بن إسحاق» الذى تحالف مع
النصارى فوافق الناصر على تأمينه عملا بسياسته فى اصطناع
الخصوم الأقوياء.
أرسل ملك ليون يطلب الصلح مع الناصر فاستجاب له الأخير، لكنه
كان صلحًا قصير الأمد كالعادة، كما عقد الناصر صلحًا مع ملك
برشلونة وغيره، لكن ملك ليون لم يحترم الصلح وهاجم الأراضى
الإسلامية، فاضطر المسلمون إلى غزو مملكة ليون سنة (329هـ =(7/55)
941م)، وتوجيه بعض الحملات إليها وإلى جليقة.
وفى سنة (335هـ = 946م) جدد الناصر مدينة سالم، أقصى مدن
الأندلس الشمالية الغربية إلى حدود ليون، ونقل قاعدة الثغر الأعلى
من طليطلة إليه، وولَّى عليها قائده «غالب الناصرى» الذى كان له
شأن فى تاريخ الأندلس زمن الناصر وابنه الحكم المستنصر بعده،
وقامت قوات عبد الرحمن بمعارك وغزوات ناجحة حتى وصلت إلى
شاطئ المحيط الأطلسى، الشىء الذى جعل ملك ليون يطلب الصلح
مع الناصر إيمانًا بأنه لاقبل له به.
عبد الرحمن الثالث والبلاد المغربية:
عندما تولى عبد الرحمن الناصر، كانت الدولة الفاطمية قد قامت فى
بلاد المغرب منذ أربع سنوات فى (296هـ = 909م)، وامتد نفوذها
بسرعة حتى وصل إلى سبتة، وأصبحت تهدد الشواطئ الأندلسية
وتمثل خطرًا دينيا وسياسيا عليها، ومن الطبيعى أن يزعج هذا الأمر
الأمويين فى الأندلس؛ لأن المغرب قاعدة من يريد الوصول إلى
الأندلس. كما أنه يمد الثوار بها بحاجاتهم ويشجعهم على التآمر ضد
الإدارة الأموية.
كان على الناصر أن يواجه هذه المشكلة قبل أن يستفحل خطرها.
ولهذا بعث سنة (319هـ = 931م) أسطولا مكونًا من (120) سفينة
وسبعة آلاف رجل إلى سبتة انضم إليه بعض المتطوعة فى الطريق،
وقد تمكن هذا الأسطول من السيطرة على سبتة وانتزعها من البربر
حلفاء الفاطميين، ثم حاصر الأسطول بعد ذلك طنجة وضيق عليها
حتى استسلمت وخضعت للناصر وغادرها بقية الأدارسة، وبادر زعماء
البربر إلى إعلان الطاعة للناصر وامتدت دعوته حتى فاس، وأطاعه
«موسى بن أبى العافية» زعيم مكناسة، وأمده الناصر بالجنود
والسفن حتى هزم الفاطميين ووقف سدا منيعًا أمام محاولاتهم فى
المغرب واستمرت جيوش عبد الرحمن تعبر من الأندلس لمحاربة
الفاطميين وحلفائهم من البربر والأدارسة حتى استقر له الأمر ودعى
له على منابر المغرب سنة (332هـ = 944م).
وقد قويت الأساطيل الفاطمية فى عهد الخليفة «المعز لدين الله»،(7/56)
وبدأت تجوب شواطئ البحر الأبيض المتوسط، ووصلت إلى ألمرية
وأحرقت سفنها وعاثت فيها سنة (344هـ = 955م)، فرد الخليفة
الناصر بإرسال قوة بحرية عاثت فى تونس، وأمر بلعن الفاطميين
والشيعة على منابر الأندلس، وفى سنة (347هـ = 958م) أرسل
الناصر أسطوله ثانية إلى إفريقية ردا على الحملة الفاطمية التى
قادها «جوهر الصقلى» إلى عدوة المغرب، التى تمكنت من الوصول
إلى فاس، وأرسل فى الوقت نفسه حملة أندلسية عن طريق سبتة
إلى المغرب بقيت هناك حتى رجع الفاطميون.
وكانت سياسة الناصر مع الفاطميين تتجنب الدخول فى صراع صريح
معهم؛ لأن هذا يضعف جبهته الشمالية أمام النصارى، ولهذا وجدناه
يكتفى بإرسال السلاح والعتاد والمعونات المالية الكبيرة إلى
«موسى بن أبى العافية» و «مصالة بن حبوس» وأمثالهما لإلحاق
الهزيمة بأعوان الفاطميين، ثم اكتفى باحتلال سبتة وطنجة ومنهما
زود أعوانه فى المغرب بحاجتهم ليثبتوا أمام الشيعة، وربما لجأ إلى
معاونة الخارجين على الفاطميين من غير الأدارسة وهو على كل حال
لم يلق بخيرة جنده وقواده فى الصراع المغربى، وهذا هو الخطأ
الذى وقع فيه ابنه الحكم المستنصر بعد ذلك فأثر على جبهته
الشمالية وأضعفها ولم يتمكن من الخروج بنتيجة حاسمة.
عهد الخلافة الأموية فى الأندلس:
عندما تولى «عبدالرحمن الداخل» أمر بعدم الدعاء لبنى العباس ولم
يتخذ لقب الخلافة مكتفيًا بالإمارة، وسار بنوه على نهجه، فلما تولى
الناصر، وجد أن هناك دولة فاطمية قامت فى بلاد الشمال الإفريقى،
ووصل نفوذها إلى شواطئ المغرب الأقصى، وقد اتخذ حكامها
لأنفسهم لقب الخلافة وسماتها، وإذا كان هو قد نهض بالدولة ووطد
سلطان بنى أمية فى كل الأندلس فلماذا لايكون من حقه لقب خليفة؟
لذلك أصدر أمرًا بذلك فى يوم الجمعة مستهل (ذى الحجة سنة 316هـ
= أوائل 929م) وأصبح عبدالرحمن الثالث يلقب بالخليفة أمير المؤمنين(7/57)
الناصر لدين الله، وقد أرسلت نسخ من هذا الإعلان إلى إفريقية
والمغرب، وبذلك أصبحت الخلافة الأموية مساوية للخلافة العباسية،
ويناط بها رعاية شئون المسلمين، وتولية أمر الإسلام فى الجناح
الغربى من العالم الإسلامى.
وقد استتبع ذلك تغييرًا كبيرًا فى شكل الإمارة القرطبية ونظامها؛
حيث وضعت لها هياكل إدارية تعكس هيبة الدولة وتمنح البلاط
القرطبى وجاهة أكثر. وكثر القواد فى جيش الخلافة وتنوعت مراتبهم
وكثر الوزراء أيضًا وتضاعفت هيبتهم.
وكانت سياسة الناصر تقوم على النقل المستمر لوزرائه وولاته
وقواده حتى لا يطول أمد الواحد منهم فى وظيفته، وقد يدفعه ذلك
إلى الاستبداد بالسلطة ..
لقد كان عبدالرحمن يؤمن بالسلطان المطلق للخليفة، ولايسمح لكبار
رجال الدولة بإملاء رأى عليه، كما لايمنح ولاة الأقاليم شيئًا من
الاستقلال، ويرى أن الرعية ينبغى أن تكون رعية مطيعة تأتمر بأمر
الخليفة خاصة بعد الانتصارات التى حققها على المستويين الداخلى
والخارجى، وكان يلقى وزراءه فى مجلس فخم يعد كل شىء فيه
بنظام مرتب.
ورغم ميل الناصر إلى الاستبداد فإنه لم يعرف عنه أنه كان ظالمًا،
ولم تذكر المصادر أنه قتل وزيرًا أو صادر مالا أو اعتدى على حق
لأحد أو بالغ فى عقوبة، وربما كان الوحيد بين خلفاء المسلمين
بالأندلس فيما يتعلق بتصرفاته فى الخلافة وسلوكه بما يتفق مع
مكارم الأخلاق ومبادئ الإسلام، وبهذه الأخلاق والوفاء استطاع
الناصر بعد عشر سنوات من حكمه أن يعيد النظام والهدوء والوحدة
والأمان إلى دولته الواسعة، كما منح أمانات لبيوتات الثغر الأعلى من
أمثال: بنى هاشم وبنى قسى وبنى الطويل واستفاد بهم وبما
تميزوا به من شجاعة فى حروبه، ونجح فى تحويل ملوك إسبانيا
النصرانية إلى أتباع له أو حلفاء.
إنشاء مدينة الزهراء وزيادة المسجد الجامع:
كثر سكان قرطبة فى عهد الناصر ووصلت مبانيها إلى تل الرصافة(7/58)
الذى يقوم عليه قصر الرصافة، ولم تعد قصور العاصمة تليق بالمكانة
العظيمة التى ارتفعت إليها الخلافة، كذلك ضاقت أسواق البلد
وطرقاتها، وأصبح من العسير على جيوش الدولة ومواكب السفراء
المستمرة أن تسير فى شوارع المدينة دون أن تضايق الناس.
وكان الناصر قد بنى إلى جانب «القصر الزاهر» قصرًا جديدًا سماه
«دار الروضة» استدعى له المهندسين والبنائين من كل ناحية، وأنشأ
فى ظاهر قرطبة متنزهات عظيمة جلب لها الماء من أعلى الجبل فوق
قناطر بديعة، ومع ذلك فقد كانت العاصمة تضيق بسكانها ولاتفى
بحاجة ملك عظيم بلغه الناصر، ووطده عن طريق سحق أعدائه فى
الداخل والخارج؛ لهذا كله فكر فى إقامة مدينة جديدة تضم قصوره
وأماكن حاشيته، وأخذ المهندسون فى دراساتهم ووصلوا إلى
إقامتها على سفح جبل العروس على بعد ستة كيلو مترات من
العاصمة وتطل عليها من الناحية الجنوبية الغربية.
سميت تلك المدينة بالزهراء، نسبة إلى إحدى نساء عبدالرحمن التى
ماتت عن مال كثير وأوصت أن ينفق فى افتكاك أسرى المسلمين،
لكن الناصر لم يجد أسرى فقرر إنشاء المدينة بهذا المال وأطلق
عليها اسم صاحبة ذلك المال.
بدأ العمل فى المدينة الجديدة (أول المحرم 325هـ = نوفمبر 936م)،
وتولى الإشراف على بنائها «الحكم» ولى العهد، وحشد لها أشهر
المهندسين والصناع والفنانين من سائر الأنحاء ولاسيما القسطنطينية
وبغداد، وجلب لها الرخام بألوانه من «المرية» و «رية»، ومن قرطاجنة
إفريقية وتونس والشام، وجلب لها (4324) سارية من الرخام واشتغل
فى بنائها يوميا عشرة آلاف رجل، و (1500) دابة، واستخدمت من
الصخر المنحوت ستة آلاف صخرة فى اليوم، وقدرت النفقة على
بنائها ب 300 ألف دينار سنويا بخلاف ما أنفق فى عهد الحكم،
وأقام الناصر لنفسه قصرًا جديدًا، بنى فيه مجلسًا ملوكيا أسماه
قصر الخلافة، جدرانه من رخام مزخرف بالذهب، وفى كل جانب من(7/59)
جوانبه ثمانية أبواب، وأقام الخليفة فى الجناح الشرقى المسمى
بالمؤنس، وزوده بأنفس التحف ووضع فيه الحوض المنقوش بماء
الذهب المهدى إليه من قصر القسطنطينية.
وجدير بالذكر أنه تم التخطيط لمدينة «الزهراء» بحيث تكون مستقلة
بذاتها، وقد بنيت على مدرجات بحيث يرقى من يدخل المدينة من
درجة إلى درجة، وفى كل درجة يجد قسمًا من أقسام المدينة،
ويدخل الإنسان إليها من أسفل الجبل عن طريق باب كبير يسمى باب
الأقباء - جمع قبة - لأن هذا المدخل كانت تحيط به وتقوم فوقه قباب،
بعد ذلك يسير الإنسان مسافة طويلة فى طريق مبلط تقوم على
جوانبه الأعمدة وغرف الحرس حتى يصل إلى باب السدة (باب القصر)
ويصعد درجات، وإلى جانب هذا المصعد ذى الدرجات يوجد مصعد آخر
بلا درج مخصص للخيل، وعندما يصل الإنسان إلى المستوى الثانى
يجد مساكن الجنود وأصحاب الحرف الذين تحتاج إليهم المدينة، كما
وجدت هناك آثار المسجد الجامع لمدينة الزهراء، وكل هذه البيوتات
محاطة بالأشجار والخضرة، وعندما ينتهى الإنسان من هذا المستوى
يصعد مرة أخرى حتى يصل إلى سهل منبسط بنيت عليه قصور كبار
رجال القصر وموظفيه بما فى ذلك أماكن إقامة الحرس الخاص
بالخليفة، وما يلزم لهؤلاء من حمامات ومساجد، بعد ذلك يصعد
الإنسان مرة ثالثة فيواجه لأول صعوده البهو الكبير الذى أنشأه
الناصر لاستقبال السفراء والملوك الأجانب، وهو بهو فخم يتكون من
ثلاثة أقواس تفضى إلى قاعة فسيحة بها ثلاثة أبهاء ينتهى الأوسط
بمجلس الناصر فى صدره، وهناك يجلس الخليفة فوق عرشه تحيط به
مقاعد الأسرة المالكة كل حسب مرتبته، وعلى الجانبين مقاعد
للوزراء وكبار رجال الدولة والضيوف موضوعة بصورة محكمة بحيث
يختص كل مسئول بمقعده الذى لايتغير، فإذا مانظر الناصر ووجد
مقعدًا خاليًا عرف من تغيب، أما البهوان الداخليان فيستعملان
لموظفى القصر وكتاب الخليفة، وهذا المجلس يبدو للرائى من بعيد(7/60)
عندما يهل الإنسان على مدينة الزهراء، وقد أراده «عبدالرحمن»
على هذه الصورة؛ ليتمكن من رؤية السفراء والملوك وهم مقبلون من
بُعد، ثم وَهُم صاعدون إلى القصر، وقد سميت الرحبة التى أقيم فيها
البهو الرئيسى باسم «السطح الممرد»، وجعل أمام بهو الاستقبال
حوض للسباحة، مصنوع من الرخام حفر له فى الأرض، وزين بالتماثيل
وقد تم جلبه من القسطنطينية وقد ضاعت معالم هذا القصر أثناء محنة
الفتنة والصراع على الخلافة ويحاول علماء الآثار منذ سنة (1328هـ =
1910م) العثور على شىء من معالم هذا القصر، وإعادة إقامة بعض
منشآته وخاصة بهو الاستقبال.
وبناء هذه المدينة والقصر يعكس رخاء الأندلس ونهضة الفن المعمارى
بها آنئذ، ووصل ازدهار قرطبة إلى أعلى درجاته فوصل عدد دورها
إلى 113 ألف دار بلغ مجموع قاطنيها مليونًا ومائة وثلاثين ألفًا،
ومما يدل على كثرة سكان العاصمة أن عدد الحمامات بها بلغ
ثلاثمائة حمام، وعدد مساجدها ثلاثة آلاف.
وقد بلغت إيرادات الأندلس نحو 5.5 مليون دينار من الكور والقرى ومن
الأسواق ونحوها 765 ألف دينار قسمت ثلاثًا: ثلث للجند، وثلث للبناء،
وثلث يدخر للطوارئ.
الزيادة فى المسجد الجامع:
أمر الناصر بإضافة زيادة ثالثة إلى المسجد الجامع فى قرطبة سنة
(346 هـ = 957م)، وقد ضاعفت هذه الزيادة حجم المسجد فى الاتجاه
الجنوبى، وقد تم بناء الزيادة على طراز بقية المسجد نفسه من حيث
الأقواس ومواد البناء.
وعُد محراب هذه الزيادة فى المسجد آية من آيات الفن الأندلسى ذلك
أنه ليس محرابًا بل غرفة من الرخام سقفها قطعة واحدة منه فى هيئة
محراب، ووسط هذا المحراب كرسى يوضع عليه المصحف الشريف
يستخدمه القارئ فى تلاوة القرآن الكريم قبل الصلوات.
وكان «عبدالرحمن الناصر» قد هدم منارة المسجد القديمة سنة
(340هـ = 951م)، وجعل له منارة تميزت بفخامتها وارتفاعها
الشاهق، وكانت مربعة الواجهات، ولها 14 شباكًا، وسلمان للصعود(7/61)
والهبوط وفى قمتها ثلاث تفاحات كبيرات اثنتان من الذهب وواحدة
من الفضة، وقد أزال النصارى هذه المنارة وأقاموا مكانها برج
الأجراس الحالى، ولاتزال اللوحة التى تشيد بجهود عبدالرحمن الناصر
قائمة فى مكانها عند الباب الرئيسى المسمى باب النخيل.
كذلك أقام عبدالرحمن ما يعرف بالمظلة فى صحن المسجد، وهى
سقف متحرك يتكون من أعمدة من الخشب والحصر، يستظل بها الناس
أثناء الصلاة فى زمن الصيف، ثم ترفع بعد الصلاة لأن صحن الجامع
الفسيح كان مزدانًا بأشجار النارنج، وتلك ظاهرة تنفرد بها صحون
مساجد الأندلس عن غيرها.
ولاتقف جهود الناصر عند هذا الحد، وإنما يرجع إليه الفضل فى
إنشاء عدد كبير من المساجد فى شمالى الأندلس وجنوبيه، كما أن
إليه يرجع فضل تجديد قنطرة الوادى وقنطرة سرقسطة وقنطرة
ماردة.
وقد اهتم الناصر بالجيش وجمع له الجند من أنحاء المغرب والأندلس،
واستكثر من الأسلحة، وأمده بمجموعة من أمهر القادة، وتولى
القيادة بنفسه أحيانًا.
كما عنى بالأسطول واهتم بإصلاح وحداته، وأنشأ به وحدات
جديدة، وكانت «المرية» هى مركز الأسطول الرئيسى وبها دار
الصناعة، وقد ضم أسطول الناصر (200) سفينة بخلاف أسطول
المغرب، وكان لأسطول الناصر السيطرة على مياه إسبانيا الجنوبية
الشرقية، كما كان ينازع الفاطميين السيادة على غربى البحر الأبيض
المتوسط، وعلى الرغم من الحروب فإن عصرالناصر كان عصر رخاء
زاد فيه الدخل وازدهرت الزراعة والصناعة والتجارة وكثرت أخماس
الغنائم، ويقال إن الناصر لما مات وجد فى بيت ماله خمسة آلاف
مليون درهم، وترك فى قصره عشرين مليونًا من الذهب.
وفى سنة (316هـ = 928م) أمر الناصر باتخاذ دار للسكة فى قرطبة
لضرب الدنانير والدراهم، وبذل جهده فى الاحتراس من الغش والتدليس
فأصبحت دنانيره ودراهمه عيارًا محضًا، وكان ضرب النقد معطلا قبله.
وبلغ الأمن ذروته فى سائر البلاد أيام الناصر، وترك ذلك آثارًا طيبة(7/62)
على مصادر الدخل وازدهرت العلوم والآداب ورخصت المعايش.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن الدولة الأموية فى الأندلس كانت تعتمد(7/63)
الفصل الرابع
*الدولة العامرية
[368 - 399 هـ = 978 - 1009 م].
بعد أن أصبحت السيطرة كاملة لابن أبى عامر فكر فى إنشاء مدينة
جديدة يتوافر فيها الأمان ومظاهر السلطان فكانت مدينته الزاهرة أو
العامرية شرقى قرطبة والتى استغرق بناؤها عامين، وضمت قصرًا
ومسجدًا ودواوين للإدارة ومساكن للحرس، ونقل خزائن المال
والسلاح إليها، وأقيم حولها سور ضخم كما بنى خندقًا وتم إقطاع
ضواحيها للوزراء والقادة، فابتنوا الدور وأنشئت الشوارع والأسواق
حتى اتصلت مبانيها بضواحى قرطبة، وقد انتقل إليها ابن أبى عامر
سنة (370هـ = 980م)، واتخذ له حرسًا خاصا من الصقالبة والبربر
أحاطوا بقصره، ومنعوا الدخول والخروج إليه، وبذلك أقفرت قرطبة
وأقفر قصرها ونقلت كل مظاهر السلطان إلى المدينة الجديدة، ومنع
الخليفة من أى حركة إلا بإذن ابن أبى عامر حماية له من المتآمرين
وحتى يتفرغ للعبادة كما زعم.
حاولت «صبح» بعد هذا التطور أن تستبعد «ابن أبى عامر» مستعينة
بمنافسيه، ولجأت إلى القائد «غالب» - صاحب الثغر - فى سرية تامة،
فرد ابن أبى عامر بتقريب «جعفر بن على بن حمدون الأندلسى»
-وهو بربرى من زناتة - عبر البحر وتقلد الوزارة، واستعان به ابن
أبى عامر على كسب مودة البربر الذين توافدوا من عدوة المغرب
إلى الأندلس، وغمرهم بأمواله.
أراد غالب مصانعة ابن أبى عامر فدعاه إلى غزوة مشتركة فى
أراضى قشتالة، وأقام له وليمة دخل معه خلالها فى نقاش عنيف
ورفع السيف فأصيب ابن أبى عامر، لكنه استطاع الفرار وذهب إلى
دار غالب بمدينة سالم واستولى على كل ما كان فيها، ثم دخل
الفريقان فى قتال عند حصن «شنت بجنت» يعاون غالب ملك ليون،
وانتهى الأمر بموت غالب وهزيمة أعوانه من المسلمين والنصارى فى
(4 المحرم سنة 371هـ = 10يوليو 981م).
غزوات ابن أبى عامر:
بدأت سلسلة هذه الغزوات الشهيرة بعد أن استقرت الأمور لابن أبى
عامر، ووصل عددها إلى نحو أربع وخمسين غزوة استقصى المؤرخ(7/64)
القرطبى ابن حيان أخبارها فى كتاب له مفقود عنوانه «الدولة
العامرية» ويتحدث عنها ابن خلدون فيقول:
«غزا ابن أبى عامر اثنتين وخمسين غزوة فى سائر أيام ملكه، لم
ينكسر له فيها راية ولا فل له جيش ولاأصيب له بعث ولا هلكت له
سرية».
وقد بدأ «ابن أبى عامر» غزواته بمملكة «ليون»؛ ليعاقب ملكها على
معاونته لغالب، وقد تحالف ضده ملوك النصارى الثلاثة: ملك ليون،
وملك قشتالة، وملك نبرة، وجرت بينه وبينهم موقعة عند «شنت
منكش» انتصر فيها «ابن أبى عامر»، ووصل إلى عاصمة مملكة
«ليون»، ثم عاد إلى «قرطبة» سنة (371هـ = 981م) بسبب حلول
الشتاء، وبعد عدة أشهر من عودته اتخذ لنفسه لقب «الحاجب
المنصور» ودعى له على المنابر وصدرت الكتب باسمه ونقش على
السكَّة، وقبَّل المسئولون وكبار الموظفين والوزراء يده وأصبح هو
كل شىء.
وفى سنة (274هـ = 984م) خرج «المنصور» إلى شمال شرقى
«الأندلس» على رأس جيش ضخم مر بغرناطة ثم «بسطة» فلورقة
فمرسية، ثم اتجه شمالا إلى «برشلونة»، حيث دخل منطقة
«قطلونية»، ثم اقتحم مدينة «برشلونة» ودمَّرها وأحرقها فى (صفر
375هـ = يوليو 985م)، ولم يحاول المنصور الاحتفاظ ببرشلونة، وإنما
قصد إلى تدمير قوى النصارى فى هذه المنطقة النائية.
ثم قام المنصور عام (378هـ = 988م) بغزو مملكة ليون بعد أن انقض
ملكهم على المسلمين، وطاردهم إلى آخر حدود بلاده، فسار المنصور
شمالا إلى ليون، ثم غربًا إلى مدينة قلمرية شمالى البرتغال بالقرب
من المحيط واستولى عليها وبقيت خرابًا مدة سبعة أعوام، ثم سار
المنصور نحو مملكة «نبرة» وقصد عاصمتها «بنبلونة» ردا على
إغارة ملكهم على أراضى المسلمين، وغزوة المنصور هذه تسمى
غزوة البياض، وقد عاد بجيشه إلى «سرقسطة» والتقى هناك بابنة
عبدالملك بعد عودته ظافرًا من حروبه فى بلاد المغرب كما سنشير
فيما بعد.
وفى ربيع سنة (378هـ = 988م) خرج المنصور فى جيش ضخم،(7/65)
واخترق مملكة ليون واستولى على عاصمتها بعد معارك عنيفة، ثم
سار إلى «سمورة» وحاصرها حتى سلمت، واعترف النبلاء له
بالطاعة، ولم يبق تحت سيطرة ملك ليون إلا المنطقة الجبلية الواقعة
شمالى غربى إقليم جليقية.
وأثناء قيام المنصور بغزوته هذه رقم (45) انضم ابنه «عبدالله» إلى
ملك قشتالة بتحريض من صاحب الثغر الأعلى «عبدالرحمن بن مطرف
التجيبى» وكانت عاصمته «سرقسطة»، ولكن المنصور ضغط على
الملك النصرانى عن طريق العمليات العسكرية المتتالية فسلمه ابنه،
ولم يتردد المنصور فى قتل ولده فى الحال.
ثم قام «المنصور» سنة (387هـ = 997 م) بأعظم غزوة قام بها متجهًا
نحو منطقة جليقية، وهى منطقة وعرة من الصعب غزوها؛ لأنها ملاذ
ملوك ليون يلجئون إليها كلما ضيق المسلمون الخناق عليهم، فخرج
المنصور إليها من قرطبة فى (شهر جمادى الآخرة سنة 387هـ= 997م)،
وفى الوقت نفسه تحرك الأسطول الأندلسى فى مياه البرتغال يحمل
المشاة والأقوات والذخيرة، وعبر المنصور الجبال والأنهار حتى وصل
إلى مدينة قورية، ثم زحف نحو الشمال الغربى واستولى على
مدينتى: «بازو» و «قلمرية»؛ حيث وفد إليه العديد من أمراء النصارى
وانضموا إلى جيشه وأطاعوه، بعد ذلك توجهت القوات الإسلامية
شمالا نحو نهر «دويرة»، حيث وافاه الأسطول، فجعله جسرًا عبر به
صوب جليقية، وسار فى شعب الجبال، ثم التزم المشى بحذاء
الشاطئ يهدم ويخرب، ففرت أمامه جموع النصارى، وظل المنصور
يواصل عملياته حتى انتهى إلى مدينة «شنت ياقب» المقدسة عند
النصارى فدخلها ثم سار المنصور حتى وصل إلى شاطئ المحيط
وتابع سيره إلى أن أصبح فى شمال البرتغال الحديثة، وهناك وزع
الهدايا على الموالين له من زعماء النصارى وطلب منهم أن يعودوا
إلى بلادهم ورجع هو إلى مدينته الزاهرة.
وقد هزت هذه الغزوة إسبانيا النصرانية، وبقى تأثيرها بضع سنين
وكانت الثامنة والأربعين من بين مجموع غزواته. ثم قام المنصور بعد(7/66)
ذلك بغزوات فى سنوات (389، 390هـ= 999، 1000م) فى أراضى
نبرة وقشتالة؛ حيث واجه جموع النصارى متحدين مصممين على النيل
منه، وتعرض المسلمون للهزيمة أول الأمر، لكن المنصور صعد على
ربوة عالية، وأخذ يضاعف جهوده ويحرض الناس، حتى تمكن من
تحويل الهزيمة إلى نصر ومزق العدو شر ممزق، وتوالى زحفه حتى
اقتحم مدينة «برغش»، ومنها توجه إلى «سرقسطة»، ثم إلى
«بنبلونة» عاصمة «نبرة» دون أن يجرؤ أحد على اعتراضه وأخيرًا
رجع إلى العاصمة بعد تسعة ومائة يوم.
وفى ربيع (392هـ =1002م) خرج المنصور لآخر مرة، وتوجَّه إلى
قشتالة ومنها اتجه غربًا نحو «برغش» وعاث فى تلك المنطقة،
وتقول المصادر النصرانية إنه تعرض لهزيمة على أيدى ملوك
النصارى متحدين، وإنه اضطر إلى الفرار فى جنح الظلام بعد موقعة
معهم جرت أحداثها بمكان يسمى «قلعة النسور»، وقد جرح المنصور
ثم مات بعد ذلك متأثرًا بجراحه، لكن الباحثين المحدثين - ومنهم
المستشرق الهولندى دوزى - يرفضون هذه الرواية لأنها تخالف
الحقائق التاريخية الثابتة، فهى تتحدث عن تحالف بين ملوك من
النصارى ماتوا قبل هذه الموقعة، أضف إلى ذلك أن المصادر
الإسلامية لاتذكرشيئًا عن تلك الموقعة، مع أنها لاتخفى هزائم
المسلمين، فالصمت قرينة على أنه لم تكن هناك هزيمة ولاحتى
موقعة أصلا.
ومهما يكن من أمر فقد سار المنصور فى حملته هذه محمولا حتى
وصل إلى «مدينة سالم»، وهناك وافاه الأجل فى (27 رمضان 392هـ
= 11 أغسطس 1002م) بعد حكم دام 27 عامًا.
المنصور وولاية العهد:
اتخذ المنصور فى سنة (381هـ= 991م) خطة غير مسبوقة بهدف دعم
سلطانه فرشح ابنه عبدالملك ليتولى الأمر من بعده، وتنازل له عن
الحجابة والقيادة وجميع ما كان يتولى من خطط مكتفيًا بلقب
«المنصور» ثم تلقب بالملك الكريم فى سنة (386هـ = 996م) وبولغ
فى تعظيمه وإجلاله، ولم يكن المنصور يقصد أن تجتمع السلطات فى(7/67)
يده، فكل السلطات السياسية والعسكرية فى قبضة يديه بالفعل،
لكنه أراد أن يصبغ حكمه بالصبغة الشرعية، وأن تكون له رسوم
الملك والخلافة، ويقوم بتأسيس دولة تحل محل دولة بنى أمية، لكن
الظروف لم تكن مهيأة فالناس لاتميل كثيرًا إلى المنصور؛ بسبب
الوسائل الدموية التى لجأ إليها لتصفية خصومه.
الجيش فى عهد المنصور:
أعطى المنصور اهتمامًا كبيرًا للجيش، فعنى بتنظيمه، واستقدم قوات
تعد بالألوف من المرتزقة من قبائل زناتة وصنهاجة وغيرهما من البربر
ومن الجند النصارى، وكون من هؤلاء جميعًا جيشًا ضخمًا ضمن ولاءه
له بجوده ووفرة عطاياه، كما غير من نظام الجيش، فقدَّم رجالات
البربر وأخَّر زعماء العرب وفرق جند القبيلة الواحدة، وكان الخليفة
الناصر من قبله قد مهد له الطريق عندما سحق القبائل العربية
وأضعف هيبتها حسبما أشرنا من قبل، أى أن ابن أبى عامر وجد
الطريق ممهدًا، فلم تلق سياسته كبير معارضة.
وقد نفر المحاربون القدماء والأندلسيون بشدة من ذلك الجيش وسعِدَ
«ابن أبى عامر» بهذا النفور لأنه يقف حائلا بين عناصر الجيش القديم
وبين اتحادها ضده، كما أنه يشعر البربر بضرورة الاعتماد عليه.
ومن أهم ما فعله فصل جيش الحضرة (قرطبة) عن الجيش العام،
وتعيين نفسه قائدًا له، فأصبح قوة عسكرية، وفتحت له والدة
الخليفة بيت المال ظنا منها أنه يعمل لحسابها وحساب ابنها، فأكثر
من الجند، وأصبح مستبدا عسكريا، وتحوَّل من فقيه إلى رجل
سياسة، وملك من القوة العسكرية ما لم يملكه من سبقوه، فالناصر
رغم ميله إلى الاستبداد كان يقف عند حد معين، ويعلم أنه من
المستحيل القضاء على النصارى فيكتفى بإضعافهم وحملهم على
أداء الجزية، أما المنصور فتتوالى ضرباته دون أن يحاول ضم جزء
إلى أراضى الخلافة، أو إسكان بعض المسلمين فى الأراضى التى
يفتحها وإنما يضرب ويحوز الغنائم ويعود النصارى إلى ما كانوا
عليه، وكأنه لم يكن يهدف إلا إلى ذلك.(7/68)
وجدير بالذكر أن المنصور فى سنة (388هـ = 998م) أعفى الناس من
إلزامهم بالغزو؛ بسبب ما وصلت إليه أعداد الجيش وما توافر له من
قوة، واكتفى بالقوات المرابطة، وقد بلغ الجيش المرابط أى الثابت
فى زمن المنصور (12100) من الفرسان يصرف لهم جميعًا المرتبات
والسلاح والنفقة بخلاف (600) فارس للحراسة الخاصة، أما الجيش
المرابط من الرجَّالة فقد بلغ ستة وعشرين ألفًا، وكان هذا العدد
يتضاعف بمن ينضم إليه من المتطوعة أثناء الصوائف ولا يدخل فى
هذا الخيل ومطايا الركوب ودواب الحمل وغيرها من العدد، وكان
المنصور يتولى قيادة قواته بنفسه غالبًا.
وقد حققت غزواته أهدافها من ردع النصارى ومنعهم من الهجوم على
أراضى المسلمين، وكان يعرف أبرز جنده جميعًا بأسمائهم ويدعوهم
إلى المآدب التى يقيمها عقب كل انتصار، ومع ذلك فإن المحصلة
النهائية لغزواته كانت ضعيفة فهو لم يقضِ على كل قوى النصرانية
أو يسحقها، وغزواته وإن أضعفت النصارى، فإنها لم تغير
أحوالهم، وبقيت حدود دولة الإسلام على ما هى عليه، فهى غزوات
دويها عظيم تجذب الناس إليها، لكن نتائجها قليلة فقد أنهكت قوى
الجيوش الإسلامية دون أن تحقق هدفًا ثابتًا أو تقضى على خصم،
إنها مثل الطبل الأجوف صوت كبير وعمل قليل.
إدارة المنصور:
أظهر المنصور مقدرة كافية ممتازة فى جميع المناصب التى تولاها
وشهدت البلاد فى زمنه أمنًا واستقرارًا وطمأنينة لم تعرفها قبله،
وفى زمنه لم تعرف البلاد الثورات مقارنًا بغيره، وازدهرت الصناعة
والتجارة والزراعة، وارتقت العلوم والآداب، وامتلأت خزائن قرطبة
بالمال حتى وصلت الإيرادات إلى نحو أربعة ملايين دينار، بخلاف
الموارد من المواريث ومال السبى والغنائم، وقد عاون المنصور
مجموعة من الكتاب والوزراء فى هذا العصر من أبرزهم: «أبو مروان
عبدالملك بن شهيد» و «محمد بن جهور» و «أحمد بن سعيد بن حزم»
والد الفيلسوف المشهور، و «خلف بن حسين بن حيان» والد أمير(7/69)
المؤرخين الأندلسيين «ابن حيان»، ومن الكتاب «سعيد بن القطاع»
وغيره من أبناء الأسر العريقة التى تعاقب أبناؤها على الوزارة.
العمارة فى عهد المنصور:
لم يخل عهد المنصور من الإنشاءات العظيمة على الرغم من الغزوات
المستمرة وقد أشرنا إلى بنائه مدينته الزاهرة بقصورها وحدائقها،
وجعلها قصرًا للحكم والإدارة، وقد بنى المنصور بجانبها مدينة جميلة
ازدانت بالحدائق والقصور أسماها «العامرية»، وكان يقصدها عندما
يريد الاستجمام.
كذلك قام بزيادة المسجد الجامع فى «قرطبة» بعد أن اتسعت
المدينة، وضمت واحدًا وعشرين حيا، الواحد فيها أكبر من أية مدينة
أندلسية، وقد حفر حولها خندقًا بلغ 16 ميلاً وزاد سكانها كثيرًا لا
سيما البربر، وضاق المسجد الجامع بهؤلاء السكان فأدخل المنصور
فى سنة (387هـ = 997م) زيادة عليه من الناحية الشرقية، بلغت
المساحة الأصلية نفسها تقريبًا، وحرص المنصور على الاشتراك فى
هذا المشروع بنفسه، واشتغل فيه أسرى النصارى، وتم تعويض
أصحاب الدور والأماكن التى صودرت لهذا الغرض، ولا يزال هذا
الجناح قائمًا حتى اليوم، ويعرف بمسجد المنصور، وإن تحولت
عقوده الجانبيه إلى هياكل وكنائس.
وبهذه الزيادة بلغت مساحة المسجد الجامع ما يزيد على ستة أفدنة،
كما انفرد بطرازه الرائع، وليس فى العالم مسجد ولا كنيسة فى مثل
حجمه اللهم إلا قصر «فرساى» بفرنسا.
كما جدد المنصور قنطرة قرطبة على نهر الوادى الكبير، وكان
«السمح بن مالك» قد جددها من قبل وأنفق المنصور على تجديدها
فى سنة (378هـ = 988م) مائة وأربعين ألف دينار وبنى قنطرة
«أستجة» على نهر «شنيل» أحد فروع نهر الوادى الكبير.
المنصور فى نظر المؤرخين:
يشهد المؤرخون القدماء للمنصور بالكرم، وبأنه كان يبذل الأموال
للمتصلين به والفقراء خاصة، ورغم سفكه للدماء فقد كان يتظاهر
بالتقوى، حريصًا فى كل غزواته على حمل مصحف خطه بيده، ويقال(7/70)
إنه كان منصفًا عادلا يزجر الظالم حتى لو كان من كبار حاشيته،
وكان صبورًا حليمًا، ولكنهم ينعون عليه شغفه بمعاقرة الخمر، ولم
يتخل عن ذلك إلا قبل وفاته بعامين.
وتميز المنصور بأنه كان شغوفًا بالعلم والأدب، محبا للعلماء والأدباء
والشعراء ويناظرهم ويشترك معهم فى نظم الشعر ويغدق عليهم،
ساعده على ذلك نشأته فى بيت علم وأدب، وبراعته فى علوم
الشريعة وفنون الأدب خلال فترة صباه.
وحرص المنصور على نشر العلم والمعرفة بين طبقات الشعب، فأنشأ
كثيرًا من دور العلم فى قرطبة وأنفق عليها، وكان يزور المساجد
والمدارس، ويمنح المكافآت للمتفوقين من الطلاب، كما حرص على
جمع الكتب ومكافأة أصحابها، وقد منح «صاعد البغدادى» (500)
دينار مكافأة له على كتابه «الفصوص»، وكان يكره الفلسفة، ويرى
أنها مخالفة للدين كما كان يبغض التنجيم ويطارد المنجمين، وقد
استخرج من المكتبة الأموية جميع كتب الفلاسفة والدهريين وأحرقها
بحضرة كبار العلماء، وما فعله «المنصور» أمر خطير، تسبب فى
ضياع ثروة علمية عظيمة.
ونظرًا للشهرة الواسعة التى حققها المنصور، جاء إليه بعض ملوك
النصارى واستعطفوه وتقربوا إليه وزوجوه من بناتهم.
ويرى بعض المؤرخين المعاصرين أن «ابن أبى عامر» من أعظم
الرجال وأنه قام بما لم يقم به أحد فى تاريخ الإسلام، فقد استطاع
الاستيلاء على الحكم فى دولة كبرى، وهى فى أوج سلطانها ووجه
أمورها بصورة مستبدة.
ومع ذلك فإن هنا أمورًا ثلاثة هى أكثر ما أضر به المنصور:
1 - إقامته ملكه على جند مرتزقة تعالوا على الناس، واصطناعه
لبيوت جديدة من زعانف الأسر، وصغار الفقهاء والطامعين، وتوليتهم
وظائف القضاء والولايات، وقد أثقل هؤلاء على الناس، وأرهقوهم
بالمطالب، واستولوا على أموالهم، ومن هؤلاء بنو عباد فى إشبيلية،
ومن البربر الذين استعان بهم فى النواحى، بنو الأفطس فى بطليوس،
وبنو ذى النون جنوب غربى طليطلة - بالإضافة إلى الصقالبة الجدد(7/71)
الذين اشتراهم المنصور لحسابه ومن هؤلاء جميعًا يتكون الحزب
العامرى - وهم الذين قضوا على وحدة الأندلس فيما بعد، ويتكون
منهم ما يعرف بملوك الطوائف.
2 - انعدام المفهوم الأخلاقى عنده، وهذا جعل الناس يخافونه ولا
يحبونه، بل إن أنصاره ما كانوا يأمنونه؛ لأنه كان كثير التجسس
فكان يطلب من العبيد والجوارى أن يكونوا عيونًا فى بيوتهم وأفسد
أخلاق الناس بالرشوة ونحوها.
3 - حجر المنصور على الخليفة «هشام»، وتعيين ابنه «عبدالملك بن
المنصور» وليا لعهده، والتخلص من معارضيه بالتآمر والقتل.
ولقى المنصور ربه فى «مدينة سالم» فى (27 من رمضان سنة 392هـ
= أغسطس سنة 1002م) كما أسلفنا وتولى الأمر من بعده ابنه
عبدالملك المظفر.
عبدالملك المظفر بالله ابن المنصور:
[رمضان 392 - صفر 399هـ = أغسطس 1002 - أكتوبر 1008م].
صدر أمر الخليفة «هشام» بتولية «عبدالملك» الحجابة بعد وفاة
والده، وقضى عبدالملك بسرعة على من أراد انتهاز الفرصة للعودة
إلى حكم الخليفة، وقد بدأ عهده بإسقاط سدس الجباية (الضرائب) عن
السكان بكل نواحى الأندلس فاستبشر الناس به خيرًا.
سياسة عبدالملك مع النصارى:
ظن ملوك النصارى أن خطر الغزوات الإسلامية عليهم سيقل بعد وفاة
المنصور، لكنهم كانوا واهمين لأن عبدالملك بدأ بعد أشهر قليلة من
ولايته يستعد لغزوته الأولى، ووفد إليه الزعماء والمتطوعة من
المغرب وغيرها للاشتراك معه، فرحَّب بهم وبذل لهم الأموال ووزع
عليهم السلاح، وخرج بالجيش من مدينة الزاهرة فى (شعبان 393هـ =
يونيو 1003م)، وتوجه إلى مدينة «طليطلة»، ومنها إلى مدينة
«سالم»، حيث انضم إليه «الفتى واضح» فى قواته وقوات من
النصارى حسب اتفاقهم مع المنصور، ثم اتجه الجنود نحو الثغر
الأعلى، ثم من سرقسطة إلى «برشلونة»، حيث استولت القوات
الإسلامية على بعض الحصون المنيعة، واستولت على سبى ومغانم،
ثم عاد المسلمون إلى قرطبة عن طريق مدينة «لاردة» فى شهر ذى(7/72)
القعدة، وقد تلقى عبدالملك رسالة من أمير برشلونة تطلب الصفح
والمهادنة فاستقبل الرسل استقبالا يليق بمقام الخلافة.
ولما اعتدى أمير قشتالة على أراضى المسلمين سنة (394هـ =
1004م) قصد إليه عبدالملك وأدبه، واضطره إلى التسليم وطلب الصلح
ثانية، وتعهد على التعاون مع عبدالملك فى حملاته ضد مملكة ليون
وضد خصومه جميعًا.
وفى العام التالى خرج «عبدالملك» وسار نحو طليطلة ولحق به
«الفتى واضح» وملك قشتالة، واتجهوا شمالا نحو أراضى ليون
ومدينة سمورة وعاث فى هذه النواحى ووصل إلى جليقية واستولى
على كثير من المغانم والسبى، ولكنه لم يحقق نتائج حربية ذات
قيمة.
خرج عبدالملك فى أواخر سنة (396هـ = 1006م) إلى «بنبلونة»
عاصمة «نبرة» فقصد «سرقسطة» و «شقة» و «بريشتر» ومنها اخترق
المسلمون أراضى العدو وأخذوا يقتلون وينهبون، ثم تعرض الجيش
لبعض العواصف ورعد وبرق قاسٍ، واضطر إلى العودة إلى العاصمة.
حين وصل إلى مسامع عبدالملك أن أمير قشتالة يفكر فى الاعتداء
على أراضى المسلمين، خرج لغزوته الخامسة المسماة «غزوة
قلونية» فى (صيف 397هـ = 1007م)، واخترق أراضى قشتالة
ليحارب ملكها الذى تحالف معه ملك ليون وملك نبرة، وعدد من زعماء
النصارى الذين وحدوا صفوفهم، ومع ذلك فقد تمكن عبدالملك من
إلحاق هزيمة بهم جميعًا عند مدينة «قلونية»، وحملهم على طلب
الصلح ثم عاد إلى قرطبة أواخر العام المذكور، فسر الناس بما حقق،
واتخذ هو لقب «المظفر بالله» إشادة بما أحرز من نصر عظيم.
لكن ملك قشتالة جدد عدوانه وغدر بالمسلمين فخرج إليه عبدالملك
فى (صفر سنة 398هـ = أكتوبر 1007م)، واخترق أراضى قشتالة
الوسطى، وقصد إلى بعض الحصون المنيعة، وجرت معركة، اضطر
النصارى بعدها إلى دخول الحصن، وهجم عليهم المسلمون وضربوا
الحصن بالمجانيق والنيران حتى حملوا العدو على طلب التسليم، وهنا
أمر عبدالملك بقتل المقاتلة وسبى النساء والذرية، ثم رجع إلى(7/73)
العاصمة فى شهر ربيع الثانى.
وفى شوال من العام نفسه خرج عبدالملك بغزوته السابعة والأخيرة
وتعرف «بغزوة العلة»؛ إذ إنه ما كاد يصل إلى مدينة سالم حتى
اشتد به المرض وتفرق عنه المتطوعة، واضطر إلى الرجوع إلى قرطبة
فى (المحرم 399هـ = سبتمبر 1008م) لكنه شعر بتحسن فى صحته
فعمل على استئناف الغزو بعد فترة وجيزة لكن حالته ساءت،
وتعرض لنكسة سببها التهاب رئوى، وعاد إلى العاصمة فى محفة
حيث مات فى (16 من صفر سنة 399هـ = 21 من أكتوبر 1008م) بعد
حكم دام نحو سبع سنوات.
أسلوب عبدالملك فى الإدارة والحكم:
التزم عبدالملك الأسلوب الذى كان يحكم به والده الأندلس فجعل
الخليفة محجورًا عليه لاحول له ولاقوة.
وجمع السلطات كلها فى يديه، وحدَّ من نفوذ الوزراء والكتاب
وراقبهم وحاسبهم، وجلس للناس وهجر اللهو، وعمل على تنمية
الموارد وترتب على هذا تحسن فى الأحوال المالية التى كانت قد
ساءت بسبب كثرة النفقات.
ولم يكن لعبدالملك نصيب كبير فى مجالات العلم والأدب وكان مجلسه
لايقوم إلا على الأعاجم من البربر وغيرهم، ومع ذلك فقد استمر يجرى
الرواتب التى كان أبوه يجريها على العلماء والأدباء والندماء، كما
استمع إلى الشعر ووصل الشعراء.
عبدالرحمن بن شنجول:
قلد الخليفة هشام الحجابة لعبدالرحمن بن منصور، وأنعم عليه بالخلع
السلطانية، وكانت أمه ابنة لملك «نبرة» تزوجها «المنصور» وأنجب
منها، وقد أسلمت وتسمت باسم «عبدة» ولأنه أشبه جده لأمه
المسمى «شانجة» لقب بشنجول أو شانجة الصغير.
ولم يكن الشعب يميل إلى «عبدالرحمن» لما فيه من دماء نصرانية
ولانحراف سلوكه، ولأنه جرى على منهج أبيه وأخيه فى الحجر على
الخليفة هشام مع الاستبداد بالرأى وإن مال هو إلى التودد إلى
الخليفة ومخالطته، وقد منحه الخليفة لقب المأمون ناصر الدولة بعد
عشرة أيام من ولايته، ليس هذا فحسب، بل إن عبدالرحمن جرؤ على(7/74)
ما لم يجرؤ عليه أحد لا المنصور ولا عبدالملك، حين نجح بعد محاولات
فى استصدار مرسوم من الخليفة بتعيينه وليا للعهد من بعده، لتنتقل
رسوم الخلافة من أسرة بنى أمية إلى أسرة بنى عامر، وأقر فقهاء
قرطبة وعلماؤها هذا التحول وزكاه الوزراء والقضاة والقادة، وكان
ذلك فى ربيع الأول سنة (399هـ= 1008م)، ومضى «عبدالرحمن» أبعد
من ذلك حين عين ابنه الطفل فى خطة الحجابة ولقبه سيف الدولة، ثم
اتخذ قرارًا جلب عليه كثيرًا من السخط حين طلب من أكابر الموظفين
ورجال الدولة خلع القلانس الطويلة التى يتميزون بها لأنها لبس
الأندلسيين، وتغطية الرأس بالعمائم التى هى لباس البربر فأذعن
هؤلاء كارهين.
فكر عبدالرحمن أن يشغل الناس بالغزو، فقرر أن يتوجه إلى جليقية
رغم تحذيره من سوء الأحوال الجوية، ومن انقلاب قد يقوم به
المروانية ضده، لكنه صمم وسار بالجيش نحو طليطلة، ومنها إلى
جليقية وسط أمطار وبرد شديدين وكان يمارس هوايته فى اللهو
والشراب، وقد اخترق مملكة ليون قبل أن يصل إلى جليقية، فتحصن
الأعداء برءوس الجبال، ولم يجد عبدالرحمن سبيلا إلى مقاتلتهم بسبب
كثرة الثلوج وفيضان الأنهار، فاضطر إلى أن يعود دون أن يفعل
شيئًا.
وعند وصوله إلى طليطلة جاءته الأنباء تفيد أن انقلابًا قد حدث فى
قرطبة وأن الثوار استولوا على مدينة الزاهرة فاضطربت صفوفهم،
واضطر عبدالرحمن إلى أن يعود عن طريق قلعة رباح، ولم يلتفت إلى
نصح من طلب منه البقاء فى طليطلة، لاعتقاده أن الناس سترحب به
إذا رأوه يقترب من قرطبة.
وكان السبب الرئيسى للثورة هو استبداد بنى عامر وقهرهم للناس
استنادًا إلى قوة قوامها البربر والصقالبة، ثم كانت ولاية عبدالرحمن
للعهد واستئثاره برسوم الخلافة والحكم هى الشرارة التى انتقلت
منها نيران الثورة إلى كل العناصر الناقمة، وعلى رأسهم بنو أمية،
وكان المخطط للثورة والمتابع لمراحل تنفيذها «الزلفاء» والدة(7/75)
عبدالملك -التى اعتقدت أن «شنجول» سم ابنها - ثم فتى أموى اسمه
«محمد بن هشام بن عبدالجبار بن عبدالرحمن الناصر» كان عبدالملك
قد أعدم أباه.
لم يكن المروانية وحدهم يرغبون فى القضاء على العامريين، وإنما
كان معهم كل العناصر الناقمة من البيوت العربية مضرية أو يمنية،
يؤازرهم كل طبقات الشعب، وأحكم هؤلاء جميعًا خطتهم وانتهزوا
فرصة خروج عبدالرحمن للغزو ومعه معظم الجيش ليقوموا بالتنفيذ،
وفى يوم (16 من جمادى الأولى 299هـ = 15 من يناير 1009م) جاءت
الأنباء بأن عبدالرحمن عبر بجيشه إلى أرض النصارى، فقام محمد بن
هشام بإنزال ضربته، وهجم على قصر قرطبة وقتل صاحب المدينة،
والتف حوله الساخطون، ثم اقتحم سجن العامرية وأخرج من فيه،
واجتمع حوله المروانية وانضم إليه الناس من كل حدب وصوب، وبعد
أن سيطر ابن عبدالجبار على القصر واستولى على كل ما فيه من
سلاح وغيره، طلب من الخليفة هشام أن يخلع نفسه فوافق، وانتهت
بذلك خلافته الصورية التى دامت (33) سنة وتولى الأمر «محمد بن
هشام بن عبدالجبار» وتلقب بالمهدى فى (17 من جمادى الآخرة
399هـ = 16 من فبراير 1009م) وجاءه الناس مهنئين، وما شعروا أن
تلك هى بداية الفتنة التى ستطيح ليس بالدولة العامرية وحدها بل
وبالخلافة بكل ما تمثله.
وفى اليوم التالى قام الثائرون بهدم مدينة الزاهرة وقصورها،
وأحست الحامية المنوط بها الدفاع عنها أن المقاومة غير مجدية
ففتحوا أبواب المدينة شريطة أن يؤمنهم المهدى، وتم نهب القصور
والاستيلاء على كل ما كان فيها من متاع وجواهر، ولم يكتف
المهدى بذلك وإنما قام بهدم كل مبانى مدينة الزاهرة وأسوارها بعد
أن استولى على كل ما فيها من خزائن وأموال وتحف حرصًا منه
على إزالة كل آثار بنى عامر، وأصبحت المدينة أطلالا، وتحولت إلى
أثر بعد عين.
وقد حاول «عبدالرحمن» وهو فى «طليطلة» بعد أن بلغته أخبار
الثورة أن يتنازل عن ولاية العهد مكتفيًا بالحجابة، فلم يلتفت إليه(7/76)
أحد ثم سار إلى قرطبة، ولما اقترب منها تركه جند البربر وفروا فى
جنح الظلام، ثم تمكن الخليفة الجديد من مطاردته وإلقاء القبض عليه
وهو مختبئ فى أحد الأديرة، وقتله فى (3 من رجب 399هـ = 3 من
مارس 1009م).
وهكذا انتظر الشعب أول فرصة وأطاح بالطغيان المستبد الذى فرضه
العامريون، ولم يشفع لذلك النظام ما تحقق على يدى المنصور من
أمن واستقرار عم ربوع الأندلس وكانت تلك الثورة بداية مرحلة من
الفتن والفوضى الشاملة التى أنهت وجود الحكومة المركزية، وقضت
على الخلافة الإسلامية، ومزَّقت الأمة وجعلتها أشلاء متناثرة.
ولم يكن محمد بن هشام بن عبدالجبار شخصًا مناسبًا لهذه الفترة، إذ
كان قليل التفكير لا يعرف شيئًا عن الدولة وشئونها أحاط نفسه
بطائفة على شاكلته لا تحسن غير النهب والسرقة ولم يكن يحركهم
إلا شىء واحد هو الانتقام من العامريين، وإهانة البربر، عقابًا لهم
على تأييدهم بنى عامر.(7/77)
الفصل الخامس
*سقوط الخلافة الأندلسية وقيام دولة بنى حمود
[399 - 422 هـ = 1009 - 1031 م].
استولى المهدى على الخلافة وقد ترتب على ذلك انطلاق ذوى
الأغراض، كل يحاول نيل نصيبه من البناء المتداعى. فهناك بنو أمية
يرون أنفسهم أصحاب الحق الشرعى، وهناك الفتيان العامريون
والصقالبة والجند المرتزقة وهم قوة لايستهان بها، وهناك البربر
الذين تضاعفت أعدادهم منذ عهد المنصور بعد أن استقدمهم من عدوة
المغرب، فكسبوا المال الكثير، واتخذوا الأندلس وطنًا لهم، وأبلوا بلاء
حسنًا فى الجهاد وحماية هذا الوطن، وهناك أيضًا العامة من الناس
الذين التفوا حول الخليفة الجديد، دون أن تكون لهم أغراض ثابتة،
وإنما نزعاتهم متباينة وأهواؤهم متقلبة.
بدأ المهدى عهده بالشدة فى التعامل مع البربر واحتقارهم ونزع
سلاحهم وسبهم، وانتقلت هذه الروح منه إلى العامة، فهاجموا البربر
ونهبوا دورهم وآذوهم، فشحنت نفوس هؤلاء بالغضب، كما لجأ
المهدى إلى نفى بعض الفتيان الصقالبة، فلجئوا إلى أطراف الأندلس
وعادوه ولم يسالمه منهم إلا «واضح» الذى تولى مدينة سالم والثغر
الأوسط.
أما الخليفة هشام المؤيد، فقد حبسه المهدى فى القصر، ثم أخرجه
وأخفاه فى بعض منازل قرطبة، وزاد فاستغل وفاة رجل ذمى يشبه
هشام المؤيد إلى حد كبير، وأعلن أن الخليفة المؤيد قد مات، وأشهد
على ذلك الوزراء والفقهاء، وسخر الناس من هذه الخطوة لأنهم
يعلمون أن هشام الذى دفنوه لم يمت.
ولما شعر «المهدى» أن الأمور قد استقرت له بالغ فى استهتاره
وارتكابه الموبقات، وبلغ الأمر مداه حين قتل من كان قد اختاره وليًا
للعهد ضمن آخرين، وحين أخرج من الجيش سبعة آلاف جندى وقطع
رواتبهم فأصبحوا من أهم عناصر الشغب، وحين بالغ فى اضطهاده
للبربر حتى أصبح ذلك حديث الناس فى كل مكان، بل وصل به الأمر
إلى أن منع زعيمهم «زاوى بن زيرى الصنهاجى» من دخول القصر
وأذله فخافه البربر وكسب عداوتهم، فى (رجب 399هـ = أواخر مارس(7/78)
1009م)، ثم أراد إخراج البربر الذين كانوا فى خدمة المنصور من
قرطبة، فرفضوا، وجرى صراع بين البربر والأندلسيين وضاع جيش
الدولة فى هذا الصراع، وحرمت الدولة من أن تكون لها قوة عسكرية
تخصص للدفاع عنها.
كان هشام بن سليمان بن الناصر على رأس الناقمين على المهدى،
فقد كان يخشى مغبة تهوره على كل بنى أمية وانضم إليه جماعة
يتقدمهم الفتيان العامريون والبربر وحاصروا محمد بن هشام بن
عبدالجبار فى قصره، وجرى قتال بينه وبينهم انتهى بهزيمة البربر،
ودمرت بيوتهم ونهبت واضطروا للانسحاب إلى بعض ضواحى قرطبة،
ثم خشى المهدى سوء العاقبة فعفا عنهم وأمنهم، لكنهم اتجهوا
شمالا نحو قلعة رباح وبدءوا ينظمون صفوفهم والتفوا حول أموى
اسمه «سليمان بن الحكم بن عبدالرحمن الناصر» ورشحوه لتولى
الخلافة بدلا من المهدى، ولقبوه بالمستعين بالله، واستعانوا على
أمرهم بأمير قشتالة النصرانى، وهزموا قوات تابعة للمهدى بالتعاون
مع هذا الأمير، وأصبح هناك خليفتان، واحد فى قرطبة والآخر على
رأس البربر.
عرف المهدى ما تعرض له جنده من هزيمة فأخذ فى تحصين قرطبة
ونظم قواته وانضمت إليه قوات «واضح الفتى» وتوجه إليه سليمان
ابن الحكم على رأس قوات البربر وقوات أمير قشتالة والتقى
الفريقان فى (11 من ربيع الأول 400هـ = 5 من نوفمبر 1009م)، عند
مكان يسمى «قنتيش» إلى الشمال من بلدة القليعة عند ملتقى نهر
أرملاط بالوادى الكبير، وانتهت المعركة بهزيمة المهدى وقتل الآلاف
من أعوانه وفرار نفر من الأندلسيين الصقالبة إلى شرقى الأندلس
واستقرارهم فى «دانية»، وقتل البربر الكثير من أهل قرطبة، ومن
بين هؤلاء العالم الجليل «أبو الوليد الفرضى» وأصبح «زاوى بن
زيرى» سيد الموقف.
أما المهدى فقد حاول من جانبه تدارك الأمر، فلجأ إلى حيلة سخيفة
حين أظهر الخليفة هشام المؤيد الذى كان قد زعم أنه مات وأجرى
مراسم دفنه، ثم بعث إلى البربر يخبرهم أن هشام هو الخليفة(7/79)
الشرعى وأنه هو - يعنى المهدى - نائبه، لكن البربر رفضوا ذلك
وأعلنوا تمسكهم بسليمان وأدخلوه القصر وبايعوه بالخلافة ولقبوه
بالمستعين بالله.
فر المهدى إلى طليطلة؛ ليدبر للعودة إلى الحكم من جديد وكان معه
«واضح الفتى العامرى» الذى توجه إلى «طرطوشة» من مدن الثغر
الأعلى، وطلب عون أمير برشلونة وغيره من زعماء النصارى، وحصل
على موافقتهم بشروط باهظة منها أن يستولوا على ما يغنمونه من
سلاح وأن تسلم لهم مدينة سالم ..
سار النصارى ومعهم واضح إلى قرطبة وانضم إليهم المهدى والتقوا
بقوات البربر والمستعين بالله، وحدثت موقعة هائلة فى مكان يسمى
«عقبة البقر» على بعد (20كم) شمالى قرطبة فى (شوال 400هـ =
مايو 1010م)، وانتهى الأمر بهزيمة البربر وفرار سليمان المستعين،
وعاد زاوى بن زيرى إلى قرطبة حيث أخذه أهله وانسحب إلى
الجنوب وفعل البربر مثلما فعل.
رجع المهدى إلى قرطبة وبدأ يحصنها ويعدها للدفاع، بينما استعد
سليمان والبربر لاستئناف الصراع على قرطبة، فى هذه الآونة ضاق
الفتيان العامريون - وفيهم واضح- من تصرفات المهدى وسلوكه،
فتآمروا عليه وأخرجوا هشام المؤيد من محبسه وولوه الخلافة للمرة
الثالثة وأتوا بالمهدى وضربوا عنقه بين يدى هشام المؤيد فى (ذى
الحجة سنة 400هـ = 23 يوليو 1010م) وبذلك استرد هشام الخلافة
ليكون ألعوبة فى يد الفتيان العامريين، وتولى واضح حجابته
وأرسل إلى سليمان المستعين وإلى البربر يدعوهم إلى طاعة
الخليفة الجديد، فلم يقبل البربر دعوته وأعلنوا تمسكهم بسليمان.
حاول البربر وسليمان الاستعانة بنصارى قشتالة مرة أخرى وعرضوا
على ملكها تسليمه الحصون الأمامية التى اقتحمها الخليفة الحكم
والمنصور بن أبى عامر، إذا وقف معهم فى خلعهم للخليفة هشام
المؤيد لكن الملك النصرانى رفض ذلك.
زحف البربر إلى قرطبة وأخذوا يقتلون الجند ويعيثون فيها فسادًا
وامتد تخريبهم إلى الجنوب حتى وصلوا إلى ضواحى غرناطة ومالقة،(7/80)
ولم يبق فى طاعة هشام إلا قرطبة وما حولها وتمسك البربر بعودة
سليمان.
فى هذه الأثناء وصلت إلى العاصمة سفارة من ملك قشتالة تطلب
تسليم الحصون التى فتحها المسلمون أيام الحكم المستنصر والمنصور
بن أبى عامر وغيره، فعقد مجلس من الفقهاء والقضاة، وتمت كتابة
محضر بتسليم ما لا يقل عن مائتى حصن بينها قواعد أمامية إسلامية
وخسر المسلمون بذلك خط الدفاع الأول، وأصبحت حدودهم الشمالية
مفتوحة أمام النصارى، والذى دفع «هشام» وحاجبه «واضح» إلى
اتخاذ هذا الموقف المتخاذل هو الخوف من ملك قشتالة واحتمال أن
يهاجمهم وأن يتحالف مع البربر ضدهم إذا رفض طلبه.
واصل البربر عبثهم بقرطبة وتخريبهم لها، وفى كل يوم يزداد الحال
سوءًا وتتضاعف ضدهم مشاعر الكراهية، وأدرك «واضح» أنه يواجه
أمرًا يستحيل إصلاحه فقرر الهرب، لكن بعض كبار الجند عرفوا نيته،
فعاتبوه على تبديد الأموال وسوء التصرف ثم قتلوه واستولوا على
أموال كان ينوى الهروب بها، وتولى قاتله الحجابة، وهكذا أصبح
القتل وسيلة يلجأ إليها كل من يبغى التخلص من صاحبه.
بعد ذلك جرت محاولات فاشلة للصلح بين الأطراف، ثم حدث أمر جدد
إشعال النار هو قيام أهل قرطبة بقتل بعض زعماء البربر، وترتب
على ذلك قيام معركة هائلة فى (26 من شوال 403هـ =مايو 1013م)
دخل البربر على إثرها قرطبة وقتلوا الكثيرين ولم يرحموا حتى
النساء والأطفال، بل ارتكبوا أشنع ضروب الإثم حين اغتصبوا النساء
والبنات وأحرقوا الدور، وتعرضت قرطبة لمحنة لاتعادلها محنة، وفى
اليوم التالى دخل سليمان المستعين قصر قرطبة، واستدعى «هشام
المؤيد» وعنفه على موقفه، ثم أمر بحبسه.
استقر الأمر لسليمان، فأضاف إلى ألقابه «الظافر بالله» بعد
«المستعين»، وأنزل كلا من «على» و «القاسم» ابنى حمود بشقندة
من ضواحى قرطبة وهما قائدا الجماعة العلوية وينتميان إلى
الأدارسة وهما عربيان من حيث النسب، بربريان من حيث النشأة(7/81)
والعصبية واللغة، وأخذ ينظم شئون الدولة واحتل البربر المناصب
الرئيسية، ثم أراد سليمان إرضاءهم من ناحية وإبعادهم عن قرطبة
من ناحية أخرى، فأقطعهم كور الأندلس -وكانت ست قبائل رئيسية-
كما ولى «على ابن حمود» ثغر سبتة، وأخاه القاسم على ثغور
الجزيرة الخضراء وطنجة وأصيلا، ومعنى ذلك أن البربر أصبحت لهم
السيطرة على ولايات الأندلس الجنوبية والوسطى.
من ناحية أخرى رأى الفتيان العامريون سيطرة البربر ففر معظمهم
إلى شرق الأندلس وأنشئوا هناك حكومات محلية، حيث حاول بعضهم
بزعامة الفتى «خيران» الاستقرار فى ألمرية ومرسية، وحاول بعضهم
الآخر الاستقرار فى دانية والجزائر الشرقية خاصة بنى برزال وبنى
يغرن، أما «زاوى بن زيرى» و «حبوس بن ماكس» الصنهاجيان فقد
استقرا فى غرناطة، وهكذا تمزقت البلاد وانتشرت الفوضى، وعمت
الفتن طوال فترة سليمان الأخيرة التى لم تزد على ثلاث سنوات.
دولة بنى حمود:
كان تمزق الأندلس بهذه الصورة فرصة يقتنصها من يريد، ولهذا كتب
«على بن حمود» صاحب سبتة إلى «خيران» يزعم أنه تلقى رسالة من
«هشام المؤيد» يوليه فيها عهده، ويطلب منه إنقاذه من البربر ومن
سليمان المستعين والتف حول «ابن حمود» بعض الأعوان، وعبر بهم
إلى الجزيرة الخضراء بناء على طلب خيران، واستوليا معًا على بعض
البلاد، وقرَّرا الزحف على قرطبة يعاونهما بربر غرناطة، واستعد
سليمان لقتالهم، ونشبت بينهما معركة فى مكان قريب من قرطبة
وانتهى الأمر بهزيمة سليمان ووقوعه فى الأسر.
بعد ذلك دخل على بن حمود قرطبة وبويع بالخلافة فى (محرم 407هـ=
أول يوليو 1016م)، وأعلن وفاة هشام المؤيد، وقتل سليمان وأباه
وأخاه، وتلقب بالناصر لدين الله، وبموت سليمان انتهت الخلافة
الأموية بالأندلس بعد حكم دام (268) سنة منذ وصل إليها عبدالرحمن
الداخل، وبدأت خلافة الحموديين الأدارسة.
قبض على بن حمود على الحكم واشتد فى معاملة البربر وواجه أية(7/82)
محاولة للثورة بمنتهى الشدة سواء قام بها العرب أو البربر، وفى
الوقت نفسه أحسن معاملة القرطبيين، يعاونه فى ذلك مجموعة من
أعوان الخلافة السابقة من أمثال أبى الحزم بن جهور وابن برد.
لكن الأمور ما لبثت أن اتخذت خطا جديدًا، ذلك أن خيران العامرى
دخل قرطبة فلم يجد هشام المؤيد حيا، وخشى سطوة على بن حمود
فغادر قرطبة، وأعلن العصيان واتجه ناحية شرق الأندلس، حيث
يجتمع الزعماء العامريون، وأعاد دعوة بنى أمية فى شخص رجل
منهم اسمه عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله من أحفاد عبدالرحمن
الناصر، وبايعه خيران بالخلافة ولقب بالمرتضى، وانضمت إليه ولايات
سرقسطة والثغر الأعلى وشاطبة وبلنسية وطرطوشة وغيرها،
وسارت قوات هؤلاء نحو غرناطة لمواجهة قوات صنهاجة، وجرت
معركة انتهت بهزيمة الأندلسيين ومقتل المرتضى، وكان «على بن
حمود» قد غيَّر سلوكه، مع أهل قرطبة بسبب علمه بميلهم إلى
المرتضى فنزع سلاحهم وصادر أموالهم واعتقل زعماءهم وعلى
رأسهم «أبو الحزم بن جهور»، ثم تربص جماعة من الصقالبة بعلى
هذا، وقتلوه فى الحمام فى (الثانى من ذى القعدة سنة 408هـ =
23من مارس 1018م) بعد خلافة دامت عامًا وتسعة أشهر.
بعث زعماء زناتة بخبر مقتل «على» لأخيه القاسم الذى كان واليًا
على إشبيلية، فخف مسرعًا، وبويع بالخلافة فى الثامن من الشهر
نفسه وتلقب بالمأمون، وقد مال فى سياسته إلى اللين والإحسان
إلى الناس وحاول التقرب إلى الفتيان العامريين، فولَّى زهير
العامرى على جيان وقلعة رباح لكنه لم يستطع التخلص من سيطرة
البربر عليه، فتآمر عليه أبناء أخيه، وزحف يحيى بن على بن حمود
على قرطبة، وبويع بالخلافة فى جمادى الأولى سنة (412هـ =
1021م) وتلقب بالمعتلى بالله، أما القاسم فقد استقر به المقام فى
إشبيلية وتلقب بالخلافة أيضًا.
والعجيب أن كلا الرجلين اعترف لصاحبه بالخلافة، ولم يسمع قبل ذلك
بخليفتين تصالحا واعترف كل منهما بصاحبه من قبل.(7/83)
ثم لم يلبث أن دعا البربر القاسم إلى قرطبة، وولوه الخلافة فى (18
من ذى القعدة من العام نفسهـ)، ولقب بأمير المؤمنين، ولكن الرجل لم
يكن موفقًا فى سياسته، فقد أعان البربر على أهل قرطبة
فعاملوهم معاملة قاسية وطاردوهم وأهانوهم، وجرت معارك متفرقة
بين الطائفتين، ثم جرت موقعة كبيرة فاصلة انتهت بانتصار القرطبيين
وتمزيق البرابرة، واضطر القاسم إلى الرجوع إلى إشبيلية، وجرت
تطورات عاد البربر بعدها وبايعوا يحيى بن على بن حمود ولقبوه
بالمعتلى بالله، أما القاسم فقد سجن وبقى فى محبسه حتى قتل
خنقًا بعد ذلك بفترة سنة (431هـ = 1040م).
كان أهل قرطبة قد سئموا سلوك البربر وقتالهم، وقرروا رد الأمر
لبنى أمية، وعقدت جلسة لهذا الغرض فى المسجد الجامع تمت فيها
مبايعة عبدالرحمن بن هشام فى (16 من رمضان سنة 414هـ= ديسمبر
سنة 1023م)، ولقب بالمستظهر بالله، وتولى وزارته بعض القدامى من
وزراء بنى أمية، بيد أن الخليفة الجديد استفتح عهده بإلقاء القبض
على عدد من الزعماء والأكابر، واستقبل فرسان البربر وأحسن
وفادتهم، فهاجت العامة وامتلئوا غيظًا، وهجموا على القصر وقتلوا
كل من صادفهم، أما عبدالرحمن فقد اختفى وظهر ابن عمه «محمد بن
عبدالرحمن بن عبيدالله بن الناصر» وبويع بالخلافة وتلقب
بالمستكفى بالله، وأتى بعبدالرحمن المستظهر وقتله فى (3من ذى
القعدة سنة 414هـ = 17 من يناير سنة 1024م).
كان المستكفى سيئ التدبير ميالا إلى البطالة والمجون، وفى عهده
تهدمت القصور الناصرية، وأتى على مدينة الزاهرة من أساسها،
واضطهد معظم البارزين من الساسة والمفكرين، فنادى جميعهم
بخلعه واضطر إلى مغادرة قرطبة فى زى امرأة، وتمكن بعض
مرافقيه من قتله فى ضاحية قرطبية.
وجدير بالذكر أن محمد المستكفى هذا هو والد «ولادة» الشاعرة
المعروفة.
رجعت الفوضى التى لا ضابط لها إلى قرطبة وجاء إليها «يحيى ابن
على ابن حمود»، و «خيران» و «زهير» العامريان، وتم الاتفاق بين(7/84)
الجميع يقودهم أبو الحزم بن جهور على تولية أموى، ووقع
اختيارهم على «هشام بن محمد» الذى بويع ولقب بالمعتد بالله، بيد
أنه ألقى بمقاليد الأمور كلها إلى رجل من المستبدين تولى وزارته
اسمه «سعيد القزاز» بالغ فى اضطهاد زعماء البيوت وإهانتهم
وشغل الخليفة نفسه عن أمور الحكم بشرابه ومجونه، وضاعت هيبة
الخلافة تمامًا.
ثم اضطر القرطبيون الناقمون إلى الفتك بالوزير «سعيد» فى (ذى
القعدة 422هـ = نوفمبر 1031م)، ثم ساروا إلى القصر يتزعمهم «أمية
بن عبدالرحمن العراقى» من أحفاد «الناصر» ونهبوا أجنحة القصر.
وانتهى الأمر باتفاق رأى الناس جميعًا بزعامة أبى الحزم بن جهور
على التخلص من بنى أمية، وإبطال رسوم الخلافة كلها، وإجلاء كل
الأمويين عن مدينة قرطبة، فليس هناك من يستحق الخلافة، وينبغى
أن يتحول الحكم إلى شورى بأيدى الوزراء وصفوة الزعماء أو من
اسماهم «ابن حزم» «الجماعة».
تولى ابن جهور تنفيذ الأمر بمنتهى الحزم حتى أجلى الأمويين عن
المدينة ومحا رسومهم تمامًا، وبهذا انتهت معالم الخلافة الأموية،
وانقطع ذكرها فى كل من الأندلس والمغرب.
عناصر المجتمع الأندلسى:
تكون المجتمع الأندلسى من مجموعة من العناصر المتباينة انصهرت
جميعها فى بوتقة واحدة وكونت المجتمع الأندلسى وهذه العناصر
هى:
(1) العرب، وهم مجموعتان:
المضرية، واليمنية، وقد استمر الصراع بينهما فى الأندلس مثلما كان
فى المشرق، وتتفرع المجموعة المضرية إلى أربعة وعشرين فرعًا
انتشرت فى بلاد الأندلس المختلفة.
أما المجموعة اليمنية فقد وصل فروعها إلى واحد وعشرين فرعًا
تركز وجودها فى الجنوب الشرقى من الأندلس، وكان هؤلاء العرب
أقلية بين عناصر السكان الأخرى لأسباب عديدة، ويرى بعض
الباحثين أن عدد العرب الذين أتوا إلى الأندلس من شمال إفريقية
والشام وصل إلى ما يقرب من (30) ألفًا ارتفع هذا الرقم ليصبح نحو
(300) ألف بعد سنوات.(7/85)
(2) البربر: وهؤلاء كونوا السواد الأعظم من الجيش الفاتح وفاقت
أعدادهم أعداد العرب، وينتمى هؤلاء إلى زناتة ومكناسة وصنهاجة
ومصمودة وهوازة ومديونة وكتابة وسفيلة ونقرة وهؤلاء تركز
وجودهم فى المناطق الجبلية خاصة فى الشمال الغربى ووسط
الأندلس وأراضى السهلة ووادى الحجارة وإشبيلية وما حولها لتشابه
ظروفها مع ظروف الحياة والبيئة فى مواطنهم الأصلية، واشتغلوا
بالزراعة وتربية الماشية ويسَّرت لهم مواطنهم فى مناطق الحدود
وغيرها من المناطق الجبلية القيام بالثورات بعد ذلك.
(3) المسالمة والمولدون: أما المسالمة أو الأسالمة أو أسالمة أهل
الذمة فهم الذين دخلوا فى عقيدة الإسلام من النصارى، أما المولدون
فهم فى أرجح الأقوال أبناء المسالمة أو هم نتاج الزواج المشترك
بين العرب والبربر من ناحية وبين الإسبان من ناحية أخرى، ومن
الطبيعى أن يكون عدد هؤلاء قليلا فى أول الأمر، ثم يتنامى نتيجة
كثرة اعتناق أهل البلاد للإسلام وانتشار ظاهرة الزواج المشترك بين
العرب أو البربر وبين من أسلموا حديثًا، وقد تركز وجود هذا العنصر
فى الحواضر والمدن الكبرى من شبه الجزيرة.
وكانوا مع العرب هم العنصر الغالب فيها، وكان هذا سببًا فى حدوث
نزاع بين هاتين الطائفتين فى المستقبل.
(4) الموالى: مجموعة من عناصر مختلفة تجمع بينها رابطة الولاء بين
المولى وسيده أو التابع ومتبوعه، ويرجع هؤلاء إلى أصول مختلفة
بعضهم رافق الشاميين الذين دخلوا الأندلس وعرفوا لذلك باسم موالى
الشاميين، وبعضهم كان من البربر الذى أسلموا ووافقوا سادتهم فى
دخول الأندلس فسموا باسم الموالى البلدانيين، وبعضهم يرجع لأصول
محلية إسبانية، وموالى الاصطناع أو النعمة الذين أنعم عليهم
الأمويون بالولاء اعتزازًا وتقديرًا، بالإضافة إلى الرقيق المشترى ممن
أنعم عليه أسياده بالعتق، وتركز وجود هؤلاء فى قرطبة خاصة
وفى كورة البيرة (غرناطة) وفى جهات متفرقة من أنحاء الأندلس،(7/86)
وقد شدوا من أزر العرب أولا ثم انقلبوا عليهم وظهر من بينهم قادة
من أمثال بنى عبدة وبنى شهيد وبنى مغيث وبنى جهور.
(5) الصقالبة: كان يقصد بهذه الكلمة أولا الشعوب السلافية، ثم أصبح
العرب يطلقونها على الأرقاء الذين يجلبون من الأمم المسيحية
ويستخدمون فى القصر أو الجيش، عن طريق الشراء بواسطة تجار
اليهود أو عن طريق الحملات العسكرية، وأول من استجلب الصقالبة
«عبدالرحمن بن معاوية» ثم استكثر الأمراء منهم بعد ذلك حتى كونوا
جماعة كان لها دور عظيم فى أحداث الأندلس، ووصلت أعدادهم إلى
ثمانية عشر ألفًا فى قرطبة وحدها، وبلغوا أقصى نفوذ لهم فى
عهد «عبدالرحمن الناصر».
هذه هى العناصر الإسلامية، وإلى جانبها وجد فى المجتمع
الأندلسى عنصران من غير المسلمين أو من أهل الذمة هما:
(1) النصارى: وشكل هؤلاء عددًا كبيرًا، استوطن أعداد كبيرة منهم
مدنًا وقرى كثيرة فى الأندلس واستقر فى «طليطلة» و «برشلونة»
و «غرناطة» و «ماردة» وتمتعوا جميعًا بالرعاية ومنحتهم الدولة الحرية
الكاملة دينية واجتماعية حتى أنشئ لهم منصب لإدارة شئونهم عرف
صاحبه بالقومس.
ووصل بعضهم إلى المناصب العليا فى الدولة، وتأثر هؤلاء بدورهم
بثقافة العرب ولغتهم وأسلوب حياتهم وأصبحوا لهذا يسمون
بالمستعربين.
(2) اليهود: وقد استوطن عدد كبير منهم فى قرطبة ولهم فيها باب
يعرف باسمهم، وسكن عدد كبير آخر فى «إشبيلية» ولهم مشاركة
ملحوظة فى فتح الأندلس وفى أحداثها السياسية وفى إدارة المدن
المفتوحة، كما استوطنت جماعة كبيرة منهم فى «طليطلة» وفى
«برشلونة» وفى «طركونة»، وقد مارس جميعهم شعائرهم الدينية
فى بيعهم بكل حرية، وكانت علاقاتهم بالمسلمين طيبة فاندمجوا
فى المجتمع الإسلامى وتعلموا العربية وتبنوا تقاليد المسلمين، وعمل
بعضهم فى بلاط الأمويين وتولوا مناصب مهمة فى الدولة الإسلامية،
واحتل بعضهم الطبقات العليا فى المجتمع الأندلسى.
المظاهر الحضارية:(7/87)
نظم الحكم خلال عصرى الإمارة والخلافة:
- رئاسة الإقليم:
كانت الأندلس تتبع إفريقية عقب الفتح مباشرة، وكان والى إفريقية
يقوم باختيار حاكم الأندلس، ثم رأى الخليفة «عمر بن عبدالعزيز» أن
تكون الأندلس ولاية مستقلة تتبع الخلافة مباشرة إدراكًا منه لأهمية
الأندلس، وللدور الذى تقوم به فى الفتوحات ولصراعها مع ملوك
الفرنجة. ولما توفى «عمر بن عبدالعزيز» عاد تعيين والى «الأندلس»
إلى والى إفريقية لكن بمصادقة الخليفة، وبعد وقعة بلاط الشهداء
عادت الخلافة إلى تعيين والى «الأندلس» من جديد، ولما اضطربت
الأمور أصبح والى إفريقية هو الذى يعينه حينًا وأحيانًا جماعة
الزعماء والقادة فى شبه الجزيرة، فقد استقر رأيهم مثلا على تعيين
يوسف بن عبدالرحمن الفهرى سنة (129هـ= 747م) خشية تفاقم الفتن
دون مصادقة لا من والى إفريقية ولا من الخلافة.
ثم جاء بنو أمية لحكم الأندلس واكتفوا بلقب الإمارة، برغم أن بلاطهم
كان ينافس بلاط العباسيين فى قوته وبهائه إلى أن جاء عهد
«عبدالرحمن الناصر» ورأى أن الأوضاع قد تغيرت وأن الفاطميين قد
أقاموا لهم خلافة فى المغرب فأصدر مرسومًا بتحويل الإمارة الأموية
إلى خلافة، وتلقب هو نفسه بلقب أميرالمؤمنين، وبلغت الخلافة
الأندلسية أوج نفوذها السياسى والأدبى فى عهد الناصر وابنه
الحكم المستنصر، ثم جاء «محمد بن أبى عامر» فجعل نفسه حاكمًا
مطلقًا على الأندلس واتخذ سمات الملك وتلقب بالحاجب المنصور،
وأضحت الخلافة فى زمنه وزمن أبنائه اسمًا بلا مسمى.
ثم تبوأ «محمد بن هشام» الملقب بالمهدى الخلافة لتنتهى ثنائية
السلطة بين الأمويين والعامريين، لكن ذلك كان بداية فترة مشحونة
بالفتن والفوضى، وقامت خلافة فى أكثر من مدينة فى مالقة
وقرطبة وإشبيلية وغيرها، وانتهى الأمر بتمزق الأندلس إلى ولايات
ومدن مستقلة وظهور ما يعرف بدول الطوائف.
الوزارة فى الأندلس:(7/88)
لم يلجأ الأمويون فى الأندلس إلى نظام الوزارة باختصاصاته التى
يعرفها المشارقة، واعتمدوا فى تسيير أمور دولتهم على رجال من
البيوت الشهيرة دون أن يمنحوهم ألقابًا بعينها، حتى قادة الجيوش
حملوا لقب القائد فى زمن الحملة العسكرية فقط، ولكن ظهور
شخصيات بارزة جعل من الضرورى أن تختص تلك الشخصيات بمهام
وألقاب محددة، لهذا أصبح «عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث» قائد
الجيوش، وحمل مع ذلك لقب الحاجب، وتولى كل اختصاصات رئيس
الوزراء فى المشرق، وأضحت الحجابة هناك مثل رئاسة الوزارة
وأصبح الحاجب الشخصية الثانية بعد الأمير، كذلك تم توزيع المهام
الإدارية بين رجال البيوتات المشهورة، فهذا خازن (وزير المالية) وهذا
للأمن (الشرطة الداخلية) وهذا للمنشآت (الأشغال العامة).
وحمل هؤلاء لقب الوزير على أنه تشريف، ومنذ أيام «عبد الرحمن
الأوسط» أصبح وزير الأندلس له نفس مهام واختصاصات الوزير فى
المشرق، كما كان هناك وزراء دولة يكلفهم الأمير بما يشاء فى أى
وقت.
أما أهل البيوتات الذين شغلوا هذه المناصب فهم موالى بنى أمية
وفروعهم، ثم انضمت إلى هؤلاء أسر قربها الأمراء، بعضها عربى
وبعضها مولد أو مستعرب وكثير من هؤلاء من أصول بربرية من ذوى
الكفاءات.
وللأمويين أسلوبهم فى إقالة الوزراء، ذلك أن من ترفع وسادته من
بيت الوزارة يعتبر مقالا، وأحيانًا كان يمنح بعض الموظفين الكبار
مثل حاجب المدينة أى المحافظ لقب الوزير، وعندئذٍ كان يدعى الوزير
صاحب المدينة.
وكانت الوظيفة الكبيرة فى الأندلس يطلق عليها لقب «خطة» فيقال
«خطة الوزير» أو «خطة الكتابة» (الإنشاء) أو خطة المظالم
(الشكاوى) أو «خطة القيادة»، وكانت خطة القيادة من الخطط
الكبرى، ويقصد بها قضاء قرطبة أو الجماعة، ولايتولى صاحبها
قضاء قرطبة وحدها بل له حق تعيين القضاة أو عزلهم فى المدن
والأقاليم الأخرى، وهؤلاء يعتبرون نوابًا عنه ويعتبر هو مرجعهم،(7/89)
وقاضى الجماعة هو الشخصية الثالثة بعد الأمير والحاجب، ولذا تطلب
الأمر التدقيق عند اختياره، ورغم مكانة القاضى، فإن الكثيرين لم
يرغبوا فى شغل هذا المنصب؛ لأنهم قد يجدون حرجًا فى أداء مهام
وظيفتهم ضد كبار الموظفين أو مع أمير لا ترضيه أعمالهم الحريصة
على العدالة وحدها.
وفى أواخر عهد الدولة العامرية تولى الصقالبة الخطط الكبرى، ثم
تولى الفتيان العامريون الحجابة لآخر الخلفاء الأمويين، واستبدوا بعد
ذلك برئاسة المدن والولايات، وظهر فى عهد الدولة العامرية بدعة
جديدة هى إسناد الحجابة إلى الأطفال، فقد استصدر عبدالملك - مثلا
- أمرًا من الخليفة «هشام» المغلوب على أمره بتعيين ولده الطفل
«محمد» فى منصب الحجابة ولقبه بذى الوزارتين، كذلك استحدث
بالوزارة عدة خطط جديدة مثل خطة خدمة الأسلحة وخدمة الوثائق
وخطة خزانة الطب والحكمة .. الخ.
الجيش والأسطول:
عبر إلى شبه الجزيرة جيش الفتح مكونًا من العرب والبربر، وقام
البربر بدور مهم فى تكوين قوى الأندلس دفاعًا وهجومًا، ولما كون
عبدالرحمن الغافقى جيشه بهدف غزو بلاد الفرنج، كان البربر من
عناصره المهمة، وبقيت القيادة بيد الضباط العرب، ثم ظهر خلاف بين
العرب والبربر، بسبب إحساس البربر باستيلاء العرب على القيادة
لأنفسهم فقط، ثم كانت ثورة البربر فى المغرب وانتقال بلج بن بشر
القشيرى إلى الأندلس الشىء الذى رجح كفة العرب، غيرأن الجيش
الأندلسى ما لبث أن انقسم إلى العرب الشاميين وأنصار «بلج»
والعرب والبربر المحليين، وقامت الحرب الأهلية، إلى أن جاء يوسف
بن عبدالرحمن الفهرى فأعاد تنظيم الجيش وأصلحه، وجعله جيشًا
أندلسيا، يغزو ويرد هجمات نصارى الشمال.
ثم جاء «عبدالرحمن الداخل» فاهتم بالجيش غاية الاهتمام، وبلغت
جنوده المتطوعة والمرتزقة (100) ألف مقاتل، بخلاف الحرس الخاص
الذى تكون من (40) ألفًا من الموالى والرقيق والبربر.(7/90)
وكذلك وضع «عبدالرحمن الداخل» نواة الأسطول الأندلسى؛ لأنه أقام
قواعد لبناء السفن فى بعض الثغور النهرية والبحرية، أما قيام
الأسطول الأندلسى فيعود إلى ما بعد ذلك عندما قام النورمانيون
بغزو ثغور الأندلس فعنيت الحكومة بأمر الأسطول وإنشاء السفن
وبالتحصينات البحرية، كما أقامت أكبر دار لصناعة السفن فى مياه
الوادى الكبير تجاه إشبيلية.
وقد اكتسب الجيش كثيرًا من الدربة والمران فى تعامله المستمر مع
الثورات والغزوات، وقد بذل الناصر جهدًا كبيرًا لتقويته، ومنحه غاية
الاهتمام، ووفر له الأسلحة والعتاد، وفى الوقت نفسه اهتم بالأسطول
وأنشأ له وحدات جديدة، وجعل مدينة ألمرية مركزه الرئيسى، وبنى
بها أكبر دار صناعة، ووصل عدد الوحدات فى زمنه إلى (200) سفينة
مختلفة الأحجام والأنواع، بخلاف أسطول آخر خصص لشئون المغرب
البحرية، وكان أسطول الناصر من أقوى الأساطيل، سيطر به على
مياه إسبانيا الشرقية والجنوبية.
وفى عهد المنصور بن أبى عامر وصل الجيش الأندلسى إلى أقصى
قوته وضخامته، وقد اعتمد على البربر الذين استقدمهم من بلاد
المغرب وغمرهم بعطاياه، وكان فى جيشه كثير من المرتزقة
والنصارى من المستعربين، وقد بنى المنصور للأندلس قوة لم تعرفها
لا من قبل ولا من بعد، وبلغ عدد الفرسان فى زمنه (12100)، وعدد
الرجالة (26000) وهذا هو الجيش المرابط الذى كان يتضاعف وقت
الصوائف، وقد وصل فى إحداها إلى (46000)، وزاد عدد المشاة
حتى تجاوز المائة ألف.
وقد نجحت القوات الإسلامية فى السيطرة على مناطق الحدود؛ بفضل
ما تمتعت به من قوة واستعداد، وكانت الخلافة حريصة على أن توفر
لها الأسلحة والمؤن وكل ما تحتاج إليه، وكان بعض الحصون فى
هذه الأماكن أشبه ما يكون بمدينة كاملة.
وإلى جانب جيش الحدود كان هناك جيش آخر يقيم فى الزهراء يسمى
جيش الحضرة يقوده الخليفة بنفسه أو من ينيبه، وإذا خرج الخليفة
بنفسه جمع بين قيادة الجيشين.(7/91)
وإذا جاء وقت النفير يأمر الخليفة بالاستعداد، فتبدأ عملية واسعة
النطاق تسمى «البروز»، وتتوافد الجنود من كل ناحية وتنزل فى
سهل فسيح يسمى «فحص السرادق» إلى الشمال من قرطبة، ثم
يؤتى بسرادق الخليفة ويوضع وسط الفحص، وتنصب فرق الجنود
خيامها ثم تقبل قوات المتطوعين حسبة لوجه الله تعالى، ويستمر
البروز شهرًا، ثم يخرج الخليفة بجيشه، وينتقل من حصن إلى حصن
حتى يصل إلى الحدود فينضم إليه جيش الثغور، وهنا تبدأ الصائفة-
أى العملية العسكرية الصيفية التى تستمر شهرين أو نحوها- فى
غزوها لأراضى العدو.
الموارد الاقتصادية:
لما فتح المسلمون شبه الجزيرة، فرضت الضرائب على أساس
المساواة بين الناس دون تمييز بين طبقة وأخرى، وكان خراج
الأراضى الزراعية والجزية على أهل الذمة وأخماس الغنائم هى
الموارد الرئيسية للدخل، وقد قام «يوسف الفهرى» بتقسيم الأندلس
إلى خمس ولايات وفرض على كل ولاية أن تقدم ثلث دخلها ورفع
الجزية عمن توفوا من النصارى، ومنحت الحكومة اهتمامًا كبيراً
للزراعة، وقد نجحت زراعة المسلمين بفضل التغيرات التى أدخلوها
على نظام ملكية الأراضى، وتنظيم عملية الرى فى الأندلس، والعناية
بالحدائق والمتنزهات وجلب المياه لها من الجبال.
وقد تنوعت الأراضى فى الأندلس بين أراضى خراجية للدولة،
وأراضى أحباس تتبع ولاية الأحباس (الأوقاف) ويشرف عليها قاضٍ،
وأراضى إقطاع بمعنى أن جيوش الأندلس كانت تتكون من قبائل
العرب والبربر التى كانت تقيم فى المدن والقرى على أساس
إقطاعها أراضيها، واستمر هذا النظام معمولا به حتى آخرعهد
«المنصور بن أبى عامر» وإن ظل الإقطاع سائدًا فى مناطق الثغر
الأعلى خاصة. بالإضافة إلى هذا وجدت الملكيات الخاصة التى كانت
تأتى عن طريق الوراثة أو الهبة أو الشراء.
أما المحاصيل الزراعية فأبرزها: التمور والحبوب بأنواعها والفواكه
والزيتون وقصب السكر والموز والعنب والتفاح والرمان والبرتقال،(7/92)
ومحاصيل أخرى مثل: القطن والكتان والتوت ونبات الحلفاء، وقد
جلبت بعض هذه المحاصيل من المشرق وأدخلت تحسينات على ما كان
قائمًا منها زمن الرومان.
كذلك اهتمت الإدارة الأندلسية بالرعى وتربية الماشية، وعنيت بتربية
البغال باعتبارها الوسيلة المثلى للنقل، والخيول والإبل والغنم
والثيران والأبقار، ومما يعكس الاهتمام بالخيل وتربيتها أنه كانت
هناك خطة تسمى خطة الخيل يشرف عليها صاحب الخيل، وعرفت
الأندلس أيضًا مهنة صيد السمك فى السواحل الغربية والشرقية
والجنوبية وفى الأنهار الداخلية، ولهذا ازدهرت تجارة السمك فى
الأندلس.
وعرف المجتمع الأندلسى الصناعة، وراجت فيه صناعة الحدادة
والصياغة وحياكة المنسوجات والصباغة، والصناعات الجلدية
والخشبية، وصناعة الورق والسفن والأسلحة والسكة والأثاث والفخار
والآلات الموسيقية وصناعة ألوان معينة من الطعام كالجبن واستخراج
الزيت من الزيتون، وصناعة السلال والشمع والزجاج، كما وجد
أصحاب الحرف مثل: الفرانين والخياطين والنجارين والبنائين
والعطارين والجزارين والحبالين .. الخ، وكان على رأس كل فرقة
زعيم يسمى العريف أو الأمين يرتب أمورها وينظم العاملين فيها
درجات حسب مستوى إجادتهم.
ومن الطبيعى أن يكون فى الأندلس نشاط تجارى، وعناية بالأسواق
التجارية، فقد كان فى كل مدينة سوق رئيسى يتألف من عدد من
الأسواق، وكل طائفة من التجار تتخذ لها مكانًا يجلسون فيه
متجاورين، وكانت هناك أسواق للحيوانات وأخرى للنخاسة .. الخ،
وقد اهتمت الدولة بإقامة شبكة من الطرق البرية والنهرية الداخلية
تربط المدن بعضها ببعض لخدمة التجارة.
وتعامل التجار مع بعضهم عن طريق تبادل السلع، وأحيانًا عن طريق
استخدام العملة، كما كانت الصكوك والسفاتج أو الحوالات من
الوسائل الشائعة الاستخدام فى الأندلس، وكانت السمسرة من
أساليب التعامل الرائجة فى الأسواق، وقام بها اليهود فى الغالب،(7/93)
كما كانت وحدات الكيل والميزان من أهم وسائل التعامل التجارى،
وكان يشرف عليها صاحب السوق، يتفقد العمل فى الأسواق يعاونه
مجموعة من الموظفين يمتحنون الباعة بأساليب مختلفة لمعرفة مدى
التزامهم بالطرق المشروعة بيعًا وشراءً.
وعرفت الأندلس التجارة الخارجية التى تقوم على الصادرات
والواردات، فقامت بتصدير التين إلى بعض بلاد المشرق وإلى الهند
والصين، والقطن إلى بلاد الشمال الإفريقى، وصدَّرت الزيت إليها
وإلى الدويلات النصرانية فى الشمال ومن الصادرات الأندلسية: الحرير
ومواد الصباغة وأنواع معينة من المنسوجات والعنبر والطيب وبعض
المعادن وبعض الحيوانات.
أما واردات الأندلس فقد تركزت على الأشياء الثمينة والتحف النادرة
وبعض المنسوجات الشرقية والصمغ والمواد الغذائية وأهمها القمح.
كما استوردت التمور والفستق والذهب، وكان التعامل مع المغرب
خاصة يتم بحرية تامة بصرف النظر عن الاختلافات المذهبية أو
السياسية أحيانًا، كما كانت العلاقات وثيقة بين الأندلس وبين بلاد
المشرق الإسلامى، وتمت إقامة طرق برية وأخرى بحرية لربط الأندلس
بالعالم الخارجى والاتصال به اقتصاديًا وفكريًا، وكانت الضرائب
تجبى من التجارة الداخلية والخارجية.
الحركة الفكرية:
لا يوجد فى عصر الولاة إلا بعض الآثار الشعرية القليلة التى وردت
على ألسنة الزعماء أو الولاة.
وجاء «عبدالرحمن الداخل» وخلف آثارًا من النثر والنظم تعكس تفوقه
فى هذا الميدان، وكان الداخل فوق براعته الأدبية عالمًا بالشريعة،
وجاء بعده ابنه «هشام» فكان مبرزًا فى الحديث والفقه، وغلب
الطابع الدينى على النهضة العلمية فى هذه المرحلة، ثم رحل تلاميذ
الأندلس إلى المشرق وتتلمذوا على الإمام مالك ونقلوا عنه كتابه
«الموطأ»، وعادوا إلى الأندلس فنشروا مذهب إمامهم بتلك البلاد،
وكان الأمير هشام يجل الإمام مالك فساعد ذلك على التمكين لمذهبه
فى الأندلس.(7/94)
وفى عهد الحكم بدأت تظهر بوادر النزعة الأدبية إلى جانب العلوم
الدينية، وظهر الأدباء والشعراء إلى جانب المحدثين والفقهاء، كما
وجد من نبغ فى النحو والعروض والأخبار والأنساب وغيرها. وكان
الأمير الحكم نفسه أديبًا شاعرًا، وعرف الأندلس فى زمنه شعراء
مبرزين من أمثال العالم عباس بن فرناس ويحيى الغزال الجيانى.
أما فى عهد «عبدالرحمن بن الحكم» فقد بلغت هذه الحركة الفكرية
الأولى ذروتها وظهر كتاب مُبرزون ومفسرون ومحدثون وفقهاء
وشعراء، وكان الأمير نفسه يتمتع بمواهب أدبية وشعرية، وانتشرت
اللغة العربية بين طائفة النصارى المعاهدين، وبرز بعضهم فى
الكتابة.
وشهد عهد الأمير «محمد بن عبدالرحمن» نهضة أدبية وشعرية، ومن
أشهر من ظهروا خلال هذه الفترة الشاعر «عباس بن فرناس» والأديب
الفقيه «أبو عمر أحمد بن عبد ربه» صاحب الكتاب المشهور «العقد
الفريد»، الذى يعتبر من أمتع كتب الأدب العربى، وكان الأمير عبدالله
أيضًا شاعرًا بارعًا فى العربية حافظًا للغريب من الأخبار.
أما عصر «عبدالرحمن الناصر» فقد زهت فيه العلوم والآداب، وراجت
فيه سوق العلم، وظهر أكابر العلماء والشعراء من أمثال «ابن عبد
ربه» المشار إليه آنفًا، و «محمد بن عمر بن لبانة» الذى انفرد بالفتيا
وحفظ أخبار الأندلس وولى الصلاة فى المسجد الجامع، وكان له حظ
موفور فى الفقه والنحو والشعر، ومن محاسن هذا العصر «أبو
الحسن جعفر بن عثمان» المعروف بالمصحفى، البليغ المتميز فى
النظم والنثر، ومن أعلام هذه الفترة القاضى «منذر بن سعيد
البلوطى»، البارع فى علوم القرآن والسنة، والمعروف بجودة خطابته
وفصاحته وجزالة شعره، وغير هؤلاء كثيرون، وقد اتخذ الناصر عددًا
كبيرًا من هؤلاء العلماء والأدباء حجابًا له ووزراء، مثل موسى بن
محمد بن حدير وعبدالملك بن جهور.
ومن أعظم شعراء عصر «الناصر» أبو القاسم محمد بن هانئ الأزدى(7/95)
الإشبيلى الذى غادر الأندلس ولحق ببلاط الخليفة المعز الفاطمى فى
المهدية بسبب اتهامه بالكفر والزندقة.
وكان الخليفة نفسه أديبًا يهوى الشعر وينظمه ويدنى إليه العلماء
والأدباء.
وظهر فى عهد الناصر أعلام المؤرخين الذين وضعوا أسس الرواية
التاريخية الأندلسية، وفى مقدمتهم أحمد بن محمد بن موسى الرازى،
ومعاصره أبو بكر محمد بن عمر المعروف بابن القوطية وأحمد بن
موسى العروى ..
واستمرت النهضة الفكرية وازدادت قوة فى عهد الخليفة الحكم
المستنصر، وكان نفسه أديبًا عالمًا، ولذلك أقام جامعة قرطبة،
وحشد لها الأساتذة، وأنشأ المكتبة الأموية الكبرى، وبذل جهودًا
خارقة وأموالاً عظيمة حتى يجمع لها آلاف الكتب فى مختلف العلوم
والفنون، وظهرت أيضًا المكتبات العامة والخاصة، واحتشد حول بلاط
الحكم مجموعة من أكابر العلماء منهم «أبو على القالى»، والأديب
المؤرخ «محمد بن يوسف الحجارى»، والفيلسوف «ربيع بن زيد» ..
الخ.
ومن شعراء بلاط الحكم المعدودين: طاهر بن محمد البغدادى، ويحيى
بن هذيل، ويوسف بن هارون الرمادى القرطبى، الهجَّاء المعروف
بأبى جنيش.
وممن نبغ فى هذه الفترة: أعظم علماء اللغة فى الأندلس «أبو بكر
محمد بن الحسن الزبيدى» النحوى الإشبيلى.
أما المستنصر نفسه فلم يكن متمكنًا فى علم الأنساب وفى العلوم
الشرعية فحسب وإنما كان أديبًا شاعرًا ينظم الشعر الجيد.
أما المنصور بن أبى عامر فقد كان بحكم نشأته عالمًا متمكنًا فى
علوم الشريعة والأدب، وكان محبا لمجالس العلماء والأدباء، وبلغ به
الأمر أن يصطحب معه طائفة من الشعراء والأدباء فى غزواته، وكان
أبو العلاء صاعد بن حسن البغدادى شاعره الأثير، وكان ذلك الرجل
فوق شاعريته متمكنًا فى اللغة والأدب والتاريخ، وهو الذى أجازه
المنصور بخمسة آلاف دينار على كتاب ألفه فى التاريخ والأدب وأمر
بقراءة كتابه فى مسجد الزاهرة.
ومن أعظم شعراء الأندلس فى عهد المنصور «أبو عمر أحمد بن محمد(7/96)
بن دراج القسطلى» الذى قال عنه «ابن حزم»: «لم يكن فى الأندلس
أشعر من ابن دراج».
ومن أكابر الفقهاء والحفاظ عبدالرحمن بن قطيس قاضى الجماعة فى
قرطبة، وكان إمامًا فى الحديث والسير والأخبار، شغوفًا بجمع
الكتب، مشهورًا بالصلابة فى الحق.
ومن الطبيعى أن تنكمش الحركة الفكرية بعد سقوط الخلافة، لانشغال
الأمة بما دهاها من الفتن، ومع ذلك فقد كان بين الخلفاء والولاة خلال
هذه الفترة من يتذوق الشعر وينظمه من أمثال الخليفة المستعين،
والخليفة المستظهر وغيرهما.(7/97)
الفصل السادس
*عصر ملوك الطوائف
(400 - 484هـ = 1009 - 1091م).
ترتب على سقوط الخلافة والدولة الأموية انقسام الأندلس إلى دويلات
متنازعة، واستقلال كل أمير بناحيته، وإعلان نفسه ملكًا، ودخلت
البلاد بذلك فى عصر جديد عرف باسم عصر ملوك «الطوائف» أو عصر
الفرق.
وقد انضوت هذه الدويلات تحت مظلة أحزاب ثلاثة كبيرة عمل كل منها
على بسط سلطانه على كل الأندلس.
1 - حزب أهل الأندلس:
ويقصد بهم من استقروا فى البلاد من قديم الزمان وصاروا أندلسيين
بمرور الزمن بصرف النظر عن أصلهم العربى أو المغربى أو الصقلى
أو الإسبانى، وقد أطلق على هؤلاء مصطلح أهل الجماعة، ومن
هؤلاء:
بنو عباد اللخميون فى إشبيلية، وبنو جهور فى قرطبة، وبنو هود
الجذاميون فى سرقسطة، وبنو صمادح أو بنو تجيب فى ألمرية،
وبنو برزال فى قرمونة، وعبد العزيز بن أبى عامر فى بلنسية .. الخ.
2 - حزب البربر أو المغاربة: حديثوا العهد بالأندلس وهم الذين استقروا
بها منذ زمن المنصور بن أبى عامر، ومن هؤلاء بنو زيرى
الصنهاجيون فى غرناطة، وبنو حمود الأدارسة العلويون فى مالقة.
3 - حزب كبار الصقالبة:
الذين استقلوا بشرقى الأندلس، ومنهم مجاهد العامرى الذى استقل
بداتية والجزر الشرقية وغيرها، وخيران العامرى زعيم حزب الصقالبة
فى قرطبة أثناء الفتنة، وكل واحد من هذه الأحزاب حرص على أن
يبحث لنفسه عن غطاء روحى فأقام خليفة بجواره يستمد منه
سلطانه، فبنو عبَّاد جاءوا بشخص اسمه خلف الحصرى، كان شديد
الشبه بهشام المؤيد المشكوك فى موته، فجعلوه خليفة صاحب
الجماعة، ثم أظهر المعتضد بن عباد موته عام (455هـ= 1053م)،
وأعلن أنه منحه ولاية العهد وأنه الأمير بعده على كل الأندلس
بمقتضى هذا العهد.
أما الحزب المغربى فقد تولى خلافته بنو حمود بالنظر إلى أصلهم
العربى الشريف، ولكن هؤلاء انقسموا على أنفسهم وصار كل واحد
منهم يزعم الخلافة لنفسه، ويتخذ ألقابها مثل المهدى والعالى(7/98)
والمستعلى .. الخ، وانتهى الأمر باستيلاء بنى زيرى ملوك غرناطة
على مالقة، وبنى عباد على الجزيرة الخضراء وانتهى بذلك ملك
الحموديين.
أما حزب الصقالبة فقد أقام مجاهد العامرى فى مملكته بداتية والجزر
الشرقية خليفة أمويا هو الفقيه أبو عبدالله بن الوليد المعيطى الذى
لقبه بالمنتصر بالله.
لكن مجاهد مالبث أن طرده ونفاه إلى بلاد المغرب عندما علم أنه
تآمر عليه أثناء غزوه لجزيرة «سردينيا «.
وقد اصطدمت مصالح هؤلاء جميعًا لقرب المسافات بينهم، وهذا وضع
جعل المراكشى يسخر منه فيقول:
» وصار الأمر فى غاية الأخلوقة (الأضحوكة) والفضيحة، أربعة كلهم
يتسمى بأمير المؤمنين فى رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخًا
فى مثلها «.
كما كان جديرًا بتندر ابن حزم الذى علق عليه بقوله:
» واجتمع عندنا بالأندلس فى صقع واحد خلفاء أربعة، كل واحد منهم
يخطب له بالخلافة بموضعه، وتلك فضيحة لم ير مثلها، أربعة رجال
فى مسافة ثلاثة أيام كلهم تسمى بالخلافة، وإمارة المؤمنين «.
تجرى الأمور على هذا النحو المرير بالأندلس فى الوقت الذى كانت
تعمل فيه دول إسبانيا المسيحية فى شمال البلاد على توحيد
صفوفها تساندها فرنسا والبابوية فى روما.
وما إن زالت الدولة الأموية من الأندلس حتى تغلغل النفوذ الفرنسى
بكل صوره، سياسية وثقافية ودينية فى الشمال الإسبانى باعثًا
روحًا صليبية جديدة ضد المسلمين.
وكان يحكم إسبانيا المسيحية فى هذه الآونة رجل طموح هو الملك
«ألفونسو السادس» ملك قشتالة، نجح فى توحيد مملكتى قشتالة،
وليون، وسيطر على الممالك المسيحية الشمالية، وتوَّج جهوده
العسكرية باحتلال «طليطلة» عاصمة الثغر الأدنى للمسلمين سنة
(478هـ = 1085م)، رغم تميزها بموقع منيع.
وكان سقوط مدينة «طليطلة» فى أيدى الإسبان كارثة كبرى
للمسلمين؛ لأن العدو احتل الأراضى الواسعة التى تمتد جنوبًا حتى
جبال قرطبة، وأطلق على هذه المنطقة الجديدة اسم «قشتالة(7/99)
الجديدة» وبذلك تمزقت بلاد المسلمين وانشطرت إلى قسمين.
ولم يكتف «ألفونسو السادس» بما حققه، وإنما اتجه بتحريض من
الفرنسيين إلى مدينة «سرقسطة» عاصمة الثغر الأعلى وحاصرها
بهدف الاستيلاء عليها، وأخذ يضرب ملوك الطوائف بعضهم ببعض،
ويهاجم أراضيهم ويطالبهم بالأموال كى يضعفهم عسكريا
واقتصاديا.
وعلى الرغم من هذه الصورة القاتمة سياسيا واجتماعيا فإنه مما
يلفت النظر أن تزدهر العلوم وترتقى الآداب والفنون فى عصر ملوك
الطوائف؛ لأن معظم هؤلاء الملوك والرؤساء كانوا من العلماء والأدباء
والشعراء، وكانت قصورهم مجامع للعلوم والآداب، وكلها تزهو لا
بفخامتها وروعتها بل بأمرائها ووزرائها وكتابها، وقد بلغ الشعر
الأندلسى فى زمن ملوك الطوائف شأوًا لم يصل إليه فى أى عصر
آخر.
وقد تميزت قصور ثلاثة بصفة خاصة بمشاركتها فى النهضة الأدبية
والشعرية، وهى قصور بنى عباد بإشبيلية، وبنى الأفطس فى
بطليوس، وبنى صمادح فى ألمرية، وقد برز من بنى عباد: المعتضد
بن عباد وولده المعتمد، ولمع فى بلاطهم كثير من الشعراء والوزراء
والكتاب، وظهر فى بلاط بنى الأفطس «أبو محمد عبدالمجيد بن
عبدون»، و «أبو بكر» و «أبو محمد» و «أبو الحسن» أبناء عبدالعزيز
البطليوسى، كما اجتمع حول بنى صمادح عدد من أقطاب الأدب
والشعر منهم ابن القزاز وابن الحداد والوازى آشى وغيرهم، أما بنو
هود فى سرقسطة فقد نعم بحمايتهم واشتهر فى ظلهم الشاعر أحمد
بن محمد ابن دراج القسطلى.
وعرف هذا العصر مجموعة من العلماء الكبار الذين وصلوا إلى القمة
من حيث النضج الفكرى والمستوى العلمى، من هؤلاء ابن حزم وأبو
الوليد الباجى، واللغوى ابن سيده، واللغوى الجغرافى أبو عبيد
البكرى، والعلامة ابن عبدالبر، ومجاهد العامرى صاحب داتية، ومحمد
بن أحمد بن طاهر صاحب مرسية، ومن أكابر الفلكيين والرياضيين
الذين أفادوا الغرب ببحوثهم أبو إسحاق إبراهيم يحيى الزرقالى،(7/100)
وأبو القاسم إصبغ بن السمح الغرناطى، وقد اشتهر الأول بجداوله
الفلكية التى صحَّحت كثيرًا مما جاء فى الجداول القديمة، أما الآخر
فكان بارعًا فى الهندسة والفلك، والرياضيات، ومن كبار العلماء
الذين عنوا بالتاريخ وتدوين الحوادث والترجمة للأعلام ابن حزم،
والمؤرخ الكبير أبو مروان حيان بن خلف بن حيان، وأبو عبدالله
الحميدى، وأبو الحسن على بسام الشنترينى صاحب كتاب «الذخيرة
فى محاسن أهل الجزيرة»، والكاتب القدير والمؤرخ الأديب الفتح بن
خاقان، وكما ارتقت العلوم والآداب ازدهرت الفنون والصناعات فى
عهد ملوك الطوائف، خاصة ما يتعلق بالموسيقى والغناء وآلات
الطرب.
وإذا كان يعرف عن أهل الأندلس اهتمامهم بكل ما يتعلق بتربية
الماشية، وفلاحة الأرض، وتنظيم الرى وأحوال الجو، وخواص النباتات
وإنشاء الحدائق فإنه ينبغى الإشارة إلى ظهور عدد من علماء النبات
والزراعة فى عهد ملوك الطوائف، لاسيما فى طليطلة وإشبيلية منهم
ابن وافد وابن بصال، وأحمد بن محمد حجاج، وابن لونكو فى قرطبة
وغير هؤلاء.
وكانت الصناعات رائجة خلال عصر الطوائف وأشهرها بصفة خاصة،
وكان فى ألمرية وحدها خمسة آلاف مصنع تنتج أجمل أنواع الأقمشة
وأفخمها، وكانت السفن تأتى من بلاد المشرق ومن الثغور الإيطالية
إلى الموانئ الأندلسية فى إشبيلية وألمرية وبلنسية وداتية
وسرقسطة تحمل بضائع المشرق، وتعود محملة بما تستورده من
السلع الأندلسية، وكانت التجارة الخارجية مصدرًا مهما من مصادر
دخل دول الطوائف ذات الثغور.(7/101)
الفصل السابع
*الأندلس فى ظل المرابطين
[484 - 539 هـ = 1091 - 1144 م].
وصلت دولة المرابطين فى المغرب إلى أقصى قوتها وبلغت أكبر
اتساع لها على يد مؤسسها الحقيقى «يوسف بن تاشفين»، وكان
أصحابها من البواسل الشجعان ذوى الطباع السليمة والعزائم القوية
التى لم يفسدها الضعف والهوان، فهم ممن يؤمل نجدتهم ويرجى
غوثهم.
وكانت حال الأندلس فى العدوة الأخرى تعانى سيطرة ملوك النصارى
وسطوتهم واستغاثة ملوك المسلمين بهم وإرهاق هؤلاء لهم بالجزية
وبما يفرضون عليهم، وتعسفهم فى مطالبة الولاة المسلمين بما
لاطاقة لهم به، وتكليفهم فوق طاقتهم، وعاد هؤلاء الملوك على
شعوبهم فأثقلوا كواهلهم وبالغوا فى تحميلهم ما لا قدرة لهم عليه،
واحتقر «ألفونسو» وغيره زعماء وقادة المسلمين حتى جثوا جميعًا
أمامه يستعطفونه ويرجونه قبول أحوالهم وهداياهم وهو يشتط
ويبالغ ويقول:
» أنا لا أرى فيكم إلا أنكم جماعة لصوص، فاللص الأول قد سرق
وجاء الثانى فسرق من الأول ما سرق، وجاء الثالث فسلب من الثانى
ما سرقه من الأول «.
وهم من ناحيتهم يبادرون بتهنئته وحمل الطرف والهدايا إليه
ويصرحون له بأنهم داخل حدود سلطانه ليسوا إلا جباة أموال لتحصيل
الضرائب ودفع الجزية.
وقد أخذ «ألفونسو السادس» يجتاح ويخرب مدنهم ومروجهم ويفتح
معاقلهم ويحطم حصونهم، ويضرب عليهم جميعًا ما يشاء من أموال
ويضاعفها فيؤدونها - بلا استثناء - وهم صاغرون، ثم أخذت المدن
تتساقط فى أيدى النصارى مدينة إثر مدينة.
إزاء هذا الوضع المتردى فكر الأندلسيون فى مخرج، ووجد رجال
الدين أن خير وسيلة هى دعوة المرابطين للعبور إلى بلادهم
وتخليصهم من الوضع المرير الذى بلغ القمة ولم يعد يحتمل المزيد، أما
الملوك والأمراء فقد ترددوا أول الأمر ورأوا فى ابن تاشفين مناوئًا
خطيرًا أكثر منه عونًا ونصيرًا، وربما جاء إلى بلدهم فاستقر فيها
وطردهم منها، لكن «ابن عباد» صاحب «إشبيلية» قطع الشك باليقين(7/102)
قائلا إنه لا يريد أن تتهمه الأجيال المقبلة بأنه ترك الأندلس غنيمة فى
أيدى الكفار قائلا: «ولا أحب أن يعلن اسمى على منابر المسلمين
وعندى أن رعى الجمال خير من رعى الخنازير».
وقد أقنع المعتمد بن عبّاد بوجهة نظره كلا من المتوكل بن الأفطس
صاحب بطليوس و «عبدالله بن بلقين» صاحب غرناطة، وأرسلوا جميعًا
ومعهم العلماء والفقهاء وفدًا إلى «يوسف بن تاشفين» يستصرخونه
ويطلبون إنقاذهم.
كان من عادة زعيم المرابطين ألا يبرم أمرًا إلا بعد مشاورة الفقهاء،
وقد أشاروا عليه أن يبدأ بقتال القشتاليين، وأن تخلى له الجزيرة
الخضراء، فأمر يوسف بن تاشفين بعض فرسانه فعبروا من مدينة
سبتة على متن بعض السفن إلى الجزيرة الخضراء يقودهم «داود بن
عائشة»، وكان معهم جيش كثيف من الجنود، وأرسل المعتمد إلى
ابنه حاكم الجزيرة يطلب منه تركها وتيسير مهمة قوات المرابطين، ثم
تلاحقت الجنود بالجزيرة، وعبر «يوسف» نفسه، وعنى بتحصين
المدينة حتى اطمأن إلى أنها قد أصبحت فى حالة حسنة وبها من
المؤن والذخائر ما يكفيها، ثم سار فى معظم جيشه إلى «إشبيلية»؛
حيث خرج المعتمد للقائه وأحسن استقباله وقدم له من الهدايا ما يليق
بمقامه وما أكد ليوسف أن الأندلس تتمتع بغنى موفور وثراء متزايد،
وقد طلب ابن تاشفين من أمراء الطوائف المشاركة فى الجهاد، فلبى
الدعوة صاحب غرناطة وأخوه صاحب مالقة، وقصد الجميع نحو
بطليوس حيث لقيهم ملكها وأخذت وفود الرؤساء تتوافد من سائر
أقطار الأندلس وانتظمت القوات الأندلسية وحدة قائمة بذاتها، القيادة
فيها لابن عباد واحتلت المقدمة، بينما احتلت الجيوش المرابطية
المؤخرة.
موقعة الزلاقة:
واصلت القوات الإسلامية سيرها حتى نزلت على سهل فسيح يقع إلى
الشمال من مدينة بطليوس قرب حدود البرتغال الحالية تسميه المصادر
العربية بالزلاقة، فلما علم «ألفونسو السادس» بأخبار المرابطين ترك(7/103)
حصار «سرقسطة» وأرسل إلى «سانشوا» ملك «أراجون» يطلب
معونته، وكان بدوره يحاصر «طرشوشة» واستدعى قواته التى
كانت فى «بلنسية»، وحشد كل ما استطاع وجاءه المتطوعون من
جنوبى فرنسا وإيطاليا وحرص على أن يكون لقاؤه بالمسلمين فى
الأراضى الإسلامية، حتى لا تتعرض بلاده للتخريب ثم اتجه نحو الجنوب
للقاء المرابطين، وهو يمتلئ زهوًا ويتيه فخرًا بما معه ومن معه،
ونزل فى مكان يبعد نحو ثلاثة أميال عن معسكر المسلمين، وقدر
جيشه بما بين أربعين إلى ثمانين ألفًا على حين قدر الجيش الإسلامى
بما بين عشرين إلى نحو خمسين ألفًا، وكان يقود المقدمة المعتمد بن
عباد، وعلى الميمنة «المتوكل بن الأفطس» وتكونت الميسرة من أهل
شرقى الأندلس، أما المؤخرة فكانت من البربر بقيادة «داود بن
عائشة»، وكان أنجاد المرابطين من لمتونة وصنهاجة وغيرها بقيادة
يوسف بن تاشفين.
لبث الجيشان ثلاثة أيام لايفصلهما سوى نهر، والرسل تتردد بينهما،
وقد أرسل «ابن تاشفين» إلى خصمه يدعوه إلى الإسلام أو الجزية
أو الحرب، فاستاء الملك النصرانى ورد بقوله: «إنى ما كنت أتوقع
أن يصل الحد بالمسلمين الذين كانوا يعطوننى الجزية منذ سنين أن
يعرضوا على مثل هذه الاقتراحات الجارحة ومع هذا فإن لدى جيشًا
فى استطاعته أن ينزل العقوبة على هذه الوقاحة البالغة من
الأعداء» ولم يكن جواب «يوسف» أكثر من هذه العبارة» الذى
يكون ستراه «.
جرت اتصالات تهدف إلى تحديد موعد المعركة، وحاول «ألفونسو»
خديعة المسلمين، لكن المعتمد بن عباد أدرك خديعته، وقد أخبرته
طلائعه بما فى معسكر العدو من حركة وجلبة سلاح، رغم أن الوقت
المتفق عليه لبدء القتال لم يكن قد حان بعد.
وفى أوائل (رمضان 480هـ = ديسمبر 1087م) بدأ القتال فى الصباح
الباكر واشتد لهيب المعركة وهاجم النصارى بعنف مقدمة «المعتمد بن
عباد» ونجح فى ردها عن مواقعها واختل نظامها وارتد معظمها إلى(7/104)
بطليوس ولم يثبت إلا الإشبيليون وابن عباد الذى كان مثالا للشجاعة
والإقدام حيث صمد للعدو، وقاوم هجماته العنيفة رغم جرحه الذى فى
وجهه ويده، وهجم «ألفونسو» على مقدمة المرابطين التى يقودها
«داود بن عائشة» وردها عن مواقعها، وفى اللحظة المناسبة دفع
ابن تاشفين بقوات البربر إلى نجدة الأندلسيين والمرابطين، ونفذت
قواته إلى قلب النصارى بكل قوة، وسرعان ما تغير وجه المعركة،
لأن يوسف هاجم عدوه من الخلف مباغتة وهذا شجع الفارين فعادوا
ونظموا صفوفهم، وشدوا من أزر المعتمد، ورغم أن «ألفونسو» كان
قد وصل إلى خيام المرابطين، فإن ابن تاشفين تقدم على رأس من
معه من قوات وتجاوز جموع النصارى وقصد إلى معسكرهم نفسه
وهاجمه بشده وفتك بحراسته، ثم وثب إلى مؤخرة القشتاليين
النصارى، وأثخن فيهم قتلاً وطبوله تضرب فتشق أجواز الفضاء، ثم
أضرم النار فى معسكر الأعداء.
اضطر «ألفونسو» أن يستدير لينقذ معسكره؛ لكنه اصطدم بالمرابطين
ولم يصل إلى محلته إلا بعد خسائر فادحة، وكان «يوسف» أثناء
القتال يجول على صهوة جواده بين المحاربين يهيب بهم «أن
تشجعوا أيها المسلمون، أعداء الله أمامكم والجنة تننتظركم،
وطوبى لمن أحرز الشهادة».
وكان سماع النصارى لدوى الطبول ووقوف المسلمين يقاتلون فى
صفوف متراصة ثابتة من العوامل المساعدة على انتصار المسلمين
وإلحاقهم الهزيمة بصفوف عدوهم، وقد دفع «ابن تاشفين» بحرسه
الأسود البالغ عدده نحو أربعة آلاف إلى قلب المعركة فى الوقت
المناسب، وتمكن واحد منهم من الوصول إلى «ألفونسو» وطعنه فى
فخذه، الأمر الذى اضطره إلى الاعتصام بتل قريب حتى جن الليل ثم
هرب فى نحو خمسمائة فارس معظمهم من الجرحى ووصل إلى
طليطلة منهم مائة فقط.
أمضى المسلمون الليل يرقبون حركات النصارى وفى اليوم التالى
طارد الفرسان الفارين، وجمعت الأسلاب الهائلة.
وقد استبشر المسلمون فى شبه الجزيرة بهذا النصر العظيم غير أن(7/105)
وصول نبأ وفاة الأمير أبى بكر بن يوسف بن تاشفين كدر صفو
النصر، وجعل «ابن تاشفين» يقرر العودة إلى بلاد المغرب ومعه عامة
الجند، وترك تحت إمرة المعتمد جيشًا من المرابطين مؤلفًا من ثلاثة
آلاف جندى. بعد أن نجح «يوسف» بما حققه من نصر مؤزر فى إعادة
روح الثقة والأمل إلى نفوس المسلمين بالأندلس.
عودة ابن تاشفين إلى الأندلس:
عبر ابن تاشفين مرة أخرى إلى الأندلس فى رجب (483هـ = سبتمبر
1090م)، واتجه نحو حصن يسمى حصن «لاييط» وهناك تبين له تخاذل
أمراء الطوائف فعزلهم جميعًا ووحد الأندلس، ولم يستثن من ذلك إلا
إمارة سرقسطة، فقد كان أصحابها محاطين بالنصارى من كل
ناحية، وخشى ابن تاشفين أن يسلموها للنصارى إذا تعرض لهم
فتركهم بدون تدخل، وبهذا العبور الثانى ليوسف بدأ عصر المرابطين
فى الأندلس.
وعلى الرغم من قيام المرابطين بمسئولياتهم فى المغربين الأوسط
والأقصى فإنه كان من مهامهم الرئيسية الدفاع عن الإسلام فى
الأندلس، ففى هذا الميدان جاهدوا وأنفقوا، واستشهد فيه خيرة
رجالهم، وعرفوا كيف يثبتون لعدوهم ويوقفون تقدم النصارى، رغم
تكتل الأعداء واستعانتهم بملوك غربى أوربا وبالبابوية، ومن مواقع
المرابطين التى أبلوا فيها بلاء حسنًا موقعة «أقليسن» شرقى
طليطلة، وكان من نتائجها استيلاؤهم على هذه المدينة، وعلى مدينة
طلبيرة للمرة الثانية سنة (503هـ = 1109م)، كما تمكنت البحرية
المرابطية فى سنة (509هـ = 1115م) من استعادة جزر البليار، ولو
بقيت هذه الجزر بيد النصارى لأصبحت خطرًا يهدد شرق الأندلس كله.
وهذا لا يعنى أن المرابطين خلت أيامهم من الهزائم، فقد تعرضوا
لنكبة عند بلدة «كتندة» القريبة من سرقسطة فى (ربيع الأول 514هـ=
يونيو 1120م)، واستشهد منهم ألوف من بينهم بعض العلماء بسبب
تسرعهم فى الهجوم على العدو قبل أن تنتظم صفوفهم، فاختل
نظامهم وكانت الهزيمة، لكنهم حققوا نصرًا فى موقعة «أفراغة»(7/106)
جنوبى غربى «لاردة» بالثغر الأعلى فى سنة (528هـ = 1134م)،
يقودهم واحد من كبار رجالهم هو أبو زكريا يحيى بن غانية والى
بلنسية ومرسية.
وفى الوقت الذى يقوم فيه المرابطون بهذه المجهودات ويحققون
أعظم الانتصارات إذ بهم يفاجئون بثورة يقوم بها المصامدة بقيادة
«محمد بن تومرت» ضدهم فى بلاد المغرب. فكان سببًا فى توقف
الجهاد فى الأندلس وبدأت المدن تتساقط واحدة وراء الأخرى فى
أيدى النصارى، بسبب سحب القوات من الأندلس وهى فى أوج
انتصاراتها، وشغل المرابطون بالدفاع عن أنفسهم بالمغرب خاصة
بعد وفاة على بن يوسف بن تاشفين ثالث أمرائهم سنة (537هـ=
1142م)، وزاد الموقف سوءًا قيام بعض الأندلسيين بالثورات ضد
المرابطين وزعمهم أنهم أكثر رقيا وأعظم حضارة من هؤلاء الأفارقة.
النواحى الحضارية:
أما عن النواحى الفكرية والأدبية، فلم يكن المرابطون يرحبون
بمظاهر الحضارة الأندلسية، فخبا ضوء الفكر والأدب فى أيامهم،
وانتهت الحلقات الأدبية التى كانت تزدان بها قصور ملوك الطوائف،
وهذا لا يمنع من ظهور شخصيات عُدَّت امتدادًا لعصر الطوائف، يأتى
على رأس هؤلاء «ابن باجة» الطبيب الفيلسوف، وأبو بكر
الطرطوشى، والفتح بن خاقان، وابن بسام الشنترينى وأبو بكر بن
قزمان أمير الزجل الأندلسى وغيرهم.
وجدير بالذكر أن المرابطين حرصوا على تحرى الحق وتحقيق العدل
وإقامة شعائر الدين، وأقاموا مجتمعًا مسلمًا عمل على الجهاد فى
سبيل الله ونصرة دينه.
وكان بالأندلس قائد أعلى هو الحاكم العام غالبًا، وللمدن قادة
يخضعون لهذا القائد الأعلى ويتولون المهام العسكرية والإدارية
وغيرها، وكان اختيار الوالى يتم على أساس تقواه وعدالته وإجادته
لمهمته، وسرعان ما كان يعزل إذا فرط أو قصَّر، وقد قسمت الأندلس
زمن المرابطين إلى ست ولايات هى: إشبيلية وغرناطة وقرطبة
وبلنسية ومرسية وسرقسطة.
أما القضاء فقد بقى مستقلا، وكان القضاة يستشارون، ولهم(7/107)
مكانتهم عند الناس وعند الدولة.
وقد استمرت الصناعة أيام المرابطين على نحو ما كانت عليه من
قبل، واهتموا بالجيش والأسطول، وتحصين الثغور والمدن.(7/108)
الفصل الثامن
*الأندلس فى ظل الموحدين
[539 - 620 هـ = 1144 - 1223 م].
تمكن الموحدون من قتل أبى إسحاق إبراهيم بن تاشفين بن على بن
يوسف، وتم لهم بذلك القضاء على المرابطين، وفى سنة (555هـ =
1160م) عبر «عبدالمؤمن بن على» أول خلفاء الموحدين إلى الأندلس؛
لضم ما بقى بها إلى دولته، واستقر فى إشبيلية، ونظم الدفاع عن
البلاد، وأقام على قواعد الأندلس رجالا من آل بيته، وتمكن من توحيد
معظم ما بقى من الأندلس تحت رايته، ولم يخرج عن طاعته إلا بنو
غانية أمراء دانية، ومحمد بن سعد بن مراديشن رئيس مرسية الذى
انضمت بلاده إلى الموحدين بعد ذلك، وبدأ جهاد المسلمين ضد
النصارى واتخذ ميدانًا له غربى الأندلس بعد أن كان مجاله شرقى
الأندلس زمن المرابطين.
كان الخليفة الموحدى أبو يوسف يعقوب الملقب بالمنصور هو أكبر
شخصية فى تاريخ الموحدين بعد محمد بن تومرت وعبدالمؤمن بن
على قد عقد صلحًا مع النصارى، وعندما انتهت مدة هذا الصلح سنة
(590هـ = 1194م) بدأ هؤلاء فى مهاجمة أراضى المسلمين، فعبر أبو
يوسف يعقوب إلى الأندلس ومعه خيرة المقاتلين الموحدين وضم إليه
أحسن مقاتلى الأندلس، وحشد حشدًا عظيمًا من جنده وحمسهم فى
هذه الحملة، بينما استعان عدوه «ألفونسو الثامن» ملك قشتالة
وليون بملوك النصارى وبالبابوية، وكون جيشًا ضخمًا، وعسكر عند
حصن يسمى «الأرك» عند نهاية الطريق المؤدى من طليطلة إلى
قرطبة على بعد (20كم) بالقرب من قلعة «رباح» وغرب المدينة
الملكية الآن، وبدأت موقعة حاسمة فى (شعبان 591هـ = يوليو
1195م) أسفرت عن نصر مؤزر للمسلمين، وانكسرت حدة الموجة
النصرانية، وكان لهذا النصر أثره فى تثبيت جبهة الإسلام فى الأندلس
لمدة طويلة من الزمان.
وبعد هذه الهزيمة عقدت هدنة بين المسلمين والنصارى سنة (594هـ =
1198م)، ولكن ملك النصارى ما كان ليستريح بعد هزيمته القاسية
فى «الأرك»، ولذلك أخذ فى الاستعداد لمعركة جديدة مع المسلمين(7/109)
قبل انتهاء أمد الهدنة وأعد جيشًا ضخمًا واحتشد بكل ما يستطيع
بمعاونة كاملة من ملوك النصارى فى غرب أوربا ومن البابوية ومن
نصارى إسبانيا وشجعه موت أبى يوسف يعقوب خليفة الموحدين،
وتولية خلفه أبى عبدالله محمد الناصر الذى كان أقل كفاءة من أبيه
وقد عبر الخليفة الجديد إلى الأندلس فى ذى الحجة (607هـ = 1211م)
على رأس جيش ضخم ونزل إشبيلية ومن هناك صعد شمالى الوادى
الكبير وعسكر فى سهل تكثر فيه التلال الصغيرة ويقع غربى
الحصن المسمى بالعقاب (جمع عقبة)، وأقبل النصارى كذلك،
وعسكروا فوق هضبة الملك المشرفة على معسكر المسلمين، وقبل
اللقاء استولى النصارى على قلعة «رباح» من قائدها الأندلسى،
وعندما وصل هذا القائد إلى معسكر الناصر قتله دون تحقيق، الأمر
الذى أغضب الأندلسيين وأثَّر فى معنوياتهم.
بدأ اللقاء فى (15 من صفر 609هـ = 16 من يوليو 1212م)، وانخذل
الأندلسيون والخارجون على المسلمين من العرب بعد قليل، وتركوا
الجناح الشرقى للمسلمين مكشوفًا فانقض عليهم النصارى وحصدوا
الألوف من متطوعة المسلمين المجاهدين من الأندلس كما حصدوا زهرة
مقاتلى الأندلس، وعددًا كبيرًا من خيرة العلماء والفقهاء والقضاة،
وكان الخطب عظيمًا حتى قيل إن الإنسان كان يتجول فى المغرب
بعد المعركة فلا يصادف شابًا قادرًا على القتال.
وبعدها ضعفت جبهة الوادى الكبير، وسقطت مدن كبرى، وأشرف
النصارى مباشرة على قرطبة وإشبيلية ومرسية وغيرها من عواصم
هذا الخط، ثم توفى خليفة الموحدين الناصر فى شعبان (610هـ =
1213م)،ودب الخلاف فى صفوف البيت الموحدى وانعكس ذلك على
الأندلس فبدأت تصفية ما بقى للمسلمين من أرضها خلال عصر
الموحدين ولم تبق إلا مملكة غرناطة.
لمحة عن الجوانب الحضارية والإدارية:
كانت الأندلس فى عهد الموحدين ولاية من ولايات الدولة، يأتى
الخليفة إليها ويرعى شئونها العسكرية والعلمية والإدارية كلما دعت(7/110)
الظروف إلى ذلك، وقد أكد الخلفاء والولاة وجوب إقامة العدل
والتمسك بالشريعة فى كل الأمور، وقد بلغت الدولة الموحدية مكانة
عالية فى النواحى الحربية والسياسية والحضارية حتى جاءت الوفود
إلى البلاط الموحدى لعقد المعاهدات وإظهار الصداقة، وفى آخر
العهد الموحدى أنشئ منصب وزارى لاستقبال الشعراء والعناية
بأمورهم.
وكانت هناك عناية بالإنشاءات العسكرية والتحصينات وكان
الأسطول موضع اهتمام الخلفاء، كما كان للجيش أسلوبه فى التحرك
والقتال وله تنظيماته، وكان هناك مجلس عسكرى أول يستشار فى
الخطط والأمور العسكرية وكانت الخلافة وراثية. كما كان الاهتمام
عاليًا بالجوانب الإدارية والمالية والموارد والمصارف، وكان القضاء
مستقلا يتولاه أهل الأندلس ويحكمون بين الناس بما أنزل الله، ونعمت
البلاد بالأمن والرخاء فى ظل صناعة وزراعة وتجارة مزدهرة.
أما عن الناحية العمرانية فقد أنشأ الخليفة أبو يعقوب يوسف بعض
المشروعات فى «إشبيلية»، منها بناء القنطرة على نهر الوادى
الكبير، كما حصن هذه المدينة وأقام بها منشآت لتوفير المياه
الجارية لسقاية الناس، وأسس الخليفة أبو يعقوب سنة (567هـ =
1172م) جامع إشبيلية الأعظم وأتم ابنه المنصور صومعته أو مئذنته
الكبيرة عام (584هـ = 1188م) وهذه المئذنة قائمة حتى اليوم،
وتعرف بالمئذنة الدوارة (لاخيرالدا) ويبلغ ارتفاعها (96) مترًا، كذلك
أقام الموحدون بعض القصور الخاصة المحاطة ببساتين تزينها أشجار
الفواكه والثمار وتسقى بواسطة النواعير (السواقى).
وقد برز بالأندلس على عهد الموحدين عدد من البارعين فى فروع
العلم والمعرفة منهم أبو محمد بن خير، وأبو الحسين محمد بن أحمد
بن جبير الرحالة المشهور، وأبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم
الكلاعى، الحافظ المحدث الأديب، وأبو الحسن على بن محمد
الرعينى الكاتب الأديب، وأبو مروان عبدالملك بن محمد بن صاحب(7/111)
الصلاة المؤرخ، وعبدالواحد المراكشى، وعلى بن موسى بن سعيد،
وابن عذارى من المؤرخين، وأبو جعفر أحمد الغافقى وأسرة بنى
زهر علماء الطب والنبات، وأبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد
الحفيد، الذى اشتهر بالطب والفلسفة، وغير هؤلاء من العلماء
المجاهدين كثير.(7/112)
الفصل التاسع
*دولة بنو نصر
[629 - 897 هـ = 1232 - 1492 م].
انفرط عقد الأندلس بعنف بعد هزيمة الموحدين فى معركة «العقاب»
أمام الجيوش الإسبانية والأوربية المتحالفة، وسارت الأمور من سيئ
إلى أسوأ، والقواعد تخرج من قبضة الموحدين واحدة بعد الأخرى،
ينتزع بعضها ابن هود الثائر وبعضها النصارى وأتاحت هذه الظروف
فرصة الظهور والمغامرة للطامحين من القادة والزعماء.
فى تلك الأثناء ظهر محمد بن يوسف بن نصر أو ابن الأحمر الملقب
بالغالب بالله فى وقت اشتدت فيه المحن، وانعقدت عليه الآمال؛
لتميزه بالشجاعة ومجاهدة العدو، والتف حوله الناس وبايعوه فى
«أرجونة» وما حولها على بعد ثلاثين كيلو مترًا من «جيان» فى
(رمضان 629هـ = يوليو 1232م) وتوافد عليه جنود الأندلس؛ فأعلن
نفسه أميرًا وانتقل إلى «جيان»، ودخلت فى طاعته بلاد الجنوب
كلها، لكنه أحس أنه فى حاجة إلى معقل يعتصم به؛ لأن «جيان»
مدينة مكشوفة، فوقع اختياره على غرناطة الواقعة عند سفح جبل
الثلج، وكان يوجد فى أعلى الجبل حصن منيع سبق تعميره أول
عصر ملوك الطوائف، فتوجه إليه وسكنه واستقر به، وشيئًا فشيئًا
أخذ يوسع نطاق سلطانه، حتى أصبحت دولته تضم بين جنباتها ثلاث
ولايات كبيرة هى: غرناطة وألمرية، ومالقة، ووصلت حدودها إلى
شاطئ البحر الأبيض المتوسط ومضيق جبل طارق، واتخذ مدينة
غرناطة عاصمة لدولته، وساعد على دعم دولته استيلاؤه على ألمرية
ومالقة لما لهما من أهمية عظيمة فى المجالين التجارى والبحرى.
وقد واجهت «ابن نصر» بعض المشكلات الداخلية والخارجية، منها:
علاقته بأصهاره «بنى أشقيولة» الذين عاونوه ثم انقلبوا عليه،
ونقص المال الذى كان فى أشد الحاجة إليه لتثبيت قواعد سلطانه،
ومشكلته مع ملوك النصارى الذين أدركوا خطر دولته الناشئة وأرادوا
القضاء عليها، فاضطر إلى أن يعقد معهم معاهدة صلح سنة (643هـ
= 1245م) لمدة عشرين عامًا، وبمقتضاها حكم ابن الأحمر مملكته(7/113)
باسم ملك قشتالة «فرناندو الثالث» ودفع له جزية، ووافق على
حضور البلاط القشتالى باعتباره واحدًا من أمراء الملك، وعلى مده
بالجنود كلما طلب منه ذلك، وبالفعل أمده ابن الأحمر بقوات ساعدت
على سقوط «إشبيلية» فى يد النصارى فى (3 شعبان 646هـ =
نوفمبر 1248م).
وفى (جمادى الثانية 671هـ = ديسمبر 1272م) توفى محمد بن يوسف
بن نصر الملقب بالشيخ، وكان قد أخذ البيعة لولده محمد، فأقر بذلك
مبدأ الملكية الوراثية، وقد اعتلى محمد الثانى العرش ولقب بالفقيه؛
لاشتغاله بالعلم أيام أبيه، وقال عنه ابن الخطيب:
«وهو الذى رتب رسوم الملك للدولة ووضع ألقاب خدمتها، ونظم
دواوينها وجبايتها، هذا إلى جانب اعتنائه بالجيش وخاصة فرق
الفرسان .. وكان سياسيا بارزًا .. ، أديبًا عالمًا، يقرض الشعر ويجالس
العلماء والأدباء والأطباء والمنجمين والحكماء، والكتاب والشعراء».
وقد واجه الأمير الجديد ثلاث مشكلات هى، مشكلته مع الإسبان، وقد
نجح فى تحقيق انتصارات عليهم منتهزًا فرصة موت مليكهم، ومع
المرينيين الذين استنصر بهم ليعاونوه فى الجهاد ضد المسيحيين
فإذا بهم يطمعون فى الاستيلاء على الأندلس، الشىء الذى دفعه
إلى التحالف مع ملك أراجون تارة ومع ملك قشتالة تارة أخرى لدرء
خطر المرينيين، وعلى الرغم من تحسن العلاقات بين غرناطة وفاس،
فإن الفقيه لم يكن يطمئن إلى نياتهم، وقد دفعهم ذلك إلى التحالف
مع النصارى مرات، وأخيرًا كانت هناك مشكلة مع أصهار أبيه «بنى
أشقيلولة» التى اشتدت فى زمنه، وانتهت بصدور أمر يقضى
بتهجيرهم إلى مدينة القصر الكبير بشمالى المغرب جنوب مدينة سبتة
سنة (687هـ = 1288 م).
وعلى كل حال فقد توفى محمد الفقيه فى (شعبان 701هـ = أبريل
1302م) بعد أن نجح فى دعم دولته داخليا وخارجيا.
تولى الأمر بعد محمد الفقيه ابنه أبو عبدالله محمد، وفى عهده تحالف
ملكا قشتالة وأراجون على غزو مملكة غرناطة برا وبحرًا، ولكن(7/114)
«ألمرية» تمكنت من الصمود فى مواجهة أقصى هجوم عرفته فى
تاريخها وتمكن جيشها بقيادة شيخ الغزاة «عثمان بن أبى العلاء»
من هزيمة جيش أراجون، لكن العلاقة ساءت بين غرناطة وفاس، وقام
صاحب مالقة بثورة عارمة ضد الحكومة المركزية، وكانت فتنة وقتال
وحرب وهدنة استمرت أعوامًا ولم تنته إلا بموت الأمير.
ثم تولى أبو الوليد إسماعيل بن فرح (713هـ = 1313م) الذى اشتهر
بإقامة الحدود وتطبيق الشرع، وفى عهده قام القشتاليون بهجوم
ضخم على غرناطة، انتهى بمقتل أميرى الجيش النصرانى فى مروج
غرناطة، وانتهز الأمير فرصة منازعات بين أمراء قشتالة واستولى
على بعض المدن القشتالية ومنها مدينة «أشكر»، وقد استخدم
الغرناطيون المدفع لأول مرة عند منازلتهم لها.
ثم تولى أبو عبدالله محمد الرابع بن إسماعيل (725هـ = 1325م) الذى
اشتهر بالشجاعة كما كان مغرمًا بالصيد محبا للأدب والشعر، وفى
عهده قامت بعض الفتن الداخلية التى انتهزها النصارى واستولوا
على عدد من الحصون، كما أحرز أسطولهم نصرًا على الأسطول
الإسلامى فى ألمرية ومالقة.
وقد دفع هذا السلطان أن يعبر بنفسه إلى المغرب ليستنجد ببنى
مرين الذين أجابوه إلى ما طلب، ونزلت قوات المرينيين على جبل
الفتح وأمكنها الاستيلاء عليه عام (733هـ = 1333م)، ولكن السلطان
قُتل فى طريق عودته إلى غرناطة وتولى من بعده أخوه أبو الحجاج
يوسف الأول.
وشهدت مملكة غرناطة فى عهده عصرها الذهبى، فأنشئت المدرسة
اليوسفية والنصرية، وجرى الاهتمام بتحصين البلاد، وإنشاء
المصانع، وإقامة الحصون، وبناء السور العظيم حول ربض البيازين
فى غرناطة، وأضيفت منشآت كثيرة إلى قصر الحمراء منها باب
الشريعة وغيره، وكان السلطان حريصًا على تفقد أحوال شعبه
بنفسه.
ومن الأحداث العظام فى عهده: الوباء الأسود الذى تفشى فى حوض
البحر الأبيض المتوسط عامى (749 - 750هـ = 1348 - 1349م)، وشمل(7/115)
المشرق والمغرب، وراح ضحيته عدد عظيم من علماء الأندلس ورجال
الدين والأدب والسياسة فيها.
وعلى الرغم من قيام أبى الحجاج بعقد سلام مع ملك قشتالة عام
(734هـ = 1334م) فإنه سرعان ما تحطم وبدأ صراع بين غرناطة
والمغرب من ناحية، وقشتالة تساندها أراجون والبرتغال من ناحية
أخرى حول السيطرة على جبل طارق، وبعد معارك انتهى الأمر بين
كل الأطراف بعقد معاهدة مدتها عشر سنوات، وتوفى يوسف الأول
قتيلاً فى (أول شوال 755هـ = سبتمبر 1357م)، وتولى ابنه محمد
الخامس الغنى بالله، وحدث صراع وتحالف بين هذا الطرف أو ذاك
وبين ملوك النصارى، وانتهت هذه المرحلة بعقد صلح دائم بين قشتالة
وأراجون وغرناطة والمغرب عام (772هـ = 1370م)، ثم توفى
السلطان محمد الخامس الذى كان ملك البرتغال وسلطان بنى مرين قد
ساعداه على استرداد ملكه، وبعده تعاقب على عرش غرناطة عدد
من السلاطين الضعاف وتعرضت المملكة لكثير من الفتن والدسائس
والمؤامرات وجرت اتصالات وتحالفات مع ملوك النصارى، وبلغ
الاضطراب حدا تعاقب فيه على مملكة غرناطة اثنا عشر سلطانًا خلال
القرن (9هـ = 15م)، تولى بعضهم أكثر من مرة، فشهدت غرناطة
اعتلاء عشرين سلطانًا على عرشها.
حدث هذا فى الوقت الذى شهدت إسبانيا المسيحية نهضة حربية
وسياسية توجت بزواج «فرناندو الثالث» ملك أراجون من «إيزابيلا»
ملكة قشتالة، واتحدت الدولتان فى مملكة واحدة عام (874هـ =
1469م) بعد طول نزاع وحروب، وكان ذلك بداية النهاية لمملكة
غرناطة الإسلامية التى استمر بقاؤها معتمدًا - على حد كبير - على
استغلال النزاع بين هاتين المملكتين، وبدأ الملكان الكاثوليكيان
يعملان على إنهاء الوجود الإسلامى فى شبه الجزيرة، وعرف ذلك
سلطان غرناطة فامتنع عن دفع الجزية لقشتالة وبدأ النزاع بين
الجانبين، وتمكن النصارى من الاستيلاء على حصن «الحمة» عام
(887هـ = 1482م).
وزاد من سوء الموقف اشتعال الحروب الأهلية بين أفراد البيت(7/116)
الحاكم؛ فقد هجر السلطان أبا الحسن على ولداه «أبو عبدالله محمد»
و «يوسف» وأعلنا الثورة على والدهما بسبب خضوعه لسيطرة زوجته
الرومية الأصل وإهماله أمهما، وقد قامت حروب بين الفريقين،
أسفرت عن طرد السلطان أبى الحسن الذى لجأ إلى مدينة بسطة،
كما قتل ابنه يوسف وتولى ابنه أبو عبدالله على مملكة غرناطة، وقد
تعرض السلطان الجديد لهزيمة على يد النصارى وأسروه ثم أطلقوا
سراحه بعد أن أملوا عليه شروطهم، وواصل السلطان الجديد الحرب
ضد والده الذى سرعان ما توفى وخلفه أخوه أبو عبدالله محمد
الملقب بالزغل.
انتهز النصارى فرصة هذه الفتن واستولوا على بعض المدن، وبعثوا
إلى الزغل يعرضون تسليم ما معه من أراضٍ مقابل مال كثير فوافق
ورحل إلى فاس، وهناك وضعه سلطان المغرب فى السجن وصادر
أمواله وسمل عينيه.
وقد لجأت مملكة غرناطة فى السنوات الأخيرة من عمرها إلى
السلطات الحاكمة فى مصر تطلب نجدتها، ولكن مصر المملوكية آنئذٍ
لم يكن فى مقدورها أن تفعل شيئًا بسبب ظروفها الداخلية، وكل ما
استطاعته هو التهديد. بمعاملة المسيحيين فى المشرق معاملة سيئة
إذا ما تعرض المسلمون فى الأندلس للإهانة، وقد أرسل الملكان
المسيحيان سفارة إلى السلطان «قانصوه الغورى» عام (907هـ =
1501م) طمأنته على وضع المسلمين وأزالت التوتر بين الجانبين.
وقد التقت قوات غرناطة والمرينيين من قبل وحاربوا قوات قشتالة
وليون عند «أسنجة» جنوبى قرطبة سنة (647 هـ = 1249م)، وتحمس
المسلمون حماسًا عظيمًا ومزقوا قوات قشتالة شر ممزق، واضطر
«ألفونسو العاشر» إلى طلب الصلح، وحدث لقاء مماثل قرب غرناطة
عام (718هـ = 1318م) اتحد فيه المسلمون فحققوا نصرًا مؤزرًا، وهذا
يعنى أن قوة المسلمين فى الأندلس كانت لاتزال تستطيع الدفاع عن
نفسها ودحر عدوها إذا وحدت صفوفها وأدركت أهمية معاركها،
ووعت جيدًا دورها فى مواجهة الأعداء وتثبيت أقدام المسلمين فى(7/117)
أرض الأندلس، لكن النفور بين المرينيين وبين بنى نصر كان أكثر
أذىً وأشد وطأة من خلافهم مع النصارى.
وبقى عبدالله فى الميدان وحده وقد رفض تسليم غرناطة وصمم على
القتال، وفى عام (896هـ = 1491م) قام الملك «فرناندو» بحصار
غرناطة وأفسد زراعتها وأقام حولها القواعد، ثم توصل الطرفان
إلى معاهدة التسليم، ودخل الملكان الكاثوليكيان مدينة غرناطة فى
(الثانى من ربيع الأول 897هـ = الثانى من يناير 1492م).
بعض مظاهر الحضارة بغرناطة فى عصر بنى نصر:
ازداد عدد السكان فى مملكة غرناطة بسبب تدفق المهاجرين إليها من
المدن الأخرى وبسبب هجرة المدجنين الذين أفتاهم فقهاؤهم بضرورة
مغادرة البلاد التى سقطت فى يد النصارى، فلجأ إليها العلماء
والأدباء وعامة الناس، كذلك عاش البربر الذين جاءوا لمعاونة غرناطة
فى حروبها ضد المسيحيين، كما تحدثت بعض المصادر عن عناصر
سودانية خارج مالقة، وعن صوفية وفدوا من الهند وخراسان وبلاد
فارس للمرابطة فى سبيل الله، هذا بالإضافة إلى الأفارقة السود
الذين عبروا إلى الأندلس منذ حركة الفتوح الأولى، وقد تغلغل حب
الانتماء إلى القبائل العربية بين الأندلسيين، ويذكر فى هذا أن بنى
نصر ملوك غرناطة ينسبون أنفسهم إلى الصحابى الجليل «سعد بن
عبادة» سيد الخزرج وأحد زعماء الأنصار.
العمارة فى مملكة غرناطة:
كان لغرناطة مسجد جامع من أبدع الجوامع وأحسنها منظرًا. لا
يلاصقه بناء، قد قام سقفه على أعمدة حسان، والماء يجرى داخله.
وإلى جانب المسجد الجامع وجدت مساجد أخرى مهمة مثل: مسجد
الحمراء وعدد من المساجد فى الأحياء المختلفة.
واشتهرت مساجد غرناطة باستخدام الرخام، كما عرفت المساجد
الأندلسية بتجميل صحونها بحدائق الفاكهة وأقيمت المآذن منفصلة
عن المساجد يفصل بينها صحن المسجد، وكانت المئذنة عبارة عن
أربعة أبراج مربعة وتتكون من طابقين، ويحيط بها سور يزين أعلاه(7/118)
بكرات معدنية مختلفة، وحتى الآن توجد مئذنتان ترجعان إلى عصر
دولة بنى نصر، الأولى مئذنة مسجد تحول إلى كنيسة هى كنيسة
«سان خوان دى لوس ريس»، والثانى ببلدة «رندة» التى تحول
مسجدها إلى كنيسة باسم «سان سباستيان».
قصر الحمراء:
يعد قصر الحمراء من أعظم الآثار الأندلسية بما حواه من بدائع الصنع
والفن، وقد كانت الحمراء قلعة متواضعة فى القرن الرابع الهجرى،
وعندما تولى «باديس بن حبوس» زعيم البربر غرناطة اتخذها قاعدة
لملكه، وأنشأ سورًا ضخمًا حول التل الذى تقع عليه، وبنى فى داخله
قصبة جعلها مركزًا لحكمه، وقد تطورت مع الزمن وأصبحت حصن
غرناطة المنيع.
ولما دخل «محمد بن الأحمر» غرناطة عام (635هـ = 1238م)، أخذ
يبحث عن مكان مناسب تتوافر له القوة والمناعة، فاستقر به المطاف
عند موقع الحمراء فى الشمال الشرقى من غرناطة، وفى هذا
المكان المرتفع وضع أساس حصنه الجديد «قصبة الحمراء»، ولكى
يوفر له الماء أمر بعمل سد على نهر «حدرة» شمالى التل، شيدت
عليه القلعة، ومنه تؤخذ المياه وترفع إلى الحصن بواسطة السواقى،
وقد باشر السلطان العمل بنفسه واشترك فيه وكافأ المجتهدين،
واتخذ ابن الأحمر من هذا القصر مركزًا لملكه وأنشأ فيه عددًا من
الأبراج المنيعة، وأقام سورًا ضخمًا يمتد حتى مستوى الهضبة، وفى
عهد «محمد الفقيه» استكمل الحصن والقصر الملكى، ولما تولى
«محمد الثالث» قام ببناء المسجد الجامع بالقصر.
وكان عهد السلطان «يوسف الأول» وولده «محمد الخامس» هو العصر
الذهبى لعمليات الإنشاء والتشييد فى قصر الحمراء ففى عهد الأول
أقيم السور الذى يحيط بالحمراء بأبراجه وبوابته العظمى المعروفة
بباب الشريعة أو العدل وغير ذلك من الأبراج والقصور والحمامات،
وقام الثانى بإصلاح ما بدأه أبوه وإتمامه، ثم قام بتشييد مجموعة
قصر السباع، وقاعة الملوك أو العدل وغيرها.
وقد يسأل سائل، من أين جاء اسم الحمراء؟ قيل إن هذا اسم قلعة(7/119)
الحمراء القديمة التى فوقها بنى ابن الأحمر قصره، وقيل: إن هذا
الاسم مرجعه احمرار أبراج قصر غرناطة الشاهقة، أو إن ذلك يرجع
إلى لون الآجر الذى بنيت به الأسوار الخارجية، أو إلى لون التربة
التى بنيت عليها والتى اكتسبت لونها الأحمر من كثرة أكسيد الحديد
بها ولهذا سميت بتل السبيكة.
وأيا ما كان الأمر فليست هناك صلة بين اسم الحمراء وبنى الأحمر
الذين لقبوا بهذا بسبب احمرار شعر جدهم، ولم يلبث أن ارتبط كلاهما
بالآخر.
قصر جنة العريف:
شيد فى أواخر القرن الثالث عشر الميلادى، ثم جدده السلطان أبو
الوليد، ويقع بالقرب من قصر الحمراء ويطل عليه، وهو فى شمال
شرقى الهضبة وتظهر من ورائه جبال الثلج، ويدخل الإنسان إلى هذا
القصر من مدخل متواضع يؤدى إلى ساحة فسيحة على جانبها
رواقان طويلان ضيقان، وفى وسط الساحة بركة ماء غرست حولها
الرياحين والزهور الفائقة الجمال حتى أصبح هذا القصر المثل
المضروب فى الظل الممدود والماء المسكوب والنسيم العليل وقد
اتخذه ملوك غرناطة متنزهًا للراحة والاستجمام.
قصر شنيل أو قصر السيد:
يرجع تاريخه إلى زمن الأمير الموحدى أبى إسحاق ابن الخليفة أبى
يعقوب يوسف، وقد اتُخذ قصرًا للضيافة فى عهد بنى نصر، ويقع
على الضفة اليسرى لنهر «شنيل» وقد أقام سلاطين بنى نصر قصورًا
أخرى فى العاصمة وغيرها من المدن لا يزال بعضها باقيًا إلى اليوم
منها: القصر الذى بناه محمد الفقيه فى ربض البيازين، وكان يضم
نافورة رخامية وصالة مربعة جميلة مملوء بالمناظر البديعة، وبالقرب
من هذا القصر منزل يعود إلى القرن الثالث عشر الميلادى، وفى حى
القصبة القديمة بالبيازين قصر «دار الحرة» وهو عبارة عن صحن
محاط بالأروقة تفتح عليها صالات ولا يزال يحتفظ بزخارفه الحائطية
لليوم، كما توجد أطلال بعض المنازل التى ترجع إلى زمن بنى نصر
فى غرناطة وما حولها.
الناحية العلمية:
أما فى الناحية العلمية، فقد حافظت تلك الفترة على ما خطه(7/120)
السابقون وأضافت إليه، ونجد ثبتًا طويلا بأسماء اللامعين فى كتاب
الإحاطة لابن الخطيب، وفى نفح الطيب للمقرى، كما أنشئت المدارس
وتوافرت الاختراعات مثل: المدافع والبنادق التى استعملها المسلمون
فى دفاعهم عن غرناطة، ويحتفظ متحف مدريد الحربى بنماذج منها
حتى الآن.
كذلك ازدهرت صناعات عديدة منها: صناعة السفن، والمنسوجات،
وقد أنتجت المصانع القماش الموشى بالذهب فى ألمرية ومالقة
وأقمشة أخرى فى غرناطة وبسطة، وتم اتخاذ الفراء من بعض
الحيوانات البحرية.
كما عرفت المملكة صناعة الأصباغ والجلود والحلى وغيرها؛ كذلك
اهتم بنو نصر بالزراعة وما يتصل بها من وسائل الرى وأنواع
المزروعات، وكانت مدينة غرناطة أجمل مدن العالم بشوارعها
وميادينها وحدائقها ومرافقها وكانت تصدر صناعاتها إلى عدد من
البلدان بعضها أوربى، وهناك أسماء كثيرة من أعلام الفكر ظهرت
فى هذه الفترة منها: ابن البيطار وابن خاتمة وابن الخطيب، وهناك
عدد من سلاطين بنى نصر ألفوا كتبًا فى الأدب، ورعوا العلم ورجاله
ومعاهده.
5 - المورسكيون:
جمع مفرده: «المورسكى» وهى تصغير لكلمة «الموروه» والمقصود
بها أفراد الشعب المسلم الذى ظل موجودًا بإسبانيا يخضع لحكم
الملكين الكاثوليكيين بعد سقوط غرناطة فى أيديهما.
وقد نظمت معاهدة التسليم حقوق وواجبات هؤلاء، لكن بنود هذه
المعاهدة سقطت واحدًا وراء الآخر، وأريد لهم أن يكونوا نصارى
شاءوا أم أبوا، وتم فى سبيل ذلك اللجوء إلى كل ألوان الأساليب
وأشدها قسوة وعنفًا مع استخدام الأمانى أحيانًا.
وقد أبت غالبية المسلمين أن تفرض عليهم عقيدة لم يؤمنوا بها
فاصطدموا بالسلطات المسئولة دينية ومدنية، واستخدمت محاكم
التفتيش معهم كل حيلها من اعتقال وتشريد ومصادرة وتحريق، كما
جوبهت ثوراتهم على الظلم بكل قسوة وعنف، ولم يفت المسئولون
استخدام وسائل التبشير والإغراء، وظل المسلمون على موقفهم(7/121)
وواصلوا ممارسة شعائرهم الإسلامية فى العلن حينًا وفى السر
أحيانًا، وبلغ الضيق برجال الكنيسة ورجال الحكم مداه، وبعد
مناقشات مستفيضة تقرر طرد المورسكيين من كل إسبانيا، وتم ذلك
بالفعل فى الفترة من (1609 - 1614م)، حدث ذلك دون مراعاة لمشاعر
هذه الشريحة من المجتمع الإسبانى، على الرغم مما كان لها من دور
متميز فى خدمة الزراعة والاقتصاد بمختلف بلدان شبه الجزيرة.
وتم بهذا الطرد إنهاء فصل من فصول العلاقات بالغة الأهمية بين
الإسلام والنصرانية فى بلاد الأندلس. ولله الأمر من قبل ومن بعد وإليه
المرجع والمآب.(7/122)
- المراجع:
* آنخل جنثالث بالنثيا: تاريخ الفكرالأندلسي - ترجمة: حسين مؤنس - القاهرة - 1955م.
* بن البار (أبوعبدالله محمد): الحلةالسيراء - تحقيق حسين مؤنس - الشركة العربية للطباعة والنشر - القاهرة - 1963م
* بن الأثير (عزالدين): الكامل في التاريخ - دارالكتب العلمية - بيروت - الطبعة الثانية - 1408هـ = 1988م.
* أحمد مختارالعبادي: في تاريخ المغرب والأندلس - بيروت - 1972م.
* بن بسام: الذخيرةفي محاسن أهل الجزيرة - تحقيق احسان عباس - بيروت - 1978م.
* بن بطوطة: رحلةابن بطوطة - بيروت - دارالكتب العلمية - بدون تاريخ.
* بن حيان (أبومروان): المقتبس في أخبار بلد الأندلس - تحقيق عبدالرحمن علي الحجي - دارالكتاب العربي - بيروت - 1393هـ = 1973م.
* حسين مؤنس: فجرالأندلس - الدار السعودية للنشر والتوزيع - جدة - الطبعةالثانية - 1405هـ = 1985م.
* الحميدي: جذوةالمقتبس - مجموعة تراثنا - القاهرة - 1966م.
* بن الخطيب (لسان الدين محمد): الإحاطة في أخبار غرناطة - تحقيق: محمد عبد الله عنان - مكتبةالخانجي - القاهرة - الطبعةالثانية - 1393هـ = 1973م.
* بن الخطيب (لسان الدين محمد): أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام - تحقيق: ليفي بروفنسال - معهد العلوم العليا المغربية - الدارالبيضاء - 1934م.
* بن خلدون (عبدالرحمن بن محمد): تاريخ ابن خلدون - مؤسسة جمال للطباعةوالنشر - بيروت - 1399هـ = 1979م.
* دوزي: تاريخ مسلمي أسبانيا - ترجمة: حسن حبشي - دارالمعارف - القاهرة - 1963م.
* السلاوي (أحمدبن خالد): الاستقصا لأخبار المغرب الأقصي - دارالكتاب - الدار البيضاء - 1954م.
* السيد عبدالعزيزسالم: قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس - بيروت - 1971م.
* الصفدي (صلاح الدين خليل): الوافي بالوفيات - دار فرانز شتاينر - شتوتجارت - 1992م.(7/123)
* عبدالرحمن علي حجي: التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتي سقوط غرناطة - دار الإعتصام - القاهرة - 1403هـ = 1983م.
* عبدالعزيز الأهواني: سفارة سياسية من غرناطة الي القاهرة في القرن التاسع الهجري - بحث في مجلة آداب القاهرة.
* بن عذاري المراكشي (أبو عبدالله محمد): البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب - تحقيق كولانو بروفنسال - دارالثقافة - بيروت - الطبعة الثانية - 1400هـ = 1980م.
* القلقشندي (أحمد بن علي): صبح الأعشي في صناعة الأنشا - دارالكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولي - 1987م.
* ليفي بروفنسال: الإسلام في المغرب والأندلس - ترجمة السيد عبد العزيز ومحمد صلاح الدين - القاهرة - 1956م.
* محمد عبدالله عنان: دولة الإسلام في الأندلس - مكتبة الخانجي - القاهرة - الطبعة الثالثة - 1408هـ = 1988م0
* المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب - مصر - 1324هـ.
* المقري: نفح الطيب - تحقيق الدكتور احسان عباس - بيروت - 1388هـ = 1968م.(7/124)
الجزء الثامن
الدولة العثمانية
تأليف:
أ. د. محمد حرب
رئيس المركز المصري للدراسات العثمانية وبحوث العالم التركي
الفصل الأول
*إمارة آل عثمان
استولى «جنكيزخان» فى الربع الأول من القرن الثالث عشر الميلادى
على شمالى «الصين»، وبدأ زحفه نحو «تركستان» التى نجحت
قواته المغولية فى اجتيازها، واقتربت من «إيران»، وكانت تلك
القوات تثير الفزع والرعب فى نفوس الناس، لقيامها بالأعمال
الوحشية التى لم تعهدها البشرية من قبل.
وفى أثناء هذه الفترة المضطربة، المشوبة بالخوف والهلع، كان فى
جنوب «صحراء قراقورم» بشمالى «الصين» ما يقرب من (70) ألف
خيمة بدوية، يسكنها نحو نصف مليون إنسان من الأتراك المسلمين،
من بينهم عشيرة صغيرة، تُسمى «قايى»، وقد اضطر هذا الجمع
الكبير إلى هجرة أوطانهم عندما أحسُّوا بقرب خطر المغول، فعبروا
«إيران» واقتربوا من «الأناضول» غير أنهم لم يستقرُّوا جميعًا فيها،
بل استقر بعضهم فى «العراق الشمالى»، وبعضهم فى غربى
«إيران»، وبعضهم الآخر فى «القوقاز»، فى حين واصلت عشيرة
«قايى» الصغيرة هجرتها نحو «الأناضول» وكان عددها نحو (4000)
فرد.
كان يرأس هذه العشيرة رجل تركى يدعى «كوندوز ألب»، ثم خلفه
فى رئاستها بعد وفاته ابنه «أرطغرل» والد الأمير «عثمان» مؤسس
الدولة العثمانية التى عرفت باسمه.
وفى أثناء ذلك دارت فى منطقة «أرزنجان» (الواقعة الآن فى
الشمال الشرقى لتركيا) معركة سميت باسم «ياسى جمن» بين
سلطان «قونية» السلجوقى، و «جلال الدين خوارزم شاه» خاقان
«تركستان» وكاد سلطان قونية أن ينهزم، لولا تدخل عشيرة
«قايى» بقيادة «كوندوز ألب» فأقاله من عثرته، وكان سببًا فى
نصره، ولم تكن هذه العشيرة تعلم من أمر القتال شيئًا، لكنها تدخلت
نجدة للملهوف ونصرة للضعيف.
عرف سلطان «قونية» أن هذه العشيرة تبحث عن وطن، فأقطعها
ثغرًا على الحدود بين سلطنته (الدولة السلجوقية) فى «الأناضول»
وبين الإمبراطورية البيزنطية، تقديرًا لقوتهم وشجاعتهم وبراعتهم
الحربية.
وفى سنة (651هـ = 1253م) تُوفِّى «كوندوز ألب» وخلفه ابنه(8/1)
«أرطغرل» وبعد فترة تُوفِّى هو الآخر، فأصدر سلطان قونية
مرسومًا بتعيين الأمير القبلى «عثمان» محل أبيه، فتولى الأمر وهو
فى الثالثة والعشرين من عمره.
ثم زالت دولة سلاجقة الروم فى «الأناضول» وحل محلها عدة إمارات
صغيرة نجح العثمانيون فى ضمها إلى دولتهم التى بدأت تنمو
وتتوسع حتى توحد «الأناضول» تحت قيادتهم.
الأمير عثمان:
تولى بعد أبيه مسئولية الإمارة، وبدأ فى توطيد سلطانه على أساس
من العدل والنظام، وأخذ فى توسيع رقعة دولته حتى وصلت إلى
مدينة «ينى شهر» التى اتخذها عاصمة لبلاده، وبذلك أصبح على
مرمى البصر من «بروصة» و «نيقية» وكانتا من أهم المدن فى غربى
«الأناضول».
ولما وجد «عثمان» أن إمارة «آل قرمان» هى أقوى الإمارات التى
قامت على أنقاض دولة سلاجقة الروم، أرسى سياسته على عدم
الاصطدام بها والتوسع غربًا تجاه البيزنطيين، وبدأ فى إرسال
حملاته من موقعه الحصين فى «ينى شهر» إلى المدن اليونانية
المجاورة، ونجح فى الاستيلاء على كثير من الحصون، قبل أن
تتحرك جيوش الدولة البيزنطية لمواجهته.
عرف الأمير «عثمان» بشخصيته القوية، وتحليه بالصبر والمثابرة
وضبط النفس، وحماسته للإسلام، لكن فى غير تعصب، بل فى سماحة
ورفق، فلم يضطهد أهل الذمة، وإنما اجتذبهم إلى خدمته، فأسلم
منهم جماعات كثيرة صارت ركيزة من ركائز دولته الناشئة.
وتُوفى «عثمان» فى الوقت الذى كان ابنه «أورخان» يحاصر مدينة
«بورصة» بعد أن ترك له وصية وهو على فراش الموت، سجَّلها
المؤرخ العثمانى «عاشق ُلبى»، جاء فيها:
«يا بنى أحط من أطاعك بالإعزار، وأنعم على الجنود، ولايغرنك
الشيطان بجهدك وبمالك، وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة، يا بنى!
لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد،
فنحن بالإسلام نحيا، وللإسلام نموت، وهذا يا ولدى ما أنت أهل له.
يا بنى إنك تعلم أن غايتنا هى إرضاء رب العالمين، وأن بالجهاد يعم(8/2)
نور ديننا كل الآفاق، فتحدث مرضاة الله جل جلاله».
ويُعَدُّ «عثمان» أول من استقل بالإمارة، وراوده حلم إرساء قواعد
دولة مترامية الأطراف، وكان أهل إمارته يطلقون عليه لقب «قرة
عثمان» رمزًا لقوة الشخصية والحيوية الجسمانية.
الأمير أورخان:
تولى «أورخان» الحكم بعد وفاة أبيه سنة (726هـ = 1326م)، ولم
يكد يمضى على توليته وقت طويل حتى تقدم نحو بحر «مرمرة»
وهزم حملة بيزنطية، كان يقودها الإمبراطور «أندرنيكوس الثالث»
وبعدها تخلت بيزنطة عن بذل الجهود الخاصة بتنظيم المقاومة
العسكرية فى «الأناضول» أو تعزيز حاميات ما تبقى لها من المدن
هناك، وقد أدى ذلك إلى نجاح «أورخان» فى الاستيلاء على معظم
شبه جزيرة «نيقيا»، وسواحل خليج «نيقوميديا» وسقوط «نيقيا»
دون مقاومة، ثم استيلائه على ما تبقى من الأراضى البيزنطية فى
غربى «الأناضول» دون صعوبة، مما جعل دولته أقوى إمارات
التركمان فى المنطقة، لاسيما وقد تعزز مركزها باعتبارها زعيمة
الجهاد ضد البيزنطيين، كما عزز «أورخان» مركزه بالتوسّع على
حساب إمارات الطوائف التى تطل على شواطئ «بحر مرمرة» وسيطر
على ساحله الجنوبى مما سهل له مهمة العبور إلى أوربا حين سنحت
له الفرصة.
وقد أمضى «أورخان» بعد استيلائه على إمارة «قرة سى» عشرين
سنة دون أن يخوض معارك، وإنما شغل نفسه فى وضع النظم المدنية
والعسكرية التى تقوى من شأن الدولة، وفى تعزيز الأمن الداخلى،
وبناء المساجد والمدارس ورصد الأوقاف عليها، وإقامة المنشآت
العامة.
وتميزت الإدارة العثمانية فى عهد «أورخان» بالكفاءة، وإتاحة
الفرص أمام رعايا الدولة، ومعاملة أهل الذمة بتسامح
كامل، والاهتمام بالتعليم وأهله.
الأمير مراد بن أورخان:
تولى حكم الدولة بعد وفاة أبيه سنة (761 هـ = 1360 م)، وواصل
جهود أبيه فى الفتح، ونجح فى العام التالى من توليه الحكم فى
فتح مدينة «أدرنة» ونقل إليها العاصمة بعد أن كانت فى «بورصة»،(8/3)
ثم فتح أراضى الدولة البيزنطية فى «البلقان»، حتى أصبحت
«القسطنطينية» عاصمة البيزنطيين محاصرة تمامًا بالأراضى
العثمانية، ونتيجة لتلك الفتوحات صارت الدولة العثمانية متاخمة لكل
من «الصرب» و «البلغار» و «ألبانيا».
وأدى هذا النشاط العثمانى إلى انزعاج أوربا وازدياد قلقها، فكتب
أمراء تلك المناطق إلى ملوك أوربا الغربية وإلى البابا يستنجدون
بهم ضد المسلمين، فقام البابا بالدعوة إلى قيام حرب صليبية جديدة،
غير أن ملك الصرب هاجم «أدرنة» عاصمة العثمانيين وكان «مراد»
غائبًا عنها، فلما علم بأخبار هذا الهجوم عاد بجيشه ليحارب الصرب،
ونجح فى إلحاق الهزيمة بهم.
ثم قام ملك الصرب - الجديد وقتها - بعقد حلف عسكرى مع أمير
«بلغاريا» لمحاربة العثمانيين، فلما قامت الحرب بينهما هرب أمير
البلغار من المعركة، ثم اصطلح الطرفان الصربى والبلغارى مع الدولة
العثمانية، نظير جزية سنوية يقدمانها لها، لكن الصرب نقضوا عهدهم
فأقام ملكهم تحالفًا صليبيا مع «ألبانيا» ضد العثمانيين، والتقى
الفريقان فى مكان يُسمَّى «قوصوة» سنة (197هـ= 9831م) حيث دارت
معركة من أعظم معارك الإسلام، انتصر فيها العثمانيون، وهُزِم
الصرب هزيمة منكرة، وقتل ملكهم.
وعقب انتهاء المعركة قام الأمير «مراد» بتفقد ساحة المعركة، وكان
الليل حالك السواد، والهلال والنجوم فى السماء، وساحة المعركة
مدرجة بالدماء، فأوحى ذلك بفكرة العلم العثمانى كما يقال، فجاء
علمًا أحمر الأرضية يذكِّر بالدماء التى ملأت أرض «قوصوة» ويزين
العلم الهلال والنجوم، ولايزال علم تركيا على هذه الصورة حتى الآن.
وأثناء تفقد الأمير المنتصر «مراد» ساحة القتال؛ إذا بصربى جريح
يقوم من بين القتلى ليطعنه بخنجر فيقتله على الفور، ويستشهد فى
ساحة الجهاد، وهو يبلغ من العمر (65) عامًا.
عُرف الأمير «مراد الأول» بالعدل، وبمعاملة رعيته من أهل الذمة(8/4)
معاملة حسنة، وبكثرة المعارك التى حالفه فيها النصر، حتى إنه
دخل (73) معركة فى «الأناضول» وفى «البلقان» خرج منها جميعًا
مظفرًا، كما أنه تسلم الدولة من أبيه ومساحتها نحو (59000كم2)،
وتركها عند استشهاده وهى تبلغ (500000 كم2)، أى أنها زادت
فى مدى (29) سنة أكثر من خمسة أمثالها حين تسلمها من أبيه.
نظام الحكم العثمانى:
بدأت التنظيمات الإدارية فى عهد الأمير «أورخان» مستوعبة النظم
المتبعة فى الدول الإسلامية، فالأمير هو قمة الجهاز الحكومى،
وسلطته مقيدة بالكتاب والسنة، وكان يتمتع بالسلطتين؛ التشريعية
التى كان يعهد بها إلى علماء الشرع، والتنفيذية التى كان يعهد بها
إلى وزيره.
وكانت المراتب الأساسية للقانون فى الإمارة العثمانية هى على
التوالى: القرآن، والسنة، والمذاهب الأربعة، والمراسيم (الخطوط
الشريفة).
وظهرت فرقة «الإنكشارية» فى عهد «عثمان» وكانت أهم فرق جيش
الإمارة، ولم يسمح للإنكشاريين بالزواج، وكان عليهم أن يقيموا فى
ثكناتهم العسكرية ليواصلوا التدريب، وضم الجيش أيضًا فرق الفرسان
ولم تكن لهم ثكنات خاصة بهم، وإنما عاش معظمهم فى القرى القريبة
من العاصمة.
الملامح العامة للحضارة العثمانية:
عنى العثمانيون فى هذه المرحلة بالأدب الذى تأثر بالأدب الفارسى،
وكان الإلمام بالأدب فى هذه الفترة من الأدوات اللازمة للمثقف
والباحث والمتأدِّب، كما اهتم العلماء والأدباء باللغة العربية اهتمامًا
واضحًا.
ونشطت الحركة المعمارية، وتأثرت تأثرًا واضحًا بالطرز السلجوقية،
ويبدو ذلك واضحًا فى المساجد الأولى التى شيدت فى مدينة
«بورصة» مثل: «أولوجامع»، الذى بدأ تشييده فى عهد «مراد
الأول»، كما شيَّد حكام الإمارة فى ذلك الوقت قصورًا فى «بورصة»
و «أدرنة» لم يبقَ لها أثر الآن.
واشتهرت «الأناضول» فى تلك الفترة بصناعة السجاد الذى كان من
ابتكار القبائل الرحل التركمانية.(8/5)
الفصل الثاني
*تحول الإمارة إلى سلطنة
بايزيد الأول:
لم ينتقل «آل عثمان» من طور الإمارة إلى طور السلطنة إلا فى عهد
«بايزيد الأول» المشهور بالصاعقة، لسرعة تنقله بجيوشه بين
«أوربا» و «الأناضول» ..
وقد بذل «بايزيد» جهودًا عظيمة فى توحيد منطقة «الأناضول» تحت
قيادته، وفى استمرار الفتوحات فى منطقة «البلقان» فدخل
«رومانيا» وضم جنوبها - «الأفلاق» - إلى الدولة العثمانية، وفتح
«سلانيك»، واستولى على «ينى شهر» وألحق «تساليا»
بدولته، وفتح «اسكوب» ودخلت جيوشه «طورنوفا» وواصل فتوحاته
فى «مقدونيا الشمالية» و «ألبانيا»،ونجح فى ضم «بلاد البلغار»،
وجعلها ولاية عثمانية، ووصلت جيوشه إلى «اليونان» ودخل
«أثينا»، وانتقل إلى «شبه جزيرة المورة» ودفع له الصرب جزية
سنوية، كما حاصر «القسطنطينية» أربع مرات.
ونتيجة لهذا توحدت «أوربا» كلها ضده لطرده من «البلقان» فتكونت
حملة صليبية ضده فى (جمادى الأولى 798هـ= فبراير 1396م) بقيادة
«سيجموند» ملك «المجر» الذى استنجد بالبابا وبملوك «أوربا» لإنقاذ
«المجر» و «بيزنطة» من الخطر العثمانى، فحملت الحملة شعار: «سحق
الأتراك أولا ثم احتلال القدس».
وتكونت هذه الحملة من جيوش مجرية وفرنسية وألمانية وهولندية
وإنجليزية وإيطالية وإسبانية بلغت نحو (130) ألف محارب، واجتازت
نهر «الدانوب» وبلغت مدينة «نيكوبولى» وعندها دارت معركة طاحنة
بينهم وبين الجيش العثمانى الذى بلغ عدده نحو (90) ألف جندى
بقيادة «بايزيد الصاعقة».
وانتهت معركة «نيكوبولى» بانتصار العثمانيين، وبوقوع كثير من
أشراف «فرنسا» فى الأسر، منهم: «الكونت دى نيفر» قائد قوات
«بورغوينا» وولى عهدها، وقد أقسم هذا الكونت على عدم العودة
إلى محاربة العثمانيين، ولكن بعد قرار «بايزيد» بإطلاق سراح
الأمراء الأسرى، أراد أن يحل «الكونت دى نيفر» من قسمه، فقال له:
«أيها الكونت! لك أن تعود مرة أخرى لمحاربتى، لكى تمسح العار(8/6)
الذى لحق بك، واعلم أنى لا أخاف من عودتك وإلا ما كنت أطلقت
سراحك، تعالَ وقتما تشاء فستجدنى وجنودى أمامك».
ثم أرسل الأمير «بايزيد الأول» أنباء هذا الانتصار إلى الخليفة
«المتوكل العباسى» بالقاهرة، فأجابه الخليفة بأن أرسل إليه
تشريفًا وخلعًا وسيفًا، وكان هذا يعنى الاعتراف ببايزيد الأول
سلطانًا على إقليم «الروم» (الأناضول والبلقان)، وبذا أصبح الأمير
«بايزيد» أول من حمل لقب «سلطان» فى «آل عثمان».
محاصرة القسطنطينية:
حاصر العثمانيون العاصمة البيزنطية فى عهد «بايزيد الأول» أربع
مرات:
- الأولى فى سنة (793هـ= 1391م) حيث اصطف ستة آلاف جندى
عثمانى على امتداد سور «القسطنطينية» وحاصروا المدينة حصارًا
شديدًا، ولم يستطع أحد الدخول إلى المدينة أو الخروج منها دون
موافقة العثمانيين، ودام هذا الحصار سبعة أشهر دون أن يخضع
إمبراطور «بيزنطة» لبايزيد دون قتال.
- والثانية فى سنة (797هـ= 1395م)، واستمر هذا الحصار طوال صيف
ذلك العام.
- والثالثة فى سنة (800هـ = 1397م).
- والرابعة كانت بين سنتى (802 - 804 هـ = 1399 - 1401م)، على إثر
ذهاب الإمبراطور البيزنطى «مانويل الثانى» إلى «إنجلترا» وزيارته
لأوربا لمدة (13) شهرًا، طلبًا للمساعدة ضد العثمانيين، ولم يفك هذا
الحصار إلا بعد قدوم «تيمورلنك» بجيوشه الجرارة التى عصفت
بالسلطنة العثمانية وتسببت فى انهيارها فترة من الزمن.
ويجدر بالذكر أن «بايزيد» لم يفك حصاره الرابع عن «القسطنطينية»
إلا بشروط، منها: أن يبنى المسلمون الذين يعيشون داخل المدينة
جامعًا لإقامة شعائر الدين، وأن تقام لهم محكمة شرعية للنظر فى
قضاياهم.
ويذكر لبايزيد تشييده القلعة المسماة «جوزلجه حصار» (أناضولى
حصار) على الضفة الأسيوية من بوغاز «القسطنطينية».
الأزمة بين تيمورلنك وبايزيد:
أسس «تيمورلنك» خاقان أتراك الشرق (التركستان) إمبراطورية(8/7)
عظمى، امتلكت جيشًا قويا ومنظمًا اجتاح به الشرق، ثم حدث نزاع
بين «تيمورلنك» و «بايزيد» بسبب لجوء «أحمد بن أويس» الذى فر
من «بغداد» أمام «تيمورلنك» إلى «بايزيد»، واحتمائه به.
اتخذ «تيمورلنك» من هذا الحادث ذريعة للتحرك ضد العثمانيين،
وبخاصة بعد رفض «بايزيد» طلب «تيمورلنك» تسليمه «أحمد بن
أويس» فقام بحملته الأولى على «الأناضول» سنة (803هـ=1400م)،
ووصل إلى «سيواس» فدخلها وخربها وسفك دماء أهلها بعد أن
صمد العثمانيون على قلتهم أمام جيوش «تيمورلنك» الجرارة، وأبلوا
بلاءً حسنًا، ثم انسحب «تيمورلنك» من «الأناضول» إلى «القوقاز»
بعد أن استولى على «ملاطية» من العثمانيين.
كان «تيمورلنك» يأمل أن يعترف «بايزيد» بتبعيته له مثل سلاطين
المماليك و «الهند» غير أن هذا الأمل لم يتحقق؛ إذ رد عليه «بايزيد»
ردا فيه تحقير، وحاول «تيمورلنك» إقناع أمرائه بشن حرب حاسمة
ضد العثمانيين، وكان رأى أمراء «تيمور» وأولاده أنه لايليق بهم
محاربة الدولة العثمانية، وهى دولة سنية حنفية المذهب مثلهم،
وتجمعهم اللغة التركية، كما أنها تعد حاملة لراية الجهاد الإسلامى،
لكن «تيمورلنك» نجح فى إقناع المخالفين له فى الرأى باحتمال أن
يقوم «بايزيد» بضرب الجيش التيمورى من الخلف أثناء حملته على
«الصين».
دخل «تيمورلنك» إلى «الأناضول» مرة أخرى سنة (805هـ = 1402م)
على رأس جيش ضخم بلغ عدده نحو (300) ألف جندى، وفى مقدمته
(32) فيلا مدرعًا، وسار به حتى وصل إلى «أنقرة» وهناك التقى
بالجيش العثمانى فى (27 من ذى الحجة 804هـ = 28 من يوليو
1402م) واستمر اللقاء حتى غروب الشمس، وكان النصر فيه حليف
«تيمورلنك» وأسر فى المعركة السلطان «بايزيد» بعد أن أبلى
جنوده بلاءً حسنًا، وكبَّدوا «تيمورلنك» خسائر فادحة لم يسبق له أن
تكبَّدها، حيث قتل له فى المعركة نحو (40000) جندى.
لقد كانت معركة «أنقرة» من أكبر المعارك الميدانية التى حدثت خلال(8/8)
العصور الوسطى، وتعد من أكبر الكوارث فى التاريخ التركى، حيث
أخرت نمو العثمانيين وفتوحاتهم نصف قرن، وأطالت عمر الدولة
البيزنطية المدة نفسها، وعطَّلت وحدة «الأناضول» سبعين سنة.
عاش السلطان «بايزيد» فى أسر «تيمورلنك» سبعة أشهر واثنى
عشر يومًا، ومات فى «آق شهر» قرب «قونية» سنة (806هـ =
1403م) وأرسل جثمانه إلى «بورصة» ثم أطلق «تيمور» عقب وفاة
«بايزيد» سراح ابنيه اللذين أسرا معه.
العثمانيون يعيدون تكوين دولتهم:
عاش العثمانيون عقب معركة «أنقرة» فترة أطلق عليها المؤرخون
عهد الفتنة أو دور الفوضى، وكانت مدتها عشر سنوات، وأحد عشر
شهرًا وثمانية أيام، وهى فترة الصراع بين أبناء «بايزيد» على
العرش العثمانى، حتى نجح أحدهم وهو «محمد بن بايزيد» الملقب
بمحمد ُلبى فى تولى السلطنة والقضاء على الفوضى والفتن، والبدء
فى إعادة البناء وتعمير الدولة وتنظيم أمورها، حتى عده المؤرخون
المؤسس الثانى للدولة العثمانية.
وتوفى «محمد الأول» سنة (824هـ=1412م) عن (39) عامًا فى مدينة
«أدرنة».
السلطان مراد الثانى:
تولى «مراد بن محمد» عرش السلطنة وعمره (17) سنة، وبدأ عهده
بعقد هدنة مع ملك «المجر» لمدة خمس سنوات حتى يتفرغ للأناضول،
وبعقد صلح مع أمير «قرمان»، ثم اتجه «مراد» إلى محاصرة مدينة
«القسطنطينية» سنة (825هـ = 1422م)، ودام الحصار (64) يومًا،
وكان بحريا وبريا، بجيش قوامه ثلاثون ألف جندى، وكان احتمال
سقوط العاصمة البيزنطية كبيرًا، بعد أن أحدثت القوات العثمانية
أضرارًا بالغة بسور المدينة، غير أن السلطان «مراد» اضطر إلى رفع
الحصار بعد أن جاءته أنباء حدوث فتنة فى «الأناضول» وعقد الصلح
مع «بيزنطة» مقابل أن تدفع جزية كبيرة سنوية.
ثم اتجه «مراد الثانى» إلى تأديب إمارات «الأناضول» التى تمردت
عليه أثناء انشغاله بمحاربة «بيزنطة» فقضى بصورة نهائية على
إمارات «منتشة» و «أيدين»، و «تسكا» وقلَّص حدود إمارة «جاندار».(8/9)
وفى سنة (829 هـ = 1426م) اجتاز السلطان «مراد الثانى» على رأس
جيشه «نهر الدانوب» والتقى مع الجيش المجرى، وانتصر عليه، وعقد
مع ملك «المجر» معاهدة تنازل بمقتضاها عن أملاكه فى الضفة
اليمنى لنهر الدانوب، الذى أصبح فاصلا بين أملاك الدولة العثمانية
و «المجر»، ثم فتح «مراد» «سلانيك»، و «يانيا» ونجح فى إلغاء
إمارة «الصرب» تمامًا وأطلق عليها لواء «سمندرة» كما خضعت
«ألبانيا» للدولة العثمانية بعد حروب يسيرة، وعقدت «البندقية»
صلحًا معها.
وفى عهد «مراد الثانى» توترت العلاقات بين المماليك والعثمانيين
بسبب إمارتى «قرامان» و «دلقادر» غير أنه لم يهتم بهذا الأمر بسبب
إعلان البابا «أوجينيوس الرابع» سنة (843هـ=1439م) عن حملة صليبية
ضد الدولة العثمانية بقيادة القائد المجرى «هونيادى» الذى اتخذ من
إخراج العثمانيين من «البلقان» هدفًا لحياته.
وقد تمكن هذا القائد المجرى من هزيمة عدة جيوش عثمانية، مما
اضطر السلطان إلى محاربته بنفسه، ثم عقد صلحًا مع «المجر» سنة
(848هـ = 1444م)، أعيد بمقتضاه تأسيس إمارة «الصرب» على أن
تكون تابعة للدولة العثمانية، ومنطقة عازلة بينها وبين «المجر».
ولما شعر السلطان «مراد الثانى» بالتعب تخلى عن عرشه لابنه
«محمد الثانى» الذى عرف فيما بعد بمحمد الفاتح، وكان عمره آنذاك
(21) عامًا، فشكل الأوربيون على الفور حملة عسكرية على الدولة
العثمانية، وشاركت فيها قوات من «المجر» و «قولونية» و «ألمانيا»،
و «فرنسا» و «البندقية» و «بيزنطة» و «بيرجوذريا» وكانت تلك الحملة
بقيادة «هونيادى»، واختير الملك المجرى «لاديسلاس» قائدًا شرفيا
للحملة، وقد نهبت هذه الحملة وهى فى طريقها كل شىء، حتى
الكنائس الأرثوذكسية لم تسلم من أيديهم.
وإزاء هذه التطورات اجتمع مجلس شورى السلطنة العثمانية، وطلب
عودة «مراد الثانى» إلى الحكم مرة أخرى، فعاد وبدأ فى إعداد
جيشه للقاء تلك الحملة الصليبية، فتحرك على رأس جيشه الضخم الذى(8/10)
بلغ أربعين ألف جندى، والتقى مع تلك الحملة فى «فارنا» وهى
مدينة بلغارية تقع على شاطئ «البحر الأسود»، ودارت بينهما معركة
هائلة عرفت باسم «معركة فارنا» فى (28 من رجب 848 هـ = 10 من
نوفمبر 1444م)، وفيها حقق العثمانيون نصرًا غاليًا، وقتل الملك
«لاديسلاس»، وهرب «هونيادى» من المعركة، وبهذا النصر أيقن
الأوربيون صعوبة طرد العثمانيين من منطقة «البلقان».
وقد فرح العالم الإسلامى بهذا النصر فرحًا شديدًا حتى إن السلطان
«جقمق» المملوكى أمر أن يذكر اسم السلطان «مراد الثانى» مجاملة
بعد اسم الخليفة العباسى فى «القاهرة».
لم تستسلم «أوربا» لهذه الهزيمة فجهزت حملة صليبية أخرى ضمت
نحو مائة ألف جندى بقيادة «هونيادى» والتقت بالعثمانيين بقيادة
السلطان «مراد الثانى» فى صحراء «قوصوه» فى (18 من شعبان
852هـ=17 من أكتوبر 1448م)، وانتصر العثمانيون فى هذا اليوم
انتصارًا عظيمًا.
السلطان محمد الفاتح:
ولد السلطان «محمد» فى (27 من رجب 835هـ = 30 من مارس 1432م)
وتولى عرش السلطنة بعد وفاة أبيه فى (5 من المحرم 855هـ = 7 من
فبراير 1451م) بعد أن بايعه أهل الحل والعقد فى الدولة العثمانية.
إعداد محمد الفاتح:
خضع السلطان «محمد» - شأنه فى ذلك شأن كل أمير عثمانى -
لنظام تربوى صارم تحت إشراف مجموعة من علماء عصره المعروفين.
وهو ما يزال غضا، فتعلم القرآن الكريم والحديث والفقه والعلوم
العصرية - آنذاك - من رياضيات وفلك وتاريخ ودراسات عسكرية
نظرية وتطبيقية، كما كان السلطان «محمد» يشترك فى الحروب التى
كان يشنها والده السلطان «مراد الثانى» ضد «أوربا» أو التى كان
يصد فيها اعتداءاتهم.
وكعادة «آل عثمان» فى إسناد إدارة ولاية لكل أمير وهو صغير
حتى يؤهل لقيادة الدولة بعد ذلك، قضى «محمد» فترة إمارته فى
«مغنيسيا» تحت إشراف مجموعة من أساطين علماء العصر، وفى
مقدمتهم: الشيخ «آق شمس الدين» والملا «الكورانى».(8/11)
وقد أثرت هذه المجموعة من العلماء فى تكوين الأمير الصغير
وتشكيل اتجاهاته الثقافية والسياسية والعسكرية، وكان الشيخ «آق
شمس الدين» صارمًا مع الأمير حتى إن السلطان «محمد» وهو سلطان
قال لأحد وزرائه عن شيخه هذا: «إن احترامى لهذا الشيخ احترام يأخذ
بمجامع نفسى وأنا ماثل فى حضرته مضطربًا ويداى ترتعشان».
ثقافة محمد الفاتح:
درس السلطان «محمد» إلى جانب دراسته الأكاديمية المنظمة اللغات
الإسلامية الثلاثة التى لم يكن يستغنى عنها مثقف عصرى آنذاك
وهى: العربية والفارسية والتركية، وعنى بالأدب والشعر خاصة،
فكان شاعرًا له ديوان بالتركية، وله بيت مشهور يقول فيه:
نيتى هى الامتثال للأمر الإلهى «جاهدوا فى سبيل الله».
وحماسى إنما هو حماس فى سبيل دين الله.
وتعلم السلطان «محمد» أيضًا اللغات: اللاتينية واليونانية والصربية،
ولاتخفى أهمية هذه اللغات لأمير فى طريقه إلى تولى الدولة
العثمانية.
وقد أثرت فترة إمارة «محمد» فى شخصيته فجعلته - بفضل توعية
أساتذته - أكثر الأمراء العثمانيين وعيًا فى دراسة علوم التاريخ
والجغرافيا والعلوم العسكرية، وبخاصة أن أساتذته وجهوا اهتمامه
إلى دراسة الشخصيات الكبيرة، التى أثرت فى مجرى التاريخ،
وأبانوا له عن جوانب العظمة فى تلك الشخصيات، كما وضحوا له
نقاط الضعف فيها، أملا أن يكون أميرهم ذات يومٍ من أكثر الحكام
خبرة وحكمة وعبقرية.
ولا شك أن الشيخ «آق شمس الدين» استطاع أن يلعب دورًا كبيرًا فى
تكوين شخصية «محمد» وأن يبث فيه منذ صغره أمرين، جعلا منه
فاتحًا، وهما:
- مضاعفة حركة الجهاد العثمانية.
- الإيحاء دومًا لمحمد منذ صغره بأنه هو الأمير المقصود بالحديث
النبوى، «لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك
الجيش».
وقد استغرق تحقيق النقطة الأولى فترة تاريخية من حياة السلطان
«محمد» - بعد أن أصبح سلطانًا للدولة - لنرى فيه حملاته العسكرية،(8/12)
ونكتفى هنا بذكر حروبه البرية على الجبهة الأوربية. ففى عام
(857هـ=1453م) فتح «القسطنطينية»، وفى عام (863هـ= 1459م) فتح
«بلاد الصرب»، وفى عام (568هـ = 0641م) فتح «بلاد المورة»، وفى
عام (866هـ = 1462م) ضم «بلاد الأفلاق»، وبين عامى (867 - 884هـ =
1462 - 1479م) فتح بلاد «ألبانيا»، وبين عامى (867 - 870هـ =
1462 - 1465م) فتح بلاد «البوسنة والهرسك»، وفى عام (881هـ =
1476م) وقعت حرب «المجر».
ومنذ حرب بلاد «المجر» وحتى وفاة الفاتح عام (886هـ = 1481م)
دخلت الدولة العثمانية فى حروب بحرية كثيرة منها: ضم الجزر
اليونانية عام (884هـ = 1479م) وضم «أوترانتو» عام (885هـ=1480م)
ومعلوم أنه كان قد أعد بالفعل جيوشه وتحرك على رأسها لمحاربة
المماليك إلا أن الموت عاجله.
فتح القسطنطينية:
رأى السلطان «محمدالفاتح» أن فتح «القسطنطينية» كما أنه يحقق
أملا عقائديا عنده فإنه أيضًا يسهل للدولة العثمانية فتوحاتها فى
منطقة «البلقان» ويجعل بلاده متصلة لايتخللها عدو، وكانت
«القسطنطينية» تمثل الأرض التى تعترض طريق الفتوحات فى
«أوربا»، فبدأ فى عاصمته «أدرنة» الاستعداد لعملية فتح
«القسطنطينية»، ومن ذلك: صب المدافع خاصة الضخم منها،
والاستعداد لنقل هذه المدافع إلى أسوار مدينة «القسطنطينية».
ثم رأى السلطان «محمد» أن جده «بايزيد الصاعقة» كان قد بنى -
أثناء محاولته فتح «القسطنطينية» - قلعة على الضفة الآسيوية من
«البوسفور» سماها «أناضولو حصارى» أى «قلعة الأناضول».كانت
تقوم على أضيق نقطة من «مضيق البوسفور»، فقرر «محمد» أن
يبنى فى مواجهة هذه القلعة على الجانب الأوربى من «البوسفور»
قلعة سماها «روملى حصارى» أى «قلعة منطقة الروم» (يطلق
الأتراك على الجانب الأوربى من تركيا والمنطقة الملاصقة له
والمعروفة الآن باسم «البلقان» اسم «روم إيلى» أى منطقة الروم)،
وكان القصد من هذا هو التحكم فى «البوسفور» تمامًا، وكان(8/13)
السلطان «محمد» هو الذى وضع بنفسه تخطيط هذه القلعة، ونفذها
المعمارى «مصلح الدين آغا» ومعه (7000) عامل أنهوا مهمتهم فى
أربعة أشهر كاملة.
وبعد أن تم البناء خرج بعض الجنود العثمانيين لرؤية «القسطنطينية»
فما لبث أن وقع بينهم وبين البيزنطيين المجاورين لأسوار المدينة
بعض حوادث شغب، كان لها رد فعل عند السلطان «محمد» فأصدر
أوامره بإبعاد البيزنطيين المجاورين للأسوار والقرويين المجاورين
للمدينة، فقام إمبراطور «بيزنطة» «قسطنطين دركازيز» بإخلاء
القرى المجاورة، وسحب سكانها إلى داخل المدينة، ثم أمر
الإمبراطور بإغلاق أبواب «القسطنطينية» وإحكام رتاجها.
وبينما الاستعدادات العثمانية تجرى على قدم وساق فى «أدرنة»
لفتح «القسطنطينية» كان الوضع فى المدينة غاية فى الاضطراب،
فقد طلب الإمبراطور «قسطنطين» معونة عاجلة من البابا «نيقولا
الخامس» فاستجاب البابا وأرسل الكاردينال «ايزودور»
إلى «القسطنطينية» فتوجه هذا الكاردينال وهو كاثوليكى - إلى
«كنيسة آياصوفيا» وأقام فيها المراسم الكنسية على الأصول
الكاثوليكية مخالفًا بذلك بل ومتحديًا مشاعر شعب «القسطنطينية»
الأرثوذكسى.
وقف الشعب ينظر إلى الكاردينال المنقذ باشمئزاز بالغ، وكان
إمبراطور «القسطنطينية» يميل إلى فكرة اتحاد الكنيستين
الأرثوذكسية والكاثوليكية، أما رئيس الحكومة «لوكاس نوتاراس»
و «جناديوس» (الذى صار بطريقًا بعد الفتح) فقد عارضا بشدة هذا
الاتحاد خوفًا على الأرثوذكسية من الفناء، وقال «نوتاراس» قولته
الشهيرة: «إنى أفضل رؤية العمامة التركية فى القسطنطينية على
رؤية القبعة اللاتينية» ولم يكن البيزنطيون قد نسوا الأعمال الوحشية
التى قام بها «اللاتين» عندما احتلوا «القسطنطينية» عام (601هـ =
1204م) ومع ذلك فإن الكنيسة اللاتينية لم تتوانَ عن إرسال موجات
المتطوعين إلى «القسطنطينية» بناء على طلب إمبراطورها، لكن(8/14)
مجىء «ايزودور» لم يحقق أدنى نتيجة فى مسألة اتحاد الكنيستين.
الحصار والفتح:
حاصر العثمانيون «القسطنطينية» برا وبحرًا فى سنة (857هـ =
1453م) واشترك فى الحصار من الجنود البحرية (20000) جندى على
(400) سفينة، أما القوات البرية فكانت (80000) جندى، والمدفعية
(200) مدفع.
وقفت القوات البحرية العثمانية بقيادة «بلطة أوغلو سليمان بك» على
مدخل «الخليج الذهبى» وكان عليه تدمير الأسطول البيزنطى المكلف
بحماية مدخل الخليج وكان البيزنطيون قد أغلقوا - قبل الحصار -
الخليج بسلسلة حديدية طويلة يصعب من جرائها دخول أى سفينة إلى
الخليج، مما شكل أكبر معضلة أمام العثمانيين، لأن سفنهم كان
عليها أن تحمل الجنود وتدخل الخليج لإنزالهم لكى يضربوا
«القسطنطينية».
ثم جاءت ثلاث سفن جنوية، وسفينة بيزنطية بقيادة القائد الشهير
«جوستنيانى» أرسلها البابا للدفاع عن «القسطنطينية» ولنقل
الإمدادات إليها، جاءت هذه السفن ولم تستطع البحرية العثمانية
منعها، فبعد معركة عنيفة مع البحرية العثمانية تغلب «جوستنيانى»
ومضى بسفنه إلى الخليج، ففتح لها أهل «القسطنطينية» السلسلة
الحديدية وأدخلوها، وكانت هذه الحادثة دافعًا لكى يفكر السلطان
«محمد» فى خطة عسكرية شهد لها القواد العسكريون بالبراعة.
كانت هذه الخطة تقضى بنقل (67) سفينة من السفن الخفيفة عبر البر
من منطقة «غلطة» إلى داخل الخليج لتفادى السلسلة، وتمت هذه
العملية بوضع أخشاب مطلية بالزيوت على طول المنطقة المذكورة، ثم
دفعت السفن لتنزلق على هذه الأخشاب فى جنح الظلام، بعد أن
استطاعت المدفعية العثمانية بإطلاقها مدافع الهاون أن تشد انتباه
البيزنطيين إليها، ومن ثم لم يلتفت أحد لعملية نقل السفن إلى الخليج.
نقلت السفن وأنزلت إلى الخليج ووضعت الواحدة تلو الأخرى على
شكل جسر على عرض الخليج، حتى استطاع الجنود الانتقال عليها
وصولا إلى بر «القسطنطينية» وما إن جاء الصباح إلا وتملكت الدهشة(8/15)
أهل «القسطنطينية»، ويصف المؤرخ «دوكاس» وهو بيزنطى عاصر
الحادثة دهشته من هذه العملية قائلا: «إنها لمعجزة لم يسمع أحد
بمثلها من قبل ولم ير أحد مثلها من قبل».
وبعد أن فشلت البحرية العثمانية فى إحباط محاولة «جوستنيانى»
دخول الخليج، لم يملك السلطان «محمد» إلا الأمر بالهجوم العام الذى
اشتركت فيه كل القوات العثمانية مرة واحدة، وقبل هذا مباشرة
أرسل السلطان «محمد» إلى الإمبراطور للمرة الثانية - يطلب منه
تسليم المدينة سلمًا حقنًا للدماء، وللإمبراطور أن ينسحب إلى أى
مكان يريده بكل أمواله وخزائنه، وتعهد السلطان «محمد» بتأمين
أهل «القسطنطينية» - فى هذه الحالة - على أموالهم وأرواحهم
وممتلكاتهم، لكن الإمبراطور - بتحريض من الجنويين - رفض هذا
العرض.
وفى (16من ربيع الأول 857 هـ= 26 من مايو 1453م) أراد ملك
«المجر» أن يضغط على السلطان «محمد» فى هذا الوقت الحرج،
فأرسل يقول له: «إنه فى حالة عدم توصل العثمانيين إلى اتفاق مع
إمبراطور «القسطنطينية» فإنه (أى ملك المجر) سيقود حملة أوربية
لسحق العثمانيين، ولم تغير هذه الرسالة شيئًا.
مضى نهار يوم (28 من مايو) هادئًا، وعند الفجر وبعد الصلاة
مباشرة، اتجه السلطان «محمد» إلى مكان الهجوم ومع دوىّ المدافع
الضخمة الذى بدأ، صدر الأمر السلطانى بإخراج العلم العثمانى من
محفظته، وهذا يعنى عند الأتراك الأمر ببداية الهجوم العام.
واستطاعت المدافع أثناء ذلك إحداث فتحة فى الأسوار، ثم اجتاز
الجنود العثمانيون الخنادق المحفورة حول «القسطنطينية» واعتلوا
سلالم الأسوار، وبدأ الجنود يتدفقون على ثلاث موجات، اشتركت
«الإنكشارية» فى الثالثة منها، فاضطر «قسطنطين» أن يدفع بقواته
الاحتياطية التى كانت مرابطة بجوار كنيسة الحواريين «سانت
أبوترس» (مكان جامع الفاتح بعد ذلك) لتدخل المعركة، وما لبث أن
أطلق جندى عثمانى سهمه فأصاب القائد «جوستنيانى» إصابة(8/16)
بالغة فانسحب «جوستنيانى» من ميدان المعركة رغم توسلات
الإمبراطور له، لأن «جوستنيانى» كان له دور كبير فى الدفاع عن
المدينة.
وكان أول شهداء العثمانيين هو الأمير «ولى الدين سليمان» الذى
أقام العلم العثمانى على أسوار المدينة البيزنطية العريقة، وعند
استشهاده أسرع (18) جنديا عثمانيا إليه لحماية العلم من السقوط
واستطاعوا حمايته حتى واصل بقية الجنود تدافعهم على الأسوار،
وثبت العلم تمامًا على الأسوار بعد أن استشهد أيضًا هؤلاء الثمانية
عشر جنديا، أثناء ذلك كان العثمانيون يواصلون تدفقهم إلى
المدينة، عن طريق الفتحات التى أحدثتها المدفعية فى الأسوار، ثم
عن طريق تسلق السلالم التى أقاموها على أسوار المدينة، وتمكن
جنود من فرق الهجوم العثمانية من فتح بعض أبواب «القسطنطينية»
ونجح آخرون فى رفع السلاسل الحديدية التى وضعت فى مدخل
الخليج لمنع السفن العثمانية من الوصول إليها، فتدفق الأسطول
العثمانى إلى الخليج وبعد ذلك إلى المدينة نفسها، وساد الذعر
البيزنطيين وكان قد قتل منهم من قتل، وهرب من استطاع إلى ذلك
سبيلا.
الفاتح يعطى الأمان:
عندما دخل «محمد الفاتح» المدينة أمر بإحراق جثث القتلى تفاديًا
للأمراض، وسار على ظهر جواده إلى كنيسة «آيا صوفيا» حيث تجمع
الشعب البيزنطى ورهبانه، وما إن علموا بوصول السلطان الفاتح
حتى خروا سجدًا راكعين بين أنين وبكاء وعويل، ولما وصل الفاتح،
نزل من على ظهر حصانه وصلى ركعتين شكرًا لله على توفيقه له
بالفتح، ثم سار يقصد شعب بيزنطة ورهبانه، ولما وجدهم على هذه
الحالة من السجود انزعج وتوجه إلى رهبانهم قائلا: «قفوا استقيموا
فأنا السلطان محمد، أقول لكم ولجميع إخوانكم ولكل الموجودين
هنا، إنكم منذ اليوم فى أمان فى حياتكم وحرياتكم»، وهذا ما سجله
مؤرخ بولونى كان معاصرًا.
وكان لهذا التصرف من الفاتح أثر كبير فى عودة المهاجرين النصارى(8/17)
الذين كانوا قد فروا من المدينة، وأمر الفاتح قواده وجنوده بعدم
التعرض للشعب البيزنطى بأذى، ثم طلب من الناس العودة إلى ديارهم
بسلام، وحول «آيا صوفيا» إلى جامع، على أن تصلى فيه أول
جمعة بعد الفتح (كان الفتح يوم ثلاثاء) وكانت «آيا صوفيا» أكبر
كنيسة فى العالم وأقدم مبنى فى أوربا كلها، وسميت المدينة
«إسلامبول» أى مدينة الإسلام.
كان سلوك الفاتح عندما دخل «القسطنطينية» ظافرًا؛ سلوكًا مختلفًا
تمامًا عما تقول به شريعة الحرب فى العصور الوسطى، وهو نفى
شعب المدينة المفتوحة إلى مكان آخر أو بيعه فى أسواق النخاسة،
لكن الفاتح قام بما عجز عن فهمه الفكر الغربى المعاصر له من
تسامح ورحمة، فقد قام بالآتى:
- أطلق سراح الأسرى فورًا نظير مقابل مادى قليل يسدد على
أقساط طويلة المدى.
- وأسكن الأسرى الذين كانوا من نصيبه فى المغانم فى المنازل
الواقعة على ساحل الخليج.
- وعندما أبيحت «القسطنطينية» للجنود ثلاثة أيام عقب الفتح، كان
هذا الإذن مقتصرًا على الأشياء غير المعنوية، فلم تُغتصب امرأة ولم
يُمسَّ شيخ ولا عجوز ولا طفل ولا راهب بأذى، ولم تهدم كنيسة ولا
صومعة ولا دير ولا بيعة، مع أن المدينة أُخذت بالحرب ورَفضت
التسليم.
- وكان من حق الفاتح قانونًا - ما دامت المدينة قد أخذت عنوة- أن
يكون هو نيابة عن الجيش الفاتح مالكًا لكل ما فى المدينة، وأن
يحول نصف الكنائس والبيع على مدى زمنى طويل إلى جوامع
ومساجد، وأن يترك النصف الآخر لشعب المدينة على ما هو عليه،
وفى وقفيات السلطان «محمد الفاتح» بنود كثيرة على بقاء أديرة
«جوكاليجا» و «آيا» و «ليبس» و «كيرا ماتو» و «الكس» فى يد
البيزنطيين.
- واعترف لليهود بملكيتهم لبيعهم كاملة، وأنعم بالعطايا على
الحاخام «موسى كابسالى».
- وعين فى سنة (865هـ= 1461م) للجماعات الأرمنية بطريقًا يدعى
«يواكيم» ليشرف على مصالح الأرمن ويوحد صفوفهم.(8/18)
- وبدأ فى أعمال تعمير المدينة ابتداء من (23 من ربيع الأول 857هـ =
12 من يونية 1453م) (كان الفتح يوم 29 من مايو من العام نفسهـ)
وأمر بنقل جماعات كثيرة من مختلف أنحاء الدولة إلى
«القسطنطينية» للإسهام فى إعادة إنعاشها.
- وأعاد للأرثوذكس كرامتهم التى أهدرها اللاتين الكاثوليك بأن
أعطاهم حق انتخاب رئيس لهم، يمثلهم ويشرف على شئونهم، وأصبح
«سكولا ريوس» (جناديوس) أول بطريق لهم بعد الفتح العثمانى
للقسطنطينية، وبذلك أنقذ الفاتح إيمان الأمة التى فتح ديارها،
وأحيا الأرثوذكية بعد أن أخذت تخفت.
- وجعل الفاتح مسائل الأحوال الشخصية مثل: الزواج والطلاق
والميراث وأمور الوفاة الخاصة بأهل المدينة المفتوحة من حق
الجماعات الدينية المختصة، وكان هذا امتيازًا منعدم النظير فى
«أوربا» فى ذلك الوقت.
الفاتح وحكام عصره:
كان تصرف «الفاتح» تصرفًا حضاريا فى الوقت الذى كان الحكام من
الشرق والغرب يتلذذون بسفك الدماء وبقتل الناس بالآلاف، ويتلذذون
وهم على موائد الطعام بمنظر الأسرى وقد اخترقت بطونهم أسنة
رماح الجنود، وبرفع الأسرى على الخوازيق وبخلط دمائهم بأنواع
الشراب، كما فعل «جنكيزخان» و «تيمورلنك» فى الشرق، و «فلال»
و «هونيادى» فى الغرب.
إن دولة «بيزنطة» هدمت حى المسلمين فى «القسطنطينية» وأبادت
سكانه بعد أن علم الإمبراطور بانتصار «تيمورلنك» على السلطان
العثمانى «بايزيد الصاعقة» فى واقعة أنقرة عام (805هـ = 1402م).
وأزهقت الجيوش الصليبية فى عملية احتلال القدس أرواح (70000)
برىء، يقول «هـ. ج. ويلز» فى ذلك: «كانت المذبحة التى دارت فى
بيت المقدس رهيبة وكان الراكب على جواده يصيبه رشاش الدم الذى
سال فى الشوارع .. » ويقول المؤرخ نفسه عن «هولاكو»: «كان
هولاكو يفتح فارس وسوريا وأظهر المغول فى ذلك الزمان عداوة
مريرة للإسلام، ولم يكتفوا بتذبيح سكان بغداد .. بل وقد صارت أرض(8/19)
الجزيرة منذ تلك اللحظة التعسة يبابًا من الخرائب والأطلال لا تتسع إلا
للعدد القليل من السكان».
وتقول «سامحة آى ويردى»: «إن الجيوش الصليبية التى تدفقت على
القسطنطينية عام (603هـ = 1206م) قامت بتحويل المدينة إلى خرابة
بائسة فقيرة معدمة بعد أن كانت غنية معمورة يسودها الرخاء».
وعندما دخل «شارل الخامس» «تونس» عام (947هـ = 1540م) لم يترك
حيا أمامه إلا قتله ولم تسلم من وحشيته حتى الجمال والقطط، وهذا
ما ذكره «شهاب الدين تكين داغ» فى مذكراته عن الدولة العثمانية.
إن هذه الأمثلة إذا ما قارناها بموقف «الفاتح» الحضارى من
«القسطنطينية» وأهلها، نرى «الفاتح» قائدًا منعدم النظير بين
أقرانه من أباطرة الشرق وحكام الغرب، ولو كان «الفاتح» قد اتبع
ما كان يجرى على الجانب الغربى من البحر المتوسط من فظائع
الإسبان فى «الأندلس» وما فعلوه بالمسلمين وبالعرب ما أصبح هناك
مسيحى واحد فى «القسطنطينية».
دور المدفعية العثمانية:
كان المدفع اختراعًا حديثًا مروعًا غيّر مجرى التاريخ، وكان «مدفع
الهاون» اختراعًا عثمانيا عرفه العالم لأول مرة أثناء حصار
العثمانيين للقسطنطينية كما كان المدفع الضخم خاصة مدفع الهاون
أكبر عامل فى فتح المدينة.
كان المدفع الضخم من اختراع اثنين هما: «مصلح الدين» و «أوربان» -
و «أوربان» هذا مختلف فى أصله هل هو مجرى أو رومانى - وكان
المدفع ضخمًا جدا، وكانت تُسمع طلقاته من مسافة (25ميلا) وقذيفته
من الحجر والبارود تبلغ زنة القذيفة الواحدة (1500) كيلو جرام، يصل
مداها إلى مسافة ميل. يقول «أدارى مونتالدو»: «إن عدد المدافع
التى صبها كل من مصلح الدين وأوربان قد بلغ 200 مدفع».
وعندما كان المدفع ينقل من «أدرنة» العاصمة إلى «القسطنطينية»
ليستقر أمام أسوارها كان لزامًا على العثمانيين توسعة طريق
«أدرنة - القسطنطينية» وقام بهذه العملية (50) مهندسًا ومائتا عامل،(8/20)
وكان يجر المدفع (60) جاموسة، ويسند المدفع من على جانبيه (400)
رجل قوى، (200) على كل جانب، وذلك حتى لا ينزلق المدفع يمنة أو
يسرة أثناء مروره.
ولقد لعبت مدافع الهاون دورًا ملحوظًا فى الحصار سواء فى الضرب
أو فى عمليات التمويه، وبسبب هذه المدافع حدث التحول الكبير فى
«أوربا».
السلطان بايزيد الثانى:
انفرد «بايزيد الثانى بن محمد الفاتح» بالسلطة بعد نزاع بينه وبين
أخيه «جم»، وكان الأخوان قد اختلفا بعد وفاة والدهما فى (4 من
ربيع الأول سنة 886هـ= 3 من مايو سنة 1481م)، وانتهى الصراع
بينهما لصالح «بايزيد»،وفر «جم» إلى «القاهرة»، ثم إلى
«فرنسا»، ثم إلى «إيطاليا»، وقد تكفل أخوه «بايزيد» بالإنفاق
عليه فى كل مكان ذهب إليه، وقد حاول بابا روما استخدام الأمير
«جم» أداة ضغط على الدولة العثمانية، لكنه لم يعش طويلاً.
عُرف «بايزيد» بلقب الولى أو الصوفى، لأن حروبه ضد «أوربا» لم
تكن فى مستوى من سبقوه فى حكم الدولة العثمانية، لكن كانت له
حملات على «المجر» و «البغدان» و «بلجراد»، كما كانت له معارك فى
«الأناضول»، وصدام مع المماليك، لكن «يحيى الثالث» سلطان
«تونس» قام بالوساطة بين الدولتين.
وقامت فى عهده أول حملة عثمانية فى غربى «البحر المتوسط»،
بهدف مساعدة المسلمين فى «الأندلس»، ودخلت هذه الحملة المياه
الإسبانية، واستولت على ميناء «مالقة» الذى كان الإسبان قد
استولوا عليه من مسلمى «الأندلس» قبل أشهر.
وبعد سقوط «غرناطة» فى أيدى الإسبان سنة (897هـ= 1492م)
انتشر نحو (300) ألف مسلم على سواحل «إسبانيا»، وقد قامت
السفن العثمانية بنقل هؤلاء إلى «فاس» و «الجزائر»، وأنقذتهم من
المصير المؤلم الذى تعرَّض له المسلمون بالداخل، وظلَّت هذه الحملات
تتتابع، وقاد أغلبها «كمال رئيس» نحو (23) سنة حتى استشهد
أثناء عودته من حملة على «إسبانيا» سنة (917هـ= 1511م).
عقد «بايزيد الثانى» صلحًا مع «أوربا» لمدة عشرين سنة تقريبًا،(8/21)
وكان السبب فى ذلك انشغال الدولة العثمانية بتحركات الشاه
«إسماعيل الصفوى»، الذى جعل «إيران» دولة شيعية، وكوَّن جيشًا
قويا، ووسع حدوده، وتفوق على المماليك عسكريا واقتصاديا،
وعمل على التوسع على حساب الدولة العثمانية، والتحالف مع
«أوربا» ضد العثمانيين، وحاول التحالف مع «مصر» ضد الدولة
العثمانية، لكن المماليك فى «مصر» رفضوا ذلك.
حدثت مناوشات بين الشاه «إسماعيل الصفوى» وبين «سليم ابن
السلطان بايزيد» والى «طرابزون»، كان النصر فيها حليف «سليم بن
بايزيد»، فأثار ذلك حفيظة الشاه، فاشتكى إلى السلطان «بايزيد»
من ابنه، فأمر بإعادة الأراضى التى استولى عليها إلى الصفويين.
وقد أدَّى هذا التصرف إلى استياء «سليم بن بايزيد» من والده،
وشكه فى مقدرة والده على التصدى للدولة الصفوية، فقام بانقلاب
على والده، بمساعدة الجنود الإنكشارية، التى سارت بالأمير «سليم»
إلى «إستانبول»، وطلبوا من السلطان «بايزيد» التنازل عن عرش
السلطنة لابنه «سليم»، فقبل واستقال فى يوم (8 من صفر سنة 918
هـ= 25 من أبريل سنة 1512م).
نظام الحكم:
كانت سلطة اتخاذ القرار فى الفترة الأولى من تاريخ الدولة العثمانية
تتمثل فى الديوان الهمايونى فى العاصمة، وفى الديوان فى
الولايات.
والديوان الهمايونى ( Divan imeperiel) اسم أطلق على الديوان
الذى يجتمع برئاسة السلطان، لينظر فى أمور الدولة ذات الأهمية الأولى،
وهو امتداد حضارى لهذه المؤسسة منذ عهد السلاجقة ثم الإيلخانيين
والدول التركية الأخرى، ومثله فى ذلك مثل الديوان العالى عند السلاجقة
والديوان الكبير عند الإيلخانيين والديوان السلطانى عند المماليك.
كانت مهمة الديوان الهمايونى دراسة أمور الدولة السياسية والإدارية
والعسكرية والعرفية والشرعية والعدلية والمالية، كما كانت مهمته
النظر فى الشكاوى والقضايا، واتخاذ القرار بشأنها، وكان الديوان(8/22)
مفتوحًا لكل من يتمتع بحماية الدولة العثمانية مهما يكن دينه أو ملته،
ومهما يكن عرقه أو مكان موطنه فى الدولة، ومهما تكن مهنته أو
الطبقة الاجتماعية التى ينتمى إليها، كما كان الديوان مفتوحًا لكل
رجل أو امرأة يتعرض للظلم، أو لمن صدر حكم من القضاة المحليين
ضده ويرى خطأ هذا الحكم، أو لمن يشكو الولاة أو الجنود أو
الضباط، أو لمن وقع عليه ظلم القائمين على الأوقاف.
وكانت الشئون الإدارية والعرفية فى الديوان من اختصاص «الوزير
الأعظم»، أما الشئون الخاصة بالأراضى فكانت من اختصاص
«النشانجى» (التوقيعى)، أما الشئون الشرعية والقانونية فكانت من
اختصاص «قاضيى عسكر»، أما الشئون المالية فكانت من نصيب
«الدفتردار»، وكانت القرارات التى يتخذها والأمور التى ينظرها
تسجل بدفاتر تسمى «مهمة دفترى» و «رءوس دفترى» و «نامه»
و «عهد نامه» ثم تُمهر بخاتم السلطان الذى يكون عادة فى عهدة
الوزير الأعظم، ثم تودع فى «الدفترخانة».
ويتشكل الديوان الهمايونى من أعضاء دائمين (الأعضاء الطبيعيين)،
وأعضاء مؤقتين.
الأعضاء الدائمون:
هم السلطان والصدر الأعظم أو الوزير الأعظم وقاضيا العسكر
والنشانجى (وهو التوقيعى أو الطغرائى) والدفتردار.
الأعضاء المؤقتون:
هم أمير أمراء الروملى (إذا كان موجودًا فى العاصمة)، وأغا
الإنكشارية، وقائد الأسطول (إذا كان حائزًا على رتبة الوزير فيكون
عضوًا دائمًا)، وشيخ الإسلام (إذا دعى للحضور).
هذا بالإضافة إلى المساعد (الكادر) وأهمهم رئيس الكُتاب والتذكرجى
وجاووش باشى والكُتاب.
ويستطيع السلطان استخدام سلطاته أو إحالتها إلى الوزير الأعظم.
سلطات الديوان الهمايونى:
1 - السياسية:
يتمتع «الديوان الهمايونى» بأعلى سلطة فى الدولة بعد السلطان،
ومهمته المحافظة على نظام الحكم وضمان ملائمة جميع أجهزة الدولة
لهذه السلطة، ومنع القيام ضدها، وهوصاحب المسئولية فى اتخاذ ما(8/23)
يراه كفيلا للقيام بمهمته، خاصة أن هذا الديوان يمثل قوى رأس
الدولة كلها.
وتنقسم سلطة الديوان الهمايونى السياسية إلى قسمين: داخلية
وخارجية:
أ - السياسة الداخلية:
السلطة السياسية الداخلية التى يمارسها الديوان الهمايونى هى
حماية الشريعة الإسلامية، وإعلاء الإسلام، وسحق كل حركة تقوم
ضده، واستقبال من أسلم حديثًا، وإقرار رواتب لهم من الدولة، كل
حسب وضعه الاجتماعى، وتقديم هدايا مناسبة لهم وحمايتهم من
تدخل سفراء الدول التابعين لها، وعدم تسليمهم لهم عند مطالبة
هؤلاء السفراء بتسليم المهتدين حديثًا إلى الإسلام لهم، فى حالة ما
إذا كان هذا المسلم حديثًا من مواطنى دولة أخرى، أما إذا كان من
مواطنى الدولة العثمانية فالديوان يستقبلهم ويوزع عليهم هدايا
ويربطهم برواتب منتظمة من الدولة، كما كان يتخذ تدابير شديدة ضد
من يرتد عن دينه من المسلمين.
ب - السياسة الخارجية:
كانت السياسة الخارجية العثمانية التى ينفذها الديوان الهمايونى
تتلخص فى الآتي: نشر الإسلام بكل ما تستطيعه الدولة من إمكانات
وبتعبير آخر: «تحويل دار الحرب إلى دار إسلام»، وكان هذا أحد أهم
الأهداف السياسية الخارجية العثمانية التى يتولى تنفيذها الديوان
الهمايونى. وقد نجحت هذه السياسة الخارجية نتيجة توسيع حدود
الدولة العثمانية، وهذا يعنى نشرها للإسلام، ولم تتوقف حروب الفتح
إلا منذ أواخر القرن السادس عشر الميلادى، ومنذ ذلك الحين جعل
الديوان الهمايونى هدفه فى السياسة الخارجية حماية الأراضى
المفتوحة والدفاع عنها.
ومع تداخلات الدول الأوربية فى السياسة الخارجية العثمانية وإرسال
هذه الدول سفراء مؤقتين ثم سفراء دائمين لها فى إستانبول أصبح
السفراء يقدمون رسائلهم إلى الديوان الهمايونى، ويحصلون على
أجوبتها فى مراسم رسمية يوضحها «قوجى بك» فى رسالته
المشهورة، وكان للسفراء الأجانب أن يقدموا شكاوى للديوان(8/24)
الهمايونى إذا حدث إخلال بالاتفاقات المعقودة بين بلادهم وبين
الدولة العثمانية التى تسمى فى «عهد نامه»، وكان الديوان يحقق
فيها ويعدل. وكان لهذا الديوان حق تعيين العثمانيين فى المناصب
الدبلوماسية، وكانوا غالبًا من البيروقراطيين العاملين فيه.
أما أهم سلطات الديوان الهمايونى فكان إعلان الحرب، وكان المعتاد
أن يحيل السلطان قرار الحرب إلى الديوان الهمايونى لدراسته واتخاذ
اللازم لتنفيذه، وكان هذا القرار أحيانًا يُتخذ فى الديوان الهمايونى.
2 - الإدارية:
كان التفتيش على جميع الأعمال الإدارية فى البلاد من سلطات الديوان
الهمايونى وهو فى ذلك - بعد السلطان - السلطة الأولى فى البلاد
وعليه محاكمة الموظفين إذا لزم الأمر.
وإن كان توجيه المناصب إلى حدّ معين من اختصاص الجهات الإدارية
الأخرى، مثل: تعيين القضاة الذى هو من اختصاص قاضى العسكر؛
فإن التعيين فى بعض المناصب مثل منصب «صوبا شى» المدن
الكبرى من اختصاص الديوان الهمايونى. وإذا صدر قرار بتعيين
شخص فى منصب وتظلَّم من هذا التعيين أو النقل فمن حقه مراجعة
الديوان الهمايونى، وللديوان فى هذه الحالة الأمر بإجراء التحقيقات
وعمل اللازم.
ومن السلطات الإدارية لهذا الديوان أيضًا حماية أهل الذمة فى البلاد
من تعديات الإداريين وإعادة الحق إليهم ومعاقبة المسئولين عن ذلك.
وكانت خيوط المركزية الإدارية فى الدولة تتجمع فى هذا الديوان،
مثال ذلك: أن الديوان طلب من أجهزة الدولة المسئولة عمل قوائم بكل
الموجودين داخل حدود الدولة العثمانية وتسليمها إلى الديوان
الهمايونى وتجديدها كل ثلاثين عامًا، وأن على المسئولين عن هذا
تسجيل الوفيات والمواليد خلال هذه الأعوام الثلاثين، وهو ما يعرف
اليوم بالإحصاء العام.
3 - المالية والاقتصادية:
والديوان الهمايونى هو سلطة الفصل العليا فى الأمور الاقتصادية
والمالية على أعلى مستوياتها فى الدولة، فالوزير الأعظم(8/25)
والدفتردار عضوا الديوان الطبيعيان، وهما صاحبا السلطة الأولى فى
الدولة - بعد السلطان - فى التصرف فى الأمور المالية، ومن مهام
الديوان الطبيعية الضرائب والاقتصاد والمال.
أما عن الضرائب: فمهمة الديوان تحرير موارد البلاد المفتوحة بدقة
وعناية فائقتين، والإشراف المباشر سنويا على الضرائب التى من حق
الخزينة العامة، وتسلم دفاتر الضرائب التى تُحصَّل سنويا من جميع
أرجاء البلاد، ويكتب منها نسختان: نسخة فى مركز الولاية، ونسخة
أخرى ترسل إلى «إستانبول» لتسلَّم إلى الديوان الهمايونى.
والقوانين التى تسن لجمع الضرائب تعد فى الديوان الهمايونى ويقوم
بإعدادها التوقيعى (النشانجى) ومجموعة مساعديه، وينظر الديوان
فى مدى مطابقة هذه الضرائب للعدالة الضريبية بناءً على مدى
مطابقتها للشرع الإسلامى.
ويتساوى فى هذا جميع أنواع الضرائب، ومن أهمها ضرائب الجمارك
التى يتابعها الديوان بدقته المعهودة، حتى إنه يتدخل فورًا إذا قدمت
له شكوى تخص تحصيل هذه الضرائب بغير وجه حق إلى أبسط أنواع
الضرائب وأخفها.
وعلى الديوان الهمايونى ضمان عدم تحصيل الضرائب من الذين لا
تحصل منهم مثل: رجال الدين الذميين، ومجازاة المرتشين - إذا وجدوا
- فى عمليات جمع الضرائب، والعمل على عدم إهدار المال العام
واتخاذ التدابير الصارمة فى هذا السبيل، واتخاذ الإجراءات الضرورية
لحماية البائع والمستهلك على حد سواء، ومراقبة أعمال قطع
الأشجار وأعمال المحافظة على الخضرة.
ومن مهام الديوان الهمايونى أيضًا اتخاذ التدابير الضرورية لتطور
اقتصاد البلاد، والعمل على عدم سيطرة تجار معينين على تجارة
البلاد واحتكارهم لها، وعدم تخزين البضائع والمواد الضرورية فى
الوقت المناسب ثم بيعها بعد ذلك بأسعار باهظة، والقضاء على
التهريب وحصر ثروة السلطان إذا توفى وغير ذلك.
أعضاء الديوان الهمايونى الطبيعيون (غير السلطان) هم:
- الوزير الأعظم:(8/26)
وتتلخص سلطاته فى أنه وكيل السلطان وحامل خاتمه، وكان يعين
فى أوائل الحكم العثمانى من طبقة العلماء، ومنذ عهد «مراد الأول»
(791 - 794 هـ = 1389 - 1392م) كثر عدد الوزراء، ولذلك سمى أولهم
الوزير الأعظم، وكانت له رئاسة الديوان الهمايونى نيابة عن السلطان
فى حالة عدم وجوده، وسلطة تعيين العلماء ومن على شاكلتهم
وعزلهم وترقيتهم، وله فى أوقات الحرب سلطة السلطان فى كثير
من الأمور.
ولابد أن يشترك مع السلطان فى الحرب، فإذا ترك السلطان الحرب
لسبب أو لآخر يتولى الوزير الأعظم قيادة الجيش نيابة عن السلطان،
وفى أثناء ذلك يحمل لقب «السردار الأكرم»، ويترك فى حالة الحرب
فى مكانه موظفًا فى البلاد يسمى «قائمقام الصدارة» أو «قائمقام
الركاب الهمايونى» يرأس الديوان الهمايونى فى العاصمة بدلا من
الوزير الأعظم بمقتضى بنود القانون.
- قاضيا العسكر:
وموقعهما فى البروتوكول خلف الوزير الأعظم مباشرة، وهما اثنان:
قاضى عسكر الأناضول وقاضى عسكر الروملى (البلقان)، وكانا
يستمعان إلى الشكاوى، ويجلسان على يسار الوزير الأعظم فى
الوقت الذى يكون فيه بقية الوزراء على يمينه، وكان عليهما حل
المسائل الشرعية، ويمثلان العلماء؛ إذ إن شيخ الإسلام لم يكن عضوًا
بالديوان الهمايونى. وأهم عمل لهما فى الديوان الاستماع إلى
القضايا المعروضة.
- النشانجى:
ويسمى بالتوقيعى وأحيانًا بالطغرائى والمعنى الحرفى لعمله: «هو
الشخص الذى يختم الفرمانات السلطانية بالطغراء»، لكن سلطاته
كانت أوسع من ذلك، فهو الذى يعد الفرمانات من حيث صياغتها،
ويكتب بنفسه أهم الفرمانات، وعليه تثبيت قواعد الحقوق العرفية
الواجب وضعها أو تغييرها، والمراجعة الأخيرة لما يعده الدفتردار من
وثائق.
ونظرًا لأهميته فى الديوان فقد كان اختياره من العلماء ثم من بعد
ذلك من الكتّاب البارزين، ولم يكن لشيخ الإسلام ولا لقاضى العسكر
دخل فى اختيار النشانجى أو تعيينه.
- الدفتردار:(8/27)
وله سلطة خاصة وهو وكيل السلطان فى مال الدولة، وميدان عمله
الأمور المالية فى الدولة، ومن واجباته فتح الدفترخانة والخزانة،
ويعرض على السلطان مسائله عقب اجتماع الديوان فى أيام الثلاثاء.
القوة العسكرية ومدى تفوقها:
منذ بداية نشأة الدولة العثمانية بدأ الاهتمام بالجيش، وقد كون
السلطان «أورخان» ثانى السلاطين العثمانيين «العسكر الجديد»، أو
ما عرف فيما بعد بالإنكشارية، وتعد أشجع فرق الجيش العثمانى، إذ
كان جنودها يربون تربية خاصة منذ صباهم، وقد اهتم السلاطين
العثمانيون بتطوير الجيش وأخذه بأحدث أساليب القتال، وكونت فرق
الطوبجية (المدفعية) وفرق الفرسان المهاجمة، وغيرها.
ولتفوق العثمانيين فى المدفعية كان لهم النصر فى كثير من المعارك
التى خاضوها ضد أعدائهم. وكان أكثر السلاطين العثمانيين اهتمامًا
بالجيش وأكثرهم تطويرًا له السلطان «محمد الفاتح» - طيب الله ثراه -
فقد أنشأ مصانع الذخيرة، وأدخل إصلاحات جديدة فى الجيش،
ويمتاز السلطان «محمد الفاتح» عمن سبقه من السلاطين أنه إلى
جانب اهتمامه وعنايته بتنظيم وتنمية قوات الجيش البرى أولى
اهتمامًا كبيرًا وعناية عظيمة للقوة البحرية، وقد حثه على تنمية
الأسطول العثمانى ما رأى عليه دولة «البندقية» (فينسيا)، من قوة
وثراء، بفضل أسطولها البحرى، ولذلك لم يدخر السلطان «محمد
الفاتح» وسعًا فى سبيل تنمية القوة البحرية وإدخال أسباب
التحسين عليها؛ فأمر باتخاذ سفن «البندقية» و «جنوة» - أكبر الدول
البحرية فى ذلك العهد - نماذج تبنى على مثالها السفن العثمانية،
وقد رأينا -فيما سبق - أن هذا الأسطول ساعد «محمداً الفاتح» فى
فتح «القسطنطينية» وفى فتوحاته البحرية فى بحر «إيجة»،وكذلك
فى إنزاله جيشه فى جنوب «إيطاليا».
وقد بلغ الجيش العثمانى بقسميه البرى والبحرى أقصى قوة له فى
القرن العاشر الهجرى، وذلك فى عهد الخليفة السلطان «سليمان(8/28)
القانونى» حتى غدا الجيش البرى أقوى جيش على الساحة الأوربية،
كما أن الأسطول العثمانى كان يتكون فى عهده مما يزيد على ألفى
مركب حربى وكان الأسطول العثمانى مهيمنًا على معظم «البحر
المتوسط»؛ إذ كان يستطيع النزول فى أى شاطئ من شواطئه،
ولذلك فتح العثمانيون «نيس» على شاطئ «فرنسا» ونزلوا عدة
مرات فى شواطئ «إيطاليا»، وأغاروا على شواطئ «الأندلس»
(إسبانية) منقذين كثيرًا من مسلميها الفارين بدينهم من محاكم التفتيش
النصرانية، وقد حاول الأوربيون تدمير هذا الأسطول، فاجتمعت سفن
البابا و «البندقية» و «إسبانيا» عليه لكنهم فشلوا، أما الجيش البرى
فقد بلغ سور «فيينا» واستولى على كثير من مدن وقلاع «البلقان»
كتيمسوالا (غرب رومانيا حاليا) و «بودا» عاصمة «المجر»،و «أنجرا»
فى شمال «المجر» وغيرها.(8/29)
الفصل الثالث
*تحول السلطنة إلى خلافة
أسباب تحول العثمانيين من التوسع فى أوربا إلى الأراضى
الإسلامية:
يتساءل المؤرخون العرب عن السبب الذى جعل العثمانيين يتركون
جهادهم فى الميدان الأوربى، ويتجهون إلى ميدان الشرق الإسلامى
ليحاربوا فيه ويفرضوا عليه سلطانهم، وكان الأولى بهم الحرب فى
«أوربا» حيث التكتل الصليبى ضد العثمانيين المسلمين، ويمكن
إجمال السبب فى ذلك فى شقين:
أ - ازدياد النمو الشيعى فى «إيران» و «العراق»، وتهديد الدولة
الصفوية للعثمانيين، وضربها لدولتهم من الخلف أثناء انطلاقاتها فى
«أوربا».
ب - تنامى الخطر البرتغالى فى الخليج العربى وتهديدهم للأراضى
المقدسة فى الجزيرة العربية، وعجز المماليك عن مواجهتهم.
علاقة السلطان سليم بالدولة الصفوية:
أرسل الشاه «إسماعيل الصفوى» دعاته لنشر المذهب الشيعى فى
«الأناضول»، وما لبثوا أن وجدوا بعض المؤيدين، ثم قامت جماعة
«القيزيل باش» أى العلويين فى منطقة «إنطاكية» العثمانية بالتمرد
على سلطة الدولة العثمانية، استجابة لأوامر من الشاه «إسماعيل»
نفسه، وقاد هذا التمرد شخص عرف باسم «شاه قولو» أى «عبد
الشاه»، وكان هذا التمرد رهيبًا، استخدم العثمانيون فيه كل قوتهم
حتى نجحوا فى إخماده بقيادة «سليم بن السلطان بايزيد» والى
إمارة «طرابزون» القريبة من «إيران».
وحدث الصدام الأول بين «سليم بن بايزيد» والصفويين، عندما احتل
«سليم» أربع مدن من مخلفات إمبراطورية «الآق قوينلو»، وأرسل
الشاه «إسماعيل» الذى يدعى أنه وريث تلك الإمبراطورية المنهارة
أخاه «إبراهيم ميرزا» على رأس جيش لاستعادة تلك المدن، لكنه هزم
أمام «سليم» الذى دمَّر جيشه وأوقعه فى الأسر.
وأدَّت انتصارات «سليم» إلى إكسابه مكانة كبيرة وتقديرًا وإعجابًا
فى نفوس الناس، حتى نظمت فيه قصائد شعبية، غير أن السلطان
«بايزيد» أمر ابنه «سليمًا» أن يطلق سراح أخى الشاه، ويترك المدن(8/30)
الكبرى التى استولى عليها، بناءً على شكوى من الشاه
«إسماعيل»، ولم يلقَ هذا التصرف قبولاً لدى الجيش أو الشعب، ثم
تطورت الأمور، وأجبر الجيش السلطان «بايزيد الثانى» على التخلى
عن العرش لابنه «سليم الأول».
ولما تولَّى «سليم الأول» الحكم سنة (918هـ= 1512م)، جاءته الرسل
من كل الأنحاء لتهنئته، ولم يحضر أحد من «إيران» الصفوية، فزاد
ذلك من شقة الخلاف بين الدولتين، وتطور الأمر بينهما إلى الاحتكام
إلى السيف، فالتقى العثمانيون مع الصفويين فى (2 من رجب 920هـ=
23 من أغسطس سنة 1514م) فى معركة «جالديران»، فانتصر
«سليم»، وهزم الشاه «إسماعيل»، الذى هرب ناجيًا بحياته، وترك
زوجته فى الميدان، ودخل «سليم» العاصمة الإيرانية «تبريز».
وفى طريق العودة ضم «سليم» إلى دولته أراضى «ذى القادر»؛ لأن
حاكمها «علاء الدين»، التابع لدولة المماليك رفض مساعدة «سليم»
عندما كان فى طريقه لمحاربة الصفويين، مما وتّر العلاقة بين
العثمانيين ودولة المماليك، وقام بينهما عداء سافر، ساعد فيه
الاتفاق بين دولة المماليك فى «مصر» و «الشام» وبين الصفويين ضد
العثمانيين، وزاد الأمر تعقيدًا عثور العثمانيين على خطاب يؤكد
العلاقة الخفية بين المماليك والصفويين، وهذا الخطاب محفوظ الآن
فى أرشيف متحف «طوب قابو» فى «إستانبول».
علاقة السلطان سليم بالمماليك:
برزت أمام السلطان «سليم الأول» عدة أسباب استراتيجية، جعلت
الصدام مع المماليك أمرًا ضروريا، فأى اتفاق بين المماليك و «أوربا»
سيفتح الباب أمام حملة صليبية جديدة، ويضع الدولة العثمانية فى
مأزق، كما أن البرتغاليين بعد معركة «ديو» سنة (915هـ= 1509م)
أصبحوا هم أصحاب السيادة على المياه الإسلامية الجنوبية، حتى
إنهم أعلنوا عن عزمهم على قصف «مكة» و «المدينة»، وفى الوقت
نفسه كانت حالة دولة المماليك الاقتصادية والسياسية والعسكرية
سيئة، لا تسمح لهم بحماية المقدسات الإسلامية.(8/31)
ولم يغب عن ذهن السلطان «سليم الأول» أن انتقال الخلافة إلى
«بنى عثمان» يجعل منهم قوة معنوية كبيرة عند المسلمين، ويحد من
أطماع «أوربا» المسيحية فى الدولة العثمانية، ويقضى على الخطر
البرتغالى فى جنوب «البحر الأحمر».
وقد أدَّى وقوع الرسائل بين «قانصوه الغورى» سلطان المماليك،
والشاه «إسماعيل الصفوى» إلى زيادة هوة الخلاف بين «الغورى»
و «سليم» وقطع أى محاولة للحل السلمى بين المماليك والعثمانيين.
موقعة مرج دابق وآثارها:
أدرك «الغورى» أن الحرب بينه وبين العثمانيين واقعة لا محالة،
فلجأ إلى تحريض أهل «دمشق» ليشتركوا معه فى حربه ضد
العثمانيين، الذين اتهمهم بخيانة فكرة الجهاد الإسلامى فى
«أوربا»، وأشاع أن السلطان العثمانى قد استعان بجنود من
النصارى والأرمن؛ ليحارب بهم جند الله المجاهدين ضد البرتغاليين،
ولكن يبدو أن هذا الأسلوب لم يلق نجاحًا كبيرًا بين أهل «دمشق»،
لاقتناعهم بأن العثمانيين منذ قرون وهم يجاهدون فى الميدان
الأوربى، ولم يتخلفوا عن إمداد المماليك أنفسهم بما يلزمهم لقتال
البرتغاليين، مثلما حدث فى عهد السلطان «بايزيد الثانى».
والتقى الجمعان على مشارف «حلب» فى «مرج دابق» سنة (923هـ=
1517م)، وحقق العثمانيون النصر، وقُتل السلطان «الغورى»،ودخل
«سليم الأول» «حلب» ثم «دمشق» ودُعى له فى المساجد، وفتحت
كثير من المدن الشامية أبوابها للعثمانيين دون مقاومة تذكر.
وأرسل السلطان «سليم الأول» رسالة إلى «طومان باى» الذى خلف
السلطان «الغورى» فى «مصر»، يعرض عليه فيها حقن الدماء،
شريطة أن تكون «غزة» و «مصر» تابعتين للدولة العثمانية، ويحكمهما
هو باسمها، ويدفع نظير ذلك خراجًا سنويا، لكن المماليك قتلوا
رسول «سليم»، فلم يكن هناك بدٌّ من الحرب، وعزم «سليم» على
اللقاء، فالتقى مع المماليك فى «غزة» و «الريدانية» وكان النصر
فيهما حليفه، وأدى انتصار العثمانيين فى معركتى «مرج دابق»(8/32)
و «الريدانية» إلى وقوع «مصر» و «الشام» و «الحجاز» و «اليمن» تحت
حكم الدولة العثمانية.
ويعود انتصار العثمانيين على المماليك إلى مجموعة من الأسباب،
منها:
- تفوق العثمانيين التكنولوجى، فسلاح المدفعية المملوكى كان
يعتمد على مدافع ضخمة ثابتة لا تتحرك، على حين اعتمد سلاح
المدفعية العثمانى على مدافع خفيفة يمكن تحريكها فى كل
الاتجاهات.
- سلامة الخطط العسكرية العثمانية ومرونتها، من ذلك استدارة القوات
العثمانية من خلف مدافع المماليك الثقيلة الحركة، ودخولها «القاهرة»
عن طريق المقطم، مما شل دور المدفعية المملوكية، وأحدث اضطرابًا
فى صفوف الجيش المملوكى؛ لتدافعهم بلا انتظام خلف العثمانيين.
- ارتفاع معنويات الجيش العثمانى.
ودخل «سليم الأول» «القاهرة»، ونودى به سلطانًا وخليفة للمسلمين،
وخادمًا للحرمين الشريفين، بعد أن تسلّم مفاتيح «مكة» و «المدينة»،
وكان «سليم» كريمًا مع ابن أمير «مكة» «الشريف بركات»، الذى
جاء يعلن خضوع «الحجاز» للدولة العثمانية، وفى «مصر» أعاد
«سليم» تنظيم البلاد، وأصدر قانون «نامه مصر» لهذا الغرض.
مسألة انتقال الخلافة إلى العثمانيين:
عندما انتصر السلطان «سليم» فى موقعة «مرج دابق» أسر الخليفة
العباسى «المتوكل على الله محمد بن المستمسك بالله» وكان فى
صفوف جيش السلطان «الغورى»، وفى أول صلاة جمعة صلاها
السلطان «سليم» فى الجامع الكبير بحلب، عُدَّ خليفة، وخطب له فى
«سوريا» باعتباره خليفة للمسلمين، وسكت العملة باسمه.
وتقول إحدى الروايات التاريخية: إن الخليفة المتوكل تنازل عن
الخلافة لبنى عثمان فى مراسم جرت فى «آيا صوفيا» بعد عودته مع
السلطان «سليم» إلى «إستانبول»، ويقول بعضها الآخر: إن الخليفة
«المتوكل» قلد السلطان «سليماً» السيف وألبسه الخلعة فى «جامع
أبى أيوب الأنصارى» بعد مراسم «آيا صوفيا»، وأنه اشترك فى
هذه المراسم علماء الأزهر الذين سافروا إلى «إستانبول»، وعلماء(8/33)
الدولة العثمانية، وأن الخلافة انتقلت إلى «بنى عثمان» بقرار هذا
المجلس.
اتسعت رقعة الدولة العثمانية فى عهد «سليم الأول» بعد أن ضمَّ إليها
«مصر» و «الشام» و «الجزيرة العربية»، وبعد عودته إلى العاصمة
«إستانبول» وجد فتنة شيعية قد اشتعلت فى منطقة «طوقاد»
الأناضولية سنة (925هـ= 1519م)، فأرسل إليها أحد قواده فنجح فى
إخمادها والقضاء عليها، وأعاد السكون إلى تلك المنطقة.
وفى سنة (926هـ= 1520م) تُوفِّى «سليم الأول» من جرّاء خراج صغير
فى ظهره.
السلطان سليمان القانونى:
تولى السلطان «سليمان القانونى» عرش الدولة العثمانية بعد موت
والده السلطان «سليم الأول» عام (926هـ= 1520م) وحكم الدولة
العثمانية مدة ست وأربعين سنة وهى أطول مدة حكم فيها سلطان
عثمانى.
كان عهد «القانونى» قمة العهود العثمانية سواء فى الحركة
الجهادية أم فى الناحية المعمارية أو العلمية أو الأدبية أو العسكرية،
وكان هذا السلطان يؤثر فى السياسة الأوربية تأثيرًا عظيمًا؛ حيث
كانت الدولة العثمانية هى القوة العظمى دوليا فى زمنه، ونعمت
بالرخاء والطمأنينة.
بداية عهد القانونى:
ابتلى «سليمان» فى السنوات الأولى من عهده بأربعة تمردات شغلته
عن حركة الجهاد؛ إذ إن موت «سليم الأول» ثم جلوس ابنه على العرش
وهو صغير السن أتاحا الفرصة لكى يظن الولاة الطموحون إلى
الاستقلال أنهم قادرون على ذلك. فلما وصل خبر تولية «سليمان»
العرش، إلى «الشام» وكان «جان بردى الغزالى» واليًا عليها من قبل
الدولة العثمانية، تمرد وأشهر العصيان على الدولة.
و «جان بردى الغزالى» هذا، قائد مملوكى، تعاون مع «سليم الأول»
فى حربه ضد المماليك وكان أميرًا طموحًا وأودى به طموحه إلى أن
ينقلب على المماليك ويتعاون مع «سليم»، فلما تولى «سليمان»
أرسل «الغزالى» من «الشام» رسالة إلى «خاير بك» النائب العثمانى
على مصر أوضح فيها الأول للثانى أن الوقت قد حان لإعادة الدولة(8/34)
المملوكية وبعثها من جديد، إلا أن والى «مصر» العثمانى أرسل
الرسالة هذه إلى العاصمة العثمانية ليطلع عليها السلطان «سليمان»،
وهذه الرسالة موجودة الآن فى قسم الأرشيف بمتحف «طوب قابو
سرابى».
فأمر السلطان «سليمان» بقمع الفتنة فقمعت وأرسل رأس الثائر إلى
«إستانبول» دلالة على انتهاء التمرد.
أما التمرد الثانى: فقام به «أحمد باشا» الخائن فى «مصر» فى عام
(930هـ= 1524م)، وكان يطمح إلى أن يشغل منصب الصدر الأعظم ولم
يفلح فى هذا، لذلك طلب إلى السلطان أن يعينه واليًا على «مصر»
فقبل السلطان. وما إن وصل «مصر» حتى حاول استمالة الناس،
وأعلن نفسه سلطانًا مستقلا، لكن أهل الشرع فى «مصر» وكذلك
جنود الإنكشارية لا يعرفون إلا سلطانًا واحدًا خليفة لكل المسلمين هو
السلطان «سليمان القانونى»، لذلك ثاروا ضد هذا الوالى المتمرد
وقتلوه وظل اسمه فى كتب التاريخ مقرونًا باسم الخائن.
والتمرد الثالث ضد خليفة المسلمين تمرد شيعى علوى قام به «بابا ذو
النون» عام (932هـ= 1526م) فى منطقة الأناضول؛ حيث جمع ما بين
ثلاثة آلاف وأربعة آلاف ثائر، وفرض الخراج على المنطقة، وقويت
حركته حتى إنه استطاع هزيمة بعض القواد العثمانيين الذين توجهوا
لقمع حركته، وانتهت فتنة الشيعة هذه بهزيمة «بابا ذو النون»
وأرسلت رأسه إلى «إستانبول».
والتمرد الرابع ضد الدولة العثمانية فى عهد «سليمان القانونى» كان
تمردًا شيعيا علويا أيضًا وكان على رأسه «قلندر جلبى» فى
منطقتى «قونية» و «مرعش»، وكان عدد أتباعه (30.000) شيعى
قاموا بقتل المسلمين السنيين فى هاتين المنطقتين.
توجه «بهرام باشا» لقمع هذا العصيان فقتله العصاة، ثم نجحت الحيلة
معهم؛ إذ إن الصدر الأعظم «إبراهيم باشا» قد استمال بعض رجال
«قلندر جلبى»، فقلت قواته وهزم وقتل.
الجهاد فى أوربا:
بعد هذا هدأت الأحوال فى الدولة العثمانية وبدأ السلطان «سليمان»
فى التخطيط لسياسة الجهاد فى «أوربا».(8/35)
بدأ العثمانيون فى عصر «سليمان» فتوحاتهم فى «أوربا» بفتح
أهم مدن «البلقان» وهى: «بلجراد»، التى كان المجريون يتولون
حمايتها، وكانت علاقة العثمانيين بالمجريين فى هذا الوقت متوترة؛
إذ كان «سليمان» قد أرسل إلى ملك «المجر» رسولا يعلنه بتولى
«سليمان» عرش العثمانيين، فقتل الملك المجرى رسول «سليمان»
ويدعى «بهرام جاووش»، فأعلن السلطان العثمانى الحرب على
«المجر»، وحاصرت القوات العثمانية «بلجراد» من البر ومن النهر
وسلّمت «بلجراد» بعد شهر واحد من الحصار عام (927هـ= 1521م)،
واتخذها العثمانيون قاعدة حربية تنطلق منها قواتهم فى فتوحاتهم
الأوربية. وأثناء حرب «بلجراد» هذه استولى العثمانيون أيضًا على
قلاع مهمة فى منطقة «بلجراد» مثل: «صاباج» و «سلانكامن»
و «زملين».
وبعد خمس سنوات من استيلاء العثمانيين على «بلجراد»، أخذ ملك
«المجر» «لايوش» يجمع القوى الأوربية لمحاربة العثمانيين، وكتب
إلى كل من «شرلكان» الإمبراطور الألمانى، و «فرديناند» الأرشيدوق
النمساوى يطلب منهما التحالف معه ضد العثمانيين.
وفى الوقت نفسه كان السلطان «سليمان القانونى» يستعد لمحاربة
«المجر»، فتحرك بجيشه فى سنة (932هـ= 1526م) فى أكثر من (60)
ألف جندى حتى وصل إلى «صحراء موهاج» المجرية، وهناك دارت
معركة ضخمة من معارك الإسلام فى يوم (21 من ذى القعدة 932هـ=
29 من أغسطس 1526م)، هزم فيها العثمانيون الجيش المجرى، وكان
من أرقى الجيوش الأوربية، ومعروف بفرسانه المدرعين، ولعبت
المدفعية العثمانية دورها فى هذا النصر السريع الذى أحرزه الجيش
العثمانى فى ساعتين، على الرغم من قطعه مسافات طويلة، حتى
وصل إلى أرض المعركة.
وقد تكبَّد الجيش المجرى خسائر هائلة فلم تقم له قائمة، فقد أسر
العثمانيون حوالى (25) ألف جندى، وتعرض نحو (75) ألفًا للقتل أو
للغرق فى مستنقعات «موهاج»، وكان الملك المجرى «لايوش» ممن
مات غرقًا فى هذه المستنقعات.(8/36)
وقد رفعت الرايات العثمانية فوق العاصمة المجرية «بشت»، ولم تكن
قد عرفت باسمها الآن «بودابست»، وأعلن منها السلطان «سليمان
القانونى» خضوع «مملكة المجر» للحماية العثمانية، وأصدر أمرًا
بتعيين «جون زابوليا» أمير منطقة «أردل» المجرية ملكًا على
«المجر»، وهو الذى تعرفه المصادر الشرقية باسم الملك «يانوش»،
وعاد «سليمان» إلى «إستانبول» بجيوشه.
بعد ثلاث سنوات من الحملة العثمانية لفرض الحماية الإسلامية على
«مملكة المجر»، جاءت رسالة إلى «سليمان» من «يانوش» ملك
«المجر» يقول فيها بأن أرشيدوق «النمسا» «فرديناند» يستعد لأخذ
«المجر» منه، بعد أن قام الكثير من أمراء «المجر» بتأييده ملكًا على
«المجر» بدلا من «يانوش»، واستولى «فرديناند» بالفعل على مدينة
«بودين» من الملك المجرى التابع للعثمانيين.
وفى (رمضان 935هـ= مايو 1529م) تحركت الجيوش العثمانية من
«إستانبول» إلى «المجر» واستعاد «سليمان القانونى» مدينة
«بودين» مرة أخرى، وفى احتفال مهيب توّج «القانونى» «جون
زابوليا» ملكًا على «المجر».
ثم أصر السلطان «سليمان القانونى» على محاربة «فرديناند»،
فحاصرت القوات العثمانية فى (المحرم 936هـ= سبتمبر 1529م) مدينة
«فيينا» عاصمة «النمسا»، واشترك فى الحصار مائة وعشرون ألف
جندى وثلاثمائة مدفع، وقبل الحصار خرج ملك «النمسا» من عاصمته
وانسحب بعيدًا عنها، وقامت معارك كبيرة أمام أسوار «فيينا» لكن
الجيش العثمانى لم يتمكن من فتحها، إذ جاء الشتاء وبدأت المواد
الغذائية تنقص، وعادت القوات العثمانية جميعًا دون التمكن من فتح
«فيينا».
وبعد ثلاث سنوات من بداية الحملة على «المجر» وحصار «فيينا»، قام
السلطان «سليمان القانونى» بمحاربة «ألمانيا» (939هـ= 1532م)
بسبب قيام أرشيدوق «النمسا» «فرديناند» بإرسال سفير إلى
السلطان العثمانى يطلب منه الاعتراف به ملكًا على «المجر»، ولم
يكتف «فرديناند» بذلك بل جرّد حملة وحاصر بها مدينة «بودين».(8/37)
وقامت الحامية العثمانية فى هذه المدينة مع القوات المجرية المحلية
بالدفاع عن المدينة.
وصل السلطان العثمانى إلى «النمسا» مارا بيوغوسلافيا و «المجر»،
وكانت القوات العثمانية المشتركة فى هذه الحملة تقدر بمائتى ألف،
ولم يحاصر العثمانيون «فيينا» هذه المرة بل توجهوا لتأديب أسرة
«هابسبرج» العريقة، لكن «آل هابسبرج» وقوادهم خافوا مواجهة
السلطان «سليمان» العثمانى عندما علموا بوصوله، ولما لم يتحركوا
للحرب أرسل «سليمان» إلى «فرديناند» رسالة كلها احتقار دفعًا
لحماسه إلى الحرب، لكن «آل هابسبرج» لم يتحركوا وصدرت
للمغيرين أوامر بالقيام بعمليات عسكرية سريعة فى داخل «ألمانيا»
غنموا فيها وأسروا وانتصروا، وعندما حل الشتاء عادت الحملة
العثمانية بأكملها إلى «إستانبول».
أسفرت الحملة العثمانية على «ألمانيا» عن خوف «فرديناند» وإيمانه
بأن لا قوة فى «أوربا» تستطيع التصدى لسليمان العثمانى، فاضطر
«فرديناند» إلى طلب الصلح، فوافق السلطان بشرط أن يعترف بأن
«بيانوش» ملك على «المجر» تحت الحماية العثمانية، وأن يدفع
(30.000) دوقة ذهبية؛ جزية للدولة العثمانية.
وفى الجبهة الأوربية، مات «يانوش» عام (947هـ= 1540م)، ولم يكن
له إلا طفل صغير، فقامت الملكة «إيزابيلا» بالكتابة إلى السلطان
العثمانى، تقول له: إنها تريد أن يكون ابنها هو الملك، وكانت تدرك
أن «فرديناند» أرشيدوق «النمسا» يطمع فى ملك «المجر»، بل
وتحرك وحاصر «بودين» فعلاً، وسريعًا ما تحرك جيش العثمانيين
بقيادة السلطان «سليمان القانونى» نحو «بودين»، وما إن سمع
النمساويون بقرب القوات العثمانية حتى تركوا حصار المدينة وهربوا،
وعند انسحابهم كانت بعض وحدات العثمانيين بقيادة الوزير «محمد
باشا» تلحق بهم الخسائر الفادحة أثناء انسحابهم.
وفى عام (948هـ= 1541م) دخل السلطان «بودين» وأمر بتحويل
أضخم كنائسها إلى جامع للمسلمين، كما أمر بإلحاق هذه المنطقة(8/38)
المهمة من «المجر» بالدولة العثمانية تحت اسم «ولاية بودين»، وأمر
بتعيين «سيجموند» الابن الطفل لملك «المجر» «يانوش»، أميرًا على
إمارة «أردل» التى كان يحكمها أبوه قبل أن يصبح ملكًا على
«المجر»، ثم عاد السلطان إلى العاصمة.
لكن «فرديناند» لم يسكت، فقد أقنع البابا «بول الثالث» بضرورة
تكوين حملة صليبية قوية لكى تستريح «أوربا» من العثمانيين
بالتخلص منهم والقضاء عليهم، فتحركت هذه الحملة إلى «بودين»
عام (949 هـ = 1542م)، وحاصرتها حصارًا محكمًا، لكنها فشلت فى
الاستيلاء عليها، ولما وصلت أخبار هذه الحملة إلى السلطان
«سليمان»، تحرك مرة أخرى عام (950هـ= 1543م) إلى
«أوربا»،واستولى على أهم القلاع المجرية التى كانت فى يد
النمساويين، وهما «استركون»، و «استولنى بلجراد».
سليمان القانونى والدولة الصفوية:
أما فى جبهة الدولة العثمانية مع عدوها الدولة الصفوية فنذكر ما
يلى:
فى عام (930هـ= 1524م) تولى الحكم فى الدولة الصفوية الشاه
«طهماسب» ابن الشاه «إسماعيل»، وكان «طهماسب» عدوا
للعثمانيين؛ فرغب فى التحالف مع القوى الأوربية لحصر العثمانيين
بين القوتين والقضاء على دولتهم، فأرسل «طهماسب» إلى
«شرلكان» سفيرًا يطلب منه التحالف معه، وكانت البداية الحقيقية
للنزاع - هذه المرة - بين العثمانيين والصفويين، حين طلب «ذو الفقار
خان» حاكم «بغداد» الدخول تحت الحماية العثمانية فأرسل له الشاه
من يقتله عام (935هـ= 1529م)، ودخلت القوات الصفوية «بغداد».
وعلى الجانب الآخر قام «شرف خان» حاكم «بتليس» بخيانة
العثمانيين، وتحالف مع الصفويين، عندئذٍ أعلنت الدولة العثمانية
الحرب على الصفويين، وتحرك الصدر الأعظم «إبراهيم باشا» فدخل
«تبريز» دون مقاومة تذكر، ومن خلفه كان السلطان «سليمان
القانونى» يقود الجيوش العثمانية إلى الهدف نفسه، ودخل «تبريز»
عام (941هـ= 1534م)، ثم اتجه إلى «بغداد» فسلّمت القوات الصفوية(8/39)
عام (941هـ= 1534م)، وكان «سليمان» قد استولى على
«أذربيجان»، وعبر جبال «زاغروس» الإيرانية، ومنها إلى «بغداد»،
وسميت هذه الحملة حملة العراقَيْن، أى «العراق العجمى» وهو
«أذربيجان» و «العراق العربى». وبهذه الحملة دخلت «العراق» فى
كنف الدولة العثمانية.
وعندما انسحب العثمانيون استرجع الصفويون المنطقة؛ مما جعل
السلطان يعزم على تأديب الصفويين مرة أخرى، وهذا ما سمى باسم
الحملة الثانية على «إيران»، وكانت عام (955هـ= 1548م)، واسترجع
فيها «تبريز»، وأضاف إليها قلعتى «وان» و «أريوان»، لكن انسحاب
العثمانيين وعودتهم جعل الإيرانيين ينتهزون فرصة انشغال الدولة
فى «أوربا»، ويعودون مرة أخرى، فقام «سليمان» بحملته الثالثة،
ولم يحصل على نتيجة مباشرة؛ إذ إن «طهماسب» خاف من مجابهة
الجيوش العثمانية، فلما عاد «سليمان» إلى بلاده وعند وصوله إلى
«أماسيا» وصلت إليه رسل «طهماسب» للصلح، فقبل السلطان توقيع
معاهدة «أماسيا» عام (963هـ - 1555م) وبموجبها تقررت أحقية
الدولة العثمانية فى كل من «أريوان» و «تبريز» و «شرق الأناضول».
سليمان القانونى وفرنسا:
أما ما كان من أمر السلطان مع «فرنسا» فقد بدأ أول ما بدأ أثناء
حروب «القانونى» فى «المجر»، فقد لبى السلطان طلب الدعم الذى
تقدم به «فرانسوا الأول» ملك «فرنسا» وأمه، وأنقذه من ضغوط
«شرلكان» عليه.
أما لماذا قبل السلطان «سليمان القانونى» أن يساعد «فرنسا»؛
فذلك لأن الأوربيين كانوا ينظمون حملات صليبية على الدولة
العثمانية، وعلى العالم الإسلامى، ولا يكلّون من هذا رغم هزائمهم
المتكررة، فانتهز «القانونى» فرصة النزاع بين «شرلكان»
و «فرانسوا» ملك «المجر» وفكر فى تحييد «فرنسا» وإبعادها عن
المعسكر المسيحى واتخاذها مانعًا أوربيا ضد أى تجمع صليبى
يستهدف العثمانيين.
وبعد عودة السلطان «سليمان» من حملته البغدادية منتصرًا وقع مع
«فرنسا» معاهدة عام (942هـ= 1535م)، منح بموجبها السلطان(8/40)
لفرنسا بعض الامتيازات التجارية، مثل: إعطاء تخفيض جمركى خاص
للسفن الفرنسية التى تصل إلى الموانئ العثمانية، وتم الاتفاق على
أن هذه المعاهدة تسرى ما دام الحاكمون على قيد الحياة، لكن
الفرنسيين نجحوا فى تجديدها كلما جدّ سلطان جديد حتى وصل الأمر
إلى تثبيت هذه الامتيازات رسميا عام (1153هـ= 1740م).
كان «القانونى» معوانًا لفرنسا، فقد أمدها بمعونات عسكرية،
وأرسل قباطنته العظام مثل: «خير الدين بارباروس»، و «طورغود
رئيس»، وتحت إمرتهما الأساطيل العثمانية إلى «فرنسا» لمؤازرتها.
وفى عهد «القانونى» تم فتح «جزيرة رودوس» عام (928هـ=
1522م)، و «رودوس» ذات موقع استراتيجى مهم بالنسبة إلى
الأناضول والدولة العثمانية، وكانت تضرب السفن التى تسير فى
شرق «البحر المتوسط» بين «الأناضول» و «مصر» و «سوريا»، وسبق
أن حاصرها السلطان «محمد الفاتح» ثلاث مرات فلم ينجح فى
فتحها، وكان انتصار العثمانيين على فرسان القديس «يوحنا» الذين
يحكمون الجزيرة انتصارًا هائلاً، حيث كانت «رودوس» أقوى قلعة
بحرية فى ذلك الوقت.
وبعدها سمح السلطان للفرسان المقاتلين بالخروج من «رودوس» بكل
ما يستطيعون حمله فى سماحة وكرم.
خير الدين بارباروس والدولة العثمانية:
«خير الدين بارباروس» أحد أربعة أخوة اشتهروا فى التاريخ
الإسلامى، وكانوا يعملون فى «البحر المتوسط»، وفى إحدى
أسفارهم قتل فرسان «رودوس» أخاهم «إلياس»، وأسروا «أوروج»
الذى استطاع الهرب، وراح يتنقل بين الموانئ، حتى استقر بجزيرة
«جربة» الواقعة بين «تونس» و «ليبيا» سنة (919هـ= 1513م).
وبمجيئه هو وأخيه «خير الدين» تغير سير تاريخ الشمال الإفريقى
كله، حيث استطاعا أن يشتريا قسمًا من الساحل التونسى، ويؤسسا
قاعدة للحملات ضد الصليبيين، وأقاما علاقات حسنة مع «قانصوه
الغورى» سلطان «مصر»، و «أبى عبد الله الخامس» سلطان «تونس»،
الذى وافق على إعطائهما قلعة «حلق الوادى»، وكانت ميناء(8/41)
متحكمًا فى «خليج تونس»، مقابل إعطاء السلطان خمس الغنائم.
ولما بدأت القوة البحرية للأخوين فى الاتساع أخذت تضرب السفن
الصليبية على نطاق واسع، ونجحت فى الاستيلاء على مدينة
«بجاية» سنة (922هـ= 1516م)، واتخذتها قاعدة بحرية للصراع مع
قوة «إسبانيا» البحرية.
وبعد استشهاد «أوروج»، المعروف فى المصادر التاريخية العربية
باسم «عروج» فى إحدى معاركه، طلب أخوه «خير الدين» المعروف
فى المصادر الأوربية باسم «بارباروس» أى «ذى اللحية الحمراء»
مساعدة العثمانيين بعد استيلاء السلطان «سليم» على «مصر»، وقد
أذن له السلطان بالحصول على ما يحتاج إليه من سواحل
«الأناضول»، فى مقابل سيطرة الدولة العثمانية على «الجزائر»،
وقيام «خير الدين» بحكمها نيابة عن السلطان.
ولم تتمكن الدولة العثمانية من تنفيذ هذا الاتفاق بسبب انشغالها بغزو
«جزيرة رودوس» وكان قراصنتها يأسرون أعدادًا كبيرة من السفن
التى كانت تجلب الغلال والذهب من الولايات العربية وتنقل الحجاج
إلى الأماكن المقدسة، وبغزو «المجر»، ومواجهة الصفويين، وبناء
أسطول جديد يمكنه مواجهة البرتغاليين؛ لهذا آثر البحارة المسلمون
فى الشمال الإفريقى الاعتماد على أنفسهم، إلى أن تتمكن الدولة
العثمانية من مدّ يد المساعدة لهم.
وقد قام «خير الدين» بسلسلة من الغارات على الأسطول الإسبانى،
كما قام فى الوقت نفسه بسبع رحلات من «الجزائر» إلى ساحل
«الأندلس»، تمكن خلالها من نقل (70) ألف مسلم أندلسى، فأنقذهم
بذلك من الموت حرقًا باسم «محاكم التفتيش».
اهتم السلطان «سليمان القانونى»، برفع نظام «الجزائر» من نظام
اللواء العثمانى إلى نظام الإيالة (أى إقليم شبه مستقل)، وولَّى
عليها «خير الدين بارباروس» سنة (925هـ= 1519م)، ووكّل إليه قيادة
حملات غرب «البحر المتوسط».
وقد حاول الملك الإسبانى القضاء على أسطول «خير الدين»، لكنه
كان يتكبَّد فى كل مرة خسائر فادحة، ولعل أعظم انتصاراته البحرية(8/42)
فى «البحر المتوسط» يتمثل فى موقعة «بروزة» سنة (945هـ=
1538م)، التى تعد من المعارك البحرية الخالدة فى التاريخ الإسلامى
الحديث، فقد دعا البابا «بول الثالث» الجيوش الأوربية إلى الاتحاد ضد
العثمانيين، وتكوَّن منهم تحالف بحرى ضمَّ أكثر من (600) سفينة
و (60) ألف جندى، يقودها «أندريا دوريا»، وهو من أمهر القادة
البحرية فى ذلك الوقت.
وتكوَّن الأسطول الإسلامى من (122) قطعة بحرية، و (22) ألف
جندى، والتقى الأسطولان فى (4 من جمادى الأولى945هـ= 28 من
سبتمبر 1538م) أمام «بروزة»، ولم تستمر المعركة أكثر من خمس
ساعات تمكَّن فى نهايتها «خير الدين» من حسم المعركة
لصالحه، وفر القائد «أندريا دوريا» هربًا بحياته.
ونظرًا لجهود «خير الدين» وانتصاراته التى حققها قام السلطان
«سليمان القانونى» بتعيينه فى القيادة العامة للقوة البحرية
العثمانية وناظرًا للحربية، واستقدمه إلى «إستانبول» مع طاقمه
المكون من تسعة عشر أميرلاى.
وتُوفى «خير الدين» فى «إستانبول» سنة (953هـ= 1546م)، تاركًا
أسطوله الذى بناه بأمواله للدولة، وترك أموالا وفيرة أوقفها لأعمال
الخير، واستطاع خلفاء «خير الدين» من بعده أن ينتزعوا من الإسبان
ما احتلوه من «الجزائر» باستثناء «وهران» التى بقيت فى أيديهم
حتى القرن الثامن عشر.
فتح ليبيا:
كانت «طرابلس الغرب» فى تلك الفترة تحت حكم فرسان «مالطة»
المسيحيين، فأصدر السلطان «سليمان القانونى» أوامره إلى قبطان
«البحر العثمانى» «طورغود رئيس» بتخليص «طرابلس الغرب» من
النفوذ المسيحى، فقام بمحاصرة «طرابلس الغرب» بأسطوله حصارًا
شديدًا فاضطرت حاميتها المسيحية إلى التسليم فى سنة (959هـ=
1552م)، وعين السلطان القبطان «طورغود رئيس» واليًا على
«طرابلس الغرب».
الحملات البحرية العثمانية فى الخليج العربى والمحيط الهندى:
واجه العثمانيون نفوذ البرتغاليين فى «المحيط الهندى» و «الخليج(8/43)
العربى»، وكانت تلك المواجهة أحد الأسس الثابتة فى السياسة
الحربية للعثمانيين، فاستولى «أويس باشا» والى «اليمن» على
«قلعة تعز» سنة (953هـ= 1546م)، ثم نجح فى ضم صنعاء، وفى
الوقت نفسه حاصر «بيرى رئيس» «قلعة هرمز» التى كان يسيطر
عليها البرتغاليون، لكنه لم ينجح فى الاستيلاء عليها، فدخل ميناء
«بندر عباس» الإيرانى، واعترفت إمارات «عمان» و «قطر»
و «البحرين» بتبعيتهم للدولة العثمانية، على حين ظلَّت مسقط تنتقل
من السيطرة العثمانية إلى الاحتلال البرتغالى، حتى نجح العثمانيون
فى إخراج البرتغاليين منها نهائيا فى سنة (1060هـ= 1650م).
وقد أدت هذه السياسة فى مواجهة البرتغاليين إلى الحد من عربدتهم
فى المياه الإسلامية، ولم يعد ممكنًا أن يجتاز البرتغاليون «باب
المندب» وسط السيطرة العثمانية.
وفاة السلطان سليمان القانونى:
وفى (صفر 974هـ= سبتمبر 1566م) اشتد المرض بالسلطان «سليمان»
وهو يحاصر مدينة «سيكتوار» المجرية، ثم تُوفى فى (20 من صفر
سنة 974هـ= 5 من سبتمبر سنة 1566م) بعد أن قضى فى الحكم 46
عامًا قضاها فى توسيع دولته وإعلاء شأنها، حتى بلغت فى أيامه
أعلى درجات القوة والكمال، وفى وضع النظم الداخلية للدولة حتى
اشتهر بلقب «القانونى».
نظام الإقطاع:
لم يكن نظام الإقطاع الحربى أسلوبًا جديدًا ابتكرته العقلية
العثمانية، ولم تكن أول من يستخدمه، بل إن المتصفح لصفحات
التاريخ يجد أن هذا النظام عُرف على عهد الدولة السلجوقية التى
كانت تحكم قبل الدولة العثمانية، كما أنه عُرف فى «مصر» على
عهد الناصر «صلاح الدين الأيوبى» الذى نقله من «الدولة الزنكية»
فى «الموصل» و «حلب»، ولكن الفرق بين النظام الإقطاعى فى
«مصر» وفى الدولة العثمانية هو: أن «صلاح الدين الأيوبى» نجح
إلى حد بعيد فى حماية الفلاحين الذين يخضعون لهذا النظام، فحدد
الإيجارات والجبايات التى يدفعها من يعطى له الإقطاع، وكان يراقب(8/44)
هذا مراقبة شديدة؛ منعًا لاستغلال العسكريين للفلاحين ولذلك أطلقت
العبارة المشهورة:
«إن السادة الإقطاعيين العسكريين فى العصر الأيوبى كانوا فى
نعمة محدودة».
كما أن هذا النظام ظل معمولا به على عهد دولة المماليك فى
«مصر»، حتى إنه أطلق على ديوان الجيش اسم «ديوان الإقطاع».
الإقطاع الحربى فى الدولة العثمانية:
كان السلطان يمنح أرضًا زراعية لأفراد من سلاح الخيالة (الفرسان)
يستقرون فيها، ويشرفون على زراعتها بمساعدة الفلاحين، الذين
كانوا يتولون زراعتها بصفتهم مستأجرين، وذلك مقابل أن ينضموا
إلى الجيش بخيولهم وأسلحتهم عند نشوب أى حرب، وكان على كل
فارس من هؤلاء الفرسان أن يقدم إلى الجيش وقت الحرب عددًا من
الفرسان، يتراوح بين اثنين وأربعة، بخيولهم وأسلحتهم، وكان عدد
هؤلاء الفرسان الإقطاعيين يتناسب تناسبًا طرديا مع مساحة الإقطاع
الحربى، ومع الإيراد الذى تغله هذه الأرض الإقطاعية، وكانت هذه
الأراضى تسمى إقطاعات، وكان يطلق على من يحصل عليها عن
طريق الإقطاع الحربى اسم «السباهية الإقطاعية»، وكان هؤلاء لا
يتقاضون مرتبات نقدية من الحكومة، بل كانوا يعتمدون فى معيشتهم
على المحاصيل الزراعية التى تغلها لهم الإقطاعات الممنوحة؛ ولذلك
كانوا يمدون الفلاحين عادة بالماشية والبذور فى مقابل حصولهم
على نصف المحصول، كما كانوا يعتمدون على حصيلة العشور
وغيرها من الضرائب المقررة على الفلاحين - الأرض أو المحاصيل -
ويقومون بجبايتها منهم لحسابهم، وكانت الإيرادات التى يستولون
عليها يطلق عليها بالمصطلح التركى (ماله مقاتلهـ) بمعنى مال
المقاتلة.
وكانت الأراضى الإقطاعية تنقسم إلى:
1 - إقطاعات صغيرة نسبيا، وتسمى (تيمار)، وتحقق لصاحبها إيرادًا
يبلغ ثلاثة آلاف أقجة، وهى عملة عثمانية من الفضة.
2 - إقطاعات أكبر مساحة من الأولى وتسمى (زعامت)، يمنحها
السلطان للفارس إذا أظهر كفاية قتالية، وكان يطلق على صاحبها(8/45)
(زعيم)، وكان هذا الإقطاع يدر ربحًا على صاحبه يصل إلى مائة ألف
أقجة، وذلك مقابل أن يقدم للجيش وقت الحرب عددًا من الفرسان
بخيولهم وأسلحتهم، وكان هذا العدد يتحدد بنسبة فارس عن كل
خمسة آلاف أقجة.
وكان هذان النوعان من الإقطاع الحربى يخضعان لنظام التفتيش الذى
يقوم به موظفو الحكومة المختصون، ويسمون (الدفترداريين)، وكانت
تربية الخيول والعناية بها وتدريبها تدريبًا متواصلاً أمورًا تعد فى
مقدمة واجبات صاحب الإقطاع الحربى، فإذا تبين لموظفى الحكومة
فى أثناء دوراتهم التفتيشية على الإقطاعات الحربية إهمال أو تراخٍ
من صاحب الإقطاع فى تربية الخيول، كان هذا الإهمال أو التراخى
سببًا كافيًا لانتزاع الإقطاع منه.
وكانت الإقطاعات التى من نوع (تيمارات) و (زعامات) توجد فى
ولايات الدولة المحكومة من «إستانبول» رأسًا، سواء فى «أوربا»
أو فى «آسيا»، ومع ذلك فلم تطبق الدولة هذا النظام على جميع تلك
الولايات، ومن الأقاليم التى طبق فيها نظام الإقطاع الحربى:
«الروملى»، «بودا» (بودابست)، «البوسنة»، «طمسفار»، «ديار
بكر»، «أرضروم»، «دمشق»، «حلب»، «بغداد»، «شهر زور»،
«إيالات الأناضول»، «جزر الأرخبيل»، «فرمان»، «مرعش»،
«سيواس».
3 - إقطاع أكبر مساحة من النوعين الأولين ويسمى (خاصا) وكان هذا
الإقطاع يُمنح للولاة الذين فى الخدمة الحكومية، فإذا ما تركوا
مناصبهم نتيجة الوفاة أو العزل أو الترقية إلى منصب آخر، نزع منهم
الإقطاع (الخاص). وجدير بالذكر أن بعض (التيمارات) و (الزعامات)
كانت تُمنح لبعض شاغلى المناصب الكبرى فى الدولة، فكانت تشبه
الإقطاع (الخاص) الذى كان يرتبط بالمناصب.
4 - الإقطاعات السلطانية الخاصة: وكان يطلق على هذه الإقطاعات
اسم (خواص همايون)،وكانت أكبر وأهم الإقطاعات جميعًا من حيث
المساحة وجودة الأرض، وكان السلطان يمنح أجزاء منها لبعض
أعضاء الأسرة الحاكمة من أميرات وسيدات من حريمه.(8/46)
5 - إقطاعات اقتصادية: وكانت تخصص للإنفاق العسكرى على أفراد
حرس الحصون، والسلاح البحرى، والحاميات المحلية وغيرها، وكان
يطلق على هذا الإقطاع اسم (أوجاقلقات).
كيفية توزيع الإقطاعات الحربية:
- خمس مساحة الإقطاع على القسم الأول (التيمارات).
- عشر مساحة الإقطاع على القسم الثانى (الزعامات).
- خمس مساحة الإقطاع على القسم الثالث (الخواص).
- عشر مساحة الإقطاع على القسم الرابع (الأجاقلقات).
- خمس أوقاف.
أهمية النظام الإقطاعى:
ساعد هذا النظام على التوسع فى زراعة مساحات شاسعة من
الأراضى داخل الأقاليم العثمانية فى «أوربا» وفى «آسيا»، وأدى
إلى اطمئنان الدولة العثمانية؛ بسبب حرص أصحاب هذه الإقطاعات
على بذل أقصى ما لديهم من جهد فى سبيل زراعة هذه المساحات،
وحصول الدولة العثمانية على عدد كبير من الفرسان دون أى تكلفة
تذكر، فقد كان كل صاحب إقطاع يجهز عددًا من الفرسان بتجهيزاتهم
وأسلحتهم.
النظام المالى:
انقسم النظام المالى فى عهد الدولة العثمانية إلى قسمين، هما:
1 - ميرى، أى الدخل والمنصرف العام، ويتكون من: دخل الأرض
الزراعية، والجزية، ورسوم التجارة، ويديره «دفتردار».
2 - خزنة، أى مخصصات السلطان، ويديرها «خزنة وكيلى»، ويتجمع
دخلها فى «آل خزنة»، ويديرها موظفو السلطان الخصوصيون.
ويضاف إلى النوع الأول ما كان يتبقى من مال الوقف و «الجزية»
وكان يدفعها أميرا الأفلاق والبغدان.
وكانت الأقاليم المشهورة بالخصب والحبوب مثل «مصر» ترسل هبة
من القمح تمثل (12/ 1) من المحصول، وفى أغلب الأحيان لم يكن فى
وسع الزراع تصدير القمح أو نقله إلى خارج حدود الإقليم، بل كانوا
يجبرون على بيع الفائض عنهم للحكومة نظير ثمن محدد.
وكانت تقع مصروفات القضاء على المتقاضين؛ إذ كان القضاة
يأخذون رسمًا لأنفسهم بدلا من أخذهم رواتب من الدولة.(8/47)
الفصل الرابع
*العثمانيون فى عهدهم الثانى
-الإصلاح عن طريق إحياء الإسلام:
كانت الدولة العثمانية ملء السمع والبصر، وكانت القوة الدولية
العظمى التى تؤثر فى مجرى الأحداث العالمية، وضمَّت بين جوانحها
أقوامًا من مختلف الأجناس والأعراق واللغات، وامتد عمرها فى
التاريخ قرونًا طويلة، وأثمرت حضارة مزدهرة، كانت خلاصة المدنية
الإسلامية على مدى القرون التى سبقتها، ثم أتى على الدولة حين
من الدهر وجدت نفسها لا تستطيع التقدم والفتح ومواصلة المد
الإسلامى، بعد أن توغلت فى «أوربا»، فقد توقف السيل العثمانى
أمام أسوار «فيينا» عاصمة «النمسا»، وعندئذٍ نظر العثمانيون إلى
أنفسهم، وأيقنوا أن هناك خطأ يستوجب الإصلاح.
وقد لاحظ علماء الدولة العثمانية ومصلحوها، ابتداءً من عهد السلطان
«مراد الثالث» أن الفساد قد استشرى فى أجهزة الدولة، وكثر التمرد
فى الأقاليم التابعة لها، وما صاحب ذلك من ثورة وفوضى وفتنة، بل
وظهر التمرد والثورة فى عاصمة الخلافة نفسها، مما أحدث الخوف
على سلامة الدولة ووحدتها السياسية، ولذا أصبحت هناك حاجة
ماسة إلى الإصلاح، وضرورة ملحة لعلاج الخلل الذى بدأ يطل برأسه،
ويكاد يعصف بالدولة ويعرض مكانتها وهيبتها للاهتزاز، وأصبحت
هذه الحاجة هى الشغل الشاغل لجهاز الحكم فى عهد الخليفتين
«عثمان الثانى»، و «مراد الرابع».
واستند الفكر الإصلاحى فى بادئ الأمر إلى استلهام الإسلام ومبادئه
ونظمه فى عملية إصلاح الخلل، وأيقن المصلحون العثمانيون أن
تطبيق الشريعة الإسلامية فى مختلف مؤسسات الدولة سوف يعيد لها
قدرتها، ويجدد شبابها ويبعث القوة والحيوية فى عروقها، فتنهض
بعد تعثر، وتقوى بعد ضعف.
وقدم هؤلاء المصلحون النصح والتوجيه إلى السلاطين العثمانيين فى
صورة رسائل وتقارير تحمل أفكارهم، وكان فى مقدمة الناصحين
الضابط العثمانى فى البلاط السلطانى «فوُى بك»، الذى قدم تقريرًا(8/48)
إلى السلطان يقول فيه: «إن تطبيق الشريعة الإسلامية وأحكامها
بقوة وحزم هو العامل الأساسى فى وقف تدهور الدولة وحفظ الأمن،
ووقف التمرد والفوضى فى البلاد، ومن ثم تستطيع الدولة التقاط
أنفاسها؛ لتتفرغ لإصلاح نفسها، وأن المسلمين إذا استجابوا
لدواعى الشرع بقوة سيرجعون إلى عهد الفتوحات».
الإصلاح عن طريق الأخذ بالنموذج الغربى:
وفى منتصف القرن الثانى عشر الهجرى بلغت الدولة العثمانية أشد
حالات فسادها وضعفها، فى الوقت الذى كانت فيه «أوربا» تسير
بخطى واثقة نحو التقدم والمدنية؛ لذا قام بعض المفكرين العثمانيين
بالدعوة إلى ضرورة الاستفادة من التقدم الأوربى، والأخذ بأسباب
حضارتهم؛ لضمان المحافظة على وحدة الدولة، وصون حياتها،
والاطمئنان على دوامها واستمرارها.
وأول حركة إصلاحية تبنت هذا المفهوم كانت فى عهد السلطان
«أحمد الثالث» الذى يذكر فى المصادر العثمانية باسم «عصر زهور
شقائق النعمان» دلالة على الأخذ بالمظهر دون الجوهر، وإشارة إلى
الاهتمام الزائد والعناية الفائقة بهذه الزهور فى كل أنحاء العاصمة
العثمانية.
ويمثل هذا العهد بحركته الإصلاحية التى أخذت بالوجهة الغربية؛
بداية نفوذ الثقافة والحضارة الغربيتين فى الدولة العثمانية، وتجمع
حول السلطان وصدره الأعظم بطانة من المثقفين المؤمنين بهذه
الوجهة، وأن الحل يكمن فى الأخذ بالحضارة الأوربية، ولذا أرسلت
الدولة سفراء إلى «باريس» و «فيينا» لتعرف حضارتيهما، ودراسة
أسباب التقدم وعوامل النهضة هناك، ومن أشهر سفراء هذا العهد
«محمد ُلبى» الذى سافر إلى «فرنسا» سنة (1132هـ= 1720م).
وقد شجع هذا العهد العثمانيين على تقليد الغرب ومحاكاة الحياة
الأوربية، فأخذ السلاطين يشيدون القصور الفخمة، وظهر فى البلاد
نمط جديد من الحياة، يميل إلى الإسراف والعيش المترف، والشغف
بارتداء الملابس الفخمة المحلاة بالجواهر والأحجار الكريمة.(8/49)
وأدت هذه السياسة، بالإضافة إلى فرض الضرائب الباهظة، إلى
ظهور حالة من الاستياء والشعور بعدم الرضا تجاه السلطان
وإدارته، وساد البلاد نوع من العصيان الشعبى، ونفور المحافظين من
فكرة الإصلاح الذى يستلهم النموذج الغربى، وفتح باب التحالف مع
«الإنكشارية» للوقوف ضد كل إصلاح يتخذ «أوربا» مثالا يُحتذى، أيا
كانت فائدته.
وكان من أسباب الضيق بحركة الإصلاح هذه: احتلال أهل الذمة
مواقع خاصة فى مؤسسات الدولة العثمانية، بحيث أصبحوا يتميزون
عن الموظفين المسلمين.
إصلاح الجيش:
تنبه الساسة العثمانيون إلى أن ضعف الدولة يعود إلى عدم
مسايرتها لنواحى التقدم التى شهدتها «أوربا»،وأثبتت لهم هزيمة
الدولة المخزية فى حربها مع «روسيا» سنة (1188هـ= 1774م) هذه
الحقيقة، فلم يعد هناك مفر من الاقتباس من الحضارة الغربية، وبخاصة
فى المجالات العسكرية، فاستعان العثمانيون بمستشار عسكرى
فرنسى هو «البارون دى توت»، لتدريب فرقتى المدفعية
والمهندسين.
وقد نجح هذا المستشار فى إنشاء فرقة جديدة للمدفعية سريعة
الطلقات سنة (1188هـ= 1774م) ضمت (250) جنديا وضابطًا، وفى بناء
مصنع لهذه المدافع، وإنشاء مدارس عسكرية حديثة، ومدرسة لتعليم
الرياضيات الحديثة، وأعيدت المطبعة، وجرى ترجمة المزيد من الكتب
الفرنسية العسكرية.
وشهد عصر «سليم الثالث» بدايات التعليم العسكرى على النمط
الغربى، وما ارتبط به من اقتباس المعرفة الأوربية؛ حيث طلب السلطان
نفسه من «لويس السادس عشر» أن تساعده «فرنسا» فى إعادة
بناء الجيش العثمانى، كما أنه أوجد حوله هيئة جديدة من الإداريين
العسكريين المؤمنين بالإصلاح، وقد رفع هؤلاء مجموعة من التقارير
المتصلة بأوضاع الإمبراطورية، وما يجب عمله لإنقاذها، وقد ركزت
معظم هذه التقارير على الإصلاح العسكرى، وأشارت إلى ضرورة
إعادة «وجاق الإنكشارية» وغيره من الفرق إلى تنظيمها الأول، وأن(8/50)
تتوافر للجيش أسلحة حديثة، وأساليب تمكنه من الوقوف أمام
الجيوش الأوربية، بالإضافة إلى تخفيض أعداد الجنود الإنكشارية إلى
(30000) جندى، لتحسين كفاءتهم ونظامهم، وبذل الجهود لإنتاج
بنادق وذخائر على النمط الأوربى.
وقام السلطان «سليم الثالث» بإنشاء فرقة عسكرية جديدة، أطلق
عليها «النظام الجديد»،توخَّى لها أن تتلقَّى تدريباتها على النمط
الأوربى الحديث، وجعل لها خزانة خاصة تنفق عليها، وتستمد
مواردها من الإقطاعات المجاورة، ومن الضرائب الجديدة التى فُرضت
على المشروبات الروحية وتجارة التبغ والبن، وفرض على هذه
الفرقة ارتداء الملابس الأوربية، وتلقت تدريباتها على أيدى خبراء من
«فرنسا» و «إنجلترا»، استقدمهم السلطان لهذا الغرض.
وأدخلت على أسطول الدولة العثمانية إصلاحات تشبه التى أدخلت
على القوات البرية، فجرى توسيع الترسانة الرئيسية بتوجيه من
المهندسين الفرنسيين، وأنشئت ترسانات فى الأقاليم، وأصلحت
السفن القديمة، وبنيت أعداد كبيرة من السفن الحديثة وفق أحدث
الطرز فى المعمار البحرى، وطورت الدراسات البحرية.
عهد السلطان محمود الثانى:
وُلد السلطان «محمود» سنة (1199هـ= 1784م)، وتقلد مقاليد الخلافة
العثمانية وهو فى الرابعة والعشرين من عمره، فقلّد «مصطفى
البيرقدار» منصب الصدارة العظمى، وطلب منه إصلاح نظام
«الإنكشارية» فاعترضوا عليه، ووقع الخلاف بينهم وبين السلطان،
وأرادوا إعادة الخليفة «مصطفى الرابع» المعزول، لكنه قتل وهم
يحاصرون الصدر الأعظم فى قصره الذى أحرقوه وهو بداخله.
وقد رأى السلطان «محمود» أن نجاح الإصلاح فى دولته يجب أن
يكون شاملاً لكل النظم العثمانية ومؤثرًا فى المجتمع، ولا يقتصر على
المجال العسكرى، ولذا يجب إزالة النظم القديمة، حتى لا تعترض
طريق الإصلاح، والتخطيط الدقيق للإصلاح، وإيجاد الضمانات اللازمة
التى تكفل نجاحه قبل القيام به.
وقد نجح السلطان «محمود» فى القضاء على فرقة «الإنكشارية»،(8/51)
التى قامت بالتمرد وإثارة الجماهير ضد الإجراءات المتصلة بإصلاح
الجيش، وبخاصة فيما يتعلق بارتداء القوات الجديدة للملابس الأوربية،
لكن الشعب العثمانى وقف ضدهم، فى الوقت الذى استعد فيه
السلطان «محمود» لمواجهتهم، مما مكنه من القضاء عليهم تمامًا،
وأنشأ جيشًا قويا يتولى إمرته قائد عام، كان قوامه (12000) جندى
فى العاصمة، وقوات أخرى فى الولايات.
وكما ارتبط التعليم لدى «محمد على» بالجيش ارتبط بالجيش أيضًا عند
«محمود الثانى»، الذى حاول الاقتداء بواليه الناجح، فأرسل البعثات
إلى «أوربا» لتلقى العلوم العسكرية خاصة، وأنشأ المدارس الحديثة،
وعنى بتعليم اللغتين العربية والفرنسية والجغرافيا، والتاريخ
والرياضيات والعلوم.
وحاول السلطان إصلاح أجهزة الدولة المركزية، فوضع الأوقاف تحت
إشرافه، وألغى «التيمارات»، وضمها إلى أملاك السلطان، وأجرى
أول إحصاء للأراضى العثمانية فى العصر الحديث، وأجرى تحسينات
على شبكة المواصلات، فأنشأ كثيرًا من الطرق الجديدة، وأدخل
البرق، وخطوط السكك الحديدية، كما أنشأ جريدة رسمية للدولة.
وبعد وفاة السلطان «محمود» تولى ابنه «عبد المجيد» الخلافة
وعمره دون الثامنة عشرة.
التنظيمات (محاولة إحياء الدولة):
التنظيمات» كلمة عربية دخلت اللغة التركية، وتعنى فى الاصطلاح
السياسى: حركة التنظيم والإصلاح على المنهج الأوربى الغربى،
وفى الاصطلاح التاريخى: حركة الإصلاح التى حدثت فى الدولة
العثمانية فى القرن (13هـ= 19م) مهتدية بالمؤسسات والتنظيمات
الأوربية، وعرفت بهذا الاسم لأنها تميزت بتنظيم شئون الدولة وفق
أسس جديدة فى جميع المجالات.
ويمكن تعريف حركة التنظيمات العثمانية بأنها حركة ثقافية
وإصلاحية حدثت فى الدولة العثمانية فى النصف الأول من القرن
(19م)، ومهدت لإقامة حكم دستورى على النمط الغربى فى البلاد،
وللتقارب بين العالمين الإسلامى والمسيحى، وشملت مناحى الحياة(8/52)
كافة فى الديار العثمانية على حساب الحضارة الإسلامية، وانتقلت
سلطة السلاطين إلى الصدر الأعظم والوزراء، وتراجعت مشيخة الإسلام
إلى درجة أقل من حيث الاعتبار والنفوذ، ثم شل عملها.
وكان الحكم العثمانى قبل صدور التنظيمات يستند إلى ثلاث دعامات
رئيسية هى:
1 - السلطنة.
2 - الخلافة.
3 - مشيخة الإسلام.
فكان الوزراء يأتمرون بأوامر السلطان، ويساعد «ديوان الوزراء»
السلطان فى إدارة أمور الدولة، وتقوم مشيخة الإسلام بتقديم
الشورى للسلطان.
بدأ عهد التنظيمات بصدور فرمان من السلطان «محمود الثانى» باسم
«فرمان التنظيمات الخيرية» فى (26 من شعبان سنة 1255هـ= 4 من
نوفمبر سنة 1839م)، وانتهى عندما تولَّى السلطان «عبد الحميد
الثانى» الخلافة سنة (1293هـ= 1876م)، وهى السنة التى أعلنت
فيها الدولة العثمانية ما عُرف باسم «المشروطية الأولى»، أى إعلان
دستور فى البلاد لأول مرة على النمط الغربى.
وقد أكدت التنظيمات ضرورة إيجاد ضمانات لأمن جميع رعايا الدولة
على حياتهم وشرفهم وأملاكهم، ووجوب علانية المحاكمات
ومطابقتها للوائح، وإلغاء إجراءات مصادرة الأملاك، وضرورة إيجاد
نظام ثابت للضرائب يحل محل «الالتزام»، وتوفير نظام ثابت للجندية
بحيث لا تستمر مدى الحياة، وإنما تحدد مدتها بفترة تتراوح بين أربع
وخمس سنوات.
وأدى صدور هذه التنظيمات إلى حدوث تغيرات كثيرة شملت معظم
مجالات الحياة، فأنشئت المحاكم المختلطة التى تقبل الشهادة من
المسلمين والمسيحيين على حد سواء، وتَبُتُّ فى القضايا المختلفة
التى يكون الأجانب أطرافًا فيها، وكان يعمل بتلك المحاكم قضاة
أتراك وأوربيون، كما صدر قانون تجارى على نمط القانون التجارى
الفرنسى، وأنشئت مجالس لمعاونة مجالس الولايات، يُمثَّل فيها
الأهالى.
وظلت القوانين الشرعية تطبق فى المحاكم التقليدية، وكذلك فى
المحاكم الحديثة التى تطبق القوانين الجديدة المتصلة بالمسائل(8/53)
التجارية والجنائية، المأخوذة عن القوانين الغربية، وبخاصة القانون
الفرنسى، وبقيت القوانين الشرعية المتصلة بالأحوال الشخصية
كالطلاق والزواج بدون تعديل.
وقامت لجان يرأسها من يميلون إلى الأخذ والاقتباس عن الغرب بوضع
الخطط الشاملة التى تستهدف إقامة نظام تعليمى يشمل جميع مراحل
التعليم المختلفة، فصدر فى سنة (1386هـ= 1869م) قانون التعليم،
الذى قسَّم المدارس إلى مدارس عمومية وخصوصية، وجعل التعليم
العام فى المدارس الأولية إجباريا ومجانيا لمدة أربع سنوات، ودون
تفرقة بين الذكور والإناث، وتمييز بين المسلمين وغيرهم.
أما التعليم الخاص فقد تناولته المادة (129) من قانون سنة (1286هـ=
1869م)، واشترطت حصول مدرسى المدارس الخاصة على مؤهلات
تقرها وزارة المعارف العثمانية، وأن تقر تعيينهم السلطات التعليمية
سواء أكانت محلية أم مركزية.
وأنشئت مدارس خاصة للبنات والفقراء، كما أنشئت فى سنة
(1276هـ= 1859م) مدرسة جديدة لتعريب الإداريين، وتدريب المعلمين
الذين كانوا يدرسون الشئون العامة والأولية.
وقد انفصلت مدارس الحكومة رسميا عن إشراف العلماء، ووضعت تحت
إشراف وزارة المعارف ذات الصبغة العلمانية منذ سنة (1283هـ=
1866م)، مما أدَّى إلى ازدياد الهوة بين التعليم الدينى والتعليم
العلمانى، وتعميق الازدواج الثقافى.
وكان للمطبعة أثر كبير فى هذا التحول منذ سنة (1251هـ= 1835م)،
فقد ازداد عدد الكتب المطبوعة، وازداد عدد الصحف والدوريات، ولعب
المسرح دوره فى نشر الأفكار الجديدة، وبخاصة بعد أن كثرت دور
المسارح، ونشطت حركة ترجمة الكتب الغربية بما فى ذلك
المسرحيات، وقد أدَّى ذلك كله إلى ظهور مسرحيات عثمانية،
ساعدت على انتشار الأفكار الجديدة، بما تهيأ لها من لغة سهلة
وجذابة، لقيت تجاوبًا من العامة، وأوجدت اتجاهًا مطلقًا إلى مقاومة
السلطة المطلقة عن طريق إعلان الدستور وإيجاد حكومة مسئولة أمام(8/54)
برلمان منتخب وفق النمط الديمقراطى الذى عرفه الغرب وبخاصة فى
«بريطانيا».
نظام الحكم فى عهد محمود الثانى:
اتجه الإداريون العثمانيون فى عهد السلطان «محمود الثانى» (1223 -
1255هـ= 1808 - 1839م) إلى التغريب، وما يهمنا هنا أنه غيّر اسم
الصدارة العظمى إلى «باش وكالت» أى رئاسة الوزراء - كما فى
«أوربا» - وأوجد نظارتين (وزارتين) جديدتين هما المالية والأوقاف.
وقد وصف أ. «سلاد» - الذى كان يخدم الدولة العثمانية برتبة «مشاور
باشا» - مع أنه أوربى - السلطان «محمود الثانى» بأنه «قلد نقائص
الغرب كما هى وبدأ إصلاحاته للدولة من حيث ما كان يتوجب عليه
تركه» ويقصد أنه أخذ من الدول الأوربية المظهر والمداراة.
وفى عهد ابنه السلطان «عبد المجيد» أصدرت الدولة بيانًا يؤكد أن
الدولة العثمانية قد اتجهت إلى الغرب فى تغيير مظهرها وجزء كبير
من تقنينها وآليات اتخاذ القرار فيها.
مما سبق نتبين أن الدولة العثمانية كانت تدار، وكانت قراراتها تُتخذ
فى الديوان الهمايونى، وكان الديوان ينعقد برئاسة السلطان أو
الصدر الأعظم نيابة عنه، كما كان هذا الديوان يعقد فى القصر فى
المكان المسمى تحت القبة ( Kubbe Alti) واستمر هذا حتى عهد
السلطان «محمد الفاتح» الذى ثبت هذا التقليد بقانون. وقد أُلغى فى
هذه الفترة الديوان الهمايونى بوصفه نظامًا يشكل آليات اتخاذ القرار
فى الدولة العثمانية، واستبدل به النظام الأوربى، ومن ثم فقد تكوّن
رسميا بديل عن الديوان ما سمى فى عهد «محمود الثانى» باسم
«مجلس وكلا» والوكيل بالتركية بمعنى الوزير فى العربية)، ومن ثم
فقد أصبح النظام الجديد يعرف باسم مجلس الوزراء أو ما عرف باسم
«الباب العالى».
الباب العالى (مجلس الوزراء).
وهو اصطلاحًا: المجلس الذى يتشكل من شيخ الإسلام والنظار
(الوزراء)، والذى يتخذ القرار فى الأمور المتعلقة بسياسة الدولة
(العثمانية) الداخلية والخارجية والأمور المهمة ويسمى أيضًا «المجلس(8/55)
الخاص» أو «مجلس الوزراء الخاص».
وكان يتكون من شيخ الإسلام وناظر العدلية وقائد الجيش ورئيس
شورى الدولة، وناظر الخارجية، وناظر الداخلية، وناظر البحرية،
ومشير المدفعية، وناظر المالية، وناظر الأوقاف، وناظر التجارة
والأمور النافعة (الأشغال)، وناظر المعارف، ومستشار الصدر الأعظم
العالى.
وبذلك بعد شيخ الإسلام عن استقلاله، وتوزعت الشئون الدينية بينه
وبين ناظر الأوقاف وأصبح شيخ الإسلام موظفًا كبيرًا فى الدولة.
وعلى النظام الغربى فى تكوين الدولة العثمانية أيضًا أصبح هذا
المجلس الوزارى - بعد انقلاب (يوليو/ تموز 1908م) الذى عزل السلطان
«عبد الحميد» عن العرش- مقيدًا بقوانين ولوائح وأنظمة محددة
ومعينة ومسئولا أمام السلطان ومجلس المبعوثان (مجلس الأمة) عن
الشئون المتعلقة بسياسة الدولة الداخلية والخارجية والوظائف العامة.
السلطان عبد العزيز:
ولد فى (14 من شعبان 1245هـ= 9 من فبراير 1830م)، وتولى الخلافة
بعد وفاة أخيه «عبد المجيد بن السلطان محمود» فى (17 من ذى
الحجة 1277هـ= 6 من يونيو 1861م)، وبعد وفاة «غالى باشا»
و «فؤاد باشا» اللذين توليا منصب الصدر الأعظم وضيقا على
السلطان، مارس السلطان «عبد العزيز» حكمه الشخصى، فاشتد سخط
العثمانيين على ممارسات السلطان الاستبدادية، وتدخُّل السلطانة
«الوالدة باشا» فى شئون الحكم، وازداد القلق بسبب سوء الأوضاع
الاقتصادية، وإعلان إفلاس الحكومة العثمانية فى أواخر سنة
(1292هـ= 1875م)، وهو الإفلاس الذى عُزى إلى إسراف «عبد العزيز»
وخراب ذمته هو وحاشيته.
وأما المحافظون فقد أرجعوا متاعب الدولة إلى «التنظيمات»
العلمانية، ونفوذ الأجانب، وتدخلهم فى شئون البلاد، مما أدَّى إلى
انتعاش إسلامى، كان من نتيجته التضييق على المدارس الأجنبية
وأعمال المبشرين، وطرد المعلمين والخبراء الأجانب، كما اشتدت
المطالبة بإلغاء الامتيازات الأجنبية، والوضع الذى كان يتمتع به
الأجانب.(8/56)
وساءت أحوال الدولة الاقتصادية فى أواخر عهد السلطان «عبد
العزيز»، بحيث توقف صرف مرتبات الموظفين - بما فى ذلك
العسكريون - لعدة شهور، ولم يؤدِّ فرض ضرائب جديدة إلى معالجة
الأوضاع المتردية، لهذا سعى «مدحت باشا» إلى تحسين أوضاع
الحكومة بخلع «عبد العزيز» خاصة، ولأنه كان مؤمنًا بأن ولى العهد
الأمير «مراد الخامس» أميل إلى إعلان الدستور.
وفى (6 من جمادى الأولى سنة1293هـ= 30 من مايو سنة 1876م)
قامت مجموعة صغيرة من كبار موظفى الحكومة يرأسهم «مدحت
باشا» بانقلاب ضد الخليفة، عززته فتوى شيخ الإسلام، وولى
الثائرون السلطان «مراد الخامس» الذى كان قد اتصل بشباب
العثمانيين عدة سنوات.
وكان السلطان «مراد الخامس» على جانب كبير من الذكاء والثقافة
التركية، كما أبدى اهتمامًا بالأدب والعلوم والشئون الأوربية، وكان
يهوى الموسيقى الغربية، وزار «أوربا» سنة (1284هـ= 1867م)،
وانخرط فى سلك الماسونية، وكان أميل إلى الليبرالية والدستور
وإصلاح التعليم، وطبعه بالعلمانية.
على أن مراقبة «مراد» فى أواخر عهد عمه، وإسرافه فى الشراب
أديا إلى اختلاط عقله بالصورة التى ظهرت عليه بعد توليه الحكم،
وازداد هذا الاضطراب، حين نمى إلى علمه نبأ انتحار السلطان «عبد
العزيز»، ومقتل عدد من الوزراء على يد أتباع الأمير «يوسف عز
الدين بن عبد العزيز»، وحينئذٍ رأى الوزراء ضرورة خلع
«مراد»،وتولية أخيه «عبد الحميد» الذى كان «مدحت باشا» قد انتزع
منه وعدًا بإعلان الدستور.(8/57)
الفصل الخامس
*السلطان عبد الحميد الثانى وانهيار الدولة
(1843 - 1918م)
وُلد «عبد الحميد الثانى» (13 من شعبان عام 1258هـ= 21 من سبتمبر
عام 1842م)، وهو ابن السلطان «عبد المجيد محمود الثانى» صاحب
فرمان التنظيمات الذى ينظم الدولة العثمانية على الطراز الأوربى
وتولى العرش خلفًا لأخيه «مراد» فى (10 من شعبان عام 1293هـ= 31
من أغسطس عام 1876م)، وماتت أمه وهو فى الحادية عشرة من
عمره، فربته زوجة أبيه وعاملته معاملة الأم شفقة ورحمة وعناية.
درس «عبد الحميد» العلوم الأساسية فى عهده وبجانبها تعلَّم اللغة
العربية وأجادها، والفارسية وأجادها، وكان ينظم الشعر، وكان
شخصية قوية منذ صغره، كان متدينًا وسط جو أوربى يعيشه أمراء
القصر السلطانى، وحريصًا على أداء الصلاة فى أوقاتها، عفيفًا، لا
يشرب الخمر، ويمنع تدخل نساء القصر فى السياسة أو شئون الدولة
منعًا باتا، وتروى ابنته الأميرة «عائشة»:
فى اليوم التالى لتنصيب والدى السلطان عبد الحميد سلطانًا على
الدولة العثمانية قابل زوجة والده التى أحبها حبا ملأ عليه فؤاده،
وقبّل يدها، وقال لها:
بحنانك لم أشعر بفقد أمى، وأنت فى نظرى أمى لا تفترقين عنها،
ولقد جعلتك السلطانة الوالدة (وهو لقب خاص بأم السلطان) .. لكنى
أرجوكِ بإصرار ألا تتدخلى بأى شكل من الأشكال فى أى عمل من
أعمال الدولة.
وانصاعت هى لهذا الأمر تمامًا».
بدأ «عبد الحميد» حكمه الفردى بافتتاح مجلس «المبعوثان»، لكنه
سرعان ما عطله إلى أجل غير مسمى، وكان هذا التعطيل فى (10
من صفر عام 1295هـ= 13 من فبراير عام 1878م)، واستمر الحكم
الفردى لعبد الحميد مدة ثلاثين عامًا ونصف عام تقريبًا يعنى حتى
(17 من جمادى الآخرة عام 1326هـ= 13 من يوليو عام 1908م) عندما
ثار عليه الجيش، فاضطر إلى إعلان الحكم النيابى، وافتتح البرلمان
للمرة الثانية.
لكنه كان رحيمًا بالمعارضين له، يستميلهم بقدر إمكانه، وإذا نفى(8/58)
أحدًا منهم ينفيه إلى مكان بعيد، بعد أن يمنحه منصبًا عاليًا وراتبًا
كبيرًا، فعل هذا على سبيل المثال مع «نامق كمال» الشاعر
العثمانى المعروف ومع «ضيا باشا» الأديب العثمانى الذائع الصيت.
ونسوق هنا ترجمة لقصيدة نظمها الفيلسوف التركى «رضا توفيق»
وهو من كبار رجال «الاتحاد والترقى» ومن أكبر المعارضين لحكم
«عبد الحميد»، وهذه القصيدة لم يكتبها الشاعر إلا بعد وفاة
السلطان «عبد الحميد»، يقول فيها:
عندما يذكر التاريخ اسمك.
يكون الحق فى جانبك ومعك يا أيها السلطان العظيم.
كنا نحن الذين افترينا - دون حياء.
على أعظم سياسيى العصر.
قلنا إن السلطان ظالم وإن السلطان مجنون.
قلنا لابد من الثورة على السلطان.
وصدقنا كل ما قاله لنا الشيطان.
وعملنا على إيقاظ الفتنة.
لم تكن أنت المجنون، بل نحن، ولم نكن ندرى.
علقنا القلادة على فتيل واهٍ.
لم نكن مجانين فحسب، بل كنا قد عدمنا الأخلاق.
فلقد بصقنا - أيها السلطان العظيم.
على قبلة الأجداد.
عبد الحميد ومشاكل دولته:
وقد بدأ عهد «عبد الحميد» بالمشاكل العديدة، فتمرد «الصرب»
و «الجبل الأسود»، وهو تمرد بدأ فى آخر عهد «عبد العزيز»،
واضطرب الوضع فى «جزيرة كريت» ولم يكن فى صالح الدولة.
وانتصر العثمانيون على قوات الصرب فى معركة «الكسيناج»، ولكن
عندما اقترب العثمانيون من دخول «بلجراد» إذا بروسيا توجه إنذارًا
للدولة العثمانية، فخافت الدول الغربية وعلى رأسها «إنجلترا» من
مغبّة تدخل «روسيا» وعقدت هذه الدول مؤتمر الترسانة المشهور فى
«إستانبول» فى (ذى الحجة عام 1293هـ= ديسمبر عام 1876م)
برياسة «صفوت باشا» وزير الخارجية العثمانية. فى هذا اليوم أعلن
«عبد الحميد الثانى» الحكم المشروطى (الديمقراطى) فى الدولة.
والواقع أن هذا المؤتمر قد أجبر الدولة العثمانية على القيام
بإصلاحات فى «البوسنة والهرسك» و «بلغاريا». وفى (3 من المحرم(8/59)
عام 1294هـ= 18 من يناير عام 1877م) اجتمع فى «الباب العالى»
(مجلس مكوّن من (240) شخصًا) لدراسة مقترحات مؤتمر الترسانة، لكن
«مدحت باشا» دفع المجلس إلى رفض مقترحات الدولة، وحرَّض طلبة
العلوم الدينية العالية على القيام بمظاهرات لإجبار السلطان «عبد
الحميد» على الحرب، فقام المجلس بإجبار السلطان على التصديق
على قرار برفض مقترحات المؤتمر، فانفض السفراء وتركوا الدولة
العثمانية بمفردها تواجه «روسيا».
ولما كان «نابليون الثالث» قد أرسى دعائم الفكر القومى العرقى
فى «أوربا»، فقد استغل الروس فرصة انتشار هذا الفكر، وقاموا
بدعايات ضخمة لإنقاذ إخوانهم السلاف الواقعين تحت الحكم التركى،
وأعلنوا الحرب فى (10 من ربيع الآخر عام 1294هـ= 24 من أبريل عام
1877م) على العثمانيين، وبذلك بدأت الحرب العثمانية - الروسية،
المشهورة التى استمرت من عام (1294هـ= 1877م) إلى عام (1295هـ=
1878م)، وتعد هذه الحرب نكبة من نكبات التاريخ العثمانى، فقد
رافق خسارة العثمانيين فى الأرض، مشكلة هجرة مليون مسلم
عثمانى من «بلغاريا» إلى «إستانبول»، وهذه الهجرة هى أصل
مشكلة الأقليات الإسلامية اليوم فى «بلغاريا» وغيرها من دول
«البلقان»، وعندما هاجر المليون عثمانى رافقتهم مشاكل اجتماعية
كبيرة فى الإسكان وفى المعيشة.
وأخيرًا عقدت فى (27 من المحرم عام 1295هـ= 31 من يناير عام
1878م) معاهدة لإنهاء الحرب التى استمرت تسعة أشهر وسبعة أيام.
تعطيل البرلمان:
وأمام ما تصوّره «عبد الحميد» من قصور فى الرأى العام ممثلاً فى
هذا المجلس، الذى دفع بالأمة إلى الدخول فى حرب هى غير مستعدة
لها، وليست فى حاجة إليها، قام السلطان فى (13 من فبراير 1878م)
بتعطيل الحياة النيابية إلى أجل غير مسمى، واضطر وزير الخارجية
العثمانية أن يوقع معاهدة «أياسطفانوس» التى فرضتها «روسيا»
على الدولة عقب هزيمتها أمامها، وقد بكى الوزير وهو يوقع(8/60)
المعاهدة؛ لأنها كانت مجحفة بالدولة، إلا أن السلطان يذكر فى
مذكراته أنه عمل كثيرًا على تخفيف وقع هذه المعاهدة على الدولة،
بتوقيع معاهدة أخرى هى «معاهدة برلين» فى (10 من صفر عام
1295هـ= 3 من يوليو عام 1878م) أى بعد أربعة أشهر وأحد عشر
يومًا من المعاهدة الأولى.
وفى (18 من جمادى الأولى عام 1295هـ= 20 من مايو عام 1878م)
أثناء ما كان جيش الاحتلال الروسى يجثم على أراضى الدولة،
وانشغال هذه به، قام شاب يدعى «على سعاوى» مع أنصاره من
الشباب الثائر بمحاولة لخلع «عبد الحميد» وإحلال «مراد» - وكان
مريضًا مرضًا عقليا - محله إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل.
ديون الدولة العثمانية:
أما عن الديون العثمانية وخطورتها، فقد وصلت الديون المتبقية من
عهدى «عبد المجيد» والد «عبد الحميد»، و «عبد العزيز» عمه إلى
(252) مليون ليرة ذهبية عام (1298هـ= 1881م)، وكان هذا الرقم
وقتها رقمًا هائلا، وكانت كل من «إنجلترا» و «فرنسا» فى مقدمة
الدائنين. وقد نجح السلطان «عبد الحميد» فى حل مسألة الديون هذه
بتقليلها إلى النصف تقريبًا؛ لذلك كان الموظفون العثمانيون وخاصة
الضباط يتضجرون عندما يقبضون رواتبهم متأخرةً، وهذا الأمر كان من
أسباب ضيق الموظفين فى عهد «عبد الحميد».
وبعد وفاة السلطان «عبد العزيز» - عم «عبد الحميد» - بخمس سنوات،
أثار «عبد الحميد» قضية هذه الوفاة؛ ولذلك قدّم «مدحت باشا»
وأعوانه إلى المحاكمة فى «محكمة يلدير» فى (29 من رجب عام
1298هـ= 27 من يونيو عام 1881م) بتهمة قتل سلطان الدولة، وأصدرت
المحكمة قرارها بالإدانة.
ثم نُقل «مدحت باشا» وصاحبه محمود جلال الدين باشا فى (1 من
رمضان عام 1298هـ= 28 من يوليو عام 1881م) بالسفينة «عز الدين»
إلى «قلعة الطائف» حيث حبسا فى السجن العسكرى هناك، واستمر
هذا الحبس سنتين وتسعة أشهر، ثم وجد «مدحت باشا» وزميله فى
السجن مقتولين خنقًا، ولم يُعرف من المحرّض على القتل، والمعروف(8/61)
أن «إنجلترا» حاولت إنقاذ «مدحت باشا» من هذا السجن بتهريبه منه
حتى إنها خصصت سفينة عسكرية بريطانية فى «البحر الأحمر» لهذا
الغرض.
وفى (18 من جمادى الأولى 1323هـ= 21 يوليو 1905م) دبر الأرمن
مؤامرة لقتل السلطان «عبد الحميد» عُرفت فى التاريخ العثمانى
باسم «حادث القنبلة»، دبّرها ونفذها الأرمن وأيدها المعارضون لعبد
الحميد وبخاصة العاملون فى النشر والإعلام.
ومع هذا فقد كان حكم عبد الحميد بالنسبة إلى الدولة العثمانية عهد
استقرار. وكان الشعب يشعر بالأمان، لكن نتيجة أن السلطان كان
يربط مؤسسات الدولة بشخصه مباشرة ودائمًا، ويحدّ من الصحافة
والحريات السياسية فقد عاداه الضباط وطلبة العلوم العليا خاصة طلبة
الطبية العسكرية.
المسائل العربية فى عهد عبد الحميد:
بجيش مكوّن من (23.000) جندى فرنسى استُقدموا من «الجزائر» مع
أسطول بحرى و (8.000) جندى فرضت «فرنسا» حمايتها على
«تونس» ووقعت «معاهدة باردو» (قصر سعيد) فى (12 من جمادى
الآخرة 1298هـ= 12 من مايو 1881م)، بذلك احتج الباب العالى وأخذ
الوزير «محمود صادق باشا» أمير «تونس» يطلب النجدة، فذهب إليه
أسطول عثمانى مدرّع، إلا أن هذا الأسطول اضطر إلى الانسحاب إلى
مياه «كريت»؛ لعدم التوازن فى القوى بين الأسطولين العثمانى
والفرنسى.
ولم تكن الدولة العثمانية فى الواقع قادرة على أن تدافع عن
«تونس»، وكل ما استطاعت عمله أنها لم تعترف رسميا بالاحتلال
الفرنسى، وظل «عبد الحميد» يعتبر «تونس» قطعة من الدولة
العثمانية فى السالنامة الرسمية.
وكان احتلال «بريطانيا» لمصر فى (2 من ذى القعدة 1299هـ= 15 من
سبتمبر عام 1882م) هو الحدث الكبير الثانى فى السياسة العثمانية
الخارجية فيما يختص بالأمور العربية.
عبد الحميد والخديو إسماعيل:
إن العلاقات العثمانية المصرية كانت قد اتخذت طورًا متشددًا تجاه
إسراف الخديو «إسماعيل»، بعد أن استطاع الحصول من(8/62)
«عبدالعزيز» على امتياز بالاقتراض الخارجى، ووصل الأمر بالخديو
إلى أنه اقترض من «إنجلترا» و «فرنسا» مبلغ مائة مليون جنيه ذهبًا
فى عشر سنوات؛ ولتقريب هذه المسألة نقول إن ديون الدولة
العثمانية كلها - بعد جهود «عبد الحميد» فى تخفيضها إلى النصف
تقريبًا - تعادل جملة اقتراضات الخديو «إسماعيل» بمفرده وهو خديو
على إيالة «مصر» العثمانية؛ مما أعطى انطباعًا لدى السلطان «عبد
الحميد» بعظم إسراف الخديو، وهذا الإسراف دفع «إسماعيل» فى
(ذى القعدة 1292هـ= نوفمبر 1875م) إلى طرح أسهمه الشخصية فى
«قناة السويس» للبيع، وحاولت «فرنسا» أن تشتريها، إلا أن سرعة
حركة «دزرائيلى» رئيس وزراء «بريطانيا» فى شراء هذه الأسهم
عطلت حركة «فرنسا» فى العمل، وهذا أدى إلى توقع وقوع
«مصر» فريسة للاحتلال البريطانى. ولم تكن «فرنسا» من القوة بحيث
تستطيع وقتها عمل شىء لتعطيل تحرك الإنجليز فى «مصر»، ومع
ذلك لم يجد بيع «إسماعيل» لأسهمه فى «قناة السويس» نفعًا.
كان جيش «مصر» قد بلغ أيام «إسماعيل» إلى (30.000) عسكرى ما
بين ضابط وجندى، ثم أدى تدخل الوزراء الأوربيين فى الوزارة
المصرية إلى تخفيض هذه القوة إلى (11.000) وتسريح (2500)
ضابط، وكان هذا العدد يقرب من نصف عدد ضباط الجيش، وكان عدد
الضباط المصريين قليلاً بالنسبة إلى الضباط الآخرين من رعايا الدولة
العثمانية كالألبان والأباظة والشركس وغيرهم، إلا أن أغلب الضباط
المحالين إلى التقاعد كانوا من المصريين، فاستاء هؤلاء، وبدأ فى
«مصر» - لأول مرة - الشعور بالقومية، وظهر الأميرالاى «أحمد عرابى
بك».
نتيجة لهذا الجو الجديد قام السلطان «عبد الحميد الثانى» بإصدار
إرادة سنية فى (5 من شعبان 1296هـ= 25 من يوليو 1879م) بعزل
الخديو «إسماعيل» باشا، وتعيين ابنه الأكبر وولى العهد «محمد
توفيق باشا» مكانه، وطلب «إسماعيل» من السلطان «عبد الحميد»(8/63)
الإذن بالإقامة فى «إستانبول» والإفادة من أملاكه هناك، فأذن له
وأقام «إسماعيل» فى قصره فى حى «بايزيد» فى «إستانبول»،
وكذلك فى قصره الصيفى على «البسفور» فى حى «أميركان».
ومات «إسماعيل» فى «إستانبول» فى (27 من رمضان 1312هـ= 2
من مارس 1895م) عن (65) عامًا، والمعروف أن «إسماعيل» درس فى
الأكاديمية الحربية فى «باريس».
وفى علاقة «عبد الحميد» بإسماعيل أيضًا مسألة إهداء السلطان
«عبد العزيز» عم «عبد الحميد» جزيرة «ياسى آدا» - وهى جزيرة
صغيرة جميلة، بالقرب من إستانبول - إلى «إسماعيل»، وعندما
تولى «عبد الحميد» أعاد هذه الجزيرة إلى أملاك الدولة.
عبد الحميد والثورة العرابية:
أما «أحمد عرابى بك» فقد أيده «عبد الحميد» ومنحه رتبة أمير لواء
مع الباشوية، كما منحه الوسام الحميدى من الطبقة الأولى،
والمعروف أن الرتب العسكرية فى «مصر» فيما فوق أميرالاى لا
تمنح إلا من السلطان نفسه.
قام «عرابى باشا» بإنهاء عمل الموظفين الأوربيين، فاحتجَّت عليه
كل من «إنجلترا» و «فرنسا»، وقامتا بمراجعة «الباب العالى» فى
شأن إرسال قوة عسكرية إلى «مصر»، ولم يقع «عبد الحميد» فى
هذا الفخ، ورفض إرسال قوة عسكرية، لأن قمع الحركة الوطنية
المصرية بجنود أتراك لصالح الدول الأوربية وهى دول استعمارية،
كان من شأنه الإساءة إلى مقام الخلافة فى كل أرجاء العالم
الإسلامى، ويتنافى مع مبدأ الجامعة الإسلامية التى كان «عبد
الحميد» قد اتخذها سياسة له.
فى هذه الأثناء تولّى «عرابى باشا» وزارة الحربية، وفى (23 من
شعبان 1299هـ= 11 من يوليو 1882م) حدثت قلاقل «الإسكندرية»،
ومات عدد من الأوربيين هناك، كما جرح أربعة قناصل؛ لذلك قام
الأميرالاى «سيمور» قائد الأسطول البريطانى فى «البحر المتوسط» -
وكانت «إنجلترا» قد أعلنت أنها ستحمى الأجانب فى مصر - بضرب
«الإسكندرية» بالمدفعية البحرية ضربًا متواصلاً. وفى اليوم التالى(8/64)
(24 من شعبان= 12 من يوليو 1882م) احتل «الإنجليز» المدينة، وفى
(12 من سبتمبر 1882م) قام السير «جرانت ويلزلى» بالتغلب على
قوات «عرابى باشا» فى معركة «التل الكبير» فى عشرين دقيقة،
ودخل الجيش الإنجليزى القاهرة فى (15 من سبتمبر 1882م)،ونفت
«بريطانيا» «أحمد عرابى» إلى «سيلان».
وكانت «بريطانيا» تردد دائمًا أنها تحتل «مصر» و «السودان» احتلالا
مؤقتًا، ولم يكن للاحتلال صفة رسمية، أو وضع قانونى، وإن كان
أمرًا واقعًا إلا أن «مصر» رسميا كانت تابعة للدولة العثمانية،
واستمرت «مصر» حتى عام (1331هـ= 1914م) - تاريخ إعلان الحماية
البريطانية عليها - ترسل متعلقات تبعيتها للعثمانيين إلى
«إستانبول» سنويا، وكذلك كان تعيين الرتب الكبيرة فوق الأميرالاى
لا يتم إلا عن طريق السلطان.
عبد الحميد ومسألة العقبة:
والمسألة الثالثة المهمة فى العلاقات العثمانية المصرية فى عهد
«عبد الحميد» تتجلى فى مسألة العقبة عام (1324هـ= 1906م)، فبعد
أن ضيق العثمانيون على الإنجليز حلقة العمل الاستراتيجى للاحتفاظ
بطريقهم إلى «الهند» سليمًا، وخوف «بريطانيا» من خط سكة حديد
الحجاز، خاصة بعد دخول «ألمانيا» منافسًا للقوى الأوربية فى خط
سكة حديد «بغداد»، فى تلك الفترة كان السلطان «عبد الحميد»
مشغولاً بإنشاء خط سكة حديد «مكة» الطويل، برأس مال إسلامى
وأيدٍ عاملة مسلمة، وكان خط سكة حديد الحجاز قد وصل إلى
«المدينة المنورة»، وقد ربط هذا الخط بين «إستانبول» و «دمشق»
و «المدينة».
فى هذه الفترة نفسها أنشأ السلطان مدينة «بير السبع» بين «غزة»
و «بحيرة لوط» فى جنوب «فلسطين»، وفى عام (1319هـ= 1901م)
حلت قوة تركية هناك وتكون حولها قصبة، والواقع أنها كانت
قاعدة استراتيجية عثمانية، تشرف على «شبه جزيرة سيناء»
و «الجزيرة العربية» وطريق «الحجاز» و «مصر»، وكان من شأنها
أيضًا مراقبة الإنجليز الذين كانوا يحتلون «مصر». وتشكل هذه(8/65)
القاعدة العثمانية الاستراتيجية التى أقيمت على أطلال مهجورة
متراكمة حول بئر واحدة من بدايات مسألة العقبة.
وفى عام (1323هـ= 1905م) قام الإنجليز بتحريض بعض القبائل اليمنية
بالتمرد على الدولة، لكن العثمانيين استطاعوا القضاء على هذا
التمرد، عندئذٍ أدركت «بريطانيا» أنها عاجزة عن الإضرار بالعثمانيين
فى «اليمن»، وهى ولاية ذات أهمية استراتيجية على «البحر الأحمر»
و «خليج عدن»؛ لذلك قام الإنجليز باختلاق حادثة على حدود «مصر»
وكانت هذه الحادثة هى حادثة قرية تسمى «العقبة».
طلبت «إنجلترا» إرسال جنود إلى هذه القرية التى يسمح الباب
العالى بوجود جنود مصريين فيها خاصة بمناسبة أعمال الحج.
بذلك كانت «إنجلترا» تريد السيطرة على المدخل الشمالى الشرقى
للبحر الأحمر وتدخل منه إلى داخل «الجزيرة العربية».
أرسل السلطان «عبد الحميد» أحد ياورانه المخلصين وهو الأميرالاى
«رشدى بك» - باشا فيما بعد - إلى المنطقة، فسار مع طابورين من
الجنود ومدفع واحد واتجه إلى العقبة وأخلاها من الجنود المصريين
الذين كانوا فيها بعد أن أبلغهم أن هذا قرار من السلطان. وبموجب
أمر من «عبد الحميد» احتل «رشدى بك» قصبة «طابا» بعد أن
أخلاها من الجنود المصريين ليفاجئ الإنجليز بالأمر الواقع.
أدركت «إنجلترا» أنها على أبواب صدام قريب مع الدولة العثمانية
بشأن الحدود، خاصة بعد قيام الشعب المصرى فى «القاهرة» وسائر
المدن المصرية بمظاهرات تهتف بحياة «عبد الحميد» وبسقوط الاحتلال
الإنجليزى، وقدمت «إنجلترا» للباب العالى إنذارًا باحتلال «العقبة»
و «طابا» فى مدة عشرة أيام إذا لم يرسل الباب العالى إلى «رشدى
بك» تلغرافًا بإخلاء القلعتين، وقالت «إنجلترا» فى إنذارها إن من
حقها الدخول فى حرب مع الدولة إذا لم يحدث صدى إيجابى للإنذار،
ولكى تضخم «إنجلترا» المسألة أمرت أسطولها فى «المحيط
الأطلسى» بدخول «البحر المتوسط» عن طريق «جبل طارق»؛ ليكون(8/66)
بجوار الأسطول البريطانى فى «البحر المتوسط».
أبلغ «عبد الحميد» «إنجلترا» برفضه لهذا الضغط البريطانى، وقال:
إن «مصر» جزء من الدولة العثمانية رسميا وليس لإنجلترا حق فيما
تريده، وقال: إن الحدود المصرية العثمانية لا يحلها إلا ضباط من
«مصر» ومن الدولة العثمانية.
وفى (شعبان 1324هـ= أول أكتوبر 1906م) قام الضباط العثمانيون
والضباط المصريون بتنظيم الحدود واستقر الأمر على أن «طابا»
مصرية.
عبد الحميد واليهود:
عندما مات «البارون هيرش» كان يأمل فى إقامة وطن ليهود
«روسيا» فى «الأرجنتين»، وعندما تدخل «تيودور هرتزل» فى
المسألة اليهودية، أصبح الأمر لا يتعلق بيهود «روسيا» فقط بل بكل
اليهود، ولم يصبح الوطن الذى يطلبونه «الأرجُنتين»، بل أصبح فى
«فلسطين»، وكانت «فلسطين» جزءًا من الدولة العثمانية.
يقول «تحسين باشا» رئيس أمناء القصر السلطانى فى عهد «عبد
الحميد»، فى مذكراته ما يلى:
«جاءت شخصية كبيرة صهيونية يهودية نمساوية إلى إستانبول،
وطلبت إقامة وطن يهودى فى سنجق القدس، وقالت هذه الشخصية:
إنها تتحدث فى هذا باسم الصهاينة، وأن روتشيلد المصرفى
المشهور، وراء هذا الأمر».
وكان أساس مطلب هذا اليهودى إقامة قرى يهودية فى «فلسطين»
فى مكان تحدده الحكومة العثمانية، ولا مانع من وجود منازل
إسلامية فى هذه القرى إذا رغبت الحكومة فى هذا، وسيتبع اليهود
القادمون من الخارج قوانين ونظم الدولة العلية (العثمانية)، وسيتم
مقابل هذا تقديم الخدمات والتسهيلات اللازمة فى مسألة الديون
العمومية، وتقديم الضمان الكافى بهذا الكتاب.
ولأن هذا اليهودى كان له وزنه واعتباره، والمسألة تتعلق بالديون
العمومية للدولة عرض الموضوع على السلطان الذى أذن بمقابلته،
وبعد هذه المقابلة التى عاد منها الصهيونى النمساوى إلى بلاده
صفر اليدين أمر السلطان «عبد الحميد» سفراء الدولة العثمانية فى(8/67)
كل من «واشنطن» و «برلين» و «فيينا» و «لندن» و «باريس»، بتعقب
الحركة الصهيونية، وإرسال تقاريرهم أولا بأول إلى السلطان، كما
قاموا بناءً على هذا الأمر بمقابلة زعماء اليهود فى البلدان التى
يعملون بها أيضًا، بإرسال مخبرين عثمانيين متنكرين إلى
الاجتماعات الصهيونية فى «أوربا»، وإرسال قصاصات الصحف
والمجلات الأوربية المتعلقة بنشاط اليهود فى «أوربا».
وبذلك خط «عبد الحميد» بنفسه الخطوط الأساسية للسياسة
العثمانية تجاه اليهود وفهم تفكيرهم تجاه القضية الفلسطينية.
وفى (10 من ذى القعدة 1307هـ= 28 من يونيو 1890م) وفى (7 من
يوليو) من العام نفسه أصدر السلطان «عبد الحميد» إرادتين
سلطانيتين بـ: «عدم قبول الصهاينة فى الممالك الشاهانية (الأراضى
العثمانية) وإعادتهم إلى الأماكن التى جاءوا منها، وأعطى أوامره
إلى نظارة الشئون العقارية بعدم بيع أراضى للمهاجرين إلى
فلسطين».
يقول «محرم فوزى طوغاى» فى مقالة له فى (10 من جمادى الآخرة
عام 1366هـ= 2 من مايو عام 1947م)، نشرها فى «مجلة بيوك
طوغو» التركية بعنوان «فلسطين والمسألة اليهودية» ما يلى:
«إن تصرّف عبد الحميد تجاه الحركة اليهودية بهذا الشكل المعادى
كان معناه أنه يتسبب فى هدم تاجه وهدم عرشه، ليس هذا فقط، بل
ومن ثم فى هدم الدولة العثمانية كلها».
ويقول العقيد التركى «حسام الدين أرتورك» فى كتابه «خفايا
عهدين»، نشر فى «إستانبول» عام (1377هـ= 1957م) ما يلى:
«قدم كل من تيودور هرتزل والحاخام الأكبر طلبًا شخصيا إلى
السلطان عبد الحميد يطلبان فيه إقامة وطن إسرائيلى مستقل فى
سنجق القدس، فما كان من عبد الحميد إلا أن طردهما».
ويعقب «نظام الدين تبه دنلى أوغلى» بالتعليق على هذه المسألة
قائلاً:
«إن تصرف السلطان عبد الحميد تجاه هرتزل بهذا الشكل كان - كما
فطن السلطان لذلك - من شأنه أن يعمل هرتزل واليهود على دعم
أعداء السلطان».
وأعداء السلطان يتمثلون فى الآتى:(8/68)
1 - تأييد الأرمن وتدعيم حركتهم ضد السلطان «عبد الحميد».
2 - تأييد الحركة القومية فى «البلقان» لانفصال هذه المنطقة عن
الدولة.
3 - تأييد الحركة القومية الكردية التى ظهرت عام (1297هـ = 1880م)
وبدأت بمحاولات اتحاد (30) عشيرة كردية متنافرة.
4 - تأييد كل حركة استقلال عن الدولة العثمانية.
5 - دعم قوى حركة الاتحاد والترقى ودفعها إلى قلب الأوضاع
السياسية فى الدولة.
عبد الحميد الثانى وحركة الجامعة الإسلامية:
ظهرت فكرة الجامعة الإسلامية فى النصف الثانى من القرن التاسع
عشر، واتسع ذلك المصطلح ليشمل عدة مفاهيم، فبعض المصلحين
رأى فيها دعوة للرجوع بالدين إلى ما كان عليه السلف الصالح.
والبعض فسَّرها بأنها دعوة لتحديث المفاهيم الإسلامية وتطويرها
بشكل يساير تطور الحياة الحديثة، ويتمشى مع المفاهيم الواردة من
مدنية الغرب وثقافته، ورأى ثالث رَأَى فيها دعوة إلى إحياء الخلافة
العربية القرشية من جديد، لكن من غير أن يكون لهذا الخليفة سلطة
دنيوية بل مجرد رمز دينى لوحدة المسلمين. أما الرأى الأخير والأقرب
إلى الدقة فرأى فيها تلك الدعوة التى انطلقت من عاصمة الدولة
العثمانية والتى استهدفت تشديد قبضة الدولة على ما تبقى من
ولاياتها أمام الخطر الأوربى الزاحف عليها من الغرب، وامتداد النفوذ
الأدبى للسلطان العثمانى من منطلق كونه خليفة للمسلمين وخاصة من
هم خارج حدود العالم الإسلامى، لتتبادل معهم الدولة الدعم المادى
والأدبى لمواجهة الغزو الأوربى وما أحدثته هذه الحركة من ردود
فعل متباينة بين مؤيد لها ومساند وبين معارض لها ومناهض.
تولى السلطان عبد الحميد الحكم سنة (1293هـ= 1876م)، وقد بلغت
أطماع الدول الغربية فى الدولة العثمانية أوجها، وأوشكت المشاكل
والفتن الداخلية أن تقوض أركان الدولة من الداخل، وأهمها «جماعة
تركيا الفتاة» التى كانت تنادى بالأخذ بالمبادئ الأوربية الغربية فى(8/69)
كل شىء، وحاولوا إخضاع السلطان لنفوذهم كما فعلوا مع سابقيه،
إلا أنه رفض وسعى لإضعاف نفوذهم فى الدولة.
وكان انتشار تلك الأفكار فى الدولة العثمانية التى يدين سكانها
بالإسلام يشكل خطرًا على وحدتها السياسية، وكان للسلطان «عبد
الحميد» مفهوم خاص فى إدخال عناصر المدنية إلى بلاده، فهو لا
يريد حضارة الغرب بمعنى الثقافة والتراث؛ لأنه كان يرى أن للشرق
حضارته الإسلامية المتكاملة المتفوقة على الحضارة الغربية، إنما
كان يريد اقتباس ما لديهم من علوم حديثة وليس مرة واحدة، ولكن
بالتدريج.
وأدرك السلطان أنه أمام أخطاء داخلية وخارجية ورأى أن الإسلام
هو القوة الوحيدة التى تمكنه من ذلك، وفى هذا يقول: إن الإسلام
هو القوة الوحيدة التى تجعلنا أقوياء ونحن أمة حية قوية ولكن
شرط أن نصدق فى ديننا العظيم.
وكان يرى أن الحروب الصليبية ضد الدولة العثمانية دائمة ومستمرة
فلابد إذن من العمل بالإسلام على توحيد عناصر الدولة المتعددة من
عرب وترك وأكراد وغيرهم فى جبهة واحدة حتى يمكن الصمود أمام
الغرب، ويرى أن جبهة المسلمين فى الدولة العثمانية لا تكفى، ولكن
لابد من امتداد تأثير الوحدة الإسلامية إلى كل مسلمى العالم فى
«إفريقيا» و «آسيا» وغيرها.
وأيد فكرة الجامعة الإسلامية كثير من علماء الدولة العثمانية آنذاك،
منهم:
الشيخ «عاطف الإسكليبى» (1876 - 1926م)، والشاعر «محمد عاكف
أرصوى» (1873 - 1936م)، والشيخ «بديع الزمان سعيد النورسى»
(1876 - 1960م).
وفى بلاد الشام نادى بها:
1 - الشيخ «أبو الهدى الصيادى» (1849 - 1909م).
2 - الشيخ «عبد الرحمن الكواكبى» (1854 - 1902م).
3 - «السيد «محمد رشيد رضا» (1865 - 1935م).
4 - «عبد القادر المغربى» (1867 - 1956م).
5 - «رفيق العظم» (1867 - 1925م).
6 - الأمير «شكيب أرسلان» (1869 - 1946م).
وفى مصر:
1 - جمال الدين الأفغانى (1839 - 1897م).
2 - محمد عبده (1849 - 1905م).(8/70)
3 - مصطفى كامل (1874 - 1908م).
4 - محمد فريد (1868 - 1919م).
السلطان عبد الحميد والاتحاد والترقى:
«الاتحاد والترقى» هو أول حزب سياسى فى الدولة العثمانية ظهر
فى عام (1308هـ= 1890م)، وكان سريا مكونًا من خلايا طلبة الحربية،
والطبية العسكرية، ويهدف إلى معارضة حكم «عبد الحميد» والتخلص
منه، وتم اكتشاف هذا الجهاز فى سنة (1315هـ= 1897م)، فنفى عديد
من أعضائه، وفرّ بعضهم إلى «باريس»، وأرسل السلطان «عبد
الحميد» مدير الأمن العام الفريق أول «أحمد جلال الدين باشا»، إلى
«باريس» لاستمالة أعضاء المعارضة من الاتحاديين، فنجح فى
استمالة أكثرهم ومنحهم «عبد الحميد» مناصب كبيرة فى الدولة، إلا
أن المعارضين وعلى رأسهم «أحمد رضا بك» ظلوا على معارضتهم.
وفى المدة من (27 من شوال - 1 من ذى القعدة 1319هـ= 4 - 9 فبراير
1902م) عقد فى «باريس» مؤتمر للأحرار العثمانيين، حضرته كل
العناصر المعارضة لحكم «عبد الحميد»، وعلى رأسهم أعضاء
«الاتحاد والترقى»، وكان من ضمن قرارات هذا المؤتمر تقسيم الدولة
العثمانية إلى حكومات مستقلة استقلالا ذاتيا على أساس عرقى
قومى، وظهر المعارضون لهذا الرأى ومنهم «أحمد رضا بك» نفسه،
إلا أن الأغلبية كانت لها قوتها فى تأييد هذا القرار.
وطالب المؤتمرون من الدول الأوربية التدخل لإنهاء حكم السلطان
«عبد الحميد» وإقصائه عن العرش. وفى داخل البلاد العثمانية
وخصوصًا فى «سلانيك» و «مناستر»، افتتح الاتحاد والترقى فروعًا
له، التحق بها الضباط الشبَّان من رتبتى «ملازم» و «يوزباشى»، ثم
بدأ دخول الضباط من الرتب الكبيرة، حتى إنه يتردد أن كل ضباط
الجيش العثمانى الثالث (فى «البلقان») كانوا فى عام (1326هـ=
1908م) منضمين إلى «الاتحاد والترقى»، وكان منهم أركان حرب
«قول أغاسى مصطفى كمال أفندى» (أتاتورك فيما بعد)، إلا أنه
انسحب فيما بعد من «الاتحاد والترقى».(8/71)
وفى مذكرة لجمعية «الاتحاد والترقى» إلى قناصل الدول الأجنبية
فى الدولة العثمانية، طالبت الجمعية بتدخل دول هؤلاء القناصل
لإنهاء حكم «عبد الحميد»، وتحالفت الجمعية مع الثوار البلقانيين ضد
السلطان.
اعتقد الاتحاديون أنهم بإزالة «عبد الحميد» يستطيعون تقريب
العناصر المختلفة فى الدولة، وأن دول «أوربا» ستكف عن
مضايقاتها للدولة العثمانية، وتصور الاتحاديون أن هذه الدول
الأوربية ستتعهد بحماية الدولة العثمانية إذا انتهى حكم «عبد الحميد»
الفردى غير المشروط (غير الديمقراطى)، والذى حدث أنه عقب
المشروطية فقدت الدولة العثمانية «البوسنة والهرسك» مما أصاب
الاتحاديين بالهلع.
وفى (23 من جمادى الأولى 1326هـ= 23 يوليو 1908م) اضطر «عبد
الحميد» اضطرارًا إلى إعلان المشروطية (الثانية)، وتولت جمعية
«الاتحاد والترقى» الحكم، وأعلنت تمثلها لمبادئ الثورة الفرنسية
«الحرية - العدالة - المساواة - الأخوة».
وفى (23 من رمضان 1326هـ= 15 من أكتوبر 1908م) استقلت عن
الدولة العثمانية كل من «بلغاريا» و «كريت» التى أعلنت انضمامها
لليونان فى (6أكتوبر)، واستقلت - كما ذكرنا - «البوسنة والهرسك».
وفى (21 من ربيع الأول 1327هـ= 13 من أبريل 1909م) دبر الجيش
العثمانى حادثة عرفت باسم «حادث 31 مارس»، ثم نسبوها إلى
«عبد الحميد» وقالوا إنه أراد ثورة العناصر الرجعية ضد جمعية
«الاتحاد والترقى». واتخذ الجيش هذا ذريعة للتحرك لعزل السلطان
«عبد الحميد الثانى»، وندبوا لإبلاغه بقرار العزل وفدًا مكونًا من
أربعة أشخاص لم يكن منهم تركى ولا عربى واحد، وإنما كان على
رأس الوفد يهودى والثلاثة الآخرون: أرمنى وألبانى وجرجى.
واليهودى هو «إيمانويل قراصو» الذى لعب فيما بعد دوره المشئوم
فى الاحتلال الإيطالى لليبيا.
وتنازل السلطان «عبد الحميد» عن العرش لأخيه السلطان «محمد
رشاد» فى (6 من ربيع الآخر 1327هـ= 27 من أبريل 1909م) وكان(8/72)
على السلطان «عبد الحميد» أن يركب هو وأسرته القطار إلى منفاه
فى «سلانيك» (وهى مدينة يغلب عليها الطابع اليهودى)، وكان مقر
منفى السلطان «عبد الحميد» فى هذه المدينة ذات الطابع اليهودى
فى قصر يمتلكه يهودى يسمى «ألاتينى»، إمعانًا فى إذلال «عبد
الحميد».
وفى (27 من ربيع الآخر 1336هـ= 10 فبراير 1918م) مات السلطان
«عبد الحميد الثانى» ابن السلطان «عبد المجيد»، عن ستة وسبعين
عامًا، واشترك فى تشييع جنازته كل شعب «إستانبول» تقريبًا.
لقد خدم السلطان «عبد الحميد» أمته ثلاثًا وثلاثين سنة، قدم خلالها
خدمات جليلة، فحفظ الدولة بعد الحرب الروسية التركية من أن تفقد
المزيد من أراضيها فى «أوربا»، وقام بإنشاء دار العلوم السياسية
والجامعة بكل فروعها، ودور المعلمين والمعلمات، ومدارس اللغات
ومدرسة الفنون النسوية، وافتتح متحف الآثار الشرقية، والمتحف
العسكرى، ومكتبة بايزيد، ومدرسة الطب، وغيرها.
وفى مجال الإصلاحات العسكرية استقدم الخبراء الألمان لتدريب
الجيش وفق الأساليب الحديثة، وأرسل البعثات العسكرية للخارج،
وجهَّز الجيش بالأسلحة الحديثة.
ويذكر له فى مجال الإنشاءات والمواصلات، إنشاؤه الخط الحديدى
الحجازى، وعددًا من الطرق فى «سوريا»، وتوسعه فى إنشاء
خطوط البرق، وجرى فى عهده بناء دار الحكومة فى «دمشق»،
والثكنة الحميدية (جامعة دمشق اليوم)، وإصلاح «الكعبة المشرفة»،
وغيرها.
الدولة العثمانية نحو الانهيار:
رأت السلطات العثمانية وعلى رأسها السلطان «وحيد الدين» أن
مصلحتها بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى أن تتعاون مع
الحلفاء وبخاصة «إنجلترا»، على اعتبار أن ذلك من شأنه أن ينقذ ما
يمكن إنقاذه، فتم حل جمعية «الاتحاد والترقى» ومصادرة أملاكها،
وحل البرلمان والحكم بمراسيم.
وكانت الدولة العثمانية قد استسلمت فى الحرب العالمية الأولى فى
عهد السلطان «وحيد الدين» بعد أن تولى الخلافة بعدة شهور فقط،(8/73)
ونتج عن هزيمتها أن سيطر الحلفاء على «إستانبول» والمضائق،
واحتلت «اليونان» الأقسام الغربية، وضاعت البلدان العربية من يديها،
وأراد السلطان «وحيد الدين» أن ينقذ الدولة مما هى فيه، فوضع
ثقته فى «مصطفى كمال» الذى لمع نجمه أثناء الحرب، لكنه بدأ
يعمل لصالح نفسه.
وفى أثناء الحرب العالمية الأولى كان «مصطفى كمال» أنجح قادة
الميدان العثمانيين، فقد تولى فى أواخر سنة (1332هـ= 1914م)
قيادة القوات التركية التى وكل إليها حماية «الدردنيل»، وكانت
قاعدتها الرئيسية «شبه جزيرة غاليبولى»، وبفضل شجاعته فشل
الإنزال البريطانى بها لاحتلالها، وقد جعلته هذه المعركة التى أنقذت
«الآستانة» من السقوط بطلا قوميا، فأنعم عليه بلقب «باشا».
ثم عقدت «هدنة مودانيا» فى (9 من صفر 1340هـ= 12 من أكتوبر
1921م)، اعترفت بمقتضاها حكومات الحلفاء بعودة السيادة التركية
إلى «إستانبول» و «البوغازين»، و «تراقيا الشرقية»، وأجَّلت عودة
الأتراك إلى هذه المناطق حتى توقع معاهدة الصلح.
وفى (ربيع أول 1341هـ= أول من نوفمبر سنة 1922م) أعلن المجلس
الوطنى الكبير أن السلطنة قد زالت منذ أن احتل الإنجليز «إستانبول»
قبل ذلك بسنتين، كما أن المجلس قرر أنه هو وحده الذى يختار
الخليفة من بين أفراد أسرة «آل عثمان».
وفى (26 من ربيع الأول 1341هـ= 17 من نوفمبر 1922م) أجبر
السلطان «وحيد الدين» على ترك منصب السلطنة، وترك عاصمة
الخلافة إلى «مالطة» حيث أقلته بارجة حربية إنجليزية كانت راسية
بالميناء تنتظر ذلك، ونودى بالأمير «عبد المجيد بن عبد العزيز» ابن
عم «وحيد الدين» خليفة للمسلمين بعد موافقة المجلس الوطنى الكبير.
وفى (10 من ذى الحجة 1341هـ= 24 من يوليو سنة 1923م) جرى
التوقيع على «معاهدة لوزان»، التى نصت على عودة السيادة
التركية على ما يقرب من كل الأراضى التى تشتمل عليها تركيا الآن،
وألغيت الامتيازات الأجنبية، ونتيجة لما توصل إليه فى «معاهدة(8/74)
لوزان» أحرز «مصطفى كمال» هيبة وسلطة كانتا لازمتين لإتمام
تشكيل الدولة الجديدة، فلما انسحبت قوات الحلفاء دخلتها القوات
التركية فى (23 من صفر 1342هـ= 6 من أكتوبر 1923م)،وبعد ذلك
بأسبوع أصدر المجلس الوطنى الكبير قانونًا جديدًا نص على جعل
«أنقرة» العاصمة الرسمية للدولة التركية بدلا من «إستانبول» التى
تحمل ذكريات الخلافة والسلطنة، ثم أقر المجلس قانونًا جديدًا فى
(18 من ربيع أول 1342هـ= 29 من أكتوبر 1923م) نص على كون
«تركيا» جمهورية تستمد كيانها من الشعب، وانتخب «مصطفى
كمال» أول رئيس للجمهورية.
وفى (23 من رجب 1342هـ= 1 من مارس 1924م) دعا «مصطفى كمال»
المجلس الوطنى إلى عقد جلسة وقدّم مرسومًا بطرد الخليفة، وإلغاء
الخلافة، وفصل الدين عن الدولة، واستمر الجدل والنقاش حول هذه
الخطوة فى المجلس عدة أيام، وفى صباح اليوم الثالث من شهر
مارس أذيع نبأ إلغاء الخلافة وفصل الدين عن الدولة، وأمر فى
الوقت نفسه السلطان «عبد المجيد» بمغادرة البلاد إلى «سويسرا».
وما إن تم القضاء على الخلافة حتى جرت سلسلة من التغييرات التى
استهدفت فصل الدين عن الدولة، فألغيت وزارة الأوقاف وصودرت
ممتلكاتها، وألغيت وظيفة شيخ الإسلام، ونقل الإشراف على المدارس
الدينية إلى إدارة التعليم المدنى التى أصبحت مسئولة عن التعليم
العام، ثم ألغيت المحاكم الشرعية التى انتقلت اختصاصاتها إلى
المحاكم المدنية، كما ألغيت الكتابة بالحروف العربية، واستبدلت بها
الحروف اللاتينية.
وفى سنة (1353هـ= 1934م) أعطيت المرأة التركية حق الانتخاب
والترشيح للمجالس النيابية، وألغيت الألقاب العربية، وفرض على
الأتراك استعمال ألقاب أسرية على النمط الغربى، وقد استهل
«مصطفى كمال» هذا الإجراء بأن أطلق على نفسه لقب «أتاتورك»
بمعنى «أبو الترك»، وجعلت العطلة الرسمية الأسبوعية يوم الأحد بدلا
من يوم الجمعة، وفرض على الأتراك ارتداء القبعة والملابس الأوربية.(8/75)
الفصل السادس
*العرب تحت الحكم العثمانى
حكم العثمانيون العرب نحو أربعة قرون، وذلك من أوائل القرن
السادس عشر إلى أوائل القرن العشرين، وقد تقلبت أحوال العرب
فى هذه القرون وتطورت علاقاتهم بالعثمانيين؛ تبعًا لتطور الحكم
العثمانى نفسه، واتجاه الأطماع الأوربية إلى بلادهم.
فعندما فتح العثمانيون العالم العربى كان قد حل به قدر كبير من
الإعياء؛ نتيجة حروبه المتصلة مع المغول والصليبيين والبرتغال
والإسبان، واضمحلال موارده الاقتصادية؛ ونتيجة لذلك نزل عن مكان
الصدارة؛ وضعفت قوته.
وقد اعتمد العثمانيون فى فتح العالم العربى على عامل الدين؛ إذ
رأى العرب أن الوازع الدينى يدفعهم إلى الولاء للخليفة العثمانى،
أما الخروج عن واجب الولاء فإضعاف للدين والدولة؛ مما يفتح الباب
للدول الأوربية الطامعة فى بلاد العرب والمسلمين.
وقد بلغت الدولة العثمانية أقصى اتساعها وقوتها؛ عندما استولت
على معظم أجزاء العالم العربى، واستلزم ذلك تقسيم الدولة إلى
ولايات كثيرة العدد، وتقسيم كل ولاية إلى عدد من الألوية، وضم كل
لواء عددًا من المقاطعات، وعين السلطان فى كل ولاية نائبًا له يُلقب
«باشا».
وكان هؤلاء الولاة لا يعينون إلا لمدة عام، فإذا انتهى العام إما أن
ينقلوا إلى مناصب أخرى، أو يجدد لهم عامًا آخر، وقد أوجد هذا
التعيين فى نفوس هؤلاء الولاة شيئًا من القلق؛ فلم يكونوا على ثقة
ببقائهم فى مناصبهم، ولذلك لم يهتموا بوضع الخطط لإصلاح الولايات
التى يحكمونها.
وكان لكل نائب (باشا) ديوان يشير عليه فى الأمور المهمة ويتألف من
كبار الضباط والأعيان والعلماء.
وجرى العثمانيون على ترك شئون الحكم الداخلى فى الولايات
لأصحاب العصبيات الإقليمية أو العنصرية أو الدينية، كأمراء المماليك
فى «مصر»، وزعماء العشائر البدوية فى «العراق»، والأمراء
المعنيين والشهابيين فى «لبنان».
محاولات العرب للانفصال عن الدولة العثمانية:(8/76)
احتفظ العرب بقوميتهم إلا أن عاطفة الولاء للخليفة العثمانى كانت
أقوى أثرًا من العاطفة القومية، وكانت هذه العاطفة الدينية تدعو
العرب إلى التمسك بالولاء للسلطان والدولة، فكانوا يرون أن الخروج
على الدولة خروج على الدين الإسلامى، وتفتيت لوحدته.
وكان من الطبيعى أن تحدث بعض الفتن والاضطرابات فى أنحاء
مختلفة من العالم العربى، نتيجة انتهاز بعض الحكام أو أصحاب
العصبيات الإقليمية أو العنصرية فرصة اضطراب الأحوال الداخلية فى
الدولة العثمانية؛ فقاموا ببعض المحاولات للاستقلال ببعض أقاليم
الدولة، لكن هذه المحاولات فشلت؛ لأن معظمها حركات لم تنبع من
صميم الشعب العربى؛ الذى كان يحرص على الرابطة الدينية؛ إذ قام
بها زعماء إقطاعيون؛ كان هدفهم الأول الاستحواذ على السلطة
والنفوذ، ومن أمثلة هذه الحركات:
فى «مصر»: حاول «على بك الكبير» أن يستقل عن الدولة العثمانية
فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر، فقام بطرد الباشا العثمانى،
وتعقب القوات العثمانية، كما عمل على الاستحواذ على «سوريا» من
الحكم العثمانى وضمها إلى «مصر»، وحاول الاتصال بروسيا التى
كانت فى حرب مع الدولة العثمانية؛ ولكن هذه المحاولة فشلت.
وفى «الشام»: كانت هناك ثورات حاولت الانفصال عن الدولة
العثمانية؛ ومن أهمها ثورة الأمير «فخر الدين المعنى الثانى» فى
جبل «لبنان»، وكان زعيمًا واسع الأطماع؛ تغلَّب على منافسيه من
الزعماء الإقطاعيين، وتطلَّع إلى الاستعانة ببعض الدول الأوربية فى
الانفصال عن الدولة العثمانية، فعزمت الدولة العثمانية على القضاء
عليه، ففر هاربًا إلى أمير «توسكانا».
وعاش الأمير «فخر الدين» هو وحاشيته فى «إيطاليا» نحو خمس
سنوات، ثم رجع بعدها إلى «الشام»، وحاول السيطرة عليها مرة
أخرى، ولكن الدولة العثمانية تمكنت من القضاء على فتنته، وقبض
على «فخر الدين»، وأُرسل هو وأولاده إلى «إستانبول».(8/77)
وقد دخل فى هذه الفترة فن الطباعة، وتعد أول مطبعة دخلت
العالم العربى هى التى أنشئت فى «لبنان»، وترتب على دخول
المطبعة وإنشاء المدارس الدينية قيام حركة ترجمة واسعة، اقترنت
بحركة إحياء الآداب وجمع مخطوطاتها وتأليف المعاجم العربية.
وظهر أيضًا فى «لبنان» فى أوائل القرن التاسع عشر شخصية بارزة
لعبت دورًا كبيرًا فى «الشام» وهى شخصية الأمير «بشير الشهابى
الكبير»، الذى حالف «محمد على» والى «مصر» ضد الدولة العثمانية،
وأعانه على فتح «الشام»، وحكمها حتى انسحبت القوات المصرية
على إثر تدخل الدول الأوربية الكبرى فى سنة (1255 - 1256هـ=
1839 - 1840م)، ونفى الأمير «بشير» إلى «مالطة»، ثم انتقل إلى
«إستانبول» حيث مات فيها.
وفى «فلسطين»: ظهر الشيخ «ضاهر العمر» وهو من شيوخ البدو
فى «فلسطين»، وكان واسع الأطماع، فمد بصره إلى خارج
«الشام»؛ حيث اتصل بعلى بك الكبير فى «مصر»، وحاول الاستعانة
بروسيا؛ لكن الدولة العثمانية تمكنت فى النهاية من القضاء على
حركته.
وفى «العراق»: نجد الباشوات المماليك قد فرضوا شخصيتهم فى
القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وبرزت فى «العراق»
شخصيتان مهمتان أولهما: «سليمان باشا» الذى تحدى رجال الدولة
وامتنع عن إرسال الأموال إلى «إستانبول»، وعنى بتدريب المماليك
حتى استطاعوا الاحتفاظ بالحكم من بعده.
أما الآخر فهو «داود باشا» آخر حكام المماليك فى «العراق»، فقد
تولى الحكم فى ظروف قاسية؛ حيث سادت الفتن والاضطرابات
«العراق» من الداخل، وتحفزت «إيران» لغزوه من الخارج، فاتجه
«داود باشا» إلى تنظيم إدارته، وإشاعة الرخاء وإنشاء المدارس،
كما أدخل أول مطبعة فى «العراق»، وكان «داود باشا» يضيق
بالنفوذ الإنجليزى، وبالامتيازات التى يتمتع بها الإنجليز.
وفى «اليمن»: رفض الناس حكم «الأتراك»؛ لاختلاف المذهب الدينى،
فأهل «اليمن» من الشيعة، والعثمانيون من أهل السنة؛ لهذا توالت(8/78)
الثورات على العثمانيين، وتزعم إمام «صنعاء» حركة المقاومة ضد
العثمانيين حتى أجلاهم عن «صنعاء»، ثم عن بقية أنحاء «اليمن»
سنة (1045هـ= 1635م).
وبهذا كان «اليمن» أول بلد عربى استقل عن الحكم العثمانى، إلا أن
العثمانيين ظلوا يتشبثون بالسيادة على «اليمن»؛ حتى سنحت لهم
الفرصة فى سنة (1289هـ= 1872م) فأعادوه إلى نفوذهم.
وفى «ليبيا»: كانت هناك أسرة عثمانية اتخذت «ليبيا» موطنًا لها
هى الأسرة القرمانية، وكان مؤسسها هو «أحمد القرمانى» الذى
قضى على الثورات الداخلية التى قام بها أصحاب العصبيات داخل
البلاد، وعمل على المحافظة على وحدة «ليبيا»، وتأمين التجارة عبر
الصحراء، فدَان له حكم «ليبيا»،فحكمها حتى سنة (1158هـ= 1745م).
وقد اهتم خلفاء «أحمد باشا» بالبحرية الليبية التى أكسبت «ليبيا»
فى عهدهم قوة ومهابة، وكانت من أهم الموارد الاقتصادية لليبيا،
وذلك لأن الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية كانوا يدفعون
لليبيا إتاوة حتى يضمنوا سلامة سفنهم التجارية فى «البحر
المتوسط»، ثم ضعف النشاط البحرى الليبى بسبب موقف الدول
الأوربية منها وعملها على القضاء عليها، فاضطربت مالية البلاد، ومد
الولاة أيديهم إلى الأجانب طلبًا للقرض.
وزاد الأمر سوءًا باحتلال «فرنسا» للجزائر سنة (1246هـ= 1830م)،
فأوجد بذلك خطرًا جديدًا ببلاد المغرب، هذا بالإضافة إلى اضطراب
الولاة القرمانيين فى حكم البلاد.
وانتهز السلطان «محمود الثانى» الفرصة فأرسل أسطولا فى مايو
سنة (1251هـ= 1835م) إلى «ليبيا»، ولم يلق مقاومة كبيرة، فأعلن
تعيين والٍ جديد من قبل الدولة وعادت «ليبيا» ولاية عثمانية.
أما «الجزائر» و «تونس»: فقد استبد بالسلطة فيهما رؤساء الجند
واختاروا من بينهم حاكمًا يدعى «الداى» فى «الجزائر»، و «الباى»
فى «تونس»، وأصبحت «الجزائر» و «تونس» مستقلتين فى إدارة
شئونهما، وليس للدولة العثمانية عليهما سوى حق السيادة، وقامت(8/79)
فى «تونس» أسرة حاكمة هى «الأسرة الحسينية» ومؤسسها
«حسين بن على» وفى عهدها استكملت «تونس» شخصيتها، فنظمت
علاقاتها بالدول الأوربية، وعقدت معها المعاهدات لتأمين تجارتها
فى «البحر المتوسط».
وفى النصف الثانى من القرن الثامن عشر تعرضت الدولة العثمانية
لأخطر حركتين كادتا تعصفان بكيانها فى البلاد العربية:
الأولى: الحركة الوهابية:
تنتمى هذه الحركة إلى الشيخ «محمد بن عبد الوهاب» المولود فى
«نجد» سنة (1108هـ= 1696م) فى قرية «العينية»؛ حيث كان جده ثم
أبوه يتوليان منصب القضاء فيها فنشأ فى بيت علم نشأة دينية،
كان لها أثرها فى شخصيته، فقام يدعو إلى التوحيد بعد أن أكثر
من التأمل فيما آلت إليه أحوال المسلمين فى عصره، وهاله ما رآه
من البدع والخرافات التى ألصقها البعض بالدين، كالاستعانة بالموتى
والتبرك بالأشجار والأضرحة، ووجد أن التوحيد الذى يتميز به الإسلام
على سائر الأديان أصبحت تحيط به مظاهر الوثنية والشرك، فأخذ
يدعو إلى نبذ هذه البدع، فثار عليه الناس واضطهدوه فبدأ يكتب
رسالته المشهورة: «التوحيد الذى هو حق الله على العبيد».
ابن عبد الوهاب فى الدرعية:
وقد اتبعه فى البداية عدد قليل من الناس وعارضه كثير منهم، كما
تنقل أكثر من مرة خوفًا من القتل، وفرارًا من عدوان الناس؛ حتى
انتهى به المطاف فى «الدرعية»؛ حيث أيَّد أميرها «محمد بن سعود»
دعوة الشيخ، وتحالف الاثنان على العمل لنشر الدعوة الجديدة بين
المسلمين.
اتساع الحركة والتوسع السعودى:
وإلى جانب النشاط الدعوى للحركة الوهابية بدأ نشاط عسكرى ضد
المخالفين للرأى، فأخذت الدولة السعودية الجديدة تتسع، حتى
شملت معظم أنحاء «نجد» قبل وفاة «محمد بن سعود» سنة (1179هـ=
1765م)، وبعد وفاته تولى الحكم بعده ابنه «عبد العزيز»، وفى
عهده ازدادت الحركة الوهابية قوة وانتشارًا، فتخطت حدود «نجد»،
وفى عهد «سعود بن عبد العزيز» (1218 - 1229هـ= 1803 - 1814م)(8/80)
بلغ النفوذ السعودى أقصى اتساعه؛ حيث تم فتح «الحجاز»
فأصبحت الأماكن المقدسة تحت سيطرة آل سعود، ووصلت غاراتهم
إلى «الشام» و «العراق».
موقف دولة الخلافة العثمانية:
كان فى استيلاء السعوديين على الجزيرة وتهديدهم للشام
و «العراق» دوى كبير فى العالم الإسلامى، وتهديد لسمعة الدولة
العثمانية التى حاولت القضاء على هذه الحركة عن طريق ولاتها فى
«العراق» ثم «الشام» ولكن هذه الغارات باءت بالفشل.
وفى النهاية اضطر السلطان العثمانى إلى الاستعانة بوالى «مصر»
«محمد على باشا»، فتمكن عن طريق ثلاث حملات قاد إحداها بنفسه
أن يستولى على «الحجاز»، ثم «نجد»، ودخل «الدرعية» وقضى
بذلك على الدولة السعودية الأولى.
وعلى الرغم من هزيمة السعوديين وتشتيت ملكهم بقيت الدعوة
الوهابية كامنة فى النفوس، بل لقيت قبولا لتعاليمها خارج «الجزيرة
العربية»، ولقد أثبتت الدعوة الوهابية قدرتها على أن تكون دعوة
يقوم حولها ملك عربى، فقد قامت الدولة السعودية الأولى وانتشرت
بفضل أمير الدعوة الوهابية، ثم قامت الدولة السعودية الثانية بعد
انتهاء الحكم المصرى معتمدة على الدعوة الوهابية، كما اعتمد
عليها «عبد العزيز آل سعود» فى تأسيس الدولة السعودية الثالثة.
الثانية: الحملة الفرنسية على مصر:
كانت الحملة الفرنسية على «مصر» حلقة من حلقات الصراع الذى عم
القارة الأوربية فى أعقاب الثورة الفرنسية، فقد حاولت الملكيات
والإمبراطوريات فى «أوربا» القضاء على الثورة فى مهدها؛ لمنع
انتشار أفكارها فى بقية القارة، ولكن «فرنسا» بفضل جيشها
القوى وقائدها «نابليون بونابرت» تمكنت من هزيمة أكثر جيوش
«أوربا» عدا «إنجلترا» التى أفلتت من يد «نابليون»؛ بسبب موقعها
البحرى وقوة أسطولها سيد البحار فى ذلك الوقت.
هذا فى الوقت الذى كان فيه العالم العربى يعيش حالة من الجمود
والعزلة التى فرضت عليه.
وبعد صلح «كاميو فورميو» الذى قضى على نفوذ «النمسا» فى(8/81)
«البحر المتوسط» وحصلت «فرنسا» بموجبه على بعض جزر «البحر
المتوسط»، أخذت «فرنسا» تعد العدة لغزو «إنجلترا»، لكن صعوبة
هذه الفكرة وخطورة تنفيذها جعلت «فرنسا» تفكر فى ضرب
«إنجلترا» فى تجارتها فى الشرق، فاختارت «مصر» لتكون حجر
الزاوية فى تكوين مستعمرة فرنسية، وتضرب من خلالها «إنجلترا»
فى تجارتها فى الشرق.
فقد أبحر «نابليون» من «ميناء طولون» فى (3 من ذى الحجة سنة
1212هـ= 19 من مايو سنة 1798م) على رأس أسطول «فرنسا» وجيش
تعداده نحو (36) ألف جندى، واستولى فى طريقه على «جزيرة
مالطة»، ثم وصل إلى «الإسكندرية»، فاستولى عليها بعد مقاومة
عنيفة كاد «نابليون» نفسه أن يقتل فيها.
ثم توجه إلى «القاهرة»، فاستولى عليها بعد أن هزم فلول المماليك
عند منطقة «إمبابة»، وفرت بقية فلول المماليك إلى «الصعيد»
و «الشام».
قضت الحملة الفرنسية فى «مصر» نحو ثلاثة أعوام لم ينعم
الفرنسيون خلالها بالراحة والطمأنينة، فقد قامت ثورات كثيرة كان
أخطرها وأهمها ثورتا «القاهرة الأولى» و «الثانية».
كما كان السلطان العثمانى يرسل الحملة تلو الأخرى فى محاولة
لإخراج الفرنسيين من «مصر»، كما قامت «إنجلترا» بإرسال
أسطولها إلى الشواطئ المصرية؛ حيث قام بتحطيم الأسطول
الفرنسى فى معركة «أبى قير البحرية»، ونتيجة لهذه الثورات
وانقطاع الاتصالات بين فرنسا الأم وحملتها فى «مصر»، وتحطيم
الأسطول الفرنسى؛ عاد «نابليون» إلى «فرنسا» تاركًا قيادة الحملة
لخليفته «كليبر»، الذى لم يلبث أن قُتل على يد «سليمان الحلبى»
أحد طلاب الأزهر الشريف، الذى جاء إلى «مصر» ليتعلم فى
«الأزهر»، فرأى مدافع «فرنسا» تدك «الجامع الأزهر» وخيولهم
ترتع فيه، فقرر الانتقام منهم بقتل قائدهم «كليبر».
ولما تولى «مينو» قيادة الحملة كانت أحوالها قد ساءت إلى حد
كبير، ورَأََى «الإنجليز» والعثمانيين يُحكمون قبضتهم على مصر
ففاوضهم على الجلاء وغادر «الإسكندرية» بعد توقيع الصلح مع من(8/82)
تبقى من قوات الحملة الفرنسية فى (جمادى الآخرة 1216هـ= أكتوبر
سنة 1801م) عائدًا إلى «فرنسا»،وعادت «مصر» ولاية عثمانية مرة
أخرى.
وعلى الرغم من فشل حملة «نابليون» على «مصر» فإنها كانت ذات
نتائج أدت إلى تغيير فى بنية وعقلية المنطقة، منها أنها كانت بداية
للاستعمار فى الشرق، وظهرت معها فكرة القومية العربية والشعور
القومى وفكرة الاستقلال.(8/83)
الفصل السابع
*بناء مصر الحديثة فى عهد محمد على
خرجت الحملة الفرنسية من «مصر» بعد أن قضت على النظام
المملوكى والعثمانى الذى كان قائمًا منذ أوائل القرن (10هـ= 16م)،
فكانت الفرصة مواتية أمام «محمد على باشا» لكى يستفيد من تنازع
النفوذين المملوكى والعثمانى فى السيطرة على مقدرات الأمور فى
«مصر».
رأى «محمد على» أن الوقت لم يحن ليتقدم لانتزاع السلطة فى
«مصر»، فآثر التريث والعمل على التقرب إلى الشعب المصرى، الذى
ظهرت فاعليته فى مقاومة الفرنسيين، فاتحد مع «إبراهيم بك»
و «البرديسى بك» زعيمى المماليك، وقاموا باحتلال «القاهرة» وطرد
الوالى التركى والحامية العثمانية، وظل «محمد على» يعمل فى
الخفاء ويوطد صلاته بزعماء الشعب، ولكن الأمر لم يستقر للمماليك؛
حيث إنهم عادوا إلى ظلم الشعب وإرهاقه بالضرائب، فثار عليهم
الشعب وتحالف معه «محمد على» وقواته التى قامت بمهاجمة
المماليك فى كل مكان حتى أرغمهم على الفرار وترك «القاهرة»،
وتسلم «خورشيد باشا» التركى الحكم، وأراد أن يبعد «محمد على»
عن «القاهرة»؛ فثار الشعب ضده بقيادة الزعماء والعلماء، الذين
اتفقوا على عزله وتولية «محمد باشا».
وقام السيد «عمر مكرم» نقيب الأشراف، والشيخ «الشرقاوى» شيخ
«الجامع الأزهر» بإلباسه خلعة الولاية فى (14 من صفر 1220هـ= 13
من مايو 1805م)، بعد أن اشترطوا عليه أن يحكم بالعدل وإقامة
الأحكام والشرائع الإسلامية، وألا يفرض على الشعب ضرائب جديدة
دون أن يرجع إلى زعمائه وعلمائه.
حرص «محمد على» فى أول حكمه على استمالة زعماء الشعب
اعترافًا بفضلهم وانتظارًا للفرصة المواتية للتخلص منهم حتى ينفرد
بالحكم، واستطاع فى النهاية القضاء على هذه الزعامات الشعبية
والاستبداد بالحكم.
إمبراطورية «محمد على»:
كان «محمد على» يحلم بإقامة إمبراطورية عربية كبرى مستغلا
مواهبه الشخصية وضعف الدولة العثمانية، ومؤيدا من بعض الدول
الأوربية مثل «النمسا» و «فرنسا».(8/84)
وقد مر تكوين إمبراطورية «محمد على» بالأدوار الآتية:
أولاً: الاستيلاء على شبه الجزيرة العربية:
بعد ظهور دعوة الشيخ «محمد بن عبد الوهاب» الإصلاحية، التى
أخذت خطا سياسيا بعد أن كانت دعوة دينية، وفشلت جهود الدولة
العثمانية فى القضاء عليها؛ لجأ السلطان العثمانى إلى «محمد
على» ليعاونه فى إخماد هذه الحركة.
وقد استمرت الحملة المصرية على «شبه الجزيرة» سبع سنوات تمكن
خلالها «محمد على» من القضاء على الحركة الوهابية ودولتها
ودخول عاصمتها الدرعية، وقد أكسبت هذه الحملة «محمد على» صلة
وثيقة بالعالم العربى نظرًا لسيطرته على الحرمين الشريفين.
ثانيًا: السودان:
اتجه «محمد على» إلى «السودان» فى سنة (1235هـ= 1820م) ليفتحه
ويستثمر مناجم الذهب، ويسيطر على منابع النيل، فأرسل جيشه إلى
«السودان» فسقطت المدن السودانية تباعًا، وقد حققت حملة «محمد
على» فى «السودان» امتداد العنصر العربى فى «وسط إفريقيا»
وزادت من رقعة البلاد التى يسيطر عليها.
ثالثًا: حرب المورة:
فى الوقت الذى كان فيه «محمد على» يوطد دعائم دولته، دعاه
السلطان العثمانى ليخوض معركة ضد «بلاد المورة» التى ثارت على
حكم العثمانيين، ولم تتمكن الدولة من القضاء عليها سنة (1236هـ=
1821م)، ووافق «محمد على»، وأرسل جيوشه أملاً فى الحصول
على «الشام» هدية من السلطان العثمانى، وبفضل قوة «مصر»
الحربية بدأ إخماد الثورة، غير أن تدخل «روسيا» و «بريطانيا» فى
الحرب وتحطيمهما للأسطول المصرى فى معركة «نوارين» جعل
«محمد على» يقبل الهدنة ويسحب جيشه من «المورة».
ضم بلاد الشام:
تعتبر حملات جيش «محمد على» على بلاد «الشام» بقيادة ابنه
«إبراهيم» أوسع الحروب التى خاضها وأكثرها شأنًا، وإذا كانت
حروبه السابقة بأمر السلطان العثمانى ودفاعًا عن دولة الخلافة، فقد
كانت حروب «الشام» ضد السلطان، وأوجدت الفرصة للتدخل الأوربى
المباشر بينهما.(8/85)
كان «محمد على» ينظر إلى بلاد «الشام» على أنها خط الدفاع الأول
عن «مصر» من ناحية الشمال، وكان يطمع فى ضمها إلى دولته،
لحماية «مصر» من الشمال، بالإضافة إلى ما تتمتع به «سوريا» من
مزايا اقتصادية أهمها وجود الأخشاب وبعض المعادن التى تفتقر
إليها «مصر».
انتهز «محمد على» انشغال السلطان بحربه فى «أوربا»، فهاجم
«سوريا» مفتعلا خلافًا مع والى «عكا» «عبد الله الجزار»، فأرسل
جيوشه بقيادة ابنه «إبراهيم» إلى «الشام» فى (جمادى 1247هـ=
أكتوبر 1831م).
وتطورت الحرب فدخل «إبراهيم باشا «دمشق» وهزم الأتراك فى
«حمص» فى موقعة «مضيق ميلان»؛ وبذلك وصل إلى «جبال
طوروس»، ثم تقابل الجيشان المصرى والتركى فى «قونية»، وكان
النصر حليف جيش المصريين، وتدخلت دول غرب «أوربا»، فطلبت من
«محمد على» وقف القتال وعزمت على التدخل بعد أن رأت أن
«روسيا» تريد أن تتدخل فى الأمر، ثم فرضت الدول الأوربية على
«محمد على» قبول اتفاق «كوتاهية» وبمقتضاه أعطى «محمد
على» حكم بلاد الشام وابنه «إبراهيم» حكم «أطنة»، بشرط ألا يكون
لهما الحق فى توريثهما، وبذلك قامت دولة عربية تمتد من «أطنة»
شمالا إلى «بحر الجبل» بالسودان جنوبًا، ومن «الخليج» شرقًا إلى
حدود «برقة» غربًا.
ولم تعمر هذه الدولة العربية طويلا؛ إذ اجتمعت عليها عوامل أدت إلى
انهيارها سنة (1256هـ= 1840م)، فلم يحظَ الحكم المصرى فى هذه
البلاد بالقبول، ففى «الحجاز» و «السودان» اعتبر الأهالى جنود
«محمد على» محتلين لبلادهم، وفى «الشام» استاء الأهالى من
سياسة الحكم المصرى فى جمع الضرائب واحتكار تجارة الحرير،
ومن ثم قاموا ببعض الثورات.
كما أن السلطان العثمانى كان ساخطًا على «محمد على» وكان
يعمل جاهدًا على عزله، وكانت الدول الأوربية تعارض قيام دولة
عربية قوية تقف فى وجه أطماعها فى أملاك الدول العثمانية.
اجتمعت كل هذه العوامل للقضاء على «محمد على»، وتمثلت فى(8/86)
اتفاقية لندن سنة (1256هـ= 1840م)، والتى أجبرت فيها الدول
الأوربية «محمد على» على قبول الصلح مع الدولة العثمانية والتنازل
لها عن «بلاد الشام» وأعطى هو حكم «مصر» وابنه «إبراهيم» ولاية
«عكا».
وبذلك عادت البلاد العربية فى «الشام» و «الجزيرة العربية» إلى ما
كانت عليه قبل «اتفاق كوتاهية سنة (1249هـ= 1833م).(8/87)
الفصل الثامن
*الاستعمار الأوربى فى الوطن العربى حتى الحرب العالمية الأولى
الاستعمار: هو السيطرة التى تفرضها دولة قوية على أخرى ضعيفة،
وهذه السيطرة قد تأخذ أشكالا مختلفة، مثل السيطرة العسكرية
على البلاد أو السيطرة الفكرية والاقتصادية على الأمم المقهورة.
وقد ادعت الدول الأوربية كذبًا أنها قامت بحركة التوسع الاستعمارى
بهدف تحضير وتطوير العالم الثالث، وأن ذلك رسالة الرجل الأبيض
تجاه شعوب العالم الثالث، وليس أبلغ فى الدلالة على كذب هذه
الدعوى من رفض الكتاب والمفكرين الغربيين لها.
كانت الدولة العثمانية فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر قوة
عظمى تسيطر على غرب ووسط «آسيا» وشمال «إفريقيا»، وجنوب
شرق «أوربا»، ثم أخذت الدولة العثمانية فى الضعف وطمعت دول
«أوربا» فى ممتلكاتها.
الاستعمار البريطاني:
أولا: الجنوب العربى:
تعرض الجنوب العربى وبخاصة «عدن» لسيطرة الاستعمار المبكرة،
ففى سنة (1214هـ= 1799م) احتلت «بريطانيا» «بريم»، وعين أول
مندوب بريطانى فى اليمن سنة (1216هـ= 1801م)، ثم أنشأ الإنجليز
مستودعًا للفحم سنة (1245هـ= 1829م)، وأرادت «إنجلترا» أن تشترى
مرفأ «عدن» من السلطان العثمانى ولكنه رفض واستولت عليه بالقوة
فى (1255هـ= 1839م).
وبعد افتتاح «قناة السويس» سنة (1286هـ= 1869م) امتد نفوذ
«بريطانيا» إلى «حضرموت»، واخترعت نوعًا جديدًا للسيطرة
الاستعمارية وهو فرض الحماية على كل زعماء ومشايخ المنطقة كل
على حدة.
ثانيًا: وادى النيل:
أراد «إسماعيل باشا» والى «مصر» أن يتشبه بالمدنية الأوربية، وأن
يجعل «مصر» قطعة من «أوربا»، وعمل على أن تكون له إمبراطورية
إفريقية امتدت جنوبًا إلى خط الاستواء؛ حيث ضمت «دارفور» ومنابع
«نهر النيل»، كما ضمت «إريتريا» و «هرر» و «الصومال» فى شرق
«إفريقيا»، ولكنه مع ذلك أغرق نفسه فى الديون التى شجعته عليها
دول «أوربا» حتى وقع فى أزمة مالية، فانتهزت «إنجلترا» الفرصة(8/88)
للتدخل فى شئون «مصر» ماليا، فجاءت البعثات الغربية للمحافظة
على أموال الدائنين، ثم أنشئ صندوق الدَّين للحد من حرية تصرف
الدولة المصرية فى الإدارة والحكم، وكان هذا التدخل السياسى
تمهيدًا للتدخل العسكرى من جانب «إنجلترا» فى عهد الخديو
«توفيق»، الذى تولى بعد عزل الخديو «إسماعيل».
ولما قامت الثورة العرابية بقيادة «أحمد عرابى» مطالبة بحق
المصريين فى قيادة الجيش ومناصب الدولة العليا، أذعن الخديو لبعض
مطالبها ثم تشكلت وزارة برئاسة «محمود سامى البارودى» تولى
«عرابى» فيها نظارة الحربية، ولكن «إنجلترا» و «فرنسا» أخذتا فى
تصعيد الأزمة بين الخديو ووزارة «البارودى»، ثم تطور الأمر فأرسلت
«إنجلترا» و «فرنسا» أساطيلها إلى مياه «الإسكندرية» وطالبتا -
فى مذكرة مشتركة - الحكومةَ المصرية بإبعاد زعماء الحركة العرابية
عن «مصر» وإقالة حكومة «البارودى»، فرفض الوزراء والشعب هذه
المذكرة، ولكن الخديو قبلها، وكان من الصعب تشكيل وزارة بدون
«عرابى»، الذى أصبح ينال تأييد كلٍّ من الجيش والشعب، ولكن
«إنجلترا» التى كانت مصممة على احتلال «مصر» بدأت أساطيلها
فى ضرب «الإسكندرية» يوم (11 من يوليو 1882م) واضطر الجيش
المصرى إلى إخلاء المدينة، ثم تقدمت القوات الإنجليزية حتى احتلت
«القاهرة»، بعد أن هزمت العرابيين فى معركة «التل الكبير» فى
(ذى القعدة 1300هـ= سبتمبر 1882م).
الحركة المهدية:
نشأت الحركة المهدية فى «السودان» على يد السيد «محمد أحمد
المهدى»، الذى نشأ بالقرب من «دنقلة»،وحفظ القرآن الكريم وتعلم
الفقه والحديث والتوحيد.
نادى «المهدى» بالتمسك بكتاب الله وسنة نبيه، وهاجم الاختلاف فى
الشروح والمسائل الفقهية الفرعية.
وكان من أسباب قيام الحركة المهدية إرهاق حكومة «السودان»
المواطنين بالضرائب، واحتكارها للمحاصيل والسلع التجارية المهمة،
وإهمال السودان وعدم إرسال الإمدادات إليه أثناء انشغال «مصر»(8/89)
بالحركة الوهابية، فاستغل أنصار «المهدى» انشغال العرابيين
بالاحتلال الإنجليزى فاستولوا على «كردفان»، فقاد «هكس باشا»
حملة مصرية للقضاء على المهديين، ولكن الحملة فشلت وقضى
المهديون عليها، فطلب الإنجليز من الحكومة المصرية سحب قواتها من
«السودان»، ولكن «شريف باشا» رئيس الوزارة رفض وقدم استقالته
احتجاجًا على السياسة البريطانية، وخلفه «نوبار باشا» الذى
استجاب وسحب الجيش المصرى من «السودان».
ثم عهد الإنجليز إلى «غوردون باشا» بأمر الانسحاب فاستهان بأمر
«المهدى» وحركته، فزحف «المهدى» إليه وحاصره فى «الخرطوم»
وقتلوا «غوردون باشا»، مما كان له أثر كبير فى انتشار المهدية
فى ربوع «السودان».
ثم تُوفى «المهدى» فى سنة (1303هـ= 1885م) وخلفه «عبد الله
التعايشى» الذى لم يكن على مستوى «المهدى» ونفوذه، فحاول
غزو «مصر» ولكنه فشل ثم أرسل الإنجليز حملة كبيرة بقيادة
«كتشنر» تمكنت من هزيمة المهدية والقضاء على حركتهم واحتلال
«السودان».
الاحتلال الفرنسى للمغرب العربى:
أولاً: الجزائر:
أرادت الحكومة الفرنسية فى عهد الملك «شارل العاشر» أن تصرف
شعب «فرنسا» عن الثورة، وأن تشغله عن المشاكل الداخلية
بالدخول فى مغامرات خارجية تحقق بها أمجادًا وانتصارات ترضيه
بها، وكانت الجزائر فى ذلك الوقت دولة لها ديون على «فرنسا»،
والتى اتخذت من قصة المذبَّة المشهورة ذريعة لاحتلال «الجزائر» فى
يوليو سنة (1246هـ= 1830م).
ولكن «الجزائر» لم تهدأ فقامت المقاومة بقيادة الأمير «عبد القادر
الجزائرى» الذى أعلن قيام إمارة مستقلة فى جنوب «الجزائر»،
ولكن «فرنسا» بعد عقدها معاهدة مع الأمير نقضت بنودها، وتشددت
فى قتاله حتى استولت على أغلب مدن «الجزائر» فالتجأ الأمير
«عبدالقادر» إلى «مراكش»، ولكن «فرنسا» أنذرت سلطان «مراكش»
بعدم قبول الالتجاء، فسلم «عبد القادر» نفسه إليهم، حيث نفى إلى
«دمشق» ليقضى بقية حياته بالشام.
احتلال تونس:(8/90)
أراد حكام «تونس» إدخال المدنية الغربية إلى بلادهم، ومن أجل ذلك
قبلوا الاستدانة من دول «أوربا»، مما أوجد فى النهاية الفرصة
للتدخل الأجنبى فى شئون «تونس».
وكانت «فرنسا» هى المعنية بالدرجة الأولى بأمر «تونس»، ولكى
تبرر تدخلها السافر فى أمر «تونس»، ادعت قيام إحدى القبائل
التونسية بالاعتداء على عمال فرنسيين، فدخلت قوات «فرنسا»
«تونس» وحاصرت العاصمة وأجبرت الباى على توقيع «اتفاقية
تاردو» سنة (1299هـ= 1881م)، والتى يعترف فيها بالحماية الفرنسية
على «تونس»، وبحق «فرنسا» فى إبقاء قواتها فى الأراضى
التونسية بالإضافة إلى رعاية «فرنسا» لمصالح «تونس» فى
الخارج، أى قبوله احتلال «فرنسا» لتونس.
ولكن الشعب التونسى رفض قبول هذه الاتفاقية وثار عليها، ولكن
القوات الفرنسية المجهزة بأحدث الأسلحة أخمدت هذه الثورة بكل
عنف سنة (1301هـ= 1883م) وقيدت الباى بمعاهدة جديدة استكملت
بها احتلال «تونس».
احتلال مراكش:
أرادت «فرنسا» أن تكون «مراكش» مكملة لمستعمراتها فى «المغرب
العربى»، فدخلت فى صراع مع عدد من دول أوربا، فإسبانيا ترى
فيها مجالاً حيويا لتمد سلطانها إلى الجنوب، و «إنجلترا» تريد
السيطرة على «مضيق جبل طارق»، و «ألمانيا» التى دخلت حلبة
الصراع الاستعمارى متأخرة تريد أن تكون «مراكش» مستعمرة لها،
ولكن «إنجلترا» التى خشت من تزايد قوة البحرية الألمانية عقدت مع
«فرنسا» ما عرف بالاتفاق الودى (1322هـ= 1904م) والذى أنهى
النزاع حول «مراكش»، فقد أيدت «بريطانيا» احتلال «فرنسا»
لمراكش فى مقابل عدم مطالبة «فرنسا» «إنجلترا» بالانسحاب من
«مصر»، كما عقدت «فرنسا» معاهدة مع «إسبانيا» اعترفت فيها
«إسبانيا» بمركز «فرنسا» فى «مراكش» فى مقابل اعتراف
«فرنسا» بمركز «إسبانيا» فى منطقة الريف الساحلية المواجهة
لإسبانيا.
ولكن «ألمانيا» رفضت ذلك وساندت السلطان المغربى فى مطالبته
باستقلال مدينة «طنجة».(8/91)
وعقد مؤتمر الجزيرة الذى وقفت فيه «إنجلترا» و «إسبانيا»
و «إيطاليا» إلى جانب «فرنسا»، وتقرر فى هذا المؤتمر الاعتراف
بالنفوذ الفرنسى والإسبانى فى «مراكش».
وانتظرت «فرنسا» الفرصة لاحتلال «المغرب» وواتتها الفرصة سنة
(1330هـ= 1911م) عندما ثارت القبائل على السلطان «عبد الحفيظ»
الذى استنجد بفرنسا التى سارعت إلى نجدته ودخلت قواتها مدينة
«فاس» فى (ربيع 1330هـ= مارس 1911م)، ثم عقدت معاهدة الحماية
مع السلطان «عبد الحفيظ» سنة (1331هـ= 1912م)، كما تمت التسوية
بين «فرنسا» و «إسبانيا» فى (نوفمبر 1912م) وحددت مناطق نفوذ
كل منهما، واتفق على أن يعين السلطان خليفة له فى منطقة الريف
التى تخضع للنفوذ الإسبانى، وبذلك دخل «المغرب» تحت الاحتلال
الفرنسى من ناحية، والإسبانى من ناحية أخرى.
الاحتلال الإيطالى لليبيا:
بعد أن أتمت «إيطاليا» وحدتها أخذت تهيئ نفسها لدخول حلبة
الاستعمار الأوربى، ولكنها وجدت معظم الأقطار الإفريقية والأسيوية
وقعت فريسة فى يد «إنجلترا» أو «فرنسا»، ولكنها رأت أن «ليبيا»
التى تقع فى شمال «إفريقيا»، والتابعة للدولة العثمانية من الممكن
أن تكون مستعمرة إيطالية، فأخذت الحكومة الإيطالية ترسل
الإرساليات المختلفة من مدارس ومستشفيات وبنوك لتقرض الأهالى ثم
تستولى على أراضيهم.
ثم لعبت السياسة الاستعمارية دورها فأعلنت «إيطاليا» الحرب على
الدولة العثمانية، وقامت باحتلال «ليبيا» سنة (1330هـ= 1911م)،
لتكون مستعمرة لها، ومن أجل صرف نظر السلطان العثمانى عن
«ليبيا» قامت «إيطاليا» بمهاجمة ميناء «الدردنيل» وميناء «بيروت»
وساحل «اليمن»، وافتعلت ثورة فى منطقة «البلقان» لتجبر السلطان
العثمانى على توقيع معاهدة سنة (1331هـ= 1912م) والتى اعترف
فيها باستعمار «إيطاليا» لليبيا، مقابل اعتراف «إيطاليا» بالسيادة
الروحية لتركيا، ولكن الشعب الليبى أخذ يقاوم الاحتلال عن طريق(8/92)
الزوايا السنوسية التى نظمت حركة الجهاد أثناء الحرب العالمية
الأولى، وعقدت عدة اتفاقيات حتى الحرب العالمية الثانية، حيث نالت
«ليبيا» استقلالها.
الحركة السنوسية:
تنتسب هذه الحركة إلى مؤسسها السيد «محمد بن على السنوسى»
الذى اتصل بالحركة الوهابية وتأثر بها أثناء قيامه بأداء فريضة
الحج، ثم قام بإنشاء أول زاوية له بالحجاز سنة (1253هـ= 1837م)،
ثم اتجه إلى موطنه الأصلى فى «الجزائر» سنة (1256هـ=
1840م)،ولكنه آثر تركها لوجود الاحتلال الفرنسى بها واتجه إلى
«ليبيا»، وهناك التف حوله الأنصار والأتباع واتسعت حركته وانتشرت
الزوايا السنوسية فى أنحاء «ليبيا»، وكانت تخضع للزاوية الرئيسية
فى واحة «جغبوب» ثم فى «واحة الكفرة».
وقد نادى «السنوسى» بالعقيدة الإسلامية الصحيحة، وتحكيم شرع
الله، والعمل على محاربة البدع والمنكرات التى انتشرت فى بعض
أنحاء العالم الإسلامى.
كما دعا وتمسك بضرورة الانضواء تحت لواء الخلافة العثمانية على
أنها الأمل الباقى لجمع المسلمين وتوحيد كلمتهم، وقد تصدى
السنوسيون بكل قوة للاحتلال الإيطالى، وقادت الزوايا السنوسية
حركة الجهاد ضده، وقد أحرز السنوسيون العديد من الانتصارات على
القوات الإيطالية.(8/93)
الفصل التاسع
*بعض الجوانب الحضارية فى الدولة العثمانية
العناية باللغة العربية:
منذ أن تولى الأمير «عثمان» مؤسس الدولة العثمانية الحكم سنة
(680هـ= 1281م) وحكم (37) سنة أحاط نفسه بعلماء قبيلته ومشايخها
الذين كانوا يعنون بحفظ القرآن الكريم وتحفيظه، ومع تولى
«أورخان» الحكم خرج التعليم من المسجد إلى المدرسة، حيث فتح
أول مدرسة فى مدينة «إزميد» التى فتحها سنة (728هـ= 1327م)،
وكان أول مدرس بها هو «داود القيصرى»، ودرست بها كثير من
الكتب، فدرّس فى مادة التفسير كتابى «تفسير الكشاف»
للزمخشرى، و «تفسير البيضاوى» لناصر الدين «عبد الله بن عمر
البيضاوى»، وفى الحديث كتب الصحاح الستة، وهى: «صحيح
البخارى»، و «صحيح مسلم»، و «سنن الترمذى»، و «سنن أبى
داود»، و «سنن النسائى»، و «سنن ابن ماجه»، وكتاب «مصابيح
السنة» للبغوى.
ودرس فى مادة الفقه كتاب «الهداية» لشيخ الإسلام «برهان الدين
على بن أبى بكر المرغنانى»، وكتاب «العناية فى شرح الوقاية»
لعلاء الدين «على بن عمر الأسود»، وفى أصول الفقه كتاب
«التلويح» للتفتازانى، و «منار الأنوار» للنسفى، و «المغنى» لجلال
الدين عمر، و «مختصر ابن الحاجب».
وتقرر فى العقائد كتاب «القاضى الإيجى»، وكتاب «النسفى»
و «الطحاوى»، وفى علم الكلام كتاب «تجريد الكلام» للطوسى،
و «طوالع الأنوار» للبيضاوى، و «المواقف» للإيجى، وفى علم البلاغة
كتاب «مفتاح العلوم» للسكاكى، و «تلخيص المفتاح فى المعانى
والبيان» للقزوينى، وفى المنطق كتاب «الإيساغوجى»، و «مطالع
الأنوار» لسراج الدين الأرموى، وفى الفلك كتاب «الملخص» لمحمود
بن محسن الجغمينى.
ومن الكتب المقررة فى النحو: «ألفية ابن مالك» و «العوامل» للشيخ
«عبد القادر الجرجانى»، و «الكافية فى النحو» لابن الحاجب، وكتب
«ابن هشام»: «شذور الذهب»، و «قطر الندى»، و «مغنى اللبيب»،
ودرس فى الصرف كتاب «أساس التصريف» لشمس الدين الغنارى،
و «الشافية» لابن الحاجب وغيرهما.(8/94)
وبرز كثير من علماء الدولة العثمانية فى مجال الثقافة الإسلامية
المكتوبة باللغة العربية، مثل: «حاجى خليفة» صاحب كتاب «كشف
الظنون عن أسامى الكتب والفنون»، وهو كتاب ببليوجرافى مهم،
وله مكانته فى الدراسات العربية الإسلامية، جمع فيه أسماء (14500)
كتابًا لتسعة آلاف وخمسمائة مؤلف، وتناول فيه نحو (300) فن أو
علم، وقد حوى هذا الكتاب أمهات المصادر فى الفكر الإسلامى مما
صنف باللغة العربية أو الفارسية أو التركية.
ومن هؤلاء العلماء - أيضًا - «طاشكو برى زاده» وهو «عصام الدين
أبو الخير أحمد بن مصطفى» صاحب كتاب «الشقائق النعمانية فى
علماء الدولة العثمانية»، تناول فيه تراجم أكثر من (500) عالم وشيخ
من علماء الدولة العثمانية من عهد الأمير «عثمان» حتى السلطان
سليمان القانونى، منهم: ابن كمال باشا «شمس الدين أحمد بن
سليمان» الذى اشتهر بكثرة تآليفه ورسائله، وهو يشبه فى ذلك
«السيوطى» و «ابن الجوزى» و «ابن حزم» ممن اشتهروا بكثرة
مؤلفاتهم. يقول «اللكنوى» بأن لابن كمال باشا رسائل كثيرة فى
فنون عديدة، لعلها تزيد على ثلاثمائة غير تصانيف له فى لغات
إسلامية أخرى كالفارسية والتركية، وكان ذلك فى عهد السلطان
«سليم الأول».
وزخر عهد السلطان «محمد الفاتح» بالمصنفات العربية، وبخاصة
أساتذته الذين قاموا بتعليمه وتثقيفه، مثل الشيخ «الكورانى»،
والشيخ «خسرو»، كما ظهر فى عهد «سليمان القانونى» شيخ
الإسلام «أبو السعود أفندى» صاحب التفسير المعروف «إرشاد العقل
السليم إلى مزايا الكتاب الكريم».
وكانت اللغة العربية هى السائدة فى جميع المدارس والجامعات
العثمانية، على حين استخدمت اللغة التركية فى الأعمال الحكومية
فقط.
وعنى السلاطين العثمانيون بالأدب والشعر، فكان السلطان «مراد
الثانى» (805 - 855هـ= 1402 - 1451م) يعقد مجلسًا فى قصره، يدعو
إليه الشعراء ليتسامروا ويقرضوا الشعر بين يديه، وكان يشجع حركة(8/95)
الترجمة من العربية إلى التركية، وجعل من قصره مكانًا
للمترجمين، فأصبح كأنه أكاديمية علمية.
ثم خلفه ابنه «محمد الفاتح» الذى وصفه المؤرخون بأنه راعٍ لنهضة
أدبية، وشاعر مجيد، وكان يجيد عدة لغات، ويداوم على المطالعة
وبخاصة الكتب العربية التى ملأت مكتبته، ويعنى بالأدب عامة
والشعر خاصة، ويصاحب العلماء والشعراء ويصطفيهم، وقد استوزر
منهم الكثير، مثل: «أحمد باشا» و «قاسم الجزرى باشا»، وعهد إلى
الشاعر الأناضولى «شهدى» أن ينظم قصيدة تصور التاريخ العثمانى
باللغة الفارسية على غرار «الشاهنامة» التى نظمها «الفردوسى».
وكان «محمد الفاتح» إذا سمع بعالم متبحر فى فن من الفنون فى
الهند أو فى السند استماله بالإكرام، وأمده بالمال، وأغراه
بالمناصب، ومثال ذلك: أنه استقدم العالم الكبير «على قوشجى
السمرقندى» وكانت له شهرته فى الفلك، كما كان يرسل كل عام
مالاً كثيرًا إلى الشاعر الهندى «خواجه جهان» والشاعر الفارسى
«جامى».
وبرع «الفاتح» نفسه فى نظم الشعر، حتى اتخذ لنفسه اسمًا شعريا
يستخدمه فى أشعاره التى تعكس رقة إحساسه، ورهافة مشاعره،
وتبرز تكوينه الدينى.
وخلفه ابنه «بايزيد الثانى» وكان عالمًا فى العلوم العربية، وفى
الفلك، ومهتما بالأدب ومكرمًا للشعراء والعلماء.
وكان السلطان «سليم الأول» شغوفًا بالشعر والشعراء والعلم
والعلماء، حتى إنه صحب معه فى حملته على «فارس» الشاعر
«جعفر ُلبى»، واصطحب فى حملته على «مصر» و «الشام» الشاعر
«ابن كمال باشا».
وقد ازدهر الأدب التركى منذ القرن الثامن الهجرى، وبلغ أوجه فى
القرن الحادى عشر، وتأثر بالأدب الفارسى، كما ازدهر نوع من
الشعر الشعبى الموزون فى أوساط سكان «الأناضول»
و «الروملى»، وساهمت الترنيمات الصوفية لشاعرهم «يونس إمره»
المتوفى سنة (721هـ= 1321م) فى تجسيد هذا الأدب الذى حافظ على
وجوده واستمراريته فى المراكز الصوفية، ومن هذا الشكل الشعبى(8/96)
من الأدب التركى انطلق الأدب التركى الحديث متأثرًا به وبالأدب
الغربى.
التاريخ والجغرافيا:
قام العثمانيون بدور جيد فى مجال التاريخ، وبدأت المحاولات الأولى
لتدوين التاريخ العثمانى تدوينًا منظمًا فى عهد السلطان «بايزيد
الأول» على يد المتصوف «أحمد عاشق باشا»، ثم اهتم الباب العالى
منذ القرن العاشر الهجرى بكتابة التاريخ، فعين المؤرخين الرسميين
أمثال «سعد الدين» المتوفى سنة (1007هـ= 1598م).
وتعد الجغرافيا أحد العلوم التى أجاد فيها العثمانيون نسبيا،
وأشهر الأعمال الجغرافية ما كتبه الرحالة البحرى أو أمير البحر
«بيرى رئيس» من كتب تتضمن رحلاته فى «البحر المتوسط»،
واكتشافات الإسبان والبرتغال فى «إفريقيا»، كما ألف كتابًا عن
الملاحة أطلق عليه اسم «بحريت»، وفى سنة (919هـ= 1513م) رسم
خريطة للمحيط الأطلسى والشواطئ الغربية من «أوربا» وأهداها
للسلطان «سليم الأول» بالقاهرة، ورسم خريطة أخرى تمثل
اكتشافات البرتغاليين فى «أمريكا الجنوبية» و «الوسطى»
و «نيوزيلاندا»، كما أسهمت كتب «حاجى خليفة» و «أوليا ُلبى»
الجغرافية إسهامًا كبيرًا فى هذا المجال.
الطب:
وفى مجال الطب كانت تلقى المحاضرات العلمية الطبية نظريا،
ويجرى تطبيقها عمليا فى مدرسة الطب، وزاول الطلبة تدريباتهم فى
المستشفيات، وكانت الكتب المقررة تشمل كتاب «ابن سينا»
المشهور «القانون» وكتب «ابن عباس المقوس».
وقام بالتدريس فى المدارس الطبية العثمانية عدد من العلماء والأطباء
الذين تلقوا تعليمهم فى البلاد العربية و «إيران» و «تركستان»، ومن
أهم الأطباء فى ذلك العصر: «قطب الدين العجمى»، والطبيب «شكر
الله الشروانى»، و «يعقوب الحكيم»، و «إلياس القرامانى».
نظام القضاء:
كان «القاضى عسكر» هو رئيس الهيئة القضائية، وهذا المنصب
استحدثه السلطان «مراد الأول»، ثم أضاف إليه السلطان «محمد
الفاتح»، والسلطان «سليم الأول» قاضيين آخرين، واحدًا لأوربا،(8/97)
والآخر لإفريقيا، ولم تكن سلطتهم تقتصر على الشئون العسكرية بل
تعدتها إلى الشئون المدنية، فهم الذين يعينون القضاة ونوابهم، وكل
الموظفين القضائيين الآخرين، ويشكلون محكمة الاستئناف العليا.
ويأتى العلماء الكبار بعد قضاة الجيش من حيث الترتيب، وهم يؤلفون
قضاة العاصمة وعواصم الولايات، ثم يليهم العلماء الصغار الذين
يزاولون القضاء فى المدن الثانوية، ويليهم قضاة الدرجة الثانية وما
دونها.
العلماء والفقهاء:
كان مفتى «إستانبول» (شيخ الإسلام) هو الشخصية الثانية التى
تخضع لها الهيئات القضائية الدينية.
وخضع الموظفون الدينيون فى العاصمة لسلطة المفتى مباشرة،
وكان ينوب عنه فى الولايات الكبرى قضاة العسكر.
وكان ترتيب الموظفين الدينيين فى الجوامع الكبرى كما يلى:
الخطيب - الإمام المقيم - المؤذن، ويقوم المرشحون لهذه المناصب
بالتعلم فى المدارس الدينية الكثيرة التى شيدها السلاطين، وكان
الطلاب فيها ينقسمون إلى ثلاث فئات:
1 - الصوفتا.
2 - المعيدون، حيث يحمل الطالب عند التخرج منها لقب «دانشمند» أو
«عالم».
3 - فئة «المدرس».
أما مشايخ الطرق الصوفية فقد تعلقت بهم قلوب كثير من الناس، وقد
سادت هذه الطرق معظم أرجاء «آسيا الصغرى» كالنقشبندية
والمولوية والبكتاشية، وكان لهم دور فى تهذيب العامة، وحضهم
على التمسك بالفضيلة والأخلاق الإسلامية الحميدة.
ومن أشهر الفقهاء العثمانيين: «أحمد بن إسماعيل الكورانى»
المتوفى سنة (893هـ= 1487م)، والمولى «خسرو» الذى دعى بأبى
حنيفة زمانه من قبل السلطان «محمد الثانى»، وتوفى سنة (885هـ).
ومن العارفين والمتصوفة الشيخ «محمد بن حمزة» الشهير بلقب «آق
شمس الدين» و «عبد الرحمن جامى» الذى توفى سنة (898هـ=
1492م).
ومن العلوم العقلية والنقلية، ظهر اسم: «شمس الدين الفتارى» الذى
خلف مكتبة بها (10) آلاف مجلد.
العمارة عند العثمانيين:
بلغ فن العمارة عند العثمانيين درجة عالية وخلَّف العثمانيون العديد(8/98)
من الآثار العمرانية العظيمة أهمها:
1 - جامع آيا صوفيا: وهى الكنيسة السابقة التى حولها السلطان
«محمد الثانى» إلى مسجد، يمثل الجامع الرئيسى فى العاصمة عقب
فتح «القسطنطينية» مباشرة، وعُدِّلت لتلائم التقاليد الإسلامية، حيث
غطيت الرسوم التى تمثل الفن البيزنطى، وشكل محراب وسط الجناح
الجنوبى من الكنيسة، كما نصب المنبر على عمود الكنيسة الجنوبى
الشرقى الكبير، وفى عهد السلطان «مراد الرابع» كتبت بعض
الكلمات ذات الأحرف الكبيرة التى تحمل اسم الجلالة، واسم الرسول،
والخلفاء الراشدين، وذلك على لوحات مستديرة شيدت على جدران
المسجد، وهى بخط الخطاط «بيشكجى زاده مصطفى شلبى» الذى
كتب حرف الألف وحده على سبيل المثال طوله عشرة أذرع، وكلها
بخط متشابك بديع، وواصل باقى السلاطين إدخال تعديلاتهم
وإصلاحاتهم بها.
2 - جامع السلطان محمد: الذى شيده المهندس اليونانى «خريستو
دولوس» بأمر من السلطان «محمد الثانى»، ويقع وسط العاصمة
«إستانبول».
3 - جامع السلطان أيوب: وكان السلاطين العثمانيون يتقلدون فيه
مقاليد الحكم فى احتفال رسمى، وقد شيده السلطان «محمد الثانى»
قرب ضريح الصحابى «أبى أيوب الأنصارى» رضى الله عنه.
4 - مسجد بايزيد: وشيده السلطان «بايزيد»، ويعد من أبرز الآثار
العمرانية التى تمتاز بنفاسة المواد البنائية الزخرفية التى جرت على
الطريقة الفارسية.
5 - جامع السليمانية، ويعد من أجمل آثار الفن المعمارى العثمانى،
وشيده السلطان «سليمان»، وصممه المهندس المعمارى «سنان
باشا»، على أعلى قمة جبلية فى «الأستانة».
إلى جانب العديد من الجوامع العظيمة التى تزيد على الخمسمائة
جامع، بخلاف المدافن والتكايا (الزوايا).
أما القصور فأهمها قصر «سراى طوب قابو» التى تمتاز بفخامتها
وامتدادها الواسع، ومبانيها، وحدائقها، وساحاتها الواسعة،
و «سراى دولمة بهجة» على «البسفور» وتمتاز ببهوها الكبير،(8/99)
وكانت مسكنًا للسلطان «محمد رشاد». وسراى «جراغان» وسراى
«يلدز» وسراى «بكر بك» التى توفى بها السلطان «عبد الحميد
الثانى» بعد خلعه.
وأشهر المهندسين المعماريين فى الدولة العثمانية هو «سنان
باشا»، الذى كان نصرانيا ثم أسلم وعمره (23) عامًا، واشترك فى
الحملات العثمانية والفتوحات فى المشرق والمغرب، واطَّلع على كثير
من الطرز والأعمال المعمارية التى جذبت انتباهه فى «تبريز»
و «حلب» و «بغداد» ودول «أوربا».
وعندما عاد إلى «إستانبول» تولى منصب كبير معمارى الخاصة
السلطانية، وأصبح المسئول عن إقامة الأعمال المعمارية من قصور
وجوامع ومدارس ومطاعم وحمامات وأضرحة، وبلغت أعماله المعمارية
نحو (441) عملا موزعة فى مختلف أرجاء الدولة العثمانية، منها
«جامع صقوللو محمد باشا»، و «جامع رستم باشا»، و «جامع شهر
زاده»، و «جامع السليمانية»، و «جامع محمد باشا البوسنوى»، إلى
جانب العديد من الأعمال فى البلدان العربية، وتشهد أعماله بالأصالة
ويسودها المعرفة العميقة والتكنيك الهندسى، وفهمه الكبير للفن،
ورقة ذوقه، وقد مكنه كل ذلك من إضافة أشكال جديدة للفن
المعمارى.
وتوفى «سنان باشا» سنة (966هـ= 1558م) وعمره يقارب المائة عام،
بعدما عاصر خمسة من سلاطين العثمانيين.
فن الرسم العثمانى:
لم يظهر هذا الفن إلا فى عهد السلطان «محمد الفاتح» الذى دعا
فنانين إيطاليين مشهورين إلى القصر السلطانى، وأوكل إليهم إنجاز
بعض اللوحات للسلطان، وليقوموا بتدريب بعض العثمانيين على هذا
الفن، وكان من أشهرهم «ماستورى بافلى» و «كونستانزى
دافيرارى»،وظهرت كثير من المواهب الوطنية مثل «سنان» تلميذ
«ماستورى بافلى» و «حسام زاده».
ومن فنانى ذلك العهد «أحمد شبلى زاده» و «بابا مصطفى» و «تاج
الدين بن «حسين بالى» و «حسن شلبى».
ويبدو فى هذه الأعمال أثر المدارس الإيرانية، ويبرز اسم «المطرقى»
الذى رسم لوحات تمثل حملات الجيش العثمانى ومناظر القلاع(8/100)
والموانئ والمدن؛ مما كان له أثر فى تطور فن الرسم الزيتى
العثمانى.
وفى عهد «سليمان الأول» وصل فن المنمنمات العثمانى إلى أوجه،
وقدم «كاتب الشيرازى» - الذى اتخذ اسمًا مستعارًا هو «عارفى» -
وثائق الحوادث السياسية والاجتماعية التى جرت خلال حياة «سليمان
الأول»، وكتب ورسم «عارفى» عملا من مآثر السلاطين العثمانيين
حتى عهده هو «شاهنامة آل عثمان» فى خمسة مجلدات.
ومن فنانى المنمنمات فى ذلك العصر: «على شلبى»، و «مولى
قاسم»، و «محمد البورحى» و «أوستان عثمان»، و «لطفى عبدالله»
و «رئيس حيدر».
وفى عهد السلطان «مراد الثالث» وصل فن المنمنمات إلى أوجه،
ومن أبرز الأعمال فى عصره «خورنامه» و «شاهنشاه نامه» المؤلفة
من أشعار مكتوبة بالتركية والفارسية معًا، وتحكى توضيحاتها قصة
فتوحات الجيش العثمانى الظاهر، والنشاطات الاجتماعية المتعددة
لذلك العصر.
ووجدت فى ذلك العصر مدرسة الفن الزيتى فى «بغداد» فى نهاية
القرن (16م)، ولكن هذا الفن سرعان ما ضعف وتدهور فى القرنين
السابع عشر والثامن عشر.(8/101)
- المراجع:
* برنارد لويس: استانبول وحضارة الخلافة العثمانية - تعريب: سيد رضوان علي - الدارالسعودية للنشر والتوزيع - جدة - الطبعة الثانية - 1982م
* بول كولز: العثمانيون في أوربا - ترجمة: عبد الرحمن عبدالله الشيخ - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - 1993م
* حسان عالاق: موقف الدولة العثمانية من حركة الصهيونية (1897 - 1909م) - دار الأحد - بيروت - 1938هـ = 1978م
* حسين خوجة: ذيل بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان - تحقيق: الطاهر المعموري - الدار العربية للكتاب - ليبيا - بدون تاريخ
* زياد أبو غنيمة: جوانب مضيئة في تاريخ العثمانيين الأتراك - دار الفرقان للنشر والتوزيع - عمان - الأردن - الطبعة الثانية - 1406هـ = 1986م
* عبدالعزيز محمد الشناوي: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها - مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة - 1984م
* عزيز سامح التر: الأتراك العثمانيون في إفريقيا الشمالية - ترجمة: محمود علي عامر - دار النهضة العربية - بيروت - الطبعة الأولي - 1409هـ = 1989م
* علي حسون: تاريخ الدولة العثمانية - المكتب الإسلامي - بيروت - الطبعة الثالثة - 1415هـ = 1994م
* القرماني (احمد تشيلي بن سنان الرومي): تاريخ سلاطين آل عثمان - تحقيق: بسام عبد الوهاب - دار البصائر - دمشق - الطبعة الأولي - 1405هـ = 1985م
* محمد أنيس: الدولة العثمانية والشرق الأدنى (1514هـ = 1914م) - مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة - 1984م
* محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة - المركز المصري للدراسات العثمانية وبحوث العالم التركي - القاهرة - 1414هـ = 1994م
* محمد الخير عبد القادر: نكبة الأمة العربية بسقوط الخلافة العثمانية (1875 - 1925م) - مكتبة وهبة - القاهرة - الطبعة الأولي - 1405هـ = 1985م
* محمد صادق العبسي: فتح القسطنطينية - دار الحوار للنشر والتوزيع - اللاذقية - سوريا - الطبعة الأولى - 1986م(8/102)
* محمد عبد اللطيف البحراوي: حركة الإصلاح العثماني في عصر السلطان محمود الثاني (1808 - 1839م) - دار التراث - القاهرة - الطبعة الأولى - 1398هـ = 1978م
* محمد فؤاد كوبرلي: قيام الدولة العثمانية - ترجمة: أحمد السعيد سليمان - الطبعة الثانية - الهيئة المصرية العامة للكتاب - 1993م
* محمد فريد بك: تاريخ الدولة العثمانية - تحقيق: احسان حقي - دار النفائس - بيروت - الطبعة الثانية - 1403هـ = 1983م
* محمود ثابت الشاذلي: المسألة الشرقية - دراسة وثائقية عن الخلافة العثمانية (1299 - 1923م) - مكتبة وهبة - القاهرة - الطبعة الأولى - 1409هـ = 1989م
* مصطفي حلمي: الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية - دار الدعوة - القاهرة - 1984م
* موفق بني المرجة: صحوة الرجل المريض أو السلطان عبد الحميد الثاني والخلافة الإسلامية - مؤسسة صقر الخليج للطباعة والنشر - الكويت - 1984م
* يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية - منشورات مؤسسة فيصل للتمويل - إستانبول - الطبعة الأولى - 1408هـ = 1988م
* يوسف آصاف: تاريخ سلاطين آل عثمان - تحقيق بسام عبدالوهاب - دار البصائر - دمشق - الطبعة الثالثة - 1405هـ = 1985م(8/103)
الجزء التاسع
المسلمون في أفريقيا جنوبي الصحراء
تأليف:
أ. د. رجب محمد عبد الحليم
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة
الفصل الأول
*الطرق التى سلكها الإسلام إلى قارة إفريقيا
- الطرق التى سلكها الإسلام إلى قارة إفريقيا (جنوب الصحراء)
كثيرة ومتعددة، منها:
طرق القوافل التجارية التى تربط بين شمالى القارة وبلاد السودان
الغربى والأوسط (غرب إفريقيا)، ومنها الطريق الذى يبدأ من جنوبى
«تونس» ويتجه إلى «بلاد الكانم والبرنو» فى حوض بحيرة «تشاد»،
والطريق الذى يبدأ من جنوبى «الجزائر» ويتجه إلى «بلاد الهوسا»
فى شمال «نيجيريا»، والطريق الذى يبدأ من جنوبى «مراكش»
ويصل إلى مصب «نهر السنغال» ومنحنى «نهر النيجر» و «نيجيريا»
و «تشاد».
وطريق بحرى يسير عبر مياه «البحر الأحمر» و «خليج عدن»
و «المحيط الهندى»، ويربط هذا الطريق بين «شبه الجزيرة العربية»
وشرق إفريقيا، ومنه دخل الإسلام إلى شرق القارة وخاصة إلى
«إريتريا» و «الصومال» و «الحبشة» و «زنجبار» وساحل شرقى
إفريقيا حتى مدينة «سوفالة» جنوب «نهر الزمبيزى» فى
«موزمبيق».
وطريق وادى النيل وطريق درب الأربعين اللذان تدفق منهما الإسلام
إلى «بلاد البجة» و «بلاد النوبة» وإلى «دار فور» وبقية «بلاد
السودان الشرقى»، وهو «سودان وادى النيل» الذى يعرف الآن
بجمهورية السودان.
ويلاحظ أن معظم هذه الطرق طرق تجارية، ولم تستخدم كمعابر
للجيوش إلا فى القليل النادر، مما يؤكد سمة الطابع السلمى لانتشار
الإسلام فى قارة إفريقيا. ومما يؤكد ذلك أيضًا أن أهل القارة
أنفسهم سواء أكانوا من البربر أم من الزنج والسودان هم الذين
قاموا بنشر الإسلام؛ بعد أن وصلت الدعوة إلى بلدانهم وإلى ما
وراءها من بلدان، ولم تكن حركات الفتح والجهاد التى حفل بها
تاريخ الإسلام فى القارة خلال بعض الفترات لاسيما فى عصر الخلفاء
الراشدين والأمويين من بعدهم ذات أثر كبير فى نشر الإسلام؛ إذ لم
يكن هدفها نشر هذا الدين بقوة السلاح كما يدعى كثير من
المستشرقين وأعداء الإسلام، وإنما كان هدفها هو إزاحة العقبة(9/1)
التى كانت تحول دون وصول الإسلام بالحكمة والموعظة إلى أهل
إفريقيا، وكانت هذه العقبة تتمثل فى جيوش الاحتلال البيزنطى،
التى كانت تحتل «مصر» والساحل الشمالى لإفريقيا كله قبل فتح
الإسلام لهذه البلاد.
وبعد أن أنقذ المسلمون أهالى القارة من هذا الاحتلال البغيض،
أصبح الطريق مفتوحًا أمام الدعوة، ومن ثم تلقفها الأفارقة بشغف
وحب شديدين، واتخذت الدعوة إلى هؤلاء الأفارقة أشكالا متعددة
وعلى يد أناس مختلفى الصفات والاتجاهات، منهم الدعاة الذين
وهبوا حياتهم لهذا العمل العظيم، ومنهم التجار الذين جمعوا بين
الدعوة والتجارة، ومنهم الحجاج الذين تأثروا بمظاهر الأخوة
الإسلامية فى موسم الحج وأثَّروا فى إخوانهم وأهاليهم بعد أن
عادوا من الحج مشحونين بشحنة دينية عميقة. ومنهم المهاجرون
الذين أتوا فى هجرات عديدة شملت العرب وغيرهم، وحملوا معهم
الإسلام والثقافة الإسلامية، ومنهم الصوفية الذين اخترقوا أعماق
القارة ووصلوا إلى النجوع والكفور والقرى والغابات، وسوف نفصل
الحديث عن هذه الوسائل التى انتشر الإسلام بها فى القارة الإفريقية
(جنوب الصحراء):
1 - الدعاة:
ويقصد بالدعاة الأفراد المسلمون الذين تلقوا قدرًا من العلوم الدينية،
وعلى رأسهم الفقهاء والعلماء والمشايخ والقراء والقضاة، وكان
هؤلاء يسمون فى مختلف أنحاء القارة بأسماء مختلفة، مثل المرابط،
وألفا، والمعلم، والفقيه، والشيخ، وسيدنا، ومولانا. وكانوا يحظون
بنصيب كبير من الاحترام والتقدير، وكانت كل قرية فى إفريقيا تقيم
دارًا لاستقبالهم واستضافتهم، وكان الحكام والملوك الأفارقة سواء
أكانوا مسلمين أم وثنيين يعاملونهم باحترام كبير، وكانوا يتخذون
منهم مستشارين ووزراء يصرِّفون لهم أمور الدولة، مثلما كان الحال
فى دولة «غانة» الوثنية، كما يقول «البكرى» الذى عاش فى القرن
العاشر الميلادى. وكان هؤلاء الدعاة ينشئون الكتاتيب لتعليم الأطفال(9/2)
الوثنيين القراءة والكتابة وبعض العلوم الأخرى، ومن ثم يصبح هؤلاء
الأطفال بذرة إسلامية داخل الأسر الوثنية، وكذلك كان الدعاة
ينشئون المدارس التى كانت تعد مركزًا مهما لنشر الإسلام وثقافته،
وكذلك المساجد والزوايا والأربطة والخلاوى التى كان يلتقى فيها
الأفارقة بالدعاة ويتلقون عنهم العلوم الدينية؛ حيث يخرجون دعاة
للإسلام بين أهليهم وأقاربهم من الوثنيين.
ولذلك انتشر الإسلام بين الأفارقة، خاصة بعد أن اعتنقه بعض ملوكهم
الذين كانوا يتحولون تلقائيا إلى دعاة للإسلام فى بلادهم. ومن
هؤلاء ملك «مالى» وملك «التكرور» وملك «سلى»، فقد نشر هؤلاء
الإسلام بين شعوبهم من التكرور والسونتك والماندنجو وغيرهم من
شعوب غرب القارة. وخرج من هذه الشعوب دعاة تخصصوا فى
الدعوة إلى الإسلام حتى أصبحت كلمة تكرورى أوسوننكى تعنى
داعية للإسلام عند شعوب هذه المنطقة.
ومن أهم الدعاة الذين نشروا الإسلام بين البربر فى «الصحراء
الكبرى» والتكرور فى «السنغال» والسوننك فى «غانة»، الشيخ
«عبدالله بن ياسين الجزولى» المتوفَّى عام (451هـ = 1059م)، والذى
قامت على يديه «دولة المرابطين» الكبرى قبل ذلك ببضع سنين.
وهناك داعية آخر قام بنشاط كبير فى حوض «نهر النيجر الأعلى»
هو «أبو القاسم على بن يخلف»، الذى أسلم على يديه ملك مالى
الذى اتخذ لقب المسلمانى (أى الذى أسلم)، بعد إسلامه فى القرن
الحادى عشر للميلاد، وفى بلاد «الهوسا» نجد داعية إسلاميا كبيرًا
هو الشيخ «محمد عبدالكريم المغيلى» المتوفَّى عام (909هـ =
1503م) الذى نشر الإسلام فى بلاد «الهوسا»، ثم أتى بعده بعدة
قرون داعية كبير من شعب الفولانى هو الشيخ «عثمان بن فودى»
الذى أتم حركة نشر الإسلام فى هذه البلاد، وخاصة «نيجيريا»
و «الكاميرون».
وإذا اتجهنا شرقًا ووصلنا إلى بلاد حوض «بحيرة تشاد» حيث «دولة
الكانم والبرنو» نجد داعية إسلاميا عظيمًا هو الشيخ «محمد بن(9/3)
مانى» الذى أسلم على يديه ملوك هذه البلاد فى القرن الحادى عشر
للميلاد.
وكذلك دخل الإسلام كثير من النوبيين وأهالى «السودان النيلى»
و «دارفور» على يد دعاة وفدوا من «مصر» و «اليمن» و «الحجاز» من
أمثال «غلام الله بن عائذ اليمنى»، و «حمد أبى دنانة» من «الحجاز»،
والشيخ «محمد القناوى الأزهرى» من «مصر»، وتلقف الدعوة
وأذاعها سودانيون من أمثال الشيخ «محمود العركى» والشيخ
«صغيرون محمد بن سرحان العدوى» وغيرهم.
ووفد على منطقة القرن الإفريقى وساحل شرقى إفريقيا عدد كبير
من الدعاة، من أمثال «ود بن هشام المخزومى» الذى أقبل إلى بلاد
«الحبشة» فى عهد «عمر بن الخطاب» - رضى الله عنه - وأنشأ
أحفاده دولة إسلامية فى «إقليم شوا» وسط هضبة الحبشة، كذلك
وفد دعاة من «بنى عبدالدار» أو من «بنى عقيل بن أبى طالب» إلى
بلاد «الزيلع» و «الصومال» و «إريتريا» وأنشأ أحفادهم سلطنة
إسلامية أخرى فى هذه البلاد تسمى «سلطنة أوفات الإسلامية».
وهكذا كان للدعاة فضل كبير فى نشر الإسلام وثقافته، وفى إقامة
سلطنات إسلامية فى كثير من نواحى القارة، كما سنرى ذلك فى
حينه بالتفصيل فى هذا الجزء من السلسلة.
2 - التجار:
كان للتجار الدور الأول فى نشر الإسلام فى القارة بعد الدعاة،
ويظهر ذلك من قول السير «توماس أرنولد» فى كتابه «الدعوة إلى
الإسلام» إن التجارة والدعوة إلى الإسلام مرتبطان كل الارتباط.
وقد تدفق الإسلام عبر الطرق التجارية الموصلة بين مختلف أنحاء
القارة، والتى أشرنا إليها من قبل، إلى حوض نهرى «السنغال»
و «النيجر» ومنطقة حوض «بحيرة تشاد»، وكذلك إلى «الصومال»
و «بلاد النوبة» و «السودان» و «الحبشة»، و «ساحل شرق إفريقيا».
وقد قام العرب والبربر بدور كبير فى هذا النشاط التجارى، وأصبحت
مدن الشمال الإفريقى مراكز للتجارة بجانب كونها مراكز للعلم
والثقافة، ووصلت إليها السلع الإفريقية، واتجه تجار العرب والبربر(9/4)
واخترقوا الصحراء الكبرى ووصلوا إلى بلدان إفريقيا جنوب
الصحراء، وكان لذلك أثره الكبير فى نشر الإسلام الذى أقبل مع
قوافل التجار، وازداد انتشاره بعد أن انتقل معظم النشاط التجارى
إلى أيدى السودان والزنوج أنفسهم من تجار «الفولانى»
و «التكرور» و «الهوسا» و «الكانمية» والصوماليين وغيرهم من
الأفارقة الذين اتخذوا التجارة حرفة رئيسية، وصار هؤلاء التجار
الأفارقة دعاة للإسلام، وقلدوا المغاربة فى إقامة بعض الأسواق فى
مدن معينة فى أيام معلومة.
وكان هؤلاء التجار سواء كانوا من العرب أو البربر أو السودان
ينزلون فى هذه الأسواق أو فى المراكز التجارية ويحتكون بالزنوج
ويؤثرون فيهم بنظافتهم وأمانتهم وسلوكهم الشخصى القائم على
قيم الإسلام وتقاليده السامية، وغالبًا ما ينتهى هذا الاحتكاك بدخول
كثير من هؤلاء الزنوج فى الإسلام الذى كان يتركز أولا فى المدن
التى ينشط فيها التجار بوجه خاص، وكانوا إذا ما استقر بهم المقام
فى إحدى هذه المدن ينشئون كتاتيب أو مدارس لتعليم الإسلام
وتحفيظ القرآن الكريم ويبنون المساجد التى كانت مقرا للدعوة إلى
الإسلام، وقاموا فى الوقت نفسه بمزاولة نشاطهم التجارى، وكانوا
أثناء الليل يحولون دكاكينهم إلى مكان يتلقى فيه الأطفال الوثنيون
مبادئ القراءة والكتابة على ضوء النيران، مما حببهم إلى الأهالى
الذين وثقوا بهم، مما فتح الباب أمام الإسلام كى ينتشر بينهم.
وكذلك وثق بهم رجال الطبقة الأرستقراطية من الملوك والأمراء
ومشايخ القبائل؛ حيث كان التجار المسلمون يُستقبلون فى بلاط
هؤلاء الملوك الوثنيين بترحاب شديد؛ لسمو أخلاقهم وكريم خصالهم
وخبرتهم بالسياسة وشئون الإدارة والمال، ونظرًا لأنهم كانوا يجلبون
لهذه الطبقة ما كانت تحتاج إليه من سلع فاخرة، ومن ثم أضفى
هؤلاء الملوك حمايتهم على هؤلاء التجار، فنعموا بالأمان والاستقرار
وازداد نشاطهم بين أفراد هذه الطبقة، التى سرعان ما تحولت إلى(9/5)
الإسلام فى عدد كبير من البلدان.
ومن أهم المراكز التجارية التى أنشأها العرب أو أهالى البلاد
المحليون واتخذوا منها مراكز للتجارة والدعوة: مدينة «أودغشت»
فى «موريتانيا» الحالية، ومدينة «تمبكت» التى بناها المرابطون من
المغاربة على ضفة نهر «النيجر» أواخر القرن الخامس الهجرى، كذلك
كانت مدن: «كانو»، و «مالى»، و «جاد»، و «نجيمى» فى غرب القارة
مراكز للدعوة والتجارة. وكانت مدينة «عيذاب» التى تقع على ساحل
«البحر الأحمر»، ومدينة «قوص» التى تقع على «نهر النيل» فى
صعيد «مصر» مراكز انطلق منها تجار الكارم إلى «الحبشة» وشرق
إفريقيا، كما انطلقوا من موانى: «سواكن» و «باضع» (مصوع)
و «زيلع» و «بربرة» و «مقديشيو» و «ممبسة» و «مالندى» و «كلوة»
و «سوفالة»، وكلها موانئ تقع على الساحل الغربى للبحر الأحمر
وعلى الساحل الشرقى لإفريقيا، ونشط التجار فى هذه المراكز
التجارية كلها ووصل نشاطهم إلى أعماق القارة فى بلاد «أوغندا»
و «الكونغو»، وأسلم على أيديهم أعداد كبيرة من الأفارقة.
وكانت قوافل الجمال التى تحمل تجارة القارة لاتستطيع العودة من
هذه المناطق الداخلية إلى المناطق الساحلية فى موسم الأمطار،
فكان التجار ينتظرون الشهر أو الشهور يتاجرون ويحتكون
بالأهالى؛ مما كان يؤدى إلى إسلام الكثير منهم، ثم يعودون من
حيث أتوا حينما تتحسن الأحوال الجوية، هذا فى الوقت الذى أصبح
التجار المحليون المقيمون دائمًا فى بلدان القارة عُمُدًا للدعوة
الإسلامية.
3 - الحجاج:
نتيجة للنشاط التجارى الواسع الذى أشرنا إليه والذى ساد شمال
القارة، ووسطها وغربها وشرقها وما نتج عنه من انتشار الإسلام
والثقافة الإسلامية؛ نشطت قوافل الحج التى كانت فى الوقت نفسه
قوافل للتجارة التى كان يمارسها الحجاج على طول طريقهم إلى
الأراضى المقدسة، وقوافل لتحصيل العلم عن طريق الالتقاء بعلماء
البلدان التى يمرون بها، فكانت تخرج من غرب القارة قوافل عديدة(9/6)
على رأسها ملوك هذه البلدان، الذين كانوا يحرصون على أداء هذه
الفريضة رغم ما كانوا يتكبدونه من مشاق ومتاعب، نظرًا لطول
الطريق ومخاطره ووعورته، لكنهم كانوا يخرجون فى رحلة قد
تستغرق عامًا أو عامين ويلتقون فى موسم الحج بإخوانهم المسلمين
على اختلاف بلادهم وألسنتهم وألوانهم، فيشعرون جميعًا بالأخوة
الإسلامية، ويشعر الإفريقى بانتمائه إلى عالم إسلامى واسع،
وبأخوته لمسلمى ذلك العالم، فتتحطم الحواجز العرقية والقبلية
واللغوية والاجتماعية، ويصبح الجميع شعبًا واحدًا يتكلمون بعبارات
واحدة، ويتجهون إلى قبلة واحدة، ومن ثم أصبح خروج المسلمين من
غرب إفريقيا ووسطها وشرقها جماعات وفرادى إلى الحج،
واتصالهم بالشعوب الإسلامية المختلفة فى بلاد الحجاز أو أثناء رحلة
الذهاب والعودة تأكيدًا لروح الأخوة الإسلامية التى فرضها الإسلام،
فيعود هؤلاء الأفارقة ممتلئين بالحماسة لنشر هذا الدين، وَوَقْف
جهودهم على إعلاء شأنه فى بلادهم وما جاورهم من البلاد الوثنية،
خاصة أن هؤلاء الحجاج كانوا يعودون محملين بالكتب الدينية التى
تزيد من علم الأفارقة وثقافتهم كما كانوا يعودون أحيانًا مصحوبين
ببعض الدعاة والفقهاء والتجار من غير الأفارقة، مما كان له أثره
فى نشر الإسلام، لاسيما وأنهم كانوا يقومون بإنشاء المدارس لتعليم
اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم ونشر الإسلام بين الوثنيين، ونشر
عقائده الصحيحة بين المسلمين الأفارقة.
وكان المسلمون الجدد من هؤلاء الأفارقة يرون ارتفاع المكانة
الاجتماعية لإخوانهم وأقربائهم من الذين أدوا هذه الفريضة، فيقدمون
هم الآخرون عليها، ولذلك تعددت قوافل الحج التى كانت تخرج من
هذه البلدان، والتى كانت تضم آلافًا مؤلفة وعلى رأسها الملوك
والحكام فى أحيان كثيرة.
ومن أشهر الملوك الذين أدوا هذه الفريضة من حكام إفريقيا «منسا
موسى» سلطان «مالى الإسلامية»، الذى خرج إلى الحج من هذا(9/7)
المكان النائى فى غرب القارة على رأس موكب كبير تحدث عنه
المؤرخون، وذلك فى عام (723هـ = 1323م) إذ كان موكبه يضم أكثر
من عشرة آلاف حاج، وكان يحمل معه كميات كبيرة من الذهب الخام،
أهدى منه إلى سلطان «مصر» وأمرائها وموظفيها، كما أفاض منه
على فقراء «مكة» و «المدينة»، ومَنَحَ عن سعة حتى قيل إن قيمة
الذهب انخفضت فى «مصر» انخفاضًا ملحوظًا لكثرة ما أنفقه فيها.
كذلك تحدثنا المصادر بأن ملوك «سلطنة صنغى الإسلامية» التى
خلفت سلطنة «مالى» فى غرب إفريقيا قاموا بأداء هذه الفريضة،
ومن أشهرهم السلطان «أسكيا محمد الأول» فى عام (495هـ =
1101م)، وقد أدى بعض سلاطين «الكانم» و «البرنو» الذين كانت
دولتهم تقوم حول «بحيرة تشاد» الحج ثلاث مرات، وبعضهم تُوفِّى
أثناء الذهاب أو العودة ودفن فى «مصر». وكان حكام بلاد
«السودان النيلى»، و «الصومال» و «الحبشة» وشرق إفريقيا بصفة
عامة يؤدون هذه الفريضة فى سهولة ويسر، نظرًا لقربهم من بلاد
«الحجاز»، وكانوا يحرصون على ذكر لقب الحاج قبل أسمائهم مثلما
كان يفعل إخوانهم فى شمال إفريقيا وغربها، حتى السلاطين
أنفسهم؛ مما يدل على أهمية هذه الشعيرة لديهم، وعلى أن تأثيرها
فى نفوسهم كان قويا، ولذلك كانوا يعودون من هذه الرحلة ممتلئين
حماسة للإسلام ولنشره بين من لم يعتنقه من الوثنيين فى بلادهم
وقراهم.
4 - الهجرات:
كان لتحركات القبائل وهجراتها سواء أكانت عربية أم بربرية أم
سودانية وزنجية دور كبير فى نشر الإسلام وثقافته، واللغة العربية
وثقافتها فى القارة الإفريقية.
ومن أهم هذه الهجرات هجرات العرب إلى بلدان القارة المختلفة،
وكانت «مصر» هى القاعدة والمنطلق الذى انطلقت منه هذه الهجرات
العربية غربًا إلى شمال إفريقيا، وبلاد «النوبة» و «السودان»، فقد
هاجرت جماعات عربية من «ربيعة» و «جهينة» و «بلى» إلى «أرض
البجة» منذ منتصف القرن السابع للميلاد، ونجحوا فى نشر الإسلام(9/8)
بين الأهالى، ودفعت شهرة «وادى العلاقى» الذى يقع فى الصحراء
الشرقية بين «أسوان» و «البحر الأحمر» بالذهب والزمرد إلى جذب
جماعات كبيرة من «ربيعة» و «جهينة» منذ عام (238هـ = 852م) إلى
هذه المنطقة، حيث استقر العرب هناك وتزاوجوا مع «البجة» وأقاموا
إمارة عربية مدت نفوذها إلى «أسوان» وشمال «بلاد النوبة»؛ حيث
صاهروا حكام مملكة «مَقُرة» النوبية المسيحية، ونتج عن ذلك انتقال
الحكم إلى هؤلاء العرب من الذين عرفوا باسم «بنى كنز» نسبة إلى
لقب كان قد أطلقه أحد الخلفاء الفاطميين فى «مصر» على أحد
أمرائهم نظير مساعدته لهذا الخليفة فى القضاء على أحد الثائرين
والخارجين على دولته فى صعيد «مصر». وتطورت أحوال «بنى
كنز» هؤلاء حتى استطاعوا أن يقيموا دولة «بنى كنز» العربية فى
«بلاد النوبة» واتخذوا «دنقلة» عاصمة لهم منذ عام (723هـ = 1323م).
وبقيام هذه الدولة انفتح باب الهجرة العربية على مصراعيه، فهاجرت
قبائل عربية كثيرة إلى وسط «السودان»، وأقاموا بين نهرى «النيل
الأبيض» و «الأزرق»، وتحالفوا مع قبائل سودانية تسمى «الفونج»،
واستطاعوا أن ينشئوا معًا دولة إسلامية أخرى هى دولة «الفونج»
التى كانت عاصمتها «سنار»، وذلك عام (911هـ = 1505م).
كذلك هاجرت قبائل عربية كثيرة من «مصر» إلى مملكة «دارفور»
الوثنية منذ القرن الحادى عشر للميلاد، ووفدت إلى هذه المملكة
هجرات عربية أخرى من «تونس» و «شمال إفريقيا»، واختلط هؤلاء
المهاجرون بالأهالى وصاهروا ملوك «دارفور»، ونتج عن هذه
المصاهرة انتقال الحكم إليهم، فأصبحت «دارفور» سلطنة عربية
إسلامية منذ عام (849هـ = 1445م).
كذلك تواصلت الهجرات العربية إلى بلاد «الزيلع» و «الحبشة»، وهى
المنطقة التى تعرف الآن باسم منطقة القرن الإفريقى. ومنها هجرة
«ود بن هشام المخزومى» فى عصر «عمر بن الخطاب» - رضى الله
عنه - وقد تبع ذلك هجرات عربية استقرت على طول ساحل هذه(9/9)
المنطقة، وأقامت فى المدن الساحلية التجارية، مثل «سواكن»
و «باضع» (مصوع) و «زيلع» و «بربرة»، وانطلقت إلى الداخل وسكنت
مع الأهالى واشتغلت بالتجارة والزراعة والرعى، وازداد عددها حينًا
بعد حين حتى تمكنت من إقامة سلطنات إسلامية، مثل «سلطنة شوا»
و «سلطنة أوفات» و «سلطنة عدل» الإسلامية.
وقد ازدادت هجرات العرب على ساحل شرق إفريقيا وأنشئوا مراكز
تجارية بطول هذا الساحل، حتى قال بعض المؤرخين إنهم أنشئوا
ستا وثلاثين مدينة، بدءًا من «مقديشيو» فى «الصومال» وحتى
«سوفالة» جنوب نهر «الزمبيزى» فى «موزمبيق».
ومن أشهر هذه الهجرات هجرة «سليمان» و «سعيد» ابنى «عباد بن
عبد بن الجلندى»، وكانا ملكين فى «عُمان»، واضطرتهما ظروف
القتال مع «الحجاج بن يوسف الثقفى»، الذى أراد أن يفرض نفوذه
على «عمان» بالقوة المسلحة، إلى ترك وطنهما والاتجاه فى سفن
إلى ساحل شرق إفريقيا؛ حيث وصلا ومن معهما من رجال وجند
وأهالى إلى جزر «أرخبيل لامو» التى تقع فى دولة «كينيا» الآن،
وذلك فى الفترة (75 - 85هـ = 694 - 704م)، واستقروا هناك وأنشئوا
إمارة صغيرة كان لها أثرها فى نشر الإسلام بين الأهالى الموجودين
فى تلك المنطقة.
كذلك هاجر بعض الشيعة الزيدية إثر مقتل إمامهم «زيد بن على زين
العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب» - رضى الله عنهم
أجمعين - فى عام (122هـ= 741م) على يد الخليفة الأموى «هشام بن
عبدالملك»، فاضطر أتباعه بعد مقتله إلى الهجرة خوفًا من اضطهاد
الحكام لهم، فوصلوا إلى ساحل «بنادر» بالصومال، وأقاموا هناك
نحو مائتى عام أرسوا فيها قواعد الإسلام والثقافة الإسلامية بين
الصوماليين.
ولم تلبث أن وفدت هجرة أخرى إلى هذا المكان نفسه تعرف باسم
هجرة الإخوة السبعة، جاءت من «الأحساء» فى عام (292هـ = 904م)
ووصلت إلى ساحل «بنادر» بالصومال، بعد أن ضاق بهم المقام فى
منطقة الخليج؛ نتيجة لصراعات سياسية ومذهبية، وكان هؤلاء الإخوة(9/10)
من قبيلة «الحارث» العربية، ولما وصلوا إلى هذا الساحل استطاعوا
أن يطردوا الزيدية إلى الداخل. وأن ينشئوا مدينة «مقديشيو» فى
عام (295هـ= 907م) ويتخذوها عاصمة لدولتهم التى أقاموها هناك،
والتى كانت تعرف باسم «سلطنة مقديشيو الإسلامية». وبذلك ظهر
إلى الوجود مركز إسلامى كبير كان له أثره القوى فى نشر الإسلام
لا بين الصوماليين فحسب، بل بين كثير من سكان شرق إفريقيا كله.
وقد أعقب تلك الهجرة هجرة شيرازية فارسية أتت من «شيراز»
بإيران، كان على رأسها أمير يدعى «على بن حسن بن على
الشيرازى»، وذلك فى عام (365هـ = 975م) نتيجة خلافات وقعت بينه
وبين إخوته فى «شيراز»، اضطرته إلى الهجرة هو وأتباعه ورجاله
فى سبع سفن ضخمة إلى شرق إفريقيا؛ حيث استقر بهم المقام فى
جزيرة «كلوة» التى تتبع دولة «تنزانيا» الآن، واستطاع أن يؤسس
سلطنة إسلامية تسمى «كلوة»، ظل يحكمها هو وأحفاده نحو قرنين
من الزمان حتى أتت هجرة عربية أخرى من «اليمن» من «بنى الحسن
بن طالوت المهدلى»، وحكمت هذه السلطنة، ومن ثم تغلبت الصبغة
العربية فيها على الصبغة الشيرازية الفارسية واستمرت هذه السلطنة
قائمة حتى جاء البرتغاليون وتغلبوا عليها فى عام (911هـ =
1505م).
ونتيجة لهذه الهجرات العربية المتتابعة انتشر الإسلام واللغة العربية
بين السكان المحليين فى منطقة «القرن الإفريقى»، وفى منطقة
الساحل الشرقى لإفريقيا، وكذلك فى الجزر المواجهة لهذا الساحل،
مثل «جزيرة زنجبار»، و «جزر القمر»، و «جزيرة مدغشقر» (مالاجاش
الآن) وغيرها من الجزر، وتكوَّن عالم إسلامى واضح المعالم
والقسمات، نشأت فيه دول وسلطنات إسلامية ظلت موجودة حتى
اصطدمت بالبرتغاليين والأحباش، ثم بالاستعمار الأوروبى فى العصر
الحديث.
كذلك خرجت هجرات عربية من «مصر» فى اتجاه الغرب إلى بلاد
المغرب العربى منذ عصر الفتوحات الإسلامية فى القرن الأول للهجرة،(9/11)
وظلت هذه الهجرات تتتابع حتى القرن الخامس للهجرة؛ حيث نزح من
«مصر» إلى هناك «بنو هلال» و «بنو سليم»، ولاشك أن الحكم
العربى الإسلامى لهذه البلاد بالإضافة إلى هذه الهجرات قد أديا فى
النهاية إلى تعريب أهل البلاد الأصليين، فانتشرت بينهم اللغة العربية
وأصبحت لسانهم، وغدت هذه البلاد بلدانًا عربية إسلامية، وقد
انطلقت من هذه البلاد هجرات عربية لكنها كانت قليلة العدد قليلة
الأفراد، اتجهت جنوبًا إلى الصحراء الكبرى ومنها إلى حوض «نهر
السنغال» و «النيجر»، وحوض «بحيرة تشاد» مثل «بنى جذام»
و «بنى حسان» و «بنى معقل» و «أولاد سليمان» و «جهينة» وغيرهم،
واستقرت هذه القبائل هناك ولاتزال توجد إلى الآن بعض هذه القبائل
التى تحتفظ بأصولها العربية، ولكن نظرًا لقلة هذه الهجرات وقلة عدد
أفرادها فإنها لم تؤدِّ إلى انتشار اللغة العربية بين الأهالى هناك،
وكانت لغة العلم والتعليم والتجارة والوثائق الرسمية للدولة فقط،
ولما جاء الاستعمار الأوربى إلى هذه البلاد حارب هذه اللغة وحارب
الإسلام بكل ما يستطيع من قوة، ولايزال يحاربه رغم الاستقلال.
وإذا كان العرب قد هاجروا إلى البلدان الإفريقية فى مختلف أنحاء
القارة، وكان لهم أثرهم الكبير فى نشر الإسلام ولغته وثقافته،
وكذلك فى إقامة سلطنات إسلامية، فقد كان لهجرات البربر أثر كبير
أيضًا فى هذه الميادين، وخاصة «بربر صنهاجة»، الذين كانوا
يسكنون الصحراء الكبرى، واستطاعوا نتيجة لجهود داعية عظيم
أشرنا إليه وهو الشيخ «عبدالله بن ياسين الجزولى» أن يقيموا
«دولة المرابطين» منذ عام (448هـ = 1056م)، وأن يضموا إليها «بلاد
المغرب الأقصى» و «بلاد الأندلس»، ثم «مملكة غانة» الوثنية، وانطلق
دعاتهم بين أهالى «غانة» و «السودان الغربى» ينشرون الإسلام،
كذلك وفد كثير من قبائل البربر الأخرى إلى هذه البلاد مهاجرين
إليها، واستقروا فيها وأنشئوا المدن والمراكز التجارية مثل مدينة(9/12)
«أودغشت» ومدينة «تمبكت» وغيرهما.
كما هاجرت قبائل من البربر منذ ما قبل الإسلام إلى حوض «بحيرة
تشاد» وأقامت دولة تسمى «دولة الكانم والبرنو»، ولم يلبث ملوك
هذه الدولة أن اعتنقوا الإسلام فى أواخر القرن الحادى عشر للميلاد،
وظلوا يحكمون هذه البلاد وينشرون الإسلام فيها حتى القرن التاسع
عشر.
كذلك كان لهجرات النوبيين والصوماليين والجلا والأعفار والزنوج أثر
كبير فى نشر الإسلام فى منطقة «القرن الإفريقى»، وفى «ساحل
شرق إفريقيا»، وكانت هذه الهجرات وراء توسع السلطنات الإسلامية
التى قامت فى هذه المنطقة، وساعدتها فى رد عدوان الأحباش على
المسلمين فى منطقة «القرن الإفريقى» وخاصة فى القرن السادس
عشرالميلادى.
5 - الطرق الصوفية:
ارتبط نشاط الدعوة إلى الإسلام لاسيما فى غرب إفريقيا وشرقها
بانتشار الطرق الصوفية، وخاصة بين المشتغلين بالتجارة، وكانت
هذه الطرق قد بزغ نجمها فى الأفق منذ أن تعرض العالم الإسلامى
لخطر الإستعمار الأوروبى الحديث بدءًا من القرن السادس عشر
الميلادى، واستطاعت الطرق الصوفية أن تُسهم إسهامًا كبيرًا فى
الدعوة إلى مقاومة الاستعمار، وكذلك فى الدعوة إلى الوحدة
الدينية، وفى نشر الإسلام بين من لم يعتنقه، ونتيجة لذلك جذبت هذه
الطرق إليها كثيرًا من الشباب الأفارقة.
ففى شرق إفريقيا وبلاد «سودان وادى النيل» ظهرت «الطريقة
الميرغنية» فى القرن التاسع عشر للميلاد والتى كان لها تأثيرها
الكبير على الناس هناك، وكانت قد ظهرت قبلها بعدة قرون «الطريقة
القادرية والشاذلية والرفاعية»، وانتشر أتباع هذه الطرق على طول
الساحل الشرقى لإفريقيا، وفى الجزر المواجهة له وكذلك فى
المناطق الداخلية.
وفى سنة (1253هـ = 1837م) ظهرت فى شمال إفريقيا الطريقة
السنوسية على يد الفقيه الجزائرى «محمد بن على السنوسى»، الذى
استطاع أن يقيم دولة دينية فى الأراضى الليبية، دون أن يريق قطرة(9/13)
دم واحدة، وتمكنت هذه الطريقة من خلال أتباعها وزواياها التى
انتشرت فى إفريقيا جنوب الصحراء أن تنشر الإسلام بين العديد من
القبائل الإفريقية الوثنية، مثل قبيلة «بيلى» التى كانت تسكن منطقة
«إنيدى» شرق «بوركو» فى شمال «نيجيريا»، وعمّقت الإسلام بين
جماعات «التِّدَا» فى شمال «بحيرة تشاد».
وكان للسنوسيين فضل كبير فى نشر الإسلام فى «واداى»، التى
تقع شرق «بحيرة تشاد»، وبين قبائل «الجلا» فى «الحبشة»؛ حيث
كانوا يشترون العبيد أو الأطفال ثم يحررونهم ويرسلونهم إلى مركز
الطريقة الرئيسى فى «واحة جغبوب» فى الصحراء الكبرى بين
«مصر» و «ليبيا»، فيتعلمون ثم يعودون إلى بلادهم دعاة للإسلام.
كذلك كان لأتباع «الطريقة القادرية» التى انتشرت فى شمال إفريقيا
وغربها أثر كبير فى نشر الإسلام فى هذه البلاد، فقد اتخذ أتباعها
من مدينة «ولاتة» بموريتانيا أول مركز لهم فى تلك البلاد منذ القرن
الخامس عشر الميلادى ثم لجئوا إلى «تمبكت»، وانتشر أتباعهم
ودعاتهم فى أنحاء «السودان الغربى»، وكذلك فى منطقة «القرن
الإفريقى» وساحل «شرق إفريقيا»، ووصل أتباعها فى الداخل
حتى «الكونغو»، وكان أتباع هذه الطريقة يقومون بتأسيس المدارس
لتعليم الدين ونشر الإسلام، ويرسلون نوابغ الطلاب إلى مدارس
«القيروان» و «تونس» و «فاس» و «الأزهر»، وغيرها، فإذا ما أتموا
دراستهم عادوا إلى أوطانهم دعاة للإسلام.
ومن الطرق الأخرى التى انتشرت فى القارة «الطريقة التيجانية» التى
أنشأها «أبو العباس أحمد بن محمد المختار بن سالم التيجانى»
المتوفى عام (1231هـ = 1815م)، وقد قام أتباعه بنشر هذه الطريقة
بين رجال القوافل والتجار، فانتشرت تعاليمها فى حوض «السنغال»
وفى «تمبكت» وفى سائر أنحاء غرب إفريقيا، وظهرت هذه الطريقة
أيضًا فى «السودان النيلى» وشرق إفريقيا على يد بعض التيجانية
القادمين من غرب إفريقيا. وقد انخرط فى سلك هذه الطريقة علية(9/14)
القوم فى «الحبشة»، مثل سلطان «جمة» «أبى جفار»، و «الرأس
على» نائب الإمبراطور الحبشى، وعمل هذان الرجلان على نشر
الإسلام بين الوثنيين من الأحباش، ونجحا فى ذلك نجاحًا عظيمًا
فتحول معظم سكان الولايات الوسطى والشمالية فى «الحبشة» إلى
الإسلام.
6 - طبيعة الإسلام:
ذلك أن الإسلام لم يُفرض كما رأينا على الشعوب الوثنية الإفريقية
فرضًا، إنما حمله قوم من أهل إفريقيا نفسها، اتخذوا صفة التجار أو
المعلمين أو الدعاة أو الصوفية، فليس غريبًا أن يلقى قبولا منهم،
فهو فى نظرهم دين إفريقى غير دخيل، والدعوة إليه تتم بالطرق
السلمية وليس بالغزو المسلح كما فعل الاستعمار الأوربى فى العصر
الحديث.
كما أن الإسلام لم يستعبد هذه الشعوب، إنما أشعرها بالعزة
والكرامة، فخلق منها دولا كبرى وقوى فيها النزعة إلى الحرية
والاستقلال، ولم يقضِ على نظمها المحلية بل تواءم معها وخلق منها
ومن تقاليده تقاليد إسلامية الطابع إفريقية الروح.
ومن ثم تقَبَّله الأفارقة، خاصة أن الإسلام لم يكن دينًا أخرويا فحسب،
وإنما كان دينًا وحضارة تقوم على أساس تعمير الدنيا والفوز
بالآخرة، ومن ثم لزم أن يَنشر الإسلام نور العلم والثقافة بين أتباعه
ومعتنقيه، فارتبط الإسلام بالعلم والتعليم منذ البداية، وكان الإفريقى
لا يكاد يسلم حتى يتعلم القراءة والكتابة ويرتفع قدره اجتماعيا كلما
زادت ثقافته، ولذلك سمعنا عن عدد كبير من العلماء الأفارقة الذين
ظهروا فى مختلف ميادين العلم والثقافة، ولم يكونوا فى ذلك أقل
من إخوانهم علماء المغاربة أو المشارقة، زد على ذلك أن الإسلام لم
يعترف بالتفرقة العنصرية، فهو لايعرف حواجز الطبقات أو العرق أو
اللون، ولا يميز بين إنسان وآخر على أساس اللون أو الثروة، لأن
معيار التفاضل فى الإسلام هو التقوى والعمل الصالح، ولذلك أقبل
الأفارقة على اعتناقه، فوحَّد بينهم وقضى على عناصر الفرقة(9/15)
والتشرذم، كما وحد بينهم لغويا؛ إذ انتشرت اللغة العربية بين كثير
من شعوب القارة، وصارت هى أداة الفكر والعلم والمخاطبة، أما
الشعوب التى احتفظت بلغاتها، فقد كانت العربية هى وسيلة العلم
والتعامل كما كانت اللغة الرسمية، لأن اللغات الإفريقية لم تكن لغات
مكتوبة.
وكما وحَّد الإسلام بينهم دينيا وحد بينهم سياسيا وقضى على
التشرذم القبلى والنزاعات القبلية، وأنشأ دولا كبرى، بل
إمبراطوريات عظمى مثل «إمبراطورية مالى»، التى ضمت معظم
منطقة غرب إفريقيا بالكامل، وكانت مساحتها تفوق مساحة دول
غرب أوربا مجتمعة، ليس هذا فحسب بل إن الإسلام جعل الإفريقى
يشعر بانتمائه ليس إلى بلاده فقط بل إلى عالم إسلامى واسع،
يستطيع أن ينتقل بين أرجائه سواء كان تاجرًا أو حاجا أو طالب
علم، وفى كل مكان يجد هذا الإفريقى القوت والمأوى والمساعدة
والاستقبال الودود، على أساس من أخوة الإسلام التى جمعت بين
أفراد هذا العالم الإسلامى الواسع، الذى يمتد من الصين شرقًا حتى
المحيط الأطلسى غربًا، ومن هنا اعتبر الأفارقة الإسلام دينًا إفريقيا
قام بنشره بينهم قوم منهم، اتخذوا الدعوة أو التجارة أو التصوف
وسيلة إلى ذلك، وطبقوا مبادئ الإسلام السمحة وأخلاقه الحميدة
وقيمه السامية من إخاء ومساواة وتكافل وتعاون، ومن ثم انتشر
الإسلام فى هذه البقاع الواسعة فى القارة، حتى إنه يمكن القول
بأن قارة إفريقيا هى القارة المسلمة الوحيدة فى عالم اليوم، على
اعتبار أن غالبية سكانها يعتنقون الإسلام. ويتبين ذلك بوضوح من
خلال حديثنا عن السلطنات والممالك الإسلامية التى قامت بالقارة
(جنوب الصحراء) فى العصور الوسطى.(9/16)
الفصل الثاني
*الإسلام والدول الإسلامية فى غرب إفريقيا:
يقتضى الحديث عن الإسلام والدول الإسلامية التى قامت فى بلدان
غربى إفريقيا، التى كانت تعرف ببلاد «السودان الغربى»؛ أن نبدأ
بإعطاء نبذة عاجلة عن انتشاره أولا بين بربر الصحراء الكبرى،
الذين كانوا يعرفون باسم «الطوارق» أو «الملثمين» أو
«الصنهاجيين»، فهذه القبائل هى التى قامت بجهد كبير فى نشر
الإسلام فى بلاد «السودان الغربى».
وقد انتشر الإسلام فى البداية فى شمال إفريقيا؛ بحيث لم يأتِ القرن
الثانى الهجرى حتى كانت «بلاد المغرب» قطرًا إسلاميا خالصًا
وكانت الصحراء الكبرى تحد «بلاد المغرب» من ناحية الجنوب،
ويسكنها قبائل «الطوارق» أو «الملثمين»، ويلى هذه الصحراء «بلاد
السودان الغربى»، التى كانت بها دولة وثنية تعرف بدولة «غانة»،
وهى من أقدم الدول التى ظهرت فى هذه البقعة النائية من إفريقيا،
ولكى يصل الإسلام إلى غربى إفريقيا كان لابد أن ينتشر أولا بين
قبائل «الطوارق»، ثم يتسرب من خلالهم إلى دولة «غانة» الوثنية،
وقد بدأت المحاولات الأولى لنشر الإسلام بين ديار «الملثمين» فى
ولاية «عقبة بن نافع الفهرى» الثانية (60 - 63هـ) فى عهد «بنى
أمية»؛ إذ استطاع هذا القائد أن يتدفق بقواته إلى «المغرب
الأقصى»، ثم هبط جنوبًا إلى «إقليم السوس الأدنى»، ثم واصل تقدمه
حتى وصل إلى مدينة «ماسه» بالسوس الأقصى، وأشرف على مدينة
«أغمات»، وتوغّل فى بلاد «الملثمين» (مسوفة ولمتونة وجدالة) حتى
وصل إلى مدينة «تارودنت»، وتذكر بعض الروايات أنه وصل إلى بلاد
«غانة» و «التكرور».
كان «عقبة» أول من دعا «الملثمين» إلى الإسلام كأول عربى مسلم
يرتاد هذه الأقاصى، ولما جاء «موسى بن نصير» فاتح «الأندلس»
أتمَّ ما بدأه «عقبة»، فقد وصل إلى مواطن «الملثمين»، ودعاهم إلى
الإسلام وأنشأ مسجدًا فى مدينة «أغمات» التى غدت من أهم مراكز
الإسلام وثقافته فى «المغرب الأقصى».(9/17)
وعندما قامت «دولة الأدارسة» فى «المغرب الأقصى» (172 - 373هـ
= 788 - 983م) وحدوا بين السهول الساحلية وإقليم المراعى، كما
وحدوا بين قبائل «صنهاجة» ووجهوا أنظارهم إلى نشر الإسلام
فكانوا أشبه بالدعاة منهم بالولاة، فانتشر الإسلام فى إقليم
«الواحات» بعد أن أصبحت مضارب «الملثمين» القريبة من جبال
«أطلس» (تعرف بجبال درن) خاضعة للأدارسة وجزءًا من أملاكهم،
وقد أدَّى إسلام قبائل «الملثمين» فى القرن الثالث الهجرى، إلى
قيام حلف قوى جمع بين قبائل «صنهاجة» (لمتونة وجدالة ومسوفة)
بزعامة «لمتونة»، وكان هذا الحلف يشير إلى موجة من التوسع صوب
الجنوب؛ لنشر الإسلام بين القبائل الزنجية بالسودان الغربى.
فقد استطاع «تيولوتان» زعيم هذا الحلف أن يحمل راية الجهاد، ودان
له معظم ملوك «السودان الغربى»، واستولى على مدينة
«أودغشت»، التى كانت محطة رئيسية لقوافل الصحراء، واتخذها
عاصمة له بعد أن خلصها من يد ملك «غانة» الوثنى.
تُوفِّى «تيولوتان» عام (222هـ= 836م) وتفرق الحلف الصنهاجى أثناء
حكم أحفاده عام (306هـ= 918م) واستطاعت مملكة «غانة» أن
تستعيد مدينة «أودغشت»، واحتفظت تلك المملكة بقوتها كأعظم ما
تكون فى «السودان الغربى»، حتى قام الحلف الصنهاجى الثانى
عام (426هـ = 1035م) بزعامة الأمير «أبى عبدالله بن يتفاوت
اللمتونى»، الذى استأنف الجهاد وحارب «غانة» وقبائل من
«السودان»، لكنه استشهد فى موقعة «غارة» بالقرب من مدينة
«تاتكلاتين» عام (429هـ= 1038م) بعد ثلاث سنوات من حكمه، وبذلك
أخفق «الملثمون» فى استعادة «أودغشت» والسيطرة عليها مرة
أخرى.
وكان من نتيجة هذه الهزيمة أن تخلَّتْ «لمتونة» عن زعامة «الملثمين»
وخلفتها فى الزعامة قبيلة «جدالة» فى شخص «يحيى بن إبراهيم
الجدالى» الذى اتبع طريقة أسلافه فى الجهاد داخل بلاد «السودان
الغربى» لنشر الإسلام، وأسس دولته على دعوة دينية إصلاحية(9/18)
رائدها فقيه مغربى مالكى يدعى «عبدالله بن ياسين» فامتد بذلك
نفوذ المذهب المالكى من «القيروان» إلى «المغرب الأقصى» ثم
تخطى حدود هذا الإقليم نحو الجنوب وانتشر فى بلاد «السودان
الغربى».
وبعد موت الأمير «يحيى بن إبراهيم» أصبح «عبدالله بن ياسين» بلا
معين، وفقد الحماية التى كان يبسطها عليه زعيم «جدالة» ورئيس
الحلف الصنهاجى، وأصبح وجوده غير مرغوب فيه، لتشدده فى
تنفيذ التعاليم الإسلامية، ولاختياره «يحيى بن عمر اللمتونى» خلفًا
ليحيى بن إبراهيم الجدالى، فنقل الزعامة بذلك من «جدالة» إلى
«لمتونة».
لهذا كله رحل «ابن ياسين» إلى بلاد «السودان الغربى» وأقام رباطًا
أو رابطة هناك فى أحد الأودية على حافة الصحراء الجنوبية قرب
مضارب «لمتونة»، ناحية مصب «نهر السنغال» وتبعه كثير من الذين
آمنوا بدعوته، ولما ازدادت قوته قام يجاهد قبائل البربر ويدعوهم
إلى تنفيذ تعاليم الإسلام الحقَّة ومعه «يحيى بن عمر» وأخوه «أبو
بكر بن عمر اللمتونى»، لكن «يحيى» استشهد عام (448هـ =
1056م)، فأخذ «ابن ياسين» البيعة لأخيه «أبى بكر» وأقامه مكانه،
وتوجَّه لقتال «برغواطة» عام (451هـ = 1059م) حيث استشهد «ابن
ياسين» من جراح أصابته.
وبعد أن فرغ «أبو بكر» من السيطرة على قبائل «الملثمين» وأعاد
الأمن إلى الصحراء رأى أن يوجه جهوده لمحاربة الوثنيين فى بلاد
السودان الغربى».
وكان «ابن ياسين» قد انتزع مدينة «أودغشت» من ملك «غانة» بل
وجاوزها إلى ناحية الجنوب فاتخذها الأمير «أبو بكر» مرتكزًا له فى
جهاده ضد ملك «غانة»، وبعد جهاد دام أكثر من خمس عشرة سنة
استولى «أبو بكر» على القسم الأكبر من مملكة «غانة» وضمه إلى
دولته.
ثم رحل هذا الأمير بعد ذلك إلى الشمال فى عام (464هـ = 1072م)
قاصدًا «مرَّاكش» التى كان قد بناها عام (454هـ = 1062م)، وتم
الصلح بينه وبين ابن عمه «يوسف بن تاشفين» على أساس أن يترك(9/19)
«أبو بكر» لابن تاشفين بلاد «المغرب الأقصى»، وأن يعود هو إلى
الصحراء مؤثرًا وحدة الصف، متجنبًا سفك الدماء، وكرس كل جهوده
للتوسع فى بلاد «السودان» ونشر الإسلام بين قبائله، وكان هدفه
هذه المرة هو إسقاط إمبراطورية «غانة» الوثنية التى أصبحت دولة
«غانة» الإسلامية فيما بعد.
دولة غانة الإسلامية [469 - 600 هـ = 1076 - 1203م]:
«غانة» التى نقصدها بهذا الحديث ليست هى «غانا» التى تقع اليوم
فى أقصى الجنوب من غرب إفريقيا وعاصمتها «أكرا» وإنما هى
التى تقع بين منحنى «النيجر» و «نهر السنغال»، وتضرب حدودها
فى جنوبى «موريتانيا» الحالية، وكانت عاصمتها مدينة تُسمَّى
«كومبى» وتقع على بعد (200) ميل شمال «باماكو» عاصمة دولة
«مالى» الحالية.
وكانت غانة القديمة متسعة النفوذ والسلطان حتى قيل عنها: إنها
كانت إمبراطورية خضع لها معظم بلاد «السودان الغربى» فى النصف
الأول من العصور الوسطى. وتعد هذه الدولة أو الإمبراطورية من أقدم
ممالك غربى إفريقيا شمال نطاق الغابات، ويرجع تاريخ نشأتها إلى
الفترة مابين القرن الثالث والرابع الميلاديين، ويبدو أن كلمة «غانة»
كانت لقبًا يطلق على ملوكهم، ثم اتَّسع مدلول هذا الاسم حتى أصبح
يطلق على العاصمة والإمبراطورية. وقد قامت هذه الدولة على يد
جماعة من البيض وفدوا من الشمال، وكان أول ملوكهم المدعو
«كازا» قد اتَّخذ مدينة «أوكار» قرب «تمبكت» الحالية عاصمة له،
وكان الشعب يتكون من قبائل «السوننك»، وهى أحد فروع شعب
«الماندى» الذى يسكن معظم نواحى غرب إفريقيا.
واستطاعت هذه الدولة منذ أواخر القرن الثامن الميلادى، وبعد أن
انتقل الحكم إلى فرع «السوننكى» - أن تُخضِع بلاد «فوتا» حيث
التكرور والولوف والسرير، ووصل هذا التوسع إلى نهايته القصوى
فى مستهل القرن الحادى عشر للميلاد، فأصبحت «غانة» تسيطر
على المسافات الممتدة من أعالى «نهر السنغال» وأعالى «نهر(9/20)
النيجر»، وامتد نفوذها إلى موقع «تمبكت» شرقًا وبلاد «التكرور»
أو «السنغال» غربًا، وينابيع نهر «النيجر» جنوبًا، وأغلب الصحراء
الغربية (موريتانيا حاليا) شمالا، وانتقلت عاصمتها إلى مدينة
«كومبى» أو «كومبى صالح» وهى نفسها مدينة «غانة».
وقد اعتمدت إمبراطورية «غانة» على التجارة كمصدر رئيسى فى
اقتصادها خاصة تجارة الذهب، حتى صارت تعرف ببلاد الذهب،
وأصبح ملوك «غانة» من أغنى ملوك الأرض؛ بفضل سيطرتهم على
الطرق المؤدية إلى مناجم الذهب والتى كانت تقع فى منطقة
«وانقارة» أو «وانجارة» جنوبى مملكة «غانة».
وقد أدَّى رواج التجارة إلى أن أصبحت «غانة» (العاصمة «كومبى
صالح») أكبر أسواق بلاد «السودان»، ودخل الإسلام إليها سلميا عن
طريق التجار والدعاة المسلمين، ويتبين هذا من رواية «البكرى» الذى
زار هذه البلاد فى عام (460هـ = 1068م)، وذكر أن مدينة «غانة»
مدينتان يحيطهما سور، إحداهما للمسلمين وبها اثنا عشر مسجدًا،
يُعيَّن لها الأئمة والمؤذِّنون، والقضاة، أما المدينة الأخرى، فهى مدينة
الملك وتسمى بالغابة، وبها قصر الملك ومسجد يصلى فيه من يَفدُ
عليه من المسلمين. ويضيف «البكرى» أن مترجمى الملك وصاحب بيت
ماله وأكثر وزرائه كانوا من المسلمين، وهذا يدل على أن الإسلام قد
انتشر بين زنوج غربى إفريقيا لدرجة أن شعب «التكرور» بأكمله
أسلم على يد الملك «وارجابى بن رابيس» الذى توفى عام (432هـ =
1040م)، كذلك امتد الإسلام إلى مدينة «سلى» التى تقع بين
«التكرور» و «غانة»، وإلى مدينة «غيارو» التى تبعد عن مدينة
«غانة» مسيرة (18) يومًا.
ويتحدث «البكرى» عن مملكة أخرى هى مملكة «ملل» ويقصد بها
مملكة «مالى» التى تقع جنوبى مملكة «غانة»، ويقول: إن ملكها
يعرف بالمسلمانى لأنه أعلن إسلامه على يد أحد الفقهاء المسلمين
الذى خرج معه للاستسقاء بعد أن أجدبت البلاد وكاد الناس يهلكون،(9/21)
ولما استجاب الله وهطل المطر أمر الملك بتحطيم الدكاكير (أى
الأصنام)، وأخرج السحرة من بلاده، وأسلم هو وأهله وخاصته
وحَسُنَ إسلامهم، على الرغم من أن أغلب أهل مملكته كانوا وثنيين.
ويتحدث «البكرى» أيضًا عن مدن أخرى أهلها مسلمون مثل مدينة
«كونمة» ومدينة «الوكن» ومدينة «كوكو» عند انحناءة «نهر
النيجر» تجاه بلاد «الهوسا»، والمدينة الأخيرة مدينتان، مدينة الملك
ومدينة المسلمين، ويبدو أن ملكهم كان مسلمًا، بدليل ما يذكره
«البكرى» من أن ملكهم كان يتسلَّم عند تنصيبه خاتمًا وسيفًا
ومصحفًا، يزعمون أن أمير المؤمنين بعثها إليه. ويصرح «البكرى»
فى نهاية حديثه بأن ملكهم مسلم ولا يتولى العرش أحد من غير
المسلمين.
وحتى يسير الإسلام فى مجراه الطبيعى ويستقر بين هذه الشعوب
التى آمنت به، وحتى ينتهى دور «غانة» فى مناهضة الإسلام
والاعتداء على القبائل المسلمة كان الهدف الأساسى الذى كرَّس له
الأمير «أبو بكر بن عمر اللمتونى» زعيم «الملثمين» جهوده هو
الاستيلاء على «غانة» وإخضاعها لدولة المرابطين التى أقامها
هؤلاء «الملثمون» من قبائل صنهاجة.
وعلى الرغم من أن أغلب المصادر تغفل تفاصيل جهاد هذا الأمير فى
بلاد «السودان الغربى» فإننا نعرف أنه استطاع أن يفتح مملكة
«غانة»، وأن يستولى على العاصمة عام (469هـ = 1076م) ويسقط
الحكومة الغانية الوثنية. ومنذ ذلك الوقت يمكن أن يؤرخ لإمبراطورية
«غانة» الإسلامية حتى اختفائها من التاريخ فى مطلع القرن الثالث
عشر الميلادى. فقد أضحت حكومتها إسلامية، ويقال إن ملكها اعتنق
الإسلام بدليل أن المرابطين تركوه فى الحكم بعد أن أعلن الخضوع
ودفع الخراج لهم. وبإسلام هذا الملك دخل عدد كبير من سكان
المملكة فى الإسلام.
ولم تستمر سيطرة المرابطين على «غانة»؛ إذ سرعان ما تخلَّصت من
هذه السيادة على أثر اغتيال الأمير «أبى بكر» أمير المرابطين عام(9/22)
(480هـ = 1087م) على يد أتباع أحد زعماء قبائل «الموسى» بجنوب
«داهومى» وانتهزت بلاد «السودان الغربى» هذه الفرصة وما تبعها
من اضطراب الجيوش المرابطية هناك بعد موت قائدها فأعلنت «غانة»
استقلالها وانفصالها عن الدولة المرابطية، ونقضت تبعيتها لها، وفى
الوقت نفسه استطاعت بعض الولايات التى كانت تابعة لإمبراطورية
«غانة» أن تنفصل هى الأخرى وتستقل فى حكمها، مثل مملكة
«أنبارة» وولاية «ديارا» و «كانياجا»، وأصبحت ممالك مستقلة، بينما
أصبحت سلطة ملوك «غانة» لا تتعدَّى «أوكار» و «باسيكورو» مما
أضعف الدولة ومهد للقضاء عليها.
ومعنى ذلك أن فتح المرابطين لغانة لم يقض عليها تاريخيا، ولكنه
حولها إلى الإسلام، وجاءت الصدمة القاضية على الوجود التاريخى
لإمبراطورية «غانة» على يد قبائل «الصوصو» الوثنية التى استقلت
بولاية «كانياجا» كما سبق القول، وكانوا من قبل يدفعون الجزية
لحكومة «غانة» لفترة طويلة. وفى مطلع القرن الثالث عشر الميلادى
استولى أعظم أباطرة «الصوصو» وهو «سومانجورو» على العاصمة
«كومبى صالح» فى عام (600هـ= 1203م) بعد معركة طاحنة مع ملك
«غانة» الإسلامية.
وبذلك أنهى «الصوصو» سيادة الملوك الغانيين المسلمين فتفرقوا
فى البلاد، وقام زعيم «الصوصو» بالاتجاه نحو الجنوب؛ حيث توجد
دولة «الماندنجو» النامية فى «كانجابا» واستولى عليها ولكن أحد
أبناء ملك «كانجابا» ويسمى «سندياتا» أو (مارى جاطهـ) نجح فى
استرداد الأراضى التى ضاعت من أبيه، بل واستطاع أن يقضى على
«سومانجورو» نفسه وأن يضم جميع أملاك «الصوصو» إليه. وذلك
بعد موقعة حربية فاصلة (632هـ = 1235م)، وفى عام (638هـ =
1240م) نجح «مارى جاطة» فى تدمير ما بقى من «كومبى صالح»
عاصمة «غانة»، وكان ذلك هو الفصل الختامى فى اختفاء
إمبراطورية «غانة» من مسرح التاريخ.
وعلى الرغم من أن «غانة» الإسلامية لم تعمَّر طويلا فإن أهلها(9/23)
وأغلبهم من «السوننك» اشتهروا بحماسهم للإسلام وبالدعوة إليه،
حتى إن بعض العشائر السوننكية تكاد تختص بالعمل فى الدعوة
إلى الإسلام، بل إن كلمة «سوننك» فى أعالى نهر «غمبيا»
استخدمها «الماندنجو» الوثنيون مرادفة لكلمة «داعية»، مما يدل
على الدور الكبير الذى نهض به «السوننك» فى نشر الإسلام.
ويبدو أن هذه الدفعة التى دفعها المرابطون للإسلام كانت من القوة
بحيث تركت فى تاريخ الإسلام فى غربى إفريقيا آثارًا عميقة، ذلك
أن دعاة المرابطين نشروا الإسلام فى المنطقة الواقعة بين
«السنغال» و «النيجر» وعلى ضفاف «السنغال»، وتمخض ذلك عن
إسلام شعب «التكرور» الذى عمل بدوره على متابعة الدعوة إلى هذا
الدين الحنيف بين قبائل «الولوف» و «الفولبة» (الفولانى)
و «المندنجو».
وفى ركاب المرابطين دخلت الثقافة الإسلامية متدفقة من مدارس
«المغرب» و «الأندلس»، فقد وحَّد المرابطون بين «السودان الغربى»
و «المغرب» و «الأندلس» فى دولة واحدة. وفى عهدهم تم تأسيس
مدينة «تمبكت» التى أصبحت حاضرة الثقافة العربية فى غربى
«السودان» وقد أسَّسها قوم من طوارق «مقشرن» فى آخر القرن
الخامس الهجرى، وأصبحت سوقًا مهمة يؤمُّها الرحالة ويَفِدُ إليها
التجار من «مَرَّاكُش» و «السودان».
وسرعان ما اقتفى العلماء أثر التجار فوفدوا إليها من «المغرب
الأقصى» و «الأندلس»، بل ومن «مصر» و «توات» و «تافللت» و «فاس»
وغيرها، وأصبح مسجدها الجامع الذى يسمى مسجد «سنكرى»
جامعة إسلامية زاهرة فى هذه البقعة النائية، وامتدَّ الإسلام إلى
مدينة أخرى كان لها ما لتمبكت من أثر فى تاريخ الإسلام والثقافة
العربية، وهى مدينة «جنى» التى أسلم أهلها آخر القرن الخامس
الهجرى، وأمَّها الفقهاءُ والعلماءُ، كما انتشرت اللغة العربية بين
كثير من أهالى دولة «غانة» الإسلامية، وأصبحت لغة العبادة
والثقافة الوحيدة بالبلاد بجانب كونها لغة التجارة والمعاملات.(9/24)
انتهى هذا الدور بانتشار الإسلام فى بلاد «السودان الغربى» على
نطاق واسع، وبتوطُّن الثقافة العربية فى مركزين مشهورين فى
«تمبكت» و «جنى»، وبسقوط مملكة «غانة» الإسلامية على يد
«الصوصو»، وورثتها مملكة «مالى» الناشئة، وبدأ دور جديد يمكن
أن نسميه دور الازدهار فى تاريخ الدول والممالك الإسلامية التى
قامت فى غرب إفريقيا فى العصور الوسطى.
وفى هذا الدور انتقلت السلطة إلى أهل البلاد الأصليين الذين دخلوا
الإسلام وتشربوا من ثقافته واقتبسوا من نظمه، وهو التطور نفسه
الذى حدث فى «المغرب» حينما انتقل السلطان إلى أهل البلاد
أنفسهم، بل شهده كل قطر دخله الإسلام وتغلغل فيه.
ومن الدول الإسلامية التى قامت من أهل البلاد الأصليين فى غربى
إفريقيا دولة «مالى» ودولة «صنغى» ودولة «الكانم والبرنو». وهذه
الدول بعد قيامها كانت تشتغل بالحياة الإسلامية وتتخذ مظهرًا
إسلاميا واضح المعالم.(9/25)
الفصل الثالث
* سلطنة مالى الإسلامية
[569 - 874هـ = 1200 - 1469 م]:
أسس هذه السلطنة شعب زنجى أصيل هو شعب «الماندنجوه»، أو
«الماندنجو» ومعناها «المتكلمون بلغة الماندى»، ويطلق «الفولانى»
على هذا الشعب اسم «مالى»، ويلقبه المؤرخون العرب بلقب «مليل»
أو «ملل»، وتقع سلطنة «مالى» بين بلاد «برنو» شرقًا والمحيط
الأطلسى غربًا وجبال البربر شمالا و «فوتاجالون» جنوبًا.
وقد اشتهرت باسم بلاد «التكرور» وهى أحد أقاليمها الخمسة التى
اشتملت عليها المملكة زمن قوتها وازدهارها، وكان كل إقليم منها
عبارة عن مملكة مستقلة استقلالا ذاتيا، لكنها تخضع لسلطان
«مالى»، وهذه الأقاليم الخمسة حسبما ذكرها «القلقشندى»:
1 - «مالى»، ويتوسط أقاليم المملكة.
2 - «صوصو»، ويقع إلى الجنوب من «مالى».
3 - «غانة»، ويقع شمال «مالى» ويمتد إلى «المحيط الأطلسى».
4 - «كوكو»، ويقع شرق إقليم «مالى».
5 - «تكرور»، ويقع غرب «مالى» حول «نهر السنغال».
ولايعرف إلا القليل عن نشأة مملكة «مالى» ويتلخص فى أنه فى نحو
منتصف القرن الحادى عشر الميلادى تقريبًا اعتنق ملوك «الماندنجو»
فى «كانجابا» (مالى) الإسلام، وأنشئوا دُوَيلة صغيرة انفصلت عن
مملكة «غانة»، وظفرت بنوع من الاستقلال الذاتى، مستغلة الصراع
الذى نشب بين المرابطين ومملكة «غانة» واستطاع ملوك «كانجابا»
أن يوسعوا مملكتهم فى أوائل القرن الثالث عشر فى اتجاه الجنوب
والجنوب الشرقى، مما أثار حفيظة ملك «الصوصو»، الذى أخذ يعمل
للسيطرة على مملكة «كانجابا» الناشئة وكادت جهوده تكلل
بالنجاح، بعد أن استطاع القضاء على دولة «غانة» الإسلامية عام
(600هـ = 1203م)، لكن «سندياتا» ملك «كانجابا» الذى اشتهر باسم
«مارى جاطة» (627 - 653هـ = 1230 - 1255م) استطاع أن يقهر ملك
«الصوصو»، وأن يقتله فى إحدى المعارك عام (632هـ = 1235م)
وأن يضم بلاده إليه، ثم وسَّع نفوذه شمالا واستولى على البقية(9/26)
الباقية من مملكة «غانة» عام (638هـ= 1240م)، وبذلك يعتبر هذا
الملك المؤسس الحقيقى لسلطنة «مالى» الإسلامية.
وقد برزت سلطنة «مالى» فى سماء الحياة السياسية فى غربى
إفريقيا كأعظم ماتكون، واتخذت حاضرة جديدة لها، ترمز إلى الدولة
وإلى نفوذها وقوتها النامية وهى عاصمتها الجديدة «نيانى» أو
«مالى»، بدلا من عاصمتها القديمة «جارب»، وتقع العاصمة الجديدة
على أحد روافد «نهر النيجر».
استمرت حركة التوسُّع بعد ذلك، ففى عهد «منسى ولى» (653 -
669هـ = 1255 - 1270م) خليفة «مارى جاطة» استولى قواده على
منطقة «وانجارة» الغنية بمناجم الذهب، كما استولوا على مدينتى
«بامبوك» و «بندو»، ولم تتوقَّف الفتوح بعد «منسى ولى»، إنما
استمرت فى عهد خلفائه - أيضًا - حتى وصلت الغاية فى عهد ملك
«مالى» الشهير «منسا موسى» (712 - 738هـ = 1312 - 1337م) الذى
استولت قواته على مدن «ولاته» و «تمبكت» و «جاو» فى «النيجر
الأوسط»، وبلغت دولة «مالى» الإسلامية فى عهده ذروة مجدها
وقوتها واتساعها، فقد امتدت من بلاد «التكرور» غربًا عند شاطئ
«المحيط الأطلسى» إلى منطقة «دندى» ومناجم النحاس فى «تكدة»
شرقى «النيجر»، ومن مناجم الملح فى «تغازة» فى الصحراء شمالا
إلى «فوتاجالون» ومناجم الذهب فى «نقارة» جنوبًا، كما شملت
الحدود الجنوبية منطقة الغابات الاستوائية.
وتقدر مساحة «مالى» زمن السلطان «منسا موسى» بمساحة كل دول
غربى أوربا مجتمعة، وتعتبر «مالى» من أعظم الإمبراطوريات فى
القرن الرابع عشر الميلادى، وفاقت شهرتها دولة «غانة»؛ من حيث
العظمة والقوة والثروة والاتساع والشهرة، فقد ضمَّت داخل حدودها
مناجم الذهب والملح والنحاس، وتحكَّمت فى طرق القوافل بين هذه
المناجم شمالا وجنوبًا، ونتج عن ذلك ثراء جم، يظهر ذلك من وصف
«ابن بطوطة» و «الحسن الوزَّان» لهذه المملكة.
لكن ما كادت الدولة تبلغ الغاية فى القوة حتى بدت عليها مظاهر(9/27)
الضعف؛ فأَغرق الملوك فى الترف، وفقدوا الروح العسكرية، وبدأت
أقاليمها تستقل عنها واحدًا بعد الآخر؛ فاستقلَّت «جاو» واستولى
«الطوارق» على «أروان» و «ولاته» و «تمبكت»، وبدأ «الولوف»
و «التكرور» يُغيرون عليها من الغرب، ودولة «الكانم» من الشرق
واستقلّت إمارة «صنغى» التى ورثت مملكة «مالى» وتبوأت مكانتها
فى غرب القارة فيما بعد.
وقد بلغ ضعف مملكة «مالى» الغاية فى القرنين الخامس عشر
والسادس عشر الميلاديين حين استنجدوا فى عام (886هـ = 1481م)
بالعثمانيين، الذين كانوا قد استقروا بالمغرب، ثم بالبرتغاليين الذين
كانوا قد أنشئوا لهم مستعمرة على ساحل إفريقيا الغربى، فلم
يستجب لهم أحد، وكان «سُنِّى على» سلطان دولة «صنغى»
الإسلامية والمؤسس الحقيقى لها قد أوغل فى سلطنة «مالى» فلم
يترك بلدًا ولا مدينة فى النصف الشمالى منها إلا حاربه بما فى ذلك
مدينة «مالى» نفسها، واحتل «تمبكت» عام (873هـ = 1469م)، ونرى
عهد قوة إمبراطورية «مالى» ينتهى فى العام الذى سقطت فيه
«تمبكت» فقد أخذت الإمبراطورية تفقد أقاليمها واحدًا إثر الآخر حتى
أصبحت فى منتصف القرن السابع عشر الميلادى مجرد دُوَيلة صغيرة
فى «كانجابا» كما كانت من قبل. وظلَّت هذه الدولة قائمة حتى
ابتلعها الفرنسيون فى عام (1316هـ = 1898م)، بعد أن هزموا آخر
زعيم أراد أن يعيد مجد دولة «مالى» الإسلامية، ويوحد شعب
«الماندنجو» وهو «سامورى التورى»، ورغم جهاده المستمر فإن
الفرنسيين قضوا عليه فى العام نفسه، ونفوه إلى «جابون»؛ حيث
مات هناك فى عام (1318هـ = 1900م).
وقد استطاعت دولة مالى تحقيق كثير من المظاهر الإسلامية.
وأول هذه المظاهر، اتصالها بالقوى الإسلامية المختلفة، وإظهارها
لروح الأخوة الإسلامية، وقد ظهر هذا فى سفر سلاطين هذه المملكة
إلى مكة لأداء فريضة الحج وزيارة «مصر» فى طريقهم إلى «مكة»،
وقد بدت هذه الظاهرة منذ فجر الدولة؛ إذ أشار «القلقشندى» إلى(9/28)
خروج «منساولى بن مارى جاطة» إلى الحج فى عهد السلطان
«بيبرس»، وتطورت الصلات بين «مالى» و «مصر» فى عهد السلطان
«منسا موسى» الذى يعد موكبه من أروع مواكب الحج التى وفدت
على «مصر» فى القرن الثامن الهجرى.
وقد قدَّر بعض المؤرخين عدد من جاء فى ذلك الموكب بعدة آلاف،
وقالوا إن السلطان حمل خمسين ألف أوقية من الذهب وزَّع أكثرها
على الناس فى صورة هدايا أو صدقات فى «مصر» و «الحجاز»، وقد
بعث إلى الخزانة السلطانية فى «القاهرة» بحمْل كبير من الذهب،
وقد أكرمه سلطان «مصر» وبعث إليه بالخِلع وزوَّده بما يحتاج إليه
فى سفره إلى «مكة» من الجمال والمتاع والمئونة.
وكان السلطان «منسا موسى» قد بعث قبل مجيئه إلى «مصر» كتابًا
إلى السلطان المملوكى «الناصر محمد» خاطبه فيه بما يدل على
التقدير والإخاء، وبعث إليه بخمسة آلاف مثقال من الذهب، مما يدل
على عمق الصلات الطيبة وروح الأخوة الإسلامية بين القاهرة وغربى
إفريقيا، تلك الصلات التى نشأت عنها علاقات ثقافية وتجارية
واسعة وقد انتهز السلطان «منسا موسى» فرصة وجوده فى
«مصر»، فابتاع جملة من الكتب الدينية ليوفر لأهل بلاده طرفًا من
الثقافة الإسلامية المتفوقة فى «مصر» وقتئذٍ وتبع ذلك رحيل كثير
من علماء «مصر» إلى «مالى»، ورحيل علماء «مالى» إلى «مصر»؛
حيث كان لهم رواق فى الأزهر يقيمون فيه يسمى «رواق التكرور».
ولم تقتصر العلاقات على «مصر» وحدها، بل كان لسلاطين «مالى»
علاقات طيبة أيضًا بملوك «المغرب» وترجع العلاقات بين الطرفين
إلى زمن بعيد، فيذكر «ابن عذارى» مؤرخ «المغرب» و «الأندلس»
الشهير فى كتابه «البيان المغرب فى أخبار الأندلس والمغرب» بعض
الهدايا التى كان يرسلها ملوك «السودان الغربى» فى القرنين الرابع
والخامس الهجريين إلى ملوك «بنى زيرى» فى «تونس»، أما سلطان
مملكة «مالى» «منسا موسى» فقد أرسل إلى السلطان «أبى الحسن(9/29)
المرينى» يهنئه باستيلائه على «تلمسان»، كما بعث بالسفراء
الدائمين إلى مدينة «فاس»، وكانت العلاقات الثقافية مع «المغرب»
فى غاية القوة والازدهار، بسبب انتشار مذهب «مالك» فى البلدين.
وقد امتدت علاقات مملكة «مالى» إلى «الأندلس»، بدليل ما يروى من
أن «منسا موسى» استعان بأحد علمائها وهو «أبو إسحاق
السهلى» من أهل «غرناطة» فى بناء القصور والمساجد، وإليه يرجع
الفضل فى إدخال فن البناء بالآجر فى غربى «السودان»، وبنى
مسجدًا عظيمًا فى «جاو» وآخر فى «تمبكت»، كما بنى قصر «منسا
موسى» نفسه.
وكان أهل «مالى» يحتفلون بشهر رمضان وبالأعياد الإسلامية احتفالا
كبيرًا، وكان السلطان يوزع الأموال والذهب على القضاة والخطباء
والفقهاء وفقراء الناس، ويصف «ابن بطوطة» خروج السلطان لصلاة
العيد وصفًا رائعًا لا يقل فخامة وأبهة عن خروج خلفاء «بغداد»
و «القاهرة». ويقول إن الأهالى كانوا يواظبون على الصلاة فى
الجماعات، وإنهم كانوا يضربون أولادهم إذا ما قصروا فى أدائها،
وإنه إذا لم يبكر الإنسان فى الذهاب إلى المسجد يوم الجمعة لم يجد
مكانًا لكثرة الزحام.
وبلغ من عمق العقيدة فى نفوسهم أنهم كانوا يلزمون أبناءهم بحفظ
القرآن الكريم، وكانوا يضعون قيودًا من الحديد فى أرجلهم إذا
ماقصروا فى حفظه، ولا تفك عنهم حتى يحفظوه، ولذلك أتقن كثير
من الماليين اللغة العربية، وكان السلطان «منسا موسى» نفسه
يجيدها، وكان التعليم لايتم إلا بها كما كانت لغة الحكومة فكانت
الوثائق المهمة والمراسلات الدولية لاتكتب إلا بها، كما كانت لغة
التجارة والمعاملات، أى أنها كانت اللغة السائدة بجانب اللغات
المحلية، مثل لغة «الهوسا» و «صنغى» و «الفولانيين» التى تأثرت
باللغة العربية، وتوجد آلاف الكلمات العربية مستخدمة فى شتى
مظاهر الحياة فى غرب إفريقيا حتى اليوم، وقد زار الرحالة
الإنجليزى «فرانسيس مور» مالى عام (1144هـ = 1731م) ووجد معظم(9/30)
أهل «جمبيا» البريطانية يتكلمون العربية.
وقد ساعد على ذلك أن سلاطين «مالى» كانوا يكثرون من بناء
المساجد التى كانت تتخذ بجانب العبادة مكانًا للعلم والتدريس، ويذكر
أن السلطان «منسا موسى» كان يقيم مسجدًا فى كل مكان تدركه
فيه صلاة الجمعة إذا كان مسافرًا أو خارج عاصمته، ومن أهم هذه
المساجد مسجد أو جامع سنكرى الذى أصبح جامعة علمية فى مدينة
«تمبكت»؛ حيث وفد إليه العلماء وطلاب العلم من داخل «مالى»
وخارجها، وبلغ من أهمية هذه المساجد أنها أصبحت حرمًا آمنًا،
فكان السلطان إذا غضب على أحد من الرعية استجار المغضوب عليه
بالمسجد، وإن لم يتمكن من ذلك يستجير بدار خطيب المسجد، فلا يجد
السلطان سبيلا إلا أن يعفو عنه، وهذا يدل على مدى تقدير سلاطين
«مالى» للأماكن الدينية وللعلماء، وكان مجلس السلاطين لا ينعقد إلا
بحضور العلماء ولا يبت فى رأى إلا بعد مشورتهم، فإذا أضفنا إلى
ذلك ما قام به سلاطين «مالى» من جهاد لنشر الإسلام وثقافته بين
القبائل الوثنية سواء داخل دولتهم أو خارجها، وما قاموا به من
أصول عربية مشرقية لأسرتهم الحاكمة وهى أسرة «كيتا»؛ لأدركنا
مدى حرص تلك السلطنة وهؤلاء السلاطين على التقاليد الإسلامية
ومظاهر الحياة الإسلامية.(9/31)
الفصل الرابع
*سلطنة صنغى الإسلامية
[777 - 1000هـ = 1375 - 1591 م]:
بدأت سلطنة «صنغى» (صنغاى- سنغاى) دويلة صغيرة لا تختلف من
حيث قيامها عن سلطنة «مالى» أو «غانة» فقد تدفقت بعض قبائل
مغربية - وخاصة قبائل «لمطة» - فى نحو منتصف القرن السابع
الميلادى إلى الضفة اليسرى لنهر «النيجر» عند مدينة «دندى»،
وسيطروا على الزراع من أهل «صنغى».
ورحب هؤلاء بهم ليحموهم من الصيادين الذين كانوا يعتدون عليهم
ونجح هؤلاء الوافدون فى تكوين أسرة حاكمة استفادت إلى حد
كبير من العلاقات التجارية مع «غانة» و «تونس»، و «برقة» و «مصر»،
وكانت هذه العلاقات التجارية ذات أثر بعيد فى تحويل ملوك
«صنغى» إلى الإسلام فى بداية القرن الحادى عشر الميلادى إبان
النهضة الإسلامية التى اضطلع بها المرابطون فى ذلك الوقت لنشر
الإسلام فى غربى القارة.
رأى ملوك «صنغى» أن ينقلوا حاضرة ملكهم من «كوكيا» إلى
«جاو» لتكون على مقربة من طرق القوافل الرئيسية.
ومدينة «جاو» زارها البكرى عام (460هـ = 1068م) وقال: «إن مدينة
كوكوا (جاو) مدينتان، مدينة الملك ومدينة المسلمين، وإذا وُلِّى منهم
ملك دُفع إليه خاتم وسيف ومصحف يزعمون أن أمير المؤمنين بعث
بذلك إليهم، وملكهم مسلم لا يملِّكون غير المسلمين»، كما زارها «ابن
بطوطة» فى منتصف القرن الرابع عشر للميلاد، وقال عنها: إنها
مدينة كبيرة تقع على نهر «النيجر»، وهى من أحسن مدن
«السودان» وأكبرها وأخصبها، وقد قابل فيها فقهاء ينتسبون إلى
بعض قبائل البربر.
وكانت «جاو» والبلاد التابعة لها تشكل جزءًا من سلطنة «مالى»
(777هـ = 1375م)، عندما تحرك ملوك «صنغى»، واستردوا استقلالهم
منتهزين فرصة الضعف الذى أخذ يظهر فى دولة «مالى» منذ ذلك
الوقت واتخذوا لقب «سُنِّى» أو «السُّنِّى».
وأخذت بلادهم تتسع فى عهد «سنى على» (868 - 897هـ = 1464 -
1492م) الذى كون جيشًا كبيرًا منظمًا سار على رأسه إلى الغرب،(9/32)
واستولى على مدينة «تمبكت» (873هـ = 1468م)، ثم على مدينة
«جنِّى» (878هـ = 1473م)، وفتح مملكة «الموسى» وضمها إلى
دولته، وتقدم شرقًا فهاجم بعض إمارات «الهوسا» فخضعت له
«كاتسينا» و «جوبير» و «كانو» و «زمفرة» و «زاريا»، ثم اتجه غربًا
فاستولى على بلاد «الماندنجو» و «الفولانى»، ومعظم ممتلكات دولة
«مالى» الإسلامية، واتجه شمالا حتى مواطن الطوارق. وبذلك أسس
«سنى على» إمبراطورية «صنغى» الإسلامية، وكان أول إمبراطور
لها، حتى مات فى ظروف غامضة، وبموته انتقل الحكم إلى أسرة
جديدة أسسها أحد قواد «السوننكى»، وهو «أسكيا محمد الأول»
بعد إعلانه الثورة على ابن «سنى على» واستيلائه على السلطة.
و «أسكيا» لقب يعنى «القاهر» وقام بتنظيم شئون البلاد من الناحية
الإدارية، واستخدم طائفة من الموظفين الأكفاء، كما نظم الجيش وأفاد
من الخبرات السابقة، واتخذت حركته مظهرًا إسلاميا واضحًا نتيجة
عاملين قام بهما:
الأول:
هو اهتمامه بالشئون الدينية واستغلاله ثروة سلفه فى النهوض بها
وقيامه بالحج إلى البيت الحرام فى مكة (900هـ = 1495م)، وكان
موكبه فى موسم الحج يفوق ما عرف عن موكب ملوك «مالى»، من
حيث الأبهة والفخامة، واستردت «تمبكت» فى عهده مكانتها كمركز
للثقافة الإسلامية فى غربى إفريقيا، وبلغ من شهرتها أن ملك
«صنغى» كان ينسب إليها.
والعامل الثانى:
هو الجهاد الذى قام به بغرض توسيع رقعة بلاده، ونشر الإسلام بين
الوثنيين من جيرانه «الماندنجو» و «الفولانى» فى الغرب «والطوارق»
فى الشمال، وقبائل «الموسى» الزنجية فى الجنوب، «والهوسا»
فى الشرق فى مدن «كتسينا» و «غوبير» و «كانو» و «زنفروزاريا»
وقد خضعت هذه المدن كلها لهذا الملك عام (919هـ = 1513م)، وكان
هذا بداية لظهور الثقافة الإسلامية فى هذا الجزء من شمال
«نيجيريا».
وقد أشار كثير من المؤرخين السودانيين إلى أن علماء من «تمبكت»
رحلوا إلى هذه الجهات الخاضعة لنفوذ «صنغى»، وأقاموا هناك(9/33)
يفقِّهون الناس فى الدين وينشرون الثقافة الإسلامية، حتى امتد
النفوذ الإسلامى إلى منطقة «بحيرة تشاد»، وبلغت إمبراطورية
«صنغى» أقصى اتساع لها، فقد شمل نفوذها منطقة «السافانا»
كلها من الشرق إلى الغرب، واستطاع «أسكيا محمد الأول» أن ينشر
الأمن والسلام فى جميع ربوع هذه المملكة الشاسعة الأرجاء،
بتنظيماته الإدارية والعسكرية الرائعة التى قام بها بين صفوف الجيش
والإدارة.
لكن حكمه آذن بالزوال حينما أصيب بالعمى وانتابه المرض وتآمر
عليه أولاده، وعزله أحدهم عن الحكم فى عام (935هـ = 1529م).
وظل القواد والمغامرون يتنافسون من أجل السيطرة على الجيش
والحكومة، إلا أن «أسكيا إسحاق الأول» (946 - 956هـ = 1539 -
1549م) استطاع أن يلى العرش بمساندة الجيش، وأن يعيد الأمن إلى
نصابه، وأن يقضى على منافسيه، وأن يبعد كبار ضباط الجيش
وكبار المسئولين، الذين أساءوا استخدام مناصبهم خلال فترة
الاضطراب.
وعلى الرغم من ذلك لم يستطع الاحتفاظ بالعرش مدة طويلة، فقد خلفه
«أسكيا داود» (1549 - 1582م) الذى عين أنصاره فى الوظائف
المهمة واشتهر بحنكته السياسية فأبعد خطر ملوك «مراكش» عن
بلاده بالمهادنة والتودد إليهم.
وبعد وفاة «داود» (990هـ = 1582م) أثرت المنازعات التى قامت
بسبب العرش تأثيرًا سيئًا على مملكة «صنغى»، فقد كان سلاطين
«المغرب» منذ عهد بعيد يتطلعون إلى مناجم الملح فى «تغازة»
وإلى السيطرة على تجارة الذهب، وظل ملوك «صنغى» يصدون
سلاطين «المغرب» حتى سنة (993هـ = 1585م)، حينما انقسمت البلاد
على نفسها، فاستغل «أحمد المنصور الذهبى» سلطان «المغرب»
الذى انتصر على البرتغاليين فى موقعة «القصر الكبير» ضعف
«صنغى» وسيَّر جيشًا كبيرًا عام (998هـ = 1590م) استولى على
العاصمة «جاو» بعد أن هزم قوات «إسحاق الثانى» فى موقعة
«تونديبى» وبذلك دخلت البلاد فى طور جديد من أطوار تاريخها وهو
طور التبعية والفناء.(9/34)
لكن واقعة «تونديبى» لم تكن نصرًا للمغرب إلا من الناحية العسكرية؛
إذ إنهم لم يحققوا الأغراض التى قاتلوا من أجلها، وهى السيطرة
على مناجم الذهب فى غرب إفريقيا، لأن ثروة «صنغى» لم تكن
نتيجة امتلاكها الذهب بقدر ما كانت نتيجة لسيطرتها على تجارته مع
مواطن إنتاجه، فى «وانجارة» و «يندوكو» و «أشنتى»، وكلها فى
جنوب مملكة «صنغى»، وهى تجارة لا تزدهر إلا فى ظل الأمن
والسلام الذى قضى عليه سلاطين «مراكش»، الذين لم يستطيعوا أن
يمدوا نفوذهم إلى ما وراء المدن الرئيسية «جنى» و «تمبكت»
و «جاو»، ولما أدركوا قلة الفوائد التى عادت عليهم من وراء هذا
الفتح الذى كلفهم كثيرًا، كفُّوا عن إرسال الجند والمئونة اللازمة إلى
قواتهم، وتركوا هذه القوات تقرر مصيرها بنفسها، فنشأت أسرة
محلية من باشوات «تمبكت» تدين بالتبعية الاسمية لسلطان «مراكش»،
وتعتمد على عنصر خليط من البربر وأهل البلاد، أو المولدين الذين
سموا باسم «أرما».
وكان همُّ هؤلاء الباشوات منصرفًا إلى جمع المال وحمل الزعماء
المحليين على دفع الإتاوة على أن سلطانهم ضعف تدريجيًا
لاعتمادهم على الجيش الذى كان يعزلهم متى شاء، حتى بلغ عدد من
تولى منهم بين سنتى (1070هـ=1660م) و (1163هـ= 1750م) نحو
(128) باشا، ولما ضعفت قوة الجيش نفسه اضطر الباشوات منذ عام
(1081هـ = 1670م) إلى دفع الإتاوة إلى الحكام الوثنيين من ملوك
«البمبارا»، وهم ملوك مملكة «سيجو» الوثنية، التى كانت تقع على
وادى نهر «بانى» جنوبى «كانجابا» فى حوض «النيجر».
وظل الأمر على هذا النحو حتى جاء الفرنسيون والتهموا المنطقة
بأسرها، وسموها «إفريقية الاستوائية الفرنسية». وبعد نجاح حركة
الكفاح الوطنى ضد الاستعمار الفرنسى والإنجليزى؛ ظهرت عدة دول
إسلامية حديثة على أنقاض إمبراطورية «صنغى» الإسلامية، وهذه
الدول هى: «جمهورية موريتانيا، و «جمهورية غينيا»، و «جمهورية(9/35)
مالى»، و «جمهورية السنغال»، و «جمهورية النيجر»، و «جمهورية
نيجيريا»، و «جمهورية جامبيا».
وإذا كانت دولة «صنغى» قد شابهت دولة «مالى» من حيث تطورها
العام، فإنها قد شابهتها أيضًا فى اتخاذها مظهرًا إسلاميا واضحًا،
بل فاقتها فى هذه الناحية فى بعض الأحيان، وهذا التطور طبيعى،
فقد امتد سلطان «صنغى» إلى القرن السادس عشر الميلادى، وكان
الإسلام قد قطع خطوات واسعة فى سبيل النمو والانتشار.
وقد سعى ملوك «صنغى» كما سعى ملوك «مالى» من قبل إلى
الاتصال بالقوى الإسلامية المعاصرة، تحقيقًا لروح الأخوة الإسلامية،
وفى هذا المجال كان لملوك «صنغى» اتصالات عديدة بملوك
المسلمين فى الشرق والغرب.
فقد خرج «أسكيا محمد الأول» إلى الحج ومر بمصر سنة (899هـ=
1494م) فى موكب حافل، وأغدق على الناس والفقراء أكثر مما
أغدق أسلافه، فقد روى «السعدى» صاحب كتاب «تاريخ السودان»
أنه تصدق مثلا فى الحرمين الشريفين بمائة ألف مثقال من الذهب،
واشترى بساتين فى «المدينة المنورة» حبسها على أهل التكرور
(أهل دولة صنغى)، واجتمع فى موسم الحج بزعماء المسلمين، وتأثر
بما رآه فى «مصر» من نظم الحكم، ومن ثقافة عربية مزدهرة،
فاتصل بالإمام «السيوطى» وغيره من علماء العصر، وتلقى تقليدًا من
الخليفة العباسى بالقاهرة، وعاد إلى بلده متأثرًا بما رآه من روح
إسلامية، وعمل على تطبيق ما تعلمه من آراء وتجارب شاهدها
بنفسه.
ويقال إن هذا السلطان قلد فى تنظيماته الإدارية النظم التى رآها فى
«مصر»، وأمعن فى إحاطة نفسه ببطانة من العلماء الذين كان يحمل
لهم كل احترام وتقدير، فقد روى مؤرخو «السودان» أنهم كانوا إذا
دخلوا عليه أجلسهم على سريره وقربهم وأمر بألا يقف أحد إلا
للعلماء أو الحجاج، وألا يأكل معه إلا العلماء والشرفاء.
كما أبطل البدع والمنكر وسفك الدماء، وأقام الدين والعقائد،
وأعطى «جامعة تمبكت» المزيد من عنايته، فتفوقت فى عهده(9/36)
ووصلت إلى ما لم تصل إليه من قبل، وكانت فى غربى «السودان»
كجامعة «الأزهر» فى «القاهرة»، أو «القرويين» فى «فاس» أو
«الزيتونة» فى «تونس» أو «النظامية» فى «بغداد».
وأصبحت هذه السياسة الإسلامية سياسة مقررة لخلفائه من بعده،
فأسكيا إسحاق يسير فى الطريق نفسه، من تشجيع العلماء
وإكرامهم والأخذ بيدهم، و «أسكيا داود» يتخذ خزائن الكتب وله
نساخ ينسخون الكتب وربما يهادى بها العلماء، وقيل إنه كان
حافظًا للقرآن الكريم.
وهذا يدل على أن دولة «صنغى» قد شهدت تمكن الإسلام من أهل
غرب إفريقيا، كما شهدت ازدهار الثقافة الإسلامية إلى أبعد الحدود.
وبذلك نكون قد انتهينا من الحديث عن الدول الإسلامية التى قامت
فى بلاد «السودان الغربى»، أما «السودان الأوسط» فقد قامت فيه
دول أهمها وأعظمها على الإطلاق هى سلطنة «الكانم والبرنو»
الإسلامية.(9/37)
الفصل الخامس
*سلطنة الكانم والبرنو الإسلامية
[479 - 1262هـ = 1086 - 1846م]:
قامت هذه السلطنة فى «بلاد السودان الأوسط» الذى يتكون من
حوض «بحيرة تشاد» وما تقع حواليها من بلدان تمتد من «نهر النيجر»
غربًا إلى «دارفور» شرقًا، وكانت منطقة «بحيرة تشاد» مهد سلطنة
«الكانم والبرنو».
وقد ضمَّت هذه الدولة عددًا كبيرًا من القبائل والعناصر، فهناك قبائل
«الصو»، وقبائل «الكانمبو»، وقبائل «الكانورى» وهى خليط من
العرب والبربر والزنوج، وهؤلاء يكوِّنون أغلب سكان هذه السلطنة،
يضاف إلى ذلك قبائل «التبو» (التدا) من البربر، وكذلك «بربر
الطوارق» من سكان المناطق الشمالية الصحراوية، وكذلك قبائل
العرب الذين كانوا يُعرَفون هناك باسم (الشوا)، وقد قدموا إلى
«تشاد» من «وادى النيل»، ومن القارة عبر الصحراء، وكانوا يتمثَّلون
فى قبائل «جذام» و «جهينة» و «أولاد سليمان»، وقد أدَّى اختلاط
هؤلاء العرب بالوطنيين إلى ظهور عناصر جديدة، منها: «التنجور»
و «البولالا» و «السالمات» وغيرهم.
وينقسم تاريخ هذه السلطنة إلى عصرين: عصر سيادة «كانم»، ثم
عصر سيادة «برنو»، ويقع إقليم «كانم» - الذى كان مهدًا لقيام هذه
الدولة - فى الشمال الشرقى لبحيرة تشاد وبه العاصمة «جيمى»، أما
إقليم «برنو» فإنه يقع غرب هذه البحيرة، وبه العاصمة «بيرنى
نجازرجامو» التى انتقل الحكم إليها بعد انقضاء عصر سيادة «كانم».
وقد قامت هذه الدولة فى القرن التاسع للميلاد على يد أسرة من
البربر البيض هى الأسرة «الماغومية السيفية»، التى تزعم أنها من
أصل عربى من نسل «سَيْفِ بن ذِى يَزن الحِمْيَرِى»، واستطاعت هذه
الأسرة أن تسيطر على حوض «بحيرة تشاد»، وأن تتخذ من مدينة
«جيمى» عاصمة لها، وبدأ الإسلام يطرق أبواب هذه الدولة منذ
قيامها، وخاصة من الشمال والشرق على يد التجار والمهاجرين الذين
توافدوا عليها فى القرنين التاسع والعاشر الميلاديين. وتتحدث(9/38)
المصادر عن قيام داعية إسلامى كبير هو الفقيه «محمد بن مانى»،
الذى عاش فى القرن الحادى عشر الميلادى، وعاصر خمسة من ملوك
«الكانم» الذين كانوا يعرفون باسم «المايات» (جمع ماى، وهو لقب
بمعنى: ملك)، أولهم «الماى بولو» الذى كان يحكم نحو (411هـ =
1020م) وآخرهم هو «الماى أوم بن عبدالجليل» الذى بدأ حكمه فى
عام (479هـ = 1086م) وهو الذى جعل الدين الإسلامى دينًا رسميا
للدولة، وذلك نتيجة لجهود هذا الداعية العظيم الذى أسلم على يديه
هؤلاء المايات الخمسة، وقد قام آخرهم وهو «الماى أوم بن
عبدالجليل» (479 - 490هـ = 1086 - 1097م) بجهد كبير فى نشر
الإسلام فى بلاده، ثم اتَّجه إلى الشرق، وذهب إلى بلاد «الحجاز»
لأداء فريضة الحج، ولكن المنية وافته بمصر أثناء عودته من أداء
هذه الفريضة، فدُفِنَ بها، ومنذ عهد هذا الماى لم يتول حكم دولة
«الكانم» أى ملك وثنى، وأصبحت منذ ذلك التاريخ دولة إسلامية.
خلف «الماى دونمة بن أوم» والده فى حكم البلاد لفترة طويلة (491 -
546هـ = 1097 - 1151م) وبلغت فى عهده دولة «الكانم» درجة كبيرة
من القوة والاتساع وطبقت شهرته الآفاق، وحج ثلاث مرات. وفى
عهده بُنيت مدرسة «ابن رشيق» فى «فسطاط مصر» بأموال كانمية؛
كى تكون موئلا للحجاج القادمين من «كانم» وبلاد «التكرور». وتابع
خلفاؤه العمل على توسيع حدود هذه الدولة حتى صارت إمبراطورية
كبيرة، وخاصة فى عهد «الماى دونمه بن سالم بن بكر» (618 -
657هـ = 1221 - 1259م) الذى اشتهر بقوة فرسانه، وكثرتهم حتى
قيل إنها بلغت نحوًا من (41) ألف فارس، ويُعرف هذا الماى باسم
«دونمه دباليمى»، نسبة إلى والدته «دابال»؛ حيث كانت النسبة إلى
الأم شيئًا مألوفًا ومشهورًا فى هذه السلطنة بالذات.
وقد حارب هذا الماى القبائل المتمردة، مثل قبائل «البولالا» الذين
كانوا يعيشون فى حوض بحيرة «فترى الصغيرة» الواقعة إلى
الشرق من «بحيرة تشاد»، وأخضعها وأقام علاقات طيبة مع «الدولة(9/39)
الحفصية» فى «تونس».
واتسعت الإمبراطورية فى عهده حتى وصلت شرقًا إلى مشارف
«وادى النيل»، وغربًا قرب نهر «النيجر»، مما يعنى أن بلاد
«الهوسا» التى تشكِّل الآن «نيجيريا الشمالية» كانت تحت سيادته
وسلطانه، كما امتدت حدود بلاده شمالا حتى وصلت قرب «فزان»
الليبية واقتربت مساحتها من مساحة إمبراطورية «صنغى» الإسلامية
التى سبق الحديث عنها، ولكن هذه الإمبراطورية الكبيرة لم تلبث أن
دبَّ إليها الوهن نتيجة لعوامل كثيرة، منها الانقسامات التى ظهرت
بين أبناء الأسرة الحاكمة، وظهور خطر قبائل «الصو»، التى كانت
تسكن فى إقليم «بورنو» وقيامها بمهاجمة عاصمة الدولة؛ وتمكنها
من قتل أربعة من المايات. كذلك اشتد خطر البولالا الذين ازدادوا
ضراوة بعد أن تمكَّنوا من إقامة سلطنة صغيرة لهم فى حوض «بحيرة
فترى» واتخذوها مركزًا لمناوأة أبناء عمومتهم من مايات «الكانم
والبرنو». وقد استطاعت سلطنة «البولالا» التى ظهرت قوتها فى
عهد سلطانها «عبدالجليل بن سيكوما» أن تشن حربًا شرسة ضد
الأسرة «السيفية الماغومية» الحاكمة فى «كانم»، وتمكن
«عبدالجليل» هذا من أن يقتل أربعة من المايات من هذه الأسرة.
وقد انتهى أمر الصراع بين الفريقين إلى طرد الأسرة «السيفية»
الحاكمة فى «كانم» إلى إقليم «بورنو» الذى يقع غرب «بحيرة
تشاد»، وذلك فى عهد «الماى عمر بن إدريس» (788 - 793هـ = 1386
- 1391م) الذى استأنف حكمه من إقليم «برنو» فيما يعرف بعصر
سيادة «برنو»، هذا العصر الذى امتد حتى نهاية الدولة فى عام
(1262هـ = 1846م)، وقد ترك طرد الماغوميين السيفيين إلى «برنو»
فراغًا سياسيا فى «كانم»، ملأه «البولالا» الذين أقاموا سلطنة
كبيرة ضمت هذا الإقليم بالإضافة إلى إقليم «بحيرة فترى» والمناطق
المحيطة بها فى حوض «بحيرة تشاد». ورغم ذلك فقد استمر الصراع
بين «البولالا» وبين الماغوميين فى مقرِّهم الجديد الذى جعلوه مركزًا(9/40)
لدولتهم، وبنوا فيه مدينة تسمى «بيرنى نجازرجامو» واتخذوها
عاصمة لهم. ولما تطلعوا إلى إعادة نفوذهم فى «كانم»؛ وقعت
حروب كثيرة بينهم وبين سلاطين «البولالا»، وتبادل الفريقان النصر
والهزيمة، وخاصة فى عهد «الماى إدريس بن عائشة» (908 - 932هـ =
1502 - 1526م) الذى أنزل بالبولالا هزيمة ساحقة، واستولى على
العاصمة «جيمى» وأقام فيها فترة ثم عاد إلى عاصمته «بيرنى».
وتابع ابنه «الماى على بن إدريس» (952 - 953هـ = 1545 - 1546م)
محاربة «البولالا» حتى لُقِّب بحارق «البولالا»، ولم يلبث أن لَقِىَ حتفه
فى إحدى المعارك معهم. ولم يقضِ على خطرهم إلا «الماى إدريس
ألوما» (978 - 1011هـ = 1570 - 1602م) الذى أقام معهم علاقة طيبة
نتيجة ارتباط البيت البولالى بالأسرة السيفية برباط المصاهرة، مما
سهل على هذا الماى أن يقضى على خطر «البولالا» وأن يعيد نفوذ
أسرته إلى إقليم «كانم»، ووصلت الإمبراطورية فى عهده إلى
أقصى اتساعها وقوتها وازدهارها.
وكما تكالبت عوامل الضعف الداخلية والخارجية على إمبراطوريتى
«مالى» و «صنغى» حتى سقطتا، فقد تعرَّضت إمبراطورية «البرنو»
للظروف نفسها وشهدت النتيجة نفسها ذلك أن الماى «إدريس ألوما»
الذى بلغت الإمبراطورية فى عهده قمتها وازدهارها خلفه حكام
ضعاف لم يكونوا فى مثل قوته وحزمه، بلغوا خمسة عشر سلطانًا
على مدى قرنين ونصف قرن من الزمان، حدث فى أثنائها كثير من
الوقائع التى أدَّت إلى القضاء على الإمبراطورية، فبالإضافة إلى
ضعف هؤلاء المايات أو السلاطين أصيبت البلاد بموجة من المجاعات
المتلاحقة وصلت إلى خمس مجاعات، استمرت إحداها أربع سنوات،
وأخرى سبع سنوات، ويدل تكرار حدوث هذه المجاعات على التدهور
السريع والضعف العام الذى أصاب البلاد نتيجة إهمال الزراعة وكثرة
الفتن والاضطرابات، فضلا عن ظهور أخطار جديدة تمثلت فى ظهور
قبائل وثنية فى منطقة «جومبى» تُسمى قبائل «كوارارافا»(9/41)
اشتهرت بالقوة والشجاعة، وتمكنت من اجتياح الأقاليم الغربية فى
«برنو»، كما حدثت حروب بين «برنو» وجيرانها من إمارات «الهوسا»
وخاصة إمارة «كانو» فى النصف الأول من القرن الثامن عشر
الميلادى، غير أن أخطر ما تعرضت له إمبراطورية «البرنو» هو خطر
«الفولانيين» وهم قبائل بيضاء انحدرت من الشمال وأقامت فى
غربى القارة، ثم انحدرت إلى الشرق واستقرَّت فى إمارات «الهوسا»
التى تتكون منها «نيجيريا» الشمالية الآن، وقامت على يد زعيمها
الشيخ «عثمان بن فودى» بحركة ضخمة لنشر الإسلام بين من كان
على الوثنية فى هذه الإمارات، وتمكنت من ضم هذه الإمارات فى
دولة واحدة تحت زعامة هذا الداعية الكبير، الذى أعلن قيام دولة
«الفولانى» فى بداية القرن التاسع عشر الميلادى هذا فى الوقت
الذى كانت إمبراطورية «البرنو» تزداد ضعفًا على ضعف وتلقى
سلطانها «الماى أحمد بن على» (1206 - 1223هـ = 1791 - 1808م)
أكثر من هزيمة على يد الفولانيين فى عهد الشيخ «عثمان بن
فودى» حتى اضطر هذا الماى إلى استدعاء أحد الكانميين والعلماء
البارزين ويدعى الشيخ «محمد الأمين الكانمى» لمساعدته فى محنته
ضد هذا الغزو الفولانى، واستجاب هذا الزعيم لهذا الطلب وتبادل عدة
رسائل مع الشيخ «عثمان بن فودى»، كل منهما يحاجج الآخر
عبرمناقشات فقهية يبرر كل منهما سياسته، ولكن هذه الرسائل لم
تؤدِّ إلى إزالة حالة الحرب القائمة بين الفريقين، وأخيرًا نجح
الفولانيون فى الاستيلاء على عاصمة «برنو» فاضطر الماى إلى
الهرب منها ولجأ إلى الشيخ محمد الأمين الذى أصبحت له السيطرة
الكاملة على المايات الذين صاروا حكامًا بالاسم فقط.
استمر الشيخ «محمد الأمين» يحكم ما بقى من إمبراطورية «البرنو»
و «الكانم» وأجرى مفاوضات مع سلطان الفولانيين «محمد بلو» الذى
خلف أباه الشيخ «عثمان بن فودى» فى زعامة الفولانيين، واتخذ
مدينة «سوكوتو» عاصمة له، وأرسل له الشيخ الكانمى رسائل(9/42)
أوضح له فيها أنهم أهل دين واحد هو الإسلام، وأنه لا ينبغى أن
يحارب بعضهم بعضًا وأن كلا منهما يجب أن يحترم حدود الآخر،
فهدأت الأحوال بين الدولتين حتى تُوفِّى الشيخ «محمد الأمين
الكانمى» فى عام (1251هـ = 1835م) وخلفه ابنه الشيخ «عمر».
وفى عهد هذا الشيخ حاول «الماى إبراهيم بن أحمد» (1232 -
1262هـ = 1817 - 1846م) أن يسترد سلطاته التى سلبها منه الشيخ
«محمد الأمين» ثم ابنه «عمر»، واستعان فى ذلك بأمير دويلة صغيرة
تقع بين «كانم» و «دارفور» تُسمَّى «واداى» وتآمر معه لغزو
«برنو».
ونفذ أمير «واداى» الخطة المتفق عليها وأباد جيش «برنو» فى
(1262هـ = 1846م) منتهزًا فرصة غياب الشيخ «عمر» عن العاصمة؛
لحرب كانت واقعة بينه وبين أحد جيرانه الآخرين، ولما علم هذا
الشيخ بنبأ هذا الغزو وهذه المؤامرة عاد إلى «برنو»، وأخرج الغزاة
منها نظير مبلغ كبير من المال دفعه لهم، وقبض على الماى
«إبراهيم» ومستشاريه وأعدمهم جميعًا، ثم تخلَّص من الماى «على
بن دالاتو» عام (1262هـ = 1846م) الذى لم يحكم سوى أربعين يومًا
وكان مفروضًا عليه كشرط لرحيل جيش أمير «واداى» عن «برنو».
وبمقتل «على بن دالاتو» انتهى حكم الأسرة «السيفية الماغومية»
التى ظلت تحكم هذه البلاد أكثر من ألف عام، وأصبحت «برنو» تحت
حكم الأسرة الكانمية فِعليا ورسميا منذ ذلك التاريخ وحتى وقوعها
فى قبضة الاستعمار الفرنسى فى عام (1318هـ = 1900م)، وقد
أعيد تقسيم أملاك إمبراطورية «برنو» بين «إنجلترا» و «فرنسا»
و «ألمانيا» بعد القضاء على مقاومة أحد المجاهدين ضد الاستعمار
الأوربى وهو «رابح الزبير». فأخذت «فرنسا» إقليم «كانم»، وأخذت
«إنجلترا» إقليم «برنو»، وظفرت «ألمانيا» بالمناطق الجنوبية لبرنو،
وهكذا تلاشت إمبراطورية «برنو» التاريخية على يد الغزاة الأوربيين
فى بداية القرن العشرين الميلادى، وظل الأمر على هذا النحو حتى(9/43)
قامت حركة الكفاح الوطنى فى هذه المنطقة ضد المستعمر الأوربى،
وتكللت جهودها بالنجاح وظفرت بالاستقلال، وقامت على أنقاض
إمبراطورية «الكانم والبرنو» عدة دول حديثة، هى جمهورية «تشاد»
التى استقلَّت عن «فرنسا» فى عام (1380 هـ = 1960م)، وهى دولة
إسلامية يدين (85%) من سكانها بالإسلام، ويتكلمون اللغة العربية
بجانب اللغات المحلية واللغة الفرنسية هى اللغة الرسمية، وجمهورية
«إفريقيا الوسطى» التى استقلَّت عن «فرنسا» فى العام نفسه
أيضًا، وتضم هذه الدولة الأطراف الجنوبية من إمبراطورية «البرنو»
التاريخية، ولذلك فإن نسبة المسلمين فيها قليلة. وجمهورية «النيجر»
التى استقلَّت عن الفرنسيين فى العام نفسه، وضمت أغلب الأجزاء
الشمالية الغربية من إمبراطورية «البرنو» ولذلك فإن (95%) من
سكانها مسلمون يتكلمون اللغة العربية بجانب اللغات المحلية، واللغة
الفرنسية هى اللغة الرسمية، و «نيجيريا» التى استقلَّت عن «إنجلترا»
فى عام (1381هـ = 1961م) وضمت إقليم «برنو» الذى يقع غرب
«بحيرة تشاد»، كما ضمت جميع بلاد «الهوسا»، وأكثر من (70%) من
سكانها مسلمون يتكلم الكثير منهم اللغة العربية ولغة الهوسا بجانب
اللغة الإنجليزية، وهى اللغة الرسمية، كذلك ضمت «جمهورية
الكمرون» التى استقلَّت عن «فرنسا» فى عام (1380هـ = 1960م)
وتضم بعض الأجزاء الجنوبية والجنوبية الشرقية من «برنو»، وكذلك
فإن هذه الدولة دولة إسلامية؛ إذ إن أكثر من (55%) من سكانها
مسلمون، واللغة الفرنسية هى السائدة بجانب اللغة العربية واللهجات
المحلية.
وإذا كنا قد تحدثنا عن التاريخ السياسى لسلطنة «الكانم والبرنو»
منذ أن أصبحت دولة إسلامية فى عام (479هـ= 6801م) وحتى نهايتها
على يد الاستعمار الفرنسى، فإن الواجب يحتم علينا أن نتحدث
باختصار عن الطابع الإسلامى ومظاهر الحياة الإسلامية فى هذه
السلطنة الكبيرة.
وفى هذا الصدد نستطيع القول بأن سلطنة «الكانم والبرنو» قد قامت(9/44)
بالدور نفسه الذى قامت به سلطنتا «مالى» و «صنغى»؛ فقد اتصلت
بالقوى المعاصرة لتأكيد روح الأخوة الإسلامية وللإفادة من خبراتها
الثقافية والعلمية والإدارية والحضارية فقد اتَّصلت بمصر أثناء ذهاب
أهلها وسلاطينها لتأدية فريضة الحج، وقد سبقت الإشارة إلى قيام
أول سلطان فى «كانم» وهو «أوم بن عبدالجليل» بأداء هذه
الفريضة، وإلى وفاته فى «مصر» عام (490هـ = 1097م) عند عودته
إلى بلاده، وقام ابنه «دونمة» بأداء هذه الفريضة ثلاث مرات مرَّ
خلالها بمصر وفى حجته الثالثة غرق فى مياه «البحر الأحمر» عند
مدينة «عيذاب» فى عام (546هـ = 1151م) وواصل مايات «الكانم
والبرنو» أداء هذه الفريضة.
ومن مظاهر الاتصال بالدول الإسلامية الرسائل المتبادلة بين سلاطين
«مصر» و «البرنو»، من ذلك رسالة أوردها «ابن فضل الله العُمَرِى»
و «القَلْقَشَنْدِى» وأشارت إلى استغاثة سلطان «البرنو» بسلطان
«مصر» «الظاهر برقوق» فى عام (795هـ = 1393م) لمساعدته فى
القضاء على تمرد القبائل العربية التى ساعدت خصومه السياسيين
من «البولالا».
كذلك كانت هناك علاقات ثقافية وتجارية بين «مصر» وسلطنة
«الكانم والبرنو» من ذلك ما ترويه لنا المصادر من أن «الأزهر» كان
به رواقٌ خُصِّص للطلاب القادمين من هذه السلطنة يُسمَّى «رواق
البرنوية» كما سمحت «مصر» للكانميين بإنشاء مدرسة تُسمَّى
مدرسة «ابن رشيق» فى مدينة «الفسطاط» بمصر لتدريس الفقه
المالكى؛ ولكى تكون مقرا ينزل به حجاج «البرنو».
أما العلاقات التجارية فقد ازدادت بين «مصر» وبلاد «الكانم
والبرنو»، ومما يدل على ذلك أن طائفة من أهل «كانم» اشتهرت
باسم «التجار الكارمية» رحلوا إلى «مصر» وأقاموا فيها واشتركوا
بنصيب موفور فى تجارتها الخارجية وخاصة فى تصريف المحاصيل
السودانية، وتجارة البهار القادمة من «اليمن» و «الهند» و «الصين»،
واتخذت من مدينة «قوص» بصعيد «مصر» مركزًا لها.(9/45)
وكان لهؤلاء التجار الذين عُرِفوا بالتقوى والورع فضل كبير فى نشر
الإسلام وخاصة فى بلاد الحبشة.
كذلك كان لسلطنة «الكانم والبرنو» علاقات تجارية وثقافية مع
شمال إفريقيا وخاصة «تونس» فقد اتصل سلاطين «الكانم» بحكامها
من «بنى حفص» وتبادلوا الرسائل والهدايا، من ذلك سفارة أرسلها
الماى «عبدالله بن كادى» إلى السلطان الحفصى «أبى يحيى
المتوكل» فى عام (727هـ = 1307م)، كذلك تبودلت الرسائل
والسفارات مع «طرابلس» فى عام (908هـ = 1502م) وسفارة بعث بها
أيضًا فى عام (941هـ = 1534م) وأخرى فى زمن الماى «إدريس
ألوما» المتوفَّى عام (1011هـ = 1602م) كذلك نشطت العلاقات
التجارية بين «برنو» وهذه البلدان.
ويمثل الجهاد قمة إيمان السلطنة بالإسلام، فقد اتخذه سلاطينها
طريقًا لرد العدوان والتعريف بالإسلام بين الوثنيين الذين كانوا
يقومون بالاعتداء على هذه الدولة الإسلامية، وخاصة الوثنيين
المقيمين فى الجنوب، فقد حاربهم السلاطين ودخل كثير منهم فى
الإسلام، بالإضافة إلى اتِّباع أسلوب الإقناع الذى اتبعه بعض
السلاطين وخاصة السلطان «إدريس ألوما»، الذى اشتهر ببناء
المساجد الضخمة من الحجارة، وطبق الشريعة الإسلامية خاصة فى
معاملة الأسرى، ونظم الجهاد بما يتمشى مع تعاليم الإسلام، فازداد
الدخول فى هذا الدين وانتشر فى منطقة «بحيرة تشاد» كلها.
كذلك فقد شجع سلاطين «الكانم والبرنو» انتشار الثقافة العربية
الإسلامية، فأكثروا من بناء المساجد والكتاتيب، وكانت اللغة العربية
هى لغة التعليم ولغة الحكومة الرسمية، فضلا عن كونها لغة
المعاملات التجارية ولغة المراسلات الدولية، كما كان الحال فى جميع
الدول الإسلامية التى قامت فى بلاد «السودان الغربى»، وظلت الحال
على هذا النحو حتى عصر الاستعمار الأوربى الذى قضى على اللغة
العربية ولم يعد لها إلا وجود محدود بين قليل من الأهالى، ووجود
كبير فى المدارس الدينية الإسلامية.(9/46)
وفى ظل تشجيع سلاطين «الكانم والبرنو» للثقافة الإسلامية ارتقى
العلماء والفقهاء منزلة رفيعة، وحرص السلاطين على رعايتهم
والإغداق عليهم، وإصدار المحارم (أى الفرمانات) التى كانوا
يمنحونهم بمقتضاها كثيرًا من الامتيازات المادية والإقطاعات،
ويحرِّمون على أى شخص مهما بلغت منزلته وقدره أن يسلبهم شيئًا
منها. ولذلك ظهر فى هذه السلطنة كثير من العلماء والفقهاء، منهم
الفقيه «محمد بن مانى» الذى سبق الحديث عنه، والإمام «أحمد بن
فرتو» الذى كان معاصرًا للماى «إدريس ألوما»، والذى تعد كتاباته
المرجع الرئيسى لتاريخ «برنو»، والعالم الكبير «عمر بن عثمان بن
إبراهيم»، والعالم «عبداللاه ديلى بن بكر»، وغيرهم من العلماء الذين
صدرت لهم محارم (فرمانات) تشجيعًا لهم على التفرُّغ للعلم والبحث
والتدريس؛ مما أدَّى إلى انتشار العلوم الإسلامية بين أهالى هذه
البلاد.(9/47)
الفصل السادس
*إمارات الهوسا الإسلامية فى شمالى نيجيريا
تشمل بلاد «الهوسا» ما يعرف الآن بنيجيريا الشمالية، وجزءًا من
جمهورية «النيجر»، وكانت تقع فى العصور الوسطى فى المنطقة
المحصورة بين سلطنتى «مالى» و «صنغى» غربًا، وسلطنة «البرنو»
شرقًا، تحدُّها من الشمال بلاد «أهير» والصحراء الكبرى، ومن
الجنوب ما يعرف الآن بنيجيريا الجنوبية.
و «الهوسا» (أو الحوصا) مصطلح يطلق على الذين يتكلمون بلغة
«الهوسا»، ولذلك فليس هناك جنس يمكن أن يتسمى بهذا الاسم؛ إذ
إن الهوسويين لاينحدرون من دم واحد، بل جاء أغلبهم نتيجة امتزاج
حدث بين جماعات قَبَلِيَّة وعِرْقِية كثيرة، أهمها: السودانيون. أهل
البلاد الأصليون، والطوارق من البربر، والفولانيون وغيرهم.
ونتج عن هذا الامتزاج هذا الشعب الذى أصبح يتكلم لغة واحدة، هى
لغة «الهوسا» التى انتشرت انتشارًا كبيرًا فى إفريقيا الغربية، حتى
أصبحت لغة الناس والمعاملات المالية والتجارية.
وعلى الرغم من أن المتكلمين بلغة «الهوسا» فى هذا الجزء من
القارة الذى يعرف الآن بنيجيريا كانوا يعيشون متجاورين، ويتكلمون
لغة واحدة، ويدين معظمهم بالإسلام، فإنهم لم يعيشوا تحت حكم
دولة واحدة، بل كَوَّنُوا سبع إمارات صغيرة، تُعرف باسم إمارات أو
ممالك «الهوسا»، وهى: «كانو»، و «كاتسينا»، و «زاريا»،
و «جوبير»، و «دورا»، و «رانو»، و «زمفرة».
ويرى بعض الباحثين أن «دورا» هى أقدم هذه الإمارات، وأن دماء
أهلها وافدة من «مصر العليا» و «الحبشة» وبلاد العرب، و «كاتسينا»
التى كانت تتوسط هذه الإمارات، و «زاريا» أوسعها أرضًا، و «كانو»
أغناها، و «جوبير» أجدبها، وتقع فى شماليِّها.
وعلى ذلك فقد كانت كل إمارة من هذه الإمارات مستقلة عن الأخرى،
وكانت الحروب تندلع فيما بينها فى فترات كثيرة؛ نتيجة لأطماع
حكامها فى فرض سيطرتهم، كل على الآخر؛ أو نتيجة لتحالف
أحدهم مع القوى الكبيرة المجاورة لبلاد «الهوسا» وهى:(9/48)
دولة «البرنو» الإسلامية من الشرق، ودولة «مالى» ثم دولة «صنغى»
الإسلامية من الغرب.
وقد اشتهر الهوسويون بالمهارة فى الزراعة والصناعة والتجارة،
وقد استغلوا موقع بلادهم المتوسط بين «السودان الغربى»
و «السودان الشرقى» فى الاشتغال بالتجارة، ولذلك مهروا فى هذه
الحرفة، وكانوا من أكثر التجار مغامرة، وكانت قوافلهم تخترق
الصحراء الكبرى ثلاثة أشهر من كل عام؛ لتزوِّد «طرابلس»، و «تونس»
وغيرهما من بلدان شمال إفريقيا بمنتجات بلاد «السودان» من ذهب
وعاج ورقيق.
كما اخترقت قوافلهم مناطق الغابات فى الجنوب؛ حيث وصل نشاطهم
التجارى إلى «نوب»، واتجهوا شرقًا إلى «برنو»؛ حيث فتحوا طريقًا
للتجارة عام (856هـ= 1452م)، وتوغَّلوا فى الجنوب حتى حوض
«فولتا» الأوسط.
وقد أصبحت طرق التجارة الخارجية، وخاصة التى تخرج من بلاد
«الهوسا»، متجهة شمالا إلى «أهير» وتتصل عندها بالطرق
الرئيسية المتجهة إلى «غات» و «غدامس» و «فزَّان» و «تكدا» و «برنو»
مفتوحة ومستعملة بطريقة كافية ومنظمة، وأصبحت مألوفة جدا
للمسافرين والتجار؛ مما شجَّع العلماء والباحثين على زيارة بلاد
«الهوسا» بكل سهولة وارتياح، كما شجَّع التجار المغامرين على
ارتيادها.
وقد أدَّى هذا كله إلى انتشار الإسلام، ونموِّ الحركة الفكرية، وازدياد
تأثير الثقافة العربية الإسلامية، وسيطرة تجار «الهوسا» على
النشاط التجارى فى جميع أنحاء «السودان الأوسط»، وتضخمت
جالياتهم فى كل المراكز التجارية المهمة، وأصبحت لغتهم لغة
التخاطب العامة فى الأسواق والمعاملات المالية والتجارية، وازدادت
سيطرتهم على التجارة فى بلاد «السودان» بعد انهيار سلطنة
«صنغى» الإسلامية أمام الغزو «المرَّاكُشى» سنة (1000هـ =
1591م)، مما أدَّى إلى تحول المجرَى الرئيسى للحركة التجارية إلى
بلاد «الهوسا»، وقفزت «كانو» و «كاتسينا» بصفة خاصة إلى مكان
الصدارة والشهرة باعتبارهما مركزين مهمين من مراكز التجارة(9/49)
والحضارة فى ذلك الحين، وبخاصة بعد أن أصبحتا من أهم مراكز
الإسلام فى تلك المنطقة من بلاد «الهوسا».
وقد انتشر الإسلام فى إمارات «الهوسا» السبع فى فترة مبكرة إذ
دخل الإسلام فى إمارة «كانو» فى أواخر القرن الثانى عشر
الميلادى، وفى باقى الإمارات فى أوائل القرن الرابع عشر
الميلادى، وكان لاعتناق حكام إمارات «الهوسا» الإسلام، بالإضافة
إلى ما اتَّسمُوا به من العدالة وحب الرعية أثر كبير فى انتشار الإسلام
بين الناس، فازداد تمسكهم به وازداد تفانيهم وإخلاصهم له.
وبعد انتشار الإسلام فى هذه الإمارات، كثر وفود العلماء إليها
للدعوة ونشر الإسلام وتصحيح العقيدة بين أهلها، فقاموا بإنشاء
عدد كبير من المساجد كمراكز لنشر الدعوة الإسلامية فى هذه
الإمارات وما حولها من المناطق الأخرى، ونجحوا فى القضاء على
الوثنية التى كانت منتشرة بين السكان قبل دخولهم فى الإسلام.
وقد وجد هؤلاء العلماء فى هذه الإمارات الأمن والطمأنينة، مما
دفعهم إلى إحضار مؤلفاتهم، وبخاصة فى علوم اللغة والأدب
والتوحيد، ورحَّب بهم حكام هذه الإمارات، فازدهرت الثقافة واتسعت
مجالاتها بجهود هؤلاء العلماء، كما ازداد عدد الرجال المتعلمين؛ حيث
كان العلماء يعلِّمون الناس الآداب والثقافة الإسلامية باللغة والحروف
العربية.
ومن العلماء الذين يرجع إليهم الفضل فى نشر الإسلام والثقافة
الإسلامية فى هذه الإمارات الشيخ «عبدالرحمن زيد» الذى مارس
نشاطه فى الدعوة فى إمارة «كانو»، والشيخ «محمد بن عبدالكريم
المغيلى» فقيه «توات» الشهير الذى رحل إلى «كانو» و «كاتسينا»،
ونشر فيهما عقيدة الإسلام الصحيحة، والشيخ «عبده سلام» الذى
أحضر معه كتب «المدوَّنة» و «الجامع الصغير» والشيخ القاضى
«محمد بن أحمد بن أبى محمد التاذختى» المعروف باسم «أيد أحمد»
بمعنى «ابن أحمد» الذى وَلِىَ قضاء «كاتسينا» وتُوفِّى نحو سنة
(936هـ = 1529م)، وغيرهم.(9/50)
وقد كان للتجار - أيضًا - دور كبير فى نشر الإسلام فى هذه
الإمارات، بل كان لهم الدور الأول فى معرفة هذه الإمارات بالإسلام،
كما أدَّى انتشار الإسلام إلى ازدهار التجارة ازدهارًا كبيرًا، بسبب
كثرة احتكاك هذه الإمارات بالمدن المجاورة لها.
وعلى أية حال فقد كان لجهود العلماء والتجار القادمين إلى بلاد
«الهوسا» والمحليين أثرها الكبير فى نشر الإسلام فى هذه البلاد
منذ القرن الثانى عشر الميلادى، وأصبحت «كانو»، و «كاتسينا»،
و «زاريا» وغيرها من بلاد «الهوسا» مراكز إسلامية فى هذه البقاع
من القارة، وتألَّقت فيها الثقافة الإسلامية، وكان لها فضل كبير فى
نشر الثقافة الإسلامية بين سكانها وغيرهم من البلاد المجاورة،
فإمارة «كانو» يرجع إليها الفضل فى نشر الإسلام شرقًا حتى حدود
«برنو»، وإمارة «زاريا» يرجع إليها الفضل فى نشر الإسلام فى
أواسط بلاد «الهوسا»، وجنوبيها فى حوض «نهر فولتا»، وكان
علماء «تمبكت» - التى تقع على نهر «النيجر» - يرحلون إلى هذه
الإمارات، كذلك رحل إليها علماء من «مصر»، من أبرزهم الإمام «جلال
الدين السيوطى» المتوفى سنة (911هـ = 1505م) والذى نشأت بينه
وبين أمير «كاتسينا» علاقة طيبة، وهناك ما يدل على أن الإمام
«السيوطى» رحل إلى هذه الإمارة وعاش فيها زمنًا، يعلِّم الناس
ويفتيهم، وعاد إلى «مصر» سنة (876هـ = 1471م)، واتصلت
المراسلات بينه وبين علماء هذه البلاد، كما اتصلت بينهم وبين علماء
«مصر» وبلاد «الحجاز» وغيرهما، مما يدل على التواصل الإسلامى،
وعلى صلة بلاد «الهوسا» بالعالم الإسلامى سواء فى إفريقيا، أو
فى غيرها من القارات.(9/51)
الفصل السابع
* سلطنة البلالة الإسلامية فى حوض بحيرة تشاد
[766 - 1318 هـ =1365 - 1900م]:
قامت هذه السلطنة فى حوض بحيرة «تشاد» (أى: فى بلاد السودان
الأوسط)، وبالتحديد فى حوض بحيرة «فترى»، وإلى الشمال منها
حتى بحيرة «تشاد»، وظهرت كدولة يمكن التحقق من تاريخها منذ
عام (766هـ = 1365م)، واستمرت حتى بداية القرن العشرين، عندما
سقطت المنطقة كلها فى يد الاستعمار الفرنسى.
وعلى الرغم من طول مدة بقاء هذه السلطنة، فإن المؤرخين لم
يذكروها كثيرًا ولم يهتموا بها؛ لأنها كانت تابعة لسلطنة «الكانم
والبرنو» فى كثير من فترات حياتها.
ويعود اسم «البلالة» إلى أول زعيم لهم ويدعى «بولال» أو «بلال»
أو «جيل» أو «جليل»، ومنه جاء اسم أول زعمائهم وهو
«عبدالجليل»، وربما جاء اسم «بلالة» أو «بولالة» من «بولو» الذى
كان ابنًا لقبائل «البيوما» التى كانت تسكن منطقة «بيو» ( Biyo)، ثم
أُضيف إليه المقطع التماشكى ( ilalla) فجاء اسم «بولالا» أو «بلالة»،
وهى كلمة تعنى الأحرار النبلاء، وربما جاء الاسم أيضًا من اسم ميناء
كان ولايزال يقع على الساحل الشرقى لبحيرة «تشاد»، ويسمى
«بول» ( Bol)، ثم أُضيف إليه المقطع التماشكى، فصار «بولالا» أو
«بلالة» كما ينطقه البلاليون أنفسهم فى هذه الأيام.
أما أصل قبائل «البلالة» فقد جاء نتيجة اختلاط عناصر متعددة
سكنت هذه المنطقة، وهى: البربر والعرب والسودان والزنج، وقد
تصاهرت هذه العناصر فيما بينها، فأدَّى ذلك إلى امتزاجهم وتغير
فى صفاتهم.
وقد كان «البلالة» وثنيين حتى القرن الثانى عشر الميلادى؛ حيث
أسلموا عقب إسلام بنى عمومتهم الذين يتمثلون فى «الأسرة السيفية
الماغومية» الحاكمة فى سلطنة «كانم» فى القرن الحادى عشر
الميلادى.
أما من الناحية السياسية فقد ظهر خطر «البلالة» على سلاطين دولة
«كانم» منذ وقت مبكر، رغم صلة القرابة التى تربط بينهما، ويعود(9/52)
ذلك إلى أن «البلالة» كانوا يحاولون التخلُّص من تبعيتهم لأقربائهم
من حكام «كانم»، وقد ظهر هذا الخطر منذ عهد أول سلاطين «كانم»
الإسلامية وهو الماى (السلطان) «أوم بن عبدالجليل» (1086 - 1097م)
الذى حاربهم وانتصر عليهم، فأعلنوا الطاعة والخضوع، وظلوا
يتقلبون بين التبعية والتحرر من سلطان «كانم» حتى ظهر زعيمهم
الموصوف بالقوة والشجاعة والدهاء وهو «عبدالجليل سيكومامى»
الذى حقق لهم الاستقلال التام والتوسع فى حدود سلطنته فى عام
(1365م)، بفضل معاونة العرب الموجودين فى هذه المنطقة، واتخذ
من مدينة «ماسيو» التى تقع بين «بحيرة فترى» و «كانم» عاصمة له.
ثم حارب مايات كانم وانتصر عليهم، وبذلك وقع إقليم «كانم» بأسره
فى قبضة «البلالة»، مما جعلهم يحكمون دولة واسعة تمتد من حدود
«دارفور» الغربية وبلاد «النوبة» حتى شواطئ «بحيرة تشاد»
الشرقية، واضطرت «الأسرة السيفية الماغومية» الحاكمة فى «كانم»
إلى الهرب إلى إقليم «برنو» الذى يقع فى غرب «بحيرة تشاد».
ولكن لم يلبث حكام «برنو» أن استعادوا قوتهم على يد الماى «على
جاجى بن دونمه» الملقب بالغازى؛ نظرًا لغزوه إقليم «كانم»، ونشب
بينه وبين «البلالة» صراع منذ عام (1472م) فى محاولة لاسترداد
«كانم» مرة أخرى، واستمر الصراع فترة طويلة انتهى بعقد اتفاقية
سلام، اتفقا فيها على رسم الحدود بين «كانم» و «برنو».
وعلى الرغم من ذلك وبمرور الوقت بدأ الضعف يدب فى جسد سلطنة
«البلالة»؛ بسبب الفتن والاضطرابات والحروب الأهلية، وظهور إمارات
جديدة بدأت تُغِير على سلطنة «البلالة»، مثل سلطنة «واداى» التى
تقع فى الشمال الشرقى لدولة «البلالة»، وسلطنة «باجرمى» التى
تقع فى جنوبيِّها الغربى.
وعلى الرغم من هذا الضعف فقد ظلت هذه السلطنة قائمة حتى بداية
القرن العشرين؛ حيث سقطت فى قبضة الاستعمار الفرنسى فى عام
(1900م)، ومع ذلك حكم بعض سلاطين «البلالة» تحت راية هذا(9/53)
الاستعمار، وظلوا كذلك حتى نالت البلاد استقلالها فى عام (1960م)
ودخلت بلاد «البلالة» ضمن حدود جمهورية «تشاد» الحديثة منذ ذلك
التاريخ.
وقد أدَّت «سلطنة البلالة» دورًا اقتصاديا وعلميا ودينيا مهما فى
تاريخ المنطقة؛ إذ كانت نظرًا لموقعها بين «دارفور» و «النوبة» فى
الشرق، و «كانم» و «بحيرة تشاد» وماوراءها من بلاد «الهوسا»
و «مالى» فى الغرب، و «ليبيا» فى الشمال - مركزًا مهما من مراكز
التجارة التى تأتى من هذه البلدان مما انعكس أثره على مسيرتها
التاريخية، ودَعْم اقتصادها، ورَبَط بينها وبين دول تقع خارج منطقة
«بحيرة تشاد»، واتسعت تجارتها حتى وصلت إلى «مصر» وغيرها
من البلدان، كما زادت محصولاتها الزراعية.
أما الحياة العلمية: فقد تجلت فى المدارس والعلماء والفقهاء
والأشراف الذين كانوا يُعامَلُون بكلِّ تبجيلٍ واحترامٍ، كما ظهرت الطرق
الصوفية وبخاصة «التيجانية» و «القادرية»، وكان لهذه الطرق أثر
كبير فى نشر الإسلام فى هذه البلدان.
أما اللغات التى كانت منتشرة بين «البلالة»، فهى عديدة، فقد كانوا
يتكلمون لغة «كوكا» وهى قبيلة كانت تسكن مملكة «جاوجا» - أحد
أقاليم سلطنة البلالة - وكانوا يتكلمون أيضًا اللغة العربية التى كانت
لغة العلم والتعليم ولغة الحكومة الرسمية والتجارة والمراسلات، حتى
قضى الاستعمار الفرنسى عليها وعلى استخدام الحروف العربية فى
الكتابة وحَوَّلَها إلى الكتابة بالحروف اللاتينية، وإن كان كثير من
الأهالى - حتى الآن - يحافظون على التحدث والكتابة باللغة العربية،
ومعظمهم - أى نحو (85%) - يدينون بالإسلام.(9/54)
الفصل الثامن
*الطابع الإسلامى والثقافة العربية فى غرب إفريقيا (السودان الغربى والأوسط):
يهمنا الآن أن نتحدث عن الطابع الإسلامى ومظاهر الحضارة فى
غربى إفريقيا، وعن المراكز التى نهضت بهذا العمل وحفظت للإسلام
نقاءه وقوته حتى بداية تعرض المنطقة للكشوف الجغرافية الأوربية
والاستعمار الأوربى فى العصر الحديث.
ونلاحظ أن الامتزاج الكامل بين التقاليد الإسلامية والتقاليد السودانية
الزنجية فى بداية هذا الدور قد تم، كما تمت المواءمة بين هذين
العنصرين، وظهرت تقاليد إسلامية الشكل والطابع، إفريقية الروح،
وروايات الرحالة والجغرافيين والمؤرخين العرب مثل: «ابن بطوطة»
و «الحسن الوزان» و «القلقشندى» وغيرهم، ومن مؤرخى «السودان»
مثل «السعدى» صاحب كتاب «تاريخ السودان»، و «محمود كعت»
صاحب كتاب «الفتاش» وغيرهما؛ تشعرنا بأننا نتعامل مع مجتمع
إفريقى صميم، اكتسب الثوب والصبغة الإسلامية الواضحة.
فالقلقشندى يتحدث عن تقاليد البلاط فى سلطنة «مالى»، فيشير
إلى جلوس السلطان على مصطبة كبيرة عليها دكة أو كرسى من
خشب الأبنوس، تحيط بها أسنان الفيلة من كل صوب، ويتحدث عن
رجل مهمته أن يكون سفيرًا بين السلطان والناس اسمه أو لقبه
الشاعر، وعن المحيطين بالسلطان وهيئة الداخلين عليه، وغير ذلك.
ورواية «ابن بطوطة» لا تبعد كثيرًا عن هذا الوصف، وهو يشير إلى
دار السلطان التى تطل على المشور (دار الشورى)، ويصف السلطان
وترتيب الجالسين فيشير إلى نائبه، ثم الفرارية، وهم الأمراء، ثم
الخطيب، والفقهاء.
ولم ينفرد سلاطين «مالى» بهذا اللون الفريد من الحياة، فقد شاركهم
فيه أهل «صنغى» وغيرهم من شعوب «السودان الغربى» والأوسط،
فى إمارات «الهوسا» السبع فى شمالى «نيجيريا» وفى بلاد
«الكانم والبرنو».
وكانت العلاقة بين السلاطين والرعية تقوم على الخضوع الشديد
لهؤلاء السلاطين، يدل على ذلك العادات التى كانت منتشرة فى بلاد
«السودان الغربى»، والأوسط.(9/55)
ومع ذلك فثمة مظاهر إسلامية أو عربية خالصة، تتجلى فى التشدد
والتمسك بمذهب «مالك»، وحرص الفقهاء على التقاليد وعزوفهم عن
مصاحبة السلطان وتولى الوظائف، مثلما كان الحال فى بلاد شمال
إفريقيا و «الأندلس». وقد تغلغل العلماء فى الحياة وتمتعوا بالزعامة
الدينية والشعبية؛ إذ صاروا لسان حال الشعب والمدافعين عنه أمام
ظلم الحكام وعنتهم، وهى الصورة نفسها التى نلحظها فى المغرب
الإسلامى وبلاد «الأندلس»؛ مما يدل على وحدة تلك المنطقة من
الناحية الدينية والثقافية، كذلك نشعر بتقدير سلاطين السودان لهؤلاء
الفقهاء واحترامهم لهم، حتى إن من يلجأ إلى ديارهم يأمن عقاب
السلطان ولايجرؤ أحد على التعرض له بسوء.
وقد سبقت الإشارة إلى مواظبة أهل «السودان الغربى» على
الصلوات والتزامهم بها فى الجماعات، وضربهم أولادهم إذا ما قصروا
فى أدائها أو فى حفظ القرآن، وازدحام المساجد بالمصلين حتى إنه
إذا لم يبكر المرء بالذهاب إلى المسجد لم يجد موضعًا، كما سبقت
الإشارة إلى كثرة عدد المساجد واعتناء السلاطين ببنائها وتعيين
الأئمة والخدم لها، وقد التزم الجميع بمذهب الإمام «مالك».
كما نلاحظ أن جميع الأسر الحاكمة فى «السودان الغربى» والأوسط
اصطنعت لنفسها نسبًا عربيا؛ فسلاطين «مالى» يدعون الانتساب
إلى «عبدالله بن صالح بن الحسن بن على»، وانتسب سلاطين «كانم
وبرنو» إلى «حِمْيَر»، واتخذ سلاطين «صنغى» مثل هذا النسب
العربى، بل وحرصوا على الحج والحصول على تقليد من الخليفة
العباسى بالحكم، كل ذلك ليكتسبوا صبغة إسلامية كاملة وليفوزوا
برضا الرعية، وليفسحوا لأنفسهم مجالا فى الحياة الإسلامية الدولية.
وقد حرص سلاطين «السودان الغربى» والأوسط وملوكهم ورعيتهم
على أن يقتبسوا من التقاليد الشائعة فى الحياة الإسلامية المعاصرة
لهم، فهم فى لباسهم يتشبهون بأهل «المغرب»، وتأثر كل من
«منسا موسى» و «أسكيا محمد الأول» اللذين زارا «مصر» بأساليب(9/56)
الحياة فى «مصر المملوكية»، فسلطان «مالى» مثلا يتخذ حاشية من
ثلاثين مملوكًا من الترك، اشتراهم من «مصر»، وطريقة جلوسهم
وخروجهم إلى المسجد يوم العيد لاتختلف كثيرًا عما كان مألوفًا عند
سلاطين المماليك وغيرهم من ملوك الإسلام.
كما حرصوا على أن تكون وثائقهم ومكاتباتهم الرسمية باللغة
العربية، حتى التنظيمات الإدارية والحربية تأثروا فيها بما شاهدوه
فى «مصر»، فملوك «صنغى» يقسمون الإمبراطورية إلى ولايات أو
أقاليم وكل ولاية إلى مدن ثم إلى قرى، ثم ينظمون الجيش إلى فرق
للمشاة والخيالة والأبالة، بل استخدموا الأسلحة النارية وخاصة ملوك
«الكانم والبرنو»؛ مما ساعدهم فى مشروعاتهم السياسية والحربية
إلى حد كبير.
أما عن الثقافة الإسلامية فإنه يمكننا القول: إن هذه الثقافة كانت
عربية خالصة، لم تدخلها تأثيرات أخرى؛ لعدم وجود تقاليد ثقافية
زنجية فى ذلك الوقت، وكانت هذه الثقافة الإسلامية ذات صبغة
مغربية أندلسية؛ حيث إن الإسلام دخل إلى تلك البلاد من «المغرب»،
وبالتالى انتقلت ثقافة «المغرب» إلى «أودغشت» و «تمبكت وجاو»
وبقية مدن «السودان الغربى» والأوسط، حتى طريقة الكتابة نفسها
تأثرت بالطابع المغربى، فالقلم المستخدم هو القلم المغربى،
والمناهج والكتب المتداولة هى المناهج والكتب المالكية المغربية
نفسها مثل كتب «عياض» و «سحنون» و «موطأ مالك» و «المدونة»
وغيرها، وكلها كانت تدرس فى مدارس غربى إفريقيا فى «جنى»
و «تمبكت» و «كانو» و «كاتسينا» و «برنو».
حتى التأثيرات الأندلسية دخلت إلى مدارس «المغرب» وغربى إفريقيا
وخاصة بعد سقوط دولة الإسلام فى «الأندلس»، فقد رحل علماؤها
إلى غربى إفريقيا وأقام كثير منهم فى «تمبكت»، وشواهد بعض
القبور التى كشف عنها فى منطقة «النيجر» ظهر أنها صنعت فى
مدينة «ألمرية» بالأندلس عام (494هـ = 1100م)، وتحمل نقوشًا عربية
أندلسية، كما تأثرت قصور ملوك «السودان الغربى» والأوسط(9/57)
بالعمارة المغربية الأندلسية.
وقد تأثرت مدارس «السودان الغربى» والأوسط بالمدارس الإسلامية
الأخرى، خاصة مدارس «مصر» المملوكية، ورحل أهل «السودان» إلى
«مصر» وتعلموا فيها، ورحل بعضهم إلى «الشام» و «الحجاز»،
ووصلت مؤلفات المصريين إلى هذه البلاد، وقد عرفنا كيف ابتاع
«منسا موسى» الكتب وحملها معه إلى بلاده، كما أن مؤلفات
«السيوطى» وغيره من علماء «مصر» شاعت فى هذه البلاد، وكان
تأثر الطلاب السودانيين بمدارس «مصر» لايقل عن تأثرهم بمدارس
«المغرب العربى».
وليس معنى ذلك أن الثقافة الإسلامية فى غربى إفريقيا كانت تقل
عن نظيرتها فى بلاد «المغرب»، من حيث الغزارة والعمق، فعلماء
«السودان» وفقهاؤه لم يختلفوا عن نظائرهم فى «المغرب العربى»،
فقد روى «السعدى» أن فقيهًا اسمه «عبدالرحمن التميمى» جاء من
الحجاز بصحبة السلطان «منسا موسى» حين عاد من الحج فأقام
بتمبكت زمنًا، ولما رأى فقهاءها يتفوقون عليه غادرها إلى «فاس»
حتى يتزود من العلم ثم يعود إليهم.
وهناك من اشتهر من مؤرخى السودان الغربى والأوسط وكُتَّابه
أمثال: «أحمد بابا التمبكتى»، الذى وُلد بوهران عام (963 - 1037هـ
= 1556 - 1627م) فهو من أصل صنهاجى، ثم رحل إلى «تمبكت»
وفيها ظهرت مواهبه وارتفعت مكانته العلمية وكان رجلا واسع
الثقافة، ألَّف فى كل العلوم المألوفة فى عصره، وذيَّل كتاب الديباج
المذهب لابن فرحون وسماه «نيل الابتهاج بتطريز الديباج»، وأرَّخ
فيه حتى سنة (1006 هـ = 1597م) وهو يعطينا صورة طريفة لتاريخ
الحركة الفكرية فى «السودان الغربى» كله.
وهناك المؤرخ «السعدى» وهو من رجال القرن السابع عشر
الميلادى، وقد أقام بتمبكت و «جنى» ورحل إلى «المغرب»، وهو
صاحب الكتاب المشهور المسمى «تاريخ السودان»، والذى يعطينا
معلومات وافية عن تاريخ «دولة صنغى» وعن أحوالها الاجتماعية
والثقافية، كذلك كان شأن «محمود كعت التمبكتى» صاحب كتاب(9/58)
«الفتاش فى أخبار السودان»، فقد كان فقيهًا من فقهاء «تمبكت»
صَحِبَ «أسكيا محمد الكبير»، وألف كتابه بالأسلوب المغربى المألوف
نفسه.
وهناك أيضًا الإمام المؤرخ «أحمد بن فرتو»، الذى عاش فى سلطنة
«برنو» وكان يعاصر الماى «إدريس ألوما» (978 - 1012هـ= 1570 -
1603م)، وهذا الإمام سليل أسرة دينية كان لها أثرها الكبير فى
نشر الإسلام فى «برنو»، وجده البعيد هو الإمام «محمد بن مانى»
الذى أسلم على يديه سلاطين «كانم وبرنو» الأوائل فى القرن
الحادى عشر الميلادى.
وقد كتب «أحمد بن فرتو» تاريخًا لبلاده يعتبر المرجع الرئيسى،
وخاصة تاريخ الفترة التى عاصرها زمن «إدريس ألوما»، ومؤلفاته
مدونة باللغة العربية ونشرت فى عام (1349هـ = 1930م) على يد
أمير «كانو» فى «نيجيريا».
ورغم أن هؤلاء الكتَّاب وغيرهم كتبوا باللغة العربية فإننا لا ندرى
بالضبط مدى انتشار اللغة العربية بين عامة الناس فى تلك الفترة،
ويبدو أنهم كانوا يستخدمون لغتهم الأصلية فى حياتهم الخاصة،
ويقتصر استعمال العربية عندهم على المكاتبات والعقود التجارية،
ومما يدُّل على ذلك أن «ابن بطوطة» حضر صلاة الجمعة فى أحد
مساجد «مالى»؛ فرأى رجلا يقف ويبين للناس بلسانهم كلام الخطيب،
أى أنه كان يترجم كلام الخطيب إلى اللغة المحلية، ويشير هو وغيره
إلى وجود وظيفة الترجمان فى بلاط السلطان، ويتضح ذلك أيضًا من
اختلاط «ابن بطوطة» و «الحسن الوزان» ببعض أهالى «السودان»،
وكانا لايعرفان لغة هؤلاء الناس إلا عن طريق ترجمان.
هذا عن انتشار الثقافة العربية الإسلامية فى غربى إفريقيا، أما
المراكز التى استقرَّت فيها هذه الثقافة وانطلقت منها إلى نواحى
«السودان» المختلفة فعديدة؛ من أهمها: مدينة «تمبكت»، و «جنى»،
و «أودغشت»، و «كانو»، و «كتسينا»، و «جاو».
1 - مدينة تمبكت:
تعتبر مدينة «تمبكت» أهم مركز تجارى وثقافى فى غربى إفريقيا،(9/59)
وقد أُنشئت فى أواخر القرن الخامس الهجرى سنة (490هـ = 1097م)
فى عهد الأمير «يوسف ابن تاشُفين» على نهر «النيجر» الأعلى،
وبلغت مكانةً لا تقل عن مكانة «القيروان» أو «فاس» أو «القاهرة»
أو «قرطبة» فى مجال الثقافة العربية الإسلامية، التقى فيها العلماء
والفقهاء من جميع الأجناس والألوان من بلاد «المغرب» و «الأندلس»
و «مصر» و «الحجاز» وبلاد «السودان».
وكانت «تمبكت» مركزًا مهما من مراكز الثقافة العربية فى إفريقيا،
تخرَّج فى جامعتها - التى يمثلها «جامع سنكرى» الشهير - علماء
ومؤرخون كان لهم فضلٌ كبيرٌ فى نشر الإسلام والثقافة العربية،
وكان الطلاب يَفِدون إلى هذه المدينة بعد حفظ أجزاء من القرآن فى
مدارسهم المحلية، ثم يُكْمِلون تعليمهم معتمدين على الأوقاف التى
كانت محبوسة عليهم وعلى «جامع سنكرى».
وكان علماء «تمبكت» يُقبِلون فى شغف على إنشاء مكتباتهم
الخاصة، وبعضهم زادت مكتبتهُ على ألفى كتاب، كما اقتنى بعض
السلاطين مثل هذه المكتبات، واتصل علماء «تمبكت» بإخوانهم فى
الأمصار الإسلامية الأخرى، فى «القاهرة» و «فاس» و «القيروان»؛ مما
أعطى الحركة الفكرية فى «تمبكت» صفة العالمية.
وخلاصة القول أن هذه المدينة كانت مدينة إسلامية منذ نشأتها،
فهى كما قال «السعدى»: ما دنَّستها عبادةُ الأوثان، ولا سُجِدَ على
أديمها لغير الرحمن، مأوى العلماء والعابدين، ومألف الأولياء
والزاهدين، ولذلك ارتبط تاريخ الثقافة العربية الإسلامية فى غربى
إفريقيا بتاريخ هذه المدينة نفسها.
2 - مدينة جنِّى:
أُسِّسَت هذه المدينة على «نهر النيجر» الأعلى فى منتصف القرن
الثانى من الهجرة (حوالى سنة 800م) وأسلم أميرُها «كنبرو» فى
نهاية القرن الحادى عشر الميلادى فى عهد المرابطين، وحذت حذوه
الرعية، وبنى أميرها مسجدها العتيق على نظام المسجد الحرام فى
«مكة المكرمة»، وكان الإسلام والثقافة الإسلامية قد تدفقا إلى هذه(9/60)
المدينة المهمة التى تلى «تمبكت» فى الأهمية قبل اعتناق «كنبرو»
الإسلام، بدليل أنه أسلم على يد علمائها وفقهائها الذين جمعهم،
وبلغ عددهم حسب رواية «السعدى» ما ينيف على أربعة آلاف، وإن
كان هذا العدد مبالغًا فيه إلا أنه ليس غريبًا؛ بسبب علاقات مدينة
«جنى» التجارية مع بلاد «المغرب» وحوض «السنغال»، وقد نهضت
الثقافة الإسلامية بمدينة «جنِّى» نهضة كبرى، يستفاد ذلك مما رواه
«السعدى» عمَّن أقام بها ووفد إليها من العلماء والقضاة ورجال
الدين.
3 - أودغشت:
مدينة قديمة لم يَعُدْ لها وجود الآن، وتعد من المراكز الثقافية
الإسلامية المهمة التى كان لها دور كبير فى نشر الإسلام وثقافته
فى غربى إفريقيا.
كانت «أودغشت» أول الأمر محطة تجارية لقبيلة «صنهاجة»، على
الحدود الشمالية لمملكة «غانة» الوثنية، ولما فتح الصنهاجيون جزءًا
كبيرًا من «غانة» فى نهاية القرن الرابع الهجرى العاشر الميلادى
أصبحت «أودغشت» حاضرة لتلك القبيلة القوية، ثم استولت عليها
مملكة «غانة» الوثنية، ولكن الصنهاجيين الذين اعتمد عليهم
المرابطون أو الملثَّمون استطاعوا استعادتها عام (447هـ= 1055م)،
ومنها انطلقت موجات من دعاة المرابطين إلى بلاد «السودان»،
وتأكَّد دورها فى نشر الإسلام وازدهر بعد سقوط دولة «غانة»
الوثنية نفسها عام (469هـ= 1076م).
وقد وصفها «البكرى» المتوفى عام (487هـ = 1094م) بأنها مدينة
زاهرة، يتألف سكانها من العرب والبربر والسودانيين.
وكان يوجد بمساجدها معلمون لتعليم القرآن الكريم والسنة النبوية
وسائر العلوم الإسلامية، كما كثُرت بها المدارس لتعليم الأطفال،
واشتُهِرَت بمبانيها الجميلة وأسواقها العامرة، وكان يوجد بها بعض
الصناعات المعدنية التى بلغت درجة كبيرة من الرقى والإتقان، كما
كانت تتجر فى الأقمشة الحريرية الموشَّاه بالذهب، مما جعلها مركزًا
تجاريا وصناعيا وثقافيا كبيرًا؛ يربض على طرف الصحراء من ناحية
الجنوب.
4 - كانو:(9/61)
تعتبر هذه المدينة من مراكز الثقافة الإسلامية بغربى القارة، ومن
أهم مدن شعب «الهوسا» شمالى «نيجيريا» الحالية، ويمكن أن يقال
إنه كانت هناك سبع إمارات تابعة للهوسا، هى إمارات: «كانو»
و «رانو» و «زاريا» و «دورا» و «جوبير» و «كتسينا» و «زمفارا»، وتقع
هذه الإمارات فى شمالى «نيجيريا» الحالية، شرقى ثنية نهر
«النيجر» أو بينها وبين بلاد «برنو».
ويذكر «الحسن الوزان» أن «أسكيا الحاج محمد» ملك «جاو»
(صنغى) قتل ملك «الهوسا» وضم البلاد إلى مملكته فى عام (918هـ=
1512م)، ورغم ذلك فقد كان لبعض إمارات الهوسا فضل ثقافى
كبير، فإمارة «كانو» يرجع الفضل إليها فى نشر الإسلام شرقًا
حتى «بورنو»، وإمارة «زاريا» يرجع الفضل إليها فى نشر الإسلام
فى أواسط «نيجيريا»، وقد ظهرت «كانو» و «كاتسينا» كمراكز
للثقافة الإسلامية منذ القرن الخامس عشر الميلادى.
وقد تضاعفت الشهرة العلمية لمدينة «كانو» و «كاتسينا» بعد الأحداث
التى أصابت مدينة «تمبكت» منذ القرن السادس عشر الميلادى،
وخاصة بعد الغزو المرَّاكُشى لها ولمملكة «صنغى»، وما نتج عن ذلك
من هجرة العلماء والطلاب والفقهاء إلى «كانو» وغيرها من مدن
«السودان الغربى» العديدة، ولاتزال تلك المدينة إلى اليوم من أهم
مراكز الثقافة الإسلامية فى غربى إفريقيا، وبها مدرسة للعلوم
العربية ومدرسة للقضاء الشرعى والفقه الإسلامى.(9/62)
الفصل التاسع
*الإسلام والعروبة فى سودان وادى النيل
لم تكن بلاد «السودان الشرقى» (النيلى) أو «سودان وادى النيل»
مجهولة للعرب قبل الإسلام، فقد مخرت سفنهم عباب البحر الأحمر
حتى وصلوا إلى الشاطئ الإفريقى ومنه إلى «السودان»
و «الحبشة»، فضلا عن الطريق البرى عبر «سيناء» إلى «مصر»،
ومنها جنوبًا إلى «السودان»، والطريق البحرى عبر «باب المندب»
إلى «الحبشة» ومنها إلى «السودان»؛ كل ذلك بهدف التجارة بين
هذه البلدان وبين عرب «اليمن» و «الحجاز»، وبظهور الإسلام
وانتشاره فى «مصر» أصبح وادى النيل معبرًا جديدًا للعرب والإسلام
إلى بلاد «السودان النيلى» سلكته الجيوش والقبائل العربية، إما
بقصد الغزو والفتح وإما بقصد التسرب السلمى بغرض الإقامة ونشر
الإسلام بين أهالى هذه البلاد.
وكانت هناك مملكتان مسيحيتان فى «السودان النيلى»، هما مملكة
«مقرة» أو «دنقلة» أو «النوبة» فى شمالى هذا السودان، ومملكة
«علوة» فى وسطه، وكانت هذه الممالك تقف فى وجه انتشار
الإسلام، وأمام جهود المسلمين للدخول إلى «السودان النيلى» من
ناحية «مصر، ولهذا كان انتشار الإسلام يتوقف على إضعاف هذه
الدول أو القضاء عليها.
وبدأ اللقاء الأول بين هذه الدول المسيحية وبين المسلمين منذ وقت
مبكر، فقد أرسل «عمرو بن العاص» - رضى الله عنه - والى «مصر»
بعض جنده إلى «بلاد النوبة» عام (21هـ = 642م)، لكنه لم يتمكَّن من
فتحها، ثم غزاهم «عبدالله بن سعد بن أبى السرح» والى مصر عام
(31هـ = 651م)، ووصل فى زحفه حتى «دنقلة» عاصمة مملكة
«مقرة» المسيحية، وعقد معهم صلحًا عُرِفَ باسم «البقط»، وتدل
نصوص هذا الصلح على أنه يهدف إلى التسامح الدينى وحسن
الجوار، ولايعكس تبعية «دنقلة» لمصر الإسلامية، أى لم يكن فى
حقيقته إلا تأمينًا للنواحى الاقتصادية والتجارية والدينية، وتشجيعًا
للتبادل التجارى، وإقرارًا للسلام على الحدود المشتركة؛ ولذلك ظلت(9/63)
هذه المعاهدة سارية المفعول أكثر من ستمائة سنة. ...
ويلفت النظر فى هذه المعاهدة اشتراط «عبدالله بن سعد» على
النوبيين أن يحافظوا على المسجد الذى بناه المسلمون فى «دنقلة»،
ويحموا التجار المسلمين، وغيرهم ممن يطرقون بلادهم، وهذا يؤكد
حرص «عبدالله بن سعد» على أن يظل الطريق مفتوحًا خلال مملكة
«مقرة» إلى الجنوب؛ حيث توجد مملكة «علوة» التى يمكن نشر
الإسلام بها عبر التجار والمسافرين من المسلمين.
وأثناء انصراف «عبدالله بن سعد» من «النوبة» تعرض له «البجة» أو
«البجاة»، ويبدو أنه لم يصطدم بهم لهوان شأنهم فى نظره، لأنه لم
يكن لهم ملك يمكن الرجوع إليه، وكانت أوطان هذا الشعب تمتد فى
الصحراء الشرقية بين «النيل» و «البحر الأحمر» من حدود جنوب
«مصر» فى الشمال إلى حدود «الحبشة» فى الجنوب، وقد أغاروا
على صعيد «مصر» سنة (107هـ = 725م) فصالحهم «عبيد الله بن
الحبحاب» والى «مصر»، وكتب لهم عقدًا بذلك.
وعندما أغاروا على «أسوان» بعد ذلك جرَّد لهم الخليفة «المأمون»
عام (216هـ = 831 م) جيشًا بقيادة «عبدالله بن الجهم»، وانتهى الأمر
بعقد صلح جديد بينه وبين ملكهم «كنون بن عبدالعزيز»، ومن أهم
شروطه أن تكون بلاد «البجة» من حدود «أسوان» إلى ما بين
«دهلك» و «مصوع» ملكًا للخليفة، وأن يكون «البجة» وملكهم أتباعًا
له، مع بقاء هذا الملك فى منصبه ويتعهدون بعدم منع أى مسلم من
دخول بلادهم بقصد التجارة أو الإقامة أو الحج، وأن يؤدى ملك
«البجة» ما عليه من الخراج.
وهكذا فتحت هذه المعاهدة البابَ أمام الهجرات العربية لاجتياز مملكة
«مقرة» دون الإقامة بها، فى طريقها إلى وسط «السودان النيلى»
أو ما عرف باسم «مملكة علوة» بينما سمحت المعاهدة مع «البجة»
للهجرات العربية بالاستقرار والإقامة فيما بين حدود «مصر» الجنوبية
وحتى «مصوع»، وبهذا أصبح الباب مفتوحًا للإسلام والثقافة العربية(9/64)
للتوغُّل فى وسط «السودان النيلى» وحتى حدود «الحبشة» الشمالية.
وقد أثَّرت أحداث العالم الإسلامى؛ وخاصة الصراع بين الأمويين
والعباسيين، وظهور العناصر الأخرى من الفرس وغيرهم على المسرح
السياسى واستبدادهم بالسلطة والنفوذ، فى هجرة الكثير من القبائل
العربية إلى الجنوب، وقد انتهزت تلك القبائل فرصة الحملة التى
أعدَّها «أحمد بن طولون» والى «مصر» إلى أرض «النوبة» و «البجة»
فاشترك فيها كثير من العرب وخاصة من «ربيعة» و «جهينة»؛ حيث
استقروا فى هذه المناطق ونشروا الإسلام واختلطوا بالنوبة
و «البجة».
وقد حرص رؤساء العرب على التزوُّج من بنات «البجة» و «النوبة»؛
مما أدَّى إلى انتقال الرئاسة إليهم وفقًا لنظام الوراثة عن طريق الأم،
وقد استطاعوا إقامة أول إمارة إسلامية عربية كان مقرُّها فى
«أسوان» فى عهد الفاطميين، وخلع الخليفة «الحاكم بأمر الله
الفاطمى» على أمير «ربيعة» لقب «كنز الدولة» فعرف «بنو ربيعة»
فى «أسوان» و «النوبة» ببنى كنز، واستطاع هؤلاء أن يصاهروا
البيت المالك النوبى فى «دنقلة»، وتبعًا لذلك انتقل الحكم هناك إلى
«بنى كنزة» وأعلنوا استقلالهم عن الدولة المملوكية فى «مصر»
سنة (723هـ = 1323م).
وبذلك ظهرت أول إمارة إسلامية فى بلاد «السودان الشرقى»،
وتدفقت موجات من العرب ولاسيما من عرب «جُهَينة» إلى داخل
«السودان» حتى بلاد «الحبشة» و «دارفور»، واستقر كثير منهم فى
أرض «مملكة علوة» المسيحية وأسَّسوا مدينة «أربجى» على
الشاطئ الغربى من النيل الأزرق عام (879هـ = 1474م) ومع توالى
الهجرات العربية إلى مملكة «علوة» وازدياد نفوذها، عمل ملوك
«علوة» على استمالتهم بالمصاهرة، فانتقل الحكم إلى «جهينة» عن
هذا الطريق، كما حدث فى مملكة «النوبة» من قبل، وخاصة بعد أن
تحالف هؤلاء العرب مع «الفونج» القادمين من الجنوب، وقضوا على
مملكة «علوة» نهائيا فى مستهل القرن السادس عشر الميلادى وبذلك(9/65)
انتهت ممالك «النوبة» أو ممالك «السودان الشرقى» (النيلى)
المسيحية، وبدأ عهد جديد فى تاريخ تلك البلاد ظهرت فيه عدة ممالك
أو سلطنات إسلامية من أهمها:(9/66)
الفصل العاشر
*سلطنة الفونج الإسلامية فى سنار
[910 - 1236هـ = 1505 - 1820م]:
اختلف الباحثون فى أصل «الفونج»، فقيل إنهم من سلالة عربية
أموية هربت من وجه العباسيين، وأنهم جاءوا إلى «الحبشة» أولا
ومنها إلى «السودان الشرقى» (النيلى)؛ حيث تصاهروا مع ملوك
«السودان»، وظهرت نواة إمارة «الفونج» عقب القضاء على مملكة
«دنقلة» المسيحية، وتسرَّب العرب على نطاق واسع إلى مملكة
«علوة» المسيحية، واتَّسع نطاق هذه الإمارة غربًا، ووصل إلى
أطراف منطقة الجزيرة من الشرق، ثم تمَّ التحالف بين هذه الإمارة
النامية فى عهد أميرها «عمارة دونقس» (911 - 941هـ= 1505 -
1534م) وبين عرب «القواسمة» الذين ينتمون إلى مجموعة
«الكواهلة» فى عهد زعيمهم وشيخهم «عبدالله جَمَّاع».
وقد كان لهذا التحالف نتائج مهمة فى تاريخ «سودان وادى النيل»:
أولها: قضاء الحليفين على مملكة «علوة» المسيحية عام (911هـ=
1505م).
وثانيها: قيام مملكة «العبد لاب» التى اتَّخذت مدينة «قِرِّى» حاضرة
لها، ثم انتقلت منها إلى «حلفاية»، وشاركت «الفونج» فى السيطرة
على القسم الشمالى من البلاد وامتدَّ ملكهم من مصب «دندر» إلى بلاد
«دنقلة».
وثالثها: قيام مملكة «الفونج» الإسلامية التى كان «عمارة دونقس»
أول سلطان لها وامتدت من «النيل الأزرق» إلى «النيل الأبيض».
وقد بلغت هذه السلطنة أوج مجدها فى عهد السلطان «بادى الثانى
أبو دقن» (1052 - 1088هـ = 1642 - 1677م)؛ إذ امتدت رقعتها من
«الشلال الثالث» إلى «النيل الأزرق»، ومن «البحر الأحمر» إلى
«كردفان»، واستمر توسُّع هذه الدولة طيلة القرن الثامن عشر
الميلادى فى عهد الملك «بادى الرابع».
غير أنه قبيل نهاية ذلك القرن ظهرت عوامل الضعف فى هذه
السلطنة، عندما تصدَّعت عُرَى التحالف بين سلاطين «الفونج» و «عرب
القواسمة»، كما كان لاستبداد الوزراء والقواد أثره فى القضاء على
هذه الدولة، فقد استطاع «محمد بن أبى لكيلك كتمور» المتوفى سنة(9/67)
(1190هـ = 1776م) أن يعزل السلطان «بادى الرابع» ويولِّى غيره،
وبدأت الانقسامات الداخلية والحروب الأهلية؛ فأدَّت إلى انحلال
الأسرة المالكة، حتى جاء الفتح المصرى فى النصف الأول من القرن
التاسع عشر الميلادى فى عهد «محمد على باشا».
وقد اتخذت سلطنة «الفونج» مظهرًا إسلاميا منذ البداية، فقد استهلت
حياتها بالإسهام فى حركة الجهاد الإسلامى، وساعدت العرب فى
القضاء على مملكة «علوة» المسيحية، وبذلك تدفَّق الإسلام فى وسط
«السودان»، ومنه إلى الجنوب والغرب.
كما أسهموا فى محاربة الوثنيين داخل «السودان» نفسه، فقد
حاربوا أهل جبال «النوبا» بسبب غاراتهم على «كردفان»،
واستمروا فى حربهم زمنًا طويلا حتى انتشر الإسلام فى كثير من
مناطق هذه الجبال فى غربى «السودان».
كما حارب «الفونج» «الشلك» (أو الشلوك) للغرض نفسه، بل شاركوا
فى حركة الجهاد الإسلامى ضد الأحباش فى القرن الثامن عشر
الميلادى فقد قضوا على بعثة فرنسية كانت قد قدمت إلى
«الحبشة»، بهدف مساندتها فى حربها ضد المسلمين عام (1117هـ=
1705م)، كما اشتبكوا مع الأحباش فى عهد الملك «بادى الرابع أبى
شلوخ» سنة (1157هـ = 1744م)، وكانت جيوش «الفونج» بقيادة
شيخ «قرى» التى كان يتولى إمارتها الشيخ «محمد أبو اللكيلك»
كبير الهمج (الهمق)، الذى قضى على دولة «الفونج» فيما بعد، وقد
انتصر هؤلاء القواد على جيش «الحبشة»، وكان لانتصارهم هذا دوى
هائل فى العالم الإسلامى المعاصر فى «مصر» و «الشام» و «الحجاز»
و «تونس» و «إستانبول» و «الهند».
ولم يسهم «الفونج» فى نشر الإسلام عن طريق الجهاد فحسب، إنما
استعانوا بالوسائل السِّلمية التى كانت الأصل فى غالب الأحوال
وكان لرواد الدعوة الذين وفدوا من «الحجاز» و «المغرب» و «مصر»
و «العراق» إلى جانب الدعاة الوطنيين فضل كبير فى هذا السبيل
فالحج والتجارة بين «الحجاز» و «السودان» كانا من أكبر ماهيَّأ(9/68)
للسودان نشر الدعوة. وكان حجاج «السودان» يشجعون علماء
«الحجاز» على الرحلة إلى بلاد «الفونج»، كما أن كثيرًا من
السودانيين كانوا يتلقون العلم فى «مكة» و «المدينة». أما «المغرب»
فكان منبعًا آخر للثقافة الإسلامية. أما «مصر» فكانت علاقة
«السودان» بها فى ذلك الحين أقل من تلك التى كانت بينه وبين
«الحجاز» و «المغرب»، ومع ذلك تطلَّع ملوك «الفونج» إلى «الأزهر»
وعلمائه ورحبوا بهم، وكان بعض السودانيين يذهبون إلى «الأزهر»
ثم يعودون إلى بلادهم ناشرين الإسلام وثقافته.
وقد رحل أحدهم وهو الفقيه «محمد الجعلى» إلى منطقة جبال
«النوبا» التى تقع جنوب «كردفان» مع مجموعة من الفقهاء؛ للدعوة
إلى الإسلام فى أوائل القرن السادس عشر الميلادى واستطاع أن
يتزوَّج أميرة من البيت الحاكم هناك، فانتقل الحكم إلى ابنه المسمَّى
«قيلى أبو جريدة». وقد أسَّس هذا الابن أول أسرة إسلامية حاكمة
فى جبال «النوبا»، سنة (926هـ = 1520م) عرفت باسم مملكة
«تقلى»، وكان هو أول سلاطينها.
كذلك كان لسلطنة الفونج وعاصمتها اتصال بدارفور التى كانت
تستعين بفقهاء «سنار» فى نشر الدعوة، وكان للفونج اتصال أيضًا
بالباشا التركى فى موانئ «البحر الأحمر» فى «سواكن»
و «مصوع»؛ حيث كان له وكلاء فى «سنار» و «أريجى»، وكذلك
اتصلوا باليمن وغيره من الأمصار الإسلامية؛ مما يدل على عمق الروح
الإسلامية التى تغلغلت فى مملكة «الفونج».
وتظهر هذه الروح الإسلامية فى معاملتهم الحسنة لرجال العلم، وفى
احترامهم وإحاطتهم بالرعاية والتكريم، فرحل إليهم كثير من علماء
المناطق النائية، وعاشوا فى جوارهم، مما كان له أثر كبير على
مسيرة الإسلام فى هذه السلطنة.(9/69)
الفصل الحادي عشر
*سلطنة دارفور الإسلامية
[849=1292هـ = 1445 - 1875م]:
بلاد «دارفور» عبارة عن هضبة تنتشر فيها المراعى وتتخللها بعض
المرتفعات، ويتألف سكانها من العنصر الزنجى والعنصر الحامى،
وكانت هذه البلاد مستقرا لشعب يُسمَّى شعب «الداجو»، وفد عليها
من الشرق أو من «جبال النوبا» الواقعة غرب «النيل الأبيض» قبل
القرن الثانى عشر الميلادى وأسس فيها مُلكًا.
وفى القرن الثانى عشر الميلادى دخل هذه البلاد عنصر مغربى من
«تونس» يتمثل فى «شعب التنجور» أو «عرب التنجور»، وهم عنصر
من البربر أو العرب، وقد خالط هؤلاء شعب «الداجو» وصاهروهم،
ونتج عن ذلك وجود جنس مختلط يُسمَّى شعب الفور استطاع أن يصل
إلى الحكم.
كان أول السلاطين المولدين من «الداجو» «والتنجور» هو «أحمد
المعقور» الذى تزوج من ابنة ملك «دارفور» الوثنى، بعد أن أثبت
جدارته فى الإشراف على شئون بيت الملك، وقد اتخذه الملك
مستشارًا، ولما لم يكن للملك أبناء ذكور، فقد زوج ابنته لأحمد
المعقور، وعينه خليفة له، فتأسست بذلك أول سلطنة إسلامية فى
«دارفور».
ولقد اقترنت إصلاحات السلطان «أحمد» وأولاده من بعده بنشاط
ملحوظ فى نشر الدعوة الإسلامية، على أن «دارفور» لم تدخل فى
الإسلام حقا إلا نتيجة جهود أحد ملوكها وهو «سليمان سولون» الذى
وصل إلى الحكم نتيجة لإحدى الهجرات العربية التى وفدت على
«دارفور» منحدرة من «وادى النيل» فى القرن الخامس عشر الميلادى
وأصهر هؤلاء العرب إلى سلاطين «الفور»، كما أصهروا إلى ملوك
«النوبة» من قبل.
وكان «سليمان سولون» وليد هذه المصاهرة، وتمكن من اعتلاء عرش
«دارفور» (849 - 881هـ = 1445 - 1476م)، وفتح البلاد للهجرات
العربية، فوفدت قبائل «الحبانية» و «الرزيقات» و «المسيرية»
و «التعايشة» و «بنى هلبة» و «الزيادية» و «الماهرية» و «المحاميد»
و «بنى حسين» وغيرهم، وبفضل هؤلاء العرب المهاجرين إلى
«دارفور»، اصطبغت السلطنة بالصبغة الإسلامية الواضحة، وعمد(9/70)
السلطان «سليمان سولون» إلى تنشيط الحركة الإسلامية، عن طريق
استدعاء الفقهاء من الشرق ليعلِّموا الناس أصول دينهم، كما شجع
التجارة وأسس المساجد والمدارس.
وبدأت الدولة تتسع، فامتد سلطانها على «كردفان» فى عهد
السلطان «تيراب» (1768 - 1787م)، وبلغت أقصى اتساعها، فكان
حدها من الشمال «بئر النترون» فى الصحراء الكبرى، ومن الجنوب
«بحر الغزال»، ومن الشرق «نهر النيل»، ومن الغرب منطقة «
واداى».
وقد وصل نفوذ الدولة أقصاه فى عهد السلطان «عبدالرحمن الرشيد»
(1192 - 1214هـ = 1778 - 1799م)، الذى نقل العاصمة إلى مدينة
«الفاشر»، واتصل بالسلطان العثمانى واعترف بسيادته، فمنحه لقب
«الرشيد».
وفى عهد خلفاء «عبدالرحمن الرشيد» كان من الممكن أن تتسع
السلطنة إلى آفاق أوسع لولا التوسع المصرى فى القرن التاسع
عشر الميلادى، ذلك التوسع الذى قضى على هذه السلطنة عام
(1292هـ = 1875م) فى عهد الخديوى «إسماعيل».
واصطبغت هذه السلطنة بالصبغة الإسلامية الواضحة؛ حيث عمل
سلاطينها على ربط بلادهم بالعالم الإسلامى المعاصر، وتوثقت به
صلاتهم الثقافية والدينية، فوصل طلاب «دارفور» إلى «مصر»
والتحقوا بالأزهر، حيث أنشئ لهم رواق خاص بهم.
وكان سلاطين «دارفور» رغم ندرة أخبارهم ينهجون نهجًا إسلاميا،
فيلتزمون بأحكام الكتاب والسنة، ويحرصون على تحرى العدل فى
أحكامهم، كما حرصوا على تشجيع العلماء ومنحهم الهدايا، وعملوا
على نشر العلم فى بلادهم، ويذكر «التونسى» أخبارًا كثيرة عن
العلماء والفقهاء الذين وفدوا على «دارفور» لما وجدوه فيها من
تشجيع وعدالة وكرم واحترام.
ومن مظاهر ارتفاع مكانة العلماء فى سلطنة «دارفور» الإسلامية أن
مجلس السلطان كان لايتم إلا بحضورهم، وكانوا يجلسون عن يمينه،
ويجلس الأشراف وعظماء الناس عن يساره، وعند موت السلطان
واختيار سلطان جديد كان هؤلاء العلماء يدخلون ضمن مجلس الشورى(9/71)
الذى ينعقد لهذا الغرض، وإذا حدث تنازع فإنه لايتم حسمه إلا على
أيديهم، وكان السلاطين يكثرون من الإنعام عليهم ويقطعونهم
الإقطاعات الواسعة حتى يتفرغوا للعلم والدرس، ولم يكن هذا
التشجيع وقفًا على السلاطين وحدهم، فقد شارك فيه الأهالى؛ حيث
كان سكان القرية يسارعون لمقابلة العلماء الوافدين
ويستضيفونهم، كما كانوا يستضيفون الطلبة الغرباء فى بيوتهم
ويعاملونهم كأبنائهم أو ذوى قرباهم.
ومن المظاهر الإسلامية التى وضحت فى سلطنة «دارفور» أن
سلاطينها كانوا يتلقبون بألقاب إسلامية مثل «أمير المؤمنين»،
و «خادم الشريعة»، و «المهدى» و «المنصور بالله»، كما كانوا
يحرصون على النسب العربى كعادة الحكام فى كل ممالك
«السودان»، كما أن أختامهم التى يختمون بها كتبهم ورسائلهم
كانت تحمل آية من القرآن، وكانوا يحرصون على إرسال محمل
الحرمين الشريفين كل عام إلى «مكة» و «المدينة»، فكانت قافلة
المحمل ترسل إلى «مصر» محملة بالبضائع، مثل ريش النعام وسن
الفيل والصمغ وغير ذلك من منتجات البلاد، فتباع ويتكون من ثمنها
نقود الصرة التى تحملها القافلة المصاحبة لقوافل الحجاج المصريين
إلى الأراضى المقدسة، وهكذا نرى أن الحياة الإسلامية كانت زاهرة
فى سلطنة «دارفور» الإسلامية.
الطابع الإسلامى والثقافة العربية فى سودان وادى النيل:
يمثل عصر «سلطنة الفونج» فى «سنار» أو فى «وسط السودان»
و «سلطنة دارفور» فى «غربى السودان» عصر الازدهار الإسلامى
فى ذلك الوقت. فقد امتزجت التقاليد الإسلامية الوافدة بالتقاليد
المحلية سواء فى نظم الحكم أو فى الحياة الاجتماعية أو الثقافية،
ونشأ لون جديد من الحضارة إسلامى الصورة سودانى الطابع مثلما
حدث فى «بلاد السودان الغربى» والأوسط (غرب إفريقيا).
فالفونج عملوا على إقامة الشريعة الإسلامية لكنهم انتهجوا فى
الحكم نهجًا محليا صرفًا، يتميز باللامركزية الصرفة؛ حيث سمحوا(9/72)
للأمراء المحليين بالاستقلال الذاتى، ولم يكن سلطان سنار يحتفظ
بأكثر من تعيين الأمراء أو فرض الإتاوة، وتظهر التقاليد المحلية فى
طريقة التتويج أو التعيين حين يحضر الأمير إلى «سنار» ويحتفل به
السلطان على «الككر» (أى كرسى العرش) ويلبسه طاقية لها
ذُؤابتان عن اليمين والشمال محشوتان بالقطن كأنهما قرنان، ويمنحه
سيفًا، وهى تقاليد نوبية قديمة، ثم يذهب الأمير بعد انتهاء مراسم
التتويج إلى مكان معين فى انتظار دابة تخرج من الأرض يتفاءل
بخروجها، إلى غير ذلك من التقاليد السودانية.
والحياة الإسلامية فى «دارفور» خضعت لهذا التطور نفسه، فقد
تمسك السلاطين بالكتاب والسنة وطبقوا الشريعة الإسلامية تطبيقًا
تاما، ولكنهم لم يهملوا التقاليد المحلية التى تمثلت فى قانون
«دالى»، وهو مجموعة من الأحكام العرفية كان يقوم بتنفيذها حكام
الأقاليم والقاضى الأعظم، وهو كبير الخصيان الملقب بأبى شيخ.
وهذا القانون ينص على وراثة الملك وعلى إقامة الحدود ودفع
الغرامات من الأبقار التى يملكونها بكثرة، وكان لهم تقاليد خاصة
فى جلوس السلطان على كرسى العرش، ففى يده اليمنى صولجان،
وفى اليسرى سيف مستقيم، وعلى جنبه الأيسر سيف محدب، وفى
الدخول عليه يخلع الداخل الطاقية والسلاح ويلقى بنفسه على الأرض
ويحبو على ركبتيه ويديه كالسلحفاة.
أما فى ميدان الثقافة فلم يكن للسودان ثقافة قديمة، كما كان فى
«مصر» وبلاد «الشام» و «العراق»، ولذلك كانت ثقافة «السودان»
عربية إسلامية خالصة، لكنها تأثرت بعاملين:
الأول: ضعف النهضة الإسلامية فى هذا العصر عمومًا، وغرق الأمة فى
الدراسات الصوفية التى انتشرت طرقها فى شتى بلدان العالم
الإسلامى؛ ولقيت فى «السودان» جوا ساعدها على النمو والازدهار.
فقد شهد «السودان» فى هذا العصر كثيرًا من الحروب الداخلية، التى
كانت تسيطر على البلاد وتعمل على تمزيقها، بالإضافة إلى أن(9/73)
العرب الذين هاجروا إلى «السودان» كان معظمهم من الفارين من
الدول الإسلامية بسبب التقلبات السياسية، وكان هؤلاء قد كرهوا
الحياة السياسية، مما ولَّد فى نفوسهم ونفوس السودانيين رغبة
شديدة فى الحياة، بعيدًا عن مزالق السياسة فلبوا دعوة شيوخ
الصوفية فى ترحاب وحماس شديدين، وانتظموا فى الخلايا والزوايا،
وكان لذلك أثر كبير فى التقريب والربط بين القبائل والأجناس فى
بلاد «السودان».
أما الطرق الصوفية التى انتشرت فى «السودان» فى عصر «الفونج»
فهما طريقتان: الأولى هى «القادرية»، وكان أتباعها أكثر عددًا من
أى جماعة أخرى، وقد دخلت هذه الطريقة «السودان» على يد «تاج
الدين البهارى»، الذى وصل إلى «السودان» عام (952هـ = 1545م)،
ووفد عليه بعض الأمراء والمشايخ واتبعوا هذه الطريقة وظلت ذريتهم
تباشرها حتى اليوم.
والطريقة الثانية هى الطريقة «الشاذلية»، المنسوبة إلى «أبى
الحسن الشاذلى» (592 - 656هـ= 1196 - 1258م) الذى وُلد فى
«شاذلة» بتونس، ويقال إن إحدى حفيداته تزوجت من الشريف «حمد
أبو دنانة» الذى نزح إلى «السودان» عام (849هـ = 1445م) قبل
عصر «الفونج» ونشر تلك الطريقة بين الناس.
أما العامل الثانى الذى أثر فى الثقافة العربية فى «السودان» فى
عصر «الفونج»، فهو موقع «السودان» واتصاله الطبيعى بأمم
إسلامية مجاورة، ومانتج عن ذلك من تبادل تجارى وثقافى؛ إذ
اتصل أهل «السودان» بمصر، ووفد عليها علماؤه وطلابه؛ مما يؤكد
أن «مصر» هى التى غرست البذور الأولى للثقافة العربية الإسلامية
فى بلاد «السودان»، وهناك عامل لايقل شأنًا عما مضى إن لم يفقها
جميعًا، وهو أثر القبائل العربية المهاجرة إلى «السودان النيلى»،
وهى قبائل كثيرة يمكن أن نحصرها فى ثلاث مجموعات قبلية
كبرى: أولها «مجموعة الجعليين» وهى عدنانية الأصل ومن أكثر
المجموعات العربية نفوذًا وعددًا، وتركزت هذه المجموعة على(9/74)
«النيل» بين بلاد «النوبة» وموقع «الخرطوم» الحالية، ثم أخذت
تنتشر نحو «النيل الأزرق» و «الأبيض» و «كردفان» و «دارفور».
وثانيها «مجموعة جهينة» وهى قبائل قحطانية تلى «مجموعة
الجعليين» فى العدد، وفدت إلى «مصر» بعد الفتح، ثم مضت فى
طريقها إلى «السودان النيلى» منذ القرن الرابع عشر الميلادى،
واتخذت شرقى «السودان» مركزًا لها، ومنه انتشرت بعض بطونها
غربًا حتى وصلت إلى بلاد «البرنو».
وثالثها «مجموعة الكواهلة» التى نزلت فى «عطبرة» و «النيل
الأزرق» وحول «النيل الأبيض» و «كردفان».
وقد أقامت هذه المجموعات مشيخات عربية كبيرة وممالك متعددة،
مثل مملكة «العبدلاب» ومملكة «تقلى» التى أسسها العرب من
الجعليين فى منطقة جبال النوبا بكردفان فى أواسط القرن السادس
عشر الميلادى واتخذت هذه المملكة لنفسها منهجًا فى نشر الإسلام
والعروبة فى هذه المناطق الوعرة، فكانت تشجع القبائل العربية
على الهجرة والاستيطان، فهاجر إليها كثير من «الجعليين»
و «البديرية» و «الجوامعة».
وكانت هذه القبائل ذاتها أداة لنشر الإسلام وثقافته فى أرجاء
«السودان»، من ذلك ما قام به «الجعليون» خصوصًا «عشيرة
المجذوبين»، التى تنتسب إلى الفقيه «حامد بن محمد المجذوب»،
وكان كثيرٌ من أبناء هذه العشيرة يرحلون إلى «القاهرة» أو «مكة»
طلبًا للعلم، ثم يعودون إلى «السودان» لمتابعة رسالتهم، فيبنون
المساجد وينشئون الزوايا لتصبح مدارس ومعاهد للتعليم، يفد إليها
الطلاب من مختلف الآفاق.
وقد أنشأت هذه العشيرة مدينة «الدامر» التى أصبحت حاضرة روحية
للجعليين، بل للسودان النيلى كله، وبانتشار العرب فى «السودان
النيلى» على هذا النحو اكتسبت هذه المنطقة النسب والدم العربيين،
بجانب اللغة العربية وثقافتها، وبذلك انضم إلى العالم العربى
والإسلامى قطر فسيح الرقعة يسهم فى الحياة الإسلامية مساهمة
الأقطار الأخرى، ومن أقدم المراكز الإسلامية فى «السودان النيلى»(9/75)
مدينة «دنقلة» التى دخلها الإسلام قرب منتصف القرن الرابع عشر
الميلادى وارتفعت مكانتها بعد سقوط «مملكة علوة» المسيحية،
وقيام «سلطنة الفونج» الإسلامية محلها، وانتشرت فيها المدارس
والمساجد، ووفد إليها كثير من العلماء والفقهاء من أمثال «غلام الله
اليمنى»، الذى وفد إليها فى النصف الثانى من القرن الرابع عشر
الميلادى وأنشأ فيها مدارس لتعليم القرآن والفقه والحديث.
على أن أعظم هذه المراكز فى المنطقة الشمالية وأوسعها نفوذًا
وأبعدها أثرًا مدينة «الدامر» مركز «الجعليين» وكعبتهم الثقافية،
وقد زارها الرحالة «بركهارت» وتحدث عنها طويلا مشيرًا إلى
مكانتها العلمية وإلى توقير الناس لفقهائها وانتشار نفوذهم فى
جميع أرجاء «السودان النيلى»؛ وقد وصف مسجدها وتحدث عن
أهميته وعن الحركة العلمية المزدهرة، وعن المدارس الكبيرة وعن
الطلاب الوافدين من «دارفور» و «سنار» و «كردفان»، وعن الكتب
الكثيرة التى اشتريت من «القاهرة»، وعن معاهد العلم التى تعلم
تجويد القرآن والتفسير والتوحيد والمنطق وغيرها من العلوم
الإسلامية.
وهناك مدينة «سنار» وهى أعظم المراكز الثقافية فى ديار
«الفونج»، وكانت مركزًا تجاريا قبل كل شىء فقد عرفت بغناها
الوافر وتجارتها الرابحة، وكان التجار يجلبون إليها البضائع من
«مصر» و «الحجاز»، وكان يجلب إليها من «كردفان» التبر والحديد
والرقيق، كما جلبت إليها تجارة «الحبشة» وأصبحت مركزًا علميا
تتطلع إليه جميع المناطق السودانية شرقًا وغربًا.
ومن المراكز الإسلامية أيضًا مدينة «الفاشر» التى أصبحت بعد
إنشائها من المراكز الثقافية المهمة فى غربى «السودان النيلى»،
وإن كانت أقل شأنًا من «سنار»، وقد لاحظ الرحالة «محمد بن عمر
التونسى» انخفاض المستوى العلمى فى هذه المدينة، ويعود هذا
الأمر إلى أن الإسلام تأخر فى انتشاره فى «دارفور» عن بقية
أقاليم «السودان النيلى» الأخرى، كما يعود إلى الترحال والتنقل(9/76)
الذى دأبت عليه القبائل العربية التى سكنت «دارفور»، وهو أمر
لايؤدى إلى ازدهار العلم الذى يحتاج إلى الاستقرار، ويعود أيضًا
إلى قلة عدد العلماء الذين رحلوا إلى هذا الإقليم، ربما بسبب بعده
عن مراكز الثقافة الإسلامية الزاهرة فى «بغداد» و «دمشق»
و «القاهرة».
أما معاهد التعليم فى «السودان» فى ذلك العصر فهى: المسجد،
والزاوية، والخلوة. والخلوة أو الكُتاب أو المكتب من أقدم هذه
الأماكن وهى منتشرة فى جميع القرى، وعرفها أهل «السودان»
على بداية عهد «الفونج» على يد الشيخ «محمود العركى»، الذى
قدم من «مصر» عام (926هـ = 1520م)، وأسس خمس عشرة خلوة فى
«سنار» وعلى «النيل الأبيض» وكان يُدرَّس فيها القرآن ويتعلم فيها
الأطفال القراءة والكتابة ومبادئ الحساب فيما يمكن أن نطلق عليه
المرحلة الأولية أو الابتدائية.
وفى المساجد كان الطلاب يدرسون فيما يشبه المرحلة الثانوية أو
العليا، وفيها كانوا يدرسون العلوم الدينية وعلوم العربية والتاريخ؛
حيث يلتف الطلاب حول شيوخهم فى حلقات دراسية.
أما الزاوية فهى تتميز عن الخلوة والمسجد بأنها تجمع بين السكنى
والعبادة والدرس، ففيها ينقطع الطلاب للدرس والعبادة، وهى غالبًا
للصوفية، وكانت فى زمن «الفونج» منتشرة فى جميع البلاد.
وكانت الطريقة التعليمية فى ذلك العهد تعتمد فى جملتها على
الاستظهار والحفظ كما فى سائر البلدان الإسلامية، وعرف
«السودان» معظم العلوم التى عرفها العالم الإسلامى من نحو وصرف
وبيان وبديع وعروض ومنطق وتوحيد وتفسير وحديث وفقه وتصوف
وجبر ومقابلة وتاريخ، ولكن كان أعظمها شأنًا هو علم الفقه
والتوحيد.
وقد ظلت الثقافة الإسلامية مزدهرة طوال ثلاثة قرون فى أرجاء
«السودان النيلى»، ولكن التعصب القبلى والتنازع على الحكم
وسياسة العزلة التى فرضها حكام «الفونج» فى القرن الثامن عشر
الميلادى أدى إلى انحلال هذه السلطنة، واستطاع «محمد على»(9/77)
حاكم «مصر» أن يقضى عليها فى عام (1235هـ = 1820م). أما
سلطنة «دارفور» فقد تم القضاء عليها بعد ذلك بنحو نصف قرن على
يد «إسماعيل بن محمد على»، ثم تمكن الإنجليز من احتلال «مصر»
نفسها عام (1299هـ = 1882م) ووضعوا «السودان» تحت سيطرتهم
ونفوذهم، وبعد استقلال «مصر» فى عام (1371هـ = 1952م) أبرمت
«اتفاقية السودان» بين «مصر» و «بريطانيا» التى نصت على إعطاء
حق تقرير المصير لأهل «السودان»، فاختاروا الاستقلال وقامت
«جمهورية السودان» فى عام (1376هـ = 1956م).(9/78)
الفصل الثاني عشر
* الإسلام فى شرق إفريقيا
يقصد بتاريخ الإسلام فى شرق إفريقيا السلطنات الإسلامية التى
ظهرت فى بلاد «الحبشة» و «الزيلع» فى العصور الوسطى، مثل
«سلطنة شوا» و «أوفات» و «عدل»، وتلك التى ظهرت على طول
الساحل الشرقى من القارة جنوب «الحبشة» حتى «نهر الزمبيزى»
فى «موزمبيق»، مثل سلطنة «مقديشيو» و «بات» و «كلوا».
أ - الإسلام والسلطنات الإسلامية فى بلاد الحبشة والزيلع (منطقة
القرن الإفريقى):
كان للحبشة صلات قديمة مع بلاد العرب قبل الإسلام، وهى صلات
تجارية وسياسية وحربية، تتمثل فى التجارة وفى غزو الأحباش لبلاد
«اليمن»، ولم يقطع الإسلام هذه العلاقات وإنما زادها قوة، فاتصال
الإسلام بالحبشة يرجع إلى السنة الخامسة من البعثة حين هاجر بعض
المسلمين إلى «النجاشى» اعتصامًا بعدله ونجاة من أذى «قريش»
وعدوانها.
ثم بدأت الدولة الإسلامية تحتك بالحبشة فى عهد «عمر بن الخطاب»
الذى أرسل إليها فى عام (20هـ = 641م) سرية بقيادة «علقمة بن
مجزر المدلجى»، كان نصيبها الفشل، ويرى بعض الباحثين أن أخبار
هذه الحملة لا تتفق مع علاقات الود التى سادت بين الأحباش
والمسلمين منذ أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن «عمر»
بالرجل الذى يخرج على أمر قرره الرسول، والتعليل الصحيح لإرسال
هذه السرية أنها أُرسِلت لرد إغارات قراصنة البحر من الأحباش الذين
كانوا قد أغاروا على ساحل بلاد «الحجاز» مرة فى عهد الرسول
- صلى الله عليه وسلم -، ومرة أخرى فى عهد «عمر بن الخطاب»
نفسه، وذلك بعد أن مات «النجاشى» الذى استقبل المهاجرين
واعتنق الإسلام سرا، وأعقبه «نجاشى» آخر لم يَرْع هذه العلاقات
الطيبة بين المسلمين و «الحبشة»، وقد عاد الأحباش إلى الإغارة على
«جدة» عام (83هـ = 702م) فى عهد «بنى أمية»، فلم يجد العرب بُدا
من الحصول على قاعدة بحرية قريبة من الشاطئ الإفريقى تمكنهم
من رد غارة هؤلاء الأحباش، فاستولوا على جزر «دهلك» وأقاموا(9/79)
فيها، وقد وجدت فيها نقوش عربية يرجع تاريخها إلى منتصف القرن
التاسع الميلادى. ويبدو أن المسلمين انسحبوا من هذه الجزر بعد
ذلك، لكنهم تركوا بها جالية من المسلمين من أهل البلاد، فكانت جزر
«دهلك» أول رأس جسر يقيمه المسلمون على الساحل الشرقى
لإفريقيا، ويبدو أن هذه كانت آخر محاولة للتدخل الرسمى فى
شرقى إفريقيا، فقد ترك الإسلام يتسرب إلى البلاد تسربًا سلميا
بطيئًا فى ركاب المهاجرين إلى إفريقيا من التجار والدعاة عبر
المسالك البحرية المعهودة.
كانت عودة العلاقات التجارية بين «الحبشة» وبلاد العرب، واتساع
دائرتها وخاصة فى تجارة الرقيق، بسبب إقبال الإمارات المستقلة
فى الأمصار الإسلامية المختلفة على الاستعانة بالجنود السودانيين
عوضًا عن جنود العرب الذين تفرقوا فى الأمصار، وكان لذلك أثر
كبير فى نمو المدن الساحلية الزيلعية التى ازدحمت بهؤلاء الوافدين
من تجار المسلمين.
وظهرت فى هذا العصر جاليات إسلامية قوية فى «دهلك»
و «سواكن» و «باضع» و «زيلع» و «بربرة».
وقد أجمع كتاب القرن العاشر الميلادى مثل «المسعودى» و «ابن
حوقل» وغيرهما على ازدهار الحياة الإسلامية فى تلك المدن وتوطد
النفوذ الإسلامى على طول السهل الساحلى، وقد ظهرت مدن إسلامية
على ذلك الساحل كأنها العقد أو الطراز فى الفترة بين القرن العاشر
والثالث عشر الميلادى.
وقد أصبحت هذه المدن الإسلامية الساحلية مراكز وَثَبَ منها التجار
والدعاة إلى المناطق الداخلية فى بلاد الزيلع والحبشة؛ إذ كان هؤلاء
يرحلون إلى المناطق الداخلية التماسًا للتجارة ويقيمون بعض الوقت
ثم ينحدرون إلى الساحل من جديد، وفى أثناء إقامتهم يخاطبون
الناس وينشرون الإسلام ويوطدون صلتهم بالطبقة الحاكمة.
ويبدو أن الإسلام نفذ إلى الداخل فى وقت مبكر، ربما فى القرن
الثالث الهجرى حين تطرق إلى منطقة «شوا» حيث قامت سلطنة
إسلامية عملت على نشر الإسلام فى جنوب وشرق الحبشة، وقد(9/80)
ألقى ضوء جديد على تاريخ هذه السلطنة حينما عثر المستشرق
الإيطالى «تشيروللى» على مختصر لتاريخها يؤرخ لخمسين عاماً من
عمرها (13م).(9/81)
الفصل الثالث عشر
*سلطنة شوا الإسلامية
(283 - 684هـ = 896 - 1285م)
أسست هذه السلطنة على يد أسرة عربية تسمى «بنى مخزوم» سنة
(283هـ = 896م)، وليس ثمة شك فى أن هؤلاء كانوا عربًا هاجروا
إلى هذه الجهات فى ذلك الوقت المبكر، وليس بعيدًا أن يكونوا قد
نزلوا أول الأمر فى ضيافة إمارة محلية، ثم اختلطوا بالأمراء عن
طريق المصاهرة حتى آل إليهم الملك آخر الأمر.
وأيا كان الأسلوب الذى انتقل به الحكم فى «شوا» إلى هذه الأسرة
العربية المخزومية، فقد أدى ذلك إلى قيام «سلطنة شوا الإسلامية»،
التى استمرت أربعة قرون من الزمان فى الفترة (283 - 684هـ = 896 -
1285م) تمتعت فى معظمها بالأمن والاستقرار وازدهار العمران،
وكثرة المدن والقرى والنواحى، حتى إن وثيقة «تشيروللى» ذكرت
أكثر من خمسين اسمًا لمواقع كانت موجودة، ووقعت على أرضها
أحداث مهمة.
ومن أمثلة هذه المدن أو النواحى مدينة «ولِلَّه» العاصمة، ومدن هكلة
(هجلة) وجداية، ودجن، وأبتا، ومورة، وحدية (لعلها مملكة هدية
الإسلامية) والزناتير، والمحررة، وعَدَل التى أصبحت عاصمة لمملكة
إسلامية فى القرن الخامس عشر الميلادى، مما يدل على أن هذه
السلطنة اتسمت بسعة المكان وازدهار العمران وكثرة المدن والبلدان.
وهذا الازدهار العمرانى الحضارى الذى تمتعت به سلطنة شوا
الإسلامية كان نتيجة لما تملكه من أرض غاية فى الخصوبة استغلها
السكان وزرعوا فيها ما يكفى حاجتهم ويسد مطالبهم، خاصة أنه قد
استمر توافد الجماعات الإسلامية المهاجرة فى أعداد يسيرة،
واستطاعت أن تتجمع وتدعم كيان هذه السلطنة الإسلامية بزعامة
هذه الأسرة العربية التى اتخذت من «وللِّه» عاصمة لها، والتى يصعب
تحديد موضعها الآن نتيجة لكثرة التغيرات التى تعرضت لها المنطقة.
ونتيجة لهذا الإزدهار لم تكن الدولة المخزومية فى «شوا» إمارة أو
مملكة صغيرة، بل كانت سلطنة كبيرة، توالى على حكمها كثير من(9/82)
الحكام الذين اتخذوا لقب سلطان كما أشارت إلى ذلك وثيقة
«تشيروللى».
هذا وقد ظهر فى هذه السلطنة الوظائف السياسية والدينية المعروفة
وقتذاك فى بقية الدول الإسلامية مثل الوزراء والقضاة، يتضح ذلك
من الوثيقة المذكورة التى عنى المؤرخ فيها بتسجيل وفاة الفقيه
«إبراهيم بن الحسن» قاضى قضاة شوا فى رمضان (653هـ =
أكتوبر 1255م)، مما يدل على وجود حياة علمية ودينية زاخرة،
شأنها فى ذلك شأن السلطنات الإسلامية الأخرى؛ مما يجعلنا نقول
إن هذه السلطنة عاشت عصرًا زاهرًا كبيرًا، وأنها عاشت مستقلة عن
جيرانها سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين.
والسبب الذى أتاح لهذه السلطنة ذلك الاستقلال وهذا الهدوء مع دولة
الحبشة هو ظروف الحبشة نفسها، فقد كانت تعيش حياة مليئة
بالاضطراب السياسى وعدم الاستقرار، فقد كانت مملكة «أكسوم»
الحبشية القديمة فى أواخر أيامها عندما نشأت سلطنة شوا
الإسلامية، ولذلك لم تتمكن «أكسوم» من التصدى لتلك الدولة أو تمنع
قيامها فى جزء من الهضبة الحبشية ذاتها لبعد «أكسوم» التى كانت
تقع فى أقصى الشمال، بينما كانت دولة «شوا» فى أقصى
الجنوب، ولذلك لم يحدث بينهما أى نوع من أنواع العلاقات، سواء
أكانت ودية أم عدائية.
ومن الأسباب التى أتاحت الهدوء لهذه السلطنة ما حظيت به من موقع
حصين فقد كان يحيط بها جبال وعرة تحف بمجرى نهر تكازى
الأعلى من ناحية اليمين، والنيل الأعلى من جهة اليسار، وهذه الجبال
جعلت من «شوا» حصنًا آمنًا يوفر الحماية لمن يسكنه.
وقد استغل بنو مخزوم هذا الهدوء وهذا السلام اللذين تمتعوا بهما
حوالى ثلاثة قرون ونصف قرن من الزمان فى تنمية قدرات السلطنة
الاقتصادية والسياسية والدينية، فصار لها نفوذها فى المناطق
المجاورة وخاصة المناطق الإسلامية التى تقع إلى الشرق منها وهى
سبع ممالك صغيرة قامت فى القرن الثالث عشر الميلادى.
كما كان لها دورها الدينى أيضًا، من ذلك أن أحد سلاطينها ويسمى(9/83)
(حربعر) بذل جهودًا كبيرة لنشر الإسلام صوب الداخل وخاصة فى
«جبلة» فى سنة (502هـ = 1108م)، وفى بلاد «أرجبة»، وأن هذه
البلاد بعد إسلام أهلها أضيفت إلى أملاك سلطنة «شوا» المخزومية،
أى أن هذه السلطنة كانت من المراكز التى ساعدت على نشر الإسلام
وثقافته فى هذه المنطقة.
وقد حافظ الأهالى من الأحباش على إسلامهم، سواء أكانوا من
أحباش شوا أم من أحباش المناطق المجاورة لها، وذلك رغم الاضطهاد
الشديد والمستمر الذى تعرض له المسلمون فى القرن الإفريقى على
يد ملوك الحبشة (إثيوبيا) منذ عام (669هـ= 1270م).
ولكن سيطرة «شوا» على جيرانها المسلمين لم تستمر طويلا أمام
اضطراب أحوالها وكثرة الفتن الداخلية التى جعلتها تسير فى طريق
الضعف وخاصة فى الخمسين عامًا الأخيرة من عمرها، ولذلك انتهز
حكام «أوفات» الإسلامية الفرصة وأغاروا عليها وأسقطوها
وضموها إلى دولتهم.
وطبيعى أن لسقوط سلطنة «شوا» الإسلامية أسبابًا، وعوامل أدت
إليه، أهمها:
العوامل الاقتصادية: وتتمثل فى ظروف طبيعية جغرافية حدثت فى
الثلاثين عامًا الأخيرة من عمر الدولة، وأدت إلى نقص مياه الأمطار
بدرجة نتج عنها حدوث مجاعات، وطواعين فتكت بالناس فتكًا ذريعًا،
وأضعفت الدولة وسكانها أمام أى هزات داخلية أو خارجية.
سوء الأحوال السياسية: ويتمثل فى الصراع الداخلى بين أمراء
الأسرة المخزومية على الحكم، وكثرة المتمردين والمغتصبين لعرش
السلطنة، وكثرة الحروب الأهلية، وما كان ينتج عنها من إحراق المدن
وتدميرها ونهبها وقتل كثير من سكانها.
ولم يظهر الصراع الداخلى بين أمراء هذه السلطنة إلا فى المائة عام
الأخيرة من عمرها وخاصة منذ عهد السلطان «حسين» (575هـ =
1179م)، ثم تولى بعده السلطان «عبدالله» سنة (590هـ = 1194م)،
وكان مغتصبًا للعرش، استطاع أن يزيحه ابن السلطان «حسين» فى
(632هـ = 1232م) واستمر فى الحكم 14 عامًا، ثم أعقبه عدد من(9/84)
المغتصبين، ثم عاد العرش إلى صاحبه الشرعى وهو السلطان
«دلمارة بن والزرة» سنة (668هـ = 1269م) الذى صاهر «عمر
ولشمع» سلطان «أوفات» الإسلامية كى يشد أزره بهذه المصاهرة،
لكن الطامعين فى العرش ازدادوا شراسة حتى انتهى الأمر بمقتل
السلطان «دلمارة» فى سنة (682هـ = 1283م) وقد أدت هذه الظروف
السيئة إلى تدخل سلطان «أوفات» (عمر ولشمع) فدخل «شوا»
وانتقم من قتلة صهره السلطان «دلمارة» واستطاع أن يعيد الأمن
والوحدة إلى «شوا» من جديد، وبهذا حافظ (عمر ولشمع) على
سلطنة «شوا» من أن تقع فى يد الأحباش وذلك بعد أن ضمها لدولته.(9/85)
الفصل الرابع عشر
*سلطنة أوفات الإسلامية
[حوالى 648 - 805هـ = 1250 - 1402م]:
كانت الحركة الإسلامية قد ازدادت قوة فى بلاد الزيلع منذ القرن
العاشر الميلادى. وبلاد الزيلع هى البلاد التى تحيط بهضبة الحبشة من
الشرق والجنوب الشرقى، وتتمثل الآن فيما يعرف بإريتريا وجيبوتى
والصومال الكبير بأقسامه الثلاثة: الشمالى والجنوبى والغربى،
المعروف باسم إقليم «أوجادين»، يضاف إلى ذلك كل المناطق
الإسلامية التى ضمتها الحبشة بالغلبة والقوة قرب نهاية القرن التاسع
عشر الميلادى.
فى هذه البقعة الواسعة التى تنحصر بين ساحل البحر الأحمر وخليج
عدن وبين هضبة الحبشة قامت مراكز تجارية عديدة على الساحل
وانتشرت أيضًا فى الداخل، وتحولت فى النهاية إلى إمارات وممالك
إسلامية نامية تحدث عنها المؤرخون القدامى، وقالوا إنها كانت سبع
ممالك هى: «أوفات» و «هدية» و «فطجار» و «دارة» و «بالى»
و «أرابينى» و «شرخا»، وامتدت هذه الممالك إلى «هرر» وبلاد
«أروسى» جنوبًا حتى منطقة البحيرات، مطوقة الحبشة من الجنوب
والشرق.
غير أن هذه الممالك والسلطنات التى قامت فى شرق الحبشة
وجنوبها تختلف عما رأيناه فى أقطار إفريقية أخرى فى هذه
المرحلة من التطور؛ إذ لم تكن هذه السلطنات إفريقية خالصة،
أسستها أسرات من أهل البلاد الأصليين الذين أسلموا، كما حدث فى
«مالى» و «صنغى» و «كانم وبرنو»، إنما أسستها أسرات عربية
الأصل، فسلاطين «أوفات» وسلاطين «شوا» وغيرها يمثلون
أرستقراطية عربية مهاجرة، استقرت فى هذه الجهات ونمت ثروتها
وازداد نفوذها واستولت على حكم البلاد وكانت الرعية مسلمة ومن
أهل البلاد الأصليين.
وكانت العلاقات بين هذه الإمارات متوترة تسودها المنافسات
القبلية، ولم يكن بينها من رابط سوى الصلة الروحية فقط، وكانت من
الضعف بحيث إن أمراءها لايتولون العرش - فى كثير من الأحيان - إلا
بموافقة ملك الحبشة المسيحى، وليس معنى ذلك أن مسلمى تلك(9/86)
الإمارات قنعوا بالخنوع والخضوع للأحباش، بل إنهم كانوا فى أحيان
كثيرة مناوئين لملك الأحباش وغازين له فى عقر داره كما سنرى.
وكان من أسباب ضعف هذه الإمارات أو السلطنات الإسلامية أنها ما
كاد يكتمل نموها وتزداد قوتها حتى واجهت حربًا صليبية ضروسًا
استنزفت مواردها وشغلتها عن التفرغ للدعوة الإسلامية، ولذلك فإن
الإنتاج الثقافى لتلك الإمارات كان محدودًا جدا، إذ إن الصراع مع
الأحباش أخذ كل وقتها ولم يترك لها فرصة للإبداع والابتكار، ولم تنج
سلطنة واحدة من الاشتباك مع هؤلاء الأحباش.
وقد قامت سلطنة «أوفات» حوالى (648 - 805 هـ = 1250 - 1402م)
بعبء المقاومة والدفاع ضد هذا الخطر الصليبى الحبشى الذى كان
يهدف إلى القضاء على الإسلام فى منطقة القرن الإفريقى كلها،
ولذلك كان من الواجب أن نخص هذه السلطنة بحديث.
كانت سلطنة «أوفات» أقوى سلطنة إسلامية قامت فى بلاد
«الزيلع»، أسسها قوم من قريش من «بنى عبدالدار» أو من «بنى
هاشم» من ولد «عقيل بن أبى طالب».
ومدينة «أوفات» هى نفسها مدينة «جبرة» أو «جبرت» وكانت من
أكبر مدن بلاد «الزيلع»، وكانت تتحكم فى الطريق التجارى الذى
يربط المناطق الداخلية بميناء «زيلع» على البحر الأحمر. ولم يتضح
تاريخ «أوفات» إلا حوالى منتصف القرن الثالث عشر الميلادى حينما
ظهر أحد أمراء المسلمين وكان يسمى «عمر» ويعرف بلقب
«ولشمع»، وأقام هذه السلطنة التى نمت وازدادت قوتها حتى
استطاع صاحبها «عمر ولشمع» أن ينتهز فرصة ضعف سلطنة «شوا»
المخزومية وأن يهاجمها عام (684هـ = 1285م) ويقضى عليها
ويستولى على أملاكها كما رأينا عند الحديث عن هذه السلطنة.
وقد أدى هذا إلى اتساع سلطان «بنى ولشمع» السياسى،
واستطاعت «أوفات» فى عهدهم أن تبسط نفوذها على بقية هذه
الإمارات الصغرى التى أشرنا إليها وأن يصل هذا النفوذ حتى ساحل
البحر الأحمر وحتى منطقة «زيلع» وسهل «أوسا».(9/87)
وكانت مساحة الأراضى التى سيطر عليها المسلمون بزعامة
«أوفات» تفوق مساحة أرض مملكة الحبشة المسيحية نفسها، بل
كانت تحيط بالحبشة من الجنوب والشرق، فضلا عن إحاطة الإسلام
بها من ناحية السودان من الشمال والغرب، مما أدى إلى عزل مملكة
الحبشة عزلا تاما عن العالم الخارجى، ولاسيما بعد استيلاء المسلمين
على ميناء «عدل» قرب «مصوع»، ولذلك لاندهش من أنه عندما تولت
الأسرة «السليمانية» عرش الحبشة عام (669هـ = 1270م)، رسمت
لنفسها خطة لتوسيع سلطان «الحبشة» على حساب جيرانها من
المسلمين الذين كانوا يسيطرون على الموانى ومن ثم على التجارة
الخارجية.
وبذلك بدأت أولى مراحل الجهاد والصراع بين «أوفات» وتوابعها من
الإمارات الإسلامية وبين ملوك الحبشة من ذلك الحين، وكانت البداية
المبكرة على أيام الملك «ياجبياصيون» (684 - 693هـ = 1285 -
1294م) الذى شن حملة صليبية عنيفة ضد إمارة «عَدَل» التابعة
لأوفات، وكان قد استشعر خطر الاتحاد الإسلامى الذى كانت تدعو
إليه سلطنة «أوفات»، فضلا عن أن تلك السلطنة أعلنت زعامتها على
الممالك الإسلامية المجاورة لها فى بلاد «الزيلع»، وكان هذا أمرًا
يتعارض مع مشاريع ملوك الحبشة الجدد، فقاموا بحملتهم تلك التى
أشرنا إليها، وانتهت بانتصارهم.
وترجع هذه الهزيمة إلى أن حركة المقاومة التى تزعمتها «أوفات»
لم تكن منبعثة عن وحدة وتعاون فعال بينها وبين الممالك الإسلامية،
ولذلك هزمهم الأحباش من أول لقاء، بل يقال إن إمارتين إسلاميتين
عاونتا ملك الحبشة فى هجومه الذى انتهى بنهب «عَدَل» وعَقْد هدنة
بين الطرفين، وكان من الممكن أن تكون هذه الحرب هى القاضية لولا
تدخل سلطان «مصر» المملوكى الذى هدد بقطع العلاقات وعدم
الموافقة على تعيين «المطران» الذى طلبه الأحباش، وكان يعين من
قبل بطرك مصر، وأثمر هذا التدخل، فقَبِل الأحباش الهدنة مع
«أوفات».
استطاع المسلمون تقوية مراكزهم ودعم سلطانهم على طول منطقة(9/88)
الساحل، وكانوا يرتقبون فرصة ضعف أو تخاذل فى صفوف
أعدائهم، وعندما علموا بوفاة ملك «الحبشة» عام (698هـ = 1299م)،
قام شيخ مجاهد يدعى «محمد أبو عبدالله» بحشد طائفة كبرى من
قبائل «الجَلا» و «الصومال» وأعدهم للجهاد، وقام بغزو الحبشة، ولم
تعمد الحبشة إلى المقاومة بسبب بعض المتاعب الداخلية، واضطر
ملكها إلى التنازل للمسلمين عن بضع ولايات على الحدود نظير
الهدنة، ولم يكن سلاطين «أوفات» ليقنعوا بالهدنة، وخاصة أن
قوتهم قد ازدادت، فلم يستطع الملك الحبشى «ودم أرعد» (698 -
714هـ = 1299 - 1314م) أن يرد هجماتهم.
ورأت «أوفات» أن تظهر قوتها للحبشة بل وتتوسع فى أملاكها
وتقضى على عدوانها، فتقدم السلطان «حق الدين» وتوغل فى
أملاك الحبشة وغزا بعض الولايات المسيحية؛ مما جعل ملك الحبشة
يقوم بغزو «أوفات» فى عام (728هـ = 1328م) وهاجمها من جميع
الجهات وأسر «حق الدين» ووضع يده على مملكته وعلى «مملكة
فطجار» الإسلامية وجعلهما ولاية واحدة وعين عليها «صبر الدين»
وهو شقيق «حق الدين» بشرط الاعتراف بسيادة الحبشة.
غير أن «صبر الدين» لم يطق صبرًا على هذه التبعية وكوَّن حلفًا
إسلاميا من إمارتى «هدية» و «دوارو»، ثم تقدم لغزو الحبشة
واستولى على كثير من الغنائم، وهدد ملك الحبشة الذى خرج على
رأس جيشه وهاجم الحلفاء منفردين بادئًا بإمارة «هدية»، فحطمها
قتلا ونهبًا وأسرًا، وأرغمها على الخروج من الحلف، وحمل ملكها
أسيرًا إلى عاصمته، ثم تقدم إلى «أوفات» ودخلها ودمرها ونهب
معسكر المسلمين فيها، ثم تقدم إلى «فطجار» واستولى عليها
وعلى مملكة «دوارو».
وعلى ذلك يمكن القول بأنه فى هذه الفترة انتهى استقلال الممالك
الإسلامية فى «أوفات» و «هدية» و «فطجار» و «دوارو». وعين عليها
ملك الحبشة «جلال الدين» أخا «صبر الدين» حاكمًا، فقبل على أن
يكون تابعًا للحبشة، وهكذا اتسعت مملكة الحبشة وضعف أمر
المسلمين.(9/89)
وفى غمرة هذا الصراع الدموى اتفقت كلمة المسلمين بين عامى
(1332 و 1338م) على الاستنجاد بدولة المماليك فى «مصر»، وذلك
بإرسال سفارة إلى سلطان «مصر» «الناصر محمد بن قلاوون» برئاسة
«عبدالله الزيلعى» ليتدخل السلطان فى الأمر لحماية المسلمين فى
بلاد «الزيلع». فطلب «الناصر محمد» من بطرك الإسكندرية أن يكتب
رسالة إلى ملك الحبشة فى هذا الصدد. غير أن ملك الحبشة لم يكفَّ
عن مهاجمة المسلمين الذين لم يتوانوا في انتهاز الفرص للثأر منه.
وتحالفت إمارتا «مورا» و «عدل» مع بعض القبائل البدوية وأخذوا
يشنون حربًا أشبه بحرب العصابات، وأخذ ملك الحبشة فى مطاردتهم
وتقدم فى أراضى «مورا» الإسلامية، حتى وصل إلى مدينة «عَدَل»
وقبض على سلطانها وذبحه، فتقدم أولاد السلطان الثلاثة إلى ملك
الحبشة مظهرين الخضوع.
وفى تلك الأثناء انتاب إمارة «أوفات» بعض الفتن الداخلية بسبب
النزاع على العرش بين أفراد الأسرة الحاكمة، وانتهى النزاع بانفراد
«حق الدين الثانى» وإعلان استقلاله عن الحبشة، واستطاع أن
يهزمها ويردها عن إمارته فترة طويلة حتى هُزم ومات عام (788هـ =
1386م)، والتف المسلمون للمرة الأخيرة حول خليفته وأخيه «سعد
الدين»، واستأنفوا حركة الجهاد ودحروا الأحباش، وتوغلوا فى أرض
«أمهرة» (مملكة النجاشى) لكن «سعد الدين» هُزم فى معارك تالية،
واضطر إلى الفرار إلى جزيرة «زيلع» حيث حوصر وقتل عام (805هـ
= 1402م) نتيجة لخيانة رجل دلَّهم على مكمنه.
ويعتبر احتلال الأحباش لزيلع بمثابة إسدال الستار على سلطنة أوفات
التى احتلها الأحباش نهائيا، ولم يعد يسمع بها أحد، وانتهى دورها
فى الجهاد، وتفرق أولاد «سعد الدين» العشرة مع أكبرهم «صبر
الدين الثانى»، وهاجروا إلى شبه الجزيرة العربية حيث نزلوا فى
جوار ملك اليمن «الناصر أحمد بن الأشرف» الذى أجارهم وجهزهم
لاستئناف الجهاد ضد الحبشة، فعادوا إلى إفريقيا حيث انضم إليهم(9/90)
من بقى من جنود والدهم، فقوى أمرهم واستأنفوا النضال واتخذوا
لقبًا جديدًا هو لقب «سلاطين عَدَل».(9/91)
الفصل الخامس عشر
*سلطنة عَدَل الإسلامية
[817 - 985هـ = 1414 - 1577م]:
كانت «عَدَل» إقليمًا من الأقاليم التى خضعت لسلاطين «أوفات».
وليس ببعيد أن تكون قد تأسست فيها إمارة محلية تدين بالولاء لبنى
ولشمع، ويبدو أن موقعها المتطرف قد ساعد على نجاتها من
التوسع الحبشى الذى أطاح بالإمارات السابقة. وكان طبيعيا أن
يأوى «بنو سعد الدين» إلى إقليم قريب من البحر يتيح لهم الاتصال
ببلاد اليمن بعيدًا عن مناطق النفوذ الحبشى. وكانت تلك السلطنة تضم
البلاد الواقعة بين ميناء «زيلع» و «هرر» وتشمل ما يعرف بالصومال
الشمالى والغربى وإقليم «أوجادين»، وسميت هذه البلاد «بر سعد
الدين» تخليدًا لسعد الدين الذى مات بزيلع ودفن بها.
استأنف سلاطين «عَدَل» الجهاد مرة أخرى فى عهد «صبر الدين
الثانى» الذى اتخذ مدينة «دَكَّر» عاصمة له، واستطاع الاستيلاء على
عدة بلاد حبشية فيما يعرف بحرب العصابات، وبعد وفاته عام (825هـ
= 1422م) خلفه أخوه «منصور» المتوفى سنة (828هـ = 1425م) الذى
بدأ عهده بحشد عدد كبير من مسلمى «الزيلع» وهاجم بهم ملك
الحبشة وقتل صهره وكثيرًا من جنده، وحاصر منهم نحوًا من ثلاثين
ألفًا مدة تزيد على شهرين، ولما طلبوا الأمان خيَّرهم بين الدخول فى
الإسلام أو العودة إلى قومهم سالمين، فأسلم منهم نحو عشرة آلاف
وعاد الباقون إلى بلادهم، ولم يقتلهم «منصور» ولم يستعبدهم كما
كان يفعل ملوك الحبشة بجنود المسلمين الذين كانوا يقعون فى
أسرهم.
لكن ملك «الحبشة» «إسحاق بن داود» أعد جيشًا كبيرًا وهجم به
على «منصور» وقواته وهزمها هزيمة شنيعة لدرجة أن السلطان
«منصور» وقع هو وأخوه الأمير «محمد» فى أسر «إسحاق» عام
(828هـ = 1425م).
ولكن راية الجهاد ضد عدوان الأحباش لم تسقط بهذه الهزيمة، فقد قام
أخ للسلطان الأسير وهو السلطان «جمال الدين» برفع راية الجهاد من
جديد.
وانتصر على ملك الحبشة فى مواقع كثيرة، ولكن أبناء عمه حقدوا(9/92)
عليه ربما رغبة فى النفوذ والسلطان الذى حرموا منه فاغتالوه فى
عام (836هـ = 1432م)، فتولى الحكم بعده أخوه السلطان «شهاب
الدين أحمد بدلاى» الذى عاقب القتلة وحارب الأحباش واسترد إمارة
«بالى» الإسلامية من أيديهم، ولكنه وقع صريعًا أمام الأحباش فى
(848هـ = 1444م) نتيجة لخيانة أحد الأمراء الذين أظهروا التحالف
معه. ومن ثم تمكن الأحباش من اجتياح سلطنة «عَدَل» وبقية الممالك
الزيلعية الأخرى، وأصبحت الحبشة إمبراطورية كبيرة امتدت شمالا
حتى مصوع وسهول السودان وضمت «أوفات» و «فطجار» و «دوارو»
و «بالى» و «هدية»، ومنحت هذه الإمارات استقلالها الذاتى، وولت
عليها عاملاًيسمى «الجراد» ينحدر من البيت المالك القديم.
ويبدو أن الرغبة الصادقة فى الجهاد التى عرف بها الجيل الأول من
سلاطين «أوفات» قد فترت عند أحفادهم سلاطين «عدل»، فقد
سئموا القتال وجنحوا إلى المسالمة ولكن الشعب المسلم لم يتخل عن
سياسته التقليدية فى جهاد الأحباش ومقاومتهم. وكان تخاذل
سلاطين «عدل»، وتحمس الشعب للجهاد مؤذنًا ببداية الدور الأخير من
أدوار الجهاد وهو دور «هرر».
وتميز هذا الدور بظهور طائفة من الأمراء الأئمة أشربت قلوبهم حب
الجهاد وصارت لهم السلطة الفعلية فى البلاد، وبذلك أصبح فى
المجتمع العَدَلى حزبان: هذا الحزب الشعبى الذى يتزعمه الأمراء
الأئمة، وذلك الحزب الذى يريد أن يسالم الأحباش ويتكون من الطبقة
الأرستقراطية والتجار، وعلى رأسه سلاطين عدل التقليديون.
وكان أول هؤلاء الأئمة ظهورًا هو الداعى «عثمان» حاكم زيلع الذى
أعلن الجهاد بعد وفاة السلطان «محمد بن بدلاى» مباشرة عام
(876هـ = 1471م)، ثم ظهر فى «هرر» الإمام «محفوظ» الذى تحدى
السلطان «محمد بن أزهر الدين»، واشتبك مع الأحباش، غير أن
البرتغاليين ظهروا على مسرح الأحداث وفاجئوا «زيلع» وأغاروا
عليها وانتهى الأمر بفشل حركة «محفوظ»، وباغتيال السلطان
«محمد» سنة (924هـ = 1518م).(9/93)
وفى بداية القرن (16م) ظهرت تطورات كان لها تأثيرها فى مسرح
الأحداث بين المسلمين والأحباش، تمثلت فى ظهور الأتراك العثمانيين
وقيام حركة الكشوف الجغرافية بزعامة الملاحين البرتغاليين، كذلك
أدخلت الأسلحة النارية إلى منطقة الأحداث فى بلاد «الزيلع»
و «الحبشة»، وأهم من هذا كله إسلام قبائل البدو من الأعفار
والصومالى، ودخولها ميدان الجهاد، ووقوفها وراء الإمام الذى
رشحته الأحداث لتزعم حركة الجهاد الإسلامى فى ذلك الدور، وهو
الإمام «أحمد بن إبراهيم الغازى» الملقب بالقرين أى الأشول.
اتبع الإمام «أحمد القرين» بعد أن سيطر على مقاليد الأمور فى
سلطنة «عَدَل» وبعد أن اتخذ «هرر» مقرا له سياسة موفقة جمعت
الناس حوله، فقد طبق الشريعة الإسلامية فى حكمه وخاصة فى
توزيع أموال الزكاة والغنائم على مستحقيها وفى مصارفها
الشرعية، وبذلك كسب حب الجند وحب الفقهاء والعلماء، كما كسب
أيضًا محبة الشعب، فقد كان يلطف بالمساكين ويرحم الصغير، ويوقر
الكبير، ويعطف على الأرملة واليتيم، وينصف المظلوم من الظالم، ولا
تأخذه فى الله لومة لائم، كما قضى على قُطَّاع الطرق فأمنت البلاد
وانصلح حال الناس وانقادوا له وأحبوه.
بهذه السياسة الداخلية السليمة استطاع الإمام «أحمد القرين» أن
يوحد كلمة المسلمين ويتولى زعامتهم وعزم على رد عادية الأحباش،
وذلك بفتح بلاد الحبشة ذاتها، وتمكن من التوغل فيها حتى وصل
إلى أقاليمها الشمالية، ودارت بينه وبين الأحباش عدة معارك، كان
أولها فى عام (933هـ = 1527م) حيث هزم الأحباش لأول مرة منذ
بداية الجهاد. وفى عام (934هـ = 1528م) أحرز الإمام «أحمد» نصرًا
حاسمًا على الأحباش فى موقعة «شنبر كورى»، ثم بدأ فى غزو بلاد
الحبشة نهائيا.
ففى سنة (938هـ = 1531م) دخل «دوارو» و «شوا» و «أمهرة»
و «لاستا». وفى سنة (940هـ = 1535م) سيطر المسلمون على جنوب
الحبشة ووسطها، وغزوا «تجراى» للمرة الأولى وأصبح مصير(9/94)
الأحباش فى كفة الميزان.
وفى هذا الوقت كان الزحف البرتغالى قد وصل إلى البحر الأحمر
فاستنجد بهم الأحباش عام (942هـ = 1535م) فأرسل إليهم ملك
البرتغال نجدة عسكرية وصلت البلاد عام (948هـ = 1541م)، وتقابل
المجاهدون بقيادة «أحمد القرين» مع الأحباش والبرتغاليين فى عدة
مواقع عام (949هـ = 1542م)، لكنه هُزم وتكررت هزيمته فى العام
التالى حيث استشهد وتفرقت جموعه، ونجت الحبشة من السقوط، ولم
يعد المسلمون مصدر خطر جدى يهدد الأحباش، ومع ذلك فإن حركة
الجهاد لم تمت بموت «أحمد القرين»، بل استأنفها خلفاؤه من بعده
وخاصة فى عام (966هـ = 1559م) بقيادة الأمير «نور» الذى اتخذ لقب
أمير المؤمنين، والسلطان الأسمى المسمى «عليَّا» سليل أمراء
«عَدَل» السابقين، لكن هذه الجهود باءت بالفشل.
وكانت انتفاضة «هرر» الأخيرة عام (985هـ = 1577م) حينما تحالفت
مع أحد ثوار الأحباش للنيل من ملك الحبشة، وحدثت موقعة انتهت
بمقتل «محمد الرابع» آخر أمراء «هرر» عند نهر «ويبى»، وانتهت
هرر كقوة سياسية ذات شأن، فى الوقت الذى استطاع فيه الأحباش
أن يقضوا على خطر الأتراك العثمانيين أيضًا بهزيمتهم وعقد هدنة
معهم عام (997هـ - 1589م) واكتفى العثمانيون بالسيطرة على
«مصوع» و «سواكن»، وبذلك انتهى الصراع فى الحبشة لصالح
الأحباش.
وإذا كانت هذه الحركة لم تحقق أهدافها بالقضاء على مملكة الحبشة
نهائيا، إلا أنها أثبتت عمق الشعور الإسلامى فى نفوس أهل شرق
إفريقيا وعمق تمسكهم بالإسلام، فقد دأبوا على الجهاد وأصروا
عليه طيلة أربعة قرون، وظهر أثر العلماء والفقهاء وأصبحت لهم
الزعامة فى المجتمع فى ذلك الوقت.
وعلى الرغم من هذه الهزيمة التى منى بها المسلمون فى منطقة
القرن الإفريقى وانصراف اهتمام العثمانيين إلى أوربا والعالم
العربى، فإن المسلمين الزيالعة بقيت لهم بعض سلطناتهم وبلادهم.
ذلك أن الصراع الذى اندلع بينهم وبين الأحباش أنهك الطرفين معًا؛(9/95)
مما هيأ الفرصة لدخول قبائل الجلا الوثنية القادمة من الجنوب،
فاحتلت «هرر» واستقرت فى النصف الجنوبى من دولة الحبشة، ثم
أسلمت هذه القبائل أخيرًا، ولكن أوربا الغربية أعانت الأحباش على
المسلمين فى القرن التاسع عشر الميلادى، وخاصة فى عهد «منليك
الثانى» الذى استولى على سلطنة «هرر» فى عام (1302هـ =
1885م) وعلى غيرها من البلدان الإسلامية، ثم استولى الأحباش على
سلطنة «أوسا»، ثم على «إريتريا» و «إقليم الأوجادين الصومالى»
فى القرن العشرين. وظل الأمرعلى هذا النحو حتى نالت هذه البلاد
استقلالها وتحررت من نير الأحباش، وإن كان بعضها لايزال تحت
سيطرتهم حتى الآن.(9/96)
الفصل السادس عشر
*الإسلام والسلطنات الإسلامية فى منطقة الساحل الشرقى لإفريقيا:
كما واجه المسلمون والسلطنات الإسلامية السابقة الخطر الصليبى
الحبشى فى منطقة «القرن الإفريقى»؛ واجه المسلمون والسلطنات
الإسلامية فى «مقديشيو»، وعلى طول الساحل الجنوبى الشرقى من
القارة خطرًا صليبيا آخر لا يقل خطرًا، وهو الخطر البرتغالى، ولذلك
تميزت الحركات الإسلامية سواء هنا أو هناك، بأسلوب الجهاد الذى
اتبعته حتى تحافظ على كيانها. ولاشك أن هذا الأسلوب كان من
العوامل التى أذكت الحماسة الدينية فى نفوس المسلمين، وساعدت
على نشر الإسلام فى تلك المناطق، وخير دليل على ذلك هو إسلام
قبائل «الأعفار» و «الصومال» و «الجلا»، وغيرها من القبائل الزنجية
فى بداية العصر الحديث، ثم قيام هذه القبائل بتولى عبء الدفاع عن
الإسلام سواء ضد الخطر الحبشى فى الشمال أو الخطر البرتغالى
القادم من الجنوب.
وسوف نتحدث عن السلطنات الإسلامية التى قامت على طول الساحل
الشرقى لإفريقيا، بدءًا من «مقديشيو» وحتى نهر «الزمبيرى» فى
«موزمبيق»، وتتمثل هذه السلطنات فى ثلاث هى: «سلطنة
مقديشيو» و «سلطنة بات»، و «سلطنة كلوة».
سلطنة «مقديشيو» الإسلامية (الصومال):
كانت بلاد «الصومال» تعرف فى العصور الوسطى باسم «سلطنة
مقديشيو». وينتمى الصوماليون إلى العنصر الكوشى الحامى، ومنهم
قبائل «الجَلا» و «الدناكل»، وهؤلاء اختلطوا بالعناصر السامية التى
هاجرت من جنوب بلاد العرب قبل الميلاد، وبالزنوج البانتو، وتكون
منهم «شعب الصومال». وبعد ظهور الإسلام تدفقت القبائل العربية
على تلك المنطقة، إما بهدف التجارة أو نشر الإسلام أو الإقامة فرارًا
من الانقسامات السياسية، وأقام هؤلاء المهاجرون العرب مراكز
تجارية على طول الساحل الشرقى الإفريقى؛ فى «مقديشيو»
و «براوة» و «سوفالة»، و «بات» و «ممبسة» و «مالندى» و «كلوة»
وغيرها، وعلى أيديهم نشأت معظم هذه المدن.(9/97)
وقد سبقت الإشارة - عند الحديث عن الهجرات العربية إلى ساحل
شرق إفريقيا - إلى هجرتين وصلتا إلى ساحل «الصومال»، وهى
«هجرة الزيدية» التى أقبلت إلى «الصومال» بعد مقتل زعيمهم «زيد
بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب» رضى الله
عنهم، ثم هجرة الإخوة السبعة من «بنى الحارث» ومن معهم من
العرب إلى بلاد «الصومال» فى عام (292هـ = 903م). والهجرة
الأخيرة كانت أبقى أثرًا فى تاريخ «الصومال»، إذ إنها أقامت
«سلطنة مقديشيو» الإسلامية.
وقد كانت «مقديشيو» أول مدينة عربية بناها «بنو الحارث» على
«ساحل بنادر» عام (295هـ = 907م)، وتلتها مدينة «براوة» حوالى
عام (365هـ = 975م).
وتشير بعض المصادر إلى مواضع مدن أخرى مثل «قرفاوة»،
و «النجا»، و «بذونة»، و «ماندا» فى جزيرة «ماندا»، و «أعوزى»،
و «شاكة» قرب دلتا نهر «تانا»، وقد بنى «بنو الحارث» هذه المدن
فى سنوات متفاوتة وأسسوا فيها سلطنة استمروا فى حكمها معظم
فترات العصور الوسطى، فكان حكام «سلطنة مقديشيو» عند قدوم
البرتغاليين من سلالة الإخوة السبعة، بل إن فيها حتى اليوم سبع
عشائر تعود بأصولها إليهم.
وفى عهد هذه الأسرة الحاكمة صارت «مقديشيو» سلطنة قوية ذات
شوكة ونفوذ على عربان الساحل وعلى المدن التى تحيط بها، وكان
تجارها أول من وصلوا إلى بلاد «سفالة»، واستخرجوا منها الذهب،
مما درَّ عليهم أموالا كثيرة، استفادوا منها فى تطوير «مقديشيو»
فحلت المنازل المشيدة بالأحجار على الطراز العربى محل المبانى
الخشبية ومحل المساكن المتخذة من القش المغطى بجلود الحيوانات.
وكانت «مقديشيو» فى عهدهم بمثابة العاصمة لجميع البلاد المجاورة
ومركزًا للمدن العربية الأخرى التى امتدت على طول الشاطئ، فكانت
جموع الناس ترد على «مقديشيو» من هذه المدن، فيجتمعون فى
مسجدها الجامع حيث يؤدون صلاة الجمعة، مما يدل على أهمية مركز
«مقديشيو» الدينى والثقافى عند سكان الساحل جميعًا، حتى(9/98)
اعتبرت العاصمة الثقافية لساحل الزنج كله، وزعيمة عرب هذا
الساحل؛ نتيجة لما وصلت إليه من قوة ونفوذ، ولما قامت به من دور
مهم فى نشر العروبة والإسلام.
وعندما وصل الشيرازيون المهاجرون بقيادة «على بن حسن بن
على» إلى «مقديشيو» بعد حوالى سبعين عامًا من بنائها، لم
يستطيعوا دخولها لحصانتها ومنعتها فتركوها واتجهوا جنوبًا إلى
«كلوة»؛ حيث أقاموا هناك سلطنة إسلامية، فكانت هى
و «مقديشيو» أهم مدينتين على الساحل من القرن العاشر إلى الخامس
عشر الميلادى، ولم تستطع إحداهما أن تسيطر على الساحل سيطرة
كاملة.
وعند قدوم «ابن بطوطة» إلى «مقديشيو» كانت تسيطر عليها قبيلة
الأجران الصومالية، وكان سلطانها يسمى «أبا بكر بن الشيخ عمر»،
ويبدو أن سيطرة هذه الأسرة كان أمرًا عارضًا؛ بدليل أن البرتغاليين
عندما قَدِموا إليها كان حكامها من أسرة «المظفر» من «بنى
الحارث» الذين أسسوها من قبل.
ونظرًا لطول مدة حكم هذه الأسرة فقد كانت لها جهود كبيرة فى
تعريب كثير من القبائل الصومالية خاصة الساحلية، التى دخلت فى
الإسلام على أيديهم، ذلك أن هذه القبائل وخاصة قبيلة «الأجران»
كانت تربطها بأسرة «المظفر» الحارثية صلات تجارية كبيرة.
ولاشك أن هذه العلاقات التجارية لابد أن تؤتى ثمارها فى نشر
الإسلام بين هذه القبيلة وغيرها من القبائل الصومالية، التى اتصلت
بسلطنة «مقديشيو» الإسلامية، التى أكثرت من إنشاء المساجد
والجوامع التى لايزال بعضها باقيًا حتى الآن، منها مسجد عليه كتابة
تبين تاريخ تأسيسه وهو سنة (637هـ = 1239م)، أى قبل مرور «ابن
بطوطة» بها بنحو قرن من الزمان، ولعله «مسجد عبدالعزيز» الذى
بُنى فى «مقديشيو» منذ سبعمائة عام تقريبًا، ولازال موجودًا حتى
الآن.
وقد وصل إلينا كثير من المعلومات عن بلاد الصومال بفضل ما كتبه
عنها الرحالة والجغرافيون العرب، مثل: «المسعودى» و «الإدريسى»(9/99)
و «ابن بطوطة» الذى أمدنا بوصف دقيق لعدد من المدن الإفريقية
وأحوال سكانها المسلمين، ولاسيما «مقديشيو»، التى زارها عام
(1332م) و «زيلع» التى قال عنها: «إنه يسكنها طائفة من السودان
شافعية المذهب وهى مدينة كبيرة، لها سوق عظيمة لها رائحة غير
مستحبة بسبب كثرة السمك ودماء الإبل التى ينحرونها فى الأزقة
والطرقات».
ثم أقلع «ابن بطوطة» إلى «مقديشيو» واستقر بها أسبوعًا، وأتيح
له أن يتصل بقاضيها وعلمائها وسلطانها الشيخ «أبى بكر ابن
الشيخ عمر» الذى استضافه مدة إقامته، وقد أمدنا بمعلومات كثيرة
عن طعام أهلها وفاكهتها وملابس شعبها وتقاليد سلطانها فى
مواكبه ومجالسه، وعن مجالس الفقهاء والعلماء وذوى الرأى، وعن
كيفية نظرهم فى شكوى الناس، وتطبيقهم للشريعة الإسلامية.
بعد ذلك يصف «ابن بطوطة» الازدهار الاقتصادى الذى كانت تنعم به
سلطنة «مقديشيو» الإسلامية فيقول: «إن هذه المدينة مدينة واسعة
كبيرة يمتلك أهلها عددًا وافرًا من الجِمال والماعز، ينحرون منها
مئات كل يوم، وإنهم تجار أغنياء أقوياء، بعضهم يقوم بصناعة ثياب
جميلة لا نظير لها تُصدَّر إلى مصر وغيرها من البلاد». وكى يشجعوا
التجار على القدوم إلى بلادهم كان من عادتهم أنه متى وصل مركب
أو سفينة محملة بالتجار والبضائع إلى ميناء «مقديشيو» يركب
شباب هذه المدينة فى قوارب صغيرة ويحمل كل منهم طبقًا مُغطى
فيه طعام، فيقدمه لتاجر من التجار القادمين على هذه السفن ويقول
«هذا نزيلى» فينزل معه هذا التاجر إلى داره، ويساعده هذا الشاب
فى عمليات البيع والشراء، مما أدى إلى رواج تجارتهم مع الأقطار
الخارجية.
وقد استمرت سيادة «مقديشيو» على ساحل «بنادر» حتى القرن
السادس عشر الميلادى حينما فقدت أهميتها وانحطت منزلتها كمركز
تجارى، خاصة بعد انتشار التجارة بين عدة مدن ساحلية أخرى
منافسة لمقديشيو، وتعرضها والمنطقة للخطر البرتغالى، فقد ضرب(9/100)
«فاسكودى جاما» «مقديشيو» بالمدافع فى أثناء عودته من
«الهند» عام (1498م)، ثم استولى أحد قواد البرتغال على مدينة
«براوة» عام (1507م)، وحاول الاثنان الاستيلاء على «مقديشيو»
لكنهما فشلا، وغزا «لوبى سواريز» «زيلع» عام (1515م) وأضرم
فيها النار، كما حاصر البرتغاليون «بربرة» عام (1516م).
وهكذا نرى أن البرتغاليين قادوا حربًا صليبية ضد المسلمين فى
شرق إفريقيا و «الصومال»، ومن المدهش حقا أنه كان من نتائج تلك
الحملة الوحشية انتشار الإسلام، ذلك لأن السكان المسلمين الذين
تركوا الساحل أمام نيران المعتدين البرتغاليين لجئوا إلى الداخل،
حيث اختلطوا بالقبائل الصومالية ونشروا الإسلام بينها، فنتج عن ذلك
«شعب الصومال» المسلم، وبسبب كثرة الهجرات العربية من بلاد
«اليمن» و «الحجاز» وامتزاجها بأهل تلك البلاد؛ انتشرت اللغة العربية
والدم العربى بدرجة كبيرة، وأصبحت العربية هى لغة التخاطب
بجانب اللغة المحلية، وكانت قبائل «الصومال» بعد اعتناقها الإسلام
هى السند والحصن الذى لجأ إليه «أحمد القرين» فى صراعه ضد
ملوك «الحبشة»، مما يدل على تمسك شعب الصومال بالإسلام
ودفاعهم عنه دفاعًا قويا، ولا غرو فالصومال الآن كما هو معروف
إحدى دول الجامعة العربية.(9/101)
الفصل السابع عشر
*سلطنة كلوة الإسلامية
[365 - 911هـ = 975 - 1505م]:
قامت هذه السلطنة نتيجة هجرة قدمت من «شيراز» بفارس، كان على
رأسها «على بن حسن بن على» وأبناؤه الستة، حيث كانوا على
متن سفنهم بما فيها من بضائع بقصد التجارة، ولما وصلوا إلى
«جزيرة كلوة» التى تقع أمام الساحل الشرقى لإفريقيا، وهى ضمن
دولة «تنزانيا» الآن، استقروا فيها منذ عام (365هـ = 975م)، ووفد
عليهم كثير من العرب، وكان هؤلاء الوافدون يفضلون المعيشة فى
الجزر لسهولة الدفاع عنها والاعتصام بها إذا ما حاول الأهالى
الساكنون فى البر الإفريقى الاعتداء عليهم، وعند وفاة «على بن
حسن بن على الشيرازى» كان نفوذه يمتد إلى مدينة «سوفالة» فى
الجنوب، وإلى «ممبسة» فى الشمال، وبعد وفاته اعتدى الأهالى
على ابنه، واضطروه إلى الفرار إلى «زنجبار» عام (1020م) وبعد
قليل جمع السلطان المطرود جنوده وعاد بهم إلى «كلوة» ودخلها
مرة ثانية، وازدهرت المدينة خلال القرن التالى بسبب تجارة العاج
والذهب الذى كان يُصدَّر من «سوفالة» التى تقع جنوب نهر
«الزمبيرى»، أى جنوب «كلوة» وحرمت «مقديشيو» من تلك التجارة
التى كانت تحصل عليها من «سوفالة»، وخاصة فى عهد السلطان
«داود بن سليمان» سلطان «كلوة» (1130 - 1170م)، وبذلك صارت
الزعامة السياسية والاقتصادية لكلوة، ويعتبر القرنان الثانى عشر
والثالث عشر الميلاديان هما العصر الذهبى لتلك السلطنة الزنجية
الإسلامية، فقد أصبحت «كلوة» عروس الشاطئ الإفريقى، وقام
سلطانها بسك النقود، وقد عثر فى «كلوة» و «مافيا» و «زنجبار»
على نحو (10000) قطعة نحاسية من هذه النقود.
ولما كان مؤسسو «كلوة» الأوائل من الشيرازيين الفرس، فلا غرو أن
يكون لهم تأثير كبير على أسلوب الحضارة الذى ازدهر هناك خلال
القرون من العاشر إلى الثالث عشر الميلادى، فظهر الأسلوب
الفارسى فى البناء بالحجارة، وفى صناعة الجير والأسمنت(9/102)
واستخدامهما فى البناء، وفن النقش على الخشب، ونسج القطن،
وشيدوا عدة مساجد ومبانٍ جميلة الطراز، مازال بعض مخلفاتها باقيًا
حتى الآن، ولكن الأثر العربى تغلب بعد ذلك بسبب كثرة الهجرات
العربية واستقرارها.
وقد وصل إلينا كثير من المعلومات عن هذه السلطنة من الوثائق
التاريخية المهمة وبفضل ما كتبه عنها الرحالة والجغرافيون العرب
كالمسعودى، و «الإدريسى»، و «ابن بطوطة» الذى زار مدينة «كلوة»
و «ممبسة». وقال عن الأخيرة: «إنها جزيرة كبيرة بينها وبين أرض
الساحل مسيرة يومين فى البحر، وأشجارها: الموز والليمون
والأترج، وأكثر طعام أهلها السمك والموز، والقمح يأتى لهم من
الخارج لأنهم لايزرعون. وهم شافعيون يعنون بأمور دينهم ويشيدون
المساجد من الأخشاب المتينة». وبعد أن قضى «ابن بطوطة» ليلة فى
«ممبسة» ركب البحر إلى مدينة «كلوة»، وقال عنها: «إنها مدينة
كبيرة، بيوتها من الخشب، وأكثر أهلها زنوج مستحكمو السواد،
وهم شافعيون، ويحكمها السلطان «أبو المظفر حسن»، وقد كان
فى قتال دائم مع السكان المجاورين، وعرف بتقواه وصلاحه، كما
كان محسنًا كريمًا».
ولم يكن السلطان «أبو المظفر حسن» الذى زار «ابن بطوطة» «كلوة»
فى عهده فارسى الأصل، بل كان من أصل عربى صميم، فهو من
بيت «أبى المواهب الحسن بن سليمان المطعون بن الحسن بن طالوت
المهدلى» اليمنى الأصل. وقد انتقل الحكم من البيت الفارسى إلى هذا
البيت العربى منذ عام (676هـ = 1277م)، وظل هذا البيت يحكم هذه
السلطنة حتى جاء البرتغاليون وقاموا بغزوها فى عام (1505م). وقد
ازدادت الهجرات العربية فى عهد هذا البيت العربى الحاكم فى
«كلوة»، مما جعل الطابع العربى يتغلب على الطابع الفارسى فى
مظاهر الحياة المختلفة، فاللغة الغالبة هى اللغة العربية التى كانت
تُكتَب بها سجلات «كلوة» بجانب اللغة السواحلية، كما كان المذهب
الدينى السائد هو المذهب الشافعى السُّنى وليس المذهب الشيعى،(9/103)
الذى أتى به البيت الحاكم الأول على يد «على بن حسن بن على
الشيرازى»، وما زالت أغلبية المسلمين فى هذه المنطقة من السُّنة
الشافعية حتى الآن.
على أية حال فقد انفعل سلاطين هذه السلطنة سواء أكانوا من
الفرس أم من العرب بالحياة والتقاليد الإسلامية كل الانفعال، فأكثروا
من بناء المساجد والمدارس، واهتموا بالعلوم الإسلامية، واستقدموا
العلماء ورحبوا بالأشراف والصالحين، كما شاركوا فى الجهاد ضد
الوثنيين الذين كانوا يقيمون فى الداخل، وقد أشار إلى ذلك «ابن
بطوطة» وقال: «إن سلطانها كان كثير الغزو إلى أرض الزنوج، يغير
عليهم ويأخذ الغنائم فيُخرج خمسها ويصرفه فى مصارفه المعينة
فى كتاب الله تعالى، ويجعل نصيب ذوى القربى فى خزانة على
حدة، فإذا جاءه الشرفاء دفعه إليهم، وكان الشرفاء يقصدونه من
العراق والحجاز وسواها .. وكان هذا السلطان له تواضع شديد ويجلس
مع الفقراء ويأكل معهم ويعظم أهل الدين والشرف».
غير أن ازدهار «كلوة» لم يتجاوز منتصف القرن الرابع عشر؛ إذ أخذ
نجمها فى الأفول بسبب تعرضها لبعض الاضطرابات الداخلية، وبدأت
مدينة «بات» فى شمالها تقوى وتثرى لانتقال تجارة الذهب إليها،
وأخذت فى التوسع صوب «كلوة» فى عهد أسرة «بنى نبهان»
العربية التى أسست سلطنة قوية فى مدينة «بات» فرضت سلطانها
على كثير من بلاد الساحل الشرقى لإفريقيا، كذلك قام حاكم
«سوفالة» بالتخلص من سيادة «كلوة» وأعلن استقلاله عنها،
وانتهى الأمر إلى نزوح بعض العرب من «مالندة» (مالندى) إلى
«كلوة» وتولوا مناصب الوزراء والأمراء وأبقوا على السلطان الذى لم
يكن له من الحكم إلا الاسم فقط، وقام الصراع بين أفراد البيت الحاكم
على منصب السلطان فى القرن الخامس عشر الميلادى، وتعاقبوا
على العرش الواحد بعد الآخر، وقل المال حتى إن الحكومة لم تجد ما
تنفقه على إصلاح المسجد الكبير بعد أن أصابه الخراب.(9/104)
وقد أعطى كل هذا الفرصة للبرتغاليين للسيطرة على مقاليد الأمور
فى البلاد، ففى عهد «فضيل بن سليمان» آخر سلاطين «كلوة» الذى
بلغ عددهم (29) سلطانًا احتل البرتغاليون مدينة «كلوة» عام
(1505م)، وفى أخريات القرن السابع عشر وقعت «كلوة» تحت
سيادة سلاطين عُمان الذين قضوا على النفوذ البرتغالى فى بلادهم
ثم فى شرق إفريقيا. ولما فصل هؤلاء السلاطين ممتلكاتهم الأسيوية
عن ممتلكاتهم فى إفريقيا فى عام (1856م) آلت «كلوة» إلى سلطان
«زنجبار» العُمانى، ثم استولى عليها الألمان عام (1885م)، وفى عام
(1919م) أصبحت جزءًا من «تنجانيقا» (تنزانيا الحالية).(9/105)
الفصل الثامن عشر
*سلطنة بات النبهانية فى شرق إفريقيا
[600 - 1278هـ = 1203 - 1861م]
ظهرت هذه السلطنة على مسرح التاريخ نتيجة لهجرة عربية وفدت من
«عُمان» إلى ساحل شرقى إفريقيا فى أوائل القرن السابع للهجرة
الثالث عشر الميلادى؛ حيث كونت سلطنة إسلامية نبهانية فى «بات»
تولت حكم شطر كبير من هذا الساحل، وظلت موجودة حتى عام
(1278هـ = 1861م).
والنباهنة قوم من العتيك من الأزد فى «عُمان» كانوا قد استولوا
على مقاليد السلطة هناك بعد أن دبت الفوضى فى البلاد وانقسم
العمانيون إلى طائفتين متخاصمتين، وحكم النباهنة عمان نحوًا من
خمسمائة عام، حيث قامت دولتهم هناك عام (500هـ= 1106م) أو عام
(506 هـ= 1112م) واستمرت حتى نهاية القرن العاشر الهجرى عندما
قامت دولة اليعاربة فى عُمان عام (1024هـ = 1615م).
ويبدو أن الدولة النبهانية فى عمان قد مرت بأطوار من القوة
والضعف بسبب الصراع الداخلى على الحكم، وكان الطور الأول يشمل
مدة قرن من الزمان والذى انتهى بهجرة أحد ملوك النباهنة، وهو
على أرجح الأقوال «سليمان ابن سليمان بن مظفر النبهانى» إلى
ساحل شرقى إفريقيا فى عام (600 - 611هـ) واستقر هو وأتباعه
فى مدينة «بات» التى تقع فى «أرخبيل» لامو (فى كينيا الآن).
وأقاموا سلطنة هناك وحكموا جزءًا كبيرًا من الساحل متخذين من
«بات» مقرا لسلطنتهم، وذلك بعد أن استطاع أول سلطان لهم هناك،
وهو «سليمان بن سليمان بن مظفر النبهانى»، أن يتزوج أميرة
سواحيلية، ليست فارسية، هى ابنة «إسحاق» حاكم «بات» فى ذلك
الحين، وعن طريق زوجته ورث الملك، كما يقال: إن والدها تنازل له
عن الحكم فأصبح الحاكم الشرعى لبات، ومن ثم نقل بلاطه من عُمان
إلى شرق إفريقيا.
وقد نمت هذه السلطنة واتسعت فى عهد أبنائه وأحفاده، ففى عهد
السلطان «محمد الثانى بن أحمد» (690 - 732هـ = 1291 - 1331م)
توسعت السلطنة شمالا بعد حملات ناجحة قام بها هذا السلطان أخضع(9/106)
فيها كل المدن الساحلية التى تقع شمالى «بات» حتى «مقديشيو»
وعين حاكمًا لكل منها.
وفى عهد ابنه السلطان «عمر الأول» (732 - 760هـ = 1331 -
1358م)،توسعت السلطنة جنوبًا؛ حيث أخضع المدن الساحلية بما فيها
«كلوة»، ووصل إلى جزر «كيرمبا» جنوب رأس «دلجادو»، وخضعت
له كل هذه المنطقة ماعدا جزيرة «زنجبار» التى لم تكن فى ذلك
الوقت قطرًا مهما بدرجة تجذب انتباهه إليها. كذلك فإن حكام
«مالندى» أتوا إلى «بات» ليعطوا ولاءهم لسلطانها، ودخلت أيضًا
مدينة «ممبسة» والمستوطنات القريبة منها ضمن منطقة نفوذه،
وهكذا أصبح السلطان «عمر بن أحمد» فى غاية القوة والنفوذ بعد
أن أصبحت جميع المدن الساحلية تحت سيطرته.
وقد استمرت سيطرة النباهنة على هذه المناطق وكان لهم فى كل
مدينة خضعت لهم عامل أو قاضٍ يعرف باسم «ماجومب» بمعنى
الخاضع لليمب أى للقصر الملكى فى «بات»، وكانت دار الشورى
فى «بات» مقرا للحكومة المركزية التى كانت تحكم كل البلاد التى
خضعت لهؤلاء السلاطين الذين اتخذوا اللقب السواحيلى «بوانا
فومادى»، أو «فومولوتى» ويعنى الملك أو السلطان.
وقد تميزت سلطنة «بات» بنظم إدارية وتقاليد سياسية واضحة،
وانفردت بتقاليد جديدة فى الملاءمة بين الضرائب وبين النشاط
الاقتصادى للأهالى، إذ فرضت ضريبة إنتاج لا يتعدى مقدارها 10%،
ذلك أن الدولة كانت تتقاضى وسقين أو حملين من كل عشرين وسقًا
تنتجها كل جماعة مشتغلة بالزراعة، وهى الضريبة المعروفة
بالعشور فى الفقه الإسلامى، كما دخلت الزراعة فى بقاع كثيرة من
الساحل الإفريقى فى فترة الحكم النبهانى، وظهر كثير من النباتات
التى زرعها العرب هناك مثل القرنفل وقصب السكر، كما اهتموا
بالرعى وتربية الماشية والأغنام وأدخلوا تربية الإبل إلى هذه
المناطق.
وقد نشطت الحركة التجارية فى عهد ازدهار هذه السلطنة إلى حد
كبير، وتوافد على الساحل التجار العرب من عُمان وغيرها، وكذلك(9/107)
تجار الهند المسلمون، وقد عمل هؤلاء التجار بنقل الحاصلات
المتوافرة فى شرق إفريقيا إلى البلدان المطلة على المحيط الهندى،
وإلى الأسواق العربية فى مصر والشام والعراق، فأصبحت الدولة
على جانب كبير من الثراء.
وقد نتج عن هذا الثراء تطور حضارى كبير، فقد أنشأ أهل «بات»
منازل كبيرة واسعة، وضعوا فيها لمبات نحاسية جميلة، كما صنعوا
سلالم أو درجات مزينة بالفضة يتسلقونها أو يصعدون عليها إلى
فرشهم أو سُررهم، كما صنعوا سلاسل فضية تزين بها الرقاب،
وزينوا أعمدة المنازل بمسامير كبيرة من الفضة الخالصة، وبمسامير
من الذهب على قمتها. وقد تجلت مظاهر هذه الحضارة العربية أيضًا
فى المبانى المعمارية وتخطيط المدن وزخارف الأبواب والنوافذ، كما
أدخل العرب فن النقش والحفر والنحت وعقود البناء العالية
والفسيفساء المتناسقة مع الرخام الملون.
وفى مجال الثقافة واللغة والعلوم والفنون ظهر فى تلك الفترة ما
يعرف باللغة السواحيلية، وهى الفترة التى كانت فيها سلطنة «بات»
النبهانية صاحبة السيطرة والنفوذ على معظم أجزاء الساحل الشرقى
لإفريقيا كما سبق القول، مما أدى إلى وجود تأثير عربى قوى فى
اللغة السواحيلية حتى فى المناطق الجنوبية التى تقع فى
«تنجانيقا» و «زنجبار»، حيث ظهرت أفصح أنواع اللغة السواحيلية.
ونتيجة لذلك ظهرت نظرية تقول بأن الشعب السواحيلى ولغته نشأ
كل منهما حول «لامو» حيث توجد «بات»، وأن المهاجرين العرب
الذين أقاموا فى «لامو» وأنشئوا هذه الإمارة تزوجوا من نساء
«البانتو» واضطروا إلى استخدام عدد من الكلمات البانتوية بحكم
معيشتهم اليومية مع زوجاتهم، ونشأ أولاد «مولَّدون» أى نصف عرب
ونصف بانتو، مزجوا بين اللغة العربية لغة آبائهم، وبين لغة البانتو
لغة أمهاتهم، ومع استمرار التزاوج والاختلاط والمصاهرة تكوَّن
الشعب السواحيلى وظهرت اللغة السواحيلية التى أصبحت لغة التجارة(9/108)
ولغة الحياة اليومية، وسرعان ما انتشرت هذه اللغة فى شرق ووسط
إفريقيا نظرًا لغناها ومرونتها.
ولاشك أن انتشار اللغة السواحيلية بين السكان الأصليين، بجانب
اللغة العربية التى كانت لغة الطبقة العربية الحاكمة، كان له أثره
الكبير فى نشر الإسلام وثقافته بين القبائل الإفريقية التى تقيم على
الساحل، وتلك التى تقيم حول طرق القوافل الرئيسية مما جعل اللغة
السواحيلية عاملا قويا فى توحيد السكان فى هذه المنطقة من القارة
على اختلاف ألوانهم وتباين لغاتهم وتعدد قبائلهم وشعوبهم
وأجناسهم، مما أدى إلى ظهور ثقافة مشتركة هى الثقافة
السواحيلية التى غلبت عليها السمة العربية.
ومن ثم فقد ساعد ذلك كثيرًا على انتشار الإسلام بين السكان
المحليين وتطعيم ثقافتهم بعناصر عربية كثيرة، خاصة أن هذه اللغة
كتبت بحروف عربية، واستمرت كذلك حتى جاء الاستعمار الأوربى
الحديث وحوَّلها إلى الكتابة بالحروف اللاتينية بهدف إيجاد فاصل بين
الثقافة الإسلامية والثقافة السواحيلية الحديثة. وعندما كانت
السواحيلية تكتب بحروف عربية دخلها كثير من الألفاظ العربية، وقد
قدر عدد هذه الألفاظ بحوالى عشرين بالمائة من لغة التخاطب،
وثلاثين بالمائة من السواحيلية المكتوبة، وخمسين بالمائة من لغة
الشعر السواحيلى القديم، كما أن العرب غرسوا فى السواحيليين حب
الأدب وفنون الشعر وخرج منهم شعراء وخطباء مطبوعون، وأصبح
لهم أدب يعتزون به، وتكوَّن تراث كبير من الشعر والنثر السواحيلى
مكتوب بالحروف العربية يشتمل على أعمال دينية ودنيوية، حتى
إنهم عرفوا الشعر الغنائى (المشارى) منذ زمن بعيد يعود إلى ما قبل
عام (545هـ = 1150م) ومازالوا ينظمونه، كما كتبوا شعر الملاحم
المعروف باسم «التندى».
كذلك مهدت اللغة السواحيلية السبيل أمام ظهور شعب جديد هو
الشعب السواحيلى، وقد ساعد فى تكوين هذا الشعب ميل
المستوطنين العرب إلى السلم وحبهم للسكون والاستقرار، فإن(9/109)
مستوطناتهم وإماراتهم وسلطناتهم لم تقم على الفتح بل على
التجارة، والتجارة كما هو معروف لا تنشط إلا فى جو من السلام
والأمن والعلاقات الطيبة، كما أن أخلاق الإفريقيين، وطباعهم كانت
قريبة من طباع العرب الذين اعتاد الأفارقة رؤيتهم ورؤية أحفادهم
يوغلون فى البلاد ويعملون بالتجارة وينشرون الإسلام والوئام بين
الناس، فظهر التآلف واتحدت الأهواء والميول، وظهر ما يعرف
بالشعب السواحيلى.
وقد دعم «النباهنة» هذه الثقافة السواحيلية ذات الطابع الإسلامى
وذلك بالعمل على نشر التعليم الدينى فى المساجد والمدارس
والكتاتيب التى وفد إليها كثير من الوطنيين الأفارقة ليحفظوا القرآن
الكريم ويتعلموا الكتابة بالحروف العربية، بل ويتعلموا اللغة العربية
ذاتها، حتى يتمكنوا من التعمق فى فهم عقيدة الإسلام وتراثه الدينى
واللغوى، وهكذا نرى أن سلطنة «بات» النبهانية قد فرضت نفوذها
على معظم أنحاء الساحل الشرقى لإفريقيا، وأنشأت حضارة
إسلامية تغلغلت جنوبًا وحملها المهاجرون والتجار العرب معهم لا إلى
الساحل فقط، بل إلى الجزر المواجهة له مثل جزر «كلوة» و «زنجبار»
و «بمبا» و «مافيا»، مكونة بذلك دولة كبيرة تعدد سلاطينها حتى بلغ
عددهم اثنين وثلاثين سلطانًا، وقد ظلت هذه السلطنة قائمة رغم
مهاجمة البرتغاليين لها، وبعد طردهم برز العُمانيون فى الميدان
ووضعوا أيديهم على هذا الساحل بما فيه سلطنة «بات»، وظل الأمر
على هذا النحو حتى جاء الإنجليز واحتلوا هذه البلاد قرب نهاية القرن
التاسع عشر للميلاد، حتى تحررت وصارت تعرف اليوم باسم
«جمهورية كينيا».(9/110)
الفصل التاسع عشر
*الإسلام فى الجزر الإفريقية
أما الجزر الإفريقية المواجهة للساحل الشرقى الإفريقى فقد كانت
مراكز تجارية وإسلامية مهمة، زخرت بالحياة الإسلامية وانتشر فيها
الإسلام بصورة قوية، فمعظم سكان «زنجبار» من المسلمين ويتبعون
المذهب «الشافعى»، واللغة التى تسود البلاد هى السواحيلية وهى
لغة إفريقية فى مبناها، عربية فى كثير من مفرداتها، وقد عرف
العرب «زنجبار» قبل الإسلام بأعوام طويلة واستمر ترددهم عليها
ولاسيما منذ القرن الثامن الميلادى، فقد هاجر إليها كثير من العرب،
وكانت تحت سيطرة حكام «كلوة» الإسلامية، ثم وقعت تحت حكم
البرتغاليين منذ عام (1503م) فشيدوا كنيسة كبيرة فى مدينة
«زنجبار»، وقضوا على حكم دولة الزنج.
ولما ازدهرت سلطنة «عُمان» فى جنوب شبه الجزيرة العربية وقضت
على حكم البرتغاليين هناك وفى شرق إفريقيا، انتقل حكم
«زنجبار» إلى العُمانيين وأصبحت جزءًا من أملاكهم ثم نقل السلطان
«سعيد بن سلطان» مقر حكمه إليها عام (1832م)، ثم أصبحت محمية
بريطانية عام (1890م)، وظل سلاطين «آل بوسعيد» يتولون حكمها
تحت السيطرة البريطانية حتى نالت زنجبار استقلالها عام (1963م)،
ثم انضمت إلى تنجانيقا فى اتحاد عرف باسم «تنزانيا».
والإسلام هو الدين السائد فى «زنجبار»، وتقدر نسبة المسلمين بنحو
(90%) من مجموع السكان، منهم الشافعية ومنهم الشيعة الإسماعيلية
والإباضية. وفى كل من «زنجبار» و «بمبا» محكمة شرعية لكل منها
قاضيان أحدهما سُنِّى والآخر إباضى، والمساجد كثيرة ولكل طائفة
من الطوائف جمعياتها التى ترعى شئونها ومدارسها ومكاتبها
لتحفيظ القرآن. ويوجد فى «زنجبار» بعض الآثار العربية والشيرازية،
وأهمها بعض المساجد الكبيرة وخاصة مسجد فى قرية «كيز
مكازى» والذى شيد عام (500هـ = 1107م) على الطراز الفارسى.
أما جزيرة «ملجاش» التى كانت تعرف باسم «مدغشقر»، وهى أكبر(9/111)
الجزر الإفريقية، فقد عرفها العرب منذ القرن التاسع الميلادى على
الأقل، واختلط سكانها الأصليون بالمهاجرين العرب الذين جاءوا إليها
من «زنجبار» و «جزر القمر» وغيرها، واعتنق الإسلام عدة قبائل
ملجاشية، وتقدر نسبة المسلمين الآن بحوالى (20%) من السكان
تقريبًا، وقد كانت من قبل مقرا لسلطنة عربية إسلامية تسمى سلطنة
«مسلج» أشار إليها (جيان) وقال إن أهلها كانوا يتكونون من جالية
عربية وفدت من شرق إفريقيا، وقد أشار المسعودى والإدريسى
إلى هذه الجزيرة، وقالا إن فيها خلائق من المسلمين ويتوارثها ملوك
من المسلمين وأن الإسلام غلب عليها.
والحقيقة أن مظاهر الإسلام فى هذه الجزيرة، كانت واضحة وبارزة
قبل الغزو الأوربى لها، فالمساجد كانت منتشرة بكثرة، والأهالى
يحافظون على أداء الشعائر والعبادات الإسلامية، فقبيلة
«الساكلافا» على سبيل المثال يصوم كل أفرادها حتى الآن مسلمون
ومسيحيون شهر رمضان، على اعتبار أن الصوم من التقاليد الموروثة
عندهم، وهم لايأكلون لحم الخنزير، ولاتزال أسماء زعمائهم أسماء
إسلامية. وجميع المدغشقريين حتى الذين دخلوا المسيحية على أيدى
الأوربيين اعتادوا أن يختنوا أولادهم، ولايزالون يتلون عند الزواج
آيات من القرآن الكريم على اعتبار أن ذلك من التقاليد الموروثة
أيضًا، ولايزال أهالى ثغر «ماجنقا» وجميعهم مسلمون يكتبون لغتهم
بالأحرف العربية، ويتكلم بها بعضهم.
أما «جزر القمر» التى تقع شمال غربى «مدغشقر» فيقدر عدد
المسلمين فيها بأكثر من (95%) من مجموع السكان، والبقية مسيحيون
من أصل فرنسى أو ملجاشى، وقد نزل العرب فى هذه الجزر فى
القرن العاشر الميلادى، والمسلمون فيها يتبعون المذهب الشافعى
ويتكلمون اللغة السواحيلية. وقد اعتنقوا الإسلام منذ القرن العاشر
الميلادى، وقد غزاهم أمراء «كلوة» فى القرن الحادى عشر
الميلادى واستولوا على بلادهم، ثم جاء الاستعمار البرتغالى فى(9/112)
أوائل القرن السادس عشر، ولم يلبث الأهالى أن ثاروا عليه وأخرجوه
من بلادهم.
والمؤرخون لايزالون يتحدثون عن حسن تمسك أهل هذه الجزر
بالإسلام وعن كثرة المساجد التى وصل عددها إلى (670) مسجدًا فى
المدن والقرى، ويشيرون إلى انتشار الكتاتيب والمدارس التى تعلم
الدين واللغة العربية بجانب اللغة السواحيلية. والعربية هى اللغة
الرسمية، فبها تصدر الأوامر السلطانية وأحكام القضاة، أما
السواحيلية فهى لغة التجارة. وكذلك فإن عادات الأهالى فى الزواج
والختان والولادة وفى الاحتفال بالأعياد الإسلامية وبصوم شهر
رمضان وبليلة القدر وبليلة الإسراء والمعراج وغيرها من المناسبات
الإسلامية لا تبعد عن العادات والتقاليد التى يتبعها المسلمون فى
بلدان العالم الإسلامى الأخرى، مما يدل على مدى عمق العقيدة
الإسلامية فى نفوسهم، وعلى مدى الجهد الكبير الذى بذله الدعاة
والتجار من العرب وغيرهم فى نشر الإسلام فى هذه الجزر، حتى
أصبح كل أهلها يدينون بهذا الدين، ولذلك لا عجب أن انضمت هذه
الجزر إلى الجامعة العربية منذ بضع سنين.(9/113)
الفصل العشرون
*طابع الإسلام والثقافة الإسلامية فى شرق إفريقيا
بعد الحديث عن السلطنات الإسلامية وحركات الجهاد فى بلاد الحبشة
والصومال وعلى طول الساحل الشرقى الجنوبى حتى نهر
«زمبيزى» فى «موزمبيق» نلقى نظرة على طابع الإسلام فى تلك
الجهات وعن مدى انفعال تلك الشعوب بالإسلام، ومدى انتشار
الثقافة الإسلامية فى هذه المناطق.
تميزت الإمارات الإسلامية فى هذه المنطقة بطابع أثر فى كيانها
السياسى وفى موقفها ضد الأحباش والبرتغاليين وفى عطائها
الحضارى والثقافى. هذا الطابع تمثل فى أن هذه السلطنات والممالك
لم يكن بينها أى نوع من أنواع الوحدة السياسية، وكان من أثر ذلك
خضوع معظم هذه الإمارات للأحباش فى النهاية رغم حركات الجهاد
التى استمرت نحو أربعة قرون من الزمان.
وترجع هذه الفرقة السياسية إلى أن هذه السلطنات تكونت من بطون
عربية مختلفة فضلا عن اختلاف المذاهب الدينية فيما بينها.
فكانت هذه المدن والسلطنات تستقل كل واحدة منها عن الأخرى
بنشاطها التجارى، وكانت العداوات لاتفتأ تشتعل فيما بينها، مثل
النزاع بين «مالندة» و «ممبسة» والذى استمر حتى قدوم البرتغاليين
الذين استغلوه فى السيطرة على هذه المنطقة، وقد بلغت البغضاء
بين هذه المراكز الإسلامية حدا جعل بعضها يتعاون مع البرتغاليين
نكاية فى الآخرين.
إذن كان طابع هذه الإمارات اقتصاديا صرفًا، فتنوعت مشروعاتها
الاقتصادية، واشتغلت بالزراعة فى المناطق الخصبة، وجلبت
مزروعات جديدة لم تألفها البلاد من قبل مثل البرتقال والذرة والفلفل
والأرز والقرنفل. وكان لها أيضًا نشاط صناعى، فقد عرفت
«مقديشيو» بصناعة المنسوجات الرفيعة التى كانت تصدر إلى العالم
الإسلامى كما عرفت «سوفالة» باستخراج الذهب إلى جانب التجارة
فى العاج وجوز الهند والرقيق. وقد أدى ذلك إلى ثراء هذه المدن
والسلطنات ثراءً كبيرًا ظهر فى وصف الرحالة العرب وغيرهم لها.(9/114)
وقد ترك هذا النشاط الاقتصادى أثره فى الحياة الاجتماعية وأدى
إلى تنوع الطبقات، فهناك الطبقة الأرستقراطية من العرب، وطبقة
الهنود الذين تركزت فى أيديهم الشئون المالية والمصرفية، وطبقة
خليط من العرب وأهل البلاد الأصليين، ثم طبقة العبيد الذين كانوا
يقومون بالأعمال اليدوية فى المزارع والمصانع والمتاجر.
وقد تأثرت الثقافة الإسلامية بهذا النوع من الحياة التجارية وبحركات
الجهاد المستمر الذى فُرض عليها، سواء فى الشمال من مقديشيو ضد
الأحباش أم فى جنوبها ضد البرتغاليين. فالمدن التجارية والسلطنات
التى قامت على طول الساحل كانت ذات صلات وثيقة بالعالم
الإسلامى، وشئون التجارة تفرض تلك الصلات وتنميها وتعمقها،
وكان للتجارة جانبها المضىء فى نشر الإسلام وثقافته فقد أتت
معها الفرق والمذاهب التى عرفتها الحياة الإسلامية وقد انتشر فقهاء
اليمن والحجاز ومصر فى تلك المناطق، وكان هؤلاء غالبًا ما يعملون
بالتجارة، وكان تأثيرهم كبيرًا فى إذكاء حركات الجهاد هناك، وقد
وفد إلى الأزهر كثير من الطلاب والعلماء وأنشئ به رواق لأهل
«زيلع» ورواق للجبرتية.
وبرز من هؤلاء العلماء الوافدين إلى مصر طائفة كبيرة من أمثال
الشيخ الإمام الزيلعى «فخر الدين عثمان بن على» المتوفى سنة
(742هـ = 1342م) والمحدث الزيلعى «جمال الدين عبدالله بن يوسف»
المتوفى سنة (762هـ = 1362م) والعارف بالله «الشيخ على
الجبرتى» المتوفى سنة (899هـ= 1493م)، وكان هؤلاء العلماء
يعودون إلى بلادهم لمتابعة نشاطهم العلمى. وقد وفد إلى تلك البلاد
بعض العلماء المصريين، فابن بطوطة يشير إلى وجود أحد علماء
مصر وهو «ابن برهان المصرى» فى «مقديشيو».
وقد ترك الجهاد فى هذه السلطنات أثره فى الحياة الثقافية فقد
صبغت الثقافة الإسلامية هناك بطابع دينى عميق، فقد كان الفقهاء
والعلماء من وراء حركات الجهاد التى قام بها سلاطين «عَدَل»،(9/115)
وظهر الأمراء الأئمة منذ القرن الخامس عشر الميلادى، وكان هؤلاء
السلاطين يأتمرون بأمر الفقهاء ويتلقون منهم التوجيه والإرشاد.
وكان انتشار الإسلام يسير فى ركاب حركات الجهاد التى قام بها
السلاطين فى «أوفات» و «عدل» و «هرر». وليس ثمة شك فى أن
انتشار الإسلام كان مصحوبًا بنشاط تعليمى واضح؛ إذ كلما انتشر
الإسلام فى مكان خف إليه الفقهاء والمعلمون وأقاموا المدارس
والكتاتيب، وقد لاحظ المستشرق «توماس أرنولد» أثناء تنقله فى
بلاد الحبشة أن الوظائف التى تتطلب خبرة خاصة ومستوى ثقافيا
معينًا كان لا يشغلها إلا المسلمون، ويعلل ذلك بأن المسلمين كانوا
يعلمون أبناءهم القراءة والكتابة فى الوقت الذى كان فيه أبناء
المسيحيين لايتعلمون إلا إذا أرادوا الانتظام فى سلك الكهنوت.
وربما كانت الحياة الثقافية فى السلطنات الإسلامية التى انتشرت من
«مقديشيو» صوب الجنوب أكثر ازدهارًا منها فى مدن الشمال، فقد
عاشت هذه المدن عيشة رخاء وطمأنينة منذ نشأتها الأولى حتى
بداية الاحتلال البرتغالى فى أواخر القرن الخامس عشر الميلادى، ولم
تشهد ما شهدته مدن الشمال من جهاد لأجل البقاء، ولذلك كان أمامها
من الوقت ما تعطيه لرعاية الفنون والآداب وأنواع الثقافة الإسلامية
المختلفة.
وقد حمل إليها العرب والفرس حبهم للأدب والشعر، ويبدو أن فترة
الاحتلال البرتغالى وما أعقبها من تحرر وانطلاق أنتجت نهضة أدبية
وصلت غايتها فى القرن الثامن عشر الميلادى، وامتدت إلى الأدب
الشعبى السواحيلى، فظهر فى هذا الميدان شاعر من أهل الجنوب
اسمه «موياس بن الحاج الغسانى» بلغ إنتاجه درجة عالية من التفوق.
كما أنتجت ثقافة دينية عميقة تمثلت فى مؤلفات السيد «عبدالله بن
على» فى كتابه المسمى «الانكشاف» وكان يدرس فى المدن
الجنوبية كلها فى الأربطة والزوايا وغيرها.
وأيضًا فى الهمزية التى ألفها السيد «عيد اروس بن الشيخ على» من(9/116)
أهل «لامو» والتى اشتملت على نزعة دينية عميقة.
وكان تأثر تلك البلاد بالتقاليد والحياة الإسلامية واضحًا فى انتشار
الطرق الصوفية، وقد تم تبسيط هذه الطرق لتلائم عقلية البدائيين من
أهل تلك البلاد.
ويبدو أن الطرق الصوفية لم يكن لها وجود كبير فى القرن الثامن
الهجرى الرابع عشر الميلادى فى الوقت الذى زار فيه «ابن فضل الله
العمرى» هذه البلاد، فهو يتحدث عن المدارس والخوانق والروابط
والزوايا ولايشير إلى الصوفية إلا كأفراد.
والقادرية هى أولى الطرق الصوفية التى دخلت بلاد الحبشة على
أيدى المهاجرين من اليمنيين والحضارمة، وقد انتشرت الفرق
الصوفية فى «مصوع» و «زيلع» و «مقديشيو» وفى المراكز الإسلامية
على الساحل الشرقى جنوب «مقديشيو»، وفى الجزر الإفريقية
المواجهة له.
وقد ذاعت بين مسلمى الحبشة والصومال عادة تقديس الأولياء
وانتشرت أضرحتهم فى طول البلاد وعرضها، وأغلبهم من الغرباء
الذين وفدوا على البلاد وادعوا انتسابهم إلى بنى هاشم، وقد ظهر
فضلهم وتقواهم وتقشفهم وعلمهم، فتأثر بذلك المسلمون الذين نالوا
حظًا محدودًا من التعليم ولاسيما فى المدن والقرى. وكان هؤلاء
الشيوخ يؤمون الناس فى الصلاة ويعلمونهم القرآن والحديث، فإذا
ماتوا أصبحت أضرحتهم مركزًا للتعليم يفد إليها الناس، ومن أشهر
هؤلاء الأولياء «الشيخ سعد الدين» فى «زيلع»، والشيخ «عمر
السكرى»، و «الأمير نور بن المجاهد» فى «هرر».
وعلى ذلك فقد قامت سلطنات وإمارات إسلامية فى بلاد الحبشة
والصومال وجنوبًا على طول الساحل الشرقى حتى نهر «زمبيزى»
فى «موزمبيق»، وفى الجزر الإفريقية المواجهة له. وكان نصيب هذه
الإمارات هو الدخول فى صراع الحياة والموت أمام خطر الأحباش
بالنسبة إلى السلطنات الشمالية وطوال أربعة قرون من الثانى عشر
إلى السادس عشر، ذلك الصراع الذى انتهى بإخضاع معظم هذه
الإمارات سياسيا للأحباش حتى تم تحرير معظمها فى النصف الثانى(9/117)
من القرن العشرين، ثم مواجهة خطر البرتغاليين بالنسبة إلى سلطنات
الجنوب بدءًا من القرن السادس عشر وطوال القرن السابع عشر،
حتى تم تحرير تلك المناطق من البرتغاليين على يد العرب العُمانيين.
وإذا كان الإسلام قد انتشر فى إفريقيا جنوب الصحراء على هذا
النحو الذى تحدثنا عنه، فقد أصبحت القارة الإفريقية هى القارة
المسلمة الوحيدة فى العالم كله؛ حيث إن أغلبية سكانها بما لا يقل
عن (65%) مسلمون، وأصبح الإسلام هو مستقبلها، فما هو الأثر الذى
تركه منذ انتشاره فى هذه القارة؟
أثر الإسلام فى إفريقيا جنوب الصحراء:
قبل أن نتحدث عن أثر الإسلام فى حياة الأفارقة جنوب الصحراء نود
أن نقدم لهذا الحديث بشهادة وردت على لسان أحد الأوربيين
المنصفين ويسمى «ميك» فى كتابه فقال: «إن الإسلام لم يترك أثرًا
عميقًا فى التركيب الجنسى لهذه الشعوب فحسب، بل إنه جاء
بحضارة أتاحت للشعوب الزنجية طابعًا حضاريا لايزال واضحًا حتى
اليوم مؤثِّرًا فى نظمهم السياسية والاجتماعية، ذلك أن الإسلام حمل
الحضارة إلى القبائل المتبربرة، وجعل من المجموعات الوثنية
المنعزلة المتفرقة شعوبًا، وجعل تجارتها مع العالم الخارجى
ميسورة. فقد وسع من الأفق ورفع من مستوى الحياة بخَلْق مستوى
اجتماعى أرقى، وخلع على أتباعه الكرامة والعزة واحترام الذات
واحترام الآخرين .. لقد أدخل الإسلام فن القراءة والكتابة، وحرم
الخمر، وأكل لحوم البشر، والأخذ بالثأر، وغير ذلك من العادات
الوحشية، وأتاح للزنجى السودانى الفرصة لأن يصبح مواطنًا حرا فى
عالم حر».
وشهادة ثانية يتحدث فيها صاحبها «جرانفيل» (الكونغولى) فى
العصر الحديث عن شىء من أثر العروبة والإسلام فى عمق القارة
فيقول: «لقد زوَّر البلجيك فى الكونغو، فليست مدينة ستانلى فيل
سوى مدينة تيبوتيب وهو الزعيم حميد بن محمد المرجبى العُمانى
العربى الذى أقام هذه المدينة قبل قدوم الرحالة ستانلى، وليس(9/118)
العرب كما قالوا لنا تجار رقيق، وإنما هم تلك الموجة الإنسانية التى
اختلطت بنا وصاهرتنا وتركوا لنا لغة متولدة من لغتهم - يقصد اللغة
السواحيلية - ودينًا، وحضارة، وسماحة تسرى بين كل الناس، كما
تركوا على أرضنا دماءهم والبلجيك يحصدونهم بالأسلحة الحديثة،
وليس أعز علينا شىء من هذا الدم العربى الذى سال فى الماضى
كما سال ويسيل دمنا الآن فى بلادنا على أيدى أعداء العرب
أنفسهم فى القرن الماضى».
ونشير الآن فى إيجاز شديد إلى أثر الإسلام وحضارته فى شتى
ميادين الحياة فى إفريقيا جنوب الصحراء:
الدين والعقيدة:
وفى هذا المجال نستطيع القول إن الإسلام قضى على العقائد
الوثنية وحلت الوحدانية محل عبادة الأرواح والأسلاف ومظاهر
الطبيعة، فاستبدل الناس الإسلام بهذا الشتات والفرقة الدينية الوثنية
ذات الطبيعة الخرافية والوهمية، وتم القضاء على تحكم أرواح
الأسلاف والأجداد - كما كانوا يعتقدون - فى حياة الأحياء؛ إذ كانت
أرواح هؤلاء الأسلاف من الموتى هم الرؤساء الفعليون للأسرة
وللقبيلة كلها، وهم القوامون والمراقبون لسلوك الأحياء، ولهم عليهم
حق الثواب والعقاب، ولابد من استشارتهم فى كل أمر من أمور
الحياة ومشاكلها. كما قضى الإسلام على الاحتفالات الدينية المهيبة
التى كانت تقام لآلهتهم ولأسلافهم، والتى كانوا يشربون فيها
الخمور ويقدمون فى أحيان كثيرة القرابين البشرية كى ترضى عنهم
الآلهة وأرواح الأسلاف، حررهم الإسلام من كل ذلك ومن أعمال
السحر والكهانة المرتبطة بهذه العقائد الوثنية، وحل الفقيه أو الداعية
المسلم محل الكاهن أو الساحر، وحل المسجد فى القرية الإفريقية
محل دار عبادة الأوثان ذات المنظر البشع، وحلت حلقات الذكر التى
كان الصوفية يعقدونها محل حفلات الرقص الماجنة، وبذلك تحرر
الأفارقة سودانًا كانوا أم زنوجًا من هذا التخلف العقيدى والفكرى
وتم جمعهم على عبادة واحدة وإله واحد وشريعة واحدة ذات نظم(9/119)
واضحة تنظم حياة الفرد والمجتمع.
الحياة الاجتماعية:
وفى هذا الصدد نستطيع القول إن الإسلام خلَّصهم من عادات سيئة
كثيرة مثل العُرْى وأكْل لحوم البشر ودفن الجوارى والخدم والزوجات
مع الملك المتوفى، ووأد الأطفال أحياءً، وكان هؤلاء الأطفال
يوءدون لا لشىء إلا لأنهم وُلدوا مشوهين، أو وُلدوا وبهم مس من
الشيطان كما كان يعتقد آباؤهم، أو لأن أسنانهم العليا ظهرت أولا،
وهو فأل سيئ عندهم، فكانت بعض القبائل تترك هؤلاء الأطفال فى
الغابة تخلصًا منهم، ولكن الإسلام عدَّل هذه العادة بين المسلمين
الأفارقة.
زد على ذلك أن الإسلام علمهم النظافة فأخذ الأهالى الذين لم يتعودوا
من قبل على النظافة يغتسلون ويتنظفون، لأن إقامة الشعائر الدينية
الإسلامية لا تصح إلا بطهارة البدن والملبس والمكان. يضاف إلى ذلك
أن الإسلام نظمهم فى الزواج ونظام الأسرة، إذ جعل الرجل هو
المسئول الأول عن الأسرة لا المرأة كما كان الشأن عند كثير من
القبائل الإفريقية، فصار الأبناء ينسبون لآبائهم وليس لأمهاتهم، كما
حدد عدد الزوجات فى أربع فقط وليس كما كان الحال عندما كان
الرجال يختلطون بالنساء اختلاطًا جماعيا، أو كان للرجل ما يشاء من
نساء حسب قدرته ومقدرته. وبذلك رفع الإسلام مكانة المرأة
وأحاطها بسياج من الاحترام والطهر والعفاف، بعد أن كان الابن يرث
زوجات أبيه بل ويتزوج بهن، وكان نظامهم أن ابن الزوجة الأولى هو
الذى يختص بميراث أبيه كله عند وفاته ويحرم منه باقى الأبناء
فوضع الإسلام نظامًا عادلا لتوزيع التركة بين أفراد الأسرة جميعًا إذا
مات عائلها، حسب نظام دقيق يعطى لكل ذى حق حقه دون زيادة أو
نقصان، ودون ظلم أو بهتان، مما أورث الحب والمودة فى قلوب
الأبناء وزرعها محل الكراهية والبغضاء.
ولا يقل عن ذلك أهمية أن الإسلام أزال تقسيم الناس إلى طبقات
حسب اللون أو العنصر أو الثروة أو المنزلة الاجتماعية، وجعل الإخاء(9/120)
والمساواة والتعاون والتكافل أساس الحياة الاجتماعية، وأصبح
الأسود باعتناقه الإسلام على قدم المساواة مع غيره داخل وطنه،
ومع إخوته فى الإسلام فى أى مكان آخر، مما أشعره بالعزة
والكرامة والاعتداد بالنفس بعد أن كان عبدًا مهانًا يتحكم الملك
الإفريقى الوثنى أو شيخ القبيلة فى أموره كلها بل فى حياته
نفسها، وأصبح سلوك الناس ملوكًا وعامة مضبوطًا بضوابط الإسلام
وشريعته وأحكامه، ولم يصبح مرتهنًا بأوامر الملك المقدس ونزواته
أو نزوات شيخ القبيلة. وبذلك حرر الإسلام الإنسان الإفريقى وكل
إنسان يعتنقه من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
الحياة الاقتصادية:
كان النظام الاقتصادى يقوم على احتكار شيخ القبيلة أو الملوك أو
الزعماء للأرض والثروة الحيوانية والمحاصيل الزراعية وحق المتاجرة
فى سلع معينة، فلا يحق للناس العاديين تملك شىء فقد كانوا هم
والأرض وما ينتجونه منها ملكًا للملك. فلما جاء الإسلام قضى على
ذلك، فأطلق حق التملك حسب الجهد والطاقة وبَذْل المجهود والعمل،
وجعل كسب المال أمرًا متاحًا للجميع كل حسب جده وكده، فقضى
بذلك على الإقطاع والاستغلال والاحتكار، كما قضى على العبودية
ونظام السخرة فصار العامل يأخذ أجره عما يقوم به من عمل بعد أن
كان يعمل فى مزرعة الشيخ أو الملك دون أجر.
كما حرَّم الإسلام الربا وفرض الزكاة التى كان الأغنياء يدفعونها
للفقراء، وكان السلاطين يأخذونها ويوزعونها فى مصارفها
الشرعية، مما جعل حياة الناس محاطة بسياج من العدالة والأمن
والرخاء.
وقد جلب الإسلام للأفارقة منافع مادية ضخمة؛ إذ ربط الساحل
بالداخل من خلال قوافل التجارة التى توغلت حتى الكونغو ومنطقة
البحيرات، وحتى أعماق الغابة فى غرب القارة مما أدى إلى القضاء
على عزلة المناطق الداخلية، بل وعلى عزلة الأفارقة عامة وربطهم
بالعالم الإسلامى الواسع وبتجارته الزاهرة، وقد أتاح لهم إسلامهم(9/121)
أن يخرجوا من أوطانهم المحلية ويتعرفوا هذا العالم الواسع، سواء
أكان من خلال رحلات الحج التى كانوا يقومون بها إلى بلاد الحجاز،
أم من خلال قوافل التجارة التى كانوا يرحلون معها إلى شتى
الأقطار حتى وصل بعضهم إلى الهند والصين.
الحياة الثقافية:
وفى هذا المجال كان أثر الإسلام أمرًا غير مسبوق، ذلك لأن الأفارقة
لم تكن لهم ثقافة ناهضة راقية قبل اعتناقهم الإسلام، ولم يكونوا
يعرفون مجرد القراءة والكتابة، بل لم يكونوا يعرفون من الثقافة إلا
العادات والتقاليد المرتبطة بالكهانة والسحر والشعوذة، وبالطبيعة
من مطر وجدب وإنبات وحصاد ونبوءات وأساطير، فلما جاء الإسلام
أمدهم بالعلم والفن الرفيع، وعلَّمهم القراءة والكتابة، واستقدم لهم
العلماء من مصر والمغرب وتونس وشتى أنحاء العالم الإسلامى، بل
وأرسل طلابهم إلى هذه البلدان استزادة من العلم والفقه، وبنى لهم
المدارس والكتاتيب، وزوَّدهم بلغة القرآن وهى اللغة العربية التى
وحدت مشاربهم ونسقت أفكارهم وربطتهم بالدين والعقيدة
الإسلامية، فمهدت السبيل أمام ظهور ثقافة إفريقية إسلامية مشتركة
بعد أن صارت هذه اللغة هى لغة العلم والدراسة والإدارة والتجارة
والعبادة بل والتخاطب بين قبائل كثيرة فى القارة. وأصبح العلماء
الأفارقة هم حلقة الربط والوصل بين هذا المجتمع السودانى الزنجى
وبقية المجتمعات الإسلامية، بذهابهم إلى هذه المجتمعات كما قلنا
لمزيد من الدراسة والعلم أو تأدية لفريضة الحج، وبذلك تم القضاء
على التخلف الثقافى والحضارى والفكرى الذى كان يسود
المجتمعات الإفريقية، وأصبح الإفريقى يزهو بأنه يجيد القراءة
والكتابة، بل يفخر بأنه أصبح من العلماء والفقهاء مثله فى ذلك مثل
غيره من علماء المسلمين فى كافة ديار الإسلام.
ولقد أدى هذا الرقى العلمى والثقافى الذى وصلوا إليه أن الدول
الإفريقية التى لايحكمها مسلمون كانت الوظائف التى تتطلب خبرة(9/122)
خاصة ومستوى ثقافى معين كان لايشغلها إلا المسلمون من أهلها،
لأن هؤلاء المسلمين كما يقول «توماس أرنولد» كانوا أعلى همة
وأوفر نشاطًا وأرفع مستوى من غيرهم من أصحاب الديانات
الأخرى، لأن كل مسلم كان ملتزمًا بتعليم أبنائه القراءة والكتابة بينما
كان غيرهم لايعلمون أبناءهم إلا عندما يريدون لهم الانتظام فى سلك
الكهنوت. ولم يفعل المسلمون ذلك إلا لأن الإسلام جعل من التعليم
فريضة على كل مسلم ومسلمة، وبذلك تغير حال الأفارقة وأنتجوا
علمًا وفقهًا وأدبًا وحضارة لم يطمس معالمها إلا الاستعمار الأوربى
الذى أصيبوا به فى مطلع العصر الحديث.
الوحدة السياسية:
لم تعرف إفريقيا جنوب الصحراء قبل الإسلام دولا كبيرة أو صغيرة إلا
القليل، وكان النظام القبلى هو السائد، وعندما ظهر الإسلام ودخل
القارة (جنوب الصحراء) لم يكن فيها من الدول المعروفة وقتذاك إلا
مملكة «غانة» الوثنية فى غرب القارة، أما فى وسط القارة فلم يكن
هناك إلا دولة «الكانم» الوثنية فى حوض بحيرة تشاد، وهذه الدولة
لم تنشأ إلا فى القرن التاسع للميلاد، أى بعد ظهور الإسلام بحوالى
قرنين من الزمان، أما فى شرق القارة فكانت هناك دولة واحدة هى
مملكة الحبشة المسيحية، وفى أقصى الجنوب كانت هناك مملكة
«مونوموتابا» الوثنية، وباقى إفريقيا جنوب الصحراء لم يكن فيها
إلا المشيخات القبلية لا غير، وكانت حياة الناس لا ينظمها قانون أو
شريعة، إلا ما يقوله الملك أو الشيخ، فكلمته هى القانون، لأنه هو
الذى يهب الحياة ويقضى بالموت، ويبارك الزرع والحصاد، وينزل
المطر، ويتحكم فى كل ما على وجه الأرض، لأنه ببساطة هو الإله
والرب المعبود.
وعندما جاء الإسلام لم ينشئ دولا صغيرة شبيهة بالتى أشرنا إليها
من قبل فقد أقام إمبراطوريات إسلامية كبرى سبق الحديث عنها،
وجمع القبائل المتفرقة المتنازعة والعناصر المتباينة داخل هذه
الإمبراطوريات الكبيرة، وقضى على عادات هذه القبائل فى النهب(9/123)
والسلب والإغارة، وقضى أيضًا على استبداد الحكام وتألههم
وظلمهم للرعية، بل وجعلهم يخضعون لرجال من رعيتهم نالوا قسطًا
وافرًا من العلم والثقافة هم العلماء والفقهاء، فكانوا لا يبرمون أمرًا
إلا بعد استشارتهم، فعل ذلك - أيضًا - الملوك الوثنيون الذين لم
يكونوا قد دخلوا الإسلام بعد و «البكرى» يقص علينا نبأ ملك «غانة»
الوثنى الذى اتخذ من العلماء المسلمين الذين كانوا يقيمون فى
عاصمته وزراءه ومستشاريه.
وقد أقام الحكام والسلاطين دُورًا للشورى كان واحدها يسمى
«المشور» وكان هذا «المشور» هو المكان الذى يلتقى فيه الحاكم
بالمحكومين، فإذا أصيب أحد من الرعية بظلم أو أصابه مكروه على
يد غيره من الرعية أو الحكام كان يلجأ على الفور إلى «المشور»
ويرفع مظلمته، فكان يقضى فيها على الفور على يد العلماء
والفقهاء أو على يد الوزراء والسلطان نفسه حسب نوع المظلمة.
ولذلك ساد الأمن والأمان والطمأنينة حياة الناس فيما عدا أوقات
الفتن والاضطرابات والحروب.
ونتيجة لذلك كله ارتقت الحياة المادية والعمرانية وازدهرت الحضارة
فى إفريقيا جنوب الصحراء، ويكفى فى ذلك ما سقناه فى صدر هذا
الحديث من شهادات قالها بعض الغربيين المنصفين، وما قاله آخرون
منهم من أن الدول الإسلامية فى إفريقيا جنوب الصحراء شهدت ظهور
مئات المدن ذات المنازل الجميلة المبنية بالحجارة، وكانت هذه المنازل
ذات حدائق جميلة وبعضها - وكما تُبيِّن الحفريات والآثار - كان مصممًا
لأكثر أنواع المعيشة رفاهية وفخامة وكان الناس الذين يعيشون فى
هذه المنازل وتلك المدن ذات الشوارع الفسيحة يرتدون الملابس
الحريرية والقطنية ويتزينون بمقادير كبيرة من الذهب والنحاس
والعاج، كما سكَّوا العملة الذهبية ووجدت عندهم صناعات راقية حتى
إن المنسوجات المقدشية كانت تباع فى مصر وفى شتى أنحاء
العالم الإسلامى.
هذا هو الإسلام وذاك هو تأثيره، وتلك حضارته التى أدهشت الرحالة(9/124)
المسلمين والبرتغاليين ومن أتى بعدهم من الأوربيين، ولكن هذه
الحضارة تلقت ضربة عنيفة على يد الغزاة البرتغاليين وإخوانهم من
الأوربيين الآخرين فى العصر الحديث حيث أخضعوا هذه القارة
بكاملها لنفوذهم وسيطرتهم ونهبهم واستغلالهم، وحاربوا الإسلام
وثقافته وحضارته ولغته بقدر ما وسعهم الجهد وبكل وسيلة ممكنة
ولكن إفريقيا جنوب الصحراء بعد أن نالت استقلالها بدأت تفيق من
هذا الكابوس الرهيب وتلتمس فى الإسلام طوق النجاة من جديد(9/125)
- المراجع:
* إبراهيم طرخان: إمبراطورية غانة الإسلامية - القاهرة - 1970م
* إبراهيم طرخان: دولة مالي الإسلامية - القاهرة - 1973م
* إبراهيم طرخان: إمبراطورية البرنو الإسلامية - القاهرة - 1975م
* أحمد بابا التمبكتي: نيل الابتهاج بتطريز الديباج - طرابلس - ليبيا - 1989م
* أحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي - جـ 6 - الطبعة الرابعة - القاهرة - 1983م
* أحمد علي أحمد: كلوة؛ تاريخهاا وحضارتها؛ رسالة ماجستير غير منشورة - جامعة القاهرة - 1983م
* الإدريسي: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق - بيروت - 1989م
* بازل دافدسون: إفريقيا تحت أضواء جديدة - بيروت - بدون تاريخ
* بن بطوطة (أبو عبدالله محمد): تحفة النظار في غرائب الأمصار - بيروت - 1987م
* البكري: المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب - القاهرة - بدون تاريخ
* بوركهات: رحلات بوركهات في بلاد النوبة والسودان - القاهرة - 1979م
* ترمنجهام: الإسلام في شرق إفريقيا - القاهرة - 1973م
* توماس أرنولد: الدعوة إلي الإسلام - القاهرة - الطبعة الثالثة - 1971م
* التونسي: تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان - القاهرة - 1965م
* جيان: وثائق تاريخية وجغرافية وتجاريةعن إفريقيا الشرقية - القاهرة - 1927م
* حسن إبراهيم حسن: انتشار الإسلام في القارة الإفريقية - القاهرة - الطبعة الثانية - 1984م
* حسن عيسى عبدالظاهر: الدعوة الإسلامية في غرب إفريقيا - القاهرة - الطبعة الأولى - 1991م
* حسن محمود: الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا - القاهرة - الطبعة الثالثة - 1986م
* الحسن الوزان: وصف إفريقيا - بيروت - الطبعة الثانية - 1983م
* الحيمي: سيرة الحبشة - القاهرة - الطبعة الثانية - 1972م
* رجب محمد عبدالحليم: العروبة والإسلام في دارفور في العصور الوسطى - القاهرة - 1991م
* زاهر رياض: الإسلام في إثيوبيا - القاهرة - 1964م(9/126)
* زين العابدين عبدالحميد السراج: دولة كانم الإسلامية - رسالة ماجستير - آداب القاهرة - 1975م
* السعدي: تاريخ السودان - باريس - 1889م
* سعيد المغيرى: جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار - القاهرة - 1989م
* الشاطر بعييلي عبد الجليل: تاريخ وحضارات السودان الشرقي والأوسط - القاهرة - 1972م
* عبد الرحمن زكي: الإسلام والمسلمون في غرب إفريقيا؛ الإسلام والمسلمون في شرق إفريقيا- القاهرة - بدون تاريخ
* عبد الفتاح مقلد: سلطنة البرنو حتي عام 1808م؛ رسالة ماجستير غير منشورة - جامعة القاهرة - 1978م
* عرب فقيه: فتوح الحبشة (تحفة الزمان) - القاهرة 1972م
* عطية القوصي:دولة الكنوز الإسلامية - القاهرة - الطبعة الثانية- 1986م
* فتحي غيث: الإسلام والحبشة عبر التاريخ - القاهرة - بدون تاريخ
* القلقشندي (أحمد بن علي): صبح الأعشي في صناعة الأنشا - جـ 5،8 - القاهرة - بدون تاريخ
* محمد بلو: اتفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور - القاهرة - 1964م
* محمد ضيف الله: كتاب الطبقات - بيروت - بدون تاريخ
* محمد النقيرة: التأثير الإسلامي في غرب إفريقيا - الرياض - 1980م
* محمود التمبكتي: تاريخ الفتاش - باريس - 1916م
* محمود الحويري: أسوان في العصور الوسطى - القاهرة - 1980م
* مصطفى أبو شعيشع: برنو في عصر الأسرة الكانمية - رسالة ماجستير غير منشورة - جامعة القاهرة - 1976م
* مصطفى مسعد: الإسلام والنوبة في العصور الوسطى - القاهرة - 1960م
* مكي شبيكة: السودان عبر القرون - بيروت - 1964م
* نعوم شقير: تاريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته - القاهرة - 1903م
* ياقوت الحموي: معجم البلدان - جـ 5 - بيروت - 1979م(9/127)
*العزيز بالله بن المعز
خليفة فاطمى تولَّى أمرالدولة الفاطمية فى قمة مجدها، ولكنه
كان رجلا لا يعرف المستحيل، وفى عهده وامتد ملك الفاطميين
من بلاد «الشام» شرقًا إلى ساحل «المحيط الأطلسى» غربًا،
ومن «آسيا الصغرى» شمالا إلى بلاد «النوبة» جنوبًا، وخُطب
للعزيز بالموصل وأعمالها سنة (382هـ)، وضُرب اسمه على
العملة، وكُتب على الأعلام، وخُطب له باليمن - كما فُتحت له
«حمص» و «حماة» و «شيزر» و «حلب»، فانصرف إلى نشر عقائد
المذهب الشيعى، وأصبحت دواليب الإدارة كلها فى يد الشيعة.(10/1)
*الحاكم بأمر الله
هو «أبو على منصور الحاكم بأمر الله» الفاطمى، بويع له
بالخلافة وهو فى الحادية عشرة من عمره، وعين أستاذه
«برجوان» التركى وصيا عليه؛ لذا لم يكن للحاكم من أمره شىء
حتى تم القضاء على الوصى، وحل محله «ابن عمار الكتامى»
المغربى وصيا ووزيرًا، فاستبد بالأمر، ولم يسلم من شره أحد،
سواء كان من الشيعة أو من السنة أو من أهل الذمة، وكذلك
ساءت سيرته بين الجند، فنشب القتال فى شوارع «القاهرة»
و «الفسطاط»، وطالب الجميع بحياة «ابن عمار»، ولكنه اختفى،
وأصبح زمام الأمور فى يد «الحاكم»، وهو بعد فى الخامسة
عشرة من عمره، وأنشأ المرصد الحاكمى على سفح المقطم،
وقد روى المؤرخون مواقف غريبة تدل على غرابة أطواره.
حاولت «ست الملك» أخت «الحاكم بأمر الله» ردعه عما يفعل،
لكنه أبى أن يرتدع، فدبرت مع «سيف الدولة بن دواس الكتامى»
أمر قتله، فلما تم ذلك فى عام 411 هـ، حمل جثمانه إليها،
فدفنته فى مجلسها.(10/2)
*الظاهر
هو «أبو الحسن الظاهر بن الحاكم بأمر الله» تولى الخلافة فى
شوال سنة (411هـ)، بعد مقتل أبيه مباشرة، وكان لعمته «ست
الملك» النفوذ والسيطرة فى تسيير دفة الدولة، وقامت بذلك
على أحسن وجه، وبذلت العطاء للجند، وتمكنت من تهدئة الأمر
حتى وافاها الأجل فى سنة (415هـ)، فانتهج «الظاهر» نهجها
وعمل بسياستها، وألغى ما سنَّه أبوه «الحاكم» من قوانين
مجحفة، واهتم بتحسين شئون البلاد وأحوال الرعية، ومنح الناس
الحرية الدينية، فنعموا بالكثير من إنجازاته، وعلى الرغم من أن
مجاعة حدثت فى عهده استمرت ثلاث سنوات، نتيجة انخفاض
النيل، فإنه عمل على تخفيف المعاناة عن الشعب، وعقد اتفاقًا
مع إمبراطور الروم ليمده بالقمح بمقتضاه، على أن يقوم
«الظاهر» بإعادة بناء «كنيسة القيامة» بالقدس. مرض «الظاهر»
بالاستسقاء، ولم يلبث أن تُوفِّى سنة (427هـ).(10/3)
*المستنصر
خليفة فاطمى تولى الخلافة عقب وفاة والده «الظاهر» فى
جمادى الآخرة سنة (427هـ)، ويُعدُّ أطول الخلفاء عهدًا، إذ
قضى بالخلافة نحو ستين سنة، لم تكن على وتيرة واحدة، حيث
وصف «ناصر خسرو» «مصر» فى أوائل عهد المستنصر بقوله:
«كانت تتمتع بالرخاء، وأن الشعب محب لخليفته». وفى الفترة
الأولى من عهده بلغ النفوذ الفاطمى أقصى مداه، إذ دُعى
للخليفة على منابر بلاد الشام و «فلسطين» و «الحجاز» و «اليمن»،
بل دُعِى له فى «بغداد» حاضرة العباسيين نحوًا من سنة،
ودُعى له - أيضًا - فى «صقلية» و «شمال إفريقية». وكما شهد
«المستنصر» مجد دولته، شهد أيضًا تقلُّصَ نفوذه، فقد زالت
سلطة الفاطميين فى بلاد «المغرب الأقصى» سنة (475هـ)،
واستولى النورمانديون على «صقلية»، وخلع أميرا «مكة»
و «المدينة» طاعتهما - من قبل - فى سنة (462هـ)، وانقطع ماء
النيل، وحدث ما عُرِف فى عهده بالشدة العظمى أو المستنصرية
، وغلت الأسعار، وانتشرت المجاعات والأوبئة حتى قيل إنه كان
يموت بمصر كل يوم عشرة آلاف نفس، ووصل الحال بالناس إلى
أكل القطط والكلاب، فلما لم يجدوها بعد ذلك كان بعضهم يحتال
على خطف بعضهم الآخر ليذبحه ويأكله، وبلغت الشدة منتهاها،
وباع المستنصر جميع ممتلكات قصوره، وقام صراع عنيف بين
الأتراك والسودانيين، وظل الجنود فترة طويلة لا يتقاضون فيها
رواتبهم، فنهبوا قصور الخلفاء، واستولوا على ما فى المكتبات
ودور العلم من مؤلفات باعوها بثمن بخس، واتخذوا من جلودها
نعالا وأحذية، واستولى «ناصر الدولة ابن حمدان» زعيم الجند
الأتراك على مقاليد الأمور، وهدد بإزالة الخلافة الفاطمية، بل
حذف اسم الخليفة من الخطبة فى بعض المناطق، ووصلت الحال
بالخليفة إلى درجة أنه لم يتمكن من حماية أمه من دخول السجن،
ففرت مع بناتها إلى «بغداد» طلبًا للحماية، واستمرت هذه الشدة
تسع سنوات، حتى جاء «اليازودى»، فعالج الأمور، وضبط(10/4)
الأسواق وضرب بشدة على أيدى العابثين، ولكن الوشاة دسُّوا
له عند «المستنصر» بأنه على صلة بالسلاجقة وأنه يراسلهم،
فقتله «المستنصر»، وعادت البلاد ثانية إلى ما كانت عليه، وظلت
تنتقل من سيئ إلى أسوأ مدة تسع سنوات تولَّى الوزارة فيها
أربعون وزيرًا، فاستنجد «المستنصر» ببدر الدين الجمالى حاكم
«عكا»، فأتى على الفور، وألقى القبض على العابثين
والعناصر المتنافرة، وضرب بيد من حديد على أيدى الخارجين
على النظام والقانون، وعَمَّر الريف، واهتم بالزراعة، وحصن
مدينة «القاهرة» التى كانت قد خُربت أسوارها من جراء الفتن،
وبنى جامعه المعروف بجامع الجيوش بالمقطم، فتحسنت الأحوال
فى عهده باستثناء إذكائه روح العداء بين الشيعة والسنة، لأنه
كان شيعىا متعصبًا، وظل وزيرًا للمستنصر حتى وافاه أجله
فى عام (487هـ)، بعد أن عهد إلى ابنه بالوزارة من بعده،
ليصبح هذا الأمر تقليدًا جديدًا، لم يُعمَل به من قبل.(10/5)
*المستعلى
خليفة فاطمى تولى الخلافة بعد أبيه المستنصر سنة (487هـ)
على الرغم من حداثة سنه، وعدم شرعية خلافته لوجود أخيه
«نزار» الأكبر منه فى السن، ولكن الوزير «الأفضل بن بدر»
أسهم إسهامًا كبيرًا فى هذا ليتمكن من السيطرة على الخليفة
الصغير، وخرج «نزار» إلى الإسكندرية ليكون فى حماية واليها
«أفتكين» فخرج إليهما «الأفضل» بجيش كبير، ودارت الحرب
بين الفريقين، فاضطر «نزار» و «أفتكين» إلى طلب الأمان،
فأجابهما «الأفضل» إلى مطلبهما، ثم قتلهما بعد أن هدأت
الأمور، فانقسم الشيعة على أنفسهم، وأعلنت الباطنية (فرقة
تفرعت عن الشيعة لها معتقداتها الخاصة) وعلى رأسهم «الحسن
بن الصباح» أن نزارًا كان الأحق بالخلافة، لأن «الحسن» زار
«مصر» وسأل «المستنصر» عمن يكون خليفته، فقال له: إنه
«نزار».(10/6)
*الحافظ
خليفة فاطمى تولَّى الخلافة سنة (524هـ) عقب وفاة ابن عمه
«الآمر»، ولم تكن حاله مع وزيره «على بن الأفضل» بأحسن من
حال ابن عمه، فقد كان يتحكم فيه، وجعله كالمحجور عليه، ولا
يسمح لأحد بزيارته إلا بإذن منه، وانعطفت سياسة الدولة -فى
عهده- انعطافًا خطيرًا يهدد بزوالها، فقد عين اثنين من القضاة
الشيعة، ومثلهما من السنة، وجعل لكل الحق فى إصدار حكمه
وفق مذهبه، ولقب نفسه بالأكمل مالك فضيلتى السيف والقلم،
مولى النعم، رافع الجور عن الأمم، وأسقط اسم الخليفة من
الخطبة، فكانت نهايته القتل جزاءً لما صنع. لم يكد الخليفة
يستريح من سيطرة «ابن الأفضل» حتى وقع تحت سيطرة ونفوذ
«بهرام الأرمنى» والى «الغربية»، الذى تقلد الوزارة، واستقدم
الكثيرين من بنى جلدته حتى تجاوزوا ثلاثين ألفًا، وكلهم من
الشيعة المتعصبين لمذهبهم، فأذاقوا أهل البلاد الهوان، وبنوا
الكنائس والأديرة، فأثار ذلك حفيظة الناس، وثار «رضوان بن
الولخشى» والى «الغربية»، وقاد جيشه، وهاجم به الوزير
«بهرام» الذى انهزم، وفرَّ هاربًا إلى «أسوان»، فتولى
«رضوان» الوزارة بدلا منه، ولكنه ارتكب أعمالا أثارت عليه
حفيظة الخليفة، فاستدعى الخليفة «بهرام» من أسوان ليتولى
الوزارة من جديد، فهرب «رضوان» إلى الشام، ثم عاد إلى
«مصر» ثانية على رأس جيش تصدى له جنود الخليفة، فهزموه
وأسروا «رضوان»، ثم قُتل. تُوفِّى «الحافظ» فى سنة (544هـ)،
وقد تميز عصره بالنزاع الدائم من أجل الوصول إلى منصب
الوزارة بالقوة والجيوش المسلحة.(10/7)
*الظافر
خليفة فاطمى تولى الخلافة عقب وفاة أبيه «الحافظ» سنة
(544هـ)، وقد سلكت الدولة فى عهده مسلكًا خطيرًا؛ لم يكن
معهودًا من قبل؛ إذ استعان الوزراء بالقوى الخارجية للوصول
إلى منصب الوزارة، وأبرز مثال على ذلك ما حدث بين «ابن
السلار» و «ابن مصال»، فقد استعان الأول على منافسه الثانى
بنور الدين محمود صاحب «حلب»، ودارت بين الطرفين حرب
شعواء قُتل فيها «ابن مصال»، ثم تبعه «ابن السلار»، فسعد
الخليفة سعادة بالغة لقتل «ابن السلار» لاستعانته «بنور الدين
محمود»، ودلل الخليفة على مدى سعادته بمكافأته لنصر بن
العباس قاتل «ابن السلار» بمبلغ عشرين ألف دينار. كان
الصليبيون قد أسسوا عدة إمارات لهم - فى ذلك الوقت - بالشام،
وبدأت طموحاتهم تتجه إلى «مصر»، ويتحينون الفرصة لتحقيقها
فى الوقت الذى كان «نور الدين محمود» يترقب فيه الأوضاع
للاستيلاء على «مصر»، وظل كلاهما على ذلك حتى قام «نصر
بن عباس» - بالاتفاق مع والده - بقتل الخليفة «الظافر» وإخوته،
فغلت «القاهرة» كالمرجل، وهرب «عباس» إلى الشام، فقُتل
فى طريقه إليها، وقُبض على ابنه «نصر» ثم وُضِع فى قفص من
حديد بعد أن جُدع أنفه، وقطعت أذناه، وطِيف به فى أنحاء
المحروسة، ثم صُلِبَ حيا على باب زويلة حتى مات، فأُحرقت
جثته. وتولى «الفائز» الخلافة.(10/8)
*الفائز
خليفة فاطمى تولى الخلافة (549هـ) وعمره أربع سنوات فحسب
بعد وفاة أبيه الظافر، وكانت البلاد فى حالة من الفوضى
والاضطراب الشديدين، حتى إن نساء القصر لم تأمن على
حياتهن فى ظل هذه الظروف، فاستنجدن بطلائع بن زريك والى
الأشمونيين، الذى حضر على الفور، وقضى على الفتنة
والشغب، وضرب على أيدى صانعى الفتنة، وظل الخليفة -
بالطبع - مسلوب الإرادة حتى وفاته سنة (555هـ).(10/9)
*العاضد لدين الله الفاطمي
خليفة فاطمى تولى الخلافة (555هـ) خلف «الفائز»، فتخلص من
الوزير «طلائع» بقتله، وأسند منصبه إلى ابنه «أبى شجاع
العادل بن طلائع»، فرأى «شاور» والى الصعيد أنه أحق
بالوزارة من «أبى شجاع»، وقدم على رأس قواته، وتمكن من
خلع «أبى شجاع» من الوزارة، وتنصيب نفسه مكانه سنة
(558هـ)، ولكنه لم يهنأ بمنصبه الجديد إذ استطاع «ضرغام»
أمير البرقية (فرقة من المغاربة) خلعه، فهرب «شاور» إلى الشام
مستنجدًا بنور الدين محمود ليعيده إلى منصبه، فأحس «ضرغام»
بالخطر وخشى من ضياع منصبه فاستنجد بعمورى الصليبى ملك
«بيت المقدس»، ولبى كل طرف نداء مَنْ استنجد به، وقدمت
القوات الإسلامية كما قدمت القوات الصليبية فى ثلاث حملات،
ولكن «أسد الدين شيركوه» قائد حملات «نور الدين محمود»
كانت له عقلية سياسية حكيمة، كما كان يجيد التخطيط الجيد،
فتولى الوزارة بنفسه بعد أن قُضى على الخصمين المتنافرين،
وظل على ذلك حتى مات، فخلفه فى منصبه ابن أخيه «صلاح
الدين الأيوبى» السنىُّ المذهب. وتوفى العاضد سنة 567هـ
وبوفاته سقطت الدولة الفاطمية.(10/10)
*معاوية بن أبى سفيان
هو «معاوية بن أبى سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن
عبدمناف»، وأمه «هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد
مناف»، ويلتقى نسبه من جهة أبيه وأمه مع نسب رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - فى «عبد مناف»، ولُقِّب بخال المؤمنين؛
لأن أخته «أم حبيبة» أم المؤمنين كانت زوجًا للنبى - صلى الله
عليه وسلم -. وُلد قبل الهجرة بنحو خمسة عشر عامًا، وأسلم عام
الفتح، سنة (8هـ)، مع أبيه وأخيه «يزيد بن أبى سفيان» وسائر
«قريش»، وأصبح منذ أن أسلم كاتبًا من كتَّاب الوحى لرسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، وشارك فى عهد «أبى بكر الصديق»
فى حروب الردة، وفى فتوح الشام تحت قيادة أخيه الأكبر
«يزيد»، وأبلى فى ذلك بلاءً حسنًا. عيَّنه «عمر بن الخطاب»
واليًا على الشام كله، بعد وفاة أخيه «يزيد» سنة (18هـ)؛
لكفاءته الحربية ومهارته فى السياسة والإدارة، وظل فى ولايته
مدة خلافة «عمر»، ثم أقره «عثمان بن عفان» (24 - 36هـ) على
ولايته، فاستمر فى سياسته الحكيمة، ضابطًا لعمله، حارسًا
لحدود إمارته، متصديا بكل حزم لأعداء الإسلام، محبوبًا من
رعيته. استقبل المسلمون خلافة «معاوية» استقبالا حسنًا،
واجتمعت عليه كلمتهم، وكان هو عند حسن الظن، جديرًا
بالمنصب الجليل، خبيرًا بشئون الحكم وأمور السياسة، تدعمه فى
ذلك خبرة واسعة، وتجربة طويلة فى الإدارة وسياسة الناس،
امتدت إلى أكثر من عشرين عامًا، هى فترة ولايته على الشام،
بالإضافة إلى تمتعه بكثير من الصفات الرفيعة، التى تؤهله
ليكون رجل دولة من الطراز الأول. وقد أجمع المؤرخون على أنه
كان لمعاوية نصيب كبير من الذكاء والدهاء والسماحة والحلم
والكرم، وسعة الأفق، وقدرة فائقة على التعامل مع الناس على
قدر أحوالهم، أعداءً كانوا أم أصدقاء. وقد أفرغ «معاوية»
جهده كله، ومواهبه وطاقاته فى رعاية مصالح المسلمين
وتوطيد دعائم الدولة، ونشر الأمن والاستقرار فى ربوعها، واتبع(10/11)
فى تحقيق ذلك سياسة حكيمة تقوم على دعائم ثابتة، تتلخص
فيما يلى: - العمل على تضميد جراح الأمة، وتسكين نفوسها،
وتأليف قلوبها بعد فترة مضطربة من حياتها، والإحسان والتودد
إلى كبار الشخصيات من شيوخ الصحابة وأبنائهم، وبخاصة آل
بيت النبى - صلى الله عليه وسلم -، وقد أدت هذه السياسة إلى
تجميع القلوب حوله، وتحويل الخصوم إلى أعوان وأصدقاء. -
وحسن اختياره للولاة والحكام، لأنه أدرك أنه مهما أوتى من
ذكاء وفطنة، ومقدرة وحكمة، فلن يستطيع أن يحكم الدولة
وحده، ومن ثم لابد له من أعوان، يساعدونه فى إدارة البلاد
على خير وجه، فاختارهم بعناية فائقة من بين أقوى الناس
عقلا، وأحسنهم سياسة، وأحزمهم إدارة، أمثال «عمرو بن
العاص»، و «المغيرة بن شعبة»، و «زياد» و «عتبة» أخويه،
وغيرهم. - ومباشرته أعماله بنفسه، وتكريسه وقته وجهده
للدولة وسياستها، وعدم ركونه إلى حياة الراحة والدعة، على
الرغم من استعانته فى إدارة الدولة بأعظم الرجال فى عصره.
بهذه السياسة استقرت الدولة وسادها النظام، وعمَّها الأمن
والسكينة، ولم يشذ عن ذلك سوى الخوارج، فأخذهم «معاوية»
بالشدة؛ حفاظًا على سلامة الأمة، واتسمت سياسته الخارجية
وبخاصة تجاه الدولة البيزنطية بمواصلة الضغط عليها، ومحاصرة
«القسطنطينية» - عاصمتها - أكثر من مرة، وجعلها تقف موقف
الدفاع عن نفسها. وتُوفِّى «معاوية» فى شهر رجب سنة (60هـ).(10/12)
*يزيد بن معاوية
هو «يزيد بن معاوية بن أبى سفيان» وأمه «ميسون بنت مخول
الكلبية». ولد فى «دمشق» سنة (26هـ) فى خلافة «عثمان بن
عفان»، حين كان أبوه واليًا على الشام، فنشأ فى بيت إمارة
وجاه، وقد عُنى أبوه بتربيته تربية عربية إسلامية، فأرسله
وهو طفل إلى البادية عند أخواله من «بنى كلب»، فشب شجاعًا
كريمًا، أبى النفس، عالى الهمة، شاعرًا فصيحًا، وأديبًا لبيبًا،
حاضر البديهة، حسن التصرف فى المواقف. ويعده العلماء من
الطبقة الأولى من التابعين، ولبعضهم رأى حسن فيه مع أخذهم
عليه ميله إلى حياة اللهو فى صدر شبابه، فلقبه «الليث بن
سعد» فقيه «مصر» الكبير بلقب «أمير المؤمنين»، وقال عنه
«ابن كثير»: «وقد كان فى يزيد خصال محمودة من الكرم
والفصاحة والشعر والشجاعة، وحسن الرأى فى الملك، وكان ذا
جمال، حسن المعاشرة». ومنذ أن عزم أبوه على توليته الخلافة
بعده أخذ يحمله على الجد والحزم، وترك حياة اللهو والترف،
استعدادًا لتولى هذا المنصب الجليل، وعهد إليه بالقيام بالمهام
الصعبة، فأرسله على رأس الحملة العسكرية التى وجهها فى
سنتى (49 - 50 هـ) لحصار القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية
، وكان تحت قيادته بعض كبار الصحابة. كان «يزيد» غائبًا عن
«دمشق» عند وفاة أبيه فى رجب سنة (60هـ)، فأخذ البيعة له
«الضحاك بن قيس»، ولما حضر جاءته الوفود وأمراء الأجناد،
لتعزيته فى أبيه وتهنئته بالخلافة وتجديد البيعة له. وقد ترسَّم
«يزيد» خطى أبيه، واستوعب وصيته له التى توضِّح له معالم
طريقه السياسى، وتبيِّن له كيفية التعامل مع المشكلات وأحوال
الرعية، وهذه الوصية تُعدُّ من أهم الوثائق السياسية فى فن
الحكم وإدارة الدول. حافظ «يزيد» على سلامة الدولة وهيبتها،
وحمى حدودها، واستمرت حركة الفتوحات فى عهده، فوصل
«عقبة بن نافع» إلى شواطئ «المحيط الأطلسى»، مخترقًا
الشمال الإفريقى كله، وعبرت طلائع الفتح نهر «جيحون» لفتح(10/13)
بلاد «ما وراء النهر» (آسيا الوسطى). وكان يمكن لعهد «يزيد»
أن يكون امتدادًا لعهد أبيه، استقرارًا واستتبابًا، لولا عدة
حوادث خطيرة، عكَّرت صفو الأمة الإسلامية، وألقت بظلال سوداء
على عهد «يزيد»، وطمست إنجازاته، منها: حادثة استشهاد
«الحسين بن على» - رضى الله عنهما - فى «كربلاء» سنة
(61هـ) وغزو «المدينة المنورة» سنة (63هـ) لقمع الثورة التى
قام بها أهلها ضده دون سبب قوى، ثم غزو «مكة المكرمة»
للقضاء على دولة «عبدالله بن الزبير» سنة (64هـ). ولم تطل أيام
«يزيد»، فقد توفى فى شهر ربيع الأول سنة (64هـ)، وهو فى
الثامنة والثلاثين من عمره.(10/14)
*معاوية بن يزيد
هو «معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان»، وأمه «أم
هاشم بنت أبى هاشم بن عتبة بن ربيعة»، ومع أنه لم ينهض
بعمله باعتباره خليفة، فإنه أخذ مكانه فى سلسلة خلفاء الدولة
الأموية، ويسميه بعض المؤرخين «معاوية الثانى»؛ لأن أباه قد
عهد إليه بالخلافة بعده، طبقًا لنظام الوراثة الذى أسسه جده
«معاوية»، وقد بايعه الناس بعد وفاة أبيه، لكنه أعلن فى
صراحة أنه عاجز عن النهوض بمسئولية الخلافة، وعليهم أن
يبحثوا عن شخص كفء من أهل الصلاح والتقوى لتحمل عبء
مسئولية منصب الخلافة. ولم تطل حياة ذلك الشاب الورع، حيث
تُوفِّى بعد أبيه «يزيد» بنحو أربعة أشهر، أو بعد أربعين يومًا
فى قول آخر سنة (64هـ).(10/15)
*مروان بن الحكم
هو «مروان بن الحكم بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس»، ولد
فى السنة الأولى من الهجرة، ولذلك يعده بعض العلماء من
الصحابة، وهو ابن عم الخليفة «عثمان بن عفان» رضى الله عنه،
وكان كاتبه وأمين سره، وولاه «معاوية بن أبى سفيان» فى
خلافته «المدينة المنورة» أكثر من مرة؛ ثقة منه بقدرته وخبرته
السياسية التى اكتسبها طوال عمله مع «عثمان». وكان
«مروان» أثناء ولايته على «المدينة» يتحرَّى العدل، ولا يصدر
أمرًا إلا بعد استشارة صلحاء الناس، ومن مآثره التى جلبت ثناء
الناس عليه أنه جمع صيعان «المدينة» التى يكيلون بها، وأخذ
بأعدلها وأضبطها كيلا، فنسبه الناس إليه، وقالوا: «صاع
مروان»، وقال عنه الإمام «أحمد بن حنبل»: «كان عند مروان
قضاء - يقصد كان عادلا فى قضائه - وكان يتبع قضايا عمر بن
الخطاب»، ويصفه المؤرخون بالشجاعة والشهامة، والدهاء
وحسن السياسة. اضطرب أمر «بنى أمية» بعد رفض «يزيد بن
معاوية» أن يتولى الخلافة، أو يعهد بالأمر إلى أحد من أهل
بيته، وفى هذه الأثناء أعلن «عبدالله بن الزبير» نفسه خليفة
للمسلمين سنة (64هـ) فى «مكة»، فبايعه «العراق» و «مصر»،
حتى الشام نفسها معقل الأمويين بايعه معظم أقاليمها، وبدا
الأمر كما لو أن دولة الزبيريين قامت، ودولة الأمويين بادت. كان
«مروان بن الحكم» وبنوه يعيشون فى «المدينة المنورة»،
فأخرجهم منها «عبدالله بن الزبير» فرحلوا إلى الشام، حيت
تجمع هناك كل أنصار «بنى أمية» وولاتهم، من أمثال: «عبيد
الله بن زياد»، و «الحصين بن نمير»، فأخذوا يشجعون «مروان»
على تحمل قيادة البيت الأموى، ومنع دولتهم من السقوط. وبعد
مداولات طويلة بين زعماء القبائل استغرقت عدة شهور عقد
مؤتمر فى «الجابية» بالقرب من «دمشق»، فى شهر ذى القعدة
سنة (64هـ)، بويع فيه «مروان بن الحكم» بالخلافة، باعتباره
أكبر أبناء البيت الأموى سنا، وأكثرهم تجربة. كان على(10/16)
«مروان» بعد بيعته أن يثبت جدارته بهذا المنصب وأهليته له،
بأن يسترد نفوذ «بنى أمية» وسلطانهم فى الشام، معقلهم
الرئيسى، الذى خضع معظمه لعبدالله بن الزبير، ومن ثم خاض
«مروان» مع أنصار «ابن الزبير» معركة كبيرة فى «مرج
راهط»، شرقى «دمشق» فى نهاية سنة (64هـ)، وكان النصر
فيها حليف «مروان»، وبداية الطريق لاستعادة الأمويين لدولتهم
التى كانت قاب قوسين أو أدنى من الزوال. ولم يضيع «مروان»
وقتًا بعد هذا الانتصار، فعاد إلى «دمشق»، حيث تلقى وفود
المهنئين والمبايعين. وبعد فترة قصيرة اطمأن فيها على
استقرار الأوضاع فى الشام، ترك ابنه «عبدالملك» فى «دمشق»
نائبًا عنه فى حكمها، وتوجه إلى «مصر» التى كانت تحت حكم
«عبدالله بن الزبير»، فاستردها بسهولة، وأقام بها نحو
شهرين، رتَّب فيها أوضاعها، وعيَّن ابنه «عبدالعزيز» واليًا
عليها، وعاد هو إلى «دمشق»، ليستأنف صراعه مع «ابن
الزبير»، لكن الموت عاجله سنة (65هـ) بعد حكم دام عشرة
شهور.(10/17)
*عبدالملك بن مروان
هو «عبدالملك بن مروان بن الحكم»، ولد فى «المدينة» سنة
(26هـ) فى خلافة «عثمان بن عفان»، ونشأ بها نشأة علمية،
وتتلمذ لكبار الصحابة، من أمثال «عبدالله بن عمر»، و «أبى
سعيد الخدرى»، و «أبى هريرة» رضى الله عنهم، وبرع فى
الفقه حتى عُدَّ من فقهاء «المدينة»، وقد تواترت الأخبار عن
فقهه وغزارة علمه ورجاحة عقله، قال عنه «الذهبى»: «ذكرته
لغزارة علمه»، وقال «الشعبى»: «ما جالستُ أحدًا إلا رأيت لى
الفضل عليه إلا عبدالملك بن مروان»، واحتج الإمام «مالك بن
أنس» بقضائه. ومكث «عبدالملك» معظم حياته قبل أن يلى
الخلافة فى «المدينة المنورة»، لم يغادرها إلا لحج أو لجهاد،
فقد اشترك فى فتح «شمال إفريقيا» فى عهد «معاوية بن أبى
سفيان». تولى «عبدالملك» الخلافة بعد وفاة أبيه فى رمضان
سنة (65هـ)، ووجد الدولة الإسلامية قد تنازعتها خمس دول:
دولته هو، وتتكون من «مصر» والشام وعاصمتها «دمشق»،
ودولة «عبدالله بن الزبير» وتتكون من «الحجاز» وبعض
«العراق» و «بلاد فارس»، وعاصمتها «مكة المكرمة»، ودولة
للشيعة أقامها «المختار بن أبى عبيد الثقفى» فى جزء من
«العراق»، وعاصمتها «الكوفة»، ودولة للخوارج الأزارقة فى
إقليم «الأهواز»، جنوبى شرقى «العراق»، ودولة للخوارج
النجدات فى إقليم «اليمامة» فى شرقى الجزيرة العربية
وجنوبى شرقيها. رأى «عبدالملك» أن هذه الدول التى برزت
خلال الفوضى التى عمَّت بعد وفاة «يزيد بن معاوية» لا رابط
يجمع بينها سوى العداء لبنى أمية، فتركهم فى البداية يأكل
بعضهم بعضًا، فاشتبك «ابن الزبير» مع «المختار الثقفى»،
وقضى عليه تمامًا حين أرسل له جيشًا بقيادة أخيه «مصعب بن
الزبير»، فتمكن من هزيمته سنة (67هـ)، وبذلك تخلص
«عبدالملك» من واحد من أقوى خصومه دون أن يبذل أى جهد،
ثم توجَّه هو على رأس جيش استطاع أن يقضى به على «مصعب
بن الزبير» سنة (72هـ)، ثم أرسل جيشًا بقيادة «الحجاج بن(10/18)
يوسف» إلى «مكة» استطاع أن يقضى على «عبدالله بن الزبير»
سنة (73هـ)، كما نجح عبدالملك فى القضاء على دولتى
الخوارج، وبذلك تخلَّص من خصومه، وقضى على الانقسامات
التى أضعفت الدولة الإسلامية، وأعاد إليها وحدتها، ولذا عدَّه
المؤرخون المؤسس الثانى للدولة الأموية، وعدُّوا سنة (73هـ) عام
الجماعة الثانى. أظهر «عبدالملك» براعة فائقة فى إدارة الدولة
وتنظيم أجهزتها، مثلما أظهر براعة فى إعادة الوحدة إلى
الدولة الإسلامية، فاعتمد على أكثر الرجال -فى عصره- مهارة
ومقدرة، وأعظمهم كفاءة وخبرة، وسياسة وإدارة، ومن
أبرزهم «الحجاج بن يوسف الثقفى» الذى عهد إليه «عبدالملك»
بإدارة القسم الشرقى للدولة، الذى يتكون من «العراق»، وكل
أقاليم الدولة الفارسية القديمة، وكان «الحجاج» عند حسن الظن
به، فبذل أقصى طاقته فى تثبيت أركان الدولة، والقضاء على
كل مناوئيها، وكذلك إخوة «عبدالملك» الذين كانوا من أبرز
ركائز دولته، ومنهم: «بشر بن مروان»، «ومحمد بن مروان»
و «عبدالعزيز بن مروان» الذى ولى «مصر» نحو عشرين سنة (65
- 85هـ). وتفقد «عبدالملك» أحوال دولته بنفسه وتابع أحوال
عُمَّاله وولاته، وراقب سلوكهم، ولم يسمح لأحد منهم بأن يداهنه
أو ينافقه. وأنجز أعمالا إدارية ضخمة، دفعت بالدولة الإسلامية
أشواطًا على طريق التقدم والحضارة، تمثلت فى تعريب دواوين
الخراج فى الدولة الإسلامية كلها، وتعريب النقود، وتنظيم
ديوان البريد، وجعله جهازًا رقابيا، يراقب العمال والولاة ويرفع
إليه تقارير عن سير العمل فى الولايات. وتُوفِّى «عبدالملك بن
مروان» فى شوال سنة (86هـ) بعد أن كرَّس كل وقته وجهده
لتوطيد أركان الدولة، والسهر على رعاية مصالح المسلمين.(10/19)
*الوليد بن عبدالملك
هو «الوليد بن عبدالملك بن مروان»، وُلد سنة (50هـ)، وهو أكبر
أبناء «عبدالملك»، الذى حرص على تربيتهم تربية إسلامية،
فعهد بهم إلى كبار العلماء والصلحاء لتعليمهم وتربيتهم، وخص
ابنه «الوليد» بعناية خاصة، لأنه ولى عهده، وخليفته فى حكم
الدولة الإسلامية، فشب «الوليد» على الصلاح والتقوى، حافظًا
للقرآن، دائم التلاوة له. تولَّى «الوليد» الخلافة بعد وفاة أبيه،
الذى ترك له دولة واسعة الثراء، غنية بالموارد، قوية الساعد،
مرهوبة الجانب، موحَّدة الأجزاء، متماسكة البناء، موطَّدة
الأركان، فاستثمر ذلك على أحسن وجه فى الفتوحات
الإسلامية، فاستكمل المسلمون فى عهده فتح الشمال الإفريقى
كله، وفتحوا بلاد «الأندلس»، وأتمُّوا فى المشرق فتح بلاد «ما
وراء النهر» - آسيا الوسطى - وفتح إقليم «السند» فى «شبه
القارة الهندية». وبرز فى عهده عدد من القادة الكبار، منهم من
أشرف على فتح تلك البلاد، مثل: «الحجاج بن يوسف الثقفى»،
ومنهم من قاد تلك الفتوحات بنفسه، مثل: «قتيبة بن مسلم
الباهلى» فاتح بلاد «ما وراء النهر»، و «محمد بن القاسم
الثقفى» فاتح «السند»، و «موسى بن نصير» و «طارق بن زياد»
فاتحى «الأندلس». كما نهض «مسلمة بن عبدالملك» أخو «الوليد»
بمنازلة الدولة البيزنطية، ومواصلة الضغط عليها، والاستعداد
لمحاصرة عاصمتها «القسطنطينية». وشهد عصره نهضة عمرانية
كبرى، فأعاد بناء «المسجد النبوى» وأدخل عليه توسعات
كبيرة، وعهد إلى ابن عمه والى «المدينة» «عمر بن عبدالعزيز»
بمتابعة ذلك، كما بنى «المسجد الأقصى» فى مدينة «القدس»،
وبنى «مسجد دمشق»، وأنفق عليه كثيرًا ليكون آية من آيات
العمارة، وعُنى عناية فائقة بتعبيد الطرق التى تربط بين أجزاء
الدولة، التى امتدت أطرافها من «الصين» شرقًا إلى «الأندلس»
غربًا، ومن «بحر قزوين» شمالا إلى «المحيط الهندى» جنوبًا،
وبخاصة الطرق التى تؤدى إلى «مكة المكرمة»، لتسهِّل سفر(10/20)
حجاج بيت الله الحرام. وفى عهده سبقت الدولة الإسلامية كل
دول العالم فى تقديم الخدمات للناس مجانًا، وبخاصة الخدمات
الطبية لأصحاب الأمراض المزمنة، يقول «الطبرى»: «كان الوليد
عند أهل الشام أفضل خلائفهم، بنى المساجد، مسجد دمشق،
ومسجد المدينة، ووضع المنابر، وأعطى الناس، وأعطى
المجذومين، وقال لا تسألوا الناس، وأعطى كل مُقعَد خادمًا،
وكل ضرير قائدًا، وفُتح فى عهده فتوح عظام». وتُوفِّى الوليد
بن عبدالملك فى جمادى الآخرة سنة (96هـ).(10/21)
*سليمان بن عبدالملك
هو «سليمان بن عبدالملك بن مروان»، وُلد فى «المدينة»، ونشأ
فى الشام، وبُويع له بالخلافة فى اليوم الذى تُوفِّى فيه أخوه
«الوليد بن عبدالملك». كان «سليمان» من أفضل أولاد
«عبدالملك»، ومن أكبر أعوان أخيه «الوليد» أثناء خلافته،
وولى له «فلسطين»، وصفه «الذَّهبى» بقوله: «من أمثل
الخلفاء - يعنى من أفضلهم - نشر علم الجهاد، وكان ديِّنا فصيحًا
مفوَّهًا، عادلا محبا للغزو، استعان فى إدارة دولته وتصريف
شئونها بعظماء الرجال وصالحيهم، من أمثال: ابن عمه «عمر بن
عبدالعزيز»، و «رجاء بن حيوة». حافظ «سليمان» على هيبة
الدولة ومكانتها، فواصل الجهاد والفتوحات، وأرسل جيشًا
بقيادة أخيه «مسلمة بن عبدالملك» لحصار «القسطنطينية»، فدام
نحو سنة كاملة (98 - 99هـ)، وأشرف بنفسه على هذه الحملة،
حيث اتخذ من مدينة «مرج دابق» شمالى الشام مركز قيادة له؛
ليكون على مقربة من ميدان المعارك الحربية، وتُوفِّى هناك فى
شهر صفر سنة (99هـ)، ولذا قال بعض العلماء: إنه مات شهيدًا،
بعد أن توَّج أعماله بعمل يدل على صلاحه وحرصه على مصالح
المسلمين، وهو تولية ابن عمه «عمر بن عبدالعزيز» الخلافة من
بعده.(10/22)
*عمر بن عبدالعزيز
هو «عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحكم»، وأمه «أم عاصم
بنت عاصم بن عمر بن الخطاب». وُلد فى «المدينة المنورة» سنة
(26هـ) على الأرجح، ونشأ بها بناءً على رغبة أبيه، الذى تولَّى
إمارة «مصر» بعد ولادة «عمر» بثلاث سنوات سنة (65هـ)، فنشأ
بين أخواله من أسرة «عمر بن الخطاب»، ونهل من علم علمائها
من بقية الصحابة، وكبار التابعين، حتى صار من كبار الفقهاء
علمًا وعملا. ظل «عمر» فى «المدينة» حتى سنة (58هـ)، وهى
السنة التى تُوفى فيها أبوه، فاستدعاه عمه «عبدالملك بن
مروان» إلى «دمشق»، وخلطه بأبنائه، وزوَّجه ابنته «فاطمة»،
ثم عيَّنه واليًا على منطقة «خناصرة» شمالى شرقى الشام، ثم
عيَّنه ابن عمه «الوليد بن عبدالملك» واليًا على «المدينة
المنورة»، فكان ذلك مصدر سعادة لعمر ولأهل «المدينة» جميعًا،
ونعم الناس فى فترة ولايته عليها (87 - 93 هـ) بالعدل والأمن،
وأشرك معه أهل العلم والفضل منهم فى إدارة أمور الولاية. أخذ
«عمر بن عبدالعزيز» منذ أن ولى الخلافة فى بذل كل ما يملك
من طاقة، وما يتمتع به من خبرة فى إصلاح أمور الدولة،
واستقرار الأمن، ونشر الرخاء والعدل، وتحقيق الكفاية والوفرة
فى كل أنحائها، والحرص على مال المسلمين، وإنفاقه فى
وجوهه المشروعة، وحسن التصرف فى الأمور، والدقة فى
اختيار الولاة والقضاة وسائر كبار رجال الدولة، وتحقيق التوازن
بين طبقات المجتمع، ومجادلة الخارجين على الدولة بالحسنى؛
لإقناعهم بالعودة إلى حظيرة الجماعة. وقد سرت تلك الروح فى
كل ناحية من نواحى الحياة فى الأمة الإسلامية، فعمها الرخاء،
وسادت فيها الكفاية والعدالة الاجتماعية، حتى إن عمال
الصدقات كانوا يبحثون عن فقراء لإعطائهم فلا يجدون. رأى
«عمر بن عبدالعزيز» أن الدولة اتسعت كثيرًا، وأن كثيرًا من
المشاكل والأخطاء نشأت من ذلك الاتساع، فرأى وقف
الفتوحات والاهتمام بنشر الإسلام فى البلاد التى تم فتحها،(10/23)
وإرسال الدعاة والعلماء لدعوة الناس بدلا من إرسال الجيوش
والحملات، وقد أثمرت تلك الجهود نتائج محمودة، فأقبل أبناء
الشعوب المفتوحة على اعتناق الإسلام، يجذبهم إليه سمعة
الخليفة الحسنة، وسمو أخلاقه، ونبله وعدله، الذى تجاوز حدود
دولته إلى غيرها من الدول، فكان موضع إعجاب وتقدير، وحمد
وثناء من أهلها، وبخاصة الدولة البيزنطية. وقد استمرت خلافة
«عمر» سنتين وبضعة أشهر، شهدت فيها الدولة إصلاحات
عظيمة فى الداخل والخارج، وامتلأت الأرض نورًا وعدلا وسماحة
ورحمة، وتجدَّد الأمل فى النفوس بإمكان عودة حكم الراشدين،
واقعًا ملموسًا وحقيقة لا خيالا، وأن يقام المعوج، وينصلح
الفاسد، ويُرد المنحرف إلى جادة الصواب، إذا استشعر الحاكم
مسئوليته عن الأمة أمام الله، واستعان بأهل الصلاح من ذوى
الكفاءة والقدرة، ومن ثم فليس بغريب أن يطلق على «عمر»
«خامس الخلفاء الراشدين»، وأن يكون موضع تقدير أشد الفرق
عداءً لبنى أمية كالشيعة والخوارج. وتُوفِّى «عمر بن
عبدالعزيز» فى أواخر شهر رجب سنة (101هـ).(10/24)
*يزيد بن عبدالملك
هو «يزيد بن عبدالملك بن مروان»، وأمه «عاتكة بنت يزيد بن
معاوية ابن أبى سفيان»، وُلد فى «دمشق» سنة (71هـ) على
وجه التقريب، وبويع له بالخلافة فى اليوم الذى تُوفى فيه ابن
عمه «عمر بن عبدالعزيز» فى نهاية شهر رجب (101هـ). وتدل
أخباره قبل تولِّيه الخلافة على أنه كان يحب العلم ومجالسة
العلماء، ولديه ميل إلى الاستقامة، وقد حاول بعد توليه الخلافة
أن يقتدى بسلفه العظيم «عمر بن عبدالعزيز»، لكن قرناء السوء
حالوا بينه وبين ذلك، وزيَّنوا له حياة اللهو واللعب، ويعبِّر عن
ذلك «ابن كثير» بقوله: «فلما ولى - «يزيد بن عبدالملك» الخلافة
- عزم على أن يتأسَّى بسيرة عمر بن عبدالعزيز، فما تركه
قرناء السوء، وحسَّنوا له الظلم». ولم تكن مناعة «يزيد» ضد
الانغماس فى حياة اللهو قوية، فاستجاب لقرناء السوء ورفاق
اللهو، ولولا أن الدولة الأموية كانت زاخرة بالرجال الأفذاذ،
وعامرة بالأبطال من أبناء الأسرة الحاكمة، لانهارت فى عصره،
فقد عوَّض هؤلاء عدم كفاءة الخليفة لقيادة الدولة، ويأتى فى
مقدمتهم أخوه: «مسلمة بن عبدالملك» فارس «بنى مروان»، وابن
أخيه «العباس بن الوليد بن عبدالملك»، وابن عمه «مروان بن
محمد بن مروان»، وقد نجح الأولان فى القضاء على الثورة
العارمة، التى أشعلها «يزيد بن المهلب» سنة (102هـ)، أحد
أبناء البيوتات العربية الطامحة إلى الخلافة بعد ما نجح فى
السيطرة على معظم «العراق»، وعرّض الدولة للسقوط، كما
تصدّوا لحركات الخوارج وكل مناوئى الدولة، وحافظوا على
سلامتها. ولم تطل خلافة «يزيد»، فقد تُوفى فى أواخر شهر
شعبان سنة (105هـ).(10/25)
*هشام بن عبدالملك
هو «هشام بن عبدالملك بن مروان»، رابع أبناء «عبدالملك»
الذين ولوا الخلافة، أمه «أم هاشم بنت إسماعيل المخزومى»،
وُلد فى «دمشق» سنة (72هـ)، وبويع له بالخلافة سنة (105هـ).
ومع أن المصادر التاريخية لم تحدثنا كثيرًا عن حياته قبل
الخلافة، وعمَّا إذا كانت له مشاركة فى تسيير أمور الدولة أم لا،
فإنها تجمع على أنه كان ذا رأى وبصيرة، وحكمة وفطنة،
حازمًا ذكيا، له بصر بالأمور، جليلها وحقيرها، محشوا عقلا على
حسب تعبير «الطبرى». وكان من حسن الطالع للدولة الأموية
وللمسلمين أن يخلف «هشام بن عبدالملك» أخاه «يزيد»، فقد
ظل فى الخلافة نحو عشرين عامًا، أدار فيها الدولة بكفاءة
عالية، وأظهر حكمة سياسية فى تعامله مع الكتلتين العربيتين
الرئيسيتين فى الدولة، وهما عرب الجنوب (اليمن)، وعرب
الشمال (قيس)، فلم يتحيز إلى كتلة ضد الأخرى، واحتفظ بعلاقة
طيبة معهما ومع الجميع بصفة عامة، ولعل هذه السياسة هى
التى كفلت للدولة الاستقرار النسبى طوال حكمه. وقد تمتع
«هشام» بعديد من الصفات اللازمة لرجل الدولة، من حلم وتسامح
وسعة صدر، وعدل وحزم، أما أبرز صفاته الإدارية على الإطلاق
فهى قدرته الفائقة على تدبير الأموال وحسن التصرف فيها، مع
تحرى العدل فى جمعها وإنفاقها على حد سواء، فنعمت الدولة
فى عهده باستقرار مالى كبير. وأظهر «هشام» كفاءة عالية
ومقدرة فائقة فى إدارة الشئون الخارجية للدولة، فحافظ على
هيبتها فى عيون أعدائها، وبخاصة الدولة البيزنطية. ولم يعكر
صفو الدولة فى عهد «هشام» سوى ثورة «زيد بن على بن
الحسين بن على» سنة (121هـ)، حين حرّضه العراقيون على
الثورة ضد «هشام»، والخروج عليه، ثم تخلَّوا عنه كما فعل
أسلافهم مع جده «الحسين بن على»، وتركوه يلقى حتفه سنة
(122هـ)، وقد حزن «هشام» على قتله، لأنه كان يكره سفك
الدماء. وتُوفى «هشام بن عبدالملك» فى مطلع شهر ربيع الآخر
سنة (125هـ).(10/26)
*الوليد بن يزيد بن عبدالملك
هو أول حفيد من أحفاد «عبدالملك بن مروان» يتولى الخلافة،
طبقًا لنظام الوراثة الذى سار عليه الأمويون، إذ عَهِدَ «يزيد بن
عبدالملك» إلى ابنه بالخلافة بعد أخيه «هشام بن عبدالملك».
وتُعد خلافة «الوليد بن يزيد» بداية النهاية للدولة الأموية،
وطليعة سقوطها؛ لأنه كان على شاكلة أبيه لهوًا ولعبًا، وإذا
كان أبوه قد رزق من يعوض نقص كفاءته فى الحفاظ على
سلامة الدولة، من إخوته وأبناء عمومته، فإن «الوليد» لم يجد
مثل هذا النوع من أفذاذ الرجال، بل ثار عليه أبناء عمومته من
أبناء «الوليد بن عبدالملك» وأخيه «هشام»، وشهد عصره أول
انقسام داخلى بين الأسرة الأموية وأشده خطرًا. وقد حاول
«الوليد» استرضاء الجند بزيادة رواتبهم، واستمالة الناس بزيادة
أعطياتهم من الأموال الكثيرة التى تركها له عمه «هشام بن
عبدالملك» فى خزانة الدولة، لكن ذلك لم يمنع الثائرين عليه من
أبناء عمومته بزعامة «يزيد بن الوليد» من تلطيخ سمعته واتهامه
بالفسق والفجور، والمبالغة فى تلك التهم والتشهير به؛ لأن «ابن
الأثير» يقول: «إن الوليد لم يكن على هذه الدرجة من السوء، غير
أن خصومه نجحوا فى خطتهم، وقتلوه فى جمادى الآخرة سنة
(126هـ)، فاتحين بذلك أبواب الشر على الدولة من كل جانب،
مفجِّرين الثورات والفتن فى كل مكان».(10/27)
*يزيد بن الوليد بن عبدالملك
هو أول أموى من أم غير عربية يتولَّى الخلافة، فأمه فارسية
تُدعى «شاه أفريد بنت فيروز بن يزدجرد الثالث» آخر ملوك
الفرس. تولَّى الخلافة بعد مقتل ابن عمه «الوليد بن يزيد» سنة
(126هـ)، وحاول أن يظهر الصلاح والتقوى، ويتشبه بعمر بن
عبدالعزيز فى عدله وزهده، ليمحو من أذهان الناس فعلته
الشنعاء بابن عمه، لكنه لم ينجح فى ذلك، إذ اضطربت عليه
الأمور، ونقم عليه الجند بعد أن أنقص أعطياتهم التى كان قد
زادها الخليفة السابق، ولقَّبُوه «يزيد الناقص». وقد اضطربت
الدولة فى عهده اضطرابًا شديدًا، وجرَّ عليها بفعلته كوارث لا
قِبَل لها بها، وشغل أبناء الأسرة الأموية فى صراعات داخلية
دمويّة، فى الوقت الذى كانوا فيه أحوج الناس إلى الوحدة
والتضامن إزاء الدعوة العباسية التى نشطت استعدادًا للانقضاض
على الدولة. وزاد الأمر سوءًا أن «يزيد» عجز عن المحافظة على
سياسة التوازن بين القبائل العربية التى انتهجها عمه «هشام بن
عبدالملك»؛ فانحاز إلى أهل «اليمن» الذين ساعدوه فى الثورة
على «الوليد»؛ مما أغضب عرب «قيس»، فثاروا عليه فى الشام
معقل «بنى أمية»، ثم أخذ الخلل والاضطراب يسريان فى جميع
أقاليم الدولة. وفى ظل هذه الأحداث الهائجة، والأجواء العاصفة
توفى «يزيد» فجأة فى نهاية سنة (126هـ)، بعد حكم لم يتجاوز
ستة أشهر، تاركًا الدولة غارقة فى حالة من الفوضى والغليان.(10/28)
*إبراهيم بن الوليد بن عبدالملك
على الرغم من مبايعة بعض الناس لإبراهيم بالخلافة بعد وفاة
أخيه «يزيد» الذى كان قد عهد إليه بالخلافة، فإن الأمرلم يتم
له، ولم يستطع أن يمسك بزمام الأمور فى الدولة التى انفرط
عقدها، لذا يقول «الطبرى»: «كان الناس فى جمعة يسلمون
على إبراهيم بن الوليد بالخلافة، وفى الأخرى بالإمارة، وفى
الثالثة لا يسلمون عليه لا بالخلافة ولا بالإمارة»، كما رفضت
معظم أقاليم الشام بيعته، وحمَّلته هو وأخاه «يزيد» مسئولية
قتل «الوليد بن يزيد» وما ترتب على ذلك من فتن وشرور. وفى
هذه الأثناء تحرك «مروان بن محمد بن مروان»، والى «أرمينيا»
و «أذربيجان»، لإنقاذ الدولة من السقوط والضياع، بعد أن هاله
وأفزعه ما أقدم عليه أبناء عمومته، وقدم إلى «دمشق» على
رأس ثمانين ألف جندى، للقضاء على «إبراهيم بن الوليد» الذى
هرب، فدخلها فى ربيع الآخر سنة (127هـ)، وبايعه الناس
بالخلافة، مؤملين إنقاذ الدولة من الضياع، ولكن كان للأقدار
رأى آخر، فقد شاءت أن تكتب فى عهده شهادة وفاة تلك
الدولة.(10/29)
*مروان بن محمد بن مروان بن الحكم
هو آخر خلفاء «بنى أمية»، ولى حكم «أرمينيا» و «أذربيجان»
منذ خلافة ابن عمه «هشام بن عبدالملك»، وكان من أكفأ الولاة،
وأكثرهم خبرة وبصرًا بالأمور؛ فارسًا شجاعًا، بطلا مقدامًا،
غيورًا على ملك «بنى أمية». أدرك «مروان» عواقب مقتل
«الوليد بن يزيد» على البيت الأموى، فخرج من «أرمينيا» قاصدًا
«دمشق»؛ ليثأر لمقتل «الوليد»، لكن الخليفة الجديد «يزيد بن
الوليد» ترضَّاه، ورجاه أن يرجع، ووعده بإصلاح الأحوال،
فرجع مؤمِّلا أن يفى الخليفة بوعده، غير أن الخليفة تُوفِّى
فجاءة، تاركًا الدولة وأحوالها مضطربة، لأخيه «إبراهيم»، الذى
عجز عن النهوض بأعباء الخلافة؛ مما دفع «مروان» إلى التحرك
من جديد، قاصدًا «دمشق»، ليجد «إبراهيم» قد غادرها هربًا،
فيدخلها، ويبايع له بالخلافة، ليقوم بآخر محاولة لإنقاذ الدولة
الأموية، التى شاءت الأقدار أن تكون نهايتها على يديه. ولا
يستطيع أحد أن يلوم «مروان» أو يحمله مسئولية زوال الدولة،
فعوامل سقوطها كانت تتفاعل وتعمل من زمن بعيد، وكُتب له
أن يجنى وحده الثمار المرة لأخطاء من سبقه، على الرغم مما
بذله من جهد ومثابرة، وعزم لا يلين، فحارب فى أكثر من ميدان،
وصارع أحداثًا عدّة، كانت كلها ضدَّه، وأول خطر واجهه هو
انقسام البيت الأموى شيعًا وأحزابًا، وإشعال أبناء عمومته
الثورات العارمة ضده فى الشام و «العراق»، ثم انقسام القبائل
العربية؛ حيث وقفت القبائل اليمنية فى وجهه، وهم الأنصار
التقليديون لبنى أمية، وهبوب ثورات الخوارج الأخيرة ضد
الدولة، وانفجار المشكلات فى أنحاء الدولة كلها من «الأندلس»
حتى بلاد «خراسان» و «ما وراء النهر». وفى الوقت الذى يواجه
فيه «مروان» كل هذه الظروف الصعبة، منتقلا من ميدان إلى
ميدان، ومن جبهة إلى أخرى دون كلل أو ملل، محاولا إنقاذ
الدولة، وبث روح الحياة فيها، وتجديد الدماء فى أوصالها -(10/30)
تفاجئه رايات العباسيين منحدرة من «خراسان» كالسيل المنهمر،
مكتسحة كل قواته فى طريقها، ولم تتوقف إلا بهزيمته وهو
على رأس جيوشه فى معركة على «نهر الزاب» بالعراق، فى
شهر جمادى الآخرة سنة (132هـ). ولم يجد «مروان» طريقًا سوى
الهرب إلى «مصر»، غير أن العباسيين لاحقوه إلى هناك،
واستطاع «صالح بن على بن عبدالله بن عباس»، عم أول خليفة
عباسى أن يقتله فى قرية تُسمَّى «زاوية المصلوب» التابعة
لبوصير الواقعة جنوبى «الجيزة»، فى ذى الحجة سنة (132هـ)،
وبوفاته انتهت الدولة الأموية فى المشرق، وقامت الدولة
العباسية.(10/31)
*أبان بن عثمان
أبوه الخليفة «عثمان بن عفان»، وُلد سنة (20 هـ) بالمدينة،
وكان من فقهاء «المدينة» المعدودين، ومن كبار رواة الحديث،
تتلمذ لأبيه وغيره من كبار الصحابة، وتعلم على يديه كثير من
علماء الحديث والسيرة، فى مقدمتهم: «محمد بن مسلم بن شهاب
الزهرى». وعلى الرغم من اشتغاله بالحديث والفقه، فإن شهرته
فى العلم بالمغازى والسير جعلته من علمائها البارزين، وتوفى
فى نهاية القرن الأول الهجرى.(10/32)
*عروة بن الزبير بن العوام
وُلد فى «المدينة» سنة (26هـ)، وتتلمذ على يد خالته أم المؤمنين
السيدة «عائشة»، وروى عنها حديث النبى - صلى الله عليه
وسلم - ومغازيه، واشتهر «عروة» بأنه من فقهاء «المدينة»، مثل
«أبان بن عثمان»، غير أن شهرته بالمغازى والسير كانت أكبر،
وكانت له مؤلفات كثيرة، ذكر «ابن سعد» فى كتابه «الطبقات»
أنه أحرقها فى يوم «الحرة»، وهى الواقعة الحربية المشهورة
سنة (63هـ) فى «المدينة»، وقد حزن كثيرًا على فقدها، وتوفى
«عروة» سنة (94هـ).(10/33)
*شرحبيل بن سعد
وهو ثالث ثلاثة من كتاب الطبقة الأولى من أهل «المدينة» فى
علم السيرة، نشأ فى «المدينة»، وأخذ العلم عن الصحابة، حتى
صار علمًا من أعلام السير والمغازى، ويروى أنه كان أعلم
الناس بالمغازى وبخاصة أهل «بدر»، وقد تُوفُّى سنة (123هـ).(10/34)
*وهب بن منبه
وُلد فى قرية «زمار» بجوار «صنعاء» باليمن، وهو واحد من
رجال الطبقة الأولى من علماء السيرة والمغازى، ومن العلماء
الموسوعيين الذين كتبوا فى علوم شتىَّ، فكان مصدرًا من
مصادر علوم أهل الكتاب، ومن الثقاة فى تاريخ الأنبياء. وقد
ألَّف «وهب» مؤلفات كثيرة، لم يصل إلينا منها شىء، وإن
وجدت مؤخرًا فى مدينة «هيدلبرج» بألمانيا أوراق بردى، يقال
إنها قطعة من كتاب المغازى لوهب بن منبه، تحوى معلومات عن
«بيعة العقبة»، وحديث «قريش» فى دار الندوة، وتدبيرها لقتل
الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والاستعداد للهجرة إلى
«المدينة». ثم تلا هذه الطبقة طبقة أخرى، واصلت عملها فى
مجال التأليف والكتابة فى السيرة والمغازى، من أبرزهم «محمد
بن مسلم بن شهاب الزهرى»، الذى امتاز على معاصريه بكثرة
الكتابة والتدوين، غير أن مؤلفاته ضاعت ولم يصل إلينا منها
شىء، وعلى الرغم من ذلك فإن علمه حفظه لنا تلاميذه
الكثيرون، وكان من أعظمهم فى مجال السيرة والمغازى:(10/35)
*محمد بن إسحاق
وُلد فى «المدينة» سنة (85هـ) فى خلافة «عبد الملك بن مروان»،
وتتلمذ لأبيه الذى كان محدثًا فقيهًا، ولغيره من كبار التابعين
فى «المدينة»، مثل: «القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق»،
و «سالم بن عبد الله بن عمر»، و «أبان بن عثمان بن عفان»،
و «نافع مولى عبد الله بن عمر»، و «أبى سلمة بن عبد الرحمن بن
عوف»، و «محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى»، ثم رحل «ابن
إسحاق» إلى «مصر» سنة (115هـ)، والتقى بعلمائها الكبار،
وفى مقدمتهم: «يزيد بن أبى حبيب»، وزار الإسكندرية، ثم عاد
إلى «المدينة» ليواصل دراسته، ثم رحل إلى «العراق» بعد قيام
الدولة العباسية، وقضى فيها بقية حياته، حتى تُوفِّى سنة
(151هـ) وهناك إجماع بين العلماء على إمامة «ابن إسحاق»
لعلم السيرة والمغازى، فقد حفظ فى كتابه معظم روايات
السابقين وآثارهم العلمية، وكل من أتى بعده عالة عليه فى هذا
العلم كما قال الإمام «الشافعى».ولابن إسحاق كتابان: أحدهما
عنوانه «كتاب الخلفاء»، وهو مفقود حتى الآن. والآخر: كتاب
«السيرة والمبتدأ والمغازى» وهو أقدم كتاب وصل إلينا عن
سيرة الرسول ومغازيه، وأوفاها علمًا.(10/36)
*ابن إسحاق
وُلد فى «المدينة» سنة (85هـ) فى خلافة «عبد الملك بن مروان»،
وتتلمذ لأبيه الذى كان محدثًا فقيهًا، ولغيره من كبار التابعين
فى «المدينة»، مثل: «القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق»،
و «سالم بن عبد الله بن عمر»، و «أبان بن عثمان بن عفان»،
و «نافع مولى عبد الله بن عمر»، و «أبى سلمة بن عبد الرحمن بن
عوف»، و «محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى»، ثم رحل «ابن
إسحاق» إلى «مصر» سنة (115هـ)، والتقى بعلمائها الكبار،
وفى مقدمتهم: «يزيد بن أبى حبيب»، وزار الإسكندرية، ثم عاد
إلى «المدينة» ليواصل دراسته، ثم رحل إلى «العراق» بعد قيام
الدولة العباسية، وقضى فيها بقية حياته، حتى تُوفِّى سنة
(151هـ) وهناك إجماع بين العلماء على إمامة «ابن إسحاق»
لعلم السيرة والمغازى، فقد حفظ فى كتابه معظم روايات
السابقين وآثارهم العلمية، وكل من أتى بعده عالة عليه فى هذا
العلم كما قال الإمام «الشافعى».ولابن إسحاق كتابان: أحدهما
عنوانه «كتاب الخلفاء»، وهو مفقود حتى الآن. والآخر: كتاب
«السيرة والمبتدأ والمغازى» وهو أقدم كتاب وصل إلينا عن
سيرة الرسول ومغازيه، وأوفاها علمًا.(10/37)
*أبو العباس السفاح
هو «عبدالله بن محمد بن على بن عبدالله بن العباس بن
عبدالمطلب بن هاشم»،ولد سنة (100هـ= 718م) تقريبًا. بويع «أبو
العباس» فى «الكوفة» فى شهر ربيع الأول سنة (132هـ= 749م).
واستمر فى الحكم أربع سنوات، استطاع خلالها توطيد أركان
الخلافة العباسية، والقضاء على كل مقاومة ظهرت فى عهده.
وتُوفى الخليفة العباسى الأول «أبو العباس» بالأنبار فى (13
من ذى الحجة سنة 136هـ= 9 من يونيو سنة 754م)، وعمره نحو
ست وثلاثين سنة.(10/38)
*أبو جعفر المنصور
هو «عبدالله بن محمد بن على بن عبدالله بن العباس بن
عبدالمطلب الهاشمى»، وكنيته «أبو جعفر». ولد سنة (95هـ=
714م) فى قرية «الحميمة» بالشام، وتربى وسط كبار الرجال من
«بنى هاشم»، فنشأ فصيحًا عالمًا بسير الملوك والأمراء، ودرس
النحو والتاريخ والأدب شعرًا ونثرًا وغير ذلك، كما كان كثير
الأسفار والتنقل. ولما تولى أخوه «أبو العباس» الخلافة استعان
به فى محاربة أعدائه وتصريف أمور الدولة، وكان ينوب عنه
فى الحج، كما أوصى «أبو العباس» قبيل وفاته مباشرة بولاية
عهده لأخيه «أبى جعفر»، الذى كان غائبًا فى موسم الحج،
فلما تُوفِّى «أبو العباس» قام ابن أخيه «عيسى بن موسى»
بأخذ البيعة لأبى جعفر من «بنى هاشم» وغيرهم، وأرسل إلى
عمه «أبى جعفر» بوفاة أخيه ومبايعته بالخلافة. يُعدُّ «أبو
جعفر المنصور» المؤسس الحقيقى للدولة العباسية، وقد واجه
بحزم واقتدار العديد من المشاكل والثورات حتى نجح فى
السيطرة عليها والقضاء على القائمين بها، ومنها: ثورة عمه
«عبدالله بن على»، وتمرد «أبى مسلم الخراسانى»، وثورة
«محمد النفس الزكية»، وثورات الفرس، وحركات الخوارج. تُوفى
«المنصور» فى (6 من ذى الحجة سنة 158هـ= 7 من أكتوبر سنة
775م)، وهو فى طريقه إلى الحج.(10/39)
*المهدى العباسي
هو «محمد بن عبدالله بن محمد» وُلد بالحميمة سنة
(126هـ=743م)، وقد هيأه والده «المنصور» وأعده ليكون جديرًا
بمنصب الخلافة من بعده، فنشأ على ثقافة عربية واسعة،
ودراية بفنون الحرب وأساليب الإدارة. وعقب وفاة «المنصور»
بويع «المهدى» بيعة خاصة من قبل الزعماء بمكة، ثم بايعه
جمهور المسلمين فى «بغداد» فى (ذى الحجة سنة 158هـ=
أكتوبر سنة 775م). اختلفت سياسة «المهدى» عمن سبقه،
فاتسم عهده بالاستقرار والهدوء والتسامح والصفح، فأطلق
سراح المسجونين السياسيين، واهتم بإقرار العدل بين الناس،
وجلس للنظر فى مظالم الناس مستعينًا بالقضاة، وأمر بالإنفاق
على مرضى الجذام؛ حتى لا يختلطوا بالناس فتصيبهم العدوى،
كما اهتم اهتمامًا خاصا بالحرمين الشريفين وبكسوة «الكعبة».
وقد عفا «المهدى» عن بعض آل البيت ومنحهم الأموال
والإقطاعات، وحينما أدى فريضة الحج سنة (160هـ= 777م) وزع
أموالاً كثيرة على أهل «مكة» و «المدينة»، وأصدر عفوًا عاما
عمن عاقبهم «المنصور» من أهل «الحجاز»؛ لمشاركتهم فى
الثورة العلوية، واختار خمسمائة من رجال الأنصار وكوَّن منهم
حرسه الخاص، كما قام ببث العيون والجواسيس بالبلاد لرصد أى
تحرك معادٍ للدولة، ورغم ذلك فقد حاول بعض العلويين مثل
«عيسى بن زيد بن على» و «على بن العباس بن الحسن» القيام
بثورة ضد الخلافة العباسية، لكنها لم تنجح؛ حيث عاجلهما
الموت. واجه «المهدى» عدة ثورات من الخوارج وقضى عليها
بحزمه وسرعة مواجهته، كان «المنصور» قد ترك بعد وفاته فى
بيت المال أربعة عشر مليون دينار وستمائة مليون درهم، قام
«المهدى» بتوزيعها على الناس؛ فشاع بينهم الترف والنعيم
واللهو واللعب، كما اتبعه الناس فى حبه للآداب والفنون؛ فارتقت
الآداب والفنون، وسادت بين طبقات الشعب، وكان «المهدى»
أول خليفة يُحمل إليه الثلج إلى «مكة» فى الحج، كما كان
مترفًا فى ملبسه ومأكله. تُوفِّى «المهدى» سنة (169هـ= 785م)(10/40)
وعمره ثلاث وأربعون سنة، وقد قضى فى الحكم إحدى عشرة
سنة.(10/41)
*الهادى (خليفة عباسي)
هو «موسى» ابن الخليفة «المهدى»، تولى الخلافة فى (22 من
المحرم سنة 169هـ= 5 من أغسطس سنة 785م). اتصف الخليفة
«الهادى» بالغيرة والشهامة والجرأة، ورفض تدخل أمه
«الخيزران» فى سياسة الدولة كما كانت تفعل فى عهد والده
«المهدى». وقد واجه «الهادى» مشاكل خطيرة على رأسها
ثورة البيت العلوى بقيادة «الحسين بن على بن الحسن» فى
«المدينة» سنة (169هـ= 785م)، إلا أن «الهادى» أرسل جيشًا
على وجه السرعة نجح فى القضاء عليها فى (8 من ذى الحجة
سنة 169هـ=11من يونيو سنة 786م) وحاول «الهادى» نقل ولاية
العهد من أخيه «الرشيد» إلى ابنه «جعفر»، الذى لم يكن قد بلغ
الثامنة من عمره مخالفًا وصية والده فى ترتيب ولاية العهد، إلا
أن الموت عاجله فلم يتحقق له ما أراد. تُوفِّى «الهادى» ليلة
الجمعة، (نصف ربيع الأول سنة 170هـ= نصف أغسطس 786م)
وبذلك تكون مدة خلافته سنة وشهرًا واثنين وعشرين يومًا.(10/42)
*هارون الرشيد
هو «هارون بن محمد المهدى»، وُلد بالرى فى آخر (ذى الحجة
سنة 145هـ= فبراير سنة 763م)، وتولى الخلافة فى الليلة التى
مات فيها أخوه «الهادى» وعمره اثنان وعشرون عامًا. ويُعدُّ
«الرشيد» أشهر خلفاء العباسيين وأبعدهم صيتًا، فقد ملأت
أخباره كتب التاريخ شرقًا وغربًا. اهتم «الرشيد» بإقامة العدل
فى الناس، فأمر بإعادة الأراضى التى اغتصبها أهل بيته فى
عهد الخلفاء السابقين إلى أصحابها، ورفع الظلم عن
المسجونين ظلمًا، وقسم أموال ذوى القربى بين «بنى هاشم»
كلهم بالعدل، وأصدر عفوًا عن المعتقلين السياسيين، فأخرج من
كان فى السجن من العلويين، وسمح لهم بالعودة إلى
«المدينة»، ومنحهم الرواتب، كما أجرى «الرشيد» تعديلات
واسعة فى مناصب الدولة فى كل من «مكة» و «المدينة»
و «الطائف» و «الكوفة» و «خراسان» و «أرمينية» و «الموصل».
تمتع البرامكة فى بداية عهد «الرشيد» بالسلطة والجاه والنفوذ،
وتقلدوا مناصب الدولة المهمة، حتى إذا جاء شهر (صفر سنة
187هـ= يناير سنة 803م) أمر «الرشيد» بسجنهم، ومصادرة
أموالهم وممتلكاتهم، فيما عرف فى التاريخ بنكبة البرامكة.
ازدهر المجتمع فى عهد «الرشيد» اقتصاديا وثقافيا وعلميا
وعمرانيا، فقد تدفقت الأموال من كل مكان، واتسعت رقعة الدولة
واستقر الأمن بها وازدهرت التجارة، وأصبحت «بغداد» قبلة
للطامحين فى الثراء والترف، كما قصدها النوابغ والعباقرة
والصناع المهرة من سائر الشعوب، وشيدت فيها القصور الرائعة
والمساجد الكبيرة، وانتشرت الحدائق العامة، والأسواق
المتخصصة كسوق الذهب والنحاس، والنسيج وغير ذلك. وكان
«الرشيد» على قدر عالٍ من الثقافة والمعرفة، واجتمع عنده
أقطاب العلم والعمل والسياسة والحرب مثل: «أبى يوسف» تلميذ
الإمام «أبى حنيفة»، و «الأصمعى» الراوية المشهور، و «أبى
العتاهية» و «أبى نواس» من الشعراء، وداهية السياسة «يحيى
البرمكى» وابنيه «الفضل» و «جعفر»، ومن المغنين «إبراهيم(10/43)
الموصلى» وابنه «إسحاق»، ومن الموسيقيين «زلزل»
و «برصوم»، وغيرهم من أمراء العباسيين القادة والخطباء
والشعراء والساسة. أثناء سفر «الرشيد» من «بغداد» إلى
«خراسان» اشتد المرض عليه، وتُوفِّى صباح يوم الجمعة (2 من
جمادى الآخرة سنة 193هـ= 23 من مارس سنة 809م)، وعمره
خمس وأربعون سنة. وقد حكم «الرشيد» البلاد ثلاثة وعشرين
عامًا، بلغت فيها «الدولة العباسية» ذروة مجدها، وقد تحدث
عنه كثير من المؤرخين، فقال عنه «الطبرى»: «غزا سبع مرات،
وجهز عشرين حملة للجهاد فى البر والبحر». وقال عنه «ابن
خلكان»: «حج فى خلافته تسع حجج، وكان يصلى فى اليوم
مائة ركعة».(10/44)
*محمد الأمين
هو «محمد بن هارون الرشيد»، وُلد بالرصافة وأمه «زبيدة» ابنة
«جعفر الأكبر بن المنصور»، تولى الخلافة عقب وفاة أبيه
«هارون الرشيد» باعتباره ولى عهده، وكان عمره حينئذٍ ثمانية
وعشرين عامًا. تشير مصادر التاريخ إلى أن بداية الخلاف بينه
وبين أخيه المأمون كانت من جانب «الأمين»، حين خالف أمر
والده «الرشيد» فى مرضه، بأن يكون ما فى معسكره من
أموال ومتاع وجند لأخيه «المأمون»، فى «مرو»؛ مما أحدث أثرًا
سيئًا فى نفس «المأمون». وكانت الخطوة التالية قيام «الأمين»
بتعيين ابنه «موسى» وليا للعهد بدلاً من أخويه «المأمون»
و «المؤتمن»، فقام «المأمون» بإسقاط اسم «الأمين» من الطرز
والسّكَة، ومنع البريد من الوصول إليه بأخبار «خراسان»، ثم
طلب من أخيه «الأمين» أن يرد إليه مائة ألف دينار كان والده
«الرشيد» قد أوصى بها إليه فرفض «الأمين»، ثم تطور الصراع
بينهما إلى المواجهة العسكرية، فجهز «الأمين» جيشًا بقيادة
«على بن عيسى بن ماهان»، وجهَّز «المأمون» جيشًا ضخمًا
بقيادة «طاهر بن الحسين»، ودارت عدة معارك بين الجيشين
انتهت بمحاصرة «بغداد» ومقتل «الأمين» سنة (198هـ= 813م)،
وقد دامت خلافة «الأمين» أربع سنوات وثمانية أشهر وخمسة
أيام.(10/45)
*الأمين بن هارون الرشيد
هو محمد بن هارون الرشيد بن محمد المهدى بن المنصور، أبو
عبدالله أو أبو موسى، سادس خلفاء الدولة العباسية. ولد ببغداد
فى شوال سنة (170 هـ = 786 م) وتلقى تعليمه فى صغره على
الكسائى العالم اللغوى وقرأ عليه القرآن. وكان الأمين حسن
الصورة، وشجاعًا، وفصيحًا. وفى سنة (175 هـ = 791 م) قسم
أبوه الرشيد الدولة بينه وبين أخيه المأمون ثم أوصى له
بالخلافة من بعده. فلما توفى الرشيد سنة (193 هـ = 809 م)
بويع للأمين بالخلافة، ولم يكن الأمين والمأمون على وفاق فى
حياة أبيهما، فلما مات الرشيد ساءت العلاقة بينهما، وقد شجع
على ذلك الوزير الفضل بن الربيع وزير الأمين، وتفاقم الأمر حتى
إن الأمين أعدَّ جيشًا بقيادة قائده على بن عيسى وأمره
بالتوجه إلى خراسان واليًا عليها، وعزل أخيه المأمون، ولكن
هذا الجيش هزم، وقُتل على بن عيسى وأرسل الأمين أكثر من
جيش كان مصيرهم الهزيمة أمام جيش المأمون حتى خلعت أكثر
الأقاليم طاعتها له وبايعت المأمون بالخلافة فأرسل المأمون
قائده طاهر بن الحسين فاستولى على بغداد، وهرب منها الأمين
ولكن بعض العجم لحقوا به وقتلوه فى صفر سنة (198 هـ = 813
م).(10/46)
*المأمون
هو «عبدالله بن هارون الرشيد»، وُلد فى منتصف (ربيع الأول
سنة (170هـ= أغسطس سنة 786م) وأمه «أم ولد» فارسية تُسمَّى
«مراجل»، وكان يكنى «أبا العباس»، ويُلقب بالمأمون. نشأ
«المأمون» نشأة إسلامية، وتلقى العلوم العربية، وتدرَّب على
فنون القتال والنزال وقيادة الجند، كما أسند والده «الرشيد»
إلى وزيره «جعفر البرمكى» مهمة الإشراف على تنشئته، وقد
أظهر المأمون نبوغًا خلال دراسته. ولما تولى «المأمون»
الخلافةعزم أن يقدم القدوة الصالحة والسيرة الحسنة فى الناس
حتى يقتدى به رجال دولته، وكان يقول: «أول العدل أن يعدل
الملك فى بطانته، ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ إلى الطبقة
السفلى». كما اتصف «المأمون» بالعفو والحلم حتى اشتهر بذلك
وهو القائل: «لو عرف الناس حبى للعفو لتقربوا إلىّ بالجرائم،
وأخاف ألا أؤجر عليه»، يعنى لكونه طبعًا له يستلذ به. انتهج
«المأمون» سياسة واعية تقوم على أسس واضحة منها: 1 -
تأليف القلوب بالعفو والعطاء، وقد عد «اليعقوبى» سبع عشرة
حادثة يستحق صاحب كل واحدة منها القتل عند أمثال
«المنصور»، لكنها قوبلت عند «المأمون» بالعفو. 2 - العناية
بالعلم والعلماء: كان للمأمون ولعٌ بالأمور العلمية والفلسفية،
فكان يعقد مجالس المناظرة ويبعث فى طلب العلماء والأعلام من
«بيزنطة» لحضورها، وكان يتصيَّد الكتب النادرة ويدفع فيها
المبالغ الطائلة، ويجعل حصوله عليها شرطًا من شروط الهدنة
ووقف القتال مع الروم، كما أقام «بيت الحكمة» وجعل فيها
مكتبة ضخمة، وجهازًا كبيرًا للترجمة من مختلف اللغات إلى اللغة
العربية، حشد له نحو سبعين مترجمًا. ظل «المأمون» خليفة
للمسلمين عشرين سنة وخمسة أشهر وعشرين يومًا، وقد تُوفِّى
فى (18من رجب سنة 218هـ= 833م).(10/47)
*المعتصم بالله
هو «محمد بن هارون الرشيد»، وُلد فى (شعبان سنة 180هـ=
أكتوبر سنة 796م)، وأمه جارية تركية اسمها «مارده»، وقد
تولى الخلافة عقب وفاة أخيه «المأمون». اختلفت الأوضاع
السياسية فى عهد «المعتصم» عنها فى عهد من سبقه، بسبب
ظهور عوامل جديدة على مسرح الأحداث، كان فى مقدمتها
ظهور العنصر التركى قوة مؤثرة فى حركة الأحداث؛ فتمتع
الأتراك بصفات عسكرية كالشدة والقوة والتحمل جعل
«المعتصم» يستكثر منهم، يضاف إلى ذلك أن أمه تركية. إلا أن
كثرة الأتراك سببت أضرارًا كبيرة لسكان «بغداد»، مما دفع
«المعتصم» إلى البحث عن مكان جديد يكون عاصمة له فوقع
الاختيار على المكان الذى بنيت عليه مدينة «سُرّ من رأى»
(سامراء حاليا) التى بُدء البناء فيها سنة (221هـ= 836م)، ويتميز
موقعها بميزات سياسية واقتصادية وعسكرية، فمن الناحية
السياسية فإنها فى موقع متوسط يسهل الاتصال بأنحاء
الدولة، ومن الناحية الاقتصادية فإن موقعها يسهل عمليات
التبادل التجارى بين النواحى الشمالية والجنوبية، وعسكريا
فإن إحاطة المياه بها يجعلها فى مأمن من أى عدوان خارجى.
ومن الأعمال العظيمة التى تنسب إلى «المعتصم بالله» نجاحه
فى القضاء على ثورة «بابك الخرمى»، فحينما تولى أمر البلاد
جهز جيشًا بقيادة «الأفشين» وزوَّده بكل أدوات القتال وبالمال
اللازم؛ حيث دارت عدة معارك، انتهت بالقبض على «بابك
الخرمى» وإعدامه. تُوفى «المعتصم بالله» فى شهر (ربيع الأول
سنة 227هـ= ديسمبر سنة 841م)، وقد أطلق عليه بعض المؤرخين
«المُثَمن»، لأن خلافته دامت ثمانى سنين وثمانية أشهر ويومين،
ومولده فى الشهر الثامن من العام الهجرى، ومات عن ثمانية
بنين وثمانى بنات.(10/48)
*الواثق بالله
هو «هارون بن المعتصم بالله»، يكنى «أبا جعفر» وأمه أم ولد
رومية تُسمى «قراطيس»، وكان فطنًا لبيبًا فصيحًا ينظم الشعر
ويحب الموسيقىوقد تولى «الواثق بالله» الحكم يوم وفاة والده
«المعتصم». تظهر ملامح سياسة الواثق فيما يلى: أولاً: تمسكه
بمذهب المعتزلة، حتى جعله المذهب الرسمى للدولة، مما أثار
أهل السنة ضده، إلا أنه تصدى لهم وقبض على زعمائهم. ثانيًا:
تقريبه للأتراك جريًا على سياسة والده «المعتصم»، حتى إنه
قسم البلاد بين رجلين من الأتراك، الأول «أشناس» وأعطاه
الشطر الغربى من الدولة إلى آخر بلاد «المغرب»، والثانى قائده
«إيتاخ» وأعطاه الشطر الشرقى: «دجلة» و «فارس» و «السند»،
وكان كل منهما يعين الولاة الذين يريدهم، هذا بالإضافة إلى
عدد من القادة الأتراك الذين شغلوا مناصب خطيرة، مثل: «وصيف
التركى» الذى أوكل إليه «الواثق» القضاء على ثورة المتمردين
الأكراد، و «بغا الكبير» الذى أخمد ثورة الأعراب بنواحى
«المدينة».وكان الواثق يغدق عليهم الأموال والهدايا. ثالثًا:
مصادرة أموال كبار الموظفين، مثل «أحمد بن إسرائيل»، الذى
أخذ منه ثمانين ألف دينار، و «سليمان بن وهب» كاتب «إيتاخ»،
الذى أخذ منه أربعمائة ألف دينار، وغيرهما، مما ترك آثارًا
سيئة فى الجهاز الإدارى والاستقرار المالى للدولة، وأصابهما
بالفساد والخلل. رابعًا: إحسانه إلى بعض طوائف الأمة، وفى
مقدمتهم العلويون حيث أغدق عليهم الأموال. استمر «الواثق»
فى مقعد الخلافة خمس سنين وتسعة أشهر، ثم أُصيب بمرض
الاستسقاء، ومات فى (ذى الحجة سنة 232هـ= يوليو سنة
847م)، وعمره اثنان وثلاثون عامًا، وقيل: ستة وثلاثون.(10/49)
*المتوكل على الله
هو جعفر بن المعتصم بالله، تولى الخلافة فى ذى الحجة سنة
(232هـ= 847م)، وكان عهده بداية حقبة الضعف والتدهور،
وتفكك بنيان الخلافة العباسية. ورغم أن «المتوكل»: كان قوى
الشخصية، وافر الهيبة فإنه لم يستطع أن يضع حدا لاستفحال
النفوذ التركى فى عهده، الذى كان له دور فى توليته الخلافة
بعد أن كادت البيعة تتم لمحمد بن الواثق، وكان غلامًا. وقد نجح
«المتوكل» فى البداية فى التخلص من أخطر العناصر التركية
فى عهده، وهو «إيتاخ» الذى استفحل خطره حتى إنه همَّ يومًا
بقتل الخليفة «المتوكل» حين تبسَّط معه فى المزاح، لكن الخليفة
نجح فى التخلص منه سنة (235هـ= 849م)، كما عزم على التخلص
من قادة الأتراك ووجوههم، مثل «وصيف» و «بُغا»، إلا أنهم
استغلوا ما بينه وبين ابنه وولى عهده «محمد المنتصر» من خلاف
وجفوة ودبروا مؤامرة انتهت بقتل «المتوكل» ووزيره «الفتح بن
خاقان» فى الخامس من شوال سنة (247هـ= 861م)، وبايعوا ابنه
«المنتصر» خليفة. وقد استطاع «المتوكل» فى عهده أن يظفر
بمكانة عظيمة فى قلوب جماهير المسلمين، حين منع النقاش فى
القضايا الجدلية التى آثارها المعتزلة، مثل قضية خلق القرآن،
كما رد للإمام «أحمد بن حنبل» اعتباره وجعله من المقربين إليه،
بعد أن اضطُهد فى عهد «المأمون» و «المعتصم» و «الواثق»؛
لعدم إقراره القول بخلق القرآن، كما أمر «المتوكل» الفقهاء
والمحدِّثين أن يجلسوا للناس ويحدثوهم بالأحاديث التى فيها رد
على المعتزلة فأثنى الناس عليه، حتى قالوا: الخلفاء ثلاثة: «أبو
بكر الصديق» قاتل أهل الردة حتى استجابوا له، و «عمر بن
عبدالعزيز» رد مظالم «بنى أمية»، و «المتوكل» محا البدع
وأظهر السنة.(10/50)
*جعفر بن المعتصم بالله
هو جعفر بن المعتصم بالله، تولى الخلافة فى ذى الحجة سنة
(232هـ= 847م)، وكان عهده بداية حقبة الضعف والتدهور،
وتفكك بنيان الخلافة العباسية. ورغم أن «المتوكل»: كان قوى
الشخصية، وافر الهيبة فإنه لم يستطع أن يضع حدا لاستفحال
النفوذ التركى فى عهده، الذى كان له دور فى توليته الخلافة
بعد أن كادت البيعة تتم لمحمد بن الواثق، وكان غلامًا. وقد نجح
«المتوكل» فى البداية فى التخلص من أخطر العناصر التركية
فى عهده، وهو «إيتاخ» الذى استفحل خطره حتى إنه همَّ يومًا
بقتل الخليفة «المتوكل» حين تبسَّط معه فى المزاح، لكن الخليفة
نجح فى التخلص منه سنة (235هـ= 849م)، كما عزم على التخلص
من قادة الأتراك ووجوههم، مثل «وصيف» و «بُغا»، إلا أنهم
استغلوا ما بينه وبين ابنه وولى عهده «محمد المنتصر» من خلاف
وجفوة ودبروا مؤامرة انتهت بقتل «المتوكل» ووزيره «الفتح بن
خاقان» فى الخامس من شوال سنة (247هـ= 861م)، وبايعوا ابنه
«المنتصر» خليفة. وقد استطاع «المتوكل» فى عهده أن يظفر
بمكانة عظيمة فى قلوب جماهير المسلمين، حين منع النقاش فى
القضايا الجدلية التى آثارها المعتزلة، مثل قضية خلق القرآن،
كما رد للإمام «أحمد بن حنبل» اعتباره وجعله من المقربين إليه،
بعد أن اضطُهد فى عهد «المأمون» و «المعتصم» و «الواثق»؛
لعدم إقراره القول بخلق القرآن، كما أمر «المتوكل» الفقهاء
والمحدِّثين أن يجلسوا للناس ويحدثوهم بالأحاديث التى فيها رد
على المعتزلة فأثنى الناس عليه، حتى قالوا: الخلفاء ثلاثة: «أبو
بكر الصديق» قاتل أهل الردة حتى استجابوا له، و «عمر بن
عبدالعزيز» رد مظالم «بنى أمية»، و «المتوكل» محا البدع
وأظهر السنة.(10/51)
*المنتصر بالله
هو محمد بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم، تولى الخلافة
العباسية فى اليوم الذى قُتل فيه أبوه، وذلك فى شوال سنة
(247هـ= ديسمبر سنة861م)، وعمره ستة وعشرون عامًا. وحاول
التصدى للنفوذ التركى بكل حزم، وصار يسب الأتراك ويقول:
هؤلاء قتلة الخلفاء! ورغم أن «المنتصر بالله» كان وافر العقل
قوى الشخصية فإن الأتراك احتالوا على قتله، فأعطوا طبيبه
«ابن طيفور» ثلاثين ألف دينار، ففصده بمبضع مسموم فمات،
فى (ربيع الآخر سنة 248هـ= يونيو سنة862م) بعد حكم دام ستة
أشهر فقط، ويروى أنه حينما احتضر، قال لأمه: «يا أماه!
ذهبت منى الدنيا والآخرة، عاجلت أبى فعوجلت». ومن مآثر
«المنتصر بالله»، خلال فترة حكمه القصيرة، إحسانه إلى
العلويين، وإزالته عنهم ما كانوا فيه من خوف وضيق فى عهد
أبيه «المتوكل».(10/52)
*محمد بن المتوكل
هو محمد بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم، تولى الخلافة
العباسية فى اليوم الذى قُتل فيه أبوه، وذلك فى شوال سنة
(247هـ= ديسمبر سنة861م)، وعمره ستة وعشرون عامًا. وحاول
التصدى للنفوذ التركى بكل حزم، وصار يسب الأتراك ويقول:
هؤلاء قتلة الخلفاء! ورغم أن «المنتصر بالله» كان وافر العقل
قوى الشخصية فإن الأتراك احتالوا على قتله، فأعطوا طبيبه
«ابن طيفور» ثلاثين ألف دينار، ففصده بمبضع مسموم فمات،
فى (ربيع الآخر سنة 248هـ= يونيو سنة862م) بعد حكم دام ستة
أشهر فقط، ويروى أنه حينما احتضر، قال لأمه: «يا أماه!
ذهبت منى الدنيا والآخرة، عاجلت أبى فعوجلت». ومن مآثر
«المنتصر بالله»، خلال فترة حكمه القصيرة، إحسانه إلى
العلويين، وإزالته عنهم ما كانوا فيه من خوف وضيق فى عهد
أبيه «المتوكل».(10/53)
*المستعين بالله
هو «أحمد بن المعتصم»، تولى الخلافة فى السادس من (ربيع
الآخر سنة 248هـ= يونيو سنة 862م)، وعمره ثمانٍ وعشرون
سنة، فعقب وفاة «المنتصر» اجتمع الأتراك بزعامة «بُغا
الصغير» و «بُغا الكبير»، وقرروا عدم تولية أحد من أولاد
«المتوكل» الخلافة، خوفًا من انتقامه منهم، وبايعوا «أحمد بن
المعتصم»، الملقَّب بالمستعين بالله. وكان من الطبيعى ألا يكون
للمستعين بالله مع الأتراك أمر ولا نهى، ولم يمضِ وقت طويل
حتى غضب عليه الأتراك وقرروا خلعه ومبايعة «المعتز بالله محمد
بن المتوكل»؛ فاشتعلت الحرب بين أنصار «المستعين» وأنصار
«المعتز»، وانتهت بالقبض على «المستعين» وقتله فى سجنه
فى (شوال سنة 252هـ= ديسمبر سنة 866م). وقد شهدت خلافة
«المستعين بالله» قيام «الدولة العلوية» بطبرستان سنة (250هـ=
864م)، على يد «الحسن بن زيد العلوى» الملقب بالداعى الكبير،
واستمرت هذه الدولة حتى سنة (316هـ= 928م).(10/54)
*المعتز بالله محمد بن المتوكل
هو محمد بن المتوكل على الله، بويع له بالخلافة العباسية فى
شوال سنة (252هـ= ديسمبر سنة 866م)، وعمره تسعة عشر
عامًا، وكان من أهم الأحداث التى شهدتها خلافة «المعتز» قيام
«الدولة الصفَّارية» فى «فارس» بزعامة «يعقوب بن الليث
الصفَّار» وذهاب «أحمد بن طولون» إلى «مصر» سنة (254هـ=
868م) نائبًا عن واليها، لكنه استطاع فى فترة لاحقة أن يستقل
بها عن العباسيين، وأن يضم إليها «الشام» مكونًا بذلك «الدولة
الطولونية» فى «مصر» و «الشام». وقد استضعفه الأتراك وطلبوا
منه مالاً فاعتذر لهم بفراغ بيت المال، فثاروا عليه وضربوه
ومزقوا ملابسه، وأقاموه فى الشمس، فكان يرفع رجلاً ويضع
أخرى من شدة الحر، ثم سجنوه وعذبوه حتى مات (فى شعبان
سنة 255هـ= يوليوسنة 869م).(10/55)
*المهتدى بالله محمد بن الواثق
هو محمد بن الواثق بن المعتصم، بايعه الأتراك خليفة للمسلمين
فى (رجب سنة 255هـ= يونيو سنة869م)، عقب الإطاحة بالمعتز،
وقد كان «المهتدى» تقيا شجاعًا حازمًا، وكان يتخذ «عمر بن
عبدالعزيز» مثله الأعلى، ويقول: إنى أستحيى أن يكون فى
«بنى أمية» مثله، ولا يكون مثله فى «بنى العباس»، ولذلك نبذ
الملاهى وحرَّم الغناء والخمور وحارب الظلم. وقد كان من أهم
الأحداث التى شهدها عصر «المهتدى بالله» ثورة الزَّنج وسُميت
بذلك لأن أعدادًا كبيرة من الذين شاركوا فيها كانوا عبيدًا سودًا.
حاول «المهتدى بالله» أن يوقف طغيان الأتراك واستبدادهم
فقتل بعضهم، فثاروا عليه وأسروه وعذبوه ليخلع نفسه فرفض،
فقاموا بخلعه وسجنه وتعذيبه حتى مات فى (رجب سنة 256هـ=
يونيو 870م).(10/56)
*المعتمد على الله
هو «المعتمد على الله» أحمد بن المتوكل، تولى الخلافة بعد خلع
«المهتدى» سنة (256هـ= 870م)، وقد أتاحت الظروف التى تولى
فيها «المعتمد» مقاليد الحكم ظهور ما عُرف باسم «صحوة
الخلافة» فى «العصر العباسى الثانى». فقد تصاعد النزاع
الداخلى بين القادة الأتراك، وساءت معاملتهم لجنودهم، كما
ازدادت شكوى الجمهور من مضايقاتهم، مما أدى إلى ظهور
اتجاه قوى داخل الجيش بحتمية جعل القيادة العسكرية العليا
فى يد أحد أمراء البيت العباسى؛ يقوم الخليفة باختياره، ويدين
له الجميع بالطاعة، وقد اختار «المعتمد» أخاه «الموفق» قائدًا
للجيش، فكانت «صحوة الخلافة»؛ حيث استردت قوتها وهيبتها
واستطاع «الموفق» بحكمته وحزمه وصلابة إرادته أن يكبح
جماح الأتراك، وأن يعيد تنظيم الجيش، ويقر الأمن والنظام. ورغم
أن «المعتمد بالله» كان الخليفة الرسمى فإن أخاه «الموفق»
كان صاحب السلطة الفعلية، فكان له الأمر والنهى، وقيادة
الجيش ومحاربة الأعداء، ومرابطة الثغور، وتعيين الوزراء
والأمراء، وكان قضاء «الموفق» على «ثورة الزنج» سنة
(270هـ= 883م) أعظم إنجاز له. وقد تُوفِّى «الموفق» فى (صفر
سنة 278هـ= مايوسنة 891م)، وفى العام التالى تُوفِّى الخليفة
«المعتمد» فى (رجب سنة 279هـ= سبتمبرسنة 892م)، بعد أن
حكم البلاد ثلاثة وعشرين عامًا. وقد حفل عهده بالعلماء الأعلام
فى مجالات المعرفة المختلفة.(10/57)
*أحمد بن المتوكل بن المعتصم
هو «المعتمد على الله» أحمد بن المتوكل، تولى الخلافة بعد خلع
«المهتدى» سنة (256هـ= 870م)، وقد أتاحت الظروف التى تولى
فيها «المعتمد» مقاليد الحكم ظهور ما عُرف باسم «صحوة
الخلافة» فى «العصر العباسى الثانى». فقد تصاعد النزاع
الداخلى بين القادة الأتراك، وساءت معاملتهم لجنودهم، كما
ازدادت شكوى الجمهور من مضايقاتهم، مما أدى إلى ظهور
اتجاه قوى داخل الجيش بحتمية جعل القيادة العسكرية العليا
فى يد أحد أمراء البيت العباسى؛ يقوم الخليفة باختياره، ويدين
له الجميع بالطاعة، وقد اختار «المعتمد» أخاه «الموفق» قائدًا
للجيش، فكانت «صحوة الخلافة»؛ حيث استردت قوتها وهيبتها
واستطاع «الموفق» بحكمته وحزمه وصلابة إرادته أن يكبح
جماح الأتراك، وأن يعيد تنظيم الجيش، ويقر الأمن والنظام. ورغم
أن «المعتمد بالله» كان الخليفة الرسمى فإن أخاه «الموفق»
كان صاحب السلطة الفعلية، فكان له الأمر والنهى، وقيادة
الجيش ومحاربة الأعداء، ومرابطة الثغور، وتعيين الوزراء
والأمراء، وكان قضاء «الموفق» على «ثورة الزنج» سنة
(270هـ= 883م) أعظم إنجاز له. وقد تُوفِّى «الموفق» فى (صفر
سنة 278هـ= مايوسنة 891م)، وفى العام التالى تُوفِّى الخليفة
«المعتمد» فى (رجب سنة 279هـ= سبتمبرسنة 892م)، بعد أن
حكم البلاد ثلاثة وعشرين عامًا. وقد حفل عهده بالعلماء الأعلام
فى مجالات المعرفة المختلفة.(10/58)
*المعتضد بالله
هوأبو العباس أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل، تولى الخلافة
بعد وفاة عمه «المعتمد»، وكان قوى الشخصية؛ فحفظ هيبة
الخلافة، كما كانت فى عهد أبيه «الموفق» وعمه «المعتمد»،
يقول «السيوطى»: كان «المعتضد» شهمًا جلدًا، موصوفًا بالرُّجلة
(أى الشجاعة)، وقد خاض الحروب وعُرف فضله، فقام بالأمر
أحسن قيام، وهابه الناس ورهبوه أحسن رهبة، وسكنت الفتن
فى أيامه لفرط هيبته، وكانت أيامه طيبة كثيرة الأمن والرخاء.
وقد تمكن «المعتضد» خلال حكمه الذى دام عشر سنوات من
تهيئة المزيد من القوة والاستقرار للدولة العباسية، فقضى على
مصادر الفتن والثورات، وأخمد ثورة «بنى شيبان» بأرض
الجزيرة سنة (280هـ= 893م)، وثورة «حمدان بن حمدون» - رأس
الأسرة الحمدانية - بالموصل، واستولى على قلعة «ماردين»
التى كان يتحصن بها سنة (281هـ= 894م)، كما قضى على ثورة
الخوارج فى «الموصل» بزعامة «هارون بن عبدالله الشارى»
الذى وقع فى الأسر، وأمر «المعتضد» بضرب عنقه سنة
(283هـ=896م)، ومن أخطر الحركات التى شهدها عصر
«المعتضد» حركة القرامطة. كذلك انتقلت عاصمة الخلافة فى
عهده من سامراء إلى بغداد. تُوفِّى «المعتضد» فى ربيع الآخر
سنة (289هـ= 902م)، وكان عصره يموج بالحركة العلمية والدينية
والأدبية، فقد عاش فى عصره عدد من العلماء والأدباء البارزين.(10/59)
*المكتفى بالله
هو أبو محمد على بن المعتضد، تولى الخلافة فى (ربيع الآخر
سنة 289هـ= مارس سنة 902م) عقب وفاة أبيه، وعمره خمس
وعشرون سنة، ورغم أنه كان حسن السيرة محبوبًا لدى الرعية
فإنه لم يكن يتمتع بما كان يتمتع به أبوه «المعتضد»، من قوة
الشخصية والحزم، فكانت خلافته تمهيدًا لعودة الأمور إلى
أوضاعها السابقة، وفترة انتقالية بين «صحوة الخلافة»
وانتكاستها. وقد شهد عهد «المكتفى» أحداثًا كثيرة، منها:
ازدياد خطر القرامطة وتهديدهم للشام و «الحجاز» و «اليمن»، وقد
جرت على يد زعيمهم «زكرويه بن مهرويه» مذابح بشعة ضد
حجاج بيت الله الحرام وعامة الناس، ونشروا الفزع فى أنحاء
العالم الإسلامى، واستطاع «زكرويه» أن يهزم جيشًا للخليفة
«المكتفى»، وأن يقتل منه عددًا كبيرًا، فأعد له «المكتفى»
جيشًا حشد فيه أكفأ القواد، نجح فى قتل «زكرويه» وكثيرًا من
أتباعه عام (294هـ= 907م)، وتتبعهم فى «العراق»، ولكنه لم
يستطع القضاء عليهم تمامًا، فظلوا من بعده مصدر خطر مؤكد
على كيان الخلافة. ومما شهده عصر «المكتفى» أيضًا من
أحداث: تولية «المكتفى» «أبى الهيجاء عبدالله بن حمدان
التغلبى» ولاية «الموصل» والبلاد التابعة لها سنة (293هـ=906م)،
وكان ذلك مقدمة لاستقلال الحمدانيين بالموصل - فيما بعد -
وضمهم «حلب» إليها، ونشأة «الأسرة الحمدانية». تُوفِّى
«المكتفى» وفاة طبيعية فى (ذى القعدة سنة 295هـ= أغسطس
سنة 908م)، وترك خزانة الدولة ممتلئة بالأموال، وقد أرجع
المؤرخون ذلك إلى الجهد الذى بذله أبوه «المعتضد» فى جلب
أسباب الاستقرار الاقتصادى إلى الدولة، وحسن سيرة
«المكتفى بالله».(10/60)
*المقتدر بالله
هو أبو الفضل جعفر بن المعتضد، تولى الخلافة بعد أخيه
«المكتفى» بعهد منه فى (ذى القعدة سنة 295هـ= أغسطس سنة
908م)، وكان صبيا فى الثالثة عشرة من عمره، ولم يلِ الخلافة
قبله أصغر منه. أثار تولى «المقتدر» الخلافة اعتراض كثير من
رجال الدولة بسبب صغر سنه، وعدم قدرته على الاضطلاع
بشئون الخلافة مع وجود الأقدر منه على تحمل المسئولية، خاصة
«عبد الله بن المعتز» الشاعر المعروف بتمام العقل وجودة
الرأى، فاتفق رأى عدد منهم على خلع «المقتدر» وتولية
«عبدالله بن المعتز»، وكان عمره نحو تسعة وأربعين عامًا،
وعندما عرضوا الأمر على «ابن المعتز» وافق بشرط ألا يسفك دم
أو تنشب حرب، فأخبروه أن الأمر يُسلَّم إليه عفوًا، وأن جميع
من وراءهم من الجند والقواد والكُتَّاب قد رضوا به فبايعهم على
ذلك، وتمت البيعة لابن المعتز فى (19من ربيع الأول سنة 296هـ=
نوفمبر سنة 908م)، ولقب بالراضى بالله، ولكن أنصار «المقتدر»
- وعلى رأسهم «مؤنس الخادم» - لم يرضوا بهذه البيعة، وتوجهوا
نحو «ابن المعتز» وأنصاره وقبضوا عليهم وفتكوا بهم وأعادوا
تنصيب «المقتدر» فى اليوم التالى لبيعة «ابن المعتز»، الذى لم
يمكث فى الخلافة إلا يومًا أو بعض يوم، ولهذا يتجاهله
المؤرخون عند ذكرهم قائمة خلفاء «بنى العباس». وقد تدهورت
الأوضاع فى عهد «المقتدر»، وانتشرت الفتن وازداد تمزق
الدولة، وأصبحت الخلافة نهبًا للطامعين بسبب صغر سنه، وأفلت
زمام الأمور من يده، وتحكم النساء والخدم فى شئون البلاد،
فكانت «أم المقتدر» وتسمى «شغب» تولِّى من تشاء وتعزل من
تشاء، كما كان «مؤنس الخادم» صاحب مكانة متميزة وخطيرة
فى عهد «المقتدر». وقد ازداد خطر القرامطة اتساعًا وعنفًا فى
عهد «المقتدر»، ووصل مداه سنة (317هـ= 929م)، حينما دخلوا
«مكة» بقيادة «أبى طاهر القرمطى» (3) وقتلوا الحجاج فى
المسجد الحرام، واستولوا على الحجر الأسود وأخذوه إلى(10/61)
مركزهم الرئيسى «هَجَر» حتى تم رده إلى مكانه فى عهد
«المطيع» سنة (339هـ = 950م). ومن أهم الأحداث فى عهد
«المقتدر» بداية ظهور العُبيديين أو الفاطميين فى «شمالى
إفريقيا» وقيام دولة «بنى حمدان» فى «الموصل» وقد أسهم
أمراء «بنى حمدان» وفى مقدمتهم «سيف الدولة الحمدانى» فى
صد غارات الروم (البيزنطيين) عن مناطق الثغور الإسلامية، وفى
رعاية الحركة العلمية والأدبية التى بلغت فى عهدهم مركزًا
مرموقًا. ساءت العلاقة بين «المقتدر بالله» وخادمه «مؤنس
الخادم»؛ مما أدى إلى مقتله على يد أنصار «مؤنس» فى أواخر
شوال سنة (320هـ= 932م)، بعد أن ظل فى الحكم خمسًا
وعشرين سنة، هى أطول مدة يقضيها خليفة عباسى فى الحكم
حتى عصره. ورغم تدهور أحوال البلاد السياسية فى عهد
«المقتدر» فإن الحياة العلمية قد شهدت ازدهارًا ملحوظًا فى هذا
العصر. وبمقتل «المقتدر» دخل عصر نفوذ الأتراك مراحله الأخيرة.(10/62)
*القاهر بالله
هو أبو منصور محمد بن المعتضد، تولى الخلافة فى شوال سنة
(320هـ= 932م)، عقب مقتل «المقتدر»، وعمره ثلاث وثلاثون سنة.
وقد اتصف «القاهر» بالغلظة وقلة التثبت، ورغم أنه نجح فى
التخلص من «مؤنس الخادم»، صاحب النفوذ الأكبر فى عهد
«المقتدر»، ومن غيره من أعيان الدولة فإن سوء سياسته كان
سببًا فى تدبير الانقلاب عليه والإطاحة به. وقد لعب الوزير
المشهور «أبو على بن مقلة» الدور الأساسى فى خلع «القاهر»
والتنكيل به، لخوفه منه واعتقاده أنه كان يدبر للقضاء عليه،
فهاجم أعوانه الخليفة «القاهر» فى دار الخلافة وقبضوا عليه
وسملوا عينيه وعذبوه وأعلنوا خلعه فى الثالث من جمادى
الأولى سنة (322هـ= 934م). ولعل من أبرز التطورات السياسية
التى شهدها عهد «القاهر» - رغم قصره - ظهور النفوذ البويهى
فى بلاد فارس سنة (321هـ= 933م)، وكان ذلك مقدمة لامتداد
نفوذهم إلى «العراق» وسيطرتهم على مقاليد الأمور هناك فى
سنة (334هـ= 945م)، لتبدأ مرحلة جديدة فى تاريخ الخلافة
العباسية فى عصرها الثانى، كما سنبين بعد قليل.(10/63)
*الراضى بالله
هو أبو العباس محمد بن المقتدر، بايع الجند «الراضى بالله» فى
السادس من جمادى الأولى سنة (322هـ) وعمره خمسة وعشرون
عامًا، وقد كان من خيار الخلفاء، فاضلاً سمحًا جوادًا، شاعرًا
محبا للعلماء. ورغم ما كان يتحلى به «الراضى» من صفات
حميدة فإن أمر الخلافة قد اختل فى عهده اختلالاً خطيرًا، وازداد
تمزق الدولة واستفحل نفوذ المتطلعين للسيطرة على زمام
الأمور؛ فقد ازداد نفوذ البويهيين فى فارس وتطلعوا للاستيلاء
على «العراق»، وتمتع «بنو حمدان» بنفوذ مطلق فى «الموصل»
و «ديار بكر» و «ربيعة» و «مضر»، واستقلت «الدولة الإخشيدية»
فى «مصر» و «الشام» عن الخلافة العباسية، وكذلك «الدولة
السامانية» فى «خراسان» و «ما وراء النهر» بزعامة «نصر بن
أحمد السامانى»، وأصبح للأمويين خلافة مستقلة فى «الأندلس»
تحت حكم «عبدالرحمن الثالث» الأموى الملقب بالناصر (300 -
350هـ= 913 - 961م)، وسيطر القرامطة بزعامة «أبى طاهر
القرمطى» (5) على «البحرين»» و «اليمامة». وتدهورت الأوضاع
فى أوائل عهد «الراضى» تدهورًا كبيرًا، بسبب عجز الوزراء
وازدياد نفوذ كبار القواد وتدخلهم فى شئون الدولة، وكان
«محمد بن رائق» والى «واسط» و «البصرة» واحدًا من أبرز هؤلاء
القواد وأكثرهم نفوذًا وتأثيرًا، فاختاره الخليفة «الراضى» ليقوم
بمهمة إنقاذ الخلافة من التدهور الإدارى الحاد الذى تعانى منه،
وأسند إليه منصب «أمير الأمراء» فى عام (324هـ= 936م). وقد
تُوفِّى الخليفة «الراضى بالله» وفاة طبيعية فى (منتصف ربيع
الأول سنة 329هـ= ديسمبر سنة 940م)، بعد أن فقد السيطرة
على مقاليد الأمور بصورة تكاد تكون كاملة.(10/64)
*المتقى لله
هوأبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر، تولى الخلافة فى (ربيع
الأول سنة 329هـ= ديسمبر سنة 940م) بتدبير أمير الأمراء «بَجْكم
التركى» وكاتبه «أبى عبدالله الكوفى»، وكان عمره حينئذٍ
أربعًا وثلاثين سنة. وقد كانت خلافة «المتقى» القصيرة (329 -
333هـ= 940 - 944م) سلسلة من الصراع بين كبار رجال الدولة
على منصب أمير الأمراء، مما أضاف مزيدًا من الاضطراب
والفوضى إلى الأوضاع الداخلية، وفقد «المتقى» سيطرته على
زمام الأمور، فقام أمير الأمراء «توزون التركى» بسمل عينيه
وخلعه، وبذلك انتهت خلافته فى (صفر سنة 333هـ=سبتمبر سنة
944م).(10/65)
*المستكفى بالله
هو أبو القاسم عبدالله بن المكتفى، بويع بالخلافة فى (صفر
سنة 333هـ = سبتمبر سنة 944) بحضور أمير الأمراء «توزون
التركى» وإشرافه، وعمره واحد وأربعون عامًا ولم يكن له
أدنى سلطة فى إدارة شئون البلاد، بل استمر زمام الأمور فى يد
أمير الأمراء «أبى الوفاء توزون التركى»، وكاتبه «أبى جعفر
بن شيرزاد»، وكان من أبرز الأحداث التى شهدتها خلافة
«المستكفى بالله» امتداد سلطان الحمدانيين بقيادة «سيف الدولة
الحمدانى» على «حلب» و «حمص» اللتين كانتا تحت سيطرة
الإخشيديين. وتدهورت الأحوال الداخلية فى عهد «المستكفى»
بشكل غير مسبوق؛ مما أدى إلى تطلع البويهيين - أصحاب
النفوذ فى بلاد فارس - منذ سنة (321هـ= 933م) إلى بسط
سلطانهم على «العراق»، وقد نجحوا فى ذلك سنة (334هـ=
945م)، لتبدأ مرحلة جديدة فى تاريخ العصر الثانى للخلافة
العباسية، عُرفت فيما بعد باسم «عصر نفوذ البويهيين».(10/66)
*مسلمة بن مخلد الأنصارى
والى «مصر» من قِبل الخليفة «معاوية بن أبى سفيان»، تولى
مصر فى الفترة مابين 47 =667 م و 62هـ = 681م وكان من
خيرة الولاة فى حسن السياسة ونشر العدل، كما كان متسامحًا
مع الأقباط، وسمح لهم ببناء كنيسة فى مدينة «الفسطاط»،
وقام بتجديد مسجد «عمرو» وتوسعته، وشيد له المنارات لأول
مرة.(10/67)
*عبدالعزيز بن مروان
والى «مصر» من قِبل أبيه الخليفة «مروان بن الحكم» فى الفترة
مابين 65 =684 م و 85هـ = 705م، واستمر فيها حتى زمن خلافة
أخيه «عبدالملك بن مروان»؛ لذا كانت فترة ولايته أطول فترة
فى عصر الولاة. أوصاه أبوه حين ولاه «مصر» بوصية حكيمة،
نصحه فيها بأن يحسن إلى الناس، ويعمهم برعايته حتى يحبوه،
فعمل بوصية أبيه؛ فكانت فترة ولايته من أحسن الفترات فى
حكم «مصر»، قام خلالها بالكثير من الإصلاحات، أبرزها إنشاء
مدينة «حلوان» سنة (73هـ).(10/68)
*صالح بن على بن عبدالله بن عباس
من أشهر ولاة «مصر» فى العصر العباسى. أسس لمصر عاصمة
جديدة شمالى مدينة «الفسطاط» أسماها «مدينة العسكر»
(منطقة «السيدة زينب» الحالية)، كما أنه زاد فى «مسجد
الفسطاط» زيادة كبيرة. ولى «مصر» مرتين، الأولى كانت سنة
133هـ = 750م واستمرت سنة واحدة، ثم وليها ثانية من سنة
(136 هـ = 753م) حتى سنة (138هـ = 755م).(10/69)
*الفضل بن صالح بن على
أحد الولاة العباسيين، تولى مصر فى 169هـ = 785م، أسس
مسجدًا إلى جانب «دار الإدارة» بمدينة العسكر، أصبح من
المساجد الجامعة، وسمح للناس بالبناء حول «مدينة العسكر»،
فاتصل عمرانها بمدينة «الفسطاط».(10/70)
*موسى بن عيسى
ولاه العباسيون إمرة «مصر» ثلاث مرات، كانت الأولى من سنة
(171هـ) حتى سنة (173هـ)، والثانية من سنة (175هـ) حتى سنة
(176هـ)، والثالثة من سنة (179هـ) حتى سنة (180هـ)، وحظى
خلالها «موسى بن عيسى» بمحبة الناس واحترامهم، لحبه للخير
والعدل، وتسامحه مع الأقباط، فقد سمح لهم ببناء الكنائس.(10/71)
*عنبسة بن إسحاق
من أشهر ولاة العصر العباسى، تولى مصر فى الفترة مابين
238 =852 م و 242هـ = 856م، ومن أهم أعماله: إقامة
التحصينات فى «دمياط» و «تنِّيس»، بعد أن تعرضت لغارات
الروم، وقد اشتهر «عنبسة بن إسحاق» بالورع، وإقامة العدل
بين الناس.(10/72)
*أحمد بن طولون
وُلد «أحمد بن طولون» سنة (220هـ = 835م)، وعُنى أبوه
بتربيته عناية كبيرة، فعلَّمه الفنون العسكرية، وعلوم اللغة
والدين، وتردد على العلماء، وأخذ من معارفهم، وروى عنهم
الأحاديث، فأصبح موضع ثقة الخلفاء العباسيين لشجاعته
وعلمه، وعمل تحت رعايتهم فى خلافة «المتوكل» (242
-247هـ)، و «المستعين» (248 - 252هـ)، و «المعتز» (252 -
255هـ)، و «المعتمد» (256 - 279هـ). فلما مات «طولون» سنة
(240هـ) عهد «المتوكل» إلى «أحمد بن طولون» بما كان يتولاه
أبوه من الأعمال، فأظهر كفاءة عالية، وهمة نادرة، كما احتل
مكانة بارزة فى قلوب رجال البلاط العباسى حين حاولت جماعة
من اللصوص الاستيلاء على قافلة كانت متجهة من «طرسوس»
إلى «سامراء» تحت قيادته، فتصدى لهم «ابن طولون»، وأظهر
كفاءة عسكرية فريدة، وتمكن من القضاء على هؤلاء اللصوص،
ونجا بقافلته، وعندما علم الخليفة بذلك ازداد إعجابًا به وتقديرًا
له. كان من عادة الخلفاء أن يعينوا ولاة للأقاليم الخاضعة
لسلطانهم، وكان هؤلاء الولاة يعينون من ينوب عنهم فى حكم
هذه الولايات؛ رغبة منهم فى البقاء بالعاصمة؛ أملا فى الحصول
على منصب أعلى وخوفًا من المؤامرات. وكانت «مصر» - آنذاك -
تحت ولاية القائد التركى «باكباك» الذى أناب «أحمد بن
طولون» عنه فى حكم «مصر»، لما رآه من شجاعته وإقدامه،
وأمده بجيش كبير دخل به «أحمد بن طولون» «مصر» فى (23
من رمضان سنة 254هـ). فلما تُوفى «باكباك» تولى مكانه
القائد التركى «بارجوخ»، فعهد إلى «أحمد بن طولون» بولاية
«مصر» كلها، فلما آل الأمر إلى «ابن طولون» فى حكم «مصر»
واجهته المصاعب والعقبات، وأشعل أصحاب المصالح فى
«مصر» الثورات حتى لا يتمكن «ابن طولون» من تنفيذ إصلاحاته
التى عزم عليها، ولكن «ابن طولون» تمكن من القضاء على كل
العقبات والصعوبات واحدة تلو الأخرى بكياسة وحزم، كما أخمد(10/73)
الثورات فى كل مكان، ولم يكد يفعل ذلك حتى أعلن «أحمد بن
المدبر» عامل الخراج على «مصر» عن حقده على ابن طولون،
وعمل على الوقيعة بينه وبين الخليفة، ولكن «أحمد بن طولون»
تمكن من كشف ذلك التدبير، وكتب إلى الخليفة يطلب منه عزل
عامل الخراج «ابن المدبر» وتعيين «محمد بن هلال» مكانه،
فوافق الخليفة على ذلك لثقته بابن طولون، وأمر بعزل «ابن
المدبر»، الذى رفض تسليم ما تحت يديه لمحمد بن هلال عامل
الخراج الجديد، فقبض عليه «أحمد بن طولون» وحبسه، وتخلص
بذلك من منافس قوى هدد كيان البلاد. كان بالشام - بعد تولية
«أحمد ابن طولون» «مصر» - ولاة يتبعون الخلافة العباسية،
ولكن اعتداءات البيزنطيين المتكررة على حدود المسلمين بالشام
جعلت الخليفة «المعتمد» يقوم بتكليف «أحمد بن طولون» بالسير
لمحاربة البيزنطيين سنة (264هـ) فنفذ «ابن طولون» الأمر،
وانتصر على البيزنطيين، ومد سلطانه حتى «طرسوس» و «نهر
الفرات» و «دمشق»، فأقره الخليفة العباسى على حكم «مصر»
والشام والجزيرة العربية ومناطق الثغور، فظل مسيطرًا عليها
بشخصيته القوية ورجاحة عقله حتى وفاته سنة (272هـ).(10/74)
*خمارويه بن أحمد بن طولون
تولى حكم مصر والشام فى الفترة بين [272 - 282هـ = 885 -
895م]. بعد وفاة أبيه «أحمد بن طولون»، فعمل على تذليل
العقبات التى واجهته كى تتوطد أركان دولته، وزوج ابنته
«أسماء» المعروفة بقطر الندى من الخليفة العباسى
«المعتضد»، وقام «خمارويه» بتجهيز ابنته، وغالى فى ذلك،
مما أدى إلى إفلاس مالية البلاد. وظل واليًا على «مصر» والشام
والجزيرة حتى وفاته سنة (282هـ).(10/75)
*محمد بن طغج الإخشيد
هو «محمد بن أبى بكر بن طغج (معناها فى التركية:
عبدالرحمن) بن جق»، أحد أبناء ملوك «فرغانة» ببلاد «ما وراء
النهر»، وكان الملوك فى هذه البلاد يتخذون من لفظة «الإخشيد»
لقبًا لهم، فأطلق هذا اللقب على «محمد بن طغج»، وتسمت به
دولته، وعُرفَت باسم «الدولة الإخشيدية». اتصل «جق» جد
«الإخشيد» بالخلفاء العباسيين، أما «طغج» والده؛ فقد كان
على درجة عظيمة من الثراء وسعة العيش، واتصل بخدمة
الطولونيين فى عهد «خمارويه»؛ الذى ولاه على «دمشق»
و «طبرية»، فلما سقطت الدولة الطولونية، تولَّى «محمد ابن
طغج» ولاية «دمشق»، ثم أُضيفت إليه ولاية «مصر»، ولكنه أناب
عنه من يحكمها، ولم يغادر «دمشق»، ولكن محاولات الفاطميين
للسيطرة على «مصر» جعلت الخليفة العباسى «الراضى» يطلب
من «ابن طغج» أن يقوم بنفسه على حكم «مصر» والشام، حتى
يُوقِف الزحف الفاطمى، ويعيد الاستقرار والأمان إلى الولايتين.
جاء «محمد بن طغج» سنة (323هـ)، وبدأ يؤسس دعائم دولته
الكبرى بها، وضُمت إلىه «الحجاز» - التى ظلت مرتبطة بمصر
عدة قرون بعد ذلك - كما حصل من الخليفة سنة (323هـ) على
حق توريث حكم البلاد التى تحت يده لأسرته من بعده، فأصبحت
هذه الولايات فى عداد الدول المستقلة. بذل «محمد بن طغج»
جهودًا كبيرة فى إعادة الاستقرار والأمان إلى بلاده، واستطاع
بكفاءته وذكائه أن يتغلب على العواقب التى صادفته كافة،
وأخذت «مصر» والشام و «الحجاز» تستعيد مكانتها ثانية، بعد
أن استطاع «ابن طغج» رد الفاطميين وإيقاف زحفهم على
«مصر»، فحاول الفاطميون استمالته إلى جانبهم، ولكنه رفض،
وظل وفيا للخلافة العباسية، واستطاع فى مدة قصيرة أن يبسط
سلطانه على «مصر» والشام، وأعاد إليهما النظام، وعرف كيف
يسوس الناس فيهما، فعاش حياته عزيزًا كريمًا. فلما شعر بدنو
أجله عهد إلى ابنه «أبى القاسم أنوجور» بالحكم من بعده،(10/76)
وجعل «كافورًا» وصيا عليه لأن «أنوجور» كان فى ذلك الوقت
صغيرًا، ومات الإخشيد بدمشق سنة (334هـ = 946م (.(10/77)
*الإخشيد
هو «محمد بن أبى بكر بن طغج (معناها فى التركية:
عبدالرحمن) بن جق»، أحد أبناء ملوك «فرغانة» ببلاد «ما وراء
النهر»، وكان الملوك فى هذه البلاد يتخذون من لفظة «الإخشيد»
لقبًا لهم، فأطلق هذا اللقب على «محمد بن طغج»، وتسمت به
دولته، وعُرفَت باسم «الدولة الإخشيدية». اتصل «جق» جد
«الإخشيد» بالخلفاء العباسيين، أما «طغج» والده؛ فقد كان
على درجة عظيمة من الثراء وسعة العيش، واتصل بخدمة
الطولونيين فى عهد «خمارويه»؛ الذى ولاه على «دمشق»
و «طبرية»، فلما سقطت الدولة الطولونية، تولَّى «محمد ابن
طغج» ولاية «دمشق»، ثم أُضيفت إليه ولاية «مصر»، ولكنه أناب
عنه من يحكمها، ولم يغادر «دمشق»، ولكن محاولات الفاطميين
للسيطرة على «مصر» جعلت الخليفة العباسى «الراضى» يطلب
من «ابن طغج» أن يقوم بنفسه على حكم «مصر» والشام، حتى
يُوقِف الزحف الفاطمى، ويعيد الاستقرار والأمان إلى الولايتين.
جاء «محمد بن طغج» سنة (323هـ)، وبدأ يؤسس دعائم دولته
الكبرى بها، وضُمت إلىه «الحجاز» - التى ظلت مرتبطة بمصر
عدة قرون بعد ذلك - كما حصل من الخليفة سنة (323هـ) على
حق توريث حكم البلاد التى تحت يده لأسرته من بعده، فأصبحت
هذه الولايات فى عداد الدول المستقلة. بذل «محمد بن طغج»
جهودًا كبيرة فى إعادة الاستقرار والأمان إلى بلاده، واستطاع
بكفاءته وذكائه أن يتغلب على العواقب التى صادفته كافة،
وأخذت «مصر» والشام و «الحجاز» تستعيد مكانتها ثانية، بعد
أن استطاع «ابن طغج» رد الفاطميين وإيقاف زحفهم على
«مصر»، فحاول الفاطميون استمالته إلى جانبهم، ولكنه رفض،
وظل وفيا للخلافة العباسية، واستطاع فى مدة قصيرة أن يبسط
سلطانه على «مصر» والشام، وأعاد إليهما النظام، وعرف كيف
يسوس الناس فيهما، فعاش حياته عزيزًا كريمًا. فلما شعر بدنو
أجله عهد إلى ابنه «أبى القاسم أنوجور» بالحكم من بعده،
وجعل «كافورًا» وصيا عليه لأن «أنوجور» كان فى ذلك الوقت(10/78)
صغيرًا، ومات الإخشيد بدمشق سنة (334هـ = 946م (.(10/79)
*كافور الإخشيدى
وُلد «كافور» بين سنتى (291 و308هـ) فلم تُحدَّد سنة ولادته
تحديدًا دقيقًا - وكانت كنيته «أبا المسك»، وبدأ حياته مملوكًا
بسيطًا، اشتراه «محمد بن طغج» من رجل يُدعَى «محمود بن
وهب»، وتوسَّم فيه «الإخشيد» الذكاء، فاحتفظ به ورباه فى
بيته تربية عالية، فلما رآه يتقدم ازداد إعجابه به واختصه من بين
عبيده وأولاه ثقته وأعتقه، وأخذ يرقيه فى بلاطه حتى جعله
من كبار قواده؛ لما يتمتع به من ذكاء وصفات طيبة، وبعثه قائدًا
أعلى على رأس جيوشه لمحاربة أعداء الدولة، وعهد إليه بتربية
ولديه «أبى القاسم أنوجور» و «أبى الحسن على»، كما عهد
إليه بأن يكون وصيا عليهما فى الحكم من بعده. عندما تولَّى
«أنوجور» حكم «مصر» سنة (334هـ) كان لايزال طفلا صغيرًا لا
يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، فقام «كافور» بتدبير أموره
وأمور الدولة، وبقيت علاقتهما - كما كانت - علاقة الأستاذ
بتلميذه، وأصبح «كافور» صاحب السلطان المطلق فى إدارة
الدولة الإخشيدية، واستطاع التغلب على المشاكل التى قابلت
الدولة فى مستهل ولاية «أنوجور»، وتمكن من القبض على زمام
الأمور بيده، وخاطبه الناس بالأستاذ، وذُكِرَ اسمه فى الخطبة،
ودُعى له على المنابر فى «مصر» والبلاد التابعة لها، كما عامل
رؤساء الجند وكبار الموظفين معاملة حسنة، فاكتسب محبتهم
واحترامهم، فلما كبر «أنوجور» شعر بحرمانه من سلطته،
فظهرت الوحشة بينه وبين أستاذه «كافور»، وحاول البعض أن
يوقع بينهما، وطلبوا من «أنوجور» أن يقوم بمحاربة «كافور»،
فلما علمت أم «أنوجور» بذلك خافت عليه، وعملت على الصلح
بينه وبين «كافور»، وما لبث «أنوجور» أن مات سنة (349هـ).
كان ولى عهد «أنوجور» فى الحكم ولدًا صغيرًا هو «أحمد بن
أبى الحسن على»، فحال «كافور» دون توليته بحجة صغر
سنه، واستصدر كتابًا من الخليفة العباسى يقره فيه على توليته
«مصر» سنة (355هـ) بدلا من هذا الطفل الصغير، فتولى(10/80)
«كافور» «مصر» وما يليها من البلاد ولم يغير لقبه «الأستاذ»،
ودُعِى له على المنابر بعد الخليفة. مات كافور سنة (357هـ)،
فاختار الجند - بعد وفاته - «أبا الفوارس أحمد بن على بن
الإخشيد» واليًا على «مصر» وما حولها، وكان طفلا لم يبلغ
الحادية عشرة من العمر، فلم تستقر البلاد فى عهده حتى دخلها
الفاطميون سنة (358هـ).(10/81)
*محمد بن يزيد
وقع عليه اختيار الخليفة «سليمان بن عبد الملك»، ومنحه ولاية
«المغرب» وأوصاه بقوله: «يا محمد بن يزيد اتق الله وحده
لاشريك له، وقم فيمن وليتك بالحق والعدل. اللهم اشهد عليه»،
فعمل «محمد» بهذه الوصية منذ تولى مقاليد البلاد، واستقر
بالقيروان، فأقام سياسة العدل بين سكان هذه البلاد، وسار
فيهم بأحسن سيرة، ثم عمد إلى تجديد النشاط العسكرى،
وأرسل السرايا والبعوث إلى أماكن متفرقة من أرض المغرب،
فحققت نجاحًا ملحوظًا فيما ذهبت من أجله، وعادت بالمغانم
الكثيرة والنصر المظفر. وظل «محمد بن يزيد» واليًا على
«المغرب» حتى وفاة «سليمان بن عبدالملك»، فعزل من ولايته
بعد أن قضى بها سنتين وعدة أشهر.(10/82)
*إسماعيل بن عبدالله
اختاره الخليفة «عمر بن عبدالعزيز» لولاية المغرب لصفاته
الحسنة وسمعته الطيبة، لتولى هذا المنصب فى سنة
(100هـ=718م)، وبعث معه مجموعة من التابعين، منهم: «سعد بن
مسعود التجيبى»، لمعاونته فى نشر الإسلام، وتعليم الناس
قواعده، وقد أثمرت سياسة «إسماعيل» الطيبة بين الرعية، فى
إقبال البربر على اعتناق الدين الإسلامى، وأسلم جميع البربر
فى أيامه كما ذكر «ابن خلدون». وقد عُزل «إسماعيل» من
منصبه عقب وفاة الخليفة «عمر بن عبدالعزيز» فى سنة (101هـ=
720م)، فتولى «يزيد بن أبى مسلم» ولاية «المغرب» خلفًا له.(10/83)
*يزيد بن أبى مسلم
عمل والياً على المغرب فى سنة (101هـ=720م)، وتولى مقاليد
الأمور فيها، واتبع سياسة الشدة والحزم تجاه أهل «المغرب»
مثلما اتبعها مع أهل «العراق» من قبل، وفرض الجزية على مَن
أسلم من أهل الذمة ليزداد الدخل المالى فى خزينة الدولة، كما
أنه خصَّ طائفة من قبيلة «البتر» البربرية بحراسته دون غيرها،
وأساء إلى آل «موسى بن نصير» وبعض الشخصيات العربية
المقيمة بالقيروان، فأثار عليه ذلك حفيظة بعض حرسه من غير
«البتر» وقتلوه.(10/84)
*بشر بن صفوان
تولى حكم المغرب فى أواخر سنة (102هـ=721م)، وقد بدأ
أعماله بالتحقيق فى مقتل «يزيد ابن أبى مسلم» الوالى
السابق، واكتشف أن هناك بعض المحرضين للجند على فعل ذلك
لإشعال الفتنة، فأمر بإعدامهم كما أمر بعزل «الحسن بن
عبدالرحمن» والى «الأندلس» من منصبه، وولى مكانه «عبدالله
بن سحيم الكلبى»، ثم قام فى سنة (109هـ= 727م) بحملة بحرية
على «جزيرة صقلية»، وعاد منتصرًا ومحملا بكثير من المغانم
والأسلاب، ثم مرض عقب عودته من هذه الغزوة، ومات فى العام
نفسه.(10/85)
*عبيدة بن عبدالرحمن السلمى
تولى حكم المغرب فى سنة (110هـ=728م)، وأرسل «المستنير
بن الحبحاب الحرشى» أحد القادة العسكريين على رأس حملة
بحرية إلى «صقلية»، ولكن هذه الحملة لم تحقق نجاحًا، وغرقت
معظم سفنها. وقد عين «عبيدة» بعض الولاة من قِبله على
«الأندلس» فى سنة (114هـ=732م)، ثم توجه إلى مقر الخلافة
بدمشق، وطلب إعفاءه من منصبه، فأُجيب إلى مطلبه.(10/86)
*عبيدالله بن الحبحاب
وتولى حكم المغرب فى سنة (116هـ=734م)، وبدأ ولايته بتجهيز
حملة بقيادة «حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع»، وبعث بها
لفتح بعض المناطق؛ لتأمين الأقاليم الإسلامية بالمغرب، فتوغلت
هذه الحملة حتى وصلت إلى «السوس الأقصى»، وأرض
«السودان»، وحققت الأهداف التى خرجت من أجلها. وقد انتهج
«عبيدالله» سياسة مغايرة لسابقيه، فأسرف فى جمع الأموال
مستخدمًا القسوة والقوة وشرع فى تخميس البربر، أى اعتبر من
أسلم منهم ومن لم يسلم فيئًا للمسلمين، بخلاف ما اعتاد عليه
هؤلاء البربر حيث منح الولاة من أسلم منهم نفس الحقوق
والواجبات الخاصة بالمسلمين كما أنه أزكى نار العصبيات
القبلية، حيث حابى أبناء قبيلته من القيسية وأساء معاملة
اليمنية وغيرهم، فكانت النتيجة أن قامت الثورات المدمرة فى
أقاليم «المغرب»، ودخل البربر فى صراع مسلح مع ولاتهم من
العرب، وترتب على ذلك انفصال «المغرب الأقصى» عن سلطة
الخلافة بدمشق.(10/87)
*كلثوم بن عياض القشيرى
وقع اختيار الخلافة عليه، لتولى مقاليد الأمور بالمغرب،
ومواجهة الأحداث الخطيرة التى نشبت على أرضه، وتوجه على
رأس جيش كبير تعداده سبعون ألف مقاتل إلى هذه البلاد،
ودعمته الخلافة بكل ما يحتاج إليه، ووصل على رأس جيشه إلى
«بقدورة» بالمغرب الأقصى، ودخل فى معركة شرسة مع
جحافل البربر، وقد انتهت هذه المعركة بهزيمة جيش العرب،
فضلا عن مقتل «كلثوم» نفسه ومعه كثير من زعماء الجيش، وفرَّ
الباقى إلى «طنجة» ومنها إلى «الأندلس».(10/88)
*حنظلة بن صفوان الكلبى
كان «حنظلة» واليًا على «مصر»، وكان ذا كفاءة عالية وخبرة
كبيرة، فضلا عن إلمامه بأخبار «المغرب» وأوضاعه بحكم
الجوار بين «مصر» و «المغرب»، فوقع عليه اختيار الخليفة
«هشام بن عبدالملك» لتولى شئون «المغرب»، وأمره بالتوجه
إليها فى سنة (124هـ= 742م)، فخرج على رأس جيش بلغ تعداده
ثلاثين ألف مقاتل، قاصدًا «القيروان»؛ لمواجهة أحداث المغرب.
ووصلت الأخبار إلى «حنظلة» بمسير البربر إليه فى جيشين
كبيرين، أحدهما بقيادة «عكاشة الصفرى الخارجى»، والآخر
بقيادة «عبدالواحد بن يزيد الهوارى»، وقد سار الجيشان فى
طريقين مختلفين، فاضطر «حنظلة» إلى لقاء كل جيش على
حدة، وبدأ بمحاربة جيش «عكاشة» وأنزل به هزيمة كبيرة؛
أعادت الثقة إلى نفوس جيشه، ثم كان اللقاء الثانى بجيش
«عبدالواحد» عند «باجة»، ودارت بين الفريقين معركة عنيفة،
انتهت بهزيمة جيش الخلافة، وعودة ما تبقى منه إلى «القيروان»
استعدادًا لمحاولة ثانية. ثم حشد «حنظلة» كل ما استطاع من
قوة، وخرج للقاء البربر، ودارت بينهما معركة، أثبت جيش
«حنظلة» فيها كفاءة عالية وصبرًا على القتال، فانتصر جيش
الخلافة وقُتل «عبدالواحد» قائد البربر، فضلا عن مقتل عدد كبير
من جنوده، فمكن هذا النصر للأمويين فى البلاد، ودعم وجودهم
فيها، وعمد «حنظلة» إلى إقرار الأمن والطمأنينة فى النفوس،
ثم بعث بأخبار هذا النصر إلى مركز الخلافة «بدمشق» فى
شعبان سنة (125هـ= يونيو 743م)، فتوافق هذا الوقت مع وفاة
الخليفة «هشام بن عبدالملك»، وتولى «الوليد الثانى بن يزيد»
خلفًا له. واجه «حنظلة» مشكلة كبيرة، تمثلت فى نزول
«عبدالرحمن بن حبيب» أحد زعماء العرب على شواطئ «تونس»
قادمًا من «الأندلس»، وقد استغل هذا الرجل اضطراب الأوضاع
فى «دمشق»، وضعف والى «القيروان» بسبب الحروب الكثيرة
التى خاضها مع البربر، وسعى إلى جمع عناصر من العرب(10/89)
والأفارقة والبربر حوله، ثم نزل بهم منطقة «سمنجة» فى سنة
(127هـ=745م)، استعدادًا للاستيلاء على «القيروان» وعلى مركز
السلطة فيها. وحاول «حنظلة» معالجة الأمور بطريقة ودية،
فاختار خمسين من فقهاء «القيروان» وزعمائها، وأرسلهم إلى
«عبدالرحمن» للتفاوض معه، فألقى القبض عليهم وهدَّد بقتلهم
إن لم يتخلَّ «حنظلة» عن الإمارة، ويترك «القيروان» خلال ثلاثة
أيام، وألا يأخذ من بيت المال إلا ما يكفيه مئونة السفر، فوافق
«حنظلة» على مطالب «عبدالرحمن» حفاظًا على أرواح مَن بعث
بهم إليه، وترك «القيروان» فى جمادى الآخرة سنة (127هـ=
مارس745م) فدخلها «عبدالرحمن».ثم وافقت الخلافة على تعيينه
واليًا على بلاد «المغرب».(10/90)
*الأغلب بن سالم التميمى
هو الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمى. أحد الأمراء
القادة المعروفين بالشجاعة، وهو جد الأغالبة ملوك إفريقية،
وأول من وليها منهم. كان ممن ساند أبا مسلم الخراسانى، ثم
قد م إلى إفريقية مع محمد بن الأشعث، ولما بلغ المنصور خروج
محمد بن الأشعث من إفريقية بعث إلى الأغلب بولاية إفريقية،
فلما أتاه العهد قدم القيروان فى جمادى الآخرة سنة (148 هـ =
765 م)، وأخرج جماعة من قواد المُضريّة، وخرج عليه «أبى قرة
بن دوناس» الخارجى فى جمع كثير من البربر، فسار إليه
الأغلب، فهرب أبو قرة من غير قتال، وسار الأغلب يريد طنجة،
فاشتد ذلك على الجند، وكرهوا المسير، وتسللوا إلى القيروان،
فلم يبق معه إلا نفر يسير من وجوههم. وكان الحسن بن حرب
بتونس، فلما خرج الأغلب يريد أبا قرة، وأرسل فى طلب جميع
القواد فى عصره، لحق به بعضهم، وأقبل معهم إلى القيروان،
فدخلها، وأخذ سالم بن سوادة عاملها؛ فحبسه. وبلغ الخبر
الأغلب فأقبل فى عدة يسيرة، واشتبك مع الحسن فى قتالٍ،
تكشف عن هزيمة الحسن، وفراره إلى تونس، ودخول الأغلب
القيروان. ثم حشد الحسن جيشه وسار فى عدة عظيمة إلى
القيروان، فجمع الأغلب أهل بيته وخاصته، وخرج إليه، فأصابه
سهم، فمات منه فى شعبان سنة (150 هـ = 767 م). فكانت
ولايته سنة واحدة وثمانية أشهر.(10/91)
*عمر بن حفص
وقع عليه اختيار الخلافة العباسية لتولى مهام إقليم «المغرب»
عقب استشهاد «الأغلب بن سالم التميمى»، وكان «عمر» رجلاً
شجاعًا، ذا شخصية قوية، فدخل مدينة «القيروان» فى سنة
(151هـ= 768م)، وانتهج سياسة جديدة تجاه أهلها وعاملهم
بالحسنى، وتودد إلى زعمائها وأنزلهم منازلهم، فاستقرت له
الأوضاع، وهدأت الأمور، ثم خرج إلى مدينة «طبنة» لإصلاح
أحوالها، وبناء سورها، ففاجأته جموع البربر، وحاصرت مدينة
«القيروان»، كما حاصرته مع جنوده بمدينة «طبنة»، فلجأ إلى
استعمال الحيلة، وأغدق بالأموال على الجيش المحاصر لطبنة،
فانصرف عدد كبير من جنود البربر عن المدينة، وتمكن «عمر»
من هزيمة الجزء المتبقى منهم، ثم دخل «القيروان» بالحيلة
والتمويه، وتولى مهمة الدفاع عنها، ولكن «إباضية» «طرابلس»
بزعامة «أبى حاتم» كانوا قد أحكموا حصارهم وسيطرتهم على
«القيروان»، وظلوا كذلك ثمانية أشهر، فساءت الأوضاع داخل
المدينة، واضطر الناس إلى أكل دوابهم وخيولهم، وفشلت كل
محاولات «ابن حفص» لفك الحصار عن المدينة، فخرج على رأس
قواته، ودخل فى معركة شديدة مع المحاصرين، فاستشهد هو
وكثير من رجاله فى سنة (154هـ = 771م) ودخل «الإباضية»
بقيادة «أبى حاتم» المدينة.(10/92)
*يزيد بن حاتم
تولى «يزيد بن حاتم» إمرة «مصر» فى عهد الخليفة العباسى
«أبى جعفر المنصور» فى سنة (144هـ=761م)، وأثبت فيها
كفاءة عالية، فوقع عليه اختيار الخلافة ليكون واليًا على
«المغرب»، وجهز له الخليفة جيشًا كبيرًا، ضم تسعين ألف مقاتل،
وتم تجهيزه بثلاثة ملايين درهم، وخرج «يزيد» على رأس الجيش
قاصدًا إفريقية، ووصلها فى سنة (154هـ= 771م)، فانضمت إليه
فلول الجند المنهزمة أمام «أبى حاتم»، وتم اللقاء بين الجيش
العباسى وجيش الخوارج بقيادة «أبى حاتم» فى شهر ربيع
الأول سنة (155هـ= فبراير 772م)، فكانت المعركة حاسمة، وهُزم
جيش الخوارج، وقتل قائده «أبو حاتم»، وبعث «يزيد» بجنوده
لاستئصال شأفة الخوارج ثم دخل «القيروان» رافعًا أعلام
العباسيين، وبث الطمأنينة فى نفوس أهلها، ومات «يزيد بن
حاتم» بالقيروان فى سنة (170هـ= 786م)، فخلفه ابنه «داود»
فى الولاية.(10/93)
*داود بن يزيد بن حاتم
تولى «داود» مقاليد الأمور فى المغرب خلال فترة مرض والده
يزيد بن حاتم والى المغرب كمعاون له، فلما مات والده، تولى
إدارة البلاد ريثما تتخذ الخلافة قرارها، وواجه ثورة الإباضية
بحزم، وحافظ على ما حققه والده من انتصارات ومكاسب، ولم
يستمر فى الحكم سوى تسعة أشهر، ثم سلم مقاليد الأمور إلى
عمه «روح ابن حاتم»، وعاد إلى المشرق.(10/94)
*روح بن حاتم
اختاره الخليفة «هارون الرشيد» لحكم المغرب خلفًا لأخيه «يزيد»
فقدم إلى إفريقية فى سنة (170هـ=787م)، وتولى مقاليد
أمورها، وأحدث تغييرات فى إدارتها، وقضى على ثورات ما
تبقى من البربر بها، فهدأت أوضاعها، واستقر أمنها ثم مات
«روح» فى رمضان سنة (174هـ= يناير 791م).(10/95)
*نصر بن حبيب
تولى حكم المغرب سنة (174 هـ = 791 م) واقتفى سياسة روح
بن حاتم الوالى السابق، وعدل بين الناس وحسنت سيرته بينهم،
ولكنه لم يستمر طويلا فى الولاية، حيث تم عزله بعد سنتين
وثلاثة أشهر قضاها فى الحكم.(10/96)
*الفضل بن روح بن حاتم
اختاره «هارون الرشيد» لحكم المغرب بدلا من «نصر ابن
حبيب»، فوصل إلى مدينة «القيروان» فى سنة (177هـ= 793م)،
وجعل ابن أخيه «المغيرة ابن بشير بن روح» على مدينة
«تونس»، وكان «المغيرة» غِرا تنقصه التجارب والكياسة،
فأساء معاملة الجند، وفرق بينهم فى المعاملة، فثاروا عليه
بقيادة «ابن الجارود» المعروف بابن عبدويه، وعزلوه عن
«تونس»، وأجبروه على تركها، فأدرك «الفضل بن روح»
خطورة الموقف، وأرسل «عبدالله بن يزيد» واليًا جديدًا على
«تونس» لتهدئة الموقف، ولكن الثوار قتلوه على أبواب المدينة،
وشرعوا فى استمالة قادة الجيش بالقيروان وزعماء الجند إليهم
للتخلص من «الفضل»، وقد نجحوا فى ذلك، وحاصروا مدينة
«القيروان»، ثم دخلوها، وأرغموا «الفضل» على تركها مع بعض
أفراد أسرته، ولكن «ابن الجارود» أرسل خلفه مَن يأت به إلى
«القيروان» ثانية، وأودعه السجن فترة، ثم قتله فى شعبان
سنة (178هـ= نوفمبر 794م)، فلما بلغ «الرشيد» ذلك بعث بيحيى
بن موسى إلى «تونس» برسالة ليُهدِّىء النفوس، ويدعو «ابن
الجارود» إلى «بغداد»، فامتثل «ابن الجارود» للأمر، وهدأت
الثورة، وعين الخليفة «الرشيد» «هرثمة بن أعين» على إفريقية.(10/97)
*محمد بن مقاتل العكى
اختاره «الرشيد» لتولى إمرة بلاد «المغرب الأدنى»، فوصلها
فى رمضان سنة (181هـ= أكتوبر 797م)، ويبدو أنه لم يكن على
دراية بأوضاعها، وظروف الجند بها، فوقع فى عدة أخطاء،
وقطع أرزاق الجند، وأساء معاملة وجوه القوم
وزعمائهم، فثاروا عليه بقيادة «تمام بن تميم التميمى» ثم توجه
بها إلى «القيروان» وحاصرها، ثم دخل مع «العكى» فى معركة
وهزمه فيها، ولكن «إبراهيم بن الأغلب» والى «الزاب» من قبل
«العكى» كانت له طموحات فى هذه المنطقة، فأسرع إلى
نجدته بقواته، وقضى على جموع الثائرين. وعمد «إبراهيم بن
الأغلب» إلى التقرب إلى أهالى «القيروان» لتحقيق أهدافه
ومطامعه بالمنطقة، وظهر بمظهر المدافع عن سلطة الخلافة
وممتلكاتها، وقد ساعدته كراهية الناس لابن مقاتل العكى فى
تحقيق مبتغاه، وطلب منه وجهاء القوم مراسلة «الرشيد»
وإعلامه بمسلك «العكى» العدائى تجاه السكان، ومطالبة الرعية
بعزله، فاستجاب لمطلبهم، وبعث إلى «الرشيد» برسالة وضح له
فيها هذه الأمور، فعينه «الرشيد» على هذه الولاية.(10/98)
*إبراهيم بن الأغلب
استقل «إبراهيم بن الأغلب» بحكم «المغرب الأدنى» سنة 184هـ
=800 م عن الخلافةالعباسية، وعمد إلى إقرار الأمن والاستقرار
بهذا الإقليم، فضلاً عن تعريبه، واستكمال نظامه الإدارى، وتنمية
اقتصاده، فباتت «القيروان» مركزًا من مراكز العلم والحضارة
بالدولة الإسلامية، وظهرت أهمية المدن التابعة لها. مثل:
«تونس»، و «سوسة»، و «قابس»، و «قفصة»، و «توزر»،
و «نفطة»، و «طبنة»، و «المسيلة»، و «بجاية»، وغيرها. ولكن
ذلك لم يمنع من وقوع بعض الثورات بالمنطقة، مثل ثورة «عمران
بن مجالد الربيعى» الذى جمع حوله أهل «القيروان» فى محاولة
للقضاء على حكم «الأغالبة»، ولكن محاولتهم باءت بالفشل،
حيث تصدى لهم «إبراهيم بن الأغلب» بحزم وشدة، واستمر فى
منصبه حتى وافته منيته فى شوال سنة (196هـ= يونيو 812م)،
فذكره المؤرخون بأنه كان أحسن الولاة سيرة، وأفضلهم
سياسة، وأوفاهم بالعهد، وأرعاهم للحرمة، وأرفقهم بالرعية،
وأخلصهم لأداء واجبه.(10/99)
*أبو العباس عبدالله بن إبراهيم بن الأغلب
تولى «أبو العباس» «المغرب» خلفًا لوالده إبراهيم بن الأغلب
سنة 196هـ =812 م، فاستقامت له الأمور واستقرت، ولكنه
انتهج سياسة ضريبية سيئة، أسفرت عن سخط الناس عليه، وظل
«أبو العباس» بالحكم مدة خمس سنوات ثم مات من جرَّاء قرحة
أصابته تحت أذنه.(10/100)
*زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب
تولى «زيادة» مقاليد الحكم بالمغرب سنة 201هـ= 816م خلفًا
لأخيه «أبى العباس» واستمر فى هذه الإمارة حتى سنة (223هـ=
838م)، فتمتعت البلاد فى عهده بالرخاء والازدهار، فضلا عن
التشييد والعمران بالمدن المغربية، مثل: «القيروان»،
و «العباسية»، و «تونس»، و «سوسة» وقد وجه «زيادة» قدراته
العسكرية للقضاء على الثورات التى قامت بالمنطقة، ومنها:
ثورة «زياد بن سهل» المعروف بابن الصقلبية فى سنة
(207هـ=822م)، وثورة «عمرو بن معاوية العيشى» فى سنة
(208هـ=823م)، وثورة «منصور الطنبذى» فى سنة
(209هـ=824م)، وكذلك وجه «زيادة» كفاءته الحربية فى العناية
بالأسطول الإسلامى، ثم توجيهه لغزو بعض الجزر القريبة من
«تونس»، وإليه يرجع الفضل فى إعداد حملة بحرية كبيرة بقيادة
«أسد بن الفرات» لغزو الجزر القريبة من «تونس»، ثم تُوفى فى
سنة (223هـ=838م).(10/101)
*أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب
تولى إمارة المغرب خلفًا لأخيه «زيادة الله» فى سنة
(223هـ=838م)، ومكث بها ما يقرب من ثلاث سنوات؛ نعمت البلاد
خلالها بالهدوء والاستقرار، وحرَّم «أبو عقال» صنع الخمور
بالقيروان، وعاقب على بيعها وشربها، فكان لذلك صداه الطيب
فى نفوس الناس عامة، فضلا عن الفقهاء والعلماء، ومات «أبو
عقال» بالقيروان فى سنة (226هـ=841م).(10/102)
*أبو إبراهيم أحمد بن محمد
تولىحكم المغرب خلفًا لأبيه محمد بن الأغلب عقب وفاته فى سنة
242هـ=856م، وتميزت فترة حكمه بالهدوء والاستقرار، وقد غلب
الطابع الدينى على سلوكه، فكان يخرج فى شهرى شعبان
ورمضان من مقر إقامته ليوزع الأموال على الفقراء والمساكين
بالقيروان، واهتم «أبو إبراهيم» بالبناء والتعمير، وزاد فى
«مسجد القيروان»، وجدد «المسجد الجامع» بتونس، وحصَّن
مدينة «سوسة» وبنى سورها، كما اهتم بإمداد سكان المدن
بمياه الشرب، وقد تُوفى فى سنة (249هـ=863م).(10/103)
*أبو محمد زيادة الله الثانى
تولى «أبو محمد» حكم دولة الأغالبة سنة 249هـ=863م خلفًا
لأخيه «أبى إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب»، ولم يستمر فى
منصبه سوى عام واحد، ثم تُوفى فى سنة (250هـ=864م).(10/104)
*أبو عبد الله محمد بن أحمد
خلف عمه «أبا محمد زيادة الله الثانى» فى إمارة الأغالبة فى
سنة (250هـ=864م). وقد اشتهر «أبو عبدالله» بأبى الغرانيق؛
لولعه بصيد «الغرانيق»، وبنى لذلك قصرًا كبيرًا، أنفق عليه
أموالا كثيرةً، كما شاد الحصون والمحارس الكثيرة على سواحل
البحر المتوسط وتوفى «أبو الغرانيق» فى سنة (261هـ).(10/105)
*إبراهيم بن أحمد
تولى دولة الأغالبة عقب وفاة أخيه «أبى عبد الله محمد بن
أحمد» فى سنة (261هـ=875م)، وامتد عهده أكثر من ثمانية
وعشرين عامًا؛ ظهر خلالها «أبو عبدالله الشيعى»، الذى
استقطب إلى دعوته الشيعية عددًا من القبائل، وقد اختلف
المؤرخون فى تقييم شخصية «إبراهيم بن أحمد»، فذكر بعضهم
أن عهده كان عهد استقرار وهدوء، وإقرار للعدل، وتأمين
للسبل، فضلا عن قيامه بإتمام بناء المسجد بتونس، وبناء
الحصون والمحارس على سواحل البحر، يضاف إلى ذلك تأسيسه
مدينة «رقادة»، وبناؤه جامعًا بها، فى حين يصفه «ابن خلدون»
بقوله: «وذكر أنه كان جائرًا، ظلومًا ويُؤخذ أنه أسرف فى
معاقبة المعارضين له بالقتل والتدمير، لكنه حاول فى أخريات
أيامه إصلاح ما أفسده، وبخاصة بعد ظهور داعية الشيعة «أبى
عبدالله» وانضمام كثير من الناس إلى دعوته، فأسقط المغارم،
ورفع المظالم عن طبقات الشعب الكادحة، كما تجاوز عن ضريبة
سنة بالنسبة إلى أهل الضياع، ووزع الأموال على الفقراء
والمحتاجين، وختم حياته بالجهاد فى «صقلية»، حيث مرض
أثناء حصاره لإحدى المدن، ومات ليُحمل ويدفن فى مدينة
«بلرم» فى سنة (289هـ=902م)، وذكر «ابن الأثير» أنه حُمل فى
تابوت ودفن بالقيروان.(10/106)
*زيادة الله بن أبى العباس عبدالله
تولى حكم الأغالبة سنة 290هـ=903م عقب مقتل أبيه أبى العباس
عبد الله بن إبراهيم، وانتهج سياسة أبيه وجده، وتتبع أفراد
أسرته بالقتل، فى الوقت الذى نشط فيه «أبو عبدالله الشيعى»
وأحرز الانتصارات تلو الأخرى، واستولى على كثير من المدن
الأغلبية، ولم تفلح جيوش «زيادة» فى صده أو إيقاف زحفه،
فوجد «زيادة» نفسه عاجزًا عن الحفاظ على ملك آبائه وأجداده،
فآثر الهرب إلى «مصر»، وحمل معه كل ما استطاع حمله من مال
وعتاد، ورحل من «رقادة» فى (26من جمادى الآخرة عام
296هـ= مارس 909م)، فباتت المدينة سهلة المنال «لأبى عبدالله
الشيعى»، فبعث «عروبة بن يوسف» أحد قادته للاستيلاء
عليها، فدخلها دون قتال، وطويت بذلك صفحة «الأغالبة».(10/107)
*عبدالرحمن بن رستم
بويع «عبدالرحمن» سنة 162هـ=779م ليكون أول إمام للدولة
الإباضية (الرستمية) الناشئة فى ربوع «المغرب الأوسط»، وقد
كان أحد طلاب العلم، ودرس على يد «أبى عبيدة مسلم ابن أبى
كريمة»، فلما أتم تعليمه عمل على نشر «المذهب الإباضى»
ودعمه، ثم عينه «أبو الخطاب» نائبًا له على «مدينة القيروان»،
فاكتسب الخبرة الإدارية، وعرف طبائع الناس وظروفهم، ولم
يدخر جهدًا فى محاربة الولاة العباسيين، وجَمْع شمل
«الإباضية»، خاصة بعد مقتل «أبى الخطاب». كان «عبدالرحمن»
رجلاً زاهدًا، وذا صبر على الشدائد، وملتزمًا بكتاب الله وسنة
نبيه، واشترط على الناس حين وقع اختيارهم عليه للإمامة أن
يسمعوا له ويطيعوا ما لم يحد عن الحق، ثم اختط مدينة
«تهيرت»، ودخل فى طاعته العديد من القبائل مثل: «لماية»،
و «سدرانة»، و «مزاتة»، و «لواتة»، و «مكناسة»، و «غمارة»،
و «أزداجة»، و «هوارة»، و «نفوسة»، وقد افترشت هذه القبائل
مساحات واسعة، امتدت من «تلمسان» غربًا حتى «طرابلس»
شرقًا. ومضى «عبدالرحمن» فى حكم البلاد بالعدل، منتهجًا
سياسة شرعية فى إدارتها، مما أشاع الاستقرار والأمن بين
الناس، فلما شعر بدنو أجله اختار مجلسًا للشورى، ليُختار من
بين أفراده مَن يصلح للإمامة من بعده، واختار ابنه «عبدالوهاب»
ضمن أفراد هذا المجلس، ثم مات فى سنة (168هـ= 784م).(10/108)
*عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم
اختاره مجلس الشورى سنة 168هـ = 784 م ليكون خلفًا لأبيه عبد
الرحمن بن رستم فى إمامة الدولة الرستمية فى المغرب، واتسم
عهده ببعض الاضطرابات والقلاقل، وواجه العديد من الثورات
التى اتخذ بعضها طابعًا مذهبيا، وبعضها الآخر طابعًا قبليا،
فأثَّرت إلى حد بعيد على «الدولة الرستمية»، وعلى رمزها
الدينى المتمثل فى الإمام. ومات «عبد الوهاب» فى سنة
(198هـ=814م).(10/109)
*أفلح بن عبدالوهاب
بويع الإمام «أفلح» إماماً للدولة الرستمية فى المغرب سنة
198هـ = 814م خلفًا لأبيه عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم،
وكان ذا صفات طيبة، وجاءت مبايعته على عكس ما نهجه
الخوارج فى تعيين الإمام، إذ اختاره أبوه للإمامة قبل وفاته،
وربما يرجع ذلك إلى طبيعة الظروف التى ألمت بالبلاد، حيث
أحاط الأعداء بمدينة «تهيرت»، وكان لابد من اختيار رجل شجاع
يتمكن من مواجهة الأعداء. وقد اتسم عهد «أفلح» بالهدوء
والاستقرار، وبلغت الدولة فى عهده أوج ازدهارها، ونشطت
التجارة، وأقبل الناس من كل مكان قاصدين العاصمة «تهيرت»،
وتُوفِّى الإمام «أفلح» فى سنة (240هـ)، إثر حزنه الشديد على
وقوع ابنه «أبى اليقظان» فى أيدى العباسيين.(10/110)
*أبو بكر بن أفلح بن عبدالوهاب
تولى إمامة الدولة الرستمية سنة 240 هـ =854م خلفاً لأبيه أفلح
بن عبد الوهاب بدلاً من أخيه أبى اليقظان الذىكان مرشحًا
لمنصب الإمامة، ولكن وقوعه فى أيدى العباسيين حال دون
ذلك، لم يكن أبوبكر فى شدة آبائه وأجداده وحزمهم، فضلا عن
انغماسه فى الترف والنعيم وميله إلى الراحة، وقد تفرغ لراحته
وملذاته حين خرج أخوه «أبو اليقظان» من سجن العباسيين
وشاركه الحكم، ولكن «أبا بكر» دبر مقتل «محمد بن عرفة»
وهو من الشخصيات البارزة بالعاصمة، ليتخلص من نفوذه، فكان
ذلك سببًا فى نشوب الصراع بين طوائف الدولة الرستمية،
وحاولت كل طائفة تحقيق أهدافها من خلال المعارك الطاحنة،
التى أسفرت عن هزيمة حكام البيت الرستمى، واعتزال «أبى
بكر» منصب الإمامة.(10/111)
*أبو اليقظان محمد بن أفلح بن عبدالوهاب
تولىمنصب الإمامة فى الدولة الرستمية فى سنة
(268هـ=881م)،بعد نجاحه فى التغلب على الإضطرابات، وقد
تجنب سياسة التعصب وتفضيل قبيلة بعينها على غيرها، وجلس
لبحث شكاوى رعاياه والبت فيها بنفسه، واستعان بمجلس
الشورى الذى ضم إليه شيوخ القبائل ووجهاءها، فاستقرت
الأوضاع، وهدأت النفوس، وظل «أبو اليقظان» يدير دفة الأمور
فى دولته حتى وفاته فى سنة (281هـ=894م).(10/112)
*محمد بن أفلح بن عبدالوهاب
تولىمنصب الإمامة فى الدولة الرستمية فى سنة
(268هـ=881م)،بعد نجاحه فى التغلب على الإضطرابات، وقد
تجنب سياسة التعصب وتفضيل قبيلة بعينها على غيرها، وجلس
لبحث شكاوى رعاياه والبت فيها بنفسه، واستعان بمجلس
الشورى الذى ضم إليه شيوخ القبائل ووجهاءها، فاستقرت
الأوضاع، وهدأت النفوس، وظل «أبو اليقظان» يدير دفة الأمور
فى دولته حتى وفاته فى سنة (281هـ=894م).(10/113)
*أبو حاتم يوسف بن محمد
تولى «أبو حاتم» إمامة الدولة الرستمية سنة 281هـ = 894 م
عقب وفاة والده «أبى اليقظان»، لأن أخاه الأكبر «يقظان» كان
غائبًا فى موسم الحج، وقد لعب العامة -بزعامة «محمد بن رباح»
و «محمد بن حماد» المعروفين بالشجاعة والنجدة- دورًا بارزًا فى
المطالبة ببيعة «أبى حاتم» بالإمامة لسخائه وكرمه، ولكن هذا
الدور الذى لعبه العامة أطمعهم فى التدخل فى شئون الحكم
وتحقيق المكاسب، فرفض «أبو حاتم» ذلك وضرب على أيديهم
وطردهم من المدينة، فعمدوا إلى تأليب القبائل ضده، ونجحوا
فى طرده من العاصمة «تهيرت»، وبايعوا عمه «يعقوب بن
أفلح» بالإمامة، فصار هناك إمامان من بيت واحد، يقفان وجهًا
لوجه فى صراعٍ دامٍ على السلطة، ولكن أحدهما لم يحقق نجاحًا
ملموسًا على الآخر، فاحتكما وعقدا هدنة، وعاد «أبو حاتم»
إلى العاصمة إمامًا على البلاد، وانسحب عمه «يعقوب» بعد أن
حكم العاصمة «أربع سنوات». وقد حاول «أبو حاتم» إصلاح ما
أفسدته الحروب داخل العاصمة «تهيرت»، وكوَّن مجلسًا
استشاريًا من زعماء القبائل ومشايخها للاستعانة بهم فى إدارة
البلاد، ولكن محاولاته الإصلاحية كانت بمثابة صحوة الموت للبيت
الرستمى، خاصة بعد أن ضعفت قوتهم العسكرية فى محاولة
لإنهاء الصراع الذى وقع حول مدينة «طرابلس». وقد تآمر أفراد
البيت الرستمى أنفسهم على حياة إمامهم «أبى حاتم»، وقتلوه
فى سنة (294هـ=907م)(10/114)
*اليقظان بن أبى اليقظان
بويع بإمامة الدولة الرستمية عقب مقتل أخيه أبى حاتم يوسف
بن محمد فى سنة (294هـ=907م)، واتسم عهده بالفتن والقلاقل،
وتطلع مختلف القبائل والطوائف إلى الاستئثار بالحكم، كما دبرت
المؤامرات من داخل البيت الرستمى على يد «دوسر» ابنة «أبى
حاتم»، وتكاتفت فرق الخوارج مثل: «المالكية» و «الواصلية»
و «الشيعة» لإحباك الفتن والمؤامرات للإطاحة بالإمام، وقد نجح
«اليقظان» إلى حد بعيد فى كبح جماح هذه الطوائف والحد من
نشاطها، فهربت «دوسر»، ولجأت إلى «أبى عبدالله الشيعى»
الذى نجح فى بسط نفوذه على مساحات كبيرة من أرض
«المغرب»، واستنجدت به للثأر لأبيها، فاستجاب لها، واتجه إلى
«تهيرت»، فخرجت لمقابلته وجوه أهل «تهيرت» ورحبوا بمقدمه،
واستسلم «اليقظان» لمصيره، وخرج مع بنيه إلى «أبى
عبدالله»، فأمر بقتلهم ودخل العاصمة فى سنة (297هـ= 910م)،
واستولى على ما بها من أموال ومغانم، فطويت صفحة «الدولة
الرستمية».(10/115)
*إدريس بن عبدالله
اضطهد العباسيون منذ اللحظة الأولى لقيام دولتهم أبناء
عمومتهم من العلويين، وأسرف بعض الخلفاء العباسيين فى
ذلك، فأسفر الأمر عن قيام عدة ثورات، كانت آخرها ثورة
«الحسين بن على بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن على بن
أبى طالب» على والى «المدينة» فى سنة (169هـ=785م)، ولكن
العباسيين استطاعوا قمعها، وقتلوا زعيمها ومجموعة من أهل
بيته. وكان «إدريس بن عبدالله» ومولاه «راشد» ممن فرَّ من أرض
المعركة، واتجها إلى «مصر»، ومنها إلى «المغرب الأقصى»،
ونزلا مدينة «وليلى» عاصمة هذا الإقليم، ثم توجها إلى أميرها
وزعيمها «إسحاق بن محمد بن عبدالحميد الأوربى»، زعيم قبيلة
«أوربة» التى فرضت نفوذها وسيطرتها على مدينة «وليلى»
وما حولها، وعرفه «إدريس» بنفسه، وأعلمه بسبب فراره من
موطنه «الحجاز»، ولجوئه إلى بلاده، فرحب به «إسحاق» وآمن
بدعوته، وبايعه بالإمامة، وكذلك بايعته قبيلته «أوربة»، ومعها
بقية القبائل فى رمضان سنة (172هـ=788م)، ومن ثَم نجح
«إدريس» فى تأسيس دولة حملت اسمه بالمغرب الأقصى. لكن
ذلك أقلق الخلافة العباسية، خاصة بعد أن مدَّ «إدريس» نفوذه
إلى مدينة «تلمسان» بالمغرب الأوسط. عمد الخليفة العباسى
«الرشيد» إلى الحيلة للقضاء على نفوذ «الأدارسة»، فقيل إنه
بعث برجل يدعى «الشماخ» إلى «إدريس»، فتظاهر بحبه لآل
البيت، وفراره من بطش العباسيين، ولازم «إدريس» فترة ثم
اغتاله حين سنحت له الفرصة، وهكذا نجحت الخلافة العباسية
فى التخلص من «إدريس» أبرز المناوئين لها، وفقدت «دولة
الأدارسة» مؤسسها فى سنة (175هـ=791م) بعد ثلاث سنوات
ونصف فقط من قيامها.(10/116)
*إدريس بن إدريس بن عبد الله
بات مقعد الإمامة شاغرًا عقب اغتيال «إدريس»، والتف البربر
حول مولاه «راشد»، وانتظروا مولود «كنزة» جارية «إدريس بن
عبدالله»، فلما وضعت حملها أسموه «إدريس» تبركًا باسم
والده، وتعهده «راشد» بالتربية والرعاية، ونشَّأه تنشأة دينية،
حتى إذا بلغ الحادية عشرة من عمره أقبلت القبائل على مبايعته
بالإمامة، فدعا ذلك الخلافة العباسية إلى التحرك ثانية للقضاء
على هذه الدولة، وأوكلت هذه المهمة إلى والى «المغرب
الأدنى» «إبراهيم بن الأغلب» الذى نجح فى استمالة مجموعة من
البربر بأمواله وهداياه، ثم أوكل إليهم مهمة قتل «راشد»،
فقاموا بتنفيذها فى سنة (186هـ= 802م)، لكن «الدولة
الإدريسية» واصلت مسيرتها، وانتقلت كفالة «إدريس» والوصاية
عليه إلى «أبى خالد بن يزيد بن إلياس العبدى»، وجُدِّدت له
البيعة فى سنة (188هـ= 804م)، حين بلغ الثالثة عشرة من عمره،
وأصبح فى سن تؤهله لخلع الوصاية، وإدارة البلاد، وعزز
مركزه إقبال الوفود العربية من «القيروان» و «الأندلس» للعيش
فى كنف دولته فرارًا من بطش الحكام، فدعم بهم نفوذه، واتخذ
منهم الوزراء والكتاب والقضاة، وجعلهم بطانته وحاشيته، وقد
شجعه هؤلاء على بناء عاصمة جديدة لدولته، فبنى مدينة
«فاس»، ثم استقر بها. وفى سنة (197هـ= 813م) خرج «إدريس
الثانى» على رأس قواته لإخضاع «قبائل المصامدة» التى هددت
أمن بلاده، ونجح فى ذلك نجاحًا كبيرًا، وامتد نشاطه حتى
منطقة «السوس الأقصى»، ودخل مدينة «نفيس» ثم عاد إلى
عاصمته «فاس»، وخرج فى العام التالى صوب الشرق لتأمين
حدود دولته، ودخل مدينة «تلمسان»، وأقام بها ثلاث سنوات،
يرتب أمورها، ويرمم مسجدها، ثم عاد إلى «فاس» فى سنة
(201هـ)، وظل فى الحكم حتى وافته المنية فى سنة
(213هـ=828م).(10/117)
*محمد بن إدريس بن إدريس
هو أكبر أبناء «إدريس الثانى» إمام الأدارسة، وقد تولى الإمامة
فى سنة (213هـ=828م)، فنفذ وصية جدته «كنزة» بتقسيم أقاليم
الدولة بين إخوته، فكان لذلك أثره السيئ على وحدة دولة
«الأدارسة»، ولما يمضِ على قيامها أربعون سنة بعد، وطمع كل
أخٍ فى الاستقلال بإقليمه، وشقََّ عصا الطاعة على السلطة
المركزية. ولكن «محمد بن إدريس» تصدى لإخوته وضم ممتلكات
أخويه «عيسى» و «القاسم» بعد هزيمتهما إلى أخيه «عمر».(10/118)
*يحيى بن إدريس بن عمر بن إدريس
تولى إمامة دولة الأدارسة عام (292هـ= 905م)، وقد وصفه
المؤرخون بأنه كان أعظم ملوك «الأدارسة» قوة وسلطانًا
وصلاحًا وورعًا وفقهًا ودينًا، وقد ظل بالحكم حتى سنة (305هـ
= 917م) حتى طرق «مصالة بن حيوس» أبواب مدن «المغرب
الأقصى»، فأطاعه «يحيى بن إدريس»، وبايع «أبا عبيد الله
المهدى»، فدخلت دولة «الأدارسة» منذ ذلك الحين فى طور
التبعية للفاطميين تارة، وللحكم الأموى بالأندلس تارة أخرى.(10/119)
*يوسف بُلكِّين بن زيرى بن مناد الصنهاجى
عينه «المعز لدين الله الفاطمى» على ولاية «المغرب» سنة 362
هـ= 973 م، واستثنى من ذلك «طرابلس المغرب»، و «أجدابية»
و «سرت»، وعين معه «زيادة الله ابن القديم» على جباية
الأموال، وجعل «عبدالجبار الخراسانى» و «حسين بن خلف» على
الخراج، وأمرهما بالانقياد ليوسف بن زيرى. واجه «يوسف» عدة
ثورات واضطرابات بالمغرب، كان منها عصيان أهل «تهيرت»، ثم
سيطرة قبيلة «زناتة» على مدينة «تلمسان»، وقد توجه إلى
«تهيرت» بجنوده وأعادها إلى طاعته، كما توجه إلى
«تلمسان» وأعادها إلى حكمه فى سنة (365هـ= 976م). وفى
سنة (373هـ=984م) خرج الأمير «يوسف» على رأس جيوشه
لاستعادة «سجلماسة» من أيدى بعض الثوار الذين استولوا
عليها، ولكنه أصيب بمرض أودى بحياته فى شهر ذى الحجة
سنة (373هـ= مايو 984م).(10/120)
*المنصور بن يوسف بُلكِّين بن زيرى
تولى حكم بنى زيرى سنة 373هـ = 984 م وقد واجه عدة
مشاكل، كانت منها غارات قبائل «زناتة» المستمرة على المدن
المغربية فى سنة (374هـ = 985م)، واستيلاء «زيرى بن عطية
الزناتى» على مدينتى «فاس» و «سجلماسة»، مما دفع
«المنصور» إلى إرسال أخيه «يطوفت» على رأس جيش كبير
لمواجهة هذه القبائل، ودارت معركة كبيرة بين جموع الفريقين،
أسفرت عن هزيمة الصنهاجيين، وعودتهم إلى «أشير». ثم
تصدى الأمير «المنصور» فى سنة (376هـ= 986م) لعمه «أبى
البهار» الذى نهب مدينة «تهيرت»، ففر «أبو البهار» أمامه،
ودخل «المنصور» المدينة، وأعاد إلى أهلها الأمن والهدوء. ثم
تُوفى فى يوم الخميس (3 من ربيع الأول سنة 386هـ= مارس
996م)، ودُفن بقصره.(10/121)
*باديس بن المنصور
وُلد «باديس» فى سنة (374هـ=985م)، وتكنى بأبى مناد، وخلف
أباه على «المغرب» فى سنة (386هـ=996م)، وأتته الخلع والعهد
بالولاية من «الحاكم بأمر الله الفاطمى» من «مصر»، وبايع
للحاكم، وأعلن تبعية بلاده لخلافته، ثم أقطع عمه «حماد بن
يوسف» مدينة «أشير»، وولاه عليها، وأعطاه خيلا وسلاحًا،
وجندًا كثيرًا، فكانت هذه هى نقطة البداية لانقسام «بنى زيرى»
إلى أسرتين: تحكم إحداهما بالمغرب الأدنى فى «ليبيا»
و «تونس»، وتحكم الأخرى - أسرة «بنى حماد» - فى «الجزائر»،
متخذة من قلعة «بنى حماد» مقرا للحكم. وانفرد «بنو حماد»
بإقليم «الجزائر»، نظرًا لضعف قبضة الأمير «باديس» على البلاد.
وقد واصل «باديس» مطاردة «زناتة، وأُخبر فى سنة (387هـ=
997م) بأن «زيرى بن عطية الزناتى» قد اعتدى على مدينة
«أشير»، فبعث إليه بجيشه لمواجهته، ولكن الجيش هُزم على
أيدى الزناتيين، فاضطر الأمير «باديس» إلى الخروج بنفسه
لمواجهتهم فى «أشير»، فلما علم الزناتيون بذلك انطلقوا إلى
الصحراء، وتركوا المدينة، فدخلها «باديس»، وأقر الأمور بها، ثم
مات فى سنة (406هـ= 1015م).(10/122)
*المعز بن باديس
تولى حكم بنى زيري بعد وفاة أبيه المعز بن باديس سنة 406هـ
= 1015م وقد أُخذت البيعة له بمدينة «المحمدية»، وفرح الناس
بتوليته لما رأوا فيه من كرم ورجاحة عقل، فضلا عن تواضعه،
ورقة قلبه، وكثير عطائه، على الرغم من حداثة سِنه. وقد حدثت
فى عهده بعض التطورات، حيث ألغى المذهب الشيعى، وخلع
طاعة الفاطميين، ودعا على منابره للعباسيين، وتصالح مع
أبناء عمومته الحماديين سنة (408هـ= 1017م)، وواصل مطاردة
«قبائل زناتة» جهة «طرابلس»، فى أبناء «حماد». ثم أُصيب
«المعز بن باديس» بمرض فى كبده أودى بحياته فى سنة
(453هـ= 1061م)، بعد حكم دام سبعًا وأربعين سنة.(10/123)
*تميم بن المعز بن باديس
وُلد بالمنصورية فى منتصف رجب سنة (422هـ= يونيو 1031م)، ثم
تولى إمرة «المهدية» فى عهد والده «المعز» فى سنة
(445هـ=1053م)، ثم خلف والده فى إمارة بنو زيرى فى سنة
(453هـ= 1061م)، فواجه عددًا من الاضطرابات والقلاقل، حيث
سيطر العرب الهلاليون على كثير من مناطق «إفريقية»، وثار
عليه أهل «تونس» وخرجوا عن طاعته، فأرسل إلى «تونس»
جيشًا، حاصرها سنة وشهرين، فلما اشتد الحصار على الناس،
طلبوا الصلح، وعاد جيش «تميم» إلى «المهدية»،ثم ثارت عليه
مدينة «سوسة» فحاصرها وفتحها عنوة، وأمن أهلها على
حياتهم. وقد تعرضت «المهدية» فى عهده لهجمات الهلالية، لكنه
تمكن من صدهم، ثم حاصر «قابس» و «صفاقس»، واستولى
عليهما من أيدى الهلالية الذين كانوا يحتلونهما. وعمد إلى
مهادنة أبناء عمومته فى «الجزائر»، وزوج ابنته للناصر بن
علناس أمير «الجزائر»، وأرسلها إليه فى موكب عظيم، محملة
بالأموال والهدايا. ثم تُوفى فى سنة (501هـ= 1107م).(10/124)
*يحيى بن تميم بن المعز بن باديس
ولد بالمهدية فى (26 من ذى الحجة سنة 457هـ)، وولى إمارة
بنى زيري وعمره ثلاث وأربعون سنة وستة أشهر وعشرون
يومًا، فوزَّع أموالا كثيرة، وأحسن السيرة فى الرعية، ثم فتح
قلعة «أقليبية» التى استعصى على أبيه من قبل فتحها، كما
جهز أسطولاً كبيرًا، كان دائم الإغارة على الجزر التابعة لدولة
الروم فى البحر المتوسط، ومات فجأة فى يوم عيد الأضحى سنة
(509هـ - 1115م).(10/125)
*على بن يحيى بن تميم
تولى إمارة بنى زيرى عقب وفاة والده يحيى بن تميم سنة
509هـ 1115 م، حيث لم يكن حاضرًا بالمهدية - التى وُلد بها - حين
وفاة والده، فلما وصل إليه الخبر، حضر مسرعًا، ودفن والده،
وتولى الإمارة خلفًا له، ثم جهز أسطولاً كبيرًا لمهاجمة جزيرة
«جَرْبَة»، لأن أهلها قطعوا الطريق على التجار، وتمكن الأسطول
من إخضاع الجزيرة، وأمَّن الأمير أهلها وعفا عنهم، ثم قضى
على عصيان «رافع» عامله على «قابس»، الذى سعى إلى شق
عصا الطاعة وحشد الجموع لمهاجمة «المهدية». وقد تُوفى الأمير
«على» فى العشر الأواخر من شهر ربيع الآخر سنة (515هـ=
يونيو 1121م).(10/126)
*الحسن بن على بن يحيى
ولى إمارة بنى زيرى عقب وفاة والده الأمير «على بن يحيى»
سنة 515هـ = 1121م، وكان عمره آنذاك اثنتى عشرة سنة،
فقام «صندل الخصىّ» بإدارة شئون الحكم، إلا أنه تُوفى بعد
فترة قصيرة، فتولى القائد «أبو عزيز موفق» الإشراف على
أمور البلاد، وتمكن من صد الأسطول الرومى الذى هاجم بعض
حصون الزيريين فى سنة (517هـ= 1123م)، وكذلك ألحق الأمير
«الحسن» الهزيمة بجيش «يحيى بن عبدالعزيز بن حماد» أمير
«بجاية» الذى جاء لمهاجمة «المهدية» والاستيلاء عليها فى سنة
(529هـ= 1135م). وفى سنة (537 - 543هـ= 1142 - 1148م) حل
القحط بإفريقية واستغل ملك «صقلية» ذلك وجهز أسطولاً كبيرًا،
وتوجه به قاصدًا «المهدية»، ولم يستطع «الحسن» الدفاع عنها،
وهرب بأهله ومتاعه إلى أبناء عمومته من «بنى حماد»،
فوضعوه وأهله تحت الحراسة، ومنعوه من التصرف فى شىء
من أمواله، ودخل الروم مدينة «المهدية» دون قتال أو ممانعة،
فسقط حكم «بنى زيرى»، وسقطت إمارتهم، وكان «الحسن بن
على» آخر أمراء «الدولة الزيرية».(10/127)
*يوسف بن تاشفين
يعد «ابن تاشفين» المؤسس الحقيقى لدولة المرابطين بالمغرب
الأقصى، وقد تجمعت فيه صفات الزعامة والشجاعة والقيادة
والحزم، والتفت حوله قلوب المرابطين، وشرع فى بناء مدينة
«مراكش» عاصمته الجديدة فى سنة (454هـ= 1062م) ونجح فى
بسط نفوذه على «المغرب الأقصى» فى سنة (467هـ= 1074م).
وقد نجح ابن «تاشفين» إلى جانب توحيد «المغرب الأقصى»
فى وقف الزحف النصرانى على «الأندلس»، وضمَّها إلى «دولة
المرابطين» التى اتسعت أطرافها وزادت خيراتها، وتمتعت
بالازدهار والرقى فى مختلف المجالات، ثم مرض «يوسف» فى
سنة (498هـ= 1104م)، ثم أسلم روحه فى سنة (500هـ= 1106م)
ودفن بمدينة «مراكش».(10/128)
*على بن يوسف بن تاشفين
ولى الأمير «على بن يوسف بن تاشفين» حكم دولة المرابطين
بعد وفاة والده يوسف بن تاشفين سنة 500هـ=1106م واقتفى
سياسة والده، وسار بين الناس بالحكمة والعدل، واستعان
بالفقهاء والعلماء فى حكم البلاد، فتبوأ مكانة طيبة فى نفوس
رعيته. ومضى «على بن يوسف» فى استكمال الجهود الحربية
التى بدأها والده بالأندلس، وعبر إليها بنفسه أربع مرات؛ لتثبيت
سلطان المرابطين، ومواجهة الهجمات المتكررة للمسيحيين،
فأحرز انتصارات كبيرة، ونال رضا الخلافة العباسية.(10/129)
* تاشفين بن على
تولى «تاشفين» الحكم فى دولة المرابطين بعد وفاة والده الأمير
«على» فى سنة (537هـ= 1142م)، فدخل فى صراع مع دولة
«الموحدين»، ولم تفلح جهوده فى صد موجاتهم المتتابعة،
وانتهى به الأمر إلى «وهران»؛ حيث قُتل فى سنة (539هـ=
1144م)، فَفَتَّ ذلك فى عضد الدولة، وسقطت أجزاء كثيرة منها
فى أيدى الموحدين.(10/130)
*المهدى بن تومرت
هو محمد عبد الله بن تومرت المصمودى البربرى، أبو عبد الله،
الملقب بالمهدى: واضع أسس الدولة المؤمنية الكومية، وُلِد ونشأ
فى قبيلة هرغة من المصامدة من قبائل جبال السوسى بالمغرب
الأقصى، ثم رحل إلى المشرق طالبًا للعلم سنة (500 هـ)، ولقى
الغزالى وإلكيا الهراسى وأبا بكر الطرطوشى، وجاور بمكة،
وحصَّل طرفًا جيدًا من العلم، وكان ناسكًا مهيبًا متقشِّفًا
مخشوشنًا أمَّارًا بالمعروف كثير الإطراق متعبدًا يتبسم لمن لقيه،
وكان شجاعًا جريئًا فصيحًا عاقلاً بعيد الغور، جمع فى شخصه
رجل الدين ورجل العلم ورجل السياسة، أخذ من كل مدرسة من
مدارس الفكر ومن المذاهب الفقهية ما يتواءم مع شخصيته
ومعتقداته ويتلاءم مع أهدافه، التقى بعبد المؤمن بن على
الكومي، واتفق معه على الدعوة إليه، واتخذ أنصارًا رحل بهم
إلى مراكش، فحضر مجلس ابن تاشفين، فأنكر عليه بدعًا
ومنكرات، ثم نزل بموضع حصين من جبال تينملل فجعل يعظ
سكانه حتى أقبلوا عليه، واشتهر فيهم بالصلاح، فحرضهم
على عصيان ابن تاشفين فقتلوا جنودًا له، وتحصنوا وقوى بهم
أمر ابن تومرت، وتلقب بالمهدى القائم بأمر الله، ولكن المنية لم
تمهله حتى يفتتح مراكش؛ حيث إنها عاجلته فى جبل تينملل،
وجاء بعده صاحبه عبد المؤمن فكانت الفتوحات على يده.(10/131)
*ابن تومرت
هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودى. المعروف
بالمهدى بن تومرت. وُلِد عام (485 هـ = 1092 م) فى هرغة
إحدى بطون قبيلة المصامدة البربرية، ثم رحل إلى المشرق عام (
500 هـ)؛ طلبًا للعلم، فعبر البحر إلى الأندلس، ودخل قرطبة، ثم
ركب البحر ثانية إلى الإسكندرية، وبعد ذلك دخل العراق،
والتقى مع الغزالى. وبعد أن أقام بمكة فترة للدرس والتحصيل
عاد إلى مصر، وركب البحر إلى المهدية، وهناك بدأ دعوته
الإصلاحية. وعُرِف ابن تومرت بورعه وزهده وشدته فى التمسك
بأحكام الإسلام، وبالنهى عن البدع التى شاعت فى عصره، ثم
انتقل إلى بجاية، والتف حوله الأنصار، فسار بهم إلى مراكش
إبَّان سلطنة على بن يوسف بن تاشفين، وشرع فى الأمر
بالمعروف والنهى عن المنكر، فلما حاول السلطان القبض عليه
هرب مع أنصاره إلى جبل تينملل عند عشيرته من المصامدة
الذين استجابوا لدعوته. وكثر أنصاره فهزموا جيش ابن تاشفين،
وسار ابن تومرت لحصار مراكش، ولكنه مرض وتُوفِّى فى الطريق
سنة (524هـ = 1130م)، وأوصى بالبيعة لخليفته عبد المؤمن بن
على الكومى، وتنسب إلى ابن تومرت عدة مؤلفات فقهية، منها:
كنزالعلوم، وأعز ما يطلب.(10/132)
*عبدالمؤمن بن على
يعتبر عبد المؤمن بن على المؤسس الفعلى لدولة الموحدين،
وكان قد التقى بابن تومرتوأصبح من أخلص تلاميذه، وصاحبه
فى كل مكان يذهب إليه. حمل «عبدالمؤمن» أعباء الدعوة عقب
وفاة أستاذه، وشُغل بتنظيم شئون الموحدين، مدة عام ونصف
العام، ثم شرع فى الكفاح ضد المرابطين فى منطقة «الأطلس»
جنوبى «مراكش» فى «وادى درعة» و «بلاد السوس» و «بلاد
جاحة» القريبة من «تينملل»، ثم استولى الموحدون على
«مراكش» عاصمة المرابطين فى سنة (541هـ= 1146م)، بعد كفاح
دام أكثر من عشر سنوات كان النصر فيها حليفًا للموحدين. وقد
نجح «عبدالمؤمن» فى إحكام قبضته وسيطرته على «المغرب
الأقصى» بعد سقوط دولة المرابطين بسقوط عاصمتهم
«مراكش»، ثم وجه اهتمامه إلى الشرق، وبعث بحملاته المتتابعة
التى وصلت حتى «طرابلس» بإفريقية، فساعد هذا النصر على
تحقيق الوحدة السياسية للمغرب الإسلامى، وتلقب «عبدالمؤمن»
بلقب خليفة، واتخذ من «مراكش» عاصمة للخلافة، ثم شرع فى
تجهيز حملة كبيرة لدفع النصارى عن مدن «الأندلس» فى سنة
(556هـ= 1161م)، إلا أن مرضه حال دون إتمام هذه الحملة، ومات
فى سنة (558هـ= 1163م).(10/133)
*يوسف بن عبدالمؤمن
بويع «يوسف» فى سنة (558هـ= 1163م) لحكم دولة الموحدين،
ليكون خلفًا لوالده عبد المؤمن بن علىبعد وفاته. وما إن استقر
فى العاصمة حتى واجهته ثورة «مرزدغ الصنهاجى» بجبال
«غمارة»، فنجح فى القضاء عليها وتفريق أعوانها، ثم أمر
بقتل «مرزدغ»، وحمل رأسه إلى العاصمة «مراكش». ووجه «ابن
عبدالمؤمن» جُلَّ جهوده إلى دعم سلطة الموحدين بالأندلس،
وبعث بالحملات المتتابعة إليها، وخرج على رأس إحداها فى
سنة (566هـ= 1170م)، لتأمين ثغور «الأندلس» وضبطها
وإصلاحها، ثم خرج فى سنة (579هـ= 1183م) على رأس حملة
كبيرة إلى «الأندلس» لغزوها، إلا أنه أصيب بسهم عند أسوار
«شنترين»، فأسرع الجند بحمله والعودة به مصابًا إلى
«مراكش»، فقضى نحبه فى سنة (580هـ= 1184م).(10/134)
*المنصور الموحدى
ولى «يعقوب بن يوسف بن عبدالمؤمن» حكم الموحدين خلفًا
لوالده فى سنة (580هـ= 1184م)، ولقب نفسه بالمنصور،
وتوزعت جهوده العسكرية فى أكثر من ميدان؛ حيث قامت ثورة
بزعامة «الجزيرى» الذى أخذ يدعو لنفسه بين القبائل فى سنة
(585هـ= 1189م)، فقضى عليها «المنصور» وقتل زعيمها، ثم
قامت ثورة أخرى ببلاد «الزاب» بزعامة رجل يدعى «الأشلّ»
فى سنة (589هـ = 1193م)، فكان مصيرها الفشل مثل سابقتها.
أما ثورة «بنى غانية»، التى استهدفت إحياء «دولة المرابطين»
والدعاء للخلافة العباسية على المنابر بإفريقية، فكانت الخطر
الحقيقى الذى هدد «دولة الموحدين»، فوجّه «المنصور» إليها
كل جهوده للقضاء عليها، وعلى الرغم من تكرار المحاولة فإنه
لم ينجح فى القضاء عليها نهائياًّ. وقد أولى «المنصور»
«الأندلس» اهتمامه وعنايته، ودخل فى عدة معارك مع الإفرنج؛
كانت أبرزها معركة «الأرك» فى سنة (591هـ= 1195م)، تلك
التى أوقفت زحف النصارى، وزادت من هيبة الموحدين ومكانتهم
بالشمال الإفريقى، ثم أصيب المنصور بوعكة صحية أدت إلى
وفاته فى سنة (595هـ = 1199م).(10/135)
* الناصر الموحدى
تولى «الناصر أبو عبدالله محمد بن يعقوب» حكم الموحدين خلفًا
لوالده «المنصور» بعد وفاته سنة 595هـ 1199م، فحدثت فى
عهده بعض التطورات السياسية والعسكرية التى انتقلت بدولة
الموحدين من مرحلة القوة والسيادة إلى مرحلة الانهيار
والسقوط؛ حيث تمكن فى بداية حكمه من القضاء على ثورة
«بنى غانية» بإفريقية التى دخلها فى سنة (598هـ= 1202م)،
وعاد منها فى سنة (604هـ= 1207م)، بعد أن ولى على
«إفريقية» «أبا محمد عبد الواحد بن أبى حفص» أحد أشياخ
الموحدين، فعكف «ابن أبى حفص» على معالجة شئون
«إفريقية»، ودعم سلطان الموحدين بها، إلا أن ولاية «أبى
حفص» كانت البداية لقيام «دولة الحفصيين» بتونس؛ حيث استقل
أبناؤه - بعد ذلك - بها وأسسوا ملكًا مستقلاً. وقد فُجع
الموحدون بهزيمة قاسية بالأندلس فى معركة «العقاب» التى راح
ضحيتها عدد كبير من الجند، مما أضعف «دولة الموحدين»
وأفقدهم هيبتهم، وأُصيب «الناصر» بالمرض، وتوفى فى سنة
(610هـ= 1213م).(10/136)
*آباقا خان
يعد «هولاكو» المؤسس الأول لسلسلة سلاطين المغول فى
«إيران» و «العراق» الذين ظلوا يحكمون هذه البلاد من سنة
(654هـ) حتى سنة (756هـ)، وقد تُوفى «هولاكو» سنة
(663هـ)، وخلفه ابنه «آباقا خان» فى حكم البلاد، التى امتدت
من «نهر جيحون» حتى «العراق العربى» غربًا، ومن جنوبى
روسيا شمالا حتى «البحر العربى» جنوبًا. وقد جنحت الدولة
الإيلخانية منذ إنشائها إلى الاستقلال عن العاصمة المغولية، فى
أمور السياسة والحكم - منذ عهد «آباقا خان» - وكأن حكامها
مستقلون تمامًا عن العاصمة قراقورم. اتخذ «آباقا» من «تبريز»
عاصمة له، فاحتلت فى عهده مكانة ممتازة، وجعل «آباقا»
قائده الأمير «سونجاق» واليًا على «العراق» وإقليم «فارس»،
ففوض هذا الأمير بدوره المؤرخ «علاء الدين عطا ملك الجوينى»
فى حكم «العراق»، وعهد «آباقا» بمنصب الوزارة إلى «شمس
الدين محمد الجوينى» أخى «علاء الدين»، فكانا سببًا من
أسباب ازدهار دولة «آباقا»، وعلى الرغم من الجهود الذى بذلها
الجوينيون فى خدمة هذه الدولة وتوطيد أسسها، ودعم
أركانها، فإنهم تعرضوا - فى نهاية الأمر - لنكبة تشبه نكبة
البرامكة عندما تكاثر عليهم الأعداء والخصوم، وقُتل الجوينيون
جميعًا فى عهد «أرغون» سنة (683هـ) الذى قضى على جميع
أفراد هذه الأسرة. تزوج «آباقا» ابنة امبراطور «القسطنطينية»،
فتوطدت علاقته بالنصارى، وأكثر من القساوسة فى بلاطه،
على الرغم من أنه كان إلى ذلك الوقت وثنيا، وحرص
المسيحيون على مداهنة المغول واجتلابهم نحو المسيحية؛ أملا
فى انضمام هؤلاء المحاربين الأشداء إلى صفوف النصارى
ومحاربة أشد أعدائهم، المسلمين. وفى الوقت نفسه كان
«آباقا» يريد من وراء توطيد علاقته بالمسيحيين أن يحصل على
معاونتهم فى حربه ضد المسلمين، وخاصة المماليك، ليثأر لهزيمة
المغول أمامهم فى «عين جالوت»، غير أن محاولاته ذهبت
جميعها عبثًا، ولحقت به الهزائم فى كل مرة التقت فيها جيوشه(10/137)
بجيوش المماليك بقيادة «الظاهر بيبرس»، وكانت معركة
«أبلستين» التى قامت بين الطرفين فى عام (675هـ) من أهم
المعارك التى دارت بين الجانبين، وانتصر فيها المماليك فى
«مصر» و «الشام» انتصارًا حاسمًا، ثم تُوفى «آباقا» فى سنة
(680هـ. ((10/138)
* أحمد تكودار
تولى أحمد تكودار حكم الدولة الإيلخانية خلفاً لأبيه آباقا خان
سنة 681هـ، وكان قد اعتنق تكودار المسيحية فى صغره، لكنه
مال إلى الإسلام شيئًا فشيئًا؛ لكثرة اتصاله بالمسلمين، وتوطيد
علاقته بعظماء المسلمين وكبار أئمتهم، فأعلن إسلامه، وسُمى
بالسلطان «أحمد تكودار»، فكان أول مَن اعتنق الإسلام من
الإيلخانيين. كان إسلام السلطان «أحمد» عاملا قويا فى تهذيب
طباعه وتقويم خلقه، ولم يعد ذلك المغولى الذى كان كل همه
سفك دماء المسلمين وتخريب ديارهم، وإنما أصبح يرى
المسلمين إخوته، ويجب أن يحل بينهم الوئام؛ لذا تبادل الرسائل
الودية مع السلطان «قلاوون» سلطان المماليك فى «مصر»،
فقضى بذلك - مؤقتًا- على الأحقاد والضغائن، ولم تحدث حروب
بين الجانبين، وكذلك كان لإسلام «أحمد تكودار» أثر كبير فى
«إيران»، فقويت شوكة المسلمين، وعادت المعابد البوذية
وكنائس النصارى إلى مساجد كما كانت من قبل؛ ووصل
المسلمون إلى المناصب الرئيسية فى الدولة، وتطلَّع أبناء البلاد
الأصليين من الفرس إلى شغل المناصب الإدارية بالدولة المغولية.
ونتيجة لذلك كله خاف أمراء المغول على مصالحهم الشخصية
-خاصة أن السلطان كان يحرص على خطب ودهم - وبخاصة الأمير
«أرغون» الذى كان يطمع فى العرش فثار على السلطان
«تكودار» وتمكن من قتله فى سنة (683هـ)، وضعفت بذلك
شوكة المسلمين فى «إيران» ثانية.(10/139)
* أرغون خان
تولى حكم الدولة الإيلخانية بعد مقتل أخيه السلطان «أحمد بن
آباقا خان» فى جمادى الآخرة سنة (683هـ)، فنصب ابنه
«غازان» حاكمًا على «خراسان» وعين الأمير «نوروز» نائبًا له
عليها، وأنعم على الأمير «بوقا» بلقب «أمير الأمراء»، وأطلق
يده فى تسيير شئون الدولة، وقتل الوزير «شمس الدين
الجوينى» وجميع أفراد أسرته تقريبًا فى شعبان سنة (683هـ)،
وذلك لموقفهم مع السلطان «أحمد تكودار» ومساندتهم له فى
المعركة التى دارت بينه وبين أفراد المغول بقيادة الأمير
«أرغون»؛ والتى انتهت بمقتل السلطان وتنصيب الأمير سلطانًا.
حاول «أرغون» أن يحد من نفوذ «مصر» فى المشرق الإسلامى،
فأقام علاقات سياسية وطيدة مع قادة الدول المسيحية مثل:
«البابا» و «إدوارد الأول» ملك «إنجلترا»، و «فيليب لوبل» ملك
«فرنسا»، تمهيدًا لتكوين حلف للقضاء على النفوذ المصرى فى
«آسيا الصغرى»، و «العراق» و «الشام»، و «فلسطين». وشجعت
هذه العلاقات (المغولية - الأوربية) عددًا من الرحالة الأوربيين
على زيارة بلاد المغول، وسافر الرحالة الشهير «ماركو بولو»
إلى العاصمة المغولية، وأقام فى بلاط الامبراطور المغولى
«قوبيلاى» نحو عشرين عامًا، عمل فيها مستشارًا له ووزيرًا،
ولم تقع حروب تذكر بين الجانبين - المصرى والمغولى - فى عهد
«أرغون» لانشغال كل منهما بمشكلاته الداخلية.(10/140)
*كيخاتو خان
تولى عرش الدولة الإيلخانية فى رجب سنة (690هـ)، وعين
«صدر الدين أحمد الزنجانى» وزيرًا له، ولقبه بلقب «صدر جهان»
وأوكل إليه التصرف فى شئون الدولة كافة دون تدخل من أحد،
وعين أخاه «قطب الدين الزنجانى» قاضيًا للقضاة، وأطلق عليه
لقب «قطب جهان»، ثم انصرف «كيخاتو» إلى ملذاته وشهواته
وإنفاق الأموال فى سبيلها دون حساب، فاضطربت مالية الدولة،
وأصبحت خزانتها شبه خاوية ومهددة بالإفلاس، ووقف الوزير
حائرًا لا يدرى ماذا يفعل حيال ذلك، فظهر له رجل اسمه «عز
الدين محمد بن المظفر» - وكان على دراية بالأحوال المالية فى
«بلاد الصين» - واقترح عليه العدول عن استخدام الذهب والفضة
فى المعاملات المالية، واستخدام أوراق مالية - تعرف عند
الصينيين باسم «الجاو» - بدلا منها، لإنقاذ البلاد من الإفلاس، كما
فعل الصينيون، فاستحسن الوزير هذا الاقتراح، واستصدر
قانونًا من الإيلخان فى سنة (693هـ) ينص على التعامل بهذه
الأوراق، ويحرم التعامل بالذهب والفضة تحريمًا تاما. رفض الناس
التعامل بالأوراق المالية فى معاملاتهم، على الرغم من أنهم
أُجبِروا على ذلك بالقوة، فاضطربت أحوال البلاد والناس
اضطرابًا كبيرًا، وكسدت التجارة، وتعذرت الأقوات، وانقطعت
الموارد من كل نوع، وامتنع البائعون عن بيع سلعهم بهذه
الأوراق، فكان الرجل يضع الدرهم تحت إحدى الأوراق المالية
(الجاو) ويعطيها الخباز أو القصاب وغيرهما، ليحصل على ما
يريد، خوفًا من أتباع السلطان الذين يراقبون الناس والبائعين
فى تعاملاتهم، فضاقت الحياة أمام الناس واستحكمت الأزمة،
وكاد الأمر ينذر بثورة عارمة، إلا أن الإيلخان تدارك الموقف
وأصدر قانونًا لإبطال التعامل بهذه الأوراق، والعودة إلى النظام
القديم. ولما كان «كيخاتو» مغرمًا بشرب الخمر، سيئ الخلق
فاسقًا، كرهه الأمراء وثاروا عليه، وبخاصة بعد أن أغلظ القول -(10/141)
ذات ليلة - لابن عمه «بايدو» أحد كبار الأمراء، فحقد عليه، وتآمر
مع الأمراء الآخرين على قتله، وعلم «كيخاتو» بالمؤامرة، فآثر
الفرار، ولكن الأمراء تتبعوه، وتمكنوا من قتله فى سنة (694هـ).(10/142)
* بايدوخان
هو «بايدوخان بن طرغاى بن تولوى بن جنكيزخان» أحد
سلاطين الدولة الإيلخانية، تولى العرش فى جمادى الأولى سنة
(694هـ) بعد مقتل كيخاتو، ثم تخلص من أتباعه، وقرر إعادة
الحقوق والوظائف إلى أصحابها، وأعفى الأوقاف الإسلامية من
الضرائب، وعهد بأمور الجيش ورئاسة الوزراء إلى الأمير
«طغاجار»، وسلك مسلك «آباقا خان» حيث جعل الإدارة لا
مركزية، وجعل أميرًا من الأمراء على كل ولاية من الولايات،
ونصب «جمال الدين الاستكردانى» وزيرًا له. لم يكد «بايدو»
يتولى أمور الحكم حتى بلغ «غازان خان» ما حدث لعمه
«كيخاتو»، فأقبل بجنوده ومعه الأمير «نوروز»، وأرسل رسله
إلى «بايدو» ينكر عليه قتل كيخاتو، ويطالبه بإجراء تحقيق
ليلقى القتلة جزاءهم، فلما لم يلقَ جوابًا دارت رحى الحرب بين
الفريقين، وفى هذه الأثناء عرض الأمير «نوروز» الإسلام على
«غازان»، وحَسَّن له اعتناق هذا الدين بتشريعاته السمحة ونظمه
الدقيقة، وما ينادى به من عدل ورحمة ومساواة، فاعتنق
«غازان» الدين الإسلامى، ومال إليه أكثر الأمراء، وانتصر على
«بايدو» فى الحرب، فهرب «بايدو» ولحق به الأمير «نوروز»،
وألقى القبض عليه، وأرسله إلى «غازان»، فأمر بقتله فى شهر
ذى الحجة عام (694هـ).(10/143)
* محمود غازان
تولى «غازان» عرشالدولة الإيلخانية المغولية عقب مقتل
«بايدو» فى ذى الحجة سنة (694هـ)، وبعد أن اعتنق الإسلام
تبعه جميع الأمراء والجنود المغول، وأسلم بإسلامه أكثر من
مائة ألف شخص منهم فى فترة وجيزة، ولقب «غازان» نفسه
باسم السلطان «محمود غازان»، وأعلن الإسلام دينًا رسميا
للدولة، وأمر المغول بأن يغيروا ملابسهم التقليدية، ويلبسوا
العمامة للتدليل على خضوعهم للإسلام، وأمر بهدم الكنائس
والمعابد اليهودية والمزدكية والهياكل البوذية، وتحويلها إلى
مساجد، وبارتداء اليهود والنصارى ثيابًا تميزهم عن غيرهم من
المسلمين، كرد فعل لما لقيه المسلمون من ضروب المهانة والذلة
فى عهد كل من: «هولاكو» و «آباقا» و «أرغون». عرف
«غازان» بشخصيته القوية، ونشاطه الموفور، وصبره الذى لا
ينفد، وبأنه رجل دولة من الطراز الأول يقف على كل صغيرة
وكبيرة فى شئون البلاد، فضلا عن إحاطته الكاملة بتقاليد قومه
وعاداتهم، وإلمامه التام بمختلف الحرف والصناعات السائدة فى
عصره، واطِّلاعه على العلوم المعروفة لدى المسلمين، وإجادته
عدة لغات إلى جانب لغته المغولية، لكنه كان قاسيًا على
أعدائه، ولا يأبه بحياة الناس حين تتعارض مع تحقيق أهدافه
وطموحاته، وتجلى ذلك حين تخلص من الأمير «نوروز» الذى
ساعده ووقف إلى جانبه فى كثير من المواقف بسبب وشاية،
وكذلك حين أمر بقتل وزيره «صدر الدين» فى رجب سنة
(697هـ)، وعين بدلا منه المؤرخ «رشيد الدين فضل الله» الذى
توسم فيه النبوغ والعبقرية والإخلاص، وأشرك معه رجلا يدعى
«سعد الدولة» لمساعدته فى مهام الوزارة. قام «غازان» بثلاث
حملات على «بلاد الشام»، كانت الأولى فى سنة (699هـ)،
وانتصر فيها على قواد «الناصر محمد بن قلاوون» بالقرب من
منطقة «مرج المروج» شرقى «حمص»، وقد انتشر المغول بعد
انتصارهم فى الأماكن المجاورة، وخربوا البلاد جريًا على(10/144)
عادتهم القديمة، وكأنهم لم يعتنقوا الدين الإسلامى، ثم عين
«غازان» واليًا من قبله على البلاد التى استولى عليها، وعاد
بعد ذلك إلى «إيران». وفى سنة (700هـ) عاود المغول الكرَّة
على بلاد الشام، واستولوا على مناطق جديدة بها، إلا أنهم لم
يتمكنوا من التقدم والاستمرار؛ إذ هطلت عليهم الأمطار بغزارة،
واشتدت البرودة، وكثر الوحل، وهلك كثير منهم، ووجد
«غازان» نفسه مضطرًا إلى العودة إلى «إيران»، ولكنه عاد بعد
ذلك بعامين فى سنة (702هـ) بحملته الثالثة على «سوريا»،
وتحرك إلى مدينة «عانة» على شاطئ «الفرات»، وبرفقته
وزيره المؤرخ «رشيد الدين» ثم عاد أدراجه إلى عاصمته
«تبريز» تاركًا جيشه بالشام ليواصل مهمته، ولكن النتيجة جاءت
على غير ما كان يتوقع، إذ هُزم جيشه هزيمة منكرة على يد
السلطان «الناصر محمد بن قلاوون» فى موقعة «مرج الصفر»
بالقرب من «دمشق» فى (2 من رمضان عام 702هـ)، فاعتلَّت
صحته، وغلبه المرض، وتآمر عليه الأمراء، وكثرت من حوله
الدسائس، ومات فى شوال سنة (703هـ)، وهو لايزال فى ريعان
شبابه. قام «غازان» بإصلاحات كثيرة ومهمة فى كثير من
الميادين، وكانت أبرزها إصلاحاته العمرانية، حيث أقام شمالى
غرب «تبريز» محلة عُرفت باسم «شام غازان»، وتفصلها عن
مدينة «تبريز» حدائق ومتنزهات كثيرة، وأمر كبار مهندسيه
بإقامة بناء عالٍ فى ذلك المكان؛ تعلوه قبة كبيرة، ليكون
مدفنًا له، وقد استمرت عمارة القبة وتوابعها نحو خمس سنوات،
واشتملت على مسجد وخانقاه ومدرستين (إحداهما للشافعية
والأخرى للحنفية)، ومستشفى، ومكتبة، ومرصد، ومدرسة لتعليم
العلوم الطبية، وبيت لحفظ كتب القوانين التى أصدرها الإيلخان
عرف باسم «بيت القانون»، كما أنشأ مسكنًا للأطفال وآخر
للأشراف، وضمت هذه الأبنية بعض الحمامات العامة، وملجأ
واسعًا لليتامى؛ به مكتب لتعليم القرآن الكريم وتحفيظه، وملجأ
آخر يتسع لنحو خمسمائة أرملة من النساء اللائى فقدن عائلهن،(10/145)
فضلا عن ذلك أنشأ «غازان» الأجران الواسعة المملوءة
بالحبوب، والمزودة بأحواض المياه لكى تتزود منها الطيور
المهاجرة من الشمال إلى الجنوب فى الفصول الباردة من السنة
خلال رحلتها عبر الهضبة الإيرانية التى تغطيها الثلوج فى هذا
الوقت من السنة، خاصة أن أعدادًا كثيرة من هذه الطيور كانت
تلقى حتفها، لتعذر حصولها على الغذاء، فأقام لها «غازان»
هذه الأجران رحمة بها، وأصبحت هذه المؤسسات والمنشآت
التى أقامها «غازان» مفخرة العالم الإسلامى والحضارة
الإسلامية، حيث حول الإسلام القبائل الهمجية البربرية إلى أناس
مهذبى الطباع، منظمين محبين للحضارة والعمران، وامتلأت
قلوبهم رحمة وعطفًا حتى على الطيور والحيوانات(10/146)
* غازان
تولى «غازان» عرشالدولة الإيلخانية المغولية عقب مقتل
«بايدو» فى ذى الحجة سنة (694هـ)، وبعد أن اعتنق الإسلام
تبعه جميع الأمراء والجنود المغول، وأسلم بإسلامه أكثر من
مائة ألف شخص منهم فى فترة وجيزة، ولقب «غازان» نفسه
باسم السلطان «محمود غازان»، وأعلن الإسلام دينًا رسميا
للدولة، وأمر المغول بأن يغيروا ملابسهم التقليدية، ويلبسوا
العمامة للتدليل على خضوعهم للإسلام، وأمر بهدم الكنائس
والمعابد اليهودية والمزدكية والهياكل البوذية، وتحويلها إلى
مساجد، وبارتداء اليهود والنصارى ثيابًا تميزهم عن غيرهم من
المسلمين، كرد فعل لما لقيه المسلمون من ضروب المهانة والذلة
فى عهد كل من: «هولاكو» و «آباقا» و «أرغون». عرف
«غازان» بشخصيته القوية، ونشاطه الموفور، وصبره الذى لا
ينفد، وبأنه رجل دولة من الطراز الأول يقف على كل صغيرة
وكبيرة فى شئون البلاد، فضلا عن إحاطته الكاملة بتقاليد قومه
وعاداتهم، وإلمامه التام بمختلف الحرف والصناعات السائدة فى
عصره، واطِّلاعه على العلوم المعروفة لدى المسلمين، وإجادته
عدة لغات إلى جانب لغته المغولية، لكنه كان قاسيًا على
أعدائه، ولا يأبه بحياة الناس حين تتعارض مع تحقيق أهدافه
وطموحاته، وتجلى ذلك حين تخلص من الأمير «نوروز» الذى
ساعده ووقف إلى جانبه فى كثير من المواقف بسبب وشاية،
وكذلك حين أمر بقتل وزيره «صدر الدين» فى رجب سنة
(697هـ)، وعين بدلا منه المؤرخ «رشيد الدين فضل الله» الذى
توسم فيه النبوغ والعبقرية والإخلاص، وأشرك معه رجلا يدعى
«سعد الدولة» لمساعدته فى مهام الوزارة. قام «غازان» بثلاث
حملات على «بلاد الشام»، كانت الأولى فى سنة (699هـ)،
وانتصر فيها على قواد «الناصر محمد بن قلاوون» بالقرب من
منطقة «مرج المروج» شرقى «حمص»، وقد انتشر المغول بعد
انتصارهم فى الأماكن المجاورة، وخربوا البلاد جريًا على
عادتهم القديمة، وكأنهم لم يعتنقوا الدين الإسلامى، ثم عين(10/147)
«غازان» واليًا من قبله على البلاد التى استولى عليها، وعاد
بعد ذلك إلى «إيران». وفى سنة (700هـ) عاود المغول الكرَّة
على بلاد الشام، واستولوا على مناطق جديدة بها، إلا أنهم لم
يتمكنوا من التقدم والاستمرار؛ إذ هطلت عليهم الأمطار بغزارة،
واشتدت البرودة، وكثر الوحل، وهلك كثير منهم، ووجد
«غازان» نفسه مضطرًا إلى العودة إلى «إيران»، ولكنه عاد بعد
ذلك بعامين فى سنة (702هـ) بحملته الثالثة على «سوريا»،
وتحرك إلى مدينة «عانة» على شاطئ «الفرات»، وبرفقته
وزيره المؤرخ «رشيد الدين» ثم عاد أدراجه إلى عاصمته
«تبريز» تاركًا جيشه بالشام ليواصل مهمته، ولكن النتيجة جاءت
على غير ما كان يتوقع، إذ هُزم جيشه هزيمة منكرة على يد
السلطان «الناصر محمد بن قلاوون» فى موقعة «مرج الصفر»
بالقرب من «دمشق» فى (2 من رمضان عام 702هـ)، فاعتلَّت
صحته، وغلبه المرض، وتآمر عليه الأمراء، وكثرت من حوله
الدسائس، ومات فى شوال سنة (703هـ)، وهو لايزال فى ريعان
شبابه. قام «غازان» بإصلاحات كثيرة ومهمة فى كثير من
الميادين، وكانت أبرزها إصلاحاته العمرانية، حيث أقام شمالى
غرب «تبريز» محلة عُرفت باسم «شام غازان»، وتفصلها عن
مدينة «تبريز» حدائق ومتنزهات كثيرة، وأمر كبار مهندسيه
بإقامة بناء عالٍ فى ذلك المكان؛ تعلوه قبة كبيرة، ليكون
مدفنًا له، وقد استمرت عمارة القبة وتوابعها نحو خمس سنوات،
واشتملت على مسجد وخانقاه ومدرستين (إحداهما للشافعية
والأخرى للحنفية)، ومستشفى، ومكتبة، ومرصد، ومدرسة لتعليم
العلوم الطبية، وبيت لحفظ كتب القوانين التى أصدرها الإيلخان
عرف باسم «بيت القانون»، كما أنشأ مسكنًا للأطفال وآخر
للأشراف، وضمت هذه الأبنية بعض الحمامات العامة، وملجأ
واسعًا لليتامى؛ به مكتب لتعليم القرآن الكريم وتحفيظه، وملجأ
آخر يتسع لنحو خمسمائة أرملة من النساء اللائى فقدن عائلهن،
فضلا عن ذلك أنشأ «غازان» الأجران الواسعة المملوءة(10/148)
بالحبوب، والمزودة بأحواض المياه لكى تتزود منها الطيور
المهاجرة من الشمال إلى الجنوب فى الفصول الباردة من السنة
خلال رحلتها عبر الهضبة الإيرانية التى تغطيها الثلوج فى هذا
الوقت من السنة، خاصة أن أعدادًا كثيرة من هذه الطيور كانت
تلقى حتفها، لتعذر حصولها على الغذاء، فأقام لها «غازان»
هذه الأجران رحمة بها، وأصبحت هذه المؤسسات والمنشآت
التى أقامها «غازان» مفخرة العالم الإسلامى والحضارة
الإسلامية، حيث حول الإسلام القبائل الهمجية البربرية إلى أناس
مهذبى الطباع، منظمين محبين للحضارة والعمران، وامتلأت
قلوبهم رحمة وعطفًا حتى على الطيور والحيوانات(10/149)
* أولجايتو
تولى عرش الدولة الإيلخانية خلفًا لأخيه «غازان» فى سنة
(703هـ) وكان من قبل حاكماً على خراسان، وجعل الوزارة
مشاركة بين «رشيد الدين فضل الله الهمدانى» وسعد الدين
الساوجى. عمد «أولجايتو» إلى استكمال تشييد مدينة
السلطانية التى بدأ إنشاؤها فى عهد السلطان «غازان»، وهى
تقع على بعد خمسة فراسخ من «زنجان» وأمر بالتوسعة فى
منشآتها العمرانية، فساهم الأمراء والوزراء فى بناء بعض
أحيائها، وأنشأ الوزير «رشيد الدين فضل الله» محلة بها على
نفقته الخاصة؛ اشتملت على ألف منزل، ومسجد كبير. وأمر
السلطان ببناء قبة كبيرة فوق مقبرته، ومازالت هذه القبة قائمة
حتى اليوم دليلا على عظمة العمارة فى هذا العصر. تمكن
«أولجايتو» فى سنة (706هـ) من بسط سيطرته على إقليم
«جيلان»، وهو الإقليم الذى لم يتمكن المغول من السيطرة عليه
حتى هذه السنة لكثرة غاباته، ووعورة مسالكه، وأعاد بناء
مرصد «مراغة» الذى بناه «هولاكو» من قبل، وحين بلغ
«أولجايتو» الثالثة والثلاثين من عمره اشتد عليه المرض واعتلَّت
صحته، وتوفِّى فى رمضان سنة (716هـ).(10/150)
*أبو سعيد بهادر
تولى «أبو سعيد» حكم الدولة الإيلخانية بعد وفاة السلطان
«أولجايتو» سنة 716 هـ، وكان لايزال فى الثالثة عشرة من
عمره، فاضطربت أحوال البلاد وتعددت ثورات الأمراء المغول فى
مناطق متفرقة ضده، غير أن «أبا سعيد» استعان عليهم بقائد
جيشه الأمير «جوبان»، فقضى عليهم، وأعاد إلى البلاد
استقرارها وهدوءها. كان «أبو سعيد» آخر سلاطين الإيلخانيين
الأقوياء، كما كان كريمًا جوادًا، شجاعًا، محبا للعلم، فراجت
فى عهده العلوم والآداب، وعاش فى بلاطه كثير من الشعراء
والمؤرخين؛ حين كان هو نفسه شاعرًا وله أشعار جيدة باللغة
الفارسية، واشتهر بجودة الخط والغناء. وتوفى أبو سعيد فى
13 من ربيع الأول سنة 736هـ(10/151)
*أحمد بن أويس
أحد سلاطين الدولة الجلائرية فى العراق وأذربيجان، تولى
الحكم بعد أخيه جلال الدين حسين بن أويس سنة (784 - 813هـ =
1382 - 1410م)، وقد تمكن «تيمورلنك» من إسقاطه عن عرشه
عدة مرات، ثم دخل «بغداد» فى عام (795هـ = 1393م)، ففر
«أحمد بن أويس» إلى «مصر» مستنجدًا بالسلطان المملوكى
«برقوق»، وتمكن «الشيخ أحمد» -أخيرًا - من العودة إلى
«بغداد» فى عام (804 هـ = 1401م)، وتمكن من استعادتها فى
عام (807هـ= 1404م)، بعد أن خرجت عدة مرات من حكم «آل
جلائر» إلى حكم التيموريين، ثم استعاد «تبريز» فى عام
(809هـ= 1406م)، ولم يلبث أن فقدها ثانية فى العام نفسه على
يد حفيد «تيمورلنك». وفى عام (813هـ = 1410م)، اختلف «أحمد
بن أويس» مع زعيم قبيلة «قراقيونلو»، وحدث صدام بينهما،
فقُتل «الشيخ أحمد»، وتمكن زعيم «قراقيونلو» من انتزاع
«تبريز» وما والاها من الجلائريين، ثم أسس دولة له
فى «أذربيجان».(10/152)
*إسماعيل ميرزا
أحد حكام الدولة الصفوية، الملقب بالشاه «إسماعيل
الثانى»،تولى الحكم عام (984هـ = 1576م]، واعتمد سياسة
الاعتدال فى نشر المذهب الشيعى، فأبعد عددًا من علماء
الشيعة المتعصبين عن بلاطه، وأمر بمنع لعن الخلفاء الثلاثة
والسيدة «عائشة» فوق المنابر وفى الطرقات، وحاول إعادة
المذهب السنى إلى البلاد بالتدريج، مما أثار عليه حفيظة الطبقة
الحاكمة وأغلبية المجتمع، وقرروا عزله وتعيين ابن أخيه «حسن
ميرزا» إذا لم يتراجع عن ذلك، فعمل على تهدئة الثورة التى
قامت ضده، وأبعد علماء المذهب السنى عن بلاطه، ونقش على
السكة بيتًا مضمونه: أن عليا وآله أولى بالخلافة فى العالم
الإسلامى كله. لم يتمكن الشاه «إسماعيل الثانى» من البقاء فى
الحكم فترة طويلة، حيث قُتل عام 985هـ = 1578م(10/153)
*إسماعيل الثاني
أحد حكام الدولة الصفوية، الملقب بالشاه «إسماعيل
الثانى»،تولى الحكم عام (984هـ = 1576م]، واعتمد سياسة
الاعتدال فى نشر المذهب الشيعى، فأبعد عددًا من علماء
الشيعة المتعصبين عن بلاطه، وأمر بمنع لعن الخلفاء الثلاثة
والسيدة «عائشة» فوق المنابر وفى الطرقات، وحاول إعادة
المذهب السنى إلى البلاد بالتدريج، مما أثار عليه حفيظة الطبقة
الحاكمة وأغلبية المجتمع، وقرروا عزله وتعيين ابن أخيه «حسن
ميرزا» إذا لم يتراجع عن ذلك، فعمل على تهدئة الثورة التى
قامت ضده، وأبعد علماء المذهب السنى عن بلاطه، ونقش على
السكة بيتًا مضمونه: أن عليا وآله أولى بالخلافة فى العالم
الإسلامى كله. لم يتمكن الشاه «إسماعيل الثانى» من البقاء فى
الحكم فترة طويلة، حيث قُتل عام 985هـ = 1578م(10/154)
* عباس الأول
أحد حكام الدولة الصفوية تولى العرش من عام (996هـ = 1588م)
إلى عام (1038هـ = 1629م)، ويعد عهده من أبرز عهود الحكم
الصفوى فى «إيران» وأهمها؛ إذ عمل على رفاهية شعبه
وتعمير بلاده، ونقل عاصمة دولته من «قزوين» إلى «أصفهان»،
وأعاد الحكم المركزى إلى «الدولة الصفوية»، على الرغم من
الصعوبات والحروب الكثيرة التى اعترضت سبيله، ونجح فى
إقرار أمن بلاده وتأمين رعيته؛ واتخذ مجلسًا لبلاطه ضم سبع
أشخاص بسبعة وظائف هى: «اعتماد الدولة» - «ركن السلطنة» -
«ركن الدولة» - «كبير الياوران» - «قائد حملة البنادق» - «رئيس
الديوان» - «كاتب مجلس الشاه»، وبالرغم من وجود هذا المجلس
كان هو صاحب القرار الأول والأخير فى الدولة.(10/155)
* عباس الصفوي
أحد حكام الدولة الصفوية تولى العرش من عام (996هـ = 1588م)
إلى عام (1038هـ = 1629م)، ويعد عهده من أبرز عهود الحكم
الصفوى فى «إيران» وأهمها؛ إذ عمل على رفاهية شعبه
وتعمير بلاده، ونقل عاصمة دولته من «قزوين» إلى «أصفهان»،
وأعاد الحكم المركزى إلى «الدولة الصفوية»، على الرغم من
الصعوبات والحروب الكثيرة التى اعترضت سبيله، ونجح فى
إقرار أمن بلاده وتأمين رعيته؛ واتخذ مجلسًا لبلاطه ضم سبع
أشخاص بسبعة وظائف هى: «اعتماد الدولة» - «ركن السلطنة» -
«ركن الدولة» - «كبير الياوران» - «قائد حملة البنادق» - «رئيس
الديوان» - «كاتب مجلس الشاه»، وبالرغم من وجود هذا المجلس
كان هو صاحب القرار الأول والأخير فى الدولة.(10/156)
*بابر ظهير الدين
هو ظهير الدين محمد بن عمر الشيخ ميرزا الملقب ببابر ومعناها
فى الهندية النمر مؤسس إمبراطورية المغول التيمورية الإسلامية
فى الهند، وأحد أحفاد تيمورلنك. وُلِد بابر فى المحرم سنة
(888هـ = 1483م) بمدينة فرغانة الهندية، التى كان أبوه ملكًا
عليها، وبعد وفاة أبيه تولى حكمها وكان لايزال فى الثانية
عشرة من عمره، فتعرض لعدة مؤمرات من أعمامه لعزله، اضطر
على أثُرها إلى الرحيل إلى أفغانستان، واستقر بكابل، وجعل
منها نواة لإقامة دولة قوية، وواتته الفرصه لتوسيع رقعة دولته
حينما استغاث به حاكم لاهور ضد حاكم دلهى فزحف بابر بجيشه
نحو الهند، فاستولى على السند سنة (925هـ) ثم على لاهور
سنة (930هـ) ثم دخل دلهى سنة (932هـ) ثم أكرا. ولما رأى ذلك
أمراء الهندوس تحالفوا ضده ليوقفوا زحفه ويقضوا على دولته،
فأعدوا جيشًا كبيرًا لذلك، والتقى الطرفان فى معركة حاسمة
تمكن فيها بابر من هزيمتهم ثم اتجه إلى شرقى الهند فاستولى
على بيهار، وهكذا صارت له دولة مترامية الأطراف، واتخذ من
أكرا عاصمة لها. وبعدما أمَّن بابر دولته من الخارج، اتجه
للإصلاحات الداخلية، فمهَّد الطرق، وحفر الترع والأنهار ونظَّم
الضرائب، وأقام شبكة بريد جيدة، واهتم بالنواحى الثقافية حيث
كان بابر أديبًا رقيقًا يقرض الشعر بالتركية والفارسية، وابتكر
خطًّا جديدًا نُسب إليه وكتب به مصحفًا، أهداه إلى المسجد
الحرام بمكة. وألَّف بابر عدة كتب، مثل: الفتح المبين فى الفقه
الحنفى، وبابرنامه وهو تاريخ حياه بابر فى صورة مذكرات أو
يوميات ضمنها ترجمة لحياته وعصره، كتبه بالتركية، ثم تُرجِم
إلى الفارسية وعدة لغات أوربية. وتُوفِّى بابر سنة (937هـ =
1531م)، وعمره خمسون سنة، ودفن بكابل بأفغانستان.(10/157)
* ظهير الدين بابر
هو ظهير الدين محمد بن عمر الشيخ ميرزا الملقب ببابر ومعناها
فى الهندية النمر مؤسس إمبراطورية المغول التيمورية الإسلامية
فى الهند، وأحد أحفاد تيمورلنك. وُلِد بابر فى المحرم سنة
(888هـ = 1483م) بمدينة فرغانة الهندية، التى كان أبوه ملكًا
عليها، وبعد وفاة أبيه تولى حكمها وكان لايزال فى الثانية
عشرة من عمره، فتعرض لعدة مؤمرات من أعمامه لعزله، اضطر
على أثُرها إلى الرحيل إلى أفغانستان، واستقر بكابل، وجعل
منها نواة لإقامة دولة قوية، وواتته الفرصه لتوسيع رقعة دولته
حينما استغاث به حاكم لاهور ضد حاكم دلهى فزحف بابر بجيشه
نحو الهند، فاستولى على السند سنة (925هـ) ثم على لاهور
سنة (930هـ) ثم دخل دلهى سنة (932هـ) ثم أكرا. ولما رأى ذلك
أمراء الهندوس تحالفوا ضده ليوقفوا زحفه ويقضوا على دولته،
فأعدوا جيشًا كبيرًا لذلك، والتقى الطرفان فى معركة حاسمة
تمكن فيها بابر من هزيمتهم ثم اتجه إلى شرقى الهند فاستولى
على بيهار، وهكذا صارت له دولة مترامية الأطراف، واتخذ من
أكرا عاصمة لها. وبعدما أمَّن بابر دولته من الخارج، اتجه
للإصلاحات الداخلية، فمهَّد الطرق، وحفر الترع والأنهار ونظَّم
الضرائب، وأقام شبكة بريد جيدة، واهتم بالنواحى الثقافية حيث
كان بابر أديبًا رقيقًا يقرض الشعر بالتركية والفارسية، وابتكر
خطًّا جديدًا نُسب إليه وكتب به مصحفًا، أهداه إلى المسجد
الحرام بمكة. وألَّف بابر عدة كتب، مثل: الفتح المبين فى الفقه
الحنفى، وبابرنامه وهو تاريخ حياه بابر فى صورة مذكرات أو
يوميات ضمنها ترجمة لحياته وعصره، كتبه بالتركية، ثم تُرجِم
إلى الفارسية وعدة لغات أوربية. وتُوفِّى بابر سنة (937هـ =
1531م)، وعمره خمسون سنة، ودفن بكابل بأفغانستان.(10/158)
*أكبر شاه
أحد ملوك امبراطورية المغول فى الهند تولى الحكم فى عام
(963هـ = 1556م)، وانتقل بالبابريين من مجرد غزاة إلى أصحاب
دولة قوية راسخة البنيان؛ إذ استولى على أهم مناطق «الهند»،
وانتصر فى معركة «بانى بت» فى عام (964هـ= 1556م) - وهى
المنطقة نفسها التى انتصر فيها «بابر» من قبل - ونجح «أكبر
شاه» فى تنظيم حكومة أجمع المؤرخون على دقتها وقوتها،
وذلك فضلا عن النهضة الثقافية التى حدثت فى عصره، والتى
بلغت مكانة سامية لم تصل إليها بلاد «أوربا»، ثم تُوفى «أكبر
شاه» فى سنة (1014هـ = 1605م)(10/159)
*شاه جهان
أحد ملوك امبراطورية المغول فى الهند، تولى الحكم فى عام
(1037هـ = 1628م) خلفاً لوالده جهانكيزخان. اشتهرت «ممتاز
محل» زوجة «شاهجهان» بالطيبة والصفات الحميدة، والبر
بالفقراء، ودفعت زوجها إلى العفو عن المذنبين، واستخدام
«التأريخ الهجرى» بدلا من «التأريخ الألفى» الذى وضع فى
عهد «جلال الدين أكبر». أحب «شاه جهان» زوجته حبا شديدًا،
وبلغ وفاؤه لها مبلغًا عظيمًا، وبنى لها مقبرة «تاج محل»، التى
تعد من روائع الفن المعمارى، وإحدى عجائب الدنيا، ومازالت
قائمة حتى الآن. وفى عهد «شاه جهان» حدثت مجاعة شديدة
بالهند، فاستغلها البرتغاليون فى خطف الأهالى وأسرهم، ثم
بيعهم فى سوق الرقيق، وقد استطاع «قاسم خان» تخليص
عشرة آلاف فرد منهم من أيديهم، وعهد «شاه جهان» بالحكم
إلى ابنه «أورنك زيب»، بعد أن عهد إليه بالقضاء على ثورات
«الدكن».(10/160)
*عثمان بن أرطغرل
تولى مسئولية إمارة آل عثمان بعد أبيه، وبدأ فى توطيد
سلطانه على أساس من العدل والنظام، وأخذ فى توسيع رقعة
دولته حتى وصلت إلى مدينة «ينى شهر» التى اتخذها عاصمة
لبلاده، وبذلك أصبح على مرمى البصر من «بروصة» و «نيقية»
وكانتا من أهم المدن فى غربى «الأناضول». ولما وجد «عثمان»
أن إمارة «آل قرمان» هى أقوى الإمارات التى قامت على
أنقاض دولة سلاجقة الروم، أرسى سياسته على عدم الاصطدام
بها والتوسع غربًا تجاه البيزنطيين، وبدأ فى إرسال حملاته من
موقعه الحصين فى «ينى شهر» إلى المدن اليونانية المجاورة،
ونجح فى الاستيلاء على كثير من الحصون، قبل أن تتحرك
جيوش الدولة البيزنطية لمواجهته. عرف الأمير «عثمان» بشخصيته
القوية، وتحليه بالصبر والمثابرة وضبط النفس، وحماسته
للإسلام، لكن فى غير تعصب، بل فى سماحة ورفق، فلم يضطهد
أهل الذمة، وإنما اجتذبهم إلى خدمته، فأسلم منهم جماعات
كثيرة صارت ركيزة من ركائز دولته الناشئة. وتُوفى «عثمان»
سنة 726هـ = 1326م ويُعَدُّ أول من استقل بالإمارة، وراوده حلم
إرساء قواعد دولة مترامية الأطراف، وكان أهل إمارته يطلقون
عليه لقب «قرة عثمان» رمزًا لقوة الشخصية والحيوية الجسمانية.(10/161)
*أورخان بن عثمان
تولى «أورخان» حكم إمارة آل عثمان بعد وفاة أبيه سنة
(726هـ = 1326م)، ولم يكد يمضى على توليته وقت طويل حتى
تقدم نحو بحر «مرمرة» وهزم حملة بيزنطية، كان يقودها
الإمبراطور «أندرنيكوس الثالث» وبعدها تخلت بيزنطة عن بذل
الجهود الخاصة بتنظيم المقاومة العسكرية فى «الأناضول» أو
تعزيز حاميات ما تبقى لها من المدن هناك، وقد أدى ذلك إلى
نجاح «أورخان» فى الاستيلاء على معظم شبه جزيرة «نيقيا»،
وسواحل خليج «نيقوميديا» وسقوط «نيقيا» دون مقاومة، ثم
استيلائه على ما تبقى من الأراضى البيزنطية فى غربى
«الأناضول» دون صعوبة، مما جعل دولته أقوى إمارات التركمان
فى المنطقة، لاسيما وقد تعزز مركزها باعتبارها زعيمة الجهاد
ضد البيزنطيين، كما عزز «أورخان» مركزه بالتوسّع على
حساب إمارات الطوائف التى تطل على شواطئ «بحر مرمرة»
وسيطر على ساحله الجنوبى مما سهل له مهمة العبور إلى أوربا
حين سنحت له الفرصة. وقد أمضى «أورخان» بعد استيلائه على
إمارة «قرة سى» عشرين سنة دون أن يخوض معارك، وإنما
شغل نفسه فى وضع النظم المدنية والعسكرية التى تقوى من
شأن الدولة، وفى تعزيز الأمن الداخلى، وبناء المساجد
والمدارس ورصد الأوقاف عليها، وإقامة المنشآت العامة. وتميزت
الإدارة العثمانية فى عهد «أورخان» بالكفاءة، وإتاحة الفرص
أمام رعايا الدولة، ومعاملة أهل الذمة بتسامح كامل، والاهتمام
بالتعليم وأهله.(10/162)
*مراد بن أورخان
تولى حكم إمارة آل عثمان بعد وفاة أبيه سنة (761 هـ = 1360
م)، وواصل جهود أبيه فى الفتح، ونجح فى العام التالى من
توليه الحكم فى فتح مدينة «أدرنة» ونقل إليها العاصمة بعد أن
كانت فى «بورصة»، ثم فتح أراضى الدولة البيزنطية فى
«البلقان»، حتى أصبحت «القسطنطينية» عاصمة البيزنطيين
محاصرة تمامًا بالأراضى العثمانية، ونتيجة لتلك الفتوحات صارت
الدولة العثمانية متاخمة لكل من «الصرب» و «البلغار» و «ألبانيا».
وأدى هذا النشاط العثمانى إلى انزعاج أوربا وازدياد قلقها،
فكتب أمراء تلك المناطق إلى ملوك أوربا الغربية وإلى البابا
يستنجدون بهم ضد المسلمين، فقام البابا بالدعوة إلى قيام حرب
صليبية جديدة، غير أن ملك الصرب هاجم «أدرنة» عاصمة
العثمانيين وكان «مراد» غائبًا عنها، فلما علم بأخبار هذا
الهجوم عاد بجيشه ليحارب الصرب، ونجح فى إلحاق الهزيمة
بهم. ثم قام ملك الصرب - الجديد وقتها - بعقد حلف عسكرى مع
أمير «بلغاريا» لمحاربة العثمانيين، فلما قامت الحرب بينهما
هرب أمير البلغار من المعركة، ثم اصطلح الطرفان الصربى
والبلغارى مع الدولة العثمانية، نظير جزية سنوية يقدمانها لها،
لكن الصرب نقضوا عهدهم فأقام ملكهم تحالفًا صليبيا مع
«ألبانيا» ضد العثمانيين، والتقى الفريقان فى مكان يُسمَّى
«قوصوة» سنة (197هـ= 9831م) حيث دارت معركة من أعظم
معارك الإسلام، انتصر فيها العثمانيون، وهُزِم الصرب هزيمة
منكرة، وقتل ملكهم. وعقب انتهاء المعركة قام الأمير «مراد»
بتفقد ساحة المعركة، وكان الليل حالك السواد، والهلال والنجوم
فى السماء، وساحة المعركة مدرجة بالدماء، فأوحى ذلك
بفكرة العلم العثمانى كما يقال، فجاء علمًا أحمر الأرضية يذكِّر
بالدماء التى ملأت أرض «قوصوة» ويزين العلم الهلال والنجوم،
ولايزال علم تركيا على هذه الصورة حتى الآن. وأثناء تفقد
الأمير المنتصر «مراد» ساحة القتال؛ إذا بصربى جريح يقوم من(10/163)
بين القتلى ليطعنه بخنجر فيقتله على الفور، ويستشهد فى
ساحة الجهاد، وهو يبلغ من العمر (65) عامًا. عُرف الأمير «مراد
الأول» بالعدل، وبمعاملة رعيته من أهل الذمة معاملة حسنة،
وبكثرة المعارك التى حالفه فيها النصر، حتى إنه دخل (73)
معركة فى «الأناضول» وفى «البلقان» خرج منها جميعًا مظفرًا،
كما أنه تسلم الدولة من أبيه ومساحتها نحو (59000كم2)،
وتركها عند استشهاده وهى تبلغ (500000 كم2)، أى أنها
زادت فى مدى (29) سنة أكثر من خمسة أمثالها حين تسلمها من
أبيه.(10/164)
*مراد الثانى
أحد سلاطين الدولة العثمانية، تولى عرش السلطنة سنة
824هـ=1421م وعمره (17) سنة، وبدأ عهده بعقد هدنة مع ملك
«المجر» لمدة خمس سنوات حتى يتفرغ للأناضول، وبعقد صلح
مع أمير «قرمان»، ثم اتجه «مراد» إلى محاصرة مدينة
«القسطنطينية» سنة (825هـ = 1422م)، ودام الحصار (64) يومًا،
وكان بحريا وبريا، بجيش قوامه ثلاثون ألف جندى، وكان
احتمال سقوط العاصمة البيزنطية كبيرًا، بعد أن أحدثت القوات
العثمانية أضرارًا بالغة بسور المدينة، غير أن السلطان «مراد»
اضطر إلى رفع الحصار بعد أن جاءته أنباء حدوث فتنة فى
«الأناضول» وعقد الصلح مع «بيزنطة» مقابل أن تدفع جزية
كبيرة سنوية. ثم اتجه «مراد الثانى» إلى تأديب إمارات
«الأناضول» التى تمردت عليه أثناء انشغاله بمحاربة «بيزنطة»
فقضى بصورة نهائية على إمارات «منتشة» و «أيدين»،
و «تسكا» وقلَّص حدود إمارة «جاندار». وفى سنة (829 هـ =
1426م) اجتاز السلطان «مراد الثانى» على رأس جيشه «نهر
الدانوب» والتقى مع الجيش المجرى، وانتصر عليه، وعقد مع ملك
«المجر» معاهدة تنازل بمقتضاها عن أملاكه فى الضفة اليمنى
لنهر الدانوب، الذى أصبح فاصلا بين أملاك الدولة العثمانية
و «المجر»، ثم فتح «مراد» «سلانيك»، و «يانيا» ونجح فى إلغاء
إمارة «الصرب» تمامًا وأطلق عليها لواء «سمندرة» كما خضعت
«ألبانيا» للدولة العثمانية بعد حروب يسيرة، وعقدت «البندقية»
صلحًا معها. وفى عهد «مراد الثانى» توترت العلاقات بين
المماليك والعثمانيين بسبب إمارتى «قرامان» و «دلقادر» غير
أنه لم يهتم بهذا الأمر بسبب إعلان البابا «أوجينيوس الرابع»
سنة (843هـ=1439م) عن حملة صليبية ضد الدولة العثمانية بقيادة
القائد المجرى «هونيادى» الذى اتخذ من إخراج العثمانيين من
«البلقان» هدفًا لحياته. وقد تمكن هذا القائد المجرى من هزيمة
عدة جيوش عثمانية، مما اضطر السلطان إلى محاربته بنفسه، ثم(10/165)
عقد صلحًا مع «المجر» سنة (848هـ = 1444م)، أعيد بمقتضاه
تأسيس إمارة «الصرب» على أن تكون تابعة للدولة العثمانية،
ومنطقة عازلة بينها وبين «المجر». ولما شعر السلطان «مراد
الثانى» بالتعب تخلى عن عرشه لابنه «محمد الثانى» الذى عرف
فيما بعد بمحمد الفاتح، وكان عمره آنذاك (21) عامًا، فشكل
الأوربيون على الفور حملة عسكرية على الدولة العثمانية،
وشاركت فيها قوات من «المجر» و «قولونية» و «ألمانيا»،
و «فرنسا» و «البندقية» و «بيزنطة» و «بيرجوذريا» وكانت تلك
الحملة بقيادة «هونيادى»، واختير الملك المجرى «لاديسلاس»
قائدًا شرفيا للحملة، وقد نهبت هذه الحملة وهى فى طريقها كل
شىء، حتى الكنائس الأرثوذكسية لم تسلم من أيديهم. وإزاء
هذه التطورات اجتمع مجلس شورى السلطنة العثمانية، وطلب
عودة «مراد الثانى» إلى الحكم مرة أخرى، فعاد وبدأ فى
إعداد جيشه للقاء تلك الحملة الصليبية، فتحرك على رأس جيشه
الضخم الذى بلغ أربعين ألف جندى، والتقى مع تلك الحملة فى
«فارنا» وهى مدينة بلغارية تقع على شاطئ «البحر الأسود»،
ودارت بينهما معركة هائلة عرفت باسم «معركة فارنا» فى (28
من رجب 848 هـ = 10 من نوفمبر 1444م)، وفيها حقق
العثمانيون نصرًا غاليًا، وقتل الملك «لاديسلاس»، وهرب
«هونيادى» من المعركة، وبهذا النصر أيقن الأوربيون صعوبة
طرد العثمانيين من منطقة «البلقان». وقد فرح العالم الإسلامى
بهذا النصر فرحًا شديدًا حتى إن السلطان «جقمق» المملوكى أمر
أن يذكر اسم السلطان «مراد الثانى» مجاملة بعد اسم الخليفة
العباسى فى «القاهرة». لم تستسلم «أوربا» لهذه الهزيمة
فجهزت حملة صليبية أخرى ضمت نحو مائة ألف جندى بقيادة
«هونيادى» والتقت بالعثمانيين بقيادة السلطان «مراد الثانى»
فى صحراء «قوصوه» فى (18 من شعبان 852هـ=17 من أكتوبر
1448م)، وانتصر العثمانيون فى هذا اليوم انتصارًا عظيمًا.(10/166)
*بايزيد الثانى
هو أحد سلاطين الدولة العثمانية، تولى الحكم بعد أبيه محمد
الفاتح بعد نزاع بينه وبين أخيه «جم»، وكان الأخوان قد اختلفا
بعد وفاة والدهما فى (4 من ربيع الأول سنة 886هـ= 3 من مايو
سنة 1481م)، وانتهى الصراع بينهما لصالح «بايزيد»،وفر «جم»
إلى «القاهرة»، ثم إلى «فرنسا»، ثم إلى «إيطاليا»، وقد تكفل
أخوه «بايزيد» بالإنفاق عليه فى كل مكان ذهب إليه، وقد
حاول بابا روما استخدام الأمير «جم» أداة ضغط على الدولة
العثمانية، لكنه لم يعش طويلاً. عُرف «بايزيد» بلقب الولى أو
الصوفى، لأن حروبه ضد «أوربا» لم تكن فى مستوى من
سبقوه فى حكم الدولة العثمانية، لكن كانت له حملات على
«المجر» و «البغدان» و «بلجراد»، كما كانت له معارك فى
«الأناضول»، وصدام مع المماليك، لكن «يحيى الثالث» سلطان
«تونس» قام بالوساطة بين الدولتين. وقامت فى عهده أول حملة
عثمانية فى غربى «البحر المتوسط»، بهدف مساعدة المسلمين
فى «الأندلس»، ودخلت هذه الحملة المياه الإسبانية، واستولت
على ميناء «مالقة» الذى كان الإسبان قد استولوا عليه من
مسلمى «الأندلس» قبل أشهر. وبعد سقوط «غرناطة» فى أيدى
الإسبان سنة (897هـ= 1492م) انتشر نحو (300) ألف مسلم على
سواحل «إسبانيا»، وقد قامت السفن العثمانية بنقل هؤلاء إلى
«فاس» و «الجزائر»، وأنقذتهم من المصير المؤلم الذى تعرَّض له
المسلمون بالداخل، وظلَّت هذه الحملات تتتابع، وقاد أغلبها
«كمال رئيس» نحو (23) سنة حتى استشهد أثناء عودته من حملة
على «إسبانيا» سنة (917هـ= 1511م). عقد «بايزيد الثانى»
صلحًا مع «أوربا» لمدة عشرين سنة تقريبًا، وكان السبب فى
ذلك انشغال الدولة العثمانية بتحركات الشاه «إسماعيل
الصفوى»، الذى جعل «إيران» دولة شيعية، وكوَّن جيشًا قويا،
ووسع حدوده، وتفوق على المماليك عسكريا واقتصاديا، وعمل
على التوسع على حساب الدولة العثمانية، والتحالف مع «أوربا»(10/167)
ضد العثمانيين، وحاول التحالف مع «مصر» ضد الدولة العثمانية،
لكن المماليك فى «مصر» رفضوا ذلك. حدثت مناوشات بين الشاه
«إسماعيل الصفوى» وبين «سليم ابن السلطان بايزيد» والى
«طرابزون»، كان النصر فيها حليف «سليم بن بايزيد»، فأثار
ذلك حفيظة الشاه، فاشتكى إلى السلطان «بايزيد» من ابنه،
فأمر بإعادة الأراضى التى استولى عليها إلى الصفويين. وقد
أدَّى هذا التصرف إلى استياء «سليم بن بايزيد» من والده،
وشكه فى مقدرة والده على التصدى للدولة الصفوية، فقام
بانقلاب على والده، بمساعدة الجنود الإنكشارية، التى سارت
بالأمير «سليم» إلى «إستانبول»، وطلبوا من السلطان «بايزيد»
التنازل عن عرش السلطنة لابنه «سليم»، فقبل واستقال فى يوم
(8 من صفر سنة 918 هـ= 25 من أبريل سنة 1512م).(10/168)
*سليمان القانونى
تولى السلطان «سليمان القانونى» عرش الدولة العثمانية بعد
موت والده السلطان «سليم الأول» عام (926هـ= 1520م) وحكم
الدولة العثمانية مدة ست وأربعين سنة وهى أطول مدة حكم
فيها سلطان عثمانى. كان عهد «القانونى» قمة العهود
العثمانية سواء فى الحركة الجهادية أم فى الناحية المعمارية أو
العلمية أو الأدبية أو العسكرية، وكان هذا السلطان يؤثر فى
السياسة الأوربية تأثيرًا عظيمًا؛ حيث كانت الدولة العثمانية هى
القوة العظمى دوليا فى زمنه، ونعمت بالرخاء والطمأنينة. وفى
(صفر 974هـ= سبتمبر 1566م) اشتد المرض بالسلطان «سليمان»
وهو يحاصر مدينة «سيكتوار» المجرية، ثم تُوفى فى (20 من
صفر سنة 974هـ= 5 من سبتمبر سنة 1566م) بعد أن قضى فى
الحكم 46 عامًا قضاها فى توسيع دولته وإعلاء شأنها، حتى
بلغت فى أيامه أعلى درجات القوة والكمال، وفى وضع النظم
الداخلية للدولة حتى اشتهر بلقب «القانونى».(10/169)
*محمود الثانى
وُلد السلطان «محمود» سنة (1199هـ= 1784م)، وتقلد مقاليد
الخلافة العثمانية وهو فى الرابعة والعشرين من عمره، فقلّد
«مصطفى البيرقدار» منصب الصدارة العظمى، وطلب منه إصلاح
نظام «الإنكشارية» فاعترضوا عليه، ووقع الخلاف بينهم وبين
السلطان، وأرادوا إعادة الخليفة «مصطفى الرابع» المعزول،
لكنه قتل وهم يحاصرون الصدر الأعظم فى قصره الذى أحرقوه
وهو بداخله. وقد رأى السلطان «محمود» أن نجاح الإصلاح فى
دولته يجب أن يكون شاملاً لكل النظم العثمانية ومؤثرًا فى
المجتمع، ولا يقتصر على المجال العسكرى، ولذا يجب إزالة
النظم القديمة، حتى لا تعترض طريق الإصلاح، والتخطيط الدقيق
للإصلاح، وإيجاد الضمانات اللازمة التى تكفل نجاحه قبل القيام
به. وقد نجح السلطان «محمود» فى القضاء على فرقة
«الإنكشارية»، التى قامت بالتمرد وإثارة الجماهير ضد
الإجراءات المتصلة بإصلاح الجيش، وبخاصة فيما يتعلق بارتداء
القوات الجديدة للملابس الأوربية، لكن الشعب العثمانى وقف
ضدهم، فى الوقت الذى استعد فيه السلطان «محمود»
لمواجهتهم، مما مكنه من القضاء عليهم تمامًا، وأنشأ جيشًا قويا
يتولى إمرته قائد عام، كان قوامه (12000) جندى فى العاصمة،
وقوات أخرى فى الولايات. وكما ارتبط التعليم لدى «محمد
على» بالجيش ارتبط بالجيش أيضًا عند «محمود الثانى»، الذى
حاول الاقتداء بواليه الناجح، فأرسل البعثات إلى «أوربا»
لتلقى العلوم العسكرية خاصة، وأنشأ المدارس الحديثة، وعنى
بتعليم اللغتين العربية والفرنسية والجغرافيا، والتاريخ
والرياضيات والعلوم. وحاول السلطان إصلاح أجهزة الدولة
المركزية، فوضع الأوقاف تحت إشرافه، وألغى «التيمارات»،
وضمها إلى أملاك السلطان، وأجرى أول إحصاء للأراضى
العثمانية فى العصر الحديث، وأجرى تحسينات على شبكة
المواصلات، فأنشأ كثيرًا من الطرق الجديدة، وأدخل البرق،
وخطوط السكك الحديدية، كما أنشأ جريدة رسمية للدولة. وبعد(10/170)
وفاة السلطان «محمود» سنة 1255هـ =1839م تولى ابنه «عبد
المجيد» الخلافة وعمره دون الثامنة عشرة.(10/171)
*عبد العزيز بن محمود الثانى
ولد فى (14 من شعبان 1245هـ= 9 من فبراير 1830م)، وتولى
الخلافة بعد وفاة أخيه «عبد المجيد بن السلطان محمود» فى
(17 من ذى الحجة 1277هـ= 6 من يونيو 1861م)، وبعد وفاة
«غالى باشا» و «فؤاد باشا» اللذين توليا منصب الصدر الأعظم
وضيقا على السلطان، مارس السلطان «عبد العزيز» حكمه
الشخصى، فاشتد سخط العثمانيين على ممارسات السلطان
الاستبدادية، وتدخُّل السلطانة «الوالدة باشا» فى شئون الحكم،
وازداد القلق بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية، وإعلان إفلاس
الحكومة العثمانية فى أواخر سنة (1292هـ= 1875م)، وهو
الإفلاس الذى عُزى إلى إسراف «عبد العزيز» وخراب ذمته هو
وحاشيته. وأما المحافظون فقد أرجعوا متاعب الدولة إلى
«التنظيمات» العلمانية، ونفوذ الأجانب، وتدخلهم فى شئون
البلاد، مما أدَّى إلى انتعاش إسلامى، كان من نتيجته التضييق
على المدارس الأجنبية وأعمال المبشرين، وطرد المعلمين
والخبراء الأجانب، كما اشتدت المطالبة بإلغاء الامتيازات
الأجنبية، والوضع الذى كان يتمتع به الأجانب. وساءت أحوال
الدولة الاقتصادية فى أواخر عهد السلطان «عبد العزيز»، بحيث
توقف صرف مرتبات الموظفين - بما فى ذلك العسكريون - لعدة
شهور، ولم يؤدِّ فرض ضرائب جديدة إلى معالجة الأوضاع
المتردية، لهذا سعى «مدحت باشا» إلى تحسين أوضاع الحكومة
بخلع «عبد العزيز» خاصة، ولأنه كان مؤمنًا بأن ولى العهد الأمير
«مراد الخامس» أميل إلى إعلان الدستور. وفى (6 من جمادى
الأولى سنة1293هـ= 30 من مايو سنة 1876م) قامت مجموعة
صغيرة من كبار موظفى الحكومة يرأسهم «مدحت باشا» بانقلاب
ضد الخليفة، عززته فتوى شيخ الإسلام، وولى الثائرون السلطان
«مراد الخامس» الذى كان قد اتصل بشباب العثمانيين عدة
سنوات.(10/172)
*أيوب بن حبيب البلخى
أحد ولاة الأندلس، تولى الحكم فى (رجب 97هـ = فبراير
716م)،وهو ابن أخت «موسى بن نصير»، ومن العرب الذين
اشتركوا فى فتح هذه البلاد، ثم استقروا بها، ورأوا أنهم أولى
من غيرهم بحكم الأندلس، ولم تزد ولاية «أيوب» على ستة أشهر
لم يفعل فيها شيئًا يذكر سوى نقله العاصمة من «إشبيلية» إلى
«قرطبة» لأن موقعها أوسط وأقرب إلى منازل جماعات العرب
فى الشرق، والجنوب، والجنوب الشرقى.(10/173)
*الحر بن عبدالرحمن الثقفى
أحد ولاة الأندلس، تولى الحكم فى (ذى الحجة98هـ = يوليو
717م)، ودام حكمه سنتين وثمانية أشهر، استطاع خلالها أن
يقمع المنازعات التى كانت بين العرب والبربر، ويصلح الجيش،
وينظم الإدارة، ويوطد الأمن. وينسب إلى «الحر» إقامته دار
الإمارة فى «قرطبة» فى مواجهة «قنطرة الوادى»، وكانت من
قبل مقرا للحاكم القوطى، فاعتنى بها «الحر» وسمى القصر
والأرض الواسعة أمامه على ضفة النهر «بلاط الحر». وبعد أن
تولى «عمر بن عبدالعزيز» الخلافة عزل «الحر» عن ولاية
الأندلس، لاضطراب النظام فى آخر عهده.(10/174)
*السمح بن مالك الخولانى
أحد ولاة الأندلس، تولى الحكم فى سنة (100هـ = 719م)، ويعد
من خيرة ولاة «الأندلس»، فضلا وصلاحًا وكفاءة وقدرة؛ حيث
نظم شئون البلاد، وأعاد بناء القنطرة التى كانت مقامة على
الوادى الكبير، وكانت قد تهدَّمت ولم يعد الناس يستطيعون
العبور إلا فى السفن، وكان العرب فى أمسِّ الحاجة إلى قنطرة
متينة يستطيعون العبور إليها من الجنوب إلى عاصمتهم الجديدة،
كما أعاد الأمن والاستقرار إلى البلاد لحسن سياسته، وحمله
الناس على طريق الحق، ورفقه بهم. ولم يكن «السمح بن مالك»
كفءا من الناحية الإدارية فحسب، بل كان أيضًا قائدًا عسكريا
ممتازًا قام بحملة شاملة، اخترقت «جبال البرت» من الشرق،
وسيطر على عدد من القواعد هناك، واستولى على «سبتمانيا»
وأقام حكومة إسلامية بها فى هذا الوقت المبكر، واتخذ من
«أربونة» قاعدة للجهاد وراء «البرت»، وقد استشهد فى
معركة مع النصارى عند «تولوز» فى يوم عرفة من سنة (102هـ
= 721م)، فتولى القيادة «عبدالرحمن بن عبدالله الغافقى»،
وأقر واليًا للأندلس حتى يأتى الحاكم الجديد.(10/175)
*عبدالرحمن الغافقى
أحد ولاة الأندلس، تولى الحكم مرتين الأولى كانت سنة 102هـ
=721م ولم تدم طويلاً، أما الثانية فبدأت فى (صفر 112هـ =
مارس / إبريل 730م) وكان «الغافقى» من كبار رجالات الأندلس
عدلاً وصلاحًا، وقدرة وكفاءة، نظَّم شئون البلاد، وأصلح نظم
الحكم والإدارة، وعين أصحاب الكفاءات فى المناصب المختلفة،
وقمع الظلم، ورد إلى النصارى كنائسهم وأملاكهم، وفرض
ضرائب عادلة وعنى بتنظيم الجيش وإصلاحه، وأنشأ فرقًا من
العرب والبربر، وحصن القواعد والثغور الإسلامية، وجمع أعظم
جيش سيره المسلمون إلى فرنسا. وقد استشهد عبد الرحمن
الغافقى فى موقعة بلاط الشهداء سنة 114هـ = 732م(10/176)
*عبدالملك بن قطن الفهرى
أحد ولاة الأندلس، ولى حكم الأندلس بعد استشهاد «عبد الرحمن
الغافقى» فى موقعة بلاط الشهداء، فعبر إلى الأندلس فى جيش
من جند إفريقية فى أواخر سنة (114هـ = 732م) وسار إلى
«أراجون» وهزم الثائرين فى عدة مواقع، ثم عبر جبال البرت
إلى بلاد «البشكنس» سنة (115هـ = 733م)، وكانت أشد
المقاطعات الجبلية مراسًا وأكثرها انتفاضًا وثورة، فشتت جندها
وألجأهم إلى طلب الصلح، ثم اضطر بعد ذلك إلى أن يرتد إلى
الجنوب دون أن يتوغل كثيرًا فى أرض العدو، لقلة ما معه من
الجند، ثم سخط عليه الزعماء، ودب خلاف بين القبائل، وأدى
ذلك إلى عزله. ثم أقامى عرب الأندلس «عبد الملك بن قطن» واليًا
عليهم للمرة الثانية سنة 121هـ، فكان عهده بداية عهد من الفتن
والاضطرابات والحروب الأهلية؛ إذ اشتعلت ثورة البربر بسبب
تعصب العرب لبنى جنسهم وتعاليهم على غيرهم، وكان معظم
هؤلاء من «القيسية» الذين يرون أن الدولة الأموية دولتهم، على
حين كان العرب البلدانيون ومعظمهم من «اليمنية» بعيدين عن
هذه النزعة وظل الأمر على هذا النحو حتى عزل عبد الملك فى
(سنة 124هـ = 742م).(10/177)
*عقبة بن الحجاج السلولى
أحد ولاة الأندلس، تولى الحكم سنة (116هـ = 734م) بعد
«عبدالملك بن قطن» وكان رجلاً عظيمًا مثل «عبد الرحمن
الغافقى»، فنشر العدل ورد المظالم، وأنشأ المساجد ودور العلم
ونظم الجيش، وتوغل فى أراضى «جليقية» شمالى الأندلس،
واهتم بتحصين جميع المواقع الإسلامية، ومنح عناية خاصة لثغر
«أربونة» واتخذه قاعدة للجهاد، وأمد رجاله بالجند والذخيرة.
وكان يخرج للغزو كل عام على مدار خمس سنوات فى الجنوب
والشمال الشرقى من فرنسا، حتى أصبح نهر «الرون» رباط
المسلمين ومعقل فتوحاتهم بعد أن كان الفرنج قد استردوا
مافى أيدى المسلمين، وقد استشهد «عقبة» فى معركة مع
الأعداء سنة (121هـ = 739م)، فكان خاتمة الولاة المجاهدين
وراء البرت.(10/178)
* أبو الخطار الكلبى
أحد ولاة الأندلس، أرسله والى إفريقية فقدم إلى «الأندلس» فى
(رجب سنة 125هـ = مايو 743م)، وبدأ ولايته بتأمين العرب
البلدانيين والبربر على ممتلكاتهم ومصالحهم، وحال بين
الشاميين وبين إيذائهم، وعمل على القضاء على المنازعات
القبلية بين السكان، ورأى بعد نصيحة ذوى الرأى أن يفرق
الشاميين فى مناطق لايوجد فيها بلدانيون أو يمنيون، ويستقر
كل فريق منهم بناحية ويأخذ ثلث خراج الأرض مقابل أن يقدموا
عددًا معينًا من الجند، كلما طلبت السلطات منهم ذلك، كما تتبع
الزعماء الخارجين وسلك معهم سبيل الحزم، وكان عادلا؛ فَرضى
عنه الجميع. غير أن «أبا الخطار» مالبث أن تخلى عن تلك
السياسة الحكيمة، ومال إلى قومه من اليمنية وتنكر للمُضَرية،
فعادت المعارك بينه وبين خصومه من جديد، وقتل بعضهم بعضًا،
وانفضت عنه جنده، وعمت الفوضى البلاد إلى أن تولى الفهرى.(10/179)
*يوسف بن عبدالرحمن الفهرى
أحد ولاة الأندلس، تولى الحكم سنة (129هـ = 747م) دون
مصادقة من إفريقية أو من دمشق التى كانت قد بدأت فترة من
الضعف فلم تتمكن الخلافة من الإشراف على الولايات، واستقلت
الأندلس بشئونها. استقل «يوسف» بولاية الأندلس نحو عشرة
أعوام، واتفق مع «الصميل ابن حاتم» زعيم المضرية على أن
يتداولا السلطة فيما بينهما، لكن الأمور لم تستقر، وتجدد النزاع
بين المضرية واليمنية، ولم تستقر الأوضاع ليوسف إلا بعد مقتل
زعيم اليمنية سنة (130هـ = 748م). وقد حاول «يوسف» إصلاح
الدولة، فنظم شئونها المالية، وقسم البلاد إلى خمس ولايات
إدارية على نحو ماكانت عليه زمن القوط، كما عنى بتنظيم
الجيش وإصلاحه، والقضاء على خصومه، وشغلت الخلافة
بمشاكلها عن الأندلس. ثم ظهر فى شمال البلاد رجل يدعى
«عامر بن عمرو بن وهب العبدرى»، وبدأ يراسل الخليفة
العباسى «أبا جعفر المنصور»، وعين نفسه واليًا على الأندلس،
وأصبح الشمال فى قبضته، وخرج عن سلطان «يوسف» الذى
توجه إلى «سرقسطة»، وحاصرها بشدة سنة (137هـ = 754م)
حتى استسلم «عامر»، ثم اتجه «يوسف» بعد ذلك إلى «طليطلة».
وفى طليطلة جاء رسول من قرطبة بخبر مؤداه أن فتىً من بنى
أمية يدعى «عبدالرحمن بن معاوية» قد نزل فى ثغر المنكب
بالأندلس، واجتمع حوله أشياع بنى أمية فى كورة غرناطة،
وأن دعوته انتشرت بسرعة فى الجنوب، وقد ذاع هذا الخبر فى
جند يوسف فأحدث فزعًا واضطرابًا، وتفرق عنه جنده، فاضطر
هو و «الصميل» بالعودة بمن معهما متوجهين إلى قرطبة؛
لمواجهة هذا الخطر الداهم، وكان ذلك سنة (138هـ= 755م).(10/180)
*عبدالرحمن الداخل
هو «عبدالرحمن ابن معاوية بن هشام بن عبدالملك» تمكن من
الوصول إلى الأندلس، بعد أن عبر فلسطين ومصر وكان ذلك بعد
سقوط الدولة الأموية على يد العباسيين، ثم لحق به مولاه «بدر»
وهو رومى الأصل، ومولاه «سالم» ومعهما شىء من المال
والجواهر، ثم وصل «عبدالرحمن» إلى «برقة» والتجأ إلى
أخواله من «بنى نفزة» - من برابرة طرابلس - وأقام عندهم مدة،
ثم غادر إلى المغرب الأقصى، وتجول هناك، متغلبًا على ما
قابله من صعاب، وأقام حينًا عند شيوخ البدو، وحينًا عند بعض
رجال قبيلة زناتة، وكان أثناء ذلك يدرس أحوال الأندلس، ويرقب
الفرصة المناسبة للعبور إليها. وقد اتصل بمعونة مولاه «بدر»،
الذى كان قد نزل بساحل «لبيرة» فى كورة «غرناطة» موطن
أهل «الشام» بموالى خلفاء البيت الأموى والقرشيين عامة،
وبالكلبية اليمنية، خصوم الوالى يوسف الفهرى، ثم عبر
عبدالرحمن إلى الأندلس فى ربيع سنة (137هـ = 754م)، ونزل
بثغر «المنكبّ» لموقعه الممتاز، وقد التف الناس حوله بما فى
ذلك جماعات البربر، على أمل أن ينقذهم من الأوضاع المتردية.
تقدم عبدالرحمن نحو العاصمة «قرطبة»، وجمع «يوسف الفهرى»
و «الصميل» ما أمكنهما من قوات، والتقى الفريقان عند
«المصارة» أو «المسارة» بالطرف الغربى، وتمكن عبد الرحمن
من تحقيق انتصار حاسم، دخل على إثره قرطبة وصلى بالناس
الجمعة، وخطب الجند، وعُد ذلك اليوم ميلادًا للدولة الأموية فى
الأندلس، ولقب «عبدالرحمن بن معاوية» بعبدالرحمن الداخل، لأنه
أول من دخل الأندلس من بنى أمية حاكمًا. ولم يكن عمر
«عبدالرحمن الداخل» حين حقق هذا الإنجاز يتجاوز السادسة
والعشرين من عمره، لكنه كان رجل الموقف، شحذت همته
الخطوب والمحن، وأعدته لحياة النضال والمغامرة، فقضى بقية
عمره اثنين وثلاثين عامًا فى كفاح مستمر، لاينتهى من معركة
إلا ليخوض أخرى، ولايقمع ثورة إلا تلتها ثورة، ولم تبق بالأندلس(10/181)
ناحية أو مدينة إلا ثارت عليه، ولاقبيلة إلا نازعته فى الرياسة،
فكانت الأندلس طوال عهده بركانًا يشتعل بنيران الحرب والثورة
والمؤامرة، لكنه صمد لتلك الخطوب جميعًا، واستطاع بما أوتى
من حزم وحسن سياسة وبعد الهمة والجلد والإقدام أن يغالب تلك
الأخطار والقوى وأن يقبض على زمام الأمور بالأندلس بيده
القوية. تُوفِّى عبدالرحمن فى (10من جمادى الآخرة 172هـ = 16
من أكتوبر 788م) بعد حياة طويلة قضاها فى كفاح متواصل،
ومواجهة للصعاب والأهوال، وأقام ملكًا ودولة فوق بركان
يضطرم بالثورات والمؤامرة، وأثبت أنه بطل فريد من أبطال
التاريخ، لا يجود الزمان بمثله كثيرًا، فتى شريدًا بلا أنصار
وأعوان يفر من الموت الذى تعرضت له أسرته، لكنه يستغل
ظروف الأندلس فيقودها بكثير من الدهاء والحزم والعزيمة
والذكاء، ويقيم دولة على أسس إدارية وسياسية ومالية ثابتة.(10/182)
*هشام الأول
خلف «هشام» أباه «عبدالرحمن الداخل» سنة 172هـ = 788م
على حكم الأندلس، وكان أبوه قد اختاره لا لأنه أكبر أبنائه، بل
لما توسَّمه فيه من المزايا الخاصة، وقد أبدى «هشام» لينًا
وورعًا، وحسن سياسة، وبصرًا بالأمور، فجذب الناس إليه
بإقامته للحق وتحريه للعدل، ومعاقبته للولاة المقصرين. ولم
يعكر صفو أيام «هشام» إلا اشتعال بعض الثورات، منها: الثورة
التى قام بها أخواه «سليمان» و «عبدالملك»، وانتهت بالصلح
سنة (174هـ = 790م) على أن يقيما بعدوة المغرب، كما قاد
حملة على نصارى الشمال الذين أغاروا على البلاد، فنجح فى
القضاء عليهم سنة (175هـ = 791م) ثم تكررت حملاته عليهم،
حتى قضى على محاولاتهم التى استهدفت التوسع جنوبًا. وأهم
ما يتميز به عهد «هشام» ذيوع مذهب الإمام «مالك بن أنس»،
وحلوله محل مذهب الأوزاعى إمام أهل الشام الذى اتبعه
الأندلسيون، وكان الإمام مالك معاصرًا لهشام بن عبدالرحمن،
كثير الثناء عليه، وقد وفد بعض الأندلسيين إلى المشرق
وتتلمذوا على الإمام مالك، أمثال: الغازى بن قيس، وزياد بن
عبدالرحمن المعروف بشيطون، وغيرهما، فلما عادوا إلى الأندلس
رحَّب بهم هشام، وسمح لهم بتدريس مذهب «مالك»، وأخذ
القضاة يصدرون أحكامهم بناءً عليه، واتخذ منهم هشام كبار
قضاته ومستشاريه، وشيئًا فشيئًا أصبح المذهب المالكى هو
المذهب الرسمى للدولة. ويكاد يجمع المؤرخون على أن
«هشاماً» كان رقيقًا تقيا، صارمًا فى الحق، محبا للجهاد، أنفق
كثيرًا من الأموال فى فداء الأسرى، كما كان شغوفًا بالإصلاح
والتعمير، فأتم بناء مسجد قرطبة الجامع، وأنشأ مساجد
أخرى، وزين «قرطبة» بكثير من الحدائق والمبانى، وجدَّد
قنطرة قرطبة التى بناها «السمح بن مالك»، ونظَّم وسائل الرى،
وجلب إلى الأندلس الأشجار والبذور. وكان هشام يحب مجالس
العلم والأدب، وبخاصة مجالس الفقه والحديث، فقرَّب إليه الفقهاء(10/183)
والعلماء، وبوَّأهم أهم المناصب، خلافًا لما كان عليه زمن والده،
وقد ترتب على ذلك نتائج سياسية واجتماعية ظهرت فيما بعد.(10/184)
*هشام بن عبد الرحمن الداخل
خلف «هشام» أباه «عبدالرحمن الداخل» سنة 172هـ = 788م
على حكم الأندلس، وكان أبوه قد اختاره لا لأنه أكبر أبنائه، بل
لما توسَّمه فيه من المزايا الخاصة، وقد أبدى «هشام» لينًا
وورعًا، وحسن سياسة، وبصرًا بالأمور، فجذب الناس إليه
بإقامته للحق وتحريه للعدل، ومعاقبته للولاة المقصرين. ولم
يعكر صفو أيام «هشام» إلا اشتعال بعض الثورات، منها: الثورة
التى قام بها أخواه «سليمان» و «عبدالملك»، وانتهت بالصلح
سنة (174هـ = 790م) على أن يقيما بعدوة المغرب، كما قاد
حملة على نصارى الشمال الذين أغاروا على البلاد، فنجح فى
القضاء عليهم سنة (175هـ = 791م) ثم تكررت حملاته عليهم،
حتى قضى على محاولاتهم التى استهدفت التوسع جنوبًا. وأهم
ما يتميز به عهد «هشام» ذيوع مذهب الإمام «مالك بن أنس»،
وحلوله محل مذهب الأوزاعى إمام أهل الشام الذى اتبعه
الأندلسيون، وكان الإمام مالك معاصرًا لهشام بن عبدالرحمن،
كثير الثناء عليه، وقد وفد بعض الأندلسيين إلى المشرق
وتتلمذوا على الإمام مالك، أمثال: الغازى بن قيس، وزياد بن
عبدالرحمن المعروف بشيطون، وغيرهما، فلما عادوا إلى الأندلس
رحَّب بهم هشام، وسمح لهم بتدريس مذهب «مالك»، وأخذ
القضاة يصدرون أحكامهم بناءً عليه، واتخذ منهم هشام كبار
قضاته ومستشاريه، وشيئًا فشيئًا أصبح المذهب المالكى هو
المذهب الرسمى للدولة. ويكاد يجمع المؤرخون على أن
«هشاماً» كان رقيقًا تقيا، صارمًا فى الحق، محبا للجهاد، أنفق
كثيرًا من الأموال فى فداء الأسرى، كما كان شغوفًا بالإصلاح
والتعمير، فأتم بناء مسجد قرطبة الجامع، وأنشأ مساجد
أخرى، وزين «قرطبة» بكثير من الحدائق والمبانى، وجدَّد
قنطرة قرطبة التى بناها «السمح بن مالك»، ونظَّم وسائل الرى،
وجلب إلى الأندلس الأشجار والبذور. وكان هشام يحب مجالس
العلم والأدب، وبخاصة مجالس الفقه والحديث، فقرَّب إليه الفقهاء(10/185)
والعلماء، وبوَّأهم أهم المناصب، خلافًا لما كان عليه زمن والده،
وقد ترتب على ذلك نتائج سياسية واجتماعية ظهرت فيما بعد.(10/186)
* الحكم الأول بن هشام
أحد حكام الأندلس فى فترة الإمارة الأموية، تولى الحكم سنة
(180هـ = 796م) بعد أبيه هشام بن عبد الرحمن الداخل. بدأ عهده
بالجهاد ضد البشكنس (ثافارا)، لكنه اضطر إلى تركه لمواجهة
الثورات التى اشتعلت ضده فى الثغر الأعلى سنة (181هـ =
797م)، وكان عمَّاه «سليمان» و «عبدالله» قد أتيا إليها سرا
واتصلا بملك الفرنج وطلبا مساعدتهما، ولما علم «الحكم» سار
بجيوشه إلى الشمال، فاضطر الفرنج إلى الانسحاب، فأحكم
سيطرته على هذه المناطق، وفى هذه الآونة حاول عمَّاه
الإغارة على قرطبة، فعاد الحكم وهزمهما، وقتل «سليمان»،
على حين فرَّ «عبد الله» إلى «بلنسية» والتزم الهدوء طوال فترة
الحكم. ولم يكن الحكم الربضى كأبيه محبا للعلماء والفقهاء،
فتراجعت مكانتهم فى زمنه وآثر عليهم حضور مجالس الإماء
والشعراء، وانصرف إلى حياة اللهو والصيد. ويُعدُّ الحكم أول من
أظهر هيبة الملك بالأندلس وفخامته، ورتَّب للبلاط نظمه ورسومه،
واستكثر من الموالى، فظهر «الصقالبة» بكثرة فى بلاطه،
وأسند إليهم معظم شئون الحكم والحرس الخاص، ووصل بهم إلى
مراتب القيادة والرياسة، كما كانت له شرطة قوية وعيون على
الناس. وضمَّت حكومته شخصيات بارزة فى تاريخ الأندلس، منهم:
«ابن مغيث» الذى تولَّى حجابته، واستحدث منصبًا يهتم بشئون
أهل الذمة، سمَّى شاغله بالقومس أو «القمط». وعلى الرغم من
اشتعال الفتن والثورات فى عهد الحكم، فقد ازدهرت العلوم
والآداب ونبغ عدد كبير من الكتاب والشعراء والعلماء، منهم
«عباس بن ناصح الثقفى»، وابنه «عبدالوهاب»، و «أبو القاسم
عباس بن فرناس»، و «يحيى الغزال». فى أواخر عهد الحكم
اشتعلت فى «قرطبة» ثورة عنيفة سميت ثورة الربض، بسبب
كراهية «المولِّدين» للحاكم، وبغضهم له لصرامته وقسوته،
واتهامهم له بممارسة اللهو والشراب، والمبالغة فى فرض
الضرائب، وعلى الرغم من نجاح «الحكم» فى القضاء على هذه(10/187)
الحركة الثائرة، فإن أهل «قرطبة» تضاعفت كراهيتهم له، وزاد
من نفورهم منه ما فرض عليهم من ضرائب. مرض الحكم بعد ذلك،
وأخذ البيعة لولى عهده فى حياته، وأبدى أسفه لما وقع منه
لأهل الربض، ثم مات فى (26 من ذى الحجة 206هـ = 22 من مايو
822م) بعد أن لُقِّب بالربضى، نسبة إلى ماقام به من أعمال
شنيعة فى منطقة الربض الجنوبى.(10/188)
*عبدالرحمن الأوسط
أحد حكام الأندلس فى فترة الإمارة الأموية، تولى الحكم فى (27
من ذى الحجة 206هـ = 822م) بعهد من أبيه الحكم بن هشام
الربضى؛ وسمى عبد الرحمن الثانى لأنه حكم بعد جده عبد
الرحمن الداخل. وكان «عبدالرحمن» منذ صغره شغوفًا بدراسة
الأدب والحديث والفقه، ذا عقل مستنير، خبيرًا بشئون الحرب
والسياسة، هادئ الطباع، حسن العشرة، متقربًا إلى الناس،
حازمًا فى أمره، ولهذا كان مؤهلاً لإزالة ما خلفته إمارة أبيه
الحكم من آثار سيئة. وقد واجه «عبدالرحمن» فى أول ولايته
سنة (207هـ = 823م) ثورة فى «بلنسية» دامت عدة سنوات، ولم
تنته إلا فى سنة (213هـ = 828م) حيث نجح فى القضاء عليها
وإخماد فتنتها، كما واجه ثورة فى قرطبة نجح فى القضاء
عليها أيضًا. استأنف «عبدالرحمن الثانى» برنامجه فى الجهاد
مبكرًا، فأرسل فى سنة (208هـ = 823م) حملة عسكرية بقيادة
«عبدالكريم بن عبدالواحد بن مغيث» إلى «ألبة والقلاع» بعد أن
أغار ملك جليقية (ليون) على مدينة سالم فى الثغر الأعلى، وقد
نجحت الحملة فى إلحاق الهزيمة بالنصارى فى عدة مواقع،
وخربت مدينة «ليون» وأحرقت حصونها، وأطلقت سراح
المسلمين، وألزمت القوات المعتدية بدفع جزية كبيرة وعادت
الحملة بقيادة «عبدالكريم» إلى قرطبة مثقلة بالغنائم، وكانت
تلك آخر غزوات هذا القائد المظفر الذى استمر يدافع عن الأندلس
فى ميادين القتال أكثر من ثلاثين سنة؛ حيث توفى فى سنة
(209هـ = 824م) ثم تعرَّضت البلاد لعدد من الثورات والفتن
والقلاقل فى «طليطلة» و «ماردة» دامت سنوات طوال،
واستنفدت كثيرًا من الجهد والمال وإراقة الدماء حتى تمكن
«عبدالرحمن» من القضاء عليها. عاود «عبدالرحمن» نشاط
الجهاد، فبدأ يرسل الصوائف كل عام إلى الشمال تارة إلى
أطراف الثغر الأعلى لتشتبك مع الفرنجة، وتارة إلى «ألبة
والقلاع» حيث تغير على بلاب البشكنس وأطراف مملكة جليقية(10/189)
(ليون)، وكان أحيانا يقود تلك الصوائف، مثلما فعل سنة (228هـ
= 843م) حيث سار بجيشه إلى الشمال، وزحف على بلاد
البشكنس، وألحق بملكها الهزيمة، واضطر إلى طلب الأمان، وعاد
عبدالرحمن إلى قرطبة بعد أن وطد نفوذه هناك، وفرض هيبته
وقوته على البشكنس، حتى لايتجرءوا على مهاجمة أراضى
المسلمين مرة أخرى. وقد حرص «عبدالرحمن» على موالاة
إرسال الصوائف فى كل عام إلى الحدود الشمالية مما يلى
«طليطلة» شمالا، لأن الصراع هناك كان شديدًا، ولأن أهل طليطلة
كانوا يستنجدون بالإمارات النصرانية فى منازعاتهم مع الإمارة
الأندلسية، ويستنجدون أيضًا بنصارى الشمال وبخاصة ملوك
ليون. ظهرت آثار الرخاء وترف الحضارة فى عهد عبدالرحمن
فيما بناه الناس من قصور جميلة، تم تزيينها بالأثاث الفاخر
والفرش الوثيرة، والجوارى الحسان اللاتى جلبن من المشرق،
وانتشرت فى قرطبة البيوت المحاطة بالحدائق المزدانة بالأشجار
وأطلقوا عليها اسم «المنى»، وتوسَّع بعض الأغنياء فى الحدائق
المحيطة بهذه المنازل حتى أصبحت رياضًا، أطلق عليها اسم
«الجور»، وفى كل منها مكان معد لغناء المغنيات. وامتاز عهد
عبدالرحمن بالأمن والسكينة. وازدهار الصناعة والزراعة
والتجارة، وازدياد موارد الدولة التى بلغت نحو مليون دينار
سنويا مكنت الأمير من الإنفاق على الحملات العسكرية وإقامة
المنشآت العامة، كما أشرفت الحكومة المركزية على أعمال
الحكام من خلال ديوان المظالم المختص بالنظر فى شكاوى الناس
من تصرفات بعض رجال الحكومة. ونالت إقامة المبانى
والمنشآت قسطًا عظيمًا من عناية «عبدالرحمن الأوسط»، فبنى
مسجد إشبيلية الجامع، وزاد فى المسجد الجامع بقرطبة قدر
بهوين كبيرين من ناحية القبلة، ونقل المحراب إلى الجزء الجديد،
وأقام أعمدة أخرى، وأقواسًا فوق الأعمدة الأصلية، فكانت
الأقواس المزدوجة التى يعدها المعماريون من روائع العمارة
الإسلامية، وكان صحن المسجد مكشوفًا يدور حوله سور، وتزرع(10/190)
فيه أشجار النارنج، ولهذا سُمِّى بهو النارنج، وهو الآن صحن
الكنيسة. ولايزال مسجد قرطبة الجامع باقيًا حتى اليوم بكل
عقوده الإسلامية وأروقته ومحاريبه، وقد تحوَّل إلى كاتدرائية
فى القرن السادس عشر الميلادى، وأقام المسيحيون هياكلهم
فى عقوده الجانبية، وبنوا مصلى على شكل صليب فى وسطه،
وأزالوا كثيرًا من قباب المسجد وزخارفه الإسلامية، وجعلوا
مكانها زخارف نصرانية، وعلى الرغم من ذلك فإن آيات القرآن
الكريم، والنقوش الإسلامية لاتزال تزين محاريبه الفخمة وأبوابه.
توفى «عبدالرحمن» فى (3 من ربيع الآخر 238هـ = 23 من
سبتمبر 852م) عن عمر يناهز (62) سنة، بعد أن حكم البلاد أكثر
من إحدى وثلاثين سنة، عدت من أزهى سنوات الحكم الإسلامى
فى الأندلس، فقد عاش الناس فى رخاء وعم الهدوء والاستقرار
البلاد، وقام الحكم على أسس من العدالة والنظام.(10/191)
*محمد بن عبدالرحمن الأوسط
أحد حكام الأندلس فى فترة الإمارة الأموية، تولى الحكم فى
(4من ربيع الآخر 238هـ = 24 من سبتمبر 852م)، وقدر له أن
يقضى فترة حكمه فى إخماد الثورات ومواجهة أعداء دولته من
النصارى ومحاولة قمع ثورة عمر بن حفصون. عُنى الأمير محمد
بالجيش بسبب الظروف التى عاشتها الإمارة فى زمنه، وكان
حريصًا على فرض أعداد من الفرسان على كل ناحية أندلسية
تحشد دائمًا للصوائف، وهؤلاء كانوا يسمون «الفرسان
المستقرين» يضاف إليهم حشود المستنفرة والمتطوعة، مما يدل
على ضخامة الجيش الذى كانت الإمارة تستطيع تعبئته. كما عنى
بالأسطول لحماية الشواطئ الغربية من ناحية، وغزو مملكة
«جليقية» من ناحية أخرى، واهتم بتحصين أطراف الثغور، وأقام
قلاعًا منيعة؛ لحماية مدينة «سالم» و «طليطلة»، وبنى حصونًا
فى «طلمنكة» و «مجريط» بمنطقة وادى الحجارة. أما من ناحية
سياسته الخارجية فقد جمعته مع أمراء المغرب المعاصرين علاقة
صداقة متينة خاصة «بنى رستم» فى «تيهرت» و «بنى مدرار»
فى «سجلماسة»، وكان يشاورهم فى أموره ويهتم بأخبارهم
ويستنصحهم، وتتردد الكتب والرسل بينه وبين هذه الدول بهدف
متابعة أخبار «بنى العباس» وأعمالهم فى إفريقية وبلاد الشام.
كذلك قامت علاقة صداقة بين الأمير «محمد» وملك «فرنسا»
وتبادلا الرسائل والهدايا. أما من الناحية المالية فقد خفَّف
الضرائب على المواطنين رغم حاجته إلى المال للإنفاق على
الجهاد والقضاء على الثورات المستمرة، وكان يكتفى من أهل
«قرطبة» بجهادهم ولايكلفهم أعباء مالية، وكان الأمير «محمد»
بارعًا فى مراجعة الحسابات وموازنة الدخل والخرج، وقد
ساعده هذا الضبط للأمور المالية على مواجهة بعض المحن
الطبيعية التى تعرضت لها الإمارة فى زمنه. وعلى الرغم من أن
أحداث فترة حكم الأمير «محمد» لم تتح له فرصة كبيرة للقيام
بأعمال إنشائية، فإنه أولى للمسجد الجامع فى قرطبة اهتمامًا(10/192)
كبيرًا، فأتم الزيادة التى بدأها أبوه فى وسط الجامع وأقام
فيه المقصورة، وكان أول من اتخذها، وأصلح القسم القديم
الذى بناه جده «الداخل» وجدده، كما أصلح جوامع «استجة»
و «شذونة» وغيرها .. وأضاف زيادات لقصر الإمارة، وجدد «منية
الرصافة» واستجلب لها الأشجار النادرة واتخذها متنزهًا، وأنشأ
منية خاصة جنوب غربى قرطبة أسماها «منية كنتش» جعلها
متنزهًا له كذلك. وتوفى الأمير محمد سنة 273هـ = 886م(10/193)
*المنذر بن محمد
أحد حكام الأندلس فى فترة الإمارة الأموية، تولى الحكم فى
(273هـ = 886م) خلفاً لأبيه محمد بن عبد الرحمن الأوسط، وكان
«المنذر» ولى عهده ومحل ثقته، وفارسًا شجاعًا، وقائدًا متميزًا
اعتمد عليه أبوه كثيرًا فى مواجهة المشاكل ومحاربة العصاة
وقيادة الحملات. وفى أول ولاية «المنذر» عادت «طليطلة» إلى
الثورة كعادتها، وانضم إلى أهلها كثير من البربر، فأرسل
الأمير حملة قضت على الثورة وقتلت الألوف، وفى العام نفسه
قام حاكم الثغر الأعلى بغزو «ألبة والقلاع» ودخل فى حرب ضد
النصارى وهزمهم، لكن أعظم ماكان يشغل «المنذر» هو القضاء
على «ابن حفصون»، بعد أن استفحل خطره وانتشر سلطانه فى
نواحٍ كثيرة وانضم إليه المغامرون والثائرون والعصاة فى كل
الأندلس. وكان «ابن حفصون» صاحب دعوة سياسية تبغض العرب
والبربر معًا، وعنده نزعة إلى الاستقلال والتحرر؛ لأن العرب
حملوا الناس فوق طاقتهم وزادوهم رهقًا وهو إنما قام ليثأر لهم،
وقد لقيت دعوته استجابة لدى سكان المناطق الجبلية خاصة،
وكان الرجل متواضعًا يكرم الشجعان، فساعد ذلك على التفافهم
حوله. وقد أرسل «المنذر» بعض قواته، فاستردت قسمًا من
الحصون التى كان «ابن حفصون» قد سيطر عليها، وفى ربيع
(274هـ = 887م) خرج «المنذر» بنفسه مصممًا على القضاء على
«ابن حفصون» واجتثاث ثورته من جذورها، وقد نجح فى فتح
بعض الحصون، وأسر بعض أعوان ذلك الثائر، وبعث بهم إلى
قرطبة حيث صلبوا، بينما بقى «ابن حفصون» ممتنعًا بجبال
«بيشتر». ولما شدد «المنذر» حصاره وقطع كل علاقات «ابن
حفصون» بالخارج، لجأ «ابن حفصون» إلى الحيلة والخديعة
وطلب الصلح على أن يسير ومعه أهله وولده إلى «قرطبة»
فوافق الأمير وبعث إليه فى قلاعه بكل ما طلبه من الأدوات
ووسائل النقل، وتم رفع الحصار، وعاد الأمير بجيشه إلى
قرطبة. ولما لم يكن «ابن حفصون» وفيا؛ فقد هرب فى جنح(10/194)
الظلام وامتنع مرة أخرى بجبال «بيشتر» مستفيدًا بما حصل عليه
من زادٍ وأقوات وإمدادات، فاشتد غضب الأمير ورجع لمحاصرته،
وأصر على عدم العودة إلى «قرطبة» إلا بعد القبض على «ابن
حفصون» حيا أو ميتًا، ودام الحصار ثلاثة وأربعين يومًا بعدها
مرض «المنذر»، وطلب من أخيه «عبدالله» أن يحضر؛ لينوب عنه
فى متابعة الحصار، ثم مات تحت أسوار «بيشتر» بعد حكم لم
يستمر أكثر من عامين وكان موته فى (صفر 275هـ = يونيو
888م)، وتم رفع الحصار، وعاد الجيش إلى «قرطبة»(10/195)
*عبدالله بن محمد
أحد حكام الأندلس فى فترة الإمارة الأموية، تولى الحكم فى
(275 هـ = 888م) وما كاد يتولَّى الحكم حتى قامت الثورات ضده
فى المناطق الجبلية، بل تجاوزت ذلك إلى المدن والقواعد
الكبرى، ولم تعد تقتصر على القادة من المولدين بل تجاوزتهم
إلى العرب أنفسهم، وبرز العنصر البربرى واعتصم كثير من
زعمائه فى الحصون النائية، وتنوعت المعارك وتعددت بين
العرب والمولدين وبين العرب والبربر، وبين العرب أنفسهم
بعضهم ضد بعض، وأعلن بعض زعماء العرب استقلالهم فى
«جيان» «البيرة» و «لورقة» و «مدينة سالم»، وغيرها. واستقل
زعماء البربر فى «الثغر الأعلى» و «بطليوس» و «مرسية» وبعض
مناطق «جيان» وغيرها، وأضحت «إشبيلية» مسرحًا لقتال مرير
بين العرب والبربر، ونشر «ابن حفصون» سلطانه فى أغلب
النواحى الجنوبية القريبة. ويجدر بالذكر أن سلطة الأمير
الأندلسى لم تنكمش كما انكمشت فى عهد الأمير «عبدالله»، فلم
تتجاوز سيطرته أحيانًا قرطبة وضواحيها وقضى خمسة
وعشرين عامًا هى مدة حكمه فى كفاح وصراع دائمين بهدف
حماية الدولة والحكم الأموى من الانهيار، وقد نجحت جهوده فى
تفرقة الثوار والسيطرة على بعض القواعد والحصون المهمة،
وفى استمالة بعض الزعماء من ذوى النفوذ، وكان ذلك معاونًا
للأمير عبدالرحمن الناصر فيما تحقق من نتائج فيما بعض. ومن
الطبيعى فى ظل هذه الفتن الدائمة ألا يتمكن الأمير «عبدالله»
من القيام بغارات ضد النصارى بسبب انشغاله بمحاربة الثائرين
والمتمردين، ولم يقم النصارى من جانبهم بأية محاولة ضد
الأراضى الإسلامية غير أن ملك ليون (جليقية) حاول إشعال الفتنة
بين المسلمين وتشجيع الثوار وعلى رأسهم «ابن حفصون» على
العمل ضد حكومة قرطبة. ومن الحوادث البارزة فى زمن الأمير
«عبدالله» فتح جزر «البليار» أو الجزائر الشرقية، ومن المعروف
أن «عبدالرحمن الأوسط» كان قد أرسل حملة إلى «ميورقة»(10/196)
فلما كانت سنة (290هـ = 903م) سارت إليها قوة بحرية من
المجاهدين يقودها «عصام الخولانى»، وقامت بمحاصرتها حتى
تم فتحها، وتولى القائد إمارتها، ومنذ ذلك الحين وهى جزء من
الدولة الإسلامية. وكان من الطبيعى أيضًا ألا يتسع عهد الأمير
«عبدالله» للأمور الإنشائية ولايذكر له فى هذا المجال إلا
«الساباط» الموصل بين القصر والمسجد الجامع وهو ممر مسقوف
مبنى فوق عقد كبير يفضى من القصر إلى الجامع ويتصل به
قريبًا من المحراب. كان الأمير «عبدالله» عالمًا أديبًا شاعرًا
فصيحًا يتصف بالتواضع والجود والبر بالفقراء، حريصًا على رفع
الظلم والتخفيف من معاناة الشعب، وقد خصص يومًا من كل
أسبوع للفقراء، كما أقام بابًا حديديا أسماه «باب العدل» تقدم
عنده الشكاوى والتظلمات، وكان صارمًا عنيفًا مع الطغاة،
فشاع العدل فى زمنه، وقد آثر الاحتشام والتقشف فى حياته
الخاصة. وقد تولى الحجابة له «عبدالرحمن بن أمية بن شهيد»،
ثم «سعيد بن محمد بن السليم» ثم عزله ولم يولِّ أحدًا، واكتفى
بالوزراء والكتاب، وبرز من بينهم بدر الخصى الصقلبى. وقد
اعتمد - بالإضافة إلى العرب والبربر - على الموالى والفتيان،
وقدَّم الموالى الشاميين على البلدانيين كما فعل أبوه. وقد جرى
حادث مؤسف داخل الأسرة الأموية يتمثل فى قتل الأمير
«عبدالله» لولده «محمد» لاتهامه بالتواطؤ مع الثوار لكنه ندم
على ذلك، وتحول ندمه، إلى عطفٍ وبر بطفل للقتيل لم يكن قد
تجاوز عمره أسابيع ثلاثة عند مقتل أبيه فعنى بتربيته وتعليمه
وجعله موضع سره، وشاء الله أن يتولى هذا الطفل أمر الأندلس
بعد جده ويصبح أعظم حكامها على الإطلاق. وقد توفى الأمير
«عبدالله» فى (أول ربيع الأول سنة 300هـ = 912م).(10/197)
*عبد الرحمن الناصر
هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الملقب بالناصر، تولى حكم
الأندلس فى (ربيع الأول سنة 300هـ = أكتوبر 912م) بعد أن
بايعه الجميع بنفس راضية فى المجلس الكامل بقصر قرطبة مع
وجود كثير من أعمامه، لكن «عبدالرحمن» اكتسب محبة الناس
بحسن أخلاقه وتوسطه بين الأمراء وأهل الدولة وبين جده فنال
محبتهم وولاءهم، وكان عليه أن ينهض بمهمة ثقيلة، فقد تعرضت
الإمارة للثورات من كل ناحية حتى أصبحت لايحسد عليها
صاحبها، ولعل هذا أحد الأسباب التى جعلت أعمام «عبدالرحمن»
ينصرفون عن منافسته، لشعورهم بعظم المسئولية التى تنتظر
من يتولى الإمارة. وقد نجح عبد الرحمن الناصر فى القضاء على
ثورة عمر بن حفصون وتوحيد الأندلس التى تنازعتها الفتن
والثورات لفترات طويلة، كما نجح فى غزو إمارات النصارى فى
الشمال وتأمين البلاد من أخطارهم. عندما تولى الناصر، وجد أن
هناك دولة فاطمية قامت فى بلاد الشمال الإفريقى، ووصل
نفوذها إلى شواطئ المغرب الأقصى، وقد اتخذ حكامها
لأنفسهم لقب الخلافة وسماتها، وإذا كان هو قد نهض بالدولة
ووطد سلطان بنى أمية فى كل الأندلس فلماذا لايكون من حقه
لقب خليفة؟ لذلك أصدر أمرًا بذلك فى يوم الجمعة مستهل (ذى
الحجة سنة 316هـ = أوائل 929م) وأصبح عبدالرحمن الثالث يلقب
بالخليفة أمير المؤمنين الناصر لدين الله، وقد أرسلت نسخ من
هذا الإعلان إلى إفريقية والمغرب، وبذلك أصبحت الخلافة الأموية
مساوية للخلافة العباسية، ويناط بها رعاية شئون المسلمين،
وتولية أمر الإسلام فى الجناح الغربى من العالم الإسلامى. ورغم
ميل الناصر إلى الاستبداد فإنه لم يعرف عنه أنه كان ظالمًا، ولم
تذكر المصادر أنه قتل وزيرًا أو صادر مالا أو اعتدى على حق
لأحد أو بالغ فى عقوبة، وربما كان الوحيد بين خلفاء المسلمين
بالأندلس فيما يتعلق بتصرفاته فى الخلافة وسلوكه بما يتفق مع(10/198)
مكارم الأخلاق ومبادئ الإسلام، وبهذه الأخلاق والوفاء استطاع
الناصر بعد عشر سنوات من حكمه أن يعيد النظام والهدوء
والوحدة والأمان إلى دولته الواسعة، كما منح أمانات لبيوتات
الثغر الأعلى من أمثال: بنى هاشم وبنى قسى وبنى الطويل
واستفاد بهم وبما تميزوا به من شجاعة فى حروبه، ونجح فى
تحويل ملوك إسبانيا النصرانية إلى أتباع له أو حلفاء. ويذكر
للناصر أنه بنى مدينة الزهراء التى بدأ العمل بها فى أول
المحرم سنة 325هـ = نوفمبر 936م، وتولى الإشراف على بنائها
«الحكم» ولى العهد، وحشد لها أشهر المهندسين والصناع
والفنانين من سائر الأنحاء ولاسيما القسطنطينية وبغداد، وجلب
لها الرخام بألوانه من «المرية» و «رية»، ومن قرطاجنة إفريقية
وتونس والشام، وجلب لها (4324) سارية من الرخام واشتغل فى
بنائها يوميا عشرة آلاف رجل، و (1500) دابة، واستخدمت من
الصخر المنحوت ستة آلاف صخرة فى اليوم، وقدرت النفقة على
بنائها ب 300 ألف دينار سنويا بخلاف ما أنفق فى عهد الحكم،
كما أمر الناصر بإضافة زيادة ثالثة إلى المسجد الجامع فى
قرطبة سنة (346 هـ = 957م)، وقد ضاعفت هذه الزيادة حجم
المسجد فى الاتجاه الجنوبى، وقد تم بناء الزيادة على طراز
بقية المسجد نفسه من حيث الأقواس ومواد البناء. وعُد محراب
هذه الزيادة فى المسجد آية من آيات الفن الأندلسى ذلك أنه ليس
محرابًا بل غرفة من الرخام سقفها قطعة واحدة منه فى هيئة
محراب، ووسط هذا المحراب كرسى يوضع عليه المصحف الشريف
يستخدمه القارئ فى تلاوة القرآن الكريم قبل الصلوات. وقد
اهتم الناصر بالجيش وجمع له الجند من أنحاء المغرب والأندلس،
واستكثر من الأسلحة، وأمده بمجموعة من أمهر القادة، وتولى
القيادة بنفسه أحيانًا. كما عنى بالأسطول واهتم بإصلاح
وحداته، وأنشأ به وحدات جديدة، وكانت «المرية» هى مركز
الأسطول الرئيسى وبها دار الصناعة، وقد ضم أسطول الناصر(10/199)
(200) سفينة بخلاف أسطول المغرب، وكان لأسطول الناصر
السيطرة على مياه إسبانيا الجنوبية الشرقية، كما كان ينازع
الفاطميين السيادة على غربى البحر الأبيض المتوسط، وعلى
الرغم من الحروب فإن عصرالناصر كان عصر رخاء زاد فيه الدخل
وازدهرت الزراعة والصناعة والتجارة وكثرت أخماس الغنائم.
وفى سنة (316هـ = 928م) أمر الناصر باتخاذ دار للسكة فى
قرطبة لضرب الدنانير والدراهم، وبذل جهده فى الاحتراس من
الغش والتدليس فأصبحت دنانيره ودراهمه عيارًا محضًا، وكان
ضرب النقد معطلا قبله. وبلغ الأمن ذروته فى سائر البلاد أيام
الناصر، وترك ذلك آثارًا طيبة على مصادر الدخل وازدهرت العلوم
والآداب ورخصت المعايش. وقد بلغت السفارات والمراسلات
والمعاهدات بين قرطبة وبين الدولة النصرانية أوجها فى عهد
الناصر، وكان بلاط القسطنطينية من الساعين إلى توثيق
الروابط مع حكومة الأندلس، ووفدت رسله تحمل هدايا للخليفة،
وأهم سفارة تلقاها الناصر هى سفارة إمبراطور ألمانيا زعيم
النصرانية سنة (344هـ= 955م). وقد توفى الناصر فى (الثانى من
رمضان سنة 350هـ = 15أكتوبر 961م) ودفن فى قرطبة، وتولى
بعده ابنه «الحكم المستنصر».(10/200)
*الحكم بن عبدالرحمن الناصر
أحد خلفاء الدولة الأموية بالأندلس، تولى الحكم فى 3رمضان
سنة 350هـ = 16أكتوبر سنة 961م خلفاً لأبيه عبد الرحمن الناصر
ولقب بالحكم المستنصر. استهل الحكم عهده بالأمر بتوسيع
المسجد الجامع بعد أن ضاق بالمصلين، فأدخلت عليه زيادة من
الناحية الشرقية من الجنوب إلى الشمال إلى أن بلغت الصحن
وتضاعف بذلك حجم الجامع، كما بنى الحكم محراب المسجد
الثالث واستغرق بناؤه لهذا الجزء أربعة أعوام، وعملت له قبة
زخرفت بالفسيفساء الذى جاء معظمه هدية من إمبراطور
بيزنطة، وأنشأ الحكم أيضًا قبة على الطراز البيزنطى ومقصورة
ودارًا للصدقة وأخرى للوعاظ وعمال المسجد، وأنشأ للمسجد
الجامع منبرًا جديدًا، وزود المسجد بالماء بطريقة هندسية وأنفق
على ذلك كثيرًا، وبهذا أكمل الحكم توسعة المسجد الجامع التى
بدأها أبوه ولم يتمها، وتعتبر هذه الزيادة تتويجًا لأعمال الناصر
وابنه المستنصر من الناحية الحضارية. يمتاز عصر الحكم بازدهار
العلوم والآداب فيه بصورة غير مسبوقة، وهو صاحب الفضل
الأكبر فى إنشاء المكتبة الأموية، أعظم مكتبات العصور
الوسطى. ويرجع ذلك لشخصية الحكم وشغفه الفائق بالعلم
لدرجة دفعته إلى استجلاب نفائس الكتب من كل بلد وفى كل
فن. وقد شهد التعليم فى عهد الحكم نهضة عظيمة، فانتشرت
بين أفراد الشعب معرفة القراءة والكتابة، بينما كان لايعرفها
أرفع الناس فى أوربا باستنثناء رجال الدين، وقد بَنَى الحكم
مدرسة لتعليم الفقراء مجانًا، كما أسس جامعة قرطبة أشهر
جامعات العالم آنئذ، وكان مركزها المسجد الجامع، وتدرس فى
حلقاتها كل العلوم ويختار لها أعظم الأساتذة. وقد احتلت حلقات
الدرس أكثر من نصف المسجد، وتم تحديد مرتبات للشيوخ
ليتفرغوا للدرس والتأليف، كما خصصت أموال للطلاب ومكافآت
ومعونات للمحتاجين، ووصل الأمر بنفر من الأساتذة إلى ما يشبه
منصب الأستاذية اليوم فى مجالات علوم القرآن الكريم والحديث(10/201)
النبوى الشريف والنحو، وعهد الحكم إلى أخيه المنذر بالإشراف
على جامعة قرطبة، كما عهد بمهمة الإشراف على المكتبة
الأموية إلى أخيه عبدالعزيز. وفى عهده أضحت الأندلس كعبة
تأتى إليها ملوك النصرانية وتلتمس ودها، بدأ ذلك عام (355هـ =
966م) واستمر بعده، وكان أول الوافدين أمير جليقيه وأمير
اشتورياس، ثم وفدت رسل ملك نبرة، وفى سنة (360هـ = 971م)
جاءت سفارة من أمير برشلونة تطلب تجديد الصداقة، ثم جاءت
عمة ملك ليون، وغير هؤلاء، كما تلقى الحكم رسائل من قيصر
بيزنطة، ومن امبراطور ألمانيا وغيرهما، كل ذلك جعل فندث
بيدال - العالم الإسبانى الكبير - يقول: «وصلت الخلافة الأندلسية
فى ذلك العصر إلى أوج روعتها وبسطت سيادتها السلمية على
سائر إسبانيا وكفلت بذلك السكينة العامة». وتوفى الحكم فى
(2 صفر 366هـ = 30سبتمبر 976م)، وبموته انتهى آخر العظماء
من بنى أمية فى الأندلس.(10/202)
*الحكم المستنصر
أحد خلفاء الدولة الأموية بالأندلس، تولى الحكم فى 3رمضان
سنة 350هـ = 16أكتوبر سنة 961م خلفاً لأبيه عبد الرحمن الناصر
ولقب بالحكم المستنصر. استهل الحكم عهده بالأمر بتوسيع
المسجد الجامع بعد أن ضاق بالمصلين، فأدخلت عليه زيادة من
الناحية الشرقية من الجنوب إلى الشمال إلى أن بلغت الصحن
وتضاعف بذلك حجم الجامع، كما بنى الحكم محراب المسجد
الثالث واستغرق بناؤه لهذا الجزء أربعة أعوام، وعملت له قبة
زخرفت بالفسيفساء الذى جاء معظمه هدية من إمبراطور
بيزنطة، وأنشأ الحكم أيضًا قبة على الطراز البيزنطى ومقصورة
ودارًا للصدقة وأخرى للوعاظ وعمال المسجد، وأنشأ للمسجد
الجامع منبرًا جديدًا، وزود المسجد بالماء بطريقة هندسية وأنفق
على ذلك كثيرًا، وبهذا أكمل الحكم توسعة المسجد الجامع التى
بدأها أبوه ولم يتمها، وتعتبر هذه الزيادة تتويجًا لأعمال الناصر
وابنه المستنصر من الناحية الحضارية. يمتاز عصر الحكم بازدهار
العلوم والآداب فيه بصورة غير مسبوقة، وهو صاحب الفضل
الأكبر فى إنشاء المكتبة الأموية، أعظم مكتبات العصور
الوسطى. ويرجع ذلك لشخصية الحكم وشغفه الفائق بالعلم
لدرجة دفعته إلى استجلاب نفائس الكتب من كل بلد وفى كل
فن. وقد شهد التعليم فى عهد الحكم نهضة عظيمة، فانتشرت
بين أفراد الشعب معرفة القراءة والكتابة، بينما كان لايعرفها
أرفع الناس فى أوربا باستنثناء رجال الدين، وقد بَنَى الحكم
مدرسة لتعليم الفقراء مجانًا، كما أسس جامعة قرطبة أشهر
جامعات العالم آنئذ، وكان مركزها المسجد الجامع، وتدرس فى
حلقاتها كل العلوم ويختار لها أعظم الأساتذة. وقد احتلت حلقات
الدرس أكثر من نصف المسجد، وتم تحديد مرتبات للشيوخ
ليتفرغوا للدرس والتأليف، كما خصصت أموال للطلاب ومكافآت
ومعونات للمحتاجين، ووصل الأمر بنفر من الأساتذة إلى ما يشبه
منصب الأستاذية اليوم فى مجالات علوم القرآن الكريم والحديث(10/203)
النبوى الشريف والنحو، وعهد الحكم إلى أخيه المنذر بالإشراف
على جامعة قرطبة، كما عهد بمهمة الإشراف على المكتبة
الأموية إلى أخيه عبدالعزيز. وفى عهده أضحت الأندلس كعبة
تأتى إليها ملوك النصرانية وتلتمس ودها، بدأ ذلك عام (355هـ =
966م) واستمر بعده، وكان أول الوافدين أمير جليقيه وأمير
اشتورياس، ثم وفدت رسل ملك نبرة، وفى سنة (360هـ = 971م)
جاءت سفارة من أمير برشلونة تطلب تجديد الصداقة، ثم جاءت
عمة ملك ليون، وغير هؤلاء، كما تلقى الحكم رسائل من قيصر
بيزنطة، ومن امبراطور ألمانيا وغيرهما، كل ذلك جعل فندث
بيدال - العالم الإسبانى الكبير - يقول: «وصلت الخلافة الأندلسية
فى ذلك العصر إلى أوج روعتها وبسطت سيادتها السلمية على
سائر إسبانيا وكفلت بذلك السكينة العامة». وتوفى الحكم فى
(2 صفر 366هـ = 30سبتمبر 976م)، وبموته انتهى آخر العظماء
من بنى أمية فى الأندلس.(10/204)
*هشام المؤيد بالله
أحد خلفاء الدولة الأموية بالأندلس، بويع له بالخلافة فىصفر366
= أكتوبر 976 وهو طفل صغير لا يتجاوز عمره اثنتى عشر
سنةولم يشذ عن بيعته أحد، وأضحت السلطة بيدى الحاجب جعفر
المصحفى وصاحب الشرطة والمواريث (القضاء) «محمد بن أبى
عامر»، وشخصية ثالثة ذكية طموحة تشاركهما من وراء ستار
هى أمه «صبح» البشكنسية أو النفارية، نسبة إلى بلاد
البشكنس أو إقليم «نبرة»، وقد اشتركت فى الوصاية على ابنها
الصبى وأصبحت لها سلطة شرعية فى تدبير شئون الحكم.
وطوال فترة حكمه التى امتدت ثلاث وثلاثين سنة لم يكن الأمر
فى يديه ولكن تركزت السلطة فى يد حاجبه المنصور بن أبى
عامر وابنه عبد الملك بن المنصور، وانتهى الأمر بالخليفة أن
عزل عن الخلافة فى 17 من جمادى الأولى 399هـ = 16فبراير
1009م(10/205)
*هشام بن الحكم بن عبد الرحمن
أحد خلفاء الدولة الأموية بالأندلس، بويع له بالخلافة فىصفر366
= أكتوبر 976 وهو طفل صغير لا يتجاوز عمره اثنتى عشر
سنةولم يشذ عن بيعته أحد، وأضحت السلطة بيدى الحاجب جعفر
المصحفى وصاحب الشرطة والمواريث (القضاء) «محمد بن أبى
عامر»، وشخصية ثالثة ذكية طموحة تشاركهما من وراء ستار
هى أمه «صبح» البشكنسية أو النفارية، نسبة إلى بلاد
البشكنس أو إقليم «نبرة»، وقد اشتركت فى الوصاية على ابنها
الصبى وأصبحت لها سلطة شرعية فى تدبير شئون الحكم.
وطوال فترة حكمه التى امتدت ثلاث وثلاثين سنة لم يكن الأمر
فى يديه ولكن تركزت السلطة فى يد حاجبه المنصور بن أبى
عامر وابنه عبد الملك بن المنصور، وانتهى الأمر بالخليفة أن
عزل عن الخلافة فى 17 من جمادى الأولى 399هـ = 16فبراير
1009م(10/206)
*المنصور بن أبى عامر
أحد كبار رجالات الأندلس المعروفين، تولى منصب الحجابة فى
عهد الخليفة هشام المؤيد بالله ثم أصبح الأمر كله فى يديه
وسيطر على أمور الدولة بعد أن دخل فى صراع مع جعفر
المصحفى الذى كان يتولى الحجابة من قبله وانتهى هذا الصراع
بالقبض على جعفر ودخوله السجن حتى مات. وبعد أن أصبحت
السيطرة كاملة لابن أبى عامر فكر فى إنشاء مدينة جديدة
يتوافر فيها الأمان ومظاهر السلطان فكانت مدينته الزاهرة أو
العامرية شرقى قرطبة والتى استغرق بناؤها عامين، وضمت
قصرًا ومسجدًا ودواوين للإدارة ومساكن للحرس، ونقل خزائن
المال والسلاح إليها، وأقيم حولها سور ضخم كما بنى خندقًا
وتم إقطاع ضواحيها للوزراء والقادة، فابتنوا الدور وأنشئت
الشوارع والأسواق حتى اتصلت مبانيها بضواحى قرطبة، وقد
انتقل إليها ابن أبى عامر سنة (370هـ = 980م)، واتخذ له حرسًا
خاصا من الصقالبة والبربر أحاطوا بقصره، ومنعوا الدخول
والخروج إليه، وبذلك أقفرت قرطبة وأقفر قصرها ونقلت كل
مظاهر السلطان إلى المدينة الجديدة، ومنع الخليفة من أى حركة
إلا بإذن ابن أبى عامر حماية له من المتآمرين وحتى يتفرغ
للعبادة كما زعم. بدأ المنصور بن أبى عامر سلسلة من الغزوات
الشهيرة بعد أن استقرت الأمور له، ووصل عددها إلى نحو أربع
وخمسين غزوة استقصى المؤرخ القرطبى ابن حيان أخبارها
فى كتاب له مفقود عنوانه «الدولة العامرية» ويتحدث عنها ابن
خلدون فيقول: «غزا ابن أبى عامر اثنتين وخمسين غزوة فى
سائر أيام ملكه، لم ينكسر له فيها راية ولا فل له جيش ولاأصيب
له بعث ولا هلكت له سرية». اتخذ المنصور فى سنة (381هـ=
991م) خطة غير مسبوقة بهدف دعم سلطانه فرشح ابنه عبدالملك
ليتولى الأمر من بعده، وتنازل له عن الحجابة والقيادة وجميع ما
كان يتولى من خطط مكتفيًا بلقب «المنصور» ثم تلقب بالملك
الكريم فى سنة (386هـ = 996م) وبولغ فى تعظيمه وإجلاله، ولم(10/207)
يكن المنصور يقصد أن تجتمع السلطات فى يده، فكل السلطات
السياسية والعسكرية فى قبضة يديه بالفعل، لكنه أراد أن
يصبغ حكمه بالصبغة الشرعية، وأن تكون له رسوم الملك
والخلافة، ويقوم بتأسيس دولة تحل محل دولة بنى أمية، لكن
الظروف لم تكن مهيأة فالناس لاتميل كثيرًا إلى المنصور؛ بسبب
الوسائل الدموية التى لجأ إليها لتصفية خصومه. وقد أظهر
المنصور مقدرة كافية ممتازة فى جميع المناصب التى تولاها
وشهدت البلاد فى زمنه أمنًا واستقرارًا وطمأنينة لم تعرفها
قبله، وفى زمنه لم تعرف البلاد الثورات مقارنًا بغيره، وازدهرت
الصناعة والتجارة والزراعة، وارتقت العلوم والآداب، وامتلأت
خزائن قرطبة بالمال حتى وصلت الإيرادات إلى نحو أربعة ملايين
دينار، بخلاف الموارد من المواريث ومال السبى والغنائم، ولم
يخل عهد المنصور من الإنشاءات العظيمة على الرغم من الغزوات
المستمرة وقد أشرنا إلى بنائه مدينته الزاهرة بقصورها
وحدائقها، وجعلها قصرًا للحكم والإدارة، وقد بنى المنصور
بجانبها منية جميلة ازدانت بالحدائق والقصور أسماها
«العامرية»، وكان يقصدها عندما يريد الاستجمام. كذلك قام
بزيادة المسجد الجامع فى «قرطبة» بعد أن اتسعت المدينة،
وضمت واحدًا وعشرين حيا، الواحد فيها أكبر من أية مدينة
أندلسية، وقد حفر حولها خندقًا بلغ 16 ميلاً وزاد سكانها كثيرًا
لا سيما البربر، وضاق المسجد الجامع بهؤلاء السكان فأدخل
المنصور فى سنة (387هـ = 997م) زيادة عليه من الناحية
الشرقية، بلغت المساحة الأصلية نفسها تقريبًا، وحرص المنصور
على الاشتراك فى هذا المشروع بنفسه، واشتغل فيه أسرى
النصارى، وتم تعويض أصحاب الدور والأماكن التى صودرت لهذا
الغرض، ولا يزال هذا الجناح قائمًا حتى اليوم، ويعرف بمسجد
المنصور، وإن تحولت عقوده الجانبيه إلى هياكل وكنائس.
وبهذه الزيادة بلغت مساحة المسجد الجامع ما يزيد على ستة(10/208)
أفدنة، كما انفرد بطرازه الرائع، وليس فى العالم مسجد ولا
كنيسة فى مثل حجمه اللهم إلا قصر «فرساى» بفرنسا. كما جدد
المنصور قنطرة قرطبة على نهر الوادى الكبير، وكان «السمح
بن مالك» قد جددها من قبل وأنفق المنصور على تجديدها فى
سنة (378هـ = 988م) مائة وأربعين ألف دينار وبنى قنطرة
«أستجة» على نهر «شنيل» أحد فروع نهر الوادى الكبير. وفى
ربيع (392هـ =1002م) خرج المنصور لآخر مرة، وتوجَّه إلى
قشتالة ومنها اتجه غربًا نحو «برغش» وعاث فى تلك المنطقة،
وتقول المصادر النصرانية إنه تعرض لهزيمة على أيدى ملوك
النصارى متحدين، وإنه اضطر إلى الفرار فى جنح الظلام بعد
موقعة معهم جرت أحداثها بمكان يسمى «قلعة النسور»، وقد
جرح المنصور ثم مات بعد ذلك متأثرًا بجراحه، لكن الباحثين
المحدثين - ومنهم المستشرق الهولندى دوزى - يرفضون هذه
الرواية لأنها تخالف الحقائق التاريخية الثابتة، فهى تتحدث عن
تحالف بين ملوك من النصارى ماتوا قبل هذه الموقعة، أضف
إلى ذلك أن المصادر الإسلامية لاتذكرشيئًا عن تلك الموقعة، مع
أنها لاتخفى هزائم المسلمين، فالصمت قرينة على أنه لم تكن
هناك هزيمة ولاحتى موقعة أصلا. ومهما يكن من أمر فقد سار
المنصور فى حملته هذه محمولا حتى وصل إلى «مدينة سالم»،
وهناك وافاه الأجل فى (27 رمضان 392هـ = 11 أغسطس
1002م) بعد حكم دام 27 عامًا.(10/209)
*عبدالملك بن المنصور المظفر بالله
هو عبد الملك بن محمد بن أبى عامر الملقب بالمظفر بالله، تولي
منصب الحجابة بعد وفاة والده المنصور، وقد بدأ عهده بإسقاط
سدس الجباية (الضرائب) عن السكان بكل نواحى الأندلس
فاستبشر الناس به خيرًا. ظن ملوك النصارى أن خطر الغزوات
الإسلامية عليهم سيقل بعد وفاة المنصور، لكنهم كانوا واهمين
لأن عبدالملك بدأ بعد أشهر قليلة من ولايته يستعد لغزواته ضدهم
التى بلغت سبع غزوات التزم عبدالملك الأسلوب الذى كان يحكم
به والده الأندلس فجعل الخليفة محجورًا عليه لاحول له
ولاقوة. وجمع السلطات كلها فى يديه، وحدَّ من نفوذ الوزراء
والكتاب وراقبهم وحاسبهم، وجلس للناس وهجر اللهو، وعمل
على تنمية الموارد وترتب على هذا تحسن فى الأحوال المالية
التى كانت قد ساءت بسبب كثرة النفقات. ولم يكن لعبدالملك
نصيب كبير فى مجالات العلم والأدب وكان مجلسه لايقوم إلا على
الأعاجم من البربر وغيرهم، ومع ذلك فقد استمر يجرى الرواتب
التى كان أبوه يجريها على العلماء والأدباء والندماء، كما
استمع إلى الشعر ووصل الشعراء. وفى شوال من سنة 398هـ
خرج عبدالملك بغزوته السابعة والأخيرة وتعرف «بغزوة العلة»؛
إذ إنه ما كاد يصل إلى مدينة سالم حتى اشتد به المرض وتفرق
عنه المتطوعة، واضطر إلى الرجوع إلى قرطبة فى (المحرم
399هـ = سبتمبر 1008م) لكنه شعر بتحسن فى صحته فعمل
على استئناف الغزو بعد فترة وجيزة لكن حالته ساءت، وتعرض
لنكسة سببها التهاب رئوى، وعاد إلى العاصمة فى محفة حيث
مات فى (16 من صفر سنة 399هـ = 21 من أكتوبر 1008م) بعد
حكم دام نحو سبع سنوات.(10/210)
*عبدالرحمن بن شنجول
هو عبد الرحمن بن محمد المنصور بن أبى عامر، قلده الخليفة
هشام المؤيد بالله الحجابة بعد وفاة أخيه عبد الملك المظفر
بالله، وأنعم عليه بالخلع السلطانية، وكانت أمه ابنة لملك
«نبرة» تزوجها «المنصور» وأنجب منها، وقد أسلمت وتسمت
باسم «عبدة» ولأنه أشبه جده لأمه المسمى «شانجة» لقب
بشنجول أو شانجة الصغير. ولم يكن الشعب يميل إلى
«عبدالرحمن» لما فيه من دماء نصرانية ولانحراف سلوكه، ولأنه
جرى على منهج أبيه وأخيه فى الحجر على الخليفة هشام مع
الاستبداد بالرأى وإن مال هو إلى التودد إلى الخليفة ومخالطته،
وقد منحه الخليفة لقب المأمون ناصر الدولة بعد عشرة أيام من
ولايته، ليس هذا فحسب، بل إن عبدالرحمن جرؤ على ما لم يجرؤ
عليه أحد لا المنصور ولا عبدالملك، حين نجح بعد محاولات فى
استصدار مرسوم من الخليفة بتعيينه وليا للعهد من بعده، لتنتقل
رسوم الخلافة من أسرة بنى أمية إلى أسرة بنى عامر، وأقر
فقهاء قرطبة وعلماؤها هذا التحول وزكاه الوزراء والقضاة
والقادة، وكان ذلك فى ربيع الأول سنة (399هـ= 1008م)،
ومضى «عبدالرحمن» أبعد من ذلك حين عين ابنه الطفل فى خطة
الحجابة ولقبه سيف الدولة، ثم اتخذ قرارًا جلب عليه كثيرًا من
السخط حين طلب من أكابر الموظفين ورجال الدولة خلع القلانس
الطويلة التى يتميزون بها لأنها لبس الأندلسيين، وتغطية الرأس
بالعمائم التى هى لباس البربر فأذعن هؤلاء كارهين. فكر
عبدالرحمن أن يشغل الناس بالغزو، فقرر أن يتوجه إلى جليقية
رغم تحذيره من سوء الأحوال الجوية، ومن انقلاب قد يقوم به
المروانية ضده، لكنه صمم وسار بالجيش نحو طليطلة، ومنها إلى
جليقية وسط أمطار وبرد شديدين وكان يمارس هوايته فى اللهو
والشراب، وقد اخترق مملكة ليون قبل أن يصل إلى جليقية،
فتحصن الأعداء برءوس الجبال، ولم يجد عبدالرحمن سبيلا إلى
مقاتلتهم بسبب كثرة الثلوج وفيضان الأنهار، فاضطر إلى أن(10/211)
يعود دون أن يفعل شيئًا. وعند وصوله إلى طليطلة جاءته الأنباء
تفيد أن انقلابًا قد حدث فى قرطبة وأن الثوار استولوا على
مدينة الزاهرة فاضطربت صفوفهم، واضطر عبدالرحمن إلى أن
يعود عن طريق قلعة رباح، ولم يلتفت إلى نصح من طلب منه
البقاء فى طليطلة، لاعتقاده أن الناس سترحب به إذا رأوه يقترب
من قرطبة. وكان السبب الرئيسى للثورة هو استبداد بنى عامر
وقهرهم للناس استنادًا إلى قوة قوامها البربر والصقالبة، ثم
كانت ولاية عبدالرحمن للعهد واستئثاره برسوم الخلافة والحكم
هى الشرارة التى انتقلت منها نيران الثورة إلى كل العناصر
الناقمة، وعلى رأسهم بنو أمية، وكان المخطط للثورة والمتابع
لمراحل تنفيذها «الزلفاء» والدة عبدالملك -التى اعتقدت أن
«شنجول» سم ابنها - ثم فتى أموى اسمه «محمد بن هشام بن
عبدالجبار بن عبدالرحمن الناصر» كان عبدالملك قد أعدم أباه. لم
يكن المروانية وحدهم يرغبون فى القضاء على العامريين، وإنما
كان معهم كل العناصر الناقمة من البيوت العربية مضرية أو
يمنية، يؤازرهم كل طبقات الشعب، وأحكم هؤلاء جميعًا خطتهم
وانتهزوا فرصة خروج عبدالرحمن للغزو ومعه معظم الجيش
ليقوموا بالتنفيذ، وفى يوم (16 من جمادى الأولى 299هـ = 15
من يناير 1009م) جاءت الأنباء بأن عبدالرحمن عبر بجيشه إلى
أرض النصارى، فقام محمد بن هشام بإنزال ضربته، وهجم على
قصر قرطبة وقتل صاحب المدينة، والتف حوله الساخطون، ثم
اقتحم سجن العامرية وأخرج من فيه، واجتمع حوله المروانية
وانضم إليه الناس من كل حدب وصوب، وبعد أن سيطر ابن
عبدالجبار على القصر واستولى على كل ما فيه من سلاح
وغيره، طلب من الخليفة هشام أن يخلع نفسه فوافق، وانتهت
بذلك خلافته الصورية التى دامت (33) سنة وتولى الأمر «محمد بن
هشام بن عبدالجبار» وتلقب بالمهدى فى (17 من جمادى الآخرة
399هـ = 16 من فبراير 1009م) وجاءه الناس مهنئين، وما شعروا(10/212)
أن تلك هى بداية الفتنة التى ستطيح ليس بالدولة العامرية
وحدها بل وبالخلافة بكل ما تمثله وفى اليوم التالى قام
الثائرون بهدم مدينة الزاهرة وقصورها، وأحست الحامية المنوط
بها الدفاع عنها أن المقاومة غير مجدية ففتحوا أبواب المدينة
شريطة أن يؤمنهم المهدى، وتم نهب القصور والاستيلاء على كل
ما كان فيها من متاع وجواهر، ولم يكتف المهدى بذلك وإنما قام
بهدم كل مبانى مدينة الزاهرة وأسوارها بعد أن استولى على
كل ما فيها من خزائن وأموال وتحف حرصًا منه على إزالة كل
آثار بنى عامر، وأصبحت المدينة أطلالا، وتحولت إلى أثر بعد
عين. وقد حاول «عبدالرحمن» وهو فى «طليطلة» بعد أن بلغته
أخبار الثورة أن يتنازل عن ولاية العهد مكتفيًا بالحجابة، فلم
يلتفت إليه أحد ثم سار إلى قرطبة، ولما اقترب منها تركه جند
البربر وفروا فى جنح الظلام، ثم تمكن الخليفة الجديد من
مطاردته وإلقاء القبض عليه وهو مختبئ فى أحد الأديرة، وقتله
فى (3 من رجب 399هـ = 3 من مارس 1009م).(10/213)
*بركة خان
هو «بركة خان بن جوجى بن جنكيزخان» أحد حكام منطقة
القبجاق، اعتنق هو ورعيته الإسلام، وطلب العون من المماليك
فى «مصر»، لكى يقفوا إلى جانب بلاده ضد «المغول
الإيلخانيين» الذين كانوا يحكمون «فارس».(10/214)
*قطب الدين أيبك
أول سلاطين المماليك فى الهند (سلطنة دهلى الإسلامية)، حكم
من سنة (602 هـ= 1206م) إلى سنة (607هـ = 1210م)، وقد
اشتهر بحبه للعدل، وإقراره السلام والأمن فى نواحى بلاده،
وبنى مسجدين كبيرين، أحدهما بدهلى والآخر بآجمبر. وتوفى
هذا السلطان فى عام (607هـ= 1210م)(10/215)
*ألتمش
هو شمس الدين ألتمش أو إيلتمش. سلطان هندى مسلم. أحد
سلاطين دولة المماليك التركية بالهند ويعد المؤسس الحقيقى
لهذه الدولة، كان مملوكًا للسلطان قطب الدين أيبك أول سلاطين
هذه الدولة، ثم أعتقه وقربه منه وزَّوجه ابنته. وبعد موت قطب
الدين أيبك اتفق أمراؤه على تولية ألتمش لما فيه من خصال
حسنةً تؤهله لذلك الأمر فتولى الحكم سنة (607هـ = 1211م)،
ودام حكمه نحو ربع قرن قضاه فى تثبيت دعائم دولته التى
شملت شمال الهند من السند إلى البنغال، ونجح فى القضاء
على ثورات أمراء الهندوس وعدة ثورات أخرى ولكنه ما كاد
يتخلص منها حتى ظهر له خطر المغول، وألحقوا بدياره الخراب
والدمار، ولكنهم لم يتحملوا حرارة جو بلاده، واتجهوا صوب
الغرب ثانية، فنجت البلاد من شرورهم.، واكتسب حكم ألتمش
صفة شرعية بعد أن اعترف به الخليفة العباسى المستنصر بالله
سلطانًا على دولة المسلمين بالهند ولقبه بالناصر أمير المؤمنين
حامى الإيمان، فكان أول سلطان هندى يعترف به الخليفة
العباسى. وعلى الرغم من غزوات ألتمش المتكررة وجهوده
لتثبيت دعائم دولة الإسلام فى الهند فإن ذلك لم يشغله عن
الاهتمام بالإصلاحات الداخلية فأعاد تنظيم الجهاز الإدارى، وأقر
العدل والحرية فى البلاد، وعنى بتشجيع العلوم والآداب وأنفق
أموالاً كثيرة لنسخ أعداد كبيرة من المصحف الشريف، وأسس
العديد من المدارس وزيَّن بلاطه بالشعراء والعلماء وقرَّبهم منه،
وأتم بناء مسجد قطب الدين فى دلهى، وشيد مسجدًا آخر فى
أجمير، وتوفى شمس الدين ألتمش سنة (633هـ = 1235 م).وكان
لم ير فى أبنائه الذكور مَنْ يصلح للحكم من بعده، فأوصى به
لابنته «رضية»، ولكن رجال البلاط عهدوا بالملك عقب وفاته إلى
الأمير «ركن الدين فيروز شاه»، إلا أنه لم يهنأ بالملك بسبب
الفتن والاضطرابات التى عمت أنحاء البلاد، وكان نتيجة ذلك أن
قُتل هو وأمه، فآلت أمور الحكم إلى السلطانة «رضية» فى عام
(643هـ = 1236م).(10/216)
*بلبان
يعد السلطان «بِلْبان» (بِلْبِن) الذى حكم سلطنة دهلى الإسلامية
فى الهند فى الفترة من عام (664هـ = 1265م) إلى عام (686هـ
= 1287م)، من أقوى سلاطين «الهند» وأعظمها فى تاريخها
الوسيط، إذ واجه المغول الذين عادوا إلى تهديد «الهند» ثانية،
وأعاد الهدوء والاستقرار إلى بلاده، ثم قضى على «الهندوس»
الذين قطعوا الطريق بين «دهلى» و «البنغال»، وأقر الأمن
والنظام فى ربوع دولته. عهد «بلبان» - حين شعر بدنو أجله -
بالحكم إلى ابنه «بغراخان»، إلا أن ابنه رفض ذلك، فعهد به إلى
حفيده «كيخسرو بن بغراخان»، فتولى أمور البلاد، ولكنه كان
ضعيفًا لا يقوى على تسيير أمور الحكم بمفرده، فأسندها إلى
«نظام الدين» الذى اعتمد على خواصه والمقربين إليه فى إدارة
شئون البلاد، فاستبدوا بها، وحاول «بغراخان» أن يتخلص من
«نظام الدين» ولكن الترك لم يمكنوه من ذلك، وعزلوا ابنه
«كيخسرو» وولوا «كيقباد» أحد أطفاله الصغار، فتصدى لهم
«الخلجيون» بقيادة زعيمهم «فيروز شاه»، وقضوا عليهم، فزال
حكم المماليك بالهند على أيديهم.(10/217)
*جلال الدين المنكبرتى
أحد سلاطين الدولة الخوارزمية فى المشرق الإسلامى، تولى
الحكم بعد وفاة أبيه السلطان «محمد خوارزمشاه» سنة 617هـ
استطاع جلال الدين تكوين جيش كبير بلغ ثلاثين ألف مقاتل،
وانضمت إليه الفلول التى كانت هاربة من المغول، نجح فى
إلحاق هزيمة كبيرة بمقدمة أرسلها المغول للبحث عنه فى هذه
المنطقة فى سنة (618هـ. (خشى «جنكيزخان» أن يتسع نفوذ
«جلال الدين» فأرسل جيشًا كبيرًا بقيادة أحد كبار القادة
المغول لمحاربته، فالتقى الجيشان بالسهول القريبة من
«بروان»، واستطاع «جلال الدين» أن يلحق هزيمة ساحقة
بالجيش المغولى، وسمع الناس بذلك ففرحوا فرحًا شديدًا، وثار
أهالى «هراة» فى وجه رئيس الحامية المغولى وقتلوه هو
وجنوده، فبعث «جنكيز» بابنه «تولوى» إلى هذه المدينة،
فدمرها وقتل جميع سكانها، وخرج «جنكيز» بنفسه على رأس
جيش كبير لملاقاة «جلال الدين»، فى الوقت الذى حدث فيه
خلاف بين اثنين من قادة «جلال الدين» على توزيع الغنائم،
وانسحب أحدهما بجنوده تاركًا «جلال الدين» فى هذه الظروف
الحرجة، فاضطر إلى الانسحاب بجنوده صوب بلاد «الهند» - حين
سمع بقدوم المغول- ولكن «جنكيز» أدركه، ودارت بينهما معركة
حامية؛ أبلى فيها «جلال الدين» بلاءً حسنًا، ولكن جيش
«جنكيز» كان أقوى عدة وأكثر عددًا فأدرك «جلال الدين» أنه
لا فائدة من القتال، وانطلق صوب «نهر السند» وعبره بجنوده،
فلم يصل منهم إلى الجانب الآخر من النهر إلا أربعة آلاف فارس،
وبقى «جلال الدين» فى بلاد «الهند» بضع سنوات (618 - 622
هـ)، ثم عاد بعدها إلى إيران. انتهز «جلال الدين» فرصة انشغال
المغول عن البلاد الفارسية بعد وفاة «جنكيز» وانطلق بجيشه
نحو «إيران»، وعبر «نهر السند»، ودخل فى حروب عديدة مع
مَن رآهم سببًا فيما حلَّ بالدولة الخوارزمية، فحارب «الأتابكة»
فى «فارس» و «كرمان» و «يزد»، ثم حارب الخليفة العباسى،(10/218)
وانتصر عليهم جميعًا، ولكن مجموعة من الولاة الذين يحكمون
بلاد «ما وراء النهر» بقيادة «الملك الأشرف الأيوبى» فى
«الموصل»، تمكنوا من إلحاق الهزيمة بجلال الدين، فاستغل
«الإسماعيلية» الفرصة وأرسلوا إلى «أوكتاى» إمبراطور
المغول يخبرونه بأن الحلف العربى هزم «جلال الدين»، وقد أقدم
«الإسماعيلية» على ذلك لأن «جلال الدين» حاربهم من قبل
وانتصر عليهم، فجرد «أوكتاى» جيشًا كبيرًا قوامه (50) ألف
جندى بقيادة أشهر قواده «جرماغون»، الذى تمكن من مطاردة
«جلال الدين» وتفريق جيشه، ففر «جلال الدين» فى سنة
(628هـ) إلى «الجبال الكردية» الواقعة فى منطقة «جبال بكر»،
فقتله هناك أحد الأكراد حين عرف أنه السلطان، ثأرًا لمقتل أخيه
على يد جيش «جلال الدين» فى إحدى الحروب.(10/219)
*جنكيزخان
وُلد «جنكيزخان» فى سنة (549هـ = 1154م)، بإحدى المناطق
المغولية، وكان أبوه «يسوكاى بهادر» رئيسًا لقبيلة «قيات»
المغولية، وكان يحارب - أحيانًا- القبائل المجاورة له، كما كان
يصطدم ببعض قبائل التتار، وقد خرج مرة لمحاربة رئيس إحدى
القبائل التترية، وانتصر عليه، وتمكن من أسره وقتله، فلما عاد
إلى موطنه وجد امرأته قد ولدت مولودًا، فأسماه «تموجين»
بنفس اسم رئيس قبيلة التتار الذى تمكن من أسره وقتله، تيمنًا
بانتصاره عليه. عاش «تموجين» حياة عز ودلال فى مطلع حياته،
إلا أنه لم ينعم بها طويلا، حيث مات أبوه وهو فى الثالثة عشرة
من عمره، فتغير الحال، وانفض عنه أكثر الناس، واضطر إلى
الاعتماد على نفسه فى رعاية أسرته، فكونت هذه الفترة
شخصيته، وطبعته بطابع الجدة والصرامة، لدرجة أنه كان
يستطيع أن يبقى ثلاثة أيام دون طعام أو شراب، فلما بلغ
السابعة عشرة من عمره التف حوله جماعة من الناس، وتمكن من
خلالهم أن يكون قوة يُخشى بأسها فى المنطقة، فبدأ يفرض
نفوذه على القبائل المجاورة، واحدة تلو الأخرى. كانت شخصية
«تموجين» القوية من بين الأسباب التى دفعت الناس إلى الالتفاف
حوله، فبدأ بفرض نفوذه، ثم السيطرة على القبائل الكبيرة،
وتمكن فى سنة (599هـ) من إحراز نصر كبير على قبيلة
«كرايت»، وأسرعت القبائل الأخرى إلى الدخول فى طاعته،
وقضى على ملك «النايمان»، ودخلت قبائله تحت إمرته فى سنة
(600هـ)؛ التى اجتمعت فيها القبائل وأجمعت على اختيار
«تموجين» إمبراطورًا لها تحت اسم جنكيزخان. وتُعدُّ هذه السنة
بداية للدولة المغولية، التى وضع لها «جنكيزخان» مجموعة من
القوانين الصارمة عرفت باسم «دستور الياسّا» فى عام
(603هـ)، وكان على كل من يخضع لهذه القوانين أن يدين لها
بالولاء، أما من يخرج عليها فليس له من جزاء إلا القتل فورًا،
وهكذا استطاع «جنكيزخان» أن يوحد شتات هذه القبائل فى(10/220)
دولة واحدة تخضع لدستور واحد، واستغل قُوى هذه الأقوام
والقبائل فى تكوين جيش قوى استطاع به - بعد ذلك- أن يطيح
بالدول المجاورة له، الواحدة تلو الأخرى. وتوفى جنكيز خان
سنة 624هـ بعد حياه حافلة بالحروب والدمار.(10/221)
*سعد الدولة اليهودى
هو طبيب يهودى عاش فى عهد أرغون خان أحد سلاطين الدولة
الإيلخانية، وكان اجتماعيا؛ يكثر الاختلاط بالناس ويوسع دائرة
معارفه بينهم، كما كان ملما بأحوال الموظفين والصيارفة فى
«بغداد»، ويجيد عدة لغات، ويعمل بالطب الذى كان وقفًا فى
بلاد الإيلخان على اليهود وحدهم، ولذا عملوا على التدخل فى
شئون الدولة من خلال عملهم، وحملوا الإيلخان «أرغون» على
تعيين «سعد الدولة» طبيبًا لبلاطه، وتصادف أن اعتلَّت صحة
الإيلخان، ومرض مرضًا شديدًا، وتمكن «سعد الدولة» من معرفة
الدواء المناسب لمرضه، فشفى «الإيلخان»، وكافأ «سعد
الدولة» وقرَّبه منه، وزاد قدره عنده، فاستغل الطبيب ذلك،
وأخذ يشى بالأمير «بوقا» ويزيِّن للسلطان التخلص منه، حتى
أوغر صدره ضده، فأمر السلطان بالقبض على «بوقا» وقتله
بتهمة التآمر على السلطان، وتعيين الطبيب «سعد الدولة» وزيرًا
له على البلاد. استطاع الوزير سعد الدولة أن يستميل إليه قلوب
الناس برفع المظالم عنهم، وإجراء الصدقات على فقرائهم
ومحتاجيهم، فمدحه الشعراء، وقصد بابه الأدباء والعلماء، ولكنه
لم يكد يطمئن إلى ثبات مركزه فى الدولة، وارتفاع منزلته عند
السلطان حتى أخذ يكيد للمسلمين ويعمل على التضييق عليهم،
فضاقوا به وتحينوا الفرصة للخلاص منه، كما ضاق به الأمراء
المغول لاستبداده بالحكم، وقضائه على ما كانوا يتمتعون به من
نفوذ، وانتظروا كذلك الفرصة للقضاء عليه، فمرض «أرغون»
فجأة، واشتد عليه المرض، وحاول الأطباء برئاسة «سعد الدولة»
معالجته وإنقاذه بكل السبل، ولكنهم عجزوا عن ذلك، فقبض
الأمراء المغول على «سعد الدولة» وقتلوه فى شهر صفر سنة
(690هـ)، ولم يلبث الإيلخان بعده إلا فترة قصيرة ثم مات، فعمت
مشاعر البهجة والسرور أنحاء البلاد الإسلامية؛ لمقتل «سعد
الدولة»، وثار الناس على اليهود فى كل مكان، وقتلوا منهم
عددًا كبيرًا.(10/222)
*حسن الجلائرى
هو تاج الدين شيخ حسن بزرك بن حسين أول حكام «آل جلائر»
ومؤسس دولتهم «الجلائرية»، وثالث مَن تولى الحكم فى «الدولة
الإيلخانية»، وقد امتد سلطانه إلى «العراق»، واتخذ «بغداد»
عاصمة له، وأعلن نفسه ملكًا عليها، فظهرت بذلك الدولة
«الجلائرية» إلى حيز الوجود. شهدت اللبنات الأولى لقيام «الدولة
الجلائرية» عدة حروب بين الأمراء المغول بهدف الوصول إلى
الحكم، إلا أن «حسن الجلائرى» تمكن من الاستقلال بالعراق
واستطاع أن يوحد الصفوف لتأسيس دولته الوليدة، ومع ذلك لم
تتوقف الصراعات والحروب مع بقايا الإيلخانيين، إلى أن تمكن
«الشيخ حسن الجلائرى» من طردهم إلى خارج حدود دولته
- «العراق» - فى عام (748هـ= 1347م). كان «الشيخ حسن
الجلائرى» سياسيا حكيمًا، وأراد أن يضمن لدولته قوتها
ووحدتها، فلم يعلن نفسه خانًا أو سلطانًا؛ بل أعلن ولاءه
للسلطان المملوكى فى «مصر» ليكون سنده الذى يحتمى به إذا
ما فكر المغول فى غزوه، خاصة وأن دولته قريبة ومتاخمة
للإمارات والممالك المغولية فساعده هذا التصرف على استقرار
بلاده، وشجعه على الاستيلاء على «لورستان»، و «الموصل»،
و «تستر»، وبسط نفوذه على غيرها، فاتسعت رقعة بلاده،
وامتد نفوذ حكمه، ثم مات فى عام (757هـ = 1356م)(10/223)
*أويس الجلائرى
هو «الشيخ أويس بن حسن الجلائرى»، تولى حكم الدولة
الجلائرية بعد وفاة أبيه سنة 757هـ = 1356م، وقد بلغت الدولة
فى عهده أقصى اتساع لها، إذ ضم إليها «أذربيجان»،
و «آران»، و «موقان»، واتخذ من «تبريز» عاصمة لبلاده، وانتقل
نشاط الدولة السياسى ومركزها من «العراق» إلى «أذربيجان»،
فأدى ذلك إلى قيام حركات التمرد فى «بغداد» على
الجلائريين، وكانت حركة «مرجان» نائب «الشيخ أويس» على
«بغداد» من أشهر هذه الحركات، وكان «مرجان» طواشيا
للشيخ أويس. لقد أخطأ «الشيخ أويس» فى حساباته عندما
ابتعد عن «العراق» واتخذ له عاصمة فى «إيران»، فضلا عن
تقريبه الفرس دون العرب، فكانت النتيجة انضمام العرب بمختلف
طوائفهم إلى «مرجان» وحركته، وحُذف اسم «الشيخ أويس» من
الخطبة؛ رمز السيادة فى الدولة، وخُطب للسلطان المملوكى فى
«مصر». خرج «الشيخ أويس» من «تبريز» إلى «بغداد» فى سنة
(765هـ = 1363م)، واستطاع وزيره أن يستميل أعوان «الخواجة
مرجان» إلى صفه، فانفضوا من حول «مرجان» وفشلت حركته،
ودخل «الشيخ أويس» «بغداد» ثم جعل «شاه خازن» نائبًا له
عليها، ولكن «مرجان» لم ييأس من المحاولة، وعاد مرة ثانية
إلى حكم «بغداد» عقب وفاة «شاه خازن»، مما يؤكد حب أهل
«العراق» لمرجان ومكانته عندهم، فاضطر «الشيخ أويس» إلى
الصفح عنه، ثم أرسل ابنه «الشيخ علىّ» ليحكم «العراق». وقد
تُوفى «الشيخ أويس» عام (776هـ = 1373م)(10/224)
*تيمور لنك
هو «تيمور بن ترغاى بن أبغاى» مؤسس الدولة التيمورية، أحاط
المؤرخون نسبه بهالة من الرفعة وعلو الشأن، ليبرروا استيلاءه
على «بلاد ما وراء النهر»، فقد كان أبوه «أمير مائة» عند
السلطان المغولى، وكان المغول يستخدمون الأتراك فى
دواوينهم، وأكثروا منهم، حتى صارت اللغة التركية هى لغة
البلاط والمجتمع فى «بلاد ما وراء النهر»، فلما دخلت «الدولة
المغولية» مرحلة الاضمحلال والضعف؛ قامت «الدولة الجغتائية»
بمساعدة قبيلة «برلاس»، فحفظ الجغتائيون هذا الجميل، وولوا
«تيمور لنك»، ولاية «كش»، حين التجأ إليهم أثناء الاضطرابات
التى عصفت ببلاد «ما وراء النهر» ثم لم يلبث أن أخرج
الجغتائيين من بلاد «ما وراء النهر»، وطارد قبائل «الجتة»
البدوية؛ التى اتسمت بالعنف والوحشية، وتمكن من طردهم من
«بلاد ما وراء النهر»، ثم أعلن نفسه سلطانًا فى بلخ» على هذه
المنطقة، واتخذ «سمرقند» عاصمة لملكه، وأعلن ذلك رسميا فى
عام (800هـ = 1397م)، ثم مضى فى تنظيم حكومته الجديدة،
واتبع قانون «جنكيزخان» (الياسا المغولية)، بما لا يتعارض مع
القرآن الكريم والسنة النبوية. كان «تيمور لنك» ميالا إلى الفتح
والتوسع، وغزا «خوارزم» فى عام (773هـ)، ثم دخلها وسيطر
عليها فى عام (781هـ)، فأضحت «آسيا الوسطى» كلها تحت
سلطانه. بدأ حكم «تيمور كورخان» (تيمورلنك) منذ دخل
«سمرقند» فى عام (771هـ = 1329م)، فكوَّن مجلس شورى من
كبار الأمراء والعلماء، وعلى الرغم من أنه كان الحاكم الفعلى
للبلاد، فإنه عمد إلى اختيار الأمير الجغتائى «سيورغتمش بن
دانشمندجة»، وجعله رمزًا للحكم ولقبه بلقب السلطان فى الفترة
من سنة (771هـ = 1329م) إلى سنة (790 هـ = 1387م)، ثم اتخذ
من بعده «محمود بن سيورغتمش» من عام (790هـ = 1387م) إلى
عام (800هـ = 1397م). وقد اتسمت سياسة «تيمور لنك»
بالتوسع، فزحف إلى «إيران» فى سنة (782هـ = 1380م)،(10/225)
وتمكن من الاستيلاء على «خراسان» و «جرجان»، و «مازندران»،
و «سيستان»، و «أفغانستان»، و «فارس»، و «أذربيجان»،
و «كردستان»، ثم دخل «جورجيا» وغرب «إيران» فى عام
(786هـ = 1384م)، وتمكن من فتح «العراق» و «سورية» (حلب
ودمشق)، وهزم المماليك فى الشام، وحقق انتصارات عظيمة فى
«الهند» عقب وفاة «فيروزشاه» سلطان «دلهى» فى عام
(799هـ = 1397م)؛ حيث استولت جيوشه على حصن «أوكا»،
وأسقطت «الملتان»، وفتحت «آباد»، ودخلت «هراة» بالأمان،
ولاقى «تيمورلنك» مقاومة شديدة وصعوبة فى دخول «دهلى»
على يد سلطانها «محمود تغلق»، ولكن هذه المقاومة لم تستمر
طويلا، ودخل «تيمور» هذه المدينة، فقدم إليه أعيانها وعلماؤها
فروض الولاء والطاعة، وخُطب له فيها، وعلى الجانب الآخر حقق
«تيمورلنك» انتصارات كثيرة على الأتراك العثمانيين، وأسر
حاكمهم «بايزيد خان». وتُوفى «تيمورلنك» فى «أترار» عن
عمر يناهز السبعين عامًا فى سنة (807هـ = 1405م) بعد أن
دانت له البلاد من «دهلى» إلى «دمشق»، ومن «بحيرة آرال»
إلى «الخليج العربى»(10/226)
*شاه رخ بن تيمور لنك
أحد سلاطين الدولة التيمورية، تولى العرش بعد وفاة أبيه تيمور
لنك سنة (807هـ = 1405م) واستمر فى الحكم إلى سنة (850هـ
= 1447م) فعاشت البلاد فى عهده أفضل فترات الحكم؛ إذ كان
محبا للعلم والعلماء، حفيا بالثقافة، كما كان عادلا تقيا ورعًا،
فاشتهر بسلوكه الحسن وسيرته الطيبة بين الرعية. ولى
«شاهرخ» أملاك «الدولة التيمورية» فيما عدا «سوريا»
و «العراق العربى»، فقام بإصلاحات كثيرة فى البلاد، وشيد
المبانى، وبنى المدارس الكثيرة فى «بخارى» و «سمرقند»،
وأنشأ مرصده الشهير، وتوفى شاه رخ سنة 850هـ = 1447م.(10/227)
*أبو سعيد السيرافى
أحد علماء اللغة والأدب فى العصر العباسى، ولى القضاء ببغداد
،وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، ومن بين مؤلفاته كتاب
«أخبار النحويين البصريين» وكتاب «الوقف والابتداء». يقول
عنه ابن خلكان: «كان الناس يشتغلون عليه بعدة فنون: القرآن
الكريم والقراءات وعلوم القرآن والنحو واللغة والفقه والفرائض
والحساب والكلام والشعر والعروض والقوافى»، وتوفى ببغداد
سنة (368هـ = 979م).(10/228)
*ابن جنى
هو «أبو الفتح عثمان بن جنى»، يُعَدُّ من أعظم علماء اللغة، لا
فى العصر العباسى الثانى فحسب؛ بل على امتداد العصور
الإسلامية كلها، ولد بالموصل وتوفى ببغداد سنة (392هـ =
1002م). ومن بين كتبه الذائعة الشهرة الزاخرة بالقيمة فى مجال
اللغة كتاب «الخصائص» وله أيضًا «سر صناعة الإعراب»،
و «المذكر والمؤنث»، و «المقصور والممدود»، «واللمع» وغير
ذلك. وقد شرح ابن جنى ديوان المتنبى وكان من المعجبين
بشعره. وكان ابن جنى صاحب حس أدبى مرهف، وقد انعكس
ذلك على كتاباته العلمية التى اتسم أسلوبها بالجمال الأخَّاذ
فضلاً عن الدقة البالغة.(10/229)
*الشريف الرضى
من أبرز شعراء العصر العباسى الثانى، ينتهى نسبه إلى
الحسين بن على بن أبى طالب، كان وثيق الصلة بالخليفة القادر
بالله (381 - 422 هـ = 991 - 1031م)، وتوفى ببغداد سنة (406هـ
= 1015م)، وعَدَّه بعض النقاد أشعر قريش. يقول عنه الثعالبى
فى يتيمة الدهر: «هو أشعر الطالبيين من مضى منهم ومن غبر،
على كثرة شعرائهم المفلقين، ولو قلت إنه أشعر قريش لم أبعد
عن الصدق، وسيشهد بما أخبر به شاهد عدل، من شعره العالى
القِدْح الممتنع عن القَدْح، الذى يجمع إلى السلاسة متانة وإلى
السهولة رصانة، ويشتمل على معانٍ يقرب جناها ويبعد مداها».(10/230)
*الجاحظ
هوأبو عثمان عمرو بن بحر إمام المنشئين فى تاريخ الأدب
العربى بلا جدال. كان على مذهب المعتزلة وكان موسوعى
الثقافة متجدد الفكر، وقد ترك أسلوبه بصمات واضحة على
أساليب كثير ممن جاءوا بعده، ومؤلفات الجاحظ عديدة وذائعة،
تنمّ عن ذهن ناضج وفكر متدفق، ومن أشهر كتبه: كتاب
«الحيوان» و «البيان والتبيين» و «البخلاء». وله رسائل مختلفة
طبعت تحت اسم «رسائل الجاحظ»، وهى تتناول موضوعات
شتى. وتوفى بالبصرة سنة (255هـ = 869م).(10/231)
*ابن العميد
هو أبو الفضل محمد بن العميد، من أبرز الذين تأثروا بالجاحظ
وحاولوا أن ينهجوا نهجه، ولتمكنه فى فن الإنشاء عرف باسم
«الجاحظ الثانى»، وهو الذى قيلت فيه العبارة المشهور: «بدئت
الكتابة بعبدالحميد وختمت بابن العميد»، وعبدالحميد هنا هو:
عبدالحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين،
عاش ابن العميد فى ظل البويهيين وعمل وزيرًا لركن الدولة -
الحسن بن بويه - وكان - كما يصفه ابن خلكان - «متوسعًا فى
علوم الفلسفة والنجوم، وأما الأدب والترسُّل فلم يقاربه فيه أحد
فى زمانه». ويصفه ابن الأثير بأنه كان من محاسن الدنيا، قد
اجتمع فيه ما لم يجتمع فى غيره من حسن التدبير وسياسة
الملك، والكتابة التى أتى فيها بكل بديع». وتوفى ابن العميد
سنة (360هـ = 971م)(10/232)
*محمد ابن العميد
هو أبو الفضل محمد بن العميد، من أبرز الذين تأثروا بالجاحظ
وحاولوا أن ينهجوا نهجه، ولتمكنه فى فن الإنشاء عرف باسم
«الجاحظ الثانى»، وهو الذى قيلت فيه العبارة المشهور: «بدئت
الكتابة بعبدالحميد وختمت بابن العميد»، وعبدالحميد هنا هو:
عبدالحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين،
عاش ابن العميد فى ظل البويهيين وعمل وزيرًا لركن الدولة -
الحسن بن بويه - وكان - كما يصفه ابن خلكان - «متوسعًا فى
علوم الفلسفة والنجوم، وأما الأدب والترسُّل فلم يقاربه فيه أحد
فى زمانه». ويصفه ابن الأثير بأنه كان من محاسن الدنيا، قد
اجتمع فيه ما لم يجتمع فى غيره من حسن التدبير وسياسة
الملك، والكتابة التى أتى فيها بكل بديع». وتوفى ابن العميد
سنة (360هـ = 971م)(10/233)
*الصاحب بن عباد
هو «أبو القاسم إسماعيل بن عباد» المعروف بالصاحب بن عباد،
لصحبته لابن العميد وتأثره به فى طرائقه. وكان يقال له أحيانًا
صاحب ابن العميد. وقد تولى الصاحب بن عباد الوزارة لمؤيد
الدولة بين ركن الدولة ثم لأخيه فخر الدولة، وفضلاً عن براعة
الصاحب فى فن الإنشاء - كأستاذه ابن العميد - فقد كان محبًا
للعلم ذواقة للأدب، كما كان شاعرًا جيد النظم. والجدير بالذكر
هنا أن كلا من ابن العميد والصاحب بن عباد كان له مجلس يحفل
بوجوه الشعراء والعلماء والمفكرين، وكان من بين المترددين
على مجلس ابن العميد أبو الطيب المتنبى شاعر العربية الأكبر،
وقد مدحه بقصيدة من عيون شعره، وتوفى الصاحب بن عباد
بمدينة الرى فى سنة (385هـ = 995م).(10/234)
*الحريرى
هو «أبو محمد القاسم بن على الحريرى البصرى»، من الذين
تميزوا فى مجال النثر الفنى فى العصر العباسى الثانى، اشتهر
بكتابة المقامات ووصل بهذا الفن إلى مداه، وقد حذا فى ذلك
حذو استاذه بديع الزمان الهمذانى. واعترف فى صدر مقاماته
بأنه جعل مقامات البديع مثالاً له. وقد توفى الحريرى فى حدود
سنة (516هـ = 1122م) بالبصرة إبان فترة نفوذ السلاجقة، وذلك
فى خلافة المسترشد بالله. والملاحظ أن شهرة مقامات الحريرى
بلغت من الانتشار حدا تتضاءل بجانبه شهرة مقامات الرائد الأول
بديع الزمان. وتكشف مقامات الحريرى عن البراعة الكبيرة
لصاحبها فى التصرف فى اللغة وتطويعها لما يريده من معان
وأفكار، وهى إحدى الوسائل المهمة لمن يبحثون عن إثراء
ملكاتهم اللغوية.(10/235)
*ابن قتيبة الدينورى
هو أبو محمد عبدالله بن مسلم أحد أعلام اللغة والأدب فى
العصر العباسى، ولد بالكوفة وتثقف بها وسكن بغداد زمنًا
ولكنه نسب إلى الدينور لأنه تولى قضاءها، وقد توفى ابن
قتيبة فى سنة (276هـ = 889م) فى خلافة المعتمد على الله،
وقد خلّف لنا ابن قتيبة عددًا من الموسوعات الأدبية المهمة يأتى
على رأسها كتاب «عيون الأخبار»، وكتاب «الشعر والشعراء»،
ومن كتبه الأدبية المهمة أيضًا كتاب «أدب الكاتب» الذى يتحدث
فيه عما يحتاج إليه الأديب من فنون المعرفة ليمارس صنعة
الكتابة على الوجه الأمثل.(10/236)
*الثعالبى أبو منصور
هو عبدالملك بن محمد بن إسماعيل، من أبرز أصحاب الموسوعات
الأدبية فىالعصرالعباسى، ولد بنيسابور فى سنة (350هـ =
961م)، وتوفى فى سنة (429هـ = 1038م)، أى أنه عاش حياته
كلها فى فترة نفوذ البويهيين، وشهدت فترة تفتحه الأدبى
خلافة الطائع لله والقادر بالله، وتوفى فى خلافة القائم بأمر
الله، وكان الثعالبى غزير الإنتاج متنوع الاهتمامات العلمية،
ولكن يقف على رأس مؤلفاته جميعًا كتابه الموسوعى الضخم
«يتيمة الدهر فى محاسن أهل العصر»، وهو أكبر كتبه
وأحسنها وأجمعها كما يقول ابن خلكان، وهو من أربعة مجلدات
صرف فيها جل اهتمامه لشعراء القرن (4هـ = 10م) ورتبهم على
أوطانهم، فقد تناول فى أبواب خاصة شعراء الشام ومصر
والمغرب والموصل والبصرة وبغداد وأصفهان والجبل وفارس
والأهواز وجرجان، وتحدث عن الدولة السامانية وشعرائها وعن
خوارزم، وتحدث أيضًا عن بنى بويه وشعرائهم وكتابهم،
وأسهب فى الحديث عن ابن العميد والصاحب بن عباد، كما
تحدث عن بلاط سيف الدولة وشعرائه وكتّابه، ولاشك أن يتيمة
الدهر تعد إحدى الموسوعات الأدبية الأساسية فى تاريخ الأدب
العربى، ولا تزال حتى يومنا هذا مصدرًا لا غنى عنه للباحثين
فى الحياة الأدبية فى القرن (4 هـ = 10م).(10/237)
*محمد بن جرير الطبرى
هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى، من أهم أعلام المؤرخين
فى صدر العصر العباسى الثانى، توفى سنة (310هـ = 922م)
فى خلافة المقتدر بالله، وقد عاش الطبرى فى فترة التحول
المهمة التى انتقلت فيها الخلافة العباسية من عصرها الأول-عصر
القوة السياسية المركزية - إلى عصرها الثانى الذى بدأت فيه
السلطة المركزية تضعف ضعفًا ملحوظًا، وهكذا شهد الطبرى
معظم عصر نفوذ الأتراك، وقد ولد فى آمل بطبرستان فى سنة
(224هـ = 839م) وأخذته الرحلة فى طلب العلم إلى كثير من بقاع
العالم الإسلامى كالعراق والشام ومصر، ثم استقر به المقام
أخيرًا فى بغداد وبها مات ودفن، وقد ترك لنا الطبرى موسوعته
التاريخية الذائعة الصيت وهى: «تاريخ الأمم والملوك» المشهورة
باسم «تاريخ الطبرى»، فى عشرة مجلدات، وتناول الطبرى
فى هذه الموسوعة الضخمة تاريخ ما قبل الإسلام منذ بدء
الخليقة بقدر من الاختصار فى المجلد الأول وبعض الثانى، ثم جاء
علاجه المفصل للأحداث منذ بدأ يتناول سيرة الرسول - صلى الله
عليه وسلم - وسيرة الخلفاء الراشدين، وما تلا ذلك من تاريخ
الدولة الأموية والعباسية حتى عصره، وقد توقف الطبرى
بتاريخه عند أحداث سنة (302هـ= 914م) فى خلافة المقتدر،
وتاريخ الطبرى منجم غنى بالمعلومات حافل بالروايات المختلفة
التى تقدم المادة الأساسية للباحث، وهناك إجماع فى الشرق
والغرب على أن هذا التاريخ يعدُّ عمدة الباحثين فى التاريخ
الإسلامى فى القرون الثلاثة الأولى للهجرة.(10/238)
*الطبرى محمد بن جرير
هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى، من أهم أعلام المؤرخين
فى صدر العصر العباسى الثانى، توفى سنة (310هـ = 922م)
فى خلافة المقتدر بالله، وقد عاش الطبرى فى فترة التحول
المهمة التى انتقلت فيها الخلافة العباسية من عصرها الأول-عصر
القوة السياسية المركزية - إلى عصرها الثانى الذى بدأت فيه
السلطة المركزية تضعف ضعفًا ملحوظًا، وهكذا شهد الطبرى
معظم عصر نفوذ الأتراك، وقد ولد فى آمل بطبرستان فى سنة
(224هـ = 839م) وأخذته الرحلة فى طلب العلم إلى كثير من بقاع
العالم الإسلامى كالعراق والشام ومصر، ثم استقر به المقام
أخيرًا فى بغداد وبها مات ودفن، وقد ترك لنا الطبرى موسوعته
التاريخية الذائعة الصيت وهى: «تاريخ الأمم والملوك» المشهورة
باسم «تاريخ الطبرى»، فى عشرة مجلدات، وتناول الطبرى
فى هذه الموسوعة الضخمة تاريخ ما قبل الإسلام منذ بدء
الخليقة بقدر من الاختصار فى المجلد الأول وبعض الثانى، ثم جاء
علاجه المفصل للأحداث منذ بدأ يتناول سيرة الرسول - صلى الله
عليه وسلم - وسيرة الخلفاء الراشدين، وما تلا ذلك من تاريخ
الدولة الأموية والعباسية حتى عصره، وقد توقف الطبرى
بتاريخه عند أحداث سنة (302هـ= 914م) فى خلافة المقتدر،
وتاريخ الطبرى منجم غنى بالمعلومات حافل بالروايات المختلفة
التى تقدم المادة الأساسية للباحث، وهناك إجماع فى الشرق
والغرب على أن هذا التاريخ يعدُّ عمدة الباحثين فى التاريخ
الإسلامى فى القرون الثلاثة الأولى للهجرة.(10/239)
*البلاذرى
هو أحمد بن يحيى البلاذرى أحد أعلام المؤرخين فى العصر
العباسى الثانى، كان مقربًا للخليفتين المتوكل والمستعين، ويعد
كتابه «فتوح البلدان» من أوثق الكتب التى تحدثت عن تاريخ
الفتوح الإسلامية منذ ظهور الإسلام حتى عصره، وهو يتميز
بدقته فى الأسلوب وموضوعيته فى العرض والبعد عن الحشو،
وهو من بين المصادر التى تحتل قيمة خاصة فى هذا الجانب،
وللبلاذرى كتاب آخر معروف هو «أنساب الأشراف»، وهو يقدم
مادة تاريخية غزيرة فى صدر الإسلام والعصر الأموى والعباسى
الأول من خلال أنساب الرجال الذين يتناولهم بالبحث، وتوفى
فى حدود سنة (279هـ = 892م).(10/240)
*أحمد بن يحيى البلاذرى
هو أحمد بن يحيى البلاذرى أحد أعلام المؤرخين فى العصر
العباسى الثانى، كان مقربًا للخليفتين المتوكل والمستعين، ويعد
كتابه «فتوح البلدان» من أوثق الكتب التى تحدثت عن تاريخ
الفتوح الإسلامية منذ ظهور الإسلام حتى عصره، وهو يتميز
بدقته فى الأسلوب وموضوعيته فى العرض والبعد عن الحشو،
وهو من بين المصادر التى تحتل قيمة خاصة فى هذا الجانب،
وللبلاذرى كتاب آخر معروف هو «أنساب الأشراف»، وهو يقدم
مادة تاريخية غزيرة فى صدر الإسلام والعصر الأموى والعباسى
الأول من خلال أنساب الرجال الذين يتناولهم بالبحث، وتوفى
فى حدود سنة (279هـ = 892م).(10/241)
*أبو حنيفة الدينورى
أحد أئمة العلم فى العصر العباسى الثانى، كان موسوعى
المعرفة وبرع فى علوم كثيرة كالنحو واللغة والهندسة والفلك
وغير ذلك، ولكن الكتاب الذى اشتهر به الدينورى هو كتابه
التاريخى المعروف باسم «الأخبار الطوال» الذى يتناول فيه
التاريخ الإسلامى منذ ظهور الإسلام حتى وفاة الخليفة المعتصم
سنة (227هـ= 842م)، مع مقدمة مختصرة عن التاريخ القديم.
وتوفى سنة (282هـ = 895م)(10/242)
*المسعودى
هو على بن الحسين المسعودى، من أبرز المؤرخين الذين شهدوا
بداية مرحلة النفوذ البويهى، ومع أن المسعودى نشأ فى بغداد
فقد كان دائم الترحل فى طلب العلم، وهو يقدِّم نموذجًا للعالم
الذى جعل العلم ضالَّته، فهو ينشده لكل ما أوتى من حول وما
وسعه من صبر؛ فقد ذهب إلى الهند والملتان وسرنديب (سيلان)
والصين، فضلاً عن مراكز العلم الشهيرة فى أرجاء العالم
الإسلامى، ومن أشهر مؤلفاته التاريخية كتاب «مروج الذهب
ومعادن الجوهر»، وقد تناول فيه تاريخ الأمم القديمة، ثم تناول
تاريخ الإسلام منذ ظهوره حتى خلافة المطيع لله، وهو أول
الخلفاء العباسيين فى العصر البويهى، ومن بين الكتب التاريخية
الذائعة للمسعودى أيضًا كتاب «التنبيه والإشراف»، وهو محاولة
منه لتقديم كتاب تاريخى مختصر يضم خلاصة ما كتب، وهو
يحتوى على معلومات مهمة من كتب أخرى للمسعودى لم تصل
إلينا، وتوفى المسعودى سنة (346هـ = 957م).(10/243)
*علي بن الحسين المسعودى
هو على بن الحسين المسعودى، من أبرز المؤرخين الذين شهدوا
بداية مرحلة النفوذ البويهى، ومع أن المسعودى نشأ فى بغداد
فقد كان دائم الترحل فى طلب العلم، وهو يقدِّم نموذجًا للعالم
الذى جعل العلم ضالَّته، فهو ينشده لكل ما أوتى من حول وما
وسعه من صبر؛ فقد ذهب إلى الهند والملتان وسرنديب (سيلان)
والصين، فضلاً عن مراكز العلم الشهيرة فى أرجاء العالم
الإسلامى، ومن أشهر مؤلفاته التاريخية كتاب «مروج الذهب
ومعادن الجوهر»، وقد تناول فيه تاريخ الأمم القديمة، ثم تناول
تاريخ الإسلام منذ ظهوره حتى خلافة المطيع لله، وهو أول
الخلفاء العباسيين فى العصر البويهى، ومن بين الكتب التاريخية
الذائعة للمسعودى أيضًا كتاب «التنبيه والإشراف»، وهو محاولة
منه لتقديم كتاب تاريخى مختصر يضم خلاصة ما كتب، وهو
يحتوى على معلومات مهمة من كتب أخرى للمسعودى لم تصل
إلينا، وتوفى المسعودى سنة (346هـ = 957م).(10/244)
*الخطيب البغدادى
هو «أبو بكر أحمد بن على بن ثابت»، من المؤرخين المتميزين
فى فترة النفوذ البويهى، وقد عاش فى بغداد التى يُنسَب إليها
ومات بها، ولكنه رحل طلبًا للعلم إلى عدة مراكز علمية بارزة
كالبصرة والكوفة ونيسابور وحلب وبيت المقدس وغيرها، وهو
يتميز بغزارة إنتاجه وتنوع اهتماماته العلمية؛ حيث ألَّف فى
فروع مختلفة من العلم كالتاريخ والفقه والحديث والنحو والأدب
وغيرها، ومعظم مؤلفاته لم تصل إلينا، ولكن موسوعته الضخمة
المعروفة باسم «تاريخ بغداد» وصلت إلينا وهى التى أكسبته
شهرة واسعة، وهى تاريخ شامل لبغداد من حيث نشأتها
وأحياوئها وقصورها ومختلف معالمها، فضلاً عن تراجم أعلامها
من رجال السياسة والعلم والأدب وغير ذلك، ومن هنا تعد هذه
الموسوعة مصدرًا لا غنى عنه للباحثين فى تاريخ الخلافة
العباسية منذ نشأتها حتى بداية العصر السلجوقى،
وتوفىالخطيب البغدادى سنة (463هـ = 1071م)،(10/245)
*أسد السامانى
أحد رجالات الدولة العباسية المعروف بالسامانى نسبة الى قرية
سامان القريبة من سمرقند، وكان آباؤه وأجداده يتوارثون
إمارتها ويسمون أميرهم (سامان خداهـ) أى كبير قرية سامان
وصاحبها. وقد اعتنق أبو أسد الإسلام أثناء خلافة الأمويين. وقد
طال العمر بأسد السامانى حتى أدرك المأمون فذهب إليه فى
مرو قبل انتقاله إلى بغداد فى الفترة من سنة 193هـ = 809م
الى سنة 202هـ = 817م ومعه أبناؤه الأربعة نوح وأحمد ويحيى
والياس فاحتفى بهم المأمون وألحقهم بخدمته.(10/246)
*ابن الأحمر
هو محمد بن يوسف بن نصر أو ابن الأحمر الملقب بالغالب بالله
مؤسس دولة بنى نصر فى الأندلس، كانت بداية ظهوره فى وقت
اشتدت فيه المحن، وانعقدت عليه الآمال؛ لتميزه بالشجاعة
ومجاهدة العدو، والتف حوله الناس وبايعوه فى «أرجونة» وما
حولها على بعد ثلاثين كيلو مترًا من «جيان» فى (رمضان 629هـ
= يوليو 1232م) وتوافد عليه جنود الأندلس؛ فأعلن نفسه أميرًا
وانتقل إلى «جيان»، ودخلت فى طاعته بلاد الجنوب كلها، لكنه
أحس أنه فى حاجة إلى معقل يعتصم به؛ لأن «جيان» مدينة
مكشوفة، فوقع اختياره على غرناطة الواقعة عند سفح جبل
الثلج، وكان يوجد فى أعلى الجبل حصن منيع سبق تعميره أول
عصر ملوك الطوائف، فتوجه إليه وسكنه واستقر به، وشيئًا
فشيئًا أخذ يوسع نطاق سلطانه، حتى أصبحت دولته تضم بين
جنباتها ثلاث ولايات كبيرة هى: غرناطة وألمرية، ومالقة،
ووصلت حدودها إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط ومضيق جبل
طارق، واتخذ مدينة غرناطة عاصمة لدولته، وساعد على دعم
دولته استيلاؤه على ألمرية ومالقة لما لهما من أهمية عظيمة فى
المجالين التجارى والبحرى. وقد واجهت «ابن نصر» بعض
المشكلات الداخلية والخارجية، منها: علاقته بأصهاره «بنى
أشقيولة» الذين عاونوه ثم انقلبوا عليه، ونقص المال الذى كان
فى أشد الحاجة إليه لتثبيت قواعد سلطانه، ومشكلته مع ملوك
النصارى الذين أدركوا خطر دولته الناشئة وأرادوا القضاء
عليها، فاضطر إلى أن يعقد معهم معاهدة صلح سنة (643هـ =
1245م) لمدة عشرين عامًا، وبمقتضاها حكم ابن الأحمر مملكته
باسم ملك قشتالة «فرناندو الثالث» ودفع له جزية، ووافق على
حضور البلاط القشتالى باعتباره واحدًا من أمراء الملك، وعلى
مده بالجنود كلما طلب منه ذلك، وبالفعل أمده ابن الأحمر بقوات
ساعدت على سقوط «إشبيلية» فى يد النصارى فى (3 شعبان
646هـ = نوفمبر 1248م). وفى (جمادى الثانية 671هـ = ديسمبر(10/247)
1272م) توفى محمد بن يوسف بن نصر، بعد أخذ البيعة لولده
محمد، فأقر بذلك مبدأ الملكية الوراثية.(10/248)
*محمد الفقيه
هو محمد بن محمد بن يوسف بن نصر المقب بالفقيه لاشتغاله
بالعلم أيام أبيه، وهو أحد أمراء دولة بنى نصر فى الأندلس،
تولى الحكم بعد وفاة أبيه سنة 671هـ=1272م، قال عنه ابن
الخطيب: «وهو الذى رتب رسوم الملك للدولة ووضع ألقاب
خدمتها، ونظم دواوينها وجبايتها، هذا إلى جانب اعتنائه
بالجيش وخاصة فرق الفرسان .. وكان سياسيا بارزًا .. ، أديبًا
عالمًا، يقرض الشعر ويجالس العلماء والأدباء والأطباء والمنجمين
والحكماء، والكتاب والشعراء». وقد واجه محمد الفقيه عند توليه
الحكم ثلاث مشكلات هى، مشكلته مع الإسبان، وقد نجح فى
تحقيق انتصارات عليهم منتهزًا فرصة موت مليكهم، ومع
المرينيين الذين استنصر بهم ليعاونوه فى الجهاد ضد المسيحيين
فإذا بهم يطمعون فى الاستيلاء على الأندلس، الشىء الذى
دفعه إلى التحالف مع ملك أراجون تارة ومع ملك قشتالة تارة
أخرى لدرء خطر المرينيين، وعلى الرغم من تحسن العلاقات بين
غرناطة وفاس، فإن الفقيه لم يكن يطمئن إلى نياتهم، وقد
دفعهم ذلك إلى التحالف مع النصارى مرات، وأخيرًا كانت هناك
مشكلة مع أصهار أبيه «بنى أشقيلولة» التى اشتدت فى زمنه،
وانتهت بصدور أمر يقضى بتهجيرهم إلى مدينة القصر الكبير
بشمالى المغرب جنوب مدينة سبتة سنة (687هـ = 1288 م).
وعلى كل حال فقد توفى محمد الفقيه فى (شعبان 701هـ =
أبريل 1302م) بعد أن نجح فى دعم دولته داخليا وخارجيا.(10/249)
*إسماعيل بن فرح
هو أبو الوليد إسماعيل بن فرح أحد أمراء دولة بنى نصر فى
الأندلس، تولى الحكم سنة (713هـ = 1313م)، اشتهر بإقامة
الحدود وتطبيق الشرع، وفى عهده قام القشتاليون بهجوم ضخم
على غرناطة، انتهى بمقتل أميرى الجيش النصرانى فى مروج
غرناطة، وانتهز الأمير فرصة منازعات بين أمراء قشتالة
واستولى على بعض المدن القشتالية ومنها مدينة «أشكر»، وقد
استخدم الغرناطيون المدفع لأول مرة عند منازلتهم لها.(10/250)
*محمد الرابع بن إسماعيل
هو أبو عبدالله محمد الرابع بن إسماعيل أحد أمراء دولة بنى
نصر فى الأندلس، تولى الحكم بعد وفاة أبيه سنة (725هـ =
1325م) وقد اشتهر بالشجاعة كما كان مغرمًا بالصيد محبا للأدب
والشعر، وفى عهده قامت بعض الفتن الداخلية التى انتهزها
النصارى واستولوا على عدد من الحصون، كما أحرز أسطولهم
نصرًا على الأسطول الإسلامى فى ألمرية ومالقة. وقد دفع هذا
السلطان أن يعبر بنفسه إلى المغرب ليستنجد ببنى مرين الذين
أجابوه إلى ما طلب، ونزلت قوات المرينيين على جبل الفتح
وأمكنها الاستيلاء عليه عام (733هـ = 1333م)، ولكن السلطان
قُتل فى طريق عودته إلى غرناطة(10/251)
*يوسف الأول
هو أبو الحجاج يوسف الأول بن إسماعيل بن فرح أحد أمراء
دولة بنى نصر فى الأندلس، تولى الحكم بعد وفاة أخيه سنة
(733هـ = 1333م)، وشهدت مملكة غرناطة فى عهده عصرها
الذهبى، فأنشئت المدرسة اليوسفية والنصيرية، وجرى الاهتمام
بتحصين البلاد، وإنشاء المصانع، وإقامة الحصون، وبناء السور
العظيم حول ربض البيازين فى غرناطة، وأضيفت منشآت كثيرة
إلى قصر الحمراء منها باب الشريعة وغيره، وكان السلطان
حريصًا على تفقد أحوال شعبه بنفسه. ومن الأحداث العظام فى
عهده: الوباء الأسود الذى تفشى فى حوض البحر الأبيض
المتوسط عامى (749 - 750هـ = 1348 - 1349م)، وشمل المشرق
والمغرب، وراح ضحيته عدد عظيم من علماء الأندلس ورجال الدين
والأدب والسياسة فيها. وعلى الرغم من قيام أبى الحجاج بعقد
سلام مع ملك قشتالة عام (734هـ = 1334م) فإنه سرعان ما
تحطم وبدأ صراع بين غرناطة والمغرب من ناحية، وقشتالة
تساندها أراجون والبرتغال من ناحية أخرى حول السيطرة على
جبل طارق، وبعد معارك انتهى الأمر بين كل الأطراف بعقد
معاهدة مدتها عشر سنوات، وتوفى يوسف الأول قتيلاً فى
(أول شوال 755هـ = سبتمبر 1357م)(10/252)
*عز الدين أيبك
هو أول سلاطين دولة المماليك فى مصر والشام بعد أن زالت
دولة الأيوبيين، تولى عرش السلطنة سنة (648 هـ) وفى عهده لم
تستقر الأوضاع تمامًا، شأن كل فترات الانتقال من نظام إلى
نظام، أو بناء دولة وليدة على أنقاض أخرى بائدة، ولم يخلُ
عهد «أيبك» من المنازعات التى نشبت بينه وبين المماليك على
السلطنة، خاصة أن «فارس الدين أقطاى» رئيس «المماليك
البحرية» لم يكن مقتنعًا بأيبك، فدارت بينهما مناوشات كثيرة،
وتمكن «أيبك» من القضاء على «أقطاى»، ولكنه لم يلبث طويلا
بعد ذلك وقُتل سنة 655هـ.(10/253)
*أيبك التركمانى
هو أول سلاطين دولة المماليك فى مصر والشام بعد أن زالت
دولة الأيوبيين، تولى عرش السلطنة سنة (648 هـ) وفى عهده لم
تستقر الأوضاع تمامًا، شأن كل فترات الانتقال من نظام إلى
نظام، أو بناء دولة وليدة على أنقاض أخرى بائدة، ولم يخلُ
عهد «أيبك» من المنازعات التى نشبت بينه وبين المماليك على
السلطنة، خاصة أن «فارس الدين أقطاى» رئيس «المماليك
البحرية» لم يكن مقتنعًا بأيبك، فدارت بينهما مناوشات كثيرة،
وتمكن «أيبك» من القضاء على «أقطاى»، ولكنه لم يلبث طويلا
بعد ذلك وقُتل سنة 655هـ.(10/254)
*على بن أيبك (المنصور)
تولى على بن أيبك عرش السلطنة المملوكية فى مصر والشام
عقب مقتل أبيه سنة 655هـ، وتلقب بالمنصور نور الدين، إلا أنه لم
يكن أهلا لهذه المسئولية الجسيمة، خاصة أن البلاد الإسلامية -
آنذاك - كان يتهددها خطر المغول، الذين سيطروا على مركز
الخلافة الإسلامية، بالإضافة إلى أن «المنصور» كان لايزال طفلا
فى الحادية عشرة من عمره، ولذلك لم يجد الأتابك «سيف الدين
قطز» صعوبة فى عزله وتولى عرش السلطنة بدلا منه.(10/255)
*سيف الدين قُطُز
هو ثالث سلاطين دولة المماليك فى مصر والشام، وقدكان
«قطز» أتابكًا للمنصور نور الدين على بن أيبك، ورأى هولاكو
قائد المغول قد سيطر على «بغداد»، وقتل خليفة المسلمين،
وزحف يهدد بغزو «مصر»، فأحس أن ظروف البلاد تتطلب منه أن
يقوم بدور فعال فى إنقاذها من خطر الغزو فى هذه المرحلة
الخطيرة، فعزل «على بن أيبك» الذى كان صغيرًا لا يدرك عاقبة
الأمور، وتولى السلطنة سنة 657هـ، وقام بتنظيم الجيش
وإعداده، وخرج لملاقاة التتار فى أواخر شهر شعبان عام
(658هـ)، وتمكن فى رمضان من العام نفسه من إلحاق هزيمة
نكراء بهم فى «عين جالوت» (تقع بين «بيسان» و «نابلس»
بفلسطين)، وقتل من جيش التتار ما يقرب من نصفه، وأجبر
الباقى على الفرار، ثم دخل بعد ذلك «دمشق»، ثم عاد إلى
«مصر». وفى «القصير» (بمحافظة الشرقية)، وفى طريق عودة
«قطز» إلى «مصر» أمر جنوده بالرحيل تجاه «الصالحية»،
وبقى مع بعض خواصه وأمرائه للراحة، فاتفق عدد من المماليك
بزعامة «بيبرس» على قتله، وتم لهم ما أرادوا فى ذى القعدة
سنة (658هـ)، بعد أن قام «قطز» بدحر التتار وهزيمتهم،
وتشتيت جيشهم، وحفظ العالم الإسلامى من شرهم الذى لم يسلم
منه أحد فى طريقهم.(10/256)
*قُطُز
هو ثالث سلاطين دولة المماليك فى مصر والشام، وقدكان
«قطز» أتابكًا للمنصور نور الدين على بن أيبك، ورأى هولاكو
قائد المغول قد سيطر على «بغداد»، وقتل خليفة المسلمين،
وزحف يهدد بغزو «مصر»، فأحس أن ظروف البلاد تتطلب منه أن
يقوم بدور فعال فى إنقاذها من خطر الغزو فى هذه المرحلة
الخطيرة، فعزل «على بن أيبك» الذى كان صغيرًا لا يدرك عاقبة
الأمور، وتولى السلطنة سنة 657هـ، وقام بتنظيم الجيش
وإعداده، وخرج لملاقاة التتار فى أواخر شهر شعبان عام
(658هـ)، وتمكن فى رمضان من العام نفسه من إلحاق هزيمة
نكراء بهم فى «عين جالوت» (تقع بين «بيسان» و «نابلس»
بفلسطين)، وقتل من جيش التتار ما يقرب من نصفه، وأجبر
الباقى على الفرار، ثم دخل بعد ذلك «دمشق»، ثم عاد إلى
«مصر». وفى «القصير» (بمحافظة الشرقية)، وفى طريق عودة
«قطز» إلى «مصر» أمر جنوده بالرحيل تجاه «الصالحية»،
وبقى مع بعض خواصه وأمرائه للراحة، فاتفق عدد من المماليك
بزعامة «بيبرس» على قتله، وتم لهم ما أرادوا فى ذى القعدة
سنة (658هـ)، بعد أن قام «قطز» بدحر التتار وهزيمتهم،
وتشتيت جيشهم، وحفظ العالم الإسلامى من شرهم الذى لم يسلم
منه أحد فى طريقهم.(10/257)
*بيبرس البندقدارى (658 - 679هـ)
هو أحد سلاطين دولة المماليك فى مصر والشام، انتقل إليه
عرش السلطنة بعد مقتل «قطز» سنة 658 ويُعدُّ المؤسس الفعلى
لدولة المماليك وأعظم سلاطينها؛ إذ اجتمعت فيه صفات العدل
والفروسية والإقدام. عقد «بيبرس» العزم على أن تكون «مصر»
والشام من أعظم البلاد آنذاك، ووهب حياته للجهاد، وجعل هدفه
رفع شأن الأمة الإسلامية، وإليه يرجع الفضل فى انتقال الخلافة
العباسية إلى «القاهرة» بعد سقوطها فى «بغداد»، وأصبحت
مصر دار الخلافة الإسلامية؛ إذ استقدم «بيبرس» «أحمد بن
الخليفة الظاهر العباسى»، وبايعه بالخلافة فى حضرة الأمراء
والعلماء ورجال الدولة. وفى (4 من شعبان سنة 659هـ)، عقد
الخليفة اجتماعًا منح فيه «بيبرس» تفويضًا منه لتسيير أمور
البلاد، فكان ذلك تقوية له ضد خصومه ومنافسيه، كما كان
إقرارًا بمشروعية النظام المملوكى، وبحقه فى تولى شئون
البلاد. عادت إلى العالم الإسلامى هيبته بإحياء الخلافة
الإسلامية، وأضحت «القاهرة» مقر الخلافة، ومركز السلطة
الإسلامية المركزية، ومقصد المسلمين من كل حدب وصوب، وظلت
على ذلك حتى انتقلت منها الخلافة إلى «استانبول» بعد قرابة
ثلاثة قرون. سَنَّ «بيبرس» نظام ولاية العهد لأول مرة فى تاريخ
دولة المماليك البحرية، وحصر وراثة العرش فى أسرته بتعيين
ابنه «محمد بركة خان» وليا للعهد، ليحد من تدبير الدسائس
والمؤامرات حول عرش السلطنة، وما يجره ذلك من اضطراب
وضعف للدولة. قام «بيبرس» بإصلاحات جوهرية فى البلاد،
وأعاد إلى الأسطول البحرى قوته، وعين قضاة من المذاهب
الأربعة للفصل فى الخصومات، بعد أن كان القضاء مقصورًا على
المذهب الشافعى، فعادت إلى العالم الإسلامى قوته على أسس
تنظيمية دقيقة، إذ كان «بيبرس» إداريا حازمًا، وقائدًا شجاعًا،
فدأب على رعاية شئون البلاد، وتنمية مواردها، وحفر الترع،
وأصلح الحصون، وأسس المعاهد، وبنى المساجد التى من(10/258)