ـ[الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي]ـ
• نقلا عن: موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي
• نقلها وأعدها للشاملة: أبو سعيد المصري
عدد الأجزاء: 16 (9 عصور، و 7 ملاحق)
[الكتاب مرقم آليا]
__________
http://mofohouse.blogspot.com(/)
الجزء الأول
عصر النبوة والخلافة الراشدة
تأليف:
أ. د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر
الفصل الأول
*العالم قبل الإسلام
جغرافية بلاد العرب:
بلاد العرب شبه جزيرة، تقع جنوبى غربى قارة آسيا، يحدها «البحر
الأحمر» من الغرب، و «الخليج العربى» من الشرق، و «بحر العرب»
و «المحيط الهندى» من الجنوب، وبادية «الشام» من الشمال، وتبلغ
مساحتها أكثر من مليونى كيلو متر مربع، ويقسمها الجغرافيون إلى
خمسة أقاليم رئيسية هى:
- إقليم تِهامَة: وهو شريط ساحلى يطل على البحر الأحمر، وسمى
بتهامة لارتفاع درجة حرارته، وركود هوائه.
- إقليم الحجاز: ويقع شرقى «تهامة»، ويمتد من «الشام» شمالاً إلى
«اليمن» جنوبًا، وتقع عليه سلسلة جبال «السراة»، وسُمِّى بالحجاز؛
لأنه يحجز بين «تهامة» فى الغرب و «نجد» فى الشرق. وتقع فى هذا
الإقليم «مكة» المكرمة، و «المدينة» المنورة.
- إقليم نجد: ويقع شرقى «الحجاز» ويمتد من صحراء بادية
«السماوة» شمالاً حتى قرب حدود «اليمن» جنوبًا، وسُمِّى «نجدًا»؛
لارتفاع أرضه.
- إقليم العروض: وهو الجزء الشرقى من شبه الجزيرة العربية، ويطل
على «الخليج العربى».
- إقليم اليمن: وهو الجزء الجنوبى الغربى من شبه الجزيرة العربية.
وهذه المساحة الكبيرة ذات طبيعة صحراوية، لا يجرى فيها نهر
واحد، ولا تسقط الأمطار إلا نادرًا، باستثناء إقليم «اليمن» الذى
تسقط فيه بعض الأمطار الموسمية، وبخاصة فى فصل الصيف، مما
يسَّر لأهلها حياة مستقرة نتيجة اشتغالهم بالزراعة، وساعدهم على
إقامة حكومات منظمة، وإقامة حضارة راقية، وقد اشتهر هذا الإقليم
باليمن السعيد.
أما بقية أجزاء شبه الجزيرة العربية فقد قلَّت فيها الزراعة أو كادت
تنعدم؛ لندرة المياه عدا بعض الواحات التى بها عيون للمياه، ساعدت
على نمو الحشائش التى ترعاها الماشية، وزراعة بعض المحاصيل
كالشعير والقمح.
مكة المكرمة:
تقع «مكة» المكرمة فى إقليم «الحجاز»، شرقى مدينة «جدة» بنحو
سبعين كيلو مترًا، وترتبط نشأتها بقصة «إبراهيم الخليل» وابنه(1/1)
«إسماعيل» عليهما السلام، حيث أمر الله تعالى نبيَّه «إبراهيم» أن
يذهب بابنه «إسماعيل» إلى الوادى الذى نشأت فيه «مكة»؛ وأن
يسكنه فيه، فامتثل «إبراهيم» لأمر الله، وارتحل إلى ذلك الوادى
وكان قفرًا (ليس به زرع أو ماء)، خاليًا من السكان، وترك زوجه
«هاجر» وابنها الطفل «إسماعيل»، وفى هذا يقول الله تعالى على
لسان «إبراهيم» عليه السلام:
{ربنا إنى أسكنت من ذريتى بوادٍ غير ذى زرعٍ عند بيتك المحرم}.
[إبراهيم: 37].
وإكرامًا لإسماعيل فجَّر الله - تعالى - بئر «زمزم»، بعد أن يئست أمه
«هاجر» من وجود الماء، وهى تسعى باحثة عنه بين صخرتى
«الصفا» و «المروة»، وقد أصبح السعى بينهما ركنًا من أركان الحج.
كان وجود الماء فى هذا المكان عجبًا، فجذب القبائل التى كانت
تسكن بالقرب منه، وهى قبائل «جُرهم» فجاءوا إلى «هاجر»،
وطلبوا منها السماح لهم بأن ينتفعوا بماء زمزم، فأذنت لهم ورحَّبت
بهم؛ ليؤنسوا وحدتها هى وابنها، وبدءوا يقيمون بيوتهم حول بئر
«زمزم»، ومن هنا كانت نشأة «مكة» المكرمة، وفيها عاشت
«هاجر» وابنها «إسماعيل» بين قبائل «جرهم»، ولما كبر تزوج
منهم، وأنجب أولاده الذين هم أجداد العرب المستعربة.
واتسعت «مكة» شيئًا فشيئًا، وزحف إليها العمران، وذاعت شهرتها
بين المدن، بعد أن أمر الله - تعالى- «إبراهيم» - عليه السلام - فى
إحدى زياراته لابنه «إسماعيل» ببناء «الكعبة المشرفة»، فأصبحت
«مكة» مكانًا مقدسًا، وزادها الله تشريفًا بهذا البناء.
و «الكعبة» التى بناها نبى الله «إبراهيم» - عليه السلام - بناء مربع
الشكل تقريبًا، يبلغ ارتفاعه نحو خمسة عشر مترًا، وعرض جداريه
الشمالى والجنوبى نحو عشرة أمتار، والشرقى والغربى اثنا عشر
مترًا.
ويقع باب «الكعبة» فى الجدار الشرقى، وفى الطرف الجنوبى منه
يقع «الحجر الأسود»، وهى منذ بنائها مثابة للناس وأمن، كما أخبر
بذلك الله - تعالى - فى القرآن الكريم، وظلت قبائل «جُرهُم» تقوم(1/2)
على خدمة «الكعبة»، ورعاية حجاجها، إلى أن ضعفت، فحلَّ مكانها
فى تلك المهمة قبائل «خزاعة»، التى ضعفت هى الأخرى بعد فترة،
فخلفتها قبيلة «قريش» بزعامة «قصى بن كلاب» الجد الرابع للنبى
- صلى الله عليه وسلم -، فأسس دار الندوة فى «مكة»، وهى أشبه ما
يكون ببرلمان صغير، يتشاور فيه زعماء «قريش» حول شئونها،
ونظَّم «قُصىَّ بن كلاب» السقاية، وهى جلب الماء للحجاج من آبار
بعيدة، بعد أن ردمت قبائل «جُرهُم» بئر «زمزم» عندما غلبتها
«خزاعة» على أمرها وتركت «مكة»، واهتم بالسدانة، وبالرفادة
وهى إطعام الحجاج، وبالحجابة وهى خدمة «الكعبة» وتولى
مفاتيحها، وباللواء وهو راية الحرب، وكان ذلك كله فى يد «قصى»،
ولكن بعد وفاته قُسمت هذه المناصب بين أحفاده.
أحوال العرب قبل الإسلام:
يُقسم علماء الأنساب العرب إلى:
- عرب بائدة؛ وهم الذين هلكوا ولم يبق من نسلهم أحد، مثل: «عاد»،
و «ثمود» و «طُسُم»، وغيرهم.
- وعرب باقية، وهم قسمان:
أ - عرب عاربة، وهم أهل «اليمن» الذين ينسبون إلى «يعرب ابن
قحطان».
ب - وعرب مستعربة، وهم الذين ينسبون إلى «عدنان» الذى يتصل
نسبه بإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وسُمُّوا مستعربة؛ لأن
أباهم غير عربى وهو «إسماعيل» - عليه السلام - وأمهم عربية من
«جُرهُم».
أحوال العرب السياسية:
عرفت بلاد العرب الحياة السياسية المنظمة قبل الإسلام، وبخاصة فى
«اليمن»، حيث الزراعة والاستقرار، فقامت فيها دول كثيرة متعاقبة،
مثل: دولة «معين»، ودولة «قُتبان»، ودولة «سبأ» التى سُميت بها
سورة من سور القرآن الكريم، ودولة «حمير» التى ظلت قائمة حتى
احتلتها «الحبشة» فى بداية القرن السادس الميلادى، ثم استولى
عليها «الفرس»، وظلت كذلك إلى أن حررها الإسلام من الاحتلال
الفارسى، وأسلم أهلها.
وقامت فى «اليمن» حضارة عظيمة، فاشتهرت ببناء السدود كسد
مأرب، لخزن مياه الأمطار لاستخدامها فى الزراعة، وازدهرت فيها(1/3)
التجارة؛ بسبب موقعها الجغرافى المتميز على المدخل الجنوبى
للبحر الأحمر؛ مما جعلها مركزًا تجاريّاً كبيرًا بين الشرق الأقصى
وشرقى «إفريقيا» بل و «أوربا».
وبعد انهيار «سد مأرب» وتدهور الحياة الاقتصادية هاجر العرب من
«اليمن» إلى أطراف شبه الجزيرة العربية فى الشمال، وأقاموا
إمارات عربية، ظلت قائمة إلى ما بعد ظهور الإسلام، فنشأت إمارة
«المناذرة» فى «العراق»، وكانت عاصمتها مدينة «الحيرة»، وإمارة
«الغساسنة» فى جنوب «الشام».
وكانت هناك إمارات عربية أخرى فى شرقى شبه الجزيرة العربية،
فى «البحرين» و «اليمن»، وفى جنوبيها الشرقى فى «عمان»،
وكلها أسلمت فى عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأصبحت
جزءًا من الدولة الإسلامية.
وأما بقية شبه الجزيرة فكان يعيش أهلها حياة قبلية، حيث يحكم كل
قبيلة شيخ، هو صاحب الكلمة النافذة، والأمر والنهى فيها.
الحياة الاجتماعية:
اختلفت الحياة الاجتماعية فى بلاد العرب من مكان إلى آخر باختلاف
حياة الحضر والبدو، فالأجزاء الحضرية التى تتمتع بحياة مستقرة
وبنظم سياسية يُقسم المجتمع فيها إلى طبقات: طبقة الملوك والحكام
والأمراء، وهم يمثلون قمة الهرم الاجتماعى، وينعمون بحياة الترف
والنعيم، تليهم طبقة التجار والأثرياء، ثم تأتى طبقة الفقراء فى
أدنى الهرم الاجتماعى.
أما البدو فيتألفون من طبقتين:
- طبقة السادة، وهم فى الواقع كل العرب البدو، سواء أكانوا
أغنياء أم فقراء، فالفقر لم يكن يحد من حرية الإنسان العربى
وسيادته، فمهما يكن فقيرًا فهو مالك لزمام نفسه، معتز بحريته.
- وطبقة العبيد والخدم، وكان يمتلكهم الأغنياء، وعلى عاتق هذه
الطبقة قامت الحياة الاقتصادية.
واتسمت حياة البداوة بعادات بعضها جميل محمود، أبقى عليه
الإسلام وشجَّعه، كالكرم والنجدة وإغاثة الملهوف، وبعضها الآخر
قبيح مرذول حاربه الإسلام حتى قضى عليه، كوأد البنات خوفًا من(1/4)
العار، وهذه العادة كانت - فى واقع الأمر - فى قبائل معينة ولا تمثل
نظرة العرب كلهم إلى المرأة، لأنها كانت عندهم محل اعتزاز وتقدير
بصفة عامة.
الحياة الدينية:
عرفت بلاد العرب التوحيد قبل الإسلام بزمن طويل، فقد نزلت فيها
رسالات سماوية، كرسالة «هود» - عليه السلام - فى جنوبى شرقى
الجزيرة العربية، ورسالة «صالح» - عليه السلام - فى شماليها
الغربى، كما عرفوا التوحيد من رسالة «إسماعيل» -عليه السلام -،
ولكن بمرور الزمن نسوا هذه الرسالات، وتحولوا إلى الوثنية وعبادة
الأصنام، وأصبح لهم آلهة كثيرة مثل: «هُبل» و «اللات» و «العزى».
وعلى الرغم من انتشار عبادة الأصنام انتشارًا واسعًا فى بلاد العرب،
فإن هناك ما يدلُّ على أنهم لم يكونوا يعتقدون اعتقادًا حقيقيّاً
فيها، فيحكى القرآن الكريم على لسانهم قولهم: {ما نعبدهم إلا
ليقربونا إلى الله زلفى}.الزمر:3].
وكان منهم من رفض عبادة الأصنام رفضًا قاطعًا، وهم الذين سُمُّوا
بالحنفاء، كورقة بن نوفل، و «زيد بن عمرو بن نُفيل»، و «عثمان بن
الحويرث»، و «عبيد الله بن جحش»، و «قس بن ساعدة الإيادى»،
وهؤلاء لم تقبل أذهانهم عبادة الأصنام، فاعتنق بعضهم المسيحية،
وترقب بعضهم الآخر ظهور الدين الحق.
وإذا كانت الوثنية قد سادت بلاد العرب، فإن اليهودية والمسيحية
عرفت طريقها إليها فتركزت المسيحية فى «نجران» التى كانت
وقتئذٍ من أرض «اليمن»، فى حين استقرت اليهودية شمال «الحجاز»،
فى «يثرب» و «خيبر»، و «وادى القرى» و «تيماء».
ومن العجيب أن اليهودية والنصرانية لم تنتشرا على نطاق واسع فى
بلاد العرب، ولعل ذلك راجع إلى أن اليهودية تُعدُّ ديانة مغلقة،
فأهلها كانوا يعتبرونها ديانة خاصة بهم، فلم يدعوا أحدًا إليها، ولم
يرحِّبوا باعتناق غيرهم لها، أما المسيحية، فعلى الرغم من أنها
ديانة تبشيرية، وأهلها يرغبون فى نشرها فى العالم فإنه يبدو(1/5)
أنها حين وصلت إلى بلاد العرب كانت قد بلغت درجة من التعقيدات
والخلافات لم تستسغها عقول العرب.
الحياة الثقافية:
كان العرب قبل الإسلام أمة أمية، لا تعرف القراءة والكتابة إلا فى
نطاق ضيق، ولم يكن الذين يعرفونها فى «مكة» مثلاً يزيدون على
عشرين شخصًا، ومع ذلك فإنهم امتلكوا قدرًا لا بأس به من المعرفة،
واتصلوا بالعالم الخارجى من خلال رحلاتهم التجارية، فعرفوا الثقافة
الفارسية عن طريق إمارة «الحيرة» العربية، والثقافة اليونانية عن
طريق الإمارات العربية فى «الشام».
واكتسب العرب أيضًا قدرًا كبيرًا من المعارف العلمية بالخبرة والتجربة
وبدافع الحاجة كالمعلومات الفلكية والجغرافية، دفعهم إلى معرفتها
تنقلاتهم الكثيرة، وارتحالهم من مكان إلى آخر، وحاجتهم إلى معرفة
مواسم نزول الأمطار وهبوب الرياح.
وتفوق العرب على غيرهم من الأمم فى مجال «علم الأنساب»، وذلك
لاعتزازهم بانتسابهم إلى قبائلهم، وبلغ من شدة اهتمامهم بعلم
الأنساب أن اعتنوا بأنساب الخيل، غير مكتفين بأنساب البشر.
أما الميدان الثقافى الذى برع فيه العرب فهو البلاغة والفصاحة،
فالعربى كان فصيحًا بطبعه، بليغًا بفطرته، ودليل ذلك فهمهم للقرآن
الكريم، الذى نزل بلغتهم وهو ذروة البلاغة والفصاحة.
وبرع العرب فى ميدان الشعر براعة واضحة، فهو ديوان حياتهم،
وشعراؤهم يُعدُّون بالمئات، والشعر العربى إلى جانب كونه لونًا
راقيًا من ألوان الأدب يُعدُّ بعد القرآن الكريم مصدرًا من مصادر معرفة
الحياة العربية بكل خصائصها ومظاهرها.
وكما تفوَّق العرب فى الشعر تفوقوا فى الخطابة، وكانوا يقيمون
الأسواق الأدبية التى تشبه مهرجانات المسابقات الأدبية فى الوقت
الحاضر، ومن أشهر تلك الأسواق سوق «عكاظ»، وكانت تعقد فيها
لجان للتحكيم بين الشعراء والخطباء، والقصيدة أو الخطبة التى يفوز
صاحبها يتناقلها الناس ويحفظونها، ويشيدون بقائلها، ومن القصائد(1/6)
الرائعة ما كان يعلق فى «الكعبة»، وهى التى عرفت باسم
«المعلقات»، مثل معلقة «امرئ القيس» و «زهير بن أبى سلمى».(1/7)
الفصل الثاني
*نشأة الرسول
نسب الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
الرسول هو «محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبدمناف»،
يتصل نسبه بإسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام -. وكان جده
«عبد المطلب» قد نذر وهو يعيد حفر بئر «زمزم» - بناءً على رؤية
رآها - أنه إن رزقه الله بعشرة من الأولاد ليذبحن أحدهم قربانًا
للآلهة، فلما تحقَّق له ذلك أراد أن يفى بنذره، فضرب الأقداح عند
«الكعبة» كما كانت عادتهم على أولاده جميعًا، ومن يخرج عليه
السهم يكن هو الذى ارتضته الآلهة قربانًا لها، فخرج السهم على
«عبد الله» فعزم «عبد المطلب» على ذبح ابنه.
ولما ذاع خبر «عبد المطلب» مع ابنه فى «مكة» فزع أهلها من هذا
الحدث، وذهبوا إليه يثنونه عن أمره، فلمَّا لم يجدوا منه استجابة
لرجائهم، اقترحوا عليه الذهاب إلى عرَّافة مشهورة؛ لعلهم يجدون
عندها لهذه المشكلة حلاً، فوافقهم على ذلك.
فلما ذهبوا إلى العرَّافة وقصُّوا عليها ماحدث، اقترحت عليهم أن
يضربوا القداح عند آلهتهم، على «عبد الله» وعلى عشرة من الإبل،
فإن خرجت على «عبد الله» زادوا عشرة من الإبل، حتى ترضى الآلهة
وتخرج القداح على الإبل، ففعل ذلك «عبد المطلب»، حتى وصل العدد
إلى مائة، وعندئذٍ خرج السهم مشيرًا إلى الإبل، ففرح «عبد المطلب»،
وفرحت معه «مكة»، ونحر الإبل، وأطعم الناس ابتهاجًا بنجاة ابنه
الحبيب من الذبح.
زواج عبد الله من آمنة بنت وهب:
بعد نجاة «عبد الله بن عبد المطلب» من الذبح زوَّجه من «آمنة ابنة وهب
بن عبد مناف بن زُهرة».
وبعد أيام من العرس خرج عبد الله فى رحلة تجارية إلى «الشام»،
فخرج مع قافلة قرشية وباع واشترى، وفى عودته مر بيثرب؛ ليزور
أخوال أبيه من «بنى النجار»، لكنه مرض فى أثناء زيارته، فلما بلغ
«عبد المطلب» خبر مرض ابنه، أرسل على الفور أكبر أبنائه «الحارث
بن عبد المطلب» إلى «يثرب» ليعود بأخيه، لكن «عبد الله» تُوفِّى قبل(1/8)
أن يصل أخوه إلى «يثرب»، فحزن «عبدالمطلب» حزنًا شديدًا على
موت ابنه «عبدالله» الذى لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، ولم
يمضِ على زواجه سوى شهور قليلة.
ولما خفَّت موجة الحزن على آمنة، بدأت تحس بجنين يتحرك فى
أحشائها، فتعلَّق به أملُها، عسى أن يعوضها فقد زوجها الحبيب،
وأخبرت «عبدالمطلب» بحملها، ففرح لذلك فرحًا شديدًا، وامتلأ قلبه
أملاً ورجاءً فى أن يأتى هذا الحمل بولد يعوضه عن ابنه الفقيد.
حادثة الفيل:
بعد أن حكم «أبرهة» «اليمن» تملكته الغيرة من الكعبة المشرفة،
وأراد أن يصرف العرب عن زيارتها، فبنى كنيسة ضخمة بالغة
الروعة، تُسمَّى «القُلَّيس»، وساق أهل «اليمن» إلى التوجه إليها
والتعبد فيها، لكنه لم يفلح فى ذلك، وزاد من غضبه أن أحد الأعراب
عبث بالكنيسة وقذَّرها، فأقسم «أبرهة» ليهدمن الكعبة، ويطأن
«مكة»، وجهَّز لذلك جيشًا جرارًا، تصاحبه الفيلة، وفى مقدمتها فيل
عظيم، ذو شهرة خاصة عندهم.
وحينما علمت العرب بنية «أبرهة» تصدَّوا له، لكنهم لم يفلحوا فى
وقف زحفه، حتى إذا بلغ جيش «أبرهة» «المغمَّس» - وهو مكان بين
«الطائف» و «مكة» - ساق إليه أموال «تهامة» من «قريش» وغيرها،
وكان فيها مائتا بعير لعبد المطلب بن هاشم، فهمَّت «قريش» وقبائل
العرب بقتال «أبرهة»، ولكنهم وجدوا أنفسهم لا طاقة لهم بحربه،
فتفرقوا عنه دون قتال.
أرسل «أبرهة» إلى «عبدالمطلب» يُبلغِه أنه لم يأتِ لحربهم، وإنما
جاء لهدم البيت، فإن تركوه وما أراد فلا حاجة له فى دمائهم، فذهب
«عبدالمطلب» إليه، فلما دخل نزل «أبرهة» من سريره، وجلس على
البساط، وأجلس «عبدالمطلب» إلى جانبه، وأكرمه وأجلَّه، فطلب
«عبدالمطلب» منه أن يرد عليه إبله التى أخذوها، فقال «أبرهة»:
أعجبتنى حين رأيتك، وزهدتُ فيك حين كلمتنى، تترك بيتًا هو دينك
ودين آبائك، جئتُ لأهدمه، وتكلمنى فى مائتى بعير أصبتها لك؟(1/9)
فقال: «عبد المطلب»: إنى رب الإبل (أى صاحبها) وإن للبيت ربًا
سيحميه. قال «أبرهة»: ما كان ليمتنع منى، فرد عليه «عبد المطلب»:
أنت وذاك، ثم رد «أبرهة» الإبل لعبد المطلب.
أمر «عبد المطلب» قريشًا بالخروج من «مكة»، والاحتماء فى شعاب
الجبال، وتوجه هو إلى باب «الكعبة»، وتعلَّق به مع نفر من قريش
يدعون الله ويستنصرونه، وانطلق جيش «أبرهة» نحو «مكة»، وحينما
اقترب منها برك الفيل الأكبر الذى يتقدم الجيش رافضًا الدخول،
وتعبوا فى إجباره على اقتحام «مكة»، وكانوا عندما يوجهونه إلى
جهة غير «مكة» ينهض ويهرول.
ثم شاء الله أن يهلك «أبرهة» وجيشه، فأرسل عليهم جماعات من
الطير، أخذت ترميهم بحجارة، فقضت عليهم جميعًا، وتساقطوا
كأوراق الشجر الجافة الممزَّقة، كما حكى ذلك القرآن الكريم: [ألم تر
كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم فى تضليل وأرسل
عليهم طيرًا أبابيل ترميهم بحجارةٍ من سجيل فجعلهم كعصف
مأكول]. [سورة الفيل].
مولد النبى - صلى الله عليه وسلم -:
وفى يوم الاثنين الموافق (12 من شهر ربيع الأول سنة 570م) (عام
الفيل) ولدت «آمنة» وليدها، يتلألأ النور من وجهه الكريم، أكحل
أدعج مختونًا، يرنو ببصره إلى الأفق، ويشير بسبابته إلى السماء،
فهرولت قابلته، وهى «أم عبد الرحمن بن عوف» إلى جده «عبد
المطلب» تزف إليه البشرى، وتنقل إليه ذلك الخبر السعيد، فكاد
الرجل الوقور يطير من الفرحة، وفرح الهاشميون جميعًا، حتى إن عمه
«أبالهب» أعتق الجارية «ثويبة» التى أبلغته الخبر، وكانت أول من
أرضعت خير البشر.
سمَّى «عبد المطلب» حفيده «محمدًا»، وهو اسم لم يكن مألوفًا أو
منتشرًا فى بلاد العرب، ولما سُئل عن ذلك، قال: رجوت أن يكون
محمودًا فى الأرض وفى السماء.
طفولته وصباه:
فى اليوم السابع لميلاد النبى - صلى الله عليه وسلم - أمر جده بجزور
فنحرت، وأقام حفلا دعا إليه كبار رجالات «قريش» احتفاءً بهذا(1/10)
الوليد الكريم، وانتظرت «آمنة» المرضعات اللائى كن يأتين من البادية
إلى «مكة»، ليأخذن الأطفال إلى ديارهن لإرضاعهم بأجر، وكانت
عادة أشراف «مكة» ألا ترضع الأم أطفالها، مفضلين أن تكون
المرضعة من البادية؛ لتأخذ الطفل معها، حيث يعيش فى جو ملائم
لنموه، من سماء صافية، وشمس مشرقة، وهواء نقى، وكانت هناك
قبائل مشهورة بهذا العمل مثل «بنى سعد».
وكان محمد من نصيب واحدة منهن تُدعَى «حليمة السعدية» لم تكن
تدرى حين أخذته أنها أسعد المرضعات جميعًا، فقد حلَّت عليها
الخيرات، وتوالت عليها البركات، بفضل هذا الطفل الرضيع، فسمنت
أغنامها العجاف، وزادت ألبانها وبارك الله لها فى كل ما عندها.
مكث «محمد» عند «حليمة» عامين، وهو موضع عطفها ورعايتها، ثم
عادت به إلى أمه، وألحت عليها أن تدعه يعود معها، ليبقى مدة
أخرى، فوافقت «آمنة» وعادت به «حليمة» إلى خيام أهلها.
حادث شق الصدر:
بقى «محمد» عند «حليمة السعدية» بعد عودتها ثلاثة أعوام أخرى،
حدثت له فى آخرها حادثةُ شقِّ الصدر، وملخصها كما ترويها أوثق
مصادر السيرة: أن «محمدًا» كان يلعب أو يرعى الغنم مع أترابه من
الأطفال، خلف مساكن «بنى سعد» فجاءه رجلان عليهما ثياب بيض،
فأخذاه فأضجعاه على الأرض، وشقا صدره وغسلاه، وأخرجا منه
شيئًا، ثم أعاداه كما كان.
ولما رأى الأطفال ما حدث، ذهب واحد منهم إلى «حليمة» فأخبرها
بما رأى، فخرجت فزعة هى وزوجها «أبو كبشة» فوجدا «محمدًا»
ممتقعًا لونه، فسألته «حليمة» عما حدث فأخبرها، فخشيت أن يكون
ما حدث له مسٌ من الجن، وتخوفت عاقبة ذلك على الطفل، فأعادته
إلى أمه، وقصت عليها ماحدث لطفلها.
موت آمنة بنت وهب:
لما بلغ «محمد» السادسة من عمره أخذته أمه فى رحلة إلى «يثرب»؛
ليزور معها قبر أبيه، ويرى أخوال جده «عبد المطلب» من «بنى
النجار».
وفى طريق العودة مرضت «آمنة» واشتدَّ عليها المرض، وتُوفيت فى(1/11)
مكان يُسمى «الأبواء» بين «مكة» و «المدينة». وهكذا شاءت إرادة
الله أن يفقد «محمد» أمه، وهو فى هذه السن الصغيرة، وهو أشد ما
يكون احتياجًا إليها، فتضاعف عليه اليتم، ولكن للهِ فى خلقهِ حِكم لا
يعلمها إلا هو تعالى، فإن كان «محمدٌ» قد حُرِمَ من أبويه. فإن الله
هو الذى سيتولى رعايته وتعليمه.
ضم «عبد المطلب» حفيده «محمدًا» إلى كفالته؛ لأن ابنه «عبد الله» لم
يترك ثروة كبيرة، وكل ما تركه كان خمسة من الإبل، وبعضًا من
الأغنام، و «أم أيمن» (بركة) التى أصبحت حاضنة «محمد» وراعيته
بعد فقد أمه، وقد عوضته كثيرًا عن حنان الأم.
لكن كفالة «عبد المطلب» لمحمد لم تدم طويلا، إذ استمرت عامين بعد
وفاة «آمنة»، كان خلالهما نعم الأب الحنون، فحزن «محمد» على
فقده حزنًا شديدًا، وبكاه بكاءً مرا وهو يودعه إلى مثواه الأخير.
وبعد وفاة «عبد المطلب» انتقل «محمد» إلى كفالة عمه «أبى
طالب»، ومع أنه لم يكن أكثر أعمامه مالا وأوسعهم ثراءً، بل كان
أكثرهم أولادًا وأثقلهم مؤونة؛ فإنه كان شديد العطف عليه،
والرعاية له، فضمه إلى عياله، وكان يفضله عليهم فى كل شىء.
اشتغاله برعى الغنم:
لم يرض «محمدٌ» أن يكون عالة على عمّه، وبخاصة أنه يرى ضيق
ذات يده، فأراد أن يعمل ليعول نفسه، ويكسب قوته، ويساعد عمه
إن أمكن ذلك، فاشتغل برعى الأغنام، وهو عمل يناسب سنه، وهذه
كانت حرفة الأنبياء من قبله، لقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: «ما
من نبى إلا ورعى الغنم»، قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا».
رحلته الأولى إلى الشام:
وجد «محمد» فى عمه «أبى طالب» عطفًا وحنانًا عوَّضه عن فقد
جدِّه، فكان يؤثره على أولاده، ولا يكاد يردُّ له طلبًا، فلما رغب
«محمد» فى أن يصحب عمه فى رحلة إلى «الشام»، أجابه إلى ذلك،
رغم أنه كان يخشى عليه من طول الطريق، ومشقة السفر، وهو لم
يزل غلامًا صغيرًا لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره.(1/12)
انطلق «محمد» مع عمه فى تلك الرحلة إلى «الشام»، وهناك حدثت له
قصة عجيبة لفتت أنظار القافلة كلها، لكنهم لم يستطيعوا لها
تفسيرًا، وذلك أن راهبًا نصرانيا، يدعى «بحيرا» كان يتعبَّد فى
صومعته فى بادية «الشام»، على طريق القوافل، ولم يكن يحفل
بأحدٍ يمرُّ عليه، لكنه فى هذه المرة نزل من صومعته لما رأى القافلة
القرشية وذهب إليهم، ودعاهم إلى طعام، وطلب منهم أن يحضروا
جميعًا ولا يتركوا أحدًا يتخلف.
ولما حضر «محمد» مع القوم سأل الراهبُ «أبا طالب»: من يكون منك
هذا الغلام؟ فقال: ابنى، فقال له: ما ينبغى لهذا الغلام أن يكون
أبوه حيا، فقال: ابن أخى، قال: صدقت. ثم رأى خاتم النبوة على
كتف النبى - صلى الله عليه وسلم -، وقال لأبى طالب: ارجع بابن أخيك
هذا فسوف يكون له شأن عظيم، واحذر عليه اليهود، فلو عرفوا منه
الذى أعرف ليمسنه منهم شر.
وقعت كلمات الراهب من «أبى طالب» موقعًا جميلا، فشكر الراهب
على هذه النصيحة الغالية التى لا تصدر إلا عن رجلٍ صالح، وعاد بابن
أخيه إلى «مكة».
رحلته الثانية إلى الشام فى تجارة خديجة:
ذهب «محمد» هذه المرة إلى «الشام» فى مهمة تجارية، لا للتنزه أو
الزيارة كما كان فى الأولى، ذلك أن «أبا طالب» رأى ابن أخيه قد
بلغ مرحلة الشباب، ولابد له من أن يتزوَّج ويعول أسرة، ولكن من
أين لمحمد بالمال؟ فقال لابن أخيه بعد أن أحسن له التدبير: «يا ابن
أخى أنا رجل لا مال لى، وقد اشتدَّ الزمانُ علينا، وقد بلغنى أن
خديجة بنت خويلد استأجرت فلانًا ببكرين (أى جملين صغيرين) ولسنا
نرضى لك بمثل ما أعطته فهل لك أن أكلمها؟» قال «محمد»: «ما
أحببتَ ياعمى».
ويكشف هذا الحوار القصير الظروف المالية الصعبة التى كان يمر بها
«أبو طالب»، لكن ذلك لم يجعله يضيق بابن أخيه، وإنما خاطبه فى
رفق وشاوره قبل أن يفاتحه فى أمر عمله مع «خديجة»، وفى
الوقت نفسه نلمس أن «محمدًا» - صلى الله عليه وسلم - كان يشعر بما(1/13)
يعانيه عمه، فلم يملك إلا أن يقول له: «ما أحببتَ يا عمى».
توجه «أبو طالب» إلى «خديجة» وقال لها: «هل لك يا «خديجة» أن
تستأجرى «محمدًا»؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانًا ببكرين، ولسنا
نرضى لمحمد دون أربعة». فأجابت «خديجة» بلهجة تحمل الوداد
والاحترام للشيخ الوقور: «لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف
وقد سألتَه لقريب حبيب» (1).
خرج «محمد» فى تجارة «خديجة» يصحبه غلامها «ميسرة» وكان
صاحب خبرة فى التجارة ومعرفة بأصولها، أثيرًا لديها، تأتمنه على
مالها وتجارتها، وكانت هذه الرحلة ناجحة وموفقة كل التوفيق،
وربحت أكثر من أية مرة سابقة.
وفى طريق العودة اقترح «ميسرة» على «محمد» أن يسبقه إلى
«مكة»؛ ليكون أول من يبشر «خديجة» بعودتهما سالمين وبنجاح
تجارتها، وعندما بلغ «خديجة» الأمر سُرَّت أيما سرور، وأعجبت بما
قصَّه «ميسرة» على سمعها من شأن «محمد»، من أمانة، ورقة
شمائل، وسمو خلق، وازدادت إعجابًا لما سمعت «محمدًا»، وما لبث
هذا الإعجاب أن تحول إلى تقدير ورغبة فى الزواج.
مشاركة محمد فى الحياة العامة:
شارك «محمد» - صلى الله عليه وسلم - قومه فى حياتهم العامة قبل
البعثة، فاشترك فى «حرب الفِجَار»، وهو فى نحو الخامسة عشرة
من عمره، وهى حرب وقعت أحداثها فى الأشهر الحرم، ولذا سميت
بحرب الفجار، وسببها أن «النعمان بن المنذر» أمير «الحيرة» اعتاد
أن يرسل كل موسم قافلة تجارية إلى سوق «عكاظ» بالقرب من
«مكة» المكرمة، وكان يستأجرُ لها حراسًا من القبائل القريبة من
«مكة»، فعرض رجلان أنفسهما لهذه المهمة، أحدهما من «هوازن»
يسمى «عُروة»، والآخر من «كنانة» يسمى «البَرَّاض»، فاختار
«النعمان» «عروة»، فقتله «البراض»، فوقع القتال بين قبيلتيهما
لهذا السبب، واستمر أربع سنوات وانتهى بالصلح بين المتحاربين،
وقد وصف النبى - صلى الله عليه وسلم - مشاركته فى هذه الحرب
بقوله: «كنت أنبل على أعمامى» أى يرد إليهم نبل عدوهم إذا
رموهم بها.(1/14)
حلف الفضول:
وكما شارك «محمد» قومه فى الحرب فقد شاركهم فى السلم؛ حيث
شهد «حلف الفضول»، الذى تكوَّن عقب حرب الفجار، وكان أول من
دعا إليه عمه «الزبير بن عبد المطلب»؛ لنصرة المظلوم أيا كان، من
أهل «مكة» أو من غيرهم، واجتمعت بعض بطون «قريش»: «بنو
هاشم» و «بنو زهرة»، و «بنو أسد»، و «بنو تيم» فى دار «عبد الله بن
جدعان»، وتعاهدوا ليكونن مع المظلوم حتى يُردَّ إليه حقه. ويصف
النبى مشاركته فى هذا الحلف بقوله: «لقد شهدت مع عمومتى حلفًا
فى دار «عبد الله بن جدعان» ما أحب أن لى به حمر النعم، ولو
أدعى به فى الإسلام لأجبت».
بناء الكعبة:
نزل سيل على «الكعبة» قبل بعثة النبى بحوالى خمسة أعوام، هدَّم
جدرانها، فعزمت «قريش» على إعادة بنائها، وقسَّمت العمل بين
بطونها، وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - يعمل بنفسه معهم،
ويحمل الحجارة، حتى إذا ارتفع البناء نحو قامة الرجل اختلفوا فيمن
يضع «الحجر الأسود» فىمكانه؛ كل قبيلة تريد أن تحوز هذا
الشرف دون غيرها، واشتد الخلاف بينهم حتى تداعوا إلى الحرب،
ففزع «أبو أمية بن المغيرة» وخشى عاقبة ذلك، فأشار عليهم بأن
يحتكموا إلى أول رجل يدخل عليهم، فوافقوا على ذلك.
كان النبى - صلى الله عليه وسلم - أول داخل عليهم، فاستبشروا
خيرًا، وقالوا: هذا الأمين رضينا به حكمًا، فطلب منهم أن يبسطوا
ثوبًا، ثم وضع الحجر فيه، وطلب من زعماء القبائل أن يمسك كل منهم
بطرف، ليتمكَّنوا من رفع الحجر إلى موضعه، ثم أخذه النبى
- صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفة، ووضعه فى مكانه.
زواج محمد من خديجة:
كانت «خديجة بنت خويلد الأسدية» امرأة شريفة، ذات حسب وجمال ومال
تزوجت مرتين من قبل، وعزمت بعد موت زوجها الثانى ألاتتزوج مرة
أخرى، وأن تتفرغ لإدارة ثروتها، وتنمية تجارتها. ولكنها حين اتصلت
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وعمل فى تجارتها، ورأت فيه من خصال
الخير أعجبت به ورغبت فى الزواج منه، وأسرَّت بذلك إلى إحدى(1/15)
صديقاتها المقرَّبات، فذهبت إلى «محمد» وسألته ما يمنعك أن
تتزوج؟ قال ما بيدى ما أتزوج به. قالت فإن كُفِيتَ ذلك
ودُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟ قال فمن هى؟
قالت خديجة، فقال كيف لى بذلك؟ قالت علىَّ ذلك، فوافق علىالفور،
وعادت «نفيسة» إلى «خديجة»، تزفُّ إليها تلك البشرى فسُرَّت سرورًا عظيمًا.
وذهب «محمد» مع أعمامه إلى بيت «خديجة» لإعلان الخطبة، وألقى
«أبو طالب» خطبة قصيرة أثنى فيها على ابن أخيه، وأنه لا يعدله
شاب فى «قريش»، فى خلقه وصدقه وأمانته، وإن كان قليل المال،
فالمال عرض زائل، ثم وجَّه كلامه إلى أهل «خديجة» فقال: «إن
محمدًا له فى «خديجة» رغبة، ولها فيه مثل ذلك»، فوافقوا على
الخطبة، وأقاموا وليمة بهذه المناسبة السعيدة، وقدَّم
«محمد» لخديجة صداقًا قدره عشرون بكرة، ثم تم الزواج،
وانتقل «محمد» إلى بيت «خديجة» حيث عاش معها.
وهكذا شاءت الأقدار لهذه السيدة الكريمة أن تقترن بسيد الخلق
أجمعين، وأن تصبح أول أُم للمؤمنين، وأن تكون خير عون له،
فكانت أول من آمن به وكانت تواسيه بمالها، كما كانت حياته معها
التى دامت نحو خمسة وعشرين عامًا تملؤها السعادة، ورزقه الله
منها بستة أولاد؛ اثنين من الذكور هما: «القاسم» و «عبد الله»، وقد
ماتا قبل البعثة، وأربع بنات، هن: «زينب» وقد تزوجها ابن خالتها
«أبو العاص بن الربيع»، و «رقية» و «أم كلثوم» وقد
تزوجهما «عثمان بن عفان»، واحدة بعد الأخرى، و «فاطمة»
وتزوجت بعلى بن أبى طالب.
من الزواج إلى البعثة:
كان عمر النبى - صلى الله عليه وسلم - حين تزوج السيدة «خديجة» خمسًا وعشرين سنة،
وكان عمره حين بعثه الله بالرسالة على رأس الأربعين، فماذا كان
يعمل فى المدة التى بين الزواج والبعثة؟
إن مصادر السيرة النبوية لم تمدنا بمعلومات كثيرة عن هذه الفترة من
حياته، سوى أنه كان دائم التأمل فى الكون الفسيح، والتفكير فى(1/16)
القوة التى أبدعته وأحكمت صنعه، وأنه رفض ما عليه قومه من
عبادة الأصنام، وما غرقوا فيه من الفساد والمجون، فلم يسجد لصنم،
ولم يحضر مجلس لهو وعبث، بل كان يعتكف شهرًا من كل سنة فى
غار «حراء»، يتعبد فيه، ويجد فيه فرصة مناسبة للتفكر والتأمل،
بعيدًا عن صخب «مكة» وضجيجها. وكان شهره المفضل الذى يقضيه
فى الغار هو شهر رمضان المبارك.
ويبدو أنه فى تأمله هذا كان ينشد مخرجًا للعالم مما هو فيه من شرك
ووثنية؛ لأن ما بقى من الشرائع القديمة لم يكن كافيًا ليريح
نفسه المتشوقة إلى الحق المجرد والحقيقة المطلقة، وظل كذلك حتى
أتاه «جبريل» - عليه السلام- بالوحى.(1/17)
الفصل الثالث
*بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
بدء الوحى:
ظل «محمد» - صلى الله عليه وسلم - يتردد على غار «حراء» حتى
شارف الأربعين من عمره، وكان أول ما بدئ به من الوحى الرؤيا
الصادقة، كما جاء فى حديث «عائشة»، فكان لا يرى رؤيا فى نومه
إلا جاءت كفلق الصبح، وزادته رؤاه الصادقة أملا فى قرب الوصول
إلى الحقيقة.
وبينما هو فى غار «حراء» غارق فى تأمله وتدبره؛ إذ جاءه
«جبريل» - عليه السلام - فى ليلة من ليالى رمضان، فقال: «اقرأ»،
قال: «ما أنا بقارئ»، قال: «فأخذنى فغطنى، حتى بلغ منى
الجهد، ثم أرسلنى، فقال: «اقرأ»، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى
فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ،
فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثالثة، ثم أرسلنى فقال
(اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم)
(سورة العلق: 1 - 3) فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده، فدخل على
«خديجة بنت خويلد» -رضى الله عنها - فقال: «زملونى زملونى»
فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد
خشيت على نفسى»، فقالت «خديجة»: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا،
إنك لتصلُ الرحم، وتحمل الكل، وتَكسِبُ المعدوم، وتَقرِى الضيف،
وتعين على نوائب الحق». [صحيح البخارى، كتاب بدء الوحى].
طمأنت «خديجة» «محمدًا» بتلك الكلمات الصادقة والعبارات المواسية،
وذهبت به إلى ابن عمها «ورقة بن نوفل» أحد الحنفاء العرب، وكان
قد اعتنق النصرانية، فقالت له: «يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك،
فقال له «ورقة»: يا ابن أخى ماذا رأيت، فأخبره رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - خبر ما رأى، فقال له «ورقة»: هذا الناموس (جبريل
أمين الوحى) الذى نزله الله على «موسى»، ياليتنى فيها جَذَعًا،
ليتنى أكون حيا، إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: «أو مخرجى هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئتَ به
إلا عُودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم يلبث(1/18)
«ورقة» أن تُوفِّى وفتر الوحى».
توقف الوحى بعد ذلك فترة من الزمن حتى شق على «محمد» فأحزنه
ذلك، فجاءه «جبريل» بسورة «الضحى»، يقسم له ربه - وهو الذى
أكرمه بما أكرمه به - ما ودعه وما قلاه.
المسلمون الأوائل:
أخذ النبى - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الإسلام سرا، فكانت
«خديجة بنت خويلد» - رضى الله عنها - أول الناس إسلامًا وإيمانًا
بالله ورسوله، ثم تلاها «على بن أبى طالب» -رضى الله عنه - وكان
فى نحو العاشرة من عمره، ثم «زيد بن حارثة» مولى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، ثم أسلم «أبو بكر بن أبى قحافة»، وكان
رجلا مألفًا لقومه، محببًا سهلا، فأسلم على يديه طائفة من كبار
الصحابة، أمثال: «عثمان بن عفان»، و «الزبير بن العوام»،
و «عبد الرحمن بن عوف»، و «سعد بن أبى وقاص»، و «طلحة بن
عبيد الله».
ثم أسلمت بعد هؤلاء طائفة أخرى، عد منهم «ابن إسحاق» نحو
خمسة عشر فردًا ما بين رجل وامرأة، هم: «أبو عبيدة بن الجراح»،
و «أبو سلمة ابن عبد الأسد» و «عثمان بن مظعون»، وأخواه «قدامة»
و «عبد الله»، و «عُبيدة بن الحارث ابن المطلب» و «سعيد بن زيد بن
عمرو بن نفيل»، وامرأته «فاطمة بنت الخطاب»، و «أسماء»
و «عائشة» بنتا «أبى بكر»، و «خباب بن الأرت»، و «عمير بن أبى
وقاص»، و «عبد الله بن مسعود»، و «مسعود ابن القارى» - رضى الله
عنهم - وكان ذلك فى مرحلة الدعوة السرية.
الدعوة السرية:
كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يعلم تمام العلم عناد «قريش»
وكبرياءها وإصرارها على التمسك بالقديم، واعتزازها بآبائها
وأجدادها وعبادتها للأصنام؛ لذا فلن تُسلِّم بسهولة، أو تذعن
لدعوته، بل ستقاومه حتى آخر سهم فى جعبتها، لأنها اعتقدت أن
الإسلام يهدد مصالحها ويقضى على سيطرتها على «مكة» وما
حولها، ولو علمت أن الإسلام سيجعلها سيدة العالم ما قاومته لحظة
واحدة ولرحَّبت بدعوته.
أدرك النبى - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فقرَّر أن تكون دعوته لدينه(1/19)
سرا فى بادئ الأمر، وبدأ فى دعوة أصدقائه وأقرب الناس إليه،
ومن يأنس فيهم خيرًا واستعدادًا لقبول الحق والهُدى، فآمن به - إلى
جانب من ذكرنا - عدد من رجالات «قريش» ونسائها، وطائفة من
العبيد والفقراء والضعفاء الذين رأوا فى الدين الجديد الخلاص مما هم
فيه من شقاء وبؤس، مثل: «بلال بن رباح»، و «صهيب الرومى»،
و «آل ياسر»، وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - يجتمع بمن أسلم
سرا فى دار «الأرقم بن أبى الأرقم» يتلو عليهم آيات القرآن الكريم،
ويعلمهم شرائع الإسلام، واستمرت هذه الدعوة السرية نحو ثلاث
سنوات، ازداد فيها عدد المسلمين زيادة يسيرة.
ويبدو أن خبر الدعوة لم يعد سرا بصورة مطلقة بالنسبة إلى
«قريش»، فقد تسرَّب إليها، لكنها لم تعبأ بهذا فى البداية، ولعلها
كانت واثقة بقوتها وقدرتها على مقاومة هذه الدعوة من ناحية،
وواثقة بأن حملها على ترك دين آبائها وأجدادها أمر صعب من ناحية
أخرى.
الجهر بالدعوة وموقف قريش:
أمر الله تعالى نبيه «محمدًا» - صلى الله عليه وسلم - أن يجهر بالدعوة
بعد مضى ثلاث سنوات من الدعوة سرا، فقال {فاصدع بما تؤمر
وأعرض عن المشركين} [الحجر: 94].
وقال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من
المؤمنين فإن عصوك فقل إنى برىء مما تعملون}.
[الشعراء: 214 - 216].
وامتثالا لهذا الأمر الإلهى بدأ النبى بدعوة الأقربين من أهله وعشيرته
إلى الإسلام، وصنع لهم طعامًا فى بيته، وبعد أن تناولوه، حدَّثهم
قائلا: «ما أعلم إنسانًا فى العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به،
فقد جئتكم بخيرى الدنيا والآخرة، وقد أمرنى ربى أن أدعوكم إليه،
فأيكم يؤازرنى على هذا الأمر؟» فأعرضوا عنه جميعًا، وهمُّوا بتركه
عدا «على بن أبى طالب»، وانصرفوا دون أن يستجيبوا لدعوة
النبى، غير أنهم لم يبادئوه بأذى فى أول الأمر، غير أن عداوتهم له
بدأت حين شرع فى تسفيه آلهتهم.
الجهاد فى العهد المكى:(1/20)
قد يفهم بعض الناس أن المقصود بالجهاد الحرب فقط، لكنه يعنى
كثيرًا من أنواع الجهاد، فالصبر على الأذى والمكاره لا يقل أهمية
عن الجهاد بالسلاح، وقد تحمَّل النبى - صلى الله عليه وسلم - هو
وأصحابه صنوفًا من الأذى صبَّها عليهم المشركون فى الفترة المكية،
فكانوا يسبونه ويتعرضون له، ويرجمونه بالحجارة، ويلقون عليه
القاذورات، وأشهر من صنع ذلك معه: «عقبة بن أبى معيط»، و «أبو
جهل» الذى حاول قتل النبى - صلى الله عليه وسلم - عند «الكعبة».
وكان موقفهم هذا من النبى - صلى الله عليه وسلم - عنادًا له وحسدًا
من عند أنفسهم، لأنهم كانوا يعرفون أن دينه حق، وأن الذى يأتيه
وحى من السماء، ولكن حال الحسد بينهم وبين اتباعه وتصديقه.
وصبَّ المشركون جام غضبهم على المستضعفين من المسلمين،
وأذاقوهم ألوانًا من العذاب، مثل: «بلال بن رباح» الذى لم ينقذه من
العذاب إلا «أبو بكر الصديق» الذى اشتراه من سيده «أمية بن خلف»
وأعتقه، و «آل ياسر» وكانوا يُعذَّبون إذا حميت الظهيرة برمضاء
«مكة»، وكان الرسول يمر بهم ولا يملك أن يمنع عنهم العذاب،
فيقول لهم: «صبرًا آل ياسر فموعدكم الجنة»، فصبروا واحتملوا ولم
يتخلوا عن دينهم، حتى إن «أم عمار» طعنها «أبو جهل» بحربة
فقتلها وهى على إسلامها.
الهجرة إلى الحبشة:
اشتد الأذى والتعذيب بأصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - دون أن
يقدر على الدفاع عنهم، وكان هو فى منعة من أهله إلى حد ما، يقف
بجانبه «أبو طالب» يدفع عنه الأذى، ففكَّر لهم فى مخرج مما
يلاقونه من التعذيب، فقال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن
بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهى أرض صدق، حتى يجعل الله لكم
فرجًا مما أنتم فيه» فخرج بعض المسلمين إلى أرض «الحبشة» مخافة
الفتنة، وفرُّوا إلى الله بدينهم، وكانت هجرتهم أول هجرة فى
الإسلام، وبلغ عددهم عشرة رجال وأربع نسوة، منهم: «عثمان بن
عفان» وزوجته «رُقية» بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/21)
ثم خرجت مجموعة أخرى من المسلمين إلى «الحبشة»، كان عددها
أكبر من الأولى؛ إذ بلغوا نحوًا من ثمانين رجلا وامرأة، وظلوا مدة
طويلة فى «الحبشة»، بعد أن وجدوا الأمن والحماية من ملكها،
وعادت آخر مجموعة من هناك مع «جعفر» فى أول السنة السابعة
من الهجرة.
إسلام عمر بن الخطاب:
بعد هجرة المسلمين الأولى إلى «الحبشة» أسلم «عمر بن الخطاب»،
وكان إسلامه حدثًا كبيرًا فى «مكة»، ونصرًا عظيمًا للإسلام؛ إذ كان
من الشخصيات القوية فى «مكة»، ومن أشد أعداء المسلمين، حتى
إنه أسلم فى الوقت الذى عزم فيه على الذهاب لقتل الرسول - صلى
الله عليه وسلم -، فأراد الله به الخير، واستجاب الله لدعوة النبى الذى
كان دائمًا يردد: «اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين»، «عمر بن
الخطاب»، و «عمرو بن هشام» (أبى جهل)!
وبإسلام «عمر» قَوِى موقف المسلمين كما اشتد من قبل بإسلام
«حمزة بن عبد المطلب» عمِّ النبى - صلى الله عليه وسلم -،وأهاب
بالمسلمين أن يصلوا عند «الكعبة» تحت حمايته، فغلبت «قريش»
على أمرها، لمعرفتها بقوة شكيمة «عمر» ومضاء عزيمته، فلم
تتعرَّض لهم، وبدأت تلجأ إلى أسلوب آخر فى مواجهة الدعوة، وهو
أسلوب المقاطعة.
أسلوب المقاطعة:
استعملت «قريش» مع النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أساليب
العنف والتعذيب والاضطهاد، فلم تنجح فى ردهم عن دعوتهم، فلجأت
إلى أسلوب الترغيب والمساومة، فعرضت على النبى - صلى الله عليه
وسلم - الملك والسيادة والمال، فرفض عرضهم، لأنه لم يكن طالب ملك
أو جاه، بل رسولا جاء من الله برسالة سماوية، تحمل الخير والعدل،
ولابد من تبليغها، ثم وسَّطوا «أباطالب» ليكف «محمدًا» عن تسفيه
آلهتهم فى مقابل ما يريد من ملك أو جاه، فكلمه قائلا: «إن القوم
يطلبون منك أن تكف عن سب آلهتهم، فأبق علىَّ وعلى نفسك»
فأجابه النبى بكلمات قليلة، لكنها قاطعة وحاسمة: «والله يا عم لو
وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر(1/22)
ما تركته حتى يظهره الله أو أهلِكَ دونه» سمع «أبو طالب» هذا الرد
الحاسم، وأدرك إصرار النبى - صلى الله عليه وسلم - على السير فى
طريق الدعوة مهما تكن الصعاب والمشاق، فقال له فى رقةٍ بالغةٍ:
«يا ابن أخى امضِ فيما أنت فيه، فوالله لن أسلمك لشىء تكرهه
أبدًا».
ولما لم تنجح كل هذه الوسائل فى ثنى النبى - صلى الله عليه وسلم -
عن تبليغ دعوته، ورد أصحابه عن دينهم الجديد، لجأت قريش إلى
أسلوب المقاطعة، ولم يكن هذا مألوفًا فى بلاد العرب، ولعله لم يكن
مألوفًا كذلك فى أى مكان فى العالم آنذاك، ففرضت حصارًا على
«بنى هاشم» و «بنى المطلب» جميعًا، ممن يقفون مع النبى - صلى
الله عليه وسلم - ويذودون عنه، سواء من أسلم منهم أو لم يسلم،
وقررت ألا تبيع لهم أو تشترى منهم، وألا تزوجهم أو تتزوج منهم،
وألا تتزاور معهم، عقابًا لهم على مساندتهم للنبى - صلى الله عليه
وسلم -،وكتبوا بتلك المقاطعة وثيقة فى صحيفة، علقوها فى
«الكعبة»، ليكون لها احترام والتزام.
واستمر هذا الحصار القاسى المجرد من الإنسانية نحو ثلاث سنوات،
عانى منه «بنو هاشم» و «بنو المطلب» أشدَّ المعاناة، وهم صابرون
صامدون، لم يتخلَّ أحدٌ منهم عن النبى - صلى الله عليه وسلم -، حتى
تحركت النخوة والشهامة فى نفوس بعض رجالات «قريش»، كزهير بن
أبى أمية المخزومى، و «المطعم بن عدى»، و «أبى البُخترى بن
هشام»، لما رأوا ما يعانيه «بنوهاشم» و «بنو المطلب» من هذه
المقاطعة الظالمة، فسعوا فى نقضها وإنهائها، وأقسموا على
تمزيق الصحيفة، وكان لهم ما أرادوا، فخرج النبى وأصحابه من
شعبهم الذى كانوا محاصرين فيه؛ ليستأنف رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - دعوته إلى دين الله.
عام الحزن:
استأنف النبى - صلى الله عليه وسلم - دعوته بعد انتهاء المقاطعة،
واستبشر المسلمون خيرًا بعهد جديد يمارسون فيه حياتهم الطبيعية،
لكن وقع للنبى حدثان جليلان فى عام واحد وهو العام العاشر من(1/23)
البعثة، فقد مات كل من عمه «أبى طالب»، وزوجته «خديجة»، وكانا
نعم العون له والمساندة فى تبليغ رسالته، وعلى الرغم من ذلك فإن
النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يضعف ولم تهن له عزيمة؛ ومضى
واثقًا بنصر الله يبلغ رسالة الله إلى العالمين.
رحلته إلى الطائف:
أراد النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج بالدعوة من نطاق «مكة»،
لعله يجد نصيرًا أو معينًا بعد المضايقات الشديدة التى لقيها من
«قريش» وبخاصة بعد موت «خديجة» و «أبى طالب»، فقرر الذهاب
إلى «الطائف»؛ لعرض دعوته على «ثقيف» رجاء إيمانها به
وبرسالته، لكنهم رفضوا ما عرضه عليهم، ولم يكتفوا بذلك بل سبُّوه
وأهانوه، وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم؛ ليضربوه بالحجارة،
فتأثر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبلغ إحساسه بالألم
مداه، فجأر بالشكوى إلى الله قائلا: «اللهم إليك أشكو ضعف
قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس، ياأرحم الراحمين، أنت رب
المستضعفين، وأنت ربى، إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهمنى، أم
إلى عدو ملكته أمرى؟ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى، ولكن
عافيتك هى أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات،
وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بى غضبك، أو يحل على
سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».
وبعد أن قال الرسول هذا الكلام المؤثر جاءه «جبريل» ومعه ملك
الجبال عليهما السلام، فقال له ملك الجبال: «إن شئتَ أن أُطبق عليهم
الأخشبين» (2)، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: «بل أرجو أن
يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا، ودعا لهم قائلا:
«اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون».
الإسراء والمعراج:
فى هذا الجو الذى بدا قاتمًا وحزينًا بعد موت «أبى طالب» و «خديجة
بنت خويلد»، وما لقيه النبى من أهل «الطائف» والقبائل من عنت
وإيذاء، أراد الله تعالى أن يسرِّى عنه - صلى الله عليه وسلم - وأن(1/24)
يعلمه ويطمئنه، فأسرى به إلى المسجد الأقصى وعرج به إلى
السماء. وموجز هذه الحادثة كما ترويها كتب الحديث والسيرة: أن
النبى - صلى الله عليه وسلم - كان فى بيت «أم هانئ بنت أبى طالب»
فجاءه «جبريل» ومعه «البراق» (وهى دابة أصغر من البغل وأكبر
من الحمار) وأخذه إلى «بيت المقدس» فى «فلسطين»، حيث وجد فى
استقباله جمعًا من الأنبياء، فيهم «إبراهيم» و «موسى» و «عيسى» -
عليهم السلام - جميعًا، فصلى بهم إمامًا ركعتين، ثم عرج إلى
السماوات العلى، حيث التقى بعدد من الأنبياء، وتحدث إليهم وحيوه
وهنئوه، ثم ارتقى فوق السماوات العلى لمناجاة ربه، وتلك مكانة لم
يبلغها نبى ولا رسول ولا ملك من الملائكة المقربين، وفى هذا اللقاء
فرضت الصلوات الخمس، وقد أراه الله من آياته الكبرى، فرأى الجنة
وما أعده الله من نعيم للمتقين، ورأى النار وما أعده الله من عذاب
للكافرين. ثم عاد إلى «مكة» فى الليلة نفسها، مزودًا بهذه الطاقة
الروحية الهائلة.
أبو لهب يحذر القبائل من دعوة النبى:
على الرغم مما تعرض له النبى - صلى الله عليه وسلم - من إساءات
أهل «الطائف»، فإنه لم ييأس من دعوة الناس إلى الإسلام، فكان
يتصدى لوفود القبائل التى تأتى إلى «مكة» فى موسم الحج،
يعرض عليهم رسالة الإسلام، ومن الوفود التى التقى بها: وفد
«كندة»، و «بنى حنيفة» و «بنى عامر بن صعصعة»، غير أنه لم يجد
منهم مجيبًا، خاصة أن عمه «أبا لهب» كان يتتبع خطى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، فإذا رآه جلس إلى وفد قبيلة من قبائل
العرب؛ جاءهم قائلا لهم: لا تصدقوه إنه كذَّاب ولا تطيعوه ولا تسمعوا
له. واستمر هذا الوضع حتى أذن الله بالفرج من ناحية «يثرب».
الهجرة إلى المدينة:
لقد سبقت الهجرة إلى «المدينة» عدة أحداث كانت بمثابة مقدمة لها،
ومن بينها:
بيعة العقبة الأولى:
بدأت بشائر النصر تأتى ريحها من «يثرب»، فقد التقى النبى - صلى(1/25)
الله عليه وسلم - أثناء عرض دعوته على القبائل بوفد من أهل
«يثرب» فى موسم الحج، وعرض عليهم الإسلام، فلم يرفضوا ولم
يسلموا، عدا واحدًا منهم هو «إياس بن معاذ» فقد أسلم، لكنهم حين
عادوا إلى قومهم تحدثوا بما سمعوا من النبى، فنبهوهم إلى أنه من
المعقول أن يكون «محمد» هو النبى الذى كانت اليهود تحدثهم عنه
دائمًا، وكان فى «يثرب» كثير من قبائل اليهود (بنو قينقاع وبنو
النضير وبنوقريظة)، الذين علموا من كتبهم المقدسة أن هناك نبيًا قد
قرب زمانه وهو آخر الأنبياء.
وهذه المعلومات التى عرفها أهل «يثرب» من «الأوس» و «الخزرج»
كانت مفيدة لهم وللإسلام، فقد ذهب وفد منهم فى الموسم التالى -
العام الثانى عشر من البعثة - والتقوا برسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وهم على استعداد للاستجابة له والتجاوب معه، فحدَّثهم عن
الإسلام فآمنوا وبايعوه عند العقبة فى «مِنى» «البيعة الأولى»،
على أن يؤمنوا بالله وحده، ولا يشركوا به شيئًا، وألا يسرقوا، وألا
يزنوا، وألا يعصوا الله فى معروف. وأرسل النبى معهم عند عودتهم
إلى «يثرب» «مصعب بن عمير»، يعلمهم القرآن ويفقههم فى الدين.
وكان هذا اللقاء بداية النصر وفاتحة الخير، فإذا كانت «مكة» قد
تحجرت عقولها وصمت آذانها عن سماع صوت الحق، فإن «يثرب»
تفتح له قلوبها وعقولها وآذانها.
بيعة العقبة الثانية:
نجح «مصعب بن عمير» فيما كُلِّف به نجاحًا عظيمًا، فازداد عدد
المسلمين فى «يثرب» على يديه زيادة كبيرة، ولم يبق بيت فيها إلا
ولذكر الإسلام والنبى فيه نصيب، وعاد «مصعب» فى الموسم التالى
(العام الثالث عشر من البعثة)، ليزف إلى النبى - صلى الله عليه وسلم -
بشرى نجاحه، وإقبال أهل «يثرب» على الإسلام، وأن وفدًا كبيرًا
منهم سوف يأتى إلى «مكة» لمقابلته، فقدم ثلاثة وسبعون رجلا
وامرأتان لهذا الغرض، وتم اللقاء سرا عند العقبة فى «منى»، وسط
أيام التشريق (الثلاثة الأيام الأولى من عيد الأضحى)، وحضر اللقاء(1/26)
«العباس بن عبد المطلب»، وكان لا يزال مشركًا، لكنه رغب فى حضور
هذا الاجتماع؛ ليطمئن على ابن أخيه.
وفى هذا اللقاء بايع الحاضرون النبى - صلى الله عليه وسلم - «بيعة
العقبة الثانية» أو «بيعة القتال»، لأن أهم ما تضمنته التزام أهل
«يثرب» بالدفاع عن النبى عندما يهاجر إليهم، ومنعه مما يمنعون منه
أنفسهم ونساءهم وأبناءهم. وبعد أن تمت البيعة اتفِقَ على ترتيبات
هجرة أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى «يثرب»، وما يلتزمه
أهل «يثرب» تجاههم من توفير المأوى والمعاش.
وقد أثبت أهل «يثرب» أنهم أهل كرم وشهامة وتضحية، فقدموا
لإخوانهم المهاجرين كل ما يحتاجون إليه، بل وآثروهم على أنفسهم.
المؤامرة الكبرى:
بدأ أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - من أهل «مكة» يهاجرون
إلى موطنهم الجديد، أفرادًا وجماعات متخفين عن أعين «قريش»،
وبقى الرسول فى «مكة»، ووقعت «قريش» فى حيرة شديدة؛ لأنها
لم تكن تعرف ما هو صانع؛ هل سيبقى فى «مكة»، أم سيلحق
بأصحابه إلى «يثرب»؟ وفى هذا خطر شديد عليهم، لأنه سيجد فى
«يثرب» المنعة والحماية والاستعداد للدفاع عنه، مما قد يجرُّهم إلى
الدخول فى عداء سافر مع «يثرب».
وأمام هذه التطورات المتلاحقة قررت «قريش» أن تحزم أمرها سريعًا
قبل أن يهاجر النبى ويفلت من بين يديها، فعقدوا اجتماعًا فى دار
الندوة لم يحضره أحد من «بنى هاشم» سوى «أبى لهب» عم النبى،
وبحثوا فيه الأمر، وعُرضَت ثلاثة اقتراحات لمواجهة الموقف، الأول:
أن يضعوا «محمدًا» فى السجن، والثانى: أن ينفوه من «مكة»،
والثالث: أن يقتلوه، وحاز الاقتراح الثالث الموافقة على تنفيذه،
وهذه هى المؤامرة التى عبَّر عنها القرآن الكريم، فى قوله تعالى:
{وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون
ويمكر الله والله خير الماكرين}. [الأنفال: 30].
وبعد أن اتفقوا على قتله، ناقشوا كيفية تنفيذ ذلك، فرأوا أن(1/27)
تشترك جميع القبائل فى قتله، بأن تختار كل منها فتى شابا قويا
من بين أبنائها، وتعطيه سيفًا بتارًا، وأن يرابط هؤلاء جميعًا أمام
بيت النبى - صلى الله عليه وسلم - ليلا، حتى إذا خرج عليهم فى
الصباح ضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرَّق دمه فى القبائل، ولا يقوى
«بنو هاشم» على محاربة أهل مكة جميعًا.
علىٌّ فى فراش النبى - صلى الله عليه وسلم -:
علم رسول الله بما بيتته له «قريش»، فأعد العدة للهجرة، وأسر بذلك
إلى صاحبه «أبى بكر الصديق» الذى كان ينتظر هذا بلهفة وشوق،
فأعد لذلك الأمر عدته من قبل، للقيام بأعظم رحلة فى تاريخ البشرية.
دعا النبى - صلى الله عليه وسلم - «على بن أبى طالب»، لينام فى
فراشه فى تلك الليلة، ليضلل «قريشًا» من جهة، ومن جهة أخرى
لكى يتخلف فى «مكة»، ليؤدى للناس ودائعهم التى كانت عند
الرسول، وخرج النبى - صلى الله عليه وسلم - فى عماية الصبح،
والمتآمرون واقفون على بابه، ينتظرون لحظة خروجه، للانقضاض
عليه، لكن الله أعمى أبصارهم، وأخذ النبى - صلى الله عليه وسلم -
حفنة من الحصى وقذفها فى وجوههم، وقال: شاهت الوجوه»، ثم
تلا قوله تعالى: {وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا
فأغشيناهم فهم لا يبصرون}. [يس: 9].
قصد النبى - صلى الله عليه وسلم - بيت «أبى بكر» الذى كان فى
انتظاره ومعه الرواحل، والزاد، وكل ما يلزم الرحلة المباركة، وكان
دليلهم فى رحلتهم «عبد الله بن أريقط».
النبى فى غار ثور:
انطلقت الرحلة المباركة قاصدة غار «ثور» فى جنوب «مكة»، مع أن
وجهتهم كانت «يثرب» فى الشمال؛ لأن النبى - صلى الله عليه وسلم -
يعرف أن «قريشًا» عندما تكتشف أنه نجا من كيدهم ستتجه فى
بحثها عنه إلى الشمال، عندئذٍ يكون هو قد وصل إلى الغار واختبأ
فيه.
والحق أن خطة الهجرة كانت دقيقة وسرية إلى أقصى حد، ووضِعَ
لها كل مافى وسع البشر أن يفعلوه لضمان نجاحها، فإذا لم يفلح
هذا كله، فستأتى عناية الله فى اللحظة المناسبة لإنقاذ الموقف،(1/28)
فالذين علموا بأمر الهجرة كان عددهم محدودًا وكانوا موضع ثقة،
منهم: «عامر بن فهيرة» مولى «أبى بكر» وراعى غنمه، و «عبد الله
بن أبى بكر»، وأخته «أسماء»، وكل واحد من هؤلاء له عمل محدد
وفى غاية الأهمية والخطورة، فعبد الله بن أبى بكر كانت مهمته أن
يتسمع أخبار «قريش» بالنهار فى أنديتها، ثم يبلغها الرسول - صلى
الله عليه وسلم - إذا جاء الليل، وكانت مهمة «أسماء» إعداد الطعام،
ولما لم تجد مرة حبلا تربط به حقيبة الزاد، شقت نطاقها الذى كانت
تشد به وسطها، وربطت بأحد الشقين الحقيبة فلقبت بذات النطاقين.
أما «عامر بن فُهيرة» فكانت مهمته أن يرعى الأغنام بالقرب من
الغار، فإذا ما حلَّ الظلام ذهب إلى الغار؛ ليزود النبى - صلى الله عليه
وسلم - و «أبابكر» باللبن، ويسير بأغنامه على آثار أقدام «عبد الله
بن أبى بكر» حتى يمحوها، فلا يفطن أحد إلى مكانهم.
جن جنون «قريش» حين علمت أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أفلت
من قبضتها، وأن النائم فى الفراش لم يكن سوى «على بن أبى
طالب»، فأخذت تبحث عن «محمد» فى كل مكان، وبعد أن أعياهم
البحث فى طريق «يثرب»؛ عادوا إلى الجنوب، ووصلت طلائع بحثهم
إلى باب الغار، ففزع «أبوبكر»، حتى إنه بكى من شدة خوفه على
حياة النبى - صلى الله عليه وسلم -، فسأله: «ما يبكيك يا أبا بكر؟»
فقال: يارسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال له الرسول
- صلى الله عليه وسلم - مطمئنًا: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله
ثالثهما!».
وقد سجل القرآن الكريم هذا المشهد، فقال تعالى: {إلا تنصروه فقد
نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما فى الغار إذ
يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده
بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى
العليا والله عزيز حكيم}. [التوبة: 40].
استئناف الرحلة:
ظل النبى - صلى الله عليه وسلم -، وصاحبه فى الغار ثلاثة أيام، حتى(1/29)
هدأت «قريش»، وتعبت من البحث دون جدوى، بعد أن كانت قد
رصدت جائزة كبرى قدرها مائة من الإبل لمن يأتيها بمحمد حيا أو
ميتًا، لكن الله - سبحانه- عصمه من ذلك أيضًا،
ثم استأنف الرسول رحلته المباركة فى غرة ربيع الأول، وأخذ
دليلهما طريقًا غير طريق القوافل المعروف، لئلا يستدل عليهم أحد.
وكانت الرحلة شاقة واكتنفها كثير من المخاطر، من ذلك أن «سُراقة
بن مالك الجشمى» علم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - و «أبا بكر»
سلكا ذلك الطريق، فأراد اللحاق بهما، والقبض عليهما ليفوز
بالجائزة، فلما اقترب منهما غاصت أقدام حصانه فى الرمال، وعجز
عن النهوض، فدهش «سراقة»، فلم يعهد من حصانه هذا من قبل،
وحاول أكثر من مرة اللحاق بهما، ولكن تكرر فشله، والنبى - صلى
الله عليه وسلم - ينظر إليه فى إشفاق، و «سراقة» يظن أن النبى
منتقم منه لامحالة، فتوسل إليه أن يعفو عنه، وعاهده على ألا يدل
عليه أحدًا، فعفا عنه النبى - صلى الله عليه وسلم -.
وكان أهل «يثرب» منذ أن علموا بقرب مقدم النبى - صلى الله عليه
وسلم - إليهم ينتظرونه بحب وشوق ولهفة إلى رؤيته، وكانوا كل يوم
يخرجون إلى مشارف المدينة، يلتمسون وصوله، فما إن وقعت عليه
عيونهم حتى كادوا يطيرون من الفرح، وهتفوا مرحبين منشدين:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا مادعا لله داع أيها
المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع جئت شرفت المدينة مرحبًا ياخير داع.
وكان وصوله - صلى الله عليه وسلم - إلى «يثرب»، التى أصبحت
عندئذٍ تسمى «مدينة الرسول»، أو «المدينة المنورة» يوم الجمعة
الموافق الثانى عشر من شهر ربيع الأول؛ لأنه قضى أربعة أيام فى
«قُبَاء» (3) قبل دخوله «يثرب»، فقد وصلها يوم الاثنين الثامن من
شهر ربيع الأول، وبقى فيها إلى يوم الجمعة، حيث صلَّى الجمعة فى
«المدينة»، وصلى خلفه المهاجرون والأنصار فى مشهد عظيم.
وحادث الهجرة هو أعظم حدث فى التاريخ الإسلامى، لذلك اتخذه(1/30)
الخليفة «عمر بن الخطاب» -رضى الله عنه - مبدأ للتاريخ الإسلامى؛
لأن الهجرة هى التى فتحت أمام الإسلام ذلك العالم الرحيب، ومكنت
النبى - صلى الله عليه وسلم - من بناء دولته وتكوين جيشه الذى
سيدافع عن دعوته، وأتاحت له أن يعلم أصحابه أصول دينهم وعلوم
السياسة والحرب والسلام، والإدارة والقيادة، وهيَّأهم ليقودوا الدنيا
كلها إلى الخير والعدل والحق، وينشروا فيها الحرية والعزة والكرامة
لكل الناس.(1/31)
الفصل الرابع
*المسلمون فى المدينة
بناء الدولة الإسلامية:
أصبحت «المدينة» منذ أن وصل النبى - صلى الله عليه وسلم - إليها
منزل الوحى، ومعقل الإسلام، ومركز إشعاعه الذى أضاء العالم،
وشرع النبى فور وصوله فى بناء مسجده الذى شارك فى بنائه
بنفسه مع أصحابه، وكان بناؤه متواضعًا؛ حيث بُنى من الطين أو
الطوب اللبن، وكان سقفه من جريد النخل، وأعمدته من جذوعه،
وفرشه الحصى، كما كان مربع الشكل، طول ضلعه نحو مائة ذراع.
وهذا المسجد المتواضع البناء كان ذا شأن عظيم فى تاريخ الإسلام،
فلم تقتصر وظيفته على أداء الصلوات فيه، بل كان مدرسة تخرَّج
فيها الرعيل الأول من المسلمين، حملة لواء الإسلام ودعاته، مكانًا
تُعقد فيه الجلسات لمناقشة الأمور العامة التى تتصل بحياة المسلمين
ودينهم ودولتهم. وفيه استقبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفود
القبائل وسفراء الملوك والأمراء.
الإخاء بين المهاجرين والأنصار:
وهو الأساس الثانى الذى أقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليه
دولته، ذلك أن «المدينة» فتحت صدرها الرحيب للمهاجرين،
واستقبلهم الأنصار بحفاوة لا نظير لها فى التاريخ، فما نزل مهاجر
على أنصارى إلا بقرعة، لتنافس الأنصار وتزاحمهم على استضافة
المهاجرين، فآخى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين الفريقين إخاءً
ربط بين قلوبهم جميعًا، فأصبحت عروة الإيمان فوق كل أسباب
الصلات البشرية، وأصبح النسب الإسلامى مقدمًا على سائر الأنساب.
معاهدة المدينة:
كانت الوثيقة الخالدة التى كتبها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع
اليهود الأساس الثالث لدولة الرسول فى «المدينة»، فبعد أن اطمأن
على قوة جبهة المسلمين وسلامتهم، التفت إلى «المدينة»، فوضع
لها نظامًا عامًا ثابتًا يحدد العلاقات والحقوق والواجبات بين سكانها
جميعًا؛ مسلمين وغير مسلمين، فاليهود يقيمون فى «المدينة» منذ
زمن طويل، وكانوا من قبل يقتسمون الزعامة مع الأوس والخزرج،(1/32)
وهؤلاء آمنوا بالله ورسوله، على حين بقى اليهود على دينهم ولم
يؤمنوا، ولم يجبرهم الرسول على اعتناق الإسلام؛ إذ لا إكراه فى
الدين، ومن ثم كان لابد من تحديد وضعهم فى الدولة الجديدة بنصوص
صريحة، يُرجع إليها عند الضرورة.
ونص المعاهدة، كما رواها «ابن إسحاق»:
«بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبى - صلى الله عليه
وسلم - بين المؤمنين والمسلمين، من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق
بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس» وهذا إعلان
صريح للأساس العقدى للدولة الجديدة، وباب الانتساب إليها
هوالإيمان بالله ورسوله، وعلى هذا الأساس تمارس الدولة سياستها
وسلطتها العليا فى الداخل والخارج. وجاء فى المعاهدة؛ وهو فى
غاية الأهمية:
«وأنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا
متناصر عليهم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين، ماداموا محاربين،
وأن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين
دينهم، .. وأن ليهود بنى الحارث مثل ما ليهود بنى عوف، .. ».
وأخذت الوثيقة تعدد سائر المجموعات اليهودية فى «المدينة»، ثم
أضافت شيئًا مهمًا آخر، حيث نصت: «وأنه لا يخرج أحد منهم -من
«المدينة» - إلا بإذن محمد».
وهذا ليس تقييدًا لحريتهم، وإنما هو إجراء وقائى اقتضته ظروف
الدولة الناشئة؛ خوفًا من عمليات التجسس، ونقل أخبار الدولة إلى
أعدائها، وبخاصة أنها تعتبر فى حالة حرب مع «قريش»، التى
أجبرت المسلمين على ترك أوطانهم وديارهم وأموالهم.
وهذه المعاهدة كانت مهمة وأساسية فى إعلان ميلاد دولة المسلمين
بقيادة النبى - صلى الله عليه وسلم -، باعتراف جميع أطرافها بهذه
القيادة، كما يفهم من عبارة النص الآتى: «وأنه ما كان بين أهل
هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله
عز وجل، وإلى «محمد» رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الله
على أتقى ما فى هذه الصحيفة وأبره».(1/33)
وعلى هذه الأسس الثلاثة السابقة قامت الدول الإسلامية فى
«المدينة»، وكان فى قيامها فتح جديد فى الحياة السياسية؛ إذ
قررت حرية الاعتقاد والرأى، وحرمة «المدينة»، وحرمة الحياة،
وحرمة المال، وحددت أعداء الدولة فى صراحة ووضوح، فمنعت
إجارة «قريش» ومن نصرها.
حكومة الرسول:
كان النبى - صلى الله عليه وسلم - أول رئيس للدولة الإسلامية، كما
نصت على ذلك المعاهدة، وقد قام النبى - صلى الله عليه وسلم - بهذه
المهمة طوال حياته، فهو الذى يقضى فى الحقوق المدنية والجنائية
كافة، وينفذ القضاء، ويقيم الحدود، ويجبى الأموال من مواضعها
الشرعية، ويوزعها فى مصارفها الشرعية، ويعلن الحرب، ويعقد
معاهدات الصلح، ويخاطب رؤساء الدول، ويستقبل سفراءهم، ويولى
الولاة على الأماكن البعيدة عن «المدينة».
وهو فى ذلك كله مؤيد من الله - تعالى - فإذا نزلت الحادثة بالأمة،
ولم يكن نزل فى شأنها وحى من الله، اجتهد النبى رأيه وشاور
أصحابه من أهل العلم والرأى، وكانوا تارة يجمعون على رأى
فيعمل به، وتارة يختلفون فيعمل برأى بعضهم، ويترك رأى البعض
الآخر، مجتهدًا فى ترجيح رأى على رأى.
ولما كانت أعباء الدولة كثيرة، وفى الوقت نفسه يقوم بمهمة تبليغ
الرسالة، وهى مهمة ثقيلة، فقد احتاج إلى معاونة أصحابه فى إدارة
الدولة، ومنهم تشكَّلت حكومته واختص بعضهم بملازمته، مثل «أبى
بكر الصديق»، و «عمر بن الخطاب»،فأطلق عليهم «وزراء الرسول»،
وكان له «صاحب سر»، أشبه ما يكون بالسكرتير الخاص، إن صح
هذا التعبير، هو «حذيفة بن اليمان»، و «صاحب شرطة» هو «قيس بن
سعد بن عبادة».
وكان له عدد من الحرَّاس، منهم: «سعدُ بن زيد الأنصارى»، و «الزبير
بن العوام».
وكان له عدد من الحجَّاب الذين يستأذنون للناس فى الدخول عليه،
منهم: «أنس بن مالك».
وكان له خاتم لختم الرسائل والمعاهدات، يحمله اثنان هما: «حنظلة بن
الربيع بن صيفى»، و «الحارث بن عوف المرِّى».(1/34)
واختص بعض الصحابة باستقبال الوفود التى تأتى لمقابلة الرسول
- صلى الله عليه وسلم -، فيعلمونهم كيف يحيونه، وينزلونهم فى بيت
الضيافة الذى كان من السعة بحيث اتسع لبنى قريظة، وكانوا زهاء
ستمائة رجل أثناء انتظارهم للمحاكمة بعد خيانتهم فى غزوة
«الأحزاب».
وكان للرسول عدد من الكتاب تجاوز الأربعين كاتبًا، منهم «أبو بكر
الصديق»، و «عمر بن الخطاب»، و «عثمان بن عفان»، «وعلى بن أبى
طالب»، و «الزبير بن العوام» و «خالد» و «أبان» ابنا «سعيد بن
العاص»، وغيرهم، واختص بعض هؤلاء بكتابة الوحى، وبعضهم الآخر
بالكتابة فى الشئون العامة للدولة.
وكان له عدد كبير من السفراء، يرسلهم فى مهام إلى الملوك
والرؤساء وزعماء القبائل، وحرص الرسول على تعليم بعضهم اللغات
الأجنبية، إذ كانت تأتيه مراسلات بتلك اللغات، ومن هؤلاء «زيد بن
ثابت الأنصارى»، وكان يجيد الفارسية والعبرية، وبعضهم كان يعرف
إلى جانب لغته العربية خمس لغات هى الفارسية والعبرية واليونانية
والسريانية والحبشية.
وامتلك النبى - صلى الله عليه وسلم - جهازًا إعلاميا قوامه الشعراء،
مثل: «حسان بن ثابت»، و «عبدالله بن رواحة»، و «كعب بن مالك»،
وكانوا يردون على شعراء المشركين حين كانوا يهاجمون النبى
- صلى الله عليه وسلم - ويهجونه.
وللنبى - صلى الله عليه وسلم - جهاز دقيق لجمع المعلومات عن
الأعداء، وهو ما يقابل الآن جهاز المخابرات فى الدول الحديثة، وكان
جهازًا فعالا، ومن رجاله: «بَسبَسة بن عمرو الجُهنى»، و «طلحةُ بن
عُبيدِ الله»، و «سعيد بن زيد»، و «عبد الله بن أبى حدرد الأسلمى».
مشروعية القتال فى الإسلام:
تقطع آيات القرآن الكريم وأحاديث النبى - صلى الله عليه وسلم -،
وتصرفاته العملية بأن السلام هو الأصل والقاعدة الأساسية فى
علاقات المسلمين بغيرهم من الأمم، وأن الحرب هى الاستثناء،
فالحرب فى الإسلام ليست غاية، وإنما هى وسيلة لتحقيق السلام،(1/35)
فإذا مال أعداء المسلمين إلى السلم وعزفوا عن الحرب، فعلى
المسلمين أن يستجيبوا لهم فورًا؛ لقوله تعالى: {فإن اعتزلوكم فلم
يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا}. [النساء:
من90].
وقال تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكَّل على الله}.
[الأنفال: من 61].
وتنحصر مسوغات الحرب فى الإسلام أو أسبابها المشروعة فى ثلاث
حالات هى:
- الدفاع عن النفس:
وهو عمل مشروع، أقرته الشرائع السماوية كافة، وكفلته القوانين
الوضعية، وحددته الآية السابق ذكرها: {وقاتلوا فى سبيل الله الذين
يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين}. [البقرة:190].
- والدفاع عن حرية نشر العقيدة:
لأن العقيدة ذاتها لا تحتاج إلى قوة لنشرها إذا خلت الطريق أمامها
من العوائق، ولم يحاربها الطغاة، وتركوها تشق طريقها إلى قلوب
الناس فى حرية وأمان وفى هذا يقول الله تعالى:
{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}. [الأنفال: من 39].
- الدفاع عن المظلومين:
وهذا واجب إنسانى على المسلمين، فمن أهداف الإسلام نصرة
المظلومين ودفع الظلم عنهم، يقول الله تعالى: {وما لكم لا تقاتلون
فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين
يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها}. [النساء: من 75].
ولم يأذن الله - تعالى - للمسلمين فى القتال، إلا بعد أن تعرضوا
للظلم، وتحملوا شتى ألوان الاضطهاد والتعذيب، وطُرِدوا من بلدهم،
وأخرجوا من ديارهم، وصودرت أموالهم وعندئذٍ كان لابد من الدفاع،
وجاء الإذن به من السماء فى قوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم
ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق
إلا أن يقولوا ربنا الله .. }. [الحج: 39 - 40].
آداب الحرب فى الإسلام:
هى مجموعة القواعد والمبادئ والتقاليد العسكرية، التى أرساها
الإسلام، وطبقَّها النبى - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، وكانت تعليماته(1/36)
ووصاياه لقواده العسكريين، تدور فى نطاقها.
فيحتم الإسلام على المسلمين الاعتناء بجرحى أعدائهم ومداواتهم
وإطعامهم (4)، ويحرم الإجهاز عليهم أو إيذاؤهم بأى شكل من
أشكال الإيذاء.
كما يفرض على المسلمين تجنيب المدنيين شرور الحرب وأخطارها،
فالأطفال وكبار السن، والنساء والمرضى، بل الفلاحون فى حرثهم
والرهبان فى معابدهم، كل أولئك معصومون بحصانة الشريعة من
أخطار الحرب.
والإسلام لا يحرص على سلامة أرواح غير المقاتلين من الأعداء
فحسب، بل يوصى المسلمين المقاتلين بعدم التعرض للأهداف المدنية،
وينهاهم عن التدمير؛ لأن الإسلام إنما جاء ليبنى الحياة ويعمرها، لا
ليدمرها ويهدمها.
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه المثل الأعلى فى الالتزام
بهذه المبادئ والآداب فى ميادين القتال، فروى «أبو ثعلبة
الخشنى» رضى الله عنه:
«إن ناسًا من اليهود يوم خيبر جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بعد تمام العهود، فقالوا: إن حظائر لنا وقع فيها أصحابك،
فأخذوا منها بقلا وثومًا، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
«عبد الرحمن بن عوف» - رضى الله عنه - فنادى فى الناس: إن رسول
الله يقول لكم: لا أحل لكم شيئًا من أموال المعاهدين إلا بحق».
غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
لم يكن أمام النبى - صلى الله عليه وسلم - بد من اللجوء إلى القوة
العسكرية إزاء الغطرسة القرشية واضطهاد المسلمين، وإخراجهم من
ديارهم قسرًا، وملاحقتهم بالأذى وهم فى مهاجرهم فى «المدينة»،
بالإضافة إلى مؤامرات اليهود وغدرهم وخياناتهم.
من أجل ذلك كله أعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - جيشًا قويا من
المجاهدين فى سبيل الله، وقاد بنفسه سبعًا وعشرين غزوة، قاتل
فى تسع منها، هى: «بدر»، و «أحد»، و «الأحزاب»، و «بنو قريظة»،
و «بنو المصطلق»، و «خيبر»، و «فتح مكة»، و «حنين»، و «الطائف»،
وأناب بعض أصحابه فى قيادة سبع وأربعين حملة عسكرية.(1/37)
وعلى الرغم من هذا العدد الكبير من الغزوات والحملات فإن عدد
الضحايا فيها كلها من الفريقين كان قليلا جدا، لا يتجاوز أربعمائة
قتيل، وكان شهداء المسلمين فى تلك المعارك نحو مائتى شهيد،
منهم سبعون قتلوا غدرًا فى «بئر معونة»، فى حين لم يتجاوز قتلى
المشركين المائتين أيضًا، وهذا يدل على حرص النبى - صلى الله عليه
وسلم - على حقن الدماء، وصيانة الأرواح، وحصر الحرب فى أضيق
نطاق ممكن.
وسنتناول بالدراسة أهم الغزوات ذات الأثر الكبير والحاسم فى تاريخ
الإسلام، وهى:
1 - غزوة بدر الكبرى:
وقعت هذه الغزوة الخالدة فى السابع عشر من شهر رمضان المبارك
من السنة الثانية من الهجرة عند بئر بين «مكة» و «المدينة»، وقد
سمى الله - تعالى - يومها «يوم الفرقان»؛ لأنه فرَّق بين الحق
والباطل، وأعلى كلمة الإسلام.
وسببها أن قافلة تجارية لقريش، كانت قادمة من «الشام» إلى
«مكة»، فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالتعرض لها
والاستيلاء عليها؛ تعويضًا لهم عن أموالهم التى استولت «قريش»
عليها فى «مكة»، وهذا حق وعدل، ولم يكن فى وسع الرسول
- صلى الله عليه وسلم - أن يترك «قريشًا» حرة طليقة، تجوب الطرق،
وتتجر وتربح، وتعيش آمنة مطمئنة، وهى التى آذته وعذبت أصحابه،
وتآمرت على حياته، وأرادت قتله، فلابد من التضييق عليها،
وتهديدها فى تجارتها التى هى رزقها ومصدر قوتها؛ لتراجع
نفسها، وتقتنع بأن مواصلة العداء معه ليس فى مصلحتها، ولم يقصد
الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا التصرف إهلاك «قريش»
وتدميرها، لأنه جاء لإحيائهم وإسعادهم.
وعندما وصل النبى - صلى الله عليه وسلم - بجيشه إلى المكان الذى
دارت فيه المعركة علم أن القافلة أفلتت ونجت، بعد أن نجح قائدها
«أبو سفيان بن حرب» فى اتخاذ طريق الساحل بعيدًا عن طريق
القوافل المعتاد، حين علم بخروج المسلمين للاستيلاء عليها، وكان
قبل أن يفلت بقافلته قد أرسل سريعًا إلى «قريش» يستنفرها(1/38)
للخروج لاستنقاذ أموالها التى توشك أن تقع فى أيدى المسلمين
فخرجت فى نحو ألف رجل للقتال، وأصروا على ذلك حتى بعد أن
علموا بنجاة قافلة «أبى سفيان»، وقد حاول بعض زعماء «مكة»
مثل «عتبة بن ربيعة» أن يقنعوهم بالرجوع وعدم المضى قدمًا فى
الحرب، وبخاصة أن المسلمين الذين سيقاتلونهم هم أهلوهم ففيهم
الآباء والأبناء والأعمام والأخوال والإخوة، لكن تلك الدعوة فشلت
أمام إصرار أئمة الكفر - وعلى رأسهم «أبو جهل» - على إشعال نار
الحرب، حيث أراد هو وأمثاله أن يجعل من خروجهم مظاهرة
عسكرية؛ فأقسم على الذهاب إلى «بدر»، ونحر الجزور، وشرب
الخمور، والاستمتاع بالرقص والغناء؛ لتسمع بهم العرب، فيهابوهم
أبد الدهر.
المواجهة العسكرية:
عندما علم المسلمون بإفلات القافلة، رأى بعضهم العودة إلى
«المدينة»، لأن كثيرًا ممن خرجوا لم يكن فى حسبانهم أنهم خرجوا
لقتال وأن حربًا ستقع، وإنماخرجوا للاستيلاء على القافلة، فكرهوا
القتال.
لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أن الرجوع إلى
«المدينة» ستفسره «قريش» على أنه جبن وضعف عن لقائها
ومواجهتها، وسوف تذيع ذلك فى أوسع نطاق ممكن من شبه
الجزيرة العربية، وفى هذا ضرر بالغ بالدولة الإسلامية ودعوتها،
فتصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحكمة بالغة وبعد نظر،
واستشار كبار أصحابه فيما يصنعون، فتحدث «أبو بكر الصديق»
و «عمر بن الخطاب» وغيرهما فأحسنوا الكلام، وأبدوا استعدادًا
للتضحية والجهاد فى سبيل الله.
سمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلامهم فسعد به وسُرَّ، لكنه لا
يزال فى حاجة إلى معرفة رأى الأنصار فى وضوح وجلاء، لأن
بيعتهم معه كانت تنص على الدفاع عنه داخل «المدينة» لا خارجها،
فلما كرَّر قوله: «أشيروا علىَّ أيها الناس»، قال له: «سعد بن معاذ»
وغيره من زعماء الأنصار: «لعلك تقصدنا يارسول الله»، قال: «نعم».
قالوا: «يا رسول الله، آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو(1/39)
الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة،
فامضِ بنا يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذى بعثك بالحق،
لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد،
وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر فى الحرب، صدق عند
اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله».
اطمأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لموقف أصحابه وسلامة
جبهتهم، وقوة ترابطهم، وبدأ يُعدُّ للمعركة الأولى فى تاريخ
الإسلام، وأعدَّ له المسلمون عريشًا (مقر قيادة) يدير منه المعركة.
وعرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عدد أعدائه وقوتهم من عيونه
ومخابراته العسكرية فكانوا نحو ألف رجل مدججين بالسلاح، فيهم
عدد كبير من الفرسان، فى حين كان عدد المسلمين نحو ثلاثمائة
وثلاثة عشر رجلا، فيهم فارسان فقط.
وبدأت المعركة صبيحة اليوم السابع عشر من شهر رمضان سنة (2هـ)
بالمبارزة، حيث خرج ثلاثة من صفوة المشركين، هم «عتبة بن
ربيعة»، و «شيبة بن ربيعة»، و «الوليد بن عتبة»، يطلبون المبارزة،
فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - عمه «حمزة»، وابنى عمه «على
بن أبى طالب»، و «عبيدة بن الحارث» بالخروج إليهم، وهذا تصرف له
مغزاه من القائد الأعلى «محمد» رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
حيث بدأ المعركة بأقرب الناس إليه، فضرب المثل فى التضحية
والفداء لدين الله، واستطاع الثلاثة المسلمون القضاء على الثلاثة
المشركين من أعدائهم، وتركوهم صرعى فى ميدان المعركة، ثم
احتدمت الحرب، وتلاحم الناس، وحمى الوطيس، والرسول فى عريشه
يدعو الله سبحانه وتعالى ويستنزل نصره الذى وعده به، فيقول:
«اللهم نصرك الذى وعدتنى، اللهم إن تهلك هذه العصابة من المسلمين
فلن تُعبَد على وجه الأرض، يامولاى»، واستجاب الله لدعاء نبيه،
وانجلت المعركة عن نصر ساحق للمسلمين، وهزيمة ماحقة للمشركين
الذين قُتِلَ منهم سبعون، وأُسِرَ مثلهم، وفر الباقون، وامتلأت أيدى(1/40)
المسلمين من غنائمهم التى تركوها، واستُشهد من المسلمين أربعة
عشر شهيدًا، وتحقق وعد الله، فنصر القلة القليلة المؤمنة، على
الكثرة المشركة المتغطرسة.
الغنائم والأسرى:
بينما كان حزن «قريش» طاغيًا على هزيمتها ورجالها الذين فقدتهم
فى المعركة بين قتيل وأسير، كانت فرحة المسلمين عظيمة لهذا
النصر المؤزر، وعادوا إلى مدينتهم يتقدمهم رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، يحملون الغنائم، ويسوقون الأسرى المقيدين بالأغلال،
ومع ذلك فقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن
يحسنوا معاملة الأسرى وإطعامهم.
أما الغنائم فقد أنزل الله على رسوله حكم التصرف فيها فى سورة
«الأنفال»، التى نزلت بشأن هذه المعركة، فقضى عز وجل بأن تقسم
الغنائم خمسة أقسام، خُمس للرسول، يتصرف فيه كيف يشاء فى
الأمور التى حددتها الآية الكريمة، فى حين توزع الأربعة الأخماس
على المجاهدين، للراجل سهم، وللفارس سهمان.
أما الأسرى، فقد استشار النبى - صلى الله عليه وسلم - فيهم
أصحابه، فمنهم من أشار بقتلهم؛ لأنهم عذَّبوا المسلمين وطردوهم من
ديارهم وعلى رأس هذا الفريق «عمر بن الخطاب»، ومنهم من قال:
يارسول الله هم أهلك وعشيرتك، فاستبقهم وخذ منهم فداء، تتقوى
به على قتال أعدائنا. وكان على رأس هذا الفريق «أبو بكر
الصديق»، فمال النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى الرأى الأخير، وقبل
منهم الفداء، وكان كريمًا معهم، فقد أطلق سراح الفقراء منهم بدون
مال، وطلب ممن يعرف القراءة والكتابة منهم أن يعلم عشرة من
أطفال المسلمين، ويكون هذا فداءً له، وهذا تصرف رائع من الرسول
- صلى الله عليه وسلم - له دلالة عظيمة على عناية الإسلام بالتعليم،
فهذه أول حادثة من نوعها فى تاريخ البشرية، فلم يُعرف أن فاتحًا
منتصرًا قبله صنع مثل هذا الصنيع.
عوامل النصر فى بدر:
أما عن أهم العوامل التى أدت إلى هذا النصر فى أول معركة كبرى
بين المسلمين والمشركين، فهى:
- القيادة:(1/41)
كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - نعم القائد، فقد استعد جيدًا
للمعركة، وأدارها بكفاءة عالية فى ظل الإمكانات المتاحة، وجعل
أصحابه يبذلون طاقاتهم كلها فى الدفاع عن دين الله، فكان
يستشيرهم فى كل أمر ويتقبل آراءهم واقتراحاتهم، ولا يتميز عنهم
فى أى شىء، حتى إنه تناوب الركوب على بعير واحد مع «على بن
أبى طالب»، و «مرثد بن أبى مرثد الغنوى».
وكان لهذه الأسوة الحسنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أثرها الكبير فى نفوس أصحابه، حبًا لله ولرسوله لا ينازعه شىء،
وطاعة للأمر مهما يعظم، وسرعة فى تنفيذه، ودفاعًا عن دين الله
ودعوة رسوله بكل ما يملكون.
- العقيدة الراسخة:
كان للإيمان والثقة بنصر الله أثر بالغ فى النصر، فلم يتهيبوا الحرب
أبدًا، مع أنهم كانوا يعلمون أن قوة عدد المشركين ثلاثة أمثال
قوتهم.
- المعنويات العالية:
تمتع المجاهدون المسلمون فى «بدر» بمعنويات استمدوها من الإيمان
بالله، والثقة بنصره، ومن عظمة القائد وحكمته فى إدارة المعركة،
ولا شك أن المعنويات العالية تُعدُّ من أهم عوامل النصر فى كل
الحروب، فقد دلت التجارب أن قوة التسلح، وكثرة العدد لا تجديان ما
لم يتحل المقاتلون بمعنويات عالية.
2 - غزوة أحد:
وقعت هذه الغزوة فى شهر شوال من العام الثالث للهجرة عند جبل
«أحد»؛ شمالى «المدينة المنورة»، فقد جندت «قريش» ثلاثة آلاف من
رجالها وحلفائها للانتقام من المسلمين، والثأر لهزيمتها الساحقة فى
«بدر» التى جلبت فى كل بيت من بيوت «مكة» مأتمًا.
وعندما وصلت أخبار ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ جمع
أصحابه على الفور، واستشارهم فى أفضل طريقة لمواجهة هذا
الموقف، فأشار عليه شيوخ «المدينة» أن يتحصنوا داخلها، ويتركوا
الأعداء خارجها لأن شوارع «المدينة» ضيقة، ويمكن إغلاقها عليهم،
وقتالهم فيها بكل طريقة ممكنة حتى بالحجارة، ويمكن أن يشترك
النساء والأطفال فى مقاومتهم، وكان هذا رأى الكبار ورأى النبى(1/42)
- صلى الله عليه وسلم -. أما الشباب فقد أخذهم الحماس، وخشوا أن
يتهمهم الأعداء بالجبن؛ ففضلوا الخروج لمواجهتهم فى مكان
مكشوف.
ولما رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الرأى الأخير هو رأى
الأغلبية قام إلى بيته ولبس درعه وحمل سلاحه وخرج إليهم، فأدركوا
أنهم أخرجوه مكرهًا، فقالوا له: يارسول الله، لقد استكرهناك وما
كان لنا ذلك، فافعل ما شئت، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ماكان
لنبى لبس لأمته - عدة حربه - أن ينزعها حتى يحكم الله بينه وبين
أعدائه».
وخرج النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى ساحة «أحد»، وجعل ظهر
جيشه إلى الجبل، والأعداء أمامه، ونظر إلى ميدان المعركة نظرة
فاحصة، وعرف أن الخطر يكمن خلف ظهر الجيش، فأعد خمسين رجلا
ممن يُحسنون الرمى بالنبل، وأمَّر عليهم «عبدالله بن جبير
الأنصارى»، وكلفهم بالصعود إلى قمة عالية خلف ظهورهم، سُميت
بعد ذلك بجبل الرماة، وقال لهم فى حسم: «احموا ظهورنا، لأنُؤتى
من قبلكم»، وأمرهم برمى المشركين بالنبال، وألا يتركوا مواقعهم
أبدًا سواء انتصر المسلمون أو انهزموا، لخطورة الموقع وأهميته،
وكرر عليهم أوامره مرارًا.
ودارت المعركة، وكانت الغلبة للمسلمين فى البداية، لكنهم تعجلوا
النصر ولم يصبروا، وظنوا أن المعركة انتهت، فالذين فى الميدان
تركوا القتال وبدءوا فى جمع الغنائم، والذين فوق الجبل خالفوا
أوامر النبى - صلى الله عليه وسلم - وأوامر قائدهم «عبدالله بن
جبير»، وتركوا مواقعهم، ليشتركوا فى جمع الغنائم.
انتهز «خالد بن الوليد» هذه الفرصة، وانقض بفرسانه من الخلف،
مستغلا الثغرة التى حدثت بترك الرماة مواقعهم، فحول بحركته
العسكرية سير المعركة من نصر للمسلمين فى أولها إلى هزيمة،
وارتبك المسلمون من هول المفاجأة، حتى إن بعضهم أخذ يقتل
بعضًا، وزاد ارتباكهم عندما أشاع المشركون أنهم قتلوا الرسول
- صلى الله عليه وسلم - الذى كان قد سقط فى حفرة، وجُرِح وكُسِرَت(1/43)
رباعيته، وانجلت المعركة عن هزيمة للمسلمين، وسقوط واحد
وسبعين شهيدًا، وكان ذلك درسًا قاسيًا، أنزل الله بشأنه أكثر من
ستين آية فى سورة «آل عمران»، وضح لهم أسباب ما حدث، وأن
الهزيمة إنما كانت لمخالفة أوامر الرسول، والحرص على جمع
الغنائم، قال تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى
إذا فشلتم وتنازعتم فى الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون
منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم
ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين}. [آل عمران: 152].
ثم واساهم وعفا عنهم، وذكرهم بأنهم إن كانوا قد أصابهم قرح
وخسروا معركة، فقد أصاب أعداءهم قرح مثله {وتلك الأيام نداولها
بين الناس}، ثم طلب من نبيه أن يعفو عنهم ويستغفر لهم، وألا يدع
مشورتهم، حتى لو أدت إلى الهزيمة فى معركة، فخسارة المعركة
أسهل من خسارة مبدأ الشورى الذى يربى الرجال ويدربهم على
إبداء الرأى والمشاركة فى صنع القرار.
3 - غزوة الأحزاب:
أظهر يهود «بنى قينقاع» بعد غزوة «بدر» تصرفات بالغة السوء،
وأظهروا حزنًا شديدًا على هزيمة «قريش»، وساءهم انتصار
المسلمين، وكان ذلك خيانة ونقضًا للمعاهدة التى وقعها الرسول
معهم، كما أنهم أرسلوا وفدًا إلى «مكة» لمواساتها، وهذا يخالف ما
اتفق عليه فى معاهدة «المدينة» التى نصت فى أحد بنودها على
عدم إقامة أية علاقات مع «مكة»، ثم أساءوا إلى المسلمين
وانتهكوا حرماتهم، كما أغلظوا القول لرسول الله - صلى الله عليه
وسلم - حين نصحهم بالاستقامة والالتزام بنصوص المعاهدة، وقالوا:
«يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب - يقصدون
«قريشًا» - فلو حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس»، ولم يجد الرسول
- صلى الله عليه وسلم - بدا إزاء تصرفاتهم هذه إلا أن يجلوهم عن
«المدينة» ويتخلص من غدرهم وأذاهم، ثم أجلى الرسول بعد غزوة
أحد يهود «بنى النضير» بعد أن دبروا مؤامرة لقتله، فحقد اليهود(1/44)
عليه، وألبوا «قريشًا» وحلفاءها لشن حرب شاملة ضد المسلمين،
وذهب وفد منهم لهذه المهمة بزعامة «حيى بن أخطب» إلى
«مكة»،ووعدوهم بمساعدتهم، وقالوا لهم إنهم اتفقوا مع يهود «بنى
قريظة» - الذين كانوا لا يزالون يسكنون «المدينة» - على الانضمام
إليهم عندما يهاجمون المسلمين فاقتنعت «قريش» بذلك، ثم ذهبوا
إلى قبائل «غطفان» و «بنى أسد»، وصنعوا معهم مثلما صنعوا مع
«قريش»، ونجحت خطتهم الخبيثة بأن تجمع جيش من عشرة آلاف
مقاتل، من «قريش» وحلفائها، و «غطفان» و «بنى أسد» لمهاجمة
«المدينة»، وكان ذلك فى شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة.
حفر الخندق:
علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأخبار المفزعة، فجمع كبار
الصحابة واستشارهم كيف يواجهون هذا الموقف، فأشاروا عليه
بالتحصن داخل «المدينة»؛ لأنهم استفادوا من درس «أحد»، وأخذوا
يعدُّون العدة لتحمل حصار طويل من الأعداء. وهنا جاءت فكرة رائعة
من «سلمان الفارسى» - رضى الله عنه - وهى حفر خندق فى الجهة
الشمالية الغربية من «المدينة»؛ لمنع اقتحام جيوش الأحزاب لها، لأن
بقية جهاتها الأخرى كانت محصنة بغابات من النخيل، يصعب على
الخيول اقتحامها.
وتم حفر الخندق فى نحو أسبوع، وعمل النبى - صلى الله عليه وسلم -
بنفسه مع المسلمين فى حفره، وبشرهم وهم فى هذا الموقف
العصيب بفتح «الشام» و «العراق» و «اليمن».
جاءت قوات الأحزاب وهى واثقة لا بالنصر على المسلمين فحسب، بل
باستئصالهم، لكن المفاجأة أذهلتهم عندما رأوا الخندق يحول بينهم
وبين اقتحام المدينة، وظلوا أمامه عاجزين، تأكل قلوبهم الحسرة،
لأنهم لم يتعودوا مثل هذا الأسلوب فى القتال، ولما حاول واحد منهم
اقتحام الخندق لقى حتفه فى الحال.
وعلى الرغم من أن الخندق قد حمى المسلمين من هجوم المشركين،
فإن الكرب قد اشتد عليهم، وضاقوا بطول الحصار، وكانوا فى
موقف عصيب بالغ الصعوبة، وصفه الله - تعالى - أدق وصف بقوله: {إذ(1/45)
جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب
الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا
شديدًا}. [الأحزاب:10 - 11].
اجتهد النبى - صلى الله عليه وسلم - فى تفريج الكرب عن المسلمين،
فاتصل بقبائل «غطفان» وعرض عليها ثلث ثمار «المدينة» على أن
يعودوا إلى ديارهم ويتخلوا عن «قريش» فوافقوا، وعرض الرسول
- صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر على الأنصار، فسألوه إن كان هذا
أمرًا من الله فليس لهم أن يخالفوه، أما إذا كان اجتهادًا من أجلهم
فلن يوافقوا عليه، فأعلمهم أنه اجتهاد منه لمصلحتهم ولتفريق
الأحزاب عنهم، فأبوا وعزموا على مواصلة الجهاد والدفاع عن بلدهم،
فأوقف النبى - صلى الله عليه وسلم - المفاوضات مع «غطفان» نزولا
على رأى أصحابه.
ثم لاحت فرصة عظيمة عندما عرض «نعيم بن مسعود» - وكان قد
أسلم وقدم مع الأحزاب دون أن يعلموا - أن يقوم بدور فى التخفيف
عن المسلمين؛ فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يفرق بينهم
وبين «بنى قريظة»، الذين نقضوا عهدهم مع النبى - صلى الله عليه
وسلم - واتفقوا مع الأحزاب على الانضمام إليهم حين تبدأ الحرب.
وقد نجح «نُعيم» فى مسعاه نجاحًا عظيمًا، وزرع الشكوك فى قلوب
الأحزاب و «بنى قريظة» تجاه بعضهم بعضًا، ثم أرسل الله ريحًا
شديدة قلعت خيام المشركين، وكفأت قدورهم، وانقلب الموقف كله
بفضل الله - تعالى - عليهم، وأدرك «أبو سفيان بن حرب» قائد
الأحزاب ألا فائدة من البقاء، فأمرهم بالرحيل فرحلوا، وقد علق
الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هذا الموقف بقوله: «الآن نغزوهم
ولا يغزوننا».أى أن قريشًا لن تستطيع مهاجمة «المدينة» مرة
أخرى؛ لأن ميزان القوى أصبح يميل مع المسلمين.
عقاب بنى قريظة:
لما انسحبت الأحزاب، ونزع المسلمون لباس الحرب جاء «جبريل» -
عليه السلام - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «يامحمد(1/46)
إن كنتم قد وضعتم سلاحكم، فما وضعت الملائكة سلاحها، إن الله
يأمرك أن تخرج إلى «بنى قريظة»، فأمر رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - مناديًا ينادى فى الناس:
«لا يصلين أحدكم العصر إلا فى بنى قريظة»، وحاصرهم الرسول
- صلى الله عليه وسلم - بضعة وعشرين يومًا، حتى نزلوا على حكمه،
وطلبوا أن يحكم فيهم «سعد بن معاذ» حليفهم، فحكم بقتل الرجال
منهم؛ جزاء غدرهم وخيانتهم، وانضمامهم إلى الأعداء وقت الحرب،
فلو نجحت خطة الأحزاب لقُضِى على الإسلام والمسلمين قضاءً مبرمًا.
وحين قضى «سعد» بهذا الحكم، قال له رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: «لقد حكمت فيهم بحكم الله».
4 - عمرة الحديبية:
قرر النبى - صلى الله عليه وسلم -، بعد هذه الحروب التى وقعت بينه
وبين «قريش» أن يذهب هو وأصحابه إلى «مكة» لأداء العمرة فى
شهر ذى القعدة من العام السادس للهجرة، لكن «قريشًا» رفضت
رفضًا حاسمًا فيه غرور وغطرسة، مع علمها بأن الرسول إنما جاء
«مكة» معتمرًا مسالمًا غير محارب، وليس من حقها أن تمنعه من زيارة
البيت الحرام، الذى جعله الله للناس جميعًا مثابة وأمنًا، فعسكر
الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى «الحديبية» على مسافة قريبة من
«مكة»، وجرت بينه وبينهم مفاوضات حرصًا منه على السلام وحقن
الدماء، انتهت إلى عقد هدنة عُرِفت بصلح الحديبية، وأهم شروطها
ما يلى:
1 - وقف الحرب بين الفريقين لمدة عشر سنين، يأمن فيها الناس
ويسافرون وينتقلون فى أمان.
2 - وأن يعود الرسول وأصحابه هذا العام بدون أداء العمرة، وكانوا
نحوًا من ألف وأربعمائة فرد، على أن يأتوا فى العام التالى،
وتخلى لهم «قريش» «مكة» ثلاثة أيام يؤدون مناسكهم خلالها ثم
يعودون إلى «المدينة».
3 - وأن من يأتى «مكة» مسلمًا بدون إذن وليه إلى «المدينة» يرده
الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم، أما من يأتى من المسلمين إلى
«مكة» مرتدًا، فإنها ليست مطالبة برده إلى «المدينة».(1/47)
4 - وأن من أراد من القبائل العربية أن ينضم إلى أحد طرفى
المعاهدة، فله ذلك (فانضمت قبيلة «خزاعة» إلى النبى - صلى الله
عليه وسلم -، فى حين انضمت قبيلة «بنى بكر» إلى «قريش»).
وهذا الصلح كان فى ظاهره إجحافاً سياسياً للمسلمين، حتى إنه
أثار اعتراضات بعض الصحابة، الذين رأوا فيه مهانة لهم، مثل «عمر
بن الخطاب» -رضى الله عنه - غير أنه كان فى الحقيقة فتحًا مبينًا
كما سماه الله -تعالى- فى سورة «الفتح» التى نزلت على الرسول
- صلى الله عليه وسلم - وهو عائد من «الحديبية»؛ إذ كانت نتائجه فى
مصلحة المسلمين، وكان تمهيدًا لفتح «مكة» بعد عامين اثنين.
5 - فتح خيبر:
وهى قرية كبيرة تقع شمالى شرقى «المدينة المنورة» بنحو مائة
وثمانين كيلو مترًا، يسكنها بعض اليهود الذين لم تبد منهم أية إساءة
إلى المسلمين من البداية، ولم يُسمع أن لهم ضلعًا فى أية مؤامرة أو
موقف من مواقف اليهود المخزية ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم -
فاحترم الرسول موقفهم وحيادهم، غير أنهم تبدلوا وتغيرت مواقفهم.
منذ أن نزل عندهم يهود «بنى قينقاع» و «بنى النضير»، فأفسدوهم
وجعلوا بلدهم وكرًا للتآمر على المسلمين والكيد لهم.
ولما كانت «خيبر» تقع على الطريق المؤدى إلى «الشام»، فكان لابد
من تطهير ذلك الطريق من أية عوائق، وبخاصة أنه الطريق الرئيسى
للدعوة الإسلامية وللجيوش الإسلامية التى ستخرج بعد وقت قصير
لمواجهة دولة الروم، التى تكرر اعتداؤها على المسلمين؛ لذلك قرر
الرسول - صلى الله عليه وسلم - تصفية آخر وكر يهودى فى شبه
جزيرة العرب؛ لتسلم قاعدة الإسلام الأساسية ومنطلقه إلى العالم من
عدو ماكر، فبعد عودته من «الحديبية» بأقل من شهر - أى فى
المحرم من العام السابع للهجرة - غزا «خيبر»، ودك حصونها،
فاستسلمت، وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - كريمًا ورحيمًا مع
أهلها، فلم يجبرهم على الدخول فى الإسلام، ولم يطردهم من بلدهم،(1/48)
بل أبقاهم يزرعون أرضهم، ولهم نصف محاصيلها، وللمسلمين النصف
الآخر.
ولما سمعت القرى اليهودية الأخرى المنتشرة فى وادى القرى، مثل:
«فدك»، و «تيماء» بما حدث لخيبر، أرسلت وفودها إلى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - يطلبون منه أن يعاملهم معاملته مع أهل
«خيبر» فاستجاب لهم.
6 - فتح مكة المكرمة:
التزمت «قريش» بمعاهدة «الحديبية» لمدة عام وبعض العام، فقد ذهب
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لأداء عمرة القضاء فى العام
السابع من الهجرة. لكنها ما لبثت أن نقضت المعاهدة عندما أعانت
قبيلة «بنى بكر» حليفتها على قبيلة «خزاعة» حليفة رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، فطلبت «خزاعة» من الرسول نصرتها طبقًا
للمعاهدة التى بينها وبينه، فوعدهم بالنصر، وبدأ فى الاستعداد
لغزو «مكة».
شعر «أبو سفيان» زعيم «مكة» بالخطأ الفاحش الذى وقعوا فيه،
فسافر إلى «المدينة» لمقابلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولتجديد
المعاهدة، فلم يقبل الرسول اعتذاره.
وفى بداية الأسبوع الثانى من شهر رمضان من العام الثامن للهجرة
توجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على رأس جيش قوامه عشرة
آلاف مجاهد لفتح «مكة»، وكان «أبوسفيان» يتوقع - منذ أن عاد من
«المدينة» دون أن يحقق هدفه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
سيغزو «مكة»، ولكن لا يعرف متى يقع ذلك، فكان قلقًا ودائمًا
يتحسس الأخبار.
وفى ليلة من الليالى رأى أبو سفيان نيران جيش النبى التى أوقدها
المجاهدون فاستبد به الخوف والهلع، فسمع صوته «العباس بن
عبد المطلب»، وكان قد خرج من «مكة» من قبل، والتقى بالنبى
- صلى الله عليه وسلم - وأعلن إسلامه، فلما التقى بأبى سفيان أخبره
بالجيش القادم لفتح «مكة»، ولا قبل لهم به، وأخذه إلى الرسول
- صلى الله عليه وسلم - فأعلن إسلامه، وأعطاه النبى ميزة كبيرة،
بناء على اقتراح من «العباس بن عبد المطلب»، ضمن الإعلان الذى(1/49)
أمره أن يبلغه لأهل «مكة»: «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن
أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن».
حرص النبى - صلى الله عليه وسلم - على دخول «مكة» بدون قتال،
فهى بلد الله الحرام، وأحبُّ بلاد الله إليه، وفيها أهله وذووه، فكانت
أوامره صريحة لجيشه، ألا يقاتلوا إلا إذا قوتلوا، وبالفعل دخل الجيش
«مكة» فى العشرين من شهر رمضان دون قتال، إلا مناوشات بسيطة
حدثت فى الجهة التى دخلت منها الفرقة التى كان يقودها «خالد بن
الوليد» عند جبل «خندمة» فقضى عليها «خالد»، وكان قد أسلم هو
و «عمرو بن العاص» بعد عمرة القضاء سنة (7هـ).
دخل النبى - صلى الله عليه وسلم - «مكة» فاتحًا منتصرًا، وهى التى
طردته قبل ثمانى سنوات وتآمرت على حياته، فماذا هو فاعل
بهؤلاء الذين عادوه وآذوه أذى شديدًا هو وأصحابه؟ وهل فكر فى
الانتقام منهم؟ لم يحدث ذلك منه، بل جمعهم بعد أن دخل «الكعبة»
وطاف بها، وكسر أصنامها بيده وهو يتلو: {وقل جاء الحق وزهق
الباطل إن الباطل كان زهوقًا}.
وقال لهم: «ما تظنون أنى فاعل بكم؟» قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن
أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
وبهذا ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أروع الأمثلة فى العفو
والتسامح عندالمقدرة، فلم تحمله نشوة النصر وزهو القدرة على
الانتقام ممن أساء إليه، بل نسى كل ما فعلوه معه ومع أصحابه من
ألوان العذاب.(1/50)
الفصل الخامس
*ما بعد فتح مكة
1 - غزوة حنين والطائف:
بعد فتح «مكة» بدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرتب أمورها،
فعين لها واليًا من قبله، هو «عتاب بن أسيد»، ومعلمًا يعلم أهلها
شرائع الإسلام هو «معاذ بن جبل»، ولكن بعد أقل من أسبوعين من
ذلك الفتح العظيم وصلت إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - أخبار بأن
قبائل «هوازن» و «ثقيف» قد جمعت جموعها فى وادى «حنين» بين
«مكة» و «الطائف» لمحاربته؛ لظنهم أن ذلك الفتح وعلو شأن الرسول
- صلى الله عليه وسلم - خطر عليهم، ولا شك أنهم كانوا فى ذلك
مخطئين، فالإسلام ليس خطرًا عليهم ولا على غيرهم، بل هو رحمة
وعدل وعزة وكرامة لهم وللعرب وللعالم أجمع.
أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - الجيش بالتأهب لمواجهتهم فى
أوائل شهر شوال سنة 8هـ، وكان يضم اثنى عشر ألفًا بعد أن انضم
إلى جيش الفتح ألفان من أهل «مكة»، واتجه به إلى وادى «حنين»،
ففاجأتهم جموع «هوازن» و «ثقيف» من مكامنها فى الأودية
والجبال، وكادت تهزمهم، وفر معظم المسلمين من هول المفاجأة،
ولم يثبت مع النبى - صلى الله عليه وسلم - إلا قلة قليلة من أهله
وأصحابه، تقدر بنحو عشرة رجال، وصاح النبى - صلى الله عليه
وسلم - بالمسلمين «إلى أين أيها الناس؟ إلىَّ أيها الناس، أنا النبى لا
كذب أنا ابن عبد المطلب»، وأمام ثبات النبى - صلى الله عليه وسلم -
وشجاعته عاد المسلمون وراءه، وتماسكوا من جديد، وحملوا على
عدوهم حملة صادقة، فهزموهم هزيمة شديدة، وقتلوا منهم عددًا
كبيرًا، وأسروا كذلك نحوًا من ستة آلاف، وغنموا غنائم كثيرة.
وينبغى أن نشير إلى أن سبب الهزيمة التى كادت تحيق بالمسلمين
فى أول المعركة هو الاغترار بالكثرة، وكانوا اثنى عشر ألفًا،
وقالوا: لن نهزم اليوم من قلة، فأراد الله أن يعلمهم أن الكثرة لا
تكفى وحدها فى حسم المعارك؛ إذ لابد من عون الله تعالى، وقد
أشار القرآن الكريم إلى سبب ما حدث لهم فى أول المعركة، فقال(1/51)
تعالى: {ولقد نصركم الله فى مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم
كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحُبت ثم وليتم
مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل
جنودًا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين}. [التوبة:25 -
26].
2 - حصار الطائف:
بعد هزيمة «هوازن» و «ثقيف» فى وادى «حُنين». فرت فلولهم
وتحصنت بالطائف فحاصرهم النبى - صلى الله عليه وسلم - نحوًا من
ثلاثة أسابيع، وكانت حصونهم قوية، وأخذوا فى قذف المسلمين
بالنبال فآذوهم، فاضطر النبى أن يتراجع بقواته بعيدًا عن مرمى
النبال، ثم استشار أصحابه ماذا يفعل معهم، فقالوا له: «يارسول الله
هم كضب فى جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته فلن يضرك»، أى
أنهم بعد فتح «مكة» وبعد هزيمتهم فى وادى «حنين» لن يستطيعوا
الصمود فى وجهك، وهم مستسلمون لا محالة إن أطلت الحصار، وإن
رفعته عنهم فسيقدمون عليك من تلقاء أنفسهم، فاقتنع الرسول
- صلى الله عليه وسلم - بهذا الرأى، ورفع عنهم الحصار، ورفض أن
يدعو عليهم عندما طلب منه ذلك بعض الصحابة، بل قال: «اللهم اهدِ
ثقيفًا وأتِ بهم».
وبعد أقل من عام جاءت وفودهم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -
فى «المدينة»، وأعلنوا إسلامهم، فى رمضان سنة 9هـ، وعين
الرسول - صلى الله عليه وسلم - «عثمان بن العاص الثقفى» واليًا
عليهم.
3 - غزوة تبوك:
قام النبى - صلى الله عليه وسلم - بقيادة هذه الغزوة فى شهر رجب
سنة 9 هـ، وهى آخر غزوة غزاها، وكان سببها أن أخبارًا وصلت إليه
من عيونه التى بثها لمراقبة تحركات الروم فى الشمال، أنهم يعدون
العدة للهجوم عليه.
والحقيقة أن عدوان الروم كان قد تكرر كثيرًا على المسلمين من قبل،
فاعتدى الروم على المسلمين وحاربوهم فى غزوة «مؤتة» فى
جمادى الآخرة سنة 8هـ، وكادوا يستأصلونهم، لولا مهارة «خالد بن
الوليد» - رضى الله عنه - الذى انسحب من أمامهم وأنقذ جيش
المسلمين من براثنهم.(1/52)
وكان عدوانهم ذلك بدون سبب يدعو إليه لأن المسلمين لم يذهبوا
لمحاربتهم، وإنما جاءوا لتأديب القبائل القاطنة بين «الحجاز»
و «الشام»، التى دأبت على قطع الطريق على المسلمين، ثم ارتكبت
جرمًا كبيرًا حين قتلت «الحارث بن عُمير» أحد سفراء النبى - صلى الله
عليه وسلم - الذين حملوا رسائله إلى الملوك والأمراء، فأراد النبى
- صلى الله عليه وسلم - أن يؤدبهم بهذه الغزوة، ليكفوا أذاهم عن
المسلمين، ولكن الروم تدخلوا بجيش كبير - أكثر من مائة ألف - بدون
سبب.
أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرصد تحركات الروم، فلما
وصلت إليه الأخبار بعزمهم على الهجوم عليه؛ أعد جيشًا لصده، وكان
عدده ثلاثين ألفًا، وهو أكبر جيش قاده النبى - صلى الله عليه وسلم -
وسُمى «جيش العسرة»، لأن المسافة كانت بعيدة والجو صيف شديد
الحرارة، والناس يحبون المقام فى مزارعهم وبساتينهم لجنى الثمار،
والاستمتاع بالظل الوارف، ولكن مادامت الدولة الإسلامية ودعوتها
فى خطر، فلابد من التضحية والاستهانة بكل راحة ومتعة، وقد ضحى
أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - تضحيات كبيرة، وأسهموا فى
تجهيز الجيش وإعداده بأموالهم، وبخاصة «عثمان بن عفان» الذى
جهز نحو ثلث الجيش من ماله الخاص.
سار النبى - صلى الله عليه وسلم - حتى وصل إلى «تبوك»، فإذا به
يعلم أن جيش الروم الذى كان يُعد يومئذٍ أقوى جيش فى الدنيا قد فرَّ
مذعورًا إلى داخل «الشام»، فعسكر النبى - صلى الله عليه وسلم - فى
«تبوك» ثلاثة أسابيع، رتب خلالها أوضاع المنطقة، وأظهر هيبة
الإسلام وضرب هيبة الروم ضربة قاصمة، جعلت سكان الإمارات
الصغيرة فى المنطقة الخاضعة لسيطرة الروم - كأيلة و «أدرح»
و «الجرساء» - يهرعون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
مذعنين، وقالوا له: ماذا تريد منا؟ فعرض عليهم الإسلام فرفضوا،
وقالوا: غير هذا، قال: «تدفعون الجزية ونؤمنكم على عقائدكم
وأرواحكم وأموالكم»؛ فقبلوا، فأعطاهم بذلك معاهدات، وكان(1/53)
تصرف النبى - صلى الله عليه وسلم - مثلا عاليًا ودليلا على تسامح
الإسلام، وأنه لا يُفرض على الناس بالقوة.
وبعد أن أنجز النبى - صلى الله عليه وسلم - هذا الإنجاز الهائل،
وتجشم فى ذلك المتاعب والمشقات عاد إلى المدينة المنورة؛
لاستقبال وفود القبائل العربية التى أتت من كل أنحاء شبه الجزيرة
العربية تعلن إسلامها وخضوعها لله ولرسوله، فجاءت عشرات بل
مئات الوفود لهذا الغرض، وسُمى العام التاسع للهجرة عام
الوفود، وصدق الله العظيم القائل:
{إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجًا
فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا}. [سورة النصر].
عالمية الرسالة الإسلامية:
الإسلام هو الرسالة الخاتمة لرسالات الله - تعالى - إلى البشرية كلها،
فليس بعد القرآن الكريم كتاب سماوى، وليس بعد محمد - صلى الله
عليه وسلم - رسول؛ لقوله تعالى {ماكان محمد أبا أحد من رجالكم
ولكن رسول الله وخاتم النبيين}. [الأحزاب: من 40].
ولقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: «إن مثلى ومثل الأنبياء من قبلى
كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل
الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، ..
فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين».
والإسلام هو دين الحق؛ لقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}. [آل
عمران: من 19].
وهو الدين الذى دعا إليه الأنبياء جميعًا؛ فقال - تعالى - على لسان
«نوح» - عليه السلام-: {وأمرت أن أكون من المسلمين}. [يونس: من
72].
وقال على لسان إبراهيم - عليه السلام: {أسلمت لرب العالمين}.
[البقرة: من 131].
وأوصى نبى الله «يعقوب» بنيه بقوله: {يا بنى إن الله اصطفى لكم
الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}. [البقرة: من 132].
وقال «موسى» لقومه: {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن
كنتم مسلمين}. [يونس: من 84].
وكل واحد من هؤلاء الرسل الكرام كان مُرسلا إلى قومه فقط،(1/54)
فرسالاتهم كانت محدودة الزمان والمكان والبيئة البشرية بنص القرآن
الكريم (5).
أما رسالة «محمد» - صلى الله عليه وسلم - فعامة لكل الجنس البشرى،
قال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرا}. [سبأ: 28].
وقال تعالى: {قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعًا}.
[الأعراف: من 158].
وليس معنى عالمية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان أن يفرض
على الناس بالقوة، إذ لا إكراه فى الدين، ولأن الأسلوب الذى أمر الله
- تعالى - به فى الدعوة إلى دينه هو: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة
والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن}. [النحل: من 125].
والمعنى الحقيقى لعالمية الإسلام أنه رسالة مفتوحة للبشر كلهم،
دون تمايز أو تفرقة، ودون قيود أو عوائق، فهو ليس ديانة مقصورة
على فئة بعينها، كما يدعى اليهود - مثلا - أن ديانتهم خاصة بهم
وحدهم، اختصهم الله بها دون غيرهم من البشر، بل الناس جميعًا فى
الإسلام سواء، لافضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى، فهم من أب
واحد وأم واحدة، وأكرمهم عند الله أتقاهم.
وكان من بين الصحابة مسلمون من غير العرب، مثل «سلمان
الفارسى»، و «صهيب الرومى»، و «بلال الحبشى»، وكانت منزلتهم
عند رسول الله تفوق منزلة كثير من الصحابة، كما كان الصحابة
أنفسهم يعاملونهم أكرم معاملة، حتى إن «عمر بن الخطاب» يقول
عن «بلال بن رباح الحبشى»: «أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا»، يقصد
بلالا.
رسائل الرسول إلى ملوك العالم ورؤسائه:
كان النبى - صلى الله عليه وسلم - ينتظر الفرصة المواتية، والوقت
المناسب؛ ليخرج بالدعوة الإسلامية من شبه الجزيرة العربية إلى
النطاق العالمى، وجاءت هذه الفرصة بعد «صلح الحديبية»، الذى أمِنَ
به إلى جانب «قريش» أعدى أعدائه فى الداخل يومئذٍ، وقضى على
خطر اليهود بفتح «خيبر».
ومع بداية العام السابع من الهجرة ساد شبه الجزيرة العربية جو من
الهدوء النسبى، فبدأ النبى - صلى الله عليه وسلم - فى تبليغ دعوته(1/55)
وتوجيهها إلى أكبر عدد ممكن من ملوك العالم ورؤسائه وأمرائه،
فأعد عددًا من أصحابه الكرام، ليكونوا سفراء بينه وبين الملوك
والرؤساء وحملهم رسائله إليهم، فأرسل «عبدالله بن حُذافة
السهمى» برسالة إلى «كِسرى أبرويز الثانى» ملك الفرس، و «دِحْيَة
بن خَلِيفَةَ الكَلبِى» برسالة إلى «هِرَقْل الروم»، و «حَاطِب بن أبى
بَلتَعَةَ» برسالة إلى «المقوقس» حاكم «مصر»، و «عمرو بن أمية
الضُّمَرى» برسالة إلى «النجاشى» ملك «الحبشة»، و «العلاء بن
الحضرمى» برسالة إلى أمير «البحرين»، و «عمرو بن العاص» برسالة
إلى ملكى «عمان»، كما أرسل إلى سائر أمراء العرب فى
«الشام» و «اليمن».
وتعد هذه الرسائل نقطة تحول فى تاريخ الإسلام من ناحية، ونقطة
البداية فى علاقات الإسلام بالعالم الخارجى من ناحية أخرى، فعلى
أساسها وعلى ضوء ردود الأفعال عند من أرسلت إليهم من الملوك
تشكلت علاقات المسلمين مع الأمم الأخرى فى حالتى الحرب والسلام.
وسنكتفى بإيراد نص رسالة النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى
«هرقل»، لأن الرسائل كلها تقريبًا متشابهة فى نصوصها
ومضمونها، فهى دعوة سلمية إلى الإسلام، لم تتضمن أى تهديد أو
تلويح باستخدام القوة ضد من يرفض الإسلام، ونص الرسالة:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم
الروم، سلام على من اتبع الهدى .. أما بعد: فإنى أدعوك بدعاية
الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرتك مرتين، فإن توليت
فعليك إثم الأريسيين - رعايا هرقل - ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة
سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا، ولا يتخذ بعضنا
بعضًا أربابًا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون».
فماذا كان رد هرقل على هذه الرسالة السلمية؟ وماذا كانت نتائجها
؟
ذكرت بعض المصادر التاريخية أن «هِرَقل» رد على رسالة النبى
- صلى الله عليه وسلم - ردًا مهذبًا بل إنه مال إلى الإسلام، ولكن الروم(1/56)
لم يطاوعوه، فاعتذر للنبى عن عدم قبول الإسلام بسبب رفضهم، فى
حين لا تشير مطلقًا إلى ذلك غالبية المصادر الإسلامية، كما أن تطور
العلاقات بين المسلمين والروم فى أواخر حياة النبى - صلى الله عليه
وسلم - وفى عهد خلفائه الراشدين يجعلنا نميل إلى أنه لم يرد؛ لأن
«هرقل» عندما وصلته رسالة النبى - صلى الله عليه وسلم - كان عائدًا
لتوه من حربه مع الفرس، وقد انتصر عليهم انتصارًا ساحقًا، ويبدو أنه
كان معتدا بنفسه اعتدادا كبيرًا، مزهوا بما حققه من فوز رد به اعتبار
دولته أمام الفرس، فخورًا بإعادة الصليب الأكبر الذى أخذه الفرس
إلى بلادهم أثناء غزوهم لفلسطين قبل سنوات، فلما جاءت رسالة
النبى - صلى الله عليه وسلم - إليه وهو فى هذه الحالة النفسية
المزهوة لم يحفل بها ولم يقدر أمرها التقدير الصحيح.
ويؤكد ذلك الرأى أن تطور العلاقات بين المسلمين والروم تصاعد إلى
الصدام المسلح، فاعتدى الروم على المسلمين فى غزوة مؤتة سنة
(8هـ)، ثم حاولوا الاعتداء مرة أخرى سنة (9هـ) مما جعل النبى - صلى
الله عليه وسلم - يخرج إليهم فى غزوة «تبوك»، ثم دارت رحى الحرب
بين المسلمين والروم؛ لأنهم تدخلوا فى حركة الردة، وحرضوا القبائل
عليها وساعدوها، ونجح المسلمون فى فتح «الشام» و «مصر»
وطردوا الروم منها إلى الأبد، ومن ثم لا يستطيع أحد أن يلوم
المسلمين؛ لأنهم حملوا السلاح دفاعًا عن أنفسهم ضد عدوان الروم
المتكرر.
أما علاقة المسلمين بالإمبراطورية الفارسية، وهى يومئذٍ الدولة
الكبرى الثانية فى العالم، فلم تكن بأحسن حال من علاقة المسلمين
بالروم، بل كان «كسرى أَبْرَوِيز الثانى» ملك «فارس» أكثر غرورًا
وغطرسة من «هرقل»، فلم تكد تصل إليه رسالة النبى - صلى الله
عليه وسلم - حتى استشاط غضبًا وقام بتمزيقها، مع أنها رسالة
سلمية للإسلام لا تخرج فى مضمونها عن رسالة النبى إلى «هرقل»،
فدعا عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - قائلا: «مزق الله ملكه»، ولم(1/57)
يكتف الإمبراطور المغرور بذلك، بل أمر نائبه على حكم «اليمن»
«باذان» أن يأتى له بالنبى مقيدًا فى الأغلال، ليحاكمه على جرأته
وكتابته إليه يدعوه إلى الإسلام، فامتثل «باذان» وأرسل قوة من
«اليمن» إلى «المدينة» لتنفيذ هذا الأمر، وفى هذه الأثناء كان
«كسرى أبرويز الثانى» قد قتل فى ثورة قادها ضده ابنه
«شَيْرَوَيْه»، استجابة لدعوة النبى - صلى الله عليه وسلم - عليه.
فلما جاء رسل «باذان» أخبرهم النبى - صلى الله عليه وسلم -، بما
حدث لكسرى، واحترمهم وأكرم وفادتهم، وحملهم رسالة إلى
«باذان» حاكم «اليمن»، يدعوه فيها إلى الإسلام، فإن أسلم أقره
الرسول - صلى الله عليه وسلم - حاكمًا على «اليمن» من قبله، فشرح
الله صدره للإسلام، فأسلم وأقره النبى على حكمها مع أنه فارسى،
وهذا دليل على سمو مبادئ الإسلام العادلة وأنه دين المساواة.
وقد تطورت العلاقات مع الفرس على طريق المواجهة، كما حدث مع
الروم، لأن الفرس اعتدوا على المسلمين فى حروب الردة، وأرسلوا
جيشًا مع «سجاح بنت الحارث اليربوعية»، التى ادعت النبوة؛
لمحاربة المسلمين، فاضطر «أبو بكر الصديق» و «عمر بن الخطاب»
من بعده أن يضعوا حدا لاعتداءات الفرس، وأن يزيلوا دولتهم
ويخلصوا البلاد والعباد من ظلمهم وتجبُّرهم.
أما بقية الملوك والأمراء الذين وصلتهم رسائل النبى - صلى الله عليه
وسلم -. فمعظم العرب فى «اليمن» وشرقى شبه الجزيرة و «الخليج»
كانت ردودهم إيجابية وأعلنوا إسلامهم، فأبقاهم على إماراتهم،
وأرسل إلى كل إمارة معلمين من أصحابه يفقهونهم فى الدين.
أما «المقوقس» حاكم «مصر» فلم يسلم ولكنه رد ردًا مهذبًا، مصحوبًا
بكثير من الهدايا، مع جاريتين، هما «مارية القبطية» التى أعتقها
النبى - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها، وأنجبت له ابنه «إبراهيم»،
وأختها «سيرين» التى أهداها لشاعره «حسان بن ثابت».
وأما «النجاشى» ملك «الحبشة»، فقد استقبل مبعوث النبى استقبالا(1/58)
حسنًا، ورد عليها برسالة مهذبة، أعلن فيها إسلامه صريحًا واضحًا.
وتُوفى «النجاشى» فى السنة التاسعة من الهجرة، ولما علم النبى
- صلى الله عليه وسلم - بذلك صلى عليه صلاة الغائب، وقد حفظ
المسلمون للحبشة موقفها من المهاجرين إليها، فظلت علاقاتهم بها
حسنة على الدوام.
حجة الوداع:
كانت «حجة الوداع» فى العام العاشر من الهجرة، وسُميت بذلك لأن
النبى - صلى الله عليه وسلم - انتقل إلى الرفيق الأعلى بعدها بوقت
قصير، ولأن العبارات التى افتتح بها النبى - صلى الله عليه وسلم -
خطبته كانت تفيد بأنه لن يلقى أمته بعدها فى الحج أبدًا، كما
سميت هذه الحجة بحجة البلاغ؛ لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - ذكر
فى نهاية الخطبة عبارات التبليغ لرسالته للناس.
والحج ركن من أركان الإسلام الخمسة فُرِضَ على المسلمين فى العام
التاسع للهجرة، فبعد عودته - صلى الله عليه وسلم - من غزوة «تبوك»
أرسل «أبا بكر الصديق» - رضى الله عنه - أميرًا على الحج، وقضى
هو أكثر من عام مشغولا باستقبال وفود العرب التى توالت عليه من
كل أنحاء شبه الجزيرة العربية، تعلن بيعتها وإسلامها، وكان النبى
- صلى الله عليه وسلم - يبعث مع كل وفد من يعلمهم أمور دينهم من
الصحابة.
ولما اطمأن أن الإسلام قد انتشر فى بلاد العرب، وتجاوزها إلى ما
حولها رغب أن يقوم بأداء فريضة الحج، ويعلِّم المسلمين المناسك
بطريقة عملية، ويوصيهم خيرًا، ويلخص لهم فى خطبة شرائع الإسلام
وأهدافه.
فخرج من «المدينة» فى 25 من ذى القعدة من السنة العاشرة
للهجرة، وأحرم بالحج والعمرة من ذى الحُلَيْفة (6)، وخلفه أكثر من
مائة ألف من المسلمين، وكان المشهد رائعًا ومهيبًا، ينحنى له
التاريخ إجلالا وتقديرًا، فها هو ذا الرجل الذى بدأ دعوته وحده،
والعرب جميعهم يقفون ضده، ويحاربونه بكل ما يملكون يلتفون
حوله، ويسيرون خلفه، ويقودهم فى تواضع وبر ورحمة ومودة.(1/59)
وقد خطب النبى - صلى الله عليه وسلم - فى هذه الجموع الكبيرة بعد
الإحرام، فوعظهم، وعلمهم مناسك الحج، وقال لهم: «خذوا عنى
مناسككم».
وسار ركب الحج النبوى إلى «مكة المكرمة» فى يوم التروية -الثامن
من ذى الحجة - وتوجه إلى «منى»، فصلى بها الظهر والعصر
والمغرب والعشاء، وصبح يوم عرفة، وبعد الصلاة توجه إلى عرفات
فى التاسع من ذى الحجة، وهناك خطبهم «خطبة الوداع»، وهى
خطبة طويلة، بدأها النبى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «أيها الناس،
اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا
الموقف أبدًا، أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، إلى أن
تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون
ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة
فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رءوس
أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس
بن عبدالمطلب موضوع كله، وإن كل دم كان فى الجاهلية موضوع،
وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب - ابن عم
النبى - صلى الله عليه وسلم - - وكان مسترضعًا فى بنى ليث فقتلته
هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية».
ثم واصل خطبته مقررًا فيها قواعد الإسلام وشرائعه، هادمًا قواعد
الشرك والجاهلية، موضحًا المحرمات التى اتفقت جميع الشرائع
السماوية على تحريمها، وهى الدماء والأموال والأعراض، ووضع
أمور الجاهلية كلها تحت قدميه، وأوصاهم بالنساء خيرًا، وحذرهم
من الفتن، وختمها بتلك الكلمات المباركات، فقال: فاعقلوا أيها الناس
قولى، فإنى قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا
أبدًا، أمرًا بينًا، كتاب الله وسنة نبيه.
وبعد أداء بقية مناسك الحج، عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
سعيدًا مغتبطًا إلى مدينته، ليستعد للقاء ربه راضيًا مرضيا عنه من ربه
الذى أرسله رحمة للعالمين، ومن أمته التى بلغها رسالة ربه،(1/60)
وأخرجها من الظلمات إلى النور.
شخصية الرسول:
كانت أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصفاته الشخصية من أهم
العوامل التى ساعدت على تكوين المجتمع الإسلامى الأول تكوينًا
سليمًا، فقد كانت أخلاقه رخاءً وسماحة وصفاء، وحسبه أن الله
وصفه بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم}. [القلم: 4].
كما كانت أخلاقه من الأسباب التى جمعت الناس حوله، لقوله تعالى:
{ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}.
[آل عمران: 159].
وعُرِفَ الرسول بأخلاقه السمحة قبل البعثة، فلم يسجد لصنم قط،
واشتهر بين أهله وقومه بالصادق الأمين، ولم يشترك فيما تعود
شباب «قريش» أن يقوموا به من عبث ومجون، ثم ازدادت أخلاقه
سموا بهدى الوحى، وأصبح أعظم العظماء فى كل شىء، فى
الصدق والأمانة، والوفاء والحياء، والشجاعة والكرم، والزهد، والصبر
على الشدائد، ومواجهة أعباء الرسالة، ومشكلات الحياة، رحيمًا فى
معاملة أصحابه، عارفًا بأقدارهم، عطوفًا على أهله وزوجاته.
وإذا كان الناس يقولون أن الرجل العظيم فى الحياة العامة قلما يكون
عظيمًا فى بيته، فإن «محمدًا» - صلى الله عليه وسلم - كان أعظم
العظماء فى التاريخ البشرى كله، فى الحياة العامة، وأعظمهم فى
بيته الذى ضم تسع زوجات، فى وقت واحد، من أعمار مختلفة ومن
قبائل مختلفة، بل ومن أجناس مختلفة، فمنهن العربية واليهودية
والمصرية، فكان المثل الأعلى معهن فى كل شىء، وكلهن يقدرن
شخصه وخلقه، وقد عاش بعضهن بعد موته أكثر من نصف قرن،
وألسنتهن تلهج بذكره والثناء عليه، فلم تشغله أعباء الرسالة
وتكاليفها، وتبعات الدولة ومسئولياتها عن القيام بواجباته نحوهن
على أكمل وجه، وكان يجد من الوقت ما يسمح له بملاطفتهن،
وإدخال السرور على قلوبهن.
وقد انبهر بأخلاق النبى - صلى الله عليه وسلم - عدد من كتاب الغرب،
فلم يسعهم إلا أن يقولوا كلمة الحق عنه، من ذلك ما قاله «وليم
موير»: «إن من صفات محمد الجديرة بالتنويه الرأفة والاحترام اللذين(1/61)
كان يعامل بهما أصحابه، فإن التواضع وإنكار الذات والرأفة والأناة
والسماحة تغلغلت فى نفسه، فأحبه كل من حوله، ولم يكن الإصلاح
أعسر ولا أبعد منالا منه عند ظهور محمد، ولا نعلم نجاحًا تم كالذى
تركه عند وفاته».
ويقول الشاعر «لامارتين»: «إن محمدًا هو أعظم رجل بجميع المقاييس
التى وضعت لوزن العظمة الإنسانية، فإن كان مقياس العظمة
الإنسانية هو إصلاح شعب متدهور، فمن ذا الذى يطاول محمدًا فى
هذا المضمار. وإذا كان مقياس العظمة هو توحيد الإنسانية المفككة
الأوصال، فإن محمدًا أجدر الناس بهذه العظمة، لأنه جمع شمل العرب
بعد تفكك شامل. وإذا كان مقياس العظمة هو إقامة حكم السماء فى
الأرض، فمن ذا الذى ينافس محمدًا الذى محا مظاهر الوثنية، وثبت
عبادة الله وقوانينه فى عالم الوثنية والقوة».
أما الدكتور «مايكل هارت» فى كتابه «المائة الأوائل» فقد وضع
النبى - صلى الله عليه وسلم - على رأس القائمة، مبررًا ذلك أمام القراء
الغربيين الذين يكتب لهم فى الأساس بأنه «الإنسان الوحيد فى
التاريخ الذى نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الدينى والدنيوى،
ونشر الإسلام وهو من أعظم الديانات، وأصبح قائدًا سياسيا
وعسكريا ودينيا، وبعد مرور القرون العديدة فإن أثره لا يزال
متجددًا وقويا».
والحق أن جوانب العظمة والكمال الإنسانى فى شخصية الرسول لا
يستطيع أحد أن يحصرها أو يحيط بها، وستظل سيرته وأعماله
وأخلاقه مجالا رحبًا للبحث والدراسة، والتأمل والاقتداء.
مرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووفاته
بدأ النبى - صلى الله عليه وسلم - يشعر بالمرض بعد عودته من حجة
الوداع بنحو شهرين، أى فى أواخر شهر صفر من العام الحادى عشر
للهجرة، وكان يشكو من الصداع، ويقول: «وارأساه».
وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - فى بداية مرضه يتحامل على
نفسه، ويخرج إلى الناس يصلى بهم إمامًا، فلما اشتد عليه المرض ولم(1/62)
يعد قادرًا على الخروج، أمر «أبا بكر الصديق» أن يصلى بهم إمامًا،
وأصرَّ على ذلك، ورفض أن يصلى بهم «عمر بن الخطاب»، وفى ذلك
إيماء إلى أفضلية «أبى بكر» - رضى الله عنه - على سائر الصحابة
كلهم.
وفى صبيحة يوم الاثنين الموافق (12 من شهر ربيع الأول سنة 11هـ)
فاضت روح النبى - صلى الله عليه وسلم - الطاهرة إلى بارئها، فكان
ذلك صدمة قاسية للمسلمين، الذين روعتهم وفاة نبيهم إلى الحد الذى
جعل بعضهم لا يصدق أن النبى تُوفِّى - من هول الصدمة - منهم «عمر
بن الخطاب» الذى كان أكثرهم فزعًا وحزنًا، أما «أبو بكر الصديق»
فلم يكن موجودًا لحظة وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - بل كان فى
منزله بالسُّنح من ضواحى «المدينة» فلما بلغه الخبر المفجع جاء على
الفور، فوجد الناس واجمين، قد استبد بهم الحزن، وعمتهم الحيرة،
وغشيهم الكرب، ووجد «عمر بن الخطاب» يخطب فى الناس ويتهدد
ويتوعد من يقول إن النبى قد مات، فلم يكلمه، وقصد بيت ابنته
«عائشة» حيث جسد النبى - صلى الله عليه وسلم - مسجى هناك،
فكشف الغطاء عن وجهه الشريف وتأكد من وفاته، فقبله فى جبينه،
وقال: «بأبى أنت وأمى، طبت حيا وميتًا يارسول الله»، ثم خرج إلى
الناس، الذين كانوا ينتظرونه، وقد تعلقت به آمالهم، لعله يعلن أن
النبى لم يمت، ولكنه كان رجل الموقف العصيب، فأعلن الحقيقة التى
لا مفر من إعلانها للناس، ليواجهوا الموقف بكل أحزانه وتبعاته،
فقال للناس بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه: «أما بعد،
فمن كان يعبدُ محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبدُ اللهَ فإن الله
حى لا يموت»، ثم تلا قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من
قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على
عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزى الله الشاكرين}. [آل عمران: 144].
فقال «عمر بن الخطاب» حين سمع «أبا بكر» يتلو هذه الآية: «كأنى
لم أسمعها من قبل».(1/63)
هذه هى الحقيقة التى أعلنها «الصديق» على الناس، فالنبى بشر
يخضع لقوانين الله فى البشر من حيث الحياة والموت، وقد قال الله
له: {إنك ميت وإنهم ميتون}. [الزمر: 30].
بدأ التفكير فى تجهيز النبى - صلى الله عليه وسلم - من غسل وتكفين
ودفن، فاختلفوا، أين يدفن، فقال لهم «أبو بكر الصديق»: سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مامات نبى إلا دفن حيث
مات». وشرعوا فى غسله، وكان الذين تولوا غسله هم أهل بيته:
«على بن أبى طالب»، وعمه «العباس بن عبدالمطلب»، وابنه
«الفضل»، واشترك معهم «أسامة بن زيد»، و «شقران» مولى
«أسامة»، ولم يجردوه من قميصه أثناء غسله، ثم كفنوه فى ثلاثة
أثواب، وصلوا عليه فرادى، الرجال أولا، ثم تلاهم النساء، ثم
الأطفال، وفى يوم الثلاثاء التالى لوفاته وورى الجسد الطاهر فى
التراب.(1/64)
الفصل السادس
*خلافة أبى بكر الصديق
قيام الخلافة:
أدرك الصحابة - رضوان الله عليهم - أهمية اختيار خليفة لرسول الله
- صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، وضرورة أن يختاروا لدولتهم رئيسًا
يخلف النبى فى إدارة أمورهم، فاجتمع الأنصار فى «سقيفة بنى
ساعدة»، التى كانت لهم مثل دار الندوة لقريش فى «مكة»؛ لاختيار
خليفة منهم، ظانين أنهم أحق الناس بذلك الأمر من غيرهم، فالمدينة
بلدهم، والدولة قامت على أرضهم، فرشحوا «سعد بن عبادة
الخزرجى» لهذا المنصب الجليل، وفى أثناء ذلك جاء «عويم بن
ساعدة»، و «معن بن عدى»، وهما من الأنصار إلى «أبى بكر
الصديق» و «عمر بن الخطاب»، وأخبراهما بما يجرى فى السقيفة،
فاتجها معهما على الفور إليها، وفى الطريق لقيا «أبا عبيدة بن
الجراح» فذهب معهم، ولما وصلوا إلى السقيفة حيث الأنصار
مجتمعون، و «سعد بن عبادة» يتكلم على الرغم من مرضه، مبينًا
أحقية الأنصار بالخلافة؛ أراد «عمر بن الخطاب» أن يتكلم، لكن «أبا
بكر» طلب منه أن ينتظر، فامتثل لأمر «أبى بكر» الذى تكلم، فقال
بعد أن حمد الله وأثنى عليه وعلى نبيه: «إن الله بعث محمدًا رسولا
إلى خلقه؛ ليعبدوا الله ويوحدوه، وهم يعبدون من دونه آلهة شتى ...
فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله المهاجرين الأولين
من قومه بتصديقه والإيمان به والمواساة له .. فهم أول من عبدالله فى
الأرض، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس
بهذا الأمر من بعده، لا ينازعهم إلا ظالم. وأنتم يا معشر الأنصار من لا
يُنكر فضلهم فى الدين ولا سابقتهم العظيمة فى الإسلام، رضيكم الله
أنصارًا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه
وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم، فنحن
الأمراء وأنتم الوزراء، لاتفتاتون فى مشورة، ولا تنقضى دونكم
الأمور»، ثم قال: «ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش،(1/65)
هم أوسط العرب نسبًا ودارًا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين،
فبايعوا أيهما شئتم» يقصد «عمر» و «أباعبيدة»، ولكنهما رفضا أن
يتقدما على «أبى بكر»، وقالا: «لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك،
فإنك أفضل المهاجرين، وثانى اثنين إذ هما فى الغار، وخليفة
رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغى
له أن يتقدمك، أو يتولى هذا الأمر عليك».
فقام الحاضرون فى السقيفة بمبايعة «أبى بكر» بيعة عُرفت بالبيعة
الخاصة، لأن كثيرًا من المسلمين لم يحضروها، وبخاصة آل بيت النبى
- صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا مشغولين فى مراسم دفنه، وتمت
البيعة فى جو من السكينة والإخاء والود، بعد مشاورة ونقاش هادئ
ورزين، مما دل على إحساس عميق بالمسئولية من كبار الصحابة،
وضرورة استمرارية الدولة، وكراهيتهم أن يبيتوا ليلة واحدة بعد
وفاة نبيهم بدون إمام يدير أمورهم، ويواجه الموقف، ويتخذ ما يلزم
من قرارات، وقدموا ذلك على تجهيز النبى ودفنه - صلى الله عليه
وسلم -.
البيعة العامة:
وفى اليوم التالى بعد الانتهاء من دفن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - اجتمع المسلمون فى مسجده وبايعوا «أبا بكر» بيعة عامة،
حضرها جمهور الصحابة، وكأن البيعة الأولى كانت بمثابة ترشيح،
احتاجت إلى تصديق من عامة المسلمين وتوثيقهم.
والذى عليه جمهور علماء أهل السنة أن النبى - صلى الله عليه وسلم -
لم يعين خليفة له، ولم يوصِ بتعيين أحد، فلو أنه حدد لهم شخصًا
بعينه وجعله خليفة عليهم؛ لظن بعض الناس أنه تعيين من الله
ورسوله، وسيضفى على هذا الشخص نوعًا من القداسة تجعله فوق
النقد والمحاسبة، وهذا أمر خطير لا محالة، فولىُّ الأمر عند المسلمين
بشر، يخطئ ويصيب، فإذا أصاب أعانوه، وإذا أخطأ قوموه.
وكما لم يعين النبى - صلى الله عليه وسلم - شخصًا بعينه لتولِّى الأمر
من بعده، فإنه لم يحدد للمسلمين أيضًا الطريقة التى يختارون بها من(1/66)
يتولى أمورهم؛ لأنها تخضع لتطور الظروف والأحوال، ومن هنا كان
فى ترك النبى لهذا الأمر مصلحة للمسلمين، حتى لا يقيدهم بشخص،
أو بطريقة معينة، وقد فهم الصحابة مراد نبيهم وقصده من عدم
التعيين، وتصرفوا على أساسه.
وكل ما يمكن قوله فى هذه المسألة الخطيرة أن النبى أومأ إيماءة
خفيفة ذات مغزى بتقديمه «أبا بكر» ليؤم المسلمين فى الصلاة أثناء
مرضه، وكأنه - عليه الصلاة والسلام - قد رشح «أبا بكر» للخلافة
مجرد ترشيح وليس إلزامًا، وكأنه أراد أن يقول: إذا رأيتموه جديرًا
بالخلافة وأهلا لها وقادرًا على تحقيق مصلحتكم فى دينكم ودنياكم،
فأنتم وذاك، وإلا فلتروا رأيكم.
والخلاصة أن ببيعة «أبى بكر» العامة فى مسجد رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فى اليوم التالى لوفاته قامت دولة الخلفاء الراشدين،
التى استمرت نحو ثلاثين عامًا (11 - 40هـ).
الخليفة الأول 11 - 13):
هو «عبد الله بن عثمان بن عامر»، من قبيلة «تيم بن مرة بن كعب»،
وفى «مرة بن كعب» يلتقى نسبه مع نسب النبى - صلى الله عليه
وسلم -، وأمه «أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر»، تيمية كأبيه
وكنيته: «أبو بكر»، ولقبه: «عتيق».
ولُد «أبو بكر» سنة (573م) بعد مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم -
بثلاثة أعوام، ونشأ فى «مكة»، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه
لغير واحد من الأمر؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته.
وعُرف «أبو بكر» بترفعه عن عادات الجاهلية، وما كانوا يقترفونه
من مجون وشرب خمر، وارتبط قبل البعثة بصداقة قوية مع رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، وكان الاتفاق فى الطباع وصفاء النفس من
أقوى الروابط بين النبى و «أبى بكر».
إسلامه:
تُجمع مصادر السيرة والتاريخ على أن «أبا بكر» كان أول من أسلم
وآمن بالنبى - صلى الله عليه وسلم - من الرجال الأحرار، وكان لسلامة
فطرته التى كانت تعاف ما عليه قومه من عبادة الأوثان أثر فى
تبكيره بالدخول فى الإسلام، وما إن دعاه النبى - صلى الله عليه(1/67)
وسلم - إلى الإسلام حتى أسلم على الفور؛ لثقته بصدق النبى - صلى
الله عليه وسلم - وأمانته، يقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: «ما
دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة - تأخر فى الإجابة-
إلا ما كان من أبى بكر بن أبى قحافة، ما عكم عنه - تأخر عنه -
حين ذكرته له، وما تردد فيه».
ومنذ أن أسلم وهو يهب نفسه وماله لله ورسوله، فكان يشترى من
أسلم من العبيد الذين كانت «قريش» تعذبهم، ويعتقهم كبلال بن
رباح، وكان يذود عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بكل ما أوتى من
قوة، فيروى «البخارى» عن «عبد الله بن عمرو ابن العاص» قوله:
«رأيت عقبة بن أبى معيط جاء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو
يصلى، فوضع رداءه فى عنقه، وخنقه به خنقًا شديدًا، فجاء أبو
بكر - رضى الله عنه - حتى دفعه عنه، فقال: أتقتلون رجلا أن يقول
ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم». [صحيح البخارى].
ومن أجَلِّ مواقف «أبى بكر» تصديقه للنبى - صلى الله عليه وسلم -
فى حادث الإسراء، فحين أخبر النبى - صلى الله عليه وسلم - بذلك
أسرعوا إلى «أبى بكر» يخبرونه، ظنا منهم أنه لن يصدق، فقال
لهم: «والله لئن كان قاله لقد صدق، فإنى أصدقه فى أبعد من هذا،
أصدقه فى خبر السماء يأتيه فى ساعة من ليل أو نهار»، فلُقب
بالصديق من يومئذٍ. واختاره النبى - صلى الله عليه وسلم - -لثقته- به
ليرافقه فى رحلة الهجرة دون غيره من الصحابة، ثم لازم النبى بعد
الهجرة فى ليله ونهاره، فلم يتخلف عن غزوة من غزواته أو مشهد
من مشاهده، وكان مجاهدًا بنفسه وماله حتى وصفه النبى بقوله: «ما
لأحد عندنا يدٌ إلا وقد كافأناه بها، إلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا
يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعنى مال أحد قط ما نفعنى مال
أبى بكر».
ومما لاشك فيه أن «أبا بكر الصديق» عند علماء الأمة أفضل
المسلمين مطلقًا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودليل ذلك أنه(1/68)
جعله أميرًا على الحج فى العام التاسع من الهجرة، وأنابه فى
الصلاة عند مرضه - دون غيره -، وكان هذا أقوى مرشح له لتولى
الخلافة بعد وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم -.
أبو بكر الصديق ومسئوليات الخلافة:
بعد أن بويع «أبو بكر الصديق» البيعة العامة قام فخطب الناس خطبة
قصيرة، وضح لهم فيها منهجه فى الحكم، فقال بعد أن حمد الله
وصلى على نبيه: «أما بعد أيها الناس فإنى وليت عليكم ولست
بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى، الصدق
أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى عندى حتى أزيح عليه
حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء
الله، لا يدع قوم الجهاد فى سبيل الله إلا ضربهم الله بالذلّ، ولا تشيع
الفاحشة فى قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعونى ما أطعت الله
ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم، قوموا إلى
صلاتكم يرحمكم الله».
كلمات قليلة وبسيطة، لكنها في غاية الأهمية، تحمل اعتراف الخليفة
الأول بحق الأمة فى مراقبة تصرفات حاكمها ونقده وتقويمه إن جانب
الصواب.
كان أول القرارات التى اتخذها «أبو بكر» وأصعبها قراره بإنفاذ
جيش «أسامة» إلى «جنوبى الشام»، كما أمر به رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، وذلك لأن «الصديق» أقدم عليه فى ظروف دقيقة
وحرجة، فالعربُ قد ارتدت عن الإسلام، حتى «مكة» نفسها همت
بالردة، لولا أن «سهيل بن عمرو» روَّعهم، قائلا: «لماذا ترتدون
والنبوة كانت فيكم، والخلافة أصبحت فيكم؟»، وحاولت «الطائف»
أن ترتد، فمنع من حدوث ذلك عقلاؤها؛ إذ قالوا لقومهم: لقد كنتم
آخر من أسلم، فلا تكونوا أول من يرتد.
كما استفحل أمر مدعى النبوة «مسيلمة الكذاب» فى «اليمامة»
شرقى شبه الجزيرة العربية، و «طليحة بن خويلد الأسدى» فى «بنى
أسد»، فى منطقة «بذاخة» -ماء لبنى أسد يقع إلى الشرق من
«المدينة المنورة» - و «لقيط بن مالك» فى «عمان» جنوبى شرقى
بلاد العرب، و «الأسود العنسى» فى «اليمن».(1/69)
وكل أولئك ظهروا فى أواخر حياة النبى - صلى الله عليه وسلم -،
لكنه لم يحفل بهم كثيرًا؛ لثقته بالقدرة على القضاء على تلك
الحركات، وفى الوقت نفسه أمر بإنفاذ جيش «أسامة بن زيد» إلى
جنوب «الشام»؛ لتأديب القبائل القاطنة هناك، التى تعادى
المسلمين، ولتثبيت هيبة الإسلام فى أعين الروم، التى فرضها عليهم
فى غزوة «تبوك»، وللفت أنظار أصحابه إلى خطورة دولة الروم
على الإسلام، لكن هذا الجيش لم يذهب لأداء مهمته؛ لمرض النبى
- صلى الله عليه وسلم - ووفاته، فكان أول قرار للصديق، هو تنفيذ ما
عزم عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
لكن الصحابة جميعًا عارضوا «أبا بكر» فى قراره بإرسال جيش
«أسامة»، وتعللوا بأن الردة قد عمت شبه جزيرة العرب، وأن الخطر
داهم ومحدق بهم، حتى لم تسلم منه «المدينة» نفسها، واشرأبت
أعناق أعداء الإسلام من يهود ونصارى وغيرهما، وتحفزوا للقضاء
على الإسلام، ولذا فإن بقاء الجيش فى «المدينة» ضرورة ملحة؛
لحمايتها من الأخطار المحدقة بها.
لكن ذلك كله لم يثن عزيمة الصديق عن إرسال جيش «أسامة»، ووقف
كالأسد الهصور يذود عن الإسلام باتخاذ ذلك القرار الصعب قائلا:
«والذى نفس أبى بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفتنى لأنفذت
بعث أسامة، كما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يبق
فى القرى غيرى لأنفذته».
وقد ظهرت نتائج سياسة «الصديق» الموفقة، عندما ذهب جيش
«أسامة» وحقق ما قصده الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أهداف،
وعاد محمَّلا بالغنائم، وألقى الرعب والفزع فى قلوب القبائل العربية
التى مرَّ عليها فى شمالى شبه الجزيرة العربية وهو فى طريقه إلى
الشام؛ لأنهم قالوا: «لو لم يكن بالمسلمين قوة لما أرسلوا هذا الجيش
الكبير إلى هذا المكان البعيد فى مثل هذا الوقت»؛ ولذا كانت حركة
الردة فى المناطق التى مرّ بها «أسامة» بجيشه أضعف منها فى أى
مكان آخر من شبه الجزيرة العربية.
حركة الردة:(1/70)
يعد موقف «الصديق» من حركة الردة ومواجهته لها من أروع المواقف
فى التاريخ، لأنه آمن إيمانًا عميقًا بانتصار الحق مهما تكن قوة
أعدائه، وأظهر تصميمًا على الدفاع عن الإسلام مهما يبذل من جهد.
وقد بدأت حركة الردة بالقبائل التى منعت الزكاة كعبس و «ذبيان»
و «غطفان» وغيرها، حيث أرسلت وفدًا إلى «المدينة»، يعرض على
«الصديق» مطالبهم، وأنهم لم يرفضوا الإسلام، ولكنهم يرفضون دفع
الزكاة لحكومة «المدينة»؛ لأنها فى ظنهم معرَّة، ويعدُّونها إتاوة
تدفع لأبى بكر، ولم تدرك تلك القبائل أثر الزكاة فى التكافل
الاجتماعى بين المسلمين.
كان رأى فريق من الصحابة وعلى رأسهم «عمر بن الخطاب» أن
يستجيب «أبو بكر» لتلك القبائل، ولا يجبرها على دفع الزكاة،
وخاصة أن «المدينة» مكشوفة، وليس بها قوة تحميها وتدافع عنها؛
لأن جيش «أسامة» لما يعد بعد من شمالى بلاد العرب، لكن «الصديق»
لم يقتنع بهذا الرأى، ورد على «عمر بن الخطاب» ردا جازمًا قائلا له:
«والله لو منعونى عقالا -الحبل الذى يجرُّ به الحمل - لجاهدتهم عليه».
وكان هذا الموقف الثابت من «الصديق» رائعًا كل الروعة، فماذا لو
وافق «أبو بكر» «عمر» ومن معه على رأيهم؟ ربما شجع هذا
التنازل قبائل أخرى، فتمتنع عن دفع الزكاة أسوة بهؤلاء، ولربما
تطور الموقف إلى أبعد من هذا، فتمتنع قبائل عن إقامة الصلاة أو
غيرها من أركان الإسلام، ويكون هذا هدمًا للدين من أساسه. وكأن
«الصديق» حين فعل هذا تمثل واقتدى بموقف لرسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عندما جاءه وفد «ثقيف» يعلنون إسلامهم، ويطلبون منه
إعفاءهم من أداء الصلاة، فرفض النبى - صلى الله عليه وسلم - ذلك،
وقال لهم: «لا خير فى دين لاصلاة فيه»، ولعل «الصديق» قصد ذلك
حين قال: «والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة».
ولم يكن «الصديق» صاحب قرارات صائبة فحسب، بل كان يقرنها
بالعمل على تنفيذها، فلما رأى الغدر فى عيون مانعى الزكاة أدرك(1/71)
أنهم سيهاجمون «المدينة» على الفور؛ لأنهم عرفوا غياب معظم
الرجال مع جيش «أسامة»، وأعلن حالة الاستعداد للدفاع عن
«المدينة» عقب عودة المانعين إلى ديارهم، واتخذ مسجد رسول الله،
مقرا لغرفة عمليات عسكرية، وبات ليلته يُعد للمعركة ويستعد لها،
وأمر عددًا من كبار الصحابة بحراسة مداخل «المدينة»، على رأسهم
«على بن أبى طالب»، و «طلحة بن عبيد الله»، و «الزبير بن العوام»،
و «عبد الله بن مسعود» رضى الله عنهم.
وحدث ما توقعه «الصديق» فبعد ثلاثة أيام فقط هاجم مانعو الزكاة
«المدينة»، فوجدوا المسلمين فى انتظارهم، فهزمهم المسلمون
وردوهم على أعقابهم إلى «ذى القصة» - شرقى «المدينة». ثم
تعقبهم «الصديق» وألحق بهم هزيمة منكرة، وفرت فلولهم، وغنم
المسلمون منهم غنائم كثيرة، واتخذ «الصديق» من «ذى القصة»
مكانًا لإدارة المعركة ضد حركة الردة كلها، وفى هذه الأثناء جاءت
الأخبار بوصول جيش «أسامة» سالمًا غانمًا، فأسرع «الصديق»
بنفسه لاستقبال قائد الجيش الشاب، الذى قام بهذه المهمة الخطيرة
خير قيام، وبعد أن احتفى به وهنأه على عمله، أنابه عنه فى حكم
«المدينة»، وعاد هو إلى «ذى القصة» ليدير المعركة مع المرتدين
بعزيمة لا تلين.
أسباب حركة الردة:
قبل الخوض فى الحديث عن مواجهة «أبى بكر» لحركة الردة، ينبغى
معرفة أسبابها، التى جعلت تلك القبائل ترتد بعد أن أعلنت إسلامها
أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى السنة الأخيرة من حياته.
- السبب الأول: أن إسلام أغلب هذه القبائل كان ضعيفًا، فقد أذعنوا
لقوة المسلمين، التى لم يكن لهم قِبَل بمواجهتها؛ فاستسلموا ولم
يسلموا إسلامًا حقيقيًا، فظنوا أن وفاة الرسول - صلى الله عليه
وسلم - ستفتُّ فى عضد المسلمين، ولن يستطيعوا مواجهتهم.
- والسبب الثانى: أن العصبية القبلية كانت عندهم قوية، فمعظم
المرتدين الذين التفوا حول مدعى النبوة كانوا يعلمون صدق النبى(1/72)
- صلى الله عليه وسلم -، ولكن كل قبيلة كانت تريد أن يكون لها نبى
من أبنائها ولو كان كذابًا، كما لقريش نبى من أبنائها، وعبروا عن
ذلك بوضوح وصراحة، فيقول أحد «بنى حنيفة» لمسيلمة: «أشهد
أنك كذاب، ولكن كذاب ربيعة - التى منها مسيلمة - خير من صادق
مضر- التى منها محمد»، وقال «عيينة بن حصن الفزارى» عن
«طليحة بن خويلد الأسدى»: «نبى من الحليفين خير من نبى من
قريش، ومحمد مات، وطليحة حى».
- والسبب الثالث: أن زعماء القبائل وشيوخها كانوا مستفيدين من
الوضع القبلى القديم؛ إذ كانت حياة معظم القبائل تقوم على الإغارة
والسلب والنهب، ويأخذ شيوخها ربع ما تحصل عليه من تلك الغارات،
ولذا تزعموا حركة الردة، وحرضوا أبناء القبائل عليها، ليستمروا فى
السيطرة على قبائلهم.
- والسبب الرابع: أن الفرس والروم حاولا القضاء على الإسلام
باستخدام العرب وتحريضهم ومساعدتهم، فلما فشلا فى ذلك تدخلا
تدخُّلا مباشرًا، فحرَّض الفرس عرب الخليج على الردة، ثم أمدوا
«سجاح بنت الحارث اليربوعية» - مدعية النبوة - بجيش كبير، قوامه
أربعون ألف رجل، جاءت بهم من «العراق» التى كانت تحت الحكم
الفارسى لمحاربة المسلمين، فلما فشلت تدخلوا مباشرة ضد «المثنى
بن حارثة»، الذى كان يحارب المرتدين على حدود «العراق».
وفعل الروم البيزنطيون ما فعله الفرس، فاعتدوا فى حروب الردة
على جيش «خالد بن سعيد بن العاص» فى منطقة «تيماء» شمالى
«الحجاز»، وألحقوا به هزيمة كبيرة وقتلوا معظم جنوده.
المواجهة السلمية:
أراد «أبو بكر الصديق» أن يبصِّر المرتدين بخطورة ما أقدموا عليه،
فواجههم مواجهة سلمية بأن دعاهم إلى العودة بدون قتال إلى
الإسلام، الذى أكرمهم الله به، وأرسل إليهم كتابًا يقرأ على القبائل
كلها؛ لعلهم يعقلون، جاء فى أخره:
«وإنى بعثت إليكم فلانًا فى جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين
بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحدًا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية(1/73)
الله، فمن استجاب له وأقرَّ وكف وعمل صالحًا، قبل منه وأعانه
عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثم لا يبقى على أحدٍ منهم
قدر عليه، .. ولا يقبل من أحدٍ إلا الإسلام فمن اتبعه فهو خير له، ومن
تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولى أن يقرأ كتابى فى كل
مجمع لكم، والداعية الأذان، فإذا أذن المسلمون فأذَّنوا كفوا عنهم،
وإن لم يؤذنوا عاجلوهم ... ».
الاستعداد العسكرى:
وفى الوقت الذى كان يأمل فيه أن يستجيب المرتدون، ويعودوا إلى
دين الله دون قتال؛ كان يعد أحد عشر جيشًا فى وقت واحد، تغطى
المناطق التى ارتد أهلها فى شبه جزيرة العرب، جاهزة للانطلاق إلى
كل منطقة؛ ليشغل كل قبيلة بالدفاع عن نفسها فى ديارها، ولا
تأخذ فرصة للتجمع والتكتل ضده، وكان هذا تصرفًا بارعًا وحكيمًا
من «الصديق».
واختار «الصديق» لهذه الجيوش أمهر القادة وأكثرهم خبرة بالقتال،
وهم: «خالد بن الوليد»، سيف الله وعبقرى الحرب، وأمره بقتال
المرتدين من «بنى أسد» و «غطفان» وحلفائهم بقيادة «طليحة بن
خويلد» فى «بذاخة»، فإذا انتهى من مهمته توجه لقتال المرتدين من
«بنى تميم» فى «البطاح»، إلى الشرق من ديار «بنى أسد».
- و «عكرمة بن أبى جهل» وأردفه بشرحبيل بن حسنة، وأمرهما
بالتوجه إلى «مسيلمة الكذاب» ومن معه فى «اليمامة»، وأمرهما ألا
يقاتلاه حتى يأمرهما بذلك، لمعرفة «أبى بكر» بقوة جيش
«مسيلمة»، وأنهما لن يقدرا على هزيمته بسهولة، بل يشغلاه حتى
يحين الوقت المناسب لإرسال قوات أكبر؛ لمواجهة «بنى حنيفة» فى
جموعهم الكبيرة.
- و «العلاء بن الحضرمى»، وأمره بقتال المرتدين فى «البحرين» وما
والاها.
- و «حذيفة بن محصن»، وأمره بقتال المرتدين فى «دبا» فى جنوبى
شرقى شبه الجزيرة.
و «عرفجة بن هرثمة»، وأمره بقتال المرتدين فى «مهرة» فى
جنوبى شبه الجزيرة.
و «المهاجر بن أبى أمية المخزومى»، وأمره بقتال المرتدين فى
جنوبى «اليمن».(1/74)
و «سويد بن مقرن»، وأمره بقتال المرتدين فى «تهامة اليمن» على
ساحل «البحر الأحمر».
- و «عمرو بن العاص»، وأمره بقتال قبائل «قضاعة» فى الشمال.
- و «معن بن حاجز» وأمره بقتال المرتدين فى «هوازن» و «بنى
سليم».
و «خالد بن سعيد بن العاص»، وأمره أن يعسكر فى «تيماء»، ولا
يقاتل أحدًا إلا إذا قوتل.
أهم معارك حروب الردة:
لم يستجب المرتدون لدعوة «أبى بكر» السلمية، فبدأ قادته ينفذون
ما عهد إليهم من مهام، وخاض «خالدبن الوليد» أول معارك الردة
فى «بذاخة» ضد المرتدين من «غطفان» و «بنى أسد» وحلفائهم ممن
التفوا حول «طليحة بن خويلد الأسدى» مدعى النبوة، وكان النصر
حليف «خالد»، بعد أن ألحق بهم هزيمة منكرة وغنم كثيرًا، وأرسل
عددًا من زعمائهم أسرى إلى الخليفة، وفر «طليحة»، وظهر كذبه،
ويجدر بالذكرى أن «طليحة» قد أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه فى
عهد «أبى بكر الصديق»، واشترك فى الفتوحات الإسلامية فى
«فارس»، فى عهد «عمر بن الخطاب»، وكان له دور بارز فيها.
وبعد ذلك توجه «خالد بن الوليد» إلى «البطاح» فى «نجد» لقتال
المرتدين من «بنى تميم» بزعامة «مالك بن نويرة»، ونجح فى إلحاق
الهزيمة بهم، والقضاء على الردة فى بلادهم.
معركة اليمامة:
«اليمامة» مصطلح جغرافى قديم، يشمل المناطق الشرقية من شبه
الجزيرة العربية التى تقع فيها الآن مدينة «الرياض» عاصمة «المملكة
العربية السعودية». ووقعت معركة «اليمامة» نفسها فى مكان قريب
من هذه المدينة.
وسبق أن ذكرنا أن «أبا بكر» أرسل «عكرمة بن أبى جهل»
و «شرحبيل بن حسنة» للوقوف فى وجه «مسيلمة»، ولم يأمرهما
بقتال؛ لكنهما تعجلا مخالفين أوامر الخليفة، واشتبكا مع «مسيلمة»
فى حرب لم يصمدا فيها، وعادا منهزمين، ولعلهما أرادا أن يتشبها
بخالد بن الوليد حتى يحوزا أكاليل النصر، كما حازها هو.
وما إن وصلت أنباء هزيمتهما إلى «أبى بكر» حتى غضب غضبًا(1/75)
شديدًا، وطلب منهما ألا يعودا إلى «المدينة»، وقرر فى الوقت نفسه
أن يرسل «خالد بن الوليد» إلى «اليمامة» للقضاء على فتنة
«مسيلمة»، فهو أصلح الناس لهذه المهمة. وكان «خالد» قد فرغ من
القضاء على فتنة المرتدين من «بنى أسد» و «غطفان» و «تميم»،
فجاءته أوامر من «أبى بكر» بالتوجه إلى «اليمامة» للقضاء على
فتنة «مسيلمة الكذاب».
امتثل «خالد بن الوليد» لأوامر الخليفة، وسار فى صحراء وعرة نحو
ألف كيلو متر، حتى التقى بجيوش «مسيلمة» - وكانت نحو أربعين
ألفًا - فى مكان يسمى «عقرباء» فى حين كانت قوات «خالد» تبلغ
نحو ثلاثة عشر ألفًا، فيهم عدد كبير من المهاجرين والأنصار، ودارت
الحرب بين الفريقين، وكانت حربًا شرسة، اشتدت وطأتها على
المسلمين فى البداية، وكادوا ينهزمون، لولا أن زأر «خالد» كالأسد
الهصور، ونادى بأعلى صوته «وامحمداه»، وكان شعار المسلمين
فى المعركة، فاشتعلت جذوة الإيمان فى القلوب، وهانت الحياة
على النفوس، وأقبل المسلمون على القتال دون خوف أو وجل، طمعًا
فى النصر أو الشهادة، وصبروا لأعداء الله حتى هزموهم هزيمة
منكرة، وقتلوا «مسيلمة» الكذاب مع نحو عشرين ألفًا من رجاله،
واستسلم من بقى من قواته أسرى للمسلمين، واستشهد من المسلمين
أكثر من ألف ومائتى رجل، منهم عدد كبير من القراء وحفظة القرآن
الكريم.
وحين ترامت إلى المرتدين أخبار انتصارات «خالد» وما فعله فى
«بنى حنيفة»، وقر فى أذهانهم أن المسلمين لا ينهزمون؛ ولذا كانت
مهمة بقية القادة فى المناطق التى توجهوا إليها أقل صعوبة مما
واجهه «خالد بن الوليد» فى «اليمامة».
وقبل أن يمضى عام على بدء حركة الردة كان «أبو بكر الصديق»
قد نجح فى القضاء عليها فى كل مكان، وعادت شبه الجزيرة
العربية موحدة دينيًا وسياسيًا تحت لواء المسلمين وحكومتهم فى
«المدينة» على ما كانت عليه فى آخر حياة الرسول.
الفتوحات الإسلامية فى عهده:
أسبابها:(1/76)
من يتتبع حركة الفتوحات الإسلامية خارج شبه الجزيرة العربية يجد
أنها جاءت استطرادًا، وجاءت تحت ضغط الظروف، وأن المسلمين
اضطروا إليها اضطرارًا؛ إذ لم يكن لهم برنامج أو خطة معدة من قبل
للفتح أو التصادم مع الآخرين؛ لأن نشر الإسلام، وهو الغاية الأولى
للمسلمين، لا يتطلب أعمالا حربية أو الدخول فى معارك عسكرية،
وكل ما كان يطلبه المسلمون هو أن يفسح لهم الآخرون الطريق
ليدعوا إلى دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن الفرس والروم لم
يعطوا المسلمين هذه الفرصة، فكادوا لهم واعتدوا عليهم، مما اضطر
المسلمين إلى خوض الحروب معهم، ورد عدوانهم، وتحقيق الحرية
لنشر العقيدة الإسلامية دون عوائق، وليس لنشر العقيدة، والفرق
كبير بين المعنيين.
فتح العراق:
فى أثناء حروب الردة طارد «المثنى بن حارثة» - أحد قادة المسلمين
- المرتدين إلى الشمال، على الساحل الغربى للخليج العربى، فلما
وصل إلى حدود «العراق» تكاثرت عليه قوات الفرس، بعد أن رأوا
فشل عملائهم من المرتدين فى القضاء على الإسلام فألقوا بثقلهم
فى المعارك ضد المسلمين.
ولما رأى «المثنى» أنه غير قادر بمن معه على مواجهة القوات
الفارسية، أرسل إلى الخليفة يشرح له الموقف، ويطلب منه المدد،
فأدرك الخليفة خطورة الموقف، ورأى أن يردع الفرس ويرد عدوانهم،
فرماهم بخالد بن الوليد أعظم قواده، وأردفه بعياض بن غنم.
وفى المحرم من العام الثانى عشر من الهجرة تحرك «خالد بن الوليد»
من «اليمامة»، وكان لايزال بها، بعد أن قضى على فتنة «مسيلمة
الكذاب»، وتوجه إلى «العراق». حيث خاض سلسلة من المعارك ضد
الفرس فى خلال عدة شهور، فى «ذات السلاسل» و «المذار»،
و «الولجة»، و «أليس»، وهذه أسماء الأماكن التى دارت فيها
الحروب، وكان النصر حليفه فيها، ثم توَّج انتصاراته بفتح «الحيرة»
عاصمة «العراق» فى ذلك الوقت، واستقر بها فى شهر ربيع الأول من
العام نفسه، ثم فتح «الأنبار» و «عين التمر» إلى الشمال من(1/77)
«الحيرة»، ثم جاءته أوامر من «أبى بكر» أن يعود إلى «الحيرة»
ويستقر بها إلى أن تأتيه أوامر أخرى.
وخلاصة القول أنه فى خلال بضعة أشهر نجح «خالد» فى فتح أكثر
من نصف «العراق»،وصالح أهله على دفع الجزية، ولم يجبر أحدًا
على الدخول فى الإسلام».
فتح الشام:
كان «خالد بن سعيد بن العاص»، أحد قادة حروب الردة، معسكرًا
بقواته فى «تيماء» شمالى «الحجاز» بأمر من الخليفة الذى ألزمه
بألا يقاتل أحدًا إلا إذا قوتل، وقصد الخليفة بذلك أن يكون هذا الجيش
احتياطيًا، يمد -عند الضرورة - القوات المحاربة فى جهات أخرى،
وأن يراقب تحركات الروم؛ لأنه كان على يقين أنهم سوف يستغلون
فرصة انشغاله بحروب الردة، ويكرروا عدوانهم.
وحدث ما توقعه «أبو بكر الصديق»، فقد هجم الروم على جيش
«خالد»، ومعهم القبائل العربية القاطنة فى الشام، وألحقوا به هزيمة
قاسية، وقتلوا معظم جنوده، واستشهد ابنه فى المعركة، فلما
وصلت أخبار الهزيمة إلى الخليفة «أبى بكر» جمع كبار الصحابة
لدراسة الموقف، فاستقر رأيهم على ضرورة صد العدوان، وشرع
«أبو بكر» فى حشد أربعة جيوش لتحقيق ذلك:
- جيش بقيادة «أبى عبيدة بن الجراح» وجهه إلى «حمص» شمالى
الشام.
- وجيش بقيادة «يزيد بن أبى سفيان»، ووجهه إلى «دمشق» فى
وسط الشام.
- وجيش بقيادة «شرحبيل بن حسنة»، ووجهه إلى «الأردن».
- وجيش بقيادة «عمرو بن العاص»، ووجهه إلى «فلسطين».
وقال «أبو بكر» لقادة جيوشه: إذا عملتم منفردين، فكل واحد منكم
أمير على من معه من قوات - وكان مع كل واحد منهم نحو ثمانية
آلاف جندى - ثم أمير على المنطقة التى يفتحها، أما إذا ألجأتكم
الظروف إلى الاجتماع فى مكان واحد، فالقائد العام «أبو عبيدة بن
الجراح».
موقعة اليرموك:
تحرك القادة الأربعة بجيوشهم، فلما دخلوا جنوبى الشام، وجدوا
جيشًا روميا، قوامه نحو (250) ألف جندى، بقيادة «تذراق» أخى(1/78)
«هرقل»، يساندهم نحو ستين ألفًا من العرب - تقريبًا - بقيادة «جبلة
بن الأيهم الغسانى»، فلم يستطيعوا الالتحام مع هذه الجموع
الحاشدة، فدارت بينهم مراسلات تجمعوا بعدها فى وادى
«اليرموك»، تحت قيادة «أبى عبيدة بن الجراح».
لكن تجمعهم لم يؤدِ إلى تحريك للموقف ضد الروم، فأخبروا الخليفة
«أبا بكر» بما هم فيه، وطلبوا المدد منه، فرأى أنه لن ينقذ الموقف
فى الشام سوى «خالد بن الوليد»، وقال عبارته المشهورة: «والله
لأُنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد»، ثم كتب رسالة إليه:
«أما بعد فإذا جاءك كتابى هذا، فدع العراق، وأخلف فيه أهله الذين
قدمت عليهم وهم فيه وامضِ متخففًا فى أهل القوة من أصحابك الذين
قدموا العراق معك من اليمامة، وصحبوك من الطريق، وقدموا عليك
من الحجاز، حتى تأتى الشام، فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه
من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة والسلام عليك».
امتثل «خالد» لأوامر الخليفة، وسار من «العراق» فى سبعة آلاف
جندى فى واحدة من أجرأ المسيرات العسكرية فى التاريخ وأكثرها
خطرًا، حيث قطعوا أكثر من ألف كيلو متر فى ثمانية عشر يومًا، فى
صحراء قاحلة مهلكة، حتى وصلوا إلى «وادى اليرموك» فتسلم
«خالد بن الوليد» القيادة من «أبى عبيدة» وخاض معركة مع الروم
تُعد من أعظم المعارك وأبعدها أثرًا فى حركة الفتح الإسلامى،
وسحق جيش الروم الذى كان يعد يومئذٍ أقوى جيوش العالم، إذ قتل
منه نحو مائة وعشرين ألفًا، وقد أدرك «هرقل» إمبراطور الروم حجم
الكارثة التى حلت بجيشه، فغادر المنطقة نهائيًا، وقلبه يقطر دمًا،
ويتحسر على جهوده التى بذلها فى استرداد الشام من الفرس، ثم ها
هى ذى يفتحها المسلمون، وقال: «السلام عليك يا سوريا، سلامًا لا
لقاء بعده، ونعم البلد أنت للعدو وليس للصديق، ولا يدخلك رومى بعد
الآن إلا خائفًا».
وقد استشهد من المسلمين نحو ثلاثة آلاف، وقد فتح هذا النصر(1/79)
العظيم الطريق لفتح بقية الشام، الذى تم فى عهد «عمر بن الخطاب».
الجمع الأول للقرآن فى عهد أبى بكر الصديق:
فزع «عمر بن الخطاب» لاستشهاد عدد كبير من حفظة القرآن فى
حروب الردة، وبخاصة معركة «اليمامة»، فأشار على «أبى بكر»
بضرورة جمع القرآن فى مصحف واحد؛ خشية أن يُستشهد عدد آخر
من الحفاظ، فيضيع القرآن، أو يدخله تحريف إذا تباعد الزمن بين
نزوله وجمعه، كما حدث للكتب السابقة.
تردد «أبو بكر» فى بادئ الأمر من اقتراح «عمر»، وقال: «كيف
أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»، فقال له
«عمر»: «أرى والله أنه خير»، فلم يزل «عمر» بأبى بكر حتى قبل،
ثم استدعى «أبو بكر» «زيد بن ثابت الأنصارى»، وكلفه بمهمة جمع
القرآن، قائلا له: «إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب
الوحى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتتبع القرآن فاجمعه»،
فقبل «زيد» هذه المهمة الثقيلة، وبدأ فى تتبع القرآن، وجمعه من
الرقاع والعظام، والعسب (سعف النخل) التى كان مكتوبًا عليها ومن
صدور الرجال، وجعل ذلك فى مصحف واحد.
وقد ظل هذا المصحف عند «أبى بكر»، ثم انتقل بعد وفاته إلى «عمر
بن الخطاب»، ثم انتقل بعد وفاته إلى ابنته أم المؤمنين «حفصة»،
وفى عهد «عثمان» دعت الضرورة إلى جمع الناس على قراءة
واحدة، فأخذه «عثمان» منها، ونسخ منه عدة نسخ ووزعها على
الأمصار.
وهكذا توَّج «أبو بكر الصديق» أعماله الجليلة بجمع القرآن.
وفاة أبى بكر الصديق:
قضى «أبو بكر» فى الخلافة سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام قام
فيها بجلائل الأعمال، ونهض بمسئولية قيادة الدولة على خير وجه،
وعاش حياته للإسلام وللمسلمين، ووهب حياته لخدمة رعيته، والدفاع
عن عقيدتها، دون أن يأخذ أجرًا على تحمله تبعات هذا المنصب
الجليل، منصب الخليفة، وعاش مثل بقية رعيته دون أن يمتاز عنهم
فى مسكن أو ملبس، بل إنه رد ما خصصه له كبار الصحابة من راتب
ضئيل، كى يترك التجارة ويتفرغ لمنصبه.(1/80)
وفى أواخر شهر جمادى الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة، فاضت
روح «أبى بكر» إلى بارئها بعد مرض استمر أسبوعين، كان سببه
الحمى، وتولى بعده الفاروق «عمر بن الخطاب».(1/81)
الفصل السابع
*خلافة عمر بن الخطاب (13 - 23 هـ)
نسبه وصفته وإسلامه:
هو «عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبدالعُزى بن رباح» وأمه «حنتمة
بنت هشام بن المغيرة».
أسلم فى العام الخامس من البعثة، وعمره سبع وعشرون سنة، بعد
أربعين رجلا، وإحدى عشرة امرأة، أسلموا قبله، وكان قبل إسلامه
معاديًا للإسلام شديدًا فى عداوته، لكن الله شرح صدره للإسلام
استجابة لدعاء النبى - صلى الله عليه وسلم - له: «اللهم أعز الإسلام
بعمر بن الخطاب».
وعُرف «عمر بن الخطاب» بشخصية قوية، وإرادة لا تلين، وحزم وعزم
فى الأمور، وهيبة فى القلوب، وكان سفير «قريش» فى الجاهلية،
وهى مهمة تحتاج إلى علم وعقل، وكياسة وحسن تصرف.
عمل «عمر» فى بداية نشأته بالرعى، ثم عمل فى التجارة إلى
الشام وإلى «اليمن»، وكان يحرص على مقابلة ذوى الشأن فى تلك
البلاد؛ ليزداد علمًا وخبرة بالحياة، وكان واحدًا من سبعة عشر رجلا
من «قريش» يعرفون القراءة والكتابة فى «مكة».
واشتهر «عمر بن الخطاب» أنه كان قوى البنية، طويل القامة، إذا
مشى بين الناس أشرف عليهم، كأنه راكب على دابته، أبيض اللون
تعلوه حمرة، جهورى الصوت، قليل الضحك، لا يمازح أحدًا، مقبلا
على شأنه.
أما صفاته الأخلاقية فهى «الإحساس الكامل بالمسئولية، والشدة
والفراسة، والعدل والهيبة، وواضح أن هذه الصفات هى نتاج عوامل
كثيرة متنوعة، مثل نشأة «عمر» الأولى وثقافته، والقيم التى
غرسها الإسلام فى نفسه. أما إحساس «عمر» الكامل بمسئوليته قِبَل
الرَّعية، فذلك ما لاحاجة بنا إلى التدليل عليه، ويمكن إرجاعه إلى
النزعة الدينية التى ملكت عليه شغاف نفسه، والتى شهد له بها
الجميع، وعلى رأسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالعقيدة
وحدها هى التى تبلغ بالمرء هذا المستوى القدسى، وهى التى
تجعل الإنسان رقيبًا على نفسه فى جميع حركاته وسكناته، ولن
تغنى عنها أية رقابة أخرى».
عمر والرسول - صلى الله عليه وسلم -:(1/82)
احتل «عمر بن الخطاب» منذ أن أسلم المكانة التالية لمكانة «أبى
بكر الصديق» عند النبى - صلى الله عليه وسلم -، لصفاته العالية التى
سبق أن ذكرنا بعضها، ولدعوة النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يُعز
الله الإسلام بعمر بن الخطاب، وكانت دعوة ناشئة عن معرفة دقيقة
بخصائص الرجل الذى سيكون ثالث ثلاثة فى الإسلام قدرًا ومنزلة.
وعلى أية حال فإن أخلاق «عمر» وصفاته مهما تكن لم تكن لتبلغ به
ما بلغ من المكانة العالية والقدر الرفيع إلا بإسلامه وبصلته برسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، الذى تعهده بالتربية والرعاية، وأفسح
لمواهبه أن تنطلق إلى أفاق عالية، لتؤدى دورها الخلاق لا فى
تاريخ الإسلام فحسب، بل فى تاريخ البشرية، وليكون صاحبها واحدًا
من عظماء الدنيا، وقد وضعه الكاتب الأمريكى «مايكل هارت» بين
الخالدين المائة فى التاريخ الإنسانى كله.
ومنذ أن أسلم «عمر بن الخطاب»، وهو من أكثر الصحابة ملازمة
للنبى - صلى الله عليه وسلم -، حتى إن الصحابة أطلقوا عليه وعلى
أبى بكر الصديق: وزيرَى محمد.
واشتهر «عمر» دون غيره من الصحابة بمواقف كثيرة، كان يناقش
النبى - صلى الله عليه وسلم - فيها ويعترض عليه فى صراحة، مثل:
موقفه من أسرى «بدر»، و «صلح الحديبية» والصلاة على «عبد الله
بن أبى بن سلول» رأس النفاق، ولم يكن النبى - صلى الله عليه وسلم -
يضيق بذلك، بل يسمع برحابة صدر وسعة أفق، ويشجع «عمر»
وغيره على إبداء آرائهم دون خوف أو وجل، يعلمهم بذلك حرية
الرأى، والمشاركة فى صنع القرار.
وكثير من تلك الآراء التى عارض فيها النبى - صلى الله عليه وسلم -
نزل القرآن مؤيدًا لها لفرط إخلاصه لدينه، وشفافية روحه، وقد عدَّ
العلماء نحو عشرين موقفًا من هذا القبيل منها: تحريم الخمر، وضرب
الحجاب على زوجات النبى - صلى الله عليه وسلم -.
وقد وردت أحاديث كثيرة فى فضل «عمر»، منها قوله - صلى الله
عليه وسلم -: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه».
توليه الخلافة:(1/83)
أراد «الصديق أبو بكر» أن يختار المسلمون خليفتهم بأنفسهم دون
قيد، وبإرادتهم الحرة بلا تدخل، فقال لهم وهو على فراش المرض:
«إنى قد نزل بى ما ترون، ولا أظننى إلا ميتًا لما بى من المرض، وقد
أطلق الله أيمانكم من بيعتى، وحلَّ عنكم عقدتى، ورد عليكم أمركم،
فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمّرتم فى حياة منى كان أجدر
ألا تختلفوا بعدى».
لكنهم طلبوا منه أن يرشح لهم من يراه أهلا لتولى الخلافة بعده،
وأقدر على تحمل تبعاتها الجسام، فقبل ذلك، وطلب منهم مهلة حتى
ينظر لله ولدينه ولعباده، وبعد تفكير عميق، واستشارة لكبار
الصحابة مثل: «عثمان بن عفان» و «على بن أبى طالب»
و «عبدالرحمن بن عوف» استقر رأيه على «عمر بن الخطاب».
ولم يكن ترشيح كبار الصحابة «عمر بن الخطاب» للخلافة وتزكيتهم
له، بعد «أبى بكر» غريبًا أو مفاجأة، فهم يعرفون قدره ومنزلته،
وقد سبق أن ذكرنا تقديم النبى - صلى الله عليه وسلم - «أبا بكر»
ليؤم الناس فى الصلاة، ورفضه أن يقوم بهذا «عمر بن الخطاب»، فلما
تأخر «أبو بكر» يومًا عن الصلاة، قدَّم «بلال» «عمر بن الخطاب»
اجتهادًا منه ليؤم الناس، فلما سمع الرسول «عمر» يقيم الصلاة رفض
ذلك، وقال «أين أبو بكر؛ يأبى الله ذلك والمسلمون».
وعلى الرغم من ذلك فإن هذا التصرف التلقائى من «بلال» يدل على
أن الصحابة كانوا يعلمون أن أفضل الناس بعد «أبى بكر الصديق»
هو «عمر بن الخطاب».
ولم يعترض على ترشيح «عمر» للخلافة إلا عدد قليل من كبار
الصحابة، وعللوا ذلك بغلظته وشدته، لكن «أبا بكر» طمأنهم وبين
لهم أن ما يجدونه من شدته، إنما هو لله وفى الله، وإنه يشتد لأنه
يرانى أحيانًا لينًا، حتى يحدث نوعًا من التعادل، وأنه لو أفضى
الأمر - أى الخلافة - إليه لترك كثيرًا مما هو فيه.
ولا يقلل هذا الاعتراض من سداد رأى «أبى بكر» فى «عمر»، ولا من
شأن «عمر» نفسه، بل يدل ذلك على حرية الرأى تجاه الشخصية(1/84)
التى ستلى أمر الخلافة، فلن يضير «عمر» أن نفرًا من ذوى الرأى لم
يؤيدوا ترشيحه، بل يكفيه أن أغلب الصحابة أجمعوا على تزكيته،
ورضوا به لهذا المنصب الجليل، وهذا ما تسير عليه الآن الأمم الحرة
فى اختيار حكامها، فالإجماع ليس شرطًا ضروريًا فى اختيار الحاكم.
اطمأنت نفس «أبى بكر الصديق» بعد أن استشار كبار الصحابة إلى
اختيار «عمر بن الخطاب» خليفة من بعده، فأشرف على الناس وهو
مريض، وقال: «أترضون بمن أستخلف عليكم؟، فإنى والله ما آلوت
من جهد الرأى، ولا وليت ذا قربة، وإنى قد وليت عليكم عمر بن
الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا» فقالوا: سمعنا وأطعنا.
بايع المسلمون «عمر بن الخطاب»، وبذا أصبحت خلافته شرعية.
وبعد الفراغ من دفن «أبى بكر الصديق» صعد «عمر بن الخطاب» منبر
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووقف على درجة أدنى من الدرجة
التى كان يقف عليها «أبو بكر الصديق»، فحمد الله وأثنى عليه
وصلى على النبى - صلى الله عليه وسلم -، وذكر «أبا بكر» - رضى
الله عنه - بكل خير، وقال: «أيها الناس ما أنا إلا رجل منكم، ولولا
أنى كرهت أن أرد أمر خليفة رسول الله ما تقلدت أمركم»، فأثنى
المسلمون عليه خيرًا، وزاد ثناؤهم حين رأوه يرفع بصره إلى السماء
ويقول: «اللهم إنى غليظ فليِّنِّى، اللهم إنى ضعيف فقونى، اللهم إنى
بخيل فسخِّنى».
وفى اليوم التالى لتوليه الخلافة خطب خطبة أخرى، أراد أن يوضح
فيها طريقته فى الحكم، ويزيل ما قد علق فى نفوسهم من خوفٍ من
شدته التى صرحوا بها لأبى بكر حين رشحه للخلافة، فقال: «بلغنى
أن الناس هابوا شدتى وخافوا غلظتى، وقالوا: كان عمر يشتد علينا
ورسول الله بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف
وقد صارت الأمور إليه؟ ومن قال ذلك فقد صدق .. إننى كنت مع
رسول الله فكنت عبده وخادمه، وكان من لا يبلغ أحد صفته من اللين
والرحمة، وكان كما قال الله تعالى بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، فكنت(1/85)
بين يديه سيفًا مسلولا، حتى يغمدنى أو يدعنى فأمضى، فلم أزل
مع رسول الله حتى توفاه الله، وهو عنى راضٍ، والحمد لله كثيرًا،
وأنا به أسعد، ثم ولى أمر المسلمين أبو بكر، فكان من لا تنكرون
دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدتى بلينه، فأكون
سيفًا مسلولا، حتى يغمدنى أو يدعنى فأمضى، فلم أزل معه كذلك
حتى قبضه الله عزَّ وجل، وهو عنى راضٍ، فالحمد لله على ذلك
كثيرًا، وأنا به أسعد، ثم إنى وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن
تلك الشدة قد أضعفت - أى زادت - فارتعد بعضهم من الخوف لكنه
طمأنهم فقال: ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدى على
المسلمين، فأما أهل السلامة والقصد - أى الاعتدال - فأنا ألين لهم
من بعضهم على بعض، ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا أو يتعدى عليه
حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمى على الخد الآخر، حتى
يذعن بالحق، وإنى بعد شدتى تلك أضع خدى على الأرض لأهل
العفاف وأهل الكفاف، ولكم على أيها الناس خصال أذكرها لكم،
فخذونى بها، لكم على ألا أجبى شيئًا من خراجكم، ولا ما أفاء الله
عليكم إلا من وجهه، ولكم على إذا وقع فى يدى ألا يخرج منى إلا
فى حقه، ولكم على أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله -
تعالى - وأسد ثغوركم، ولكم على ألا ألقيكم فى المهالك، وإذا غبتم
فى البعوث فأنا أبو العيال - أى يرعاهم - فاتقوا الله عباد الله
وأعينونى على أنفسكم بكفها عنى، وأعينونى على نفسى بالأمر
بالمعروف والنهى عن المنكر، وإحضارى النصيحة فيما ولانى الله من
أمركم، أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم».
الفتوحات فى عهد عمر بن الخطاب:
مواصلة فتح العراق:
بعد أن رحل «خالد بن الوليد» من «العراق» إلى الشام؛ ليتولى قيادة
الجيوش فى «اليرموك»؛ تنمَّر الفرس بالمثنى بن حارثة خليفة «خالد»
على قيادة الجيش فى «العراق» وبدءوا فى الضغط عليه، فطلب مددًا
من «أبى بكر»، الذى كان مشغولا بحرب الروم.(1/86)
فلما تأخر رد «الصديق أبى بكر» على «المثنى» جاء بنفسه ليعرف
سبب ذلك، فوجد الخليفة على فراش المرض، فلم يستطع أن يكلمه،
ولما علم بذلك الخليفة أدرك أن «المثنى» لم يأت إلا لضرورة، فكان
أخر كلامه لعمر بن الخطاب أن أوصاه بتجهيز جيش، يرسله مع
«المثنى» إلى «العراق»، لصد عدوان الفرس، فعمل «عمر» بوصية
«أبى بكر»، وأرسل جيشًا على الفور إلى «العراق» بقيادة «أبى
عبيد بن مسعود الثقفى».
موقعة الجسر:
وفى شهر شعبان من سنة 13هـ خاض «أبو عبيد بن مسعود» معركة
ضد الفرس سميت بموقعة الجسر، لأن المسلمين أقاموا جسرًا على
«نهر الفرات» لعبور قواتهم البالغة تسعة آلاف جندى، وكان عبورهم
النهر خطأ عسكريًا جسيمًا وقع فيه «أبو عبيد»، ولم يستمع إلى
نصيحة قادة جيشه ومنهم «المثنى بن حارثة»، الذين نبهوه إلى
خطورة ذلك، وأن موقف المسلمين غربى النهر أفضل وضع لهم،
وليتركوا قوات الفرس تعبر إليهم، فإذا انتصروا كان عبور النهر إلى
الشرق أمرًا سهلا، وإذا انهزموا كانت الصحراء وراءهم يتراجعون
فيها، ليعيدوا ترتيب أوضاعهم، لكن «أبا عبيد» لم يستجب لهم،
فحلت الهزيمة بالمسلمين على يد القائد الفارسى «بهمن جاذويه»،
وقُتل «أبو عبيد» نفسه، واستشهد أربعة آلاف مسلم.
موقعة البويب:
بذل «المثنى بن حارثة» جهدًا كبيرًا فى تأمين عبور من بقى من
قوات المسلمين إلى الناحية الأخرى، وأدرك أنه لابد من خوض معركة
أخرى مع الفرس، حتى لا تؤثر الهزيمة فى معنويات المسلمين،
وبخاصة أنها كانت أول مرة يهزمون فيها فى هذه الجبهة منذ أن
بدأت الفتوحات.
استدرج «المثنى بن حارثة» قوات الفرس للعبور إلى غرب النهر،
فعبروا إليه مدفوعين بنشوة النصر السابق، وظنوا أن تحقيق نصر
آخر سيكون أمرًا سهلا، لكن «المثنى» فاجأهم بعد أن استثار حمية
العرب القاطنين فى المنطقة، وأوقع بالفرس هزيمة كبيرة، على
حافة نهر يُسمى «البويب» الذى سميت المعركة باسمه.(1/87)
وعلى الرغم من هذا النصر الذى أعاد به «المثنى» الثقة إلى قواته،
فإنه أدرك بعد طول تجربة أنه لن يستطيع بمن معه من قوات أن
يواجه الفرس الذين ألقوا بثقلهم كله فى الميدان، فتراجع إلى الخلف،
ليكون بمأمن من هجمات الفرس، وأرسل «إلى» «عمر» يخبره بحقيقة
الموقف.
معركة القادسية:
لما وصلت إلى «عمر بن الخطاب» تقارير «المثنى» عن الوضع فى
جبهة «العراق» عزم على الخروج بنفسه على رأس جيش كبير،
لينسى الفرس وساوس الشيطان كما أنسى «خالد بن الوليد» الروم
تلك الوساوس، لكن الصحابة لم يوافقوه على رأيه، ورأوا أن الأفضل
أن يبقى هو فى «المدينة» يدير أمور الدولة، ويشرف على تجهيز
الجيوش، ويختار واحدًا لقيادة الحرب ضد الفرس، فقبل نصيحتهم،
وقال لهم: أشيروا على، فأشاروا عليه بسعد بن أبى وقاص، وقالوا
عنه: هو الأسد فى عرينه، فاستدعى «سعدًا» وأمَّره على الجيش،
فاتجه به «سعد» إلى «العراق» حيث عسكر فى القادسية.
وقبل نشوب المعركة أرسل «سعد» وفدًا إلى بلاط فارس، ليعرض
الإسلام على «يزدجرد الثالث» أخر ملوكهم، فإذا قبله فسيتركونه
ملكًا على بلاده، كما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «باذان»
ملكًا على «اليمن»، وإذا رفض الدخول فى الإسلام، فلن يكرهه عليه
أحد، ولكن لابد من دفع الجزية دليلا على عدم المقاومة، فإذا امتنع
عن دفعها، حاربوه، لأن رفضه دفع الجزية يعنى عزمه على حرب
المسلمين، ومنعهم بالقوة من تبليغ دعوة الإسلام إلى الناس.
سمع «يزدجرد» هذا الكلام، فأخذه العجب، وعلته الدهشة؛ لأنه لم
يتعود سماع مثل هذا الكلام من هؤلاء الناس، فخاطب رئيس الوفد
قائلا: «إنى لا أعلم أمة كانت أشقى، ولا أقل عددًا، ولا أسوأ ذات
بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحى -الحدود- فيكفونناكم، لا
تغزون فارس، ولا تطمعون أن تقوموا لهم .. وإن كان الجهد - الجوع -
دعاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم،(1/88)
وملكنا عليكم ملكًا يرفُق بكم».
فقام زعيم الوفد ورد على الملك الذى كان لا يزال يتحدث بروح
السيادة، ومنطق الاستعلاء، قائلا: «إن ماقلته عنا صحيح قبل بعث
النبى - صلى الله عليه وسلم -، الذى قذف الله فى قلوبنا التصديق له
واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول
الله، وما أمرنا فهو أمر الله .. وقال: من تابعكم على هذا فله مالكم
وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما
تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه».
رفض الملك هذا العرض فى كبرياء وصلف، ثقة منه بقدرة جيوشه
بقيادة «رستم» على سحق هؤلاء العرب، وعاد الوفد إلى «سعد بن
أبى وقاص» وقصوا عليه ما حدث، فاستعد هو للمعركة الحاسمة.
وفى «القادسية» دارت رحى الحرب بين الفريقين، واستمرت ثلاثة
أيام ونصف اليوم الرابع، وأسفرت عن نصر حاسم للمسلمين، وهزيمة
منكرة للفرس، وقتل قائدهم «رستم»، وتشتيت من نجا منهم من
القتل.
وتُعد معركة «القادسية» من المعارك الفاصلة فى التاريخ؛ لأنها
حسمت أمر «العراق» العربى نهائيا، وأخرجته من السيطرة الفارسية
التى دامت قرونًا، وأعادته إلى أهله العرب المسلمين.
فتح المدائن:
انفتح الطريق أمام المسلمين بعد انتصارهم فى «القادسية» إلى
«المدائن» عاصمة الفرس، فعبر «سعد» نهر «دجلة» من أضيق مكان
فيه بنصيحة «سلمان الفارسى»، ودخل «المدائن»؛ ليجد الملك
الفارسى قد فرَّ منها، وكان قبل أيام قليلة يهدد المسلمين ويتوعدهم
من قصره الأبيض، مقر ملك الأكاسرة، الذى كان آية من آيات الفخامة
والبهاء.
وفى ذلك القصر صلى «سعد ابن أبى وقاص» صلاة الشكر لله على
هذا الفتح العظيم وتلا فى خشوع قول الله تعالى: {كم تركوا من
جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك
وأورثناها قومًا آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا
منظرين}. [الدخان: 25 - 29].
أرسل «سعد» إلى «عمر بن الخطاب» رسولا يبشره بالنصر وبما(1/89)
حازوه من غنائم، ويطلب منه السماح لهم بمواصلة الفتح فى بلاد
فارس، لكن «عمر» رفض ذلك، وقال له: «وددت لو أن بيننا وبينهم
سدًا من نار، لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم، حسبنا من الأرض السواد -
أى أرض العراق- إنى آثرت سلامة المسلمين على الأنفال».
معركة نهاوند:
اعتقد «عمر بن الخطاب» أن الفرس سيجنحون إلى السلام بعد
هزيمتهم فى «القادسية»، واسترداد المسلمين «العراق» وهى أرض
عربية، لكن الحوادث كثيرًا ماتكون أقوى من الرجال، وتدفعهم دفعًا
إلى تعديل سياساتهم، فقد وردت الأنباء إلى «عمر» أن الفرس التفوا
حول ملكهم الذى هرب من «المدائن»، واحتشدوا فى جموع هائلة فى
«نهاوند» تصل إلى نحو مائتى ألف جندى بقيادة «الفيرزان».
وكانت سياسة «عمر بن الخطاب» أن يقف بالفتوحات الإسلامية عند
حدود «العراق» و «الشام»، ولايتعداها، حيث قبائل العرب التى نزحت
من شبه الجزيرة العربية وأقامت هناك، أما ما وراء ذلك من أرض
الفرس والروم فلم يكن للمسلمين مطمع فى غزوه وفتحه، ولكن ليس
كل ما يتمناه المرء يدركه، فقد حملت حوادث الفتوحات وتطوراتها
«عمر بن الخطاب» على تعديل سياسته تجاه الفرس والروم.
ولما وصلت أخبار استعداد الفرس جمع «عمر» كبار الصحابة
واستشارهم فى كيفية مواجهة هذا الموقف، فأشاروا عليه بتجهيز
جيش لردع الفرس قبل أن ينقضوا على المسلمين فى بلادهم، فعمل
بمشورتهم، وجهز جيشًا قوامه نحو أربعين ألف مجاهد تحت قيادة
«النعمان بن مقرن».
ودارت معركة «نهاوند»، وانتهت بنصر عظيم للمسلمين، وهزيمة
ساحقة للفرس، وقد سمى المؤرخون المسلمون هذ النصر «فتح
الفتوح»، لأن الفرس قد تفرقت كلمتهم، وانفرط عقد دولتهم بهذا
النصر.
الانسياح فى بلاد فارس:
كانت معركة «نهاوند» من المعارك الفاصلة فى التاريخ، فقد أزالت
نهائيًا الإمبراطورية الفارسية بعد معركتى «القادسية» و «نهاوند»،
ولم تقم لها قائمة بعد ذلك.(1/90)
وبعد «نهاوند» عقد «عمر بن الخطاب» العزم على القضاء تمامًا على
التهديد الفارسى للدولة الإسلامية ودعوتها، فأعد تسعة جيوش فى
وقت واحد، لفتح جميع المقاطعات الفارسية، من «خراسان» فى
أقصى الشمال الشرقى إلى إقليم «فارس» فى الجنوب الغربى،
ومن «أذربيجان» فى الشمال الغربى إلى «مكران» فى الجنوب
الشرقى، وفى خلال سنة (22هـ) كانت تلك المقاطعات كلها تحت
السيادة الإسلامية، ولم يجبر المسلمون أحدًا من سكانها على الدخول
فى الإسلام، وإنما قبلوا منهم الجزية، وأعطوهم معاهدات، ضمنوا
لهم بمقتضاها حرية العبادة، وحفظوا لهم أنفسهم وأموالهم.
وبدأ تاريخ جديد لبلاد فارس، ذاقت فيه طعم الحرية والعدل؛ وعرفت
معنى المساواة، وتحررت من استبداد الأكاسرة وظلمهم.
استكمال فتح الشام:
بعد تولى «عمر بن الخطاب» الخلافة عزل «خالد بن الوليد» من قيادة
جيوش الشام، وأعاد «أبا عبيدة بن الجراح» إليها، وجعل «خالداً»
تحت قيادته، وقد قبل القائد البطل هذا التعديل دون تذمر، لأنه كان
جنديًا يعمل للإسلام لا لمجده الشخصى، وإذا كان قد احتل المكان
الأعلى بين قادة الفتوحات ببطولاته وانتصاراته، فإنه اعتلى ذروة
أعلى بقبوله العزل، وضرب أروع الأمثلة فى الانضباط والطاعة، وتلك
أهم صفات القادة العظام.
وكانت تعليمات «عمر» لأبى عبيدة بعد «اليرموك»، أن تعود الأمور
إلى ما كانت عليه من قبل فى مطلع فتح الشام، حين رتب ذلك «أبو
بكر الصديق»، فيسير «أبو عبيدة» ومعه «خالد بن الوليد» إلى
«حمص»، و «يزيد بن أبى سفيان» إلى «دمشق»، و «شرحبيل بن
حسنة» إلى «الأردن»، و «عمرو بن العاص» إلى «فلسطين»، وكل
قائد يكون أميرًا على منطقته التى يفتحها، على أن يكون ذلك بعد
أن يشتركوا جميعًا فى فتح «دمشق».
وبعد أن نجح القادة جميعهم فى فتح «دمشق» وأعطوا أهلها
معاهدة صلح بقى «يزيد بن أبى سفيان» أميرًا عليها، فى حين اتجه(1/91)
القادة الباقون إلى مناطقهم، وفى خلال عامين فقط تم فتح الشام
كله.
وفى سنة (15 هـ) جاء «عمر ابن الخطاب» إلى «فلسطين»؛ ليتسلم
مفاتيح «بيت المقدس» من البطريرك «صفرونيوس»، وأعطى معاهدة
لأهلها هى آية فى التسامح والعدل، أمنهم على عقائدهم وأموالهم
وأنفسهم، وأخذت منهم نظير ذلك الجزية لرفضهم الدخول فى
الإسلام.
وقد رفض «عمر بن الخطاب» أن يصلى فى «كنيسة القيامة»، معللا
ذلك بخوفه أن يأتى من المسلمين من يقول: لقد صلى «عمر» فى
الكنيسة فهى من حقنا، وهذا ظلم للمعاهدين لا يقره عمر.
فتح مصر:
بعد فتح «بيت المقدس» اتجه «عمر» إلى الشمال، وعقد فى
«الجابية» جنوبى «دمشق» مؤتمرًا حضره جميع القادة المسلمين،
ناقش فيه ماتم إنجازه والترتيبات اللازمة لإدارة البلاد المفتوحة إدارة
حسنة، والعمل على إشاعة العدل والحرية بين الناس بعد الظلم
والاستبداد والاستعباد الذى ذاقوه من الروم.
وفى هذا المؤتمر عرض «عمرو بن العاص» والى «فلسطين» على
«عمر بن الخطاب» ضرورة فتح «مصر»، لأن فلول قوات الروم فى
«الشام» لجأت إلى «مصر» التى كانت فى ذلك الوقت تحت حكم
الروم، كما لجأ «الأطربون» قائد قواتهم فى فلسطين إلى «مصر»؛
ليستعد من جديد للانقضاض على المسلمين فى الشام، ولذا فإن بقاء
«مصر» فى أيدى الروم سيكون خطرًا على فتوحات المسلمين فى
الشام، بل قد يصل الخطر إلى شبه الجزيرة العربية نفسها.
ولما اقتنع «عمر بن الخطاب» بما أبداه «عمرو بن العاص» أذن له
بالسير إلى «مصر» لفتحها، فخرج فى أربعة آلاف جندى، ودخل
«العريش» دون قتال، ثم توجه إلى «الفرما» (مدينة قديمة شرقى
«بور سعيد») ففتحها بعد معارك يسيرة مع حاميتها الرومية، ثم
توجه إلى «بلبيس» فى محافظة «الشرقية» الحالية، فهزم جيشًا
روميا كان يقوده «الأطربون»، ثم هزم الروم مرة أخرى فى «عين
شمس».
ولما تجمعت قوات الروم كلها فى «حصن بابليون» بالقرب من «مصر(1/92)
القديمة» الحالية؛ طلب «عمرو» مددًا من الخليفة «عمر»، فأمده
بثمانية آلاف جندى، مكنته من فتح الحصن والاستيلاء عليه، ثم اتجه
إلى «الإسكندرية» ففتحها، وأرسل فرقة من قواته لفتح «الفيوم».
وفى نحو «عامين» (19 - 21هـ) فتُحت «مصر» بأكملها، وكان فتحًا
سهلا ويسيرًا، لأن القبط لم يشتركوا فى معارك ضد المسلمين، بل
ساعدوهم وقدموا لهم يد العون، فدلوهم على أيسر الطرق، وأمدوهم
بالطعام، تخلُصًا من حكم الروم الذين اضطهدوهم دينيا، مع أنهم
مسيحيون مثلهم، وأرهقوهم بالضرائب، واستغلوهم أبشع استغلال.
ولما تعامل أهل «مصر» مع الفاتحين المسلمين أدركوا أن ما سمعوه
كان حقيقة، فقد منحوهم الحرية الدينية الكاملة، وأعادوا بطريركهم
«بنيامين» إلى كنيسته بالإسكندرية، وكان الروم قد نفوه إلى
«وادى النطرون»، وقد حفظ الرجل هذا العمل الجليل لعمرو بن
العاص، فعاونه كثيرًا فى إدارة «مصر» إدارة حسنة.
وقد أتاح الفتح الإسلامى لمصر جوا من الحرية والتسامح لم تشهده
البلاد منذ زمن بعيد، بنص المعاهدة التى أعطاها «عمرو بن العاص»
لأهل «مصر»: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن
العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم
وصلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شىء من ذلك ولا ينتقص، ولا
يساكنهم النوب - أهل النوبة - وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية ..
ومن دخل فى صلحهم من الروم والنوب، فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما
عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، على ما
فى هذا الكتاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين،
وذمة المؤمنين».
وقد عمل المسلمون بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التى
أوصاهم فيها بأهل «مصر» خيرًا عندما يفتحونها؛ لأن لهم ذمة
ورحمًا، كما نصحهم أن يتخذوا منها جندًا كثيفًا، فأجنادها من خير
أجناد الأرض، لأنهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة.(1/93)
عوامل نجاح الفتوحات الإسلامية فى عهد عمر:
فى خلال السنوات العشر التى تولى «عمر» فيها الخلافة (13 - 23هـ)
امتدت حدود الدولة الإسلامية من ولاية «برقة» - فى «ليبيا» حاليًا -
غربًا إلى نهر «جيحون» شرقًا، ومن بحر «قزوين» فى الشمال إلى
«المحيط الهندى» فى الجنوب.
وقد حار المؤرخون فى تفسير نجاح هذه الفتوحات، وتعليل
أسبابها، فقد أذهلهم أن العرب الذين كانوا قبل دخولهم الإسلام
قليلى الشأن، لا حول لهم ولا قوة، ولا يأبه بهم أحد ولا يحسب لهم
حساب، هم فى سنوات قليلة ينجحون فى إزالة الإمبراطورية
الفارسية كلها، وهى التى وقفت ندًا للإغريق والرومان نحو ألف
سنة، وفى فتح الشام، و «مصر» وهما أعظم ولايات الدولة البيزنطية
وأكثرها غنى فى الشرق بعد إنزال هزائم قاسية بجيوشها فى
«اليرموك» وغيرها.
وسبب حيرة هؤلاء المؤرخين أنهم يربطون عادة بين الانتصارات
والهزائم فى الحروب، وبين أعداد الجيوش المتحاربة وما معها من
عدة وأسلحة، ولما كان المسلمون أقل عددًا وعتادًا على نحو لا
يقارن بما كان عند الفرس والروم، راحوا يبحثون عن أسباب أخرى
غير قضية العدد والأسلحة، وذهبوا فى ذلك مذاهب شتى.
ذهب بعضهم إلى القول بأن المسلمين واجهوا دولتى الفرس والروم،
وهما فى حالة ضعف وانهيار بعد الحروب الطويلة التى دامت بينهما،
وانتصروا عليهما بسهولة وفى وقت قصير. غير أن هذا التفسير بعيد
عن الواقع ومخالف للحقيقة، فالمعارك التى دارت فى «القادسية»
و «نهاوند» و «اليرموك» لا تؤيد هذا التعليل؛ لأنها كانت معارك
كبيرة، ولم تكن جيوش الفرس والروم فيها ضعيفة، وهى لم تهزم أمام
المسلمين لضعف قوتها المادية من الرجال والأسلحة، ولكن لأن
معنويات أفرادها كانت منحطة إلى أبعد الحدود، فى حين كانت
معنويات المسلمين عالية، ويعرفون الهدف الذى يحاربون من أجله،
وكان الموت أحب إليهم من الحياة.
وهذا هو السبب الرئيسى فى انتصاراتهم الذى نسيه الكتاب الغربيون(1/94)
أو تناسوه، فمنبع هذه القوة وسبب هذا الانقلاب العظيم الذى لا
يوجد له مثيل فى التاريخ أن العرب أصبحوا بفضل رسالة الإسلام
أصحاب دين ورسالة، فبعثوا بعثًا جديدًا، وخُلقوا من جديد، وعلموا
أن الله قد ابتعثهم ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة
العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان
إلى عدل الإسلام، .. وعرفوا أن الله قد ضمن لهم النصر ووعدهم
الفتح، فوثقوا بنصر الله ووعد رسوله، واستهانوا بالقلة والكثرة،
واستخفوا بالمخاوف والأخطار.
وفى ذلك قال المؤرخون: «لما أقبل خالد بن الوليد من العراق،
ليتولى قيادة الجيوش فى الشام لحرب الروم، قال رجل من نصارى
العرب أمامه: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، فنهره خالد، وقال له:
ويحك بل قل: ما أكثر المسلمين وأقل الروم إن الجيوش تكثر بالنصر
وتقل بالهزيمة لا بعدد الرجال».
وهذه الحقيقة عرفها أعداؤهم حتى إن هرقل لما انتهى إليه خبر
زحف المسلمين وانتصاراتهم، قال وكان عندئذٍ موجودًا فى حمص:
«ويحكم إن هؤلاء أهل دين جديد، وإنهم لا قبل لأحد بهم، فأطيعونى
وصالحوهم على نصف خراج الشام، ويبقى لكم جبال الروم، وإن أنتم
أبيتم ذلك أخذوا منكم الشام، وضيقوا عليكم جبال الروم».
نتائج الفتوحات الإسلامية وآثارها على العالم:
لقد ترتب على الفتوحات الإسلامية نتائج وآثار بعيدة المدى فى
تاريخ العالم، وإذا ما قورنت بغيرها - مثل فتوحات «الإسكندر»
قبلها، وفتوحات المغول بعدها - فإن تلك المقارنة تظهر عظمة
المسلمين، وأن فتوحاتهم كانت أكثر الفتوحات فى العالم خيرًا
وبركة، ففتوحات «الإسكندر» وامبراطوريته التى شادها فى الشرق
انهارت وتمزقت أوصالها بعد وفاته مباشرة، وأصبحت ذكرى من
ذكريات التاريخ، أما غزوات المغول التى لم يعرف لها تاريخ العالم
مثيلا من قبل فى همجيتها ووحشيتها، فقد دمرت معظم العالم
الإسلامى فى الشرق بما كان فيه من حضارة مزدهرة، ولم يوقف(1/95)
زحفها المدمر سوى الجيش المصرى فى معركة «عين جالوت» سنة
(658هـ).
وهذه الغزوات المغولية البربرية كان يمكن أن ينساها التاريخ أو
يذكرها باعتبارها عملا بربريا ألم بالإنسانية فى مسيرتها الطويلة،
لولا أن الله - تعالى - أدرك برحمته الواسعة هذه الجموع الوحشية
وهداها إلى دينه، فأسلم أغلب المغول، وأظلهم الإسلام بحضارته،
وحولهم من قوة مدمرة إلى طاقة خيرة، ومن أعداء مهاجمين إلى
أتباع مدافعين، بل مشاركين فى صنع الحضارة الإسلامية.
والخلاصة أن كل أرض وصلت إليها الفتوحات الإسلامية انتشر فيها
الإسلام بحرية تامة، ودون إكراه، وانتشرت اللغة العربية والثقافة
الإسلامية، ولم يتراجع الإسلام عن أية منطقة من العالم وصل إليها
سوى «الأندلس» وكان تراجعه لأسباب تعود إلى المسلمين لا إلى
الإسلام وعندما تراجع فى «الأندلس» امتد فى مناطق أخرى فى
«جنوب شرق آسيا» وفى «أوربا» و «إفريقيا» بدون حرب أو
معارك، بل عن طريق الدعاة والتجار المسلمين، مما يدحض كلام من
يقول إن الإسلام انتشر بحد السيف. كما يردد أعداء الإسلام فى
كتاباتهم.
عمر وإدارة الدولة:
تجلت عبقرية «عمر بن الخطاب» أعظم ما تجلت فى ميادين الإدارة،
فقد ضبط نظم الدولة الإسلامية، وكانت مترامية الأطراف، وأحكم
إدارتها بمقدرة فائقة تثير الدهشة والإعجاب، فى وقت كانت فيه
وسائل الاتصال بطيئة تمامًا.
ويصعب على أى باحث أن يحيط بالجوانب الإدارية عند «عمر بن
الخطاب»، ولذا سنتعرض لبعض منها:
أولا: عمر واختيار الولاة:
استعان «عمر بن الخطاب» برجال يديرون شئون الولايات البعيدة
عنه، أما القريبة منه فكان يديرها بنفسه، وكان يقول: «ما يحضرنى
من أموركم لا ينظر فيه أحد غيرى، أما ما بعد عنى فسوف أجتهد
فى توليته أهل الدين والصلاح والتقوى، ثم لا أكتفى بذلك، بل لابد
من متابعتهم؛ لأعرف هل يقومون بالعدل بين الناس أم لا؟».
وكان لعمر بن الخطاب طريقة فى اختيار ولاته، فلم يكن يستعمل(1/96)
أحدًا من أهل بيته، وقلما استعمل كبار الصحابة على الأمصار، بل
استبقاهم معه فى «المدينة» ليعينوه فى شئون الدولة، ويقدموا له
المشورة، ومن أهم شروط «عمر» فى الوالى:
- القوة والأمانة: والمقصود بالقوة قوة الدين، وقوة الإرادة والحزم
فى الأمور، ومن أقواله المأثورة: «إنى لأتحرج أن أستعمل الرجل
وأنا أجد أقوى منه»، ولذا فقد عزل «شرحبيل بن حسنة» عن
«الأردن»، و «عمير بن سعد» عن «حمص»، وضم ولايتهما إلى
«معاوية بن أبى سفيان»، وكان المعزولان أسبق إسلامًا من
«معاوية» وأفضل، فلما كلمه الناس فى ذلك قال إنه لم يعزلهما عن
سخط أو خيانة، ولكنه كان يريد رجلا أقوى من الرجل.
- الهيبة مع التواضع: أدرك «عمر بن الخطاب» حاجة ولى الأمر إلى
الهيبة واحترام الناس، حتى يستطيع أن يقودهم، ولكن لا ينبغى لها
أن تتجاوز الحد لتصبح تسلطًا وتعاليًا، وكان يقول: «أريد رجلا - أى
واليًا - إذا كان فى القوم وليس أميرهم، كان كأنه أميرهم، وإذا كان
أميرهم كان كأنه واحد منهم».
- الرحمة بالناس: كان «عمر» يختار للولاية من اشتهر بالرحمة ولين
الجانب وحب الخير للناس، وحين كان يولى أحدًا يكتب له كتاب تولية،
ويشهد عليه بعض الصحابة، ويشترط عليه ألا يظلم أحدًا فى جسده
ولا فى ماله، ومن وصاياه لعماله: «ألا وإنى لم أبعثكم أمراء ولا
جبارين، ولكن بعثتكم أئمة الهدى، يهتدى بكم فادرءوا على
المسلمين حقوقهم، ولا تضربوهم فتذلوهم، ولاتغلقوا الأبواب دونهم،
فيأكل قويهم ضعيفهم، ولا تستأثروا عليهم فتظلموهم، ولا تجهلوا
عليهم».
ثانيًا: قواعد العمل بالنسبة إلى العمال والولاة:
لم يكن «عمر» يقنع بحسن اختيار الولاة وفق شروطه، وإنما كان
يحدد لهم أسلوب العمل، والقواعد التى يسيرون عليها، إما فى
صورة خاصة محددة كما كان يحدث فى عهد الولاية، وإما فى
توجيهات عامة كما فى المؤتمرات التى كان يعقدها للعمال والولاة،
وبخاصة فى موسم الحج.
ثالثًا: المتابعة:(1/97)
فطن «عمر بن الخطاب» إلى فاعلية المتابعة، وأثرها فى حسن سير
الإدارة، ولذا لم يكتفِ بالتدقيق فى اختيار الولاة، وإنما وضع عليهم
العيون والأرصاد، يحصون عليهم حركاتهم وسكناتهم، ويسجلون
أعمالهم وينقلونها إلى الخليفة فور وقوعها، لأنه أدرك أن الخطأ قد
يقع بدون قصد، وأن الانحراف لا يبدأ كبيرًا، وأن كل شىء يمكن
وقفه فى أوله قبل استفحاله، عملا بالحكمة الخالدة: «الوقاية خير من
العلاج».
رابعًا: سياسة الباب المفتوح:
أدرك «عمر بن الخطاب» أن آفة الإدارة فى كل عصر هى احتجاب
كبار المسئولين عن أصحاب الحاجات فتضيع مصالح الناس أو
تتعطل، ولذا لم يكن يتهاون مع أى أمير أو والٍ يسمع أنه يحتجب
عن الناس مهما يكن شأنه، وحين بلغه أن «سعد بن أبى وقاص» قد
بنى بيتًا فى «الكوفة» من طابقين، وسماه الناس قصر «سعد»، لأن
بقية البيوت كانت من طابق واحد، وأنه اتخذ لمكانه الذى يباشر منه
أعمال الولاية بابًا، أرسل إليه «محمد بن مسلمة الأنصارى»، وكان
مبعوث «عمر» فى المهمات الكبيرة، وأمره أن يحرق ذلك الباب الذى
يحول بين الأمير وبين الناس، وأن يقدم بسعد معه، فلما قدم عليه
وبخه ولم يقبل اعتذاره بأن داره قريبة من السوق وأنه كان يتضايق
من ارتفاع أصوات الناس وجلبتهم، ثم رده إلى عمله بعد أن أكد عليه
ألا يعود إلى مثل هذا أبدًا.
خامسًا: المؤتمرات العامة:
ابتكر «عمر» عقد المؤتمرات العامة لمناقشة أمور الدولة، حتى يتيح
لأكبر عدد من المسلمين المشاركة فى صنع السياسة والقرار بالحوار
والمشاورة، فاهتدى إلى استثمار مناسبة الحج، وتجمع الناس فى
البلد الحرام، وقرر أن يحج كل عام، عدا السنة الأولى من خلافته،
وأن يحج معه كل ولاة الأمصار، وهناك يدور النقاش والحساب مع
الولاة عما صنعوا فى عامهم الذى مضى، وما ينوون عمله فى العام
القادم، وفوق ذلك تكون تقارير عيونه بين يديه قبل مجىء الولاة،
بحيث تكون أمورهم كلها واضحة، ولا يستطيع أحد منهم أن ينكر(1/98)
شيئًا، ولما كانوا يعرفون ذلك فإنهم حرصوا على أن تكون سجلات
أعمالهم نظيفة، فالخليفة لا يتهاون فى حساب المقصر أو من تثبت
عليه مخالفة لشرع الله.
سادسًا: محاسبة الولاة والأمراء:
دأب «عمر بن الخطاب» على محاسبة كل والٍ مقصر، أو من يشتبه
أنه قصر فى عمله، لا يمنعه من ذلك كون الوالى كبير القدر أوصاحب
سابقة فى الإسلام، وقلما نجا والٍ من ولاته من المحاسبة، وإذا كان
الجرم صغيرًا يمكن إصلاحه؛ اكتفى بالتوبيخ، ورد الوالى إلى عمله
كما فعل مع «سعد بن أبى وقاص»، أما إذا كان الجرم كبيرًا من
وجهة نظره؛ فإنه يأمر بعزل الأمير على الفور، ومن أشهر إجراءاته
فى هذا المجال: عزله «خالد بن الوليد» حين علم بأنه أعطى
«الأشعث بن قيس» عشرة آلاف درهم، فساورته شكوك فى أن من
يعطى عشرة آلاف مرة واحدة لرجل واحد، كم يكون لديه؟ فأمر
«أبا عبيدة بن الجراح» أمير الأمراء فى الشام بمحاكمة «خالد»
ومقاسمته ماله، فامتثل «خالد» لهذا العزل كما امتثل من قبل للعزل
الأول عن القيادة العامة.
ولم يكن «عمر» يقصد بهذا التصرف الإساءة إلى «خالد» قط، وإنما
كان يريد أن يعلم الجميع أن الإسلام فوقهم، وليس هناك استثناء
لمخالف، ولو كان قائدًا عظيمًا فى مكانة «خالد».
سابعًا: القدوة الحسنة:
أدرك «عمر» أثر القدوة فى سياسة الناس، وأن عليه أن يعلم الناس
بأعماله قبل أن يعلمهم بأقواله.
وكثيرًا ما كان يردد للناس قوله: «سأسوكم بالأعمال وليس
بالأقوال»، وأن الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإن
رتع الإمام رتعوا.
وكان «عمر» قدوة فى حياته الخاصة، يعيش كما يعيش عامة الناس
دون تميز، وحين فرضوا له عطاءً (راتبًا) من بيت مال المسلمين،
ليعول منه أسرته قدروا له راتبًا يمكنه من معيشة رجل من أوسط
الناس، لا أغناهم ولا أفقرهم.
وفوق ذلك هو يشارك المسلمين ويواسيهم إذا أصابهم ضر، كما حدث
فى عام «الرمادة» المشهور سنة (18هـ) الذى أصاب الناس فيه(1/99)
مجاعة شديدة فى شبه الجزيرة العربية لقلة الأمطار، فكان يجلب
إليهم الأقوات من الأمصار، ويأكل مما يأكله الناس، حتى ساءت
صحته، فنصحه بعض أصحابه بأن يحسِّن من طعامه، ليقوى على
العمل وإنجاز مصالح المسلمين، لكنه أجاب بقوله: «كيف يعنينى
شأن الرعية إذا لم يصبنى ما أصابهم؟».
ولا شك أن ما عبر عنه الخليفة «عمر» هو مفتاح الحكم الصالح فى
كل عصر وزمان فيوم يحس الحاكم بإحساس شعبه فسوف يستقيم
الحكم، وينصلح حال الرعية، ويوم ينفصل الحاكم عن شعبه، وتكون
له حياته الخاصة، فحينئذٍ ينفتح باب الفساد.
وقد حرص «عمر» على أن يجعل من أبنائه وأهله قدوة كذلك،
فأخذهم بما أخذ به نفسه، لأنه الناس ينظرون إليهم، وكان يقول لهم
إذا عزم على أمر يهم المسلمين: «لقد عزمت على كذا وكذا، أو نهيت
الناس عن كذا وكذا، وأقسم بالله لو خالفنى أحد منكم لأضاعفن له
العقوبة».
بهذه الإجراءات حصن «عمر» نفسه وأولاده وكل من يلوذون به ضد
أية انحرافات أو إغراءات، فأطاعه المسلمون وأحبوه سواء أكانوا
أمراء أم من عامة الناس، ولم يعرف التاريخ رجلا بعد رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - و «أبى بكر الصديق» أطاعه كبار الأمراء
وصغارهم كما أطاعوا «عمر بن الخطاب»، لا لهيبته فى عيونهم
فحسب، بل للقدوة الحسنة فى حياته وانضباطه الشديد، ولهذا كله
احتل مكانة عالية فى التاريخ الإنسانى.
عدل عمر بن الخطاب:
لم ترتبط صفة من صفات «عمر» الكثيرة باسمه كما ارتبطت به صفة
العدل، فإذا ذُكر «عمر» ذكر الناس عدله، الذى كان لا يفرِّق بين
قريب وبعيد، أو كبير وصغير، أو صديق وعدو، والأخبار المتواترة
فى ذلك أكثر من أن تحصى، ولعل قصته مع «أبى مريم السلولى»
قاتل أخيه «زيد» فى معركة «اليمامة» أصدق مثال على تجرده فى
عدله، وعدم خلطه بين عواطفه ومسئولياته باعتباره حاكمًا يُجرى
العدل بين الناس.
فحين قابل «عمر» - وهو خليفة - قاتل أخيه بعد أن أسلم، قال له:(1/100)
أأنت قاتل «زيد بن الخطاب»؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: والله
لا أحبك أبدًا، فقال «أبو مريم»: أو تمنعنى بذلك حقا لى، قال: لا.
قال: إذًا يا أمير المؤمنين إنما يأسى على الحب النساء. يريد أنه
مادام لا يظلمه الخليفة فلا يعنيه أحبه أم كرهه، لأن النساء هن اللائى
يأسفن على الحب.
ولا لوم على «عمر» فى التعبير عن عواطفه التى لا يملكها تجاه
قاتل أخيه، فقد ورد أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لوحشى
قاتل عمه «حمزة بن عبدالمطلب» حين رآه بعدما أسلم: «غيِّب وجهك
عنى يا وحشى لا أراك». ولكن للقصة دلالة على ضبط النفس والتجرد
المطلق لعمر ابن الخطاب، فلم يحمله غضبه من قاتل أخيه على ظلمه.
وامتد عدل «عمر» ليشمل كل من يعيش على أرض الإسلام، سواء
أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، فحين رأى يهوديا يتسول أحزنه
ذلك. وأخذ الرجل من يده، وأعطاه معونة عاجلة من بيت الدقيق (8)،
وأمر له براتب دائم من بيت مال المسلمين.
إحساسه بالمسئولية:
بلغ من شدة إحساس «عمر» بالمسئولية أنه لم يكتفِ بأن يكون
مسئولا عن حياة البشر الذين يعيشون فى دولته، بل مسئولا عن
البهائم والدواب أيضًا. وذلك فى مقولته الشهيرة: «والله لو أن بغلة
عثرت بشط الفرات لكنت مسئولا عنها أمام الله، لماذا لم أعبد -
أسوى - لها الطريق».
وأعمال «عمر» العظيمة من الفتوحات واستكمال بناء الدولة
ومؤسساتها لم تشغله عن متابعة أحوال الناس وتفقدها؛ ليقف على
أوجه النقص ليتلافاها أولا بأول، فكان كثير الطواف ليلا بالمدينة،
وسمع ذات ليلة طفلا يبكى بكاء مستمرا، فسأل عن أمره، فعرف أن
أمه منعت عنه الرضاع، لأنه لا يُفرض عطاء من بيت المال إلا للأطفال
المفطومين، فانزعج «عمر»، وأصدر أوامره أن يفرض عطاء لكل
مولود فى الإسلام، ونادى مناديه: لا تعجلوا فطام أولادكم.
وحوادث «عمر» التى من هذا القبيل كثيرة، وقد يظنها بعض الناس(1/101)
أنها من المبالغات، ولكنها متواترة فى المصادر التى أرَّخت لعمر
وعصره، فمن يصدق أن خليفة المسلمين يأخذ امرأته «أم كلثوم بنت
على بن أبى طالب» ومعها كل ما تحتاج إليه عملية ولادة، لمساعدة
امرأة غريبة جاءها المخاض، فيشترك هو معها فى الإشراف على
ولادتها؛ وصنع الطعام لها، ولما أنجز مهمته، قال لزوج المرأة: «إذا
كان الغد فأتنا نأمر لك بما يصلحك»، ففعل الرجل فأجازه وأعطاه.
عمر والقضاء:
عندما بويع «أبو بكر» بالخلافة شكى لعمر من كثرة أعبائها وخوفه
من عدم النهوض بكل مسئولياتها، فقال له «عمر»: «أنا أكفيك
القضاء وأبو عبيدة يكفيك الأموال»، ومعنى ذلك أن «عمر» كان
قاضيًا لأبى بكر.
وفى عهد «عمر» اتسعت الدولة، واحتاج كل إقليم إلى قاضٍ، فعين
«عمر» القضاة وكان يدقق فى اختيارهم، فعين: «شريح بن الحارث
الكندى» على قضاء «الكوفة»، و «أبا الدرداء» على قضاء الشام،
و «عثمان بن قيس» على قضاء «مصر».
ولم يكن «عمر» فى حاجة إلى سن قوانين للقضاة، لأنهم يحكمون
طبقًا لكتاب الله وسنة رسوله، ولكنه كان فى حاجة إلى تعليمهم
كيف يتصرفون حين يلتبس الأمر عليهم، وقد كتب لأحدهم يقول له:
«فإن جاءك أمر ليس فى كتاب الله ولم تكن فيه سنة من رسول الله،
ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر أى الأمرين شئتَ، إن شئتَ أن تجتهد
رأيك وتقدِّم فتقدم، وإن شئتَ أن تأخَّر فتأخر».
ومن أعظم وصاياه للقضاة وصيته لأبى موسى الأشعرى، ومما جاء
فيها: «آس - أى سوِّ بين الناس فى مجلسك ووجهك - حتى لا يطمع
شريف فى حيفك - ظلمك - ولا ييأس ضعيف من عدلك، والبينة على من
ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا
حرَّم حلالا أو حلل حرامًا .. ».
إصلاحات عمر بن الخطاب وإنشاءاته:
لعمر بن الخطاب كثير من الإصلاحات والإنشاءات التى لم يُسبق إليها،
وسماها مؤرخو سيرته «أوليات عمر»، فهو أول من سُمى أمير(1/102)
المؤمنين، وأول من اتخذ حادث الهجرة مبدأ التاريخ للدولة الإسلامية،
بعد أن استشار فى ذلك كبار الصحابة، وهو أول من اتخذ بيت
المال، وهو يشبه خزانة الدولة، وأول من مصَّر الأمصار، أى بنى مدنًا
جديدة كالبصرة و «الكوفة» فى «العراق»، و «الفسطاط» - حى مصر
القديمة حاليا - فى «مصر»، وأول من وسَّع مسجد رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، وأدخل فيه دار «العباس بن عبد المطلب»، وفرشه
بالحصباء، أى الحجارة الصغيرة، وكانوا قبل ذلك يصلون على
التراب.
وهو أول من دوَّن الدواوين، وهى تشبه الوزارات فى الوقت الحاضر،
وقد اقتبس هذا النظام من الفرس والروم، فأنشأ «ديوان العطاء»،
وكان مختصًا بالعطاء الذى فرضه «عمر» للمسلمين، وأنشأ «ديوان
الجند» - وزارة الدفاع حاليًا - و «ديوان الخراج» - وزارة المالية -
و «نظام البريد» الذى كان يُستخدم فى أمور الدولة.
ومن أعظم اجتهاداته إبقاؤه الأرض المفتوحة فى أيدى أهلها
يزرعونها، ويدفعون خراجًا -إيجارًا - للدولة، تنفق منه على الجيش
والمرافق العامة، كما أمر بإعادة مسح الأرض - أى قياسها
واختبارها - ووضع الخراج المناسب عليها. حسب جودة الأرض.
وهو أول من قنن الجزية على أهل الذمة، فوضع على الأغنياء ثمانية
وأربعين درهما للفرد الواحد فى السنة، وعلى متوسطى الحال أربعة
وعشرين درهمًا، وعلى الفقراء القادرين على الكسب اثنى عشر
درهمًا، وأعفى منها الشيوخ والنساء والأطفال ورجال الدين
والعاجزين عن الكسب، وقد سبق القول إنه فرض للعاجزين عن
الكسب من أهل الذمة عطاءً من بيت المال.
وكما ترك «عمر بن الخطاب» الأرض لأهلها يزرعونها؛ ترك معظم
الدواوين - وبخاصة «ديوان الخراج» - فى أيدى أبناء البلاد المفتوحة
يزاولونها بلغاتها؛ لأنها كما يقول العقاد: «ليست من أسرار الدولة،
وليس من الميسور أن ينصرف إليها فتيان العرب عما هو أولى بهم،
وهو فرائض الدفاع والجهاد».(1/103)
ولاشك أن ترك تلك الأعمال فى أيدى أبناء البلاد المفتوحة كان
مبعث ارتياح لهم، فاطمأنوا للحكم الإسلامى، بل أخذوا يعتنقون
الإسلام، ويتعلمون اللغة العربية.
استشهاده:
فى يوم الأربعاء الموافق 26 من شهر ذى الحجة سنة 23هـ وبينما
«عمر بن الخطاب» يسوِّى صفوف المسلمين فى صلاة الفجر كعادته
كل يوم، وبدأ ينوى مكبرًا للصلاة، إذا بأبى لؤلؤة المجوسى يسدد
للخليفة عدة طعنات بخنجر مسموم، فقطع أمعاءه، وسقط مغشيًا
عليه، واضطرب المسلمون فى الصلاة اضطرابًا شديدًا من هول
المفاجأة، وأقبلوا على القاتل محاولين القبض عليه، لكنه أخذ يضرب
شمالا ويمينًا بدون هدى، فأصاب اثنى عشر من الصحابة، مات ستة
منهم، ثم أتاه رجل من خلفه وألقى عليه رداءه وطرحه أرضًا فلما
أيقن «أبو لؤلؤة» أنه مقبوض عليه لا محالة، طعن نفسه بالخنجر
الذى طعن به أمير المؤمنين، ومات على الفور قبل موت الخليفة نفسه
ومات معه السر الخفى الذى دفعه إلى هذه الجريمة البشعة.
حمل المسلمون الخليفة إلى بيته، وظل فاقد الوعى فترة طويلة، فلما
أفاق كان أول سؤال سأله للمسلمين: هل صليتم الصبح؟ قالوا: نعم،
قال: الحمد لله، لا إسلام لمن ترك الصلاة، ثم سأل: من الذى قتلنى؟
قالوا: «أبو لؤلؤة» غلام «المغيرة بن شعبة». قال: الحمد لله الذى
جعل منيتى على يد رجل كافر، لم يسجد لله سجدة واحدة يحاجنى
بها عند الله يوم القيامة.
المؤامرة:
كان «أبو لؤلؤة» غلامًا مجوسيا، أُسِرَ فى معركة «نهاوند»، ووقع
من نصيب المغيرة بن شعبة، وكان يجيد حرفًا كثيرة كالحدادة
والنجارة، وكان سيده يتركه يعمل ويأخذ منه درهمين فى اليوم.
فاشتكى إلى أمير المؤمنين «عمر» مستكثرًا الدرهمين، فسأله
«عمر» عن صناعته، فأخبره، فقال: لا أرى ذلك كثيرًا، وكانت تلك
المهن رائجة فى ذلك الوقت وتدرُّ عليه مالا وفيرًا، فحقدها العبد
المجوسى وعزم على قتله.
هذا هو السبب الظاهر الذى روته كتب التاريخ والسير، لكنه لا يقنع(1/104)
وحده بارتكاب جريمة خطيرة كهذه، فالأمر أكبر من ذلك وأبعد
مدى، ووراءه تدبير واسع ومؤامرة محكمة نُسجت خيوطها فى بلاد
فارس وكان فيها «أبو لؤلؤة» أداة تنفيذ فحسب، وكان هو مستعدًا
بتكوينه للقيام بها، فقد رُوى عنه أنه كان كلما رأى أسرى بلاده
فى «المدينة»، يقول: «أكل عمر كبدى»، لأن «عمر» هو الذى أزال
دولة الفرس وأنزل الأكاسرة من على عروشهم.
ولم تكن الجريمة فارسية فقط باشتراك «أبى لؤلؤة»، و «الهرمزان»
الذى كان أميرًا فارسيا وأُسِرَ فى إحدى الحروب وجاء إلى
«المدينة» وأظهر الإسلام، بل كانت يهودية باشتراك «كعب الأحبار»،
ونصرانية باشتراك «جفينة».
وكان «كعب الأحبار» يهوديا ادعى الإسلام، جاء إلى «عمر» قبل
طعنه بثلاثة أيام، وقال له: يا أمير المؤمنين اعهد - أى اختر لك خلفًا
يعقبك فى الحكم - فإنك ميت بعد ثلاثة أيام، فتعجب «عمر» وسأله
كيف عرفت ذلك؟ قال: أجده فى التوراة، فقال «عمر»: يا سبحان
الله! هل تجد «عمر بن الخطاب» مذكورًا فى التوراة، قال: أجدك
بصفتك. لكن «عمر» لم يعط لهذا الحديث اهتمامًا، فهل كان «كعب
الأحبار» على علم بما دبره «أبو لؤلؤة المجوسى» وبقية شركائه؟
يقول الدكتور «هيكل»: «لابد إذًا أن يكون كعب الأحبار عرف بسر
ماكان يجرى، فوجه النذير إلى «عمر»، وأغفل «عمر» أمر هذا
النذير .. فحدث ما حدث، ونذير «كعب» وطعنات «أبى لؤلؤة» تدل
على أن فى الأمر سرا لم يظهر ساعة ارتكاب الجريمة؛ لكنه ظهر من
بعد».
أما «الهرمزان» و «جفينة» فأمرهما أوضح من أمر «كعب الأحبار»،
واشتراكهما فى الجريمة لا لبس فيه، فقد شهد «عبدالرحمن بن عوف»
أنه رأى الخنجر الذى طُعِن به «عمر» مع «الهرمزان» و «جفينة» فى
اليوم السابق ليوم الجريمة، وسألهما ماذا يصنعان به؟ فقالا: نقطع
به اللحم، وشهد «عبدالرحمن بن أبى بكر الصديق» أنه مرَّ فى الليلة
التى طعن «أبو لؤلؤة» «عمر» فى صبيحتها فى أحد طرق(1/105)
«المدينة»، فوجد «أبا لؤلؤة» و «الهرمزان» و «جفينة» يتناجون -
يتحدثون سرا - فلما طلع عليهم فجأة، قام «أبو لؤلؤة» مرتبكًا،
فسقط منه الخنجر نفسه الذى طعن به «عمر».
ومما يؤكد أن قتل «عمر بن الخطاب» كان مؤامرة انتحار «أبى
لؤلؤة» نفسه، فليس هناك رجل يقدم على عمل كهذا من أجل بضعة
دراهم، حتى لو رأى أن «عمر» لم ينصفه، فقد كان بإمكانه أن
يعاود الشكوى ويأخذ حقه، ولكن العبد المجوسى مُلئ حقدًا، وأوعز
عليه فأقدم على جريمته إقدام من يؤمن بأنه يقوم بعمل بطولى
يستحق أن يدفع من أجله حياته.
وهناك أمر آخر يؤكد المؤامرة، وأنها نُسجت خيوطها فى بلاد فارس
نفسها، وهو ثورة معظم بلاد فارس على المسلمين، ونقض معاهدات
الصلح، التى وقعها معهم الفاتحون المسلمون، فور سماعهم خبر
مقتل «عمر»، وكأنهم كانوا ينتظرون ذلك بصبر نافد؛ لأنهم ظنوا أن
وفاة «عمر» هى فرصتهم لإعادة الأمور إلى ماكانت عليه قبل
الفتوحات.
تفكير عمر فى أمر الخلافة ووفاته:
أيقن «عمر بن الخطاب» بعد طعنه أنه لم يبق من عمره سوى
ساعات، وكذلك أيقن المسلمون، ولذا ألحوا عليه أن يختار لهم من
يخلفه فيهم، فرشَّح لهم ستة من الصحابة، هم بقية العشرة المبشرين
بالجنة، يختارون من بينهم واحدًا للخلافة، ومع أن ابن عمه «سعيد بن
زيد بن عمرو بن نُفيل» واحد من العشرة المبشرين بالجنة، فقد
استبعده من الترشيح، خوفًا أن يقع عليه الاختيار لقرابته منه، كما
استبعد ابنه «عبد الله» من الترشيح تمامًا، بل رد على من اقترح عليه
ترشيحه ردا قاسيًا، إبعادًا لشبهة الوراثة عن نظام الحكم الإسلامى،
وجعل الأمر فى يد الأمة تختار الأصلح ليتولى أمرها.
قال «عمر» لهم: «عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: إنهم من أهل الجنة، سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل
منهم، ولست مدخله فيهم، ولكن الستة، هم: على بن أبى طالب،
وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبى وقاص،(1/106)
وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله».
واهتم «عمر» وهو فى تلك الحال بأمر دفنه، وطلب أن يُدفن إلى
جوار الرسول - صلى الله عليه وسلم - و «أبى بكر الصديق» - رضى الله
عنه - فى بيت «عائشة»، لينعم بصحبته فى الآخرة كما نعم بها فى
الدنيا، فأرسل ابنه «عبد الله» إلى «عائشة» - رضى الله عنهما -
وقال له: قل لها: «عمر» يقرأ عليك السلام ويستأذنك فى أن يُدفن
مع صاحبيه، فأتاها «عبد الله» فوجدها تبكى، فسلم عليها، ثم قال
لها ما أمره به أبوه، فقالت: «كنت والله أريده لنفسى - أى المكان -
ولأوثرنه به اليوم على نفسى»، فلما رجع «عبد الله»، وأخبر أباه أن
«عائشة» أذنت له، تهلل وجهه، وقال: الحمد لله ماكان شىء أهم
إلى من ذلك المضجع.
وفى اليوم التالى لطعنه أى يوم الخميس الموافق 27 من ذى الحجة
سنة 23هـ فاضت روح «عمر» بعد أن قضى فى الخلافة عشر سنوات
وبضعة شهور، وكُفن فى ثلاثة أثواب أسوة بكفن رسول الله،
وصلى عليه «صهيب الرومى» -رضى الله عنه - وكان «عمر» قد أمره
أن يصلى بالناس بعد طعنه، ودُفن مع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - و «أبى بكر الصديق».(1/107)
الفصل الثامن
*خلافة عثمان بن عفان (24 - 35)
نسبه:
هو «عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد
مناف»، ولِد بعد «عام الفيل» بست سنوات (576م)، وأمه «أروى بنت
كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس»،فعثمان يلتقى فى نسبه من
جهة أمه وأبيه مع النبى - صلى الله عليه وسلم - فى «عبدمناف».
صفاته:
كان ربعة من الرجال، ليس بالقصير ولا بالطويل، حسن الوجه أبيض
مشربًا بحمرة، غزير الشعر يكسو ذراعيه شعر طويل، طويل اللحية،
ومن أحسن الناس ثغرًا.
أخلاقه:
أجمعت المصادر التى أرخت له على وصفه بسماحة النفس، ورقة
المشاعر، وكان رضى الخلق، كريمًا، شديد الحياء، صوَّامًا قوَّامًا،
محبوبًا من الناس فى جاهليته وإسلامه.
وتحدث هو عن نفسه فقال: لقد اختبأت لى عند ربى عشرًا، إنى
لرابع أربعة فى الإسلام، ولقد ائتمننى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - على ابنته - رقية - ثم توفيت، فزوجنى الأخرى - أم كلثوم -
ووالله ما سرقت ولا زنيت فى جاهلية ولا إسلام قط ولا تغنيت، ولا
تمنيت ولا مسحت فرجى بيمينى منذ بايعت رسول الله، ولقد جمعت
القرآن على عهد رسول الله، ولا مرت بى جمعة منذ أسلمت إلا وأنا
أعتق فيها رقبة، فإن لم أجد فيها رقبة أعتقت فى التى تليها
رقبتين.
إسلامه:
أسلم «عثمان» مبكرًا، وكان الذى دعاه إلى الإسلام هو «أبو بكر
الصديق»، وجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم على
يديه بعد إسلام «أبى بكر» مباشرة، ولذا كان يقول: «إنى لرابع
أربعة فى الإسلام بعد «أبى بكر» و «خديجة» و «زيد بن حارثة»،
وحرص عثمان على إسلامه أشد الحرص، على الرغم من الضغوط التى
تعرض لها، فعندما علم عمه «الحكم بن أبى العاص» بإسلامه أوثقه
بالحبال، وقال له: «ترغب عن دين آبائك إلى دين محدث؟ والله لا
أدعك حتى تدع ما أنت فيه» فأجابه «عثمان»: «والله لا أدعه أبدًا
ولا أفارقه».
مصاهرته للرسول - صلى الله عليه وسلم -:(1/108)
تزوج «عثمان بن عفان» من ابنتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
فتزوج «رقية»، وظلت معه حتى تُوفيت يوم انتصار المسلمين فى
غزوة «بدر»، ولهذا لم يحضر «عثمان» «بدرًا»، لأن الرسول - صلى الله
عليه وسلم - أمره بالبقاء معها لتمريضها، وقد عده النبى - صلى الله
عليه وسلم - من البدريين رغم غيابه عن المعركة، وفرض له فى
غنائمها، ثم زوجه النبى - صلى الله عليه وسلم - ابنته «أم كلثوم»،
ولهذا لُقب بذى النورين، فلما توفيت فى العام التاسع من الهجرة؛
حزن «عُثمان» حزنًا شديدًا؛ لانقطاع مصاهرته للنبى - صلى الله عليه
وسلم -، فواساه مواساة رقيقة قائلا: «لو كانت لنا أخرى لزوجناكها
يا عثمان».
عثمان مع النبى - صلى الله عليه وسلم -:
جاهد «عثمان بن عفان» منذ أن أسلم مع النبى - صلى الله عليه
وسلم - بماله ونفسه، فهاجر الهجرتين: إلى «الحبشة» وإلى
«المدينة»، وصاحبته زوجه رقية بنت النبى - صلى الله عليه وسلم -،
وتحمل كثيرًا من الأذى.
بذل «عثمان» ماله فى سبيل الله ونصرة دعوته، وكان من أكثر
«قريش» مالا، فاشترى «بئر رومة» باثنى عشر ألف درهم، وجعلها
للمسلمين فى «المدينة»، وكانوا يعانون من قلة المياه، وغلاء
أسعارها.
كما أنفق ماله فى تجهيز الجيوش وبخاصة جيش العسرة فى غزوة
«تبوك» فى العام التاسع من الهجرة، فقد جهز وحده ثلث الجيش،
وكان عدده نحو ثلاثين ألفًا، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بخير، وقال: «ماضر عثمان مافعل بعد اليوم»، قالها مرتين.
وشهد «عثمان» المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
عدا غزوة «بدر»، فقد تخلف عنها بأمر من النبى - صلى الله عليه
وسلم -، وأرسله النبى إلى «مكة» عام «الحديبية» لمفاوضة «قريش»،
بعد اعتذار «عمر بن الخطاب» لرسول الله بقوله: «إنى أخشى على
نفسى من «قريش» لشدتى عليها وعداوتى إياها، ولكنى أدلك على
رجل أمنع وأقوى بها منى، عثمان بن عفان».(1/109)
ولما أشيع أن «قريشًا» قد قتلت «عثمان»، قال النبى - صلى الله
عليه وسلم -: «لو كانوا فعلوها فلن نبرح حتى نناجزهم»، وبايعه
أصحابه «بيعة الرضوان» تحت الشجرة، وبايع النبى نفسه نيابة عن
«عثمان»، وقال: «إن عثمان بن عفان فى حاجة الله وحاجة رسوله»
وضرب بإحدى يديه على الأخرى مشيرًا إلى أن هذه بيعة «عثمان»،
فكانت يد النبى - صلى الله عليه وسلم - لعثمان خيرًا من أيديهم
لأنفسهم.
وكان من كُتاب الوحى كما هو معلوم.
ثناء النبى - صلى الله عليه وسلم - على عثمان:
الأحاديث الواردة فى فضل «عثمان بن عفان» وثناء النبى عليه
كثيرة، من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -:
«ألا أستحى من رجل تستحى منه الملائكة؟».
وكان عثمان بن عفان قريبًا من الخليفتين، «أبى بكر الصديق»
و «عمر بن الخطاب»، وموضع ثقتهما وأحد أركان حكومتهما، ومن
كبار مستشاريهما، وكان يكتب لهما، وهو الذى كتب كتاب ولاية
العهد من «أبى بكر» إلى «عمر بن الخطاب» - رضى الله عنهما -
وترتيب «عثمان» فى الفضل بين الصحابة كترتيبه فى تولِّى الخلافة
عند جمهور علماء الأمة.
أهل الشورى وبيعة عثمان:
لم يشأ «عمر بن الخطاب» أن يعهد بالخلافة إلى شخص بعينه، وقال:
«إن أعهد - يعنى لشخص محدد - فقد عهد من هو خير منى - يقصد
أبا بكر عندما عهد إليه هو نفسه - وإن لم أعهد فلم يعهد من هو خير
منى - يقصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تركها شورى بين
المسلمين».
ولعل اجتهاده أدَّاه إلى أن تصرف الرسول و «أبى بكر» يعطى له
الفرصة أيضًا أن يختار طريقة أخرى لاختيار من يخلفه، ليثرى بذلك
طرق الاختيار، وليرسخ فى أذهان الناس أن أمر اختيار الحاكم منوط
دائمًا بالأمة وإرادتها ورضاها، وهى التى تملك محاسبته وعزله إن
ارتكب ما يوجب العزل.
رشح «عمر بن الخطاب» ستة من الصحابة، ليتولى واحد منهم منصب
الخلافة، ولم يأمر أحدًا منهم أن يصلى بالناس إمامًا، حتى لا يظن(1/110)
الناس أنه يميل إليه، بل أمر صهيبًا أن يصلى بالناس، لتكون فرصتهم
فى الاختيار متساوية، وشدد على ألا تمضى ثلاثة أيام بعد وفاته إلا
ويكون عليهم أمير من هؤلاء الستة يتولى مسئولية الخلافة ويتحمل
تبعاتها.
وبعد أن فرغ المسلمون من دفن «عمر»، شرع المرشحون الستة فى
التفاوض، وبعد نقاش طويل اقترح عليهم «عبد الرحمن بن عوف» أن
يتنازل عن حقه فى الخلافة. ويتركوا له اختيار الخليفة، فوافقوا على
ذلك، فشرع فى معرفة آرائهم واحدًا بعد واحد على انفراد، فرأى أن
الأغلبية تميل إلى «عثمان»، ثم أخذ يسأل غيرهم من الصحابة، «فلا
يخلو به رجل ذو رأى فيعدل بعثمان».
اطمأن «عبد الرحمن» إلى أن الأغلبية تزكى «عثمان بن عفان»
فأعلن ذلك على ملأ من الصحابة فى مسجد النبى - صلى الله عليه
وسلم -، ولما كان يعلم أن الذى يلى «عثمان» فى المنزلة عند
الصحابة، هو «على بن أبى طالب»، الذى مال إليه عدد منهم، فإنه
رأى أن يوضح له أن الأغلبية مع «عثمان»، فقال له: «أما بعد
ياعلى، فإنى نظرت فى الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن
على نفسك سبيلا» - كأنه يحذره من المخالفة- ثم أخذ بيد «عثمان»،
فقال: «نبايعك على سنة الله ورسوله، وسنة الخليفتين بعده»،
فبايعه «عبد الرحمن»، وبايعه المهاجرون والأنصار؛ ولم يتخلف أحد
عن بيعته من الصحابة، وكان ذلك بعد وفاة «عمر» بثلاثة أيام.
خطبة البيعة:
استقبل «عثمان» بخلافته أول المحرم سنة 24هـ، وصعد المنبر بعد
تمام البيعة، وخطبهم قائلا -بعد حمد الله والصلاة على رسوله-: «إنكم
فى دار قلعة -أى دار الدنيا - وفى بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير
ما تقدرون عليه .. ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة
الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، اعتبروا بما مضى، ثم جدوا ولا
تغفلوا، فإنه لا يغفُل عنكم، أين أبناء الدنيا وإخوانها: الذين
أثاروها وعمروها، ومتعوا بها طويلا، ألم تلفظهم؟ ارموا الدنيا حيث(1/111)
رمى الله بها، واطلبوا الآخرة .. ».
وأول ما يُلاحظ على الخطبة الأولى، التى افتتح بها «عثمان»
خلافته، خلوها من الإشارة إلى المنهج الذى سيسير عليه، ولعله
اكتفى بما قاله لعبدالرحمن بن عوف لحظة البيعة، من أنه سيعمل
بكتاب الله، وسنة نبيه، وسيرة الخليفتين بعده.
كتبه إلى العمال والولاة:
كتب «عثمان» - رضى الله عنه - فى الأيام الأولى من خلافته عددًا من
الكتب إلى الولاة وأمراء الجند، بل وإلى عامة الناس، تتضمن نصائحه
وإرشاداته، يقول «الطبرى»: أول كتاب كتبه «عثمان» إلى عماله:
«أما بعد فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة - يرعون مصالح الأمة -
ولم يتقدم إليهم - أى لم يطلب منهم - أن يكون جباة، وإن صدر هذه
الأمة خلقوا دعاة، ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا
جباة ولا يكونوا دعاة، فإن عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة
والوفاء، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا فى أمور المسلمين فيما
عليهم، فتعطوهم مالهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة،
فتعطوهم الذى لهم، وتأخذوهم بالذى عليهم، ثم العدو الذى
تنتابون، فاستفتحوا عليهم بالوفاء».
وكتب إلى أمراء الأجناد وقادة الجيوش: «أما بعد، فإنكم حماة
المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان عن ملإ
منا، فلا يبلغنى عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغير الله ما بكم،
ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون، فإنى أنظر فيما
ألزمنى الله النظر فيه، والقيام عليه».
وكتب إلى عمال الخراج المسئولين عن الشئون المالية: «أما بعد فإن
الله خلق الخلق بالحق، ولا يقبل إلا الحق، خذوا الحق، وأعطوا الحق،
والأمانة الأمانة، قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يسلبها .. والوفاء
الوفاء، ولا تظلموا اليتيم ولا المعاهد، فإن الله خصم لمن ظلمهم».
وكتب إلى عامة الرعية: «أما بعد فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء
والاتباع، فلا تفتنكم الدنيا عن أمركم، فإن أمرهذه الأمة صائر إلى(1/112)
الابتداع بعد اجتماع».
وهذه الكتب توضح سياسة «عثمان بن عفان» العامة، التى كان
يتوخى أن يتبعها عماله وولاته فى إدارة شئون الأمة، وهى سياسة
طابعها الرفق بالرعية، والسهر على مصالحها، والإنصاف فى جمع
الخراج، وإيصال الحقوق إلى أصحابها، والإحسان إلى أهل الذمة،
ورعاية جميع طوائف الأمة.
الفتوحات فى عهد عثمان بن عفان:
المسلمون والفرس:
كان «عمر بن الخطاب» قد أمر المسلمين بالانسياح فى بلاد فارس
بعد موقعة «نهاوند» سنة (21هـ) وكلمة الانسياح من تعبيرات
المؤرخين القدماء، وهى تدل على سهولة الفتح بعد «نهاوند»؛ إذ لم
يلق المسلمون هناك مقاومة تذكر.
وقد نجح قادة الجيوش التى أرسلها «عمر» فى فتح المقاطعات
الفارسية كهمذان، و «خراسان» و «أذربيجان»، و «اصطخر»،
و «أصبهان»، وكان أمراؤها الفرس قد رأوا عدم جدوى المقاومة،
فسلموا بلادهم على شروط المسلمين، وقبلوا دفع الجزية، ووقعت
معهم معاهدات، هى آية فى الرحمة والعدل والتسامح، من ذلك
معاهدة «عتبة بن فرقد» لأهل «أذربيجان»:
«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن
الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان: سهلها وجبلها وحواشيها
وشفارها، وأهل مللها كلهم، الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم
وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس على صبى
ولا امرأة ولا زمن - مريض - ليس فى يديه شىء من الدنيا، ولا متعبد
متخل ليس فى يديه شىء من الدنيا لهم ذلك ولمن سكن معهم،
وعليهم قِرَى المسلم من جنود المسلمين يومًا وليلة ودلالته - على
الطريق -ومن حشر منهم - أى من يُستعان به فى خدمات الجيش - فى
سنة، وضع عنه جزاء تلك السنة - أى لا يدفع جزية - ومن أقام فله
مثل ما لمن أقام من ذلك، ومن خرج فله الأمان حتى يلجأ إلى حرزه».
وبعد مقتل «عمر» نقضت معظم المقاطعات الفارسية معاهداتها مع
المسلمين، ظنا من أمرائها أن فى مقتل «عمر» فرصة لطرد المسلمين(1/113)
من البلاد التى فتحوها، فوقف «عثمان بن عفان» لهذه الثورة
وقضى عليها، كما فعل «أبو بكر» حيث قمع الردة فى شبه الجزيرة
العربية، وأعاد إليها وحدتها الدينية والسياسية، وأخذ «عثمان»
يجهزالجيوش، ويصدر أوامره إلى أمراء الأمصار: «الوليد بن عقبة»
فى «الكوفة»، و «عبدالله بن عامر» فى «البصرة»، للتصدى بحزم
لحركة الردة الفارسية، وإعادة الفرس إلى الطاعة والنظام.
وكانت إعادة فتح تلك المقاطعات أصعب من فتحها الأول فى عهد
«عمر بن الخطاب»؛ لأنها حينذاك سلمت بدون قتال تقريبًا بعد
هزيمتهم فى «نهاوند» فى حين بذل المسلمون فى عهد «عثمان»
جهدًا كبيرًا، وخاضوا معارك شرسة فى بضع سنوات (24 - 31هـ)
لإعادة فتح بلاد فارس مرة أخرى، وقد شهدت تلك المعارك الفصل
الأخير من حياة آخر ملوك «آل ساسان» «يزدجرد الثالث»، حيث لقى
مصرعه على يد رجل فارسى فى «مرو» سنة (31هـ)، وبموته طويت
صفحة دولة فارس من التاريخ.
ومما يجدر ذكره ويثير الإعجاب أن المسلمين لم يقسوا على الفرس
ولم ينكلوا بهم بعد ثورتهم وخروجهم، بل قبلوا اعتذارهم، ولم
يفرضوا عليهم التزامات جديدة، واستمروا فى معاملتهم طبقًا
للمعاهدات الأولى.
وبدأت بلاد فارس تشهد تاريخًا جديدًا تحت راية الإسلام، يملؤه العدل
والتسامح والرحمة، وأسلمت الأمة الفارسية، وأصبحت جزءًا مهما من
العالم الإسلامى وأسهمت إسهامًا كبيرًا فى بناء الحضارة الإسلامية.
المسلمون والروم فى عهد عثمان:
بعد وفاة «عمر بن الخطاب»، قام الروم بمحاولة لطرد المسلمين،
فهاجموا الشام - فى السنة الأولى من خلافة «عثمان» بقوات كبيرة
من آسيا الصغيرة، جعلت والى الشام القدير «معاوية بن أبى
سفيان» يطلب المدد من «عثمان بن عفان»، الذى أمر بتحريك قوات
من «العراق» لنجدة الشام.
وكتب «عثمان بن عفان» إلى والى «الكوفة» «الوليد بن عقبة»
كتابًا يقول فيه: «أما بعد فإن معاوية بن أبى سفيان كتب إلىَّ(1/114)
يخبرنى أن الروم قد أجلبت على المسلمين بجموع عظيمة - أى
هاجمت - وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة، فإن أتاك
كتابى هذا، فابعث رجلا ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته
وإسلامه، فى ثمانية آلاف، أو تسعة آلاف، أو عشرة آلاف، إليهم من
المكان الذى يأتيك فيه رسولى، والسلام».
ولما بلغ الكتاب والى «الكوفة»، جمع الناس وخطب فيهم وأبلغهم
أمر الخليفة، وقال: «قد كتب إلىَّ أمير المؤمنين يأمرنى أن أندب
منكم ما بين العشرة الآلاف إلى الثمانية الآلاف، تمدون إخوانكم من
أهل الشام، فإنهم قد جاشت عليهم الروم، وفى ذلك الأجر العظيم
والفضل المبين، فانتدبوا رحمكم الله مع سلمان بن ربيعة الباهلى،
فانتدب الناس، فلم يمض ثالثة - أى ثلاثة أيام - حتى خرج ثمانية آلاف
رجل من أهل الكوفة، فمضوا حتى دخلوا مع أهل الشام إلى أرض
الروم، وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهرى، وعلى
جند أهل الكوفة سلمان بن ربيعة، فشنوا الغارات على أرض الروم،
فأصاب الناس ماشاءوا من سبى، وملئوا أيديهم من المغنم، وافتتحوا
بها حصونًا كثيرة».
محاولات الروم العودة إلى مصر:
لم يكف الروم عن محاولاتهم الهجوم على المسلمين، على الرغم من
هزيمتهم فى الشام، وما إن اعتلى الإمبراطور «قنسطانز الثانى» (22
- 48هـ =642 - 668م) حتى سيطرت عليه فكرة استرداد الشام
و «مصر» من أيدى المسلمين، كما استردها جده «هرقل» من الفرس
قبل سنوات قليلة من الفتح الإسلامى، فأرسل فى سنة (25 هـ = 645
م) حملة بحرية كبيرة إلى «مصر»، بقيادة «مانويل»، تمكنت من
الاستيلاء على «الإسكندرية»، بمساندة من بقى فيها من الروم
والإغريق، وبدأت تتوغل جنوبًا قاصدة «حصن بابليون»، فكلف
الخليفة «عثمان» قائده «عمرو بن العاص» بمهمة الدفاع عن «مصر»
وطرد الروم، وكان «عمرو» قد أعفى من ولايتها بناء على طلبه فى
مطلع خلافة «عثمان»، فلم يتردد الفاتح الكبير فى العودة إلى(1/115)
«مصر» للقيام بهذه المهمة، ونجح فى طرد الروم نهائيا، بعد أن
ألحق بهم هزيمة منكرة، وقتل «مانويل» قائد حملتهم.
استمرار فتح شمال إفريقيا فى عهد عثمان:
لما ولى «عبدالله بن سعد بن أبى السرح» ولاية «مصر» من قبل
«عثمان بن عفان»؛ كتب إليه أن الروم الذين لا يزالون يسيطرون على
«شمال إفريقيا» يغيرون على حدود «مصر» الغربية، ولابد من
مواجهتهم قبل أن يتجرءوا ويهاجموا «مصر» نفسها، فاقتنع
«عثمان» بعد أن استشار كبار الصحابة، وأذن له بتجريد حملات
عسكرية لردعهم وكف عدوانهم، كما أرسل إليه جيشًا من «المدينة»
مددًا، يضم عددًا من الصحابة كابن عباس، و «عبد الله بن الزبير» رضى
الله عنهما.
وفى سنة (27هـ = 647م) انطلق جيش المسلمين بقيادة «عبدالله بن
سعد»، وتوغل غربًا حتى وصل إلى «قرطاجنة» عاصمة إقليم
«تونس» فى ذلك الوقت، ودارت عدة معارك بين المسلمين وبين
ملكها «جريجوار» أو «جرجير» كما تسميه المصادر العربية، انتهت
بانتصارالمسلمين وقتل الملك «جريجوار» على يد «عبدالله بن
الزبير».
ولم تكن تلك الحملة تهدف إلى الاستقرار، بل إلى ردع العدوان، ولذا
اكتفى «عبدالله بن سعد» بعقد معاهدات صلح مع زعماء تلك البلاد
تعهدوا فيها بدفع مبلغ كبير.
وبعد عودة «عبدالله بن سعد» إلى «مصر»، قام بفتح بلاد النوبة
جنوبًا سنة (31هـ = 651م)، وعلى الرغم من أنها لم تخضع بلاد
«النوبة» للمسلمين، فإنها انتهت بعقد صلح بين الطرفين، اتفقا فيه
على تبادل التجارة والمنافع.
نشأة الأسطول الإسلامى:
يُعد إنشاء الأسطول الحربى الإسلامى من أعظم الإنجازات التى تمت
فى عهد أمير المؤمنين «عثمان بن عفان» فبعد الفتوحات الإسلامية
فى «مصر» و «الشام» وجد المسلمون أنفسهم قد سيطروا على
الشواطئ الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط، الذى كان يُعرَف وقتئذٍ
ببحر الروم، لأن سيطرتهم عليه كانت كاملة، ولم تنازعهم فى ذلك(1/116)
دولة أخرى؛ ولذا كان المسلمون فى حاجة إلى قوة بحرية تمكنهم
من الحفاظ على شواطئهم ضد هجمات الأسطول البيزنطى.
وكان أول من تنبه إلى ذلك «معاوية بن أبى سفيان» والى الشام؛
لأنه اضطلع بفتح سواحل الشام، مثل: «صور»، و «عكا»، و «صيدا»،
و «بيروت» منذ عهد الخليفتين «أبى بكر الصديق» و «عمر بن
الخطاب»، وواجه صعوبات كثيرة فى فتح تلك المدن، لقوة تحصينها
من ناحية، وتوالى الإمدادات التى تأتيها من البحر من ناحية أخرى،
كما أنها كانت محطات للأساطيل البيزنطية.
ولما أدرك «معاوية» أنه بدون قوة بحرية إسلامية فلن يتمكن من
الدفاع عن كل الساحل الشامى، فعرض الأمر على الخليفة «عمر بن
الخطاب»، مصورًا له حجم الخطر بقوله: «يا أمير المؤمنين، هناك قرية
من قرى الروم - يقصد جزيرة قبرص - فى عرض البحر، تتخذها
أساطيلهم قاعدة للعدوان علينا، وهذه القرية قريبة من حدودنا إلى
درجة أن أهل «حمص» - من مدن الشام - يسمعون نباح كلابها وصياح
دجاجها، فأذن لنا ببناء أسطول حربى بحرى»، لكن «عمر» رفض
ذلك رفضًا قاطعًا؛ لخوفه على المسلمين من أهوال البحار، وأن
الوقت لا يزال مبكرًا للدخول فى هذا المجال، وقال لمعاوية: «لمسلم
واحد أحب إلى مما حوت الروم»، يقصد أن سلامة المسلمين عنده
مقدمة على أى شىء آخر، وطلب من «معاوية» أن يستعيض عن ذلك
بتقوية حصون السواحل، فامتثل «معاوية»، لكنه لم يفقد الأمل فى
تحقيق ما يصبو إليه.
بناء الأسطول:
بادر «معاوية بن أبى سفيان» بعد تولى «عثمان بن عفان» الخلافة
سنة (24 هـ) إلى عرض مشروعه القديم عليه، الذى يقضى بإنشاء
أسطول بحرى، لكن «عثمان» رفض فى البداية، وذكره بمادار بينه
وبين «عمر بن الخطاب» فى ذلك الشأن، وأنه حريص على سلامة
المسلمين كحرص «عمر» من قبل لكن «معاوية» ألح عليه إلحاحًا
شديدًا، وكان أجرأ عليه من «عمر»، ولم يكف عن المحاولة حتى ظفر
منه بالإذن، وكان إذنًا مشروطًا، بألا يُكره أحدًا من الجنود على(1/117)
العمل فى الأسطول.
بدأ «معاوية بن أبى سفيان» يعمل على الفور فى بناء الأسطول،
متعاونًا مع «عبدالله بن سعد بن أبى السرح»، والى «مصر»،
ومستثمرًا كل الإمكانات المتاحة والصالحة لصناعة السفن فى «مصر»
والشام، حيث كانت فى «مصر» دور قديمة لصناعة السفن، وعدد
كبير من العمال المهرة المدربين، وأشجار «السنط» التى تصلح لعمل
الصوارى وضلوع السفن، وكانت الشام تتمتع بكثير من المواد اللازمة
مثل أخشاب «الصنوبر» و «البلوط» و «العرعر»، وأدى هذا التعاون
بين «مصر» والشام إلى بروز الأسطول الإسلامى وظهوره.
فتح جزيرة قبرص سنة (28هـ):
كان أول عمل بحرى ناجح قام به الأسطول الإسلامى، هو فتح
«جزيرة قبرص» التى كانت تهدد شواطئ المسلمين باستمرار لقربها
منها من ناحية، وباعتبارها محطة مهمة من محطات الأساطيل
البيزنطية من ناحية أخرى.
وقد غزاها «معاوية» سنة (28هـ)، أى بعد أربع سنوات فقط من بناء
الأسطول الإسلامى، وهى مدة ليست بالطويلة لإنشاء أسطول
بحرى، ولكنها عزيمة الرجال وإصرارهم على إنجاز العمل.
وكانت الغزوة مشتركة أسهمت فيها قوات الشام، وقوات «مصر»
بقيادة «عبدالله بن سعد»، ونزلوا «قبرص» واستولوا عليها، فعرض
أهلها الصلح، فقبل «معاوية»، واشترط لعقده عدة شروط:
- أن يدفع أهل «قبرص» جزية سنوية، مقدارها سبعة آلاف دينار.
- وأن يُعلموا المسلمين بأية تحركات عدائية من جانب الروم ضد
سواحلهم.
- وأن يقف أهل «قبرص» على الحياد، إذا نشبت حرب بين المسلمين
والروم، ولكن لا يمنعون المسلمين من المرور بجزيرتهم إذا احتاجوا
إلى ذلك.
ولم يلتزم أهل «قبرص» بما تعاهدوا عليه فى الصلح، مما جعل
«معاوية» يعاود غزو الجزيرة مرة أخرى سنة (33هـ) ويضمها إلى
دولة الخلافة، وينقل إليها اثنى عشر ألفًا من المسلمين من أهل
الشام، وأسكنهم فيها، وبنى لهم الدور والمساجد.
موقعة ذات الصوارى سنة (34هـ):
أثار بروز الأسطول الإسلامى فى البحر المتوسط حفيظة «قنسطانز(1/118)
الثانى» الإمبراطور البيزنطى، وجعله يفكر فى القضاء على الأسطول
الإسلامى وتحطيمه، قبل أن تكتمل قوته، ويزداد خطره، وحتى تظل
السيطرة على «البحر المتوسط» للأسطول البيزنطى وحده دون
غيره، فعبأ الإمبراطور قواته البحرية كلها، واتجه بها قاصدًا سواحل
الشام، وهو لا يراوده شك فى قدرته على تدمير السفن الإسلامية؛
لحداثة نشأتها، وقلة خبرة رجالها، لكن المسلمين استعدوا لهذا
اللقاء جيدًا وتعاون الأسطولان فى «مصر» والشام، لرد هذا العدوان،
وأسندت قيادتهما إلى «عبدالله بن سعد» والى «مصر».
والتقى الأسطولان الإسلامى والبيزنطى - الذى كان بقيادة الإمبراطور
نفسه - فى شرقى «البحر المتوسط»، جنوبى شاطئ «آسيا
الصغرى» (تركيا الحالية)، ودارت بينهما معركة بحرية كبيرة، سُميت
بمعركة «ذات الصوارى»، لكثرة السفن التى اشتركت من الجانبين
(خمسمائة سفينة من جانب الروم، مقابل مائتى سفينة من جانب
المسلمين) وانتهت المعركة بنصر عظيم للمسلمين، وهزيمة ساحقة
للأسطول البيزنطى، ونجاة الإمبراطور من القتل بأعجوبة.
ونتيجة لهذه الهزيمة لم يرجع الإمبراطور إلى عاصمة «القسطنطينية»
بعد المعركة، وإنما ذهب إلى «جزيرة صقلية»، قبالة شاطئ
«تونس»، فى محاولة منه لحماية ما تبقى من دولة الروم فى «شمال
إفريقيا»، لكنه قتل فى «صقلية» سنة (68هـ = 688م).
مصحف عثمان:
إذا كان لعهد «عثمان بن عفان» - رضى الله عنه - أن يفخر بما أنجز
فيه من الأعمال العظيمة؛ فإن له أن يفخر بما هو أعظم منها جميعًا،
وهو جمع القرآن الكريم على لغة واحدة.
للقرآن صورتان: صورة صوتية مقروءة، وأخرى مكتوبة مدونة، وقد
حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على تدوين الآيات فور نزولها،
وقبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى راجع مع «جبريل» - عليه السلام -
ترتيب الآيات والسور مرتين.
وقد حفظ الصحابة القرآن باللهجات التى درجوا عليها، وأجاز لهم(1/119)
النبى - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ولذا ظهرالاختلاف فى وجوه
القراءة بين الصحابة من بدء نزول القرآن، نتيجة للهجة التى اعتادها
اللسان.
ولما جُمِعَ القرآن الكريم الجمع الأول فى الصحف فى عهد «أبى بكر»
بهيئته المكتوبة، بقيت الصورة الصوتية كما هى، ولما فُتحت البلاد
وتفرق الصحابة فيها، أخذ أهل كل إقليم يقرءون القرآن بقراءة
الصحابى أو الصحابة الذين عاشوا بينهم، فتمسك أهل «الكوفة»
بقراءة «عبدالله بن مسعود»، وأهل الشام بقراءة «أبى بن كعب»،
وأهل «البصرة» بقراءة «أبى موسى الأشعرى»، ومع اتساع
الفتوحات، زاد الخلاف بين المسلمين حول قراءة القرآن، وتحول الأمر
إلى تعصب، بل كاد أن يؤدى إلى فتنة بينهم، مما أفزع «حذيفة بن
اليمان» الصحابى الجليل، وكان يقرأ فى «أذربيجان»، فرجع إلى
«المدينة»، وأخبر «عثمان بن عفان»» بما رأى.
جمع «عثمان» الصحابة، وأخبرهم الخبر، فأعظموه، ورأوا جميعًا
مارأى «حذيفة» من ضرورة جمع الناس على مصحف واحد، وأرسل
«عثمان» إلى أم المؤمنين «حفصة بنت عمر» أن تبعث إليه بالمصحف
الذى جُمع فى عهد «أبى بكر» - وكان «عمر بن الخطاب» قد أخذه
بعد وفاة «أبى بكر»، ثم حُفظ بعد موته عند ابنته «حفصة» - ثم أمر
«زيد بن ثابت» - الذى جمع القرآن الجمع الأول فى عهد «أبى بكر
الصديق» - و «عبدالله بن الزبير»، و «سعيد بن العاص»، و «عبدالرحمن
بن الحارث بن هشام»، أن ينسخوه، وقال لهم: إذا اختلفتم - يعنى
فى كلمة أو كلمات- فاكتبوها بلسان «قريش»، فإنما نزل بلسانهم،
فلما نسخوه، أرسل إلى كل إقليم مصحفًا وأمر بإحراق ما سوى
ذلك، وقد سمى هذا المصحف بالمصحف الإمام أو «مصحف عثمان».
الفتنة وأسبابها:
سارت الأمور فى الدولة الإسلامية على خير ما يرام فى الشطر الأول
من خلافة «عثمان» - رضى الله عنه - (24 - 30هـ)،ولكن مع بداية سنة
(31هـ) هبت على الأمة الإسلامية رياح فتنة عاتية، زلزلت أركانها،(1/120)
وكلفتها تضحيات جسيمة، واستمرت هذه الفتنة نحو عشر سنين،
شملت ما تبقى من خلافة «عثمان بن عفان»، وكل زمن خلافة «على
بن أبى طالب» -رضى الله عنهما- (31 - 40هـ).
ومما لاشك فيه أن تلك الفتنة كانت نتيجة لمؤامرة واسعة النطاق
كانت أحكم فى تدبيرها، وأوسع فى أهدافها، وأخطر فى نتائجها
من مؤامرة اغتيال «عمر بن الخطاب» - رضى الله عنه -، لأن اغتيال
«عمر» لم يخلف آثارًا خطيرة بين المسلمين، ولم يقسمهم شيعًا
وأحزابًا كما حدث فى آخر عهد «عثمان»، ولأن الذين خططوا لقتل
«عمر» والذين قاموا بتنفيذ ذلك كانوا غير مسلمين وغير عرب، فى
حين أن الذين قتلوا «عثمان» و «عليا» من بعده كانوًا عربًا مسلمين،
وهذا هو وجه الخطورة، حتى وإن كان التخطيط من غيرهم.
والذى لاشك فيه أن الذى تولى التخطيط للفتنة، وقتل «عثمان»،
وإغراق الأمة فى بحر من الدماء، هو «عبد الله بن سبأ» اليهودى،
الذى ادعى الإسلام؛ ليتمكن من الكيد له من داخله، والذى لُقِّب بابن
السوداء.
وقبل الحديث عنه يحسن تناول الظروف والأجواء التى كانت سائدة
فى عهد «عثمان» - رضى الله عنه - واستغلها «ابن سبأ» لتحقيق
أهدافه المدمرة:
أولا: تغيرت الظروف فى آخر حياة «عثمان» بل وفى بداية خلافته
عما كانت عليه فى خلافة «عمر بن الخطاب»، وربما كان هذا تطورًا
طبيعيا فى حياة الأمة، فقد كثرت الغنائم فى أيدى الناس، وبدءوا
يتوسعون فى المأكل والملبس والمشرب، وبخاصة الجيل الجديد من
العرب الذى دخل فى الإسلام بعد وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم -،
ولم يتأدب بآدابه، ولم يتعود حياة القناعة والقصد فى المعيشة التى
كان يحياها الصحابة فى حياته - صلى الله عليه وسلم -.
ولم يُرضِ ذلك التوسع فى المعيشة صحابيا جليلا اشتهر بالزهد، هو
«أبو ذر الغفارى»، فسخط على «عثمان» وولاته وعماله، وحملهم
مسئولية ذلك التطور الاجتماعى الطبيعى الذى لم يكن من صنعهم،(1/121)
وراح ينادى بتحريم امتلاك المسلم لشىء من المال فوق حاجة يومه
وليلته، واستشهد على ذلك بقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب
والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}. [التوبة:
34].
ولم يوافق أحد من الصحابة «أبا ذر» فيما نادى به، وكانوا يرون أن
المال إذا جُمع من حلال، وأدى عنه صاحبه حق الله وهو الزكاة: لا
يعتبر كنزًا، ولا تنطبق عليه الآية موضع الاستشهاد، والنبى - صلى
الله عليه وسلم - كان يخزن مؤنة بيوته لمدة سنة إذا كانت الظروف
تسمح بذلك، وتشريع الله للمواريث فى نظام دقيق يقتضى ترك الميت
ثروة تقسم بين ورثته، وكثير من الصحابة كانوا أغنياء على عهد
النبى - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعب النبى - صلى الله عليه وسلم -
ثراءهم، بل يُروى أنه قال: «نعم المال الصالح للمرء الصالح». [مسند
أحمد].
وقد نصح النبى - صلى الله عليه وسلم - «سعد بن أبى وقاص» حين
أراد أن يتصدق بماله كله بقوله: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من
أن تذرهم عالة يتكففون الناس». [صحيح البخارى، كتاب الجنائز].
ولو أن «أبا ذر الغفارى» - رضى الله عنه - احتفظ برأيه لنفسه، لكان
الأمر هينًا، ولكنه أذاعه فى الناس؛ ووجد صداه عند الكسالى والذين
يريدون أن يعيشوا عالة على غيرهم، فألبوا الناس على «عثمان»
وولاته، وكانت تلك الدعوة سببًا من أسباب الفتنة.
وعلى الرغم من اعتزال «أبى ذر» الناس فى الربذة «شرقى المدينة»
امتثالا للخليفة؛ فإن دعوته كانت قد استشرت، وتلقفها «ابن سبأ»
اليهودى وأشعلها بين الناس.
ثانيًا: شارك عدد كبير من أهل «اليمن» ومنطقة «الخليج» فى
الفتوحات الإسلامية، وكان دورهم فى تحقيق النصر لا ينكر، ولكنهم
وجدوا بعد الفتح أن الإمارات والوظائف الرئيسية قد أُسندت إلى
غيرهم وبخاصة أبناء «قريش»، وكبار المهاجرين والأنصار وأبنائهم،
فلم يعجبهم ذلك، ورأوا أنفسهم أحق بالإمارات التى فتحوها(1/122)
بسيوفهم، مع أنه كان من الضرورى أن يتولى المهاجرون والأنصار
هذه الولايات؛ لأنهم يعرفون الإسلام وشرائعه أكثر، فقدمهم علمهم
وفقههم فى الدين وسابقتهم فى الإسلام، وجهادهم مع رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - لا أنسابهم وأحسابهم.
ونتيجة لذلك تكونت جبهة عريضة من أبناء تلك المنطقة معارضة
لسيطرة أبناء المهاجرين والأنصار على الدولة الإسلامية، ولم تكن
شكواهم من الولاة واتهامهم بالظلم حقيقية، بل كانت ذريعة للنيل
منهم، ومن الخليفة «عثمان»، وهدفًا لقلب الدولة وتغيير نظام الحكم
المتهم بالظلم، وهؤلاء كانوا صيدًا سمينًا لابن سبأ فاستغل السخط
الذى ملأ قلوبهم لتحقيق هدفه الشرير.
ثالثًا: عندما بدأت هذه الفتنة كان معظم ولاة الأقاليم من «قريش»، بل
من «بنى أمية» أهل «عثمان»، وأقربائه، مما سهل على «ابن سبأ»
مهمته فى إشعال نار الفتنة، والحق أن هؤلاء الولاة، وهم «معاوية
بن أبى سفيان» والى الشام، و «عبدالله بن سعد بن أبى السرح»
والى «مصر»، و «عبدالله بن عامر» والى «البصرة»، و «الوليد بن
عقبة» والى «الكوفة»، كانوا من خيرة الولاة، وممن أسهموا فى
تثبيت الفتوحات الإسلامية بعد استشهاد «عمر»، وممن مارسوا الحكم
قبل خلافة «عثمان»، بل إن «معاوية بن أبى سفيان» كان واليًا
على الشام من عهد «أبى بكر الصديق». ومن ثم لم يولِّهم «عثمان»
لهوى فى نفسه، أو لأنهم من أقربائه، بل ولاهم لكفايتهم ومقدرتهم
الإدارية.
ومما يؤسف له أن بعض الكتاب الكبار صوَّروا الأمر على غير ما
تقتضيه الحقيقة التاريخية، وكأن «عثمان بن عفان» أتى بهؤلاء
الولاة من قارعة الطريق، وعينهم على الولايات الكبيرة، وحملهم
على رقاب الناس؛ لأنهم أقرباؤه فحسب. ويذهب بعضهم إلى تصوير
أمر استعفاء «عمرو بن العاص» من إمارة «مصر» بناء على طلبه
على أنه عزل من «عثمان» ليعين مكانه أخاه من الرضاعة «عبدالله
بن سعد»، ولا يذكر شيئًا مما يعرضه مؤرخو «مصر» الإسلامية كابن(1/123)
عبد الحكم و «الكندى»، من أن «عبد الله بن سعد» كان واليًا على
صعيد «مصر» من قبل «عمر بن الخطاب»، فلما تولى «عثمان بن
عفان» الخلافة طلب منه «عمرو بن العاص» أن يخصه وحده بإمارة
«مصر» كلها، فرفض «عثمان»، فاعتزل «عمرو» الولاية بناء على
طلبه، ولم يعزله «عثمان بن عفان».
رابعًا: أن من أبناء البلاد المفتوحة وبخاصة بلاد فارس، من لم يسترح
إلى سيادة العرب عليهم، وسيطرتهم على بلادهم، وهم الذين كانوا
بالأمس يحتقرونهم وينظرون إليهم فى استعلاء، فعزَّ على أنفسهم
ذلك، فلم يتركوا فرصة لزعزعة الدولة الإسلامية إلا وانتهزوها، خاصة
من لم يتمكن الإسلام فى قلوبهم منهم، وهؤلاء كان لهم دور فى
إثارة الفتنة على «عثمان»، واستمر حتى آخر العصر الأموى.
خامسًا: أن كل ما تقدم كان يمكن تداركه وعلاجه، بل إن «عثمان» -
رضى الله عنه - حاول إجابة كل مطالب الثائرين عليه والمؤلبين للناس
ضده، لكنهم لم يقتنعوا؛ لأن الخليفة لان معهم وحلُم عليهم أكثر مما
كان ينبغى، ولو أخذهم بالشدة والحزم كما كان يفعل «عمر بن
الخطاب» مع أمثالهم لارتدعوا، ولحُسمت الفتنة.
عبد الله بن سبأ:
هو رجل يهودى من «صنعاء» ادعى الإسلام فى عهد «عثمان»،
وأخذ يبث فى المسلمين أفكارًا غريبة وبعيدة عن الإسلام، مثل قوله
بالوصية أى أن «على بن أبى طالب»، هو وصى النبى - صلى الله
عليه وسلم - وخليفته من بعده، ومعنى ذلك أن الخلفاء الثلاثة، «أبا
بكر» و «عمر» و «عثمان» اغتصبوا حق «على» فى الخلافة.
وبدأ «ابن سبأ» من هذه النقطة، مستغلا كل الأطراف التى سبق
الحديث عنها، ووضع للثائرين والناقمين على اختلاف مشاربهم
وأهدافهم خطة للتحرك ضد الخليفة وولاته، وأشار عليهم بالنيل من
الولاة أولا؛ لما كان يعرف أن «عثمان» نفسه فوق الشبهات، حتى
إذا نجحوا فى تشويه سمعة الولاة، انتقلوا إلى «عثمان» باعتباره
المسئول الأول عنهم، ومما قاله لأتباعه: «إن عثمان أخذها بغير حق،(1/124)
وهذا وصى رسول الله - يقصد عليًّا - فانهضوا فى هذا الأمر
فحركوه، وابدءوا بالطعن فى أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر، تستميلوا الناس».
أخذ «ابن سبأ» يتنقل بهذا التدبير الشيطانى بين الأقاليم من
«البصرة» إلى «الكوفة» إلى الشام إلى «مصر»، يبث أفكاره
وسمومه، وكانت خطته بالغة الإحكام، جعلت أتباعه ينجحون فى
زرع الشكوك فى نفوس الصحابة فى «المدينة»، مثل «على بن أبى
طالب»، و «الزبير بن العوام»، و «طلحة بن عبيد الله»، والسيدة
«عائشة» - رضى الله عنها - وهؤلاء كلهم كانت تصلهم معلومات
كاذبة عن ظلم ولاة الأقاليم، لكنهم صدقوها للأسف، ولم يتبينوا
كذبها إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن وقعت الواقعة، وقتل الخليفة
الثالث مظلومًا.
موقف عثمان من الفتنة:
لما سمع «عثمان بن عفان» ما يقال عن ولاة أقاليمه جمع أهل
«المدينة»، وقال لهم: أشيروا على، فأشاروا عليه أن يرسل رجالا
إلى الأقاليم للتحقيق فيما وصله من كلام عنهم، كما كان يفعل «عمر
بن الخطاب»، فاستجاب على الفور، وحدد أربعة من الصحابة من غير
«بنى أمية» - حتى لا يتهمهم أحد بالتحيز للولاة - للقيام بما كلفهم
به، فأرسل «محمد بن مسلمة» إلى «الكوفة»، و «أسامة بن زيد»
إلى «البصرة»، و «عبدالله بن عمر» إلى الشام، و «عمار بن ياسر»
إلى «مصر»، وعاد الثلاثة الأول إلى «المدينة»، وقدموا تقارير
للخليفة بأن الأمور تجرى على خير وجه، وأن الشكاوى التى تصل
إلى «المدينة» كلها باطلة، ولا أساس لها من الصحة؛ وأن الولاة
يقومون بعملهم خير قيام، أما «عمار بن ياسر» فلم يعد من «مصر»،
لأنه لما وصل إليها، تصادف وجود «ابن سبأ» فيها، فاستقطبه
للأسف وضمه إلى صفه، مما جعل الأمر يستفحل ويزداد خطرًا.
وبعد أن تبين بطلان مزاعم أتباع «ابن سبأ»، الذين ألبوا الناس على
«عثمان» - وكلهم عرب مسلمون- لان لهم الخليفة، وعطف عليهم
وحاول استرضاءهم بدلا من عقابهم وأخذهم بالشدة.(1/125)
ولما تهيأ الجو، ورأى زعماء الفتنة أن الفرصة سانحة للتخلص من
الخليفة، خرجوا إلى «المدينة» على رأس وفود أهل «مصر»
و «البصرة» و «الكوفة»، وكانوا نحو عشرة آلاف متظاهرين بالحج،
مخفين نياتهم الخبيثة عن عامة الناس، الذين شكوا إلى الخليفة من
تصرفات لولاتهم لا يرضونها، فوعدهم خيرًا، وأمرهم بالعودة إلى
أمصارهم، فرضوا لما رأوه من سماحته وعطفه، وعادوا. أما زعماء
الفتنة من أمثال: «الأشتر النخعى»، و «عمرو بن الأصم»، و «حرقوص
بن زهير السعدى»، و «الغافقى بن حرب»، فقد ساءهم عودة عامة
الناس الذين لا علم لهم بالمؤامرة، وسُقِطَ فى أيديهم، وعزموا على
قتل الخليفة أو عزله، فتخلفوا فى «المدينة»، وزوَّروا كتابًا، ادعوا
كذبًا أنهم وجدوه مع غلام من غلمان «عثمان»، موجه إلى «عبدالله
بن سعد» والى «مصر» يأمره فيه بقتل بعض الثائرين وتعذيب بعضهم
الآخر.
عاد الثائرون من الطريق بهذا الكتاب، فعرضوه على «على بن أبى
طالب»، فأدرك أنه مزور، لأن الذين ادعوا أنهم وجدوه هم أهل
«مصر»، ولكنهم عندما عادوا عادوا جميعًا، أهل «مصر» و «الكوفة»
و «البصرة»، مع أن طرقهم مختلفة، فعودتهم فى وقت واحد، تدل
على أن الأمر مدبر، فقال لهم على: «كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا
أهل البصرة بما لقى أهل مصر وطريقكم مختلف وقد سرتم على
مراحل؟! هذا والله أمر أبرم بالمدينة».
ولما علموا أن أمرهم قد ظهر، وخطتهم انكشفت، قالوا لعلى:
«ضعوه حيث شئتم - أى الكتاب مصممين على كذبهم - لاحاجة بنا
إلى هذا الرجل، ليعتزلنا»، ولا شك أن هذا تسليم منهم بأن قصة
الكتاب مختلقة، وأن غرضهم الأول والأخير هو خلع أمير المؤمنين أو
سفك دمه، الذى عصمه الله بشريعة الإسلام.
محاصرة بيت الخليفة وقتله:
تشبث الأشرار بهذا الكتاب المزور، ولم يستجيبوا لنصح الصحابة
بالرجوع إلى بلادهم؛ لأن الخليفة لم يرتكب خطأ يستحق عليه العقاب،
فحاصروه فى بيته، ولم تكن هناك قوة تدافع عنه، فقد رفض عرضًا(1/126)
من «معاوية بن أبى سفيان» بالذهاب معه إلى الشام، وكره أن
يغادر جوار رسول الله كما رفض أن يرسل «معاوية» إليه جندًا من
الشام لحمايته، لأنه كره أن يضيق على أهل مدينة رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - بجيش يضايقهم فى معاشهم.
ولما رأى «على بن أبى طالب» و «الزبير بن العوام» و «طلحة بن عبيد
الله» وغيرهم الحصار المضروب على بيت الخليفة؛ أرسلوا أبناءهم
لحراسته، لكنه رفض ذلك أيضًا، وأقسم عليهم بما له من حق الطاعة
عليهم أن يذهبوا إلى بيوتهم ويغمدوا سيوفهم، لأنه أدرك أن أبناء
الصحابة وهم عدد قليل، إن تصدوا لهؤلاء الأشرار - وكانوا زهاء
عشرة آلاف - فقد يقتلونهم جميعًا، فآثر سلامتهم وحقن دماءهم،
ولعله كان يفكر أن الثوار إذا قتلوه هو فستنتهى المشكلة، فرأى
أن يضحى بنفسه، حقنًا للدماء، ولم يدر أن دمه الطاهر الذى
سيُسفك، كان مقدمة لبحور من دماء المسلمين، سالت بعد ذلك نتيجة
مقتله.
امتثل أبناء الصحابة لأمره، وعادوا إلى بيوتهم، لكنه طلب منهم ماء
للشرب، بعد أن منعه الثوار عنه، وهو الذى اشترى للمسلمين «بئر
رومة» ووهبها لهم، بناء على طلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم -
الذى بشره بنهر عظيم فى الجنة.
وكانت أم المؤمنين «أم حبيبة بنت أبى سفيان» أول المغيثين
لعثمان، لكنها لم تستطع أن توصل الماء إليه لأن الثوار منعوها،
وأساءوا معها الأدب وسبوها، ولم يراعوا لها حرمة.
فلما فعلوا بأم حبيبة ذلك، ذهب إليهم «على بن أبى طالب» - رضى
الله عنهم - وقال لهم: «إن الذى تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر
الكافرين، لاتقطعوا عن الرجل المادة (الطعام والشراب) فإن الروم
وفارس لتأسر فتطعم وتسقى، وما تعرض لكم هذا الرجل، فبم
تستحلون حصره وقتله؟! قالوا: لا والله ولا نعمة عين - يعنى ولا
قطرة ماء تصله - لا نتركه يأكل ويشرب».
وبعد ذلك اقتحموا على الخليفة داره اقتحامًا، متسلقين من دور(1/127)
مجاورة، وقتلوه وهو صائم يقرأ القرآن، وروعوا الأمة الإسلامية فى
إمامها، الذى كانت تستحى منه الملائكة، والذى بشره النبى - صلى
الله عليه وسلم - بالجنة، وتنبأ له بالشهادة، وكان استشهاده فى
أواخر شهر ذى الحجة سنة (35هـ).
قُتِل «عثمان بن عفان» مظلومًا لم يرتكب ذنبًا أو يقترف جرمًا يستحق
به أن يرفع هؤلاء الأشرار أصواتهم عليه ولو كان كل ما رموه به من
تُهم صحيحًا - مع أنه باطل وملفق - ما أباح لهم قتله، ولكنه الحقد
الأسود والأفكار الهدامة، التى زرعها «ابن سبأ» فى نفوسهم
وعقولهم، جعلهم يرون فضائله وإنجازاته تهمًا وجرائم، فاتهموه -مثلا
- بأنه تخلف عن «بيعة الرضوان» فى «الحديبية»، مع أنهم يعلمون
أنه عندئذٍ كان فى «مكة» سفيرًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - يقوم
بمهمة اعتذر عنها «عمر بن الخطاب» لخطورتها، وناب النبى - صلى
الله عليه وسلم - نفسه عن «عثمان» فى البيعة، فكانت بيعة عن
«عثمان» أفضل من بيعة الصحابة لأنفسهم، كما اعتبروا جمعه للقرآن
فى مصحف واحد جريمة، مع أنه أعظم أعماله باعتراف الصحابة
أنفسهم.
وقد وصف «أبو بكر بن العربى» قتلة «عثمان» وصفًا صادقًا، فقال:
«وأمثل ما روى فى قصته - أى عثمان - أنه بالقضاء السابق، تألب
عليه قوم لأحقاد اعتقدوها، ممن طلب أمرًا فلم يصل إليه، أو حسد
حسادة أظهر داءها، وحمله على ذلك قلة دين، وضعف يقين، وإيثار
العاجلة على الآجلة، وإذا نظرت إليهم دلك صريح ذكرهم على دناءة
قلوبهم، وبطلان أمرهم».
وقد لا يصدق بعض الناس أن رجلا واحدًا هو «عبد الله بن سبأ»
يستطيع أن يفسد أمر أمة بكاملها، مهما تبلغ قدراته، بل وصل الأمر
ببعضهم إلى إنكار وجوده أصلا، ولكن الواقع أن «ابن سبأ» كان
موجودًا ووجوده حقيقة، وهو كأى متآمر خبيث يتمتع بقدر كبير من
الدهاء والمكر، مكنه من أن يستميل إلى صفه صحابيين جليلين هما
«أبو ذر الغفارى» و «عمار بن ياسر»، وأن يستغل كل الساخطين من(1/128)
أبناء العرب الطامعين فى الوظائف، بالإضافة إلى الحاقدين من
أبناء البلاد المفتوحة، الذين سقطت دولهم، وبادت عروشهم، وخلق
من ذلك كله تيارًا عامًّا، أدى إلى فتنة عارمة، ذهب ضحيتها «عثمان
بن عفان»، ولم تنته بعد موته.(1/129)
الفصل التاسع
*خلافة على بن أبى طالب (35 - 40) هـ
نسبه ونشأته:
هو «على بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف»،
وأمه «فاطمة بنت أسد بن هاشم»، وهى أول هاشمية ولدت
هاشميًّا، وقد أسلمت وهاجرت إلى «المدينة»، وهو ابن عم النبى
- صلى الله عليه وسلم -، وتربى فى بيته، لأن أباه كان كثير العيال
قليل المال، فأراد النبى أن يخفف عن عمه أعباء المعيشة، فأخذ
«عليًّا» ليعيش معه فى بيته، وكان عمره يومئذٍ ست سنوات، فشاءت
إرادة الله أن ينشأ «على» فى بيت النبوة، فوقاه الله أرجاس
الجاهلية، فلم يسجد لصنم قط، وكان أول من أسلم من الصبيان.
صفته:
كان «على بن أبى طالب» ربعة من الرجال، يميل إلى القصر، أسمر
اللون، حسن الوجه واسع العينين، أصلع الرأس، عريض المنكبين،
غزير اللحية، قوى الجسم.
عُرف «على بن أبى طالب» بالشجاعة والعلم الغزير، والزهد فى
الدنيا مع القدرة عليها، وكان واحدًا ممن حفظوا القرآن كله من
الصحابة، وعرضوه على النبى - صلى الله عليه وسلم -، ومن أكثرهم
معرفة بالقرآن وبتفسيره وأسباب نزوله، وأحكامه، وكان من كتاب
الوحى، ولذا اختص فى سيرته بلقب «الإمام» لأفضليته العلمية
والفقهية، وكان أقضى الصحابة رضى الله عنهم جميعًا، واشتهر
بالفصاحة والخطابة وقوة الحجة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة،
وقد تآخى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع على بعد الهجرة، ثم
زوجه ابنته «فاطمة»، وأنجب منها «الحسن» و «الحسين»، وهما
اللذان حفظا نسل الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
شهد «على» المشاهد كلها -عدا تبوك - مع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -، فكان فى طليعة من صرعوا المشركين فى «بدر»، وواحداً
من الذين ثبتوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى غزوة
«أحد»، وحمل اللواء عندما سقط من يد «مصعب بن عمير» بعد
استشهاده، حمله بيده اليسرى، وظل يقاتل بيده اليمنى، وصرع فى
غزوة الخندق «عمرو بن عبد ود» فارس «قريش» والعرب كلها عندما(1/130)
لم يقدم أحد على مبارزته وأعطاه الرسول - صلى الله عليه وسلم -
الراية يوم «خيبر»، وقال: «لأعطين اللواء غدًا رجلا يحب الله ورسوله
ويحبه الله ورسوله»، وأخبر أن الفتح سيكون على يديه، وتحقق
ذلك، وثبت مع من ثبتوا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - فى «حنين».
وفى غزوة «تبوك» خلفه النبى - صلى الله عليه وسلم - فى أهله
يرعى مصالحهم وشئونهم، ولما تأذى من ذلك، وقال: يارسول الله،
تخلفنى فى النساء والصبيان؟!، فقال له النبى - صلى الله عليه
وسلم -: «أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير أنه
لا نبى بعدى؟»، إشارة من النبى إلى أن «موسى» عندما ذهب
لمناجاة ربه، ترك أخاه «هارون»، خلفًا له فى قومه، كما جاء فى
قوله تعالى: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفنى فى قومى وأصلح
ولا تتبع سبيل المفسدين}. [الأعراف:142].
وكان رضى الله عنه موضع ثقة واحترام من الصحابة جميعًا، فكان من
أكبر أعوان «أبى بكر الصديق» فى قمع حروب الردة، ولازم «عمر
بن الخطاب»، فكان لا يقطع أمرًا دون مشاورته، والاستنارة برأيه،
وكان «عمر» يقول: «قضية ولا أبا حسن لها». وعاون «عثمان»
بالرأى والمشورة مثلما كان يفعل مع «أبى بكر» و «عمر»، فلم
يحجب عنه نصحه ومؤازرته فى الفتنة التى أطبقت على الأمة،
وأرسل أولاده مع بقية أولاد الصحابة لحراسته والدفاع عنه، ثم ذهب
بنفسه لمواجهة الأشرار.
بيعته بالخلافة:
رُوِّعت «مدينة» رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمقتل أمير المؤمنين
«عثمان بن عفان» - رضى الله عنه - وعم الناس الهلع والرعب، لهذه
الجريمة التى أقدم عليها هؤلاء الأشرار.
سيطر الثائرون على «المدينة»، وظل «الغافقى بن حرب» زعيم ثوار
«مصر»، وأحد كبار زعماء الفتنة يصلى بالناس إمامًا فى مسجد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة أيام، والدولة كلها بدون
خليفة، ولم يكن فى وسع أحد من الثوار أن يرشح نفسه لها، لأنهم
يعلمون أن هذا الأمر يخص المهاجرين وحدهم.(1/131)
وبدأ الثائرون يعرضون منصب الخلافة على كبار الصحابة: «على بن
أبى طالب»، و «طلحة بن عبيد الله»، و «سعد بن أبى وقاص»،
و «الزبير بن العوام»، و «عبدالله بن عمر بن الخطاب»، فرفضوا
جميعًا، وسماهم «على بن أبى طالب» الثائرين ولعنهم على فعلتهم
الشنعاء، فهددهم الثائرون بقتلهم جميعًا كما قتلوا «عثمان» إن لم
يقبل أحدهم منصب الخلافة.
وفى مثل هذه الظروف العصيبة كان لابد من رجل شجاع غير هياب،
يتقدم الصفوف لحمل الأمانة وسط الأخطار المحدقة بها، واتجهت
الأنظار إلى «على بن أبى طالب»، وتعلقت به الآمال، ترجوه تحمل
المسئولية، وقيادة الركب إلى بر الأمان، وألح عليه كبار الصحابة
إلحاحًا شديدًا لتولى المنصب الشاغر، منصب الخلافة الجليل، فقبل
تجشم تبعاتها فى هذه الظروف الدقيقة، وكان قبوله لها ضربًا من
ضروب الفروسية والشجاعة، والاحتساب عند الله، والنزول على رغبة
كبار الصحابة.
كان «على بن أبى طالب» هو أول خليفة يخطب قبل البيعة، وكانت
خطبة قصيرة، أشهد الله عليهم، وأشهدهم على أنفسهم أنهم هم
الذين ألحوا عليه تقبل أمرٍ كان له كارهًا، لتبعاته ومسئولياته، فلما
وافقوا بايعوه، ولهذا كان عليه أن يخطب مرة أخرى خطبة يوضح
فيها أسلوبه فى الحكم، فقال: «إن الله أنزل كتابًا هاديًا، بين فيه
الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر، الفرائض الفرائض أدوها إلى
الله تعالى يؤدكم إلى الجنة، إن الله حرم حرمات غير مجهولة، وفضل
حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق
المسلمين، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، لا
يحل دم امرئ مسلم إلا بما يجب، بادروا أمر العامة، وخاصة أحدكم
الموت، فإن الناس أمامكم، وإن من خلفكم الساعة تحدوكم تخففوا
تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم، اتقوا الله عباد الله فى بلاده
وعباده، إنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله فلا(1/132)
تعصوه {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون فى الأرض}». [الأنفال:
26].
خطبة قصيرة مناسبة للمقام وللظرف الذى قيلت فيه، فقد بدأها
بالتذكير بالله، وحث المسلمين على عمل الخير وتجنب الشر، وحذرهم
حرمات الله والوقوع فيها، وأهمها حرمة دم المسلم، ولعله بذلك
يعرض بقتلة «عثمان» ويحدد موقفه من هذه الفعلة الشنعاء، وأنه لن
يتساهل فى القصاص منهم، وإقامة الحد عليهم.
على والقرارات الصعبة:
تمت بيعة «على بن أبى طالب» فى اليوم الخامس والعشرين من شهر
ذى الحجة سنة (35 هـ)، فاستقبل بخلافته عام (36هـ)، وكان عليه
أن يواجه الموقف العصيب، الذى نتج عن استشهاد أمير المؤمنين
«عثمان بن عفان»، باتخاذ قرارات صعبة تجاه عدد من المعضلات،
التى كان أولها:
- القصاص من قتلة «عثمان» - رضى الله عنه - وكان ذلك مطلب
الصحابة، ففى أول يوم من خلافته ذهب إليه «طلحة» و «الزبير»،
وطالباه بإقامة الحد على القتلة، وكان هو مقتنعًا بذلك، ولذلك قال
لهما: «يا إخوتاه إنى لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف أصنع بقوم
يملكوننا ولا نملكهم؟ هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت
إليهم أعرابكم، وهم خلالكم -أى يعيشون بينكم - يسومونكم
ماشاءوا - أى يسيطرون عليكم - فهل ترون موضعًا لقدرة على شىء
مما تريدون؟ قالوا: لا، قال: فلا والله لا أرى إلا رأيًا ترونه أبدًا».
ويتضح من هذا أن «على بن أبى طالب» لم يكن أقل من غيره حرصًا
على إقامة الحد على قتلة «عثمان»،ولكن الظرف الذى هم فيه لا
يمكنه من ذلك، فإذا كان الذين نفذوا القتل فى «عثمان» عددًا
محدودًا، وهم «الغافقى بن حرب»، ومعه «سودان بن حمران»
و «كنانة بن بشر التجيبى»، فإن وراءهم نحو عشرة آلاف من الثوار
الذين ضللوهم، وهم مستعدون للدفاع عنهم، ولذلك عندما كانوا
يسمعون قائلا يقول: من قتل «عثمان»؟ كان هؤلاء جميعًا يصيحون:
نحن جميعًا قتلناه، ولذا كان رأى الإمام التريث حتى تهدأ الأمور،(1/133)
ويعود الناس إلى بلادهم، حتى يتمكن من التحقيق فى الأمر وإقامة
الحد، وقد اقتنع الصحابة بهذا الحل، لكن الأمور تطورت تطورًا آخر
على غير ما يهوى الجميع.
- وتغيير كل ولاة «عثمان» على الولايات الكبرى: «مصر» و «الشام»،
و «الكوفة»، و «البصرة» حتى تهدأ الفتنة. وقد اتخذ «على» بالفعل
قرارًا بذلك، فعزل «معاوية بن أبى سفيان» عن الشام، وعين بدلا
منه «سهل بن حنيف»، وعزل «عبدالله بن سعد بن أبى السرح» عن
«مصر» وعين بدلا منه «قيس بن سعد بن عبادة»، وعزل «عبدالله بن
عامر» عن «البصرة» وعين بدلا منه «عثمان بن حنيف»، وعزل «أبا
موسى الأشعرى» عن «الكوفة»، وعين بدلا منه «عمارة بن شهاب».
وهذا القرار الخطير راجعه فيه أقرب الناس وأخلصهم له، ابن عمه
«عبدالله بن عباس»، ونصحه بالانتظار فترة ولو لمدة سنة، لتكون
الأمور قد هدأت واستقرت، ويتم التغيير فى ظرف مناسب، لكن الإمام
أصر على تنفيذ قراره محتجًا بأن هؤلاء الثوار ثاروا غضبًا من ولاة
«عثمان»، سواء أكانوا مخطئين أم مصيبين، ولن تهدأ ثورتهم إلا إذا
عُزِلوا.
وإزاء إصرار على - رضى الله عنه - على تنفيذ قراره، اقترح «ابن
عباس» أمرًا آخر، بأن يعزل من يشاء من الولاة، ويُبقى «معاوية»
على ولاية الشام، وكان اقتراحًا ذكيًا وجيهًا، فمعاوية لم يكن موضع
شكوى أحد من رعيته، ولم يشترك أهل الشام فى الثورة على
«عثمان» وقتله، وعلى هذا فلو أقره علىّ فى ولاية الشام، فلن
يلومه أحد، وكان «ابن عباس» يعرف من ناحية أخرى أن «معاوية»
لن يذعن لقرار العزل، وسيبقى فى لايته، مسببًا متاعب كثيرة، ومع
هذا صمم الإمام «على بن أبى طالب» على عزل ولاة «عثمان» جميعًا
بما فيهم «معاوية».
بدأ الولاة الجدد يتجهون إلى ولاياتهم لمباشرة أعمالهم، فذهب
«قيس بن سعد» إلى «مصر»، ودخلها بدون متاعب؛ لأن واليها القديم
«عبدالله بن سعد» تركها منذ علمه بمقتل «عثمان»، وذهب إلى(1/134)
«فلسطين»، واعتزل الفتنة، وبقى هناك حتى مات فى مدينة
«عسقلان» سنة (37هـ).
وكذلك دخل «عثمان بن حنيف» «البصرة»، وتولى شئونها بدون
مشاكل؛ لأن واليها «عبدالله بن عامر» كان قد تركها وذهب إلى
«مكة».
أما «عمارة بن شهاب» فلم يمكنه أهل «الكوفة» من دخولها،
وتمسكوا بواليهم «أبى موسى الأشعرى»، فوافق الإمام «على»
على ذلك، وأقر عليهم «أبا موسى الأشعرى».
وكذلك لم يستطع «سهل بن حنيف» دخول الشام، فقد منعه «معاوية
بن أبى سفيان»، رافضًا قرار العزل. وهنا لم يعامل الإمام «على»
الشام معاملة «الكوفة»، فإنه رفض إقرار «معاوية» فى ولاية
الشام، مع أن تمسك أهلها به كان أشد من تمسك أهل «الكوفة»
بأبى موسى الأشعرى.
بين على ومعاوية:
دارت مراسلات عديدة بين «على» و «معاوية» - رضى الله عنهما -
يطلب الأول من الآخر مبايعته بالخلافة، والإذعان لأوامره، باعتباره
الخليفة الشرعى الذى بايعه معظم الصحابة فى «المدينة»، على حين
يطلب الثانى من الأول القصاص من قتلة «عثمان»، باعتباره ولى
دمه، لأنه ابن عمه، وبعدها ينظر فى بيعته.
ولم تكن وجهة نظر الإمام فى قضية القصاص رافضة، لكنه كان يرغب
فى تأجيلها حتى تتهيأ الظروف المناسبة، ولكن «معاوية» تمسك
بالقصاص أولا، وجعله شرطًا لازمًا يسبق البيعة.
ولما لم تؤد الاتصالات بينهما إلى نتيجة، وصلت رسالة من «معاوية»
إلى «على» تتضمن جملة واحدة، هى: «من معاوية إلى على»،
بعثها «معاوية» بيضاء مع رجل يدعى «قبيصة» من «بنى عبس»،
وأمره أن يدخل بها «المدينة»، رافعًا يده حتى يراها الناس، ويعلموا
أن «معاوية» لم يبايع «عليًّا»، إذ يخاطبه باسمه فقط دون أن يصفه
بأمير المؤمنين.
وأدرك علىٌّ رضى الله عنه- أن حمل معاوية على البيعة سلمًا غير
ممكن، فأخذ يعد العدة لحمله على البيعة بالقوة، باعتباره خارجًا
على طاعة الخليفة، على الرغم من أن كثيرين نصحوه بعدم اللجوء(1/135)
إلى الحرب لعواقبها الوخيمة، ومن بينهم ابنه «الحسن» لكن الإمام
«على» أصر على موقفه، وبينما هو يستعد لذلك، جاءته أخبار
أخرى مفزعة من «مكة»، تخبره بمسير «عائشة» وجماعتها إلى
«البصرة».
موقعة الجمل (36هـ):
كانت أم المؤمنين «عائشة» - رضى الله عنها - عائدة من أداء فريضة
الحج، وسمعت بمقتل «عثمان»، فعادت من الطريق إلى «مكة»،
وأعلنت سخطها على قتله، وأخذت تردد «قُتل والله عثمان مظلومًا
لأطلبن بدمه»، ثم وافاها فى «مكة» «طلحة» و «الزبير» - رضى الله
عنهما - و «بنو أمية»، وكل من أغضبه مقتل «عثمان»، وراحوا
يتباحثون فى الأمر، وهداهم تفكيرهم إلى تجهيز جيش للأخذ بالثأر
من قتلة «عثمان» والسير به إلى «البصرة»، باعتبارها أقرب بلد
إليهم من البلاد التى اشترك أهلها فى الثورة على «عثمان» وقتله،
وكان هذا اجتهادًا منهم مجانبًا للصواب، لأنهم بهذا العمل كأنهم
أقاموا حكومة أخرى غير حكومة الإمام، المبايع شرعًا من الأمة،
والمنوط به وحده إقامة الحدود والقصاص من القتلة، وربما كان
الأفضل من هذا أن يتوجهوا إلى «المدينة»، ليشدوا من أزر الخليفة
فى هذا الوقت العصيب الذى تمر الأمة به، ويتشاوروا معه فى إيجاد
طريقة لحل المشكلات التى تواجهها الأمة.
وصلت أخبار سير «عائشة» ومن معها إلى «على» وهو يتأهب
للخروج إلى الشام لقتال «معاوية»، فاضطر إلى تغيير خطته، فلم
يعد ممكنًا أن يذهب إلى الشام، ويترك هؤلاء يذهبون إلى
«البصرة»، فاستعد للذهاب إلى هناك.
خرجت السيدة «عائشة» - رضى الله عنها - ومعها فى البداية نحو
ألف رجل لكن هذا العدد تضاعف عدة مرات، بانضمام كثيرين إلى
الجيش، نظرًا إلى مكانة «عائشة»، فلما اقتربوا من «البصرة»، أرسل
واليها «عثمان بن حنيف» إلى أم المؤمنين «عائشة» رسولين من
عنده، هما «عمران بن حصين» و «أبو الأسود الدؤلى» يسألانها عن
سبب مجيئها. فقالت لهما: «إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع(1/136)
القبائل غزوا حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحدثوا فيه
الأحداث وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا لعنة الله ورسوله، مع
مانالوا من قتل إمام المسلمين، بلا ترة ولا عذر، فخرجت فى
المسلمين، أعلمهم ما أتى هؤلاء».
وكذلك سأل الرسولان «طلحة» و «الزبير» - رضى الله عنهما - عن
سبب مجيئهما، فقالا: «الطلب بدم عثمان»، فرجع الرجلان وأخبرا
«عثمان بن حنيف»، فقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون! دارت رحى
الإسلام ورب الكعبة»، وأصرَّ على منعهم من دخول «البصرة»، فدارت
بينه وبينهم معركة عند مكان يُسمى «الزابوقة» قُتل فيها نحو
ستمائة من الفريقين، فلما رأوا كثرة القتلى تنادوا إلى الصلح والكف
عن القتال، وانتظار قدوم الإمام «على» إلى «البصرة»، وتم الصلح
على أن يتركوا للوالى دار الإمارة والمسجد وبيت المال، وينزلوا هم
فى أى مكان بالبصرة.
وصول «على» إلى البصرة:
وصل «على» إلى «البصرة» وعلم بما حدث من سفك الدماء وهاله
ذلك، فأرسل على الفور «القعقاع بن عمرو التميمى» إلى معسكر
«عائشة» و «طلحة» و «الزبير»، ليعرف ماذا يريدون، فقالت «عائشة»
- رضى الله عنها -: «خرجنا لنصلح بين الناس»، وكذلك قال «طلحة»
و «الزبير»، فسألهم «ما وجه الإصلاح الذى تريدون»، قالوا: «قتلة
عثمان»، قال: «لقد قتلتم ستمائة من قتلة عثمان، فغضب لهم ستة
آلاف من قبائلهم، وكنتم قبل ذلك أقرب إلى السلامة منكم الآن»،
قالوا: «فماذا ترى أنت؟»، قال: «أرى أن هذا الأمر دواؤه
التسكين»، واقترح عليهم تجديد البيعة لعلى، ومقابلته، والتفكير بعد
ذلك فيما يصلح المسلمين، فقبلوا.
ومعنى ذلك أن الجميع كانوا راغبين، فى الإصلاح، كل على حسب
اجتهاده، لكن عناصر الشر التى كانت لاتزال فى معسكر «على»
هى التى أفسدت السعى الذى قام به «القعقاع».
أتباع ابن سبأ يفسدون الصلح ويبدءون المعركة:
كانت نقطة الضعف التى فى معسكر الإمام «على» هى وجود كثيرين(1/137)
ممن اشتركوا فى قتل «عثمان» والتخطيط له، وعلى رأسهم «عبدالله
بن سبأ»، و «الأشتر النخعى»، ولم يكن لعلى حيلة فى وجودهم معه،
ولا قدرة على إبعادهم، لكونهم قوة كبيرة تساندهم عصبات قبلية،
وقد أدرك زعماؤهم الذين تولوا كبر الثورة على «عثمان» أن الصلح
بين الفريقين سيجعل «عليًّا» يتقوى بانضمام الفريق الآخر إليه،
ويقيم الحد عليهم باعتبارهم قتلة «عثمان»، فعزموا على إفساد الأمر
كله.
وترتب على هذا العزم أن عقد «ابن سبأ» لهم مؤتمرًا تدارسوا فيه
الأمر، فاقترح «الأشتر» أن يقتلوا «عليًا» كما قتلوا «عثمان» من
قبل، فتهيج الدنيا من جديد، ولا يقدر عليهم أحد، لكن هذا الاقتراح
لم يعجب «ابن سبأ»، فهو يريد أن يدخل الأمة كلها فى حرب طاحنة،
لا أن يقتل فرد واحد وإن كان خليفة المسلمين، فأمرهم بشن هجوم
فى ظلام الليل على جيش «عائشة» و «طلحة» و «الزبير»، بدون علم
الإمام «على»، فاستجابوا لرأيه، وبينما الناس نائمون مطمئنون بعد
أن رأوا بوادر الصلح تلوح فى الأفق، إذا بهم يفاجئون بقعقعة
السلاح، وكانت هذه هى بداية حرب «الجمل» المشئومة التى راح
ضحيتها خيرة الصحابة «طلحة» و «الزبير» المبشران بالجنة، ونحو
عشرين ألفًا من المسلمين.
أسباب خروج عائشة ومن معها:
لم تكن أم المؤمنين «عائشة»، ولا «طلحة» ولا «الزبير» ولا أمير
المؤمنين «على» يريدون سفك الدماء، ولا يتصورون حدوث ذلك،
وكل ما دفع السيدة «عائشة» ومن معها إلى الخروج إنما هو
اقتناعهم بأن «عثمان» قُتل مظلومًا، وعليهم تقع مسئولية إقامة الحد
على قتلته، ولم يكونوا أبدًا معادين لعلى، أو معترضين على
خلافته، وقد رأينا ميلهم جميعًا إلى الصلح، لولا أن أتباع «ابن سبأ»
(السبئية) أفسدوا كل شىء وأشعلوا الحرب، ولقد ندمت السيدة
«عائشة» ندمًا شديدًا على ماحدث، وقالت: «والله لوددت أنى مت
قبل هذا اليوم بعشرين سنة».
وخلاصة القول أن تبعة هذه المأساة تقع على عاتق «السبئية»، فهم(1/138)
الذين أشعلوا الفتنة من البداية، وقتلوا خليفة المسلمين ظلمًا،
وأشعلوا حرب «الجمل»، أما الصحابة، فقد وصف «ابن خلدون»
موقفهم وصفًا دقيقًا، فقال: «وإذا نظرت بعين الإنصاف عذرت القوم
أجمعين، وعلمت أنها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمة»
معركة صفين:
بعد معركة «الجمل» توجه «على ابن أبى طالب» بجيش يبلغ عدده
نحو مائة ألف إلى «صفين»، واستعد «معاوية» لمقابلته بجيش يقاربه
فى العدد، ودارت بينهما معركة شرسة فى شهر صفر سنة (37هـ)
قُتِل فيها من الجانبين نحو سبعين ألفًا، خمسة وعشرين ألفًا من
جيش «على»، وخمسة وأربعين ألفًا من جيش «معاوية»، ولما رأى
الناس كثرة القتلى من الجانبين تنادوا يطلبون وقف القتال، فجعل
أهل «العراق» (جيش «على») يصيحون فى أهل الشام (جيش
«معاوية») قائلين: من لثغور «العراق» إن فنى أهل «العراق». ويرد
الآخرون: من لثغور الشام إن فنى أهل الشام. ومن هنا جاءت فكرة
التحكيم.
التحكيم:
رفع جيش «معاوية» المصاحف للاحتكام إليها، ووقف القتال فورًا،
بدلا من سفك الدماء، وكانت فكرة التحكيم من عند «عمرو بن
العاص»، وقد قبلها الطرفان، وأوقفت الحرب، بعد أن فزع الناس
لكثرة عدد القتلى.
أوقفت الحرب، وطلب من «على» و «معاوية» أن ينيب كل منهما
شخصًا يتفاوض باسمه، للفصل فى القضايا محل الخلاف، فأناب
«معاوية» «عمرو بن العاص»، وأناب «على» «أبا موسى الأشعرى»
على كره منه وذلك فى شهر صفر (37هـ) وكان «على» قد حاول أن
ينيب عنه «عبدالله بن عباس»، لكن أنصاره، وبخاصة من أبناء
«اليمن» بزعامة «الأشعث بن قيس»، رفضوا ذلك بحجة عصبية،
وأعلنوها صراحة، كيف يكون الخلاف بين رجلين من «قريش»، ثم
يكون الحكمان رجلين من «قريش» أيضًا، لقد حسدوا قريشًا على
زعامتها للدولة الإسلامية التى استحقتها بسابقتها فى الإسلام، لا
بنسبها فقط.
واتفق على أن يأخذ الطرفان مهلة مدتها ستة أشهر، تهدأ فيها(1/139)
النفوس، ويجتمع الحكمان للتباحث والوصول إلى حل، وبعد مفاوضات
طويلة وصل الحكمان إلى نتيجة رأياها أفضل الحلول، وهى عزل
«على» -رضى الله عنه- عن الخلافة، ورد الأمر إلى الأمة تختار من
تشاء، أما التصرف العملى فى إدارة البلاد التى كانت تحت يد كل من
الرجلين المتحاربين، فيبقى كما كان: «على» يتصرف فى البلاد التى
تحت حكمه (وهى كل الدولة الإسلامية عدا الشام) و «معاوية» يتصرف
فى البلاد التى تحت حكمه (الشام).
موقف على وأنصاره من التحكيم:
اجتهد الحكمان فيما توصلا إليه، وأعلناه على الناس، غير أن
«عليًّا» - رضى الله عنه - لم يقبل تلك النتيجة، واعتبر الحكمين قد
تجاوزا حدودهما؛ لأن الخلاف لم يكن على منصب الخلافة، وإنما على
إقامة الحد على قتلة «عثمان»، وبيعة «معاوية» له، أيهما يسبق
الآخر، ولذلك عدَّ نفسه فى حل من هذه النتيجة، فعادت الأمور إلى ما
كانت عليه قبل التحكيم، أى إلى حالة الحرب.
ظهور الخوارج:
حاول «على» أن يدعو أنصاره إلى حرب «معاوية» من جديد لكنهم
كانوا قد ملوا القتال، وتقاعسوا عنه، بل إنهم انقسموا إلى «شيعة»
وافقوه على ماصنع «وخوارج» اعتبروا التحكيم كان خاطئًا من
أساسه، مع أنهم هم الذين فرضوه عليه، ثم تجاوزوا ذلك إلى ما هو
أكثر تطرفًا، فاتهموا «عليًّا» بالكفر، لأنه حكَّم الرجال فى القرآن،
وصاغوا شعارًا أخذوا يرددونه «الحكم لله لا لك يا على»، وكان هو
يقول لهم: «كلمة حق أريد بها باطل»، وطالبوه بأن يعلن كفره،
ويتوب ويسلم من جديد، حتى يعودوا إليه ويقاتلوا معه، فإذا لم يفعل
فسوف يقاتلونه.
ولا يمكن لمسلم أن يتصور كيف يُكفَّر رجل من صحابة رسول الله
المبشرين بالجنة، وممن رضى الله عنهم تحت الشجرة فى «بيعة
الرضوان»، وإزاء هذا التطرف من «الخوارج» اضطر الإمام أن يحاربهم
فى معركة شهيرة تُسمى معركة «النهروان» بالقرب من «الكوفة»،
وبعدها لم يستطع أن يجمع شمل أنصاره لقتال «معاوية» من جديد(1/140)
كما كان يريد، بل أجبرته الظروف على التفاهم والاتفاق معه.
الاتفاق بين على ومعاوية:
بعد انقسام جبهة «على» إلى «شيعة» و «خوارج» ازداد موقفه
ضعفًا؛ لأن صراعه مع «الخوارج» كبده متاعب جسيمة، وفى الوقت
نفسه كان موقف «معاوية» يزداد قوة، وبخاصة بعد أن استطاع
الاستيلاء على «مصر» سنة (38هـ)، بجيش قاده فاتحها الأول «عمرو
بن العاص»، ونشر قوات له فى أطراف «العراق»، وضم «اليمن» إليه،
وأصبحت دولته تتسع بمرور الزمن، فى الوقت الذى تضيق فيه دولة
«على».
وانتهى الأمر بأن جرت بينهما مفاوضات طويلة، اتفقا على وضع
الحرب بينهما وتكون لعلى «العراق» وبلاد فارس ولمعاوية الشام فلا
يدخل أحدهما على صاحبه فى عمله بجيش ولا غارة .. وتراضيا على
ذلك» .. وهكذا أجبرت الظروف التى تكون أحيانًا أقوى من الرجال
«على بن أبى طالب» أن يصالح «معاوية»، ويسلم له بنصف الدولة
الإسلامية تقريبًا، يحكمها حكمًا مستقلا، وهو الذى رفض فى بادئ
الأمر إبقاءه واليًا على الشام وحدها يأتمر بأمره، وينتهى بنهيه.
إدارة الدولة وتثبيت الفتوحات فى عهده:
على الرغم من الظروف الصعبة التى واجهت الإمام «عليًّا» -رضى الله
عنه- فإنه أدار الدولة باقتدار وعدالة ونزاهة وتجرد، ولم يقصر فى
شأن من شئونها، واتخذ من «الكوفة» عاصمة لدولته منذ أن خرج من
«المدينة» إلى «البصرة» وبعد معركة «الجمل»، وظل يحكم منها إلى
أن لقى الله، وعهد بإدارة بقية أجزاء دولته إلى أقرب الناس إليه،
وأخلصهم له، فجعل «عبدالله بن عباس» واليًا على «البصرة» وأخاه
«عبيد الله بن عباس» واليًا على «اليمن»، وأخاهما الثالث «قثم بن
عباس» على «مكة» و «الطائف»، وعزل «قيس بن سعد» عن «مصر»،
وولى مكانه «محمد بن أبى بكر الصديق».
ولا لوم على «عثمان» و «على» إذا وليا أهل قرابتهما؛ لأن كل واحد
منهما اجتهد لمصلحة الأمة، وكان أمينًا عليها، فعهد بإدارة الدولة(1/141)
إلى من رأى أنهم ينفذون سياسته، ولم يولِّ أى منهما أحدًا محاباة
أو لقرابة.
ولم تشغل الإمام «عليًّا» مشكلات الدولة الداخلية عن التصدى
لمحاولات الانتقاض التى حدثت فى بلاد فارس، فقد حاول الفرس
تكرار ما فعلوه بعد استشهاد «عمر بن الخطاب»، فأرسل إليهم
«زياد بن أبيه» فى جمع كثير، «فوطئ بهم أهل فارس، وكانت قد
اضطرمت، فلم يزل يبعث إلى رءوسهم، يعد من ينصره ويعينه،
ويخوّف من امتنع عليه، وضرب بعضهم ببعض، فدل بعضهم على
عورة بعض، وهربت طائفة، وأقامت طائفة، فقتل بعضهم بعضًا،
وصفت له فارس، فلم يلقَ منهم جمعًا ولا حربًا».
أما الروم فلم يتحركوا؛ لأن الإمبراطور «قنسطانز» لما عرض عليه
بعض قواده أن ينتهزوا فرصة الحروب التى جرت بين «على»
وأصحاب «الجمل»، وبينه وبين «معاوية»، ويغيروا من جديد على
«مصر» و «الشام»، رفض الإمبراطور معللا ذلك بأن غزوه لمصر
والشام سيجعل المسلمين يتصالحون ويتحدون ويقاتلوننا جميعًا، ولن
نقوى عليهم، فخير لنا أن نتركهم يقتل بعضهم بعضًا حتى يضعف
شأنهم.
استشهاد على رضى الله عنه:
جاءت نهاية الإمام «على بن أبى طالب» على يد «الخوارج»، أنصاره
السابقين، الذين بلغ بهم الغلو والتطرف حدًا اعتبروا فيه «عليًّا»
و «معاوية» و «عمرو بن العاص» أئمة ضلالة، وحمَّلوهم مسئولية ما
حدث، وقرروا قتل الثلاثة جميعًا، واتفقوا أن يتم التنفيذ فى وقت
واحد، هو فجر اليوم السابع عشر من شهر رمضان سنة (40هـ)؛ تيمنًا
بذكرى معركة «بدر» حسب تصور نفوسهم المريضة وعقولهم
الفاسدة، وانتدبوا ثلاثة للقيام بهذه المهمة، هم «عبدالرحمن بن
ملجم»، و «البرك بن عبدالله»، و «عمرو بن بكر»، على أن يذهب الأول
إلى «الكوفة» لقتل «على»، والثانى إلى «دمشق» لقتل «معاوية»،
والثالث إلى «مصر» لقتل «عمرو بن العاص».
وشاءت إرادة الله - تعالى - أن ينجو «معاوية» و «عمرو» من القتل،
وأن تكون الشهادة من نصيب «على»، حيث ضربه «عبدالرحمن بن(1/142)
ملجم» بسيف مسموم فى جبهته، فشقها فمات من أثر الضربة بعد
وقت يسير، بعد أن قضى أربع سنوات وبضعة شهور، لم يذق فيها
طعم الراحة، وحاصرته المشكلات والمتاعب، وأنهكته الحروب من كل
جانب.
خلافة الحسن بن على: (40 - 41هـ)
وبعد وفاة الإمام «على» بايع أنصاره ابنه «الحسن»، وكان «جندب
بن عبد الله» قد دخل على الخليفة بعد طعنه وتيقن ألا أمل فى حياته،
وسأله: «يا أمير المؤمنين إن فقدناك - ولا نفقدك - أنبايع للحسن؟
فقال: ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر»، ولم يوصِ لأحد من بعده، بل
قال لهم: «ولكن أدعو الله - تعالى- أن يجمعكم بعدى على خيركم
كما جمعنا بعد نبينا على خيرنا» -يقصد أبا بكر-، مرسخًا بذلك
قاعدة الشورى التى اتُبِعَت فى بيعته هو وبيعة الثلاثة الراشدين من
قبله.
أراد أنصار «الحسن» أن يتأهبوا لقتال «معاوية» من جديد، لكنه
رفض، ورأى عدم جدوى ذلك، بل إنه وقف ضد فكرة اقتتال
المسلمين من البداية.
راسل «الحسن» «معاوية» بشأن الصلح، فسر به سرورًا عظيمًا،
وجاء إلى «الكوفة» فى شهر ربيع الأول سنة (41هـ)، بعد ستة
أشهر من خلافة «الحسن»، وبايعه «الحسن» و «الحسين»، وتبعهما
الناس، وبهذا قامت الدولة الأموية رسميًّا، وأصبح «معاوية» خليفة
للأمة الإسلامية كلها، ولُقب لأول مرة بأمير المؤمنين، وكان يلقب قبل
ذلك بالأمير فقط.
استبشر المسلمون خيرًا بتلك المصالحة، وحمدوا الله على انتهاء
الفتنة وسفك الدماء، وسمُّوا ذلك العام «عام الجماعة»، وترك صنيع
«الحسن» صدى طيبًا عند جمهور المسلمين، وأثنى عليه كثير من
علماء أهل السنة، ورأوا فيما فعل تحقيقًا لنبوءة جده محمد - صلى
الله عليه وسلم -، الذى قال «ابنى هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين
فئتين عظيمتين من المسلمين».(1/143)
- المراجع:
* بن الأثير (عز الدين): الكامل في التاريخ - دار الكتب العلمية بيروت - الطبعة الأولي 1987م
* جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ـ جامعة بغداد ـ الطبعة الثانية ـ 1993م
* بن حجر العسقلاني (أحمد بن علي): الإصابة في تمييز الصحابة ـ دار الجبل ـ بيروت ـ الطبعة الأولي ـ 1992م
* بن حجر العسقلاني (أحمد بن علي): فتح الباري بشرح صحيح البخاري - المكتبة السلفية ـ القاهرة ـ الطبعة الثالثة ـ 1407م
* سليمان الطماوي: عمر بن الخطاب وأصول السياسة والإدارة الحديثة ـ دار الفكر العربي ـ القاهرة ـ بدون تاريخ
* السيد سابق: فقه السنة ـ دار الريان للتراث ـ القاهرة ـ الطبعة الأولي ـ 1988م
* السيوطي (جلال الدين): تاريخ الخلفاء ـ دار الفكر العربي ـ القاهرة ـ بدون تاريخ
* الصالحي (محمد بن يوسف): سبيل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد ـ الناشر: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ـ القاهرة ـ 1413هـ = 1993م
* الطبري (محمد بن جرير): تاريخ الطبري ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ الطبعة الثانية ـ 1418 هـ ـ 1998 م
* عباس محمود العقاد: عبقرية عمر ـ دار نهضة مصر ـ القاهرة ـ بدون تاريخ
* بن عبد البر (يوسف بن عبد الله): الدرر في اختصار المغازي والسير ـ دار المعارف ـ الطبعة الثانية ـ 1983م
* بن عبد الحكم (أبو القاسم عبد الرحمن): فتوح مصر وأخبارها ـ نشره وصححه: هنري ماسية ـ القاهرة ـ 1914م
* عبد الحي الكتاني: التراتيب الإدارية أو نظام الحكومة النبوية ـ دار الكتاب العربي ـ بدون تاريخ
* بن كثير (إسماعيل بن عمر): البداية والنهاية ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت - الطبعة الرابعة ـ 1408هـ = 1988م
* محمد بن الحسن الشيباني: كتاب السير الكبير ـ مطبعة شركة الإعلانات الشرقية ـ القاهرة ـ 1971م
* محمد حسين هيكل: الفاروق عمر ـ دار المعارف القاهرة ـ بدون تاريخ(1/144)
* محمد أبو زهرة: خاتم النبيين ـ دار الفكر العربي ـ القاهرة ـ الطبعة الأولي ـ 1973م
* محمد أبو شهبه: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة ـ دار القلم ـ دمشق ـ الطبعة الأولي ـ 1988م
* محمد صادق عرجون: محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم منهج ورسالة ـ دار القلم ـ دمشق ـ الطبعة الأولي 1405 هـ = 1985م
* محمد بن عبد الله الأردي: فتوح الشام ـ تحقيق عبد المنعم عبدالله عامر ـ مؤسسة سجل العرب ـ 1970م(1/145)
الجزء الثاني
العصر الأموي
تأليف:
أ. د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر
الفصل الأول
*قيام الخلافة الأموية وتطورها
قامت الخلافة الأموية رسميا فى شهر ربيع الأول من سنة (41هـ)، بعد
أن تنازل (الحسن بن على بن أبى طالب) - رضى الله عنه - عن
الخلافة لمعاوية بن أبى سفيان -رضى الله عنه - وبايعه هو وأخوه
(الحسين)، وتبعهما الناس فى (الكوفة)، وأصبح بذلك (معاوية) خليفة
للمسلمين وحده، ولُقِّب بأمير المؤمنين، وكان قبل ذلك يلقَّب بالأمير
فقط.
واستبشر المسلمون خيرًا بهذا التطور، وحمدوا الله - تعالى - على
انتهاء الفتن والحروب، وسمُّوا ذلك العام عام الجماعة؛ حيث عادت
إلى الأمة الإسلامية وحدتها، واجتمع شملها على خليفة واحد، بعد
الفرقة والنزاع، ولقى ما فعله (الحسن بن على) كل تقدير وإجلال من
جمهور المسلمين، وأثنى عليه كثير من العلماء، ورأوا فيما أقدم
عليه تحقيقًا لنبوءة جده (محمد) حين قال: (إن ابنى هذا سيد، ولعل
الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين - صحيح البخارى
تطور نظام الخلافة فى العصر الأموى:
عرفنا فيما سبق كيف قامت الخلافة الإسلامية عقب وفاة الرسول
- صلى الله عليه وسلم - وكيف كان يتم اختيار الخليفة فى دولة
الراشدين بالبيعة المباشرة من المسلمين لخليفتهم، بعد أن يرشحه
عدد من الصحابة، كما حدث فى خلافة الصديق، حيث بايعه عدد من
الصحابة فى (سقيفة بنى ساعدة) بيعة خاصة، كانت بمثابة ترشيح
له لمنصب الخلافة، ثم جاءت البيعة العامة له فى مسجد الرسول - صلى
الله عليه وسلم - - بعد مواراة جسده الطاهر تحت الثرى - لتزكى ذلك
الترشيح وتوافق عليه، ومن ثم أصبح (أبو بكر الصديق) أول خليفة
لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى حكم الدولة الإسلامية، باختيار
حُر من المسلمين.
وعندما مرض (أبو بكر) -رضى الله عنه - مرض الموت قال للمسلمين:
(إنه قد نزل بى ما ترون - يعنى المرض الشديد - ولا أظننى إلا ميِّتًا
لما بى من المرض، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتى، وحلَّ عنكم(2/1)
عقدتى، ورد عليكم أمركم، فأمِّروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن
أمرتم فى حياة منِّى كان أجدر ألا تختلفوا بعدى).
وتصرُّف (أبى بكر الصديق) دليل ساطع وبرهان قوى على أن اختيار
الحاكم من حق الأمة وحدها، لكن الصحابة فوَّضوه فى اختيار خلف
له، وألحُّوا عليه فى ذلك، فقبل تكليفهم، ووقع اختياره على (عمر
بن الخطاب) -رضى الله عنه - لكفاءته وقدرته وسابقته فى الإسلام،
ولم يكتفِ (الصديق) باختياره هو لعمر بن الخطاب، بل استطلع آراء
كبار الصحابة حول مرشحه، مع أنه مفوض من الصحابة فى اختيار
خليفة لهم، ويعلم بأن (عمر) هو أفضل الصحابة بعده، وأصلحهم
لتولِّى الخلافة، لكنه آثر ألا ينفرد وحده باختيار خليفة له.
ولما اطمأنت نفسه إلى أن الغالبية ممن شاورهم تؤيد اختيار (عمر)،
جمع الناس حوله، وحدَّثهم قائلا: (أترضون بمن أستخلف عليكم،
فإنى والله ما آلوت من جهد الرأى، ولا ولَّيت ذا قرابة، وإنى قد
استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا:
سمعنا وأطعنا).
ولم تنعقد بيعة (عمر) ليصبح خليفة إلا بعد وفاة (أبى بكر)، وبمبايعة
الناس له بيعة عامة، ولو لم يرضَ الناس بترشيح (أبى بكر)، ورفضوا
مبايعة (عمر)، ما كان لعهد (أبى بكر الصديق) عليهم حجة أو سلطان.
وجاء اختيار (عثمان بن عفان) - رضى الله عنه - ببيعة عامة حرَّة من
بين الستة الذين رشحهم (عمر بن الخطاب) -رضى الله عنه - ليختاروا
واحدًا منهم، وقد حصرها فيهم؛ لأنهم بقية العشرة المبشرين بالجنة،
والذين تُوفِّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ.
ولما قُتل (عثمان بن عفان) شهيدًا، ألحَّ الصحابة على (علىِّ بن أبى
طالب) أن يقبل الخلافة، بعد أن سادت الفوضى مدينة رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، وامتنع كبار الصحابة عن قبول الخلافة، فقبل
علىّ الخلافة؛ لينقذ الأمة من الفتن، وبايعه معظمهم، ولا جدال فى أن
قيام علىّ بالأمر فى ذلك الوقت العصيب كان تضحية تنطوى على(2/2)
شجاعة حيث تحمل المسئولية فى أصعب الظروف وأدقها.
وكان متوقعًا أن تنهى بيعته بالخلافة حالة الفوضى التى سادت
البلاد بعد مقتل (عثمان)، لكن الأحداث تطورت سريعًا من سيئ إلى
أسوأ، وانتهى به الحال أن قُتل شهيدًا، وقبل وفاته استشاره
أصحابه فى بيعة ابنه (الحسن) بعده، فقال لهم: (لا آمركم ولا
أنهاكم، أنتم أبصر)، لكنهم بايعوا (الحسن)، الذى تنازل عن الخلافة
لمعاوية كما ذكرنا.
وخلاصة ما سبق أن طريقة اختيار الخليفة فى عهد الراشدين كانت
تتم ببيعة حرة وعامة بعد ترشيح شخص أو أكثر، وأن ترشيح
الخليفة السابق لم يكن ملزمًا للأمة، بل لها أن توافق أو تعترض،
وهذا هو نظام الشورى فى الإسلام الذى يشبه فى مصطلحات العصر
الحديث النظام الديمقراطى.
ولم يفكر أى واحد من الخلفاء الراشدين فى أن يعهد بالأمر إلى أحد
من أبنائه أو أقربائه، حرصًا منهم على إبعاد فكرة الوراثة عن نظام
الحكم الإسلامى إبعادًا تاما، وقد وضَّح (أبو بكر الصديق) هذا المعنى
عندما رشَّح (عمر) فى قوله: (أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإنى
والله ما آلوت من جهد الرأى، ولا وليت ذا قرابة)، كما استبعد (عمر
بن الخطاب) ابنه (عبدالله) تمامًا من الترشيح، بل استبعد ابن عمه
(سعيد بن زيد) أيضًا من الترشيح مع أهل الشورى؛ دفعًا لشبهة
القرابة مع أن الشروط تنطبق عليه.
ولم يُؤثَر عن (عثمان) شىء من ذلك، وترك (على بن أبى طالب) الأمر
للأمة لاختيار من ترضاه، ورفض ترشيح ابنه (الحسن) للخلافة أو
الوصاية له بالبيعة.
أسلوب اختيار الخليفة الأموى:
لم يكن أحد يظن أن بيعة المسلمين لمعاوية بن أبى سفيان ستكون
إيذانًا بتأسيس دولة أموية وراثية وكان المسلمون قد استبشروا خيرًا
بهذه البيعة بعد فترة من الفتن والحروب، حتى إن بعض الصحابة
الذين كانوا قد توقفوا فى بيعة (على) - رضى الله عنه - بايعوا
(معاوية)، دعمًا لوحدة الأُمة ولمِّ شملها، مثل: (سعد بن أبى وقاص)
و (عبدالله بن عمر).(2/3)
وربما توقَّع الناس أن (معاوية) سيحذو حذو من سبقه من الخلفاء
الراشدين ويترك الأمر شورى للمسلمين، يختارون للخلافة من بعده من
يرونه أهلا لتولى تبعات هذا المنصب الجليل، أو سيجتهد فى اختيار
شخص يراه أصلح الناس لتولِّى منصب الخلافة، ويكون بعيدًا عن
قرابته كما فعل الخلفاء قبله، لكن (معاوية) فاجأ الأمة الإسلامية
بترشيح ابنه (يزيد) للخلافة من بعده، وبدأ فى أخذ البيعة له فى
حياته، بدعم من أهل الشام، ولما نجح فى ذلك لم يكن صعبًا عليه أن
ينتزع البيعة لابنه من بقية الأقطار الإسلامية، بالترغيب تارة
وبالترهيب تارة أخرى.
ولم يعارض (معاويةَ) فى خطواته هذه سوى أهل (الحجاز)، الذين
رأوا فى عمله خروجًا على ما ألفه المسلمون فى اختيار خليفتهم
ببيعة حرة قائمة على الشورى، وتركزت المعارضة فى ثلاثة من
أبناء كبار الصحابة، هم (الحسين بن على بن أبى طالب)، و (عبدالله
بن الزبير)، و (عبدالله بن عمر).
وقد تطورت معارضة الأوَّلين إلى خروج (الحسين) على (يزيد) بعد
موت (معاوية)، واستشهاده فى موقعة (كربلاء) المشهورة سنة
(61هـ)، وإلى دعوة (عبدالله بن الزبير) بالخلافة لنفسه بعد موت (يزيد
بن معاوية) سنة (64هـ)، ثم دخوله فى صراع مع الأمويين، انتهى
بمقتله سنة (73هـ)، بعد أن دامت خلافته تسع سنوات، أمَّا (عبدالله
بن عمر)، فقد بايع (يزيد) حفاظًا على وحدة المسلمين، بعد أن رأى
أن استمراره فى معارضته لن يكون فى مصلحة الأمة الإسلامية.
وقد دافع عن عمل (معاوية) كثير من المؤرخين، ورأوا فى صنيعه
عملا ضروريا للحفاظ على وحدة الأمة، واجتناب العودة إلى الحروب
الأهلية، ويقف على رأس هذا الفريق المؤرخ الكبير (عبدالرحمن بن
خلدون) مؤيِّدًا إقدام (معاوية) على هذه الخطوة بقوله: (والذى دعا
معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه إنما هو مراعاة المصلحة
فى اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم، باتفاق أهل الحل والعقد حينئذٍ(2/4)
من بنى أمية؛ إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش
- أى أكثرهم قوة - وأهل الحل أجمع، وأهل الغلب منهم، فآثره
بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى
المفضول؛ حرصًا على الاتفاق واجتماع الأهواء، الذى شأنه أهم عند
الشارع، لا يظن بمعاوية غير هذا، فعدالته وصحبته مانعة من سوى
ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عليه، دليلٌ على انتفاء
الريب فيه، فليسوا ممن يأخذهم فى الحق هوادة، وليس معاوية ممن
تأخذه العزة فى قبول الحق، فإنهم كلهم أجلُّ من ذلك وعدالتهم
مانعة).
ويدعم (ابن خلدون) رأيه هذا بأن ولاية العهد من الخليفة القائم إلى
شخص يتولى الخلافة بعده أمر جائز لا حرج فيه، فيقول: (قد عرف
ذلك من الشرع بإجماع الأمة على جوازه وانعقاده، إذ وقع من أبى
بكر - رضى الله عنه - لعمر بن الخطاب بمحضر من الصحابة، وأجازوه
وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضى الله عنه وعنهم).
وما قاله (ابن خلدون) يمكن الرد عليه بأن (أبا بكر) عهد إلى (عمر)؛
لأنه رآه أصلح الصحابة لتولى الخلافة بعده وتحمُّل تبعاتها، وقد كان
كذلك بالفعل، ولم تكن تربطه به صلة قرابة قريبة، وقد أوضح ذلك
بقوله: (أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإنى والله ما آلوت من جهد
الرأى، ولا ولَّيت ذا قرابة)، كما أن (عمر) لم يصبح خليفة بترشيح
(أبى بكر الصديق) واختياره له فحسب، بل برضى المسلمين وبيعتهم
له.
ولو أن (معاوية) عهد إلى أحدٍ غير ابنه، واجتهد فى اختيار من هم
أصلح للخلافة بعده، ما اعترض عليه أحد، ولحقَّق الغرض الذى قصده
(ابن خلدون) من ولاية العهد، وهو سد أبواب الخلاف بين المسلمين،
ومن ثم فإن الاعتراضات على تصرف (معاوية) جاءت من اختياره ابنه
لولاية العهد دون سواه، لا من فكرة ولاية العهد نفسها.
وأياً ما كان الأمر فإن الخلافة حُصِرت فى الأسرة الأموية، يتوارثها
الأبناء والإخوة، ولم يكتفِ الخليفة منهم بتولية العهد لواحد فقط، بل(2/5)
درجوا على تولية أكثر من ولى للعهد، وكان (مروان بن الحكم)
مؤسس الفرع المروانى أول من بدأ هذا التقليد، فقد عهد إلى ابنه
(عبدالملك) ثم (عبدالعزيز) بولاية العهد، وقد تابعه فى هذا كل من
جاء بعده حتى آخر دولتهم، وقد جرَّ هذا الأمر عليهم المتاعب، وأوقد
نار الفتنة والصراع بين أبناء الأسرة الأموية، مما كان له أكبر الأثر
فى تدهور الدولة والإسراع بسقوطها فى نهاية الأمر.
وعلى الرغم من استقرار الخلافة بنظام التوريث فإن الأمويين حافظوا
على نظام البيعة من حيث الشكل فكان الخليفة القائم يعهد من بعده
بولاية الأمر إلى ابنه أو أخيه، ثم تؤخذ البيعة من الناس لمن صدر له
كتاب العهد فى حياة الخليفة القائم، ثم تجدد له بعد وفاته، ومغزى
هذا أنهم كانوا على يقين أن مجرد العهد ليس ملزمًا شرعًا للناس، بل
لابد من البيعة العامة.
الفتوحات الإسلامية فى العصر الأموى:
شهد العصر الأموى أوسع حركات الفتح الإسلامى وأكثرها نشاطًا
فى التاريخ الإسلامى كله بعد فتوحات الخلفاء الراشدين، التى شملت
(العراق) و (بلاد فارس) كلها، و (مصر) والشام، ثم توقفت الفتوحات
الإسلامية، أو كادت تتوقف بسبب الفتن والحروب الأهلية التى حدثت
بين المسلمين.
وقد استأنف المسلمون فتوحاتهم بعد اجتماع شملهم على (معاوية بن
أبى سفيان) وتوحدهم تحت رايته فى عام الجماعة سنة (41هـ)،
وحقق الأمويون أعظم إنجازاتهم على الإطلاق فى ذلك الميدان
العظيم، وامتدت فتوحاتهم إلى مناطق عديدة فى قارات العالم القديم
(آسيا - إفريقيا - أوربا) ففتحوا فى عهد (الوليد بن عبدالملك) بلاد (ما
وراء النهر) (آسيا الوسطى) وإقليم (السند) فى (شبه القارة الهندية)،
واستكملوا فتح الشمال الإفريقى كله من حدود (مصر) الغربية إلى
(المحيط الأطلسى)، ثم عبروا (مضيق جبل طارق) إلى القارة الأوربية،
ليفتحوا (الأندلس)، و (جنوبى فرنسا)، كما استولوا على معظم الجزر(2/6)
فى (شرقى البحر المتوسط) وشرقيه وجنوبيه، ثم واصلوا ضغطهم
على مدينة (القسطنطينية)، عاصمة الدولة البيزنطية، وحاصروها أكثر
من مرَّة.
التيارات والأحزاب السياسية والدينية:
شغلت الدولة الأموية فى التاريخ الإسلامى إحدى وتسعين سنة (41 -
132هـ)، وامتدت حدودها من حدود (الصين) شرقًا إلى (الأندلس) غربًا،
ومن بحر (قزوين) شمالا إلى (المحيط الهندى) جنوبًا، وعمل خلفاؤها
فى جد ومثابرة وحسن سياسة على نشر الإسلام فى تلك الرقعة
الكبيرة، ونمت الحضارة الإسلامية ونهضت فى عهدهم.
وهذه الأعمال تشهد للأمويين بدورهم البارز فى التاريخ الإسلامى،
وتخفف كثيرًا من النقد الذى وجه إليهم، ومما يزيد المرء إعجابًا
وتقديرًا لإنجازهم أنهم قاموا بتلك الأعمال الجليلة، وهم يصارعون
أعداء أشداء من تيارات وأحزاب سياسية ودينية، لم يتركوا فرصة
للثورة عليهم إلا انتهزوها.
من تلك الأحزاب من تذرَّع بالدين يحارب به، ويتَّهم (بنى أمية) بالخروج
على الدين وقواعده، وأنهم مغتصبون للسلطة، كالخوارج والشيعة.
وهناك شخصيات أعلنت التمرد والثورة على (بنى أمية) لأهداف
شخصية، ولتحقيق طموحات ذاتية، والوصول إلى الحكم بأى ثمن،
مثل (المختار بن أبى عبيد الثقفى)، و (عبدالرحمن بن محمد بن
الأشعث)، و (يزيد بن المهلب).
الخوارج:
كان الخوارج من أنصار (على بن أبى طالب)، وشهدوا معه معركتى
(الجمل) و (صفين)، ثم انشقوا عليه لما قبل التحكيم بينه وبين
(معاوية)، فسمَوا الخوارج، لخروجهم على إمامهم، ولما بالغوا
وتطرَّفوا فى عدائهم له، وعاثوا فى الأرض فسادًا، اضطر إلى
مقاتلتهم فى معركة (النهروان)، ثم عادوا (بنى أمية) ودخلوا فى
صراع طويل معهم.
وكانوا فى مبدأ أمرهم فرقة واحدة، يدور خلافهم مع بقية الأمة حول
الخلافة ومَن أحق بها، ومجمل أمرهم أن الخلافة حق لمن يصلح لها
من المسلمين، وتتوافر فيه شروطها من العلم والأمانة والشجاعة،(2/7)
وليس من الضرورى أن يكون عربيا فضلا عن أن يكون قرشيا.
ولو أنهم حصروا خلافهم مع غيرهم فى جدل وحوار نظرى يقوم على
مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل لما كان فى الأمر شىء، ولكن
الخطر كل الخطر جاء من لجوئهم إلى العنف واستخدام السيف فى
فرض آرائهم، وقد بدأ مع (على بن أبى طالب) مما جعل خصومهم
يواجهون القوة بالقوة، وتكبَّدت الأمة الإسلامية عشرات الآلاف من
الضحايا من أبنائها نتيجة هذه الخصومة العنيفة.
وظل الخوارج فرقة واحدة، تتبنَّى أفكارًا ومبادئ واحدة حتى وفاة
(يزيد بن معاوية) سنة (64هـ)، ثم بدأ الشقاق والخلاف يدب بينهم هم
أنفسهم، فانقسموا فرقًا وأحزابًا، حتى وصل عددهم إلى ثلاثين
فرقة، ثم تطور تفكيرهم بمرور الزمن، وبدءوا يخوضون فى قضايا
تدخل فى صلب الدين، مثل مباحثهم فى مرتكب الكبيرة هل مؤمن أو
كافر، وغير ذلك من القضايا، وأشهر فرق الخوارج التى ناصبت
الدولة الأموية العداء وشنت عليها الحرب، هى:
الأزارقة:
هم أتباع (نافع بن الأزرق)، أحد زعماء الخوارج الكبار، وهى تعد
أشد فرق الخوارج تطرفًا فى أفكارها السياسية والدينية، فهى
ترى الخروج على الخليفة الذى يخالفها فى آرائها وقتاله، وأتباعها
يتبرءون ممن لا يوافقهم على ذلك، ويَعدُّونهم من القاعدين، ويكفرون
مرتكب الذنوب الكبيرة ويحكمون بخلوده فى النار، مخالفين فى ذلك
صريح القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالى:} إن الله لا يغفر أن يشرك
به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء {. [النساء: من 48]. ويبيحون دماء
مخالفيهم فى الرأى.
النجدات:
وينسبون إلى (نجدة بن عامر)، وهم أقل تطرفًا من (الأزارقة)؛ لأنهم
لا يقولون بكفر مرتكب الكبائر.
البيهسية:
وينسبون إلى زعيمهم (بيهس)، وهم أقل تطرفًا من (الأزارقة)، ويرون
أن مخالفيهم فى الرأى منافقون، تجرى عليهم أحكام المنافقين،
لكنهم يجيزون حوارهم، والتزاوج معهم، وميراثهم.
الصفرية:(2/8)
أتباع (زياد بن الأصفر)، وهم كذلك أقل تطرفًا من (الأزارقة)،
ومعتدلون فى أفكارهم.
الشيعة:
تعنى كلمة (الشيعة): الأهل والأتباع والأنصار، كما فى قوله - تعالى،
فى معرض حديثه عن (موسى)، عليه السلام -: (فاستغاثه الذى من
شيعته على الذى من عدوهـ). [القصص: من 15].
وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، بعضهم لبعض، غير أن هذه
الكلمة أصبحت علمًا على أنصار (على بن أبى طالب) -رضى الله عنه -
وذريته من بعده، فإذا قيل: إن فلانًا من الشيعة، عُرف أنه منهم، أو
قيل: فى مذهب الشيعة كذا، أى: عندهم.
وقد نشأ التشيع بسيطًا فى أول الأمر ثم تطور بمضى الزمن، وأصبح
مذهبًا دينيا وسياسيا، كما كان أتباعه فرقة واحدة، شأنهم فى ذلك
شأن الخوارج، ثم لم يلبثوا أن تفرعوا إلى فرق، مثل: (الإمامية الاثنا
عشرية)، و (الزيدية) و (الإسماعيلية).
ويخالف رأى الشيعة فى الخلافة جمهور الأمة الإسلامية التى ترى أن
الخلافة أمر من الأمور العامة، يفوض للأمة أمر البت فى شأنها،
وتختار من تراه الأصلح لدينها ودنياها لتولى منصب الخلافة.
أمَّا هم فيرون أن الإمامة ليست من المصالح العامة التى تفوَّض إلى
الأمة، بل هى ركن من أركان الإسلام، لا يجوز للنبى - صلى الله عليه
وسلم - إغفاله، ولا تفويض الأمة فيه، بل يجب عليه تعيين الإمام للأمة
بعده، وأن الإمام لابد أن يكون معصومًا من الكبائر والصغائر،
ويزعمون أن النبى - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، وعيَّن (على بن
أبى طالب)، وقد تعددت ثوراتهم المسلحة ضد الدولة الأموية طلبًا
للخلافة.
انتشار الإسلام فى العصر الأموى:
امتدت الفتوحات الإسلامية من حدود (الصين) إلى (الأندلس)، ومن (بحر
قزوين) إلى (المحيط الهندى)، وأدخلت فى الدولة الإسلامية شعوبًا
كثيرة، مختلفة فى الديانات والمذاهب واللغات والأجناس والثقافات
والعادات والتقاليد، ولم تكن تلك الفتوحات غزوًا عسكريا مستغلا(2/9)
للشعوب ناهبًا لثرواتها، وإنما كان فتحًا دينيا وثقافيا ولغويا،
فانتشر الإسلام فى البلاد المفتوحة بخطى حثيثة، وتغيرت أوضاعها
السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويمكن القول: إن هذا العالم الفسيح أصبح عالمًا إسلاميا واحدًا،
فسيادة المسلمين عليه لاتنازع، والإسلام هو الدين الغالب فى سماحة
ورحمة، والحاكم فى عدل، ولم تأخذ المسلمين نشوة النصر والغلبة،
التى قد تحملهم على الكبر والتعالى وإذلال الشعوب المغلوبة، بل
عاملوهم معاملة كريمة، وصانوا أرواحهم وأموالهم وعقائدهم،
وحفظوا عهودهم ومواثيقهم معهم، ووفوا بها فى صدق وإخلاص،
وأشركوا أبناءهم فى حكم بلادهم وإدارتها.
عوامل انتشار الإسلام:
أولا عالمية الإسلام:
لا جدال فى أن الإسلام دين عالمى، ورسالته للجنس البشرى كله؛
لقوله تعالى مخاطبًا نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -: {وما أرسلناك إلا
كافة للناس بشيرًا ونذيرًا}. [النبأ: 28].
وقال تعالى: {قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعًا}.
[الأعراف: 158].
وقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: (إن مثلى ومثل الأنبياء من قبلى
كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية،
فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وُضعت هذه
اللبنة؛ فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين). [صحيح البخارى].
وليس معنى عالمية الإسلام أن يُنشَر بالقوة وبحد السيف، كما يزعم
أعداء الإسلام، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمر النبى - صلى
الله عليه وسلم -.
- ثانيًا: التسامح:
تعامل المسلمون الفاتحون مع أبناء الشعوب المفتوحة بتسامح
ورحمة، وقد شهد بذلك غير المسلمين، فيقول (جوستاف لوبون): (لم
يعرف التاريخ فاتحًا أرضى من العرب).
وليس أدل على وجود هذه السياسة المتسامحة من رد (أبى عبيدة بن
الجراح) الجزية التى أخذها من أهل (حمص) إليهم، حين اضطر إلى
الانسحاب من (حمص) للدفاع عن (دمشق)، ولما سألوه فى دهشة عن(2/10)
سبب ذلك، قال لهم: (إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه بلغنا ما جُمِع لنا
من الجموع - يقصد الروم الذين تجمَّعوا للهجوم على دمشق- وإنكم قد
اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، فرددنا عليكم ما
أخذنا منكم).
فقال أهل (حمص): (لولايتكم وعدلكم أحب إلينا لحاكمنا فيه من الظلم
والغشم -يقصدون الحكم البيزنطى- وردَّكم الله إلينا سالمين، والله لو
كانوا هم ما ردُّوا علينا شيئًا).
- ثالثًا: إشراك أبناء البلاد المفتوحة فى إدارة بلادهم:
أدرك المسلمون أن سير الأمور فى البلاد المفتوحة سيرًا حسنًا،
وتحقيق مصالح أهلها يكمُن فى الأسلوب الإدارى الذى سيتبعونه
فى إدارة البلاد، ومن ثم لم يترددوا فى الاحتفاظ بالنظم الإدارية التى
وجدوها فى البلاد سواء التى كانت تابعة للدولة البيزنطية مثل (مصر)
و (الشام) و (شمالىّ إفريقيا)، أو التى كانت تابعة للفرس، مثل
(العراق) وبلاد فارس نفسها، ولم يكتفوا بذلك، بل طوروا من النظم ما
يرونه ضروريا، ليتفق مع دينهم ونظامهم السياسى والاجتماعى
القائم على أسس من الشريعة الإسلامية، وما يحقق الصالح العام
للدولة وللأمة.
وكان (عمر بن الخطاب) هو أول من سنَّ هذه السنة، فاقتبس نظام
الدواوين، الذى يشبه نظام الوزارات فى الدولة الحديثة من النظم
الفارسية والبيزنطية، ولم يجد غضاضة فى ذلك.
ولم يقف المسلمون عند حد الاستفادة من النظم الإدارية التى وجدوها
فى البلاد المفتوحة، بل أبقوا أيضًا على الجهاز الإدارى الذى يسيِّر
العمل، واحتفظوا لأنفسهم بالمناصب العليا كالإمارة، وقيادة الجيش
والقضاء والشرطة.
وإزاء هذه السياسة كان المجال رحبًا أمام أبناء البلاد المفتوحة
الذين لم يعتنقوا الإسلام للوصول إلى المناصب العليا فى الجهاز
الإدارى، التى كانوا محرومين من توليها فى ظل الحكومات السابقة
على الفتح الإسلامى، على حين كان الطريق مفتوحًا لمن يسلم منهم(2/11)
للوصول إلى مناصب الإمارة أو قيادة الجيوش، مثل (طارق بن زياد)
الذى كان من أصل بربرى، لكنه صار من كبار الفاتحين، وفى ذلك
يقول أحد الباحثين: (إن روح الإسلام الحقَّة هى التى حفَّزت العرب
إلى اتباع سياسة التسامح الدينى نحو المصريين .. أى أن الأقباط
أصبحوا يتمتعون بحرية تامة فى الدين، كما أصبح لهم نصيب كبير
فى إدارة بلادهم .. ولم يقتصر القبط على الأعمال الإدارية الصغيرة،
بل شقوا طريقهم إلى أعمال لها خطورتها، ففى ولاية عبد العزيز بن
مروان على مصر (65 - 85هـ) كان هناك كاتبان قبطيان لإدارة مصر،
واحد لمصر العليا - الصعيد - والآخر لمصر السفلى - الدلتا - بل أكثر من
ذلك فقد تولَّى ولاية الصعيد والٍ قبطى اسمه بطرس .. كما كان حاكم
مريوط قبطيا اسمه تاوناس).
ولم يحدث هذا فى (مصر) وحدها بل كان ذلك فى البلاد المفتوحة
كلها، ففى الشام - مقر الدولة الأموية - بقى أهم الدواوين وأخطرها،
وهو ديوان الخراج - الذى يمثل وزارة المالية فى الوقت الحاضر - فى
أيدى المسيحيين من أسرة (سرجيوس الرومى).
ونتيجة لهذه السياسولاية عبد العزيز بن مروان على مصر (65 - 85هـ)
كان هناك كاتبان قبطيان لإدارة مصر، واحد لمصر العليا - الصعيد -
والآخر لمصر السفلى - الدلتا - بل أكثر من ذلك فقد تولَّى ولاية
الصعيد والٍ قبطى اسمه بطرس .. كما كان حاكم مريوط قبطيا اسمه
تاوناس).
ولم يحدث هذا فى (مصر) وحدها بل كان ذلك فى البلاد المفتوحة
كلها، ففى الشام - مقر الدولة الأموية - بقى أهم الدواوين وأخطرها،
وهو ديوان الخراج - الذى يمثل وزارة المالية فى الوقت الحاضر - فى
أيدى المسيحيين من أسرة (سرجيوس الرومى).
ونتيجة لهذه السياسة شعر أهل الذمة - اليهود والنصارى - بالأمان
والاطمئنان، فأقبلوا على اعتناق الإسلام فى حرية تامة ودون إكراه.
- رابعا: الأوضاع الدينية فى البلاد المفتوحة:
أقبل كثير من أبناء البلاد المفتوحة على اعتناق الإسلام لبساطته(2/12)
وملاءمته للفطرة الإنسانية، ولعدم اقتناعهم بالأديان التى كانت
سائدة فى بلادهم، ومعظمها كانت ديانات وضعية وثنية
كالزرادشتية، و (البوذية)، و (المانوية) و (المزدكية)، حتى (اليهودية)
و (النصرانية) دخلها الزيف والتحريف والتعقيد، وأصبحت كل منهما
تستعصى على الفهم. يقول أحد الباحثين المسيحيين: (ومن المرجح
أن تأثير المسيحية فى السواد الأعظم من شعب مصر كان قليلا فى
القرن السابع - عند الفتح الإسلامى لها- وأن التعليقات النظرية التى
استغلها زعماؤهم فى إثارة شعور الكراهية والمقاومة فى وجه
الحكومة البيزنطية، كان يمكن أن يدركها عدد قليل جدا من الناس،
كما أن سرعة انتشار الإسلام قد تكون راجعة إلى عجز ديانة
كالديانة المسيحية، وعدم صلاحيتها للبقاء، أكثر من أن تكون راجعة
إلى الجهود الظاهرة التى قام بها الفاتحون لجذب الآهلين إلى
الإسلام).
- خامسًا: أثر سياسة الدولة الأموية فى انتشار الإسلام:
حافظ الأمويون على روح التسامح الإسلامى فى سياستهم للبلاد
المفتوحة إلى حد كبير، فالتزموا بنصوص المعاهدات وروحها التى
أعطيت لأهالى تلك البلاد، فلم ينكثوا عهدًا أو ينقضوا معاهدة، وإذا
حدث شىء من هذا فإن الدولة تسارع بتصحيح الخطأ، ولم تذكر
المصادر التاريخية سوى حدث واحد من هذا القبيل وقع فى العصر
الأموى، حين نقض (قتيبة بن مسلم) عهده مع أهل (سمرقند)، وكان
قد دخل مدينتهم بناءً على اتفاق معهم على أن يخرج منها بعد أن
يبنى فيها مسجدًا، لكنه لم يخرج منها ناقضًا اتفاقه معهم، فشكوا
إلى (عمر بن عبدالعزيز)، فأمر الوالى بأن يحقق فى المسألة
بإنصاف، فحكم القاضى المسلم بإخراج المسلمين من (سمرقند)، وأن
ينابزوا أهلها على سواء، فكرهوا القتال، وأقروا المسلمين على
البقاء فيها، وأسعدهم هذا المسلك من الحكومة الإسلامية التى لم
تفرق بين المسلم وغير المسلم فى العدل، فأقبلوا على اعتناق
الإسلام.
انتشار الإسلام فى الشام:(2/13)
كان معظم سكان الشام عند الفتح الإسلامى من العرب الذين هاجروا
من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام بعدة قرون، وأقاموا هناك
ممالك وإمارات، وإلى جانب هؤلاء كانت هناك أقليات من اليهود
والأرمن المسيحيين، والروم، والأكراد.
وقد وقف عرب الشام فى بداية الفتوحات الإسلامية فى عهد
الراشدين مع الروم ضد أبناء عمومتهم العرب الفاتحين، ظنا منهم
أنهم جاءوا إلى الشام لمزاحمتهم فيه، وأخذ أرضهم وأموالهم، لكنهم
حين فطنوا إلى أهداف المسلمين الرفيعة ورسالتهم السامية، القائمة
على العدل والحرية والمساواة، اطمأنت نفوسهم إلى الإسلام،
وأَنسوا إلى جانب المسلمين، وبخاصة بعد انتهاء المعارك ووضوح
نتائجها، وزوال سلطان الروم عنهم.
وقد أدَّى ذلك إلى مشاركة عرب الشام عربَ الجزيرة فى عقيدتهم
ومثلهم وتطلعهم للحياة، وبخاصة أنهم وجدوا أبواب العمل فى الدولة
الإسلامية مفتوحة أمامهم، فمن أسلم أصبح منهم، وربما تدفعه
مواهبه إلى الصفوف الأولى مع كبار القادة العظام، مثل (حسان بن
النعمان) الذى كان ينتمى إلى الأسرة الحاكمة فى الشام عند الفتح
الإسلامى، ومن بقى على مسيحيته شارك فى ميادين العمل الإدارى
والمالى.
وكان نشر الإسلام فى الشام موضع عناية المسلمين وهدفهم، منذ
الخطوات الأولى للفتح، فقد أرسل (يزيد بن أبى سفيان) إلى (عمر بن
الخطاب) يطلب معلمين من الصحابة، يعلمون الناس شرائع الإسلام
ويقرءونهم القرآن، فبعث إليه عددًا من كبار الصحابة، منهم: (عبادة
بن الصامت)، و (أبو الدرداء)، و (معاذ بن جبل)، رضى الله عنهم،
وبدأت القبائل العربية التى كانت تقطن الشام قبل الفتح الإسلامى
تقبل على الإسلام عن اختيار وفى حرية تامة، فأسلمت أغلبية قبيلة
(الغساسنة) كبرى القبائل العربية فى الشام، وكانت لها دولة تبسط
سلطانها على (جنوبىّ سوريا)، و (شرقى الأردن)، وكذا قبائل (لخم)
و (جذام) و (كلب).(2/14)
ولم يقتصر الدخول فى الإسلام على القبائل العربية بل اعتنق الإسلامَ
كثيرٌ من المسيحيين غير العرب؛ كالأرمن والروم، لما فيه من بساطة
وسماحة، بالقياس إلى المسيحية التى تحولت إلى طلاسم وألغاز
وجدل عقيم.
ويذكر (توماس آرنولد) أن (انتشار الإسلام بين نصارى الكنائس
الشرقية كان نتيجة شعور بالاستياء من السفسطة المذهبية التى
جلبتها الروح الهللينية إلى اللاهوت المسيحى، لأنها أحالت تعاليم
المسيح - عليه السلام - البسيطة السامية إلى عقيدة محفوفة بمذاهب
عويصة، مليئة بالشكوك والشبهات، فأدى ذلك إلى خلق شعور من
اليأس، بل زعزع أصول العقيدة الدينية ذاتها، فلما أهلَّت آخر الأمر
أنباء الوحى الجديد فجأة من الصحراء، لم تعد تلك المسيحية الشرقية
التى اختلطت بالغش والزيف، وتمزَّقت بفعل الانقسامات الداخلية،
قادرة على مقاومة إغراء الدين الجديد - الإسلام - الذى بدَّد بضربة
واحدة من ضرباته كل الشكوك التافهة، وقدَّم مزايا مادية جديدة إلى
جانب مبادئه الواضحة البسيطة التى لا تقبل الجدل، وحينئذٍ ترك
الشرق المسيح، وارتمى فى أحضان نبى بلاد العرب).
وكان من الطبيعى أن يكون حجم انتشار الإسلام فى الشام كبيرًا،
لقربه من (الحجاز) منزل الوحى، ووفود كثير من الصحابة إليه فى
الفتوحات وبعدها، وإقامتهم فيه، وإقامة كثير من أفراد جيوش الفتح
الوافدة من الجزيرة العربية فى الشام.
ولما قامت الدولة الأموية سنة (41هـ) واتخذت من (دمشق) عاصمة لها،
اتسع نطاق انتشار الإسلام بين القبائل العربية، وأصبح الشام قطرًا
عربيا إسلاميا خالصًا، يعيش فيه بعض الأقليات المسيحية واليهودية
فى حرية وأمان.
انتشار الإسلام فى مصر:
فُتحت (مصر) فى عهد (عمر بن الخطاب)، ومنذ الأيام الأولى للفتح
أقبل بعض المسيحيين على الدخول فى الإسلام بحرية تامة وحتى
قبل تمام الفتح، فقد كتب (يوحنا النقيوسى) - وهو رجل دين مسيحى(2/15)
كان قريبًا من حوادث الفتح - أن بعض المصريين تركوا الدين
المسيحى وأسلموا، وصحبوا جيوش العرب أثناء الفتح، كان منهم
(يوحنا) أحد رهبان (دير سيناء).
واستمرت حركة الدخول فى الإسلام فى زيادة مطردة، فدخل على
عهد الخليفة (هشام بن عبد الملك) أربعة وعشرون ألفًا منهم الإسلام
دفعة واحدة سنة (108هـ).
ولم يكن دخول الإسلام مقصورًا على طبقة بعينها، بل دخل فيه ناس
من كل الطبقات، كما اعتنقه كثير من الروم الذين بقوا فى (مصر) بعد
الفتح الإسلامى.
وباستمرار دخول المسيحيين فى (مصر) فى الإسلام أصبح أغلبية
السكان مسلمين، وتعلموا اللغة العربية، وأصبحت (مصر) بلدًا عربيا
إسلاميا، وبقى بعض الأقباط على دينهم حتى الآن، وهذا دليل
سماحة الإسلام، وآية على أن من اعتنق الإسلام منهم اعتنقه عن
رضى واقتناع ودون إكراه، فلو أكره الفاتحون المسلمون الأقباط
على ترك دينهم والدخول فى الإسلام؛ لما بقى مسيحى واحد فى
(مصر).
وكان دور المسلمين فى جذب المسيحيين وغيرهم دور الداعى إلى
دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، والقدوة الطيبة، بالإضافة إلى جو
الحرية وسريان روح الرحمة والتسامح الذى أشاعه الخلفاء والحكام
والأمراء، ولم يعد المسلمون أنفسهم طبقة متميزة على أهل البلاد،
وإنما اختلطوا بهم وتعايشوا معهم وصاهروهم، وعاملوهم بتقدير
واحترام، خاصة أن النبىَّ أوصى المسلمين خيرًا بأهل (مصر) حين
يفتحونها، فإن لهم ذمة ورحمًا، فهاجر أم (إسماعيل) عليه السلام
منهم، وكذلك (مارية القبطية) التى تزوجها النبى - صلى الله عليه
وسلم - وأنجب منها (إبراهيم).
انتشار الإسلام فى شمالى إفريقيا:
تشمل منطقة (شمالى إفريقيا) المنطقة التى تمتد من حدود (مصر)
العربية حتى شاطئ (المحيط الأطلنطى)، وهى من أكثر المناطق التى
أرهقت المسلمين فى فتحها، الذى استغرق نحو سبعين سنة، وذلك
بسبب المقاومة العنيدة التى لقيها المسلمون من سكان البلاد،(2/16)
ومعظمهم من (البربر) الذين يعتزون بحريتهم وكرامتهم.
وكانت مقاومتهم الشديدة للفتح ترجع إلى جهلهم بطبيعة الإسلام
وأهدافه ومبادئه، وظنهم أن الفاتحين كغيرهم من الغزاة، جاءوا
لاستغلال بلادهم والاستيلاء على خيراتها، فلما فهموا الإسلام وما
يحمله من عزة وكرامة، واحتكوا بالفاتحين المسلمين وسماحتهم
ورحمتهم أقبلوا على الإسلام بحماس لا نظير له، وحملوا رايته،
وجاهدوا فى سبيله، وشاركوا فى فتوحاته، فكان لهم فى فتح
(الأندلس) بلاءٌ حسن.
وعلى الرغم من طول أمد فتح (شمالى إفريقيا)؛ بسبب المقاومة
العنيدة التى أبداها السكان فإن استجابتهم للإسلام واعتناقهم له
كان أسرع وأوسع انتشارًا مما حدث فى بلاد المشرق الأسبق فتحًا
مثل (العراق) و (الشام) و (مصر). وقد بدأ السكان يقبلون على الإسلام
منذ فتح (عمرو بن العاص) برقة فى عهد (عمر بن الخطاب)، وظل
هؤلاء متمسكين بإسلامهم على الرغم من توقف الفتوحات فترة
طويلة؛ بسبب الفتن الداخلية فى الدولة، بدليل وجود كثير من أهل
البلاد فى جيش (عقبة بن نافع)، عندما أسند إليه (معاوية) قيادة
جيش الفتح فى (شمالى إفريقيا)، كما أسلم على يدى (عقبة) فى
تلك الفترة أعداد كبيرة.
ثم خطا الإسلام فى المغرب خطوات واسعة، وسعى سعياً حثيثًا فى
عهد (أبى المهاجر دينار)؛ لحسن سياسته التى جذبت ملك البربر
(كسيلة) إلى الإسلام، وأسلم بإسلامه أعداد هائلة، وكان (أبو
المهاجر) يبنى مسجدًا فى كل مدينة يفتحها، ويعمل على امتزاج
العرب الفاتحين بأهالى البلاد؛ ليكون لذلك أثره فى تعليمهم الدين
واللغة العربية.
ثم كان ظهور (حسان بن النعمان) ومن بعده (موسى بن نصير) فى
(شمالىّ إفريقيا) من عوامل التمكين للإسلام فى البلاد؛ فاستطاع
(حسان) أن يقضى على الوجود البيزنطى قضاءً تاما، ثم على
مقاومة (الكاهنة) التى تزعمت البلاد بعد مقتل (كسيلة).
والعجيب أن هذه المرأة العنيدة وهى تخوض معركتها الأخيرة مع(2/17)
(حسان)، أوصت أبناءها بالانضمام إليه واعتناق الإسلام إن هى
هزمت فى الحرب، فلما حدث ذلك أسلم أبناؤها، وعيَّنهم (حسَّان)
أمراء على قبائلهم، وأسلم بإسلامهم اثنا عشر ألف رجل دفعة
واحدة.
وأمَّا (موسى بن نصير) فقد ركز اهتمامه على نشر الإسلام بين
السكان، وكان يأمر جنده العرب بتعليم (البربر) المسلمين فى جيشه
القرآن الكريم، وتفقيههم فى الدين، كما ترك بين قبائل (المصامدة)
سبعة عشر رجلا من العرب ليقوموا بالغرض نفسه.
وكان لعمر بن عبدالعزيز أثر كبير فى نشر الإسلام بالمغرب، فقد
أرسل عشرة رجال من صلحاء التابعين إلى هناك، ليعلموا الناس
الدين، فتوافد عليهم الناس من أنحاء البلاد كلها، ليتلقوا عنهم أمور
دينهم.
ومن المعروف أن المسيحية قد دخلت (شمالى إفريقيا) منذ القرون
الأولى لميلاد السيد المسيح، عليه السلام، وبخاصة فى منطقة
الساحل المطلة على (البحر المتوسط) فى حين بقيت المناطق الداخلية
البعيدة عن الساحل على وثنيتها.
انتشار الإسلام فى الأندلس:
لمَّا فتح المسلمون (الأندلس) فى أواخر القرن الهجرى الأول (92 -
95هـ) كانت ديانة معظم السكان هى المسيحية الكاثوليكية،
بالإضافة إلى جالية يهودية كبيرة وبعض الوثنيين، ثم بدأت أعداد
كبيرة منهم تعتنق الإسلام، يأتى فى مقدمتهم طبقة الرقيق التى
وجدت فى الإسلام نجاتها وخلاصها من الظلم والاضطهاد الذى كانت
تعانيه تحت حكم (القوط).
ولم تكن طبقة الرقيق وحدها هى التى أسرعت إلى اعتناق الإسلام،
بل اعتنقه كثير من الوثنيين وأشراف المسيحيين، بالإضافة إلى
أعداد كبيرة من الطبقات الوسطى والدنيا، بل إن بعض القساوسة
اعتنق الإسلام، مثل (تيود سكلوس) الذى كان رئيس أساقفة
(إشبيلية).
وقد حدث ذلك كله فى السنوات الأولى، التى أعقبت الفتح الإسلامى
مباشرة، دون إكراه من المسلمين لإجبار أهل (الأندلس) وحملهم على
الإسلام حملا، بل أقبلوا عليه عن رضى واقتناع تام، ساعد على ذلك(2/18)
بساطة الإسلام وبعده عن التعقيدات الكهنوتية التى حفلت بها
ديانتهم، واختلاط المسلمين الفاتحين بأهل البلاد ومصاهرتهم، وقد
فعل ذلك أعداد كبيرة من المسلمين، حتى الأمراء منهم، فقد تزوج
(عبدالعزيز بن موسى بن نصير) بابنة الملك القوطى (رذريق)، وحذا
حذوه كثير من القادة والجنود، ونتج عن هذه المصاهرات جيل جديد
فى الأندلس) عُرف بالمولدين، وهم الذين ولدوا من آباء عرب وأمهات
أندلسيات، وهؤلاء نشئوا مسلمين بطبيعة الحال، وسرعان ما تزايد
عددهم، وأصبحوا يشكلون غالبية السكان، واحتلوا مكانة كبيرة فى
المجتمع وكان لهم دورهم فى تسيير أمور الدولة الإسلامية.
وقد أصبح هذا الجزء الذى يقع فى جنوبى غربى (أوربا) بلدًا عربيا
مسلمًا فى حرية تامة ودون تعصب أو إكراه، ولم يستغل الفاتحون
المسلمون انتصارهم على (القوط) فى استئصال المسيحية من البلاد
كما فعل (فرديناند) و (إيزابيلا) فى استئصال المسلمين بعد ذلك
بثمانية قرون.
انتشار الإسلام فى العراق:
كان معظم سكان (العراق) عند الفتح الإسلامى عربًا من قبائل
(ربيعة)، مثل: (بكر بن وائل) و (تغلب)،ثم جاء المناذرة اللخميون ومن
هم من قبائل (اليمن)، فأقاموا فى (العراق) إمارة عربية عُرفَت
بإمارة (المناذرة)، كانت خاضعة للفرس، تأتمر بأمرهم، وتصد غارات
القبائل العربية عليهم، وهجمات البيزنطيين وحلفائهم غساسنة
الشام، وقبيل ظهور الإسلام أنهى الفرس سنة (602م) حكم المناذرة،
وحكموا (العراق) حكمًا مباشرًا.
ولم يكن موقف عرب (العراق) من الفاتحين المسلمين عدائيا صريحًا،
وإنما تراوح بين العداء والوقوف مع الفرس وتأييدهم وبين التعاون
مع العرب الفاتحين، ثم الترحيب بهم بعد توالى انتصاراتهم على
الفرس فى (القادسية) و (نهاوند).
وقد وجد سكان (العراق) أنفسهم بعد الفتح تحت حكم المسلمين
يعاملون معاملة حسنة، تُحفظ لهم كرامتهم وحريتهم، وتصان
عقائدهم، ولم تنتزع أرضهم، ولم يجبرهم أحد على الدخول فى(2/19)
الإسلام، وكانوا قبل ذلك أقرب ما يكونون إلى حال الرق، ذلا
واستعبادًا للفرس، فأقبلوا على اعتناق الإسلام فى حرية تامة.
ولم يسلم عرب (العراق) فقط، بل أسلم كثير من الفرس أنفسهم، الذى
يعيشون فى (العراق)، وقدموا للمسلمين مساعدات كثيرة، ووقفوا
إلى جانبهم فى المعارك، فاستشار (سعد بن أبى وقاص) من أسلم
من الفرس فى كيفية التغلب على الفيلة الفارسية المدربة على الحرب
والقتال، ولم تكن للفاتحين المسلمين خبرة بمواجهتها فى ساحات
المعارك، فدلوه على مقاتلها، بأن تُضرب فى عيونها ومشافرها،
فلا تستطيع القتال بعد ذلك.
ثم ازداد إقبال الفرس على الدخول فى الإسلام بعد انتصار المسلمين
فى (القادسية)، فأسلم أربعة آلاف من (الديلم) دفعة واحدة، وجاهدوا
مع الفاتحين فى (نهاوند)، ويدل تزايد الإقبال على الدخول فى
الإسلام، سواء من العرب أو من غيرهم على أن اشتراك الطبقات
المقهورة مع الفرس ضد المسلمين فى البداية، إنما كان خوفًا من
بطشهم، فلما تحطمت قوتهم فى (القادسية) زال الخوف، وأقبل الناس
على الإسلام.
وإلى جانب هؤلاء أسلمت أعداد كبيرة من الأساورة والأشراف وعلية
القوم، فرحَّب بهم القادة العرب، وأشركوهم معهم فى الحكم،
فيروى (الطبرى) أن (سعد بن أبى وقَّاص) كتب إلى (عبدالله بن
المعتم) أن أخلف على (الموصل) (مسلم بن عبداللهـ) الذى كان قد أُسِرَ
فى (القادسية)، وأن (القعقاع بن عمرو التميمى) استخلف على
(حلوان) - مدينة فارسية شمالى شرقى (المدائن) - بعد فتحها، رجلا
فارسيا اسمه (قباذ).
وقد أخذ الإسلام ينتشر فى (العراق) باطِّراد إلى أن أصبح بلدًا عربيا
إسلاميا خالصًا فى العصر الأموى، ومركزًا ودعامة لتثبيت الحكم
الإسلامى فى بلاد فارس، ومنطلقًا للفتوحات الإسلامية فى بلاد (ما
وراء النهر) و (السند).
انتشار الإسلام فى بلاد فارس:
كانت الديانة الرئيسية فى بلاد فارس قبل الفتح الإسلامى هى الديانة(2/20)
(الزرادشتية)، وهى ديانة وثنية، تؤمن بأن للعالم إلهين، أحدهما إله
الخير، والآخر إله الشر، وإلى جانب تلك الديانة التى كان يدين بها
ملوك (آل ساسان) توجد (البوذية) و (المانوية) و (المزدكية) بالإضافة
إلى اليهودية والمسيحية على نطاق ضيق.
ولم يأخذ المسلمون من هذه الأديان موقفًا عدائيا، ولم يتخذوا إجراءً
ضدها، بل صانوا للناس حرية الاعتقاد، إلى الحد الذى اعتدُّوا فيه
بالمجوسية الفارسية وهى عبادة النار، وعاملوا أتباعها معاملة أهل
الكتاب من اليهود والنصارى، فقبلوا منهم الجزية نظير بقائهم على
دينهم.
ولما اطمأنت نفوس أهل فارس أو معظمهم إلى حكم الفاتحين نظروا
إلى دينهم، مقارنين بينه وبين ما لديهم من أديان فلم يجدوا وجهًا
للمقارنة، فكلها أديان وثنية مليئة بالخرافات والأوهام، فتركوها غير
آسفين، وأقبلوا على الإسلام فى حرية تامة، ودون ضغط أو إكراه،
ولم يفعل ذلك أتباع الديانات الوثنية فقط، وإنما فعله كثير من
المسيحيين. يقول (آرنولد): (وقد أدَّى تغير الحكومة - الساسانية -
إلى تخليص الكنيسة المسيحية المضطربة فى فارس من استبداد ملوك
الساسانيين الذين أثاروا الخلافات .. وزادوا فى فوضى الطوائف -
المسيحية - المتنافرة، ولعل هذه الأحوال المضطربة قد هيأت عقول
الناس لذلك التحول الفجائى فى شعورهم، الذى سهل تغيير العقيدة،
وإلى جانب الاضطراب السياسى فى الدولة ظهرت تلك الفوضى
الأخلاقية التى ملأت عقول المسيحيين .. فمالوا إلى هذا النظام العجيب
من التنسيق العقلى، الذى ينمو فيه الدين الجديد فى سهولة ويسر،
ويكتسح أمامه أكثر الأديان الأخرى، ويحاول أن يقيم الحالة الدينية
والاجتماعية على أسس جديدة، وبعبارة أخرى كان أهل فارس قد
بلغت عقليتهم درجة ساعدتهم على التحول إلى ذلك الدين الجديد،
والترحيب باعتناقه فى حماسة ملحوظة؛ لما يمتاز به من البساطة،
وهكذا قدر للإسلام أن يبدد بضربة واحدة كل هذه الغيوم، وأن يفتح(2/21)
أمام الناس سبلا واضحة من الآمال الكبيرة، وأن يخلصهم فى أقرب
وقت من عبوديتهم وحالتهم السيئة).
وقد تتابع دخول الفرس بأعداد كبيرة فى الإسلام دون إكراه،
مدفوعين بالدعوة الصادقة التى يقوم بها المسلمون لدينهم،
والتعريف به وشرح مبادئه، والالتزام بها فى حياتهم، كل ذلك كان له
عظيم الأثر فى التمكين للإسلام فى البلاد.
ثم خطا الأمويون خطوات واسعة أدَّت إلى انتشار الإسلام واللغة
العربية فى بلاد فارس، تمثلت فى تهجير عشرات من القبائل العربية
إلى الأقاليم الفارسية وتسكينهم فيها، فنقل (زياد بن أبى سفيان)
والى (العراق) فى خلافة (معاوية) سنة (51هـ) خمسين ألف أسرة
عربية من أهل (البصرة) و (الكوفة) إلى (خراسان) دفعة واحدة،
وتتابعت بعد ذلك الهجرات العربية إلى الأقاليم الفارسية بأعداد
كبيرة؛ مما كان له أثر كبير فى نشر الإسلام عن طريق المعايشة،
والقدوة العملية، وإقامة شعائر الدين.
وفى الوقت نفسه هاجرت أعداد كبيرة من الفرس إلى المدن العربية
الجديدة كالبصرة و (الكوفة)، بقصد العمل فى التجارة والأعمال
الحرفية، كأعمال البناء التى لا يجيدها العرب، كما عمل كثيرون
منهم فى دواوين الدولة، وقد بلغ عدد العمال من الفرس - أى
الموظفين - المقيدين فى ديوان (عبيدالله بن زياد) والى (البصرة) (55 -
64هـ) مائة وأربعين ألفًا، وهو رقم غير مبالغ فيه، لأن ديوان
(البصرة) كان يشمل الموظفين المدنيين فى جنوبى (العراق)، وكل
المقاطعات الجنوبية الشرقية من بلاد فارس حتى (خراسان) شمالا.
وقد علل (ابن زياد) استخدام هذا العدد الكبير من الفرس فى الديوان
بكفاءتهم ومهارتهم وأمانتهم فى العمل، وهذا يعنى ثقة الدولة
بالموظفين من الفرس، وهذه الثقة شجعتهم على الدخول فى الإسلام.
وأدَّى وجود أعداد كبيرة من الفرس فى البيوت العربية، ومصاهرتهم
للعرب، إلى انتشار الإسلام بينهم، واتخاذ أسماء وألقاب عربية.(2/22)
ويمكن إجمال القول بأن غالبية الشعب الفارسى تحولت إلى الإسلام
فى العصر الأموى، وأصبحت عنصرًا مؤثرًا فى المجتمع والدولة
الإسلامية ذاتها، وكانت فى طليعة المجاهدين فى فتح بلاد (ما وراء
النهر).
موقف الموالى الفرس من الدولة الأموية:
كان لبعض الموالى الفرس مواقف عدائية ضد الدولة الأموية، على
الرغم من تسامح الحكومة مع الفرس وإشراكهم فى الإدارة، بل
تفضيلهم أحيانًا على العرب أنفسهم؛ فلم يتركوا فرصة للخروج عليها
إلا انتهزوها، ولا دعوة لثائر إلا انضموا تحت لوائه، أيا كان اتجاهه
السياسى، فانضموا إلى (ابن الزبير)، و (المختار الثقفى)،
و (عبدالرحمن بن الأشعث)، و (يزيد بن المهلب)، وغيرهم، وناصروا
الخوارج، وتحالفوا مع الشيعة دائمًا.
وهذه المواقف العدائية من الدولة الأموية جعلت بعض الباحثين يظنون
أنهم فعلوا ذلك لظلم وقع عليهم من الدولة، وراحوا يكيلون التهم
جزافًا للأمويين بأنهم متعصبون للعرب ضد الفرس، وهذا اتهام لا دليل
عليه وبعيد عن واقع الأمر، فالدولة الأموية عُرفَت بتسامحها مع غير
المسلمين من أهل الذمة، فكيف يضيق صدرها بالمسلمين من الموالى
ولعل السبب الرئيسى فى عداء الموالى للدولة الأموية يكمن فى أن
كثيرين من أبناء فارس لم يستطيعوا التخلص تمامًا من ماضيهم، حيث
كانوا أصحاب السيادة على العرب، ولهم نفوذ فى العالم، فلما فتح
المسلمون بلادهم عزَّ عليهم أن يحكمهم العرب، فعملوا كل ما فى
وسعهم لتقويض الدولة الأموية.
ولم يكن الموالى كلهم يعادون العرب، ولذا نستطيع أن نقسم الموالى
إلى أربع طوائف رئيسية، هى:
- الطائفة الأولى: أسلمت إسلامًا حقيقيا، ارتفع بها فوق العصبية
القومية، مثل: (سلمان الفارسى)، رضى الله عنه، و (الحسن البصرى)
التابعى المعروف، وهذه الطائفة لم تر بأسًا فى أن يحكمها العرب،
ونظرت إليهم نظرة تقدير واحترام؛ لأنهم سبب هدايتها، وبادل العرب(2/23)
هذه الطائفة ودا بود وتقديرًا بتقدير، وكان كبار التابعين من
الموالى، مثل (الحسن البصرى)، و (محمد بن سيرين)، و (عطاء بن
يسار)، و (عطاء بن أبى رباح)، موضع احترام المجتمع والدولة، وكان
تأثيرهم فى الحركة العلمية عظيمًا.
- الطائفة الثانية: وهى التى أسلمت إسلامًا رقيقًا، ولم تتخلص من
الماضى تمامًا، وظلت تفخر بالأمجاد الفارسية القديمة، وهذه الطائفة
لم ترفض الإسلام دينًا ولكنها رفضت السيادة والحكم العربيين، وظلت
تسعى للقضاء عليهما بدأب شديد، وكانت نواة الحركة الشعوبية
التى نادت بتفضيل الفرس على العرب.
- الطائفة الثالثة: وهى التى أسلمت نفاقًا، لأنها رأت أن السبيل إلى
المال والجاه والسلطان لا يكون إلا بالدخول فى الإسلام، فأعلنت
اعتناقه ولم يدخل الإيمان قلوبها، ولم تدع فرصة للكيد للعرب إلا
انتهزتها، كما دعت إلى الشعوبية والمذاهب الدينية القديمة، وهذه
الطائفة كانت أساسًا لحركة الزندقة.
- الطائفة الرابعة: وهى التى لم تسلم، وبقيت على مجوسيتها بفضل
الحرية التى منحها العرب لأهل بلاد فارس.
والذى نريد أن نخلص إليه أن القول باضطهاد الدولة الأموية للموالى،
وعداء الموالى للدولة كان رد فعل لذلك، هو قول بعيد عن الحقيقة،
فلم تكن هناك سياسة مرسومة للأمويين تعادى الموالى الفرس، وفى
الوقت نفسه لا ننكر أن يكون بعض العرب قد نظر إلى الموالى الفرس
نظرة تعالٍ وتكبر، لكن ذلك لم يكن سياسة دولة، وإنما كان نظرة
البدو الجفاة الذين لم يفهموا الإسلام على وجهه الصحيح.
انتشار الإسلام فى بلاد ماوراء النهر:
فتح (قتيبة بن مسلم الباهلى) بلاد (ماوراء النهر) - آسيا الوسطى-
فى خلال عشر سنوات (86 - 96هـ)، وأقبل كثير من أهالى تلك البلاد
على الدخول فى الإسلام، لما فيه من عدل وسماحة ورحمة، وشجعهم
على ذلك أن معظمهم وثنيون يعبدون الأصنام، وبعضهم يدين بالأديان
التى كانت منتشرة فى بلاد فارس المجاورة لهم، مثل (الزرادشتية)(2/24)
و (المانوية) و (المزدكية)، وكلها أديان فاسدة، ولم يكن تمسك الناس
بها قويا، ولذا سرعان ما أقلعوا عنها بعد أن قارنوا بينها وبين
الإسلام، فأقبلوا عليه فى حماس شديد.
وعندما دخل (قتيبة بن مسلم) مدينة (سمرقند) سنة (93هـ)، وجد فيها
عددًا كبيرًا من الأصنام، فقرر تحطيمها، فخوَّفه سكانُها من ذلك،
وقالوا له: إن من يقترب منها تهلكه، فلم يبالِ بذلك، وأقسم ليحطمنَّها
بيده، فحطمها وحرقها بالنار، فلما رأى الناس ذلك ولم يحدث لقتيبة
شىء أدركوا أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، وأسرعوا إلى اعتناق
الإسلام.
وقد تردَّد صدى هذه الحادثة فى المدن الأخرى، فأسلم من أهلها
أعدادٌ هائلة، حتى إنه لما سار قتيبة لفتح إقليم (الشاش) فيما وراء
نهر (سيحون) سنة (94هـ)، أى بعد سنة واحدة من تحطيمه لأصنام
(سمرقند)، كان جيشه يضم عشرين ألف مسلم من أهل (بخارى).
وحرص الفاتحون المسلمون على دعوة الناس إلى الإسلام بالحكمة
والموعظة الحسنة، والتأثير فيهم بالقدوة الطيبة، وكان (قتيبة بن
مسلم) يُعنَى ببناء المساجد فى المدن والقرى؛ حتى تؤدى فيها
الصلاة، ويقوم الدعاة فيها بتعليم الناس شعائر الإسلام وشرائعه.
غير أن تزايد إقبال الناس على الإسلام جعل الولاة المسلمين أمام
مشكلة مالية، جعلتهم يأخذون الجزية من المسلمين الجدد من أهل
البلاد، مخالفين بذلك قواعد الإسلام التى تقرر أن لا جزية على من
أسلم، ولم يطل هذا الأمر كثيرًا، إذ صحح (عمر بن عبد العزيز) هذا
الإجراء الخاطئ وكتب إلى الولاة موبخًا إياهم على فعلتهم، قائلا
قولته المشهورة: (قبَّح الله رأيكم، إن الله بعث محمدًا - صلى الله عليه
وسلم - هاديًا ولم يبعثه جابيًا).
وكان الخليفة (عمر بن عبد العزيز) معنيا بنشر الإسلام فى تلك
المنطقة، وكتب إلى ملوك بلاد (ما وراء النهر) وأمرائهم ودعاهم إلى
الإسلام، فأسلموا وتسمَّوا بأسماء عربية.
وتتابعت جهود الأمويين لنشر الإسلام فى هذه البلاد بعد (عمر بن(2/25)
عبدالعزيز)، وبخاصة فى عهد (هشام بن عبدالملك) (105 - 125هـ)،
الذى أسند ولاية (خراسان) و (ما وراء النهر) إلى (أشرس بن عبدالله
السلمى)، المسمى بالكامل لصلاحه وتقواه، فما إن استقر فى
(خراسان) حتى شرع فى توجيه الدعاة والفقهاء إلى بلاد (ماوراء
النهر)؛ لدعوة الناس إلى الإسلام.
وقد مضت حركة نشر الإسلام فى بلاد (ما وراء النهر) مطَّردة مزدهرة،
بفضل جهود (صالح بن طريف) وأمثاله من أهل الصلاح والتقوى، وإن
اعترض ذلك بعض المعوقات التى كانت تأتى فى الغالب من بعض
الولاة الذين كانوا يفضلون الجباية على الهداية، مخالفين بذلك قواعد
الإسلام، غير أن هذه السياسة الخاطئة كانت تجد دائمًا من يصححها
ويقومها من الخلفاء والولاة.
وقد استاء المسلمون الجدد من أهل بلاد (ما وراء النهر) من دفع
الجزية، لا لكونها عبئًا ماليا كبيرًا فحسب، بل لإحساسهم بالمهانة من
دفعها وهم مسلمون؛ إذ لاجزية على المسلم، ومن ثم تمسكوا بحقهم
الشرعى الذى كفله لهم الإسلام، فقاوموا الولاة، ومن أجل ذلك
وجدوا استجابة من قمة الدولة لإنصافهم، وتضامنًا من إخوانهم العرب
المسلمين لمساعدتهم على الحصول على حقهم.
وخلاصة القول أن غالبية الناس فى بلاد (ماوراء النهر) تحولت إلى
الإسلام، وأصبحت بلادهم جزءًا عزيزًا من العالم الإسلامى، وأهدت
إلى العالم الإسلامى عددًا لا حصر له من العلماء فى شتى العلوم
الإسلامية، وغدت بعض مدنه مثل (بخارى) و (سمرقند) و (جرجان) من
أكبر المراكز الحضارية فى العالم الإسلامى وأشهرها.
وقد رسخ الإسلام فى تلك المنطقة رسوخًا عميقًا، ظهر أثره فى
ثبات أهلها أمام موجات الغزو العاتية التى تعرضت لها، مثل غزوات
المغول المدمِّرة فى القرن (7 هـ = 13 م)، كما تعرضت لمحنة الحكم
الشيوعى الملحد فى القرن (14 هـ = 20 م)، الذى حاول بشتى الطرق
وبأقسى الأساليب الوحشية محو الإسلام، لكنه فشل فشلا ذريعًا(2/26)
أمام ثبات المسلمين وإصرارهم على التمسك بعقيدتهم، وبعد انهيار
(الاتحاد السوفييتى) سنة (1411هـ = 1991م) وزوال الحكم الملحد،
تنفَّس الناس الصعداء وعادت بلادهم إلى حظيرة العالم الإسلامى.
ولم يكتفِ أهالى تلك المنطقة باعتناق الإسلام، وإنما جنَّدوا أنفسهم
للدفاع عنه على حدوده الشرقية عند (الصين) والأتراك الشرقيين،
وأصبحت بلادهم معبرًا رئيسيا للإسلام إلى (الصين) وغيرها من بلاد
شرقى آسيا وجنوبى شرقيها إلى حوض (نهر الفولجا) شمالا؛ حيث
كانت قوافل الدعاة والتجار تجوب الطرق التجارية بين العالم
الإسلامى وتلك البلاد، يدعون إلى الإسلام، وقد وجدوا استجابة طيبة
وسريعة.
انتشار الإسلام فى السند:
كان إقليم (السند) مملكة مستقلة عندما فتحه المسلمون فى أواخر
القرن الأول الهجرى بقيادة (محمد بن القاسم الثقفى)، وسادت فيه
عدة ديانات كانت هى نفسها السائدة فى سائر ممالك شبه القارة
الهندية وولاياتها، مثل: (البرهمية)، و (البوذية).
ويؤكد لنا التاريخ أن الاتصال بين أهل (السند) والمسلمين سبق بزمن
طويل فتح بلادهم، وأنهم عرفوا كثيرًا عن الإسلام ومبادئه، بل إن
بعضهم أسلم مبكرًا، يروى (البلاذرى) أن كثيرين من أهل (السند) -
المنبوذين - قد أسلموا مبكرًا، بعد أن انحازوا إلى المسلمين؛ فرارًا
من اضطهاد البراهمة، فعندما كان (أبو موسى الأشعرى) يفتح إقليم
(الأهواز) غربى بلاد فارس، فى عهد (عمر ابن الخطاب) أرسل له زعيم
سندى اسمه (سياهـ) قائلا: (إننا قد أحببنا الدخول معكم فى دينكم
على أن نقاتل معكم عدوكم من العجم) واشترط أن يفرض له ولقومه
من العطاء، وأن ينزلوا حيث شاءوا من البلاد، فوافق (عمر بن
الخطاب) على ذلك لما كتب له (أبو موسى) يستأذنه.
وبعد انتهاء الفتح، نزل هؤلاء (البصرة)، وفرض لهم العطاء، ثم سألوا
أى القبائل أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل لهم:
(بنو تميم)، فحالفوهم وخططت لهم الأحياء السكنية.(2/27)
وقد عمل كثير منهم فى بيت المال؛ لخبرتهم فى الشئون المالية، فقد
كان فى بيت مال البصرة منهم فى عهد (على بن أبى طالب) أربعون
رجلا، كما عمل بعضهم فى الأعمال الحرَّة، وبخاصة فى الصرافة،
فيروى الجاحظ: (إنك لا ترى فى البصرة صيرفيًا إلا وصاحب كيسه -
أى خزانته - سندى).
وكل هذه الشواهد تؤكد اتصال أهل (السند) بالمسلمين قبل فتح
بلادهم، ومن الطبيعى أن يتردد بعضهم على وطنه، وينقل للناس
هناك أخبار الإسلام والمسلمين، ومعاملتهم الرحيمة ممَّا هيأ قلوبهم
للإسلام، والإقبال عليه بعد الفتح الإسلامى لبلادهم.
فمنذ الخطوات الأولى للفتح بدأت شخصيات كبيرة تعتنق الإسلام،
وعندما تقدَّم (محمد بن القاسم) بعد فتح (الديبل)، وجه الدعوة إلى
الأمراء والحكام والوزراء والأعيان وعامة الشعب؛ للدخول فى الإسلام
فاستجاب له كثيرون.
وكانت هناك أقاليم تدخل فى الإسلام جملة واحدة، مثل إقليم
(سوسيان)، فقد روى فى سبب إسلامهم أنهم كانوا قد أرسلوا
جاسوسًا من عندهم إلى معسكر المسلمين لمعرفة أخبارهم، وأثناء
اختفائه حان وقت الصلاة، فقام أحد الجنود وأذَّن بالصلاة بصوت
خاشع جميل مؤثر، ثم اصطف الجنود خلف قائدهم (محمد بن القاسم)
فى صفوف منتظمة، فلما رأى الجاسوس السندى هذا المشهد الرائع
تأثر به تأثرًا كبيرًا، وعاد إلى قومه، وأخبرهم بما رأى، فقالوا: إذا
كان العرب متحدين متمسكين بدينهم على هذا النحو وهم فى وقت
الحرب، فإننا لايمكننا التغلب عليهم، وقرروا إرسال وفد منهم إلى
(محمد بن القاسم)، وانتهى الأمر بإسلامهم جميعًا، وانضمامهم إلى
المسلمين، وأقاموا حفل تكريم للقائد المسلم (محمد بن القاسم) الذى
هداهم للإسلام.
وكان إقبال أهل (السند) على الإسلام عظيمًا على اختلاف طبقاتهم،
فأسلم إلى جانب عامة الشعب الحكامُ والقوَّاد والوزراء وأمراء
المناطق المختلفة، مثل الأمير (كاكة بن جندر) ابن عم الملك (داهر) ملك
(السند).(2/28)
وأدَّى سلوك المسلمين السوىُّ إلى جذب الناس إلى الإسلام، وبخاصة
سلوك (محمد بن القاسم) الذى اهتم بإقامة المساجد وأداء الشعائر
الدينية، فلم يكن يدخل مدينة إلا ويبنى فيها مسجدًا، وقد تابع خلفاء
(محمد بن القاسم) فى (السند) سياسته فى بناء المساجد.
وقد بلغ قمة النجاح فى انتشار الإسلام فى (السند) فى خلافة (عمر
بن عبدالعزيز) (99 - 101هـ)، الذى كان لسمعته الطيبة أثر عظيم فى
دخول أعداد كبيرة من أهل (السند) فى الإسلام لما دعاهم إلى ذلك،
فأسلموا وتسمَّوا بأسماء عربية.
وأصبح هذا الإقليم منذ دخول الإسلام فيه جزءًا عزيزًا من العالم
الإسلامى، ولا يزال يمثل قوة رئيسية من قواه؛ فقد شارك فى صنع
التاريخ الإسلامى والحضارة الإسلامية، فلولا الإسلام لبقى ذلك الإقليم
منزويًا فى عزلته، دون أن يكون له مثل ذلك الدور الذى قام به فى
ظل الإسلام، ونختم الحديث عن انتشار الإسلام فى (السند) بشهادة
واحد من أبنائه هو العلامة (أبو الحسن الندوى) الذى يقول:
(إن دخول الإسلام إلى بلاد السند وبلاد الهند، كان فاتحة عصر جديد،
عصر علم ونور وحضارة وثقافة .. لم يكن العرب المسلمون من طراز
أولئك الغزاة الذين إذا دخلوا قرية أفسدوها، واعتبروها بقرة حلوبًا،
أو ناقة ركوبًا، يحلبون ضرعها، ويركبون ظهرها، ويجزون صوفها،
ثم يتركونها هزيلة عجفاء، ولا يعتبرون أنفسهم كالإسفنج،
يتشرب الثروة من مكان، ويصبها فى مكان آخر، كما كان شأن
الإنجليز فى الهند، وفرنسا فى الجزائر والمغرب الأقصى، وإيطاليا
فى طرابلس وبرقة، وهولندا فى إندونسيا، لم يكن العرب المسلمون
مثل هؤلاء الغزاة المستغلين، بل وهب العرب البلاد التى فتحوها
أفضل ما عندهم من عقيدة ورسالة، وأخلاق وسجايا، ومقدرة
وكفاية، وتنظيم وإدارة، وأقبلوا عليها بالعقل النابغ، والشعور
الرقيق، والذوق الرفيع، والقلب الولوع، واليد الحاذقة الصناع،(2/29)
فنقلوها من طور البداوة إلى طور الحضارة، ومن عهد الطفولة إلى
عهد الشباب الغض، فأمنت بعد خوف، واستقرت بعد اضطراب،
وأخذت الأرض زخرفها، وبلغت المدنية أوجها، وتحولت الصحارى
الموحشة والأراضى القاحلة إلى مدن زاخرة وأرض خصبة، وتحولت
الغابات إلى حدائق ذات بهجة، والأشجار البرية إلى أشجار مثمرة
مدنية، ونشأت علوم لا علم للأولين بها، وفنون وأساليب فى
الحضارة لا عهد لهم بها فى الماضى، وانتشرت التجارة، فكأنما
ولدت هذه البلاد فى العهد الإسلامى ميلادًا جديدًا، ولبست ثوبًا
قشيبًا).
الجانب الحضارى:
الحضارة الإسلامية فى العصر الأموى:
تعنى الحضارة عند بعض الباحثين كل نشاط إنسانى فى الحياة،
سواء أكان فكريا يتمثل فى العلوم والفنون والآداب، وما ينتج عن
ذلك من نظم سياسية واقتصادية واجتماعية وإدارية، ومن عادات
وتقاليد وأخلاق، أم كان ماديا ملموسًا، يتمثل فى البناء والتشييد
والعمران، كبناء المدن والقرى وتخطيطهما، والتأنق فى بناء
المساكن والمساجد، ودور التعليم والقلاع والحصون، كما تتمثل فى
العناية بالأوضاع الاقتصادية للبلاد، كبناء السدود والخزانات لتخزين
المياه واستخدامها فى الزراعة والصناعة، أو فى تعبيد الطرق
وإقامة المصانع.
وقد عرفت الحضارة الإسلامية فى العصر الأموى كل هذه الأنشطة،
وهى وإن اشتركت مع غيرها من الحضارة الإنسانية فى بعض
السمات، فإنها تتميز عنها بسمات خاصة بها؛ لأن الإسلام هو الذى
أنشأها ورعاها وتمثلت فيها قيمه ومبادئه وسماحته ورحمته وآدابه.
وهى كغيرها من الحضارات البشرية أخذت وأعطت وتعلَّمت من
غيرها، وعلَّمت غيرها، وانفتحت على الحضارات كلها بما فيها من
ثقافات وأفكار، شعارها: الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو
أحق الناس بها.
ولقد قامت الحضارة الإسلامية على دعامتين أساسيتين:
الدعامة الأولى:
القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وكان تأثيرهما فى نشوء(2/30)
الحضارة الإسلامية وارتقائها وتألقها من وجهين:
- الأول: حثهما على العلم والتعلم والتفكر فى الكون وأسراره،
وتسخيره لمنفعة الإنسان، وعدهما طلب العلم فريضة على كل مسلم،
ودعوتهما إلى رفع شأن العلم والعلماء، والشواهد على ذلك من
كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كثيرة، من ذلك:
قول الله تعالى: {قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما
يتذكر أولو الألباب} [الزمر: من 9].
وقوله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}.
[المجادلة من11].
وقوله تعالى فى أول ما نزل من القرآن: {اقرأ باسم ربك الذى خلق
خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذى علَّمَ بالقلم}. [العلق: 1 -
4].
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (طلب العلم فريضة على كل مسلم). [ابن
ماجة].
وقوله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: (من سلك طريقًا يطلب به علمًا
سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة). [رواه الحاكم].
- الوجه الآخر: يتمثل فى العلوم الكثيرة التى انبثقت من القرآن
والسنة كالتفسير وعلوم القرآن، والفقه والأصول، والحديث وعلومه،
والمغازى والسير والتاريخ، واللغة العربية وآدابها وغير ذلك.
الدعامة الأخرى:
وهى دعامة لا يُنكَر دورها فى ازدهار الحضارة الإسلامية، وتتمثل
فى التراث الحضارى الهائل، الذى ورثه المسلمون عن الأمم السابقة
فى البلاد التى فتحوها، كتراث الحضارة الإغريقية والفارسية
والهندية والمصرية القديمة.
وكان من حسن الطالع أن ذلك التراث الحضارى كان موجودًا فى
المناطق التى شملتها الدولة الأموية، فحافظت عليه وصانته من
الضياع، وهو ما يحسب للأمويين، فلولا يقظتهم وسعة أفقهم لضاع
من الإنسانية كثير من هذه الكنوز الحضارية، التى أنتجها العقل
البشرى فى القرون السابقة لظهور الإسلام، غير أن الاستفادة
الكاملة جاءت فى العصر العباسى، حيث بدأت ترجمة العلوم والفنون
إلى اللغة العربية، وصُحِّحت أخطاؤها، ثم أضاف إليها المسلمون من(2/31)
عبقريتهم الخلاقة ما شهد به علماء الغرب فى العصر الحديث.
الإدارة والنظم فى العصر الأموى:
أولا: الإدارة:
اتسعت الدولة الإسلامية فى العصر الأموى وامتدت حدودها شرقًا من
(الصين)، إلى (الأندلس) غربًا، ومن بحر (قزوين) شمالا إلى (المحيط
الهندى) جنوبًا، وأصبحت تتكون من الأقسام الإدارية الآتية:
1 - الحجاز: ويشمل (مكة المكرمة) و (المدينة المنورة) و (الطائف)، وكان
الوالى يقيم فى (المدينة).
2 - اليمن: وكانت فى معظم الأحيان ولاية مستقلة، يحكمها والٍ يعين
من قبل الخليفة، وأحيانًا أخرى كانت تضاف إلى والى (الحجاز)،
فيعين عليها واليًا من قبله.
3 - العراق: وتشمل حدودها الإدارية كل ولايات الدولة الفارسية
القديمة، وأقاليم (ما وراء النهر) و (السند)، وكان الأمويون فى أغلب
الأحيان يجعلون (العراق) والشرق الإسلامى كله تحت إدارة والٍ واحد،
يُعيَّن من قبله ولاة على بقية الأقاليم، وقد حدث ذلك فى عهد (معاوية
بن أبى سفيان)؛ حيث عهد إلى (زياد بن أبى سفيان) بولاية (العراق)
والمشرق، وفى عهد (عبد الملك بن مروان) حيث ولَّى (الحجاج بن
يوسف الثقفى) أمر المشرق كله.
4 - الجزيرة: وتشمل ولايات (الموصل) و (أرمينيا)،و (أذربيجان).
5 - الشام: ولم يكن يعين لها والٍ؛ حيث كانت هى مقر الخلافة
الأموية، وكان الخليفة يقوم بهذا الدور.
6 - مصر: وكان يتبعها (شمالىُّ إفريقيا)، ثم أصبحت ولاية مستقلة
تقريبًا، منذ تولاها (موسى بن نصير) (85هـ)، وعاصمتها (القيروان).
7 - الأندلس: وكانت فى بداية الفتح الإسلامى لها تتبع ولاية (شمالى
إفريقيا)، ثم أصبحت ولاية مستقلة منذ خلافة (عمر بن عبدالعزيز).
وكان الخلفاء الأمويون يعينون لكل ولاية من هذه الولايات واليًا من
قبلهم، وهو بدوره يختار مساعديه وأعوانه، وكانوا يحرصون فيمن
يقع عليه اختيارهم للإمارة أن يكون من المعروفين بالحزم وحسن
السياسة والقدرة الإدارية، وأن يكون من الأسرة الأموية نفسها، أو(2/32)
من أكثر الرجال ولاءً وإخلاصًا لها.
وتمتَّع هؤلاء الولاة بسلطات واسعة، مكنَّتهم من التصرف بما يرونه
محققًا لمصالح الدولة والمجتمع، وكانت هذه السياسة التى اتبعها
الأمويون مع ولاتهم مختلفة عن سياسة الخلفاء الراشدين؛ حيث كانت
سلطات ولاتهم مقيَّدة، وحرصوا على الفصل بين السلطات السياسية
والإدارية والعسكرية، وبين السلطات المالية والقضائية، بمعنى أنهم
كانوا يعينون إلى جانب الوالى - الذى يُسمَّى والى الحرب والصلاة-
واليًا لبيت المال يُسمَّى صاحب الخراج، وكان مسئولا أمام الخليفة
مباشرة، حتى لا تمتد أيدى الولاة إلى أموال الدولة، كما كانوا
يعينون القضاة للأقاليم بأنفسهم.
أما فى العصر الأموى، فكان الولاة يشرفون غالبًا على الشئون
المالية، ولاشك أن أسلوب الخلفاء الراشدين كان أسلم وأقوى حرصًا
على المال العام. وإذا شئنا أن نستخدم التعبيرات العصرية فى مجال
الإدارة قلنا إن إدارة الخلفاء الراشدين كانت مركزية، وكان ذلك
مطلوبًا فى ذلك الوقت؛ حيث كانت الدولة فى مرحلة البناء، وكان
الخلفاء الراشدون راغبين فى الاطلاع على كل شىء بأنفسهم، على
حين كان طابع الإدارة الأموية لامركزيا، نظرًا لاتساع الدولة، وبُعد ما
بين الولايات وعاصمة الخلافة فى (دمشق)، ولايعنى هذا أن الولاة
كانوا فى العصر الأموى يفعلون ما يشاءون دون رقابة أو محاسبة
من الخلفاء الذين لم يكونوا يترددون فى عزل أى والٍ مهما تكن
درجة قرابته منهم إذا ثبت أنه أخل بواجبات وظيفته، أو لم يقم بما
هو مكلف به على النحو الأكمل.
وكانت دقة الأمويين فى اختيار ولاتهم هى التى مكنتهم من حكم
هذه الدولة العملاقة وإدارتها وبسط الأمن والنظام فى ربوعها
الممتدة الأطراف، التى ضمت شعوبًا مختلفة الأجناس واللغات
والثقافات والعادات والتقاليد، ومن ثم فإن صهر هذه الشعوب فى
بوتقة واحدة، وإخضاعها لنظام واحد، لم يكن أمرًا سهلا، فى وقت
كانت فيه الخيل هى أسرع وسيلة للمواصلات.(2/33)
وكان نجاح الأمويين فى إدارة الدولة الإسلامية بوساطة رجالهم -
ومعظمهم كانوا من أفذاذ الرجال- دليلا على عبقرية إدارية، وقدرة
فائقة فى فن الحكم وإدارة البلاد، ومهارة فى سياسة الناس، ولا
يقلل من ذلك أخطاؤهم واتهامات ناقديهم.
أبرز الولاة فى العصر الأموى:
حفل العصر الأموى بالكثير من الأسماء اللامعة التى تألقت فى فن
الحكم والإدارة، ومن أشهر تلك الأسماء: (عمرو بن العاص)، و (المغيرة
بن شعبة)، و (عتبة بن أبى سفيان)، و (مروان بن الحكم)، (ومسلمة بن
مخلد الأنصارى)، و (عقبة بن نافع)، و (عبدالعزيز بن مروان)، و (المهلب
بن أبى صفرة) وأولاده، و (زهير بن قيس البلوى)، و (حسان بن
النعمان الغسانى)، و (مسلمة بن عبدالملك)، و (قتيبة بن مسلم
الباهلى)، و (محمد بن القاسم الثقفى)، و (موسى بن نصير)، وابنه
(عبدالعزيز)، و (طارق بن زياد)، و (قرة بن شريك)، و (عبدالحميد بن
عبدالرحمن)، و (الجراح بن عبدالله الحكمى)، و (عدى بن أرطأة)،
و (السمح بن مالك الخولانى).
كما برز (عمر بن هبيرة)، و (بشر بن صفوان)، و (العباس بن الوليد)،
و (خالد بن عبدالله القسرى)، وأخوه (أسد بن عبدالله)، و (يوسف بن
عمر الثقفى)، و (الجنيد بن عبدالرحمن)، و (أشرس بن عبدالله السلمى)،
و (مروان بن محمد بن مروان)، و (يزيد بن عمر بن هبيرة)، و (نصر بن
سيار).
ثانيًا: النظم فى العصر الأموى:
كان من الطبيعى عندما قامت الدولة الأموية أن يتوسَّع الأمويون فى
إنشاء الأجهزة الإدارية والدواوين؛ لملاءمة تطور الحياة، واتساع
مساحة الدولة الإسلامية المتزايد، وهذه الدواوين تقوم بالأعمال
والاختصاصات التى تقوم بها الوزارات فى الدول المعاصرة، فديوان
الجند الذى أنشأه (عمر بن الخطاب) كان يقوم بالعمل الذى تقوم به
وزارة الدفاع حاليًا، ففيه تُدوَّن أسماء الجند وأعطياتهم - رواتبهم -
ورتبهم العسكرية، وكانت الأسماء تُدوَّن حسب القبائل، حتى تتميز(2/34)
كل قبيلة من غيرها، كما يقول (الماوردى)، (فكأن كل قبيلة كانت
تمثل فرقة من فرق الجيش).
وإلى جانب (ديوان الجند) نشأ (ديوان العطاء)، وهو المختص
بالمخصصات المالية التى كانت تدفعها الدولة للناس، و (ديوان الخراج)
وهو يشبه وزارة المالية فى الوقت الحاضر، فكل موارد الدولة المالية
كانت تدخل إلى هذا الديوان، مثل غنائم الفتوحات، وخراج الأرض،
والزكاة، والعشور، وهى ضرائب كانت تُوخَذ من التجار الذين يدخلون
بتجارتهم إلى البلاد الإسلامية، وهى شبيهة برسوم الجمارك فى
الوقت الحاضر، وكانت هذه الضريبة على ثلاثة أنواع تبعًا لنوعية
التجار، فالتجار المسلمون يؤخذ منهم ربع عشر تجارتهم، والتجار من
أهل الذمة من مواطنى الدولة الإسلامية يؤخذ منهم نصف العشر، أما
التجار من الكفار الذين يدخلون البلاد الإسلامية بتجارتهم، فيؤخذ منهم
العشر.
وكانت حصيلة تلك الأموال تدخل (ديوان الخراج)، ويُنقَق منها على
الجند، والموظفين، والمرافق العامة للدولة، وهذا الديوان كان موجودًا
من عصر الراشدين، لكنه تطوَّر واتسع نطاق عمله باتساع الدولة فى
العصر الأموى.
وهناك دواوين أخرى أنشأها الأمويون أنفسهم، منها:
ديوان البريد:
وأصل هذا الديوان فى الواقع كان موجودًا منذ عهد النبى - صلى الله
عليه وسلم -، فقد بعث كثيرًا من الرسائل إلى الملوك والأمراء
المعاصرين له، يدعوهم إلى الإسلام، وحمل هذه الرسائل سفراء
ومبعوثون من قِبله، لكن (معاوية بن أبى سفيان) أنشأ لهذا النوع من
العمل ديوانًا خاصا، وهو الجديد فى ذلك الأمر، وجعل له موظفين
معينين، يقومون على العمل به، وقام (ديوان البريد) بمهمتين:
- الأولى: نقل الرسائل من دار الخلافة وإليها، وكان بعضها رسائل
داخلية، وهى المتبادلة بين الخليفة وولاة الأقاليم وكبار الموظفين،
وبعضها الآخر رسائل خارجية وهى التى يتبادلها الخليفة مع ملوك
الدول الأجنبية وزعمائها.(2/35)
- والأخرى: مراقبة أعمال الولاة وكبار الموظفين، ومتابعة سلوكهم
وأسلوبهم فى إدارة ولاياتهم، وموافاة الخلافة بتقارير منتظمة؛
حتى يكون الخليفة على علم تام بكل ما يجرى فى كل الولايات.
وكانت تلك المهمة جليلة الشأن، تُطْلع الخليفة على أى خلل أو قصور
فى الإدارة، فيسارع إلى تدارك ذلك، ولذا اهتم الأمويون بديوان
البريد اهتمامًا عظيمًا لأثره البالغ فى حسن سير الإدارة ومراقبة
الموظفين.
ديوان الخاتم:
وهو يختص بحفظ نسخة من المراسلات التى كانت تدور بين الخليفة
وولاته وكبار موظفيه فى الداخل، أو بينه وبين غيره من الحكام
الأجانب، بعد ختمها بخاتم خاص، وهو بذلك أشبه ما يكون بإدارة
الأرشيف فى النظم الإدارية الحديثة، وكانت النسخة المرسَلة تُطوَى
وتغلق بالشمع، حتى لا يمكن فتحها والاطلاع على محتوياتها إلا عند
الضرورة، وقد أنشأ هذا الديوان (معاوية بن أبى سفيان)؛ لمنع
التزوير والتلاعب فى مراسلات الدولة.
وكان ختم الرسائل بخاتم خاص معروفًا فى الدولة الإسلامية منذ عهد
النبى - صلى الله عليه وسلم -، فعندما عزم النبى - صلى الله عليه
وسلم - على إرسال رسائله إلى الملوك والأمراء المعاصرين له،
لدعوتهم إلى الإسلام، قال له بعض أصحابه: إن الأعاجم - يقصدون
(كسرى) و (قيصر) - لا يقبلون رسالة إلا إذا كانت مختومة؛ فاتخذ
خاتمًا من فضة لختم رسائله، نقش عليه: محمد رسول الله، واتخذ له
حاملا خاصًا، سُمى (حامل خاتم النبى)، وكان اسمه (معيقب بن أبى
فاطمة الدوسى)، وظل الخلفاء الراشدون يستخدمونه فى ختم
رسائلهم حتى سقط من يد (عثمان بن عفان) - رضى الله عنه - فى بئر
(أريس)، فاتخذ خاتمًا آخر صنع على مثاله، لكن (معاوية بن أبى
سفيان) طوَّر تلك البدايات طبقًا لمقتضيات العصر، واتساع رقعة
الدولة، وكثرة المراسلات المتبادلة.
ديوان الرسائل:
ووظيفته صياغة الكتب والرسائل والعهود التى كانت تصدر عن دار(2/36)
الخلافة، سواء إلى الولاة والعمال فى الداخل، أو إلى الدول
الأجنبية، كما يتلقى الرسائل الآتية من تلك الجهات أيضًا، وعرضها
على الخليفة.
وكان كُتاب ذلك الديوان يختارون بعناية، من بين المشهورين بالبلاغة
والفصاحة، والمعروفين بالتبحر فى اللغة العربية وآدابها وعلوم
الشريعة الإسلامية، والمتصفين بالمروءة والأخلاق الحميدة، كما
يراعى أن يكونوا من أرفع الناس حسبًا ونسبًا.
وقد حفل العصر الأموى بأفذاذ الكتَّاب، كان أشهرهم على الإطلاق
(عبدالحميد بن يحيى)، كاتب الخليفة (مروان بن محمد)، آخر خلفاء
(بنى أمية)، وصاحب الرسالة المشهورة التى وجهها إلى الكُتَّاب
ناصحًا ومعلمًا، وهى آية من آيات الفصاحة والبلاغة، وضمّنَها
الشروط التى يجب أن توجد فى من يقوم بتلك المهمة الجليلة بين يدى
الخلفاء والأمراء.
واختص (ديوان الرسائل) - إلى ما سبق - بقيامه بالعلاقات الخارجية
مع الدول الأجنبية، وإشرافه على الوفود التى كانت تأتى من
الخارج، لعقد معاهدة أو تبادل منافع، وتعهدهم فى بيوت الضيافة
المعدة لذلك، وتعيين المرافقين لهم - حسب أهميتهم - طوال مدة
إقامتهم، وإطلاعهم على المعالم والأماكن التى تستحق الزيارة، كما
كان يشرف على الوفود التى كانت ترسلها الدولة الأموية إلى
الخارج، وإعدادها الإعداد الكافى، وهذا يعنى أن (ديوان الرسائل)
كان يقوم بما يشبه وظيفة وزارة الخارجية فى الحكومات المعاصرة.
ديوان العمال:
ويختص بتسجيل أسماء الموظفين المدنيين فى الدولة، وترتيب
أعمالهم ووظائفهم، وتحديد رواتبهم، وقد سبقت الإشارة إلى أن
سجلات ذلك الديوان فى (البصرة) وحدها فى ولاية (عبيدالله بن زياد)
(55 - 64هـ)، كانت تحوى مائة وأربعين ألف موظف مدنى.
تعريب دواوين الخراج:
كانت كل الدواوين التى سبق الحديث عنها يجرى العمل فيها منذ
نشأتها باللغة العربية، ما عدا (ديوان الخراج) الذى كان يستخدم(2/37)
لغات أجنبية، كالفارسية فى بلاد فارس و (العراق)، واليونانية فى
(مصر) و (الشام).
وظل هذا الوضع مستمرا حتى خلافة (عبدالملك بن مروان) (65 - 86هـ)،
الذى أخذ على عاتقه تعريب دواوين الخراج؛ لأن الضرورة التى دعت
إلى استخدام اللغات غير العربية فيها قد زالت، بوجود عدد كافٍ من
الموظفين العرب الذين يجيدون العمل فى تلك الدواوين، واستعد
(عبدالملك) لهذا العمل استعدادًا جيِّدًا، بإعداد فريق كبير من العاملين
العرب، المدربين للعمل فى دواوين الخراج، المجيدين للفارسية
واليونانية؛ ليتسنَّى لهم ترجمة أعمال تلك الدواوين إلى العربية، ولم
يكن ذلك العمل سهلا يسيرًا، وإنما تطلَّب جهدًا وعملا دائبًا.
وأول ديوان عُرِّب هو (ديوان الخراج) المركزى فى (دمشق) عاصمة
الخلافة الأموية وحاضرتها، وأشرف على ذلك العمل (سليمان بن سعد
الخشنى) الذى كان يعد من أبرز الكتاب فى عهد (عبدالملك)،
وشاركه عدد كبير من الموظفين، وقد نجح (سليمان) فى إنجاز ذلك
العمل فى سنة كاملة، وكافأه الخليفة على ذلك بخراج إقليم الأردن
كله لمدة عام، ممَّا يدل على أهمية ذلك العمل واهتمام الخلافة
بإنجازه فى أقصر وقت.
ثم تكفَّل (الحجاج بن يوسف الثقفى) والى (العراق) بنقل (ديوان
الخراج) فيها، وفى بقية الأجزاء الشرقية من الدول الإسلامية إلى
اللغة العربية، وعهد بتلك المهمة إلى كاتبه (صالح بن عبدالرحمن)،
وأشرف (عبدالله بن عبدالملك بن مروان) والى (مصر) (85 - 90هـ) على
نقل ديوان خراجها من اليونانية إلى العربية.
واستمرت عملية تعريب دواوين الخراج نحو نصف قرن من الزمان،
وكان آخر ديوان خراج تم تعريبه هو ديوان (خراسان)، على يد (نصر
بن سيار) سنة (124هـ)، فى خلافة (هشام بن عبدالملك)، وبذلك
أصبحت اللغة العربية هى اللغة الوحيدة السائدة فى كل المعاملات
المالية فى الدولة الإسلامية.
ولم يقتصر أثر تعريب الدواوين على النواحى المالية والإدارية، وإنما(2/38)
كان له أثر عظيم فى انتشار الإسلام واللغة العربية فى البلاد
المفتوحة، لأن أبناء تلك البلاد أقبلوا على تعلُّم العربية؛ ليبقُوا فى
وظائفهم فى الديوان، ثم قادتهم العربية إلى معرفة الإسلام فأقبلوا
على اعتناقه.
وكما قام (عبد الملك بن مروان) بتعريب دواوين الخراج، أقدم على
خطوة أخرى لا تقل أهمية عن تعريب الدواوين، وهى تعريب النقد
المتداول فى الدولة، وكانت الدولة الإسلامية إلى عهده تستخدم
الدنانير البيزنطية، فقضى على هذا وأمر بإنشاء دور لسك النقود
فى (دمشق) وغيرها من المدن الإسلامية، لسك العملات التى تحمل
شعارات إسلامية، وألغى تداول العملات غير الإسلامية، وبهذا صبغ
الدولة كلها، بأجهزتها ودواوينها بالصبغة العربية الإسلامية.
الحاجب:
- (وظيفة الحاجب) من الوظائف المهمة فى الدولة الإسلامية، وهى
وثيقة الصلة بدار الخلافة، واختص صاحبها بترتيب مواعيد الخليفة،
وعرض الأعمال عليه، وتنظيم دخول القادمين لمقابلته من كبار رجال
الدولة والأمراء والوزراء والقادة، فهى أشبه بوظيفة (رئيس ديوان
رئاسة الجمهورية) فى النظم الجمهورية المعاصرة، أو وظيفة (رئيس
الديوان الملكى) فى النظم الملكية.
وقد حرص خلفاء (بنى أمية) أن يكون حُجَّابهم من أهل بيتهم، أو من
أقرب الناس إليهم من أهل الشرف والحسب والنسب، ومن ذوى الفقه
والرأى، والثقافة العالية، والعلم الغزير؛ لأنهم عدُّو (الحاجب) وجههم
الذى يطالعون به الناس، ولسانهم الذى يتحدثون به إليهم، كما
حرصوا أن يكون حجَّاب ولاتهم فى الأقاليم على المستوى نفسه.
القضاء فى العصر الأموى:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتولَّى القضاء بنفسه فى
(المدينة)، ثم أذن لبعض أصحابه بالقضاء بين الناس، لما انتشر أمر
الدعوة الإسلامية فى شبه الجزيرة العربية، وكثرت القضايا
والخصومات، وكانوا يقضون على أساس القرآن الكريم والسنة
النبوية، والاجتهاد فيما لم يرد فيه نص من كتاب الله أو سنة رسوله،(2/39)
ومن الصحابة الذين كانوا يتولون القضاء فى حياة النبى - صلى الله
عليه وسلم - (عمر بن الخطاب) و (على بن أبى طالب)،و (معاذ بن جبل)،
و (عبد الله بن مسعود)، وغيرهم.
ولما بويع (أبو بكر الصديق) بالخلافة، وانشغل بمحاربة المرتدين
وتسيير الجيوش لفتح (العراق) و (الشام)، وكثرت عليه أعباء الدولة؛
خصَّ (عمر بن الخطاب) بالقضاء فى (المدينة).
وفى عهد (عمر بن الخطاب) اتسعت الدولة اتساعًا كبيرًا، فعيَّن قضاة
من قبله على الولايات، فعيَّن (كعب بن سور) على قضاء (البصرة)،
و (شريحا) على قضاء (الكوفة)، ومن أشهر من تولوا القضاء فى عهد
(عمر) (أبو موسى الأشعرى)، الذى كتب له (عمر) رسالة مشهورة،
بين له فيها أهم الأسس والمبادئ التى ينبغى للقاضى أن يسير
عليها، واستمر (عثمان) و (على بن أبى طالب) فى تعيين القضاة من
قبلهم على الولايات.
وسار الأمويون على سنة الراشدين فى تعيين القضاة على الأقاليم،
وحرصوا على أن يكون قضاتهم من أهل الاجتهاد والورع والتقى،
ولم يتدخلوا فى عملهم، وخضعوا لأحكامهم مثل غيرهم من عامة
الناس.
وقد اتسعت دائرة عمل القضاة فى العصر الأموى، نظرًا إلى اتساع
مساحة الدولة، وكثرة المشاكل والمنازعات بين الناس، مما أدَّى إلى
اتساع دائرة الفقه الإسلامى، لأن كثيرًا من أحكام القضاة فى تلك
الفترة أصبحت قواعد فقهية عند تدوين الفقه بعد ذلك، وكان بعض
القضاة يسجل أحكامه فى القضايا التى يفصل فيها، وأول من فعل
ذلك قاضى (مصر) (سليم التجيبى) فى عهد (معاوية بن أبى سفيان).
ومن أشهر القضاة فى العصر الأموى (أبو إدريس الخولانى)،
و (عبد الرحمن بن حجيرة)، و (أبو بردة بن أبى موسى الأشعرى)،
و (عبد الرحمن بن أذينة)، و (هشام بن هبيرة)، و (عامر بن شراحبيل
الشعبى)، و (عبد الله بن عامر بن يزيد اليحصبى)، وكثيرون غيرهم.
قضاء المظالم:
استُحدث هذا النظام القضائى فى العصر الأموى، وهو نوع من أنواع(2/40)
القضاء المستعجل، الذى يتطلب البتّ السريع فى القضايا التى لا
تحتمل الانتظار، ويبدو أن الذى أدَّى إلى استحداث هذا النوع من
القضاء هو حدوث خصومات بين أطراف غير متكافئة، كأن يكون أحد
طرفى الخصومة أميرًا أو واليًا أو من عِلْية القوم، الأمر الذى يتطلب
حزمًا وشدة، لردع الخصم المتعالى.
ولم يُعمَل بهذا النوع من القضاء فى عهد النبى - صلى الله عليه وسلم -
ولا فى عصر الخلفاء الراشدين، لأن الناس كانوا فى الغالب لا يتعالى
أحدهم على خصمه، على حين تغيَّر الحال بعض التغيُّر فى العصر
الأموى، ولم يعد الوازع الدينى كما كان فى العهد النبوى وعصر
الراشدين، ولم يعد القضاء العادى كافيًا للفصل فى جميع
المنازعات، لمجاهرة بعض الناس بالظلم والتعالى على الخصوم،
فدعت الضرورة إلى إنشاء هذا النوع المسمى بقضاء المظالم، وكان
له ديوان يعرف بديوان المظالم، وكانت سلطته أعلى من سلطة
القاضى.
ونظرًا إلى أهمية هذا القضاء وما يتطلبه من الحزم والهيبة، فقد كان
بعض خلفاء (بنى أمية) يتولونه بأنفسهم، وأول من جلس منهم لقضاء
المظالم هو (عبدالملك بن مروان).
وكما كان قاضى المظالم يقضى بين الأفراد عامة، فإنه كان يقضى
بين الأفراد وكبار المسئولين، الذين يحيدون عن طريق العدل
والإنصاف من الولاة وعمال الخراج.
الحسبة:
(الحسبة) نظام إسلامى يقوم بالإشراف على المرافق العامة، ومنع
أى انحراف، وعقاب المذنبين، وهى وظيفة دينية شبه قضائية،
عرفها التاريخ الإسلامى من بدايته.
تقوم على فكرة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، امتثالا لقوله
تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر} [آل عمران: من 104].
والأصل فى هذا النظام الإسلامى هو قيام الناس جميعًا بهذا الواجب
الذى هو من فروض الكفاية، لكن الدولة الإسلامية لم تدع ذلك الأمر
للأفراد؛ خوفًا من حدوث فتن ومشاحنات، وإنما نظَّمته، وجعلته(2/41)
وظيفة خاصة لها مسئول، يعاونه عدد كبير من الناس.
ولا يعنى تنظيم الدولة لوظيفة (الحسبة) منع الأفراد من الأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر، بل من واجبهم القيام بهذا، بشرط أن يكون القائم
به عالمًا فقيهًا، وألا يؤدى أمره بالمعروف إلى منكر، ونهيه عن
المنكر إلى منكر أشد، وأن يكون عمله عن طريق النصيحة.
ولما لم يكن من طبيعة الناس كلهم الاستجابة إلى النصح بالتى هى
أحسن، فقد نشأت وظيفة (المحتسب)، واشترط فى شاغلها أن يكون
من أهل الهيبة، ليضرب بقوة على أيدى العابثين بأمن المجتمع فى
غذائه وصناعته وتجارته، وعلى من لا يراعى أصول الشريعة
ومبادئها فى سلوكه، ويضايق الناس بأقواله وأفعاله.
ولم يقتصر عمل (المحتسب) على ضبط سلوك العامة، ومراقبة
أعمالهم، وإنما شمل كبار موظفى الدولة، لحملهم على أداء عملهم
على أفضل ما يكون، ومنعهم من الفساد والتعدى على الناس وقبول
الرشوة، وغير ذلك.
وبدأ نظام (الحسبة) مع بداية الدولة الإسلامية، مثل غيره من النظم
التى سبق الحديث عن بعضها، فقد ثبت فى الصحيح أن الرسول
- صلى الله عليه وسلم - كان أول من باشر عمل (المحتسب) بنفسه، مما
يدل على أهميته، فروى (أبو هريرة) - رضى الله عنه - أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - مرَّ على رجل يبيع القمح فى سوق (المدينة)
وأمامه صبرة - كومة كبيرة - فأدخل فيها يده الشريفة، فأصابت
بللا، فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟). فقال: أصابته السماء يا
رسول الله. فقال - صلى الله عليه وسلم -: (أفلا جعلته فوق الطعام كى
يراه الناس؟ من غشَّ فليس منَّا). [صحيح مسلم].
وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - يعين من الصحابة من يقوم بهذا
العمل ويراقب الأسواق لمنع الغش فى كل شىء، فكلَّف (عمر بن
الخطاب) بمراقبة سوق (المدينة المنورة)، وعين (سعيد بن العاص)
لمراقبة سوق (مكة) بعد فتحها.
واستمر الخلفاء الراشدون يباشرون عمل (المحتسب) بأنفسهم أحيانًا،(2/42)
وينيبون غيرهم للقيام به فى أحيان أخرى.
ولما اتسعت الدولة الإسلامية فى عصر (بنى أمية)، عجز الخلفاء عن
القيام بعمل (المحتسب) بأنفسهم؛ لانشغالهم بمهام كثيرة سياسية
وإدارية وعسكرية، وخصصوا لهذا العمل من يقوم به، وأصبح نظام
(الحسبة) ووظيفة (المحتسب) من أهم النظم الإسلامية التى تعمل على
سلامة المجتمع، وتنقيته من كل المفاسد.
وقد امتد عمل (المحتسب) إلى كل مجالات الحياة تقريبًا، وقد لخَّص
(ابن خلدون) فى مقدمته اختصاصات (المحتسب) فقال: (ويبحث -
المحتسب - عن المنكرات، ويعزِّر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس
على المصالح العامة فى المدينة، مثل المنع من المضايقة فى
الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار فى الحمل - لئلا
تغرق السفينة بمن فيها - والحكم على أهل المبانى المتداعية
للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقَّع من ضررها على السابلة - أى:
المارة فى الطريق - والضرب على أيدى المعلمين فى المكاتب
وغيرها فى الإبلاغ - أى المبالغة - فى ضربهم للصبيان المتعلمين، ولا
يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء، بل له النظر والحكم فيما يصل
إلى علمه من ذلك، ويرفع إليه، وليس له الحكم فى الدعاوى مطلقًا،
بل فيما يتعلق بالغش والتدليس فى المعايش وغيرها، وفى المكاييل
والموازين، وله أيضًا حمل المماطلين على الإنصاف، وأمثال ذلك مما
ليس فيه سماع بيِّنة، ولا إنفاذ حكم، وكأنها أحكام ينزَّه القاضى
عنها لعمومها، وسهولة أغراضها، فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة
ليقوم بها، فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء).
وإذا نظرنا إلى عمل (المحتسب) الذى هدفه هو راحة الناس فى ضوء
النظم الحكومية المعاصرة نجده موزعًا بين العديد من الوزارات
والهيئات، مثل وزارة التموين، والصحة، والصناعة، والتعليم،
والزراعة، والداخلية، والنيابة العامة، ومصلحة الدمغة، والموازين،
والمرافق بمختلف أنواعها.
الشرطة:(2/43)
يُعدُّ جهاز (الشرطة) من أقدم الأجهزة فى الدولة الإسلامية، فقد عُرف
منذ عهد النبى - صلى الله عليه وسلم -، وكان له (صاحب شرطة) - أى
رئيس لها - فعن (أنس بن مالك) أنه قال: (كان قيس بن سعد بن عبادة
من النبى - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير).
[صحيح البخارى].
ومن الذين عُرفوا بالقيام بوظيفة الشرطى فى (المدينة) فى عهد
الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (سعد بن أبى وقاص) و (بديل بن
ورقاء)، و (أوس بن ثابت بن عرابة)، و (رافع بن خديج).
واستمر الخلفاء الراشدون فى الاستعانة ببعض الصحابة للقيام بعمل
الشرطى؛ استتبابًا للأمن، وحفظًا للنظام، وتعقبًا للجناة والمفسدين
فى الأرض، وتنفيذًا للأحكام والحدود التى يحكم بها القضاة.
وقد ازدادت أهمية جهاز (الشرطة) فى الدولة الأموية، نظرًا إلى
الظروف التى كانت تحيط بها، وكثرة الخارجين عليها والثائرين
ضدها، فتوسعت فى استخدام (الشرطة)، حتى أصبح جهازًا من أكبر
أجهزة الدولة، قادرًا على حفظ الأمن وتطهير البلاد من عناصر الفساد
والعبث بالنظام العام للمجتمع.
وحرص الأمويون على اختيار رجال شرطتهم من أهل الشرف والبأس
الشديد، والعفة والمروءة والحزم، وأعطوا (صاحب الشرطة) الحرية
التامة فى اختيار معاونيه، ليؤدوا مهمتهم على الوجه الأكمل، فيروى
عن (الحجَّاج بن يوسف الثقفى) والى (العراق) والمشرق الإسلامى أنه
قال: (دلونى على رجل للشرطة)، فقيل له: (أى الرجال تريد؟)
قال: (أريده دائم العبوس - أى جاداً فى ملامحه- طويل الجلوس، سميق
الأمانة، أعجف الخيانة -أى لا يخون-) فقيل له: (عليك بعبد الرحمن بن
عبيد التميمى)، فأرسل إليه يستعمله على (الشرطة)، فقال: (لست
أقبلها إلا أن تكفينى عيالك وولدك وحاشيتك)، فقال (الحجاج): (يا
غلام نادِ فى الناس: من طلب إليه منهم حاجة فقد برئت منه الذمة).
ويعلّق (الشعبى) راوى هذا الخبر بقوله: (فو الله ما رأيت صاحب(2/44)
شرطة قط مثله، كان لا يحبس إلا فى دين - أى: من أجل مخالفة
لتعاليم الدين - وكان إذا أُتى برجل قد نقَّب على قوم وضع منقبته
فى بطنه حتى تخرج من ظهره، وإذا أُتى بنبَّاش حفر له قبرًا فدفنه
فيه، وإذا أُتى برجل قاتل بحديدة أو شهر سلاحًا قطع يده، وإذا
أتى برجل قد أحرق على قوم منزلهم أحرقه .. فكان ربما أقام
أربعين ليلة لا يؤتى بأحد - لخوف الناس منه لشدته وهيبته - فضم إليه
الحجاج شرطة البصرة مع شرطة الكوفة).
وبعد هذا الحديث الموجز عن النظم والإدارة فى العصر الأموى يمكن
القول: إن إدارة الأمويين للدولة الإسلامية كانت إدارة حسنة بصفة
عامة، تقوم على أسس ثابتة، تبغى الصالح العام، وإشاعة الأمن
والاستقرار فى الدولة المترامية الأطراف، وإن شاب ذلك بعض القصور
والأخطاء، وحسب الأمويين أنهم لم يكفُّوا عن تطوير أجهزة الدولة
ودواوينها التى كانت موجودة قبلهم، واستحدثوا غيرها حين دعت
الضرورة إلى ذلك، وأنهم بذلوا جهدًا فى التدقيق فى اختيار الولاة
والعمال والموظفين، وأحسنوا مراقبتهم ومتابعتهم، ونجحوا فى ذلك
إلى حد كبير.
طبقات المجتمع:
من يتأمل حياة المجتمع الإسلامى فى العصر الأموى يرى أنه يمكن
تقسيمه إلى خمس طبقات:
- الطبقة الأولى: الخلفاء وأبناؤهم وأفراد أسرتهم، وهؤلاء بحكم
وضعهم أصبحوا فى منزلة لا يدانيهم فيها أحد.
- الطبقة الثانية: كبار الولاة والقادة وغيرهم من كتاب الدواوين.
- الطبقة الثالثة: العلماء وإن اختلفت أجناسهم، وهذه الطبقة وإن كان
ترتيبها المرتبة الثالثة من الناحية الاجتماعية، فإن كثيرين منها كانوا
يحظون بحب الناس وتقديرهم ربما بأكثر مما يحظى به الخلفاء
والأمراء.
- الطبقة الرابعة: كبار الأثرياء والتجار ورؤساء العشائر.
- الطبقة الخامسة: عامة الناس من الزراع والحرفيين.
تطور معيشة الخلفاء الأمويين ومظهرهم:
لم يستطع خلفاء (بنى أمية) المحافظة على نمط حياة الخلفاء(2/45)
الراشدين، من بساطة وزهد فى المأكل والملبس والمسكن، ولم تطقه
نفوسهم، حتى إن (معاوية بن أبى سفيان) صرَّح بعدم قدرته على
مجاراة سلوكهم، وهو مؤسس الدولة، وكاتب الوحى لرسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، وقال: (لقد رمت نفسى على عمل ابن أبى
قحافة - أبى بكر الصديق - فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه،
وأردتها على عمل ابن الخطاب، فكانت أشد نفورًا وأعظم هربًا من
ذلك، وحاولتها على مثل عثمان فأبت علىَّ، وأين مثل هؤلاء؟ ومن
يقدر على أعمالهم؟ هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم؟ رحمة
الله ورضوانه عليهم، غير أنى سلكت بها طريقًا لى فيه منفعة ولكم
فيه مثل ذلك، ولكل فيه مؤاكلة حسنة، ومشاربة جميلة ما استقامت
السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدونى خيركم، فأنا خير لكم).
وعلى هذا عاش (معاوية) فى (دمشق) التى اتخذها عاصمة لدولته
عيشة فيها توسع فى المأكل والمشرب والملبس والمسكن، والحق
أن (معاوية) كان يعيش وهو أمير على الشام حياة نعمة وسعة إذا ما
قورنت بحياة الخلفاء الراشدين، بل إن (عمر بن الخطاب) لم ينكر عليه
مثل هذه الحياة، ولم ينهه عنها، ففى إحدى زيارات (عمر) إلى الشام
لقيه أميرها (معاوية) وهو فى أبهة الملك وزيِّه، فاستنكر (عمر) ذلك
فى البداية، وقال: (أكسرويه يا معاوية؟)، يعنى أتتشبَّه بكسرى؟،
فقال (معاوية): (يا أمير المؤمنين إنا فى ثغر تجاه العدو -يقصد الدولة
البيزنطية - وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة)، فسكت
(عمر) ولم يخطِّئه لما وجد حجته قوية.
وإذا كان (معاوية) توسَّع فى معيشته وهو أمير، فليس بغريب بعد أن
أصبح خليفة أن تحف به مظاهر الملك، من اتخاذ الحراس والشرطة،
والحجاب، وإرخاء الستور، وسكنى القصور ذات الحدائق الغنَّاء فى
عاصمته (دمشق) التى تعد من أقدم مدن العالم، وكانت عامرة
بالمبانى الفاخرة والحدائق والبساتين، بل إنه اتخذ مقصورة ليصلى(2/46)
فيها منعزلا عن الناس بعد تعرضه لمحاولة اغتيال سنة (40هـ).
ونظرًا لهذه الحياة المترفة الباذخة قيل عن (معاوية): إنه كان ملكًا لا
خليفة، بل رُوى عنه نفسه أنه قال: (أنا أول الملوك)، ووصفه (ابن
عباس) بأنه كان ملكًا، وقال عنه (ابن تيمية): (فلم يكن من ملوك
المسلمين ملك خيرًا من معاوية، ولا كان الناس فى زمان ملك من
الملوك خيرًا منهم فى زمان معاوية، إذا نسبت أيامه إلى أيام من
بعده، أمَّا إذا نسبت إلى أيام أبى بكر وعمر ظهر التفاضل)، كما
يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يؤيد أن حكم (معاوية)
كان بداية الملك فى الإسلام، فقال: (إن هذا الأمر بدأ رحمة ونبوة، ثم
يكون رحمة وخلافة، ثم كائن ملكًا عضوضًا). [ابن كثير].
وقال: (الخلافة بعدى ثلاثون سنة، ثم تكون ملكًا). [ابن كثير].
ولا يظنن أحد أن وصف (معاوية بن أبى سفيان) - رضى الله عنه -
بالملك فيه انتقاص من قدره؛ لأن الملك لا يُذَم لذاته، وإنما لما يحفّ به
من المظالم والطغيان، أمَّا إذا قام على الحق وبالحق فلا يُذَم، ولو
كان الملك مذمومًا فى ذاته ما تمنَّاه (سليمان بن داود) - عليهما السلام
- حيث قال: {رب اغفر لى وهب لى ملكًا لا ينبغى لأحد من بعدى}.
[ص: من 35].
والإسلام لا يهمه ما يُلقَّب به الحاكم المسلم، خليفة كان أو ملكًا، وإنما
يعنيه أن يحكم بشريعة الله وسنة رسوله.
إن حياة الترف التى عاش فيها خلفاء الدولة الأموية، كانت من
مقتضيات التطور الاجتماعى الطبيعى فى حياة الأمة، بعد أن كثرت
الأموال فى أيديهم كثرة هائلة من الغنائم، وكان من الطبيعى أن
يؤدى ذلك إلى الميل إلى حياة الترف، ولم يكن فى وسع أحد أن
يوقف ذلك الميل، بل إن (ابن خلدون) رأى أن الترف فى أول نشوء
الدولة كان مطلوبًا؛ لأنه يزيدها قوة على قوتها، وعقد لذلك فصلا
فى مقدمته -المعروفة- بعنوان: (فصل فى أن الترف يزيد الدولة فى
أولها قوة إلى قوتها).(2/47)
والمتأمل لتاريخ الدولة الأموية يتفق مع (ابن خلدون) فى هذا التعليل،
لأن (معاوية بن أبى سفيان) ومن تلاه من أوائل خلفاء الدولة
استخدموا الأموال فى تأليف الناس حولهم واستكثروا من الذرية
والموالى والصنائع - الأنصار والأتباع - لترسيخ قواعد الدولة حتى
بلغت أوج قوتها، وفى ذلك يقول (ابن طباطبا) بعد أن وصف
(معاوية) بالحلم وحسن السياسة والتدبير للملك: (وكان كريمًا باذلا
للمال، محبا للرياسة، شغوفًا بها، كان يفضل على أشراف رعيته
كثيرًا، فلا يزال أشراف قريش، مثل: عبدالله بن العباس، وعبدالله بن
الزبير، وعبدالله بن جعفر الطيار، وعبدالله بن عمر، وعبدالرحمن بن
أبى بكر، وأبان ابن عثمان وناس من آل أبى طالب - رضى الله عنهم
- يفدون عليه بدمشق، فيكرم مثواهم، ويحسن قراهم، ويقضى
حوائجهم، بمثل هذه السياسة صار خليفة العالم الإسلامى وخضع له
أبناء المهاجرين والأنصار، وكل من يعتقد أنه أولى منه بالخلافة).
وسار (يزيد بن معاوية) على خطى أبيه فى الإحسان إلى الناس
واستمالتهم بالأموال، وكذلك فعل (مروان بن الحكم) وابنه (عبدالملك)
وأولاده.
تحرى بنى أمية للحق والعدل:
حرص خلفاء الدولة الأموية الأوائل وأمراؤها على الالتزام بمقررات
الإسلام فى جمع الأموال، والإذعان لكلمة الحق مهما يكن قائلها،
فحين أراد (معاوية بن أبى سفيان) أن يزيد على أهل (مصر) فى
مقدار الجزية التى فرضت عليهم عند أول الفتح الإسلامى لبلادهم، إذا
بعامله على بيت المال - (وردان) - يقول له: (كيف تزيد عليهم يا أمير
المؤمنين وفى عهدهم ألا يزاد عليهم) فيذعن الخليفة لقول عامله
ويكف عن الزيادة، وعندما أراد (عبدالعزيز بن مروان) والى (مصر)
(65 - 85هـ) أن يأخذ الجزية من المسلمين الجدد عارضه القاضى (ابن
حجيرة) قائلا له: (أعيذك بالله أيها الأمير أن تكون أول من سنَّ ذلك
بمصر) فتركهم.
وظلت معارضة العلماء قوية لكل من تسول له نفسه الخروج على(2/48)
مبادئ الإسلام حتى جاء (عمر بن عبدالعزيز) (99 - 101هـ) فقضى
تمامًا على كل سلوك شاذ، وصاح صيحته الخالدة فى وجوه العمال
الذين كان همهم جمع المال بأى طريقة، قائلا لهم: (قبح الله رأيكم،
فإن الله - تعالى - بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هاديًا ولم يبعثه
جابيًا).
وإذا كان دخول الأموال إلى بيت المال خضع للعدل والتحرى، فإن
خروجه منه لم يخضع لمثل ذلك، والمصادر التاريخية التى أعطت
نماذج وأمثلة كثيرة على تحرى خلفاء (بنى أمية) العدل فى جمع
الأموال وجبايتها، هى نفسها التى تقدم أمثلة من التجاوزات التى
كانت تحدث فى إنفاق الأموال، سواء من الخلفاء وأبنائهم، أو من
عمالهم وولاتهم، وهذا دليل على نزاهة المصادر التاريخية وأمانتها
بصفة عامة، وأن مؤلفيها لم يجاملوا الحكام، وكانت لديهم الجرأة
والشجاعة لتسجيل كل مخالفة شرعية.
والحق أن بعض الخلفاء الأمويين قد تجاوزوا سنة الخلفاء الراشدين
فى نظرتهم إلى المال العام، وكان الراشدون ينزهون أنفسهم
وأولادهم تمامًا عن أموال المسلمين، ويحوطون بيت المال بالضمانات
التى تحفظ الأموال وتصونها؛ حتى لا تمتد إليها يد من لا يستحق، لكن
هذا الوضع تغيَّر كثيرًا فى العصر الأموى، ولم يعد هناك حد فاصل
بين بيت المال المركزى فى (دمشق) وبين مال الخلفاء، فأغدقوا
بالمنح والعطايا والهبات على أبنائهم وأقربائهم وأنصارهم
وشعرائهم الذين يمدحونهم ويروجون لأفكارهم وسياساتهم، وكذلك
لم يعد هناك حد فاصل بين بيوت المال فى الأقاليم والولايات وبين
مال الولاة، الذين كانت بيوت المال تحت إشرافهم المباشر يأخذون
منها ما يريدون، ويعطون من يشاءون.
وقد أدَّى ذلك إلى تضخُّم ثروات الخلفاء وأبنائهم وبعض ولاتهم،
حتى تولَّى الخلافة (عمر بن عبدالعزيز)، الذى بدأ عهده بالعكوف
على سجلات الدولة، وتحرَّى الإقطاعات والهبات التى مُنحت لأمراء
(بنى أمية) وأتباعهم، وأخذ فى رد الأموال التى ثبت أنها أُعطيت(2/49)
بغير حق إلى بيت مال المسلمين، وبدأ بنفسه، وعزل الولاة الذين
أفسدوا الحياة الإدارية والمالية، وعيَّن فى مكانهم ولاة من أهل
الخبرة والتقوى والصلاح.
وقد أدَّت سياسته الإصلاحية إلى نتائج باهرة فى غضون فترات
زمنية قصيرة (99 - 101هـ)، واستقامت الأمور وتحقق العدل، وتوافر
الحد الأدنى من المعيشة الكريمة لكل إنسان فى الدولة الإسلامية،
التى امتدت حدودها شرقًا وغربًا، ولم يعد فيها من يستحق الصدقة،
حتى ليروى الإمام (الذهبى) عن (عبدالرحمن بن يزيد بن عمر بن
أسيد) أنه قال: (والله ما مات عمر بن عبدالعزيز حتى جعل الرجل
يأتينا بالمال العظيم - الكثير - فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون، فما
يبرح حتى يرجع بماله كله، قد أغنى عمر الناس).
انحراف أواخر خلفاء بنى أمية عن الجادة:
لم يكن خلفاء الدولة الأموية المتأخرون على درجة عالية من الكفاءة
السياسية والإدارية، والسهر على رعاية مصالح المسلمين، وتحرى
العدل بصفة عامة كما كان خلفاء (بنى أمية) الأوائل، وإنما كانت
تنقصهم الكفاية والمقدرة السياسية، إلى جانب إفراطهم فى حياة
الترف، وعكوفهم على الملذات والشهوات، وتبديد الأموال وإنفاقها
فى وجوه غير مشروعة، وتركهم رعاية مصالح الأمة، وإهمالهم
مقاصد الشريعة، فزالت دولتهم نتيجة لهذا السلوك المعوج، وقد فطن
إلى ذلك خصمهم الخليفة العباسى (أبو جعفر المنصور) (136 - 158هـ)
فقال عنهم: (ولم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان،
يحوطونه ويصونون ما وهب الله لهم منه، مع تسنمهم معالى الأمور،
ورفضهم دنياتها، حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين، فكانت
همتهم قصد الشهوات، وركوب الملذات من معاصى الله، جهلا
باستدراجه وأمنًا لمكره، مع إطراحهم صيانة الخلافة، واستخفافهم
بحق الرئاسة، وضعفهم عن السياسة، فسلبهم الله العز، وألبسهم
الذل، ونفى عنهم النعمة).
مظاهر الحياة الاجتماعية:(2/50)
كان المجتمع الإسلامى فى العصر الأموى مجتمعًا شابا متوقِّدًا حياة
وفتوة فى كل شىء؛ ثراء عريض، وقوة عسكرية واقتصادية
هائلة، ونهضة علمية فى بواكيرها تنبئ بازدهار حضارة عظيمة،
وتخلل تلك الحياة الجادة بعض مظاهر اللهو والتسلية البريئة للترويح
عن النفوس.
مجالس الخلفاء وآدابها:
كان للخلفاء مجالس يعقدونها للمسامرة مع أقربائهم وأصدقائهم،
وكان لتلك المجالس آداب وطقوس خاصة، فى كيفية تعامل الناس مع
الخليفة فى حضرته، فيجب أن يكون كلامهم على قدر الحاجة، وأن
تكون ألفاظهم منتقاة، وكان الخلفاء يصونون مجالسهم عن الكذب
والنفاق، وقلما كان يستمع الخلفاء الأمويون الأوائل إلى الغناء،
وإنما كانوا يحبون سماع الشعر فى مجالسهم، على حين ترخص
المتأخرون منهم فى سماع الأغانى كثيرًا، وكانوا يظهرون للندماء
والمغنين، ومن أشهر من فعل ذلك، وتبذَّل حتى أزرى بمنصب
الخلافة فى نظر الناس (يزيد بن عبدالملك) وابنه (الوليد).
الطعام والشراب:
كانت حياة العرب بسيطة، وبخاصة فيما يتعلق بالطعام، ولم يتجاوز
أغلب طعامهم صنفًا أو صنفين، وكان أفضل طعامهم اللحم مع الثريد،
ولكن تغير الحال بعد الفتوحات الإسلامية، واتساع الدولة وكثرة
الأموال، ومخالطتهم الشعوب فى البلاد المفتوحة، وكانت أكثر منهم
مدنية، فعرفوا ألوانًا من الطعام والشراب، واستخدموا أدوات للمائدة
لم يكونوا يعرفونها من قبل، فاستخدموا (الفوط) و (الملاعق) الخشبية
والفخارية، التى كانت تأتيهم من (الصين)، وعرفوا (الموائد) الخشبية،
وجلسوا على كراسى خشبية حولها، وكانوا من قبل يجلسون على
الأرض ويأكلون بأيديهم.
وكان من عادة الخلفاء والأمراء والأغنياء إقامة الولائم لإطعام الناس،
وكان للأكل مع الخلفاء آداب خاصة، فوق الآداب العامة المعروفة
للطعام، فكما يقول (الجاحظ): (إن الأكل لم يكن للشبع وإنما للشرف،
فعلى من يؤاكلهم أن يراعى ذلك وألا يكون شرهًا فى تناول
الطعام).
الملابس:(2/51)
توسع المجتمع فى العصر الأموى وتأنق فى الملابس والأزياء، فلبس
الناس الحرير والديباج والإستبرق، وبخاصة الشباب الذين كانوا
يلبسون ملابس موشاة، وكانت الملابس تختلف من فئة إلى أخرى
على قدر ثرائها ومراكزها الاجتماعية، فكانت ملابس الفقهاء تختلف
عن ملابس الكتاب، وهؤلاء تختلف ملابسهم عن ملابس الجند، وكان
شيوخ القبائل ومن فى منزلتهم من علية القوم يرتدون الأقبية التى
تصل إلى الركبتين، يعلوها جلباب فضفاض يتدلَّى إلى العقبين.
وكانت عناية النساء بالملابس والأزياء أكثر من عناية الرجال،
وتكونت ثيابهن من سروال فضفاض وقميص مشقوق عند الرقبة،
وعند خروج المرأة إلى الشارع فإنها ترتدى عباءة تغطى جسمها
وتلف رأسها بمنديل يربط حول الرقبة، مثل (الإيشارب) الذى تستعمله
النساء فى الوقت الحاضر.
وتوسَّع النساء فى استخدام الحلى والجواهر من اللآلئ واليواقيت
والذهب وسائر أدوات التجميل.
وإلى جانب التأنق فى الملابس أحب الناس أنواع الطيب وأكثروا
منها، واستخدموا الحناء، وخضَّبوا بها لحاهم وأيديهم، وفعل الخلفاء
ذلك.
مكانة المرأة فى المجتمع:
كانت للمرأة مكانة كبيرة وأثر واضح فى الحياة العامة، ومن أشهر
النساء: (سكينة بنت الحسين بن على بن أبى طالب)، وكانت من أعلم
النساء وأظرفهن، وأحسنهن أخلاقًا، وتذكر المصادر التاريخية أن
الشعراء كانوا يجتمعون عندها وكان لها ذوق رفيع فى نقد الشعر،
ومما يذكر لها فى هذا المجال أنه اجتمع عندها يومًا
(جرير)،و (الفرزدق)، و (كثير عزة)، و (جميل بثينة)، وأنشدوا بين يديها
أشعارهم، فنقدت شعر كل منهم، ثم أجازت كل واحد بألف دينار.
وتقرن بسكينة فى هذا المجال (عائشة بنت طلحة)، وكانت نابغة فى
الأدب والسخاء كأبيها (طلحة) الجواد، وقد تزوج (مصعب بن الزبير)
حاكم (العراق) فى خلافة أخيه (عبدالله بن الزبير) (67 - 72هـ) كلا من
(سكينة) و (عائشة بنت طلحة)، بعد أن أمهر كل واحدة منهما مليون
درهم.(2/52)
ومن ألمع النساء فى ذلك العصر: (أم البنين) زوج الخليفة (الوليد بن
عبد الملك)، وقد اشتهرت بالفصاحة والبلاغة وقوة الحجة وبعد النظر،
وكانت لها مكانة كبيرة عند زوجها (الوليد) وكان يستشيرها فى
كثير من أمور الدولة.
وقد كثرت الجوارى من سبايا الحروب فى البيوت، مما كان له أثره
البالغ فى الحياة الاجتماعية، فقد نقلوا إلى البيت العربى عادات
شعوبهم وتقاليدها فى الطعام والشراب والملبس.
الاحتفال بالأعياد والمناسبات:
عيد الفطر وعيد الأضحى من أعظم المناسبات الدينية فى الإسلام،
يُظهِر فيهما المسلمون السرور، ويدخلون البهجة على أنفسهم
وأسرهم وجيرانهم.
كان الخلفاء يخرجون فى يوم العيد للصلاة فى موكب مهيب، يتقدمهم
الجند، ويحيط بهم الأمراء وكبار رجال الدولة، وتتجاوب أصوات
المسلمين بالتهليل والتكبير، وتقام الزينات، وتسطع المشاعل
والقناديل فى ليالى العيد، وكان لولاة الأقاليم مواكب تشبه مواكب
الخلفاء.
حفلات الزواج:
تطورت حفلات الزواج فى العصر الأموى لتجارى ما أصبح عليه
المجتمع من ترف وثراء، بعد أن كانت فى عهد الرسول - صلى الله
عليه وسلم - والخلفاء الراشدين غاية فى البساطة والبعد عن التكلف،
وبالغ الناس فى المهور، وقد سبق أن ذُكر أن (مصعب بن الزبير)
أمهر كلا من زوجتيه (سكينة بنت الحسين) و (عائشة بنت طلحة) مليون
درهم.
وكما بالغوا فى المهور بالغوا فى إقامة الولائم الحافلة بأطيب أنواع
الطعام، وفى يوم الزفاف يلعب الفتيان بالرماح، ويتسابقون بالخيل،
وتجلس النساء على النمارق ويتزين بالحلى والجواهر الثمينة، وتكون
العروس فى أبهى صورة وأجمل زينة، يحيط بها أترابها، يغنين لها
حتى تذهب إلى بيت زوجها.
وكانت تقام - أيضًا - حفلات لختان الأطفال، يحييها المغنون وأصحاب
الفكاهة، وهذا كان يحدث فى بيوت الصحابة والتابعين، فيذكر (ابن
قتيبة) فى (عيون الأخبار) أن (عبد الله بن عباس) - رضى الله عنهما -(2/53)
دعا بعض اللعَّابين فى حفل ختان بعض أولاده، فلعبوا بألعابهم،
فأعطاهم أربعمائة درهم، كما أن تلميذه (عطاء بن أبى رباح)
استدعى اثنين من كبار المغنين وهما (الغريض) و (ابن سريج) فى
حفل ختان ولده، وكان الناس يقيمون الموائد الفاخرة المليئة بألوان
الطعام فى هذه المناسبات.
وسائل الترفيه والتسلية:
عرفت المجتمعات الإسلامية فى ذلك العصر ضروبًا مختلفة من اللهو
واللعب والتسلية، وعلى رأسها الغناء الذى شغف به الناس كثيرًا،
فازدهر وأصبحت له دور خاصة يقصدها الناس للسماع والمتعة.
وشاع فى المجتمع أن اتخذ بعض الأثرياء المترفين أناسًا يضحكونهم
ويدخلون السرور على أنفسهم، ويزيلون منها الملل، وهذا النوع من
اللهو لا يوجد عادة إلا بعد أن تتحضَّر الأمة، وتسير أشواطًا كثيرة
فى حياة الترف، ومن ثم ظهرت طائفة من المضحكين، كان على
رأسهم (أشعب بن جبير) مضحك (المدينة)، وكان أشرافها يعجبون به
ويجالسونه، ويقيم عندهم أيامًا فى دورهم، وقد تناقل أهل (المدينة)
فكاهات (أشعب) ونوادره كما يتناقل الناس اليوم النكات، وأصبح
لكل مدينة أشعبها الذى يضحكها، وربما أكثر من أشعب.
وعرف المجتمع الإسلامى من وسائل اللهو والتسلية ألعاب النرد
والشطرنج، وقد تسامح بعض العلماء فى ذلك، حتى يُروَى أن
(سعيد بن المسيب) وهو من أئمة التابعين سُئل عن اللعب بالنرد،
فقال: (إذا لم يكن قمارًا فلا بأس بهـ)، والنرد هى لعبة (الطاولة)
المعروفة الآن، أخذها العرب هى والشطرنج من الفرس.
وإلى جانب ذلك شغل بعض الناس أنفسهم بأنواع من الرياضة،
كالصيد وسباق الخيل، وكان بعض خلفاء (بنى أمية) يحبون الصيد
لفوائده الكثيرة. ورأى كثير من الناس فى سباق الخيل تسلية
وترويضًا لأنفسهم على ركوب الخيل، التى كانت وسيلة القتال
الرئيسية، وأقام الأمويون حلبات لسباق الخيل، ويُروَى أن أول من
أقام تلك المسابقات من خلفاء بنى أمية هو الخليفة (هشام بن(2/54)
عبدالملك) (105 - 125هـ)، وكانت تشترك فيها أعداد كبيرة من
الخيول، بلغت فى إحدى المسابقات أربعة آلاف فرس.
ويجدر بالذكر أن كل ما سبق من عادات وتقاليد وضروب الحياة
الاجتماعية كان سائدًا فى كل العالم الإسلامى، على الرغم من تنوع
الأجناس التى ضمتها الدولة الأموية.
الأحوال الاقتصادية:
كثرت المصادر التى تحدثت عن الشئون الاقتصادية والمالية، مثل
كتاب (الخراج) لأبى يوسف المتوفى سنة (182هـ)، وكتاب (الأموال)
لأبى عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة (224هـ)، غير أن هذه
المصادر لا تقدم لنا إحصاءات عن دخل الدولة الإسلامية فى العصر
الأموى، ولا شيئًا من ميزانياتها، وإنما هى أبحاث فقهية على وجه
العموم، تبحث فى مسائل الغنائم والجزية والخراج وغير ذلك.
ويمكن أن نكوِّن فكرة عن الأحوال الاقتصادية فى ذلك العصر، من
خلال دراسة مستوى المعيشة التى كان يحياها الناس على اختلاف
مستوياتهم، واحتفالاتهم فى مناسباتهم الاجتماعية، كالأعياد
وحفلات الزواج والختان، ومن خلال الحركة العمرانية الكبيرة التى
شهدها ذلك العصر، من بناء المدن والمساجد وتعبيد الطرق وغيرها
من المنشآت، بالإضافة إلى الخدمات المجانية التى تقدمها الدولة
للناس، كالعلاج وإعالة المحتاجين. وكل هذه المشروعات لم تكن
لتقام إلا إذا كانت موارد الدولة المالية تسمح بذلك، كما أن السياسة
المالية التى اتبعها (عمر بن عبدالعزيز) قضت على الفقر فى ربوع
الدولة، إلى الحد الذى كان لا يجد فيه عمال الصدقات فقراء يعطونهم
منها، لأن الناس فى كفاية من الرزق، فأمر الخليفة أن يساعد من تلك
الأموال من يريد الزواج من الشباب، ويعين من يبغى أداء فريضة
الحج، وأن يشترى الأرقاء لتحريرهم.
موارد الدولة:
وتتمثل فى:
- خراج الأرض المفتوحة:
ويأتى على رأس موارد الدولة فى العصر الأموى، وكانت تلك
الأراضى مملوكة للدولة الإسلامية منذ الفتوحات الأولى فى عهد (عمر(2/55)
بن الخطاب) - رضى الله عنه - الذى اجتهد وقرر بعد استشارة كبار
الصحابة عدم تقسيم الأرض المفتوحة على المجاهدين، وجعلها ملكًا
للدولة، وأبقاها فى أيدى أهلها يزرعونها، مقابل إيجار يدفعونه
للدولة، وهذا الإيجار أو الخراج تنفق منه الدولة على الجيش
والموظفين، وتقيم المرافق التى يحتاج إليها.
وكان هذا اجتهادًا عظيمًا من (عمر)، لأنه أبقى الأرض فى أيدى
أصحابها، وهم من أهل الخبرة فى فلاحتها، وضمن فى الوقت نفسه
موردًا ماليا ضخمًا وثابتًا، ثم أقدم (عمر) على خطوة عظيمة الأهمية
وذات دلالة كبيرة على فطنته الاقتصادية، فقد أمر بإعادة مساحة
الأرض المفتوحة، وقسمها على حسب إنتاجيتها إلى ثلاثة أنواع،
وفرض على كل نوع الخراج الذى يناسبه؛ لئلا يُظلَم الفلاحون،
وليبذلوا طاقتهم فى تحسين الإنتاج.
غنائم الحرب:
وهى الأموال المنقولة من نقود وغيرها، وكانت بكميات كبيرة فى
ذلك الوقت، وكان خمسها يدخل بيت مال الدولة، على حين تُوزَّع
الأربعة الأخماس على المجاهدين.
- الجزية المفروضة على أهل الكتاب: وهم اليهود والنصارى، ومن
فى حكمهم كالمجوس؛ حيث عاملهم المسلمون فيما يتعلق بالجزية
معاملة أهل الكتاب، وقد قنن الفقهاء قيمة الجزية، بعد استقراء
تطبيقات الخلفاء، فقدروها بثمانية وأربعين درهمًا للأغنياء، وأربعة
وعشرين للمتوسطين، واثنى عشر للفقراء القادرين على الكسب،
وأعفوا منها النساء والأطفال وكبار السن، ورجال الدين، والعاجزين
عن الكسب، بل إن الفقراء العاجزين عن الكسب من أهل الكتاب فُرض
لهم عطاء من بيت مال المسلمين.
- الزكاة: وتؤخذ من المسلمين، ومقاديرها معروفة فى كتب الفقه،
وتؤدى للدولة التى عدتها موردًا من مواردها المالية، تنفق منه فى
الأوجه التى حددتها الآية الكريمة: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين
والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل
الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}. [التوبة: 60].(2/56)
- ضرائب التجارة الداخلة إلى البلاد الإسلامية أو الخارجة منها أو
العابرة:
وكانت تمثل موردًا كبيرًا من موارد الدولة؛ إذ كانت أهم الطرق
التجارية وأعظمها تمر فى ذلك الوقت ببلاد إسلامية، من حدود
(الصين) فى الشرق إلى (الأندلس) فى الغرب.
وقد نظم المسلمون منذ وقت مبكر تحصيل هذه الضرائب، وهى
المعروفة الآن برسوم الجمارك، ففرضوا على التجار المسلمين ربع
عشر قيمة تجارتهم، وعلى التجار من أهل الذمة الذين هم من رعايا
الدولة الإسلامية نصف العشر، وعلى التجار الكفار الذين هم من أهل
الحرب العشر.
ولا يظنن أحد أن فى هذا تفريقًا بين التجار المسلمين ونظرائهم من
أهل الذمة من رعايا الدولة؛ لأن التجار المسلمين يدفعون زكاة أموال
تجارتهم كلها بعد دفع ضريبة ربع العشر، فى حين لا يدفع التجار من
أهل الذمة شيئًا سوى نصف العشر المفروض على التجارة، فهم لا
يدفعون زكاة لأنها لا تُفرَض إلا على المسلمين.
الركاز: وهو ما يستخرج من باطن الأرض كالذهب والفضة والنحاس،
فإذا كان المستخرَج من أرض مملوكة ملكية خاصة، فإن أصحابها
يدفعون للدولة الخمس، لأن الفقهاء جعلوا ذلك النوع من الأموال مثل
الغنائم، التى يخصص خمسها للدولة، أمَّا إذا استخرجت هذه المعادن
من أراضى الدولة، فإن ريعها يدخل بطبيعة الحال إلى بيت المال.
النشاط الاقتصادى:
الزراعة:
عنى العرب الفاتحون بالزراعة عناية عظيمة، واستفادوا فى ذلك من
خبرات أبناء البلاد المفتوحة، فعندما تم فتح (مصر) أمر (عمر بن
الخطاب) واليه (عمرو بن العاص) أن يسأل أهلها عن أفضل الطرق
للنهوض بها وباقتصادها، فأخبر أن أفضل طريقة للنهوض بها هى
الزراعة؛ لأنها المورد الرئيسى لاقتصاد البلاد، وهذا يتطلب العناية
بالنيل والترع المتفرعة عنه، وكذلك فعل (عمر بن الخطاب) فى
(العراق) و (الشام).
وقد سار الأمويون على هذه السياسة، فاهتموا بنظام الرى وإقامة
الجسور وشق الترع وتطهيرها موسميا، وبخاصة أن الدولة كان(2/57)
يجرى على أراضيها أعظم الأنهار وأكثرها طولا، من (نهر النيل) فى
(مصر) إلى (دجلة) و (الفرات) وفروعهما فى (العراق)، إلى أنهار الشام
الرئيسية: (بردى) و (العاصى) و (اليرموك)، إلى نهرى (جيحون)
و (سيحون) فى بلاد (ما وراء النهر)، إلى الأنهار العديدة فى
(الأندلس)، بالإضافة إلى رقعة واسعة من أخصب الأراضى.
وقد عمل (الحجاج بن يوسف الثقفى) على إصلاح شئون الزراعة
أثناء ولايته على (العراق) والمشرق، فأصلح كثيرًا من الأراضى التى
لم تكن مزروعة، وأمر بعودة الفلاحين إلى قراهم، بعد أن رأى ما
أصاب الزراعة من ضرر ونقص فى المحاصيل؛ نتيجة هجرتهم إلى
المدن للعمل فى الأعمال الحرفية المتعلقة بالصناعة والتجارة.
وهذه الخطوة التى أقدم عليها (الحجاج) لإصلاح الزراعة أساء الناس
فهمها، وعدُّوها من أخطائه؛ لأنه تدخل فى حرية الناس، لكنها عند
النظر الصحيح خطوة إيجابية من حاكم يفهم واجبات وظيفته، فأقدم
على حل مشكلة خطيرة لا تزال كثير من الحكومات المعاصرة عاجزة
عن حلها.
وقد اقتدى (خالد بن عبد الله القسرى) والى (العراق) فى عهد (هشام
بن عبد الملك) (105 - 125هـ) بما فعله (الحجَّاج) فى النهوض بالزراعة؛
فأصلح مساحات شاسعة فى منطقة المستنقعات، وزرعها وأضافها
إلى الرقعة الزراعية.
ويجدر بالذكر أن الإسلام حث على تعمير الأرض واستصلاح البور منها
للزراعة؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من أحيا أرضًا ميتة
فهى لهـ). [صحيح البخارى].
والمقصود بالأرض الميتة: الأرض البور أو الصحراوية التى لم تكن
مزروعة، فمن يصلحها تكن له، وقد حذا الصحابة حذو الرسول - صلى
الله عليه وسلم -، والأمويون من بعدهم فى تشجيع الناس على الزراعة
وعاونوهم على ذلك.
الصناعة:
ازدهرت فى العصر الأموى الصناعات الحربية التى تحتاج إليها
الجيوش من سيوف ودروع ورماح وحراب، وأُنشئَت الترسانات البحرية
اللازمة لصناعة السفن فى مدن الساحل، كالإسكندرية و (دمياط)(2/58)
و (رشيد) فى (مصر)، و (عكا) و (صور) و (صيدا) و (بيروت) فى (الشام)،
وازدهرت كذلك الصناعات الخشبية اللازمة لأعمال بناء البيوت
والمساجد والمستشفيات، وأثاث المنازل، وصناعات الخزف والأدوات
المنزلية.
وعرف العصر الأموى صناعات النسيج، وكانت أكثر الصناعات
ازدهارًا فى (مصر) و (الشام) و (العراق) و (فارس) وبلاد (ما وراء النهر)،
وكانت تصنع من الصوف والقطن والكتان والحرير، بالإضافة إلى
صناعات المواد الغذائية القائمة على الإنتاج الزراعى والحيوانى،
وصناعات الجلود.
وأقام الأمويون دورًا لسك النقود؛ الدنانير الذهبية والدراهم الفضية
فى عهد (عبدالملك بن مروان) وما تلاه، وهذه الصناعة صعبة لأنها
تحتاج إلى استخراج الذهب والفضة من باطن الأرض، بعد
استخلاصهما مما هو ممزوج بهما من رمال ومعادن أخرى، ثم صهره
وتشكيله حسب الحاجة.
وإذا كانت الصناعات فى عصر الأمويين بسيطة، ولا تقارن بما وصلت
إليه فى الوقت الحاضر، فإنها كانت كافية ووافية بمتطلبات الحياة
والأحياء فى زمانها.
التجارة:
كان العرب قبل ظهور الإسلام وسيطًا تجاريا مهما بين الشرق
والغرب؛ حيث كانت التجارة القادمة من الشرق وبخاصة من (الهند)
و (الصين) تمر ببلاد العرب عبر طريقين رئيسين:
الطريق الأول: يمر بعدن فى جنوب غرب (اليمن) على مدخل (البحر
الأحمر) الجنوبى؛ حيث تأتى السفن، بعضها يواصل سيره فى البحر
الأحمر إلى (ميناء القلزم) - السويس - فى (مصر)، ثم تفرغ حمولتها،
وتنقل البضائع بالقوافل إلى الموانئ المصرية على (البحر المتوسط)،
وبخاصة (ميناء الإسكندرية)، ثم تشحن فى السفن بحرًا مرة أخرى
إلى (أوربا)، وبعضها الآخر يفرغ حمولته فى (عدن)، ثم تحملها
القوافل برا عبر الساحل الغربى لشبه الجزيرة العربية، المطل على
(البحر الأحمر)، وتمر بمكة المكرمة، التى كانت مركزًا تجاريا مهما،
وبعضها يواصل سيره إلى (ميناء غزة) فى (فلسطين).(2/59)
- والطريق الآخر: يمر عبر (الخليج العربى)، حيث تواصل السفن سيرها
وتفرغ حمولتها فى أقصى شماله، حيث (ميناء الأيلة) غربى (البصرة)
الحالية فى (العراق)، ثم تنقل البضائع على القوافل برا عابرة
(العراق) إلى (الشام)؛ حيث تفرغ حمولتها فى موانيه مثل (عكا)
و (صور) و (صيدا) و (بيروت) و (اللاذقية) و (أنطاكية)، ثم تشحن بحرًا إلى
(أوربا).
وقامت التجارة فى أغلبها على جلب الحرير من (الصين)، والتوابل
والبخور من (الهند)، وكانت هذه المواد مطلوبة على نطاق واسع فى
(أوربا)، وكان العرب يقومون بدور فعال ونشط فى عملية التجارة
هذه، واستفادوا منها فائدة كبيرة، بل إن بعضهم مثل عرب (الحجاز)
وبصفة خاصة (قريش) كانت حياتهم الاقتصادية تقوم على التجارة،
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك فى سورة قريش، فقال: {لإيلاف
قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذى
أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}.
وفى العصر الأموى لم يعد العرب وسيطًا تجاريا لنقل البضائع بين
الشرق والغرب، وإنما أصبحوا سادة الموقف كله، بعد امتلاكهم
الطرق التجارية البحرية والبرية، من (الصين) إلى (الأندلس)، فبالإضافة
إلى ما سبق الحديث عنه بسط المسلمون سيادتهم على الطريق الذى
يبدأ من شمالى الصين، ثم يجتاز هضاب وسط آسيا وسهولها - بلاد
(ما وراء النهر) - ثم يتفرع إلى عدة طرق، تنتهى كلها إلى موانئ
(البحر الأسود) و (البحر المتوسط)، ويمر معظمها فى الأراضى
الإسلامية، ثم تنقل التجارة إلى (أوربا الشرقية) والجنوبية، أمَّا
(أوربا الغربية) و (شمالى إفريقيا) و (الأندلس)، فكانت معظم تجارتها
تأتى من الطريق الأول عبر الموانئ المصرية.
وقد سيطر المسلمون على النشاط التجارى كله فى تلك الرقعة
الواسعة من الأرض وأصبحت بلادهم تصدِّر البضائع والمنتجات إلى
بلاد الشرق والغرب. فتصدر إلى (الصين) المنسوجات الصوفية
والقطنية والكتانية، والبُسُط، والمصنوعات المعدنية، وخام الحديد،(2/60)
وسبائك الذهب والفضة، كما كانت تستورد منها الحرير.
ولم تقتصر الأرباح المالية التى كانت تجنيها الدولة الأموية على مجرد
التبادل التجارى، بل كانت تحصل على أموال طائلة من التجارة
العابرة على هيئة رسوم جمركية، كما خلقت هذه العملية التجارية
الواسعة فرص عمل لعشرات الآلاف من الناس، وبخاصة فى مدن
الموانئ على سواحل جزيرة العرب الجنوبية والشرقية، مثل (عدن)
و (حضرموت)، و (صحار) و (هرمز)، و (البحرين)، و (القطيف)، و (سيراف)،
و (البصرة)؛ فازدهرت هذه المدن ازدهارًا كبيرًا، كما ازدهرت الموانئ
الأخرى المطلة على (البحر الأحمر)، كميناء (جدة) و (السويس)، أو
المطلة على (البحر المتوسط) من (أنطاكية) شمالا حتى (غزة) جنوبًا،
وكذلك موانيه الجنوبية فى (مصر) و (شمالى إفريقيا)، مثل (دمياط)
و (الإسكندرية) و (طرابلس الغرب) و (تونس).
وقد ساعد على ازدهار تلك الحركة التجارية العالمية اهتمام الدولة
الأموية بإنشاء الطرق، وتعبيدها وتأمينها، فكانت القوافل تسير
فى طرق آمنة، تنتشر على جوانبها الفنادق والاستراحات والأسواق.
الحركة العمرانية فى العصر الأموى:
شهد العصر الأموى نهضة عمرانية كبرى، استفاد فيها المسلمون من
التراث، ومن الطرز المعمارية التى وجدوها فى البلاد المفتوحة سواء
أكانت فارسية أم بيزنطية أم مصرية، وطبعوها بطابع عربى
إسلامى، ووضعوا بذور فن معمارى متميز عن غيره من الفنون
المعمارية الأخرى، وساعدهم على ذلك الثراء الواسع الذى كانت
تتمتع به الدولة.
إنشاء المدن الجديدة:
أنشأ الأمويون عددًا من المدن فى المشرق والمغرب، ولا يزال معظمها
قائمًا معروفًا حتى الآن، فأنشأ (عقبة بن نافع) فى عهد (معاوية بن
أبى سفيان) (41 - 60هـ) مدينة (القيروان) فى (تونس)، وقد أصبحت
عاصمة الشمال الإفريقى كله فى العصر الأموى، ومركزًا من أعظم
المراكز الحضارية الإسلامية.
وفى عهد (عبدالملك بن مروان) (65 - 86هـ) أنشأ أخوه (عبدالعزيز بن(2/61)
مروان) والى (مصر) مدينة (حلوان) جنوبى (الفسطاط)، وأنشأ (حسان
بن النعمان الغسانى) مدينة (تونس)، وأنشأ (الحجاج بن يوسف
الثقفى) مدينة (واسط) فى (العراق) بين (البصرة) و (الكوفة)، ومدينة
(قم) فى منطقة الجبال فى بلاد فارس، بين (ساوة) و (أصفهان).
وأنشأ (سليمان بن عبدالملك) فى عهد أخيه (الوليد) (86 - 96هـ)
مدينة (الرملة)، كما أنشأ الخليفة (هشام بن عبدالملك) (105 - 125هـ)
مدينة (الرصافة) بالقرب من (الرقة) فى (العراق)، وأنشأ (الحكم بن
عوانة الكلبى) مدينة (المحفوظة) فى (السند)، و (عمر بن محمد بن
القاسم الثقفى) مدينة (المنصورة) فى (السند) أيضًا.
القصور الأموية:
كشفت الحفريات الأثرية منذ نهاية القرن الماضى ومطلع القرن الحالى
عن العديد من القصور التى بناها الخلفاء الأمويون؛ وبخاصة فى
صحراء الشام؛ لأنهم كانوا يحبون البادية ويحنون إليها، استمتاعًا
بالهواء الطلق، وطلبًا للراحة والهدوء من عناء العمل السياسى
والإدارى.
ومن القصور التى اكتُشفت أخيرًا (قصر عمرة) الذى اكتشفه (موزيل)
سنة (1898م) ويقع على نحو خمسين ميلا شرقى (عمَّان) عاصمة
(الأردن) حاليا، ويرجح الباحثون أن هذا القصر بنى للخليفة (الوليد بن
عبدالملك)، وهو يتكون من قسمين رئيسيين، هما: قاعة الاستقبال،
والحمام الساخن.
أما قاعة الاستقبال فهى بناء مستطيل تغطيه ثلاثة أقبية نصف
أسطوانية، يفصلها عن بعضها عقدان عرضيان، وهذا الطراز
المعمارى طراز فارسى أخذه المسلمون من (إيران)، وتوجد فى نهاية
القبو الأوسط لقاعة الاستقبال حنية العرش، وهى مغطاة بقبو نصف
أسطوانى، أقل ارتفاعًا من سقف أقبية قاعة الاستقبال، وتحلَّى
حنية العرش بصورة الخليفة وهو جالس على عرشه، ويكتنف الحنية
من جهتيها غرفتان لتغيير الملابس.
ويقع القسم الثانى وهو الحمام الساخن إلى يسار قاعة الاستقبال،
ويتكون من ثلاث غرف رئيسية؛ الغرفة الباردة ويدخل إليها من قاعة(2/62)
الاستقبال، ويغطيها قبو نصف أسطوانى محوره عمودى على محور
قاعة الاستقبال، ويليها الغرفة الدافئة، وهى مغطاة بقبو متقاطع،
يليها الغرفة الساخنة، وهى مغطاة بقبة نصف كروية محمولة على
أربعة مثلثات كروية.
وهذا القصر مبنى من الحجر الجيرى الأحمر، وتغطى الأقبية طبقة
سميكة من الملاط، كما تغطى الأرضية ببلاطات من الرخام، تجرى
بأسفلها مواسير البخار الساخن، وهى تشبه حمامات (روما).
ومن اللافت للنظر الصور التى وُجدَت على جدران ذلك القصر، ومن
أهمها: صورة الخليفة وهو جالس على عرشه، ويحف به شخصان،
وفوقه مظلة محمولة على عمودين حلزونيين، وتوجد على عقد المظلة
كتابة كوفية تطرق إليها التلف، وصورة أخرى لستة أشخاص،
اشتهرت بأنها تمثل صور أعداء الإسلام.
والصور الست فى صفين، كل ثلاث فى صف، ويلبسون ملابس
فاخرة، وفوق رءوس أربعة منهم وجدت كتابة بالعربية واليونانية، لا
تزال باقية، وهم من اليسار إلى اليمين (قيصر الروم) فى الصف
الأول، ويليه (روذريق) ملك (القوط) الأندلسى فى الصف الخلفى،
والثالث فى الصف الأول هو (كسرى فارس)، والرابع فى الصف
الخلفى فوقه كلمة (النجاشى).
وقد استنتج الباحثون من هذه الصورة، ومن ترتيب وضع الملوك فيها
أن الذين فى الصف الأول هما (كسرى) و (قيصر) من ملوك
الإمبراطوريات الكبيرة، أمَّا اللذان فى الصف الخلفى فهما من ملوك
الدول الصغيرة، كما استنتجوا أن الصورة الخامسة لملك (الصين)،
والسادسة لأحد ملوك الترك، وهؤلاء هم الذين فتح المسلمون بلادهم
فى العصر الأموى، أو فرضوا عليها سيادتهم.
ومن القصور التى اكتُشفَت أيضًا القصر المسمَّى بقصر خربة، الذى
يُنسَب إلى الخليفة (هشام بن عبدالملك)، ويقع على بعد ثلاثة أميال
شمالى مدينة (أريحا) فى (فلسطين) وكان قصرًا شتويا، زُيِّنت جدرانه
بصور ورسوم آدمية وحيوانية، كما وُجد اسم الخليفة (هشام بن
عبدالملك) مسجلا على أحد الجدران، وصورة فتاة تحمل باقة من(2/63)
الورد، ولوحة تمثل فتيات يرقصن وقد صبغن شفاههن وأظافر
أيديهن وأرجلهن بصبغة ذات لون قرمزى، بالإضافة إلى رسوم نباتية
تحمل شجرة يحيط بها من اليمين صورة أسد ينقض على غزال، ومن
اليسار غزالان بين أزهار، وكلها ملونة بألوان زاهية.
ومن القصور التى اكتُشفَت سنة (1840م) (قصر المشتى)، ويُنسَب إلى
الخليفة (الوليد بن يزيد بن عبدالملك) (125 - 126هـ)، وهو قصر
صحراوى غير تام البناء، وقد تهدِّم معظمه، ونقلت أهم زخارفه التى
كانت محفورة فى الحجر الجيرى فى الواجهة الجنوبية، إلى (برلين)،
مهداة من السلطان العثمانى (عبدالحميد) إلى الإمبراطور الألمانى
(غليوم الثانى)، وقد وُضعَت فى (متحف برلين) منذ سنة (1903م).
والقصر عبارة عن بناء مستطيل مساحته نحو (144) مترًا مربعًا،
وحائطه الخارجى تكتنفه أبراج نصف دائرية، ويقع المدخل فى وسط
واجهته الجنوبية، والقصر مقسم من الداخل إلى ثلاثة أقسام رئيسية،
تتجه من الشمال إلى الجنوب، والمبانى الداخلية مبنية من الطوب،
والمدخل يكتنفه برجان على شكل نصف منحنيين، ويتكون شكل
الواجهة الجنوبية من عدة مثلثات معتدلة ومقلوبة؛ بحيث تظهر فى
مجموعها على شكل خط منكسِر، وفى وسط كل مثلث وردة،
وبأسفلها فى المثلثات المعتدلة موضوعات زخرفية متنوعة، بعضها
يمثل حيوانين متقابلين يفصلهما إناء، وبالأرضية زخارف نباتية جميلة
محفورة على الحجر، ويلى المدخل ردهة توصل إلى فناء مربع
التخطيط، مساحته (14) مترًا مربعًا، ويكتنف ردهة المدخل من جهتيها
حجرات مكونة من طابقين، كما توجد غرفة مستطيلة إلى يمين
المدخل، فى حائطها الجنوبى محراب، استنتج الباحثون أنها كانت
مسجد القصر أو مصلاه.
ويلى الفناء الأول فناء كبير مساحته (57) مترًا مربعًا، يليه الجناح
الملكى، ويتكون من قاعة تؤدى بدورها إلى قاعة العرش، وهى
مكونة من ثلاث حنيات نصف دائرية، ويكتنفها من جهتيها بيوت(2/64)
مكونة من زوجين من الغرف، وتوجد حول قاعة العرش أربع
مجموعات من هذه البيوت.
وهذه القصور المكتشفة تدل على تقدم فن العمارة فى عهد الدولة
الأموية، وتأثره بالطرز المعمارية الفارسية والبيزنطية، وعلى الثراء
الذى كانت عليه الدولة، مما مكَّن خلفاءها من بناء تلك القصور
الباذخة، ومعظمها لم يكن للسكنى الدائمة، وإنما كانت مشاتى
ومصايف للإقامة الموسمية المؤقتة.
المساجد:
ازدهرت حركة بناء المساجد فى عهد الأمويين ازدهارًا كبيرًا،
فوسعوا المساجد التى كانت موجودة من قبل، كالمسجد الحرام فى
(مكة المكرمة)، و (المسجد النبوى) فى (المدينة المنورة)، و (جامع
عمرو بن العاص) فى (الفسطاط)، و (المسجد الكبير) فى (صنعاء)
باليمن، كما أقاموا العديد من المساجد الجديدة، ومن أشهرها:
(مسجد قبة الصخرة) الذى أنشأه (عبد الملك بن مروان) فى (القدس)،
و (المسجد الأقصى) الذى أنشأه ابنه (الوليد)، و (المسجد الأموى)
الكبير فى (دمشق) الذى أنشأه (الوليد) أيضًا.
- المسجد الحرام:
كانت (الكعبة المشرفة) فى عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه
الراشدين على البناء نفسه الذى أقامته (قريش) بعد السيل؛ الذى دمر
(الكعبة) قبل بعثة النبى - صلى الله عليه وسلم -، واستمرت على ذلك
إلى أن هُدمت أثناء خلافة (عبد الله بن الزبير) (64 - 73هـ)، فقام
ببنائها من جديد على قواعد (إبراهيم)، عليه السلام، وأدخل فيها
حجر (إسماعيل)، واستشهد على ذلك بحديث النبى - صلى الله عليه
وسلم - الذى خاطب فيه (عائشة) بقوله: (لولا أن قومك حديثو عهد
بشرك أو بجاهلية لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين
بابًا شرقيا وبابًا غربيا وزدت فيها من الحجر ستة أذرع .. ). [مسند
الإمام أحمد].
وبعد مقتل (ابن الزبير) وانتهاء دولته سنة (73هـ) هدم الأمويون
(الكعبة) وأعادوا بناءها إلى ما كانت عليه قبل زيادة (ابن الزبير).
وكانت مساحة (المسجد الحرام) نفسه فضاء ولم يكن له جدران فى(2/65)
عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - و (أبى بكر الصديق)، فلما كثر
الناس فى عهد (عمر بن الخطاب) اشترى الدور المجاورة للبيت الحرام،
وهدمها وأضافها إلى مساحته، وأقام له جدرانًا دون قامة الرجل،
وكذلك فعل (عثمان بن عفان) و (عبد الله بن الزبير).
واستمر هذا الوضع حتى كان عهد (الوليد بن عبد الملك) (86 - 96هـ)،
فزاد فى مساحته، وبنى سوره على عمد من الرخام، ووضع صفائح
من الذهب على باب (الكعبة).
- المسجد النبوى فى المدينة المنورة:
ظل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حالته التى بُنى
عليها حتى عهد (عمر بن الخطاب)، الذى زاد فى مساحته، وأطال
جدرانه، ثم أضاف (عثمان بن عفان) إليه مساحات جديدة لكثرة
المصلين، وضيقه بهم، وبناه من الحجارة، وجعل له عمدًا من
الحجارة، وسقفًا من الساج.
وظل المسجد كذلك إلى عهد (الوليد بن عبد الملك)، فأمر ابن عمه (عمر
بن عبد العزيز) واليه على (المدينة) (87 - 93هـ) بهدمه وإعادة بنائه
وتوسعته، فأدخل فيه حجرات النبى - صلى الله عليه وسلم -.
وعنى (الوليد) بإعادة بناء المسجد عناية عظيمة، فأرسل إلى (عمر
بن عبد العزيز) أموالا كثيرة لهذا الغرض، وثمانين عاملا من عمال
البناء من الشام وقبط (مصر)، وكميات كبيرة من الرخام والفسيفساء،
وقد عهد (عمر) بالإشراف على البناء إلى واحد من كبار التابعين هو
(صالح بن كيسان).
وقد بنى أساس المسجد من الحجارة، وجعلت عمده من الحجارة
المحشوة بالحديد والرصاص، وأقيمت له المآذن، وفتحت له عدة
أبواب، منها (باب جبريل)، عليه السلام، و (باب النساء).
واستمر العمل فى البناء نحو ثلاث سنوات، وفى سنة (90هـ) زار
الخليفة (الوليد) (المدينة) ليطمئن على سير العمل فى المسجد بنفسه،
وقد أعجب بالبناء، وبما عليه من روعة تليق بمسجد رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، وقسَّم أموالا كثيرة على أهل المدينة احتفاءً بهذه
المناسبة، وخطب فيهم الجمعة من فوق منبر النبى - صلى الله عليه
وسلم -.(2/66)
- مسجد قبة الصخرة:
أمر (عبدالملك بن مروان) سنة (72هـ) ببناء مسجد فوق الصخرة التى
عرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من فوقها ليلة الإسراء والمعراج.
- المسجد الأقصى:
وقد بناه (الوليد بن عبدالملك) بالقرب من ساحة (مسجد قبة الصخرة)،
وزينه بالفسيفساء والرخام، واحتفل ببنائه كاحتفاله بالمسجد الحرام
بمكة المكرمة ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى (المدينة
المنورة).
- المسجد الأموى فى دمشق:
يعد (المسجد الأموى) من أعظم المساجد التى أنشئت فى العصر
الأموى، بناه (الوليد بن عبدالملك)، وبذل فيه جهدًا كبيرًا، ولم يبخل
عليه بالأموال، فجاء شامخًا عظيمًا.
وأصل مكان المسجد كان معبدًا وثنيا فى عهد الرومان، ثم تحول
إلى كنيسة فى العهد المسيحى، ثم فُتحت (دمشق) فى عهد (عمر بن
الخطاب) صلحًا، واقتسم المسلمون بناءً على ذلك الصلح كل شىء
فى المدينة مع أهلها، فقسمت الكنيسة، وجعل المسلمون نصفها
مسجدًا، وبقى النصف الآخر كنيسة تقام فيها شعائر أهلها، وكان
هذا آية من آيات السماحة؛ حيث لم يجد المسلمون غضاضة أن يتجاور
المسجد والكنيسة، فضلا عن كونهما فى بناء واحد.
وظل الأمر كذلك حتى عهد (الوليد)، الذى تفاوض مع المسيحيين،
وعوَّضهم عن نصيبهم مساحة كبيرة من الأرض يقيمون عليها كنيسة
كبيرة مستقلة، وهدم البناء القديم كله وأقام عليه المسجد، الذى جاء
مستطيل الشكل، له ثلاثة مداخل، وأربع مآذن، وجعل فى وسطه
صحنًا مكشوفًا، تحيط به أربعة أروقة، أكبرها رواق القبلة، وغطيت
أرضيته بالرخام، وكذلك جدرانه إلى ارتفاع قامة الإنسان، وفوق
الرخام زخارف من الفسيفساء المذهبة، وجعل سقفه من الرصاص، وبه
ستمائة سلسلة من الذهب تتدلى منها قناديل للإنارة.
وقد عنى الخليفة ببناء المسجد عناية واضحة، فأشرف على بنائه
بنفسه، وأنفق عليه أموالا طائلة، بلغت خمسة ملايين دينار، تعرَّض
بسببها للانتقاد، فأجاب بأنه يريد أن يكون المسجد الذى هو أعظم(2/67)
رمز للإسلام لائقًا بدولته الكبيرة، واستمر العمل فى المسجد تسع
سنوات (87 - 96هـ)، عمل فيه نحو عشرة آلاف عامل، حتى جاء
المسجد آية من آيات فن العمارة الإسلامى، حتى ليذكر (ياقوت
الحموى) أن الناس كانوا يعدونه من عجائب الدنيا.
وعندما آلت الخلافة إلى (عمر بن عبدالعزيز) رأى أن الخليفة (الوليد)
بالغ فى الإنفاق على بناء المسجد، وهمَّ بنزع سلاسل الذهب وبيعها،
ووضع ثمنها فى بيت المال، ولما علم أهل (دمشق) بعزمه اشتد عليهم
الأمر وكرهوه، وهم الذين كانوا قد انتقدوا (الوليد) من قبل، ولكن
قبل أن ينفذ (عمر) ما عزم عليه جاء إلى (دمشق) وفد رسمى من قبل
إمبراطور الروم، لبحث العلاقة بين الدولتين، فزار ذلك الوفد (المسجد
الأموى)، وكان معهم قسيس، فلما دخلوا المسجد أغمى عليه،
فحملوه إلى دار الضيافة، فسأله رفاقه بعد أن أفاق عما حدث له،
فقال: كنا نتحدث أن بقاء العرب ودولتهم لن يطول، فلما رأيت ذلك
البناء الشامخ حصل لى هم وغم، وأدركت أن بقاءهم سيطول،
فحدث لى ما رأيتم، وكان يسمع ذلك الحوار أحد المسلمين العارفين
باليونانية التى كانوا يتحاورون بها، فنقل ذلك إلى (عمر بن
عبدالعزيز)، فقال: إذا كان المسجد قد أغاظهم إلى هذا الحد، فلن
أنزع منه شيئًا، بل زاده جمالا وروعة وبهاءً، فأمر بترصيع محرابه
بالجواهر الثمينة، وعلق له قناديل من ذهب وفضة.
- العناية بالطرق:
اهتمت الدولة الأموية اهتمامًا كبيرًا بإنشاء الطرق، لربط أجزائها
التى امتدت من (الصين) إلى (الأندلس)، وهى مسافة تبلغ (12) ألف
كيلو متر من الشرق إلى الغرب، ولتيسير الاتصال ببعضها، ولتحقيق
كثير من الأغراض، منها ما هو عسكرى لتيسير حركة الجيوش، ومنها
ما هو اقتصادى لتيسير حركة التجارة، ومنها ما هو إدارى لتسهيل
وصول الأخبار عن طريق رجال البريد، ومنها ما هو دينى لتسهيل
وصول حجَّاج بيت الله الحرام من كل أنحاء الدولة إلى (مكة المكرمة)،(2/68)
لأداء فريضة الحج، وإلى (المدينة المنورة)؛ لزيارة مسجد النبى - صلى
الله عليه وسلم -.
وقد قسم الأمويون الطرق التى تربط العاصمة (دمشق) بعواصم
الولايات - كالفسطاط و (القيروان) و (قرطبة) و (الكوفة) و (البصرة)
و (خراسان)، و (ما وراء النهر) - إلى مسافات صغيرة محددة، وجعلوا
لها علامات تحمل أرقامًا؛ ليعرف المسافرون المسافات بين المدن
والأقاليم، وهى مثل العلامات الإرشادية المستخدمة الآن فى الطرق
الإقليمية والدولية.
وعمرت الطرق بالخانات والاستراحات، ليستريح الناس من وعثاء
السفر، فوق ما كانت تتمتع به من أمن وأمان.
وكان الناس يسافرون عبر هذه الطرق، ويتنقلون بين مدن الشرق
والغرب دون تصريح مرور أو جواز سفر، فالدولة كلها على امتداد
حدودها وطنهم، فى أى مكان منه يستطيع الإنسان أن يسكن
ويتزوج ويتاجر، دون مضايقة أو طلب إقامة.
الحركة العلمية:
كانت الحركة العلمية بمختلف اتجاهاتها فى العصر الأموى امتدادًا
للحركة العلمية التى بدأت منذ عهد النبى - صلى الله عليه وسلم -،
ونمت فى عهد الخلفاء الراشدين، وأخذت العلوم تتمايز عن بعضها،
ويصبح لكل منها مدارسه ورجاله، بعد أن كانت العلوم ممتزجة
بعضها فى بعض، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم
المسلمين أمور دينهم ودنياهم، ويفسّر لهم ما أبهم عليهم من القرآن
الكريم، وبعد وفاته أصبح أصحابه المعلمين للتابعين.
ولم يكن الصحابة - رضوان الله عليهم - على درجة واحدة من العلم
والفقه، بل كانوا متفاوتين فى ذلك، ولعل أفضل ما صوَّر تباين
الصحابة فى درجات العلم قول (مسروق) - وهو أحد التابعين -:
(جالست أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فوجدتهم كالإخاذ -
غدير الماء - فالإخاذ يروى الرجل، والإخاذ يروى الرجلين، والإخاذ
يروى العشرة، والإخاذ يروى المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض
صدرهم) أى: رواهم جميعًا.
وقد اشتهر عدد من كبار الصحابة بالعلم دون غيرهم كالخلفاء(2/69)
الراشدين، وأم المؤمنين (عائشة)، و (ابن عباس)، و (ابن مسعود)،
و (زيد بن ثابت الأنصارى)، و (أبى الدرداء)، و (أبى هريرة)، و (معاذ بن
جبل) رضوان الله عليهم جميعًا، غير أن هؤلاء الصحابة بقى بعضهم
فى (المدينة المنورة) و (مكة المكرمة)، وتفرق بعضهم الآخر فى
الأمصار المفتوحة، ولم يكن الواحد منهم يعلِّم علمًا واحدًا، وإنما يتكلَّم
فى علوم كثيرة، وربما تحدث فى جلسة واحدة فى الفقه والحديث
والتفسير والمغازى، والأدب شعره ونثره.
وكانت المراكز الرئيسية للحركة العلمية عندئذٍ هى المساجد، ثم
نشأت المكاتب لتحفيظ الصبيان القرآن الكريم، وتعليمهم مبادئ
العلوم الإسلامية، ثم بدأت العلوم يمتاز بعضها عن بعض، وعرف رجال
بالتفسير وآخرون بالحديث، واختص غيرهم بالفقه، ولا يعنى هذا أن
المفسر أو الفقيه لا يعرف غير ما تخصص فيه من العلم واشتهر به،
وإنما يوضع الرجل بين رجال العلم الذى برَّز فيه وأصبح حجة وإمامًا،
فالإمام (مالك بن أنس) اشتهر بالفقه وصار صاحب مذهب فقهى
معروف، لكنه من رجال الحديث الكبار، ويعرف التفسير؛ فلو لم يكن
كذلك ما استطاع أن يضع القواعد الفقهية ويستنبط الأحكام من
أدلتها التفصيلية، لأن الفقه يقوم على الاستنباط من القرآن والسنة.
ثم خطت الحركة العلمية خطوة كبيرة فى ذلك الوقت، ببدء حركة
تدوين العلوم، ولم يكن المسلمون يفعلون ذلك من قبل، وإنما اعتمد
الصحابة على الذاكرة فى الحفظ. والذين أُثِر عنهم أنهم دونوا بعض
أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة، عدد قليل،
كأبى هريرة و (عبدالله بن عمرو بن العاص)، الذى سمح له النبى
- صلى الله عليه وسلم - بتدوين أحاديثه؛ فدوَّنها فى صحيفة كان
يقول عنها: الصادقة، ويفخر أن ليس بين الرسول وبينه فيها أحد.
ومنذ منتصف القرن الأول للهجرة تقريبًا بدأت حركة التدوين بداية
متواضعة، فيُروَى أن (معاوية بن أبى سفيان) أمر بتدوين ما يرويه(2/70)
له فى مجلسه (عبيد بن شرية) من تواريخ ملوك (اليمن) القدامى
وغيرهم، وكان (معاوية) مولعًا بمعرفة تواريخ الأمم السابقة، وأن
(عبد العزيز بن مروان) والى (مصر) (65 - 85هـ) أرسل إلى (كثير بن
مرة الحضرمى) أن يكتب له ما سمع من أصحاب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - إلا أحاديث (أبى هريرة) فإنها موجودة عنده.
ثم جاءت الخطوة الحاسمة فى التدوين، حين أمر (عمر بن عبد العزيز)
أثناء خلافته (99 - 101هـ) (أبا بكر بن حزم) والى (المدينة) أن يدوِّن
أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوفًا من ضياع العلم
وذهاب العلماء، ثم تتابعت حركة التدوين، فدوَّن (ابن شهاب الزهرى)
و (يزيد بن أبى حبيب المصرى) وغيرهما، وانتقل التدوين إلى العلوم
الأخرى، فدون الفقه والتفسير وغيرهما.
وشجع الخلفاء الأمويون الحركة العلمية بصفة عامة، وحركة التدوين
بصفة خاصة، وبدأ فى عصرهم ظهور طبقة المعلمين، لأن الخلفاء
أنفسهم كانوا مهتمين بتعليم أولادهم، وبخاصة العلوم الإسلامية،
فاختاروا لهذه المهمة أصلح المعلمين الذين كانوا يسمون أيضًا
بالمؤدبين، ولم تكن مهمتهم تعليمية فحسب، بل كانت تربوية أيضًا.
ومن أشهر هؤلاء المعلمين: (دغفل بن حنظلة الشيبانى)، واختاره
(معاوية بن أبى سفيان) لتعليم ابنه (يزيد) وتهذيبه، و (الضحاك بن
مزاحم) و (عامر بن شراحبيل الشعبى) و (ابن أبى المهاجر)، وهؤلاء
الثلاثة من كبار التابعين، واختارهم (عبد الملك بن مروان) لتعليم
أولاده وتأديبهم.
وقد حذا أشراف الناس والأغنياء حذو الخلفاء فى تعليم أولادهم على
أيدى مربين ومؤدبين، مما أعطى دفعة للحركة العلمية فى ذلك
العصر.
وعلى الرغم من ضياع المدونات والمؤلفات التى كتبت فى العصر
الأموى، فإن معظم محتوياتها وصلت إلينا فى المؤلفات الكثيرة التى
ألفت فى العصر العباسى، فمرويات (الطبرى) عن غزوات الرسول
- صلى الله عليه وسلم -، وسيرته أخذها ممن رواها عن كتَّاب المغازى(2/71)
والسيرة الأوائل الذين ضاعت مؤلفاتهم، كأبان بن عثمان بن عفان،
و (عروة بن الزبير) وغيرهما.
علم التفسير:
هو العلم الذى يبحث فى بيان معانى آيات القرآن وأسلوبه وبيانه،
إلى غير ذلك مما حفلت به كتب التفسير من مصطلحات هذا العلم؛
كالمجمل والمفصّل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ،
وأسباب النزول.
ومع كون الصحابة - رضوان الله عليهم - أقدر الناس على فهم القرآن
الكريم، فإنهم اختلفوا فى فهمه على حسب اختلاف قدراتهم العقلية،
واشتهر منهم بالتفسير وفهم القرآن الكريم: الخلفاء الراشدون، و (ابن
مسعود)، و (ابن عباس)، و (أبىُّ بن كعب)، و (زيد بن ثابت).
وعن هؤلاء وغيرهم تلقى التابعون، وعلى رأسهم: (مجاهد بن جبر)،
و (عطاء بن أبى رباح)، و (عكرمة مولى ابن عباس)، و (سعيد بن
جبير)، و (سعيد بن المسيب)، و (الحسن البصرى)، و (محمد بن سيرين)،
وبعض هؤلاء ألفوا كتبًا فى التفسير، لكنها ضاعت ولم تصل إلينا،
كما ضاعت كتب التفسير التى ألِّفت بعد عصر التابعين، ومنها ما
نُسب إلى (سفيان بن عيينة) و (وكيع بن الجراح)، و (عبد الرزاق) وكثير
غيرهم.
والخلاصة أنه لم يصل إلينا كتاب فى التفسير يرجع إلى العصر
الأموى، وأول كتاب فى التفسير وصل إلى أيدى الناس هو كتاب
(معانى القرآن) للفرَّاء المتوفى سنة (207هـ)، ثم توالت بعده مطولات
كتب التفسير، ولعل من أشهرها تفسير الإمام (الطبرى) المتوفى سنة
(310هـ)، المعروف باسم (جامع البيان عن تأويل آى القرآن).
علم الحديث:
الحديث فى اللغة: مطلق الكلام، وفى الاصطلاح: هو كلام النبى - صلى
الله عليه وسلم -، الذى هو المصدر الثانى للتشريع بعد القرآن الكريم.
وقد حرص الصحابة على حفظ كل ما يسمعونه من النبى - صلى الله
عليه وسلم -، وكانوا يسألونه ليبين لهم ما غمض عليهم فهمه من
القرآن، وهذا من وظائفه لقوله تعالى {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس
ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون}. [النحل: من 44].(2/72)
وقد أمرهم الله تعالى باتِّباع النبى فى كل ما يقول أو يفعل، لقوله
تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. [الحشر:
من 7].
وحذَّرهم من مخالفته - صلى الله عليه وسلم -، فقال تعالى: {فليحذر
الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
[النور: من 63].
وسار المسلمون على نهج الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتلقفوا
كل ما يتلفظ به، يحفظونه عن ظهر قلب ويعملون به، وكان الحديث
هو أول العلوم التى اشتغلوا بها، لكنهم لم يدونوه فى حياة النبى
- صلى الله عليه وسلم -، ويروى أنه هو نفسه نهاهم عن ذلك، لئلا
يختلط بالقرآن، فقال: (لا تكتبوا عنّى، فمن كتب عنى غير القرآن
فليمحهـ) [صحيح مسلم]، بالإضافة إلى أن الصحابة أنفسهم كانوا
يتحرجون من الإكثار من رواية الحديث، تهيبًا وخوفًا من الخطأ
والنسيان.
- تدوين الحديث:
ظلت أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتناقلها العلماء
مشافهة جيلا بعد جيل، حتى نهاية القرن الأول الهجرى، وإن دوَّن
بعض الناس أحاديث رسول الله كعبدالله بن عمرو الذى أذن له النبى
بكتابة الحديث فى حياته، وما رواه البخارى من أن (أبا شاه
اليمنى)، التمس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب شيئًا
من خطبته عام الفتح، فقال: (اكتبوا لأبى شاهـ)، ثم أمر الخليفة (عمر
بن عبدالعزيز) بتدوين الحديث خوفًا من ضياعه بموت العلماء الذين
يحفظونه، فكتب إلى (أبى بكر بن حزم) والى (المدينة) وغيره من
ولاة الأقاليم، وطلب منهم جمع أحاديث النبى - صلى الله عليه وسلم -
وتدوينها، ومن ثم بدأ المسلمون يقبلون على ذلك، وبمضى الزمن
تضاعفت جهود العلماء فى هذا الميدان، ومن أشهر الرجال الذين
اشتغلوا بجمع الحديث وروايته وتدوينه فى العصر الأموى: (محمد بن
مسلم بن شهاب الزهرى) المتوفى سنة (124هـ)، و (ابن جريج المكى)
المتوفى سنة (150هـ)، و (ابن إسحاق) المتوفى سنة (151هـ)،(2/73)
و (معمر بن راشد اليمنى) المتوفى سنة (153هـ)، و (سفيان الثورى)
المتوفى سنة (161هـ)، و (مالك بن أنس) المتوفى سنة (179هـ)، غير
أن هؤلاء كلهم عدا (ابن شهاب الزهرى) عاشوا صدر حياتهم فى
العصر الأموى وآخرها فى العصر العباسى.
لكن الخطوات الحاسمة فى تدوين الحديث، ووضع المنهج العلمى
الدقيق لتوثيقه، وقبول روايته، وتصنيفه إلى صحيح وحسن
وضعيف، ووضع علومه، وقواعد الجرح والتعديل - أى نقد رجال
السند - كل ذلك جاء فى القرن (3 هـ = 9 م)، بظهور أئمة الحديث
كالبخارى و (مسلم)، و (الترمذى)، و (النسائى)، و (أبى داود) وغيرهم،
وذلك فى العصر العباسى.
علم الفقه:
وهو من أجل العلوم الإسلامية، فهو يعرِّف المسلم كيف يعبد ربه، بما
افترضه عليه من صيام وصلاة وزكاة وحج، وينظم معاملات المسلمين
ويقننها فى البيع والشراء والتجارة والزراعة وسائر شئون حياتهم.
ويعد الفقهاء من أكثر علماء الإسلام أثرًا فى حياة المسلمين، لقوله
- صلى الله عليه وسلم -: (من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين). [مسند
الإمام أحمد].
وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - يعلم الصحابة ويفقههم فى أمور
دينهم، ثم تولَّى بعده الصحابة تلك المهمة، وبخاصة بعد أن اتسعت
الدولة الإسلامية فى عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية، ثم اتسع
نطاق علم الفقه نتيجة لزيادة المشكلات والقضايا التى تحتاج إلى
فتاوى وحلول، وأصبح له علماء متخصصون، لهم قدرة على استنباط
الأحكام الفقهية من الكتاب والسنة، وعلى الاجتهاد لإيجاد أحكام
للقضايا التى لم يرد لها نص فى كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله
عليه وسلم -، لأن النصوص متناهية، فى حين أن المشكلات والقضايا
غير متناهية ومتجددة، ولابد لها من حلول، فالشريعة الإسلامية
صالحة لكل زمان ومكان، ومعنى الصلاحية أن يكون لها حل
للمشكلات وإجابة عن كل الأسئلة، ومن ثم اجتهد الفقهاء فى هذا
الميدان، واختلفت اجتهاداتهم طبقًا لفهمهم الكتاب والسنة؛ ونتيجة(2/74)
لذلك ظهرت المذاهب الفقهية المعروفة، وتراكم تراث فقهى هائل،
أخذ يتزايد بمرور الزمان.
وفى العصر الأموى ظهر إمامان جليلان من أئمة الفقه الكبار، هما
(أبو حنيفة النعمان) و (مالك بن أنس).
أمَّا أولهما فقد وُلد فى (الكوفة) سنة (80هـ) فى خلافة (عبدالملك بن
مروان)، وتوفى سنة (150هـ) فى خلافة (أبى جعفر المنصور
العباسى)، أى أنه عاش أغلب حياته فى العصر الأموى.
وهو من أصل فارسى، تلقى الفقه على كثير من كبار العلماء، منهم
(أبو جعفر الصادق)، و (إبراهيم النخعى)، و (عامر بن شراحبيل
الشعبى)، و (الأعمش)، و (قتادة)، وغيرهم، واشتهر باجتهاده، وقوة
حجته، وحسن منطقه، ودقته فى استنباط الأحكام، وهو صاحب
المذهب الحنفى المعروف، الذى ألَّف فيه ونشره بين الناس تلاميذه
العظام، ومن أبرزهم (أبو يوسف) المتوفى سنة (182هـ) قاضى
القضاة فى عهد الخليفة (هارون الرشيد)، و (محمد بن الحسن
الشيبانى) المتوفى سنة (189هـ). و (زفر بن هذيل) المتوفى سنة
(158هـ)، وقد انتشر المذهب الحنفى فى (مصر) و (العراق) وأواسط
آسيا وغيرها.
وأماَّ الآخر فقد وُلد فى (المدينة المنورة) سنة (93هـ) فى عهد (الوليد
بن عبدالملك)، وتوفى سنة (179هـ) فى عهد (هارون الرشيد)، أى
أنه عاش نحو نصف عمره فى العصر الأموى، وأكثر من نصفه الآخر
فى العصر العباسى.
نشأ (مالك بن أنس) وتفقَّه وروى الحديث فى (المدينة) وترك كتابًا
عظيمًا هو (الموطأ)، الذى يجمع بين الفقه والحديث، والإمام (مالك)
صاحب المذهب المالكى المعروف الذى انتشر فى (مصر) و (المغرب
العربى).
وقد عاصر هذين الإمامين الجليلين عدد آخر لا يقل عنهما علمًا وفقهًا،
مثل: (الأوزاعى) إمام أهل الشام المتوفى سنة (157هـ)، و (الليث بن
سعد) إمام أهل (مصر)، المتوفى سنة (175هـ)، غير أن مذهب هذين
الإمامين الجليلين اندثر بعدهما؛ لأنهما لم يجدا تلاميذ يواصلون نشر
مذهبيهما.
علوم اللغة العربية:(2/75)
ظهرت بعض علوم اللغة كالنحو والصرف والعروض فى العصر الأموى،
وكان الناس قبل ظهور الإسلام وبعده بفترة حتى عهد (على بن أبى
طالب) يتحدثون بلغة عربية، سليمة الأداء، فصيحة النطق، بالفطرة
والسليقة اللغوية، دون أن يعرفوا نحوًا أو صرفًا، غير أن الأمر اختلف
بعد دخول كثير من أبناء البلاد المفتوحة فى الإسلام؛ حيث بدأ ظهور
الخطأ واللحن فى اللغة، ومن ثم ظهرت الحاجة إلى علم لضبط النطق
السليم للكلمات العربية.
نشأة علم النحو:
يُعد أمير المؤمنين (على بن أبى طالب) أول من أشار بوضع قواعد
علم النحو، حيث كلَّف أحد ولاته وكتَّابه وهو (أبو الأسود الدؤلى)
المتوفى سنة (69هـ) بوضع قواعد علم النحو، ويروى (أبو الأسود)
نفسه أنه دخل على أمير المؤمنين (على بن أبى طالب) فوجد فى
يده رقعة، فسأله عنها، فقال: إنى تأملت كلام العرب فوجدته قد
فسد، فأردت أن أضع شيئًا يرجعون إليه، وألقى الرقعة إلى (أبى
الأسود)، فوجد مكتوبًا فيها: الكلام كله اسم، وفعل، وحرف، فالاسم
ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به -حيث يدل على الحدث
وزمانه - والحرف ما أفاد معنى، ثم قال (على) لأبى الأسود: انحُ هذا
النحو وأضف إليه ما وقع لك، فقال (أبو الأسود): فوضعت باب العطف
والنعت، ثم بابى التعجب والاستفهام، إلى أن وصلت إلى باب: إن
وأخواتها ماخلا لكنَّ، فلما عرضتها على (علىِّ) أمرنى بضم لكنَّ
إليها، وكنت كلما وضعت بابًا من أبواب النحو عرضته عليه، إلى أن
حصلت ما فيه الكفاية، فقال (على): ما أحسن هذا النحو الذى نحوت،
ومن هنا ظهر علم النحو.
ولما كان (أبو الأسود) من أهل البصرة، فقد ورثوا عنه حبه للنحو،
والاهتمام به، وكانوا أول من اشتغل به، فطوروه، وجددوه وأضافوا
إليه ما زاده بيانًا ووضوحًا، ودوَّنوا فيه المؤلفات المبكرة، ومن
هؤلاء: (يحيى بن يعمر)، و (عنبسة بن معدان)، و (عيسى بن عمر
الثقفى) المتوفى سنة (149هـ)، أحد علماء مدرسة (البصرة) فى
النحو.(2/76)
وعلى يد (عيسى بن عمر) تتلمذ أشهر علماء النحو واللغة فى ذلك
العصر وهو (الخليل بن أحمد) المولود سنة (96هـ)، والمتوفى سنة
(170هـ)، وهو صاحب معجم (العين) الذى هو أول معجم فى العربية،
وواضع علم العروض، الخاص بأوزان الشعر العربى ومعرفة بحوره.
ثم تتلمذ على يد (الخليل بن أحمد الفراهيدى) عدد من النحاة، يأتى
فى مقدمتهم (سيبويه) (عمرو بن عثمان) إمام النحاة، وصاحب
(الكتاب) أشهر مؤلِّف فى النحو العربى. وتُوفِّى (سيبويه) وهو فى
الثانية والثلاثين من عمره سنة (180هـ).
علم السير والمغازى والتاريخ:
وهو يعد من أوائل العلوم التى اهتم بها المسلمون الأوائل، وبخاصة
أبناء الصحابة؛ حيث حرص آباؤهم على تعليمهم مغازى الرسول
- صلى الله عليه وسلم - كما كانوا يعلمونهم القرآن الكريم، بالإضافة
إلى شغفهم بمعرفة ما قام به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والذين
معه من أجل الدعوة، ومن ثم اتجهوا إلى دراسة السير والمغازى،
وأخذها من مصادرها الوثيقة، من آبائهم وأهليهم الذين شهدوا
الأحداث، وشاركوا فى الغزوات، وكانوا يسألونهم مثلا: كيف كانت
غزوة (بدر)؟ ومن هم الذين شهدوها؟ ومتى كانت الهجرة إلى
(الحبشة)؟ وكان الصحابة يجيبون عن أسئلتهم إجابة شاهد العيان،
الذى رأى وسمع.
وكان من الطبيعى أن ينشأ هذا العلم فى مدينة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، فهى البيئة التى شهدت معظم تلك الأحداث، ومنها بدأت
أولى خطوات التدوين والتأليف فى السيرة والمغازى، ومن أوائل
علماء السيرة والمغازى:
أبان بن عثمان:
أبوه الخليفة (عثمان بن عفان)، وُلد سنة (20 هـ) بالمدينة، وكان من
فقهاء (المدينة) المعدودين، ومن كبار رواة الحديث، تتلمذ لأبيه وغيره
من كبار الصحابة، وتعلم على يديه كثير من علماء الحديث والسيرة،
فى مقدمتهم: (محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى).
وعلى الرغم من اشتغاله بالحديث والفقه، فإن شهرته فى العلم(2/77)
بالمغازى والسير جعلته من علمائها البارزين، وتوفى فى نهاية
القرن الأول الهجرى.
عروة بن الزبير بن العوام:
وُلد فى (المدينة) سنة (26هـ)، وتتلمذ على يد خالته أم المؤمنين
السيدة (عائشة)، وروى عنها حديث النبى - صلى الله عليه وسلم -
ومغازيه، واشتهر (عروة) بأنه من فقهاء (المدينة)، مثل (أبان بن
عثمان)، غير أن شهرته بالمغازى والسير كانت أكبر، وكانت له
مؤلفات كثيرة، ذكر (ابن سعد) فى كتابه (الطبقات) أنه أحرقها فى
يوم (الحرة)، وهى الواقعة الحربية المشهورة سنة (63هـ) فى
(المدينة)، وقد حزن كثيرًا على فقدها، وتوفى (عروة) سنة (94هـ).
شرحبيل بن سعد:
وهو ثالث ثلاثة من كتاب الطبقة الأولى من أهل (المدينة) فى علم
السيرة، نشأ فى (المدينة)، وأخذ العلم عن الصحابة، حتى صار علمًا
من أعلام السير والمغازى، ويروى أنه كان أعلم الناس بالمغازى
وبخاصة أهل (بدر)، وقد تُوفُّى سنة (123هـ).
وهب بن منبه:
وُلد فى قرية (زمار) بجوار (صنعاء) باليمن، وهو واحد من رجال
الطبقة الأولى من علماء السيرة والمغازى، ومن العلماء الموسوعيين
الذين كتبوا فى علوم شتىَّ، فكان مصدرًا من مصادر علوم أهل
الكتاب، ومن الثقاة فى تاريخ الأنبياء.
وقد ألَّف (وهب) مؤلفات كثيرة، لم يصل إلينا منها شىء، وإن وجدت
مؤخرًا فى مدينة (هيدلبرج) بألمانيا أوراق بردى، يقال إنها قطعة
من كتاب المغازى لوهب بن منبه، تحوى معلومات عن (بيعة العقبة)،
وحديث (قريش) فى دار الندوة، وتدبيرها لقتل الرسول - صلى الله
عليه وسلم -، والاستعداد للهجرة إلى (المدينة).
ثم تلا هذه الطبقة طبقة أخرى، واصلت عملها فى مجال التأليف
والكتابة فى السيرة والمغازى، من أبرزهم (محمد بن مسلم بن شهاب
الزهرى)، الذى امتاز على معاصريه بكثرة الكتابة والتدوين، غير أن
مؤلفاته ضاعت ولم يصل إلينا منها شىء، وعلى الرغم من ذلك فإن
علمه حفظه لنا تلاميذه الكثيرون، وكان من أعظمهم فى مجال
السيرة والمغازى:(2/78)
محمد بن إسحاق:
وُلد فى (المدينة) سنة (85هـ) فى خلافة (عبدالملك بن مروان)، وتتلمذ
لأبيه الذى كان محدثًا فقيهًا، ولغيره من كبار التابعين فى (المدينة)،
مثل: (القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق)، و (سالم بن عبدالله بن
عمر)، و (أبان بن عثمان بن عفان)، و (نافع مولى عبدالله بن عمر)،
و (أبى سلمة بن عبدالرحمن بن عوف)، و (محمد بن مسلم بن شهاب
الزهرى)، ثم رحل (ابن إسحاق) إلى (مصر) سنة (115هـ)، والتقى
بعلمائها الكبار، وفى مقدمتهم: (يزيد بن أبى حبيب)، وزار
الإسكندرية، ثم عاد إلى (المدينة) ليواصل دراسته، ثم رحل إلى
(العراق) بعد قيام الدولة العباسية، وقضى فيها بقية حياته، حتى
تُوفِّى سنة (151هـ).
وهناك إجماع بين العلماء على إمامة (ابن إسحاق) لعلم السيرة
والمغازى، فقد حفظ فى كتابه معظم روايات السابقين وآثارهم
العلمية، وكل من أتى بعده عالة عليه فى هذا العلم كما قال الإمام
(الشافعى).
ولابن إسحاق كتابان:
أحدهما عنوانه (كتاب الخلفاء)، وهو مفقود حتى الآن.
والآخر: كتاب (السيرة والمبتدأ والمغازى) وهو أقدم كتاب وصل إلينا
عن سيرة الرسول ومغازيه، وأوفاها علمًا، وإذا كان لم يظهر إلى
الوجود كاملا حتى الآن، فإنه جاء إلينا فى صورة تكاد تكون كاملة
عن طريق (عبدالملك بن هشام)، المتوفَّى سنة (218هـ)، الذى أخذ
سيرة (ابن إسحاق) ورواها عن شيخه (زياد بن عبدالله البكائى)،
الذى رواها مباشرة عن شيخه (ابن إسحاق).
وقد قام (ابن هشام) بتهذيب سيرة (ابن إسحاق)، وحذف كثيرًا من
الشعر والروايات التى لم يرَ ضرورة لذكرها، وقد عرف عمله هذا
بسيرة (ابن هشام)، ولاشك أنه أسدى إلى العلم بصفة عامة وإلى
علم السيرة والمغازى بصفة خاصة خدمة جليلة، بحفظه هذا السفر
الضخم الذى كان مصدرًا لكل كتاب السيرة والمغازى بعد ذلك، مثل
(الواقدى) المتوفَّى سنة (207هـ)، وتلميذه (محمد بن سعد) المتوفى(2/79)
سنة (230هـ)، و (البلاذرى) المتوفى سنة (279هـ)، و (ابن قتيبة)
المتوفى سنة (276هـ)، و (الطبرى) عمدة المؤرخين المسلمين على
الإطلاق، المتوفى سنة (310 هـ = 922 م).
حركة الترجمة من اللغات الأجنبية:
حافظ الأمويون على التراث الثقافى للبلاد التى كانت تحت حكمهم،
فى (الإسكندرية) بمصر، و (بيروت)، و (دمشق) و (أنطاكية) فى
(الشام)، و (نصيبين) و (حران) فى (العراق)، و (جنديسابور) فى فارس،
وكانت تلك المدن هى أعظم مراكز العلم القديمة.
وقد تأخر المسلمون فى البداية فى نظرهم إلى العلوم الأجنبية، نظرًا
لانشغالهم بالجهاد وتوطيد الدولة الإسلامية، وتأسيس العلوم العربية
والإسلامية التى سبق الحديث عنها، ولعدم معرفتهم على نطاق واسع
باللغات الأجنبية.
ولا يعنى ما سبق أن الأمويين أهملوا العناية بتلك العلوم الأجنبية،
وترجمة بعضها إلى اللغة العربية، فقد شغف (خالد بن يزيد بن
معاوية)، وهو من أمراء (بنى أمية) بالكيمياء، التى كانت تسمَّى فى
ذلك الوقت (علم الصنعة)، وأحضر بعض العلماء من (مصر) إلى
(دمشق)، ليترجموا له بعض الكتب من اليونانية إلى العربية، ويذكر
(ابن النديم) فى كتابه (الفهرست) أنه رأى بنفسه مؤلفات لخالد بن
يزيد، منها: كتاب فى الحراريات، وكتاب وصيته إلى ابنه فى
الصنعة.
ويذكر (القفطى) من مترجمى العصر الأموى الطبيب (ماسرجويهـ) الذى
ترجم كتابًا فى الطب للخليفة (عمر بن عبدالعزيز)، كما يذكر (ابن
النديم) - أيضًا - أن (سالمًا) كاتب الخليفة (هشام بن عبدالملك) ترجم
رسائل (أرسطو) إلى تلميذه (الإسكندر الأكبر)، وهى رسائل فى
السياسة.
وعلى أية حال فإن ذلك كان بداية متواضعة لحركة الترجمة، فرضتها
ظروف الدولة وصراعاتها فى الداخل والخارج، وحسْب الأمويين أنهم
حافظوا على تلك الثروة الهائلة، وصانوها من الضياع، ولولا ذلك ما
وجد العلماء فى العصر العباسى شيئًا يترجمونه.(2/80)
الفصل الثاني
خلفاء بني أمية
1 - معاوية بن أبى سفيان:
هو «معاوية بن أبى سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن
عبدمناف»، وأمه «هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد
مناف»، ويلتقى نسبه من جهة أبيه وأمه مع نسب رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فى «عبد مناف»، ولُقِّب بخال المؤمنين؛ لأن أخته «أم
حبيبة» أم المؤمنين كانت زوجًا للنبى - صلى الله عليه وسلم -.
وُلد قبل الهجرة بنحو خمسة عشر عامًا، وأسلم عام الفتح، سنة
(8هـ)، مع أبيه وأخيه «يزيد بن أبى سفيان» وسائر «قريش»،
وأصبح منذ أن أسلم كاتبًا من كتَّاب الوحى لرسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، وشارك فى عهد «أبى بكر الصديق» فى حروب الردة،
وفى فتوح الشام تحت قيادة أخيه الأكبر «يزيد»، وأبلى فى ذلك
بلاءً حسنًا.
وعيَّنه «عمر بن الخطاب» واليًا على الشام كله، بعد وفاة أخيه
«يزيد» سنة (18هـ)؛ لكفاءته الحربية ومهارته فى السياسة والإدارة،
وظل فى ولايته مدة خلافة «عمر»، ثم أقره «عثمان بن عفان» (24 -
36هـ) على ولايته، فاستمر فى سياسته الحكيمة، ضابطًا لعمله،
حارسًا لحدود إمارته، متصديا بكل حزم لأعداء الإسلام، محبوبًا من
رعيته.
خلافته:
استقبل المسلمون خلافة «معاوية» استقبالا حسنًا، واجتمعت عليه
كلمتهم، وكان هو عند حسن الظن، جديرًا بالمنصب الجليل، خبيرًا
بشئون الحكم وأمور السياسة، تدعمه فى ذلك خبرة واسعة، وتجربة
طويلة فى الإدارة وسياسة الناس، امتدت إلى أكثر من عشرين عامًا،
هى فترة ولايته على الشام، بالإضافة إلى تمتعه بكثير من الصفات
الرفيعة، التى تؤهله ليكون رجل دولة من الطراز الأول.
وقد أجمع المؤرخون على أنه كان لمعاوية نصيب كبير من الذكاء
والدهاء والسماحة والحلم والكرم، وسعة الأفق، وقدرة فائقة على
التعامل مع الناس على قدر أحوالهم، أعداءً كانوا أم أصدقاء.
وقد أفرغ «معاوية» جهده كله، ومواهبه وطاقاته فى رعاية مصالح
المسلمين وتوطيد دعائم الدولة، ونشر الأمن والاستقرار فى ربوعها،(2/81)
واتبع فى تحقيق ذلك سياسة حكيمة تقوم على دعائم ثابتة، تتلخص
فيما يلى:
- العمل على تضميد جراح الأمة، وتسكين نفوسها، وتأليف قلوبها
بعد فترة مضطربة من حياتها، والإحسان والتودد إلى كبار
الشخصيات من شيوخ الصحابة وأبنائهم، وبخاصة آل بيت النبى
- صلى الله عليه وسلم -، وقد أدت هذه السياسة إلى تجميع القلوب
حوله، وتحويل الخصوم إلى أعوان وأصدقاء.
- وحسن اختياره للولاة والحكام، لأنه أدرك أنه مهما أوتى من ذكاء
وفطنة، ومقدرة وحكمة، فلن يستطيع أن يحكم الدولة وحده، ومن ثم
لابد له من أعوان، يساعدونه فى إدارة البلاد على خير وجه،
فاختارهم بعناية فائقة من بين أقوى الناس عقلا، وأحسنهم سياسة،
وأحزمهم إدارة، أمثال «عمرو بن العاص»، و «المغيرة بن شعبة»،
و «زياد» و «عتبة» أخويه، وغيرهم.
- ومباشرته أعماله بنفسه، وتكريسه وقته وجهده للدولة وسياستها،
وعدم ركونه إلى حياة الراحة والدعة، على الرغم من استعانته فى
إدارة الدولة بأعظم الرجال فى عصره.
بهذه السياسة استقرت الدولة وسادها النظام، وعمَّها الأمن
والسكينة، ولم يشذ عن ذلك سوى الخوارج، فأخذهم «معاوية»
بالشدة؛ حفاظًا على سلامة الأمة، واتسمت سياسته الخارجية
وبخاصة تجاه الدولة البيزنطية بمواصلة الضغط عليها، ومحاصرة
«القسطنطينية» - عاصمتها - أكثر من مرة، وجعلها تقف موقف
الدفاع عن نفسها.
الفتوحات فى عهد معاوية:
فتح شمالى إفريقيا:
وصل المسلمون فى أواخر خلافة «عثمان» إلى «تونس» الحالية،
لكنهم لم يواصلوا فتوحاتهم بسبب الفتن التى استمرت حتى نهاية
خلافة «على بن أبى طالب» (36 - 40هـ)، فلما استتب الأمر لمعاوية
سنة (41هـ)، كانت جبهة «شمالى إفريقيا» أولى الجبهات التى اهتم
بها، لأنها كانت تخضع لنفوذ الدولة البيزنطية التى عزم على تضييق
الخناق عليها، فأرسل سنة (41هـ) حملة إلى «شمالى إفريقيا»
بقيادة «معاوية بن حديج»، ثم أرسله على رأس حملة أخرى سنة(2/82)
(45هـ)، فاستطاع أن يفتح العديد من البلاد، مثل «جلولاء»
و «سوسة».
- فتوحات عقبة بن نافع:
أسند «معاوية بن أبى سفيان» قيادة الجيش الفاتح إلى «عُقبة بن
نافع»، وهو واحد من كبار القادة الذين لمعت أسماؤهم فى
الفتوحات الإسلامية فى العصر الأموى، ولم يكن «عُقبة» جديدًا على
الميدان، فقد شارك فى فتح تلك البلاد منذ أيام «عمرو»، واكتسب
خبرة كبيرة، فواصل فتوحاته فى هذه الجبهة.
ولما رأى «عقبة» اتساع الميدان، وبعد خطوط مواصلاته عن قواعده
فى «مصر»، شرع فى بناء مدينة تكون قاعدة للجيش، ومركزًا
لانطلاقاته وإمداداته، فبنى مدينة «القيروان» (50 - 55هـ) بإذن من
«معاوية»، وكان لهذه المدينة شأن عظيم فى الفتوحات وفى الحركة
العلمية، وأثناء تأسيسها كان «عقبة» يرسل السرايا للفتح، ويدعو
الناس إلى الإسلام، فدخل كثير من «البربر» -سكان البلاد- فى
الإسلام.
- فتوحات أبى المهاجر:
ظل «عقبة بن نافع» يواصل فتوحاته ونشر الإسلام حتى عزله
«معاوية» وولَّى مكانه قائدًا آخر، لا يقل عنه شجاعة وإقدامًا، وحبا
للجهاد فى سبيل الله، هو «أبو المهاجر دينار»، وكان يتمتع إلى
جانب مهارته العسكرية بقدر من الكياسة وحسن التصرف والفطنة،
فقد أدرك أن «البربر» سكان الشمال الإفريقى قوم أشداء، يعتدُّون
بكرامتهم ويحرصون على حريتهم كالعرب تمامًا، وأن سياسة اللين
والتسامح قد تجدى معهم أكثر من سياسة الشدة.
وقد نجحت سياسة «أبى المهاجر» فى اجتذاب البربر إلى الإسلام،
وبخاصة عندما أظهر تسامحًا كبيرًا مع زعيمهم «كسيلة بن لمزم»،
وعامله فى إجلال وإكرام، فأسلم الرجل متأثرًا بتلك المعاملة، وأسلم
بإسلامه طائفة كبيرة من قومه.
وفى مقابل تلك السياسة المتسامحة مع «البربر» كان «عقبة» حازمًا
فى تعامله مع الدولة البيزنطية التى حاولت أن تحتفظ بالشمال
الإفريقى بعد أن فقدت «مصر» والشام، لكنها لم تنجح، فقد حقق(2/83)
«أبو المهاجر» نصرًا عسكريا عليها، مكَّنه من السير إلى الغرب،
فاتحًا معظم «المغرب الأوسط» - الجزائر الحالية - ووصل إلى
«تلمسان».
معاوية ونشأة الأسطول الإسلامى:
وجد المسلمون أنفسهم بعد عشر سنوات من بداية الفتوحات الإسلامية
قد سيطروا على الشواطئ الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط؛
بالإضافة إلى سيطرتهم شبه الكاملة على «البحر الأحمر»، دون أن
تكون لديهم قوة بحرية، فهم ليسوا أهل بحر، بل هم أهل صحراء،
وإذا كانت لدى بعضهم خبرة بحرية كأهل «اليمن» و «الخليج»، فهى
خبرة تجارية وليست قتالية، ولذا كان من الضرورى أن يمتلكوا قوة
بحرية تمكنهم من الدفاع عن الشواطئ التى امتلكوها.
وكان «معاوية بن أبى سفيان» والى الشام أول من فطن إلى ذلك،
ورفع الأمر إلى الخليفة «عمر بن الخطاب»، شارحًا له أهمية ذلك، لأنه
عانى فى فتح مدن الشام الساحلية عناءً شديدًا بسبب وجود
الأسطول البيزنطى، غير أن «عمر بن الخطاب» رفض الفكرة تمامًا،
خوفًا على المسلمين من أهوال البحار؛ إذ لم تكن للمسلمين خبرة
بالحروب البحرية، كما كان يرى أن الوقت لايزال مبكرًا للدخول فى
ذلك الميدان الخطر، ولكن أمر «معاوية» أن يحصن الشواطئ
بالحصون، ويملأها بالمقاتلين، فامتثل «معاوية».
وفى خلافة «عثمان بن عفان» (24 - 35هـ) رفع إليه «معاوية» طلبه
القديم بإنشاء أسطول بحرى، فرفض «عثمان» فى بادئ الأمر، لكنه
عاد فوافق بعد ما اقتنع بأهمية المشروع، لكنه اشترط أن يكون
الجهاد البحرى تطوعًا، ولا يكره عليه أحد.
بدأ «معاوية» على الفور فى تحقيق مشروعه، فشرع فى بناء
الأسطول مستغلا كل الإمكانات الموجودة فى «مصر» والشام لصناعة
السفن، ولم تمضِ أربع سنوات حتى ظهر إلى الوجود أسطول
إسلامى كبير، نجح فى فتح «جزيرة قبرص» سنة (28هـ)، وهزم
الأسطول البيزنطى فى موقعة «ذات الصوارى».
معاوية وحصار القسطنطينية:
وضع «معاوية بن أبى سفيان» منذ أن ولى الخلافة أهدافًا سياسية،(2/84)
كان فى مقدمتها فتح مدينة «القسطنطينية»، عاصمة الدولة
البيزنطية، العدو اللدود للدولة الإسلامية، ولعله كان يستهدف
بسقوطها سقوط الدولة نفسها، كما هو الحال بالنسبة إلى دولة
الفرس التى لم تستطع الصمود بعد سقوط «المدائن» عاصمتها.
وكانت «القسطنطينية» تُعدُّ من أمنع المدن فى العالم، لموقعها
الفريد على القرن الذهبى الممتد فى مياه «خليج البسفور»؛ حيث
تحيط بها المياه من الشرق والشمال والجنوب، أما فى الناحية
الغربية المتصلة بالبّر، فقد أقام الأباطرة البيزنطيون سلسلة من
الأسوار والأبراج لحمايتها من أية هجمات.
ولم يثنِ ذلك كلُّه عزيمة «معاوية» عن فتح عاصمة البيزنطيين،
فاستولى على الجزر البيزنطية الواقعة شرقى «البحر المتوسط».
مثل: «رودس»، و «كريت»، و «أرواد»؛ ليتخذها محطات للأسطول
الإسلامى، تمهيدًا لغزو «القسطنطينية».
ولما أكمل استعداداته جهز أول حملة بحرية إليها، بقيادة «سفيان
بن عوف» وجعل ابنه «يزيد» أميرًا شرفيا عليها، سنة (49هـ)،
وشارك فى هذه الحملة عدد من الصحابة، مثل «عبدالله بن عمر»،
و «عبدالله بن عباس»، و «أبى أيوب الأنصارى».
ولم تنجح هذه الحملة فى تحقيق أهدافها؛ بسبب مناعة المدينة،
وبرودة الجو الشديدة على العرب، فعادوا بعد أن استشهد عدد من
الأبطال، منهم «أبو أيوب الأنصارى» الصحابى الجليل.
وقد تنبأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذه الغزوة، ووعد أهلها
المغفرة، فقال: «أول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم» [صحيح
البخارى].
الحصار الثانى:
على الرغم من عدم التوفيق الذى لحق الحملة الأولى، فإن «معاوية»
لم ييأس، وأعد حملة أخرى، وفرض الحصار على المدينة سبع سنوات
(54 - 60هـ)، واقتصرت العمليات الحربية على فصلى الربيع والصيف؛
لصعوبة القتال فى الشتاء.
وقد أبلى المسلمون فى ذلك الحصار بلاءً حسنًا، وتحمَّلوا الصعاب
والمشقات، لكنهم لم يستطيعوا الاستيلاء عليها، فقد فاجأ(2/85)
البيزنطيون المسلمين بسلاح لم يكن لهم به عهد، عُرف باسم «النار
الإغريقية» وهو مركب كيميائى يتكوَّن من النفط والكبريت والقار،
كانوا يشعلونه بالنار، ويقذفون به السفن الإسلامية، فتشتعل بها
النيران، ولم يجد «معاوية» بدّاً من رفع الحصار وعودة الجيش إلى
«دمشق».
- ثورات الخوارج في عهد معاوية:
لجأ الخوارج إلى القوة واستخدام السيف فى فرض أفكارهم وآرائهم
على الناس، وأبدوا فى صراعهم الدموى مع الدولة الأموية كثيرًا من
ضروب الشجاعة والتضحية والإقدام وكانت الأعداد القليلة منهم تهزم
جيوشًا جرارة للدولة، ولو أن شجاعتهم وبطولاتهم اتجهت اتجاهًا
صحيحًا، ووحدوا جهودهم مع الدولة الأموية فى مجال الفتوحات
الإسلامية ومحاربة أعداء الإسلام، لكان ذلك أجدى وأنفع، والعجيب
أن أغلبهم لم يكونوا من طلاب الدنيا، والتطلع إلى المال والمناصب،
وإنما كانوا طلاب آخرة، ولكنهم أخطئوا الطريق إليها، كما قال لهم
«عمر بن عبدالعزيز».
أعلن الخوارج وبخاصة «الأزارقة» حربًا شعواء على الدولة الأموية
منذ قيامها، ولم تفلح معهم سياسة «معاوية بن أبى سفيان» - رضى
الله عنه - القائمة على التسامح وسعة الأفق، فثاروا فى وجهه سنة
(41هـ) - أى عام الجماعة - قبل أن يغادر «الكوفة»، وكان أول من
ثار عليه «عبدالله بن أبى الحوساء» فى مكان قريب من «الكوفة»،
ثم ثار عليه «المستورد بن عُلَّنة الطائى».
وكان عجيبًا أن تشب هذه الثورات فى «الكوفة» أيام واليها
«المغيرة بن شعبة» الذى انتهج سياسة متسامحة مع الناس كلهم،
ولم يشأ أن يزيد فى آلام الناس فى «العراق»، أو ينكأ جروحهم بعد
الحروب الكثيرة التى عانوها فى «الجمل» و «صفين».
وكان حريا بالخوارج أن يركنوا إلى الهدوء ويبتعدوا عن سياسة
العنف إزاء سياسة التسامح التى انتهجها «المغيرة»، لكنهم تمرَّدوا
وثاروا، فاضطر «المغيرة» إلى التصدى لهم والقضاء على ثوراتهم.(2/86)
ثم ازداد ضغط الدولة عليهم منذ أن ولى «زياد بن أبى سفيان» ولاية
«البصرة» سنة (45هـ) فأخذ يتعقبهم فى «البصرة»، فى الوقت الذى
يتعقبهم فيه «المغيرة بن شعبة» فى «الكوفة»، حتى ضيَّقا عليهم
الخناق، وضربا عليهم بيد من حديد، حتى ضعفت شوكتهم.
وتُوفِّى «معاوية» فى شهر رجب سنة (60هـ).(2/87)
2 - يزيد بن معاوية (60 - 64 هـ):
هو «يزيد بن معاوية بن أبى سفيان» وأمه «ميسون بنت مخول
الكلبية». ولد فى «دمشق» سنة (26هـ) فى خلافة «عثمان بن
عفان»، حين كان أبوه واليًا على الشام، فنشأ فى بيت إمارة
وجاه، وقد عُنى أبوه بتربيته تربية عربية إسلامية، فأرسله وهو
طفل إلى البادية عند أخواله من «بنى كلب»، فشب شجاعًا كريمًا،
أبى النفس، عالى الهمة، شاعرًا فصيحًا، وأديبًا لبيبًا، حاضر
البديهة، حسن التصرف فى المواقف.
ويعده العلماء من الطبقة الأولى من التابعين، ولبعضهم رأى حسن
فيه مع أخذهم عليه ميله إلى حياة اللهو فى صدر شبابه، فلقبه
«الليث بن سعد» فقيه «مصر» الكبير بلقب «أمير المؤمنين»، وقال
عنه «ابن كثير»: «وقد كان فى يزيد خصال محمودة من الكرم
والفصاحة والشعر والشجاعة، وحسن الرأى فى الملك، وكان ذا
جمال، حسن المعاشرة».
ومنذ أن عزم أبوه على توليته الخلافة بعده أخذ يحمله على الجد
والحزم، وترك حياة اللهو والترف، استعدادًا لتولى هذا المنصب
الجليل، وعهد إليه بالقيام بالمهام الصعبة، فأرسله على رأس الحملة
العسكرية التى وجهها فى سنتى (49 - 50 هـ) لحصار القسطنطينية
عاصمة الدولة البيزنطية، وكان تحت قيادته بعض كبار الصحابة.
توليته الخلافة:
كان «يزيد» غائبًا عن «دمشق» عند وفاة أبيه فى رجب سنة
(60هـ)، فأخذ البيعة له «الضحاك بن قيس»، ولما حضر جاءته الوفود
وأمراء الأجناد، لتعزيته فى أبيه وتهنئته بالخلافة وتجديد البيعة له.
وقد ترسَّم «يزيد» خطى أبيه، واستوعب وصيته له التى توضِّح له
معالم طريقه السياسى، وتبيِّن له كيفية التعامل مع المشكلات
وأحوال الرعية، وهذه الوصية تُعدُّ من أهم الوثائق السياسية فى فن
الحكم وإدارة الدول.
حافظ «يزيد» على سلامة الدولة وهيبتها، وحمى حدودها، واستمرت
حركة الفتوحات فى عهده، فوصل «عقبة بن نافع» إلى شواطئ
«المحيط الأطلسى»، مخترقًا الشمال الإفريقى كله، وعبرت طلائع(2/88)
الفتح نهر «جيحون» لفتح بلاد «ما وراء النهر» (آسيا الوسطى).
الفتوحات الإسلامية في عهد يزيد:
- ولاية عقبة بن نافع الثانية:
أعاد الخليفة «يزيدُ بن معاوية» «عقبةَ بن نافع» مرة أخرى إلى
«شمالى إفريقيا»، فواصل جهود «أبى المهاجر»، وقام بحملته التى
اخترق بها الساحل كله فى شجاعة وجرأة حتى بلغ شاطئ «المحيط
الأطلسى»، وأوطأ أقدام فرسه فى مياهه، وقال قولته المشهورة:
«اللهم اشهد أنى قد بلغت المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت فى
البلاد، أقاتل من كفر بك حتى لا يعبد أحدًا دونك».
وفى أثناء عودة «عقبة» من غزوته المظفرة تعرض لكمين نصبه له
البيزنطيون بمساعدة «كسيلة» زعيم «البربر»، الذى كان «عقبة» قد
أهانه، فبينما هو يسير فى عدد قليل من جنوده يبلغ زهاء ثلاثمائة
جندى انقضت القوات البيزنطية عليه وعلى من معه عند بلدة تهودة
فاستشهدوا جميعًا سنة (63هـ).
ومما أسهم فى وقوع الكارثة أن «عقبة» قد وقع فى خطأ عسكرى
كبير، إذ سرَّح معظم جيشه، وأمرهم بالسير أمامه، فابتعدوا عنه
لمسافة طويلة، مما جعل الجيش البيزنطى ينفرد به ويهزمه هزيمة
ثقيلة أضاعت كل الجهود التى بذلها المسلمون فى فتح تلك البلاد،
واضطر المسلمون إلى الارتداد إلى الخلف، ولم يستطيعوا الاحتفاظ
بالقيروان، وعادوا إلى «برقة».
ثم تسلَّم «زهير بن قيس البلوى» قيادة الجيش خلفًا لعقبة بن نافع
سنة (63هـ)، وعزم على الثأر من البيزنطيين و «البربر»، لكنه لم
يستطع أن يحقق هدفه إلا فى سنة (69هـ)، نظرًا لانشغال الدولة
الأموية بالأحداث والفتن الخطيرة التى حدثت فى الداخل بعد وفاة
«يزيد بن معاوية» سنة (64هـ).
الثورات في عهد يزيد بن معاوية:
- ثورة الحسين بن على:
لم يقم الشيعة بأى ثورة ضد «معاوية بن أبى سفيان»، طوال مدة
خلافته (41 - 60هـ)، وإنما اندلعت أولى ثوراتهم بقيادة «الحسين بن
على» فى خلافة «يزيد بن معاوية»، بعد أن رفض «الحسين» بيعة(2/89)
«يزيد»، وكان قد رفض من قبل تعيينه وليا للعهد فى زمن أبيه.
اعتصم «الحسين» بمكة المكرمة، وهناك توالت عليه رسائل أهل
«الكوفة» يطلبون منه الحضور إليهم؛ ليبايعوه بالخلافة، فاستجاب
لهم على الرغم من تحذير «ابن عباس» - وهو من أقرب الناس إليه - من
الذهاب إلى «العراق»، لأنها دعوة من لا أمان أو عهد لهم، وقد خذل
أهل العراق أباه من قبل، لكنه أصر على الذهاب، وأرسل - قبل أن
يتحرك- ابن عمه «مسلم بن عقيل بن أبى طالب» إلى «الكوفة»،
ليستطلع الأمر، ويكتب له بحقيقة الموقف هناك.
وصل «مسلم بن عقيل» إلى «الكوفة»، فاستقبله الناس بحماس شديد
وبحفاوة بالغة، وبايعه منهم نحو ثمانية عشر ألفًا، فانخدع بهم بعد
أن تغافل «النعمان بن بشير» والى «الكوفة» عنه، فكتب إلى
«الحسين» يطمئنه، ويطلب منه الحضور إلى «الكوفة».
ولما علم «يزيد» بما فعله «مسلم» فى «الكوفة»، اضطر إلى عزل
«النعمان بن بشير» عن ولايتها لتغاضيه عما يقوم به «مسلم»، وولَّى
مكانه «عبيدالله بن زياد»، فحضر على الفور، وقبض على «مسلم»
وقتله بعد أن انفضت عنه الآلاف التى تجمعت حوله من أهل
«الكوفة»، وتركوه يلقى مصرعه وحده.
وفى أثناء هذه الأحداث المتلاحقة كان «الحسين» فى طريقه إلى
«الكوفة»، فلما وصلته أخبار «مسلم»، وتخاذُل الكوفيين عنه، قرر
العودة إلى «مكة»، لكن إخوة «مسلم» أصروا على مواصلة السير،
طلبًا لثأر أخيهم، فلم يجد «الحسين» بُدا من مطاوعتهم، وكان هذا من
الأخطاء الكبيرة، فالذى قتل «مسلم» دولة لا فرد، وليس فى
استطاعتهم - وهم قلة فى عددهم - التصدِّى للدولة، فقد كانوا نحو
سبعين رجلا.
واصل «الحسين» سيره حتى بلغ «كربلاء» بالقرب من «الكوفة»،
فوجد جيشًا كبيرًا فى انتظاره بقيادة «عمر بن سعد بن أبى وقَّاص»
يزيد عددُه عمَّا معه من أفراد بنحو خمسين مرة، وعسكرت القوتان
دون تكافؤ بينهما فى القوة، فعرضَ «الحسين» على «عمر بن سعد»(2/90)
ثلاثة حلول للخروج من هذا المأزق، إمَّا أن يتركه يعود إلى «مكة»،
وإما أن يتركه يذهب إلى ثغر من ثغور الإسلام فيجاهد فى سبيل
الله، وإما أن يدعه يذهب إلى «دمشق» لمقابلة الخليفة «يزيد بن
معاوية» ويضع يده فى يده.
وكانت هذه الخطوة من «الحسين» - رضى الله عنه - طيبة؛ لأن ذلك
معناه أنه أنهى ثورته وجنح إلى السلام، كما سُرَّ بهذه الخطوة
«عمر بن سعد»، لأنه لم يكن راغبًا فى مواجهة «الحسين»، ولكن
عليه أن يستشير «عبيد الله بن زياد»، فهو الوالى وصاحب القرار،
فرحب بالفكرة لأول وهلة، لأن فيها حقن الدماء، وبخاصة دم
«الحسين» حفيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غير أن شيطانًا
من شياطين الإنس يُدعى «شمر بن ذى الجوش» أشار على «ابن
زياد» ألا يقبل من «الحسين» إلا أن يسلِّم نفسه باعتباره أسير حرب،
وأن يرسله بهذه الصفة إلى الخليفة «يزيد بن معاوية» فى «دمشق».
وكان من الطبيعى أن يرفض «الحسين بن على» هذا الطلب، فالموت
عنده أهون عليه من هذا كما قال هو نفسه، ولو أن مشركًا أو ذميا
كان فى مكان «الحسين»، وعرض عليهم هذه الحلول السلمية لكان
عليهم قبولها، لكن «ابن زياد» خضع لهذه الفكرة الشيطانية، ورفض
«الحسين» تسليم نفسه أسير حرب، فدارت معركة غير متكافئة بين
الفريقين فى «كربلاء» فى العاشر من المحرم سنة (61هـ)، استُشْهِد
فيها «الحسين»، رضى الله عنه، وقتل من كان معه من أهل بيته،
ولم ينجُ من القتل إلا ابنه «على» الملقب بزين العابدين.
وكانت نتيجة المعركة مأساة مروعة، أدمت قلوب المسلمين جميعًا
حزنًا على «الحسين»، ريحانة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما
كانت سببًا من أسباب زوال الدولة الأموية، وامتد أثرها فى تفريق
كلمة المسلمين إلى يومنا هذا.
ولاشك أن مسئولية دم «الحسين» تقع فى المقام الأول على أهل
«الكوفة» الذين أخرجوه ثم خذلوه، ولذلك يروى أن آخر جملة قالها(2/91)
قبل وفاته: «اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا»، ثم
على «عبيدالله بن زياد» الآمر المباشر بقتاله، أما «يزيد بن أبى
سفيان» فإنه - وإن لم يأمر بقتل «الحسين»، ولم يسعد بذلك - كان
يجب أن تكون أوامره صريحة بعدم قتال «الحسين»، لاسيما أن أباه
«معاوية» قد أوصاه بذلك.
ثورة الخوارج:
استأنف الخوارج نشاطهم على نحو أعنف بعد وفاة «معاوية» سنة
(60هـ)، فأرسل إليهم «يزيد بن معاوية» حملة بقيادة «عبيدالله بن
زياد»، فتصدى لهم بقوة، ثم ازدادت ثوراتهم بعد وفاة «يزيد» سنة
(64هـ)، مستغلِّين فى ذلك حالة الفوضى التى سادت «العراق».
وكان يمكن لعهد «يزيد» أن يكون امتدادًا لعهد أبيه، استقرارًا
واستتبابًا، لولا عدة حوادث خطيرة، عكَّرت صفو الأمة الإسلامية،
وألقت بظلال سوداء على عهد «يزيد»، وطمست إنجازاته، منها:
حادثة استشهاد «الحسين بن على» - رضى الله عنهما - فى
«كربلاء» سنة (61هـ) وغزو «المدينة المنورة» سنة (63هـ) لقمع
الثورة التى قام بها أهلها ضده دون سبب قوى، ثم غزو «مكة
المكرمة» للقضاء على دولة «عبدالله بن الزبير» سنة (64هـ).
ولم تطل أيام «يزيد»، فقد توفى فى شهر ربيع الأول سنة (64هـ)،
وهو فى الثامنة والثلاثين من عمره وتولى بعده الخلافة ابنه معاوية
بن يزيد وهو «معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان»، وأمه «أم
هاشم بنت أبى هاشم بن عتبة بن ربيعة»، ومع أنه لم ينهض بعمله
باعتباره خليفة، فإنه أخذ مكانه فى سلسلة خلفاء الدولة الأموية،
ويسميه بعض المؤرخين «معاوية الثانى»؛ لأن أباه قد عهد إليه
بالخلافة بعده، طبقًا لنظام الوراثة الذى أسسه جده «معاوية»، وقد
بايعه الناس بعد وفاة أبيه، لكنه أعلن فى صراحة أنه عاجز عن
النهوض بمسئولية الخلافة، وعليهم أن يبحثوا عن شخص كفء من
أهل الصلاح والتقوى لتحمل عبء مسئولية منصب الخلافة.
ولم تطل حياة ذلك الشاب الورع، حيث تُوفِّى بعد أبيه «يزيد» بنحو(2/92)
أربعة أشهر، أو بعد أربعين يومًا فى قول آخر.(2/93)
3 - مروان بن الحكم (64 - 65هـ):
هو «مروان بن الحكم بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس»، ولد فى
السنة الأولى من الهجرة، ولذلك يعده بعض العلماء من الصحابة، وهو
ابن عم الخليفة «عثمان بن عفان» رضى الله عنه، وكان كاتبه وأمين
سره، وولاه «معاوية بن أبى سفيان» فى خلافته «المدينة المنورة»
أكثر من مرة؛ ثقة منه بقدرته وخبرته السياسية التى اكتسبها طوال
عمله مع «عثمان».
وكان «مروان» أثناء ولايته على «المدينة» يتحرَّى العدل، ولا يصدر
أمرًا إلا بعد استشارة صلحاء الناس، ومن مآثره التى جلبت ثناء الناس
عليه أنه جمع صيعان «المدينة» التى يكيلون بها، وأخذ بأعدلها
وأضبطها كيلا، فنسبه الناس إليه، وقالوا: «صاع مروان»، وقال عنه
الإمام «أحمد بن حنبل»: «كان عند مروان قضاء - يقصد كان عادلا
فى قضائه - وكان يتبع قضايا عمر بن الخطاب»، ويصفه المؤرخون
بالشجاعة والشهامة، والدهاء وحسن السياسة.
توليته الخلافة:
اضطرب أمر «بنى أمية» بعد رفض «معاوية بن يزيد» أن يتولى
الخلافة، أو يعهد بالأمر إلى أحد من أهل بيته، وفى هذه الأثناء
أعلن «عبدالله بن الزبير» نفسه خليفة للمسلمين سنة (64هـ) فى
«مكة»، فبايعه «العراق» و «مصر»، حتى الشام نفسها معقل
الأمويين بايعه معظم أقاليمها، وبدا الأمر كما لو أن دولة الزبيريين
قامت، ودولة الأمويين بادت.
كان «مروان بن الحكم» وبنوه يعيشون فى «المدينة المنورة»،
فأخرجهم منها «عبدالله بن الزبير» فرحلوا إلى الشام، حيت تجمع
هناك كل أنصار «بنى أمية» وولاتهم، من أمثال: «عبيد الله بن
زياد»، و «الحصين بن نمير»، فأخذوا يشجعون «مروان» على تحمل
قيادة البيت الأموى، ومنع دولتهم من السقوط.
وبعد مداولات طويلة بين زعماء القبائل استغرقت عدة شهور عقد
مؤتمر فى «الجابية» بالقرب من «دمشق»، فى شهر ذى القعدة سنة
(64هـ)، بويع فيه «مروان بن الحكم» بالخلافة، باعتباره أكبر أبناء
البيت الأموى سنا، وأكثرهم تجربة.(2/94)
كان على «مروان» بعد بيعته أن يثبت جدارته بهذا المنصب وأهليته
له، بأن يسترد نفوذ «بنى أمية» وسلطانهم فى الشام، معقلهم
الرئيسى، الذى خضع معظمه لعبدالله بن الزبير، ومن ثم خاض
«مروان» مع أنصار «ابن الزبير» معركة كبيرة فى «مرج راهط»،
شرقى «دمشق» فى نهاية سنة (64هـ)، وكان النصر فيها حليف
«مروان»، وبداية الطريق لاستعادة الأمويين لدولتهم التى كانت قاب
قوسين أو أدنى من الزوال.
ولم يضع «مروان» وقتًا بعد هذا الانتصار، فعاد إلى «دمشق»، حيث
تلقى وفود المهنئين والمبايعين. وبعد فترة قصيرة اطمأن فيها على
استقرار الأوضاع فى الشام، ترك ابنه «عبدالملك» فى «دمشق» نائبًا
عنه فى حكمها، وتوجه إلى «مصر» التى كانت تحت حكم «عبدالله
بن الزبير»، فاستردها بسهولة، وأقام بها نحو شهرين، رتَّب فيها
أوضاعها، وعيَّن ابنه «عبدالعزيز» واليًا عليها، وعاد هو إلى
«دمشق»، ليستأنف صراعه مع «ابن الزبير»، لكن الموت عاجله سنة
(65هـ) بعد حكم دام عشرة شهور.
ثورة التوابين في عهد مروان بن الحكم:
«التوابون» مجموعة من الشيعة الذين أحسوا بخطئهم الفادح حين
دعوا «الحسين» إلى «الكوفة» ليبايعوه خليفة وإمامًا، ثم خذلوه لما
حضر إليهم، لذلك قرروا الثأر له، وسمُّوا أنفسهم التوابين، أى الذين
تابوا عن تقصيرهم فى نصرته، وتزعمهم «سليمان بن صرد
الخزاعى».
وقد اجتمع لهم عدة آلاف من الناس، قيل إنهم بلغوا ستة عشر ألفًا،
وبايعوا «ابن صرد» على الموت طلبًا لثأر «الحسين»، لكنهم انفضُّوا
عنه حين جدَّ الجد، كما انفضوا عن «الحسين» من قبل، ولم يبقَ معه
سوى نحو ثلاثة آلاف، توجه بهم لقتال الأمويين، فتصدَّى لهم
«عبيدالله بن زياد» فى جيش ضخم، بلغ عدده نحو ستين ألفًا،
فهزمهم وقتل معظم التوابين وعلى رأسهم زعيمهم «سليمان بن
صرد»، فى مكان يُسمَّى «عين الوردة» فى شمالى «العراق» سنة
(65هـ).
وهكذا أضيفت إلى مآسى المسلمين مأساة أخرى، أدَّى إليها(2/95)
الاندفاع الأهوج، والحماس الطائش من جانب التَّوابين، وهم يعلمون
أنهم يواجهون بأعدادهم القليلة جيوش الدولة التى لن تتهاون مع من
يخرج عليها ويهدد أمنها.(2/96)
4 - عبدالملك بن مروان (65 - 86هـ):
هو «عبدالملك بن مروان بن الحكم»، ولد فى «المدينة» سنة (26هـ)
فى خلافة «عثمان بن عفان»، ونشأ بها نشأة علمية، وتتلمذ لكبار
الصحابة، من أمثال «عبدالله بن عمر»، و «أبى سعيد الخدرى»،
و «أبى هريرة» رضى الله عنهم، وبرع فى الفقه حتى عُدَّ من فقهاء
«المدينة»، وقد تواترت الأخبار عن فقهه وغزارة علمه ورجاحة عقله،
قال عنه «الذهبى»: «ذكرته لغزارة علمه»، وقال «الشعبى»: «ما
جالستُ أحدًا إلا رأيت لى الفضل عليه إلا عبدالملك بن مروان»، واحتج
الإمام «مالك بن أنس» بقضائه.
ومكث «عبدالملك» معظم حياته قبل أن يلى الخلافة فى «المدينة
المنورة»، لم يغادرها إلا لحج أو لجهاد، فقد اشترك فى فتح «شمال
إفريقيا» فى عهد «معاوية بن أبى سفيان».
عبدالملك ووحدة الدولة الإسلامية:
تولى «عبدالملك» الخلافة بعد وفاة أبيه فى رمضان سنة (65هـ)،
ووجد الدولة الإسلامية قد تنازعتها خمس دول: دولته هو، وتتكون من
«مصر» والشام وعاصمتها «دمشق»، ودولة «عبدالله بن الزبير»
وتتكون من «الحجاز» وبعض «العراق» و «بلاد فارس»، وعاصمتها
«مكة المكرمة»، ودولة للشيعة أقامها «المختار بن أبى عبيد
الثقفى» فى جزء من «العراق»، وعاصمتها «الكوفة»، ودولة
للخوارج الأزارقة فى إقليم «الأهواز»، جنوبى شرقى «العراق»،
ودولة للخوارج النجدات فى إقليم «اليمامة» فى شرقى الجزيرة
العربية وجنوبى شرقيها.
رأى «عبدالملك» أن هذه الدول التى برزت خلال الفوضى التى عمَّت
بعد وفاة «يزيد بن معاوية» لا رابط يجمع بينها سوى العداء لبنى
أمية، فتركهم فى البداية يأكل بعضهم بعضًا، فاشتبك «ابن الزبير»
مع «المختار الثقفى»، وقضى عليه تمامًا حين أرسل له جيشًا بقيادة
أخيه «مصعب بن الزبير»، فتمكن من هزيمته سنة (67هـ)، وبذلك
تخلص «عبدالملك» من واحد من أقوى خصومه دون أن يبذل أى جهد.
وكان المختار بن عبيدالله» من الشخصيات التى كانت تسعى إلى(2/97)
السلطة بأى ثمن، تقلَّب من العداء لآل البيت، إلى الاتصال بعبدالله بن
الزبير حين أعلن نفسه خليفة سنة (64هـ)، فلما لم يجد تجاوبًا به،
انطلق إلى «الكوفة» التى كانت تموج بالفوضى بعد هزيمة التوابين
فادَّعى أنه جاء مندوبًا من عند «محمد بن على بن أبى طالب»،
المشهور بابن الحنفية للمطالبة بدم الحسين والأخذ بثأره.
ولم يكن «المختار» صادقًا فى دعواه، وإنما هداه تفكيره الانتهازى
إلى استخدام مأساة «الحسين» ذريعة للوصول إلى مطالبه، وكان
الشيعة فى تلك الفترة يفتقرون إلى الزعامة بعد مقتل «سليمان بن
صرد الخزاعى»، فلما وجدوا «المختار» - وكان بارعًا فى الحيل
وخداع الناس - التفوا حوله وأسلموا له القيادة.
ازداد نفوذ «المختار» بعد أن حالفه التوفيق فانتصر على جيش
أموى، وقتل قائده «عبيدالله بن زياد» فى معركة عند نهر «الخازر»
بالقرب من «الموصل» سنة (67هـ)، ولما كان «ابن زياد» يعد المسئول
الأول عن قتل «الحسين» فى «كربلاء»، فقد دعم مقتله «المختار»،
وزاد من ثقة الشيعة به ووقوفهم خلفه، فاستفحل أمره، وعظم
شأنه، واتسع نفوذه، وقامت له دولة فى «الكوفة»، اتسعت رقعتها
لتشمل معظم «العراق».
لم ينعم «المختار» بدولته طويلا، فقد أزعج صعود أمره «آل الزبير»
فى «مكة»، و «عبدالملك بن مروان» فى «دمشق»، فأرسل «عبدالله
بن الزبير» أخاه «مصعباً» بجيش ضخم، قضى به على «المختار» فى
سنة (67هـ).
وانتهت بذلك حركة واحد من كبار المغامرين المتطلعين إلى السلطة
فى العصر الأموى، ولم تنفعه مزاعمه وادعاءاته حب آل البيت والثأر
لقتلاهم، فقد انكشفت حيله، وتخلَّى عنه الشيعة وأسلموه إلى
مصيره المحتوم.
عبد الله بن الزبير والدولة الأموية:
هو «عبدالله بن الزبير بن العوام»، وأمه «أسماء بنت أبى بكر
الصديق»، ولد فى العام الأول من الهجرة، وهو أول مولود للمسلمين
فى «المدينة»، وكانت سعادتهم به عظيمة، لأن اليهود أشاعوا أنهم(2/98)
سحروا المسلمين، فلن يُولَد لهم ولد.
نشأ «عبد الله» نشأة إسلامية خالصة فى بيئة طيبة طاهرة، معطرة
بعبق النبوة، فأبوه «الزبير» ابن عمة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - «صفية بنت عبد المطلب»، و «أبو بكر الصديق» جد «عبد الله»
لأمه، و «عائشة» أم المؤمنين خالته، وكانت تكنى به، ويقال لها: «يا
أم عبد الله»، لأنها لم تنجب ولدًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
ويُعد من الصحابة، لأنه عاش نحو عشر سنوات فى حياة النبى - صلى
الله عليه وسلم -.
كان «عبد الله» شجاعًا، ذكى الفؤاد، معتدا بنفسه، ذا طموح كبير،
شارك فى الفتوحات وهو حدث صغير، فحضر معركة «اليرموك» سنة
(13هـ)، واشترك فى «فتح شمالى إفريقيا» فى خلافة «عثمان بن
عفان»، رضى الله عنه، ولما حضر «عثمان» فى داره كان «عبد الله»
من المدافعين عنه، وحضر معركة «الجمل» مع أبيه.
ولما ولى «معاوية بن أبى سفيان» الخلافة سنة (41هـ) استمال إليه
«عبد الله بن الزبير» وأحسن إليه كما أحسن إلى غيره من الصحابة
وأبنائهم، فقابل ذلك بحسن الطاعة، بل شارك فى الغزو تحت قيادة
ابنه «يزيد» فى فتح «القسطنطينية»، وظلت علاقته بمعاوية على ما
يرام إلى أن أخذ البيعة لابنه «يزيد»، فأظهر «عبد الله» معارضته
الشديدة لذلك.
وبعد وفاة «معاوية بن أبى سفيان» رفض أن يبايع «يزيد»، وركن
إلى «مكة المكرمة»، وسمَّى نفسه «العائذ بالبيت»، لكنه لم يعلن
رغبته فى الخلافة لوجود «الحسين بن على»، فلما استُشهد فى
«كربلاء» وتوفِّى «يزيد بن معاوية» بعد ذلك سنة (64هـ) أعلن نفسه
خليفة فى «مكة».
ولما سادت الفوضى الدولة الأموية بعد موت «يزيد» ورفض ابنه
«معاوية» قبول الخلافة، تلفت الناس حولهم، فلم يجدوا أفضل من
«عبد الله بن الزبير»، فبايعوه، واتسعت دولته حتى شملت معظم
أنحاء الدولة الإسلامية، عدا «الأردن» فى الشام، غير أن «بنى
أمية» استطاعوا أن يوحدوا كلمتهم، ويبايعوا «مروان بن الحكم»(2/99)
بالخلافة سنة (64هـ)، فبدأ عهده بالقضاء على أنصار «ابن الزبير»
فى الشام فى موقعة «مرج راهط» الشهيرة فى العام نفسه، ثم
زحف إلى «مصر»، فاستردها بسهولة من والى «ابن الزبير» عليها،
وعاد إلى «دمشق». وتُوفِّى سنة (65هـ)، فخلفه ابنه «عبدالملك بن
مروان»، الذى أخذ على عاتقه القضاء على «ابن الزبير» وغيره من
خصوم الدولة الأموية، فهزم جيوش «ابن الزبير» بقيادة أخيه
«مصعب» فى «العراق» سنة (72هـ)، ثم أرسل «الحجاج ابن يوسف
الثقفى» على رأس جيش للقضاء على «ابن الزبير» فى «مكة»،
فنجح فى ذلك، وقتل «ابن الزبير» فى جمادى الأولى سنة (73هـ).
وبمقتله انهارت دولته التى استمرت نحو تسع سنوات (64 - 73هـ)،
وكانت فى مبدأ أمرها تسيطر على معظم الدولة الإسلامية.
كما نجح عبدالملك فى القضاء على دولتى الخوارج، وبذلك تخلَّص
من خصومه، وقضى على الانقسامات التى أضعفت الدولة الإسلامية،
وأعاد إليها وحدتها، ولذا عدَّه المؤرخون المؤسس الثانى للدولة
الأموية، وعدُّوا سنة (73هـ) عام الجماعة الثانى.
أسباب سقوط دولة عبدالله بن الزبير:
عندما بايع الناس «عبدالله بن الزبير» بالخلافة سنة (64هـ) كانت كل
عوامل النجاح متوافرة له، فقد بويع له بالخلافة فى وقت لم يكن فيه
للمسلمين خلافة، وهو بذلك خليفة شرعى وليس خارجًا على خليفة،
وكانت تلك دعامة قوية له، ثم إن معظم أقطار العالم الإسلامى قد
بايعته راضية ومقتنعة به، لماضيه وماضى أسرته، وعلاقته الوثيقة
ببيت النبوة.
وعلى الرغم من ذلك كله فإن «عبدالله بن الزبير» أخفق فى الحفاظ
على دولته لأسباب كثيرة، منها:
- أنه قبع فى «مكة»، وهى على قداستها لم تكن تصلح عاصمة
سياسية لدولة امتدت حدودها، فكان عليه أن ينتقل إلى قطر غنى،
يتوسط الدولة كالعراق أو الشام، ولو فعل ذلك لكان أفضل له ولشد
من عزيمة أنصاره؛ لأن كفته كانت ترجح كفة «مروان بن الحكم»(2/100)
وابنه «عبدالملك» عند كثير من الناس، حتى فى الشام نفسها، فقد
بايعه معظم أهلها.
- امتناع «بنى هاشم» عن بيعته، فقد رفض أن يبايعه زعماؤهم،
مثل: «عبدالله بن عباس» و «محمد بن على بن أبى طالب»، وكان
قاسيًا معهم، فلم يعاملهم بما يليق بهم من التقدير والاحترام، مثلما
كان يفعل معهم «بنو أمية»، بل تهددهم وسجنهم فلم يرضخوا له،
وبايعوا «عبدالملك بن مروان»، كما امتنع عن بيعته «ابن عمر»،
فأضعف ذلك كله موقفه.
- معارضة الخوارج له، بعد أن رفض اعتناق أفكارهم وآرائهم،
فانقلبوا ضده.
- خيانة أهل «العراق»، وعدم إخلاصهم له، فقد تخلى معظمهم عن
أخيه «مصعب» عندما التقت جيوشه بجيوش «عبدالملك بن مروان»،
وانضموا إليها.
- إسراف أخيه «مصعب» فى سفك الدماء، حتى ليروى أنه قتل ستة
آلاف من أهل «الكوفة» دفعة واحدة، بعد مقتل «المختار بن عبيد الله
الثقفى» سنة (67هـ)؛ مما أوغر صدور قبائلهم على «آل الزبير»،
فليس ببعيد أن يكون موقفهم فى معركته الفاصلة مع «عبدالملك»
انتقامًا منه لما صنع بأهلهم.
- شحه بالمال وعدم سخائه مع أنصاره، فى الوقت الذى كان فيه
يسخو خصمه «عبدالملك بن مروان» على أنصاره، بل استطاع بالمال
استمالة أنصار «ابن الزبير» نفسه إلى صفّه.
ثورة عبدالرحمن بن الأشعث (81 - 83هـ):
هى واحدة من أعنف الثورات التى هبت فى وجه الدولة الأموية، ولم
يكن الدافع إليها خلاف مذهبى مع الدولة، كما هو الحال مع الخوارج
والشيعة، وإنما كان دافعها الأساسى الطموح الشخصى الذى لعب
برءوس بعض أبناء القبائل الكبرى، وكان «عبدالرحمن بن الأشعث»
زعيم هذه الثورة نموذجًا لها؛ إذ استغل العداء التقليدى والحقد
الدفين الذى يكنه العراقيون لبنى أمية أسوأ استغلال، وأعلن
الثورة عليهم.
وخلاصة القصة أن «الحجاج بن يوسف» والى «العراق» (75 - 95هـ)
أمَّر «عبدالرحمن بن الأشعث» على جيش كبير سنة (80هـ) أطلق عليه(2/101)
المؤرخون «جيش الطواويس»؛ لضخامته وحسن إعداده، وأمره
بالتوجه إلى «سجستان» شرقىّ بلاد فارس؛ لمعاقبة ملكها «رتبيل»
الذى نقض المعاهدة التى بينه وبين المسلمين، وفتح حدود بلاده
للخارجين على الدولة الأموية، موفِّرًا لهم الأمن والحماية، فصبر عليه
«الحجاج» على مضض، إلى أن فرغ من أمر الخوارج وقضى على
«ابن الزبير»، فأرسل إليه هذا الجيش الهادر لتأديبه والقصاص منه.
وبدلا من أن يمضى «عبدالرحمن بن الأشعث» لأداء المهمة المكلَّف
بها، وقتال ملك كافر متمرد على الدولة، ارتد ثائرًا عليها، وشجعه
على ذلك استجابة أهل «العراق» للثورة ورغبتهم فى التمرد على
الدولة، وكانوا أغلبية فى الجيش الذى بلغ عدده مائة ألف مقاتل.
وزاد الأمر سوءًا انخداع بعض العلماء من كبار التابعين بدعوة «ابن
الأشعث»، فصدَّقوا دعواه بأنه إذا بويع بالخلافة فسيحكم بالعدل،
ويعيد حكم الراشدين ويمحو مظالم «بنى أمية»، فاستجابوا له،
وكان على رأسهم: «عامر الشعبى»، و «سعيد بن جبير» الذى جعله
«الحجّاج» أمينًا على الأموال التى ينفق منها على الجيش، وكان
لموقفهم هذا أثر كبير فى تمادى «ابن الأشعث» فى الثورة
واستجابة الجنود له، وترتَّب على ذلك أعنف ثورة واجهت «عبدالملك
بن مروان»، دامت نحو سنتين (81 - 83هـ)، ودارت بينهما نحو ثمانين
موقعة، قتل فيها عشرات الألوف من الرجال، وكان أشهرها معركة
«دير الجماجم» التى استمرت مائة يوم، وانتهت بهزيمة «ابن الأشعث»
فى شهر جمادى الآخرة سنة (83هـ).
لجأ «ابن الأشعث» بعد هزائمه إلى «رتبيل» ملك «سجستان»، وكان
قد عقد معه اتفاقًا على أن يوفر له الحماية إذا هُزِم، لكن «الحجاج»
طلب من «رتبيل» أن يسلمه «ابن الأشعث»، فعزم على تسليمه؛ لأنه
كان حريصًا على عدم إثارة «الحجاج» أكثر من ذلك، فلما أحس «ابن
الأشعث» بنية «رتبيل» على تسليمه، ألقى بنفسه من فوق القصر
الذى كان يقيم به، فمات منتحرًا سنة (85هـ).(2/102)
الفتوحات في عهد عبد الملك بن مروان:
فتوحات زهير بن قيس البلوي:
تحرّك «زهير» بجيش كبير وزحف على «القيروان» سنة (69هـ)،
والتقى على مقربة منها بجيش «كسيلة»، فهزم «البربر» هزيمة
ساحقة بعد معركة شديدة وفى أثناء عودته إلى «برقة» للدفاع
عنها - بعد ما نمى إلى علمه أن البيزنطيين زحفوا عليها فى جموع
عظيمة - تعرض لهجوم بيزنطى مفاجئ، فلقى حتفه هو ومن معه.
- حسّان بن النعمان ودوره فى فتح شمالى إفريقيا:
وصلت أخبار استشهاد «زهير» ومن معه إلى الخليفة «عبدالملك بن
مروان» وهو مشغول بصراعه مع الخوارج والشيعة وآل الزبير، فلم
يتمكن من القيام بعمل حاسم إلا بعد أن استقرت له الأوضاع، فأسند
قيادة جبهة الشمال الإفريقى إلى «حسان بن النعمان» وأمده بجيش
كبير من «مصر» والشام، بلغ عدده نحو أربعين ألف جندى.
واستطاع «حسان» بعد جهد جهيد القضاء على الوجود البيزنطى فى
الشمال الإفريقى، وأن يحطم مدينة «قرطاجنة» أكبر مركز بيزنطى،
وأن يبنى محلها مدينة «تونس» الحالية، كما قضى على كل مقاومة
للبربر، بعد أن حقق نصرًا هائلا على زعيمتهم الكاهنة التى آلت إليها
الزعامة بعد مقتل «كسيلة»، ونعم المسلمون بأولى فترات الاستقرار
فى «المغرب».
ولم يكن «حسان بن النعمان» قائدًا عسكريا عظيمًا فحسب، بل كان
رجل دولة وتنظيم وإدارة أيضًا، فأنشأ الدواوين، ورتَّب أمور الخراج
والجزية، ووطَّد سلطان الحكم الجديد فى الثغور والنواحى، وجدد
مدينة «القيروان»، وأنشأ بها المسجد الجامع، ووضع سياسات
مستقبلية انتهت بأهل الشمال الإفريقى كله إلى اعتناق الإسلام.
عبدالملك وإدارة الدولة:
أظهر «عبدالملك» براعة فائقة فى إدارة الدولة وتنظيم أجهزتها،
مثلما أظهر براعة فى إعادة الوحدة إلى الدولة الإسلامية، فاعتمد
على أكثر الرجال -فى عصره- مهارة ومقدرة، وأعظمهم كفاءة
وخبرة، وسياسة وإدارة، ومن أبرزهم «الحجاج بن يوسف الثقفى»(2/103)
الذى عهد إليه «عبدالملك» بإدارة القسم الشرقى للدولة، الذى
يتكون من «العراق»، وكل أقاليم الدولة الفارسية القديمة، وكان
«الحجاج» عند حسن الظن به، فبذل أقصى طاقته فى تثبيت أركان
الدولة، والقضاء على كل مناوئيها، وكذلك إخوة «عبدالملك» الذين
كانوا من أبرز ركائز دولته، ومنهم: «بشر بن مروان»، «ومحمد بن
مروان» و «عبدالعزيز بن مروان» الذى ولى «مصر» نحو عشرين سنة
(65 - 85هـ).
وتفقد «عبدالملك» أحوال دولته بنفسه وتابع أحوال عُمَّاله وولاته،
وراقب سلوكهم، ولم يسمح لأحد منهم بأن يداهنه أو ينافقه.
وأنجز أعمالا إدارية ضخمة، دفعت بالدولة الإسلامية أشواطًا على
طريق التقدم والحضارة، تمثلت فى تعريب دواوين الخراج فى الدولة
الإسلامية كلها، وتعريب النقود، وتنظيم ديوان البريد، وجعله جهازًا
رقابيا، يراقب العمال والولاة ويرفع إليه تقارير عن سير العمل فى
الولايات.
وتُوفِّى «عبدالملك بن مروان» فى شوال سنة (86هـ) بعد أن كرَّس
كل وقته وجهده لتوطيد أركان الدولة، والسهر على رعاية مصالح
المسلمين.(2/104)
5 - الوليد بن عبدالملك (86 - 96هـ):
هو «الوليد بن عبدالملك بن مروان»، وُلد سنة (50هـ)، وهو أكبر
أبناء «عبدالملك»، الذى حرص على تربيتهم تربية إسلامية، فعهد
بهم إلى كبار العلماء والصلحاء لتعليمهم وتربيتهم، وخص ابنه
«الوليد» بعناية خاصة، لأنه ولى عهده، وخليفته فى حكم الدولة
الإسلامية، فشب «الوليد» على الصلاح والتقوى، حافظًا للقرآن، دائم
التلاوة له.
تولَّى «الوليد» الخلافة بعد وفاة أبيه، الذى ترك له دولة واسعة
الثراء، غنية بالموارد، قوية الساعد، مرهوبة الجانب، موحَّدة
الأجزاء، متماسكة البناء، موطَّدة الأركان، فاستثمر ذلك على أحسن
وجه فى الفتوحات الإسلامية، فاستكمل المسلمون فى عهده فتح
الشمال الإفريقى كله، وفتحوا بلاد «الأندلس»، وأتمُّوا فى المشرق
فتح بلاد «ما وراء النهر» - آسيا الوسطى - وفتح إقليم «السند» فى
«شبه القارة الهندية».
وبرز فى عهده عدد من القادة الكبار، منهم من أشرف على فتح تلك
البلاد، مثل: «الحجاج بن يوسف الثقفى»، ومنهم من قاد تلك
الفتوحات بنفسه، مثل: «قتيبة بن مسلم الباهلى» فاتح بلاد «ما وراء
النهر»، و «محمد بن القاسم الثقفى» فاتح «السند»، و «موسى بن
نصير» و «طارق بن زياد» فاتحى «الأندلس». كما نهض «مسلمة بن
عبدالملك» أخو «الوليد» بمنازلة الدولة البيزنطية، ومواصلة الضغط
عليها، والاستعداد لمحاصرة عاصمتها «القسطنطينية».
الفتوحات في عهد الوليد بن عبد الملك:
- موسى بن نصير واستكمال فتح الشمال الإفريقي:
حلّ «موسى بن نصير» سنة (85هـ) محل «حسان بن النعمان» فى
ولاية شمالى إفريقيا وقيادة جيوش الفتح بها، فأكمل ما بدأه
سابقوه من القادة العظام، وقدِّر له أن يجنى ثمار غرسهم، ففى
ولايته تم فتح «المغرب» كله، وأقبل أبناؤه على اعتناق الإسلام فى
حرية تامة، بعدما أدركوا وفهموا ما يحمله من عزة وكرامة وحرية
وعدل ومساواة.
فتح الأندلس:(2/105)
«الأندلس» أو «شبه جزيرة أيبريا» هى الجزء الجنوبى الغربى من
قارة «أوربا»، وتشمل فى الوقت الحاضر دولتى «إسبانيا»
و «البرتغال».
عندما استقر الأمر للمسلمين فى «المغرب» فى ولاية «موسى بن
نصير»، وأقاموا فيها نظامًا عادلا ورحيمًا، كانت «الأندلس» تمرُّ
بأسوأ أحوالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية تحت حكم
«القوط» الذين استبدوا بالبلاد ونعموا بخيراتها، تاركين سواد الشعب
يعانى الفاقة والحرمان، فتطلع أهلها إلى المسلمين ليخلصوهم مما
هم فيه من ظلم واستعباد.
وكان الذى دعا المسلمين إلى فتح تلك البلاد هو «يوليان» حاكم
ولاية «سبتة» المغربية الواقعة على ساحل البحر، والخاضعة لحكم
«القوط» آنذاك، ولم يكن المسلمون قد فتحوها، فاتصل حاكمها
بطارق بن زياد حاكم «طنجة»، وعرض عليه الفكرة، فنقلها إلى
«موسى بن نصير» الذى اتصل بالخليفة «الوليد بن عبدالملك»، فأذن
له الخليفة، على أن يتأكد من صدق نيات «يوليان»، وأن يرتاد البلاد
بحملة استطلاعية، ليعرف أخبارها قبل أن يدخلها فاتحًا.
- حملة طريف بن مالك الاستطلاعية:
كلَّف «موسى بن نصير» أحد رجاله وهو «طريف بن مالك» على رأس
خمسمائة جندى، بدخول «الأندلس» وجمع ما يمكن جمعه من أخبار،
كما طلب من «يوليان» أن يوافيه بتقرير عن أوضاع البلاد، فاتفقت
معلومات «طريف» التى جمعها مع تقرير «يوليان»، وكلها تفيد أن
البلاد فى حالة فوضى، وتعانى من الضعف العسكرى، وأن الناس
ينتظرون المسلمين ليرفعوا عنهم الظلم، وعاد جيش «طريف» سنة
(91هـ) محملا بالغنائم.
- طارق بن زياد فاتح الأندلس:
اختار «موسى بن نصير» للقيام بمهمة فتح «الأندلس» طارق بن زياد»
وهو من أصل بربرى لما يتمتع به من شجاعة ومهارة فى القيادة،
فخرج فى سبعة آلاف جندى، معظمهم من «البربر»، وعبر المضيق
الذى يفصل بين الساحل المغربى والساحل الأندلسى، والذى لايزال
يحمل اسمه، ونزل على الجبل - الذى حمل اسمه أيضًا - فى شهر(2/106)
رجب سنة (92هـ)، واستولى عليه بعد عدة معارك مع القوات القوطية
التى كانت تقوم بحراسته، وتوغَّل فى جنوبى البلاد.
وما إن علم الملك «روذريق» بنزول المسلمين فى بلاده - وكان فى
شمالى غربى البلاد مشغولا بقمع ثورة اندلعت ضده - حتى عاد
مسرعًا للقاء المسلمين على رأس جيش قوامه نحو مائة ألف جندى،
ولما علم «طارق» بعودة الملك طلب مددًا من «موسى بن نصير»،
فأمدََّه بخمسة آلاف، وأصبح عدد جيشه اثنى عشر ألفًا، والتقى
الفريقان فى أواخر شهر رمضان سنة (92هـ)، وحقق المسلمون نصرًا
حاسمًا، ويؤكد المؤرخون أن هذه المعركة المعروفة باسم معركة
«شذونة» قد قررت مصير «الأندلس» لصالح المسلمين، لأن الجيش
القوطى دُحر تمامًا، وهبطت روحه المعنوية إلى الحضيض، ولم يعد
قادرًا على المقاومة، فانفتح الطريق أمام البطل الفاتح «طارق بن
زياد»، ليستولى على مدن مهمة، مثل: «قرطبة»، و «غرناطة»،
ووصل إلى «طليطلة» فى وسط البلاد، وكانت عاصمة البلاد فى ذلك
الوقت.
أرسل «طارق» إلى «موسى بن نصير» يبشره بهذه الانتصارات،
ويطلب منه مددًا جديدًا، فعبر إليه بنفسه على رأس قوة كبيرة قوامها
ثمانية عشر ألفًا، ونجح فى فتح عدد من المدن فى غربى البلاد مثل
«إشبيلية» وهو فى طريقه إلى لقاء «طارق» فى «طليطلة».
اتفق القائدان العظيمان على استكمال فتح «الأندلس»، فاتجه كل
منهما إلى ناحية فأخذ «طارق بن زياد» طريقه إلى الشمال الشرقى،
فى حين اتجه «موسى» إلى الشمال الغربى، ونجح الاثنان فى
غضون عامين (93 - 95هـ) فى فتح معظم «شبه الجزيرة الأيبرية»،
عدا منطقة جبلية فى أقصى الشمال الغربى، استعصت عليهم، أو لم
يحفلوا بها، ولم يدروا أنها ستكون فيما بعد البؤرة التى ستنمو فيها
المقاومة النصرانية.
وقد استمر الإسلام فى «الأندلس» زهاء ثمانية قرون، شاد المسلمون
خلالها حضارة عظيمة، جعلت منها البقعة الوحيدة المضيئة فى القارة(2/107)
الأوربية كلها، التى كانت تعيش عصورًا مظلمة وتحيا حياة متخلِّفة.
فتح بلاد ما وراء النهر:
أطلق المسلمون اسم بلاد «ما وراء النهر» على البلاد المعروفة الآن
باسم «آسيا الوسطى» الإسلامية، وتضم خمس جمهوريات إسلامية،
كانت خاضعة للاتحاد السوفييتى، ثم منَّ الله عليهم، فاستقلُّوا بعد
انهياره.
وتقع بلاد «ما وراء النهر» بين نهر «جيحون» (أموداريا) فى الجنوب،
ونهر «سيحون» (سرداريا) فى الشمال، وأهلها من أصول تركية،
حلُّوا بها منذ القرن السادس الميلادى.
وكانت هذه البلاد تتكون - عند الفتح الإسلامى - من عدة ممالك
مستقلة، وهى:
1 - مملكة «طخارستان»، وتقع على ضفتى نهر «جيحون»،
وعاصمتها «بلخ».
2 - مملكة «الخُتّل»، وهى أول مملكة شمالى نهر «جيحون»،
وعاصمتها مدينة «هلبك».
3 - مملكة «صغانيان»، وعاصمتها تسمى «صغانيان» أيضًا.
4 - مملكة «الصغد»، وعاصمتها مدينة «سمرقند»، ومن أهم مدنها
«بخارى».
5 - مملكة «خوارزم» وعاصمتها مدينة «الجرجانية».
وكانت تُسمَّى هذه بالممالك الجيحونية، بالإضافة إلى عدة ممالك
أخرى تقع على ضفتى نهر «سيحون»، سُميت بالممالك السيحونية،
وهى «الشاش»، و «أشروسنة»، و «فرغانة».
وهذه الممالك كلها تم فتحها خلال عشر سنوات (86 - 96هـ) فى
خلافة «الوليد بن عبدالملك»، على يد «قتيبة بن مسلم الباهلى»،
وبقوة دفع هائلة من «الحجاج بن يوسف الثقفى» والى «العراق»
والمشرق.
قتيبة بن مسلم فاتح بلاد ما وراء النهر:
طرق المسلمون هذه البلاد عدة مرات منذ خلافة «عثمان بن عفان»
رضى الله عنه، وغزاها عدد كبير من القادة المسلمين كان آخرهم
«المهلب بن أبى صفرة»، ولم تكن حملاتهم عليها للاستقرار الدائم
والفتح المنظم، وإنما كانت لتعرفها ومعرفة أحوالها.
وبدأت المرحلة الحاسمة فى الفتح والاستقرار مع تسلم «قتيبة بن
مسلم» قيادة جيوش الفتح وولاية إقليم «خراسان» سنة (85هـ)،(2/108)
وكانت الظروف مواتية له تمامًا، فالدولة الأموية كانت عندئذٍ فى
أحسن حالاتها استقرارًا وهدوءًا وثراءً، فاجتمع لقتيبة مهارة
القائد، وعزم الوالى - «الحجاج» - وتشجيعه، وقوة الدولة وهيبتها،
فكانت فتوحاته العظيمة فى بلاد «ماوراء النهر».
ولم يكن «قتيبة» قائدًا عسكريا فذا فحسب، بل كان إلى جانب ذلك
رجل دولة، وصانع سياسة، وواضع نظم وإدارة، فعمل بعد تسلمه
أمور الولاية على القضاء على الخلافات العصبية التى كانت تعصف
بالقبائل العربية فى «خراسان»، من جراء التنافس فى الولايات،
وجمع زعمائهم.
ولم يكتفِ «قتيبة» بتوحيد صفوف القبائل العربية تحت راية الجهاد،
بل عمل على كسب ثقة أهل «خراسان» الأصليين، فأحسن إليهم،
وقرَّبهم وتودَّد معهم، وعهد إليهم بالوظائف، فاطمأن الجميع إليه،
ووثقوا به وبقيادته.
مراحل الفتح:
مرت خطوات «قتيبة» فى فتح تلك البلاد التى استمرت نحو عشر
سنوات (86 - 96هـ) عبر مراحل أربع هى:
- المرحلة الأولى (86 - 87هـ):
وفيها أخضع «قتيبة بن مسلم» إقليم «طخارستان»، الواقع على
ضفتى نهر «جيحون»، ويبدو أن أوضاعه لم تكن قد استقرت
للمسلمين تمامًا، منذ أن فتحه «الأحنف بن قيس» فى خلافة «عثمان
بن عفان»، وكانت تلك بداية ناجحة، فبدون توطيد أقدامه فى
«طخارستان» لم يكن ممكنًا أن يمضى لفتح «ما وراء النهر»، وأصبح
يتمتع بهيبة كبيرة فى تلك البلاد؛ فما إن يسمع الملوك بمسيره
إليهم، حتى يسرعوا إلى لقائه وطلب الصلح.
- المرحلة الثانية (87 - 90هـ):
وفيها فتح «قتيبة» إقليم «بخارى»، بعد حروب طاحنة، وانتظام
حملاته عليها، وكان الغزو يحدث فى الصيف، لأن شتاء تلك البلاد
كان قاسيًا شديد البرودة على العرب، لكنهم صبروا وجاهدوا حتى
تمَّ لهم الفتح.
والحقيقة أن جهل أهل البلاد بالإسلام، وتصورهم أن المسلمين جاءوا
للاستيلاء على خيرات بلادهم، هو الذى جعلهم يقاومونهم، لكنهم لما(2/109)
عرفوا أن المسلمين ليسوا غزاة، وإنما هداة يحملون إليهم الإسلام،
أقبلوا على اعتناقه والإيمان بمبادئه.
يقول المستشرق المجرى «أرمينوس فامبرى»: «إن بخارى التى
قاومت العرب فى البداية مقاومة عنيفة، قد فتحت لهم أبوابها،
لتستقبلهم ومعهم تعاليم نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، تلك التعاليم
التى قوبلت أول الأمر بمعارضة شديدة، ثم أقبل القوم عليها بعد ذلك
فى غيرة شديدة، حتى لنرى الإسلام الذى أخذ شأنه يضعف اليوم
فى جهات آسيا الأخرى، وقد غدا فى بخارى اليوم - (1873م) - على
الصورة التى كان عليها أيام الخلفاء الراشدين».
- المرحلة الثالثة (90 - 93هـ):
وفيها أكمل فتح حوض نهر «جيحون» كله، وتوَّج عمله بالاستيلاء
على «سمرقند»، أعظم مدائن «ما وراء النهر» كلها.
- المرحلة الرابعة (93 - 96هـ):
وفيها عبر «قتيبة» نهر «سيحون»، وفتح الممالك السيحونية الثلاث:
«الشاش»، و «أشروسنة»، و «فرغانة»، ووصل إلى إقليم «كاشغر»
الذى يلامس حدود «الصين»، التى تهيأ لفتحها، لولا أن وفاة
«الحجاج» سنة (95هـ)، وبعده الخليفة «الوليد بن عبد الملك» سنة
(96هـ)، جعلته يتوقف عند هذا الحد، لكنه أجبر ملك «الصين» على
دفع الجزية له مع رسوله إليه «هُبيرة بن المشمرج الكلابى».
وقد أصبحت تلك البلاد جزءًا مهما وعزيزًا من العالم الإسلامى، نشأت
فيه مراكز علمية وحضارية، مثل «سمرقند»، و «بخارى»،
و «جرجان»، وغيرها، وخرجت عددًا هائلا من علماء المسلمين الذين
ملأت أسماؤهم سمع الدنيا وبصرها.
فتح السند:
بدأ «الحجاج بن يوسف الثقفى» يعد العدة لفتح إقليم «السند» فى
«شبه القارة الهندية»، بعد أن استقام الأمر له فى جنوبى بلاد فارس
وتوطدت أقدام المسلمين هناك، وقضى على تمرد «رتبيل» ملك
«سجستان»، وأخضع بلاده.
ويُعد فتح بلاد «السند» شبيهًا بفتح بلاد «ما وراء النهر» من عدة
وجوه، منها:
- وحدة الزمان، فقد فتح المسلمون «السند» سنة (89هـ).(2/110)
-ووحدة القيادة العامة التى توجه الفتوحات، والتى تمثلت فى شخص
«الحجاج الثقفى» الذى وقف وراء ابن عمه «محمد بن القاسم
الثقفى» كما وقف وراء «قتيبة بن مسلم»، يعضِّد الفتح ويؤازره،
ويمده بالرجال والعتاد.
وقد سبق الفتحَ المنظم لبلاد «السند» سلسلةٌ من الحملات والغزوات
التى قام بها المسلمون لمعرفة طبيعة البلاد وجمع المعلومات عنها،
كما حدث لبلاد «ما وراء النهر»، فقد بدأ المسلمون يطرقون أبواب
هذا الإقليم منذ عهد «عمر بن الخطاب»، ويمدنا «البلاذرى» بمعلومات
ضافية عن حملات المسلمين الأولى قبل حملة «محمد بن القاسم
الثقفى» فاتح «السند» (89 - 96هـ).
عزم «الحجاج» على فتح إقليم «السند»، بعد أن استقرت أحوال
الدولة الأموية، فأسند هذه المهمة إلى «محمد بن القاسم» وكان دون
العشرين من عمره، وجهَّزه بما يكفل له النجاح من عدة وعتاد،
وأمدَّه بستة آلاف جندى من أهل الشام، بالإضافة إلى ما كان معه
من الجنود، فأصبح تحت قيادته نحو عشرين ألفًا فى تقدير بعض
المؤرخين.
اتخذ «محمد بن القاسم» من مقاطعة «مهران» فى جنوبى «فارس»
قاعدة للفتح ونقطة انطلاق، فقسَّم جيشه نصفين، أحدهما برِّى
والآخر بحرى، ثم تحرك قاصدًا مدينة «الديبُل» - وهى تقع قريبًا من
«كراتشى» الحالية فى «باكستان» - وفتح فى طريقه إليها
«فنزبول»، و «أرمائيل»، ثم وافته السفن التى كانت تحمل الرجال
والعتاد، فحاصر «الديبل» واستولى عليها بعد قتال دام ثلاثة أيام،
وترك فيها حامية من أربعة آلاف رجل، وبنى لهم مسجدًا.
وكان لفتح المسلمين مدينة «الديبل» أثر كبير فى أهل «السند»،
فسارعوا يطلبون الصلح فصالحهم «محمد بن القاسم» ورفق بهم، ثم
سار إلى «البيرون» - «حيدر آباد السند» حاليا - فتلقاه أهلها
وصالحوه كذلك، وكان لا يمر بمدينة إلا فتحها صلحًا أو عَنوة، وتوَّج
ذلك كله بالانتصار على «داهر» ملك «السند»، ومضى يستكمل(2/111)
فتحه، فاستولى على حصن «راوَدْ»، ثم «برهماناباذ»، و «الرور»
و «بهرور»، ثم اجتاز نهر «بياس» وعبر إلى إقليم «الملتان»،
فاستولى عليه بعد قتال شديد، وغنم كميات كبيرة من الذهب.
وبينما يواصل «محمد بن القاسم» فتوحاته؛ إذ جاءته الأخبار بوفاة
«الحجاج» سنده وعونه فى الفتح، فاغتم لذلك غما شديدًا؛ لكنه
واصل فتوحاته حتى أتم فتح بلاد «السند»، وجاءته قبائل «الميد»
و «الجات» و «الزط» تقرع الأجراس فرحة هاتفة، مرحبة به، لأنهم عدُّوه
محررهم من ظلم الهندوس واستعبادهم.
وفى هذه الأثناء مات الخليفة «الوليد بن عبدالملك» سنة (96هـ)،
وتولَّى أخوه «سليمان بن عبدالملك» منصب الخلافة، فعيَّن على
«العراق» «صالح بن عبدالرحمن»، وكان واحدًا من ألد خصوم
«الحجاج»، فقرر الانتقام منه على الرغم من وفاته سنة (95هـ)، فى
شخص ابن عمه «محمد بن القاسم»، فعزله عن قيادة الجيش، ولم
يكتفِ بذلك، بل أمر بالقبض عليه ووضعه فى السجن، وظل يعذبه
حتى مات.
ومن العجيب أن هذا البطل الذى قتله أهله وعشيرته حزن عليه أهل
«السند» الذين فتح بلادهم، لما رأوا فى عهده من عدل وسماحة
وحرية، وصنعوا له التماثيل كما يروى «البلاذرى».
النهضة العمرانية في عهد الوليد:
شهد عصر الوليد بن عبد الملك نهضة عمرانية كبرى، فأعاد بناء
«المسجد النبوى» وأدخل عليه توسعات كبيرة، وعهد إلى ابن عمه
والى «المدينة» «عمر بن عبدالعزيز» بمتابعة ذلك، كما بنى «المسجد
الأقصى» فى مدينة «القدس»، وبنى «مسجد دمشق»، وأنفق عليه
كثيرًا ليكون آية من آيات العمارة، وعُنى عناية فائقة بتعبيد الطرق
التى تربط بين أجزاء الدولة، التى امتدت أطرافها من «الصين» شرقًا
إلى «الأندلس» غربًا، ومن «بحر قزوين» شمالا إلى «المحيط الهندى»
جنوبًا، وبخاصة الطرق التى تؤدى إلى «مكة المكرمة»، لتسهِّل سفر
حجاج بيت الله الحرام.
وفى عهده سبقت الدولة الإسلامية كل دول العالم فى تقديم الخدمات(2/112)
للناس مجانًا، وبخاصة الخدمات الطبية لأصحاب الأمراض المزمنة، يقول
«الطبرى»:
«كان الوليد عند أهل الشام أفضل خلائفهم، بنى المساجد، مسجد
دمشق، ومسجد المدينة، ووضع المنابر، وأعطى الناس، وأعطى
المجذومين، وقال لا تسألوا الناس، وأعطى كل مُقعَد خادمًا، وكل
ضرير قائدًا، وفُتح فى عهده فتوح عظام».
وتُوفِّى الوليد بن عبدالملك فى جمادى الآخرة سنة (96هـ).(2/113)
6 - سليمان بن عبدالملك (96 - 98هـ):
هو «سليمان بن عبدالملك بن مروان»، وُلد فى «المدينة»، ونشأ فى
الشام، وبُويع له بالخلافة فى اليوم الذى تُوفِّى فيه أخوه «الوليد بن
عبدالملك».
كان «سليمان» من أفضل أولاد «عبدالملك»، ومن أكبر أعوان أخيه
«الوليد» أثناء خلافته، وولى له «فلسطين»، وصفه «الذَّهبى» بقوله:
«من أمثل الخلفاء - يعنى من أفضلهم - نشر علم الجهاد، وكان ديِّنا
فصيحًا مفوَّهًا، عادلا محبا للغزو، استعان فى إدارة دولته وتصريف
شئونها بعظماء الرجال وصالحيهم، من أمثال: ابن عمه «عمر بن
عبدالعزيز»، و «رجاء بن حيوة».
حافظ «سليمان» على هيبة الدولة ومكانتها، فواصل الجهاد
والفتوحات، وأرسل جيشًا بقيادة أخيه «مسلمة بن عبدالملك» لحصار
«القسطنطينية»، وأشرف بنفسه على هذه الحملة، حيث اتخذ من
مدينة «مرج دابق» شمالى الشام مركز قيادة له؛ ليكون على مقربة
من ميدان المعارك الحربية.
اهتم الخليفة «سليمان بن عبدالملك» بفتح «القسطنطينية» اهتمامًا
كبيرًا، وجهَّز لذلك جيشًا ضخمًا، بلغ زهاء مائة ألف جندى، ومزودًا
بنحو ألف وثمانمائة سفينة حربية، وأسند قيادته إلى أخيه «مسلمة
بن عبدالملك»، واتخذ هو من مدينة «مرج دابق» شمالى الشام مركز
قيادة، يتابع منه أخبار الجيش وسير عملياته.
وقد حاصر الجيش المدينة مدة عام كامل (98 - 99هـ) دون جدوى، فقد
استعصت المدينة على السقوط، على الرغم من الاستعدادات الكبيرة
للجيش الإسلامى وتضحياته الجسيمة.
ولم تكن هذه الحملة والحملتان اللتان تمتا في عهد معاوية برغم
عجزهم عن فتح «القسطنطينية» بغير فائدة، فقد شغلت الدولة
البيزنطية بالدفاع عن نفسها وعن عاصمتها، وجعلت الاستيلاء عليها
أملا إسلاميا لم يخبُ نوره أو تنطفئ جذوته عبر القرون، حتى حقَّقه
السلطان العثمانى «محمد الفاتح» سنة (857هـ = 1453م)، وشيد
مسجدًا بالقرب من قبر «أبى أيوب الأنصارى» أول شهيد إسلامى
هناك.(2/114)
وتُوفِّى سليمان بن عبد الملك في مرج دابق فى شهر صفر سنة
(99هـ)، ولذا قال بعض العلماء: إنه مات شهيدًا، بعد أن توَّج أعماله
بعمل يدل على صلاحه وحرصه على مصالح المسلمين، وهو تولية ابن
عمه «عمر بن عبدالعزيز» الخلافة من بعده.(2/115)
7 - عمر بن عبدالعزيز (99 - 101هـ):
هو «عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحكم»، وأمه «أم عاصم بنت
عاصم بن عمر بن الخطاب». وُلد فى «المدينة المنورة» سنة (26هـ)
على الأرجح، ونشأ بها بناءً على رغبة أبيه، الذى تولَّى إمارة
«مصر» بعد ولادة «عمر» بثلاث سنوات سنة (65هـ)، فنشأ بين
أخواله من أسرة «عمر بن الخطاب»، ونهل من علم علمائها من بقية
الصحابة، وكبار التابعين، حتى صار من كبار الفقهاء علمًا وعملا.
ظل «عمر» فى «المدينة» حتى سنة (85هـ)، وهى السنة التى تُوفى
فيها أبوه، فاستدعاه عمه «عبدالملك بن مروان» إلى «دمشق»،
وخلطه بأبنائه، وزوَّجه ابنته «فاطمة»، ثم عيَّنه واليًا على منطقة
«خناصرة» شمالى شرقى الشام، ثم عيَّنه ابن عمه «الوليد بن
عبدالملك» واليًا على «المدينة المنورة»، فكان ذلك مصدر سعادة
لعمر ولأهل «المدينة» جميعًا، ونعم الناس فى فترة ولايته عليها (87 -
93 هـ) بالعدل والأمن، وأشرك معه أهل العلم والفضل منهم فى إدارة
أمور الولاية.
عمر فى خلافته:
أخذ «عمر بن عبدالعزيز» منذ أن ولى الخلافة فى بذل كل ما يملك
من طاقة، وما يتمتع به من خبرة فى إصلاح أمور الدولة، واستقرار
الأمن، ونشر الرخاء والعدل، وتحقيق الكفاية والوفرة فى كل
أنحائها، والحرص على مال المسلمين، وإنفاقه فى وجوهه
المشروعة، وحسن التصرف فى الأمور، والدقة فى اختيار الولاة
والقضاة وسائر كبار رجال الدولة، وتحقيق التوازن بين طبقات
المجتمع، ومجادلة الخارجين على الدولة بالحسنى؛ لإقناعهم بالعودة
إلى حظيرة الجماعة كما فعل مع الخوارج حين عاودوا نشاطهم فى
عهده فاستعمل معهم أسلوب الحوار، فاستجابوا له لمَّا أقنعهم بخطأ
أفكارهم المتطرفة، ووعدوه بالهدوء، لكنهم هبُّوا من جديد بعد
وفاته سنة (101هـ)، ولم تهدأ ثوراتهم التى استمرت حتى آخر أيام
الدولة الأموية.
وقد سرت تلك الروح فى كل ناحية من نواحى الحياة فى الأمة(2/116)
الإسلامية، فعمها الرخاء، وسادت فيها الكفاية والعدالة الاجتماعية،
حتى إن عمال الصدقات كانوا يبحثون عن فقراء لإعطائهم فلا
يجدون.
سياسته الخارجية:
رأى «عمر بن عبدالعزيز» أن الدولة اتسعت كثيرًا، وأن كثيرًا من
المشاكل والأخطاء نشأت من ذلك الاتساع، فرأى وقف الفتوحات
والاهتمام بنشر الإسلام فى البلاد التى تم فتحها، وإرسال الدعاة
والعلماء لدعوة الناس بدلا من إرسال الجيوش والحملات، وقد أثمرت
تلك الجهود نتائج محمودة، فأقبل أبناء الشعوب المفتوحة على
اعتناق الإسلام، يجذبهم إليه سمعة الخليفة الحسنة، وسمو أخلاقه،
ونبله وعدله، الذى تجاوز حدود دولته إلى غيرها من الدول، فكان
موضع إعجاب وتقدير، وحمد وثناء من أهلها، وبخاصة الدولة
البيزنطية.
وقد استمرت خلافة «عمر» سنتين وبضعة أشهر، شهدت فيها الدولة
إصلاحات عظيمة فى الداخل والخارج، وامتلأت الأرض نورًا وعدلا
وسماحة ورحمة، وتجدَّد الأمل فى النفوس بإمكان عودة حكم
الراشدين، واقعًا ملموسًا وحقيقة لا خيالا، وأن يقام المعوج، وينصلح
الفاسد، ويُرد المنحرف إلى جادة الصواب، إذا استشعر الحاكم
مسئوليته عن الأمة أمام الله، واستعان بأهل الصلاح من ذوى
الكفاءة والقدرة، ومن ثم فليس بغريب أن يطلق على «عمر» «خامس
الخلفاء الراشدين»، وأن يكون موضع تقدير أشد الفرق عداءً لبنى
أمية كالشيعة والخوارج.
وتُوفِّى «عمر بن عبدالعزيز» فى أواخر شهر رجب سنة (101هـ).(2/117)
8 - يزيد بن عبدالملك (101 - 105هـ):
هو «يزيد بن عبدالملك بن مروان»، وأمه «عاتكة بنت يزيد بن معاوية
ابن أبى سفيان»، وُلد فى «دمشق» سنة (71هـ) على وجه التقريب،
وبويع له بالخلافة فى اليوم الذى تُوفى فيه ابن عمه «عمر بن
عبدالعزيز» فى نهاية شهر رجب (101هـ).
وتدل أخباره قبل تولِّيه الخلافة على أنه كان يحب العلم ومجالسة
العلماء، ولديه ميل إلى الاستقامة، وقد حاول بعد توليه الخلافة أن
يقتدى بسلفه العظيم «عمر بن عبدالعزيز»، لكن قرناء السوء حالوا
بينه وبين ذلك، وزيَّنوا له حياة اللهو واللعب، ويعبِّر عن ذلك «ابن
كثير» بقوله: «فلما ولى - «يزيد بن عبدالملك» الخلافة - عزم على أن
يتأسَّى بسيرة عمر بن عبدالعزيز، فما تركه قرناء السوء، وحسَّنوا
له الظلم».
ولم تكن مناعة «يزيد» ضد الانغماس فى حياة اللهو قوية، فاستجاب
لقرناء السوء ورفاق اللهو، ولولا أن الدولة الأموية كانت زاخرة
بالرجال الأفذاذ، وعامرة بالأبطال من أبناء الأسرة الحاكمة، لانهارت
فى عصره، فقد عوَّض هؤلاء عدم كفاءة الخليفة لقيادة الدولة،
ويأتى فى مقدمتهم أخوه: «مسلمة بن عبدالملك» فارس «بنى
مروان»، وابن أخيه «العباس بن الوليد بن عبدالملك»، وابن عمه
«مروان بن محمد بن مروان»، وقد نجح الأولان فى القضاء على
الثورة العارمة، التى أشعلها «يزيد بن المهلب» سنة (102هـ)، أحد
أبناء البيوتات العربية الطامحة إلى الخلافة بعد ما نجح فى السيطرة
على معظم «العراق»، وعرّض الدولة للسقوط، كما تصدّوا لحركات
الخوارج وكل مناوئى الدولة، وحافظوا على سلامتها.
ولم تطل خلافة «يزيد»، فقد تُوفى فى أواخر شهر شعبان سنة
(105هـ).(2/118)
9 - هشام بن عبدالملك (105 - 125هـ):
هو «هشام بن عبدالملك بن مروان»، رابع أبناء «عبدالملك» الذين
ولوا الخلافة، أمه «أم هاشم بنت إسماعيل المخزومى»، وُلد فى
«دمشق» سنة (72هـ)، وبويع له بالخلافة سنة (105هـ).
ومع أن المصادر التاريخية لم تحدثنا كثيرًا عن حياته قبل الخلافة،
وعمَّا إذا كانت له مشاركة فى تسيير أمور الدولة أم لا، فإنها تجمع
على أنه كان ذا رأى وبصيرة، وحكمة وفطنة، حازمًا ذكيا، له بصر
بالأمور، جليلها وحقيرها، محشوا عقلا على حسب تعبير «الطبرى».
وكان من حسن الطالع للدولة الأموية وللمسلمين أن يخلف «هشام بن
عبدالملك» أخاه «يزيد»، فقد ظل فى الخلافة نحو عشرين عامًا،
أدار فيها الدولة بكفاءة عالية، وأظهر حكمة سياسية فى تعامله مع
الكتلتين العربيتين الرئيسيتين فى الدولة، وهما عرب الجنوب (اليمن)،
وعرب الشمال (قيس)، فلم يتحيز إلى كتلة ضد الأخرى، واحتفظ
بعلاقة طيبة معهما ومع الجميع بصفة عامة، ولعل هذه السياسة هى
التى كفلت للدولة الاستقرار النسبى طوال حكمه.
وقد تمتع «هشام» بعديد من الصفات اللازمة لرجل الدولة، من حلم
وتسامح وسعة صدر، وعدل وحزم، أما أبرز صفاته الإدارية على
الإطلاق فهى قدرته الفائقة على تدبير الأموال وحسن التصرف فيها،
مع تحرى العدل فى جمعها وإنفاقها على حد سواء، فنعمت الدولة
فى عهده باستقرار مالى كبير.
وأظهر «هشام» كفاءة عالية ومقدرة فائقة فى إدارة الشئون
الخارجية للدولة، فحافظ على هيبتها فى عيون أعدائها، وبخاصة
الدولة البيزنطية.
ثورة زيد بن علي بن الحسين:
لم يعكر صفو الدولة فى عهد «هشام» سوى ثورة «زيد بن على بن
الحسين بن على» سنة (121هـ)، حين حرّضه العراقيون على الثورة
ضد «هشام»، والخروج عليه، ثم تخلَّوا عنه كما فعل أسلافهم مع
جده «الحسين بن على» وكانت قد مضت فترة امتدت إلى أكثر من
نصف قرن، منذ مصرع «المختار الثقفى» سنة (67هـ)، دون أن يقوم(2/119)
الشيعة بأية ثورة ضد الدولة الأموية، بسبب الضربات المتلاحقة التى
حاقت بهم، وافتقارهم إلى الزعامة القوية التى تقودهم، لأن «على
بن الحسين» - وهو الوحيد الذى نجا من مذبحة «كربلاء» - كان عازفًا
عن الاشتغال بالسياسة، محبا للعلم متفرغًا للعبادة، غير أن ابنه
«زيد بن على» - وكان عالمًا فاضلا - حدَّثته نفسه بالخلافة، ورأى
أنه أهل لها، وعرف أهل «الكوفة» منه ذلك، فزيَّنوا له الثورة على
«بنى أمية»، وقالوا له: «إنا لنرجو أن تكون المنصور، وأن يكون
هذا الزمان الذى يهلك فيه بنو أمية».
تشكك «زيد بن على» فى صدق نيتهم، وقوة عزيمتهم، وقال لهم:
«إنى أخاف أن تخذلونى وتسلمونى كفعلتكم بأبى وجدى»، لكنه
استجاب لهم على الرغم من تحذير أهله وأولاد عمومته من غدر أهل
«الكوفة».
انخدع «زيد بن على» بأهل «الكوفة» وأعلن الثورة على «هشام ابن
عبدالملك» سنة (121هـ)، فتكررت أحداث قصة جده «الحسين»،
وأعاد التاريخ نفسه، فلم يتساهل الخليفة «هشام» مع ثورة تريد
نقض ملكه والإطاحة بدولته، على الرغم من كراهيته لسفك الدماء،
فأمر واليه على «الكوفة» «يوسف بن عمر الثقفى» فتصدَّى لزيد بن
على الذى انفض عنه شيعته، وأسلموه إلى عدوه، كما أسلم
أسلافهم جدَّه «الحسين»، ولم يبقَ معه فى اللحظات الحرجة من بين
خمسة عشر ألفًا بايعوه وعاهدوه على النصرة، إلا نحو مائتى رجل،
فاستطاع «يوسف بن عمر» أن يقضى فى سهولة ويسر على تلك
الثورة، وقتل «زيد بن على» فى صفر سنة (122هـ). فحزن «هشام»
على قتله، لأنه كان يكره سفك الدماء.
وتُوفى «هشام بن عبدالملك» فى مطلع شهر ربيع الآخر سنة
(125هـ).(2/120)
10 - الوليد بن يزيد بن عبدالملك (125 - 126هـ):
هو أول حفيد من أحفاد «عبدالملك بن مروان» يتولى الخلافة، طبقًا
لنظام الوراثة الذى سار عليه الأمويون، إذ عَهِدَ «يزيد بن عبدالملك»
إلى ابنه بالخلافة بعد أخيه «هشام بن عبدالملك».
وتُعد خلافة «الوليد بن يزيد» بداية النهاية للدولة الأموية، وطليعة
سقوطها؛ لأنه كان على شاكلة أبيه لهوًا ولعبًا، وإذا كان أبوه قد
رزق من يعوض نقص كفاءته فى الحفاظ على سلامة الدولة، من
إخوته وأبناء عمومته، فإن «الوليد» لم يجد مثل هذا النوع من أفذاذ
الرجال، بل ثار عليه أبناء عمومته من أبناء «الوليد بن عبدالملك»
وأخيه «هشام»، وشهد عصره أول انقسام داخلى بين الأسرة الأموية
وأشده خطرًا.
وقد حاول «الوليد» استرضاء الجند بزيادة رواتبهم، واستمالة الناس
بزيادة أعطياتهم من الأموال الكثيرة التى تركها له عمه «هشام بن
عبدالملك» فى خزانة الدولة، لكن ذلك لم يمنع الثائرين عليه من أبناء
عمومته بزعامة «يزيد بن الوليد» من تلطيخ سمعته واتهامه بالفسق
والفجور، والمبالغة فى تلك التهم والتشهير به؛ لأن «ابن الأثير»
يقول: «إن الوليد لم يكن على هذه الدرجة من السوء، غير أن خصومه
نجحوا فى خطتهم، وقتلوه فى جمادى الآخرة سنة (126هـ)، فاتحين
بذلك أبواب الشر على الدولة من كل جانب، مفجِّرين الثورات والفتن
فى كل مكان».(2/121)
11 - يزيد بن الوليد بن عبدالملك (126 - 127هـ):
هو أول أموى من أم غير عربية يتولَّى الخلافة، فأمه فارسية تُدعى
«شاه أفريد بنت فيروز بن يزدجرد الثالث» آخر ملوك الفرس.
تولَّى الخلافة بعد مقتل ابن عمه «الوليد بن يزيد» سنة (126هـ)،
وحاول أن يظهر الصلاح والتقوى، ويتشبه بعمر بن عبدالعزيز فى
عدله وزهده، ليمحو من أذهان الناس فعلته الشنعاء بابن عمه، لكنه
لم ينجح فى ذلك، إذ اضطربت عليه الأمور، ونقم عليه الجند بعد أن
أنقص أعطياتهم التى كان قد زادها الخليفة السابق، ولقَّبُوه «يزيد
الناقص».
وقد اضطربت الدولة فى عهده اضطرابًا شديدًا، وجرَّ عليها بفعلته
كوارث لا قِبَل لها بها، وشغل أبناء الأسرة الأموية فى صراعات
داخلية دمويّة، فى الوقت الذى كانوا فيه أحوج الناس إلى الوحدة
والتضامن إزاء الدعوة العباسية التى نشطت استعدادًا للانقضاض
على الدولة.
وزاد الأمر سوءًا أن «يزيد» عجز عن المحافظة على سياسة التوازن
بين القبائل العربية التى انتهجها عمه «هشام بن عبدالملك»؛ فانحاز
إلى أهل «اليمن» الذين ساعدوه فى الثورة على «الوليد»؛ مما
أغضب عرب «قيس»، فثاروا عليه فى الشام معقل «بنى أمية»، ثم
أخذ الخلل والاضطراب يسريان فى جميع أقاليم الدولة.
وفى ظل هذه الأحداث الهائجة، والأجواء العاصفة توفى «يزيد»
فجأة فى نهاية سنة (126هـ)، بعد حكم لم يتجاوز ستة أشهر، تاركًا
الدولة غارقة فى حالة من الفوضى والغليان.(2/122)
12 - إبراهيم بن الوليد بن عبدالملك (127هـ):
على الرغم من مبايعة بعض الناس لإبراهيم بالخلافة بعد وفاة أخيه
«يزيد» الذى كان قد عهد إليه بالخلافة، فإن الأمرلم يتم له، ولم
يستطع أن يمسك بزمام الأمور فى الدولة التى انفرط عقدها، لذا
يقول «الطبرى»: «كان الناس فى جمعة يسلمون على إبراهيم بن
الوليد بالخلافة، وفى الأخرى بالإمارة، وفى الثالثة لا يسلمون عليه
لا بالخلافة ولا بالإمارة»، كما رفضت معظم أقاليم الشام بيعته،
وحمَّلته هو وأخاه «يزيد» مسئولية قتل «الوليد بن يزيد» وما ترتب
على ذلك من فتن وشرور.
وفى هذه الأثناء تحرك «مروان بن محمد بن مروان»، والى «أرمينيا»
و «أذربيجان»، لإنقاذ الدولة من السقوط والضياع، بعد أن هاله
وأفزعه ما أقدم عليه أبناء عمومته، وقدم إلى «دمشق» على رأس
ثمانين ألف جندى، للقضاء على «إبراهيم بن الوليد» الذى هرب،
فدخلها فى ربيع الآخر سنة (127هـ)، وبايعه الناس بالخلافة، مؤملين
إنقاذ الدولة من الضياع، ولكن كان للأقدار رأى آخر، فقد شاءت أن
تكتب فى عهده شهادة وفاة تلك الدولة.(2/123)
13 - مروان بن محمد بن مروان بن الحكم (127 - 132هـ):
هو آخر خلفاء «بنى أمية»، ولى حكم «أرمينيا» و «أذربيجان» منذ
خلافة ابن عمه «هشام بن عبدالملك»، وكان من أكفأ الولاة،
وأكثرهم خبرة وبصرًا بالأمور؛ فارسًا شجاعًا، بطلا مقدامًا، غيورًا
على ملك «بنى أمية».
أدرك «مروان» عواقب مقتل «الوليد بن يزيد» على البيت الأموى،
فخرج من «أرمينيا» قاصدًا «دمشق»؛ ليثأر لمقتل «الوليد»، لكن
الخليفة الجديد «يزيد بن الوليد» ترضَّاه، ورجاه أن يرجع، ووعده
بإصلاح الأحوال، فرجع مؤمِّلا أن يفى الخليفة بوعده، غير أن
الخليفة تُوفِّى فجاءة، تاركًا الدولة وأحوالها مضطربة، لأخيه
«إبراهيم»، الذى عجز عن النهوض بأعباء الخلافة؛ مما دفع «مروان»
إلى التحرك من جديد، قاصدًا «دمشق»، ليجد «إبراهيم» قد غادرها
هربًا، فيدخلها، ويبايع له بالخلافة، ليقوم بآخر محاولة لإنقاذ الدولة
الأموية، التى شاءت الأقدار أن تكون نهايتها على يديه.
ولا يستطيع أحد أن يلوم «مروان» أو يحمله مسئولية زوال الدولة،
فعوامل سقوطها كانت تتفاعل وتعمل من زمن بعيد، وكُتب له أن
يجنى وحده الثمار المرة لأخطاء من سبقه، على الرغم مما بذله من
جهد ومثابرة، وعزم لا يلين، فحارب فى أكثر من ميدان، وصارع
أحداثًا عدّة، كانت كلها ضدَّه، وأول خطر واجهه هو انقسام البيت
الأموى شيعًا وأحزابًا، وإشعال أبناء عمومته الثورات العارمة ضده
فى الشام و «العراق»، ثم انقسام القبائل العربية؛ حيث وقفت القبائل
اليمنية فى وجهه، وهم الأنصار التقليديون لبنى أمية، وانفجار
المشكلات فى أنحاء الدولة كلها من «الأندلس» حتى بلاد «خراسان»
و «ما وراء النهر».
وقد بلغت حركة الخوارج أقصى درجات العنف فى عهد «مروان بن
محمد» (127 - 132هـ)، وقد شهد آخر ثورات الخوارج وأشدها خطرًا،
بقيادة «الضحاك بن قيس الشيبانى» فى «العراق»، و «أبى حمزة
الخارجى» فى جنوبى الجزيرة العربية.(2/124)
وفى الوقت الذى يواجه فيه «مروان» كل هذه الظروف الصعبة،
منتقلا من ميدان إلى ميدان، ومن جبهة إلى أخرى دون كلل أو ملل،
محاولا إنقاذ الدولة، وبث روح الحياة فيها، وتجديد الدماء فى
أوصالها - تفاجئه رايات العباسيين منحدرة من «خراسان» كالسيل
المنهمر، مكتسحة كل قواته فى طريقها، ولم تتوقف إلا بهزيمته وهو
على رأس جيوشه فى معركة على «نهر الزاب» بالعراق، فى شهر
جمادى الآخرة سنة (132هـ).
ولم يجد «مروان» طريقًا سوى الهرب إلى «مصر»، غير أن العباسيين
لاحقوه إلى هناك، واستطاع «صالح بن على بن عبدالله بن عباس»،
عم أول خليفة عباسى أن يقتله فى قرية تُسمَّى «زاوية المصلوب»
التابعة لبوصير الواقعة جنوبى «الجيزة»، فى ذى الحجة سنة
(132هـ).
سقوط الدولة الأموية:
إن من يقرأ تاريخ الدولة الأموية منذ قيامها، ويدرس فتوحاتها
ونظمها الإدارية، ومساهماتها الحضارية، وكفاءة خلفائها وولاتها،
ربما لا يتوقع النهاية السريعة والسقوط المدوى لها، وبالفعل يعد
سقوطها وانهيار بنيانها الشامخ من الأمور العجيبة فى التاريخ
البشرى، غير أن ذلك العجب والدهشة يزولان، بعد دراسة العوامل
والأسباب التى تفاعلت وعملت على تحقيق ذلك السقوط، وهى
تتلخص فى الآتى:
- أولا: ثورات الشيعة المتتالية ضد الدولة، بدءًا من ثورة «الحسين بن
على بن أبى طالب» ضد «يزيد بن معاوية» واستشهاده فى
«كربلاء» فى المحرم سنة (61هـ)، ونهاية بثورة «زيد بن على بن
الحسين» سنة (121هـ) ضد «هشام بن عبدالملك».
وربما لا تكون ثورات الشيعة ذات أثر عسكرى فى الدولة الأموية،
باستثناء حركة «المختار الثقفى»، لكن أثرها كان بعيد المدى فى
نفوس الناس، وشحنها بالعداء لبنى أمية، وهذا ما استفاده دعاة
العباسيين فى مرحلة التحضير لثورتهم.
- ثانيًا: ثورات الخوارج وهذه كانت من العنف والقوة بحيث أسهمت
إسهامًا واضحًا فى إضعاف الدولة الأموية، فلم تتركها تستريح،(2/125)
وظلت تنفجر فى أماكن كثيرة، وبخاصة فى «العراق» والجزيرة
العربية حتى آخر لحظة فى حياة الدولة، فقد سبق القول: إن الخوارج
شغلوا آخر خليفة أموى، وهو «مروان بن محمد» بثوراتهم العنيفة عن
التنبّه للخطر الداهم الذى زحف عليه من «خراسان»، بقيادة «أبى
مسلم الخراسانى».
- ثالثًا: العصبيات العربية التى احتدمت بين القبائل، وبخاصة بين عرب
الجنوب (اليمن) وعرب الشمال (قيس)، وكانت تلك العصبيات قد خبت
وكمنت بفضل تعاليم الإسلام التى أعلت من رابطة العقيدة، وجعلت
التقوى والعمل الصالح ميزان التفاضل بين الناس لا أنسابهم أو
أجناسهم.
ثم بدأت تطل برأسها فى عهد «عثمان بن عفان»، وكانت من أسباب
الفتنة التى راح ضحيتها الخليفة نفسه، واستمرت فى خلافة «على
بن أبى طالب»، وكان لها أسوأ الأثر فى إفساد الأمر عليه، فزعماء
القبائل اليمنية الذين معه مثل «الأشتر النخعى» و «الأشعث بن قيس»
كانوا يتصرفون من منطلق قبلى، وأعلوا عصبيتهم فوق مصلحة
الإمام «على»، بل فوق مصلحة الإسلام نفسه.
فلما قامت الدولة الأموية استطاع «معاوية» بمهارته السياسية الفائقة
أن يتعامل مع هذه العصبية القبلية بتوازن شديد؛ فاحتفظ بصداقة
الجميع وطاعتهم، وكذلك فعل «عبدالملك بن مروان» وأولاده حتى
«هشام بن عبدالملك» (105 - 125هـ)، ثم انفجرت العصبيات القبلية،
وفتحت فاها كألسنة النيران، دون أن يستطيع أحد أن يوقفها أو
يسد فاها، لأن خلفاء الأمويين الأواخر لم يكونوا أهلا للقيادة فعجزوا
عن التصدِّى لها، وزاد الأمر خطرًا أن تلك العصبيات انفجرت فى
الشام، الحصن الحصين للدولة الأموية، فانقلبت عليهم القبائل اليمنية،
الحليف التقليدى لهم، بسبب تقلب سياسة الخلفاء وتذبذبها من
الاعتماد على اليمنيين تارة وعلى القيسيين تارة أخرى.
والأخطر من ذلك أن العرب حملوا خلافاتهم وعصبياتهم فى كل أرض
يحلون بها، وبخاصة «خراسان» التى أصبحت التربة الخصبة للدعوة(2/126)
العباسية، بل إن بعض الولاة أسهموا فى تفاقم نار العصبية والعمل
على إشعالها؛ بسوء سياستهم وضيق أفقهم، فكان إذا جاء والٍ من
«اليمن»، تعصَّب لقومه وخصَّهم بالمزايا والوظائف واضطهد القيسيين،
وإذا جاء والٍ من «قيس» فعل عكس ذلك.
وهكذا كانت الأحوال فى «خراسان» تنتقل من سيئ إلى أسوأ؛ مما
ساعد الدعاة العباسيين على إلحاق كل ذلك بخلفاء الأمويين، وقد
استغل ذلك «أبو مسلم الخراسانى» واستثمره لمصلحة العباسيين.
- رابعًا: الموالى وبخاصة الفرس، فقد بغض هؤلاء الدولة الأموية،
ومضوا فى طريق العداء لها، فلم يتركوا ثورة أو فتنة ضدها إلا
انضموا إليها واشتركوا فيها، مهما تكن هوية القائمين عليها، من
شيعة إلى خوارج، إلى ثورة «ابن الأشعث» إلى ثورة «ابن المهلب»،
حتى جاءتهم الدعوة العباسية، فانخرطوا فيها، وكانت على أيديهم
نهاية الدولة الأموية.
- خامسًا: الخلفاء الأمويون المتأخرون: أسهم هؤلاء بدءًا من خلافة
«الوليد بن يزيد» (125 - 126هـ) فى سقوط الدولة وسهَّلوا لكل
خصومهم مهمتهم للانقضاض على الدولة، وذلك لعدم كفاءتهم لقيادة
دولة عملاقة كالدولة الأموية من ناحية، ولتناحرهم فيما بينهم على
الحكم والسلطان من ناحية أخرى.
وكل هذه العوامل السابقة لو وجدت رجالا من طراز «معاوية بن أبى
سفيان» أو «عبدالملك بن مروان» لكان من الممكن التغلب والسيطرة
عليها، لكن هؤلاء تركوا الدولة تتعرض لأشد المخاطر، وتفرغوا
لمحاربة بعضهم بعضًا، حتى جاء من قضى عليهم جميعًا.
- سادسًا: الدعوة العباسية: بدأت الدعوة العباسية عملها منذ نهاية
القرن الأول الهجرى، فى خلافة «سليمان بن عبدالملك» عندما انتقلت
الدعوة الشيعية من «عبدالله بن محمد بن على بن أبى طالب» المكنى
بأبى هاشم إلى «على بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب»، الذى
كان يعيش فى قرية «الحميمة» جنوبى الشام، حين أسرَّ إليه «أبو
هاشم» بأسرار الدعوة وأسماء رجالها.(2/127)
وقد أظهر العباسيون منذ أن تولى «على بن عبدالله بن العباس» أمر
الدعوة، ومن جاء بعده من أبنائه حصافة سياسية ودهاء منقطع
النظير، فقد أدركوا أن أهم أسباب فشل العلويين فى الوصول إلى
الخلافة هو التسرع والاعتماد على حب الناس لهم، وعواطفهم
نحوهم، دون عمل منظم، فحاولوا تفادى تلك الأخطاء، وصاغوا
شعارًا خادعًا لدعوتهم، هو الدعوة للرضا من «آل محمد»، فاقتنع
كثير من الشيعة أن المقصود هو الدعوة لواحد من أولاد «علىِّ»
أحفاد النبى - صلى الله عليه وسلم -، مع أن الشعار يتسع ليشمل
العباسيين أيضًا، فهم من «آل محمد».
ثم ظهرت عبقرية أئمة الدعوة من العباسيين وهم «على بن عبدالله»،
وابنه «محمد» وأولاده فى اختيار الدعاة بدقة بليغة، من ذوى
الفصاحة والبلاغة والقدرة الفائقة على مخاطبة الناس بما يناسبهم،
ومن المخلصين للدعوة ورجالها، المتفانين فى سبيلها، حتى إن
الواحد منهم إذا ألقى القبض عليه، وحقق معه الولاة الأمويون يفضل
الموت، ولا يبوح بكلمة واحدة عن الدعوة ورجالها.
وكما تجلت عبقرية الأئمة فى اختيار دعاتهم تجلت أيضًا فى اختيار
المكان الذى ستنطلق منه الثورة المسلحة؛ لتكتسح الدولة الأموية،
وهو «خراسان»؛ حيث العداء الدفين للأمويين، والعصبية العربية
المحتدمة، وانطلقوا يزرعون العداء، ويبثون الدعايات المغرضة
ضد «بنى أمية»، فيضخمون الأخطاء اليسيرة، وأحيانًا يختلقون
الأخطاء وينسبونها إلى الخلفاء الأمويين، كاختلاقهم أن «الوليد بن
يزيد» حاول شرب الخمر فوق «الكعبة»، وكانوا يقومون بذلك وهم
على هيئة تجار عاديين، وفى أسلوب هادئ، حتى تحولت مشاعر
الناس ضد الدولة الأموية ورجالها.
واستمر هذا العمل الدءوب نحو ثلث قرن (99 - 129هـ)، وكان يجرى
عبر محور «الحميمة» الرئيسى حيث مقر أئمة الدعوة، وتخرج منها
التعليمات إلى «الكوفة»، ومنها إلى «خراسان».
ولما حانت ساعة العمل العسكرى، عهد الأئمة بهذه المهمة إلى «أبى(2/128)
مسلم الخراسانى»، وكان مسموع الكلمة عند الخراسانيين، فأعلن
الثورة المسلحة على الأمويين فى «خراسان» سنة (129هـ)، وزحف
بقواته إلى الغرب مكتسحًا قوات الأمويين حتى إذا وصل إلى
«العراق»، أوقفه العباسيون، وأسندوا القيادة إلى «قحطبة
الطائى»، وهو قائد عربى، ولم يشاءوا أن يقتحم «أبو مسلم»
بقواته «العراق»، حتى لا يثيروا مشاعر العرب ضدهم، وهذا من براعة
الأئمة العباسيين فى القيادة وفهمهم لنفوس الشعوب.
واصل «قحطبة» عمله ضد قوات الأمويين فى «العراق» حتى قُتل،
فخلفه ابنه «الحسن بن قحطبة»، واستطاع أن يستولى على معظم
«العراق».
حدث ذلك كله والخليفة الأموى «مروان بن محمد» مشغول من رأسه
إلى قدميه فى مشكلات «العراق» و «الشام»، وفى إخماد الثورات
التى أشعلها ضده أبناء عمومته، فضلا عن ثورات الخوارج وقبل أن
ينتهى من ذلك كله داهمته قوات العباسيين، وألحقت به هزيمة
ساحقة على يد «عبدالله بن على بن عباس» فى موقعة «الزاب»
شمالى «العراق» فى شهر جمادى الأولى سنة (132هـ)؛ ففر من
المعركة، وأخذ يتنقل من مكان إلى آخر حتى وصل إلى «مصر»،
وهناك لاحقته الجيوش العباسية حتى قُتِل على يد «صالح بن على بن
عبدالله بن عباس» فى ذى الحجة سنة (132هـ).
وبمقتله انتهت الدولة الأموية فى المشرق، وقامت الدولة العباسية،
حيث بويع «عبدالله بن محمد» الملقَّب بأبى العباس السفاح بالخلافة
فى «الكوفة» فى ربيع الأول سنة (132هـ)، قبل مقتل «مروان بن
محمد» بشهور.
وسبحان الله القائل:
{قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء
وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شىء قدير}.
[آل عمران: 26].(2/129)
- المراجع:
* د0 إبراهيم نجيب: القضاء في الإسلام
* بن الأثير (عز الدين): الكامل في التاريخ
* أحمد أمين: ضحي الإسلام - دار الكتاب العربي - بيروت - الطبعة العاشرة- بدون تاريخ
* ألأشعري (أبو الحسن علي بن إسماعيل): مقالات الإسلاميين - المكتبة العصرية - بيروت - 1990م
* البلاذري (أحمد بن يحي): فتوح البلدان - دار الكتب العلمية - بيروت - 1983م
* توماس أرلوند: الدعوة إلى الإسلام
* بن تيميه (أحمد بن عبد الحليم): مناهج السنة النبوية - مكتبة ابن تيميه - القاهرة - الطبعة الثانية - 1989م
* ثابت إسماعيل الراوي: العراق في العصر الأموي
* جاك ديسلر: الحضارة العربية
* ابن الجوزي (عبد الرحمن بن علي): سيرة عمر بن الخطاب
* ابن حجر العسقلاني (أحمد بن علي): فتح الباري بشرح صحيح البخاري
* د0 حسن إبراهيم حسن: النظم الإسلامية
* ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد): العبر - مؤسسة جمال للطباعة - بيروت - 1979م
* ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد): مقدمة ابن خلدون - تحقيق د0 علي عبد الواحد
* الذهبي (شمس الدين محمد بن أحمد): سير أعلام النبلاء - مؤسسة الرسالة بيروت - الطبعة السابعة - 1991م
* ابن سعد (محمد بن سعد): الطبقات
* د0 سيدة الكاشف: مصر في فجر الإسلام - دار الرائد العربي - بيروت - الطبعة الثالثة - 1986م
* د0 شاكر مصطفي: موسوعة دول العالم الإسلامي ورجالها
* د0 شكري فيصل: حركة الفتح الإسلامي، المجتمعات الإسلامية
* د0 شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي - دار المعارف القاهرة - الطبعة الحادية عشرة - بدون تاريخ
* ضياء الدين الريس: عبد الملك بن مروان - وزارة الثقافة والإرشاد القومي - القاهرة - الطبعة الأولي - 1964م
* الطبري (محمد بن جرير): تاريخ الطبري
* ابن عبد الحكم (عبد الله بن عبد الحكم): فتوح مصر
* عبد الله الطراز: موسوعة التاريخ الإسلامي(2/130)
* ابن عذارى (محمد أو أحمد بن محمد المراكثي): البيان المغرب - دار الثقافة - بيروت - الطبعة الثانية - 1980م
* الفخري: الآداب السلطانية والولايات الدينية
* ابن قتيبة (عبد الله بن مسلم): عيون الأخبار
* ابن قتيبة (عبد الله بن مسلم): المعارف
* ابن كثير (إسماعيل بن عمر): البداية والنهاية
* الإمام مالك (مالك أبن أنس): الموطأ
* المالكي (الحسن بن محمد): رياض النفوس
* الماوردي (على بن محمد): الأحكام السلطانية
* المسعودى (علي بن الحسين): مروج الذهب
* اليعقوبي (أحمد بن إسحاق): تاريخ اليعقوبي - دار صادر - بيروت - بدون تاريخ(2/131)
الجزء الثالث
العصر العباسي في العراق والمشرق
تأليف:
أ. د. حسن علي حسن
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة
د. عبد الرحمن سالم
مدرس التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة
الفصل الأول
*الخلافة العباسية
ينتسب خلفاء «بنى العباس» إلى جدهم «العباس بن عبد المطلب» عم
النبى - صلى الله عليه وسلم -، الذى عاش فى «مكة» وأسلم بها،
وكانت له مكانته عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد أنجب «العباس» عددًا من الأبناء، أشهرهم: «عبد الله بن عباس»
الذى أُطلق عليه «ترجمان القرآن» و «حَبْر الأمة» لسعة علمه وحدة
ذكائه.
ترك «عبد الله» كثيرًا من الأبناء منهم «على بن عبد الله»، الذى يُقال
له «السجَّاد»؛ لكثرة عبادته، وأنجب «السجاد» أولادًا كثيرين،
أشهرهم «محمد بن على»، الذى نظم الدعوة العباسية وخرج بها إلى
حيز الوجود، وأحاط تحركاته بجو من السرية والكتمان، حتى أطلق
على المرحلة التى مرت بها الدعوة العباسية فى عهده «المرحلة
السرية»، وتمتد من سنة (100هـ= 718م) إلى سنة (129هـ= 746م)،
وتحركت الدعوة فيها من ثلاثة أماكن هى:
1 - الحميمة: وهى قرية صغيرة منعزلة فى جنوب «الشام»، اتخذتها
الأسرة العباسية مقرا لها.
2 - الكوفة: وتعد المركز الرئيسى لنشاط الدعاة العباسيين، وتتوسط
بلاد «الشام» و «العراق» و «خراسان».
3 - خراسان: حيث نجح الدعاة العباسيون فى اجتذاب الآلاف إليهم.
وبدأت الدعوة بجماعة تُسمَّى «النقباء»، قاموا بتكوين «مجلس
شورى» برئاسة «سليمان بن كثير الخزاعى»، وكان مركز الدعوة
فى «الكوفة» يتلقى التعليمات من مقر البيت العباسى فى «الحميمة»
ويرسلها إلى أنصار الدعوة فى كل مكان، وخاصة «خراسان».
وعقب وفاة الإمام «محمد بن على» سنة (125هـ= 742م) تولى ابنه
«إبراهيم» - المعروف بالإمام - شئون الدعوة، وقد نشطت فى عهده،
واتخذت اللون الأسود شعارًا لها.
وقد تهيأ للدعوة العباسية أسباب النجاح منذ أن أسندت مهمة
الإشراف على الدعوة فى «خراسان» إلى «أبى مسلم الخراسانى»،
الذى جمع حوله الأنصار والأعوان، وخاض بهم ساحات القتال محققًا
العديد من الانتصارات، وقام بدور مهم فى قيام «الدولة العباسية».(3/1)
وقد واجه العباسيون بزعامة «أبى مسلم» قوى مختلفة فى
«خراسان»، فور إعلان ثورتهم ليلة الخميس (25من رمضان سنة
129هـ= 9من يونيو سنة747م)، وتمثلت هذه القوى فى «نصر بن
سياد» الوالى الأموى، وقبائل «اليمن» و «ربيعة»، و «الخوارج»، لكن
«أبا مسلم» استطاع بذكائه ودهائه أن يوقع بينها مستغلا العنصر
القبلى وإثارة العصبية بين أفرادها.
وبعد معارك كثيرة استطاعت قوات «أبى مسلم الخراسانى» أن
تدخل مدينة «مرو» عاصمة إقليم «خراسان»، ثم استولت على
«همدان» و «نهاوند» و «حلوان» و «خانقين» وغيرها، حتى دخلت
«العراق»، وكان وراء ذلك النجاح الكبير الذى أحرزه العباسيون فى
نشاطهم الدعائى والعسكرى أسباب كثيرة، منها:
1 - الدعوة الدائبة والمنظمة التى استمرت ما يقرب من ثلاثين سنة
على أيدى دعاة مدربين.
2 - كثرة الجيوش العباسية واندفاعها لاكتساح القوات الأموية.
3 - القيادة الحكيمة التى استطاعت تنظيم أنصار الدعوة العباسية
وتسليحهم وتوجيههم إلى ميادين القتال المختلفة.
4 - تمزق صفوف الجيوش الأموية بسبب العصبية القبلية.
5 - نجاح العباسيين فى جذب مجموعة من القادة الأكفاء الذين أداروا
المعركة باقتدار ضد الأمويين، ومنهم «أبو مسلم الخراسانى»، و «أبو
سلمة الخلال» كبير الدعاة العباسيين بالكوفة، و «ابن شبيب الطائى»
الذى قاد الجيوش العباسية المتجهة إلى «العراق».
انتقلت الأسرة العباسية من «الحميمة» سرا إلى «الكوفة»، بعد إلقاء
القبض على «إبراهيم الإمام» وقتله فى أحد سجون «دمشق»، وكان
قد أوصى بتولية أخيه «عبدالله» شئون الدعوة.
وفى «الكوفة» أقامت الأسرة العباسية عند «أبى سلمة الخلال»
كبير الدعاة أربعين يومًا حتى تهيأت الظروف لمبايعة أول خليفة
عباسى وهو «عبد الله بن محمد».(3/2)
الفصل الثاني
*العصر العباسى الأول
(132 - 232هـ = 749 - 847م):
يمتد العصر العباسى الأول قرنًا من الزمان، من سنة (132هـ= 749م)
إلى سنة (232هـ= 847م)، ويعد العصر الذهبى للخلافة العباسية؛ حيث
تمتع الخلفاء بسلطتهم الدينية والدنيوية.
وخلفاء هذا العصر تسعة، هم:
1 - أبو العباس عبدالله (132 - 136هـ= 749 - 753م).
2 - المنصور (136 - 158هـ= 753 - 775م).
3 - المهدى (158 - 169هـ= 775 - 785م).
4 - الهادى (169 - 170هـ= 785 - 786م).
5 - الرشيد (170 - 193هـ= 786 - 809م).
6 - الأمين (193 - 198هـ= 809 - 813م).
7 - المأمون (198 - 218هـ= 813 - 833م).
8 - المعتصم (218 - 227هـ= 833 - 842م).
9 - الواثق: (227 - 232هـ= 842 - 847م).
الخليفة الأول: أبو العباس (132 - 136هـ= 749 - 753م):
هو «عبدالله بن محمد بن على بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب بن
هاشم»،ولد سنة (100هـ= 718م) تقريبًا.
بويع «أبو العباس» فى «الكوفة» فى شهر ربيع الأول سنة (132هـ=
749م).
واستمر فى الحكم أربع سنوات، استطاع خلالها توطيد أركان
الخلافة العباسية، والقضاء على كل مقاومة ظهرت فى عهده.
موقف العباسيين من الأمويين:
مما لاشك فيه أن هناك بعض التجاوزات التى حدثت فى إقليم
«الشام» على يد الوالى العباسى «عبدالله بن على»، عم الخليفة
«أبى العباس»؛ حيث تعقَّب الأمويين فى كل مكان وقتل كثيرًا منهم،
مما دفع بعضهم إلى الفرار إلى مناطق بعيدة، كما فعل «عبدالرحمن
بن معاوية» - صقر قريش - الذى فر إلى «المغرب» ومنها إلى
«الأندلس»؛ حيث أسس دولة أموية هناك سنة (138هـ= 755م)، كما
حاول بعضهم الآخر التخفِّى وطلب العفو.
ومن ناحية أخرى لم يقف أنصار الأمويين وأعوانهم مكتوفى الأيدى
أمام انتصارات العباسيين، وما ارتكبه بعض ولاتهم من مذابح تجاه
البيت الأموى، فقاموا بعدة ثورات فى أماكن متفرقة، إحداها
بالبلقاء و «حوران» سنة (132هـ= 749م)، وأخرى فى «قِنَّسرين»،(3/3)
وثالثة فى «دمشق»،لكن قوات العباسيين استطاعت الانتصار عليها
والسيطرة على الموقف.
موقف الخلافة من بعض زعماء الدعوة العباسية:
واجهت «الدولة العباسية» قبيل إعلانها وفى بداية قيامها انحراف
بعض المسئولين فيها، ولم تكن الظروف السياسية التى صاحبت قيام
«الدولة العباسية» تسمح بالتخلّص من هؤلاء، فلما بويع «أبو
العباس» بالخلافة وبدأت الدولة تأخذ طريقها إلى الاستقرار، قامت
بمعاقبة هؤلاء، وكان أول من عوقب «أبا سلمة الخلال» بسبب عدم
تحمسه كثيرًا لانتقال أفراد البيت العباسى من «الحميمة» إلى
«الكوفة»، ولم يأذن لهم بدخول «الكوفة» إلا بعد فترة، وحاول نقل
الخلافة من البيت العباسى إلى البيت العلوى إلا أنه فشل فى ذلك،
كما حاول قتل «أبى العباس» وفشل فى ذلك أيضًا، فلما استقرت
أمور الدولة استقر رأى أفراد البيت العباسى على أخذ رأى «أبى
مسلم الخراسانى»، الذى وافق على التخلص منه، فتم اغتياله
وأعلنت القيادة العباسية أن جماعة من أعداء الدولة هم الذين نفذوا
هذه المؤامرة.
كما قام «أبو مسلم الخراسانى» والى إقليم «خراسان» بالتخلص من
أحد كبار الدعاة وهو «سليمان بن كثير»، الذى كان يُعرف بنقيب
النقباء، عقب اتهامه بالاتصال بأحد أبناء البيت العلوى وتحريضه
على الثورة ضد البيت العباسى.
وتُوفى الخليفة العباسى الأول «أبو العباس» بالأنبار فى (13 من ذى
الحجة سنة 136هـ= 9 من يونيو سنة 754م)، وعمره نحو ست وثلاثين
سنة.
الخليفة الثانى: أبو جعفر المنصور (136 - 158هـ= 753 - 775م):
هو «عبدالله بن محمد بن على بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب
الهاشمى»، وكنيته «أبو جعفر».
ولد سنة (95هـ= 714م) فى قرية «الحميمة» بالشام، وتربى وسط
كبار الرجال من «بنى هاشم»، فنشأ فصيحًا عالمًا بسير الملوك
والأمراء، ودرس النحو والتاريخ والأدب شعرًا ونثرًا وغير ذلك، كما
كان كثير الأسفار والتنقل.(3/4)
ولما تولى أخوه «أبو العباس» الخلافة استعان به فى محاربة أعدائه
وتصريف أمور الدولة، وكان ينوب عنه فى الحج، كما أوصى «أبو
العباس» قبيل وفاته مباشرة بولاية عهده لأخيه «أبى جعفر»، الذى
كان غائبًا فى موسم الحج، فلما تُوفِّى «أبو العباس» قام ابن أخيه
«عيسى بن موسى» بأخذ البيعة لأبى جعفر من «بنى هاشم»
وغيرهم، وأرسل إلى عمه «أبى جعفر» بوفاة أخيه ومبايعته
بالخلافة.
ولما وصل «أبو جعفر» إلى «الأنبار» استكمل أخذ البيعة من القادة
والرؤساء، ثم خطب فيهم مبيِّنًا سياسته فى إدارة الدولة فى النقاط
الآتية:
1 - زهده فى منصب الخلافة، وأنه لم يكن يتطلع إلى ذلك أو يرغب
فيه.
2 - تعهده بتنفيذ ما ورد فى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه
وسلم -.
3 - تعهده بإقرار العدل ورفع الظلم عن الناس، وإرجاع الحقوق إلى
أصحابها.
يُعدُّ «أبو جعفر المنصور» المؤسس الحقيقى للدولة العباسية، وقد
واجه بحزم واقتدار العديد من المشاكل والثورات حتى نجح فى
السيطرة عليها والقضاء على القائمين بها، ومنها: ثورة عمه «عبد الله
بن على»، وتمرد «أبى مسلم الخراسانى»، وثورة «محمد النفس
الزكية»، وثورات الفرس، وحركات الخوارج.
أولاً: ثورة عبد الله بن على:
يُعدُّ «عبد الله بن على» - عم الخليفة «أبى جعفر المنصور» - من
الشخصيات العسكرية البارزة فى «الدولة العباسية»، وقد شارك مثل
غيره من أفراد البيت العباسى، فى النشاط العسكرى والسياسى
حتى قامت «الدولة العباسية»، وتولى إمارة «الشام»، فلما تُوفِّى
الخليفة الأول «أبو العباس»، رفض «عبد الله بن على» مبايعة الخليفة
الجديد «أبى جعفر المنصور»، وأعلن أنه أحق منه بمنصب الخلافة،
وأن الخليفة «أبا العباس» كان قد وعده بذلك، ولم يكن هذا صحيحًا؛
لأن الخليفة «أبا العباس» كتب وصيته قبل وفاته بتولية أخيه «أبى
جعفر» الخلافة، كما أنه لم يرد عن أحد من أفراد البيت العباسى ما
يؤيد دعوى «عبد الله بن على».(3/5)
وقد أحدث هذا خللاً شديدًا فى كيان البيت العباسى، فحاول «أبو
جعفر» رأب هذا الصدع، وأرسل إلى عمه عدة رسائل يدعوه إلى
الدخول فى طاعته، ولزوم الجماعة، إلا أن عمه رفض ذلك، فأرسل
إليه «أبو جعفر» قائده «أبا مسلم الخراسانى» على رأس جيش
كبير، ودارت معركة فاصلة بين الجيشين فى (جمادى الآخرة سنة
137هـ= نوفمبر سنة 754م)، انتهت بانتصار جيش «أبى مسلم» وفرار
«عبدالله بن على» إلى «البصرة»، ثم استطاع الخليفة «أبو جعفر»
إحضاره منها إلى «الكوفة» وسجنه حتى مات سنة (147هـ= 764م).
ثانيًا: تمرد أبى مسلم الخراسانى:
اختلفت المصادر التاريخية فى بيان أصل «أبى مسلم الخراسانى»،
والراجح أنه من أصلٍ فارسى، وقد التحق فى بداية أمره بخدمة
«إبراهيم الإمام» الذى أُعجب به ووثق فيه، واستعان به فى أموره
المهمة، وكان له دور بارز فى نجاح الدعوة العباسية، وقيام دولتها.
ورغم الجهود والأعمال التى قام بها «أبو مسلم» فإنه ارتكب بعض
الأخطاء الجسيمة فى حق الخلافة العباسية منها:
انفراده بالحكم فى «خراسان»، وتجاهله شيوخ الدعوة العباسية
ونقباءها هناك، وعدم تنفيذ أوامر الخليفة «أبى العباس» ثم تجاهله
لأبى جعفر فى مناسبات كثيرة، وتحريضه ابن أخيه «عيسى بن
موسى» على الثورة والاستئثار بمنصب الخلافة، وغير ذلك.
وقد حاول الخليفة «أبو جعفر» - فى البداية - معالجة الأمور بهدوء،
فاستدعى «أبا مسلم» من «خراسان» إلا أنه رفض الحضور فواصل
الخليفة مراسلاته، واستعان ببعض الزعماء للضغط على «أبى مسلم»
للحضور إلى مقر الخلافة فى «العراق»، إلا أن «أبا مسلم» رفض
ذلك، فأرسل الخليفة إليه يهدده ويتوعده إن لم يرضخ ويستجب
لأمره، وبعد مشاورات بين «أبى مسلم» وأنصاره استجاب وحضر
إلى قصر الخلافة، فعدد عليه الخليفة «أبو جعفر» ما ارتكبه من
أخطاء فى حق الدولة، ثم أمر بقتله.
ثالثًا: ثورة محمد النفس الزكية:
هو «محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب»،(3/6)
المعروف بالنفس الزكية، زعيم البيت العلوى والشيعة، ومنذ مقتل
الإمام «على» - كرم الله وجهه - والشيعة يحاولون الوصول إلى مقعد
الحكم عن طريق الثورات والخروج على السلطة، باعتبارهم أصحاب
الحق الشرعى.
وبقيام «الدولة العباسية» وتولِّى العباسيين الخلافة انتقل صراع
العلويين على الخلافة من محاربة الأمويين إلى محاربة أبناء عمومتهم
العباسيين.
وعلى الرغم من أن أسرة «محمد النفس الزكية» لم تتخذ موقفًا عدائياً
واضحًا فى بدء الخلافة العباسية فإن الأمر تغير حين تولَّى «أبو
جعفر المنصور» الخلافة وبدأ يتعقب «محمدًا النفس الزكية» وأخاه
«إبراهيم» اللذين اختفيا وأخذا يعملان سرا فى الدعوة لنفسيهما
والخروج على «الدولة العباسية».
ولما فشل «أبو جعفر المنصور» فى القبض على «محمد النفس
الزكية» أمر بالقبض على عدد كبير من أفراد أسرته، وحملهم إلى
سجون «العراق» وعذَّبهم لإرغام «محمد النفس الزكية» على الظهور،
وقد نجح «أبو جعفر» فى ذلك؛ فظهر «محمد النفس الزكية» فى
«المدينة المنورة» فى (رجب سنة 145هـ= سبتمبر سنة 762م) وقتله
العباسيون هناك، كما قتلوا أخاه «إبراهيم» بالعراق، وكثيرًا من
أهلهما.
رابعًا: ثورات الفرس:
واجهت الخلافة العباسية فى عهد «أبى جعفر» عدة ثورات فارسية،
كانت تعبيرًا عن معارضة بعض العناصر الفارسية للخلافة الإسلامية،
ومن هذه الثورات:
حركة سنباذ سنة (137هـ= 754م):
حيث قاد «سنباذ» - وهو أحد أتباع «أبى مسلم» - حركة ثورية للثأر
لمقتل «أبى مسلم الخراسانى»، ومحاربة الإسلام، وأحس الخليفة
«المنصور» بخطر هذه الحركة فأرسل جيشًا كبيرًا استطاع القضاء
على قوات «سنباذ» وقتله وهو فى طريقه لاجئًا إلى حاكم
«طبرستان».
حركة الرواندية (141هـ= 758م):
وهم قوم من أهل «خراسان»، سُموا بذلك نسبة إلى قرية «رواند»
القريبة من «أصفهان»، وكانوا من أتباع «أبى مسلم الخراسانى»،
إلا أنهم زعموا أن ربهم الذى يرزقهم ويطعمهم ويسقيهم هو(3/7)
«المنصور»، وأعلنوا إيمانهم بفكرة «تناسخ الأرواح» واستطاعوا
دخول مدينة «الهاشمية»، عاصمة الخلافة العباسية آنذاك، وهاجموا
قصر الخلافة فتصدَّى لهم بعض الجنود البواسل، وعلى رأسهم «معن
بن زائدة الشيبانى»، واستطاعوا القضاء على هذه الحركة.
حركة أستاذ سيس سنة (150هـ= 767م):
«أستاذ سيس» رجل فارسى ادَّعى النبوة، وقاد حركة تهدف إلى
تخليص بلاد فارس من قبضة العباسيين، واستطاع بجيوشه الضخمة
بسط نفوذه على مناطق «سجستان» و «هراة» و «كور خراسان»
وغيرها، فحشدت له الخلافة العباسية قوات ضخمة بقيادة «خازم بن
خزيمة التميمى»، استطاعت القضاء على هذه الحركة، وانتهى الأمر
بالقبض على «أستاذ سيس» وإعدامه.
خامسًا: حركات الخوارج:
نظر الخوارج إلى العباسيين على أنهم مغتصبون للخلافة التى ينبغى
أن يتقلدها أجدر المسلمين بها بالانتخاب، بغض النظر عن نسبه، ومن
ثم شهد العصر العباسى الأول عددًا من حركات الخوارج، بغرض
القضاء على الخلافة العباسية، ومنها:
1 - ثورة ملبد بن حرملة الشيبانى سنة (137هـ= 754م) بأرض الجزيرة
(ديار بكر):
وشكلت خطرًا كبيرًا على العباسيين، إلا أن قائدهم «خازم بن
خزيمة» استطاع القضاء عليها.
2 - ثورة حسان بن مجالد الهمدانى بالموصل سنة (148هـ= 765م):
انتهت بالفشل لتفرق أنصاره عنه.
وفاة المنصور:
تُوفى «المنصور» فى (6 من ذى الحجة سنة 158هـ= 7 من أكتوبر
سنة 775م)، وهو فى طريقه إلى الحج.
وقد أشار «ابن الأثير» فى كتابه «الكامل فى التاريخ» إلى أن
«المنصور» كان يجعل نهاره لتصريف أمور الدولة، فإذا صلَّى العصر
جلس مع أهل بيته، فإذا صلَّى العشاء الآخرة جلس ينظر فيما ورد إليه
من رسائل البلاد، حتى يمضى ثلث الليل الأول فينام، ثم يقوم فى
الثلث الأخير فيتوضأ ويصلى حتى يطلع الفجر، فيصلى بالناس، ثم
يجلس فى ديوانه لتصريف أمور البلاد، وهكذا يقضى وقته.
الخليفة الثالث: محمد المهدى (158 - 169هـ= 775 - 785م):(3/8)
هو «محمد بن عبدالله بن محمد» وُلد بالحميمة سنة (126هـ=743م)،
وقد هيأه والده «المنصور» وأعده ليكون جديرًا بمنصب الخلافة من
بعده، فنشأ على ثقافة عربية واسعة، ودراية بفنون الحرب وأساليب
الإدارة.
وقد أوصى «المنصور» ابنه وولى عهده «محمدًا» وصية جامعة،
قبيل وفاته تضمنت:
1 - التمسك بأن تظل «بغداد» عاصمة للخلافة.
2 - الاهتمام بأهل بيته وحاشيته وأهل «خراسان» لدورهم فى قيام
الدولة.
3 - تقوى الله وإبعاد النساء عن السياسة.
4 - تجنب إهدار دماء المسلمين، ومعاقبة المفسدين والملحدين
وتتبعهم.
5 - الاستعداد المستمر بالقوة والسلاح، وأن يباشر الأمور بنفسه.
وعقب وفاة «المنصور» بويع «المهدى» بيعة خاصة من قبل الزعماء
بمكة، ثم بايعه جمهور المسلمين فى «بغداد» فى (ذى الحجة سنة
158هـ= أكتوبر سنة 775م).
سياسة المهدى العامة:
اختلفت سياسة «المهدى» عمن سبقه، فاتسم عهده بالاستقرار
والهدوء والتسامح والصفح، فأطلق سراح المسجونين السياسيين،
واهتم بإقرار العدل بين الناس، وجلس للنظر فى مظالم الناس مستعينًا
بالقضاة، وأمر بالإنفاق على مرضى الجذام؛ حتى لا يختلطوا بالناس
فتصيبهم العدوى، كما اهتم اهتمامًا خاصا بالحرمين الشريفين
وبكسوة «الكعبة».
وقد عفا «المهدى» عن بعض آل البيت ومنحهم الأموال والإقطاعات،
وحينما أدى فريضة الحج سنة (160هـ= 777م) وزع أموالاً كثيرة على
أهل «مكة» و «المدينة»، وأصدر عفوًا عاما عمن عاقبهم «المنصور»
من أهل «الحجاز»؛ لمشاركتهم فى الثورة العلوية، واختار خمسمائة
من رجال الأنصار وكوَّن منهم حرسه الخاص، كما قام ببث العيون
والجواسيس بالبلاد لرصد أى تحرك معادٍ للدولة، ورغم ذلك فقد حاول
بعض العلويين مثل «عيسى بن زيد بن على» و «على بن العباس بن
الحسن» القيام بثورة ضد الخلافة العباسية، لكنها لم تنجح؛ حيث
عاجلهما الموت.
سياسة المهدى تجاه الخوارج:
واجه «المهدى» عدة ثورات من الخوارج وقضى عليها بحزمه وسرعة(3/9)
مواجهته، منها:
1 - ثورة «يوسف بن إبراهيم البرم» فى «خراسان» سنة (160هـ=
777م).
2 - حركة «عبدالسلام بن هاشم اليشكرى» فى «قنسرين» سنة
(160هـ= 777م).
3 - حركة الخوارج بالموصل بزعامة «ياسين الموصلى التميمى» سنة
(168هـ= 784م).
الحياة الاجتماعية فى عهد المهدى:
ترك «المنصور» بعد وفاته فى بيت المال أربعة عشر مليون دينار
وستمائة مليون درهم، قام «المهدى» بتوزيعها على الناس؛ فشاع
بينهم الترف والنعيم واللهو واللعب، كما اتبعه الناس فى حبه للآداب
والفنون؛ فارتقت الآداب والفنون، وسادت بين طبقات الشعب، وكان
«المهدى» أول خليفة يُحمل إليه الثلج إلى «مكة» فى الحج، كما
كان مترفًا فى ملبسه ومأكله.
وفاة المهدى:
تُوفِّى «المهدى» سنة (169هـ= 785م) وعمره ثلاث وأربعون سنة،
وقد قضى فى الحكم إحدى عشرة سنة.
الخليفة الرابع: موسى الهادى (169 - 170هـ= 785 - 786م):
هو «موسى» ابن الخليفة «المهدى»، تولى الخلافة فى (22 من
المحرم سنة 169هـ= 5 من أغسطس سنة 785م).
سياسته:
اتصف الخليفة «الهادى» بالغيرة والشهامة والجرأة، ورفض تدخل
أمه «الخيزران» فى سياسة الدولة كما كانت تفعل فى عهد والده
«المهدى».
وقد واجه «الهادى» مشاكل خطيرة على رأسها ثورة البيت العلوى
بقيادة «الحسين بن على بن الحسن» فى «المدينة» سنة (169هـ=
785م)، إلا أن «الهادى» أرسل جيشًا على وجه السرعة نجح فى
القضاء عليها فى (8 من ذى الحجة سنة 169هـ=11من يونيو سنة
786م) وحاول «الهادى» نقل ولاية العهد من أخيه «الرشيد» إلى ابنه
«جعفر»، الذى لم يكن قد بلغ الثامنة من عمره مخالفًا وصية والده
فى ترتيب ولاية العهد، إلا أن الموت عاجله فلم يتحقق له ما أراد.
وفاته:
تُوفِّى «الهادى» ليلة الجمعة، (نصف ربيع الأول سنة 170هـ= نصف
أغسطس 786م) وبذلك تكون مدة خلافته سنة وشهرًا واثنين وعشرين
يومًا.
الخليفة الخامس: هارون الرشيد (170 - 193هـ= 786 - 809م):(3/10)
هو «هارون بن محمد المهدى»، وُلد بالرى فى آخر (ذى الحجة سنة
145هـ= فبراير سنة 763م)، وتولى الخلافة فى الليلة التى مات فيها
أخوه «الهادى» وعمره اثنان وعشرون عامًا.
ويُعدُّ «الرشيد» أشهر خلفاء العباسيين وأبعدهم صيتًا، فقد ملأت
أخباره كتب التاريخ شرقًا وغربًا.
سياسته العامة:
لما استقر «الرشيد» فى «بغداد» عاصمة الخلافة العباسية قلَّد
«يحيى البرمكى» منصب الوزارة وفوضه فى إدارة شئون البلاد،
ومنحه لقب «أمير»؛ فكان أول من لُقِّب بذلك من الوزراء الفرس فى
«الدولة العباسية».
اهتم «الرشيد» بإقامة العدل فى الناس، فأمر بإعادة الأراضى التى
اغتصبها أهل بيته فى عهد الخلفاء السابقين إلى أصحابها، ورفع
الظلم عن المسجونين ظلمًا، وقسم أموال ذوى القربى بين «بنى
هاشم» كلهم بالعدل، وأصدر عفوًا عن المعتقلين السياسيين، فأخرج
من كان فى السجن من العلويين، وسمح لهم بالعودة إلى «المدينة»،
ومنحهم الرواتب، كما أجرى «الرشيد» تعديلات واسعة فى مناصب
الدولة فى كل من «مكة» و «المدينة» و «الطائف» و «الكوفة»
و «خراسان» و «أرمينية» و «الموصل».
موقفه من الشيعة:
حاول «الرشيد» فى الأعوام الأولى من خلافته مسالمة العلويين
والعفو عنهم، إلا أنه كان يخشى خطورة اثنين منهم فرَّا عقب موقعة
«الفخ»، أما أولهما فهو «إدريس بن عبدالله» الذى نجح فى الوصول
إلى «المغرب الأقصى» وكون «دولة الأدارسة»، وأما الآخر فهو
«يحيى بن عبدالله» الذى فرَّ إلى «بلاد الدَّيلم» وتجمع حوله
المتشيعون لآل البيت، فأرسل إليه «الرشيد» جيشًا بقيادة «الفضل
بن يحىى»؛ لإرجاعه إلى حظيرة الخلافة، فعاد به إلى «بغداد»
حيث لقيه «الرشيد» بكل ما أحب، إلا أن الحاسدين سرعان ما وشوا
به عند الخليفة بسبب قيام الكثير من العلويين بزيارته والتودد إليه،
فأمر «الرشيد» بسجنه حتى مات. وقد استطاع بعض رجال الحاشية
الذين يكنون العداء للبيت العلوى تعميق خوف «الرشيد» من زعماء(3/11)
البيت العلوى واستغلال ذلك للقضاء عليهم، كما حدث مع «موسى
الكاظم»؛ حيث أمر «الرشيد» بحبسِه حتى أدركه الموت.
موقفه من الخوارج:
واصل الخوارج نشاطهم العسكرى ضد الخلافة العباسية فى عهد
«الرشيد»، فقام «الوليد بن طريف الخارجى» بحركة تمرد وعصيان
فى «العراق» واستولى على أماكن عديدة، إلا أن «الرشيد» أرسل
إليه جيشًا بقيادة «يزيد الشيبانى» استطاع القضاء على هذه الحركة
وقتل قائدها فى (رمضان سنة 179هـ= نوفمبر سنة 795م).
موقفه من البرامكة:
تمتع البرامكة فى بداية عهد «الرشيد» بالسلطة والجاه والنفوذ،
وتقلدوا مناصب الدولة المهمة، حتى إذا جاء شهر (صفر سنة 187هـ=
يناير سنة 803م) أمر «الرشيد» بسجنهم، ومصادرة أموالهم
وممتلكاتهم، فيما عرف فى التاريخ بنكبة البرامكة.
وقد تضافرت عدة عوامل كانت سببًا فيما فعله «الرشيد» بالبرامكة،
منها:
1 - اتهامهم بالزندقة والخروج عن الإسلام باعتبارهم من أصل
مجوسى.
2 - محاولتهم إبعاد العرب عن المناصب المهمة وتقديمهم الفرس
لشغلها.
3 - استبدادهم بالأمور وإظهارهم ما لا تحتمله نفوس الملوك.
4 - قيام الحاسدين والحاقدين بتضخيم أخطاء «البرامكة».
5 - أن «الرشيد» كلف «جعفر بن يحيى البرمكى» بقتل رجل من آل
«أبى طالب» فلم يفعل.
المجتمع فى عهد الرشيد:
ازدهر المجتمع فى عهد «الرشيد» اقتصاديا وثقافيا وعلميا
وعمرانيا.
فقد تدفقت الأموال من كل مكان، واتسعت رقعة الدولة واستقر الأمن
بها وازدهرت التجارة، وأصبحت «بغداد» قبلة للطامحين فى الثراء
والترف، كما قصدها النوابغ والعباقرة والصناع المهرة من سائر
الشعوب، وشيدت فيها القصور الرائعة والمساجد الكبيرة، وانتشرت
الحدائق العامة، والأسواق المتخصصة كسوق الذهب والنحاس،
والنسيج وغير ذلك.
وكان «الرشيد» على قدر عالٍ من الثقافة والمعرفة، واجتمع عنده
أقطاب العلم والعمل والسياسة والحرب مثل: «أبى يوسف» تلميذ(3/12)
الإمام «أبى حنيفة»، و «الأصمعى» الراوية المشهور، و «أبى
العتاهية» و «أبى نواس» من الشعراء، وداهية السياسة «يحيى
البرمكى» وابنيه «الفضل» و «جعفر»، ومن المغنين «إبراهيم
الموصلى» وابنه «إسحاق»، ومن الموسيقيين «زلزل» و «برصوم»،
وغيرهم من أمراء العباسيين القادة والخطباء والشعراء والساسة.
وفاة الرشيد:
أثناء سفر «الرشيد» من «بغداد» إلى «خراسان» اشتد المرض عليه،
وتُوفِّى صباح يوم الجمعة (2 من جمادى الآخرة سنة 193هـ= 23 من
مارس سنة 809م)، وعمره خمس وأربعون سنة.
وقد حكم «الرشيد» البلاد ثلاثة وعشرين عامًا، بلغت فيها «الدولة
العباسية» ذروة مجدها، وقد تحدث عنه كثير من المؤرخين، فقال
عنه «الطبرى»: «غزا سبع مرات، وجهز عشرين حملة للجهاد فى البر
والبحر». وقال عنه «ابن خلكان»: «حج فى خلافته تسع حجج،
وكان يصلى فى اليوم مائة ركعة».
الخليفة السادس: محمد الأمين (193 - 198هـ= 809 - 813م):
هو «محمد بن هارون الرشيد»، وُلد بالرصافة وأمه «زبيدة» ابنة
«جعفر الأكبر بن المنصور»، تولى الخلافة عقب وفاة أبيه «هارون
الرشيد» باعتباره ولى عهده، وكان عمره حينئذٍ ثمانية وعشرين
عامًا.
الصراع بين الأمين والمأمون:
تشير مصادر التاريخ إلى أن بداية الخلاف كانت من جانب «الأمين»،
حين خالف أمر والده «الرشيد» فى مرضه، بأن يكون ما فى
معسكره من أموال ومتاع وجند لأخيه «المأمون»، فى «مرو»؛ مما
أحدث أثرًا سيئًا فى نفس «المأمون».
وكانت الخطوة التالية قيام «الأمين» بتعيين ابنه «موسى» وليا للعهد
بدلاً من أخويه «المأمون» و «المؤتمن»، فقام «المأمون» بإسقاط اسم
«الأمين» من الطرز والسّكَة، ومنع البريد من الوصول إليه بأخبار
«خراسان»، ثم طلب من أخيه «الأمين» أن يرد إليه مائة ألف دينار
كان والده «الرشيد» قد أوصى بها إليه فرفض «الأمين»، ثم تطور
الصراع بينهما إلى المواجهة العسكرية، فجهز «الأمين» جيشًا بقيادة(3/13)
«على بن عيسى بن ماهان»، وجهَّز «المأمون» جيشًا ضخمًا بقيادة
«طاهر بن الحسين»، ودارت عدة معارك بين الجيشين انتهت
بمحاصرة «بغداد» ومقتل «الأمين» سنة (198هـ= 813م)، وقد دامت
خلافة «الأمين» أربع سنوات وثمانية أشهر وخمسة أيام.
الخليفة السابع: عبد الله المأمون (198 - 218هـ= 813 - 833م):
هو «عبد الله بن هارون الرشيد»، وُلد فى منتصف (ربيع الأول سنة
170هـ= أغسطس سنة 786م) وأمه «أم ولد» فارسية تُسمَّى
«مراجل»، وكان يكنى «أبا العباس»، ويُلقب بالمأمون.
نشأ «المأمون» نشأة إسلامية، وتلقى العلوم العربية، وتدرَّب على
فنون القتال والنزال وقيادة الجند، كما أسند والده «الرشيد» إلى
وزيره «جعفر البرمكى» مهمة الإشراف على تنشئته، وقد أظهر
المأمون نبوغًا خلال دراسته.
ولما تولى «المأمون» الخلافةعزم أن يقدم القدوة الصالحة والسيرة
الحسنة فى الناس حتى يقتدى به رجال دولته، وكان يقول: «أول
العدل أن يعدل الملك فى بطانته، ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ إلى
الطبقة السفلى».
كما اتصف «المأمون» بالعفو والحلم حتى اشتهر بذلك وهو القائل:
«لو عرف الناس حبى للعفو لتقربوا إلىّ بالجرائم، وأخاف ألا أؤجر
عليه»، يعنى لكونه طبعًا له يستلذ به.
سياسة المأمون:
انتهج «المأمون» سياسة واعية تقوم على أسس واضحة منها:
1 - تأليف القلوب بالعفو والعطاء، وقد عد «اليعقوبى» سبع عشرة
حادثة يستحق صاحب كل واحدة منها القتل عند أمثال «المنصور»،
لكنها قوبلت عند «المأمون» بالعفو.
2 - العناية بالعلم والعلماء: كان للمأمون ولعٌ بالأمور العلمية
والفلسفية، فكان يعقد مجالس المناظرة ويبعث فى طلب العلماء
والأعلام من «بيزنطة» لحضورها، وكان يتصيَّد الكتب النادرة ويدفع
فيها المبالغ الطائلة، ويجعل حصوله عليها شرطًا من شروط الهدنة
ووقف القتال مع الروم، كما أقام «بيت الحكمة» وجعل فيها مكتبة
ضخمة، وجهازًا كبيرًا للترجمة من مختلف اللغات إلى اللغة العربية،(3/14)
حشد له نحو سبعين مترجمًا.
المأمون والشيعة:
جمعت سياسة «المأمون» تجاه الشيعة بين أمرين هما السخط
والرضا.
أما العنف فقد تمثل فى سياسة «المأمون» تجاه الثورات الشيعية
المسلحة التى اندلعت فى عدة أماكن، مثل حركة «ابن طباطبا
العلوى» سنة (199هـ= 814م)، وحركة «الحسين بن الحسن» فى
«الحجاز»، وحركة «عبدالرحمن بن أحمد» فى «اليمن» سنة (207هـ=
822م)، وقد انتهت هذه الحركات بالفشل فى تحقيق أغراضها.
وأما الرضا فقد تمثل فى قيام «المأمون» باختيار أحد أبناء البيت
العلوى وهو «على بن موسى الرضا» ليكون ولى العهد من بعده،
وهو ما لم يفعله أحد من خلفاء «بنى العباس» قبله، وقد اختلف
المؤرخون فى تعليل قيام «المأمون» بهذا الأمر، فمنهم من فسر ذلك
بميول «المأمون» الشيعية وحرصه على تولية أفضل العناصر ولاية
العهد، وآخرون أرجعوا ذلك إلى تأثير «الفضل بن سهل» وميوله
الشيعية.
وقد أحدثت بيعة «المأمون» لعلى بن موسى الرضا بولاية العهد ردود
فعل عنيفة فى أنحاء «الدولة العباسية» فرفض أفراد البيت
العباسى ومؤيدوهم هذه البيعة، وبايعوا «إبراهيم بن المهدى» عم
«المأمون» بالخلافة سنة (202هـ= 817م) ولما علم «المأمون» بذلك
وهو فى «مرو» بخراسان تحرك قاصدًا «بغداد» لمعالجة الموقف،
وأثناء ذلك مات «على الرضا» ولى العهد، فهدأ الموقف، وهرب
«إبراهيم بن المهدى» من «بغداد»، ودخلها «المأمون»، ثم عفا عنه.
المأمون والفرس:
يمكن تقسيم نشاط الفرس فى عهد المأمون إلى قسمين:
1 - نشاط سياسي.
2 - نشاط عسكرى.
ويتمثل النشاط السياسى فى الدور الذى لعبه «بنو سهل» مع
«الخليفة المأمون»، وهو يشبه تمامًا دور البرامكة مع «هارون
الرشيد»، حيث سلم «المأمون» «الفضل بن سهل» مقاليد الأمور،
فصارت مهام الدولة فى يده، وبدأ فى إبعاد العناصر العربية من بلاط
«المأمون»، وتعصب للعنصر الفارسى، وارتكب مجموعة أخرى من(3/15)
الأخطاء؛ مما جعل «المأمون» يفكر فى التخلص منه، فقتل أثناء سفر
«المأمون» إلى «بغداد».
أما النشاط العسكرى فيتمثل فى حركة «بابك الخرمى»،التى
تُعدُّ أخطر الحركات الفارسية المعادية للخلافة العباسية، فقد استمرت
ما يزيد على عشرين عامًا واتسمت بدقة التنظيم وبراعة القيادة،
والاتصال السياسى بالأكراد والأرمن وغيرهم، وكانت تؤمن بمبادئ
هدامة منها:
1 - الإيمان بالحلول والتناسخ حتى إن زعيمها «بابك» ادَّعى
الألوهية.
2 - المشاعية المزدكية فى الأموال والأعراض.
3 - ضرورة التخلص من السلطان العربى والدين الإسلامى.
وقد ألحقت هذه الحركة العديد من الهزائم بالجيش العباسى ولم يتم
القضاء عليها إلا فى عهد «المعتصم بالله».
وفاة المأمون:
ظل «المأمون» خليفة للمسلمين عشرين سنة وخمسة أشهر وعشرين
يومًا، وقد تُوفِّى فى (18من رجب سنة 218هـ= 833م).
الخليفة الثامن: المعتصم بالله (218 - 227هـ= 833 - 842م):
هو «محمد بن هارون الرشيد»، وُلد فى (شعبان سنة 180هـ= أكتوبر
سنة 796م)، وأمه جارية تركية اسمها «مارده»، وقد تولى الخلافة
عقب وفاة أخيه «المأمون».
كان «المعتصم» يتميز بقوته الجسمية وشدته فى الحرب، حتى قيل
عنه: إنه كان يصارع الأسود ويحمل ألف رطل ويمشى به خطوات
ويشد على الدينار بأصبعه السبابة والوسطى فيمحو كتابته، وقال
عنه المؤرخون: إنه لم يكن فى «بنى العباس» قبله أشجع منه ولا أتم
تيقظًا ولا أشد قوة.
ومع ذلك فقد كان «المعتصم» على خلاف أخويه «الأمين»
و «المأمون» فى العلوم والآداب، فقد كان قليل البضاعة منهما، حتى
ذكر بعض المؤرخين أنه نشأ أميا لا يكتب، أو أنه كان ضعيف الكتابة
على حد قول «ابن خلكان» و «ابن كثير».
سياسة المعتصم:
اختلفت الأوضاع السياسية فى عهد «المعتصم» عنها فى عهد من
سبقه، بسبب ظهور عوامل جديدة على مسرح الأحداث، كان فى
مقدمتها ظهور العنصر التركى قوة مؤثرة فى حركة الأحداث؛ فتمتع(3/16)
الأتراك بصفات عسكرية كالشدة والقوة والتحمل جعل «المعتصم»
يستكثر منهم، يضاف إلى ذلك أن أمه تركية.
إلا أن كثرة الأتراك سببت أضرارًا كبيرة لسكان «بغداد»، مما دفع
«المعتصم» إلى البحث عن مكان جديد يكون عاصمة له فوقع الاختيار
على المكان الذى بنيت عليه مدينة «سُرّ من رأى» (سامراء حاليا)
التى بُدء البناء فيها سنة (221هـ= 836م)، ويتميز موقعها بميزات
سياسية واقتصادية وعسكرية، فمن الناحية السياسية فإنها فى
موقع متوسط يسهل الاتصال بأنحاء الدولة، ومن الناحية الاقتصادية
فإن موقعها يسهل عمليات التبادل التجارى بين النواحى الشمالية
والجنوبية، وعسكريا فإن إحاطة المياه بها يجعلها فى مأمن من أى
عدوان خارجى.
ومن الأعمال العظيمة التى تنسب إلى «المعتصم بالله» نجاحه فى
القضاء على ثورة «بابك الخرمى»، فحينما تولى أمر البلاد جهز
جيشًا بقيادة «الأفشين» وزوَّده بكل أدوات القتال وبالمال اللازم؛
حيث دارت عدة معارك، انتهت بالقبض على «بابك الخرمى» وإعدامه.
المعتصم والشيعة:
لم تظهر فى عهد «المعتصم» حركات علوية مؤثرة كالحركات التى
حدثت فى عهد الخلفاء السابقين، وإنما حدثت بعض الحركات
الضعيفة، ومنها:
حركة «محمد بن القاسم» المعروف بالصوفى، سنة (219هـ= 834م):
والذى تحرك فى عدة أماكن كالحجاز و «الكوفة» ثم استقر فى
«خراسان»، وشكلت حركته خطرًا على «الدولة العباسية»، فكلف
«المعتصم» واليه على «خراسان» «عبدالله بن طاهر» بالتصدى لهذه
الحركة؛ حيث نجح فى القضاء عليها.
وفاة المعتصم بالله سنة (227هـ= 841م):
تُوفى «المعتصم بالله» فى شهر (ربيع الأول سنة 227هـ= ديسمبر
سنة 841م)، وقد أطلق عليه بعض المؤرخين «المُثَمن»، لأن خلافته
دامت ثمانى سنين وثمانية أشهر ويومين، ومولده فى الشهر الثامن
من العام الهجرى، ومات عن ثمانية بنين وثمانى بنات.
الخليفة التاسع: الواثق بالله: (227 - 232هـ = 841 - 847م)(3/17)
هو «هارون بن المعتصم بالله»، يكنى «أبا جعفر» وأمه أم ولد
رومية تُسمى «قراطيس»، وكان فطنًا لبيبًا فصيحًا ينظم الشعر ويحب
الموسيقى.
وقد تولى «الواثق بالله» الحكم يوم وفاة والده «المعتصم».
سياسة الواثق بالله:
تظهر ملامح تلك السياسة فيما يلى:
أولاً: تمسكه بمذهب المعتزلة، حتى جعله المذهب الرسمى للدولة، مما
أثار أهل السنة ضده، إلا أنه تصدى لهم وقبض على زعمائهم.
ثانيًا: تقريبه للأتراك جريًا على سياسة والده «المعتصم»، حتى إنه
قسم البلاد بين رجلين من الأتراك، الأول «أشناس» وأعطاه الشطر
الغربى من الدولة إلى آخر بلاد «المغرب»، والثانى قائده «إيتاخ»
وأعطاه الشطر الشرقى: «دجلة» و «فارس» و «السند»، وكان كل
منهما يعين الولاة الذين يريدهم، هذا بالإضافة إلى عدد من القادة
الأتراك الذين شغلوا مناصب خطيرة، مثل: «وصيف التركى» الذى
أوكل إليه «الواثق» القضاء على ثورة المتمردين الأكراد، و «بغا
الكبير» الذى أخمد ثورة الأعراب بنواحى «المدينة».
وكان الواثق يغدق عليهم الأموال والهدايا.
ثالثًا: مصادرة أموال كبار الموظفين، مثل «أحمد بن إسرائيل»، الذى
أخذ منه ثمانين ألف دينار، و «سليمان بن وهب» كاتب «إيتاخ»،
الذى أخذ منه أربعمائة ألف دينار، وغيرهما، مما ترك آثارًا سيئة فى
الجهاز الإدارى والاستقرار المالى للدولة، وأصابهما بالفساد والخلل.
رابعًا: إحسانه إلى بعض طوائف الأمة، وفى مقدمتهم العلويون حيث
أغدق عليهم الأموال.
وفاة الواثق بالله:
استمر «الواثق» فى مقعد الخلافة خمس سنين وتسعة أشهر، ثم
أُصيب بمرض الاستسقاء، ومات فى (ذى الحجة سنة 232هـ= يوليو
سنة 847م)، وعمره اثنان وثلاثون عامًا، وقيل: ستة وثلاثون.
السمات العامة للعصر العباسى الأول (132 - 232هـ = 749 - 847م):
امتد العصر العباسى الأول مائة سنة، تولى الخلافة خلالها تسعة
خلفاء، بدءًا من «أبى العباس» وانتهاءً بالواثق بالله، ويمكن تقسيم(3/18)
هذا العصر إلى ثلاثة عهود رئيسية:
1 - عهد التأسيس من سنة: (132هـ=749م) إلى سنة (158هـ= 775م)،
ويشمل خلافة «أبى العباس» و «المنصور».
2 - عهد الاستقرار: من سنة (158هـ= 775م) إلى سنة (218هـ= 833م)،
ويشمل خلافة «المهدى» و «الهادى» و «الرشيد»
و «الأمين» و «المأمون».
3 - عهد القلق: من سنة (218هـ=833م) إلى سنة (232هـ= 847م)،
ويشمل «المعتصم بالله» و «الواثق بالله».
ويتميز العصر العباسى الأول بالسمات الآتية:
أولاً: كثرة الصراعات: ومن ذلك:
1 - الصراع بين العرب - ومنهم أسرة الخلافة - والفرس - ومنهم الوزراء
والإداريون وغيرهم- مثلما حدث بين «الرشيد» و «البرامكة»،
و «المأمون» و «بنى سهل».
2 - الصراع بين فروع البيت الهاشمى: العباسيين، والعلويين، مثلما
حدث بين الخليفة «المنصور» و «محمد النفس الزكية».
3 - الصراع بين الخلافة العباسية والحركات المعادية لها من العرب
وغيرهم، وقد تمثل ذلك فى حركات الخوارج.
4 - الصراع بين الإسلام - الدين الرسمى للدولة- وبين العقائد الأخرى
التى ظهرت فى بلاد فارس كالخُرَّمية وغيرها من العقائد الفاسدة.
ثانيًا: اتساع العلاقات الخارجية:
فقد بسطت الخلافة العباسية سلطانها على بلادٍ كثيرة شرقًا وغربًا،
وتعددت علاقاتها مع الدول الأخرى وفى مقدمتها:
أ - الدولة البيزنطية:
وكانت العدو التقليدى للدولة الإسلامية منذ عهد الرسول - صلى الله
عليه وسلم -، وقد اشتد هذا العداء بعد استيلاء المسلمين على بعض
المناطق التى كانت خاضعة للدولة البيزنطية، كالشام و «مصر»
و «المغرب».
وخلال العصر العباسى الأول حدث الاحتكاك المباشر بين القوات
الإسلامية والبيزنطية على الحدود الشمالية فى منطقة «الشام»، فقد
استغلت «الدولة البيزنطية» انشغال الخليفة العباسى الأول «أبى
العباس عبد الله بن محمد»، بتثبيت أركان الدولة سنة (132هـ= 749م)،
وقامت بمهاجمة الحصون والثغور الإسلامية؛ فأمر الخليفة «أبو(3/19)
العباس» واليه على «الشام» بالإعداد لمواجهة البيزنطيين، ولكن
الموت عاجله، وجاء «المنصور» فأمر بتحصين الثغور وإعادة بناء ما
هدمه البيزنطيون، وجعل لها حكمًا إدارياً مستقلاً، وحشد فيها آلاف
المقاتلين والمرابطين فى سبيل الله.
وكانت هذه الثغور تنقسم إلى قسمين:
1 - الثغور الجزرية: للدفاع عن الجزيرة الفراتية وشمال «العراق»
وأهم حصونها «ملطية» و «المصيصة»، و «مرعش».
2 - الثغور الشامية: وتقع غرب الثغور الجزرية، وهى للدفاع عن
«الشام»، وأهم حصونها «طرسوس»، و «أدنة».
وفى سنة (162هـ=779م) أرسل «المهدى» جيشًا ضخمًا بقيادة
«الحسن بن قحطبة»، فتوغل فى بلاد الروم ونشر الرعب بين
صفوفهم.
وفى سنة (163هـ= 780م) خرج «المهدى» بنفسه على رأس الجيش
متجهًا إلى الحدود البيزنطية، ووصل إلى «الموصل» ثم «حلب»؛ حيث
ترك ابنه «هارون الرشيد» ليتابع جهاده ضد البيزنطيين، وفى عهد
«الرشيد» (170 - 193هـ= 786 - 809م) أمر بجعل منطقة الثغور منطقة
مستقلة باسم «الثغور والعواصم» وأقام خطين للدفاع عن حدود
الدولة مع البيزنطيين، الخط الأول هو الثغور، والخط الثانى إلى
الجنوب من الخط الأول، ويُسمَّى: العواصم.
كما قام «الرشيد» ببناء حصون جديدة، مثل «عين زرية»، و «زبطرة»
وغيرهما. وقد حاول «نقفور» إمبراطور «الدولة البيزنطية» الامتناع
عن دفع الجزية للخلافة العباسية، فأرسل إليه «الرشيد» يقول: «بسم
الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم،
قد قرأت كتابك يا بن الكافرة والجواب ما تراه دون أن تسمعه
والسلام». وخرج «الرشيد» بنفسه على رأس جيش ضخم ألحق الهزيمة
بالقوات البيزنطية وأرغم الإمبراطور «نقفور» على الخضوع ودفع
الجزية مرة أخرى.
ونظرًا لكثرة المعارك بين العباسيين والبيزنطيين، فقد وقع كثير من
جنود الطرفين أسرى، وقد حرصت الخلافة العباسية على فداء
أسرى المسلمين، فى عهد «الرشيد» سنة (181هـ= 797م).(3/20)
وقد سار «المأمون» (198 - 218هـ= 813 - 833م) على سياسة والده
نفسها، فى استمرار النشاط العسكرى ضد البيزنطيين، وكان النصر
حليف المسلمين.
وتعدُّ معركة «عمورية» سنة (223هـ= 838م)، أبرز المعارك بين
المسلمين والبيزنطيين فى عهد «المعتصم بالله»، وكان سببها اعتداء
الإمبراطور البيزنطى «تيوفيل بن ميخائيل» على بعض الثغور
والحصون على حدود «الدولة الإسلامية»، وحين بلغ «المعتصم» ما
وقع للمسلمين فى هذه المدن، وصيحة امرأة مسلمة وقعت فى أسر
الروم: وامعتصماه، فأجابها وهو جالس على سريره: لبيك لبيك،
وجهز جيشًا ضخمًا أرسله على وجه السرعة لإنقاذ المسلمين، ثم خرج
بنفسه على رأس جيش كبير وفتح مدينة «عمورية»، وهى من أعظم
المدن البيزنطية، واستولى على ما بها من مغانم وأموال كثيرة جدا.
ب - الدولة الأموية بالأندلس:
وكانت علاقة العباسيين بها علاقة عداء وتربص، فقد استطاع
«عبدالرحمن بن معاوية» - بعد فراره من العباسيين إلى «الأندلس» -
أن يؤسس «الدولة الأموية» بالأندلس وعاصمتها «قرطبة» سنة
(138هـ= 755م).
وقد حاولت الخلافة العباسية بسط نفوذها على بلاد «الأندلس»
والقضاء على «الدولة الأموية» بها، فدبَّر «أبو جعفر المنصور» ثورة
«العلاء بن مغيث الجذامى» فى مدينة «باجة» الأندلسية سنة (146هـ=
763م)، وقام «المهدى» بمساندة الثورات الداخلية التى كانت تقوم
لحساب «الدولة العباسية»، ولكن كل هذه المحاولات والثورات باءت
بالفشل بسبب يقظة الأمير الأموى «عبد الرحمن الداخل» وحزمه، وقد
لقبه «أبو جعفر المنصور» بصقر قريش، بل إن «عبدالرحمن الداخل»
أشاع عزمه على غزو «الشام» وانتزاعه من «الدولة العباسية»،
وكتب إلى أنصاره فى «الشام» بذلك وعهد إلى ابنه «سليمان»
بولاية «الأندلس»، وذلك بغرض إزعاج «الدولة العباسية» وإرغامها
على وقف محاولاتها المستمرة لاسترداد بلاد «الأندلس».
ج - الدولة الكارولونجية:(3/21)
وكانت إحدى القوى الناشئة فى غربى «البحر المتوسط» (جنوبى
فرنسا حاليا)، وقام بينها وبين الدولة العباسية علاقات سياسية،
وجرى تبادل السفراء بين الدولتين فى عهد «هارون الرشيد»، وقد
سعى زعيم «الدولة الكارولونجية» «شارلمان» إلى كسب وده لتعزيز
موقفه الداخلى والخارجى، وتبادل معه الهدايا الثمينة.(3/22)
الفصل الثالث
*الأوضاع الحضارية فى العصر العباسى الأول:
أولاً: النظام السياسى والإدارى، ويشمل:
أ - الخلافة:
وقد أقام العباسيون دولتهم سنة (132هـ= 749م) وتولى أول خلفائهم
«أبو العباس عبدالله بن محمد» السلطة بناءً على وصية أخيه
«إبراهيم الإمام» بعد وقوعه فى قبضة الأمويين، وقد حكم «أبو
العباس» أربع سنوات، وقبيل وفاته عهد إلى أخيه «أبى جعفر
المنصور» بولاية العهد من بعده، ومن بعد «أبى جعفر»، «عيسى بن
موسى»، وكتب العهد بهذا وصره فى ثوب وختم عليه بخاتمه وخواتم
أهل بيته وسلمه إلى «عيسى بن موسى».
ومن هنا نلاحظ أن الحكم قد بدأ وراثيا فى عهد «الدولة العباسية»
منذ اللحظة الأولى، واقتصر على أهل البيت العباسى، كما أن أكثر
الخلفاء كان يوصى بولاية العهد إلى أكثر من شخص؛ مما أدى إلى
صراعات ساعدت على تصدع «الدولة العباسية».
وحين تولى «أبو جعفر المنصور» الخلافة واجه اعتراضًا من عمه
«عبدالله بن على» الذى رفض مبايعته، ودعا لنفسه بالخلافة مدعيًا
أنه ولى عهد «أبى العباس»، مما دعا «المنصور» إلى توجيه جيش له
بقيادة «أبى مسلم الخراسانى» تمكن من القبض عليه والقضاء على
دعوته.
وقد نقل «المنصور» ولاية العهد من ابن أخيه «عيسى بن موسى»
إلى ابنه «محمد»، الذى تولى الخلافة بعد أبيه «المنصور» سنة
(158هـ= 775م) ولقب بالمهدى، واستمر فى منصبه حتى تُوفِّى سنة
(169هـ= 785م)؛ حيث تولى ابنه «موسى» الملقب بالهادى، ولم يمكث
سوى سنة واحدة فى الحكم؛ حيث تولى من بعده أخوه «هارون
الرشيد»، ومنذ عهد «الرشيد» أصبح الصراع السياسى على السلطة
إحدى السمات المميزة للعصر العباسى الأول، وكان الصراع بين
«الأمين» و «المأمون» من الأمثلة المعبرة عن هذه السمة، وقد انتهى
بقتل «الأمين» وتولية «المأمون» الخلافة.
ب - الوزارة:
تُعدُّ الوزارة المنصب الثانى بعد الخلافة فى «الدولة العباسية» وقد
قسَّم فقهاء المسلمين الوزارة إلى نوعين:
- وزارة التفويض:(3/23)
حيث يفوض الخليفة الوزير فى تدبير أمور الدولة برأيه واجتهاده،
فتكون له السلطة المطلقة فى الحكم والتصرف فى شئون الدولة.
- وزارة التنفيذ:
حيث يكون الوزير وسيطاً بين الخليفة والرعية والولاة، ومجرد منفذ
لأوامر الخليفة.
وقد أحدث العباسيون نظام الوزارة فى بداية دولتهم متأثرين فى
ذلك بالنظم الفارسية، ولم تكن مسئوليات الوزير فى بداية الأمر تبعد
كثيرًا عن مسئوليات الكاتب، وقد حصر «أبو جعفر المنصور» مهمة
الوزير فى التنفيذ وإبداء الرأى والنصح، ولم يكن له وزير دائم، ومن
وزرائه: «الربيع بن يونس» الذى اشتهر باللباقة والذكاء وحسن
التدبير والسياسة.
وقد ظهرت شخصية الوزراء إلى حد كبير فى عهد الخليفة
«المهدى»، لما ساد الدولة من هدوء نسبى، ومن هؤلاء الوزراء
الأقوياء «يعقوب بن داود»، ثم صار للوزارة شأن كبير فى عهد
«الرشيد»، و «المأمون» لاعتماد الأول على البرامكة، والثانى على
«بنى سهل»، فمُنِحَ «يحيى البرمكى» وزير «الرشيد»، و «الفضل بن
سهل» وزير «المأمون» صلاحيات وسلطات واسعة، جعلت نفوذهما
يمتد إلى جميع مرافق الدولة، ولكن سرعان ما تم التخلص منهما.
ج- الكتابة:
كانت طبقة الكُتَّاب ذات أهمية كبيرة فى «الدولة العباسية»، وكان
الكاتب ذا علم واسع وثقافة عريضة؛ لأنه يقوم بتحرير الرسائل
الرسمية والسياسية داخل الدولة وخارجها، كما يتولَّى نشر القرارات
والبلاغات والمراسيم بين الناس، ويجلس على منصة القضاء بجوار
الخليفة لينظر فى الدعاوى والشكاوى ثم يختمها بخاتم الخليفة.
ومن أشهر الكُتَّاب فى العصر العباسى الأول «يحيى بن خالد بن
برمك» فى عهد «الرشيد»، و «الفضل» و «الحسن» ابنا «سهل»،
و «أحمد بن يوسف» فى عهد «المأمون»، و «محمد بن عبدالملك
الزيات» و «الحسن بن وهب»، و «أحمد بن المدبر» فى عهد
«المعتصم» و «الواثق».
د - الحجابة:
وهى وظيفة تقوم بمساعدة الحكام فى تنظيم الصلة بينهم وبين(3/24)
الرعية، فالحاجب واسطة بين الناس والخليفة، يدرس حوائجهم، ويأذن
لهم بالدخول بين يدى الخليفة أو يرفض ذلك إذا كانت الأسباب غير
مقنعة؛ وذلك حفاظًا على هيبة الخلافة وتنظيمًا لعرض المسائل حسب
أهميتها على الحاكم الأعلى للبلاد.
وقد اقتدى العباسيون بالأمويين فى اتخاذ الحُجَّاب، وأسرفوا فى
منع الناس من المقابلات الرسمية، ولعل هذا هو السبب المباشر فى
نشأة ما أسماه «ابن خلدون» «الحجاب الثانى»، فكان بين الناس
والخليفة حاجزان عبارة عن دارين، أحدهما يُسمَّى «دار الخاصة»
والآخر «دار العامة»، وكان الخليفة يقابل كل طائفة حسب حالتها
وظروفها فى إحدى هاتين الدارين تبعًا لإرادة الحُجَّاب على أبوابها.
هـ - ولاية الأقاليم:
المقصود بالأقاليم: المناطق التى تتكون منها الدولة. وقد كان النظام
الإدارى فى «الدولة العباسية» نظامًا مركزيا؛ حيث صار الولاة على
الأقاليم مجرد عمال للخليفة على عكس ما كانوا عليه فى «الدولة
الأموية».
وقد قسم العباسيون الولاية على الأقاليم إلى قسمين، وخصوصًا فى
عهد «الرشيد»، الأول: الولاية الكبرى وهى التى تكون لأحد أبناء
الخليفة أو شخص مقرب من الخليفة؛ حيث يتولى هذا الوالى عدة
أقاليم فى الدولة ويقوم بتصريف أمورها من العاصمة، أو من أحد
تلك الأقاليم بعد الرجوع إلى الخليفة، ويرسل إليها ما يشاء من
الولاة. الثانى: الولاية الكاملة: حيث يتمتع الوالى ببعض السلطات التى
توسع دائرة نفوذه، مثل النظر فى الأحكام وجباية الضرائب والخراج
وحماية الأمن وإمامة الصلاة وتسيير الجيوش للغزو.
و الدواوين:
ظهرت الدواوين فى «الدولة الإسلامية»، كبقية المؤسسات الإدارية،
نتيجة لاحتياج المسلمين إليها، وقد جعل «ابن خلدون» وجود الديوان
من الأمور اللازمة للملك.
وللديوان أهمية كبرى فيما يتعلق بأموال الدولة وحقوقها وحصر
جنودها ومرتباتهم، ويرجع الفضل فى تنظيم الدواوين فى العصر
العباسى إلى «خالد بن برمك».(3/25)
وقد اهتم الخلفاء العباسيون بالدواوين؛ فكثرت اختصاصاتها
وتنوعت بسبب التعاون الوثيق بين العباسيين والفرس، فقد أخذ
العباسيون الخبرة الفارسية فى مجال الإدارة، كما احتفظوا ببعض
تنظيمات «الدولة الأموية»، خصوصًا فى الدواوين والدوائر الرسمية،
كما استحدثوا بعض الدواوين كديوان المصادرات، وديوان الأزمّة
(المحاسبة) وديوان المظالم، وغيرها.
ز - القضاء:
وهو من الوظائف المهمة فى «الدولة الإسلامية»، ويقوم على
المحافظة على حقوق الرعية وإقرار العدل والإنصاف بين جميع
الطبقات، وحماية الأخلاق العامة، مستمِدا أحكامه من الكتاب والسنة،
ونظرًا لأهمية هذا المنصب فقد وضع العلماء المواصفات التى يجب
توافرها فى القاضى، ومنها: أن يكون رجلاً قوياً عاقلاً حرا مسلمًا
عادلاً، ويتمتع بالسلامة فى السمع والبصر، وأن يكون عالمًا بأحكام
الشريعة.
وقد حظى القضاة فى العصر العباسى الأول بالتبجيل والاحترام،
وكان تعيينهم وعزلهم يتم بأمر الخليفة، وأول من فعل ذلك الخليفة
«المنصور»، فقد عين قضاة البلاد بأمره سنة (136هـ= 753م).
وقد استقرت المذاهب الفقهية فى عهد «الدولة العباسية»، وتحددت
مهام القضاة وكيفية الإجراء القضائى، وتوحد القانون وأصبحت
جلسات القاضى علنية فى المسجد وخصوصًا فى عهد «المأمون».
كما اهتم خلفاء العباسيين بالتثبت من الأحكام، فعيَّنوا جماعة من
المُزَكِّين، وظيفتهم تتبع أحوال الشهود، فإذا طعن الخصم فى
شهادة أحد الشهود سُئل عنه المزكى، كما اهتموا بأحوال القضاة
المادية حتى يعيشوا فى يسر ورخاء.
وقد تطور القضاء بصورة ملحوظة فى العصر العباسى الأول، وظهر
منصب «قاضى القضاة»، وكان يقيم فى عاصمة الدولة، ويقوم
بتعيين القضاة فى الأقاليم والبلاد المختلفة، وأول من لقب «قاضى
القضاة» «أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم»، صاحب كتاب «الخراج»،
فى عهد «الرشيد».
ثانيًا: الأوضاع الاقتصادية والعمرانية:(3/26)
أدرك الخلفاء العباسيون أهمية الاقتصاد وتنمية الموارد المالية
لمواجهة النفقات المتعددة للدولة، واتخذ «المنصور» عدة خطوات
لزيادة موارد الدولة، فاستحدث نظام المصادرات للاستيلاء على
الأموال لمواجهة أعباء الثورات والحركات التى واجهها، وأعاد النظر
فى مقادير الضرائب المفروضة على الكور.
وفى عهد «الرشيد» ازدهرت أحوال الدولة الاقتصادية، وارتفع
مستوى المعيشة، بسبب تدفق الأموال على خزانة الدولة فى بغداد،
وتعدد موارد الدولة المالية، فكان منها الزكاة، والخراج، والجزية،
وأخماس المعدن، والرسوم على التجارة الخارجية، وغيرها.
وقد أسهمت تلك الموارد فى سدّ النفقات فى مجال النشاط العسكرى
والأمنى، ومجال البناء والتعمير وإنشاء المدن، مثل مدينة «بغداد»
و «سامراء».
مدينة بغداد:
يرجع الفضل فى بنائها إلى الخليفة «أبى جعفر المنصور» ودفعه
إلى ذلك عدة أسباب، منها:
1 - «ثورة الرواندية» سنة (141هـ = 758م) وما شكّلته من خطر كبير
على «المنصور» نفسه؛ الأمر الذى جعله يفكر جديا فى الانتقال من
«الهاشمية» لأنها لم تكن بالعاصمة الحصينة التى يأمن فيها على
نفسه.
2 - أن «الهاشمية» وهى العاصمة المؤقتة للدولة العباسية كانت
قريبة من «الكوفة» مركز التشيع؛ مما يشكل خطرًا على العباسيين.
3 - رغبة «المنصور» فى إنشاء عاصمة جديدة تليق بالدولة وتخلد
ذكره من بعده.
وقد جرت عدة محاولات لاختيار المكان المناسب لبناء عاصمة الدولة
الجديدة، حتى وقع الاختيار على المكان الذى بنيت فيه مدينة
«بغداد»؛ وروعى فيها أن تتمتع بمزايا عديدة أهمها:
- أنها قريبة من «خراسان» مهد الدعوة العباسية، فضلاً عن قربها
من المراكز العربية الأخرى، وبعدها عن مراكز الاحتكاك البيزنطى.
- وأنها تقع بين نهرين كبيرين هما «دجلة» و «الفرات»، وهما
يشكلان خطين للدفاع عن المدينة.
- وأنها تقع وسط «العراق» وعلى مسافة متساوية بين «البصرة»(3/27)
و «الموصل»؛ مما يجعلها سوقًا للبضائع والمنتجات، وملتقى للقوافل
التجارية البرية والنهرية؛ إذ إنها تقع أيضًا على طريق «الشام» -
الخليج العربى.
هذا بالإضافة إلى طبيعة المكان السهلة والمفتوحة؛ مما يشبع رغبة
العرب والمسلمين الذين اعتادوا السكنى فى مثل هذه الأماكن.
وقد حشد «المنصور» لبنائها العمال المهرة فى الصناعة والبناء،
وابتدأ فى بنائها سنة (145هـ= 762م)، وفقًا لأرجح الأقوال.
وقد تم تصميم المدينة على شكل دائرى، يحيط بها سور، ولها أربعة
أبواب، وبلغت نفقات بنائها حينئذٍ ثمانية عشر مليون درهم، وأُطلق
عليها اسم «دار السلام»، إلا أن الشائع هو اسمها القديم «بغداد».
مدينة سامراء:
أسسها الخليفة العباسى «المعتصم بالله» (218 - 227هـ = 833 -
842م) وجعلها عاصمة للخلافة، وقد دفعه إلى إنشائها احتكاك
الجنود الأتراك الذين جلبهم الخليفة للإقامة معه فى «بغداد»، بسكان
المدينة وجنودها السابقين، مما أدى إلى حدوث إصابات كثيرة بين
سكان «بغداد» ومقتل كثير من النساء والأطفال والشيوخ، فاضطر
الخليفة «المعتصم بالله» إلى البحث عن مكان جديد، ينتقل إليه مع
جنوده وحاشيته؛ فوقع الاختيار على أرض «سامراء»، على بعد
ستين ميلاً شمالى «بغداد».
وقد حشد لها «المعتصم» العمال والبنائين وأهل الصناعات المهرة،
وشرع فى بنائها سنة (221هـ= 836م).
ثالثًا: الحياة الفكرية:
شهد العصر العباسى الأول نهضة فكرية عظيمة، وطفرة ثقافية
كبيرة فى شتى مجالات العلم والمعرفة نتيجة امتداد رقعة «الدولة
العباسية» ووفرة ثروتها ورواج تجارتها واهتمام الخلفاء بالحياة
الفكرية.
وقد ميز علماء المسلمين بين نوعين من العلوم:
1 - علوم تتصل بالقرآن الكريم، وهى «العلوم النقلية أو الشرعية»،
وتشمل علم التفسير، وعلم القراءات، وعلم الحديث، والفقه، وعلم
الكلام، والنحو، واللغة والبيان والأدب.
2 - علوم أخذها العرب عن غيرهم من الأمم، وهى «العلوم العقلية»(3/28)
وتشمل: الفلسفة والهندسة وعلم النجوم والموسيقى والطب والكيمياء
والتاريخ والجغرافيا.
وقامت المساجد بدور فعَّال فى نشر الثقافة الإسلامية؛ حيث كانت
تكتظ بحلقات العلم والدرس، وبخاصة العلوم الشرعية التى ازدهرت
فى العصر العباسى، ونشأت فى كنف علمى التفسير والحديث، ولم
يكن الحديث مقصورًا على أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
وإنما ضم أيضًا ما كان مأثورًا عن الصحابة، ومن أشهر رجال الحديث
فى ذلك العصر: «حماد بن سلمة» المتوفى سنة (165هـ)، و «سفيان
بن عيينة» بمكة المتوفى سنة (198هـ)، و «وكيع بن الجراح»
بالكوفة المتوفىسنة (196هـ)، و «عبدالله ابن المبارك» المتوفى سنة
(181هـ)، و «سفيان الثورى» بالكوفة المتوفى سنة (161هـ)،
و «عبدالرحمن الأوزاعى» بالشام المتوفى سنة (157هـ)، و «عبدالملك
بن جريح» المتوفى سنة (150هـ)، و «معمر بن راشد» باليمن
(153هـ)، و «سعيد بن أبى عروبة» بالبصرة المتوفى سنة (156هـ)،
و «مالك بن أنس» بالمدينة.
ومن أبرز المؤلفات فى هذا المجال: كتاب «الموطأ» الذى ألفه الإمام
«مالك بن أنس» إمام دار الهجرة (المدينة المنورة) بناءً على طلب
«المنصور»، فيروى أن الخليفة «أبا جعفر المنصور» قابل الإمام
«مالكًا» فى موسم الحج، وكلَّمه فى مسائل كثيرة من العلم، ثم قال
له: يا «أبا عبدالله» لم يبقَ فى الناس أفقه منى ومنك، وإنى قد
شغلتنى الخلافة فاجمع هذا العلم ودونه ووطئه للناس توطئة، وتجنب
فيه شدائد «عبد الله بن عمر»، ورُخَص «عبدالله بن عباس»، وشواذ
«عبدالله بن مسعود»، واقصد إلى أواسط الأمور وما اجتمع عليه
الأئمة والصحابة رضى الله عنهم. فاعتذر الإمام «مالك»، فلم يقبل
«المنصور» منه، فوضع «مالك» كتاب «الموطأ».
ولم تظهر الطريقة المنظمة فى التفسير إلا فى العصر العباسى الأول؛
حيث كان قبل ذلك غير منظم ويقتصر على تفسير آيات صغيرة غير
مرتبة حسب ترتيب السور والآيات باستثناء تفسير ابن عباس.(3/29)
وأهم المفسرين فى العصر العباسى الأول «مقاتل بن سليمان
الأزدى» المتوفى سنة (150هـ)، و «محمد بن إسحاق» المتوفى سنة
(151هـ)، ولم يصل من تفاسير هؤلاء شىء إلينا.
وازدهرت دراسة الفقه ازدهارًا عظيمًا وكانت له مدرستان، الأولى
مدرسة أهل الرأى والقياس فى العراق ومؤسسها «أبو حنيفة
النعمان» المتوفى سنة (150هـ)، وخلفه «أبو يوسف يعقوب بن
إبراهيم» المتوفى سنة (182هـ)، و «محمد بن الحسن الشيبانى»
المتوفى سنة (189هـ)، والثانية مدرسة أهل الحجاز ومؤسسها «مالك
بن أنس» وتسمى مدرسة أهل الحديث، ثم جاء الإمام الفقيه «محمد بن
إدريس الشافعى» المتوفى سنة (204هـ)، وجمع بين هاتين
المدرستين، أى جمع بين طريقة الحجازيين فى الاعتماد على الكتاب
والسنة وطريقة العراقيين فى الاعتماد على الرأى، ومن العلوم التى
ظهرت وتطورت فى ذلك العصر: علم الكلام، ويقصد به الجدل الدينى
فى الأمور العقيدية ويسمى المشتغلون به المتكلمين، ومن أشهر
فرقهم المعتزلة الذين دخلوا فى محاورات ومجادلات مع غيرهم من
المرجئة والرافضة والشيعة، والنصارى، واليهود، والمانويين.
وأهم رجال المعتزلة «واصل بن عطاء» المتوفى سنة (131هـ)،
و «عمرو بن عبيد» المتوفى سنة (145هـ)، و «بشر بن المعتمر»
المتوفى سنة (210هـ)، و «ثمامة بن أشدس» المتوفى سنة (213هـ)،
و «أبو الهذيل العلاف» المتوفى سنة (227هـ).
وشهد ذلك العصر نخبة كبيرة من علماء اللغة، منهم: «أبو عمرو بن
العلاء» المتوفى سنة (54هـ)، و «خلف الأحمر» المتوفى سنة
(180هـ)، و «الأصمعى» صاحب الأصمعيات المتوفى سنة (213هـ)،
و «أبو زيد الأنصارى» صاحب كتاب النوادر المتوفى سنة (214هـ)،
و «أبو عبيدة» صاحب «نقائض جرير والفرزدق» المتوفى
سنة (210هـ)، و «محمد بن سلام الجمحى»، و «حماد الراوية» المتوفى
سنة (155هـ)، و «المفضل الضبى»، و «أبو عمرو الشيبانى» المتوفى
سنة (206هـ)، و «أبو عبيد القاسم بن سلام» المتوفى سنة (224هـ).(3/30)
وفى النحو: «عيسى بن عمر الثقفى» المتوفى
سنة (149هـ)،و «الخليل» الواضع الحقيقى لعلم النحو المتوفى
سنة (170هـ)، و «سيبويه» المتوفى سنة (180هـ)، و «معاذ بن مسلم
الهراء» المتوفى سنة (187هـ)، و «الكسائى» المتوفى سنة (189هـ)،
و «الفراء» المتوفى سنة (207هـ)،وعنى كثير من اللغويين والنحاة
بكتابة سيرة النبى - صلى الله عليه وسلم - وأشهرهم «محمد بن
إسحاق» المتوفى سنة (151هـ)، و «ابن هشام» المتوفى
سنة (213هـ)، و «محمد بن عمر الواقدى» المتوفى سنة (207هـ)،
و «محمد بن سعد» صاحب الطبقات المتوفى سنة (230هـ).
كما نشطت كتابة التاريخ فى العصر العباسى الأول، وأشهر من
اشتغل بذلك العلم: «محمد بن الحسين بن زبالة»، و «أبو مخنف لوط بن
يحيى الأزدى» المتوفى سنة (157هـ)، و «سيف بن عمر التميمى»
المتوفى سنة (180هـ)، و «هشام بن محمد الكلبى» المتوفى
سنة (204هـ)، و «المدائنى» المتوفى سنة (225هـ).
كما شهد ذلك العصر نخبة كبيرة من فحول الشعراء على رأسهم
«بشار بن برد» المتوفى سنة (168هـ)، و «أبو نواس الحسن ابن
هانىء» المتوفى سنة (195هـ)، و «أبو العتاهية» المتوفى
سنة (211هـ)، و «مسلم بن الوليد» المتوفى سنة (208هـ)، و «أبو تمام
حبيب بن أوس» المتوفى سنة (231هـ)، وتطور النثر فى العصر
العباسى الأول بعد دخول كثير من الثقافات اليونانية والفارسية
والهندية التى امتزجت به، وأهم فنون النثر فى ذلك الوقت الخطابة
والوعظ، والمناظرات، والرسائل الديوانية- العهود والوصايا
والتوقيعات - والرسائل الإخوانية والأدبية، ومن أعلام الكتاب فى
ذلك العصر:
«ابن المقفع» المتوفى سنة (143هـ)، و «سهل بن هارون» المتوفى
سنة (215هـ)، و «أحمد بن يوسف» المتوفى سنة (213هـ)، و «عمرو بن
مسعدة» (217هـ).
وقد شجع الرشيد العلم والعلماء، وأنشأ «بيت الحكمة»، وجمع فيه
كثيرًا من المؤلفين، والمترجمين والنساخ.
ومن أشهرهم: «سهل بن هارون»، و «الحسين بن سهل»، و «الفضل(3/31)
بن نوبخت»، وكانوا يترجمون من الفارسية إلى العربية. و «حنين بن
إسحاق»، و «يوحنا البطريق»، و «يوحنا بن ماسويه»، وكانوا
يترجمون من اليونانية والسريانية إلى العربية، وفى عهد «المأمون»
نشطت حركة الترجمة والنقل من اللغات الأجنبية إلى العربية، فأرسل
البعوث إلى «القسطنطينية» لإحضار المصنفات الفريدة فى الفلسفة
والهندسة والموسيقى والطب.
وبجانب اهتمام الخلفاء بحركة الترجمة والنقل، اهتم ذوو اليسار
(الأغنياء) بتشجيع العلم والإنفاق على الترجمة إلى اللغة العربية،
ومنهم «محمد» و «أحمد» و «الحسن» أبناء «موسى بن شاكر» الذين
أنفقوا أموالاً ضخمة فى ترجمة كتب الرياضيات، وكانت لهم آثار قيمة
فى الهندسة والموسيقى والنجوم، وقد أرسلوا «حنين بن إسحاق»
إلى بلاد الروم فجاءهم بطرائف الكتب وفرائد المصنفات.
وقد اشتغل كثير من المسلمين بدراسة الكتب التى تُرجمت إلى
العربية، وتفسيرها والتعليق عليها، وتصحيح أخطائها، ومن هؤلاء:
«يعقوب بن إسحاق الكندى»، الذى ترجم كثيرًا من كتب الفلسفة
وشرح غوامضها، ونبغ فى علوم الطب والفلسفة والحساب والمنطق
والهندسة وعلم النجوم.
ومن العوامل التى ساهمت فى ازدهار الحركة العلمية فى العصر
العباسى الأول ظهور الورق واستخدامه فى الكتابة، وقد أنشأ
«الفضل بن يحيى البرمكى» مصنعًا للورق فى عهد «الرشيد» ببغداد،
فانتشرت الكتابة فيه لخفته بعد أن كانوا يكتبون على الجلود
والقراطيس المصنوعة بمصر من ورق البردى.(3/32)
الفصل الرابع
*العصر العباسى الثانى
[232 - 656هـ = 847 - 1258 م]
يمتد العصر العباسى الثانى أكثر من أربعة قرون، وقد قسم
المؤرخون هذه الفترة إلى أربعة عصور رئيسية هى:
1 - عصر نفوذ الأتراك.2 - عصر البويهيين.
3 - عصر السلاجقة.4 - عصر ما بعد السلاجقة.
أولاً: عصر نفوذ الأتراك [232 - 334 هـ = 847 - 945م]:
كان «المأمون» أول من استخدم الأتراك وقربهم، ولكنهم كانوا
محدودى العدد والنفوذ فى عهده، فلما تولى الخليفة «المعتصم»
الحكم جعلهم عنصرًا أساسيا فى جيشه، وبلغ عددهم بضعة عشر
ألفًا، وكانوا تحت سيطرة الخليفة.
وبدأ نفوذ الأتراك يتزايد فى عهد «الواثق»، ثم ازداد حدة واتساعًا
فى عهد الخليفة «المتوكل».
ويمتد عصر نفوذ الأتراك إلى ما يزيد قليلاً على قرن من الزمان،
تعاقب خلاله على كرسى الخلافة ثلاثة عشر خليفة هم:
1 - المتوكل على الله «جعفر بن المعتصم» (232 - 247هـ= 847 - 861م).
2 - - المنتصر بالله «محمد بن المتوكل» (247 - 248هـ= 861 - 862م).
3 - المستعين بالله «أحمد بن المعتصم» (248 - 252هـ= 862 - 866م).
4 - المعتز بالله «محمد أبو عبدالله بن المتوكل» (252 - 255هـ= 866 -
869م).
5 - المهتدى بالله «محمد بن الواثق بن المعتصم» (255 - 256هـ= 869 -
870م).
6 - المعتمد على الله «أحمد بن المتوكل بن المعتصم» (256 - 279هـ=
870 - 892م).
7 - المعتضد بالله «أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل» (279 - 289هـ=
892 - 902م).
8 - المكتفى بالله «أبو محمد على بن المعتضد» (289 - 295هـ= 902 -
908م).
9 - المقتدر بالله «أبو الفضل جعفر بن محمد» (295 - 320هـ= 908 -
932م).
10 - القاهر بالله «أبو منصور محمد بن المعتضد» (320 - 322هـ= 932 -
934م).
11 - الراضى بالله «أبو العباس محمد بن المقتدر بن المعتضد» (322 -
329هـ= 934 - 941م).
12 - المتقى لله «أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر» (329 - 333هـ= 941 -
945م).(3/33)
13 - المستكفى بالله «أبو القاسم عبد الله بن المكتفى» (333 - 334هـ=
945 - 946م).
(1) المتوكل على الله: وقد تولى الخلافة فى ذى الحجة سنة (232هـ=
847م)، وكان عهده بداية حقبة الضعف والتدهور، وتفكك بنيان
الخلافة العباسية.
ورغم أن «المتوكل»: كان قوى الشخصية، وافر الهيبة فإنه لم
يستطع أن يضع حدا لاستفحال النفوذ التركى فى عهده، الذى كان
له دور فى توليته الخلافة بعد أن كادت البيعة تتم لمحمد بن الواثق،
وكان غلامًا.
وقد نجح «المتوكل» فى البداية فى التخلص من أخطر العناصر
التركية فى عهده، وهو «إيتاخ» الذى استفحل خطره حتى إنه همَّ
يومًا بقتل الخليفة «المتوكل» حين تبسَّط معه فى المزاح، لكن الخليفة
نجح فى التخلص منه سنة (235هـ= 849م)، كما عزم على التخلص من
قادة الأتراك ووجوههم، مثل «وصيف» و «بُغا»، إلا أنهم استغلوا ما
بينه وبين ابنه وولى عهده «محمد المنتصر» من خلاف وجفوة ودبروا
مؤامرة انتهت بقتل «المتوكل» ووزيره «الفتح بن خاقان» فى
الخامس من شوال سنة (247هـ= 861م)، وبايعوا ابنه «المنتصر» خليفة.
وقد استطاع «المتوكل» فى عهده أن يظفر بمكانة عظيمة فى قلوب
جماهير المسلمين، حين منع النقاش فى القضايا الجدلية التى أثارها
المعتزلة، مثل قضية خلق القرآن، كما رد للإمام «أحمد بن حنبل»
اعتباره وجعله من المقربين إليه، بعد أن اضطُهد فى عهد «المأمون»
و «المعتصم» و «الواثق»؛ لعدم إقراره القول بخلق القرآن، كما أمر
«المتوكل» الفقهاء والمحدِّثين أن يجلسوا للناس ويحدثوهم بالأحاديث
التى فيها رد على المعتزلة فأثنى الناس عليه، حتى قالوا: الخلفاء
ثلاثة: «أبو بكر الصديق» قاتل أهل الردة حتى استجابوا له، و «عمر
بن عبدالعزيز» رد مظالم «بنى أمية»، و «المتوكل» محا البدع وأظهر
السنة.
(2) المنتصر بالله:
تولى الخلافة فى اليوم الذى قُتل فيه أبوه، وذلك فى شوال سنة
(247هـ= ديسمبر سنة861م)، وعمره ستة وعشرون عامًا. وحاول(3/34)
التصدى للنفوذ التركى بكل حزم، وصار يسب الأتراك ويقول: هؤلاء
قتلة الخلفاء.
ورغم أن «المنتصر بالله» كان وافر العقل قوى الشخصية فإن
الأتراك احتالوا على قتله، فأعطوا طبيبه «ابن طيفور» ثلاثين ألف
دينار، ففصده بمبضع مسموم فمات، فى (ربيع الآخر سنة 248هـ=
يونيو سنة862م) بعد حكم دام ستة أشهر فقط، ويروى أنه حينما
احتضر، قال لأمه: «يا أماه! ذهبت منى الدنيا والآخرة، عاجلت أبى
فعوجلت».
ومن مآثر «المنتصر بالله»، خلال فترة حكمه القصيرة، إحسانه إلى
العلويين، وإزالته عنهم ما كانوا فيه من خوف وضيق فى عهد أبيه
«المتوكل».
(3) المستعين بالله:
هو «أحمد بن المعتصم»، تولى الخلافة فى السادس من (ربيع الآخر
سنة 248هـ= يونيو سنة 862م)، وعمره ثمانٍ وعشرون سنة، فعقب
وفاة «المنتصر» اجتمع الأتراك بزعامة «بُغا الصغير» و «بُغا الكبير»،
وقرروا عدم تولية أحد من أولاد «المتوكل» الخلافة، خوفًا من انتقامه
منهم، وبايعوا «أحمد بن المعتصم»، الملقَّب بالمستعين بالله.
وكان من الطبيعى ألا يكون للمستعين بالله مع الأتراك أمر ولا نهى،
ولم يمضِ وقت طويل حتى غضب عليه الأتراك وقرروا خلعه ومبايعة
«المعتز بالله محمد بن المتوكل»؛ فاشتعلت الحرب بين أنصار
«المستعين» وأنصار «المعتز»، وانتهت بالقبض على «المستعين»
وقتله فى سجنه فى (شوال سنة 252هـ= ديسمبر سنة 866م).
وقد شهدت خلافة «المستعين بالله» قيام «الدولة العلوية» بطبرستان
سنة (250هـ= 864م)، على يد «الحسن بن زيد العلوى» الملقب
بالداعى الكبير، واستمرت هذه الدولة حتى سنة (316هـ= 928م).
(4) المعتز بالله محمد بن المتوكل:
بويع له بالخلافة فى شوال سنة (252هـ= ديسمبر سنة 866م)، وعمره
تسعة عشر عامًا، وقد استضعفه الأتراك وطلبوا منه مالاً فاعتذر لهم
بفراغ بيت المال، فثاروا عليه وضربوه ومزقوا ملابسه، وأقاموه فى
الشمس، فكان يرفع رجلاً ويضع أخرى من شدة الحر، ثم سجنوه(3/35)
وعذبوه حتى مات (فى شعبان سنة 255هـ= يوليوسنة 869م).
وكان من أهم الأحداث التى شهدتها خلافة «المعتز» قيام «الدولة
الصفَّارية» فى «فارس» بزعامة «يعقوب بن الليث الصفَّار» وذهاب
«أحمد بن طولون» إلى «مصر» سنة (254هـ= 868م) نائبًا عن واليها،
لكنه استطاع فى فترة لاحقة أن يستقل بها عن العباسيين، وأن
يضم إليها «الشام» مكونًا بذلك «الدولة الطولونية» فى «مصر»
و «الشام».
(5) المهتدى بالله محمد بن الواثق:
بايع الأتراك «المهتدى بالله» خليفة للمسلمين فى (رجب سنة 255هـ=
يونيو سنة869م)، عقب الإطاحة بالمعتز، وقد كان «المهتدى» تقيا
شجاعًا حازمًا، وكان يتخذ «عمر بن عبدالعزيز» مثله الأعلى، ويقول:
إنى أستحيى أن يكون فى «بنى أمية» مثله، ولا يكون مثله فى
«بنى العباس»، ولذلك نبذ الملاهى وحرَّم الغناء والخمور وحارب
الظلم.
حاول «المهتدى بالله» أن يوقف طغيان الأتراك واستبدادهم فقتل
بعضهم، فثاروا عليه وأسروه وعذبوه ليخلع نفسه فرفض، فقاموا
بخلعه وسجنه وتعذيبه حتى مات فى (رجب سنة 256هـ= يونيو 870م).
وقد كان من أهم الأحداث التى شهدها عصر «المهتدى بالله»:
ثورة الزَّنج: وسُميت بذلك لأن أعدادًا كبيرة من الذين شاركوا فيها
كانوا عبيدًا سودًا، واندلعت هذه الثورة فى «البصرة» بزعامة «على
بن محمد»، الذى قيل إنه ينتسب إلى آل البيت، وحققت مكاسب
سياسية ومادية؛ فاستولت فى مدة قصيرة على بعض المدن المهمة
فى «العراق»، مثل «البصرة» و «واسط» و «الأهواز»، ووصلت إلى
«البحرين» و «هجر»، وارتكبت مذابح بشعة ضد السكان الآمنين، وقد
استطاع القائد العباسى «الموفق طلحة بن المتوكل» القضاء على
هذه الثورة - فيما بعد - سنة (270هـ= 883م) فى خلافة أخيه «المعتمد
على الله».
(6) المعتمد على الله، وصحوة الخلافة:
تولى «المعتمد على الله أحمد بن المتوكل» الخلافة بعد خلع
«المهتدى» سنة (256هـ= 870م)، وقد أتاحت الظروف التى تولى فيها(3/36)
«المعتمد» مقاليد الحكم ظهور ما عُرف باسم «صحوة الخلافة» فى
«العصر العباسى الثانى».
فقد تصاعد النزاع الداخلى بين القادة الأتراك، وساءت معاملتهم
لجنودهم، كما ازدادت شكوى الجمهور من مضايقاتهم، مما أدى إلى
ظهور اتجاه قوى داخل الجيش بحتمية جعل القيادة العسكرية العليا
فى يد أحد أمراء البيت العباسى؛ يقوم الخليفة باختياره، ويدين له
الجميع بالطاعة، وقد اختار «المعتمد» أخاه «الموفق» قائدًا للجيش،
فكانت «صحوة الخلافة»؛ حيث استردت قوتها وهيبتها واستطاع
«الموفق» بحكمته وحزمه وصلابة إرادته أن يكبح جماح الأتراك، وأن
يعيد تنظيم الجيش، ويقر الأمن والنظام.
ورغم أن «المعتمد بالله» كان الخليفة الرسمى فإن أخاه «الموفق»
كان صاحب السلطة الفعلية، فكان له الأمر والنهى، وقيادة الجيش
ومحاربة الأعداء، ومرابطة الثغور، وتعيين الوزراء والأمراء، وكان
قضاء «الموفق» على «ثورة الزنج» سنة (270هـ= 883م) أعظم إنجاز
له.
وقد تُوفِّى «الموفق» فى (صفر سنة 278هـ= مايوسنة 891م)، وفى
العام التالى تُوفِّى الخليفة «المعتمد» فى (رجب سنة 279هـ=
سبتمبرسنة 892م)، بعد أن حكم البلاد ثلاثة وعشرين عامًا. وقد حفل
عهده بالعلماء الأعلام فى مجالات المعرفة المختلفة.
المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق:
تولى الخلافة بعد وفاة عمه «المعتمد»، وكان قوى الشخصية؛ فحفظ
هيبة الخلافة، كما كانت فى عهد أبيه «الموفق» وعمه «المعتمد»،
يقول «السيوطى»: كان «المعتضد» شهمًا جلدًا، موصوفًا بالرُّجلة
(أى الشجاعة)، وقد خاض الحروب وعُرف فضله، فقام بالأمر أحسن
قيام، وهابه الناس ورهبوه أحسن رهبة، وسكنت الفتن فى أيامه
لفرط هيبته، وكانت أيامه طيبة كثيرة الأمن والرخاء.
وقد تمكن «المعتضد» خلال حكمه الذى دام عشر سنوات من تهيئة
المزيد من القوة والاستقرار للدولة العباسية، فقضى على مصادر
الفتن والثورات، وأخمد ثورة «بنى شيبان» بأرض الجزيرة سنة(3/37)
(280هـ= 893م)، وثورة «حمدان بن حمدون» - رأس الأسرة الحمدانية -
بالموصل، واستولى على قلعة «ماردين» التى كان يتحصن بها سنة
(281هـ= 894م)، كما قضى على ثورة الخوارج فى «الموصل» بزعامة
«هارون بن عبدالله الشارى» الذى وقع فى الأسر، وأمر «المعتضد»
بضرب عنقه سنة (283هـ=896م)، ومن أخطر الحركات التى شهدها
عصر «المعتضد»:
- حركة القرامطة:
وترجع بداية هذه الحركة إلى عام (278هـ= 891م) قبل تولِّى
«المعتضد» الخلافة بعام، حين قدم إلى «الكوفة» رجل اسمه
«حمدان» ولقبه «قَرْمَط»، تظاهر بالعبادة والتقشف والدعوة إلى إمام
من آل البيت، فلقيت دعوته صدى كبيرًا عند أنصار آل البيت، وحين
خمدت سيطرته الروحية عليهم أخذ يبث فيهم أفكارًا غريبة عن
الإسلام، منها: الشهادة بأن «أحمد بن محمد بن الحنفية» رسول الله،
وأن القبلة إلى بيت المقدس، وأن النبيذ حرام والخمر حلال، وغير ذلك
من الأفكار الشاذة.
وقد اشتد خطر هذه الحركة بعد ظهور زعيمها «أبى سعيد الجنَّابى»
فى «البحرين» سنة (286هـ= 899م)؛ حيث استطاع بسط سلطانه على
«البحرين» و «هجر»، وكسب أنصارٍ كثيرين له فى المناطق التى
ينتشر فيها التشيع.
وقد تحولت «البحرين» إلى مركز رئيسى للقرامطة، خرجت منه
حملاتهم الحربية فى اتجاه «العراق» و «الحجاز» و «الشام»؛ لنشر
أفكارهم الهدامة التى تهدف إلى هدم كيان المجتمع الإسلامى،
وبسط نفوذهم بواسطة خداع العامة بمبادئ وشعارات براقة،
كالعدالة والمساواة والبساطة، ومساعدة الآخرين، ولم تدرك الخلافة
العباسية مدى الخطورة التى تنطوى عليها هذه الحركة، ووجهت
جهودها الحربية إلى حركات أخرى تبدو أكثر منها خطورة، مثل
الحركة الصفارية والطولونية وغيرهما، ومن هنا لم تظفر هذه الحركة
من الخليفة «المعتضد» - الذى عاصر بدايتها الأولى - بما تستحقه من
اهتمام.
انتقال عاصمة الخلافة إلى بغداد:
ظلت مدينة «سامراء» أو «سر من رأى» عاصمة الخلافة العباسية منذ(3/38)
حوالى سنة (221هـ= 836م) - فى خلافة «المعتصم بالله» - إلى أوائل
خلافة «المعتضد» الذى بنى «القصر الحسنى» ببغداد، وقرر انتقال
عاصمة الخلافة إليها سنة (280هـ= 893م) ..
وفاة المعتضد:
تُوفِّى «المعتضد» فى ربيع الآخر سنة (289هـ= 902م)، وكان
عصره يموج بالحركة العلمية والدينية والأدبية، فقد عاش فى عصره
عدد من العلماء والأدباء البارزين.
(8) المكتفى بالله على بن المعتضد:
تولى الخلافة فى (ربيع الآخر سنة 289هـ= مارس سنة 902م) عقب
وفاة أبيه، وعمره خمس وعشرون سنة، ورغم أنه كان حسن السيرة
محبوبًا لدى الرعية فإنه لم يكن يتمتع بما كان يتمتع به أبوه
«المعتضد»، من قوة الشخصية والحزم، فكانت خلافته تمهيدًا لعودة
الأمور إلى أوضاعها السابقة، وفترة انتقالية بين «صحوة الخلافة»
وانتكاستها.
وقد شهد عهد «المكتفى» أحداثًا كثيرة، منها: ازدياد خطر القرامطة
وتهديدهم للشام و «الحجاز» و «اليمن»، وقد جرت على يد زعيمهم
«زكرويه بن مهرويه» مذابح بشعة ضد حجاج بيت الله الحرام وعامة
الناس، ونشروا الفزع فى أنحاء العالم الإسلامى، واستطاع
«زكرويه» أن يهزم جيشًا للخليفة «المكتفى»، وأن يقتل منه عددًا
كبيرًا، فأعد له «المكتفى» جيشًا حشد فيه أكفأ القواد، نجح فى
قتل «زكرويه» وكثيرًا من أتباعه عام (294هـ= 907م)، وتتبعهم فى
«العراق»، ولكنه لم يستطع القضاء عليهم تمامًا، فظلوا من بعده
مصدر خطر مؤكد على كيان الخلافة.
ومما شهده عصر «المكتفى» أيضًا من أحداث: تولية «المكتفى»
«أبى الهيجاء عبدالله بن حمدان التغلبى» ولاية «الموصل» والبلاد
التابعة لها سنة (293هـ=906م)، وكان ذلك مقدمة لاستقلال الحمدانيين
بالموصل - فيما بعد - وضمهم «حلب» إليها، ونشأة «الأسرة
الحمدانية».
وفاة المكتفى:
تُوفِّى «المكتفى» وفاة طبيعية فى (ذى القعدة سنة 295هـ= أغسطس
سنة 908م)، وترك خزانة الدولة ممتلئة بالأموال، وقد أرجع المؤرخون(3/39)
ذلك إلى الجهد الذى بذله أبوه «المعتضد» فى جلب أسباب الاستقرار
الاقتصادى إلى الدولة، وحسن سيرة «المكتفى بالله».
(9) المقتدر بالله جعفر بن المعتضد:
تولى الخلافة بعد أخيه «المكتفى» بعهد منه فى (ذى القعدة سنة
295هـ= أغسطس سنة 908م)، وكان صبيا فى الثالثة عشرة من
عمره، ولم يلِ الخلافة قبله أصغر منه.
أثار تولى «المقتدر» الخلافة اعتراض كثير من رجال الدولة بسبب
صغر سنه، وعدم قدرته على الاضطلاع بشئون الخلافة مع وجود
الأقدر منه على تحمل المسئولية، خاصة «عبد الله بن المعتز» الشاعر
المعروف بتمام العقل وجودة الرأى، فاتفق رأى عدد منهم على خلع
«المقتدر» وتولية «عبدالله بن المعتز»، وكان عمره نحو تسعة
وأربعين عامًا، وعندما عرضوا الأمر على «ابن المعتز» وافق بشرط
ألا يسفك دم أو تنشب حرب، فأخبروه أن الأمر يُسلَّم إليه عفوًا، وأن
جميع من وراءهم من الجند والقواد والكُتَّاب قد رضوا به فبايعهم على
ذلك، وتمت البيعة لابن المعتز فى (19من ربيع الأول سنة 296هـ=
نوفمبر سنة 908م)، ولقب بالراضى بالله، ولكن أنصار «المقتدر» -
وعلى رأسهم «مؤنس الخادم» - لم يرضوا بهذه البيعة، وتوجهوا نحو
«ابن المعتز» وأنصاره وقبضوا عليهم وفتكوا بهم وأعادوا تنصيب
«المقتدر» فى اليوم التالى لبيعة «ابن المعتز»، الذى لم يمكث فى
الخلافة إلا يومًا أو بعض يوم، ولهذا يتجاهله المؤرخون عند ذكرهم
قائمة خلفاء «بنى العباس».
وقد تدهورت الأوضاع فى عهد «المقتدر»، وانتشرت الفتن وازداد
تمزق الدولة، وأصبحت الخلافة نهبًا للطامعين بسبب صغر سنه،
وأفلت زمام الأمور من يده، وتحكم النساء والخدم فى شئون البلاد،
فكانت «أم المقتدر» وتسمى «شغب» تولِّى من تشاء وتعزل من
تشاء، كما كان «مؤنس الخادم» صاحب مكانة متميزة وخطيرة فى
عهد «المقتدر».
وقد ازداد خطر القرامطة اتساعًا وعنفًا فى عهد «المقتدر»، ووصل
مداه سنة (317هـ= 929م)، حينما دخلوا «مكة» بقيادة «أبى طاهر(3/40)
القرمطى» وقتلوا الحجاج فى المسجد الحرام، واستولوا على
الحجر الأسود وأخذوه إلى مركزهم الرئيسى «هَجَر» حتى تم رده
إلى مكانه فى عهد «المطيع» سنة (339هـ = 950م).
بداية ظهور الفاطميين:
ومن أهم الأحداث فى عهد «المقتدر» بداية ظهور العُبيديين أو
الفاطميين فى «شمالى إفريقيا» ..
ويرجع الفضل فى قيام «الدولة الفاطمية» إلى «أبى عبدالله الحسين
بن أحمد»، المعروف بأبى عبدالله الشيعى، أحد دعاة الفاطميين
البارزين فى المغرب وكان يعرف أحيانًا باسم «المحتسب»؛ لأنه كان
مراقبًا لأسواق «البصرة» بالعراق قبل انتقاله إلى «المغرب».
وقد تمكن «أبو عبدالله الشيعى» من القضاء على «دولة الأغالبة»
فى «المغرب»، والاستيلاء على عاصمتهم «رقادة» سنة (296هـ=
909م)، وتم تنصيب أول إمام من أئمة الفاطميين وهو «عبيد الله
المهدى» - وكنيته «أبو محمد» - الذى قيل إنه من سلالة الإمام
«الحسين بن على بن أبى طالب».
وقد تلقب «عبيدالله المهدى» بأمير المؤمنين، وبنى مدينة «المهدية»
عاصمةً له، وانتقل إليها من «رقادة» سنة (308هـ= 920م)، وقد نجح
الفاطميون فى الاستيلاء على «مصر» سنة (358هـ= 969م)، فى عهد
الخليفة الفاطمى «المعز لدين الله».
قيام دولة بنى حمدان:
ومن الأحداث المهمة التى شهدها عهد «المقتدر» - أيضًا - قيام دولة
«بنى حمدان» فى «الموصل»، فقد استمر «أبو الهيجاء عبدالله بن
حمدان» يحكم «الموصل» والبلاد التابعة لها من قِبل الخليفة
«المكتفى» حتى وفاته سنة (317هـ= 929م)، فورثه ابنه «حسن»
الملقب «ناصر الدولة» على ولاية «الموصل»، واستطاع أن يمد
سلطانه إلى «ديار ربيعة» و «مضر» بأرض الجزيرة، وقد اتسع نفوذ
الحمدانيين وملكهم بعد وفاة الخليفة «المقتدر»، ونجحوا فى بسط
سلطانهم على «حلب» و «شمال الشام» سنة (333هـ= 945م) بقيادة
زعيمهم المعروف «سيف الدولة الحمدانى»، الذى قال فيه «المتنبى»
أروع قصائد المديح.(3/41)
وقد أسهم أمراء «بنى حمدان» وفى مقدمتهم «سيف الدولة
الحمدانى» فى صد غارات الروم (البيزنطيين) عن مناطق الثغور
الإسلامية، وفى رعاية الحركة العلمية والأدبية التى بلغت فى عهدهم
مركزًا مرموقًا.
وفاة المقتدر بالله:
ساءت العلاقة بين «المقتدر بالله» وخادمه «مؤنس الخادم»؛ مما أدى
إلى مقتله على يد أنصار «مؤنس» فى أواخر شوال سنة (320هـ=
932م)، بعد أن ظل فى الحكم خمسًا وعشرين سنة، هى أطول مدة
يقضيها خليفة عباسى فى الحكم حتى عصره.
ورغم تدهور أحوال البلاد السياسية فى عهد «المقتدر» فإن الحياة
العلمية قد شهدت ازدهارًا ملحوظًا فى هذا العصر. وبمقتل «المقتدر»
دخل عصر نفوذ الأتراك مراحله الأخيرة.
(10) القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد:
تولى الخلافة فى شوال سنة (320هـ= 932م)، عقب مقتل «المقتدر»،
وعمره ثلاث وثلاثون سنة.
وقد اتصف «القاهر» بالغلظة وقلة التثبت، ورغم أنه نجح فى التخلص
من «مؤنس الخادم»، صاحب النفوذ الأكبر فى عهد «المقتدر»، ومن
غيره من أعيان الدولة فإن سوء سياسته كان سببًا فى تدبير
الانقلاب عليه والإطاحة به.
وقد لعب الوزير المشهور «أبو على بن مقلة» الدور الأساسى فى
خلع «القاهر» والتنكيل به، لخوفه منه واعتقاده أنه كان يدبر للقضاء
عليه، فهاجم أعوانه الخليفة «القاهر» فى دار الخلافة وقبضوا عليه
وسملوا عينيه وعذبوه وأعلنوا خلعه فى الثالث من جمادى الأولى
سنة (322هـ= 934م).
ولعل من أبرز التطورات السياسية التى شهدها عهد «القاهر» - رغم
قصره - ظهور النفوذ البويهى فى بلاد فارس سنة (321هـ= 933م)،
وكان ذلك مقدمة لامتداد نفوذهم إلى «العراق» وسيطرتهم على
مقاليد الأمور هناك فى سنة (334هـ= 945م)، لتبدأ مرحلة جديدة فى
تاريخ الخلافة العباسية فى عصرها الثانى، كما سنبين بعد قليل.
(11) الراضى بالله أبو العباس محمد بن المقتدر:
بايع الجند «الراضى بالله» فى السادس من جمادى الأولى سنة(3/42)
(322هـ) وعمره خمسة وعشرون عامًا، وقد كان من خيار الخلفاء،
فاضلاً سمحًا جوادًا، شاعرًا محبا للعلماء.
ورغم ما كان يتحلى به «الراضى» من صفات حميدة فإن أمر الخلافة
قد اختل فى عهده اختلالاً خطيرًا، وازداد تمزق الدولة واستفحل نفوذ
المتطلعين للسيطرة على زمام الأمور؛ فقد ازداد نفوذ البويهيين فى
فارس وتطلعوا للاستيلاء على «العراق»، وتمتع «بنو حمدان» بنفوذ
مطلق فى «الموصل» و «ديار بكر» و «ربيعة» و «مضر»، واستقلت
«الدولة الإخشيدية» فى «مصر» و «الشام» عن الخلافة العباسية،
وكذلك «الدولة السامانية» فى «خراسان» و «ما وراء النهر» بزعامة
«نصر بن أحمد السامانى»، وأصبح للأمويين خلافة مستقلة فى
«الأندلس» تحت حكم «عبدالرحمن الثالث» الأموى الملقب بالناصر (300
- 350هـ= 913 - 961م)، وسيطر القرامطة بزعامة «أبى طاهر
القرمطى» على «البحرين»» و «اليمامة».
- ظهور منصب أمير الأمراء:
وتدهورت الأوضاع فى أوائل عهد «الراضى» تدهورًا كبيرًا، بسبب
عجز الوزراء وازدياد نفوذ كبار القواد وتدخلهم فى شئون الدولة،
وكان «محمد بن رائق» والى «واسط» و «البصرة» واحدًا من أبرز
هؤلاء القواد وأكثرهم نفوذًا وتأثيرًا، فاختاره الخليفة «الراضى»
ليقوم بمهمة إنقاذ الخلافة من التدهور الإدارى الحاد الذى تعانى منه،
وأسند إليه منصب «أمير الأمراء» فى عام (324هـ= 936م).
وقد أصبح «محمد بن رائق» بمقتضى هذا المنصب الخطير الذى لم
يظهر قبل ذلك على مسرح الأحداث السياسية فى الدولة الإسلامية،
القائد الأعلى للجيش، والمسئول عن إدارة شئون الدولة والخراج،
وأصدر الخليفة «الراضى» أمرًا بأن يُخطَب لابن رائق على جميع
المنابر فى جميع النواحى الخاضعة للخلافة، وبذلك تحولت الخلافة
إلى منصب شرفى، وأصبح شاغل منصب «أمير الأمراء» هو الحاكم
الفعلى للبلاد؛ مما جعل كبار رجال الدولة أمثال «أبى عبدالله
البريدى» صاحب «الأهواز»، و «بَجْكم التركى»، و «ناصر الدولة بن(3/43)
حمدان» صاحب «الموصل»، و «توزون التركى» رئيس الشرطة
وغيرهم، يتصارعون للوصول إليه، حتى جاء البويهيون فسيطروا
على زمام الأمور ووضعوا حدا لهذا الصراع.
وقد تُوفِّى الخليفة «الراضى بالله» وفاة طبيعية فى (منتصف ربيع
الأول سنة 329هـ= ديسمبر سنة 940م)، بعد أن فقد السيطرة على
مقاليد الأمور بصورة تكاد تكون كاملة.
(12) المتقى لله أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر:
تولى الخلافة فى (ربيع الأول سنة 329هـ= ديسمبر سنة 940م) بتدبير
أمير الأمراء «بَجْكم التركى» وكاتبه «أبى عبدالله الكوفى»، وكان
عمره حينئذٍ أربعًا وثلاثين سنة.
وقد كانت خلافة «المتقى» القصيرة (329 - 333هـ= 940 - 944م)
سلسلة من الصراع بين كبار رجال الدولة على منصب أمير الأمراء، مما
أضاف مزيدًا من الاضطراب والفوضى إلى الأوضاع الداخلية، وفقد
«المتقى» سيطرته على زمام الأمور، فقام أمير الأمراء «توزون
التركى» بسمل عينيه وخلعه، وبذلك انتهت خلافته فى (صفر سنة
333هـ=سبتمبر سنة 944م).
(13) المستكفى بالله وانتهاء عصر نفوذ الأتراك:
تمت بيعته بالخلافة فى (صفر سنة 333هـ = سبتمبر سنة 944)
بحضور أمير الأمراء «توزون التركى» وإشرافه، وعمره واحد
وأربعون عامًا ولم يكن له أدنى سلطة فى إدارة شئون البلاد، بل
استمر زمام الأمور فى يد أمير الأمراء «أبى الوفاء توزون التركى»،
وكاتبه «أبى جعفر بن شيرزاد»، وكان من أبرز الأحداث التى
شهدتها خلافة «المستكفى بالله» امتداد سلطان الحمدانيين بقيادة
«سيف الدولة الحمدانى» على «حلب» و «حمص» اللتين كانتا تحت
سيطرة الإخشيديين.
وتدهورت الأحوال الداخلية فى عهد «المستكفى» بشكل غير
مسبوق؛ مما أدى إلى تطلع البويهيين - أصحاب النفوذ فى بلاد
فارس - منذ سنة (321هـ= 933م) إلى بسط سلطانهم على «العراق»،
وقد نجحوا فى ذلك سنة (334هـ= 945م)، لتبدأ مرحلة جديدة فى
تاريخ العصر الثانى للخلافة العباسية، عُرفت فيما بعد باسم «عصر
نفوذ البويهيين».(3/44)
الدول التى استقلت عن الخلافة العباسية فى عصر نفوذ الأتراك:
لم ينحصر ظهور الحركات الاستقلالية فى عصر نفوذ الأتراك، بل
ظهرت هذه الحركات منذ فجر الخلافة العباسية، فاستقل «عبدالرحمن
الداخل» بالأندلس سنة (138هـ= 755م) فى عهد «أبى جعفر
المنصور»، وقامت «دولة الأدارسة» فى «المغرب الأقصى» على يد
«إدريس بن عبدالله»، و «دولة الأغالبة» على يد «إبراهيم بن الأغلب»
فى «تونس»، فى عهد «هارون الرشيد».
وفى خلافة «المأمون» تأسست «الدولة الطاهرية» فى «خراسان»
على يد «طاهر بن الحسين» قائد «المأمون» المشهور، وكانت دولتا
الأغالبة، والطاهرية تدينان بالولاء الأسمى للخليفة العباسى، وقد
مرت إشارات سريعة إلى الدول التى استقلت عن الخلافة فى عصر
نفوذ الأتراك وهى: «الدولة الصفَّارية»، و «السامانية» و «الطولونية»
و «الإخشيدية» و «الحمدانية» و «دولة القرامطة»، و «الدولة الفاطمية»،
و «البويهية».
وفيما يلى نبذة مختصرة عن أهم هذه الدول:
1 - الدولة الصفارية (254 - 289هـ= 868 - 902م):
أسسها «يعقوب بن الليث الصفَّار» فى بلاد «فارس» و «خراسان»
على أنقاض «الدولة الطاهرية»، فى عهد «المعتز بالله» (252 -
255هـ) بعد أن أظهر كفاءة ملحوظة فى محاربة الخارجين على
الخلافة والتخلص من الطاهريين بإذن من الخليفة العباسى «المعتز
بالله».
واستطاع «يعقوب بن الليث» أن يضم إلى «الدولة الصفارية» كثيرًا
من الأماكن التى استطاع السيطرة عليها فى بلاد «فارس»
و «خراسان» وأعلن ولاء دولته - فى البداية - للخلافة العباسية.
وعندما تولى «المعتمد على الله» الخلافة، أصر أخوه «الموفق»
على أن يكون ولاء «الدولة الصفارية» للخلافة ولاءً تاما لا صوريا، إلا
أن «يعقوب بن الليث» رفض ذلك، وتدهورت العلاقة بين الطرفين،
وهدد «يعقوب» بدخول عاصمة الخلافة وبسط سلطانه عليها، مما
أدى إلى حدوث صدام مسلح بين «الدولة الصفارية»، والخلافة فى(3/45)
منطقة «واسط» بالعراق، وكان لظهور الخليفة العباسى «المعتمد»
على رأس جيش الخلافة أثر كبير فى هزيمة «يعقوب بن الليث»،
ورغم هزيمته فقد استمر فى تحدى الخلافة ورفض التفاهم معها حتى
تُوفى فى «جنديسابور» سنة (265هـ= 879م) ثم تولى رئاسة «الدولة
الصفارية» بعد وفاة «يعقوب بن الليث» أخوه «عمرو بن الليث»،
الذى كان حريصًا على كسب ود الخلافة حتى يؤكد سلطانه الروحى
فى بلاده، فاعترف به الخليفة «المعتمد» واليًا على «خراسان»
و «السِّند» و «سجستان» و «كرمان» و «فارس» و «أصبهان»، وعندما
تولى «المعتضد» الخلافة بعد وفاة عمه «المعتمد» أقر «عَمْرًا» على
ما فى يده.
وقد نشط «عمرو» فى توسيع حدود دولته وتطلع إلى غزو بلاد «ما
وراء النهر»، حيث «الدولة السامانية»، وعبر نهر «جيحون» ولكن
السامانيين تصدوا له بقيادة زعيمهم «إسماعيل بن أحمد السامانى»
وهزموه، وأخذوه أسيرًا إلى الخليفة «المعتضد» الذى سجنه حتى
مات فى سجنه سنة (287هـ= 900م)، وقد تولى زعامة الصفاريين بعد
هزيمة «عمرو» وأسره حفيده «طاهر بن محمد بن عمرو»، ولكن
أحوال الصفاريين تدهورت بشدة خلال هذه الفترة نتيجة الهجمات
المتلاحقة التى شنها عليهم السامانيون، وسقطت دولتهم سنة
(289هـ= 902م).
وقد لاحظ المؤرخون أن قادة هذه الدولة اتبعوا فى حياتهم مبدأ
العدالة والمساواة والأخوة، والبعد عن مظاهر الترف، فكانت حياة
رئيس الدولة لا تكاد تختلف فى مظهرها عن حياة أحد جنوده، وكان
العطاء يوزع بالإنصاف والعدل، وقد ازدهر اقتصاد الدولة نتيجة البعد
عن إنفاق الأموال فى غير وجوهها، فيروى أن «يعقوب ابن الليث»
ترك فى خزانة الدولة عند وفاته ثمانين مليون دينار وخمسين مليون
درهم، ولكن يؤخذ عليه اعتداده بقوته وطاعة جنده فتمرد على
الخلافة وحاول الاستقلال عنها؛ مما زعزع ثقتها به وكان له آثاره
السلبية فى تماسك الدولة واستمرارها.
2 - الدولة السامانية [261 - 389هـ= 875 - 999م]:(3/46)
ظهر السامانيون على المسرح السياسى لدولة الخلافة العباسية فى
عصر الخليفة «المأمون» (198 - 218هـ= 813 - 833م)، وسموا بذلك
نسبة إلى قرية «سامان» القريبة من «سمرقند»؛ حيث كانوا
يتوارثون إمارتها، ويسمى أميرهم «سامان خداه»، أى كبير قرية
«سامان» وصاحبها.
وقد اعتنق أحد السامانيين الإسلام أثناء خلافة الأمويين، وسمى ابنه
«أسدًا»، كاسم حاكم «خراسان» فى عهد «هشام بن عبدالملك»،
واسمه «أسد بن عبدالله القسرى».
وطال العمر بأسد السامانى حتى أدرك «المأمون»، فذهب إليه فى
«مرو»، قبل انتقاله إلى «بغداد» (فى الفترة من سنة 193هـ= 809م
إلى سنة 202هـ = 817م)، ومعه أبناؤه الأربعة: «نوح» و «أحمد»،
و «إلياس»، و «يحيى»، فاحتفى بهم «المأمون» وألحقهم بخدمته.
وبعد انتقال «المأمون» إلى «بغداد» أمر بإسناد عمل إلى كل واحد
من أبناء «أسد السامانى»، فتم إسناد حكم «سمرقند» إلى «نوح»،
وحكم «فرغانة» إلى «أحمد»، وحكم «الشاش» إلى «يحيى»، وحكم
«هراة» إلى «إلياس»، فكان هذا مقدمة لتمكن نفوذ السامانيين فى
هذه المناطق المعروفة باسم «بلاد ما وراء النهر» (نهر جيحون) ..
وقد برز «أحمد بن أسد» حاكم «فرغانة» على إخوته، وكان له
سبعة أبناء هم «نصر» و «يحيى» و «يعقوب» و «إسماعيل»
و «إسحاق» و «أسد» و «حميد»، وعند وفاته سنة (250هـ= 864م) حل
محله ابنه الأكبر «نصر»، ودان له باقى إخوته بالطاعة والولاء.
وفى سنة (261هـ= 875م) حدَث التحول الحاسم فى تاريخ
السامانيين، حينما أسند الخليفة «المعتمد على الله» ولاية جميع بلاد
«ما وراء النهر» إلى «نصر بن أحمد بن أسد السامانى»، فأقام
«نصر» فى «سمرقند»، وعين أخاه «إسماعيل» نائبًا عنه ببخارى
وعهد إلى كل أخ من إخوته الباقين بحكم إحدى الولايات، مما يمكن
معه اعتبار عام (261هـ= 875م) بداية تكوُّن «الدولة السامانية».
وعقب وفاة «نصر بن أحمد» فى «سمرقند» عام (279هـ= 892م) ضم(3/47)
أخوه «إسماعيل» «سمرقند» إلى ملكه، وأصبح هو الحاكم الأعلى
لكل بلاد «ما وراء النهر»؛ لذلك يرى بعض المؤرخين أن «إسماعيل
بن أحمد بن أسد السامانى» هو المؤسس الحقيقى للدولة السامانية؛
حيث خضع له سائر الأمراء السامانيين، ووسع حدود الدولة، فضم لها
«خراسان» ومعظم البلاد التى كانت خاضعة لنفوذ «الدولة الصفارية»،
وبلغت «الدولة السامانية» قمة مجدها فى عهده (من 279 - 295هـ=
892 - 908م) ثم فى عهد حفيده «نصر بن أحمد بن إسماعيل» (301 -
331هـ= 913 - 943م) وبدأت «الدولة السامانية» تتدهور منذ عهد
«نوح بن نصر» (331 - 343هـ= 943 - 954م)، حتى سقطت فى يد
الغزنويين سنة (389هـ= 999م) ..
وقد كانت «الدولة السامانية» ملتزمة بمذهب أهل السنة، وكانت
علاقتها بالخلافة العباسية علاقة احترام وإجلال؛ حيث كان أمراؤها
يعدون أنفسهم نوابًا عن الخليفة. وقد ازدهرت الحياة العلمية فى
عصر السامانيين، وكانت «بخارى»، و «سمرقند» تنافسان «بغداد»
فى مكانتها العلمية والأدبية، بسبب تشجيع الأمراء السامانيين للعلم
وحبهم للعلماء، فقد سمح الأمير السامانى «أبو القاسم نوح بن
منصور» (نوح الثانى) لابن سينا باستخدام مكتبة قصره، كما قام
الطبيب والفيلسوف المشهور «أبو بكر الرازى» (251 - 313هـ= 865 -
925م) بإهداء كتابه المعروف فى الطب «المنصورى» إلى الأمير
السامانى «أبى صالح منصور بن إسحاق» أمير «سجستان».
وقد شهد الأدب الفارسى أيضًا عصره الذهبى خلال حكم السامانيين،
وعاش الشاعر الفارسى المعروف «الفردوسى» شطرًا من حياته فى
عصر «الدولة السامانية».
3 - دولة بنى حمدان فى الموصل وحلب (293 - 392هـ= 906 - 1002م):
ينتمى الحمدانيون إلى «حمدان بن حمدون بن الحارث» من قبيلة
«تغلب»، وقد ظهر نفوذ «حمدان» فى شمال «العراق» سنة (254هـ)
أثناء خلافة «المعتز بالله»، وتعاون مع خوارج الجزيرة فى شمال
«العراق»، واستطاع أن يسيطر على بعض المواقع الحصينة هناك،(3/48)
وأهمها «قلعة ماردين»، ولكن الخليفة «المعتضد بالله» استطاع
استردادها، وقبض على «حمدان» وسجنه.
تعهد «حسين بن حمدان» بالطاعة والولاء للخليفة «المعتضد»
وساعده فى حربه ضد الخوارج حتى هزمهم، فقربه الخليفة وعفا عن
والده «حمدان بن حمدون».
وفى خلافة «المكتفى بالله» (289 - 295هـ= 902 - 908م) تعاظمت
مكانة «حسين بن حمدان» وقام بدور بارز فى الحرب ضد القرامطة
وفى الحملة التى جهزها العباسيون لاسترداد «مصر» من يد
الطولونيين فى سنة (292هـ= 905م).
وقد شارك «حسين بن حمدان» فى المؤامرة الفاشلة التى دبرها
أنصار «ابن المعتز» لخلع «المقتدر»، وهرب حتى عفا عنه «المقتدر»
وأسند إليه ولاية بعض البلاد وأهمها «ديار ربيعة» بالجزيرة سنة
(298هـ= 911م)، إلا أنه حدث بينه وبين «على بن عيسى» وزير
«المقتدر» نزاع انتهى بالقبض عليه، وقتله فى سجنه سنة (306هـ=
918م) ..
ورغم أن «حسين بن حمدان» كان من أعظم الأمراء بأسًا وشجاعة،
وكان أول من ظهر أمره من ملوك «بنى حمدان» فإن أخاه «أبا
الهيجاء عبدالله بن حمدان» كان أعمق تأثيرًا وأوسع نفوذًا فى
تاريخ الأسرة الحمدانية، وقد ولاه الخليفة «المكتفى» إمارة
«الموصل» وتوابعها سنة (293هـ= 906م)، ويعد «أبو الهيجاء عبدالله
بن حمدان» المؤسس الحقيقى لمملكة الحمدانيين فى «الموصل»، التى
ظل حاكمًا لها إلى أن قتل سنة (317هـ= 929م) عقب اشتراكه فى
المؤامرة الفاشلة لخلع الخليفة «المقتدر»، وقد خلفه ابنه «حسن»
الملقب بناصر الدولة، واستطاع أن يمد سلطانه على أقاليم الجزيرة
الثلاثة: «ديار ربيعة»، و «ديار مضر» و «ديار بكر»، بإذن من الخليفة
«الراضى»، حتى أقعدته الشيخوخة، فخلفه على الحكم ابنه «فضل
الله أبو تغلب الغضنفر» سنة (353هـ= 964م) ..
وقد دخل «ناصر الدولة» وابنه «أبو تغلب الغضنفر» فى صراع طويل
مع البويهيين، أصحاب السلطة فى «العراق» منذ سنة (334هـ =(3/49)
945م)، وانتهى هذا الصراع بهزيمة «أبى تغلب الغضنفر» أمام «عضد
الدولة البويهى» سنة (368هـ= 979م)، وانتهت بذلك مملكة الحمدانيين
فى «الموصل» و «الجزيرة».
أما «الدولة الحمدانية» فى «حلب»، فقد أسسها «على بن أبى
الهيجاء عبدالله بن حمدان»، الملقب بسيف الدولة؛ حيث استطاع
بمعاونة أخيه الأكبر «ناصر الدولة» انتزاع «حلب» من الإخشيديين
سنة (333هـ= 944م)، ثم استطاع بعد ذلك أن يبسط سلطانه على
«حمص» و «قنسرين» و «العواصم» وبعض بلاد «الجزيرة» سنة
(336هـ= 947م) ..
وقد قام «سيف الدولة الحمدانى» بمهمة جليلة أثناء حكمه الذى
استمر حتى سنة (356هـ= 967م)، وهى حماية حدود دولة الخلافة من
غارات الروم (البيزنطيين) المتواصلة، بعد أن ضعفت الخلافة المركزية
عن القيام بهذه المهمة المقدسة.
وكان «سيف الدولة الحمدانى» أديبًا شاعرًا، فجمع حوله العلماء
والأدباء، مثل «أبى نصر الفارابى»، و «ابن خالويه»، و «أبى الطيب
المتنبى»، و «أبى فراس الحمدانى» و «ابن نباتة» و «السَّرىّ الرَّفَّاء»،
وغيرهم.
وتُوفِّى «سيف الدولة» سنة (356هـ= 967م)، وخلفه فى الحكم ابنه
«أبو المعالى شريف» المعروف بسعد الدولة، وضعفت فى عهده
سلطة الحمدانيين فى «الشام»؛ لكثرة الضغوط التى تعرض لها من
البيزنطيين والبويهيين فى «العراق»، والفاطميين فى «مصر» بغرض
الاستيلاء على «الشام».
وتُوفِّى «سعد الدولة» سنة (381هـ= 991م)، وتولَّى بعده ابنه «أبو
الفضائل سعيد الدولة»، الذى تعرض لضغوط الفاطميين المتزايدة لضم
«الشام» إلى «مصر»، فتحالف مع البيزنطيين لصد هجمات الفاطميين
عليه، ثم انتهت إمارته بمقتله سنة (392هـ= 1002م) على يد وزيره
«لؤلؤ الحاجب»، وانتهت بذلك «الدولة الحمدانية» فى «الشام» الذى
أصبح خاضعًا لسلطان الفاطميين.
وقد كان الحمدانيون يميلون إلى التشيع، وكانت علاقتهم بالخلافة
العباسية تتأرجح بين الرضا، والسخط، والتوجس.
4 - دولة بنى بويه قبل انتقالها إلى بغداد:(3/50)
ينتسب البويهيون إلى «أبى شجاع بويه» الذى نشأ فى «بلاد
الديلم» التى تقع جنوبى غربى «بحر قزوين» أو «بحر الخزر» بين
منطقتى «طبرستان» و «الجبال». وكانت هذه البلاد معقلاً لنفوذ
العلويين، فانتشر فيها التشيع.
ورغم أن «أبا شجاع بويه» كان فقيرًا فإنه كان يتحلى بروح
المغامرة والشجاعة، كما تشرب الروح الشيعية التى كانت سائدة
فى «بلاد الديلم».
وقد انضم «أبو شجاع» إلى العلويين فى صراعهم مع السامانيين،
ومع ذلك فلم يكن هو المؤسس الحقيقى لأسرة «بنى بويه»، وإنما
كان أبناؤه الثلاثة «على»، و «حسن»، و «أحمد» هم الذين قاموا
بذلك، فقد التحق أبناؤه بخدمة «ماكان بن كاكى» أحد القواد
البارزين المناصرين للداعية الشيعى «الحسن بن على»، الملقب
بالأطروش، وأبرزوا تميزًا فى خدمته فارتقوا من مرتبة الجنود إلى
رتبة القادة، ثم حدث صراع بين «ماكان» و «مرداويج بن زيار» أحد
القادة الفرس فى منطقة «الديلم»، وأحس أبناء «بويه» أن كفة
«مرداويج» هى الراجحة فى هذا الصراع، فانضموا إليه، فيما بين
عامى (316و317هـ= 928 و 929م)، وكان ذلك بداية تمكن نفوذهم
فى فارس والمناطق المحيطة بها.
وقد ظهر «بنو بويه» - أو البويهيون - على مسرح الأحداث فى أواخر
عصر نفوذ الأتراك، فبدءوا منذ عام (321هـ= 933م) يؤسسون لأنفسهم
مناطق نفوذ تخضع لسيطرتهم التامة، فاستولوا على «فارس»،
و «شيراز» و «أصبهان»، و «الرى»، و «همذان» و «الكرج»
و «كرمان»، وأغراهم ذلك على التطلع إلى مد نفوذهم إلى «العراق»
موطن الخلافة العباسية.
وقد ساعدهم على ذلك تضاؤل النفوذ التركى، واشتداد الصراع على
منصب «أمير الأمراء» الذى ابتدعه الخليفة «الراضى بالله» سنة
(324هـ= 936م)، مما أدى إلى تمزق الكلمة وضعف الجبهة التى يمكن
أن تحمى دار الخلافة فلم يجد «أحمد بن بويه» أى صعوبة فى دخول
«بغداد» والسيطرة عليها بدون قتال فى (الحادى عشر من جمادى
الأولى سنة334هـ = يناير سنة 946م) ..(3/51)
الفصل الخامس
*عصر نفوذ البويهيين
[334 - 447 هـ = 945 - 1055م]
عندما دخل «أحمد بن بويه» «بغداد» فى جمادى الأولى سنة (334هـ =
ديسمبر سنة 945م) كان «المستكفى بالله» هو الخليفة العباسى، ولم
يكن أمامه إلا أن يظهر الترحيب به، بل إنه زاد على ذلك فخلع عليه
الخُلَع ولقبه «معز الدولة»، كما لقَّب أخاه «عليا» «عماد الدولة»،
وأخاه «الحسن» «ركن الدولة»، وأمر بأن تُضرَبَ ألقابهم وكُناهم
على الدنانير والدراهم، وكان «على بن بويه» حاكمًا لإقليم «فارس»،
و «الحسن ابن بويه» حاكمًا لعدة أقاليم أهمها
«الرى»،و «الجبل»،و «أصفهان»، فى حين دخل أخوهم الأصغر
«أحمد» «بغداد».
وقد تدهورت أحوال «الخلافة العباسية»، واندثرت معالمها من
الناحية الواقعية حينما سيطر البويهيون على «بغداد»، فقد جردوا
الخليفة من كل سلطاته، وعدُّوه مجرد موظف مهمته إضفاء صفة
الشرعية على سلطانهم لدى جماهير المسلمين، فحددوا له راتبه،
وسلبوه حقه فى تعيين الوزراء، وسمحوا له بأن يتخذ كاتبًا
(سكرتيرًا) فقط يشرف على أمواله.
ورغم أن البويهيين كانوا شيعة، فإنهم لم يسقطوا الخلافة العباسية
السُنِّية فى «بغداد»، ليحلوا محلها خلافة علوية شيعية تتفق مع
مذهبهم، وسبب ذلك علمهم أن وجود خليفة من العلويين يهدد ملكهم
وسلطانهم، وليس الأمر كذلك مع الخليفة السنِّى الذى يستطيعون هم
أن يفعلوا به ما يشاءون.
وقد برهن سلوك البويهيين مع الخليفة «المستكفى» على صدق ذلك،
فقبل مرور شهر على دخولهم «بغداد» دخل «معز الدولة أحمد بن
بويه» على الخليفة «المستكفى»، فوقف الناس حسب مراتبهم، فتقدم
اثنان من الديلم - وهم قوم «معز الدولة» - فمدَّ الخليفة يده إليهما ظنا
منه أنهما يريدان تقبيلها، فجذباه وطرحاه أرضًا، وجرَّاه بعمامته، ثم
هجم «الديلم» على دار الخلافة ونهبوها، وسار «معز الدولة» إلى
منزله، وساقوا الخليفة «المستكفى» ماشيًا إليه، ثم انتهت هذه
المأساة بخلع «المستكفى» وسمل عينيه.(3/52)
وإذا استبعدنا خلافة «المستكفى»، فإننا نجد أن الخلفاء الذين
شهدوا عصر نفوذ البويهيين كانوا أربعة هم:
1 - المطيع لله «أبو القاسم الفضل بن المقتدر بن المعتضد» [334 -
363هـ = 945 - 974م].
2 - الطائع لله «أبو بكر عبدالكريم بن المطيع» [363 - 381هـ= 974 -
991م].
3 - القادر بالله «أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر» [381 - 422
هـ= 991 - 1031م].
4 - القائم بأمر الله «أبو جعفر عبدالله بن القادر» [422 - 467هـ= 1031
- 1075م].
أولاً: خلافة المطيع لله:
بعد أن أمر «معز الدولة أحمد ابن بويه» بخلع «المستكفى» فى
(جمادى الآخرة سنة 334هـ= 945م)، أحضر «أبا القاسم الفضل ابن
المقتدر» وبايعه بالخلافة، ولقَّبه بالمطيع لله، وعمره - حينئذٍ- أربع
وثلاثون سنة، وحدد له «معز الدولة» راتبًا مائة دينار فى اليوم.
وقد شهدت خلافة «المطيع» أحداثًا كثيرة، أولها: نشوب الصراع بين
البويهيين فى «بغداد» بزعامة «معز الدولة» (أحمد بن بويهـ)، وبين
الحمدانيين فى «الموصل» بزعامة «ناصر الدولة» (الحسين بن
عبداللهـ)، وقد استمر هذا الصراع طويلاً فى محاولة كل منهما
الإطاحة بالآخر، وفى (المحرم سنة 335هـ = أغسطس سنة 946م) تم
الصلح بين «معز الدولة البويهى» وبين «ناصر الدولة الحمدانى» على
أن يدفع «ناصر الدولة» الخراج للبويهيين فى «بغداد» كل عام.
وفى سنة (336هـ= 947م) استطاع «معز الدولة» أن يستولى على
«البصرة» بعد هروب صاحبها «أبى القاسم عبدالله بن أبى عبدالله
البريدى» إلى القرامطة فى «هجر».
وجدير بالذكر أن «معز الدولة» كان نائبًا فى «بغداد» عن أخيه
الأكبر «عماد الدولة» (على بن بويهـ) فى «فارس»، ثم عن أخيه
الأوسط «ركن الدولة» (الحسن بن بويهـ)، عقب وفاة «عماد الدولة».
ورغم أن الخليفة العباسى كان تحت سيطرة البويهيين فإنهم كانوا
يخضعون له من الناحية الشكلية فقط.
وقد حاول البويهيون صبغ «العراق» بمذهبهم الشيعى، واتخذ «معز(3/53)
الدولة» فى سبيل ذلك خطوات بالغة الخطورة أسهمت فى إثارة
عوامل الفتنة والاضطراب داخل مجتمع «العراق»؛ ففى (ربيع الآخر
سنة 351= مايو سنة 962م) أصدر «معز الدولة» أمرًا بأن يُكتَب على
المساجد لَعْنُ «معاوية بن أبى سفيان» وغيره من الصحابة كأبى
بكر و «عمر»؛ حيث يتهمهم الشيعة بإساءة معاملتهم وغصبهم
حقوقهم، ولم يستطع الخليفة العباسى منع ذلك، وفى العاشر من
(المحرم سنة 352هـ= يناير سنة 963م) أصدر «معز الدولة» أمرًا بتوقف
الناس عن البيع والشراء فى ذلك اليوم، وإظهار البكاء والعويل،
وأمر النساء أن يخرجن حاسرات الرءوس قد شققن ثيابهن وهن
يلطمن الوجوه على «الحسين ابن على بن أبى طالب» فى ذكرى
استشهاده بكربلاء، وكان هذا أول يوم يحدث فيه ذلك ببغداد، ولم
يستطع الخليفة وأهل السنة أن يمنعوا ذلك لكثرة الشيعة ومناصرة
السلطان «معز الدولة» لهم.
وقد أحدثت هذه المظاهر الشاذة آثارها السيئة بين الناس، ففى
العاشر من (المحرم سنة 353هـ= يناير سنة 964م) - على سبيل المثال -
تم إغلاق الأسواق فى «بغداد»، وفعل الناس ما تقدم ذكره، فثارت
فتنة عظيمة بين الشيعة والسنة، أُصيب فيها كثيرون ونُهبت الأموال،
وجدير بالذكر أن هذه الممارسات التى شجعها البويهيون ماتزال
آثارها موجودة حتى الآن.
ومن أهم ما سجله «معز الدولة» من انتصارات: تخليص «عُمان» فى
(ذى الحجة سنة 355هـ = نوفمبرسنة 966م) من يد القرامطة الذين
كانوا قد استولوا عليها وعاثوا بها فسادًا، فأصبحت بذلك ضمن
مملكة البويهيين.
ظل «معز الدولة» اثنين وعشرين عامًا يدير الأمور فى «بغداد»، حتى
تُوفِّى فى الثالث عشر من (ربيع الآخر سنة 356هـ= مارس سنة 967م)،
فتولى ابنه «بختيار» إمارة «العراق» بعهد منه، ولُقب «عز الدولة».
وقد قدم «عز الدولة» صورة صارخة لانصرافه عن المهام الكبرى
واهتمامه بملذاته الشخصية، فقد أنفق وقته فى اللهو والتسلية(3/54)
وعِشرة النساء والاستماع إلى الغناء، واستولى على أموال كبار
رجال الدولة وعلى رأسهم الخليفة فى سبيل ذلك.
ففى سنة (361هـ= 972م) هاجم الروم ثغور «الجزيرة» ومن بينها
«الرها» و «نصيبين»، فأحرقوا البلاد وخربوها وغنموا وسلبوا ما
استطاعوا ولم يجدوا من يردعهم بعد وفاة «سيف الدولة الحمدانى»
سنة (356هـ= 967م)، فسار جماعة من أهل «الجزيرة» إلى «بغداد»
لاستنفار المسلمين ضد الروم، فاستعظم الناس ذلك، وتوجهوا إلى
«عز الدولة بختيار»، وأنكروا عليه انشغاله باللهو والصيد عن جهاد
الروم الذين انتهكوا حرمة دار الإسلام، فوعدهم بالإعداد لغزوهم،
واتصل بالخليفة «المطيع لله» يطلب منه المال ليجهز به المسلمين
للغزو، ولكن «المطيع لله» أجابه بقوله: «إن الغَزاة والنفقة عليها،
وغيرها من مصالح المسلمين تلزمنى إذا كانت الدنيا فى يدى،
وتُجبَى إلىَّ الأموال، وأما إذا كانت حالى هذه فلا يلزمنى شىء من
ذلك، وإنما يلزم مَن البلاد فى يده، وليس لى إلا الخطبة، فإن شئتم
أن أعتزل فعلت»، فهدد «بختيار» الخليفة «المطيع» واضطره إلى
دفع أربعمائة ألف درهم، فلما قبضها «عز الدولة» صرفها فى
مصالحه وملذاته!.
ونتيجة لسوء طبع بختيار واضمحلال شخصيته، بدأت أسباب الشقاق
والفتنة تظهر بين البويهيين، فقد حاول ابن عمه «ركن الدولة»
والملقب فيما بعد «عضد الدولة» انتزاع «العراق» من «بختيار» ولكن
والده «ركن الدولة» اعترض على ذلك، فاضطر «عضد الدولة» إلى
تأجيل ذلك إلى ما بعد وفاة والده.
ولعل من أخطر الأحداث التى شهدتها خلافة «المطيع لله» سيطرة
الفاطميين على «مصر» سنة (358هـ= 969م) وكانت «مصر» حينئذٍ
تحت حكم الإخشيديين الذين كانوا يخضعون للخليفة العباسى من
الناحية الشكلية، فلما دخلها القائد الفاطمى «جوهر الصقلى»
فى (شعبان سنة 358هـ= يونيو سنة 969م)، شرع فى بناء مدينة
«القاهرة»؛ لتصبح عاصمة للفاطميين، كما بنى الجامع الأزهر سنة(3/55)
(361هـ= 972م)، وظل حاكمًا لمصر نيابة عن مولاه «المعز لدين
الله» حتى سنة (362هـ= 973م)، حين قدم «المعز» إلى «مصر» فى
رمضان من هذه السنة، فقام بالأمر وأصبحت «مصر» منذ ذلك الوقت
مقرا للخلافة الفاطمية الشيعية حتى سنة (567هـ= 1172م).
ظل «المطيع لله» فى الخلافة ما يقرب من «ثلاثين عامًا»، حتى أُصيب
بالفالج - وهو الشلل النصفى - فى أواخر حياته فتعذرت حركته وثقل
لسانه، مما دعا «سُبُكْتكين»، حاجب «عز الدولة بختيار» إلى أن
يطلب منه خلع نفسه وتسليم الخلافة إلى ابنه «عبدالكريم»، فتم ذلك
فى (13من ذى القعدة سنة 363هـ= يوليو سنة 974م)، ولقب
«عبدالكريم» بالطائع لله.
ثانيًا: خلافة الطائع لله (363 - 381هـ= 974 - 991م).
تولى «الطائع لله» الخلافة فى (ذى القعدة سنة 363هـ= يوليو سنة
974م) وعمره ثلاث وأربعون سنة، وقد تُوفِّى والده «المطيع لله» بعد
ذلك بفترة قصيرة، فى (سنة المحرم سنة 364هـ= سبتمبر 974م).
فى بداية خلافة «الطائع لله» حدثت الفتنة بين «عضد الدولة بن ركن
الدولة»، وابن عمه «بختيار بن معز الدولة»، فقد شجع «عضد الدولة»
جند «بختيار» على الثورة عليه ووعدهم بالإحسان إليهم والنظر فى
أمورهم، فثار عليه الجند وتم القبض على «بختيار» وحبسه فى
(جمادى الآخرة سنة 364هـ= فبراير سنة 975م)، وأصبحت «بغداد»
و «العراق» تحت سلطان «عضد الدولة» ..
وقد عز على «ركن الدولة» أمير أمراء البيت البويهى ووالد «عضد
الدولة» أن يتصرف ابنه «عضد الدولة» مع ابن أخيه «بختيار» بهذه
الصورة، فكتب إلى أنصار «بختيار» يساندهم ويأمرهم بالثبات
والصبر ويعرفهم أنه عازم على المسير إلى «العراق» لإخراج «عضد
الدولة» وإعادة «بختيار»، فانصرف أنصار «عضد الدولة» عنه
واضطر إلى الإذعان لإرادة أبيه، فأخرج «بختيار» من سجنه ورد إليه
ما سلبه من سلطانه، وعاد إلى «فارس» فى (شوال سنة 364هـ=
يونيو سنة 975م)، وكان الخليفة «الطائع لله» مسلوب الإرادة خلال(3/56)
هذه الفتنة، لاحول له ولا قوة.
وقد قسم «ركن الدولة» ملكه بين أولاده فى (جمادى الأولى سنة
365هـ= يناير سنة 976م) فجعل لابنه «عضد الدولة» ملك البلاد من
بعده، ولولده «فخر الدولة» (أبى الحسن على) «همدان» وأعمال
«الجبل»، ولولده «مؤيد الدولة» (أبى منصور بويهـ) «أصبهان»
وأعمالها، وجعلهما تحت رئاسة أخيهما «عضد الدولة»، وأوصاهم
بالاتفاق وترك التنازع.
وفى (المحرم سنة 366هـ= أغسطس سنة 976م) تُوفِّى «ركن الدولة»
فأصبح ابنه «عضد الدولة» زعيم البويهيين بلا منازع.
وفى العام نفسه حشد «عضد الدولة» جنوده لغزو «العراق»، وكان
«بختيار» ووزيره «أبو طاهر محمد بن محمد بن بقية» يعلمان نيات
«عضد الدولة» فحاولا استمالة كبار الأمراء من حكام الأقاليم
المختلفة، مثل «فخر الدولة بن ركن الدولة»، و «أبى تغلب بن حمدان»
وغيرهما، وحدثت بعض المعارك بين جيوش «عضد الدولة» وجيوش
«بختيار» سنة (366هـ= 976م) انتهت بهزيمة «بختيار» وفراره من
«بغداد» إلى «الموصل» حيث تحالف مع واليها «أبى تغلب بن
حمدان» ضد «عضد الدولة»، فسار إليهما «عضد الدولة» وهزمهما
بالقرب من «تكريت» فى (شوال سنة 367هـ= مايو سنة 978م) وأسر
«بختيار» وقتله، وضم مملكة الحمدانيين فى «الموصل» و «الجزيرة»
إلى أملاكه، واتخذ «العراق» مقرا لحكمه.
اهتم «عضد الدولة» بدعم سلطانه وتوسيع أملاكه؛ ففى سنة (368هـ=
978م) فتح «ميَّافارقين» و «آمد» و «ديار بكر»، و «ديار مضر» منهيًا
بذلك نفوذ «أبى تغلب ابن حمدان» فى بلاد «الجزيرة».
وفى عام (369هـ= 979م) استولى على الأقاليم الخاضعة لأخيه «فخر
الدولة» بسبب وقوفه إلى جانب «بختيار»، فاستولى على «همدان»
و «الرى» وما بينهما من البلاد، وعين عليها أخاه «مؤيد الدولة» نائبًا
عنه فى حكمها، وفى سنة (371هـ= 981م) ضم إلى نفوذه بلاد
«جرجان» و «طبرستان» بعد أن أجلى عنها صاحبها «قابوس ابن
أبى طاهر» و «شمكير» (أحد أمراء آل زيار)، فتعاظم بذلك نفوذ(3/57)
«عضد الدولة» وذاع صيته وتمكنت هيبته، وكان أول من خوطب
بشاهنشاه فى الإسلام، وأول من خُطب له على منابر «بغداد» بعد
الخلفاء.
وقد كان لعضد الدولة إنجازات حضارية بالإضافة إلى أمجاده
الحربية، فبعد دخوله «بغداد» بدأ فى عمارتها، كما أمر بإخراج
أموال الصدقات وتسليمها للقضاة وأعيان الناس، لإعانة من يستحق،
وبدفع أموال للعاطلين الذين يتعذر عليهم الحصول على العمل، بما
يكفى احتياجاتهم، ثم يردونها بعد ذلك إذا عملوا.
كما اهتم «عضد الدولة» بالعلم والعلماء، وأغدق عليهم العطاء
وأحاطهم بمظاهر التكريم، وقد كان مجلسه منتدى للعلماء، تدور فيه
المناقشات الدقيقة فى فروع العلم المختلفة، وكان يشترك مع
العلماء فى هذه المناقشات ويعارضهم فى المسائل، ومن أبرز
هؤلاء العلماء «أبو على الفارسى» الذى صنَّف له كتاب «الإيضاح»
و «التكملة» فى النحو، وكان «عضد الدولة» يقول: «أنا غلام أبى
على فى النحو»، ومنهم أيضًا «أبو إسحاق الصابى» الذى صنف
لعضد الدولة كتاب «التاجى فى أخبار بنى بويه».
وكان «عضد الدولة» يحب الشعر ويطرب له، ويقرضه أحيانًا، ويغمر
الشعراء بفيض كرمه وجزيل عطائه، فقصده عدد من فحول الشعراء
فى عصره، وكتبوا فيه أروع قصائد المديح، وفى مقدمتهم «أبو
الطيب المتنبى» سنة (354هـ= 965م)، و «أبو الحسن محمد بن عبدالله
السَّلامى أبرز شعراء «العراق»، وكان «عضد الدولة» يقول: «إذا
رأيت السَّلامى فى مجلسى ظننت أن عطارد قد نزل من الفَلك إلىَّ
ووقف بين يدى».
وقد اقتدى «مؤيد الدولة» و «فخر الدولة» بأخيهما «عضد الدولة» فى
تشجيع العلم وإكرام أهله، فعين «مؤيد الدولة» «الصاحبَ بن عباد»
وزيرًا له سنة (366هـ= 976م)، وكان من أعظم رعاة العلم والأدب،
وعقب وفاة «مؤيد الدولة» واستيلاء أخيه «فخر الدولة» على مملكته
أقر «الصاحب بن عباد» على وزارته، وعين مفكر المعتزلة المشهور
«عبدالجبار بن أحمد» قاضى قضاة للرى سنة (367هـ= 978م) لصلته(3/58)
بالصاحب بن عباد، ثم عزله «فخر الدولة» سنة (385هـ= 995م) حينما
تُوفِّى «الصاحب بن عباد».
وفاة عضد الدولة وبداية التفكك فى البيت البويهى:
تُوفِّى «عضد الدولة» فى (شوال سنة 372هـ= مارس سنة 983م)،
وعمره ثمانٍ وأربعون سنة، وقد تركت وفاته فراغًا هائلاً تعذر
على خلفائه أن يملئوه.
وكان أخطر ما ترتب على وفاة «عضد الدولة»، الصراع الذى نشب
بين أولاده الخمسة على السلطة، وهم: «أبو كاليجار المرزبان»
(صمصام الدولة)، و «أبو الحسين أحمد»، و «أبو طاهر فيروز شاه»،
و «أبو الفوارس شيرزيل» الملقب «شرف الدولة»، و «أبو نصر فيروز»
الملقب «بهاء الدولة».
وقد استقر الأمراء والقادة على اختيار «أبى كاليجار المرزبان»
ليكون خلفًا لأبيه «عضد الدولة»، ولقبوه «صمصام الدولة» وأقر
الخليفة «الطائع لله» هذا الاختيار وخلع على «صمصام الدولة» سبع
خلع، ولقبه «شمس الملة»، فلم يكن للخليفة دور سوى إقرار ما يتفق
عليه القادة والأمراء.
وقد واجه «صمصام الدولة» انشقاقًا من أخيه «شرف الدولة» الذى
استطاع الاستقلال ببلاد «فارس» والاستيلاء على «البصرة»، وتعيين
أخيه «أبى الحسين أحمد» نائبًا عنه فى حكمها، كما تمكن من
هزيمة الجيش الذى أرسله إليه «صمصام الدولة» ليسترد منه بلاد
«فارس».
وقد استطاع «صمصام الدولة» استمالة عمه «فخرالدولة» إلى صفه
فى هذا الصراع، ولكن جنده فى «بغداد» ثاروا عليه وأعلنوا بيعتهم
لشرف الدولة، ورغم أن «صمصام الدولة» قضى على هذه الثورة
فإنه لم يستطع وضع حد لازدياد قوة أخيه «شرف الدولة».
ففى سنة (375هـ= 985م) استولى «شرف الدولة» على «الأهواز»
وقبض على أخيه «أبى طاهر فيروز شاه» المناصر لصمصام الدولة،
وفى (رمضان سنة 376هـ= يناير سنة 987م) استولى على «العراق»
ودخل «بغداد» وقبض على أخيه «صمصام الدولة»، فذهب إليه
الخليفة وهنأه بالسلطنة.
لم يستمر «شرف الدولة» طويلاً فى إمارته على «العراق»، فقد تُوفِّى(3/59)
فى غرة (جمادى الأولى سنة 379هـ= أغسطس سنة 989م)، ولم يجد
حرجًا وهو فى مرض موته أن يأمر بِسَمْل عينى أخيه «صمصام
الدولة» وهو فى سجنه.
وخلف «شرف الدولة» أخوه «أبو نصر فيروز»، الذى لقبه الخليفة
«بهاء الدولة وضياء الملة»، ولكن العلاقة بين «بهاء الدولة أبى نصر
فيروز» وبين الخليفة «الطائع» وصلت بعد قليل إلى الحد الذى جعل
«بهاء الدولة» يقوم بعزل الخليفة؛ فقد قلت الأموال عند «بهاء
الدولة»، وثار جنده عليه، فاقترح عليه أحد خواصه وهو «أبو الحسن
بن المعلم»، أن يقبض على الخليفة «الطائع» ويستولى على أمواله،
فدخل «بهاء الدولة» على الخليفة ومعه جمع كثير، وتقدم أحد رجاله
كأنه يريد أن يقبل يد الخليفة، فجذبه فأنزله عن سريره والخليفة
يقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، ويستغيث دون أن يلتفت إليه أحد،
وتم الاستيلاء على أمواله، وحُمِل الخليفة إلى دار «بهاء الدولة»؛
حيث أُرغِم على خلع نفسه فى (التاسع عشر من شعبان سنة 381هـ=
أكتوبر سنة 991م) بعد أن استمر فى الخلافة ما يقرب من ثمانية
عشر عامًا، كان خلالها مسلوب الإرادة.
ثالثًا: خلافة القادر بالله (381 - 422هـ= 991 - 1031م).
هو «أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر»، اختاره «بهاء الدولة»
بعد خلع «الطائع لله» لتولِّى الخلافة، وكان غائبًا عن «بغداد»، فلما
وصله الخبر حضر إليها وبايعه «بهاء الدولة» والناس فى (رمضان سنة
381هـ= نوفمبر سنة 991م)، وعمره خمسة وأربعون عامًا.
وقد دامت خلافة «القادر بالله» إحدى وأربعين سنة وحفلت بالكثير
من الأحداث والتطورات، وأهمها:
أ - ازدياد التفكك فى البيت البويهى:
فقد نشب الصراع بين «بهاء الدولة»، وأخيه «صمصام الدولة» ولم
يكن فى «بنى بويه» أظلم من «بهاء الدولة» ولا أقبح سيرة منه،
ففى سنة (383هـ= 993م) قام بمحاولة للاستيلاء على المنطقة
الخاضعة لإمارة أخيه «صمصام الدولة» فى بلاد «فارس» و «أرَّجان»،(3/60)
فانتهت هذه المحاولة بعكس ما كان يهدف إليه؛ حيث تمكن «صمصام
الدولة» من الاستيلاء على «خوزستان» الخاضعة لبهاء الدولة، وبدد
شمل الجيش الذى أرسله «بهاء الدولة».
وفى سنة (384هـ = 994م) استطاع «بهاء الدولة» أن يهزم «صمصام
الدولة»، وأن يسترد منه بعض ما خسره قبل ذلك.
وقد تجدد الصراع بينهما مرات عديدة، ووصل فى إحدى مراحله إلى
استيلاء «صمصام الدولة» على «البصرة» فى «العراق» سنة (386هـ=
996م)، ولم يتوقف هذا الصراع بين «بهاء الدولة» و «صمصام الدولة»
إلا بمقتل «صمصام الدولة» على يد بعض أبناء «عز الدولة بختيار»؛
انتقامًا لمقتل أبيهم «بختيار» على يد «عضد الدولة»، والد «صمصام
الدولة»، وذلك فى (ذى الحجة سنة 388هـ= 998م).
وعقب مقتل «صمصام الدولة» أراد بعض أبناء «بختيار» الاستيلاء
على «فارس»، فنشب الصراع بينهم وبين «بهاء الدولة» وانتهى
بهروبهم ومقتل أحدهم واسمه «أبو نصر» على يد أنصار «بهاء
الدولة» سنة (390هـ = 1000م).
وقد تُوفِّى «بهاء الدولة» (أبو نصر فيروز بن عضد الدولة) فى
(جمادى الآخرة سنة 403هـ = ديسمبر سنة 1012م)، فخلفه على
إمارة «العراق» ابنه «أبو شجاع فخر الملك»، الذى لقبه الخليفة
«القادر بالله» «سلطان الدولة»، فولى أخاه «جلال الدولة» «أبا
طاهر» إمارة «البصرة» وأخاه «قوام الدولة أبا الفوارس» «كرمان».
ونشب صراع مرير بين أبناء «بهاء الدولة»: «سلطان الدولة» و «جلال
الدولة»، و «قوام الدولة»، و «مشرف الدولة» الذى استطاع الاستيلاء
على «العراق» سنة (411هـ = 1020م) وبعد وفاة «سلطان الدولة»
فى (شوال سنة 415هـ = ديسمبر سنة 1024م) خلفه ابنه «أبو
كاليجار» على إمارة «فارس» و «كرمان»، ودخل فى صراع مع عمه
«أبى الفوارس بن بهاء الدولة» الذى استطاع الاستيلاء على
«كرمان»، وأرغم «أبا كاليجار» على دفع خراج له قيمته عشرون
ألف دينار، إلا أن «أبا كاليجار» استرد «كرمان» بدون قتال عقب(3/61)
وفاة عمه «أبى الفوارس» سنة (419هـ = 1028م).
وعقب وفاة «مشرف الدولة» تولى أخوه «أبو طاهر جلال الدولة» -
أمير «البصرة» - إمارة «العراق»، لكنه لم يتمكن من دخول «بغداد»؛
حيث منعه أنصار ابن أخيه «أبى كاليجار» من دخولها، تمهيدًا لقدوم
«أبى كاليجار» وسيطرته على «العراق»، ولكن ذلك لم يحدث
لانشغاله بصراعه مع عمه «أبى الفوارس»، وبقيت «بغداد» بدون أمير
بويهى لمدة عامين وبضعة أشهر، مما دعا رؤساء الجند إلى أن
يطلبوا من الخليفة «القادر بالله» أن يرسل إلى «جلال الدولة» ليحضر
إلى «بغداد» ويتسلم الإمارة؛ جمعًا للكلمة وحسمًا للخلاف، فاستجاب
الخليفة لهم ودخل «جلال الدولة» «بغداد» فى (رمضان سنة 418هـ =
سبتمبر سنة 1027م)، إلا أنه ما لبث أن دخل فى صراع مع ابن أخيه
«أبى كاليجار»، الذى أراد انتزاع «العراق» من عمه «جلال الدولة»،
واستمر الصراع بينهما بين النصر والهزيمة لهذا الطرف أو ذاك حتى
وفاة «جلال الدولة» سنة (435هـ= 1044م).
وقد أدى الصراع المستمر بين أبناء البيت البويهى إلى تطلع قوى
أخرى من خارج البيت البويهى للاستيلاء على مقاليد الحكم فى دولة
الخلافة العباسية، كما شغل هذا الصراع البويهيين عن توجيه أذاهم
إلى الخليفة العباسى «القادر بالله»، الذى ظل واحدًا وأربعين عامًا
على كرسى الخلافة حتى تُوفِّى سنة (422هـ = 1031م).
ب - اتساع قوة الدولة الغزنوية:
تُنسب «الدولة الغزنوية» إلى مدينة «غَزْنَة» بأفغانستان الحالية،
ويقال: إن اسمها الصحيح «غَزْنين» ثم تحول عند العامة إلى
«غَزْنَة»، واشتهرت به.
وتمتد جذور الأسرة الغزنوية إلى مرحلة سابقة على خلافة «القادر
بالله»، فقد ارتبطت بداية ظهور الغزنويين بظهور «ألبَتكين» (ويكتب
أحيانًا: ألب تكين أو ألفتكين)، وهو غلام تركى التحق بخدمة
السامانيين، وتدرج فى المناصب حتى وصل إلى منصب «حاجب
الحجاب»، وهو منصب كان يتيح سلطة خطيرة لصاحبه، ثم تقلد(3/62)
«ألبتكين» ولاية «خراسان» نيابة عن الأمير السامانى «عبدالملك بن
نوح» سنة (349هـ= 960م) حتى عزله عنها الأمير «منصور بن نوح»
الذى خلف أخاه «عبدالملك» فلجأ «ألبتكين» إلى «بلخ»، واستطاع
هزيمة جيش «منصور» الذى أرسله إليه سنة (351هـ = 962م)، ثم
توجه إلى «غزنة» فى السنة نفسها، واستولى عليها واتخذها مقرا
له فى خلافة «المطيع لله».
وبعد وفاة «ألبتكين» خلفه ابنه «أبو إسحاق إبراهيم»، الذى تعاون
مع الأمير «منصور بن نوح» ضد أمير «غزنة» السابق «أبى على»،
الذى أطاح به «ألبتكين» سنة (351هـ = 962م)، فسانده الأمير
«منصور» على شرط أن يعد نفسه تابعًا للدولة السامانية، فوافق
«أبو إسحاق» على ذلك.
وبعد وفاة «أبى إسحاق إبراهيم» سنة (355هـ = 966م) دون أن
يُعْقِب تولى إمارة «غزنة» «بلكاتكين»، ثم «بيرى تكين» على
التوالى وهما من غلمان «ألبتكين»، ثم أصبح «سُبُكْتكين» أميرًا
على «غزنة» فى (شعبان سنة 366هـ = مارس 977م) فكان ذلك نقطة
تحول فى تاريخ الغزنويين.
و «سبكتكين» غلام تركى من غلمان «ألبتكين»، كان قد قربه إليه
وزوجه ابنته، وعينه قائدًا لحرسه، فلما تولى «غزنة» وسع حدودها
فى اتجاه بلاد «الهند»، وحقق انتصارات كبيرة فى تلك البلاد،
وأصبح بذلك المؤسس الحقيقى للدولة الغزنوية.
وقد استعان الأمير «نوح بن منصور السامانى» (366 - 387هـ = 977 -
997م) بسبكتكين سنة (384هـ = 994م) للقضاء على حركة تمرد
وعصيان ضده فى «بخارى»، وخلع عليه لقب «ناصر الدولة»، وعين
ابنه «محمودًا» قائدًا لجيش «خراسان» ومنحه لقب «سيف الدولة».
واختار «سبكتكين» مدينة «بلخ» مقرا له فى أواخر أيامه، وقد
تُوفِّى فى (شعبان سنة 387هـ = أغسطس سنة 997م)، وعقب وفاته
تنازع ابناه «محمود» و «إسماعيل» حول أحقيتهما فى وراثة
الحكم، وانتهى هذا النزاع بانتصار «محمود» الذى أصبح رئيسًا
للدولة الغزنوية سنة (387هـ= 997م)، وأحسن معاملة أخيه
«إسماعيل» وأعلى منزلته.(3/63)
وقد حققت إمارة «محمود بن سبكتكين» قفزة هائلة فى مسار
«الدولة الغزنوية»، فترامت أطرافها، واتسع نفوذها، وذاع صيتها،
وأصبحت بلا منافس من حيث هيبتها العسكرية ومكانتها الحضارية،
وقد اشتهر «محمود بن سبكتكين» بلقب «السلطان»، كما خلع عليه
الخليفة «القادر بالله» لقب «يمين الدولة وأمين الملة» سنة (389هـ =
999م).
نجح «محمود بن سبكتكين» فى السنوات الأولى من إمارته فى
تعزيز وضعه الداخلى والقضاء على معارضيه، ثم صرف اهتمامه إلى
الفتوح فى بلاد «الهند»، وحقق انتصارات هائلة جعلته واحدًا من
أعظم الفاتحين فى التاريخ الإسلامى؛ ففى سنة (389هـ = 999م)
استولى على «خراسان» وقضى على سلطة السامانيين بها، وفى
سنة (393هـ = 1003م) استولى على «سجستان» التى كان حاكمها
«خلف بن أحمد» وهو من أكبر أعدائه.
وتعد فتوحات السلطان «محمود بن سبكتكين» فى بلاد
«الهند»،أعظم إنجاز له فى هذا المجال، ففى سنة (395 هـ =
1005م) استطاع فتح مدينة «بهاتية» الهندية بجوار إقليم «الملتان»،
وأقام بها حتى أصلح أمرها واستخلف بها مَنْ يُعلِّم مَنْ أسلم مِن
أهلها قواعد الإسلام وفرائضه، وفى سنة (396هـ = 1006م) استولى
على «الملتان» التى كانت تخضع لحكومة إسماعيلية شيعية تعادى
السلطان «محمود الغزنوى» وتتحالف ضده مع أعدائه الهنود غير
المسلمين.
واستمرت غزوات السلطان «محمود» المظفرة فى بلاد «الهند» بصورة
شبه منتظمة حتى سنة (416هـ = 1025م) فنجح فى الاستيلاء على
قلعة «ناردين» الهندية المنيعة، بعد قتال عنيف سنة (404هـ =
1013م) ودان له كثير من حكام المناطق المجاورة، وأقبل الهنود فى
تلك المناطق على اعتناق الإسلام، وأرسل إليهم السلطان من يفقههم
فى الدين، وفتح سنة (409هـ = 1018م) مدينة «قنوج» الحصينة على
نهر «الجانج»، الذى يقدسه الهنود، واعتنق أهلها الإسلام.
وفى سنة (416هـ = 1025م)، قام السلطان «محمود» بآخر غزواته(3/64)
فى بلاد «الهند»، وهى غزوة «سُومْنَات» وكان بقلعة «سومنات»
الحصينة معبد يضم نفائس الذهب والفضة والجواهر، مما لا يوجد له
نظير فى أى مكان آخر فى شبه القارة الهندية، بالإضافة إلى صنم
البراهمة الأعظم الذى يحج إليه الهنود من كل مكان، فاقتحم السلطان
«محمود» هذه القلعة، فى (ذى القعدة سنة 416هـ = ديسمبر سنة
1025م) بعد أن استبسل الهنود فى الدفاع عنها، واستولى على كل
ما فيها من نفائس قُدِّرت قيمتها بأكثر من عشرين مليون دينار، وحطم
السلطان «محمود» بنفسه صنم البراهمة الأعظم بسومنات وأرسل منه
قطعًا إلى «غزنة»، و «مكة» و «بغداد» إعلانًا بهذا الفتح العظيم،
وكان السلطان «محمود» يتصل -عادة- بالخليفة «القادر بالله» فى
«بغداد» بعد كل فتح عظيم فى البلاد الهندية؛ ليخبره بما فتح الله
للمسلمين فى هذه البلاد، مجددًا ولاءه له.
وأثناء قيامه بغزواته فى شبه القارة الهندية استطاع السلطان
«محمود» أن يضم إلى نفوذه إقليم «خوارزم» ويقضى على الأسرة
المأمونية المعادية له بها سنة (407هـ = 1016م)، كما ضم إليه أيضًا
«الرى» و «قزوين» و «أصفهان» سنة (420هـ = 1029م) بمعاونة ابنه
«مسعود»، فاتسعت مملكته فى «خراسان» و «ما وراء النهر» و «شبه
القارة الهندية».
وبعد غزوة «سومنات» لم يتمكن السلطان «محمود» من مواصلة
حملاته الموفقة فى «شبه القارة الهندية»، بسبب اهتمامه بمواجهة
ثورات «العراق» و «خراسان» وخطر الأتراك السلاجقة.
وقد تُوفِّى السلطان «محمود» بغزنة فى شهر (ربيع الآخر سنة
421هـ = أبريل سنة 1030م) وعمره واحد وستون عامًا، وكان قد
أوصى بالسلطة لابنه «محمد»، ولكنه لم يكن يتمتع بحب الجند
والرعية فتخلَّوا عنه وبايعوا أخاه الأكبر «مسعودًا» واستتب له الأمر
فى أواخر سنة (421هـ = 1030م)، ووصل إلى «غزنة» من
«أصبهان» فى (جمادى الآخرة سنة 422هـ = مايو سنة1031 م) وقد
ورث مملكة أبيه الشاسعة.(3/65)
وقد كان السلطان «محمود بن سبكتكين» يتحلى بمواهب إدارية
متميزة، فقد استطاع بعد فتوحاته فى «الهند» أن يتألَّف الهندوس،
وأن يجعلهم جزءًا من نسيج دولته، وأن يستخدمهم فى جهازه
الإدارى وأن يجندهم فى جيشه، كما كان السلطان «محمود» يتحلى
بأخلاق رفيعة، ويكثر الإحسان إلى الرعية والرفق بهم، ويحب
العلماء ويكرمهم ويعظمهم وكان على مذهب «أبى حنيفة» فى
الفقه، وهو المذهب الذى مازال واسع الانتشار فى «شبه القارة
الهندية» و «أفغانستان» و «أواسط آسيا»، وكان السلطان «محمود»
شغوفًا بعلم الحديث النبوى، فكان الشيوخ يقرءونه بين يديه وهو
يسمع.
وقد قصده العلماء والشعراء من كل مكان، وكان أبرزهم المؤرخ
العربى «العُتْبى» (أبو النصر محمد بن عبدالجبار) صاحب كتاب
«اليمينى» الذى جمع فيه سيرة «يمين الدولة السلطان محمود»،
و «الريحان البيرونى» (محمد بن أحمد) صاحب المعرفة الموسوعية
فى الرياضيات والفلك والطب والتاريخ والجغرافيا، ومن أشهر كتبه
«الآثار الباقية عن القرون الخالية»، والشاعر الفارسى المعروف
«الفردوسى» (أبو القاسم حسن) صاحب الشاهنامة أو «كتاب
الملوك» وهو ملحمة شعرية تتألف من ستين ألف بيت، وقد أهداها
«الفردوسى» إلى السلطان «محمود» الذى كافأه عليها بستين ألف
درهم، لكن «الفردوسى» رأى أن هذه المكافأة أقل مما كان
يتوقع، فترك بلاط السلطان معترضًا!.
وكان «يمين الدولة السلطان محمود» حريصًا على تقديم كل فروض
الولاء لخليفة المسلمين، باعتبار منصب الخلافة رمزًا يجب صيانته
والمحافظة على مكانته، فالخلافة قد ارتبطت منذ قيامها بعزة
الإسلام ومجده، والتطاول على هذا المنصب العظيم يُعد استخفافًا
بكل ما يرمز إليه من قيم ومعانٍ.
وفاة الخليفة القادر بالله، ونبذة عن شخصيته:
تُوفِّى «القادر بالله» فى شهر (ذى الحجة سنة 422هـ = نوفمبر سنة
1031م) وعمره سبع وثمانون سنة، ودامت خلافته واحدًا وأربعين(3/66)
عامًا، فكانت أطول مدة يقضيها خليفة عباسى فى هذا المنصب حتى
عصره.
كان الخليفة «القادر بالله» يتحلى بصفات جعلته إحدى الشخصيات
المتميزة فى تاريخ «الخلافة العباسية»، فقد كان راجح العقل وافر
الحلم، مؤثرًا للخير، ظاهر الكرم، جميل الأخلاق، آمرًا بالمعروف
وناهيًا عن المنكر، كما كان شغوفًا بالعلم محبا لأهله، مستقيم
الطريقة فى الدين بعيدًا عن البدعة، متواضعًا، عزوفًا عن مظاهر
الأبهة والتكلف، فكان يخرج من داره فى زىِّ العامة، ويزور قبور
الصالحين، وكان عادلاً وصولاً ظاهر البر باليتامى والمساكين، قوى
الشخصية، يحظى بالاحترام والتبجيل؛ فلم يتعرض لما تعرض له غيره
من السابقين له من مهانة خلال فترة اضمحلال الخلافة، ورغم ما
تعرضت له الخلافة من ظروف وأحداث وتغلغل نفوذ الترك والفرس فإن
«القادر بالله» استغل كل ما أتيح له من إمكانات، وقدَّم أفضل
نموذج يمكن أن نتوقعه لخليفة عباسى فى ضوء تلك الظروف.
شهد القرنان (4و5 هـ= 10و11م) قمة الازدهار الحضارى بمظاهره
المختلفة فى أرجاء العالم الإسلامى بصفة عامة وفى «دولة الخلافة
العباسية» بصفة خاصة؛ ويمثل عصر «القادر بالله» زبدة الحضارة
الإسلامية فى هذين القرنين، وهكذا كانت الأوضاع الحضارية أحسن
حالاً من الأوضاع السياسية خلال تلك الفترة.
رابعًا: خلافة القائم بأمر الله ونهاية عصر النفوذ البويهى (422 -
447هـ = 1031 - 1055م):
تولى «القائم بأمر الله» (أبو جعفر عبدالله بن القادر) الخلافة فى
اليوم الذى تُوفِّى فيه أبوه «القادر بالله» فى ذى الحجة سنة (422هـ
= 1031م)، وعمره ثلاثون عامًا، وقد لقبه أبوه - قبل وفاته - بالقائم
بأمر الله.
وقد زادت الأوضاع الداخلية فى «دولة البويهيين» فى عهده تدهورًا
وانحطاطًا، وأصبحت الدولة جسمًا بلا روح، فقد استمرت أمور
«العراق» فى فوضى واضطراب؛ بسبب الصراع بين «جلال الدولة»
و «أبى كاليجار» على السيطرة عليه، وضعفت مكانة «جلال الدولة»،(3/67)
ورغم الصلح الذى تم بين «جلال الدولة» و «أبى كاليجار» سنة
(428هـ = 1037م)، وتأكيده بزواج «أبى منصور بن أبى كاليجار»
من ابنة «جلال الدولة» فإن «أبا كاليجار» انتهز فرصة وفاة «جلال
الدولة» سنة (435هـ = 1044م) واستولى على زمام السلطة فى
«العراق» فى (صفر سنة 436هـ = أغسطس سنة 1044م)، بعد إحباطه
محاولة الابن الأكبر لجلال الدولة للاستيلاء على الحكم فى «بغداد».
وأثناء إمارة «أبى كاليجار» فى «بغداد» استطاع الأتراك السلاجقة
أن يسيطروا على أجزاء كبيرة من البلاد الخاضعة للبويهيين، واضطر
«أبو كاليجار» إلى طلب الصلح مع السلطان السلجوقى «طغرل بك»
وزوَّجه ابنته، كما تزوج «أبو منصور بن أبى كاليجار» من ابنة الملك
«داود» أخى «طغرل بك»، وأصبحت «الدولة البويهية» معرضة
للسقوط فى أية لحظة.
وعقب وفاة «أبى كاليجار» فى (جمادى الأولى سنة 440هـ =
أكتوبر سنة 1048م) خلفه على إمارة «العراق» ابنه «أبو نصر خسرو
فيروز» الملقب بالملك الرحيم، وكانت فترة إمارته تمثل قمة التردى
فى أوضاع «الدولة البويهية»؛ حيث دخل فى صراع مع إخوته حول
السلطة، واستعان بعضهم بالسلاجقة ضد أخيهم «الملك الرحيم»،
وأصبح البويهيون تحت سيطرة السلاجقة، وتحدد مصير دولتهم على
أيدى هذه القوة الناشئة.(3/68)
الفصل السادس
*عصر نفوذ السلاجقة
[447 - 590هـ= 1055 - 1194م]
السلاجقة أسرة تركية كبيرة، كانت تقيم فى بلاد «ما وراء النهر»،
وتنسب إلى زعيمها «سلجوق بن تُقاق»، الذى اشتهر بكفاءته
الحربية، وكثرة أتباعه.
وقد أسلم «سلجوق» وأتباعه، وخلَّف من الأولاد «أرسلان»
و «ميكائيل» و «موسى»، وكان أبرزهم «ميكائيل»، الذى أنجب
«طغرل بك» (محمد) و «جغرى بك» (داود)، اللذين قام عليهما مجد
«السلاجقة».
هاجر السلاجقة بزعامة «طغرل بك» وأخيه «جغرى» فى الربع الأول
من القرن الخامس الهجرى إلى «خراسان» الخاضعة لنفوذ الغزنويين،
وبعد سلسلة من الصراع بين الغزنويين و «السلاجقة»، استطاع
«السلاجقة» السيطرة على «خراسان» بعد هزيمة الغزنويين بقيادة
السلطان «مسعود بن محمود بن سبكتكين» سنة (431هـ = 1040م)
أمام «طغرل بك» وأخيه «جغرى».
وقد ساعد «السلاجقة» على توطيد سلطانهم انتماؤهم إلى المذهب
السنى، وإعلانهم الولاء والتبعية للخليفة العباسى «القائم بأمر الله»،
الذى عين «طغرل بك» نائبًا عنه فى «خراسان» وبلاد «ما وراء
النهر» وفى كل ما يتم فتحه من البلاد.
وقد استطاع «السلاجقة» توسيع حدود مملكتهم بسرعة هائلة،
فاستولى زعيمهم «طغرل بك» على «جرجان» و «طبرستان» سنة
(433هـ)، وعلى «خوارزم» و «الرى» و «همدان» سنة (434هـ =
1043م) وعلى «أصبهان» سنة (443هـ = 1051م)، وعلى أذربيجان»
سنة (446هـ = 1054م)، وبدأ يتطلع للسيطرة على «بغداد»، وقد
هيأت له الأوضاع السائدة فى «العراق» تحقيق هذا الهدف.
دخول طغرل بك بغداد سنة (447هـ = 1055م) وسقوط دولة البويهيين:
كان القائد التركى المشهور «أبو الحارث أرسلان المظفَّر بن عبدالله»
المعروف بالبساسيرى، من أكابر العسكريين الأتراك فى «بغداد»
فى أواخر العهد البويهى، وكان يقوم بدور الحاكم العسكرى لمدينة
«بغداد»، ويعد صاحب النفوذ الأكبر فى دار الخلافة، وقد كانت هناك
خصومة شديدة بينه وبين «أبى القاسم بن المسلمة» (على بن الحسن(3/69)
بن أحمد) وزير الخليفة «القائم بأمر الله»، فاتهمه الوزير بالخيانة،
واتصاله بالفاطميين فى «مصر» لميوله الشيعية، ولما تبين ذلك
للخليفة «القائم بأمر الله» خشى أثر موقف «البساسيرى» على
مستقبل «الخلافة العباسية»، فاتصل بالسلطان السلجوقى «طغرل
بك»، وطلب منه القدوم إلى «بغداد» للاستيلاء على السلطة فيها
ووضع حد لمحاولات «البساسيرى» الخطيرة ولعجز البويهيين عن
إدارة شئون الدولة فاستجاب السلطان السلجوقى وتقدم بجنوده نحو
«بغداد»، وأمر الخليفة بأن يُخطَب له على منابرها، قبل دخولها فى
(25 من رمضان سنة 447هـ = نوفمبر سنة 1055م) بثلاثة أيام، وتم
القبض على «الملك الرحيم» آخر ملوك البويهيين.
أصبح «طغرل بك» (ركن الدين أبو طالب محمد بن ميكائيل بن
سلجوق) أولَ سلاطين «السلاجقة» فى «بغداد»، ابتداءً من (رمضان
447هـ = نوفمبر 1055م)، وقد استقبله الخليفة «القائم بأمر الله» بكل
مظاهر الحفاوة والترحاب، ولقبه «ملك المشرق والمغرب».
الخلافة فى ظل السلاجقة:
رأى «السلاجقة» فى الخلافة السُّنية رمزًا دينيًا يعبر عن وحدة الأمة
الإسلامية وعزتها، ونظروا إلى الخليفة على أنه تجسيد حى لهذا
الرمز، فأحاطوه بهالة من التقدير والإكبار، ونعمت «الخلافة
العباسية» فى ظل نفوذ «السلاجقة» بأمرين:
الأول: سيادة المذهب السنى فى أرض الخلافة.
والآخر: إحاطة الخلافة بما هى أهل له من إكرام وإجلال؛ فأصبح من
حق الخليفة اتخاذ وزير له، ورغم أن وزير السلطان السلجوقى كان
بصفة عامة أوسع نفوذًا وأقوى تأثيرًا من وزير الخليفة، فإن ذلك لا
يقلل من حقيقة التكريم الذى أسبغه «السلاجقة» على منصب الخلافة؛
حيث كانت السلطة الفعلية فى يد «السلاجقة»، وكانت سلطة الخليفة
روحية أكثر منها سياسية.
فتنة البساسيرى ومحاولة إخضاع العراق للنفوذ الفاطمى:
عندما دخل «طغرل بك» «بغداد» اضطر «البساسيرى» إلى تركها،(3/70)
وبدأ يجمع حوله عددًا من الأنصار الساخطين على الأوضاع فى دار
الخلافة، واستطاع الاستيلاء على «الموصل» سنة (448هـ = 1056م)،
وخطب فيها للخليفة «المستنصر الفاطمى»، ثم مد نفوذه إلى
«الكوفة» و «واسط»، وأغرى «إبراهيم ينَّال» - وهو أخو «طغرل»
لأمه - بالانشقاق على أخيه ليضمن انشغاله عنه بفتنة أخيه.
وقد أمد «المستنصر الفاطمى» «البساسيرى» بما يدعم موقفه
ويمكنه من مد نفوذه، فاستطاع فى (الثامن من ذى القعدة سنة
450هـ= السابع والعشرين من ديسمبر 1058م) أن يدخل «بغداد»
بجيوشه، ويخطب فيها للخليفة الفاطمى، وخضعت «بغداد» للخلافة
الفاطمية بمصر، واضطر الخليفة العباسى «القائم بأمر الله» ووزيره
«ابن المسلمة» أن يضعا نفسيهما تحت حماية أحد أعوان
«البساسيرى»، واسمه «قريش بن بدران»، فطلب «البساسيرى» من
«قريش» تسليمه «ابن المسلمة»، فقتله شر قتلة فى (أواخر ذى الحجة
سنة 450هـ = يناير 1059م)، وقام «قريش» بتسليم الخليفة العباسى
إلى ابن عم له بنواحى «الأنبار» فآواه وقام بجميع ما يحتاج
إليه مدة سنة كاملة.
وحاول «البساسيرى» مد سلطانه على مدن «العراق» ما أمكنه ذلك،
فاستولى على «البصرة»، وأوشك الأمر أن يستتب للفاطميين
بالعراق لولا أن «المستنصر» شك فى نيات «البساسيرى» وحقيقة
مخططاته، فمنع عنه عونه وتأييده؛ مما كان له أثره السيئ على
موقفه فى مواجهة «طغرل بك»، الذى نجح فى القضاء على ثورة
أخيه «إبراهيم ينَّال»، وقبض عليه وقتله فى (التاسع من جمادى
الآخرة سنة 451هـ = يوليو سنة 1059م).
وعندما اقتربت جيوش السلطان السلجوقى «طغرل بك» من «بغداد»
هرب «البساسيرى» فى اتجاه «الكوفة» فى (6 من ذى القعدة سنة
451هـ = 14 من ديسمبر 1059م)، وسيطر «طغرل بك» على «بغداد»
بسهولة، بعد عام كامل من سيطرة «البساسيرى» عليها، وأعاد
الخليفة «القائم بأمر الله» مكرَّمًا إلى دار الخلافة فى (25 من ذى(3/71)
القعدة سنة 451هـ = 14من ديسمبر سنة 1059م) ونجح فرسان
«طغرل بك» فى قتل «البساسيرى» فى (8 من ذى الحجة سنة
451هـ = 15من ينايرسنة 1060م)، وبذلك بدأ السلطان السلجوقى
«طغرل بك» يعمل على توطيد ملك «السلاجقة» بالعراق.
بين طغرل بك والخليفة القائم بأمر الله:
كان «طغرل بك» حريصًا على إبداء كل مظاهر الإجلال والتوقير
للخليفة، وقد اقتدى به خلفاؤه؛ فعاملوا الخلفاء العباسيين بكل ما
يليق بمكانتهم من احترام وتعظيم.
يروى المؤرخون أن «طغرل بك» كان غائبًا عن «بغداد»، فلما عاد
إليها سنة (449هـ = 1057م) توجه إلى دار الخلافة، فلما دخل على
الخليفة قَبَّل الأرض وجلس على سرير دون سرير الخليفة، فأمره
الخليفة أن يتقى الله فيما ولاه وأن يجتهد فى عمارة البلاد وإصلاح
العباد ونشر العدل ومنع الظلم، فقام «طغرل بك» وقبَّل الأرض وقال:
«أنا خادم أمير المؤمنين وعبده، ومتصرف على أمره ونهيه،
ومتشرف بما أهلنى له واستخدمنى فيه، ومن الله أستمد المعونة
والتوفيق».
وعندما توجه «طغرل بك» لاستخلاص «العراق» من «البساسيرى»
كان شديد الحرص على سلامة الخليفة.
وقد أراد «طغرل بك» أن يمنح نفسه وأسرته شرفًا فريدًا متميزًا،
وأن يضفى على سلطانه السياسى صبغة روحية، فخطب ابنة الخليفة
«القائم بأمر الله» سنة (453هـ = 1061م)، فانزعج الخليفة لذلك رغم
زواجه من «أرسلان خاتون» (واسمها خديجة) ابنة الأمير «داود» أخى
السلطان «طغرل بك» سنة (448هـ = 1056م)، فلم يحدث أن تزوج
أحد من خارج البيت العباسى منه، وحاول الخليفة «القائم» رفض هذا
الزواج، ودافع بكل ما يمكنه فى سبيل ذلك، ولكنه اضطر إلى
الخضوع لضغوط وزير «طغرل بك» «عميد الملك الكُنْدُرى»؛ فتم العقد
لطغرل على ابنة الخليفة سنة (454هـ = 1062م) ودخل بها سنة
(455هـ= 1063م).
الوزير عميد الملك الكندرى ومكانته فى دولة طغرل بك:
أثناء حكم «طغرل بك» فى «نيسابور» طلب رجلاً متمكنًا من اللغة(3/72)
العربية يكتب له، فدلوه على «عميد الملك الكندرى» (أبى نصر محمد
بن منصور بن محمد) فلما دخل «طغرل» «بغداد» سنة (447هـ =
1055م) عينه وزيرًا له، فكان ساعده الأيمن حتى وفاة «طغرل» سنة
(455هـ = 1063م).
ويعتبر «عميد الملك» أحد العوامل المهمة فى ازدهار دولة «طغرل
بك» بفضل ما كان يتمتع به من حنكة وكفاءة، كما كان سببًا مكَّن
«طغرل بك» من السيطرة على «العراق» ودار الخلافة، وإدخال
الخليفة «القائم» ووزرائه وحاشيته فى طاعة «السلاجقة» دون إراقة
دماء، لما تمتع به «عميد الملك» من نفاذ بصيرته فى الأمور، وبُعد
نظره، وحسن سياسته، إلى جانب رسوخ قدمه فى العلم والأدب.
واقترن اسم الوزير عميد الملك باسم «طغرل بك» وأصبح لا يذكر
أحدهما دون أن يذكر الآخر.
وفاة طغرل بك وتولى ألب أرسلان:
كان «طغرل بك» من كبار الشخصيات فى التاريخ، اتصف بالشجاعة
والإقدام، والعقل والحلم، وكان من أشد الناس احتمالاً وأكثرهم
كتمانًا لسره، كريمًا، محافظًا على الصلوات الخمس، ويصوم يومى
الإثنين والخميس.
ورغم أن بعض المؤرخين وصفه بالظلم والقسوة، فإن ذلك لا يتفق مع
صفاته السابقة التى سجلها له معظم المؤرخين.
وقد أوصى «طغرل بك» بأن يخلفه بعد موته ابن أخيه «سليمان بن
داود جغرى»؛ حيث إنه لم يخلف ولدًا، وفى (8 من رمضان سنة 455هـ
= سبتمبر سنة 1063م) توفى «طغرل بك» بمدينة «الرى» ببلاد
«الجبل»، وعمره نحو سبعين عامًا، وقد نفذ «عميد الملك الكندرى»
وصية «طغرل بك»، ولكن الناس كانوا أميل إلى «ألب أرسلان»،
فأمر «عميد الملك» بالخطبة له وتم الأمر له بمساعدة وزيره «نظام
الملك»، وأصبح سلطانَ «السلاجقة».
قتل عميد الملك الكندرى ووزارة نظام الملك:
عقب تولِّى «ألب أرسلان» سلطنة «السلاجقة»، أقر «عميد الملك
الكندرى» وزير عمه «طغرل» فى منصبه، ولكنه سرعان ما تغير عليه
فعزله فى شهر (المحرم سنة 456هـ = ديسمبر سنة 1063م)، وسجنه،(3/73)
ثم دبر قتله فى شهر (ذى الحجة سنة 456هـ = نوفمبر سنة 1064م)،
ويبدو أن «نظام الملك» لعب دورًا فى ذلك.
وبعد عزل «عميد الملك»، عين «ألب أرسلان» «نظام الملك» وزيرًا له،
وكان وزيره أثناء إمارته على «خراسان» قبل توليه السلطنة، ويُعدُّ
«نظام الملك» أشهر وزراء «السلاجقة» كما يعد من أشهر الوزراء فى
التاريخ الإسلامى.
وكانت بداية معرفة «نظام الملك» بالسلاجقة حينما اتصل بداود بن
ميكائيل بن سلجوق، والد السلطان «ألب أرسلان»، وأعجب بكفاءته
وإخلاصه فسلمه إلى ابنه «ألب أرسلان» وقال له: «اتخذه والدًا ولا
تخالفه فيما يشير به».
وقد ظل «نظام الملك» وزيرًا للسلطان «ألب أرسلان» ثم لخليفته
«ملكشاه» ما يقرب من ثلاثين عامًا.
ولم يكن «نظام الملك» مجرد وزير لامع، بل كان راعيًا للعلم والأدب
محبا لهما، وقد سمع الحديث وقرأه، وكان مجلسه عامرًا بالعلماء
والفقهاء والصوفية، مثل إمام الحرمين «أبى المعالى الجوينى»
و «أبى القاسم القشيرى»، كما اهتم «نظام الملك» ببناء المدارس
ووضع أسس قيام نهضة تعليمية رائعة.
اتساع مملكة السلاجقة خلال حكم ألب أرسلان (455 - 465هـ = 1063
- 1073م):
استطاع «ألب أرسلان» أن يوسع حدود مملكة «السلاجقة» التى
ورثها عن عمه «طغرل»، وأن يسجل انتصارات رائعة ضد أعدائه فى
الداخل والخارج، فنجح فى القضاء على حركات العصيان فى
«خراسان» و «ما وراء النهر» و «أذربيجان»، وتمكن من تعزيز الوجود
الإسلامى فى «أرمينيا»، واستولى على «حلب» وقضى على النفوذ
الفاطمى بها.
معركة ملاذكرد:
عزم الإمبراطور البيزنطى «رومانوس الرابع» على طرد «السلاجقة»
من «أرمينيا» وضمها إلى النفوذ البيزنطى، فأعد جيشًا كبيرًا سنة
(463هـ = 1071م) يتكون من مائتى ألف مقاتل، وتولَّى قيادته
بنفسه، وزحف به إلى «أرمينيا»، وعندما علم السلطان «ألب
أرسلان» بذلك وهو بأذربيجان لم يستطع أن يجمع من المقاتلين إلا(3/74)
خمسة عشر ألف فارس، فتقدم بهم إلى لقاء الإمبراطور البيزنطى
وجحافله، والتقت مقدمة جيش السلطان بمقدمة جيش «رومانوس» فى
«أرمينيا» فهزمتها.
وقد أراد السلطان «ألب أرسلان» استغلال هذا النصر المبدئى
فأرسل إلى الإمبراطور «رومانوس» يعرض عليه الصلح، إدراكًا منه
لحرج موقفه بسبب قلة جنده، فرفض «رومانوس» الصلح وهدد
السلطان بالهزيمة والاستيلاء على ملكه، وقد ألهب هذا التهديد حماس
السلطان وجيشه وعزموا على إحراز النصر أو الشهادة، ووقف فقيه
السلطان وإمامه «أبو نصر محمد بن عبدالملك البخارى» يقول
للسلطان: «إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر
الأديان، وأرجو أن يكون الله - تعالى - قد كتب باسمك هذا الفتح،
فالْقَهُم يوم الجمعة بعد الزوال، فى الساعة التى تكون الخطباء على
المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة».
فلما جاءت هذه الساعة صلى بهم، وبكى السطان فبكى الناس
لبكائه ودعا ودعوا معه، ولبس البياض وتحنَّط وقال: إن قُتِلْتُ فهذا
كفنى!.
والتقى جيش السلطان وجيش الإمبراطور فى مدينة «ملاذكرد»
بأرمينيا، وحمل المسلمون على الروم حملة رجل واحد، وأنزل الله
نصره عليهم فانهزم الروم وامتلأت الأرض بجثثهم، وتمكن المسلمون
من أسر إمبراطور الروم «رومانوس»، فأحسن السلطان «ألب
أرسلان» معاملته، وأعفاه من القتل مقابل فدية مقدارها مليون
ونصف مليون دينار، وعقد معه صلحًا مدته خمسون عامًا، وأطلق
سراحه وأرسل معه جندًا أوصلوه إلى بلاده ومعهم راية مكتوب عليها
«لا إله إلا الله محمد رسول الله».
وقد أنهت معركة «ملاذكرد» النفوذ البيزنطى فى «أرمينيا» بصورة
مطلقة، وفتحت المجال لامتداد النفوذ الإسلامى السلجوقى إلى «آسيا
الصغرى»، وتهديده العاصمة البيزنطية وما وراءها فى «أوربا».
وقد حدثت هذه المعركة المظفرة - معركة «ملاذكرد» - فى شهر (ذى
القعدة سنة 463هـ = أغسطس 1071م).(3/75)
ولا يستطيع الباحثون عن جذور الحروب الصليبية التى حدثت فيما بعد
أن يتجاهلوا دور هذه المعركة (ملاذكرد) فى تهيئة الظروف التى أدت
إلى هذه الحروب.
مقتل ألب أرسلان وانتقال السلطة إلى ابنه ملكشاه:
فى أوائل عام (465هـ = 1073م) توجه «ألب أرسلان» إلى بلاد «ما
وراء النهر» لتأديب أمير «بخارى» الثائر «شمس الملك نصر»، وبينما
هو فى طريقه جاءوا إليه بأمير إحدى القلاع، واسمه «يوسف
الخوارزمى» مقيدًا بسبب عصيانه، وأغلظ «يوسف» القول للسلطان،
فطلب «ألب أرسلان» فك قيوده ليقتله بنفسه، ولكن «يوسف» كان
أسرع من السلطان فطعنه بخنجر كان معه، فمات السلطان «ألب
أرسلان» بعد أيام متأثرًا بجراحه فى (10 من ربيع الأول سنة 465هـ
= أواخر نوفمبر سنة 1072م)، وعمره أربعون أو خمس وأربعون
سنة.
وقد كان «ألب أرسلان» - بإجماع المؤرخين - من عظماء سلاطين
«السلاجقة»، وكان قائدًا عسكريا من الطراز الأول، وسياسيا محنكًا
وحاكمًا عادلاً، فلم يتجاوز فى جمع الأموال من الرعية، وكان كثير
الصدقات خاصة فى رمضان، بارا بأهله وأصحابه ومماليكه، شهمًا ذا
مروءة، ولم يكن يسمح للدسائس أن تعرف طريقها إليه، فقد حاول
أحد الوشاة مرة أن يفسد ما بينه وبين وزيره «نظام الملك»، فكتب
له كتابًا يبين له فيه ما يرتكبه الوزير من مخالفات، وتركه له على
مُصلاه فعندما أخذه «ألب أرسلان» وقرأ ما فيه، سلَّمه إلى «نظام
الملك» وقال له: خذ هذا الكتاب، فإن صدقوا فى الذى كتبوه، فهذب
أخلاقك، وأصلح أحوالك، وإن كذبوا فاغفر لهم زلتهم واشغلهم بمهم
يشتغلون به عن السعاية بالناس.
وعقب وفاة «ألب أرسلان» تولى السلطنة ابنه «ملكشاه» بعهد من
أبيه، وتولى «نظام الملك» أخذ البيعة له، وأقره الخليفة «القائم بأمر
الله» على السلطنة.
استمرار نظام الملك فى الوزارة واتساع نفوذه فى عهد ملكشاه:
لم يكتفِ «ملكشاه» بإقرار «نظام الملك» فى الوزارة كما كان فى(3/76)
عهد أبيه، بل زاد على ذلك بأن فوض إليه تدبير المملكة، وقال له:
«قد رددت الأمور كلها كبيرها وصغيرها إليك، فأنت الوالد»، ولقبه
ألقابًا كثيرة، أشهرها لقب «أتابك»، ومعناه الأمير الوالد، وكان
«نظام الملك» أول مَن أُطلق عليه هذا اللقب.
وسبب هذه المكانة الرفيعة التى حظى بها «نظام الملك» عند
السلطان «ملكشاه»، أنه هو الذى مهد له الأمور، وقمع المعارضين،
فرآه السلطان أهلاً لهذه المكانة.
وفاة الخليفة القائم بأمر الله، وبيعة المقتدى بأمر الله:
تُوفِّى الخليفة «القائم بأمر الله» فى (13 من شعبان سنة 467هـ = 3
من أبريل سنة 1075م) فى أوائل سلطنة «ملكشاه»، وعمره يزيد
على ستةٍ وسبعين عامًا، وقد استمر فى الخلافة نحو خمسٍ وأربعين
سنة.
وقد شهدت خلافة «القائم بأمر الله» تدهور «دولة البويهيين»
واندثارها، وقيام «دولة السلاجقة» ثم ازدهارها.
وقد أجمع المؤرخون على أن «القائم بأمر الله» كان يتحلى بالأخلاق
الحميدة، فقد كان ورعًا ديِّنًا زاهدًا عالمًا، قوى اليقين بالله تعالى،
كثير الصبر، مؤثرًا للعدل والإنصاف، قاضيًا لحوائج الناس.
وقد كان للقائم بأمر الله ابن وحيد، تُوفِّى فى حياته، هو «أبو
العباس محمد» الملقب بالذخيرة وقد ولد للذخيرة بعد وفاته بستة
أشهر غلام، اشتد به فرح جده «القائم» وسماه «عبدالله».
وعندما تُوفِّى «القائم» كان «عبدالله» هذا فى العشرين من عمره
فتولى الخلافة بعد جده فى (13 من شعبان سنة 467هـ = 3 من
أبريل 1075م)، ولقب بالمقتدى بأمر الله.
الخلفاء العباسيون فى العهد السلجوقى:
كان «المقتدى بأمر الله»، أول خليفة يتقلد منصبه فى ظل «دولة
السلاجقة»، وبذلك يكون الخلفاء الذين تولوا الخلافة فى العهد
السلجوقى - بعد «القائم بأمر الله» - ثمانية هم:
1 - المقتدى بأمر الله (عبدالله بن محمد بن القائم بأمر اللهـ) [467 -
487هـ = 1075 - 1094م].(3/77)
2 - المستظهر بالله (أبو العباس أحمد بن المقتدى بأمر اللهـ) [487 -
512هـ = 1094 - 1118م].
3 - المسترشد بالله (أبو منصور الفضل بن المستظهر) [512 - 529هـ =
1118 - 1135م].
4 - الراشد بالله (أبوجعفر المنصور بن المسترشد) [529 - 530هـ =
1135 - 1136م].
5 - المقتفى لأمر الله (أبوعبدالله بن محمد بن المستظهر باللهـ) [532 -
555هـ = 1138 - 1160م].
6 - المستنجد بالله (أبوالمظفر يوسف بن المقتفى) [555 - 566هـ =
1160 - 1170م].
7 - المستضىء بأمر الله (أبو محمد الحسن بن المستنجد باللهـ) [566 -
575هـ = 1170 - 1179م].
8 - الناصر لدين الله (أبو العباس أحمد بن المستضىء بأمر اللهـ) [575
- 622هـ = 1179 - 1225م].
وقد شهدت خلافة «الناصر لدين الله» زوال ملك «السلاجقة» فى سنة
(590هـ = 1194م) وبداية استقلال الخلفاء العباسيين بالسلطة فى
«بغداد» وما يحيط بها.
ذروة المجد السلجوقى:
بلغت «الدولة السلجوقية» ذروة مجدها وعظمتها على يد «ملكشاه»
الذى استمر فى السلطنة عشرين عامًا تقريبًا؛ حيث استطاع أن
يستثمر ما حققه «طغرل بك» و «ألب أرسلان» على أحسن وجه،
فحقق إنجازات عظيمة بمعاونة وزيره «نظام الملك».
وقد تزامنت سلطنة «ملكشاه» -فى معظمها- مع خلافة «المقتدى بأمر
الله»، الذى تولى منصبه بعد ابتداء حكم «ملكشاه» بعامين، وتُوفِّى
بعد وفاته بعامين.
وقد اتسعت حدود «الدولة السلجوقية» فى عهد «ملكشاه» اتساعًا
غير مسبوق، من حدود الصين إلى آخر «الشام»، ومن أقاصى بلاد
الإسلام فى الشمال إلى آخر بلاد «اليمن»، وحمل إليه ملوك الروم
الجزية.
وترجع عظمة «الدولة السلجوقية» فى عهد «ملكشاه» إلى اتساع
حدودها وازدهار الحركة الثقافية فيها بصورة جديرة بالإعجاب.
وكان لنظام الملك أثر متميز وجهد خلاق فى ذلك، على المستوى
الإدارى والعسكرى، والثقافى.
فاهتم بإنشاء العديد من المدارس التى نسبت إليه فى أنحاء الدولة،(3/78)
فسميت بالمدارس النظامية، وكان أشهرها: «نظامية بغداد» التى
تخيَّر «نظام الملك» مشاهير الفكر والثقافة فى العالم الإسلامى
للتدريس فيها مثل: «حجة الإسلام أبى حامد الغزالى» صاحب كتاب
«إحياء علوم الدين»، الذى فوض إليه «نظام الملك» مهمة التدريس فى
«المدرسة النظامية» ببغداد، ثم فى «المدرسة النظامية» بنيسابور،
التى كان إمام الحرمين أبو المعالى الجوينى يقوم بالتدريس فيها.
وقد أسهمت هذه المدارس النظامية فى تثبيت قواعد المذهب السنى
والدفاع عنه ضد مختلف البدع والأهواء والمذاهب المنحرفة التى
انتشرت فى ذلك الوقت.
وقد كان «نظام الملك» مؤلفًا مرموقًا أيضًا، فهو مؤلف كتاب
«سياسة نامه» الذى تحدث فيه عن كيفية تدبير شئون الملك، وفضح
معتقدات الحشاشين وغيرهم من الخارجين عن الدين.
مقتل نظام الملك ووفاة ملكشاه:
قتل «نظام الملك» فى (10 من رمضان سنة 485هـ = 14من أكتوبر
سنة 1092م)، حين تقدم إليه أحد غلمان الباطنية (أو الحشاشين) وهو
فى ركب السلطان فى صورة سائل أو مستغيث، فلما اقترب منه
أخرج سكينًا كان يخفيها فى طيات ملابسه فطعنه بها طعنات قاتلة.
وقد اختلف المؤرخون فى بيان السبب الذى أدى إلى مقتل «نظام
الملك»، فقيل إن نفوذ «نظام الملك» وأولاده وشيعته تفاقم بصورة
مثلت خطرًا على السلطان «ملكشاه» فدبر قتله، وقيل إن السبب فى
ذلك حربه الدائمة ضد المذاهب الهدامة وعلى رأسها مذهب الباطنية أو
الحشاشين.
وعقب مقتل «نظام الملك» عين «ملكشاه» «تاج الملك أبا الغنائم
الشيرازى» وزيرًا، وكان صاحب خزانة السلطان ومعروفًا بحقده على
«نظام الملك».
وقد تُوفِّى «ملكشاه» بعد وفاة «نظام الملك» بخمسة وثلاثين يومًا
فى (15 من شوال سنة 485هـ = 18 من نوفمبرسنة 1092م)، فانطوت
صفحة من أكثر صفحات التاريخ السلجوقى تألقًا وعظمة.
فقد كان السلطان «ملكشاه» أعظم سلاطين «السلاجقة» وأحسنهم(3/79)
سيرة، وأعدلهم حكمًا، منصورًا فى حروبه، جوادًا يحب الإنفاق فى
وجوه الخير، لا يبخل بمال على ما ينفع العلم والدين، ومما يروى فى
ذلك أن أحد كبار حاشيته - وهو «تاج الملك» - أراد أن يفسد العلاقة
بينه وبين «نظام الملك»، فذكر له أن الوزير ينفق فى كل سنة على
أصحاب المدارس والفقهاء والعلماء ثلاثمائة ألف دينار، ولو جهز بهذا
المبلغ جيشًا لبلغ باب «القسطنطينية»! فطلب السلطان «ملكشاه»
حضور «نظام الملك» وسأله عن حقيقة الأمر فقال له: قد أعطاك الله -
تعالى - وأعطانى بك ما لم يعطه أحدًا من خلقه، أفلا نعوضه عن ذلك
فى حَمَلَةِ دينه وحَفَظَةِ كتابه ثلاثمائة ألف دينار؟! ثم إنك تنفق على
الجيوش المحاربة فى كل سنة أضعاف هذا المال مع أن أقواهم
وأرماهم لا تبلغ رميته ميلاً، ولا يضرب بسيفه إلا ما قرب منه، وأنا
أُجيش لك بهذا المال جيشًا تصل من الدعاء سهامه إلى العرش لا
يحجبها شىء عن الله تعالى!! فبكى السلطان وقال: «يا أبت
استكثر من الجيش، والأموالُ مبذولة لك، والدنيا بين يديك».
تدهور أوضاع السلاجقة بعد وفاة ملكشاه:
بدأت مظاهر الضعف تنتشر فى جسم «الدولة السلجوقية» عقب وفاة
«ملكشاه»، فظهر الانقسام والتمزق والفتن، باستثناء فترة حكم
السلطان «معز الدين سنجر أحمد»؛ حيث شهدت الدولة قوة وصحوة
مؤقتة.
ويوجد عدد من النقاط الأساسية التى لا يمكن إغفالها عند تناول
تاريخ الفترة التى شهدت تدهور أوضاع «السلاجقة»، وهى:
أولاً: فروع السلاجقة:
يتفرع «السلاجقة» إلى خمسة فروع رئيسية هى:
(أ) السلاجقة العظام:
وهم ستة: «طغرل بك»، و «ألب أرسلان»، و «ملكشاه»، و «ركن الدين
أبو المظفر بَرْكيَارُق» (485 - 498هـ = 1092 - 1105م) و «غياث الدين
أبو شجاع محمد» (498 - 511هـ = 1105 - 1117م)، و «معز الدين
سنجر أحمد» (511 - 552هـ = 1117 - 1157م).
ورغم أن مصطلح «السلاجقة العظام» يطلق على هؤلاء الستة، إلا أن(3/80)
الجديرين حقا بهذا الوصف هم الثلاثة الأُوَل، أما الآخرون فقد خاضوا
كثيرًا من الحروب ضد أبناء بيتهم وعانت الدولة فى عهدهم من
عوامل الفرقة والتمزق.
(ب) سلاجقة العراق:
ويطلق هذا المصطلح على أمراء «السلاجقة» الذين سيطروا على
«العراق» و «الرى» و «همدان» و «كردستان»، وكان امتداد نفوذهم
فى هذه المناطق على حساب «السلاجقة العظام»، واستمر نفوذهم
من سنة (511هـ= 1117م) إلى سنة (590هـ= 1194م)، حين تمكن
الخوارزميون من القضاء على «طغرل الثالث» آخر سلاطينهم.
(ج) سلاجقة كرمان:
وقد بدأ نفوذهم فى الجنوب الشرقى لفارس وفى بعض مناطق
الوسط سنة (433هـ = 1042م)، قبل دخول «طغرل بك» «بغداد»،
واستمر حتى سنة (583هـ = 1187م)، حين قضى التركمان الغز (41)
على سلطتهم هناك.
(د) سلاجقة الشام:
وكان نفوذهم فى المناطق التى استولى عليها «السلاجقة» من
الفاطميين أو الروم فى «الجزيرة» و «الشام»، وقد بدأ نفوذهم فى
هذه المناطق سنة (487هـ = 1094م) وانتهى سنة (511هـ=1117م)
على يد أتابكة «الشام» و «الجزيرة».
(هـ) سلاجقة الروم:
وكان نفوذهم فى الأراضى التى استطاع «السلاجقة» الاستيلاء
عليها من الروم فى «آسيا الصغرى»، وكانت إمارتهم أطول إمارات
«السلاجقة» عمرًا؛ حيث بدأت سنة (470هـ = 1077م) واستمرت حتى
سنة (700هـ = 1301م) حين استطاع الأتراك العثمانيون القضاء عليها.
ثانيًا: الحروب الصليبية والسلاجقة:
كان اتساع نفوذ «السلاجقة» وتهديده للإمبراطورية البيزنطية
و «أوربا»، خاصة بعد معركة «ملاذكرد»، سببًا فى قيام الحروب
الصليبية.
فقد عقد البابا «إربان الثانى» مجمع «كليرمونت» فى (18 من
نوفمبر سنة 1095م = 28 ذى القعدة سنة 488هـ)، وألقى فيه خطابًا
طالب فيه المسيحيين فى «أوربا» بالقيام بحرب دينية (صليبية) تهدف
إلى مساعدة إخوانهم المسيحيين فى الشرق، وتخليص الأماكن
المسيحية من قبضة المسلمين، وطرد «السلاجقة» من «آسيا
الصغرى».(3/81)
وكان من الطبيعى أن يقوم «السلاجقة» بالتصدى لتلك الحروب
وحماية العالم الإسلامى من أخطارها، ولكن ذلك لم يحدث بسبب تمزق
دولتهم بعد وفاة «ملكشاه»، واشتعال الصراع فيما بينهم للسيطرة
على «الشام»؛ مما أدى إلى اضطراب الأمور وإتاحة الفرصة لنجاح
الحملة الصليبية الأولى (1096 - 1099م = 489 - 491هـ).
فقد اكتسح الصليبيون قوات «سلاجقة» الروم فى «آسيا الصغرى»
بقيادة الحاكم السلجوقى «قلج أرسلان»، ثم تقدموا فى اتجاه مدينة
«الرهابين»: «الموصل» و «الشام»، فاستولوا عليها وتوجَّهوا إلى
«أنطاكية» فحاصروها حتى استسلمت وفر أميرها السلجوقى
«باغى سيان»، وساروا بعد ذلك إلى «معرة النعمان» التى ينتسب
إليها الشاعر المشهور «أبو العلاء المعرى»، فحاصروها حتى
استسلم أهلها فقتلوا منهم ما يزيد على مائة ألف، ثم جاء فتح
الصليبيين الأكبر بالاستيلاء على «بيت المقدس» فى (رمضان سنة
492هـ = يوليو سنة1099م) بعد محاصرته عدة أسابيع، وارتكب فيه
الصليبيون مذبحةً تقشعر لها الأبدان؛ حيث قتلوا ما يزيد على سبعين
ألفًا منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعُبَّادهم
وزهَّادهم، الذين كانوا يتعبدون بجوار «بيت المقدس».
وقد وقف «السلاجقة» عاجزين أمام طوفان الصليبيين، فقد كانت
أوضاع دولتهم تنتقل من سيئ إلى أسوأ، وكانت الخلافة العباسية
جسمًا بلا روح، ولم يكن وضع الفاطميين فى «مصر» يتيح لهم
مواجهة الصليبيين.
وظل الأمر كذلك حتى ولى السلطان «محمود بن محمد بن ملكشاه»
«عماد الدين زنكى» إمارة «الموصل» والبلاد التابعة لها، فكان ذلك
فاتحة خير للمسلمين؛ حيث استطاع «عماد الدين زنكى» مد نفوذه
إلى «الجزيرة» و «الشام»، فاستولى على «حلب» سنة (522هـ =
1128م)، وعلى «حماة» سنة (523هـ = 1129م)، ونذر نفسه للجهاد
المقدس ضد الصليبيين، وكان أعظم إنجاز حققه «زنكى» فى هذا
المجال استرداده مدينة «الرها» من الصليبيين فى (جمادى الآخرة(3/82)
سنة 539هـ = ديسمبر سنة 1144م).
وقد أعد «عماد الدين زنكى» أبناءه الثلاثة «نور الدين محمود»،
و «سيف الدين غازى»، «وقطب الدين مودود» لمواصلة الجهاد المقدس
ضد الصليبيين.
فاستطاع «نور الدين محمود» الذى خلف أباه على حكم «سوريا»
سنة (541هـ = 1146م) أن يؤمن فتوحات والده فى «الرها»، وأن
ينزل هزيمة ساحقة بحاكم «الرها» الصليبى «جوسلين»، وتمكن من
أسره سنة (546هـ = 1151م) كما حقق فتوحات عظيمة فى إمارة
«أنطاكية» وقتل أميرها «ريموند» فى (ربيع الأول سنة544 هـ =
يوليو سنة 1149م).
ويرجع إلى «نور الدين محمود» الفضل فى استمرار حركة الجهاد
الإسلامى ضد الصليبيين ووصولها إلى ذروتها على يد السلطان
«صلاح الدين الأيوبى» الذى تربى فى خدمة «نور الدين محمود»،
وتشرَّب على يديه حب الجهاد دفاعًا عن الإسلام، واستطاع أن يفتح
«مصر» فى حياة «نور الدين» لتنضم إلى «الشام» وتتم عملية تطويق
الصليبيين.
وعقب وفاة «نور الدين محمود» فى (شوال سنة 569هـ = إبريل
سنة1174م) أصبح «صلاح الدين الأيوبى» سلطان «مصر» و «الشام»،
واستطاع أن يحقق أروع انتصار فى تاريخ الجهاد الإسلامى ضد
الصليبيين فى معركة «حِطِّين» سنة (583هـ = 1187م)؛ حيث استرد
المسلمون «بيت المقدس».
ثالثًا: الباطنية والسلاجقة:
«الباطنية» فرقة تجعل الباطن أساسًا لفهم أمور الدين ولا تعتمد على
الظاهر، وتلجأ إلى تأويل النصوص وتضم هذه الفرقة «القرامطة»،
و «الخُرَّمية»، و «الإسماعيلية»، و «الحشاشين».
وقد ظهرت «حركة الباطنية» فى العصر السلجوقى بصورة أقلقت
سلاطين «السلاجقة»، واستنفذت الكثير من جهودهم، فقد استطاع
زعيمهم «الحسن بن الصباح» الاستيلاء على عدة قلاع حصينة فى
«فارس»، أشهرها قلعة «أَلَموت» بنواحى «قزوين»، التى ظلت
معقل «الحركة الباطنية» لما يقرب من قرنين من الزمان.
وقد حاول «نظام الملك» أن يضع حدا لنفوذ «الباطنية» وأمر(3/83)
بمطاردتهم فى كل مكان، وأرسل جيشًا للاستيلاء على «ألموت»
ولكنه قتل فى (رمضان سنة 485هـ = أكتوبر سنة 1092م)، ورجح
المؤرخون قيام «الباطنية» بقتله.
وقد قام «السلاجقة» بمحاولات متتالية لتصفية قواعد «الباطنية»
ومحاصرة نشاطهم، نجح بعضها، وواجه بعضها الفشل.
وكان السلطان «ملكشاه» أول سلاطين «السلاجقة» الذين حاولوا
مواجهة خطر «الباطنية»، فأرسل إليهم جيشًا بقيادة «أرسلان
طاسن»، ولكنه هزم هزيمة منكرة.
وتعتبر الجهود التى قام بها السلطان «غياث الدين محمد بن ملكشاه»
ضد «الباطنية» أخطر ما واجهته هذه الحركة فى عهد «السلاجقة»،
ففى سنة (500هـ= 1107م) توجه السلطان «محمود» بنفسه إلى
«أصبهان» لحرب «الباطنية» الذين كانوا يعتصمون بقلعة «شاهْدَز»
المنيعة بزعامة «أحمد بن عبدالملك بن عطاش»، وقد نجح السلطان
«محمد» فى الاستيلاء على هذه القلعة وقتل زعيمها «ابن عطاش»
وكثيرًا من «الباطنية» فى (ذى القعدة سنة 500هـ = يونيوسنة 1107
م).
وفى عهد السلطان «معز الدين سنجر» (511 - 552هـ = 1117 -
1157م) قتل «الباطنية» وزيره «معين الملك أبا نصر أحمد بن الفضل»
سنة (521هـ = 1127م)، وأدرك السلطان مدى خطورتهم، فاتبع معهم
سياسة المهادنة.
ورغم وفاة زعيم «الباطنية» «الحسن بن الصباح» سنة (518هـ=
1124م) فإن «السلاجقة» لم يستطيعوا استرداد قلعة «ألموت» منهم،
فظلت تحت سيطرتهم حتى استولى عليها المغول سنة (654هـ=
1256م)، ولم ينحصر نشاط «الإسماعيلية الباطنية» فى عهد
«السلاجقة» فى بلاد «فارس»، بل امتد إلى «الشام»، وكانت له
آثاره المدمرة، واتسع نشاطهم فى «حلب» فى عهد أميرها
السلجوقى «رضوان بن تُتُش بن ألب أرسلان» (488 - 507 هـ = 1095
- 1113م)، وحينما تصدى لهم أمير دمشق» «تاج الملوك بورى بن
طغتكين» سنة (523هـ = 1129م)، وقتل منهم آلافًا تربصوا به
وهاجموه سنة (525هـ = 1131م) وجرحوه جراحات خطيرة، تُوفِّى
متأثرًا بها فى العام التالى.(3/84)
وكان من أخطر محاولات «الباطنية» لاغتيال خصومهم محاولتهم
اغتيال السلطان «صلاح الدين الأيوبى» أكثر من مرة فاشلة.
وقد أثرت المتاعب التى أثارها «الباطنية» فى وجه «السلاجقة» فى
قدرتهم على القيام بدور أكثر إيجابية فى التعامل مع الصليبيين.
وقد ارتبط اسم «الحشاشين» بالباطنية الإسماعيلية فى الفترة التى
أعقبت استيلاءهم على قلعة «ألموت» سنة (483هـ = 1090م) فى
أواخر عهد السلطان «ملكشاه»، وحتى سقوط معاقلهم فى «فارس»
و «الشام» على يد المغول، وسبب ذلك أنهم كانوا يطلبون من الذين
يتم تكليفهم بالقيام بعمليات الاغتيال تعاطى مادة الحشيش المخدرة
حتى يصبحوا أدوات طيعة فى أيدى من يستخدمونهم لتنفيذ هذه
العمليات.
رابعًا: سقوط الخلافة الفاطمية ودخول مصر تحت لواء الخلافة
العباسية (567هـ = 1171م):
ظلت «مصر» خاضعة للفاطميين أكثر من قرنين تعاقب خلالها على
كرسى الخلافة الفاطمية بمصر أحد عشر خليفة، ابتداءً بالمعز لدين
الله وانتهاءً بالعاضد لدين الله، الذى عادت «مصر» فى عهده إلى
الخلافة العباسية فى (المحرم سنة 567هـ = سبتمبر 1171م)، فبعد
وفاة الخليفة الفاطمى «الفائز بنصر الله» فى رجب سنة (555هـ)
تولى «العاضد بالله»، آخر خلفاء الفاطميين، عرش «مصر»، وكان
صبيا لم يبلغ الحلُم، فأشرف وزيره «طلائع بن رُزِّيك» الأرمنى على
تدبير شئون البلاد، حتى قتل فى (رجب سنة 556هـ = يونيو
سنة1161م) بتدبير من حاشية «العاضد» - فتولى الوزارة بعده ابنه
«رُزِّيك بن طلائع»، الذى قتل أيضًا فى سنة (558هـ = 1163م)، على
يد أحد منافسيه وهو «شاور بن مجير السعدى» الذى تولى الوزارة
بعده.
كان «شاور» انتهازيا سيئ الطبع، خبيثًا سفاكًا للدماء، أساء
معاملة الرعية، فثار عليه أحد القادة المشهورين فى «مصر» وهو
«ضِرْغام بن عامر»، واستطاع هزيمته هزيمة ساحقة وكان ذلك بداية
الطريق لانتهاء النفوذ الفاطمى فى «مصر».(3/85)
لجأ «شاور» بعد هزيمته إلى السلطان «نور الدين محمود» بالشام،
وأطمعه فى ملك «مصر»، فأرسلَ معه حملة للاستيلاء على «مصر»
بقيادة «أسد الدين شيركوه بن شاوى الكردى» عم «صلاح الدين
الأيوبى»، فدخل «القاهرة» فى أواخر (جمادى الآخرة سنة 559هـ =
مايو سنة 1164م)، وقتل «ضرغام»، وأعاد «شاور» للوزارة فى
(رجب سنة 559هـ = مايو سنة 1164م)، إلا أن «شاور» غدر بعهده مع
السلطان «نور الدين محمود» وقائده «أسد الدين»، فطلب من «أسد
الدين» العودة إلى «الشام» فرفض واتجه إلى مدينة «بلبيس»،
واستولى عليها وتحصن بها.
استعان «شاور» بملك «بيت المقدس» الصليبى «أملريك» الذى تسميه
المصادر العربية «مُرِّى»، وشرح له ما قد يتعرض له الفرنج من مخاطر
إذا استولى السلطان «نور الدين محمود» على «مصر»، فاستجاب له
«أملريك» وتقدم بجيشه نحو «مصر»؛ حيث اتجه مع «شاور» إلى
«بلبيس» لمحاصرة «أسد الدين شيركوه»، إلا أن الأخبار جاءت إلى
«أملريك» بأن «نور الدين محمود» انتهز فرصة غيابه عن «فلسطين»
فهاجمها واستولى على بعض قلاعها، فاضطر «أملريك» إلى رفع
الحصار عن «أسد الدين شيركوه» والتفاوض معه على العودة إلى
«الشام»، فتوجه «أسد الدين» إلى «الشام» فى (ذى الحجة سنة
559هـ = أكتوبر 1164م).
وفى (ربيع الآخر سنة 562هـ= فبراير سنة 1167م) قاد «أسد الدين»
حملته الثانية على «مصر»، بعد استئذان السلطان «نور الدين
محمود»، فاستنجد «شاور» بالصليبيين وملك «بيت المقدس»
«أملريك»، والتقى الطرفان فى مكان يسمى «البابين» بنواحى
المنيا بصعيد «مصر» فى (25 جمادى الآخرة سنة 562هـ = إبريل سنة
1167م)، واستطاع «أسد الدين شيركوه» أن يهزم جيش «أملريك»
و «شاور» رغم قلة جنده، كما استولى على «الإسكندرية» وأناب
عليها ابن أخيه «صلاح الدين»، واستولى على الصعيد.
وقد حاول الفرنج انتزاع «الإسكندرية» من «صلاح الدين» فحاصروها(3/86)
عدة أشهر بلا فائدة، فتم الاتفاق بين الفرنج و «أسد الدين» على
تسليم «الإسكندرية» لشاور مقابل حصول «أسد الدين» على خمسين
ألف دينار وانسحاب الفرنج من «مصر».
وتطورت الأحداث فى «مصر» بصورة خطيرة، فقد حاول ملك «بيت
المقدس» «أملريك» السيطرة على «مصر» بمعاونة «شاور»،
فاستولى على «بلبيس» فى (صفر 564هـ = نوفمبر سنة 1168م)
وتوجه إلى «القاهرة» وحاصرها، مما دفع الخليفة الفاطمى
«العاضد» إلى أن يستغيث بالسلطان «نور الدين محمود»، الذى
أرسل إليه حملة بقيادة «أسد الدين شيركوه» ومعه ابن أخيه «صلاح
الدين»، فرفع الفرنج الصليبيون حصارهم عن «القاهرة» وتركوا
«مصر» قبل وصول جيش «أسد الدين شيركوه»، فأصبح الطريق
ممهدًا أمام «أسد الدين»، ودخل «القاهرة» فى (7 من ربيع الآخر
سنة 564هـ = 8 من يناير 1169م)، وقتل «شاور» بإذن من الخليفة
«العاضد» فى (17 ربيع الآخر سنة 564هـ = 18 من يناير سنة 1169م)
وأصبح «أسد الدين شيركوه» وزيرًا للخليفة «العاضد»، وبعد وفاته
فى (22 من جمادى الآخرة سنة 564هـ) تولى ابن أخيه «صلاح
الدين» الوزارة ولقبه «العاضد» بالملك الناصر، فانتهى نفوذ
الفاطميين الفعلى فى «مصر» وأصبحت خلافتهم شكلية فقط.
وعقب تولى «صلاح الدين» الوزارة، بدأ يمهد الأمور للقضاء التام
على النظام الفاطمى فى «مصر»، فاستقل بالأمور، ومنع الخليفة
«العاضد» من التصرف فى شئون البلاد، ثم عزل قضاة «مصر»
الشيعة سنة (566هـ = 1171م)، وعين «عبدالملك بن درباس» من كبار
فقهاء الشافعية فى منصب «قاضى القضاة»، وأوقف الأذان بحى
على خير العمل فى ديار «مصر» كلها، وهى العبارة التى تقحمها
الشيعة فى صيغة الأذان المعروفة.
وفى (الجمعة الثانية من شهر المحرم سنة 567هـ = سبتمبر سنة
1171م) أمر «صلاح الدين» خطباء «مصر» بقطع الخطبة للعاضد وأن
يخطبوا للخليفة العباسى المستضىء، وبذلك سقطت الخلافة الفاطمية(3/87)
فى «مصر»، وخضعت «مصر» مرة ثانية للخلافة العباسية، مما كان
له صدى هائل من الفرح والبهجة فى مجتمع أهل السنة فى جميع
بقاع العالم الإسلامى.
وقد تُوفِّى الخليفة «العاضد» فى (العاشر من المحرم سنة 567هـ =
13 من سبتمبر سنة 1171م) بعد قطع الخطبة له وانتهاء خلافته بأيام
قليلة.
جدير بالذكر أن «صلاح الدين» كان يحكم «مصر» فى ذلك الوقت
نائبًا عن السلطان «نور الدين محمود»، الذى كان خاضعًا للخليفة
العباسى ببغداد من الناحية الشكلية، وقد تُوفِّى «نور الدين محمود»
فى (11 من شوال سنة 569 هـ = أبريل سنة 1174م)، مما مهد الطريق
أمام «صلاح الدين» للاستقلال بحكم «مصر»، وضم ممتلكات «نور
الدين» فى «الشام» إلى «مصر»؛ حيث قامت «الدولة الأيوبية» التى
كانت تدين بالولاء الرسمى للخلافة العباسية.
خامسًا: تطور علاقة السلاجقة بالخلفاء العباسيين:
رغم تعدد روابط المصاهرة بين «السلاجقة» والعباسيين واحترام
السلاطين «السلاجقة» لمنصب الخلافة وإذعانهم له فقد حدث نزاع بين
الطرفين فى بعض الأوقات، وصل أحيانًا إلى استخدام السيف، فبعد
أن بايع الخليفة «المقتدى» ولده «المستظهر بالله» بولاية العهد،
اعترض السلطان «ملكشاه» على ذلك وألزم الخليفة بخلعه وتعيين
ابنه الأصغر «جعفر» وليا للعهد؛ لأنه كان ابن بنت السلطان. كما أمر
السلطان الخليفة بأن يسلم له «بغداد» وأن يخرج إلى «البصرة»،
فشق ذلك على الخليفة ولم ينقذه من ذلك إلا وفاة السلطان.
وفى عهد الخليفة «المسترشد بالله» (512 - 529هـ = 1118 - 1135م)
وابنه «الراشد بالله» (529 - 530 هـ = 1135 - 1136م) تعرضت العلاقة
بين «السلاجقة» والخلفاء إلى أزمة خطيرة انتهت بقتل الأول وخلع
الثانى.
سادسًا: ظهور الدولة الخوارزمية وقضاؤها على السلاجقة:
نشأت «الدولة الخوارزمية» فى ظلال «دولة السلاجقة»، فقد ظهر فى
عهد «ملكشاه الأول» مملوك تركى اسمه «أنوشتكين»، تمتع بتقدير(3/88)
خاص فى بلاط «السلاجقة»، وبسبب ما كان يتمتع به هذا المملوك من
حسن الخلق والشجاعة، فقد ولاه السلطان «ملكشاه» ولاية
«خوارزم».
وعندما تُوفِّى «أنوشتكين» سنة (490هـ = 1097م)، تولى ابنه
«محمد» إمارة «خوارزم»، وكان يلقب «قطب الدين»، و «خوارزم
شاه» أى أمير «خوارزم»، واستمر فى الإمارة ثلاثين عامًا، أسس
خلالها «الدولة الخوارزمية».
وعقب وفاة مؤسس «الدولة الخوارزمية» سنة (522هـ = 1128م) خلفه
فى منصبه ابنه «أتسز»، بموافقة السلطان «سنجر»، وتلقب بأبى
المظفر علاء الدولة، ورغم أن علاقة «أتسز» بسنجر بدأت طيبة كما
كانت فى عهد أبيه «محمد»، فإنها لم تلبث أن تدهورت بعد أن
أظهر «أتسز» رغبته فى الاستقلال عن «السلاجقة»، مما دعا
السلطان «سنجر» إلى مهاجمته وإجباره على الاستسلام، وقد تُوفِّى
«أتسز» عام (551هـ = 1156م) قبل وفاة «سنجر» بعام.
وقد تميز عهد «أتسز» فى «خوارزم» بازدهار الحركة العلمية
والفكرية، وارتبط بهذا العهد اسم عالم من أشهر رجال الفكر
الإسلامى هو «جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشرى
الخوارزمى» صاحب الإنتاج الوافر فى علوم التفسير والكلام والنحو
واللغة، ومن أشهر مؤلفاته: «الكشاف» فى تفسير القرآن الكريم.
وتولى سلطنة «خوارزم» بعد «أتْسِز» ابنه «إيل أرسلان» (تاج الدين
أبو الفتح)، الذى استمر فى الحكم من سنة (551 هـ = 1156م) إلى
سنة (567هـ = 1172م)، ثم تولَّى بعده ابنه الأصغر «سلطان شاه»
الذى دخل فى صراع مع أخيه الأكبر «علاء الدين تَكَشْ» حول
السلطة، وانتهى باستيلاء «تَكَشْ» على «خوارزم» سنة (568هـ =
1173م).
وتعد فترة حكم «تكش» (568 - 596 هـ = 1173 - 1300م) العصر
الذهبى للدولة الخوارزمية، فقد استطاع أن يمد حدود إمارته الصغيرة
إلى «الهند» و «الخليج الفارسى» جنوبًا، وإلى «الفرات» و «شمال
الفولجا» غربًا.
ومما أضفى مزيدًا من الأهمية على حكم «تكش» انتصاره على(3/89)
السلطان السلجوقى «طغرل الثالث» (51) (571 - 590 هـ = 1175 -
1194م)، فى المعركة التى وقعت قرب «الرى» والتى انتهت بقتل
السلطان السلجوقى وانهيار «دولة السلاجقة» فى شهر (ربيع الأول
سنة 590هـ = مارس 1194م).
وقد ترتب على ذلك سيطرة «تكش» على معظم البلاد التى كانت
خاضعة لنفوذ سلاجقة «العراق»، وأهمها «همذان» و «أصفهان»
و «الرى»، وصارت بلاد «الجبل» أو ما يسمى «العراق العجمى» من
أملاك «الدولة الخوارزمية».
وقد حاول الخليفة العباسى «الناصر لدين الله» (أبو العباس أحمد بن
المستضىء) أن يضع حدا لأطماع «تكش» ونفوذه، وكان ذلك بداية
المرحلة الأخيرة فى العصر العباسى الثانى.(3/90)
الفصل السابع
*عصر ما بعد السلاجقة
[590 - 656هـ =1194 - 1258 م]
تعاقب فى منصب الخلافة فى هذا العصر أربعة خلفاء هم:
1 - الناصر لدين الله (590 - 622هـ = 1194 - 1225م).
2 - الظاهر بأمر الله (أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله) (622 - 623هـ
= 1225 - 1226م).
3 - المستنصر بالله (أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله) (623 - 640
هـ = 1226 - 1242م).
4 - المستعصم بالله (أبو أحمد عبدالله بن المستنصر بالله) (640 -
656هـ = 1242 - 1258م).
أما أول هؤلاء الخلفاء - وهو «الناصر لدين الله» - فقد حاول أن يضع
حدا لطموح «علاء الدين تكش»، الذى أراد أن يتنازل له الخليفة عن
السلطة المدنية فى «بغداد»، وأن يكتفى بالسلطة الاسمية على
العالم الإسلامى، فأشعل الخليفة فتيل الصراع بينه وبين سلطان
الغور «غياث الدين محمد بن بهاء الدين»، ونشبت بينهما الحرب سنة
(594هـ = 1198م) وانتهت بهزيمة «تكش».
ولم يكتفِ الخليفة «الناصر» بالاستعانة بالغوريين لإضعاف نفوذ
الخوارزميين، بل إنه استعان بالإسماعيلية الباطنية، وطلب من التتار
(المغول) مساعدته فى القضاء على نفوذ أمراء «خوارزم»، فكان
«الناصر» كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ حيث قضى التتار على
«الدولة الخوارزمية»، وقضوا على «الخلافة العباسية» أيضًا.
ظهور المغول والقضاء على الدولة الخوارزمية:
المغول اسم أطلقه «جنكيز» على أتباعه، وهم شعب وثيق الصلة
بالترك فى اللغة والشكل، يقيم فى المنطقة الواقعة ما بين «الصين»
و «سيبريا الجنوبية» والمنطقة المعروفة اليوم باسم «منغوليا».
ويرى بعض الباحثين أن «المغول» كلمة أوسع دلالة من «التتار»
الذين يمثلون جزءًا من المغول، ولكن الاستعمال الشائع الآن يسوى
بين الكلمتين فى الدلالة.
وقد كان المغول قبائل صغيرة تعيش فى فقر وانحطاط، واستطاع
«جنكيز خان» فى أواخر القرن السادس الهجرى (الثانى عشر
الميلادى) أن يوحِّد هذه القبائل لتصبح «منغوليا» كلها تحت سلطانه(3/91)
سنة (603هـ = 1206م)، وقد تلقب منذ ذلك الحين بلقب «إمبراطور»،
وعرف باسم «جنكيز خان» بدلاً من اسمه الأصلى «تموُين» أو
«تيمورُى».
وقد استطاع «جنكيز خان» تكوين إمبراطورية شاسعة، ففى سنة
(612هـ = 1215م) استولى على «بكين» وفى ذى الحجة سنة (616هـ
= 1219م) استولى على مدينة «بخارى» عاصمة «ما وراء النهر»
وأشعل فيها النار، فحولها إلى كومة رماد، وقتل من أهلها ثلاثين
ألفًا.
وفى (10 من المحرم سنة 617هـ = 17 من مارس سنة 1220م) استولى
على «سمرقند»؛ فسوَّاها بالأرض بعد أن قتل أهلها بلا رحمة.
وفى (شوال سنة 617هـ = نوفمبر سنة 1220م) تُوفِّى السلطان «علاء
الدين محمد بن تكش» بعد أن استبد به الغم بسبب سقوط «ما وراء
النهر» فى يد المغول واقترابهم من «خوارزم»، فتولى بعده ابنه
«جلال الدين منكوبردى»، الذى يعرف عادة باسم «جلال الدين
منكبرتى»، وهو آخر سلاطين «خوارزم».
وفى أوائل عهد «جلال الدين» سنة (618هـ = 1221م) استولى
المغول على «خوارزم» بعد حصار دام خمسة أشهر، وسقطت بذلك
«الدولة الخوارزمية» ببلاد «ما وراء النهر»، وفر السلطان «جلال
الدين» متنقلاً فى عدة بلاد حتى قتله جماعة من الأكراد الناقمين
بإحدى قرى «ميافارفين»، فى منتصف (شوال سنة 628هـ =
أغسطس سنة 1231م)، ففقد المسلمون بطلاً كانوا يطمعون فى
توحيد صفوفهم تحت لوائه لإيقاف طوفان المغول الجارف.
وقد تُوفِّى الخليفة «الناصر» فى أواخر (رمضان سنة 622هـ = سبتمبر
1225م) وعمره نحو سبعين عامًا، بعد أن استمر فى الحكم سبعةً
وأربعين عامًا. وقد شهدت خلافته سقوط «دولة السلاجقة»، وظهور
قوة المغول، وإسقاطهم «الدولة الخوارزمية»، وتهديدهم للعالم
الإسلامى كله، وكانت الخلافة العباسية قد فقدت معظم أرضها ولم
تعد كلمة الخليفة مسموعة إلا فى بعض «العراق»؛ فأصبحت الخلافة
شكلاً بلا مضمون ووقفت عاجزة أمام هذه الأحداث التى زلزلت كيان
الأمة الإسلامية كلها.(3/92)
وقد تولى الخلافة بعد «الناصر» ابنه «أبو نصر محمد» الملقب
بالظاهر بأمر الله، وكان حسن السيرة، عادلاً، لكن خلافته لم تطل،
فقد تُوفِّى فى (14 من رجب سنة 623هـ = 11 من يوليو سنة 1226م)،
فلم يدم فى الخلافة عامًا.
وتولى الخلافة بعد الظاهر بأمر الله ابنه «أبو جعفر المنصور» الملقب
بالمستنصر بالله، فسار على طريقة أبيه فى العدل والإحسان
وتقريب أهل العلم والدين، وقمع المتمردين، ولكن الظروف القاسية
التى أحاطت بالخلافة فى ذلك الوقت قيدت الخلفاء وشلت قدرتهم
على العطاء، فقد تصاعد خطر المغول فى خلافة «المستنصر بالله»
(623 - 640هـ = 1226 - 1242م)، وأصبح على أبواب «العراق»، حيث
تعرضت «الجزيرة» فى شمال «العراق» لهجمات المغول المدمرة.
وقد اجتمع على المسلمين فى هذه الفترة الخطر المغولى القادم من
الشرق، والخطر الصليبى القادم من الشمال، وانشقاق البيت الأيوبى
على نفسه عقب وفاة «صلاح الدين الأيوبى»، ولم يستطع الخليفة
«المستنصر» أن يفعل شيئًا لعدم قدرته على ذلك.
وبعد وفاة الخليفة «المستنصر» فى (جمادى الآخرة سنة 640هـ =
نوفمبر سنة 1242م) تمت البيعة لابنه «أبى أحمد عبدالله» الملقب
بالمستعصم بالله، وهو آخر الخلفاء العباسيين فى «العراق»، وكان
عمره حينئذٍ ثلاثين عامًا.
ورغم أن «المستعصم بالله» كان موصوفًا بالصلاح والتمسك بالسنة
فإنه لم يكن كأبيه «المستنصر» أو جده «الناصر» فى التيقظ والحزم
وعلو الهمة.
ومما زاد الموقف سوءًا استعانته منذ سنة (642هـ = 1244م) بوزير
غير ثقة هو مؤيد الدين «أبو طالب محمد بن أحمد العلقمى»، الذى
وصفه المؤرخون بأنه كان رافضيا خبيثًا حريصًا على زوال «الدولة
العباسية»، ونقل الخلافة إلى العلويين، ويقال إنه راسل المغول
وأطمعهم فى القدوم إلى «بغداد»، حتى ينجو من القتل عندما
يدخلونها.
وقد شهدت خلافة «المستعصم» حدثًا خطيرًا كانت له آثاره البعيدة(3/93)
فى التاريخ الإسلامى هو انتهاء حكم «الأسرة الأيوبية» فى «مصر»
وبداية حكم المماليك، سنة (648هـ = 1250م)، وكان الملك المعظم
«توران شاه» آخر حكام الأيوبيين فى «مصر»، ولم يستمر حكمه
شهرًا، فقد تولى الحكم فى أول شهر (المحرم سنة 648هـ = منتصف
إبريل سنة 1250م)، وقتل فى السابع والعشرين من الشهر نفسه
بتدبير زوجة أبيه «الملك الصالح» المعروفة باسم «شجرة الدر» التى
تولت الحكم بعده وتزوجت «عزالدين أيبك التركمانى»، أحد مماليك
زوجها الراحل «نجم الدين أيوب»، ثم خلعت نفسها من الحكم بعد
ثلاثة أشهر هى صفر وربيع الأول وربيع الثانى من عام (648هـ =
1250م)، وتولى زوجها «المعز أيبك» حكم «مصر»، وكان ذلك بداية
العصر المملوكى فى «مصر».
وقد استمر الملك «عزالدين أيبك» فى حكم «مصر» سبع سنوات، ثم
قُتل فى الثالث والعشرين من شهر (ربيع الأول سنة 655هـ = 10 من
إبريل سنة 1257م) بتدبير زوجته «شجرة الدر»، حين أراد الزواج
عليها، فتولى الحكم بعده ابنه «الملك المنصور نور الدين على ابن
أيبك»، وكان صبيا فى الخامسة عشرة من عمره، لا يحسن تدبير
الأمور، فتم خلعه بعد ولايته بنحو سنتين وثمانية أشهر فى (17 من
ذى القعدة سنة 657هـ = 5 من نوفمبر سنة 1259م)، وتولى زمام
السلطة بعده «الملك المظفر سيف الدين قطز»، الذى كان له شأن
كبير فى الجهاد الإسلامى ضد المغول.
سقوط بغداد فى يد المغول وانهيار الخلافة العباسية فى العراق
[656هـ = 1258م]:
تصاعد خطر المغول فى خلافة «المستعصم بالله»، وخرج قائدهم
«هولاكو» (61) - حفيد «جنكيزخان» - على رأس جيش يبلغ تعداده
مائتى ألف قاصدًا «العراق»، وأرسل إلى الخليفة «المستعصم»
يطالبه بالاستسلام والدخول فى طاعته، لكن الخليفة أرسل بعض
الهدايا إلىهولاكو.
وقد وصل جيش «هولاكو» إلى «بغداد» فى شهر (المحرم سنة 656هـ
= يناير سنة 1258م) وأحاط بعاصمة الخلافة، وكان جيش «بغداد»(3/94)
قليل العدد لايبلغ عشرة آلاف فارس، بعد أن كان مائة ألف فى عهد
الخليفة «المستنصر»، ولم يصمد جيش «بغداد» طويلاً فى مواجهة
المغول، فاقتحمت قوات «هولاكو» «بغداد» فى (10 من المحرم سنة
656هـ = 17 من يناير سنة 1258م)، وقبض «هولاكو» على الخليفة
«المستعصم» وأهل بيته، بتدبير من وزيره الخائن «ابن العلقمى»،
كما تم القبض على عدد كبير من علماء «بغداد» وأعيانها وأمرائها،
وتم قتلهم جميعًا، واستمر القتال فى «بغداد» أربعين يومًا، وبلغ
عدد القتلى أكثر من مليون شخص، وكانت بلية لم يُصب الإسلام
بمثلها.
وهكذا أسقط المغول «الخلافة العباسية» فى «بغداد» سنة (656هـ=
1258م)، بعد أكثر من خمسة قرون من قيامها سنة (132هـ = 749م)،
وقد ظن المغول أن سقوط الخلافة العباسية قد مهد الطريق أمامهم
لاكتساح العالم الإسلامى ولكن آمالهم تحطمت على صخرة الجهاد
الباسل فى معركة «عين جالوت» بفلسطين فى رمضان سنة (658هـ
= 1260م)، بقيادة سلطان «مصر» المملوكى «قطز»، مما مهد الطريق
لإحياء الخلافة العباسية فى «مصر» على يد السلطان «الظاهر
بيبرس» سنة (659هـ = 1261م).(3/95)
الفصل الثامن
*الأوضاع الحضارية فى العصر العباسى الثانى:
رغم المشاكل السياسية العديدة التى شهدتها دولة الخلافة العباسية
فى عصرها الثانى فإن اللافت للنظر أن هذه الحقبة تُعدّ أخصب
عصور التاريخ الإسلامى فى عطائها الحضارى المتعدد الجوانب.
وسنكتفى هنا بتقديم نبذة مختصرة عن أهم هذه الجوانب:
1 - الجانب الثقافى:
نشطت حركة التأليف فى فروع العلم المختلفة نشاطًا ملحوظًا طوال
هذه الفترة وقدمت دولة الخلافة المترامية الأطراف علماء أفذاذًا
يعترف لهم العالم كله - حتى يومنا هذا - بالفضل والمكانة.
ففى مجال علوم الحديث: يتألق اسم عمدة المحدِّثين الإمام البخارى
المتوفى سنة (256هـ = 870م) هذا بالإضافة إلى مجموعة أخرى من
أعلام المحدثين لعل أبرزهم الإمام مسلم المتوفى سنة (261هـ =
875م)، وأبو داود المتوفى سنة (275هـ= 888م)، وابن ماجة المتوفى
سنة (273هـ = 886م)، والترمذى المتوفى سنة (279 هـ = 892م)،
والنَّسائى المتوفى سنة (303هـ = 915م)، وهؤلاء هم أصحاب
الصحاح المعروفون.
وقد برز من غير أصحاب الصحاح أيضًا عدد من أئمة المحدثين، من
أمثال داود الظاهرى المتوفى سنة (270هـ = 883م) وأبى الحسن
الدَّارَقُطْنى المتوفى سنة (385هـ = 995م)، الذى يصفه ابن كثير بأنه
كان «فريد عصره ونسيج وحده وإمام دهره فى أسماء الرجال
وصناعة التعليل والجرح والتعديل وحسن التصنيف والتأليف واتساع
الرواية والاطلاع التام فى الدراية». ومن هؤلاء أيضًا الحاكم
النيسابورى المتوفى سنة (405هـ = 1014م)، وقد عرف عنه أنه كان
من أهل الدين والأمانة والصيانة والضبط والتجرد والورع، سمع الكثير
وطاف الآفاق وصنف الكتب الكبار والصغار.
وفى مجال العلوم اللغوية وجدنا أعلامًا نابهين يضيق عنهم الحصر،
ومن هؤلاء محمد بن يزيد المبرِّد صاحب الكامل المتوفى سنة (285هـ
= 898م)، وقد كان إمام النحاة فى عصره، ومن النحاة المشهورين(3/96)
أيضًا الزَّجَّاج المتوفى سنة (311هـ = 923م)، وقد احتل عالم اللغة
الشهير أبو على الفارسى (المتوفى ببغداد سنة 377هـ = 987م)
مكانة متميزة فى بلاط الملك البويهى «عضد الدولة». وقد صنف
الفارسى لعضد الدولة كتاب «الإيضاح» و «التكملة» فى النحو، وكان
عضد الدولة يغدق عليه العطاء ويحيطه بمظاهر التكريم، وكان يقول:
«أنا غلام أبى على فى النحو» وممن عاصروا الفارسى من أعلام
اللغة أبو سعيد السيرافى المتوفى ببغداد سنة (368هـ = 979م)، وقد
ولى القضاء ببغداد. وكان السيرافى من أعلم الناس بنحو البصريين،
ومن بين مؤلفاته كتاب «أخبار النحويين البصريين» وكتاب «الوقف
والابتداء». يقول عنه ابن خلكان: «كان الناس يشتغلون عليه بعدة
فنون: القرآن الكريم والقراءات وعلوم القرآن والنحو واللغة والفقه
والفرائض والحساب والكلام والشعر والعروض والقوافى».
ويبرز أيضًا من بين علماء اللغة فى القرن (4هـ= 10م) ابن
فارس (أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا) المتوفى سنة (390هـ =
1000م) على أشهر الأقوال. ومن كتبه الذائعة الصيت كتاب «المجمل»
فى اللغة. وقد كان ابن فارس مقيمًا بهمذان، وله رسائل أدبية أنيقة
وأشعار رقيقة.
على أننا لا نستطيع فى هذا السياق أن نغفل اسم عالم يُعَدُّ من
أعظم علماء اللغة، لا فى العصر العباسى الثانى فحسب؛ بل على
امتداد العصور الإسلامية كلها، وهو «أبو الفتح عثمان بن جنى»
الذى ولد بالموصل وتوفى ببغداد سنة (392هـ = 1002م). ومن بين
كتبه الذائعة الشهرة الزاخرة بالقيمة فى مجال اللغة كتاب
«الخصائص».
وله أيضًا «سر صناعة الإعراب»، و «المذكر والمؤنث»، و «المقصور
والممدود»، «واللمع» وغير ذلك. وقد شرح ابن جنى ديوان المتنبى
وكان من المعجبين بشعره. وكان ابن جنى صاحب حس أدبى مرهف،
وقد انعكس ذلك على كتاباته العلمية التى اتسم أسلوبها بالجمال
الأخَّاذ فضلاً عن الدقة البالغة.(3/97)
وفى مجال الأدب - إبداعًا وتأليفًا - شهد هذا العصر نهضة تأخذ
بالألباب، فقد لمع فيه كوكبة من أعظم شعراء العربية، نذكر منهم -
على سبيل المثال لا الحصر- البحترى شاعر الخليفة المتوكل المتوفى
سنة (284هـ = 897م)، وقد اشتهر بلغته الموسيقية العذبة ووصفه
الرائع؛ وابن الرومى المتوفى سنة (283هـ = 896م)، وقد اشتهر
بقدرته على توليد المعانى وابتكار الصور المعبرة؛ والمتنبى
المتوفى سنة (354هـ = 965م) الذى مازال يحتل مكان السبق بين
شعراء العربية قديمًا وحديثًا، وقد خَصَّ سيف الدولة الحمدانى بعيون
مدائحه، كما مدح الملك البويهى عضد الدولة، وأمير مصر كافور
الإخشيدى وغير هؤلاء من أعيان عصره، ومن أبرز شعراء هذا العصر
أيضًا: الشريف الرضى الذى ينتهى نسبه إلى الحسين بن على بن
أبى طالب، كان وثيق الصلة بالخليفة القادر بالله (381 - 422 هـ =
991 - 1031م)، وتوفى ببغداد سنة (406هـ = 1015م)، وعَدَّه بعض
النقاد أشعر قريش. يقول عنه الثعالبى فى يتيمة الدهر: «هو أشعر
الطالبيين من مضى منهم ومن غبر، على كثرة شعرائهم المفلقين، ولو
قلت إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، وسيشهد بما أخبر به شاهد
عدل، من شعره العالى القِدْح الممتنع عن القَدْح، الذى يجمع إلى
السلاسة متانة وإلى السهولة رصانة، ويشتمل على معانٍ يقرب
جناها ويبعد مداها».
ويحتل الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعرى مكانةً مرموقة بين
شعراء هذا العصر، وقد ولد فى عام (363هـ = 974م) فى معرة
النعمان، وهى بلدة صغيرة فى شمالى الشام بين حلب وحمص
وتوفى فى سنة (449 هـ = 1057م)، أى أنه عاش فى فترة النفوذ
البويهى وعاصر من خلفاء العباسيين الطائع لله والقادر بالله والقائم
بأمر الله، ولأبى العلاء ديوان «سقط الزند» و «لزوم ما لا يلزم»
المشهور باسم «اللزوميات»، وسمى بذلك لأنه ألزم نفسه فيه بما لا
تفرضه عليه أصول القافية مما يدل على سعة باعه فى اللغة. ويُعَدُّ(3/98)
أبو العلاء إمام الشعراء الذين صبغوا شعرهم بصبغة تأملية فلسفية.
وبجانب أصحاب الإبداع الشعرى ظهر مبدعون كثيرون فى ميدان
النثر الفنى فى العصر العباسى الثانى، ففى مطلع هذا العصر لمع
اسم الجاحظ (أبى عثمان عمرو بن بحر) المتوفى بالبصرة سنة
(255هـ = 869م). والجاحظ إمام المنشئين فى تاريخ الأدب العربى بلا
جدال.
كان على مذهب المعتزلة وكان موسوعى الثقافة متجدد الفكر، وقد
ترك أسلوبه بصمات واضحة على أساليب كثير ممن جاءوا بعده،
ومؤلفات الجاحظ عديدة وذائعة، تنمّ عن ذهن ناضج وفكر متدفق،
ومن أشهر كتبه: كتاب «الحيوان» و «البيان والتبيين» و «البخلاء».
وله رسائل مختلفة طبعت تحت اسم «رسائل الجاحظ»، وهى تتناول
موضوعات شتى.
ومن أبرز الذين تأثروا بالجاحظ وحاولوا أن ينهجوا نهجه أبو الفضل
محمد بن العميد المتوفى سنة (360هـ = 971م)، ولتمكنه فى فن
الإنشاء عرف باسم «الجاحظ الثانى»، وهو الذى قيلت فيه العبارة
المشهورة: «بدئت الكتابة بعبدالحميد وختمت بابن العميد»، وعبدالحميد
هنا هو: عبدالحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد آخر الخلفاء
الأمويين، عاش ابن العميد فى ظل البويهيين وعمل وزيرًا لركن الدولة
- الحسن بن بويه - وكان - كما يصفه ابن خلكان - «متوسعًا فى علوم
الفلسفة والنجوم، وأما الأدب والترسُّل فلم يقاربه فيه أحد فى
زمانه». ويصفه ابن الأثير بأنه كان من محاسن الدنيا، قد اجتمع فيه
ما لم يجتمع فى غيره من حسن التدبير وسياسة الملك، والكتابة التى
أتى فيها بكل بديع».
وقد صحب ابن العميد وتأثر به فى طرائقه «أبو القاسم إسماعيل بن
عباد» المعروف بالصاحب بن عباد. ولقب بالصاحب لصحبته لابن
العميد، وكان يقال له أحيانًا صاحب ابن العميد. وقد تولى الصاحب
بن عباد الوزارة لمؤيد الدولة بن ركن الدولة ثم لأخيه فخر الدولة،
وفضلاً عن براعة الصاحب فى فن الإنشاء - كأستاذه ابن العميد - فقد(3/99)
كان محبًا للعلم ذواقة للأدب، كما كان شاعرًا جيد النظم. والجدير
بالذكر هنا أن كلا من ابن العميد والصاحب بن عباد كان له مجلس
يحفل بوجوه الشعراء والعلماء والمفكرين، وكان من بين المترددين
على مجلس ابن العميد أبو الطيب المتنبى شاعر العربية الأكبر، وقد
مدحه بقصيدة من عيون شعره، وتوفى الصاحب بن عباد بمدينة الرى
فى سنة (385هـ = 995م).
ومن الذين تميزوا فى مجال النثر الفنى بديع الزمان الهمذانى (وهو
أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى) الذى سكن هراة من بلاد
خراسان وتُوفِّى بها فى سنة (398هـ = 1008م) وكان ذلك فى خلافة
القادر بالله. وقد كتب بديع الزمان مقاماته الذائعة الصيت وأبدع
فيها، وهو أول من استوى على يده هذا الفن فى اللغة العربية. وقد
حذا حذوه ووصل بهذا الفن إلى مداه «أبو محمد القاسم بن على
الحريرى البصرى» الذى اعترف فى صدر مقاماته بأنه جعل مقامات
البديع مثالاً له. وقد توفى الحريرى فى حدود سنة (516هـ = 1122م)
بالبصرة إبان فترة نفوذ السلاجقة، وذلك فى خلافة المسترشد بالله.
والملاحظ أن شهرة مقامات الحريرى بلغت من الانتشار حدا تتضاءل
بجانبه شهرة مقامات الرائد الأول بديع الزمان. وتكشف مقامات
الحريرى عن البراعة الكبيرة لصاحبها فى التصرف فى اللغة
وتطويعها لما يريده من معان وأفكار، وهى إحدى الوسائل المهمة
لمن يبحثون عن إثراء ملكاتهم اللغوية.
وبجانب الإبداع الأدبى شعرًا ونثرًا تميز العصر العباسى الثانى
بظهور الكثير من الموسوعات الأدبية التى تُعَدّ مراجع أساسية لطلاب
المعرفة فى هذا المجال، ونكتفى هنا بذكر أمثلة لأبرز هذه
الموسوعات، وقد لمع فى هذا الجانب ابن قتيبة الدينورى (أبو محمد
عبدالله بن مسلم) الذى ولد بالكوفة وتثقف بها وسكن بغداد زمنًا
ولكنه نسب إلى الدينور لأنه تولى قضاءها، وقد توفى ابن قتيبة
فى سنة (276هـ = 889م) فى خلافة المعتمد على الله، وقد خلّف لنا(3/100)
ابن قتيبة عددًا من الموسوعات الأدبية المهمة يأتى على رأسها كتاب
«عيون الأخبار»، وكتاب «الشعر والشعراء»، ومن كتبه الأدبية المهمة
أيضًا كتاب «أدب الكاتب» الذى يتحدث فيه عما يحتاج إليه الأديب من
فنون المعرفة ليمارس صنعة الكتابة على الوجه الأمثل.
ويُعَدُّ أبو الفرج الأصفهانى أبرز أصحاب الموسوعات الأدبية فى هذا
العصر. وقد كان ملازمًا للوزير المشهور أبى محمد حسن بن محمد
المُهَلَّبى وزير معز الدولة أحمد بن بويه، وكان المهلبى بصحبة معز
الدولة عند انتقاله إلى بغداد، كما ذكرنا ذلك فى موضعه، ومما
يحفظه التاريخ للمهلبى أنه كان محبا للأدب مقرِّبا لأهله، وكان يعرف
لذوى القرائح الجيدة أقدارهم ويغدق عليهم من كرمه ورعايته، ومن
هنا قرب أبا الفرج الأصفهانى ورعى مكانته. ولاشك أن موسوعة
«الأغانى» للأصفهانى تعد من أهم الموسوعات الأدبية وأكثرها
انتشارًا وشمولاً فيما يختص بتاريخ الأدب العربى والثقافة العربية
حتى نحو منتصف القرن الرابع الهجرى. وقد توفى أبو الفرج
الأصفهانى فى سنة (356هـ = 967م).
ويتميز أيضًا بين أصحاب الموسوعات الأدبية «أبو منصور الثعالبى»
(وهو عبدالملك بن محمد بن إسماعيل)، ولد بنيسابور فى سنة
(350هـ = 961م)، وتوفى فى سنة (429هـ = 1038م)، أى أنه عاش
حياته كلها فى فترة نفوذ البويهيين، وشهدت فترة تفتحه الأدبى
خلافة الطائع لله والقادر بالله، وتوفى فى خلافة القائم بأمر الله،
وكان الثعالبى غزير الإنتاج متنوع الاهتمامات العلمية، ولكن يقف
على رأس مؤلفاته جميعًا كتابه الموسوعى الضخم «يتيمة الدهر فى
محاسن أهل العصر»، وهو أكبر كتبه وأحسنها وأجمعها كما يقول
ابن خلكان، وهو من أربعة مجلدات صرف فيها جل اهتمامه لشعراء
القرن (4هـ = 10م) ورتبهم على أوطانهم، فقد تناول فى أبواب
خاصة شعراء الشام ومصر والمغرب والموصل والبصرة وبغداد
وأصفهان والجبل وفارس والأهواز وجرجان، وتحدث عن الدولة(3/101)
السامانية وشعرائها وعن خوارزم، وتحدث أيضًا عن بنى بويه
وشعرائهم وكتابهم، وأسهب فى الحديث عن ابن العميد والصاحب بن
عباد، كما تحدث عن بلاط سيف الدولة وشعرائه وكتّابه، ولاشك أن
يتيمة الدهر تعد إحدى الموسوعات الأدبية الأساسية فى تاريخ الأدب
العربى، ولا تزال حتى يومنا هذا مصدرًا لا غنى عنه للباحثين فى
الحياة الأدبية فى القرن (4 هـ = 10م).
ولم تكن أنشطة البحث التاريخى بأقل حظا من الأنشطة الأدبية فى
دولة الخلافة العباسية فى عصرها الثانى، وهذا مجال يطول فيه
الكلام ويتشعب، ولا سبيل إلى استقصاء الحديث فيه، ولكننا نكتفى
بتقديم بعض النماذج لأبرز المؤرخين وأهم أعمالهم التاريخية، ويقف
شامخًا بين أعلام المؤرخين فى صدر العصر العباسى الثانى أبو
جعفر محمد بن جرير الطبرى المتوفى سنة (310هـ = 922م) فى
خلافة المقتدر بالله، وقد عاش الطبرى فى فترة التحول المهمة التى
انتقلت فيها الخلافة العباسية من عصرها الأول-عصر القوة السياسية
المركزية - إلى عصرها الثانى الذى بدأت فيه السلطة المركزية
تضعف ضعفًا ملحوظًا، وهكذا شهد الطبرى معظم عصر نفوذ الأتراك،
وقد ولد فى آمل بطبرستان فى سنة (224هـ = 839م) وأخذته الرحلة
فى طلب العلم إلى كثير من بقاع العالم الإسلامى كالعراق والشام
ومصر، ثم استقر به المقام أخيرًا فى بغداد وبها مات ودفن، وقد ترك
لنا الطبرى موسوعته التاريخية الذائعة الصيت وهى: «تاريخ الأمم
والملوك» المشهورة باسم «تاريخ الطبرى»، فى عشرة مجلدات،
وتناول الطبرى فى هذه الموسوعة الضخمة تاريخ ما قبل الإسلام منذ
بدء الخليقة بقدر من الاختصار فى المجلد الأول وبعض الثانى، ثم جاء
علاجه المفصل للأحداث منذ بدأ يتناول سيرة الرسول- صلى الله عليه
وسلم - وسيرة الخلفاء الراشدين، وما تلا ذلك من تاريخ الدولة الأموية
والعباسية حتى عصره، وقد توقف الطبرى بتاريخه عند أحداث سنة(3/102)
(302هـ= 914م) فى خلافة المقتدر، وتاريخ الطبرى منجم غنى
بالمعلومات حافل بالروايات المختلفة التى تقدم المادة الأساسية
للباحث، وهناك إجماع فى الشرق والغرب على أن هذا التاريخ يعدُّ
عمدة الباحثين فى التاريخ الإسلامى فى القرون الثلاثة الأولى
للهجرة.
ومن أعلام المؤرخين الذين ظهروا فى القرن (3هـ= 9م) أيضًا - بجانب
الطبرى - ابن قتيبة (عبدالله بن مسلم) المتوفى سنة (276هـ = 889م).
وقد أشرنا إليه قبل ذلك عند حديثنا عن الموسوعات الأدبية، ومن
أبرز الأعمال التاريخية التى تركها لنا ابن قتيبة كتاب «المعارف»،
وينسب إليه أيضًا كتاب «الإمامة والسياسة».
كما ظهر اليعقوبى أيضًا، وهو أحمد بن أبى يعقوب ابن واضح
المتوفى نحو سنة (278هـ = 891م)، وكتابه المعروف ب «تاريخ
اليعقوبى» من المصادر التاريخية الأساسية فى تلك الفترة، وهو يقع
فى مجلدين، يتناول المجلد الأول التاريخ القديم حتى ظهور الإسلام،
ويتناول الثانى تاريخ الإسلام حتى سنة (259هـ = 873م) فهو يغطى
ثلاث سنين من خلافة المعتمد على الله، وبجانب التأليف التاريخى
ألف اليعقوبى فى الجغرافيا كتابًا ذائعًا هو «البلدان» الذى يعد من
أقدم مصنفات التراث الجغرافى العربى.
وقد برز أيضًا من مؤرخى تلك الفترة - وهى فترة نفوذ الأتراك فى
العصر العباسى الثانى - أحمد بن يحيى البلاذرى وأبو حنيفة
الدينورى. أما البلاذرى فقد كان مقربًا للخليفتين المتوكل
والمستعين، وتوفى فى حدود سنة (279هـ = 892م)، ويعد كتابه
«فتوح البلدان» من أوثق الكتب التى تحدثت عن تاريخ الفتوح
الإسلامية منذ ظهور الإسلام حتى عصره، وهو يتميز بدقته فى
الأسلوب وموضوعيته فى العرض والبعد عن الحشو، وهو من بين
المصادر التى تحتل قيمة خاصة فى هذا الجانب، وللبلاذرى كتاب آخر
معروف هو «أنساب الأشراف»، وهو يقدم مادة تاريخية غزيرة فى
صدر الإسلام والعصر الأموى والعباسى الأول من خلال أنساب الرجال(3/103)
الذين يتناولهم بالبحث.
أما أبو حنيفة الدينورى المتوفى سنة (282هـ = 895م) فقد كان
موسوعى المعرفة، برع فى علوم كثيرة كالنحو واللغة والهندسة
والفلك وغير ذلك، ولكن الكتاب الذى اشتهر به الدينورى هو كتابه
التاريخى المعروف باسم «الأخبار الطوال» الذى يتناول فيه التاريخ
الإسلامى منذ ظهور الإسلام حتى وفاة الخليفة المعتصم سنة (227هـ=
842م)، مع مقدمة مختصرة عن التاريخ القديم.
وقد استمرت حركة التأليف التاريخى على نشاطها وازدهارها طوال
مراحل العصر العباسى الثانى، ومن أبرز المؤرخين الذين شهدوا
بداية مرحلة النفوذ البويهى على بن الحسين المسعودى المتوفى
سنة (346هـ = 957م)، ومع أن المسعودى نشأ فى بغداد فقد كان
دائم الترحل فى طلب العلم، وهو يقدِّم نموذجًا للعالم الذى جعل العلم
ضالَّته، فهو ينشده لكل ما أوتى من حول وما وسعه من صبر؛ فقد
ذهب إلى الهند والملتان وسرنديب (سيلان) والصين، فضلاً عن مراكز
العلم الشهيرة فى أرجاء العالم الإسلامى، ومن أشهر مؤلفاته
التاريخية كتاب «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، وقد تناول فيه
تاريخ الأمم القديمة، ثم تناول تاريخ الإسلام منذ ظهوره حتى خلافة
المطيع لله، وهو أول الخلفاء العباسيين فى العصر البويهى، ومن
بين الكتب التاريخية الذائعة للمسعودى أيضًا كتاب «التنبيه
والإشراف»، وهو محاولة منه لتقديم كتاب تاريخى مختصر يضم
خلاصة ما كتب، وهو يحتوى على معلومات مهمة من كتب أخرى
للمسعودى لم تصل إلينا.
ومن بين المؤرخين المتميزين فى فترة النفوذ البويهى أيضًا الخطيب
البغدادى المتوفى سنة (463هـ = 1071م)، وهو «أبو بكر أحمد بن
على بن ثابت»، وقد عاش فى بغداد التى يُنسَب إليها ومات بها،
ولكنه رحل طلبًا للعلم إلى عدة مراكز علمية بارزة كالبصرة والكوفة
ونيسابور وحلب وبيت المقدس وغيرها، وهو يتميز بغزارة إنتاجه
وتنوع اهتماماته العلمية؛ حيث ألَّف فى فروع مختلفة من العلم(3/104)
كالتاريخ والفقه والحديث والنحو والأدب وغيرها، ومعظم مؤلفاته لم
تصل إلينا، ولكن موسوعته الضخمة المعروفة باسم «تاريخ بغداد»
وصلت إلينا وهى التى أكسبته شهرة واسعة، وهى تاريخ شامل
لبغداد من حيث نشأتها وأحيائها وقصورها ومختلف معالمها، فضلاً
عن تراجم أعلامها من رجال السياسة والعلم والأدب وغير ذلك، ومن
هنا تعد هذه الموسوعة مصدرًا لا غنى عنه للباحثين فى تاريخ
الخلافة العباسية منذ نشأتها حتى بداية العصر السلجوقى.
وقد لمع عدد آخر من المؤرخين فى المراحل المتأخرة من العصر
العباسى الثانى، لعل أبرزهم عز الدين بن الأثير المتوفى سنة
(630هـ = 1233م)، وهو صاحب الموسوعة التاريخية الضخمة المعروفة
باسم «الكامل فى التاريخ»، وتقع فى اثنى عشر مجلدًا، وقد حذا
فيها حذو الطبرى فى تاريخه، وتوقف فى روايته التاريخية عند
أحداث سنة (628هـ = 1231م).
وقد شهد ابن الأثير نهاية فترة النفوذ السلجوقى وعاش شطرًا من
حياته فى فترة ما بعد السلاجقة، وعاصر مرحلة مهمة فى تطور
الحروب الصليبية إبّان سلطنة صلاح الدين الأيوبى، فكتابه إذن من
بين المصادر الأساسية فى تاريخ الحروب الصليبية، ويمكننا أن نقول
إن موسوعة الكامل فى التاريخ لابن الأثير تحتل بين مصادر التاريخ
الإسلامى مكانة لا يسبقها إلا موسوعة تاريخ الطبرى، ولابن الأثير
مؤلفات أخرى فى غاية الأهمية لعل أبرزها «أسد الغابة فى معرفة
الصحابة»، وهو موسوعة من سبعة مجلدات يتناول فيها تراجم صحابة
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ونستطيع أن نمضى طويلاً فى تناولنا لمختلف جوانب النهضة
الثقافية فى دولة الخلافة العباسية فى عصرها الثانى، وهى جوانب
لايتسع المجال للحديث التفصيلى عنها هنا، ولكننا نكتفى بالقول
بأن هذه النهضة الثقافية غطت كل مظاهر المعرفة والفن التى عُرفت
فى ذلك الزمان، فقد شهدت دولة الخلافة العباسية وثبة رائعة فى(3/105)
الثقافة الجغرافية، وعرف التراث الحضارى العباسى جغرافيين
أفذاذًا كاليعقوبى صاحب البلدان، وقد أشرنا إليه، والاصطخرى من
علماء القرن (4هـ= 10م)، وهو صاحب كتاب «مسالك الممالك»، وابن
حوقل والمقدسى وهما من علماء القرن (4هـ = 10م) أيضًا، وللأول
كتاب «المسالك والممالك»؛ وللثانى كتاب «أحسن التقاسيم فى
معرفة الأقاليم»، وهو من الكتب المتميزة فى هذا الفن.
ولعل من أشهر الجغرافيين فى دولة الخلافة العباسية ياقوت
الحموى المتوفى سنة (626هـ = 1229م) وقد ولد فى حماة كما يبدو
من نسبته، ولكنه عاش فى بغداد، ومعجمه الجغرافى المعروف باسم
«معجم البلدان» يُعدُّ من أغزر المصادر مادة فى التراث الجغرافى
الإسلامى على الإطلاق، وهو يقع فى خمسة مجلدات ضخمة.
كما شهد هذا العصر أيضًا نهضة لا تدانى فى الدراسات العقلية
والفلسفية والكلامية، ونبغ فى هذا المجال أعلام يحتلون مكانة
سامقة فى تاريخ الفكر الإنسانى كله، فمن بين هؤلاء الفيلسوف
الكبير الفارابى المتوفى سنة (339هـ= 950م) فى مطلع العصر
البويهى، وهو صاحب كتاب «إحصاء العلوم» وكتاب «السياسة
المدنية» وغير ذلك. على أن أبرز هؤلاء هو الشيخ الرئيس ابن سينا
المتوفى سنة (428هـ = 1037م)، وقد عاش شطرًا من حياته فى
بخارى فى ظل الدولة السامانية.
ومن كتبه الفلسفية المعروفة كتاب «الإشارات» وكتاب «الشفاء»،
وكتاب «النجاة» وغيرها، هذا بالإضافة إلى مؤلفاته الطبية الفائقة،
وفى مجال الدفاع العقلى عن الإسلام والرد على مناوئيه برز اسم
حجة الإسلام «أبى حامد الغزالى» المتوفى سنة (505هـ = 1111م)،
وهو الذى ناضل الفلاسفة وكتب عن تهافتهم كتابه المعروف «تهافت
الفلاسفة»، وقد باشر «الغزالى» التدريس فى المدرسة النظامية
ببغداد والمدرسة النظامية بنيسابور، وكتابه «إحياء علوم الدين» من
أعظم الكتب التى عرضت الإسلام عرضًا بسيطًا مقنعًا مؤثرًا، ونظرًا(3/106)
لقوة تأثير هذا الكتاب قال البعض: «من لم يقرأ الإحياء فليس من
الأحياء.
وقد حظيت العلوم الطبية والرياضية والفلكية والطبيعية بنصيب وافر
من العناية والدراسة فى هذا العصر الحافل بالعطاء الحضارى. بل إن
فن الموسيقى أيضًا وجد له مجالاً من الاهتمام. والملاحظ أن الفلاسفة
العظام، أمثال الفارابى وابن سينا، كانوا يحذقون الطب والرياضة
والفلك بل والموسيقى أيضًا.
ويعتبر «أبو بكر محمد بن زكريا الرازى» أعظم الأطباء المسلمين فى
هذا العصر على الإطلاق. وله كتاب «الحاوى» فى الطب، الذى يمكن
اعتباره عمدة هذا العلم فى العصور الوسطى فى الشرق والغرب.
وقد حظى الرازى برعاية ملوك الدولة السامانية، وتوفى فى حوالى
سنة (320هـ = 932م)، أما «ابن سينا» فقد كتب «القانون» فى
الطب، وهو الذى كان مع كتاب «الحاوى» للرازى من الأسس المهمة
التى اعتمدت عليها أوربا فى عصر النهضة.
وبعد هذه اللمحة الموجزة عن أهم جوانب النهضة الثقافية فى العصر
العباسى الثانى نستطيع أن نقول: إن هذه النهضة كانت متكاملة
الجوانب، وهذا هو شأن الحضارات العظيمة، فالحضارة روح تعود
بالصحة والعافية على جسد الأمة كله فتتوازن فيه ملامح الاكتمال،
وقد كان أبرز ما يميز تلك الفترة هو الرغبة العارمة فى العلم
والتعطش للمعرفة، ومن هنا وجدنا أصحاب الثقافات الموسوعية الذين
أشرنا إلى بعضهم، والملاحظ أن حب العلم والتنافس فى سبيله جعل
الحكام والأمراء يحتضنونه وينصبون من أنفسهم حماةً له.
وهكذا ظهرت مجالس العلم المعروفة على يد قادة أمراء وجدوا فى
هذا النشاط سُلَّمًا للمجد والسؤدد، والأمثلة على ذلك كثيرة، فهذا
سيف الدولة الحمدانى يجعل من مجلسه محفلاً للعلماء والأدباء
والشعراء، وهذا عضد الدولة البويهى يفعل الشىء نفسه، وفعل ذلك
أيضًا السلطان محمود الغزنوى، ونظام الملك أعظم وزراء السلاجقة،
وغيرهم، وكل هذا عاد بالخير العميم على الحركة الثقافية فى هذا(3/107)
العصر، فإذا هى تفيض قوة ونشاطًا وتجددًا.
2 - الجانب الاقتصادى والعمرانى:
من الطبيعى أن يرتبط الجانب العمرانى بالجانب الاقتصادى فى
الدولة، فلا عمران إلا باقتصاد قوى. وقد ازدهرت الحياة الاقتصادية
ازدهارًا ملحوظًا فى بعض ممالك الدولة العباسية فى العصر الثانى،
ولكننا نلاحظ أن السلطة المركزية نفسها لم يعد لها من القوة
الاقتصادية ما كان لخلفاء العصر العباسى الأول، وذلك بسبب تحكم
الأمراء الذين استأثروا بالنفوذ الحقيقى، ومن هنا نلاحظ أن اقتصاد
بعض الإمارات التى كانت تنتمى لدولة الخلافة العباسية من الناحية
الشكلية كان أقوى من اقتصاد الخلافة نفسها، بل إن الخليفة فى
بعض الأحيان كان مجرد موظف تابع لهؤلاء الأمراء الذين يحددون له
راتبه ونشاطه.
وقد توافرت مصادر القوة الاقتصادية فى دولة الخلافة العباسية فى
عصرها الثانى، وكان للتقدم العلمى الكبير الذى شهده هذا العصر
أثره الملحوظ فى تحقيق الازدهار الاقتصادى القائم على أسس علمية
صحيحة، وقد لعبت النهضة الزراعية دورها فى تحقيق هذا الازدهار
الاقتصادى، فقد كانت دولة الخلافة تضم أراضى شاسعة تتسم
بالخصوبة والصلاحية لإنتاج شتىالمحاصيل. وقامت المدارس الزراعية
التى انتشرت فى أرجاء دولة الخلافة العباسية فى ذلك الوقت بجهد
علمى كبير فى نشر الوعى الزراعى الصحيح، فتعددت المحاصيل
وأدخلت أنواع جديدة منها، وزاد إنتاجها نتيجة استعمال الأسمدة
المناسبة.
وارتبط بذلك إعادة تطوير نظام الرى الذى حول منطقة ما بين النهرين
إلى جنة وارفة الظلال، كما ازدهرت فلاحة البساتين القائمة على
أسس علمية ازدهارًا كبيرًا وانتشرت كل أنواع النباتات والزهور،
«وكانت الزهور تزرع حتى فى أصغر المنازل»، وارتبط بنمو الثروة
الزراعية نمو الثروة الحيوانية، كما ظهرت الصناعات المعتمدة على
الإنتاج الزراعى كمصانع النسيج ومعامل تكرير السكر.
وقد اشتهرت صناعات أخرى فى العصر العباسى الثانى كصناعة(3/108)
الورق التى انتشرت فى مصر والشام وسمرقند، ولكن شهرة سمرقند
فى هذا الجانب فاقت غيرها فى ذلك العصر، وازدهرت صناعة الحديد
أيضًا فى بلاد فارس.
وقد ترتب على الازدهار الزراعى والصناعى الازدهار التجارى،
فالمنتجات المختلفة تحتاج إلى تسويق، ومن هنا ظهر الاهتمام
بتوفير الطرق التجارية المناسبة والعناية بالموانى والأساطيل
التجارية، وقد ازدهرت تجارة المسلمين الخارجية فى ذلك العصر مع
الهند والصين والبلاد الأوربية.
والجدير بالملاحظة هنا أن الإسلام انتشر فى بقاع عديدة عن طريق
التجار المسلمين، وكانت بغداد ودمشق والإسكندرية وعدن والبصرة
من بين المراكز التجارية المهمة فى ذلك العصر.
وقد اشتهر عدد من دول العصر العباسى الثانى بالقوة الاقتصادية،
ومن بين هذه الدول - على سبيل المثال - الدولة الصفارية التى يقال:
إن مؤسسها «يعقوب بن الليث» ترك فى بيت المال عند وفاته ثمانين
مليون دينار وخمسين مليون درهم، كما ازدهر أيضًا اقتصاد الدولة
السامانية، وهى التى قامت فى منطقة تتمتع بإمكانات اقتصادية
هائلة، وهى بلاد ما وراء النهر، وكذلك ازدهر اقتصاد الدولة
البويهية، أما اقتصاد الدولة الغزنوية فقد وصل مدى رائعًا من القوة
نتيجة اتساع أطراف تلك الدولة، وما استطاعت أن تحققه من فتوحات
رائعة فى بلاد الهند والسند وأفغانستان وغيرها.
وكان النشاط العمرانى الواضح ثمرة مباشرة للاستقرار الاقتصادى،
فأنشئت الطرق والمدارس والمساجد والقصور والرُّبط فى أماكن
مختلفة من دولة الخلافة العباسية، ولايتسع المقام هنا للدخول فى
تفاصيل هذا الجانب، ولكننا نكتفى ببعض أمثلة قليلة توضح ذلك،
وتستحق الدولة البويهية وقفة خاصة هنا، فقد اهتمت هذه الدولة
اهتمامًا خاصًا بالجانب العمرانى، ولاشك أن عضد الدولة كان أبرز
ملوكها فى هذا الجانب، فقد صرف كثيرًا من جهده للعمارة والتشييد
فى الأماكن التى خضعت لسلطانه فى فارس والرى وأصفهان(3/109)
والجبال وغيرها، أما بغداد - بعد انتقاله إليها - فقد حظيت منه
باهتمام بالغ، يذكر المؤرخ ابن الأثير فى تناوله لأحداث سنة (369هـ
= 979م) أن عضد الدولة شرع فى عمارة بغداد فى ذلك العام،
وكانت قد خربت بتوالى الفتن عليها، فعمَّر مساجدها وأسواقها ..
وألزم أصحاب الأملاك الخراب بعمارتها، وجدد ما دثر من الأنهار
وأعاد حفرها وتسويتها، وأصلح الطريق من العراق إلى مكة .. واهتم
اهتمامًا كبيرًا بمشهد الإمام على والإمام الحسين رضى الله عنهما ..
وأذن لوزيره «نصر بن هارون» -وكان نصرانيًا - فى عمارة البيَع
والأديرة.
ومن بين الإنجازات العمرانية المهمة التى قام بها عضد الدولة فى
بغداد بناؤه لمستشفاه الكبير الذى عرف باسم «البيمارستان
العضدى»، وقد كان فى هذا المستشفى عند إنشائه أربعةوعشرون
طبيبًا فى التخصصات المختلفة، وكان أشبه ما يكون بالمستشفيات
التعليمية الجامعية فى عصرنا هذا؛ فقد كانت المحاضرات تلقى فيه،
وتدرس فيه الكتب ذات المكانة العلمية، وكان لهذا المستشفى مورد
ماء مستمد من دجلة، وله جميع الملحقات التى تزود بها القصور
الملكية كما بنى عضد الدولة فى شيراز مستشفى آخر عرف أيضًا
باسم «البيمارستان العضدى»، وأقام صهاريج الماء فى أماكن
مختلفة من مملكته. وبنى سورًا حول مدينة الرسول - صلى الله عليه
وسلم -.
وتتميز الدولة السلجوقية كذلك بنشاطها العمرانى الكبير فى مجالاته
المختلفة، ويبرز فى هذا الجانب بصفة أخص «ملكشاه» ووزيره
العظيم «نظام الملك»، فقد أنشأ «نظام الملك» مدارسه النظامية
المعروفة، وزودها بكل احتياجات طلابها، ووجد فى ذلك كل تشجيع
من السلطان السلجوقى المتميز «ملكشاه».
والملاحظ أن النشاط العمرانى فى دولة الخلافة العباسية فى العصر
الثانى كان يقوم به فى الأساس أمراء وسلاطين وملوك الدول التى
كانت تخضع للخلافة العباسية خضوعًا روحيا أو شكليا، أما الخلفاء -(3/110)
بصفة عامة - فلم يكونوا بالمكان الذى يجعلهم قادرين فى الأمور
بصورة مستقلة طوال معظم هذه الفترة.
3 - الجانب الإدارى:
كان لضعف الخلافة العباسية المركزية فى العصر الثانى تأثير واضح
فى النظام الإدارى فى دولة الخلافة، وأوضح مظاهر هذا التأثير يبدو
فى نظام «الوزارة»، فقد كانت الوزارة فى العصر العباسى الأول -
بصفة عامة - تابعة للخليفة خاضعة لنفوذه، وعندما كان الوزراء
يحاولون التصرف بصورة مستقلة كانوا يجدون ما يردعهم من بطش
الخليفة، أما فى العصر العباسى الثانى فقد اختلف الأمر، وقد
استمرت الوزارة فى فترة نفوذ الأتراك، ولكن الوزراء كانوا أكثر
استقلالاً ونفوذًا وسطوة وتنامت ثرواتهم لأنهم لم يكونوا يجدون
الخليفة الحازم الذى يحاسبهم أشد الحساب، وهذا إذا استثنينا فترة
صحوة الخلافة.
فلما كانت السنوات الأخيرة فى فترة نفوذ الأتراك بطل منصب الوزارة
وحل محله منصب أمير الأمراء الذى جار تقريبًا على كل سلطات
الخليفة، فلما وقعت الخلافة تحت النفوذ البويهى زال أيضًا منصب
أمير الأمراء، فلم يعد هناك للخليفة وزير ولا أمير للأمراء، وتصرف
البويهيون فى كل شئون الخلافة تصرفًا مطلقًا وحرموا الخليفة حتى
من سلطاته الشكلية، مع أنهم اتخذوا لأنفسهم وزراء.
وفى فترة النفوذ السلجوقى عاد منصب الوزارة، وأصبح للخليفة
وزيره، وللسلطان السلجوقى وزيره، ولكن السلطة الحقيقية كانت
فى يد السلطان السلجوقى ووزيره، رغم أن السلاجقة عاملوا الخلفاء
بما يستحقون من توقير.
وبعد زوال نفوذ السلاجقة أصبح للخلفاء وزراؤهم المستقلون عن
نفوذ الخليفة، ولكن الخلافة فى هذه الفترة كانت فى طريقها إلى
الزوال الكامل، ولم تكد دولة الخلافة تتجاوز بغداد وبعض الأقاليم
الأخرى المحدودة.
وقد تطور منصب الكتابة فى العصر العباسى الثانى تطورًا ملحوظًا،
فاتسعت سلطة الكاتب وتنامى نفوذه، وكان الكاتب يرأس ديوان(3/111)
الرسائل الذى كان يعد من أخطر دواوين الدولة العباسية، وكان
صاحب هذا المنصب يقوم بكتابة الرسائل السياسية وختمها بخاتم
الخلافة بعد عرضها على الخليفة، وكان ينوب عن الخليفة أحيانًا فى
مكاتبة الملوك والأمراء، على أن من أهم التطورات التى شهدها هذا
المنصب فى العصر العباسى الثانى أنه لم يعد مقصورًا على الخلفاء
بل بدأ الأمراء والسلاطين يتخذون لأنفسهم كتابًا أوسع نفوذًا من
كاتب الخليفة.
وقد كان ذلك نتيجة طبيعية لضعف منصب الخلافة فى هذا العصر.
ومع أن العصر العباسى الأول عرف نظام الحجابة فقد تطور هذا
النظام كثيرًا فى العصر العباسى الثانى، فقد كان الحاجب فى
العصر العباسى الأول يقوم بمهمة أساسية هى حجب العامة عن
السلطان، فلا يأذن بالدخول على السلطان إلا لمن يرى أنه يستحق
هذا الإذن، أما الحاجب فى العصر الثانى فقد تجاوز هذه المهمة
المحددة وادَّعى لنفسه سلطات واسعة أصبح ينافس بها سلطات
الوزير، وأصبح الحجاب يتدخلون فى أهم شئون الدولة، وقد فتح
ذلك مجالاً للصراع بين الحجاب والخلفاء والوزراء.
أما منصب الإمارة على البلدان - وهو من المناصب المهمة فى النظام
الإدارى - فقد طرأ عليه أيضًا كثير من التطور فى العصر العباسى
الثانى، فقد كان هذا المنصب منذ ظهور الإسلام وحتى نهاية العصر
العباسى الأول يخضع فى العادة لسلطة الخليفة؛ فهو الذى يملك حق
الولاية والعزل، أما فى العصر العباسى الثانى فقد اختلفت الأمور
تمامًا، ذلك أن الخليفة أصبح يخضع لسلطة عليا من القوى الدخيلة،
وهى التى تملك غالبًا حق توليته وعزله، وهكذا تدخلت هذه السلطات
أيضًا فى تعيين الأمراء (أو العمال) فى الأقاليم التى تخضع لنفوذهم
وكان هذا التطور متمشيًا تمامًا مع ما آل إليه منصب الخلافة من
تدهور فى ذلك العصر.
وقد اتسع نظام البريد فى العصر العباسى الثانى اتساعًا كبيرًا، فقد
كانت مهمة البريد فى بداية نشأته توصيل رسائل الخليفة إلى عماله(3/112)
وولاته ونقل رسائلهم إليه وكذلك أخبارهم، ثم اتسعت مهمة البريد -
وبالذات فى العصر العباسى الثانى - لتشمل أيضًا مراقبة العمال
والتجسس عليهم، وأن يقدم صاحب البريد إلى الخليفة تقارير دورية
وافية بكل ما يحدث فى مكان عمله، هذا إذا كان تابعًا للخليفة،
ويفعل الشىء نفسه إذا كان خاضعًا لنفوذ الدول المختلفة التى
ظهرت فى هذا العصر، ولهذا أصبح نظام البريد فى ذلك العصر أشبه
ما يكون بقلم المخابرات فى عصرنا.(3/113)
- المراجع:
* أدم منز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري - ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة - القاهرة - 1948م
* بن الأثير (علي بن أبي الكرم): الكامل في التاريخ - دار الكتاب العربي - بيروت 1967م
* أحمد أمين: ضحي الإسلام - مكتبة النهضة المصرية - القاهرة الطبعة الخامسة - 1956م
* بن الجوزي (عبد الرحمن بن علي): المنتظم في تاريخ الملوك والأمم - حيدر آباد - الهند - 1357هـ
* حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي - مكتبة النهضة المصرية - القاهرة - 1973م
* حسن أحمد محمود وأحمد إبراهيم الشريف: العالم الإسلامي في العصر العباسي - دار الفكر العربي - القاهرة - 1966م
* الخطيب البغدادي (أحمد بن علي): تاريخ بغداد - القاهرة - 1349هـ = 1931م
* خليل السامرائي وآخرون: تاريخ الدولة العربية الإسلامية في العصر العباسي - الموصل - العراق - 1408هـ = 1988م
* سامي الكيالي: سيف الدولة وعصر الحمدانيين - دار المعارف - القاهرة - 1959م
* السيوطي (جلال الدين) تاريخ الخلفاء - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد - القاهرة - 1389هـ = 1969م
* شاكر مصطفي: دولة بني العباس - الكويت - 1393هـ = 1973م
* الطبري (محمد بن جرير): تاريخ الرسل والملوك - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - دار المعارف القاهرة - 1966م
* عبد النعيم حسنين: دولة السلاجقة - مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة - 1975م
* فاروق عمر: الخلافة العباسية في عصورها المتأخرة - دار الخليج - 1403هـ = 1983م0
* كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية - ترجمة نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي - دار العلم للملايين - بيروت - 1965م
* بن كثير (إسماعيل بن عمر): البداية والنهاية - دار الكتب العلمية بيروت - 1408هـ = 1988م
* محمد الخضري: محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية (الدولة العباسية) - القاهرة - 1970م(3/114)
* محمد مسفر الزهراني: نظام الوزارة في الدولة العباسية - مؤسسة الرسالة - بيروت - 1406هـ = 1986م
* المسعودى (علي بن الحسين): مروج الذهب ومعادن الجوهر - دار الأندلس - بيروت - 1385هـ = 1965م
* مسكوية (أحمد بن محمد): تجارب الأمم وتعاقب الهمم - نشره آم دروز - مطبعة التمدن - القاهرة - 1914م
* ابن النديم (محمد بن إسحاق): الفهرست - المطبعة الرحمانية - القاهرة - 1384هـ
* ياقوت الحموي: معجم الأدباء - دار المأمون - القاهرة - 1355هـ = 1936م(3/115)
الجزء الرابع
المشرق الإسلامي بعد العباسيين
تأليف:
أ. د. عصام الدين عبد الرؤوف
أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة
أ. د. محسن جمال الدين
أستاذ اللغات الشرقية بجامعة عين شمس
الفصل الأول
*العالم الإسلامى قبيل الغزو المغولى
كانت الدولة العباسية آنذاك تحت حكم الخليفة «الناصر لدين الله»
الذى حكم فترة طويلة امتدت من سنة (575هـ) حتى سنة (622هـ)،
وعلى الرغم من طول هذه المدة التى لم تتح لخليفة قبله، فإنه لم
يستغلها استغلالا حسنًا فى صالح دولته وما ينفع الناس، حتى وصفه
«ابن الأثير» بقوله: «كان قبيح السيرة فى رعيته، ظالمًا، فخرب
العراق فى أيامه، وتفرق أهله فى البلاد وأخذ أملاكهم وأموالهم»،
وإلى جانب ذلك لم يعمل على توحيد الصف بين الإمارات الإسلامية،
فأشعل الفتنة بينها وألَّب بعضها على بعض.
ولم يكن نفوذ الخليفة العباسى قويا إلا على «بغداد» والمنطقة
المجاورة؛ حيث كانت المنطقة الشمالية من العراق فى أيدى أتابكة
«الموصل»، وباقى «العراق» الغربى خاضعًا للسلاجقة، على حين
سيطر الأيوبيون ومن بعدهم «المماليك» على «مصر» وأجزاء كبيرة
من «الشام» و «فلسطين».
وفى المشرق كانت السيادة هناك لدول «الأتابكة»، و «الغور»،
والخوارزمية، والإسماعيلية، وأصبحت سلطة الخليفة رمزًا روحيا
محدودًا، لا يتدخل فى شىء إلا إذا طلب منه التدخل للتصديق على ما
يطلب منه فحسب.
وتُوفى الخليفة «الناصر لدين الله» فى أواخر رمضان سنة (622هـ)
بعد أن شهدت خلافته سقوط دولة السلاجقة، وظهور قوة المغول
بزعامة «جنكيزخان واكتساحهم بلاد «ما وراء النهر» و «خراسان»
وإسقاطهم للدولة الخوارزمية وزحفهم نحو «الجزيرة» و «العراق»
و «الشام» وتهديدهم للعالم الإسلامى.
وتولى الخلافة بعد «الناصر لدين الله» ابنه «الظاهر بأمر الله»، لكن
خلافته لم تطل، إذ تُوفى فى (14 من رجب سنة 623هـ)، وتولى بعده
ابنه «المستنصر بالله»، وفى عهده تصاعد الخطر المغولى وأصبح
على مشارف العراق، وبعد وفاته فى جمادى الآخرة سنة (640هـ)
بويع لابنه «المستعصم بالله»، وهو آخر الخلفاء العباسيين فى
العراق.
الخوارزميون:
أولاً: محمد خوارزمشاه وأطماعه فى الدول المجاورة:(4/1)
تولى السلطان «محمد خوارزمشاه» حكم الدولة الخوارزمية سنة
(596هـ)، وبدأ عهده بالدخول فى منازعات متصلة مع الدول
المجاورة له، فاشتبكت معه الدولة الغورية التى كانت تقع فى منطقة
«أفغانستان» الحالية، حين ظن الأخوان «غياث الدين» و «شهاب
الدين» ضعف السلطان «محمد خوارزمشاه» بحكم صغر سنه، وجرَّدا
جيشًا كبيرًا للاستيلاء على منطقة «خراسان»، مكَّنهما من الاستيلاء
على عدد من مدن «خراسان»، إلا أن «محمد خوارزمشاه» تمكن بعد
ذلك من إلحاق الهزيمة بهما، ثم مات «غياث الدين» فجأة، فتمكن
السلطان «محمد» من طرد «الغوريين» من «خراسان» فى سنة
(600هـ).
ثم خرج «شهاب الدين الغورى» بقواته وكان مقيمًا بالهند إلى لقاء
«محمد خوارزمشاه» وألحق بجيشه عدة هزائم متتالية، ووصلت
جيوشه إلى «جرجانية» عاصمة «الدولة الخوارزمية»، وحاصرها،
ولكن أهلها قاوموه وصمدوا فى وجهه، واتصل السلطان «محمد»
بالقراخطائيين وبعثمان خان سلطان «سمرقند»، طالبًا العون
والمساعدة، فلما وصل إليه المدد تمكن من إلحاق الهزيمة بشهاب
الدين الغورى فى منطقة «هزاراسب»، وتتبع «القراخطائيون»
«الغوريين» وطاردوهم حتى أوشكوا على القضاء عليهم، إلا أن
«عثمان خان» تدخل فى اللحظة الأخيرة ومنع القراخطائيين من تحطيم
الجيش الغورى، وهرب «شهاب الدين» إلى «الهند»، ثم تُوفى فى
سنة (603هـ)، فتولى ابنه السلطان «محمود» حكم «الدولة الغورية»
فى «هراة» و «فيروزكوه»، وكان شابا مستهترًا، مولعًا بالخمر،
فانصرف عنه أتباعه، وقُتل فى سنة (609هـ.)
كان للسلطان «محمد خوارزمشاه» أخ يدعى «تاج الدين على شاه»،
وقد هرب هذا الأخ من أخيه خوفًا من بطشه؛ بسبب خصومة حدثت
بينهما، ثم توجه إلى بلاط السلطان «محمود الغورى» الذى رحَّب به
وأحسن وفادته، وقد نجح «على شاه» فى توطيد علاقته برجال
البلاط والعلماء والفقهاء فى «الدولة الغورية»، فلما قتل السلطان(4/2)
«محمود الغورى»، نصَّبه هؤلاء ملكًا على «الدولة الغورية» فى عام
(609هـ)، فأرسل إلى أخيه السلطان «محمد خوارزمشاه» يبشره بما
وصل إليه، فبعث إليه مَنْ تمكن من قتله بالحيلة، واستولى «محمد
خوارزمشاه» على أملاك «الدولة الغورية» دون حرب أو قتال، ثم ضم
«غزنة» إلى ممتلكاته فى سنة (611هـ)، وتوجه منها إلى «سمرقند»
حيث نجح فى ضمها إلى دولته، ثم تمكن فى العام نفسه (611هـ) من
الاستيلاء على الجانب الغربى من «الدولة القراخطائية» فدانت له بذلك
منطقة بلاد «ما وراء النهر» كلها، وعهد إلى ابنه «جلال الدين
منكبرتى» بحكم بلاد «فيروزكوه» و «هراة» و «غزنة «
ثانيًا: السلطان محمد والخلافة العباسية:
عمل السلطان «محمد خوارزمشاه» على إعداد جيش قوى؛ لكى
يهاجم به الخلافة العباسية، للأسباب الآتية:
1 - رغبته فى أن تكون له الكلمة العليا على الخليفة العباسى، شأن
ما كان عليه سلاطين الدولتين «البويهية» و «السلجوقية»، وكان
الخليفة العباسى يأبى ذلك الأمر.
2 - أنه حين استولى على أملاك «الدولة الغورية»، وجد فى خزائن
السلطان «شهاب الدين» مجموعة من الرسائل بعث بها إليه الخليفة
«الناصر لدين الله» يحرضه فيها على مهاجمة الخوارزميين
وسلطانهم، ويزين له ذلك.
3 - وأنه وصل إلى علمه أن الخليفة يؤلب عليه حكام الدول الإسلامية
المجاورة مثل: «أتابكة أذربيجان»، و «أتابكة أصفهان»، بل إنه
حرض «الإسماعيلية» على قتل «أغلمش» نائبه على العراق العجمى.
4 - وأنه رأى أن الخلافة العباسية لم تعد تمثل الإسلام فى شىء؛
حيث انشغل الخلفاء بمصالحهم الشخصية عن الجهاد فى سبيل الله
ونشر الدعوة الإسلامية فى المناطق الوثنية المجاورة، ومن ثم لا
تترتب للخليفة العباسى أية حقوق على حكام المسلمين.
وقد أعلن «السلطان محمد» أن الخليفة العباسى لا حق له فى خلافة
المسلمين، وأن هؤلاء العباسيين - فى الأصل - ما هم إلا مغتصبون(4/3)
لهذه الخلافة من أبناء «على بن أبى طالب» رضى الله عنه، وأن
الشيعة هم أولى الناس بتولى هذه الخلافة، ومن ثم اختار رجلا من
أعقاب العلويين يدعى «علاء الملك الترمذى»، ونصبه خليفة على
المسلمين فى «خوارزم» بعد أن استصدر فتوى من فقهاء بلاده
وعلمائها تنص على أن الخليفة العباسى لا يحق له أن يحكم
المسلمين.
أعد «السلطان محمد» جيشه فى عام (614هـ)، وتحرك به قاصدًا
«بغداد»، فلما وصل منطقة العراق العجمى خرجت إليه جيوش «الأتابك
سعد بن زنكى» الذى حرضه الخليفة العباسى على اقتطاع هذه
المنطقة والاستيلاء عليها من «الخوارزميين»، وتمكن «السلطان
محمد» من هزيمة هذه الجيوش، والاتفاق مع «سعد بن زنكى» على
حكم «بلاد فارس» مقابل دفع جزية سنوية إلى «الدولة الخوارزمية»،
وواصل «محمد خوارزمشاه» طريقه إلى «بغداد»، فاعترضه جيش -
بعث به الخليفة- بقيادة «أتابك أذربيجان»، فانتصر عليه «السلطان
محمد» وأسر قائده، ثم أطلق سراحه فى مقابل تعهده بدفع جزية
سنوية، ثم مضى فى طريقه واقترب من «بغداد» فى خريف السنة
نفسها، وتأهب السلطان «محمد» لغزو «بغداد»، ولكن أمطارًا غزيرة
انهمرت وعواصف ثلجية شديدة هبت على منطقة «أسد آباد» التى
كان يعسكر فيها بجنوده، فأهلكت معظم الدواب، وقتلت عددًا كبيرًا
من الجنود، واضطر السلطان الخوارزمى إلى العودة إلى «خوارزم»
دون أن يفعل شيئًا فى مواجهة الخليفة العباسى، وبدأ نجمه فى
الأفول بعد ذلك؛ حيث واجهه الخطر المغولى واعترضته نكبات كثيرة.
ثالثًا: نظرة عامة على الحالة السياسية والاجتماعية فى الدولة
الخوارزمية:
اجتمعت أسباب الرفاهية ورغد العيش فى الدولة الإسلامية، وبالغ
الناس فى جمع المال والثروات، وانتشرت الأمراض الاجتماعية
والمؤامرات السياسية فى هذه الفترة، لذا فإن من كان ينظر إلى
«الدولة الخوارزمية» يتصور أنها دولة قوية متماسكة، وأنها أقوى(4/4)
الدول على الإطلاق فى تلك المنطقة، غير أن الواقع كان على خلاف
ذلك، فقد استنزفت الحروب الطويلة التى دخلها «الخوارزميون» مع
الدول المجاورة الواحدة تلو الأخرى كل ثرواتهم، واستهلكت عناصر
الفروسية فى جيوشهم، وقضت على خيرة الجنود والمقاتلين.
كان الجيش الخوارزمى يشتمل على أخلاط وأجناس مختلفة من قبائل
«الأتراك القنفلى» و «الغور» و «البلوج»، وغيرها من العناصر التى
كانت -غالبًا- تتنافر، وتدب بينها الخلافات - أحيانًا - لأتفه الأسباب؛
ومن ثم كان الجيش الخوارزمى غير متجانس، ومتفرق الأهواء
والمقاصد.
أما من الناحية الداخلية: فقد كانت علاقة «السلطان محمد» بالعلماء
والفقهاء علاقة سيئة للغاية، وأدى ذلك إلى سوء علاقته بالشعب،
وكانت الفتوى التى انتزعها «السلطان محمد» من العلماء والفقهاء -
بعدم أحقية الخلفاء العباسيين بالخلافة، وأن العلويين أحق بها منهم
- من بين أسباب تفاقم الخلاف بين الجانبين، حيث جاءت هذه الفتوى
رغم أنوف العلماء، وبتهديد السلاح.
لم تكن البلاد التى استولى عليها الخوارزميون راضية عن دخولها
تحت حكم «محمد خوارزمشاه»، ولم تمل بأى حال إلى الخوارزميين؛
ولهذا جاءت مواقفها متراخية حين طلب منها «السلطان محمد» المدد
بعد عبور المغول نهر سيحون، وتباطأت فى تقديم المدد والعون
للخوارزميين؛ مما اضطر السلطان الخوارزمى إلى الانسحاب.
ومهما يكن من أمر فإن المؤرخين العرب يقرون بتدين السلطان
«محمد خوارزمشاه» وحسن عقيدته وشجاعته، على الرغم من
أخطائه السياسية والأخلاقية الفاحشة التى أودت بدولته، وعرضت
العالم الإسلامى كله للخراب والدمار، وقد تمثلت هذه الأخطاء فيما
يلى:
1 - محاربة «محمد خوارزمشاه» للغوريين فى الشرق والجنوب حتى
اضطرهم إلى الانحسار فى جزء محدود، واختتم علاقاته بهم بقتل
أخيه.
2 - تحطيم الدولة القراخطائية التى كانت تمثل سدًّا منيعًا؛ يمنع غارات
القبائل المغولية البربرية على دولته.(4/5)
3 - سوء علاقته بالخليفة العباسى.
4 - استنزاف خيرة القادة والفرسان والجنود فى حروبه التى خاضها
فى «إيران» و «تركستان».
وقد تناول الأستاذ «أبو الحسن الندوى» فى كتابه «تاريخ دعوة
وعزيمة» أبرز عيوب «الدولة الخوارزمية» وسلطانها «محمد
خوارزمشاه» بقوله:
لقد صدر عن الملوك الخوارزميين الخطأ الكبير نفسه الذى وقع فيه
الحكام العرب فى الأندلس .. ولم يعفُ عنهم قانون الجزاء الإلهى .. ذلك
لأنهم بذلوا كل قواهم فى توسيع رقعة الملك ودعمه، وقمع الخصوم،
ولم يبذلوا أى اهتمام بتبليغ رسالة الإسلام إلى ذلك القسم البشرى
الذى كان يعيش بجوار حدودهم، وكان بنفسه عالمًا مستقلا، فبصرف
النظر عن الدافع الدينى والواجب الإسلامى، كان مقتضى الحزم
السياسى وبعد النظر أن يُعنوا بإيجاد التوافق العقائدى فى هذه
الدنيا الواسعة، وبذلك يكونون قد أقاموا حولهم سياجًا يحفظهم عن
ذلك الخطر الذى لم يواجههم وحدهم، بل اكتسح المسلمين كلهم.
الأوضاع السياسية فى وسط آسيا قبل ظهورجنكيزخان:
انقسمت منطقة «أواسط آسيا» فى أواخر القرن السادس الهجرى
(الثانى عشر الميلادى) إلى دول وحكومات متعددة ومختلفة، على
النحو الآتى:
أولا: الصين:
وانقسمت إلى قسمين، أحدهما شمالى (الصين الشمالية) وعاصمته
«بكين»، وكان تحت حكم أسرة «كين» التى سيطرت عليه، والقسم
الآخر جنوبى، وكان يضم الأقاليم الجنوبية، التى سيطرت عليها
أسرة «سونج»، وقد اتخذت من مدينة «هانج تشيو» عاصمة لها.
ثانيًا: الدولة الأويغورية:
وهى دولة مستقلة كونها جماعة من الأتراك الأويغور فى
«التركستان» شمالى غرب أواسط آسيا، وكانت هذه الدولة ذات
حضارة متميزة؛ أسهمت بنصيب وافر فى جذب القبائل البدوية فى
المناطق المجاورة إلى الأخذ بمظاهرها.
ثالثًا: الدولة القراخطائية:
وتقع فى الجنوب الغربى بين «مملكة الخوارزميين» من جهة الغرب،
ومساكن المغول فى الشرق، وكانت تمثل - بموقعها هذا- حائط الصد(4/6)
الفاصل لهجمات القبائل المغولية على «الدولة الخوارزمية»، التى
فصلها «نهر سيحون» عن ممتلكات القراخطائيين.
رابعًا: الدولة الخوارزمية:
وحكمت فيما وراء «نهر سيحون»، وكانت الدولة الإسلامية الوحيدة
بين دول هذه المنطقة، وقد بسطت هذه الدولة حكمها على «إيران»
كلها تقريبًا، وشاركها فى حكم البلاد الفارسية دولة قوية أنشأها
«الإسماعيلية» فى المنطقة الواقعة جنوب بحر «قزوين» فى عام
(483هـ)، ثم بسطت حكمها على أجزاء أخرى من إيران.
وإلى جانب ذلك كان هناك مجموعة من قبائل البدو الرحَّل فى
أقصى الشمال على حدود «سيبيريا المغولية»، وفى إقليم
«السهوب» شمالى صحراء «جوبى»، وكانوا أشبه بخلية النحل من
حيث كثرة تحركاتهم وتنقلاتهم من مكان إلى مكان، وتمتعهم بصفات
بدنية تتناسب مع البيئة التى عاشوا فيها، حيث كانت تجتاحها الرياح
الثلجية فى الشتاء، والملتهبة الحرارة خلال الصيف القصير. وكانت
هذه القبائل تنقسم إلى مجموعات لاحصر لها؛ تتفاوت فيما بينها من
حيث عدد أفرادها، ومناطق نفوذها، وأشهر هذه القبائل:
1 - قبائل التتار: وهى من أشد قبائل الجنس الأصفر وحشية وجبروتًا،
وتعيش فى صراع دائم فيما بينها، كما كانت خاضعة فى أغلب
الأوقات لحكام «الصين الشمالية» من أفراد أسرة «كين»، وقد
عاشت هذه القبائل حياة متدنية للغاية، ولبس أفرادها جلود الكلاب
والفئران وغيرها من القوارض، كما أكلوا من لحومها. وكانوا من ألد
أعداء المغول، ويناصرون الثائرين عليهم، فلما أصبح «جنكيزخان»
قائدًا للمغول تمكن من القضاء على قبائل التتار، ولم ينجُ منهم إلا
عدد قليل، وعلى إثر ذلك أطلق اسم «التتار» على «جنكيزخان»
وأتباعه من المغول تيمنًا بما فعلوا، ولم يمضِ وقت طويل حتى أطلق
عليهم اسم «المغول» أيضًا، فعرفوا بالاسمين معًا.
2 - قبائل كرايت: وكانت تسكن الواحات الشرقية الداخلية لصحراء
«جوبى»، وامتدت مساكنهم حتى «سور الصين العظيم»، وظلت(4/7)
أقوى القبائل فى المنطقة المغولية فى القرنين الخامس والسادس
الهجريين، وبسطت نفوذها وسيطرتها على معظم القبائل المجاورة
لها والمحيطة بها، واعتنق ملكُ «الكرايت» المسيحية فى سنة
(398هـ)، فتبعه رعاياه، وعرفت هذه القبائل فى «أوربا» منذ ذلك
الحين.
3 - قبيلة نايمان: إحدى القبائل التركية التى غلب عليها الطابع
المغولى، وقد اعتنقت هذه القبيلة المسيحية، شأنها شأن قبائل
«كرايت»، ومع ذلك فإن أفرادها ناصبوا قبائل «كرايت» العداء،
وكثيرًا ما نشبت الحروب بينهم.
4 - المغول: نشأ «المغول» الأصليون فى المنطقة المعروفة باسم
«هضبة منغوليا» شمالى صحراء «جوبى»، وتنقسم منغوليا إلى
قسمين: قسم شمالى غربى، به جبال كثيرة؛ تتخللها وديان تغطيها
الحصباء، وقسم جنوبى شرقى، منخفض؛ يشمل بقية صحراء
«جوبى»، وهو سهل متسع، تغطيه طبقة من الحصباء شديدة
الصلابة، وكانت القبائل المغولية فى هذه المنطقة تعيش مستقلة عن
بعضها، وتتقاتل فيما بينها، أو مع جيرانها، ولاسيما التتار. وقد
ظهرت طائفة «قيات» التى نشأ فيها «جنكيزخان» من بين هذه
القبائل.
امتاز مناخ هذه المنطقة بشتاء طويل تشتد فيه البرودة، وتهطل فيه
الأمطار، وتنخفض درجة الحرارة فى بعض جهاتها إلى (58) درجة
تحت الصفر، فتتجمد المياه، فإذا ما حل الصيف القصير -بضعة
أسابيع- تشتد الحرارة وترتفع درجاتها - أحيانًا - إلى (60) درجة
مئوية.
وقد انقسمت القبائل المغولية من حيث المعيشة والعمل إلى نوعين:
الأول: عمل بالرعى، ويعيش إلى جوار المراعى.
والنوع الآخر: عمل بصيد الأسماك من الأنهار، والحيوانات من الغابات،
لذا فقد كانت هذه القبائل تبدو أكثر بدائية وتوحشًا، ولا علاقة لها
بالعالم المتحضر - بسبب معيشتهم بالغابات - إلا عن طريق القبائل
الرحالة، التى استفادت من جوارها للأويغوريين المتحضرين،
ولامبراطورية «كين» فى «الصين الشمالية»، ومع ذلك لم يكن لهم(4/8)
نصيب من الحياة الحضرية، إذ لم تكن لهم مدن يعيشون فيها، وإنما
كانوا دائمى الترحال من مكان إلى آخر، وقد أقاموا خيامهم على
عربات ذات عجل؛ كى يسهل نقلها معهم فى ترحالهم.
والواقع أن بيئة هذه المناطق فرضت على المغول أن يعيشوا فى
نزاع وصراع من أجل البقاء، فضلا عن أنهم كانوا لا يؤمنون بدين ولا
شريعة، ولا يعرفون حلالا أو حرامًا، ولا منطق بينهم إلا للقوة،
ولاحكم إلا للسيف، ولذلك كانوا يشكلون ضغطًا متواصلا على الدول
المتحضرة التى تعيش إلى جوارهم، وينتهزون الفرصة للإغارة عليها.
فكان لابد لهذه الحالة من الفوضى السياسية والاجتماعية - التى
كانت تعيشها هذه القبائل المغولية - أن تتمخض - فى النهاية - عن
وجود شخصية قوية توحد شتاتها، وتكوِّن منها دولة فتية موحَّدة،
فظهر شاب مغولى اسمه «تموجين» هو نفسه «جنكيزخان»، ونجح
بعد كفاح طويل فى تأسيس وبناء امبراطورية المغول الفسيحة،
فامتدت حدودها بين «الصين» شرقًا، و «بحر الإدرياتيك» غربًا.(4/9)
الفصل الثاني
*نشأة الامبراطورية المغولية
أولا: جنكيزخان وتوحيد القبائل:
وُلد «جنكيزخان» فى سنة (549هـ = 1154م)، بإحدى المناطق
المغولية، وكان أبوه «يسوكاى بهادر» رئيسًا لقبيلة «قيات»
المغولية، وكان يحارب - أحيانًا- القبائل المجاورة له، كما كان
يصطدم ببعض قبائل التتار، وقد خرج مرة لمحاربة رئيس إحدى
القبائل التترية، وانتصر عليه، وتمكن من أسره وقتله، فلما عاد إلى
موطنه وجد امرأته قد ولدت مولودًا، فأسماه «تموجين» بنفس اسم
رئيس قبيلة التتار الذى تمكن من أسره وقتله، تيمنًا بانتصاره عليه.
عاش «تموجين» حياة عز ودلال فى مطلع حياته، إلا أنه لم ينعم بها
طويلا، حيث مات أبوه وهو فى الثالثة عشرة من عمره، فتغير
الحال، وانفض عنه أكثر الناس، واضطر إلى الاعتماد على نفسه فى
رعاية أسرته، فكونت هذه الفترة شخصيته، وطبعته بطابع الجد
والصرامة، لدرجة أنه كان يستطيع أن يبقى ثلاثة أيام دون طعام أو
شراب، فلما بلغ السابعة عشرة من عمره التف حوله جماعة من الناس،
وتمكن من خلالهم أن يكون قوة يُخشى بأسها فى المنطقة، فبدأ
يفرض نفوذه على القبائل المجاورة، واحدة تلو الأخرى.
كانت شخصية «تموجين» القوية من بين الأسباب التى دفعت الناس
إلى الالتفاف حوله، فبدأ بفرض نفوذه، ثم السيطرة على القبائل
الكبيرة، وتمكن فى سنة (599هـ) من إحراز نصر كبير على قبيلة
«كرايت»، وأسرعت القبائل الأخرى إلى الدخول فى طاعته، وقضى
على ملك «النايمان»، ودخلت قبائله تحت إمرته فى سنة (600هـ)؛
التى اجتمعت فيها القبائل وأجمعت على اختيار «تموجين» إمبراطورًا
لها تحت اسم جنكيزخان.
وتُعدُّ هذه السنة بداية للدولة المغولية، التى وضع لها «جنكيزخان»
مجموعة من القوانين الصارمة عرفت باسم «دستور الياسّا» فى عام
(603هـ)، وكان على كل من يخضع لهذه القوانين أن يدين لها
بالولاء، أما من يخرج عليها فليس له من جزاء إلا القتل فورًا، وهكذا(4/10)
استطاع «جنكيزخان» أن يوحد شتات هذه القبائل فى دولة واحدة
تخضع لدستور واحد، واستغل قُوى هذه الأقوام والقبائل فى تكوين
جيش قوى استطاع به - بعد ذلك- أن يطيح بالدول المجاورة له،
الواحدة تلو الأخرى.
ثانيًا: سيطرة «جنكيزخان» على الدول المجاورة:
1 - الدولة الأويغورية وانضمامها إلى امبراطورية جنكيزخان:
دخل «الأويغور» فى طاعة ملك «الخطا»، الذى أرسل إليهم قوات من
عنده لكنها أساءت معاملة الأهالى الأويغوريين، فهاجمتها الأهالى
وقضت عليها، فأرسل إليهم «ملك الخطا» قوة كبيرة تمكنت من
إخضاع «الأويغور» لسطوتها، ونكلت بهم أشد أنواع التنكيل، فبعث
«الأويغور» إلى «جنكيزخان» يطلبون منه المساعدة، فى الوقت
الذى ثاروا فيه على جنود «الخطا»، وتمكنوا منهم وقتلوا رئيسهم،
ثم دخلوا بعد ذلك تحت حماية «جنكيزخان» فى سنة (606هـ)، ونتيجة
لذلك فقد شاع «الخط الأويغورى» بين أتباع «جنكيزخان»، وأصبحوا
يدَوِّنون به سجلاتهم وكتاباتهم.
2 - سيطرة جنكيز على أقاليم الصين الشمالية:
لاحظ «جنكيزخان» أن ملوك «الصين» الشمالية يحاولون الوقيعة بين
القبائل المغولية الخاضعة لسيطرته، ويعملون على تأليب أفراد هذه
القبائل عليه وعلى قبيلته، فخرج إليهم على رأس جيش كبير، وأخذ
معه كل أبنائه فى قيادة هذا الجيش، ودخل فى حروب متواصلة،
بدأت فى عام (608هـ)، وانتهت فى عام (612هـ)، حين سيطر
«جنكيز» على العاصمة «بكين»، واستولى على كنوز «الصين»
ونفائسها، فارتقت حياة المغول، وصاروا يصنعون خيامهم من
الحرير، ويرصعون سيوفهم بالجواهر.
وقد انتفع المغول من خبرات «الصين» العسكرية؛ إذ تمكن الصينيون
من اختراع البارود، وتطوير آلات الحرب القديمة وعدتها، مثل
«المجانيق» و «العَرَّاوات» وغيرها، مما مكنهم من فتح أحصن القلاع
وأمنعها، وأصعب المناطق العسكرية، كما استفادوا من استيلائهم
على «بكين» الأثر النفسى الذى تكوَّن لدى الناس من المفاجأة التى(4/11)
سيطرت عليهم حين سمعوا بأن مجموعة من القبائل البربرية الهمجية
قد أطاحت بدولة كبرى مثل «الصين الشمالية»، ولم يستطع بعض
الملوك تصديق هذا الحدث، مثلما فعل «محمد خوارزمشاه» الذى لم
يصدق هذا الأمر حتى سنة (615هـ)، وبعث ببعض خاصته تحت رئاسة
أحد العلماء فى بعثة استكشافية للتحقق من صحة هذا الخبر، فلما
تيقن من ذلك أبدى دهشته، ووقر فى نفسه أن هذه القوة الوليدة
لابد أنها تمتلك قوة خارقة، وعليه أن يحتاط لذلك، وسيطر عليه
هاجس امبراطورية المغولية الوليدة، وهكذا نُصر المغول بالرعب،
وخافهم الملوك، ورؤساء الدول المحيطة بهم.
ثم عاد «جنكيزخان» من «الصين» إلى بلاده فى سنة (618هـ)، لكى
يطارد رؤساء القبائل الفارِّين منه، والذين تسببوا فى إحداث بعض
الاضطرابات والمشاكل فى بلاده.
3 - قضاء جنكيزخان على الدولة القراخطائية:
فر عدد من رؤساء القبائل وأبنائهم من وجه «جنكيزخان» إبان
المذابح التى قام بها أثناء محاولته توحيد شتات القبائل التركية
المغولية، وكان من بينهم «كوجلك خان» ابن ملك قبائل «النايمان»
الذى هام على وجهه متوجهًا نحو الغرب وبصحبته مجموعة من
جنوده، حتى عبر حدود «الدولة القراخطائية»، فتم القبض عليه وعلى
من معه، وأمر «كورخان» ملك هذه الدولة بإيداعهم السجن.
وأثناء ذلك نشب نزاع بين القراخطائيين والخوارزميين، حيث
امتنع السلطان «علاء الدين محمد خوارزمشاه» عن دفع الجزية
السنوية التى كانت تدفع للدولة القراخطائية»، وكان مقدارها ثلاثين
ألف دينار، وكان السلاطين الخوارزميون يوصون أبناءهم بدفع هذه
الجزية لهم؛ لأنهم يمثلون السد الذى يمنع عن بلادهم غارات القبائل
الهمجية من جهة الشرق، فلما امتنع «محمد خوارزمشاه» عن دفع
هذه الجزية، كان لابد من قيام الحرب بين الطرفين.
استطاع «كوجلك خان» - من سجنه - أن يخدع «كورخان» ملك
«الخطا» ويقنعه بأنه خير معين له فى حربه ضد «خوارزمشاه»، وأنه(4/12)
يستطيع بسهولة أن يجمع جيشًا كبيرًا من الجنود الذين فروا أمام
«جنكيزخان»، وأن بوسعه أن يلحق الهزيمة بخوارزمشاه. وكان
«كورخان» فى حاجة إلى من يساعده، فوافق على عرض
«كوجلك»، وأطلق سراحه، وأمَّنه، وسمح له بالخروج لجمع الجنود
وتكوين الجيش، فما كان من «كوجلك» إلا أن اتصل بمحمد
خوارزمشاه واتفق معه على أن يجمع جيوشه ويهاجم القراخطائيين
جهة الشرق، فى الوقت الذى يهاجمهم فيه الخوارزميون من الجهة
الغربية، مقابل اقتسامها، فوافقه «محمد»، وتم تنفيذ هذا المخطط،
وتمكن «كوجلك» من قتل «كورخان»، ثم تزوج ابنته بعد أن ارتد عن
دينه إلى البوذية من أجل هذا الزواج.
اضطهد «كوجلك» المسلمين فى المناطق التى سيطر عليها، وأخذ
يُضيِّق عليهم، ويستولى على أرزاقهم، ويمنعهم من أداء شعائرهم،
ويهدم مساجدهم، ويمنعهم من رفع الأذان، ويحاول إرغامهم على
ترك الدين الإسلامى واعتناق البوذية، فضج المسلمون من ذلك وطلبوا
العون من «جنكيزخان»، فأرسل إليهم جيشًا بقيادة أحد قادته الكبار
للتخلص من «كوجلك»، وتمكن هذا الجيش ببراعة عسكرية فائقة من
القضاء على جيش «كوجلك» فى وقت قصير جدا، وفر «كوجلك» من
أمام القائد المغولى، ولكن المغول تتبعوا خطواته حتى أدركوه،
وقضوا عليه فى سنة (615هـ).
دهش «محمد خوارزمشاه» من الطريقة التى تمكن بها القائد المغولى
من السيطرة على «الدولة القراخطائية»، فى حين أنه كان يخشى
بأس «كوجلك» ويهابه، لدرجة أنه أمر سكان القرى الحدودية بينه
وبين دولة «كوجلك» بهجرها حين دب خلاف بينهما، خشية أن
يهاجمه «كوجلك»، فشعر بالقلق وسيطر عليه الخوف، خاصة أن
بلاده أصبحت مجاورة لأملاك «جنكيزخان» بعد أن ساعد هو نفسه
فى زوال «الدولة القراخطائية» التى كانت بمثابة حائط الصد المنيع
لبلاده ضد غارات المغول البربر.
الخوارزميون والمغول:
حدث صدام بين السلطان «محمد خوارزمشاه» وفيلق من المغول فى(4/13)
سنة (612هـ) بعد أن تغلب المغول بقيادة «جنكيزخان» على جميع
البلاد المتحضرة المجاورة لهم فلم يقصدوا بلدًا إلا فتحوه، حتى بلاد
«الصين» التى ظلت فى نظر القبائل المغولية أرضًا لايمكن أن
تستباح حرمتها بأية قوة، تمكن «جنكيزخان» من دخولها، وفتح
«بكين» عاصمة «الصين الشمالية» فى سنة (612هـ)، التى وقع فيها
الصدام بين الخوارزميين والمغول حين قاد أحد زعماء القبائل الفارين
من وجه «جنكيزخان» مجموعة من أبناء قبيلته وانطلق شمالا،
واستقر فى منطقة قريبة من نفوذ الخوارزميين، فأرسل
«جنكيزخان» ابنه «جوجى» (توشى) على رأس فرقة صغيرة من
جنوده لتعقب هؤلاء الفارين، فقضى «جوجى» عليهم، ثم عاد أدراجه
قاصدًا «منغوليا»، فالتقى فى طريق العودة بجيش كان يقوده
السلطان «محمد خوارزمشاه» بنفسه، فبعث «جوجى» إليه برسالة
مؤداها أن المغول ما قدموا إلا من أجل دفع الثوار الخارجين، ولم
يأتوا لمحاربة المسلمين، وليست عندهم أوامر بذلك، فلما قرأ
«السلطان محمد» الرسالة ركبه الغرور، وأعلن الحرب عليهم،
وهاجمهم، واستمرت الحرب سجالا بين الطرفين طيلة النهار حتى أتى
الليل، فأشعل المغول النار فى معسكرهم، ثم انسحبوا فى جنح
الليل، واكتشف السلطان أمرهم عند طلوع النهار، فأثر ذلك فى
نفسه وترك بداخله جرحًا عميقًا وخوفًا شديدًا، فقد رأى بنفسه ما
يتمتع به هؤلاء المغول من مقدرة على خوض غمار الحروب.
فلما هاجم المغول بلاده - بعد ذلك - أخذ يتقهقر أمامهم بغير انتظام،
وفقد القدرة على مواجهتهم ومنازلتهم، وقد استولت عليه الدهشة
عندما سمع بنبأ فتح المغول للعاصمة الصينية «بكين»، ولم يصدق
ذلك حيث كانت «الصين» تتمتع بنظام إدارى وعسكرى فريد، وبعث
«بهاء الدين الرازى» أحد أركان دولته لاستطلاع هذا الخبر، فلما
تأكد «الرازى» من صحة الخبر، عاد إلى السلطان «محمد
خوارزمشاه» ووصف له ما رأى خلال رحلته بقوله: «عندما وصلنا إلى(4/14)
حدود طمغاج واقتربنا من عاصمة التون خاتون (أى عاصمة أباطرة
الصين الشمالية وهى بكين) تراءى لنا من مسافة بعيدة أكمة بيضاء
عالية .. تلك الأكمة العالية تبعد عن المكان الذى كنا فيه نحو مسيرة
ثلاثة أيام أو أكثر، فخيل إلينا نحن مبعوثى خوارزمشاه أن تلك
الأكمة العالية ربما كانت جبلا تكسوه الثلوج، فسألنا المرشدين
وأهل المنطقة، فقالوا لنا: إنما هى مجموعة عظام الذين قُتلوا.
وعندما تقدمنا مرحلة أخرى فى الطريق، كانت الأرض قد صارت لزجة
سوداء (بسبب ما اختلط بها من دماء الآدميين) .. وعندما وصلنا إلى
أبواب طمغاج وجدنا فى موضع أسفل برج القلعة عظامًا آدمية كثيرة،
فاستفسرنا عنها، قيل:
إنه فى يوم فتح المدينة ألقى أهلها بعشرين ألف فتاة عذراء من
هذا البرج، فهلكن هناك حتى لا يقعن فى أيدى جيش المغول، فهذه
العظام كلها ما هى إلا رفات تلك الفتيات. وعندما شاهدنا
«جنكيزخان» أحضروا أمامنا ابن التون خان (إمبراطور الصين)
ووزيره مقيدين .. ولدى عودتنا أرسلوا معنا إلى خوارزمشاه الكثير
من التحف والهدايا، وقال لنا: قولوا لمحمد خوارزمشاه: إننى ملك
مشرق الشمس، وأنت ملك مغرب الشمس، وبيننا عهد ومودة ومحبة
وصلح مستحكم، فليستمر التجار، ولتستمر القوافل رائحة غادية بين
الطرفين، ولينقلوا إليك الطرائف والسلع التى فى ولايتى، وبلادك
أيضًا يكون لها نفس الحكم.
كان السلطان «محمد» -آنذاك- يشعر أنه فى أوج قوته، فقد استطاع
بسط سيطرته ونفوذه على «إيران» بأكملها عدا ولايتى «فارس»
و «خوزستان»، وضم «العراق» وبلاد «ما وراء النهر» و «تركستان
الشرقية»، وفكر - فى وقت ما - فى غزو بلاد «الصين» وضمها إلى
حوزته، كما فكر فى أن تكون له الهيمنة على «بغداد» والخلافة
العباسية، كما كانت لسلاطين السلاجقة، ولكن أمله خاب فى هذا
الشأن حين هاجمت جيوشه العواصف والأمطار الغزيرة والثلوج، ومات
عدد كبير من جنوده وهلكت خيوله فى طريقه إلى غزو «بغداد»،(4/15)
فعاد إلى بلاده خائبًا منكسرًا فى سنة (614هـ)، فكانت هذه أول
صدمة صادفته منذ ولى أمور الحكم فى سنة (596هـ)، ولذلك قال
أحد المؤرخين: «إن هيبة السلطان قد قلت فى قلوب الناس بعد عودته
من العراق، وعد الناس قصده دار الخلافة شؤمًا عليه».
لم يعد «السلطان محمد» إلى بلاده مباشرة حين رجوعه من
«العراق»، وإنما توجه إلى بلاد «ما وراء النهر»، واستقبل هناك
وفدًا من تجار المغول المسلمين، برئاسة «محمود الخوارزمى» الذى
تنتمى أسرته إلى إقليم «خوارزم»، حاملا رسالة من «جنكيزخان»
إلى «السلطان محمد» يقول له فيها: «إن الخان الكبير (يعنى جنكيز)
يسلم عليك، ويقول: ليس يخفى علىَّ عظيمُ شأنك، وما بلغت من
سلطانك، ولقد علمت بسطة ملكك، وإنفاذ حكمك فى أكثر أقاليم
الأرض، وأنا أرى مسالمتك من جملة الواجبات، وأنت عندى مثل أعز
أولادى، وغير خافٍ عليك - أيضًا- أننى ملكت الصين وما يليها من
بلاد الترك، وقد أذعنت لى قبائلهم، وأنت أخبر الناس بأن بلادى
مثارات العساكر، ومعادن الفضة، وإنها لغنية عن طلب غيرها، فإن
رأيت أن تفتح للتجار فى الجهتين سبيل التردد، عمت المنافع وشملت
الفوائد.
شعر «السلطان محمد» بغيظ شديد تجاه هذه الرسالة، إذ كانت تحمل
فى طياتها طابع التهديد والوعيد، فضلا عن الإهانة التى شعر بها
حين اعتبره «جنكيزخان» فى منزلة الابن، وهذا يعنى التبعية
للمغول، ومهما يكن من أمر فقد وافق «السلطان محمد» على إبرام
المعاهدة التجارية التى عرضها عليه «جنكيزخان» إلا أنه سرعان ما
قضى عليها بنفسه وهى مازالت فى مهدها، لشعوره بأنه مازال
قويا، ويجب عليه ألا يعبأ بهؤلاء الهمج من المغول، فضلا عما عرف
عنه من تكبر، وبغض للتواضع والتملق والمداهنة.
بعث «جنكيزخان» - ثانية- برسالة إلى «السلطان محمد»، وكان
يحملها مجموعة من التجار وبصحبتهم عدد من أتباع «جنكيزخان»،
وكانت القافلة كلها من المسلمين، ووصلت إلى مدينة «أترار» التى(4/16)
تقع على حدود ممالك «السلطان محمد»، فطمع «نيال خان» حاكم
هذه المدينة فى الهدايا التى تحملها هذه القافلة، وبعث إلى
«السلطان محمد» يخبره بأمرهم، وشكه فى أنهم ربما يكونون
جواسيس، فأمره السلطان بقتلهم على الفور، فقتلهم جميعًا إلا رجلا
واحدًا تمكن من الفرار، وذهب إلى بلاط «جنكيز» وأخبره بما حدث،
فاستشاط غضبًا، وهاله الأمر.
كان «جنكيزخان» يظن أن «الدولة الخوارزمية» دولة قوية متماسكة،
وليس بوسعه غزوها، إلا أنه أدرك أن الحرب مع الخوارزميين لا مفر
منها، وعليه أن يتريث قليلا حتى يعد لذلك العدة، فبعث برسالة
يحملها وفد رسمى من أتباعه المسلمين إلى «السلطان محمد»، يقول
له فيها: «إنك قد أعطيت خطَّك ويدك بالأمان للتجار ألا تتعرض لأحد
منهم، فغدرت ونكثت، والغدر قبيح، ومن سلطان الإسلام أقبح، فإن
كنت تزعم أن الذى ارتكبه نيال خان كان من غير أمر صدر منك،
فسلِّم نيال خان إلىَّ، لأجازيه على ما فعل، حقنًا للدماء، وتسكينًا
للدهماء، وإلا فأذن بحرب ترخص فيها غوالى الأرواح».
رفض «السلطان محمد» احتجاج «جنكيزخان» كما رفض تسليم «نيال
خان»، وأمر بقتل الوفد المغولى الذى حمل إليه الرسالة، وكان ذلك
فى عام (615هـ)، الذى بدأ «جنكيزخان» فيه الاستعداد لحرب
الخوارزميين، ووضع خطة لذلك، وبدأها بتأمين ظهره من المناوئين
لسلطته، وقضى على دولة «النايمان» وحاكمها «كوجلك خان»،
فبات الطريق أمامه مفتوحًا لغزو «الدولة الخوارزمية.
تسرب القلق والحيرة إلى نفس السلطان «محمد»، وغلب عليه التوتر
والخوف، وجفاه النوم، كلما سمع باقتراب المغول من بلاده، وأشار
عليه بعض مستشاريه بجمع جيش كبير يقف به على ساحل «نهر
سيحون»؛ ليحول دون عبور المغول إلى بلاد «ما وراء النهر»، ولكن
الأمراء الخوارزميين أشاروا عليه بأن يستدرج المغول ويدعهم
يعبرون إلى بلاد «ما وراء النهر»، ثم يستدرجهم إلى الجبال والممرات(4/17)
التى يصعب عبورها، ثم ينقض عليهم بجيوشه من كل جانب، فراقت
هذه الفكرة «السلطان محمد»، وفرق جيشه وأمراءه على المدن
الرئيسية ببلاد ما وراء النهر.
ولبث محمد خوارزمشاه ينتظر المغول، ثم ترك جيوشه وقواده ببلاد
«ما وراء النهر» وعاد إلى «خراسان» بسبب بعض الأمور الداخلية
التى أقلقته، والتى كان من أبرزها سيطرة أمه وزيادة نفوذها على
البلاد والجيش، لدرجة أنها تفوقت عليه فى النفوذ.
فلما وصل «جنكيزخان» إلى بلاد «ما وراء النهر»، قسم جيوشه
عليها، وتمكن من السيطرة على هذه المنطقة فى وقت قصير،
واستولت جيوشه على «أترار» و «بخارى» و «سمرقند»، وأمهات
مدن بلاد «ما وراء النهر»، ولم يجد المغول المقاومة الشرسة التى
انتظروها، فأدرك «جنكيزخان» حالة السلطان النفسية، وعمد إلى
المبالغة فى القتل والسلب والنهب ليزداد خوف الخوارزميين وغيرهم،
وقتل سكان مدينة «أترار» عن بكرة أبيهم، وأحرق «بخارى» عن
آخرها، وقتل كثيرًا من سكانها، وأخذ من بقى منهم على قيد الحياة
رقيقًا؛ ليستخدمهم فى حروبه التالية، فجمع الخوارزميون أمرهم
على بناء سور عظيم حول مدينة «سمرقند» آخر أمل لهم فى الصمود
والبقاء، ولكن المغول كانوا أسرع منهم ووصلوا إلى «سمرقند» قبل
أن يشرعوا فى بناء سورها، وتمكنوا من اقتحام هذه المدينة،
فانهار «السلطان محمد» وأخذ يولى الأدبار من مكان إلى مكان،
وأرسل بعض أتباعه لكى ينقلوا زوجاته وبنيه من «خوارزم» إلى
«مازندان»، فانتقلت عدوى الخوف والاضطراب من السلطان الهارب
إلى ثقاته وأتباعه ومستشاريه، واختلفت بينهم الآراء فيما ينبغى أن
يقوموا به فى سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، واستقر الأمر بالسلطان
إلى أن اختار التوجه إلى بلاد العراق العجمى غربى «إيران»؛ ليبتعد
بنفسه وجيشه قدر الإمكان عن هؤلاء الغزاة، ثم يستجمع قواه
وجنوده، ويستعد للقاء المغول، وعاد من جديد وولى وجهه شطر
الشمال الغربى إلى «نيسابور»، وأثناء ارتحاله سمع بسقوط(4/18)
«بخارى» و «سمرقند» فى أيدى المغول فزادت حالته النفسية
سوءًا.
ومما لاشك فيه أن السرعة التى تمتعت بها جيوش المغول فى
الاقتحام والتوغل، كانت من العوامل التى تركت آثارًا نفسية بعيدة
الغور فى نفوس المسلمين، مثلها فى ذلك مثل المذابح الرهيبة التى
نصبوها بعد فتح المدن المحاصرة؛ وهى المدن التى تركوها
خرابًا يبابًا، ليس فيها نفس واحد يتردد، كمدينة «نيسابور»
التى قتلوا كل من فيها من الأحياء حتى القطط والكلاب،
وبقروا بطون الحوامل، وأخرجوا الأجنة منها وذبحوها.
ولاشك أنه كانت هناك أسباب أخرى أدت إلى حدوث هذه الحالة من
الشلل التى أصابت تفكير الناس وحركتهم تجاه المغول أثناء غزوهم
لبلادهم، فإلى جانب السرعة التى تمتع بها المغول فى التحرك
والقسوة المتعمدة، ساعد مظهرهم البغيض، وما كانوا عليه من
عادات قبيحة كريهة على زيادة الرعب والفزع والقلق والخوف فى
قلوب الناس.
وكان المغول إذا أرادوا الإغارة على مدينة، بعثوا برسالة إلى أهلها
ويختمونها بقولهم: «ولسنا نعلم ماذا تفعل بكم الأقدار إذا لم تسرعوا
إلى تقديم الخضوع والاستسلام لنا، والله وحده هو الذى يعلم ما هو
نازل بكم».
وهكذا نظر المسلمون إلى المغول وتصرفاتهم بالكثير من الاشمئزاز
والنفور والكراهية، باعتبارهم غير خاضعين للمقاييس والمعايير
الإنسانية الأساسية، ولذلك امتلأت نفوس الناس بالرعب منهم.
تعرض «السلطان محمد» لمحاولة قتله على أيدى بعض المتمردين من
قادته قبل أن يدخل «نيسابور»، إلا أنه تمكن من النجاة، وسارع
بالتوجه إلى «نيسابور»، فلما دخلها جاءته الأخبار بأن «جنكيزخان»
بعث جيشًا كبيرًا فى أثره للقضاء عليه، فانطلق بقواته المتبقية إلى
الشمال الغربى، فما لبثت هذه القوات التى كانت تصاحبه أن انفرط
عقدها، وتفرقت من حوله، واستطاع «السلطان محمد» أن يهرب
بنفسه ومعه بعض أولاده إلى جزيرة منعزلة فى «بحر قزوين»، ثم(4/19)
اعتلت صحته، واهتدى الجيش المغولى الذى كان يطارده ويتعقبه
إلى القلعة التى كانت تختبئ فيها زوجاته فى «مازندان»،
فاقتحموها وأسروا زوجاته، وقتلوا مَنْ وجدوه بالقلعة من أبنائه
ورجاله، فلما علم «السلطان محمد» بذلك فقد وعيه، واستولى عليه
القلق والاضطراب، وأخذ يبكى بكاءً مرا حتى وافاه أجله فى سنة
(617هـ) بعد أن استولى المغول على معظم أقاليم «إيران»
وأحسنها.
وهكذا كان للعامل النفسى دوره واعتباره فى حروب «جنكيزخان»
على «الدولة الخوارزمية»، وهو دور لا يقل أهمية عن الدور الذى
لعبته العوامل السياسية والعسكرية التى تسببت فى هزيمة
الخوارزميين واندحارهم أمام الغزاة.
السلطان جلال الدين المنكبرتى وجهاده ضد المغول:
المرحلة الأولى من جهاد جلال الدين:
كان السلطان «محمد خوارزمشاه» - قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة - قد
منح ولاية العهد لابنه الأكبر «جلال الدين»، المعروف باسم
«منكبرتى» بدلا من ابنه «أوزلاغ» المعروف باسم «قطب الدين»،
وتوجه «جلال الدين» -عقب وفاة أبيه- إلى «خوارزم»، فقوبل
بمعارضة شديدة من أتراك «القنفلى» الذين يتكون منهم عصب
الجيش، حيث كانوا يرغبون فى أن يكون «غياث الدين» سلطانهم؛
لأن أمه من طائفتهم، ولم يكتفِ هؤلاء الجنود بالمعارضة، بل دبروا
لقتل «جلال الدين»، إلا أنه تمكن من الفرار بأتباعه عبر الصحراء إلى
«غزنة»، التى كان هو واليها فى عهد أبيه، ويعرفه الناس هناك
ويحترمونه ويقدرون كفاءته العسكرية وأعماله البطولية.
واستطاع هناك تكوين جيش كبير بلغ ثلاثين ألف مقاتل، وانضمت إليه
الفلول التى كانت هاربة من المغول، وبذلك ألحق هزيمة كبيرة
بمقدمة أرسلها المغول للبحث عنه فى هذه المنطقة فى سنة (618هـ.)
خشى «جنكيزخان» أن يتسع نفوذ «جلال الدين» فأرسل جيشًا
كبيرًا بقيادة أحد كبار القادة المغول لمحاربته، فالتقى الجيشان
بالسهول القريبة من «بروان»، واستطاع «جلال الدين» أن يلحق(4/20)
هزيمة ساحقة بالجيش المغولى، وسمع الناس بذلك ففرحوا فرحًا
شديدًا، وثار أهالى «هراة» فى وجه رئيس الحامية المغولى وقتلوه
هو وجنوده، فبعث «جنكيز» بابنه «تولوى» إلى هذه المدينة،
فدمرها وقتل جميع سكانها، وخرج «جنكيز» بنفسه على رأس جيش
كبير لملاقاة «جلال الدين»، فى الوقت الذى حدث فيه خلاف بين
اثنين من قادة «جلال الدين» على توزيع الغنائم، وانسحب أحدهما
بجنوده تاركًا «جلال الدين» فى هذه الظروف الحرجة، فاضطر إلى
الانسحاب بجنوده صوب بلاد «الهند» - حين سمع بقدوم المغول- ولكن
«جنكيز» أدركه، ودارت بينهما معركة حامية؛ أبلى فيها «جلال
الدين» بلاءً حسنًا، ولكن جيش «جنكيز» كان أقوى عدة وأكثر عددًا
فأدرك «جلال الدين» أنه لا فائدة من القتال، وانطلق صوب «نهر
السند» وعبره بجنوده، فلم يصل منهم إلى الجانب الآخر من النهر إلا
أربعة آلاف فارس، وبقى «جلال الدين» فى بلاد «الهند» بضع سنوات
(618 - 622 هـ)، ثم عاد بعدها إلى إيران.
وفاة جنكيزخان وتقسيم الإمبراطورية المغولية:
بعد أن سيطر «جنكيزخان» على كل المنطقة الشرقية من العالم
الإسلامى، وعين عليها ولاة من قِبَله؛ عاد إلى بلاده، ثم تُوفى فى
سنة (624هـ)، فعقد المغول مجلسًا عاما للمشاورة فيمن يخلفه على
العرش، واتفقوا على أن يتولى العرش «تولوى» أصغر أبنائه، ثم
قسمت - بعد ذلك - الأراضى التى سيطر عليها المغول بين أبناء
«جنكيز» الأربعة:
جوجى: واختص بالجزء الواقع «جنوب روسيا» الحالية، ويبدأ من
جنوب «بحر قزوين» فى الغرب حتى سواحل «نهر آرتش» فى
الشرق، وكان اسم هذه البلاد «القبجاق»، وعرف أبناء «جوجى»
باسم «القبيلة الذهبية» نسبة إلى المخيمات التى اتخذوها لأنفسهم
بلون الذهب.
جغتاى: واختص بالقسم الذى يضم بلاد «الأويغور» ومنطقة بلاد ما
وراء النهر.
أوكتاى: واختص بجزء صغير فى غربى منغوليا.
تولوى: واختص بالمنطقة الأصلية التى عاش فيها المغول.(4/21)
ثم ما لبث المغول أن اختاروا «أوكتاى» إمبراطورًا أعظم للمغول فى
سنة (626هـ).
المرحلة الثانية من كفاح جلال الدين:
انتهز «جلال الدين» فرصة انشغال المغول عن البلاد الفارسية بعد
وفاة «جنكيز» وانطلق بجيشه نحو «إيران»، وعبر «نهر السند»،
ودخل فى حروب عديدة مع مَن رآهم سببًا فيما حلَّ بالدولة
الخوارزمية، فحارب «الأتابكة» فى «فارس» و «كرمان» و «يزد»، ثم
حارب الخليفة العباسى، وانتصر عليهم جميعًا، ولكن مجموعة من
الولاة الذين يحكمون بلاد «ما وراء النهر» بقيادة «الملك الأشرف
الأيوبى» فى «الموصل»، تمكنوا من إلحاق الهزيمة بجلال الدين،
فاستغل «الإسماعيلية» الفرصة وأرسلوا إلى «أوكتاى» إمبراطور
المغول يخبرونه بأن الحلف العربى هزم «جلال الدين»، وقد أقدم
«الإسماعيلية» على ذلك لأن «جلال الدين» حاربهم من قبل وانتصر
عليهم، فجرد «أوكتاى» جيشًا كبيرًا قوامه (50) ألف جندى بقيادة
أشهر قواده «جرماغون»، الذى تمكن من مطاردة «جلال الدين»
وتفريق جيشه، ففر «جلال الدين» فى سنة (628هـ) إلى «الجبال
الكردية» الواقعة فى منطقة «جبال بكر»، فقتله هناك أحد الأكراد
حين عرف أنه السلطان، ثأرًا لمقتل أخيه على يد جيش «جلال الدين»
فى إحدى الحروب.
غزو هولاكو لغرب إيران وقضاؤه على الخلافة العباسية:
هولاكو والإسماعيلية:
بعد سلسلة من الصراعات على السلطة بين أمراء البيت الملكى، انتقل
الحكم إلى بيت «تولوى بن جنكيزخان، وتولى «منكوقا آن بن
تولوى» الحكم فى سنة (648هـ)، وعمل منذ تسلم أمور الحكم على
تنفيذ التوجهات التوسعية التى كانت تضطرم بها نفوس المغول،
فأرسل أخاه «قوبيلاى» على رأس جيش كبير للسيطرة على جنوب
«الصين» ومنطقة «جنوبى شرق آسيا»، وأرسل أخاه الأصغر
«هولاكو» إلى «إيران» وبقية العالم الإسلامى للسيطرة عليها، وحدد
له هدفين هما:
1 - القضاء علىالإسماعيلية.
2 - القضاء على الخلافة العباسية.(4/22)
تحرك «هولاكو» من «سمرقند» فى سنة (653هـ) وأرسل طليعة
جيشه لاستكشاف قلاع «الإسماعيلية» ومهاجمة بعضها؛ حيث كان
«الإسماعيلية» يقيمون قلاعهم على قمم الجبال، بحيث يصبح
مهاجموهم تحت سيطرتهم مباشرة، فإذا ما هاجمهم جيش أرسلوا
عليه وابلا من السهام والحجارة لإعاقة حركته، ومنعه من الصعود،
فلا يصل إليهم، وكانت أهم هذه القلاع التى يحتفظون فيها بالمؤن
الكثيرة، قلاع: «الموت»، و «ميمون در»، و «لنبهْ سر» وكَردكوه.
أرسل «هولاكو» قائده «كيتبوقا نوين» لفتح قلعة «كَردكوه»
فاستعصت عليه، فسار «هولاكو» بنفسه لفتحها فى أواخر سنة
(653هـ)، إلا أنه لم يتمكن منها، وفتح بعض القلاع الصغيرة، فحل به
وبجنوده اليأس، خاصة وقد حل شتاء سنة (654هـ)، وقلت الأغذية،
وتعرضت جيوشه للهجمات الفدائية التى قتلت الكثيرين من الجنود،
فعمد «هولاكو» إلى الحيلة وسياسة الترغيب والترهيب، فنجحت
حيلته، وبعث إليه «ركن الدين خورشاه» ملك «الإسماعيلية» برسالة
يعلن فيها استعداده للتسليم، فوافقه «هولاكو» وأمَّنه، وسلم
«خورشاه» نفسه فى سنة (654هـ) وقتله المغول بعد فترة قصيرة،
ثم سيطروا على قلاع «الإسماعيلية» وأطرافها، واتخذ «هولاكو» من
الفيلسوف والعالم الفلكى الرياضى «نصر الدين الطوسى» الذى كان
يعيش مع «الإسماعيلية» فى قلاعهم؛ مستشارًا له ووزيرًا.
هولاكو وسقوط الخلافة العباسية:
بعد أن قضى «هولاكو» على «الإسماعيلية»؛ توجه بجيش كبير نحو
الغرب، وبعث برسالات التهديد إلى الخليفة العباسى؛ فرد عليه
بالأسلوب نفسه اعتقادًا منه أن حكام الدول الإسلامية سيقفون إلى
جواره فى صد الخطر المغولى عن رمز العالم الإسلامى، فاستشار
«هولاكو» «نصر الدين الطوسى» فزين له الهجوم على «بغداد»،
فحاصرها فى شهر المحرم سنة (656هـ)، فخرج «الدواتدار» قائد
الجيش العباسى على رأس قوة كبيرة فى محاولة لفك الحصار
المغولى، فخدعه المغول وأوهموه أنه انتصر عليهم، وأخذوا(4/23)
يتراجعون إلى الخلف، فتوغل بجنوده بعيدًا عن أسوار «بغداد»،
فأطبق عليه المغول من كل جانب وحاصروه وفتكوا بجنوده، وتمكن
من الفرار بأعجوبة مع عدد قليل من جنوده، وعاد بهم إلى بغداد.
عمد «هولاكو» إلى إغراء الخليفة العباسى «المستعصم
بالله» بالوعود الكاذبة، فسلم الخليفة نفسه وأهله وأمواله إلى
«هولاكو»، فأمر بقتله؛ ثم دخل المغول «بغداد»، واستباحوها،
وهدَّموا أكثر مبانيها، وقتلوا نحو مليون شخص، وجمع المغول كل
الكتب والمخطوطات التى كانت موجودة بمكتبة «بغداد»، وألقوها
فى «نهر دجلة» لتكون جسرًا يتمكن الجنود بواسطته من عبور النهر
إلى الجانب الآخر، وهكذا سقطت «بغداد» بعد أن ظلت أكثر من
خمسة قرون (132 - 656هـ) حاضرة المسلمين، ومنارة العلم
والحضارة للعالم الإسلامى، وترتب على ذلك انتقال مركز الخلافة من
«بغداد» إلى «مصر» فى سنة (659هـ)، وفقدت اللغة العربية سيادتها
فى «إيران» والمشرق الإسلامى، وعادت الفارسية ثانية واحتلت
الرقعة العلمية والثقافية فى هذه البلاد، كما كان لسقوط «بغداد»
رنة فرح شديدة عند النصارى، الذين أشادوا بهولاكو وهللوا له؛ لأنه
خلصهم من منافسهم الخطير المتمثل فى الخلافة الإسلامية، غير أنهم
ندموا على سقوط هذه الخلافة بعد ذلك، حين تبين لهم سماحة
المسلمين فى المعاملة ووفاؤهم بالعهد، وهذه الصفات لم يكن
المغول يتمتعون بها، ولايعرفون عنها شيئًا.
هزيمة المغول فى عين جالوت:
توقف «هولاكو» ببغداد فترة، ثم أرسل جيشًا بقيادة قائده
«كيتبوقا» (أو «كتبغا» كما يسميه المؤرخون العرب) للسيطرة على
«فلسطين» و «مصر» فى سنة (658هـ)، وكان يحكم «مصر» - آنذاك-
«سيف الدين قطز»، وعلم بمقدم المغول، فتأهب بجيشه بقيادة «ركن
الدين بيبرس» (الظاهر بيبرس البندقدارى) للدفاع عن «فلسطين»،
والتقى بجيش المغول فى منطقة «عين جالوت» فى رمضان سنة
(658هـ)، وأسفرت المعركة عن هزيمة منكرة لحقت بالمغول، لأول(4/24)
مرة منذ عهد السلطان «جلال الدين الخوارزمى»، وتم أسر قائد
الجيش المغولى «كتبغا» ثم قتله، فكان لهذه المعركة عدة نتائج من
أهمها: أنها حالت دون تقدم المغول إلى «مصر»، وقضت على خرافة
الجيش المغولى الذى لا يُقهر، وتبدو أهمية هذه المعركة إذا ما
تصورنا أن الهزيمة هى التى حلَّت بالمسلمين، فلا شك أن المغول
كانوا سيقضون على آخر معقل للإسلام فى فلسطين ومصر.
وأدى نجاح المصريين فى هذه المعركة إلى إدراك الأهمية الكبرى
للوحدة بين «مصر» وبلاد الشام، وإلى توطيد العلاقات بين المماليك
فى «مصر» والشام وحكام منطقة «القبجاق»، الذين كان يحكمهم
-آنذاك- «بركة خان بن جوجى بن جنكيزخان»، الذى اعتنق هو
ورعيته الإسلام، وطلب العون من المماليك فى «مصر»، لكى يقفوا
إلى جانب بلاده ضد «المغول الإيلخانيين» الذين كانوا يحكمون
«فارس»، ولاشك أن هذه المعركة أكسبت «القاهرة» مكانة ممتازة
فى الجانب السياسى، إلى جانب ما كانت تتمتع به من مكانة
حضارية وثقافية وعلمية.
ولقد ارتد المغول على أعقابهم بعد ذلك وانحصر مدهم، وتقلص
نفوذهم حتى حدود منطقة «العراق»، وانشغل «هولاكو» بالحروب
الكثيرة التى دخلها مع «بركة خان»، ولم يستطع أن يتفرغ للثأر من
المصريين الذين هزموه فى «عين جالوت»، حتى مات فى سنة
(663هـ)، بعد أن عين «شمس الدين محمد الجوينى» وزيرًا، وعهد إلى
أخيه «علاء الدين الجوينى» بحكم «بغداد». وظل المغول فى حدود
منطقة «العراق» حتى أقاموا دولتهم الجديدة التى عُرفت باسم
«الدولة الإيلخانية» فى «إيران» و «العراق» وآسيا الصغرى.(4/25)
الفصل الثالث
*الدولة الجغتائية
[624 - 760 هـ = 1227 - 1358 م].
النشأة والتكوين:
تنسب «الدولة الجغتائية» إلى مؤسسها «جغتاى» الابن الثانى
لجنكيزخان الذى أصبح ولى عهده بعد وفاة أخيه الأكبر «جوجى»
فى حياة والدهما، فلما مات «جنكيزخان» فى سنة (624هـ =
1227م)، آلت إلى «جغتاى» أملاك «الدولة الجغتائية» (خانات
جغتاى)، التى تُعرف باسم: «منطقة التركستان»، وهى تعتبر حدا
فاصلا بين دولة «القبجاق» ودولة الخاقانات.
حكم «جغتاى» مؤسس هذه الدولة منذ وفاة والده فى عام (624هـ =
1227م) إلى عام (639هـ =1242م)، وكان رجلا حازمًا وصارمًا
وعنيدًا، ذلك لأنه كان المسئول عن تنفيذ الياسا، وقد اشتُهر بسوء
معاملة المسلمين، وتعطشه لسفك دمائهم.
ثورة تارابى:
تنتسب هذه الثورة إلى زعيمها «محمود الترابى»، الذى كان يعمل
صانعًا للغرابيل، بقرية «تاراب»؛ أقدم قرى مدينة «بخارى»، وهدفت
هذه الثورة - التى أطلق عليها بعض المؤرخين الفرس: حركة شعبية -
إلى رفض الحكم المغولى، واعتمدت على الدين كأساس لها فى ذلك،
فالتف الناس حولها، على الرغم من أن دعاتها اعتمدوا على
الخرافات، وادعوا اتصالهم بالأرواح، إلا أن انضمام «شمس الدين
المحبوبى» أحد علماء «بخارى» إليها أكسبها قوة؛ إذ كان على
خلاف مع أئمة «بخارى»، فساند «محمود تارابى» زعيم الثورة،
وذكر له أن أباه قرأ فى أحد الكتب نبوءة مفادها: أن رجلا سيظهر
ببخارى، سيكون فتح العالم على يديه، وأن مواصفات هذا الرجل
تنطبق على «محمود تارابى»، وأكد المنجمون صدق ذلك، وأعلنوا
أن نجم «محمود تارابى» قد بزغ، وأن الحظ سيحالفه، ولأن هذه
المعتقدات كانت سائدة آنذاك، فقد اهتم الناس بأقوال المنجمين،
والتفوا حول زعيم هذه الثورة، وحققوا انتصارات كبيرة، ودخلوا
«بخارى»، غير أن المغول تمكنوا من صد الثورة ومقاومتها، وسقط
«التارابى» و «محبوبى» صريعين، فأعلن الثوار «محمدًا» و «عليا»،(4/26)
أخوىْ «تارابى»، زعيمين للثورة، فعزز المغول قواتهم، وتمكنوا من
القضاء على هذه الثورة، وقبضوا على الثائرين، وأرادوا معاقبتهم،
ولكن «محمود يلواج» استطاع الحصول على العفو لهم من قادة
المغول.
العلاقات الخارجية:
كانت دولة «خانات جغتاى» دولة تابعة للدولة الأم التى أسسها
«جنكيزخان»، وكانت ذات علاقة حدودية بين هذه الدولة الأم (دولة
الخاقانات) من جانب، ودولة «القبجاق والإيلخانية» من جانب آخر؛
ولذلك فقد دخلت فى صراعات طويلة مع هذه الدول بسبب موقعها
المتوسط بينها، ولم تكن صراعاتها من أجل التوسعة أو الوصول إلى
حكم دولة مغولية أخرى، وإنما كان صراعًا على عرش «دولة
الخاقانات»؛ فعندما تُوفى «متكوقا آن» الحاكم الأعظم (الخاقان) (4)
لدولة «خاقانات المغول»، كان ابنه «قوبيلاى» يقود الجيوش ببلاد
«الصين» لتوسعة أملاك «دولة الخاقانات» بها، وكان «أريق بوقا»
فى «قراقورم» عاصمة الدولة، وتم إعلانهما خاقانين على البلاد
خلفًا «لمتكوقا آن»، وحيث إن «قراقورم» كانت منطقة فقيرة، فقد
أراد «أريق بوقا» أن يوفر لقواته ما يلزمهم، وأغار على «الدولة
الجغتائية»، وأخضع حاكمها «آلغو بن بايدار بن جغتاى» تحت
سلطانه ليأمن شره، ويضمن عدم تحالفه مع غيره، ولكن ذلك لم يتم؛
فقد انقلب عليه حاكم «الدولة الجغتائية» وانضم إلى «قوبيلاى قا
آن» حين عاد من «الصين»، واعترف به خاقانًا للمغول، فاضطر
«أريق بوقا» إلى الاستسلام لخصمه «قوبيلاى»، الذى انفرد بحكم
دولة الخاقانات وأسس بها حكمًا جعله لأسرته، التى عُرفت فى
التاريخ باسم (أسرة اليوان).
وهكذا دخلت «الدولة الجغتائية» فى صراع لم تكن سببًا فى حدوثه،
بل لم تسلم من الصراعات بعد ذلك، فقد دخلت فى صراع مع
«قايدوخان» (وهو من نسل أوكتاى قا آن)، بتحريض من «بركة
خان» حاكم «القبجاق»، ودارت الحروب سجالا بين الطرفين إلى أن
مات «ألغو بن بايدار» حاكم «الجغتائيين»، فاعتلى «مباركشاه»(4/27)
عرش الدولة فى عام (662هـ =1264م)، ولكنه لم يلبث طويلا فى
الحكم، إذ استطاع «براق خان» الاستيلاء على العرش فى عام
(664هـ = 1266م)، بمساعدة «قوبيلاى قا آن» خاقان المغول، وذلك
يؤكد أن العلاقة الخارجية لهذه الدولة كانت ذات صلة وثيقة بالسياسة
الخارجية لدولة خاقانات المغول.
مظاهر الحضارة فى الدولة الجغتائية:
تُعد «بخارى» أعظم مدن «الدولة الجغتائية»، وكانت حاضرتها التى
يشار إليها بالبنان ضمن بلاد «ما وراء النهر»، إذ كانت تزخر بالأبنية
الفخمة، والحدائق الغناء، والبساتين والمتنزهات والثمار الكثيرة،
التى يعد البرقوق أشهرها حتى الآن، كما كانت سوقًا ومركزًا
تجاريا مهما، فبها مصانع للحرير والديباج، وأخرى للمنسوجات
القطنية، وكذلك كانت ذات مكانة خاصة فى العالم الإسلامى، ولم
يضارع «بخارى» فى كل ذلك سوى «سمرقند» بأضرحتها
وبفواكهها، ومصنوعاتها من الجلود، والمنسوجات القطنية.
ولعل القارئ يتساءل كيف انتعشت الحضارة فى «بخارى»
و «سمرقند» مع ما لحق بهما من دمار عمَّ بلاد «ما وراء النهر» أثناء
الغزو المغولى؟ خاصة وأن أحد البخاريين الذين فروا من الدمار الذى
لحق بمدينته أخبر عن حالها - بالفارسية- حين سئل عن ذلك بقوله:
«آمدند وكندند وسوخستند وكشتند وبردند ورفتنك.
وترجمة ذلك:
جاءوا، ودمروا، وأحرقوا، وقتلوا، ونهبوا، ثم رحلوا.
فكانت إجابته تصويرًا لما لحق بهذه المدينة التى خرَّجت العلماء
الأجلاء، ولم تكن «سمرقند» بأسعد حظا منها، ولكن لم تمضِ عدة
سنوات حتى استعادت هذه المناطق رونقها وبهاءها، لوفرة
المحاصيل الزراعية بها، ولرغبة المغول فى كسب ود هذه البلاد؛
لأنها مركز الثورات، وحركات التمرد والعصيان ضدهم، لذا تمكنت هذه
البلاد من استرداد قوتها وإعادة بنائها مرة ثانية.
ولقد شهدت بلاد «ما وراء النهر» فترة ازدهار حضارى على يد
حاكمها «مسعود يلواج» فى ظل «الدولة الجغتائية»، وبنى ببخارى(4/28)
مدرسة نسبها إليه هى «المدرسة المسعودية»، فدمرها الإيلخانيون
فى عام (1273م)، فأعاد البخاريون بناءها ثانية، ودفن بها «مسعود
يلواج» فى عام (1289م).
ولم يقتصر مجهود «يلواج» على «بخارى» وحدها، بل تعداها ليشمل
منطقة حكمه كلها، وشيد «بكاشغر» «مدرسة مسعودية» أخرى،
وبذا تمكنت بلاد «ما وراء النهر» من الصمود أمام غزوات المغول
عليها، وأن تعيد بناءها بفضل موقعها ومناخها، وبفضل حكامها
الذين عملوا على تأسيس الحضارة فيها وبنائها.(4/29)
الفصل الرابع
*الدولة الإيلخانية فى إيران والعراق
[654 - 744 هـ= 1256 - 1344م].
تعود تسمية الدولة الإيلخانية بهذا الاسم إلى هولاكو خان الذى لُقِّب
بإيلخان، وهى كلمة مكونة من مقطعين «إيل» بمعنى تابع، و «خان»
بمعنى ملك أو حاكم، والمقصود أن حاكم الدولة الإيلخانية تابع للخان
الحاكم فى قراقورم.
1 - آباقا خان:
يعد «هولاكو» المؤسس الأول لسلسلة سلاطين المغول فى «إيران»
و «العراق» الذين ظلوا يحكمون هذه البلاد من سنة (654هـ) حتى سنة
(756هـ)، وقد تُوفى «هولاكو» سنة (663هـ)، وخلفه ابنه «آباقا
خان» فى حكم البلاد، التى امتدت من «نهر جيحون» حتى «العراق
العربى» غربًا، ومن جنوبى روسيا شمالا حتى «البحر العربى»
جنوبًا.
وقد جنحت الدولة الإيلخانية منذ إنشائها إلى الاستقلال عن العاصمة
المغولية، فى أمور السياسة والحكم - منذ عهد «آباقا خان» - وكأن
حكامها مستقلون تمامًا عن العاصمة قراقورم.
وساعد البعد الجغرافى الذى يفصل بين «منغوليا» والإيلخانيين فى
«إيران» و «العراق»، على أن يتخذ الإيلخانيون أساليب وعادات
ونظمًا وغير ذلك من التقاليد الحضارية التى كانت موجودة فى
«إيران»، والتى لم يعهدها المغول من قبل، فأصبح الإيلخانيون
وكأنهم من ملوك الفرس.
اتخذ «آباقا» من «تبريز» عاصمة له، فاحتلت فى عهده مكانة
ممتازة، وجعل «آباقا» قائده الأمير «سونجاق» واليًا على «العراق»
وإقليم «فارس»، ففوض هذا الأمير بدوره المؤرخ «علاء الدين عطا
ملك الجوينى» فى حكم «العراق»، وعهد «آباقا» بمنصب الوزارة
إلى «شمس الدين محمد الجوينى» أخى «علاء الدين»، فكانا سببًا
من أسباب ازدهار دولة «آباقا»، وعلى الرغم من الجهود الذى بذلها
الجوينيون فى خدمة هذه الدولة وتوطيد أسسها، ودعم أركانها،
فإنهم تعرضوا - فى نهاية الأمر - لنكبة تشبه نكبة البرامكة عندما
تكاثر عليهم الأعداء والخصوم، وقُتل الجوينيون جميعًا فى عهد(4/30)
«أرغون» سنة (683هـ) الذى قضى على جميع أفراد هذه الأسرة.
تزوج «آباقا» ابنة امبراطور «القسطنطينية»، فتوطدت علاقته
بالنصارى، وأكثر من القساوسة فى بلاطه، على الرغم من أنه كان
إلى ذلك الوقت وثنيا، وحرص المسيحيون على مداهنة المغول
واجتلابهم نحو المسيحية؛ أملا فى انضمام هؤلاء المحاربين الأشداء
إلى صفوف النصارى ومحاربة أشد أعدائهم، المسلمين.
وفى الوقت نفسه كان «آباقا» يريد من وراء توطيد علاقته
بالمسيحيين أن يحصل على معاونتهم فى حربه ضد المسلمين،
وخاصة المماليك، ليثأر لهزيمة المغول أمامهم فى «عين جالوت»،
غير أن محاولاته ذهبت جميعها عبثًا، ولحقت به الهزائم فى كل مرة
التقت فيها جيوشه بجيوش المماليك بقيادة «الظاهر بيبرس»، وكانت
معركة «أبلستين» التى قامت بين الطرفين فى عام (675هـ) من أهم
المعارك التى دارت بين الجانبين، وانتصر فيها المماليك فى «مصر»
و «الشام» انتصارًا حاسمًا، ثم تُوفى «آباقا» فى سنة (680هـ.)
2 - أحمد تكودار [681 - 683هـ]:
كان «آباقا خان» يريد أن يخلفه عن العرش ابنه «أرغون» لكنه لم
يستطع لأن هذا الإجراء كان يعد مخالفة كبيرة لأحكام الدستور
المغولى الذى وضعه جنكيز الذى يسمى «الياسا»، فقد كان يتعين
إذا مات الخان أن يخلفه على العرش أكبر الأمراء الأحياء، ولقد كان
أكبرهم هو «تكودار» وليس «أرغون»، ولذلك أجمع الأمراء المغول
الذين اجتمعوا فى المجلس العام الذى يسمى «قوريلتاى» وقرروا
انتخاب «تكودار» إيلخانًا فى سنة (681هـ).
اعتنق تكودار المسيحية فى صغره، لكنه مال إلى الإسلام شيئًا
فشيئًا؛ لكثرة اتصاله بالمسلمين، وتوطيد علاقته بعظماء المسلمين
وكبار أئمتهم، فأعلن إسلامه، وسُمى بالسلطان «أحمد تكودار»،
فكان أول مَن اعتنق الإسلام من الإيلخانيين.
كان إسلام السلطان «أحمد» عاملا قويا فى تهذيب طباعه وتقويم
خلقه، ولم يعد ذلك المغولى الذى كان كل همه سفك دماء المسلمين(4/31)
وتخريب ديارهم، وإنما أصبح يرى المسلمين إخوته، ويجب أن يحل
بينهم الوئام؛ لذا تبادل الرسائل الودية مع السلطان «قلاوون» سلطان
المماليك فى «مصر»، فقضى بذلك - مؤقتًا- على الأحقاد والضغائن،
ولم تحدث حروب بين الجانبين، وكذلك كان لإسلام «أحمد تكودار»
أثر كبير فى «إيران»، فقويت شوكة المسلمين، وعادت المعابد
البوذية وكنائس النصارى إلى مساجد كما كانت من قبل؛ ووصل
المسلمون إلى المناصب الرئيسية فى الدولة، وتطلَّع أبناء البلاد
الأصليين من الفرس إلى شغل المناصب الإدارية بالدولة المغولية.
ونتيجة لذلك كله خاف أمراء المغول على مصالحهم الشخصية -خاصة
أن السلطان كان يحرص على خطب ودهم - وبخاصة الأمير «أرغون»
الذى كان يطمع فى العرش فثار على السلطان «تكودار» وتمكن من
قتله فى سنة (683هـ)، وضعفت بذلك شوكة المسلمين فى «إيران»
ثانية.
3 - أرغون خان [683 - 690هـ]:
بعد مقتل السلطان «أحمد» اجتمع الأمراء المغول ونصبوا الأمير
«أرغون ابن آباقا» إيلخانًا عليهم فى جمادى الآخرة سنة (683هـ)،
فنصب ابنه «غازان» حاكمًا على «خراسان» وعين الأمير «نوروز»
نائبًا له عليها، وأنعم على الأمير «بوقا» بلقب «أمير الأمراء»،
وأطلق يده فى تسيير شئون الدولة، وقتل الوزير «شمس الدين
الجوينى» وجميع أفراد أسرته تقريبًا فى شعبان سنة (683هـ)،
وذلك لموقفهم مع السلطان «أحمد تكودار» ومساندتهم له فى
المعركة التى دارت بينه وبين أفراد المغول بقيادة الأمير «أرغون»؛
والتى انتهت بمقتل السلطان وتنصيب الأمير سلطانًا.
وزارة سعد الدولة اليهودى:
بعد مقتل الوزير الجوينى «شمس الدين» ازداد نفوذ الأمير «بوقا» إلى
حد كبير، وأصدر «الإيلخان» قرارًا يقضى بأنه ليس لأحد فى الدولة
الحق فى محاسبة الأمير «بوقا» - حتى إذا ارتكب أكبر الجرائم - إلا
السلطان نفسه، ولاشك أن هذه السلطة المطلقة التى حصل عليها
«بوقا» جعلته يميل إلى الاستبداد والبطش والهيمنة على شئون(4/32)
الدولة، ولم يبقَ للسلطان (الإيلخان) إلا الاسم فقط.
لم يقتصر عداء «بوقا» على المسلمين وحدهم بل امتد بطشه إلى
أمراء المغول أنفسهم، كما أنه لم يكن على دراية كافية بشئون
البلاد الإدارية والمالية، فأدى ذلك إلى حالة من الفوضى والارتباك
فى البلاد، وقد أثار ذلك حنق الأمراء المغول وغضبهم وجعلهم
يفكرون فى التخلص منه، فحرضوا الإيلخان «أرغون» على التخلص
من الأمير بوقا.
وكان من أشد أعداء هذا الأمير طبيب يهودى يدعى سعد الدولة
وكان اجتماعيا؛ يكثر الاختلاط بالناس ويوسع دائرة معارفه بينهم،
كما كان ملما بأحوال الموظفين والصيارفة فى «بغداد»، ويجيد عدة
لغات، ويعمل بالطب الذى كان وقفًا فى بلاد الإيلخان على اليهود
وحدهم، ولذا عملوا على التدخل فى شئون الدولة من خلال عملهم،
وحملوا الإيلخان «أرغون» على تعيين «سعد الدولة» طبيبًا لبلاطه،
وتصادف أن اعتلَّت صحة الإيلخان، ومرض مرضًا شديدًا، وتمكن «سعد
الدولة» من معرفة الدواء المناسب لمرضه، فشفى «الإيلخان»، وكافأ
«سعد الدولة» وقرَّبه منه، وزاد قدره عنده، فاستغل الطبيب ذلك،
وأخذ يشى بالأمير «بوقا» ويزيِّن للسلطان التخلص منه، حتى أوغر
صدره ضده، فأمر السلطان بالقبض على «بوقا» وقتله بتهمة التآمر
على السلطان، وتعيين الطبيب «سعد الدولة» وزيرًا له على البلاد.
استطاع الوزير سعد الدولة أن يستميل إليه قلوب الناس برفع المظالم
عنهم، وإجراء الصدقات على فقرائهم ومحتاجيهم، فمدحه الشعراء،
وقصد بابه الأدباء والعلماء، ولكنه لم يكد يطمئن إلى ثبات مركزه
فى الدولة، وارتفاع منزلته عند السلطان حتى أخذ يكيد للمسلمين
ويعمل على التضييق عليهم، فضاقوا به وتحينوا الفرصة للخلاص منه،
كما ضاق به الأمراء المغول لاستبداده بالحكم، وقضائه على ما كانوا
يتمتعون به من نفوذ، وانتظروا كذلك الفرصة للقضاء عليه، فمرض
«أرغون» فجأة، واشتد عليه المرض، وحاول الأطباء برئاسة «سعد(4/33)
الدولة» معالجته وإنقاذه بكل السبل، ولكنهم عجزوا عن ذلك، فقبض
الأمراء المغول على «سعد الدولة» وقتلوه فى شهر صفر سنة
(690هـ)، ولم يلبث الإيلخان بعده إلا فترة قصيرة ثم مات، فعمت
مشاعر البهجة والسرور أنحاء البلاد الإسلامية؛ لمقتل «سعد الدولة»،
وثار الناس على اليهود فى كل مكان، وقتلوا منهم عددًا كبيرًا.
سياسة أرغون الخارجية:
حاول «أرغون» أن يحد من نفوذ «مصر» فى المشرق الإسلامى،
فأقام علاقات سياسية وطيدة مع قادة الدول المسيحية مثل: «البابا»
و «إدوارد الأول» ملك «إنجلترا»، و «فيليب لوبل» ملك «فرنسا»،
تمهيدًا لتكوين حلف للقضاء على النفوذ المصرى فى «آسيا
الصغرى»، و «العراق» و «الشام»، و «فلسطين». وشجعت هذه
العلاقات (المغولية - الأوربية) عددًا من الرحالة الأوربيين على زيارة
بلاد المغول، وسافر الرحالة الشهير «ماركو بولو» إلى العاصمة
المغولية، وأقام فى بلاط الامبراطور المغولى «قوبيلاى» نحو
عشرين عامًا، عمل فيها مستشارًا له ووزيرًا، ولم تقع حروب تذكر
بين الجانبين - المصرى والمغولى - فى عهد «أرغون» لانشغال كل
منهما بمشكلاته الداخلية.
4 - كيخاتو خان [690 - 694هـ]:
بعث الأمراء المغول عقب وفاة «أرغون» إلى أخيه «كيخاتو خان»
يخبرونه بوفاته، فقدم على الفور من بلاد الروم التى كان يحكمها،
وتولى عرش الإيلخانية فى رجب سنة (690هـ)، ثم عين «صدر الدين
أحمد الزنجانى» وزيرًا له، ولقبه بلقب «صدر جهان» وأوكل إليه
التصرف فى شئون الدولة كافة دون تدخل من أحد، وعين أخاه
«قطب الدين الزنجانى» قاضيًا للقضاة، وأطلق عليه لقب «قطب
جهان»، ثم انصرف «كيخاتو» إلى ملذاته وشهواته وإنفاق الأموال
فى سبيلها دون حساب، فاضطربت مالية الدولة، وأصبحت خزانتها
شبه خاوية ومهددة بالإفلاس، ووقف الوزير حائرًا لا يدرى ماذا يفعل
حيال ذلك، فظهر له رجل اسمه «عز الدين محمد بن المظفر» - وكان(4/34)
على دراية بالأحوال المالية فى «بلاد الصين» - واقترح عليه العدول
عن استخدام الذهب والفضة فى المعاملات المالية، واستخدام أوراق
مالية - تعرف عند الصينيين باسم «الجاو» - بدلا منها، لإنقاذ البلاد من
الإفلاس، كما فعل الصينيون، فاستحسن الوزير هذا الاقتراح،
واستصدر قانونًا من الإيلخان فى سنة (693هـ) ينص على التعامل
بهذه الأوراق، ويحرم التعامل بالذهب والفضة تحريمًا تاما.
رفض الناس التعامل بالأوراق المالية فى معاملاتهم، على الرغم من
أنهم أُجبِروا على ذلك بالقوة، فاضطربت أحوال البلاد والناس
اضطرابًا كبيرًا، وكسدت التجارة، وتعذرت الأقوات، وانقطعت الموارد
من كل نوع، وامتنع البائعون عن بيع سلعهم بهذه الأوراق، فكان
الرجل يضع الدرهم تحت إحدى الأوراق المالية (الجاو) ويعطيها الخباز
أو القصاب وغيرهما، ليحصل على ما يريد، خوفًا من أتباع السلطان
الذين يراقبون الناس والبائعين فى تعاملاتهم، فضاقت الحياة أمام
الناس واستحكمت الأزمة، وكاد الأمر ينذر بثورة عارمة، إلا أن
الإيلخان تدارك الموقف وأصدر قانونًا لإبطال التعامل بهذه الأوراق،
والعودة إلى النظام القديم.
ولما كان «كيخاتو» مغرمًا بشرب الخمر، سيئ الخلق فاسقًا، كرهه
الأمراء وثاروا عليه، وبخاصة بعد أن أغلظ القول - ذات ليلة - لابن عمه
«بايدو» أحد كبار الأمراء، فحقد عليه، وتآمر مع الأمراء الآخرين
على قتله، وعلم «كيخاتو» بالمؤامرة، فآثر الفرار، ولكن الأمراء
تتبعوه، وتمكنوا من قتله فى سنة (694هـ).
5 - بايدوخان [694هـ]:
بعد مقتل «كيخاتو» وقع اختيار الأمراء على «بايدوخان بن طرغاى
بن تولوى بن جنكيزخان» ليكون إيلخانًا، فاعتلى العرش فى جمادى
الأولى سنة (694هـ)، ثم تخلص من أتباع «كيخاتو»، وقرر إعادة
الحقوق والوظائف إلى أصحابها، وأعفى الأوقاف الإسلامية من
الضرائب، وعهد بأمور الجيش ورئاسة الوزراء إلى الأمير «طغاجار»،(4/35)
وسلك مسلك «آباقا خان» حيث جعل الإدارة لا مركزية، وجعل أميرًا
من الأمراء على كل ولاية من الولايات، ونصب «جمال الدين
الاستكردانى» وزيرًا له.
لم يكد «بايدو» يتولى أمور الحكم حتى بلغ «غازان خان» ما حدث
لعمه «كيخاتو»، فأقبل بجنوده ومعه الأمير «نوروز»، وأرسل رسله
إلى «بايدو» ينكر عليه قتل كيخاتو، ويطالبه بإجراء تحقيق ليلقى
القتلة جزاءهم، فلما لم يلقَ جوابًا دارت رحى الحرب بين الفريقين،
وفى هذه الأثناء عرض الأمير «نوروز» الإسلام على «غازان»،
وحَسَّن له اعتناق هذا الدين بتشريعاته السمحة ونظمه الدقيقة، وما
ينادى به من عدل ورحمة ومساواة، فاعتنق «غازان» الدين
الإسلامى، ومال إليه أكثر الأمراء، وانتصر على «بايدو» فى الحرب،
فهرب «بايدو» ولحق به الأمير «نوروز»، وألقى القبض عليه، وأرسله
إلى «غازان»، فأمر بقتله فى شهر ذى الحجة عام (694هـ).
6 - السلطان محمود غازان [694 - 703هـ]:
تولى «غازان» عرش المغول عقب مقتل «بايدو» فى ذى الحجة سنة
(694هـ)، وبعد أن اعتنق الإسلام تبعه جميع الأمراء والجنود المغول،
وأسلم بإسلامه أكثر من مائة ألف شخص منهم فى فترة وجيزة،
ولقب «غازان» نفسه باسم السلطان «محمود غازان»، وأعلن الإسلام
دينًا رسميا للدولة، وأمر المغول بأن يغيروا ملابسهم التقليدية،
ويلبسوا العمامة للتدليل على خضوعهم للإسلام، وأمر بهدم الكنائس
والمعابد اليهودية والمزدكية والهياكل البوذية، وتحويلها إلى
مساجد، وبارتداء اليهود والنصارى ثيابًا تميزهم عن غيرهم من
المسلمين، كرد فعل لما لقيه المسلمون من ضروب المهانة والذلة فى
عهد كل من: «هولاكو» و «آباقا» و «أرغون».
عرف «غازان» بشخصيته القوية، ونشاطه الموفور، وصبره الذى لا
ينفد، وبأنه رجل دولة من الطراز الأول يقف على كل صغيرة وكبيرة
فى شئون البلاد، فضلا عن إحاطته الكاملة بتقاليد قومه وعاداتهم،
وإلمامه التام بمختلف الحرف والصناعات السائدة فى عصره، واطِّلاعه(4/36)
على العلوم المعروفة لدى المسلمين، وإجادته عدة لغات إلى جانب
لغته المغولية، لكنه كان قاسيًا على أعدائه، ولا يأبه بحياة الناس
حين تتعارض مع تحقيق أهدافه وطموحاته، وتجلى ذلك حين تخلص
من الأمير «نوروز» الذى ساعده ووقف إلى جانبه فى كثير من
المواقف بسبب وشاية، وكذلك حين أمر بقتل وزيره «صدر الدين»
فى رجب سنة (697هـ)، وعين بدلا منه المؤرخ «رشيد الدين فضل
الله» الذى توسم فيه النبوغ والعبقرية والإخلاص، وأشرك معه رجلا
يدعى «سعد الدولة» لمساعدته فى مهام الوزارة.
حملات غازان خان على بلاد الشام:
قام «غازان» بثلاث حملات على «بلاد الشام»، كانت الأولى فى سنة
(699هـ)، وانتصر فيها على قواد «الناصر محمد بن قلاوون» بالقرب
من منطقة «مرج المروج» شرقى «حمص»، وقد انتشر المغول بعد
انتصارهم فى الأماكن المجاورة، وخربوا البلاد جريًا على عادتهم
القديمة، وكأنهم لم يعتنقوا الدين الإسلامى، ثم عين «غازان» واليًا
من قبله على البلاد التى استولى عليها، وعاد بعد ذلك إلى «إيران».
وفى سنة (700هـ) عاود المغول الكرَّة على بلاد الشام، واستولوا
على مناطق جديدة بها، إلا أنهم لم يتمكنوا من التقدم والاستمرار؛ إذ
هطلت عليهم الأمطار بغزارة، واشتدت البرودة، وكثر الوحل، وهلك
كثير منهم، ووجد «غازان» نفسه مضطرًا إلى العودة إلى «إيران»،
ولكنه عاد بعد ذلك بعامين فى سنة (702هـ) بحملته الثالثة على
«سوريا»، وتحرك إلى مدينة «عانة» على شاطئ «الفرات»،
وبرفقته وزيره المؤرخ «رشيد الدين» ثم عاد أدراجه إلى عاصمته
«تبريز» تاركًا جيشه بالشام ليواصل مهمته، ولكن النتيجة جاءت على
غير ما كان يتوقع، إذ هُزم جيشه هزيمة منكرة على يد السلطان
«الناصر محمد بن قلاوون» فى موقعة «مرج الصفر» بالقرب من
«دمشق» فى (2 من رمضان عام 702هـ)، فاعتلَّت صحته، وغلبه
المرض، وتآمر عليه الأمراء، وكثرت من حوله الدسائس، ومات فى(4/37)
شوال سنة (703هـ)، وهو لايزال فى ريعان شبابه.
إصلاحات غازان:
قام «غازان» بإصلاحات كثيرة ومهمة فى كثير من الميادين، وكانت
أبرزها إصلاحاته العمرانية، حيث أقام شمالى غرب «تبريز» محلة
عُرفت باسم «شام غازان»، وتفصلها عن مدينة «تبريز» حدائق
ومتنزهات كثيرة، وأمر كبار مهندسيه بإقامة بناء عالٍ فى ذلك
المكان؛ تعلوه قبة كبيرة، ليكون مدفنًا له، وقد استمرت عمارة القبة
وتوابعها نحو خمس سنوات، واشتملت على مسجد وخانقاه
ومدرستين (إحداهما للشافعية والأخرى للحنفية)، ومستشفى،
ومكتبة، ومرصد، ومدرسة لتعليم العلوم الطبية، وبيت لحفظ كتب
القوانين التى أصدرها الإيلخان عرف باسم «بيت القانون»، كما أنشأ
مسكنًا للأطفال وآخر للأشراف، وضمت هذه الأبنية بعض الحمامات
العامة، وملجأ واسعًا لليتامى؛ به مكتب لتعليم القرآن الكريم
وتحفيظه، وملجأ آخر يتسع لنحو خمسمائة أرملة من النساء اللائى
فقدن عائلهن، فضلا عن ذلك أنشأ «غازان» الأجران الواسعة
المملوءة بالحبوب، والمزودة بأحواض المياه لكى تتزود منها الطيور
المهاجرة من الشمال إلى الجنوب فى الفصول الباردة من السنة خلال
رحلتها عبر الهضبة الإيرانية التى تغطيها الثلوج فى هذا الوقت من
السنة، خاصة أن أعدادًا كثيرة من هذه الطيور كانت تلقى حتفها،
لتعذر حصولها على الغذاء، فأقام لها «غازان» هذه الأجران رحمة
بها، وأصبحت هذه المؤسسات والمنشآت التى أقامها «غازان»
مفخرة العالم الإسلامى والحضارة الإسلامية، حيث حول الإسلام
القبائل الهمجية البربرية إلى أناس مهذبى الطباع، منظمين محبين
للحضارة والعمران، وامتلأت قلوبهم رحمة وعطفًا حتى على الطيور
والحيوانات.
7 - السلطان أولجايتو [703 - 716هـ]:
قدم السلطان «أولجايتو» من «خراسان» التى كان حاكمًا عليها،
وتولى العرش خلفًا لأخيه «غازان» فى سنة (703هـ)، وجعل الوزارة
مشاركة بين «رشيد الدين فضل الله الهمدانى» وسعد الدين
الساوجى.(4/38)
إنشاء مدينة السلطانية:
بدأ إنشاء هذه المدينة فى عهد السلطان «غازان»، وهى تقع على
بعد خمسة فراسخ من «زنجان»، فعمد «أولجايتو» إلى استكمال
تشييدها وأمر بالتوسعة فى منشآتها العمرانية، فساهم الأمراء
والوزراء فى بناء بعض أحيائها، وأنشأ الوزير «رشيد الدين فضل
الله» محلة بها على نفقته الخاصة؛ اشتملت على ألف منزل، ومسجد
كبير. وأمر السلطان ببناء قبة كبيرة فوق مقبرته، ومازالت هذه القبة
قائمة حتى اليوم دليلا على عظمة العمارة فى هذا العصر.
تمكن «أولجايتو» فى سنة (706هـ) من بسط سيطرته على إقليم
«جيلان»، وهو الإقليم الذى لم يتمكن المغول من السيطرة عليه حتى
هذه السنة لكثرة غاباته، ووعورة مسالكه، وأعاد بناء مرصد
«مراغة» الذى بناه «هولاكو» من قبل، وحين بلغ «أولجايتو» الثالثة
والثلاثين من عمره اشتد عليه المرض واعتلَّت صحته، وتوفِّى فى
رمضان سنة (716هـ).
سياسة أولجايتو الخارجية:
شق الأمير المملوكى «شمس الدين قرا سنقر» حاكم «دمشق» عصا
الطاعة على السلطان «الناصر محمد بن قلاوون» سلطان المماليك فى
«مصر» و «الشام» فى سنة (712هـ)، وفر إلى «إيران» لاجئًا،
فاستقبله «أولجايتو» أحسن استقبال، فشجعه «قرا سنقر» على
القيام بحملة على «الشام»، فوافقه وخرج بحملته، وحاصر مدينة
«الرحبة» بالعراق، ولكن أهل المدينة استعطفوه، وتدخل الوزير
«رشيد الدين» فرفع «أولجايتو» الحصار فى رمضان سنة (712هـ)،
وعاد بجيشه إلى عاصمته دون الدخول فى معارك مع المماليك،
فكانت هذه الحملة آخر حملات الإيلخانيين على المماليك فى «مصر»
والشام.
8 - السلطان أبو سعيد بهادر [716 - 736 هـ]:
تولى «أبو سعيد» حكم البلاد بعد وفاة السلطان «أولجايتو»، وكان
لايزال فى الثالثة عشرة من عمره، فاضطربت أحوال البلاد وتعددت
ثورات الأمراء المغول فى مناطق متفرقة ضده، غير أن «أبا سعيد»
استعان عليهم بقائد جيشه الأمير «جوبان»، فقضى عليهم، وأعاد(4/39)
إلى البلاد استقرارها وهدوءها.
الوزارة:
شهد منصب الوزارة تغييرات كثيرة، حيث أبقى السلطان «أبو سعيد»
على «رشيد الدين الهمدانى» و «تاج الدين التبريزى» فى منصب
الوزارة، ولكن «تاج الدين» الذى كان يجيد المعاملات التجارية
والمالية مع كونه أميا لا يعرف القراءة والكتابة، أراد أن ينفرد بهذا
المنصب، وعمد إلى الدهاء والوقيعة لدى السلطان للتخلص من «رشيد
الدين» ونجح فى ذلك، وأمر السلطان بقتل «رشيد الدين» فى سنة
(718هـ)، فانفرد «تاج الدين عليشاه» بالوزارة حتى وفاته فى
أوائل سنة (724هـ)، فوليها من بعده «دمشق خواجه» ابن الأمير
«جوبان»، وصارت أمور الجيش والشعب فى أيدى الأمير وابنه وعلا
شأنهما، وتجاهلا السلطان فى معظم الأمور، فغضب السلطان من ذلك
وأمر بقتلهما، ثم نصب «غياث الدين بن رشيد الدين فضل الله» فى
هذا المنصب، لشعوره بالندم على قتل أبيه فضلا عن أن «غياث
الدين» كان أصلح الناس لهذا المنصب فى ذلك الوقت؛ حيث إنه كان
واسع الأفق، ومطَّلعًا على العلوم العقلية والنقلية، فأحسن إدارة
شئون الدولة وتوخى العدل، وعمل على رعاية مصالح الناس، وظل
فى منصبه حتى وفاة «أبى سعيد» فى (13 من ربيع الأول سنة
736هـ).
كان «أبو سعيد» آخر سلاطين الإيلخانيين الأقوياء، كما كان كريمًا
جوادًا، شجاعًا، محبا للعلم، فراجت فى عهده العلوم والآداب، وعاش
فى بلاطه كثير من الشعراء والمؤرخين؛ حين كان هو نفسه شاعرًا
وله أشعار جيدة باللغة الفارسية، واشتهر بجودة الخط والغناء.
سياسة أبى سعيد الخارجية:
تعرضت العلاقة بين «مصر» والبلاد الفارسية فى عهد الإيلخانيين
لنوبات من الحرب والسلام، ولكن هذه العلاقة دخلت مرحلة جديدة من
الصداقة والوئام فى عهد السلطان «أبى سعيد»، وتم توقيع اتفاقية
بين الطرفين فى عام (721هـ) فى عهد السلطان «أبى سعيد»
الإيلخانى، والسلطان المملوكى «الناصر محمد ابن قلاوون».
انهيار دولة الإيلخانيين المغول:(4/40)
تعرضت «الدولة الإيلخانية» -عقب وفاة السلطان «أبى سعيد بهادر» -
للضعف والزوال، حيث كان السلاطين الذين اعتلوا عرش هذه الدولة
بعد «أبى سعيد» ضعاف الشخصية، كما كانوا ألعوبة فى أيدى
الأمراء المغول وكبار رجال الدولة، وظل هذا حال هذه الدولة حتى
وفاة «أنوشيروان» آخر السلاطين الإيلخانيين فى سنة (756هـ)،
فتقاسم خمسة من كبار الأمراء المغول أملاك هذه الدولة، وكون كل
منهم دولة صغيرة مستقلة، وهذه الدول هى:
- دولة آل جلائر (الجلائريون).
- دولة الجوبانيين.
- دولة آل المظفر.
- دولة السربداريون.
- دولة آل كرت.
وأخذت هذه الدويلات الخمس تتنازع فيما بينها، ودخلت كل منها فى
حروب طاحنة مع غيرها، وظلت على ذلك حتى خرج عليها الأمير
«تيمورلنك» وتمكن من القضاء عليها نهائيا بحملاته المتعددة التى
بدأها فى سنة (788هـ) على إيران والعراق.
مظاهر الحضارة:
- الإدارة ونظم الحكم:
استعان المغول بالموظفين الفرس فى إدارة شئون الدولة، إذ لم يكن
بوسع هؤلاء المغول الأميين وحدهم إدارة شئون هذه البلاد المترامية
الأطراف، وجمع الضرائب والأموال، وإقرار الأمن.
وكانت هناك أسر فارسية تتوارث منصب الوزارة، مثل: أسرة
الجوينيين، وأسرة رشيد الدين فضل الله، ولقد كان لهذه الأسر فضل
كبير فى تحقيق الاستقرار الداخلى، لاطمئنان أفراد الشعب بأن
حكامهم المباشرين ليسوا غرباء عنهم ولا خصومًا لهم، كما كان لهذه
الأسر فضل آخر فى التأثير على ملوك المغول وأمرائهم وجذبهم
بالتدريج إلى الاندماج فى الحياة الاجتماعية على نمط فارسى
إسلامى، فبدا لمن يرقب أحوالهم ويتتبع تفصيلات حياتهم أنهم كانوا
وكأنهم أسرة من الأسر الإيرانية الحاكمة.
وعلى الرغم من ذلك ظل المغول ينظرون إلى الفرس على أنهم خصوم
وأعداء لهم حتى دخل المغول فى الإسلام أفواجًا فى عهد «السلطان
غازان»، فتغيرت عندئذٍ نظرتهم، ولم يعودوا يرون أهل البلاد
الأصليين غرباء عنهم وخصومًا لهم.(4/41)
ولاشك أن القوانين والإصلاحات الجديدة التى وضعها غازان أدت إلى
تحسن الأوضاع الإدارية والاقتصادية والاجتماعية فى إيران والعراق،
وصاغتها صياغة جديدة، نالت قبول الناس جميعًا، وظل هذا التحسن
مستمرًا إلى نهاية عهد السلطان أبى سعيد بهادر، آخر سلاطين
الإيلخانيين العظام (736هـ)، فعادت الشئون الإدارية والاقتصادية
والاجتماعية إلى الاضطراب من جديد.
وأيا ما كان الأمر، فقد نهجت الدولة الإيلخانية فى إيران والعراق
نهج الإمبراطورية المغولية الكبرى التى اتخذت من قراقورم عاصمة
لها، فحذت فى تشكيلاتها الإدارية والسياسية حذوها وسارت على
نسقها.
لقد كان الأمراء الملكيون (شاهزادهـ) والقادة العسكريون (نوين)
والأمراء المغول تابعين تبعية مباشرة للإيلخان، أو السلطان فيما
بعد، وكان الإيلخان يخصص لهم أراضى واسعة ومدنًا بأكملها
كإقطاع لهم، ويتولون جمع خراج هذه الإقطاعات ويخصون به
أنفسهم.
كان الجهاز الحاكم فى الدولة الإيلخانية ينقسم إلى أربعة أقسام
تتفاوت فيما بينها بتفاوت الجنسية، واللغة، والدين، والمستوى
الاجتماعى، على النحو التالى:
1 - قادة المغول.
2 - الموظفون المدنيون، وكان معظمهم من الفرس.
3 - رجال الدين المسلمون، ولقد كان رجال الدين من المسلمين
والمسيحيين فى بلاد القوقاز وآسيا الصغرى خاصة فى مرتبة
واحدة.
4 - الأعيان المحليون فى أقاليم فارس والعراق.
وكان اهتمام الدولة منصبا أساسًا على جمع أكبر قدر من الأموال
والضرائب من أفراد الشعب.
ويرأس الإدارة المدنية فى الدولة «صاحب الديوان» أو رئيس الوزراء.
ويعهد إليه الإشراف على شئون الخزانة، والدخل والخرج، والشئون
المكتبية والإدارية وتعيين الموظفين وعزلهم. وبالإضافة إلى الديوان
العالى للإدارة المركزية، كانت هناك دواوين أخرى مثل «ديوان
إينجو» الذى كان يتولى إدارة الأملاك المنقولة - وغير المنقولة -
للإيلخان نفسه، ولأقاربه من الدرجة الأولى، وهذا الديوان يشبه إلى(4/42)
حد بعيد «ديوان الخاص» الذى عرف فى مصر فى عهد المماليك.
وأبقى الإيلخانيون على منصب قاضى القضاة، وكان شاغله يقوم
بالفصل بين الخصوم، والحكم بين الناس، وتولية القضاة ومراقبتهم،
وكذلك مراقبة أحوال الناس ومعيشتهم وصنائعهم، وله الحق فى
الأخذ على يد الخارج منهم.
وكانت هناك مناصب: الصدر، والناظر، والشحنة، وهى وظائف إدارية
تشرف على الإدارة المحلية، وجمع الأموال وصرفها، والإشراف على
نظام الأمن، ومراقبة ولاة الأقاليم التابعة للدولة الإيلخانية.
الوضع الاقتصادى:
نهضت الزراعة فى الدولة الإيلخانية لخصوبة الأرض، ووفرة مياه
الأنهار والأمطار، وتميز الإيلخانيون بنظام الإقطاع وجعلوه نوعين:
أولهما الإقطاع المُملك، وهو أن يمنح الإيلخان الأمراء والأعيان وكبار
رجال الدولة، مساحات من الأرض الزراعية، ويجعلها ملكًا خاصا بهم،
وثانيهما: الإقطاع المستغل والمقصود به استغلال الأرض فى الزراعة
والاستفادة منها دون تملكها.
واعتمد اقتصاد الإيلخانيين على الثروة الزراعية الآتية من مناطق: ما
بين النهرين، والبصرة، والفرات (بين الأنبار وعانة)، ودجيل، ومنطقة
على نهر دجلة، وخراسان، كما اعتمد على نظام الإقطاع فى الإنفاق
على التجهيزات العسكرية والجيوش.
وتعددت الضرائب فى نظام دولة الإيلخانات فكانت هناك: ضريبة
الأرض، وضريبة الرؤوس، وضريبة البيوت والعقارات، وضريبة
الأسواق، وضريبة التمغات، وضريبة المراعى، وضريبة المساعدات
والقروض. وتعمد الجباة إرهاق الناس فى جمع الضرائب، وحصلوا
منهم على أموال كثيرة لم تكن مفروضة عليهم، وتآمر الحكام
والجباة على الشعب، وظهر الفساد بصورة جلية فى هذا الشأن.
ولعل مشكلة العملة الورقية (الجاو) التى فرضها السلطان
«كيخاتوخان» على الناس فى سنة (693هـ = 1294م)، كانت من أبرز
المشاكل الاقتصادية التى اعترضت سبيل الدولة الإيلخانية، إذ رفض
الناس التعامل بهذه العملة الورقية التى أجبرهم السلطان على(4/43)
تداولها، واضطربت أحوال الشعب، وأغلق التجار محالهم، وامتنعوا
عن البيع والشراء، فانتهى الأمر بإلغاء هذه العملة.
وعمد الإيلخانيون إلى إصلاح ما أفسدته وخربته الحروب، وأعادوا
فتح الأسواق، وأكثروا منها، وازدهرت صناعة المنسوجات، وصناعة
اللؤلؤ.
ونشطت التجارة وأصبحت العراق وإيران من أشهر مراكز التجارة فى
ذلك الوقت، وقامت علاقات تجارية واسعة بين الإيلخانيين والصينيين
والتركستان، وصُدِّرت المصنوعات الحريرية، واللؤلؤ إلى أوربا عن
طريق الهند. وكانت «تبريز» مركز رواج وازدهار التجارة لوجود عدة
طرق برية بها، تمر منها القوافل.
وعلى الرغم من الطبيعة البدوية التى غلبت على المغول الأُول، وعدم
اكتراثهم بالمنشآت العمرانية وتفضيلهم للعيش فى الخيام، فإن
هولاكو - على سبيل المثال -شرع بعد استقراره فى إيران فى إنشاء
المبانى الكبيرة والقصور الفخمة فى أذربيجان و «تخت سليمان»،
كما بنى مرصدًا فى مراغة سنة (658هـ)، وعهد إلى العالم الفيلسوف
«نصير الدين الطوسى» بالإشراف على بنائه وإدارته، وقد تم تأسيس
مكتبة كبرى إلى جوار هذا المرصد، ولم يكن يعمل فيه الفلكيون
العرب والإيرانيون فحسب بل عمل فيه أيضًا المنجمون الصينيون
والهنود.
الوضع الدينى:
تدهور الوضع الدينى منذ البداية فى الدولة الإيلخانية، حيث نشبت
الصراعات المذهبية والدينية بين أهل السنة بالعراق، وأصحاب
المذهب الشيعى بالدولة الإسماعيلية بإيران، ومما لاشك فيه أن فتنة
الكرخ التى حدثت بالعراق، وما ترتب عليها من فوضى أمنية كانت
سببًا رئيسًا فى الاجتياح المغولى لهذه البلاد.
وقد ظل الصراع محتدمًا بين السنة والشيعة فى ظل حكم دولة
الإيلخانيين، وتبوأ المسيحيون مكانًا بارزًا على الرغم من الاختلافات
المذهبية التى كانت قائمة بين أتباعها، واستغل البوذيون كل هذه
الخلافات والصراعات وتبوءوا مكانة عالية. ومع ذلك كان الإيلخانيون(4/44)
ينظرون إلى الجميع نظرة واحدة مؤداها أنهم رعية، وعليهم السمع
والطاعة.
ولقد ظل هذا الوضع قائمًا حتى تولى السلطان «محمود غازان»
الحكم، فأعلن الدين الإسلامى دينًا رسميا للدولة الإيلخانية، ومن ثم
اقتصرت وظائف الدولة على المسلمين.
وبعد:
فقد تكونت «الدولة الإيلخانية» من قبائل وطوائف متعددة، لم يكن
بينها رابط ثقافى أو وطنى، ولم تكن تجمعها تحت راية واحدة إلا
قوة الإيلخانيين الأقوياء، فلما مات السلطان «أبوسعيد» آخر
السلاطين العظماء ولم يعقِّب ولدًا يخلفه على العرش؛ تبددت القوة
المركزية للدولة، وانتقلت المبادرة إلى أيدى الأمراء المغول الذين
غلب عليهم طابع البداوة، فاختل التماسك، وتمزقت البلاد، وضاع
الهدف الذى من أجله أقيمت هذه الدولة، وطغت المصلحة الشخصية
على المصالح العامة، ثم ما لبثت الدويلات التى أقامها الأمراء على
أنقاض الدولة الأم أن ضاعت هى الأخرى على يد «تيمورلنك»،
فأسرع جانب من المغول الذين كانوا يقيمون فى «إيران» إلى
الاندماج فى العناصر التركية التى تعيش فى تلك البلاد، بينما اندمج
جانب آخر منهم فى الإيرانيين الفرس الذين يعيشون بينهم، وذابوا
فيهم، وهكذا سقطت «الدولة الإيلخانية» على أيدى أمرائها.(4/45)
الفصل الخامس
*الدولة الجلائرية فى العراق وأذربيجان
[736 - 835 هـ = 1335 - 1431م].
النشأة والتكوين:
ضمت «الدولة الإيلخانية» التى أسسها «هولاكو» فى عام (654هـ=
1256م) شعوبًا متعددة، وأقاليم كثيرة، شملت «العراق» و «إيران»،
واستمرت فى حكمها حتى عام (716 - 736هـ= 1316 - 1335م)، ثم
تصارع الأمراء على الانفراد والاستقلال بحكم ما تحت أيديهم من
أجزاء هذه الدولة، فتفككت وانقسمت إلى دويلات، وبات الحكم فيها
لأسر بعينها، مثل: أسرة «آل جلائر» التى استقلت بحكم «العراق»
بعد وفاة السلطان أبى سعيد بهادرخان.
كان «آل جلائر» من القبائل المغولية، ويعد «تاج الدين شيخ حسن
بزرَك بن حسين» أول حكام «آل جلائر» ومؤسس دولتهم «الجلائرية»،
وثالث مَن تولى الحكم فى «الدولة الإيلخانية»، وقد امتد سلطانه إلى
«العراق»، واتخذ «بغداد» عاصمة له، وأعلن نفسه ملكًا عليها،
فظهرت بذلك الدولة «الجلائرية» إلى حيز الوجود.
الوضع الداخلى:
شهدت اللبنات الأولى لقيام «الدولة الجلائرية» عدة حروب بين الأمراء
المغول بهدف الوصول إلى الحكم، إلا أن «حسن الجلائرى» تمكن من
الاستقلال بالعراق واستطاع أن يوحد الصفوف لتأسيس دولته الوليدة،
ومع ذلك لم تتوقف الصراعات والحروب مع بقايا الإيلخانيين، إلى أن
تمكن «الشيخ حسن الجلائرى» من طردهم إلى خارج حدود دولته
- «العراق» - فى عام (748هـ= 1347م).
كان «الشيخ حسن الجلائرى» سياسيا حكيمًا، وأراد أن يضمن لدولته
قوتها ووحدتها، فلم يعلن نفسه خانًا أو سلطانًا؛ بل أعلن ولاءه
للسلطان المملوكى فى «مصر» ليكون سنده الذى يحتمى به إذا ما
فكر المغول فى غزوه، خاصة وأن دولته قريبة ومتاخمة للإمارات
والممالك المغولية فساعده هذا التصرف على استقرار بلاده، وشجعه
على الاستيلاء على «لورستان»، و «الموصل»، و «تستر»، وبسط
نفوذه على غيرها، فاتسعت رقعة بلاده، وامتد نفوذ حكمه، ثم مات
فى عام (757هـ = 1356م)، وخلفه ابنه «الشيخ أويس بن حسن(4/46)
الجلائرى»، فبلغت الدولة فى عهده أقصى اتساع لها، إذ ضم إليها
«أذربيجان»، و «آران»، و «موقان»، واتخذ من «تبريز» عاصمة
لبلاده، وانتقل نشاط الدولة السياسى ومركزها من «العراق» إلى
«أذربيجان»، فأدى ذلك إلى قيام حركات التمرد فى «بغداد» على
الجلائريين، وكانت حركة «مرجان» نائب «الشيخ أويس» على
«بغداد» من أشهر هذه الحركات، وكان «مرجان» طواشيا للشيخ
أويس.
لقد أخطأ «الشيخ أويس» فى حساباته عندما ابتعد عن «العراق»
واتخذ له عاصمة فى «إيران»، فضلا عن تقريبه الفرس دون العرب،
فكانت النتيجة انضمام العرب بمختلف طوائفهم إلى «مرجان»
وحركته، وحُذف اسم «الشيخ أويس» من الخطبة؛ رمز السيادة فى
الدولة، وخُطب للسلطان المملوكى فى «مصر».
خرج «الشيخ أويس» من «تبريز» إلى «بغداد» فى سنة (765هـ =
1363م)، واستطاع وزيره أن يستميل أعوان «الخواجة مرجان» إلى
صفه، فانفضوا من حول «مرجان» وفشلت حركته، ودخل «الشيخ
أويس» «بغداد» ثم جعل «شاه خازن» نائبًا له عليها، ولكن «مرجان»
لم ييأس من المحاولة، وعاد مرة ثانية إلى حكم «بغداد» عقب وفاة
«شاه خازن»، مما يؤكد حب أهل «العراق» لمرجان ومكانته عندهم،
فاضطر «الشيخ أويس» إلى الصفح عنه، ثم أرسل ابنه «الشيخ
علىّ» ليحكم «العراق».
تُوفى «الشيخ أويس» عام (776هـ = 1373م)، وخلفه فى الحكم ابنه
«جلال الدين حسين بن أويس» (776 - 784هـ = 1373 - 1382م)،
فضاعت هيبة الدولة فى عهده، وبدأت فى التدهور والانهيار؛ حيث
اهتم بملذاته ومصالحه الشخصية على حساب أمور الدولة والرعية،
وزادت الأمور اضطرابًا فى عهد أخيه «أحمد بن أويس» الذى خلفه
فى الحكم (784 - 813هـ = 1382 - 1410م)، إذ تمكن «تيمورلنك» من
إسقاطه عن عرشه عدة مرات، ثم دخل «بغداد» فى عام (795هـ =
1393م)، ففر «أحمد بن أويس» إلى «مصر» مستنجدًا بالسلطان
المملوكى «برقوق»، وتمكن «الشيخ أحمد» -أخيرًا - من العودة إلى(4/47)
«بغداد» فى عام (804 هـ = 1401م)، وتمكن من استعادتها فى عام
(807هـ= 1404م)، بعد أن خرجت عدة مرات من حكم «آل جلائر» إلى
حكم التيموريين، ثم استعاد «تبريز» فى عام (809هـ= 1406م)، ولم
يلبث أن فقدها ثانية فى العام نفسه على يد حفيد «تيمورلنك».
وفى عام (813هـ = 1410م)، اختلف «أحمد بن أويس» مع زعيم قبيلة
«قراقيونلو»، وحدث صدام بينهما، فقُتل «الشيخ أحمد»، وتمكن
زعيم «قراقيونلو» من انتزاع «تبريز» وما والاها من الجلائريين، ثم
أسس دولة له فى «أذربيجان».
تولى الحكم بعد «أحمد بن أويس» عدد من السلاطين، وصلت الدولة
فى عهدهم إلى أقصى مراحل الضعف حتى انتهت بموت «حسين بن
علاء الدولة» آخر السلاطين الجلائريين سنة (835هـ)، وسلاطين هذه
الفترة هم:
- شاه ولد (813 - 814هـ).
- محمود بن شاه ولد (814 - 818هـ).
- أويس بن شاه ولد (818 - 824هـ).
- محمد بن شاه ولد (824 - 827هـ).
- حسين بن علاء الدولة (827 - 835هـ).
العلاقات الخارجية:
اتسمت علاقة الجلائريين بالعالم الخارجى بالعداء والصراعات؛ لأن
دولتهم قامت على أنقاض «الدولة الإيلخانية»، فنشب الصراع بينهم
وبين «الدولة الجوبانية» نتيجة استجابة السلطان المملوكى للشيخ
«حسن الجلائرى» حين طلب منه الحماية، غير أن مقتل «حسن
الجوبانى» على يد زوجته «عزت الملك» فى عام (744هـ = 1344م)،
قد أراح «حسن الجلائرى» من نزاعات وصراعات كثيرة كانت
ستحدث حول أملاك الجلائريين الشرقية، ثم جاءت نهاية
«الجوبانيين» على يد «القبجاق»، فوضعت النهاية للصراع الجلائرى
الجوبانى.
ولم تكن علاقة الجلائريين بالدولة المظفرية بأفضل حال من سواها،
فقامت بينهما المنازعات، إذ قدم المظفريون المساعدات إلى
المناهضين للحكم الجلائرى، وإلى المتمردين عليه، ثم أطاح
التيموريون فى النهاية بالجلائريين والمظفريين معًا.
دخلت علاقة «الدولة الجلائرية» مع «الدولة المملوكية» بمصر فى دور(4/48)
التبعية، بهدف الاستفادة من المماليك فى حماية دولتهم ومساعدتها
ضد أعدائها، خاصة الجوبانيين والتيموريين، وقد ساعد السلطان
المملوكى «برقوق» السلطان الجلائرى «أحمد بن أويس» فى
استعادة «بغداد» من أيدى التيموريين.
كانت علاقة الجلائريين الخارجية «بقراقيونلو» علاقة صداقة - فى
بداية الأمر- ثم ما لبثت أن تحولت إلى عداوة وشقاق، واستولت هذه
القبيلة على أملاك «الدولة الجلائرية» فى «أذربيجان» ثم أقامت بها
دولتها المستقلة.
مظاهر الحضارة فى الدولة الجلائرية:
تمتعت «الدولة الجلائرية» باستقلالها فى عهد «الشيخ حسن
الجلائرى» الذى أدت سياسة حكمه إلى انتعاش اقتصاد البلاد، وبناء
حضارة زاهرة، وتشييد المدارس والمكتبات وأماكن العلاج، فتردد
طلاب العلم على «بغداد» من كل مكان؛ طلبًا للعلم والمعرفة، فأعاد
لبغداد عهدها القديم المشرق، واعتمد على العرب والترك فى الجيش،
فقل تأثير الفرس على المجتمع العراقى، وبات «آل فضل» العرب
ذوى مكانة خاصة فى هذه الدولة، ولكن ذلك لم يدم طويلا؛ إذ تولى
«الشيخ أويس بن حسن» عرش «الدولة الجلائرية» واعتمد فيها على
العنصر الفارسى، وأساء إلى العرب، فتقلص نفوذ العرب ونشاطهم
فى الدولة، وازداد الأمر سوءًا حينما اتخذ «الشيخ أويس» «تبريز»
عاصمة لبلاده بدلا من «بغداد»، وجعل اللغة الفارسية لغة بلاده
الرسمية؛ فازداد نفوذ الفرس، واشتعلت الثورات فى «العراق»، وطمع
المظفريون فى فارس، فأحدقت الأخطار بالدولة الجلائرية من كل
جانب فغزاها التيموريون، فأفقدها ذلك القدرة على مواصلة الإصلاح
الاقتصادى، وأهملت المنشآت الخاصة بالزراعة والرى، وأصبح شغل
الحكام الجلائريين الشاغل هو الحفاظ على وجودهم فى الحكم،
ونشبت بينهم الصراعات الكثيرة التى أطاحت بهم جميعًا فى النهاية.
كما ساعدت الفيضانات والأوبئة التى تعرضت لها هذه الدولة على
انهيار اقتصادها، وتدهور الأحوال فيها، واضطر الحكام إلى فرض(4/49)
الضرائب لملاحقة المجهود العسكرى، فضجر الناس من ذلك، وانتكست
تجارتهم بسبب الضرائب، وأصيبت الصناعة بالخمول والكساد أيضًا،
ولم تبقَ إلا بعض الصناعات القليلة مثل: صناعة الحرير، وصناعة
الأسلحة، وبات هَمُّ الحكام الحفاظ على العرش، وضحوا فى سبيل
تحقيق ذلك بكل غالٍ ونفيس.(4/50)
الفصل السادس
*الدولة المظفرية فى فارس وكرمان وكردستان
[713 - 795 هـ = 1313 - 1393م]
النشأة والتكوين:
ينسب «آل مظفر» إلى الأمير «مبارز الدين محمد» ابن الأمير «شرف
الدين بن منصور بن غياث الدين حاجى الخراسانى»، وقد تولى الأمير
«شرف الدين» عدة مناصب فى عهد الإيلخانيين، فولاه السلطان
«أولجايتو» مدينة «ميبد» (6)، ثم توفى «شرف الدين» بعد أن قضى
على المتمردين فى منطقة «شبانكاره»، فاتخذ السلطان «أبو سعيد
بهادرخان» ابنه «مبارز الدين محمد» ولم يكن قد تجاوز الثالثة عشرة
من عمره مكان أبيه، وولاه مناصبه فى عام (717هـ= 1317م)، ولذا
يعد الأمير «مبارز الدين» أول حكام المظفريين.
الوضع الداخلى:
استقل الأمير «مبارز الدين محمد بن مظفر» بإقليم «فارس» عقب
سقوط الحكم الإيلخانى، ثم استولى على «كرمان» فى سنة (741هـ
= 1340م)، وطمح فى تكوين إمبراطورية واسعة الأرجاء، فضم كثيرًا
من المدن الإيرانية إلى دولته، وأعلن ولاءه للخليفة العباسى
«المعتضد بالله» واتخذ لنفسه لقب «ناصر أمير المؤمنين»؛ ليضفى
الشرعية على حكمه، وظل يسعى إلى تحقيق هدفه حتى بات الخليفة
ألعوبة فى يده.
اعترض «آل إينجو» بزعامة «الشيخ أبى إسحاق» طريق «آل مبارز»
فى تحقيق حلمهم، ونشبت الخلافات والصراعات بينهما، وظلت
العلاقة بين الطرفين سيئة حتى قتل المظفريون «الشيخ أبا إسحاق»
عقب إحدى المعارك التى دارت بينهما فى عام (758هـ = 1356م)،
واستولى «شاه شجاع» ابن الأمير «مبارز الدين» على «شيراز»،
فانتقل إليها الأمير «مبارز» وأقام بها وأرسل ابنه «شاه شجاع»
إلى حكم «كرمان».
وفى عام (758هـ) فتح الأمير «مبارز الدين» منطقة «تبريز»، ثم لما
علم بقدوم الشيخ إدريس الجلائرى إليها، غادرها إلى «شيراز»،
وهناك اصطدم بولديه «شاه شجاع»، و «شاه محمود»، اللذين تحالفا
مع «شاه سلطان» أحد الناقمين على أبيهما، فقبضوا عليه، وأمر
ابنه «شاه شجاع» بسمل عينيه، ثم حبسوه فى إحدى القلاع،(4/51)
والتمس الأب عطف ولديه، وطلب منهما الصلح، فعفوا عنه، وحكما
البلاد نيابة عنه، وضربا السكة باسمه، وظل الوضع على ذلك فترة،
ثم أرسلاه للإقامة بقلعة «بم» بكرمان، ولكن الأمير «مبارز الدين»
كان قد اشتد به المرض ومات فى الطريق قبل أن يصل إلى هذه
القلعة قى عام (765هـ = 1364م).
وظل أبناء «مبارز الدين» يحكمون من بعده «كرمان» و «فارس»
و «كردستان»، فحكم «جلال الدين شاه شجاع» فى حياة أبيه فى
سنة (759هـ = 1357م)، وظل فى الحكم حتى سنة (786هـ = 1384م)،
وقضى فترة حكمه فى مطاردة المارقين والعصاة والخارجين على
الدولة، ثم تولى بعده ابنه «مجاهد الدين زين الدين» (786 - 789هـ =
1384 - 1387م)، إلى أن عزله الأمير «تيمور كوركان»، فخلفه «شاه
يحيى» فى «يزد»، و «سلطان أحمد» فى «كرمان».
وكان «شاه منصور» آخر حكام دولة «آل المظفر» فى «أصفهان»،
وسقطت «الدولة المظفرية» فى عام (795هـ = 1393م).
وقد اشتهر المظفريون بحبهم للعلم والثقافة طيلة اثنتين وسبعين سنة
هى عمر دولتهم من النشأة حتى السقوط.
العلاقات الخارجية:
عانت «الدولة المظفرية» كثيرًا من الصعاب من أجل الاحتفاظ بالحكم،
فدار صراع بينها وبين «آل إينجو» بزعامة الشيخ «أبى إسحاق»،
ودخلت حروب عدة مع «الدولة الجلائرية»، وكذلك مع «الدولة
التيمورية» التى اجتاحت من اعترض سبيلها من الدول والحكام، ولم
تستطع دولة «آل المظفر» الصمود أمام تسلط «تيمور كوركان» الذى
قسم أملاكها بحجة الوصاية التى منحه إياها الأمير «مجاهد الدين
زين العابدين» لرعاية أولاده من بعده، فوضع «تيمور» النهاية لهذه
الدولة فى عام (795هـ = 1393م) بعد أن فرق وحدتها، وشتت
حكمها، وقسم أرضها، ثم عمد بعد ذلك إلى إسقاطها.
مظاهر الحضارة فى الدولة المظفرية:
تميز عهد الأمير «مبارز الدين محمد بن مظفر» بالنشاط الحضارى،
والازدهار الفكرى والثقافى، بفضل تشجيعه للعلماء والفقهاء(4/52)
والنابغين، فتعهد علماء «شيراز» بالرعاية، وبنى فى «كرمان»
مسجدًا كبيرًا أوقف عليه الأملاك لرعايته، وضرب السكة فى عهده
ونقش عليها اسم الخليفة العباسى رمز المسلمين، وتذكر المصادر
الفارسية أن «مبارز الدين» كان ضيق الصدر، ويعاقب المخطئ
بنفسه؛ حتى أُطلِق عليه: «الملك المحتسب»، وكان شاه شجاع محبا
للشعر والشعراء، فازدهر الشعر فى عصره، ونبغ عدد كبير من
الشعراء منهم: «الشاعر الحافظ الشيرازى»، و «العماد الفقيه
الكرمانى».
وعلى الرغم من أن «آل المظفر» قد أحبوا العلم، وساعدوا العلماء،
ونشروا الثقافة، فإنهم كانوا يتصفون بالقسوة، ويغلب عليهم العنف
فى تعاملهم مع الرعية، وأيضًا فيما بينهم، وليس أدل على ذلك مما
حدث من ابنى الأمير «مبارز الدين» مع أبيهما، ليمنعوه من الحكم،
ولعل هذه الصفات كانت السبب الرئيسى فى زوال ملكهم.(4/53)
الفصل السابع
*ملوك كرت
643 - 791 هـ = 1245 - 1389 م.
النشأة والتكوين:
استقل ملوك «كرت» ببلادهم استقلالا محدودًا تحت لواء الإيلخانات
فى «إيران»، وإن استمروا فى الحكم فترة بعد سقوط «الدولة
الإيلخانية»، وقد استقر ملوك «آل كرت» فى «هراة»، و «بلخ»،
و «غزنة»، و «سرخس»، و «نيسابور»، ولم يصلوا إلى ما وصلت إليه
الأسر المغولية الأخرى من أهمية فى تاريخ المشرق الإسلامى؛ إذ
حكموا الجزء الشرقى لإيران من منتصف القرن السابع الهجرى إلى
نهاية القرن الثامن الهجرى، وأزال ملكهم الأمير «تيمور كوركان»
مثلما أزال ملك الأسر المغولية الأخرى.
الوضع الداخلى:
كان «شمس الدين الأول محمد»، أول ملوك «آل كرت»، وهو ابن ابنة
«ركن الدين بن تاج» الذى تزوج ابنة السلطان «غياث الدين محمود
الغورى»، الذى عينه حاكمًا على قلعة «خنسيار» (تقع بين هراة
والغور) والتى آل أمرها -فيما بعد - إلى الملك «شمس الدين».
عندما زحف المغول على العالم الإسلامى رأى الجد «ركن الدين بن
تاج» الدخول تحت لوائهم، ليضمن سلامة ملكه، فتركه المغول، وبعث
بحفيده «شمس الدين كرت» إليهم ليكون فى خدمتهم، تعبيرًا عن
الطاعة والولاء.
حكم «شمس الدين كرت» مناطق كثيرة، منها: «هراة»، و «بلخ»،
و «غزنة»، و «سرخس»، و «نيسابور»،ووصل بملكه إلى ضفاف
«سيحون»، و «سيستان»، و «كابل» حتى «نهر السند»، وتمكن من
الاستقلال بالحكم فى سنة (648هـ)، ومن المؤكد أن «شمس الدين»
لعب دورًا كبيرًا فى حملة «هولاكو خان» على بلاد طائفة
«الإسماعيلية»، إذ كان أول المشاركين فيها إظهارًا لولائه وطاعته
للمغول، وكان له الفضل فى تسليم «ناصر الدين محتشم» «قلعة
قهستان» إلى المغول.
لم تسر سياسة «شمس الدين» على نهج واحد فى علاقته بالمغول،
إذ انحاز إلى «براق خان» الجغتائى فى هجومه على «آباقا خان بن
هولاكو» للاستيلاء على «خراسان» التابعة للدولة الإيلخانية، وذلك(4/54)
بعد وفاة «هولاكو»، وتولى ابنه «آباقا خان» الحكم خلفًا له، فغضب
«آباقا خان» على «شمس الدين» لموقفه، وخشى «شمس الدين»
على حياته من غضب «آباقا خان» وانتقامه.
شعر «براق خان» بقرب نهاية دولته (الدولة الجغتائية)، فعرض على
«شمس الدين كرت» أن يعرف له أسماء الأغنياء فى «خراسان»
-طمعًا فى مالهم- مقابل أن يحصل «شمس الدين» على تفويضه فى
أملاك «الدولة الإيلخانية»، فأحس «شمس الدين» بذكائه قرب زوال
ملك الجغتائيين، خاصة أن جيشهم بدت عليه أمارات القسوة والتجبر،
فعاد إلى «هراة»، واعتصم بقلعة «خنسيار»، وانتظر ما ستسفر عنه
الأحداث، ولكنه لم يلبث طويلا وتمكن من النجاة بشفاعة «شمس الدين
الجوينى» صاحب الديوان (7) له عند «آباقا خان» الذى عفا عنه،
ومات «شمس الدين كرت» فى «تبريز» مسمومًا فى عام (676هـ =
1277م)، فولَّى «آباقا خان» «ركن الدين بن شمس الدين» حكم
«هراة» (677 - 682هـ = 1278 - 1283م).
واتخذ هذا الابن لقب أبيه وعرف باسم «ركن الدين بن شمس الدين
الأصغر».
فلما تُوفِّى الإيلخان «آباقا خان» خشى ركن الدين على حياته،
واعتصم بقلعة «خنسيار» الحصينة حتى وفاته سنة (705هـ =
1305م)، ثم تولى ابنه «فخر الدين» مكانه من قِبَل «غازان خان» سنة
(695هـ= 1295م)، وشغل عهده بالخلاف مع «غازان»، حتى تُوفِّى
سنة (706هـ = 1306م)، فعين «أولجايتو» مكانه أخاه «غياث
الدين»، وظل فى الحكم حتى سنة (729هـ = 1328م)، فخلفه بالتتابع
ولداه «شمس الدين الثانى» الذى مات سنة (730هـ = 1329م)،
و «الملك حافظ» الذى قتل سنة (732هـ = 1331م)، ثم جاء من بعدهما
الأخ الثالث «معز الدين حسين»، وكان من أبرز حكام «بنى كرت»،
فقد قرئت الخطبة باسمه، وأهداه «سعد الدين التفتازانى» كتابه
المشهور فى البلاغة باسم «المطول» وقد توفى «معز الدين حسين»
سنة (771هـ = 1370م)، وحل مكانه ابنه «غياث الدين بير على» الذى(4/55)
دعاه «تيمورلنك» للاجتماع به، فلما لم يلبِّ دعوته، قاد بنفسه جيشًا
تمكن من الاستيلاء على هراة سنة (783 هـ = 1381م)، وأسر «غياث
الدين» وابنه «بير محمد» وأخاه الملك «محمدا» والى «سرخس»
وأركان حكومته، وساقهم إلى «سمرقند»، ثم أعدمهم فى أواخر
سنة (784هـ) وبذلك انقرضت أسرة ملوك كرت.
العلاقات الخارجية:
أتاح اتصال ملوك «كرت» بالغوريين فرصة الوصول إلى الحكم، فلما
غزا المغول البلاد الإسلامية انضوى «ركن الدين» تحت لوائهم، وعمل
على مسالمتهم ليأمن شرهم على نفسه وعلى مُلك «آل كرت» فى
«هراة» وغيرها. ثم جاء «شمس الدين كرت» ومضى على الدرب نفسه
فى موالاة المغول، وانضم إليهم فى حملة «هولاكو خان» على بلاد
«الإسماعيلية»، وكان له دوره البارز فى استسلام «ناصر الدين
محتشم»، وتسليمه لقلعة «قهستان» للمغول، ومضى «آل كرت» فى
طاعتهم للإيلخانيين الذين أسسوا دولتهم فى «إيران» و «العراق»،
باستثناء بعض الأوقات التى خرج فيها بعض ملوك «آل كرت» على
سيطرة الإيلخانيين المغول، ثم سرعان ما يعودون ثانية إلى الانضواء
تحت اللواء المغولى، كما فعل «شمس الدين كرت» نفسه حين انضم
إلى «الجغتائيين» فى صراعهم مع الإيلخانيين، ثم عاد ثانية إلى
طلب العفو والصفح عنه من الإيلخان «آباقا» المغولى.
وبذا يمكن القول: إن أمر تولية «آل كرت» الحكم كان يرجع إلى رغبة
«الإيلخان» المغولى، وأصبحت مناطق نفوذ «آل كرت» إمارات تابعة -
إلى حد بعيد- للمغول الإيلخانيين، وظلوا على ذلك حتى انتهى أمرهم
على يد التيموريين الغزاة فى عام (791هـ= 1389م).
مظاهر الحضارة فى إمارة آل كرت:
كانت إمارة «آل كرت» إمارة ثرية؛ إذ ضمت إلى حكمها مناطق عدة
اشتهرت بثرواتها وخيراتها ومزروعاتها، وسعة أرضها، وعذوبة
مائها، وخصوبة تربتها، فاشتهرت «هراة» ببساتينها الكثيرة،
و «غزنة» بسعة أرضها وخصوبة تربتها ووفرة مائها العذب، وكانت(4/56)
تقع فى أطراف «خراسان» وتربطها بالهند، أما «سرخس» فتقع بين
«مرو» و «نيسابور» وبها خيرات كثيرة، واشتهرت «نيسابور» (إحدى
مدن خراسان) بالفواكه والثمار، والمعادن الكثيرة وبخاصة الفيروز،
كما كانت تزخر بالعلماء الفضلاء، وتعد هذه المدينة عتبة الشرق.
والواقع أن تلك البقاع التى شملتها أقاليم «آل كرت» كانت تفيض
بالخير والثراء، فلم يجد الحكام صعوبة فى توفير احتياجات البلاد،
وكذلك لم يكن لهم طموح فى توسيع حدودهم، أو إدخال دولة ما
تحت تبعيتهم؛ إذ كانوا أنفسهم تابعين للحكم الإيلخانى المغولى،
وحرص الإيلخانيون على ولائهم وكسب ودهم، وبقاء تبعية «آل
كرت» لهم.
وقد أدى استقرار الأوضاع الاقتصادية فى دولة «آل كرت» إلى
استقرار الأوضاع السياسية، فشجع «الحكام» العلماءَ والأدباء،
وعمدوا إلى مساعدتهم، فبرز منهم عدد كبير، ومنهم «ابن يمين»
(المتوفى عام 769هـ)، وقد مدح بأشعاره «آل كرت» والسربداريين،
وتضمن شعره الحكم والمواعظ، ومما يجدر ذكره أن العالم الجليل
والقطب الكبير «جلال الدين الرومى»، قد وُلد وعاش فى «بلخ» فى
الفترة من (604هـ إلى 672هـ)، وهو من أكبر شعراء الصوفية الفرس،
وصاحب كتاب «مثنوى».(4/57)
الفصل الثامن
*أمراء قراقيونلو
[780 - 873 هـ = 1378 - 1468 م].
النشأة والتكوين:
ظهرت جماعة من التركمان أطلقوا على أنفسهم اسم «قراقيونلو»
فى أواخر عهد السلطان «أبى سعيد بهادرخان» آخر حكام «الدولة
الإيلخانية» - فى النصف الثانى من القرن الثامن الهجرى = النصف
الثانى من القرن الرابع عشر الميلادى - فى الشمال الغربى لآسيا
جنوبى بحيرة «وان».
ومما لاشك فيه أن هذه الجماعة قد استفادت استفادة كبيرة من
الضعف الذى منيت به «الدولة الإيلخانية» فى عهد خلفاء السلطان
«أبى سعيد بهادرخان»، ودخلوا فى صراع مع التيموريين، واعتنقوا
المذهب الشيعى، ويرجع نسب أمرائهم إلى الأمير «محمد تورمش ابن
بيرام خواجة».
الوضع الداخلى:
استطاع الأمير «أبو نصر قرا يوسف نويان بن محمد» أول أمراء
«قراقيونلو» أن يقود كتائبهم المنتشرة بالأقاليم المجاورة لأرمينيا
و «أذربيجان»، ويستولى على «تبريز» ويجعلها عاصمة لإمارته، ثم
اصطدم بأحمد بن أويس الجلائرى فى عام (813هـ = 1410م)، وتمكن
منه وقتله، ومد سلطانه وسيطرته على «أذربيجان» (أذربايجان).
ولما غزا «تيمور» بلاد «قرا يوسف» فى عام (802هـ = 1400م)، سلبه
ملكه، ولكنه استعاد ما سلب منه فى عام (808هـ = 1405م)، ونادى
بابنه «بيربوداق» أميرًا على «أذربيجان» سنة (810هـ = 1407م)،
فاستطاع أن يتخلص من «قرا عثمان» رئيس «الآق قيونلو» فى «ديار
بكر»، ويحقق لقبيلته كثيرًا من الانتصارات والفتوح من ناحية الغرب،
ثم توجه إلى الشرق لصد القوات التيمورية بقيادة «شاه رخ»، ولكنه
توفى فجأة فى الطريق بأذربيجان، وكذلك توفى والده «قرا
يوسف» فى الوقت نفسه، فتولى الأمير «إسكندر بن قرا يوسف»
الحكم فى عام (823هـ = 1420م)، واستمر حتى عام (841هـ =
1437م).
وفى أثناء هذه الفترة وقعت أحداث كثيرة، فهاجم «شاه رخ» الذى
كان يحكم القسم الشرقى لإيران الأمير إسكندر بن قرا يوسف،
وألحق به الهزيمة فى «تبريز»، وطرده من «أرمينية» فى عام(4/58)
(824هـ = 1421م)، ولكن الأوضاع الداخلية للدولة التيمورية أجبرت
الأمير «شاه رخ» على العودة إلى «خراسان»، مما أتاح الفرصة
للأمير «إسكندر» للعودة إلى إمارته واسترداد ملكه، وتحقيق
انتصارات متتالية فى «أرمينية» و «أران»، و «بلاد الأكراد».
واستمر الصراع بينهما حتى قتل الأمير إسكندر سنة (841هـ) فتولى
أخوه الأمير «جهانشاه» زعامة أمراء «قراقيونلو»، واصطدم
بالتيموريين وهزم «الميرزا علاء الدولة التيمورى» واستولى منه على
«خراسان»، وفى الوقت نفسه تمرد ابن «جهانشاه» عليه فى
«أذربيجان»، فاضطر إلى مصالحة التيموريين ثانية، وأعاد إليهم
«خراسان»، ثم عاد إلى «تبريز» عاصمته ليتمكن من مواجهة ابنه
والقضاء على تمرده، فخرج عليه «حسن بيك» أحد أفراد قبيلة «آق
قيونلو»، وقتله فى سنة (872هـ = 1467م).
كان الأمير «حسن على» هو آخر أمراء هذه الدولة، وهو ابن الأمير
«جهانشاه» الذى اعتقله فى «باكو» نحو خمسة وعشرين عامًا؛
فلما ولى الأمير «حسن» الحكم، لقى هزيمة منكرة على أيدى قبيلة
«آق قيونلو» بزعامة «أوزون حسن» فى عام (873 هـ = 1495 م)،
وسقطت أسرة «قراقيونلو»، فكانت النهاية.
العلاقات الخارجية:
كانت دولة أمراء «قراقيونلو» فى «أذربيجان» ذات علاقات عديدة
مع جيرانها، اتصفت -فى المقام الأول- بأنها علاقات ذات صفة حربية،
فقد بدأت هذه العلاقة بتبعية هذه القبيلة للدولة الإيلخانية، ثم أقاموا
علاقات صداقة مع الجلائريين والعثمانيين بهدف مواجهة الغزو
التيمورى، ومما لاشك فيه أنهم استفادوا من هذه العلاقة، خاصة أن
«بايزيد» قد وفر الحماية لأمراء «قراقيونلو»، الذين فروا إلى
«الأناضول» هربًا من التيموريين، ولكن هذه العلاقة لم تسر على
وفاق مع الجلائريين، وقتل «قرا يوسف» «أحمد بن أويس الجلائرى»
فى عام (813هـ= 1410م).
أبعد التيموريون أمراء «قراقيونلو» عن مقار حكمهم أكثر من مرة،(4/59)
وكانت العلاقة سيئة بينهما، وجاءت نهاية أمراء «قراقيونلو» على
أيدى قبيلة «آق قيونلو» (9)، إحدى القبائل التركمانية التى تنتمى
إلى عنصرهم ذاته.
مظاهر الحضارة فى دولة أمراء قراقيونلو:
لم تتح الحروب والمعارك العسكرية فرصة كافية أمام أمراء
«قراقيونلو» للاهتمام بمظاهر الحضارة، فقد عاشت دولتهم فى
صراعات متواصلة من أجل الحفاظ على حدودها من الجلائريين
والتيموريين، ولكن ذلك لم يمنع الأمير «جهانشاه» من الاهتمام بالأدب
والشعر، إذ كان هو نفسه ينظم الشعر، وكان محبا له.
وقد شيد «جهانشاه» مسجدًا يعد تحفة فنية فى عمارته، وهو
«المسجد الأزرق» الذى يمثل العمارة الإسلامية فى هذه المنطقة.
لم يمنح التيموريون أيا من أمراء «قراقيونلو» فرصة الاتجاه نحو
الاهتمام بمظاهر الحضارة، لأنهم كانوا يحطمون كل شىء ويقضون
على الأخضر واليابس فى غزوهم الشامل على مناطق نفوذ أمراء
«قراقيونلو»، لذا لم يهتم هؤلاء الأمراء بمظاهر الحضارة، وصرفوا
جهودهم إلى النشاط الحربى.(4/60)
الفصل التاسع
*الدولة الصفوية
[907 - 1148 هـ = 1502 - 1736م].
النشأة والتكوين:
ينتسب الصفويون إلى «صفى الدين الأردبيلى» الذى عاش فى الفترة
من (650هـ = 1252م) إلى (735هـ = 1334م)، وهو أحد شيوخ
الصوفية، وقد درس فى مطلع حياته العلوم الدينية والعقلية فى
موطنه، ثم ارتحل إلى «شيراز»، واتصل بالشاعر المعروف «سعدى
الشيرازى»، ثم رحل إلى «أردبيل» ومنها إلى «كيلان»، ودخل فى
زمرة الشيخ «زاهد الكيلانى» وتزوج ابنته، وخلفه فى الطريقة،
وعهد إلى أبنائه وأتباعه بالعمل على جذب الأتباع والدراويش،
والاجتهاد فى نشر طريقتهم والدعاية لها، وكان هؤلاء ينتسبون إلى
المذهب الشيعى.
الوضع الداخلى:
شهدت «إيران» فترة عصيبة ضاعت فيها حقوق المواطنين، وساءت
معاملتهم، فى الفترة التى سبقت قيام «الدولة الصفوية»، فمهد ذلك
الطريق أمام شيوخ الصفويين، وتحولوا من أصحاب دعوة وشيوخ
طريقة إلى مؤسسى دولة لها أهدافها السياسية والمذهبية.
وكانت «إيران» - آنذاك - مقسمة إلى عدة أجزاء، يحكمها عدة
حكام، ويستقل كل منهم بما تحت يديه، فعاش الناس حياة قلقة
يشوبها الصراع على الحكم، وبحثوا عن مخرج لذلك ناشدين الراحة
والهدوء، فلم يجدوا أمامهم سوى أن يكونوا مريدين وأتباعًا لشيوخ
الصفويين وطريقتهم، وذلك فى الوقت الذى آلت فيه رئاسة الأسرة
الصفوية إلى «إسماعيل»، الابن الثالث لحيدر حفيد الشيخ «صفى»،
فأسس «إسماعيل» «الدولة الصفوية» فى عام (907هـ = 1502م)، ثم
دخل «تبريز» وأعلن نفسه فيها ملكًا على «إيران»، وتلقب بأبى
المظفر شاه إسماعيل الهادى الوالى، وأصدر السكة باسمه، وفرض
المذهب الشيعى، وجعله المذهب الرسمى لإيران بعد أن كانت تتبع
المذهب السنى، وقال حين أعلن ذلك: «لا يهمنى هذا الأمر، فالله،
وحضرات الأئمة المعصومين معى، وأنا لا أخشى أحدًا، وبإذن الله -
تعالى - لو قال واحد من الرعية حرفًا، فسأسحب سيفى، ولن أترك
أحدًا يعيش».(4/61)
وأمر المؤذنين أن يزيدوا فى الأذان عبارتَى:
«أشهد أن عليا ولى الله»، و «حى على خير العمل».
مضى الشاه «إسماعيل» فى إرساء قواعد دولته، وترسيخ دعائم
مذهبه، وتنظيم إدارة بلاده، فاتخذ من «حسين بك لله» نائبًا له،
وجعل «الشيخ شمس الدين اللاهيجى» حاملا للأختام، واستوزر «محمد
زكريا»، ثم قضى على قبيلة «آق قيونلو»، ودخل «شيراز»، وأقر
فيها مذهبه الشيعى، فأصبحت «إيران» دولة شيعية بين قوتين
سنيتين هما: «الهند» والأتراك من جهة الشرق، والعثمانيون والشام
فى الغرب.
قاست «بلاد الكرج» و «أرمينية» مرارة الصراع بين الصفويين
والعثمانيين؛ إذ إنها تارة تصير تابعة للصفويين، وأخرى تابعة
للعثمانيين.
ويعود لمراد الرابع الفضل فى تحديد حدود «إيران» الغربية، حيث ضم
«بغداد» و «الجزيرة» إلى الحكم العثمانى سنة (1048م)، كما نجح
«أحمد درانى» فى إقامة دولة مستقلة فى «أفغانستان» بعد أن
كانت تابعة مرة للهند، وأخرى لإيران، فلما ضُمت «هراة» إلى
«أفغانستان» رُسمت حدود «إيران» الشرقية، ثم حددت حدودها
الشمالية باستيلاء الروس على المناطق الشمالية، وبقيت هذه الحدود
قائمة حتى تمت «اتفاقية الجزائر» فى عام (1975م).
الشاه إسماعيل الأول [900هـ = 1494م]:
تميز الشاه «إسماعيل» بالصبر والذكاء وقوة الإرادة، والشجاعة
والإقدام وحسن الإدارة، فالتف الناس حوله بالترغيب تارة وبالترهيب
تارة أخرى، وأقام دولته على أساس مذهبى ذى أصول سياسية
واقتصادية وإدارية، ووضع الأساس الذى استمرت عليه هذه الدولة
نحو قرنين من الزمان، وباتت ذات دور مؤثر وحيوى فى المنطقة،
وقد أُعجب معاصرو الشاه «إسماعيل» به وبسياسته، وقد وصفه
«ميرخواند» فى كتابه «روضة الصفا» بقوله: «كان ذلك الملك نادرة
الزمان، وأعجوبة الليل والنهار».
ولعل من أبرز إنجازات «إسماعيل الصفوى» هى إقراره لوحدة
«إيران» الوطنية والسياسية، وتحديد معالم شخصية دولته فى الداخل(4/62)
والخارج، غير أنه صعَّد -فى الوقت نفسه- حدة الصراع بين الصفويين
والعثمانيين، وعمَّق الخلاف المذهبى بين السنيين والشيعة.
خلف الشاه «طهماسب الأول» أباه «إسماعيل الأول» على العرش فى
(يوم الاثنين 19 من رجب عام 930هـ = 1524م)، وحكم أكثر من نصف
قرن دخل خلالها فى حروب كثيرة مع العثمانيين والأوزبك
و «كرجستان»، ثم خلفه ابنه الشاه «إسماعيل ميرزا» الذى تلقب
بالشاه «إسماعيل الثانى» فى عام (984هـ = 1576م]، واعتمد
سياسة الاعتدال فى نشر المذهب الشيعى، فأبعد عددًا من علماء
الشيعة المتعصبين عن بلاطه، وأمر بمنع لعن الخلفاء الثلاثة والسيدة
«عائشة» فوق المنابر وفى الطرقات، وحاول إعادة المذهب السنى
إلى البلاد بالتدريج، مما أثار عليه حفيظة الطبقة الحاكمة وأغلبية
المجتمع، وقرروا عزله وتعيين ابن أخيه «حسن ميرزا» إذا لم يتراجع
عن ذلك، فعمل على تهدئة الثورة التى قامت ضده، وأبعد علماء
المذهب السنى عن بلاطه، ونقش على السكة بيتًا مضمونه: أن عليا
وآله أولى بالخلافة فى العالم الإسلامى كله.
لم يتمكن الشاه «إسماعيل الثانى» من البقاء فى الحكم فترة طويلة،
حيث قُتل، وقد اختلفت الروايات فى كيفية قتله، وتم اختيار «محمد
خدا بنده» ملكًا على «إيران» فى عام (985هـ = 1578م)، فكثرت فى
عهده الاضطرابات التى لم يستطع السيطرة عليها، إذ لم يكن جديرًا
بالحكم، فخلفه ابنه الشاه «عباس الأول» على العرش من عام (996هـ
= 1588م) إلى عام (1038هـ = 1629م)، ويعد عهده من أبرز عهود
الحكم الصفوى فى «إيران» وأهمها؛ إذ عمل على رفاهية شعبه
وتعمير بلاده، ونقل عاصمة دولته من «قزوين» إلى «أصفهان»،
وأعاد الحكم المركزى إلى «الدولة الصفوية»، على الرغم من
الصعوبات والحروب الكثيرة التى اعترضت سبيله، ونجح فى إقرار
أمن بلاده وتأمين رعيته؛ واتخذ مجلسًا لبلاطه ضم سبعة أشخاص
بسبع وظائف هى: «اعتماد الدولة» - «ركن السلطنة» - «ركن(4/63)
الدولة» - «كبير الياوران» - «قائد حملة البنادق» - «رئيس الديوان» -
«كاتب مجلس الشاه»، وبالرغم من وجود هذا المجلس كان هو صاحب
القرار الأول والأخير فى الدولة.
ثم توالى على حكم «الدولة الصفوية» - عقب وفاة الشاه «عباس
الصفوى» - شاهات ضعاف؛ أدى الصراع فيما بينهم على السلطة إلى
ضعف الدولة، فضلا عن أن ذلك أعطى الفرصة للأعداء الخارجيين
الذين كانوا متربصين بالدولة، وبخاصة الأتراك العثمانيون، لغزوها
ومحاولة السيطرة عليها.
وعلى الرغم من ذلك فإن كثيرًا من الرحالة الأوربيين الذين وفدوا
على بلاط الصفويين؛ وصفوا مدى الأبهة والعظمة التى وفرها
الصفويون فى بلاطهم، ولعل أبرز ما كان يميز هذا البلاط هو سيطرة
رجال الدين واتساع نفوذهم، حتى بات أمر الدولة كله فى أيديهم،
نظرًا إلى أنها دولة مذهبية، اتخذت من الدين أساسًا لقيامها،
والدعوة إلى مذهبها.
بدأ نجم «الدولة الصفوية» فى الأفول عقب وفاة الشاه «عباس
الصفوى»، وحكمها «صفى الأول» عام (1038هـ= 1629م)، ثم «عباس
الثانى» عام (1052هـ = 1642م)، ثم «سليمان الأول» عام (1077 هـ =
1667م)، ثم «حسين الأول» عام (1105هـ = 1694م)، ثم «طهما سب
الثانى» (1135هـ= 1722م) ثم «عباس الثالث» الذى حكم من عام
(1144هـ = 1731م) إلى عام (1148هـ = 1736م).
وجميع هؤلاء الشاهات الصفويين لم تكن لديهم الصفات التى تمتع بها
الشاه «عباس الأول»، وبدت الأمور أمامهم مجرد مظاهر ملكية يجب
الحفاظ عليها، ونسوا أمور بلادهم، فضعفت الدولة، وضاعت هيبتها،
وسقطت أجزاؤها واحدا تلو الآخر، فضاعت الدولة، وسقط العرش،
وسقطت «الدولة الصفوية» فى عام (1148هـ = 1736م) فانقسمت
«إيران» إلى عدة مناطق منفصلة.
العلاقات الخارجية:
أقام الصفويون علاقات متميزة مع سائر الدول، وكان الاقتصاد -ممثلا
فى التجارة - هو المحرك الأساسى لعلاقاتهم الخارجية، ولعل حركة
البضائع الشرقية كانت سببًا فى نشاط الكشوف الجغرافية وظهور(4/64)
قوتين عظميين لعبتا دورًا مهما فى هذا الميدان، هما: «البرتغال»
و «إسبانيا»، ومما لاشك فيه أن هذا النشاط الكشفى كان الهدف منه
إيجاد طريق جديدة للتجارة الأسيوية، خاصة تجارة «الهند» التى
كانت التوابل أهم عناصرها. وفى سبيل هذا عمد البرتغاليون إلى
البحث عن طريق بعيدة عن «البحر المتوسط» الذى يهيمن عليه
المماليك فى «مصر» و «الشام» من ناحية، وتهيمن عليه بعض المدن
الإيطالية من الناحية الأخرى.
حاول «بارثليميودياز» البرتغالى فى عام (892هـ =1487م) الدخول
إلى «المحيط الهندى» عن طريق الالتفاف حول طريق «رأس الرجاء
الصالح»، ولكنه فشل، وبعده باثنى عشر عامًا استطاع البحَّار
البرتغالى «فاسكو داجاما» الوصول إلى «الهند» بواسطة طريق
«رأس الرجاء الصالح»، وأقام البرتغاليون مستعمرات لهم فى
«الهند» و «آسيا»، وأخضعوا أمير «هرمز» لهم، وأخذوا منه غرامة
حربية، وفرضوا عليه مبلغًا من المال يدفعه سنويا خراجًا لدولتهم،
فى الوقت نفسه طالب الشاه الصفوى «إسماعيل الأول» هذا الأمير
بتسديد الخراج السنوى المفروض عليه من قِبَل «الدولة الصفوية»،
فاستعان «أمير هرمز» بالقائد البرتغالى «البوكيرك» لتخليصه من
ذلك، فأرسل «البوكيرك» إلى الشاه «إسماعيل الأول» برسالة جاء
فيها:
«إن استيلاء البرتغال على هرمز كان بالقوة، والقدرة لملك البرتغال،
وليس لأحد من حق فى الخراج إلا له»، ثم أرسل هذا القائد بعض
طلقات البنادق والمدافع والبارود إلى أمير «هرمز» وأمره أن يرسلها
إلى الشاه «إسماعيل الصفوى» بدلا من الخراج الذى طالب به،
ويخبره أن إجابة ملك البرتغال على الأعداء تكون بهذه الأشياء. ولم
تلبث الأوضاع طويلا بين الطرفين على هذه الحال، وتم توقيع
معاهدة بين الدولتين الصفوية والبرتغالية فى عهد الشاه «إسماعيل
الأول»، إذ كان للبرتغاليين نفوذ قوى فى الخليج، وكانوا يحتكرون
التجارة فى موانى جنوب «إيران».(4/65)
انفتح الإيرانيون على العالم الخارجى، وزادت علاقاتهم مع الدول
الأوربية فى عهد الشاه «عباس الأول»، ووفد على «إيران» العديد
من السفراء الأوربيين، كما أوفد السفراء الإيرانيون إلى البلاد
الأوربية، لإبرام الاتفاقات، وعقد المعاهدات - سواء التجارية أو
السياسية - بين «أوربا» و «إيران»، وتم الاتفاق على فتح طريق
تجارى بين «أوربا» و «آسيا» عبر «بحر الشمال»، وفى سنة (960هـ
= 1553م) ذهب الإنجليزى «ريتشارد شانسلر» إلى «موسكو»،
وتمكن من إقامة علاقات اقتصادية لبلاده مع ولايات «إيران»
الشمالية فى عهد الشاه «طهماسب الأول»، والملكة «اليزابيث». وقد
سجلت إحدى الوثائق السياسية الإنجليزية أحداث لقاء تم بين
الإنجليزى «آرثر ادوارد»، والشاه «طهماسب الأول الصفوى»،
وتمخض هذا اللقاء عن منح التجار الإنجليز حرية السفر إلى «جيلان»،
أو إلى أى مكان فى أملاك «الدولة الصفوية»، ووعد الشاه «طهما
سب» الإنجليز بحماية سفنهم فى بحر «الخزر» من أى عدوان،
ومنحهم عدة امتيازات أخرى غيرها.
وخلاصة القول: إن حكام «إيران» الصفويين لم تقتصر علاقاتهم
الخارجية على دولة بعينها، بل تعدت إلى العالم الأوربى عامة،
وكذلك كانت لهم علاقات جيدة مع «هولندا» و «ألمانيا».
مظاهر الحضارة فى الدولة الصفوية:
تمكن الصفويون من إقامة دولة قومية لهم فى «إيران» على أسس
مذهبية، وأحيوا بها الروح القومية، ووحدوا عناصر الشعب تحت لواء
مذهبهم الذى قاموا بنشره بالترهيب والترغيب بين الطبقات كافة.
وانتفع الصفويون فى تكوين حضارتهم بالصراع العسكرى فى
حروبهم ضد العثمانيين؛ إذ كلفوا «روبرت»، و «أنتونى شيرلى»
الإنجليزيين بإنشاء مصنع للمدافع لهم، فكان سببًا من أسباب تقدم
حضارتهم العسكرية، وانتقل «طهما سب» بعاصمة بلاده من «تبريز»
إلى «قزوين» نتيجة توغل السلطان العثمانى «سليمان القانونى»
فى «العراق»، ثم فى «تبريز» و «أصفهان»، وأخذ «طهما سب» فى(4/66)
بلاطه الجديد بكل أسباب التحضر والتأنق والدقة، حيث كان خطاطًا
ماهرًا، وله دراية عالية بفنون النقش من خلال دراساته فى هذا
المجال.
وفى سنة (1007هـ = 1598م)، نقل الشاه «عباس الصفوى» عاصمة
بلاده إلى «أصفهان»؛ فدبت بها حياة جديدة، وراجت بها التجارة،
وازدهرت الصنائع والفنون، وعمد «الشاه عباس» إلى تطوير الجيش
وتحديثه، فاستبدل جيشه القديم -المكون من قوات قبلية- بجيش
نظامى جديد، واستحدث فيه فرقة عسكرية جديدة أطلق عليها اسم
«أصدقاء الملك»، وكانت هذه الفرقة تضم عشرة آلاف فارس، وكان
ضعف هذا العدد من المشاة، ثم مضى فى طريق التحديث العمرانى
فشيد الطرق، وشق القنوات، وأعد الأماكن اللازمة لنزول القوافل
التجارية فى طول البلاد وعرضها، وأقام مدينة ملكية جديدة فى
«أصفهان»، وجعلها مجاورة للمدينة القديمة، وأنشأ بها الإنشاءات
اللازمة، ثم ضاعف هذه الإنشاءات فى عام (1020هـ = 1611م)، وبنى
لنفسه بها قصرًا عظيمًا، وأنشأ حول ميدانه مسجدًا كبيرًا أسماه
«مسجد شاه»، وجعل بجواره مسجدًا آخر أصغر منه، وأحاط المدينة
بسور من الآجر والطين، وأقام بها الأسواق المسقوفة، ومائة واثنين
وستين مسجدًا، وثمانيًا وأربعين مدرسة دينية، وألفى رباط لإقامة
القوافل، وثلاثمائة حمام عام، وجعل لكل منزل بها حديقة خاصة، كما
جعل شوارع هذه المدينة متعرجة وضيقة، ربما لأسباب أمنية
ودفاعية، فبلغ تعداد السكان بالمدينة الجديدة نحو ستمائة ألف
نسمة فى ذلك الوقت، ولقد بقيت آثار هذه المدينة شاهد صدق على
عظمة الحضارة الصفوية إلى وقتنا الحاضر.(4/67)
الفصل العاشر
*شاهات إيران
[1135 - 1344هـ = 1722 - 1925م].
أ - الأفاغنة:
تمرد الأفغانى «محمود بن ميرويس» ورفع راية العصيان على «الدولة
الصفوية» فى عهد الشاه الصفوى «حسين الأول»، فلما لم يجد هذا
الرجل من يأخذ على يديه ويوقف عصيانه؛ تمكن من الاستيلاء على
مدينتى «هراة» و «مشهد»، وهما من أهم مدن دولة الصفويين، ولم
يكتفِ بذلك: بل استولى على العاصمة «أصفهان» فى سنة (1135هـ
= 1722م)، فدخلت دولة الصفويين فى طور السقوط والانهيار
النهائى، وتحولت من دولة كانت تتمتع بالنفوذ والسطوة والهيبة فى
عهد «عباس الأول» ومَن سبقوه، إلى هيكل ضعيف لاحول له ولا
قوة، وظهرت إلى جانبها قوى أخرى جديدة وفتية سلبتها حق
التمتع بإمكاناتها وممتلكاتها، وسلبت حكامها حق الانفراد بحكم
البلاد.
أقام الأفغانيون دولتهم على ما سلبوه من أراضى الدولة الصفوية،
وكان أول حكامهم هو «محمود بن ميرويس» الذى حكم فى (11من
المحرم عام 1135هـ = 1722م)، وقُتل فى سنة (1137هـ = 1725م)،
فخلفه «أشرف بن عبدالله» فى الحكم، وظل به حتى عام (1142هـ =
1729م)، ثم ظهر الأمير الأفغانى «آزاد خان» مطالبًا بالحكم فى
«أصبهان» فى سنة (1166هـ = 1753م)، وتم له ما أراد، وظل فى
الحكم حتى سنة (1169هـ = 1756م).
ب - الأفشارية:
لم يستمر حكم الأفاغنة طويلا؛ إذ استعان الشاه «طهما سب الثانى»
- على دفع تهديد الأفغان- بالقوى المحيطة، فأسرعت «روسيا» إلى
مساعدته فيما طلب، نظير السماح لها بدخول «استراباد»، وهكذا
تمكن الروس من وضع أقدامهم فى هذه المناطق.
ثم ظهرت قوة جديدة حكمت فى الفترة من سنة (1148هـ = 1736م)
إلى سنة (1210هـ - 1796م) عرفت باسم الأفشارية، واستطاع «نادر
شاه الأفشارى» أن يقضى على حكم الأفغان، ويخلع الشاه
«طهماسب الثانى» ويسجنه مع طفله الرضيع «الميرزا عباس الثالث»،
ثم أعلن تتويجه ملكًا على «إيران» فى سنة (1148هـ = 1736م)،(4/68)
وظلت أسرته تحكم أكثر من ستين عامًا، أى إلى سنة (1210هـ =
1796م)، وقد اتسم حكم «نادر شاه» بالسطوة والعنف ضد الرعية،
مما أسرع بقتله على يد أحد ضباطه، فأدى ذلك بدوره إلى ظهور
«الزنديين»، وأصبح زعيمهم «محمد كريم خان» شاه «إيران» فى
سنة (1163هـ = 1750م)، ولكن هذه الأسرة لم تستطع مد نفوذها إلى
«خراسان» التى كانت فى قبضة «شاه رخ» الأفشارى، وبقيت هذه
الأسرة الزندية فى الحكم مدة خمسين عامًا، حتى قُتل آخر حكامهم
«لطف على» على يد «آقا محمد القاجارى» فى الرابع عشر من
المحرم عام (1211هـ = 1799م)، فظهرت الأسرة القاجارية.
ج - الأسرة القاجارية:
هى إحدى الأسر المغولية، وانتشر أفرادها فى البلاد الإسلامية،
وأقاموا بصفة خاصة بأرمينية، واقتصر دورهم فى عهد الشاه
«إسماعيل الأول الصفوى» على تقديم العون إلى الصفويين، حيث
اتخذ منهم جنودًا لمواجهة شر القبائل المهاجمة لحدوده، فازدادوا
بذلك قوة ونفوذًا، ثم استطاع «آقا محمد خان» توحيد فروع قبيلته
بالقوة والعنف حتى تمكن من الاستيلاء على «طهران» فى سنة
(1193هـ = 1779م)، ثم أقام «الدولة القاجارية»، وأصبح أول
ملوكها، وأطلق على نفسه لقب ملك «إيران» فى عام (1211هـ =
1796م)، وقضى على «الزنديين»، وحقق السيطرة الكاملة على
«إيران» و «جورجيا»، ثم خلفه «فتحعلى شاه» فى الفترة من
(1212هـ = 1797م) إلى (1250هـ = 1834م)، وامتاز عصره بالهدوء
النسبى، وإن تخللته بعض الاضطرابات والمشاكل السياسية.
العلاقات الخارجية:
دفع الأفاغنة «الشاه طهما سب الثانى الصفوى» إلى الاستعانة
بروسيا، وإلى عقد معاهدة مع قيصرها «بطرس»، وتخلت «إيران»
بموجبها رسميا عن «دربند»، و «باكو»، والسواحل الجنوبية لبحر
«مازندران» حتى «استراباد»، فتحقق لروسيا حلم الوصول إلى هذه
المناطق، وأطمعها ذلك فى شمال البلاد حين نشب الصراع على
السلطة بين الصفويين والأفاغنة، ولعل ذلك هو الذى دفع العثمانيين(4/69)
إلى الهجوم على بلاد «الكرج». ثم أسس «نادر شاه الأفشارى»
دولته بإيران، وبذل جهودًا مضنية للقضاء على الانقسام القائم فى
الجزء الشرقى من العالم الإسلامى، وأعلن المذهب السنى مذهبًا
رسميا للبلاد؛ عوضًا عن المذهب الشيعى، واضطهد زعماء الشيعة،
ولكن محاولاته وجهوده هذه لم تسفر عن نتائج قاطعة، فقام
بتوسعات وفتوحات كثيرة، ودخل «دلهى» ونهب قصورها، وضم
«جزيرة البحرين» إلى «إيران» فى عام (1151هـ = 1738م)، ثم مضى
إلى فتح «العراق» فى سنة (1156هـ = 1743م).
لم تسفر حروب «نادر شاه» الخارجية عن فائدة فعلية لشعبه، بل
على العكس من ذلك، فقد قاد جيوشه من أقصى الشرق إلى الغرب،
وحمَّل الشعب أعباء الإنفاق على هذه الجيوش، فى حين كان من
الممكن أن يصرف هذا الإنفاق على تنمية البلاد ورفاهية هذا الشعب.
استطاع «أقا محمد القاجارى» أن يسيطر على كل «إيران»
و «جورجيا»، ثم خلفه ابن أخيه «فتحعلى شاه»، فأقامت «إيران»
فى عهده علاقات سياسية مع الدول الأوربية، وعقد فى سنة
(1222هـ = 1807م) معاهدة تحالف مع «فرنسا»، ولذا كان من
المتوقع أن تسمح «إيران» لنابليون بونابرت بالمرور عبر طريقها
البرى للوصول إلى «الهند» فى مقابل أن تمد فرنسا «الدولة
القاجارية» بالأسلحة، ومدربى الجيش، لكى تتمكن «إيران» من
التصدى لروسيا القيصرية التى استولت على «جورجيا» فى عام
(1216هـ = 1801م)، ولكن الأمور لم تسر وفق ما كان متوقعًا، فقد
اتفق «بونابرت» مع «روسيا»، ووقع الروس والإيرانيون معاهدة
«كلستان» فى عام (1229هـ = 1813م)، واعترفت «إيران» بموجب
هذه المعاهدة بحق ملكية «روسيا» لجورجيا، ومع ذلك لم تستقر
الأوضاع، ودخلت «إيران» فى سلسلة من الحروب مع «روسيا»؛ التى
استولت على «تبريز»، وفرضت على «إيران» غرامة مالية، بموجب
معاهدة «تركمان جاى» التى عُقدت فى سنة (1244هـ = 1828م)،
فضلا عن تنازل «إيران» عن إقليمى «إريوان» و «نخجوان» لروسيا،(4/70)
ووضع «بحر قزوين» تحت الرقابة الحربية الروسية، فباتت «إيران»
بين شقى رحى فى علاقاتها الخارجية مع «روسيا» التى تعمل على
التوسع فى «آسيا» على حساب ولايات «إيران» الشمالية للوصول
إلى مياه الخليج الدافئة، و «بريطانيا» التى تعمل على تأمين الطريق
إلى مستعمراتها فى «الهند» من خلال السيطرة على «الخليج
الفارسى»، والأراضى المجاورة للهند.
وجدير بالذكر أن خمس عشرة دولة أجنبية حصلت على امتيازات
لرعاياها فى «إيران» فى النصف الأخير من القرن التاسع عشر
الميلادى، ثم امتلأت «إيران» بالأجانب فى عهد «ناصر الدين شاه
القاجارى»، فى الوقت الذى تزايد فيه نفوذ رجال الدين الشيعة،
لسيطرة مذهبهم الشيعى على كل «إيران»، وكذلك على حكامها.
وقد شهد الربع الأول من القرن العشرين تطورًا فى سياسة «إيران»
الخارجية، حيث عقدت مع «روسيا» فى عام (1340هـ = 1921م)
معاهدة صداقة، أُلغيت بمقتضاها جميع المعاهدات السابقة التى
كانت تضر بالمصالح الإيرانية، وأسقطت «روسيا» بموجبها ديون
«إيران» التى لم تُسدد من قبل، وتنازلت عن امتيازاتها وممتلكاتها
فى «إيران» مثل: خط السكة الحديدية، وخطوط البرق، ولعل الذى
دفع «روسيا» إلى التنازل عن كل ذلك هو خوفها من محاولات
«بريطانيا» للتدخل فى شئون «إيران» ووضعها تحت سيطرتها.
مظاهر الحضارة فى إيران:
كان لموقع «إيران» الجغرافى أهميته البالغة - ومازالت - فى تحقيق
أسباب حضارتها ومدنيتها؛ حيث إنها المعبر البرى بين الشرق
والغرب، وقد حقق لها ذلك مزية الرواج التجارى، ونقل الثقافات،
والاستفادة من خبرات الآخرين، وفى الوقت نفسه جرَّ عليها الأطماع.
وقد تحملت «إيران» العناء والخراب والدمار الذى لحق بها
وبمواطنيها - منذ القدم - بسبب موقعها الجغرافى، ومع ذلك لا يمكن
لأى مؤرخ منصف أن ينكر دور «إيران» الحضارى فى الثقافة
والفنون والتقاء الحضارات المتعددة وتمازجها.(4/71)
ومن الحقائق الثابتة أن الحكم الإيرانى قد تأسس على السلطة
المطلقة للملك، الذى كان يسانده مجموعة من الإقطاعيين أُُطلق عليهم
لقب «الولاة»، نظرًا لمساحة الأراضى الشاسعة، فكان كل واحد من
هؤلاء «الولاة» ينوب عن الملك فى حكم إحدى مقاطعات البلاد، وله
حق توريث الولاية من بعده، فنشأ نظام «الأسر الإقطاعية» التى زادت
سطوتها، واتسع نفوذها، وقاد أمراؤها حركات التمرد على الشاه
الموجود فى العاصمة، كما قاموا بالحركات الانفصالية، التى كان لها
من السند والقوة ما يحول دون إمكانية القضاء عليها، ولعل هذه
الأوضاع هى التى أوجدت الثراء الفنى والثقافى، فى طول البلاد
وعرضها، وعملت على تنوعه وتعدد اتجاهاته.(4/72)
الفصل الحادي عشر
*التيموريون
[771 - 906 هـ = 1329 - 1500م]
النشأة والتكوين:
ينتسب التيموريون إلى قبيلة «برلاس» المغولية، ويرجعون فى
أصلهم إلى «تيمور بن ترغاى بن أبغاى»، الذى أحاط المؤرخون
نسبه بهالة من الرفعة وعلو الشأن، ليبرروا استيلاءه على «بلاد ما
وراء النهر»، فقد كان أبوه «أمير مائة» عند السلطان المغولى،
وكان المغول يستخدمون الأتراك فى دواوينهم، وأكثروا منهم، حتى
صارت اللغة التركية هى لغة البلاط والمجتمع فى «بلاد ما وراء
النهر»، فلما دخلت «الدولة المغولية» مرحلة الاضمحلال والضعف؛
قامت «الدولة الجغتائية» بمساعدة قبيلة «برلاس»، فحفظ الجغتائيون
هذا الجميل، وولوا «تيمور لنك»، ولاية «كش»، حين التجأ إليهم أثناء
الاضطرابات التى عصفت ببلاد «ما وراء النهر» ثم لم يلبث أن أخرج
الجغتائيين من بلاد «ما وراء النهر»، وطارد قبائل «الجتة» البدوية؛
التى اتسمت بالعنف والوحشية، وتمكن من طردهم من «بلاد ما وراء
النهر»، ثم أعلن نفسه سلطانًا فى بلخ» على هذه المنطقة، واتخذ
«سمرقند» عاصمة لملكه، وأعلن ذلك رسميا فى عام (800هـ =
1397م)، ثم مضى فى تنظيم حكومته الجديدة، واتبع قانون
«جنكيزخان» (الياسا المغولية)، بما لا يتعارض مع القرآن الكريم
والسنة النبوية.
كان «تيمور لنك» ميالا إلى الفتح والتوسع، وغزا «خوارزم» فى عام
(773هـ)، ثم دخلها وسيطر عليها فى عام (781هـ)، فأضحت «آسيا
الوسطى» كلها تحت سلطانه.
الوضع الداخلى:
بدأ حكم «تيمور كورخان» (تيمورلنك) منذ دخل «سمرقند» فى عام
(771هـ = 1329م)، فكوَّن مجلس شورى من كبار الأمراء والعلماء،
وعلى الرغم من أنه كان الحاكم الفعلى للبلاد، فإنه عمد إلى اختيار
الأمير الجغتائى «سيورغتمش بن دانشمندجة»، وجعله رمزًا للحكم
ولقبه بلقب السلطان فى الفترة من سنة (771هـ = 1329م) إلى سنة
(790 هـ = 1387م)، ثم اتخذ من بعده «محمود بن سيورغتمش» من عام
(790هـ = 1387م) إلى عام (800هـ = 1397م).(4/73)
وقد اتسمت سياسة «تيمور لنك» بالتوسع، فزحف إلى «إيران» فى
سنة (782هـ = 1380م)، وتمكن من الاستيلاء على «خراسان»
و «جرجان»، و «مازندران»، و «سيستان»، و «أفغانستان»،
و «فارس»، و «أذربيجان»، و «كردستان»، ثم دخل «جورجيا» وغرب
«إيران» فى عام (786هـ = 1384م)، وتمكن من فتح «العراق»
و «سورية» (حلب ودمشق)، وهزم المماليك فى الشام، وحقق
انتصارات عظيمة فى «الهند» عقب وفاة «فيروزشاه» سلطان
«دلهى» فى عام (799هـ = 1397م)؛ حيث استولت جيوشه على حصن
«أوكا»، وأسقطت «الملتان»، وفتحت «آباد»، ودخلت «هراة»
بالأمان، ولاقى «تيمورلنك» مقاومة شديدة وصعوبة فى دخول
«دهلى» على يد سلطانها «محمود تغلق»، ولكن هذه المقاومة لم
تستمر طويلا، ودخل «تيمور» هذه المدينة، فقدم إليه أعيانها
وعلماؤها فروض الولاء والطاعة، وخُطب له فيها، وعلى الجانب الآخر
حقق «تيمورلنك» انتصارات كثيرة على الأتراك العثمانيين، وأسر
حاكمهم «بايزيد خان».
وتُوفى «تيمورلنك» فى «أترار» عن عمر يناهز السبعين عامًا فى
سنة (807هـ = 1405م) بعد أن دانت له البلاد من «دهلى» إلى
«دمشق»، ومن «بحيرة آرال» إلى «الخليج العربى»، فلما علمت
بوفاته الأسر الحاكمة من «آل المظفر»، و «آل جلائر» و «ملوك كرت»،
وكذا الأسر التركية والتركمانية أخذت جميعها تطالب باستقلالها عن
خلفاء «تيمور»، وعودتها إلى الحكم ثانية، فأثارت الفتن والقلاقل،
وكثرت الاضطرابات والمشاكل فى طول البلاد وعرضها، وتعرضت
«الدولة التيمورية» إلى نكسة حقيقية عقب وفاة عاهلها ومؤسسها
«تيمور»، وتمكنت بعض الأسر الحاكمة - من قبل - من العودة إلى
الحكم، وإعادة ما سلب من أملاكها وممتلكاتها، فصارت هناك عدة
أسر حاكمة تنافس خلفاء «آل تيمور» ثم خلف «تيمورلنك» ابنه
«شاهرخ» على العرش سنة (807هـ = 1405م) واستمر فى الحكم إلى
سنة (850هـ = 1447م) فعاشت البلاد فى عهده أفضل فترات الحكم؛(4/74)
إذ كان محبا للعلم والعلماء، وحفيا بالثقافة، كما كان عادلا وتقيا
وورعًا، فاشتهر بسلوكه الحسن وسيرته الطيبة بين الرعية.
ولى «شاهرخ» أملاك «الدولة التيمورية» فيما عدا «سوريا»
و «العراق العربى»، فقام بإصلاحات كثيرة فى البلاد، وشيد
المبانى، وبنى المدارس الكثيرة فى «بخارى» و «سمرقند»، وأنشأ
مرصده الشهير، ثم خلفه ابنه «أولوغ بك» على العرش، وقتله ابنه
«عبداللطيف بن أولوغ» فى سنة (853هـ = 1449م)، ثم قُتل هو الآخر
من بعده، ولم يستفد، من قتل أبيه، وتمكن «أبو سعيد ميرزا» من
الاستيلاء على الحكم بسمرقند فى سنة (854هـ = 1450م)، ثم تولى
من بعده «أحمد» فى سنة (872هـ = 1467م)، ثم من بعده «محمود»
فى سنة (899هـ = 1493م)، ولم يلبث بالحكم سوى عام واحد فقط،
ثم حدثت الاضطرابات فى سنة (906هـ = 1500م)، وقضى
«الشيبانيون» على «الأسرة التيمورية» فيما عدا «ظهير الدين بابر»
الذى فر إلى «الهند»، وتمكن بعد ذلك من تأسيس دولة عظيمة بها.
العلاقات الخارجية:
اتسمت علاقة «الدولة التيمورية» بالعالم الخارجى بالعداء والتناحر،
بسبب رغبتها فى التوسع على حساب جيرانها، وقد طرد
«تيمورلنك» الجغتائيين من بلاد «ما وراء النهر»، ثم أسس دولته
التيمورية بها، واستولى على «خوارزم» فى عام (781هـ)، ثم
استولى على «إيران»، و «أفغانستان»، و «أذربيجان»، و «العراق»،
و «سورية»، ودخل حروبًا كثيرة من أجل تحقيق ذلك، وأحرز
انتصارات متعددة فى بلاد «الهند»، ثم دخل «دهلى»، فأصبح ذا ملك
عظيم، وسيادة على مساحة شاسعة من الأرض، ولكن خلفاءه لم
يحافظوا على ما سعى من أجل تحقيقه طيلة حياته، وكأن وفاته
جاءت إيذانًا بالعودة إلى أعداء الدولة ومنافسيها، لاستعادة
عروشهم، والاستقلال ببلادهم التى اغتصبها التيموريون جبرًا،
وقسرًا، وعدوانًا، وعلى الرغم من ذلك لا يجب إغفال دور «شاه رخ
بن تيمورلنك» (807 - 850هـ = 1405 - 1447م)؛ إذ كان رجلا عادلا(4/75)
تقيا، غير محب للحرب، وغير ميالٍ إلى سفك الدماء، إلا إذا اضطرته
الضرورة إلى ذلك، وكان اهتمامه موجهًا إلى إصلاح شأن البلاد
والنهوض بها وبعمرانها، فعاشت البلاد فى عصره أزهى فترات
تاريخها.
مظاهر الحضارة فى الدولة التيمورية:
كان «تيمورلنك» رجلا واسع المعرفة، يتقن التحدث بلغات ثلاث هى:
«التركية»،و «الفارسية»، و «المغولية»، محبا للأطباء والفلكيين،
وكذا الفقهاء، وقد جمع الفنيين وأصحاب الحرف من كل أطراف
الدنيا فى عاصمته «سمرقند»، وكانت حياة المحاربين وأخبار
الحروب وتواريخها من أحب المعارف التى يسعى إلى معرفتها،
والقراءة فى الكتب التى تناولتها.
شيد «تيمورلنك» حضارة عظيمة فى بلاده، وأقام بها المنشآت
الشامخة، ولعل المدرسة الدينية الكبيرة التى بناها لزوجته الصينية
«بيبى خاتون» خير دليل على عظمة حضارة «الدولة التيمورية» فى
عهده، فهى تحفة فنية مكونة من أربعة إيوانات، وفى وسطها فناء
واسع، تحيط به عقود ذات قباب، على رأس كل منها منارة، وتعد
المقبرة التى بناها لنفسه آية من آيات البناء، ومثالا لسمات المعمار
فى العصر التيمورى.
ولم يشهد العهد التيمورى ازدهارًا فى مناحى الحياة كافة مثلما حدث
فى عصر «شاهرخ»؛ الذى يعد من أكثر حكام «إيران» ثقافة وذكاءً
ومعرفة، فقد جعل من «هراة» مركزًا ثقافيا لأواسط آسيا، وتبوأ
المهندسون والمعماريون والرسامون والشعراء والعلماء مكانة بارزة
فى بلاده، وأغدق عليهم بالعطايا، وتولى رعايتهم بنفسه، فشهدت
البلاد فى عصره نهضة حضارية فى كل الفنون ومختلف التخصصات،
ويعد مسجد «جوهر شاد» (12) من أبرز إنجازات هذا العصر، وظل
العمل فى بنائه اثنى عشر عامًا فى الفترة (808 - 820هـ = 1405 -
1417م)، وقد أقيم تكريمًا لزوجته - التى حمل المسجد اسمها - بمدينة
«مشهد».
وكذلك بنى المعمارى «قوام الدين الشيرازى» مدرسة كبيرة -
بتكليف من شاهرخ- بمنطقة «خركرد» التى تقع إلى الغرب من(4/76)
«هراة»، وتقع حاليا فى شرقى «إيران»، ثم خلف «ألوغ بيك» أباه
على العرش، فكانت فترة حكمه قصيرة، ومع ذلك فقد حرص خلالها
على رعاية الفنون والآداب الفارسية.
يعد «شمس الدين محمد حافظ الشيرازى» ألمع شخصية أدبية عرفها
العصر التيمورى، ويمثل شعره ازدهارًا للحركة الثقافية فى هذا
العصر، وقد توفى فى سنة (792هـ = 1389م)، وكذلك يُعد
«الجامى» المتوفى فى سنة (898هـ= 1492م)، من أبرز العلماء
والشعراء فى هذا العصر؛ إذ ألف ستة وأربعين كتابًا فى مختلف
فروع العلم، ثم يأتى «نظام الدين الشامى»، صاحب كتاب
«ظفرنامة»، الذى يعد سجلا لفتوحات «تيمورلنك».(4/77)
الفصل الثاني عشر
*الدولة الغزنوية
[351 - 582 هـ = 962 - 1186 م].
النشأة والتكوين:
اعتمد السامانيون على الأتراك فى صفوف الجيش، وفى تولى
المناصب الكبيرة فى «الدولة السامانية»، فعلا شأن الأتراك، وازداد
نفوذهم، ويعد «البتكين» الذى ولى منصب صاحب الحجاب للأمير
«عبدالله بن نوح» (343 - 350هـ = 954 - 961م) أبرز الشخصيات
التركية فى بلاط السامانيين، وبلغ من نفوذه أن خشى الأمير
«عبدالله بن نوح» منه على ملكه فأبعده عن العاصمة، وأسند إليه
ولاية «خراسان» فى عام (349هـ = 961م).
ولما تولى «منصور بن نوح» الإمارة خلفًا لأخيه «عبدالله» الذى
توفى سنة (350هـ = 961م)؛ تمرد عليه «البتكين» فى «خراسان»،
وأرسل جيشًا لمحاربته والقضاء على تمرده، وأسند «خراسان» إلى
«أبى الحسين سيمجور»، فتوجه «البتكين» إلى «غزنة» واستولى
عليها من حاكمها السامانى، وأسس بها إمارة مستقلة عن
السامانيين، ثم جعلها مركز حكمه وعاصمة دولته المناهضة للدولة
السامانية.
حاول الأمير «منصور» جاهدًا أن يقضى على تمرد «البتكين» فى
غزنة، ويوقف تأسيس دولته المناهضة، لكن جهوده جميعها باءت
بالفشل.
الوضع الداخلى:
لم يتمكن «البتكين» أول حكام «الدولة الغزنوية» ومؤسسها من
ترسيخ دعائم دولته الجديدة، فقد وافاه أجله فى سنة (352هـ)، بعد
عام واحد تقريبًا من توليه الحكم، ثم خلفه ابنه «إسحاق»، ثم غلامه
«بلكانين» - من بعده - ولكنهما لم يتمكنا من تحقيق ذلك، فلما ولى
«سبكتكين» أمور الدولة سنة (366هـ)، تمكن بهمته العالية وحسن
سياسته أن يبسط نفوذه ويُوطد دعائم دولته، ويحقق لها ما لم يقدر
عليه سابقوه، فعُدَّ المؤسس الفعلى لها.
ويُعد «محمود الغزنوى» -الذى ولى الحكم فى الفترة من سنة
(388هـ) إلى سنة (421هـ) - من أكبر الشخصيات فى التاريخ
الإسلامى وأشهرها، إذ قاد الجيوش والحملات والفتوحات من أجل
نشر الدين الإسلامى بالهند، ونزل من أعالى «إيران الشرقية» إلى(4/78)
«هندوستان»، ثم واصل جهاده حتى بلغ حدود «كشمير»
و «البنجاب»، وغزا «سومنات» ومنها إلى «كجرات»، ثم استولى
على بلاد «الغور» فى عام (401هـ= 1010م)، وأخضع مناطق «ما
وراء النهر»، ومدينتى «بخارى» و «سمرقند» لحكمه، فلقبه
المؤرخون بلقب «مكسر الأصنام»، كما كان أول من تلقب بلقب
السلطان من أمراء المسلمين.
وأضحت مدينة «غزنة» فى عهده منارة للعلم، ومقصدًا للعلماء، ووفد
عليها أشهر أدباء هذا العصر أمثال الشاعر «الفردوسى»، وأصبحت
عامرة بالمساجد والسدود والأبنية الخيرية، التى لا تقل بهاءً وجمالا
عن المنشآت الهندية التى اشتهرت بدقة التصميم وجمال العمارة.
وتُوفى السلطان «محمود» فى عام (421هـ = 1030م)، بمدينة غزنة.
وفى سنة (556هـ = 1161م)، أسقط الغوريون «غزنة» وسيطروا
عليها، ولم يستطع أحفاد السلطان «محمود الغزنوى» الصمود أمام
هجمات الغوريين، ولم يتمكنوا من استعادة عاصمة بلادهم، فسقطت
«الدولة الغزنوية» فى سنة (582هـ = 1186م).
العلاقات الخارجية:
أقام الغزنويون علاقات عديدة مع كل الدول المحيطة والمجاورة،
وبصفة خاصة مع «هندوستان»، وتجدر الإشارة إلى أن حكم
المسلمين لبلاد «الهند» بدأ مع خروج الحملات الغزنوية لفتحها؛ إذ
اتخذت هذه الحملات من «لاهور» مقرا لها، ومركزًا لنشر الدعوة
الإسلامية، فلما ورث الغوريون دولة الغزنويين، تولوا سلطنة
«دهلى»، وواصلوا الطريق، ونشروا الدين، وبسطوا نفوذ المسلمين
على كل بلاد الهند الشمالية. ولعل فتوحات السلطان «محمود
الغزنوى» بالهند قد بلغت مدى لم تبلغه أية قوة إسلامية بعده،
فكان له فضل نشر الدعوة، ودخول أعداد كثيرة فى دين الله، فأعز
الله به الإسلام، وأعلى كلمة التوحيد فى هذه البلاد.
المظاهر الحضارية فى الدولة الغزنوية:
ضمَّت أراضى «الدولة الغزنوية» عناصر وأجناسًا سكانية متعددة،
شملت الأتراك والفرس واليهود والنصارى وغيرهم، واعتمد الغزنويون(4/79)
على الأتراك فى بلاطهم، وأكثروا منهم فى الجيش، فزاد نفوذهم،
كما زاد نفوذ الفرس فى جوانب الثقافة والأدب والعلوم والاقتصاد،
ونهضت الدولة فى هذه المجالات بفضل جهودهم، ولذا فقد اهتم
الغزنويون بإحياء أعيادهم والاحتفال بها، إلى جانب الاحتفال
بأعياد المسلمين كعيدى الفطر والأضحى، على أن هذه الاحتفالات
كانت تتوقف فى المناسبات الحزينة التى تمر بالدولة، مثلما حدث فى
عيد الأضحى سنة (341 هـ = 1039م)، حين ألغى السلطان «مسعود
الغزنوى» الاحتفال به، بسبب الهزيمة التى منيت بها الدولة أمام
السلاجقة، وكانت المجاملة من الأمور التى حرص عليها الشعب
الغزنوى فى المناسبات مثل: استقبال وفود الخليفة إلى السلطان
وتوديعهم، أو تنصيب السلطان، أو تعيين وزير، أو صاحب منصب
كبير، وكان الشعب يتسابق فى تقديم الهدايا فى هذه المناسبات،
كما كان من عاداته ارتداء البياض رمزًا للحزن فى مناسبات الحداد.
ومن المؤكد أن السلاطين الغزنويين قد عاشوا حياة مترفة، أنبأتنا
بها قصورهم الفخمة، ومواكبهم المهيبة، وكذلك مظاهر الزينة والأبهة
التى تناقلتها ووصفتها مصادر المؤرخين ومراجعهم، ويتجلى هذا
الترف فى المواكب السلطانية وحفلات الزواج، ومراسم تولية السلطان
أو تنصيب الوزير.
ولم يغفل الغزنويون الترفه بأنواع التسلية، فكانت المصارعة وحمل
الأحجار الثقيلة، والمبارزة، والصيد، من أنواع الرياضة التى اهتم بها
أمراء البيت الحاكم، وكان السلطان «مسعود» - قبل أن يلى السلطة -
يهتم بهذه الرياضة ويقول: «ينبغى التعود على مثل ذلك؛ حتى لا
يعجز المرء إذا قابلته مهام صعاب، أو ساعات شداد»، ولذا كان
يبارز الأسود وهو جالس على ظهر فيل، ولا يسمح لأحد بمساعدته
فى ذلك، وكان الصيد يتم - أحيانًا - بواسطة الفهود والكلاب، وكانت
التسلية المفضلة عند الشعب الغزنوى هى ركوب السفن فى بعض
الأنهار.
النهضة الثقافية فى الدولة الغزنوية:(4/80)
ولعل أبرز ما يميز «الدولة الغزنوية» عن مثيلاتها من الدول المستقلة
فى شرق العالم الإسلامى هى نهضتها الثقافية، التى ازدهرت على
أيدى أمرائها الذين قدَّروا رجال الأدب، وعملوا على تشجيعهم
والعناية بهم، فقد كان كل أمير يريد أن يحيط نفسه برجال العلوم
والفنون؛ ليتفوق على أقرانه، وبرزت «غزنة» فى أواخر القرن
الرابع الهجرى كمركز إشعاع كبير فى جنوبى غرب «آسيا»، بفضل
تشجيع السلاطين الغزنويين الذين لم يألوا جهدًا فى سبيل رفع شأن
العلوم والفنون فى دولتهم، واستطاع السلطان «محمود الغزنوى» أن
يضم إليه رجال العلم والأدب الذين كانوا يحيطون بأمراء البلاد
المجاورة، وزيَّن «غزنة» بأجمل ما حصل عليه من مغانم «الهند»،
وأعاد تشييد مسجدها الجامع، وأضاف إليه مدرسة كبيرة، ووضع
بها مؤلفات وتصانيف نقلها من خزائن الملوك السابقين فى العلوم
كافة، ليقوم علماء «غزنة» وفقهاؤها بدرسها وتدريسها.
وجدير بالذكر أن السلطان «محمود بن سبكتكين» كان مولعًا بعلم
الحديث، ويستمع إلى علمائه، ويستفسر عما يتلونه عليه من
أحاديث، وكان يستدعى إلى «غزنة» كل من له سعة فى العلم
والأدب والشعر، مثل «بديع الزمان الهمذانى» صاحب فن المقامات،
قال عنه «الثعالبى»: «إنه معجزة همذان، وغرة العصر، كان ينشد
القصيدة إذا سمعها مرة واحدة، ويترجم ما يستمع إليه من الأبيات
الفارسية المشتملة على المعانى الغريبة إلى الشعر العربى، فيجمع
فيها من الإبداع والإسراع». ومنهم أبو ريحان محمد بن أحمد
البيرونى (362 - 440هـ) الذى يعد من أعظم رجال الحضارة الإسلامية
وأبرزهم، وقد نال تقديرًا علميا كبيرًا، وترجمت كتبه إلى اللغات
الأوربية، وسمَّت روسيا جامعة حديثة باسمه وأقيم له تمثال فى
جامعة موسكو، وأصدر اليونسكو وبعض جامعات أمريكا وألمانيا
فهارس بأعماله.
وكذلك ظهر عشرات العلماء والفقهاء والشعراء فى «الدولة(4/81)
الغزنوية»، وبلغ اهتمام الغزنويين بالنهضة الثقافية والعلمية مدى
كبيرًا تفوقت به على مثيلاتها؛ لدرجة أنها كادت تتفوق على
«بغداد» مركز الإشعاع الثقافى فى العالم الإسلامى.(4/82)
الفصل الثالث عشر
*الدولة الغورية
[543 - 612 هـ = 1148 - 1215م].
النشأة والتكوين:
كان الغوريون أسرة صغيرة تحكم «ولاية الغور» التى تقع بين
«هراة» و «غزنة»، وكانت «قلعة فيروزكوه» مقر حكمهم، ودأبوا
على شن الغارات على رعايا «الدولة الغزنوية»، واتخذوا من وعورة
بلادهم وصعوبة مسالكها معصمًا يقيهم من بطش السلطان «محمود
الغزنوى»، حين أراد معاقبتهم بعد أن باتوا خطرًا جسيمًا يهدد دولته.
ولكن السلطان «محمود الغزنوى» تمكن من استمالة «محمد بن
سورى» - أحد رؤسائهم - فى عام (401هـ = 1010م)، ثم عين أولاده
فى حكم «فيروزكوه» و «باميان»، ومن ثَمَّ تصاهر الغوريون مع
الغزنويين، واتحدوا مع ملوك «غزنة»، فلما قتل «بهرامشاه
الغزنوى» «قطب الدين محمود» والد زوجته الغورية، نهض أخوه
«سيف الدين سورى» مطالبًا بثأره، واحتل «غزنة» فى عام (543هـ
= 1148م).
ولمَّا تمكن «بهرامشاه الغزنوى» من قتل «سيف الدين سورى» فى
عام (543هـ = 1148م)، قام «علاء الدين حسين» (جهانسوز) الأخ
الثانى لقطب الدين بالهجوم على «غزنة»، ثم دخلها ونهبها، ولكنه
وقع أسيرًا - بعد فترة قصيرة- فى قبضة السلطان «سنجر
السلجوقى»، وتُوفى فى عام (556هـ = 1161م)، فخلفه «غياث
الدين محمد»، وأقيمت له الخطبة فى «غزنة»، ولكن الغز طمعوا فى
«غزنة» بعد وفاة «علاء الدين» واستولوا عليها، وظلت فى أيديهم
مدة خمس عشرة سنة، ثم ألحق «غياث الدين محمد» أمير الغور
الهزيمة بالغز وطردهم من «غزنة»، إلا أنه لم يكتفِ بذلك، وعمل على
استئصال شأفة «آل سبكتكين»، وتمكن منهم، وضم أملاكهم إلى
دولته، ثم اتجهت فتوحات «الغور» إلى «الهند» لعدم قدرتهم على
الزحف إلى أواسط «آسيا» حيث توجد «الدولة الخوارزمية»، ودولة
الخطا، اللتان وقفتا حصنًا منيعًا أمام راغبى التوسع فى هذه
المناطق، ثم جاءت نهاية «الدولة الغورية» على أيدى الخوارزميين
فى عام (612هـ = 1215م).
العلاقات الخارجية:(4/83)
أقام «الغوريون» دولتهم على أنقاض «الدولة الغزنوية» بعد قضائهم
عليها، ثم دخلوا حروبًا كثيرة مع بلاد «الهند» حين فشلوا فى توسيع
سلطانهم على حساب جيرانهم «الخوارزميين» و «الخطا»، ولكن
الخوارزميين لم يمهلوهم، وقضوا على دولتهم، وما من شك فى أن
الغوريين يرجع إليهم الفضل فى توطيد دعائم الحكم الإسلامى فى
البلاد الشمالية للهند، فإذا كان «آل سبكتكين» هم الذين فتحوا
«الهند»، فإن الغوريين هم الذين ثبتوا الحكم الإسلامى بها.
مظاهر الحضارة فى الدولة الغورية:
كانت مدينة «فيروزكوه» أشهر مدن الغوريين، ومركز حضارتهم،
وقصبة ملكهم، وكان السلطان «غياث الدين محمد» الذى تُوفى فى
عام (599هـ = 1202م) من أعدل وأعظم حكام «الدولة الغورية»،
وكان شافعى المذهب ومع ذلك لم يحمل الناس على اتباع مذهبه،
وقرَّب إليه الشعراء والعلماء، ونبغ منهم الكثيرون فى عهده.(4/84)
الفصل الرابع عشر
*سلطنة دهلى الإسلامية
[602 - 689 هـ = 1206 - 1290 م].
النشأة والتكوين:
شهد العالم الإسلامى فترة من تاريخه، تبوَّأ فيها الأرقاء والعبيد
عرش البلاد، وتقاليد الحكم، ومناصب الدولة المهمة، وكان هؤلاء
العبيد من الأتراك الذين جلبهم السلاطين للخدمة فى صفوف الجيش،
فتدرجوا فى مناصبه حتى بلغوا المناصب القيادية المهمة، فزاد
نفوذهم، وعلا شأنهم، وباتوا قوة ضاربة تتحكم فى سير الأمور
وتطورها؛ حتى إن أحدهم انتزع الملك لنفسه حين توفى أحد
السلاطين، ولم يكن له وارث، وأقام المماليك دولتهم بالهند عقب زوال
دولة الغور، وظلَّت دولتهم قائمة مدة أربعة وثمانين عامًا فى الفترة
من سنة (602هـ= 1206م) إلى سنة (689هـ = 1290م).
الوضع الداخلى:
كان «قطب الدين أيبك» الذى حكم من سنة (602 هـ= 1206م) إلى
سنة (607هـ = 1210م)، أول سلاطين المماليك فى «الهند»، واشتهر
بحبه للعدل، وإقراره السلام والأمن فى نواحى بلاده، وبنى مسجدين
كبيرين، أحدهما بدهلى والآخر بآجمبر. وتوفى هذا السلطان فى
عام (607هـ= 1210م)، ثم خلفه ابنه «آرام شاه»، وعجز عن تسيير
أمور البلاد وإدارتها، فاستدعى رجال الدولة والبلاط «ألتُمش» وطلبوا
منه أن يلى أمور السلطنة، فوافق على مطلبهم وطرد «آرام شاه» من
السلطنة، وتربع على عرشها فى عام (607هـ = 1211م).
يُعدّ «شمس الدين ألتمش» المؤسس الحقيقى لدولة المماليك فى
«الهند»، وهو مملوكى اشتراه «قطب الدين أيبك» من «غزنة»،
وحمله معه إلى «الهند»، ثم جعله رئيسًا لحرسه، ثم أسند إليه حكم
ولايات «الهند»، فتعرض «شمس الدين» لمحاولات كثيرة للإطاحة به،
وما كاد يتخلص منها حتى ظهر له خطر المغول، وألحقوا بدياره
الخراب والدمار، ولكنهم لم يتحملوا حرارة جو بلاده، واتجهوا صوب
الغرب ثانية، فنجت البلاد من شرورهم.
لم ير «ألتُمش» فى أبنائه الذكور مَنْ يصلح للحكم من بعده، فأوصى(4/85)
به لابنته «رضية»، ولكن رجال البلاط عهدوا بالملك عقب وفاته إلى
الأمير «ركن الدين فيروز شاه»، إلا أنه لم يهنأ بالملك بسبب الفتن
والاضطرابات التى عمت أنحاء البلاد، وكان نتيجة ذلك أن قُتل هو
وأمه، فآلت أمور الحكم إلى السلطانة «رضية» فى عام (643هـ =
1236م).
يعد السلطان «بِلْبان» (بِلْبِن) الذى حكم فى الفترة من عام (664هـ =
1265م) إلى عام (686هـ = 1287م)، من أقوى سلاطين «الهند»
وأعظمها فى تاريخها الوسيط، إذ واجه المغول الذين عادوا إلى
تهديد «الهند» ثانية، وأعاد الهدوء والاستقرار إلى بلاده، ثم قضى
على «الهندوس» الذين قطعوا الطريق بين «دهلى» و «البنغال»،
وأقر الأمن والنظام فى ربوع دولته.
عهد «بلبان» - حين شعر بدنو أجله - بالحكم إلى ابنه «بغراخان»، إلا
أن ابنه رفض ذلك، فعهد به إلى حفيده «كيخسرو بن بغراخان»،
فتولى أمور البلاد، ولكنه كان ضعيفًا لا يقوى على تسيير أمور
الحكم بمفرده، فأسندها إلى «نظام الدين» الذى اعتمد على خواصه
والمقربين إليه فى إدارة شئون البلاد، فاستبدوا بها، وحاول
«بغراخان» أن يتخلص من «نظام الدين» ولكن الترك لم يمكنوه من
ذلك، وعزلوا ابنه «كيخسرو» وولوا «كيقباد» أحد أطفاله الصغار،
فتصدى لهم «الخلجيون» بقيادة زعيمهم «فيروز شاه»، وقضوا
عليهم، فزال حكم المماليك بالهند على أيديهم.
العلاقات الخارجية:
اتسمت العلاقة الخارجية لسلطنة «دهلى» الإسلامية فى عهد الملوك
المماليك (القرن السابع الهجرى - الثالث عشر الميلادى) بأنها كانت
علاقة عسكرية فى المقام الأول؛ إذ عمد سلاطينها إلى توطيد ملكهم
بعد زوال دولة الغور على أيديهم. يضاف إلى ذلك الخطر الذى واجهه
هؤلاء السلاطين وبلادهم على أيدى المغول، الذين طمعوا فى ملك
بلا حدود، والهندوس الذين سعوا إلى إسقاط حكمهم والتوسع على
حسابهم، واستطاع «بلبان» - كما مر - أن يتصدى للغزاة والطامعين،
وحفظ لبلاده استقرارها وهدوءها.(4/86)
ثم تمكن الخلجيون من إسقاط هذا الحكم، وإقامة آخر باسم جديد
لدولة جديدة تحمل اسمهم.
مظاهر الحضارة:
نعمت «دهلى» بالاهتمام ببعض مظاهر الحضارة فى عهد الملوك
المماليك، فبنى «قطب الدين أيبك» مدرسة كبيرة إلى جانب مسجده
الشهير الذى بدأ بناءه فى عام (1191م)، ثم أكمله له «ألتُمش» فى
عام (1230م)، ولاتزال منارة هذا المسجد - التى كانت مكونة من
سبعة طوابق - قائمة حتى الآن، ولم يتبقَّ من طوابقها سوى خمسة
فقط.
كما قام «ألتُمش» بتشجيع العلوم والآداب فى السلطنة، وأنفق أموالا
كثيرة فى نسخ أعداد كثيرة من القرآن الكريم لتكون فى متناول
أفراد شعبه، وأسس العديد من المدارس، وزيَّن بلاطه بالعلماء
والشعراء، وأولى الفن المعمارى عناية فائقة، فأتم مسجد «أيبك»
فى «دهلى»، وشيَّد آخر فى «آجميز»، وجعل عاصمته أحد مراكز
العلوم والآداب المهمة.(4/87)
الفصل الخامس عشر
*الخلجيون (الأفغانيون)
[689 - 720 هـ = 1290 - 1320 م].
النشأة والتكوين:
يرجع الفضل فى ظهور «الخلجيين» فى «بلاد الهند» إلى الأمير
«قطب الدين أيبك»، الذى ولى «الهند» نيابة عن سلطان «الغور»،
فحرص على توسيع رقعة ولايته بها، وأسند أمرها إلى قائده
«محمد بن بختيار الخلجى»، الذى قام بدوره على خير وجه،
واستولى على «بندنتيورى» عاصمة «إقليم بهار» من ملوك أسرة
«بالا»، ثم استولى على الإقليم كله، وقضى على «البوذية» التى
كانت منتشرة هناك، وحطم معابدها وأصنامها، ونشر الدين
الإسلامى فى ربوع هذه المملكة، ثم استولى على عاصمة إقليم
«البنغال»، وأقام الخطبة فيها للسلطان الغورى.
حرص خلفاء هذا القائد على توطيد نفوذهم بالأقاليم الهندية التى
استولوا عليها، فلما قامت «دولة المماليك» بالهند، وولى «شمس
الدين ألتُمش» أمور السلطنة بدهلى، قامت فى وجهه المشاكل
والاضطرابات الداخلية التى هدفت إلى الإطاحة بحكمه، ثم أعقبها
وفاة «قطب الدين أيبك»، فانتهز «الخلجيون» هذه الفرصة،
وسيطروا على «بهار» والبنغال.
الوضع الداخلى:
عمد سلاطين «دولة المماليك» بالهند إلى القضاء على حركات
الاستقلال التى تزعمها «الخلجيون» للانفصال عنهم، والاستقلال بما
تحت أيديهم، فتصدى «الخلجيون» لهم، وعوَّلوا على تغيير نظام
الحكم فى «دهلى»؛ حيث استبد الأتراك بالأمر فيها، ثم جمعوا
قواتهم تحت قيادة زعيمهم «فيروز»، وأحدثوا انقلابًا فى «دهلى»،
وأطاحوا بالسلطان الطفل، وأعلنوا «فيروز» سلطانًا عليهم، ولقبوه
بجلال الدين، وذلك فى سنة (689هـ = 1290م)، فكان أول السلاطين
الخلجيين الذين استمر حكمهم ثلاثين عامًا تقريبًا، حتى سنة (720هـ
=1320م).
يعد «علاء الدين الخلجى»، الذى حكم فى الفترة من سنة (695هـ =
1295 م) إلى سنة (715هـ = 1315م)، من أعظم سلاطين عصره، حيث
كان محاربًا شجاعًا، وحاكمًا عادلا، وكان أول من قاد الجيوش فاتحًا(4/88)
شبه القارة الهندية، رافعًا راية الجهاد تحت لواء الإسلام.
العلاقات الخارجية:
اتسمت العلاقات الخارجية للخلجيين بالعداء مع كل القوى والممالك
المحيطة بهم تقريبًا، فقد وقفوا فى وجه المغول وصدوهم حين
هاجموا بلادهم، وأرادوا اجتياحها، كما وقفوا بالمرصاد لمملكة
الكجرات و «الممالك الراجبوتينية»، وممالك «شيتور» و «زانثميهور»؛
حيث كانت تقف من «دهلى»، موقفًا عدائيا، فضلا عن موقف بلدان
سلطنة «دهلى»، مثل «يوجين» وغيرها؛ حيث كانت تنتظر الفرصة
المناسبة للاستقلال عن مركز الحكم فى دهلى.
جاءت نهاية «الخلجيين» على أيدى «الكجراتيين» البوذيين بقيادة
زعيمهم «خسرو شاه» الذى سعى إلى إسقاط هذه الأسرة الخلجية
انتقامًا منها، لأنها كانت السبب فى تدمير معابد البوذيين، وتحطيم
أصنامهم.
مظاهر الحضارة:
تأثر الخلجيون بالبيئة الأفغانية التى انتشر بها التصوف على يد رجل
فارسى يُدعى «سيدى مولى»، الذى فر إلى «الهند» عقب الغزو
المغولى لبلاد فارس، فالتف حوله الناس من مختلف الطبقات، ووفدوا
عليه من كل مكان، فقويت شوكته، وتدخل فى شئون الحكم، ودبر
مؤامرة للإطاحة بجلال الدين الخلجى، ولكن «جلال الدين» أحبط هذه
المؤامرة، ثم خلفه السلطان «مبارك شاه» فى عام (716هـ = 1316م)،
فى الوقت الذى كانت البلاد تمر فيه بظروف صعبة، وتحتاج إلى
حكومة قوية؛ تنقذها من هاوية الأزمات التى تردت فيها، فعمل على
إعادة الهدوء والسكينة إلى البلاد، وأصلح شئونها، وأغدق على
المحتاجين من رعاياه، ومنح الجنود المكافآت، وخفف عن الناس
عبء الضرائب، وشجع التجارة، وألغى القوانين التى تحدد أرباحها،
فانتعشت وراجت، وكان لذلك أثره المباشر فى تنمية موارد البلاد
وازدهار حضارتها، رغم الفترة القصيرة التى قضاها «مبارك شاه»
فى الحكم، حيث قُتل فى عام (720هـ = 1320م).(4/89)
الفصل السادس عشر
*التغلقيون
[720 - 815 هـ = 1320 - 1412م].
النشأة والتكوين:
استمال «تغلق شاه» جنود شمالى غرب «الهند» إلى صفه، ثم قادهم
إلى «دهلى»، وتمرد على السلطان «خسرو شاه ناصر الدين» آخر
حكام «الدولة الخلجية»، وفقد عدد كبير من جيش «خسرو شاه»، ثم
التقى الفريقان فى «ديوبالبور»، وخسر الخلجيون المعركة، وفروا
منها، تاركين خلفهم الأسلحة والخيول والفيلة والأموال والمعدات،
فدخل «تغلق» العاصمة «دهلى» دون معارضة، ولبَّى الناس نداءه
للدخول فى طاعته، بسبب كرههم لخسرو شاه الذى آذاهم وأهان
معتقداتهم، ثم دارت معركة فاصلة بين الطرفين فى عام (720هـ =
1320م)، وانتهت بهزيمة الخلجيين، ومقتل «خسرو شاه»، وسقوط
«دولة الخلجيين» ببلاد الهند.
الوضع الداخلى:
قامت «دولة التغلقيين» على أنقاض «دولة الخلجيين» ببلاد «الهند»،
وتولى «تغلق شاه الأول» الحكم فى عام (720هـ = 1320م)، واستمر
فيه حتى سنة (725هـ = 1324م)، وعرف باسم السلطان «غياث الدين
تغلق»، ويرجع أصله إلى الجغتائيين الأتراك، وقد قدم فى مطلع
شبابه إلى «بلاد السند»؛ لخدمة بعض التجار فى عهد السلطان «علاء
الدين»، ثم دخل فى خدمة «أولوخان» أمير «السند» آنذاك، وتدرج
فى الفروسية حتى احتل وظيفة أمير الخيل، فلما ولى «قطب الدين»
عهد بهذه الإمارة إلى ابنه «محمد تغلق»، فشغل هذا المنصب إلى
عهد «خسرو شاه»، أعلن الثورة، ودخل «دهلى»، ودارت بينه وبين
«خسرو شاه» عدة معارك، تمكن - فى نهايتها - من قتله، والانتصار
على جيشه، ثم دخل القصر الملكى وجلس على سرير الملك.
لم تستقر أمور هذه السلطنة فى عهد «بنى تغلق»؛ حيث ظهرت بها
المؤامرات، واشتعلت الفتن لانتزاع كرسى الحكم، وثار «محمد بن
تغلق» على أبيه فى سنة (725هـ = 1325م)، حين أعلن هذا الأب
استياءه من تصرفات ابنه، ومن استكثاره شراء المماليك، ومبالغته
فى بذل العطايا، ومنح الهبات، فدبر الابن حيلة تمكن بواسطتها من
قتل أبيه.(4/90)
كان «محمد بن تغلق» غريب الأطوار؛ حيث كان محبا للإنفاق والإغداق
وبذل الهبات والعطايا، وفى الوقت نفسه يعمل على إراقة الدماء،
ويسعد برؤيتها، فساءت الأحوال فى عهده، ونقل عاصمته إلى
مدينة «ديوكر» التى أطلق عليها اسم: «دولت آباد» لكى يأمن خطر
المغول، وأجبر سكان «دهلى» على الانتقال إلى العاصمة الجديدة،
فاشتدت الأمور سوءًا، وقامت الثورات فى وجهه، ونشطت الحركات
الاستقلالية فى عهده، فعدل عن الاستقرار فى هذه العاصمة
الجديدة، ولكن الخراب والدمار قد لحقا بدهلى نتيجة هجرها، ولم
يتمكن الناس من العودة إليها، فبنى لهم مدينة جديدة بالقرب منها.
لم يكن للسلطان «محمد بن تغلق» وريث للحكم حين وفاته، فورثه ابن
عمه «فيروز تغلق» فى عام (752هـ = 1351م)، وحكم فى الناس
بالعدل، وسار بينهم سيرة حسنة، ثم خلفه حفيده «غياث الدين تغلق
شاه الثانى» فى عام (790هـ = 1388م)، ونشطت فى عهده
الحركات الاستقلالية، وظلت البلاد فى هذا الوضع المضطرب حتى
وفاة آخر سلاطين «آل تغلق» فى عام (815هـ = 1412م)، فاجتمع
أعيان «دهلى»، ونصبوا «دولت خان» حاكمة على البلاد، ثم تعرضت
«دهلى» للغزو التيمورى الذى قضى على مظاهر الحضارة فيها،
وأهلك الحرث والنسل، ولكن هذه الحضارة عادت مظاهرها ثانية إلى
هذه السلطنة فى عهد «ظهير الدين محمد بابر» فاتح «الهندوستان»،
الذى ينتهى نسبه إلى «تيمورلنك» من ناحية أبيه، وإلى
«جنكيزخان» من ناحية أمه.
العلاقات الخارجية:
لاشك أن السياسة التعسفية التى انتهجها «خسرو شاه» فى عدائه
السافر للمسلمين، وتحيزه لبنى جنسه، هى التى دفعت المسلمين
إلى الفرار من صفوفه والانضمام إلى صفوف «تغلق شاه» مؤسس
«الدولة التغلقية». وتعرضت أسرة «آل تغلق» للاضطرابات
والمشاكل، وقامت بدولتهم عدة حركات انفصالية، واقتحم زعيم
القبائل الجغتائية المغولى حدود بلادهم فى سنة (727هـ = 1327م)،(4/91)
واستولى على «لمغان» و «الملتان»، وسلك طريقًا إلى «دهلى»
العاصمة، فأسرع التغلقيون إلى كسب ود المغول ومهادنتهم،
فانسحبوا من بلادهم بعد أن ألحقوا بها الضرر.
حاول «محمد تغلق» غزو بلاد «الصين» من أجل الوصول إلى «ولايات
الهملايا» العليا؛ لكى ينشر الدين الإسلامى فى ربوع هذه المناطق،
أو - كما يدعى بعض المؤرخين - للاستيلاء على الكنوز التى كانت
تزخر بها «الصين» فى هذا الوقت. ولاشك أن «آل تغلق» قد عانوا
كثيرًا فى سبيل الحفاظ على ملكهم؛ حيث كانت الأخطار محدقة بهم
فى الداخل والخارج.
مظاهر الحضارة:
شجع «تغلق شاه» رعيته على تعمير الأرض والاهتمام بالزراعة،
فشق الترع والقنوات، وأصلح طرق الرى، وخفض الضريبة على
الأراضى الزراعية. وكان «محمد بن تغلق» من المشتغلين بالعلوم
والفنون والآداب، وله منثورات ومنظومات رفيعة المستوى باللغتين
العربية والفارسية، وكذلك كان يجيد الفلسفة والحكمة والمنطق، كما
برع فى الطب، وعالج الناس بنفسه، وأشرف على ملاجئ العجزة
التى أقامها لهم، وأنشأ مدينة «دولت آباد» لكى تكون عاصمة
لبلاده، إلا أنه عدل عن هذه الفكرة، ووفد عليه الكثيرون من
المشتغلين بالعلوم والفنون والآداب، وعمل على رعايتهم، ونهج
حكام أسرة «آل تغلق» سياسة فى استقطاب الأدباء والعلماء.
وجملة القول أن سلاطين دهلى عنوا بتشجيع الثقافة الإسلامية،
وأنفق السلطان المملوكى «ألتُمش» أموالا طائلة فى نسخ أعداد
كثيرة من القرآن الكريم؛ للاستفادة منها، وأسس العديد من المدارس،
وزيَّن بلاطه بالشعراء والأدباء، وحرص السلطان «بلبن» على عقد
المناظرات بين الشعراء والأدباء والعلماء فى بلاطه، وضم بلاط
السلطان «علاء الدين» الكثير من العلماء والأدباء، وشهد عهده
الكثير من الفلاسفة والحكماء والشعراء والمؤرخين والمترجمين
والأطباء والفلكيين، ولم يجتمع على باب أحد سلاطين «دهلى» من(4/92)
رجال العلم والفقه والأدب ما اجتمع على باب «علاء الدين»، فازدهرت
الحياة الثقافية فى عهده، وتميزت بإنتاج أدبى غزير ومتنوع. وكان
«أميرخسرو» - بلا جدال - أعظم شعراء عصره، وتعددت مواهبه،
وبلغت شهرته الآفاق، فحظى بتقدير الناس ممن عاصروه.
نبغ عدد من المؤرخين فى العهد «الخلجى»، منهم «أمير أرسلان
كولاهى»، و «كبير الدين بن تاج الدين العراقى»، كما كان «أمير
خسرو»، و «ضياء الدين بارانى» من مؤرخى ذلك العصر، وقد عاصرا
«السلطان علاء الدين»، ولهما مصنفات أدبية وتاريخية يشار إليها
بالبنان، وقد وضع «بارانى» عدة مؤلفات مهمة منها: «تاريخ فيروز
شاهى»، وكتاب «السنة المحمدية»، وكتاب «نعم الله وآياته»،
وكتاب «مآثر السادة»، و «تاريخ البرامكة»، وله كتاب عن «الأحكام
السلطانية»؛ يشمل القيم والمبادئ والقوانين والسياسات والنظم التى
يجب على الحكومة الإسلامية اتباعها، ويرجعها كلها إلى الشريعة
الإسلامية.
ويُلاحظ أن الأدب الدينى قد ازدهر فى هذا العصر، وكتب علماء الدين
عن أساتذتهم، وترجموا لهم، وأبرزوا فضلهم، وتحدثوا عن تراثهم،
فعكست هذه الترجمات مظاهر الحياة الاجتماعية، والاتجاهات
الثقافية فى هذا العصر، فضلا عن أنها مصدر غنى للمعلومات عن
هذه الفترة التاريخية.
وفى القرن الرابع عشر الميلادى اشتملت مؤلفات الكُتَّاب الهنود على
أعمال نثرية وشعرية باللغة السنسكريتية؛ تضمنت الفولكلور وقصص
الأبطال، والروايات الأسطورية للممالك والولايات الهندية، ومما لاشك
فيه أن قيام الدولة الإسلامية فى «الهند» و «البنغال» قد أثر تأثيرًا
ملحوظًا فى تطور الأدب السنسكريتى والبنغالى، حيث فضل الحكام
والسلاطين اللغتين العربية والفارسية، ثم فقدت اللغة السنسكريتية
أهميتها، واستعاضت عنها «بلاد الهند» باللغات المحلية التى عبرت
بها شعوبها عن آدابها وثقافاتها.
ظلت الحياة الثقافية فى «الهند» مزدهرة فى عهد «بنى تغلق»،(4/93)
ووفد على السلطان «محمد بن تغلق» الكثير من العلماء والأدباء
والفلاسفة، فقد كان هذا السلطان أديبًا وشاعرًا، كما كان فيلسوفًا
وطبيبًا بارعًا. ولم يكن «فيروز شاه» أقل منه اهتمامًا بالعلم وأهله،
إذ أسس ثلاثين مدرسة لعلوم الدين واللغة والتاريخ والحكمة
والرياضيات والفلك والطب، وجلب العلماء المسلمين إلى السلطنة
للتدريس بهذه المدارس، وعنى بدراسات «الهند» وعلومها القديمة
للاستفادة منها.
وقد لاحظ «ابن بطوطة» فى رحلاته ببلاد «الهند» كثرة المدارس،
وذكر أنه كانت هناك مدارس للصبية وأخرى للفتيات، وأوضح أن
النساء بالهند كن يقبلن على التعليم باهتمام بالغ وخصوصًا العلوم
الدينية، وقد وفد «ابن بطوطة» على بلاد «الهند» فى عام (734هـ =
1333م)، واتصل بالسلطان «محمد بن تغلق»، وتولى منصب القضاء
فى دولته، وأقام بها مدة ثمانى سنوات، ووصف بلاد «الهند»
ونظمها وسياسة حكامها، وطرق إدارتها، وأحوال المعيشة، ومعايش
الناس فيها.
وأنشأ «فيروز شاه» المدرسة «الفيروزشاهية»، وعنى بعمارتها،
وأحاطها بالحدائق الغناء، وجعلها مقصد العلماء وطلاب العلم من كل
مكان، فكان من أساتذتها «جلال الدين الرومى» الذى قام بتدريس
علوم التفسير والحديث والفقه بها، ومارس الوعظ والتدريس، وبرع
فى نظم الشعر، فأقبل عليه التلاميذ من كل مكان، وكانت آخر
وصاياه لتلاميذه وصيته التى قال فيها: «أوصيكم بتقوى الله فى
السر والعلانية، وقلة النوم والطعام والكلام، وهجران المعاصى
والآثام، ومواظبة الصيام، ودوام القيام، وترك الشهوات على الدوام،
واحتمال الجفاء من جميع الأنام، وترك مجالسة السفهاء والعوام،
ومصاحبة الصالحين والكرام. فإن خير الناس مَن ينفع الناس، وخير
الكلام ما قل ودل».
شهدت «الهند» نهضة علمية كبيرة، فانتشرت بها المدارس، وتزايدت
أعداد طلاب العلم والمشتغلين به، وأصبح للكتاب أهمية كبرى فى
تلبية حاجات الأساتذة والطلاب، وضمت المدارس والجامعات مكتبات(4/94)
ضخمة، تضم أعدادًا كبيرة من الكتب، فلما فتح العرب ثم الغزنويون
بلاد «الهند»، وانتشر الإسلام بها؛ ازدادت الرغبة فى دراسة علوم
المسلمين والعرب وحضارتهم، وأقبل الهنود المسلمون على قراءة
الكتب الإسلامية، وأهملوا الكتب الهندوسية والبوذية، فحل الكتاب
الإسلامى محل الكتاب الهندى فى سلطنة دهلى.
كان الهنود يتناقلون آدابهم شفاهًا، وأدى ذلك إلى ضياع معظمها،
كما أدت الحروب الكثيرة التى شهدتها بلاد «الهند» إلى ضياع الكثير
من كتبها، فلما دخل المسلمون «الهند» طوروا الفكر والثقافة بها،
وجلبوا إليها الورق من «الصين» عن طريق «آسيا الوسطى»، فلم تعد
هناك صعوبة أمام المؤلفين والكُتاب فى تصنيف كتبهم، وساهم ذلك
مساهمة فعالة فى نمو العلوم والثقافة بالهند.
امتزج التراث الفارسى بالثقافة العربية بعد أن فتح العرب بلاد
فارس، واتخذت الثقافة الفارسية ثوبًا إسلاميا، فتأثرت بذلك بلاد
«الهند»، وامتزجت الثقافة الفارسية بالثقافة الهندية، فنتج عن ذلك
«اللغة الأوردية» التى ترمز إلى التوفيق بين أنواع الحضارات
الإسلامية والفارسية والهندية، ولعل أبرز ما يميز الثقافة الهندية أنها
درست وفهمت طبع الإنسان وعلاقاته مع غيره من موجودات الكون،
ومع الكون نفسه حق الفهم، وقامت هذه الثقافة على حب العطاء،
وقد قال حكماء «الهند» موعظة جاء فيها: «قم بواجبك ولا تنتظر
ثوابًا أو صلة، لأن القيام بالواجب هو خير ما تتقرب به إلى الله؛ لأن
الرجال الأخيار العظماء لا تهمهم حقوقهم، بل واجباتهم».
لقد تطلَّع العرب منذ اتصالهم بالهند عن طريق الفتح والتجارة إلى
الاستفادة من علوم «الهند» وآدابها، ولكن ذلك لم يتم إلا فى العصر
العباسى، حين تطلع كبار رجال الدولة العباسية إلى تقوية الصلة
بحضارات الأعاجم، وبدءوا بترجمة أهم الكتب الهندية إلى الفارسية
ومنها إلى العربية، ثم أخذ العرب علم الحساب وعلوم الرياضيات عامة(4/95)
من الهنود، وأخذوا عنهم الترقيم المعروف لدينا اليوم [1 - 2 - 3 ... ].
وازدهرت علوم الطب والرياضيات فى بلاد «الهند»، فلما قويت الصلة
بين العباسيين والهنود، جلب العباسيون الأطباء الهنود لعلاجهم،
فكان الطبيب الهندى يعالج الخلفاء وكبار رجال الدولة، وكان الناس
يقبلون على هؤلاء الأطباء من كل مكان طلبًا للتداوى.
استفاد المسلمون من آداب «الهند»، وترجموا كتاب «ألف ليلة وليلة»
وغيره من الكتب إلى الفارسية ومنها إلى العربية، فانتقلت بعض
العلوم الهندية إلى الدولة الإسلامية، وأثرت فى الفكر الإسلامى
والثقافة الإسلامية، ومنح الخليفة «هارون الرشيد» الشاعر «أبان
عبد الحميد اللاحقى» جائزة قدرها مائة ألف درهم على نظمه قصة
«كليلة ودمنة». وقد نشأ «يحيى بن خالد البرمكى» وزير «الرشيد»
فى «كشمير»، وتعلم بها، ودرس علوم النجوم والطب والحكمة، وهو
الذى جلب من «الهند» إلى «بغداد» كبار العلماء والأطباء أمثال:
«بهلة»، و «سنكه»، و «باذيكر»، و «قلبرقل»، و «سندباد». واستعان
«يحيى بن خالد البرمكى» و «جعفر بن يحيى البرمكى»، و «إسحاق
بن سليمان» بالهنود فى مجال الطب، وفى حركة الترجمة، فتُرجم
كتاب «سيرك» فى الطب إلى الفارسية، ثم نقله «عبدالله بن على»
إلى العربية، وترجم «منكه» كتاب «سرد»، كما ترجم كتاب «أسماء
عقاقير الهند»، ونقل «ابن دهن» كتاب «مختصر الهند فى العقاقير»
إلى العربية، كما نقل كتاب «استنكر الجامع».
الديانات والمعتقدات فى سلطنة دهلى:
تعددت ديانات «الهند»، فضمت «الهندوسية» و «البرهمية»
و «البوذية» إلى جانب الإسلام. أما «الهندوسية» فقد وفدت على
«الهند» عن طريق الآريين فى سنة (1500 ق. م)، ثم دخلتها وطوَّرتها
عقائد إيرانية، فباتت ديانة توحيد وتعدد فى الوقت نفسه، وتظهر
فىها عبادة البقر والأجداد وقوى الطبيعة، وتقوم معتقداتها
الأساسية على تناسخ الأرواح والنظام الطبقى، ووحدة الوجود،(4/96)
وتقديم القرابين .. الخ، وهى ديانة السواد الأعظم من الهنود الذين بقوا
على وثنيتهم.
وأما البراهمة فهم المنكرون للنبوَّات أصلا، وأكثرهم على مذهب
الصابئة، ومنهم قائل بالروحانيات، وقائل بالهياكل، وقائل
بالأصنام، إلا أنهم جميعًا مختلفون فى شكل الهياكل التى ابتدعوها،
وكيفية أشكالها، وقد ظهرت البرهمية فى القرن الثانى قبل الميلاد
على أيدى «البراهمة» الذين استمدوا شرائعها من «الهندوسية».
وظهرت البوذية على يد «غوتامابوذا» الذى وُلد فى أواسط القرن
السادس قبل الميلاد، وتوفى فى سنة (487 ق. م) عن عمر يناهز
الثمانين عامًا، وقد نشأ فى بيت عز وثراء، فلما بلغ مبلغ الشباب
تأمل فى عجائب الكون ومتغيرات الطبيعة، ونظر إلى أحوال الناس
وطبائعهم، وأيقن أن الموت نهاية حتمية لكل الكائنات، فأعرض عن
مباهج الدنيا، وتحول إلى الزهد والتصوف، واعتزل الناس سبعة
أعوام كاملة فى غابة يعيش فيها مع تأملاته، ثم عاد إلى وديان
«نهر الكنج» وظل يتنقل بين الناس خمسًا وأربعين سنة، ينشر بينهم
رسالته، وآمن بدعوته الملايين فى «الهند» وخارجها، وخلاصة هذه
الدعوة التى عمل على نشرها، أن الشر والألم لا ينفصلان عن عالم
الوجود، والنجاة أن يحرر الإنسان نفسه بمراقبتها من الوقوع فى
الجهل الذى يولد الشهوات، وعليه الاعتصام من الذنوب، وبذل
الصدقة، وفعل أعمال الخير، إلى جانب التفكير والتأمل. ثم جاء
الإسلام فحرر «الهند» من هذه العقائد التى تكلف الإنسان ما لا يطيق
من الزهد والتقشف، وتمنع الناس من العمل والإنتاج، فالإسلام يدعو
إلى الوسطية، فهو دين عمل وعبادة، ولا تمنع العبادة المسلم من
العمل، فالمسلم يعمل وفى الوقت نفسه يؤدى ما عليه من فرائض
وتعاليم إسلامية.(4/97)
الفصل السابع عشر
*إمبراطورية المغول فى الهند
[932 - 1275 هـ = 1526 - 1858 م].
النشأة والتكوين:
ترجع نشأة المغول إلى «عمر شيخ» الذى تولى إمارة «فرغانة»، ثم
دخل فى حروب طويلة مع جيرانه وأصهاره المغول، وإخوته الأتراك،
لتوسيع أملاكه، ثم تُوفى فى عام (899هـ = 1493م)، نتيجة سقوطه
من فوق حصن له، وخلفه ابنه «ظهير الدين محمد بابر»، وكان عمره
اثنتى عشرة سنة آنذاك، وحكم سلاطين الإمبراطورية المغولية
«الهند» نحو ثلاثة قرون.
الوضع الداخلى:
ولد «ظهير الدين بابر» فى عام (888هـ = 1482م) بإمارة «فرغانة»
التى كان يحكمها والده، ثم أخرجه منها «الأزبك» و «الشيبانيون»،
فاتجه إلى «أفغانستان»، واستولى على «كابل» فى عام (910هـ
= 1504م)، ثم استولى على «قندهار» فى عام (913هـ = 1507م)،
ومن ثم عقد العزم على غزو «هندوستان»، والاستيلاء عليها، وأعد
العدة لذلك، ثم خرج بقواته وجيوشه، وبصحبته قادته الأتراك الذين
أطلق عليهم اسم «المغول»، وقصد «هندوستان»، فغزا «البنجاب»
واستولى على «لاهور» فى (السابع من شهر رجب سنة 932هـ = 20
من إبريل سنة 1526م)، وانتصر على «إبراهيم اللودى» وقضى على
اللوديين فى معركة «بانى بت»، وتمكن من السيطرة على «دهلى»
و «آكره»، ثم واصل زحفه إلى «هندوستان»، وسيطر على شمالها
من «نهر السند» إلى سواحل «بنكاله»، ولكن وافاه أجله فى عام
(937هـ = 1530م)، قبل أن يدخل «بنكاله»، و «كجرات»، و «مالوه».
كان «ظهير الدين» قد بعث بابنه «همايون» على رأس الجيش
للاستيلاء على «آكره»، فاستولى عليها، وعلى كنوزها الثمينة
التى كانت تضم جوهرة «كوه نور» أثمن جوهرة فى العالم، فأثار
ذلك ملوك الهندوس، فتحالفوا ضده، إلا أنه تمكن من الانتصار عليهم،
فى معركة «رانا سنك»، وأسس «بابر» دولته، واهتم بالإصلاحات
الداخلية فيها.
خلف «ناصر الدين هُمايون» أباه «ظهير الدين بابر» فى التاسع من
جمادى الأولى عام (937هـ = 1530م)، وكان عمره آنذاك تسعة(4/98)
عشرة عامًا، فواجه صعوبات شديدة، وتوفى فى عام (963هـ =
1556م)، وخلفه ابنه «أكبر شاه» الذى انتقل بالبابريين من مجرد
غزاة إلى أصحاب دولة قوية راسخة البنيان؛ إذ استولى على أهم
مناطق «الهند»، وانتصر فى معركة «بانى بت» فى عام (964هـ=
1556م) - وهى المنطقة نفسها التى انتصر فيها «بابر» من قبل -
ونجح «أكبر شاه» فى تنظيم حكومة أجمع المؤرخون على دقتها
وقوتها، وذلك فضلا عن النهضة الثقافية التى حدثت فى عصره،
والتى بلغت مكانة سامية لم تصل إليها بلاد «أوربا»، ثم تُوفى
«أكبر شاه» فى سنة (1014هـ = 1605م)، وخلفه ابنه «سليم» الذى
تلقَّب باسم «نور الدين بادشاه» «جهانكيز»، وكان عمره -آنذاك- ستا
وثلاثين سنة، فنهج سياسة أبيه فى التسامح، وأشاع العدل بين
رعاياه، ثم خلفه ابنه «شاه جهان» فى عام (1037هـ = 1628م).
وإذا كانت «نورجهان» زوجة «جهانكيز» قد اشتهرت بمكائدها، فقد
اشتهرت «ممتاز محل» زوجة «شاهجهان» بالطيبة والصفات الحميدة،
والبر بالفقراء، ودفعت زوجها إلى العفو عن المذنبين، واستخدام
«التأريخ الهجرى» بدلا من «التأريخ الألفى» الذى وضع فى عهد
«جلال الدين أكبر».
أحب «شاه جهان» زوجته حبا شديدًا، وبلغ وفاؤه لها مبلغًا عظيمًا،
وبنى لها مقبرة «تاج محل»، التى تعد من روائع الفن المعمارى،
وإحدى عجائب الدنيا، ومازالت قائمة حتى الآن.
وفى عهد «شاه جهان» حدثت مجاعة شديدة بالهند، فاستغلها
البرتغاليون فى خطف الأهالى وأسرهم، ثم بيعهم فى سوق الرقيق،
وقد استطاع «قاسم خان» تخليص عشرة آلاف فرد منهم من
أيديهم، وعهد «شاه جهان» بالحكم إلى ابنه «أورنك زيب»، بعد أن
عهد إلىه بالقضاء على ثورات «الدكن».
تولى «أورنك زيب» العرش فى سنة (1069هـ)، فألغى الاحتفال
بأعياد «النيروز»، وتمسك بتعاليم السنة، وأمر بتعمير المساجد،
وعين لها العلماء والوعاظ، وعمل على نهضة هذه البلاد، ثم أدت(4/99)
الاضطرابات التى قامت وعمت مناطق واسعة من الإمبراطورية المغولية
إلى سقوط هذه الإمبراطورية فى قبضة الإنجليز فى عام (1275هـ =
1858م).
العلاقات الخارجية:
أقام المغول علاقات وطيدة مع بعض بلدان العالم الخارجى، لدرجة
أن الشاه الصفوى أمد «ظهير الدين بابر» بجنود من الفرس؛ لكى
يستعيد المناطق التى سلبت من دولته ببلاد «ما وراء النهر»، وأرغم
هؤلاء الجنود الناس على اعتناق المذهب الشيعى بالقوة، وقاموا
بإقامة مذابح لسكان هذه المناطق، فاتحد هؤلاء السكان وطردوا
جنود الفرس، بل اتحدوا مع «الأزبك» وطردوا «بابر» نفسه؛ حيث
فشل فى منع الفرس من قتل الناس وتعذيبهم، فتوجه «بابر» ناحية
«الهندستان» واستولى عليها بعد أن انتصر على «الراجبوتيين» فى
«خانوه».
كما أقام المغول علاقات مع البرتغاليين، الذين أمدوهم بالمدافع
للوقوف أمام حاكم «الكجرات» فى عهد «همايون»، واستعان
«همايون» بالشاه «طهما سب بن إسماعيل الصفوى» فى استعادة
حكمه على «هندستان»، بعد قضائه على أسرة «شيرشاه»، خاصة
أن شاه «إيران» هو الذى آواه فى محنته.
وقد وفد على «الهند» فى عهد «جهانكيز» مبعوثان إنجليزيان هما:
«وليم هوكنز» و «توماس راو»، ليعملا سفيرين لبلادهما من قبل الملك
«جيمس الأول»، وكان الهدف من هذه السفارة منافسة البرتغاليين
فى هذه البقاع؛ حيث كانت لهم عدة مراكز على شواطئ «الهند»،
وقد استعان «جهانكيز» بالإنجليز على طرد البرتغاليين من بلاطه،
ومحاربتهم ببحار «الهند»، ومنح الإنجليز امتيازات تجارية كثيرة.
يرجع زوال إمبراطورية المغول بالهند - فى المقام الأول - إلى
انصراف رجال الدولة إلى شئونهم ومصالحهم الخاصة، وتركهم مصالح
البلاد والعباد، وإيثار أنفسهم بالكنوز التى استولوا عليها فى
فتوحاتهم. ومن الحقائق المهمة أن عظماء الإمبراطورية المغولية
حكموا قرنين من الزمان، وكان هدفهم الأول هو العمل من أجل(4/100)
مصلحة الدولة واستقرار أوضاعها وأمنها، ثم تبدلت الأوضاع خلال
القرن الثالث والأخير لهذه الإمبراطورية، حيث غزا «نادر شاه» بلاد
«الهند»، وخرب عمرانها، وقضى على مظاهر الحضارة فيها، ثم
تركها لأعداء الإمبراطورية المغولية من «السيخ»،و «الهندوس»
و «الإنجليز».
كان «بهادر شاه الثانى» آخر حكام المغول فى «الهند»، وعزل فى
(13من شعبان سنة 1274هـ = 1858م)، ثم استولت «إنجلترا» على
الإمبراطورية المغولية، واستعمرت بلاد «الهند»، فعانت هذه البلاد من
تعسف «الإنجليز» وظلمهم وطغيانهم، واستنزفت الشركة البريطانية
ثروات هذه البلاد واستعبدت أهلها، وأسفر ذلك فى النهاية عن ثورة
وطنية ضد هذا الظلم وذلك الإجحاف.
مظاهر الحضارة فى الإمبراطورية المغولية بالهند:
اتسم حكام الإمبراطورية المغولية بالهند بالتسامح والعدل بين
الرعية، وأدى ذلك إلى اقتراب الناس منهم، ومصاهرتهم، وإلى
انتشار الإسلام فى ربوع دولتهم، وقد تجلى هذا التسامح فى أبهى
صوره فى عهد السلطان «جلال الدين أكبر»، الذى نادى بأن تكون
«الهند» لأهلها من المسلمين والهندوس.
ظلت السلطة الفعلية فى أيدى السلاطين، إذ كانوا يسيطرون على
نظم الحكم كلها، فقويت البلاد فى عهد الحكام الأقوياء، وسقطت
بالسلاطين الضعفاء، ولم تكن للوزير أو الوالى سلطات قوية.
انقسمت إدارة الأراضى الزراعية للدولة إلى نوعين، أولهما: إقطاع
القادة والأمراء مساحات من الأرض، ليقوموا على زراعتها ورعايتها،
ثم ينفقوا من غلتها على جنودهم وخدمهم وتابعيهم، والنوع الثانى:
شبيه بما يحدث اليوم؛ إذ كان الرجل يأخذ قطعة أرض مقابل الالتزام
بدفع بدل يؤديه إلى خزانة الدولة.
ولعل العمارة كانت من أبرز مظاهر الحضارة فى الإمبراطورية
المغولية فى «الهند»، إذ اهتم بها البابريون اهتمامًا بالغًا، وعمدوا
إلى تعمير المدن، وأصبح لهم طرازهم المعمارى المميز، الذى كان
مزيجًا من فنون المسلمين والهندوس، وكانت أهم سماته القباب(4/101)
البصلية الشكل؛ المرصعة بالأحجار الكريمة، و «الميناء» و «الخزف»؛
فضلا عن الأقواس الحادة، والأبواب الفخمة التى فى أعلاها نصف
قبة، يُضاف إلى ذلك «تاج محل» إحدى عجائب الدنيا، ذلك البناء
الذى شيده «شاهجهان» ليكون مثوى لزوجته «ممتاز محل» تخليدًا
ووفاءً لذكراها.
عنى أباطرة «الدولة المغولية» عناية فائقة بالحركة الفكرية بالهند،
حيث ساهموا فى إخراج كتب قيمة للناس مثل كتاب: «بابرنامه» الذى
وضعه «بابر» عن نفسه وحكمه، وأظهر هذا الكتاب إلمام «بابر»
الواسع بالتاريخ وتقويم البلدان، والعلوم العقلية والنقلية، كما أظهر
إلمامه بالآداب العربية والتركية والفارسية. وكذلك كتبت «كلبدن
بيكيم» ابنة «بابر» كتاب «همايون نامه» الذى يعد مرجعًا وثيقًا فى
تاريخ «همايون» ثانى سلاطين الإمبراطورية المغولية.
أعفى «أكبر» الهنادكة من ضريبة الرءوس، واهتم بالعلوم والآداب
والفنون، وأصدر القوانين والتشريعات الاجتماعية التى تكفل للناس
حقوقهم، وتحافظ عليهم وعلى ممتلكاتهم، ونبغ فى عصره العديد
من المؤرخين والعلماء والأدباء من المسلمين والهنادكة.(4/102)
- المراجع:
* أدم منز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري - القاهرة - 1940م
* بن الأثير (عز الدين): الكامل في التاريخ - تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي - دار الكتب العلمية - بيروت -1407 هـ - 1987م
* أحمد أمين: ضحي الإسلام - دار الكتاب العربي -بيروت - الطبعة العاشرة - بدون تاريخ
* أحمد أمين: ظهر الإسلام - مكتبة النهضة المصرية - القاهرة - 1961م
* أحمد الساداتي: تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندية وحضارتهم - مكتبة الآداب ومطبعتها - القاهرة - 1957م
* بن بطوطة: رحلة ابن بطوطة - بيروت - دار الكتب العلمية 1413هـ - 1992م
* البيروني (أبو الريحان محمد بن أحمد): الآثار الباقية عن القرون الخالية - لينبرج - 1932م
* بن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - دار الكتب المصرية - القاهرة
* حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي - مكتبة النهضة المصرية - القاهرة - 1973م
* بن خلدون (عبد الرحمن بن محمد): تاريخ ابن خلدون - مؤسسة جمال للطباعة - بيروت - 1979م
* بن خلكان (احمد بن محمد): وفيات الأعيان - تحقيق إحسان عباس - دار صادر - بيروت - 1398هـ = 1987م
* زامبادور: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي - ترجمة زكي حسن وحسن أحمد محمود - مطبعة جامعة فؤاد - القاهرة 1951 و 1952م
* السيوطي (عبد الرحمن بن أبي بكر): تاريخ الخلفاء أمراء المؤمنين القائمين بأمر الله - القاهرة - 1351هـ
* عبد المنعم النمر: تاريخ الإسلام في الهند - دار العهد الجديد للطباعة - القاهرة - 1959م
* العتبي (أبو نصر محمد): تاريخ اليميني - القاهرة - 1486هـ
* بن العماد الحنبلي (أبو الفلاح بن عبد الحي): شذرات الذهب في أخبار من ذهب - القاهرة - 1350هـ
* فؤاد الصياد: الشرق الإسلامي في عهد الإلخانيين - الدوحة - 1987م(4/103)
* القلقشندي (أحمد بن علي): صبح الأعشى في صناعة الإنشا - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولي - 1987م
* كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية - بيروت - 1948م
* ابن كثير (إسماعيل بن عمر): البداية والنهاية - دار الكتب العلمية - بيروت - 1408هـ = 1988م
مراجع فارسية:
* أحمد بادكر: تاريخ سلاطين أفغان - مجموعة اليوت (5)
* عباس خان سرواني: تاريخ شير شاه - مجموعة اليوت (4)
* عبد الحميد لاهوري: بادشاهنامه - مجموعة اليوت (7)
* عبد القادر بن ملوك شاه بدواني: منتخب التواريخ -كلكتا - 1868م
* علاء الدين عطا ملك الجويني: تاريخ جهانكشاي - ليدن - 1937م
* غلام حسين سليم: رياض السلاطين أو تاريخ بنغالة - كلكتا - 1890 , 1898م
* غياث الدين بن همام الدين الحسيني: حبيب السير في أخبار أفراد البشر - طهران - 1373هـ
* محمد قاسم هندوشاه - تاريخ فرشته - لكنو - 1323هـ(4/104)
الجزء الخامس
مصر والشام والجزيرة العربية
تأليف:
أ. د. عبد المقصود عبد الحميد باشا
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر
الفصل الأول
*مصر فى عصر الولاة
[21 - 254 هـ = 642 - 868 م] ..
أصبحت «مصر» بعد الفتح الإسلامى سنة (21هـ = 642م) ولاية تابعة
للخلافة الإسلامية فى «المدينة المنورة»، ثم فى «دمشق»، ومن
بعدهما «بغداد» فترة قرنين وربع القرن تقريبًا، ثم حكمها
الطولونيون فأصبحت دولة مستقلة فى الفترة من سنة (254هـ =
868م] إلى سنة [292هـ = 905م].
أشهر ولاة مصر فى ذلك العصر:
-1عمرو بن العاص:
هو فاتح «مصر»، وأول والٍ عليها من قِبل الخليفة «عمر بن
الخطاب»، وكان واليًا عادلا، عمل على نشر الأمن والأمان فى ربوع
«مصر»، ومنح الأقباط الحرية الدينية التى افتقدوها قبل الفتح
الإسلامى، وأعاد البطريق «بنيامين» من منفاه فى «وادى النطرون»
إلى «كنيسة الإسكندرية»، لذلك أحبه المصريون.
قام «عمرو بن العاص» بالإصلاحات المالية والإدارية فى «مصر»،
واعتمد فيها على الأقباط من أهلها، فنعم المصريون -جميعًا- فى
ولايته بالحرية الدينية والحياة الكريمة.
تأسيس الفسطاط:
لم يقتصر دور «عمرو بن العاص» على الإصلاحات المالية والإدارية، بل
أسس مدينة «الفسطاط» (مصر القديمة حاليا)؛ لتكون عاصمة لمصر
الإسلامية بأمر من الخليفة «عمر بن الخطاب»، ثم أسس مسجده - الذى
لايزال يحمل اسمه حتى الآن - فى وسط تلك المدينة. وهو أول مسجد
فى قارة إفريقيا.
ومن أهم أعمال «عمرو بن العاص» حفر قناة تصل «النيل» بالبحر
الأحمر، بأمر من الخليفة «عمر بن الخطاب»، لتسهيل السفر والتجارة
بين «مصر» والجزيرة العربية، وكان اسم هذه القناة: «خليج أمير
المؤمنين».
وقد تولى «عمرو بن العاص» ولاية «مصر» مرتين، كانت الثانية من
سنة (38هـ = 658م) حتى سنة (43هـ = 663م).
2 - مسلمة بن مخلد الأنصارى [47 - 62هـ = 667 - 681م]:
والى «مصر» من قِبل الخليفة «معاوية بن أبى سفيان»، وكان من
خيرة الولاة فى حسن السياسة ونشر العدل، كما كان متسامحًا مع(5/1)
الأقباط، وسمح لهم ببناء كنيسة فى مدينة «الفسطاط»، وقام بتجديد
مسجد «عمرو» وتوسعته، وشيد له المنارات لأول مرة.
3 - عبدالعزيز بن مروان [65 - 86هـ = 684 - 705م]:
والى «مصر» من قِبل أبيه الخليفة «مروان بن الحكم»، واستمر فيها
حتى زمن خلافة أخيه «عبدالملك بن مروان»؛ لذا كانت فترة ولايته
أطول فترة فى عصر الولاة.
أوصاه أبوه حين ولاه «مصر» بوصية حكيمة، نصحه فيها بأن يحسن
إلى الناس، ويعمهم برعايته حتى يحبوه، فعمل بوصية أبيه؛ فكانت
فترة ولايته من أحسن الفترات فى حكم «مصر»، قام خلالها بالكثير
من الإصلاحات، أبرزها إنشاء مدينة «حلوان» سنة (73هـ).
-4 صالح بن على بن عبدالله بن عباس [133هـ = 750م]:
من أشهر ولاة «مصر» فى العصر العباسى. أسس لمصر عاصمة
جديدة شمالى مدينة «الفسطاط» أسماها «مدينة العسكر» (منطقة
«السيدة زينب» الحالية)، كما أنه زاد فى «مسجد الفسطاط» زيادة
كبيرة.
ولى «مصر» مرتين، استمرت الأولى سنة واحدة، ثم وليها ثانية من
سنة (136 هـ = 753م) حتى سنة (138هـ = 755م).
-5 الفضل بن صالح بن على [169هـ = 785م]:
أحد الولاة العباسيين، أسس مسجدًا إلى جانب «دار الإدارة» بمدينة
العسكر، أصبح من المساجد الجامعة، وسمح للناس بالبناء حول
«مدينة العسكر»، فاتصل عمرانها بمدينة «الفسطاط».
6 - موسى بن عيسى [171هـ= 787م]:
ولاه العباسيون إمرة «مصر» ثلاث مرات، كانت الأولى من سنة
(171هـ) حتى سنة (173هـ)، والثانية من سنة (175هـ) حتى سنة
(176هـ)، والثالثة من سنة (179هـ) حتى سنة (180هـ)، وحظى خلالها
«موسى بن عيسى» بمحبة الناس واحترامهم، لحبه للخير والعدل،
وتسامحه مع الأقباط، فقد سمح لهم ببناء الكنائس.
-7 عنبسة بن إسحاق [238 - 242هـ = 852 - 856م]:
من أشهر ولاة العصر العباسى، ومن أهم أعماله: إقامة التحصينات
فى «دمياط» و «تنِّيس»، بعد أن تعرضت لغارات الروم، وقد اشتهر(5/2)
«عنبسة بن إسحاق» بالورع، وإقامة العدل بين الناس.
أهم الأحداث فى عهد الولاة:
أ - انتشار الإسلام فى مصر:
من الثابت أن كثيرًا من أقباط «مصر» دخلوا الإسلام قبل استكمال
الفتح الإسلامى لها، فى الوقت الذى كان «عمرو بن العاص» فى
طريقه إلى فتحها، وزاد إقبال المصريين على الدخول فى الدين
الإسلامى نتيجة السياسة الحسنة التى انتهجها الولاة المسلمون
معهم، فشعروا بالحرية، ونعموا بالتسامح الذى أشاعه المسلمون،
وأخذ الإسلام ينتشر تدريجيا بينهم، ولم يأتِ القرن الثالث الهجرى إلا
كان غالبيتهم يدينون بالدين الإسلامى بحرية تامة، ودون أى إكراه.
ب - انتشار اللغة العربية:
بدأ انتشار اللغة العربية فى «مصر» مع بداية الفتح الإسلامى لها،
وساعد على ذلك اختلاط المسلمين العرب بأهل «مصر» والتزوج
منهم، كما كان على مَنْ اعتنق الإسلام من المصريين أن يتعلم اللغة
العربية لمعرفة تعاليم دينه الجديد، ثم كان لتعريب الدواوين فى عهد
«عبدالملك بن مروان» الأثر الكبير والفعال فى انتشار اللغة العربية
فى «مصر»، فمن المعروف أن المسلمين قد عهدوا إلى المصريين
بالكثير من الأعمال الإدارية، كما أشركوهم فى إدارة البلاد، الأمر
الذى افتقده المصريون لفترات طويلة، وظلوا محرومين منه فى العهد
البيزنطى، فكان عليهم - حين عُرِّبت الإدارة- أن يجتهدوا فى تعلم
اللغة العربية ليحافظوا على وظائفهم ويحتفظوا بها، فتهيأت كل
الظروف لتصبح اللغة العربية لغة المصريين عربًا وأقباطًا على
السواء.
النظام الإدارى فى عهد الولاة:
وجد المسلمون بمصر - حين فتحوها - نظمًا إدارية رأوها صالحة؛ فلم
يغيروها، وتولَّوا الوظائف الرئيسية، وتركوا الوظائف الأخرى
للمصريين، فسعدوا بها، وأخلصوا للولاة المسلمين، فدل ذلك على
الوعى السياسى والإدارى لهؤلاء الولاة.
وكان الخليفة هو الذى يقوم بتعيين الخليفة أو الأمير، ويأمره بإمامة(5/3)
المسلمين فى الصلاة إلى جانب مسئوليته السياسية والإدارية الكاملة
عن كل شئون «مصر»، وكذلك كان على الخليفة أن يحدد الوظائف
الكبرى واختصاصاتها، فجعل لقائد الجند مسئولية الجيش والدفاع
عن البلاد، ولصاحب الشرطة حفظ الأمن الداخلى وتنفيذ الأحكام،
وأوكل توصيل المكاتبات بين الولاية وعاصمة الخلافة لصاحب البريد،
ووضع الخليفة نظام رقابة إدارية لمتابعة الوالى وكبار الموظفين فى
أعمالهم، فإذا حدثت مخالفة ما من أحدهم وصل خبرها على الفور
إلى الخليفة، فلا يتردد فى معاقبة المخالف أيا كان منصبه. أما
صاحب الخراج فأوكلت إليه مسئولية الشئون المالية، ولصاحب
الحسبة مسئولية إزالة المنكرات، ومنع أى خروج على الآداب العامة،
وعليه مراقبة الأسواق، ومنع أى غش فى الكيل والميزان، أو فى
المصنوعات والمأكولات، وغيرها. وكان على القاضى أن يحكم بين
الناس بالعدل، وأن يقضى بين المتخاصمين طبقًا لشرع الله وشريعة
الإسلام.
بعض مظاهر الحضارة فى مصر فى عصر الولاة:
1 - العلوم الإسلامية:
كان جيش الفتح الإسلامى لمصر يضم عددًا من كبار الصحابة، وقد
استقر بعضهم بها بعد الفتح، فكانوا النواة الرئيسية للحركة العلمية
الإسلامية فيها، بما علموه للناس من تفسير وحديث وفقه ولغة .. إلخ.
وكان «عبدالله بن عمرو بن العاص» من أشهر الصحابة الذين صحبوا
جيش الفتح، ثم تلا جيلَ الصحابة جيلُ التابعين، واشتُهر منهم:
«يزيد بن أبى حبيب»، الذى عهد إليه الخليفة «عمر بن عبدالعزيز»
(99 - 101هـ) بالفُتيا فى «مصر»، فأقام بها، وتُوفِّى فيها سنة
(128هـ). و «عبدالله بن لهيعة»، الذى ولى القضاء من سنة (155هـ)
حتى وفاته سنة (162هـ)، ثم خرَّجت «مدرسة الدراسات الشرعية» فى
«مصر» إمامًا من كبار الأئمة فى الفقه هو «الليث بن سعد» المتوفى
سنة (175هـ). ثم يأتى الإمام «الشافعى» - من بعدهم - لزيارة «مصر»
فيقضى فيها الشطر الأخير من حياته حتى وفاته سنة (204هـ)، تاركًا(5/4)
خلفه جمهرة من تلاميذه، الذين عملوا على نشر مذهبه، ومنهم: «أبو
يعقوب يوسف البويطى»، و «الربيع بن سليمان الجيزى»
ومن أبرز أعلام «مدرسة الدراسات الشرعية» فى «مصر»، «عثمان
بن سعيد» (المعروف بورش)، وهو من أصل قبطى، برز ونبغ بصفة
خاصة فى علم القراءات، وتوفى سنة (197هـ).
2 - علوم اللغة والتاريخ:
قامت إلى جانب «مدرسة الدراسات الشرعية» فى «مصر» مدارس للغة
العربية وآدابها، وأخرى لعلم التاريخ، وكان خير من مثَّل هاتين
المدرستين: «عبد الملك بن هشام»، صاحب كتاب «السيرة النبوية»
الشهير والمتوفى سنة (218هـ)، كما أن «ابن عبد الحكم»، صاحب
كتاب «فتوح مصر وأخبارها»، كان من أشهر مؤرخى «مصر» فى
ذلك الوقت، وقد تُوفِّى سنة (257هـ).
-3 العلوم الطبيعية:
قامت فى «مصر» أيضًا - إلى جانب ما سبق من مدارس - مدرسة
للعلوم الطبيعية، كالطب والكيمياء وغيرهما، ومن أشهر من اشتغلوا
بهذه العلوم:
» ابن أبجر الطيب»، والصوفى الشهير والفيلسوف والكيميائى «ذو
النون المصرى».
الإسلام فى الشام:
تم فتح الشام سنة (15هـ = 636م) تقريبًا، فأصبحت - منذ ذلك الحين -
جزءًا رئيسيا من العالم الإسلامى، وكانت الصلة بينها وبين «مصر»
قوية ووثيقة بحكم الموقع، وقد تبعت هذه الولاية - فى البداية - مقر
الخلافة مباشرة، فتولى إمرتها فى عهد الخلفاء الراشدين: «يزيد بن
أبى سفيان»، ومن بعده أخوه «معاوية»، الذى أصبح خليفة
للمسلمين فى سنة (41هـ)، فاتخذ من «دمشق» عاصمة للخلافة،
فأصبحت الشام مركز العالم الإسلامى كله طوال العصر الأموى حتى
عام (132هـ)، وكان الخليفة نفسه هو الذى يحكم هذا الإقليم مباشرة
خلال تلك الفترة.
انتشار الإسلام واللغة العربية:
كان معظم سكان الشام - قبل الفتح الإسلامى - عربًا، ومع ذلك
قاوموا هذا الفتح فى البداية؛ لظنهم أن العرب القادمين جاءوا
ليستولوا على بلادهم وديارهم وأموالهم، كما فعل البيزنطيون من(5/5)
قبل، ولكنهم مالبثوا أن فهموا طبيعة الإسلام، وأنه جاء ليحررهم من
الحكم البيزنطى البغيض، وأن الفاتحين لم يأتوا لاستغلالهم؛ فهم
أهلهم، وهدفهم لم يكن الاستيلاء، وإنما جاءوا لنشر الإسلام الذى
حمل لهم الخير، فرأوا العدل والحرية والمساواة التى تحلى بها الولاة
المسلمون فى حكمهم، فهرعوا إلى اعتناق الدين الجديد بمحض
إرادتهم، ومن أراد منهم البقاء على دينه -يهوديا كان أو نصرانيا-
كانت له الحرية فى ذلك دون إكراه، والدليل على ذلك بقاء عدد كبير
من المسيحيين بالشام حتى الآن.
وكانت جيوش الفتح الإسلامى تضم عددًا كبيرًا من الصحابة؛ الذين
قاموا بتعليم المسلمين الجدد تعاليم دينهم، كما أرسل الخليفة «عمر
بن الخطاب» عددًا آخر من كبار الصحابة إلى الشام للإقامة فيها،
لتفقيه الناس بأمور دينهم، ومن أبرز هؤلاء الصحابة الذين أسسوا
مدرسة الدراسات الشرعية فى الشام: «معاذ بن جبل»، و «أبو
الدرداء»، وقد ازدهرت ازدهارًا كبيرًا فى العصر الأموى، وكان من
أنجب رجالها: الإمام «الأوزاعى» المتوفَّى سنة (157هـ).
أما بالنسبة إلى اللغة العربية، فلم تكن هناك مشكلة؛ لأنها كانت لغة
السكان - أو معظمهم - قبل الفتح، ومع ذلك كانت اللغة اليونانية هى
اللغة الإدارية - فى البداية - ثم ما لبث أن تحولت إلى اللغة العربية.(5/6)
الفصل الثاني
*الدولة الطولونية فى مصر والشام
[254 - 292 هـ = 868 - 905 م].
تنسب هذه الدولة إلى مؤسسها «طولون»، الذى ينحدر من أسرة
كان موطنها «بخارى» ببلاد «التركستان»، وفى سنة (200هـ) وصل
«طولون» إلى «بغداد» إبان خلافة «المأمون» (198 - 218هـ)،
فأهدى بعض الرجال إلى الخليفة «المأمون»، الذى رأى فيه اتزانًا
فى الفكر وبسطة فى الجسم، فجعله رئيسًا لحرسه الخاص، فعلا نجم
طولون فى الدولة، ومهَّد لنفسه ولأسرته طريق السيادة والسلطة
فيها.
أمراء الدولة الطولونية:
أحمد بن طولون [254 - 272هـ = 868 - 885م].
وُلد «أحمد بن طولون» سنة (220هـ = 835م)، وعُنى أبوه بتربيته
عناية كبيرة، فعلَّمه الفنون العسكرية، وعلوم اللغة والدين، وتردد
على العلماء، وأخذ من معارفهم، وروى عنهم الأحاديث، فأصبح
موضع ثقة الخلفاء العباسيين لشجاعته وعلمه، وعمل تحت رعايتهم
فى خلافة «المتوكل» (242 - 247هـ)، و «المستعين» (248 - 252هـ)،
و «المعتز» (252 - 255هـ)، و «المعتمد» (256 - 279هـ).
فلما مات «طولون» سنة (240هـ) عهد «المتوكل» إلى «أحمد بن
طولون» بما كان يتولاه أبوه من الأعمال، فأظهر كفاءة عالية،
وهمة نادرة، كما احتل مكانة بارزة فى قلوب رجال البلاط العباسى
حين حاولت جماعة من اللصوص الاستيلاء على قافلة كانت متجهة من
«طرسوس» إلى «سامراء» تحت قيادته، فتصدى لهم «ابن طولون»،
وأظهر كفاءة عسكرية فريدة، وتمكن من القضاء على هؤلاء
اللصوص، ونجا بقافلته، وعندما علم الخليفة بذلك ازداد إعجابًا به
وتقديرًا له.
أحمد بن طولون فى مصر 254 272 هـ:
كان من عادة الخلفاء أن يعينوا ولاة للأقاليم الخاضعة لسلطانهم،
وكان هؤلاء الولاة يعينون من ينوب عنهم فى حكم هذه الولايات؛
رغبة منهم فى البقاء بالعاصمة؛ أملا فى الحصول على منصب أعلى
وخوفًا من المؤامرات.
وكانت «مصر» - آنذاك - تحت ولاية القائد التركى «باكباك» الذى(5/7)
أناب «أحمد بن طولون» عنه فى حكم «مصر»، لما رآه من شجاعته
وإقدامه، وأمده بجيش كبير دخل به «أحمد بن طولون» «مصر» فى
(23 من رمضان سنة 254هـ). فلما تُوفى «باكباك» تولى مكانه القائد
التركى «بارجوخ»، فعهد إلى «أحمد بن طولون» بولاية «مصر»
كلها، فلما آل الأمر إلى «ابن طولون» فى حكم «مصر» واجهته
المصاعب والعقبات، وأشعل أصحاب المصالح فى «مصر» الثورات
حتى لا يتمكن «ابن طولون» من تنفيذ إصلاحاته التى عزم عليها،
ولكن «ابن طولون» تمكن من القضاء على كل العقبات والصعوبات
واحدة تلو الأخرى بكياسة وحزم، كما أخمد الثورات فى كل مكان،
ولم يكد يفعل ذلك حتى أعلن «أحمد بن المدبر» عامل الخراج على
«مصر» عن حقده على ابن طولون، وعمل على الوقيعة بينه وبين
الخليفة، ولكن «أحمد بن طولون» تمكن من كشف ذلك التدبير، وكتب
إلى الخليفة يطلب منه عزل عامل الخراج «ابن المدبر» وتعيين «محمد
بن هلال» مكانه، فوافق الخليفة على ذلك لثقته بابن طولون، وأمر
بعزل «ابن المدبر»، الذى رفض تسليم ما تحت يديه لمحمد بن هلال
عامل الخراج الجديد، فقبض عليه «أحمد بن طولون» وحبسه، وتخلص
بذلك من منافس قوى هدد كيان البلاد.
أحمد بن طولون والى الشام والجزيرة:
كان بالشام - بعد تولية «أحمد ابن طولون» «مصر» - ولاة يتبعون
الخلافة العباسية، ولكن اعتداءات البيزنطيين المتكررة على حدود
المسلمين بالشام جعلت الخليفة «المعتمد» يقوم بتكليف «أحمد بن
طولون» بالسير لمحاربة البيزنطيين سنة (264هـ) فنفذ «ابن طولون»
الأمر، وانتصر على البيزنطيين، ومد سلطانه حتى «طرسوس» و «نهر
الفرات» و «دمشق»، فأقره الخليفة العباسى على حكم «مصر»
والشام والجزيرة العربية ومناطق الثغور، فظل مسيطرًا عليها
بشخصيته القوية ورجاحة عقله حتى وفاته سنة (272هـ).
خمارويه بن أحمد بن طولون [272 - 282هـ = 885 - 895م].
بعد وفاة «أحمد بن طولون» خلفه ابنه «خمارويه»، فعمل على تذليل(5/8)
العقبات التى واجهته كى تتوطد أركان دولته، وزوج ابنته «أسماء»
المعروفة بقطر الندى من الخليفة العباسى «المعتضد»، وقام
«خمارويه» بتجهيز ابنته، وغالى فى ذلك، مما أدى إلى إفلاس مالية
البلاد. وظل واليًا على «مصر» والشام والجزيرة حتى وفاته سنة
(282هـ).
أولاد خمارويه وسقوط الدولة الطولونية:
بعد وفاة «خمارويه» سنة (282هـ)، بدأت الدولة الطولونية فى
الانحلال، فتولَّى زمامها طائفة من أفراد البيت الطولونى، وكانت
تنقصهم الحنكة السياسية، وهم:
«أبو العساكر جيش بن خمارويه» (282 - 284هـ)، الذى خلعه الجند،
فتولَّى من بعده أخوه «أبو موسى هارون بن خمارويه» (284 -
292هـ)، وهو فى الرابعة عشرة من عمره، فازدادت البلاد ضعفًا
حتى مات، فتولى بعده عمه «شيبان»، إلا أن الجند رفضوا تعيينه،
وكان ذلك إيذانًا بزوال الدولة الطولونية، وعودة «مصر» والشام
والجزيرة إلى ولايات تابعة مباشرة للخلفاء العباسيين، بعد أن
استقلت منذ عهد «أحمد بن طلون».
علاقة مصر والشام بالخلافة العباسية فى عهد أحمد بن طولون:
كان خليفة المسلمين - إبان حكم «أحمد بن طولون» - هو الخليفة
«المعتمد»، ثم جاء من بعده أخوه «الموفق» الذى استطاع أن
يسيطر على الجيش، ويستبد بالسلطة فى خلافة أخيه «المعتمد».
وكانت علاقة «أحمد بن طولون» بالخليفة «المعتمد» طيبة وقوية
لدرجة أن الخليفة فكر فى نقل مقر الخلافة إلى «مصر» ليتمتع فيها
بقوة «أحمد بن طولون» وحمايته له، إلا أن «الموفق» علم بنية أخيه
فأعاده إلى «سامراء»، وكان لهذا الموقف أثره السيىء على علاقة
«الموفق» بأحمد بن طولون، وأضمر له العداوة، ثم ما لبث أن أعلن
عنها حين أرسل إلى «ابن طولون» يطلب منه أموالا كثيرة، فلم
يرسل إليه سوى مبلغ صغير، فأثار ذلك حفيظته وخرج لمحاربة «ابن
طولون»، ولكن هذه الحروب لم تدم طويلا، ولم تسفر عن شىء،
ولكن العلاقات بين «مصر» والشام والخلافة العباسية ظلت سيئة،(5/9)
وظل الأمر على ذلك حتى تولَّى «خمارويه»، وعمل على إزالة أسباب
الخلاف، وزوج ابنته من الخليفة «المعتمد»، وعقد صلحًا مع
«الموفق»، فكان هذا الزواج سببًا من أسباب زوال العداء بين
الطولونيين والعباسيين، كذلك يدلنا هذا الزواج على حرص الخلافة
العباسية على كسب ود مصر والشام، لما تمثلانه من قوة.
مظاهر الحضارة فى الدولة الطولونية:
كان «أحمد بن طولون» مثلا عاليًا للحاكم العادل والوالى المصلح،
وكان عهده عهد سلام شامل، ورخاء تام، وفنون وآداب عالية
المستوى، وخلَّف «ابن طولون» آثارًا رائعة بقى منها جامعه الذى
مازال معروفًا باسمه حتى الآن.
ومن مظاهر الحضارة فى عهد الدولة الطولونية:
أ - إنشاء القطائع:
أقام «أحمد بن طولون» عاصمة خاصة به شمالى مدينة «الفسطاط»،
وبناها على نظام مدينة «سامراء» عاصمة الخلافة العباسية، وبنى
بها مستشفى عظيمًا، وقسم المدينة وجعل لكل من كبار رجاله
وقواده وغلمانه قطيعة خاصة به، وكذلك فعل مع أرباب الحرف
والصناعات والتجار، فسُميت المدينة «بالقطائع»؛ وهى ثالث عواصم
«مصر» بعد «الفسطاط» و «العسكر».
ب - جامع ابن طولون:
هو أحد مآثر الدولة الطولونية، فلايزال شاهد صدق على عظمة هذه
الدولة، ويقع بجهة «الصليبة» و «قلعة الكبش»، ويُعد أقدم بناء
إسلامى بقى على أصله حتى اليوم، والناظر إليه يرى مدى ما وصلت
إليه الفنون والعمارة الإسلامية من ازدهار، وتُعدُّ مئذنته من أقدم
المآذن التى لاتزال قائمة حتى اليوم.
ج - الجانب الاقتصادى:
بلغت عناية الطولونيين بالناحية الاقتصادية مبلغًا عظيمًا، ليضمنوا
لبلادهم الرخاء والاستقلال، خاصة بعد اتساع رقعة دولتهم وانضمام
الشام إلى «مصر» تحت إمرتهم، فشجعوا الصناعات وعملوا على
ازدهارها، كصناعة النسيج التى كانت أهم الصناعات فى هذا
العهد، وأقاموا مصانع للأسلحة، وتقدمت صناعة ورق البردى
وصناعة الصابون والسكر والخزف فى عهدهم، وظلت التجارة رائجة،(5/10)
ونشطت فى «مصر» و «الشام» وذلك لموقعهما الفريد المتحكم فى
طرق التجارة، فأصبحتا حلقة اتصال بين تجارة الشرق والغرب، إلى
جانب ما كانتا تحصِّلانه من ضرائب جمركية على البضائع التى تمر
بهما.
كما اهتم الطولونيون بالزراعة، واعتنوا بتطهير «نهر النيل»،
وأقاموا الجسور، وشقوا الترع، وشجع «أحمد بن طولون» الفلاحين
على امتلاك الأراضى، وخصص لذلك ديوانًا أسماه: «ديوان الأملاك»،
كما قلل من الضرائب، وأصلح «مقياس الروضة»، وأنشأ القناطر،
وحفر الآبار فى الصحراء حين علم بما يعانيه الناس فى هذه المناطق
فى الحصول على الماء، فتقدمت الزراعة فى عهده ونشطت، كما
تقدمت الصناعة والتجارة، وبلغت مالية «مصر» و «الشام» فى عهده
مبلغًا عظيمًا، فكثرت الإنشاءات العظيمة، مثل «الحصن المنيع» الذى
بناه «أحمد بن طولون»، ليكون مأوى له إذا ما حاق به خطر، وقد
تكلفت هذه المشروعات العظيمة أموالا طائلة، تدل على تحسن
الأحوال المالية والاقتصادية فى هذا العهد، وعاش الناس فى رخاء
وسعة.
د - الناحية الاجتماعية:
يبدو أن الأتراك قد حظوا بمكانة عظيمة فى عهد الطولونيين،
وشاركهم فى ذلك طبقة الأشراف؛ التى نالت احترام الشعب والأمراء،
وإلى جانبهم كانت تعيش طبقة الأغنياء من كبار التجار وكبار الملاك.
أما عامة الشعب فقد تحسنت أحوالهم نتيجة استقرار الأوضاع،
واهتمام الحاكم بشئونهم، وحرصه على إقامة العدل بينهم؛ لدرجة أن
«أحمد ابن طولون» تولَّى القضاء بنفسه فى فترة من الفترات،
وعامل أهل الذمة معاملة كريمة طيبة، جعلتهم يقبلون على أعمالهم
بشغف واطمئنان. واهتم الطولونيون بإحياء الأعياد الإسلامية كعيدى
«الفطر» و «الأضحى»، كما اهتموا أيضًا بإحياء الأعياد المسيحية
كعيد الميلاد، وكانت ألعاب الفروسية التى أولاها الطولونيون
عنايتهم من أهم مظاهر الترفيه فى هذه الأعياد.
حكمت الدولة الطولونية زهاء ثمانٍ وثلاثين سنة، انتعشت فيها البلاد،(5/11)
واستردت قوتها وعظمتها، وراجت التجارة ونشطت الزراعة
والصناعة، وقوى الجيش وأُنشئ له أسطول بحرى، فأصبحت الدولة
الطولونية إمبراطورية تمتد من «العراق» إلى بلاد «برقة» بما فى ذلك
«آسيا الصغرى» و «الشام» و «فلسطين»، وكان عهد هذه الدولة عهد
نهوض بفنون العمارة والزخرفة والنقش، كما كان عهد سلام ورخاء
وعناية بالمرضى والضعفاء، وفيه نال العلم والعلماء تشجيعًا جعل
«المقريزى» يذكر فى خططه عن القاضى «أبى عمرو النابلسى»،
أنه رأى كتابًا لا يقل فى حجمه عن اثنتى عشرة كراسة، يحوى
فهرست شعراء «أحمد بن طولون»، فإذا كانت أسماء الشعراء فى
اثنتى عشرة كراسة، فكم يكون شعرهم؟. فلا عجب إذن إذا رثى
الشعراء - بعد ذلك - هذه الأسرة، وتذكروا أيامها بالحزن والألم
والحسرة، فيكفيها فخرًا أنها الواضعة لأساس مدنيات الأسر التى
تلتها فى حكم «مصر»، خاصة المماليك والفاطميين.
النظام الإدارى فى عهد الطولونيين:
قُسِّمت «مصر» فى عهد الدولة الطولونية إلى كور، كان على رأس
كل منها حاكم يُسمَّى: «صاحب الكورة» - هو بمثابة المدير حاليا -
وتعهد إليه إمامة الناس فى الصلاة بالمساجد الرئيسية التى توجد فى
عاصمة مديريته.
وكانت «مصر» تنقسم إلى ثلاثة أقسام هى: «مصر العليا»، و «مصر
الوسطى»، و «مصر السفلى»، وكثيرًا ما قام «ابن طولون» ومن بعده
ابنه «خمارويه» بالتفتيش على تلك الأقسام الإدارية المختلفة
بنفسيهما؛ لاستطلاع أحوال الأمن فيها، والاطمئنان على أمور
الرعية، ولحث الحكام على العناية بأقاليمهم، وتنفيذ سياسة الدولة
التى تهدف إلى رعاية المصالح العامة للرعية.
الشرطة:
وكان نظام الشرطة فى الدولة الطولونية ينقسم إلى قسمين، أولهما:
«الشرطة الفوقانية»، والثانى: «الشرطة السفلانية»، أو «الشرطة
العليا»، و «الشرطة السفلى»، ولم تقتصر سلطة صاحب الشرطة على
تنفيذ الأوامر، والمحافظة على النظام؛ بل كانت له اختصاصات(5/12)
قضائية، وكان يُعيَّن من قِبل الوالى، ويكون مقره عاصمة الولاية:
وانحصرت اختصاصات «الشرطة العليا» فى النظر فى أحوال الطبقة
العليا من القادة والعلماء والعظماء، أما «الشرطة السفلى» فكانت
تختص بإقامة العدل، وتوطيد الأمن بين عامة الناس، ولذلك تحقق
العدل فى عهد الطولونيين.
البريد:
كان لابن طولون صاحب بريد يتخذ له مساعدين يمثلونه فى مختلف
كور «مصر»، وكانت مهمة صاحب البريد الرئيسية أن يدرس من كثب
أحوال الأقاليم، ثم يقدم بها التقارير إلى الوالى؛ ليتعرف كل ما
يحدث فى البلاد.
واتخذ «ابن طولون» كاتبًا للإنشاء والمراسلات، فكانت مهمته تحرير
الكتب التى يرسلها الوالى إلى غيره من الملوك والأمراء، وما يترتب
على ذلك من رسائل يتبادلونها فيما بينهم. وإلى جانب وظيفة كاتب
الإنشاء كانت توجد وظيفة كاتب السر - بمثابة السكرتير الخاص -
ومهمته تدوين كل ما يجرى فى حضرة الأمير فى محضر الجلسة،
سواء كان الحضور من الوفود أو من كبار العلماء، أو من أصحاب
الظلامات الذين حظوا بعرضها على الأمير؛ فكانت هذه الوظيفة تتطلَّب
السرعة مع الدقة التامة، والهمة والنشاط واليقظة.
الحاجب:
أنشىء نظام الحجابة على عهد البلاط الطولونى - وهى وظيفة مهمة
تشبه وظيفة كبير الأمناء الآن- وكان الكثيرون يحملون هذا اللقب فى
بلاط «ابن طولون»، ولم يتولَّ أحدهم منصب كبير الحجاب إلا فى عهد
«هارون ابن خمارويه»؛ حيث تولى هذه المكانة «نسيم الخادم» فى
عهد «أحمد بن طولون»، وإن لم يُلقَّب به رسميا، واعتمد عليه «ابن
طولون» فى مهامه مع البلاط العباسى، فكان «نسيم الخادم» يقوم
بها على خير وجه.
مصر والشام بعد الدولة الطولونية:
عادت «مصر» والشام ولايتين تابعتين للخلافة العباسية بعد انتهاء
الدولة الطولونية، وظلتا كذلك إحدى وثلاثين سنة، حتى قامت دولة
الإخشيديين، فاستقلت بهما من جديد، وتولَّى «مصر» خلال هذه(5/13)
الفترة «محمد بن سليمان»، وبقى عليها أربعة أشهر، ثم خلفه عليها
«عيسى النوشرى» ((292 - 297، ومن بعده «أبو منصور تكين»
(297 - 302هـ)، وظلت «مصر» دون تطور ملموس فى الفترة ما بين
حكم الطولونيين، وحكم الإخشيديين الذين ما إن تولوا حكم «مصر»
والشام حتى دخلت البلاد فى دور جديد من أدوار التقدم والعمران.
وفى عهد «أبى منصور تكين» والى «مصر» حدث أول احتكاك
حربى بين «مصر» و «المغرب»، وتوالت بعد ذلك حملات الفاطميين
على «مصر».(5/14)
الفصل الثالث
*الدولة الإخشيدية
[323 - 358 هـ = 935 - 969 م].
الولاة الإخشيديون:
1 - «أبو بكر محمد بن طغج الإخشيدى» [323 - 334هـ = 935 -
946م].
2 - «أبو القاسم أنوجور بن الإخشيد» [334 - 349هـ = 946 - 960م].
3 - «أبو الحسن على بن الإخشيد» [349 - 355 هـ = 960 - 966م].
4 - «أبو المسك كافور الإخشيدى» [355 - 357هـ = 966 - 968م].
5 - «أبو الفوارس أحمد بن على» [357 - 358 هـ = 968 - 969م].
وجميع هؤلاء الولاة من الأسرة الإخشيدية، ماعدا «كافوراً» الذى
انتسب إليهم.
1 - «محمد بن طغج الإخشيد» [323 - 334هـ]:
هو «محمد بن أبى بكر بن طغج (معناها فى التركية: عبدالرحمن) بن
جق»، أحد أبناء ملوك «فرغانة» ببلاد «ما وراء النهر»، وكان
الملوك فى هذه البلاد يتخذون من لفظة «الإخشيد» لقبًا لهم، فأطلق
هذا اللقب على «محمد بن طغج»، وتسمت به دولته، وعُرفَت باسم
«الدولة الإخشيدية».
اتصل «جق» جد «الإخشيد» بالخلفاء العباسيين، أما «طغج» والده؛
فقد كان على درجة عظيمة من الثراء وسعة العيش، واتصل بخدمة
الطولونيين فى عهد «خمارويه»؛ الذى ولاه على «دمشق»
و «طبرية»، فلما سقطت الدولة الطولونية، تولَّى «محمد ابن طغج»
ولاية «دمشق»، ثم أُضيفت إليه ولاية «مصر»، ولكنه أناب عنه من
يحكمها، ولم يغادر «دمشق»، ولكن محاولات الفاطميين للسيطرة
على «مصر» جعلت الخليفة العباسى «الراضى» يطلب من «ابن طغج»
أن يقوم بنفسه على حكم «مصر» والشام، حتى يُوقِف الزحف
الفاطمى، ويعيد الاستقرار والأمان إلى الولايتين.
الإخشيد فى مصر:
جاء «محمد بن طغج» سنة (323هـ)، وبدأ يؤسس دعائم دولته الكبرى
بها، وضُمت إلىه «الحجاز» - التى ظلت مرتبطة بمصر عدة قرون بعد
ذلك - كما حصل من الخليفة سنة (323هـ) على حق توريث حكم البلاد
التى تحت يده لأسرته من بعده، فأصبحت هذه الولايات فى عداد
الدول المستقلة.
بذل «محمد بن طغج» جهودًا كبيرة فى إعادة الاستقرار والأمان إلى(5/15)
بلاده، واستطاع بكفاءته وذكائه أن يتغلب على العواقب التى
صادفته كافة، وأخذت «مصر» والشام و «الحجاز» تستعيد مكانتها
ثانية، بعد أن استطاع «ابن طغج» رد الفاطميين وإيقاف زحفهم على
«مصر»، فحاول الفاطميون استمالته إلى جانبهم، ولكنه رفض، وظل
وفيا للخلافة العباسية، واستطاع فى مدة قصيرة أن يبسط سلطانه
على «مصر» والشام، وأعاد إليهما النظام، وعرف كيف يسوس الناس
فيهما، فعاش حياته عزيزًا كريمًا. فلما شعر بدنو أجله عهد إلى ابنه
«أبى القاسم أنوجور» بالحكم من بعده، وجعل «كافورًا» وصيا عليه
لأن «أنوجور» كان فى ذلك الوقت صغيرًا، ومات الإخشيد بدمشق
سنة (334هـ = 946م).
كافور وأولاد الإخشيد:
[334 - 357هـ = 946 - 968م]:.
كافور:
وُلد «كافور» بين سنتى (291 و308هـ) فلم تُحدَّد سنة ولادته تحديدًا
دقيقًا - وكانت كنيته «أبا المسك»، وبدأ حياته مملوكًا بسيطًا،
اشتراه «محمد بن طغج» من رجل يُدعَى «محمود بن وهب»، وتوسَّم
فيه «الإخشيد» الذكاء، فاحتفظ به ورباه فى بيته تربية عالية، فلما
رآه يتقدم ازداد إعجابه به واختصه من بين عبيده وأولاه ثقته
وأعتقه، وأخذ يرقيه فى بلاطه حتى جعله من كبار قواده؛ لما يتمتع
به من ذكاء وصفات طيبة، وبعثه قائدًا أعلى على رأس جيوشه
لمحاربة أعداء الدولة، وعهد إليه بتربية ولديه «أبى القاسم أنوجور»
و «أبى الحسن على»، كما عهد إليه بأن يكون وصيا عليهما فى
الحكم من بعده.
وصاية كافور على أنوجور وأبى الحسن:
عندما تولَّى «أنوجور» حكم «مصر» سنة (334هـ) كان لايزال طفلا
صغيرًا لا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، فقام «كافور» بتدبير
أموره وأمور الدولة، وبقيت علاقتهما - كما كانت - علاقة الأستاذ
بتلميذه، وأصبح «كافور» صاحب السلطان المطلق فى إدارة الدولة
الإخشيدية، واستطاع التغلب على المشاكل التى قابلت الدولة فى
مستهل ولاية «أنوجور»، وتمكن من القبض على زمام الأمور بيده،(5/16)
وخاطبه الناس بالأستاذ، وذُكِرَ اسمه فى الخطبة، ودُعى له على
المنابر فى «مصر» والبلاد التابعة لها، كما عامل رؤساء الجند وكبار
الموظفين معاملة حسنة، فاكتسب محبتهم واحترامهم، فلما كبر
«أنوجور» شعر بحرمانه من سلطته، فظهرت الوحشة بينه وبين
أستاذه «كافور»، وحاول البعض أن يوقع بينهما، وطلبوا من
«أنوجور» أن يقوم بمحاربة «كافور»، فلما علمت أم «أنوجور» بذلك
خافت عليه، وعملت على الصلح بينه وبين «كافور»، وما لبث
«أنوجور» أن مات سنة (349هـ).
ولاية كافور على مصر [355 - 357هـ].
كان ولى عهد «أنوجور» فى الحكم ولدًا صغيرًا هو «أحمد بن أبى
الحسن على»، فحال «كافور» دون توليته بحجة صغر سنه،
واستصدر كتابًا من الخليفة العباسى يقره فيه على توليته «مصر»
سنة (355هـ) بدلا من هذا الطفل الصغير، فتولى «كافور» «مصر» وما
يليها من البلاد ولم يغير لقبه «الأستاذ»، ودُعِى له على المنابر بعد
الخليفة.
ويصفه المؤرخ «أبو المحاسن» بقوله: «كان كافور يُدنى الشعراء
ويجيزهم، وكانت تُقرأ عنده فى كل ليلة السير، وأخبار الدولة
الأموية والعباسية، وله ندماء، وكان عظيم الحرمة، وله حُجَّاب، وله
جوارٍ مغنيات، وله من الغلمان الروم ما يتجاوز الوصف، وقد زاد ملكه
على ملك مولاه «الإخشيد»، وكان كثير الخلع والهبات، خبيرًا
بالسياسة، فطنًا ذكيا، جيد العقل».
مات كافور سنة (357هـ)، فاختار الجند - بعد وفاته - «أبا الفوارس
أحمد بن على بن الإخشيد» واليًا على «مصر» وما حولها، وكان طفلا
لم يبلغ الحادية عشرة من العمر، فلم تستقر البلاد فى عهده حتى
دخلها الفاطميون سنة (358هـ).
علاقة الدولة الإخشيدية بالخلافة العباسية:
كانت علاقة «الإخشيد» بمركز الخلافة العباسية علاقة طيبة فى
بادئ الأمر، إلا أن «ابن رائق» أمير الأمراء كانت له الغلبة فى مركز
الخلافة، وحنق على «الإخشيد»، وحاول أن يستولى منه على(5/17)
«مصر» والشام، ولكن صلحًا تم بينهما أمام الخليفة الذى أقر
«الإخشيد» على ما تحت يديه من ولايات، وكان الخليفة «المتقى»
على صلة طيبة بالإخشيد، وعزم على نقل مقر الخلافة إلى «مصر»،
للتخلص من نفوذ الأتراك، ولكن ذلك لم يتحقق، فعمل الخليفة
العباسى على تقوية جانب «الإخشيد» ماديا وأدبيا، ليلجأ إليه عند
الحاجة، ومد سلطانه وولاه «مكة» و «المدينة» إلى جانب «مصر»
والشام، كما جعل هذه الولاية له ولأولاده من بعده مدة ثلاثين عامًا.
أما علاقة «كافور» بالخلافة العباسية فكانت علاقة وئام ووداد،
واتضحت هذه العلاقة حين سار «كافور» بابنى «الإخشيد»:
«أنوجور» و «على» إلى «بغداد»؛ لتجديد ولاء الإخشيديين للخلافة
العباسية، غير أن «كافور» سمح -فى عهده - لدعاة الفاطميين
بدخول «مصر» والدعوة لمذهبهم فيها، فهيأ بذلك الظروف لدخول
الفاطميين «مصر» سنة (358هـ).
الجوانب الحضارية للعهد الإخشيدى:
كان الاتجاه الحضارى فى العهد الإخشيدى شديد الشبه بالاتجاه
الحضارى فى العصر الطولونى؛ لقرب الصلة الزمنية بين العهدين،
وتميزت حضارة الإخشيديين بزيادة العمران بالفسطاط ومدِّ ضواحيها،
وتشييد القصور وإقامة البساتين الجميلة، كما كان «ضرب السَّكَّة»
من مظاهر الاستقلال فى العهد الإخشيدى، فقد ضربوا السكة وجعلوا
عليها أسماء الإخشيديين إلى جانب الخليفة، وفى عهدهم ظهر
منصب «الوزارة» رسميا، لأول مرة فى «مصر» منذ الفتح الإسلامى
لها، وكان «أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات» أول من تولى هذا
المنصب حتى وفاته سنة (327هـ)، ثم من بعده ابنه «جعفر»، الذى
ظل يشغل هذا المنصب حتى نهاية الدولة الإخشيدية، وكذلك كان
منصب «الحاجب» من المناصب التى ظهرت أهميتها فى البلاط
الإخشيدى، وقد أولى الإخشيديون القضاء عنايتهم، وكان من أشهر
قضاتهم: «محمد ابن بدر الصيرفى» و «الحسين بن أبى زرعة
الدمشقى»، وكان «عمر ابن الحسن الهاشمى» من أشهر القضاة فى(5/18)
عهد «كافور»، وكذلك «أبو طاهر الزهلى» الذى ظل على قضاء
«مصر» حتى دخلها الفاطميون.
لعل من أبرز مآثر «الإخشيد» أنه كان يجلس للنظر فى المظالم يوم
الأربعاء من كل أسبوع، وحذا «كافور» حذوه فى ذلك، كما أن
«الإخشيد» كان ذا عزيمة، فقد أعد جيشًا قويا بلغ أربعمائة جندى
فيما عدا حرسه الخاص، فنعمت البلاد بالرخاء والثراء خلال هذا العهد
الذى لم يبخل فيه «الإخشيد» بأى مال أو معونة، وأنعم على الفقراء
وقدم لهم المساعدات، ومضى «كافور» على نفس الدرب، ويُروَى عنه
أنه كان يعمل على إسعاد الفقراء وخاصة فى الأعياد، وكان يخرج
من ماله يوم عيد الأضحى حمل بغل ذهبًا، وكشوفًا بأسماء
المحتاجين، وينيب عنه من يمر عليهم ويعطى كلا منهم نصيبه.
العلم:
كان للعلم والأدب دولة ذات شأن فى بلاط الإخشيديين، ونبغ فى
عهدهم عدد كبير من العلماء منهم: «أبو إسحاق المروزى» المتوفَّى
سنة (340هـ) أحد الأئمة المعروفين بسعة معارفهم وكثرة مؤلفاتهم،
و «على بن عبدالله المعافرى» قاضى «الإسكندرية» المتوفى سنة
(339هـ)، ومن المحدثين: «الحسن بن رشيق المصرى» المتوفَّى سنة
(370هـ) ومن النحاة: «أحمد بن محمد بن الوليد التميمى المصرى»،
ومن المؤرخين: «أبو عمرو الكندى»، ومن الشعراء: «المتنبى»،
وغيره كثيرون، وكان لهؤلاء العلماء أثر كبير فى الحياة الحضارية
والعلمية فى «مصر»، فقد عملوا على شرح علومهم وتبسيطها
للناس، فزاد عدد المتعلمين، وارتفع مستوى التفكير والفهم لدى
الناس خلال هذه الفترة من حكم الإخشيديين.
الإصلاحات:
اهتم الإخشيديون بالبناء والإصلاح، ولكن معظم ما أقاموه قد زال،
ولم يبق منه سوى الاسم فقط.
قام «الإخشيد» بالكثير من مشروعات الإصلاح، فتحسنت أحوال البلاد
الاقتصادية، ونهضت نهضة قوية أدهشت المؤرخ الشهير «أبا الحسن
على المسعودى»، الذى زار «مصر» فى عهد «الإخشيد»، وأُعجب
بما أقامه «الإخشيد»، ووصف نظام الرى، وجبر الخليج، وقطع(5/19)
السدود، وليلة الغطاس فى ذلك العصر، الذى نعمت فيه البلاد بالأمن
والأمان فى ظل قيادة قوية، تخاف عليها وتحميها، يدعمها جيش
قوى وأسطول حديث، فتقدمت البلاد خطوات واسعة فى مجالات
الحضارة.
- الإدارة فى العهد الإخشيدى:
الوزير:
يُعدُّ الوزير هو الرئيس الأعلى للسلطة الإدارية فى نظام الخلافة، ولم
يظهر هذا المنصب فى «مصر» زمن الخلفاء الراشدين والأمويين، حيث
اكتفى هؤلاء بإرسال ولاة الأقاليم لإدارة شئونها.
عُرفت الوزارة فى «مصر» -لأول مرة - فى عهد الإخشيديين، وأبرز
من تقلد هذا المنصب - آنذاك - هو «أبو الفتح الفضل بن جعفر بن
الفرات»، ولم يكن تعيينه بهذا المنصب من قِبل «الإخشيد»، وإنما جاء
من الخليفة العباسى «الراضى» الذى منحه سلطات واسعة، فكان
لهذا الوزير أثر كبير فى مجرى الحوادث فى «مصر» فى العصر
الإخشيدى، وارتبط بالإخشيد وصاهره، وكانت العلاقة بينهما قائمة
على أساس وطيد من المودة والمحبة، لدرجة أن «الإخشيد» كان
يخرج فى وداعه إذا ما غادر البلاد، واستقباله إذا ما عاد إليها،
ومات الفضل فى «الرملة» بالشام سنة (327هـ)، فحزن عليه
«الإخشيد» حزنًا بالغًا، وتأثر الخليفة «الراضى» تأثرًا عميقًا بوفاته.
ويُعدُّ ظهور منصب الوزير فى عهد الإخشيديين تطورًا يُحسَب لهم فى
نظام الإدارة، فكان الوزير يحضر مجلس «الإخشيد» الذى يعقَده يوم
الأربعاء من كل أسبوع للرد على المظالم والشكايات، وكذلك كان
يحضره القضاة والفقهاء والشهود وأعيان البلاد، وظل هذا المجلس
يُعقد فى عهد «كافور» الذى كان يمضى على درب «محمد بن طغج
الإخشيد».(5/20)
الفصل الرابع
*الدولة الفاطمية
(358 هـ - 567 هـ).
الخلفاء الفاطميون:
1 - عبيد الله المهدى.
2 - القائم.
3 - المنصور.
4 - المعز.
5 - العزيز.
6 - الحاكم.
7 - الظاهر.
8 - المستنصر.
9 - المستعلى.
10 - الآمر.
11 - الحافظ.
12 - الظافر.
13 - الفائز.
14 - العاضد.
أصل الشيعة الفاطمية:
قامت الدولة الفاطمية على المذهب الإسماعيلى الشيعى القائل بالنص
والتعيين، ويقصرون خلافة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الروحية
والزمنية على ذرية الإمام «على» - رضى الله عنه - مستندين فى ذلك
إلى حديث «غديرخم» الشهير، وقد لجأت الإسماعيلية بعد وفاة
إمامهم «إسماعيل بن جعفر» إلى الاختفاء والعمل السرى، فقد
افترق أشياع «جعفر الصادق» بعد وفاته إلى فرقتين، ولت الأولى
ابنه «موسى الكاظم» إمامًا، وولت الثانية ابنه «إسماعيل» إمامًا،
فعُرِفَت الفرقة الأولى بالإمامية أو الاثنا عشرية؛ لأنها سلسلت الإمامة
حتى الإمام الثانى عشر «محمد» المُلقب بالمهدى المنتظر ابن الحسن
العسكرى ابن على الهادى ابن محمد الجواد بن على الرضا بن
موسى الكاظم، وعُرفت الفرقة الثانية بالإمامية الإسماعيلية؛ لأنهم
أبقوا الإمامة فى ذرية «إسماعيل بن جعفر»، ثم من بعده ابنه
«محمد»، فابنه «جعفر الصادق»، فابنه «محمد الحبيب»، فابنه
«عبيدالله المهدى» مؤسس الدولة الفاطمية.
دخول الفاطميين مصر:
جانب التوفيق الحملات الثلاث التى أُرسلت من قبل الفاطميين لفتح
«مصر» فى عهد أسلاف «المعز»، ولكن الوضع العام فى المشرق
كان ينبئ بنجاح الحملة الرابعة، للضعف الذى حلّ بدار الخلافة فى
«بغداد»، وكذلك ما وصلت إليه حال «مصر» من ضعف وبؤس وشقاء
فى أواخر عهد «كافور»، كما كان لانخفاض النيل الذى استمر تسع
سنوات أثر كبير فى انتشار الوباء والقحط فيها، فلم تستطع «مصر»
مواجهة الغزاة، كما عجزت -بعد «كافور» - عن صد هجوم ملك
«النوبة» من الجنوب، وثار الجند لعدم دفع رواتبهم، ونشط جواسيس(5/21)
«المعز»، وتوغلوا فى البلاد لنشر المذهب الشيعى، فمال الكثيرون
إلى مذهبهم، وبعث «المعز» رسله إلى «كافور» مُرهِّبة مرة ومُرغِّبة
أخرى للتأثير عليه، وكان استقرار بلاد المغرب ورسوخ أقدام
الفاطميين فيه، وتنظيمهم الدقيق للأمن والإدارة، وحسن إعدادهم
للجيوش والقادة سبب نجاح حملتهم الرابعة على «مصر».
سار «جوهر الصقلِّى» قائد جيوش «المعز» إلى «مصر» فى ربيع
الأول سنة (358هـ)، بعد أن خرج «المعز» لوداعه، وأمر أهله بالترجل
أمام قائده وهو راكب، كما أمر واليه على «طرابلس» أن يسير فى
ركاب «جوهر» ويقبِّل يده، فكبر ذلك على والى «طرابلس»، وأراد
أن يعفى نفسه من ذلك مقابل مائة ألف دينار ذهبًا يعطيها لجوهر،
ولكن «جوهر» رفض هذه الأموال ومضى بجيشه الذى كان يضم مائة
ألف جندى حاملا معه أموالا طائلة قيل إنها بلغت ألفًا ومائتى
صندوق حملها على ظهور الجمال، وحين خرج «المعز» لوداع
«جوهر» والجيش بمنطقة «رقادة» قال لمن كانوا معه: «والله لو خرج
جوهر وحده لفتح مصر». فكان لهذه العبارة أثرها الكبير فى نفس
«جوهر»، وكانت له حافزًا على تحقيق ما خرج من أجله.
وصل «جوهر» إلى «مصر»، وحط رحاله بالإسكندرية التى فتحت
أبوابها من غير مقاومة، فعامل «جوهر» أهلها بالحسنى ووسَّع لهم
فى أرزاقهم، فكان لذلك أثره الطيب فى نفوس الأهالى، كما كان
للنظام الذى ظهر به الجيش، وطاعته لقائده أثره الكبير فى نفوسهم،
فرحبوا بالقائد الجديد.
بلغ أهل «الفسطاط» نبأ استيلاء الفاطميين على «الإسكندرية»،
فندبوا الوزير «جعفر بن الفرات» للذهاب إلى «الإسكندرية» ومقابلة
«جوهر»، فأناب الوزير عنه «أبا جعفر مسلم بن عبدالله الحسينى»
أحد الأشراف العلويين وبرفقته وفد كبير من العلماء والقضاة
والأعيان، وتقابل الوفد مع «جوهر» فى «تروجة» - مكان بالقرب من
«الإسكندرية» - وهنأه الشريف العلوى بالفتح، فقال «جوهر»:
«التهنئة للشريف بما هنأ».(5/22)
طلب الوفد من «جوهر» العهد بإطلاق الحرية المذهبية للمصريين على
اختلاف مذاهبهم وأديانهم، وأن يتعهد بنشر العدل والطمأنينة فى
النفوس، وأن يقوم بإصلاح مرافق البلاد.
حينما اقترب «جوهر» من «الفسطاط» أراد بعض الإخشيديين وأنصار
الوالى - الذين خافوا على نفوذهم من دخول الفاطميين - منعه من
دخول «الفسطاط»، ودارت بينهما مناوشات توسط بعدها الشريف
العلوى «أبو جعفر مسلم» عند «جوهر»، فقبل شفاعته، وعبر الجنود
«نهر النيل»، وطاف صاحب الشرطة فى «الفسطاط» ليعطى الأمان
للناس من جديد، وكان يحمل علمًا عليه اسم «المعز لدين الله».
وفى (17 من شعبان سنة 358هـ) خرج الأعيان والأهالى لتهنئة
«جوهر»، فوجدوه قد حفر أساس قصر «المعز»، ورسم الخطوط
الرئيسية لمدينة «القاهرة»، فلما علم «المعز» بذلك سُرَّ سرورًا
عظيمًا، ولم يلبث الفاطميون فى «مصر» طويلا حتى امتدت دولتهم من
«مصر» شرقًا إلى المحيط الأطلنطى غربًا، وتحقق حلمهم فى
الاستيلاء على «مصر» واتخاذها حاضرة لخلافتهم الشيعية الفتية،
فأخذوا بذلك الخطوة الأولى لمد نفوذهم إلى الشام و «الحجاز» تمهيدًا
للاستيلاء على «بغداد».
سياسة جوهر فى مصر:
عمل «جوهر» على نشر العدل بين أهل «مصر»، وأمَّنهم على
ممتلكاتهم، وجلس للبت فى المظالم بنفسه رغم شواغله، فرد الحقوق
إلى أصحابها، وضرب بيد من حديد على أيدى العابثين بالنظام حتى
إذا كانوا من خاصته؛ لدرجة أنه عاقب بعض المغاربة بالقتل على إثم
كبير اقترفوه، كما برهن «جوهر» على حسن سياسته حين لجأ إلى
الوسائل السلمية لنشر المذهب الفاطمى، ولم يفرضه كرهًا، واتخذ من
المساجد مدارس يتلقى فيها الناس أصول مذهبه الشيعى، وذكر اسم
الخليفة الفاطمى فى خطبة الجمعة وأسقط اسم الخليفة العباسى،
فكان ذلك إيذانًا بزوال النفوذ العباسى، وزوال ملك الإخشيديين.
حكم «جوهر» «مصر» أربع سنوات هى من أصعب الفترات وأخطرها،(5/23)
حيث تم فيها إقامة معالم دولة وتشييدها على أنقاض دولة أخرى؛
فإلى «جوهر» يرجع الفضل فى تأسيس وبناء «القاهرة» المعزِّية،
التى جعل لها أربعة أبواب منها: «باب النصر»، و «باب الفتوح»،
و «بابا زويلة»، كما بنى بها «الجامع الأزهر» لينشر من داخله المذهب
الشيعى. و «الأزهر» هو أول مسجد شُيِّدَ فى «القاهرة» المعزية،
وأقيمت فيه الصلاة لأول مرة فى (17 من رمضان سنة 360هـ)، وقد
اختلف المؤرخون فى سبب تسميته بالأزهر، فقال فريق سُمِّى بهذا
الاسم نسبة وتكريمًا للسيدة فاطمة الزهراء. وقال فريق آخر: تفاؤلا
بما سيكون عليه أمر هذا المسجد من شأن عظيم. وقال فريق ثالث:
سُمى بذلك لأنه كان محاطًا بالقصور الزاهرة التى بنيت عند إنشاء
«القاهرة». وأيا كانت نسبة هذه التسمية إلى الجامع الأزهر؛ فهو
يُعد -الآن- أعظم جامعة إسلامية تُدَّرَسُ فيها العلوم الدينية والعلوم
العقلية، ويقصده آلاف الطلاب من مختلف أرجاء العالم الإسلامى، وقد
أدى خدمات عظيمة للعلم فى مختلف العصور، ونشره فى شتى بقاع
العالم.
إبراز المظاهر الشيعية فى مصر:
لما رأى «جوهر» أن دعائم ملك الفاطميين قد توطدت فى «مصر»،
عمل على تحقيق ما جاء من أجله، فزاد فى الأذان عبارة: «حى على
خير العمل»، وجهر بالبسملة فى قراءة القرآن فى الصلاة، وزاد فى
خطبة الجمعة ما يلى: «اللهم صلِّ على محمد المصطفى، وعلى علىّ
المرتضَى، وفاطمةَ البتول، وعلى الحسن والحسين سبطى الرسول؛
الذين أذهبت عنهم الرجس، وطهرتهم تطهيرًا. اللهم صلِّ على الأئمة
الراشدين آباء أمير المؤمنين الهادين المهتدين»، ونقش على جدران
«مسجد الفسطاط» شعار العلويين باللون الأخضر، كما أضاف فى
أول خطبة بالجامع الأزهر عبارة: «السلام على الأئمة آباء أمير
المؤمنين المعز لدين الله»، وضرب العملة باسم الخليفة «المعز»،
وألغى السواد شعار العباسيين، وعمم الملابس الخضراء شعار(5/24)
العلويين، ثم أرسل إلى «المعز» يستدعيه إلى «مصر»، فوافقه
«المعز»، وخرج من «المنصورية» بالمغرب فى شوَّال سنة (361هـ)،
ووصل إلى «القاهرة» فى رمضان سنة (362هـ)، واستقبله أهل
«مصر» بالفوانيس، فأصبحت عادة فى استقبال شهر رمضان حتى
الآن، وأعلن «المعز» «القاهرة» عاصمة للخلافة الفاطمية، فأصبحت
«مصر» دار خلافة بعد أن كانت دار إمارة.
النفوذ الفاطمى يمتد إلى بلاد الشام:
حينما استقرت الأمور لجوهر الصقلى فى «مصر»، اتجه ببصره تجاه
بلاد الشام، وبذل جهودًا مضنية من أجل مد نفوذ سيده إلى هذه
البلاد، وجهز حملة كبيرة جعل قيادتها للقائد الكبير «جعفر ابن
فلاح»، الذى عُرِف بعقليته العسكرية الفريدة، فخرجت الحملة قاصدة
«دمشق»، واستولت فى طريقها على «الرملة» و «طبرية»، فلما علم
أهل «دمشق» بذلك خرجوا عن بكرة أبيهم حاملين السلاح مشاة
وفرسانًا لمواجهة هذه الحملة، والتقى الطرفان، وبذل أهالى
«دمشق» كل ما فى وسعهم، إلا أنهم هُزِموا فى النهاية، ودخل
«جعفر» وجنوده المدينة، فاعتبرها الجنود غنيمة ونهبوها، ولم
يكبح «جعفر» - بطبيعته الحربية - جماحهم، فقامت الثورة فى
«دمشق»، وتمكن «جعفر» من السيطرة عليها، وقبض على زعمائها،
فهدأت الأحوال، وأُقيمت الخطبة للمعز الفاطمى فى المحرم سنة
(359هـ)، وزال سلطان العباسيين فى الشام.
كان «جعفر» على النقيض من «جوهر» فى الجانب السياسى، ففى
الوقت الذى تمكن فيه «جوهر الصقلى» من كبح جماح جنده، وتأليف
قلوب الناس فى «مصر» حوله ومعاملتهم بالحسنى؛ كان «جعفر»
يتعالى على أهالى «دمشق»، ويغلظ فى معاملتهم، كما ترك جنوده
فعاثوا فى المدينة فسادًا، وتمنى الدمشقيون زوال هؤلاء الفاطميين،
واستنجدوا بالقرامطة والأتراك.
الخطر القرمطى التركى:
كان استنجاد أهل «دمشق» بالقرامطة فرصة للحسن القرمطى
زعيمهم، فاتصل بأمير الرحبة - على «نهر الفرات» - وببعض القبائل(5/25)
العربية، واتحد معهم على الفاطميين، لأن «جعفر بن فلاح» منع عنه
ثلاثمائة ألف دينار كانت «دمشق» تدفعها له سنويا، وخرج «الحسن
القرمطى» بمن اتحد معه قاصدًا «دمشق»، فلما وصل إليها دارت
رحى المعركة، وهُزم جيش الفاطميين، وقُتل «جعفر»، واستولى
القرامطة على «دمشق»، وأمر «الحسن القرمطى» بلعن «المعز
الفاطمى» من فوق المنابر، على الرغم من أن القرامطة شيعة
كالفاطميين.
وقد انتهز الروم فرصة الخلاف بين الفاطميين والشاميين، فأسرعوا
للاستيلاء على «دمشق»، وكانوا يقتلون ويسرقون ويحرقون كل ما
يقابلهم فى طريقهم إليها، ولكن «أفتكين» القائد التركى بالبلاط
العباسى أدركهم، وتفاوض مع إمبراطورهم، وتمكن من شراء رحيله
مع جنوده مقابل ثلاثين ألف دينار، ودخل «أفتكين» «دمشق» دون
قتال، وأعاد الخطبة فيها للخليفة العباسى، ثم عاد القرامطة سنة
(365هـ)، وهاجموا «يافا» و «عكا» و «صيدا»، فتصاعد الخطر، ووجد
الفاطميون أنفسهم بالشام بين شِقَّى الرحا.
العزيز بالله بن المعز:
تولَّى «العزيز بالله» الدولة الفاطمية فى قمة مجدها، ولكنه كان رجلا
لا يعرف المستحيل، وحاول استمالة «أفتكين» القائد التركى إلى
صفه؛ ليجد طريقه إلى الشام، ولكن «أفتكين» أعرض عن مكاتباته،
ورد على محاولاته بصلف وعناد، فبعث إليه «العزيزُ بالله» القائد
«جوهرَ الصقلى» على رأس حملة كبيرة، فلما وصلت الحملة إلى
«دمشق» بعث «جوهر» بالأمان إلى «أفتكين» على أن يترك
«دمشق»، ولكن القائد التركى رفض واستنجد بالحسن القرمطى
الذى جاءه على عجل على رأس جيش كبير تصدى لحملة «جوهر»،
وأجبرها على التراجع عن «دمشق» إلى «الرملة» سنة (366هـ)، ثم
إلى «عسقلان» بعد مناوشات بين الطرفين، فتحصن «جوهر»
بجنوده فى «عسقلان»، وحاصره «الحسن القرمطى» و «أفتكين»،
وطال الحصار حتى نفد ما مع جيش «جوهر» من زاد، فأكلوا دوابهم،
ثم بحثوا عن الميتة فأكلوها من شدة الجوع، فاضطر «جوهر» إلى(5/26)
عرض الصلح على «الحسن القرمطى» و «أفتكين»، وتمت له الموافقة
على هذا الصلح بشرط أن يخرج من باب عُلِّق عليه سيف «أفتكين»،
ودرع «الحسن»، فوافق وخرج ناجيًا برجال حملته بعد أن كانوا قاب
قوسين أو أدنى من الهلاك، وعاد إلى «القاهرة».
لم ييأس الخليفة «العزيز» من تحقيق مراده، وخرج بنفسه على رأس
الجيش إلى «الشام»، وأعطى الأمان للقائد التركى، فرفضه، ودارت
رحى الحرب بين الفريقين فى معركة شرسة، تطايرت فيها النبال
كالأمطار، ولمعت السيوف كالبرق، واشتد الغبار، وانجلت المعركة
عن عشرين ألف قتيل من جيشى القرامطة و «أفتكين»، وأُسِر
«أفتكين»؛ ففداه «العزيز» من أسره بمائة ألف دينار - بإيعاز من
«جوهر» - وحمله إلى «القاهرة»، ثم عفا عنه وأنزله بدار فسيحة،
وأجرى عليه الرزق حتى مات سنة (372 هـ)، على عكس ما كان
متوقعًا، وما هو متبع فى مثل هذه الظروف.
صفا «الشام» للفاطميين، وامتد ملكهم من بلاد «الشام» شرقًا إلى
ساحل «المحيط الأطلسى» غربًا، ومن «آسيا الصغرى» شمالا إلى
بلاد «النوبة» جنوبًا، وخُطب للعزيز بالموصل وأعمالها سنة (382هـ)،
وضُرب اسمه على العملة، وكُتب على الأعلام، وخُطب له باليمن - كما
فُتحت له «حمص» و «حماة» و «شيزر» و «حلب»، فانصرف إلى نشر
عقائد المذهب الشيعى، وأصبحت دواليب الإدارة كلها فى يد الشيعة.
الحاكم بأمر الله:
بويع «أبو على منصور الحاكم بأمر الله» بالخلافة وهو فى الحادية
عشرة من عمره، وعين أستاذه «برجوان» التركى وصيا عليه؛ لذا لم
يكن للحاكم من أمره شىء حتى تم القضاء على الوصى، وحل محله
«ابن عمار الكتامى» المغربى وصيا ووزيرًا، فاستبد بالأمر، ولم يسلم
من شره أحد، سواء كان من الشيعة أو من السنة أو من أهل الذمة،
وكذلك ساءت سيرته بين الجند، فنشب القتال فى شوارع «القاهرة»
و «الفسطاط»، وطالب الجميع بحياة «ابن عمار»، ولكنه اختفى،
وأصبح زمام الأمور فى يد «الحاكم»، وهو بعد فى الخامسة عشرة(5/27)
من عمره، وأنشأ المرصد الحاكمى على سفح المقطم، وقد روى
المؤرخون مواقف غريبة تدل على غرابة أطواره.
حاولت «ست الملك» أخت «الحاكم بأمر الله» ردعه عما يفعل، لكنه
أبى أن يرتدع، فدبرت مع «سيف الدولة بن دواس الكتامى» أمر
قتله، فلما تم ذلك، حمل جثمانه إليها، فدفنته فى مجلسها.
بعد مقتل «الحاكم بأمر الله» خرج اثنان من أتباعه هما: «حمزة
الدرزى»، و «حسن الأخرم»، وبالغا فى وصفه، وأعلنا مذهب الدروز.
الظاهر:
ولى «أبو الحسن الظاهر» الخلافة فى شوال سنة (411هـ)، بعد مقتل
أبيه مباشرة، وكان لعمته «ست الملك» النفوذ والسيطرة فى تسيير
دفة الدولة، وقامت بذلك على أحسن وجه، وبذلت العطاء للجند،
وتمكنت من تهدئة الأمر حتى وافاها الأجل فى سنة (415هـ)، فانتهج
«الظاهر» نهجها وعمل بسياستها، وألغى ما سنَّه أبوه «الحاكم»
من قوانين مجحفة، واهتم بتحسين شئون البلاد وأحوال الرعية،
ومنح الناس الحرية الدينية، فنعموا بالكثير من إنجازاته، وعلى الرغم
من أن مجاعة حدثت فى عهده استمرت ثلاث سنوات، نتيجة انخفاض
النيل، فإنه عمل على تخفيف المعاناة عن الشعب، وعقد اتفاقًا مع
إمبراطور الروم ليمده بالقمح بمقتضاه، على أن يقوم «الظاهر»
بإعادة بناء «كنيسة القيامة» بالقدس.
مرض «الظاهر» بالاستسقاء، ولم يلبث أن تُوفِّى سنة (427هـ).
المستنصر:
ولى «المستنصر» عقب وفاة والده «الظاهر» فى جمادى الآخرة سنة
(427هـ)، ويُعدُّ أطول الخلفاء عهدًا، إذ قضى بالخلافة نحو ستين
سنة، لم تكن على وتيرة واحدة، حيث وصف «ناصر خسرو» «مصر»
فى أوائل عهد المستنصر بقوله: «كانت تتمتع بالرخاء، وأن الشعب
محب لخليفته». وفى الفترة الأولى من عهده بلغ النفوذ الفاطمى
أقصى مداه، إذ دُعى للخليفة على منابر بلاد الشام و «فلسطين»
و «الحجاز» و «اليمن»، بل دُعِى له فى «بغداد» حاضرة العباسيين
نحوًا من سنة، ودُعى له - أيضًا - فى «صقلية» و «شمال إفريقية».(5/28)
وكما شهد «المستنصر» مجد دولته، شهد أيضًا تقلُّصَ نفوذه، فقد
زالت سلطة الفاطميين فى بلاد «المغرب الأقصى» سنة (475هـ)،
واستولى النورمانديون على «صقلية»، وخلع أميرا «مكة»
و «المدينة» طاعتهما - من قبل - فى سنة (462هـ)، وانقطع ماء النيل،
وحدث ما عُرِف فى عهده بالشدة العظمى أو المستنصرية، وغلت
الأسعار، وانتشرت المجاعات والأوبئة حتى قيل إنه كان يموت بمصر
كل يوم عشرة آلاف نفس، ووصل الحال بالناس إلى أكل القطط
والكلاب، فلما لم يجدوها بعد ذلك كان بعضهم يحتال على خطف
بعضهم الآخر ليذبحه ويأكله، وبلغت الشدة منتهاها، وباع المستنصر
جميع ممتلكات قصوره، وقام صراع عنيف بين الأتراك والسودانيين،
وظل الجنود فترة طويلة لا يتقاضون فيها رواتبهم، فنهبوا قصور
الخلفاء، واستولوا على ما فى المكتبات ودور العلم من مؤلفات
باعوها بثمن بخس، واتخذوا من جلودها نعالا وأحذية، واستولى
«ناصر الدولة ابن حمدان» زعيم الجند الأتراك على مقاليد الأمور،
وهدد بإزالة الخلافة الفاطمية، بل حذف اسم الخليفة من الخطبة فى
بعض المناطق، ووصلت الحال بالخليفة إلى درجة أنه لم يتمكن من
حماية أمه من دخول السجن، ففرت مع بناتها إلى «بغداد» طلبًا
للحماية، واستمرت هذه الشدة تسع سنوات، حتى جاء «اليازودى»،
فعالج الأمور، وضبط الأسواق وضرب بشدة على أيدى العابثين،
ولكن الوشاة دسُّوا له عند «المستنصر» بأنه على صلة بالسلاجقة
وأنه يراسلهم، فقتله «المستنصر»، وعادت البلاد ثانية إلى ما كانت
عليه، وظلت تنتقل من سيئ إلى أسوأ مدة تسع سنوات تولَّى
الوزارة فيها أربعون وزيرًا، فاستنجد «المستنصر» ببدر الدين
الجمالى حاكم «عكا»، فأتى على الفور، وألقى القبض على
العابثين والعناصر المتنافرة، وضرب بيد من حديد على أيدى
الخارجين على النظام والقانون، وعَمَّر الريف، واهتم بالزراعة،
وحصن مدينة «القاهرة» التى كانت قد خُربت أسوارها من جراء(5/29)
الفتن، وبنى جامعه المعروف بجامع الجيوش بالمقطم، فتحسنت
الأحوال فى عهده باستثناء إذكائه روح العداء بين الشيعة والسنة،
لأنه كان شيعىا متعصبًا، وظل وزيرًا للمستنصر حتى وافاه أجله فى
عام (487هـ)، بعد أن عهد إلى ابنه بالوزارة من بعده، ليصبح هذا
الأمر تقليدًا جديدًا، لم يُعمَل به من قبل.
المستعلى:
ولى الخلافة بعد أبيه المستنصر سنة (487هـ) على الرغم من حداثة
سنه، وعدم شرعية خلافته لوجود أخيه «نزار» الأكبر منه فى السن،
ولكن الوزير «الأفضل بن بدر» أسهم إسهامًا كبيرًا فى هذا ليتمكن
من السيطرة على الخليفة الصغير، وخرج «نزار» إلى الإسكندرية
ليكون فى حماية واليها «أفتكين» فخرج إليهما «الأفضل» بجيش
كبير، ودارت الحرب بين الفريقين، فاضطر «نزار» و «أفتكين» إلى
طلب الأمان، فأجابهما «الأفضل» إلى مطلبهما، ثم قتلهما بعد أن
هدأت الأمور، فانقسم الشيعة على أنفسهم، وأعلنت الباطنية (فرقة
تفرعت عن الشيعة لها معتقداتها الخاصة) وعلى رأسهم «الحسن بن
الصباح» أن نزارًا كان الأحق بالخلافة، لأن «الحسن» زار «مصر»
وسأل «المستنصر» عمن يكون خليفته، فقال له: إنه «نزار».
الآمر:
ظل «المستعلى» خليفة حتى وفاته سنة (495هـ)، وولى ابنه الملقب
بالآمر الخلافة عقب وفاته، ولم يكن حاله مع وزيره «الأفضل ابن بدر»
بأفضل من حال أبيه، وازداد تعصب «الأفضل» لمذهبه الشيعى على
حساب أهل السنة، وأغلق دار العلم؛ لأن بعض أهل السنة دخلوها
وأثروا على بعض مرتاديها من الشيعة، ويؤرخ «المقريزى» لهذا
بقوله: «إن الأفضل ألغى الاحتفالات الخاصة بمولد النبى - صلى الله
عليه وسلم -، ومولد فاطمة ومولد «على» رضى الله عنهما، ومولد
الخليفة القائم بالأمر، وخاف الآمر على سلطانه، فأوعز إليه مَنْ قتله،
ثم قتل مَنْ قتله، وذلك باتفاق مع المأمون البطائحى أحد خواص
الأفضل بعد أن وعده الآمر بالوزارة، فعاد إلى الآمر كثير من نفوذه،(5/30)
وانتقلت إليه ثروة الأفضل التى كانت تُقدَّر بستة ملايين دينار، ولكن
هذا الوضع لم يستمر طويلا، فسرعان مازال نفوذ الخليفة بعد تولِّى
«أبى على ابن الأفضل» الوزارة.
كان الآمر محبا للأدب ومشجعًا للشعراء، وأنشأ «الجامع الأقمر»،
وبنى «قصر الهودج» لزوجته البدوية حتى لا تشعر بغربة فى بيئة
تختلف عن تلك التى نشأت بها. تُوفِّى سنة (524هـ)، ولم يُعقِّب،
فخلفه ابن عمه «الحافظ».
الحافظ:
تولَّى الخلافة عقب وفاة ابن عمه «الآمر»، ولم تكن حاله مع وزيره
«على بن الأفضل» بأحسن من حال ابن عمه، فقد كان يتحكم فيه،
وجعله كالمحجور عليه، ولا يسمح لأحد بزيارته إلا بإذن منه،
وانعطفت سياسة الدولة -فى عهده- انعطافًا خطيرًا يهدد بزوالها،
فقد عين اثنين من القضاة الشيعة، ومثلهما من السنة، وجعل لكل
الحق فى إصدار حكمه وفق مذهبه، ولقب نفسه بالأكمل مالك
فضيلتى السيف والقلم، مولى النعم، رافع الجور عن الأمم، وأسقط
اسم الخليفة من الخطبة، فكانت نهايته القتل جزاءً لما صنع.
لم يكد الخليفة يستريح من سيطرة «ابن الأفضل» حتى وقع تحت
سيطرة ونفوذ «بهرام الأرمنى» والى «الغربية»، الذى تقلد الوزارة،
واستقدم الكثيرين من بنى جلدته حتى تجاوزوا ثلاثين ألفًا، وكلهم
من الشيعة المتعصبين لمذهبهم، فأذاقوا أهل البلاد الهوان، وبنوا
الكنائس والأديرة، فأثار ذلك حفيظة الناس، وثار «رضوان بن
الولخشى» والى «الغربية»، وقاد جيشه، وهاجم به الوزير «بهرام»
الذى انهزم، وفرَّ هاربًا إلى «أسوان»، فتولى «رضوان» الوزارة بدلا
منه، ولكنه ارتكب أعمالا أثارت عليه حفيظة الخليفة، فاستدعى
الخليفة «بهرام» من أسوان ليتولى الوزارة من جديد، فهرب
«رضوان» إلى الشام، ثم عاد إلى «مصر» ثانية على رأس جيش
تصدى له جنود الخليفة، فهزموه وأسروا «رضوان»، ثم قُتل.
تُوفِّى «الحافظ» فى سنة (544هـ)، وقد تميز عصره بالنزاع الدائم من(5/31)
أجل الوصول إلى منصب الوزارة بالقوة والجيوش المسلحة.
الظافر:
ولى «الظافر» عقب وفاة أبيه «الحافظ»، فسلكت الدولة فى عهده
مسلكًا خطيرًا؛ لم يكن معهودًا من قبل؛ إذ استعان الوزراء بالقوى
الخارجية للوصول إلى منصب الوزارة، وأبرز مثال على ذلك ما حدث
بين «ابن السلار» و «ابن مصال»، فقد استعان الأول على منافسه
الثانى بنور الدين محمود صاحب «حلب»، ودارت بين الطرفين حرب
شعواء قُتل فيها «ابن مصال»، ثم تبعه «ابن السلار»، فسعد الخليفة
سعادة بالغة لقتل «ابن السلار» لاستعانته «بنور الدين محمود»،
ودلل الخليفة على مدى سعادته بمكافأته لنصر بن العباس قاتل «ابن
السلار» بمبلغ عشرين ألف دينار.
كان الصليبيون قد أسسوا عدة إمارات لهم - فى ذلك الوقت - بالشام،
وبدأت طموحاتهم تتجه إلى «مصر»، ويتحينون الفرصة لتحقيقها فى
الوقت الذى كان «نور الدين محمود» يترقب فيه الأوضاع للاستيلاء
على «مصر»، وظل كلاهما على ذلك حتى قام «نصر بن عباس» -
بالاتفاق مع والده - بقتل الخليفة «الظافر» وإخوته، فغلت «القاهرة»
كالمرجل، وهرب «عباس» إلى الشام، فقُتل فى طريقه إليها، وقُبض
على ابنه «نصر» ثم وُضِع فى قفص من حديد بعد أن جُدع أنفه،
وقطعت أذناه، وطِيف به فى أنحاء المحروسة، ثم صُلِبَ حيا على
باب زويلة حتى مات، فأُحرقت جثته. وتولى «الفائز» الخلافة.
الفائز:
ترك «الظافر» ابنه «الفائز» وعمره أربع سنوات فحسب، فولى
الخلافة فى هذه السن عام (549هـ)، وكانت البلاد فى حالة من
الفوضى والاضطراب الشديدين، حتى إن نساء القصر لم تأمن على
حياتهن فى ظل هذه الظروف، فاستنجدن بطلائع بن زريك والى
الأشمونيين، الذى حضر على الفور، وقضى على الفتنة والشغب،
وضرب على أيدى صانعى الفتنة، وظل الخليفة - بالطبع - مسلوب
الإرادة حتى وفاته سنة (555هـ).
العاضد:
خلف «الفائز» فى تولِّى الخلافة، فتخلص من الوزير «طلائع» بقتله،(5/32)
وأسند منصبه إلى ابنه «أبى شجاع العادل بن طلائع»، فرأى
«شاور» والى الصعيد أنه أحق بالوزارة من «أبى شجاع»، وقدم
على رأس قواته، وتمكن من خلع «أبى شجاع» من الوزارة، وتنصيب
نفسه مكانه سنة (558هـ)، ولكنه لم يهنأ بمنصبه الجديد إذ استطاع
«ضرغام» أمير البرقية (فرقة من المغاربة» خلعه، فهرب «شاور»
إلى الشام مستنجدًا بنور الدين محمود ليعيده إلى منصبه، فأحس
«ضرغام» بالخطر وخشى من ضياع منصبه فاستنجد بعمورى
الصليبى ملك «بيت المقدس»، ولبى كل طرف نداء مَنْ استنجد به،
وقدمت القوات الإسلامية كما قدمت القوات الصليبية فى ثلاث حملات،
ولكن «أسد الدين شيركوه» قائد حملات «نور الدين محمود» كانت له
عقلية سياسية حكيمة، كما كان يجيد التخطيط الجيد، فتولى الوزارة
بنفسه بعد أن قُضى على الخصمين المتنافرين، وظل على ذلك حتى
مات، فخلفه فى منصبه ابن أخيه «صلاح الدين الأيوبى» السنىُّ
المذهب، فكان بمثابة المسمار الأخير فى نعش الدولة الفاطمية
الشيعية.
انهيار الدولة الفاطمية:
حين علا «صلاح الدين الأيوبى» كرسى الوزارة فى الدولة الفاطمية،
حدث الصدام المتوقع بين المذهبين الشيعى والسنى، فسلب الوزير
السنى من الخليفة «العاضد» الشيعى كل سلطانه، وبات الخليفة
كالمحجور عليه، وصار حبيس قصره، فاستاء أتباع الخليفة وجنوده
من هذا الوضع وقاموا بثورة عارمة، نجح الوزير «صلاح الدين» فى
تشتيتها، فاضطر مشعلوها إلى الهرب نحو صعيد «مصر»، فعمل
«صلاح الدين» على تثبيت قدميه، وتوطيد علاقته بالناس، وحارب
الصليبيين، وحقق انتصارات عظيمة عليهم، وعزل القضاة الشيعة،
وجعل السنيين بدلا منهم، ثم أرسل إلى «نور الدين» يطلب منه أن
يُلحق به أسرته فوافق، وألحقهم به، فقويت شوكته، وأحبه الناس
لسلوكه وسيرته بينهم، فلما اطمأن «نور الدين» إلى استقرار
الأوضاع أرسل إلى «صلاح الدين» يطلب منه إزالة الخلافة الفاطمية،(5/33)
والدعاء للخليفة العباسى، فرفض «صلاح الدين» أول الأمر خوفًا من
عواقب هذا الصنيع، ثم عمد إلى التجربة -بعد أن شاور خلصاءه-
فقرر أن يصعد واحد من الناس المنبر قبل الخطيب، ويدعو للخليفة
العباسى «المستضىء» ليرى ماذا سيفعل الناس، فلما تم له ما أراد،
ولم يثر أحد أسقط الدعاء للعاضد وجعله للمستضىء، فكانت نهاية
الدولة الفاطمية التى حكم ملوكها الأوائل رقعة شاسعة من العالم
امتدت من «المحيط الأطلسى» غربًا إلى «الخليج العربى» شرقًا،
ودُعى لأحد خلفائها على منابر «بغداد» -عاصمة الخلافة العباسية -
عامًا بأكمله.
وكان «العاضد» مريضًا حين سقطت دولته فآثر أهله عدم إخباره
حتى لا يفجع ويزداد مرضه، ولكنه لم يلبث طويلا وتُوفِّى سنة
(567هـ).
علاقات الفاطميين الخارجية:
1 - صقلية:
فتحها «أسد بن الفرات» قاضى الأغالبة، وأسلم أكثر سكانها،
وظلت تابعة للأغالبة إلى زوال ملكهم سنة (296هـ)، ثم أصبحت تابعة
للدولة الفاطمية الإسماعيلية، فحرص الفاطميون عليها لموقعها
الجغرافى، ووفرة مواردها، وخصوبة أرضها، وظلت كذلك حتى عهد
«المستنصر»، فلما حلت الشدة بمصر، وتعرضت للمجاعة، انشغل
الخليفة عن متابعة أمر «صقلية»، فعمتها الثورات، وزادت فيها
الاضطرابات، واستعان بعض أهلها بالفرنجة، فقدموا إليها،
وفتحوها، وفشل «المعز بن باديس» - والى الفاطميين على
«المغرب» - فى استعادتها، وظلت فى أيدى الفرنجة حتى استولى
النورمانديون عليها، فخرجت نهائيًّا من حكم الفاطميين.
2 - البيزنطيون:
تجاورت ممتلكات الدولتين بعد دخول الشام فى حوزة الفاطميين،
وتذبذبت العلاقة بينهما بين السلم والحرب، ففى عصر «المعز» تحالف
البيزنطيون مع القرامطة، ثم مع «أفتكين»، وحاول «العزيز» غزوهم
عن طريق البحر، وعقدت هدنة بينهما مدتها سبع سنوات، ولكن
«باسيل الثانى» الإمبراطور البيزنطى تحالف مع الحمدانيين وحقق(5/34)
بعض الانتصارات على سواحل الشام، وفشل «العزيز» فى صدهم بعد
أن احترق أسطوله فى ميناء «المقس»، فبنى أسطولا آخر، وخرج به
تحت قيادته، ولكنه مرض وتُوفِّى فى «بلبيس»، فتسلم ابنه «الحاكم»
زمام الأمور. وحقق انتصارًا كبيرًا فى «أفامية»، ثم عقدت الهدنة بين
الطرفين لمدة عشر سنوات، ولكن العلاقات عادت إلى التوتر ثانية،
ثم هدأت فى عهد «الظاهر»، وفترة طويلة من عهد «المستنصر»
الذى عقد اتفاقًا مع الإمبراطور البيزنطى «قسطنطين التاسع»، يمد
«البيزنطيون» بمقتضاه «مصر» بالغلال، إلا أن هذا الاتفاق لم يتم
لوفاة الإمبراطور، وتولّى «تيودور» العرش بدلا منه، فنقض العهد،
واشترط شروطًا أخرى لم يوافق عليها «المستنصر» فظلت العلاقات
متوترة وعدائية بين الطرفين حتى نهاية الدولة الفاطمية.
3 - الشام وفلسطين:
جعل الفاطميون «الشام» و «فلسطين» هدفهم عقب استيلائهم على
«مصر»، باعتبارهم ورثة الإخشيديين، فأعدوا الجيوش، وجعلوا عليها
القائد الشهير بالجرأة ذا الكفاءة العسكرية «جعفر بن فلاح
الكتامى»، فخرج بها، واستولى على «الرملة» و «طبرية»، ثم اتجه
إلى «دمشق» واستولى عليها بعد صمود شديد من أهلها، وجعل
الخطبة فيها للفاطميين فى شهر المحرم سنة (359هـ)، وعاث
الكتاميون فى البلاد فسادًا، وعبثوا بكل ما فيها، فاستنجد أهل
«دمشق» بالقرامطة لتخليصهم، فأتوا وانضم إليهم الدمشقيون
وتصدوا لجيش الفاطميين، وتمكنوا من هزيمته وقتل قائده «جعفر»،
ثم خرج عليهم «أفتكين» التركى سنة (364هـ)، وحاول «العزيز بن
المعز» استمالته فلم ينجح، فأخرج إليه «جوهر الصقلى» على رأس
الجيش، ثم خرج إليه بنفسه. وأعاد نفوذ الفاطميين ثانية إلى تلك
البلاد.
وفى سنة (462هـ) حاول السلاجقة الاستيلاء على «الشام» فكان
نجاحهم جزئىا، ثم استتب الأمر أثناء الشدة العظمى التى مرت بها
«مصر»، وأصبح «الشام» و «فلسطين» يتقاسمهما السلاجقة من(5/35)
ناحية، والصليبيون من ناحية أخرى، ولم يبق بحوزة الفاطميين فى
أوائل عهد الخليفة الظاهر إلا «مصر» وبعض البلاد الشامية.
4 - العباسيون فى بغداد:
لاشك أن الخلافتين الفاطمية والعباسية كانتا على طرفى نقيض؛
لاعتقاد كل منهما أنها أحق بالخلافة، وأن الأخرى مغتصبة لها، فقد
قامت الخلافة الفاطمية - أساسًا - فى «إفريقية»، وهى أرض تابعة
للخلافة العباسية، وامتد نفوذهم على مساحة كبيرة من الأرض هى
أيضًا تابعة لهم، مثل «برقة» و «مصر»، ولم يحاول العباسيون صد
الحملة الأخيرة للفاطميين على «مصر»، فتأسست مدينة «القاهرة»
لتنافس «بغداد»، وامتد سلطانها ليشمل «الشام» و «فلسطين»
و «الحجاز»، بل إن البويهيين الشيعة فكروا فى إلغاء الخلافة
العباسية فى «بغداد»، إلا أن خوفهم على نفوذهم هو الذى منعهم
من إتمام هذا الأمر، ففضلوا خليفة سنيا ضعيفًا خاضعًا لهم على خليفة
فاطمى قوى يخضعون له، ومع ذلك فقد جاهر «بهاء الدولة بن بويه»
بمناصرته للفاطميين، فأصدر الخليفة العباسى «القادر» منشورًا فى
سنة (402هـ) يقدح فيه فى نسب الفاطميين، وحذا ابنه وخليفته
«القائم» حذوه، وطعن فى نسبهم، وشفع ذلك بوثيقة عليه توقيعات
علماء «بغداد»، تمامًا كما فعل أبوه من قبل، ولكن هذا لم يؤتِ
ثماره المرجوة، وامتد النفوذ الفاطمى حولا كاملا، مما جرَّأ العامة
على نهب دار الخلافة العباسية، وأُرْسِلَت عمامة الخليفة القائم
وعرشه وخلعته إلى «القاهرة»، ثم بيعت أثناء الشدة المستنصرية،
وظل أمر الشيعة غالبًا بالعراق حتى استنجد الخليفة بالسلاجقة،
فقدِم «طغرل بك» وقتل «البساسيرى» سنة (451هـ)، وحاول التوسع
فى الشام على حساب الفاطميين، وتمكن «ملكشاه» من فتح
«الرملة» و «بيت المقدس» و «دمشق» وتقدمت جيوشه صوب «مصر»،
فأوقفها «بدر الجمالى» وتمكن من تحقيق النصر عليها، وبذلك
أصبحت مملكة الفاطميين نهبًا مباحًا لكل طامع، وتقلص نفوذها حتى(5/36)
تمكن «نور الدين محمود» من الاستيلاء عليها بواسطة قائده «صلاح
الدين الأيوبى»، الذى أزالها وأقام على أنقاضها الدولة الأيوبية.(5/37)
الفصل الخامس
*الحضارة والنظم فى العصر الفاطمى
نظام الحكم:
قام نظام الحكم على نظرية الإمامة التى اعتبرها الشيعة حقا لهم.
إرثًا عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ويختلفون فى ذلك عن أهل
السنة القائلين بحق الأمة فى اختيار إمامها، كما يختلفون مع الإمامية
الإثنا عشرية الذين ساقوا الإمامة فى اثنى عشر رجلا من آل البيت،
كان آخرهم «محمد بن الحسن العسكرى»، بينما وقف بها
الإسماعيلية بعد «جعفر الصادق» عند ابنه «إسماعيل» الذى نُسِبَت
الدولة إليه، وركزت كلتا الطائفتين على حق آل البيت فى الإمامة،
وأن مهمة الإمامة هى الحفاظ على تراث النبوة.
الوزارة:
هى أرفع المناصب بعد الخلافة، وكانت تنقسم إلى:
1 - وزارة قلم.
2 - وزارة سيف.
وكان يُطلَق عليها رتبة الوساطة أو السفارة فى أول عهد الدولة،
ولم تظهر كلمة وزير إلا فى عهد «العزيز» ثانى الخلفاء الفاطمىىن
فى «مصر»، وكان يتم اختيار الوزير -غالبًا - من بين أرباب الأقلام،
وتحول هذا المنصب إلى سلطة استبدادية أثناء الشدة المستنصرية؛
فكان «بدر الجمالى» وزير سيف، وبه بدأ عهد استبداد الوزراء،
وتحولت الوزارة إلى وزارة تفويض، وأصبح الوزير متحكمًا فى جميع
أمور الدولة؛ بل أصبح الوزراء يتدخلون فى تولية الإمام وولى
عهده، فعظم أمرهم وقويت شوكتهم.
كان وزير التنفيذ يُلقَّب بالأجَلِّ، أما وزراء التفويض فكانت ألقابهم
تدل على السلطة الواسعة التى تمتعوا بها، مثل: أمير الجيوش،
وكافل قضاة المسلمين، وهادى دعاة المؤمنين، وتلقَّب الوزير
«طلائع بن رزيك» بالملك المنصور، وتلقَّب ابنه «رزيك بن طلائع»
بالملك العادل، وكذلك تلقب «صلاح الدين الأيوبى» آخر وزراء
الفاطميين وأول سلاطين الدولة الأيوبية بالملك الناصر، كما وُصِف
بعض هؤلاء الوزراء بالسلطان.
كانت للوزير فى العصر الفاطمى علامات تميزه عن غيره من موظفى
الدولة، وانفرد بلبس زى خاص، وبلغ راتبه خمسة آلاف دينار شهريا،(5/38)
وكان له حق الجلوس بجوار الخليفة، وكان مجلسه بدار الوزارة
الكبرى - التى بُنى لها قصر كبير بجوار باب النصر - لا يقل فى الأبهة
والعظمة عن مجلس الخليفة نفسه.
واشتُرط فيمن يتولى منصب الوزارة أن يكون مخلصًا لعقيدة الدولة،
وأن تكون لديه المهارة فى تدبير الأموال، ولذلك تولى وزارات
التنفيذ وزراء من أهل الذمة ظلوا على عقيدتهم.
نظام الإدارة:
ورث الفاطميون نظام العباسيين فى الإدارة، فعملوا على تركيز
السلطة فى أيديهم، وأصبح نظامهم الإدارى شديد المركزية تُدار
شئونه من داخل القصر، باستثناء بعض الظروف النادرة التى نُقل
فيها ديوان الوزارة إلى دور الوزراء، وسرعان ما يعود إلى القصر
ثانية.
انقسمت الشئون الإدارية فى عهد الفاطميين إلى:
1 - ديوان الإنشاء الذى يقوم بتنفيذ أوامر السلطة العليا.
2 - ديوان المالية، ويقوم بجباية الأموال وإنفاقها.
3 - ديوان الإدارة المحلية التى تحكم الولايات.
وتفرع عن كل ديوان من هذه الدواوين أقسام عديدة، كان لكل منها
عمل معين، وعلى الرغم من محاولة «جوهر الصقلى» إحلال المغاربة
محل المصريين فى الوظائف الإدارية، فإنه فشل فى ذلك، لجهل
البربر بدقائق الإدارة، فبقى المصريون من المسلمين وأهل الذمة فى
مناصبهم الإدارية، وتشير المصادر التاريخية إلى استخدام القبط
واليهود - بكثرة - فى مختلف دواوين الدولة.
النظام الدينى:
أطلِق لقب: «أصحاب الوظائف الدينية» على علماء الدين فى العصر
الفاطمى، وكانت هذه الوظائف تضم:
1 - القضاء: ويعتمد على التشريع الإسماعيلى.
2 - الدعوة: وتعتمد على العقيدة الشيعية للدولة.
ويتفق التشريع الشيعى مع التشريع السنى فى أن كلا منهما يعتمد
على القرآن الكريم والسنة النبوية كأساس للتشريع، مع اختلاف
جوهرى هو أن الفاطميين وضعوا تأويلا باطنيا لنصوص القرآن
والسنة؛ فالصلاة - مثلا - هى الفرائض الخمس المعروفة، ولكن معناها(5/39)
الباطنى هو الإخلاص للإمام الباطنى، ولذلك لا يقبلون من الأحاديث إلا
ما رواه آل البيت ونُقل عنهم، حتى وإن كانت هناك أحاديث مشتركة
بين الطرفين اختلف رواتها.
لم يمنع المذهب الشيعى الاجتهاد، ولكنه اشترط أن يكون هذا
الاجتهاد قائمًا على الأصول التى وضعها الفاطميون، ولذا أصبح
اجتهاد الشيعة مقيدًا.
تولى أصحاب الوظائف الدينية الإشراف على القضاء فى أرجاء
الخلافة، فكان منهم: قاضى القضاة، وصاحب المظالم، والمحتسب،
وصاحب الشرطة.
وقامت الدعوة على أسس العقيدة الشيعية؛ لأن الدولة الفاطمية دولة
قامت على أسس مذهبية، وكانت دعوتها تُسمَّى رسميا: الدعوة
الهادية، أو الدعوة العلوية، وكان الهدف من هذه الدعوة تأييد حكم
الفاطميين ليترسخ فى النفوس حق الفاطميين فى حكم العالم
الإسلامى، فأيدت حق الإمام المطلق فى ولاية أمر المسلمين، ولجأت
إلى تأويل القرآن بما يتفق مع تأييد وجهة نظرها، بزعم أن أبناء
«فاطمة» بنت رسول الله وذريتها هم وحدهم القادرون على هذا
التأويل، ولديهم معنى واضح وآخر باطن لكل كلمة قرآنية.
بمجىء الفاطميين إلى «مصر» أصبحت «القاهرة» مقر داعى الدعاة؛
الذى له حق الإشراف على الدعوة فى «مصر» والعالم الإسلامى،
وعليه إرسال الدعاة فى أنحاء العالم أجمع للتبشير بمذهب
الفاطميين، ولهذا كان يجب عليه أن يكون عالمًا بالمذهب
الإسماعيلى، عارفًا بأسرار العقيدة، بليغًا، ذكيا، عالمًا بقواعد
الدين.
كانت مجالس الدعوة تُعقد بصفة منتظمة ودورية، فخصص يوم الأحد
للرجال، ويوم الثلاثاء للأشراف والشخصيات المرموقة، ويوم الأربعاء
للنساء، وكانت المحاضرات المقروءة فى هذه المجالس تُسمَّى:
مجالس الحكمة، أو مجالس الدعوة، فإذا فرغ الداعى من إلقاء
محاضرته تزاحم عليه الناس فى طقوس غريبة، فيمسح على رءوسهم
برقعة وضع عليها الخليفة توقيعه.
كان الداعى يلى قاضى القضاة فى الرتبة والمكانة، وكان راتبه(5/40)
الشهرى مائة دينار مثل راتب القاضى، وتلقَّب بألقاب فخمة مثل:
«الشيخ الأجلّ»، وكانت له سلطة روحية غير محدودة على جميع
الشئون السياسية والدينية فى الدولة.
النظام الحربى:
كان الجيش الفاطمى من أقوى الجيوش فى عصره، وكانت له دواوين
خاصة قامت على تنظيمه وإعداده، كديوان الجيش الذى أشرف على
إعداد الجنود وأعدادهم، وديوان الرواتب الذى اختص بتسجيل
العطاءات، وديوان الإقطاع الذى اختص بالنظر فى الإقطاعات التى
تمنحها الدولة لبعض العسكريين مقابل قيامهم بواجبات معينة، وقد
أتت مكانة قائد الجيش بعد صاحب الباب الذى كان يلى الوزير
مباشرة، وتميز قادة الجيش عن بعضهم بعلامات يحملونها، وسكن
الجنود فى معسكرات خاصة بهم حتى لا يضايقوا الأهالى فضلا عن
تواجدهم فى مراكز الحدود.
روى «المقريزى»: «أن خزائن المال وأمتعة الجيش حملها عشرون
ألف جمل، حين خرج جيش العزيز قاصدًا الشام، وعمل الفاطميون
على تزويد الجيش بأحدث أنواع الأسلحة. ولذا يمكن القول بأن الجيش
الفاطمى كان جيد الإعداد مثل غيره من جيوش الدول الكبرى آنذاك».
قام الأسطول الفاطمى بعدة حملات بحرية فى البحر المتوسط أثبت
خلالها شدة بأسه، وكانت له غزوات مظفرة على «بيزنطة»
و «إيطاليا» و «فرنسا» و «إسبانيا»، ويروى «القلقشندى» أن وحدات
الأسطول الفاطمى كانت مرتبة ومتواجدة بجميع الشواطىء
الساحلية، ماعدا سواحل الشام التى فقدوا سيطرتهم عليها فى القرن
الأخير من حكمهم، فقد غلبهم عليها الصليبيون.
خصصت الدولة الفاطمية جزءًا كبيرًا من ميزانيتها للإنفاق على إعداد
الجيش وتجهيز رجاله بما يحتاجون إليه من أدوات الحرب وغيرها،
وكان للجيش ديوان خاص يُدعى «ديوان الجهاد»، وأُنشئت الموانئ
لبناء السفن التى كان بعضها يتسع لحمل ألف وخمسمائة شخص،
وأصبح الأسطول الفاطمى من أكبر الأساطيل، وبقى نموذجًا احتذى
به الأيوبيون والمماليك.
مُنْشآت الفاطميين:(5/41)
تميز العصر الفاطمى بمنشآته العديدة، وكان على رأسها تأسيس
«القاهرة»، وإنشاء «الجامع الأزهر»، وتشييد «القصر الشرقى»،
و «القصر الغربى»، و «قصر البحر»، و «قصور عين شمس»، و «جامع
الحاكم»، و «جامع الأولياء».
تأسست مدينة «القاهرة» سنة (358هـ) لسبعة عشر يومًا خلت من
شهر شعبان، واختطت قبائل البربر مساكنها حول قصر «المعز» بها.
وأصبحت منذ ذلك اليوم مقرا للحكم، ومركزًا لنشر الدعوة الشيعية،
وحصنًا يصد هجمات الأعداء، وأطلق عليها اسم «المنصورية» نسبة
إلى «المنصور» والد «المعز»، وقد اختلف المؤرخون فى سبب
تسميتها بالقاهرة؛ فذكر «ابن دقماق»: أن أساسها حُفِر أثناء طلوع
كوكب يُقال له «القاهر» فسميت به. وقيل إن «المعز» قال لجوهر
الصقلى: «لتدخلن فى خرابات ابن طولون، وتبنى مدينة تقهر الدنيا»،
فلما حدث ذلك سماها «جوهر» «القاهرة»، وهناك من ذكر أنها
سُميِّت بذلك لأنها تقهر من يشذ عنها.
أحاط «جوهر» «القاهرة» بسور كبير من الطوب اللَّبِن، وإلى الجنوب
الشرقى منها كانت مدينة «الفسطاط»، وإلى الغرب منها وقع ميناء
«المقس»، ثم وضع «جوهر» أساس القصر الذى شيده من أجل مولاه
«المعز»، ذلك القصر الذى قيل عنه إنه احتوى على أربعة آلاف
حجرة، وتأثَّث بفاخر الرياش، وبأفخر ما يحتاج إليه خاصة الناس
لاسيما الملوك والخلفاء.
كانت «القاهرة» مدينة الخاصة، فلم يكن أحد يسكنها إلا الخليفة
ورجاله، وقد بنى «العزيز بن المعز» فيها قصرًا عُرِف بالقصر
الغربى، فعرفت المنطقة الواقعة بين قصرى «المعز» و «العزيز» -
الشرقى والغربى- باسم: «بين القصرين»، وكان «الأزهر» أول مسجد
شُيد فى «القاهرة» المعزية، وقد شرع «جوهر» فى بنائه يوم السبت
الموافق (4 من رمضان سنة 359هـ)، وأقيمت الصلاة به لأول مرة فى
(7 من رمضان سنة 360هـ)، وصار منذ ذلك الوقت إلى الآن أشهر
جامع فى العالم الإسلامى، وكان «على ابن النعمان» أول مَنْ مارس(5/42)
التدريس فيه، حيث أملى على الطلاب مختصر أبيه «القاضى النعمان»
فى الفقه على المذهب الشيعى، كما كان «العزيز بالله» أول مَنْ
حَوَّل «الأزهر» من مسجد تُقام فيه الصلاة إلى جامعة تُدرس فيها
العلوم، وهو أول مَن أجرى الأرزاق على طلاب العلم فيه، وتبعه فى
ذلك الخلفاء والأمراء والوزراء؛ فبنوا الأروقة لتكون منازل مُعَدَّة
لسكنى الطلاب، وجعلوا لكل بلد رواقًا خاصا بطلابه، فكان هناك
رواق الصعايدة، ورواق المغاربة، ورواق الأكراد .. الخ.
وبنى «العزيز بالله» قصورًا عديدة فى «عين شمس»، وأسس «قاعة
الذهب»، وبدأ بناء مسجد أتمه ابنه «الحاكم» وفرشه بستة وثلاثين
ألف متر من الحصر، وأضاءه بالقناديل، وعلَّق على أبوابه الستور
الحريرية، وحبس عليه أملاكًا كثيرة لرعايته والإنفاق عليه، وفى سنة
(395هـ) أنشأ «الحاكم» «دار الحكمة» وألحق بها مكتبة كبرى أطلق
عليها اسم «دار العلم»، وأنشأ «الظاهر» «قصر اللؤلؤ»؛ الذى يُعدُّ
من أجمل قصور العصر الفاطمى، وظل مكانًا يلجأ إليه الخلفاء من
بعده وقت فيضان النيل.
ولنا أن نشير إلى اهتمام خلفاء الدولة الفاطمية ووزرائها بإقامة
المنشآت على النيل؛ لتوزيع المياه بطريقة تكفل زراعة أكبر مساحة
من الأراضى.
الحالة الاقتصادية:
وجَّه الفاطميون اهتمامهم إلى الزراعة والصناعة والتجارة، وفرضوا
الضرائب على بعض المنتجات، فقد قاست «مصر» الأمرَّين فى أواخر
الدولة الإخشيدية؛ حيث انخفض ماء النيل، وعم القحط وانتشر الوباء
لدرجة أن الناس عجزوا عن تكفين موتاهم، فلما فتح «جوهر»
«مصر»، منع احتكار الحبوب، وعهد إلى المحتسب برقابتها فى
الأسواق، ثم عاد الخير إلى «مصر» ثانية بعودة مياه النيل إلى
الزيادة، فبلغت الأرض المنزرعة فى عهد «المعز» (285 ألف فدان)،
وارتقت البلاد زراعيا بفضل إنشاء القناطر وإقامة السدود، وتنظيف
الترع والمصارف، ثم حدثت المجاعة التى عُرفَت بالشدة العظمى فى
عهد «المستنصر».(5/43)
بزغ نجم «مصر» عاليًا فى مجال الصناعة فى عهد الفاطميين، وبرع
المصريون فى صناعة المنسوجات، وزادت ثروتهم من صادرات هذه
الصناعة لاسيما منتجات «دمياط» و «تنيس» و «الأشمونيين»، التى
نالت منسوجاتها شهرة عالمية. كذلك ارتقت صناعات الفرش والسجاد
والسيرج والذهب والفضة، ورُصِّع عرش الخلافة الفاطمية بمائة وسبعةَ
عشر ألف مثقال من الذهب، ووُضع ستار قبالة هذا العرش رُصِّع بألف
وخمسمائة وستين قطعة من الجواهر المختلفة الألوان، وحُلى
بثلاثمائة ألف مثقال من الذهب الخالص، وكان لدى المستنصر طاووس
من الذهب مرصع بالأحجار الكريمة، وعيناه من الياقوت، وريشه من
الزجاج المموه بالذهب، كما وجد بدار الوزير «الأفضل» ثمانية تماثيل
لثمانى جوارٍ متقابلات، أربع منهن بيضاوات والأربع الأخر لونهن
أسود، مرتديات أفخر الثياب، متزينات بأثمن الجواهر، إذا دخل
«الأفضل» من باب المجلس نكسن رءوسهن إجلالا له.
كذلك برع المصريون فى صناعة الأطباق والصحاف والزجاج، لدرجة
أنهم استطاعوا إنتاج نوع شفاف من الزجاج يشبه «الزمرد» لنقائه
الشديد فكان يباع بالوزن.
وقد نشطت التجارة بين «مصر» والعالم نشاطًا ملحوظًا، وكانت حركة
السفن التجارية لا تتوقف غدوا ورواحًا بميناءى «عيذاب»، و «القلزم»
(السويس)، وكانت نسبة الضرائب تزيد وتنقص تبعًا لزيادة المحصول
وقلته نتيجة الزيادة أو النقصان فى ماء النيل، وبلغت ضريبة الفدان
فى عهد «المعز» سبعة دنانير، وبلغت ضريبة الرءوس دينارًا وربع
الدينار عن كل فرد، ثم كانت الجزية التى تُحصَّل من قادرى اليهود
والنصارى دون ظلم أو إجحاف مقابل رعايتهم وإعفائهم من الخدمة
العسكرية، ولم تكن الجزية مبلغًا كبيرًا لقلة عدد اليهود والنصارى
بعد تحول معظم المصريين إلى الإسلام.
وفرضت الضرائب على الصناع والحرفيين، وروعى فيها العدل -غالبًا-
أثناء قوة الخلافة الفاطمية وخلفائها، فلما حَلَّ الضعف بها وتسلط(5/44)
الوزراء على الخلفاء والبلاد؛ أُهملَت النواحى الاقتصادية، ولم يراعِ
هؤلاء الوزراء حالة المواطنين، فكان ذلك سببًا فى فتح أبواب البلاد
أمام الطامعين.
طوائف الشعب:
كان سواد الشعب المصرى من أهل السنة حين دخلها الفاطميون،
فحاولوا نشر مذهبهم الشيعى بالترغيب مرة وبالترهيب أخرى،
ومنحوا العطايا والهبات، فكان لذلك أثره الكبير فى اعتناق
الكثيرين للمذهب الشيعى، فضلا عن رغبة البعض فى الإبقاء على
وظائفهم؛ إذ تحتم على من يرغب فى الإبقاء على وظيفته اعتناق
المذهب الشيعى.
وكان المغاربة وعلى رأسهم الكتاميون الذين قدموا مع الجيش
الفاطمى، وقامت دولة الفاطميين بسواعدهم - ضمن طوائف الشعب
بعد أن استقر لهم الأمر، وطاب لهم العيش بمصر، وكذلك كان هناك
أهل الذمة من اليهود والنصارى؛ الذين تقلدوا مناصب رفيعة. وشغلوا
معظم الوظائف المالية، تُضاف إليهم طائفة الأتراك الذين كثر عددهم
منذ عهد الطولونيين، وظلوا بمصر، فدار بينهم وبين المغاربة تطاحن
وتنابذ فى عهد الحاكم، أما السودانيون فقد كثر عددهم منذ «كافور
الإخشيدى»، وقويت شوكتهم فى عهد «الحاكم»، فاستعان عليهم
بالأتراك، ثم زاد خطرهم ثانية وقويت شوكتهم حين تزوج «الظاهر»
واحدة منهم.
مكانة المرأة:
كان للنساء شأن كبير فى الدولة الفاطمية، لدرجة أنهن كن يتدخلن
فى توجيه سياسة الدولة، وحققت الكثيرات منهن ثروات طائلة، مثل:
«رشيدة ابنة المعز لدين الله»، التى بلغت ثروتها مليونًا وسبعمائة
ألف دينار، وكان لأختها «عبدة» خزائن عديدة ملأى بالحلى،
وصناديق كثيرة يحوى كل منها خمسة أكياس من «الزمرد» وثلاثمائة
قطعة فضية وثلاثين ألف ثوب صقلى وغير ذلك، وامتلكت الملكة
«تغريد» زوج «المعز» أموالا طائلة، وشيَّدت مسجدًا بالقرافة.
تزوج «العزيز» امرأة نصرانية من الروم، وعين أخويها بطريركين
بالإسكندرية و «بيت المقدس»، وولدت «للعزيز» ابنه «الحاكم» وابنته(5/45)
«ست الملك»، فكان لها نفوذ كبير، ثم كان لابنتها «ست الملك» من
النفوذ والدهاء ما مكنها من تأجيل انهيار الدولة الفاطمية فترة طويلة
بعد أن أزاحت «الحاكم» عن العرش، كما سبق ذكره، وتركت «ست
الملك» ثروة ضخمة كان منها ثمانمائة جارية وعدد كبير من الأحجار
الكريمة، وبلغت مخصصاتها السنوية خمسين ألف دينار، وكانت زوجة
«الظاهر» وهى أم «المستنصر» من النساء اللاتى حظين بنفوذ كبير
فى الدولة الفاطمية، فأكثرت من بنى جلدتها السودانيين حتى وصل
عددهم إلى خمسين ألفًا.
لم يكن لنساء العامة أى أثر فى الحياة السياسية، ولم تذكر المصادر
أى نشاط لهن فى الدولة الفاطمية، فقد كان ذلك مقصورًا على نساء
الطبقة الحاكمة.
المواسم والأعياد:
كان للمصريين أعيادهم المختلفة ومواسمهم المعينة قبل الفتح
الإسلامى، علاوة على ما استجد من الأعياد الدينية بعد الفتح
الإسلامى، وبما أن الدولة الفاطمية دولة دينية مذهبية، فقد كانت
الحفلات بالنسبة إلى خلفائها مناسبة لتأكيد عقيدتهم، وعملوا على
صبغها بالصبغة المذهبية، فمن الأعياد التى كانت موجودة قبل الفتح
الإسلامى وظلت باقية بعده «عيد وفاء النيل» الذى ظل تقليدًا بعد
الفتح مع إدخال بعض التعديلات على الاحتفال به لتتناسب مع الدين
الإسلامى، وكان هناك «عيد الغطاس» الذى يحتفل فيه النصارى
بذكرى المسيح فى ليلة (11 من طوبة = 9من يناير)، وذكر
«المقريزى» أنها أحسن ليلة تكون بمصر وأشملها سرورًا ولا تغلق
فيها الدروب»، وعيد «النوروز» الذى يقول عنه «المقريزى»: «إنه
أول السنة القبطية بمصر، وهو أول يوم من توت، و «عيد الميلاد» فى
(29 من كيهك)، و «خميس العهد».
أما الأعياد والمواسم الدينية التى عرفها المصريون بعد الفتح
الإسلامى؛ فلم تأخذ شكلها الفخم ومظهرها الرائع إلا بعد مجىء
الفاطميين، ومن أشهر هذه الأعياد: «عيد رأس السنة الهجرية»، الذى
كانوا يعدون العدة للاحتفال به ابتداء من العشر الأواخر من شهر ذى(5/46)
الحجة، فكان الاحتفال به مثالا للروعة والبهاء، كما كان لهم كبير
اعتناء بليلة أول المحرم من كل عام، وبأعياد ليالى الوقود الأربعة
وهى: الأول من رجب ونصفه، والأول من شعبان ونصفه، وكذلك
بعيدى «الفطر» و «الأضحى»، وفيهما تُقَام الولائم وتُعدُّ الموائد
للشعب، وفى الثانى عشر من شهر ربيع الأول من كل عام يقام
الاحتفال بالمولد النبوى الشريف بمراسم خاصة فخمة تليق بالمكانة
العظيمة للنبى - صلى الله عليه وسلم - فى نفوس المسلمين. ذلك
بالإضافة إلى أعياد الشيعة المذهبية كعيد «غديرخم» نسبة إلى
الغدير الموجود بهذا الاسم بين «مكة» و «المدينة»، ويذكر الشيعة أن
النبى - صلى الله عليه وسلم - نزل بموضع «الغدير»، وآخى «علىَّ بن
أبى طالب» فى عودته من «مكة» إلى «المدينة» بعد حجة الوداع
سنة (10هـ)، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «علىٌّ منى كهارون من
موسى، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر مَنْ نصره،
واخذل مَنْ خذله»، فاعتبر الشيعة هذه المقولة بمثابة وصية من
الرسول لعلىّ، وأنه أحق بالخلافة من غيره. ومن احتفالات الفاطميين
احتفال بذكرى مقتل «الحسين بن علىّ» -رضى الله عنهما - وهو
عندهم يوم حزن يُمدُّ فيه سماط يُسمَّى «سماط الحزن»، ذلك إضافة
إلى أعياد أخرى مثل الاحتفال بإرسال الكسوة بصحبة قافلة الحج،
والاحتفال بشهر رمضان، والاحتفال بذكرى مولد الكثير من الأئمة،
ومولد الخليفة القائم بالأمر.
ولا يعرف التاريخ دولة إسلامية استطاعت طبع «مصر» بطابع قوى
وجديد مثلما فعلت الدولة الفاطمية، التى مرت عبر صفحات التاريخ
شأنها شأن أىة دولة تباينت قوة وضعفًا، واعتورها الصواب
والخطأ، بيد أنها سطرت صفحة ناصعة من ألمع الصفحات فى التاريخ
الإسلامى تمثلت فى «الجامع الأزهر» ومدينة «القاهرة».(5/47)
الفصل السادس
*الدولة الأيوبية
[567 - 648 هـ = 1171 - 1250م].
أصل الأيوبيين:
يرجع أصل الأيوبيين إلى «نجم الدين أيوب» الكردى الأصل، وأبوهُ
يُدعَى «شادى» من قبيلة «الهذبانية» إحدى القبائل التى استقرت
ببلدة «روبن» بأطراف «أرمينية». اتصل «شادى» والد «نجم الدين
أيوب» برجل اسمه «بهروز» كان مربيًا لأبناء السلطان السلجوقى
«مسعود»، ثم أصبح حاكمًا لبغداد تحت سلطة السلاجقة سنة
(502هـ)، وكانت له مكانة سامية لدى السلطان السلجوقى، فأقطعه
السلطان «قلعة تكريت»، فأسند «بهروز» حراستها إلى «نجم الدين
أيوب بن شادى»؛ الذى ظل فى حكمها وحراستها عدة سنوات
اكتسب خلالها الخبرة بشئون الإدارة، وتمتع فيها بحب الأهالى.
دب خلاف بين «بهروز» و «نجم الدين أيوب»، فخرج «نجم الدين»
وأخوه «شيركوه» وأهلهما من «تكريت» عقب هذا الخلاف سنة
(532هـ)، فحزن الأهالى على ذلك حزنًا شديدًا؛ لما كان يحظى به
«نجم الدين» من محبة فى قلوبهم.
اتصال أيوب بعماد الدين زنكى:
خرج «أيوب» من القلعة، وعزم على المغامرة فى حوادث الشرق
الأدنى، وربط مستقبله بشخصية «عماد الدين زنكى» الذى عظمت
مكانته، واشتدت قوته، ورحب بمقدم أسرة «أيوب» إلى «الموصل»،
واستقبلهم وأكرم وفادتهم، ثم أسند حكم «بعلبك» بعد فتحها إلى
«أيوب» سنة (534هـ)، وقلد «شيركوه» قيادة الجيش؛ فكانا عند
حسن ظنه، وأصبح «أيوب» محبوبًا من رعيته لعدله، واتصف
«شيركوه» بالشجاعة والإقدام والمغامرة وحب القتال.
صلاح الدين الأيوبى:
شاءت الأقدار أن يولد لأيوب ولد أسماه «يوسف» ليلة رحيله عن
«قلعة تكريت» سنة (526هـ)، فنشأ «يوسف» فى بلاط «زنكى»
بالموصل وعُرف باسم «صلاح الدين»، وقضى طفولته فى ظل والده
«أيوب» ببعلبك، وأخذ عنه براعته فى السياسة، وشجاعته فى
الحروب، فشب خبيرًا بالسياسة وفنون الحرب، وتعلم علوم عصره
وتثقف بثقافة أهل زمانه، وحفظ القرآن، ودرس الفقه والحديث.(5/48)
رحل «صلاح الدين يوسف» مع والده إلى «دمشق» بعد وفاة «عماد
الدين زنكى»، ثم دخل فى خدمة «نور الدين بن عماد الدين زنكى»
سلطان «حلب»، فاستعان «نور الدين» بشيركوه وابن أخيه «صلاح
الدين» فى ضم «مصر» إليه.
قيام الدولة الأيوبية:
فى أواخر العصر الفاطمى قام صراع محموم بين «شاور» و «ضرغام»
على منصب الوزارة، فاستنجد «شاور» بنور الدين محمود، فلبى
نداءه وأرسل حملة كبيرة تحت قيادة «شيركوه» ومعه ابن أخيه
«صلاح الدين»، فكان النصر حليف الحملة على «ضرغام» والصليبيين
الذين استنجد بهم، وقُتل «شاور» فى المعركة، فاعتلى «أسد الدين
شيركوه» كرسى الوزارة، ولكنه تُوفِّى بعد قليل، فخلفه فى
المنصب ابن أخيه «صلاح الدين» سنة (565هـ) وهو فى الثانية
والثلاثين من عمره.
عمل «صلاح الدين» على توطيد مركزه فى «مصر»؛ لتأسيس دولة
قوية تحل محل الدولة الفاطمية التى ضعفت، وتحقق له ذلك بعد وفاة
«العاضد» آخر خلفاء الدولة الفاطمية سنة (567هـ).
العقبات التى اعترضت صلاح الدين:
لم تكن الأوضاع مهيأة أمام «صلاح الدين» لإقامة دولة إسلامية يكون
هو مؤسسها وسلطانها، خاصة أن العالم الإسلامى كان مفككًا
وضعيفًا ويحيط به الأعداء من كل جانب، بالإضافة إلى كونه نائبًا عن
«نور الدين محمود» فى «مصر» التى يطمع الصليبيون وبقايا
الفاطميين فى امتلاكها والسيطرة عليها، فعمل على مواجهة هذه
العقبات والقضاء عليها واحدة بعد الأخرى كالآتى:
أ - إلغاء المذهب الشيعى فى مصر:
كان «صلاح الدين» وزيرًا سنيا فى دولة شيعية، وتولَّى أكبر
المناصب بعد الخليفة، وأصبحت له الكلمة العليا فى إدارة شئون
البلاد، فتحولت مهمته المؤقتة التى جاء من أجلها مع عمه
«شيركوه»، إلى إقامة دائمة بمصر مع ولائه لسيده «نور الدين
محمود»، وحذف اسم الخليفة الفاطمى «العاضد» من الخطبة، وجعلها
للخليفة العباسى ولسيده «نورالدين» من بعده، فزاد حاسدو «صلاح(5/49)
الدين»، وأدرك أن تعدد المذاهب هو السبب الرئيسى فى ضعف
المسلمين، فعمل على إلغاء المذهب الشيعى فى «مصر»، وتم له ما
أراد، وهوى نجم الدولة الفاطمية، وسقطت، وتولى «صلاح الدين»
رئاسة الدولة بعد صراع مرير مع بقايا الفاطميين وأنصارهم، وأصبح
المذهب السنى هو مذهب البلاد.
ب - الفتن الداخلية:
لاشك أن الإصلاح الحقيقى لأى بلد يحتاج إلى فترة كى يتفهمه
الناس ويشعروا به، لذا فقد صعب على دعاة الفتن مسعى «صلاح
الدين» لإصلاح أمر الأمة وتأسيس دولة قوية، خاصة أن الأعداء
يحيطون بمصر من كل جانب، فقامت حركات مناهضة لما يقوم به
«صلاح الدين»، وكان من أشدها وأخطرها: الحركة التى قادها
الشاعر «عمارة اليمن»، الذى طالما مدح الفاطميين وأيامهم، واعتبر
الأيوبيين مغتصبين للعرش الفاطمى، فعمل على إعادة الحكم
للفاطميين، ودعا عددًا كبيرًا من الجند، وانضم إليه المناصرون وبقايا
الفاطميين، وأصبحت حركته خطرًا يهدد دولة الأيوبيين الوليدة، إلا أن
«صلاح الدين» تمكن من إفشالها، وقبض على قادتها، وما كادت
الأوضاع تهدأ حتى قامت فتنة أخرى فى «أسوان» تدعو إلى عودة
البيت الفاطمى، فأرسل «صلاح الدين» أخاه «العادل» الذى تمكن من
دخول «أسوان» والقضاء على هذه الفتنة فى سنة (570هـ).
ج - تطور العلاقة بين صلاح الدين ونور الدين محمود:
لم تكن الفتن الداخلية هى العقبة الوحيدة التى واجهت «صلاح الدين»
فى بداية حكمه لمصر فحسب، ولكنه كان أحد قواد «نور الدين
محمود»، وحكم «مصر» نيابة عنه، وذكر اسمه فى الخطبة بعد
الخليفة العباسى، وضرب السكة باسمه.
وقد كانت تبعية «صلاح الدين» لنور الدين تبعية اسمية، ولم يتدخل
«نور الدين» فى شئونه، وكان هو الحاكم الفعلى لمصر، وله جيشه
وحاشيته، ويتمتع بحب رعيته، ولكن «نور الدين» كان يعتمد على
مساعداته لصد أعدائه من السلاجقة والصليبيين، إلا أن الفتن الداخلية(5/50)
التى قامت فى وجه «صلاح الدين» لم تمكنه من مساعدة «نور الدين»
فى حربه، وظل على ذلك حتى وفاة «نورالدين» سنة (569هـ)،
فتولى من بعده ابنه الملك «إسماعيل بن نور الدين» وكان لايزال
طفلا صغيرًا، فضعفت الدولة فى عهده.
د - وحدة المسلمين:
كان لنجاح «صلاح الدين» فى التغلب على الفتن الداخلية التى
واجهته منذ أن أصبح وزيرًا بمصر، وارتداد الحملة الصليبية إلى
«دمياط» سنة (564هـ) أكبر الأثر فى ذيوع اسمه فى أرجاء العالم
الإسلامى، ونظر إليه الناس نظرة إجلال، واعتبروه أحد القادة
العظماء؛ لوقوفه فى وجه الصليبيين، ونجاحه فى فتح
«اليمن»،ونجاحه فى القضاء على حركة «عمارة اليمن».
وقد أثرت وفاة «نور الدين محمود» على دولته فى بلاد الشام، وقام
تنازع شديد بين الأمراء على مَن يعتلى العرش، وانتهى الأمر بتولية
«إسماعيل بن نور الدين» عرش أبيه وهو مايزال فى الحادية عشرة
منْ عمره، فوقع فريسة للصراع بين الأمراء، وضاعت بذلك هيبة
الدولة النورية وقوتها، وبدت عليها مظاهر التفكك والضعف لدرجة أن
أحد الأمراء لم يقو على مواجهة الفرنجة وقتالهم، فعمل على
مهادنتهم واسترضائهم بالمال؛ ليأمن شرهم ويتجنب مواجهتهم.
كان «صلاح الدين» متابعًا للأحداث التى تجرى فى العالم الإسلامى
من حوله، فقرر التدخل فى شئون «الشام» وضمه إلى «مصر» كى
يحول دون وقوعه غنيمة فى أيدى الصليبيين، وليحمى «مصر»
والإمارات الإسلامية من أى خطر يهددها، وجعل هدفه توحيد صفوف
المسلمين وقوتهم فى جبهة واحدة؛ ليتمكنوا من صد الصليبيين
وحصرهم بين شِقَّى الرحى فى الجزيرة والشام من جهة، وفى
«مصر» من جهة أخرى، وانتظر «صلاح الدين» الفرصة لتحقيق ذلك
حتى واتته الفرصة حين استنجد به بعض أمراء «دمشق»، فسار إلى
الشام وتمكن دون قتال من السيطرة والاستيلاء على «دمشق» سنة
(570هـ)، ثم على «حمص» و «حماة»، وحال الملك «الصالح
إسماعيل» دون دخوله إلى «حلب»، فقرر «صلاح الدين» حصارها،(5/51)
فاستنجد أهالى «حلب» بأعداء الدولة، واضطر «صلاح الدين» إلى
فك الحصار عن «حلب»، واستولى على «بعلبك» ليحمى جيشه من
الخلف، ثم عاد ثانية لحصار «حلب»، وأعلن استقلاله، وحذف اسم
«الصالح إسماعيل» من الخطبة، واتصل بالخليفة العباسى، فمنحه
لقب سلطان.
هـ - السلطان صلاح الدين وتوحيد باقى الولايات الإسلامية:
بعد حصول «صلاح الدين» على لقب السلطان استقل عن أسرة «نور
الدين»، وأصبح حاكم «مصر» الرسمى، وقوى مركزه باستيلائه
على «منبج» و «إعزاز»، وشدد حصاره على «حلب»، وعزلها عن
جيرانها حتى طلب «الصالح إسماعيل» الصلح، فوافق «صلاح
الدين»؛ لأن هدفه كان وحدة المسلمين وحماية بلادهم.
تُوفِّى صاحب «الموصل» سنة (578هـ)، ومن بعده تُوفى «الصالح
إسماعيل»، فعاد الانقسام ثانية من أجل الوصول إلى كرسى الحكم،
فزحف «صلاح الدين» إلى الشام فى سنة (578هـ)، وانضمت إليه
بعض المدن دون قتال، واستولى على «حلب»، وبذا أصبح شمال
الشام كله تحت سيطرته، ولم يعد أمامه سوى مدينة «الموصل» التى
سعى حاكمها إلى التصالح مع «صلاح الدين»، وتعهد بإرسال
المساعدات الحربية إذا طُلب منه ذلك، فخضعت بذلك جميع الإمارات
الإسلامية الشامية تحت سلطان «صلاح الدين»، وتمكن من توحيد كلمة
المسلمين تمهيدًا للنضال ضد الصليبيين.
موقف صلاح الدين من الصليبيين:
ظل «صلاح الدين» يعمل على توحيد العالم الإسلامى مدة عشر
سنوات فى الفترة من سنة (572هـ) إلى سنة (582هـ)، حتى تحقق له
ما أراد، واستعد لمواجهة الصليبيين المتربصين بالعالم الإسلامى، ثم
تصدَّى لهم، فسجل التاريخ أبرز صور البطولة، وأسمى درجات الفداء
والجهاد ضد هؤلاء المغتصبين، وكان من أبرز هذه المعارك ما يأتى:
واقعة حِطِّين [583هـ = يولية 1187م]:
تعد «حِطِّين» من أشهر الحروب التى خاضها «صلاح الدين» ضد
الصليبيين، بعد سلسلة من الحروب التى خاضها مثل: موقعة «مرج(5/52)
العيون» سنة (574هـ) التى انتصر فيها عليهم، ثم موقعة «مخاضة
الأحزان» سنة (575هـ)، ثم حدثت الهدنة بين الطرفين، ولكن الصليبيين
لم يكفُّوا عن محاولة السيطرة على «مصر» وبلاد الشام، وظل «صلاح
الدين» وفيا بعهده؛ لما عرف عنه من الشجاعة والمروءة والمحافظة
على العهد، إلى أن نقض «أرناط» حاكم «حصن الكرك» الهدنة معه
فى سنة (583هـ)، وهاجم إحدى قوافل الحج، فكانت هذه الجريمة
هى الشرارة التى أشعلت نار الحرب بين الفريقين، فقد غضب «صلاح
الدين» من هذا العمل الوحشى، خاصة وأن القافلة كانت فى طريقها
إلى حج بيت الله الحرام، فهدد «صلاح الدين» «أرناط» وأنذره بالقتل
إذا تمكن منه، وأعد عدته لقتال الصليبيين، ووافته الإمدادات من
المدن الشامية والمصرية، وسار إلى «طبرية» وحاصرها، فلما علم
الصليبيون باستعداداته الحربية اجتمعوا ببلدة تُدعى «صفورية»،
وتناقشوا فى خطة الحرب الواجب اتباعها إزاء «صلاح الدين»،
واستقر رأيهم على هجوم المسلمين، وتقدموا واحتلوا تلا على مقربة
من «حِطِّين» فى الوقت الذى تمكن فىه «صلاح الدين» من السيطرة
على مدينة «طبرية» باستثناء قلعتها التى استعصت عليه، فتركها
ومضى لملاقاة الصليبيين.
وفى سنة (583هـ = يولية 1187م) دارت الموقعة الحاسمة بين جيش
المسلمين بقيادة البطل الشجاع «صلاح الدين» وبين الصليبيين، فشن
جيش المسلمين حملة هزت جنبات «حطين»، وكان نداء «الله أكبر»
و «لا إله إلا الله محمد رسول الله» حافزًا قويا ومؤثرًا فى دخول
الجنود المعركة ولا هم لهم إلا النصر أو الشهادة، فنصرهم الله نصرًا
مؤزرًا، ونال الصليبيون هزيمة ساحقة، وفر مَنْ بقى منهم هربًا،
فسجد «صلاح الدين» شكرًا لله على ما منحه من نصر، وكان هذا
الانتصار فاتحة خير على المسلمين، وبداية لسلسلة من الانتصارات
على الصليبيين، واستسلمت «قلعة طبرية» وسلمت لصلاح الدين عقب
هذا الانتصار، واتجه «صلاح الدين» صوب الساحل وحاصر «عكا»(5/53)
حتى استسلمت بعهد وأمان، ثم تتابع -بعد ذلك - استسلام باقى
المدن الساحلية التى تقع جنوب «عكا» وهى: «نابلس» و «الرملة»
و «قيسارية» و «أرسوف» و «يافا» و «بيروت»، وكذا المدن الواقعة
شمال «عكا» مثل: «الإسكندرونة»، وكلها حصلت على العهد بالأمان
من «صلاح الدين» الذى لم يبق أمامه سوى أن يمضى فى طريقه إلى
«فلسطين»، فاستسلمت «عسقلان» له أثناء مروره بها، وحانت
المواجهة الحاسمة لتحرير «بيت المقدس».
الفتح المبارك:
شاءت إرادة الله أن يكون تحرير «المسجد الأقصى» - أولى القبلتين
وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -
على يدى البطل الشجاع «صلاح الدين الأيوبى»، الذى حاصر مدينة
«بيت المقدس» حتى اضطر مَنْ بداخلها إلى الاستسلام وطلب الصلح،
فأجابهم «صلاح الدين» إلى طلبهم وأمهلهم مدة أربعين يومًا للجلاء
عن المدينة ومعهم أمتعتهم، وترك بسماحته زوجة «أرناط» تخرج من
المدينة بسلام مع مَن خرج، ولم يتعرض «صلاح الدين» لأحد بسوء،
وسمح لبطريق المدينة بالخروج مثل باقى الأهالى الذين حملوا معهم
ثرواتهم وكنوزهم وتحفهم، ودخل «بيت المقدس»، وبدأ على الفور
فى إصلاحها، ورمَّم «المسجد الأقصى»، وأقام فيه فترة بعد أن
حرره من المغتصبين المستعمرين، ليعلو صوت الحق والعدل من جديد،
ويصبح «صلاح الدين» ثانى القادة الفاتحين - الذين دخلوا هذه
المدينة - بعد «عمر بن الخطاب» - رضى الله عنه-الذى فتحها الفتح
الأول.
صلح الرملة:
أوشكت الأمور على الاستقرار بعد الانتصارات العظيمة التى حققها
«صلاح الدين الأيوبى»، ولكن أوربا أرادت أن تحول دون تحقيق
ذلك، وأرسلت حملة من أقوى الحملات الصليبية وأكثرها عددًا وعدة
وعتادًا؛ ضمت ملوك أوربا بعد أن دعا البابا إلى حرب المسلمين،
وأعلن قدسية هذه الحرب، فتشكلت حملة من «ألمانيا» وأخرى من
«فرنسا» وثالثة من «إنجلترا»، وخرجت جميعها فى طريقها إلى(5/54)
العالم الإسلامى لتخريبه، فوقف «صلاح الدين» صامدًا أمام هذه
الحملات الكبيرة التى أتت من البر والبحر، واستطاعت السيطرة على
المناطق الساحلية، ومع ذلك عمد «صلاح الدين» إلى تقوية جيشه
وتنظيم جبهته الداخلية على الرغم من مرضه، فطلب الصليبيون الصلح
الذى عُرف بصلح الرملة، وبدأت المفاوضات بين «الملك العادل» نائبًا
عن «صلاح الدين»، و «ريتشارد» قائد حملة الصليبيين، واتفق
الطرفان على «صلح الرملة» الذى كان من أهم شروطه:
أ - تخريب «عسقلان»؛ لأنها مفتاح «بيت المقدس».
ب - يحكم الصليبيون الساحل من «صور» إلى «يافا»، ويكون جنوبى
ذلك الساحل لصلاح الدين، على أن يقع «بيت المقدس» فى حدوده
وتحت سيطرته.
ج - يُسمَح للمسيحيين بالحج إلى «بيت المقدس» فى أمن وأمان.
وهكذا اتفق الطرفان على بنود هذا الصلح التاريخى، ليكون بداية
مرحلة جديدة لهذه البلاد، التى فقدت قائدها «صلاح الدين» عقب هذا
الصلح، ليأخذ الصراع مع الصليبيين وضعًا آخر.
وفاة صلاح الدين الأيوبى:
خرج «صلاح الدين» من «القاهرة» لآخر مرة فى طريقه إلى الشام
سنة (578هـ)، لتوحيد صفوف المسلمين وإعدادهم لقتال الصليبيين،
وعلى الرغم من طول فترة حكمه التى بلغت أربعة وعشرين عامًا
فإنه لم يمكث فى مصر سوى ثمانى سنوات فقط، فلما أراد مغادرة
«القاهرة» فى المرة الأخيرة، خرج رجال القصر لتوديعه عند بركة
الجيش وأنشده أحد الشعراء شعرًا استاء منه، وشعر أنه لن يرى
«مصر» ثانية، وقد صح حدسه؛ إذ مرض أثناء مفاوضاته مع
الصليبيين فى «صلح الرملة» ولزم فراشه؛ ثم لقى ربه فى سنة
(589هـ = 1193م)، وله من العمر خمسة وخمسون عامًا، بعد أن أسر
الناس بجليل أعماله، وقهر الصليبيين بشجاعته، وخلَّص العالم
الإسلامى بقوة إيمانه من كوارث داخلية وخارجية كادت تودى به
وتوقعه فى أيدى الأعداء.
يُعدُّ «صلاح الدين» من الشخصيات العظيمة النادرة فى التاريخ(5/55)
الإسلامى، فقد كان سياسيا ماهرًا، وقائدًا محنكًا نبيلا، مخلصًا فى
تصرفاته، ميالا إلا التسامح والعفو، محبا للعلم والأدب، وفيا مع
أصدقائه وأعدائه على السواء.
خلفاء صلاح الدين [589 - 648هـ = 1193 - 1250م]:
بعد وفاة «صلاح الدين» انقسمت السلطنة الأيوبية بين أبنائه الثلاثة
وأخيه وبعض أقاربه، فاستقل ابنه «العزيز» بمصر، واستقل ابنه
«الأفضل» بدمشق و «وسط سوريا»، وابنه «الظاهر» بحلب، أما أخوه
«العادل» فحكم «العراق» و «ديار بكر» و «الرها»، وتولَّى أبناء
عمومته «حماة» و «حمص» و «بعلبك» و «اليمن»، وهكذا قضى أبناء
«صلاح الدين» وأقاربه على وحدة الدولة، ولم يفهموا الهدف الذى
سعى طيلة حياته من أجل تحقيقه.
العزيز عماد الدين [589 - 595هـ = 1193 - 1199م]:
خلف «صلاح الدين» على عرش «مصر» أصغر أبنائه «الملك العزيز»،
وكان شابا فى الحادية والعشرين من عمره، يتصف بالشجاعة
والرحمة والعفة والأخلاق الحميدة، وحكم «مصر» فى حياة أبيه
«صلاح الدين» نيابة عنه، ومكَّنه ذلك من اعتلاء عرشها عقب وفاته،
إلا أنه كان يفتقد إلى الدراية السياسية فى تسيير أمور البلاد
واستقرار أحوالها، فاستعان بعمه «العادل» واستوزره ليقوم بهذه
المهمة، ومات «العزيز» فى سنة (595هـ).
المنصور ناصر الدين [595 - 596هـ = 1199 - 1200م]:
خلف «العزيز» ابنه «الملكُ المنصور» وهو طفل فى التاسعة من
عمره، فحكم «مصر» مدة سنة وتسعة أشهر، فرأى «الملك العادل»
أن الدولة أوشكت على الانهيار تحت حكم الملك الطفل، فجمع العلماء
والفقهاء فى مجلس للتشاور فيما يجب فعله، فقرر الجميع وجوب
خضوع الصغير للكبير، وتولى «العادل» عرش «مصر»، فأصبحت تحت
يده أهم أجزاء دولة «صلاح الدين»، واعترفت الولايات بسيادته،
وساهمت فى حروبه، وضربت «السكة» باسمه، وخُطب له فوق كل
المنابر الإسلامية:
السلطان العادل سيف الدين [596 - 615هـ = 1200 - 1218م]:(5/56)
يعد «العادل» أعظم سلاطين الأيوبيين بعد «صلاح الدين»، فقد
اكتسب خبرة واسعة من اشتراكه مع أخيه «صلاح الدين» فى غزواته
ومفاوضاته وإدارة الأقاليم، إذ وكل إليه «صلاح الدين» معاونة
«العزيز» فى حكم «مصر»، كما عهد إليه بحكم «حلب»، ثم
«العراق»، وذاع صيت «العادل» بين ملوك «أوربا»، واشتهر
بالكفاءة والدهاء والدراية بشئون الحكم، ولم يتأخر فى حمل
المسئولية حين رأى تدهور الأوضاع بمصر وحاجتها إليه، فكان
الرجل المناسب لتلك المرحلة.
بعض الصعوبات التى واجهت العادل:
تأثر «العادل» تأثرًا بالغًا بشخصية أخيه «صلاح الدين»، فسار على
نهجه فى إدارة البلاد، رغم الصعوبات التى واجهته، فقد ثارت ضده
طائفة الشيعة الإسماعيلية مثلما ثارت من قبل فى وجه أخيه «صلاح
الدين»، وحاولت هذه الطائفة زعزعة ملك «العادل» وتفريق البلاد
وتشتيت الصفوف، فعمل «العادل» على الحيلولة دون حدوث ذلك،
وتمكن من القبض على عناصرها وسجنهم سنة (605هـ)، فخرجت
جماعة أخرى تنادى بتولية أحد أبناء «صلاح الدين» أمور الدولة،
وكان هذا الابن لايزال طفلا صغيرًا، فاستطاع «العادل» التغلب عليهم
وإعادة الاستقرار إلى بلاده، إلا أن انخفاض مياه النيل كان إحدى
العقبات الطبيعية التى واجهته، فقد حدثت بسببه مجاعة وقحط
شديدان؛ نتيجة قلة الزراعة، كما أن الحملات الصليبية لم تهدأ فى
عهده؛ إذ لم ترضَ «أوربا» عن استقرار أحوال البلاد الإسلامية،
فعملت على زعزعتها، وأرسلت حملة صليبية هاجمت «مصر» ووصلت
إلى «دمياط» وحاصرت حصونها، ثم تمكنت منها، واستولت على
برجها الحصين «برج السلسلة»، يضاف إلى ذلك كله العقبات الداخلية
التى واجهت «العادل» أثناء حكمه لمصر.
وفاة العادل:
على الرغم مما واجهه «العادل» من صعاب داخلية وخارجية فى
الحكم، فقد اتسع ملكه إلى حد كبير، وقلَّده الخليفة العباسى
بمرسوم رسمى حكم «مصر» والشام وأرض الجزيرة، وخلع عليه(5/57)
الخلع الثمينة، فوزع «العادل» حكم مملكته الواسعة بين أبنائه
التسعة عشر نيابة عنه؛ ليضمن وحدتها وتماسكها، فأناب ابنه
«الكامل» عنه فى «مصر»، وجعل «المعظَّم عيسى» على الشام،
و «نجم الدين أيوب» على «ميافارقين» ونواحيها، وأناب ابنه
«الأشرف مظفر» على «الولايات الشرقية».
وقد ضمن «العادل» وحدة دولته فى حياته، إلا أنه تركها إرثًا موزعًا
بين أبنائه بعد وفاته، فكان لذلك أثره الخطير فى قوة الدولة
وتماسكها.
وحين سمع «العادل» بسقوط «برج السلسلة» بدمياط حزن حزنًا
شديدًا، فمرض ومات سنة (615هـ)، وكتم أصحابه خبر موته ونقلوه
إلى «دمشق»، حيث تولى ابنه «الكامل» حكم «مصر».
كان «العادل» حاكمًا عادلا، ذكيا، حليمًا، حسن التدبير، محبًا للعلماء
والأدباء ومشجعًا لهم، كما كان سياسيا محنكًا، قام برحلات عديدة
جاب بها أطراف مملكته الشاسعة، كى يضمن استتباب الأمن والنظام،
كما كان متفقدًا لأحوال أبنائه فى الأقاليم التى أنابهم عنه فى
حكمها.
الكامل ناصر الدين [615 - 635هـ = 1218 - 1237م]:
حكم «الكامل» «مصر» نيابة عن أبيه «العادل» فى حياته، فلما مات
استقل الكامل بحكم «مصر» فى ظروف حرجة، إذ كان الصليبيون
منتصرين فى «دمياط»، وكان عليه دحر هذا الانتصار الذى أدى إلى
موت أبيه كمدًا، وخرج عليه عدد من الأمراء لعزله فى الوقت الذى
يتصدى فيه للصليبيين بدمياط، فتمكن من التغلب عليهم، ولكن
الصليبيين استغلوا حالة التمرد والتفكك الداخلى واستولوا على
«دمياط»، إلا أن «الكامل» استطاع توحيد بلاد المسلمين، وتمكن من
دخول «نابلس»، وتحرير «بيت المقدس»، واتسع ملكه لدرجة جعلت
أئمة المساجد يدعون له من فوق المنابر بقولهم: «سلطان مكة
وعبيرها، واليمن وزبيرها، ومصر وصعيدها، والشام وصناديدها،
والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين، ورب العلامتين، وخادم الحرمين
الشريفين».
ورث عن أبيه صفاته الطيبة، فكان قائدًا قديرًا، وسياسيا بارعًا،(5/58)
وإداريا نشيطًا، حازمًا يدير أمور دولته بنفسه، لدرجة أنه لم يعين
وزيرًا بعد وفاة وزير أبيه، وقام بالأمر بمفرده، وكان محبا للحديث،
مشجعًا للعلماء والأدباء، فقد كان عالمًا، ينظم الشعر ويجيده. ظل
فى حكم البلاد التى تحت يديه حتى وفاته سنة (635هـ)، فأخذت
الدولة فى الضعف والانحلال من بعده.
العادل الثانى [635 - 637هـ = 1237 - 1240م]:
يُطلَق اسم «العادل الصغير» أو «العادل الثانى» على هذا السلطان،
تمييزًا له عن الملك «العادل» أخى «صلاح الدين»، وقد كان «العادل
الثانى» نائبًا عن أبيه «الكامل» فى حكم «مصر»، فلما مات أبوه
أصبح سلطانًا على «مصر»، ولكن اضطراب الأوضاع، وضعف الدولة
جعلاه لا يستمر طويلا فى حكم البلاد، فتولى أخوه «الصالح نجم
الدين أيوب» الحكم من بعده.
الصالح نجم الدين أيوب (637 - 647هـ = 1240 - 1249]:
ورث «الصالح نجم الدين أيوب» عرشًا مضطربًا، مزعزع الأركان جلب
عليه الكثير من المشاكل والمتاعب، فدبر أموره، وأعد عدته وتمكن
من القضاء على أكثر هذه المصاعب التى واجهته رغم شدتها، فلما
تم له ما أراد تحول بقوته إلى مواجهة الصليبيين، ولم يألُ جهدًا فى
جهاده ضدهم، واستطاع استعادة «بيت المقدس» ثانية من قبضتهم،
فاستقرت له الأحوال، وحل السلام بينه وبين أمراء مملكته، وتفرغ
لمواصلة جهاده ضد الصليبيين؛ أملا منه فى تحرير البلاد كافة من
أطماعهم.
بداية المماليك:
أكثر «الصالح نجم الدين أيوب» من استجلاب المماليك لمساعدته فى
حروبه ضد الصليبيين، فنبغ منهم عدة أشخاص كان لهم أكبر الأثر
فى تغيير مجرى السياسة المصرية، ومنهم «شجرة الدر» الأرمينية
الأصل، والتى كانت أم ولد للصالح نجم الدين أيوب، ولازمته فى
حياة أبيه «الكامل»، وظلت معه بذكائها حتى أنجبت من «الصالح
أيوب» ابنه «خليل» فتوطدت مكانتها، فلما أصبح سلطانًا على
«مصر» اتخذها إلى جواره ملكة غير متوَّجة، فقد كانت تعمل على
راحته، ووجد فيها ما يحبه.(5/59)
وفاة الصالح نجم الدين أيوب:
مات «الصالح أيوب» فى ليلة النصف من شعبان سنة (647هـ)، وكانت
الحرب لاتزال دائرة بين المسلمين والصليبيين أمام «المنصورة»،
فأعملت «شجرة الدر» عقلها وتجلى ذكاؤها، وأخفت خبر وفاته عن
الناس فى تلك الفترة العصيبة من تاريخ «مصر» و «الشام»، وأمرت
أحد أطبائه بغسل جثمانه ووضعه فى تابوت، ثم حمله فى الظلام
إلى «قلعة الروضة»، ثم إلى «قبو» بجوار المدرسة الصالحية ودفنه
هناك، وأخبرت الأمراء أن «السلطان مريض لا يصل إليه أحد»، ولم
تعلن خبر وفاته إلا بعد انتصار المسلمين على الصليبيين، ورد
حملتهم، فاستمر العزاء ثلاثة أيام بلياليها بمدرسته، وبعثت «شجرة
الدر» بالسناجقة السلطانية، وأمرت بأن تُعلَّق داخل القاعة على
ضريح «الملك الصالح»، ليرى الزائر آلات الجهاد التى كان يحملها آخر
سلاطين «بنى أيوب» فى جهاده ضد الصليبيين فى معركة
«المنصورة»، فقد كان «الصالح أيوب» من أعظم سلاطين «مصر»
وأشجعهم.
المعظم توران شاه [647 - 648 هـ = 1249 - 1250م]:
قبل أن تعلن «شجرة الدر» عن وفاة الملك «الصالح أيوب» أرسلت
فى استدعاء ابنه «توران شاه» الذى كان غائبًا عن «مصر»، فقد
كان فى «حصن كيفا»، وقبل وصوله أصدرت أوامرها للأمراء
وأكابر رجال الدولة بأن يحلفوا يمين السلطنة لتوران شاه، وأمرت
خطباء المساجد بالدعاء له، وأدارت «معركة المنصورة» حتى وصل
«توران شاه»، فتسلم قيادة الحرب وزمام الملك، ولم يمكث على
عرش السلطنة أكثر من شهرين، ثم خرج لملاقاة الصليبيين الذين
دخلوا «المنصورة»، وأخذوا يتقدَّمون نحو «القاهرة»، فتصدَّى لهم،
وقاد المعركة بمهارة فائقة حتى تم النصر للمسلمين، فأحبه الناس
وقدروه، إلا أن سيرته لم تكن حسنة، فقتل سنة (648هـ).
نهاية الدولة الأيوبية:
تولت «شجرة الدر» زمام سلطنة «الأيوبيين» فى «مصر» لمدة ثمانين
يومًا عقب مقتل «توران شاه»، ثم تزوجت «عز الدين أيبك»(5/60)
التركمانى، وتنازلت له عن العرش بسبب المشاكل التى واجهتها،
وعدم رضى الخليفة العباسى عن توليها السلطنة، ولكن «عز الدين»
كان رجلا ضعيف الرأى، فأسدل الستار على الدولة الأيوبية، إحدى
أعظم الدول الإسلامية فى العصور الوسطى، بعد أن نالت مكانة
عظيمة فى تاريخ المسلمين، وبدا فى الأفق ظهور دولة جديدة فى
تاريخ المسلمين هى دولة المماليك.
النظم والحضارة فى العصر الأيوبى:
النظام السياسى:
كان السلطان الأيوبى يطلب من الخليفة العباسى - بصفته الرئيس
الأعلى لبلاد المسلمين - تفويضًا يجعل حكمه فى «مصر» شرعيا، رغم
أن سلطان الأيوبيين على البلاد التى تحت أيديهم كان سلطانًا مطلقًا،
ولم تكن للخلافة العباسية عليه أية نفوذ، ولكن سلاطين الدولة
الأيوبية حرصوا على الحصول على هذا التفويض دومًا، وكان «الناصر
صلاح الدين» أول مَنْ اتشح بخلعة الخليفة العباسى من سلاطين
«مصر» الأيوبيين.
ألقاب السلطان وأعماله:
يُعدُّ «صلاح الدين» أول مَنْ اتخذ لقب السلطنة من حكام «مصر»، وقد
حصل على لقب «سلطان»، ولقب: «محىى دولة أمير المؤمنين»
لأعماله الجليلة التى قام بها فى نشر المذهب السنى والقضاء على
المذهب الإسماعيلى الشيعى، ونجاحه فى مناهضة الصليبيين وصدهم
عن بلاد المسلمين، ومع ذلك فقد كان «صلاح الدين» رجلا متواضعًا،
واتخذ من لقب: «السلطان الملك الناصر» لقبًا للتعامل، رغم حصوله
على ألقاب عديدة تحمل فى طياتها معانى العظمة والأبهة والجاه
مثل: «السيد العالم العادل المظفر المنصور، ناصر الدنيا والدين،
سلطان الإسلام والمسلمين، وارث الملك، سلطان العرب والعجم
والترك، إسكندر الزمان، صاحب القبلتين، خادم الحرمين الشريفين،
سيد الملوك والسلاطين»، ومما لاشك فيه أن هذه الألقاب تبين عظمة
ما بلغه سلاطين الدولة الأيوبية، خاصة أن لكل لقب من هذه الألقاب
موقفًا عظيمًا وحادثًا جللا خاضه السلطان فمُنح اللقب على إثره.(5/61)
دُوِّنت الألقاب فى الرسائل التى تُبودلت بين السلاطين وملوك «أوربا»
وفى الكتابات التاريخية، وعلى السكة والعمائر، والتحف الفنية،
وفهارس دار الآثار العربية.
كان السلطان يقيم مع أسرته وحاشيته ورجال بلاطه فى «قلعة
الجبل»، وهو رئيس الدولة الأعلى الذى له الحق فى الهيمنة على
شئون الأمراء الخاصة والعامة، وفى تدرجهم الوظيفى، وفى توزيع
الإقطاعات والجنود عليهم وتحديد أنصبتهم، وكان على السلطان
تعيين موظفى الدولة وعزلهم، وتأديبهم والنظر فى المظالم وقيادة
الجيوش فى الحروب.
وكان للدولة الأيوبية مجلس شورى تُقَرُّ من خلاله مشروعات الدولة
الحيوية كإعلان حرب أو إبرام صلح أو إصلاح لهيكل من هياكل
الدولة، وكان هذا المجلس يُسمَّى: «مجلس السلطنة»، وكان أعضاؤه
من كبار موظفى الدولة للاستئناس بآرائهم ومشورتهم قبل الإقدام
على تنفيذ المشروعات والخطط، ويتولى «أمير مجلس» -الذى يشبه
منصبه منصب كبير الأمناء - الآن - الأمور الخاصة بمجلس السلطنة، وله
حق التصرف فى شئون البرتوكول، كما كان يتمتع بالجلوس فى
حضرة السلطان بحكم هذه الوظيفة.
نائب السلطان:
نيابة السلطنة وظيفة استحدثها السلاطين الأيوبيون، فأصبح النائب
كأنه سلطان ثانٍ، ويشترك مع السلطان فى منح لقب الإمارة،
وتوزيع الإقطاعات، وتعيين الموظفين، وتوقيع المراسيم
والمنشورات، وتنفيذ القوانين، والخروج على رأس فرق الجيش فى
المواكب الرسمية، يحف به الأمراء عند دخوله أو خروجه من قصر
السلطان، وكان يُلقَّب بكامل المملكة الشريفة الإسلامية، لأن من
اختصاصاته تصريف أمور الدولة عامة سواء أكان السلطان بالقاهرة
أم كان متغيبًا عنها.
وهناك نوع آخر من النيابة يقول عنه «المقريزى»: «يقوم النائب فيها
بمهام الدولة إذا خرج السلطان إلى الصيد، أو سار على رأس الجيش
فى حرب خارجية».
الوزير:
اتخذ سلاطين الدولة الأيوبية فى «مصر» وزراء لم يحددوا سلطتهم،(5/62)
ولم يجعلوها مقصورة على التنفيذ، بل جعلوها سلطة مطلقة،
فأصبحت الوزارة أعلى الوظائف وأرفعها، وأصبح صاحبها باب
الملك المقصود، ولسانه الناطق، ويده المعطاءة.
النظام القضائى فى عهد الأيوبيين:
فى سنة (564هـ) افتتح الناصر «صلاح الدين» مدرستين لتدريس
الفقه، وجعل إحداهما لتدريس الفقه الشافعى، وجعل الأخرى للفقه
المالكى، وفصل جميع القضاة الشيعة، وعين بدلا منهم قضاة من
الشافعية السنيين، فاقتصر القضاء على مذهب الإمام «الشافعى»،
كما أن قاضى الشافعية «صدر الدين درباس» لم يُنب عنه فى أقاليم
«مصر» إلا من كان شافعيا، ومن ثم انتشر المذهب الشافعى فى
«مصر» وما يتبعها من أقاليم.
وكان الذى يتولى منصب القضاء فى «القاهرة» وسائر أعمال الديار
المصرية، فى عهد الأيوبيين قاضٍ واحد هو بمثابة قاضى القضاة،
وله حق إنابة نواب عنه فى بعض الأقاليم.
أعوان القاضى:
كان للقاضى فى عهد الأيوبيين أعوان يساعدونه على العدل فى
الحكم وإعادة الحقوق إلى أصحابها، فكان منهم «الجلواز» الذى
يستعين به القاضى على تنظيم قاعة الجلسة، وحفظ النظام، وترتيب
الخصوم وفق ترتيب حضورهم، ومنعهم من التقدم إلى القاضى فى
غير دورهم، ومراعاة الآداب فى مجلس القضاء. ومنهم «الأعوان»
ومهمتهم إحضار الخصوم إلى المحكمة، والقيام بين يدى القاضى عند
نظره فى الخصومات إجلالا لمركزه .. ومنهم «الأمناء» ومهمتهم حفظ
أموال اليتامى والغائبين. ومنهم «العدول» ومهمتهم مراعاة دقة
عبارات السجلات والعقود ومطابقتها للشرع، وتزكية الشهود.
وقد استقرت النفوس وهدأت فى ظل هذا النظام القضائى المنضبط،
لأن القضاء العادل من شأنه أن يجعل الناس سواء، خاصة أن مصادر
القضاء الإسلامى المتمثلة فى القرآن والسنة وإجماع العلماء
والاجتهاد كانت هى الأسس التى سار عليها قضاة ذلك العصر، فقلَّت
المظالم، واستقرت أحوال البلاد.
التطور الاقتصادى فى العهد الأيوبى:(5/63)
تأخذ الأمم القوية بأسباب قوتها، وتعمل على استثمار الإمكانات
المتاحة لها لتنمية ثرواتها، لذا فإن تقدم الأمم وقوتها مرتبط بنجاح
اقتصادها وقوته واستمرار روافده، وكانت الدولة الأيوبية إحدى
الدول القوية ذات الاقتصاد القوى، فقد امتلكت ما تركه الفاطميون
عقب سقوط دولتهم، ونظمت الخراج والجزية، بالإضافة إلى غنائم
حروبها وفدية الأسرى، واستخدمت هذه الموارد لصالح البلاد
الإسلامية كافة، وأنفقت على تسليح الجيش وإعداده جزءًا كبيرًا
منها، وبنت القلاع والحصون، وقامت بالإصلاحات الداخلية فى البلاد.
غَيَّر «الناصر صلاح الدين» النظام الاقتصادى الذى كان سائدًا قبله،
وقلل من النظام الإقطاعى، فقضى بذلك على استقلال أمراء
الإقطاعات، وقوَّى الحكومة المركزية، فكان لهذا أثره الكبير فى
ازدهار حالة البلاد الاقتصادية.
وقد أولى «الأيوبيون» الزراعة عنايتهم؛ فهى عماد حياة البلاد،
فطهَّروا الترع، وأقاموا الجسور، ونظموا وسائل الرى، لدرجة أن
السلطان «الكامل» كان يراقب المهندسين بنفسه أثناء إقامتهم
السدود والخزانات، وغير ذلك من أعمال الرى الخاصة، فنشطت
الزراعة دون أن تؤثر الحروب عليها، فقد كانت حروب الأيوبيين
تتوقف فى «سوريا» شتاءً، وهو موسم الزراعة فى «مصر».
ونشطت التجارة كما ازدهرت الزراعة فى العصر الأيوبى، وأصبحت
«مصر» -آنذاك - همزة الوصل بين تجارة الشرق والغرب، وعقد
السلطان «العادل» معاهدة تجارية مع «البندقية» فى سنة (605هـ =
1208م)، حصل البنادقة بمقتضاها على تسهيلات تجارية فى الموانى
المصرية، خاصة «الإسكندرية»، فى مقابل أن يمنعوا الصليبيين، من
التقدم نحو «مصر»، فلما ولى السلطان «الكامل» حكم البلاد أقر ما
اتفق عليه السلطان «العادل» مع أهل «البندقية»، وسمح لهم
بتأسيس سوق تجارية فى الإسكندرية، سُمِّيت «سوق الأيك»، ومنح
الامتيازات نفسها لأهل «بيزة» الذين أرسلوا قنصلا لهم إلى(5/64)
«الإسكندرية»، فأدت هذه الخطوات إلى ازدهار التجارة وانتعاش
الاقتصاد، وزيادة دخل الدولة.
وجدير بالذكر أن «مصر» مرت بانتكاسة اقتصادية فى عهد «العادل»
نتيجة انخفاض مياه النيل الذى ترتب عليه قلة الزراعة، فحدثت
المجاعة واشتد القحط، وبذل «العادل» جهودًا كبيرة لمواجهة هذه
الأزمة، فكان يخرج بنفسه أثناء الليل ويوزع الأموال على الفقراء
والمساكين والغرباء، ولكن الموقف ازداد سوءًا وتفاقم خطره حين
وقع زلزال مروِّع وقت المجاعة هدم كثيرًا من المبانى، وأزهق
أرواحًا لا تُحصَى فى «مصر» والشام، ولكن الأوضاع سرعان ماعادت
إلى طبيعتها بعد زيادة مياه النيل سنة (601هـ = 1204م)، فزادت
الغلال وخفت المجاعة، وانتهى أمر النكبة بعد أن تكاتف الجميع
للقضاء عليها وإعادة الاقتصاد إلى سابق عهده؛ ليتتابع الكفاح ضد
الصليبيين من جديد. وهكذا كان اقتصاد الدولة الأيوبية اقتصادًا منظمًا
زادت فيه موارد الدولة وشعر الجميع بانتعاش اقتصادى عَمَّ أرجاء
البلاد.
النظام الحربى فى عهد الأيوبيين:
كانت حياة الأيوبيين سلسلة متتابعة من الجهاد والنضال والقتال،
ولذا كان اهتمامهم بالجيش وعنايتهم بأمره، لدرجة أن سلاطين «بنى
أيوب» أنفقوا معظم إيرادات الدولة على إصلاح الجيش، وبناء ما
يلزمه من الحصون والقلاع، فلعب الجيش دورًا خطيرًا خلال تلك الحقبة
من التاريخ الإسلامى.
تألف معظم الجيش الأيوبى من الترك والأكراد، وكان له «مجلس حرب»
اعتاد السلطان أن يستشيره فى الخطط التى يجب أن تُتبع، وكان
يخضع لرأى المجلس مهما يكن.
قسم الأيوبيون الجيش إلى عدة فرق، تُنسَب كل منها إلى أحد القواد
العظماء، فكانت هناك فرقة «الأسدية» نسبة إلى «أسد الدين
شيركوه»، و «الصلاحية» نسبة إلى «صلاح الدين» .. إلخ، وكان
لأمراء هذه الفرق نفوذ كبير، وكان الجيش مكونًا من الفرسان
والمشاة، وكانت أسلحته من السهام والرماح والنبال والنار اليونانية.(5/65)
ألَّف «الصالح أيوب» جيشه من الأتراك والمماليك الذين استكثر من
شرائهم، وبنى لهم قلعة بجزيرة الروضة جهزها بالأسلحة والآلات
الحربية والأقوات، وأسكنهم فيها، وعُرفوا منذ ذلك الحين باسم
المماليك البحرية، وقد أسسوا دولة -فيما بعد- عُرِفَت باسمهم.
البحرية فى العهد الأيوبى:
لم يقتصر إعداد «صلاح الدين» على الجند فى البر وتحصين البلاد، بل
وجه اهتمامه إلى سلاح البحرية الذى بلغ درجة عظيمة من التقدم،
واهتم بتأسيس الأسطول اهتمامًا كبيرًا خاصة أن الصليبيين كانوا
يستخدمون البحر فى هجومهم على البلاد الإسلامية، ومن ثَمَّ أصبح
لزامًا على المسلمين الاستعداد لحملات الصليبيين البحرية، فأعد
«الناصر صلاح الدين» العدة لتأسيس وتكوين أسطول إسلامى
يستطيع مجابهة حملات الصليبيين المعتدين، وكانت أولى خطواته
فى ذلك: تخصيص ديوان كبير، عُرف باسم «ديوان الأسطول». وأفرد
له «صلاح الدين» ميزانية خاصة، وعهد به إلى أخيه «العادل».
واستطاع «صلاح الدين» تكوين أسطول قوى تمكن بواسطته من
مواجهة الصليبيين، وأصبح هذا الأسطول من أكبر الأساطيل فى ذلك
الوقت، ورابط فى البحر الأحمر، وفى شرق البحر الأبيض، وتمكن من
تحقيق انتصارات هائلة.
لم يألُ الأيوبيون جهدًا فى سبيل تنظيم الجيش والأسطول، وليس أدل
على اهتمام السلاطين بالأسطول البحرى من أنهم كانوا يشركون
معهم الأهالى عند عرض الجيوش والأساطيل، أو عند توديعهم للغزو،
فقد كان قدر هذه الدولة أن تقوم بمحاربة الصليبيين وردهم عن البلاد
الإسلامية، فأدت هذه الأسباب فى النهاية إلى وجود دولة قوية ذات
سيادة، فرضت احترامها على أصدقائها وأعدائها، وحررت بلاد
المسلمين من الأعداء، لأنها عرفت الأسباب التى تؤدى إلى القوة
والازدهار.
المنشآت الحضارية فى العهد الأيوبى:
رغم كثرة حروب العهد الأيوبى إلا أنه كان حافلا بالإنشاءات
العظيمة، فقد بُنيت فيه المدارس والمستشفيات، ونُسِّقت الحدائق،(5/66)
وأُقيمت المنشآت الحربية للدفاع عن الدولة أو للهجوم على العدو
طبقًا لظروف الدولة الحربية، وكان من أهم هذه الإنشاءات الحربية
وأولها:
- قلعة الجبل:
وتُعدُّ من أبرز ما خلَّفه الأيوبيون من منشآت فى «القاهرة»، فمازالت
شاهد صدق على عظمة هذه الدولة إلى اليوم، وإن الناظر إليها ليدرك
مدى عناية الأيوبيين بالمنشآت والقلاع الحربية التى كانت منتشرة
فى بلادهم، خاصة المدن الشامية التى هى خط الدفاع والهجوم الأول
للدولة، لم يكن بناء «قلعة الجبل» مجرد تقليد أو مظهر أراده «صلاح
الدين» ليظهر به، وإنما بناها لتكون مقرا لحكومته، ومعقلا لجيشه
الكبير، وحصنًا يمكِّنه من الإشراف على حاضرة دولته. ويحميه من
القلاقل الداخلية، وكذلك لتكون نقطة دفاعية يصد منها غارات
المغيرين على «مصر» سواء أكانوا من الصليبيين أم غيرهم.
وقد استخدم «صلاح الدين» الأسرى فى تشييد قلعته، ومع ذلك لم
يتمكن من إتمام تشييدها فى عهده، فلم يتم منها سوى الهيكل
والبئر الحلزونى.
وكانت بالقلعة - على الرغم من ارتفاعها - بئر عمقها تسعون مترًا،
مملوءة بالماء العذب، مثقوبة فى الحجر، بأسفلها سواقٍ تدور فيها
الأبقار، فتنقل الماء إلى وسطها الذى توجد فيه أبقار تنقل بدورها
الماء إلى أعلاها، ويُعدُّ هذا البئر من أعجب الآبار، ويعرف باسم «بئر
يوسف» نسبة إلى «صلاح الدين يوسف بن أيوب».
أتم السلطان «الكامل محمد» بناء «القلعة» فى سنة (604هـ)، ثم
انتقل من دار الوزارة إليها. وكان للقلعة سور، وأبراج، وثلاثة
أبواب، أحدها من جهة «القرافة» و «جبل المقطم»، والثانى من جهة
جدارها البحرى ويُعرَف باسم «باب السر»، والثالث يقع مدخله فى
أول الجانب الشرقى من القلعة، ويصل الداخل منه إلى فناء مستطيل
به دواوين الحكومة، وبهذا الفناء باب يُسمَّى: «باب القبلة»، وتمتد
منه دهاليز فسيحة، وعلى يسار الداخل منها باب يوصل إلى جامع(5/67)
الخطبة وهو من أعظم الجوامع لاتساع أرجائه، وكثرة زخرفته، وفى
وسطه قبة تليها مقصورة ليصلى فيها السلطان صلاة الجمعة، وبصدر
الدهاليز مدخل يوصل إلى الإيوان الكبير الذى نُصب به سرير الملك؛
وهو منبر من الرخام، وتمتد من هذا الإيوان مساحة كبيرة بها القصر
الذى بناه «الظاهر بيبرس» فيما بعد.
صارت «قلعة الجبل» منذ تم بناؤها مقر الدواوين السلطانية ودور
الحكومة، فقد كانت حصينة جدا، وتشتمل على كثير من القصور،
والإيوانات، والطباق والأحواش، والميادين، والإصطبلات، والمساجد،
والمدارس، والأسواق، والحمامات، وكانت بها دار الوزارة، وديوان
الإنشاء، وديوان الجيش، ودار النيابة، وبيت المال، وخزانة السلطان
الخاصة، والدور السلطانية، وكذلك الأبراج التى كان الخارجون على
السلطان ونظام الدولة يُحبسون بها.
وكان نقش بابها: «بسم الله الرحمن الرحيم». أمر بإنشاء هذه القلعة
الباهرة، المجاورة لمحروسة القاهرة بالعرصة، التى جمعت نفعًا
وتحصينًا وسعة على من التجأ إلى ظل ملكه مولانا الملك الناصر
صلاح الدنيا والدين أبو المظفر يوسف بن أيوب محىى الدولة أمير
المؤمنين فى نظر أخيه وولى عهده الملك العادل سيف الدين أبى
بكر محمد خليل أمير المؤمنين، على يد أمير مملكته ومعين دولته
قراقوش عبدالله المكى الناصرى فى سنة تسع وسبعين وخمسمائة».
إنشاء المدارس:
عُنى «صلاح الدين» ببناء المدارس، فبنى مدرسة بالقرب من قبر
الإمام «الشافعى» بالقرافة، وبنى مدارس الناصرية والقمحية، وكذلك
نهج نهجه سلاطين «بنى أيوب»، فأسس الملك «الكامل» مدرسة دار
الحديث الكاملية؛ نسبة إليه، وكانت عبارة عن بناء متجه إلى القبلة،
وفى وسطه صحن كبير مربع، وفى كل جانب من جوانبه الأربعة
إيوان، وتعلوها قبة تحتها محراب، ومن ثَمََّ لم تختلف المدارس عن
المساجد من حيث الهيئة والشكل.
وكان الطلبة يذهبون إلى تلك المدارس بانتظام لتلقى العلم مجانًا،(5/68)
وكان سلاطين الدولة الأيوبية يهتمون بالمدارس وإنشاء المزيد منها،
ويوقفون عليها الأوقاف الكثيرة، ويرتبون لها الفقهاء والعلماء
لتدريس المذاهب الفقهية الأربعة، فكثرت بها المباحثات والمناقشات
بتشجيع من السلاطين الذين شُغفوا بالبحث العلمى، كما كان منهم مَنْ
ينظم الشعر ويجيده كالملك الكامل.
تأسيس المنصورة:
يُعدُّ إنشاء مدينة «المنصورة» من الأعمال العظيمة التى خلدت ذكر
دولة الأيوبيين، فقد أنشأها السلطان «الكامل» سنة (616 هـ =
1218م)؛ إذ قام بإنشاء مدينة على الشاطىء الشرقى لفرع «دمياط»
عقب سقوط «دمياط» فى أيدى «لويس التاسع»، واتخذ «الكامل»
المدينة الجديدة مركز دفاع له يقاوم به الصليبيين.
وبعد أن تمكن «الكامل» من استرجاع مدينة «دمياط» من أيدى
الصليبيين أطلق اسم «المنصورة» على مدينته الجديدة تيمنًا بالنصر،
ثم ما لبثت هذه المدينة الجديدة أن اتسعت، واشتهرت منذ إنشائها
بأنها مدينة حصينة، وكانت سجن «لويس التاسع» ومَنْ كانوا معه
حين تم أسرهم ووضعهم بدار الحكمة، التى مازالت معروفة لدى
العامة حتى اليوم باسم «دار ابن لقمان» نسبة إلى «القاضى فخر
الدين بن لقمان» الذى كان ينزل بها كلما جاء إلى «المنصورة».
قلعة الروضة:
بناها السلطان «الصالح نجم الدين أيوب» فى جنوب «جزيرة
الروضة» سنة (638هـ)، وهى تشغل مساحة كبيرة من الأرض، وقد
عُمِّرت بالأبنية والقصور، وجُهزت بالأسلحة والمعدات والآلات الحربية.
وأنشأ فيها «نجم الدين» جامعًا، وشيد برجًا، وبنى لمماليكه البحرية
ثكنات لسكناهم، فلما تم بناؤها وتجهيزها انتقل إليها مع أفراد
أسرته ومماليكه البحرية، واتخذها مقرا لحكمه.
وظلت «قلعة الروضة» عامرة حتى زالت الدولة الأيوبية، وتولى
«أيبك» السلطنة، فأمر بهدمها، ونقل جميع ما بها إلى «قلعة الجبل»
التى أسسها «صلاح الدين».
عاصمة مصر فى العصر الأيوبى:
ربما يتبادر إلى الذهن سؤال حول عاصمة الأيوبيين، ولماذا لم يعمد(5/69)
«صلاح الدين» إلى إنشاء عاصمة جديدة لدولته جريا على سياسة مَنْ
سبقوه من ولاة «مصر» وخلفائها؟ والإجابة: أن «صلاح الدين» استن
فى ذلك سنة جديدة، وضم «الفسطاط» و «العسكر» و «أطلال
القطائع» و «القاهرة» بعضها إلى بعضها الآخر بقصد توسيع مدينة
«القاهرة» وجَعْلها فى ثوبها الجديد عاصمة لدولته، بعد أن أحاطها
بسور عظيم طوله خمسة عشر كيلو متر (15كم)، ومتوسط عرضه ثلاثة
أمتار، وبنى واجهة هذا السور من الحجر المنحوت وتتخلله الأبراج،
ولاتزال بقاياه قائمة حتى اليوم فى جهات متفرقة، وأظهر هذه
البقايا موجود بالفسطاط، وقد اقتضى ضم تلك العواصم إلى بعضها
وإحاطتها بالسور وبناء القلعة هدمَ المبانى الموجودة فى ضواحى
«القاهرة» من «مصر القديمة» إلى «السيدة زينب»، وأقيمت حدائق
للفاكهة مكان هذه المبانى، كما أقيم سد من الحجارة على حافة
الصحراء بالجيزة؛ لحماية «القاهرة» من ناحية الغرب، وأصبحت هذه
العواصم مجتمعة - بعدما أُدخل عليها من تعديل - عاصمة الدولة
الأيوبية فى «مصر» آنذاك.
وبعد:
فقد كان العصر الأيوبى عصرًا حافلا بالإصلاحات والإنشاءات التى
خدمت فن العمارة خدمات بارزة فى «مصر» و «سوريا»، وكما خدم
الأيوبيون العلم بإنشاء المدارس وتشجيع العلماء ومساعدة الطلبة؛
كذلك خدموا العالم الإسلامى بالمحافظة على المذهب السنى والقضاء
على المذهب الإسماعيلى الشيعى، ذلك بالإضافة إلى إسهاماتهم
الجليلة التى قدموها للمسلمين كافة فى المجالات السياسية
والاقتصادية والحضارية والحربية.
رحم الله سلاطين «بنى أيوب» الذين ضحوا بكل شىء فى سبيل
إعلاء كلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» إرضاءً لله وخدمة
للمسلمين، وإعلاءً لمكانة الأمة الإسلامية.(5/70)
الفصل السابع
*دولة المماليك البحرية
[648 - 784 هـ = 1250 - 1382 م].
أصل المماليك:
أكثر الأيوبيون من شراء المماليك الأتراك، وبنوا لهم الثكنات بجزيرة
الروضة، وأطلقوا عليهم اسم «المماليك البحرية»، فقويت شوكتهم،
وزادت سطوتهم، وسنحت لهم الفرصة بعد ذلك، فتولوا حكم «مصر».
كانت الغالبية العظمى من جماعات المماليك الذين جلبهم الأيوبيون
وسلاطين المماليك من بعدهم تأتى من «شبه جزيرة القرم» و «بلاد
القوقاز»، و «القفجاق»، و «آسيا الصغرى»، و «فارس»،
و «تركستان»، و «بلاد ما وراء النهر»، فكانوا خليطًا من الأتراك،
والشراكسة، والروم، والروس، والأكراد، فضلا عن أقلية من مختلف
البلاد الأوربية. والمماليك طائفة من الأرقَّاء الذين اشتراهم سلاطين
«مصر» وأكثروا منهم، لاسيما فى العهد الفاطمى، ثم تهيأت لهم
الظروف ليحكموا «مصر» و «الشام»، وبلاد أخرى، ومع ذلك احتفظوا
أثناء حكمهم لمصر بشخصيتهم، ولم يختلطوا بأى عنصر من عناصر
السكان فى «مصر» وفى غيرها من البلاد التى حكموها.
وكان المماليك ينقسمون فيما بينهم إلى أحزاب وطوائف متنافسة،
ولكن هذا الانقسام لم يكن يؤثر على وحدتهم أمام العالم الخارجى
حين يواجهونه، فقد كانوا يظهرون كعصبة واحدة متحدة، ويفسر
ذلك سر قوتهم وأسباب تفوقهم وانتصاراتهم الحربية.
وكان باب الترقى فى حكومة المماليك مفتوحًا على مصراعيه أمام
كل مملوك يثبت كفاءته فى العمل، فيترقى من مملوك إلى أمير
حتى يصل إلى عرش المملكة بكفاءته واجتهاده، فالسلطان لم يكن
إلا واحدًا من أمراء المماليك، قدموه على أنفسهم لقوة شخصيته،
ووفرة أنصاره، وكثرة جنوده، وقدرته على المنافسين الطامعين
فى العرش، ولقد سطرت دولة المماليك الأولى «المماليك البحرية»
صفحة مضيئة من تاريخ «مصر» خاصة، والتاريخ الإسلامى عامة،
على أيدى سلاطينها الأقوياء الذين عملوا على توحيد البلاد، ورفع
رايات الجهاد، وهم:
-1 العز أيبك:(5/71)
بعد أن زالت دولة الأيوبيين، وانتقل الحكم إلى المماليك باختيار «عز
الدين أيبك التركمانى» لعرش السلطنة (648 - 655هـ) لم تستقر
الأوضاع تمامًا، شأن كل فترات الانتقال من نظام إلى نظام، أو بناء
دولة وليدة على أنقاض أخرى بائدة، ولم يخلُ عهد «أيبك» من
المنازعات التى نشبت بينه وبين المماليك على السلطنة، خاصة أن
«فارس الدين أقطاى» رئىس «المماليك البحرية» لم يكن مقتنعًا
بأيبك، فدارت بينهما مناوشات كثيرة، وتمكن «أيبك» من القضاء
على «أقطاى»، ولكنه لم يلبث طويلا بعد ذلك وقُتل؛ ليتولى العرش
من بعده ابنه «على».
2 - على بن أيبك (المنصور نور الدين) [655 - 657هـ]:
تولى «المنصور» عرش السلطنة عقب مقتل أبيه، وتلقب بالمنصور نور
الدين، إلا أنه لم يكن أهلا لهذه المسئولية الجسيمة، خاصة أن البلاد
الإسلامية - آنذاك - كان يتهددها خطر المغول، الذين سيطروا على
مركز الخلافة الإسلامية، بالإضافة إلى أن «المنصور» كان لايزال
طفلا فى الحادية عشرة من عمره، ولذلك لم يجد الأتابك «سيف الدين
قطز» صعوبة فى عزله وتولى عرش السلطنة بدلا منه.
3 - سيف الدين قُطُز:
كان «قطز» أتابكًا للمنصور نور الدين على بن أيبك، ورأى هولاكو
قائد المغول قد سيطر على «بغداد»، وقتل خليفة المسلمين، وزحف
يهدد بغزو «مصر»، فأحس أن ظروف البلاد تتطلب منه أن يقوم بدور
فعال فى إنقاذها من خطر الغزو فى هذه المرحلة الخطيرة، فعزل
«على بن أيبك» الذى كان صغيرًا لا يدرك عاقبة الأمور، وتولى
السلطنة، وقام بتنظيم الجيش وإعداده، وخرج لملاقاة التتار فى
أواخر شهر شعبان عام (658هـ)، وتمكن فى رمضان من العام نفسه
من إلحاق هزيمة نكراء بهم فى «عين جالوت» (تقع بين «بيسان»
و «نابلس» بفلسطين)، وقتل من جيش التتار ما يقرب من نصفه، وأجبر
الباقى على الفرار، ثم دخل بعد ذلك «دمشق»، ثم عاد إلى «مصر».
وفى «القصير» (بمحافظة الشرقية)، وفى طريق عودة «قطز» إلى(5/72)
«مصر» أمر جنوده بالرحيل تجاه «الصالحية»، وبقى مع بعض خواصه
وأمرائه للراحة، فاتفق عدد من المماليك بزعامة «بيبرس» على قتله،
وتم لهم ما أرادوا فى ذى القعدة سنة (658هـ)، بعد أن قام «قطز»
بدحر التتار وهزيمتهم، وتشتيت جيشهم، وحفظ العالم الإسلامى من
شرهم الذى لم يسلم منه أحد فى طريقهم.
4 - الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى (658 - 679هـ):
انتقل عرش السلطنة بعد «قطز» إلى «ركن الدين بيبرس»، الذى يُعدُّ
المؤسس الفعلى لدولة المماليك وأعظم سلاطينها؛ إذ اجتمعت فيه
صفات العدل والفروسية والإقدام.
عقد «بيبرس» العزم على أن تكون «مصر» والشام من أعظم البلاد
آنذاك، ووهب حياته للجهاد، وجعل هدفه رفع شأن الأمة الإسلامية،
وإليه يرجع الفضل فى انتقال الخلافة العباسية إلى «القاهرة» بعد
سقوطها فى «بغداد»، وأصبحت مصر دار الخلافة الإسلامية؛ إذ
استقدم «بيبرس» «أحمد بن الخليفة الظاهر العباسى»، وبايعه
بالخلافة فى حضرة الأمراء والعلماء ورجال الدولة.
وفى (4 من شعبان سنة 659هـ)، عقد الخليفة اجتماعًا منح فيه
«بيبرس» تفويضًا منه لتسيير أمور البلاد، فكان ذلك تقوية له ضد
خصومه ومنافسيه، كما كان إقرارًا بمشروعية النظام المملوكى،
وبحقه فى تولى شئون البلاد.
عادت إلى العالم الإسلامى هيبته بإحياء الخلافة الإسلامية، وأضحت
«القاهرة» مقر الخلافة، ومركز السلطة الإسلامية المركزية، ومقصد
المسلمين من كل حدب وصوب، وظلت على ذلك حتى انتقلت منها
الخلافة إلى «استانبول» بعد قرابة ثلاثة قرون.
ملامح من إصلاحات بيبرس:
سَنَّ «بيبرس» نظام ولاية العهد لأول مرة فى تاريخ دولة المماليك
البحرية، وحصر وراثة العرش فى أسرته بتعيين ابنه «محمد بركة
خان» وليا للعهد، ليحد من تدبير الدسائس والمؤامرات حول عرش
السلطنة، وما يجره ذلك من اضطراب وضعف للدولة.
قام «بيبرس» بإصلاحات جوهرية فى البلاد، وأعاد إلى الأسطول(5/73)
البحرى قوته، وعين قضاة من المذاهب الأربعة للفصل فى
الخصومات، بعد أن كان القضاء مقصورًا على المذهب الشافعى،
فعادت إلى العالم الإسلامى قوته على أسس تنظيمية دقيقة، إذ كان
«بيبرس» إداريا حازمًا، وقائدًا شجاعًا، فدأب على رعاية شئون
البلاد، وتنمية مواردها، وحفر الترع، وأصلح الحصون، وأسس
المعاهد، وبنى المساجد التى من أشهرها مسجده المعروف باسمه
فى ميدان «الظاهر» بالقاهرة.
وكانت لبيبرس هيبة كبيرة فى قلوب أمراء البلاد، فخشوا بأسه
لدرجة أن أحدهم لم يجرؤ على الدخول عليه فى مجلسه إلا بطلب
وإذن منه.
وقام «بيبرس» بدوره على خير وجه فى محاربة المغول والصليبيين
تقليدًا للقائد البطل «صلاح الدين»، وأصدر عدة قوانين لتطبيق
الشريعة الإسلامية، وإصلاح الأوضاع الاجتماعية فى «مصر»، وأمر
فى سنة (664هـ) بمنع بيع الخمور، وإغلاق الحانات، ونفى
المفسدين.
وكان «بيبرس» قائدًا شجاعًا، ضُربَت ببطولته وشهامته الأمثال، فقد
خاض معارك ومواقع عديدة، سجل فيها بطولات رائعة، وأبلى بلاءً
حسنًا فى مطاردة الصليبيين وتشتيتهم وإجلائهم عن الشرق الأدنى،
واستعاد فى سنة (666هـ) «قيسارية»، و «أرسوف»، و «صفد»،
و «شقيف»، و «يافا»، و «طرابلس»، و «أنطاكية»، فأضعف ذلك
الصليبيين، وأنهكهم، وزاد من قوة المسلمين، وحرص على أن يؤكد
صورة الحاكم العادل الذى يجلس بنفسه للمظالم، ويعطف على
الفقراء.
وفى (27 من المحرم سنة 676هـ = 1277م) تُوفِّى «الظاهر بيبرس»
إثر عودته من واقعة «قيسارية» بالقرب من «دمشق»، وقد دُفن بها
بعد حياة حافلة بالبطولة والشجاعة، سطر خلالها صفحات مجيدة
مازال التاريخ يحفظها له وسيظل.
أولاد بيبرس فى السلطنة (بركة خان، وسلامش):
تولى «السعيد بركة خان» السلطنة عقب وفاة أبيه، وكان عمره
تسع عشرة سنة، وكانت تنقصه الحنكة السياسية التى كانت
متوافرة لأبيه، فنشبت الصراعات الحادة بين أمراء المماليك على(5/74)
السلطنة، واضطربت الأوضاع وزادت القلاقل، ولم يتمكن «بركة خان»
من السيطرة على الموقف، أو النهوض بدوره؛ لقلة خبرته بمثل هذه
الأمور، ولذا لم يتمكن من الاستمرار طويلا على عرش السلطنة، وتولى
من بعده شقيقه «بدر الدين سلامش» فى سنة (678هـ)، ثم عين
«سيف الدين قلاوون» «أتابكًا» له، وكان أحد أمراء «المماليك
البحرية» الأقوياء، فتحكَّم فى أمور السلطنة، وجعلها جميعها فى
يده، وذلك لضعف «بدرالدين سلامش» وقلة مهاراته السياسية
والحربية، ولذا لم يستمر «سلامش» أكثر من ثلاثة أشهر فى حكم
السلطنة خُلع بعدها من منصبه، وتولى «سيف الدين قلاوون» بدلا
منه، لتدخل البلاد فى عهده مرحلة جديدة تنهض فيها سياسيا وحربيا
وحضاريا.
السلطان قلاوون [679 - 689هـ = 1280 - 1290م]:
انتقل الملك بعد «سلامش» (ابن «الظاهر بيبرس») إلى أتابكه
«المنصور سيف الدين قلاوون»، الذى استمرت السلطنة فى بيته
وأسرته حتى انتهاء دولة المماليك البحرية فى سنة (784هـ)، ولعل
التجارب السياسية التى مر بها وتعرض لها فى خدمة «بيبرس» ومن
قبله «قطز»، هى التى مهدت له السبيل لكى يكون أحد سلاطين
المماليك الأقوياء والبارزين، وسار على نهج «بيبرس» السياسى فى
إدارة شئون البلاد والتقرب من الشعب، واستقدم كثيرًا من المماليك
وأطلق عليهم اسم «البرجية» نسبة إلى أبراج القلعة التى أقاموا
فيها وجعلهم عونًا له، وأعدهم ليكونوا عونًا لأبنائه من بعده فى
تثبيت عروشهم.
ومضى على نهج «بيبرس» فى إخراج الصليبيين من بلاد الشام،
واستعاد «اللاذقية» و «طرابلس» من أيديهم فى سنة (688هـ)، وتابع
التتار وطارد فلولهم وهزمهم وأبعد أذاهم نهائيا عن «مصر»
و «الشام».
ويُعدُّ «قلاوون» من أبرز سلاطين الدولة المملوكية العظماء، كما يُعد
أحد مؤسسى هذه الدولة، إذ أنفق أموالا طائلة على الإصلاحات
والإنشاءات، وأشرف على سير العمل فيها بنفسه فى حزم وعزم(5/75)
شديدين، ولعل أبرز الإنشاءات التى ترجع إلى عصره تلك القبة التى
بناها، ودُفن تحتها، كما بنى «مدرسة» و «مارستانًا» -حملا اسمه -
عام (688هـ)، ومازال هذا المارستان قائمًا حتى الآن ويُعرف باسم:
مستشفى قلاوون»، وظل «قلاوون» يقوم بدوره الحربى والسياسى
والاجتماعى والحضارى فى البلاد على أكمل وجه حتى وفاته سنة
(689هـ).
السلطان الأشرف خليل بن قلاوون [689 - 693هـ = 1290 - 1294م]:
خلف الأمير «خليل» أباه على عرش السلطنة، فعاد فى عهده نفوذ
الأمراء، وتجددت الصراعات الداخلية، إلا أنه استطاع التغلب على هذه
المصاعب كلها على الرغم من قصر مدة حكمه للبلاد، وبرهن على أنه
حاكم كفء مهيب، شديد البأس، عارف بأحوال المملكة، لدرجة أن
«ابن إياس» قال عنه فى تأريخه: «كان الأشرف بطلا لا يكل عن
الحروب ليلا ونهارًا، ولا يُعرف من أبناء الملوك مَنْ كان يناظره فى
العزم والشجاعة والإقدام».
ويكفى «الأشرف خليل» مجدًا يخلد اسمه بين أعظم قادة التاريخ
الإسلامى أنه استطاع استعادة «عكَّا» من أيدى الصليبيين سنة
(692هـ)، بعد أن استعصت على مَنْ كان قبله من السلاطين
لحصانتها، كما تابع جهاده فى تتبع جيوش الصليبيين بالشام،
واستعاد «صور» و «حيفا» و «بيروت»، وظل يضيف انتصارات عظيمة
إلى سجل هذه الدولة كان من شأنها أن يظل العالم الإسلامى قويا
مترابطًا، ويقوم بدوره فى البناء الحضارى.
السلطان الناصر محمد بن قلاوون [693 - 741هـ = 1294 - 1341م]:
بعد وفاة «الأشرف خليل» انتقل حكم السلطنة إلى «الناصر محمد ابن
قلاوون» الابن الثانى للسلطان «قلاوون»، وكان قد نشأ فى بيت
الملك محاطًا بالأمراء والنواب والحراس، غير أنه لم يتمتع طويلا بعطف
ورعاية أبيه «قلاوون»، الذى مات ولما يبلغ «الناصر محمد» الخامسة
من عمره، غير أنه لحسن حظه لم يحرم من عطف أخيه «الأشرف
خليل» ورعايته، فاهتم بتربيته وأحسن معاملته، فنشأ «محمد» ولديه(5/76)
من صفات أبيه وأخيه الكثير، فأصبح كأسلافه مهتما بالمشروعات
الحيوية، ومحبا للغزو والجهاد.
اعتلى «الناصر محمد» عرش «مصر» ثلاث مرات، استمرت الأولى عامًا
واحدًا فى الفترة: (من سنة 693 إلى سنة 694هـ)، ثم اغتصبها منه
«زين الدين كتبغا» الذى لقب نفسه بالعادل، و «حسام الدين لاُين»
الذى تلقب بالمنصور، واستمرت فترة الاغتصاب هذه أربع سنوات
عاشت البلاد خلالها عهدًا من الفتن والاضطرابات، وانتابتها مظاهر
الضعف والانحلال، مما هيأ السبيل إلى عودة «الناصر محمد» إلى
السلطنة ثانية ليتدارك تفاقم هذه الأوضاع.
السلطنة الثانية للناصر محمد [698 - 708هـ]:
لعل أبرز ما يميز الفترة الثانية لتولى «الناصر محمد» عرش السلطنة،
الفتن والاضطرابات التى أحدثها وأشعلها أمراء المماليك سعيًا وراء
الوصول إلى العرش، الأمر الذى اضطر «الناصر محمد» إلى الرحيل
فى عام (708هـ) إلى «قلعة الكرك» للاحتماء بها بعيدًا عن مؤامرات
الأمراء ودسائسهم، فمكن ذلك «بيبرس الجاشنكير» -أحد القادة
العسكريين- من السيطرة على مقاليد الأمور، على الرغم من رسائل
أمراء المماليك التى بعثوا بها إلى «الناصر محمد» يرجونه فيها
العودة إلى «مصر»، إلا أنه تمهل حتى يقف على حقيقة الأمور، فلما
رأى حاجة البلاد إليه قرر العودة إلى «مصر» ثانية، وتمكن من طرد
«الجاشنكير»، وبدأ مرحلة ثالثة على عرش البلاد، كانت من أهم
فترات تاريخ «مصر» والشام.
السلطنة الثالثة للناصر محمد [709 - 741هـ]:
استمرت فترة حكم «الناصر محمد» الثالثة على «مصر» و «الشام» وما
يتبعهما اثنين وثلاثين عامًا متصلة، انفرد فيها بحكم البلاد، وتمكن
من القضاء على الفتن والدسائس، ونعمت البلاد فى عهده بأطول
فترة استقرار شهدتها فى العهد المملوكى، وتعلق الشعب به وأحبه
لما قدمه من أعمال جليلة وعظيمة رفعت من شأنه.
تُعد فترة حكم «الناصر محمد» الثالثة من أزهى عهود دولة المماليك(5/77)
البحرية على الإطلاق، ففيها توطدت دعائم البلاد، واستقرت أساليب
الحكم والإدارة فيها، وازدهرت الفنون والعلوم، وباتت «القاهرة»
حاضرة لإمبراطورية شاسعة تشمل «مصر» والشام والجزيرة العربية،
وكذلك بلاد «اليمن» التى بسط «الناصر محمد» نفوذه عليها، فخطب
وده ملوك «أوربا» و «آسيا»، وأبرموا معه المعاهدات وصاهروه،
وأرسلوا إليه بالهدايا الثمينة والتحف النادرة؛ أملا فى رضاه.
لم يقتصر نشاط «الناصر محمد» على الحروب والغزوات على الرغم من
أنه نجح فى طرد فلول الصليبيين، وصد ثلاث غزوات مغولية، بل اتجه
إلى الأخذ بكل مقومات الحضارة فى عصره، وصبغها - لتدينه الشديد-
بصبغة دينية ظهرت واضحة على العمائر التى شيدها، والتى مازال
بعضها قائمًا - حتى الآن - شاهد صدق على بره وتقواه، وذوقه
الراقى فى الفنون والعمارة، ولعل أشهرها: «المدرسة الناصرية»
التى شيدها بشارع «المعز لدين الله الفاطمى»، وكذا المسجد الذى
بناه بالقلعة سنة (718هـ)، ثم هدمه وأعاد بناءه سنة (735هـ)
لتوسعته وزخرفة جوانبه، كما شرع فى سنة (703هـ) أثناء سلطنته
الثانية فى تجديد «المارستان» الكبير الذى أسسه والده السلطان
«قلاوون» سنة (688هـ)، وكذلك بنى سبيلا، وقبة، ومكتبة عظيمة،
وأنشأ «خانقاه» فى «سرياقوس» لإقامة فقراء الصوفية خاصة
القادمين منهم من البلاد الشرقية.
وقد أرخ «ابن إياس» لحكم «الناصر محمد»، وعبر عنه بقوله: «ولا
يُعلَم لأحد من الملوك آثار مثله ولا مثل مماليكه، حتى قيل لقد تزايدت
فى أيامه الديار المصرية والبلاد الشامية من العمائر مقدار النصف من
جوامع وخوانق وقناطر، وغير ذلك من العمائر».
ولاشك أن هذه المنشآت كانت تعتمد على اقتصاد قوى، ورؤية
حضارية من «الناصر محمد»، الذى وضع أسس السياسة العامة لدولة
المماليك، وعُدَّ المنفذ الأكبر لها، فكان شديد البأس، سديد الرأى،
يتولى أمور دولته بنفسه، مطَّلعًا على أحوال مملكته، محبوبًا من(5/78)
رعيته، مهيبًا فى أمراء دولته، فكان المثل الأعلى لرجل السياسة
فى دولة المماليك، كما كان «بيبرس» المثل الأعلى للقائد الحربى،
وانطلقت بوفاته فى سنة (741هـ)، ألسنة الشعراء والأدباء لتأبينه
والثناء عليه، والإشادة بذكره، وقد أطراه المؤرخ «أبو المحاسن بن
تغرى بردى» بقوله: «إنه أطول الملوك فى الحكم زمانًا، وأعظمهم
مهابة، وأحسنهم سياسة، وأكثرهم دهاء، وأجودهم تدبيرًا،
وأقواهم بطشًا وشجاعة، مرت به التجارب، وقاسى الخطوب، وباشر
الحروب، وتقلب مع الدهر ألوانًا، ونشأ فى الملك والرياسة، وله فى
ذلك الفخر والسعادة، خليقًا بالملك والسلطنة؛ فهو سلطان ابن
سلطان، ووالد ثمانية سلاطين؛ فهو أجل ملوك المماليك وأعظمهم بلا
مدافع».
وكانت وفاة «الناصر محمد» فى (20 من ذى الحجة سنة 741هـ).
أولاد الناصر محمد وأحفاده [741 - 784هـ = 1341 - 1382م]:
جلس على عرش «مصر» بعد «الناصر محمد» أولاده وأحفاده فى
الفترة من سنة (741هـ) إلى سنة (784هـ)، يتعاقبون عليه واحداً بعد
الآخر حتى سقوط دولة المماليك البحرية عام (784هـ)، وفى مدة بلغت
ثلاثًا وأربعين سنة علا عرش «مصر» من البيت الناصرى ثمانية أولاد
وأربعة أحفاد، بلغ متوسط حكم الواحد منهم ثلاث سنوات ونصف
السنة، وتميز هذا العهد بصغر سن السلطان، وقصر مدة حكمه،
لسهولة خلعه على أيدى الأمراء، ولظهور نفوذ الأتابكة ظهورًا
واضحًا، وكذلك اشتداد تنافس الأمراء فى بسط نفوذهم للسيطرة على
الدولة، ولذا أصبح السلطان ألعوبة فى أيدى أمرائه، يعزلونه أو
يبقونه على العرش حسب هواهم، وما تقتضيه مصالحهم؛ فاضطربت
أحوال البلاد، وكثرت فيها الفتن.
بعد وفاة «الناصر محمد» تولى العرش ابنه «سيف الدين أبو بكر»
(741 - 742هـ)، وسرعان ما ساءت العلاقات بينه وبين أتابكه،
لامتناعه عن الاستجابة لمطالب هذا الأتابك، فحرض الأتابك عليه
الأمراء وعزلوه. وتولى من بعده أخوه «علاء الدين كجك» (742هـ=(5/79)
1341م)، وعمره إذ ذاك يتراوح بين خمس وسبع سنوات، وتم عزله
بعد فترة وجيزة. ثم تولى أخوه «أحمد» عرش السلطنة ولقب نفسه
بالناصر فى سنة (742 - 743هـ)، إلا أنه لم يستمر طويلا فى الحكم
كسابقيه، ووقع الاختيار على أخيه «إسماعيل» سنة (743هـ)،
ولكنه مالبث أن مرض ومات سنة (746هـ)، فتولى ابنه «شعبان» من
بعده سنة (746 - 747هـ)، ولم يكن عهده خيرًا من سلفه، فخلفه أخوه
«حاجى» سنة (747هـ)، ولم يستكمل عامًا واحدًا حتى اعتلى العرش
«الناصر حسن» سنة (748هـ)، وهو لايزال فى الحادية عشرة من
عمره، ولم يلبث أن عُزل، ثم عاد وتولى السلطنة ثانية فى سنة
(755هـ)، وظل على العرش ست سنوات ونصف السنة، فعاد فى
عهده الاهتمام بالعمائر الإسلامية، وبنى مسجده الشهير المعروف
باسمه «مسجد السلطان حسن» بالقاهرة، ومع ذلك فقد ظلت حالة
عدم الاستقرار فى البلاد سائدة، فكانت فرصة سانحة لظهور دولة
المماليك الثانية المعروفة «بدولة المماليك البرجية».(5/80)
الفصل الثامن
*دولة المماليك البرجية
[784 - 923 هـ = 1341 - 1517 م]
كان «حاجى بن شعبان» آخر سلاطين المماليك من بيت الناصر، وآخر
سلاطين دولة المماليك البحرية فى الوقت نفسه، وكان «حاجى»
صغير السن حين اعتلى عرش السلطنة؛ إذ كانت سنُّه عشر سنوات،
فعُيِّن «برقوق» أتابكًا له، واستغل حداثة سِنِّه وضعفه، واستدعى
الخليفة، والقضاة الأربعة والأمراء، وخاطبهم «القاضى بدر الدين بن
فضل» بقوله: «يا أمير المؤمنين، وياسادتى القضاة: إن أحوال
المملكة قد فسدت، والوقت قد ضاق، ونحن محتاجون إلى إقامة
سلطان كبير تجتمع فيه الكلمة، ويسكن الاضطراب»، فاستقر الرأى
على خلع الملك الصالح «حاجى»، وأن يتولى «برقوق» مسئولية
البلاد، فاعتلى عرش السلطنة رسميا، وانتهت بذلك دولة المماليك
البحرية بعد أن حكمت مائة وستا وثلاثين سنة.
عُرفت الدولة الجديدة باسم: «دولة المماليك البرجية»، لأن سلاطينها
كانوا ينتمون إلى لواء من الجند كان مقيمًا فى أبراج القلعة وأطلق
على جنوده اسم «المماليك البرجية» لتمييزهم عن «المماليك البحرية»
الذين كانت إقامتهم بجزيرة الروضة، وقد عُرف «البرجية» كذلك
باسم: «المماليك الجراكسة» أو الشراكسة، نسبة إلى موطنهم
الأصلى الذى أتوا منه وهو: «ُورُيا» و «بلاد الشركس» (القوقاز)،
وفيما يلى سوف نعرض لأهم الملامح الشخصية لسلاطين هذه الدولة،
وظروف عصرهم.
السلطان برقوق [784 - 801هـ = 1382 - 1399م]:
يُعدُّ «برقوق» المؤسس الأول لدولة «المماليك البرجية»، فعلى يديه تم
عزل آخر سلاطين دولة المماليك البحرية السلطان «الصالح حاجى»،
فسقطت دولة البحرية، وقامت دولة البرجية، فكثرت الصراعات
الداخلية طمعًا فى السلطنة، وسادت الفوضى، وعَمَّت الفتن، وتميز
عهد «برقوق» بالمعارضة الشديدة له، فاهتم بالقضاء على هذه
الفتن، وإعادة الهدوء والاستقرار إلى أرجاء ملكه، ثم عمل على
إصلاح أحوال البلاد الداخلية، وظل على ذلك حتى استقرت له الأمور(5/81)
فى أواخر عهده، ومات فى سنة (801هـ)، بعد أن عهد إلى ابنه
«فرج» بالسلطنة من بعده.
السلطان فرج بن برقوق [801 - 815هـ = 1399 - 1412م]:
تولى «فرج» العرش بعد أبيه وله من العمر ثلاث عشرة سنة، فكثرت
فى عهده الاضطرابات والفتن، وخرج عليه الأمراء، خاصة أمراء
«سوريا» الذين عارضوا حكمه، فحاول «فرج» أن يسيطر على
الموقف وظل يكافح كفاحًا مضنيًا طويلا من أجل تحقيق ذلك، وتمكن
من القضاء على فتنة الأمراء فى «سوريا»، ومع ذلك تهدد عرشه
بالسقوط أكثر من مرة، إلا أنه ظل يقاوم حتى قُتل فى سنة (815هـ).
السلطان «شيخ المؤيد» [815 - 824 هـ = 1412 - 1421م]:
بعد القضاء على السلطان «فرج ابن برقوق» جلس الخليفة
«المستعين» على عرش «مصر» بهدف إعادة الاستقرار إليها وإلى
العالم الإسلامى، إلا أنه لم يلبث على ذلك طويلا، وتولى السلطان
«شيخ المؤيد» أمور السلطنة، واستطاع أن يقضى على الثورات،
وأعاد إلى البلاد وحدتها واستقرارها، فأتاح له ذلك أن يحكم البلاد
حكمًا هادئًا فى جو مستقر، وقام ببعض الإصلاحات الداخلية، وبنى
جامعه المعروف باسمه بجوار باب زويلة مكان سجن قديم.
مات «شيخ المؤيد» بعد مرض لم يمهله طويلا، فترك العرش لابنه
«أحمد».
السلطان ططر [824هـ]:
كان «أحمد» الذى خلف والده «شيخ المؤيد» طفلا رضيعًا عمره سنة
ونصف. فتولى الوصاية عليه الأمير «طونبغا»، فنافسه عليها الأمير
«ططر»، وتمكن من عزله وعزل «أحمد»، وتولى هو عرش السلطنة،
ولكنه لم يمكث طويلا، فقد توفى بعد شهرين من سلطنته، فتولى من
بعده ابنه «محمد بن ططر» الذى كان صغيرًا، ولم يستمر فى الحكم
أكثر من سنة واحدة، ثم تولى السلطان «برسباى» السلطنة.
السلطان برسباى [825 - 841 هـ]:
امتاز عهد «برسباى» بالهدوء والاستقرار، فقد نجح فى القضاء
على قراصنة البحار الذين هددوا التجارة، واستولى من القراصنة
على غنائم كثيرة، لدرجة أن ملك «قبرص» قبَّل الأرض بين يديه(5/82)
عرفانًا له بما صنع، وكذلك هدأت الأوضاع فى «سوريا»، وبسط
«برسباى» سلطته على «مكة» و «جدة» واحتكر لبلاده طرق التجارة،
وعزز اقتصادها، فانتعشت «مصر» اقتصاديا وحضاريا.
تُوفِّى «برسباى» سنة (841هـ) وترك العرش لابنه «يوسف» وكان
لايزال طفلا صغيرًا، فلم يحكم سوى ثلاثة أشهر، وخلفه «جمقمق»
على عرش السلطنة.
السلطان جمقمق [841 - 857هـ]:
واجه «جمقمق» صعابًا عديدة فى بداية عهده؛ إذ واجهته الثورات،
واشتعلت فى بلاده الفتن، وزادت القلاقل، وكان رجلا يمتاز بالقوة
والمثابرة، فتمكن من السيطرة على الموقف وقضى على الصعوبات
التى واجهته، واتجه إلى الإصلاح الداخلى وإعادة الهدوء إلى البلاد،
ثم عمل على توطيد علاقاته مع الإيرانيين وأمراء «آسيا الصغرى»،
وتزوج من ابنة «دلجادير» حاكم مدينة «أبلستين»، فمضى فى حكمه
بعد ذلك فى هدوء، ثم مات سنة (857 هـ)، وتولى من بعده ابنه
السلطان «عثمان بن جمقمق» الذى أساء إلى الرعية، فتم عزله،
وتولى عرش «مصر» من بعده السلطان «إينال».
السلطان إينال [857 - 865 هـ = 1453 - 1461م]:
تولى قائد الأسطول الإسلامى «سيف الدين إينال» السلطنة، وسار
فى الناس سيرة حسنة أرضت عنه المماليك الذين أغدق عليهم
بالهبات والأموال والعطايا، وتمكن من القضاء على الفتن التى
واجهته، ولم تتعرض البلاد فى عهده لأى غزو خارجى، نظرًا إلى
العلاقات الحسنة التى أقامها مع زعماء الدول الخارجية، واستطاع
أن يستولى على «كرمان»، فتميز عهده بالهدوء، وظل على ذلك
حتى وفاته سنة (865هـ)، فخلفه ابنه «أحمد بن إينال» على العرش،
إلا أنه سرعان ما تنازل عنه، وابتعد عن الدسائس والمؤامرات والفتن
التى كان يدبرها أمراء المماليك، فأخذ السلطان «خشقدم» مكانه
وتولى عرش السلطنة.
السلطان خشقدم [865 - 872هـ]:
كان عهد «خشقدم» أكثر العهود اضطرابًا، فوجد نفسه أمام عدة
قوى مناهضة كان عليه أن يواجهها، فعمل على تفتيتها والقضاء(5/83)
عليها بالسلم أو بالحرب أو بالحيلة، حتى استطاع القضاء على
معظمها، ومات ولايزال بعضها منقسمًا على نفسه نتيجة محاولات
التشتيت التى قام بها حيالهم.
السلطان قايتباى [872 - 901هـ = 1467 - 1496م]:
لم يتولَّ «قايتباى» السلطة مباشرة بعد «خشقدم»، وإنما سبقه على
العرش «بلباى» و «تيموربنا» اللذان حكما شهرًا واحدًا لكل منهما،
فقد كان ذلك العهد مليئًا بالاضطرابات والفتن، وظل على ذلك حتى
تولى «قايتباى» مقاليد الأمور، وكان رجلا شجاعًا جريئًا ذا مروءة
عالية، تجلت حين علم باضطهاد المسلمين فى «إسبانيا»، فأرسل
إلى ملكها يتهدده ويتوعده إذا لم يقلع عن الإساءة إلى المسلمين
فى بلاده.
واجه «قايتباى» عدة صعاب استطاع التغلب على أكثرها، وتفرغ
للإصلاحات الداخلية، والمنشآت الحضارية التى خلدت اسمه، ولعل
أبرزها قلعته الحصينة الشهيرة بالإسكندرية.
مصر بعد قايتباى [901 - 906هـ]:
شهدت هذه السنوات القليلة التى تلت حكم «قايتباى» عددًا من
السلاطين تميز جميعهم بالضعف وسوء الإدارة، كما تميزت فترات
حكمهم بالدسائس والمؤامرات والفتن والاضطرابات، فقد تولى
«السلطان الناصر محمد بن قلاوون» الحكم عقب وفاة أبيه، وكان
صغير السن، فتولى القائد «قانصوه الخمسمائة» الوصاية عليه فى
بداية عهده، ولكن «الناصر محمد» ترك العرش وتنازل عن السلطنة
حين رأى الدسائس والفتن والاضطرابات من حوله، فتولى من بعده
عدد من السلاطين، كانت مدة حكم كل منهم قصيرة، فساعد ذلك
على زيادة الاضطرابات واشتعالها، وظل الوضع على ذلك حتى تمكن
«قانصوه الغورى» من الوصول إلى العرش، وهؤلاء السلاطين هم:
«قانصوه الأشرفى»، و «جنبلاط»، و «طومان باى الأول».
السلطان قانصوه الغورى [906 - 922هـ=1501 - 1516م]:
بدأ السلطان «الغورى» عهده بتشتيت شمل مثيرى الفتن والقلاقل،
وقاوم بصلابة وحزم الثورات التى قامت، وأعد أسطولا لحماية
التجارة من غارات البرتغاليين، فقد دأب البرتغاليون بقيادة(5/84)
«فاسكودى جاما» على إثارة القلاقل فى الدول الإسلامية المتاخمة
لطريقهم إلى المشرق محاولين بذلك السيطرة على طرق التجارة بين
الشرق والغرب، إلا أن سلاطين المماليك وقفوا لهم بالمرصاد،
واستطاعوا ردهم على أعقابهم أكثر من مرة، على الرغم مما كان
يعانيه هؤلاء السلاطين من الفتن والاضطرابات داخل البلاد.
حاول «الغورى» إعادة السيطرة البحرية إلى بلاده ودعم موقفه،
وبعث إلى البابا يهدده إذا لم يكف البرتغاليون عن غاراتهم، إلا أن
الضعف العام الذى حل بالدولة نتيجة الاضطرابات وزيادة نفقات
المماليك أدى إلى سيطرة البرتغاليين على طرق التجارة، وعمل
«الغورى» على رد غارات البرتغاليين، وأخذ يستعد لذلك، إلا أن
الدولة العثمانية أرسلت قوة حربية للسيطرة على بلاد الشام، ثم
أمدت هذه القوة بالجنود والمعدات وحولتها إلى جيش كبير حارب
المماليك فى منطقة «مرج دابق» بالشام، فتمكن العثمانيون من
هزيمة المماليك، وقتلوا السلطان «الغورى» الذى كان يقود الجيش
بنفسه فى سنة (922هـ).
السلطان طومان باى الثانى [922 - 923 هـ = 1516 - 1517م]:
بعد مقتل «الغورى» بالشام استقر الرأى على تعيين «طومان باى»
ابن أخيه سلطانًا على «مصر»، وجلس «طومان باى» على العرش فى
فترة كانت شديدة الحرج فى تاريخ «مصر»؛ إذ سيطر العثمانيون
على الشام، وساءت الأحوال بمصر بعد هزيمة «مرج دابق»، ولم
يكتفِ العثمانيون بما حققوا، بل يمموا شطر «مصر» فى محاولة منهم
للسيطرة عليها.
حاول «طومان باى» السيطرة على الموقف، وقام بعدة أعمال فى
سبيل تحقيق ذلك، وفض الخصومة التى كانت قائمة بين المماليك
وصالح بينهم، وساعده فى ذلك حب الشعب له لإخلاصه ووفائه
وتفانيه فى خدمة المسلمين.
باءت كل محاولات «طومان باى» بالفشل فى إعادة المماليك إلى
قوتهم الأولى التى كانوا عليها فى عصور النهضة، فقد أنهكتهم
الاضطرابات، وقضت على وحدتهم الفتن، فانتهى الأمر بهزيمتهم على(5/85)
أيدى العثمانيين فى موقعة «الريدانية» الشهيرة فى ظاهر
«القاهرة»، ودخل العثمانيون «مصر»، وحاول المصريون مساندة
«طومان باى» فى هذه الظروف لحبهم الشديد له، إلا أنهم لم
يستطيعوا إيقاف زحف العثمانيين على «مصر»، فخرج «طومان باى»
إلى «مديرية البحيرة» فى محاولة منه لاستجماع قوته وجنوده،
ولكن العثمانيين تمكنوا منه وقبضوا عليه، ثم شنقوه على «باب
زويلة» سنة (923هـ)، بعدما بذل كل جهوده وأدى واجبه فى سبيل
الدفاع عن دولته، إلا أن ظروف عصره لم تمكنه من تحقيق ما أراد،
فسقطت بذلك دولة المماليك ونظامهم، ودخلت «مصر» مرحلة جديدة
باتت فيها تحت حكم العثمانيين.
المماليك حماة الإسلام:
إن المتتبع لأحداث العالم الإسلامى عبر صفحات التاريخ، سوف يجد
أمرًا فريدًا تميزت به بلاد المسلمين عن غيرها من بلاد العالم، وكان
الدين الإسلامى هو العامل الرئيسى والوحيد وراء هذا التميز والتفرد،
فنجد فى تاريخ المسلمين عبر فتراته المختلفة أن الدين الإسلامى هو
سر القوة الكامن فيهم وفى وحدتهم، ويجد المتتبع أن دولة الإسلام
إذا حل بها ضعف فى مكان ما منها؛ فسرعان ما تقوم قوة إسلامية
فى مكان آخر لتعوض هذا الضعف، وترفع راية الجهاد، لكى تستكمل
مسيرة البناء والحضارة، فنجد أن الخلافة حين ضعفت فى «بغداد»
ظهرت قوة الأيوبيين والمماليك فى «مصر»، فلما حل الضعف
بالمماليك، قامت قوة العثمانيين، وهكذا فى تتابع عجيب؛ ليؤدى
كلٌّ دوره الحضارى والتاريخى فى هذا البناء العظيم الذى أقامه
المسلمون فى كل مكان حل به الإسلام.
ولأن المماليك إحدى هذه القوى التى قامت باستكمال ما عجزت عنه
بعض القوى الأخرى نتيجة قصور فى شىء أو ضعف ما، فقد قاموا
بخدمات جليلة لرفع شأن الإسلام، وتعظيم هيبة المسلمين، وجاهدوا
فى سبيل تحقيق ذلك بأموالهم وأوقاتهم وأرواحهم، وخاضوا غمار
المعارك للذود عن الإسلام والمسلمين، وفيما يلى سوف نعرض لأهم
المعارك التى خاضوها.(5/86)
عين جالوت [658هـ]:
لم تكد الأمور تهدأ فى «مصر» فى بداية عهد المماليك حتى سقطت
الخلافة فى «بغداد» على أيدى التتار الذين اجتاحوا بلاد المسلمين
وسيطروا عليها، ولم يعد أمامهم سوى «مصر»، فسعوا إلى الإيقاع
بها ليكون العالم الإسلامى كافة فى قبضتهم. فبعد سقوط «بغداد»
زحف التتار بقيادة «هولاكو» تجاه «سوريا» واحتلوا «حلب»، وقتلوا
خمسين ألفًا من سكانها، ثم احتلوا «حماة» و «دمشق» وعقدوا
معاهدة مع «أنطاكية» (على حدود الروم) للتحالف ضد المسلمين، ولم
يكتفِ «هولاكو» بذلك، بل أرسل إلى ملك «مصر» يطلب منه التسليم،
ويهدده بالقضاء على جيوش المسلمين كلها إن لم يُسرع بذلك، فقد
رأى «هولاكو» أثر تهديداته بهذه الصورة على مقر الخلافة فى
«بغداد»، وظن أن يجد الصدى نفسه لدى حكام «مصر»، ويدخل
«مصر» بسهولة ودون مقاومة مثلما دخل «بغداد»، إلا أن «سيف
الدين قطز» أجبره على أن يفيق من أحلامه بصاعقة لم تكن متوقعة،
فقد مزق رسالته وقتل رسله وعلق رءوسهم على مداخل «القاهرة»،
وتوعده بالموت والهلاك إن لم يرحل عن هذه البلاد التى قتل من
مسلميها ما لايُحصَى عدده، وجعل الدماء أنهارًا فى «بغداد» والشام.
خرج «المظفر قطز» فى أواخر شهر شعبان سنة (658هـ) لملاقاة
التتار الذين وصلت طلائعهم إلى غزة بقيادة «كتبغا»، ودارت رحى
المعركة بين الطرفين فى «عين جالوت» بفلسطين فى رمضان من
سنة (658هـ)، وأظهر فرسان المماليك، والجند المصريون شجاعة
بالغة بقيادة السلطان «المظفر قطز» وبجواره «بيبرس» أعظم فرسان
المماليك البحرية. وتجدر الإشارة إلى الارتباك الشديد الذى حدث بين
صفوف المسلمين فى بداية المعركة، فلما رأى «قطز» ذلك عمل على
رفع معنويات جنده وشد عزيمتهم، وألقى خوذته عن رأسه إلى
الأرض، وصاح بأعلى صوته: واإسلاماه .. واإسلاماه؛ فاستجاب له
الجند، ودوت الصيحة فى ميدان المعركة، ورفع المسلمون أصواتهم(5/87)
بالتكبير .. الله أكبر .. الله أكبر، وعمدوا إلى قتال عدوهم، وجاهدوا
بإخلاص وثقة فى سبيل الله للحفاظ على الدين والأرض والمال
والولد، فكتب الله لهم النصر المؤزر على جحافل التتار، وقضوا عليهم
قضاء مبرمًا.
ويعد الانتصار العظيم الذى حققه المسلمون على التتار فى «عين
جالوت» من أعظم الانتصارات فى التاريخ الإسلامى على الإطلاق،
فلم يكن مجرد انتصار عسكرى فحسب، بل كان انتصارًا للحضارة،
وإنقاذًا للمدنية الإنسانية كلها من أمة همجية، لم تكتف بالقتل والذبح
والتشريد؛ بل عملت على الهدم والتخريب والدمار، فقتلت المسلمين
بوحشية، وهدمت مكتبات «بغداد»، وألقت بأعظم المؤلفات العلمية
والحضارية فى نهرى «دجلة» و «الفرات»، ولولا رحمة الله -تعالى-
بهذه الأمة بأن قيض لها قادة عظماء، ورجالا يخشون الله تعالى،
وفرسانًا يعملون على إعلاء كلمة «لا إله إلا الله»، والحفاظ على
وحدة الأمة؛ لتغيرت أحداث التاريخ، واختلفت مجريات الأمور، وتباينت
صور الحضارة فى هذه البلاد. ولكن الله - تعالى - أراد السلامة لهذه
الأمة من خطر التتار وهمجيتهم، فردهم على أعقابهم مدحورين
خاسرين.
علاقة المماليك بالصليبيين:
تمتعت «مصر» فى عهد المماليك بمركز ممتاز بين دول العالم شرقًا
وغرباً؛ فهى التى هزمت الصليبيين فى معركة «حِطِّين»، وهزمت
المغول فى «عين جالوت» وأخضعت «أرمينية» لسلطانها، وبسطت
نفوذها على بلاد «اليمن» و «الحجاز»، ووسعت أملاكها فى
«إفريقية»، وأصبحت - بحق - مقر الحكومة الإسلامية، خاصة بعد
انتقال الخلافة الإسلامية من «بغداد» إليها.
لم تستقر الأوضاع تمامًا فى عهد سلاطين المماليك، ومع ذلك لم
يكونوا أقل حماسة فى طرد الصليبيين من أسلافهم الأيوبيين، إذ لم
تكن الحملة الصليبية السابعة - التى فشلت وأسر قائدها بالمنصورة
فى العهد الأيوبى - آخر جولات الصليبيين مع «مصر»، فقد رأى
«الظاهر بيبرس» - حين استتب الأمر للمماليك وقويت شوكتهم - متابعة(5/88)
سياسة «صلاح الدين الأيوبى» وخلفائه فى مطاردة الصليبيين
وإجلائهم عن الشرق الأدنى، ولم يكن ذلك بالأمر الهين؛ إذ كان يتعين
عليه مواجهة الكيانات الصليبية فى «أنطاكية» و «طرابلس»، وفى
الجزء الباقى من مملكة «بيت المقدس» ليقضى على إماراتهم فيها،
ولكى يصل إلى تحقيق ذلك رأى القضاء على كل إمارة منها على
حدة، فسارعت بعض المدن بعقد الصلح معه، وبدأ جهاده بحصار
«قيسارية»، ثم استولى عليها، فرفع هذا النصر من معنويات جنوده،
فتابع انتصاراته واستولى على «صفد»، و «شقيف»، و «يافا»، ثم
على «أنطاكية» التى تحالفت مع التتار ضد المسلمين، فكان
لسقوطها دوىّ هائل فى الإمارات الصليبية التى أسرعت بعقد الصلح
مع «الظاهر بيبرس»، ذلك الرجل الذى وهب حياته للجهاد فى سبيل
الله.
وبعد أن هدأ القتال مع الصليبيين اتجه «بيبرس» إلى مواجهة المغول
وانتصر عليهم فى معركة «عين جالوت»، ثم تعقبهم حتى أجلاهم عن
بلاد الشام.
لقد كانت حياة «الظاهر بيبرس» وجهاده محاولة منه لإعادة مسيرة
الناصر «صلاح الدين» والمظفر «قطز» معًا، ولم يبخل فى سبيل
تحقيق استقرار أمن المسلمين ودولتهم بكل ما يملك من وقت وجهد
ومال، فأصبح عصره من أزهى عصور المسلمين فى التاريخ، وأعاد
إلى البلاد هيبتها وأمنها واستقرارها بعد ما مر بها من فترات عصيبة
سبقته، وكذلك أعاد إلى الخلافة الإسلامية مكانتها ونقلها إلى
«القاهرة»، وأسس جيشًا قويا، وأسطولا عظيمًا، ويكفيه فخرًا أن
«مصر» حققت انتصاراتها العظيمة على الصليبيين والمغول فى عهده
وتحت قيادته.
جهاد قلاوون وأسرته ضد الصليبيين:
استأنف السلطان «قلاوون» الجهاد ضد الصليبيين فى سنة
(685هـ)،وبدأ بمناوشتهم، وحاصر «اللاذقية» التى كانت تحت
سيطرتهم، ثم استولى عليها وعلى «طرابلس الشام» من بعدها، ولم
يبق فى أيدى الصليبيين فى الشرق الأدنى سوى «بيروت»
و «صور»، و «عكا» التى كانت من أمنع الحصون الصليبية، فرغب فى(5/89)
السيطرة عليها ثأرًا لبعض التجار المسلمين الذىن قتلهم الصليبيون،
وزحف بجيشه وحاصرها إلا أنه مات قبل أن يتمكن من دخولها،
وبقيت «عكا» فى أيدى الصليبيين حتى تولى «الأشرف خليل بن
قلاوون» مهام السلطنة، وتمكن من فتح «عكا» ودخولها فى سنة
(692هـ) بعد حصار ظل أربعة وأربعين يومًا، فعادت «عكا» إلى
أيدى المسلمين بعد أن بقيت مائة عام كاملة تحت سيطرة الصليبيين،
ثم توجه الأشرف بجيشه تجاه «صور»، و «حيفا» وتمكن منهما بعد
جهاد عنيف أشاد به الشعراء ونظموا له القصائد، وهكذا تمكن
«الأشرف خليل» من تحقيق هدفه وأمل أبيه من قبله، وقضى على
بقايا الجيوب الصليبية فى الشام، وبذلك قضى على دولتهم فيها،
فاتخذوا من جزيرة «أرواد» مستقرا لهم، وأخذوا يغيرون منه على
سكان المدن الإسلامية فى الشام، وقطعوا الطريق على المارة،
فاستغاث نائب السلطان على الشام بالسلطان «الناصر محمد بن
قلاوون» الذى آلت إليه السلطنة.
جهاد الناصر محمد:
حين بلغت «الناصر محمد» استغاثة نائبه على الشام، جهز أسطوله
البحرى وانضم به إلى جيش «طرابلس الشام» فى عام (702هـ)،
وحاصر «جزيرة أرواد» بالجيش والأسطول معًا، وانتهى الأمر بهزيمة
ساحقة للصليبيين، وعودة هذه الجزيرة - ذات الموقع الاستراتيُجى
المهم، والتى افتتحها المسلمون الأوائل سنة (54هـ) - إلى ظل الحكم
الإسلامى مرة ثانية، فانتهت دولة الصليبيين فى الشرق الأدنى
والأراضى المقدسة.
لم يتوقف «الناصر محمد» عند هذا الحد من الجهاد، بل تقابل فى سنة
(702هـ) مع المغول بقيادة زعيمهم «غازان» فى «مرج الصقر» على
مقربة من «حمص»، فقد حاول المغول الثأر لهزيمتهم فى «عين
جالوت»، فواجههم «الناصر محمد» بما تميز به من شدة وبأس وقوة
عزيمة، وهزمهم هزيمة ساحقة مات على إثرها «غازان» زعيم المغول
حزنًا، وقوبل «الناصر محمد» بأعظم مظاهر الترحيب حين عودته من
الشام إلى «مصر»، وأقيمت له أقواس النصر، وخرج الشعب كله(5/90)
لاستقباله وتهنئته والترحيب به.
لم يركن «الناصر محمد» إلى الراحة طيلة فترة حكمه للسلطنة، وعمد
إلى الحفاظ على وحدة بلاد المسلمين، ورفع شأنهم، وخرج إلى
«أرمينية» على رأس جيوشه حين نقضت العهد الذى كان بينها وبين
المسلمين، وصمم على غزوها والسيطرة عليها تأديبًا لحكامها على
نقضهم العهد، واجتاحت الجيوش الإسلامية بقيادته بلاد «أرمينية»،
وتمكنت منها ودخلتها سنة (726هـ)، فعادت تبعيتها إلى الدولة
الإسلامية، وقامت بدفع نفقات جيش المسلمين.
لقد كتبت دولة المماليك بجهادها صفحة مجيدة من صفحات الجهاد فى
التاريخ الإسلامى، وقامت بدورها كاملا فى حماية أراضى البلاد
ومقدساتها من طمع أعدائها، سواء أكانوا من الصليبيين أم المغول،
وحافظت على استقرار الأمن ورفع شأن المسلمين، ولم يكن الجهاد
حكرًا فى هذه الحقبة من التاريخ على دولة «المماليك البحرية»
وحدها، بل كان لدولة «المماليك البرجية» دورهم البارز فى هذا
الشأن؛ إذ اشتبكت الجيوش الإسلامية فى عهد السلطان «برسباى»
مع الصليبيين فى «قبرص»، وتمكن المسلمون من هزيمتهم فى
موقعة «شيروكيتوم»، وأسروا ملك «قبرص» وجاءوا به إلى
«القاهرة»، وظلت «قبرص» تحت سيطرة المماليك حتى دخل
العثمانيون «مصر» سنة (923هـ).(5/91)
الفصل التاسع
*النظم والحضارة فى عهد المماليك
النظام الحربى والبحرى:
لاشك أن الانتصارات الرائعة التى أحرزها المماليك تعود إلى إعداد
جيد للجيش وتنظيم دقيق له وللقائمين عليه، ولعل الفضل فى ذلك
يعود إلى «الظاهر بيبرس» الذى أولى الجيش عنايته منذ ولى عرش
«مصر»، فقد قام بنفسه بإعداده وتنظيمه وتسليحه، ليكون سنده
فى الحروب ووقت الشدة، فاستكثر من شراء المماليك وعنى
بتربيتهم تربية دينية وعسكرية، وعين لكل فئة منهم فقيهًا يعلمهم
القرآن، ومبادئ القراءة والكتابة، حتى إذا وصلوا إلى سن البلوغ
أوكلهم إلى من يدربهم ويمرنهم على الأعمال الحربية، فإذا أتموا
ذلك وأجادوه ألحقوا بجيش السلطان لتبدأ حياتهم الجهادية فى سبيل
الله.
فلما ولى السلطان «قلاوون» مقاليد الأمور فى سنة (679هـ)، زادت
عنايته بشئون تدريب الجند المماليك، وأشرف على طعامهم بنفسه
وكان يتذوقه قبل تقديمه إليهم، وكان لا يسمح لهم بمغادرة «قلعة
الجبل» ليلا أو نهارًا، وظلوا على ذلك حتى ولى السلطان «خليل بن
قلاوون» فى سنة (689هـ)، فسمح لهم بالخروج نهارًا فقط، ومنعهم
من المبيت خارجها، ثم بنى لهم «الناصر محمد بن قلاوون» - فيما بعد
- «الطباق» بساحة الإيوان بالقلعة وجعلها مقرا لهم.
تكوين الجيش:
كان جيش المماليك يتكون -عادة- من المماليك السلطانية وجنود
الحلقة، وكانت لكل فريق من هاتين الطائفتين مرتبة لا يتجاوزها إلى
غيرها، فالمماليك السلطانية هم مماليك السلطان، وتنفق عليهم
الخاصة السلطانية، لأنهم حرس السلطان الخاص، وكان لهم نظام دقيق
فى التدرج القيادى رتبة بعد رتبة، فمنهم من أطلق عليه أمير خمسة،
وأمير عشرة، وأمير أربعين، وكذلك أمير مائتين، وكانت لكل
صاحب لقب من هذه الألقاب واجبات والتزامات معينة، فأمير خمسة
يكون فى خدمته خمسة مماليك، وأمير عشرة تكون عدته عشرة
مماليك، أما «أمير الأربعين» فكان يطلق عليه «أمير طبلخانة» لحقه(5/92)
فى دق الطبول على قصره كما يحدث للسلطان، ولم يكن لطبقة
الأمراء هذه ضابط فى عدد أتباعها من المماليك، فقد يتفاوت عدد مَنْ
يكون فى خدمة كل أمير منهم ما بين أربعين وثمانين مملوكًا، أما
«أمير مائة» فكان فى خدمته «مائة» مملوك، ومقدم فى الوقت نفسه
على ألف جندى فى الحروب، فيقال: «أمير مائة مقدم ألف».
أما جنود الحلقة فكان لكل أربعين جنديا منهم رئيس لا حكم له عليهم
إلا إذا خرجوا إلى القتال، فيقوم بترتيبهم فى أماكنهم، وليس له
الحق فى أن يُبعد أحدهم من الخدمة إلا بإذن من السلطان.
كانت هناك طائفة أخرى من المماليك تضاف إلى الطائفتين
السابقتين، وهى طائفة مماليك الأمراء التى كان ينفق عليها
أمراؤها، فقد كان مماليك هذه الفئة يحرسون أمراءهم ويساعدونهم
على أعدائهم.
ولم تكن مرتبات الجند ثابتة، وقد استبدل نظام المرتبات بإقطاعات
كان السلطان يمنحها لهم ليتمتعوا بغلاتها وإيراداتها، فبات أمراؤهم
- خاصة أمراء المماليك السلطانية - ذوى ثروة كبيرة ونفوذ عظيم،
ذلك إذا وضعنا فى الاعتبار أن السلطان كان يمنحهم جزءًا من
الغنائم، ورواتب أخرى من اللحم والتوابل والعليق والزيت.
أساليب المماليك فى القتال:
كانت شجاعة المماليك وفروسيتهم التى عُرفوا بها، وولاؤهم للأمير
الذى يجلبهم، من أهم الأسباب لاستقدامهم من بلادهم، وكانت لهم
خطوات دقيقة قبل الدخول فى أية معركة، وأهمها: عقد «مجلس
الجيش» برياسة السلطان، وعضوية أتابك العساكر، والخليفة،
وقضاة المذاهب الأربعة، وأمراء المائتين الذين بلغ عددهم أربعة
وعشرين أميرًا؛ وكان الغرض من عقد هذا المجلس هو الاستنارة بآراء
كبار رجال الدولة قبل الإقدام على الحرب، وجعل إعلان الحرب أمرًا
مشروعًا، فإذا ما وافق المجلس على خوض الحرب؛ يأمر السلطان
باستدعاء الجنود من مختلف جهات «مصر»، فيحلفون يمين الطاعة
والولاء فى حضرته، ويتسلمون ما يلزمهم من عتاد الحرب من خزانة(5/93)
السلاح التى كان يُطلق عليها اسم «السلاح خانة»، ثم يستعرضهم
السلطان بنفسه وهو بلباس الحرب، وهو ما يعرف باسم «النفير»،
فإذا مااستعرض السلطان الجند وتفقد أحوالهم وسلاحهم، اختار من
كبار قواده قائدًا يسير على رأس الحملة الحربية، وقد جرت العادة
أن يتخذ القائد مركزه فى القلب؛ حتى يراه جميع جنوده، وينفذوا
أوامره، أو يتخذ مركزه فى المقدمة ليثير الحماسة فى نفوسهم،
ويلقى الرعب فى قلوب أعدائه.
كان المماليك يأخذون فى حروبهم بطريقة قتال الصفوف التى يقف
فيها الجندى بجانب زميله حتى يكاد يلتصق به كما يحدث فى صفوف
الصلاة، ويسير الجنود على هذا النحو حتى يصلوا إلى حيث استقر
العدو فينازلوه ويناجزوه، وكان الخليفة - أحيانًا - يصحب الجيوش
فى حملاتهم ليحث الجنود على الجهاد، ويبث الروح الدينية فى
نفوسهم.
اعتمد المماليك على الخيل فى حروبهم، لذا عنوا بها عناية فائقة،
حتى صارت الفروسية فى عهدهم فنا عظيم الشأن، أفردوا لدراسته
الكتب والرسائل العديدة التى مازالت موزعة بين خزائن المخطوطات
فى العالم حتى الآن، وكذلك تعددت أسلحتهم الحربية، فكان منها:
«السيف»، و «الخنجر»، و «الطبر»، و «البلطة»، و «الفأس»،
و «القوس»، و «السهم»، و «المقلاع»، و «المنجنيق»، «والدبابات ذات
الخيول»، و «الصنبور»، و «القلاع المتحركة»، و «النار اليونانية»،
وجعلوا لهذه الأسلحة على اختلاف أنواعها دارًا تحفظ وتخزن فيها
أطلقوا عليها اسم: «الزرد خانة»، أو «السلاح خانة»، أى بيت
السلاح، وجعلوا رئاسة هذه الدار لأحد أمراء المائتين، وأطلقوا عليه
لقب: «أمير السلاح»، وجعلوا جماعة من الموظفين عُرفوا باسم
«السلاح دارية» لمعاونة الأمير فى مهام عمله، وكذلك كان يعمل
بالدار جماعة من الصناع عُرفوا باسم: «الزرد كاش»، ومعناها: صانع
الزرد، لصناعة وصيانة الأسلحة، واختص كل منهم بنوع معين من
أنواع السلاح.
لقد ظل المماليك محافظين على صنعتهم الحربية حتى بعد أن ضعف(5/94)
شأنهم باستيلاء العثمانيين على «مصر» سنة (1517م)، لأن هذه
النظم هى التى جعلت لهم السبق فى الاهتمام بالجانب الحربى،
وأهَّلتهم لخوض المعارك الطاحنة، ومكنتهم من بسط نفوذهم ومد
سلطانهم على «مصر» والشام و «الحجاز»، و «اليمن»، و «جزر
المتوسط»، ومع ذلك كانوا دائمًا يتطلعون إلى ترسيخ دعائم دولتهم،
وتحديث نظمهم ومعداتهم الحربية لأنهم يعلمون جيدًا أن عدوهم
متربص بهم من البر والبحر، فعمدوا إلى الاهتمام بالسلاح البحرى
إلى جانب اهتمامهم بتدريب الجند وتوفير ما يلزمهم.
البحرية فى عهد المماليك:
عندما آلت السلطة إلى سلاطين المماليك عمل «الظاهر بيبرس» منذ
سنة (658هـ) على إعداد قوة بحرية قوية يستعين بها على صد
الأعداء المتربصين بالبلاد من جهة البحر، فاهتم بأمر الأسطول، ومنع
الناس من التصرف فى الأخشاب التى تصلح لصناعة السفن، وأمر
بإنشاء الشوائى (وهى السفن الحربية ذات الأبراج والقلاع العالية
للدفاع والهجوم) لكى تحمى «الإسكندرية» و «دمياط»، وكان
السلطان يذهب بنفسه إلى دار صناعة السفن بالجزيرة ويشرف على
تجهيز هذه الشوائى حتى تمكن فى النهاية من إعداد أسطول مكون
من أربعين قطعة حربية، سَيَّرها إلى «قبرص» فى سنة (669هـ)، إلا
أن هذا الأسطول هلك، فقام «بيبرس» بإنشاء أسطول آخر مما يدلل
على المركز المالى القوى الذى تمتعت به دولة المماليك.
نسج الأشرف «خليل بن قلاوون» على منوال «الظاهر بيبرس» فى
عنايته بالأسطول، فقد أنشأ أسطولا مكونًا من ستين مركبًا جُهِّزت
بالآلات الحربية والرجال، وأقام احتفالا كبيرًا حضره الناس من كل
مكان حين ذهب إلى استعراض هذا الأسطول فى دار صناعة السفن
بجزيرة الروضة.
عُنى السلطان «الناصر محمد» بالأسطول مثلما فعل «بيبرس»
و «خليل» من قبله، فأصبح لمصر أسطول من أقوى أساطيل هذا
العهد، فقد كان يجمع بين «الشوائى»، و «الحراريق» (سفن حربية
أقل من الشوائى)، و «الطرادات» (سفن حربية سريعة الحركة صغيرة(5/95)
الحجم)، و «الأغربة» (سفن حربية تشبه رءوسها رءوس الفرسان
والطيور)، و «البطش» (سفن تحمل المجانق)، و «القراقر» (سفن
تستخدم فى تموين السفن)، وليس أدل على مبلغ اهتمام المماليك
بالقوة البحرية مما ذكره «المقريزى» حين وصف الاحتفال بإنزال
الشوائى إلى البحر للسفر إلى «طرابلس» بقوله: «وفى المحرم من
سنة 705هـ تبحرت عمارة الشوائى، وجهزت بالمقاتلة والآلات مع
الأمير «جمال الدين أقوش الفاوى العلائى» والى «البهن»، واجتمع
الناس لمشاهدة لعبهم فى البحر، فركب «أقوش» فى «الشيئى»
الكبير، وانحدر تجاه المقياس، وكان قد نزل السلطان والأمراء
لمشاهدة ذلك، واجتمع من العالم ما لم يحصهم إلا الله -تعالى- وبلغ
كراء المركب الذى يحمل عشرة آلاف نفس مائة درهم، وامتلأ البران
من «بولاق» إلى دار الصناعة حتى لم يوجد موضع قدم خالٍ، ووقف
العسكر على بربستان الخشب، وركب الأمراء الحراريق إلى
«الروضة»، وبرزت الشوائى للعب كأنها فى الحرب؛ فلعب الأول
والثانى والثالث، وأعجب الناس بذلك إعجابًا زائدًا لكثرة ما كان فيها
من آلات الحرب، ثم تقدَّم الرابع وفيه «أقوش» فما هو إلا أن خرج من
منية الصناعة بمصر، وتوسط النيل. وإذا بالريح حركة، فانقلبت،
وأنقذ الناس الشيئى، وأصلحوه، وسافروا بالشوائى لطرابلس، وليس
أدل على اهتمام المماليك بأمر الأساطيل من اشتراك الأهالى مع
الحكومة فى عرض الجيوش الحربية والأساطيل، والعمل على تقويتها
وبناء سفن كثيرة، وقد أطلق الشعب على رجال الأسطول لقب:
«المجاهدون فى سبيل الله والغزاة فى أعداء الله» وكان الناس
يتبركون بدعائهم تعظيمًا لهم».
وهكذا كانت عناية المماليك بالجيش، وكذلك كان اهتمامهم
بالأسطول، وبذلك وصلت الأمة الإسلامية إلى ماوصلت إليه من مكانة
سامية وشأن عظيم على أيديهم.
النظم الإدارية فى عهد المماليك:
أهم الدواوين:
تكون الجهاز الإدارى فى «مصر» والشام من عدة دواوين حكومية،(5/96)
يشرف كل منها على ناحية معينة من نواحى الإدارة العامة، وكانت
أهم هذه الدواوين فى هذا العهد ما يلى: «ديوان الأحباس»، و «ديوان
النظر»، و «ديوان الخاص»، و «ديوان الإنشاء».
أما «ديوان الأحباس» فيشبه وزارة الأوقاف فى وقتنا الحالى،
ويتولى صاحب هذا الديوان الإشراف على المساجد والربط، والزوايا،
والمدارس، والأراضى، والعقارات المحبوسة عليها، والإحسان إلى
الفقراء والمعوزين.
و «ديوان النظر» يشبه وزارة المالية حاليًا، وترجع إليه سائر الدواوين
فى كل ما يتعلق بالمسائل الخاصة بالمتحصل والمنصرف من أموال
الدولة، وله فوق ذلك الإشراف على حساب الدولة، وأرزاق الموظفين
الدائمين والمؤقتين، وكان هذا الديوان يتخذ من القلعة مقرا له.
وفى سنة (727هـ) أنشأ السلطان «الناصر محمد» «الديوان الخاص»
لإدارة الشئون المالية التى تتعلق بالسلطان، ويتولى الإشراف عليه
«ناصر الخاص» الذى عُرف من قبل فى عهد الفاطميين والأيوبيين،
ولكنه لم يبلغ من الأهمية القدر الذى بلغه فى عصر المماليك خاصة
فى عهد «الناصر محمد». أما ديوان الإنشاء فكانت أهم اختصاصاته
تنظيم العلاقات الخارجية للدولة، وهو أول ديوان وُضع فى الإسلام،
وقد نُظِّم فى عهد المماليك بأسلوب يتناسب مع مقتضيات العصر
ومتطلباته، وكان مقره «قاعة الصاحب» بقلعة الجبل، حيث ترد
المكاتبات إليه من جميع أنحاء الولايات والممالك التى بينها وبين بلاد
المسلمين علاقات سياسية، كما كانت تحرر فيه الكتب التى كان
يرسلها السلطان إلى الملوك والأمراء، وقد لُقب صاحب ديوان الإنشاء
بألقاب عديدة فى أوائل عهد المماليك، فلقبوه تارة باسم: «صاحب
الدست الشريف»، وأخرى باسم: «كاتب الدرج» وثالثة باسم: «كاتب
الدست» وبقيت هذه تسميته إلى أن تولى «القاضى فتح الدين بن
عبدالظاهر» هذا الديوان فى عهد السلطان «قلاوون» فتلقب بلقب
«كاتب السر»؛ لأنه كان يكتم سر السلطان، وكانت وظيفته من أعظم(5/97)
الوظائف الديوانية وأجلِّها قدرًا، وكان له معاونون يساعدونه فى
أداء ما عليه من التزامات وواجبات.
كان من أبرزهم: «نائب كاتب السر»، ثم يليه فى المرتبة كُتَّاب الدست
المتصلون بديوان الإنشاء، وكانوا يجلسون مع كاتب السر بمجلس
السلطان بدار العدل.
كانت هناك دواوين أخرى - فى العهد المملوك - أقل شأنًا من تلك
الدواوين السابق ذكرها، مثل «ديوان الأهراء» (وهى شئون الغلال
السلطانية)، و «ديوان الطواحين»، ويتولى صاحبه الإشراف على طحن
الغلال، و «ديوان المرتجعات»، ويشرف صاحبه على الأمور الخاصة
بتركات الأمراء، وكذلك كانت هناك دواوين أخرى ذكرها
«القلقشندى» على أنها دواوين مستقلة، ولكنها لم تكن - فى حقيقة
الأمر - سوى إدارات تتصل اتصالا مباشرًا بالقصر السلطانى، أو بأحد
الدواوين الرئيسية السابقة، وذكر «القلقشندى» منها - مثلا - «ديوان
الإصطبلات»، و «ديوان المواريث»، و «ديوان الخزانة» و «ديوان
العمائر»، و «ديوان المستأجرات».
سارت دواوين الحكومة فى عصر المماليك على نسق واحد من حيث
التنظيم الإدارى، فكان على رأس كل ديوان موظف كبير هو «ناظر
الديوان»، وكانت مهام عمله تشبه إلى حد كبير ما يقوم به الوزير
حاليا، ويليه فى المرتبة «مستوفى الصحبة»، و «مستوفى الدولة»
ومهمتهما الإشراف على موظفى الدواوين المختلفة، ويلى هؤلاء طبقة
الموظفين والكتاب وما يليهم.
البريد:
كان البريد أحد أهم إدارات «ديوان الإنشاء»، إذ كان واسطة الاتصال
بين دولة المماليك فى «مصر» ونياباتها فى الشام وغيرها من
الأقاليم، ولم يقتصر المماليك على البريد العادى فى إرسال
رسائلهم، بل عمدوا إلى استخدام الحمام الزاجل فى نقلها، وجعلوا
القلعة مركزًا لأبراجه، كما أقاموا مراكز معينة فى جهات مختلفة
لتكون مراكز للبريد البرى، وخصصوا لكل محطة منها عددًا من الحمام
الزاجل، وجعلوا على رعاية شئونه عددًا من الموظفين المتخصصين(5/98)
فى ذلك، وكان فى كل محطة من هذه المحطات برج أو أكثر ليعيش
فيه الحمام الذى سيقوم بنقل الرسائل إلى المحطة التالية، وقد عنى
سلاطين المماليك عناية شديدة بما كانت تحمله هذه الحمائم من
رسائل، لدرجة أن بعضهم أمر بإدخالها عليه حال وصولها، كما كان
بعضهم يترك طعامه أو يستيقظ من نومه فى الحال عند وصولها.
وهكذا كان تنظيم الدواوين فى عهد الدولة المملوكية غاية فى
الدقة، ومظهرًا من مظاهر الرقى الحضارى الذى وصلت إليه هذه
الدولة بما صنعته وحققته، ومثلا من أمثلة المتابعة الدقيقة التى آل
سلاطين هذه الدولة على أنفسهم أن يتخذوها فى مراقبة شئون
الدولة؛ لتحقيق الاستقرار الداخلى، الذى ينعكس - بطبيعة الحال -
على كل مناحى الحياة فى الدولة.
كبار الموظفين الإداريين:
- الأتابك:
«الأتابك» هو القائد العام للجيوش، وكلمة «أتابك» لفظة تركية مركبة
من «أطا»، (وتعنى: أب) و «بك» (وتعنى: السيد أو الأمير) فيكون
«الأتابك» هو: السيد الأب، أو الأمير الأب، أى أنه أبو الأمراء أو
كبيرهم، وقد أُطلق هذا اللقب فى عهد المماليك على مقدم العساكر،
أو القائد؛ لأنه يعتبر أبًا للعساكر والأمراء جميعًا، وكثيرًا ما خلع
الأتابكة أبناء السلاطين من على العرش، واستولوا عليه وتولوه بدلا
منهم.
- الوزير:
تطور نظام الوزارة فى «مصر» فى عهد المماليك، ولم يتمتع وزراء
هذا العصر بنفوذ مطلق؛ لاستقرار منصب «نائب السلطان» الذى
استحدثه الأيوبيون وعمل به المماليك، وقد حرص «الظاهر بيبرس»
على اختيار وزرائه من أرباب الأقلام والسيوف، فإذا كان الوزير من
أرباب القلم أُطلق عليه اسم: «الصاحب» مضافًا إليه صفة الوزير
فيصبح لقبه: «الصاحب الوزير» أو «وزير الصحبة»؛ وهو وزير متنقل
يرافق السلطان فى أسفاره وحروبه، وتكون مهام وظيفته مقصورة
على تسيير شئون الوزارة فى هذه الأثناء. أما إذا كان هذا الوزير(5/99)
من أرباب السيف اكتفى بتلقيبه بالوزير دون الصاحب، ويُعدُّ - بهذا -
الوزير الأصلى الذى يحضر مجالس السلطان مع أمراء المائتين، وله
حق التصرف فى جميع أمور المملكة.
كان الوزير يتقاضى راتبًا شهريا قدره مائتان وخمسون دينارًا، عدا
ما خصص له كل يوم من مقادير وفيرة من الغلال واللحوم والخبز
وسائر ما يحتاج إليه، وقد ألغى السلطان «الناصر محمد» منصبى
«الوزير» و «نائب السلطان» فى آنٍ واحد فى سنة (727هـ).
- والى القاهرة:
استلزمت شئون الإدارة تعيين موظف كبير يُعدُّ فى الواقع من أهم
الموظفين الإداريين عرف باسم: «والى القاهرة»، فهو الذى ينفذ
الأحكام ويقيم الحدود، ويتعقب المفسدين، ومثيرى الفتن، ومدمنى
الخمر، ويعاقب كلا منهم على حسب جريمته، كما كانت عليه مراقبة
أبواب «القاهرة»، والطواف بأحياء التجارة والمال فيها، لذا أُطلِق
عليه أحيانًا: «صاحب العسس» أو «والى الطواف»، واقتصر نفوذه
على العاصمة وضواحيها.
- ولاة الأقاليم:
كانت فئة من الموظفين هى التى تشرف على كل عمل من أعمال
الوجهين البحرى والقبلى بمصر، وكان على رأس هذه الفئة «والى
الإقليم»، الذى يمثل الإدارة المحلية، وكانت مهمته تتركز فى العمل
على استتباب الأمن والنظام، والمحافظة على أموال الناس وأرواحهم
فى الإقليم الذى أوكلت إليه إدارته.
- أمير جاندار:
هى وظيفة إدارية تطلبتها ظروف هذا العصر، وكان على
«أميرجاندار» أن يقوم بتنظيم إدخال الناس على السلطان وهو جالس
بإيوانه بقلعة الجبل.
- الحاجب:
كان على «الحاجب» أن يقوم بما يقوم به «أميرجاندار» على أن
يراعى مقامات الناس، وأهمية أعمالهم، وقد عظمت أهمية الحاجب
فى العصر المملوكى.
- الدوادار:
هو الرجل الذى يتولى أمر تبليغ الرسائل إلى السلطان، كما يقوم
بتقديم المنشورات إليه للتوقيع عليها.
لقد كان نظام الإدارة فى عهد المماليك نظامًا دقيقًا قويا، تطلَّب(5/100)
اختيار موظفين من أصحاب المواهب الفريدة والخبرات المتميزة فى
تخصصاتهم، فنجحت سياسة الدولة المملوكية فى تسيير شئون
البلاد، وتيسير مصالح الناس وحاجاتهم إلى حد كبير.
النظام القضائى:
تعهد «الظاهر بيبرس» النظام القضائى بالإصلاح والتعديل، ورأى فى
تقسيم مناصب القضاء بين قضاة المذاهب الأربعة ما يضمن العدالة بين
الناس، والتيسير عليهم، فقد عين فى سنة (663هـ) أربعة قضاة
يمثلون المذاهب الأربعة، وكتب لكل منهم تقليدًا، وأجاز لهم أن يولوا
نوابًا عنهم فى أنحاء البلاد.
امتد اختصاص قاضى القضاة، وقضاة الأقاليم، وزاد نفوذهم، وامتد
فتناول النظر فى الدعاوى التى تتضمن إثبات الحقوق والحكم
بإيصالها إلى أصحابها، كما نظر فى الأموال التى ليس لها ولى
معين، وكذلك تناول تعيين أوصياء لليتامى، وتفقد أحوال المحجور
عليهم من المجانين والمفلسين وأهل السفه، ونظر -أيضًا - فى وصايا
المسلمين، وكان القضاة ينظرون فى مصالح الأوقاف، ويعملون على
حفظ أصولها وتثبيت فروعها، وقبض ريعها وإنفاقه فى مصاريفه،
وكذلك كانوا يقبضون المال الموصى به لتنفيذ الوصية، وعهد إليهم
بتسلم أموال المواريث المتنازع عليها، وأموال مَنْ يموتون غرباء
وحفظها حتى يحضر ورثتهم.
وانحصرت سلطة القضاة الأربعة ونوابهم على المدنيين، بينما كان
للجيش المملوكى ثلاثة قضاة عُرف كل منهم باسم: «قاضى العسكر»،
واختصوا بشئون العسكر للفصل فى القضايا الخاصة بهم، أو التى
بينهم وبين المدنيين، وكانت جلسات القضاء فى دولة المماليك تعقد
علانية ويحضرها مَنْ شاء من الناس، وكانت المساجد مكان انعقاد
هذه الجلسات، كما كانت دور القضاء الخاصة مكانًا لها أحيانًا؛ إذا لم
يكن هناك دور معينة لانعقادها، فإذا جلس القاضى للفصل فى
الخصومات رتب القضايا بحسب حضور الخصوم؛ حتى لا يتقدم أحد
على الآخر لمكانته أو ثرائه، وكان يستعين على تنظيم قاعة الجلسة(5/101)
بعدد من الموظفين منهم: «الجلواز»، و «الأعوان»، و «الأمناء»،
و «العدول»، فكان الرجال يجلسون فى جانب والنساء فى الجانب
الآخر. وقد بلغ راتب القاضى خمسين دينارًا شهريا، عدا ما كان
يحصل عليه من الأوقاف التى كان يتولى إدارتها، بالإضافة إلى ما
كان يجرى عليه من الغلال والشعير والخبز واللحم والكساء.
كان تنظيم القضاء فى دولة المماليك تنظيمًا دقيقًا، وبرز فى هذه
الدولة قضاة عرفوا بالنزاهة وطهارة الذمة وحسن السيرة، احترموا
مركزهم القضائى، ولم يقبلوا تدخل أحد - مهما يعلُ مركزه - فى
أعمالهم، وكثيرًا ما كانوا يطلبون إعفاءهم من مناصبهم - دون تردد -
إذا ما حاول أحد تهديد كرامتهم، أو الاعتداء من قريب أو بعيد على
استقلالهم، فقد كانوا لا يقبلون الرشوة ولا الهدية، لذا أصبحت لهم
مكانتهم الكريمة ومقامهم المرموق فى الدولة، وفى نظر السلاطين
والأمراء، وجميع طبقات الشعب، ولعل أبرز الأمثلة للتدليل عليهم:
«القاضى عبدالعزيز»، المعروف بعز الدين بن عبدالسلام (سلطان
العلماء)، و «القاضى تقى الدين عبدالرحمن الشافعى» ابن بنت
«الأعز»، و «القاضى تقى الدين محمد بن دقيق العيد»، وغيرهم، فقد
كانوا أمثلة عظيمة وواضحة لما يجب أن يكون عليه القاضى العادل
والشريف.
الإفتاء:
يلى القضاة فى الأهمية «مفتو دار العدل»، وقد كانوا أربعة يمثلون
المذاهب الإسلامية الأربعة، ولم تكن فى سلطتهم الفصل فى
الخصومات سواء أكانت بين المدنيين أم بين العسكريين أم بين
العسكريين والمدنيين، بل كانت مهمتهم شرح وتبيين حكم الشرع
فيما يُسألون عنه من المسائل الفقهية، كل حسب مذهبه.
المحتسب:
كانت مهمة المحتسب النظر فيما يتعلق بالجنايات والنظام العام،
وكان عليه الفصل فيها على وجه السرعة، وقد عهد إليه بالإشراف
على نظام الأسواق، وكان له نواب يطوفون فيها ويفتشون أماكنها،
ويشرفون على السَّقَّائين للتأكد من نظافتهم، وتغطيتهم القرب،(5/102)
ولبسهم السراويل، كما كان على المحتسب ونوابه الحيلولة دون بروز
الحوانيت (الدكاكين) حتى لا تعوق نظام المرور بالشوارع، وكذلك
عليهم الإشراف على نظافة الشوارع والأزقة، والحكم بهدم المبانى
المتداعية للسقوط وإزالة أنقاضها، وكذلك الكشف على صحة
الموازين والمكاييل، التى كانت لها دار خاصة تُعرف باسم: «دار
العيار»، فكان المحتسب يطلب جميع الباعة إلى هذه الدار فى أوقات
معينة ومعهم موازينهم ومكاييلهم ليتأكد بنفسه من ضبط عيارها،
فإن وجد بها خللا صادرها وألزم صاحبها بإصلاحها أو شراء غيرها.
وقد ارتقى نظام الحسبة وشمل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
صاحب المظالم:
كان «الظاهر بيبرس» أول من جلس للمظالم من سلاطين المماليك، وهو
الذى أقام دار العدل فى سنة (661هـ)، وقد خصص يومى الاثنين
والخميس من كل أسبوع ليجلس فيهما للفصل فى القضايا المهمة،
ويحيط به قضاة المذاهب الأربعة، وكبار الموظفين الإداريين
والماليين، وكاتب السر.
وظلت دار العدل مقرا لمحكمة المظالم - التى كانت تعقد جلساتها
برئاسة السلطان - حتى جاء السلطان «قلاوون» وبنى الإيوان
الخاص، واتخذه مقرا لهذه المحكمة فى سنة (679هـ)، ولم تكن
محكمة المظالم تنظر فى قضايا الأفراد فحسب، بل كانت تنظر فى
شكاوى الناس كافة، ويذكر «المقريزى» أن السلطان «بيبرس»
عُرضَت عليه فى سنة (662هـ) قضية رجل من عِلْية القوم وذكر فيها
أن «المعز أيبك» قد اغتصب منه بستانًا، وقدم ما يثبت ملكيته لهذا
البستان، فأمر «بيبرس» برد البستان إليه. وقد قام «بيبرس» بخفض
ثمن الغلال فى سنة (663هـ) بعد أن ارتفع ثمنها، ولذا تميز النظام
القضائى فى عهد المماليك بالحيدة والنزاهة وتحقيق العدل بين
الرعية.
المنشآت الحضارية فى عهد المماليك:
حفلت كتب التاريخ التى تناولت عهد المماليك بذكر الآثار التى خلَّفها
هذا العصر، والتى مازال معظمها شاهد صدق على مدى عظمة هذه(5/103)
الدولة حتى الآن، فقد تقدمت فنون البناء والعمارة والزخرفة،
وتوافرت الأموال اللازمة لها خلال هذا العهد المجيد من تاريخ العالم
الإسلامى، فقد قام «الظاهر بيبرس» ببناء مسجده، المعروف باسمه
بميدان الظاهر بالقاهرة فى عام (665هـ)، وجلب لبنائه الرخام
والأخشاب وأدوات البناء من سائر البلاد، وزيَّنه بزخارف الجص،
فأصبح مثالا للمساجد الكبيرة الضخمة التى شُيدت فى عهد دولة
المماليك البحرية. كما قام «بيبرس» ببناء برج لقلعة الجبل، وشيد
«قناطر السباع» على «الخليج المصرى»، وقد عُرفت هذه القناطر
بهذا الاسم؛ لأن «بيبرس» نصب عليها سباعًا من الحجارة، كما أصلح
منارتى «رشيد» و «الإسكندرية».
أما السلطان «قلاوون» فقد أنشأ القبة التى دُفِن تحتها، كما أنشأ
مسجده ومدرسته، ومارستانه الذى عُرف بمستشفى «قلاوون»، ثم
يأتى ابنه «السلطان الناصر محمد ابن قلاوون»، وكان شغوفًا
بسياسة أبيه فى الإنشاء والبناء، فشيد «المدرسة الناصرية» (بحى
النحاسين)، وعين بها مدرسين للمذاهب الأربعة، وألحق بها مكتبة
حافلة بنوادر الكتب وأمهاتها، ولاتزال هذه المدرسة باقية بحالة
جيدة حتى اليوم، وكذلك بنى «الناصر محمد» «القصر الأبلق» بقلعة
الجبل، وسُمى بذلك لأنه بنى من الحجر الأبيض والحجر الأسود، وفى
سنة (718هـ) شيد «الناصر» مسجده بالقلعة، ثم هدمه فى سنة
(735هـ) ليعيد توسيعه وبناءه من جديد، وقام بتجديد بناء المارستان
الكبير الذى أسسه والده «قلاوون»، وأنشأ «خانقاه» (بيت لفقراء
الصوفية) فى «سرياقوس» من ضواحى «القاهرة» فى سنة (723هـ)،
(أصبحت «سرياقوس» اليوم تابعة لمركز «الخانكة» بمحافظة
«القليوبية»)، وقد شيد «الناصر» سبيلا ألحقه بجوار مدرسته وجامع
أبيه «قلاوون»؛ لأنهما متجاوران.
ولعل أعظم إنشاءات دولة المماليك البحرية ما قام به السلطان «حسن
بن الناصر محمد بن قلاوون» حين أنشأ مسجده ومدرسته بالقرب من
القلعة.
منشآت دولة المماليك البرجية:(5/104)
ازدادت المنشآت فى عصر دولة المماليك البرجية، ولعل أفضل مثال
على منشآت ذلك العهد ماقام به «الأشرف برسباى» للعمارة
الإسلامية، فقد قام بتأسيس عدة مبانٍ كان أهمها مدرسته الأشرفية
التى عند «سوق الوراقين» بالقاهرة، إذ رسم حدودها فى سنة
(826هـ) وعين «الشيخ علاء الدين ابن الرومى الحنفى» أستاذًا لها،
ثم أتم بناءها فى سنة (829هـ)، وكذلك قام «برسباى» بإنشاء
مدرسة بجوار «خانقاه سرياقوس» فى سنة (841هـ)، وكانت هذه
المدرسة مجمعًا دينيا يشمل: مدرسة، وكُتَّابًا، وسبيلا، وخانقاه
للصوفية، وكان القاضى «محب الدين بن رسول الكرادى» الحنفى،
المعروف بابن الأشقرت، أحد الذين تولوا أمر المدرسة والخانقاه فى
سنة (863هـ).
كذلك أقام «برسباى» مسجدًا وتربة وزاوية بالصحراء، ولم يكن
وحده هو الذى فعل ذلك، فقد كان أغلب سلاطين المماليك يحرصون
على بناء مسجد ومدفن لكل منهم فى الصحراء بشرق «القاهرة»،
ذلك إضافة إلى ما يقومون به من منشآت فى أرجاء البلاد، مثلما
فعل «بيبرس» حين أقام «قنطرة المجذوب» بأسيوط، وجدد «الحرم
الشريف» بمكة، و «الجامع الأزهر» بمصر. ويُعدُّ «قايتباى» أشهر
سلاطين المماليك البرجية شغفًا بالبناء والعمران، إذ أنفق مائة ألف
دينار على إعادة تشييد «مسجد المدينة المنورة» بخلاف ما أنفقه
على تشييد وبناء مسجده، وبناء «قلعة الإسكندرية» المعروفة
باسمه، وكذلك أقام مبانى جديدة بقلعة الجبل، وقام «السلطان
الغورى» من بعده بتحصين «الإسكندرية» و «رشيد».
ويعد عصر المماليك- بحق - أحد العصور الذهبية فى تاريخ العمارة
الإسلامية، فقد كان الإقبال غظيماً على تشييد المساجد والمدارس
والأضرحة، والاهتمام بالمهارات الفنية والزخرفية، والعمل على إتقان
بناء المنارات والقباب وواجهات المنشآت والإيوانات والأعمدة
وزخرفتها، وزخرفة المدارس والمساجد من الداخل والخارج، وقد
كانت العناية بزخرفة وتجميل كل ذلك إحدى سمات هذا العصر.(5/105)
النهضة فى مجال العلوم والآداب:
لاشك أن المؤسسات العلمية التى أنشأها المماليك نهضت بمستوى
العلم وتقدمه فى عهدهم، وأبرزت نخبة من ألمع العلماء فى مختلف
مجالات الثقافة والعلوم، فكان منهم الفقهاء: شيخ الحنابلة «أحمد بن
تيمية»، ومن المؤرخين: «أبو الفدا» صاحب «التاريخ والسير»،
و «المقريزى المصرى» صاحب «الخطط» و «السلوك»، و «ابن خلكان»
صاحب «وفيات الأعيان»، كما كان من كُتَّاب السير الطبيب الشهير
«ابن أبى أصيبعة»، الذى درس بدمشق و «القاهرة»، ثم وضع تراجم
للأطباء فى مؤلفه: «عيون الأنباء»، وكذلك كان «ابن إياس» صاحب
«بدائع الزهور»، و «القلقشندى» صاحب «صبح الأعشى»، ومن
الشاميين نجد المؤرخ «شمس الدين الدمشقى» صاحب «نخبة الدهر
فى عجائب البر والبحر»، و «ابن فضل الله العمرى»، الذى شغل
منصب «صاحب الخاتم» فى بلاط المماليك بالقاهرة، وهو صاحب
كتاب: «مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار»، ولقد عاش «عبدالرحمن
الجبرتى» أشهر علماء التاريخ فى بلاط المماليك، ويعد «ابن خلدون»
واضع علم الاجتماع ومؤسس فلسفة التاريخ، وهو صاحب كتاب:
«العبر وديوان المبتدأ والخبر»، وقد وضع فى مقدمته لهذا الكتاب
أسس كتابة التاريخ التى اشتهرت شهرة واسعة النطاق فى أنحاء
العالم.
وهكذا برزت -خلال عهد المماليك - جماعة من أفضل علماء المسلمين
فى التاريخ الإسلامى، وشجعهم على ذلك اهتمام سلاطين المماليك
بالعلم والعلماء.
وإن نظرة واحدة فى حُجة أحد سلاطين هذه الدولة لتظهر لنا مدى ما
وصل إليه هؤلاء من حب وتقدير للعلم والعلماء والمتعلمين، وقد حرص
«الأشرف برسباى» فى حُجته على تعيين المشايخ لمدرسته، وقام
بوقف الأراضى لكى يُنفق من إيرادها على التعليم، وكذلك على
المتعلمين الذين أنفق عليهم بسخاء، فخرج منهم العلماء والفقهاء
والأئمة فى مختلف المجالات والتخصصات والمذاهب، وأصبح هذا
العمل مفخرة لهذا العصر، وسببًا من أهم أسباب تقدم المسلمين(5/106)
وتفوقهم فى مجالات العلوم والحضارة.
وبعد:
فقد عاش المماليك فى بلاد المسلمين واتخذوا منها مواطن لا يعرفون
غيرها، فأنشئوا بها حضارتهم الخاصة التى تفوقت على حضارات
الأمم الكبيرة آنذاك، والتى مازالت آثارها باقية حتى اليوم، شاهد
صدق على حب هؤلاء المماليك لهذه البلاد، ودليلا قاطعًا على عظمة
سلاطينهم، فمازالت «القاهرة» مليئة بالآثار التى تركها المماليك،
والتى تدل على مدى التقدم الرائع لهذا العصر فى الفنون جميعها،
وبخاصة الزخرفة التى لا يخلو منها مسجد أو قبة أو مدرسة من
آثارهم، ولاشك أن ذلك يعود إلى اهتمام سلاطين هذه الدولة بهذه
الفنون، وبتوفير التمويل المالى اللازم لتنفيذها.
- الحالة الاقتصادية فى عهد سلاطين المماليك:
مما لاشك فيه أن الحالة الاقتصادية لأية أمة من الأمم تمثل العمود
الفقرى لها، فإذا كان الاقتصاد قويا وأحسن استغلاله فى تيسير
حاجات البلاد، وبناء نهضتها، وتشييد حضارتها؛ كان ذلك مدعاة
إلى التقدم والازدهار فى جميع المجالات، ووقوف البلاد فى صفوف
الأمم المتقدمة ذات السيادة العالمية. أما إذا كان اقتصاد أى بلد عكس
ذلك، فإنه يكون مدعاة للظلم والقهر والسلب، وخذلان البلاد ووقوفها
فى ذيل قائمة البلاد المتقدمة، منتظرة قراراتها فى تسيير أمورها
وشئونها الخاصة، ولا تتوافر لهذه الأمم الضعيفة القدرة على اتخاذ
القرار فيما يخصها، وتصبح فريسة للتدخل الأجنبى، وطمع
المستعمرين، ولقد كان المماليك من القوة الاقتصادية لدرجة أن
دولتهم بلغت حدا من الثراء لم تؤثر عليه الحروب العديدة التى
خاضوها، بالإضافة إلى الإنشاءات والإصلاحات التى قامت بها فى
طول البلاد وعرضها؛ إذ تعددت مصادر الثروة التى زخرت بها خزائن
المماليك، فبالإضافة إلى ضرائب الخراج، والتركات التى لا وارث لها
كانت هناك مصادر أساسية وثابتة لزيادة موارد الدولة؛ إذ اهتم
المماليك بالزراعة والصناعة والتجارة، وأقاموا مقاييس للنيل،(5/107)
وطهروا الترع، وأنشئوا الجسور ونظموا الرى وحسَّنوا وسائله، كما
اعتنوا بصناعة المنسوجات، ونشطوا فى اكتشاف واستخراج
المعادن، التى كان من أهمها: «الزمرد» و «الشب» و «النطرون»،
فكان «الشب» يُستخرج من الوجه القبلى والواحات، ويُحمل إلى
«قوص» أو إلى «أسيوط» و «أخميم» و «البهنسا»، ثم ينقل منها عن
طريق النيل إلى «الإسكندرية» وفيها يباع للأوربيين، وخصصت
الحكومة ثلث ثمنه لدفع رواتب الأمراء، ولتوفير بعض احتياجات الجيش
الكثيرة؛ لكثرة حروبهم فى ذلك الوقت.
وكانت التجارة - بحق - أعظم مصادر الثروة فى العهد المملوكى؛ إذ
قاموا بتشجيعها، وعقدوا المحالفات والاتفاقات التجارية مع
إمبراطور «القسطنطينية»، وملوك «إسبانيا»، وأمراء «نابلس»،
و «جنوة»، و «البندقية» وسلاجقة «آسيا الصغرى»، وكاد المماليك
أن يحتكروا تجارة «الهند» - خاصة التوابل - بالاتفاق مع أمراء
الموانئ الإيطالية، فكان لذلك أكبر الأثر فى نمو ثروات البلاد
وزيادتها، خاصة بعد أن بسط المماليك سلطانهم على «مكة»
و «جدة»، وأصبحت «مكة» من أشهر الأسواق التجارية فى الشرق
فانتعشت حالة البلاد الاقتصادية وازدهرت، ويدل على ذلك كثرة
الإنشاءات المعمارية والتجهيزات الحربية فى ذلك الحين، إلا أن لحالة
الركود - التى كانت تصيب الاقتصاد أحيانًا نتيجة لظروف القلق وما
يصاحبها من السلب والنهب - أثراً على خزينة الدولة، ومع ذلك لم يكن
تأثيرها خطيرًا؛ لأن الدولة سرعان ما كانت تتدارك الأخطاء وتعالج
العيوب، وتعمل على سد النقص فى اقتصادها، ولعل أخطر الأحداث
الاقتصادية التى كان لها أكبر الأثر فى سقوط دولة المماليك هو
تحول طرق التجارة بين «أوربا» و «الشرق» عن طريق «مصر» إلى
طريق «رأس الرجاء الصالح» الذى اكتشفه «فاسكو دى جاما»
البرتغالى سنة (1498م)، فأحدث هذا الاكتشاف انقلابًا خطيرًا فى
عالم التجارة، وكارثة حقيقية على دولة المماليك التى كانت تعتمد(5/108)
بصورة كبيرة على التجارة التى تحولت من حوض «البحر الأبيض
المتوسط» إلى «المحيط الأطلسى» ونضبت خزائن «مصر» من الأموال
التى كانت تأتيها من تجار «البندقية» و «جنوة»، الذين كانوا ينقلون
تجارتهم من «الشرق» إلى «أوربا» عن طريق «مصر» ويدفعون لها
الضرائب عن دخول تجارتهم وخروجها منها، فكان لذلك أثره على
كساد التجارة والزراعة، ولم تعد «مصر» تنتج للأسواق الخارجية
كثيرًا، فقلت موارد البلاد، وتهددتها المجاعات، وانحط شأن
«الإسكندرية»، وقل عدد الأجانب بها، وتأخرت الصناعات الحيوية،
وتدهورت الحالة الفنية؛ لقلة الأموال اللازمة، فهيأ هذا الوضع الفرصة
للسلب والنهب الذى قام به بعض أفراد المماليك، فدب الضعف فى
أوصال الدولة، وبدأت تأخذ طريقها إلى الضعف والتلاشى؛ لأن موارد
البلاد لم تعد كافية لسد احتياجاتها الضرورية، وزاد الأمر سوءًا فى
نهاية عصر المماليك إذ كثرت الدسائس والمؤامرات، وحوادث السلب
والنهب، وتعرضت «مصر» للمجاعة والاضطراب فى عهد «السلطان
برقوق» و «السلطان شيخ المؤيد» و «السلطان قايتباى»، وزادت
الاضطرابات فى أنحاء البلاد، ولا تكاد تستقر حتى تعود إليها
الفوضى ثانية؛ بسبب الفتن التى زادت حدتها فى عهد المماليك
البرجية على وجه الخصوص، لدرجة أن «فايربك» أحد أمراء المماليك
البرجية هو الذى ساعد العثمانيين - بخيانته - على الدخول إلى
«مصر» والشام، وهذا دليل قاطع على مدى التدهور والضعف اللذين
وصلت إليهما الدولة فى آخر أيامها.
لقد انتهت دولة المماليك بعد أن ظلت مدافعة عن العالم الإسلامى حقبة
دامت أكثر من قرنين ونصف القرن، شهد العالم الإسلامى خلالها
حضارة زاهرة مازالت آثارها باقية حتى الآن، ونعم المسلمون فيها
بالرخاء والعزة والعدل والطمأنينة، إذ عُرف المماليك بالعدل وحب
العمران، كما عرفوا بمهاراتهم الفائقة فى الفروسية والقتال، فهم
الذين ردوا المغول ودحروا الصليبيين، وتاريخهم المجيد يشهد لهم(5/109)
بذلك، وعلى الرغم مما حدث من هنات فى بعض فترات حكمهم، فإن
الحكم النهائى على أية دولة لا يكون إلا على ما خلَّفته، ومما لاشك
فيه أن المماليك قاموا بدور لا يمكن تجاهله أو نسيانه، وخدموا
المسلمين فى كل مكان على الأرض، وأنشئوا حضارة راسخة،
وشجعوا العلم والعلماء والمتعلمين، وكونوا جيشًا قويا، وبنوا
أسطولا عظيمًا، وساعدوا الفقراء والمحتاجين، وشيدوا المدارس
والجوامع والأسبلة والقلاع والمستشفيات والقصور، وعاشوا مع أهل
البلاد فى وئام وسلام، وذابوا فى وحدة العالم الإسلامى، وبنوا له
حضارته، ودافعوا عن أرضه، ورفعوا من شأنه، وأخذوا بيده إلى
القمة فى صدر صفوف دول العالم المتقدمة آنذاك.(5/110)
الفصل العاشر
*الحجاز
علاقة الحجاز بمصر فى عهد الأيوبيين:
كان سقوط الدولة الفاطمية فى سنة (567هـ = 1771م)، وقيام الدولة
الأيوبية عاملا من عوامل تقوية العلاقات بين «مصر» و «الحجاز»؛ إذ
قامت خطة «صلاح الدين الأيوبى» على تحقيق الوحدة الداخلية بين
الأقطار الإسلامية كمرحلة أولى، تتلوها المواجهة مع الصليبيين،
وحرص على أن ينال رضا الخليفة على خطته، ليكون رضاه عاملا من
عوامل توحيد صفوف المسلمين وجمع شملهم.
لم يتدخل «صلاح الدين» فى شئون «الحجاز» الداخلية؛ بل اكتفى
بإجراءات تحقق الأمن والعدل لسكانه وللحجاج القادمين إليه، ولم
يغير نظام الحكم الذى كانت تتولاه أسرة الهواشم فى الحرمين
الشريفين، وأسقط فى سنة (572هـ) المكوس عن الحجاج إلى «مكة»
فى البحر عن طريق «عيذاب»، وعوض أمير «مكة» عن ذلك بثمانية
آلاف إردب قمحًا، تُحمل إليه سنويا إلى ساحل «جدة»، وأوقف لذلك
أوقافًا بصعيد «مصر»، وأرسل الأقوات إلى المجاورين والفقراء
بالحرمين الشريفين.
وحينما حج الملك المعظم «توران شاه بن نجم الدين أيوب» أخى
«صلاح الدين»، قادمًا من «اليمن» فى سنة (570هـ)؛ منح أهل
الحرمين عطاءً كبيرًا وأغدق عليهم، وعمهم بالخير، وقام بعدة
إصلاحات فى الحرمين الشريفين.
حاول الصليبيون غزو «المدينة المنورة» فى سنة (578هـ) للتنكيل
بالمسلمين، وعبر الصليبى «أرناط» أمير «الكرك» «بحر القلزم»
(الأحمر) إلى «عيذاب» على الساحل الشرقى للبحر الأحمر، وقتل
وأسر الكثيرين من أهاليها، ومضى يريد «المدينة المنورة»، وبلغ
ذلك «صلاح الدين»، فأمر بتجهيز جيش عظيم بقيادة الحاجب «حسام
الدين لؤلؤ» لرد عدوان «أرناط»؛ فخرج الجيش ونجح فى هزيمة
«أرناط» وإحراق أسطوله وإفشال حملته، وأُسِر عدد كبير من
جنوده، فأمر «صلاح الدين» بقتل الأسرى من جنود «أرناط»؛
ليكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه الاعتداء على حرم الله -تعالى-
وحرم رسوله - صلى الله عليه وسلم -.(5/111)
كانت وفاة «صلاح الدين» سنة (589هـ)، وكان تقسيم المملكة بين
أبنائه وأخيه «العادل» بداية لتطورات جديدة فى العلاقات الأيوبية
الحجازية، فقد ازداد تدخل الأيوبيين فى شئون «الحجاز» الداخلية؛
بسبب النزاع الذى نشب بين «مكثر» حاكم «مكة»، وأخيه «داود»،
ولم ينته الصراع بينهما حتى مات «مكثر»، فخلفه «أبو عزيز قتادة
بن إدريس الحسنى» المعروف بالنابغة، والذى كان يستوطن مع أهله
«نهر العلقبة» من «وادى ينبع» وأصبحت له الرئاسة على قومه،
وباتت فى يديه أزمَّة أمورهم، وبلغه ما صارت إليه حال الهواشم من
خلافات، فزحف على «مكة»، ثم تطلع إلى زعامة «المدينة» التى
كانت تتوارث بين أفراد الفرع الحسينى من الأسرة العلوية، فزحف
إلى «المدينة»، إلا أنه لم يستطع دخولها؛ فعاد إلى «مكة» ثانية.
عظم فى هذا الوقت أمر «بنى رسول» فى «اليمن» بعد وفاة
السلطان «مسعود الأيوبى» سنة (626هـ)، وحاولوا بسط نفوذهم
على «مكة» و «المدينة»، وتمكنوا من السيطرة على «مكة» وظلت
تحت أيديهم إلى سنة (630هـ)، حتى جاء «الشريف راجع» وتمكن من
استرجاعها منهم بشرط أن يظل تحت نفوذهم (نفوذ «آل رسول»).
شهد تاريخ «مكة» و «المدينة» بعد وفاة «الكامل» فى سنة (635هـ)،
نزاعًا متصلا بين «آل رسول» والأيوبيين وظل الأمر على ذلك حتى
وفاة «الشريف راجع»، فرأى «ابن رسول» أن يصرف نظره عن
أبناء «راجع» الذين ولَّوْا «أبا نهى» بعد أبيه «الحسن بن قتادة»
بالاشتراك مع عمه «إدريس»، فشغل «أبو نهى» وأولاده من بعده
الشرافة فى «مكة» و «المدينة» قرنًا من الزمان تقريبًا.
وهكذا كانت «الحجاز» مرتبطة بمصر ارتباطًا وثيقًا فى بداية عهد
الدولة الأيوبية، وزاد من هذا الارتباط أن سلاطين الأيوبيين الأوائل لم
يتدخلوا فى شئون «الحجاز» الداخلية، واكتفوا بتأمين حجاجها،
وتوفير العدل والأمان لأهلها، إلا أن وفاة «صلاح الدين»، والصراع(5/112)
الذى دار بين حكام «الحجاز» أنفسهم كانا من أسباب تدخل الأيوبيين
المباشر فى شئون «الحجاز»، وظلوا على ذلك حتى دخلت المنطقة
فى مرحلة جديدة تحت حكم المماليك.
المماليك والحجاز:
خلفت دولة المماليك الأولى دولة الأيوبيين فى ملكها الواسع ونفوذها
العريض، وحملت لواء الجهاد من بعدها فى وجه الصليبيين والمغول،
فلما تعاظمت قوة المماليك، وصارت «القاهرة» مقرا للخلافة العباسية
تطلع المماليك إلى السيطرة على الحرمين الشريفين كمظهر مكمل
لسيطرتهم على العالم الإسلامى، فأدرك «أبو نهى» حاكم «مكة» أن
المماليك غدوا مركز الثقل فى المنطقة، فأعلن الولاء لهم، وبدأ عهد
جديد فى علاقة «مصر» بالحجاز سياسيا واقتصاديا، ودينيا،
واجتماعيا، وعلميا، إذ حرص «الظاهر بيبرس» عندما ذهب للحج فى
سنة (667هـ) على تثبيت سلطان المماليك فى «الحجاز»، وتقوية
علاقتهم بها، فكان «أبو نهى» محور هذه العلاقات فترة طويلة، ثم
من بعده أولاده وأحفاده الذين دخلوا فى سلسلة طويلة من
المنازعات والخصومات، فكان سلاطين المماليك -دائمًا - يعملون على
إيجاد الحلول لخصوماتهم، وتسليم السلطة فى «الحجاز» لمَنْ يثقون
به منهم، ولكن هذا الوضع لم يستمر طويلا فى عهد المماليك
الشراكسة، حيث ظهرت بالحجاز شخصيات قوية مثل «الحسن بن
عجلان» الذى سيطر على الأمر فى «الحجاز»، وحاول المماليك
التدخل، ولكنهم لم يستطيعوا - فى أواخر عهدهم - أن يغيروا من
أوضاع «الحجاز» السياسية، وظل الأشراف مسيطرين على «الحجاز»
طوال عهد المماليك، ومن بعدهم.
أمَّن المماليك طرق التجارة بين «مصر» و «الحجاز»؛ فقد كانت تدر
عليهم أموالا طائلة، وأصدروا أوامرهم بإلغاء المكوس التجارية فى
الحرمين الشريفين، وأصدروا مراسيم تحدد مكوس التجارة الواردة
إلى «جدة»، وكانوا يهبُّون إلى نجدة أهل الحرمين فى أزماتهم
الاقتصادية، ويرسلون إليهم المعونات من الحبوب والمؤن.(5/113)
ولقد بذل المماليك جهودًا كبيرة فى تأمين طرق الحج، والمحافظة
على حجاج بيت الله الحرام من المعتدين وقطاع الطرق، وقام
السلاطين بإصلاح طرق الحج، وحفر آبار جديدة لكى يأمن الحجاج
من العطش أثناء رحلتهم لقضاء المناسك ذهابًا وإيابًا، وكان يصحب
قافلة الحجاج المصريين كثير من الأمراء والقادة وتابعيهم للدلالة على
قوة السلطنة المملوكية، وكانت هذه القافلة تحمل معها كسوة
الكعبة التى صنعت فى «مصر»، والتى حرص السلاطين على إرسالها
كل عام فى موكب مهيب، وأوقفوا عليها الأوقاف كى لا تنقطع،
وكى تظل تأكيدًا على نفوذ المماليك فى «الحجاز»، وحينما حاول
«شاه رخ» أن يكسو الكعبة فى عهد السلطان «برسباى» وطلب
السماح له بذلك، رفض «برسباى» بشدة ومن ورائه الشعب والقضاة
والعلماء، لأن كسوة الكعبة شرف يمثل أقوى الروابط الإسلامية فى
نظرهم، ولا يمكنهم التخلى عنه. وقد حرص سلاطين المماليك على
أداء فريضة الحج وزيارة الأراضى المقدسة بالحجاز؛ لكى يكونوا من
بين حجاج بيت الله الحرام دون أية أبهة أو عظمة كسائر الناس.
كانت الحياة الاجتماعية فى الحرمين فى عهد المماليك حياة هادئة
باستثناء سنوات قليلة تعرضت فيها «الحجاز» للقحط، ولم يكن
للمماليك يد فى ذلك، فقد أجروا السبل، وحفروا الآبار والعيون
حفاظًا على مدن «الحجاز» خاصة الحرمين الشريفين.
لم يقتصر دور المماليك فى «الحجاز» على الحرمين الشريفين؛ بل
كانت لهم اليد الطولى فى إثراء الناحية الثقافية بالحجاز، وأقاموا
المدارس، وبذلوا الأموال للمدرسين والدارسين معًا، وكثيرًا ما أرسلوا
الكتب من «مصر» لكى تدرس فى الحرمين، ويُستفاد منها فى تلك
المدارس التى ربطوا لها الأوقاف الكثيرة للإنفاق عليها؛ لذا كان
عهدهم عهد ازدهار واستقرار للحرمين الشريفين وسكانهما، فقد
كفاهم المماليك شرور الغزو، وتسلط الأعداء.
وإنصافًا لحق سلاطين الدولة المملوكية لا يجب أن نلقى عليهم(5/114)
باللائمة فيما حدث بالحجاز من أحداث داخلية حرمته استقراره حينًا من
الوقت، لأن أمراء «الحجاز» أنفسهم هم المسئولون عن ذلك بما قام
بينهم من منازعات وصراعات كانت السبب الرئيسى فى إشعال نار
الفتن؛ التى كثيرًا ما كان يتدخل المماليك لإطفائها من أجل مصلحة
سكان الحرمين الشريفين وما حولهما، إلا أن الضعف الذى دب فى
أوصال الدولة المملوكية فى أواخر أيامها بعد اكتشاف طريق «رأس
الرجاء الصالح» وتحول مسار التجارة العالمية عن «مصر»، كان سببًا
جوهريا لدخول العلاقات بين «مصر» و «الحجاز» فى دور جديد فى
عهد السلطان «الغورى»، وحُرمت «الحجاز» من مصدر مالى شديد
الأهمية وتلا ذلك سقوط المماليك فى الشام فى معركة «مرج دابق»
سنة (922هـ)، ثم معركة «الريدانية» بمصر سنة (923هـ)، فسقطت
بذلك دولة المماليك وتوارت، وارتفع الستار عن الدولة العثمانية،
القوة الجديدة فى العالم الإسلامى؛ فكان على «الحجاز» أن ينضوى
تحت لوائها ويبدأ مرحلة جديدة فى تاريخ علاقاته.(5/115)
الفصل الحادي عشر
*عُمَان
تقع «عُمَان» فى أقصى الجنوب الشرقى لشبه الجزيرة العربية،
ممتدة شمالى «بحر العرب»، وعلى طول «خليج عمان» حتى إمارة
«الفجيرة» (إحدى إمارات دولة «الإمارات العربية» الآن)، وتقع
«اليمن» غرب «عمان»، وهى تطل على البحر من جهة، وعلى
الصحراء من جهة أخرى، وبذلك يمكن تقسيم سكانها إلى طائفتين
متميزتين هما:
«الحضر»، و «البدو»، ويسكن «الحضر» على الساحل وبخاصة فى
مسقط، وهم أخلاط ممتزجة من السكان. أما «البدو» فيعيشون فى
المناطق الداخلية، وهم أكثر بساطة من «الحضر»، ويميلون إلى
المحافظة على عاداتهم وتقاليدهم.
وتبلغ مساحة «عمان» حوالى مائة وعشرين ألف ميل مربع، وعدد
سكانها - الآن - نحو مليونى نسمة.
عمان الإسلامية:
بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرسائل إلى الملوك ورؤساء
القبائل فى الجزيرة العربية وخارجها، يدعوهم فيها إلى الإسلام،
وكانت «عمان» آنذاك تحت حكم أسرة «الجُلَنْدِى الأزدى». وكان
ملكها «جيفر» رجلا حكيمًا تميز بعدله وسيرته الحسنة بين الرعية،
فبعث إلىه النبى - صلى الله عليه وسلم - بعمرو بن العاص ومعه
رسالة يدعوه فيها إلى الدخول فى دين الله، فأسلم «جيفر» وقومه
ووجوه العشائر وبقية الناس، ولم يكتف «جيفر» بذلك، بل عمل على
نشر الدين الإسلامى قدر استطاعته، وأرسل من قِبَله رسلا تحمل
دعوة الإسلام إلى «مهرة» وغيرها من المناطق المجاورة لعمان،
فكانت «عمان» بذلك من أولى البلاد التى دخلت فى الإسلام طواعية،
وكان ملكها أحد الذين عملوا على نشر الإسلام فى أهله وجيرانه.
عمان فى العهد الأموى:
بعد موقعة «النهروان» التى دارت رحاها بين أمير المؤمنين «على بن
أبى طالب» والخوارج، وبعد انقسام الخوارج على أنفسهم اتجهت
الفئة المعتدلة منهم - التى كانت تعتنق «المذهب الإباضى» - إلى
«عمان»، وقاموا بترويج مذهبهم ونشره بين أهل «عمان»؛ فلاقى
هذا المذهب القبول بين أهل «عمان»، فلما آل أمر الخلافة إلى(5/116)
الأمويين أصبحت «عمان» من مراكز المعارضة لهم، وأعلنت استقلالها
عن الخلافة الأموية وساعد العمانيين فى ذلك بُعد بلادهم عن مركز
الخلافة، وطبيعتهم الاجتماعية التى لا تقبل سيطرة خارجية، وطبيعة
البلاد الجغرافية التى تجعل التوغل فيها أمرًا عسيرًا، وكذلك انشغال
الخلفاء الأمويين عنهم، فلما تولى «عبدالملك بن مروان» الخلافة جعل
«العراق» تحت سلطة «الحجاج بن يوسف الثقفى» الذى تطلع إلى
السيطرة على أرض «عمان» و «الخليج»، وتم له ما أراد بعد صراع
طويل بين جيشه وأهل هذه البلاد، ففرت أسرة «الجلندى» إلى
«زنجبار» التى كانت «عمان» على صلة وثيقة بها، امتدت لتشمل
ساحل إفريقيا الشرقى كله. وكان «الخيار بن حبر الجاشعى» أحد
ولاة «عمان» فى عهد الخليفة الأموى «عبدالملك بن مروان».
المذهب الإباضى فى عمان:
عاش «الإباضية» من أتباع «عبدالله بن إباض» فى «عمان»، فكانوا
يضمرون ثورتهم على نظام الخلافة حينًا، ويعلنونها أحيانًا، حتى
ولى العباسيون الخلافة فاستعاد العمانيون سلطانهم كاملا. والمذهب
الإباضى هو أقرب المذاهب إلى مذهب أهل السنة، وقد قام
الإباضيون فى «عمان» بدور واسع فى الصراع العسكرى ضد
الأمويين، فامتزجت حركة العمانيين الاستقلالية بالفكر الإباضى،
ونتج عن ذلك فكر جديد ساد «عمان» منذ ذلك الحين، يرفضون فيه
وصفهم بالخوارج، ويفضلون الارتباط بعبدالله بن إباض، وقد تناول
أحد مؤرخى «عمان» فى كتابه «سلطنة عمان» الامتزاج الذى تم بين
المذهب الإباضى والدم العمانى فقال: «كان المذهب الإباضى هو
اللواء الذى عاش فى ظله العمانيون، ووحَّد بينهم فى كفاحهم لنيل
استقلالهم، وكانوا يستبسلون فى الدفاع عن عقيدتهم وتقاليدهم».
عمان فى العصر العباسى:
لم تطل مدة ارتباط «عمان» بالخلافة العباسية؛ إذ سرعان ما استقل
أهل «عمان» بشئونهم عن الخلافة العباسية، وكان «أبو جعفر
المنصور» أول ولاة العباسيين على شئون «العراق» الجنوبى،(5/117)
فاستعمل على «عمان» «جناح بن عباد بن قيس بن عمر الهنائى»
صاحب المسجد المعروف باسمه بصحار، ثم عزله «المنصور» وولى
ابنه «محمد بن جناح» الذى اتسم برزانة العقل وحكمة التفكير،
فأدرك رغبة العمانيين فى أن يكون واليهم منهم، وأن يكون لهم حق
انتخابه بأنفسهم، فسمح لهم بذلك ووافقهم عليه، فعقدوا الإمامة
للجلندى بن مسعود بن جيفر بن جلندى، الذى بدأ به نظام الإمامة
الإباضية فى «عمان» سنة (135هـ)، إلا أن العباسيين لم يوافقوا
على ذلك، وأرسلوا جيشًا حارب العمانيين، وقتل إمامهم، وظلت
«عمان» بدون إمامٍ حتى عادت إليها الإمامة ثانية فى سنة (145هـ).
الأئمة الإباضية فى عمان:
كان «جلندى بن مسعود» الذى تولى إمامة «عمان» فى سنة
(135هـ) أول إمام على «عمان» من «الإباضية»، ولم يكن نظام الإمامة
متوارثًا، بل كان يتم انتخاب الأئمة بالاختيار المباشر، كما كان يتم
عزل بعض الأئمة أحيانًا.
وأول أئمة عمان من الإباضية هو: «جلندى بن مسعود بن جيفر بن
جلندى الأزدى» (135هـ).
قتل بعد ذلك بعامين فى حرب ضد العباسيين، وعادت الإمامة إلى
«عمان» مرة ثانية فى بداية سنة (145هـ)، فتولى الإمامة منذ ذلك
الحين الأئمة:
1 - «محمد بن عفان الأزدى». (145هـ).
2 - «الوارث بن كعب اليحمدى». (185هـ).
3 - «غسان بن عبدالله». (192هـ).
4 - «عبدالملك بن حميد الغسانى». (208هـ).
5 - «مهنا بن جعفر اليحمدى». (226هـ).
6 - «الصلت بن مالك الأزدى». (237هـ).
7 - «راشد بن نصر (أو ابن النظر)». (273هـ).
8 - «عزان بن تميم». (277هـ).
9 - «محمد بن الحسن». (284هـ).
10 - «عزان بن خضر». (285هـ).
11 - «عبدالله بن محمد». (286هـ).
21 - «الصلت بن القاسم». (287هـ).
13 - محمد بن الحسن (للمرة الثانية). (287هـ).
14 - «الحسن بن سعد» (287هـ).
لم يكن بعض هؤلاء الأئمة محمود السيرة، مثلما وُصِف «محمد بن
عفان»، الذى عزله المسلمون حين ساءت سيرته، كما ساءت سيرة(5/118)
«عزان بن تميم» وكثر تنازع العمانيين فيما بينهم فى عهده، فانفض
الناس من حوله.
عُمان حتى نهاية القرن الرابع الهجرى:
عاشت «عمان» ابتداءً من القرن الثالث الهجرى فترة مضطربة؛ بسبب
الخلافات والمنازعات التى خلَّفت دمارًا كبيرًا أثَّر على الأوضاع
الاقتصادية فى «عمان»، التى شهدت خلال تلك الفترة صراعًا مريرًا
بين «النزارية» و «اليمنية» وصل إلى قمته فى سنة (278هـ) بهزيمة
«النزارية»، ففتح هذا الصراع الباب على مصراعيه لصراع دام طويلا
فى «عمان».
ولقد شهدت «عمان» ومنطقة الخليج خلال هذه الفترة صراعًا فكريا
عنيفًا أدى إلى التصادم الحربى فى معارك حربية، استلزمت جهودًا
كبيرة، كانت أهمها تلك المعركة التى وقعت حين هبت ثورة
القرامطة التى استنفدت جهود العباسيين وأموالهم، وقامت الحرب
بين العباسيين والقرامطة، وامتد خط الصراع بينهما من «البحرين»
إلى «عمان»، فاضطربت الأوضاع فى «عمان» نتيجة لسيطرة
القرامطة عليها، وللحرب التى نشبت بين العباسيين والقرامطة.
حاول الخليفة «المعتضد» (279 - 289هـ) بسط سلطانه على «عمان»،
فولى عليها «محمد بن القاسم السلمى» الذى تمكن من تكوين دولة
له فى «عمان» توارثها أبناؤه من بعده، وفى الوقت نفسه كانت
توجد بعمان أسرة «بنى وجيه» وحكمت بعض مناطقها، ثم قويت
شوكتها لدرجة أن ملوكها تطلعوا إلى السيطرة على البصرة.
فى وسط هذه الصراعات عرفت «عمان» سلطتين متعارضتين؛ إذ
كان بها ملك «سلطان» فى منطقة، وإمام فى المنطقة الأخرى،
فأدى ذلك إلى حدوث الصراعات والاضطرابات.
ملوك آل نبهان:
ظهر ملوك «آل نبهان» ولاة للبويهيين على «عمان» فى القرن الرابع
الهجرى الذى ساءت خلاله أحوال «عمان»؛ نتيجة الصراعات
والاضطرابات الداخلية التى زادت بتولى «آل نبهان» حكم «عمان»؛ إذ
استبدوا بأمورها، وأساءوا معاملة أهلها، ومع ذلك لم يكونوا
وحدهم المسئولين عما ألمَّ بعمان من اضطرابات، فقد ساعدتهم فى(5/119)
ذلك صراعات الأئمة التى شهدتها «عمان» خلال تلك الفترة، وظل «آل
نبهان» يحكمون «عمان» حتى القرن التاسع الهجرى، ثم عادت إلى
الأئمة قوتهم السياسية فى «عمان» من جديد.
وكان أهم ملوك «آل نبهان» خلال هذه الفترة: «أبو عبدالله محمد بن
عامر بن نبهان» وإخوته، ثم «الحسين أحمد» و «أبو محمد نبهان»
وغيرهم. فلما زالت دولة «آل نبهان» بدأ الأئمة يستعيدون مجدهم
وسلطتهم من جديد.
الأئمة بعد آل نبهان:
بعد زوال دولة «آل نبهان» ظهر الأئمة من جديد فى سلسلة متصلة
تولوا خلالها أمور «عمان»، وأئمة «عمان» بعد النبهانيين هم:
1 - «أبو الحسن عبدالله خامس ابن عامر الأزدى». (839هـ).
2 - «عمر بن الخطاب بن محمد بن أحمد بن شاذان بن الصلت
اليحمدى». (855هـ).
3 - «عمر الشريف». (896هـ).
4 - «أحمد بن محمد». (897هـ).
5 - «أبو الحسن بن عبدالسلام». (905 هـ).
6 - «محمد بن إسماعيل». (906هـ).
7 - «بركات بن محمد بن إسماعيل». (936هـ).
8 - «عبدالله بن الهنائى». (967هـ).
وكما أن الأئمة لم يسمحوا لآل نبهان بالتفرد بالسلطة فى «عمان»،
فإن النبهانيين سعوا إلى سلب السلطة من الأئمة بعد أن استقرت فى
أيديهم، وخرج «سليمان بن سليمان النبهانى» على الإمام «عمر ابن
الخطاب اليحمدى» وحاربه فى سنة (885هـ)، وتمكن الإمام «عمر» من
السيطرة على الموقف وتم له النصر، فنشأ عن هذا الصراع المستمر
على السلطة تمزق «عمان» وتقطيع أوصالها، وبات فيها - قبل قيام
دولة اليعاربة - خمسة من صغار الملوك حكموا «الرستاق»،
و «النخل»، و «سمائل»، و «سمد»، و «أبدا»، كما كانت بعض الحصون
والمدن فى قبضة بعض رؤساء القبائل.(5/120)
الفصل الثاني عشر
*اليمن
الإسلام فى اليمن:
حين ظهر الإسلام فى شبه الجزيرة العربية كان الفرس مسيطرين على
بعض البلاد العربية، ومنها «اليمن»، وكان عليها - آنذاك - «باذان»
الذى ولاه «كسرى» إمبراطور الفرس، فلما وصل أمر الدعوة
الإسلامية إلى «باذان» آمن بها وأعلن إسلامه، فأقره الرسول - صلى
الله عليه وسلم - على «اليمن»، فوجد الإسلام طريقه للانتشار بنواحى
«اليمن»، ووفد على الرسول فى العام التاسع للهجرة المعروف بعام
الوفود؛ وفود متعددة قدمت من «اليمن» و «حضرموت» كانت منها
وفود: «همدان»، و «خولان»، و «النخع»، و «الصرف»، و «عذرة»،
و «جهينة»، و «مراد»، وغيرها، وكذلك وفد على الرسول من
«اليمن»: «وائل بن حجر بن ربيعة» وكان من أبناء ملوك «اليمن»،
فأدناه الرسول منه، وأجلسه على ردائه، وأقطعه أرضًا، وأرسل
معه «معاوية بن أبى سفيان» ليسلمها له، وكان «أبو موسى
الأشعرى» وأخوه «أبو بردة»، و «ياسر بن عمار العنسى» من أشهر
المسلمين الذين وفدوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من
«اليمن».
بنو نجاح فى زبيد [403 - 555هـ):
استتب الأمر للأمير «نجاح» فى «زبيد» و «تهامة»، فكتب إلى الخليفة
العباسى فى «بغداد» معلنًا له ولاءه وطاعته للدولة العباسية،
فأقره الخليفة عليها، ونعته بالمؤيد نصر الدين، وكان «نجاح» سمحًا
يتبع المذهب الشافعى، فدانت له تهامة طيلة حياته، فلما وافته المنية
فى سنة (452هـ) دار صراع طويل بين أولاده وأحفاده من جانب
ودولة «صليح» التى نشأت فى «صنعاء» سنة (429هـ) من جانب
آخر، واستقر الأمر لبنى نجاح - بعد معارك طويلة - فى عام (472هـ)
وبقى فيهم حتى سنة (554هـ)، وأمراء «بنى نجاح» هم:
1 - الأمير «نجاح» (403 - 452هـ).
2 - «سعيد بن نجاح» (452 - 481هـ).
3 - «جياش بن نجاح» (483 - 498هـ).
4 - «فاتك بن جياش» (498 - 503هـ).
5 - «منصور بن فاتك» (503 - 521هـ).
6 - «فاتك بن منصور» (521 - 540هـ).
7 - «فاتك بن محمد بن فاتك» (540 - 554هـ).(5/121)
سقوط آل نجاح:
جاء سقوط «بنى نجاح» على أيدى «بنى المهدى» الذين يعودون
فى نسبهم إلى أسرة حميرية هالها تحكم «بنى نجاح» الأحباش فى
«اليمن»، فجمع زعيمها «على بن مهدى» الجموع حوله وغزا مدينة
«الكدراء» فى سنة (538هـ)، وظل «بنو المهدى» من ذلك التاريخ
يعملون للسيطرة على «زبيد»، وتحقق لهم ذلك فى سنة (553هـ)،
عندما عجز «آل نجاح» عن صدهم، ودخل المهديون «زبيد» واستقر
لهم الأمر فيها.
بنو المهدى الحميريون فى زبيد [553 - 569هـ]:
يرجع الفضل فى تولية المهديين على «زبيد» إلى «على بن مهدى
الحميرى» الذى ينحدر من أسرة «الأغلب بن أبى الفوارس بن ميمون
الحميرى»، وقد عاش «آل المهدى» فى قرية «العنبرة» من سواحل
«زبيد».
نشأ «على بن المهدى» نشأة دينية، وحج البيت الحرام، ولقى
العلماء وأخذ عنهم العلم، ونهل من المعارف حتى أصبح واعظًا
بارعًا، وعالمًا فصيحًا، فاستمال القلوب حوله، وظهر أمره بساحل
«زبيد»، فقربته «أم فاتك بن منصور»؛ لصلاحه وتقاه، وأغدقت عليه
هو وأهله، حتى أصبحوا من الأثرياء، وباتوا قوة كبيرة التف حولها
الناس من كل مكان، فى الوقت الذى ضعف فيه «آل نجاح»، ونظر
إليهم اليمنيون على أنهم أحباش تحكموا فى بلادهم، فسعى «على
بن المهدى» إلى طرد «آل نجاح» من السلطة، وعمل على تحقيق ذلك
جاهدًا حتى تم له ما أراد فى سنة (553هـ) بعد معارك طويلة، ثم
أسس دولته التى سعد بها اليمنيون، لأن المهديين كانوا وطنيين امتاز
مؤسس دولتهم بالعلم والخلق الطيب، فانضمت إليه جميع بلاد «اليمن»
وذخائرها، إلا أن أمراء هذه الأسرة الذين جاءوا بعد «على بن
المهدى» مؤسس دولتهم اتجهوا إلى معاملة الناس بالقسوة والشدة؛
وانحرفوا عن الطريق التى رسمها الأمير «على»، فتهيأ الجو
لاستقبال أى فاتح يخلص «اليمن» منهم، فلم تدم دولتهم طويلا لدخول
الأيوبيين «اليمن».
وولاة أسرة «المهدى» هم:
1 - «على بن المهدى» (553هـ).
2 - «مهدى بن على» (553 - 558هـ).(5/122)
3 - «عبدالنبى بن على» (558 - 569هـ).
صنعاء
هى عاصمة «اليمن» الرئيسية، وأهم مدنها وأجملها، وكان اسمها
«أوزال»، فلما وقعت «اليمن» تحت حكم الأحباش تغير اسمها إلى
«صنعاء»، ومعناها: «حصينة».
ظلت «صنعاء» عاصمة «اليمن الأولى» فى العصر الإسلامى، وإن
قامت إلى جانبها عواصم أخرى للولايات المتعددة التى قامت باليمن،
وقد عرفت «صنعاء» الحركات الانفصالية ببنى يعفر، مثل غيرها من
المدن والولايات اليمنية فى ذلك العهد.
دولة بنى يعفر بصنعاء [225 - 387هـ]:
بدأ نفوذ «بنى يعفر» فى «شبام» بحضرموت سنة (225هـ)، وامتد
نفوذهم إلى «صنعاء» عن طريق «جعفر بن على الهاشمى» الذى
وَلَّى «عبدالرحيم بن إبراهيم الحوالى الحميرى» اليمن نيابة عنه، فلما
تُوفِّى «عبدالرحيم» قام ابنه «يعفر» مقامه، وصارع فى ميادين
عديدة، كان من أهمها: صراعه ضد «حمير بن الحارث» والى
«اليمن»، وصراعه ضد «ابن زياد» حاكم «زبيد»، فلما تُوفِّى «ابن
زياد» فى سنة (245هـ) استقر سلطان «يعفر» فى «صنعاء»، فبدأ
بتأسيس دولته فيها، وتم له ذلك فى سنة (247هـ)، فاعتبر المؤرخون
هذه الدولة هى صاحبة الفضل فى تحقيق استقلال «اليمن»، إلا أنها
اختلت اختلالا واسعًا فى عهد «محمد بن إبراهيم» نتيجة لاقتحام
الأئمة والقرامطة البلاد، فعمت فيها الفوضى، وانتهت فى سنة
(387هـ).
وأمراء «بنى يعفر» بصنعاء هم:
1 - «يعفر بن عبدالرحيم» [247 - 259هـ].
2 - «محمد بن يعفر» [259 - 279هـ].
3 - «إبراهيم بن محمد بن يعفر» [279 - 285هـ].
4 - «أسعد بن إبراهيم بن يعفر» [286 - 288هـ] وتولى مرة ثانية [303
- 332هـ].
5 - «محمد بن إبراهيم» [332 - 352هـ].
بنو صليح فى صنعاء [429 - 532هـ]:
نجح «محمد بن على الصليحى» فى السيطرة على زمام الأمور فى
«صنعاء»، وزاد موقفه رسوخًا عندما استطاع السيطرة على «زبيد»،
ويكفيه أنه حقق وحدة «اليمن» فى عهده، ويقول عنه «تاج الدين(5/123)
اليمانى» أحد مؤرخى «اليمن»: «إن الصليحى طوى اليمن طيا، سهله
وجبله، وفى سنة (455هـ) ملك الصليحى جميع اليمن إلى حضرموت،
وولاه المستنصر الفاطمى أمر مكة، واتخذ صنعاء عاصمة له، وبنى
فيها عدة قصور، وأحسن سيرته فى الرعية، وعلى الرغم من تشيعه
فإنه سمح لأهل السنة بإظهار مذهبهم، وأسكن معهم ملوك اليمن
الذين أزال ملكهم، وكان إذا حج اصطحبهم معه»، وأمراء الصليحيين
هم:
1 - «على بن محمد» [429 - 459هـ].
2 - «المكرم أحمد بن على» [459 - 484هـ].
3 - «شمس المعالى سبأ الصليحى» [484 - 492هـ].
4 - السيدة «أروى بنت أحمد الصليحية» [492 - 532هـ].
نهاية دولة بنى صليح:
بدأ انهيار دولة «بنى صليح» عقب وفاة «على بن محمد الصليحى»
الأمير الأول، وقد بذل ابنه «المكرم» وزوجه «أروى» جهودًا كبيرة
لاستعادة بناء الدولة إلا أن جهودهما لم تحقق الهدف المرجو منها،
ولم تستطع «أروى» استعادة زمام الأمور بعد وفاة زوجها حتى
ماتت سنة (532هـ)، فتفككت المملكة الصليحية بعد أن حققت فترة
استقرار وأمن لليمن كان فى حاجة إليها، وقد تميزت فترة
الصليحيين بروح الود وبخاصة مع الدولة الفاطمية التى كان يجمعها
مع الصليحيين المذهب الشيعى.
بنو همدان فى صنعاء [492 - 596هـ]:
عقب وفاة «سبأ الصليحى» سنة (492هـ) مرت «صنعاء» بفترة
اضطراب، وكان «حاتم الهمدانى» أول من تولاها بعد «سبأ» وكان
رجلا ذكيا محبا للنهضة، كما كان ابنه «محمد» شجاعًا وجوادًا،
فبقيت «صنعاء» فى أيدى «بنى حاتم» الهمدانيين حتى اضطربت
أحوالها فى نهاية عهدهم، وعمتها الفوضى، فمهد ذلك الطريق
للأيوبيين، فضموها إلى سلطانهم مع ما ضموه من «اليمن».
وسلاطين الهمدانيين باليمن هم:
1 - «حاتم بن الغشم الهمدانى».
2 - «هشام بن القبيب الهمدانى».
3 - «حاتم بن أحمد بن عمران».
4 - «عبدالله بن حاتم».
5 - «حماس بن القبيب».
6 - «على بن حاتم».
7 - «معن بن حاتم».
بنو زريع فى عدن [476 - 569هـ]:(5/124)
عندما استولى «الصليحى» على «اليمن» مد سلطانه إلى «عدن»،
فوجد بها «بنى معن» الحميريين؛ فأبقاهم عليها بعد أن أظهروا
ولاءهم له، فلما استقر الأمر -بعد ذلك - للمكرم الصليحى فى «عدن»
وما حولها جعل ولايتها «للعباس» و «مسعود» ابنى «المكرم الجشمى
بن يام بن أصبى الزريعى» وجعل «العباس» على حصن «التعكر»
وما يليه من البر، وجعل «مسعود» على حصن «الخضراء» وما يليه من
البحر وله كذلك «عدن»، فعظم سلطان «بنى زريع» وأصبحوا شبه
مستقلين فى هذه المناطق، وبخاصة بعد نهاية دولة الصليحيين.
وسلاطين آل زريع هم:
- فى حصن التعكر
1 - «العباس بن المكرم» [470 - 477هـ].
2 - «زريع بن العباس» [477 - 480هـ].
3 - «أبو السعود بن زريع» [480 - 494هـ].
- فى حصن الخضراء وعدن:
1 - «المسعود بن المكرم» [470 - 480هـ].
2 - «أبو الغازات بن مسعود» [480 - 485هـ].
3 - «محمد بن أبى الغازات» [485 - 488هـ].
4 - «على بن محمد» [488 - 489هـ].
الداعى سبأ بن أبى السعود على المنطقتين [489 - 533هـ]:
كان «محمد بن سبأ بن أبى السعود بن زريع» رجلا شجاعًا عظيم
الشخصية، فتمكن من ضم حصن «التعكر» إلى حصن «الخضراء»
و «عدن» فى حياة أبيه، فلما ولى بعد أبيه دانت له المنطقة كلها،
وقلده الخليفة الفاطمى بمصر أمر الدعوة الفاطمية فى بلاده، وأطلق
عليه لقب «الداعى سبأ»؛ لما كانت بينهما من علاقة طيبة، وظل فى
ملكه حتى مات سنة (533هـ). فجاء من بعده «عمران بن محمد بن
سبأ» [550 - 560هـ]، ثم «أبو الدُّر جوهر المعظَّمى» وصيا على أولاد
«عمران» (560 - 569هـ)، ثم دخل الأيوبيون «اليمن» فى سنة
(569هـ).
مصر واليمن فى العهد الفاطمى:
دأب الفاطميون قبل أن يفتحوا «مصر» وينتقلوا بخلافتهم إليها على
نشر دعوتهم الشيعية فى شمالى «إفريقيا»، وفى الأماكن القريبة
من أضرحة أئمة آل البيت فى «النجف» و «كربلاء»، وكانت «اليمن»
المكان الملائم لدعوتهم، فبعثوا إليها بدعاتهم الذين تمكنوا من(5/125)
السيطرة عليها ونشر دعوتهم بها، فلما دخل الفاطميون «مصر»
واستقرت أمور دولتهم بها لم ينسوا «اليمن»، وأقاموا معه علاقات
وثيقة الصلة، ووجدوا فى «بنى صليح» وسيلتهم للسيطرة على
«اليمن»، فساعدوهم ماديا وأدبيا حتى قامت دولتهم بصنعاء
واتسعت فى أماكن أخرى، وزاد الترابط والصلة بين «مصر»
و «اليمن»، وظلت هذه العلاقة قائمة حتى سقطت دولة الفاطميين.
الأيوبيون فى اليمن [569 - 626هـ]:
اتجه الأيوبيون عقب سيطرتهم على مقاليد الأمور فى «مصر» إلى
توحيد صفوف العالم الإسلامى، فقد كان ذلك هدف «صلاح الدين
الأيوبى» الذى سعى من أجل تحقيقه، فأرسل جيشًا بقيادة «توران
شاه» إلى «اليمن» فى شوال من سنة (569هـ)، فاتجه الجيش إلى
«زبيد» وقضى على مقاومة «عبدالنبى بن المهدى»، ثم اتجه إلى
«عدن» وقضى على «آل زريع» فيها، ثم غادرها إلى «ذى جبلة»
حيث يحكم الصليحيون دعاة الفاطميين، فتمكن منهم وقضى على
دعوة الفاطميين فيها، وامتد حكم الأيوبيين إلى «صنعاء» ومناطق
كثيرة من «حضرموت» بسبب ضعف الزيديين فيها، وأحكم الأيوبيون
سيطرتهم على بلاد «اليمن» واتخذ «توران شاه» من «تعز» عاصمة
جديدة له.
نهاية دولة بنى رسول:
ظلت دولة «بنى رسول» فى بلاد «اليمن» أكثر من قرنين من الزمان،
ثم تعرضت لعوامل الضعف التى ساعدت على انهيارها حين نشب
الصراع بين الأمراء من «بنى رسول»، وكانت نهاية الدولة حين ذهب
السلطان «مسعود» آخر سلاطين «بنى رسول» لزيارة «مصر»،
فاستبد عبيده بالسلطة وأساءوا التصرف، وعاملوا الناس بغلظة،
فلجأ الناس إلى «بنى طاهر» أبرز عمال «بنى رسول»؛ لينقذوهم من
تسلط العبيد، فتقدم «بنو طاهر» وأزالوا سلطان العبيد وسيطروا
لصالحهم على مقاليد السلطة، فسقطت بذلك دولة «بنى رسول».
بنو طاهر فى اليمن [858 - 923هـ]:
تمكن «عامر بن طاهر» من السيطرة على مقاليد السلطة فى
«اليمن»، بعد أن أزال دولة «بنى رسول»، إلا أن الأمور لم تكن سهلة(5/126)
- آنذاك - فقد كان نفوذ الأئمة قويا، ورأوا أنهم أحق بالسيطرة على
«اليمن» كله من الطاهريين، فى حين طمع «بنو طاهر» فى أن يكون
لهم ملك «بنى رسول» فى شمالى «اليمن» وجنوبيه، ونشب صراع
مذهبى عنيف بين الفريقين، واستمر لفترة طويلة حتى تمكن الظافر
الثانى «عامر بن عبدالوهاب بن طاهر» من هزيمة الأئمة، فدانت له
«اليمن» شمالا وجنوبًا، واستكمل الطاهريون ما بدأه «آل رسول»
فى بناء حضارة «اليمن»، فانتشرت فى عهدهم المدارس والمساجد،
واختطوا مدينة «المقرانة» فى «رواع»، وشيدوا بها القصور العظيمة،
وأقاموا الحدائق البديعة، وشهدت «اليمن» فى عهدهم نهضة علمية
عظيمة، وبرز فيها العلماء والمؤرخون، وبلغت العلوم الرياضية
والفلكية والبحرية والجغرافية فى عهدهم شأوًا كبيرًا، فكان «أحمد
بن ماجد العدنى»، و «سليمان المهرى» من علماء هذا العصر، وتتلمذ
على أيديهما البحارة والجغرافيون من البرتغاليين والأتراك، ولأحمد
بن ماجد مؤلفات بلغ الموجود منها أربعين مؤلفًا فى الجغرافيا
والملاحة وأحوال البحار وطرقها، وظل الطاهريون فى دأبهم من
أجل بناء حضارة «اليمن» حتى جاءت نهايتهم على أيدى المماليك
فى سنة (945هـ) بحجة حماية طرق التجارة.
وسلاطين بنى طاهر هم:
1 - الظافر (الأول) «عامر بن طاهر» [857 - 870هـ].
2 - «المجاهد على بن عمر» [870 - 883هـ].
3 - «المنصور عبدالوهاب بن طاهر» [883 - 894هـ].
4 - الظافر (الثانى) «عامر بن عبدالوهاب» [894 - 923هـ].
5 - «عامر بن داود بن طاهر» [929 - 945هـ] (احتفظ «عامر» بعدن
حتى سنة 945هـ).
المماليك فى اليمن [923 - 945هـ]:
ترك المماليك «اليمن» تحت حكم أبنائه من «بنى رسول» و «بنى
طاهر»، وظل اسم سلطان المماليك واسم الخليفة العباسى يذكران
فى الخطبة وينقشان على السكة باليمن حتى عهد المماليك
الجراكسة، وذلك مظهر من مظاهر سيادة المماليك على بلاد «اليمن»،
ثم استطاع البرتغاليون فى نهاية القرن الخامس عشر الميلادى أن(5/127)
يجدوا طريقًا تجاريا إلى «الهند» و «الشرق الأقصى» بدون المرور
على «البحر الأبيض» و «البحر الأحمر»، فكان هذا الاكتشاف الذى
عرف بطريق رأس الرجاء الصالح ضربة قاصمة لسلطان المماليك فى
«مصر» والشام، وحاول البرتغاليون تأمين طريقهم الجديد، فعمدوا
إلى احتلال بعض المناطق المهمة، واحتلوا «جزيرة كمران» اليمنية
وهاجموا «عدن» واحتلوها، ثم بسطوا نفوذهم على أجزاء كبيرة من
«اليمن»، فاتجه المماليك بقيادة السلطان «الغورى» إلى محاولة
استعادة نفوذهم، وقطع طريق البرتغاليين الجديد، وكان الصراع
محتدمًا - وقتها - فى «اليمن» بين الأئمة والطاهريين، فدخل المماليك
«اليمن» وقضوا على الطاهريين بعد أن رفضوا مساندتهم فى حربهم
ضد البرتغاليين، فكان دخول المماليك «اليمن» لرد البرتغاليين عنه،
ولحماية طرق تجارتهم، واستعاد المماليك «جزيرة كمران» التى
احتلها البرتغاليون بيد أن الأمور لم تستقر لهم فى هذه البلاد؛ إذ
كثرت مناهضة الأئمة الزيديين لهم، ودخل العثمانيون الشام و «مصر»
بعد هزيمة المماليك فى موقعتى «مرج دابق» و «الريدانية»، فسقطت
دولة المماليك، وبسط العثمانيون نفوذهم على «مصر»، ومن ثَمَّ مدوه
على «اليمن» فدانت لهم فى سنة (945هـ)، ودخل «اليمن» مرحلة
جديدة من الحكم فى تاريخه تحت حكم العثمانيين.(5/128)
الفصل الثالث عشر
*البحرين
كانت المناطق التى تقع على امتداد الساحل الغربى للخليج العربى
تُسمَّى: «البحرين» أو «الإحساء» أو «هجر»، وذكر ذلك «ياقوت
الحموى» بقوله: «البحرين اسم جامع للبلاد على ساحل الخليج بين
البصرة وعمان، وتُسمَّى هذه المنطقة أيضًا هجر وقيل: إن هجر قصبة
البحرين، فيها عيون ومياه وبلاد واسعة».
الإسلام فى البحرين:
بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعلاء بن الحضرمى إلى
«البحرين» ليدعو أهلها إلى الإسلام، وأرسل - صلى الله عليه وسلم -
كتابًا إلى «المنذر بن سلوى التميمى» حاكم «البحرين» يدعوه فيه
إلى الإسلام، فأسلم من ساعته، فثبته النبى فى مكانه، فظل به
حتى وفاته سنة (11هـ) فتولى «البحرين» من بعده «العلاء بن
الحضرمى» الذى تُوفِّى سنة (20هـ)، فتولى من بعده عدد من كبار
الصحابة والتابعين، ومنهم:
«قدامة بن مظعون»، و «أبو هريرة»، و «عثمان بن أبى العاص»،
و «مروان بن الحكم»، و «عبيدالله بن العباس»، و «المهاجر ابن عبدالله
الكلابى»، وجدير بالذكر أن «عثمان بن أبى العاص» أحد ولاة
«البحرين» كان أحد القادة الكبار فى عهد «عمر بن الخطاب»،
وأسهم فى فتح بلاد فارس، وقد ترك أخاه «المغيرة بن أبى
العاص» خليفة له على «البحرين» حين جهاده فى فتح فارس.
البحرين فى عهد الخلفاء الراشدين:
ظهرت الردة فى بعض قبائل «البحرين»، ووحدوا صفوفهم لمحاربة
المسلمين، فأرسل إليهم «أبو بكر الصديق» جيشًا بقيادة «العلاء بن
الحضرمى» تمكن من إخماد ردتهم، وإعادتهم إلى الإسلام ثانية،
وتمكن «العلاء» من توجيه عدة ضربات إلى الفرس الذين يثيرون
القلاقل فى المنطقة حتى استدعاه «عمر بن الخطاب» وولاه على
«البصرة»، وظلت «البحرين» موضع عناية الخلفاء الراشدين.
البحرين فى العهد الأموى:
اهتم الأمويون بالبحرين؛ لصلتها ببلاد فارس التى كانت تثير القلاقل
فى البلاد الإسلامية كلما سنحت لها الفرصة، وظلت «البحرين» موضع(5/129)
عناية الأمويين حتى قامت ثورة «ابن الزبير» فانشغل بها «مروان بن
الحكم»، و «عبدالملك بن مروان» من بعده عن منطقة الخليج؛ فضعفت
الرقابة عليها، فانتهز الخوارج هذه الفرصة وأتخذوا من «البحرين»
مستقرا لهم، فاجتمع حولهم عدد كبير، وحاربوا من وقف فى
طريقهم، وزاد نشاطهم بصورة كبيرة، وأصبحت لهم شوكة قوية فى
عهد «بنى أمية» وساعدهم فى ذلك الاضطرابات التى كانت فى
المنطقة إضافة إلى انشغال الخلافة عن هذه البقعة، وظلت سيطرتهم
فى «البحرين» قائمة قوية حتى تمكن الأمويون من كسر شوكتهم
والقضاء عليهم فى سنة (105هـ)، وتعتبر فرقة «النجدات» من أشهر
فرق الخوارج التى دخلت «البحرين» فى هذه الفترة، وينسبون إلى
«نجدة بن عامر الحنفى» الذى جمعهم بالبحرين.
البحرين فى العصر العباسى:
شهدت منطقة الخليج استقرارًا ملحوظًا خلال العهد العباسى،
باستثناء بعض الثورات المتفرقة، التى لم تؤثر على سياسة الدولة
العباسية حتى نهاية العصر العباسى الأول فى سنة (232هـ)، ثم
انتقلت البلاد بعد ذلك إلى مرحلة تميزت بازدياد نفوذ الأتراك
وتسلطهم، فجذبت منطقة «البحرين» كثيرًا من الحركات القوية
المدمرة التى اتسمت بانحرافها الفكرى، مثل «حركة صاحب الزنج»،
و «حركة القرامطة» التى استهدفت الإسلام، واستنزفت أموال
المسلمين والخلافة العباسية وجهودهم، فخلَّف ذلك أضرارًا هائلة فى
النواحى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للبلاد، حتى تمكن
المسلمون من القضاء على «حركة الزنج» سنة (270هـ)، ثم على
القرامطة من بعدهم.
العيونيون فى البحرين:
«العيونيون» فرع من «بنى عبدالقيس»، وكانوا يسكنون على
مشارف «العيون» بالإحساء، وكان منهم «عبدالله بن على العيونى»
الذى ثار على القرامطة وقضى عليهم، ثم سيطر «العيونيون» على
«البحرين» وبدأ حكمهم فيها فى عام (467هـ)، وشمل «الإحساء»،
و «البحرين»، و «القطيف»، فنعمت البلاد فى عهدهم بالاستقرار(5/130)
والهدوء وانتعشت التجارة، واتسع ملكهم حتى شمل «نجد»، وتميز
عهدهم بالحضارة العلمية الزاهرة، وظل الأمر مستقرا فى «البحرين»
حتى نشبت الصراعات والخلافات الداخلية من جديد، فهيأ ذلك الفرصة
أمام الفرس لدخولها.
وأهم أمراء «العيونيين» هم:
1 - «الفضل بن عبدالله بن على».
2 - «محمد بن الفضل».
3 - «محمد بن أحمد بن عبدالله».
الفرس فى البحرين:
انتهز ملك فارس الخلاف الذى وقع بين أمراء «العيونيين»، وضعف
البلاد، فدخل «جزيرة قيس» وأخلاها من العرب، ثم اجتاز بجنوده
البحر إلى «البحرين»، واستولى عليها وعلى «الإحساء» و «قطيف»
وغيرها من بلدان الخليج؛ فاضطر العرب إلى عقد الصلح معه، فكان
ملك الفرس يولى على «البحرين» ولاة من العرب يحكمون باسمه،
فأضعف ذلك حالة «البحرين» وبلاد الخليج عامة.
المغول فى البحرين:
بدأ الزحف المغولى على العالم الإسلامى فى القرن السابع الهجرى،
فدمروا كل ما قابلهم من حضارة أقامها المسلمون بجهودهم
وأموالهم فى فترات طويلة، وعاث المغول فى الأرض الفساد،
وأراقوا دماء الآلاف من المسلمين، وخضعت «البحرين» لسيطرتهم،
كما خضعت غيرها، وبقيت قوى الشر والفساد مسيطرة حتى كتب
الله النصر للمسلمين عليهم فى «عين جالوت»، فخرجوا من العالم
الإسلامى.
المماليك فى البحرين:
كان لانتصار المماليك على المغول أكبر الأثر فى توحيد صفوف
المسلمين حولهم، فأقبلت الوفود على السلطان «بيبرس» من كل
مكان لتعلن ولاءها لحكمه، وتعترف بدولته، وكان «آل عامر» بزعامة
«محمد بن أحمد» فى طليعة الوفود التى وفدت إلى «مصر»،
فأكرمهم السلطان «بيبرس»، وأغدق عليهم المنح والعطايا، وأقرهم
على «البحرين»، فظلت «البحرين» منذ ذلك التاريخ تابعة لحكم
المماليك حتى حل العثمانيون، فدخل العالم الإسلامى كله طورًا جديدًا
فى تاريخه فى ظل الخلافة العثمانية.(5/131)
- المراجع:
* إبراهيم علي طرخان: مصر في عصر دولة المماليك الجراكسة - القاهرة - 1960م
* بن الأثير (عز الدين): الكامل في التاريخ - دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الأولي - 1987م
* بن إياس (محمد بن أحمد): بدائع الزهور في وقائع الدهور - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - الطبعة الثانية - 1402هـ = 1982م
* بن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة - القاهرة - 1963م
* حكيم أمين عبد السيد: قيام دولة المماليك الثانية - الدار القومية للطباعة والنشر-القاهرة - 1966م
* بن خلدون (عبد الرحمن بن محمد): تاريخ ابن خلدون - مؤسسة جمال للطباعة والنشر - بيروت - 1979م
* بن خلكان (أحمد بن محمد): وفيات الأعيان - تحقيق إحسان عباس - دار صادر - بيروت - 1398هـ = 1978م
* سعيد عبد الفتاح عاشور: العصر المماليكي في مصر والشام - دار النهضة العربية - القاهرة - الطبعة الأولي - 1965م
* السيد الباز العريني: مصرفي عصر الأيوبيين - القاهرة - 1960م
* أبو شامة (شهاب الدين عبد الرحمن): كتاب الروضتين في أخبار الدولتين - المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر -القاهرة - 1962م
* الطبري (محمد بن جرير): تاريخ الطبري - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - دار المعارف - القاهرة - بدون تاريخ
* بن القلانسي (حمزة بن أسد): ذيل تاريخ دمشق - مكتبة المتنبي -القاهرة - بدون تاريخ
* القلقشندي (أحمد بن علي): صبح الأعشى في صناعة الإنشا - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولي - 1987م
* بن كثير (إسماعيل بن عمر): البداية والنهاية - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الرابعة - 1987م
* الكندي (أبو عمر محمد بن يوسف): كتاب الولاة والقضاء - نشر رفن جست - مطبعة الآباء اليسوعيين - بيروت-1908م(5/132)