ومن شعره قوله يرد على بني شيبان وكانوا افتخروا بقتل رجل من طيء يدعى المكاء كان نزل ضيفاً برجل من بني الحرث بن ذهل بن شيبان فأضافه وسقاه فلما سكر جعل يفاخر بني شيبان فوثب عليه الشيباني فقتله وخرج هارباً فقال أبو زبيد يهجو بني شيبان (خفيف) :
خبرتنا الركبان أن قد فرحتم ... وفخرتم بضربة المكاء
ولعمري لعارها كان أدنى ... لكم من تقى وحسن وفاء
ظل ضيفاً أخوكم لأخينا ... في صبوح ونعمة وشواء
لم يهب حرمة النديم وحقت ... يا لقومي للسوءة السؤاء
فأصدقوني وقد خبرتم وقد ثا ... بت إليكم جوائب الأنباء
هل علمتم من معشر سافهونا ... ثم عاشوا صفحاً ذوي غلواء
كم أزالت رماحنا من قتيل ... قاتلونا بنكبة وشقاء
بعثوا حربنا عليهم وكانوا ... في مقام لو أبصروا ورخاء
ثم لما تشذرت وأنافت ... وتصلوا منها كريه الصلاء
طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأحببنا أن ليس حين بقاء
ولعمري لقد لقوا أهل بأس ... يصدقون الطعان عند اللقاء
ولقد قاتلوا فما جبن القو ... م عن الأمهات والأبناء
إلى أن قال:
فأصدقوني أسوقة أم ملوك ... أنتم والملوك أهل علاء
أبديء أن تقتلوا إذا قتلتم ... أم لكم بسطة على الأكفاء
أم طعمتم بأن تريقوا دمانا ... ثم انتم بنجوة في السماء
فلحا الله طالب الصلح منا ... ما أطاف المبس بالدهناء
إننا معشر شمائلنا الصبر ... ودفع الأسى بحسن العزاء
ولنا فوق كل مجد لواء ... فاضل في التمام كل لواء
فإذا ما استطعتم فاقتلونا ... من يصب يرتهن بغير فداء
وله يهجو ضبيعة (جمهرة الإسلام ص 295) (من الوافر) :
تنازعني ضبيعة أمر قومي ... وما كانت ضبيعة للأمور
وهل كانت ضبيعة غير عبد ... ضممناه على نسب شطير
وأوصاني أبي فحفظت عنه ... بفك الغل عن عنق الأسير
وأوصى جحدر فوقا بنيه ... بإرسال القراد على البعير
ومن حكمه ما رواه له البحتري في حماسته (من الطويل) :
عليك برأس الأسر قبل انتشابه ... وشر الأمور الأعسر المتدبر
وفي حماسة الخالديين (نسختنا الخطية) وفي الحماسة البصرية (154: 1 من نسختنا) (من الطويل) :
سأقطع ما بيني وبين ابن عامر ... قطيعة وصل لست اقطع جافيا
فمن يتبع النعمى تربها ... ولا يتبع الإخوان بالذم زاريا(7/)
إذا كان شكري دون فيض بنانه ... وطاولني جوداً فكيف احتياليا
وروى له في اللسان (10: 6) يمدح الوليد بن عثمان قال ويروي أيضاً للحزين الكناني (من الكامل) :
فإلى الوليد اليوم حنت ناقتي ... تهوي لمغبر المتون سمالق
حنت إلى برق فقلت لها قري ... بعض الحنين فإن سجرك شائقي
كم عنده من نائل وسماحة ... وشمائل ميمونة وخلائق
ومما رواه ابن عبد ربه (العقد 133: 3) لأبي زبيد قوله يهجو من منعه صلته (من المنسرح) :
إن كان رزقي غليك فارم به ... في ناظري حية على رصد
ليتك أدبتني بواحدة ... تجعلها منك آخر الأبد
تحلف أن لا تبرني أبداً ... فان فيها برداً على كبدي
وروى له أبو علي القالي (29: 1) من قصيدة في رثاء الخليفة عثمان يصف المساحي وهي المجارف التي حفروا بها قبره (من البسيط) :
لها صواهل في صم السلام كما ... صاح القسيات في أيدي المصاريف
كأنهن بأيدي القوم في كبد ... طير تكشف عن جون مزاحيف
ولما قتل الخليفة علي بن أبي طالب قال أبو زبيد يرثيه (من البسيط) (الكامل للمبرد ص 553) :
إن الكرام على ما كان من خلق ... رهط امرئ خاره للدين مختار
طب بصير بأضغان الرجال ولم ... يعدل بحبر رسول الله أحبار
وقطرة قطرت غذ حان موعدها ... وكل شيء له وقت ومقدار
حتى تنصلها في مسجد طهر ... على إمام هدى إن معشر جاروا
حمت ليدخل جنات أبو حسن ... وأوجبت بعده للقاتل النار
ومن مختار شعر أبي زبيد الطائي داليته التي قالها في اللجلاج. أما اللجلاج المذكور فقيل انه للجلاج بن أوس من أنسباء أبي زبيد وقيل انه أخوه (المقاصد النحوية للعيني 222: 4) وقيل بل هو ابن أخته اللجلاج الحارثي وهو طفيل بن يزيد بن عبد يغوث (خزانة الأدب لعبد القادر البغدادي 655: 2) وهذه القصيدة انتخبها أبو زيد القرشي في جمهرة أشعار العرب فنظمها في بعض النسخ في جملة المذهبات وفي غيرها في جملة المراثي. وقد كنا نسخناها على نسخ خطية في مكاتب أوربة ومصر وذكرنا رواياتها وبعض شروحها فنثبتها هنا كما وجدناها (من الخفيف) :
إن طول الحياة غير سعود ... وضلال تأميل طول الخلود
علل المرء بالرجاء ويضحي ... غرضاً للمنون نصب العود
كل يوم ترميه منها سهام ... فمصيب أو صاف غير بعيد(7/)
من حميم ينسي الحياة جليد م القوم حتى تراه كالملبود
كل ميت قد اغتفرت فلا أج ... زع من والد ولا مولد
غير أن اللجلاج هد جناحي ... يوم فارقته بأعلى الصعيد
صادياً يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود
رب مستلحم عليه ظلال م الموت لهفان جاهد مجهود
خارج ناجذاه قد برد المو ... ت على مصطلاه أي برود
غاب عنه الأدنى وقد س ... مر العوالي إليه أي ورود
فدعا دعوة المحنق والتل ... بيب منه في عامل مقصود
ثم أنقذته وفرجت عنه ... بغموس أو ضربة أخدود
بحسام أو زرة من نحيض ... ذات ريب على الشجاع النجيد
يشتكيها بقدك إذ باشر المو ... ت جديداً والموت شر جديد
غير ما ناكل يسير رويداً ... سير لا مرهق ولا مهدود
ساحياً للجام يقصر عنه ... عركاً في المضيق غير شرود
في ضريح عليه عبء ثقيل ... من تراب وجندل منضود
عن يمين الطريق عند صدى حر م إن يدعو بالويل غير معود
مستعداً لمثلها إن دنوا من ... هـ وفي صدر مهره كالصديد
نظر الليث همه في فريس ... أقصدته يدا مجيد مفيد
ساندوه حتى إذا لم يروه ... شد اجلاده على التسنيد
يئسوا ثم غادروه لطير ... عكفوا حوله عكوف الوفود
وهم ينظرون لو طلبوا الوتر ... إلى واتر شموس حقود
قحمة لو دنوا لثار إليهم ... حرشف قد ثناهم لعديد
يا ابن أمي ويا شقيق نفسي ... أنت خليتني لدهر سديد
يبلغ الجهد ذو الحصاة من القو_م ومن يلف لاهياً فهو مودي
كل عام أرمي ويرمى أمامي ... بسهام من مخطئ وسديد
ثم أوحدتني وأثللت عرشي ... عند فقدان سيد ومسود
من رجال كانوا جمالاً نجوماً ... فهم اليوم صحب آل ثمود
خان دهر بهم وكانوا هم أهل ... عظيم الفعال والتمجيد
مانعي باحة العراق من النا ... س بجرد تعدو كمثل الأسود
كل عام يلثمن قوماً بكف الد م هر جمعاً وآخذ في مزيد
جازعات إليهم جشع الأو ... داة تسقى قرباً ضياح المديد
مسنفات كأنهن قنا الهن ... د ونسى الوجيف شغب المرود
مستحيراً بها الهداة إذا يق ... طعن نجداً وصلنه بنجود
فانا اليوم قرن أعضب منهم ... لا أرى غير كائد ومكود
غير ما خاضع لقوم جناحي ... حين لاح الوجوه سفع الخدود
كان عني يرد درأك بعد م الله شغب المستصعب المريد(7/)
من يكدني بسيء كنت منه ... كالشجا بين حلقه والوريد
أسد غير حيدر وملث ... يطلع الخصم عنوةً في كؤود
وخطيب إذا تمغرت الأو ... جه يوماً في مأزق مشهود
ومطير اليدين بالخير للحم ... د إذا ضن كل جبس صلود
أصلتي تسمو العيون إليه ... مستنير كالبدر عام العهود
معمل القدر بارز النار للضي ... ف إذا هم بعضهم بجمود
يعتلي الدهر إن علا عاجز القو ... م وينمي للمستتم الحميد
وإذا القوم كان زادهم اللح ... م فصيداً منه وغير فصيد
وسعوا بالمطي والذبل الس ... مر لعمياء في مفارط بيد
مستحيراً بها الرياح فلا يج ... تابها في الظلام كل هجود
وتخال القريض فيها غناءً ... للندامى من شارب غريد
قال سيروا إن السرى نهزه الأكي ... اس والغزو وليس بالتمهيد
وإذا ما اللبون سافت رماد ال ... حي يوماً بالسملق الأملود
بدل الغزو أوجه القوم سوداً ... ولقد ابدأوا وليست بسود
ناط أمر الضعاف واحتفل الل ... يل كحبل العادية الممدود
في ثياب عمادهن رماح ... عند جوع يسمو سمو الكبود
كالبلايا رؤوسها في الولايا ... سانحات السموم سفع الخدود
إن تفتني فلم أطب عنك نفساً ... غير إني أمنى بدهر كنود
كل عام كأنه طالب وت ... راً إلينا كالثائر المستقيد
هذا ما أمكنا أن نجمعه من شعر أبي زبيد. وله في المعاجم وكتب الأدب أبيات مفردة عديدة يستدل منها أنه كان غزير المادة ذا قريحة واسعة. ولعل بعض الرواة جمعوا شعره في ديوان ففقد بآفات الدهر والله أعلم.
وبأبي زبيد هذا نختم القسم الأول من كتابنا في شعراء النصرانية بعد الإسلام فننتقل من المخضرمين إلى الشعراء الذين برزوا في عهد الدولة الأموية قريباً إن شاء الله.(7/)
شعراء النصرانية
بعد الإسلام
القسم الثاني
شعراء الدولة الأموية
1- هدبة بن الخشرم
(أصل هدبة) قال أبو الفرج في كتاب الأغاني (264: 21) : (هو هدبة بن كرز ابن أبي حية بن الكاهن وهو سلمة أسحم بن عامر بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان) ثم أوصل نسبه على قضاعة من أكبر قبائل العرب. وفي تاج العروس (513: 1) دعا جده (كريزاً) وقال ابن قتيبة في الشعر والشعراء (ص 434) ومثله ابن دريد في الاشتقاق (ص 420) انه من بني عذرة إحدى قبائل قضاعة. وجعل ابن دريد أبا الحية كاهناً ليس ابن الكاهن كما ورد في الأغاني.
(اسمه وأسرته) قيل أنه دعي بهدبة وهو اسم طائر وقيل انه من هدبة الثوب أي خمله وطرته. وكان اسم أبيه خشرم والخشرم جماعة النحل وأميرها وكان من وجوه رهطه بني عامر. أما هدبة فكان معروفاً بالشجاعة والنجدة والجلادة والصبر والمروءة. وقال أبو الفرج: (وكان لهدبة ثلثة أخوة كلهم شاعر وهم حوط وسيحان والواسع. وأمهم حية بنت أبي بكر بن أبي حية من رهطهم الأدنين وكانت شاعرة أيضاً) وقد دعاها شارح الحماسة (ص 234) باسم ريحانة. وكان لهدبة كذلك أختان تدعى الواحدة سلمى وهي زوجة زيادة بن زيد الذبياني من بني رقاش الآتي ذكره والأخرى فاطمة التي تغزل فيها زيادة فكانت سبب الشر بين القبيلتين.
(دينه) كان هدبة نصرانياً كما يشهد عليه شارح الحماسة (ص 235) حيث يدعوه زيادة هو ورهطه بأمه المسيح. ولا غرو فانه كان من فضاعة التي أثبتنا نصرانيتها في كتابنا النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية (ص 29 و 137و 458) ونصرانية فروعها كسليح وجرم وبهراء وكلب. وكان هدبة من رهط بني عامر النصارى. ولعل اسم الكاهن بين أجداده يدل على كهنوت النصارى لا يراد به الساحر.
(أخباره) إن غاية ما أخبره القدماء عن هدبة ما جرى بينه وبين صهره زيادة ابن زيد من الخلاف والضغائن التي أفضت به إلى قتل زيادة وإلى ما لحقه هو من القصاص بسببه فأقيد به على موجب سنن البادية وهي بئس السنن.
أنا تفاصيل هذه الرواية المشؤومة فقد وردت في عدة تآليف كالأغاني (264: 21- 270) وشرح الحماسة (232-236) وكامل المبرد (765-768) وغيرهم نختصرها عنهم. روى أبو الفرج (ص 265) عن عيسى بن إسماعيل: كان أول ما هاج الحرب بين بني عامر بن عبد الله بن ذبيان وهم رهط هدبة وبين بني رقاش وهم بنو(8/96)
قرة بن خنبس بن عبد الله بن ذبيان وهم رهط زيادة بن زيد أن حوطاً بن خشرم اخا هدبة راهن زيادة بن زيد على جملين من إبلهما وكان مطلقهما من الغاية على يوم وليلة وذلك في القيظ فتزودوا الماء في الروايا والقرب. وكانت أخت حوط سلمى بنت خشرم تحت زيادة بن زيد فمالت مع أخيها على زوجها فوهنت أوعية زيادة ففني ماؤه قبل ماء صاحبه ففي ذلك يقول زيادة:
قد جعلت نفسي في أديم ... محرم الدباغ ذي هزوم
ثم رمت في عرض الديموم ... في بارح من وهج السموم
عند اطلاع وهجة النجوم
وقال زيادة أيضاً:
قد علمت سلمة بالعميس ... ليلة مرمار ومرمريس
أن أبا المسور ذو شريس ... يشفي صداع الأبلج الدلعيس
(قال) فكان ذلك أول ما أثبت الضغائن بينهما.
ثم أن هدبة وزيادة اصطحبا وهما مقبلان من الشام في ركب من قومهما. فكانا يتعاقبان السوق بالإبل وكانت مع هدبة أخته فاطمة فنزل زيادة وقال رجزاً أوله: (عوجي علينا واربعي يا فاطما) فغضب هدبة حين سمع زيادة يرتجز بأخته فنزل وارتجز بأخت زيادة وكان اسمها أم الخازم وقيل أم القاسم. فشتمه زيادة وسبه هدبة فصاح بهما القوم ووعظوها حتى أمسك كل واحد منهما على ما في نفسه وهدبة أشدهما حنقاً لأنه رأى أن زيادة رجز بأخته وهي تسمع وأخت زيادة غائبة لم تسمع رجزه فمضيا ولم يتحاورا بكلمة حتى رجعا إلى عشائرهما.
ثم زاد حنق رهط هدبة إذ سمعوا أدرع أخا زيادة يرجز بزفر عم هدبة فلم يزالوا يترصدونه حتى خلوا وضربوه الحد ضرباً مبرحاً فراح بنو رقاش وقد اضمروا الحرب.(8/97)
أما زيادة وهدبة فجعلا يتهاديان الأشعار ويتفاخران ويطلب كل واحد منهما العلو على صاحبه في شعره. فما قاله زيادة قصيدة أولها:
أراك خليلاً قد عزمت التجنبا ... وقطعت حاجات الفؤاد فأصبحا
وفيها يقول متفاخراً:
أنا ابن رقاش وابن ثعلبة الذي ... بنى هادياً يعلو الهوادي أغلبا
بنى العز بنياناً لقومي فما صعوا ... بأسيافهم عنه فأصبح مصعبا
فما إن ترى في الناس أماً كأمنا ... ولا كأبينا حين ننسبه أبا
أتم وأنمى بالسنين إلى العلى ... وأكرم منا في المناصب منصبا
ملكنا ولم نملك وقدنا ولم نقد ... كأن لنا حقاً عل الناس ترتبا
بآية أنا لا نرى متوجهاً ... من الناس يعلونا إذا ما تعصبا
ولا ملكاً إلا اتقانا بملكه ... ولا سوقةً إلا على الخرج أتعبا
ملكنا الملوك واستبحنا حماهم ... وكنا لهم في الجاهلية موكبا
ندامى وأردافاً فلم تر سوقةً ... توازننا فاسئل إياداً وتغلبا
ولما لج الشر بين رهط هدبة ورهط زيادة قال قوم لزيادة له: اهج هدبة وقومه. فقال: إني لم أبسط لساني على قوم قط إلا جهدوا على تبلي (ويروى: قتلي) من شدة هجائي ولكن انطلقوا لنضربه. فخرج زيادة في رهط قومه فيهم أخوه نفاع يطلبون هدبة فوجدوا الحي خلوفاً ووجدوا هدبة وأباه خشرماً فضربوهما بسيوفهم فأصاب خشرماً شجات في رأسه ووقع بذراع هدبة حز وضرب نفاع برجله ريحانة أم هدبة فقال قائلهم:
شججنا خشرماً في الرأس سبعاً ... وخدعنا هديبة إذ هجانا
كذاك العبد أن العبد يوماً ... إذا وقفته بالسيف لانا
فأجابه هدبة (من الوافر) :
وان الدهر مؤتنف طويل ... وشر الخيل اقصرها عنانا(8/98)
وليس اخو الحروب بمن إذا ما ... مرته الحرب بعد العصب لانا
ثم إن هدبة جمع رهطاً من قومه وأصحابه فقصدوا لزيادة وكانت ريحانة أم هدبة نهته عن الخروج فلم ينته وأتوهم ليلاً في واد يقال له خشوب وزيادة وأبياته على ماء يدعى سحنة فمضوا حتى بيتوا زيادة فلما غشوه جعل يرتحز ويقول وفي رجزه إشارة إلى دين هدبة وقومه:
من أين جاءت عامر القبوح ... لا مرحباً بأمه المسيح
لن تقبلوا العقل مع الفضوح ... ولن تبيحوا الحي في سريح
حتى تذوقوا خدب الصفيح
وجعل نفاع أخوه يرتجز ويقول:
إني إذا استخفى الجبان بالخدر ... وكان بالكف شهاب كالشرر
صدق القناة غير شعشاع العذر ... حمال ما حملت من خير وشر
وهي طويلة ثم التقى هدبة وزيادة فضرب هدبة زيادة فأطن داغضة رجله أي عضلتها فاعتمد على رمح وجعل يذبب بسيفه عن نفسه حتى غشيه هدبة فصرعه وزعموا أن زيادة جدع أنف هدبة في تذبيبه عن نفسه وضرب القوم زيادة حتى ظنوا أنهم قد أجهزوا عليه. ثم أتوا منزل أدرع أخي زيادة فصوتوا به فخرج عليهم فحاضرهم ونجا منهم فقال هدبة:
وكانت شفاء النفس مما أصابها ... غداتئد لو نلت بالسيف أدرعا
واقسم لو أدركته لكسوته ... حساماً إذا ما خالط العظم أمرعا
ثم رجع إلى زيادة فوجده صريعاً بين النساء فضرب عاتقه بالسيف حتى خرجت الرئة من بين كتفيه. فانصرف إلى أهله فأخبرهم وشبت الحرب بين الحيين ونأى كل واحد منهما عن صاحبه.(8/99)
ثم تنحى هدبة مخافة السلطان واستعدى أصحاب زيادة عليه والعامل على المدينة يومئذ سعيد بن العاص فأرسل إلى أبي نمير عم هدبة وأهله فحبسهم بالمدينة. فلما بلغ هدبة ذلك أقبل فأمكن من نفسه وتخلص عمه وأهله.
(هدبة في الحبس) أمر سعيد بن العاص بهدبة إلى الحبس فلما دخله قال (من الوافر) :
ألا نعق الغراب عليك ظهراً ... ألا من فيك من ذاك التراب
يخبرنا الغراب بان ستنأى ... حبائبنا فقدتك يا غراب
وقال أيضاً يذكر عرسه (من الطويل) :
ولما دخلت السجن يا أم مالك ... ذكرتك والأطراف في حلق سمر
وعند سعيد غير أن لم أبح به ... ذكرتك أن الأمر يذكر بالأمر
وقال أيضاً يعلل نفسه بالخلاص (وافر) :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان ... ويأتي أهله النائي الغريب
وبقي هدبة في حسبه وسعيد بن العاص يكره الحكم بين الحيين فرفع أمرهما إلى معاوية ويعث معهم بهدبة فوفد إلى معاوية وفد بني رقاش وفيهم عبد الرحمان بن زيد أخو القتيل. ووفد بني عامر وفيهم أبو جبر عم هدبة. فلما صاروا بين يدي معاوية قال له عبد الرحمان أخو زيادة: يا أمير المؤمنين أشكو إليك مظلمتي وقتل أخي وترويع نسوتي. وتكلم أبو جبر كأنه يرد عليه فقال معاوية لهدبة: أخبرني خبرك. فقال هدبة: إن شئت أن أقص عليك كلاماً أو شعراً فعلت. قال: أنشدني فعسى أن استغني عن قصصك بشعرك. فقال هدبة هذه القصيدة مرتجلاً بها(8/100)
ولمعبد غناء في بيتيها الأولين (من الطويل) :
ألا يا لقومي للنوائب والدهر ... وللمرء يردي نفسه وهو لا يدري
وللأرض كم من صالح قد تأكمت ... عليه فوارته بلماعة قفر
فلا تتقي ذا هيبة لجلاله ... ولا ذا ضياع هن يتركن للفقر
ومنها:
فلما رأيت أنها هي ضربة ... من السيف أو إغضاء عين على وتر
عمدت لأمر لا يغير والدي ... خزايته ولا يسد به قبري
وكم نكبة لو أن أدنى مرورها ... على الدهر ذلت عندها نوب الدهر
فإن تك في أموالنا لا نضق بها ... ذراعاً وإن تقسر أبينا على القسر
وإن يك قتل لا أبا لك نصطبر ... على القتل إنّا في الحروب أولو صبر
رمينا فرامينا فصادف رمينا ... منايا رجال في كتاب وفي قدر
وأنت أمير المؤمنين فما لنا ... وراءك من معدى ولا عنك من قصر
فقال له معاوية: أراك قد أقررت بقتل صاحبهم. قال: هو ذاك. فقال عبد الرحمان: أقدني. فكره ذلك معاوية وضن بهدبة عن القتل فقال معاوية لعبد الرحمان: هل لزيادة ولد؟ قال: نعم المسور وهو غلام صغير لم يبلغ وأنا عمه وولي دم أبيه. فقال: (انك لا تؤمن على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق أو ما عليك أن تشفي صدرك وتحرم غيرك والمسور أحق بدم أبيه إذا احتلم فإن شاء قتل وإن شاء أخذ العقل) .
ثم كتب إلى سعيد في المدينة أن يحبس هدبة إلى أن يبلغ ابن زيادة فضمنته السجن(8/101)
وتربض بلوغ المسور بن زيادة فمكث في السجن ثلاث سنين وقيل ستاً وقيل سبعاً.
وقال هدبة في السجن أشعارً كثيرة منها ما روي عنه ومنها ما ذهب. ولما شخص هدبة إلى المدينة فحبس بها قالت أمه:
أيا إخوتي أهل المدينة أكرموا ... أسيركم إن الأسير كريم
فرب كريم قد قراه وضافه ... ورب أمور كلهن عظيم
عصا جلها يوماً عليه فراضه ... من القوم عياف أشم حليم
قال أبو الفرج: فأرسل هدبة عشيرته إلى عبد الرحمان في أول سنة فكلموه في قبول الدية فامتنع قائلاً:
أبعد الذي بالتعفف نعف كويكب ... رهينة رمس في تراب وجندل
أذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي إني جاهد غير مؤتل
فرجعوا إلى هدبة بالأبيات فقال: لم يؤيسني بعد. فلما كانت السنة الثالثة بلغ المسور فأرسل هدبة إلى عبد الرحمان من كلمة فأنصت حتى فرغوا ثم قام مغضباً وانشأ يقول:
سأكذب أقواماً يقولون إنني ... سآخذ مالاً من دم أنا واتره
فأقسم لا أنسى زيادة مرةً ... من الدهر إلا ريثما أنا ذاكره
وكان ابن أني لم يعير بسوءة ... ولا دنس جربت فيما أعاشره
وقال أيضاً:
يعزي عن زيادة كل صاح ... خلي لا تأربه الهموم
وكيف تجلد الأدنين عنه ... ولم يقتل به الثار المنيم
فلو كنت القتيل وكان حياً ... تجرد لا ألف ولا سؤوم
ولا هيابة بالليل نكس ... ولا ورع إذا يلقى جشوم
غشوم حين يبصر مستقاداً ... وخير الطالبي الوتر الغشوم
ونهض فرجعوا إلى المدينة فأخبروه الخبر فقال: الآن يئست منه. وقيل أن سعيد(8/102)
ابن العاص وعده بمائة ناقة حمراء كدية هدبة فلم يقبل وقال: ولو ملأت لي قبتك هذه مالاً ما فديته لقوله (من البسيط) :
لنجدعن بأيدينا أنوفكم ... ويذهب القتل فيما بيننا هدرا
فسلمه إليه.
قال شارح الحماسة (ص 235) والمبرد في الكامل (ص 765) : فمكث هدبة في السجن ما شاء الله أن يمكث حتى أدرك المسور بن زيادة. وجعل عمه عبد الرحمان بن زياد يقدم المدينة فيكلمه القرشيون وغيرهم وكان أهل المدينة رقوا لهدبة لوفائه وشعره وأنه أول مصبور رأوه في المدينة بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأضعفوا له (وقيل للمسور) الدية حتى بلغت عشر ديات. وكان ممن عرض عليه الديات الحسين بن علي ابن أبي طالب وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر بن الخطاب وسعيد بن العاص وعمرو ابن عثمان بن عفان ومروان بن الحكم وسائر القوم من قريش فأبى إلا القود.
وروى في الأغاني (280: 21) أن جميل بن معمر العذري دخل على هدبة السجن وهو محبوس بدم زيادة بن زيد وأهدى له بردين من ثياب كساه إياهما سعيد بن العاص وجاءه بنفقة. فلما دخل إليه عرض ذلك عليه وسأله أن يقبله منه وكان جميل هجا قومه بني عامر فرد هديته قائلاً: خذ برديك ونفقتك فإليك عني. فخرج جميل فلما صار في باب السجن خارجاً قال: اللهم أغن عني أجدع بني عامر. (قال) وكانت بنو عامر قد قلت فحالفت لإياد.
(موت هدبة بن الخشرم) قال أبو رياش في الحماسة (ص 236) : فمات عبد الرحمان في تلك السنين قبل احتلام مسور بن زيادة. فلما احتلم خرج به في تلك الليلة إلى المدينة. وفي الأغاني (271: 21) أن عبد الرحمان لم يمت بعد قال: (وذهب عبد الرحمان بالمسور وقد بلغ إلى والي المدينة سعيد بن العاص وقيل مروان بن الحكم فأخرج هدبة) . وفي الحماسة (أن إخوان هدبة من قريش أرسلوا إليه كفناً وحنوطاً فأخرج في سلطان الوليد بن عتبة بن أبي سفيان فقال هدبة (من الطويل) :
ألا عللاني قبل نوح النوائح ... وقبل اطلاع النفس بين الجوانح(8/103)
وقبل غد يا ويل نفسي على غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
إذا راح أصحابي تفيض عيونهم ... وغودرت في لحد علي صفائحي
يقولون هل أصلحتم لأخيكم ... وما القبر في الأرض الفضاء بصالح
وقال لما خرج إلى القوم وفي قوله ما يدل على الورع والتقى المسيحي (من الطويل) :
أذا العرش إني لائذٌ بك عائذ ... من النار ذو بث غليك فقير
بغيض غلي الظلم ما لم أصب به ... من الظلم مشعوف الفؤاد نفير
وإني وإن قالوا أمير مسلط ... وحجاب أبواب لهن صرير
لأعلم إن الأمر أمرك إن تدن ... فرب وإن تغفر فأنت غفور
وقال الرواة: فلما كان في الليلة التي قتل في صباحها أرسل إلى امرأته يستقدمها ليودعها وكان يحبها وله منها ولدان. فلما أتته حادثها وبكى وبكت ولما قبلها سمعت قعقعة الحديد فاضطربت فتنحى عنها قائلا (من الطويل) :
لقد زعمت أم الصبيين إنني ... أفز جناني وازدهتني المخاوف
وأدنيتني حتى إذا ما جعلتني ... لدى القلب إذ ذاك استقلك راجف
فان شئت والله انتهيت وإنني=لأن لا تريني آخر الدهر خائف
رأت ساعدي غول وتحت ثيابه ... جآجىء يدمى حدها والحراقف
وقيل إن هدبة بعث إلى عائشة يقول لها: استغفر لي. فقالت: إن قتلت استغفرت لك. قال المبرد: ولما خرج به ليقاد بالحرة جعل ينشد الأشعار فقالت له حبى المدنية: ما رأيت قلباُ أقسى منك أتنشد الأشعار وأنت يمضي بك لتقتل وهذه خلفك كأنها(8/104)
ظبي عطشان تولول (تعني امرأته) . فوقف ووقف الناس معه فأقبل على حبي فقال (طويل) :
وجدت بها ما لم تجد أم واحد ... ولا وجد حبي بابن أم كلاب
واني طويل الساعدين شمردل ... على ما اشتهت من قوة وشباب
فانقمعت حبي داخلةً إلى بيتها فأغلقت الباب في وجهه. وقال في الأغاني: لما مر بهدبة على حبي قالت له: في سبيل الله شبابك وجلدك وشعرك وكرمك فقال (من الطويل) :
تعجب حبى من أسير مقيد ... صليب العصا باق على الرسفان
فلا تعجبي مني حليلة مالك ... كذلك يأتي الدهر بالحدثان
وأخبروا أنه لما خرج به صاحب الشرطة ليقتل جعل الناس يتعرضون له ويخبرون صبره ويستنشدونه. فلقيه عبد الرحمان بن حسان بن ثابت الأنصاري فقال له: أنشدني يا هدبة. فقال: أعلى هذه الخال؟ قال: نعم فأنشده (من الطويل) :
وما أتصدى للخليل وما أرى ... مريداً غنى ذي الثروة المتقطب
وما أتبع الألوى المدلي بوده ... علي وما أنأى من المتقرب
ولا أتمنىالشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
وما يعرف الأقوام للدهر حقه ... وما الدهر مما يكرهون بمعتب(8/105)
وللدهر في أهل الفتى وتلاده ... نصيب كحز الجازر المتشعب
وحربني مولاي حتى غشيته ... متى ما يحر بك ابن عمك تحرب
ولما قدم نظر إلى امرأته وكانت من أجمل الناس فدخلته غيرة وقد كان جدع في حربهم فقال (من الطويل) :
أقلي علي اللوم يا أم بوزعا ... ولا تعجبي مما أصاب فأوجعا
فإن يك أنفي بان منه جماله ... فما حسبي في الصالحين بأجدعا
وما حسنت نفسي لي العجز مذ بدت ... نواجذها يمججن سماً مسلعا
فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغمم القفا والوجه ليس بأنزعا
كليلاً سوى ما كان من حد ضرسه ... لدى الزاد مبطان العشيات اروعا
ضروباً بلحييه على عظم زوره ... إذا الناس هشوا للفعال تقنعا
أصيهب لا يرضيك في الحي قاعداً ... إذا ما مشى أو قال قولاً تبلتعا
وحلي بذي أكرومة وحمية ... وصبر إذا ما الدهر عض فافجعا
وكوني حبيباً أو لأروع ماجد ... إذا ضن أعشاش الرجال تبرعا
وليس أخو الحرب الشديدة بالذي ... إذا زبنته جاء للسلم أخضعا
ولكن أخو الحرب الحديد سلاحه ... إذا حملته فوق حال تشجعا
أخو الحرب لا ينآد للحرب متنه ... ولا يظهر الشكوى إذا كان موجعا(8/106)
ركوب على أثباجها متخوف ... لعوراتها حتى إذا الثقل أضلعا
وختمها بقوله:
فإن التقى خير المتاع وإنما ... نصيب الفتى من ماله ما تمتعا
فأدركه عبد الرحمان بن حسان فقال له: يا هدبة تأمرني أن أتزوج هذه بعدك (يعني زوجته وهي تمشي خلفه) قال: نعم إن كنت من شرطها. قال: وما شرطها.
فكرر عليه الأبيات: فمالت زوجته إلى جزار فأخذت شفرته فجدعت بها أنفها وجاءته تدمى مدعة. فقالت: أتخاف أن يكون بعد هذا نكاح؟ (قال) فرسف في قيوده وقال: الآن طاب الموت. وقيل أنها فعلت ذلك بحضرة مروان وقالت له: عن لهدبة عندي وديعةً فأمهله حتى آتيه بها. فقال: أسرعي فإن الناس قد كثروا. وكان جلس لهم بإزاء داره فمضت إلى السوق وانتهت إلى قصاب وقالت: أعطني شفرتك وخذ هذين الدرهمين وأنا أردها عليك. ففعل فقربت من حائط وأرسلت ملحفتها على وجهها ثم جدعت أنفها من أصله وقطعت شفتيها ثم ردت الشفرة وأقبلت حتى دخلت بين الناس وقالت: يا هدبة أتراني متزوجة بعد ما ترى؟ قال: لا. الآن طاب الموت.
ثم خرج يرسف في قيوده فإذا هو بأبويه يتوقعان الثكل وهما بسوء حال فاقبل عليهما وقال معرباً عن رجائه بالآخرة (من الخفيف) :
أبلياني اليوم صبراً منكما ... عن حزناً إن بدا بادئ شر
لا أراني اليوم إلا ميتاً ... إن بعد الموت دار المستقر
إصبرا اليوم فاني صابر ... كل حي لقضاء وقدر
قال في الأغاني: فدفع هدبة إلى عبد الرحمان أخي زيادة ليقتله فاستأذن في أن(8/107)
يصلي ركعتين فأذن له فصلاهما وخفف ثم التفت إلى من حضر فقال: لولا أن يظن بي الجزع لأطلتهما فقد كنت محتاجاً إلى إطالتهما. ثم قال لأهله أنه بلغني أن القتيل يعقل ساعةً بعد سقوط رأسه فإن عقلت فإني قابض رجلي وباسطهما ثلاثاً. ففعل ذلك حين قتل. وقال قبل أن يقتل (من الطويل) :
إن تقتلوني في الحديد فإنني ... قتلت أخاكم مطلقاً لم يقيد
فقال عبد الرحمان أخو زيادة: والله لا قتلته إلا مطلقاً من وثاقه فأطلق فقام إليه وهز السيف ثم قال:
لقد علمت نفسي وأنت نعلمه ... لأقتلن اليوم من لا أرحمه
ثم قتله. هذه رواية من لم يقل بموت عبد الرحمان. أما حماد الرواية فقال أن الذي تولى قتله المسور دفع إليه عمه السيف وقال له: قم فاقتل قاتل أبيك. وفي كامل المبرد (ص 767) إن هدبة قال لابن زيادة: أثبت قدميك وأجد الضربة فإني أيتمتك صغيراً وراملت أمك شابةً.. ما أجزع من الموت. وفي شرح الحماسة (ص 236) : إنه لما برك للقتل قامت امرأة زيادة أم المسور فسلت السيف ثم قالت لابنها: اضرب بابي أنت وأمي. فضربة ضربةً أبانت رأسه. وفي الأغاني: فضربه ضربتين فقتله بهما. ووثب رهط هدبة فنحوه عنه حتى دفن. فقال واسع أخوه برثيه (من البسيط) :
يا هدب يا خير فتيان العشيرة من ... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا
الله يعلم أني لو خشيتهم ... أو أوجس القلب من خوف لهم فزعا
لم يقتلوه ولم أسلم أخي لهم ... حتى نعيش جميعاً أو نموت معا
(رتبته بين الشعراء) قال أبو الفرج في الأغاني (264: 21) (هدبة شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز وكان شاعراً روايةً كان يروي للحطيئة ... وكان حميل(8/108)
(ابن معمر) رواية هدبة) . وقد افادنا ابن النديم في الفهرست (ص 78 و 159) عن السكري (عمل أشعار جماعة من الفحول) ذكر من جملتهم (هدبة بن الخشرم) وصهره (زيادة بن زيد) ولا بد أن يكون ديوانهما مفقوداً ومما روي عن مروان بن أبي حفصة وعن حماد الرواية قولهما (الأغاني 275) (كان هدبة أشعر الناس منذ دخل السجن إلى أن أقيد) وفي قوله هذا شاهد على ما قيل بأن أشعر الشعر ما أنشده صاحبه متجرداً عن الغايات مندفعاً إليه بعواطف غريزته. وحدث مصعب الزبيري قال: (كنا بالمدينة أهل البيوتات إذا لم يكن عند أحدنا خبر هدبة وزيادة وأشعارهما ازدريناه وكنا نرفع من قدر أخبارهما وأشعارهما ونعجب بها) . وقد أمكن القراء أن يستدلوا على شعره المطبوع في ما مر من أخباره وها نحن نضيف إليه ما وجدناه متفرقاً في كتب الأدباء لئلا تأخذه يد الضياع. فمن ذلك ما رواه أبو تمام في حماسته (من الوافر) :
إني من قضاعة من يكدها ... أكده وهي مني في أمان
ولست بشاعر السفساف فيهم ... ولكن مدره الحرب العوان
سأهجو من هجاهم من سواهم ... وأعرض منهم عمن هجاني
ومن جيد شعره قصيدته البائية التي قالها في الحبس جمعناها من كتب مختلفة كأمالي القالي (72: 1) والحماسة البصرية (ص 37) وخزانة الأدب (82: 4-83) (من الوافر) :
طربت وأنت أحياناً طروب ... وكيف وقد تعلاك المشيب
يجد النأي ذكرك في فؤادي ... إذا ذهلت على النأي القلوب
يؤرقني اكتئاب أبي نمير ... فقلبي من كآبته كئيب(8/109)
فقلت له هداك الله مهلاً ... وخير القول ذو اللب اللبيب
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان ... ويأتي أهله الرجل الغريب
ألا ليت الرياح مسخرات ... بحاجتنا تباكر أو تؤوب
فتخبرنا الشمال إذا أتتنا ... وتخبر أهلها عنا الجنوب
بأنا قد حللنا دار بلوى ... فتخطئنا المنايا أو تصيب
وقد علمت سليمى أن عودي ... على الحدثان ذو أيد صليب
وأن خليقتي كرم وأني ... إذا أبدت نواجذها الحروب
أعين على مكارمها وأغشى ... مكارهها إذا كع الهيوب
وقد أبقى الحوادث منك ركناً ... صليباً ما تؤيسه الخطوب
وإني في العظائم ذو غناء ... وأدعى للفعال فأستجيب
وأني لا يخاف الغدر جاري ... ولا يخشى غوائلي القريب
وكم من صاحب قد بان عني ... رميت بفقده وهو الحبيب
فلم أبد الذي تحنو ضلوعي ... عليه وإنني لأنا الكئيب
مخافة أن يراني مستكيناً ... عدو أو يساء به قريب
ويشمت كاشح ويظن أني ... جزوع عند نائبة تنوب(8/110)
فبعدك سدت الأعداء طرقاً ... إلي ورابني دهر يريب
وأنكرت الزمان وكل أهلي=وهرتني لغيبتك الكليب
وكنت تقطع الأبصار دوني ... وأن وغرت من الغيظ القلوب
على أن المنية قد توافى ... لوقت والنوائب قد تنوب
فإن يك صدر هذا اليوم ولى ... فان غداً لناظره قريب
ومما رواه لهدبة في الحماسة البحترية (ع24) قوله (من الطويل) :
مشيت البراح للرجال شبيبتي ... إلى أن علتني كبرة بمشيب
فلا تفغروا أفواهكم إنني شجاً ... إلى الحلق والأضراس غير حبيب
لعمري ما شتمي لكم أن شتمتكم ... بسر ولا مشي لكم بدبيب
ولا ودكم عندي بعلق مضنة ... ولا شركم عندي بجد مهيب
فملآن عاجلتم رياضة مصعب ... مدل عسير الصلب غير ركوب
وقاسيتم غرباً يمد عنانه ... كغرب الفرات جاش يوم جنوب
ومن روايته فيها (ع 881 و 1388) (من الطويل) :
وبعض رجاء المرء ما ليس نائلاً ... غناءً وبعض الناس أعفى وأروح
وآخر ما شيء يغولك والذي ... تقادم تنساه وإن كان يفدح
وقد روى أيضاً (ع 104) وكذلك في إصلاح المنطق (ص 162) (من الطويل) :
وكذب قول العائبين سماحتي ... وصبري إذ ما الأمر عصر فأضجرا(8/111)
وإني إذا ما الموت لم يك دونه ... مدى الشبر أحمي الأنف أن أتأخرا
وفيها يقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... إذا اختير قالوا لم يقل من تخيرا
من الرافعين الهم للذكر والعيل ... إذا لم يبؤ إلا الكريم ليذكرا
رزينا فلم نعثر لوقعته بنا ... ولو كان في حي سوانا لأعثرا
وما دهرنا إلا يكون أصابنا ... بنفل ولكنا رزينا لنصبرا
وروى له أيضاً (ع 1367) في ذم المزح قوله (من الطويل) :
ورب كلام قد جرى من ممازح ... فساق إليه سهم حتف فعجلا
فدع عنك قرب المزح لا تقربنه ... كفى بامرئ وعظاً إذا ما تكهلا
ومن روايته أيضاُ (ع 173) في استطابة الموت قوله (من الطويل) :
مضى قدماً يدعو الحياة عناه ... ويدعو الوفاة الخلد ثبت مواقف
ومن البحر والقافية ما جاء في أحد مخطوطات مكتبتنا الشرقية يصف عفافه (ص 26) :
وإني لأخلي للفتاة فراشها ... وأكثر هجر البيت والقلب آلف
حذارى الردى أو خشيةً أن يجرني ... إلى موقف أرمى به أو أقاذف
ومما رواه له أيضاً (ع 537) (من الطويل) :
صبور على مكروه ما يجشم الفتى ... ومر إذا تبغى المرارة ممقر(8/112)
وجاء له في مبادئ اللغة للاسكافي قاله وهو سائر إلى الموت (من الوافر) (ص 51) :
أشد قبال نعلي لا يراني ... عدوي للحوادث مستكيناً
وفي كتاب مجموع اللفيف لهدبة يصف ديكاً صاح في غير وقت الصبح فلما رأى الليل كف عن الصياح (من الطويل) :
ومستجذل يدعو الصباح وقد رأى ... عرانين مشهور من الصبح أبلقا
إلى غير هيجاء ضحت غير أنه ... دجا فوقه ليل التمام فأطرقا
ومما رواه أبو علي القالي في أماليه (206: 2-207) في وصية عبد الله بن شداد لابنه محمد قوله: (أي بني: إذا أحببت فلا تفرط وإذا أبغضت فلا تشطط ... وكن كما قال هدبة بن الخشرم العذري (من الطويل) :
وكن معقلاً للحلم وأصفح عن الخنا ... فإنك راء ما حييت وسامع
وأحبب إذا أحببت حباً مقارباً ... فانك لا تدري مني أنت نازع
وأبغض إذا أبغضت بغضاً مقارباً ... فإنك لا تدري متى أنت راجع
فترى من هذه الأمثلة ما طبع عليه هدبة من البلاغة وجودة القريحة والتفنن في المعاني. وعسى أن يعثر أحد الأدباء على نسخة من ديوانه فيغني بنشرها آثار لغتنا القديمة.
2- موسى بن جابر
(أصله ونسبه) وهو موسى بن جابر أحد شعراء بني حنيفة أهل اليمامة. روى صاحب الأغاني (113: 10) أن مسمع بن مالك قسم سائر بطون بكر بن وائل على جذمين جذم يقال له الذهلان وجذم يقال له اللهازم فالذهلان بنو شيبان بن ثعلبة بن يشكر بن وائل وبنو ضيبعة بن ربيعة. واللهازم قيس بن ثعلبة وتيم بن(8/113)
اللات بن ثعلبة بن عجل بن لجيم وعنترة بن أسد بن ربيعة. (قال) وقد دخل بنو قيس ابن عكابة مع أخوتهم بني قيس بن ثعلبة. وأما حنيفة فلم تدخل في شيء من هذا لانقطاعهم عن قومهم باليمامة في وسط دار مضر. وكانوا لا ينصرون بكراً ولا يستنصرونهم. فلما جاء الإسلام ونزل الناس مع بني حنيفة ومع بني عجل بن لجيم فتلهزموا ودخل معهم حلفاؤهم بنو مازن بن جدي بن مالك بن مصعب بن علي فصاروا جميعاً في اللهازم. وقال موسى بن جاير الحنفي السحيمي بعد ذلك في الإسلام (من الطويل) :
وجدنا أبانا كان حل ببلدة ... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
برأيته أما العدو فحولنا ... مطيف بنا في مثل دائرة المهر
فلما نأت عنا العشيرة كلها ... أقمنا وحالفنا السيوف على الدهر
فما أسلمتنا بعد في يوم وقعة ... ولا نحن أغمدنا السيوف على وتر
(أهله وزمانه) لم يفدنا الكتبة شيئاً عن رهط موسى بن جابر. وقد نسبه في الأغاني إلى سحيم وسحيم بطن من حنيفة. ودعاه ياقوت في معجم البلدان (955: 4) بالعبيدي ولعل في قوله إشارة إلي بني عبيدة عشيرته. وقال صاحب خزانة الأدب (146: 1) : (ويقال له ابن الفريعة وهي أمه. وجاء له في شعره ذكر ابن عم يدعى زيداً وقيل أخوه) . وقد ذكر التبريزي في حماسة أبي تمام خالية مرداساً وعامراً(8/114)
ابني شماس بن لأي من بني أنف الناقة وأمهما من بني العنبر فقال موسى يمدحهما (من الطويل) :
إذا ذكر ابنا العنبرية لم تضق ... ذراعي وألقى باسته من أفاخر
هلالان حمالان في كل شتوة ... من الثقل ما لا تستطيع الأباعر
أما زمانه الذي عاش فيه موسى بن جابر ففي عهد أواخر الخلفاء الراشدين وأوائل الدولة الأموية كما يستدل على ذلك من بعض أقواله.
(دينه) كانت النصرانية شائعة ف بني حنيفة كما أثبتنا ذلك بشواهد عديدة في كتاب النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية (ص 72 و 129 و 139 إلخ) وبقيت على دين النصرانية زمناً بعد الإسلام (ص 456) فلا عجب إذ وافق موسى قومه في دينهم.
وصرح صاحب خزانة الأدب بنصرانيته حيث قال (146: 1) : (ويقال كان نصرانياً) .
(شعره) ذكر في الخزانة إنه كان (أحد شعراء بني حنيفة المكثرين) إلا أن ما يعرف من شعره لا يتجاوز بضع قطع متفرقة في كتب الأدباء الأقدمين وفي المعاجم ما يدل على على أنهم كانوا يعولون عليه في فصاحة اللغة. وهانحن نروي ما عثرنا عليه من أبياته. فمن ذلك ماورد في حماسة أبي تمام (157: 1-158) يصف ترفع نفسه (من الكامل) :
لا أشتهي يا قوم إلا كارهاً ... باب الأمير ولا دفاع الحاجب
ومن الرجال أسنة مذروبة ... ومزندون حضورهم كالغاب(8/115)
منهم ليوث لا ترام وبعضهم ... مما قمشت وضم حبل الحاطب
ومما ورد في أمالي القالي (72: 3-73) ما حرفه قال: (كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان أمر قطري بن الفجاءة المازني (2) فكتب إليه عبد الملك: أوصيك بما أوصى به البكري أخاه زيداً. فله عشرة آلاف درهم. فقام أعرابي قد طالت إقامته وقال: أنا أعرفها. فأدخله على الحجاج فقال: ما قاله البكري لزيد؟ قال: هو موسى بن جابر الحنفي قال لابن عمه زيد هذه الأبيات (من الطويل) :
أقول لزيد لا تترتر فإنهم ... يرون المنايا دون قتلك أو قتلي
فان وضعوا حرباً فضعها وإن أبوا=فشب وقود الحرب بالحطب الحزل فان عضت الحرب الضروس بنابها=فعرضة نار الحرب مثلك أو مثلي فقال الحجاج: وأبيك إنها لهي وقد صدق أمير المؤمنين (عرضة نار الحرب مثلي أو مثله) ثم قضى حاجته. ومما روي لموسى أيضاً في الحماسة قوله (من الطويل) :(8/116)
ألم تريا أني حميت حقيقتي ... وباشرت حد الموت والموت دونها
وجدت بنفس لا يحاد بمثلها ... وقلت اطمئني حين ساءت ظنونها
وما خير مال لا يفي الذم ربه ... بنفس امرئ في حقها لا يهينها
وروى أيضاً صاحب الحماسة لموسى (ص 181-182) قوله يلوم قومه على قعودهم عن نصرته واعتلالهم بالمعاذير الكاذبة (من الطويل) :
ذهبتم ولذتم بالأمير وقلتم ... تركنا أحاديثاً ولحماً موضعا
فما ذادني إلا سناءً ورفعةً ... وما زادكم في الناس إلا تخضعا
فما نفرت جني ولا فل مبردي ... ولا أصبحت طيري من الخوف وقعا
وقال يهجو قومه لما خذلوه (من الكامل) :
كانت حنيفة لا أبا لك مرةً ... عند اللقاء أسنةً لا تنكل
فرأت حنيفة ما رأت أشياعها ... والريح أحياناً كذاك تحول(8/117)
وروى ياقوت لموسى بن جابر (955: 4) (من المتقارب) :
فلا يغرنك فيما مضى ... مخيف قريش وإكثارها
غداة علا عرضنا خالد ... وسالت أباض وهدارها
يريد محاربة خالد لمسيلمة الكذاب في قرية الهدار وبها كان مولده ونشأته فقتله خالد ودخل أهلي قرى اليمامة في صلح الهدار. وأباض واد في اليمامة.
وروى له صاحب مجوعة المعاني في باب النجدة والبأس (ص 38) قوله (من الطويل) :
وإنا لوقّافون بالموقف الذي ... يخاف رداه والنفوس تطلع
وإنا لنعطي المشرفية حقها ... فنقطع في أيماننا وتقطع
وفي حماسة البحتري (ص 71) روى قول موسى في ترك قطع الأخ القديم للمستطرف (من مجزوء الكامل) :
لا كل مطرف هواي ولا ... من طول صحبة صاحب أقلي
فهذا كل ما صبر على الدهر من شعر ذاك (الشاعر المكثر) والله أعلم.
وروى الجاحظ لابن جابر في كتاب الحيوان (93: 4) قوله (من الرمل) :
طرد الأروى فما تقربه ... ونفى الحيات عن بيض الحجل
3- شمعلة التغلبي
(اسمه ونسبه) هو شمعلة ويقال شمعل وقد فسروه بالخفيف النشيط. والناقة الشمعلة النشييطة السريعة. والأصح على ما نرجح أن هذا الاسم أعجمي كإسماعيل وبه عرف شاعر آخر يدعى شمعلة بن الأخضر الضبي. وأما نسبه فالشائع أنه ابن فائد بن أبي حجوة بن خيبري من بني حدس بطن من بني لخم النصارى (اطلب الاشتقاق لابن دريد ص 227) واختلف بعضهم في هذا النسب. قال ابن حبيب (الأغاني 99: 10) أنه شمعلة بن عامر بن عمرو بن بكر أخو بني فائد وهم رهط الفرس. وسماه في مجموعة المعاني: شمعل بن الحصين التغلبي.
(زمانه) كان في أواسط عهد بني أمية أعني في أواخر القرن السابع وأوائل القرن(8/118)
الثامن في أيام عبد الملك بن مروان وابنيه الوليد بن عبد الملك وهشام كما سيتضح من أخباره.
(مقامه ودينه) كان شمعلة رئيساً لبني تغلب ذا قدر عظيم وفضل عميم وهيئة وجمال وبلاغة في المقال وشاعراً ظريفاً وكان نصرانياً عريقاً في دينه كقومه التغلبيين الذين ثبتوا بعد الإسلام على دينهم وكانوا يسكنون الجزيرة وعلى حدود الشام. وكان شمعلة بصفة رئاسته على بني تغلب يتردد على عاصمة الشام ويدخل على الخلفاء.
(استشهاده في سبيل دينه) قال شهاب الدين أحمد بن يحيى المعروف بابن فضل الله الكاتب الدمشقي (المتوفى سنة 748 هـ 1348 م) في كتابه مسالك الأبصار في ممالك الأنصار (من مخطوطات لندن) : (شمعلة بن فائد ذو نخوة دينية، وحمية جاهلية، وأنفة أساء فيها النية، كان نصرانياً له أبهة بادية، وقدر عظيم في البادية، يشار إليه ويسار، ويغار له من رآه من عاقبة البوار، والمصير إلى النار، فطالبه هشام بن عبد الملك بالإسلام لما رأى من فضله وجماله، وما أعجبه من هيئته وإضاءة حاله، وأحب له الدخول في الدين، وأن يكون من المهتدين، فامتنع وأبى، واتبع هواه ليكون لجنهم حطبا، قال الله تعالى (سورة القصص ع 56) : انك لا تهدي من أحببت لكن الله يهدي من يشاء. فقال له هشام: إن لم تفعل لأطعمنك لحمك فقال شمعلة: (ولو قطعتني لما أسلمت على هذا الوجه. فلما خلى عنه قال أعداؤه: أطعمه هشام لحمه. فقال شمعلة (من الطويل) :
أمن حزة في الفخذ مني تباشرت ... عداي ولا نقص علي ولا وتر
وان أمير المؤمنين وفعله ... لكالدر لا عار بما صنع الدر
وقد روى المبرد في الكامل هذا الخبر ونسبه إلى عبد الملك بن مروان قال (ص 524) : (كلم شمعل التغلبي عبد الملك كلاماً لم يرضه فرماه عبد الملك بالجزر فخدش وهشم (ويروى: هتم) فقال شمعل (ثم روى البيتين هكذا) :
أمن جذبة بالرجل مني تباشرت ... عداتي فلا عيب علي ولا سخر(8/119)
فإن أمير المؤمنين وسيفه ... لكالدهر لا عار بما فعل الدهر
ويروى: أمن خدشة ورواه في مجموعة المعاني (ص 104) : أمن ضربة بالرجل. وفي كتاب الآداب لسنا الملك بن جعفر شمس الخلافة المتوفى سنة 608 هـ (1211 م) في نسخة لندن (ص 22) ذكر الخبر كما ورد في كامل المبرد وروى هناك: (أمن جذبة بالرجل حين تبصرت ... وأن أمير المؤمنين وفعله ... ) أما في كتاب الأغاني (99: 10) فروى الخبر في مطاوي أخبار أعشى بني تغلب ونسب إليه البيتين على هذه الصورة قال: (قال ابن حبيب كان شمعلة بن عامر بن عمرو بن بكر أخو بني فائد وهم رهط الفرس نصرانياً وكان ظريفاً. فدخل على بعض خلفاء بني أمية فقال: أسلم يا شمعلة. قال: (لا والله لا أسلم كارهاً أبداً ولا أسلم إلا طائعاً إذا شئت) فغضب وأمر به فقطعت بضعة من فخذه وشويت بالنار وأطعمها. فقال أعشى بني تغلب في ذلك:
أمن جذوة بالفخذ منك تباشرت ... عداك فلا عار عليك ولا وزر
وإن أمير المؤمنين وجرحه ... لكالدهر لا عار بما فعل الدهر
هذا ما رواه العرب. وقد ورد ذكر شمعلة في تاريخ ميخائيل الكبير البطريرك اليعقوبي من كتبة القرن الثاني عشر قال بعد ذكره لاستشهاد رئيس آخر للتغلبيين يدعى معاذاً قتل لعدم جحوده دينه وهذا نصه بالسريانية (451: 2-452) وهو ينسب محنة شمعلة إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك ولعله هو الصواب:(8/120)
وهذا تعريبه: (قال الوليد للطوبوي شمعل أحد التغلبيين: إنك من حيث كونك رئيساً على العرب فانك توليهم جميعاً خزياً إذ تعبد الصليب فاخضع لمشيئتي وأسلم. وما يزيدني حرصاً على ديني إنني رئيس على تغلب كما قلت فإن جحدت ديني أخاف من أن أكون على لهلاك كثيرين) .
فلما سمع الوليد كلامه أم بأن يسحبوه على وجهه ويخرجوه وأقسم بأنه سيطعمه لحمه. إلا أن ذلك البطل لم يفشل لدى سماعه هذا الوعيد فأمر الملك الظالم بأن تنزع من فخذه قطعة ثم شووها بالنار ودحروها في فمه. وقد عاش بعد ذلك الشهيد البار وعلى جسمه أثر جرحه) .
وقد روى أيضاًُ ابن العبري هذا الخبر في تاريخه الدنيوي الذي كتبه بالسريانية ونشره المرحوم الأب بيجان اللعازري بالحرف الكلداني في ليبسيك سنة 1890 (ص 115) ودونك تعريبه: (كان شمعل رئيساً على بني تغلب العرب النصارى فقال له الوليد: (بما إنك رئيس على العرب فانك تشملهم بالعار إذا تسجد للصليب ومن ثم أفعل ما آمرك به وأسلم) فأجاب شمعل: (لا بل بما أني رئيس على كل بني تغلب فلذلك أخاف أن أكون سبباً لهلاكهم جميعاً إذا كفر أنا فيكفرون هم بالمسيح) فلما سمع الوليد كلامه أمر ب، يسحبوه على وجهه ويخرجوه وطرده مقسماً بأنه إن لم يسلم يطعمه لحماً. أما شمعل فلم يكترث لقوله فأمر الوليد بأن تجز من فخذه قطعة فشواها بالنار وأدخلها في فمه. وإذ ثبت على هذا أيضاً طرده فبقي حياً وكان أثر جرحه يره في جسمه) .
ومن ثم يترجح رأي هذين الكاتبين في نسبتهما إلى الوليد فعله مع شمعلة وهما أعلم بأمور النصارى من سواهما ولا سيما أن الوليد كان معروفاً بمعاداته للنصارى وقد قتل كثيراً منهم في الجزيرة كما روى المؤرخون من الروم والسريان. بل بقول عنه مؤرخو العرب أنه كان جباراً ظالماً.(8/121)
4- أعشى بني تغلب
(اسمه ونسبه) يطلق اسم الأعشى على نحو من عشرين شاعراُ كما ترى في المزهر للسيوطي (229: 2-230) وفي شرح شواهد المغني له (ص 86) وفي تاج العروس (243: 10- 244) . وقد كثر التخليط في تعريف أسمائهم وكناهم وقبائلهم.
وربما اكتفى الأدباء باسم الأعشى دون زيادة في التعريف. وإنما أشهرهم الأعشى المعروف بالأعشى الأكبر وهو أبو بصير الميمون بن قيس وهو جاهلي واسم الأعشى لقب يطلق على السيئ البصر من العشاء وهي ظلمة تعترض العين فلا تبصر ليلاً.
وأعشى بني تغلب قد اختلفوا في اسمه. جاء في الأغاني (98: 10) : (قال أبو عمرو الشيباني اسم ربيعة. وقال ابن حبيب: اسمه النعمان بن يحيى) وفي الحماسة البصرية (87: 1) (هو ربيعة بن جران) وفي محل آخر (هو نعمان بن نجوان التغلبي واسمه ربيعة) وفي المزهر للسيوطي (229: 2) : (الأعشى التغلبي اسمه نعمان بن نجران) وقال في التاج (344: 9) . (هو النعمان ويقال ابن جاوان وهو في الأراقم) .
أما نسبه فرفعه أبو الفرج في الأغاني إلى نزار فقال: (النعمان بن عمرو (بن غنم) بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن أبي ربيعة ابن نزار) وكثيراً ما أشاروا إليه باسم (التغلبي) بلا زيادة.
(زمانه وموطنه) قال في الأغاني: (هو من شعراء الدولة الأموية وساكني الشام إذا حضر وإذا بدا نزل في بلاد قومه بنواحي الموصل وديار بيعة) ومن المعلوم أن ديار تغلب كانت في بلاد ما بين النهرين في جوار ديار بكر في جنوبيها على ضفة الفرات الشمالية من الرقة والرصافة إلى جهات سنجار وأنحاء الموصل. عاش في أواخر القرن الأول ثم أوائل الثاني للهجرة وفي النصف الأول من القرن الثامن للمسيح في عهد الوليد بن عبد الملك وخلفه عمر بن عبد العزيز.
(دينه) صرح به أيضاً صاحب الأغاني بقوله (98: 10) : (وكان نصرانياً وعلى ذلك مات) . ومثله قال صاحب الحماسة البصرية (87: 1) : (وكان نصرانياً) .
(أخباره) لم نعرف من أخبار أعشى بني تغلب إلا النزر القليل. وإنما يستدل(8/122)
من هذا القليل على علو مرتبته. فمن ذلك أنه حظي عند خلفاء بني أمية وعند أعيان زمانه. وروى أبو الفرج عن ابن حبيب وأبي عمرو (99: 10) إن الوليد بن عبد الملك كان محسناً إلى أعشى بني تغلب. وقد مدح مسلمة بن عبد الملك أخا الوليد وصاحب الغزوات الكثيرة المتوفى سنة 123 هـ (742 م) . وكذلك مدح بعض وجوه زمانه كمدرك بن عبد الله الكناني.
(أخلاقه) كان أعشى التغلبي أبياً فظ الطباع ذا نخوة لا يرضى بالهوان فمن ذلك ما حدث به محمد بن حبيب عن أبي عمرو الشيباني (الأغاني 98: 10) قال: (كان أعشى بني تغلب ينادم الحر بن يوسف بن يحيى بن الحكم فشربا يوماً في بستان له بالموصل فسكر الأعشى فنام في البستان ودعا الحر بجواريه فدخلن عليه قبته واستيقظ الأعشى فأقبل ليدخل القبة فمانعه الخدم ودافعهم حتى كاد أن يهجم على الحر مع جواريه فلطمه خصي منهم. فخرج الأعشى إلى قومه فقال هم: لطمني الحر فوثب معه رجل من بني تغلب يقال له ابن ادعج وهو شهاب بن همام بن ثعلبة بن أبي سعدة فاقتحما الحائط وهجما على الحر حتى لطمه الأعشى ثم رجعا فقال الأعشى (من الوافر) :
كأني وابن أدعج إذ دخلنا ... على قرشيك الورع الجبان
هزبرا غابة وقصا حماراً ... فظلا حوله يتناهشان
أنا الحشمي من جشم بن بكر ... عشية رعت وجهك بالبنان
فما يسطيع ذو ملك عقابي=إذا اجترمت يدي وجنى لساني
عشية غاب عنك بنو هشام ... وعثمان استها وبنو أبان
تروح إلى منازلنا قريش ... وأنت مخيم بالزرقان
والحر المذكور هو الأمير ابن يوسف بن يحيى بن الحكم بن أبي العاص بن أمية من وجوه قريش وإليه ينسب نهر الحر بالموصل لأنه حفره (التاج) وقد ولي مصر(8/123)
ثلاث سنين من قبل هشام سنة 105-108 هـ (723-726 م) وروى أيضاً ابن حبيب عن أبي عمرو قال (الأغاني 99: 10) : (وكان الوليد بن عبد الملك محسناً إلى أعشى بني تغلب فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة وفد إليه يمدحه فلم يعطه شيئاً وقال: (ما أرى للشعر في بيت المال حقاً ولو كان لهم فيه حق أما كان لك لأنك امرؤ نصراني) فانصرف الأعشى وهو يقول (الحماسة البصرية 87: 1) (من الطويل) :
لعمري لقد عاش الوليد حياته ... إمام هدى لا مستزاد ولا نزر
كأن بني مروان بعد وليدهم ... جلاميد لا تندى ولو بلها القطر
وكانوا أناساً ينتحون فأصبحوا ... وأكثر ما يعطونك النظر الشزر
ألم يك عذراً ما فعلتم بشمعل ... وقد خاب من كانت أمانيه القدر
وكائن دفعنا عنكم من عظيمة ... ولكن أبيتم لا وفاء ولا شكر
فإن تكفروا ما قد فعلتم فربما ... أتيح لكم قسراً بأسيافنا النصر
وشمعل المذكور هنا هو الشاعر الذي مر وصفه الذي أمر الخليفة الأموي بقطع جذوة من فخذه إذ لم يشأ أن يجحد دينه النصراني (راجع الصفحة 118-120 من العدد السابق) وفي كتاب الأغاني ينسب إلى أعشى تغلب البيتان اللذان رويناهما هناك (ص 180) .
ومما أنشده أعشى تغلب قوله يذكر وقائع جرت بين بني تغلب وبين شيبان وكان مالك بن مسمع رئيس بني بكر معاوناً في بعضها لبني شيبان فقعد عنهم فقال الأعشى في ذلك (من الطويل) :
بني أمنا مهلاً فإن نفوسنا ... تميت عليكم عتبها ومصالها
وترعى بلا جهل قرابة بيننا ... وبينكم لما قطعتم وصالها
جزى الله شيباناً وتيماً ملامةً ... جزاء المسيء سعيها وفعالها(8/124)
أبا مسمع من تنكر الحق نفسه ... وتعجز عن المعروف يعرف ضلالها
أأوقدت نار الحرب حتى إذا بدا ... لنفسك ما تجني الحروب فهالها
نزعت وقد جردتها ذات منظر ... قبيح مهين حيث ألقت حلالها
ألسنا إذا ما الحرب شب سعيرها ... وكان سفيح المشرفي صلالها
أجارتنا حل لكم أن تنازلوا ... محارمها وأن تجيزوا حلالها
كذبتم يمين الله حتى تعاوروا ... صدور العوالي بيننا ونصالها
وحتى ترى عين الذي كان شامتاً ... مزاحف عقرى بيننا ومجالها
(شعر الأعشى التغلبي) إن القليل مما بقي من شعر الأعشى التغلبي ينبئ بحسن ذوقه ومتانة نظمه ما يجعله أهلاً بشعراء زمانه المفلقين. وقد تغنى المغنون ببعض ما أنتجته قريحته. فمن ذلك ما روى له صاحب الأغاني وهما البيتان التابعان (من الكامل) :
دار لقاتلة الغرانق ما بها ... غير الوحوش خلت له وخلا لها
ظلت تسائل بالمتيم ما به ... وهي التي فعلت به أفعالها
قال: (الشعر لأعشى بني تغلب من قصيدة يمدح بها مسلمة بن عبد الملك ويهجو جريراً ويعين الأخطل عليه. وفيه صوت والغناء لعبد الله بن العباس.. وقد بقي من القصيدة المذكورة بعض الأبيات رويت في ديوان الأخطل (ص 320-321 من طبعة الأب أنطون صالحاني) وفي الحماسة البصرية (117: 2) وهي هذه:
رحلت أمامه للفراق جمالها ... كيما تبين وما تحب زيالها
هذا النهار بدا لها من همها ... ما بالها بالليل زال زوالها(8/125)
الحسن آلفها ببيت ضجيعها ... وتظل قاصرةً عليه ظلالها
ولئن أمامه فارقت أو بدلت ... وداً بودك ما صرمت حبالها
ولئن أمامة ودعتك ولم تخن ... ما قد علمت لتدركن وصالها
إربع على دمن تقادم عهدها ... بالجوف واستلب الزمان حلالها
كانت تريك إذا نظرت أمامها ... مجرى السموط ومرةً خلخالها
دع ما مضى منها فرب مدامة ... صهباء عارية القذى سلسالها
باكرتها عند الصباح على نجى ... ووضعت غير جلالها أثقالها
صبحتها غر الوجوه غرانقاً ... من تغلب الغلباء لا أسفالها
إخسأ إليك جرير إنّا معشر ... نلنا السماء نجومها وهلالها
ما رامنا ملك يقيم قناتنا ... إلا استبحنا خيله ورجالها
ومما رواه الجاحظ في البيان والتبيين (215: 1) لأعشى بني تغلب ومثله أمين الدولة محمد الأفطسي في كتاب المجموع اللفيف قوله (من البسيط) :
ما ضر غازي نزار أن يفارقه ... كلب وجرم إذا أبناؤه اتفقوا
قالت قضاعة أنا من ذوي يمن ... الله يعلم ما بروا ولا صدقوا(8/126)
يزداد لحم المناقي في منازلنا ... طيباً إذا عز في أعدائنا المرق
وما خطبنا إلى قوم بناتهم ... إلا بأرعن في حافاته الخرق
وإليه نسب ابن عبد ربه في وصف يوم ذي قار الأبيات التالية في العقد الفريد (117: 3) وفيها أبيات تروى في معلقة عنترة (من الكامل) :
ولقد رأيت أخاك عمراً مرةً ... يقضي وضيعيه بذات العجرم
في غمرة الموت التي لا تشتكي ... غمراتها الأبطال غير تغمغم
وكأنما أقدامهم وأكفهم ... سرب تساقط في خليج مفعم
لما سمعت دعاة مرة قد علا ... وأتى ربيعة في العجاج الأقتم
ومحلم يمشون تحت لوائهم ... والموت تحت لواء آل محلم
لا يصرفون عن الوغى بوجوههم ... في كل سابغة كلون العظلم
ودعت بنو أم الرقاع فأقبلوا ... عند اللقاء بكل شاك معلم
وسمعت يشكر تدعي بحبيب ... تحت العجاجة وهي تقطر بالدم
يمشون في الحلق الجديد كما مشت ... أسد العرين بيوم نحس مظلم
والجمع من ذهل كأن زهاءهم ... جرب الجمال يقودها ابنا قشعم
والخيل من تحت العجاج عوابساً ... وعلى مناسجها سحائب من دم
وقال في الجاهلية يشكو ضرائب ومكوس ملوك العرب (كتاب الحيوان للجاحظ 44: 6) (من الطويل) :
ألا تستحي منا ملوك وتتقبي ... محارمنا لا يبرأ الدم بالدم(8/127)
وفي كل أسواق العراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
وروى له أيضاً (169: 5) في وصف القطا وهي أجود قصيدة قيلت في القطا (من الطويل) :
ثلاث مرورات يجاذبها القطا ... ترى الفرخ في حافاتها يتحرق
يظل بها فرخ القطاة كأنه ... يتيم يناجيه مواليه مطرق
بديمومة قد بات فيها وعينه ... على موته تغضي مراراً وترفق
شبيه بلا شيء هنالك شخصه ... يواريه فنك حوله متفلق
له محجر ناب وعين مريضة ... وشدق بمثل الزعفران مخلق
تناجيه كحلاء المدامع حرة ... لها ذنب ساج وجيد مطوق
سماكية كدرية عرعرية ... شكالية عفراء سمراء سملق
إذا غادرته تبتغي ما يعيشه ... كفاها رزاباها النجاء الهنبق
عدت تستفي من منهل ليس دونه ... مسيرة شهر للقطا متعلق
لأزغب مطروح بجوز تنوفة ... تلظى سموماً قيظه فهو أورق
تراه إذا أمسى وقد كاد جلده ... من الحر عن أوصاله يتمزق
غدت فاستقلت ثم ولت مغيرةً ... بها حين تزهاها الجناحان أولق
تيمم ضحضاحاً من الماء قد بدت ... دعاميصه في الماء أطحل أطرق
فلما أتته مقدحراً تقربت ... تقرب مجنون فتطفو وتغرق
تجر وتلقى في سقاء كأنه ... من الحنظل العامي جزء مفلق
فلما ارتوت من مائها لم يكن لها ... أناة وقد كادت من الرمي تبعق(8/128)
طمت طموةً صعداً ومدت جرانها ... وطار كما طار السحاب المحلق
هذا ما أمكنا جمعه من آثار ذلك الشاعر وكفى به دليلاً على فضله.
5- أعشى بني أبي ربيعة
(أصله ونسبه) كان هذا الأعشى معاصراً لأعشى تغلب يشبه في دينه وانتمائه إلى الدولة الأموية. اسمه عبد الله بن خارجة بن حبيب بن قيس بن عمرو بن حارثة بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان. وقد عرف بأعشى ربيعة أو أعشى بني أبي ربيعة. وأبو ربيعة أحد أجداده عرف بالمزدلف قال ابن دريد في الاشتقاق (ص 215) : (سمي المزدلف لأنه قال قومه وهو في حرب: ازدلفوا قيد رمحي أي اقتربوا. وينتمي الأعشى إلى بني شيبان الذين ثبتوا مدةً على نصرانيتهم بعد الإسلام. وكنيته أبو عبد الله وجاء أبو عبد الله وجاء في حماسة أبي تمام (773: 2) : أعشى بني ربيعة من بطن منهم يقال لهم بنو أمامة. وأما السيوطي في المزهر (229: 2) فانه زعم أن اسم أعشى بني ربيعة صالح بن خارجة.
(أخباره) قال أبو الفرج في الأغاني (160: 16) : (هو شاعر إسلامي (أي عاش بعد الجاهلية) من ساكني الكوفة وكان مرواني المذهب شديد التعصب لبني أمية) وقدم الأعشى الشام ودخل على الخلفاء الأمويين في دمشق فمدحهم ونال صلاتهم وقد تردد خصوصاً على عبد الملك بن مروان وعلى سليمان بن عبد الملك فعاش إلى أيام الوليد بن عبد الملك.
ومن أخبار أعشى بني أبي ربيعة مع عبد الملك ما أخبره في الأغاني (163: 16) قال: دخل أعشى بني ربيعة على عبد الملك بن مروان فأنشده قوله (من الوافر) :
رأيتك أمس خير بني معد ... وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غداً تزيد الضعف ضعفاً ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
فقال له: من أي بني أبي ربيعة أنت؟ (قال) فقلت له: من بني أمامة. قال: فإن أمامة ولد رجلين قيساً وحارثة فأحدهما نجم والآخر خمل. (قال) فقلت: أنا من ولد حارثة وهو الذي كانت بكر توجته. (قال) فقام بمخصرة في يده فضربها في(8/129)
بطني ثم قال: يا أخا بني ربيعة هموا ولم يفعلوا فإذا حدثتني فلا تكذبني. فجعلت له عهداً ألا أحدث قرشياً بكذب أبداً.
وأخبر أيضاً أن أعشى دخل على عبد الله وهو يتردد في الخروج لمحاربة ابن الزبير ولا يجد فقال له: يا أمير المؤمنين ما لي أراك متلوماً ينهضك الحزم ويقعدك العزم.
وتهم بالإقدام وتجنح إلى الإحجام. أنفذ لنصرتك وأمض رأيك وتوجه إلى عدوك فجدك مقبل وجده مدبر. وأصحابه له ماقتون ونحن لك محبون. وكلمتهم متفرقة وكلمتنا عليك مجتمعة والله ما تؤتى من ضعف جنان ولا قلة أعوان. ولا يثبطك عنه ناصح ولا يحرضك عليه غاش وقد قلت في ذلك أبياتاً. فقال: هاتها فانك تنطق بلسان ودود وقلب ناصح. فقلت (من الكامل) :
آل الزبير من الخلافة كالتي ... عجل النتاج بحملها فأحالها
أو كالضعاف من الحمولة جملت ... ما لا تطيق فضيعت أحمالها
قوموا إليهم لا تناموا عنهم ... كم للغواة أطلتم إمهالها
إن الخلافة فيكم لا فيهم ... ما زلتم أركانها وثمالها
أمسوا على الخيرات قفلاً مغلقاً ... فانهض بيمنك فافتتح أقفالها
فضحك عبد الملك وقال: (ص دقت يا أبا عبد الله أن أبا خبيب (هذه منية عبد الله بن الزبير) لقفل دون كل خير ولا نتأخر عن مناجزته إن شاء الله ونستعين الله عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل) . وأمر له بصلة نية.
وروى العباس بن هشام عن أبيه قال: قدم أعشى بني ربيعة على عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك: ما الذي بقي منك؟ قال أنا الذي أقول (من الطويل) :
وما أنا في أمري ولا في خصومي ... بمهتضم حقي ولا قارع سني(8/130)
ولا مسلم مولاي عند جناية ... ولا خائف مولاي من شر ما أجني
وإن فؤاداً بين جنبي عالم ... بما أبصرت عني وما سمعت أذني
وفضلني في الشعر واللب أنني ... أقول على علم وأعرف ما أعني
فأصبحت إن فضلت مروان وابنه ... على الناس قد فضلت خير أب وابن
فقال عبد الملك: من يلومني علي هذا. وأمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة تخوت ثياب وعشر فرائض من الإبل واقطعه ألف جريب وقال له: امض إلى زيد الكاتب يكتب لك بها وأجرى له على ثلثين عبلاً فأتى زيداً فقال له: ائتني غداً. فأتاه فجعل يردده فقال له (من الرجز) :
يا زيد يا فداك كل كاتب ... في الناس بين حاضر وغائب
هل لك في حق عليك واجب ... في مثله يرغب كل تاعب
وأنت عف طيب المكاسب ... مبرأ من عيب كل عائب
ولست عن كفيتني وصاحبي ... طول غدو ورواح دائب
وسدة الباب وعنف الحاجب ... من نعمة أسديتها بخائب
فأبطأ عليه زيد فأتى سفيان بن الأبرد الكلبي فكلمه سفيان فأبطأ عليه فعاد إلى سفيان فقال له (من البسيط) :
عد إذ بدأت بحسنى فأنت لها ... ولا تكن من كلام الناس هيابا
واشفع شفاعة أنف لم يكن ذنباً ... فان من شفعاء الناس أذنابا(8/131)
فأتى سفيان زيداً الكاتب ولم يفارقه حتى قضى حاجته. وذكر البلاذري في كتاب الأشراف (ص 340) إن أعشى بني أبي ربيعة قال شعراً يحث فيه عبد الملك على بيعة الوليد وخلع أخيه عبد العزيز (من المنسرح) :
ابنك أولى بملك والده ... وعمه إذا عصاك مطرح
ورثت عثمان وابن حرب ومر ... وإن وكل لله قد نصحوا
فعش حميداً واعمل بسنتهم ... تكن بخير واكدح كما كدحوا
(قلنا) وهذه الأبيات تروى مع بعض اختلاف في الرواية لنابغة بني شيبان من جملة قصيدة طويلة (اطلب الصفحة 138-139) .
ومما روى أبو فراس عن خداش (الأغاني 163: 16 حماسة أبي تمام 773) أن أعشى بني ربيعة دخل على سليمان بن عبد الملك وهو لي عهد فقال (من الطويل) :
أتينا سليمان الأمير تزوره ... وكان امرءاً يجبى ويكوم زائره
إذا كنت بالنجوى به متفرداً ... فلا الجود مخليه ولا البخل حاضره
كلا شافعي سؤاله من ضميره ... عن الجهل ناهيه وبالحلم آمره
فأعطاه وأكرمه وأمر كل من كان بحضرته من قومه ومواليه بصلته فوصلوه فخرج وقد ملأ يديه.
وكان الأعشى في الكوفة لما تولى الحجاج على العراق سنة 75 هـ فوجد منه الحجاج ما كرهه. قال ابن حبيب (الأغاني 162: 16) : (كان الحجاج قد جفا الأعشى واطرحه لحالة كانت عند بشر بن مروان. فلما فرغ الحجاج من حرب الجماجم (3) ذكر فتنة ابن الأشعث وجعل يوبخ أهل العراق ويؤنبهم فقال من حضر من أهل البصرة:(8/132)
إن الريب والفتنة بدأ من أهل الكوفة وهم أول من خلع الطاعة وجاهر بالمعصية.
فقال أهل الكوفة: لا بل أهل البصرة أول من أظهر المعصية مع جرير بن هميان السدوسي إذ جاء من الهند. وأكثروا من ذلك فقام أعشى بني أبي ربيعة فقال: (أصلح الله الأمير لا براء من ذنب ولا ادعاء على الله وذلك أنهم جزعوا وصبرت وكفروا وشكرت وغفرت إذا قدرت فوسعهم عفو الله وعفوك فنجوا فلولا ذلك لبادوا وهلكوا) . فسر الحجاج بكلامه وقال له جميلاً وقال: تهياً للوفادة إلى أمير المؤمنين حتى يسمع هذا منك كفاحاً.
وحدث حماد بن إسحاق عن أبيه قال (الأغاني 162: 16) : بلغ الحجاج أن أعشى بني أبي ربيعة رثى عبد الله بن الجارود (فغضب عليه فقال يعتذر إليه (من الطويل) :
أبيت كأني من حذار ابن يوسف ... طريد دم ضاقت عليه المسالك
ول غير حجاج أراد ظلامتي ... حمتني من الضيم السيوف الفواتك
وفتيان صدق من ربيعة قصرة ... إذا اختلفت يوم اللقاء النيازك
يحامون عن أحسابهم بسيوفهم ... وأرماحهم واليوم أسود حالك
فرضي عنه. وكان بين أهل الكوفة رجل شهير بفضله وكرمه وهو أسماء بن خارجة. اشتهر وفيه يقول عبد الله بن زبير يثني على جوده:
ألم تر أن الجود أرسل فانتقى ... حليف صفاء وائتلى لا يزايله
تخير أسماء بن حصن فبطنت ... بفعل العلا أيمانه وشمائله
ولا مجد إلا مجد أسماء فوقه ... ولا جري إلا جري أسماء فاضله
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت نائله(8/133)
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
وقد امتدح أعشى بني أبي ربيعة أسماء المذكور فأعطاه وكساه فقال (من الوافر) :
لأسماء بن خارجة بن حصن ... على عبء النوائب والغرامة
أقل تعللاً يوماً وبخلاً ... على السؤال من كعب بن مامه
ومصقلة الذي يبتاع بيعاً ... ربيحاً فوق ناجية بن سامه
ومن شعره ما رواه له الطبري في تاريخه يذكر يوم ذي قار الذي انتصر فيه العرب على العجم (من الوافر) :
ونحن غداة ذي قار أقمنا ... وقد شهد القبائل محلبينا
وقد جاؤوا بها جأوا فلقاً ... ململمةً كتائبها طحونا
ليوم كريهة حتى تجلت ... ظلال دجاه عنا مصلتينا
فولونا الدوابر واتقونا ... بنعمان بن زرعة أكتعينا
وذدنا عارض الأحرار ورداً ... كما ورد القطا الثمد المعينا
وأعلم أن أعشى بني أبي ربيعة يدعى أيضاً (أعشى شيبان) فينسب إلى هذا ما ينسبه آخرون إلى ذاك فهذا الجاحظ في البيان والتبيين (151: 1) قد نسب إلى أعشى بني شيبان ما رواه في الأغاني والحماسة لأعشى بني أبي ربيعة. ومن ثم نظن أن ما ينسب في بعض التآليف لأعشى بني شيبان هو لأعشى بني ربيعة الشيباني كالذي جاء مثلاً في تاريخ الطبري (1177: 2) وفي كتاب أنساب الأشراف للبلاذري (ص 213) :(8/134)
وهو في معنى ما ذكر سابقاً من أقوال أعشى بني ربيعة لعبد الملك (من مجزوء الكامل) :
عرفت قريش كلها ... لبني أبي العاص الإمارة
لأبرها أحقها ... عند المشورة بالإشارة
المانعين لما ولوا ... والنافعين ذوي الضرارة
وهم أحقهم بها ... عند الحلاوة والمرارة
وفي حماسة البحتري (ع 483) قوله في الشماتة وعاقبتها (من الوافر) :
إذا ما المرء غالته شعوب ... فما للشامتين به خلود
وريب الدهر بالإنسان جم ... ولا تنجي من التلف الجدود
وإلى أعشى بني شيبان ينسب أيضاً في بعض المخطوطات قوله في المقايسة بين أمور الزمان (من السريع) :
يا أيها السائل عن ما مضى ... من ريب هذا الزمن الذاهب
إن كنت تبغي العلم أو نحوه=أو شاهداً يخبر عن غائب
اعتر الأرض بأسمائها ... واعتبر الصاحب بالصاحب
وكذلك ينسب إلى أعشى شيبان في كتاب الكتاب للصولي (ص 177) قوله (من البسيط) :
يا عمرو أقصد نواك الله بالرشد ... واقر السلام على الأبقاء والقصد
وبك عيشاً تولى بعد جدته ... طابت أصائله في ذلك البلد(8/135)
6-مرقس الطائي
نضيف إلى الأعشيين التغلبي والشيباني أحد الطائيين الذي عرف في عهدهما وذكر في شعره حرب الحرورية في أيام علي بن أبي طالب ألا وهو مرقس الطائي. وكفى باسمه دليلاً على نصرانيته.
(اسمه ونسبه) هو أحد بني طي اليمنيين الذين تكرر ذكر تنصرهم (اطلب كتابنا النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية (ص 121-122 و 132-133) .
أما اسم مرقس هذا فذكره في التاج (163: 4) فقال: (مرقس كمقعد بفتح الميم والقاف ويقال بضم القاف مرقس) (قلنا) وهذا الصواب وهو اسم نصراني صريح وتعريب اسم الإنجيلي الشهير القديس مرقس (قال) (واسمه عبد الرحمان) (قلنا) وفي هذا دليل على أن النصارى كانوا يتخذون لهم اسمين اسماً في العماد يدل على نصرانيتهم واسماً آخر يعرفون به. وهكذا كان يفعل بزماننا أيضاً كثيرون من النصارى. وقال في التاج أن الصواب في اسمه (عبد الرحمان بن مرقس) أما في الحماسة فقال (أن اسمه عبد الرحمان ولقبه مرقس) .
وقد ذكر المبرد في الكامل (563-564) وأبو تمام في الحماسة (ص 297) قالا: (كان من طيء واسمه عبد الرحمان أحد بني معن بن عتود أخي بختر ثم أحد حتي (ويوري حيي) بن معن من بني طي كابي زبيد السابق ذكره وقد أجمع الكتبة كلهم بأنه (شاعر طائي) لكنهم لم يرووا له من الشعر إلا أبياتاً من الرجز أثبتها أبو تمام في حماسته (ص 563-563) قالها في لقاء بني معن الحرورية والحرورية قوم من الخوارج قاتلوا علي بن أبي طالب مع نجدة بن عامر الحنفي نسبوا إلى حروراء قرية تبعد ميلين عن الكوفة كانوا اجتمعوا فيها فقال مرقس يذكر قومه (من الرجز) :
قد قارعت معن قراعاً صلبا ... قراع قوم يحسنون الضربا(8/136)
ترى مع الروع الغلام الشطبا ... إذا أحس وجعاً أو كرباً
دنا فما يزداد إلا قرباً ... تمرس الجرباء لاقت جربا
هذا ما أمكنا الوقوف عليه من أخبار وشعر هذا الطائي أثبتناه هنا مع قلته.
7- نابغة بني شيبان
(اسمه ونسبه) ذكره أبو الفرج في الأغاني (151: 6) فقال: (اسمه عبد الله ابن المخارق بن سليم بن حضيرة بن قيس بن سنان بن حماد بن جارية بن عمر بن أبي ربيعة بن نزار. وقد وقع بعض اختلاف باسمه ونسبه. قال السيوطي في المزهر (229: 2) عن ابن دريد (نابغة بني شيبان جمل بن سعدانة) (كذا) . ودعاه الزمخشري في الكشاف (ص 41) : (النابغة الذهلي) وفرق بينه وبين النابغة الشيباني الذي يدعوه (جمل بن سعد) ودعاه صاحب مجموعة المعاني (ص 140) (عبيد الله بن مخارق) وسماه كثيرون (مخارق) . وجاء في تاج العروس (32: 6) أنه (عبد الله بن مخارق بن سليم بن حصرة (وفي ديوانه: خضرة) بن قيس بن شيبان (لا سنان كما ورد في الأغاني) بن حماد بن حارثة (لا جارية كما ذكر في الأغاني. وروى في ديوانه: (بن حارث) ولم يذكر (ذهلاً) في السلسلة.
(جنسه ودينه) قال في الأغاني: أنه (شاعر بدوي) كان يقيم كما نظن في حدود الشام مع قومه بني شيبان ويتردد مدنها. فهو يذكر في شعره دمشق وبعلبك. أما دينه فقال عنه أبو الفرج: (وكان فيما أرى نصرانياً لأني وجدته في شعره يحلف بالإنجيل وبالرهبان والأيمان التي يحلف بها النصارى) . وكذلك قال الصفدي في الوافي بالوفيات (قيل أنه كان نصرانياً) . ويدعوه عبد العزيز بن مروان (الأغاني 152: 6) (بابن النصرانية) .(8/137)
(زمانه وأخباره) نبغ نابغة بني شيبان في أواخر القرن الأول وفي القسم الأول من القرن الثاني للهجرة أعني ختام القرن السابع وفي شطر من القرن الثامن للمسيح. قال صاحب الأغاني: (كان النابغة من شعراء الدولة الأموية وكان يفد إلى الشام إلى خلفاء بني أمية يمدحهم فيجزلون عطاءه ... ومدح عبد الملك بن مروان ومن بعده من ولده) .
ومن أخباره مع عبد الملك (65-86 هـ = 685-705 م) ما حدث به العمري عن العتبي (151: 6) والصفدي في فوات الوفيات قالا: لما هم عبد الملك بخلع أخيه عبد العزيز وتولية الوليد ابنه العهد وكان نابغة بني شيبان منقطعاً إلى عبد الملك دخل إليه في يوم حفل والناس حواليه وولده قدامه فمثل بين بيديه وأنشده قصيدة طويلة رواها جامع ديوانه واقتطف منها أبو الفرج والصفدي بعضها هذا أولها (من المنسرح) :
اشتقت وانهل دمع عينك إذ ... أضحى قفاراً من أهله طلح
بسابس دارها ومعدنها ... تمسي خلاءً وما بها شبح
كأنه لم يكن بها أحد ... فالقلب من قلب من ناء قرح
ثم انتقل من وصف الأطلال إلى ابتعاده عنها راكباً ناقته السريعة فبلغت به إلى الممدوح فقال وهو يذكر انتصار عبد الملك على ابن الزبير ويحضه على تولية ابنه الوليد بعده:
فكم وردنا من منهل أبد ... أعذب ما تستقي به المتح
آمل فضلاً من سيب منتجع ... إياه ينوي الثناء والمدح
أزحت عنا آل الزبير ولو ... كانوا هم المالكين ما صلحوا
تسوس أهل الإسلام عملتهم ... وأنت عند الرحمان منتصح
إن تلق بلوى فأنت مصطبر ... وإن تلاق النعمى فلا فرح(8/138)
ترمي بعيني أروى على شرف ... لم يوده عائر ولا لمحوا
تبين فيه عنق الأعاصي كما ... يبين يوماً للناظر الصبح
آل أبي العاص أهل مأثره ... غر عتاق بالخير قد نفحوا
خير قريش وهم أفاضلها ... في الجد جدهم مزحوا
أرحبها ذرعاً وأخبرها ... أنتم إذا القوم في الوغى كلحوا
أما قريش فأنت وازعها ... تكف من شغبهم إذا طمحوا
حفظت ما ضيعوا وزندهم ... أوريت إن أصلدوا وإن قدحوا
مناقب الخير أنت وارثها ... والحمد ذخر تغلى به الربح
آليت جهداً وصادق قسمي ... برب عبد تحنه الكرح
يظل يتلو الإنجيل يدرسه ... من خشية الله قلبه طفح
لابنك أولى بملك والده ... وعمه عن عصاك مطرح
داؤود عدل فاحكم بسيرته ... وآل مروان كانوا قد نصحوا
فهم خيار فاعمل بسنتهم ... واحي بخير واكدح كما كدحوا
راجع ما قلنا في ما روى من هذه الأبيات لأعشى بني ربيعة (ص 132) (قال) فتبسم عبد الملك ولم يتكلم في ذلك بإقرار ولا دفع فعلم الناس إن رأيه خلع عبد العزيز. وبلغ عبد العزيز قول النابغة فقال: لقد ادخل ابن النصرانية نفسه(8/139)
مدخلاً ضيقاً مورداً خطراً وبالله علي لئن ظفرت به لأخضبن قدمه بدمه.
وفي السنة 101 هـ (720 م) تولى الخلافة يزيد بن عبد الملك فأرسل أخاه مسيلمة لمحاربة يزيد بن المهلب وكان الخليفة ناقماً عليه وهو قد فر من سجن سلفه عمر بن عبد العزيز وخرج مع آل المهلب وتفاقم أمره فغلبه مسيلمة وقطع رأسه وأرسله إلى يزيد أخيه سنة 102 (721 م) فدخل النابغة الشيباني عليه وانشده قصيدةً في تهنئته بالفتح رواها جامع ديوانه وهي تزيد عن مئة بيت واختار منها صاحب الأغاني وصاحب الحماسة البصرية وغيرهما بعض أبياتها أولها (من الوافر) :
ألا طال التنظر والثواء ... وجاء الصيف وانكشف الغطاء
وليس يقيم ذو شجن مقيم ... ولا يمضي إذا ابتغي المضاء
طوال الدهر إلا في كتاب ... ومقدار يوافقه القضاء
فما يعطى الحريص غنى لحرص ... وقد ينمى لذي الحود الثراء
وفي هذه القصيدة حكم جليلة يروي الأدباء أبياتاً منها يتمثلون بها كقوله:
غنى نفس إذا استغنت غناء ... وفقر النفس ما عمرت شقاء
إذا استحيا الفتى ونشا بحلم ... وسار الحي خالفه السناء
وليس يود ذو لود ومال ... خفيف الحلم ليس له حياء
ومن يك حيياً لم يلق بؤساً ... ينخ يوماً بعقوته البلاء
تعاوره بنات الدهر حتى ... تثلمه كما انثلم الإناء
وكل شديدة نزلت بحي ... سيأتي بعد شدتها الرخاء(8/140)
فل للمتقي عرض المنايا ... توق فليس ينفعك اتقاء
ولا تبك المصاب فأي حي ... إذا ما مات يحييه البكاء
وقل للنفس: من تبقي المنايا؟ ... فكل الناس ليس لهم بقاء
تعزي بالأسى في كل حي ... فذلك حين ينفعها العزاء
ستفنى الراسيات وكل نفس ... ومال سوف يبلغه الفناء
يعمر ذو الزمانة وهو كل ... على الأدنى وليس له غناء
ويردى المرء وهو عميد حي ... ولو فادوه ما قبل الفداء
إذا حانت منيته وأوصى ... فليس لنفسه منها وقاء
وكل أخوة في الله تبقى ... وليس يدوم في الدنيا إخاء
أصب ذا الحلم منك بسجل ود ... وصله لا يكن منك الجفاء
ولا تصل السفيه ولا تجبه ... فان وصاله داء عياء
وإن فراقه في كل أمر ... وصرم حبال خلته شفاء
وضيفك ما عمرت فلا تهنه ... وآثره وإن قل العشاء
ولا تجعل طعام الليل ذخراً ... حذار غد لكل غد غذاء
وكل جراحة تؤسى فتبرا ... ولا يبرا إذا جرح الهجاء
يؤثر في القلوب له كلوم ... كداء الموت ليس له دواء
من الشعراء أكفاء فحول ... وفراثون إن نطقوا أساءوا(8/141)
فهل شعران شعر غناً وحكم ... وشعر لا بهيج به سواء
فإن يك شاعر يعوي فاني ... وجدت الكلب يقتله العواء
وفيها يقول يمدح يزيد:
أؤم فتى من الأعياص ملكاً ... أغر كأن غرته ضياء
لأسمعه غريب الشعر مدحاً ... وأثني حيث يتصل الثناء
يزيد الخير وهو يزيد خيراً ... وينمي كلما ابتغي الماء
إلى الشم الشمارخ من قريش ... تحوب عن ذائبها العماء
قريش تبتغي المعروف قدماً ... وليس كما بنيت لها بناء
فضضت كتائب الأزدي فضاً ... بكبشك حين لفهما اللقاء
وعادته إذا لاقى كباشاً ... فناطحهن قتل واحتواء
أبدت عدوهم وعفوت عفواً ... به حقنت من الناس الدماء
سمكت لهم بإذن الله ملكاً ... كما سمكت على الأرض السماء
وأحييت العطاء وكان ميتاً ... ولا والله ما حمي العطاء
ففي كل القبائل من معد ... ومن يمن له أيضاً حباء
وصلت أخاك وهو لي عهد ... وعند الله في الصلة الجزاء
نرجي أن تكون لنا إماماً ... وفي ملك الوليد لنا الرجاء
هشام والوليد وكل نفس ... تريد لك الغناء لك الفداء(8/142)
وأنت ابن الخلائف من قريش ... نموك وفي عداوتهم إباء
إمام الناس لا ضرع صغير ... ولا قحم يثلمه الزكاء
على الأعياص عندك حين تعفي ... عبأت لهم سجالك حين جاؤوا
ومحتبطين من بلد بعيد ... عبأت لهم سجالك حين جاؤوا
كشفت الفقر الإقتار عنهم ... فنالوا الخير وانكشف الغطاء
فعيصك خير عيص في قريش ... وهم من كل سيئات براء
أولاك السابقون بكل خير ... إذا كذب المسبقة البطاء
وقد روى البحتري في حماسته (1224) بيتين من هذه القصيدة لم نجدهما في الديوان وهما:
وكائن قد تراه يسر أمراً ... عليه من سريرته لواء
ومظهر عارف ومسر سوء ... وما يمحو سريرته الرئاء
قال أبو الفرج (152: 6) : فامر له (يزيد) بمائة ناقة من نعم بني كلب وأن توقر له براً وزبيباً وكساه واجزل صلته.
(قال) ووفد النابغة إلى هشام لما ولي الخلافة (105-125 هـ=724-743 م) فلما رآه زجره وشمته ثم قال: الست القائل:
هشام والوليد وكل نفس ... تريد لك الغناء لك الفداء
أخرجوه عني والله لا يزرأني شيئاً أبداً. وحرمه ولم يزل أيامه طريداً حتى ولي الوليد بن يزيد (25-126 هـ =743-744 م) فوفد إليه ومدحه مدائح كثيرة فأجزل صلته.
ومما أخبره في الأغاني (153: 6) أن أبا كامل مولى الوليد بن يزيد غنى يوماً بحضرته أبياتاً في مديح الخمرة فسأل الوليد عن قائل هذا الشعر فقيل نابغة بني شيبان(8/143)
فأمر بإحضاره فاستنشده القصيدة فانشده إياها وظن أن فيها مدحاً له فإذا هو يفتخر بقومه ويمدحهم فقاله له الوليد: لو سعد جدك لكانت مديحاً فينا لا في بني شيبان ولسنا نخليك على ذلك من حظ. ووصله وانصرف. وأول هذه القصيدة (من الرمل) :
حل قلبي من سليمى نبلها ... إذ رمتني بسهام لم تطش
وفيها وصف الخمرة:
أيها الساقي سقتك مزنة ... من ربيع ذي أهاضيب وطش
إمدح الكأس ومن أعملها ... واهج قوماً قتلونا بالعطش
غنما الكأس ربيع باكر ... فإذا ما غاب عنا لم نعش
وكأن الشرب قوم موتوا ... من يقم منهم لأمر يرتعش
خرس الألسن مما نالهم ... بين مصدوع وصاح منتعش
من حميا قرقف حصية ... قهوة حولية لم تمتحش
ينفع المزكوم منها ريحها ... ثم تشفي داءه إن لم تنش
كل من يشربها يألفها ... ينفق الأموال فيها كل هش
وفيها يقول مفتخراً بقومه بني شيبان:(8/144)
وبنو شيبان حولي عصب ... منهم غلب وليسوا بالقمش
وردوا المجد وكانوا أهله ... فرووا والمجد عاف لم ينش
وترى الجرد لدى أبياتهم ... كرباب بين صلصال وجش
فبها يحوون أموال العدى ... ويصيدون عليها كل وحش
دميت أكفالها من طعنهم ... بالردينيات والخيل النجش
ننهل الخطي من أعدائنا ... ثم نفري الهام إن لم تفترش
ذاك قولي وثنائي وهم ... أهل ودي خالصاً في غير غش
فسلوا شيبان إن فارقتهم ... يوم يمشون إلى قبري بنعش
هل غشينا محرماً من قومنا ... أو جزينا جازياً فحشاً بفحش
ما أحسن هذا الختام وفيه دليل واضح على نصرانية شيبان العاملين بوصية السيد المسيح وأمره بمحبة الأعداء.
قال أبو الفرج (154: 6) ومما يغنى فيه من شعر نابغة شيبان وذكر يونس أن فيه لحناً آخر لابن عائشة. والقصيدة في ديوان النابغة تنيف على ستين بيتاً اختار منها في الأغاني ثمانية وننتقي منها ما يلي (من مجزوء الرمل) :
ذرفت عيني دموعاً ... من رسوم بحفير
موحشات طامسات ... مثل آيات الزبور
غيرتها في سفور ... مر أيام الدهور(8/145)
جادها كل ملث ... ذي أهاضيب مطير
وإذا النكباء هاجت ... لعبت فيها بمور
وجنوب وشمال ... وصباً بعد الدبور
قد أذاعت برسوم ... لا تبين لبصير
بدل الربع وحوشاً ... من كبير وصغير
ذاك من بعد حلال ... وأنيس وعمور
وهجان وقيان ... وقباب كالقصور
وخيول أرنات ... من إناث وذكور
وسماحيج سراع ... مثل عقبان كسور
وحسان آنسات ... وعذارى في خدور
قاصرات ناعمات ... في نعيم وسرور
ليس من يذكر هذا ... يا لقوم بصبور
وكهول قد أراهم ... كخضاريم البحور
ورجال لم يشيبوا ... وشباب كالصقور
كم ترى فيهم نديماً ... من رئيس كالأمير
ذي عطاء وغناء ... محسن نسج الأمور
قائد جيشاً هماماً ... عند حل ومسير
لجباً يسمع رزاً ... عند طعن ونفير(8/146)
فإذا تندو شباباً ... كل ميمون هصور
ركبوا كل علندي ... ذي أفانين صبور
فإذا لاقوا أسوداً ... أوعدت أسداً بزير
طاعنوا بعد رماء ... وضراب بالذكور
ومن الناس غني ... ذو سوام وقدور
ووسيط في زماع ... ذو معاش وفقير
كل باغي الخير يوماً ... راكب الهول الكبير
(شعره) استحق عبد الله بن مخارق الشيباني أن يدعوه قومه نابغة لجودة شعره الجامع بين المتانة والانسجام. وديوانه قد نجا من آفات الدهر منه نسخة في مكتبة مصر المعروفة سابقاً بالخديوية عنها نقلت نسخة مكتبتنا الشرقية. وهي تتألف من 46 صحيفة أعني 92 صفحة وفي الصفحة 15 بيتاً ومجموع قصائد الديوان عشرون عداً. على أن هذه النسخة سقيمة لا بد من نسخة ثانية لإصلاح ما وقع فيها من التصحيف والتحريف. وها نحن نروي منها بعض المقاطيع التي تشهد لقائلها بالذكاء والقريحة الشعرية. وقد وجدنا في كتب الأدباء أبياتاً ومقاطيع ليست في هذا الديوان فنروي منها ما نرى ما إيراده فائدة. فمن شعر النابغة الشيباني المختار قصيدته البائية في مديح يزيد بن عبد الملك أولها (من البسيط) :
بان الخليط فشطوا بالرعابيب ... وهن يؤبن بعد الحسن بالطيب
فهيجوا الشوق إذا خفت نعامتهم ... وأورثوا القلب صدعاً غير مشعوب
وهي طويلة منها قوله في كوارث الدهر:
ما يطلب الدهر تدركه مخالبه ... والدهر بالوتر ناج غير مغلوب(8/147)
يبلي الشباب فينفي بهجته ... والدهر ذو العوص يأتي بالأعاجيب
هل من أناس أولي مجد ومأثرة ... إلا يشد عليهم شدة الذيب
حتى يصيب على عهد خيارهم ... بالنافذات من النبل المصاييب
إني وجدت سهام الموت معدنها ... بكل حتم من الآجال مكتوب
والدهر حالان هم بعده فرح ... وفرحة بعدها هم بتغييب
من يلق بلوى ينله بعدها فرج ... والناس من بين ذي روح ومكروب
وبين داع إلى رشد صحابته ... وبين غاد وذي مال ومحروب
والعيش طبيان طبي ثر حالبه ... وطبي جداء ذاو غير محلوب
ومن حكمها المصيبة:
عاتب أخاك ولا تكثر ملامته ... وزر صديقك سلاً بعد تغييب
وإن عنيت بمعروف فقل حسناً ... ولا تهن عن ذوي ضغن لتهييب
لا تحمدن امرءأ حتى تجربة ... ولا تذمنه من غير تجريب
إن الغلام مطيع من يؤدبه ... ولا يطيعك ذو شيب لتأديب
ومنها في مدح يزيد:
وإن رحلت إلى ملك لتمدحه ... فارحل بشعر نقي غير مخشوب
وامدح يزيد ولا تظهر بمدحته ... وقد أوائلها قوداً بتشبيب
إن الخليفة فرع حين تنسبه ... من الأعاصير هيجا غير منسوب
ينميه حرب ومروان وأصلهما ... إلى جراثيم مجد غير مأشوب(8/148)
نماك أربعة كانوا أئمتنا ... فكان ملكك حقاً ليس بالحوب
أعطاك ملكاً وتقوى أنت سائله ... بعد الفضائل من أوخى إلى النوب
أبلج كالبدر عالي الهم مختلف ... ينمى إلى الأبطحيات أبناء المخاصيب
قوم بمكة في بطائحا ولدوا ... أبناء مكة ليسوا بالأعاريب
الأكثرون إذا ما سال موجههم ... بكل أصيد سامي الطرف هبهوب
والضاربون من الأبطال هامهم ... ضرباً طلخفاً ووهكاً غير تذبيب
أنت ابن عاتكة الميمون طائرها ... أم الملوك بني العز المناجيب
إذا الملوك جرت يوماً لمكرمة ... جري المحاضير حثت بالكلاليب
جريت جري عتيق لم يكن وكلاً ... بذ العناجيج سبقاً غير مضروب
ومن قصائده الغراء داليته الشهيرة التي أولها (من الوافر) :
أتصرم أن تواصلك النجود ... وليس لها وإن وصلتك جود
وفيها يقول في وصف حدثان الدهر:
وعوض الدهر بالإنسان جم ... فما للشامتين به خلود
وكل منعم وأخي شقاء ... ومثر والمقل معاً يبيد
إذا ما ليلة مرت ويم ... أتى يوم وليلته جديد(8/149)
أباد الأولين وكل قرن ... وعاداً مثل ما بادت ثمود
ولا ينجي من الآجال أرض ... يحل بها ولا القصر المشيد
ولا يحيي الجبان حذار موت ... ويبلغ عمره البطل النجيد
ومنها في مدح التقى ومصاحبة الأخيار:
ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخراً ... وعند الله للأتقى مزيد
فصاحب كل أروع دهثمي ولا يصحبك ذو الجهل البليد
يرى ما نال غنماً كل يوم ... صفاة حين تخبره صليد
وشر مصاحب خلف قسي ... ونعم الصاحب الخلق السديد
ومن هجائها:
فما بالي وبال بني لكاع ... علي لهم إذا شبعوا فديد
إذا ما غبت عنهم أوعدوني ... وأي الناس يقتله الوعيد
متى ما يسمعوا رزي يدينوا ... كما دانت لسيدها اليهود
كأنهم لقد جشعوا وذلوا ... مخافة أن أجدعهم سجود
بهرتهم وأفحم ناطقوهم ... كما بهر المحملة الصعود
ومن فخرها قوله في بني شيبان:(8/150)
نفى عني العدو قراسيات ... قروم من بني شيبان صيد
فمنهم حين تنتطح النواحي ... إذا ذكر المآثر والعديد
فمقرور وحارثة بن عمرو ... هما الفرعان مجدهما تليد
وبسطام تغمط والمثنى ... به قضت من الفرس الجنود
وعوف المأثرات وكل عهد ... وفي حين تنتقض العهود
وذو المأنى أبو حرب بن عوف ... معاذته تفك بها القيود
وكان الحوافزان شهاب حرب ... رئيس الناس متبعاً يقود
ونكاك العناة أبو ثبيت ... يزيد بعده منا يزيد
وعد أبا الوجيهة في نجوم ... نجوم حمة تلك السعود
قبيصة وابن ذي الجدين فيهم ... وأشرس والمحية والشريد
وعمرو والأغن عميد حي ... وكل في أرومته عميد(8/151)
وساد ابن القريم وكان قرماً ... أخا حرب يشب لها الوقود
وحمال المئين أبو حماس ... أناب بها إذا ضلع اللهيد
وجاد ابن الحصين وكان بحراً ... وللهزهاز عند الجهد جود
ومصقلة الذي أجدى وأعطى ... له من مد عافية ورود
به عتق السبايا بعد رق ... إذا أبطت فكاكهم الوفود
جلودهم من العثرات ملس ... نقيات إذا دنس الجلود
أولئك أسرتي سأذود عنهم ... إذا ما خام عنهم من يذود
بغر من قواف نافذات ... جوارح في الصدور لها خدود
فخير الشعر أكرمه رجالاً ... وشر الشعر ما نطق العبيد
ولنابغة من قصيدة يذكر فيها الخالق عز وجل ويحض الإنسان على الصلاح (من الطويل) :
وتعجبني اللذات ثم تعوجني ... وتسترني عنها من الله ساتر
فقلت وقد مرت حتوف بأهلها ... ألا ليس شيء غير ربي غابر
هو الباطن الرب اللطيف مكانه ... وأول شيء ربنا ثم آخر
كريم حليم لا يعقب حكمه ... كثير أيادي الخير للذنب غافر
يقيم حصاد الزرع بعد ارتباعه ... فتفنى قرون وهو للزرع آبر
ومن يعنى بالأخبار عن من يرومها ... فاني بما قد قلت في الشعر خابر(8/152)
ألا أيها الإنسان هل أنت عامل ... فانك بعد الموت لا بد ناشر
ألم تر أن الخير والشر فتنة ... ذخائر مجري بهن ذخائر
ومن يعمل الخيرات أو يحظ خالياً ... يجاز بها أيام تبلى السرائر
وجدت الثرا ثم المصيبات كلها ... يجيء بها بعد أيام تبلى السرائر
فإن عسرة يوماً أضرت بأهلها ... أتت بعدها من غير شك مياسر
ونازل دار لا يريد فراقها ... ستظعنه عما يريد الجرائر
ومن ينصف الأقوام ما كان قاضياً ... وكل امرئ لا ينصف الناس جائر
ويعذر ذو النب المقر بذنبه ... وليس لمن يغضي على الذنب عاذر
ومن جيد شعر النابغة لاميته التي مدح فيها يزيد أولها (من الخفيف) :
أذن اليوم جيرتي بارتحال ... وبين مودع وارتجال
وهي طويلة ومن حكمها قوله:
يا بني استمع فذا وعظ شيخ ... عجم الدهر في السنين الطوال
كل عيش ولذة ونعيم ... وحياة تودي كفيء الظلال
كفني الحلم والمشيب وعقلي ... ونهى الله عن سبيل الضلال
وأرى الفقر والغنى بيد الله ... وحتف النفوس في الآجال
ليس ماء يروى به معتفوه ... واتناً لا يغور كالأوشال
قد يغيض الفتى كما ينقص البد ... ر وكل يصير كالمستحال
فمحاق هذا وهذا كسير ... بعد ما كان ناشئاً كالهلال
ليس يغني عنه النسيج ولا البر ... ج ولا مشفق كريم الفعال(8/153)
ليس حي يبقى وإن بلغ الكبر ... ة إلا مصيره للزوال
إن تمت أنفس الأنام فان ... الله يبقى وصالح الأعمال
كل ساع يسعى ليدرك شيباً ... سوف يأتي بسعيه ذا الجلال
فهم بين فائز نال خيراً ... وشقي أصابه بنكال
إن من يركب الفواحش سراً ... حين يخلو بسره غير خال
كيف يخلو وعنده كاتباه ... شاهداه وربه ذو المحال
فاتق الله ما استطعت وأحسن ... إن تقوى الإله خير الخلال
ومنها في مديح يزيد بن عبد الملك الخليفة:
تبتغي من يزيد فضل يديه ... اريحياً فرعاً سمين الفعال
حكمياً بين الأعاصي وحرب ... أبطحي الأعمام والأخوال
أمه ملكة نمتها ملوك ... وهي أهل الإكرام والإجلال
تلك أم كست يزيد بهاءً ... أو جمالاً يبد كل جمال
وأبوه عبد المليك نماه ... زاد طولاً على الملوك الطوال
فهو ملك نمته أيضاً ملوك ... خير من يحتذي رقاق النعال
حالف المجد عبشمياً إماماً ... حل داراً بها تكون المعالي
أعطي الحلم والعفاف مع الجو ... د ورأياً يفوق رأي الرجال
وحباه المليك تقوىً وبراً ... وهو من سوس ناسك وفحال
يقطع الليل آهةً وانتحاباً ... وابتهالاً لله أي ابتهال
تارةً راكعاً وطوراً سجوداً ... ذا دموع تنهل أي انهلال
ًعادل مقسط وميزان حق=لم يحف في قضائه للموالي(8/154)
موفياً بالعهود من خشية الله ... ومن يعفه يكن غير قال
محسن مجمل تقي قوي ... وهو أهل الإحسان والإجمال
وهو إن يعفه فئام شعوب ... يبتدي المعتفين قبل السؤال
ويذد عنهم الخلالة منه ... بسجال تغدو أمام سجال
وقال في الخليفة عمر بن عبد العزيز (من الحفيف) :
نحو عبد العزيز ما تطعم النو ... م ومنها بعد الرواح البكور
وهو الثالث الخليفة لله ... إمام للمؤمنين أمير
إن أرادوا التقى به فتقي ... أو أرادوا عدلاً فليس يجور
ولدته الملوك ملكاً هماماً ... فهو بدر غم النجوم منير
حكمياً يراح للمجد فرعاً ... موفياً بالعهود حين يجير
معشر معدن الخلافة فيهم ... بدؤها منهم وفيهم تحور
لا يرومن ملكهم آدمي ... عن من رام ملكهم مغرور
ابن أم البنين أنت فتى النا ... س وأنت الموفق المأجور
ومن مديحه للخليفة الوليد (من الكامل) :
تنوي وتنتجع الوليد خليفةً ... يعفى بذلك جهدها وجمامها
ملك أغر نما لملك كفه ... خير العطاء بدورها وسوامها
تندى إذا بخل الأكف ولا ترى ... تعلو براجم كفه إبهامها
وهو الذي يمسي ويصبح محسناً ... شتى له نعم جداً إنعامها(8/155)
وإذا قريش سابقتك سبقتها ... بقديم أولاها وأنت قوامها
وإذا قناة المجد حاول أخذها ... فبطول بسطته يبد جسامها
أنت الذي بعد الإله هديتها ... عن خاطرتك بالقداح قوامها
فورثت قائدها وفزت بقدحها ... وخصمت لداً لم تهلك خصامها
قد سبق ما رويناه عن أبي الفرج الأصفهاني في نصرانية النابغة الشيباني على أن في ديوانه قصيدة تدل على أنه ارتد للإسلام وذلك في قصيدة فائية قالها في مديح الوليد. ومن المحتمل أن الوليد جذبه بالوعد أو بالوعيد إلى جحود دينه ولنا في تاريخه ما يثبت تشدده على النصارى والله أعلم. وهذه بعض أبيات تلك القصيدة (من البسيط) :
إن الوليد أمير المؤمنين له ... حق من الله تفضيل وتشريف
خليفة لم يزل يجري على مهل ... أغر تنمي به البيض الغطاريف
لا يخمد الحرب إلا ريث يوقدها ... في كل فج له خيل مسانيف
يحوي سبياً فيعطيها ويقسمها ... ومن عطيته الجرد السراعيف
أخزى طرندة منه وابل برد ... وعسكر لم تفزه العزل الجوف
ما زال مسلمة الميمون يحصرها ... وركنها بثقال الصخر مقذوف
وقد أحاطت بها أبطال ذي لجب ... كما أحاط برأس النخلة الليف
حتى علوا سورها من كل ناحية ... وحان من كان فيها وهو ملهوف
فأهلها بين مقتول ومستلب ... ومنهما موثق في القد مكتوف(8/156)
يا أيها الأجدع الباكي لمسلكهم ... هل بأس ربك عن من نام مصروف
تدعو النصارى لنا بالنصر ضاحيةً ... والله يعلم ما تخفي الشراسيف
قلعت بيعتهم عن جوف مسجدنا ... فصخرها عن جديد الأرض منسوف
كانت إذا قام أهل الدين فابتهلوا ... باتت تجاوبنا فيها الأساقيف
فاليوم فيه صلاة الحق ظاهرة ... وصادق من كتاب الله معروف
فيه الزبرجد والياقوت مؤتلف ... والكأس والذهب العقيان مرصوف
ترى تهاويله من نحو قبلتنا ... يلوح فيه من الألوان تشويف
يكاد يعشي بصير القوم زبرجه ... حتى يكاد سواد العين مطروف
وفضة تعجب الرائين بهجتها ... كريمها فوق أعلاهن معطوف
وقبة لا تكاد الطير تبلغها ... أعلى محاريبها بالساج مسقوف
لها مصابيح فيها الزيت من ذهب ... يضيء من نورها لبنان والسيف
فكل أفنائه والله زينه ... مبطن برخام الشام محفوف
في سرة الأرض مشدود جوانبه ... وقد أحاط به الأنهار والريف
فيه المثاني وآيات مفصلة ... فيهن من رتب وعد وتخويف
تمت قصيدة حق غير ذي كذب ... في حوكها من كلام الشعر تأليف
قومت منها فلا ريع ولا أود ... كما أقام قنا الخطي تثقيف(8/157)
فهذا الوصف الجميل للجامع الأموي كما أصلحه الوليد وجمله بضروب المحاسن الهندسية من أقدم وأدق ما أنشده فيه أحد الشعراء المعاصرين. ومما قاله في سيره في أنحاء الشام (من الوافر) :
أرقت وصاحبي ببعلبك ... وأرقني الهموم مع التكشي
ومنها في رسوم الدار وأطلالها:
وكم من دونها من خرق تيه ... ومن رمل ومن جبل ودك
غشيت لها رسوماً دارسات ... بأسفل لعلع من دون أرك
تغيرها الرياح وكل غيث ... له حبك رواء بعد حبك
وقفت بها ودمع العين يجري ... تحادر لؤلؤ من وهي سلك
ومن يسل الرسوم فلا تجبه ... يحن كما حننت بها ويبكي
ومن حكمه أيضاً ما ورد في أول قصيدة ديوانه التي بدؤها (من الطويل) :
أرقت وشر الداء هم مؤرق ... كأني أسير جانب النوم موثق
وفيها يقول ويؤخذ منه أن نابغة بني شيبان هو المدعو بالنابغة البكري:
وقال العدو والصديق كلاهما ... لنابغة البكري شعر مصدق
فأحكم ألباب الرجال ذوو التقى ... وكل امرئ لا يتقي الله أحمق
وللناس أهواء وشتى همومهم ... تجمع أحياناً وحيناً تفرق
وزرع وكل الزرع يشبه أصله ... هم ولدوا شتى مليس ومحمق
فذو الصوت لا يجني عليه لسانه ... وذو الحلم مهدي وذو الجهل أخرق
ولست وإن سر الأعالي بهالك ... وليس ينجيني من الموت مشفق(8/158)
ومن قوله في بلايا الدهر (من الطويل) :
ما الناس إلا في رماق وصالح ... وما الدهر إلا خلفه ودهور
مراتب إما البؤس منها فزائل ... وكل نعيم في الحياة غرور
فذو الشر لا يبقى ولا الخير دائم ... وكل زمان بالرجال عثور
متى يختلف يوم عليك وليلة ... يلح منهما في عارضيك قتير
جديدان يبلى فيهما كل صالح ... حثيثان هذا رائح وبكور
وأعلم أن لا شيء يبقى مؤملاً ... خلا أن وجه الله ليس يبور
وكل امرئ إن صح أو طال عمره ... إلى ميتة لا بد سوف يصير
يؤمل في الأيام ما ليس مدركاً ... وليس له من أن ينال خفير
وكائن ترى من كامل العقل يزدري ... ومن ناقص المعقول وهو جهير
ومنهم قصير رام مجداً فناله ... وآخر هيق في الحفاظ قصير
ومن طالب حقاً بفحش يفوته ... ويدركه بالحق وهو ستير
ومن أقواله أيضاً في الدهر وحدثانه (من البسيط) :
كم من مؤمل شيء ليس يدركه ... والمرء يزري به في دهره الأمل
يرجو الثراء ويرجو الخلد مجتهداً ... ودون ما يرتجى الأقدار والأجل
والدهر يبلي الفتى حتى يغيره ... كما تغير بعد الجدة السمل
كل المصائب إن جلت وإن عظمت ... إلا المصيبة في دين الفتى جلل
ومنها في مدح مسلمة بن عبد الملك بن مروان:(8/159)
ينوون مسلمة الفياض نائله ... وكعبه في يفاع المجد معتدل
صلب القناة رباً والحزم شيمته ... فليس في أمره وهن ولا هزل
قضاؤه مستقيم غير ذي عوج ... فليس في حكمه حيف ولا ميل
القائل الفصل والميمون طائره ... فليس في قوله هذر ولا خطل
لا ينقض الأمر إلا ريث يبرمه ... وليس يثنيه عن أمر التقى كسل
إن الذين بهم يرمون صخرته ... لن يبلغوه وإن عزوا وإن كملوا
لن يدركوك ولم يلحقك سوؤهم=حتى يولج سم الإبرة الجمل ومن قصائده المستحسنة فائتيه التي أولها (من البسيط) :
بأن السفاء وأودى الجهل والسرف ... وفي النقى بعد إفراط الفتى خلف
وقد كساني شيباً قد غنيت به ... مر الليالي مع الأيام تختلف
قالت لي النفس سراً إذ خلوت بها ... والنفس صادقة لو أنها تقف
إن الشباب جنون شرخ باطله ... يقيم غضاً زماناً ثم ينكشف
ذر الشباب فلا تتبع لذاذته ... إن الذي يتبع اللذات مقترف
من يعله الشيب لم يحدث له عظةً ... فذاك من سوسه الإفراط والعنف
فلا تهابن أسفاراً وإن بعدت ... إن هابها عاجز في عوده قصف
قد يرجع المرء لا ترجى سلامته ... وقد يصيب طويل القعدة التلف
ومما يروى لنابغة بني شيبان عبد الله بن مخارق (في حماسة البحتري ع 1276) ولم نجده في ديوانه قوله في سكوته عن جواب الجاهل (من الطويل) :
سأمنع نفسي رفد كل بخيل ... وأحبس نطقي عن جواب جهول(8/160)
فإن الجهول لا يرد كلامه ... وليس سبيل الجاهلين سبيلي
وروى له أيضاً البحتري (ع 253 و 811) يوصي بمؤاخاة الصالحين والابتعاد عن ذوي النميمة (من الوافر) :
عليك بكل ذي حسب ودين ... فإنهم هم أهل الوفاء
وإن خيرت بينهم فلاصق ... بأهل العقل منهم والحياء
فإن العقل ليس له إذا ما ... تفاضلت الفضائل من كفاء
ولا تثقن بالنمام فيما ... حباك من النصيحة في الخلاء
وأيقن أن ما أفضي إليه ... من الأسرار منكشف الغطاء
وقال الدينوري في تاريخه المعنون بالأخبار الطوال (كتب معاوية إلى علي: إنما مثلي ومثل عثمان كما قال مخارق (من الطويل) :
فمهما تسل عن نصري السيد لا تجد ... لدى الحرب بيت السيد عندي مدمما
فكتب إليه عليك أني عأرض عليك ما عرض مخارق على بني فالج قال (من الطويل) :
يا راكباً إما عرضت فبلغن ... بني فالج حيث استقر قرارها
هلموا إلينا لا تكونوا كأنكم ... بلاقع أرض طار عنها غبارها
سليم بن منصور أناس أعزة ... وأرضهم أرض كثير وبارها
وكذلك روى له في اللسان في مادة نمى (218: 20) قوله مما لا ذكر له في ديوانه يصف ما في شعره من الهجو الحاد (من الوافر) :
وقافية كأن السم فيها ... وليس سليمها أبداً بنامي
صرفت بها لسان القوم عنكم ... فخرت للسنابك والحوامي
(قال) النامي الناجي. وروى له ياقوت في معجم البلدان (742: 1 و 61: 3 وفي المشترك ص 66) قوله (من البسيط) :
أرى البنانة أقوت بعد ساكنها ... فذا سدير وأقوى منهم أقر(8/161)
(قال) البنانة أرض من بلاد غطفان. والبنانة أيضاً ماء لبني جذيمة. والسدير موضع في ديار غطفان وقيل قاع بين البصرة والكوفة. وأقر جبل.
8- حنين الحيري الشاعر المغني
(تعريفه ودينه) قال أبو الفرج في الأغاني (120: 2) : (حنين بن بلوع الحيري مختلف في نسبه فقيل أنه من العباديين وقيل أنه من بني الحرث بن كعب وقيل أنه من قوم بقوا من جديس وطسم فنزلوا في بني الحرث بن كعب فعدوا فيهم. ويكنى أبا كعب وكان شاعراً مغنياً فحلاً من فحول المغنين وله صنعة فاضلة متقدمة وكان يسكن الحيرة ويكري الجمال إلى الشام وغيرها وكان نصرانياً) .
وقال صاحب مسالك الأبصار في فصله الذي خصه بمشاهير أهل الموسيقى: (حنين الحيري مطرب لا يرتفع إليه رأس مطرق، ولا ينتفع معه أمل متشوق، من سراة أهل الغناء، وبراة الطرب للعناء، يكاد سامعه يخرج من إهابه، ويحرق بالتهابه، ما حرك عوده إلا فعم، ولا بنت شفته إلا في نعم، لو سمعه جبل لتحرك، أو دخل في أذن سوقة لظن أنه قد تملك) .
(أخباره) لحنين الحيري النجفي العبادي أخبار كثيرة تولى جمعها إسحاق بن إبراهيم الموصلي في كتاب دعاه (أخبار حنين الحيري) ذكره المدائني يستدل بهما على مقام حنين. وإليه تنسب الحنينيات التي ورد ذكرها في شعر دعبل الخزاعي في هجوه لإبراهيم بن المهدي المغني الشهير وكان البعض بايعوه بالخلافة فأتاه قوم ينتجعون عطاءه وهو لا يستطيع أن يرفدهم بشيء فقال دعبل يهجو إبراهيم:
يا معشر الأجناد لا تقنطوا ... وارضوا بما كان ولا تسخطوا
فسوف تعطون حنينيةً ... يلتذها الأمرد والأشمط
والمعبديات لقوادكم ... لا تدخل الكيس ولا تربط
وهكذا يرزق قواده ... خليفة مصحفه البربط
قالوا الحنينيات أغاني منسوبة إلى حنين النجفي العبادي المغني الشهير. والمعبديات(8/162)
منسوبة إلى معبد المغني والبربط آلة تشبه العود فارسي معرب (نزهة الجليس 267: 1- 268) .
سبق قول أبي الفرج أن حنيناً كان شاعراً ومغنياً. أما شعره فلم يبق منه إلا القليل. وأما غناؤه فكثير وله الأصوات المتعددة التي ذكرها في الأغاني في أماكن عديدة منها وربما كان يتغنى بشعره وهو القائل يصف الحيرة ومنزله فيها قال (من المنسرح) :
أنا حنين ومنزلي النجف ... وما نديمي إلا الفتى القصف
أقرع بالكاس ثغر باطية ... مترعة تارةً وأغترف
من قهوة باكر التجار بها ... بيت يهود قرارها الخزف
والعيش غض ومنزلي خصب ... لم تغذني شقوة ولا عنف
فالشعر والغناء كلاهما لحنين.
ومن أخبار حنين ما رواه عنه حماد الراوية قال (الأغاني 122: 2) : قرأت على أبي المدائني قال: كان حنين غلاماً يحمل الفاكهة بالحيرة وكان لطيفاً في عمل التحيات. فكان إذا حمل الرياحين إلى بيوت الفتيان ومياسير أهل الكوفة وأصحاب القيان والتطربين إلى الحيرة ورأوا رشاقته وحسن قده وحلاوته وخفة روحه استحلوه وأقام عندهم وخف لهم. فكان يسمع الغناء ويشتهيه ويصغي إليه ويستمعه ويطيل الإصغاء غليه فلا يكاد ينتفع به في شيء إذا سمعه حتى شدا منه أصواتاً فأسمعها الناس وكان مطبوعاً حسن الصوت واشتهوا غناءه والاستماع منه وعشرته وشه بالغناء وسهر فيه وبلغ منه كثيراً. ثم رحل إلى عمر بن داود الوادي وإلى حكم الوادي وأخذ منهما وغنى لنفسه في أشعار الناس فأجاد الصنعة واحكمها ولم يكن بالعراق غيره فاستولى عليه في عصره.
وجاء في أخبار حنين لأبي أيوب المدائني. إن ابن محرز أحد كبار المغنين قدم وقتئذ الكوفة وبها الأمير بشير بن مروان وقد بلغه أن يشرب الشراب ويسمع الغناء فصادفه قد خرج إلى البصرة وبلغ خبره حنين بن بلوع فتلطف له حتى دعاه(8/163)
فغناه ابن محرز لحناً من جدي الأغاني فسمع حنين شيئاً هاله وحيره فخشي أن يعرفه الناس فيستحلونه ويستولي على البلد فيسقط هو فقال لابن محرز: كم منتك نفسك من العراق. قال: ألف دينار. فقال: فهذه خمسمائة دينار حاصلة عاجلة ونفقتك في عودتك وبداءتك ودع العراق وامض مصاحباً حيث جئت واحلف أنك لا تعود للعراق. (قال) وكان ابن محرز صغير الهمة لا يحب عشرة الملوك ولا يؤثر على الخلوة شيئاً فأخذها وانصرف.
وقد أخبر حماد الراوية عن حنين (الأغاني 121: 2) أن هشام بن عبد الملك حج مع عديله الأبرش الكلبي فوقف له حنين بظهر الكوفة معه عوده وزامر له وعليه قلنسوة طويلة. فلما مر به هشام عرض له فقال: من هذا؟ فقيل له: حنين. فأمر به فحمل على جمل وعديله زامره وسيره أمامه وهو يتغنى (من مجزوء الوافر) :
أمن سلمى بظهر الكو ... فة الآيات الطلل
يلوح كما تلوح على ... جفون الصيقل الخلل
(قال) فلم يزل هشام يستعيد الصوت حتى نزل من النجف فأمر له بمائتي دينار وللزامر بمائة.
وأخبر إسحاق الموصلي (الأغاني 122: 2- 123) أن والي العارق خالد بن عبد الله القسري حرم الغناء بالعراق في أيامه. ثم أذن للناس يوماً في الدخول عليه فدخل حنين ومعه عوده تحت ثيابه فقال: أصلح الله الأمير كانت لي صناعة أعود بها على عيالي حرمها الأمير فأضر بي وبهم. فقال: وما صناعتك؟ فكشف عن عوده وقال: هذا. فقال: عن. فحرك أوتاره وغنى (في شعر عدي بن زيد العبادي) :
أيها الشامت المعير بالدهر ... أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد المعير من الأيام ... بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
(قال) فبكى خالد وقال: (قد أذنت لك وحدك خاصةً فلا تجالسن سفيهاً ولا معربداً) . فكان إذا دعي قال: أفيكم سفيه أو معربد؟ فإذا قيل له: لا. دخل.
ومن ظريف ما روي عن الشعبي أنه قال (الأغاني 123: 2) : لما ولي بشر بن(8/164)
مروان الكوفة كنت على مظالمه فأتيته عشيةً وحاجبه أعين صاحب (حمام أعين) جالس فقلت: (أعلمه وخلادك ذم فقد حدث أمر لا بد لي من إنهائه إليه) . وكان لا يجلس بالعشي. فقال: لا ولكن اكتب ما حاجتك في رقعة حتى أوصلها إليه. فكتبت رقعة فما لبث أن خرج التوقيع على ظهرها: ليس الشعبي ممن يحتشم منه. فأذن لي فقال: ادخل. فدخلت فغذا بشر بن مروان عليه غلالة رقيقة صفراء وملاءة تقوم قياماً من شدة الصقال وعلى رأسه إكليل من ريحان وعلى يمينه عكرمة بن ربعي وعلى يساره خالد ابن عناب بن ورقاء وإذا بين يديه حنين بن بلوع معه عوده. فسلمت فرد علي السلام ورحب وقرب ثم قال: يا أبا عمرو لو كان غيرك لم آذن له على هذه الحال. فقلت: أصلح الله الأمير عندي لك الستر لكل ما أرى منك والدخول معك فيما لا يجمل والشكر على ما توليني. فقال: كذاك الظن بك. ثم التفت إلى حنين وعوده في حجره وعليه قباء خشك شوى (وقال إسحاق: خشكون) ومنشة حمراء وخفان مكعبان فسلم علي فقلت له: كيف أنت يا أبا كعب؟ فقال: بخير أبا عمرو. فقلت: احزق الزير وأرخ البم. ثم اقبل علي فقال: أبا عمرو ومن أين وقع لك حزق الزير؟ فقلت: ظننت أن الأمر هناك. قال: فإن الأمر كما ظننت هناك كله. ثم قال: فمن أين تعرف حنيناً؟ فقلت: هذا بطة أعراسنا فكيف لا أعرفه. فضحك وغنى حنين فأجاد فطرب الأمير وأمر له بجائزة ثم ودعته وذلك بعد أن ذكرت له ما جئت فيه فأمر لي بعشرة آلاف درهم وعشرة أثواب فقمت مع الخادم حتى قبضت ذلك منه وانصرفت.
وقد جرى لحنين مع أهل حمص فصل مضحك أخبر به فقال (الأغاني 123: 2) : خرجت إلى حمص التمس الكسب بها وأرتاد من استفيد منه شيئاً. فسالت عن الفتيان وأين يجتمعون فقيل لي: عليك بالحمامات فإنهم يجتمعون بها إذا أصبحوا. فجئت إلى أحدها فدخلت فإذا فيها جماعة منهم فأنست وانبسطت وأخبرتهم أني غريب ثم خرجوا وخرجت معهم فذهبوا بي على منزل أحدهم. فلما قعدنا أتينا بالطعام فأكلنا وأتينا بالشراب فشربنا فقلت لهم: هل لكم في مغن يغنيكم؟ قالوا: ومن لنا بذلك؟ قلت: أنا لكم هاتوا عوداً. فأتيت به فابتدأت في هنيات أبي عباد معبد. فكأنما غنيت للحيطان لا فكهوا لغنائي ولا سروا به. فقلت: ثقل عليهم غناء معبد لكثرة(8/165)
عمله وشدته وصعوبة مذهبه. فأخذت في غناء الغريض فإذا هو عندهم كلا شيء وغنيت خفائف ابن سريج وأهزاج حكم والأغاني التي لي واجتهدت في أن يفهموا فلم يتحرك من القوم أحد وجعلوا يقولون: ليت أبا منبه قد جاءنا. فقلت في نفسي: أرى أني سأفتضح اليوم بابي منبه فضيحةً لم يفتضح لها أحد قط مثلها. فبينا نحن كذلك إذ جاء أبو منبه وإذا هو شيخ عليه خفان أحمران كأنه جمال فوثبوا جميعاً إليه وسلموا عليه وقالوا: يا أبا منبه أبطأت علينا. وقدموا له الطعام وسقوه أقداحاً وخنست أنا حتى صرت كلا شيء خوفاً منه. فأخذ العود ثم اندفع يغني:
طرب البحر فاعبري يا سفينة ... لا تشقي على رجال المدينة
وأقبل القوم يصفقون ويطربون ويشربون. ثم أخذ في نحو هذا من الغناء. فقلت في نفسي: أنتم ها هنا لئن أصبحت سالماً لا أمست في هذه البلدة. فلما أصبحت شددت رحلي على ناقتي واحتقبت ركوةً من شراب ورحلت متوجهاً إلى الحيرة وقلت (من الخفيف) :
ليت شعري متى تخب بي النا ... قة بين السدير والصنين
محقباً ركوةً وخبز رقاق ... وبقولاً وقطعةً من نون
لست ابغي زاداً سواها من الشا ... م وحسبي علالة تكفيني
فإذا أبت سالماً قلت سحقاً ... وبعاداً لمشعر فارقوني
وقد استطرد صاحب الأغاني (125: 2) فروى فصلاً في ذكر الحيرة وأهلها ننقله هنا عنه قال: كان بعض ولاة الكوفة يذم الحيرة في أيام بني أمية فقال له رجل من أهلها وكان عاقلاً ظريفاً: أتعيب بلدةً بها يضرب المثل في الجاهلية والإسلام. قال: وبماذا تمدح؟ قال: (بصحة هوائها وطيب مائها ونزهة ظاهرها تصلح للخف والظلف. سهل وجبل، وبادية وبستان، وبر وبحر، محل الملوك ومزارهم، ومسكنهم ومثواهم، وقد قمتها أصلحك الله مخفاً فرجعت مثقلاً ودرتها مقلا فأصارتك مكثراً) . قال: وكيف تعرف ما وصفتها به من الفضل؟ قلت: بأن تصير غلي ثم ادع نما شئت من لذات العيش فوا الله لا أجوز بك الحيرة فيه. قال: فاصنع لنا صنيعاً واخرج من قولك. قلت: افعل. فصنع لهم طعاماً وأطعمهم من خبزها وسمكها وما(8/166)
صيد من وحشها من ظباء ونعام وأرانب وحبارى وسقاهم ماءها في قلالها وخمرها في آنيتها وأجلسهم على رقمها وكان يتخذ بها من الفرش أشياء ظريفة ولم يستخدم لهم حراً ولا عبداً إلا من مولديها ومولداتها من خدم ووصائف كأنهم اللؤلؤ لغتهم لغة أهلها ثم غناهم حنين وأصحابه في شعر عدي بن زيد شاعرهم وأعشى همذان لم يتجاوزهما وحياهم برياحينها ونقلهم على خمرها وقد شربوا بفواكهها ثم قال له: هل رأيتني استعنت على شيء مما رأيت وأكلت وشربت وافترشت وشممت وسمعت بغير ما في الحيرة؟ قال: لا والله ولقد أحسنت صفة بلدك ونصرته فأحسنت نصرته والخروج مما قد تضمنته فبارك الله لكم في بلدكم.
وبقي حنين يتردد في البلاد إلى أيام شيخوخته: حدث شيخ من المكيين يقال له شريس قال: أنا لبالأبطح (في مكة) أيام الموسم نشتري ونبيع إذ أقبل شيخ أبيض الرأس واللحية على بغلة شهباء ما ندري أهو أشد بياضاً أم بغلته أم ثيابه فقال: أين بيت أبي موسى؟ فأشرنا له إلى الحائط فمضي حتى انتهى إلى الظل من بيت أبي موسى ثم استقبلنا ببغلته ووجهه ثم اندفع في شعر لكثير:
أسعدينين بدمعة أسراب ... من دموع كثيرة التسكاب
(قال) ثم صرف الرجل بغلته وذهب فتبعناه حتى أدركناه فسألناه من هو؟. فقال: (أنا حنين بن بلوع وأنا رجل جمال أكري الإبل) . ثم مضى.
وقد أخبر إبرهيم بن المهدي (الأغاني 125: 2- 126) بخبر سمعه من حفيد حنين قال: كنت مع الرشيد في السنة التي نزل فيها على عون العبادي فأتاني عون بابن ابن حنين بن بلوع وهو شيخ فغناني عدة أصوات لجده فما استحسنتها لأن الشيخ كان مشوه الخلق طن الغناء قليل الحلاوة إلا أنه كان لا يفارق عمود الصوت أبداً حتى يفرغ منه فغناني صوت ابن سريج (في قول عنترة) :
فتركته جزر السباع ينشنه ... ما بين قلة رأسه والمعصم
فما أذكر أني سمعته من أحد قط أحسن مما سمعته منه فقلت: لقد أحسنت في هذا الصوت وما هو من أغاني جدك ولا من أغاني بلدك وأني لأعجب من ذلك.
فقال لي الشيخ: والصليب والقربان ما صنع هذا الصوت إلا في منزلنا وفي سرداب جدي ولقد كاد أن يأتي على نفس عمي فسألته عن الخبر في ذلك فقال: حدثني أبي(8/167)
أن عبيد الله بن سريج قدم الحيرة ومعه ثلاثمائة دينار أتى بها منزلنا في ولاية بشر بن مروان الكوفة وقال: أنا رجل من أهل الحجاز من أهل مكة بلغني طيب الحيرة وجودة خمرها وحسن غنائك في هذا الشعر (من الوافر) :
حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتل يدنو لصيد
قريب الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيداً أني بقيد
فخرجت بهذه الدنانير لأنفقها معك ونتعاشر حتى تنفذ وأنصرف إلى منزلي. فسأله جدي عن اسمه ونسبه فغيرهما وانتمى إلى بني مخزوم فأخذ جدي المال منه وقال: (موفر مالك عليك ولك عندنا كل ما يحتاج إليه مثلك ما نشطت للمقام عندنا فإذا دعتك نفسك إلى بلدك جهزناك إليهم ورددنا عليك مالك وأخلفنا ما أنفقته عليك إن جئتنا) . وأسكنه داراً كان ينفرد فيها فمكث عندنا شهرين لا يعلم جدي ولا أحد من أهلنا أنه يغني حتى انصرف جدي من دار بشر بن مروان في يوم صائف مع قيام الظهيرة فصار إلى باب الدار التي كان أنزل ابن سريج بها فوجده مغلقاً فارتاب بذلك ودق الباب فلم يفتح له ولم يجبه أحد فصار إلى منازل الحرم فلم يجد فيها بنته ولا جواريها ورأى ما بين الدار التي فيها الحرم ودار ابن سريج مفتوحاً فانتضى سيفه ودخل الدار ليقتل ابنته. فلما دخلها رأى ابنته وجواريها وقوفاً على باب السرداب وهن يومئن إليه بالسكوت وتخفيف الوطء. فلم يلتفت إلى إشارتهن لما تداخله إلى أن سمع ترنم ابن سريج بهذا الصوت فألقى السيف من يده وصاح به وقد عرفه من غير أن يكون رآه ولكن بالنعت والحذق: (أبا يحيى جعلت فداءك أتيتنا بثلاثمائة دينار لتنفقها عندنا في حيرتنا فوحق المسيح لا خرجت منها إلا ومعك ثلاثمائة دينار وثلاثمائة دينار وثلاثمائة دينار سوى ما جئت به معك) . ثم دخل إليه فعانقه ورحب به ولقيه بخلاف ما كان يلقاه به وسأله عن هذا الصوت فأخبره أنه صاغه في ذلك الوقت فصار معه إلى بشر بن مروان فوصله بعشرة آلاف درهم أول مرة ثم وصله بعد ذلك بمثلها. فلما أراد الخروج رد عليه جدي ماله وجهزه ووصله بمقدار نفقته التي أنفقها من مكة إلى الحيرة ورجع ابن سريج إلى أهله وقد أخذ جميع من كان في دارنا منه هذا الصوت.
وقال إسحاق الموصلي (الأغاني 125: 2) : لم يكن بالحيرة مذكور في الغناء سوى(8/168)
حنين إلا نفراً من السدرين يقال لهم عباديس وزيد بن الطليس وزيد بن كعب ومالك بن حممة وكانوا يغنون غناء الحيرة بين الهزج والنصب وهو إلى النصب أقرب ولم يذروا منه شيئاً لسقوطه وأنه ليس من أغاني الفحول وما سمعنا نحن لأحد من هؤلاء خبراً إلا لمالك بن حممة ... وقال إسحاق (الأغاني 121: 2) قيل لحنين: أنت تغني منذ خمسين سنة ما تركت لكريم مالاً ولا داراً ولا عقاراً إلا أتيت عليه.
فقال: بأبي أنتم إنما هي أنفاسي أقسمها بين الناس أفتلومونني أن أغلى بها الثمن.
وقال وكيع في خبره عن إسحاق: عاش حنين بن لوع مائة سنة وسبع سنين وكان يقال أنه من جديس. (قال) وقيل أيضاً أنه من لخم وكان هو يزعم أنه عبادي وأخواله من بني الحرث بن كعب.
أما سبب موته فما حدث به حفيده عبيد قال (الأغاني 127: 2) : كان المغنون في عصر جدي أربعة نفر ثلاثة بالحجاز وهو وحده بالعراق والذين بالحجاز ابن سريج والغريض ومعبد فكان يبلغهم أن جدي حنيناً قد غنى في هذا الشعر (وهو لعدي ابن زيد) :
هلا بكيت على الشباب الذاهب ... وكففت عن ذم المشيب الآيب
هذا ورب مسوفين سقيتهم ... من خمر بال لذةً للشارب
بكروا علي بسحرة فصبحتهم ... من ذات كرنيب كقعب الحالب
بزجاجة ملء اليدين كأنها ... قنديل صبح في كنيسة راهب
(قال) فاجتمعوا فتذاكروا أمر جدي وقالوا: ما في الدنيا أهل صناعة شر منا لنا أخ بالعراق ونحن بالحجاز لا نزوره ولا نستزيره. فكتبوا إليه ووجهوا له نفقةً وكتبوا يقولون: نحن ثلاثة وأنت وحدك وأنت أولى بزيارتنا. فشخص إليهم. فلما كان على مرحلة من المدينة بلغهم خبره فخرجوا يتلقونه فلم ير يوم كان أكثر حشراً ولا جمعاً من يومئذ. ودخلوا فلما صاروا في بعض الطريق قال لهم معبد: صيروا إلي. فقال له ابن سريج: إن كان لك من الشرف والمروءة مثل ما لمولاتي سكينة بنت الحسين (بن أبي طالب) عطفنا إليك. فقال: ما لي من ذلك شيء ... وعدلوا إلى منزل سكينة. فلما دخلوا إليها أذنت للناس إذناً عاماً فغصت الدار بهم وصعدوا(8/169)
فوق السطح وأمرت لهم بالأطعمة فأكلوا منها ثم أنهم سألوا جدي حنيناً أن يغنينهم صوته الذي أوله (هلا بكيت على الشباب الذاهب) فغناهم إياه بعد أن قال لهم: ابدأوا أنتم. فقالوا: ما كنا لننتقمك ولا نغني قبلك حتى نسمع هذا الصوت. فغناهم إياه وكان من أحسن الناس صوتاً فازدحم الناس على السطح وكثروا ليسمعوه فسقط الرواق على من تحته فسلموا جميعاً وأخرجوا أصحاء ومات حنين تحت الهدم فقالت سكينة عليها السلام: لقد كدر علينا حنين سرورنا انتظرناه مدة طويلة كأنا والله كنا نسوقه إلى منيته.
وقد ورد في أخبار حنين بن إسحاق المتطبب (طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة 189: 1) نقلاً عن كتاب اللهو والملاهي للسرخسي أنه قال: وافاني في بعض الليالي أيام المتوكل رسل من دار الخليفة يطلبونني ويقولون: الخليفة يريدك. ثم وافت بعدهم طائفة ثم وافاني زرافة فأخرجني من فراشي ومضى بي ركضاً حتى أدخلني إلى الخليفة فقال: يا سيدي هوذا حنين. (قال) فقال: ادفعوا إلى زرافة ما ضمنا له. (قال) فدفع إليه ثلاثون ألف درهم ثم أقبل علي فقال: أنا جائع فما ترى في العشاء؟ فقلت له في ذلك قولاً. فلما فرغ من أكله سألت عن الخبر فقيل لي أن مغنياً غناه صوتاً فسأله لمن هو فقال: لحنين بن بلوع العبادي فأمر زرافة بإحضار حنين بن بلوع العبادي فقال هل: يا أمير المؤمنين لا أعرفه. فقال: لا بد منه وأن أحضرته فلك ثلاثون ألف درهم. (قال) فأحضرني ونسي المتوكل السبب بما كان في رأسه من النبيذ وحضرت وقد جاع فأشرت عليه بأن يقطع النبيذ ويتعشى وينام ففعل.
9- الأخطل التغلبي
ليس بين شعراء النصرانية بعد الإسلام شاعر بلغ مبلغ الأخطل التغلبي بجودة شعره ومتانته وغزارته وتفننه. وقد اتفق على ذلك كل أرباب النقد على اختلاف نزعاتهم وأديانهم ومواطنهم. فلا يسعنا أن نضرب صفحاً عنه في ذكرنا لشعراء النصرانية في عهد بني أمية وهو شاعرهم غير منازع يفتخرون به ويحلونه محل ندمائهم وأعز أصدقائهم ويجيزون له ما لا يجيزونه لسواه من أصحابهم.(8/170)
على أن أحد أخواننا حضرة الأب أنطون صالحاني قد شغف به وبشعره منذ ثلثين سنةً فلم يدع كبيرةً ولا صغيرةً من أموره إلا كشف عنها القناع استناداً إلى ثلث نسخ من ديوانه وإلى ما ورد من أخباره المتفرقة في عشرات من تآليف الأدباء وهو لا يزال يكد ذهنه ويسهر جفنه ليلتقط ما لعله فاته من آثاره ويعد فهارسه التي ستكلل طبعة ديوانه بتاج من الكمال لا نظن أن شاعراً آخر أصاب مثله. وعليه لم يبق لنا إلا أن نغرف من هذا البحر الطامي ونستخرج بعض دراريه لنصوغ لشاعرنا قلادةً صغيرة محيلين قراءنا إلى ما جمعه رصيفنا المفضال.
(أصل الأخطل ونسبه وصباه) هو أبو مالك غياث بن غوث من قبيلة غنم ابن تغلب. كان مولده في أواسط القرن السابع للميلاد نحو السنة 640 م. ولد في الجزيرة أي ما بين النهرين حيث كانت منازل تغلب في جهات الرقة والرصافة. وكان أبوه غوث من وجوه قومه وأمه ليلى تعرف بأم كعب وكانت تحبه وتعنى بأمره. وكان الولد أشهب الشعر لطيف المنظر فعلقت على صدره صليباً لم ينزعه عن صدره حتى في أيام كهولته وعند دخوله على الخلفاء فعرف لذلك بذي الصليب.
ما كاد الولد يبلغ أشده حتى ظهرت فيه ملامح النجابة والذكاء ولعله تفقه في أصول القراءة والكتابة على بعض كهنة قومه. وما يلوح من بعض أعماله في صباه أنه كان فرهاً جريئاً سليط اللسان لا يهاب سطوة أكبر منه فلقبوه بالأخطل أي السفيه. وسمع الشعر من بعض مواطنيه فتنبه إليه ذهنه ووجد في قريحته شحذاً لغربه فقاله وهو غلام مترعرع.
(دينه) ولد الأخطل نصرانياً وتلقن مبادئ دينه في حداثته وثبت عليه في مدى حياته. والمرجح أنه كان على مذهب اليعقوبية الذي كان شاع في قبائل البادية. وكان الأخطل يجاهر بدينه لا يعمل فيه الحياء البشري. والدليل عليه دخوله على الخلفاء والصليب على صدره لا يخجل من حمله علانيةً. كما أن هجاء أقرانه الشعراء ولاسيما جرير لم يؤثر فيه من هذا القبيل. ولما عرض عليه الخليفة عبد الملك أن يدين بالإسلام أبى ونجا منه بأبيات هزلية. وسمعة هشام بن عبد الملك ينشد في قصيدته اللامية قوله:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال(8/171)
فقال له: هنيئاً يا أبا مالك هذا الإسلام. فقال له: يا أمير المؤمنين ما زلت مسلماً في ديني. ولما دعاه بعضهم في الكوفة إلى دخول مسجد بني رؤاس ليصلي وكان مؤذنهم نادى بالصلاة قال (من الوافر) :
أصلي حيث تدركني صلاتي ... وليس البر عند بني رؤاس
وربما قرعوه بالكفر فكان لا يكترث لشتمهم. وعلى خلاف ذلك كان يرضخ لأوامر رؤسائه النصارى ويتقرب إليهم في أسرار دينه فكان (يقوم بين يدي قسيسه لأخذ القربان) كما بكته عليه جرير بعد قوله (من الطويل) :
واني لقوام مقاوم لم يكن ... جرير ولا مولى جرير يقومها
بل كان مع إبائه وعزة نفسه لا يستنكف من تأديب رؤسائه له كما أخبر عنه في الأغاني أبو الفرج عن أحد الرواة أنه رأى القس في الجزيرة وقد قبض بلحية الأخطل وضربه بعصاه وهو يضيء الفرخ فقال له: أين هذا مما كنت فيه بالكوفة. فقال لا فض فوه: يا ابن أخي إذا جاء الدين ذللنا (الديوان 337) .
وأعجب منه مار واه هناك أيضاً إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نون عن تذلله في دمشق لقسيسه وفي طبقات الجمحي (ص 144) لأسقفه قال (الأغاني 182: 7-183) : (قدمت الشام وأنا شاب مع أبي فكنت أطوف في كنائسها ومساجدها فدخلت كنيسة دمشق وإذا الأخطل محبوس فجعلت انظر إليه فسأل عني فأخبر بنسبي فقال: يا فتى أنك لرجل شريف وأني أسألك حاجةً. فقلت: حاجتك مقضية. قال: إن القس حبسني ها هنا فتكلمه ليخلي عني. فأتيت القس فانتسبت له فرحب وعظم. قلت: إن لي إليك حاجةً. قال: ما حاجتك. قلت: الأخطل تخلي عنه. قال: (أعيذك بالله من هذا. مثلك لا يتكلم فيه فاسق يشتم أعراض الناس وهجوهم) . فلم أزل أطلب إليه حتى مضى معي متكئاً على عصاه فوقف وجعل يهدده ورفع عليه عصاه وقال: (يا عدو الله أعود تشتم الناس وتهجوهم وتقذف المحصنات) وهو يتضرع إليه ويقول: (لست بعائد ولا أفعل) ويستخذي له. (قال) فقلت له: (يا أبا مالك الناس يهابونك والخليفة يكرمك وقدرك في الناس وأنت تخضع لهذا الخضوع وتستخذي له. (قال) فجعل يقول لي: إنه الدين أنه الدين) .
وآثار الدين في شعر الأخطل قليلة سواء كان السبب ضياع بعض شعره أم بالأحرى لعدم وجوده داعياً لوصف الدين. وفي ديوانه أنه كان يحلف بالإنجيل والقربان. وفي شعره إشارات واستعارات منقولة عن عادات النصارى ومعتقداتهم وقد تكرر(8/172)
فيه ذكر الأنبياء والجنة والخلود. وقلما تجد قصيدةً بين قصائده إلا دلت على تدينه إن لم تدل على نصرانيته.
(اتصال الأخطل بالخلفاء) تنقل الأخطل في البلاد مع قبيلته تغلب الرحل فسكن البادية المجاورة للفرات عند قومه بني مالك وعاش مدة في الحيرة حتى قال عنه في الأغاني (170: 7) إنه (كان نصرانياً من أهل الحيرة) وقد مر لنا ذكر مروره بالكوفة. ثم نمى خبره إلى الخفاء بني أمية فرحل إليهم إلى دمشق فما لبث أن حظي عندهم أوفر حظوى لما سمعوا إنشاده واختبروا جودة قريحته وغزارة ديباجة من اللفظ. وقد مدح خلفاء الأمويين مباشرةً بيزيد بن معاوية ثم نظم القصائد الطنانة في عبد الملك بن مروان وفي هشام والوليد ابني عبد الملك فأولع الخلفاء بشعره وحملهم تفضيلهم له على غيره إلى أن دعوه بشاعر بني أمية وأكرموه أي إكرام واغزروا عليه صلاتهم بل حدا بهم حبهم له أنهم اتخذوه كنديمهم ولم يؤاخذوه بشربة الخمر. وكان عبد الملك خصوصاً معجباً به أخبر أبو عمر (الأغاني 177: 7-178) قال: لقد كان الأخطل يجيء وعليه جبة خز وحرز خز في عنقه سلسلة ذهب تنفض لحيته خمراً حتى يدخل على عبد الملك بن مروان بغير إذن. فلما أنشده قصيدته الرائية التي أولها (من البسيط) :
خف القطين فراحوا منك أو بكروا ... وأزعجتهم نوى في صرفها غير
قال عبد الملك لغلامه: خذ بيده يا غلام فأخرجه ثم ألق عليه من الخلع ما يغمره وأحسن جائزته. ثم قال: إن لكل قوم شاعراً وإن شاعر بني أمية الأخطل.
وفي الأغاني (175: 7) نكتة هزلية رواها قبل إنشاده القصيدة السابقة قال: (دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فاستنشده فقال: قد يبس حلقي فمر من يسقيني. فقال: اسقوه ماءً. فقال: شراب الحمار وهو عندنا كثير. فقال: فاسقوه لبناً. قال: عن اللبن فطمت. قال: فاسقوه عسلاً. قال: شراب المريض. قال: فتريد ماذا؟ قال: خمراً يا أمير المؤمنين. قال: أو عهدتني أسقي الخمر لا أم لك لو حرمتك بنا لفعلت بك وفعلت. فخرج فلقي فراشاً لعبد املك فقال: ويلك إن أمير المؤمنين استنشدني وقد صحل صوتي فاسقني شربة خمر. فسقاه فقال: أعد له بآخر. فسقاه آخر. فقال: تركتهما يعتر كان في بطني. اسقني ثالثاً.(8/173)
فسقاه ثالثاً فقال: تركتني امشي على واحدة أعدل ميلي برابع. فسقاه رابعاً فدخل على عبد الملك فأنشده) .
قال الأصمعي فلما أنشده قصيدته (خف القطين) جعلت أرى عبد الملك يتطاول لها ثم قال: ويحك يا أخطل أتريد أن أكتب إلى الآفاق أنك أشعر العرب؟ قال: اكتفي بقول أمير المؤمنين. وأمر له بجفنة كانت بين يديه فملئت دراهم وألقى عليه خلعاً وخرج به مولى لعبد الملك على الناس يقول: هذا شاعر أمير المؤمنين هذا أشعر العرب.
وكما تفرد الأخطل بمديح بني أمية قد برز أيضاً في مديح كبار دولتهم وأعيان زمانه كبشر بن مروان والحجاج بن يوسف وعكرمة الفياض ومصقلة بن هبيرة وهمام بن مطرف ويزيد بن المهلب وكثيرين غيرهم. وكانوا كلهم يفضلون مديحه على كل نفيس ثمين.
جاء في وفيات الأعيان لابن خلكان (35: 2-351) وفي تحفة المجالس للسيوطي (ص 292) وغيرهما أن الحجاج بن يوسف حبس يزيد بن المهلب (والي خراسان) لبقايا كانت عليه من خراج خراسان وأقسم ليستأدي منه كل يوم مائة ألف درهم. فبينما هو يوماً وقد اختلى فيه إذ دخل عليه الأخطل فأنشده (من الطويل) :
أبا خالد ضاعت خراسان بعدكم ... وقال ذوو الحاجات أين يزيد
وما قطرت بالري بعدك قطرة ... ولا أخضر بالمروين بعدك عود
وما للسرير بعد ملكك بهجة ... ولا لجواد بعد جودك جود
فقال: يا غلام أعطه المائة ألف درهم وأنا اصبر على عذاب الحجاج ولا نخيب الأخطل. فبلغ الحجاج فقال: لله در ابن المهلب لو كان تاركاً للسخاء لتركه وهو يتوقع الموت فعفى عنه وخلى سبيله.(8/174)
(رتبة الأخطل بين الشعراء) إذا ما جمعنا ما حكم به أرباب اللغة وأصحاب النقد الصحيح عن شعر الأخطل لتضح لنا أنه بلغ رتبة أكثر شعراء العرب وكلهم ينظمه بين فحولهم الأولين. وكفى به فخراً أن أبا عمرو بن العلاء جعله في عهد الإسلام شبيهاً بالنابغة الذبياني في الجاهلية ويفضله لصحة شعره. وقد قال عنه (الأغاني 174: 7-175) : (لو أدرك الأخطل يوماً واحداً من الجاهلية لما فضلت عليه أحداً) . ومثله أبو عبيدة كان يقول: (شعراء الإسلام الأخطل ثم جرير ثم الفرزدق. والأخطل أشبه بالجاهلية وأشدهم أسر شعر وأقلهم سقطاً) . وروى ابن قتيبة في الشعر والشعراء (ص 301) لمسلمة بن عبد الملك أنه شبه الأخطل وجريراً والفرزدق بثلاثة أفراس تجري في حلبة السباق فقال: أن الأخطل سابق أبداً في كل حالاته بخلاف جرير والفرزدق اللذين يتقدمان حيناً ويتخلفان حينا آخر. وقد خصوا الأخطل بالتقدم في الوصف والفخر ومدحوا هجوه فقالوا: إنه كان أخبث الشعراء هجاء في عفاف من الفحش. والفحش كثير في شعر جرير والفرزدق. وسئل حماد الراوية عن الأخطل فقال: (ما تسألوني عن رجل قد حبب شعره إلي النصرانية) ثم قال: أشعر العرب شيخا وائل: الأعشى في الجاهلية وهو صناجة العرب. والأخطل في الإسلام) .
ولما كان الفضل ما أقرت به الأعداء يحسن بنا هنا أن نروي ما أخبر به نوح بن جرير (الأغاني 172: 7) قال: بينا أنا آكل مع أبي يوماً وفي فيه لقمة وفي يده أخرى فقلت: يا أبت أنت أشعر أم الأخطل؟ فجرص بلقمته التي في فيه ورمى بالتي في يده وقال: (يا بني لقد سررتني وسؤتني فأما سرورك إياي فتعهدي لي مثل هذا وسؤالك عنه. وأما ما سؤتني به فذكرك رجلاً قد مات. يا بني أدركت الأخطل وله ناب واحد ولو أدركته وله نابان لأكلني. ولكنني أعنت عليه بكفر (يريد نصرانيته) وكبر سن) .
(أخبار الأخطل في حروب قومه) لما توفي يزيد بن معاوية الخليفة الأموي سنة (64 هـ - 683 م) اعتزل ابنه معاوية الثاني بعد مئة يوم وبايع الناس عبد الله بن الزبير في المدينة أما أهل الشام فبايعوا مروان بن الحكم فكان ذلك سبباً لحرب عوان وقعت بين الخليفتين كان فيها النصر لمروان على خصمه في مرج راهط قريباً من دمشق. وكان التغلبيون يناصرون مروان بخلاف القيسيين الذين حاربوا مع عبد الله(8/175)
ابن الزبير. فثبتت العداوة بين القبيلتين ووقعت عدة وقائع بينهما كان الظفر فيها سجالاً لإحدى القبيلتين وكان الأخطل يحاب القيسيين مع تغلب وله وصف تلك الحروب قصائد يصف ويلاتها ويذكر فظائع قيس ورؤسائهم كزفر بن الحارث وعمير بن الحباب والجحاف. وفي أحد أيام هذه الحروب في يوم البشر قتل أبو الأخطل غياث وقيل بل هو ابنه أبو غياث ووقع الأخطل وعليه عباءة فطنوه عبداً وسئل فقال: أنا عبد. فخلي سبيله فخشي أن يعرف فيقتل فرمى نفسه في جب من جبابهم فلم يزل فيه حتى انصرف القوم فنجا. وعظم قدر التغلبيين في أعين بني أمية وحملوا ديات القوم. على أن الأخطل فارت في قلبه فائرة الغضب إذ بلغه يوماً بعد صلح القبائل أن عبد الملك استنزل زفر بن الحارث من قصره في قرقيسيا وأقعده معه في سريره. فدخل عليه ابن ذي الكلاع وكان قومه حاربوا مع تغلب وبني أمية فلما رأى زفر على السرير بكى فقال له عبد الملك: ما يبكيك فقال: يا أمير المؤمنين وكيف لا أبكي وسيف هذا يقطر من دماء قومي في طاعتهم لك وخلافه عليك ثم هو معك على السرير وأنا على الأرض. قال: إني لم أجلسه معي لأنه أكرم علي منك ولكن لسانه لساني وحديثه يعجبني. فقال الأخطل لما أخبر بذلك: أما والله لأقومن في ذلك مقاماً لم يقمه ابن ذي كلاع ثم دخل على عبد الملك فلما ملأ عينه منه قال (من الوافر) :
وكأس مثل عين الديك صرف ... تنسي الشاربين لها العقولا
إذا شرب الفتى منها ثلثاً ... بغير الماء حاول أن يطولا
مشى قرشيةً لا عيب فيها ... وأرخى من مآزره الفضولا
فقال له عبد الملك: ما أخرج هذا منك يا أبا مالك ألا خطة (خلة؟) في رأسك قال: أجل يا أمير المؤمنين حين تجلس عدو هذا معك على الشرير وهو القائل بالأمس:
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... لمروان صدعاً بيننا متنائياً(8/176)
فلا صلح حتى تنحط الخيل بالقنا ... وتثأر من نسوان كلب نسائيا
فقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
(قال) فقبض عبد الملك رجله ثم ضرب بها زفر فقلبه عن السرير. وقال: أذهب الله حزازات تلك الصدور. فقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين والعهد الذي أعطيتني. فكان زفر يقول: ما أيقنت بالموت قط إلا تلك الساعة حين قال الأخطل ما قال (الأغاني 176: 7-177) .
(موت الأخطل) قال حضرة ناشر ديوان الأخطل (ص 371) : إن الأخطل عمر عمراً طويلاً حتى قيل عنه أنه (شيخ قد تحطم الأغاني (172: 7) وأنه (دخل بين جرير والفرزدق في آخر أمرهما وقد أسن ونفد أكثر عمره) (الأغاني 38: 7) ووصف بأنه (رجل ابيض الرأس واللحية (الأغاني 169: 9) فاستنتج حضرته من هذه الأدلة أن الأخطل يكون توفي نحو السنة 692 هـ أي 710 للمسيح. قال حضرته: (إلا أن شوكته في الشعر لم تنكسر بل بقيت حادةً نافذةً يرشدك إلى ذلك قصائد درية نظم جواهرها في آخر حياته. وكانت وفاته في خلافة الوليد بن عبد الملك وله فيه عدة قصائد امتدحه بها) .
وروى صاحب الأغاني (6: 7) إن الوليد بن عبد الملك قال لجرير: فما تقول في الأخطل؟ قال: ما أخرج لسان ابن النصرانية ما في صدره من الشعر حتى مات) .
وأخبر أيضاً (180: 7) إنه لما حضرت الأخطل الوفاة قيل له: يا أبا مالك ألا توصي فقال (من المتقارب) :
أوصي الفرزدق عند الممات ... بأم جرير وأعيارها
وزار القبور أبو مالك ... برغم العداة وأوتارها
(ديوان الأخطل) روى ابن الأعرابي في كتاب الفهرست لابن النديم (ص 78 و 157) أن أبا سعيد الحسن المعروف بالسكري (عمل شعر الأخطل وجوده) أي ضبطه ونظمه. وإنما كانت نسخ هذا الديوان أعز من بيض الأنوق. ولقد كان يعرف منها إلى السنة 1887 نسخة وحيدة قديمة في بطرسبورج كان يصعب الإطلاع(8/177)
عليها. ففي السنة 1887 أهدى إلى مكتبتنا الشرقية أحد الأصحاب عدةً من المخطوطات التي كان الحلبي الشهير والأديب البارع رزق الله حسون نسخها بخطه الجميل نسخاً بديعاً على ورق صقيل مزين الأطراف بنقوش صناعية رائعة. فكان من جملتها نسخة من ديوان الأخطل منقولة عن نسخة بطرسبورج. فنبه وجودها خاطر حضرة الأب صالحاني واستفزته النخوة لنشرها كأثر فريد في جنسه. ثم كتب لناظر مكتبة بطرسبورج المستشرق الطيب الذكر البارون فون روزن فتلطف وقابل النسخة الحسونية على الأصل الذي ترى منه مثالاً في صدر طبعتنا. فتحفز الأب الغيور بعد ذلك للعمل ونشر الديوان بأهبة علمية مستوفية ضاعفت قيمته فبلغ مع حواشيه وملحوظاته المتنوعة 400 صفحة في أربعة أقسام. هذا فضلاً عن طبعه البديع الذي قلما يشبهه كتاب آخر في مطبوعات الشرق والغرب.
ولما كانت السنة 1905 توفق حضرة الأب انستاس الكرملي المرسل في بغداد فوجد نسخة مخطوطة من ديوان الأخطل في دار السلام. فتمكن متولي طبع الديوان من اقتنائها بهمة الأب الكرملي فنشرها بتصوير النور وطبع الحجر لما فيها من الزيادات والروايات والشروح التي لا توجد في نسخة بطرسبورج ودل على دل ذلك بتذييلات وفهارس متقنة. فجاء هذا الأثر طرفةً جديدة تضاف إلى السابقة.
وبعد ذلك بسنتين أطلع جناب الدكتور الإيطالي والمستشرق أوجينيوس غريفيني الأب صالحاني على نسخة ثالثة وجدت في اليمن ذات فوائد جمة فرضي أن ينشرها في مطبعتنا كتتمة للنسختين السابقتين. وقد علق عليها أيضاً كثير من التعليقات المفيدة والفهارس مع المقدمات المتنوعة. فزاد إقبال العلماء على هذا الديوان الجميل.
ثم بلغ حضرة الأب أن في الأستانة العلية في المكتبة المعروفة بالعمومية (ع 547) نسخةً فريدة قديمة جداً بخط يقرب من الخط الكوفي من نقائض جرير والأخطل فيها عدة قصائد ليست في نسح الديوان أو هي أتم منها. فلم يصبر عنها حتى تجثم السفر إلى عاصمة الدولة والحرب على وشك الانتشاب فاستنسخها وأعدها للطبع في بهرة الحرب فما كادت تحط أوزارها حتى باشر بنشرها فجاءت أثراً رابعاً لا يقل(8/178)
ثمنه عن الآثار المتقدمة كما شرحنا ذلك في مقالة انتقادية في المشرق (20: (1922) : 144-148) .
ويضاف إلى المطبوعات السابقة ملحق على ديوان الأخطل (يحتوي زيادة إيضاح في الشرح وتصحيح أغلاط ومقابلات وفهارس للأعلام والألفاظ اللغوية ظهر منه قسمه الأول في 107 صفحات دقيقة الحروف وسيظهر عما قريب إن شاء الله قسمه الثاني الأخير. جازى الله أوفر جزاء القائم بهذا العمل الذي تنوء تحت عبئه مناكب الفحول.
(نخبة من شعره) إنا لو حاولنا أن نختار شيئاً من ديوان الأخطل أصابنا ما أصاب تلك الإعرابية التي سئلت عن أي أولادها أحب إليها والأفضل لديها فكانت إذا ذكرت الواحد منهم بعد الآخر قالت أنه الأحب إليها والأفضل حتى انتهت إلى قولها بعد حيرتها: إنهم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. فكذلك إذا اعتبرنا قصائد الأخطل وجدنا كلاً منها جديرة بالذكر لمحاسنها. على أننا في آخر أمرنا اضطرنا ضيق المجال أن نثبت نتفاً قليلة من شعره نجعلها كمثال في كل باب.
(أقوال الأخطل في الوصف) للشاعر التغلبي في هذا المعنى أقوال جميلة من الشعر الحر حتى قيل عنه أنه فاق على سواه من الشعراء بالوصف فله في الزهد (ديوان 176-177) (من الطويل) :
أعاذلتي اليوم ويحكما مهلا ... وكفا الأذى عني ولا تكثرا عذلا
ذراني تجد كفي بمالي فإنني ... سأصبح لا أسطيع جوداً ولا بخلا
إذا وضعوا فوق الضريح جنادلاً ... علي وخليت المطية والرحلا
وأبكيت من عتبان كل كريمة ... على فاجع قامت مشققةً عطلا
مدميةً حراً من الوجه حاسراً ... كأن لم تمت قبلي غلاماً ولا كهلا(8/179)
وقد كنت فيما قد بنى لي حافري ... أعاليه تواً وأسفله دحلا
فلا أنا مجتاز إذا ما نزلته ... ولا أنا لاق ما ثويت به أهلا
وقد قسموا مالي وأضحت حلائلي ... قد استبدلت غيري ببهجتها بعلا
أعاذل أن النفس في كف مالك ... إذا ما دعا يوماً أجابت له الرسلا
ذريني فلا مالي يرد منيتي ... وما إن أرى حياً على نفسه قفلا
وليس بخيل النفس بالمال خالداً ... ولا من جواد فاعلمي ميت هزلا
ألا رب من يخشى نوائب قومه ... وريب المنايا سابقات به الفعلا
ويا رب غاد وهو يرجى إيابه ... وسوف يلاقي دون أوبته شغلا
وقد اشتهر وصفه للفرات عند فيضانه (96-97) شبه به كرم الخليفة يزيد بن معاوية (من الطويل) :
وما مزبد يعلو جزائر حامر ... يشق غليها خيزراناً وغرقدا
تحرز مكنه أهل عانة بعدما ... كسا سورها الأعلى غثاءً مندا
يقمص بالملاح حتى يشفه ... الحذار وإن كان المشيح المعودا
بمطرد الآذي جون كأنما ... زفا بالقراقير النععام المطردا(8/180)
كأن بنات الماء في حجراته ... أباريق اهدتها دياف لصرخدا
بأجود سيباً من يزيد إذا غدت ... به بخته يحملن ملكاً وسؤددا
وكم أجاد الأخطل بوصف صيد ثور الوحش فله فيه كل حسنة كقوله (260 - 262) يشبه ناقته بعد طول سيرها بضمور الثور (من البسيط) :
كأنها بعد ضم السير جبلتها ... من وحش غزة موشي الشوى لهق
باتت له ليلة هاجت بوارحها ... ومرزم من سحاب العين يأتلق
يلوذ ليلته منها بغرقدة ... والغصن ينطف فوق المتن والورق
بات إلى جانب منها يكفئه ... ليل طويل وقلب خائف أرق
فالقطر كاللؤلؤ المنثور ينفضه ... وكاد عنه سواد الليل ينطلق
هاجت له ذبل مسح جواعرها ... كإنما هن من نبعية شقق
فظل يهوي إلى أمر يساق له ... وأتبعته كلاب الحي تستبق(8/181)
يفرج الموت عنه قد تحضره ... وكدن يلحقنه أو قددنا اللحق
لما لحقن به أنحى بمغولة ... يملا فرائصها من طعنه العلق
فكر ذو حربة يحمي حقيقته ... إذا نحا لكلاها الروق يمتزق
فهن من بين متروك به رمق ... صرعى وآخر لم يترك به رمق
ومن أوصافه قوله (ص 3-4) في خمر بيسان من قرى فلسطين (من الطويل) :
وجاؤوا بيسانية هي بعد ما ... يعل بها الساقي ألذ وأسهل
فصبوا عقاراً في الإناء كأنها ... إذا لمحوها جذوة تتأكل
تمر بها الأيدي سنيحاً وبارحاً ... وتوضع باللهم حي وتحمل
وتوقف أحياناً فيفصل بيننا ... سماع مغن أو شواء مرعبل
فلذت لمرتاح وطابت لشارب ... وراجعني منها مراح وأخيل
فما لبثتنا نشوة لحقت بنا ... توابعها مما نعل وننهل(8/182)
فدبت دبيباً في العظام كأنها ... دبيب نمال في نقاً يتهيل
ومثله ظرافةً وصفه (ص 321) للثمل السكران (من الطويل) :
شربنا فمتنا ميتةً جاهليةً ... مضى أهلها لم يعرفوا ما محمد
ثلثة أيام فلما تنبهت ... حشاشات أنفاس أتتنا تردد
حيينا حياةً لم تكن من قيامة ... علينا ولا حشر أتاناه موعد
حياة مراض حولهم بعدما صحوا ... من الناس شتى عاذلون وعود
وقلنا لساقينا عليك فعد بنا ... إلى مثلها بالأمس فالعود أحمد
فجاء بها كأنما في إنائه ... بها الكوكب المريخ تصفو وتزبد
تفوح بماء يشبه الطيب طيبه ... إذا ما تعاطت كأسها من يد يد
تميت وتحيي بعد موت وموتها ... لذيذ ومحياها ألذ وأحمد
(الفخر) وللأخطل في الفخر (ص 307) قوله يذكر قومه (من الطويل) :
ولكن لنا بر العراق وبحره ... وحيث ترى القرقور في الماء يسبح
إذا ابتدر الناس السجال وجدتنا ... لنا مقدحا مجد وللناس مقدح(8/183)
وإنا لممدودون ما بين منبج ... فغاف عمان فالحمى لي أفيح
وله أيضاً (ص 178) في الفخر قوله (من الطويل) :
وغني لمن علياء تغلب وائل ... لأطولها بيتاً وأثبتها أصلا
أنا الجشمي الرحب في الحي منزلاً ... إذا احتل مضهود بمضنية هزلا
وعماي نعم المرء عمرو ومالك ... وثعلبة المولي بمنظورة فضلا
وقد علمت أفناء تغلب أنني ... نضار ولم أنبت بقرقرة أثلا
وأني يوماً لا مضيع ذمارها ... ولا مفلتي هاج هجا تغلباً بطلا
ومن فخره (249 - 250) استقباله للضيف في ليلة شاتية (من الطويل) :
ومستنبح بعد الهدو دعوته ... بصوتي فاستعشى بنضو تزعما
فجاء وقد بلت عليه ثيابه ... سحابة مسود من الليل أظلما
وفي ليلة لا ينبح الكلب ضيفها ... إذا نبه المبلود فيها تغمغما
فلما إضاءته لنا النار واصطلى ... أضاءت هجفاً موحشاً قد تهشما(8/184)
فنبهت سعداً بعد نوم لطارق ... أتانا ضئيلاً صوته حين سلما
فقلت لهم هاتوا ذخيرة مالك ... وغن كان قد لاقى لبوساً ومطعما
فقال ألا لا تجشموها وغنما ... تنحنح دون المكرعات لتجشما
واني لحلال بي الحق اتقي ... إذا نزل الأضياف إن أتجهما
إذا لم تذد ألبانها عن لحومها ... حلبنا لهم منها بأسيافنا دما
(المديح) هي قصائد المديح التي قربت الأخطل من الخلفاء فرفعوا قدره وخصوه بألطافهم. منها قصيدته الرائية في مدح عبد الملك بن مروان (ص 98-112) وفيها يقول (من البسيط) :
إلى امرئ لا تعدينا نوافله ... أظفره الله فليهنأ له الظفر
الخائض الغمر والميمون طائره ... خليفة الله يستسقى به المطر
والهم بعد نجي النفس يبعثه ... بالحزم والأصمعان القلب والحذر
والمستمر به أمر الجميع فما ... يغتره بعد توكيد له غرر
وما الفرات إذا جاشت حوالبه ... في حافتيه وفي اوساطه العشر(8/185)
ذعذعته رياح الصيف واضطربت ... فوق الجآجئ من آذية غدر
مسحنفر من جبال الروم يستره ... منها أكافيف فيها دونها زور
يوماً بأجود منه حين تسأله ... ولا بأجهر منه حين يجتهر
ومن مديحه المستحسن قوله (ص 243-246) في أحد أعيان قومه همام بن مطرف التغلبي (من الطويل) :
فتى الناس همام وموضع بيته ... برابية يعلو الروابي طولها
فلو كان همام من الجن أصبحت ... سجوداً له جن البلاد وغولها
نمته الذرى من مالك وتعطفت ... عليه الروابي فرعها وأصولها
أجادت به ساداتها فترغبت ... لأخلاقه أمجادها وحفيلها
سبوق لغايات الحفاظ إذا جرى ... ووهاب أعناق المئين حمولها
ودفاع ضيم ولا يسام دنيةً ... وقطاع أقران الأمور وصولها
وأخاذ أقصى الحق لا متهضم ... أخوه ولا هش القناة رذيلها
أغر أريب ليس ينقض عهده ... ولا شاهداً مغبونةً يستقيلها(8/186)
جواد إذا ما أمحل الناس ممرع ... كريم لجوعات الشتاء قتولها
إذا نائبات الدهر شفت عليهم ... كفاهم أذاها فاستخف ثقيلها
يهين وراء الحي نفساً كريمةً ... لكبة موت ليس يودى قتيلها
ويعلم أن المرء ليس بخالد ... وأن منايا الناس يسعى دليلها
فإن عاش همام لنا فهو رحمة ... من الله لم تنفس علينا فضولها
وان مات لم تستبدل الأرض مثله ... لأخذ نصيب أو لأمر يعولها
وللأخطل مديح جليل في مصقلة بن هبيرة الشيباني (143) قد ذكره سابقاً حضرة الأب صالحاني في المشرق (14 (1911) : 838-841) ورجح نصرانية مصقلة استناداً إلى ما رواه الطبري في تاريخه (1: 3434-3438) ومن قوله (من البسيط) :
دع المغمر لا تسال بمصرعه ... واسأل بمصقلة البكري ما فعلا
بمتلف ومفيد لا يمن ولا ... تهلكه النفس فيما فاته عذلا
جزل العطاء وأقوام إذا سئلوا ... يعطون نزراً كما تستوكف الوكلا
وفارس غير وقاف برايته ... يوم الكريهة حتى يعمل الأسلا(8/187)
(الهجو) كما امتاز الأخطل بالوصف والفخر والمديح كذلك صوب إلى أعدائه سهام الهجاء. وقد رأيت في أخباره أن القسيس قد عاقباه على تعرضه لقذف الناس وغنما هجاء الأخطل مع حدته كان مع عفاف لا تكاد تجد له بيتاً بذياً ماجناً اللهم إلا ما ندر عل خلاف قرنيه جرير والفرزدق فإن ديوانهما مشحون بضروب الألفاظ البذية والعارات المستقبحة القذعة. فمن هجاء الأخطل قوله (ص 305) لعشيرة زهير بن جندب (من الطويل) :
لعمرك أنا من زهير بن جندب ... لدانون لو أن القرابة تنفع
فأما إناء الخير منهم ففارغ ... وأما إناء الشر منهم فمترع
ومثله قوله في المسمى أبا مروان (ص 304) يهجوه لبخله (من الطويل) :
كأن أبا مروان ينزع ضرسه ... إذا القوم قالوا متعونا بدرهم
وأوقع منه قوله في بني أسد (ص 315-317) وخص منهم خنجراً (من الطويل) :
بنو أسد رجلان رجل تذبذبت ... ورجل أضافتها إلينا التراتر
فما الدين حاولتم ولكن دعاكم ... إلى الدين جوع لا يغمض ساهر
بني أسد لا تذكروا الفخر بينكم ... فأنتم لئام الناس باد وحاضر
بني أسد لا تذكروا المجد والعلى ... فإنكم في السوق كذب فواجر
وقال يخاطب خنجراً:
أخنجر قد أخزيت قومك بالتي ... رمتك فويق الحاجبين السنابر(8/188)
فلو كنت ذا عز منعت ببعضه ... جبينك أن تدمى عليه البصائر
فأبد لمن لاقيت وجهك واعترف ... بشنعاء للذبان فيها مصاير
أمن عوز الأسماء سميت خنجراً ... وشر سلاح المسلمين الخناجر
ولو كنت أبصرت القنابل والقنا ... وهبوة يوم هيجتها الحوافر
برابية الخابور ما أقرنت لنا ... خزيمة إذ سارت جميعاً وعامر
فما لك في حيي خزيمة من حصى ... وما لك في قيس بن عيلان ناصر
(الإغراء) للأخطل فيه أقوال أحد من السهام كفى منها مثلاً قوله (ص 105- 106) للخليفة عبد الملك يحذره من زفر بن الحارث الكلابي أحد أنصار ابن زبير في محاربة بني أمية فقال (من البسيط) :
بني أمية إني ناصح لكم ... فلا يبيتن فيكم آمناً زفر
واتخذوه عدواً عن شاهده ... وما تغيب من أخلاقه دعر
غن الضغينة تلقاها وغن قدمت ... كالعر يكمن حيناً ثم ينتشر
(النسيب) وقد عرف الأخطل النسيب اللطيف فأجاد فيه كما في سواه قال (ص 211-212) في مطلع قصيدته التي مدح فيها عكرمة الفياض) (من الطويل) :
ألا يا اسلمي يا أم بشر على الهجر ... وعن عهدك الماضي له قدم الدهر
ليالي نلهو بالشباب الذي خلا ... بمرتجة الأرداف طيبة النشر(8/189)
أسيلة مجرى الدمع خفاقة الحشا ... من الهيف مبراق الترائب والنحر
وتبسم عن ألمى شتيت نباته ... لذيذ إذا جادت به واضح الثغر
من الجازئات الحور مطلب سرها ... كبيض الأنوق المستكنة في الوكر
وغني وإياها إذا ما لقيتها ... كالماء من صوب الغمامة والخمر
وله في وصف غادة (ص 323) (من الكامل) :
ما روضة خضراء أزهر نورها ... بالقهر بين شقائق ورمال
بهج الربيع لها فجاد نباتها ... ونمت باسحم وابل هطال
حتى إذا التف النبات كأنه ... لون الزخارف زينت بصقال
نفت الصبا عنها الجهام وأشرقت ... للشمس غب دجنة وطلال
يوماً بأملح منك بهجة منطق ... بين العشي وساعة الآصال
حسناً ولا بألذ منك وقد وضعت ... بعض النجوم وبعضهن توالي
(الحكم) ولا يخلو ديوان الأخطل من الأقوال الحكمية والأمثال الصائبة كقوله (258) (من الطويل) :(8/190)
وان امرءاً لا ينثني عن غواية ... إذا ما اشتهتها نفسه لجهول
وكقوله (الديوان 55) (من الكامل) :
وصاحب صبوة صاحبت حيناً ... فتبت اليوم من جهل وتابا
ونفس المرء ترصدها المنايا ... وتحدر حوله حتى يصابا
إذا أمرت به ألقت عليه ... أحد سلاحها ظفراً ونابا
وأعلم أنني عما قليل ... ستكسوني جنادل أو ترابا
وقوله (73) (من البسيط) :
اليوم أجهد نفسي ما وسعت لكم ... وهل تكلف نفس فوق ما تسع
وقوله (143) (من البسيط) :
وبينما المرء مغبوط بمأمنه ... إذا خانه الدهر عما كان فانتقلا
وقوله (158) وهو مسك الختام (من الكامل) :
والناس همهم الحياة ولا أرى ... طول الحياة يزيد غير خبال
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال
فنكتفي بهذا القيل عله يبعث في قلوب القراء الرغبة لدرس شعر الأخطل ومعرفة خواصه ولاسيما أن حضرة متولي طبعه قد قربه منهم بتوفير الأسباب لاقتباس منافعه الجمة.
10- القطامي التغلبي
(اسمه ونسبه) قال عبد الله بن سلام الجمحي في كتابه طبقات الشعراء(8/191)
اسمه عمير بن شييم بن عمرو أحد بني بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب) والقطامي بفتح القاف وضمها لقب غلب عليه وهو اسم من أسماء الصقر معناه المحدد البصر معناه المحدد البصر إلى الصيد لقوله (من الرجز) :
يصكهن جانباً فجانبا ... صك القطامي القطا القواربا
وقد لقب أيضاً بلقب آخر فدعي بصريع الغواني لقوله (من الطويل) :
صريع غوان راقهن ورقنه ... لدن شب حتى شاب سود الذوائب
والقطامي من الأراقم والأراقم أحياء من تغلب يجمعهم هذا الاسم وهم ستة جشم ومالك وعمرو وثعلبة ومعاوية والحرث، قيل لهم ذلك أما من الرقم أي الكثير لعددهم وأما تشبيهاً بالأراقم أي الحيات لشبه عيونهم بها، وقد افتخر القطامي بنسبته إليهم فقال (من الوافر) :
ويرفدني الأراقم خير رفد ... وشيبان بن ثعلبة القروم
والقطامي ابن أخت الأخطل التغلبي الشهير السابق ذكره.
وللقطامي التغلبي سميان شاعران مثله إلا أنهما أقل شهرة ذكرهما الآمدي في كتابه المختلف والمؤتلف وكلاهما كان في زمانه في عهد بني أمية: أحدهما القطامي الضبعي من ضبيعة بن ربيعة بن نزار كان أبوه من أصحاب خالد القسري والي الكوفة.
والآخر القطامي الكلبي واسمه الحصين وهو أبو الشرقي الوليد بن القطامي.
(دينه) قال أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني (118: 20) : وكان (القطامي) نصرانياً وهو شاعر إسلامي. فقوله (كان نصرانياً) يثبته: أو نسبه إلى تغلب القبيلة المتحمسة في دينها حتى أيام بني عباس. وثانياً قرابته إلى الأخطل الراسخ في دينه النصراني كما رأيت والقطامي ابن أخته. وثالثاً افتخاره بقومه وبحروبها ومآثرها ما يدل على مجاراته لهديها. رابعاً ولا يخلو شعر القطامي من إشارات إلى التوراة والكتب النصرانية (اطلب كتابنا النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية ص263 و 271) .(8/192)
أما قول صاحب الأغاني أنه (شاعر إسلامي) فليس معناه أنه صار مسلماً بل أنه عاش في الإسلام ولم يبلغ عهد الجاهلية كالمخضرمين. ولعل هذا الذي خدع ابن عساكر في تاريخ دمشق فقال عن القطامي (كان نصرانياً فأسلم) وهو أول من قال بذلك وابن عساكر من كتبة القرن السادس للهجرة (توفي سنة 572 هـ) وعنه أخذ الذين قالوا بإسلام القطامي كعبد القادر البغدادي (في الخزانة 393: 1) وصاحب معاهد التنصيص. وقد جنح إلى ذلك أيضاً المستشرق الألماني (برث) الذي نشر ديوانه فعده من المسلمين مستشهداً بان عساكر. وليس في نسخ ديوان القطامي ما يؤيده في ذكر نسبه إلا أن بعض النساخ زاد ذلك على هامش نسخة مصر مستنداً إلى ابن عساكر. أما ما ورد في بعض أبيات القطامي من مدح الإسلام والمسلمين فيمكن حمله على المجاملة كما ترى في شعر الأخطل.
(أخباره) لا يعرف إلا القليل من أخبار القطامي أزهر في القسم الثاني من القرن السابع في أيام الأمويين بعد معاوية وكان معاصراً للأخطل وهو أصغر منه سناً فعاش زمناً بعده ولم يبلغ عهد بني عباس. وللقطامي ذكر في حروب قومه التي جرت لهم مع القيسيين ومر وصفها في ترجمة الأخطل (اطلب الصفحتين 175-176) .
ومن أيام تلك الحرب يوم ماكسين ويقال له أيضاً يوم القناطرة. وماكسين قرية لبني تغلب على شاطئ الفرات تبعد عن رأس العين مسيرة يوم جنوباً وبها حمة. قال البكري في معجم ما استعجم (ص 533) : (وبهذه القرية لقي عمير بن الحباب بني تغلب حين غزاهم فاقتتلوا عند قنطرة القرية وهي أول قرية تراجعوا فيها فقتل فيها من تغلب زهاء خمسمائة وكان رئيسهم ورئيس من معهم من النمر وبكر شعيث بن مليل) .
أما في الأغاني (128: 20) فيول إن (رئيس تغلب يومئذ عبد الله بن سريح بن مرة.. فقتل وقتل أخوه) . قال: (وأسر القطامي الشاعر وأخذت إبله فأصاب عمير وأصحابه شيئاً كثيراً من النعم ... ولما أسر القطامي أتى زفر بن الحرث بقرقيسيا فخلى سبيله ورد عليه مائة ناقة كما ذكر أدهم بن عمران العبدي) فنظم القطامي القصائد في مديح زفر كما سترى.
ولم يتصل القطامي بالخلفاء كمواطنه الأخطل وغنما بلغ شعره عبد الملك بن مروان فأثنى على جودة قريحته. وليس في أخباره ما يدل على تقربه من الخلفاء على(8/193)
أنه جاء في نسخة مصر أن القطامي قال في مديح عبد الملك قصيدته الرائية التي أولها (من الوافر) :
أمن طرب بكيت وذكر أهل ... وللطرب المتاح لك أذكار
ولا بد أنها أصابت موقعاً لدى عبد الملك وهي عامرة الأبيات إلا أننا لم نجد في أخبار القطامي ما يشير إلى دخوله على هذا الخليفة ونيله سوابغه. وفيها يقول ونعم القول:
أمير المؤمنين هدى ونور ... كما جلى دجى الظلم النهار
قريع بني أمية من قريش ... هم السر المهذب والنضار
وعبد الملك للفقراء طعم ... وحرز ليس معقلة يضار
وقد حمل الخلافة ثم حلت ... بها عند ابن مروان القرار
أما أخص مديحه فهو في زفر الكلابي وفي بعض الأعيان كعبد الواحد بن سليمان وهو ابن عم عبد الملك وكأسماء بن خارجة الفزاري.
(شعره وديوانه) القطامي يعد بين الشعراء المقلين. وقد نظمه الجمحي في كتاب طبقات الشعراء (ص 121-122) في جملة شعراء الطبقة الثانية في الإسلام وذكره مع خداش بن بشر المعروف بالبعيث الدارمي وكثير بن عبد الرحمان الخزاعي وغيلان الشهير بذي الرمة.
وقد وصف قدماء العرب القطامي بالشاعر الفحل واستحسنوا شعره. قال الجمحي في طبقات الشعراء (ص 121) : كان القطامي شاعراً فحلاً رقيق الحواشي حلو الشعر والأخطل أبعد منه ذكراً وأمتن شعراً. وقال أبو هلال (حماسة أبي تمام ص 170) : وكان القطامي رقيق الحواشي كثير الأمثال. وقال ابن قتيبة في كتاب الشعر والشعراء (ص 453) : وكان (القطامي) حسن التشبيب رقيقه. وقال أبو البركات محمد الغزي العامري في كتابه تقريب المعاهد في شرح الشواهد (نسخة مكتبتنا الشرقية ص 61) : وهو شاعر إسلامي مقل فحل مجيد.(8/194)
وجاء في الأغاني (118: 20) عن الشعبي قال: قال عبد الملك بن مروان وأنا حاضر للأخطل يا أخطل أتحب أن لك بشعرك شعر شاعر من العرب؟ قال: اللهم لا إلا شاعراً منا مغدف القناع خامل الذكر حديث السن إن يكن في أحد خير فيكون فيه ولوددت أني سبقته إلى قوله (من البسيط) :
يقتلننا بحديث ليس يعلمه ... من يتقين ولا مكنونة باد
فهن ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
أما ديوانه فقد صبر على كوارث الزمان. فقد ذكره الحاج خليفة في كشف الظنون (302: 3) وقد تصفح هناك اسمه (بالقدامي عمير بن سييم) (كذا) . وفي طبعة الأستانة (ص 519) (مرو بن سليم) وفي كلاهما تذكر سنة وافته في 101 هـ الموافقة للسنة 719 م. وديوان القطامي شرحه كما يروى في عرض ديوانه أبو سعيد الحسن السكري. ومنه نسختان الواحدة في برلين كتبت سنة 364 هـ (974 م) وقابلها أبو علي المرزوقي. والأخرى في المكتبة الخديوية تاريخها 16 ربيع الآخر سنة 582 (1186 م) وعنها نقلت نسخة مكتبتنا الشرقية.
وقد دخلت من شعر القطامي قصيدته اللامية في جمهرة شعراء العرب فنظمها هناك أبز زيد القرشي في جملة المشوبات (طبعة مصر 151) أرادوا بها القصائد ذات المعاني المختلطة.
وقد اهتم بنشر النسخة البرلينية المرحوم المتشرق برت طبعها سنة 1902 في ليدن ونقلها إلى الألمانية وعلق عليها عدة مخطوطات مع روايات شتى وجدها في نسخة مصر وفي مخطوطات ومطبوعات الأدباء.. وها نحن ننقل نتفاً منها ونضيف إليها ما وقفنا عليه في أبحاثنا الخاصة عن هذا الشاعر في بعض مخطوطات مكتبتنا الشرقية والمطبوعات الحديثة.
(منتخبات من شعر القطامي) من أجود شعر القطامي لاميته المعروفة بالمشوبة. وقد ذكر في الأغاني (19: 20) ما كان الباعث لنظمها قال: قال أبو عمرو بن العلاء: أول ما حرك من القطامي ورفع من ذكره أنه قدم في خلافة الوليد بن عبد الملك دمشق ليمدحه فقيل له أنه بخيل لا يعطي الشعراء.. وقيل بل قدمها في خلافة عمر(8/195)
ابن عبد العزيز فقيل له أن الشعر لا ينفق عند هذا ولا يعطي شيئاً. وهذا عبد الواحد ابن سليمان فامدحه. وكان عبد الواحد ابن عم الخليفة عبد الملك بن مروان فمدحه بقصيدته اللامية التي أولها (من البسيط) :
انا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل
فقال له: كم أملت من أمير المؤمنين. قال: أملت من أمير المؤمنين أن يعطيني ثلاثين ناقة. فقال: قد أمرت لك بخمسين ناقة موقرة براً وتمراً وثياباً. ثم أمر بدفع ذلك إليه. وفيها يقول مادحاً لعبد الواحد ولقريش:
أهل المدينة لا يحزنك شأنهم ... إذا تخطأ عبد الواحد الأجل
أما قريش فلن تلقاهم أبداً ... إلا وهم خير من يحفى وينتعل
ألا وهم جبل الله الذي قصرت ... عنه الجبال فما ساوى به جبل
هم الملوك وأبناء الملوك لهم ... والآخذون به والساسة الأول
وفي هذه اللامية يقول متمثلاً:
والعيش لا عيش إلا ما تقر به ... عين ولا حال إلا سوف تنتقل
والناس من يلق خيراً قائلون به ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
وزاد في الحماسة البصرية بيتاً لم يرو في الديوان:
وربما فات قوماً بعض أمرهم ... من التأني وكان الحزم لو عجلوا
أما في الأغاني (120: 20) فلهذا البيت رواية أخرى عن لسان رجل كان يديم الأسفار سافر إلى الشام ومعه أعرابي فتمثل ببيت القطامي (قد يدرك إلخ) فقال: ما(8/196)
زاد قائل هذا الشعر على أن يثبط الناس عن الحزم فهلا قال بعد بيته هذا:
وربما ضر بعض الناس بطؤهم ... وكان خيراً لهم لو أنهم عجلوا
وله في زفر بن الحرث الكلابي الذي أطلق سبيله من الأسر قصائد عامرة الأبيات. أشهرها عينيته التي افتتحها بقوله يخاطب ابنة زفر (من الوافر) :
ففي قبل التفرق يا ضباعا ... ولا يك موقف منك الوداعا
قفي فادي أسيرك إن قومي ... وقومك لا أرى لهم اجتماعا
ألم يحزنك أن جبال قيس ... وتغلب قد تباينت انقطاعا
ألم يحزنك أن ابني نزار ... أسالا من دمائهما التلاعا
ومنها في شكر زفر على تخلية سبيله وإنعامه عليه بمائة ناقة:
أكفراً بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا
إذن لهلكت لو كانت صغار ... من الأخلاق تبتدع ابتداعا
فلم أر منعمين أقل مناً ... وأكرم عندما اصطنعوا اصطناعا
من البيض الوجوه بني نفيل ... أبت أخلاقهم إلا اتساعا
بني القرم الذي علمت معد ... تفرع قومها سعةً وباعا
وقد مدحه أيضاً بداليته التي يقول فيها (من البسيط) :
من مبلغ زفر القيسي مدحته ... من القطتمي قولاً غير إفناد(8/197)
إني وإن كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلا ضربة الهادي
مثن عليك بما استبقيت معرفتي ... وقد تعرض مني مقتل باد
فلن أثيبك بالنعماء مشتمة ... ولن أبدل إحساناً بإفساد
فإن هجوتك ما تمت مكارمتي ... وإن مدحت فقد أحسنت إصفادي
إذا الفوارس من قيس بشكتهم ... حولي شهود وما قولي بشهاد
إذ يعتريك رجال يسألون دمي ... ولو أطعتهم أبكيت عوادي
فقد عصيتهم والحرب مقبلة ... لا بل قدحت زناداً غير صلاد
والصيد آل نفيل خير قومهم ... عند الشتاء إذا ما ضن بالزاد
المانعون غداة الروع جاءهم ... بالمشرفية من ماض ومنآد
أيام قومي مكاني منصب لهم ... ولا يظنون إلا أنني رادي
فانتاشني لك من غبراء مظلمة ... حبل تضمن إصداري وإيرادي
فإن قدرت على خير جزيت به ... والله يجعل أقواماً بمرصاد
قال الجمحي: لما سمع زفر هذا البيت قال: لا أقدرك الله على ذلك. وقال يمدح زفر أيضاً (من الرجز) :(8/198)
يا زفر بن الحارث ابن الأكرم ... قد كنت في الحي قديم المقدم
إذ أحجم القوم ولما تحجم ... انك وابنيك حفظتم محرمي
وحقن الله بكفيك دمي ... من بعد ما ذب لساني وفمي
والرمح يهتز اهتزاز المحجم ... من بعد ما اختل السنان معصمي
أنقذتني من بطل معمم ... والخيل تحت العارض المسوم
وتغلب يدعون يا للأرقم
ومن أمثاله وحكمه قوله من قصيدة (من الكامل) :
فأرى المعيشة إنما هي ساعةً ... فرح وساعة كربة وتحنق
وأرى المنية للرجال حبائلاً ... شركاً يعاد به لمن لم يعلق
وإذا أصابك والحوادث جمة ... حدث حداك إلى أخيك الأوثق
فهم الرجال وكل ذلك منهم ... تجدن في رحب وفي متضيق
إن الرجال إذا طلبت نوالهم ... منهم خليل ملاذة وتملق
وأخو مكارمة على علاته ... فوجدت خيرهم خليل المصدق
وروى في الأغاني (120: 20) منها بيتاً لم يرو في الديوان:
ليت الهموم عن الفؤاد تفرجت ... وجلا التكلم للسان المطلق
وقد أنشد الشعبي هذه الأبيات عند الخليفة عبد الملك بن مروان فاستحسنها(8/199)
عبد الملك وقال: أن ثكلت القطامي أمه هذا والله الشعر.
وله في الوصف أقوال حسنة منها قوله في عجوز من بني محارب نزل عندها ضيفاً فبات بأسوأ ليلة فقال فيها من قصيدة (من الطويل) :
وإني وإن كان المسافر نازلاً ... وان كان ذا حق على الناس واجب
ولا بد أن الضيف مخبر ما رأى ... مخبر أهل أو مخبر صاحب
سأخبر بالأنباء عن أم منزل ... تضيفتها بين العذيب فراسب
تقنعت في طل وريح تلفني ... وفي طر مساء غير ذات كواكب
إلى حيزبون توقد النار بعدما ... تلفعت الظلماء من كل جانب
تصلى بها برد الشتاء ولم تكن ... تخال وميض النار يبدو لراكب
فما راعها إلا بغام مطية ... تريح بمحسور من الصوت لاغب
فسلمت التسليم ليس يسرها ... ولكنه حق على كل جانب
فردت سلاماً كارهاً ثم أعرضت ... كما انحاشت الأفعى مخافة ضارب
فقلت لها لا تفعلي ذا براكب ... أتاك مصيب ما أصاب فذاهب
فلما تنازعنا الحديث سألتها ... من الحي قالت معشر من محارب(8/200)
من المشترين القد مما تراهم ... جياعاً وريف الناس ليس بناضب
فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن ... علي مناخ السوء ضربة لازب
ألا إنما نيران قيس إذا اشتووا ... لطارق ليل مثل نار الحباحب
وله في الحماسة قوله (حماسة أبي تمام ص 170) :
من تكن الحارة أعجبته ... فأي رجال بادية ترانا
ومن ربط الجحاش فإن فينا ... قناً سلباً وأفراساً حسانا
وكن إذا أغرن على جناب ... وأعوزهن نهب حيث كانا
أغرن من الضباب على حلول ... وضبة إنه من حان حانا
وأحياناً على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا
واستحسن ابن قتيبة للقطامي قوله في التشبيب (من البسيط) :
وفي الخدور غمامات يرقن لنا ... حتى تصيدننا من كل مصطاد(8/201)
يقتلننا بحديث ليس يعلمه ... من يتقين ولا مكنونه باد
فهن ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
هذه طرفة من ديوان القطامي نضيف إليها بعض المقاطيع لم نجدها في الديوان. فمن ذلك ما رواه ابن سلام في طبقات الشعراء (ص 122) يمدح به أسماء بن خارجة وهي تروى لغيره فقال (من الوافر) :
إذا مات ابن خارجة بن حصن ... فلا مطرت على الأرض السماء
ولا رجع البريد بغنم خير ... ولا حملت على الطهر النساء
وروى له في الحماسة البصرية (نسخة مكتبتنا الشرقية 20: 1) قوله يذكر يوم ذي قار الذي غلب فيه العرب جيوش كسرى قال (من الطويل) :
وإن نوى الداعي بسيبان زعزعت ... رماح وجاشت من جوانبها القدر
هم يوم ذي قار أناخوا فجالدوا ... كتائب كسرى بعد ما وقد الجمر
وروى أيضاً في الحماسة البصرية (ص 130) قوله يمدح بني دارم (من الطويل) :
جزى الله خيراً والجزاء بكفه ... بني دارم عن كل جان وغارم
هم حملوا رحلي وأدوا أمانتي ... إلي وردوا في ريش القوادم
ولا عيب فيهم غير أن قدورهم ... على المال أمثال السنين الحواطم
وأن مواريث الأولى يرثونهم ... كنوز المعالي لا كنوز الدراهم
وما ضر منسوباً أبوه وأمه ... إلى دارم أن لا يكون لهاشم
ومن حكمه قوله في فضل الاكتساب بالبأس على الطمع. (الحماسة البصرية 8: 2) (من الطويل) :(8/202)
أرى البأس أدنى للرشاد وإنما ... دنا العي للإنسان من حيث يطمع
فدع أكثر الأطماع عنك فإنها ... تضر وأن البأس لا زال ينفع
وفي الحماسة البصرية أيضاً (216: 2) بيتان من قصيدته المذكورة في ديوانه (تحت العدد ص61) التي أولها (من الوافر) :
من يك أرعاه الحمى أخواته ... فمالي من أخت عوان ولا بكر
أما البيتان ففي وصف الناقة لم يرويا هناك وهما:
إذا بركت خرت على ثفناتها ... مجافيةً صلباً كقنطرة الجسر
كأن يديها حين تجري ضفورها ... طريدان والرجلان طالبتا وتر
11- كعب بن جعيل التغلبي
(اسمه ونسبه) ويقال: ابن جعل قال ابن سلام في كبقات الشعراء (ص 129) : (هو كعب بن جعيل بن قمير التغلبي) وفصل الطبري في تاريخه (749: 1) نسبه فقال: (كعب بن جعيل بن عجرة بن قمير بن ثعلبة بن عوف بن مالك بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل) ومثله في خزانة الأدب (459: 1) ثم قال: هو شاعر جاهلي وكانت أم كعب وعميرة تدعى ليلى وهي من تغلب أيضاً.
(زمانه) عاش كعب بن جعيل في أيام الخلفاء الراشدين وبلغ عهد الدولة(8/203)
الأموية ذلك ما يستدل به من شعره وأخباره كما سترى. إلا أنه كان مسناً في أيام معاوية وابنه يزيد وبلغ إلى زمن عبد الملك عرفه الأخطل شيخاً في ذلك الوقت.
(دينه) لا نشك في نصرانية كعب بن جعيل وهو من تغلب القبيلة النصرانية وشاعرها كمواطنيه القطامي والأخطل. وكان مكرماً في قومه النصارى المعتصمين في دينهم. وإنما يقال عنه أنه شاعر إسلامي كما قيل عن القطامي بمعني كونه لم ينبغ في عهد الجاهلية واشتهر في زمن الإسلام. وليس في أخباره وشعره ما يشعر بتغييره لدينه سوى كلمة سيأتي ذكرها رواها الرواة على صور مختلفة لا يبنى عليها برهان.
(أخباره) لا يعرف من أخبار كعب إلا ما رواه عنه الكتبة استطراداً.
روى صاحب الأغاني (170: 7) عن يعقوب بن السكيت (أن كعب بن جعيل كان شاعر تغلب وكان لا يأتي منهم قوماً إلا أكرموه وضربوا له قبةً حتى أنه كان تمد له حبال بين وتدين فتملأ له غنماً. فأتى في مالك بن جشم ففعلوا ذلك به. فجاء الأخطل وهو غلام فأخرج الغنم وطردها فسبه عتبة بن الزعل (ويروى: الوغل) ورد الغنم إلى مواضعها فعاد الأخطل وأخرجها وكعب ينظر إليه فقال: (إن غلامكم هذا لأخطل) والأخطل السفيه فقال الأخطل فيه:
سميت كعباً بشر العظام ... وكان أبوك يسمى الجعل
وإن مكانك من وائل ... مكان القراد من است الجمل
فقال كعب: قد كنت أقول لا يقهرني إلا رجل له ذكر ونبأ ولقد أعددت هذين البيتين لأن أهجى بهما منذ كذا وكذا فغلب عليهما هذا الغلام.
وروى القحذمي خبر الأخطل على غير صورة قال (الأغاني) : (وقع بين ابني جعيل (كعب وعميرة) وأمهما درء من كلام فادخلوا الأخطل بينهم فقال الأخطل:
لعمرك إنني وابني جعيل ... وأمهما لإستار لئيم
فقال ابن جعيل: يا غلام إن هذا أخطل من رأيك ولولا أن أمي سمية أمك لتركت أمك يحدو بها الركبان. فسمي الأخطل بذلك وكان اسم أمهما وأم الأخطل ليلى) :
وزاد ابن الكلبي عن قوم من تغلب في قصة كعب بن جعيل والأخطل ما حرفه (الأغاني) : (وكان الأخطل يومئذ يغرزم (والغرزمة الابتداء بقول الشعر) فقال(8/204)
له أبوه: أبغرزمتك تريد أن تقاوم ابن جعيل؟ ضربه (قال) وجاء ابن جعيل على تفئة ذلك فقال: من صاحب الكلام؟ فقال أبوه: لا تحفل به فإنه غلام أخطل ... فانصرف كعب ولج الهجاء بينهما) .
وروى في الأغاني أيضاً (130: 4-132) أن النابغة الجعدي كان شاعراً متقدماً وكان مغلباً ما هاجى قط إلا غلب. هاجى أوس بن مغراء وليلى الأخيلية وكعب بن جعيل فغلبوه جميعاً. ومما رواه من ردود كعب عليه قوله (من البسيط) :
إني لقاض قضاءً سوف يتبعه ... من أم قصداً ولم يعدل إلى أود
فصلاً من القول تأتم القضاة به ... ولا أجور ولا أبغي على أحد
(سادت) بنو عامر سعداً وشاعرها ... كما (تسود) بنو عبس بني أسد
وقد اتصل كعب بن جعيل في أيام معاوية بابنه يزيد. أخبر ابن سلام في طبقات الشعراء (ص 108) وقد سبق في روايته هذا أبا الفرج الأصفهاني وغيره من الرواة وهو قد توفي بالبصرة سنة 231 هـ (846 م) قال: كان عبد الرحمان بن حسان ويزيد ابن معاوية يتقاولان فاستعلاه ابن حسان فقال يزيد لكعب بن جعيل: أجبه عنه واهجه. فقال: والله ما تلتقي شفتاي بهجاء الأنصار ولكن أدلك على الشاعر الفاجر الماهر فتى منا يقال له الغوث نصراني (يريد الأخطل) فهجاهم بأبيات شهيرة لا حاجة إلى ذكرها.
وهذا الخبر عن كعب قد رواه في الأغاني (122: 14) على وجه آخر قال أن يزيد بلغه أن عبد الرحمان شبب برملة أخته بنت أمير المؤمنين معاوية فقال لكعب: اهج الأنصار. فقال: أفرق من أمير المؤمنين ولكن أدلك على الشاعر الكافر الماهر الأخطل.
ورواه المبرد في الكامل (ص 101) بما يشعر بإسلام كعب فروى عنه أنه قال ليزيد: (أأهجو الأنصار أرادي أنت إلى الكفر بعد الإسلام (ويروى: بعد الشرك) ولكن أدللك على غلام من الحي نصراني كأن لسانه لسان ثور يعني الأخطل إلخ.
فترى من اضطراب هذه الروايات أنه لا يجوز أن نقرر الإسلام لكعب دون بينة واضحة ودليل قاطع.(8/205)
ومن أخبار كعب بن جعيل أنه حارب مع قومه في يوم صفين وكان موالياً لبني أمية كالأخطل وسائر عرب الشام في محاربتهم لعلي ولكعب في اليوم السابق لتلك الوقيعة رجز رواه الدينوري في الأخبار الطوال (ص 192) :
أصبحت الأمة في أمر عجب ... والملك مجموع غداً لمن غلب
أقول قولاً صادقاً غير كذب ... عن غداً تهلك أعلام العرب
غداً نلاقي ربنا فنحتسب
وقال أيضاً يصف الفريقين أهل العراق مع علي وأهل الشام مع معاوية وهذه الأبيات كتبها معاوية وأرسلها إلى علي بن أبي طالب لما خيره برسوله بين البيعة أو الحرب (الكامل للمبرد 184 والدينوري 170 ووقعة صفين) (من المتقارب) :
أرى الشأم تكره ملك العراق ... وأهل العراق لهم كارهونا
وكل لصاحبه مبغض ... يرى كل ما كان من ذاك دينا
إذا ما رمونا رميناهم ... ودناهم مثل ما يقرضونا
وقالوا علي إمام لنا ... فقلنا رضينا ابن هند رضينا
وقالوا نرى أن تدينوا له ... فقلنا لهم لا نرى أن ندينا
ومن دون ذلك خرط القتاد ... وضرب وطعن يقر العيونا
وكل يسر بما عنده ... يرى غث ما في يديه سمينا
وما في علي لمستعتب ... مقال سوى ضمه المحدثينا(8/206)
وإيثاره اليوم أهل الذنوب ... ورفع القصاص عن القاتلينا
إذا سيل عنه زوى وجهه ... وعمى الجواب عن السائلينا
فليس براض ولا ساخط ... ولا في النهاة ولا الآمرينا
ولا هو ساء ولا سره ... ولا بد من بعض ذا أن يكونا
وجاء في الكامل للمبرد (ص 187) وفي الأخبار الطوال للدينوري (ص 170-181) أن علياً لما قرأ هذه الأبيات قال للنجاشي: أجب. فقال (من المتقارب) :
دعن معاوي ما لن يكونا ... فقد حقق الله ما تحذرونا
أتاكم علي بأهل العراق ... وأهل الحجاز فما تصنعونا
على كل جرداء خيفانة ... وأشعث هند تسر العيونا
عليها فوارس تحسبهم ... كأسد العرين حمين العرينا
يرون الطعان خلال العجاج ... وضرب القوانس في النقع دينا
هم هزموا الجمع جمع الزبير ... وطلحة والمعشر الناكثينا
وقالوا يميناً على حلفة ... لنهدي إلى الشام حرباً زبونا
تشيب النواصي قبل المشيب ... وتلقي الحوامل منها الجنينا
فإن يكره القوم ملك العراق ... فقدماً رضيناً الذي تكرهونا(8/207)
فقولوا لكعب أخي وائل ... ومن جعل الغث يوماً سمينا
جعلتم علياً وأشياعه ... نظير ابن هند أما تستحونا
وقد روى البلاذري في كتاب الأشراف (ص 212) البيتين الآتيين الكعب في مدح عبد الملك بن مروان (من الوافر) :
أمير المؤمنين هدى ونور ... كما جلى دجى الظلم النهار
قريع بني أمية من قريش ... هم السر المهذب والنضار
وقد سبق في أخبار القطامي (ص 27) أن هذين البيتين من جملة قصيدة منسوبة إلى القطامي رويناهما هنا لعظم شأن راويهما.
واتصل كعب بن جعيل بسعيد بن العاص بن أبي أحيحة بن سعيد بن العاص وكان أمير الكوفة لعثمان وكان فصيحاً خطيباً قتل في غزوة لطبرستان سنة 30 هـ (651 م) وأخبر في الأغاني أن كعباً نزل عليه في المدينة. وقد امتدحه بشعره وذكر الطبري في تاريخه (2838: 1) قوله (من الطويل) :
فنعم الفتى إذ جال جيلان دونه ... وغذ هبطوا من دستي ثم أبهرا
تعلم سعيد الخير أن مطيتي ... إذا هبطت أشفقت من أن تعفرا
كأنك يوم الشعب ليث خفية ... تحرد من ليث العرين وأصحرا
وروى الجمحي في طبقاته (ص 75-76) أن الفرزدق لما هرب من زياد بن أبيه في أيام معاوية أتى المدينة فاستجار سعيد بن العاص فأجاره فمدحه الفرزدق وكان الحطيئة وكعب حاضرين. فقال الحطيئة: هذا والله الشعر لا ما تعلل به منذ اليوم(8/208)
أيها الأمير فقال: كعب بن جعيل فضله على نفسك ولا تفضله على غيرك. فقال: بلى أفضله على نفسي وعلى غيره أدركت من قبلك وسبقت من بعدك. وروى الطبري في تاريخه (107: 2) هذا الخبر على وجه آخر فقال: (أن كعباً لما سمع شعر الفرزدق قال: هذه والله الرؤيا التي رأيت البارحة. قال سعيد: وما رأيت؟ قال رأيت كأني أمشي في سكة من سكك المدينة. فإذا أنا بابن قترة في جحر (أي حفرة) فكأنه أراد أن يتناولني فاتقيته (قال) فقام الحطيئة فشق ما بين رجلين حتى تجاوز إلي فقال: قل ما شئت فقد أدركت من مضى ولا يدركك من بقي. وقال لسعيد: هذا والله الشعر لا يعلل به منذ اليوم.
(شعر كعب وطبقته) قد أخذ الضياع ديوان شعر كعب بن جعيل. أما طبقته فهي على قول ابن سلام (ص 129) الطبقة الثالثة من الشعراء الإسلاميين يريد أنه من الذين لم يشتهروا في الجاهلية وقالوا الشعر بعد الإسلام ونظمه في جملة الشعراء عمرو بن أحمر الباهلي وسحيم بن وثيل الرياحي ثم اليربوعي وأوس بن مغراء القريعي ثم السعدي. ثم قال: (وكعب بن جعيل شاعر مفلق قديم في أول الإسلام) . وهو يدعى في كامل المبرد (ص 187) شاعر أهل الشام. وقد ذكر له القدماء أبياتاً متفرقة نروي ما عثرنا عليها منها كقوله يمدح قوماً (شرح المقامات للشريشي 86: 2) (من الكامل) :
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم ... لتطلب العلات بالعيدان
بل يبسطون وجوههم فترى لهم ... عند السؤال أحسن الألوان
وله في الرثاء قوله في عبيد الله بن عمر بن الخطاب لما قتل في صفين (سنة 37 هـ 657 م) وقد رواه الطبري (3315: 1) وياقوت (403: 3) وكتاب وقعة صفين (231 و 266) (من الطويل) :
ألا إنما تبكي العيون لفارس ... بصفين أجلت خيله وهو واقف(8/209)
يبدل من أسماء أسياف وائل ... وكان فتىً لو أخطأته المتالف
تركن عبيد الله بالقاع مسلباً ... تمج دماً منه العروق النوازف
ينوء وتعلوه شآبيب من دم ... كما لاح في جيب القميص الكتائف
دعاهن فاستسمعن من أين صوته ... وأقبلن شتى والعيون ذوارف
يحللن عنه زر درع حصينة ... ويبدين عنه بعدهن معارف
وقد صبرت حول ابن عم محمد ... لدى الموت شهباء المبارك شارف
فما برحوا حتى رأى الله صبرهم ... حتى أتيحت بالأكف المصاحف
بمرج ترى الرايات فيه كأنها ... إذا اجتنحت للطعن طير عواكف
جزى الله قتلانا بصفين خير ما ... جزاه عباداً غادرتها المواقف
ألا أن شر الناس كلهم ... بنو أسد إني لما قلت عارف
وحالت تميم بعدها وربابها ... وخالفت الجعداء فيمن يخالف
معاوي لا تنهض بغير وثيقة ... فانك بعد اليوم بالذل آسف
وقال في خزانة الأدب (458: 1) ولكعب هذا أخ يقال له عمير بن جعيل وهو شاعر أيضاً وهو القائل يهجو قومه (من الطويل) :
كسا الله حيي تغلب ابنة وائل ... من اللؤم اظفاراً بعليا نصولها(8/210)
قال ثم ندم فقال (من الطويل) :
ندمت على شتمي العشيرة بعدما ... مضت واستتبت للرواة مذاهبه
فأصبحت لا أسطيع رداً لما مضى ... كما لا يرد الدر في الضرع حالبه
أما الجمحي فانه يروي هذه الأبيات في طبقات الشعراء (ص 129) لكعب وقد أضاف إليها قوله (من الطويل) :
معاوي أنصف تغلب ابنة وائل ... من الناس أودعها وحياً تضاربه
قليل على باب الأمير لباثتي ... إذا رابني باب الأمير وحاجبه
ولما تداروا في تراث محمد ... سمت بابن هند في قريش مضاربه
(قلنا) أن هذه الأبيات نظراً. فعلى قول صاحب خزانة الأدب (458: 1) أن البيت الذي قيل في هجاء تغلب (كسا الله حيي تغلب البيت) هو لعميرة أخي كعب ابن جعيل المترجم هنا. ثم ذكر (ص 459) شاعراً آخر سماه عميرة بن جعل وذكر نسبه وقال عنه أنه (شاعر جاهلي) على أننا رأينا هذا البيت عينه المفضليات (ص 518) في مقدمة خمسة أبيات ونسبته هناك ليست لأخي كعب بن جعيل بل لعميرة بن جعل بن عمرو الشاعر الجاهلي. وقد أثبتنا نحن هذه الأبيات في شعراء النصرانية (ص 195) لذلك الشاعر الجاهلي مع أبيات أخرى نونية رواها له صاحب المفضليات (ص 520-522) وذكر منها في خزانة الأدب ثلاثة أبيات. فترى ما وقع من الاضطراب في الروايات لسبب اتفاق الأسماء.
وروي أيضاً لكعب في الجماسة البصرية في باب الرثاء (210: 1) (من الطويل) :
برابية الثرثار قبر ترابة ... يضم الغمام الجود والشمس والبدرا
رأت تغلب العلياء عند مصابه ... عيون الأعادي نحو أعينها خزرا(8/211)
وودت نجوم الجود يوم حملنه ... على النعش لو كانت بأجمعها قبرا
منافسةً منها عليه وضنةً ... على الترب أن تمحو المآثر والفخرا
وما بخلت عيناي بالدمع بعده ... على هالك إلا ذكرت لها عمرا
وروى له أيضاً يهجو المغيرة بن شعبة (182: 2) (من الطويل) :
إذا راح في قوهية فتأزرا ... فقلت ألا يستن في لبن محض
وتحسبه إن قام للمشي قاعداً ... لقلة مقياسيه في الطول والعرض
فأقسمت لو حزت من استك بضعة ... لما انكسرت من قرب بعضط من بعض
فيا خلقه الشيطان أقصر فإنما ... رايتك أهلاً للعداوة والبغض
وفي معجم البلدان لياقوت (378: 2) وفي تاريخ الطبري (749: 1) بيت فرد لكعب التغلبي يذكر غزوة الملك تبع الحميري للعراق قال (من الرمل) :
وغزانا تبع من حمير ... نزل الحيرة في أهل عدن
والبيت تصفح في الطبري فرواه مكسوراً
وغزا تبع في حمير حتى ... نزل الحيرة من أرض عدن
وقد يروى له أيضاً في شواهد سيبويه (من الرمل) :
صعدة نابتة في حائر ... أينما الريح تميلها تمل
قال الصعدة القناة المستوية. والحائر المكان المطمئن. شبه امرأةً في تمايلها بهذه القناة. ويلي هذا البيت أربعة أبيات غزلية (خزانة الأدب 457: 1) نضرب عنها الصفح.(8/212)
12- العديل بن الفرخ
(نسبه) هو العديل بن الفرخ (وروى في الأغاني (الفرج) وهو تصحيف) بن معن بن الأسود بن ربيعة بن عجل البكري. وقال في تاج العروس: وفي بعض النسخ (العدي بلا لام وهو صحيح) فيكون اسمه عدياً وكان يلقب بالعباب. قال في الأغاني (11: 20) (وكان له ثمانية أخوة وأمهم جميعاً امرأة من بني شيبان منهم أسود وكان شاعراً فارساً وسواده وشملة (وقيل سلمة) والحرث وكان يقال لامهم درمناً) .
(دينه) كان العديل من قبيلة عجل الثابتة على نصرانيتها حتى بعد الإسلام فقال الأبيرد يهجوهم:
بنو عجل أذل من المطايا ... ومن لحم الجزور على الثمام
تحيا المسلمون إذا تلاقوا ... وعجل ما تحيا بالسلام
وكذلك بنو شيبان الذين منهم كانت أمه. وفي ترجمته أنه هرب من الحجاج إلى بلد الروم ولجأ إلى قيصر. ولولا نصرانيته لما فعل.
(أخباره) جاء في الأغاني (12: 20) ما نصه: (كان للعديل وإخوته ابن عم يسمى عمراً فتزوج بنت عم لهم بغير أمرهم فغضبوا ورصدوه ليضربوه. فخرج عمرو ومعه عبد له يسمى دابغاً فوثب العديل وإخوته فأخذوا سيوفهم فقالت أمهم: أني أعوذ بالله من شركم. فقال لها بأنها أسود: وأي شيء تخافين علينا فو الله لو حملنا أسيافنا على هذا الحنو حنو قراقر لما قاموا لنا. فانطلقوا حتى لقوا عمراً. فلما رآهم ذعر منهم وناشدهم بابوا فحمل عليه سوادة فضرب عمراً ضربةً بالسيف وضربه عمرو فقطع رجله فقال سوادة (من الوافر) :
ألا من يشتري رجلاً برجل ... تأنى للقيام فلا تقوم
وقال عمرو لدابغ: إضرب فأنت حر. فحمل دابغ فقتل منهم رجلاً وحمل عمرو فقتل آخر وتداولاهم فقتلا منه أربعة وضرب العديل على رأسه. ثم تفرقوا وهرب(8/213)
دابغ حتى أتى الشام فداوى ربضة بن النعمان الشيباني للعديل ضربته ومكث مدة. ثم خرج العديل بعد ذلك حاجاً فقيل له أن دابغاً قد جاء حاجاً وهو يرتحل فيأخذ طريق الشام وقد اكترى. فجعل عديل عليه الرصد حتى إذا خرج دابغ ركب العديل راحلته وهو ملتثم وانطلق يتبعه حتى لقيه خلف الركاب يحدو بشعر العديل ويقول (من الرجز) :
يا دار سلمى أقفرت من ذي قار ... هل فيك يا قفار الدار من عار
وقد كسين عرقاً مثل القار ... يخرجن من تحت خلال الأوبار
فلحقه العديل فحبس عليه بعيره وهو لا يعرفه ويسير رويداً ودابغ يمشي رويداً وتقدمت إبله فذهبت وإنما يريد أن يباعده عنها بوادي حنين. ثم قال العديل والله لقد استرخى حقب رحلي أنزل فأغير الرحل فتعينني. فنزل وغير الرحل وجعل دابغ يعينه حتى إذا شد الرحل أخرج العديل سيفه فضربه حتى برد ثم ركب راحلته فنجا وأنشأ يقول (من الطويل) :
ألم ترني جللت بالسيف دابغاً ... وان كان ثأراً لم يصبه غليلي
بوادي حنين ليلة البدر رعته ... بأبيض من ماء الحديد صقيل
وقلت لهم هذا الطريق أمامكم ... ولم آل إذ صاروا لهم بدليل وفي ذلك يقول جرثومة العنزي الجلاني:
إن امرءاً يهجو الكرام ولم ينل ... من الثأر إلا دابغاً للئيم
أتطلب في جلان وتراً ترومه ... وفاتك بالأوتار شر غريم
يجيب على ما هجا به العديل قومه حيث قال:
أهاجي بني جلان إذ لم يكن لها ... حديث ولا في الأولين قديم
قالوا واستعدى مولى دابغ على العديل الحجاج بن يوسف وطالبه بالقود فيه(8/214)
فهرب العديل إلى بلد الروم. فلما صار إلى بلد الروم لجأ إلى القيصر فأمنه فقال في الحجاج (من الطويل) :
أخوف بالحجاج حتى كأنما ... يحرك عظم في الفؤاد مهيض
ودون يد الحجاج من أن تنالني ... بساط لأيدي الناعجات عريض
مهامه أشباه كأن سرابها ... ملاء بأيدي الغاسلات رحيض
فبلغ شعره الحجاج فكتب إلى قيصر: لتبعثن به أو لأغزينك جيشاً أوله عندك وآخره عندي. فبعث به قيصر على الحجاج.
(قال) فخرج العديل يريد الحجاج فلما صار إلى بابه حجبه الحاجب فوثب عليه العديل وقال: انه لن يدخل على الأمير بعد رجالات قريش أكبر مني ولا أولى بهذا الباب. فنازعه الحاجب الكلام فأحفظه وانصرف العديل عن باب الحجاج إلى يزيد بن المهلب فلما دخل غليه أنشأ يقول (من الطويل) :
لئن أرتج الحجاج بالبخل بابه ... فباب الفتى الأزدي بالعرف يفتح
فتى لا يبالي الدهر ما قل ماله ... إذا جعلت أيدي المكارم تسنح
يداه يد بالعرف تنهب ما حوت ... وأخرى على الأعداء تسطو وتجرح
إذا ما أتاه المرملون تيقنوا ... بأن الغنى فيهم وشيكاً سيسرح
أقام على العافين حراس بابه ... ينادونهم والحر بالحر يفرح
هلموا إلى سيب الأمير وعرفه ... فإن عطاياه على الناس تنفح
وليس كعلج من ثمود بكفه ... من الجود والمعروف حزم مطرح
فقال له يزيد: عرضت بنا وخاطرت بدمك. وبالله لا يصل إليك وأنت في حيزي. فأمر له بخمسين ألف درهم وأمر له بأفراس وقال له: الحق بعلياء نجد واحذر(8/215)
أن تلحقك حبائل الحجاج أو تحتجنك محاجنه. وابعث إلي في كل عام فلك علي مثل هذا. فارتحل. وبلغ الحجاج خبره فأحفظه ذلك على يزيد وطلب العديل ففاته فاستاق إبله وأحرق بيته وسلب امرأته وبناته وأخذ حليهن. فقال العديل (من الطويل) :
سلبت بناتي حليهن فلم تدع ... سواراً ولا طوقاً على النحر مذهبا
وما عز في الآذان حتى كأنما ... تعطل بالبيض الأوانس ربربا
عواطل لا إن ترى بخدودها ... قسامة عتق أو بناناً مخضباً
فككت البرين عن خدال كأنها ... برادي غيل ماؤه فد تنضبا
من الدر والياقوت عن كل حرة ... ترى سمطها بين الجمان مثقبا
دعون أمير المؤمنين فلم يجب ... دعاءً ولم يسمعن أماً ولا أبا
قال أبو عمرو الشيباني (الأغاني 13: 20) : (لما لج الحجاج في طلب العديل لفظته الأرض ونبا به كل مكان هرب إليه. فأتى بكر بن وائل وهم يومئذ بادون جمع منهم بنو شيبان وبنو عجل وبنو يشكر فشكا إليهم أمره وقال لهم: أنا مقتول أفتسلمونني هكذا وأنتم أعز العرب؟ قالوا: لا والله ولكن الحجاج لا يراغم ونحن نستوهبك منه. فإن أجابنا فقد كفيت وإن حادنا في أمرك منعناك وسألنا أمير المؤمنين أن يهبك لنا. فأقام فيهم واجتمعت وجوه بكر بن وائل إلى الحجاج فقالوا له: أيها الأمير إننا قد جنينا جميعا عليك جنايةً لا يغفر مثلها ونحن قد استسلمنا وألقينا بأيدينا إليك فإما وهبت فأهل ذلك أنت وإما عاقبت فكنت المسلط المالك العادل. فتبسم وقال: قد عفوت عن كل جرم إلا الفاسق العديل. فقاموا على أرجلهم فقالوا: مثلك أيها الأمير لا يستثني على أهل طاعته وأوليائه في شيء. فإن رأيت أن لا تكدر مننك باستثناء وأن تهب لنا العديل في أول من تهب. قال: قد فعلت فهاتوه قبحه الله. فأتوه به. فلما وقف بين يديه أنشأ (من الطويل) :(8/216)
ها أنا ذا ضاقت بي الأرض كلها ... إليك وقد جولت كل مكان
فلو كنت في نهلان أو شعبتي أجا ... لخلتك إلا أن تصد تراني
فقال له الحجاج: أنشدني قولك:
ودون يد الحجاج من أن تنالني (البيت)
فقال: ألم أقل هذا أيها الأمير ولكني قلت (من الطويل) :
إذا ذكر الحجاج أضمرت خيفةً ... لها بين أحناء الضلوع نفيض
فتبسم الحجاج وقال: أولى لك فخلى سبيله وعفا عنه وفرض له وتحمل دية دابغ في ماله. ومما أنشده ليسترضي الحجاج عند قدومه العراق قوله (من الطويل) :
دعوا الجبن يا أهل العراق فإنما ... يهان ويسبى كل من لا يقاتل
لقد جرد الحجاج للحق سيفه ... ألا فاستقيموا لا يميلن مائل
وخافوه حتى القوم بين ضلوعهم ... كنزو القطا ضمت عليه الجبائل
وأصبح كالبازي يقلب طرفه ... على مرقب والطير منه واحل
(زمانه وشعره) اشتهر العديل في زمن الدولة الأموية والمروانية وهو من رهط أبي النجم العجلي. وكان شاعراً مقلا إلا أن شعره حسن مطبوع. وله في المديح أقوال مشهورة منها لاميته في الحجاج لينال الصفح عن هجائه فقال (من الطويل) :
فلو كنت في سلمى أجا وشعابها ... لكان الحجاج علي دليل
بنى قبة الإسلام حتى كأنما ... هدى الناس من بعد الضلال رسول
إذا جار حكم الناس ألجأ حكمه ... إلى الله قاض بالكتاب عقول(8/217)
خليل أمير المؤمنين وسيفه ... لكل إمام صاحب وخليل
به نصر الله الخليفة منهم ... وثبت ملكاً كاد عنه يزول
فأنت كسيف الله في الأرض خالد ... تصول بعون الله حين تصول
وجازيت أصحاب البلاء بلاءهم ... فما منهم عما تحب نكول
وصلت بمران العراق فأصبحت ... مناكبها للوطء وهي ذلول
أذقت الحمام ابني عباد فأصبحوا ... بمنزل موهون الجناح ثكول
ومن قطري نلت ذاك وحوله ... كتائب من رجاله وخيول
إذا ما أتت باب ابن يوسف ناقتي ... أتت خير منزول به ونزيل
وما خفت شيئاً غير ربي وحده ... إذا ما انتحيت النفس كيف أقول
ترى الثقلين الجن والإنس أصبحا ... على طاعة الحجاج حين يصول
وروى أبو تمام في الحماسة لعديل العجلي قوله في الفخر وقيل أنها لأبي الأخيل العجلي (من الطويل) :
ألا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد ... وذات الثنايا الغر والفاحم الجعد
وذات اللثات الحم والعارض الذي ... به أررقت عمداً بأبيض كالشهد(8/218)
كان ثناياها اغتبقن مدامةً ... ثوت حججاً في رأس ذي قنة فرد
جرى بفريق العامرية غدوةً ... شواحج سود ما تعيد وما تبدي
إذا ما نعقن قلت هذا فراقها ... وغن هن لم ينعقن سكن من وجدي
لعل الذي قاد النوى أن يردها ... إلينا فقد يدني البعيد من البعد
وعل النوى في الدار تجمع بيننا ... وهل يجمع السيفان ويحك في غمد
لعمري لقد مرت بي الطير آنفاً ... بما لم يكن إذ مرت الطير من بد
ظللت أساقي الموت إخوتي الأولى ... أبوهم أبي عند المزاحة والجد
كلانا ينادي يا نزار وبيننا ... قناً من قنا الخطي أو من قنا الهند
قروم تسامى من نزار عليهم ... مضاعفة من نسج داؤود والسغد
إذا ما حملنا حملةً مثلوا لنا ... بمرهفة تذري السواعد من صعد
وإن نحن نازلناهم بصوارم ... ردوا في سرابيل الحديد كما نردي
كفى حزناً أن لا أزال أرى القنا ... تمج نجيعاً من ذراعي ومن عضدي
لعمري لئن رمت الخروج عليهم ... بقيس على قيس وعوف على سعد
وضيعت عمراً والرباب ودارماً ... وعمر بن أد كيف اصبر عن أد(8/219)
لكنت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آل فوق آل رابية صلد
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ... بني بطنها هذا الضلال عن القصد
فأوصيكما يا ابني نزار فتابعا ... وصية مفضي النصح والصدق والود
ولا تعلمن الحرب في الهام هامتي ... ولا ترم بالنبل ويحكما بعدي
أما ترهبان النار في ابني أبيكما ... ولا ترجوان الله في جنة الخلد
وإني وإن عاديتهم وجفوتهم ... لتألم مما عض أكبادهم كبدي
فإن أبي عند الحفاظ أبوهم ... وخالهم خالي وجدهم جدي
فما ترب أثرى لو جمعت ترابها ... بأكثر من ابني نزار على العد
هما كنفا الأرض اللذا لو تزعزعا=تزعزع ما بين الجنوب إلى السد
رماحهم في الطول مثل رماحنا ... وهم مثلنا قد السيور من الجلد
وروى له ابن عبد ربه في العقد الفريد قوله يذكر يوم ذي قار وحضور بني شيبان وعجل فيه (من البسيط) :
ما أوقد الناس من نار لمكرمة ... إلا اصطلينا وكنا موقدي النار(8/220)
وما يعدون من يوم سمعت به ... للناس أفضل من يوم بذي قار
جئنا بأسلابهم والخيل عابسة ... لما استلبنا لكسرى كل أسوار
ومن جيد شعر العديل قصيدته اللامية التي يمدح فيها قبائل وائل ويذكر دفاعهم عنه ويفتخر بهم فقال (الأغاني 14: 20-16) (من الكامل) :
صرم الغواني واستراح عواذلي ... وصحوت بعد صبابة وتمايل
وذكرت يوم لوى عنيق نسوةً ... يخطرن بين أكلة ومراجل
لعب النعيم بهن في أطلاله ... حتى لبسن زمان عيش غافل
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى ... وإذا عطلن فهن غير عواطل
وإذا خبأن خدودهن أرينني ... حدق المها وأخذن سهم القاتل
ورمينني لا يستترن بجنة ... إلا الصبا وعلمن أين مقاتلي
يلبسن أردية الشباب لأهلها ... ويجر باطلهن حبل الباطل
بيض الأنوق بكسرهن ومن يرد ... بيض الأنوق فوكرها بمعاقل
ورآك أهلك منهم ورأيتهم ... بفروع أرعن فوقها متطاول
وإذا سالت ابني نزار بينا ... مجدي ومنزلتي من ابني وائل
حدبت بنو بكر علي وفيهم ... لهم المكارم بالعديد الكامل
خطروا ورائي بالقنا وتجمعت ... منهم قبائل أردفوا بقبائل(8/221)
إن الفوارس من لجيم لم تزل ... فيهم مهابة كل أبيض فاعل
متعمم بالتاج يسجد حوله ... من آل هوذة للمكارم حامل
أو رهط حنظلة الذين رماحهم ... سم الفوارس حتف موت عاجل
قوم إذا شهروا السيوف رأوا لها ... حقاً ولم يك سلها للباطل
ولئن فخرت بهم لمثل قديمهم ... بسط المفاخر للسان القائل
أولاد ثعلبة الذين لمثلهم ... حلم الحليم ورد جهل الجاهل
ولمجد يشكر صورة عادية ... وأب إذا ذكروه ليس بخامل
وبنو الفزار إذا عددت صنيعهم ... وضح القديم لهم بكل محافل
وإذا فخرت بتغلب ابنة وائل ... فاذكر مكارم من ندى وأوائل
ولتغلب الغلباء عز بين ... عادية ويزيد فوق الكاهل
تسطو على النعمان وابن محرق ... وابني قطام بعزة وتناول
بالمقربات يبتن حول رحالهم ... كالقد بين أجلة وصواهل
أولاد أعوج والصريح كأنها ... عقبان يوم دجنة وتحايل
يلقطن بعد أزومهن على الشبا ... علق الشكيم بألسن وجحافل
قوم هم قتلوا ابن هند عنوةً ... وقنا الرماح تذود ورد الناهل(8/222)
منهم أبو حنش وكان بكفه ... ري السنان وري صدر العامل
ومهلهل الشعراء إن فخروا به ... وندى كليب عند فضل النائل
حجب المنية دون واحد أمه ... من أن تبيت وصدرها ببلابل
وأبى مجالسة الشباب فلم يكن ... يستب مجلسه وحق النازل
حتى أجار على الملوك فلم يدع ... حدباً ولا صعراً لرأس مائل
في كل حي للهذيل ورهطه ... نعم واخذ كريمة بتناول
بيض كرائم ردهن لعنوة ... أسل القنا وأخذن غير أرامل
أبناؤهن من الهذيل ورهطه ... مثل الملوك وعشن غير عوامل
وقد روى له في الأغاني (11: 20) أبياتاً فيها غناء لمعبد (من الطويل) :
فإن تك من شيبان أمي فإنني ... لأبيض من عجل عريض المفارق
وكيف بذكرى أم هارون بعدما ... خبطن بأيديهن رمل الشقائق
كأن نقاً من عالج آزرت به ... إذا الذل ألهاهن شد المناطق
وإنا لنغلي في الشتاء قدورنا ... ونصبر تحت اللامعات الخوافق
وقد روى الأصمعي أن الشاعر الراجز أبا نجم قال للعديل: أرأيت قولك (فان تك من شيبان أمي البيت) أكنت شاكاً في نسبك حين قلت هذا. فقال له العديل: أفشككت أنت في نفسك أو شعرك حين قلت:
أنا أبو النجم وشعري شعري ... لله دري ما يجن صدري
فأمسك أبو النجم واستحيا - ومن مديح العديل ما قاله في رجلين عرفا بشرفهما(8/223)
وضرب المثل بكرمهما وهما حوشب الشيباني وعكرمة بن ربعي الفياض. روى عنهما صاحب الأغاني ما حرفه قال (20: 18) : (كان حوشب بن يزيد الشيباني وعركمة بن ربعي يتنازعان الشرف ويتباريان في الطعام ونحر الجزر في عسكر مصعب. وكان حوشب يغلب عكرمة لسعة يده.
(قال) وقدم عبد العزيز بن يسار مولى بختر ... بسفائن دقيق فأتاه عكرمة فقال له: الله الله في قد كاد حوشب أن يستغلني ويغلبني بماله فبعني هذا الدقيق بتأخير ولك فيه مثل ثمنه ربحاً. فقال: خذه. وأعطاه إياه فدفعه إلى قومه وفرقه بينهم وأمرهم بعجنه كله فعجنوه كله ثم جاء بالعجين كله فجمعه في هوة عظيمة وأمر به فغطي بالحشيش. وجاء برمكة فقربوها إلى فرس حوشب حتى طلبها وأفلت ثم ركضوها بين يديه وهو يتبعها حتى ألقوها في ذلك العجين وتبعها الفرس حتى تورط في العجين وبقيا فيه جميعاً. وخرج قوم عكرمة يصيحون في العسكر: يا معشر المسلمين أدركوا فرس حوشب فقد غرق في خميرة عكرمة. فخرج الناس تعجباً من ذلك إذ تكون خميرة يغرق فيها الفرس. فلم يبق في العسكر أحد إلا ركب ينظر وجاؤوا إلى الفرس وهو غريق في العجين ما يبين منه إلا رأسه وعنقه. فما أخرج إلا بالعمد والحبال وغلب عليه عكرمة وافتضح حوشب فقال العديل بن الفرخ يمدحهما ويفخر بهما (من الطويل) :
وعكرمة الفياض فينا وحوشب ... هما فتيا الناس اللذا لم يعمرا
هما فتيا الناس اللذا لم ينلهما ... رئيس ولا الأقيال من آل حميرا
وقال غيره في حوشب:
وأجود بالمال من حاتم ... وأنحر للجزر من حوشب
وقد مدح العديل رجلاً آخر سيداً على بني ربيعة بن نزار اسمه مالك بن ربيعة ابن مسمع لاذ بابيه بنو تميم والأزد والي الكوفة زياداً حمل مالاً من البصرة إلى معاوية فحرم عرب ربيعة فاستغاثوا بربيعة بن مسمع فأرسل ابنه مالكاً فلحق بالمال ورده(8/224)
وأنفقه في الناس حتى وفاهم عطاءهم فما راجعه زياد. ثم ولي حمزة بن عبد الله بن الزبير البصرة فجمع هو أيضاً مالاً ليحمله إلى أبيه فاجتمع الناس إلى مالك واستغاثوا به ففعل مثل فعله بزياد فقال العديل قصيدته التي أولها (من الطويل) :
أمن منزل من أم سكن عشية ... ظللت بها أبكي عليه مفكرا
معي كل مسترخي الإزار كأنه ... إذا ما مشى من جن غيل وعبقرا
منيخي المطايا لا يبالي كلاهما ... مقلصة خوصاً من الأين ضمرا
ومنها في مديح بني مسمع ومالك (عمدة ابن الرشيق 6: 2 والأغاني 17: 20) :
بني مسمع لولا الإله وأنتم ... بني مسمع لم ينكر الناس منكرا
إذا ما خشينا من أمير ظلامةً ... دعونا أبا غسان يوماً فعسكرا
ترى الناس أفواجاً إلى باب داره ... إذا شاء جاؤوا دارعين وحسرا
ومما يروى أيضاً من شعر العديل بن الفرخ ما قاله في رجل من بني عجل يدعى جباراً كان رجل من بني العباب من رهط العديل أصاب أنفه (من الطويل) :
ألم تر جباراً ومارن أنفه ... له ثلم يهوين أن يتخنعا
ونحن جدعنا أنفه فكأنما ... ترى الناس أعداءً إذا هو أطلعا
كلوا أنف جبار بكاراً فإنما ... تركناه عن فرط من الشر أجدعا
معاقد من أيديهم وأنوفهم ... بكارى وثيباً تركب الحزن طلعا
وكان رجل من رهط العديل ضرب أيضاً يد وكيع أحد بني الطاغية وهما يشربان فقطعهما وافترقا فقال العديل في ذلك (من الطويل) :
تركت وكيعاً بعد ما شاب رأسه ... أشل اليمين مستقيم الأخادع
تشرب بها ورق الإفال وكل بها ... طعام الذليل وانحجر في المخادع(8/225)
فلما قال هذا الشعر يفخر بقطع أنف جبار ويد وكيع حلف رهطهما أن يقطعوا أنفه ويده دون من فعل ذلك بهم. فهرب العديل وأبوه إلى بني قيس بن سعد ولجأ إلى عفير بن جبير. فقال بنو قيس بن سعد للفرخ بن العديل أنصف قومك وأعطيهم حقهم. فركب إليهم الفرخ ومعه رجلان من بني الحرث اسمهما حسان ودينار فأسرته بنو الطاغية وانتزعوه من الرجلين وتوجهوا به نحو البصرة. فرجع الرجلان إلى قومهما مستنفرين لهم فركب النفير في نهب بني الطاغية فأدركوا منهم رجلاً فاشترى منهم الجراحة بسبعين بعيراً وأخذ ابن الفرخ منهم فأطلقه. فقال العديل يمدح بني قيس ويهجو بني طاغية (من الطويل) :
ما زال في قيس بن سعد لجارهم ... على عهد ذي القرنين معط ومانع
هم استنقذوا حسان قسراً وأنتم ... لئام المقام والرماح شوارع
غدرتم بدينار وحسان غدوةً ... وبالفرخ لما جاءكم وهو طائع
فلولا بنو قيس بن سعد لأصبحت ... علي شداداً قبضهن الأصابع
ألا تسألون ابن المشتم عنهم ... جعامة والحيران واف وظالع
ومما روى أبو الفرج في (الأغاني 19: 20) عن الأصمعي أنه قال: دخلت على الرشيد يوماً وهو محموم فقال: أنشدني يا أصمعي شعراً مليحاً. فقلت: أرضينا فحلاً يريده أمير المؤمنين أم شجياً سهلاً. فقال: بل غزلاً بين الفحل والسهل. فأنشدته للفرخ بن العديل العجلي (من الطويل) :
صحا عن طلاب البيض قبل مشيبه ... وراجع غض الطرف فهو خفيض
كأني لم أرع الصبا ويروقني ... من الحي أحوى المقلتين غضيض
دعاني له يوماً هوى فأجابه ... فؤاد إذا يلقى المراض مريض
لمستأنسات بالحديث كأنه ... تهلهل غر برقهن وميض
فقال لي: أعدها. فما زلت أكررها عليه حتى حفظها.(8/226)
وله في العتاب ما رواه صاحب الحماسة البصرية (ص 244 من نسخة مكتبتنا) وذلك أنه كان مدح مع الفرزدق قوماً من رهطه فوصلوا الفرزدق دونه فقال (من الطويل) :
أفي الحق أن يعطى الفرزدق حكمه ... وتخرج كفي من نوالكم صفرا
أهم فيثنيني أواصر بيننا ... وأيد حسان لا أؤدي لها شكرا
ومما يستشهد به من شعر العديل في كتب اللغة قوله (من الرجز) :
أوعدني بالسجن والأداهم ... رجلي ورجلي شثنة المناسم
قالوا الأداهم القيود من خشب جمع أدهم. أي تهددني بالسجن وتهدد رجلي بالقيود وإنما رجلي شئنة المناسم أي غليظة الباطن لم تؤلمها القيود ومن رجز العديل رائيته التي مر ذكرها وهي كثيرة الأبيات ذكر منها ابن قتيبة في الشعر والشعراء قوله:
يا دار سلمى أقفرت من ذي دار ... وهل بإقفار الديار من عار
ثم ذكر وصفه للإبل:
قوارب الماء سوامي الأبصار ... وهن ينهضن بد كداك هار
أورق من ترب العراق خوار ... وقد كسين عرقاً مثل القار
يخرج من تحت ح ... خلال الأوبار
(وفاة العديل في البصرة) روى في الأغاني (19: 20) عن محمد بن سلام قال: قدم العديل بن الفرخ البصرة ومدح مالك بن مسمع الجحدري فوصله فأقام بالبصرة(8/227)
واستطابها وكان مقيماً عند مالك فلم يزل بها إلى أن مات. وكان ينادم الفرزدق ويصطحبان فقال الفرزدق يرثيه:
وما ولدت مثل العديل جليلة ... قديماً ولا مستحدثات الحلائل
وما زال مذ شدت يداه إزاره ... به تفتح الأبواب بكر بن وائل
وهذا البيتان لم يرويا في ديوان الفرزدق.
-13- العجاج بن رؤبة
(اسمه ونسبه) هو عبد الله بن رؤبة بن حنيفة أحد بني تميم يكنى أبا الشعثاء والشعثاء ابنته. وقد سمي العجاج ببيت قاله في مديح قومه:
فعرفوا ألا يلاقوا مخرجا ... أو يبتغوا إلى العماد درجا
حتى يعج عندها من عجعجا
وكان يلقب بعبد الله الطويل وأكثر سكناه البصرة فنسب إليها.
(زمانه وشعره) عاش العجاج في عهد بني أمية فمدحهم ونال صلاتهم وقد عرف منهم يزيد بن معاوية وسليمان بن عبد الملك وبشر بن مروان بن الحكم ومدح عاملهم على العراق الحجاج بن يوسف وغيره من أعيان زمانه كعمر بن عبيد الله بن معمر والي البصرة وكان عبد الملك بن مروان قد وجهه لقتال أبي فديك الخارجي الحروري فأوقع به وبأصحابه سنة 73 هـ (692 م) فمدحه العجاج بارجوزة طويلة في نحو مائتي بيت.
أما شعره فقد اشتهر فيه بقصائده الرجز فانه كان هو وابنه رؤبة من كبار الرجازين وفصائهم وقيل أن الأغلب العجلي والعجاج وأبا النجم العجلي أول من أطالوا المقطعات ونظموا الأراجيز المطولة. وقد أخبر أبو الفرج في الأغاني (124: 18) عن ابن دريد أنه قيل ليونس النحوي: من أشعر الناس؟ قال العجاج ورؤبة. فقيل له: لم لم تعن الرجاز؟ فقال: (هم أشعر من أهل القصيد. إنما الشعر كلام وأجوده(8/228)
أشعره) . ثم ذكر مثالاً من شعرهما بين فيه ما لهما من الفضل وجود القريحة.
(أخباره) عاش العجاج في البصرة وفي البادية المجاورة لها في أيام الخلفاء الراشدين ثم في عهد بني أمية. وكان موالياً للأمويين ولعله حارب مع جيوشهم أعداء دولتهم كما يستدل من أوصافه لحروبهم. وقد مر بدمشق ودخل على خلفائها وحضر مع الشعراء بعض المجالس الأدبية التي عقدت فيها. ووقعت بينه وبين أبي النجم الراجز مفاخرات كان يدعي كل منهما الفضل على الآخر.
ومما لا ريب فيه أن سمعة العجاج انتشرت في أنحاء العرب وكان الناس يتناشدون شعره فنقله عنهم اللغويون واستندوا إليه في نوادر كتب اللغة.
ومما أخبره الأصفهاني في الأغاني متفكهاً (124: 18) أن راجزاً من أهل المدينة جلس إلى حلقة فيها الشعراء وبينهم العجاج وابنه ورؤبة وهو لا يعرفهما فقال: (أنا ارجز العرب أنا الذي أقول:
مروان يعطي وسعيد يمنع ... مروان نبه وسعيد خروع
وددت أني راهنت من أحب في الرجز لأنا أرجز من العجاج فليت البصرة جمعت بيني وبينه) فأقبل رؤبة على أبيه فقال: قد والله أنصفك الرجل. فأقبل عليه العجاج فقال: ها أنا ذا العجاج فهلم. وزحف. فقال المدين: وأي العجاجين أنت. قال: ما خلتك تعني غيري أنا عبد الله الكويل (وكان يكنى بذلك) . فقال له المدني: ما عنيتك ولا أردتك. قال: وكيف وقد هتفت باسمي. فقال: أو ما في الدنيا عجاج سواك؟ قال: ما علمت. قال: ولكني أعلم وإياه عنيت. قال: فهذا ابني رؤبة. فقال: اللهم غفواً ما بيني وبينكم عمل وإنما مرادي غيركما. فضحك الحلقة منه وكفا عنه.
وكان العجاج يقيم في مربد البصرة من أشهر محالها وبها كانت مفاخرات الشعراء ومجالس الخطباء فيقوم بينهم العجاج محتفلاً عليه جبة خز وعمامة خز على ناقة له قد أجاد رحلها فينشد الناس.
وعاش العجاج إلى أيام الوليد بن عبد الملك فمات نحو السنة 90 هـ (709 م) .
(دينه) ما كنا لنجسر أن ننظم العجاج في سلك شعراء النصرانية لولا كلمة وردت في شعره تدل على أنه دان بالنصرانية وأن يكن بعد ذلك عدل إلى(8/229)
الإسلام. وهذه الكلمة هي مطلع قصيدته الرائية الشهيرة حيث يقول:
الحمد لله الذي أعطى الشبر
فشرح البعض لفظة (الشبر) بمعنى الخير والعطية أي الحمد لله موزع الخيرات والعطايا. إلا أن للفظة معنى آخر قديماً ورد في شعر عدي بن زيد الشاعر النصراني الشهير حيث يصف أمانته نحو النعمان (شعراء النصرانية ص 452) :
لم أخنه والذي أعطى الشبر
فورد هناك شرح الكلمة (بالإنجيل والقربان) وكذلك قال ابن السكيت في إصلاح المنطق (في الطبعة المصرية ص 169) : (وقيل في الشبر ها هنا أنه القربان) . فعدي إذ أقسم بالشبر أراد أجل ما لدى النصارى في دينهم وهو القربان. وقد زاد العجاج على قول عدي إذ خص الحمدلة في مقدمة قصيدته وبراعة استهلالها بمنحة الله للشبر فلا يريد أي عطية كانت بل أكير هبات الله التي هي عند النصارى الإنجيل والقربان.
ويؤيد قولنا الشرح الوارد في لسان العرب (59: 6) وفي تاج العروس (289: 3) لبيتي عدي والعجاج: (الشبر شيء يتعاطاه النصارى بعضهم لبعض كالقربان يتقربون به أو القربان بعينه. ونقل الصاغاني عن الخليل أن الشبر شيء تعطيه النصارى بعضهم بعضاً كأنهم كانوا يتقربون به ... وقيل الإنجيل) .
فترى من هذه الشروح أن العجاج وعدي بن زيد ضربا عن وتر واحد وأن كليهما يدين بالنصرانية. والفظة على ما نظن سريانية فإن كانت بمعنى الإنجيل فهي () يراد بها البشرى وهذا معنى لفظة الإنجيل في اليونانية. وإن كانت بمعنى القربان فهي () ومعناها القوت والغذاء أي قوت النفس والقربان.
هذا ولا نجهل أن بعض الرواة رووا كلمة العجاج (بالحبر وبالخير) وكلاهما بعيد أو تصحيف فالحبر الأثر أو السرور أما الخير على فعل أو الخير على فعل بلفظ الجمع فلا ذكر لهما في المعاجم. ما لم يقل أن الخير جمع خيرة أي المختار ولا شك في أن العجاج نظر إلى قول عدي السابق ذكره. ولاسيما أن أقدم رواية هي (الشبر) راقية إلى الخليل في القرن الثاني للهجرة.(8/230)
ولسنا نقصد بقولنا هذا أن نصرانية العجاج كانت خالصةً لا غبار عليها فكما ترى هنا نصرانيته تجد أيضاً في شعره آثاراً إسلامية منها في قصيدته الرائية المذكورة حيث يذكر نبي الإسلام بقوله:
محمداً واختاره الله الخير ... فما ونى محمد مذ أن غفر
له الإله ما مضى وما غبر ... أن أظهر الدين به حتى ظهر
وقيل (في الأغاني 85: 21) أن العجاج أنشد أبا هريرة صحابي محمد قوله الذي وصف فيها الخالق وأعماله ويوم الحساب وأهواله وهو موافق لمعتقد النصارى:
الحمد لله الذي تعلت ... بأمره السماء واستقلت
بإذنه الأرض وما تعنت ... أرسى عليها بالجبال الثبت
وحى لها القرار فاستقرت ... رب البلاد العباد القنت
والجاعل الغيث غياث المسنت ... والباعث الناس ليوم الموقت
بعد الممات وهو محيي الموت ... يوم ترى النفوس ما أعدت
من نزل إذا الأمور غبت ... من سعي دنيا طال ما قد مدت
حتى انقضى قضاؤها فأدت ... على الإله خلقه إذ طمت
غاشية الناس التي تغشت ... يوم يرى المرتاب أن قد حفت
إذا رأى متن السماء انقدت ... وحي الإله والبلاد رجت
وهو الذي أنعم نعمى عمت ... دافع عني بنقير مونتي(8/231)
بعد اللتيا واللتيا والتي ... إذا علتها أنفس تردت
فارتاع ربي وأراد رحمتي ... ونعمةً أتمها فتمت
فردها عني وقد أعدت ... أظفارها ونابها وحدت
فأساً ومسحاةً لنحت جبلتي
فلما سمع أبو هريرة إنشاده قال: أشهد أنك تؤمن بيوم الحساب. وللعجاج آثار دينية تراها آنفاً.
(ديوانه) قد نجا ديوان العجاج من الضياع. وكان أول من اهتم بجمعه الأصمعي وأبو عمرو الشيباني كما روى ابن النديم في الفهرست (ص 158) وأما أخباره وأخبار ابنه رؤبة فجمعها عبد العزيز الجلودي من أهل البصرة. وفي المكتبة الخديوية نسخة من هذا الديوان نقلها العلامة وليم بن الورد فنشرها مع ترجمتها الألمانية في برلين سنة 1903.
وها نحن نقتطف من أراجيزه بعض المقطعات تنويهاً بفضله فمنها قوله مستنيباً ومستغفراً ثم ذاكراً ويلات الحرب:
يا رب البيت والمشرق ... والمرقلات كل سهب سملق
إياك أدعو فتقبل ملقي ... فاغفر خطاياي وثمر ورقي
أنا إذا حرب غدت لا نتقي ... ديناً ولا مستأخراً لم يلحق
ترد حد الناب منها الأروق ... في كل يوم كاللياح الأبلق
والحمس قد تعلم يوم ملزق ... أنا نقي أحسابنا ونعتقي(8/232)
بالمشرفيات افتخار الأحمق ... إذ همت الذهلان بالتفرق
بعد جخيف البغي والتعمق ... دارت رحانا ورحاهم تستقي
سجال موت من يخضها يغرق
وقال يذكر حسن سيرته وعفافه:
يا رب إذ شددتني عقالا ... ولو تشاء أسرع انحلالا
إن كنت قد غيرت خالي حالا ... من كبر قد أوهن الأوصالا
فلم أكن استنطق العذالا ... من أن يروني للخنا قوالا
ولم أكن لجارتي غوالا ... ولم أكن في جنبها جهالا
ولم أكن أخادع الضلالا ... ولا لما حرمته أكالا
ولا لبيت جارتي ختالا ... بعد المنام أبتغي الإدغالا
تبغياً ما ليس لي حلالا ... على الإله الباعث الأثقالا
يعقبني من جنة تظلالا ... وقد يثيب الصابر النوالا
ومن أقواله أيضاً يذكر صفاته تعالى:
فالحمد لله العلي الأعظم ... ذي الجبروت والجلال الأفخم
وعالم الإعلان والمكتم ... ورب كل كافر ومسلم
والساكن الأرض بأمر محكم ... بنى السماوات بغير سلم(8/233)
ورب هذا البلد المحرم ... والقاطنات البيت غير الريم
من عهد إبراهيم لما تطسم
ومن مديح العجاج قوله في يزيد بن معاوية:
فقد رأى الراؤون غير البطل ... أنك يا يزيد يا ابن الأفحل
إذ زلزل الأقوام لم تزلزل ... عن دين موسى والرسول المرسل
إذا طار بالناس قلوب الضلل ... قتلاً وإضراراً بمن لم يقتل
وكنت سيف الله لم يفلل ... يفرع أحياناً وحيناً يختلي
سوالف العادين هذ العنصل ... والهام والبيض انتقاف الحنظل
حتى ارفأن الناس بعد المجول ... وبعد تشوال الحروب الشول
تفادياً منك ولم تقلل
وقال يمدح الوليد بن عبد الملك وكان يكنى بابي العباس:
كم قد حسرنا من علاة عنس ... كبداء كالقوي وأخرى جلس(8/234)
حتى احتضرنا بعد سير حدس ... إمام رغس في نصاب رعس
رأس قوام الدين وابن رأس ... خليفةً ساس بغير فجس
في قنس مجد فات كل قنس ... ملكه الله بغير نحس
قد علم القدوس رب القدس ... إن أبا العباس أولى نفس
بمعدن الملك كريم الكرس ... فروعه واصله المرسي
وقال في بني مروان:
إن بني مروان ضرابو البُهم ... والقاتلون من عصى إذا اعتقم
ديناً سوى الحق إلى أمر أمم ... كلهم ينمى إلى عز أشم
وقال يفتخر بقومه:
قد علمت بكر وسعد تعلمه ... لنصرعن ليثاً يرن مأتمه
نطعنه نجلاء فيها ألمه ... يجيش من بين تراقيه دمه
كمرجل الصباغ جاش بقمه(8/235)
ومن حسن أقواله وصفه لليلة قضاها باللم والسهاد:
وليلة من الليالي مرت ... بكابد كابدتها وجرت
كلكلها لولا الإله ضرت ... في ظلم أزلها فزلت
عني ولولا الله ما تجلت ... بت لها يقظان واقسأنت
إذا رجوت أن تضيء اسودت ... دون قدامى الصبح فارجحنت
منها عجساء إذا ما التجت ... حسبتها ولم تكر كرت
كأنما نجومها إذ ولت ... زوراً تباهي الغور إذ تدلت
ومن أقواله الدينية قوله يذكر العمل الصالح وجزاءه عند الله:
يعلم والعالم لا كالأجهل ... أن حساب العمل المحصل
والأولى من غب الأمور الأول ... عند الإله يوم جمع العمل
بمجمع الحساب والمزيل ... وأن خير الخول المخول
فلذ العطاء في حقوق النزل
وقال في مثل ذلك:
لا أشتم المرء الكريم المسلما ... ولا أرى شتم البريء مغنما(8/236)
ولا ابن عمي أن أراه مفحما ... وجارة البيت أراها محرما
كما قضاها الله إلا إنما ... مكارم السعي لمن تكرما
مخافة الله وعلماً غنما ... يجزي المجازي عاملاً ما قدما
ومن التشابيه النصرانية قوله يصف بقرة وحش:
واعتاد أرباضاً لها آري ... من معدن الصيران عدملي
كما يعود العيد نصراني ... وبيعةً لسورها علي
فمن هذه الأمثلة يلوح للقراء ما صار إليه شعر الرجز في عهد بني أمية إذ بلغ الغاية من المتانة والتبسط وكان للعجاج في ذلك السهم الفائز وعلى أثره جرى ابنه رؤبة من بعده وعاش إلى زمن دولة بني عباس ولا نعرف من نصرانيته شيئاً كما ظهر من شعر والده ولعله لم يثبت على دينه أو جمع بينه وبين الدين المحمدي كما وقع لغيره من نصارى عهد الإسلام الأول الذين لم يستقروا على رأي فتقلبوا على حسب أحوال الزمان والله أعلم.
وبهذه النتيجة نختم هذا القسم من شعراء النصرانية بعد الإسلام في أيام بني أمية. وسنتبعه إن شاء الله بقسم ثالث نخصه بالشعراء النصارى في عهد بني عباس.(8/237)
شعراء النصرانية بعد الإسلام
القسم الثالث
شعراء الدولة العباسية
قد تعدد الكتبة النصارى في زمن بني عباس (132- 656 هـ=750-1258 م) أعني في الخمسة الأجيال التي ثبتت الخلافة في عهدتهم في بغداد عاصمة العراق. على أن معظم أولئك الكتبة خدموا الدولة في ما كانت إليه الآداب العربية أمس حاجةً فانقطعوا إلى العلوم الفلسفية والطبية وتهافتوا على درس الآثار القديمة فنقلوا معظم تآليف الرومان والسريان إلى العربية فوسعوا بذلك نطاق معارف العرب ومهدوا لهم الطريق إلى تلك النهضة الأدبية التي امتازوا بها في القرون الوسطى.
على أن النصارى لم يهملوا مع ذلك درس اللغة العربية وفنونها اللسانية من نثر وشعر لولا أن كوارث الدهر قد أضاعت كثيراً منها. وها نحن في هذا الجزء ندون ما وجدناه من ذلك متفرقاً في كتب الأدباء وخزائن المخطوطات الدولية.
1- أبو قابوس الشاعر النصراني
(أصله وجنسه) لا نعلم عن أصل أبي قابوس وجنسه إلا النزر القليل الذي لا يروي غليلاً. وجدنا في أحد مخطوطات مكتبة باريس العمومية الذي عنوانه أحسن المسالك لأخبار البرامك ليوسف بن محمد البلوي أن أبا قابوس كان اسمه عمرو بن سليمان وأبو قابوس كنية. والقابوس في اللغة الرجل الجميل الوجه الحسن اللون. وبه تكنى أبو قابوس النعمان بن المنذر ملك الحيرة. وجاء في مخطوط آخر وهو كتاب الكواكب السنية في شرح القصيدة المقرية للأدهمي(9/241)
أنه كان حيرياً وقد تصفح هذا النسب في تحفة المجالس للسيوطي (ص 175) فسماه أبا قابوس الحميري وكان ينتمي إلى بني شيبان.
(زمانه ودينه) عاش أبو قابوس في عهد هارون الرشيد في أواخر القرن الثامن للميلاد ولم يرو لمولده وموته تاريخ. أما دينه فالنصرانية لا شك فيه كما صرح كثيرون بالأمر منهم ابن الرشيق في العمدة (ص 33) قال: (كان أبو قابوس الشاعر رجلاً نصرانياً من أهل الحيرة) وكذا قال الشريشي في شرح مقامات الحريري (64: 1) وأبو بكر أحمد البغدادي في تاريخ بغداد في مكتبة باريس وغيرهم.
(أخباره) كان أبو قابوس شاعراً منقطعاً إلى البرامكة كالرقاشي الشاعر وأشجع السلمي وجحظة البرمكي. وتقرب بهم إلى الخليفة هارون الرشيد. ومن أخباره ما رواه صاحب تاريخ بغداد أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ص 83 من نسخة باريس) قال: (قال أبو قابوس النصراني: دخلت على جعفر بن يحيى في يوم بارد فأصابني البرد فقال: يا غلام اطرح عليه كساء من أكسية النصارى. فطرح علي كساءً من خز قيمته ألف دينار. (قال) فانصرفت إلى منزلي فأردت أن أكتسيه في يوم عيد فلم أصب له في منزلي ثوباً يشاكله فقالت لي بنية لي: أكتب إلى الذي وهبه لك حتى يرسل إليك بما يشاكله من الثياب فكتبت إليه (من الطويل) :
أبا الفضل لو أبصرتنا يوم عيدنا ... رأيت مباهاةً لنا في الكنائس
فلو كان ذاك المطرف الخز جبةً ... لباهيت أصحابي بها في المجالس
فلا بد لي جبة من جبابكم ... ومن طيلسان من خيار الطيالس
ومن ثوب قوهي وثوب غلالة ... ولا بأس إن اتبعت ذاك بخامس
إذا تمت الأثواب في العيد خمسة ... كفتك فلم تحتج إلى لبس سادس
لعمرك ما أفرطت فيما سألته ... وما كنت لو أفرطت منه بآيس
وذاك لأن الشعر يزداد حمده ... إذا ما البلى أبلى جديد الملابس(9/242)
قال فبعث إليه جعفر حين قرأ شعره بتخوت خمسة من كل نوع تختاً.
وجاء في أخبار البرامك للبلوي وفي شرح مقامات الحريري للشريشي (64: 1) أن يحيى بن خالد كان إذا وعد أنجز وينقد سريعاً ما وعد. ومن أقواله: من لم يبت مسروراً بوعد لم يجد للصنيعة مطعماً. فدخل عليه أبو قابوس النصراني فأنشده (من البسيط) :
رأيت يحيى أتم الله نعمته ... عليه يأتي الذي لم يأته أحد
ينسى الذي كان من معروفه أبداً ... إلى الرجال ولا ينسى الذي يعد
فأجازه يحيى بجائزة سنية وقضى حوائجه.
(ديوانه وشعره) لم نجد في مخطوطات المكاتب ولا في كشف الظنون للحاج خليفة ذاكراً لديوان صنفه أبو قابوس الحيري. وإنما جاء في فهرست ابن النديم (ص 163) في باب العلماء وما صنفوه من الكتب ما خرفه: (أبو قاموس الشيباني مائة ورقة) يريد أن ديوانه يبلغ مائة ورقة. أما قوله (أبو قاموس) فتصحيف (أبو قابوس) كما يظهر. ومنه يستدل على أنه كان من بني شيبان الذين كانوا يحتلون الحيرة.
ومن شعره ما رواه أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني (126: 3-129) يذكر مهاجاة أبي قابوس للعتابي وتحامل أبي العتاهية على أبي قابوس قال: لما هاجى أبو قابوس النصراني كلثوم بن عمرو العتابي جعل أبو العتاهية يشتم أبا قابوس ويضع منه ويفضل العتابي عليه فبلغه ذلك فقال فيه (مجزوء الكامل) :
قل للمكني نفسه ... متخيراً بعتاهية
والمرسل الكلم القبيح ... وعته أذن واعيه
إن كنت سراً سؤتني ... أو كان ذاك علانيه
فعليك لعنة ذي الجلا ... ل وأم زيد زانيه
يعني أم أبي العتاهية وهي أم زيد بنت زياد فقيل له: أتشتم مسلماً؟ فقال: لم اشتمه وإنما قلت:(9/243)
فعليك لعنة ذي الجلا ... ل ومن عنينا زانيه
وأفضل من ذلك قوله لما أوقع هارون الرشيد بجعفر. قال البغدادي: (وما انقضت الأيام حتى قتل جعفر بن يحيى وصلب عند جسر بغداد فرأوا أبا قابوس تحت جذعه يزمزم فأخذه صاحب الحرس وأدخله على الرشيد فقال له: ما كنت قائلاً تحت جذع جعفر؟ قال: أتنجيني منك للصدق؟ قال: نعم. قال: ترحمت والله عليه. ثم أنشده يشفع عنده للفضل بن يحيى (من الوافر) :
أمين الله هب فضل بن يحيى ... لنفسك أيها الملك الهمام
وما طلبي إليك العفو عنه ... وقد قعد الوشاة به وقاموا
أرى سبب الرضى عنه قوياً ... على الله الزيادة والتمام
نذرت عليه فيه صيام شهر ... فإن تم الرضى وجب الصيام
وهذا جعفر بالجسر تمحو ... محاسن وجهه ريح قتام
أقول له وقمت لديه نصباً ... إلى أن كاد يفضحني القيام
أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام
فما شاهدنا قبلك يا ابن يحيى ... حساماً فله قبلاً حسام
عقاب خليفة الرحمان فخر ... لمن بالسيف عاقبه الحمام(9/244)
على الدنيا وساكنها جميعاً ... لدولة آل برمك السلام
قال ابن الرشيق في العمدة (ص 33) : وقد اختلط هذا الشعر بشعرين في وزنه ورويه ومعناه أحدهما لأشجع السلمي والآخر لسليمان (الأعمى) أخي (مسلم بن الوليد) صريع الغواني فالناس فيه مختلفون وهذه صحته. (قال) فانظر إلى تجاسره على مثل هذا الأمر العظيم من الشفاعة والرثاء.
وأردف البغدادي قائلاً: (ولما سمع هارون الرشيد هذه الأبيات أطرق مليا ثم قال: رجل أولى جميلاً فنال به جميلاً. يا غلام ناد بأمان أبي قابوس وألا يعرض له.
ووصى حاجبه ألا يحجبه عنه.
هذا ما رواه ابن الرشيق وأبو بكر البغدادي. وقد ذكر في الأغاني (36: 15) أربعة من أواخر أبيات القصيدة الميمية السابقة للرقاشي الفضل بن عبد الصمد الشاعر. وروى عنه أنه قال تلك الأشعار عند جذع جعفر وأن الرشيد أحضره كما مر الخبر عن أبي قابوس ثم سأله: وكم كان يجري عليك؟ قال: ألف دينار في كل سنة. قال: فإنّا قد أضعفناها لك.
وقصيدة أبي قابوس مروية أيضاً في كتاب جمهرة الإسلام ذات النثر والنظام مخطوطات ليدن لعميد الدين ابن الغنائم مسلم ابن محمود الشيرازي أما رواية القصيدة لسليمان الأعمى فوردت في العقد الفريد لابن عبد ربه (32: 3) على الصورة الآتية نذكرها تتمةً للإفادة:
هدا الخالون عن شجوي وناموا ... وعيني لا يلائمها منام
وما سهري بأني أرقتني ... إذا سهر المحب المستهام
ولكن الحوادث أرقتني ... فبي أرق إذا انقطع الغمام
فقلت وفي الفؤاد ضريم نار ... وللعبرات من عيني انسجام
على المعروف والدنيا جميعاً ... ودولة آل برمك السلام
جزعت عليك يا فضل بن يحيى ... ومن يجزع عليك فلا يلام
هوت بك أنجم المعروف فينا ... وعز بفقدك القوم اللئام
وما ظلم الإله أخاك لكن ... قضاء كان سببه اجترام
عقاب خليفة الرحمان فخر ... لمن بالسيف صبحه الحمام(9/245)
عجبت لما دها فضل بن يحيى ... وما عجبي وقد غضب الإمام
جرى في الليل طائرهم بنحس ... وصبح جعفراً منه اصطلاما
ولم أر قبل قتلك يا ابن يحيى ... حساماً قده السيف الحسام
يرين الحادثات لها سهاماً ... فغاله الحوادث والسهام
وإن الفضل بعد رداء عز ... غدا ورداؤه دال ولام
فقل للشامتين به جميعاً ... لكم أمثالها عام فعام
أمين الله ف الفضل بن يحيى ... رضيعك والرضيع له ذمام
أبا العباس أن لكل هم ... وإن طال انقراض وانصرام
أرى سبب الرضاء له قبول ... على الله الزيادة والتمام
وقد آليت معتذراً بنذر ... ولي فيما نذرت به اعتزام
بأن لا ذقت بعدكم مداماً ... وموتي أن يفارقني المدام
أألهو بعدكم وأقر عيناً ... علي اللهو بعدكم حرام
وكيف يطيب لي عيش وفضل ... أسير دونه البلد الشآم
وجعفر ثاوياً بالجسر بلت ... محاسنه السمائم والقتام
أمر به فيغلبني بكائي ... ولكن البكاء له اكتتام
أقول وقمت منتصباً لديه ... إلى أن كاد يفضحني القيام
أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام
لثمنار كن جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام
وقد روى في جمهرة الإسلام رثاءً آخر لأبي قابوس قاله في أخيه سعيد ويروى هناك أن الأصمعي فضله على شعر محمد بن مناذر بل على شعر جرير والفرزدق والأخطل أوله (من الطويل) :
فما أم سقب أودعته قرارةً ... من الأرض وانساخت لتروى وتهجعا
إلى أن قال بعد وصف حزن الناقة على حوارها بتسعة عشر بيتاً:
بأوجع مني يا سيعد تحرقاً ... عليك ولكن لم أجد عنك مدفعا
فلو أن شيئاً في لقائك مطمع ... صبرت ولكن لا أرى فيه مطمعا(9/246)
فأقسم لا تنفك نفسي شجيةً ... عليك ووجهي حائل اللون أسفعا
وقد كنت ألحي من بكى لمصيبة ... فها أنا ذا قد صرت أبكي وأجزعا
وقد قرعتني الحادثات ورثتها ... بثكلك حتى لم أجد بي مقرعا
وقد كنت مغبوطاً وقد كنت مصعباً ... فأصبحت مرجوماً لفقدك أخضعا
وقد كنت لي أنفاً حمياً فغالني ... بك القدر الجاري فأصبحت أجدعا
فلو أن طوداً من تهامة ضافه ... من الوجد ما قد ضافني لتضعضعا
فيا سيداً قد كان للحي عصمةً ... ويا جبلاً قد كان للحي مفزعا
رزيت به خير الرزايا ولم أجد ... له خلفاً في الغابرين فأقنعا
وأبيض وضاح الجبين كأنه ... سنا قمر أوفى مع العشر أربعا
قطيع لسان الكلب عن نبح ضيفه ... موطأ أكناف الرواق سميدعا
ومجتنباً للقول في غير حينه ... حفاظاً وقوالاً إذا قال مصقعا
يصون ببذل المال نفساً كريمةً ... وعرضاً حمى عن كل سوء ممنعا
فتى الخير لم يهجم بغدر ولم يعب ... بعجز ولم يمدد إلى الذم إصبعا
ولا غاب إلا نافس القوم بينهم ... ولا آب إلا كان للحي مقنعا
وما زال حمالاً لكل عظيمة ... إلى أن قضى من نحبه مذ ترعرعا
فتى كان لا يدعو إلى الشر نفسه ... فان جاءه الشر امتطاه فأوضعا
ويركب صعب الأمر حتى يرده ... على عقب منه ذلولاً موقعا
رأته المنايا خيرنا فاختر منه ... وكن بتعجيل الأخاير سرعا
ومنها:(9/247)
ترى الناس ارسالاً إليه كأنما ... تضمن أرزاق العفاة لهم معا
فمن صادر قد آب بالري حامد ... ومن وارد شاح بفيه ليكرعا
ويماً تراه يسحب الوشي غادياً ... ويوماً تراه في الحديد مقنعا
إذا نال من أقصى مدى المجد غايةً ... سما طالباً من تلك اسنى وأرفعا
أجل عن العور الهواجر سمعه ... ووقره من أن يقال فيسمعا
له راحة فيها حباً لصديقه ... وأخرى سقت أعداءه السم منقعا
فما فجع الأقوام من رزئها لك ... بأعظم مما قد رزئت وأفظعا
ومن طاب نفساً عن أخ لوداعه ... فما طبت نفساً عن أخي يوم ودعا
فوا عجباً للأرض كيف تألبت ... عليه ووارت ذلك الفضل اجمعا
ويا بؤس هذا الدهر من ذي تلون ... وذي فجعات ما أفظ وأفظعا
هذا ما انتخبنا من هذا الرثاء وهو يبلغ 90 بيتاً.
-2- اسحق بن حنين
(أصله ودينه) هو أبو يعقوب اسحق بن أبي زيد حنين بن اسحق العبادي. كان أبوه حنين من أشهر أطباء عصره وأجلهم خدم هارون الرشيد والخلفاء بعده. ونقل إلى العربية كتباً عديدة من تآليف اليونان. وكان عبادياً والعباد قبائل شتى من بطون العرب اجتمعوا على النصرانية بالحيرة كما ورد في المعاجم العربية وغيرها. والنسبة إليهم عبادي قال الشاعر يصف عبادياً ساقي الخمرة:
يسقيكها من بني العباد رشاً ... منتسب عيده إلى الأحد
(أخباره) قال ابن العبري في تاريخ الدول (ص 352) : (وكان لحنين ولدان داؤود واسحق فأما اسحق فخدم على الترجمة وتولاها وأتقنها وأحسن فيها وكانت نفسه أميل إلى الفلسفة وأما داوود فكان طبيباً للعامة. وقال ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء (188: 1) : (كان لحنين ولدان داود واسحق وصنف لهما كتباً طبية في المبادئ والتعليم ونقل لهما كتباً كثيرة من كتب جالينيوس. فأما داؤود فاني لم أجد له(9/248)
شهرةً بنفسه بين الأطباء ولا يوجد له من الكتب ما يدل على براعته وعلمه وأن كان الذي يوجد له إنما هو كناش واحد. وأما اسحق فإنه اشتهر وتميز في صناعة الطب وله تصانيف كثيرة ونقل من الكتب اليونانية إلى العربية كتباً كثيرة إلا أن جل عنايته كانت مصروفة إلى نقل كتب الحكمة مثل كتب أرسطوطاليس وغير من الحكماء) وقال جمال الدين القفطي في تاريخ الحكماء (ص 80) : (وكان اسحق قد خدم من خدم أبوه من الخلفاء والرؤساء وكان منقطعاً إلى القاسم بن عبيد الله (وزير المعتضد بالله) وخصيصاً به ومتقدماً عنده يفشي إليه أسراره) وقال ابن أبي صيبعة (201: 1) ولحق اسحق في آخر عمره الفالج وبه مات وتوفي ببغداد في أيام المقتدر بالله وذلك في شهر ربيع الآخر سنة 298 (910-911 م) .
(آدابه وشعره) قال ابن النديم في الفهرست (ص 285) : (كان إسحاق في نجار أبيه في الفضل وصحة النقل من اللغة اليونانية والسريانية وكان فصحياً بالعربية يزيد على أبيه في ذلك ... وله من الكتب سوى ما نقل من الكتب القديمة كتاب الأدوية المفردة على الحروف. كتاب كناش الخف. وكتاب تاريخ الأطباء) وقال ابن أبي أصيبعة (200: 1-201) (ولإسحاق حكايات وأشعار مستظرفة ونوادر) ورد هذا في نسخة برلين وذكر من كلامه قوله (قليل الراح صديق الروح وكثيرها عدو الجسم) ثم قال: ومن شعره يذكر كبار الأطباء ويفتخر بالطبابة (من الطويل) :
أنا ابن الذين استودع الطب فيهم ... وسمي به طفل وكهل ويافع
يبصرني آرستطاليس بارعاً ... يقوم مني منطق لا يدافع
وبقراط في تفصيل ما أثبت الألى ... لنا الضر والأسقام طب مضارع
وما زال جالينوس يشفي صدورنا ... لما اختلفت فيه علينا الطبائع
ويحيى بن ماسويه وأهرن قبله ... لهم كتب للناس فيها منافع
رأى أنه في الطب نيلت فلم يكن ... لنا راحة من حفظها وأصابع(9/249)
(قال) ونقلت من خط بن بطلان في رسالته المعروفة بدعوة الأطباء أن القاسم ابن عبيد الله وزير المعتضد بلغه أن أبا يعقوب اسحق قد شرب دواءً مسهلاً فأحب مداعبته وكان صديقاً له فكتب إليه (من الهزج) :
أبن لي كيف أمسيت ... وكم كان من الحال
وكم سارت بك الناقة ... نحو المنزل الخالي
فكتب إليه اسحق بن حنين (الهزج) :
بخير كنت مسروراً ... رخي الحال والبال
فأما السير والناقة ... والمرتبع الخالي
فإجلالك أنسانيه ... يا غاية آمالي
ثم ذكر له تآليف غير السابقة منها كتاب فيه ابتداء صناعة الطب وأسماء جماعة من الحكماء والأطباء. وكتاب الأدوية الموجودة في كل مكان. وكتاب إصلاح الأدوية المسهلة واختصار كتاب إقليدس وكتاب المقولات وكتاب ايساغوجي وهو المدخل إلى صناعة المنطق وإصلاح جوامع الإسكندرانيين وشرح جالينوس لكتاب الفصول لأبقراط ومقالة في الأشياء التي تفيد الصحة والحفظ ويمنع من النسيان ألفها لعبد الله ابن جمعون وكتاب الأدوية المفردة ومختصر كتاب صنعة العلاج بالحديد وكتاب آداب الفلسفة ومقالة في التوحيد.
3- سعيد التستري النصراني
(نسبه وأخباره) اسمه أبو الحسن (ويروى: أبو الحسين) سعيد بن إبراهيم التستري نسبة إلى تستر أو شوشتر من مدن خوزستان في العجم. ورد ذكره في الفهرست لأبي الفرج بن النديم (ص 134) قال: (ابن التستري ... ويكنى أبا الحسين كان نصرانياً. قريب العهد من صنائع بني الفرات وهو وأبوه يلزم السجع في مكاتباته) . ونقل الصفدي هذا الوصف في وافي الوفيات وروى(9/250)
عن ياقوت (أنه كان يكتب لعلي بن محمد بن الفرات) وزير المقتدر بالله. وأخبر هلال الصابي في تاريخ الوزراء (ص 33) أنه لما أوقف الخليفة المقتدر سنة 306 هـ (918 م) أبا الحسن علي بن الفرات قبض على التستري مع مولاه واعتقل عند نصر الحاجب) . ثم أفرج عنه وعاد مع أبي الفرات إلى ديوان الكتابة ثم اعتقل كلاهما ثانيةً سنة 312 هـ (922 م) بعد وزارة ابن الفرات الثانية. وقد ذكره الصابي في تاريخه (ص 240) في جملة من كان يحضر مائدة الوزير ابن الفرات وما كان يجري فيها من العادات اللطيفة والآداب الشريفة في أكلهم وشربهم وأصناف طعامهم وتأنقهم في مجالس الأنس.
(أدبه وشعره) قال ابن النديم (ص 134) : (وللتستري من الكتب كتاب المقصور والممدود على حروف المعجم وكتاب المذكر والمؤنث على ذلك الترتيب. وكتاب الرسائل في الفتوح على هذا الترتيب ورسائل مجموعة في كل فن) وقد نقل الصفدي قوله هذا بالحرف عن ياقوت ثم أورد له مقاطيع شعرية كما يلي. قال يحض المرء على تسرية الهم عن نفسه (من السريع) :
ما لك قد هيمك الهم ... وضل منك الحزم والفهم
لو رمت أن يبقى الأذى ما بقي ... لا فرح دام ولا غم
قال الصفدي: قلت: مثله قول القائل:
لا تسأل الدهر في ضراء يكشفها ... فلو سألت دوام البؤس لم يدم
ثم أورد له في الغول (من المقتضب) :
قلت: زوري. فأرسلت: ... أنا آتيك سحره
قلت: بالليل كان ... أخفى وأدنى مسره
فأجابت بحجة ... زادت القلب حسره:(9/251)
أنا شمس وإنما ... تطلع الشمس بكره
بكرة أي غدوةً. وروى أبو الحسن أحمد بن علي البتي الكاتب عن أبيه قال: كنا عند أبي الحسين سعيد بن إبراهيم كاتب ابن الفرات فغنت ستارته (من الخفيف) :
وعد البدر بالزيارة ليلاً ... فإذا ما وفي قضيت نذوري
قلت: يا سيدي لم تؤثر الليل ... على بهجة النهار المنير
قال لي: لا أحب تغيير رسمي ... هكذا الرسم في طلوع البدور
فاختلفت الجماعة لمن هذا الشعر. فقال بعضهم للناجم. وقال قوم للعباس وذكروا جماعةً فقال سعيد: هو لي. ثم أنشدنا (من الخفيف) :
قلت للبدر حين أعتب: زرني ... واشمت الهجر بالقلى والتجافي
قال: غني مع العشاء سآتي ... فانتظرني ولا تخف من خلافي
قلت: يا سيدي فألا نهاراً ... فهو أدنى لقربه الإئتلاف
قال: لا استطيع تغيير رسمي ... إنما البدر في الظلام يوافي
(قال) وكنت نقلت الأبيات عن نسخة صحيحة مقابلةً وأرى الصواب في البيت الأول.
(واشمت الوصل بالقلى والتجافي) وقد جمع المعنيين أبو العلاء المعري في قوله:
هي قالت لما رأت شيب راسي ... وأرادت تنكراً وازوراراً
أنا بدر وقد بدا الصبح من شيبك ... والصبح يطرد الأقمارا
قلت: لا بل أراك في الحسن شمساً ... لا ترى في الدجى وتبدو نهارا(9/252)
4- أبو الحسن بن غسان
(اسمه ودينه) قال جمال الدين ابن القفطي في تاريخ الحكماء (ص 402) أنه أبو الحسن (ويروى الحسين) الطبيب البصري. ودعاه ابن بطلان في كتاب دعوة الأطباء (ص 90) بأبي غسان. وجاء ذكره في تاريخ فطاركة كرسي المشرق من كتاب المجدل (ص 96) فكناه بأبي علي بن غسان وروى هناك نصرانيته وما أنفقه على انجاز بناء دير مارفثيون في بغداد وذلك سنة 343 هـ (953 م) فتبين من ذلك أنه كان نصرانياً كلدانياً من النساطرة.
(أخباره) قال ابن القفطي (ص 402) : (هذا رجل طبيب من أهل البصرة يعلم الطب ويشارك في علوم الأوائل وخدم بصناعته ملوك بني بويه وعلى الخصوص عضد الدولة فناخسرو) وفناخسرو هذا هو المعروف بأبي شجاع من الملوك البويهيين وممدوح الشاعر المتنبي توفي في 8 شوال سنة 372 (982 م) . وقال عنه ابن ماري في المجدل (ص 96) أنه كان (كاتباً لركن الدولة) وركن الدولة هو أبو عضد الدولة كان تولى أولاً على أصبهان ثم خلف أباه في تدبير الدولة في بغداد بعد أخيه مؤيد الدولة توفي سنة 366 (976 م) .
(أدبه وشعره) قال جمال الدين القفطي (ص 402) : وكان لأبي الحسن هذا أدب متوفر وشعر حسن فمما قاله لعضد الدولة عند مسيره إلى بغداد (من المتقارب) :
يسوس الممالك رأي الملك ... ويحفظها السيد المحتنك
فيا عضد الدولة انهض لها ... فقد ضيعت بين شش ويك
شش ويك عددان فارسيان معناهما في لعب النرد (الطاولة) ستة وواحد. قال ابن القفطي: (وذلك لأن عز الدولة بختيار الذي أخذ عضد الدولة الأمر منه كان لهجاً بلعب النرد) . قال: ومن شعر أبي الحسن أيضاً في بختيار الذي أخرجه عضد الدولة عن العراق يهجوه ويستهجن عزمه ويستضعفه:
أقام على الأهواز سبعين ليلةً ... يدبر أمر الملك حتى تدمرا(9/253)
يدبر أمراً كان أوله عمىً ... وأوسطه بلوى وآخره خرا
ومما ورد لابن غسان في كتاب دعوة الأطباء وهو يدعوه هناك بأبي حسان بن غسان (ص 90) قوله في أحكام الدهر والموت (من الخفيف) :
حكم كأس المنون أن يتساوى ... في احتساها الغبي والألمعي
ويحل البليد تحت ثرى الأر ... ض كما حل تحتها اللوذعي
أصبحا رمةً تزايل عنها ... فعلها الجوهري والعرضي
وتلاشى كيانها الحيواني ... وتوارى تقديمها المنطقي
-5- الموصلي النصراني
هكذا رواه البيهقي في كتاب المحاسن والمساوئ (ص 69-70) ولم يزدنا علماً. وهو كما يظهر من شعراء أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع للهجرة لأن البيهقي الذي ذكره عاش في ذلك العهد ثم ذكر له أبياتاً في مديح بني هاشم (من الطويل) :
عدي ونعيم لا أحاول ذكرهم ... بسوء ولكني محب لهاشم
وهل تأخذني في علي وحبه ... إذا لم أعث يوماً ملامة لائم
يقولون. ما بال النصارى تحبه ... وأهل التقى من معرب وأعاجم
فقلت: لهم أني لأحسب حبه ... طواه إلهي في قلوب البهائم
-6- يحيى بن عدي
(نسبه وزمانه ودينه) قال ابن النديم في الفهرست (ص 264) وجمال الدين القفطي في تاريخ الحكماء (ص 361 وابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء (235: 1)(9/254)
هو أبو زكريا يحيى بن عدي بن حميد بن زكريا المنطقي يزيل بغداد وإليه انتهت الرئاسة ومعرفة العلوم الحكمية في زمانه. قرأ علي أبي بشر بن متى بن يونس (الفيلسوف النصراني) وعلى أبي نصر الفارابي وعلى جماعة في وقتهم وكان نصرانياً يعقوبي النحلة) .
قال جمال الدين القفطي (ص 363-364) : (مات الشيخ أبو زكريا يحيى بن عدي الفيلسوف يوم الخميس لتسع بقين من ذي القعدة سنة 364 هـ وهو لثلث عشرة من آب سنة 1285 للإسكندر (975 م) ودفن في بيعة القطيفة ببغداد وكان عمره 81 سنة شمسية ورأيت في بعض التعاليق بخط من يعنى بهذا الشأن: وفاته كانت في اليوم المقدم ذكره من الشهر المقدم ذكره من السنة 363 (974 م) .
(أخباره وآدابه وشعره) قال ابن أبي أصيبعة: (كان يحيى جيد المعرفة بالنقل وقد نقل من اللغة السريانية إلى اللغة العربية وكان كثير الكتابة ووجدت بخطه عدة كتب. وقال القفطي: (كان ملازماً للنسخ بيده كتب الكثير من كل فن وكان يكتب خطاً قاعداً بيناً) قال ابن النديم: (وعاتبته على كثرة نسخه فقال لي: من أي شيء تعجب في هذا الوقت أمن صبري؟ وقد نسخت بخطي نسختين من التفسير للطبري وحملتها إلى ملوك الأطراف. وقد كتبت من كتب المتكلمين ما لا يحصى لعهدي بنفسي وأنا أكتب في اليوم والليلة مائة ورقة واقل) . ثم عدد له جمال الدين القفطي كتباً كثيرة ألفها في المنطق وأبواب الفلسفة أو عربها عن أرسطاطاليس وغيره من اليونان. وله عدة فصول حسنة في الدفاع عن العقائد النصرانية وتفنيد من تعرض لها وقد نشرنا شيئاً من ذلك في المشرق سابقاً.
وقد وقفنا على فصل كتبه عن يحيى شهاب الدين العمري صاحب مسالك الأبصار (نسخة المكتبة الخديوية ص 336-337) قال في باب طبقات الأطباء: (ومنهم يحيى بن عدي أبو زكريا المنطقي حكيم علمه والودق شيان، وقلمه والبرق سيان، كان أول حاله علماً في ملته، ومعلماً لأهل قبلته، وعرف بالمنطق مع أنه بعض علومه، ومن جملة ما دخل من الخصائص في عمومه، وأضاءت له من الأدب لمع تممت فضائله، وتمت هلاله والبدور الكوامل متضائل) .(9/255)
وليحيى بن عدي شعر قليل منه قوله في من يرد اعتقاد أسرار الدين لعدم فهمها (من البسيط) :
أفعمت فحص المعاني عن حقائقها ... فلم يبن لك إذ لم تحسن النظرا
فالشمس تخفى على من ليس ذا بصر ... وليس تخفى على من أعطي البصرا
وحدث الآمدي أبو الحسين أنه سمع من أبي علي بن زرعة تلميذه يقول: أن أبا زكريا يحيى بن عدي وصى إليه أن يكتب على قبره حين حضرته الوفاة وهو في بيعة توما بقطيعة الدقيق هذين البيتين (من الخفيف) :
رب ميت قد صار بالعلم حياً ... ومبقى قد مات جهلاً وعيا
فاقتنوا العلم كي تنالوا خلوداً ... لا تعدوا الحياة في الجهل شيا
-7- أبو تمام الطائي
(توطئة) قرأنا في آخر عدد من المقتطف (أغسطس 1935ص 334) ما نصه: (عندنا نسخة الدكتور فإن ديك في شرح التبريزي للحماسة وعليها بخط الدكتور أن أبا تمام كان نصرانياً. فمن أين أتى الدكتور فإن ديك بذلك والمتعارف أن أبا أبي تمام كان نصرانياً) .
فأحببنا أن نفرد هنا فصلاً لهذا الشاعر في كلامنا عن شعراء النصرانية في عهد الدولة العباسية. فننظر ما في مدعى الدكتور فإن ديك من الصحة.
(نسب أبي تمام) هو حبيب بن أوس الطائي ينتهي نسبه إلى أبي القبيلة الغوث ابن طيء ومنه إلى يعرب بن قحطان. يكنى بأبي تمام وتمام ابنه ورد ذكره في تعريف بعض أمور أبيه في الأغاني وع=غيره. ولد حبيب في جاسم وهي على ما قال المسعودي في مروجه الذهبية (147: 7) (قرية من أعمال دمشق بين بلاد الأردن ودمشق بموضع يعرف بالخولان (بالجولان) على أميال من الجابية وبلاد نوا (كذا) وهي مراعي أيوب عم) أما صاحب الأغاني فقال (100: 15) : (هو من نفس طيء صليبة(9/256)
مولده ومنشأه بناحية منبج (كذا) بقرية منها يقال لها جاسم) وكان مولده على قول تمام ابنه سنة 188 هـ (804 م) ووفاته سنة 231 (845 م) أما الشائع بين الكتبة والمؤرخين كنفطوية والطبري ابن الأثير إن وفاته كانت في الموصل وقعت سنة 228 (842-843 م) وروى ابن خلكان في وفات الأعيان (150: 1) عن أبي القاسم الآمدي في الموازنة قوله: (والذي عند أكثر الناس في نسب أبي تمام أن أباه كان نصرانياً من أهل جاسم قرية من قرى دمشق يقال له تدوس (ولعلها تداوس أو تدرس) العطار فجعلوه أوساً وقد لفقت له نسبة إلى طي) . لكن ابن خلكان لم يصدق على قول الآمدي ولم ينكر نسبته إلي طي وإنما نقل قول الصولي: (قال قوم أنا أبا تمام هو حبيب بن تدوس النصراني فغير فصار أوساً) ثم روى عن أبيه أنه كان خماراً بدمشق) .
(خلاصة أخبار أبي تمام) قال الأنباري في كبقات الأدباء (ص 213) : (أبو تمام شامي الأصل) وروى ابن خلكان (153: 1) : (أنه كان يخدم حائكاً ويعمل عنده بدمشق) . قال: (ونشأ بمصر قيل أنه كان يسقي الماء في جامع مصر) وزاد الأنباري: (وجالس الأدباء فأخذ عنهم وتعلم وكان فطناً فهماً وكان يحب الشعر فلم يزل يعانيه حتى قال الشعر وأجاده وسار شعره وشاع ذكره) . وقد تنقل أبو تمام في أنحاء الشام وسكن مدة حمص فلم يحمد أهلها (اطلب ديوانه ص 238 طبعة محيي الدين الخياط) ورحل إلى العراق: قال الأنباري (ص 214) : (وبلغ الخليفة المعتصم خبره فحمله إليه فعمل فيه أبو تمام قصائد عدة وأجازه المعتصم وقدمه على شعراء وقته) .
ولما سكن في بغداد جالس فيها الأدباء وعاشر العلماء وكان موصوفاً بالظرف وحسن الأخلاق وكرم النفس ثم مدح الخليفة هارون الواثق خلف المعتصم وسافر في أول أيامه إلى سامرا ورحل إلى خراسان وأرمينية والجزيرة فمدح كبار عمال الدولة وأعيانها كمالك بن طوق التغلبي وأبي دلف وأحمد بن أبي داؤود وعبد الله بن طاهر وخالد ابن يزيد بن مزيد والوزيران محمد بن الزيات والحسن بن وهب. فعني به الحسن وولاه بريد الموصل فأقام بها أقل من سنتين ومات ولم يتفقوا على سنة وفاته قال البحتري: (وبنى عليه أبو نهشل بن حميد الطوسي قبةً. (قلت) ورأيت قبره بالموصل خارج باب الميدان على حافة الخندق والعامة تقول: هذا قبر أبي تمام الشاعر) (رواه(9/257)
ابن خلكان) .
(دين أبي تمام) رأيت أن الدكتور فإن ديك أعلن في نسخة من حماسة أبي تمام أن (أبا تمام كان نصرانياً) وفي قوله هذا نظر: (أولاً) اتفق من ذكر والد أبي تمام كالصولي والآمدي أنه كان نصرانياً فلا بد أن ابنه حبيباً ولد ونشأ على دينه ومن هذا القبيل يجوز القول أن أبا تمام كان نصرانياً.
(ثانياً) لنا في اسمه حبيب وهو من الأسامي الشائعة بين النصارى النادرة بين المسلمين ما يدل على نصرانيته.
(ثالثاً) وليس في نسبته إلى طي ما ينفي نصرانيته فقد أثبتنا في كتابنا النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية (ص 121-122 و 132- 133 و 456-457) شيوع النصرانية في قبيلة طي وثبات قسم كبير من بطونها على نصرانيتهم حتى بعد الإسلام بزمن طويل.
(رابعاً) وفي مزاولته في حداثته الحياكة والسقاية ما يدل على خموله بسبب دينه.
(خامساً) ثم ليس لنا كلام صريح لأحد رواة ترجمته ما يدل على جحوده دينه النصراني.
هذا ما يحملنا على القول بنصرانيته أبي تمام. على أن في ديوانه عدة أبيات تشعر بأنه يدين بالإسلام فحيناً يحلف بالبيت الحرام ويقول أنه حج إليه وحيناً آخر يذكرني العرب ودين الإسلام كأنهما نبيه ودينه وإذا ذكر الروم نبذهم بالشرك والكفر ويعظم القرآن. وهذا كله لما يثبت إسلامه.
فلا نرى تطبيقاً بين الأمرين إلا أن نقول أنه لما أصاب حظوةً عند الخلفاء وعند وجوه الأمراء وكبار الدولة عدل عن دينه إلى الإسلام مجاملةً أو طمعاً بحطام الدنيا. وليس قولنا هذه حدساً وقد أخذ العجب جناب خليل مردم بك في كتابه الحديث (شعراء الشام في القرن الثالث) (ص 35-37) حيث قابل بين مديح أبي تمام للخلفاء من أهل السنة وأطرائه للشيعة العلوية وانتصاره لحقوقها في الخلافة فرأى تناقضاً بيناً نسبه إلى اختلاف الزمان.(9/258)
أما المسعودي في مروج الذهب فنسب أبا تمام إلى المجون وقلة الدين قال (151: 7) : (وكان (أي أبو تمام) ماجناً خليعاً في بعض أحواله وربما أداه ذلك إلى ترك موجبات فرضه تماجناً لا اعتقاداً) (?!)) .
ثم روى لبعض الثقات عن المبرد النحوي نقلاً عن الحسن بن رجاء قال: (صار إلي أبو تمام وأنا بفارس فأقام عندي مقاماً طويلاً ونمي إلي من غير وجه أنه لا يصلي. فوكلت به من يراعيه ويتفقده في أوقات الصلوات فوجدت الأمر على ما اتصل بي فعاتبته على فعله. فكان من جوابه أن قال: أتراني أنشط للشخوص إليك من مدينة السلام واتجشم هذه الطرقات الشاقة وأكسل عن هذه الركعات لا مؤونة علي فيها لو كنت أعلم أن لمن صلاها ثواباً وعلى من تركها عقاباً؟ (قال) وهممت والله بقتله ثم تخوفت أن يصرف الأمر إلى غير جهة. قال المبرد: وهو مع ها يقول:
وأحق الأنام أن يقضي الدين ... امرؤ كان للإله غريما
وهذا قول مباين لهذا الفعل
فترى أن إسلام أبي تمام كان سطحياً ليس تماجناً فقط كمال المسعودي بل اعتقاداً أيضاً فذكرناه هنا بين شعراء النصرانية ليس افتخاراً بدينه بل بياناً لحقيقة تاريخية. ثم أن في شعره أبياتاً تنبئ بمعرفته لعادات النصارى كقوله في هرب توفيل زعيم الروم (الديوان 2: 33)
جفا الشرق حتى ظن من كان جاهلاً ... بدين النصارى أن قبلته الغرب
(منزلته بين شعراء عصره) لا نطيل الكلام في هذا الموضوع بعد أن طرقه قبلنا أئمة الكتاب وخصوصاً أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني (99: 15-108) فاعتبر أبا تمام (كأمير الشعراء وخاتمهم من لا يشق الطاعنون عليه غباره ولا يدركون وإن جدوا آثاره) وذكر قول الحسن بن وهب يرثيه:
فجع القريض بخاتم الشعراء ... وغدير روضتها حبيب الطائي
ماتا معاً وتجاورا في حفرة ... وكذاك كانا قبل في الأحياء
ورثاه محمد بن عبد الملك الزيات وهو حينئذ وزير فقال:
نبأ أتى من أعظم الأنباء ... لما ألم مقلقل الأحشاء
قالوا حبيب قد ثوى فأجبتهم ... ناشدتكم لا تجعلوه الطائي(9/259)
ولا نشاء أن نروي شيئاً من شعره وديوانه في أيدي الجميع وقد تكرر طبعه. فطبع أولاً في مصر سنة 1292 هـ طبعةً سقيمة بلا شكل وبشروح قليلة على الهامش. ثم عني بطبعه في بيروت الأديب شاهين عطيه اللبناني سنة 1889 ثم كرر طبعه محمد جمال مع شروح لمحيي الدين الخياط. وهاتان الطبعتان مع فضلهما على الطبعة المصرية إلا أنهما قاصرتان عن كل ما يطلبه العلماء من الضبط بالشكل الكامل وتعريف النسخ المنقول عنها الديوان وشرح المعاني وبيان ظروف القصائد وإثبات الروايات المختلفة وجمع ما جاء متفرقاً من شعر أبي تمام في كتب الأدباء. فإنك ترى مثلاً في ما رواه أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني عدة مقاطيع من شعر أبي تمام لم ترو في الديوان. وكذلك هناك وفي الكامل للمبرد وغيرهما قطع أخرى فيها روايات مخالفة لروايات الدواوين المطبوعة وبعضها أفضل من المطبوع. فيا ليت أحداً من أدبائنا يسد هذه الثلم ويستفيد من ملحوظات أبي القاسم محمد الآمدي في الموازنة بين أبي تمام والبحتري فيعنى بطبعة جديدة وافية الشروط لذلك الديوان الفريد والأثر الجليل.
-8- ثابت بن هارون
(نسبه وأخباره وشعره) هو أبو نصر ثابت بن هارون النصراني الرقي العراقي. قال أبو الحسن علي الباخرزي المتوفى سنة 467 هـ (1074 م) في كتابه دمية القصر وعصرة أهل العصر (ومن شعراء العراق أبو نصر ثابت بن هارون الكاتب النصراني) وعرف زمانه بما كتبه في أواسط القرن الرابع للهجرة والعاشر للمسيح ولم يذكر شيئاً من أخباره ثم قال: ومن شعره قوله في من يحجب بابه (من الوافر) :
على ربع يحق به الحجاب ... ويغلق منه دون الخير باب
سأهجر كل باب رد دوني ... إذا ما ازور أو خشي الحجاب(9/260)
ثم ذكر لثابت الرقي رثاءً قاله في المتنبي الشاعر (المتوفى سنة 354 هـ (965 م)) ثم قال: (وهذا مما شذ عن الثعالبي وذهب عنه شعره. وإذا كان المتنبي في طبقات يتيمته من العصرين فالذي بعده ممن يهدي المرثية غليه وينوح مع ورق الحمام عليه أولى بأن يعد من الطبقة. وقد عرض علي ابن الشيخ أبي الحسن علي بن يحيى الكاتب في ديوان الحضرة (ديوان المتنبي) محلى الظهر بتوقيعين له خطهما بيمينه وأثبت بهما أسماع هذا الفاضل أشعاره منه مرتين فرنيت وعرض مجموعهما على سمعه كرتين. وجرى بعد حصوله تحت كلاكل الأجل المتاح، وتصديقه قوله في ترك مهجته سائلةً على كل الأرماح، على قضية كرم العقل واستثار الأمير عضد الدولة على فاتك وبني أسد) وهذا رثاؤه المتنبي (من الكامل) :
الدهر أخبث والليالي أنكد ... من أن تعيش لأهلها يا أحمد
ذقت الكريهة بغتة وفقدتها ... وكريه فقدك في الورى لا يفقد
قل لي أن أسطعت الكلام فإنني ... صب الفؤاد إلى خطابك مكمد
أتركت بعدك شاعراً والله لا ... لم يبق بعدك في الورى من ينشد
ما كان تاركك الزمان لأهله ... أن الزمان على الغريبة يحسد
قصدتك لما أن رأتك نفيسها ... بخلاً بمثلك والنفائس تقصد
غدر الزمان به فجار ولم تزل ... أيدي الزمان ببأسه تستنجد
لقي الخطوب فبذها حتى جرى ... غلط القضاء عليه وهو تعمد
وقال يستثير فيها أبا شجاع عضد الدولة على فاتك وبني أسد:
صه يا بني أسد فلست بنجدة ... آثرت فيه بل القضاء يقيد(9/261)
يا أيها الملك المؤيد دعوةً ... ممن حشاه بالأسى تتوقد
هذي بني أسد بضيفك أوقعت ... وحوت عطاءك إذ حواه الفرقد
وله عليك بقصده يا ذا العلا ... حق التجرم والذمام الأوكد
فارع الذمام وكن لضيفك طالباً ... إن الذمام على الكريم مؤيد
وارع الحقوق لقصده وقصيده ... عضد الملوك فليس غيرك يقصد
وإذا المكارم والمحامد أسندت ... فإلى الأمير أبي شجاع تسند
- بشر بن هارون
(أصله ودينه وأخباره) هو أبو نصر بشر بن هارون النصراني العراقي. وهو كما يلوح لنا من قرابة ثابت بن هارون السابق ذكره. وكان لبشر أخوان إبراهيم وجابر ذكرهما الطبري في تاريخه (1511: 3 و 1524) وقال هناك بشر وإبراهيم كانا كاتبين لمحمد بن عبد الله بن طاهر الأمير والي العراق من قبل المتوكل. وأخبر أنه في السنة (249 هـ, 863 م) شغب الجند والشاكرية في بغداد وانتبهوا الدواوين وقطعوا الدفاتر فألقوها في الماء وانتبهوا دار وإبراهيم ابني هارون النصرانيين كاتبي محمد ابن عبد الله وذلك كله في الجانب الشرقي من بغداد. ثم ذكر جابراً أخاهما وقال عنه أن محمد بن عبد اله وجهه إلى طبرستان لبعض أموره.
قال الصفدي في الوافي بالوفيات كان أبو نصر بشر بن هارون النصراني كثير الهجو لوزراء والرؤساء فممن هجاهم أبو نصر سابرو بن ازدشير وزير شرف الدولة ابن عضد الدولة بن بويه المولود سنة 336 والمتوفى سنة 416 هـ (947-1025 م) وكان سابور قليل الألفاظ جافي الأقوال دقيق الخط منتظمة قصير التوقيع مختصرة كثير الشر مخوف البطش شديد التأثر في المعاملات والميل إلى المصادرات فقال بشر يهجوه (من الكامل) :(9/262)
سابور ويحك ما أخسك م ما أخصك بالعيوب
وأكد وجهك بالشناء م ة للعيون وللقلوب
وجه قبيح في التبسم م كيف يحسن في القطوب
وأخبر ابن حمدون في تذكرته قال: (حضر يوماً بشر بن هارون وجماعة من الكتاب في دار محمد المهلبي الوزير بحيث يراهم ويسمع كلامهم وهم لا يشاهدونه فأنشأ أحدهم يقول:
سبال الوزير سبال كبير
فقال الآخر:
وعقل الوزير وفعل صغير
فقال بشر بن هارون:
زيادة هذا بنقصان ذا ... كما هذا النهار القصير
فخرج إليهم المهلبي وشاتمهم وجلس معهم ومازحهم وأجاز كل واحد.
وجاء في النجوم الزاهرة لابن تغري بردي أبي المحاسن (طبعة نيويورك ص 59) وفيها (أي سنة 385-995 م) توفي بشر بن هارون أبو النصراني الكاتب وكان شاعراً هجاءً خبيث اللسان كتب مرة إلى إبراهيم الصابي (السريع) :
حضرت بالجسم وقد كنت لو ... بالنفس لما ترني حاضرا
أنطقني بالشعر حبي لكم ... ولم أكن من قبلها شاعرا
فكتب إليه الصابئ تحت خطه: (ولا بعدها) .
-10- عيسى بن فرخنشاه
(اسمه وأصله ودينه) هو عيسى بن فرخنشاه من نصارى بغداد وكان(9/263)
نسطوري النحلة اشتهر في أواسط القرن الثالث للهجرة والتاسع للمسيح في أيام الخلفاء العباسيين المستعين والمهتدي والمعتز والمعتمد تكرر ذكره في عهدهم في تاريخ الطبري. ولعل اسمه يدل على كون أصله من العجم وقد ورد في بعض روايات الطبري على صورة (فرنشاه) ومما أخبره في حوادث السنين 245 و 249 و 251 هـ (1444: 3 و 1513-1514 و 1640) أن الخليفة المستعين اتخذه كنائب لوزيره الحسن بن مخلد سنة 245 (859 م) ثم ولاه ديوان الخراج بعد عزل الفضل بن مروان سنة 249 هـ (863 م) وأثبته عليه خلفه المعتز. وذكر في تاريخ سنة 252 هـ (866 م) أن الأتراك وثبوا عليه فتناوله بالضرب وأخذوا دوابه فقام المغاربة للدفاع عنه. وروى في تاريخ سنة 256 (870 م) ثورة الأتراك على الخليفة المهتدي وثبات عيسى بن فرخنشاه في وجههم وقال: (أن الأمور كانت تجري على يده وأن مقامه كان كمقام الوزير) .
وعلى ظننا أنه هو الذي أشار إليه ابن ماري في تاريخ بطاركة المشرق (ص 83) حيث قال أن فرخنشاه قام باستقبال يوانيس مطران الموصل لما تعين جاثليقاً على النصارى سنة 289 (893 م) أما سنة وفاته فلم نقف عليها وقد اشتهر من قرابته الأخوان سعيد وعبد الله ابنا فرخنشاه ولعل عيسى كان بكرهما. وكان سعيد يكنى بأبي عمرو ثم ذكرهما هلال الصابي في تاريخ الوزراء (ص 161 و 205 و 240-241) وقال أنهما كانا نصرانيين وكاتبين للوزير أبي الحسن بن الفرات وذكر لهما أخباراً شتى. وكذلك ذكر عريب القرطبي في تاريخ الصلة (ص 59) الفضل بن يحيى بن فرخنشاه الديراني النصراني من دير قنا على عهد الخليفة المقتدر واستصفاء الخليفة لماله.
(آدابه وشعره) كان عيسى بن فرخنشاه من كتاب ديوان الخلفاء ذوي الإنشاء البديع. ذكره ابن النديم في الفهرست (ص 167) فقال: أنه كان كاتباً مقلاً وقد ذكر له الصابي في أدب الكتاب شعراً قال (ص 46) : (أهدى بعض الكتاب غلاماً كاتباً إلى رئيس له وكتب إليه يصفه بالخط وغيره. وسمعت من يحكي أن قائل ذلك عيسى بن فرخنشاه بإبراهيم بن عباس الصولي وكان عيسى يكتب له ولا أدري كيف صحته لأني لم أعتد بما لم أسمعه من أفواه الرجال (من الكامل) :
إقبل خديةً شاكر ... تجزيه بالنزر الجليلا(9/264)
بدراً يضيء إذا نظر ... ت إليه لم يألف أفولا
إني بعثت به وكن ... ت بحسن موقعه كفيلا
لما رأيت بخطه ... حسناً يصيد به العقولا
كمنمنم الموشي قد ... سحب القيان به الذيولا
أو كالرياض بكى الحيا ... فيها فأوسعها همولا
وتراه للمعنى اللطيف م إذا أثرت به قبولا
لا مستعيداً منك إذ ... تملي عليه ولا ملولا
عرف المبادئ والوصو ... ل من الحكاية والفصولا
وصنوف ترتيب الدعا ... ء وأن يقصر أو يطيلا
والهمز والممدود وال ... مقصور والمثل المقولا
والفعل الأسماء وال ... مصروف منها والثقيلا
فاستكفه وأضمر له ... أن لا تريد له البديلا
يحمل بفضل لسانه ... وبيانه منك الثقيلا
وروى الصولي أيضاً (ص 84) قال دخل عيسى بن فرخنشاه على جارية وهي تكتب خطا حسناً فقال (من الطويل) :(9/265)
سريعة جري الخط تنظم لؤلؤا ... وينثر دراً لفظها المترشف
وزادت لدينا حظوةً ثم أقبلت ... وفي إصبعيها أسمر اللون مرهف
أصم سميع ساكن متحرك ... ينال جسيمات المدى وهو أعجف
-11- ابن بطريق
في كتاب مسالك الأبصار في أخبار ملوك الأمصار لشهاب الدين أبي العباس أحمد العمري (نسخة المكتبة الخديوية 147: 5) بعد ترجمة ابن عدلان ذكر المؤلف أبياتاً نسبها إلى ابن بطريق ولم يزد إفادةً. وقد تسمى غير واحد بابن بطريق كسعيد ابن البطريق صاحب التاريخ ويحيى أو يوحنا بن بطريق وعيسى بن بطريق وكلهم نصارى عاشوا في القرن التاع للميلاد. والمرجح أن الأبيات لأحدهم نذكرها هنا تتمة للإفادة يخاطب فيها الشاعر موفق الدين ابن عدلان متفكهاً (من البسيط) :
موفق الدين يا من في فكاهته ... وفيه يحلو لعين الساهر الأرق
إن ابن عدلان في إيقاد شمعته ... ما شأنه الغيظ من بخل ولا الحنق
لكن رأى الليل أولى أن يقضيه ... في نيرات معان منك تأتلق
لا شيء أحسن منها إذ بدت شعلاً ... شتى ينظم فيها لؤلؤ نسق
-12- ابن بطلان المتطبب الراهب
(اسمه ووطنه ودينه وأساتذته) قال جمال الدين القفطي في تاريخ الحكماء(9/266)
(ص 294) : (هو الحكيم أبو الحسن المختار بن الحسن بن عبدون بن سعدون طبيب منطقي نصراني من أهل بغداد قرأ على علماء زمانه من نصارى الكرخ. وقال ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء من طبقات الأطباء (241: 1) : (كان قد اشتغل على أبي الفرج عبد الله بن الطيب وتتلمذ له وأتقن عليه قراءة كثير من كتب الحكمة وغيرها. ولازم أيضاً أبا الحسن ثابت بن إبراهيم بن زهرون الحراني الطبيب واشتغل عليه وانتفع به في صناعة الطب وفي مزاولة أعمالها) . وجاء لجمال الدين القفطي في محل آخر (ص 314) ما حرفه: (وقد كان ابن بطلان هذا من أصحاب أبي الفرج ابن الطيب البغدادي وكان أبو الفرج يجله ويعظمه ويقدمه على تلاميذه ويكرمه ومنه استفاد وبعلمه تخرج وقد رأيت مثال خط أبي الفرج له على كتابه ثمار البرهان من شرحه وهو: (قرأ علي هذا الكتاب من أوله إلى آخره الشيخ الجليل أبو الحسن المختار بن الحسن أدام الله عزه وفهمه غاية الفهم) .
(أخباره وأسفاره) قد أغنانا جمال الدين وابن أبي أصيبعة عن تفتيش أخباره والتنقيب عنها إلا أن بين روايتهما تبايناً لا بد من ذكره للانتقاد. قال القفطي (ص 294) : (كان (أي ابن البطلان) مشوه الخلقة غير صبيحها كما شاء الله فيه وفضل في علم الأوائل يرتزق بصناعة الطب وخرج عن بغداد إلى الجزيرة والموصل وديار بكر ودخل حلب وأقام وما حمدها) ومن ظريف ما حصل في حلب وأقام وما حمدها) ومن ظريف ما حصل له في حلب وقتئذ ما أخبره القفطي قال (ص 315) : (ولما دخل ابن بطلان إلى حلب وتقدم عند المستولي عليها سأله رد أمر النصارى في عبادتهم إليه فولاه ذلك وأخذ في إقامة القوانين الدينية على أصولهم وشروطهم فكرهوه. وكان بحلب رجل كاتب طبيب نصراني يعرف بالحكيم أبي الخير بن شرارة وكان إذا اجتمع به وناظره في أمر الطب يستطيل عليه ابن بطلان بما عنده من التقاسيم المنطقية فينقطع في يده وإذا خرج عنه حمله الغيظ على الوقيعة فيه ويحمل عليه نصارى حلب. فلم يمكن ابن بطلان المقام بين أظهرهم وخرج عنهم وكان ابن شراره بعد ذلك يقول: لم يكن اعتقاده مرضياً) .(9/267)
ثم قال القفطي: وخرج ابن بطلان عن حلب إلى مصر فأقام بها مدة قريبة واجتمع فيها بابن رضوان المصري الفيلسوف في وقته وجرت بينهما منافرة أحدثتها المغالبة في المناظرة وخرج ابن بطلان عن مصر مغضباً على ابن رضوان وورد إنطاكية راجعاً عن مصر فأقام بها وقد سئم كثرة الأسفار وضاق عطنه عن معاشرة الأغمار فغلب على خاطره الانقطاع فنزل بعض ديرة إنطاكية وترهب وانقطع إلى العبادة إلى أن توفي بها في شهور سنة أربع وأربعين وأربعمائة (1052 م) .
ورواية ابن القفطي كاد ابن العبري ينقلها بحرفها في تاريخه مختصر الدول (ص 331) .
أما رواية ابن أبي أصيبعة فهي أوسع وأدق وهي تختلف عن رواية جمال الدين القفطي في عدة أمور قال (ص 241) : (وكان ابن بطلان معاصراً لعلي بن رضوان الطبيب المصري وكان بين ابن بطلان وابن رضوان المراسلات العجيبة والكتب البديعة الغريبة ولم يكن أحد منهم (منهما) يؤلف كتاباً ولا يبتدع رأياً إلا ويرد الآخر عليه ويسفه رأيه فيه. وقد رأيت أشياء من المراسلات التي كانت فيما بينهم (بينهما) ووقائع بعضهم (بعضهما) في بعض. وسافر ابن بطلان من بغداد إلى ديار مصر قصداً منه إلى مشاهدة علي بن رضوان والاجتماع به. وكان سفره من بغداد في سنة 439 (1042 م) ولما وصل في طريقه إلى حلب أقام بها مدةً وأحسن إليه معز الدولة ثمال ابن صالح بها وأكرمه إكراماً كثيراً. وكان دخوله الفسطاط في مستهل جمادى الآخرة من 441 (ك 10491) وأقام بها ثلث سنين وذلك في دولة المستنصر بالله (ص 242) من الخلفاء المصريين. وجرت بين ابن بطلان وابن رضوان وقائع كثيرة في ذلك الوقت ونوادر ظريفة لا تخلو من فائدة. وقد تضمن كثيراً من هذه الأشياء كتاب ألفه ابن بطلان بعد خروجه من ديار مصر واجتماعه بابن رضوان. ولابن رضوان كتاب في الرد عليه. وكان ابن بطلان أعذب ألفاظاً وأكثر ظرفاً وأمير في الأدب وما يتعلق به. ومما يدل على ذلك ما ذكره في رسالته التي دعاها بدعوة الأطباء. وكان ابن رضوان أطب وأعلم بالعلوم الحكمية وما يتعلق بها. وكان ابن رضوان أسود اللون ولم يكن بالجميل الصورة. وله مقالة في ذلك يرد فيها على من عيره بقبح الخلقة وقد بين فيها بزعمه أن الطبيب الفاضل لا يجب أن يكون وجهه(9/268)
جميلاً. وكان ابن بطلان أكثر ما يقع في علي بن رضوان من هذا القبيل وأشباهه. ولذلك يقول فيه في الرسالة التي وسمها بوقعة الأطباء (من الطويل) :
فلما تبدى للقوابل وجهه ... نكصن على أعقابهن من الندم
وقلن وأخفين الكلام تستراً: ... ألا ليتنا كنا تركناه في الرحم
(وكان يلقبه بتمساح الجن وسافر ابن بطلان من ديار مصر إلى القسطنطينية وأقام بها سنةً وعرضت في زمنه أوباء كثيرة. ونقلت من خطه ما ذكر من ذلك ما هذا مثاله قال: (ومن مشاهير الأوباء في زماننا الذي عرض عند طلوع الكوكب الأثاري في الجوزاء من سنة 446 (1054 م) فإن تلك السنة دفن في كنيسة لوقا بعد أن امتلأت جميع المدافن في القسطنطينية 14000 نسمة في الخريف. فلما توسط الصيف في سنة 447 (1055 م) لم يوف النيل فمات في الفسطاط والشام أكثر أهلها وجميع الغرباء إلا من شاء الله. وانتقل الوباء إلى العراق فأتى على أكثر أهله واستولى عليه الخراب بطروق العساكر المتعابدة واتصل ذلك بها إلى سنة 454 (1062 م) وعرض للناس في أكثر البلاد قروح سوداوية الطحال ... ولما نزل زحل برج السرطان تكامل خراب العراق والموصل والجزيرة واختلت ديار بكر وربيعة ومضر وفارس وكرمان وبلاد المغرب واليمن والفسطاط والشام واضطربت أحوال ملوك الأرض وكثرت الحروب والغلاء والوباء ... وذكر من فقد من العلماء بزمانه في مدة بضع عشرة سنة بوفاة الأجل المرتضى والشيخ أبي الحسن البصري والفقيه الحسن القدروي وأقضى القضاة الماوردي وابن الطيب الطبري على جماعتهم رضوان الله ... ومن أصحاب علوم القدماء أبو علي بن هيثم وأبو سعيد اليمامي وأبو علي بن السمح وصاعد الطبيب (ص 243) وأبو الفرج عبد الله ابن الطيب. ومن متقدمي علوم الأدب والكتابة علي بن عيسى الربعي وأبو الفتح النيسابوري وبهنيار الشاعر وأبو العلاء بن نزيك وأبو علي بن موصلايا والرئيس أبو الحسن الصابي وأبو العلاء المعري. فانطفأت سرج العلم وبقيت العقول بعدهم في الظلمة) .
(وتوفي ابن بطلان ولم يتخذ امرأة ولا خلف ولداً ولذلك يقول من أبيات (من الطويل) :
ولا أحد إن مت يبكي لميتتي ... سوى مجلسي في الطب والكتب باكيا
(قلنا) فمن هذا يتضح وجود عدة اختلافات بين رواية ابن أبي أصيبعة ورواية وجمال الدين القفطي:(9/269)
1- يذكر جمال الدين قبح صورة ابن بطلان. وأما ابن أبي أصيبعة فانه ينسب ذلك إلى علي بن رضوان خصمه. ولو كان ابن بطلان مثله قبحاً لما تجاسر على هجوه.
2- قال جمال الدين أن ابن بطلان (أقام في مصر مدة قريبة) أما ابن أبي أصيبعة فجعل إقامته هناك (ثلاث سنين) .
3- ذكر جمال الدين أن ابن بطلان عاد من مصر إلى أنطاكية وترهب ببعض أديرتها. أما ابن أبي أصيبعة فيذكر أنه سافر من مصر إلى القسطنطينية وأقام فيها سنةً.
4- وجعل جمال الدين وفاة ابن بطلان في إنطاكية سنة 444 (1052 م) على خلاف ما ورد من التفاصيل في ابن أبي أصيبعة إذ يذكر ما كتبه في السنتين 445 و 446 لا بل ذكر في جملة تآليفه (ص 243) مقالةً صنفها في إنطاكية سنة 455 (1063 م) ويؤيد ذلك بقوله: (إن ابن بطلان صنف كتاب دعوة الأطباء ألفها للأمير نصير الدولة أبي نصر أحمد بن مروان) قال: (ونقلت من خط ابن بطلان وهو يقول في آخرها: فرغت من نسخها أنا مصنفها يوانيس الطبيب المعروف بالمختار بن الحسن بن عبدون بدير الملك المنيح قسطنطين بظاهر القسطنطينية وأن وفاته بعد السنة 444 بعدة سنين. وفي كشف الظنون للحاج خليفة (318: 4) أن وفاة ابن بطلان وقعت سنة 463 هـ (1070-1071 م) وبين التاريخين كما ترى بون عظيم.
(أدب ابن بطلان وشعره) يشهد على أدب ابن بطلان وشعره ابن أبي أصيبعة حيث يقول (243: 1) : (ولابن بطلان أشعار كثيرة ونوادر ظريفة وقد ضمن منها أشياء في رسالته التي وسمها بدعوة الأطباء وفي غيرها من كتبه. ودعوة الأطباء هذه قد عني بطبعها المرحومان الدكتور بشارة زلزل في مصر والدكتور اسكندر البارودي في الطبيب. ومنها نسخة حسنة قديمة في مكتبتنا الشرقية. وهذه بعض أمثلة من شعر ابن بطلان مما ورد في كتابه دعوة الأطباء (ص 20) قال في اختيار الأصحاب (من الوافر) :(9/270)
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب
لأن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
وقال (ص 24) في منفعة الأدوية (من الوافر) :
فإن المر حين يسر حلو ... وان الحلو حين يضر مر
فخذ مراً تصادف منه حلواً ... ولا تعدل إلى حلو يضر
وله (ص 62) يهجو طبيباً (من المنسرح) :
قالت له النفس: كن طبيباً ... تقضي على الناس بالذهاب
تأخذ مال العليل قهراً ... ثم تؤاتيه إلى التراب
وقال (ص 67) في نكبات الزمان بعد فقد أحد أحبابه (من البسيط) :
عين الزمان أصابتنا فلا نظرت ... وعذبت بعذاب الهجر ألوانا
قد كنت أشفق من دمعي على بصري ... فاليوم كل عزيز بعدكم هانا
ومن أقواله (ص 70) عن لسان من لا يرى إلا سلامة نفسه (من الرمل) :
إنما دنياي نفسي فإذا ... ذهبت نفسي فلا عاش أحد
ليت أن الشمس بعدي غربت ... ثم لم تطلع على أهل بلد
وقال (ص 87) في مصالحة العدو (من الوافر) :
وكم من مرتد للصلح يوماً ... فلم ينجح بذاك الارتياد
لأن الجرح ينقض بعد حين ... إذا كان البناء على فساد
ومما أنشده في البطنة والشره (من المنسرح) :(9/271)
كم أكلة دخلت حشا شره ... فأخرجت روحه من الجسد
لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس بالمعد
رحلة ابن بطلان إلى الشام
هذه الرحلة صنفها ابن بطلان على صورة رسالة كتبها ووجهها إلى بغداد إلى أبي الحسن هلال بن الحسن الصابي (1 سنة 440 هـ (1049 م) رواها ياقوت قطعاً متفرقة في معجم البلدان وجمال الدين القفطي في تاريخ الحكماء.
وكانت أحوال الشام في تلك السنين مضطربة وكثرت فيها الحروب. كان الخليفة في بغداد القائم بأمر الله وكانت مصر تحت حكم المستنصر بالله العلوي. وكان يملك على حلب معز الدولة ثمال بن صالح بن مرداس صاحب الرحبة سابقاً. أما أنطاكية فكان استولى عليها الروم سنة 352 هـ (963 م) في عهد (نيقيفورس فوكاس) فبقيت في يدهم إلى السنة 477 هـ (1084 م) فدخلها ابن بطلان في أيام حكم الروم عليها:
(المقدمة) بسم الله الرحمن الرحيم أنا لما اعتقده من خدمة سيدنا السيد الأجل أطال الله بقاءه وكبت أعداءه دانياً وقاصياً، وأفترضه من طاعته مقيماً وظاعناً، أضمرت عند وداعي حضرته العالية وقد ودعت منها الفضل والسؤدد والمجد والفخر والمحتد أن أتقرب إليها وأجدد ذكري عندها بالمطالعة عما أستطرفه من أخبار البلاد التي أطرقها واستغربها من غرائب الأصقاع التي اسلكها خدمةً للكتاب الذي هو تاريخ المحاسن والمفاخر، وديوان المعالي والمآثر، ليودعه أدام الله تمكينه منها ما يراه ويلحق ما يستوقفه ويرضاه وعلي ذكره. فما رأيت أحداً بمصر وهذه الأعمال أكثر من الراغب فيه. وكل رئيس في هذه الديار متشوق إليه ولوصوله مترقب متوقع. ولو وصلت منه نسخة لبلغ الجالب لها أمنيته في ربحها ونفعها. وإلى الله تعالى أرغب في نشر فضيلته الباهرة ومحاسنه الزاهرة بجوده.
(من بغداد إلى حلب) كنت خرجت من بغداد وبدأت بلقاء مشايخ البلاد وخواصها واستملاء ما عندهم من آثارها وعجائبها. فذكر لي مستطرفة وغرائب(9/272)
عجيبة وعجائب غريبة وأنواع من الشعر رائقة. ولضيق الوقت وسرعة الرسول أضربت عن أكثره واختصرت على أقله. وكنت خرجت على اسم الله وبركته مستهل شهر رمضان سنة أربعين وأربعمائة (ك 10492) مصعداً في نهر عيسى على الأنبار.
ووصلت إلى الرحبة بعد تسع عشرة مرحلة وهي مدينة طيبة وفيها من أنواع الفواكه ما لا يحصى وبها تسعة عشر نوعاً من الأعناب. وهي متوسطة بين الأنبار وحلب وتكريت والموصل وسنجار والجزيرة. وبينها وبين قصر الرصافة مسيرة أربعة أيام. (وهذا القصر حصن دون دار الخلافة ببغداد مبني بالحجارة وفيه بيعة عظيمة ظاهرها بالفص المذهب أنشأها قسطنطين بن هيلانة وجدد الرصافة وسكنها هشام بن عبد الملك وكان يفرع (يفزع) إليها من البق في شاطئ الفرات. وتحت البيعة صهريج في الأرض على مثل بناء الكنيسة معقود على أساطين الرخام مبلط بالمرمر مملوء من ماء المطر. وسكان هذا الحصن بادية أكثرهم نصارى ومعاشهم تخفير القوافل وجلب المتاع والصعاليك مع اللصوص. وهذا القصر في وسط برية مستوية السطح لا يرد البصر من جوانبها إلا الأفق) .
(حلب) ورحلنا منها إلى حلب في أربع رحالات وهي بلد مسور بالحجر الأبيض فيه ستة أبواب وفي جانب السور قلعة في أعلاها مسجد وكنيستان وفي أحدهما كان المذبح الذي يقرب عليه إبراهيم عم. وفي أسفل المغارة كان يخبأ فيها غنمه وإذا حلبها أطاف الناس بلبنها فكانوا يقولون: (حلب أم لا) ويسأل بعضهم(9/273)
بعضاً عن ذلك فسميت حلب. وفي البلد جامع وست بيع وبيمارستان صغير والفقهاء يفتون على مذهب الإمامية. وشرب أهل البلد من صهاريج مملوءة بماء المطر. وعلى بابه نهر يعرف بقويق يمد في الشتاء وينضب في الصيف. وفي وسط البلد دار علوة صاحبة البحتري وهو بلد قليل الفواكه والبقول والنبيذ إلا ما يأتيه من بلاد الروم. (ومن عجائب حلب أن في قيسارية البز عشرين دكاناً لوكلاء يبيعون فيها كل يوم متاعاً قدره عشرون ألف دينار. مستمر ذلك منذ عشرين سنة وإلى الآن. وما في حلب موضع خراب أصلاً) .
(إنطاكية) وخرجنا من حلب طالبين أنطاكية بينهما يوم وليلة فبتنا في بلدة للروم تعرف بعم فيها عين جارية يصاد فيها السمك ويدور عليها رحى وفيها من الخنازير ومباح النساء والخمور أمر عظيم. وفيها أربع كنائس وجامع يؤذن فيه سراً. والمسافة التي بين حلب وأنطاكية عامرة لا خراب فيها أصلاً ولكنها أرض زرع للحنطة والشعير تحت شجر الزيتون قراها متصلة ورياضها مزهرة ومياهها منفجرة يقطعها المسافر في بال رخي وأمن وسكون. وأنطاكية بلد عظيم ذو سور وفصيل وللسور ثلثمائة وستون برجاً يطوف عليها بالنوبة أربعة آلاف حارس ينفذون من القسطنطينية من حضرة الملك فيضمنون حراسة البلد سنةً ويستبدل بهم في الثانية. وشكل البلد كنصف دائرة قطرها يتصل بجبل والسور يصعد مع الجبل إلى قلته ويستتم دائرة. وفي رأس الجبل داخل السور قلعة تبين لبعدها من البلد صغيرةً. وهذا الجبل يستر عنها الشمس فلا تطلع عليها إلا في الساعة الثانية. وللسور المحيط بها دون الجبل خمسة أبواب وفي وسطها بيعة القسيان وكانت دار قسيان(9/274)
للملك الذي أحيا ولده فطرس رئيس الحواريين وهو هيكل طوله مائة خطوة وعرضه ثمانون وعليه كنيسة على أساطين ودائر الهيكل أروقة يجلس فيها القضاة للحكومة ومعلمو النحو واللغة. وعلى أحد أبواب هذه الكنيسة فنجان الساعات يعمل ليلاً ونهاراً دائماً اثنتي عشرة ساعة وهو من عجائب الدنيا. وفي أعلاه خمس طبقات في الخامسة منها حمامات وبساتين ومقاصير حسنة تخر منها المياه وعلة ذلك أن الماء ينزل عليها من الجبل المطل على المدينة.
وهناك من الكنائس ما لا يحد كثرةً كلها معمولة بالفض (بالفص) المذهب والزجاج الملون والبلاط المجزع. وفي البلد بيمارستان يراعي البطريرك المرضى فيه بنفسه. (ويدخل المجذمين الحمام في كل سنة فيغسل شعورهم. ومثل ذلك يفعل الملك بالضعفاء كل سنة ويعينه على خدمتهم الأجلاء من الرؤساء والبطارقة التماس التواضع) . وفي المدينة من الحمامات ما لا يوجد مثله في مدينة أخرى لذاذةً وطيبةً (لأن وقودها من الآس وماءها تسعى سيحاً بلا كلفة) .
(وفي بيعة القسيان من الخدم المسترزقة ما لا يحصى. ولها ديوان لدخل الكنيسة وخرجها. وفي الديوان بضعة عشر كاتباً. ومنذ سنة وكسر وقعت في الكنيسة صاعقة وكانت حالها عجيبة. وذلك أنه تكاثرت الأمطار في آخر سنة 1362 للإسكندر الواقع في سنة 442 للهجرة وتواصلت أكثر أيام نيسان. وحدث في الليلة التي صبيحتها يوم السبت الثالث عشر من نيسان رعد وبرق أكثر مما ألف(9/275)
وعهد وسمع في جملته أصوات رعد كثيرة مهولة أزعجت النفوس ووقعت في الحال صاعقة على صدفة مخبية في المذبح الذي للقسيان ففلقت من وجه النسرانية (كذا) قطعةً تشاكل ما قد نحت بالفاس والحديد الذي تنحت به الحجارة وسقط صليب حديد كان منصوباً على علو هذه الصدفة وبقي في المكان الذي سقط فيه. وانقطع من الصدفة أيضاً قطعة يسيرة. ونزلت الصاعقة من منفذ في الصدفة وتنزل فيه إلى المذبح سلسلة فضة غليظة يعلق فيها الثميوطون (كذا) وسعة هذا المنفذ إصبعان فتقطعت السلسلة قطعاً كثيرة وانسبك بعضها ووجد ما انسبك منها ملقىً على وجه الأرض. وسقط تاج فضة كان معلقاً بين يدي مائدة المذبح وكان من وراء المائدة في غربيها ثلث كراسي خشبية مربعة مرتفعة ينصب عليها ثلثة صلبان كبار فضة مذهبة مرصعة وقلع قبل تلك الليلة الصليبان الطرفيان وتشظيا وتطايرت الشظايا إلى داخل المذبح وخارجه من غير أن يظهر فيها أثر حريق كما ظهر في السلسلة ولم ينل الكرسي الوسطاني ولا الصليب الذي عليه شيء. وكان على كل واحد من الأعمدة الأربعة الرخام التي تحمل القبة الفضة التي تغطي مائدة المذبح ثوب ديباج ملفوف على كل عمود فتقطع كل واحد منها قطعاً كباراً وصغاراً. وكانت هذه القطع بمنزلة ما قد عفن وتهرأ ولا يشبه ما قد لامسته نار ولا ما احترق ولم يلحق المائدة ولا شيئاً من هذه الملابس التي عليها ضرر ولا بان فيها أثر. وانطع بعض الرخام الذي بين يدي مائدة المذبح مع ما تحته من الكلس والنورة كقطع الفاس. ومن جملته لوح رخام كبير طفر من موضعه فتكسر إلى علو تربيع القبة الفضة التي تغطي المائدة وبقيت هناك على حاله وتطافر بقية الرخام إلى ما قرب من المواضع وبعد. وكان في المجنبة التي للمذبح بكرة خشب فيها حبل قنب مجاور السلسلة الفضة التي تقطعت وانسبك بعضها معلق فيها طبق فضة كبير عليه فراخ قناديل زجاج بقي على حاله ولم ينطفئ شيء من قناديله ولا غيرها ولا شمعة كانت قريبة من الكرسيين الخشب ولازال منها شيء. وكان جملة هذا الحادث مما يعجب منه. وشاهد غير واحد في داخل أنطاكية وخارجها في ليلة الاثنين الخامس من شهر آب من السنة المقدم ذكرها في السماء شبه كرة ينور منها نور ساطع لامع ثم انطفأ وأصبح الناس يتحدثون بذلك. وتوالت الأخبار بعد ذلك بأنه كان في أول نهار الاثنين في مدينة غنجرة وهي داخل بلاد(9/276)
الروم على 19 يوماً من أنطاكية زلزلة مهول تتابعت في ذلك اليوم وسقط منها أبنية كثيرة وخسف موضع في ظاهرها. وكان هناك كنيسة كبيرة وحصن لطيف غابا حتى لم يبق لهما أثر ونبع من ذلك الخسف ماء حار شديد الحرارة كثير المنبع المتدفق وغرق منه سبعون ضيعة. وتهارب خلق كثير من تلك الضياع إلى رؤوس الجبال والمواضع المرتفعة العالية فسلموا. وبقي ذلك الماء على وجه الأرض سبعة أيام وانبسط حول هذه المدينة مسافة يومين ثم نضب وصار موضعه وحلاً. وحضر جماعة ممن شاهد هذه الحال فحدثوا بها أهل أنطاكية على ما سطرته وحكوا أن الناس كانوا يصعدون أمتعتهم إلى راس الجبل فيضطرب من عظم الزلزلة فيتدحرج المتاع إلى الأرض.
(وظاهر البلد نهر يعرف بالمقلوب يأخذ من الجنوب إلى الشمال وهو مثل نهر عيسى وعليه رحى ويسقي البساتين والأراضي. وخارج البلد دير سمعان وهو مثل نصف دار الخليفة يضاف فيها المجتازون يقال أن دخله في السنة أربعمائة ألف دينار. ومنه يصعد إلى جبل اللكام وفي هذا الجبل من الديارات والصوامع والبساتين والمياه المنفجرة والأنهار الجارية والزهاد والسياح وضرب النواقيس في الأسحار وألحان الصلوات ما يتصور معه الإنسان أنه في الجنة. وفي أنطاكية شيخ يعرف بأبي نصر ابن العطار قاضي القضاة فيها له يد في العلوم مليح الحديث والإفهام.
(وخرجت من أنطاكية إلى اللاذقية وهي مدينة يونانية لها مينا وملعب وميدان للخيل مدور. وبها بيت كان للأصنام وهو اليوم كنيسة وكان في أول الإسلام مسجداً وهي راكبة البحر وفيها قاضي للمسلمين وجامع يصلون فيه وأذان في أوقات الصلوات الخمس. وعادة الروم إذا سمعوا الأذان أن يضربوا الناقوس. وقاضي المسلمين الذي بها من قبل الروم ... ومن البلد من الحبساء والزهاد في الصوامع والجبال كل فاضل يضيق الوقت عن ذكر أحوالهم والألفاظ الصادرة عن صفاء عقولهم(9/277)
وأذهانهم) .
-13- صاعد بن شماس
(زمانه ودينه) ورد ذكر صاعد بن شماس في رحلة ابن بطلان ومنه يستدل على زمانه وعلى دينه ووطنه. وقد مر بك أن ابن بطلان عاش في القرن الخامس للهجرة والحادي عشر للمسيح. أما ما قال عنه ابن بطلان فورد في معجم البلدان لياقوت (307: 2) في مادة (حلب) قال ابن بطلان: (وفيها (أي حلب) كاتب نصراني له في قطعة في الخمر أظنه صاعد بن شمامة (كذا)) .
خاضت صوارم أيدي المازحين بها ... فألبست جسمها درعاً من الحبب
فقوله (صاعد بن شمامة) وقد أصلحه ناشر معجم البلدان في فهرس الأعلام (476: 6) ودعاه (صاعد بن شماس) ويحيل هناك إلى الجزء الرابع (ص 80) حيث يروي ثلثة أبيات أنشدها (أبو زياد لصاعد) دون زيادة في التعريف ولعلها لصاعد آخر غير ابن شماس فظن ناشر الكتاب أنها له. فنرويها هنا على علاتها وهي واردة في مادة (قرينه) اسم روضة أو واد قال (من الوافر) :
ألا يا صاحبي قفا قليلاً ... على دار القدور فحيياها
ودار بالشميط فحييا بي ... ودار بالقرينة فاسألاها
سقتها كل واكفة هتون ... ترجيها جنوب أو صباها
فدار القدور والشميط والقرينة كلها أمكنة في البرية. وهذا غاية ما عرفنا عن صاعد المذكور.
-14-عون الراهب
(زمانه وشعره) ورد ذكره في كتاب زهر الآداب وثمر اللباب لأبي(9/278)
إسحاق الحصري القيرواني فاستدللنا بذكره فيه أنه كان من أدباء القرن الحادي عشر للمسيح سبق الحصري المتوفى سنة 453 للهجرة الموافقة للسنة 1061 للمسيح. وقد روى لعون الراهب أبياتاً في مديح الغراب رداً على من يتشاءم بهذا الطائر فقال (في الطبعة المصرية على هامش عقد الفريد لابن عبد ربه (84: 2) وفي الطبعة الجديدة (170: 2) من الكامل) :
غلط الذين رأيتهم بجهالة ... يلحون كلهم غراباً ينعق
ما الذئب إلا للأباعر إنها ... مما يشت جميعهم ويفرق
إن الغراب بيمنه تدنو النوى ... وتشتت الشمل الجميع الأينق
وقد بحثنا كثيراً في كتب الأدباء وتراجم القدماء لنقف لعون المذكور على أثر فخاب رجاؤنا.
-15- ابن مرغر الإشبيلي
(زمانه ودينه) ابن مرغر هو أيضاً من شعراء القرن الخامس للهجرة والحادي عشر للمسيح. وقد ورد اسمه على صور شتى فيروى ابن مرغري وابن المرغوي وابن المزعري وابن المغربي. والصواب ما ذكرنا. كان في أيام الملك أبي القاسم محمد الملقب بالمعتمد بن عباد وهو آخر ملوك العباديين في إشبيلية حاضرة الأندلس ملك من السنة 461 إلى 484 هـ (1068-1091 م) وكان ابن مرغر من نصارى الأندلس لا شك في الأمر.
(أخباره وأشعاره) أخباره قليلة وجدنا منها شيئاً في مخطوطات مكاتب أوربة الشرقية. فمن ذلك ما جاء في كتاب أخبار الملوك ونزهة المالك والمملوك في طبقات الشعراء للملك المنصور أمير حماة المتوفى سنة 617 (1220 م) قال (ص 247-248) : (ابن مرغر من نصارى الأندلس من أهل اشبيلية. قال الشيخ أبو عباس شهاب الدين أحمد بن يحيى بن الفضل العمري في(9/279)
كتاب مسالك الأبصار من ممالك الأمصار: ابن مرغر النصارني مجيد على ما عرف من مدامه، وعلم منه من جهل ما فك عنه فدامه، وقد تردى القلب وهي ثماد، وتنطق الأوتاد وهي جماد، وتضيء النار وهي من حطب إلى رماد، والحمامة وهي عجماء قد تسعج، والغمامة وهي طلة تستنجع) .
ثم أنشد له يصف كلب صيد. وهي ستة أبيات رويت في نفح الطبيب من غصن الأندلس الرطيب (2: 946) فقال: (حكي أن ابن المرغوي (كذا) النصراني الإشبيلي أهدى كلبة صيد للمعتمد بن عباد وفيها يقول (من المنسرح) :
لم أر ملهىً لذي اقتناص ... ومكسباً مقنع الحريص
كمثل خطار ذات جيد ... أتلع في صفرة القميص
كالقوس في شكلها ولكن ... تنفذ كالسهم للقنيص
إن تخذت أنفها دليلاً ... دل على الكامن العويص
محبوكة الظهر لم يخبه ... لخوف بطن لها خميص
لو أنها تستثير برقاً ... لم يجد البرق من محيص
قال (ومنها في المديح) :
يشفع تأميله بود ... شفع القياسات بالنصوص
وقد روى له عماد الدين الأصفهاني في كتاب خريدة القصر وجريدة أهل العصر(9/280)
غيرها من الأبيات منها قوله في المديح (من الكامل) :
والله أكبر أنت بدر طالع ... والنقع دجن والكماة نجوم
والجرد أفلاك وأنت مديرها ... وعدوك الغاوي وأنت رجوم
وقال في قوم بات عندهم فلم يوقدوا له سراجاً (من البسيط) :
نزلت في آل مكحول وضيفهم ... كنازل بين سمع الأرض والبصر
لا تستضيء بضوء في بيوتهم ... ما لم يكن لك تطفيل على القمر
وقال يمدح كريماً رطب لسانه بكرمه وشحذ قريحته في مديحه (من البسيط) :
أنطقتني بالندي حتى سرى نفسي ... كما تنفس في الأنداء ريحان
وغاص في بحر نعماك المحيط به ... فهذه درر منه ومرجان
-16- زبينا النصراني
(زمانه وشعره) زبينا اسم سرياني بمعنى المبيع والمملوك. كان في القرن الخامس للهجرة والحادي عشر للمسيح ذكره الراغب الأصفهاني (المتوفى سنة 502 هـ 1108 م) في كتابه محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء وروى له شعراً (196: 1) في باب الرجل (الموصوف بكثرة المساوئ) بعد ذكره لقول الأخطل:
قوم تناهى إليهم كل فاحشة ... وكل مخزية سبت بها مضر
قال زبينا النصراني (من البسيط) :(9/281)
لي صاحب لست أحصي من محاسنه ... شيئاً صغيراً ولا تحصى مساويه
وليس فيه من الخيرات واحدة ... وأكثر السوء لا بل كله فيه
وقد نقبنا عن زبينا هذا لنعرف شيئاً من أخباره فلم يجدنا التنقيب شيئاً.
17- ربيب النصراني
(زمانه وشعره) ربيب النصراني هو أيضاً من الشعراء الذين نقل عنهم بعض مقاطيع أشعارهم الراغب الأصفهاني في كتابه (محاضرات الأدباء) وبه عرفنا زمانه أي أنه من شعراء القرن الخامس للهجرة والحادي عشر للمسيح. وفي غير هذا الكتاب لم نجد له ذكراً ولعله هو زبينا السابق ذكره فيكون اسمه مصحفاً. أما ما رواه عنه فهو بيت مفرد ذكره في باب (المغالاة بما لا يقل وجوده) (292: 1) قال ربيب النصراني (من البسيط) :
وكل شيء غلا أو عز مطلبه ... مسترخص ومهان القدر إن رخصا
18- سعيد النصراني
(زمانه وشعره) سعيد النصراني هو الشاعر الثالث الذي أوقفنا عليه الراغب الأصبهاني في محاضراته فأفادنا أنه عاش في زمانه أي في القرن الخامس للهجرة والحادي عشر للمسيح ولم يزدنا علماً أما شعره فلم يرو منه إلا ثلثة أبيات في باب (مزاورة الحبيب وملاقاته والنظر إليه) (64: 2) قال سعيد النصراني (من الخفيف) :
وعد البدر بالزبارة ليلاً ... فإذا ما وفى قضيت نذوري
قلت: يا سيدي ولم توثر الليل على ... بهجة النهار المنير(9/282)
قال: لا أستطيع تغيير رسمي ... هكذا الرسم في طلوع البدور
وقد بحثنا بدون جدوى عن سعيد النصراني المذكور في الراغب فلم نتوفق إلى معرفة شيء من أخباره في سائر الكتب التي راجعناها.
19- أمين الدولة العلاء بن موصلايا
(اسمه وزمانه) قال عماد الدين الأصبهاني في خريدة القصر وجريدة العصر (هو أمين الدولة أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلايا) وفي نسخة ليدن وفي تراجم ابن خلكان (ص 545 طبعة باريس) أنه يكنى (أبا سعيد العلاء بن الحسين) وضبط ابن خلكان اسمه موصلايا بضم الميم وسكون الواو وفتح الصاد قال: (وهو من أسماء النصارى) . كان منشأه بغداد فدعاه ابن خلكان (بالكاتب البغدادي ومنشئ دار الخلافة) على أن اسم جده يدل على أن أصلهم من الموصل.
أما زمانه فإنه عاش في القرن الخامس للهجرة كانت وفاته في 13 ربيع الأول سنة 497 (أواسط كانون الثاني 1104 م) كما روى الأصفهاني في خريدة القصر وابن الأثير في الكامل. أما ابن خلكان فجعل وفاته في تاسع عشر من جمادى الأولى من السنة ويروى ثامن عشر جمادى.
وجاء في نكت العميان للشيخ خليل بن أبيك الصفدي (مكتبة بايزيد في الأستانة نمره 163) أنه ولد سنة 412 (1021 م) فيكون عاش 85 سنةً.
(دينه) ولد أمين الدولة نصرانياً وعاش نصرانياً في خدمة الخلفاء إلى السنة 484 هـ (1091 م) فأسلم. أما إسلامه فلم يكن عن إقناع واختيار بل كرهاُ واضطراراً كما روى ابن تغري بردي في تاريخ سنة 484 قال: (فيها في صفر كتب الوزير أبو شجاع (محمد بن الحسين الروذراوري) إلى الخليفة (المقتدي بالله) يعرفه باستطالة أهل الذمة على المسلمين (كذا) وأن الواجب تمييزهم عنهم. فأمر الخليفة أن يفعل ما يراه. فألزمهم الوزير لبس الغيار والزنانير وتعليق الدراهم الرصاص في أعناقهم(9/283)
مكتوب (علي الدراهم) وتجعل هذه الدراهم أيضاً في أعناق نسائهم في الحمامات ليعرفن بها وأن يلبسن الخفاف قرداً أسود وفرداً أحمر وجلجلاً في أرجلهن. فذلوا وانقمعوا بذلك وأسلم حينئذ أبو سعد ابن الموصلايا كاتب الإنشاء للخليفة وابن أخيه أبو نصر هبة الله) .
فترى التساهل المزعوم الذي يدعيه بعض الكتبة للخلفاء وكيف أكره عل جحود دينهم كثيرون من النصارى وفي جملتهم ابن الموصلايا أفيحق لنا أن ننظمه في سلك الإسلام وإن دان به ظاهراً في السنين الأخيرة من حياته؟ (أخباره) كان ابن موصلايا من نصارى بغداد المنتمين إلى البدعة النسطورية ورد ذكره في تاريخ المجدل لابن ماري النسطوري (122 و 133) وأصل أسرته من الموصل كما يدل عليه اسمه تخرج بالآداب على أهل نحلته ثم دخل في ديوان الإنشاء في خدمة الخلفاء. قال الصفدي في كتابه الهميان في نكت العميان (عن نسخة الأستانة اطلب طبعته الجديدة ص 201-202) : (كان (ابن موصلايا) يتولى ديوان الرسائل منذ أيام القائم (بأمر الله) وناب في الوزارة وأضر آخر عمره وكانت خدمته خمساً وستين سنة كل يوم منها يزيد جاهه وناب في الوزارة. ولما أضر كان ابن أخته هبة الله بن الحسن يكتب الإنشاءات عنه. وكان كثير الصدقة والخير. ومولده سنة 412 وتوفي سنة 497 ثامن عشر جمادي الأولى. وكان الخليفة قد لقبه أمين الدولة. قال محمد بن عبد الملك الهمداني (ويروى: الهمذاني) : ومن قرأ علم السير علم أن الخليفة والملوك لم يثقوا بأحد ثقتهم بأمين الدولة ولا نصحهم أحد نصحه) .
وقال عماد الدين الأصفهاني في خريدة القصر: (ولم يزل أمين الدولة موقراً موفر الحرمة ينوب عن الوزارة المقتدية والمستظهرية حتى قال عميد الدولة للمستظهر عنه وعن ابن أخيه: هما يمينا الدولة وأميناها لا يبرم دونهما أمر. وكان كثير الصدقة والصلة ذكر عنه أنه فرق في يوم من أيام الغلاء (ويروى: في أيام قليلة) ثلاثين ألف رطل خبزاً) .
وقال ابن الأثير في الكامل في تاريخ سنة 497 أن أمين الدولة توفي فجأة وأنه (كان كثير الصدقة جميل المحضر صالح النية ووقف أملاكه على أبواب البر) .
(قلنا) فكان جزاؤه على هذا الفضل العميم أن أرغموه على جحود دينه. فتأمل.
(آدابه وشعره) غني عن البيان أن رجلاً تولى ديوان الإنشاء للخلفاء مدة خمساً وستين سنة بلغ من الآداب مبلغاً عظيماً. قال عماد الدين الأصفهاني يصف(9/284)
كتابته ويطري حسن إنشائه: (كان أمين الدولة بليغ الإنشاء سديد الآراء رسائله تعبر عن فضله ووفور علمه. وكان نثره أحسن من نظمه لتمرنه عليه وانقطاعه إليه. على أن له مقاطعات مستعذبة أراها أحلى من الأري وأزين من الحلي في أسلوب شعر الكتاب بعيدة عن التكلف في الصنعة، أرق معنى من الدمعة، وأعذب لفظاً (لمتكلم) مستبشر الطلعة) .
أما ابن تغري بردي فقد وصفه في تاريخه (345: 3) بالمترسل والشاعر المجيد. وقد خلف ابن موصلايا كتاباً في الترسل ذكره القلقشندي في صبح الأعشى (272: 13) . أما شعره فدونك ما جمعنا منه نقلاً عن كتاب خريدة القصر لعماد الدين وعن نكت العميان لخيل بن أبيك الصفدي وعن تاريخ ابن تغري بردي. فمنه (من الخفيف) :
يا خليلي خلياني ووجدي ... فكلام العذول ما ليس يجدي
ودعاني فقد دعاني إلى الحكم ... غريم الغرامة اللث عندي
فعساه يرق إذ ملك الرق ... بنقد من وصله أو بوعد
ثم من ذا يجير منه إذا جا ... ر ومن ذا على تعديه يعدي
وقال في وصف المدامة (من الطويل) :
وكأس كساها الحسن ثوب ملاءة ... فحازت ضياءً مشرقاً يشبه الشمسا
أضاءت على كف المدير وما درى ... وقد دجت الظلماء أصبح أو أمسى
ومن شعره أيضاً (من السرسع) :
يا هند رقي لفتى مدنف ... يحسن فيه طلب الأجر
يرعى نجوم الليل حتى يرى ... حل عراها بيد الفجر(9/285)
ضاق نطاق الصبر عن قلبه ... عند اتساع الخرق في الهجر
وهو القائل (من الوافر) :
أقول للأئمي في حب ليلى ... وقد ساوى نهار منه ليلا
أقل فما أقلت قط أرض ... محباً جر في الهجران ذيلا
وقال في الشوق ووصف الخمرة (من الطويل) :
أحن إلى روض التصابي وأرتاح ... وأمتح من حوض التصافي وامتاح
واشتاق رئماً كلما رمت صيده ... تصد يدي عنه سيوف وارماح
غزال إذا ما لاح أو فاح نشره ... تعذب أرواح وتعذب أرواح
بنفس وأن عزت وأهلي أهله ... لها غرر في الحسن تبدو وأوضاح
نجوم أعاروا النور للبدر عندما ... أغاروا على سرب الملاحة واجتاحوا
فتتضح الأعذار فيهم إذا بدوا ... ويفتضح الأخوان فيهم إذا لاحوا
وكرخية عذراء يعذر حبها ... ومن زندها في الدهر تقدح أفراح
إذا جليت في الكأس والليل ما انجلى ... تقابل إصباح لديك ومصباح
يطوف بها ساق لسوق جماله ... نفاق لإفساد الهوى فيه إصلاح
به عجمة في اللفظ تغري بوصله ... وان كان منه في القطيعة إفصاح
وغرته صبح وضرته دجى ... وملبسه در وريقته راح(9/286)
أباح دمي مذ بحت في الحب باسمه ... وبالشجو من قبلي المحبون قد باحوا
وأوعدني بالسوء ظلماً ولم يكن ... لإشكال ما يفضي إلى الضيم إيضاح
وكيف أخاف الضيم أو احذر الردى ... وغوثي على الأيام أبلج وضاح
وظل نظام الملك للكسر جابر ... وللضر مناع وللخير مناح
وله أيضاً (من الطويل) :
واني لصب بالصبا مذ غداتها ... هبوب بهاتيك الخيام يجول
ومن عجب أن أبتغي من نسيمها ... شفاء عليل والنسيم عليل
وله في خريدة القصر من نسخة ليدن أبيات أخرى منها دالية بديعة لم يسمح لنا الزمان بنسخها. أم ترسله فقد ورد منه مثال في تاريخ المجدل لابن ماري (ص 133-135) وذلك نسخة من إنشاء عهد كتبه باسم الخليفة القائم بأمر الله لجاثليق النساطرة الفطرك عبد يشوع نذكر منه بعض فقراته كمثال من إنشاء ابن الموصلايا.
بسم الله الرحمن الرحيم توكلت على الله وحده
(هذا كتاب أمر بكتيبته عبد الله أبو جعفر الإمام القائم بأمر الله تعالى (اعتضادي بالله) لعبد يشوع الجاثليق الفطرك. أما بعد فالحمد لله الواحد بغير ثان، القديم لا عن وجود زمان، الذي قصرت صيغة الأوهام عن إدراكه، ونضلت صفة الإفهام عن بلوغ يدي (مدى) صفاته ... ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) .
إلى أن قال: (الحمد لله الذي استخلص أمير المؤمنين من أزكى الدرجة والأرومة واحلت (واحله) من عز الأمانة ذروةً من المجد منيعةً غير مروه (غير مرومة) ، ...
(ولما أنهي إلى حضرة أمير المؤمنين تمييزك من نظرائك، وتحليك من السداد بما يستوجب معه من أمثالك البالغة في وصفك وإطرائك، وتخصصك بالأنحاء التي فت(9/287)
فيها ساو (شأو) أقرانك، وأفدت بها ما قصر معه مساجلك من أبناء جنسك أن يعدلك في ميزانك، وما عليك (عليه) نحلتك من حاجتهم إلى جاثليق كافل بأمورهم، كاف في سياسة جمهورهم ... فلم يصادفوا من هو بالرئاسة عليهم أحق وأحرى، وللشروط الموجبة للمقدم فيهم أجمع وأحوى، وعن أموال وقوفهم أعف وأورع، ومن نفسه لداعي التحري فيها أتبع ومنك أطوع، فأصاروك لهم راعياً، ولتشييد نظامهم ملاحظاً واعياً، وسألوا إمضاء نصبك عليهم ... فرأى أمير المؤمنين الإجابة إلى ما وجهت إليه فيه الرعية.... مقتدياً فيما أسداه إليك، وأسناه من إنعامه لديك، بأفعال الأئمة الماضين والخلفاء الراشدين، صلوات الله عليهم أجمعين، مع أمثالك من الجثالقة الذي سبقوا، وفي مقامك اتسقوا، وأوعز ترتيبك جاثليقاً لنسطور النصارى في مدينة السلام والأصقاع وزعيماً لهم وللروم واليعاقبة طراً ولكل من تحويه ديار الإسلام من هاتين الطائتين ... وأن يمضى تثقيفك لهم وأمرك فيهم أسوةً بما جرى الأمر عليه من كان قبلك بينهم ... فقابل نعمة أمير المؤمنين عندك بما يستوجب من شكر يبلغ فيه المدى الأقصى ...
(عرض هذا المنشور بحضرة سيدنا ومولانا الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين اعز الله أنصاره وضاعف اقتداره، وأنفذه وأمضاه، وشرفه بالعلامة الطاهرة على أعلاه، فليعتمد وليعمل بحبسه ومقتضاه، إن شاء الله.
20- أبو نصر بن موصلايا
(اسمه وزمانه) هو تاج الرؤساء أبو نصر هبة الله ابن صاحب الخير حسن ابن علي ابن أخت أمين الدولة السابق ذكره. كان مولده سنة 428 هـ (1036 م) (توفي على ما رواه عماد الدين الأصبهاني في خريدة القصر وابن خلكان في تراجمه (ص 545) في عيشة الاثنين حادي عشر جمادى الأولى سنة 498 ببغداد (أوائل شباط 1105) وله سبعون سنة وبين موته خاله سنة إلا عشرة أيام (هلالية) .
(دينه) كان أبو نصر كخاله أمين الدولة نصرانياً من النحلة النسطورية وبقي على نصرانيته إلى السنة 56 من عمره فأسلم مكرهاً مع خاله كما مر. قال(9/288)
الشيخ خليل بن أيبك الصفدي: (لما رسم الخليفة المقتدي في رابع صفر سنة 484 إلزام أهل الذمة الغيار والتزام ما شرطه عليهم عمر بن الخطاب فهربوا كل مهرب وأسلم أبو غالب الأصباغي وابن موصلايا صاحب ديوان الإنشاء وابن أخته ابن صاحب الخير على يد الخليفة) .
(آدابه وأخباره) قال عماد الدولة الأصبهاني: ربى أبا نصر خاله فكتب بين يديه في ديوان الإنشاء في الأيام القائمية والمقتدية والمستظهرية وأسلم مع خاله على يد الإمام المقتدي. وكان لما أضر خاله يكتب عنه ما جرت به العادة من الإنهاءات. فلما توفي خاله رد ديوان الإنشاء إليه في الأيام المستظهرية. وخرج في الرسالة إلى السلاطين مراراً. وعاد من الرسالة إلى بر كيارق بعد موته إلى بغداد ... وكان لا يقاربه أحد في الإنشاء والعبارة ولم يكتب كتاباً قط فرجع فيه إلى مبيضه) .
وقد ذكره ابن تغري بردي (304: 3) بعد ذكره فتح الفرنج لأنطاكية وانتصارهم على جيش الأمراء المسلمين قال: (كتب دقماق ورضوان والأمراء إلى الخليفة المستظهر العباسي يستظهرونهم. فأخرج الخليفة أبا نصر بن الموصلايا إلى السلطان بركيارق ابن السلطان ملكشاه السلجوقي يستنجده) .
وقد ذكره ابن الأثير في الكامل في تاريخ سنة 495 هـ (1102 م) .
(في هذه السنة في ربيع الأول (ك2 1101 م) خرج تاج الرؤساء ابن أخت أمين الدولة ابن سعد بن موصلايا إلى الحلة السيفية مستجيراً بسيف الدولة صدقة. وسبب ذلك أن الوزير الأعز وزير السلطان بركيارق كان ينسب إليه هو الذي يميل جانب الخليفة إلى سلطان محمد. فسار خائفاً واعتزل خاله أمين الدولة الديوان وجلس في داره. فلما قتل الوزير الأعز على ما ذكرنا عاد تاج الرؤساء من الحلة إلى بغداد وعاد خاله إلى منصبه) .
وقال في تاريخ سنة 497 هـ (1104 م) : (ولما مات أمين الدولة خلع على ابن أخته أبي نصر ولقب نظام الحضرتين وقلد ديوان الإنشاء) .
وقال في تاريخ 498 هـ (1105 م) :
(وفيها توفي أبو نصر ابن أخت ابن الموصلايا وكان كاتباً للخليفة جيد الكتابة وكان عمره(9/289)
سبعين سنة. ولم يخلف وارثاً لأنه أسلم وأهله نصارى فلم يرثوه وكان يبخل إلا أنه كان كثير الصدقة) .
ووصفه ابن خلكان في ترجمة خاله قال: (كان تاج الرؤساء أبو نصر فاضلاً له معرفة بالأدب والبلاغة والخط الحسن وكان ذا رسائل جيدة وهي مدونة أيضاً ومشهورة) .
(شعره) روى له عماد الدين الأصبهاني شعراً قال ملغزاً في الحاتم (من الوافر) :
ومنكوح إذا ملكته كف ... وليس يكون في هذا مراء
له عين تخللها ضياء ... فان كحلت فبالميل العماء
وقد أوضحته وأبنت عنه ... ففسره فقد برح الخفاء
وله في دالية الماء (أي الناعورة) (من السريع) :
وميتة فيها حراك إذا ... قامت على منبرها خاطبة
ساعيةً في غير منفوعها ... فهي إذاً عاملة ناصبه
إن وطئت تحمل من وقتها ... حين ترى مجذوبة جاذبه
تمد غرثاها بري إذا ... أضحت بروق للحيا كاذبة
هذا ما أمكنا الحصول عليه من أخبار ابني موصلايا. وقد ورد ذكر كاتب آخر بهذا الاسم وهو (أبو علي بن الموصلايا) جاء ذكره في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة قال عنه: (232: 1) أنه كان كاتباً للوزير أبي قاسم المغربي. وذكره ابن بطلان في رحلته التي روينا منها قسماً أن من جملة المتوفين بالطاعون في أواسط القرن(9/290)
الخامس للهجرة كان أبو علي بن الموصلايا من متقدمي علوم الأدب والكتابة. فيكون سبق عهد أمين الدولة وتاج الرؤساء وهو من أسرتهما في بغداد.
-21-22 أبو غالب وأبو طاهر ابنا الأصباغي
(أخبارهما ودينهما) هما أخوان نصرانيان من كتبة ديوان الإنشاء للخلفاء كانا معاصرين لابني الموصلايا اضطرا مثلهما إلى الإسلام لينجوا من تذليل النصارى كما مر سابقاً. أما أخبارهما فلم نجدها في غير خريدة القصر لعماد الدين الأصفهاني، قال الأصفهاني عن أبي غالب: (هو تاج الرؤساء أبو غالب بن الأصباغي الكاتب كتب بديوان الذمام في بعض الأيام المستظهرية وناب عن ديوان الذمام في أيام المقتدي. وله تصنيف في علم الكتابة. وجماعة الحساب وكتاب العراق يكتبون الحساب على طريقته. وأسلم في صفر سنة 484 (1091 م) قبل إسلام ابني موصلايا بيوم حيث خرج التوقيع بإلزام أهل الذمة بالغيار وكان من بركات ذلك إسلامهم (كذا)) .
وقال عن أبي طاهر: (أبو طاهر بن الأصباغي أخوه كان يخدم عفيفاً القائمي وانصرف عن خدمته فبلغه أنه تهدده وكان عفيف قد بنى داراً وانفق على سقفها في التذهيب أكثر من خمسة آلاف دينار فعمل فيه أبو طاهر أبياتاً غاظته فتهدد أبا طاهر. ولم يذكر العماد إسلام أبي طاهر.
(شعرهما) روى العماد الأصفهاني لأبي غالب قوله يصف الخمرة وفعلها في شاربها (من الكامل) :
عقرتهم معقورة لو سالمت ... شرابها ما سميت بعقار
ذكرت طوائلها القديمة إذا غدت ... صرعى تداس بأرجل العصار(9/291)
لانت لهم حتى انتشوا وتمكنت ... منهم فصاحت فيهم بالثار
وقال ملغزاً في القمر (من السريع) :
مقامر مذ كان لم يقمر ... كأنما يلعب بالسدر
يعشقه الناس على جوره ... والجور ممقوت على الأكثر
شبابه المرموق في شيبه ... وشيبه مذ كان لم يخطر
يدل في البيع ولكنه ... يميل أحياناً مع المشتري
حديثه مع أنه صامت ... يهيج من شقشقة السمر
وروى لأبي طاهر الأبيات التي ذكر فيها تزويق عفيف القائمي لسقف داره وتذهيبها قوله (من الطويل) :
تنوق وزوق وادهن السقف والعمرا ... فان تم فاكتب تحت زناره سطرا
علو وإقبال ومجد مؤثل ... لصاحبه حقاً ومالكه دهرا
لمن عنده في الدار وجه مقدر ... على مثل هذا الوجه والأوجه الأخرى
وهذا دعاء أنت منه مبرأ ... وكان أمير المؤمنين به أحرى
قال فتطير عفيف منها ومات بعد شهر وأخذ المقتدي السقف فكأن الله أنطق ما في القدر على لسانه.
23- ابن بابي
(زمانه ودينه وأخباره) هو أحد كبار الكتاب عاش في أواخر القرن الخامس(9/292)
للهجرة وأوائل السادس أعني في القرن الحادي عشر للمسيح. أصله من بغداد من نصارى النساطرة وإنما انتقل إلى مدينة واسط التي كانت في ذلك العهد من حواضر العراق متوسطة بين الكوفة والبصرة واشتهر بين أدبائها. وقد أفادنا عن كل ذلك عماد الدين الأصفهاني في تأليفه خريدة القصر وجريدة العصر قال: الرئيس أبو غالب نصر بن عيسى ابن بابي الواسطي النصراني توفي بعد الخمسمائة وكان من ظرفاء واسط وأعيانها. وله شعر لطيف ونظم ظريف وعبارة مستعذبة وكلمات مطربة معجبة. ولم أدرك زمانه. أنشدني له الرئيس العلاء بن السوادي بواسط سنة ثلث وخمسين وخمسمائة (1158 م) وذكر أنه كان من بغداد وأقام مدة عمره بواسط) .
(شعره) قال ابن السوادي أنشدني أبو غالب ابن بابي النصراني الكاتب لنفسه (من مجزوء الكامل) :
وعشقت حتى ما أما ... ل وهمت حتى ما أفيق
وأنا بغدري الصبا ... بة في الهوى نسبي عريق
(قال) وأنشدني أيضاً أبو غالب لنفسه في جارية دخلت عليه يوم كسوف الشمس في لباس أسود (من الكامل) :
عاينت في حلل السواد خريدةً ... مثل القضيب المائل المباس
قلت: اسلمي ماذا اللباس وغيره ... أدى إلى الإبهاج والإيناس
قالت: فهذي الشمس أختي عوجلت ... بالافتضاح في أعين الناس
طلعت فشاكلت الضياء بطلعتي ... ودجت فشاكلت الدجى بلباسي
(قال) وأنشدني ابن بابي لنفسه في بغداد سابع ربيع الأول سنة سبع وخمسين (1162 م) يصف غلاماً ورد من سفر شاحباً (من السريع) :
فديت من أقبل من سفرة ... فأقبلت نفسي على أنسها
وقلت إذ أبصرته شاحباً ... قد خضبته الشمس من ورسها(9/293)
ما كان عندي إن شمس الضحى ... تعمل في الخلق وفي نفسها
وله في غلام رمد (من البسيط) :
وأهيف كقضيب البان مقلته ... تنمى إليها جفون الشادن الخرق
قالوا: تمكن من أجفانه رمد ... أبدى محاجرها في حلة الشرق
فقلت: بل وجهه شمس منورة ... كست لواحظه من حمرة الشفق
وله في غلام خازن (من المتقارب) :
أيا خازناً حافظاً للحفا ... ظ أصبى الأنام بوجه مليح
لئن كنت تحفظ مالي لقد ... أضعت بهجرك قلبي وروحي
وقال في غلام خياط (من الطويل) :
مررت بخياط حكى البدر طلعةً ... وشاكل غصن البان لما انثنى قدا
يقد ويفري الثوب ثم يخيطه ... فلم ثوب قلبي لا يخاط وقد قدا
وقال في صديق نال رتبة شريفةً فسها عنه (من الطويل) :
منحتك صفو الود إذا نحن جيرة ... وموردنا في الأنس جم الجداول
وأملت ما قد كان من رتب العلى ... فلا تحدثن لي فيك زهو المطاول
فإن الغصون الشامخات تميلها ... جناها فتدنو من يد المتناول
وقال في الشوق (من البسيط) :
عطفاً سعاد فقد أودى بي الكمد ... وخانني صاحباي الصبر والجلد
وعدت اطلب في تيار حبكم ... شريعةً ارتقي فيها فلا أجد
طرفي جنى وفؤادي فيك تابعه ... فكيف خص بأثواب الضنى الجسد(9/294)
وقال في معناه وفيه لزوم ما لا يلزم (من مجزوء الرمل) :
كل يوم لا أراكم ... هو عندي مثل حول
فأنا المدنف بالش ... ق ولا عواد حولي
جل ما ألقاه فيكم ... أن أعانيه بحولي
وقد وجدنا له في مجموعة مخطوطة عند المرحوم طنوس أفندي أصفر. قال أبو غالب الواسطي (ص 49 من الكتاب) (من البسيط) :
ما زالت أزجر قلبي عنكم ثقةً ... بأن عقدكم ما زال محلولا
فحل بي عندكم ما كنت أحذره ... ليقضي الله أمراً كان مفعولا
وقال يصف المدام وساقيها (من الطويل) :
وضافية صهباء من نسل كرمة ... منابتها قد أعرقت في المكارم
يطوف بها ساق أغر كأنه ... هلال تبدى من متون الغمائم
لواحظه وقع الأسنة دونها ... وألفاظه سل السيوف الصوارم
وفي عارضيه للمحب معاذر ... بخط عذار كف غرب اللوائم
وقال في غلام (من المتقارب) :
تبسم عن برد ناصع ... ولاحظ عن مرهف قاطع
وحط اللثام فقلنا الغمام ... تجلى عن القمر الطالع
وروي له أيضاً هناك (ص 48) قوله (من البسيط) :
بما بعينيك من غنج ومن حور ... وما بخديك من ورد ومن زهر(9/295)
وما بثغرك من در ومن برد ... وما به من رضاب فائح عطر
وطرة طار لبي عند رؤيتها ... وغرة تركت عيني على غرر
وحاجب حجب السلوان عن فكري ... وعارض عرض الأجفان المسهر
وقامة قد أماتتني على قدم ... في معرك الوجد والإطماع والحذر
هب لي أماناً من الهجران أن له ... كاساً تجرعت منها علقم الصبر.
24- ابن أبي سالم النصراني
(أصله. دينه. أخباره. وشعره) هو أيضاً أحد الشعراء الدين ذكرهم عماد الدين الكاتب الأصفهاني في كتابه خريدة العصر وجريدة القصر قال في نسبه: (هو الرئيس أبو الحسن عيسى بن الفضل النصراني المعروف بابن أبي سالم) ثم ذكر زمانه وقد أدركه العماد في شيخوخته ورآه في أواسط القرن السادس للهجرة كشيخ بهي ولم يذكر سنة وفاته. ومما يؤخذ من كلامه أنه خدم بني مروان أصحاب ميافارقين وبين بويه. وهذا كلامه: (الرئيس أبو الحسن عيسى بن الفضل النصارني المعروف بابن أبي سالم وكان شيخاً بهياً. ولما حل والدي بالموصل سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة (1147 م) كان يزورنا ويعرض علينا العم الصدر الشهية عزيز الدين إليه ولم أثبت له شيئاً فسألت الآن(9/296)
الشاتاني فقال: هذا من بيت كبير أبوه كان وزير بني مروان بميافارقين وأمه يقال لها الست الرحيمة قال لها نظام الملك: أنت الست الرحيمة؟ قالت: بل الأمة المرحومة. وكان (ابن أبي سالم) مشهوراً بين أرباب الدولة وله أشعار غثة وسمينة واهية ومتينة وقد وازن الأمير تميم بن المعز المصري في قوله:
أسرب مهاً عن أم سرب جنه ... حكيتنهن ولستن هنه
بقصيدة أولها (من الطويل) :
لقد عذب الماء من ريقهنه ... وطاب الهواء بأنفاسهنه
وله إلى بهاء الدولة صاحب شاتان وقد سافر إلى حصن زياد (من الطويل) :(9/297)
تكون بميافارقين ووحشتي ... تزيد لنأي عنكم وبعاجي
فكيف احتيالي والمهامة بيننا ... تحول وأطواد لحصن زياد
هذا ما رواه العماد الأصفهاني ولم نقف على ذكر ابن أبي سالم في غير العماد كما أنه لم يعرف سنة وفاته.
25- أبو افتح بن صاعد
(اسمه ودينه وشعره) هو أيضاً من شعراء بغداد الذين ورد ذكرهم في خريدة القصر وجريدة العصر للعماد الأصفهاني ومنه يعرف زمانه أنه كان في القرن السادس للهجرة والثاني عشر للمسيح وقد دعاه في كتابه (جمال الرؤساء أبا الفتح بن صاعد النصراني) . وقد وجدنا في مخطوط آخر من مكتبة ليدن في كتاب أخبار الملوك ونزهة المالك والمملوك في طبقات الشعراء للملك المنصور صاحب حماة المتوفى سنة 617هـ (1220) ثم في طبقات الشعراء لابن أبي أصيبعة (275: 1) أنه يدعى (جمال الرؤساء أبا الفتح هبة الله بن الفضل بن صاعد البغدادي) .
ولم يفدنا هؤلاء الكتبة شيئاً عن أخبار أبي الفتح إلا أنهم رووا له قطعاً من شعره. فمما رواه العماد الكاتب قوله ملغزاً في وصف خيمة (من الوافر) :
وذات ذوائب بيض خوال ... وليس بياضها من فرط كبر
لها فرج وليست ذات بعل ... يطاها الناس من عبد وحر
وآذان وليس تصيخ سمعاً ... إلى الداعي وليست ذات فقر
ويحمل بطنها عدداً كثيراً ... ولم تر حاملاً شخصاً بظهر
ترى في ساقها قيدي حديد ... وكل منهما في عرض فتر
وتنظر أكثر الأوقات حبلى ... وفي وقت الولادة ذات طهر(9/298)
ففسر ما ذكرت وكن مبيناً ... لما ألغزت من معنى وشعر
وروى له صاحب أخبار الملوك ونزهة المالك والمملوك قوله في غلام (من مجزوء الرمل) :
زاد في حسن حبيبي ... ما به زاد الجنون
عارض أنبته الحسن ... لترعاه العيون
وقال في العذار (من المنسرح) :
يلومني في هواه قوم ... ما رأيهم في الهوى صحيح
فكيف أسلو وقد بدا لي ... عذاره الأخضر المليح
وقال في وصف غلام (من مجزوء الخفيف) :
يا لعين فسحرها ... جل عن سحر بابل
وجفون قسيتها ... منعت من تواصلي
وعذار تقيم عذ ... ري عند العواذل
تحت صدغ مبلبل ... زائد في بلابلي
لا تسليت عن هوا ... هـ وإن كان قاتلي
وقد جاء في كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة أن أمين الدولة أبا الحسن هبة الله المعروف بابن التلميذ الطبيب النصراني كتب إلى المترجم جمال الرؤساء أبي الفتح جواباً الأبيات التالية (275: 1) :
ما نشر أنفاس الرياض مريضةً ... عوادها طل الندى وقطار
بدميثة ميثاء حلى وجهها ... وحبا عليها حنوة وعرار(9/299)
كفلت بثروتها مؤبدةً بها ... وكفى صداها جدول مدرار
بكت السماء فأضحكتها مثل ما ... أبكي فتضحك بي الغداة نوار
وإذا تعارضها ذكاء تشعشعت ... فتمازج الثوار والنوار
مشت الصبا بفروعها مختالةً ... فصبا المشوق وغيره استعبار
وإذا تغنى الطير في أرجائها ... أبدى بلابل صدره التذكار
يوماً بأطيب من جوارك شاهداً ... أو غائباً تدنو بك الأخبار
26-ابن أبي الخير سلامة الدمشقي
(أصله. دينه. زمانه) هو أيضاً أحد الشعراء النصارى الذين نظمهم في تراجمه عماد الدين الكاتب الأصفهاني في كتاب خريدة القصر وجريدة العصر. على أنه لم يزد في تعريفه له على سطرين فقال، (هو أبو الحسن بن أبي سلامة كان نصرانياً من أهل دمشق وكاتباً لتاج الملوك أخي الملك الناصر فيه أدب وذكاء) .
فمن هذه الألفاظ القليلة يظهر أولا أصله فإنه من أهل دمشق ثم دينه النصراني وزمانه إذا عاش في الفصل الثاني من القرن السادس للهجرة. يتقرر ذلك من كونه كاتباً لتاج الملوك أخي الملك الناصر، ولكن من هو تاج الملوك ومن هو الملك الناصر؟ إذا لم يزد العماد في هويتهما وقد عرف غيرهما بتاج الملوك وبالملك الناصر فبقينا مرتابين في أمرهما إلى أن تحققنا أن تاج الملوك هذا هو أخو الملك الناصر يوسف بن أيوب الشهير بصلاح الدين فاتح الشام والجزيرة ومصر المولود سنة 532هـ والمتوفى سنة 589 (1138-1193م) وكان للسلطان صلاح الدين عدة أخوة اشتهر منهم الملك العادل سيف الدين أبو بكر. وكان أصغر أخوته تاج الملوك هذا واسمه تاج الملوك بوري تبع أخاه صلاح الدين لما خرج من مصر قاصداً فتح الشام والجزيرة. فبلغ إلى الكرك وسار إلى الحسى فاقر أخاه تاج الملوك على الناس وأمره بأن يسير بهم يمنةً. ثم لحقوا بالسلطان بعد أسبوع بالأزرق وهو ماء في طريق حاج الشام وذلك في أول سنة 578 (1182م) هذا ما رواه شهاب الدين المقدسي في كتاب الروضتين.(9/300)
ثم مشى في خدمة أخيه السلطان لفتح بلاد نور الدين زنكي وحاصر معه الموصل وكان صاحبها عماد الدين زنكي بن مودود قال ابن شداد في تاريخ صلاح الدين: (ونزل تاج الملوك بوري أخو صلاح الدين على باب العمادي وجحرى بينهم القتال ففتحت الموصل. ثم عاد السلطان إلى حلب فحاصرها وفتحها في صفر سنة 579 (1183م)) .
قال أبو الفداء في تاريخه: (وكان في جملة من قتل على حلب تاج الملوك بوري بن أيوب أخو السلطان الناصر. وكان كريماً شجاعاً طعن في ركبته فانفكت فمات منها) . وقال ابن شداد في سيرة صلاح الدين: وشق أمر موته على السلطان وجلس للعزاء..
ففي خدمة تاج الملوك هذا كان ابن أبي الخير سلامة النصراني كاتباً وكان مقيماً في دمشق وطنه كما يلوح من شعره.
ولنا في تعريف زمانه أن عماد الكاتب ذكر تاريخ بعض شعره في السنة 572 (1176م) لكنه لم يذكر سنة وفاته.
(أدبه وشعره) رأيت في ما قاله عماد الكاتب أن أبا الحسن بن أبي الخير سلامةً (كان فيه أدب وذكاء) ثم روى له عدة قطع شعرية فاتسع بروايتها على خلاف عادته في وصف معظم الشعراء الذين ذكرهم. وبين قصائده ما قاله في تاج الملوك سيده ومنها يتضح أنه لم يكن فقط كاتباً بل كان شاعراً أيضاً مقرباً من الملوك. ولعله صنف ديواناً وقف عليه العماد الأصفهاني فنقل عنه المقاطيع المذكورة التي تشهد له بحسن القريحة وسلامة الذوق. فمما نقله قوله يمدح تاج الملوك من أبيات صنفها في زمن الربيع (من البسيط) :
تاج الملوك أدام الله نعمته ... أسخى البرية من عجم ومن عرب
مولى أياديه في ارض يحل بها ... أجدى وأحسن آثاراً من السحب
تفتح النور فيها من أنامله ... فتنجلي منه في أثوابه القشب
حتى ترى روضها يحكي مواهبه ... فالبعض من فضة والبعض من ذهب
وله من قصيدة بعث بها إليه في الربيع (من السريع) :
مولاي مجد الدين قد عاودت ... دمشق من بعدك أشجانها(9/301)
نيربها قد مات شوقاً على ... المولى وواديها وميدانها
مالت إليه في بساتينها ... من شدة الأشواق أغصانها
وأقسمت من بعده لا صحا ... من لوعة الأشجان نشوانها
وماس من أشواقه آسها ... واهتز إذ بان له بانها
وغنت الأطيار من شجوها ... واختلفت في الدوح الحانها
واصفر في الروضة منثورها ... من شوقه واخضر ريحانها
رقرقت الدمع عليه كما ... ترقرقت بالماء غدرانها
فلا خلا يا خير هذا الورى=بطنانها منك وظهرانها
تلك هي الجنة لكنها ... مذ غبت عنها غاب رضوانها
(قال) وله فيه وقد وعده بخلعة (من البسيط) :
يا من له الشكر بعد الله مفترض ... علي ما عشت في سري وفي علني
إن كان غيرك لي مولىً أؤمله ... وأرتجيه فكانت خلعتي كفني
(قال) وله يقتضيه بالخلعة وقد عزم على السير إلى العسكر المنصور (من المجتث) :
مولاي جد لي بوعدي ... من قبل سير الركاب
انعم علي بثوب ... تربح جزيل ثوابي
ثوب تكامل حسناً ... كخلقك المستطاب(9/302)
كأنه زمن الوصل ... في زمان الشباب
وفوطة مثل شعري ... رقيقة أو شرابي
طويلة مثل ليلي ... لما جفا أحبابي
كأنها رمضان ... إذا أتى في آب
قال العماد: ومن محاسنه في تاج الملوك (من مجزوء الكامل) :
يا حبذا أبواه إذ ... ولداه من كرم وخير
وكذاك قد يستخرج ... الدر النفيس من البحور
والشمس من أنوارها ... يبدو سنا القمر المنير
ما زال منذ فطامه ... في عقل مكتهل كبير
مولىً حوى سن الأكا ... بر وهو في سن الصغير
ولقد رقى درج الأوا ... ئل وهو في الزمن الأخير
وقال فيه أيضاً يستجديه (من الكامل) :
يا من يعم سماحه ونواله ... كرماً كما عم السحاب الممطر
ويفوح ما بين الأنام ثناؤه ... فكأنه في كل حين عنبر
إني شقيت وفي ظلالك أنعم ... ولقد ظمئت وفي يمينك أبحر
ولقد ذللت وأنت حصن مانع ... ولقد ضللت وأنت بدر نير
أغنى جداك الناس إلا فأتني ... فالله يغني من يشاء ويفقر
فلئن نظرت إلي نظرة مجمل ... فلأنت أولى بالجميل واجدر
ثم قال عماد الدين صاحب الترجمة: ومدحني (أي ابن أبي الخير) وهي في حسن(9/303)
الفريدة في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين (وخمسمائة) (1177م) (من الكامل) :
أمطيل عذلي في الهوى ومفندي ... هل أنت من غي الصبابة مرشدي
هيهات ما هذا الكلام بزاجري ... فانقض أبيت اللعن منه أو زد
أنت الفداء ومن يلوم لشادن ... أنا في هواه مضلل لا أهتدي
يجلو لعينك غرةً في طرة ... فيريك أحسن أبيض في أسود
يسطو على عشاقه من قده ... وجفونه بمثقف ومهند
قمر يظل الماء في وجناته ... والنار بين ترقرق وتوقد
ومن العجائب أن ناراً خالطت ... ماءً وأن ضرامها لم يخمد
وكذاك ماء الدمع إن تنضح به ... نار الصبابة والأسى لم تبرد
كم بت أرعى الفرقدين كلاهما ... شغفاً بمن يرنو بعين فرقد
آليت ارقد في هواه ومن يكن ... ذا لوعة وعلاقة لم يرقد
على الليالي يكتسبن بشاشةً ... يوماً فتنجز بعد مطل موعدي
إن رق لي بعد القساوة قلبه ... فالماء يقطر من صفاح الجلمد
فاجعل لحاظك في محاسن وجهه ... إن تستطع نظراً إليه وردد
تنظر إلى الأنوار بين ممسك ... ومثبج ومبرجس ومورد
فكأنها نور الربيع إذا بدا ... أو حسن خط محمد بن محمد
هذا عماد الدين والدنيا معاً ... وملاذ كل مؤمل أو مجتدي(9/304)
هذا الذي ما أغلقت أبوابه ... من دون مستجد ولا مستنجد
هذا الذي أحيا العلوم وأهلها ... بعد الردى والعرف إحياء الردي
وأبان منها كل نهج دارس ... درس الرسوم من الديار الرصد
بيضاء حسن ما دجت إلا بدا ... فأضاء مثل الكوكب المتوقد
لو عاش حينئذ فرام تشبهاً ... عبد الحميد بخطه لم يحمد
يقظ له القلمان في إنشائه ... وحسامه في مصدر أو مورد
إن حاول الإنشاء يوماً ما فيا ... ناهيك من در هناك منضد
ويضمن اللفظ البديع معانياً ... أشهى من الماء الفرات إلى الصدي
وكأن خط حسامه في طرسه ... شعر تنمنم في عوارض أغيد
لو قلد الدنيا كفاها وحده ... في الحالتين ولم يرد من مسعد
وأقام منتهضاً بكل عظيمة ... منها وقوم كل ما متأود
هذا وأما الفقه فهو إمامه ... فبعلمه في الفقه كل مقتدي
فلو أن اسعد عاش بعد وفاته ... يوماً فساجله به لم نسعد
وإذا انبرى للشعر خلت قريضه ... أطواق در في نحور الخرد
شعر ترشفه النفوس كأنه ... لفظ الحبيب مقرراً للموعد
أو طيب وصل بعد كره قطيعة ... من ذي انبساط بعد طول تحقد
وإذا تفاخر بالأروم معاشر ... فله العلاء عليهم بالمحتد
ما زال يخبر فضله بل نبله ... عن حسن شيمته وطيب المولد(9/305)
جل الذي أعطاك يا ابن محمد ... في كل فضل باهر طول اليد
أقسمت بالكرم الذي أوتيته ... لولاك ما اتضحت سبيل السؤدد
وقال عماد الدين: وكتب إلي أيضاً (من الطويل) :
ألا قل لمن ذم الزمان جهالةً ... وعنفه في ما جناه وفندا
دع العجز وانهض غير وانٍ إلى امرئ ... يكن لك فيما أنت راجيه مسعدا
فانك لم تبلغ من الدهر طائلاً ... فتحمده حتى تزور محمدا
وإن عماد الدين امنع معقل ... إذا ما رماك الدهر يوماً تعمدا
وأسير هذا الناس فضلاً وسؤددا ... وأغزرهم براً وأكثرهم ندىً
تفرد إلا أنه الناس كلهم ... وإن كان في عليائه قد تفردا
معز مذل مانح مانع معاً ... يرجى ويخشى واعداً متوعداً
إذا ما رأى يوماً بإبعاده العدى ... أقام لخوف الانتقام وأقعدا
جدير بجل الأمر أشكل حله ... برأي به في كل عشواء يهتدي
له قلم ما هزه في ملمة ... من الدهر إلا هز سيفاً مهندا
إذا انسل من بين الأنامل خلته ... ينظم في القرطاس دراً مبددا
إذا ما رأى يوماً بعين كحيلة ... رأيت لديه ناظر الرمح أرمدا
وإن يتحرك يسكن الخطب فادحاً ... ويبيض وجه الرشد إن هو سودا
لأنت عماد الدين أحسن شيمة ... وأطيب هذا الناس أصلاً ومحتدا
فلو جاز يوماً أن يخلد سيد ... كريم بنا أسدي لكنت المخلدا(9/306)
ومما استحسنه له العماد الأصفهاني قوله (من البسيط) :
يا حبذا يومنا والكاس ناظمة ... نظم الحباب عليها شمل أحباب
ونحن بين أزهار تحف بأنهار ... وما بين أقداح وأكواب
والماء تلعب أرواح النسيم به ... ما بين ماض وآت أي تلعاب
كأنه زرد الزغف السوابغ أو ... نقش لأطيار أو تفريك أثواب
وروى له أيضاً في الشوق ووصف الربيع (من البسيط) :
سل الحبيب الذي هام الفؤاد به ... هل يذكر العهد إن العهد مذكور
أيام نأخذها صهباء صافيةً ... يمسي الحزين لديها وهو مسرور
يسعى بها غصن بان في كثيب نقاً ... له على القوم ترديد وتكرير
إذا أتاك بكأس خلتها قبساً ... يسعى به في ظلام الليل مقرور
يعطيكه وهو ياقوت ويأخذه ... إذا أشرت إليه وهو بلور
والأرض قد نسجت أيدي الربيع لها ... وشياً تردت به الآكام والقور
فالتبر مجتمع فيها ومفترق ... والزهر منتظم فيها ومنثور
كأن منثورها والعين ترمقه ... دراهم حين تبدو أو دنانير
ما شئت من منظر في روضها نضر ... كأنما نوره من حسنه نور
نظل أطيارها تشدو بها طرباً ... إذا تبدت من الصبح التباشير
من بلبل كلما غناك جاوبه ... فيها هزار وقمري وشحرور
كأنما صوت ذي صنج يجاوبه ... من ذاك ناي وذا بم وذا زير(9/307)
27 - جرجس الأنطاكي النصراني
(أخباره ودينه) هو أيضاً ممن نظمهم العماد الأصبهاني في كتابه خريدة القصر وفريدة العصر، يدعى الفيلسوف الأنطاكي النصراني وهو موصوف كفيلسوف وشاعر معاً. كان أصله من أنطاكية فرحل إلى مصر ومارس فيها فن الطبابة واشتغل بالفلسفة. قال جمال الدين القفطي في تاريخ الحكماء (ص 157) : (جرجس الفيلسوف الأنطاكي نزيل مصر يزعم أنه قرأ على علماء بلده واستوطن مصر وطبب بها) .
وهناك وجده أبو الصلت أمية بن عبد العزيز لما دخل مصر سنة 510هـ (1116م) وذكر في رسالته المصرية التي وصف فيها ما رآه في ديار مصر من هيئتها وآثارها ومن اجتمع بهم من الأطباء والمنجمين والشعراء وغيرهم من أهل الأدب (راجع ابن أبي أصيبعة 63: 2) .
ودونك ما قاله في جرجس الأنطاكي كما رواه عنه جمال الدين القفطي في تاريخ الحكماء (ص 157) وابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء (106: 2) وابن العبري في مختصر تاريخ الدول (ص 348) وكلهم نقلوا كلام أبي الصلب حيث يذكره ويذكر معاداته لطبيب يهودي مصري يدعى أبا الخير سلامة بن رحمون كان يتعاطى مثله الطبابة والفلسفة فكان مولعاً بهجائه. وهذا ما كتبه أبو الصلت بحرفه الواحد قال: لما دخلت إلى مصر في حدود سنة عشر وخمسمائة أدركت بها طبيباً إنطاكياً يسمى جرجيس ويلقب بالفيلسوف على نحو ما قيل في الغراب أبو البيضاء وللديغ سليم. وقد تفرغ للتولع بأبي خير سلامة بن رحمون اليهودي الطبيب المصري والأزراء عليه. وكان يزور فصولاً طبية وفلسفية يبرزها في معارض ألفاظ القوم وهي محال لا معنى لها فارغة لا فائدة فيها ثم ينفذها إلى من يسأل أبا الخير عن معانيها ويستوضحه أغراضها فيتكلم أبو الخير عليها ويشرحها بزعمه دون تيقظ ولا تحفظ باسترسال واستعجال وقلة اكتراث واهتبال (ويروى: وإهمال) فيؤخذ (ويروى: فيوجد) فيها عنه ما يضحك منه) .
هذا ما قال أبو الصلت وفي قوله (أن جرجس الأنطاكي لقب بالفيلسوف على نحو ما يقال في الغراب أبو البيضاء وللديغ سليم) تهكم ظاهر كأنه لقب بذلك على عكس المعنى وهو نوع من البديع. ولا نعرف شيئاً من أعمال جرجس المذكور لنتحقق صحة قول أبي الصلت فيه.(9/308)
(شعره) لجرجس الأنطاكي أقوال في الشعر حسنة وكلها في هجو أبي الخير الطبيب اليهودي المذكور. ويظهر من كلام أبي الصلت في حق أبي الخير أنه لم يكن محققاً بل متشدقاً قال عنه (طبقات الأطباء 106: 2) : (أنه كان يكثر كلامه فيضل ويسرع جوابه فيزل وكان مثله في عظيم ادعائه وقصوره عن أيسر ما هو متعاطيه كقول الشاعر:
يشمر للج عن ساقه ... ويغمره الموج في الساحل
أو كما قال الآخر:
تمنيتم مائتي فارس ... فردكم فارس واحد
وقال أبو الصلت: وأنشدت لجرجس وهو أحسن ما سمعته في هجو طبيب مشؤوم وأنا متهم له فيه (من السريع) :
غن أبا الخير على جهله ... يخف في كفته الفاضل
عليله المسكين من شؤمه ... في بحر هلك ما له ساحل
ثلثة تدخل في دفعة ... طلعته والنعش والغاسل
وقال أبو الصلت: ولبعضهم (يعني جرجس الأنطاكي) فيه (من الخفيف) :
لأبي الخير في العلا ... ج يد ما تقصر
كل من يستطبه ... بعد يومين يقبر
والذي غاب عنكم ... وشهدناه أكثر
ولجرجس في هذا الطبيب (من الطويل) :
جنون أبي خير جنون بعينه ... وكل جنون عنده غاية العقل
خذوه وغلوه وشدوا وثاقه ... فما عاقل من يستهين بمختل
وقد كان يؤذي الناس بالقول وحده ... فقد صار يؤذي الناس بالقول والفعل
وقد أردف عماد الدين أبياتاً في هذا المعنى ولم يذكر قائليها ولعل منها ما هو لجرجس الأنطاكي فمنها:
قل للوبا أنت وابن زهر ... قد جزتما في النكاية
ترفقا بالورى قليلاً ... في واحد منكما كفاية(9/309)
وقال آخر:
ما خطر النبض على باله ... يوماً ولا يعرف ما الماء
بل ظن أن الطب دراعه ... ولحية كالقطن بيضاء
وقال آخر في مثلهم:
وطبيب مجرب ما له با ... لنجح في كل ما يجرب عاده
مر يوماً على مريض فقلنا ... قر عيناً فقد رزقت الشهادة
28- أبو الفرج يحيى ابن التلميذ
(أصله وأخباره ودينه) هو الأجل الحكم معتمد الملك أبو الفرج يحيى بن صاعد بن يحيى بن التلميذ النصراني النسطوري. قال جمال الدين القفطي (ص 364) : (كان طبيب الدولة العباسية في زمانه ويستشار برأيه وله الفضل الوافر والأدب الغزير والمعرفة الكاملة. واتفقت له سعادة جد حتى كسب الأموال وعاش إلى آخر عهد المستظهر بالله في حدود سنة 512هـ (1118م) .
قال ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء (279: 1) كان معتنياً (ويروى: متعيناً) في العلوم الحكمية، متقناً للصناعة الطبية، متحلياً بالأدب، بالغاً فيه أعلى الرتب، وكذلك كان لأمين الدولة ابن التلميذ جماعة من الأنساب، كل منهم متعلق بالفضائل والآداب، وقد رأيت بخط الأجل معتمد الملك يحيى ابن التلميذ ما يدل على فضله، وعلو قدره ونبله، وكان من المشايخ المشهورين في صناعة الطب وله تلاميذ عدة.
(شعره) لم يكن يحيى ابن التلميذ طبيباً نطاسياً فقط بل كان أيضاً شاعراً مجيداً.
قال الملك المنصور صاحب حماة (يحيى ابن التلميذ الحكيم كان يلقب معتمد الدولة وكان فاضلاً أديباً وديوان شعره مشهور) .
ومنه يتضح أن شعره كان وافراً حتى جمع في ديوان ولم نجد له ذكراً في إحدى مكاتب حواضر البلاد عند الخاصة والعامة. وإنما ذكر له الأدباء عدة مقاطيع جمعناها في ما يلي. فمن شوقياته قوله نقلاً عن إحدى مجموعات باريس (من البسيط) :(9/310)
الله أبقاك للدنيا وللدين ... ولا يخليك من عز وتمكين
روحي بروحك ممزوج ومتصل ... وكل عارضة تؤذيك تؤذيني
وله فيها (من الخفيف) :
أنعما بالوصل أيا الفرقدان ... واسلما من صروف هذا الزمان
كم أشت الفراق بين حبيب ... وحبيب وأنتما تصحباني
وستفضي إليكما عن قريب ... نوبة البين ثم تفترقان
وروى له في هذا المعنى صاحب الإيضاح على المفتاح (ص 148) (من السريع) :
بدا إلينا أرج القادم ... فبرد الغلة من هائم
روح عن قلبي على نأيه ... وقد يلذ الطيف للحالم
وروي له في الغزل في طبقات الأطباء (من المتقارب) :
فراقك عندي فراق الحياة ... فلا تجهزن على مدنف
علقتك كالنار في شمعها ... فما إن تفارق أو تنطقي
ومن ظريف أقواله قوله في دار جديدة بناها سيف الدولة صدقة وقعت فيها النار يوم فراغه من بنائها (من الكامل) :
يا بانياً دار العلى متلهياً ... لتزيدها شرفاً على الكيوان
علمت بأنك إنما شيدتها ... للمجد والإفضال والإحسان
فقفت عوائدك الكرام وسابقت ... تستقبل الأضياف بالنيران(9/311)
وقال في المعنى (من الكامل) :
علق الفؤاد على خلو حبها ... علق الذبالة في حشا المصباح
لا يستطاع الدهر فرقة بينهم ... إلا لحين تفرق الأشباح
وقرأنا له في بعض المجاميع المخطوطة في مكتبتنا الشرقية (من المنسرح) :
إرض لمن غاب عنك بكبره ... فذاك ذنب عقابه فيه
لو لم ينله من الجفاء سوى ... بعدك عنه لكان يكفيه
وقال في هلاك الظالم (من الخفيف) :
وإذا أنبت المهيمن للنمل ... جناحاً أعدها للتردي
ولكل امرئ من الناس حد ... وهلاك الفتى جواز التعدي
وله أيضاً وفيه إشارة منطقية (من الكامل) : تعس القياس فللغرام قضية=ليست على نهج الحجى تنقاد
منها بقاء الشوق وهو بزعمهم ... عرض وتفنى دونه الأجساد
وروى له الدميري في حياة الحيوان (32: 2) قوله في تشبيه السمك وضرر النسيم بها وهو يروى لهبة الله ابن التلميذ (من المتقارب) :
لبسن الجواشن خوف الردى ... عليهن من فوقهن الخوذ
فلما أتيح لها أهلكت ... ببرد النسيم الذي يستلذ(9/312)
لنا مغن إن شدا ... تدفننا ثلوجه
فموتنا خروجه ... وبعثنا خروجه
وليحيى ابن التلميذ عدة ألغاز بالشعر. من ذلك ما أخبر به علي بن يوسف بن أبي المعالي سعد بن علي الحظيري قال: وجدت الرجل الحكيم معتمد الملك يحيى ابن التلميذ لنفسه لغزاً في الإبرة وخيطها (من الوافر) :
وفاغرة فماً في الرجل منها ... ولكن لا تسيغ به طعاما
ومخطفة الحشا في الراس منها ... لسان لا تطيق به الكلاما
تصول بشوكة تبدو وسم ... وما من ذاقه يرد الحماما
تجر وراءها أبداً أسيراً ... كما قادت يد الحادي الزماما
منيعاً ذا قوىً لكن تراه ... بقبضتها ذليلاً مستضاما
فتلفيه بمحبسها مقيماً ... طوال الدهر لا يأبى المقاما
أيا عجباً لها سوداء خلقاً=تريك خلائقاً بيضاً كراما
غدت عريانةً عن كل لبس ... وفاضل ذيلها يكسو الأناما
وقال ملغزاً في قوس رواه عماد الدين في خريدته (من الوافر) :
وما ذو قامة ذات اعوجاج ... يئن وينحني عند الهياج
له المكر الجفي مع التمطي ... كمكر الراح في القدح الزجاج(9/313)
وروى له ابن منظور في نثار الأزهار (ص 106) لغزاً في الظل (من الطويل) :
وشيء من الأجسام غير مجسم ... له حركات تارةً وسكون
إذا بانت الأنوار بان لناظري ... وأما إذا بانت فليس يبين
يتم أوان كونه وفساده ... وفي وسط محياه المحاق يكون
وللشريف أبي العلاء محمد بن الهبارية قصيدة مدح فيها يحيى ابن التلميذ وكان أبو العلاء قد أتاه إلى أصبهان فحصل له يحيى من الأمراء والأكابر مالاً جزيلاً. وفيها يقول:
وجميع ما حصلته وجمعته ... منهم وكنت له بشعري كاسباً
نعمى أبي الفرج بن صاعد الذي ... ما زال عني في المكاسب نائبا
هو لا عدمت علاه حصل كل ما ... أملته ومرى فكنت الحاليا
يحيى بن صاعد بن يحيى لم يزل ... للمكرمات إلى جنابي جانبا
ما زال ينعشني نداه حاضراً ... وينوب عني في المطالب غائبا
في باب سيف الدولة ابن بهائها ... وكذا نصير الدين كان مخاطبا
كاتبته بحوائجي وهززته ... فوجدته فيها الحسام القاضيا
ما زال يغرسني يداه ولم أزل ... بنداه ما ين البرية خاطبا
ومنها:
لا زلت أثني بالذي أوليتني ... وعلى المديح محافظاً ومواظبا
وبقيت لي ذخراً ودمت ممتعاً ... بالمجد للأبراد منه ساحبا
ثقة الخلافة سيد الحكماء معتمد ... الملوك الفيلسوف الكاتبا
فيستفاد من هذا المديح ما كان عليه ابن التلميذ من المنزلة العالية عند الخلفاء وكبار الدولة ثم قيامه بخدمة الأدباء كابن الهبارية وإقامته مدة في أصبهان. ويحيى ابن التلميذ هو جد أمين الدولة هبة الله الشهير بابن التلميذ الآتي ذكره.(9/314)
29- هبة الله ابن التلميذ
(اسمه ونسبه) قال ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء (259: 1) : (هو الأجل موفق الملك أمين الدولة أبو الحسن هبة الله بن أبي العلاء (وفي تراجم الأعيان لابن خلكان (252: 2) : بن أبي الغنائم صاعد بن إبراهيم (وفي ابن خلكان: صاعد بن هبة الله بن إبراهيم بن علي) بن التلميذ) . وقد لقب أيضاً بسلطان الحكماء كما روى عماد الدين الأصفهاني في الخريدة. وقال ابن ظافر الأزدي في بدائع البدائع (ص 54) : (هو المعروف بابن التلميذ. وإنما أمه من بنات التلميذ فعرف بذلك) . وقال جمال الدين القفطي في تاريخ الحكماء (ص 340) : (وابن التلميذ هو جده لأنه والحكيم معتمد الملك أبو الفرج يحيى هو ابن بنته فنسب إليه) وقال ابن أبي أصيبعة عن والد هبة الله: (وكان أمين الدولة وهو أبو العلاء صاعد طبيباً فاضلاً مشهوراً) وقال في محل آخر (276: 1) : (وكذلك أيضاً كان لأمين الدولة ابن التلميذ جماعة من الأنساب كل منهم متعلق بالفضائل والآداب) . وزاد على قوله فيه: (وأكثر أهله كتاب) وذكره عمرو بن متى في أخبار فطاركة كرسي المشرق من كتاب المجدل (ص 103) ودعاه (بالطبيب الغياثي) .
(زمانه ودينه) كان أصل أمين الدولة من بغداد. فيها كان مولده نحو السنة 474هـ (1081م) قال ابن أبي أصيبعة (264: 1) : (وكانت وفاة أمين الدولة ببغداد في 28 من شهر ربيع الأول سنة 560 (شباط 1164) أما عماد الأصفهاني فجعل وفاته في صفر من تلك السنة. قال في خريدة القصر: (هلك ابن التلميذ الطبيب النصراني بصفر سنة 560هـ وقد ناهز المئة وعاش إلى زماننا ورأيته وهو شيخ ... ) .
أما دينه النصراني فلا يشك فيه أحد. قال ابن أبي أصيبعة: (ومات نصرانياً) وقال عمرو بن متى في المجدل (ص 106) في ترجمة البطريرك ايشوعياب: (وفي أيامه توفي أمين الدولة ابن التلميذ رضي الله عنه ودفن في الصحن الداخلاني ببيعة العتيقة) .
ويتضح من ذلك أنه كان نسطورياً. وقال ابن الأزرق في تاريخه: (مات ابن(9/315)
التلميذ في عيد النصارى) وقال جمال الدين القفطي: توفي وذهنه بحاله.
(أخباره) قال ابن أبي أصيبعة: (كان ابن تلميذ في أول أمره قد سافر إلى العجم وبقي بها في الخدم سنين كثيرة) ثم عاد إلى بغداد. ولما توفي يحيى بن التلميذ قام أمين الدولة مقامه وهو ابن بنته وخدم الخلفاء والملوك واتخذه الخليفة المقتفي بلله (530-555هـ=1336-1160م) كطبيبه الخاص وجعل له راتباً بدار القوارير فقطعه الوزير عون الدين بن هبيرة ولم يعلم الخليفة بقطعه حتى أشار إلى ذلك ابن التلميذ إشارةً لطيفة إذا قال له الخليفة يوماً: قد كبرت يا حكيم. فأجابه: (نعم يا مولانا وتكسرت قواريري: فأدرك الخليفة بعد البحث سر جوابه وتقدم برد راتبه بدار القوارير عليه وزاده إقطاعاً آخر (تاريخ الحكماء ص141) وأقيم ساعوراً أي رئيساً على البيمارستان الكبير في بغداد المعروف بالبيمارستان العضدي المنسوب إلى عضد الدولة ابن بويه إلى حين وفاته. وخدم ابن التلميذ بعد وفاة المقتفي ابنه المستنجد. قال ابن أبي أصيبعة (362: 1) كانت دار أمين الدولة التي يسكنها في بغداد في سوق العطر مما يلي بابه المجاور لباب الغربة من دار الخلافة المعظمة بالمشرعة النازلة إلى شاطئ دجلة.
(مقامه وعلومه وفضائله) قد اتسع الكتبة في وصف هبة الله بن التلميذ وأطنبوا في فضله قال عماد الدين الأصبهاني في الخريدة: (هو مقصد العالم في علم الطب بقراط عصره وجالينوس زمانه ختم به هذا العلم ولم يكن في الماضيين من بلغ في الطب. عمر ابن التلميذ طويلاً، وعاش نبيلاً جليلاً، ورايته وهو شيخ بهي النظر حسن الرواء عذب المجتلى والمجتنى لطيف الروح ظريف الشخص بعيد الهم عالي الهمة ذكي الخاطر مصيب الفكر حازم الرأي شيخ النصارى وقسيسهم ورأسهم ورئيسهم) .
ونقل ابن خلكان (253: 2) ما ورد عنه في كتاب نموذج الأعيان من شعراء الزمان فيمن أدرك بالسماع أو بالعيان: (كان ابن التلميذ متفنناً في العلوم ذا رأي رصين، وعقل متين، طالت خدمته للخلفاء والملوك، وكانت منادمته أحسن من التبر المسبوك، والدر في السلوك، اجتمعت به مراراً في آخر عمره، وكنت أعجب في أمره، كيف حرم الإسلام مع كمال فهمه، وغزارة عقله وعلمه، والله يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يريد بحكمه، وكان إذا ترسل استطال وسطا، وإن نظم وقع بين أرباب النظم وسطا) .(9/316)
ونقل ابن أبي أصيبعة عن موفق الدين البغدادي في هبة الله ابن التلميذ ما يدل على مروءته ونزاهته وعظم نفسه قال: (كان ابن التلميذ حسن العشرة كريم الأخلاق عنده سخاء ومرؤة وأعمال في الطب مشهورة وحدوس صائبة ... قال ومن مرؤته أن ظهر داره كان يلي المدرسة النظامية فإذا مرض فقيه نقله إليه وقام في مرضه عليه. فإذا أبل وهب له دينارين فصرفه) .
ومما حكاه عبد اللطيف عن أمين الدولة وكأنه قد تجاوز في هذه الحكاية قال: (وكأن أمين الدولة لا يقبل عطية إلا من خليفة أو سلطان فعرض لبعض الملوك النائية داره مرض مزمن فقيل له: ليس لك إلا ابن التلميذ وهو لا يقصد أحداً. فقال: أنا أتوجه إليه. فلما وصل أفرد له ولغمانه دوراً وأفاض عليه من الجرايات قدر الكفاية ولبث مدة. فبرئ الملك وتوجه إلى بلاده وأرسل إليه مع بعض التجار أربعة آلاف درهم وأربعة تخوت عتابي وأربعة مماليك وأربعة أفراس. فامتنع من قبولها وقال: أن علي يميناً أن لا أقبل من أحد شيئاً. فقال التاجر: هذا قدر كبير. فقال: (أنا لما حلفت لم أستثن) . وأقام شهراً يراوده وهو لا يزداد إلا غباءً ونأياً. فقال له عند الوداع: ها أنا أسافر ولا ارجع إلى صاحبي وأتمتع بالمال فتقلد منته وتفوتك منفعته ولا يعلم أحد أنك رددته. فقال: ألست أعلم في نفسي أني لم أقبله فنفسي تشرف بذلك علم الناس أو جهلوا) .
وكان ابن التلميذ مع سمو فضله حسن السمت وافر الوقار كثير التواضع. وجرى له مناقشات مع أحد حكماء زمانه أبي البركات هبة الله بن علي بن ملكا وكان يهودياً فأسلم وكان معروفاً بالصلف والكبرياء على خلاف ابن التلميذ فقال البديع الاسطرلابي فيهما:
أبو الحسن الطبيب ومقتفيه ... أبو البركات في طرفي نقيض
فذاك من التواضع في الثريا ... وهذا بالتكبر في الحضيض
ووصف أبو سعيد بن أبي سهل البغدادي ابن التلميذ فقال: (رأيت أمين الدولة ابن التلميذ فاجتمعت به وكان شيخاً ربع القامة عريض اللحية حلو الشمائل كثير النادرة (قال) وكان يحب صناعة الموسيقى وكان يميل إلى أهلها) .
وله أخبار كثيرة تدل على براعته في الطب رويناها سابقاً في المشرق.(9/317)
(آدابه وتآليفه) ذكر شهاب الدين العمري سعة معارف ابن التلميذ في كتاب مسالك الأبصار في أخبار ملوك الأمصار (نسخة المكتبة الخديوية ص 336) قال في طبقات الأطباء: (ومنهم أمين الدولة ابن التلميذ فرد زمانه، وند وف أقرانه، وبلغ بعلمه مبالغ الأشراف، ووصل في فهمه حد الإشراف، وكان يتكلم في مجالس الخلفاء منبسطاً، يتقدم في مجال السؤال للضعفاء متوسطاً، لسابقة خدمه، وباسقة صنعه في بيت الإمامة دون باقي خدمه، ولما تجلت به شيمه من مآثر، وحلت بأدبه مما لا يقدر عليه مكاثر، حتى كان يناظر جلة الفقهاء، وجملة أهل العلم سوى السفهاء، ويفرس الأدباء، ويفرش لمواطئه الأطباء، ويضرب بقلمه عصا ابن البواب، ويطرف طرف طرسه مقلة ابن مقلة بفاضل الجلباب، وهو على دينه المخالف يكره الصدور، ويجره جرة (كذا) البدور.
قال ابن أبي أصيبعة (259: 1) : (كان ابن التلميذ جيد الكتابة يكتب خطاً منسوباً وقد رأيت كثيراً من خطه وهو في غاية الحسن والصحة وكان خبيراً باللسان السرياني والفارسي متبحراً في اللغة العربية ... ز وكان يترسل وله ترسل كثير جيد وقد رأيت له من ذلك مجلداً يحتوي على إنشاء ومراسلات ... ) ثم ذكر (ص 276) عدة تآليف صنفها في الطب لا يزال بعضها في خزائن الكتب الشرقية كاقراباذينه ورسالته في الفصد والإقناع والمقربات. وقد وجدنا له في مكتبة الكلدان في ديار بكر سنة 1895 رسالة لطيفة في إثبات عقائد الدين المسيحي سنعود إليها إن شاء الله. وله الرسالة الأمينية كتبها إلى ولده وكان يعرف برضى الدولة أبي نصر قال ابن أبي أصيبعة (260: 1) : (ولم يكن مدركاً لصناعة الطب وكان في سائر أحواله بعيداً عما كان عليه والده) وقال (ص 264) : _خلف ابن التلميذ نعماً كثيرة وأموالاً جزيلة وكتباً لا نظير لها في الجودة فورث جميع ذلك ولمدة وبقي مدةً ثم أنه خنق في دهليز داره وأخذ ماله ونقلت كتبه على اثني عشر جملاً إلى دار المجد بن الصاحب وكان ابن أمين الدولة قد ألم قبل موته) .
(شعره) قال ابن أبي أصيبعة (259: 1) : (ولابن التلميذ شعر مستظرف حسن المعاني إلا أنه أكثر ما يوجد له البيتان أو الثلثة وأما القصائد فلم أجد له منها إلا القليل) وقد نظمه العماد الصبهاني في كتابه خريدة القصر في جملة الشعراء وقال عنه: (كان من أكبر كتاب النصارى له أبيات أفراد كلها فرائد وكلمات وافية رائقة، شافية شائقة) وقال صاحب كتاب أخبار الملوك ونزهة المالك والمملوك في(9/318)
طبقات الشعراء فوصف نظمه بقوله: (إن شعره كثير الملح) ودونك بعض ما وقفنا عليه من ذلك نفصله أبواباً.
(له في المديح) ما كتب به في صدر رسالة إلى جمال الدين أبي الفتح بن الفضل بن صاعد جواباً (من الكامل) :
ما نشر أنفاس الرياض مريضةً ... عوادها ظل الندى وقطار
كفلت بثروتها مؤبدةً بها ... وكفى صداها جدول مدرار
بكت السماء فأضحكتها مثل ما ... أضحك فتضحك بي الغداة نوار
وإذا تعارضها ذكاء تشعشعت ... فتمازج النوار والنوار
مشت الصبا بفروعها مختالةً ... فصبا المشوق وغيره استعبار
وإذا تغنى الطير في أرجائها ... أبدى بلابل صدرها التذكار
يوماً بأطيب من جوارك شاهداً ... أو غائباً تدنو بك الأخبار
وكتب إلى الوزير سعد الملك نصير الدين (من البسيط) :
لا زال جدك بالإقبال موصولا ... وجد ضدك بالإذلال مغلولا
ولا عدمت من الرحمان موهبةً ... تعيد ربعك بالعافين مأهولا
فنعم منطلق الكفين أنت إذا ... أضحى اللئيم عن المعروف مغلولا
تجود بالمال لم تسال يداه وإن ... تسأل فصاحته بذ الورى قيلا
لا يستريح إلى العلات معتذراً ... إذا الضنين رأى للبخل تأويلا
يبادر الجود سبقاً للسؤال يرى ... تعجيله بعد بذل الوجه تأجيلا
لا غرو أن كسفت شمس الضحى وبدت ... فأكثر الناس تقبيحاً وتهليلاً
فأنت سيف غياث الدين أغمده ... صوناً وعاد على الأعداء مسلولا(9/319)
فما يليق بغير السعد مسنده ... وإن أعاروه إعظاماً وتبجيلا
فاسم على الدهر في نعماء صافية ... من النوائب مرهوناً ومأمولا
ومن ظريف قوله في شريف كان يتواضع (من الطويل) :
تواضع كالبدر استنار لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيع
ومن دونه يسمو إلى المجد صاعداً ... سمو دخان النار وهو وضيع
وقال يمدح موفق الدين أبا طاهر الحسين بمن محمد. وكان ابن التلميذ دخل مدينة ساوة واشتغل في خزانة كتبها التي أوقفها موفق الدين على المدينة (من المنسرح) :
وفقت للخير إذ عممت به ... طلابه يا موفق الدين
أولفت للناس جنةً جمعت ... عيون فضل أشهى من العين
فيها ثمار العقول دانية ... قطوفها حلوة الأفانين
لا زلت تسمو بكل صالحة ... بمسعدي قدرة وتمكين
ويرحم الله كل مستمع ... مشيع دعوتي بتأمين
وله (في الشكر والتهاني والهدايا) قال يشكر مستوفي الممالك العزيز أبا نصر ابن حامد (من الطويل) :
لعمر أبيك ليس بواحد ... من الناس إلا حامداً لابن حامد
كأنهم دانوا الإله بشكرهم ... علاه ولكن لا كشكر ابن صاعد
هم خبروا عنه فأثنوا بصالح ... وعندي بما أثنيت خير المشاهد
ومن تهانئه قوله يهنئ بخلعة (من الوافر) :
لئن شرفت مناسبها وجلت ... لقد زفت إلى كفء شريف(9/320)
إلى من زانها وازدان منها ... كسالفة المليحة والشنوف
وأهدى الوزير ابن صدقة كتاب المحاضرات للراغب وكتب معه (من الكامل) :
لما تعذر أن أكون ملازماً ... لجناب مولانا الوزير الصاحب
ورغبت في ذكري بحضرة مجده ... أذكرته بمحاضرات الراغب
وكان أبو القاسم بن الفضل عتب على ابن التلميذ في أمر فأجابه خالعاً عليه قميصاً مصمتاً أسود وكان السواد من أعلام الدولة العباسية (من الطويل) :
أحبك في السوداء تسحب ذيلها ... خطيباً ولكن لا بذكر مثالي
وقال أيضاً يسترضيه (من الطويل) :
أتاني كتاب لم يزدني بصيرةً ... بسؤدد مهديها إلي وفضله
فقلت وقد أخجلتني بابتدائه: ... أبى الفضل إلا أن يكون لأهله
وله (في الرثاء) قال في رئيس مات في يوم ممطر (من الكامل) :
كم ذا الوقوف على غرور أماني ... أأخذت من دنياك عقد أمان
هل عيشة بعد الرضا مرضية ... كلا ولو كانت خلود جنان
إن السماء بفقده لحزينة ... فرياحها نفس الكئيب العاني
الغيث أدمعها وما برقت به ... نار الجوى والرعد للإرنان
لو ذاق فقدك من يلوم على البكا ... لزرى على التنسيم والسلوان(9/321)
تبعوك إذ صلوا عليك ولم تزل ... كالنجم تهديها بكل مكان
لا يبعدنك وما البعيد بمن نأى ... حياً ولكن البعيد الداني
وقال يرثي صاحب الحلة الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس لما قتل سنة 501هـ (1107م) في واقعة كانت بينه وبين عسكر السلطان محمد شاه. وكان هذا الأمير على ما وصفه ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة كريماً عفيفاً عن الفواحش وكانت داره ببغداد حرماً للخائفين ولم تيزوج غير امرأة واحدة وكانت سيرته مشكورة وخصائله محمودة إن سلم من مذهب أهل الحلة فإن أباه كان من كبار الرافضة) وهذا رثاء أمين الدولة فيه (من الطويل) :
ليبك ابن منصور عفاة نواله ... إذا عصفت بالريح نكباء حرجف
ويذكرهم من ردهم بعبوسه ... فتى كان يلقاهم ببشر ويسعف
ولما سما فوق السماء بهمة ... يغض لها طرف الحسود ويطرف
رمته الليالي بل رمتنا برزئه ... كبدر الدجى في ليلة التم يخسف
عليك سلام لا تزال قلوبنا ... على حزن ما هبت النيب توقف
ولا برحت عين السماء بوبلها ... على جدث وأراك تهمي وتذرف
ولابن التلميذ أقوال حسنة (في الفكاهات واللطائف) منها وصفه لزجاجيته (من مجزوء الكامل) :
بزجاجتين قطعت عمري ... وعليهما عولت دهري(9/322)
بزجاجة ملئت بحبر ... وزجاجة ملئت بخمر
فبذا أثبت حكمتي ... وبذا أزيل هموم صدري
ومن قوله في شرب الخمرة (من الرجز) :
كأس يطفي لهب الأوام ... ثان يعين هاضم الطعام
وللسرور ثالث المدام ... والعقل ينفيه مزيد جام
ومن لطائفه ما قاله ليكتب على حصير (من الكامل) :
أفرشت خدي للضيوف ولم يزل ... خلقي التواضع للبيب الأكيس
فتواضعي أعلى مكاني بينهم ... طوراً فصرت أحل صدر المجلس
وقال في مسند الرأس (من الخفيف) :
رب وصل شهدته فتمتعت ... عناقاً بالعاشقين جميعا
وجداني للود أهلاً وللسر=مكاناً وللصديق مطيعا وله في مجمرة البخور (من المتقارب) :
إذا الهجر أضرم نار الهوى ... فقلبي يضرم للهجر نارا
أبوح بأسراري المضمرا ... ت تبدو سراراً وتبدو جهارا
إذا ما طوى خبري صاحب ... أبى طيب عرفي إلا انتشارا
وقال فيها بمعناه (من الخفيف) :(9/323)
كل نار للشوق تضرم بالهجر ... وناري تشب عند الوصال
فإذا الصد راعني سمكن الوجد ... ولم يخطر الغرام ببالي
ومثله في المجمرة أيضاً (من مجزوء الكامل) :
يشكو المحبون الجوى ... عند التفرق والزيال
وأشد ما أصلى بنا ... ر الشوق أوقات الوصال
وقال أيضاً يصفها (من المنسرح) :
رب حمىً لا ترام عزته ... أبحته النفس غير محجوب
يبدي عياني لمن تأملني ... نار محب ونشر محبوب
ومن لطائفه يصف مغسل الشرب (من الطويل) :
إذا ما خطبت الود بين معاشر ... فكن لهم مثلي تعد أخا صدق
إذا استأثروا من كل كأس بصفوها ... رضيت بما أبقوه من مشرب رنق
ومما أخبره ابن أبي أصيبعة (274: 1) أن ابن التلميذ عالج في مرضه الرئيس أبا القاسم علي بن أفلح الكاتب فلما نقه من مرضه وكان ابن التلميذ فرض عليه الحمية فكتب له أبو القاسم يطلب منه أن يأذن له بأكل الخبز:
أنا جوعان فأنقذ ... ني من هذي المجاعة
فرجي في سكرة الخبز ... ولو كانت قطاعه
لا تقل لي: ساعةً تصبر ... ما لي صبر ساعة
فخواي اليوم ما يقبل ... في الخبز شفاعة(9/324)
فأجابه ابن التلميذ (من الرمل) :
هكذا أضياف مثلي ... يتشكون المجاعة
غير أني ليس عندي ... لمضر من شفاعه
فتعلل يسويق ... فهو خير من قطاعه
بحياتي قل: كما تر ... سمه وطاعه
ومما رواه ابن ظافر الأزدي في كتابه بدائع البدائه (ص 54) قال: أخبرني القاضي السعيد أبو قاسم هبة الله بن سناء الملك رحمه الله قال: أخبرني الجليل الوافد من العراق على الدولة المصرية قال: اجتمعت في بعض الأيام بأمين الدولة أبي الحسن هبة الله بن صاعد بن التلميذ فأخذت في ذم الدهر وإخنائه على أهل الفضل وإذا بكلاب صيد التي برسم الخليفة قد أبرزت في جلال الوشي والديباج فحرك ذلك ما كنا نتجاذب أهدابه في ذم الدهر فقلت (من الرجز) :
من كان يلبس كلبه ... وشياً ويقنع لي بجلدي
فاستجزته فقال وأجاد:
الكلب خير عنده ... مني وخير منه عندي
ولابن التلميذ (هجو) قليل فمن ذلك ما هجا به الطبيب أوجد الزمان أبا البركات اليهودي الذي أسلم وكان تعين معه في خدمة الخليفة المستضيء بالله قال ابن أبي أصيبعة (260: 1) : (إن أوحد الزمان كان قد كتب رقعة يذكر فيها عن ابن التلميذ أشياء يبعد جداً أن(9/325)
تصدر عن مثله ووهب لبعض الخدم شيئاً واستسره أن يرميها في بعض طرق الخليفة من حيث لا يعلم بذلك أحد (وهذا مما يدل على شر عظيم) وأن الخليفة لما وجد تلك الرقعة صعب عليه جداً في أول أمره وهم أن يوقع بأمين الدولة ثم إنه بعد ذلك رجع إلى رأيه وأشير عليه أن يبحث ويستأصل عن ذلك وأن يستقر من الخدم من يتهمه بهذا المعنى. ولما فعل ذلك انكشف له أن أوحد الزمان كتبها للوقيعة بابن التلميذ فحنق عليه حنقاً عظيماً ووهب دمه وجميع ماله وكتبه لأمين الدولة ابن التلميذ. ثم إن أمين الدولة كان عنده من كرم الطباع وكثرة الخيرية أنه لم يتعرض له بشيء وبعد أوحد الزمان بذلك عن الخليفة وانحطت منزلته. ومن مطبوع ما لأمين الدولة فيه قوله (من البسيط) :
لنا صديق يهودي حماقته ... إذا تكلم تبدو فيه من فيه
يتيه والكلب أعلى منه منزلةً ... كأنه بعد لم يخرج من التيه
وقال ابن التلميذ في ولده وكان في سائر أحواله بعيداً عما كان عليه والده (من المنسرح) :
أشكو إلى الله صاحباً شكساً ... تسعفه النفس وهو يعسفها
فنحن كالشمس والهلال معاً ... تكسبه النور وهو يكسفها
وفيه قال يؤنبه (من الكامل) :
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه ... واراه أسهل ما عليك يضيع
وقال يهجو صديقاً اسمه سعيد خانه (من السريع) :
حبي سعيداً جوهر ثابت ... وحبه لي عرض زائل
به جهاتي الست مشغوفة ... وهي إلى غيري بها مائل
وروى له محمد بن خضر الحلبي يهجو الوزير الدركزيني (من مجزوء الكامل) :(9/326)
والله لو حكمت فيه ... جعلته يرعى البقر
وقال فيه (من مجزوء الكامل) :
قال الأنام وقد رأو ... هـ مع الحداثة قد تصدر
من ذا المجاوز قدره ... قلت: المقدم للمؤخر
ومثله في رجل قليل الوفاء (من مجزوء الكامل) :
قد قلت للشيخ الجليل ... الأريحي أبي المظفر
ذكر فلان الدين بي ... قال: المؤنث لا يذكر
وقال يهجو آخر المسمى حيدراً (من الكامل) :
مذ صار حيدر بيدق الصدر ... ومشيره في النهي والأمر
والمستناب على نيابته ... أيقنت أن العجز في الصدر
وقال يهجو إنساناً بالعين (من المنسرح) :
مدور الكعب فاتخذه ... لتل غرس وثل عرش
لو رمقت عينه الثريا ... أخرجها في بنات نعش
وله أيضاً في شقي يخاف الهجو (من السريع) :
يا خائف الهجو على نفسه ... كن في أمان الله من مسه
أنت بهذا العرض بين الورى ... مثل (القذى) يمنع من نفسه
ومن أقوال أمين الدولة (في الشوق) ما رواه الصفدي في شرح لامية العجم (147: 1) (من المنسرح) :(9/327)
عاتبت إذا لم يزر خيالك والنوم ... بشوقي إليه مسلوب
فزارني منعماً وعاتبني ... كما يقال المنام مقلوب
وقال بمعناه (من البسيط) :
يا دار لا تنكري مني التفات فتىً ... فراق أحبابه أجرى مدامعه
عهدت فيك قميراً كان يؤنسني ... حيناً فعيناي تستقري مطالعه
وله يتشوق إلى أصحابه في بغداد (من الطويل) :
على ساكني بغداد مني تحية ... تحملها ريح الشمال إليهم
تخبرهم أني صحبت معاشراً ... سواهم فأبكاني الزمان عليهم
ومثله (من الطويل) :
خليل نأى عني فبدلت بعده ... مقيم الجوى من صفو عيش وطيبه
أغار عليه صرف دهر فغاله ... وعما قليل سوف يلحقني به
وله في الشوق أيضاً (من المنسرح) :
لا تعجبوا من حنين قلبي ... إليهم واعذروا غرامي
فالقوس مع كونها جماداً ... تئن من فرقة السهام
وكذلك قال يتشوق من السريع) :
كيف ألف العيش في بلدة ... سكان قلبي غير سكانها
لو أنها الجنة قد أزلفت ... لم أرضها إلا برضوانها(9/328)
وكان جمال الدين أبو القاسم بن أفلح كتب يعرب عن شوقه لابن التلميذ:
إني وحقك منذ ارتحلت ... نهاري حنين وليلي أنين
وما كنت أعرف قبل امرأ ... بجسم يقيم وقلب يبين
يقول الخلي إذا ما رأى ... ولوعي بذكراك لا يستكين
تسل. فقلت: دهاك الفراق ... أتدري جوى البين أين يكون
وكيف السبيل إلى سلوتي ... وحزني وفي وصبري خؤون
فكتب أمين الدولة في جوابه (من المتقارب) :
وإني وحبك مذ بنت عنك ... قلبي حزين ودمعي ع
هتون
وأخلف ظني صبر معين ... وشاهد شكواي دمع معين
فلله أيامنا الخاليا ... ت لو رد سالف دهر حنين
وإني لأرعى عهود الصفاء ... ويكلأها لك ود تصون
وأحفظ ودك عن قادح ... وود الأكارم علق ثمين
ولم لا يكون ونحن اليدا ... ن أنت بفضلك منها اليمين
إذا قلت: أسلوك. قال الغرا ... م: هيهات ذلك ما لا يكون
وهل لي في سلوة مطمع ... وصبري خؤون وودي أمين
ونظم أيضاً ابن التلميذ (في الغزل) اللين بحسن الذوق كقوله (من المتقارب) :
لسيف جفونك فضل على ... مواضي السيوف التي في الجفون
فتلك مع القتل لا تستطيع ... رجع النفوس بدفع المنون(9/329)
وعيناك يقتلني شزرها ... وأحيا بإيماضها في سكون
وقوله بمعناه (من الكامل) :
تمت محاسنه سوى كلف ... حلو المواقع زانه بشر
وسموا به لألاء غرته ... عمداً ليعلم أنه بدر
وله في وصف الخال (من البسيط) :
لا تحسبن سواد الخال عن خلل ... من الطبيعة أو إحداثه غلط
وإنما قلم التصوير حين جرى ... بنون حاجبه في خده نقطا
ومن غزله (من الكامل) :
يا من لبست عليه أثواب الضنا ... صفراً مشهرةً بحمر الأدمع
أدرك بقية مهجة لو لم تذب ... شوقاً إليك نفيتها من أضلعي
ومنه (من الخفيف) :
أنت شغلي في كل حال فنومي ... بخيال ويقظتي بأذكار
طال ليلي بطول هجرك لا دا ... م وشوقي إلى الليالي القصار
وقال أيضاً (من الخفيف) :
لا تظنن تخلفي لملال ... أنت من خوف سلوتي في أمان
رب هجر يكون أدعى إلى الوصل ... ووصل أدعى إلى الهجران
وهذه (حكم ابن التلميذ) وكلها لطيفة مصيبة. قال يصف أواخر حياة الشيخ (من المتقارب) :(9/330)
إذا وجد الشيخ في نفسه ... نشاطاً فذلك موت خفي
ألست ترى أن ضوء السراج ... له لهب قبل أن ينطفي
وقال في العلم وأسبابه (من المتقارب) :
سق النفس بالعلم نحو الكمال ... تواف السعادة من بابها
ولا ترج ما لم تسبب له ... فان الأمور بأسبابها
وقال في انحجاب الحقيقة عن النفس (من البسيط) :
لولا حجاب أمام النفس يمنعها ... عن الحقيقة فيما كان في الأزل
لأدركت كل شيء عز مطلبه ... حتى الحقيقة في المعلول والعلل
وقال في تأثير العلم في العاقل وفي الجاهل (من الكامل) :
العلم للرجل اللبيب زيادة ... ونقيصة للأحمق الطياش
مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نوراً ويغشي أعين الخفاش
وما أظرف قوله في تواضع الشريف (من الطويل) :
إذا كنت محموداً فإنك مرمد ... عيون الورى فاكحلهم بالتواضع
ومن قوله في حذر العدو الصغير (من البسيط) :
لا تحقرن عدواً لأن جانبه ... ولو يكون قليل البطش والجلد
فالمذبابة في الجرح الممد يد ... تنال ما قصرت عنه يد الأسد
وقال يصف الكريم واللئيم (من المنسرح) :
نفس الكريم الجواد باقية ... فيه وإن مس جلده العجف(9/331)
والحر حر وإن ألم به ال ... ضر ففيه العفاف وألنف
والنذل لا يهتدي لمكرمة ... لأن ذاك المزاج منحرف
فالقطر سم إن احتواه فم ال ... صل ودر إن ضمه الصدف
وله في الشباب والشيب (من المنسرح) :
قالوا شباب الفتى خؤون ... والشيب واف فليس يرحل
فقلت: أبعدتم قياساً ... ذاك حبيب وذا موكل
ومن قوله في من يرى عيوب غيره دون عيب نفسه (من الكامل) :
وأرى عيوب العالمين ولا أرى ... عيباً لنفسي وهو مني أقرب
كالطرف يستجلي الوجوه ووجهه ... منه قريب وهو عنه معزب
وقال في آخر عمره (من الكامل) :
كانت بلهنية الشبيبة سكرةً ... فصحوت واستأنفت سيرة مجمل
وقعدت ارتقب الفناء كراكب ... عرف المحل فبات دون المنزل
وقال في تحامل الدهر على الضعفاء (من الوافر) :
أجدك إن من شيم الليالي ... العنيفة أن تجور على اللهيف
كمثل الخلط أغلب ما تراه ... يصب أذاه في العضو الضعيف
وقال يصرف النفس عن الملاذ (من المجتث) :
قد كنت اعتد حيناً ... لقياك أنفس ربح
فقد بدت عن يلو ... سماء عقلي بنصح
مالي أهيم بحسن ... يكون علة قبحي(9/332)
وقال في العزم والجد (من السريع) :
واظب على الحد ولا تنخدع ... بالهزل إن ساعدك الجد
ولا تقل أن له موضعاً ... فالهزل في موضعه جد
ولابن التلميذ بعض (الألغاز) كخاله أبي الفرج منها قوله في سحاب (من الرجز) :
وهاجم ليس له من عدوى ... مستبدل بكل مثوىً مثوى
بكاؤه وضحكه في معنى ... إذا بكى أضحك أهل الدنيا
وألغز في الميزان فأجاد (من الرجز) :
ما واحد مختلف الأهواء ... يعدل في الأرض وفي السماء
يحكم بالقسط بلا رياء ... أعمى يري الرشاد كل رائي
أخرس لا من علة وداء ... يغني عن التصريح بالإيماء
يجيب أن ناداه ذو امتراء ... بالرفع والخفض عن النداء
يفصح أن علق في الهوا
وله لغز في الدرع (من الطويل) :
وبيضاء لا للبيض والسمر قدها ... تظاهر في تقويمها الحر والبرد
تجلت لنا حباً ولم تجر في رحاً ... ولكن تولاه لها الرق والبرد
وقيت بها نفسي فكانت كأنها ... هي الشمس محجوباً بها الكوكب الفرد
وألغز في الإبرة كأبي الفرح فقال (من الطويل) :
وكاسية رزقاً سواها يجوزه ... وليس لها حمد عليه ولا أجر(9/333)
مفرقة للشمل والجمع دأبها ... وخادمة للناس تخدمها عشر
إذا خطرت جرت فضول ذيولها ... سجية ذي كبر وليس بها كبر
ترى الناس منها يلبسون الذي نضت ... تعمهم جوداً وليس لها وفر
لها البيت بعد العز غير مدافع ... إلى بأسه تعزى المهندة البتر
أضر بها مثلي نحول بجسمها ... وإن لم يرعها مثل ما راعني هجر
ولابن التلميذ مقاطيع غير هذه فاكتفينا بما سبق ذكره. ولعله وقع أيضاً بعض اختلاط بين ما روي له وما روي لأبي الفرج خاله فإن بعض ما ذكرناه للثاني يروى في كتب أخرى للأول والعكس بالعكس. وما لا ريب فيه أن كليهما امتاز بالنثر والنظم وإنما اتسع الرواة بذكر هبة الله وكان أقرب إليهم زماناً وأوسع شهرةً وقد مدحه كثيرون من الشعراء ورثوه بعد موته. فمن ذلك دالية للسيد النقيب الكامل ابن الشريف الجليل رواها ابن أبي أصيبعة (265: 1) أولها:
أمين الدولة أسلم للأيادي ... على رغم المناوي والمعادي
ثم روى قصيدة للشريف أبي يعلي محمد بن الهبارية الشهير يقول في مدحه:
شمس مجد لا تراها أبداً ... عن سموات العلى منكسفة
جل إن يدرك وصفاً مجده ... أنه أكبر من كل صفة
غدت الدنيا ومن فيها معاً ... لعلاه بالعلى معترفه
وقال أثير الدين أبو جعفر عبد الله يرثيه:
فقد الطبيب فليس يوجد صحة ... الموجود منا بعد ذا المفقود
وروي غير ذلك لابن إسماعيل الطغرائي ولابن جكينا وللبديع الاصطرلابي ولأبي القاسم هبة الله بن المفضل ما يعرب عن سمو منزلة ابن التلميذ واعتباره لدى أعيان زمانه وأدبائهم.(9/334)
30- محفوظ النيلي
(اسمه ونسبه ودينه وزمانه) هو الحكيم أبو العلاء محفوظ ابن المسيحي بن عيسى النصراني النيلي الطبيب والأديب الشاعر. كان من أهل العراق ونسبته إلى النيل وهي بلدة على الفرات في سواد الكوفة بين الكوفة وبغداد. وقد عرف أيضاً بالواسطي لأنه كان نزيل مدينة واسط يسكنها فنسب إليها. أما زمانه فإنه كان في أواسط القرن السادس للهجرة والثاني عشر للميلاد.
(علمه وأدبه) قال فيه جمال الدين القفطي في تاريخ الحكماء (ص 327-328) : (كان محفوظ طبيباً فاضلاً نبيلاً مذكوراً في وقته عالماً بصناعة الطب مرتزقاً بها جميل المشاركة محمود المعالجة. وله مع ذلك أدب طري، وخاطر في النظم سري، وكان موجوداً بالعراق سنة 559 (1164م) .
وقد عرفه عماد الأصفهاني وذكره في خريدة القصر وجريدة العصر قال: (الحكيم أبو العلاء محفوظ سكن واسط وعرف بها واكتسب بالطب. وكان فاضلاً عالماً مرضي الصنعة في مداواة المرضى مستقيم الرأي في تسقيم السقيم. لم يزل يتردد إلي مدة إقامتي بواسط أستطبه، وأجد بمنة الله بطبه من الصحة ما أستحبه، وكان لهجاً بالإلغاز، ولما يسمعه من ذلك شديد الإهتزاز، واشعاره فيه مستقيمة الصدر وسليمة الأعجاز، توفي في أوائل سنة ستين وخمسمائة (1165م) وكان قبل ذلك بأشهر قريبة يجتمع بنا ونتذاكر ما قيل في اللغز) .
ومما ذكره ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء (ص 217-218) أن علي بن هبة الله الأثردي شرح كتاب دعوة الأطباء لابن بطلان وألفه لأبي العلاء محفوظ.
(أشعاره) لم نقف لمحفوظ على شعر إلا ما رواه عنه عماد الدين الأصفهاني في الألغاز: قال: مما أنشد فيه لنفسه بواسط في عاشر شوال سنة تسع وخمسين (وخمسمائة) لغز في العقل (من المنسرح) :(9/335)
ما حاضر ما يرى له شخص ... فإنه في اختفائه لص
يضيء في البيت كالسراج وقد ... يشوب وقتاً ضياءه غمص
يبين نقصائه وليس له ... رجحان كمية ولا نقص
لكنه عادل يميل وما ... رأيت ميلاً بالعدل يختص
يهزم جيش الخطوب مقتدراً ... وقد يرى أثه عاجز نكص
أعوانه عدة ثمانية ... بهم ينم الضلال والفحص
فهو كنوح في الفلك يستتر ... وهم كأصحابه إذ أحصوا
فقد كشفت الغطاء مجتهداً ... حتى بدا من ظهوره نفص
وألغز في النار وارتفاع لهيبها عن الأرض (من السريع) :
ما صورة كونها ربها ... من عالم الجنة والإنس
فأصبحت للإنس معشوقةً ... تهدي إليهم لذة النفس
فما لها من بعدها رجعة ... إلى مقر الوصل والأنس
فما هي يا من غدا عالماً ... يحل ما يلغز في الطرس
قال العماد وأنشدني محفوظ في الإلغاز لنفسه بالرمانة بمعنى الثمرة والقبان (من الرجز) :(9/336)
يا عالماً يستفهم ... عن كل ما يستبهم
ما حامل عذراء لم ... تزن ولا تتهم
أولادها في جوفها ... تحت الضلوع جثم
كل له من تربها ... عليه ثوب يقسم
شفاهها كثيرة ... فأعلم وأخرم
لكن لها فرد فم ... ورأسها هو الفم
من الجنان أخرجت ... وللجحيم تسلم
وما أتت جريمةً ... ومثلها لا يجرم
بل فضلها عند الأنا ... م ظاهر يغتنم
أمثالها بينهم ... لها صفات تعلم
فالبعض منها حاكم ... يعدل فيما يحكم
والبعض منها في الصدو ... ر جالس يحتشم
كل يرى حقوقه ... عليه فرضاً يلزم
ومن شهير أمرها ... إذ مثله لا يكتم
إن بها يشقى السقيم ... والنديم ينعم(9/337)
وقد كشفت سرها ... وعند هذا أختم
قال العماد. وأنشدني أيضاً لنفسه في واسط رابع ذي القعدة سنة 559 ملغزاً في آلة الطرب المعروفة بالناي (من الوافر) :
ومملوك رشيق القد ألمى ... به تلهو وتبتهج النفوس
صموت ناطق أرق نؤوم ... عجيب شخصه شخص نفيس
ويوحش ذكره ربع التصابي ... ولولاه لما أنس الجليس
له رأس يخالف منه جسماً ... بلا رجل ففسر ما تقيس
إذا ما بان عنه ظل ميتاً ... وإما عاد عاوده الحسيس
يئن أنين صب مستهام ... مشوق قد نأى عنه أنيس
وليس بذي صبايات ليهوى ... ولكن الهوى (الهوا) فيه حبيس
وله معمىً في غلام اسمه سعيد (من الوافر) :
وذي غنج علقت هواه بلوى ... فبلبلني بطرف بابلي
له اسم ضد حالي في هواه ... ففتشه تجده بغير عي
إذا أسقطت حرفاً منه يوماً ... فذاك يوم أفراح وزي
وإن أسقطت ثانيه إتباعاً ... غدا مولىً لعبد أو ولي
وإن أسقطت ثالثه اختيراً ... يصير اسماً لعبد أرمني(9/338)
وإن أسقطت رابعه اضطراراً ... أتى نوع من المشي الوحي
فإن تك ذا حجىً وأخا أحاج ... ففسر يا أخا القلب الذكي
وألغز في المسمى كمالاً (من السريع) :
ذا مالك رقي هواي له ... من اسمه في البيت منظوم
تهجه واجعل له أولاً ... آخره فالاسم مفهوم
قال العماد الأصفهاني: وكان لمحفوظ بن المسيحي عندي رسم في كل سنة يصل إليه من الحنطة فكتب إلي يلغز بها ويطلب الرسم (من الوافر) :
عماد الدين دعوة مستفيد ... لأنك كاشف عن كل دين
فما صفراء كالذهب المصفى ... ولون لبابها لون اللجين
محببة إلى الأرواح طراً ... بها تقوى النفوس بغير مين
لها اسم نصفه شعب قديم ... كما زعموا بإحدى الأمتين
ونصف جاء في القرآن نصفاً ... لأول سورة بقراءتين
لها وقت تداس بكل رجل ... ووقت فيه ترفع باليدين
أجب عنها وجد بالرسم معها ... وقاك الله آفة كل عين
وأخبر العمال قال: كنت نظمت لغزاً في كوز الفقاع وهو الشراب الذي يتخذ من الشعير وأنشدته أبا العلاء محفوظاً فأثبته وأتى بجوابه. وهذه هي الأبيات التي لي:(9/339)
ما صورة ما مثلها صورة ... كأنها في العمق مطمورة
تمطر للري ومن ذا رأى ... مطمورة للري مطمورة
منكوحة ما لم تضع حملها ... مسدودة الأنفاس محسورة
محرورة القلب ولكنها ... مضروبة بالبرد مقرورة
كأنما النار بأحشائها ... على اشتداد البرد مسجورة
تظل ملقاةً على رأسها ... خمارة تحسب مخمورة
معارة الهامة من غيرها ... قصيرة القامة ممكورة
كأنها رأس بلا جثة ... موصولة إن شئت مبتورة
كهامة صلعاء محلوقة ... ما استعملت موسىً ولا نوره
زامرة في فمها زمرها ... وهي بغير الزمر مشهورة
دوارة إن أنت أرسلتها ... مهتوكة الأستار مستورة
من فضها تبصق في وجهه ... كأنها بالفحش مأموره
تورث تعبيساً لمن باسها ... وهي على ذلك مشكورة
معسولة ريقتها مزة ... مرسلة بالهضم منصورة
إن عقلت قرت وإن أنشطت ... فزت وثارت منك مذعورة
كم عسل ذاقت وكم سكر ... وأنعم ليست بمكفورة
ملمومة من صخرة صلدة ... فاجرة الماء ومفجوره
من الصفا جسم ولكن ترى ... على صفاء الماء تاموره
فيا حليف المأثرات التي ... أضحت لأهل الفضل مشهورة
أنعم وعجل حل أشكالها ... فهي لدى فضلك مأسورة
أجاب محفوظ النيلي (من الرجز) :
يا ذا الذي أعرب إلغازه ... عن فطنة بالعلم مغموره
إن التي أطبت في وصفها ... حتى اغتدت في الناس مشهوره(9/340)
صغيرة الجثة دحداحة ... باردة الملمس محروره
تعذبت في النار حتى إذا ... ماتت غدت في الثلج مقبوره
محبوبة المخرج لكنها ... منكوحة ليست بمستوره
إن فضها الناكح مقهورةً ... فاضت بماء فيض مخموره
أو بصقت في وجه مفتضها ... فإنها في ذاك معذوره
لأنها تسقيه خمراً بها ... يحلل المخمور تخميره
ويصبح الشبعان ذا شهوة ... كلبية بالجوع مذكوره
صورتها تحكي إذا قستها ... مصمغةً بالصمغ مأسوره
فهذه من طينة صورت ... وفي لهيب النار مسجوره
وتلك من جوهرة صلدة ... مذابة بالنار مصهوره
فخذ جوابي ملغزاً مثل ما ... ألغزته في هذه الصوره
وهي لمن يوثر كشفي لها ... فقاعة الفقاع محصوره
31- سعيد النيلي
ولمحفوظ النيلي مواطن نصراني وشاعر مثله من بلدة النيل قرب واسط ذكره ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء قال (253: 1) : (هو أبو سهل سعيد بن عبد العزيز النيلي المشهور بالفضل عالم بصناعة الطب جيد المصنفات متفنن في العلوم الأدبية بارع في النظم والنثر ومن شعره (من الخفيف) :(9/341)
يا مفدى العذار والخد والقد ... بنفسي وما أراها كثيرا
ومعيري من سقم عينيه سقماً ... دمت مضني به ودمت معيرا
إسقني الراح تشف لوعة قلب ... بات مذ بنت للهموم سميرا
هي في الكأس خمرة فإذا ما ... أفرغت في الحشا استحالت سرورا
(قال) وللنيلي من الكتب اختصار كتاب المسائل لحنين. تلخيص شرح جالينوس. كتاب الفصول مع نكت من شرح الرازي.
هذا ولم نجد ذكراً لسعيد النيلي في غير ابن أبي أصيبعة.
32- ابن اصطفانوس الرومي
كان حق هذا الشاعر أن يقدم مع شعراء القرن الخامس للهجرة إلا أننا خدعنا بترجمته المخطوطة خطاً سقيماً فنقلناها على علاتها عن كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب لكمال الدين الحلبي عن نسخة لندن قال: (كان ابن اصطفانس فيلسوفاً شاعراً ولد بالروم ونشأ بأنطاكية وكان ذا هيبة أديباً شاعراً نحوياً فيلسوفاً نظاراً. سافر إلى العراق ولقي به العلماء ولقن من العلوم والآداب ما علا به صيته واشتهر ذكره في الأزمان) . ثم ورد هناك أخبار أخرى ممحوة لقدمها يؤخذ منها أن ابن اصطفانوس أرسل سفيراً إلى خليفة قرأنا اسمه (المستضيء) وظننا أنه الخليفة العباسي الذي تولى الخلافة من السنة 566 إلى 575هـ (1170-1180م) وقرأنا هناك اسم وزيره (علي بن عبد الرحمان البازوري) فاستنتجنا أن ابن اصطفانوس الرومي الشاعر عاش في أواسط القرن السادس للهجرة والثاني عشر للمسيح. فأفادنا جناب عبد الله أفندي مخلص من حيفا أن الوزير المذكور هو (الحسن بن علي بن عبد الرحمان اليازوري (بالياء)) الذي كان وزيراً للخليفة الفاطمي المستنصر بالله في مصر الذي ملك من السنة 427 إلى 487هـ (1935-1095م) وعليه يجب القول أنه وقع غلط في اسم الخليفة العباسي المستضيء بالله. ومنه ينتج أن ابن اصطفانوس عاش في القرن الخامس للهجرة والحادي عشر للمسيح. فنشكر(9/342)
لحناب المراسل أفادته فقد أزال بها ما وقع من الالتباس في النسخة التي أخذنا عنها. وفيها ورد اسم رجل اجتمع به ابن اصطفانوس يدعى (يوسف بن الكفرطابي الذي كان يدرس في كفر طاب) لم نعرف من أمره شيئاً. هذا ما رواه كمال الدين ولم نقف في غيره على أخبار ابن اصطفانوس.
- 33- القس يعقوب المارداني
كان يعقوب المارداني أحد قسوس اليعاقبة السريان ذكره الشيخ المؤتمن أبو إسحاق ابن عسال في جدول كتبة النصارى الذي قدمه على كتابه أصول الدين (ص 28 من نسخة مكتبتنا الشرقية) روى اسمه بعد يحيى بن عدي وعيسى بن زرعة ويحيى بن حريز (ويقال جرير) فقال: (القس الفاضل يعقوب المارداني صاحب دعوة القسوس) .
أما دعوة القسوس هذه فعلى ما يظهر كتاب أدبي روى فيه المؤلف أخباراً أدبية تروى لقسوس النصرانية. وقد جاء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة (243: 1) إن ابن بطلان الذي سبق لنا ذكره هو صاحب دعوة القسوس والمشهور أنه صاحب دعوة الأطباء كما أثبتنا هناك. والقس يعقوب هذا كان من تبعة البدعة اليعقوبية. أما نسبته (المارداني) فأراد بها (ماردين) مدينة الجزيرة الشهيرة وكان الصواب أن ينسب إليها (المارديني) فرواها على صورة شاعت على السنة بعض العامة.
وكنا أيسنا من اكتشاف شيء من كتاب دعوة القسوس حتى السنة 1904 إذا اطلعنا في دار المرحوم الوجيه يارد على مخطوطات قديمة مخرومة كان من جملتها كراس من قطع صغير طوله 18 سنتمتراً في عرض 21س ذي ورق صفيق مصفر لقدمه ينقص أوله ويبلغ 113 صفحة وفي الصفحة 22 سطراً كتب بخط نسخي ناعم ومتقن بحبرين أسود وأحمر يرتقي إلى القرن الثامن عشر. وهو مجموع شعر قديم لشعراء مسلمين بينهم بعض النصارى. ففي الصفحة 103 منه فصل عنوانه (ومما وجد من القصائد والأشعار الخمرية) ذكر فيه بعض الخمريات مترفعاً عن الخمرة المادية إلى ذكر الخمرة الإلهية في سر النصرانية بينها قطع أخذها من كتاب دعوة القسوس قال (ص 105) : هذه خمرية من كتاب دعوة القسوس (من الوافر) :(9/343)
أعاد بنعمة الرب المسيح ... علي بذلك الخمر المليح
لقد غفلت خطوب الدهر عنا ... وقد ظمئت إلى الصهباء روحي
وقد حضرت ومن تهوى فبادر ... ورو جوانحي بدم الذبيح
فلو كانت حراماً ما أبيحت ... لمن يختار شرب دم المسيح
ولا داوى بها رب البرايا ... بلية آدم الملقى الجريح
ولا أوصى الرسول بها جهاراً ... وحلل شربها أمر السليح
وإن أخرت دعوتنا لمعنىً ... أللعذر القبيح أم المليح؟
وتطمع بالزيارة بعد وقت ... لتمحو ما سطرت من القبيح
تجدنا كالمخدر في سرور ... وأنت ببابنا مثل الطريح
(قال) وله أيضاً في معناه (من الطويل) :
أيا من غدا ذخري لكل ملمة ... تلم ولا زيد سواه ولا عمرو
هلم إلى الراح التي كان صانها ... لنا دون كل الخلق في دنها العمر
فبادر فما اللذات إلا غنيمةً ... فشمر إليها قبل أن ينفد العمر
وله أيضاً فيها وقد أحسن وصف أسرارها (من الكامل) :
شمر ذيولك في عرى الزنار ... واعجل إلى دن طلي بالقار
فلقد تحجر طينه في رأسه ... من كثرة الأيام والأعمار(9/344)
واكشف تجد الشمس الضحى محجوبةً ... في جنح ليل القار والفخار
قالوا: العقار. ولو أضاء لعقولهم ... مقدارها ما سميت بعقار
نور يفوق سناء كل طريفة ... من ساطع الأضواء والأنوار
سر يسر به إلى تباعه ... نور العقول وكاشف الأضرار
قد قلت لما أبرزت في كأسها: ... تعس الذي باع الضيا بغبار
مالوا إلى الدينار قلت: عدمتكم ... أدم المسيح يباع بالدينار؟
قد كان قبلهم يهوذا بائعاً ... دمه بنزر النزر للكفار
وهو أيضاً القائل لله دره (من الكامل) :
نور بكفك أم شهاب النار ... جمر تضرم أم نضار جاري
شمس الضحى في الكأس أم فجر ... تبسم صبحه من تحت ليل القار
هذي التي مزج المخلص كأسها ... في يوم عيد الفصح للأطهار
هذي التي جلت بها أنوارها ... عن سائر الأشجار والأثمار
صفراء لكن حمرة في خدها ... من لطم أخمص أرجل العصار
لما رمت عنها الكثيف تمكنت ... وتلاعبت بلطائف الأفكار
وكذا النفوس إذا رمت شهواتها ... قويت لعلم غوامض الأسرار
ومن محاسن شعره فيها أيضاً قوله (من الطويل) :
أمط عن سناها الختم طال بها العمر ... فما صانها إلا لأربابها العمر(9/345)
فقد جئتها يا راهب الدير خاطباً ... لها راغباً فيها وغن كثر المهر
فقال: أريد المهر تبراً فإنما ... لترجع صفر الكف إن ظهرا الصفر
فقلت: إذن قم للعقار مبادراً ... فكيل لهم تبراً وكيل لنا خمرا
فقال: يباع الوقف لا الخمر خمرنا ... فقد رذلت سلعاً يقوم به التبر
فقلت له: خير حقيقة أمرها ... لقد بان لي من سر أنوارها خبر
فقال: هي الراح المسيحية التي ... جلا أمرها ربي كما اشتهر الأمر
تناولها سمعان ثم تداولت ... يمر بها عصر ويدركها عصر
إلى أن وجدنا في المذابح من سنا ... تجوهرها سراً فبان لنا السر
فكان لها خدر الدنان فأصبحت ... براحاتنا تجلي وكاساتنا الخدر
إذا أترعت في كأسها أو تشعشعت ... يخال بها جمر وليس بها جمر
مشعشعة يزهو على البدر نورها ... كأن سناها في جبينك يا بدر
معطرة أعطافها فكأنها ... استعير لها من طي أعطافها النشر
وقال أيضاً (من البسيط) :
هذه هي الراح لاشيه لجوهرها ... ولا يماثلها باللطف مشروب
قد قال سيدنا والكأس في يده: ... هذا دمي لخلاص الخلق مسكوب
فترى ما بين هذه الخمريات وخمرية أبي الحفص الصوفي الشهير بابن الفارض من الشبه. ويعقوب المراداني معاصر لابن الفارض فلا يبعد أن أحدهما أخذ عن الآخر أو جاراه في أقواله. وهذه بعض أبيات للفارض يمكن عرضها على أقوال صاحب دعوة القسوس:(9/346)
شربنا على ذكر الحبيب مدامةً ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
لها البدر كأس وعي شمس يديرها ... هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم
فإن ذكرت في الحي أصبح أهله ... نشاوى ولا عار عليهم ولا إثم
فلو نضحوا منها ثرى قبر ميت ... لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
ولو قربوا من حانها مقعداً مشى ... وتنطق من ذكري مذاقتها البكم
يقولون لي: صفها فأنت بوصفها ... خبير أجل عندي بأوصافها علم
صفاء ولا ماء ولطف ولا هواً ... ونور ولا نار وروح ولا جسم
تقدم كل الكائنات حديثها ... قديماً ولا شكل هناك ولا رسم
وقامت بها الأشياء ثم لحكمة ... بها احتجبت عن كل من لا له فهم
وهامت بها روحي ولا بعد بعدها ... وقبلية الأبعاد فهي لها حتم
وقالوا: شربت الإثم. كلا وإنما ... شربت التي في تركها عندي الإثم
هنيئاً لأهل الدير كم سكروا وإنما ... وما شربوا منها ولكنهم هموا
على نفسه فلبيك من ضاع عمره ... وليس له فيها نصيب ولا سهم
فلعمري أن الشبه ظاهر بين أقوال الفارضي وصاحب دعوة القسوس وعلى رأينا أنه هو أخذ عن يعقوب المارداني أقواله فكساها ديباجاً فاخراً يستطيع النصارى أن يحولوا معانيه إلى سر طالما ذاقوا طعمه الإلهي وحرمه من لا يدرك أعظم عطايا الله العالم أي سر محبته في القربان الأقدس.
34- يحيى بن ماري
(نسبه ودينه وزمانه) ورد ذكره في تاريخ الحكماء لجمال الدين القفطي (ص 360-361) وفي مختصر القصر في شعراء العصر لعلي المعروف برضائي زاده المتوفى سنة 1039هـ 1629م) وفي مختصر تاريخ الدول لابن العبري (ص 416) قالوا: هو أبو العباس يحيى بن سعيد بن ماري النصراني المتطبب المعروف بالمسيحي. والمرجح أنه كان نسطوري النحلة.(9/347)
وأصله من الطيب بلدة بين واسط وخوزستان من موضع يقال له الدوير وكان أبوه قد انتقل من الدوير إلى البصرة أو أولد ولده هذا بها. قال جمال الدين: كان ابن ماري عالماً بالطب وكان يطب في مدينة البصرة في زماننا وكان عالماً أيضاً بالأدب أدركنا من روى عنه وفمين أدركناه أبو حامد محمد بن محمد بن حامد بن الة الأصفهاني العماد رحمه الله. وتوفي أبو العباس يحيى بن سعيد بالبصرة لعشر بقين من شهر رمضان سنة 589هـ (1193م) .
(أدبه وشعره) جاء في مختصر خريدة العصر عن العماد الأصفهاني قال: (كان لأبي العباس معرفة بالأدب وقد عمل ستين مقالةً على منوال المقامات الحريرية ورأيتها معه وما قصر فيها) وقال جمال الدين القفطي: وكان للمسيحي هذا معرفة بالأدب صادقة وربما امتدح بالشعر إجلاء الواردين على البصرة. وأنشأ وصنف المقامات الستين صنفها وأحسن فيها وكان فاضلاً في علوم الأوائل وعلم العربية والشعر يرتزق بالطب) . وذكر الحاج خليفة مقاماته قال: (المقامات المسيحية لأبي العباس يحيى بن سعيد بن ماري النصراني البصري الطبيب المتوفى في رمضان سنة 589 نسج فيها على مثال مقامات الحريري. قال ياقوت: أجاد فيها. قال الصفدي: ما أجاد ولا قارب الإجادة. والمقامات الجزرية والمقامات التميمية خير منها وما قاربتا الحريري) .
(قلنا) أننا اطلعنا في مكتبة فينا عاصمة النمسة. على مجموعة مقامات في عدد سبع وعشرين مقامة نسبت لابن ماري المذكور وانتسخنا قسماً منها أولها المقامة الفقهية ثم الرومية ثم الشعرية وآخرها المرجية. ثم اطلعنا في بغداد في كانون الأول سنة 1895 على نسخة أخرى قديمة كاملة من المقامات المسيحية في خزانة كتب الحيدرخانة لم يسمح لنا قصر الزمان بنقلها وإنما نقل منها حضرة الأب انستاس الكرملي مقدمتها ومقامتها الأولى المعروفة بالرهاوية فنشرناها في المشرق (3 (1900) : 591-598) . وقد قابلنا بين نسختي فينا وبغداد فرأينا بينهما اختلافاً كبيراً ليس في عدد المقامات فقط بل في إنشائهما. فالمقدمة في كليتهما تختلف اختلافاً تاماً وكذلك يختلف الراوي والمروي فإن في نسخة بغداد يدعى راوي المقامات يحيى بن سلام وفي نسخة فينا(9/348)
اسمه أبو الخير بن الحارث يروي عن أبي الفضل. وقد ارتبنا في نسبة هذه النسخة إلى ابن ماري لأن في مقدمته يذكر نبي الإسلام ويصلي عليه على خلاف عادة النصارى وعلى ما ورد في نسخة بغداد ودونك قطعةً من مقدمة نسخة فينا.
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم على ما بلغتنا من البلاغة، وسوغت لنا من الصناعة والصياغة، وعلى ما ألهمتنا من التبيان البديع، والبنيان الرفيع، وعلى ما ذللت لنا من جوامح الشوارد، ودليتنا (كذا) عليه من لوائح الفوائد، وما ارشفتنا به من سوافح الموارد، وأشرفتنا عليه من سفح المقاصد، ونشكرك على ما علمتنا من نوابغ الحكم، ونعمتنا به من سوابغ النعم، ونصلي على أفصح من نطق بالضاد والذال، ومن هو إلى خير هاد وعلى الحق دال، سيدنا محمد الذي أخمد الضلال، بأحمد الخصال، وعلى سائر صحبه والآل، ما طلع هلال ولمع آل - وبعد فإن المقامات الحريرية أشهر من أن تذكر، وأكبر من أن تكبر، وقد حازت قصب السبق في مضمر البلاغة البالغة، وكلت فيها البصائر والأبصار فهي ما بين رائغة وزائغة، لأن الحريري أدهش كل ناسج على منواله، وحير كل عامر في مسلك مقاله، حيث اخترع واستوعب، واقترح واستصوب، وقد كلفني من لا أطيق رده، ولا أستطيع صده، أن أقفو أثره، وأتلو خبره، ليورق لي في روض الغراس عود، ويشرق لي في أفق الكمال سعود، لعمري أنه تكليف ما لا يطاق، وتعجز النفس بالأمر الشاق، فتلطفت عليها باللطافة، وارتديت فيها بلفافه، وقنعت من البحر بالوشل، ومن الغزيرة بالنزر الأقل، وقد تطفل قبلي الموصلي والقواس، وكل رمى ولم يصب واخطأ القياس، ولسان الحال ينادي، للرائح والغادي.
كم عاشق قد مات حول خيامنا ... أسفاً ولم يظفر بكشف البرقع
وكفى بهذا دليلاً على طريقة الكاتب ولا نبت الحكم في صحة نسبة هذه المقامات لابن ماري. ويزيدنا ارتياباً فيها أن مدار كثير منها على مسائل إسلامية كالفقه والحديث وأسانيد قرآنية. هذا ما ظهر لنا من مطالعة هذه المقامات في نسخة مكتبة فينا. ولم نجد فيها من البلاغة ما ينسب إلى مقامات ابن ماري ففيها يصح قول الصفدي: لا أجاد ولا قارب الإجادة.(9/349)
أنا نسخة بغداد فلعلها هي الصحيحة وقد جاء في مقدمتها اسم ابن ماري صريحاً على خلاف نسخة فينا التي قدم الاسم على الكتاب كأنه من غير قلم مؤلفها. فضلاً عن أن المقامات فيها سبع وعشرون بدلاً من ستين كما يروي الكتبة وكما ترى في نسخة بغداد. ويا ليت أحداً من أدباء الحدباء يتولى نشرها بالطبع فيستحق شكر محبي الآثار النصرانية.
أما شعر يحيى بن ماري فقد روى منه العماد الأصفهاني وابن العبري هذين البيتين (من البسيط) :
نفرت هند من طلائع شيبي ... واعترتها سآمة من وجومي
هكذا عادة الشياطين ينفر ... ن إذا ما بدت نجوم الرجوم
وروى له العماد قوله في مديح (من الكامل) :
وإذا نطقت فأنت لفظ مقالتي ... وإذا سكت فأنت سر خاطري
ومما يروى له في صداقة الأدباء الصالحين (من الكامل) :
عدنا وعاد الأنس والأفراح ... وأضاء في مشكاتنا المصباح
وجرت منادمة يفوح أريجها ... كالروض نم بعرفه الأرياح
وعلى العفاف قد انطوت أحوالنا ... حباً بتقوى الله وهي رباح
لا عيب فينا غير حسن فعالنا ... جهراً وهل يهوى الفساد صلاح
تأبى المحبة بالفساد وما لها ... عمن تجلى بالصلاح براح
كم عاشق قد ذل بعد فساده ... والعز في أهل التقى وضاح(9/350)
ألفان لم يدرك حقيقة واحد ... سوى الله والثاني لدى الحس ظاهر
يفارق ذا هذا ويبقى وذا ... غليظ تراه في الوجود النواظر
وذاك قديم في الحدوث وذا له ... حدوث قريب والمعاند كافر
ومثله لغزه في القبر والنعش (من الطويل) :
رفيقان منقول وآخر ثابت ... وكل لكل لازم واجب القهر
يحمل هذا ساعةً ورفيقه ... يضمن ما يبقى إلى زمن الحشر
يحف بهذا الناس من كل جانب ... إلى ذاك حتى يغنموا غاية الأجر
ويستودعوا ما أثقلوا منه ظهرهم ... لآخر حتى يأذن الله بالأمر
وكذلك ألغز في الليل والنهار (من الطويل) :
وضدين هذا مثل هذا تعاقبا ... وكم بهما عد الأنام حقائبا
فهذا بصير لا يضل عن الهدى ... وهذا عمي ليس يبصر ذاهبا
تحركنا في ذا وفي ذا سكوننا ... وطوراً نرى سعياً وطوراً تجانبا
وفي ذين آيات لأهل النهى على ... جلالة رب العرش تبدي العجائبا
35- بنو مماتي النصارى الأقباط
(أصلهم ودينهم وزمنهم) بنو مماتي أسرة شريفة قبطية أصلها من أسيوط في صعيد مصر كانت تدين فيها بالنصرانية وهي تنتمي إلى أبي مليح الملقب بمماتي. قال ابن خلكان (ص 101) : (كان أبو مليح نصرانياً وإنما قيل له مماتي لأنه وقع في مصر غلاء عظيم وكان كثير الصدقة والإطعام وخصوصاً لصغار المسلمين(9/351)
فكانوا إذا رأوه نادى كل واحد منهم (مماتي) فاشتهر به) .
قال ياقوت في معجم الأدباء (244: 2) يذكر انتقال بني مماتي إلى مصر قال: (قدموا مصر وخدموا وتقدموا وولوا الولايات. وهو (أي أبو مليح) مع ذلك من أهل بيت في الكتابة عريق وهو كالمستولي على الديار المصرية ليس على يده يد.. وكان إلى مماتي كثير من أعماله) .
وكان في تلك الأيام وزيراً على مصر بدر الجمالي أمير الجيوش في أيام الخليفة المستنصر بالله وكان أبو مليح أحد عماله يكتب في ديوان مصر ويتولى استيفاء الديون.
ومما أخيره ياقوت في معجم الأدباء (244: 2-246) عن الوزير جمال الدين الشيباني ما حرفة: (بلغني أن بعض تجار الهند قدم إلى مصر ومعه سمكة مصنوعة من عنبر قد تنوق (في الأصل تتوق بالغلط) فيها وأجيد وطيبت ورصعت بالجواهر فعرضها على بدر الجمالي ليبيعها منه فسامها من صاحبها فقال: لا أنقصها من ألف دينار شيئاً. فأعيدت إليه. فخرج بها من دار بدر فقال له أبو مليح: أرني هذه السمكة. فأراه إياها فقال له: كم سمت فيها؟ فقال: لا أنقصها من ألف دينار درهماً واحداً. فأخذه بيده وقبض ألف دينار من ماله وتركها عنده مدةً. فاتفق أن شرب أبو مليح يوماً وسكر وقال لندمائه: قد اشتهيت سمكاً هاتم المقلى والنار حتى نقليه بحضرتنا. فجاؤوه بمقلى حديد وفحم وتركوه على النار وجاء بتلك السمكة العنبر فتركها في المقلى. فجعلت تتقلى وتفوح روائحها حتى لم يبق بمصر دار إلا ودخلتها تلك الرائحة. وكان بدر الجمالي جالساُ فشم تلك الرائحة وتزايدت. فاستدعى الخزان وأمرهم بفتح خزائنه وتفتيشها خوفاً من حريق قد يكون وقع فيها. فوجدوا خزائنه سالمةً فقال: ويحكم انظروا ما هذا. ففتشوا حتى وقعوا على حقيقة الخبر فاستعظم وقال: هذا النصراني الفاعل إلى الغداة قد أكل أموالي واستبد بالدنيا دوني حتى أمكنه أن يفعل هذا. وتركه إلى الغداة فلما دخل إليه وهو مغضب قال له: (ويحك أستعظم أنا وأنا ملك مصر شري سمكة من العنبر فأتركها استكثاراً لثمنها فتشتريها أنت. ثم لا يقنعك حتى تقليها وتذهب في ساعةً واحد بألف دينار مصرية؟ ما فعلت هذا إلا وقد نقلت بيت أموالي إليك وفعلت) .
فقال له: (والله ما فعلت هذا إلا غيرةً عليك ومحبة لك فإنك اليوم سلطان نصف الدنيا وهذه سمكة لا يشتريها إلا ملك فخفت أن يذهب بها إلى بعض الملوك ويخبره بأنك استعظمتها ولم تشترها فأردت أن أعكس الأمر وأعلمه أنك ما تركتها إلا احتقاراً لها وأنها لم يكن لها عندك مقدار وإن كاتباً نصرانياً من كتابك اشتراها وأحرقها فيشيع بذلك ذكرك ويعظم عند الملوك قدرك) . فاستحسن بدر ذلك منه وأمر له بضعفي ثمنها وزاد في رزقه) .(9/352)
وأردف ياقوت: وكان مماتي في ذلك كريماً ممدحاً قد مدحه الشعراء. فذكر أبو الصلت في كتاب الرسالة المصرية له أن أبا طاهر إسماعيل ابن محمد النشاع المعروف بابن مكنسة كان منقطعاً إليه فلما مات رثاه ابن مكنسة بقصيدة منها:
ماذا أرجى من حيا ... تي وكورت شمس المديح
ما كان بالنكس الدني ... من الرجال ولا الشحيح
ولما ولي الأفضل ابن أمير الجيوش بدر الجمالي بعد أبيه دخل إليه ابن مكنسة مادحاً فقال له: ذهب رجاؤك بموت أبي المليح فما الذي جاء بلك إلينا؟ وحرمه ولم يقبل مديحه.
وقرأنا في كتاب البدر السافر في أنس المسافر (ص 114) لكمال الدين أبي الفضل جعفر الأدفوي المتوفى سنة 742هـ (1341م) أن ابا مليح مماتي كان اسمه مينا وأنه ابن أبي زكريا بن أبي قدامة قال (198) : (وكان جوهرياً بمصر وكان يصبغ البلور صبغة الياقوت فلا يميز بينهما إلا الخبير بالجوهر. قال الوزير القفطي: حكي لي رجل يعرف بالرشيد الصائغ أن إذا كان نودي على الفص من صنعته تشوفت نحوه العيون أكثر من تشوفها إلى غيره من الجوهر لجودته وحسن منظره) .
(ولده المهذب مماتي) قال ياقوت في معجم الأدباء (246: 2) : (أما المهذب ولده (أي ولد أبي مليح) وكان يلقب بالخطير فإنه كان كاتب ديوان الجيش بمصر في أواخر أيام المصريين (يريد الفاطميين) وأول بوم بني أيوب مدةً فقصده الكتاب وجعلوا له حديثاً عند صلاح الدين يوسف بن أيوب أو (وزيره) أسد الدين شيركوه وهو يومئذ المستولي على الديار المصرية فخاف المهذب فجمع أولاده ودخل على السلطان وأسلموا على يده فقبلهم وأحسن إليهم وزاد في ولاياتهم) .
ثم نقل هناك ما أخبره أبو المكارم أسعد ابن المهذب عن أبيه الخطير قال أنه كان مرتباً على ديوان إقطاعات وهو على دين النصرانية فلما علم أسد الدين شيركوه في بدء أمره بمصر أنه نصراني وأنه يتصرف (في عمله) بلا غيار نهاه وأمره بغيار النصارى ورفع الذؤابة وشد الزنار وصرفه عن الديوان فبادر هو وأولاده(9/353)
فأسلموا على يده فاقره على ديوانه مدة ثم صرفه عنه فقال فيه ابن الذروي:
لم يسلم الشيخ الخطير ... لرغبة في دين أحمد
بل ظن أن محاله ... يبقي له الديوان سرمد
والآن قد صرفوه عنه ... فدينه فالعود أحمد
فترى من هذا ما كان يقاسيه النصارى من العنت فيسلمون لا حباً بالإسلام واقتناعاً بصحته بل خوفاً من ضرر يلحق بهم أو منصب يفقدونه. فلا يصح أن ننظم مثل هؤلاء في سلك المسلمين. وقد أخبر ياقوت الرومي عن سبب وفاة المهذب (ص 248) قال: ومن عجيب ما جرى للخطير أنه كان يوماً جالساً في ديوانه في حجرة موسومة بديوان الجيش من قصر السلطان بمصر. وكانت حجرةً حسنة مرخمة منمقة فجاءه قوم وقالوا له: قم من ها هنا. فقال لهم: ما الخبر؟ فقالوا: قد تقدم الملك العادل أبو بكر بن أيوب بأخذ رخام هذه الحجرة وأن نعمر به موضعاً آخر. فخرج منكسراً كاسفاً فقيل له في ذلك فقال: (قد استجيبت فينا دعوة وما أظنني أجلس في ديوان بعدها. أما سمعتم إذا بالغوا في الدعاء علينا قالوا: خرب الله ديوانه. وما بعد الخراب إلا اليباب. ثم دخل منزله وحم فلم يخرج منه إلا ميتاً) .
وكانت وفاة الخطير يوم الأربعاء 6 رمضان سنة 577 (1182م) وذكر الأدباء للمهذب شعراً فمن ذلك ما قاله لأسد الدين شيركوه لما أمره بالغيار (من السريع) :
يا أسد الدين ومن عدله ... يحفظ فينا سنة المصطفى
كفى غياراً شد أوساطنا ... فما الذي أوجب كشف القفا
ومن شعره ما رواه عنه سعيد بن أبي الكرم بن هبة المصري يتغزل بأبي سعيد ابن أبي اليمن النخال وزير العادل وكان نصرانياً وأسلم وكان أملح الناس وجهاً فقال المهذب (من السريع) :
وشادن لما بدا مقبلاً ... سبحت رب العرش باريه
ومد رأيت النحل في خده ... أيقنت أن الشهد في فيه
وكان ابن النحال يسكن في أول درب نور الدين في مصر وكان في آخره صبي آخر(9/354)
نصراني مثله حسناً يعرف بابن زنبور فقال المهذب (من الطويل) :
حوى درب نور الدين كل شمردل ... مشددة أوساطهم بالزنانير
فأوله للهشد والنحل منزل ... وآخره يا سادتي للزنابير
ومن ظريف قوله مما رواه الأدفوي (من الطويل) :
ولما بكت عيني دماءً لفقدكم ... تيقنت أن القلب فيه كلوم
وروى له العماد الأصبهاني في الخريدة قوله في كتمان السر (من البسيط) :
واكتم السر حتى عن إعادته ... إلى المسر به من غير نسيان
وذاك أن لساني ليس يعلمه ... سمعي بسر الذي قد كان ناجاني
وروى أيضاً يصف الخمر (من البسيط) :
إذا انبرت من فم الإبريق تحسبها ... شهاب ليل رقي في الكاس شيطانا
قال: ومن شعره من قصيدة (من الطويل) :
أبيت رقيب النجم منها كأنما ... عيوني لم يخلق لهن جفون
ومنها:
كأن ظلام الليل إذ لاح بدره ... دجوجي شعر لاح منه جبين
كأن الثريا ترقب الليل غيرةً ... فقد هجرت منها المنام عيون
كأن سهيلاً في مطالع أفقه ... فؤاد مروع خامرته ظنون
كأن السها تبدو أواناً ونجلي ... لدى الليل سر في حشاه مصون(9/355)
(ابنه الأسعد مماتي) هو شرف الدين أبو المكارم أسعد بن المهذب مماتي المصري الكاتب الشاعر. قال ياقوت في معجم الأدباء (249: 2) والمقريزي في الخطط (260: 2) : (خلف أباه على ديوان الجيش وتصدر فيه مدةً طويلة ثم أضيف إليه ديوان المال وهو أجل ديوان من دواوين مصر واستمر في ذلك مدة أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وأيام ابنه الملك العزيز عثمان وولي نظر الدواوين واختص بالقاضي الفاضل عبد الرحمان بن علي البيساني فنفق عليه وحظي عنده وكرم لديه فقام بأمره وأشاع من ذكره ونبه على فضله وصنف له عدة تصانيف باسمه وكان يسميه بلبل المجلس) .
قال المقريزي في الخطط: (ولم يزل بمصر حتى ملك السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب ووزر له صفي الدين علي بن عبد الله بن شكر فخافه الأسعد لما كان يصدر منه في حقه من الإهانة وشرع الوزير ابن شكر في العمل عليه ورتب لهه مؤامرات ونكبه وأحال عليه الأجناد ففر من القاهرة وسقط في حلب) .
قال ياقوت في معجم الأدباء حدث الصاحب جمال الدين الأكرم قال: لما ورد الأسعد إلى حلب نزل في داري فأقام عندي مدةً وذلك في سنة 604 (1207م) .
وعرف الملك الظاهر غازي ابن صلاح الدين خبره فأكرمه وأجرى عليه في كل يوم ديناراً صورياً وثلثة دنانير أخرى أجرة دار ... وأقام عنده على قدم العطلة إلى سنة 606 وفيها مات سلخ جمادى الأولى سنة 606 (1209م) عن 62 سنة فدفن بظاهر حلب بمقام بقرب قبر أبي بكر الهروي) .
واشتهر الأسعد بأدبه ومصنفاته. قال العماد الأصبهاني: (كان فاضلاً أديباً شاعراً ثائراً ... وتأدب وصنف مصنفات في فنون عدة منها كتاب سر الشعر صنفه للملك العزيز وكتاب علم النثر. ونظم سيرة السلطان صلاح الدين يوسف ونظم كتاب كليلة ودمنة. ومن تآليفه الممتعة كتاب صحة الحق على الخلق في التحذير من سوء عاقبة الظلم وهو من أهم ما طالعه الملوك كان السلطان صلاح الدين يكثر النظر فيه. وصنف أيضاً للملك العزيز كتاب قوانين الدواوين فيما يتعلق بدواوين مصر ورسومها وأصولها وأحوالها في أربعة أجزاء ضخمة ذكر فيه أربعة آلاف ضيعة من أعمال مصر ومساحة كل ضيعة وقانون ريها ومتحصلها من عين وغلة وكتب أخرى(9/356)
كثيرة عددها ياقوت في معجم الأدباء (251: 2) .
ولأسعد مماتي ديوان شعر تعددت محاسنه فروى منه الأدباء عدة مقاطيع. فمن ذلك ما رواه عنه السيوطي في أخبار مصر والقاهرة (207: 2و 208) يصف جزيرة مصر (من الطويل) :
جزيرة مصر لا عدتك مسرة ... ولا زالت اللذات فيك اتصالها
فكم فيك من شمس على غصن بانة ... يميت ويحي فجرها ووصالها
مغانيك فوق النيل أضحت هوادجاً ... ومختلفات الموج فيها جمالها
ومن أعجب الأشياء أنك جمة ... تدف على أهل الضلال ظلالها
وقال في الروضة وقد حلها السلطان الكامل محمد (من الطويل) :
جزيرة مصر أنت أشرف موضع ... على الأرض لما حل فيك محمد
وفيك علا البحران لكن كف ذا ... على الناس أندى بالغطاء وأجود
وأصبحت الأغصان من فرح به ... تمايل والأطيار فيك تغرد
فرق نسيم حين سار وجدول ... ويشدو هزار حين يرقص أملد
وأنشد في وصف الخليج (من الوافر) :
خليج كالحسام له صقال ... ولكن فيه للرائي مسره
رأيت به الملاح تعوم فيه ... كأنهم نجوم في المجره
ومما قاله في تحامل الوزير صفي الدين عليه وهربه إلى حلب (من الطويل) :(9/357)
تنكر لي ود الصفي ولم أكن=به رافعاً رأساً لو اعتدل الزمن
ولكن علا عند انخفاض وساءني ... وحسبك من شخص تركت له الوطن
وقال أيضاً (من مجزوء الكامل) :
لا تقبلن من الوشا ... ة وتقبلن على العواذل
فالعين قد جنت ببعدك ... والدموع لها هواطل
ودخل يوماً على صلاح الدين فوجده يلعب بالشطرنج فقال (من السريع) :
إن يكن الشطرنج مشغلةً ... لعلي القدر والهمم
فهي في ناديك تذكرة ... لأمور الحرب والكرم
وقال في غلام نحوي (من السريع) :
وأهيف أحدث لي نحوه ... تعجباً يعرب عن ظرفه
علامة التأنيث في لفظه ... وأحرف العلة في طرفه
وروى له الصفدي في شرح لامية العجم (من السريع) :
أيسكن الناس وقد حاطهم ... سبعة أفلاك عليهم تدور
والدار في الأخرى دهاليزها ... في هذه الدنيا لحود القبور
وقال في وصف الحسود (من الخفيف) :
لا تصخ للحسود في ذمه ... النعمة مع كونته العجول إليها
فهو مثل السحاب إذ حجب الشمس ... عن العين ثم يبكي عليها
ومما مدح به الظاهر الغازي في حلب قوله (من الوافر) :
أسكران نديم العدو غاز ... واسماء الملوك لها حلاها
كأن السمر ريشها طوال ... فكم نفس بهن قد استقاها
إذا اكتحلت عيون من عداة ... يغير حيلةً وجدت عماها(9/358)
وأطمع نفس أسمره وأضحى ... يفتش من نفوس ما خباها
كأنك خلتها سترت كميناً ... فتطعنها ما وراها
سل البيت المقدس عنه يخبر ... بسورة فتحه لما تلاها
وروى له ابن خلكان في المعاتبة (من الوافر) :
تعاتبني وتنهى عن أمور ... سبيل الناس أن ينهوك عنها
أتقدر أن تكون كمثل عيني ... وحقك ما علي أضر منها
وقال منوهاً بنهري دمشق ثورا وبردى (مجزوء الوافر) :
حكى نهرين ما في الأر ... ض من يحكيهما أبدا
حكى في خلقه ثورا ... وفي أخلاقه بردى
أخذه من قول بعضهم فيهما وفي نهر يزيد:
ضاهى ابن بشران مدينة جلق ... كلاهما يوم الفخار فريد
ألفاظه بردى وصورة خلقه ... ثورا ونقص العقل هو يزيد
وقال في الغزل (من الرجز) :
سمراء قد أزرت بكل أسمر ... بلونها ولينها وقدها
أنفاسها دخان ند خالها ... وريقها من ماء ورد خدها
لو كتب البدر إلى خدمتها ... رسالةً ترجمها بعبدها
وقال يصف كريماً (من الطويل) :
لنيرانه في الليل أي تحرق ... على الضيف إن أبطاواي تلهب
وما ضر من يعشو إلى ضوء ناره ... إذا هو لم ينزل بآل المهلب
36- الأسعد ابن عسال
(أصله ودينه وشعره) بنو العسال ثلثة أخوة المؤتمن والصفي والأسعد(9/359)
اشتهروا كلهم بالآداب والتصنيف في القرن الثالث عشر للميلاد وقد أثبتنا ما وقفنا عليه من مصنفاتهم في كتابنا المخطوطات العربية لكتبة النصرانية (ص 11-13) . وكان أصلهم من مدينة سدمنت في الفيوم من أسرة القس بطرس السدمنتي الذي ذكرنا له بعض التآليف في الكتاب المذكور (ص 62) انتقلوا إلى مصر ودخلوا في دواوين الدولة المصرية على عهد المماليك. ولم نعثر لأحد منهم على آثار شعرية إلا للمدعو الأسعد أبا الفرج هبة الله. ورد له في أحد مخطوطات مكتبة الأقباط في مصر أرجوزة صنفها في تعريف قوانين الميراث عند النصارى. ذكرها الأديب جرجس فيلوثاؤس عوض ملحقةً بكتاب المجموع الصفوي تأليف أخيه الشيخ الصفي أبي الفضائل بن العسال. وها نحن نورد منها قسماً صالحاً تثبت ما كان له من المقدرة بالنظم. قال: مقدمة
الشكر لله الوحيد الذات ... سبحانه مثلت الصفات
أحمده كمثلما هو أهله ... إذ فاض بحر جوده وفضله
أزيد في التمجيد والتسبيح ... لابن الإله السيد المسيح
أنقذنا من ظلمة الجهالة ... ومن جحيم الكفر والضلالة
يا أيها الطالب علم الشرع ... في الإرث خذ مختصراً من فرع
إسمع هديت أفضل السبيل ... جملته نظماً بلا تفصيل
إبدأ بما يصلح للأكفان ... والقبر والحمال والقربان
أوف الديون قبل أن تقسما ... فالشرع قد صيره مقدما
عدد مراتب الوراث:
وإن ترد معرفة المراتب ... لكي تعد من ذوي المناصب(9/360)
فإنها عشرون واثنتان ... بعيدها محتجب بالداني
لا رتبة مع قبلها بوارثه ... رابعة ليس لها مع ثالثه
أولها البنون والبنات ... لا فرق بل هن مساويات
والأم مثل أحد الأولاد ... والأب مثل في القياس الهادي
إن مات ميت وله فرد ولد ... لزوجة الربع فعنه لا يحد
والنصف والربع لابن الميت ... أعط له هذا بلا تشتت
وكل ما زادوا عن الثلاثة ... تكون مثلهن في الوراثة
مثاله كان البنون أربعة=فالخمس حصتها بلا مدافعه ثم يعدد الناظم بقية المراتب إلى أن يقول:
والزوج إن مات بلا أولاد ... للزوجة النصف بلا عناد
والزوج والزوجة في الحكم سوى ... والنصف للأهل فدع عنك الهوى
ومنها:
والأم إن كانت مع الأعمام ... تحوز ثلثيه بلا كلام
أولاد عم ميت من حكمهم ... ثلث لهم مع زوجة لعمهم
وجدة من والد وجدته ... ثلث لهم من إرثه مع أخوته
هذا إذا لم تكن الوصية ... أحكامها شرعية مرضية
لأنها إن لم تكن شرعية ... كان كمن مات بلا وصيه(9/361)
لا يمنع المرء من التصرف ... في النصف والربع بلا توقف
فإن يزد عنه فلا تدعه ... واعمل بما قلنا ولا تضعه
والملك إن يوقف لغير مؤمن ... فبطل الوقف ولا تمكن
وأسقف ومثله في التكرمه ... يكتب ما يملك قبل التقدمه
حتى إذا تنيحوا فأهلهم ... غير الذي جاءوا به ليس لهم
وما يزد فإنه للبيعة ... بكل هذا تحتم الشريعة
ومن يمت في الدير من رهبان ... فلن يحوز ارثه علماني
لكنه للدير والإخوان ... كما يراه أعظم الرهبان
وهذه خاتمتها:
نظمتها للحفظ حتى يسهلا ... فاستغفر الرحمان لي ثم اسألا
فإن تجد عيباً فسد الخللا ... فجل من لا عيب فيه وعلا
ولم نقف على سنة وفاة ناظم هذه الأرجوزة كما تجهل سنة وفات أخويه المؤتمن والصفي. وما لا شك فيه أن الأخوة الثلثة اشتهروا منذ أوائل القرن الثالث عشر وبلغوا أواسط ذلك الجيل. وقد جاء لأحدهم الشيخ الصفي في آخر بعض تآليفه أنه كتبه سنة 955 للشهداء وهي توافق السنة 1238 للمسيح.
-37- ابن أبي الثناء ابن كاتب قيصر
(نسبه دينه وأدبه) ذكره معاصره أبو إسحاق المؤتمن ابن عسال في مقدمة(9/362)
كتابه عن النحو القبطي المسمى السلم المقوى قال: (هو الرئيس الأوحد العالم الفاضل علم الرئاسة أبو إسحاق إبراهيم ولد الشيخ الرئيس النفيس أبي الثناء ابن الشيخ صفي الدولة كاتب الأمير علم الدين قيصر أبقاه الله ورحم آباءه) وكان ابن أبي الثناء قبطياً من نصارى الفيوم من أشراف قومه وكان كاتباً بليغاً وشاعراً مجيداً. أما لقبه بابن كاتب قيصر فلأن أباه الشيخ أبا الثناء اتصل بأحد كبار العلماء في زمانه وهو علم الدين أبو المعاني قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني الأسفوني المولود في اسفون من صعيد مصر سنة 564 وقيل سنة 574هـ (1169-1178م) والمتوفى في دمشق سنة 649هـ (1251م) وقد ذكره أبو الفداء في تاريخه (195: 3) وقال (أنه هو المعروف بتعاسيف وكان إماماً في العلوم الرياضية اشتغل بالديار المصرية والشام ثم سار إلى الموصل وقرأ على الشيخ كمال الدين موسى بن يونس علم الموسيقى ثم عاد إلى الشام وتوفي بدمشق) فقد خدم أبو الثناء هذا العالم فعرف ابنه بابن كاتب قيصر.
فالمذكور اشتهر بالأدب واشتغل بلغته القبطية فصنف فيها مقدمة دعاها التبصرة وعقب فيها آثار الأنبا يوحنا أسقف سمنود في كتابه السلم الكنائسي وله ذكر في كتب آداب العرب ورووا له شعراً ننقله هنا عنهم. فمن ذلك ما رواه صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي في كتاب الكشف والتنبيه على وصف والتشبيه قال: ومما جاء في وصف الياسمين قول ابن أبي الثناء المعروف بكاتب قيصر (من البسيط) :
يا حبذا ياسمين الروض حين غدا ... يهدي من الريح طيباً غير مكتتم
كأن زهرته في كف لاقطها ... والروض منتثر في أثر منتظم
فراشه هجرت حتى إذا وصلت ... تلازمت مع من تهوى فماً لفم
وروى له ابن منظور صاحب لسان العرب في كتابه نثار الأزهار في الليل والنهار(9/363)
(ص 110) قوله وغنما دعاه (تاج الملك بن كاتب قيصر (من الخفيف) :
وكأن الهلال قوس لجين ... والثريا في الغرب كالقرطاس
وكأن النجوم أفواق نبل ... عابرات حادت عن البرجاس
38-أخوه علم الملك ابن أبي الثناء
كان على مثال أخيه إبراهيم أديباً ذكر له خليل بن أيبك الصفدي بيتين في الياسمين جارى فيهما قول أخيه (من المتقارب) :
أرى ياسميناً محشىً غدا ... إلى الند في نثره ينتمي
كمثل قصاصة نصفية ... تلوث أطرافها بالدم
اطلب أيضاً وصفه لبركة (ص 666)
39- أبو الربيع سليما المارديني
(نسبه وزمنه ودينه وأدبه) هو أبو الربيع سليمان بن إسماعيل (ويروى إسماعيل ابن سليمان) ابن أبي الليث النصراني المارديني كان من أدباء القرن الثالث عشر معاصراً لابن منظور وعاش في مصر. وكان شاعراً ورد له مقاطيع متفرقة في تآليف الأدباء. من ذلك ما رواه ابن منظور في نثار الأزهار (ص 104) يصف فيه نجوم السماء قال (من الخفيف) :
رب ليل تخال فيه الدراري ... زهر الروض والمجرة نهرا
والثريا كأنها كأس خمر ... أطلعت فوقها الفواقع دراً(9/364)
وتخال السماء حلة خز ... نثرت فوقها الدراهم نثرا
وكأن الصباح جام لجين ... ملأته أشعة الشمس خمرا
وروى له في موضع آخر يصف المجرة (من الخفيف) :
وترى الزهر في المجرة كالزهر ... طفا فوق جدول وغدير
ومن حكمه قوله في الثقة بالله في الشدائد (من السريع) :
لا تيأسن للضيق في أمر وكن ... في ثقة من سائر العيب
ولا تقل باب الرجا مغلق ... وعنده مفاتح الغيب
ومما ورد في مطالع البدور لعلاء الدين الغرولي (25: 1) وفي حلبة الكميت (ص 294) وفي نفحات الأزهار لعبد الغني النابلسي (ص 387) قولهم بحرف واحد: (حكى الأديب أبو الربيع سليمان بن إسماعيل بن أبي الليث المسيحي قال: جمعني مجلس أنس مع الأديب إسحاق بن أبي الثناء المسيحي بالفيوم في بستان فيه بركة عليها فوارة من الماء فتجاذبنا في أهداب وصفها فقال أبو ساحقا (من الخفيف) :
بركة تصعد الأنابيب منها ... يقعد الماء فوقها ويقوم
فلذا أطلعت فواقع تبدو ... كالقوارير من زجاج تعوم
وكأن السماء صفحتها الزر ... قاء والياسمين فيها نجوم
(قال أبو الربيع) وقلت أنا (من المنسرح) :
وبركة تذهل العقول بها ... تحار في حسن وصفها الفكر(9/365)
كأنها مقلة محدقة ... عبرى من الوجد نالها السهر
تبكي وما فارقت لها وطناً ... يوماً ولا فات أهلها وطر
تخال أنبوبها لصحته ... والماء يعلو به وينحدر
كصولجان من فضة سبكت ... فواقع الماء تحتها أكر
ومن ظريف ما أخبر به بان منظور في نثار الأزهار (ص 31) ما حرفه قال: (جرت في قصر النهار نادرة. أنشدني سليمان بن إسماعيل المارديني المسيحي لنفسه فيما زعم من قصر النهار (من المتقارب) :
ويوم حواشيه ملمومة ... ظنناه من قصر مدمجاً
قنصت غزالته والتفت ... أريد أختها فاحتمت بالدجى
فاثبت البيتين عندي. فأخبرني بعد ذلك أبو الحسن بن سعيد أنه وقف في تاريخ إربل لابن المستوفي لأبي عبد الله محمد بن أبي الوفاء القنيصي على ذكر البيتين بحرفهما. قال ابن المستوفي ثم ورد علينا أبو الحسن علي بن يوسف الصفار فنسبهما لنفسه (قال) ولعلهما ليسا له ولا لابن القنيصي. فقيدت هذا على هذه الصورة. ثم جرى بعد ذلك مذاكرة في هذه الأبيات وتحادث فيها الشعراء فقال بعض من حضر: هذه الأبيات عندي في تعليق لغز. فرغبنا إليه في الكشف عنها فأحضر التعليق فإذا فيه. (خرج المنتخب العاني (منسوب إلى عانة جزيرة بالفرات) مع الملك الزاهر ابن صلاح الدين صاحب البيرة للصيد فأثاروا ظبيةً في آخر النهار فاستطردت لهم فلم يدركها السلطان إلا عند غروب الشمس فأمسكها ونظر إلى الشمس وهي تغرب فاستظرف هذا الاتفاق وقال لشاعره: قل في ذلك شيئاً. فقال:
ويوم حواشيه ملمومة ... علينا نحاذر أن تفرجا(9/366)
قنصت غزالته والتفت ... إلى أختها فاحتمت بالدجى
قال المصنف: فصح عندي أن هذا هو قائلها على الخصوص وأن الجميع لصوص. (قال) وقد قرأت كتاب اللصوص للجاحظ فلم أسمع فيه بأن ثلاثة لصوص اجتمعوا بالاتفاق الظريف على بيت واحد.
40- رشيد الدين أبو حليقة
(اسمه أصله ونسبه ودينه) أفادنا ابن أبي أصيبعة في كتابه الممتع عيون الأنباء في طبقات الأطباء (121: 2-132) معلومات متفرقة عنه وعن أجداده ما نستخلصه هنا للقراء. قال يذكر اسمه ونسبه (ص 123) : (هو الحكيم الأجل العالم رشيد الدين أبو الوحش بن الفارس أبي الخير بن أبي سليمان داود بن أبي المنى بن أبي فإنه ويعرف بأبي حليقة) .
وذكر جده أبا سليمان داود وكان متطبباً (ص 121) فقال عنه أنه (كان من أهل القدس ثم انتقل إلى الديار المصرية) ومما رواه أن ملك القدس الفرنجي أموري وهو يدعوه (ماري) لما وصل إلى الديار المصرية أعجبه طبه فطلبه من الخليفة ونقله معه هو وأولاده الخمسة إلى البيت المقدس. فخدم الملك هناك وعالج ابن الملك المصاب بالجذام ثم ترهب.
ومما أخبره عنه أنه أرسل أحد أبنائه وبشر الملك الناصر صلاح الدين يوسف بفتحه القدس فأصابت ذريته لذلك حظوة كبيرة لدى السلطان.
وأردف ابن أبي أصيبعة ذلك بتراجم أبناء أبي سليمان. وكان أكبرهم الحكيم (أبو سعيد مهذب الدين) الذي خدم صلاح الدين ثم الملك العادل وولده المعظم وتوفي سنة 613هـ (1216) . ويدعى الثاني (أبا شاكر) خدم الملك الكامل ابن الملك العادل وتوفي سنة وفاة أخيه أبي سعيد. واسم الثالث (أبو نصر) كان أيضاً طبيباً وتوفي بالكرك. والرابع (أبو الفضل) كان طبيباً نطاسياً وهو أصغر أخوته توفي سنة 644 وعمره 84 سنة هجرية (1164-1246م) خدم الملك المعظم بالكرك والملك الكامل بمصر.(9/367)
الخامس (أبو الخير فارس) تربى مع ابن ملك الفرنج المجذوم وخرج من بين أخوته الأربعة الأطباء جندياً.
ورشيد الدين أبو حليقة هو ابن أبي الخير فارس. دعي أبا حليقة لحلقة من فضة في إذنه وضعت له عند ولادته دفعاً للموت الذي أصاب أخوته قبله فعاش هو وعرف بأبي حليقة.
(دينه وأخباره) كان رشيد الدين أبو حليقة نصرانياً كجده أبي سليمان الذي صرح ابن أبي أصيبعة بنصرانيته وكذلك أولاده وحفيده رشيد الدين. وقد اتسع ابن أبي أصيبعة في وصف معارفه الطبية وعلاجاته الغريبة بترياق عجيب وضعه فشفى به كثيرين ممن أيس الأطباء من حياتهم وحكموا بوفاتهم القريبة. وذكر خدمه الممتازة لأربعة من الخلفاء الأيوبيين في مصر وهم الملوك الكامل ثم العادل ثم الصالح وتورانشاه. وعاش إلى زمن المماليك وخدم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس (658-676هـ=1260-1277م) ولم يذكر سنة وفاته.
(أدبه وشعره) قال ابن أبي أصيبعة يصف معارف رشيد الدين وأخلاقه ويذكر اجتماعه به (123: 2) : (كان أوحد زمانه في صناعة الطب والعلوم الحكمية متفنناً في العلوم والآداب حسن المعالجة لطيف المداواة رؤوفاً بالمرض محباً لفعل الخير. ولقد اجتمعت به مرات ورأيت من حسن معالجته وعشرته وكمال مروءته ما يفوق الوصف) .
وقد ذكر له عدة تآليف طبية منها كتاب في الأمراض وأسبابها وعلاماتها ومداواتها. وكتاب في الأدوية المفردة دعاه المختار في الألف عقار. وكتاب الأدوية المركبة التي قد أظهرت التجربة نجحها وكتب مقالةً في أن الملاذ الروحانية ألذ من الملاذ الجسمانية وعلل ذلك بقوله (إذ الروحانية كمالات وإدراك الكمالات. والجسمانية إنما هي دفع آلام أخرى وإن زادت أوقعت في آلام أخرى) وهو نعم القول. وله أيضاً مقالة في ضرورة الموت علله بتحلل) بدن الإنسان بالحرارة التي في داخله وبحرارة الهواء الذي من خارج فكان يتمثل بهذا البيت:(9/368)
وأحدهما قاتلي ... فكيف إذا استجمعا
وكان رشيد الدين شاعراً روى له ابن أبي أصيبعة بعض المقاطيع نرويها هنا عنه. فمن ذلك قوله من أبيات يصف فيها منظرة سيف الإسلام (من الكامل) :
سمح الحبيب بوصله في ليلة ... غفل الرقيب ونام عن جنباتها
في روضة لولا الزوال لشابهت ... جنات عدن في جميع صفاتها
فالطير يطرب في الغصون بصوته ... والراح تجلي في الكؤوس صفاتها
ومجالس القمر المنير تنزهت ... فيه الحواس باسمها وكناتها
وقال يذكر أيام اجتماعه بالمحبوب ووداعه له (من الطويل) :
أحن إلى ذكر التواصل يا سعد ... حنين النياق العيس عن لها الورد
فسعدى على قلبي ألذ من المنى ... وقربي لها عند اللقاء هو القصد
حوت مبسماً كالدر أضحى منظماً ... وثغراً كمثل الأقحوان به شهد
وفرعاً كمثل الليل أو حظ عاشق ... ووجهاً كوجه الصبح هذا لذا ضد
أقول لها عند الوداع وبيننا ... حديث كنشر المسك خالطه ند
ترى نلتقي بعد الفراق بمنزل ... ويظفر مشتاق أضر به البعد
تمر الليالي ليلةً بعد ليلة ... وذكر كم باق يجدده العهد
ولكن خوف الصب إن طال هجركم ... ليقضي ولا يقضي له منكم وعد
عشقت سيوف الهند من أجل أنها ... تشابهها في فعل ألحاظها الهند
ولي في الرماح السمر سمر لأنها ... تشابهها قداً فيا حبذا القد(9/369)
وفي الورد معنى شاهد فوق خدها ... نشاهده فيها إذا عدم الورد
وبي من هواها ما جحدت وعبرت ... به عبرتي يوماً وما نفع الجحد
وقال مشباً (من الطويل) :
خليلي إني قد بقيت مسهداً ... من الحب ماسور الفؤاد مقيد
بحب فتاة يخجل البدر وجهها ... ولاسيما في ليل شعر إذا بدا
ضللت بها وهي الهلال ملاحةً ... فوا عجباً منه أضل وما هدى
لها مبسم كالدر أضحى منظماً ... ونطق كمثل الدر أمسى مبدداً
ولما كان رشيد الدين في دمياط أتاه خبر والده أنه كان مرض في القاهرة ثم حظي بالعافية فكتب له (من الكامل) :
قطرت علي سحائب النعماء ... مذ زال ما تشكو من البلواء
ولبست مذ أبصرت خطك نعمةً ... فبما أقوم لشكرها بوفاء
وقال ابن أبي أصيبعة يذكر أهل رشيد الدين فقال (228: 2) : وجماعة أهل الحكيم رشيد الدين أبي حليقة أكثر شهرتهم في الديار المصرية والشام ببني شاكر لشهرة الحكيم أبي شاكر وسمعته الذائعة فصار كل من له نسب إليه يعرفون ببني شاكر وأن لم يكونوا من أولاده. ولما اجتمعت بالحكيم رشيد الدين أبي حليقة - وكان قد بلغه أنني ذكرت الأطباء المشهورين من أهله ووصفت فضلهم وعلمهم - تشكر مني وتفضل فأنشدته بديهاً (من السريع) :
وكيف لا اشكر من فضلهم ... قد سار في المشرق والغرب
تشرق منهم في سماء العلا ... نجوم سعد قط لم تغرب
قوم ترى أقدارهم في الورى ... بالعلم تسمو رتبة الكوكب(9/370)
كم صنفوا في الطب كتباً أتت ... بكل معنىً مبدع مغرب
وإن شكري في بني شاكر ... ما زال في الأبعد والأقرب
خلدت مجدا دائماً فيهم ... بحسن وصف وثناً طيب
وقد ذكر ابن أبي أصيبعة ولداً لرشيد الدين يدعى أبا سعيد زاول الطبابة كأبيه وقال عنه أنه أسلم في أيام الملك ظاهر بيبرس. وفي خطط المقريزي (378: 2) جاء ذكر ولد آخر لرشيد الدين لم يسلم دعاه علم الدين أبا نصر جرجس بن أبي حليقة روى عنه أنه خدم الملك الكامل وحضر وفاته.
41- ابن مرتين
(زمنه وشعره) هو شاعر نصراني أندلسي ذكره ابن العربي في مسامراته (311: 2 أو 237) قال في باب العشاق والعشق. أنشدني ابن مرتين من هذا الباب يصف ما في الحب من الخير والشر من الحسن والضر (من الكامل) :
الحب فيه حلاوة ومرارة ... والحب فيه شقاوة ونعيم
الحب أهونه شديد قادح ... والحب أصغر ما يكون عظيم
الحب صاحبه يبيت مسهداً ... ويطير منه فؤاده ويهيم
الحب لا يخفى وإن أخفيته ... إن البكاء على المحب نميم
الحب يشهد صادقاً في وجهه ... عند التنفس أنه مهموم
الحب داء قد تضمنه الحشا ... بين الجوانح والضلوع مقيم
ولم نطلع على شيء آخر من شعر ابن مرتين. وإنما يؤخذ من ذكره في مسامرات ابن(9/371)
العربي أنه عاش قبله اعني قبل القرن السابع للهجرة والثالث عشر للمسيح لأن ابن العربي توفي سنة 638هـ (1240م) .
ثم وجدناه مذكوراً في كتاب المقري (نفح الطبيب من غصن الأندلس الرطيب) (889: 2) حيث دعي بالقائد ابن مرتين ويتعين زمانه في عهد المعتمد على الله بن عباد صاحب اشبيلية (461-484هـ 1068-1091م) فيكون إذن من شعراء القرن الخامس للهجرة والحادي عشر للمسيح.
- ابن زطينا
(نسبه زمانه دينه) وصفنا في المشرق (18 (1920) : 596-607) كتاباً مخطوطاً قديماً من أواخر القرن الثالث عشر أو أوائل الرابع عشر ونقلنا عنه هناك شذرات تاريخية مهمة. ففي الصحيفة الثانية عشرة منه ورد ذكر ابن زطينا فقال المؤلف في تاريخ سنة 626هـ (1228م) : (وفي هذه السنة توفي أبو الفضل جبريل بن زطينا كاتب الديوان كان أولاً نصرانياً وأسلم في أيم الخليفة الناصر لدين الله) . ومنه يتخذ أنه عاش في أواخر القرن السادس للهجرة إلى الربع الأول من القرن السابع. وأنه كان نصرانياً وأما إسلامه فنعرف أنه لم يكن اختيارياً لما صار وقتئذ من الضغط على النصارى كما ورد في الكتاب المذكور (ص 596-597) عن ابن فضلان الذي كتب إلى الخليفة الناصر لدين الله يحضه على مناهضة النصارى والضغط عليهم. ومن ثم لا نرتاب في نظمه بين النصارى. ويؤخذ من شعره أنه عمر طويلاً.
وقد ذكر المؤرخ المذكور الذي نقلنا عنه في تاريخ سنة 631هـ (1232م ص 795) أن هبة الله ابن زطينا خلف أباه جبريل في الديوان ورتب كاتب السكة وذلك بإيعاز ابن حاجب قيصر النصراني كما يلومه في ذلك ابن رضوان. وهو دليل على نصرانية هبة الله وعلى أن إسلام والده كان تظاهراً ليس حقيقياً.
(أدبه وشعره) ورد ذلك في الكتاب المخطوط إلي أشرنا إليه فقال: وكان (ابن زطينا) ذا فضل وأدب وله نظم ونثر وأشياء مستحسنة ومن شعره قوله(9/372)
يحض على التوبة والصلاة والصوم (من السريع) :
إن سهرت عينك في طاعة ... فذاك خير لك من نوم
أمسك قد فات بعلاته ... فاستدرك الفائت في اليوم
وإن قسا القلب لأكداره ... فصفه بالذكر والصوم
وله في الاستغاثة بالله عند البلية (من الوافر) :
إذا أعيا عليك الأمر فارجع ... إلى رب عوائده جميلة
فكم من مسلك مع ضيق سلك ... تحلى واستبان بغير حيله
وقال يذكر ضعفه لتقدمه بالعمر (من السريع) :
أريد من نفسي نشاط الشباب ... ودون ما أبغيه شيب الغراب
فكيف السبعون جاوزتها ... ومذهب العمر رمي بالذهاب
ومطلبي عز وما دونه ... تأباه نفسي وأموري صعاب
وقد تحيرت ولا غرو أن ... يحار من يطلب ما لا يصاب
43- صاعد بن عيسى بن سمان
(زمنه دينه شعره) ورد ذكر صاعد في تاريخ كمال الدين ابن العديم الذي عنوانه بغية الطلب في تاريخ حلب فقال هناك يذكر ابن سهلون: (إسرائيل بن سهلون أبو الحسن الطبيب الحلبي أظنه من نصارى حلب ظفرت له ببيت من الشعر قرأته بخط بعض كتاب حلب مما اختاره من شعر صاعد بن عيسى ابن سمان الكاتب النصراني الحلبي. فكان صديقه أبو الحسن إسرائيل بن سهلون الطبيب عمل بيتاً وهو (من الطويل) :
أيا طيف من أهوى تسربلت عفةً ... وأشبهت في الأحلام فعلك يقظانا(9/373)
فأجابه يعني صاعد بني عيسى:
ولكننا متنا من الوجد قبل أن ... يسلم دجياً بالسلام فأحيانا
على مثل هذا الفعل كانت إمامة ... تواصلنا أحياناً وتهجر أحيانا
إذا كنت لا ألقاك في الدهر يقظةً ... فيا ليت أني ما عشت وسنانا
فمن ذكر صاعد في تاريخ كمال الدين يتعين أنه سبق هذا الكاتب المتوفى سنة 660هـ (1261م) وقد سها عن ذكره محمد أفندي راغب في كتابه أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء.
44- نصر الله الغفاري
(زمنه شعره) ورد أيضاً في أحد مخطوطات لندن الذي عنوانه كتاب تذكرة العلماء والشعراء للمملوك تاني بك الخزندار فنظم بين شعراء القرن الثالث عشر للميلاد نصر اله بن هبة الله الغفاري الكاتب الشاعر النصراني وروى له من الشعر قوله في توبته عن شرب المدام (من الخفيف) :
أيها الخل خلني وهمومي ... شغلتني ندامتي عن نديمي
عد عني كأس المدام فاني ... تائب عن وصال بنت الكروم
ختم الله لي بخير فما لي ... إرب في رحيقها المختوم
أنا لا اسمع الغناء فما لي ... ولثاني الثقيل والمزموم
قال ومن شعره أيضاً قوله في كذب المنجمين (من الوافر) :
إذا حكم المنجم في القضايا ... بحكم جازم فاردد عليه
فليس بعالم ما الله قاض ... فقلدني ولا تركن إليه(9/374)
ملحق بشعراء النصرانية بعد الإسلام
القسم الأول
ننشر هنا فوائد شتى من زيادات وتنقيحات على الأجزاء الثلاثة السابقة من كتاب شعراء النصرانية بعد الإسلام. والإعداد إلى هذه الطبعة المفردة.
ملحق بالشعراء المخضرمين
-2- الحارث بن كلدة (4-7)
ورد في العقد الفريد لابن عبد ربه (ج3ص414-416) حديث للحارث بن كلدة مع كسرى أنوشروان الفارسي رواه بعده ببعض التصرف ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء (110: 1-112) وفيه دلالة على عقله وأدبه ومعرفته بالطب كانت خاتمته كما جاء في العقد إذ قال كسرى: (لله درك من عربي لقد أعطيت علماً وخصصت به من بين الحمقى وفطنةً وفهماً) . ثم أمر بإعطائه وصلته وقضاء حوائجه.
وقد ورد للحارث في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري (ص 16) قوله في صديق (من الوافر) :
فما عسل ببارد ماء مزن ... على ظمإ لشاربه يشاب
بأشهى من لقيكم إلينا ... فكيف لنا به ومت الإياب(9/375)
الصفحة 5 السطر 14-20) هذه الأبيات البانية المنقولة عن الحماسة البصرية المتضمنة ألطف عتاب ذكرت في شواهد الكشاف للزمخشري وفيها بعض روايات كما ترى: البيت 2 (فأعتبهم غضاب - 4) (أغيرهم ثناء) أي تباعد - 5 (لا يدوم له وصال) - وقد روى الزمخشري للحارث هذا البيت (ص 117) :
نقبوا في البلاد من حذر المو ... ت وجالوا في الأرض كل مجال
الصفحة 6س -4-5 روى صاحب الحماسة البصرية هذين البيتين للحارث بن كلدة وقدم عليهما بيتين آخرين:
إن اختيارك لا عن خبرة سلفت ... إلا الرجاء ومما يخطىء البصر
كالمستغيث ببطن السيل تحسبه ... جزراً ببادره إذ بله المطر
وهو يقدم البيت الرابع (إن السعيد) على الثالث (لا أعرفنك) وقد روى (إذ أرسلت. إذ لا تنفع) .
ومما روي للحارث أيضاً قوله يذكر الزبابة وهي الفارة البرية الصماء يشبه بها الرجل الجاهل (كتاب الحيوان للدميري 4: 2-5) من (مجزوء الكامل) :
ولقد رأيت معاشراً ... جمعوا لهم مالاً وولدا
وهم زباب حائر ... لا تسمع الآذان رعدا
4- أكثم بن صيفي (ص 10-14)
روى له الجاحظ في كتاب الحيوان (15: 3) قوله (من المتقارب) :
نربى ونهلك آباؤنا ... وبين نربي بنينا فنينا
5- عبد المسيح بن بقيلة (ص 13-20)
ص 15 س19 إلخ (أصم أم يسمع) لهذه الأبيات روايات مختلفة وقد رويت(9/376)
على غير ترتيبها. البيت 1 رواه النويري في نهاية الإرب (129: 3) : (فازلم به) -3 روي فيه: (آل ذئب بن جحن) .
الصفحة 16س2 فيه: (يسري بالوسن ... يجوب في الأرض على ذات شجن) - س3فيه: ترتعني-س4 فيه: (تلفه) بالفاء-س13 روى المرتضي في أماليه (189: 1) أنباء علات ... فمجفو وحفور-س14 فيه (فمجفو ومحقور) .
ص18 س1 (لقد بنيت ... حصناً) روى المرتضي في أماليه (189: 1) بنيت ... قصراً- 2روى: به أنين.
ص19 س9 (تروح بالخورنق) روى السيد المرتضي في أماليه (189: 1) : تروح إلى الخورنق ص20 س8 (نلت بلغ المزيد) روى في المرصع لابن الأثير (ص 41) : فوق المزيد -س10 (أنال بالشرف) روى: أنال في الشرف.
6- الحرقة هند بنت النعمان (ص 20-29)
ص24 س19-20 (قصة هند والحجاج) رويت هذه القصة مع تفاصيل أخرى في أحد مخطوطات مكتبتنا الشرقية كتاب الحكايات والعتاب (ص 111-112) .
ص 26 س 12 (صان لي ذمتي) يروى البيت: حاط لي ذمتي ... الكريم الكريما.
ص 27 س 22 (قصة الحرقة مع سعد بن وقاص) رواها الشحري (شرح شواهد المغني للسيوطي 246: 1) مع المغيرة بن شعبة ويدعو الحرقة هناك (الخرقة) بالخاء.
ص 29 س 9-13 (أعداء إلخ) تروي هذه الأبيات في حماسة أبي تمام (ص 402) لعتي بن مالك العقبلي وروى البيت الخامس: (ولم نلق رحلينا.. جوز الليل) قال (جوز الليل وقت ميله وجنوفه إلى المغيب) .
-س13 (ولم نلو رحلينا) ويروى: ولم نلق رحلينا ولعلها الرواية الصحيحة.(9/377)
-7- الزبرقان (ص 29-37)
ورد في نقائض الفرزدق وجرير (ص 905-706) عن زوجة الفرزدق الملقبة بذات الخمار قال: (هي هنيدة بنت صعصعة عمة الفرزدق أخوها غالب أبو الفرزدق وخالها الأقرع بن حابس بن عقال المجاشعي وزوجها الزبرقان بن بدر) وقال ابن الأثير في كتاب المرصع (ص 91-92) : (سميت بذات الخمار لوضعها خمارها بحضرة أبيها وأخيها وخالها وزوجها. فقالوا لها: ما عهدناك متبرجة. فقالت: دخلتني الخيلاء حين رايتكم. فمن جاءت من نساء بأربعة يحل لها أن تضع خمارها كأربعة جئت بهم فصرمتي لها: أبي صعصعة بن ناجية وأخي غالب ابن صعصعة وخالي الأقرع بن حابس وزوجي الزبرقان بن بدر.
وما رواه الثعالبي للزبرقان في كتابه أحوال العالم في مخطوطات مكتبتنا الشرقية (ص 13) قوله (من الطويل) :
أخوك الذي لا ينقض الدهر عهده ... ولا عن صروف الدهر يزور جانبه
وليس الذي يلقاك بالبشر والرضى ... وإن غبت عنه تابعتك عقاربه
فخذ من أخيك العفو واغفر ذنوبه ... ولا تك في كل الأمور تحاسبه
ثم ألحق هذه الأبيات بثلثة أخرى تروى في الأغاني (27: 3) وفي حماسة البحتري (العدد 336) وفي غيرهما لبشار بن برد من قصيدة شهيرة قالها في مديح عمر بن هبيرة. وروى الدميري في حياة الحيوان للزبرقان قوله (من البسيط) :
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربض المستأسد الضاري
ص30 س22 (نحن الكرام ... ) يروى البيت أيضاً: فلا ي يقاومنا فينا العلاء.(9/378)
الصفحة 32 س15-16 (الطبري 1924: 3) يصلح العدد: الطبري 1964: 1 ص34 س3-11 (قال دثار بن شيبان) الأبيات الآتية رواها في نقائض جرير والفرزدق (ص 714) ونسبها إلى شيبان بن دثار النمري روى البيت الثاني: (بما اجترمت) ولم يرو البيت الأخير.
ص34 س12 (عامر بن بهدلة) وفي نقائض جرير والفرزدق يدعى عامر بن أحيمر بن بهدلة.
8- عدي بن حاتم (37-41)
لعدي بن حاتم الطائي أخبار كثيرة متفرقة في كتب الأدب وقد ذكرنا منها ما هو أثبت وأصدق. راجع أيضاً العقد الفريد لابن عبد ربه (148: 3) ونهاية الإرب للنويري (158: 3) وكتاب حسن الصحابة في أشعار الصحابة (ص 38-42) .
ص39 س12-17 (أجيبوا يا بني ثعل) هذه الأبيات قد شرحها محمد موستارلي جابي زاده في حسن الصحابة (ص 40-42) وقد روى في البيت الثاني: من بعد النقاء. قال: النقاء بالكسر وأصله مقصور.. وهو مخ العظام وشحمها من السمن.
ص40 س17 (كرم عدي) ما رويناه هنا عن كرم عدي نقلاً عن ابن قتيبة ذكره أيضاً ابن عبد ربه مرتين في العقد في الجزء الأول (س117) وفي الجزء الثالث (ص 131) وقد روى البيت الثاني (1: 14) . كنصل السيف سل من الخلل. وروى البيت الثالث في الجزء الأول: (ليس تعذر بالعلل) وفي الجزء الثالث: ليس تغدر بالعذل. وروى البيت الرابع: (فان تفعلوا شراً) .
10- النجاشي الحارثي (43-51)
قد وقفنا للنجاشي على مقاطيع أخرى غير التي ذكرناها. فمن ذلك ما ورد له في نقائض جرير والأخطل (ص 129) يهجو بني العجلان (من الطويل) :(9/379)
إذا الله عادى أهل لوم ورقة ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
وما سمي العجلان إلا لقولهم ... خذ الصحن فاحلب أيها العبد وأعجل
وروى له الجاحظ في البيان والتبيين (74: 2) قوله لأم كثير ابنة الصلت (من الطويل) :
ولست بهندي ولكن ضيقه ... على رجل لو تعلمين مزير
وأعجبني للسوط والنوط والعصا ... ولم تعجبيني خلةً لأمير
وفي الأخبار الطوال للدينوري ما رواه للنجاشي (ص 185) يذكر قتالاً جرى بين جعدة بن هبيرة وعتبة بن أبي سفيان في صفين فانهزم عتبة وقال النجاشي (من البسيط) :
إن شتم الكريم يا عتب خطب ... فاعلمنه من الخطوب عظيم
أمه أم هانئ وأبوه ... من لؤي بن غالب لعميم
إنه للهبيرة من أبي وهب ... أقرت بفضله مخزوم
وقال أيضاً (من البسيط) :
ما زلت تنظر في عطفيك أبهةً ... لا يرفع الطرف عنك التيه والصلف
لما رايتهم صبحاً حسبتهم ... أسد العرين حمى أبالها الغرف
ناديت خيلك إذ عض السيوف بها ... عوجي إلي فما عاجوا وما وقفوا
هلا عطفت إلى قتلى مصرعةً ... منها السكون ومنها الأزد والصدف(9/380)
قد كنت في منظر عن ذا ومستمع ... يا عتب لولا سفاه الرأي والترف
وروى له الدينوري أيضاً (ص 198) قوله يمدح الأشتر لما قاتل أهل الشام ورد لواءهم (من المتقارب) :
رأيت اللواء كظل العقاب ... يقحمه الشامئ الأخزر
دعونا له الكبش كبش العراق ... وقد خالط العسكر العسكر
فرد اللواء على عقبه ... وفاز بحظوتها الأشتر
وجاء في كتاب وقعة صفين بعد البيت الأول:
كليث العرين خلال العجاج ... وأقبل في خيله الأبتر
ثم زاد في آخرها:
كما كان يفعل في مثلها ... إذا ثاب معصوصب منكر
فإن يدفع الله عن نفسه ... فحظ العراق بها الأوفر
إذا الأشتر الخير خلى العراق ... فقد ذهب العرف والمنكر
وتلك العراق ومن قد عرفت ... كفقع تبينه القرقر
الصفحة 44 س 17 (تعاف الكلاب) روى الحصري في زهرة الآداب (هامش عقد الفريد 21: 1) : (وتأكل من عوف بن كعب بن نهشل.
ص45 س18 (يا أيها الملك) ورد في ديوان الأخطل (ص 112) البيت الأخير من رائيته منسوباً للنجاشي في هذه القصيدة وهو البيت الآتي:
قد أقسم المجد حقاً لا يحالفهم ... حتى يحالف بطن الراحة الشعر
ص48 س15 (دعاً يا معاوي) هذا البيتان اللذان نقلناهما عن المبرد رواهما(9/381)
الدينوري في الأخبار الطوال (ص 171) وقال أن النجاشي قالهما رداً على أبيات كعب ابن جعيل ثم ألحقهما بخمسة أبيات أخر وهي:
يرون الطعان خلال العجاج ... وضرب القوانس في النقع دينا
هم هزموا جمع جمع الزبير ... وطلحة والمعشر الناكثينا
فإن يكره القوم ملك العراق ... فقدماً رضينا الذي تكرهونا
فقولوا لكعب أخي وائل ... ومن جعل الغث يوماً سمينا
جعلتم علياً وأشياعه ... نظير ابن هند أما تستحونا
ومما يروى للنجاشي أيضاً ما قاله يوم صفين لما عزل علي الأشعث بن قيس وأقام في مقامه حسان بن مخدوج (راجع كتاب وقعة صفين (ص 100) من الطويل) :
رضينا بما يرضى علي لنا به ... وإن كان فيما يأت جدع المناخر
وصي رسول الله من دون أهله ... ووارثه بعد العموم الأكابر
رضي بابن مخدوج فقلنا الرضى به ... رضاك وحسان الرضى للعشائر
وللأشعث الكندي في الناس فضله ... توارثه من كابر بعد كابر
متوج آباء كرام أعزة ... إذا الملك في أولاد عمرو بن عامر
فلولا أمير المؤمنين وفضله ... علينا لأشجينا حريث بن جابر
فلا تطلبنا يا حريث فإننا ... لقومك درء في الأمور الغوامر
وما بابن مخدوج بن ذهل نقيضة ... ولا قومنا في وائل بعوائر
وليس لنا إلا الرضى بابن حرة ... أشم طويل الساعدين مهاجر
على أن في تلك النفوس حزازة ... وصدعاً يؤابيه أكف الجوابر(9/382)
الصفحة 50س1 -7 (وماء كلون الغسل) هذه الأبيات التي يخاطب فيها النجاشي الذئب تروى في عدة كتب كالمحاضرات للراغب الأصفهاني (292: 2) وكشرح شواهد المغني للسيوطي (ص 239) وغيرهما. روى الراغب (ر) البيت الأول: وماء كلون البول ... جاوزته محل. ورواه السيوطي (س) :
وماء قديم العهد بالورد آجن ... يخال رضاباً أو سلافاً من العسل (كذا)
وروى س البيت الثاني: (لقيت.. ضليع) وروى ر، س البيت الثالث: (هل لك في أخ) ثم روى (يؤاسي عليك بلا أثر ولا نحل) وروى البيت الرابع: (لم يأته تبع) وروى س البيت الخامس. (ولا مستطيفة) ثم روى ر: (وهاك اسقني) وروى ر البيت السادس: (من السخل) والصغو الجانب والسجل الدلو. وروى ر البيت السابع: (مطرب) فاستعوى وعدت وكل) .
11- جحية بن المضرب (ص 51-55)
قد التبس علينا وعلى غيرنا هذا الاسم فرويناه جحية كما ورد في الأغاني الجزء الرابع (118) وفي الجزء الحادي والعشرين (14-16) وفي فهارس الأغاني ولعل الصواب حجية بتقديم الجيم كما جاء في تاج العروس (84: 10) .
ص 54 س18-10 (بمنتصحات) ويروى: (بمنتصحات. (ولم يذع) والصواب: (ولم يدع) .
ص55 س7 (يصونون أحساباً) ويروى: إحساناً.
12- امرؤ القيس بن عابس (ص 56-60)
ص59 س18-19 (رب خرق) هذا البيت من الخفيف لا من الرمل وقد ورد في معجم البلدان لياقوت (829: 3) ذكره هناك مع بيتين آخرين هكذا:
رب مزق مثل الهلال وبيضا ... ء حصان بالجزع من عمواس(9/383)
لقد لقوا الله غير باغ عليهم ... وأقاموا في غير دار ائتناس
فصبرنا صبراً كما علم الله ... وكنا في الصبر أهل إياس
13- نائلة بنت الفرافصة (ص 60-63)
جاء في نقائض جرير والفرزدق (ص 190) (إن ليلى بنت الأحوص هي أم بسطام بن قيس وأخت فرافصة الكلبي) فهي إذن عمة نائلة بنت الفرافصة.
الصفحة 60 س11 (فتحنثت) قد أصلح ابن عبد ربه (272: 3) رواية الطبري فرواها: فتحنفت.
-س 20 (تحت ركابهم) أصلح: تحث ركابهم.
ص61 س22 (وتبكي قرابتي وقد غيبت) رواها ابن عبد ربه في العقد: (وتبكي صحابتي وقد ذهبت) .
ص62 س22 (دعت بفهر فهتمت فاها) جاء في كتاب أخبار النساء لابن تيمية (ص 70) : (إنه لما قتل عثمان رض وقفت على قبره امرأته نائلة بنت الفرافصة الكلبي فترجمت عليه ثم انصرفت إلى منزلها ثم قالت: إني رأيت الحزن يبلى الثوب، وقد خشيت أن يبلى حزن عثمان من قلبي إلخ ... وخطبها معاوية فبعثت إليه أسنانها وقالت: أذات عروس ترى. (وقالوا) لم يكن في النساء أحسن منها مضحكاً) .
14- ميسون الكلبية (ص 63-64)
ص64س1-9 (لبيت تخفق الأرواح..) روي البيت الأول في غرر الخصائص (ص 37) : (تخفق الأرياح وروي فيه البيت الخامس: (وبكر يتبع الأطلال ... من بغل ردوف) وروي البيت السابع: (من علج عنيف) .
15- أبو زبيد الطائي (ص 65-91)
ص67 س17 (أعطيهم الود) رواه السيد المرتضى في أماليه (194: 4) : (أعطيهم الجهد مني بله ما أسع) .(9/384)
الصفحة 68س2-3 (ابن عريسة إلخ) روى السيد المرتضى هذين البيتين:
ابن عرسيةً عنابها أشب ... ودون غايته مستورد شرع
شاسي الهبوط زناء الحاميين متى ... تنشع بوادره يحدث لها فزع
ص69 س6-24 (تذكار الأسد ... ) هذا الوصف للأسد لأبي زبيد الطائي ورد في تآليف عديدة غير التي ذكرناها كأمالي السيد المرتضى (194: 4-195) وكتاب الفاء باء للبلوي (385: 1-386) مع اختلافات في الروايات بعضها حسن وبعضها تصحيف نكتفي بالإشارة.
ص71 س4 (كالحجر الململم) رواه البلوي: (كالحجر المثلم) .
-س13و17 (قضاقض) رواه: (فصاقص) -س15 (للقران هطام) رواه: (هضام) .
ص72 س5 (وعينان كالوقبين..) رواه الجاحظ في كتاب الحيوان (146: 4) (في ملء صخرة ترى.. تسعر) .
ص76س16-20 (يا ليت شعري) وجدنا في كتاب الحيوان للجاحظ (146: 4و 69: 5) هذين البيتين لعلهما من أصل هذه القصيدة وفيهما وصف السد وهما:
كأن عينيه في وقبين من حجر ... قيضا اقتناصاً بأطراف المناقير
إذا تبهنس يمشي خلته وعثاً ... وهت سواعده من بعد تكسير
ص78 س3 (واستظل العصفور) روى الجاحظ في كتاب الحيوان (73: 5) : (واستكن العصفور) -س5 (من سموم) روى الجاحظ: (كأنها نفح نار سجرتها الهجيرة العماء) .
ص80 س2-3 (تذب عنه..) رواه الجاحظ في كتاب الحيوان (98: 3) : (كذود العرس) - وروى الشطر الأول من البيت التالي: (إذا ونى ونيةً دلفن لها) -س6-9 (ألا ابلغ..) هذه الأبيات من بحر الوافر لا الطويل. روى الشربشي في شرح المقامات (72: 1) البيت التالي (س8) :
فما أنا بالضعيف فتظلموه ... ولا حظي اللقاء ولا الخسيس(9/385)
ومنها بيتان روى أولهما الجاحظ في كتاب الحيوان (95: 4) وثانيهما أبو العلاء المعري في كتاب الغفران (ص 108) :
يحجن كالمحاجن في فتوح ... يقيها قصة الأرض الدخيس
فثار الزاجرون فزاد منهم ... تقرارباً وصادفه ضبيس
الصفحة 82 س15 إلخ (أخبرتنا الركبان) هذه الأبيات ذكرت في كتاب شواهد الكشاف (ك ص100) وفي شرح شواهد المغني للسيوطي (ص 219) روى البيت الأول في الكشاف: (خبرتنا الركبان أن قد فخرتم وفرحتم) .
ص83 س2 (هل علمتم) روى ك: (هل سمعتم من معشر شافهونا) .
-س5 (ثم لما تشذرت وأنافت) قال السيوطي في شرحه: (تشذرت رفعت الحرب ذنبها. وأنافت رفعت راسها) .
ص83 س8 (ولقد قاتلوا) جاء في شرح شواهد الكشاف بعد هذا قوله:
وحملناهم على صعبة زو ... راء يعلونها بغير وطاء
-س13 (ما أطاف المبس) روى ك: (ما أطاف الخميس) .
ص89 س10 (من يكدني) روي: (بشيء) وهو تصحيف. وهذا البيت يستشهد به النحويون لبيان كون فعل الشرط يكون مضارعاً وجوابه ماضياً.
انتهت الملحوظات على القسم الأول من شعراء النصرانية بعد الإسلام.(9/386)
القسم الثاني
ملحق بالشعراء الأمويين
1- هدبة بن الخشرم (95-113)
الصفحة 96س20-21 (زيادة بن زيد) صهر هدبة بن الخشرم رويت له في كتاب مجموعة المعاني (طبعة الجوائب ص42) أبيات عينية حسنة أولها:
وقد أبرزت مني الحروب مجرباً ... صليباً على وقع الحروب مشبعاً
ص101 س2-12 (ألا يا لقومي) وردت هذه الأبيات أيضاً في كتاب الألفاظ لابن السكيت (ص 458) وفي شرح شواهد المغني للسيوطي (س) (ص 96) . س4 (فلا تتقي) روى السيوطي الشطر الأول: (فلا ذا جلال هبنه لجلاله -س7 (عمدت) روى س: (لا يعير ... ولا يسب به قبري) -س11 (رمينا) روى س: (فصادف شهمنا منية نفس) -س12 (وراءك من معدىً) روى س: من معد ص104 س1 (يا ويل نفسي على غد) روى س (ص 97) : يا لهف نفسي -س12 (لقد زعمت) ذكر ابن السكيت في إصلاح المنطق أول هذه الأبيات:
أتنكر رسم الدار أم أنت عارف ... ألا لا بل العرفان فالدمع ذارف
وفيها:
ترى ورق الفتيان فينا كأنهم ... دراهم منها جائزات وزائف(9/387)
راجع أيضاً ابن السكيت في تهذيب الألفاظ (ص 121) الصفحة 104 س16 (هدبة بعث إلى عائشة) وفي شرح شواهد المغني للسيوطي (ص 97) : (بعث إلى أم سلمة) .
ص105 س3 (ابن أم كلاب) قال ابن الأثير في المرصع (ص 188-189) : ابن أم كلاب هو رجل من المدينة عشقته حبى المدنية فتزوجته على كبر سنها فضرب بها المثل.
ص106 س14 (وليس أخو الحرب..) رواه الأصبهاني في الراغب (103: 2) : (أخو الحرب الغليظة ... إذا زينته الحرب..) ص107 س17 (إن حزناُ إن بدا بادئ شر) روي: (إن حزماً منكما اليوم يسر) ص109 س17 (طربت..) وردت أبيات من هذه القصيدة في العقد الفريد لابن عبد ربه (182: 3) ص110 س 3 (فيأمن خائف) رواه في العقد: (ويأتي أهله النائي الغريب) ص111 س14 (وبعض رجاء المرء) روي البيت في نهاية الأرب للنويري (111: 3) لهرمة بن الخشرم بتصحيف اسم هدبة وهو يروي: (ليس نائلاً عناءً وبعض اليأس أعفى) .
2- موسى بن جابر (ص 113-118)
في كتاب محاضرات الراغب الأصبهاني (157: 1) ورد ذكر عمرو بن جابر الحنفي أخي موسى وروى له بيتاً في وصف عدو يكاشر عدوه إذا حضره (من الوافر) :
يكاشرني وأعلم أن كلانا (كذا) ... على ما ساء صاحبه حريص
3- شمعلة التغلبي (ص 118-121)
ص119 س20 (روى المبرد هذا الخبر ونسبه إلى عبد الملك) وهكذا وجدناه منسوباً إلى عبد الملك في كتاب الوزراء والكتاب للجهشياري المطبوع حديثاً (ص(9/388)
189) وروى البيت الأول لشمعلة: (وضربة بالرجل متى تهافتت.. ولا نكر) وروى البيت الثاني: (وأن أمير المؤمنين وفعله)
4- أعشى بني تغلب (ص 122-129)
ذكر في لسان العرب (80: 17 في مادة نوم) بيت لعمرو بن الأيهم وهو:
نعماتي بشربة من طلاء ... نعمت النسيم من شبا الزمهرير
قال المصحح في الهامش: (قوله الأيهم في التكملة في مادة هيم ما نصه: وأعشى بني تغلب اسمه عمرو بن الأهيم) قلنا: لم نجد في غير هذا المكان ما يؤيد زعم المصحح. راجع ما قلناه عن اسم الأعشى التغلبي ونسبه (ص 122) ومما يروى للتغلبي في الصحاح وفي اللسان في مادة (نما) قوله (من الوافر) :
وقافية كأن السم فيها ... وليس سليمها أبداً بنامي
صرفت بها لسان القوم عنكم ... فخرت للسنابك والخوامي
قال: النامي الناجي. وروى له النويري في نهاية الإرب (5: 2) (من الطويل) :
وكانوا أناساً ينفحون فأصبحوا ... وأكثر ما يعطونك النظر الشزر
5- أعشى بني أبي ربيعة (ص 129-135)
الصفحة 130 س3 (دخل على عبد الله) والصواب: على عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي. وقد منى الخليفة الأعشى بأبي عبد الله.
-س18 (قدم أعشى بني ربيعة على عبد الملك بن مروان) زاد ابن عبد ربه في العقد الفريد (118: 1) : وعن يمينه الوليد وعن يساره سليمان فقال له عبد الملك: ماذا بقي يا أبا المغيرة؟ قال: مضى ما مضى وبقي. وأنشأ يقول ...
-س20 (وما أنا في أمري) روى في العقد الفريد: (وما أنا في حقي)
ص131س1-4 (ولا مسلم مولاي) روى في العقد: (من سوء ما جنى ... من سوء ما أجني) -س2 روى في العقد: (وإن فؤادي) -س3 وروى الشطر الأول:(9/389)
(وفضلي في الأقوام والشعر أنني) -س4 روى: (وإني وإن فضلت) ثم روى قول عبد الملك لولديه الوليد وسليمان: (أتلوماني على هذا؟) .
10- القطامي التغلبي (ص 191-203)
الصفحة 200 س4-14 (وإني وإن كان المسافر) وردت هذه الأبيات في زهر الآداب للحصري (الطبعة الجديدة 71: 3-72) روى البيت الثاني: (يخسر ما رأى) وهو تصحيف -س6 روى الحصري: (لمخبرك الأنباء- س7 روى: (تلفت في ظل) -س9 (تصلى) روى بعد هذا البيت:
فجئت إليها من دلاص مناخة ... ومن رجل عاري الأشاجع شاحب
سرى في جليد الليل حتى كأنما ... تخرم بالأطراف شوك العقارب
تقول وقد قربت كوري وناقتي ... إليك فلا تذعر علي ركائبي
ص201 س1-3 (من المشتري القد) روى الحصري: من المشترين الغدر - س2 روى: علي مبيت السوء.
13- العجاج بن رؤبة (ص 2280-238)
ص230 س2 (الحمد لله الذي أعطى الشبر) هو البيت الذي أسندنا إليه قولنا بأن العجاج كان يدين بالنصرانية في أوائل حياته. وقد اعترض علينا السيد المغربي في جريدة ألف باء الشامية (عدد 9 حزيران 1925) فأجبنا على اعتراضه وبينا لجنابه الأسباب الأربعة التي حملتنا على نظمه بين شعراء النصرانية بعد الإسلام (في المشرق 23 (1925) : 558) ثم فيه 24 (1926) : 8) .
ص248 س7) فما فجع الأقوام من رزئها لك) هذا تصحيف والصواب: من رزء هالك) .(9/390)
القسم الثالث
ملحق بشعراء الدولة العباسية
5- الموصلي النصراني (ص 254)
ص254 س13-16 (عدي ونعيم) هذه الأبيات التي رواها البيهقي للموصلي النصراني وجدناها في نفح الطيب للمقري (513: 1) منسوبة إلى شاعرة نصرانية قال: (أنشدنا الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطي لزينب بنت إسحاق النصراني الرسعيني) نذكرها هنا بحرفها ويا ليته زادنا علماً عن زينب النصرانية المذكورة:
عدي وتيم لا أحاول ذكرهم ... بسوء ولكني محب لهاشم
وما يعتريني في علي ورهطه ... إذا ذكروا في الله لومة لائم
يقولون: ما بال النصارى تحبهم ... وأهل النهى من أعرب وأعاجم
فقلت لهم: إني لأحسب حبهم ... سرى في قلوب الخلق حتى البهائم
6- بشر بن هارون (ص 262-263)
جاء في كتاب جامع التواريخ لأبي علي المحسن التنوخي المتوفى سنة384هـ (994م) (في الصفحة 52 أنشدني أبو نصر بشر بن هارون الكاتب النصراني البغدادي لنفسه في أبي رفاعة بن كامل أحد خلفاء القضاة ببغداد على سوادها (من الوافر) :
قضى شعري على القاضي بحكم ... أجاب إليه مصفوعاً مذالا
ولو لم يستجب لنتفت منه ... سبالاً إن وجدت له سبالا
ونتف سباله شيء محال ... لأن الخلق صيره محالا(9/391)
قال: وأنشدني لنفسه في شعبان سنة 359هـ (970م) في رئيسين صرف أحدهما بالآخر (من الوافر) :
مضى من كان يعطينا قليلاً ... وأوفى من يشح على القليل
وأحسب أن سيملكنا مكد ... متى أطرد القياس على الدليل
فقل للفاطمي لقد تمادت ... أناتك في الحلول وفي الرحيل
فحث السير عل الله يهدي ... شفاءً منك للبلد العليل
10- عيسى بن فرخنشاه (ص 263-266)
ص264 س22 (ذكر له الصابئ) والصواب: ذكر له الصولي. وقد جاء في كتاب الإعجاز والإيجاز للثعالبي (طبعة مصر 1897 ص13) : عيسى بن فرخنشاه وزير المعتز كان يقول: القلم الرديء كالولد العاق. قال ابن عباد: وكالأخ المشاق. وكان عيسى يقول لا اشكر لحظه ويشكو لفظه.
12- ابن بطلان المتطبب (ص 266-277)
ذكر محمد أفندي راغب الطباخ في تاريخ حلب (194: 4-196) فضلاً في عناية ابن بطلان ببناء البيمارستانات بأنطاكية وحلب.
ص370 س9 (وفاة ابن بطلان) ذكرنا اختلاف الكتبة في تعيين سنة وفاة ابن بطلان بين السنة 444 و 463 هـ (1052-1070م) وذكر الطباخ في تاريخ حلب (1960: 4) أن ابن بطلان توفي بإنطاكية يوم الجمعة 8 شوال سنة 458 (1066م) والله أعلم.
ومن الشعر المنسوب إلى ابن بطلان ميمية في وصايا طبية أولها:
احفظ بني وصيتي واعمل بها ... فالطب مجموع بنص كلامي
رواها ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء (291: 1) قال أنها نسبت إلى الرئيس ابن سينا وإلى ابن بطلان والصحيح أنها لمحمد بن مجلي بن الصائغ العنتري.(9/392)
14- عون الراهب (ص 278-279)
وردت في كتاب أدب الكاتب للصولي (ص 81) أبيات في القلم أنشدها عون ولعله عون الراهب المذكور هنا.
19- أمين الدولة ابن موصلايا (ص 283-288)
هذا ما كتبه ابن الميسر في آخر الجزء الثاني من أخبار مصر (ص 99) (أمين الدولة أبو سعد العلاء بن أبي علي الحسن بن وهب بن الموصلايا كاتب الإنشاء بدار الخلافة ببغداد. كتب للقائم واقتدى واستظهر (أصلح: وللمقتدي والمستظهر) خمساً وستين سنة وكان ابتداء خبره منه في أيام القائم سنة 432 ومات في 18 جمادى الأولى سنة 499هـ (1106م) بعد ما أخر وكان ممتلي (يملي) على ابن أخيه أبي نصر وكان نصرانياً فأسلم في أيام المقتدي على يده ولم يزل موقراً وناب في الوزارة وله شعر وكان قد جمع من (بين) حسن الخط والبلاغة ولد ليلة السبت 16 شوال سنة 412هـ (1021م) .
21- أبو غالب ابن الأصباغي (291-292)
اسمه عبيد الله بن هبة الله كما جاء في وفيان الأعيان لابن خلكان (17: 2) الصفحة 291 س21 (عقرتهم معقورة) ذكر المقري في نفح الطيب (446: 1) أبياتاً لأبي بكر محمد بن زهر في وصف الخمرة:
ومسدين على الأكف خدودهم ... قد غالهم نوم الصباح ونالني
مازلت اسقيهم وأشرب فضلهم ... حتى سكرت ونالهم ما نالني
والخمر تعلم كيف تأخذ ثأرها ... إني أملت إناءها فأمالني
ثم قال (وزعم ابن خلكان (11: 2) أن ابن زهر ألم في الأبيات المذكورة(9/393)
يقول الرئيس أبي غالب عبيد الله بن هبة الله) ثم ذكر الأبيات وروى البيت الأول: (عاقرتهم مشمولة) وروى البيت الثاني: (ذكرت حفائدها)
28- أبو الفرج يحيى ابن التلميذ (ص 310-314)
وصف ياقوت في معجم الأدباء أبا الفرج بن التلميذ فقال (282: 7) : كان أديباً شاعراً وكان مقيماً بأصبهان مقرباً عند الأمراء والأعيان وقصده الشريف ابن الهبارية الأديب الشاعر فأكرمه وحباه وحل له بواسطته من الأمراء والأكابر مال عظيم فمدحه بعدة قصائد. توفي أبو الفرج معتمد الملك سنة 559 (1164م) .
ص311 س13 (فما أن تفارق) روى في معجم الأدباء (فما أن تفارقه) (كذا) وقد روى له ياقوت هناك هذين البيتين (من السريع) :
ما هذه الدنيا لطالبها ... إلا بلاء وهو لا يدري
إذا أقبلت فسدت أمانته ... أو أدبرت شغلته بالفكر
29- هبة الله بن التلميذ (ص 315-334)
وصفه ياقوت في معجم الأدباء (243: 7) وصفاً جميلاً فذكر معرفته باللغات الفارسية واليونانية والسريانية وتضلعه بالعربية وذكر الفائف وتقدمه عند الخلفاء وعلو مكانته لديهم وأنه (عمر طويلاً نبيه الذكر جليل القدر وأنه كان مقدم النارى في بغداد ورأسهم ورئيسهم وقسيسهم وكان حسن العشرة كريم الأخلاق ذا مروءة وسخاء حلو الشمائل كثير النادرة وكان يميل إلى صناعة الموسيقى ويقرب أهلها) وذكر له شعراً (246-247) .
34- يحيى بن ماري (ص 347-351)
ذكره ياقوت في معجم الأدباء (295: 7) وقال فيه أنه توفي بالبصرة ثم روى له في الاقتصاد (من الكامل) :(9/394)
نعم المعين على المروءة للفتى ... مال يصون عن التبذل نفسه
لا شيء أنفع للفتى من ماله ... يقضي حوائجه ويجلب أنسه
وإذا رمته يد الزمان بسهمه ... غدت الدراهم دون ذلك ترسه
(قال) وله أيضاً (من الكامل) :
لاموا على صب الدموع كأنهم ... لا يعرفون صبابتي وولوعي
كفوا فقد وعد الحبيب بزورة ... ولذا غسلت طريقه بدموعي
وروى أيضاً (من الخفيف) :
نفرت هند من طلائع شيبي ... واعترتها شآمة من وجومي
هكذا عادة الشياطين ينفر ... ن إذا ما بدت نجوم الرجوم
-35- بنو مماتي النصارى الأقباط
ذكر محمد أفندي راغب الطباخ في تاريخ حلب (322: 4) أسعد بن مماتي واتسع في ذكره وروى شيئاً من شعره في وصف الثلج (ص 327-328) .(9/395)
كتاب شعراء النصرانية بعد الإسلام
القسم الرابع
شعراء القرون المتأخرة
مباشرة بالقرن الرابع عشر
مقدمة
هو القسم الأخير من كتابنا في شعراء النصرانية بعد الإسلام ويبتدئ في القرن الرابع عشر بعد الدولة العباسية وانتهاء الحروب الصليبية. ويختم بشعراء القرن التاسع عشر دون الإتساع في من شاع ذكرهم وانتشرت آثارهم ودواوينهم.
ومما يجب التنبيه عليه أن آثار شعراء النصرانية في أواخر القرون الوسطى إلى القرن السابع عشر قليلة جداً وذلك لخمول أصاب اللغة العربية عموماً في بلاد الشرق بتملك دول غير عربية كدولتي المماليك المصريين البحرية والبرجية وكدولة الأتراك.
فقلما تجد من التآليف النفيسة المشبعة الممتعة كالتي سبقت ذلك العهد. وزد على ذلك ما وقع في تلك الأجيال من الحروب الطاحنة منها أجنبية ومنها أهلية أصيبت بها الآداب بضربة أليمة.
وما يقال إجمالاً عن كل الشعوب الشرقية يصح خصوصاً في النصارى الذين زادت أحوالهم سوءاً وضنكاً فكانوا أشبه بعبيد لا يتنسمون رائحة الحرية فيقصرون همتهم بأمر المعاش ولا يكادون يتفرغون للمعارف والدروس العقلية. وغاية ما كانوا يدركونه بعض الإلمام بمبادئ اللغة والكتابة. وإذا وقفت على شيء من آثارهم تجدها ركيكة ضعيفة التركيب والإنشاء يغلب عليها الألفاظ العامية الحوشية كالزجليات والأناشيد العامية وبقي ذلك إلى أواسط القرن السابع عشر حيث ظهرت تلك النهضة الأدبية التي تولى أمرها بعض أدباء النصارى الحلبيين بمساعدة المرسلين من الرهبان والمتخرجين في المدرسة المارونية في رومية العظمى وقد أفادت هذه النهضة الجديدة التي اتسع نطاقها في القرن التاسع عشر وبلغت اليوم سائر أنحاء الشرق.
هذا ما لزم شرحه في أول هذا القسم الرابع من مجموعنا في شعراء النصرانية بعد الإسلام فنبتدئ وعلى الله التكلان.
1- سليمان الغزي
بكل سرور نفتتح هذا القسم بذكر شاعر لم يأت له ذكر في كتب المستشرقين وفي التاريخ الوطني القديم. نريد به سليمان الغزي مؤلف ديوان كبير يعد أفضل مثال للشعر النصراني الديني الذي لم يسبقه إلى معانيه آخر.(10/)
(تعريف الرجل) لقد أفرغا الوسع للوقوف على أخبار هذا الشاعر سواء كان في التواريخ الشرقية والغربية النصرانية والإسلامية أم في الآثار الكنسية. فلم تجد له ذكراً حتى لم ينوه بذكره أحد من أبناء طائفته الملكية ممن بحثوا في أخبارها ومشاهير رجالها كالبطريرك مكاريوس الحبي صاحب التآليف الواسعة وكمؤرخي البطريركية الأنطاكية القدماء والمحدثين.
وغاية ما يمكن الحصول عليه في تعريفه إنما يستفاد من مراجعة ديوانه خصوصاً وكان سبقنا إلى ذلك جناب الكاتب الأديب والمؤرخ المحقق عيسى أفندي اسكندر المعلوف في مقالة حسنة نشرها سنة 1910 في مجلة النعمة (619: 1و658) وقد راجعنا نحن أيضاً النسخ العديدة التي وقفنا عليها من ديوانه وتتبعنا قصائدها لنقتبس من خلالها بعض التعليمات المفيدة للكشف عن أخبار ناظمها. فدونك ما حصلنا عليه.
(اسمه وأصله) اسمه مدون في صدر كل نسخ ديوانه على هذه الصورة (الشيخ الفاضل العالم الكامل سليمان الحكيم ابن حسن الغزي رضي الله عنه) وفي نسخة (قدس الله روحه ونور ضريحه) وجاء اسمه في نسخة ديوانه المصون في مكتبة القبر المقدس لروم الأرثوذكس في القدس الشريف (الشيخ الجليل العالم الفضيل الرئيس الحكيم الشيخ العلم سليمان بن حسن الغزي عليه الرحمة والرضوان أعاد علينا فضائله وعلومه ويفهمنا قصائده ومنظومه) .
فيحصل من هذه الأقوال أن المترجم كان اسمه سليمان وأن أباه كان يمسى حسناً وكلا الاسمين يشترك فيهم قديماً النصارى والمسلمون. وأن أصله كان من مدينة غزة التابعة لولاية فلسطين على ساحل بحر الشام بين يافا والعريش.
(زمانه) لا يستفاد شيء من ديوان سليمان الغزي لتعريف زمانه اللهم إلا ذكر بعض أديرة زارها سبقت العهد التركي كدير صموئيل ودير البقاع مما طمست آثارها قبل القرن السادس عشر. ولنا على زمانه دليل آخر في نسخ ديوانه. فإن نسخته المصونة في القبر المقدس تاريخها سنة 1690. وأقدم منها نسخة في حلب ذكرها عيسى أفندي المعلوف (النعمة 625: 1) تاريخها سنة 1557. ولعل إحدى نسخ مكتبتنا الشرقية أقدم عهداً كما يلوح من كتابتها وورقها فالمرجح أنها كتبت حوالي القرن الخامس عشر.(10/)
فليس إذن بمستبعد أن يكون الشاعر عاش في القرن الرابع عشر كما ذهب إليه صديقنا عيسى أفندي (ص 621) .
(دينه وأخباره) نصرانية سليمان الغزي ثابتة واضحة وضوح الشمس في كل قصيدة من قصائده وكلها منظومات دينية نصرانية. وإنما في نصرانيته مشكل أولد في النصرانية أو ارتد إليها عن دين آخر. وبعد مراجعة ديوانه والإمعان في قصائده تحققنا أنه لم يولد نصرانياً وأنه كان مسلم النحلة فتنصر بعد ردح من الدهر فتراه يشير كثيراً إلى حياته السابقة ويذرف الدموع السخينة على ضلاله وآثامه. كقوله في مطلع قصيدة (من الطويل) :
خليلي إن الخير للدهر نافعي ... ولا شك فعل الشر بالموت قاطعي
ولا تلحياني إن بكيت خطيئتي ... ونوحا علي تارةً وابكيا معي
خليلي ما بعد الخطايا رزية ... ولا بدعة بل فوق كل البدائع
دعا مقلتي تذري الدموع فربما ... نفى زفرات القلب فيض المدامع
ومثله قوله (من البسيط) :
أنا الذي كنت أولى أن أموت كما ... أخطيت دون المسيح ما به عيب
يا رب أثبت لنا نعماك فيه فما ... لنا سواه عظيم القدر مطلوب
واغفر لمن نظم الأبيات زلته ... فإثمه بإزار عينيه منصوب
وربما أشار إلى ما عرفه من مزاعم المسلمين كقوله في يوم البعث (من البسيط) :
لا تطمعوا إن يوم البعث يطعمكم ... من الفواكه أثماراً وأعنابا
ولا يزوجكم حوراً فيعجبكم ... جمالهن لدى الفردوس إعجابا
إن المعاد لدار ما ترون بها ... من المطاعم والملبوس جلبابا
فاحذروا الآن لا يطغيكم أحد ... وبئس من خالف الإنجيل كذابا
يأتيكم القوم في شكل الخراف ترا ... هم عند كشف ستار الوجه أذيابا(10/)
(مذهبه) ولكن ترى أي مذهب تمذهب به عند ارتداده. من المعلوم أن في القرن الرابع عشر كان نصارى الشرق ثلث فرق الروم واليعاقبة والنساطرة. وإنما بمولد سليمان بن حسن في غزة يتعين أيضاً المذهب الذي تبعه أعني به الروم ولم يكن في غزة في عهده غيرهم من النصارى ثبتوا هناك إلى زمن الأتراك ولنا سلسلة من أساقفتهم ناقصة (راجع مقالةً حسنة عن آثار النصرانية في غزة وضواحيها في المشرق 1 (1898) : 211-216) ثم في شعر سليمان الغزي ما يصرح بمذهبه في قصيدته النونية التي أولها (من البسيط) : ما كل معتمد بالماء نصراني=غير اعتماد حياة العالم الثاني فإنه يعدد بدع النصرانية ويكفرها كاريوس ومكدونيوس ونسطور ويعقوب البرادعي وغيرهم إلى أن يقول:
هذي مذاهب أقوام لكفرهم ... ضلوا الهدى عن طريق شبه عميان
فالفضل للأرثذكسيين إنهم ... تمذهبوا مذهباً في الله حقاني
وليس في روميته وأرثذكسية ما يشتم منه نفي تعاليم الكنيسة الكاثوليكية وكثيراً ما يذكر في شعره القديس بطرس هامة الرسل ورئاسته كما ورد في الإنجيل.
(زواجه) ويظهر من عدة مقاطيع من شعره أنه كان مقروناً بالزواج فيذكر زوجته ويرثي ولداً له وحيداً مات في العشرين من سنه وخلف ولداً صغيراً اسمه إبراهيم سبق والده إلى القبر (من البسيط) :
قد كنت ربيت نجلاً قلت ينفعني ... بعد الممات فمات النجل من دوني
جادت علي الليالي في تصرفها ... فبان عن والد مفجوع محزون
كغصن بان تثنى في شبيبته ... في جسمه أو كأغصان الرياحين
دفنته ابن عشرين وها أنذا ... شيخ بلغت إلى عصر الثمانين
لو استطعت فداه ما فجعت به ... وكيف يعطى فداه وهو يفديني
أظل مستوحشاً ممن يؤانسني ... أبكي فما أحد من يسليني
قد اشتهيت أتم العمر معتصماً ... بتوبة في ديارات الرهابين
حتى أموت ونفسي غير آسفة ... على حياة إلى موتي تؤدني
لولا حريم أراعيهم واحفظهم ... فهم عن الزهد في الدنيا يعيقوني
يا رب فاستر لأعمالي إذا كشفت ... يوم المعاد بديوان الدواوين
فبيعة الله أولى بي وأحفظ لي ... من كل حافظة كانت تربيني
وقال في محل آخر يذكر وفاة ابنه الوحيد (من البسيط) :
حل المشيب براسي بعد صبغته ... وحسنه فلبست الضعف والخرفا(10/)
قد كنت آمل بابني أن يساعدني ... على الزمان فإذ كاد استوى حتفا
ألفته فقضى دهري بفرقته ... ولست أول مفجوع بمن ألفا
فصرت فرداً وحيداً غير معتقب ... ابناً فأشغف في الدنيا به شغفا
يا نفس إن ضعفت منك القوى هرماً ... فما يعنيك إلا راحم الضعفا
ومن قوله اللطيف الدال على رقة قلبه وأسفه على فقيده (من المنسرح) :
يا ساكناً بالتراب يا سكني ... مشتملاً في التراب بالكفن
إني أخاف التراب يفسد ما ... لا مسه من نعومة البدن
يا حبذا مضجع حللت به ... لولا غطاء لوجهك الحسن
أزوره أشتكي جفاه فما ... يسمع قولي ولا يكلمني
اشغله الدهر عن مؤانستي ... ومنه بعد الدنو أبعدني
هيهات لا عودة تقربني ... منك ولا إن شكوت ترحمني
(زهده وترهبه) رأيت أن المترجم كان مرتبطاً بروابط الزواج وأنه كان متقدماً بالعمر على أنه كان يتوق إلى حل قيوده ليزهد في الدنيا ويترهب وقد تحققت أمانيه كما يظهر من بعض أقواله في قصائده حيث يذكر أنه ترهب في القدس قال في أول لاميته (من الطويل) :
ترهبت زهداً من مباشرة النسل ... وأعرضت إعراضاً عن المال والأهل
وقلت لنفسي حان أن تتيقظي ... فإنك في فعل الرذائل في شغل
وما لبس الناس السواد لحسنه ... ولكنه ثوب التواضع والذل
تراءى لنا فيه المسيح تنكساً ... لنزهد في ثوب التعظم والنبل
وسرت إلى البيت المقدس تائباً ... من الإثم في غصن الشبيبة والجهل
وختمها بالاستغفار من السيد المسيح فقال:
أقلني خطائي واعف عن قبح زلتي ... فمثلك من يعفو على خاطئ مثلي
(أسقفيته) والظاهر أن هذا الشيخ الجليل الذي ترهب بعد الثمانين من عمره حتى كاد يبلغ الهرم رقي إلى درجة الأسقفية. وذلك مما صرح به مخطوط مكتبة القبر المقدس السابق ذكره حيث أشار إلى بعض تآليفه (ص 53) التي سيأتي ذكرها فقال ما حرفه: (مسائل وأجوبة من ديوان الغزي وكان اسمه سليمان وكان مطران غزة رضي الله عنه) فهذه الإفادة النفيسة تزيد في تاريخ النصرانية في الشرق بعض الإيضاح ولاسيما غزة التي لم يعرف شيء من أخبارها في القرون الوسطى. وفي قصيدته الفائية التي مطلعها (من الكامل) :
النفس تبقى والجوارح تتلف ... حتى يبيد الهيكل المتألف
يصرح بأسقفيته حيث يقول:(10/)
يا بيعة الله الكريمة اسمعي ... مما يقول في الكتاب الأسقف
فهو المخاطب عن مسيح الله في ... ناموسه وهو الأعز الأشرف
لا تغفلي عما يقول تكبراً ... فذووا الفساد من الإجابة يأنفوا
وإلى مثل هذا أشار في محل آخر متواضعاً (من الوافر) :
بنوا أمي عسى أن تستغفروا لي ... خطائي بين أولاد الزؤان
فقد نجست ثوي القدس جهلاً ... بمن بجلال كسوته كساني
ومما يستفاد أيضاً من ديوان سليمان الغزي أنه كان غني الحال ثم ابتلاه الدهر ببلاياه وفي ذلك يقول (من البسيط) :
قد كنت في نعمة الله سابغة ... لو طاولوها ذوو الأقدام لم يصلوا
زالت وما زالت الأيام تفسدها ... كانت له أصلحت بالناس لو عقلوا
وقال في محل آخر (من الطويل) :
طمعت بذي الدنيا فصرت إلى البلى ... كما صار قبلي للبلى كل طامع
وقد قسم الوارث مالاً ذخرته ... فنفعهم من تركتي غير نافع
فكل الذي جمعته واقتنيته ... من المال والأولاد ليس بتابعي
ولا بد أن يسترجع الدهر كل ما ... أعار وأعطى يوم رد الودائع
فطوبى لمن يأتي بربح وويل من ... يوافي بخسران ووكس بضائع
ومثله قوله في نكبات الدهر (من الخفيف) :
دفعتني أيامه والليالي ... من علو القصور للأجداث
وكذا كل من تقدم قبلي ... قطعته نوائب الأحداث
كل راث لغيره من حتوف ... سوف يلقى من حتفه غير راث
وجديد الزمان من بعد حين ... يتلاشى إلى البلى والرثاث
ويستفاد أيضاً لتاريخ حياة سليمان شاعرنا ما قاله في الأديرة التي احتلها وتبرك منها (من الوافر) :
رأيت القدس في حلم المنام ... كضوء النور في كدر الظلام
فقدمت المسير إليه أسعى ... على قدمي في عقب الصيام
وحيد لم يصاحبني رفيق ... لخوفي من فساد الإلتئام
نزلت بدير صمويل المعلى ... تجاه الطور من جهة الشآم
لأدخل بيت صهيون المزكى ... فأقرئ ساكنيه بالسلام
وأجعل مريحنا في حلولي ... بأرض الغور للنجوى أمامي
وأرقى الذوق والحوريب أيضاً=كأن رؤياي فيه له ذمامي
وفي دير البقاع هجعت ليلاً ... وإخواني على برد الرخام
ونحو السيق اعني سيق سابا ... هممت فلا يخيب لي اهتمامي
دخلت بغير جارية إليه ... ولا امرأة على شكل الغلام
وفي دير الدواكس عدت أعدو ... سريعاً مثل طيار الحمام(10/)
ومنه إلى كنيسة بيت عنيا ... دخلت مجرداً مثل الحسام
لأسمع صوت رهبان أووها ... وألثم قبر عازر في الرهام
وأسمع في كنيسة بيت لحم ... من الإنجيل تفسير الكلام
وفي صهيون قمت وقام فيه ... ليغسل أرجل الرسل الكرام
(وفاته) لم نقف على تاريخ وفاة سليمان الغزي كما أننا لا نعلم بأية ميتة مات. وقد أفاد جناب عيسى أفندي في مقالته (ص 620) أنه (مات شهيداً كما رأى ذلك في بعض التعاليق على نسخة من ديوانه) فإن صح الخبر كان للغزي فخر جديد إذا أصاب ما تمناه وأشار إليه بشعره حيث قال يذكر هيكل جسده ويطلب تضحيته لربه (من الكامل) :
وبه أمجده لو أعلم أنه ... يرضى بصبري تحت ضر بلائي
حتى تتم شهادتي فيكون لي ... كأس المنية مثل كأس رواء
وأقوم عن يمناه وارث ملكه ... إذ كان فقري موجباً لغنائي
وعل كل حال إن ثبت خبر استشهاده وجب القول أنه نال هذه النعمة بعد حياة طويلة تجاوزت الثمانين حتى ناهزت التسعين من عمره.
(علومه) خلف سليمان الغزي ما عدا ديوانه آثاراً أخرى متفرقة يستدل منها أنه كان ضليعاً بالتاريخ الكنسي والعلوم الدينية وفن المجادلة مع المخالفين. فمما روي عنه في مجموعة كبيرة مخطوطة في مكتبة القبر المقدس (تحت عدد 101 ص 85) في أولها عدة مقالات لبولس ابن الراهب وللشيخ المكين نشرناها سابقاً. ثم كتاب في إثبات الأمانة هذا عنوانه (ص 53) : (وأيضاً نكتب شيئاً في برهان الأمانة مما رتبوه (كذا) المجامع المقدسة والآباء الثلثمائة وثمانية عشر والآباء القديسون مسائل وأجوبة.. من سليمان مطران غزة) وهو يبتدىء بذكر المجمع الأول مجمع نيقية. وقد وقفنا على نسخة من هذا الكتاب في مجموعة للخوري الفاضل الأب قسطنطين الباشا ناسخها (ص فرونيوس بن موسى الطرابلسي ابن الحاج سليمان الطرابلسي البتروني الأصل سنة 7152 للعالم (1644م) .
ثم له في مجموعة القبر المقدس المذكورة مقالة ثانية هذا عنوانها: (وللغزي أيضاً رضي الله عنا وعنه في معنى إيمان النصارى) يتبعها مقالة ثالثة أولها (اللهم إني أسألك بمحبة ناسوتك) .(10/)
ومثل هذه المقالات ما اطلعنا عليه في مجموعة للمنسينيور جرجس منش في حلب ومجموعة مثلها لحضرة الخوري قسطنطين الباشا (رسائل وردود للغزي على المخالفين للأمانة المستقيمة وعلى الهراطقة كآريوس وأوطيخا ونسطور ويعقوب البرادعي وساويروس) ثم مقالات أخرى عندهم في وحدانية الخالق وفي التجسد والصلب وفي الإنسان والعالم. وبعض فصولها مسجعه.
وهذا مثال من نثره وهو دعاء ننقله عن إحدى نسخ ديوانه المصونة في مكتبتنا الشرقي (ص 97) .
اللهم إني أسألك يا نور الأنوار، وعالم الأسرار، وكاشف الأضرار، الملك الجبار، ذا العزة والوقار، منزل الأمطار، ومحصي نبات الأشجار، وواضع الأرض في القرار، وجاعل الشمس لضياء النهار، الذي أسكن الوحوش القفار، والسمك البحار، والجو صنوف الأطيار، يا من لا تحويه الأمكنة والأقطار، ولا تدركه العقول والأبصار، ولا تغيره الأزمنة والأدهار، خالق الإنسان المختار.
اللهم نسألك بحلول كلمتك الأزلية، في العذراء النقية، أن تجعلنا من الأبرار، وإن تخلصنا بقيام مسيحك من شر الأشرار، إنك لم تهمل إنسانك في سقطته إلى الأبد، بل تعطفت عليه بعد طول المدد، وأصلحت منه ما كان فسد، وفككت من سبي الموت نفسه والجسد. حينئذ أبصر بعد العمى. وروي بعد الظما، وصارت السماء له أرضاً والأرض سما، فاشكري يا نفسي إلهك المحسن إليك والمسبغ نعمه لديك، كما يجب عليك، إنه تعالى المستحق المديح، والمستوجب الإكرام والتسبيح، الآن وكل أوان الدهر الداهرين. آمين.
وله دعاء يطلب فيه من الله أن يجعل نظره على الكنيسة التي تولى تدبيرها كأسقفها اعني غزة فقال متأنقاً:
اللهم بقاف القدرة، وميم الملك، وحاء الحياة، ونون النطق، وجيم الجلالة، وهاء الهيبة، وواو الوقار والوحدانية، والكاف الجامعة بين الكون والكلمة، سألك أن ترحم هذه الكنيسة القليلة العدد، المائلة الأود، أعطها يا رب حياة الأبد، وخلصها من كل شر ونكد، بشفاعة أجل من حملت ولد، العذراء أم النور وجميع القديسين. آمين.(10/)
(ديوانه) هو أول ديوان نصراني بحت فإن قصائده كلها لا تحتوي غير المعتقدات المسيحية والمعاني المسيحية والإشارات المسيحية بحيث يجوز أن يقال أنه هو أول شاعر نصراني ديني له التقدم على كل الذين ظهروا بعد ذلك في القرون التالية. والغالب على القصائد الوصف والمديح والزهد وبعض الرثاء.
والقصائد المذكورة تنيف عن السبعين ومعظمها بين الأربعين والخمسين بيتاً ومنها ما يزيد عن السبعين بل له أرجوزة ألفية تنيف على مائتي بيت يكاد المجموع يبلغ قريباً من ثلثة آلاف بيت من كل بحور الشعر. وفي رأس كل قصيدة دعاء من الناسخ كمألوف عادة كتبة الدواوين الإسلامية فتارة يطلب له الغفران وتارة يترحم عليه وحيناً يدعو له بالخير كقوله: (قدس الله روحه ونور ضريحه) وكقوله: (زاد الله بره وأجزل ثوابه) أو (عظم الله أجره) أو (أضاء الله رمسه) أو (آنس الله وحدته) أو (رضي الله عنه) أو (سبح الله نفسه) إلى غير ذلك من الأدعية الدالة على اعتبار الكتبة لهذا الشاعر.
وإذا أعملنا بصر الانتقاد في شعر سليمان الغزي وجب أن نفرق بين نظمه ومعانيه. فإن نظم الشاعر لا يخلو من ضعف سواء كان في التركيب أم في الجوازات الشعرية فإن في قصائده. أغلاطاً نحوية ومسوغات شعرية تجاوز فيها الحدود عن سواه من الشعراء ... ولعل بعض هذه الأغلاط اللغوية والخلل في ضبط الأوزان الشعرية قد تسرب إلى ديوانه بفعل الناسخين أو قل بالحري الماسخين. فمنها ما يصعب إصلاحها. إلا أن هناك من الشوائب ما لا يمكن نسبته لغيره لغةً ونظماً فيسكن المتحرك ويحرك الساكن ويصرف مالا ينصرف ويمنع المعرب عن إعرابه ويجمع الفعل مع ظهور فاعله وينصب المرفوع ويرفع المنصوب ويبدل همزة الوصل بهمزة القطع ويعكس إلى غير ذلك مما يدل على أنه لم يدقق في ضبط اللغة وفي لزوم قوانين العروض.
على أننا لا يمكننا أن ننظم شعره في جملة الشعر العامي فإنه أعلى منه طبقةً واضبط وزناً.(10/)
أما المعاني فإن شاعرنا يجاري فيها كبار الشعراء فإنه يحسن إبراز أفكاره بصورة لطيفة ويعرضها بالتشابيه البديعة والتعابير الرائقة ويتفنن بالمعاني فيخرجها على ضروب شتى تزيدها رقةً وتأثيراً في القلوب. وها نحن نختار بعض المقاطيع من شعره ليقف القراء على محاسنه. ومن ديوانه في مكتبتنا الشرقية خمس نسخ ترقى أقدمها إلى نحو القرن الخامس عشر قد سقط أوراق قليلة من أولها وآخرها. وكتبت الثانية والثالثة في القرن السابع عشر. والرابعة تاريخها السنة 7212 لآدم (1704م) بيد الشماس عيسى ابن جرجس عازرية. والخامسة حديثة العهد. فمن قوله الذي افتتح به إحدى نسخنا وصفه للإيمان الحق وتابعيه ظاهراً وباطناً (من البسيط) :
ما كل معتمد بالماء نصراني ... غير اعتماد حياة العالم الثاني
وبالمسيح شعوب الأرض اعتمدوا ... ونافق البعض منهم بعد إيمان
صاروا كأعضاء جسم في طبيعته ... منهم معين ومنهم غير أعوان
كم بطرك غير محمود بخدمته ... وأسقف غير مغبوط ومطران
من أراطقة المشهور ميلهم ... عن الصواب إلى زور وبهتان
قد فضل الله عنهم بيعةً جمعت ... أحجارها من أقاليم وبلدان
بنى لها الحق بنياناً فارتفعت ... إلى السماء بأعماد وأركان
من الزبرجد في ترتيبه نظمت ... ما بين در وياقوت ومرجان
أساسها صخرة الإيمان راسخة ... من تحت ذات أساطين وحيطان
وكل ذي جسد يحلو لناظره ... إذا تراءى بأجناس وألوان
فالروم والروس والإفرنج حلوا بقر ... ب الهند والخوز والأبخاز واللان
والأرمنيون والبشناك وافقهم ... أهل الجزيرة أعني أهل حران
وأرض شيراز والأهواز فاتفقوا ... مع العراق إلى أقصى خراسان
من مطلع الشمس حتى حد مغربها ... إلى الفرات وسيحان وجيحان
بيض وشقر وسمر في كنائسهم ... قد سبحوا الله مع صفر وسودان
فكل قوم إلى دين المسيح أتوا ... وبالهدي ربحوا من بعد خسران
شعوب شعب لكل منهم لغة ... تبلبلت من لسان كان سرياني
وكان منطق رسل الله قد خلقوا ... قبل الرسالة بالإنجيل عبراني
صارت لكل رسول منهم لغة ... جميلة ذات إسناد وبنيان
ولم يحابوا بتعليم وما عرضوا ... إيمانهم في الورى إلا ببرهان
لذلك افترقوا في نشر دعوتهم ... ولم يخافوا جميعاً كيد شيطان(10/)
حتى إذا كملت لله خدمتهم ... ناموا فكم ابغضوا نوماً ليقظان
وقام في عصبة الشيطان بعدهم ... مذاهب ذات إشراك وطغيان
فقال أريس نطق الله خالقنا ... اعني القديم حديث زائل فان
وقال مكدونيوس الروح ليس له ... اقنوم لي عدد إذ كان جسماني
وقال نسطور ناسوت المسيح على ... لاهوته جوهران أو قنومان
وقال يعقوب قول الله صح لنا ... من ذات اقنوم لا من ذات ثنيان
إلى أن ختم بما ذكرناه سابقاً.
هذي مذاهب أقوام لكفرهم ... ضلوا الهدى من طريق شبه عميان
فالفضل للأرثذكسين إنهم ... تمذهبوا مذهباً في الله حقاني
وينسب إذ خلصهم من ظلم فرعون وقادهم إلى أرض الميعاد ثم يلحقها بعجائبه بعد تجسده فقال:
فهو المخلص لإسرائيل من رجل ... عاداه في ظلمه موسى بن عمران
وهو الذي من مياه البحر أخرجه ... جهراً وأنزله في أرض فاران
وهو الذي بسحاب الغيم ظلله ... فلم تضر له شمس بأبدان
وهو الذي أنبع الأمواه من حجر ... صخر ليشرب منه كل عطشان
وهو الذي اصطفى هارون مغتفراً ... مآثم الشعب في تقريب قربان
وهو المؤدي لإيشوع ابن نون إلى ... أرض الوراثة من أعمال عمان
وهو الذي رد قرن الشمس في مغرب ... حتى تمكن من تهديم سيران
وهو الذي قد بنى صهيون بيعته ... قدساً فتم بناها من سليمان
وهو الذي بكلام الحق أوحى بأن ... يقيم فيها ملوكاً ذات تيجان
وهو الذي لشعوب الأرض أسكنها ... فقادهم نحوها من غير إمهان
وهو الذي بطلاء الطين ابرأ عيني ... أكمه فشفي في عين سلوان
وهو الذي طهر البرص الأولى طلبوا ... منه شفاءً فنالوا طهر ابدان
وهو الذي أشبع الآلاف حين أتوا ... خبزاً وأكفاهم من خمس رغفان
وهو الذي مست الامرأة بردته ... فعوفيت من نزيف من دم قان
وهو الذي أمر المخلوع يحمل ما ... قد كان يعلو عليه فوق أمتان
وهو الذي ضرب الجان الأولى علقوا ... بالمجدلية رب الإنس والجان
وهو الذي حول الما يوم عرسهم ... خمراً وريحته أذكى من البان
وهو الذي سار فوق البحر منطلقاً ... يمشي على البحر إكراماً لسمعان
وهو الذي يوم سبت قال: عازر قم ... فقام مشتملاً أثواب أكفان
وهو الذي منح الغفران خاطئةً ... ألقت على قدميه طيب أدهان(10/)
وهو الذي غسل الأقدام متضعاً ... لرسله كحكيم صالح الشان
وهو الذي من جحيم النار أنقذنا ... بعد الهلاك بإثم الوالد الجاني
إلى أن ختم بقوله:
فسبحوا الله يا أولاد بيعته ... ومجدوا بمزامير وألحان
ثم اطلبوا منه للمسكين قائلها ... أجراً يؤول إلى فوز بغفران
ومن محاسن قوله وصفه لزوال العالم وتحريضه على التوبة (من البسيط) :
لا يعجبنك من يصفو له الزمن ... فالمرء عند صفاء الدهر يمتحن
وارغب بنفسك عما ليس ينفعها ... فلا سرور لها يبقى ولا حزن
أما ترى حركات الدهر دائرةً ... لا تستقر ولا يبطي بها وهن
يباين البعض بعضاً من كواكبها ... ويدنو بعضها من بعض فيقترن
كم فرقت شمل قوم بعد وصلهم ... وجمعت شمل قوم غيرهم فدنوا
كم من عظيم جليل من ذوي ثقة ... له المهابة والأفضال والمنن
أتى الزمان عليه في تصرفه ... فأعدم الملك والسلطان والسكن
كفى بهم أنهم عن ربعهم رحلوا ... إلى القبور كقوم قبلهم ظعنوا
والترب يحجب جسماً عز مطلبه ... ولو تمزق عن أعضائه الكفن
ويأكل الدود أبداناً منعمةً ... ولا يعز عليها منظر حسن
ومن محاسن أقواله ما أنشده في قيامة السيد المسيح (من الكامل) :
زالت شكوك الناس والأوهام ... في البعث إذ قام المسيح فقاموا
والحق يشهد أنهم من آدم ... ماتوا وبادت في التراب عظام
حتى تجسد للخلاص مبشراً ... بحياتنا فجلت له الأيام
هذا الذي أحيا لنا لاهوته ... ناسوته فالموت منه منام
والقبر مفتوح تقدس باسمه ... وعلا على كل البلاد الشام
يا قبر أين يسوع هل وصلوا إلى ... ما دبروه بموته الحكام
يا قبر هل بلغ العداة مرادهم ... أم فاتهم بحسابهم ما راموا
يا قبر خف لك الإله كرامةً ... وسقاك من كأس الحياة غمام
يا قبر نور الله فيك مشعشع ... جند السماء لمجده خدام
يا قبر إنك في القيامة شاهد ... عدل لأجلك قامت الأجسام
هذا الذي وهب الحياة لآدم ... فتحيرت لصفاته الأفهام
لو لم يمت لما انقضت ثوراتهم ... وتعطلت بفروضها الأحكام
أنت الإمام لمن زكت أفعاله ... والحق فيما قد تقول إمام
طوبى لمعتمدين باسمك ثم من ... بسطوا يديهم في الصلاة وصاموا
طوبى لمن هربوا إليك وخلفوا ... أموالهم للوارثين وهاموا(10/)
طوبى لمن حملوا كما آمرتهم ... صلبانهم فهم عليك كرام
لولا الأمانة لم تصح ظنونهم ... أبداً ولم تصدقهم الأحلام
قربت لحم الفصح عن آثامنا ... خبزاً وصار لنا الحياة مدام
فتقربوه يا بني ميراثه ... فعساها تسقط عنكم الآثام
وادعوا لمن قال القصيدة إنه ... رجل يحق لمثله الإكرام
وقد أحسن في وصف نوائب الدهر فقال (من البسيط) :
حبل الوصال من الأعوان منصرم ... وكل ما بنت الأيام منهدم
يا دهر رد إلى جسمي شبيبته ... فقد تعالى علي الشيب والهرم
أبكيتني بعد ما أضحكتني زمناً ... والناس لابد أن يبكوا ويبتسموا
وساكنو هذه الدنيا على وجل ... من المنية والموجود منعدم
دنياهم أخبرتنا ما الذي فعلت ... قد شتتت شملهم بادوا وما سلموا
قد كنت أبكي على توديعهم أسفاً ... فأرتجي يوم لقيامهم إذا قدموا
واكتم الدمع خوفاً للفراق وما ... أطيق كتمان دمعي وهو منسجم
إني لأعجب يوم البين من جلدي ... والنار في باطن الأحشاء تضطرم
يا نفس قومي بخوف الله تنتفعي ... إن الألى كفروا بالحق قد أثموا
ومن ظريف قوله ما وصف به الإيمان المسيحي ومفاعيله العجيبة (من الطويل) :
بمعرفة الإيمان أثبت حجتي ... وتدنو من الآب القديم بنوتي
بمعرفة الإيمان عمدت كالذي ... بإعماده بالماء طهر حلتي
بمعرفة الإيمان أسمع منطقاً ... لإنجيله من قدس صهيون تبعتي
بمعرفة الإيمان أمحض ود من ... يجاهر في بغضي ويبغي منيتي
بمعرفة الإيمان أحفظ جانبي ... وادعو المساكين الأصاغر أخوتي
ومن لطم الخد اليمين أدر له ... شمالي ولم أحقد عليه بلطمتي
وأترك عن ذكر القبيح تغافلاً ... لقوم أرادوا بالقبيح أذيتي
بمعرفة الإيمان أخلع زينتي ... إذا كان ثوب الكبر يوجب سقطتي
وأليس ثوب الإتضاع وذله ... ليوجب يوم البعث عزي ورفعتي
بمعرفة الإيمان أطعم جائعاً ... وأكسو لعريان إذا شاء كسوتي
وللغربا آوي من البرد منزلي ... وأكرمهم في حال ضعفي وقوتي
بمعرفة الإيمان أصبح باذلاً ... لكل عليل أو حبيس معونتي
إلى أن قال مخاطباً السيد المسيح:
فيا سيدي أنت الطبيب لعلتي ... وموجب أسباب الحياة لسقطتي
كتابك ناموسي وجسمك هيكلي ... ووجهك في أعلى السماوات قبلتي(10/)
وفيك إذا صليت أسجد موقناً ... بأن إلاه العرش يسمع دعوتي
ويقبل قرباني بك الله خالقي ... ويصلح أحوالي بموتي وعيشتي
وقال يذكر تتمة النبوات بمجيء المسيح من قصيدة (من الكامل) :
وتجسم النطق القديم تجسماً ... تاريخه وحسابه محسوب
سبعون سابوعاً سنيناً أحصيت ... من دانيال ودانيال لبيب
ولقد أتى داؤود في ميلاده ... قولاً عن الرب القديم ينوب
إذ قال: قال الرب أنت اليوم لي ... ابن وإن مالت عليك شعوب
ويقول شعيا تحبل العذرا بمن ... للناس بالميراث منه نصيب
ولقد تنبأ عن يهوذا معلناً ... بالحق عنه شيخه يعقوب
إذ قال إن الملك منه ينقضي ... والأنبيا إذا أتى المحبوب
يعني مسيحاً قال ملكاً في السما ... وعدوه بصليبه مصلوب
هذا الذي إنجيله لشعوبه ... بالحق من داء القلوب طبيب
وبموته أحيا طبيعة آدم ... إذ كان آدم للخطاء ركوب
يا رب متعنا بهيكل قدسه ... للدهر إنك للدعاء مجيب
وقد قال في مديح العذراء مريم ووصف بشارتها (من الوافر) :
سما شرف لمريم في العذارى ... وفخر في جميع الأصفياء
فأمست في الدهور بلا مثال ... بتولاً وهي أم في سواء
أتاها بالبشارة جبرئيل ... ملاك السر في حلل البهاء
فقال: حييت مريم لا تراعي ... مباركةً تكوني في النساء
بحق تحبلين الآن بابن ... هو ابن لعلي الكبرياء
يكون له على يعقوب ملك ... إلى دهر الدهور بلا فناء
فقالت للملاك: وكيف هذا ... وما بشر تقرب من ردائي
فقال: عليك روح الله يأتي ... وقوته تحل من العلاء
ومن تلدين فالقدوس يدعى ... وابن الله يسمى في الملأ
فقالت: ها أنا أمة لربي ... فأقبل ما أتيت بلا إباء
فصدقت البشارة بابتهاج ... وتم بذاك قول الأنبياء
ولم يخصص بهذا الأمر إلا ... لمريم وهي أتقى الأتقياء
فشكر للعلي المولى وفخر ... بأم النور والدة الضياء
فإن لنا بها في الأرض مجداً ... وما بين الملائك في السماء
فنحن الخلق كان بنا سقام ... فأضحت مريم سبب الشفاء
أتتنا بالخلاص فأنقذتنا ... بذاك من الخطيئة والبلاء
وكان لآدم من قبل وعد ... فمن على يديها بالوفاء
فأهدوها بلا ملل سلاماً ... جديداً في الصباح وفي المساء
تولاها ولي وهو يرجو ... شفاعتها غداً عند القضاء(10/)
فترى من هذه الأمثلة أن سليمان الغزي كان مشبعاً من العلوم الدينية عارفاً معرفةً تامة بعقائد الكنيسة وآدابها وتاريخها. وكان في وسعنا أن ننقل عنه قصائد كثيرة بهذا المعنى لولا خوف الإطالة المملة. وفي ما ذكرنا ما يكفي لبيان فضله كشاعر مجيد على الرغم مما سوغ لنفسه من الإجازات الشعرية.
(تنبيه) حاول الأستاذ المغربي أحد علماء دمشق تخطئتيا في جريدة ألف باء بخصوص تنصر سليمان بن حسن الغزي فنقول: أننا لم نقدم على قولنا جزافاً بل لأسباب.
أولاً لأن أحد الذين بعنا منه أقدم نسخة ديوان هذا الشاعر أفادنا أنه يعرف بالتقليد تنصر ذاك الشاعر بعد إسلامه. ثانياً أن اسم والد الشاعر (حسن) هو اسم شائع خصوصاً عند المسلمين. وإن وجد قليل من النصارى الذي عرفوا به. وثالثاً ما يحويه الديوان من الرد على بعض مزاعم المسلمين كما روينا. ورابعاً استشهاده أي موته في سبيل الدين مما يثبت ذلك وإن أراد جناب الأستاذ أن يطلع على صحة الرواية فليطالب بها جناب عيسى أفندي اسكندر المعلوف وهو راو ثقة سبق إلى ذكرها. خامساً بل نجد في سكوت النصارى عن تنصر سليمان الغزي علةً تثبت تنصره إذ لم يجسر النصارى على الإعلان به خوفاً من الدولة وتعصب أهل دينه.
2- فخر الدين ابن مكانس
(اسمه ونسبه) قال أبو المحاسن ابن تغري بردي في المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي (هو عبد الرحمان بن عبد الرزاق بن إبراهيم الرئيس فخر الدين أبو الفرج وقيل أبو الفضل ابن شمس الدين ابن علم الدين الشهير بابن مكانس القبطي المصري الحنفي الأديب الشاعر) فمن لقبه والقاب أجداده ترى ما كان له من الشرف والاعتبار.
(زمانه وأعماله) قال أبو المحاسن في النجوم الزاهرة وفي المنهل الصافي. (كان مولده بالقاهرة سنة خمس وأربعين وسبعمائة (1344م) ونشأ بها وتعانى قلم الديون وغلب عليه الأدب حتى صار بارعاً فيه إلى الغاية مع المشاركة الجيدة في أنواع الأدبيات. تولى نظر الدولة بديار مصر مدةً طويلة ثم صار وزيراً بدمشق فباشرها مدةً إلى أن طلب إلى القاهرة ليستقر بها وزيراً فاسقى (فاستسقى؟) في الطريق فدخل القاهرة ميتاً وقيل مات بعد أيام في 15 ذي الحجة سنة 794هـ (1392م) .(10/)
(دينه) ولد فخر الدين ابن مكانس نصرانياً لكنه أسلم رثاءً ليس رغبةً في الإسلام أو اقتناعاً بصحته بل طمعاً في الارتزاق وحباً بالمناصب الشرفية. ولسنا لنروي ذلك جزافاً بل إثباتاً للحقيقة التاريخية ولنا على قولنا أصدق شاهد في ما ذكره ابن تغري بردي في المنهل الصافي عن المقريزي قال ما حرفه الواحد: (قال المقريزي بعد أن أثنى على أدبه (أي ابن مكانس) وفضله إلا أنه كان لعراقة آبائه في النصرانية يستخف بالإسلام وأهله ويخرج ذلك في أساليب من سخطه (سخفه) وهزله. أخبرني محمد بن إبراهيم البشتكي وكان قد عاشره دهراً طويلاً أنه سمع المؤذن يقول في آذانه: (وأشهد أن محمداً رسول الله) فقال: هذا له ثمانمائة سنة نودي فيه للشهادة وما ثبت. ومات وله عدة بنات نصارى. عامله الله بما يستحقه) انتهى كلام المقريزي. قلت (القول لابن تغري بردي) : هذا شأن سائر أقباط مصر قديماً وحديثاً إلا أن فخر الدين هذا كان انسلخ من أبناء جنسه بما اشتمل عليه من الفضيلة والأدب والشعر الرائق) . انتهى ما قلناه عن المنهل الصافي وهو يؤيد ما قلناه عن النصارى الذين يعدلون إلى الإسلام أنهم إنما يفعلون ذلك لغايات بشرية فيحق لنا أن ننظمهم في سلك النصارى.
(أدبه وشعره) كان فخر الدين ابن مكانس من كبار المتأدبين. ذكره السيوطي في حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة (33: 1) قال عنه (أنه كان وزير دمشق وناظر الدولة بمصر) وأنه كان (أحد فحول الشعراء وله ديوان إنشاء) إلا أنه قد غلط بذكر وفاته (سنة أربع وستين وثمانمائة) والصواب ما رويناه أنه مات سنة 794هـ. وقد جمع ابنه مجد الدين ديوان شعره وإنشائه منه نسخ خطية في خزانة كتب باريس وبرلين ولندن وغوطا ومونيخ ومصر وقد روينا له في كتابنا مجاني الأدب (2ع109) منتخباً من أرجوزته التي أولها:
هل من فتىً ظريف ... معاشر لطيف
يسمع من مقالي ... ما يرخص اللآلي
وهي طويلة وفيها يقول:
أسلك مع الناس الأدب ... ترى من الدهر العجب
لن لهم الخطابا ... واعتمد الآدابا
لا تغضب الجليسا ... لا توحش الأنيسا
لا تصحب الخسيسا ... لا تسخط الرئيسا
وختمها بقوله:
فهاكها وصيه ... تصحبها التحية
تحملها الكرام ... إليك والسلام(10/)
وروى له النواجي في حلبة الكميت (ص 308-313) موشحاً طويلاً وصف فيه رياض القاهرة ومحاسنها فيقول منها (من الرجز) :
باكر إلى جزيرة الفيل التي ... تختال في أفنانها كالجنة
ولا تمل من وجهها لوجهه ... صف حسنها لمائها والخضرة
وقف بشاطيها ولا تعدي
واجلس من المنية جنب الشاطي ... في فرش الروض على بساط
فهي من التدبيج في إفراط ... عروسة تختال بالأقراط
ومن لآلئ نورها في عقد
ومنها قوله في بئر البلسم في المطرية وهي البئر التي قدسها السيد المسيح فأنبتت البلسم قال:
وانظر إلى أنوار بئر البلسم ... فهي سبيل صحتي من سقمي
لكونها فيما يقال تنتمي ... إلى المسيح السيد ابن مريم
محيي بإذن الله ميت اللحد
بئر لها التعظيم والجلاله ... بدر أنارت واستنارت هاله
أنوذج الفردوس لا محاله ... فيها عن الجنة أي دلالة
تذكر الناس نعيم الخلد
وقال يعاتب صديقاً اسمه سراج الدين الإسكندر لهجره الخلان ويدعوه إلى مجلس أنس (من البسيط) :
يا ذا الذي فكره مثل اسمه يقد ... فندت عنا وما من شأنك الفند
بم اعتذارك عن هذا الصدور لنا ... هذا وقد ضمنا بالجيرة البلد
عافاك ربك من داء القطيعة بل ... شفاك من داء أمر كله نكد
فيم التواني وشهر الصوم مقتبل ... عن خمرة ضوؤها في الكأس يتقد
وفتية مخلصين الود قد جبلوا ... على المحبة لا حقد ولا حسد
إن ذاع وصفك في ناديهم طربوا ... أو جال ذكرك فيما بينهم سجدوا
إذا هجرت بني الآداب فأبدلنا ... بم اعتذارك لا أهل ولا ولد
ما هكذا تفعل الدنيا بصاحبها ... فالناس بالناس والأخوان تفتقد
وبعد فاحضر وذنب البعد مغتفر ... وإن تطاول من هجرانك الأمد
لا زلت ترقى على زهر النجوم علىً ... ما هبت الريح أقواماً وما رصدوا
ومن حسن أوصافه قوله يصف دوحةً وارفة الأغصان على شاطئ النيل (من البسيط) :
يا سرحة الشاطئ المنساب كوثره ... على اليواقيت في أشكال حصباء
حلت عليك عزاليها السحاب إذا ... نوء الثريا استهلت ذات أنواء
وإن تبسم فيك النور من جذل ... سقاك من كل غيم كل بكاء
ومنها:
لن يدرك الطرف أقصاها على كلل ... حتى تعود له لحظات حولاء
مالت على النهر إذ جاش الخرير به ... كأنها أذن مالت لإصغاء(10/)
باكرتها في سراة من أصاحبنا ... لا ينطوون على حقد وشحناء
تداعبوا في معاني شعرهم فأروا ... رد الأحبة في ألفاظ أعداء
ومن شعره قوله يذكر ابنه فصل الله (من الطويل) :
أرى ولدي قد زاده الله بهجةً ... وكمله في الخلق والخلق مذ نشا
سأشكر ربي حيث أوتيت مثله ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا
ولما تسلطن الملك الظاهر برقوق سلطنته الثانية سنة 792 (1390م) غضب على الصاحب فخر الدين ابن مكانس. قال ابن إياس (293: 1) : (ضربه علقةً قوية. ثم علقه من رجليه بسرياق فأقام وهو منكوس على رأسه نصف نهار ثم إن بعض الأمراء شفع فيه فأنزلوه فقال في هذه الواقعة (من البسيط) :
وما علقت بالسرياق منتكساً ... لزلة أوجبت تعذيب ماسوتي
لكنني مذ نفثت السحر من أدبي ... عذبت تعذيب هاروت وماروت
وقال يذكر يوم الحساب (من الكامل) :
وا سؤتاه إذا وقفت بموقف ... ما ينجلي فيه سوى الإقرار
وسواد وجهي عند أخذ صحيفتي ... وتطلقي منها شبيه الفاري
(أخو عبد الكريم ابن مكانس) أسلم كأخيه فخر الدين وتعين قاضياً وذكره ابن إياس في تاريخ السنة 788 (1386م) قال (264: 1) (وفيها طلع السلطان الظاهر برقوق على القاضي عبد الكريم ابن مكانس واستقر به في نظارة الجيش عوضاً عن موفق الدين أبي الفرج الذي ضربه مائة وخمسين عصاً. ثم قال (ص 266) في تاريخ 789 (1387م) : (وفي ربيع الأول جرت واقعة غريبة وهي أن السلطان دخل إلى القصر الكبير في غير يوم الموكب فلما جلس بالشباك رأى خيمة على بعد مضروبة في الروضة على شاطئ النيل فبعث من كشف عن خبرها. فلما عاد القاصد أخبر السلطان أن بتلك الخيمة كريم الدين الصاحب ابن مكانس ومعه جماعة وهم يشربون الخمر. فأرسل إليهم جماعةً من المماليك فأحضروهم بتمامهم وكمالهم بين يدي السلطان فأمر بضرب الصاحب كريم الدين بالمقارع وقرر عليه خمسين ألف دينار وعفا عن الباقين. وهذا من الغرائب) .
وفي ذكر هذه الرواية ما يريبنا عن صحة إسلام كريم الدين ابن مكانس كأخيه فخر الدين. ولم نقف على تاريخ وفاته.(10/)
(ابنه مجد الدين ابن مكانس) هو ابن فخر الدين الذي سبق ذكره قال أبو المحاسن بن تغري بردي في تاريخ سنة 822 (1419م) يذكر وفاته: (وتوفي الأديب الفاضل مجد الدين فضل الله ابن الوزير الأديب فخر الدين عبد الرحمان بن عبد الرزاق ابن إبراهيم بن مكانس القبطي الحنفي الشاعر المشهور في يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الآخر. ومولده في شعبان سنة تسع وستين وسبعمائة (1368م) ونشأ تحت كنف والده وعنه أخذ الأدب وتفقه على مذهب أبي حنيفة رض وقرأ النحو واللغة وبرع في الأدب وكتب في الإنشاء مدةً وكانت له ترسلات بديعة ونظن رائق ومن شعره قوله (من الوافر) :
بحق الله دع ظلم المعنى ... ومتعه كما يهوى بأنسك
وكيف الصد يا مولاي عمن ... بيومك رحت تهجره وأمسك
وله في محاسن روض (من الوافر) :
تساومنا شذا أزهار روض ... تحير ناظري فيه وفكري
فقلت نبيعك الأرواح حقاً ... بعرف طيب منه ونشري
وقال يمدح الشيب لبعثه على التوبة (من الطويل) :
جزى الله شيبي كل خير فانه ... دعاني لما يرضي الإله وحرضا
فأقلعت عن ذنبي وأخلصت تائباً ... وأمسكت لما لاح لي الخيط أبيضا
ولمجد الدين ديوان شعر منه نسخة في مكتبة برلين. وقد ذكره السيوطي في كتاب حسن المحاضرة فقال عنه: (تعانى الأدبيات ومهر ومات بالطاعون) .
-3- شاكر بن ريشة القبطي
هو أيضاً كما يظهر من اسمه ونسبه من نصارى الأقباط المرتدين إلى الإسلام لطمع في النفس كما رأيت في فخر الدين بن مكانس. وغاية ما وقفنا عليه من ترجمة حياته ما ورد في كتاب ابن حجر العسقلاني المعنون بالدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة قال: (هو شاكر بن ريشه القبطي الوزير تاج الدين ولي نظر الخاص بعد مقتل صرغتمش وولي الوزارة بعد ابن الخصيب وكان يتعانى الآداب وينظم الشعر مات سنة 765هـ (1364م) .(10/)
ولم نقف على شيء من شعره. وقد ذكر أبو المحاسن بن تغري بردي في المستوفي بعد الوافي أخاه عبد الله. قال: (عبد الله بن ريشه أمين الدولة القبطي الأسلمي ناظر الدولة. كان المذكور من أعيان الكتبة الأقباط وباشر في عدة خدم بالطالع والنازل (كذا) حتى ولي نظر الدولة واستمر إلى أن توفي في ليلة الأربعاء سادس جمادى الأولى سنة 790 (1388م)) .
-4-يوسف بن رزق الله الموقع
كان أيضاً من أقباط مصر الأسلميين. ذكره ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة قال: (يوسف بن رزق الله الموقع جمال الدين ابن أخت شرف الدين بن فضل الله باشر التوقيع بصفد وبغزة قبلها وكان له كرم ومروءة وله نظم وسط وعمر طويلاً لعله قارب التسعين وثقل سمعه لكن حواسه كلها صحيحة وهمته ابن ثلثين وهو يباشر التوقيع في صفد سنة 744 (1343م) .
-5-ابن القلاعي
(خلاصة أخباره) هو جبرائيل بن بطرس الماروني الشهير بابن القلاعي ولد في لبنان في أواسط القرن الخامس عشر وتاقت نفسه إلى العلم منذ نعومة أظفاره لكن حالة لبنان في ذلك العهد لم تسمح له بغير معرفة مبادئ القراءة والكتابة. ثم زهد في الدنيا بعد أن اختبر قلة هنائها. واتصل بالمرسل الفرنسيسي رسول لبنان فرا غريفون فأرسله إلى ديرهم العامر في القدس الشريف. فما لبث أن طلب الانضمام إلى رهابنية القديس فرنسيس فأرسل إلى رومية سنة 1471 مع رفيق من وطنه يدعى يوحنا. فانكبا هناك على العلوم الأدبية أو الدينية حتى اتقناها ورقيا إلى درجة الكهنوت.
وفي السنة 1493 أبحرا قافلين إلى أوطناهما. لكن مركبهما الشارعي أصيب بأنواء هائلة هلك بسببها غرقاً رفيق ابن القلاعي ونجا هو بنعمة خاصة من الله فأخذ يتعاطى فيوطنه كل أعمال الرسالة ليثبت أهل جلدته في إيمانهم ويرد غارات اليعاقبة الذي كانوا ساعين في تضليل اللبنانيين وزرع زوءان تعاليمهم في الجبل. فتصدى لهم وفند أضاليلهم وصان مواطنيه من فسادهم وقرر أمام رؤساء طائفته دوام اتحاد الموارنة مع الكرسي الرسولي.(10/)
وفي السنة 1496 أقيم ابن القلاعي رئيساً على دير رهبانه في قبرس فسكن في مدينة افقسية (أو نيقوسية) في دير الصليب وعني بأمور أهل المدينة بكل غيرة ولاسيما بالموارنة المهاجرين إلى قبرس. ولما توفي أسقف قبرس الماروني يوسف الكيزفانه سنة 1507 طلب الموارنة أن يقام خلفاً له على كرسي قبرس مواطنهم ابن القلاعي فأجاب الرؤساء إلى طلبهم فسقف المذكور وساس رعيبته أحسن سياسة إلى آخر حياته فانتقل إلى رحمة ربه سنة 1516.
(علومه وآدابه) هو أول كاتب ماروني اشتهر بتآليفه التي عددها البطريرك الدويهي في تاريخ الطائفة المارونية (ص 153-154) . فمن أخص مصنفاته مقالات في التعاليم المسيحية وفي أسرار البيعة وفي الطقوس وتفنيد الهرطقات وفي الحق القانوني الماروني مع خمسين موعظة في أخص المعتقدات الكاثوليكية وتراجم قديسين.
(الشاعر) كان جبرائيل ابن القلاعي شاعراً فطرياً لم يعرف من العروض والأوزان إلا ما أرشدته إليه الطبيعة وما سمعه في وطنه لبنان من الأغاني العامية أو المنظومات البيعية السريانية. فعلى ع=هذا الأساس بنى زجلياته التي خلف منها شيئاً كثيراً. فإذا قستها بالشعر الموزون والكلام الفصيح نفرت منها وإنما كانت العامة تستحسنها وتتغنى بها وبالخصوص لما كانوا يجدون فيها من ذكر حوادث الأجداد وحروبهم ومن التعاليم الدينية والأدبية ومن قصص الشهداء والقديسين ولاسيما من سيرة السيد المسيح ووالدته الطاهرة. وقد برع ابن القلاعي في كل ذلك فكان لأناشيده وزجلياته تأثير كبير في قلوب أبناء طائفته ولعلها كانت من أقوى العوامل لحفظ أهل ملته في دينهم المستقيم ولصيانتهم من وباء الأضاليل.
وها نحن نذكر شيئاً من زجلياته أيقف القراء على طريقته النظمية. وقد سبق له في المشرق (18 (1920) : 250-256) مناحة أو مرثاة قالها لما غرق رفيقه (الأب يوحنا أجوان الراهب الفرنسيسي الماروني) ونشرها حضرة المنسنيور جرجس منش ومما جاء فيها قوله:
باب الفراج يا حبيبي ... بالحق درب الخلاص
تركتني في التجاريب ... وأنت ذقت المغاص
ما كونا تنينا أخوه ... زي الطيور بالقفاص
لماذا تخيب نصيبي ... من سكنة لجج البحار؟
ومنها: يا حوت أبلعت يونان ... رابع يوم أخرجته صحيح(10/)
وصار نبي صادق ... عن قبر يسوع المسيح
اجعل أخي مثل يونان ... في وسط بطنك يستريح
وأخرجه منه زي يونان ... يكرز بما قد اختبار
طوباك يا كاهن الله ... لأنك اقتبلت الكليل
من أجل الطاعة استحقيت ... تسلك طريق الجليل
طوبى لأمك غنيه ... الذي ربتك يا فضيل
قربان تقدمت مقبول ... صالح وحسن الثمار
وهذا مثال آخر قاله في ما جرى للسيد المسيح عند موته:
وقال يسوع: الروح أسلمك يا أبي ... وقد احتنى رأسه وصار كالنائما
بساعة انفلق الصخر في وقت موته ... وأظلمت الدنيا وصار التهدما
والشمس انكسفت بغير وقتها ... حتى القمار اظلم في وقته معتما
واتزعزعوا الأموات جوا قبورهم ... وليس عاد نجوم تزهر في السما
وصار الظلام من السادسة للتاسعة ... على سائر الأقطار مسود مظلمت
نظر المقدم ذي العجائب كلها ... ودق على صدره وخف وتوهما
وقال: ابن الله كان هذا صالحاً ... جميع اليهود هربوا بخوف وتقمقما
قالون لبيلاطوس: تشيله عن الصليب ... لأن غدا السبت يوماً معظما
وقال لهم: اكسروا رجليهم ... حتى يموتوا واحفروا قبرهما
كسرون رجلين اللصوص اثنينهم ... ويسوع وجدوه ميت زي نائما
ليس كسرون رجليه لكن بحربه ... طعنوه في جنبه خرج دماً وما
لونجين كان اسمه الذي طعن المسيح ... وكانت أعيانه تغشت بالعما
ولما سكب الدم على عود حربته ... وضعه على عينيه بنور اسرجهما
وصال يقول: أنا بيسوع مؤمناً ... تشهد على اسمه وصار مكرما
وله زجلية مطولة في تاريخ لبنان وعن أصل الطائفة المارونية وفيها يقول:
نرجع نخبر عن مارون ... كان عالم بما في القانون
من أنطاكية أبوه اغاتون ... مطران مع السريان قد صار
جاء لطرابلس وتكلم ... مع الكردينال وعليه سلم
لقاه شاطر فاهم معلم ... أخذه معه في الإبحار
قال للبابا أخباره ... وثبت قوله وأسراره
رسمه بطرك وأعطا له ... درعاً وأوصاه يتحذر
قال له تجنب الملكية ... واليعاقبة والقبطية
جبل لبنان يكون لك رعيه ... في كفر حي مات ذا المختار
ومنها وصفه للحركة اليعقوبية في لبنان بعد ذكره (لعبد المنعم اليعقوبي الذي مات موتة لا دين ولا إيمان) قال يذكر ابن شعبان:
البطرك كان في قنوبين ... وان شعبان في حردين(10/)
جا يخدع المسيحيين ... منه تنسل ثلاث طغيان
ومن أصله كان رومي ... وبعد ذلك صار ماروني
جاء إليه داسوس ملعوني ... يدعى عيسى باسم مطران
ابن شعبان مع جماعة حردين ... وصاروا في زي الشياطين
واطغا العدماء والمنقطعين ... يعلمون البنات مع الصبيان
ويصلبون بواحد صابع ... وينكروا مجمع الرابع
وبابا لاون السابع ... وملك الأرتودكسي مرقيان
ومارون صار ملبوك معهم ... وكل عدم كان يتبعهم
والأفعى المسه تلدغهم ... ولا كان يفزع من النيران
مات الأفعى وقام ابنه ... وفي الطغيان انحس منه
عن الإيمان قد ضاع ظنه ... وراد يحرق لمن ينهان
فترى من هذه الأمثلة ما تميز به أول قوال لبناني صبرت زجلياته على آفات الزمان فلهجته تشعر بقرب عهد اللبنانيين بالتكلم بالعربية مع آثار اللغة السريانية الشائعة بينهم.
6-إبراهيم الأنطاكي
(أخباره وشعره) هو إبراهيم الأنطاكي ثم الحلبي المعروف بأصطا إبراهيم الحمامي النصراني. قال محمد بن إبراهيم الحلبي المتوفي سنة 972 للهجرة (1563م) في كتابه در الحبب في تاريخ حلب: كان شاعراً ذا ذكاء وذوق مع كونه عامياً وله موشحات وتصانيف وأعمال موسيقية مشهورة على لحن فيها وديوان حافل سماه (برهان البرهان) . ثم ذكر شيئاً من شعره وختم بقوله: توفي ليلة عيد الفطر سنة ست وعشرين وتسعمائة (1520م) : من شعره موشح قال فيه:
باكر يا صاح ... لرشف قدح
فالكاس زنا
د الخمر قدح
واشرب قدحاً ... وانف ترحاً
واجنح مرحاً
والمح لملح
بكر في الكأ ... س إذا جليت
بالبسط أكا
د أطير فرح
تنفي الأحزا ... ن بساحتها
وبنشوتها
كم شح سمح
في شرح معا ... ني بهجتها
قدح منها
للصدر شرح
تنفي+الأسقام ... من الأجسام
بها ما عام
وراح نصح
واشرع في صبح غبقتها ... فالديك على
الندمان صدح
والوقت صف ... والحب وفى
والكاس شفى
والهم سرح
والجو خلا ... والبدر جلا
والطير تسلا
والكاس طفح
إلى أن قال:
ما زلت مسا ... ئي مغتبقاً
في الحضرة حتى الصبح وضح
من عظم سرو ... ري في فرحي
أيقنت بأن
العقل شطح
وهو القائل في وداع أحباب (من الرمل) :
مقلتي يوم النوى إذ رحلوا ... خلفت من أجلهم طيب الكرى
إن تسل عما جرى من أدمعي ... فوق خدي بعدهم يا ماجري(10/)
وقال في معناه (من الرجز) :
أحبابنا من بعدكم ... أجريتم مدامعي
من لي معيناً في الهوى ... يبقى على المدى معي
وقال في وصف غلام (من الطويل) :
ولي رشأ حاز الجمال بأسره ... له طلعة فاقت على شفق الفجر
تحير فيه الواصفون لحسنه ... وقالوا: عجزنا عنه بالفكر والذكر
فقلت لهم: هذا الذي صح أنه ... كما شاعت الأخبار في البر والبحر
ترآى ومرآة صقيلة ... فأثر فيها وجهه صورة البدر
مهفهف من لطفه أعطافه ترنحت ... وخده لشقوتي وردته تفتحت
وقال يهجو بعض الأمراء وفيه نوع الكتفاء (من المجتث) :
أميرنا ذو معان ... محركات السواكن
حلا حلاوة لفظ ... حلو اللسان ولكن..
وقال يهجو صوفياً (من البسيط) :
لله صوفي وقت حاز أربعةً ... لاحت لنا من معانيها عبارات
دقن ودلف وعكاز ومسبحة ... دكان زو كرة فيها فشارات
7-عيسى الهزار القوال
(أصله. زمانه. ملته) كان أول من ألفت نظرنا إلى عيسى الهزار السيد المرحوم عبد يشوع الخياط بطريرك الكلدان في سنة 1904 فذكر عنه أنه كان قسيساً ورجح كونه عاش في أواخر القرن الثامن عشر وحكى عنه أنه في ليلة تغنى على السطوح بأغاني روحية فحنق عليه بعض أعدائه فأرادوا له سوءاً فهرب من وجههم مختفياً وكان ذلك آخر العهد به. (قال) ولعله ذهب إلى القدس وهناك قضى عمره. وشك الكاتب في ملته أكان من طائفة الكلدان أم من السريان وإنما أثبت كونه من الموصل.
ثم وردتنا في السنة 190 مجلة الشرق المسيحي وإذا في عددها الثالث (ص 251-273) مقالة مطولة نشرها المتشرق الإسباني الكاهن مخائيل اسين بلاسيوس أستاذ العربية في مدريد مضمونها قصائد روحية باللغة العامية للقوال عيسى الهزار نقلها عن مخطوطة للعلامة الكبير فرنسيسكو كوديرا مواطنه يؤخذ منها إن اسمه كان فارساً ثم اشتهر بعيسى ولعله اتخذ هذا الاسم الأخير لما صار كاهناً. وأما كونه كان يسمى فارساً فالدليل عليه ما قاله في آخر أنشودة من أناشيده.
فارس قد نظم هذا المديح ... في العذار البتول أم المسيح
وأما اسمه (عيسى الهزار) فقد كرره مراراً في خاتمة قصائده كقوله:
أنا هو عيسى الهزار ... ونظمي في الملا سكر
ويقول في محل آخر مخاطباً العذراء مريم:(10/)
يا درة داؤد يا شمس الحلو ... عيسى الهزار فيك يمدح ويقول
ويروي أيضاً في نظمه أنه من طائفة السريان كقوله في مديح آخر للبتول:
وكيف لا أمدحها ألوان ... وأنا من جملة السريان
أما وطنه فيستفاد من أناشيده أنه كان من نصارى العجم وأنه قدم من بلاده إلى القدس الشريف حيث يقول:
(إلى القدس الشريف ... ارحل من بلاد العجم)
ويدل اسمه (الهزار) على أصله العجمي والهزار بالفارسية البلبل ولذلك دعا أيضاً نفسه (هزار الشرقي) .
ومما أفادتنا هذه المنظومات المنشورة في مجلة الشرق المسيحي أن عيسى هزار تجول في أنحار الشام وزار صيدنايا ووصف كنائسها وصورتها الشهيرة. لا بل امتزج بطائفة الروم المتملكين عليها فمدح بطريركهم المسمى يواكيم:
يا رب بالبكر مريم ... احفظ لنا ذا الملعم
أنبا يواكيم أبينا ... البطريرك المكرم
ولعله وهو سرياني كما سبق قوله عدل إلى طائفة الروم الملكيين ولذلك دعا البطريرك يواكيم بأبيه.
ويدل على عدوله هذا إلى الملكية ما عدا قصائده في مزار البتول في صيدنايا زجلية طويلة قالها في السيد المسيح وختم كل أدوارها بهذه الألفاظ اليونانية (اجيوس اوثاوس اجيوس ايسشيروس اجيوس اثاناطوس) أي قدوس الله قدوس القوي قدوس الحي.
فبقي علينا تعريف زمانه. وذلك مما يستدل عليه من النسخة الخطية التي نقل عنها حضرة اسين بلاسيوس حيث قال أن ورقها يشعر بكونها من القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر.
ثم دخلت في مكتبتنا الشرقية مجموعة قديمة من أناشيد لعدة قوالين تؤيد هذا الراي ولا يبعد كونها من أوائل القرن السابع عشر.(10/)
وقد كتب لنا الطيب الذكر المرحوم السيد بطرس شبلي رئيس أساقفة بيروت سنة 1907 أنه وجد في قائمة مخطوطات الفاتيكان التي ألفها السمعاني فنشرت في تأليف الكردينال ماي، ذكر مجموع مخطوط تاريخ كتابته سنة 1868 لليونان الموافقة للسنة 1557 للمسيح فيه عدة قصائد لعيسى هزار. ومن ثم يترتب على ذلك أنه كان في أواسط القرن السادس عشر. ومن هذا أيضاً نستنتج أن البطريرك يواكيم الذي أشار إليه هو يواكيم المعروف بابن زيادة كان مطراناً على حمص ثم صار بطريكاً ملكياً نحو السنة 1593 وتولى البطريركية 11 سنة فيكون إذن عيسى الهزار عاش إلى أواخر القرن السادس عشر.
(منظوماته) هي كلها مدائح وزجليات على طريقة العامة على أوزان وادوار وقواف خاصة. نشر منها حضرة الكاهن اسين بلاسيوس عدة أمثلة نقلنا شيئاً منها في المشرق (9 (1906) : 1708-1104) وفي مخطوط مكتبتنا الشرقية الذي أشرنا إليه خمس زجليات لعيسى هزار في أول هذا المجموع (ص 1-25) أما موضوع هذه الزجليات فمعظمها مدائح قالها في العذراء مريم والسيد المسيح. دونك شيئاً من مديحته في قيامة المسيح:
بلغني المسيح آمالي ... وغيره مخلص مالي
في يوم القيامة ذخري ... هو كسبي وهو رأس مالي
سيدنا يسوع الباقي ... في يوم القيامة ديان
في حبه بحور أشواقي ... ماجت مثل موج الطوفان
في أعلى المراتب باقي ... وسره سرى في الأكوان
مدح ابن البتول العالي ... ودينه العزيز الغالي
وأمه عدتي في حشري ... تخفف جميع أثقالي
هو النجم العظيم الزاهر ... من قبره تفيض الأنوار
ودينه الشريف الطاهر ... كمل دين موسى المختار
ودعانا بنين القادر ... وآمرنا بشد الزنار
ذكره في الملا يحلى لي ... وأصلح جميع أحوالي
فأفني في مديحه عمر ... وارجوه في غد يبقى لي
ومن أقواله في العذراء مريم (على وزن يا من احرموني لذيذ المنام) :
في العذرا النقية يروق النظام ... خلوص البرية وشمس الأنام
الدرة المضية مصباح الظلام ... في الموقف شفاعة منها ارتجي
هي الست المطاعه ... إليها التجي
ما أحلى ذكر مريم في وسط القلوب ... منها تجسم ديان الشعوب
يسوع المعظم غفار الذنوب ... في يوم القيامة إليها التجي
هي النور والحماية ... والصوت الشجي(10/)
وهي طويلة وفي ما ذكرنا دليل على براعته في هذا الفن فضلاً عن عواطفه الدينية الشريفة ومعانيه الرقيقة اللطيفة.
8-ميخائيل حاتم القوال
(زمانه. طائفته) هو الشيخ ميخائيل بن حاتم الحمصي. ولد في حمص في أواخر القرن السادس عشر واشتهر في القرن السابع عشر. فكان معاصراً لعيسى الهزار وتأخر بعده وهو من الطائفة الروم الملكية قبل انقسام الملكيين إلى اورثذكس وكاثوليك. وفي بعض زجلياته يذكر وجوده في مصر. وله فيها مديح قاله في البطريرك كيرلس بابا الإسكندرية أراد به كيرلس الشهير بلو كاريس الذي نال بالرشوة الجلوس على كرسي الروم الملكيين في الإسكندرية نحو السنة 1600 قبل أن ينتقل إلى كرسي القسطنطينية سنة 1631 حيث نشر تعاليم البدعة البروتستانية فقام عليه أهل ملته فنفي إلى جزيرة تنيدوس ثم قتل سنة 1636.
ويؤخذ من شعر ميخائيل حاتم أيضاً أنه سكن الشام ومدح القديس يوحنا الدمشقي وزار صيدنايا ووصف معبدها الشهير وصورتها العجائبية. ولا نعرف سنة وفاته. ولعله عاش إلى أواخر القرن السابع عشر. ولم يذكره أحد كتبة الروم.
وقد إحدى صفحات ديوانه (ص 99) المؤرخة في آذار من السنة الهجرية 1028 (1619م) . وقد ختم زجلية أخرى من منظوماته بتاريخ العالم 7110 وهي 1602 مسيحية.
(ديوانه وشعره) في مكتبتنا الشرقية نسخة فريدة من ديوان ميخائيل حاتم تبلغ 436 صفحة من القطع المتوسط وهي بخط يده كتب في رأس أول صفحة منها: (نبتدئ بعون الله تعالى بكتابة مدائح لطيفة وأشعار في سيدنا يوسع المسيح وسيدتنا الطاهرة مريم وهو من ديوان الشيخ المعلم ميخائيل ابن حاتم الحمصي وهو خطه بيده) .
والتاريخ كما رأيت في السنة 1619 مسيحية أثبته في آخر زجلية طويلة في مديح العذراء مريم كما يلي (ص 97) :
يا مريم عبدك ميخال حاتم حار ... في وصف معنى مديحك عاملي حار
وقت الضحى والمسا والليل والأسحار ... مراصد المديح كالطلسم والأسحار
حسن الرقم في نهار السعد من آذار ... برج الحمل انتقال الشم منها دار
أول ربيع اتفق لي بالقمر إبدار ... تاريخ يوم الأحد ذو الشرق بالجندار(10/)
سنة 1028هـ (1619) هذا الديوان يحتوي على نيف ومئة قصيدة من الزجليات المختلفة الوزن على كل فنون الزجليات يلقيها الشاعر عفواً لا يراعي فيها شيئاً من قواعد اللغة شأن معظم القوالين الذين يجرون على أنغام المغنين. وميخائيل حاتم في أول كل زجلية يدل على أوزانها المعروفة في زمانه بين العامة كقوله مثلاً (ص 159) (على وزن: يا كثير العفو يا عظيم الشان) وقوله (183) : على وزن (ألا يا وردة البحر) وقوله (239) : على وزن (يا عزيز القوم قلي) وهلم جراً. ولعل معظم هذه الأوزان القديمة قد ألغي ونسي والله أعلم. دونك بعض أمثلة من أقواله. قال يعارض أحد أقرانه على وزن: (جفاني صاحبي وأرسل يقلي) .
المطلع:
رجائي فيك يا يسوع وافر ... بما أنك على الأشياء قادر
باسمك ابتدي بالنظم جهدي ... وأعارض في قريضي نظم ضدي
تقبل يا يسوع الحي نشدي ... واجعلني لقول الحق ناشر
أنا أنت المشرف بالأسامي ... أما أنت الممجد في الأنام
أما أنت المنور للظلام ... أما أنت لنا أول وآخر
أما أنت الذي رفع التلالا ... أما أنت الذي أرسى الجبالا
أما أنت الذي حاز الكمالا ... أما أنت الذي بالحق قادر
نعم أنت الذي كونت عالم ... كما أنت الذي صورت آدم
وأنت الذي أبدعت ما لم ... يكن إذ صرت له ناهي وآمر
نعم أنت الذي زان الكواكب ... كما أنت الذي للعرش راكب
وأنت الذي للغيث ساكب ... على زرع الثرى مع كل زاهر
نعم أنت المسبح بإملائك ... كما تلمك في أعلى سمائك
وأنت الذي للكل مالك ... وحكمك منصف ليس بجائر
فهذا هو الذي للناس كلم ... وهذا هو الذي منا تجسم
في يوم حلوله أحشاء مريم ... وفي تأنسه دقت بشائر
وقال مستعطفاً على وزن (مضي لي سنين مع الهالكين) :
يا من لا ينام ... يا زين الأنام
رمتني الآثام
في حال السقيم
انهضي لديك ... واتكلني عليك
واجذبني إليك
جذباً مستقيم
يا كنز الصلاح ... يا عين الفلاح
ألقاني الطلاح
في الفعل الوخيم
انصحني بمائك ... من أعلى سمائك
واذكر في حمائك
ضعفي يا كريم
غثني يا مسيح ... من داء جريح
رماني طريح
في لليل البهيم
يا نور الظلام ... يا رب السلام
صني من ملام
أبناء الجحيم
أمهلني أنيب ... قبل أن أشيب
بنعمة الصليب
والأم الرحيم(10/)
هي أمل نسلها ... ونعمة نجلها
نسأل بفضلها
فردوس النعيم
فيها احتسب ... منها اكتسب
حاتم النسب
ميخال الأثيم
وله زجلية طويلة في عدة صفحات يزجر فيهلا نفسه ويحضها على التوبة منها قوله:
يا نفس غير الله لا تقصدي ... يا نفس دونه خلاً ما توجد
يا نفس إن خدمته تسعدي ... يا نفس هو الكفؤ وذو الفضل العجيب
يا نفس ذي الدنيا محل حقير ... يا نفس من يعشقها يصبح أسير
يا نفس أفراحها عبء ونير ... يا نفس بحب الله تشفى القلوب
يا نفس مولاك عزيز الجلال ... يا نفس أوصاك بحسن الخصال
يا نفس إياك سبيل الضلال ... يا نفس إن الجاري فيه كئيب
حسبك بهذا القليل مثال يبين طريقة ميخائيل حاتم في منظوماته الزجلية. وهي مع ضعف لغتها لا تخلو من معان بليغة وعواطف شريفة يبرزها بكل أوزان الشعر العامي. ويشفع فيه أنه كان ينظمها في زمان أصبحت العربية في غاية الخمول في الشرق العربي بعد تولي الأتراك وحالة البلاد السيئة وقلة المدارس فلا تكاد تجد كاتباً يستحق الذكر.
-9-انطونيوس فريجي اللبناني
(تعريفه) في مكتبتنا الشرقية مجموع قديم بالكرشوني كتب في السنة 1684 كما هو مدون في آخره. يبلغ عدد صفحاته 211 صفحة. والكتاب يتألف من قسمين قسم يحتوي زجليات ابن القلاعي الذي سبق ذكرها. وقسم آخر من نظم كاتبه الذي أفادنا في آخر الكتاب عن اسمه وأسرته وطائفته فيدعو نفسه (انطانيوس ابن أبو منصور حنا من بيت فريجي من قرية كفردبيان بجبل لبنان) كتبه (في دير مار انطونيوس قزحيا في السنة المذكورة) ويطلب الصلاة لأجل (معلمه المطران يوحنا السمر جبيلي) .
(منظوماته) لانطونيوس المذكور زجليات كما لابن القلاعي منظومة على أوزان عامية فلما تراعى فيها قواعد اللغة بينها تراجم قديسين وذكر حوادث تاريخية أهمها ما ذكره عن فتح الأتراك لقبرس سنة 1570 وكوارث طرابلس سنة 1580 نذكر هنا منهما شيئاً.(10/)
وقد قال زجليته عن قبرس واصفاً ما حدث بها من ضروب النكبات لما أرسل السلطان سليم الثاني أسطولاً تحت قيادة مصطفى باشا ففتحها وانتزعها من أيدي البنادقة الذين بعد دفاع طويل سلموها بالأمان. فلم يقم المسلمون بوعدهم فقتلوا في الماغوصة القبطان وسلخوا جلده وقتلوا معه 400 رجل وسبوا من الروم 180,000 وقتلوا وحرقوا نحو 50,000 وقتل من الموارنة 18,000 ثم حلفوا لاثني عشر ألفاً من الجنود المتحصنين في قرية كاليسباسي على رأس الجبل أنهم إذا سلموا لا يضربونهم بشيء بل يردون لهم قراهم ويولونهم عليها. فلما سلموا قتلوهم عن آخرهم ثم طافوا كل الجزيرة واستعبدوا أهلها وصيروا كنائسها جوامع وخانات وسبوا نساءها فأرسلوهن إلى القسطنطينية في ثلث سفن لكن امرأة باسلة منهن أحرقت السفن فراراً من العار فذهبن شهيدات العفاف.
وقد وصف انطونيوس فريجي شيئاً من ذلك بهذه الزجلية التي جعل عدد أدوارها على عدد حروف المعجم قال ما نرويه بحرفه الواحد كأثر تاريخي وكدلالة على انحطاط اللغة في ذلك العصر.
*الألف* اليوم قلبي أصبح سكراني، إذ ليس خمراً على قوبروس ندماني، الدم يغلي ودمع العين غزراني، اليد تكتب تواريخ صابت أزماني، سنة ألف وخمسمائة وسبعين رباني.
*الباء* بقبروس فؤادي بات مفتكر، من مغرب الشمس طول الليل إلى السحر، لخبر سمعته من أولادها كدر، كيف دخلت الترك قبروس وأهلها حسر، لأجل الخطا الله عطاها لابن العثماني.
*ج*جزيرة قبروس كم جرى فيها، كان النصارى، براحا ساكنين فيها، لكن بعض الفواحش أجهرت فيها، الخلف وعدم المحبة قلبت كراسيها، وأهلها كاتبوا إلى ابن العثماني.
*د*دخلوا الترك والسعد يخدمهم، عربان وسودان ونصارى تساعدهم، كانون الشتا كالصيف ليس بد اذكرهم، كانون وسوباط هديت الريح بهم، في البحر دخلوا المراكب تقول حيراني *هـ* هياكل قبروس كانت تشوقني، صلبان وأقوان ونواقيس تفرحني، حين دخلت الترك ادحوهم يا حزني، ونصبوا موادن ومحارب إلى القبلي، من بعد قتل أساقفة ورهباني.
*الواو* ولت ملوك الغرب عن قبروس، قبل دخل مصطفى باشا وصار حيفوس، وكان قبطان بالأسقفية وكل مرقوس، وقبطان المغوصه وكيل نقولاس وبدوا يجازوا بعسكر ابن عثماني.(10/)
*الزاي* زال الحرب من أول صيام الكبير، حاصروا الأسقفية الإسلام كبير وصغير، نقبوا الأسوار وكان حاضر ناس من اغزير، سابع يوم بأيلول دخلوا ودقوا نفير، ملكوا وقتلوا خمسين ألف نصراني.
*الحاء* حرقوهم بالنار يا لله العفو، واسبون (وسبوا) أنفس مائة مع ثمانين ألف، وأما الأموال والأرزاق ليس يضبطهم وصف، ايش حال غنم قطيع أدياب خطفهم خطف، أخذوا وباعوهم في كل بلدان.
*الطاء* طلبوا الماغوصة وحاطوا بها، من كل جانب في الحصار ضبطوها، قتلوا من المسلمين ألوف لم عدوها، لأن ألف مدفاع كان فيها ويطلقوها، صائب دحر العسكار فرغوا يحيء ثاني.
*الياء* يا حيف على النصارى فرغ زادهم، وأنتام بارودهم وانمسكت دروبهم، سرعة خراج القبطان يعتفي منهم، تقدم إلى مصطفى باشا وسلمهم، قتلوه وقتلوا معه أربعمائة نصراني.
*الكاف* خليت قبروس من أكابرها، واستوحشت أرضها بأربع أقطارها، تركت مساكين تفلح في أراضيها، يزينوا جوالي وخراجات يؤدوها، إلى طاعة الإسلام في خط ديواني.
*اللام* لما ملكوا البلاد واطمئنوا، من بعد ما قتلوا الفرسان وانتموا، بعثوا بشارات إلى السلطان وزال همه، وزينوا المدن في البلدان كلهم، من مصر إلى اسطنبول والشام وبلدان.
*الميم*مدينة طرابلس كانت المينا، حين دخلت المسلمين لقبروس محاربينا، حس المدافع بقي واصل لادنينا، ومن قبل ما يدخلوا عملوا أسافينا، قتلوا مقدم بشري كان نصراني.
*النون* نسوان قبرس ليس ذكرناهم، أفعال قبيحة صارت ليس كتبناهم، أطفال كثير غلمان وجواري أخذوهم، أعجام وأكراد وأعراب وسودان هم، وتشتتوا حسرة ما صار لها ثاني.
*السين* ساقوهم ودموعهم تجري وتفارقوهم في البر والبحر، من حد اسطنبول وإلى بلاد مصر، وصاروا عبيد يخدموا سادات بلا أجر، يا كسرة صارت بقبروس بازماني *العين*عيوني تدمع حين أذكرهم، قد كان لي معرفة في بعض ناس منهم، ومن أهل قبروس تلميذ كان لي منهم، اسبوا أخوته وأهله وهو اشترى (نفسه) منهم، وخلص أخوه الصغير بمائة سلطاني.
*الفاء* فرح إبليس في كسرة صارت، في قتل كهنة وكنائس بارت، البعض عملوهم خانات للتجارة، والبعض عملوهم جامع لهم صارت، ورفعوا الموادن فوقهم عوض الصلباني.(10/)
*الصاد* كفردبيان تدعى قرية الخاطي، كاتب انطانيوس براس واطي، ورخت قبرس تذكار لمن شاطي، ومن لم يتوب غضبة يشعل بنيراني.
*القاف* قوفروس وبشرية كانوا فال، على النصارى في السواحل وفي الأجيال، يا حيف عليهم كانوا أهلهم افضال، والانشقاق الذي رماهم بشوم الحال، ومن بعدهم باعوا الوقوفات رهباني.
*الراء* رؤوسات الأسباط انحطوا، وأرزاق كنائسهم انباعت انضبطوا، والبعض تدينوا وثمانية حطوا، والبعض انغلبوا من بعد ما قبضوا، وزنوا الدراهم وراح الرزق لهواني.
*الشين* شاشات النصارى قلعوهم، أيضاً وجاليتين في العام حطوهم، أسود علي رؤوسهم يا ويه اكسوهم، ظلماً على ظلم الجرح زادوهم، من مصر إلى اسطنبول حكم ابن العثماني.
*التاء* تماماً أحرف الألف علي قبروس، وليس كتبنا جميع أفعال بني تركوس، الآن لأجل الخطا حكموا كفانهدوس، يا سامعين القول صلوا عسى نخلص، الرب يغفر ألف آمين يكفاني.
وختم الزجلية بهذه الألفاظ: اذكر يا رب العبد الخاطي انطانيوس أي الحقير الخاطئ الراوي لأجل ربنا.
فترى أن لغة نصارى لبنان في ذلك الوقت كانت في غاية الركاكة وهي إلى السريانية أقرب منها إلى العربية. ولانطونيوس المذكور زجلية من جنس الزجلية السابقة ذكر فيها أيضاً على أدوار حروف المعجم ما حدث في طرابلس وجهاتها سنة 1585 لما نهبت الخزينة السلطانية في جون عكا فأرسل الباب العالي جعفر باشا الطواشي لمحاربة يوسف باشا ابن سيفا فزحف بجيوشه وأحرق بلاد عكار. ثم تضاعفت الشرور بمجيء إبراهيم باشا والي مصر فصارت أمور البلاد ولاسيما النصارى في أسوأ حال فقال انطانيوس ابن فريجي يصف تلك النكبات وهذا أول زجليته.
*الألف* اليوم قلبي انبع الأفكار، أهذي بمارون وبلد الشام المختار، بيروت وصيداء والبترون وجبيل انفه صغار، عرقا واطرابلس والحصن مع عكار، بشري واغزير والشوف والقرى والأوكار.(10/)
*الباء* بتاريخ رباني بديت أذكار، ثمانين وخمس وخمسمائة وألف سطار، دخل طرابلس باشا طواشي دعي جعفار، وقال خزنة السلطان نهبوها في عكار، وأغزير حميت لها ورجالها شطار إلخ وللمذكور أيضاً ميميتان قالهما في وصف رتبة الشعانين وفي مديح القديس ماري بشواي الناسك الشهير وذكر الكاتب اسمه في آخر كل منهما. ولم نجد له ذكراً في غير كتابنا هذا.
10-زجليون آخرون
وكأن فن الزجليات أخذ ينتشر في أنحاء الشام في القرن السابع عشر على مثال ابن القلاعي وعيسى هزار وميخائيل حاتم. ففي مكتبتنا الشرقية نحو عشرة مجاميع من ضروب الزجليات المختلفة الأوزان والأدوار والقوافي وأغلبها من القرن السابع عشر وردت في بعضها أسماء قائليها دون زيادة في تعريف أصلهم وأخبارهم. ففي أحد هذه المجاميع المتقن الكتابة والتحجليد الذي كتب في أواسط القرن السابع عشر نحو 16500 وردت أسماء بعض القوالين مع أمثلة من أقوالهم فما عدا عيسى هزار وميخائيل حاتم السابق ذكرهما ذكر أولاً (القس جراسيم) (ص 19-25) ورويت له زجلية في العذراء مريم وميلاد المسيح هذا أول أدوارها: يا شعب يسوع المسيح الباقي للدهر=استبشروا انحلت أوثاقي والحجر
نور بدا يلمع في الآفاق للطهر ... في بطن مريم حلت الأشراق في البكر
ويختم هذا الدور ثم جميع الأدوار التالية بالتقديس المثلث باليونانية بالحرف العربي: (اجيوس اوثاوس. اجيوس ايسشيروس. اجيوس اثاناطرس) ما يدل على أن ناظمها كان رومياً ملكياً.
ثم يذكر بعده (يوحنا ابن المصري) ويروى له ثلث زجليات (ص 36-38) اثنتان في العذرا مريم افتتح الأولى بقوله:
لذكر العذرى زين افخر النسوان ... سرايا قلبي
وابتهج فرحان
قد سمت بالفضل ... أم شمس العدل
واصطفاها قبل
خلقه الإنسان
وقال الثانية في ذكر مزار صيدنايا هذا أولها:
رأيت بصيدنايا الحيل نامي ... وفيها النور في شكل الغمام
ونوراً ظاهراً منها عياناً ... تعاينه الخلائق على الدوم
والزجلية الثالثة وعظية خص فيها الوصف على العلم والأدب أولها:
ما خلة نسجت بالدر والذهب ... إلا وأحسن منها العلم والأدب(10/)
ثم ذكر القوال (الخوري يوحنا نجل عيسى عويسات) فيروى له عدة زجليات (ص 38-62) في مديح العذراء وخصوصاً مزار صيدنايا. ومن جملتها زجليتان يتعين منهما زمانه وملته الملكية قال الواحدي في رثاء البطريرك كير يواكيم ابن زيادة المتوفى نحو السنة 1603 والأخرى في مديح خلفه البطريرك دوروثاوس المعروف ابن الأحمر.
افتتح الأولى بقوله:
إلي يا أجواد بالله اعذروني ... وفيضون (كذا) الدموع وساعدوني
وافتتح الثانية بقوله:
يا شعوب الله إلي يا مؤمنين ... قد نظمت المدح في الأب الأمين
كير ظوروثاوس أبونا الإمام ... ابن الأحمر كنوته يا سامعين
ثم جاء ذكر القوال (يوحنا ابن سالم الدمشقي) له زجلية في العذراء (ص 72) هذا أولها:
يا موالي ساعدوني ... في مديح أم الحبيب
جابرة قصدي وعوني
من قصدها ما يخيب
ثم ذكر القوال (يوحنا السمين الحمصي) وروى له خمس زجليات (82-100) كلها في مديح العذراء مريم وذكر سيدة صيدنايا جعل أدوار الأولى منها على حروف المعجم وافتتح واحدة أخرى بقوله:
البتول فخر الأنام ... حبها صار لي غرام
من قصدها يا خليلي
من قصدها ما يضام
وذكر أيضاً ثلثة قوالين من ذلك العهد دعاهم (الخوري يوسف عبود ابن البيض الحمصي. وعيسى بن سالم وموسى ابن المصري) وذكر لكل واحد منهم زجلية قيلت كلها في مديح العذراء الطاهرة.
وعندنا مجموع آخر من القرن السابع عشر كاد يتلف لقدمه والمرجح أنه كتب في الموصل فيه زجليات لعيسى هزار وللقوالين والآتي ذكرهم (القسيس ايليا) له عدة منظومات في أسرار حياة المسيح ثم المسمى (عبد الله) له أيضاً عدة مدائح دينية تقوية في آلام المسيح وأوصاف والدته الجليلة وهو يذكر في آخر إحدى زجلياته أنه من حصن كيفا وهي مدينة مشرفة على دجلة بين ديار بكر وجزيرة ابن عمر. ويذكر أيضاً بين القوالين المسميان (عبد المسيح وعبد يسوع) مع ذكر بعض زجلياتهم. والظاهر أن كل هؤلاء عاشوا في القرن السابع عشر في العراق وهم من طائفتي السريان والكلدان والكاثوليك والله أعلم. وفي زجلياتهم مع ضعف لغتها مسحة عربية أعظم من زجالي لبنان.
-11- طيمثاوس كرنوك(10/)
هو أيضاً أحد الزجليين الذي اشتهروا في القرن السابع عشر. وقصته غريبة رواها جناب الفيكنت فيليب دي طرازي في كتابه السلاسل التاريخية في أساقفة الأبرشيات الريانية (ص 30-32) هو حميلي بن ضعفي كرنوك المولود في ديار بكر في أواسط القرن السابع عشر وكان من ملة اليعاقبة. ولما أقام الطيب الذكر يوسف الثاني بطريرك الكلدان الكاثوليك كرسيه في مدينة آمد (ديار بكر) تقرب إليه وطلب إليه أن يسقفه على أبناء ملته السريانية في ماردين ليردها إلى الكثلكة فخدع به البطريرك يوسف وسقفه ولعله كان يجهل أن السريان الكاثوليك كانوا أقاموا لهم بطريركاً شرعياً اندراوس اخيجان فساء السيد اخيجان تسقيفه ومنعه عن التصرف بدرجته فهرب حميلي إلى أوربة وكان قد أخذ في رسامته اسم طيمثاوس. فكان وصوله إلى رومية سنة 1672 فدرس في مدرسة انتشار الإيمان مدة ثم أخذ يتجول في أنحاء أوربة كالنمسة وإيطالية ويجمع منها الصدقات بحجج مختلفة وعرف هناك باسم منقول عن العربية كما تراه في عناوين كتاباته. ثم شاع أمره ونسب إلى المرك والخداع فحبس عدة سنين في قلعة نابولي ثم أطلق سبيله فدعي إلى رومية واعتزل الأمور منيباً إلى الله بأعمال التوبة في دير القديسين الشهيدين قزما ودميان وفيه توفي بحريق أصابه في إحدى ليالي كانون الأول من السنة 1724 بعد أن زوده بالأسرار أحد الكهنة ودفن مكرماً في كنيسة القديس لوقا واحتفل بجنازته الطيب الذكر مواطنه السيد اثناسيوس سفر العطار أسقف ماردين.(10/)
(مصنفاته) كان السيد طيمثاوس كرنوك عالماً باللغة السريانية والعربية والتركية. وكان قد جمع عدة مخطوطات عربية وسريانية أوقفها على مجمع انتشار الإيمان. وله آثار دينية عربية طبع معظمها في مدينة بادوا في إيطاليا. أولها مختصر كتاب الكمال المسيحي للأب الفونس رودريكس اليسوعي عربه وطبعه سنة 1688. ثم ألف مجموعاً من الأنثال الشرقية المنثورة والمنظومة طبعها في اصلها ونقلها إلى اللغة الإيطالية سنة 1688 أيضاًز وفي السنة 1690 طبع أيضاً هناك كتاب زهور المناجات (كذا) الحبيب ونصائح القريب لضعفي الديار بكري مع ترجمته إلى الإيطالية. وهذا الكتاب قد قدمه لرئيس الرهبانية الفرنسيسية الأب جوزف ماري بوتاريو ويدعو فيه نفسه (بأحقر أساقفة ماردين طيموثاوس ضعفي الحميلي الديار بكري) وصدره بمقدمة طويلة ذكر فيها الزجال عيسى الهزار الذي تقدمت سيرته. ثم وصف شغله بصناعة الكيميا وتحويل المعادن إلى ذهب والمادة الجامدة إلى نبات وخرافات أخرى كهذه تدل على سخافة أفكاره.
ونشر أخيراً سنة 1693 في المدينة ذاتها مدائح وتسابيح تقوية في التوبة وآلام المسيح وأمه البتول مريم. وكان نشر قبلاً سنة 1679 في باريس سبع مزامير التوبة ومديحة العذراء مريم في مطبعة بطرس الصغير.
(شعره) ليس لطيمثاوس كرنوك شعر منظم وإنما له زجليات عديدة بل معظم كتبه منظومات زجلية يتصرف فيها كل التصرف ومدارها كلها على مواضيع روحية دينية تغلب عليها مدائح العذراء مريم فها نحن نروي منها شيئاً بياناً لطرائقه النظمية. فهذه مديحة قالها في مقام الرست:
باسم الطاهرة مريم ... يحلو لي المديح
وليس يوجد اسم أعظم ... كاسم ابنها المسيح
لهذا كل متكلم ... يكرز فيها ويصيح
دائم شرفها لجيل وجيل ... هي فريدة بلا مثيل
لها الكرامة والتبجيل ... والشكر والتسبيح
منها الكرم والجود ... ما لها شبيه في الوجود
ولابنها ربنا المعبود ... يليق الكرامة والسجود
ودائم بالدوام ... في كل الأدهار
كيف ما ينجح ... أمري ويرجح
رزقي يربح
من ما في خزائنها احتوى ... يأخذ كل إنسان بما يرى
من الدر الفاخر
لابسة بالشمس رداها ... وتحت رجليها القمر
يتلألأ كالنور ضياها ... وهي نجم الفجر(10/)
لولاها والله لولاها ... لكنا في الخطر
هي صباحي ... هي مصباحي
فيها أفراحي
تتزتيد صحيح
هي هي سعدي ... وتكميل وعدي
وغاية قصدي
حبي وودي
وفيها قليبي باضطرام ... وحبها فيه كالنار
هي هي ديني ... ومستعيني
فيها يقيني
وحبها في الخاطر
لها اسم قوي عالي ... في الأرض والسما
وذكر عالي متعالي ... هي العذراء مريما
وفيها ينصلح حالي ... ولو كنت في ضما
ادعوها في كل خطر ... وأجد فيها الظفر
وأكون بها منتصر ... على الأعداء واستريح
للآب فيها سرور ... وروحه عليها حضور
والابن منها في ظهور ... ليفتقد شعبه ويزور
ويخلص الأنام ... من يد المكار
أنت هي نور الأنوار ... أنت هي كنز الأسرار
فيك جميع الأبرار ... وجدوا لدائهم دوا
من ابنك الذي احتوى ... في بطنك الطاهر
ومن مدائحه اللطيفة فيها قوله:
مني إليك السلام ... يا عذرا يا بتول
أنت فخر الأنام ... امدح فيك وأقول
جبريل قد أتاك ... يا عذرا بالسلام
باسمك ناداك ... في حلو الكلام
يا طوبى ما أعطاك ... من التبجيل والإكرام
فيك خلص آدم ... من قيود الخمول
قبلت منه السلام ... وازداد فيها الفرح
بفطنة واحتشام ... عندها الأمر اتضح
من قوة العلام ... والكل له يسبح
ما في الأرض والسما ... له العز والقبول
ولدت الابن الوحيد ... في مذود بيت لحم
من مكان بعيد ... جاؤوا ملوك العجم
في ميلاده السعيد ... انعتق مسل آدم
حار فيه كل حكيم ... تاهت فيه العقول
بعد ما وردوا ... بالفرح والسرور
لأنهم اهتدوا ... في نجم بالنور
وله قد أهدوا ... ذهب ومر وبخور
كما قال النبي ... عنه بالفصول
والرعاة قد غدوا ... بالبهجة والفرح
خروا له وسجدوا ... والملائكة تسبح
في الأعالي مجده ... بالأرض صلح يتضح
وفي الناس المسره ... تشكر لك بالقبول
نطلب منك يا رب ... أبهجنا في إسعادك
لك نحب لك نرغب ... على حسب مرادك
في كل عيد لك نطنب ... وفي عيد ميلادك
نطلب منك النعمة ... بقلب خشوع ملول
12- الراهب كامل نجيم الماروني(10/)
(زمانه وشعره) كان هذا الراهب معاصراً لطيمثاوس كرنوك فازهر في أواخر القرن السابع عشر. ذكرته المجلة السورية الغراء في عددها الصادر في إبريل 1927 (ص 234-238) وروت ما استفادته من أخباره وشعره عن حضرة الأب برنردوس غييرة الحكيم رئيس الرهبانية الإنطونية سابقاً. فيلوح منه أن الخوري كامل نجيم كان أحد رهبان دير ريفون مترهباً فيه على طريقة العباد اللبنانيين القدماء قبل إنشاء الرهبانيات القانونية المنشأة في أوائل القرن الثامن عشر. وقد رويت هناك لهذا الراهب زجلية لطيفة صنفها سنة 1690 وصف فيها وصفاً مدققاً لعيشة أولئك الرهبان نستعيرها عن رصيفتنا المحققة.
زجلية الراهب كامل نجيم
من يتبع درب القديس ... مار انطونيوس النفيس
الرب ينجيه من إبليس ... ومن حيل الشيطاني
وضع لنا يا أخوة قوانين ... وهم يحفظونا من المجانين
ويكونوا لنا معينين ... في هذا الدهر الفاني
وبعد ذلك ننال الملكوت ... ونسجد دوم لاسم التالوت
ونسبح لرب الجبروت ... مع الآباء الرهبان
كذلك من يريد يكون معهم ... وفي السما يرافقهم
يقبل القوانين مثلهم ... طاعة وعفة يا أخواني
والفقر أيضاً هو المسكنة ... ثلاثة قوانين للرهبنة
يخلصوا الراهب من اللعنة ... ويسكنوه في الأجنان
ومن يريد يدخل المحاربة ... لازم يقعد بالتجرية
لئلا تأتيه الكربه ... ويصير من الندمان
وبعده ينذر على نفسه ... النذورات بحضور رئيسه
لئلا الشيطان يوسوسه ... ويرميه في الطغيان
وأما القديس البار ... مار انطونيوس المختار
كوكب النجك المزهر ... زايد عن الرهبان
كما هو باين من الأخبار ... ومن قصص باقي الأبرار
زاد هو عن جميع الأحبار ... بالقوانين والإحسان
امتناع عن اللحم دايم ... قانون رابع دوم صايم
نذر مختص أيضاً قائم ... ومن يخالفه يكون سكران
ويقطع الأربعا والجمعة ... ويصوم دائماً إلى التاسعة
وصلواته تكون متشفعة ... في من يتبعه من الآن
وأيضاً خمسين يوم صيام ... مفروضة تلك الأيام
والصلاة دائم دوام ... يشكر ويسجد حقاني
في خامس عشر من تشرين ... يبدا بالصيام والقوانين
ويطرد أيضاً المجانين ... أعني بتشرين الثاني
وثاني صيام هو أربعين يوم ... بتالي الغطاس أيها القوم(10/)
وهو صيام المسيح إلى اليوم ... يعيننا الله الرمان
وأيضاً أصوام الميلاد ... وبطرس وبولس يا أجواد
يرزقنا اله العباد ... بشفاعته يا أخواني
وقطاعة السيدة مريم ... تكون شفيعته بالعالم
لينجو من جميع المظالم ... ومن حريق النيران
ومن يتشبه بالقديس ... مار انطونيوس الحبيس
ويخلصنا من إبليس ... في صلوات الطوباني
قضى عمره في الصيام ... لغياب الشمس كل الأيام
والصلاة أيضاً قيام ... نهاره وليله سهران
ومن جهة البس يا أخوه ... عبا عاللحم وقلسوه
وبشتيك وزنار جلد حقوه ... والنوم على الحصير كمان
ولما يرقدوا الرهبان ... لا يحلوا زنار يا أخواني
والقلسوة أيضاً كمان ... ولا ينام عند العلماني
وأيضاً لا يكثر الدوران ... وياخذ حذره من النسوان
لئلا يوقع بالتوهان ... ويستسلم للشيطان
وفي الديورة تكون سكنته ... تحت الطاعة مع إخوته
ولا يكسل يقاع بشبكته ... اعني مصيدة الطغيان
والصلاة تكون في أوقاتها ... في ليلها مع أشياتها
ونهارها مع فرضاتها ... تنال أجرة الجنان
وقراية كتب المقدسين ... وأيضاً قصص القديسين
والرهبان المحبوسين ... ليشفعوا فينا يا أخواني
وأبداً على عريس لا نصلي ... ولا نصير أشابين بالكلي
ولا نحضر عرس بالجملي ... ولا نركب خيل يا أخواني
والخمر لا تكثر شربه ... لئلا يرميك في الكربه
ويرميك العدو في الضربة ... وتسقط في النيران
ولا تكثر الحديث يا إنسان ... لئلا توقع بالنقصان
وتبقى من رفقة الشيطان ... وتصير من الخسران
وأهرب من مجد الباطل ... وإلا توقع في العاطل
ومن الكبريا أيضاً ماطل ... واحظر من الطغيان
واحظرك من الناس ورفقتهم ... ومن عطاهم ومعاملتهم
ومن الدوران بيناتهم ... تخسر كل الأزمان
ومن الموت لا تكونوا غافلين ... وفي أمور الله متكاسلين
إلا دائم متيقظين ... في عبادة الربان
والمحبة لله والقريب ... وتكون تحسن للغريب
بالأكل والشرب أيها الحبيب ... يكون لك كنزاً غير فاني
لأنه هكذا قال سيدنا ... بهؤلاء الوصيتين علمنا
كمال الأنبيا وناموسنا ... وهم يرضوا الربان
-13- المطران جرمانوس فرحات(10/)
منذ استولت تركية على البلاد الناطقة بالضاد في العشر الثاني من القرن السادس عشر أصيبت الآداب العربية بضربة أليمة. فكثرت الحروب وتفاقمت الشرور حتى ضعفت همم الأدباء عموماً وكسدت أسواق المعارف وأقفلت المدارس إلا القليل منها لا تتجاوز في تعليمها مبادئ العربية وقلما تجد بين المؤلفين كاتباُ ذا سمعة اللهم إلا في بعض العلوم الفقهية أو النحوية. وغاية ما يذرك عن شعراء ذلك الوقت أبيات قليلة ذات معان مبتذلة تشهد لصاحبها بالخمول دون النبوغ.
وكانت حالة النصرانية أسوأ إذا لم يجد تبعتها أساتذةً جديرين بالتعليم فكان المسيحي إذا بلغ إلى معرفة الكتابة والقراءة عد من المعلمين الماهرين. أما الشعر بينهم فإنه كان اسماً بلا مسمى. وقد رأيت شاهداً على انحطاطهم في ما رويناه من الزجليات السابقة المخلة الأوزان الركيكة الإنشاء.
وقد بقي الأمر على هذا المنوال إلى أواسط القرن السابع عشر حيث ظهرت في الشام نهضة كان المساعدون على تعزيزها المرسلين الذين قدموا إلى سورية في العقد الثالث من القرن السابع عشر ومثلهم تلامذة رومية الموارنة فهؤلاء بثوا في العموم وخصوصاً بين النصارى روح النشاط والغيرة التي ظهرت ثمرتها في أواخر ذلك العصر وفي أوائل القرن الثامن عشر. وكان الفضل الأعظم في ذلك لحلب وطوائفها المسيحية المختلفة. فاشتهر بين بطاركتها وأساقفها بعض الكتبة الذين شاعت تآليفهم التي شرفوا بها وطنهم الشهباء.
أما الشعر النصراني فكان ظهوره بعد حين في أواخر القسم الثاني من القرن السابع عشر. فكان المجلي في هذه الحلبة الراهب الحلبي جبرائيل ثم المسقف على وطنه باسم جرمانوس فرحات.
(ترجمته) هو جبرائيل بن فرحات مطر الحلبي المولد والحصروني الأصل. رأى النور في الشهباء في 20 تشرين الثاني سنة 1670 وانكب منذ نعومة الأظفار على الدرس فبعد إتقانه المبادئ في مكتب طائفته تعلم اللغات على تلميذ رومية البارع الخوري بطرس التولوي وأحرز الآداب اللغوية والفنون العربية على بعض الشيوخ أخصهم السيخ المسلم سليمان النحوي والشيخ النصراني أبو المواهب يعقوب الشهير بالدبسي واجتمع أيضاً بالمرسلين فأخذ عنهم علومهم فأقر الجميع بنبوغه.(10/)
وفي الخامسة والعشرين من عمره أحب أن يحيي في الشرق مآثر نساكه القدماء فيبعث الرهبانيات المنظمة من مواتها إذ لم يبق منها سوى ظلها الخفيف. فاتفق مع شبان مثله على أن يهجروا وطنهم ويأتوا إلى لبنان كقدماء النساك وقد اشتهر منهم عبد الله قرأ لي وجبرائيل حوا ويوسف البتن. فصدق على عزمهم البطريرك اسطفانوس الدويهي وسكنوا مدةً في دير مرت مورا. على أنه وقع بينهم في السنين الأولى بعض الاختلاف في تقرير رسوم الرهبنة كان سبباً لنفور جبرائيل فرحات واعتزاله عنهم ثم لسفره وسياحته في جهات صقلية وإيطالية وإسبانية.
فلما رجع إلى لبنان سنة 1712 وكانت هدأت الخواطر انضم إلى الرهبانية الجدية وصار غير مرة رئيساً عاما عليها إلى أن اسند إليه البطريرك يعقوب عواد رئاسة أسقفية وطنه حلب في 29 تموز سنة 1725 فرعاها أحسن رعاية وبهمته نمت عدداً وفضلاً إلى أن توفاه الله في 10 تموز سنة 1732.
وللسيد فرحات آثار كتابية عددها في المشرق (7 (4190) : 105) المنسيور جرجس منش (راجع كتابنا المخطوطات العربية لكتبة النصرانية ص160-162) . وقد اشتغل مدة مع الآباء اليسوعيين فساعد الأب بطرس فروماج في بعض التعريبات بل كان انفرد في بعض السنين في ديرهم في طرابلس وفكر في الدخول في رهبانيتهم كما فعل بعده الأب بطرس مبارك والمطران جرجس يمين.
(شعره) قد سبق لنا القول أن أول ديوان نصراني ظهر بحصر المعني إنما كان ديوان سليمان الغوي الذي روينا أخباره. أما في النهضة الأخيرة في ختام القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر فكانت قصبة السباق للسيد جرمانوس فرحات. وقد شاع ديوانه منذ عهد حياته فتعددت نسخه في المكاتب ولاسيما في حلب وفي أديرة لبنان.
منه ست نسخ قديمة في مكتبتنا الشرقية. وقد سرت مطبعتنا الكاثوليكية بأن صار لها شرف التقدم بنشر هذا الديوان نشرته أولاً مطبوعاً على الحجر سنة 1850 ثم تكرر طبعه على الحروف إلى أن اهتم المرحوم الشيخ سعيد الخوري الشرتوني بمراجعته وتصحيحا وإضافة تعاليق عليه سنة 1894.(10/)
ومع كبر حجمه وعدد قصائده ومقطعاته البالغة الخمسمائة بنيف لا يزال بعض الأدباء يقفون له على منظومات لم ترو في هذا الديوان. وقد نشرنا له في المشرق قصيدتين قالهما في رثاء الشيخ إبراهيم حمادة المحسن إلى جمعيته (7 (1904) : 42288 (1926) : 397) وكل ذلك مما يثبت للسيد فرحات غزارة المادة وجودة القريحة.
على أننا لا ننكر أن في شعره بعض الضعف على حداثة عهد شعراء النصارى بنظم الشعر فهو يكثر من استعمال الجوازات الشعري فيسكن المتحرك ويحك الساكن ويتسامح بما لا يتساهل بإجازته أهل اللغة. وكل ذلك أحق أن ينسب إلى انحطاط الآداب في عهده من نسبته على شخصه. كيف لا ولا تجد بين منظوماته قصائد رنانة جارى فيها الشعراء المفلقين كقصيدته الرائية التي يتغزل فيها بكمالاته تعالى وهي تبلغ ستين بيتاً أولها (من البسيط) :
الله الله أنت السمع والبصر ... في العاشقين وأنت الفوز والوطر
وأوسع منها نونيته في مديح القربان التي افتتحها بقوله (من الكامل) :
ذلت لعزة دينك الأديان ... وتكونت بوجودك الأكوان
يا أيها المولى يسوع ابن العلي ... أنت الإله الفاطر الديان
وافيتنا متجسداً لخلاصنا=من مريم يا أيها الرحمان ومثلهما حسناً تغزله بجمال قلب يسوع في همزيته (من الكامل) :
يا قلب طر من وكنة الأحشاء ... نحو الحبيب الفاخر الأزياء
وما قولنا بميمتيه التي أطرأ فيها كمالات العذراء مريم (من الكامل) :
لو كان للفلاك نطق أو فم ... لترنموا بمديحك يا مريم
فهذه القصائد وكثير غيرها قد استحقت لصاحبها أن ينظم في سلك كبار الشعراء. ويزيد فضله في إنشادها أنه ابتكر تلك المواضيع الدينية التي لم يسبقه إليها غيره من وصف أسرار وبسط عقائد وإيضاح عادات نصرانية ونسكيات رهبانية استجدت في عصره ونهج فيها طريقاً لمن أتوا بعده.
وقد تفنن السيد فرحات في غيرها من قصائده فعارض قطرباً بمثلثاته الدرية وخمس عينية الشيخ الرئيس ابن سينا في وصف النفس.(10/)
هذا وقد وجدنا له في نسخ ديوانه المصونة في مكتبتنا الشرقية نحواً من ثلثين قصيدة أو قطعة شعر لم ترو في ديوانه المطبوع. فها نحن نروي البعض منها كشذور ذهبية حقها أن تصان لكرامتها. فمن ذلك قصيدة قالها في عيد تجلي الرب في طور تابور في افتتاح سنة 1721 (من الكامل) :
هذا التجلي فاعص فيه الأدمعا ... لترى المسيح بطوره مترفعا
ينساب جدول نوره متبلجاً ... في أفقه أحسن بنور موقعا
فترى الدراري من ضياء بهائه ... وسنا محاسنه الفريدة طلعا
فسما به التابور لما إن سما ... بذراه جا ربٌ وقدس أربعا
وجلا وجوه الرسل لما أن رأوا ... ناسوت سيدنا المسيح مشعشعا
قد كان قبلاً عنهم متوارياً ... في طيه وبأمره متبرقعا
أبدى لهم يوم التجلي ذاته ... كي يعرفوه المالئ المتوسعا
فنراه في لاهوته متكبراً ... ونراه في ناسوته متخشعا
بطبيعته جاء ينقذ آدماً ... متجسداً يسعى إلينا مذ سعى
عم الكسوف الشمس في جليانه ... والبدر اقسم أنه لن يطلعا
وكذا النجوم الزهر ولت مذ رأت ... نور الإلها محققاً ما أبدعا
هذا نهار أولي الإله ورسله ... الأبرار الإله محققاً ما أبدعا
شاموا ضياء إلههم فتحيروا ... ورأوا ضياء الشمس منه أسفعا
وأراهم ذاك المقام ممجدا ... ونسوا به في الحال آية يوشعا
هذا نهار اليمن والإيمان في ... آثاره وبمثله لن يسمعا
ماء النعيم بروضه متدفق ... رده إذا ما رمت فيه المرتعا
قلب الشجي مشوق فيه كما ... كبد الخلي تكاد أن تتصدعا
فترى قلوب الحاسدين ذكيةً ... وعيونهم في النور أضحت رتعا
سقيا هضاب الطور لما أن بدا ... في افقه رب تجلى مبدعا
وعلاه من مولاه ما قد زانه ... ورعاه مما شان ذاك وأفظعا
وسقاه من ذاك الحيا طل الندى ... يكسوه ثوباً بالزهور مجزعا
شمي الهدى بزغت بافق سمائه ... وبدا شعاع ضيائها أن يسطعا
هذا مسيح الله في أكنافه ... متجلبباً متجمداً مسترفعا
معراجه للطور يوضح أنه ... ملك بدا بين الأنام مشيعا
وأتاه صوت أبيه يهتف شاهداً ... هذا هو ابني فامنحوه المسمعا
وأختار بطرس في تجليه كما ... اختاره رأساً يفوق الأربعا
وأتى بيعقوب ويوحنا الذي ... قد كان في الرسل الكرام المصقعا(10/)
فتحيروا مما رأوه بارقاً ... من نوره لما بدا أن يلمعا
وسرادق مدت عليهم بغتةً ... مرفوعة من مجده لن ترفعا
نور حقيقي عليهم مشرق ... حتى غدوا صرعى لذلك هجعا
لا مثل نور المبدعين وحزبهم ... لا يطلعن من غير أن يتصنعا
وختمها بعد تفنيده لمزاعم المبدعين بقوله:
لكنا نحن نرى بأن الذي يرى ... هو مجد ناسوت المسيح موشعا
هذا هو الحق الصراح ومن يرم ... طرق الهدى يلق إلينا المسمعا
ومما لم يرو في ديوانه قوله يشجع نفسه وقد ضايقته هواجس إبليس في افكار العالم سنة 1712 (من مجزوء الرجز) :
فيا لكم رأيتني ... ومن بكاء أجهشا
أتانا إبليس مخا ... دعاً لنا وقد رشا
وآنس القلب وكم ... آنس لي توحشا
ترى وقد وسوس لي ... بفعله وأوحشا
مشى إلي لا رضىً ... علي لما إن مشى
يروم سري إنه ... بذلك السر فشا
فوشى بي وقد أرا ... هـ يتلاهى كيف شا
خزيت إبليس كفى ... لا ترضى عيني بالعشا
ويروى له قوله في وصف رجل من الغرب امتلك باسمه ملكاً ثم اختلسه منه (من الوافر) :
بأرض الغرب أبصرنا فعالاً تذكرنا فعال المفترينا
بإنسان أرانا الخير لفظاً ... بلا معنى فخلناه معينا
دعانا أولاً حتى حضرنا ... فكان من الرجال الناكثينا
وكان سحابه فينا جهاماً ... وخلب برقه وعداً خؤوناً
بنى ما قد بناه على دمانا ... دم الشهداء والرهبان فينا
فإن يثبت فذا يشهد عليه ... وإن يسقط جزاء الظالمينا
وقال يهجو القضاة الجائرين سنة 1721 (من الطويل) :
سالت القضاة الآن والشرع مشتك ... عليهم ومنهم يشتكي الجور والثقلا
فلم جر تم في الشرع والشرع عادل ... وجزتم به عدلاً وحزتم به عذلا
أجابوا لنا أن الزمان موارب ... وكل له فن به يقتضي شغلا
فلما رأينا الدهر بالحق مائلاً ... فملنا وكان الظلم في شرعنا عدلا
ولو لم نجر في الحكم أصبح شرعنا ... وعرض القضاة الآن بين الورى نذلا
لأنا بوادي الجور ننساب والذي ... يراه نراه والهوى جامع شملا
فلا تنكروا منا ومن ذاك ريبةً ... إذا كان دمع العين للمذنب الغسلا
فكم هفوة جاءت بأثواب توبة ... تجرر أذيالاً تواري بها فعلا
ومن قبل قد شانت بشأن رسولها ... فكم صدقت رسلا وكم كذبت رسلا(10/)
ألا إنما عقل الحكيم منزه ... عن الجهل فيما يقتضي العقل لا الجهلا
وقال يقابل بين دموع التوبة ودموع المحبة (من البسيط) :
أنحلت يا دمع جسمي فارفقن به ... واكفف لأني علمت الإثم أنحلني
فدمعه الحب تبقي الجسم مبتهجاً ... ودمعه الإثم تبلي الجسم بالوهن
شتان بين دموع الحب إن صدقت ... فيه وبين دموع الإثم والدرن
وقال في تجسد ابن الله ورفعة الإنسان (من الكامل) :
صار الإله بحبه متأنساً ... من مريم فهي الرجا والباب
ليخلص الخاطي الأسير بموته ... ويؤله الإنسان وهو تراب
وقال في فضيلة التقوى (من البسيط) :
محبة الله روح النفس نتعشها ... فينا ولكن لها روح بها الرضوى
فالجسم من غير روح ميت وكذا ... محبة الله لا تحيا بلا تقوى
تقوى الفضائل بالتقوى فلن تقوى ... من عارض ما وإن أقوت فلن تقوى
وقال في انتقال العذراء إلى السماء (من البسيط) :
رب السماوات والأرضين قاطبةً ... لاقى انتقالك يا بكراً ولدتيه
لما حصلت له أماً ومرضعةً ... حصلت في مجده السامي وحزيته
إذ صار ناسوته منك بقوته ... أراد يمنحك ما قد منحتيه
خذي يمين ابنك أماً منجدةً ... فالمثل بالمثل شرعاً منه نلتيه
وللسيد فرحات فند من نكر فيها حرية الإنسان في أعماله حاملاً تلك الأعمال على القضاء والقدر منها قوله (من مجزوء الكامل) :
يا من خطوت إلى الردى ... لا تعتبن على الخطى
إذ أنت صرت مخيراً ... من مبدع فيما مضى
أفليس للإنسان في ... الأرزاق إلا ما سعى؟
أين المقدر قل لنا ... والعقل يصنع ما يرى؟
فعلام تقتل سارقاً ... وعلام تمدح من وفى؟
إن كنت يا ذا مجبراً ... فالله يظلم من جنى
أفسدت شرع الله والأ ... حكام كلاً والنهى
زال الثواب عن التقى ... وكذا العاب عن الزنا
كذب الكتاب فلا صلا ... ة ترتجى من ذي التقى
حاشا لرب عادل ... بقضائه بين الورى
يبدو لدينا جائزاً ... أو قاسياً مثل العدى
فارحم حياتك وانتزح ... عما تراه من العمى
يوماً تدان وتقتضي ... ذاك الجزاء بلا مرا
فالخير خيرك إن بدا ... والشر شرك إن جرى
أنت المثاب على الوفا ... أنت المدان على الأذى
إن صالحاً أو طالحاً ... ولكل مرء ما نوى(10/)
وللسيد الشاعر الحلبي غير ما ذكرنا مما لم ينشر بالطبع إلا أن الباقي منه قد تشوه بالنسخ والمسخ فنكتفي بما سبق.
14- الخوري نيقولاوس الصائغ
لا يمكننا أن نفصله عن معاصره السيد جرمانوس فرحات فإنهما كانا كالفرقدين في سماء الكنيسة الكاثوليكية بل كشقيقين في خدمتها. وقد تشابها في أمور كثيرة فكلاهما من وطن واحد وكلاهما آثر المهاجرة إلى لبنان وكلاهما عدل عن العيشة العالمية إلى التنسك في الرهبانية وكلاهما رأس زمناً طويلاً رهابنيته وكلاهما نبغ بالكتابة نثراً وشعراً وتوفيا قبل الشيخوخة البالغة.
(ترجمته) ولد المترجم في الشهباء في السنة 1692 من أبوي ملكين عريقين في الفضل والتقوى وكان أبوه صائغاً فأطلق على ابنه نيقولاس اسم الصائغ ونشأ في حجر والديه فتىً صالحاً ذا تقى وذكاء عجيبين. ولما ترعرع أنس في محيطه تلك النهضة الأدبية التي استفز لها الشبان الكاثوليك في حلب فكانوا الأساس الأول للصرح الأدبي الذي تشيد بعدهم في ربوع سورية فانضم إليهم نيقولاوس واستقى من مورد الذين سبقوه ولاسيما جبرائيل فرحات فاتخذه كدليله وأستاذه كما أعلن به ف ديوانه حيث قال في مديحه (من الطويل) :
إمامي وذخري بل غنائي ومغنمي ... غنمت به غنماً تجل غنائمه
فإن يكفر الإحسان من ليس شاكراً ... فأشبه بالكفران من هو كاتمه
حلبت به وسع الإناء معارفاً ... يلازمني جنح الدجى وألازمه
جنيت ثمار الحمد من دوح فضله ... وزهو ثناء عنه شقت كمائمه
ولما عرف أن بعضاً من أهل وطنه انقطعوا إلى الله في لبنان شعر بالدعوة إلى الرهبانية فودع الشهباء سنة 1716 وتنسك في دير ما يوحنا الصابغ في قرية الشوير. وما عتم أن وطن نفسه على الفضائل الرهبانية حتى عد من أرسخ الرهبان قدماً في ممارسة العيشة الفضلى وفي العلوم الدينية فرقي على درجة الكهنوت سنة 1719 بوضع يد السي سلفستروس دهان مطران بيروت.(10/)
ومذ ذاك الحين أسندت إليه مهام رهبانيته الحناوية الكريمة فقام بها قيام الرجل المحنك الحازم الذي لا يثني عزمه شيء من المحن والمشقات. فعرف أخوته أنه مختار من الله ليدبر جماعتهم وينظم أمورها فوقع عليه اختيارهم للرئاسة العامة سنة 1727 ثم عادوا وكرروا انتخابه في تسع مجامع متوالية إلى السنة 1756 فعني بأمور الرهبانية الحناوية عنايةً تامة مادياً وأدبياً وروحياً. فمن فضله ومن ماله الخاص بنى لدير الشوير كنيسته على اسم القديس نقولاوس شفيعه وشيد عدة قلالي لمأوى الرهبان واهتم بأديرة الرهبانية الثلاثة التي كانت لها في لبنان ورأس بعلبك وفتح للعابدات دير سيدة البشارة في الزوق وأقام هناك ديراً على اسم الملاك ميخائيل وبمساعيه فتح دير مكين (دير الشير) وزحلة (مار إلياس الطوق) ونال من مكارم الحبر الأعظم أن تعطى لرهبانيته في رومية كنيسة سيدة السفينة وإليه يعود الفضل بوضع القوانين لرهبانيته التي أثبتها الكرسي الرسولي سنة 1757. واكتسب بحسن إدارته وسياسته ثقة أعيان الجبل حتى مشايخ الدروز والمتاولة. وكانت وفاته في أواخر السنة 1756 في 17 كانون الأول منها ودع الحياة بكل ورع وطمأنينة وخشوع مزوداً بكل أسرار الكنيسة وذلك في قرية الزوق في دير مار ميخائيل.
(أدبياته وشعره) كان الخوري نقولاوس الصائغ مولعاً بالآداب العربية منذ حداثة سنه. ومع كثرة أشغاله بعد الترهب لم يزل يمرون قلمه في الكتابة والتأليف. فمما يروى له تاريخ الرهبانية الحناوية ومواعظ لآحاد وأعياد السنة ورسائل مختلفة بعضها في شؤون خاصة وبعضها أدبية محضة.
أما شعره فعني معاصروه من أخوته الرهبان بجمعه في ديوان كبير سبقت مطبعتنا إلى نشره كنشرها ديوان زميله جرمانوس فرحات فكان ظهوره لأول مرة سنة 1859. ثم أعاد فيه النظر المرحوم الشيخ إبراهيم اليازجي فنفحه وطبع بعد ذلك مراراً.
وإن أعملنا في هذا الديوان نظر الانتقاد أمكننا أن نعارضه بشعر أستاذه المطران فرحات فقد عالج مثله فنون الشعر حين لم يرسخ بعد قدم النصارى بكل دقائق العروض فتسامح كلاهما بجوازت لم يأنس بها الشعراء المفلقون. وإنما يشفع بهما أنهما كانا من المقدمين في النهضة الأدبية المستحدثة.(10/)
وما لا ينكر أن للخوري نقولا الصائغ نفساً شعرياً في كثير من قصائده لاسيما تلك التي أنشدها في وصف العقائد الكاثوليكية وفي الدفاع عن حوض الدين بإزاء كنيسة الروم المنفصلة التي تحاملت في عهده على الذين ارتدوا إلى الكنيسة البطرسية فذهب بعضهم ضحايا تعصب الفوتيوسيين. فتراه يخوض في أسرار البيعة وتعاليمها الغامضة فيقربها إلى الإدراك بشروحه وتشابيهه الرائعة كما تراه في قصيدته عن انبثاق الروح القدس من الآب والابن التي أولها (من الطويل) :
رأى الله كلياً بمرآة ذاته ... وذاك بفعل العقل فانطبعت طبعا
وقام بهذا صورةً جوهريةً ... لما كانت الأعراض عن ذاته منعا
فمن عقله النطقي أصدر كلمةً ... هي ابن له يسمى ومولوده يدعى
إلى أن قال:
وما الروح إلا صادر من كليهما ... كنفحة حب شأنه الجود والإرعا
تعالى عن الأشباه والمثل نخلة ... هو الآب إض منبت خصبه جذعا
كذاك وهذا الجذع أطلع طلعه ... فقل إنما الإثنان قد بثقا الطلعا
أو الآب شمس والشعاع ونوره ... هما الابن والروح اللذان أرسلا شفعا
أو الآب عين الماء والابن نهرها ... وروحهما الماء المفاض كما يدعى
أو النفس ذات قوىً ثلث وأنها ... لواحدة ذاتاً فثق واحذر الخدعا
ومن قصائده الرنانة ما قاله في مديح البيعة الرومانية يقابل بين نعماها ونفاق بيعة القسطنطينية كقصيدته القافية التي ختمها بقوله (من الجرز) :
أحفظ بيمنك أمةً ... ليست بغيرك واثقة
بمريم الطهر التي ... هي خير بكر عاتقه
لها سلام الله من ... كل البرايا الناطقة
ومنها موشحة الشهير الذي يصف فيه عناد المكابرين للحق:
يا لقوم قد تناهى وانتشر ... غيهم في كل قطر واشتهر
أيها القوم الذين انتجعوا ... نجعة الإغواء حتى انفجعوا
يا لقومي هل لكم أن ترجعوا ... فلقد أمست حكاياكم سمر
يا لقوم
ومثلهما قصيدته في رئاسة القديس بطرس على الكنيسة وسلطانه المطلق وقيام خلفائه الأحبار الرومانيين في كرسيه أولها (من الطويل) :
أماناً لبنيان غدا أسه الصفا ... هو الراسخ الأركان والثابت الأصل
فهذا الأساس الصلد بطرس صخره ... الأمانة والأس الذي ما له ثل(10/)
وهي طويلة وكلها بدائع. وله أيضاً يستقبح الانشقاق ويندد بالذين كانوا سبباً له فقال في قصيدة لامية تبلغ أبياتها نحو 250 بيتاً أولها (من الكامل) :
للانشقاق الرذل شر معاني ... في أمره قد حار كل معاني
كم ذا أكابد من مكايد حربه ... بفؤادي العاني به وأعاني
وللخوري نيقولاوس ما عدا هذه القصائد الدينية الرنانة منظومات عديدة جارى فيها مشاهير الشعراء في الآداب الاجتماعية وبعضها في وصف الأخلاق. وقد تفكه في كثير منها فروى فيها الألغاز والأحاجي والتواريخ وله بديعيتان لطيفتان وأرجوزة طويلة في الصلاة وشروطها وطرائقها. ومع ضخم ديوانه لا يزال له قصائد متفرقة لم تنشر بالطبع وجدناها في بعض النسخ الخمس التي في مكتبتنا الشرقية منها بائية في نحو ثمانين بيتاً أنشدها سنة 1724 وصف فيها نكبات الدهر وسوء معاملات بعض إخوانه المنقلبين عليه. هذه نخبة منها (من مجزوء الكامل) :
ذا الدهر ميدان المصائب ... وبنوه فرسان المعاطب
ما هذه الدنيا التي ... هي للورى وادي المتاعب
فخ البلايا والرزايا ... والدنايا والمصاعب
دهر عجيب لا تزا ... ل صروفه تبدي الأعاجب
تأتي بكل غريبة ... حتى ترى منها الغرائب
في كل يوم نكبة ... محمولة فوق المناكب
وبلية قد أوقرت ... متن الكواهل والغوارب
إلى أن خصص بالملامة من خان وداده فقال:
أبناء أمي أغرضو ... ني والسهام أتت صوائب
لو أن يعيرني الأعا ... دي لاحتملت ولم أعاتب
أو أن ضدي غرني ... ما كان ذاك من الغرائب
بل يا شقيق الروح أنت ... كسوتني ثوب المثالب
وجعلتني غرضاً لسهم ... منك راشته المعايب
هذا جزا من كان لم ... يتحام عن حمة اللواسب
لدغ الفؤاد ولم أقل ... هذا الفتى نسل العقارب
ما زلت امدحه واشكر ... وهو لي هاج وثالب
لا غرو من روغانه ... إذ هذه سمة الثعالب
ذا طبعه لا تعجبوا ... لفعله فالطبع غالب
فذروا ملامته لان ... اللوم عندي غير واجب
ذا مكسبي صفح الأذى ... فالصفح من أسنى المكاسب
ومما فات جامعي ديوان الخوري نقولا الصائغ قوله في مديح مريم العذراء (من الكامل) :
إن البتولة ذات أمر نافذ ... تنهى وتأمر في الأنام وتحكم
ذات المقام السامي في فلك العلى ... في حكمها كل القضاء مسلم(10/)
هي معقل المستجير وملجأ ... المستغيث وجنة لا تثلم
بكر تسامى فضلها فهي التي ... من مستميح نوالها لا تسأم
خير الفدى بحر الندى وردج الصدى ... كنز الجدى تهب العطاء وتنعم
تعنو لخدمتها البرية أسفلاً ... ولها الملائك في الأعالي تخدم
قد قوضت ظلم الضلال لأنها ... علم الهداية والطراز المعلم
هي مسكن الله العظيم وإنها ... قدس المقادس الخباء الأعظم
والكوكب السحري نور العرش من ... دانت له شمس الضحي والأنجم
هذي هي الحجر الكريم قد اجتبا ... هـ وهام فيه الفيلسوف الأكرم
مذ حل فيها عاقداً جسماً له ... على أنه بقنومه متقسم
متنزهاً لاهوته هعن لازم ... لكنما ناسوته مستلزم
رب بسيط جسمه متركب ... يمشي فيعيا أو يجوع فيطعم
فقنومه فذ وليس بتوأم ... وكلا الطبيعة والمشيئة توأم
يا عمدتي في شدتي ومعونتي ... ببليتي والفوز فيها يعظم
فلا مدحنك ما حييت وإن مت ... فلتمدحنك تربتي والأعظم
حق على الأفلاك مدحك في العلى ... لو كان للأفلاك نطق أو فم
فعلى مديحك أجمعت وتجمعت ... عرب البرية كلها والأعجم
أهديك بكر الفكر خير خريدة ... في بحرها در المديح منظم
برع الختام بها بمسك ثنائها ... أعظم بمدح باللطائم يختم
وروى له مكرديج الكسيح في ريحانة الأرواح قوله في العدو والصديق المماذق (من السريع) :
كم من عدو نلت خيراً به ... كم من صديق حزت منه الأسى
فاحذر أيا ذا الحزم يا ذا النهى ... من روح ذي بغض لك أن تيأسا
وروى له أيضاً (من الخفيف) :
يا بني كن شاكراً غير شاك ... كي ترى الله في بلاك معينا
ليس بد من القصاص ولكن ... إن يكن هاهنا فألطف لينا
إن أوجاع ذي الدنى لا توازي ... ذلك المجد حين يظهر فينا
ومن أقواله التي لم ترو في ديوانه قوله يصف الشباب وشهواته (من الوافر) :
إذا ما الشاب شاب وشب فيه ... لظى الشهوات يستعر استعارا
فيشبهه ربى يعلوه ثلج ... ويقذف جوفه شرراً ونارا(10/)
وللخوري نقولا الصائغ رسائل نثرية كتبها في أغراض شتى وربما تأنق فيها وزانها بضروب السجع والجناس. وها نحن نضرب منها مثلاً وتلك رسالة وجهها إلى أحد مشاهير رهبانيته الخوري يواكيم مطران البعلبكي طلب كتابنا المخطوطات العربية لكتبة النصرانية ذكر له فيها ما أصاب رهبانيته من النكبات بفعل بعض المعادين وقد ضمن هذه الرسالة إشارات لطيفة إلى العلوم المختلفة كما سترى في الألفاظ المخطوط عليها قال: (اقتباسات من علوم الصرف والنحو والبديع) من بعد تقبيل يديكم والتماس دعائكم. إنه يليق بي أن أبثكم شرح ما توجه من أمرنا مع الناكري المعروف ولا نلقي عوامل الجزم على معتلها بل ننحوها بصحة سالمة ولا نغفل عن إلحاق وصف مبتدأها وخبرها. ولولا منازعة الهموم التي أوجبت الاشتغال ولم تدع لنا حالاً ولا تمييزاً لما تأخرنا من تقديم بيان كل شيء مما دخل علينا من النواسخ التي صيرت بيننا وبين الهدوء بعد الفراسخ، وتوكد ابتدال صفة الأمور بانعطاف القاصد لأنه بعد أن حد لنا القسمة بالقياس فاذ رضينا بها عدل عنها. وذلك الابتداء انتسخ بهذا الخبر وقد رفع الدعوة إلى المجمع ناصباً لنا شص المكيدة ليخفض جانب حقنا أو يجر عليه ذيل الإلغاء بتقدير حذف كل ما يضاف إلينا من الحق الصريح والمضمر. والله أعلم بمصدر أفعاله إن كان صحيحاً أو مؤولاً وإن كان ضميرة متصلاً مع الله أو منفصلاً لعله ما. وقد جعل معرفة الحق نكرةً وسوغ الابتداء بها بعموم الباطل وخصوص نفي المنافين وجوب ولايتنا.(10/)
(اقتباسات من علم المنطق) وجعلنا موضوع ما حمل علينا من القضايا الوهيمة. مع أن هذا اللازم لا يلزم. ودعواه الكبرى إننا لم نسمع منه ولا الصغرى. ومن ثم حصل التنافي والتضاد والتباين والتناقض وعكس القضايا فصار جميعها نقيض الوضع. جعل الحد بيننا حتى مجيء الجواب وتعريف ما يجب أن يحكم به بعد الحكم الجازم والنتج اللازم. وقد جنس ونوع بنا فوصولاً وأرهق نصولاً بالعرض العرضي على جوهر ما قام بذاته من الحق بحمد الله تعالى حتى غدا حقنا كأنه طبيعة لا اقنوم لها مع أن العدل اقنوم الحقوق والجوهر الأول لطبيعة المعاملات. ومن ثم سلب حقوقنا وجردنا منها. وأنى ينتج وجوب حق من قضايا كلها سالبة.
(اقتباسات من علم الهندسة) حتى غدوت مما نالني من هؤلاء كأنني جزء لا يتجزأ. أو كنقط في دائرة الحوادث تحت خط مستقيم من الكوارث ولو أمكن لانزويت إلى زاوية أو مربع واستعنت بالموحد ذاتاً والمثلث الأقانيم على هؤلاء الأربع. ومما خرط لي الزمان من الاختلال صرت مثل كرة تلعب بي الأحوال حتى صار طولي عرضاً وعمقي سطحاً وبسيطي مركباً والمجوف محدباً. وهذه جملة تغني عن التفصيل وهي أولى بأفضل التفضيل.
(مقتبسات من علم العروض وأبحر الشعر) وكنت أوثر أن أعرض لك ببديع أفعاله وعروض الموازين بأعماله إلا أنها ذات شرح طويل مديد وافر غير أنه سريع الرجز خفيف الحركات أو مضارع له فيما يتجارك كلما يكون من جملة أولئك بالكمال، تراه منسرح الكلام بهزج يقتضب أنوعاً من الاحتيال والاغتيال، يبسط عنهن العذر وينقبض ويكف متى يسمع شيئاً غير متقارب لمناه. وهذا أوجز ما يمكن من الشرح على صدور متون تقتضي حواشي، يكل عنها الناظم والناشي، ويرتع بميدانها الحاسد والواشي.
(مقتبسات من علم الأبراج الفلكية) (ولو كنت ممعناً بين أبراج السماء لم أخل أن احتمل ما حمل قلبي من لذع عقرب الغموم، وعقلي من سرطان الهموم، والكمد، ما لا يقوى عليه الأسد. ولما نكس ميزان الحظ ومال، ورعى جندي النحس سنبلة الإقبال. وامتلأت دلو النفاق الجور، الذي لا يحمله الثور، وابتلع حوت الغدر جوزاء العادلة أيقنت أنه لم يبق في قوس الصبر منزع فمن ثم أقول.(10/)
(مقتبسات من أسماء البلدان والمدن والأنهر) (إن عراق العيش تكدر فما راق، ولا راق لي عمر تقضى بإعراق، لأن الذي كأنه بدجلة الآسي، لم يزل موصل الأذى إلي ويسي، البصرة نحوي ويلحظني بالحظة الزوراء عن قبلة السلم فخلت أني في ميدان الحرب لا مدينة السلام. وغدوت في حيرة أصدأت القلب فأبعدته من الري وأودعتني البلابل، حتى كأنني في بابل، بين أهلها المتمردين، والعوذ بالله من قوم ماردين، أو كأنني في جوسق المحن وكأن الدهر حلب لي من أثداء المحنة الهشباء لبان التعب، وسربلني بأطمار الذل بعد ثياب العز وهي عزاز، وابتزني كل الابتزاز، ولطخني العاصي بمعرة المعاصي، حتى كأني في حماة وهيهات أن برحضني العاصي، فغدوت شاعراً بالبلاهة افضل من أهل حمص ولكن بصيغة المفعول لا الفاعل ولم يبق على جد الاحتمال ربلة. ومما نالني من أهل قاره انشد كل وقت (قفا نبك) . ومذ تعرفت بهؤلاء النكرات ما شام طرفي ما طال الأمد سوى بارق الكمد، لكنما الدهر تصدى لفتكي ولله الحمد ما أنا له في صدد. فوددت لو كنت في بعلبك مساجد الأصنام أو أختها تدمر.
ولما التحفت بجبة الذل أطال كلب الجور العقور علي نبحه وصارت همتي كالسلحفاة وكانت قبل كاللبؤة فغضت العين وطأطأ الرأس وحسبت أني في قاع بحر الهموم يضيق بعيني رحب البقاع، والفوات ذات الاتساع، كيف لا وقد أبسر نخل الظلم وأبلح، وزحل العدل عن سبيله أية زحلة وزحزح، وانقصم متن الحق فما ارتفع له رأس، وغدت مسودة جرد العهود ذات شراس وشماس، ناكرة الإخاء والإيناس، فلم يتهيأ لي في مصر ولا كفر سلوان ولا ما ينقي وضر الهموم ولا عين سلوان..(10/)
(وكان عهدي بفلان أنه كأرزة لبنان، لا تهزه الرياح الزعازع، فإذا هو كالقصبة أمام وجه الريح تلعب به الزوابع، ولقد أثقل كاهلي نير البلايا من كل حادثة، لأن سكة الجور في كل البلاد حادثة. فالحمد لمن لا يحمد على مكروه سواه. إن الأيام دكت طور أوطاري شر دكة، حتى حصلت بأرض عكة، أبيت منها بليلة عكة، وجدلني الدهر إذ جادلته جدالاً أفضى بي إلى مجدل العناء فلم أجد جذلاً. وصفد الهم قلبي بوثاق وقيد وقطع أوصال راحتي بحد شفا عمر أو زيد ... وصرت أشبه بمن انحدر من أورشليم إلى أريحا، ووقع بين اللصوص فصار جريحاً، ولكني أرجو من حضرة القدس الجليل ذي الحرم الجليل، وصخرة الرجاء الذي لا يخيب ولا يستحيل، إن يرفعنا في القيامة على جبل صهيون السماوية. يجعلنا أهلاً لنتمتع في جبل الخليل وزيل من بيننا وبينه ذلك الحجاز الذي حجزته المآثم والخطأ ويجعلنا من أهل المدينة التي رآها يوحنا نازلة من السماء ويقرب منا إليه الخطى لمي تؤنس النف بعد وحشتها نار تلك الديار، ويقر بها القرار ويخلصنا من كفر هذه الدنيا. ويحظينا بمصر دياره الفاخرة، ويذود عنا شر العداة بقوته القاهرة، ويثبتنا في حصن كنيسته المحاربة لنفوز بالحظوة في الكنيسة المنصورة محلة المجد الوريف التي تسمو على كل غور ونجد وثغر وريف ويروينا من ماء نيلها العذب وينقع منا الظمأ ويرفعنا من هرم ها العمر فوق فسطاط جلد السماء ويصعدنا من هذا الصعيد ويزلفنا إلى صعوده حيث لا صعد للنوفس ولا تصعيد، ويرشدنا إلى جدد الحق الرشيد أنه لخير هاد ورشيد.
(وما وجهت إليكم هذه العبارة -والعارف اكفيه الإشارة -إلا لأني أخال أن الضر لاحقني غاية الإلحاق، ويطاردني كأني راكب بولاق، قاصداً نكسي ونفسي. وهذا فعل من كان قاصد السوء فلنسعفه بالصلاة والدعاء) .
فترى ما في هذه الرسالة من التكلف والتصنع وإنما هي دليل على اقتدار صاحبها من مجارة أدباء زمانه الذين أولعوا بمثل هذه الفنون الاصطناعية. وله في ديوانه رسالة أخرى وجهها إلى معاصره ومواطنه الأديب مكرديج الكسيح من مشاهير أدباء الشهباء في القرن الثامن عشر ضمنها أيضاً ضروباً من فنون الإنشاء نظماً ونثراً.
15- الشاعر إبراهيم الحكيم(10/)
هو أحد أبناء الشهباء الذين ساعدوا في وطنهم على تلك النهضة الأدبية التي لاح فجرها بين النصارى في القرن الثامن عشر.
(لمحة من ترجمته) لسما نعرف سنة مولد الشاعر إبراهيم الحكيم والمرجح أنه ولد في أوائل القرن الثامن عشر أو أواخر السابع عشر. أما أخباره فلم يدونها أحد من كتبة عصره وإنما اطلعنا على بعض أطوارها بما ورد في ديوانه الذي استخرجه من زوايا النسيان جناب صديقنا الأستاذ عيسى أفندي اسكندر المعلوف بعد اطلاعه على ما نشرناه في المشرق (10 (1907) : 559، 58، 708) من قلمه بخصوص رحلته من حلب إلى مصر وقد جاء فيها عدة قصائد وجدها في ذاك الديوان المخروم في أوله والضائع اسم مؤلفه.
فيؤخذ من هذه الآثار أن إبراهيم الحكيم ولد في حلب من أسرة كريمة من طائفة الروم الكاثوليك. ونشأ هناك وتخرج على علمائها النصارى وقد ذكر منهم منصوراً الحكيم من أقربائه الذي ورد ذكره في أخبار طائفته كأحد المدافعين عن حقوقها في وجه الدولة التركية في حلب والأستانة ثم دان بالإسلام طمعاً بالشرف. ومنهم العالمان الشهيران عبد الله زاخر والخوري نقولا الصائغ وقد هم بمدحهما شاكراً ثم رثاهما بعد وفاتهما.
وكانت إقامة إبراهيم الحكيم في وطنه يتعاطى فيها صناعة الطب على مثال أجداده الذين أطلق عليم اسم بيت الحكيم فورثه بعدهم. وجاء له في ديوانه قصيدة يشكو فيها صناعته ويصف ما ينال المرء بسببها من المصاعب افتتحها بقوله (من الكامل) :
تباً لرزق يبتغيه الآسي ... تباً لذلك من عيون الناس
تباً لمرء عند ضر الناس يأ ... تي ربحه بالكره والإخساس
تباً لسوء صناعة محسودة ... مضروبة بالقل والإفلاس
تلقى الطبيب ولو حوى الأموال لا ... تبقى لديه لآخر الأنفاس
وهي طويلة اطلب المشرق 1907 ص 116) وقد ختمها بقوله:
يبقى الطبيب عدو كل الأهل والأحباب ... بل عدو كل الناس
على أن مهنته هي التي قربته من رجال الدولة كعمر آغا يحيى بك ومحمد آغا ابن رستم. وانتدبه عثمان باشا والي حليب ليرافقه إلى الأناضول فصل بمعيته إلى سيواس سنة 1757 وقد ذكرها في شعره.(10/)
ثم دعته الظروف واضطرته الأحوال إلى الخروج من وطنه في السنة 1740 فرحل إلى آطنة ثم رجع إلى الشهباء ثم خرج منها سائحاً سنة 1750 إلى اللاذقية فزار صهيون وذكر آثارها ثم رحل إلى حمص وأقام فيها مدة (1750-1752) فعاد إلى وطنه إلى أن خرج سنة 1757 إلى سيواس بصحبة عثمان باشا.
ولما كر راجعاً إلى وطنه لم تطل فيه مدته فإن البطريرك الدخيل سيلفسترس كان نال فرماناً لضبط مطران الروم الكاثوليك السيد مكسيموس حكيم أن يهرب من وجهه إلى لبنان. فأخذ يضطهد الكاثوليك فحبس منهم وقتل منهم وأراد أن يلقي في السجن إبراهيم الحكيم لتحمسه للدين ففر من وجهه وسافر من حلب إلى لبنان ومنه إلى مصر فقضى فيها سنتين ولا نعلم ما جرى له بعد ذلك ونرجح كونه قضى نحبه في وطنه.
ولم نطلع على سنة وفاة إبراهيم الحكيم. والظاهر أنه عمر طويلاً فقد وقفنا له على أبيات مكتبها سنة 1782 لضريح جرجي بشارة صائغ ختمها بهذا التاريخ:
فأذكر القول في التاريخ (بينكم ... فاجأني الموت كي أحظى بمولائي)
وكان إبراهيم مقترناً بالزواج فرزقه الله أربعة بنين إلا أنهم ماتوا صغاراً وكان أكبرهم يدعى جبرائيل رثاه أبوه سنة 1743 (أخلاقه وآدابه) إن الآثار الباقية من قلم إبراهيم الحكيم صورة ناطقة عن حسن طباعه وآدابه. وفي مقدمة صفاته تدينه وعراقته في معرفة عقائد النصرانية فتراه وهو عالمي يصف تعاليم الكنيسة وصفاً شائقاً ويتغنى بمحامد السيد المسيح وقلبه الأقدس ويصف حبه الإلهي ثم يطرئ صفات والدته الجليلة ويلتجئ إلى شفاعتها كأبر البنين ويتسع بذكر الرسل الأطهار.
ومن صافته صدق معاملاته مع أهل وطنه والأجانب من مسلمين ونصارى ونفوره من ذوي المراء والنفاق وأهل الريبة فيصفهم في شعره وصف الرجل الفاضل الذي لا تعمل به ظواهر الخداع.
وقد أكثر في شعره ذكر الزهد والتوبة ما يدل على ميل نفسه على العيشة المسيحية الفضلى.(10/)
أما أدبه فإن آثار قلمه تدل على رقيه فتجد نثره ونظمه في طبقة راضية وإن تسامح في نظمه ببعض الجوازات الشعرية كسالفيه السيد فرحات الخوري نقولا. وقد جاراهما في الفضل فلم يقتصر على الدينيات والأدبيات بل تعاطى كل فنون الشعر وقد ذكرت له بديعيته في مديح اليد المديح ووالدته ورسله وكنيسته (المشرق 1907: 836-842) وله في أوصاف البلاد والرجال ومشاهد الطبيعة أقوال تدل على جودة قريحته وبديع تخيلاته وحسن ذوقه هذا فضلاً عن غزارة مادته واتساعه في بسط المعاني. وها نحن نذكر شذوراً من أقواله فنحيل القراء إلى ما نشر من منتخبات قصائده في المشرق (10 (1907) : 833,1016,1110) وقد وقفنا على قسم من ديوانه الذي حصل عليه مبتوراً جناب صديقنا الأستاذ عيسى اسكندر المعلوف فنقتبس منه شيئاً. قال متغزلاً في محاسنه تعالى جلت قدرته (من الكامل) :
يا واحداً شرفت في علياكا ... في قدرة ما حازها إلاكا
تفدى بروحي يا قصارى بغيتي ... بل منيتي أنعم علي بذاكا
وأر لحاظ الصب منظرك البهي ... واشف عليلاً يرتجي لقياكا
أمنن علي بنظرة مترحماً ... قد شاقني رؤياك ثم علاكا
إن هب ريح الصبح أو ريح المسا ... تتلفت الأبصار نحو لقاكا
تهتز أوراق الرياض بزهوها ... فهي لسان يبدي عز سناكا
إن مالت الأغصان في روض فهي ... كأنامل تومي وليس سواكا
والورق مذ تعلو الغصون فإنها ... تروي بلذة شدوها أسماكا
والسحب لو ركب اليراع بمتنها ... تملي بفيض الماء وجه سخاكا
والبدر في أفق السماء مصرح ... لولاك ما عرف البها لولاكا
فالكل منك وجودهم فتنيرهم ... بسنائك السامي وأنت كفاكا
ألقاك بي بسواد قلبي جائلاً ... لكن عيني تشتهي رؤياكا
أنعم علي بنظرة إذ أنني ... أيست إن لم استشف خفاكا
ومن محاسن شعره قوله في مديح قلب يسوع الأقدس سنة 1732 (من الكامل) :
يا أيها القلب الإلهي الأقدس ... يا منبع الجود الذي لا يحبس
يا منهل الفيض الذي بوروده ... ماء الحياة لكل من يتقدس
يا منبر الثالوث والكنز الذي ... خيراته من أمها لا ييأس
يا مصدر الجود الذي عم الورى ... خيراً تكل اللسن عنه وتخرس
أنت الوجود وأنت عين الجود بل ... أنت الحياة لكل من يتنفس(10/)
أنت الجمال بل الكمال بأسره ... ولهذه الأوصاف تعنو الأنفس
أنت الحبيب وأنت عين الحب ... والحاوي الكمالات التي لا تعكس
أنت الذي أضرمت نار الحب في ... قلب الذين هويت أن يتقدسوا
أضرم بقلبي هذه النار التي ... تحيا القلوب بها وتعلو الأرؤس
أرجوك يا مولاي قبل الموت أن ... تعطي عبيدك ما به يتهجس
إن ترتضي قلبي لقلبك منحةً ... وذبيحةً حسناء لا تتدنس
ومن تغزله في مديح مريم العذراء قصيدته اللطيفة التي يقول فيها (من الطويل) :
لقد عفت كل الحب من دون حبها ... فكل وداد ما عدا ودها دها
فحتام أرجو في الأنام مودةً ... وقد زاد وجدي دون أحبابها بها
فميلوا إليها واملكوا العز والعزا ... فمن كان منسوباً إلى عزها زها
فقد جمعت فيها المحاسن كلها ... فهيهات أن يحوي محاسنها نهى
وإذ لم يكن في الناس ند لحسنها ... ظننا أباها البدر أو أمها مها
لذا حارت الألباب في حسن وصفها ... ولما قدرت إحصا ثنا فضلها لها
إذا أسفرت أخفى ضيا الشمس نورها ... وأدهش أبصار الورى ما بها بها
إفيا حبذا ذلي لديها وحبذا ... دماي فلو شاءت لأبذلها لها
هي العروة الوثقى وهي المجأ الذي ... يقينا إذا ما الخطب من ضدها دها
ومن مديحه قوله من قصيدة رائية طويلة أولها (من الطويل) :
ألا ليت هذا الدهر يصحو من السكر ... ويصفو لما أبداه من كدر الغدر
ومن مديحه أيضاً الفتية التي قالها في السيد جبرائيل حوشب أسقف حلب الماروني وخلف السيد فرحات (من الكامل) :
غنت حمام الروضة الغناء ... برخيم شدو ثغورها اللمياء
وأمدها أرج النسيم بنفحة ... فضت كختم المسك في الأرجاء
ومنها:
كنز التقى جبريل بل مأوى النق ... خير الوجود وجود كل سناء
راع أمين حارس متيقظ ... ندب كريم لجة الأنداء
فهو السراج العالي فينا مناره ... مذ لاح أخفى وظلمة الإغواء
صرح على جبل الفضيلة ثابت ... لا يختفي عن أعين الظراء
وهي طويلة تنيف على 60 بيتاً ختمها بقوله:
مني السلام لك دواماً طالما ... صدحت حمام الروضة الغناء
وله مديح بعض السادات (من الطويل) :
همام كساه الله ثوباً مديحاً ... من الفضل والآداب والمجد والفخر
له تشهد الراؤون في كل قبلة ... وتنشده الكتاب في البدو والحضر(10/)
حزوم أبت إلا امتداحاً صفاته ... برغم من الأعداء طوعاً بلا قسر
غيور على الإيمان في كل حادث ... نصوح سديد الرأي في النهي والأمر
لك الله من ندب لقد قرن التقى ... مع العلم والفضل المنيف مع الطهر
أتته المعالي اللائي عزت على الورى ... وحنت إليه كالفطيم إلى الظئر
أيا طالبين السير في أثره أقصروا ... فأين السهى يا قوم من كف مستقري
فتلك اختصاصات فلله إن يشا ... يخص بها من شاء فضلاً بلا شكر
وقال في الشوق إلى بطرس أحد أصدقائه وهو في الغربة (من الطويل) :
إلام أداري الشوق وهو خؤون ... وأخفي التياعاً والدموع شؤون
إلى الله أشكو من أذى الدهر لوعةً ... يحن لها القلب الخلي ويلين
ووحشة دار غاب عنها أنيسها ... فعدت بقلب يعتريه أنين
لكل من الأدواء طب لدائه ... ولكنما داء الفراق دفين
ألا أيها الخل الصدوق بوده ... وإن غربته في البعاد شطون
أبثك شوقاً ذاب منه تجلدي ... وحسبي نحولي شاهد وضمين
كأن أويقات تقضت بقربكم ... لطائف طيف في الصباح تبين
لقد نبهت مني الشجون لواعجاً ... من الشوق لم تغمض لهن جفون
ومنها:
ألا يا نسيماً عل في ساحة النوى ... فأحياه عن طل السحاب هتون
تلطف رعاك الله واحمل تحيتي ... فإنك في نقل السلام أمين
إلى مربع التقوى إلى منبع الجدي ... إلى من فؤادي في حماه رهين
إلى بطرس المفضال والمخلص الذي ... تراه بصدق الود ليس يمين
هو مؤنسي بل ضوء قلبي فمن ترى ... لذلي على هذا المصاب يعين
وختمها بقوله:
إليك شقيق الروح بكراً توجهت ... لها من معاني الوجد فيك فنون
فدم يا ابن ودي في ذرى الخير والرضا ... مع اليمن والإقبال حيث تكون
منيعاً شديد البأس في كل حادث ... لك السعد خدن والفلاح قرين
ومن رثائة قوله في صديقه الشماس عبد الله عبده مات بغيبة بكره يوسف (من الطويل) :
لقد جار دهري وانتضى سيف غدره ... فافنى اصطباري ثم أوهى شبيبتي
وساء بنزع القلب من مهجتي وهل ... يرى لي شخص بعد فقد الأحبة
بموت العزيز القرم ذي الهمة التي ... علت في المهمات العظام بحلية
هو الندب عبد الله نصرة من أتى ... وجيعاً كسير القلب بادي الفجيعة
فيا ليت شعري هل يرجى لقومه ... سلو على المفقود أم برء علة(10/)
سوى نجله ذاك المفدى لدى الورى ... هو يوسف المفضال عز الأيمة
هو شبل ذاك القسور القرم من نشا ... بحسن السجايا والحمى والمزية
لئن لم يفز منه بتوديعه ولا ... ببعض كليمات شفاءً لغلة
فإن لسان الحال عنه كقائل: ... (ألا يا حبيبي دون أهلي وصحبتي
ويا يوسف النجل السعيد فإن ترى ... جزاءً لأتعابي وتسكين لوعتي
فلا تغضين طرف العناية والعنا ... عن إخوتك اللائي هم روح مهجتي)
ومن أوصافه الحسنة ما قاله في سفره بحراً في سفينة قلاعية قبل أن يشعر بهجيانه وتلاطم أمواجه إذا كان البحر هادياً والسير مؤاتياً وأديم السماء صافياً والنسيم عليلاً (من الطويل) :
يقولون أن البحر ساءت مصائبه ... وقد كثرت آفاته ومعاطبه
وإني رأيت البر أقوى شدائداً ... وأعظم أهوالاً وتضني متاعبه
حزون وأوعار نزول ثم ارتقا ... وشيل وحط ثم قوم تناهبه
وفي البحر راحات كأن الفتى بها ... ينام على مهد تساوت مناكبه
تسير به الركبان من فوق متنه ... كأن على سطح تعالت جوانبه
تهب عليه الريح في طيب سيره ... ويا حبذا سيراً تطيب مذاهبه
ترى سفنه من فوق صهوات ظهره ... كأن قصوراً زينتها حبائبه
وتحكي قلاعاً طائرات مع الهوا ... يلاعبها ريح الصبا وتلاعبه
تمر كمر الطير من غير عنوة ... وتجري كسهم جاد بالحزم ضاربه
فكم سائر فيه ينام بساحل ... ويصحو على الشط الذي هو طالبه
يبيت ويجري سائراً غير عالم ... ولم يدر إلا طالبته قواربه
وكم تاجر فيه رأى بعد فاقة ... جزيل الغنى لما أتته مكاسبه
وكم سائر فيه يلاقي مع المدى ... عجيب أمور حين تبدو غرائبه
عليك به يا صاح من دون خشية ... ترى ما أحيلاه واهنا مشاربه
ولا تعط أذناً للمجيب بلومه ... فجل الذي لم يبد منه معايبه
اجتزينا بهذه الأمثلة لتعريف إبراهيم الحكيم فإن في آثاره دليلاً على أنه ساعد أبناء وطنه في نهضتهم الأدبية التي عمت بعدئذ أنحاء الشام. وذلك ما يشفع ببعض الركاكة التي ترى في قصائده كما في شعر مواطنيه وهم يعيشون في محيط خامل جامد لا يجدون مدارس منظمة في وطنهم ترشدهم وترقيهم في الآداب كما أنهم لم يأنسوا من الدولة التركية وأربابها تنشيطاً على العمل.(10/)
ولنا في رحلة إبراهيم الحكيم إلى لبنان ومصر التي نشرناها في المشرق (10 (1907) : 559,581,708) شاهد آخر على فضله في الكتابة وله هناك نثر بديع تبسط فيه وأعرب عن تفننه في الإنشاء وحسن الوصف لعواطفه الباطنة ولما عاينه في تلك السياحة من البلاد والرجال والمشاهد الطبيعية الفتانة والحوادث الواقعة كل ذلك بالسجع اللطيف فمن قوله يصف نوء البحر وأهواله بعد وصفه محاسنه وأفضاله: (وأقبلت الليلة الدمساء، وإذا بالجو قد تعكر وبرد، وأبرق وأرعد، والبحر أرغى وأزبد، وتمطى وتمدد، واضطرب وهاج، وتزاحمت فيه الأمواج، وعج ولكن أي عجاج، وتماطلت الأمطار كالمدرار، وتروبع الريح وثار من سائر الأقطار، حتى عدمنا القرار وتقاربت منا الأعمار، وتحيرت الأفكار، وتزايدت الأحزان والأكدار، وتقطعت العزائم والأوتار، وعاد كل كالمحتار لكثرة الخوف والانذعار، فقضينا ليلةً نابغية، بأحزان يعقوبية واحتمالات أيوبيه، إلى أن طلع الصباح، وأضاء بنوره ولاح، ليعرفنا أي أرض شارفنا من البطاح، فأخبرنا بما ينفي الأفراح ويزيد الأتراح، حتى عدنا كالأشباح العادمة الأرواح ... ولو لم يلف النوتي القلاع، وينزل الشراع، لشردنا إلى غير بقاع، وضعنا شر الضياع، وبقينا على هذه الحال يومين وثلث ليال، مقطوعين الرجاء والآمال، لا نفرق اليمين عن الشمال، من شدة الأهوال ... ) .
وله هناك وصف جميل لبيروت ومناظرها ومديح أهلها فيوقفنا على أحوال عاصمة لبنان في أواسط القرن الثامن عشر في عهد الشهابيين إذ كان البيروتيون راتعين في بحبوحة الهناء قبل الجزار وحكمه المشئوم.
16-الشاعر انطون بيطار الحلبي
هذا أيضاً إحدى ثمار الدوحة الأدبية التي بسطت فروعها في الشهباء في القرن الثامن عشر وكانت باعثةً للنهضة الجديدة التي امتدت بعد ذاك إلى أنحاء سورية.(10/)
(لمحة من أخباره) من العجب العجاب إننا لا نجد أحداً من كتبة الشهباء وباحثيها حاول حتى الآن أن يكتب تراجم هؤلاء الجهابذة الذين أولوا وطنهم فخراً. ومنهم انطون بيطار المذكور فإن تاريخ وطنه صامت عن ذكره. وكان أملنا من صاحب إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء السيد محمد راغب الطباخ أن يدون أخباره وأخبار زملائه النصارى الحلبيين في جملة شعراء القرن الثاني عشر فسها عن ذكرهم فعساه يسد الخلل في جزئه الأخير فإن آثار هؤلاء الأدباء أوع وأرقى مما أورده عن كثيرين من المسلمين.
فلا يبقى لنا إلا أن نعمل النظر في ديوانه فنستخلص منه لمعة من أخباره.
هو انطون بن شكر الله بيطار الحلبي الروم الكاثوليكي. كان مولده في العقد الأول أو الثاني من القرن الثامن عشر. عني منذ حداثته بالآداب وبرع بالكتابة فخدم الدولة العثمانية في دواوينها حتى صار باشكاتباً بين عمالها.
ويؤخذ من ديوانه أنه عاشر أدباء وطنه وأماثلهم النصارى تشهد على ذلك رسالة منمقة وجهها إلى الخوري نيقولا الصائغ رئيس الرهبانية الحناوية العام جواباً على كتابة مثلها. ولما توفي الخورس سنة 1756 قال انطون بيطار يرثيه (من الكامل) :
أواه يا ذا الموت كم أرزيتنا ... بمصائب دهم كليل حندس
فاجأتنا ببلية لم تحتمل ... وفجعتنا بالأب فيقولاوس
وهدمت ركن حياتنا بفراقه ... وتركتنا نلقاه موتى الأنفس
متأسفين ونائحين ولابسين ... ردا الأسى والحزن اسوأ ملبس
سر أيها الأب السعيد إلى العلا ... متمتعاً بالمجد ضمن الأطلس
وارتع مع الأطهار وامتعن مع ... الحمل الوديع على الرياض السندس
وأسعد بحسن ختام تاريخ وسر ... متمتعاً بنعيم رب أقدس
وشارك انطون بيطار أهل طائفته بما نالهم من الاضطهاد من أعدائهم وخصوصاً في أيام بطريرك الفوتيوسيين سلبسطرس القبرسي وذويه. وقد ذكر الشهيد إبراهيم بن ديمتري بن يعقوب الدلال المستشهد سنة 1742 في عيد الأضحى فرثاه بقصيدة مطولة أولها (من الكامل) :
يا صاحبي ما بال سكان الحمى ... كلاً أراه والهاً يبكي الدما
أترى جرى خطب عظيم أم قضى ... ندب كريم أم رأيت توهما
فأجابني والدمع يسبق نطقه ... هلا سمعت بشاهد قد ألما(10/)
أو ما علمت بان إبراهيم قد ... قتلوه منهاناً فعاد مكرما
أن أنت يا هذا غريب غائب ... أبداً عن أورشليم لم تدر بما
إخلع نعالك ثم أقبل مسرعاً ... نحو الضريح ضريح من قد عظما
فأتيت نحو اللحد أبصر ما جرى ... فرأيت ما شرح الصديق وألهما
قوم عيونهم تدر بوادراً ... من حزنهم فكأنهن عيون ما
ناديتهم لا تحزنوا بل فافرحوا ... إن الشهيد بصبره قد نال ما ...
نال المواعيد التي رب السما ... عنها أشار لتابعيه مثلما
حياً الحيا حلباً ورى تربها ... إذ دم إبراهيم فيها قد هما
هذا الذي ضاءت كواكب فضله ... فلذاك عقل ذوي الغباوة أظلما
ما مات خوفاً من عذاب جهنم ... أو رغبةً أن يقتني ملك السما
بل مات شوقاً في محبة ربه ... ذاك الذي في عشقه قد ألما
إلى أن قال:
طوباه إذ حاز الإهانة ههنا ... وغدا بملك الطاهرين مكرما
طوباك إبراهيم يا من قد علا ... فوق العلى متشرفاً متعظما
طوباك فاسمع من أتى متوسلاً ... كن لي شفيعاً في النشور تكرما
يوماً أنادي مادحاً ومؤرخاً ... يا شاهداً بالموت قد ورث السما
ولما أتى جناديوس مطران الروم إلى حلب واغتصب كنيسة الكاثوليك سنة 1766 قال انطون يهجوه (من الكامل) :
أذروا الدموع على المصاب الجاري ... فلقد أتانا من سماح الباري
أبدوا نحيباً لم يشاهد مثله ... مع كرة الأصوام والأسهار
قد حلت الأرزاء في ساحاتنا ... بسماجة من كثرة الأوزار
وهي في نحو مئة بيت وختمة بقوله في الظالمين:
وسط الجحيم مقامكم أبداً إلى ... دهر الدهور وآخر الأعصار
وكان انطون بيطار مقترناً بالزواج ماتت زوجته الأولى لوسيا سنة 1755 فرثاها بقصيدة طويلة تنبئ برقة عواطفه أولها (من الكامل) :
يا دهر أقسم بالكليم ... رفقاً بذي القلب الكليم
لم يبق لي غير الذي ... أبقيت من عظم رميم
ومنها:
رحلت وما نظرت إلى ... حال اليتامى واليتيم
بل أحدقت نظراً إلى ... النهج المؤدي للنعيم
فإنما زهدت بنا ... وصبت لمغناها القديم
والله يدعو من يشا ... إلى النعيم المستديم(10/)
واقترن بعدها بزوجة أخرى توفاها الله بعد ست سنين سنة 1761 فرثاها أيضاً. وفي ديوانه إشارة إلى بعض أفراد أسرته في مقدمتهم أبوه وأمه له فيهما أبيات في تاريخ وفاتهما. وكان له عم في اللاذقية اسمه نعمة الله بيطار قد هنأه ابن أخيه بمولد ابنه يوسف سنة 1737. وقد وجدنا في بعض المجاميع أبياتاً منسوبة إلى ميخائيل بيطار الحلبي ولا شك أنه من أنسبائه. ولم نقف على سنة وفاة انطون لكنه عاش إلى ما بعد السنة 1780 كما يظهر من بعض تواريخ ديوانه.
(ديوانه) وقفنا في حلب على نسخة من ديوانه منذ أربعين سنة فاستنسخناها وإذا هي تحتوي على نيف وعشرين قصيدة أو قطعة شعرية في معاني الشعر المختلفة من مديح ورثاء وهجو وتهنئة وأوصاف وتواريخ. فمن مديحه قصيدته في الوزير أبي بكر باشا الذي قدم حلب سنة 1175هـ (1761م) فتريثت المدينة بقدومه من الكامل) :
قف في ربى حلب على أكمامها ... حيي منازلها بعرف خزامها
بلد أطاب الله حسن مناخها ... فزهت على أرض العراق وشامها
قد زانها ملك الملوك بزينة ... كتبت بشائرها على أعلامها
بصحيفة الزهر ورسم عطارد ... والمشتري يملي على رسامها
سر القلوب فأكثرت خير الدعا ... صح الدجى عطفاً على أيامها
لاسيما إذ خصها بمدبر ... يعطي الممالك رفعةً بنظامها
أعني أبا بكر الوزير فكم سمت ... حلب به تعلو السما بمقامها
سعدت به مذ حل طالع برجها ... فغدا دوام السعد من أحكامها
وهي طويلة وله رائية في مديح سعد الدين باشا افتتحها بقوله (من مجزوء الكامل) : للسعد في حلب البشائر=ولقد بدا منها اشائر
قرت عيون بعد أن ... للنجم قد كانت تساهر
وتعوضت بدل المذلة ... والهوان بخير ناصر
وختمها بهذا التاريخ:
أرخت لا ريب يا ... للسعد في حلي البشائر
ولانطون بيطار جملة تواريخ قالها في أمور جرت في أيامه منها في وفيات بعض السادات كالسيد اغناطيوس جربوع رئيس أساقفة حلب على الروم الكاثوليك سنة 1776 وبعض أصدقائه كفتح الله بن شكري ارقش (1755) وجرجي قز (1758) ومنها في مواليد صغار أو في عقاب بعض الأشقياء كباقي الدالي باش قاتل الحجاج (1183) قال فيه (من الخفيف) :
إن باقي الشهير بالآفاق ... قد سقاه كأس المنية ساقي(10/)
قيل أين المصير منه فأرخ ... قلت لا شك في جهنم باقي
وكذا قوله في شنق الشقي اليهودي كبرئيل العواني (1164هـ) (من المجتث) :
ابن الهلاك دعوه ... إلى الهلاك المؤبد
في النار من غير شك ... تاريخه قل تخلد
وأرخ رجوع السيد محمد طه زاده الشهير الحلبي وكان نفي ظلماً سنة 1185 (من الكامل) :
ظن العدى أن لا رجوع لغائب ... مذ أظهروا ما في الضمائر كامنا
فازداد إجلالاً وعاد فارخوا ... ها رده الله بخير آمنا
وأرخ عمارة بيت جديد (من الكامل) :
أكرم به بيتاً بأعلى سفحة ... فيه انتعاش الروح بالذات
فهو كفردوس السما أرخته=مأوى السرور وجامع النزهات ولشاعرنا أيضاً موشح قاله في مولد إلياس انطون ابن جرجس عائده من زوجته ساره بعد أن لبثت عقيماً عدة سنين سنة 1752 (من الرمل) :
يا لكم جاد لنا رب السما ... نعماً وافت بروح القدس
فله الحمد على ما أنعما ... من غلام بهجة الدنيا كسي
دور:
حينما الرب لسارا قد نظر ... ولدت طفلاً بديعاً لا نظير
وكذا راحيل من رب البشر ... جاءها يوسف بالخير بشير
أبشروا أن ليالينا غرر ... وهب الله لنا الظبي الغرير
إن لله تعالى حكماً ... تشرق الشمس بداجي الحندس
ما عليه من عسير كما ... وهب النطق لسان الأخرس
دور:
لا تقل فيما جرى كيف ودع ... من له الأمر وكن أنت وديع
ليس أذناي ثقيلات السمع ... فاطلبوني تجدوا قال السميع
ها هو اليوم الذي الرب صنع ... فافرحوا فيه فذا خير الصنيع
واشكروه عز قلباً وفماً ... أن من يحمده لم ييأس
بارئ الخلق إليه المنتهى ... موجد الكونين محيي الأنفس
وهي عدة أدوار تشعر بتقى قائلها وجودة قريحته.
أما آثاره النثرية فنذكر منها هنا مثالاً وذلك جوابه إلى الخوري نيقولا الصائغ الذي أشرنا إليه:(10/)
يقبل البسيطة عبد بين يدي الأب العام المحترم الخوري نقولا شرفه الله تعالى أولى ما نطقت به ألسنة الأقلام البديعة، ونبت في رياض الأفهام زهر بديعة. واستهلت به أبكار فرائد المعاني، وتطرزت به صدور الدفاتر بذكاء ابن هاني، شكر لمن وشحنا ثوب إيضاح معانيه اللطيفة، وشرفنا بإبداع علومه الشريفة، وهذبنا حسن النسق منه بنزاهته عن هذه الدنيا الدنية، وأدبنا ببراعة الطلب منه استعانته بمن يبلغ منه المنية، وحمد لمن أحسن الإتباع باشتراكه في فضايل الآباء المكملين نوادر الحقيقة. ومدح لمن رصع تسجيع أوزانه بدرر التشبيه ومساواة أهل الطريقة. اعني به من أهديه تقبيل المنسم وهو الأب القانوني المكرم. والسيد الرئيس المفخم ركن الملة الملكية، والمعلم البار المتشرف بالدرجة الكهنوتية، من شيد أعمدة الدين، وأهدي بعلومه كثيراً من الضالين، الذي نظم هاتيك الدرر من كلامه، ونثر جواهر العقيان من نظامه.
وبعد المعروض لدى الحضرة العلية، والطلعة البهية، إني في أبرك وقت وأشرف ساعة وردت علينا عزيزة مشرفتكم الشرفة، وفريدة ألفاظكم اللطيفة، فلثمنا ختامها وفضضناها، وفهمنا رموزها ومعناها، فكانت أحلى من العافية للجسم السقيم، وألذ من السلم بعد العذاب الأليم. فيا لها من جواهر إذا مسها مفتقر إلى البيان أغناه جوهرها، وخرائد جمعت بين الحسن والإحسان منظرها طيب ومخبرها
كتبت فلولا أن هذا محال ... وذاك حرام قست خطك بالسحر
فإن كان زهراً فهو صنع سحابة ... وإن كان دراً فهو من لجة البحر
فحليت لساني بعقود إنشائها الدرية، وأطلعت في فلك المسامرة كواكبها الدرية، ودعيت لكم بدوام البقاء، وعلو الارتقاء، فحياكم الله وأحياكم. وجعلنا لديكم من المنتمين، وقررنا في زمرتكم مع جملة اآباء القديسين.
ولكن يا سيدي من أين للعبد أن يتشرف لمكاتبة مولاه، ويفتخر بتذكره على من سواه، وما هذا إلا من لطف المخدوم على الخادم، ومن شيم أخلاق أهل المكارم:
تذكرني مولاي لله دره ... وشرفني حتى حويت المراتب
وكاتبني المولى بأبهى كتابة ... فكنت له عبداً فصرت مكاتبا(10/)
وهل يمكنني يا سيدي أن أملي كتاباً، أو أرد جواباً، مع أني من المبتدئين العائزين، وفي قوة أهل الفصاحة معدود من جملة العاجزين، وما أظن جنابكم إلا قصدتم تشجيعي، لتختبروا تسجيعي، وتهدوني إلى الطريق المستقيم، الذي حضرتكم عليه مقيم. فمن أين لي أن يتفسر هذا المنام، ويا حبذا إن صحت الأحلام، ولكن الأمر فريد، والسير في طريقه بعيد:
تمنيتها بالرقمتين ودارها ... بوادي الفضا يا بعد ما أتمناه
وأرجو من الله جل شأنه أن يمنحني التيسير، وحاشا أن يكون عليه أمر عسير، ومع هذا كلما حاولت أن أرد لكم جواب بنعقد لساني، ويقصر عن السير في هذا الميدان عناني، لعلمي أنكم عمدة الفصحاء والمتكلمين، وكنز الناظمين والمتعلمين، إلى أن سهل الله ببلوغ الأمل، ورفعت عن جنابي برقع الخجل، فعجبت من نفسي كيف تجرأت وأهديت الصدف إلى معدن الدرر، وقابلت بنفثة ماء بوادر المطر:
أنى أقابل بحراً فاض لؤلؤه ... بنفثة من غدير الماء فياض
أم كيف أرفل في ثوب به قصر ... من الفصاحة رث غير فضفاض
وما تجرأت على هذا الأمر إلا لعلمي أنكم أهل للكرم، وأن العذر يقبل عن زكي الشيم، وأن تجد عيباً فسد الخللا) ثم المبدي لجنابكم أنني حثثت قريحتي الجامدة، وأضرمت نار فكري الخامدة، لكي أتشرف في مديحكم بقصيدة من نظمي لعلمي أن ذكركم يهذبها، ومديحكم يؤدبها، وإن كنت لست من فرسان هذا الميدان، ولا من قليدة هذه العقيان، ولست من الخيل السابقة، ولا الجياد اللاحقة. لكنني اتبعت قول القائل:
إذا منعتك أثمار المعالي ... جناها الغض فاقنع بالشيم
وها عذري أوضح من الشمي المضية، إذ أنني لا أعرف شيئاً من العلوم العربية، سوى بعض العروض الأندلسية وقليلاً من الخزرجية، وما عدا هذا وعزيز حياتك يا سيدي لم أقرأ شيئاً على أستاذ إنما أهوى مطالعة الكتب كثيراً، واجهد ذهني لكي أفهم منها قليلاً، وخاطري أبو عذره، ومقتضب حلوه ومره، فاعذرني يا سيدي واغفر لي من جرأتي هذه وسامحني بما نطقت في مديحكم وما وفيت حقه حين قلت:
حيا الحيا لليال في ربى حلب ... قضيتها مرحاً في غاية الطرب
مرت بنا كوميض البرق مسرعةً ... وما انقضى وطري منها ولا أرب
إلى أن قال:(10/)
فاقت بفردوسها كل البلاد كما ... قد فاق مدحي لنيقولاوس النجب
الناشر العلم نشر الزهد مع رهب ... والطاوي الجهل طي الكبر والعجب
مذ قد براه اله الخلق منفعةً ... بصدق رشد لأهل الغي والكذب
أعطاه من روحه نطقاً وشرفه ... أو ما تراه أنار الكون بالخطب
أعزه الله بالكهنوت تكرمةً ... بروح قدس عليه من منسكب
فريد هذا الورى علماً ومعرفةً ... علامة الملتين العجم والعرب
حديد ذكر بسيط العلم وافره ... سريع نظم يديه كامل الأدب
اللوذعي الأريب الندب مركزه ... أعلى العلى يزدري بالسبعة الشهب
تخذت مدحته دون الورى شرفي ... دهراً ومدح سواه ليس يجمل بي
وجاء مدحي له نقشاً على حجر ... أضحى كوضع الهنا في موضع النقب
طي ونشر وإنشاء له وكلاً ... للغي والرشد والإيمان والرهب
روى أراضي قلوب محلة بندى ... علم ووعظ وزهد منه كالسحب
أذكى مصابيح دين الحق ثم هدى ... إلى الهدى بضياها قلب كل غبي
مدحي تشرف في ابن السادة النجب ... ابن السادة النجب بن السادة النجب
يا ذا التقى يا فريد العصر يا أملي ... هل ملتقى أنني في غاية الوصب
من نعمة الله قد وافيت ذا نعم ... يا خير ابن أب من خير ابن أب
رفعت رايات أمر الله منتصباً ... لنشر دين بعلم غير منشطب
كم قد أضا منك ديواناً بنور تقىً ... أنرت فيه دجى الآثام والنوب
خذها إليك وقد جاءت مطوقةً ... بعقد در مديح فيك منخب
مني عليك سلام الله ما طلعت ... شمس النهار ولاحت سبعة الشهب
وما أبتدي بعد حسن الختم منشدها ... حياً الحيا لليال فيربى حلب
17-مكرديج الكسيح
(أخباره) هذا أيضاً من جملة أهل الشهباء الذين نبغوا في القرن الثامن عشر ويعد من أركان النهضة الأدبية التي انبعث في ذلك العصر ومن الشهباء انتشرت في باقي أنحاء سورية ولبنان ثم في القطر المصري.
أخبار مكرديج الكسيح كأخبار رصفائه السابق ذكرهم لا تزال مطوية في زوايا النسيان. فدونك كل ما أمكنا أن نستخرجه من ضمن كتاباته ومكاتبات أهل عصره.(10/)
هو مكرديج بن عبد الله المخلع أو الكسيح ولد في كلس بلدة قريبة من حلب في أواخر القرن السابع عشر وانتقل في حداثته إلى الشهباء وكان أرمني الأصل كاثوليكي المذهب ومكرديج اسم ارمني معناه يوحنا المعمدان. أما اسمه الكسيح أو المخلع فالظاهر أنه لقب يدل على مرض مزمن أصابه في قسم من حياته اضطره إلى السكون في بيته دون أن يمنعه عن الدرس والتأليف. وقد عمر المترجم طويلاً ولم نقف على سنة وفاته والمرجح أنها وقعت في القسم الثاني من القرن الثامن عشر.
(آدابه وعلومه) كان مكرديج متضلعاً من آداب عصره بارعاً في العلوم. فوجد في سقمه باعثاً لخدمة معاصريه بالتأليف. وقد سردنا قائمة تآليفه في كتابنا المخطوطات العربية لكتبة النصرانية (ص 195-196) فمنها مصنفات تدل على عظم تقواه وورعه مثل كتابه ظل الكمال في تثقيف الأعمال في فضائل السيد المسيح وتعاليمه. وكتابه تردد النفس مع الله. وكتابه التبر الكنوز لمنفعة الكاروز وضعه لإفادة الواعظين. وكتابه الطب الروحاني في الندامة والاعتراف. وخصوصاً كتابه مصابيح الأحكام الجلية في حل المشكلات الإنجيلية حل فيه 150 مشكلاً كتابياً.
وله تآليف أخرى أدبية منها كتابه ريحانة الأرواح وسلم الآداب والصلاح ألفه السنة 1718 في 12 فصلاً ضمنها حكماً في الفضائل الأدبية والزهديات نقلها عن الأسفار المقدسة والآباء الفلاسفة والشعراء ما يشهد على سعة معارفه وكثرة مطالعاته.
وقد أحب أيضاً أن يخدم اللغة العربية بتأليف كتاب جليل واسع المواد دعاه كتاب الأهرامات يبلغ في نسخة مكتبتنا الشرقية نيفاً وسبعمائة صفحة قسمه إلى ثلثة أهرام تشبيهاً بأهرام الجيزة في مصر. أفرد الهرم الأول للمفردات العربية عن السماء والموجودات العلوية والأفلاك والمظاهر الجوية والمواليد الطبيعية والعالم المدني في 93 باباً. وخص الهرم الثاني بأسماء آلات الصنائع والمهن وأدوات الحروب في 47 باباً. وروى في الهرم الثالث المفردات المختصة بالعلوم اللغوية والأدبية والفلسفية والرياضية والطبيعية والفرق الدينية ومساجدها وفي عواقب الإنسان والعالم الآخر كجهنم والشياطين إلخ.. فهذا التأليف جدير بأن بنشر بالطبع لكثرة فوائده.(10/)
(رسائله النثرية وشعره) شغف مكرديج الكسيح بالكتابة وقد ترى له رسائل مسجعة منمقة كرسائل أدباء عصره التي سبق لنا ذكر بعضها في التراجم السابقة وقد اطرأها الخوري نيقولاوس والصائغ في بعض كتاباته التي وجهها إليه سنة 1710 وطبعت في آخر ديوانه (387-300) ويدعوه هناك (بتاج الأدباء الراغبين وسراج النجباء الطالبين الشماس مكرديج الكسيح جواباً لكتاب أرسله إليه) ويعظم في رسالته فضل الكسيح ويشيد بسعة علومه وآدابه فيمدحه نثراً وشعراً مديحاً بليغاً ويعزيه بوفاة أخيه يوسف ويحضه على الصبر في أوجاعه ويذكره بفضائل والده التي ورثها ليتشبه بها في حياته. وهي رسالة بديعة تبلغ 20 صفحة.
ولمكرديج الكسيح شعر روى هو منه شيئاً في كتابه ريحانة الأرواح فمن ذلك قوله يتشوق إلى السماء (من الطويل) :
أثير السماء هل إليك طريقة ... أصير بها مع غايتي ومنائي
إليك منائي ظل قلبي مشوقاً ... ولكن خطائي في قيود خطائي
وقال في ما يصيب النفس من تقلبات الدهر (من الطويل) :
قد كانت النفس كالفردوس مزهرةً ... واليوم بور وحوش الجن تأويها
تباً لطبع غدا كالشوك منبته ... إن مالت النفس يوماً ظل ينكيها
وقال يصف شدائد الحياة (من الطويل) :
لقد خضت دون الحق كل بلية ... يهيم بها قلب الزمان على مثلي
وذقت مرار الدهر والموت دونه ... ودست شواظ العذل يفتر عن شغل
وهمت بدين الله والهول ضمنه ... وفيه أرى الأهوال تعنو إلى قتلي
وقال أيضاً يصف بلاياه (من الطويل) :
سقيم سقاه الدهر كل بلية ... فأضحى عديماً في مثال منفس
سطيح على الغبراء تحت قبابهم ... محيط بأفلاك العلي تفرسي
وله أيضاً في منفعة التجارب (من الطويل) :
لا تخش من ريب الزمان فانه ... دليل انتخاب بل تهلل إذا نزل
وقبلك إبراهيم فر ويوسف ... ترامى بأمر شاءه ساكن الأزل
وكم من كرام قد أهينوا وشردوا ... كيت عروض قد تخبل وانخزل
وقد قال في اختيار الأصدقاء (من الطويل) :
تخير صديقاً مثل ما وافقه الذي ... يقول إله العرش ضمن الشريعة
فرب حقير الشأن ينجي وشاهدي ... عويد حمانا من جحيم تلظت
فهذا بعض ما بقي من نظمه ولعل عند أدباء الحلبيين ما هو أوسع من ذلك فروينا ما وقع منه تحت يدنا.(10/)
18-الشماس عبد الله زاخر
لم يشتهر عبد الله زاخر بنظم الشعر وغنما كان أحد أدباء الشهباء الذين ساعدوا بنفوذهم وقلمهم على النهضة الجديدة التي نشأت بين نصارى حلب لتعزيز اللغة العربية وأعلاء منارها.
(نبذة من أخباره) أفادنا عبد الله زاخر في مفكرة مخطوطة عن أصله وأخباره نقتطف منها ما يلي: هو عبد الله بن زخريا بن موسى وقد لقب بالزاخر إشارةً إلى اسم أبيه وتنويهاً بوفرة تآليفه. وهو ابن عم الخوري نقولا بن نعمة ابن موسى. قتل جدهما في حلب بأمر واليها لوشاية وشى به أعداؤه إليه فانتقل ولداه زخريا ونعمة إلى حماة لائذين بأقاربهما وهناك ولد لهما نقولا بن نعمة وعبد الله بن زخريا أو زاخر. كان مولد عبد الله سنة 1680 فنشاً في حماة ثم عاد به والده إلى حلب في أوائل القرن الثامن عشر فدخل مدارسها وبرع في دروسه ثم تخرج على الشيخ سليمان النحوي من أدباء الإسلام مع غيره من النصارى كجبريل فرحات وابن عمه نقولا وعبد الله قرأالي وغيرهم.
وكان أهل عبد الله من الروم الأرثذكس وإنما تقربوا إلى الكثلكة بما جرى وقتئذ من الحركة الدينية في حلب بهمة المرسلين. وتفرغ عبد الله لدرس التعاليم الدينية واجتمع ببعض المرسلين الذي وطدوه في الإيمان الكاثوليكي وقد اشتغل معهم في حلب أولاً ثم في لبنان لاسيما الأب بطرس فروماج اليسوعي الذي كان يعرض على عبد الله تآليفه فينقحها. إلى أن وقع بينهما نفور بسبب الراهبات الحلبيات الباسيليات اللواتي اتخذن اليسوعيين أولاً كمرشدين وتبعن قانون القديس فرنسيس دي سال مع غيرهن من المترهبات ثم فصلن عنهن بأمر الكرس الرسولي ليحافظن على طقسهن وكان عبد الله زاخر أكبر الساعين بذلك. وقد قضى السنين الأخيرة من حياته في دير مار يوحنا الصابغ في الشوير زاهداً بالدنيا وهناك أدار مطبعته الشهيرة فنشر فيها بالطبع المتقن عدة تآليف سردناها سابقاً مع تاريخ تلك المطبعة (المشرق 3 (1900) : 359-362) إلى أن توفاه اله في 10 آب من السنة 1748.(10/)
(آدابه وتآليفه) قد عددنا في كتابنا المخطوطات العربية لكتبة النصرانية (ص 108-109) تآليف الشماس عبد الله زاخر ومعظمها كتب لاهوتية جدلية أثبت فيها حقائق وبروتستان ولاسيما من روم ارثوكس فتتبع أضاليلهم وفندها تفنيداً قاطعاً ينبئ بمعارفه الواسعة للأسفار المقدسة ولأعمال الآباء وتاريخ الكنيسة. وهي تنيف على عشرة تآليف ضخمة. وله ما خلا ذلك تفسير الإيساغوجي لأثير الدين الأبهري فدعاه شرح الصول الأبهرية وقد عني أيضاً بتعريبات أو تصحيحات شتى لكتب روحية.
(شعره ونثره) ينعت عبد الله زاخر بالشاعر في بعض التقاريظ التي قيلت في وصفه على أننا لم نقف له إلا على أبيات نظمها جواباً على ما كتبه إليه الخوري نقولاوس ابن عمه وكان عبد الله بلغه مرضه فأهداه فنجان قهوة فشكره الخوري بهذه البيات وصحبها بهدية:
لقد عمت نوالك باختصاص ... عليلاً خصه الداء الأليم
فكان دواء دائي منك قهوى ... لها حسن به يشفى السقيم
فواصلك الجزاء وليس فضل ... لنا والفضل فضلكم العميم
أغناني الهي الآن عنها ... لأن الأمر ما قال الحكيم
شرور لا تدوم أجل خيراً ... من الخير الذي هو لا يدوم
فأجابه عبد الله زاخر بهذه الأبيات (من الوافر) :
لقد وافى عقيم الفكر نظم ... بديع دونه الدر النظيم
وأسبغت الجزاء وليس فعل ... يحق له جزاؤكم العظيم
ولكن الكريم به طباع ... سمو المجد والبذل الجسيم
فشكراً عد ما أوهبت حباً ... وحمداً كلما هب النسيم
أما نثره فيمتاز بسلاسته وانسجامه وقوة برهانه. ولا تخلو مقدمات كتبه من مسحة من البلاغة حلاها بالسجع ومنها يعرف اقتداره على الإنشاء البديع.
19- نعمة بن توما الحلبي
هذا أيضاً أحد نجوم تلك الثريا النصرانية المنيرة التي سطعت ضياؤها في الشهباء في القرن الثامن عشر فاستوقفت نظر المتشوفين لنورها.(10/)
سبق حضرة المنسنيور جرجس منش فكتب فصلاً ممتعاً في المشرق (5 (1902) : 396-405) روى فيه أخبار نعمة الله بن توما الحلبي نقتبس منه المعلومات الآتية: (أصله ومنشأه) هو نعمة بن الخوري توما الحلبي. ولد في الشهباء في أواخر القرن السابع عشر وهو من طائفة الروم الملكيين وكان أبوه الخوري توما أحد كهنتهم يعرف بفضله وتقواه. والمرجح أنه عدل مع أهل بيته إلى الدين الكاثوليكي في أيام البطريرك اثناسيوس دباس. وقد حصل وقتئذ ارتداد كثيرين من الروم إلى الكثلكة.
فترعرع الفتى نعمة ومال إلى درس العلوم برغبة وأتقنها تحت مراقبة معلمين وطنيين ثم أحكم فنون العربية من فصاحة وبيان وبديع وشعر على الشيخ سليمان النحوي فبرع في الكتابة.
(سياحاته وتأهله) دخل نعمة في جهاد الحياة ولقي مع مواطنيه المرتدين إلى الكثلكة عنتاً وشدائد زادته رسوخاً في إيمانه. وتعاطى أولاً أعمال التجارة وخرج إلى أنحاء الأناضول فلم يحمد أخلاق أهلها ومعاملاتهم ومما قاله يهجو مدينة طوقات (من السريع) :
وبلدة ما شامها ناظر ... مع أهلها إلا وعنها نفر
كإنما الاسطبل تكوينها ... وأهلها فيه جلوف البقر
ثم ساح مرةً أخرى على اصقاع الشام واجتاز بيروت ووصف أحوالها وزار قنصلها الفرنساوي وهو يومئذ الشيخ نوفل الخازن الذائع الشهرة فتحفى به وبالغ في إكرامه كما يلوح من رسالتين وجههما نعمة إليه شاكراً له جميله. وفي هذه السايحة قصد زيارة بلدة صيدنايا ليكرم في ديرها صورة العراء العجائبية وقد نظم في مديحها شعراً لطيفاً من ذلك قوله (من الرمل) :
أنح حصن البكر وادخل ضارعاً ... باتضاع يرفع المتضعا
لذ بها تحظى بنصر عاجل ... فاز مرء لحماها أسرعا
كم نحاها عائم في إثمه ... وأتاها قاصداً مستشفعا
فتزكى من ذنوب جمة ... بانسحاق لبه قد صدعا
فإليك يا ملاذ الخلق قد ... جئت أرجو العفو منك طمعا
فلكم مثلي أثيم قد حظي ... منك بالغفران لما ضرعا
وكنا وقفنا سابقاً على رحلة أحد الحلبيين من الشهباء إلى القطر المصري (المشرق 5 (1902) : 1030) وكانت غفلاً من اسم كاتبها فظننا أنها لنعمة بن توما ثم تحققنا بعد ذلك أنها لمواطنه إبراهيم الحكيم فنشرناها باسمه (المشرق 10 (1907) : 559 إلخ) .(10/)
ثم رجع نعمة إلى وطنه حلب وتأهل فيها ورزقه الله ولدين جبرائيل وتوما لولا أن المنية اخترمت ابنه جبرائيل في ريعان شبابه فبكاه ونظم فيه المراثي اللطيفة كقوله (من مجزوء الرمل) :
يا إلهي حان حين ... حينما الصبر فقد
يا إلهي ضاق ذرعي ... وخلا مني الجلد
يا إلهي ضاع رشدي ... وإذ كاري قد خمد
غاب جبرئيل عني ... يا لكربي وشرد
آه كم أوسعني النا ... س عليه من حسد
كم وكم من قائل ذا ... الشبل من ذاك السد
يا إلهي هل يرجى ... منه عود أو يرد
إن هذا لمحال ... لا يرجيه أحد
ليس لي ألاك يا من ... عنده حل العقد
وزاد ألمه بابتعاد ابنه توما عنه مهاجراً إلى القطر المصري سنة 1755 فقال أبوه مضمناً (من الطويل) :
ولما قضى التوديع فينا قضاءه ... وزفت مطايا البين ركب الترحل
فقلت لأصحابي والدمع قد جرى ... (قفوا نبك من ذكرى حبيب ومنزل)
وأصيب نعمة بشدائد وضنك العيش حتى اضطر أن يبيع أعز ما كان لديه أعني كتبه التي عدد نوادرها في قصيدة تجدها في المشرق (5 (1902) : 400) ولم تعرف سنة وفاة المترجم والمظنون أنه توفي نحو السنة 1770.
(آدابه) إن الشهرة التي حازها نعمة بن توما بالكتابة والإنشاء البليغ لفتت إليه نظر البطريرك اثناسيوس دباس المقيم في حلب فاستدعاه ليكون كاتب أسراره ومنشئ رسائله. فتلوى ذلك المنصب في عهده ثم في عهد خلفه البطريرك مكسيموس حكيم وأنشأ باسمهما عدة رسائل ومناشير ومذكرات ووثائق وصكوك توجهت على رومية إلى الأحبار الرومانيين والمجمع المقدس وإلى السفراء الفرنسويين في الأستانة وإلى غيرهم وقد أجاد وأفاد بجمعها في مجلد خاص وسمه (بعجالة الطريق لمن رضي بتقليد التلفيق) منه نسخة واسعة وصفها جناب الأديب حبيب أفندي الزيات وحصل عليها المنسنيور جرجس منش (المشرق 5 (1902) : 400-400) وفي مكتبتنا الشرقية منه نسخة مختصرة ف 142 صفحة هي كتاريخ الكثلكة في حلب في القرن الثامن عشر وما نال المرتدين إلى الدين الكاثوليكي من الاضطهادات من قبل سلفسترس القبرسي وذويه. باشر نعمة بجمع هذا الكتاب النفيس في السنة 1759 وتتبع تدوين كتاباته إلى السنة 1767.(10/)
(شعره) لنعمة بن توما ديوان شعر واسع لدينا منه نسخة تتغرق 117 صفحة له فيه بين قصائد ومقطعات ما يبلغ مائتي منظومة في كل أبواب الشعر من مديح رجال عظام كأحبار كنيسته وأرباب الدولة والسادة المسلمين والأصدقاء ومن مراث وتهانئ وهجو إلى غير ذلك من الأغراض. وبينها قسم كبير في المعاني الروحية كمديح السيد المسيح والعذراء مريم ووصف الأعياد السنوية والزهديات وهي أحسن دليل على ما طبع عليه من روح التقى والرسوخ في الدين الكاثوليكي. وها نحن نروي نخبة من الديوان المذكور مما يستدل بها على جودة قريحته. فمن ذلك قوله يرجو من الله التوبة (من مجزوء الكامل) :
من لي بتوبة خاشع ... أو كيف مثلي يقتنيها
كم قد وعدت وعدت عن ... وعدي وكم عربدت فيها
ورجعت كالكلب الكو ... ب لقيئه رجعاً كريها
آهاً لتفريطي بها ... من بعد تعويلي عليها
ما لي إليها موصل ... إلاك يجذبني إليها
ولقد أتيتك راجياً ... من فيض جودك ابتغيها
يا ليتني أحظى بخمرة ... حبها أو أجتليها
وأذوق عذب رحيقها ... الممزوج مع صهباء فيها
يا رب هبني توبةً ... ترضيك والعزم يقيها
أنعم علي بصدقها ... مع حسن خاتمة تليها
وكتب يهنئ المفتي نعمة الله افندي جلبي كواكبي زاده لرجوعه على حلب ظافراً بأعدائه (من السريع) :
يا كوكب الشهباء ته واتئد ... على السوى فالصبح يمحو الظلام
لولا رآك الله أهلاً لما ... أعطاك ما سدت بكل الأنام
مرجعاً كيد الأعادي إلى ... نحورهم نصراً لكم والسلام
وكتب تحت أيقونة تمثل مريم العذراء اقتناها لذاته (من الوافر) :
إليك يا ابنة الآب السماوي ... وأم الإبن من غير ارتياب
وقبة عهد روحهما المعزي ... معين عواطف النعم العجاب
أقدم رسم شخصك كي أراك ... به ما دمت في هذا الإهاب
ارجي بعده منك وصولاً ... إليك عسى أراك بلا حجاب
وقال في صديق لم يثبت على صداقته وتغير عنه (من الوافر) :
رجوتك لا عدمت سواك ظناً ... بأنك من جهابذة الرجال
فصح بأن بعض الظن غثم ... لما عاينت منك من الخلال
بوعد لا وفاء له وكذب ... وتسويف بآمال المحال
فلم أر من رجائي غير أني ... رجوت الوصل من صرم الحبال(10/)
وقال يقرظ كتاب عبد الله زاخر الذي ألفه رداً على إلياس فخر (من مجزوء الكامل) :
لله در من كت ... ب ساطع بالعلم زاخر
أبدى لنا برهانه ... خزي ابن فخر بابن زاخر
وقال يؤرخ (سنة 1153هـ) استشهاد إبراهيم ابن ديمتري يعقوب الدلال الحلبي (من مجزوء الكالم) :
قد نال إبراهيم إكليل ... الشهادة والسنا
نادت ملائكة العلا ... تاريخه بلغ المنا
وقال يذرك الموت وغرور الدنيا (من الكامل) :
ورد المنون فأين يا نفس المفر ... والموت سل عليك صارمه الذكر
هذه هي الدنيا التي ما شامها ... ذو فطنة إلا وعنها قد نفر
ولقد عرفنا غرها وغرورها ... منذ الصبا ومرور أيام الصغر
فارتد عنها يا أخي ولا تكن ... ممن يخال بأنها تبدي الغرر
لا ترج منها الوصل في لذاتها ... كلا ولا ما قل منها أو ندر
فإذا أتتك بصفو عيش مرةً ... فالعم بأنك عاجلاً سترى الكدر
هذه هي حالاتها وصروفها ... ومصيرهن إلى الممات المنتظر
فعليك يا نفس الرجوع إلى الذي ... نجاك قبلاً من لظى هذا الشرر
واذري الدموع سخينةً عما بدا ... من قبح سيرك في قذى ذاك القذر
واستدركي العود غليه قبل ما ... يأتي المنون وينقطع فيه الوتر
واستشفعيه بأمه البكر التي ... هي ملجأ الخاطي تقيه من ضرر
فلكم أتاها من علته ذنوبه ... فارتد ذا طهر نقياً من وزر
حاشا حماها أن ترد نزيلها ... ذا خيبة من رفدها مقصى ممر
وقال بديهاً لما أتاه بعض أصحابه واردين من الخبا فبشروه بانقطاع الطاعون (من مجزوء الكامل) :
أهلاً وسهلاً مرحبا ... بالقادمين من الخبا
ومبشرينا عنوةً ... بزوال أيام الوبا
من فيض جود قادر ... بسلب ما قد أوجبا
ورحمة علوية ... تزيح عنا الغضبا
أكرم به من قادم ... أبدى البشائر معربا
قد صح في مقدمه ... قول الرسول مرتبا
أهلاً بأرجل من يبشر ... بالسلامة عن نبا
فليجزه الرحمان من ... خير الجزا ما استصوبا
بشفاعة البكر التي ... تعلو الملائك مأربا
فلها السلام مؤبدا ... ما رنحت ريح الصبا
واتى النذير مبشراً ... بزوال أيام الوبا
إذ قيل في استقباله ... أهلاً وسهلاً مرحبا(10/)
وفي تلك سنة الطاعون 1761 انتقل في حلب إلى جوار ربه الأب اليسوعي فرنسيس كريسيت المرسل الرسولي مات شهيد محبته في خدمة المطعونين فقال نعمة بن توما يؤرخ وفاته (من الكامل) :
يا من أحب الله دون ذاته ... لعبيده متبرعاً بحياته
ليرى كسيده الذي لما افتدى ... أغنامه أحياهم بمماته
فيقال هذا العبد حقاً إنه ... يشبه مولاه بحد صفاته
وهو فرنسيس اليسوعي الذي ... أدى حساب الله عن وزناته
ومضى ليقبض أجره مثل التي ... قد حازها من فيض جود هبابه
أكرم بها من أجرة علوية ... وردت تؤرخ حق مرغوباته
ونختم هذه المنتخبات بأبيات قالها في مطابقة إرادته للمشيئة الإلهية وبها أعرب عن تقاه وصبره على آلام الحياة (من الخفيف) :
يا إلهاً له القضا والتقاضي ... أنا راض بكل ما أنت راضي
عبد رق أسير وصمة ذنب ... يرتجي من رضاك حسن التغاضي
ذبت شوقاً إلى رضاك وإني ... خائف من لقاك في إعراضي
كم توالت جرائري وذنوبي ... يوجب العدل حدها بانقباض
فلأي فراري من حكم عدل ... تقضي أحكامه بكبح المواضي
ليس إلا لرحمة أوسعتني ... منك لطفاً أيا سريع التراضي
واختفائي بحصن قلب جريح ... يرحض الإثم بالدم المستفاض
فامزج العدل سيدي برضاء ... يقتضي رأفة لحل اعتراض
أعطني منك نعمةً واجتذبني ... لقبول بكل ما أنت قاضي
ورضاء يزينه حسن صبر ... لم تشبه وساوس الافتراض
كي أرى في هداك أعظم صب ... راضياً منك بالذي أنت راضي
ولنعمة بن توما ما خلا القصائد رسائل أدبية أثرية مسجعة يتخللها الشعر منها رسالة طويلة وجهها إلى القس جبرائيل فرحات إذ كان راهباً في لبنان في دير ماري اليشاع افتتحها بقصيدة أولها (من الخفيف) :
يا نسيماً سقى الحمى ثم حيا ... بسلام منازل الأحباب
وسما رقةً ولطفاً فأذكى ... بشذا عرفه نواحي الهضاب(10/)
ضمنها من العواطف أرقها ومن آيات الثناء أصدقها وقد نشر معظمها المنسنيور منش في المشرق. وله رسالة أخرى نثرية وشعرية كتبها باسم البطريرك اثناسيوس يهنئ بها نقولا بك لتعيينه والياً على الفلاخ أولها: (الحمد لله الذي أحسن نظام العالم بأصالة رأي الملوك القويم، وأيد هذا النظام بإلهامهم السلوك في ترتيبه على النهج المستقيم، وانهض هممهم إلى القيام بحفظ المعاقل والممالك، وإلى حراسة البلاد من خطر المظالم والمهالك..) .
20- ابن إفرنجية
إن القلادة الأدبية التي ازدان بها جيد الشهباء في القرن الثامن عشر عند نهضتها المكورة يجب أن ينظم فيها شاعر آخر عثرنا على آثاره عند أحد أصحابنا جناب الأديب اسكندر صافي يوم اجتمعنا به في لندن سنة 1888. فأطلعنا جنابه على مجموع مخطوط عنوانه (المجموع المنتظم من فوائد الكلم) لمؤلفه ديده كوز بن انطون افرنجية كتبه سنة 1780 كما ورد في آخره. وقد أفردنا لذكره مقالة في المشرق سنة 1899 (442: 2و491) فنشرنا قسماً مما أودعه الكاتب فيه من الحكم والأمثال والنوادر والفكاهات والمنتخبات الشعرية فلا حاجة إلى تكرارها هنا.
وإنما وجدنا في هذا المجموع قطعاً شعرية من نظم المؤلف لسوء الحظ لم يسعنا وجود شيء منها كما لم نجد إلا اليسير الزهيد من تراجم الشعراء السابق ذكرهم.
وغاية ما نعرفه عن ابن إفرنجية أنه كان حلبي المولد والمنشأ من الطائفة المارونية ومن أسرة كريمة يدل اسمها على أصلها ولعلها اقتبسته من الصليبيين في القرون الوسطى. ولا يزال من هذه العائلة بقايا في بلدة إهدن. والمرجح أن فرعها الحلبي انتقل من لبنان إلى حلب مع غيرهم في أواسط القرن السادس عشر على عهد السلطان سليم الثاني.
أما شعره فهذا بعد ما ورد منه في المجموع المذكور قال في من رفعه الدهر بعد الذل (من الكامل) :
لا تعجبن بطالب نال العلى ... كهلاً وأخفض في الزمان الأول
فالخمر يحكم في العقول مسيئة ... وتداس أول عصرها بالأرجل
وكتب إلى صديق كان عزاه في نكبة (من البسيط) :
لما أتاني كتاب منك مبتسم ... عن كل فضل وجود غير محدود
حكت معانيه في أثناء أسطره ... آثارك البيض في أحوالي السود(10/)
ومن حسن وصفه قوله في النفس (من الكامل) :
يا درةً بيضاء لاهوتيةً ... قد ركبت صدفاً من الناسوت
جهل الغمارة قدرها لشقائهم ... وتنافسوا في الدر والياقوت
ومن طريف قوله ما كتبه عن جار انتقل عنه (من الوافر) :
تناءت داره عني ولكن ... خيال جماله في القلب ساكن
إذا امتلأ الفؤاد به فماذا ... يضر إذا خلت منه المساكن
وكذلك قال في مفارقة الوطن وفائدة الأسفار (من الكامل) :
لا تكترث لفراق أوطان الصبا ... فعسى تنال بغيرهن سعودا
فالدر ينظم عند فقد بحاره ... بجميل أجياد الحسان عقودا
وقال يهجو مغنياً (من مجزوء الكامل) :
قد دهاني ما دهاني ... من ثقيل في الأغاني
قلت إذ غنى عراقاً ... ليتني في أصفهان
ومن ظريف أقواله على لسان قهوة الخمرة تهجو قهوة البن (من الطويل) :
سمعت لسان الحال من قهوة الطلا ... تقول هلموا واسمعوا نص أخباري
فباسمي تسمت قهوة البن في الملا ... ولكنها لم تحك بالفضل أخماري
فمن كذبها قد سود الله وجهها ... وعذبها بعد الإهانة بالنار
وقد تفنن ابن إفرنجية في شعره فله الموشحات والزجليات والبديعيات. ومن أقواله ما يقرأ طرداً وعكساً كقوله (من الكامل) :
عدلوا فما ظلمت بهم دول ... سعدوا فما زلت بهم قدم
بذلوا فما شحت لهم شيم ... رشدوا فما زالت لهم نعم
فتقرأ معكوسة وتصبح هجواً بدلاً من المديح:
قدم بهم زلت فما سعدوا ... دول بهم ظلمت فما عدلوا
نعم لهم زالت فما رشدوا ... شيم لهم شحت فما بذلوا
وله مناظرة في الشعر العامي بين التبغ والقهوة أولها:
قصة جرت، بين التتن والقهوة ... وتفاخر الاثنان، وزادا برهان
إلى أم ختمها بتحكيم العرق بينهما متفكهاً:
قال العرق نحن رفاق جمله ... في جمعنا نخدم أهل الكيف
أنت بلاها ما يبان لك لذه ... وأنت بلاه ما تفعليه كله زيف
الطاعن بجنسه في المثل قد قالوا ... في الحال هو طاعن بنفسه يا حيف
والصلح في الحالة رئيس الأحكام ... وأنتما اثنان بحالة إخوان
فتصالح الاثنان وزالت الأحقاد ... وتوافقا كأن المقدر ما كان(10/)
وقد نشرنا لابن إفرنجية في المشرق (2 (1899) : 444-445) دائرتين تتضمنان قصيدتين قافية وعينية تأنق في تصويرهما بحبرين أسود وأحمر. وكل بيت يبتدئ من مركز الدائرة وينتهي إليه بعد استدارته على شكل عجيب فليراجعا هناك.
وقد قال ابن إفرنجية يصف مجموعه (من السريع) :
مجموعنا هذا له رونق ... كرونق اللؤلؤ في عقده
كادت مجاميع الورى عنده ... تنسى لديه من سنا مجده
ثم يقول معتذراً لما يكون وقع فيه من الأغلاط (من مجزوء السريع) :
كتبته مجتهداً ... وليس يخلو من غلط
فقل لمن يلومني ... من ذا الذي ما ساء قط
وشفعه بما هو في معناه (من الكامل) :
يا ناظراً فيما عهدت لجمعه ... عذراً فإن أخا الفضيلة يعذر
علماً بأن المرء لو بلغ المدى ... في الفضل والعرفان فهو مقصر
فإذا ظفرت بزلة فافتح لها ... باب التجاوز فالتجاوز أجدر
ومن المحال إن ترى أحداً حوى ... كنه الكمال وذا هو المتعذر
والنقص في نفس الطبيعة كامن ... فبنو الطبيعة نقصهم لا ينكر
خاتمة
ينال هذا الكتاب من التاريخ الحقبة المشؤومة التي خيم فيها الجهل على البلاد الحزينة الناطقة بالضاد بعد انقيادها لزمام المماليك ومن خلفهم من الحكام الجورة أرباب السيف الدامي واليراع المحطم.
فيقع طرف القارئ فيها وقوعه على قفر خال وليل مظلم حالك لا يسمع فيه إلا أنه المظلوم واستغاثة المضني ولا يرى إلا لمعة السيف وشهبة النار الآكلة.
على أن صوت هؤلاء الشعراء في ذلك المنظر المريع ورنة أوتارهم الضعيفة تعيد إلى الفؤاد بعد الرشد فتستأنس إلى إنشادهم وهم يسبحون تسبحة المؤمن ويترنمون بمحاسن وجه البارئ العظيم. فنرى فيهم الجذوة النيرة التي لم تخمد حتى تحت مهب العواصف إلى أن يحون الأوان ويقترب الصبح فينهض رجال ذوو عزم ونفس جياشة مثل فرحات والصائغ وإبراهيم الحكيم وانطون بيطار فيبدأون بأنغامهم الجديدة تسبحة حياة النهضة العصرية.
فلهؤلاء الشعراء النائحين والمسبحين جميعاً كرس المرحوم الأب لويس شيخو الطيب الذكر كتابه هذا تخليداً لما سمعه منهم من روج الإيمان والأمل طيلة تلك الطريق الموشحة.(10/)