ـ[شعراء النصرانية]ـ
جمعه ووقف على طبعة وتصحيحه: الأب لويس شيخو اليسوعي
الناشر: مطبعة الآباء المرسلين اليسوعيين، بيروت
عام النشر: 1890 م
عدد الأجزاء: 10
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو ضمن خدمة التراجم]
__________
(تنبيه) : الأجزاء 3، 4 (من شعراء الجاهلية) ، 7، 10 (من شعراء بعد الإسلام) غير موافق للمطبوع(/)
شعراء النصرانية قبل الإسلام
الأب لويس شيخو
القسم الأول
شعراء اليمن (كندة)
أعمام امرئ القيس (548م)
هم حجر وشرحبيل ومعدي كرب وسلمة وعبد الله ورد لهم شعر قليل أحببنا إثباته في خلال قصتهم. وسيجيء في ترجمة امرئ القيس أن جده الحارث بن عمرو المقصور بن حجر آكل المرار لما تفاسدت القبائل نم نزار وأتاه أشرافهم وشكوا إليه ما نزل بهم ففرق أولاده في قبائل العرب فملك حجراً أبا امرئ القيس على بني أسد وغطفان. وملك ابنه شرحبيل على بكر بن وائل بأسرها وعلى بني حنظلة. وملك ابنه معدي كرب المسمى بغلفاء على بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة بن تميم. وملك ابنه سلمة على قيس جمعاء. وملك عبد الله على بني قيس وبقوا على ذلك إلى أن مات أبوهم. فقتل بنو أسد حجراً ملكهم وتشتت أمرهم وتفرقت كلمتهم ومشت الرجال بينهم وكانت المغاورة بين الأحياء الذين معهم وتفاقم الأمر حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع. فسار شرحبيل ومن معه من بني تميم والقبائل فنزلوا الكلاب وهو ماء بين الكوفة والبصرة على سبع ليال من اليمامة وأقبل سلمة بن الحرث في تغلب والنمر ومن معه وفي الصنائع وهم الذين يقال لهم بنو رقية وهي أم لهم ينتسبون إليها. وكان نصحاء شرحبيل وسلمة قد نهوهما عن الحرب والفساد والتحاسد وحذروهما عثرات الحرب وسوء مغبتها فلم يقبلا ولم يبرحا وأقاما على التتابع واللجاجة في أمرهم فقال امرؤ القيس بن حجر في ذلك (من المنسرح) :
أنى علي استتب لومكما ... ولم تلوما حجراً ولا عصما
كلا يمين الإله يجمعنا ... شيء وأخوالنا بني جشما
حتى تزور السباع ملحمة كأنها من ثمود أو ارما
وكان أول من ورد الكلاب من جمع سفيان بن مجاشع بن دارم وكان نازلاً في بني تغلب مع إخوته لأمه فقلت بكر بن وائل بنين له فيهم مرة بن سفيان قتله سالم بن كعب بن عمرو.(1/1)
وأول من ورد الماء من بني تغلب رجل من عبد جشم يقال هل النعمان بن قريع بن حارثة بن معاوية بن عبد جشم وعبد يغوث بن دوس أخو الفدوكس وعم الأخطل دوس على فرس له يقال له الحرون وبه كان يعرف. ثم ورد سلمة بن خالد ببني تغلب وهو السفاح المار ذكره وكان ينشد يومئذ:
إن الكلاب ماؤنا فخلوه ... وشاجراً والله لن تحلوه
فاقتتل القوم قتالاً شديداً وثبت بعضهم لبعض حتى إذا كان في آخر النهار من ذلك اليوم خذلت بنو حنلظة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل وانصرفت بنو سعد وأحلافها عن بني تغلب وصبر ابنا وائل بكر وتغلب ليس معهم غيرهم حتى إذا غشيهم الليل نادى منادي سلمة: من أتى برأس شرحبيل فله مائة من الإبل. وكان شرحبيل نازلاً في بني حنظلة وعمرو بن تميم ففروا عنه. وعرف مكانه أبو حنش وهو عصم بن النعمان بن مالك بن غياث بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب فصمد نحوه فلما انتهى إليه رآه جالساً وطوائف الناس يقاتلون حوله فطعنه بالرمح ثم نزل إليه فاحتز رأسه وألقاه إليه. ويقال أن بني حنظلة وبني عمرو بن تميم والرباب لما انهزموا خرج معهم شرحبيل فلحقه ذو السنينة واسمه حبيب بن عتيبة بن بعج بن عتبة بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر وكانت له سن زائدة فالتفت شرحبيل فضرب ذا السنينة على ركبته فأطن رجله. وكان ذو السنينة أخا أبي حنش لأمه أمهما سلمى بنت عدي بن ربيعة بنت أخي كليب ومهلهل. فقال ذو السنينة: قتلني الرجل. فقال أبو حنش: قتلني الله إن لم أقتله فحمل عليه فلما غشيه قال: أنه قد كان ملكي. فطعنه أبو حنش فأصاب ردافة السرج فأصاب ردافة السرج فورعت عنه ثم تناوله فألقاه عن فرسه ونزل إليه فاحتز رأسه فبعث به إلى سلمة مع ابن عم له يقال له أبو أجا بن كعب بن مالك بن غياث فألقاه بين يديه فقال له سلمة: لو كنت ألقيته إلقاء رفيقاً. فقال: ما صنع به وهو حي أشد من هذا. وعرف أبو أجا الندامة في وجهه والجزع على أخيه فهرب وهرب أبو حنش فتنحى عنه. فقال معدي كرب المعروف بغلفاء أخو شرحبيل وكان صاحب سلامة معتزلاً عن جمي هذه الحروب (من الوافر) :(1/2)
ألا أبلغ أبا حنش رسولاً ... فمالك لا تحبي إلى الثواب
تعلم أن خير الناس طراً ... قتيل بين أحجار الكلاب
تداعت حوله جشم بن بكر ... واسملمه جعاسيس الرباب
قتيل ما قتيلك يا ابن سلمى ... تضر به صديقك أو تحابي
فقال أبو حنش مجيباً له:
أحاذر أن أجيئكم فتحبو ... حباء أبيك يوم صنيبعات
فكانت غدرة شنعاء تهفو ... تقلدها أبوك إلى الممات
ويقال أن الشعر الأول لسلمة بن الحرث. وقال معدي كرب يرثي أخاه شرحبيل بن الحرث (من الخفيف) :
إن جنبي عن الفراش لناب ... كتجافي الأسر فوق الظراب
من حديث نمى إلي فلا تر ... قا عيني ولا أسيغ شرابي
مرة كالذعاف أكتمها النا ... س على حر ملة كالشهاب
من شرحبيل إذ تعاوره الأر ... ماح في حال لذة وشباب
يا ابن أمي ولو شهدتك إذ تد ... عو تميماً وأنت غير مجاب
لتركت الحسام تجري ظباه ... من دماء الأعداء يوم الكلاب
ثم طاعنت من ورائك حتى ... تبلغ الرحب أو تبز ثيابي
يو ثارت بنو تميم وولت ... خيلهم يتقين بالأذناب
ويحكم يا بني أسيد أني ... ويحكم ربكم ورب الرباب
أين معطيكم الجزيل وحابيكم م على الفقر بالمئين اللباب
فارس يضرب الكتيبة بالسيف م على نحره كنضح المذاب(1/3)
فارس يطعن الكماة جريء ... تحته قارح كلون الغراب
قال ولما قتل شرحبيل قامت بنو سعد بن زيد مناة بن تميم دون عياله فمنعوهم وحالوا بين الناس وبينهم دفعوا عنهم حتى ألحقوهم بقومهم ومأمنهم ولي ذلك منهم عوف بن شجنة بن الحرث بن عطارد بن عوف بن سعد بن كعب وحشد له فيه رهطه ونهضوا معه فأثنى عليهم في ذلك امرؤ القيس بن حجر ومدحهم به في شعره فقال (من الطويل) :
ألا إن قوماً كنتم أمس دونهم ... هم استنفذوا جاراتكم آل غدران
عوير ومن مثل العوير ورهطه ... وأسعد في يوم الهزاهز صفوان
وهي قصيدة معروفة طويلة. وكان أوارة بعد ذلك بزمان كان بني المنذر بن امرئ القيس وبين بكر بن وائل وكان سببه أن تغلب لما أخرجت سلمة بن الحرث عنها التجأ إلى بكر بن وائل كما ذكرناه آنفاً فلما صار عند بكر أذعنت له وحشدت عليه وقالوا: ألا يمكنا غيرك فبعث إليهم المنذر يدعوهم إلى طاعته فأبوا ذلك فحلف المنذر اسيرن إليهم فإن فظفر بهم فليذبحهم على قلة جبل أوارة حتى يبلغ الدم الحضيض. وسار إليهم في جموعه فالتقوا بأوراة فاقتتلوا قتالاً شديداً وأجلت الواقعة عن هزيمة بكر وأسر يزيد بن شرحبيل الكندي فأمر المنذر بقتله فقتل وقتل في المعركة بشر كثير وأسر المنذر من بكر أسرى كثيرة فأمر بهم فذبحوا على جبل أوارة. وكان ذلك نحو سنة 548م.
وكان لسلمة بن الحرث ولد اسمه قيس فأغار على ذي القرنين المنذر بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي فهزمه حتى أدخله الخورنق ومعه ابناه قابوس وعمرو ولم يكن ولد له يومئذ المنذر بن المنذر فجعل إذا غشيه قيس بن سلمة يقول: يا ليت هنداً ولدت ثالثاً. وهند عمة قيس وهي أم ولد المنذر. فمكث ذو القرنين حولاً ثم أغار عليهم بذات الشقوق فأصاب منهم اثني عشر شاباً من بني حجر بن عمرو كانوا يتصيدون وأفلت امرؤ القيس على فرس شقراء فطلبه القوم كلهم فلم يقدروا عليه. وقد المنذر الحيرة بالفتية فحبسهم بالقصر الأبيض شهرين ثم أرسل إليهم أن يؤتى بهم فخشي أن لا يؤتى بهم حتى يؤخذوا من رسله فأرسل إليهم أاضربوا أعناقهم حيث ما أتاكم الرسول. فأتاهم الرسول(1/4)
وهم عند الجفر فضربوا أعناقهم به فسمي جفر الأملاك وهو موضع دير بني مرينا فلذلك قال امرؤ القيس من أبيات يريثهم (من الطويل) :
ألا يا عين بكي لي شنينا ... وبكي لي الملوك الذاهبينا
ملوكاً من بني حجر بن عمرو ... يساقون العشية يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا
روينا أخبار أعمام امرئ القيس عن كتاب الأغاني وتاريخ ابن الأثير ومعجم البلدان لياقوت وأمثال الميداني.(1/5)
امرؤ القيس (565م)
هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو المقصور بن حجر آكل المرار بن معاوية بن ثور المعروف بكندة وكنيته أبو وهب وقيل أبو الحارث. وجاء في كتاب بغية الطلب للوزير ابن قاسم المغربي أن اسمه جنح وامرؤ القيس لقب غلب علي لما أصابه من تضعضع الدهر ومعناه رجل الشدة. وقيل أن اسمه قيس ود ذكره مؤرخو الروم في تواريهم بهذا الاسم. ولد امرؤ القيس نحو سنة 520 للمسيح في نجد. وأمه فاطمة بنت ربيعة بن الحارث أخت كليب والمهلهل التغلبيين. وكان يقال له الملك الضليل وقيل له أيضاً ذو القروح كما سيأتي في أثناء أخباره. وكان سبب ملك أبائه على بني وائل ما ذكره أبو عبيدة قال: لما تسافهت بكر بن وائل وقطعت بعضها أرحام بعض اجتمع رؤساؤهم فقالوا: إن سفهاءنا قد غلبوا علينا حتى أكل القوي الضعيف ولا نستطيع دفع ذلك فنرى أن نملك علينا ملكاً نعطيه الشاء والبعير فيأخذ للضعيف من القوي ويرد على المظلوم من الظالم ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخرون فيفسد ذات بيننا ولكنا نأتي تبعاً فنملكه علينا. فأتوه وذكروا له أمرهم فملك عليهم حجراً ملك كندة. فلما ملك سدد أمورهم حجراً ملك كنجة. فلما ملك سدد أمورهم وساسهم أحسن سياسة وانتزع من اللخميين ما كان بأيديهم من أرض بكر بن وائل وبقي حجر آكل المرار كذلك حتى مات. ثم ملك عمرو ابنه إلى سنة 524 م ثم الحارث بن عمرو وهو جد امرئ القيس وأمه بنت عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان ونزل الحيرة وكانت فيها النصرانية وبقي عليها. ثم تفاسدت القابئل من نزار فأتاه أشرافهم فقال: إنا في دينك ونحن نخاف أن نتفانى فيما يحدث بيننا فوجه معنا بنيك ينزلون فينا فيكفون بعضنا عن بعض. وكان للحارث خمسة بنين(1/6)
حجر ومعدي كرب الملقب بالغلفاء لأنه كان يغلف رأسه بالطيب وشرحبيل وسلمة وعبد الله ففرقهم الحارث أبوهم في قبائل العرب فملك ابنه حجراً على بني أسد وغطفان. وملك شرحبيل على بكر بن وائل وبني حنظلة وملك معدي كرب على بني تغلب وطوائف بن دارم وبني رقية. وملك عبد الله على بني عبد القيس. وملك سلمة على قيس. وبقي الحارث مدة في ملكه حتى طلبه أنوشروان وكان ينقم عليه لأمر صدر منه في أيام والده قباذ. فبلغ ذلك الحارث وهو بالأتبار وكان بها منزله. فخرج هارباً في هجائنه وماله وولده فمر بالثوية وتبعه المنذر بالخيل من تغلب وبهراء وإياد. فلحق بأرض كلب فنجا وانتهب ماله وهجائنه وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفساً من بني آكل المرار فقتلوهم بجفر الأملاك في ديار بني مرينا العباديين بين دير هند والكوفة وفيهم يقول امرؤ القيس (من الوافر) :
ألا يا عين بكي لي شنينا ... وبكي لي الملوك الذاهبينا
ملوكاً من بني حجر بن عمرو ... يساقون العشية يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا
فلم تغسل جماجمهم بغسل ... ولكن في الدماء مرملينا
تظل الطير عاكفة عليهم وتنتزع الحواجب والعيونا
(قالوا) ومضى الحارث وأقام بأرض كلب وكلب يزعمون أنهم قتلوه. وعلماء كندة يزعمون أنه خرج إلى الصيد فالظ بتيس من الظباء فأعجزه فآلى بالية ألا يأكل أولاً إلا من كبده فطلبته الخيل ثلاثاً فأتي به بعد الثالثة وقد هلك جوعاً. فشوي له الكبد وتناول منه فلذة فأكلها حارة فمات.
أما حجر ابنه فكان على بني أسد وكانت له عليهم أتاوة في كل سنة موقتة فعمر كذلك دهراً ثم بعث إليهم جابيه الذي كان يجيبهم. فمنعوه ذلك وحجر يومئذ بتهامة وضربوا رسله وضرحوهم ضرحاً شديداً قبيحاً. فبلغ ذلك حجراً فسار إليهم بجند من ربيعة وجند من جند أخيه من قيس وكنانة فأتاهم وأخذ سرواتهم فجعل يقتلهم بالعصا فسموا عبيد العصا. وأباح أموالهم وصيرهم إلى تهامة وحبس أشرافهم ثم رق لهم فاستكانوا له حتى وجدوا منه غفلة(1/7)
تمالأوا عليه فقتلوه. وخلف حجر أولاداً منهم نافع وكان أكبر ولده وامرؤ القيس. وهو أصغرهم.
وكان امرؤ القيس ذكياً متوقد الفهم. فلما ترعرع أخذ يقول الشعر وقيل أن المهلهل خاله لقنه هذا الفن فبرز فيه إلى أن تقدم على سائر شعراء وقته بالإجماع. وكان مع صغر سنه يحب اللهو ويستتبع صعاليك العرب وينتقل في أحيائها فيغير بهم وكان يكثر من وصف الخيل ويبكي على الدمن ويذكر الرسوم والأطلال وغير ذلك وقيل أن أول شعر نظمه قوله (من المتقارب) :
أذود القوافي عني ذياداً ... ذياد غلام جريء جوادا
فلما كثرن وعنينه ... تخير منهن ستاً جيادا
فأعزل مرجلنها جانباً ... وآخذ من درها المستجادا
فبلغ قوله إلى والده فغضب عليه لقوله الشعر وكانت الملوك تأنف من ذلك. فأمر رجلاً يقال له ربيعة أن يذبح امرأ القيس فحمله ربيعة حتى أتى به جبلاً فتركه فيه وأخذ عيني جوذر فجاء بهما إلى أبيه. فأسف حجر لذلك وحزن عليه. فلما رأى ذلك ربيعة قال: ما قتلته. قال: فجئني به. فرجع إليه فوجده يقول (من الطويل) :
لا تسلمني يا ربيع لهذه ... وكنت أراني قبلها بك واثقا
مخالفة نوى أسير بقرية ... قرى عربيات يشمن البوارقا
فأما تريني اليوم في رأس شاهق ... فقد اغتدي أقود أجرد تائقا
وقد أذعر الوحش الرتاع بغرة ... وقد اجتلي بيض الخدور الروائقا
فعاد امرؤ القيس إلى والده إلا أنه لم يكف عن قول الشعر فطرده أبوه وأبى أن يقيم معه أنفة من قول الشعر. فكان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذهم من طي وكلب وبكر بن وائل فإذا صادف غديراً أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى الصيد فتصيد ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير ثم ينتقل عنه إلى غيره.(1/8)
وفي أثناء ذلك قال معلته (راجع نخبة هذه المعلقة في الجزء السادس من مجاني الأدب مع شرحها) . فلقي يوماً عبيد بن الأبرص الأسدي فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد. فقال: قل ما شئت تجدني كما أحببت. فقال عبيد (من البسيط) :
ما حية ميتة قامت بميتتها ... درداء ما أنبتت سناً وأضراسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الشعيرة تسقى في سنابلها ... فأجرت بعد طول المكث أكداسا
فقال عبيد:
ما السود والبيض والأسماء واحدة ... لا يستطيع لهن الناس تمساسا
فقال امرؤ القيس: تلك السحاب إذا الرحمان أرسلها=روى بها من محول الأرض إيباسا فقال عبيد:
ما مرتجات على هول مراكبها ... يقطعن طول المدى سيراً وامراسا
فقال امرؤ القيس:
تلك النجوم إذا حانت مطالعها ... شبهتها في سواد الليل اقباسا
فقال عبيد:
ما القاطعات لأرض لا أنيس بها ... تأتي سراعاً وما يرجعن انكاسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الرياح إذا هبت عواصفها ... كفى بأذيالها للترب كناسا
فقال عبيد:
ما الفاجعات جهاراً في علانية ... أشد من فيلق مملؤة باسا(1/9)
فقال امرؤ القيس:
تلك المنايات فما بيقين من أحد ... يكفتن حمقى وما يبقين أكياسا
فقال عبيد:
ما السابقات سراع الطير في مهل ... لا يشتكين ولو ألجمتها فاسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الجياد عليها القوم قد سبحوا ... كانوا لهن غداة الروع أحلاسا
فقال عبيد:
ما القطاعات لأرض الجو في طلق ... قبل الصباح وما يسرين قرطاسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الأماني يتركن الفتى ملكاً ... دون السماء ولم ترفع به رأسا
فقال عبيد:
ما الحاكمون بلا سمع ولا بصر ... ولا لسان فصيح يعجب الناسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الموازين والرحمان أنزلها ... رب البرية بين الناس مقياسا
وكان امرؤ القيس معناً ضليلاً كثيراً ما ينازع الشعراء. قيل أنه نازع التؤام اليشكري جد قتادة بن الحارث فقال: إن كنت شاعراً فاجز أنصاف ما أقول. فقال التؤام: قل ما شئت. فقال امرؤ القيس (من الوافر) :
أصاح ترى بريقاً هب وهناً
فقال التؤأم: كنار مجوس تستعر استعارا(1/10)
فقال امرؤ القيس: ارقت له ونام أبو شريخ فقال التؤأم: إذا ما قلت قد هدا استطارا فقال امرؤ القيس: كان هزيزة بواء غيب فقال التؤأم: عشار وله لاقت عشارا فقال امرؤ القيس: فلما أن علا كنفي أضاخ
فقال التؤأم: وعت أعجاز ريقه فحارا فقال امرؤ القيس: فلم يترك بذات السر ظبياً فقال التؤأم: ولم يترك بجلهتها حمارا قال أبو عمرو: فلما رأى امرؤ القيس قد ماتنه ولم يكن في الزمن الأول شاعر يماتنه آلى ألا ينازع الشعر أحداً بعده.
أخبر محمد بن القاسم أن امرأ القيس آلى بالية ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنتين. فجعل يخطب النساء فإذا سألهن عن هذا قلن: أربعة عشر. فبينا هو يسير في جوف الليل إذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة فأعجبته. فقال لها: يا جارية ما ثمانية وأربعة واثنتان. فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة. وأما أربعة فاخلاف الناقة. واثنتان فثديا المرأة. فخطبها إلى أبيها فزوجه إياها وشرطت عليه أن تسأله عن ثلاث خصال فجعل لها ذلك وعلى أن يسوق إليها مائة من الإبل وعشر أعبد وعشر وصائف وثلاث أفراس ففعل ذلك. ثم أنه بعث عبداً له إلى المرأة وأهدى إلهيا نحياً من سمن ونحياً من عسل وحلة من عصب. فنزل العبد ببعض لمياه فنشر الحلة ولبسها فتعلقت بشعره فانشقت. وفتح النحيين فطعم أهل الماء منها فنقصا. ثم قدم على حي المرأة وهم خلوف فسألها عن أبيها وأمها وأخيها ودفع إليها هديتها فقالت له: اعلم مولاك أن أبي ذهب يقرب بعيداً ويبعد قريباً وأن أمي ذهبت تشق النفس نفسين وأن أخي يراعي الشمس وإن سماءكم انقشت وأن وعاءكم نضبا. فقدم الغلام على مولاه وأخبره. فقال: أما قولها أن أبي ذهب يقرب بعيداً ويبعد قريباً فأن أباها ذهب(1/11)
يحالف قوماً على قومه. وأما قولها ذهبت أمي تشق النفس نفسين فإن أمها ذهبت تقبل امرأة نفساء. وأما قولها أن أخي يراعي الشمس فإن أخاها في سرح له يرعاه فهو ينتظر وجوب الشمس ليروح به. وأما قولها أن سماءكم انشقت فإن البرد الذي بعثت به انشق. وأما قولها إن وعاءكم نضبا فإن النخيين اللذين بعثت بهما نقصا. فاصدقني. فقال: يا مولاي إني نزلت بماء من مياه العرب فسألوني عن نفسي وأخبرتهم أني ابن عمك ونشرت الحلة فانشقت وفتحت النحيين فأطعمت منهما أهل الماء. فقال: أولى لك. ثم ساق مائة من الإبل وخرج نحوها ومعه الغلام فنزلا منزلاً فخرج الغلام يسقي الإبل فعجز فأعانه امرؤ القيس ورمى به الغلام في البئر وخرج حتى جاء المرأة بالإبل وأخبرهم أنه زوجها فقيل لها: قد جاء زوجك فقالت: والله ما أدري أزوجي هو أم لا ولكن انحروا له جزرواً وأطعموه من كشرها وذنبها. ففعلوا. فقالت: اسقوه لبناً حازراً وهو الحامض فسقوه فشرب. فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم ففرشوا له فنام. فلما أصبحت أرسلت إليه أني أريد أن أسألك. فسألته عن أشياء لم يحسن جوابها. قال: عليكم بالعبد فشدوا أيديكم به. ففعلوا. قال: ومر قوم فاستخرجوا امرأ لقيس من البئر فرجع إلى حيه فاستاق مائة من الإبل وأقبل على امرأته. فقيل لها: قد جاء زوجك فقالت: والله ما أدري أهو زوجي أم لا ولكن انحروا له جزورا فأطمعه من كرشها وذنبها ففعلوا فلما أتوه بذلك قال: وأين الكبد والسنام واللحاء. فأبى أن يأكل فقالت: اسقوه لبناً. حارزاً. فأبى أن يشربه وقال: فأن الصريف والرثيئة. فقالت: افرشوه عند الفرث والدم. فأبى أن ينام وقال: افرشوا لي فوق التلعة الحمراء وأضربوا لي عليها خباء. ثم أرسلت إليه هلم شريطتي عليك في المسائل الثلاث. فقال لها: سلي عما شئت: فقالت: مم تختلج كشحاك قال: للبسي الحبرات. قالت: فمم تختلج فخذاك. قال: لركضي المطيات. قالت: هذا زوجي لعمري فعليكم به واقتلوا العبد. فقتلوه وتزوج الجارية.
ثم لم يزل امرؤ القيس مع صعاليك العرب حتى أتاه خبر مقتل أبيه وهو بدمون من أرض اليمن وقيل من الشام. وأخبر ابن السكيت أن حجراً أباه لما طعنه بعض بني أسد ولم يجهز عليه أوصى ودفع كتابه إلى رجل من بني عجل يقال له عامر الأعور وقال له: انطلق إلى ابني نافع فإن بكى وجزع فاله عنه واستقر أولادي واحداً واحداً حتى تأتي امرأ القيس وكان أصغرهم فإن لم يجزع فادفع إليه سلاحي وخيلي ووصيتي. وقد كان بين في وصيته من قتله وكيف كان خبره. فانطلق الرجل بوصيته إلى نافع ابنه فأخذ التراب فوضعه على رأسه.(1/12)
ثم استقراهم واحداً واحداً فكلهم فعل ذلك حتى أتى امرأ القيس فوجده في دمون مع نديم له يشرب ويلاعبه بالنرد فقال له: قتل حجر. فلم يلتفت إلى قوله وأمسك نديمه. فقال له امرؤ القيس: اضرب. فضرب حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد عليك دستك. ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله فأخبره فقال (من الرجز) :
تطاول الليل علينا دمون ... دمون إنا معشر يمانون
وإنا لأهلنا محبون
وقال أيضاً (من الطويل) :
خليلي ما في الدار مصحى لشارب ... ولا في غد إذ ذاك ما كان مشرب
ثم قال: ضيعني أبي صغيراً وحملني دمه كبيراً. لا صحو اليوم ولا سكر غداً اليوم خمر وغداً أمر. اليوم فخاف وغداً نقاف. فذهب القولان مثلاً. ثم شرب سبعاً فلما صحا آلى أن لا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً ولا يدهن بدهن ولا يلهو بلهو ولا يغسل رأسه من جناية حتى يدرك بثأر أبيه فيقتل من بني آله مائة ويجز نواصي مائة وفي ذلك يقول (من الطويل) :
أرقت ولم يأرق لما بين نافع ... وهاج لي الشوق الهموم الروادع
ولما جنه الليل رأى برقاً فقال (من المتقارب) :
أرقت لبرق بليل أهل ... يضيء سناه بأعلى الجبل
أتاني حديث فكذبته ... بأمر تزعزع منه القلل
بقتل بني أسد ربهم ... ألا كل شيء سواه جلل
فأين ربيعة عن ربها ... وأين تميم وأين الخول(1/13)
ألا يحضرون لدى بابه ... كما يحضرون إذا ما استهل
وروى الهيثم بن عدي: أن امرأ القيس لما قتل أبوه كان غلاماً قد ترعرع وكان في بني حنظلة مقيماً لأن ظئره كانت امرأة منهم فلما بلغه ذلك قال (من الرجز) :
يا لهف هند إذ خطئن كاهلاً ... القاتلين الملك الحلاحلا
خير معد حسباً ونائلا ... وخيرهم قد علموا شمائلا
نحن جلبنا القرح القوافلا ... تالله لا يذهب شيخي باطلا
يحملننا والاسل النواهلا ... وحي صعب والوشيج الذابلا
مستثفرات بالحصى جوافلا ... يستشرف الأواخر الأوائلا
حتى أبيد مالكاً وكاهلاً
وقال أيضاً في ذلك وهو بدمون (من الطويل) :
أتاني وأصحابي على رأس صيلع ... حديث أطال النوم عني فأنعما
فقلت لعجلي بعيد مآبه ... ابن لي وبين لي الحديث المجمجما
فقال أبيت اللعن عمرو وكاهل ... أباحا حمى حجر فأصبح مسلما
وقال الهيثم: لما قتل حجر انحازت بنته هند وقطينة إلى عوير بن شيخة بن جابر. فقال له قومه: كل أموالهم فإنهم مأكولون. فأبى. فلما كان الليل حمل هنداً وقطنيها وأخذ بخطام(1/14)
جملها واشأم بهم في ليلة طخياء مدلهمة فرمى بها النجاد حتى اطلعها نجران وقال لها: إني لست أغني عنك شيئاً وراء هذا الموضع وهؤلاء قومك وقد برئت خفارتي. فمدحه امرؤ القيس بعدة قصائد منها قوله (من المنسرح) :
إن بني عوف أثبتوا حسباً ... ضيعه الدخللون إذ غدروا
أدوا إلى جارهم خفارته ... ولم يضع بالمغيب إذ نصروا
لم يفعلوا فعل آل حنظلة ... أنهم جير بئس ما ائتمروا
لا حميري وفي ولا عدس ... ولا أست عير يحكها الثفر
لكن عوير وفي بذمته ... لا عور عابه ولا قصر
وقال يمدحه ويمدح بني عوف رهطه (من الطويل) :
ألا إن قوماً كنتم أمس دونهم ... هم منعوا جاراتكم آل غدران
عوير ومن مثل العوير ورهطه ... وأسعد في ليل البلابل صفوان
ثياب بني عوف طهاري نقية ... واوجههم عند المشاهد غران
هم بلغوا الحي المضلل أهله ... وساروا بهم بين العراق ونجران
فقد أصبحوا والله اصفاهم به ... ابر بإيمان وأوفى بجيران
ثم أخذ امرؤ القيس يعد العدد ويجهز الأسلحة لمحاربة بني أسد. فبلغ بني أسد ما يعده لهم امرؤ القيس فأوفدوا عليه رجالاً من قبائلهم كهولاً وشباناً فيهم المهاجر بن خداش ابن عم(1/15)
عبيد بن الأبرش وقبيصة بن نعيم وكان في بني أسد مقيماً وكان ذا بصيرة بمواقع الأمور ورداً وإصداراً يعرف ذلك له من كان محيطاً بأكناف بلده من العرب. فلما علم امرؤ القيس بمكانهم أمر بإنزالهم وتقدم بإكرامهم والإفضال عليهم واحتجب عنهم ثلاثاً. فسألهم من حضرهم من رجال كندة. فقال: هو في شغل بإخراج ما في خزائن أبيه حجر من السلاح والعدة. فقالوا: اللهم غفراً إنما قدمنا في أمر نتناسى به ذكر ما سلف ونستدرك به ما فرط فليبلغ ذلك عنا. فخرج عليهم في قباء وخف وعمامة سوداء وكانت العرب لا تعتم بالسواد إلا في الترات. فلما نظروا إليه قاموا له وبدر إليه قبيصة: إنك في المحل والقدر والمعرفة بتصرف الدهر وما تحدثه أيامه وتنتقل به أحواله بحيث لا تحتاج إلى تبصير واعظ ولا تذكرة مجرب ولك من سودد منصبك وشرف أعراقك وكرم أصلك في العرب محتمل يحتمل ما حمل عليه من إقامة العثرة ورجوع عن هفوة. ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم وكرم الصفح في الذي كان من الخطب الجليل الذي عمت رزيته تراراً واليمن ولم تخصص كندة بذلك دوننا للشرف البارع. كان لحجر التاج والعمة فوق الجبين الكريم وإخاء الحمد وطيب الشيم. ولو كان يفدى هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا على مثله ببذل ذلك ولفديناه منه. ولكن مضى به سبيل لا يرجع أولاه على أخراه ولا يلحق أقصاه أدناه فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال. إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتاً وأعلاها في بناء المكرمات صوتاً فقدناه إليك بنسعه يذهب مع شفرات حسامك تنائي قصيدته فقول: رجل امتحن بهلك عزيز فلم تستل سخيمته إلا بتمكينه من الانتقام. أو فداء بما يروح من بني أسد من نعمها فهي ألوف تجاوز الحسبة فكان ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها لم يردده تسليط الأحن على البراء. وأما إن توادعنا حتى تضع الحوامل فنسدل الأزر ونعقد الخمر فوق الرايات. _قال (فبكى امرؤ القيس ساعة ثم رفع رأسه. فقال: لقد علمت العرب أن لا كفء لحجر في دم وأني لن اعتاض به جملاً أو ناقة فاكتسب بذلك سبة الأبد وفت العضد. وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها ولن أكون لعطبها سبباً وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل القلوب حنقاً. وفوق الأسنة علقاً (من المتقارب) :
إذا جالت الخيل في مأزق ... تدافع فيه المنايا النفوسا
أتقيمون أم تنصرفون. قالوا: بل ننصرف باسوأ الاختيار. وأبلى الاجترار لمكروه(1/16)
وأذية وحرب وبلية. ثم نهضوا عنه وقبيصة يقول متمثلاً:
لعلك أن تستوخم الموت إن غدت ... كتائبنا في مأزق الموت تمطر
فقال امرؤ القيس: لا والله لا أستوخمه فرويداً ينكشف لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير ولقد كان ذكر غير هذا أولى بي إذ كنت نازلاً بربعي ولكنك قلت فأجبت. فقال قبيصة: ما نتوقع فوق قدر المعاتبة والإعتاب. قال امرؤ القيس: فهو ذاك.
ثم ارتحل امرؤ القيس حتى نزل بكراً وتغلب وعليهم إخوته شرحبيل وسلمة فسألهم النصر على بني أسد. ثم بعث عليهم فنذروا بالعيون ولجأوا إلى بني كنانة وكان الذي أنذرهم بهم علباء بن الحرث. فلما كان الليل قال لهم علباء: يا معشر بني أسد تعلمون والله أن عيون امرئ القيس قد أتتكم ورجعت إليه بخبركم فارحلوا بليل ولا تعملوا بني كنانة. ففعلوا وأقبل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب حتى انتهى إلى بني كنانة وهو يحسبهم بني أسد فوضع السلاح فيهم وقال: يا لثارات الملك يا لثارات الهمام. فخرجت إليه عجوز من بني كنانة. فقالت: أبيت اللعن لسنا لك بثأر نحن من كنانة فدونك ثأرك فاطلبهم فإن القوم قد ساروا بالأمس. فتبع بني أسد ففاتوه ليلتهم فقال في ذلك (من الوافر) :
ألا يا لهف هند إثر قوم ... هم كانوا الشفاء فلم يصابوا
وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وافلتهن علباء جريضاً ... ولو أدركته صفر الوطاب
ثم سار وراء بني أسد سيراً حثيثاً إلى أن أدركهم وقد تقطعت خيله وقطع أعناقهم العطش وبنو أسد جامون على الماء. فنهد إليهم فقاتلهم حتى كثرت الجرحى والقتلى فيهم وحجز الليل بينهم وهربت بنو أسد. فلما أصبحت بكر وتغلب أبوا أن يتبعوه وقالوا له: قد أصبت ثأرك. قال: والله ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحداً. قالوا: بلى ولكنك رجل مشؤوم. وكرهوا قتالهم بني كنانة وانصرفوا عنه.(1/17)
فلما امتنعت بكر بن وائل وتغلب من اتباع بني أسد خرج من فوره ذلك إلى اليمن فاستنصر ازدشنوءة فأبوا أن ينصروه. وقالوا: إخواننا وجيراننا: فنزل بقيل يدعى مرثد الخير بن ذي جدن الحميري وكانت بينهما قرابة فاستنصره واستمده على بني أسد فأمده بخمسمائة رجل من حمير. ومات مرثد قبل رحيل امرئ القيس بهم وقام بالمملكة بعده رجل من حمير يقال له قرمل بن الحميم وكانت أمه سوداء فردد امرأ القيس وطول عليه حتى هم بالانصراف وقال (من الطويل) :
وإذ نحن ندعو مرثد الخير ربنا ... وإذ نحن لا ندعى عبيداً لقرمل
لإأنفذ له ذلك الجيش. وتبعه شذاذ من العرب واستأجر من القبائل رجالاً فسار بهم إلى بني أسد ومر بتبالة وبها للعرب صنم تعظمه يقال له ذو الخلصة. فاستقسم عنده بقداحه وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص. فاجالها فخرج الناهي ثم أجالها فخرج الناهي. ثم أجالها فخرج الناهي. فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم وقال: ويحك لو أبوك قتل ما عقتني. ثم خرج فظفر ببني أسد. وقال في نيله منهم ما أراد من ثأره (من السريع) :
يا دار ماوية بالحائل ... فالسهب فالخبتين من عاقل
صم صداها وعفى رسمها ... واستعجمت عن منطق السائل
قولا لدودان عبيد الععصا ... ما غركم بالأسد الباسل
قد قرت العينان من مالك ... ومن بني عمرو ومن كاهل
ومن بني غنم بن دودان إذ ... نقذف أعلاهم على السافل
نطعنهم سلكي ومخلوجة ... لفتك لأمين على النابل(1/18)
إذ هن أقساط كرجل الدبا ... أو كقطا كاظمة الناهل
حتى تركناهم لدى معرك ... أرجلهم كالخشب الشائل
حلت لي الخمر وكنت امرءاً ... عن شربها في شغل شاغل
فاليوم اسقى غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل
(قالوا) والح المنذر في طلب امرئ القيس ووجه الجيوش في طلبه من إياد وبهراء وتنوخ ولم تكن لهم به طاقة. فأمدهم أنوشروان بجيش من الأساورة فسرحهم في طلبه وتفرق حمير ومن كان مع امرئ القيس فنجا في عصبة من بني آكل المرار حتى نزل بالحرث بن شهاب من بني يربوع بن حنظلة ومعه أدرع خمس الفضفاضة والضافية والمحصنة والخريق وأم الذيول كن لبني آكل المرار يتوارثونها ملكاً عن ملك. فما لبثوا عند الحرث بن شهاب حتى بعث إليه المنذر مائة من أصحابه يوعده بالحرب إن لم يسلم إليه بني آكل المرار. فأسلمهم ونجا امرؤ القيس ومعه يزيد بن معاوية بن الحرث وبنته هند بنت امرئ القيس والأدرع والسلاح ومال كان بقي معه. فخرج على وجهه وأقبل على فرسه الشقراء لاجئاً إلى ابن عمته عمرو بن المنذر وأمه هند بنت عمرو بن حجر بن آكل المرار وذلك بعد قتل أبيه وأعمامه وتفرق ملك أهل بيته. وكان عمرو يومئذ خليفة لأبيه المنذر ببقة وهي بين الأنبار وهيت. فمدحه وذكر صهره ورحمه وإنه قد تعلق بحباله ولجأ إليه. فأجاره عمرو ومكث عنده زماناً. ثم بلغ المنذر مكانه عنده فطلبه وأنذره عمرو. فهرب إلى هانىء بن مسعود بن عامر أحد رؤساء بني شيبان. فاستجاره فلم يجره وقال له: أنا في دين الملك فأتى سعد بن ضباب الإيادي سيد قومه فأجاره وكان سعد من أنسبائه. فقال يمدح سعداً ويهجو ابن مسعود وكان أفوه شاخص الأسنان (من الطويل) :(1/19)
لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر ... ولا مقصر يوماً فيأتيني بقر
ألا إنما الدهر ليال واعصر ... وليس على كل شيء قويم بمستمر
ليال بذات الطلح عند محجر ... أحب إلينا من ليال على أقر
لعمرك ما أن ضرني وسط حمير ... وأقوالها غير المخيلة والسكر
وغير الشقاء المستبين فليتني ... أجر لساني يوم ذلكم مجر
لعمرك ما سعد بخلة آثم ... ولا نأ نإ يوم الحفاظ ولا حصر
لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم ... مرابط للأمهار والعكر الدثر
أحب إلينا من أناس بقنة ... يروح على آثار شلئهم النمر
يفاكهنا سعد ويغدو لجمعنا ... بمثنى الزقاق المترعات وبالجزر
لعمري لسعد حيث حلت دياره ... أحب إلينا منه فافرس حمر
وتعرف فيه من أبيه شمائلاً ... ومن خاله ومن يزيد ومن حجر
سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا ... ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر
وقال أيضاً يمدح سعداً (من الوافر) :(1/20)
منعت الليث من أكل ابن حجر ... وكاد الليث يودي بابن حجر
منعت فأنت ذو من ونعمى ... علي ابن الضباب بحيث ندري
سأشكرك الذي دافعت عني ... وما يجزيك مني غير شكري
فما جار بأوثق منك جاراً ... ونصرك للفريد أعز نصر
ثم تحول عن سعد بن ضباب فوقع في أرض طيىء. فنزل برجل من بني جديلة يقال له المعلى بن تيم من بني ثعلبة فأجاره من المنذر ففي ذلك يقول (من الوافر) :
كأني إذ نزلت على المعلى ... نزلت على الواذخ من شمام
فما ملك العراق على المعلى ... بمقتدر ولا الملك الشآمي
أصد نشاص ذي القرنين حتى ... تولى عارض الملك الهمام
أقر حشا امرئ القيس بن حجر ... بنو تيم مصابيح الظلام
قالوا: فلبث عنده واتخذ إبلاً هناك فغدا قوم من بني جديلة يقال لهم بنو زيد. فطردوا الإبل وكانت لامرئ القيس رواحل مقيدة عند البيوت خوفاً من أن يدهمه أمر ليسبق عليهن. فخرج حينئذ فنزل ببني نبهان من طي. فخرج نفر منهم فركبوا الرواحل ليطلبوا له الإبل فأخذتهن جديلة فرجعوا إليه بلا شيء. فقال في ذلك (من الطويل) :
دع عنك نهباً صيح في حجراته ... ولكن حديثاً ما حديث الرواحل
كأن دثاراً حلقت بلبونه ... عقاب تنوفى لا عقاب القواعل
تلعب باعث بذمة خالد ... وأودى عصام في الخطوب الأوائل(1/21)
وأعجبني مشي الحزقة خالد ... كمشي أتان حلئت بالمناهل
أبت أجأ أن تسلم العام جارها ... فمن شاء فلينهض لها من مقاتل
تبيت لبوني بالقرية أمنا ... وأسرحها غباً بأكناف حائل
بنو ثعل جيرانها وكماتها ... وتمنع من رماة سعد ونابل
تلاعب أولاد الوعول رباعها ... دوين السماء في رؤوس المجادل
مكللة حمراء ذات أسرة ... لها حبك كأنها من وصائل
ففرقت عليه بنو نبهان فرقاً من معزى يحلبها فأنشأ يقول (من الوافر) :
ألا إلا تكن إبل فمعزى ... كان قرون جلتها العصي
تربع بالستار ستار قدر ... إلى غسل فجاد لها الولي
إذا ما قام حالبها أرنت ... كان الحي بينهم نعي
تروح كأنها مما أصابت ... معلقة بأحقيها الدلي
فتملأ بيتنا قطاً وسمناً ... وحسبك من غنى شبع وري
وبينا كان امرؤ القيس عند بني طي زوجوه منهم أم جندب. إلا أنه كان مفركاً(1/22)
وبقي عندهم ما شاء الله. وجاءه يوماً علقمة بن عبدة التيمي وهو قاعد في الخيمة وخلفه أم جندب. فتذاركا الشعر فقال امرؤ القيس: أنا أشعر منك. وقال علقمة: بل أنا أشعر منك. فقال: قل وأقول. وتحاكما إلى أم جندب. فقال امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها (الطويل) :
خليلي مرا بي على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب
وفيها يقول واصفاً الفراق ثم ناقته وفرسه:
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ... سوالك نقباً بين حزمي شعبعب
علون بأنطاكية فوق عقمة ... كجرمة نخل أو كجنة يثرب
فلله عينا من رأى من تفرق ... أشت وأنأى من فراق المحصب
فريقان منهم جازع بطن نخلة ... وآخر منهم قاطع نجد كبكب
فعيناك غرباً جدول في مفاضة ... كمر الخليج في صفيح مصوب
وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب
وإنك لم تقطع لبانة طالب بمثل غدو أو رواح مؤوب
بإدماء حرجوج كان قتودها على أبلق الكشحين ليس بمغرب(1/23)
يغرد بالأسحار في كل سدفة ... تغرد مياح الندامى المطرب
اقب رباع من حمير عماية ... يمج لعاع البقل في كل مشرب
بمحنية قد آزر الضال نبتها ... مجر جيوش الغانمين وخيب
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... وماء الندى يجري على كل مذني
بمنجرد قيد الأوابد لاحه ... طراد الهوادي كل شأو مغرب
علة الأين جياش كان سراته ... على الضمر والتعداء سرحة مرقب
يباري الخنوف المستقل زماعه ... ترى شخصه كأنه عود مشجب
له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وصهوة عير قائم فوق مرقب
ويخطو على صم صلاب كأنها ... حجارة غيل وأسأت بطلحب
له كفل كالدعص لبده الندى ... إلى حارك مثل الغبيط المذأب(1/24)
وعين كمرآة الصناع تديرها ... لمحجرها من النصيف المنقب
له أذنان تعرف العتق فيهما ... كسامعتي مذعورة وسط ربرب
وسمتفلك الذفرى كأن عنانه ... ومثناته في رأس جذع مشذب
واسحم ريان العسيب كأنه ... عثاكيل قنو من سميجة مرطب
إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه ... تقول هزيز الريح مرت بأثاب
ويخضد في الأري حتى كأنه ... به عرة من طائف غير معقب
فيوماً على سرب نقي جلوده ... ويماً على بيدانة أم تولب
فبينا نعاج يرتعين خميلة ... كمشي العذارى في الملأ المهدب
فكان تنادينا وعقد عذاره ... وقال صحابي قد شاونك فاطلب
فلأياً بلأي ما حملنا غلامنا ... على ظهر محبوك السراة محنب
وولى كشؤبوب العشي بوابل ... ويخرجن من جعد ثراه منصب
فللساق الهوب وللسوط درة ... وللزجر منه وقع أهوج منعب(1/25)
فأدرك لم يجهد ولم يثن شأوه ... يمر كخذروف الوليد المثقب
ترى الفار في مستنقع القاع لاحباً ... على جدد الصحراء من شد ملهب
خفاهن من أنفاقهن كأنما ... خفاهن ودق من عشي مجلب
فعادى عداء بين ثور ونعجة ... وبين شبوب كالقضيمة قرهب
وظل لثيران الصريم غماغم ... يداعسها بالسمهري المعلب
فكاب على حر الجبين ومتق ... بمدرية كأنها ذلق مشعب
فقلت لفتيان كرام ألا أنزلوا ... فعالوا علينا فضل ثوب مطنب
ففئنا إلى بيت بعلياء مردح ... سماوته من اتحمي معصب
وأوتاده ماذية وعماده ... ردينية فيها أسنة قعضب
وأطنابه أشطان خوص نجائب ... وصهوته من اتحمي مشرعب
فلما دخلناه أضفنا ظهورنا ... إلى كل حاري جديد مشطب(1/26)
فظل لنا يوم لذيذ بنعمة ... فقل في مقيل نحسه متغيب
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وارحلنا الجزع الذي لم يثقب
نمش بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب
إلى أن تروحنا بلا متعتب ... عليه كسيد الردهة المتاوب
ورحنا كأنا من جواثا عشية ... نعالي النعاج بين عدل ومحقب
وراح كتيس الربل ينفض رأسه ... أذاة به من صائك متحلب
حبيب إلى الأصحاب غير ملعن ... يفدونه بالأمهات وبالأب
فيوماً على بقع دقاق صدوره ... ويوماً على سفع المدامع ربرب
كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مخضب
وأنت إذا استدبرته سد فرجه ... بضاف فويق الأرض ليس بأصهب
ثم قال علقمة في القافية والروى قصيدته التي مطلعها (من الطويل) :
ذهبت من الهجران في غير مذهب ... ولم يك حقاً كل هذا التجنب
إلى أن قال في وصف الناقة والفرس معارضاً لامرؤ القيس:(1/27)
فإنك لم تقطع لبانة طالب ... بمثل بكور أو رواح مؤوب
بمجفرة الجنبين حرف شملة ... كهمك مرقال على الأين ذعلب
إذا ما ضربت الدف أو صلت صولة ... ترقب مني غير أدنى ترقب
بعين كمرآة الصناع تديرها ... لمحجرها من النصيف المنقب
كان بحاذيها إذا ما تشذرت ... عثاكيل قنو من سميحة مرطب
تذب به طوراً وطوراً تمره ... كذب البشير بالرداء المهدب
وقد اغتدي والطير في وكناتها ... وماء الندى يجري على كل مذنب
بمنجرد قيد الأوابد لاحه ... طراد الهوادي كل شأو مغرب
بغوج لبانه يتم بريمه ... على نفث راق خشية العين مجلب
كميت كلون الأرجوان نشرته ... لبيع الرداء في الصوان المكعب
ممر كعقد الأندري يزينه ... مع العتق خلق مفعم غير جأنب
له حرتان تعرف العتق فيهما ... كسامعتي مذعورة وسط ربرب
وجوف هواء تحت متن كأنه ... من الهضبة الخلقاء زحلوق ملعب
قطاة ككردوس المحالة أشرفت ... إلى سند مثل الغبيط المذأب
وغلب كأعناق الضباع مضيغها ... سلام الشظى يغشى بها كل مركب
وسمر يفلقن الظراب كأنها ... حجارة غيل وارسات بطحلب
إذا ما اقتنضنا لم نخاتل بجنة ... ولكن ننادي من بعيد ألا اركب
أخا ثقة لا يلعن الحي شخصه ... صبوراً على العلات غير مسبب
إذا انفدوا زاداً فإن عنانه ... واكرعه مستعملاً خير مكسب
رأينا شياهاً يرتعين خميلة ... كمشي العذارى في الملأ المهدب(1/28)
فبينا تمارينا وعقد عذاره ... خرجن علينا كالجمان المثقب
واقبل يهوي ثانياً من عنانه ... يمر كمر الرائح المتحلب
ترى الفأر عن مسترغب القدر لائحاً ... على جدد الصحراء من شد ملهب
خفا الفأر من انفاقه فكأنما ... تجلله شؤبوب غيث منقب
فظل لثيران الصريم غماغم ... يداعسهن بالنضي المعلب
فهاو على حر الجبين ومتق ... بمدراته كأنها ذلق مشعب
فعادى عداء بين ثور ونعجة ... وتيس شبوب كالهشيمة قرهب
فقلنا ألا قد كان صيد لقانص ... فخبوا علينا فضل برد مطنب
فظل الأكف يختلفن بحانذ ... إلى جؤجؤ مثل المداك المخضب
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وارحلنا الجزع الذي لم يثقب
ورحنا كأنا من جواثا عشية ... نعالي النعاج بين عدل ومحقب
وراح كشاة الربل ينغض رأسه ... أذاة به من صائك متحلب
وراح يباري في الجناب قلوصنا ... عزيزاً علينا كالحباب المسيب
فلما فرغ منها فضلته أم جندب على امرئ القيس. فقال لها: بما فضلته علي. فقالت: فرس ابن عبدة أجود من فرسك. قال: وبماذا. قالت: سمعتك زجرت وضربت وحركت وهو قولك:
وللساق ألهوب وللسوط درة ... وللزجر منه وقع أهوج منعب
أدرك فرس علقمة ثانياً من عنانه وهو قوله:
فأقبل يهوي ثانياً من عنانه ... يمر كمر الرائح المتحلب
فغضب امرؤ القيس على أم جندب وطلقها. وقيل أن علقمة خلف عليها بعد ذلك فسمي علقمة الفحل. ثم خرج امرؤ القيس من عند طي فنزل بعامر بن جوين واتخذ عنده(1/29)
إبلاً ويومئذ أحد الخلعاء الفتاك قد تبرأ قومه من جرائره فكان عنده ما شاء الله. ثم هم أن يغلبه على أهله وماله ففطن امرؤ القيس بشعر كان عامر ينطق به وهو قوله:
فكم بالسعيد من هجان مؤبله ... تسير صحاحاً ذات قيد ومرسله
أردت بها فتكاً فلم ارتض له ... ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله
وكان عامر أيضاً يقول الشعر ويعرض بهند أخت امرئ القيس.
قالوا فلما عرف امرؤ القيس ذلك منه خافه على أهله وماله فتغفله وانتقل إلى رجل من بني ثعل يقال له حارثة بن مر فاستجاره فوقعت الحرب بين عامر وبين الثعلي فكانت في ذلك أمور كثيرة. قال دارم بن عقال في خبره: فلما وقعت الحرب بين طيء من أجله خرج من عندهم. فنزل برجل من بني فزازة يقال له عمرو بن جابر بن مازن فطلب منه الجوار حتى يرى ذات غيبه فقال له الفزازي: يا ابن حجر إني أراك في خلل من قومك وأنا أنفس بمثلك من أهل الشرف وقد كدت بالأمس تؤكل في دار طيء. وأهل البادية أهل بر لا أهل حصون تمنعهم وبينك وبين اليمن ذؤبان من قيس أفلا أدلك على بلد تلجأ إليه فقد جئت قيصر وجئت النعمان فلم أر لضعيف نازل ولا لمجتهد مثله ولا مثل صاحبه. قال: من هو وأين منزله. قال: السموأل بتيماء وسوف أضرب لك مثله هو يمنع ضعفك حتى ترى ذات غيبك وهو في حصن حصين وحسب كبير. فقال له امرؤ القيس: وكيف لي به. قال: أوصلك إلى من يوصلك إليه. فصحبه إلى رجل من بني فزارة يقال له الربيع بن ضبع الفزاري ممن يأتي السموأل فيحمله ويعطيه. فلما صار إليه قال له الفزاري: إن السموأل يعجبه الشعر فتعال نتناشد له أشعاراً. فقال امرؤ القيس: قل حتى أقول. فقال الربيع:
قل للمنية أي حين نلتقي ... بفناء بيتك في الحضيض المزلق
وهي طويلة يقول فيها:
ولقد أتيت بني المصاص مفاخراً ... وإلى السموأل زرته بالأبلق
فأتيت أفضل من تحمل حاجة ... إن جئته في غارم أو مرهق
عرفت له الأقوام كل فضيلة ... وحوى المكارم سابقاً لم يسبق
قال: فقال امرؤ القيس (من الكامل) :
طرقتك هند بعد طول تجنب=وهناً ولم تك قبل ذلك تطرق قال صاحب الأغاني: وهي قصيدة طويلة وأظنها منحولة لأنها لا تشاكل كلام امرئ(1/30)
القيس والتوليد فيها بين وما دونها في ديوانه أحد من الثقات وأحسبها مما صنعه دارم لأنه من ولد السموأل أو مما صنعه من روى عنه من ذلك فلم تكتب هنا. (قال) فوفد الفزاري بامرئ القيس إليه. فلما كانوا ببعض الطريق إذا هم ببقرة وحشية مرمية فلما نظر إليها أصحابه قاموا فذكوها. فبينما هم كذلك إذ هم بقوم قناصين من بني ثعل. فقالوا لهم: من أنتم. فانتسبوا لهم وإذا هم نم جيران السموأل فانصرفوا جميعاً إليه وقال امرؤ القيس (من المديد) :
رب رام من بني ثعل ... متلج كفيه من قتره
عارض زوراء من نشم ... غير باناة على وتره
قد أتته الوحش واردة ... فتنحى النزع في يسره
فرماها في فرائصها ... بإزاء الحوض أو عقره
برهيش من كنانته ... كتلظي الجمر في شرره
راشه من ريش ناهضة ... ثم امحاه على حجره
فهو لا تنمي رميته ... ما له لا عد من نفره
مطعم للصيد ليس له ... غيرها كسب على كبره(1/31)
وخليل قد أفارقه ... ثم لا أبكي على إثره
وابن عم قد تركت له ... صفو ماء الحوض عن كدره
وحديث الركب يوم هنا ... وحديث ما على قصره
وابن عم قد فجعت به ... مثل ضوء البدر في غرره
(قال) : ثم مضى القوم حتى قدموا على السموأل فأنشده الشعر وعرف لهم حقهم فأنزل هنداً أخته في قبة آدم وأنزل القوم في مجلس له براح فكان عنده ما شاء الله. ثم أنه طلب إليه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بالشام ليوصله إلى قيصر. فاستنجد منه رجلاً واستودعه المرأة والأدرع والمال وأقام معها يزيد بن الحارث بن معاوية ابن عمه فمضى حتى انتهى إلى قيصر. فقبله وأكرمه وكانت له عنده منزلة فاندس رجل من بني أسد يقال له الطماح وكان امرؤ القيس قتل أخاً له من بني أسد حتى أتى بلاد الروم فأقام مستخفياً. ثم أن قيصر منح إليه جيشاً كثيفاً وفيهم جماعة من أبناء الملوك. فلما فصل قال لقيصر قوم من أصحابه: إن العرب قوم غدر لا نأمن أن يظفر هذا بما يريد ثم يغزوك بمن بعثت معه. وقال ابن الكلبي: بل قال له الطماح: إن امرأ القيس غوي فاجر وأنه لما انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتك وهو قائل في ذلك أشعاراً يشهرها بها في العرب فيفضحها ويفضحك. فبعث إليه حينئذ بحلة وشي مسمومة منسوجة بالذهب وقال له: إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة واكتب إلي بخبرك من منزل منزل. فلما وصلت إليها لبسها واشتد سروره بها فأسرع فيه السم وسقط جلده فلذلك سمي ذا القروح وقال في ذلك (من الطويل) :(1/32)
تاوبني دائي القديم فغلسا ... أحاذر أن يرتد دائي فانكسا
ولم ترم الدار الكثيب فعسعسا ... كأني أنادي أو أكلم أخرسا
فلو أن أهل الدار فيها كعهدنا ... وجدت مقيلاً عندهم ومعرسا
فلا تنكروني إنني أنا جاركم ... ليالي حل الحي غولاً فالعسا
فإما تريني لا أغمض ساعة ... من الليل إلا أن أكب فانعسا
فيا رب مكروب كررت وراءه ... وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا
وما خفت تبريح الحياة كما أرى ... تضيق ذراعي أن أقوم فألبسا
فلو أنها نفس تموت جميعة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا
وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة ... لعل منايانا تحولن ابؤسا
لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا(1/33)
ألا إن بعد العدم للمرء قنوة ... وبعد المشيب طول عمر وملبسا
قال: فلما صار إلى بلدة من بلاد الروم تدعى أنقرة احتضر بها فقال (من مجزوء الكامل) :
رب طنعة مثعنجره ... وجفنة متحيره
وقصيدة متخيره ... تبقى غداً في أنقره
ورأى قبر امرأة من أبناء الملوك ماتت هناك فدفنت في سفح جبل يقال له عسيب فسأل عنها فأخبر بقصتها فقال (من الطويل) :
أجارتنا إن المزار قريب ... وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إن غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب
ثم مات فدفن إلى جنب المرأة فقبره هناك. ويروى أيضاً عند وفاته قوله (من الوافر) :
ألا أبلغ بني حجر بن عمرو ... وأبلغ ذلك الحي الحديدا
بأني قد هلكت بأرض قوم ... سحيقاً من دياركم بعيدا
ولو أني هلكت بأرض قومي ... لقلت الموت حق لا خلودا
أعالج ملك قيصر كل يوم ... وأجدر بالمنية أن تقودا
بأرض الشأم لا نسب قريب ... ولا شاف فيسند أو يعودا
ولو وافقتهن على أسيس ... وحافة إذ وردن بنا ورودا(1/34)
على قلص تظل مقلدات ... أزمتهن ما يعدقن عودا
وقد جاء ذكر امرئ القيس في تواريخ الروم مثل نونور وبركوب وغيرهما وهم يسمونه قيساً وقد ذكروا أنه قبل وروده على قيصر يوستينيانس أرسل إليه وفداً يطلب نه النجدة على بني أسد وعلى المنذر ملك العراق وكان مع الوفد ابنه معاوية سيره امرؤ القيس إلى قيصر ليبقى عنده كرهن. فكتب قيصر إلى النجاشي يأمره أن يجند الجنود ويسير إلى اليمن ويعيد الملك لصاحبه. ولعل هذا الوفد أرسله امرؤ القيس لما كان عند بني طيء وطال عندهم مكثه. ثم أخبر المؤرخون المومأ إليهم أن امرأ القيس لم يلبث أن سار بنفسه إلى فسطنطينية. فرغبه قيصر ووعده. وقد ذكر نونور المؤرخ أن يوستينيانس قلده أمرة فلسطين. إلا أنه لم يسع في إصلاح أمره وأعاده ملكه فضجر امرؤ القيس وعاده إلى بلده وكانت وفاته نحو 565 م. أصابه مرض كالجدري في طريقه كان سبب موته وذكر في كتاب قديم مخطوط أن ملك قسطنطينية لما بلغه وفاة امرئ القيس أمر بأن ينحت له تمثال وينصب على ضريحه ففعلوا وكان تمثال امرئ القيس هناك إلى أيام المأمون وقد شاهده هذا الخليفة عند مروره هناك لما دخل بلاد الروم ليغزو الصائفة.
ولما مات امرؤ القيس جاء الملك الحارث بن أبي شمر الغساني المعروف بالأعرج إلى السموأل. وقيل بل كان الحارث بن ظالم فطلب منه دروع امرئ القيس وأسلحته فأبى السموأل. وتحصن بحصنه فأخذ الحارث ابناً له وناداه: إما أن تسلم الأدرع لي وإما قتلت ولدك. فأبى أن يسلم الأدرع. فضرب وسط الغلام بالسيف فقطعه وأبوه يراه وانصرف. ثم جاء السموأل إلى ورثة امرئ القيس وسلمهم الأدرع فضرب به المثل في الوفاء.
وامرؤ القيس من فحول شعراء الجاهلية يعد من المقدمين بين ذوي الطبقة الأولى. وله ديوان عني بجمعه أدباء العرب. وفي شعره رقة اللفظ وجودة السبك وبلاغة المعاني سبق الشعراء إلى أشياء ابتدعها واستحسنتها العرب واتبعته عليها الشعراء.
سأل العباس بن عبد المطلب عمر بن الخطاب عن الشعراء وأميرهم فقال: امرؤ القيس سابقهم خسف لهم عين الشعر فافتقر عن معان عور أصح بصر. وفضله علي الإمام(1/35)
بأن قال: رأيت امرأ القيس أحسن الشعراء نادرة واسبقهم بادرة وأنه لم يقل لرغبة ولا لرهبة. قال العلماء: إن امرأ القيس لم يسبق الشعراء لأنه قال ما لم يقولوا ولكنه سبق إلى أشياء فاستحسنها الشعراء واتبعوه فيها لأنه أول من لطف المعاني ومن استوقف على الطلول وقرب مآخذ الكلام فقيد الأوابد وأجاد الاستعارة والتشبيب منها ذكر الطلول والالتفات إلى الأحباب والتفنن في الأوصاف. ومن شعره قوله يصف المطر (من الطويل) :
سقى واردات والقليب ولعلعا ... ملث سماكي فهضبة ليهبا
فمر على الخبتين خبتي عنيزة ... فذات النقاع فانتحى وتصوبا
فلما تدلى من أعالي طمية ... أبست به ريح الصبا فتحلبا
وله في وصف الخيل (من البسيط) :
الخير ما طلعت شمس وما غربت ... مطلب بنواصي الخيل معصوب
صبت عليه وما تنصب من أمم ... إن البلاء على الأشقين مصبوب
وقال أيضاً (من الوافر) :
أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب
عصافير وذبان ودود ... واجرا من محلجة الذئاب
وكل مكارم الأخلاق صارت ... إليه همتي وبه اكتسابي
إلى عرق الثرى وشجت عروقي ... وهذا الموت يسلبني شبابي(1/36)
ونفسي سوف يسلبنني وجرمي ... فيلحقني وشيكاً بالتراب
ألم انض المطي بكل خرق ... أمق الطول لماع السراب
واركب في اللهام المجر حتى ... أنال مآكل القحم الرغاب
وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
أبعد الحارث الملك ابن عمرو ... وبعد الخير حجر ذي القباب
ارجي من صروف الدهر ليناً ... ولم تغفل عن الصم الهضاب
واعلم أنني عما قليل ... سأنشب في شبا ظفر وناب
كما لاقى أبي حجر وجدي ... ولا أنسى قتيلاً بالكلاب
وقال فيها أيضاً (من البسيط) :
قد أشهد الغارة الشعواء تحملني ... جرداء معروقة اللحيين سرحوب
كان صاحبها إذ قام يلجمها ... مغد على بكرة زوراء منصوب
إذا تبصرها الرؤون مقبلة ... لاحت لهم غرة منها وتجبيب
وقافها ضرم وجريها جذم ... ولحمها زيم والبطن مقبوب
واليد سابحة والرجل ضارحة ... والعين قادحة والمتن ملحوب
والماء منهمر والشد منحدر ... والقصب مضطمر واللون غربيب
كأنها حين فاض الماء واحتفلت ... صقعاء لاح لها في المرقب الذيب(1/37)
ومن شعره قوله (من الطويل) :
غشيت ديار الحي بالبكرات ... فعارمة فبرقة العيرات
فغول فحليت فنفي فمنعج ... إلى عاقل فالجب ذي الأمرات
ظللت ردائي فوق رأسي قاعداً ... أعد الحصى ما تنقصني عبراتي
أعني على التهمام والذكرات ... يبتن على ذي الهمم معتكرات
بليل التمام أو وصلن بمثله ... مقايسة أيامها نكرات
كأني ورد في والقراب ونمرقي ... على ظهر عير وارد الخبرات
ارن على حقب حيال طروقة ... كذود الأجير الأربع الأشرات
عنيف بتجميع الضرائر فاحش ... شتيم كذلق الزج ذي ذمرات(1/38)
ويأكلهن بهمى جعدة حبشية ... ويشربن برد الماء في السبرات
فاوردها ماء قليلاً أنيسه ... يحاذرن عمراً صاحب القترات
تلت الحصى لتاً بسمر رزينة ... موارن لا كزم ولا معرات
ويرخين أذناباً كأن فروعها ... عرى خلل مشهورة ضفرات
وعنس كألواح الأران نسأتها ... على لاحب كالبرد ذي الحبرات
فغادرتها من بعد بدن ... ردية تغالي على عوج لها كدنات
وأبيض كالمخراق بليت حده ... وهبته في الساق والقصرات
وقال يذكر ابنته هنداً لما كان عند قيصر (من المتقارب) :
أأذكرت نفسك ما لن يعودا ... فهاج التذكر قلباً عميدا
تذكرت هنداً وأترابها ... فأصبحت أزمعت منها صدودا
ونادمت قيصر في ملكه ... فأوجهني وركبت البريدا
إذا ما ازدحمنا على سكة ... سبقت الفرانق سبقاً شديدا(1/39)
وقال أيضاً (من البسيط) :
لله زبدان أمسى قرقراً جلداً ... وكان من جندل أصم منضودا
لا يفقه القوم فيه كل منطقهم ... إلا سراراً تخال الصوت مردودا
وقال يتهدد بني أسد (من المتقارب) :
تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلي ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءن ... وأنبئته عن أبي الأسود
ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد
لقلت من القول ما لا يزا ... ل يؤثر عني يد المسند
بأي علاقتنا ترغبون ... أعن دم عمرو على مرثد(1/40)
فإن تدفنوا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
وإن تقتلونا نقتلكم ... وإن تقصدوا لدم نقصد
متى عهدنا بطعان الكما ... ة والمجد والحمد والسودد
وبني القباب وملء الجفا ... ن والنار والحطب الموقد
وأعددت للحرب وثابة ... جواد المحثة والمرود
سبوحاً جموحاً وإحضارها ... كمعمعة السعف الموقد
ومطرداً كرشاء الجرو ... ر من خلب النخلة الأجرد
وذا شطب غامضاً كلمه ... إذا صاب بالعظم لم يناد
ومسرودة السك موضونة ... نضاءل في الطي كالمبرد
تفيض على المرء أردانها ... كفيض الآتي على الجدجد
وقال يمدح قيساً وشمراً ابني زهير من بني سلامان بن ثعل (من الطويل) :
أرى إبلي والحمد لله أصبحت ... ثقالاً إذا ما استقبلتها صعودها
رعت بحيال ابني زهير كليهما ... معاشيب حتى ضاق عنها جلودها(1/41)
وقال يمدح طريف بن ملء من طيء (من الطويل) :
لنعم الفتى تشعو إلى ضوء ناره ... طريف بن ملء ليلة القر والخصر
إذا البازل الكوماء راحت عشية ... تلاوذ من صوت المبسين بالشجر
وقال يصف الغيث وقيل أن هذا أشعر ما جاء في وصفه (من الرمل) :
ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرى وتدر
فترى الود إذا ما اشجذت ... وتواريه إذا ما تعتكر
وترى الضب خفيفاً ماهراً ... ثانياً برثنه ما ينعفر
وترى الشجراء في ريقها ... كرؤوس قطعت فيها خمر
ساعة ثم انتحاها وابل ... ساقط الأكناف واه منهمر
راح تمريه الصبا ثم انتحى فيه شؤبوب جنوب منفجر
لج حتى ضاق عن آذيه ... عرض خيم فخفاف فيسر(1/42)
قد غدا يحملني في أنفه ... لاحق الأطلين محبوك ممر
وقال أيضاً يصف فرسه وخروجه إلى الصيد (من المتقارب) :
وقد أغتدي ومعي القانصان ... فكل بمرباة مقتفر
فيدركنا فغم داجن ... سميع بصير طلوب نكر
الص الضروس حني الضلوع ... تبوع طلوب نشيط اشر
فنشب أظفاره في النسا ... فقلت هبلت ألم تنتصر
فكر إليه بمبراته ... كما خل ظهر اللسان المجر
فظل يرنح في غيطل ... كما يستدير الحمار النعر
واركب في الروع خيفانة ... كسا وجهها سعف نتشر
لها حافر مثل قعب الوليد ... ركب فيه وظيف عجر
وساقان كعباهما اصعما ... ن لحم حماتيهما منبتر
لها عجز كصفاة المسيل ... أبرز عنها حجاف مضر
لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعديه النمر(1/43)
وسالفة كسحو اللبا ... ن اضرم فيها الغوي السعر
لها عذر كقرون النسا ... ء ركبن في يوم ريح وصر
لها جبهة كسراة المجن ... حذقه الصانع المقتدر
لها منخر كوجار الضباع ... فمنه تريح إذا تنبهر
لها ثنن كخوافي العقا ... ب سود يفئن إذا تزبئر
وعين لها حدرة بدرة ... شقت مآقيهما من أخر
إذا أقبلت قلت دباءة ... من الخضر مغموسة في الغدر
وإن أدبرت قلت أثفية ... ململمة ليس فيها أثر
وإن أعرضت قلت سرعوفة ... لها ذنب خلفها مسبطر
وللسوط فيها مجال كما ... تنزل ذو برد منهمر(1/44)
وتعدو كعدو نجاة الظبا ... ء أخطاها الحاذف المقتدر
لها وثبات كصوب السحاب ... فواد خطاء وواد مطر
وقال يصف توجهه إلى قصير مستنداً على بني أسد (من الطويل) :
أرى أم عمرو دمعها قد تحدرا ... بكاء على عمرو وما كان اصبرا
إذا نحن سرنا خمس عشرة ليلة ... وراء الحساء من مدافع قيصرا
إذا قلت هذا صاحب قد رضيته ... وقرت به العينان بدلت آخرا
كذلك جدي ما أصاحب صاحباً ... من الناس إلا خانني وتغيرا
وكنا أناساً قبل غزوة قرمل ... ورثنا الغنى والمجد أكبرا أكبرا
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
نشيم بروق المزن أين مصابه ... ولا شيء يشفي منك يا ابنة عفزرا(1/45)
فدع ذا وسل الهم عنك بجسرة ... ذمول إذا صام النهار وهجرا
تقطع غيطاناً كان متونها ... إذا أظهرت تكسي ملاء منشرا
بعيدة بين المنكبين كأنما ... ترى عند مجى الضفر هراً مشجرا
تطاير ظران الحصى بمناسم ... صلاب العجى ملثومها غير امعرا
كأن الحصى من خلفها وأمامها ... إذا نجلته رجلها حذف أعسرا
عليها فتى لم تحمل الأرض مثله ... أبر بميثاق وأوفى وأصبرا
هو المنزل الآلاف من جو ناعط ... بني أسد حزناً من الأرض أوعرا
ولو شاء كان الغزو من أرض حمير ... ولكنه عمداً إلى الروم أنفرا(1/46)
كان صليل المرو حين تشذه ... صليل زيوف ينتقدن بعبقرا
ألا هل أتاها والحوادث حمة ... بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا
تذكرت أهلي الصالحين وقد أتت ... على خملى خوض الركاب وأوجرا
فلما بدت حوران في الآل دونها ... نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا
تقطع أسباب اللبانة والهوى عشية جاوزنا حماة وشيزرا
بسير يضج العود منه يمنه ... أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
وإني زعيم إن رجعت مملكاً ... بسير ترى منه الفرانق أزورا
على لاحب لا يهتدي بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا(1/47)
إذا قلت روحنا ارن فرانق ... على جلعد واهي الأباجل ابترا
على كل مقصوص الذنابي معاود ... بريد اسرى بالليل من خيل بربرا
إذا زعته من جانبيه كليهما ... مشى الهيدبى في دفه ثم فرفرا
اقب كسرحان الغضا متمطر ... ترى الماء من أعطافه قد تحدرا
لقد أنكرتني بعلبك وأهلها ... ولابن جريح في قرى حمص أنكرا
وما جبنت خيلي ولكن تذكرت ... مرابطها من بريعص وميسرا
ألا رب يوم صالح قد شهدته ... بتاذف ذات التل من فوق طرطرا
ولا مثل يوم في قذاران ظلته ... كأني واصحابي على قرن اعفرا
ونشرب حتى نحسب النخل حولنا ... نقاداً وحتى نحسب الجون أشقرا
فهل أنا ماش بين شرط وحية ... وهل أنا لاق حي قيس بن شمرا
تبصر خليلي هل ترى ضوء بارق ... يضيء الدجا بالليل عن سرو حميرا
أجار قسيساً فالطهاء فمسطحاً ... وجواً فروى نخل قيس بن شمرا(1/48)
وعمرو بن درماء الهمام إذا غدا ... بذي شطب عضب كمشية قسورا
وكنت إذا ما خفت يوماً ظلامة ... فإن لها شعباً ببلطة زيمرا
نيافاً نزل الطير عن قذفاته ... تظل الضباب فوقه قد تعصرا
وقال يهجو بني حنظلة (من الطويل) :
أبلغ بني زيد إذا ما لقتيهم ... وأبلغ بني لبنى وأبلغ تماضرا
وأبلغ ولا تترك بني ابنة منقر ... أفقرهم إني أفقر نابرا
أحنظل لو كنتم كراماً صبرتم ... وحطتم ولا يلقى التميمي صابرا
وقال يصف ناقته: (من الطويل) :
كأني ورحلي فوق أحقب قارح ... بشربة أو طاو بعرنان موجس
تعشى قليلاً ثم انحى ظلوفه ... يثير التراب عن مبيت ومكنس
يهيل ويذري تربها ويثيرها ... إثارة نباث الهواجر مخمس
فبات على خد احم ومنكب ... وضجعته مثل الأسير المكردس
وبات إلى أرطاة حقف كأنها ... إذا الثقتها غبية بنت معرس
فصبحه عند الشروق غدية ... كلاب ابن مر أو كلاب ابن سنبس
مغرثة زرقاً كان عيونها ... من الذمر والإيحاء نوار عضرس
فادبر يكسوها الرغام كأنه ... على الصمد والآكام جذوة مقبس(1/49)
وأيقن إن لاقينه أن يومه ... بذي الرمث إن ماوتنه يوم أنفس
فأدركنه يأخذن بالساق والنسا ... كما شبرق الولدان ثوب المقدس
وغورن في ظل الغضا وتركنه ... كقرم الهجان الفادر المتشمس
وقال يصف داءه بأنقره (من المتقارب) :
لمن طلل داثر آيه ... تقادم في سالف الأحرس
فإما تريني بي عرة ... كأني نكيب من النقرس
وصيرني القرح في جبة ... تخال لبيساً ولم تلبس
ترى أثر القرح في جلده ... كنقش الخواتم في الجرجس
ومن ظريف قوله في دائه (من الطويل) :
ولو أن نوماً يشترى لاشتريته ... قليلاً كتغميض القطا حيث عرسا
وقال يصف المطر (من الطويل) :
أعني على برق أراه وميض ... يضيء حبياً في شماريخ بيض
ويهدأ تارات سناه وتارة ... ينوء كتعتاب الكسير المهيض(1/50)
وتخرج منه لامعات كأنها ... أكف تلقى الفوز عند المفيض
قعدت له وصحبتي بين ضارج ... وبيت تلاع يثلث فالعريض
أصاب قطاتين فسال لواهما ... فوادي البدي فانتحى للأريض
بلاد عريضة وأرض أريضة ... مدافع غيث في فضاء عريض
وأضحى يسح الماء من كل فيقة ... يجوز الضباب في صفاصف بيض
فاسقي به أختي ضعيفة إذ نأت ... وإذ بعد المزار غير القريض
ومرقبة كالزج أشرفت فوقها ... أقلب طرفي في فضاء عريض
فظلت وظل الجون عندي بلبده ... كأني أعدي عن جناح مهيض
فلما أجن الشمس عني غؤورها ... نزلت إليه قائماً بالحضيض
يباري شباة الرمح خد مذلق ... كصفح السنان الصلبي النحيض
أخفضه بالنقر لما علوته ... ويرفع طرفاً غير خاف غضيض(1/51)
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد عبل اليدين قبيض
له قصريا عير وساقا نعامة ... كفحل الهجان ينتحي للعضيض
يجم على الساقين بعد كلاله ... جموم عيون الحسي بعد المخيض
ذعرت به سرباً نقياً جلودها ... كما ذعر السرحان جنب الربيض
ووالى ثلاثاً واثنتين وأربعاً ... وغادر أخرى في قناة رفيض
فآب إياباً غير نكد مواكل ... واخلف ماء بعد ماء فضيض
وسن كسنيق سناء وسنماً ... ذعرت بمدلاج الهجير نهوض
أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضاً ... كإحراض بكر في الديار مريض
كأن الفتى لم يغن في الناس ساعة ... إذا اختلف اللحيان عند الجريض
وقال يرثي الحارث بن حبيب السلمي وكان خرج معه إلى الشام (من الوافر) :
ثوى عند الودية جوف بصرى ... أبو الأيتام والكل العجاف
فمن يحمي المضاف إذا دعاه ... ويحمل خطة الأنس الضعاف
وله في الوصف قوله (من الطويل) :
ألا أنعم صباحاً أيها الربع فانطق ... وحدث حديث الركب إن شئت فاصدق(1/52)
وحدث بأن زالت بليل حمولهم ... كنخل من الأعراض غير منبق
جعلن حوةايا واقتعدن قعائداً ... وحففن عن حوك العراق المنمق
فاتبعتهم طرفي وقد حال دونهم ... غوارب رمل ذي آلاء وشبرق
على إثر حي عامدين لنية ... فحلوا العقيق أو ثنية مطرق
فعزيت نفسي حين بانوا بجسرة ... أمون كبنيان اليهودي خيفق
إذا زجرت ألفيتها مشمعلة ... تنيف بعذق من غراس ابن معنق
تروح إذا راحت رواح جهامة ... بإثر جهام رائح متفرق
كأن بها هراً جنيباً تجره ... بكل طريق صادفته ومأزق
كأني ورحلي والقراب ونمرقي ... على يرفئي ذي زوائد نقنق
تروح من أرض لأرض نطية ... لذكرة قيض حول بيض مفلق(1/53)
يجول بآفاق البلاد مغرباً ... وتسحقه ريح الصبا كل مسحق
وقد ركدت وسط السماء نجومها ... ركود نوادي الربرب المتورق
وقد أغتدي قبل العطاس بهيكل ... شديد مشك الجنب فعم المنطق
بعثنا ربياً قبل اك مخملاً ... كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي
فظل كمثل الخشف يرفع رأسه ... وسائره مثل التراب المدقق
وجاء خفياً يسفن الأرض بطنه ... ترى الترب منه لاصقاً كل ملصق
وقال ألا هذا صوار وعانة ... وخيط نعام يرتعي متفرق
فقمنا بأشلاء اللجغام ولم نقد ... إلى غصن بان ناضر لم يحرق
نزاوله حتى حملنا غلامنا ... على ظهر ساط كالصليف المعرق
كأن غلامي إذ علا حال متنه ... على ظهر باز في السماء محلق
رأى أرنباً فانقض يهوي أمامه ... إليها وجلاها بطرف ملقلق(1/54)
فقلت له صوب ولا تجهدنه ... فيدرك من أعلى القطاة فتزلق
فادبرن كالجزع المفصل بينه ... بجيد الغلام ذي القميص المطوق
فأدركهن ثانياً من عنانه ... كغيث العشي الأقهب المتودق
فصاد لنا عيراً وثوراً وخاضباً ... عداء ولم يضح بماء فيعرق
فظل غلامي يضجع الرمح حوله ... لكل مهاة أو لاحقب سهوق
وقام طوال الشخص إذ يخضبونه ... قيام العزيز الفارسي المطق
فقلنا ألا قد كان صيد لقانص ... فخبوا علينا ظل ثوب مروق
وظل صحابي يشتوون بنعمة ... يصفون غاراً باللكيك الموشق
ورحنا كأنا من جواثا عشية ... نعالي النعاج بين عدل ومشنق
ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا ... تصوب فيه العين طوراً وترتقي(1/55)
وأصبح زهلولاً يزل غلامنا ... كقدح النضي باليدين المفوق
كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مفرق
وقال يمدح بني ثعل (من الطويل) :
واثعلاً وأين مني بنو ثعل ... ألا حبذا قوم يحلون بالجبل
نزلت على عمرو بن درماء بلطة ... فيا كرم ما جار ويا حسن ما فعل
تظل لبوني بين جو ومسطح ... تراعي الفراخ الدارجات من الحجل
وما زال عنها معشر بقسيهم ... يذودونها حتى أقول لهم بجل
فابلغ معداً والعباد وطيئاً ... وكندة إني شاكر لبني ثعل
وقال فيهم أيضاً (من السريع) :
أحللت رحلي في بني ثعل ... إن الكريم للكريم محل
وجدت خير الناس كلهم ... جاراً وأوفاهم أبا حنبل
أقربهم خيراً وأبعدهم=شراً وأسخاهم فلا يبخل وقال وفي وصف ناقته (من الكامل) :
وتنوفة جدباء مهلكة ... جاوزتها بنجائب فتل
فيبتن ينهسن الجبوب بها ... وأبيت مرتفقاً على رحلي
متوسداً عضباً مضاربه ... في متنه كمدبة النمل
يدعي صقيلاً وهو ليس له ... عهد بتمويه ولا صقل
عفت الديار فما بها أهلي ... ولوت شموس شاشة البذل(1/56)
نظرت إليك بعين جازئة ... حوراء حانية على طفل
فلها مقلدها ومقلتها ... ولها عليه سراوة الفضل
أقبلت مقتصداً وراجعني ... حلمي وسدد للندى فعلي
والله أنحج ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل
ومن الطريقة جائر وهدى ... قصد السبيل ومنه ذو دخل
إني لاصرم من يصارمني ... وأجد وصل من أبتغي وصلي
وأخي إخاء ذي محافظة سهل الخليقة ماجد الأصل
حلو إذا ما جئت قال ألا ... في الرحب أنت ومنزل السهل
نازعته كاس الصبوح ولم ... أجهل محدة عذرة الرجل
إني بحبلك واصل حبلي ... وبريش نبلك رائش نبلي
ما لم أجدك على هدى أثر ... يقر ومقصك قائف قبلي
وشمائلي ما قد علمت وما ... نبحت كلابك طارقاً مثلي
وقال يفتحر (من الكامل) :
من كان يأمل عقر داري من ... أهل الأود بها وذي الذحل(1/57)
فليأت وسط قبابه خيلي ... وليأت وسط خميسه رجلي
يا هل أتاك وقد يحدث ذو ... الود القديم مسمة الدخل
إني لعمري ما انتميت فلم ... أعدل إلى بدل ولا مثل
لاخ رضيت به وشارك في ... الأنساب والأصهار والفضل
ولمثل أسباب علقت بها ... يمنعن من قلق ومن أزل
لما سما من بين أقرن ... فالأجبال قلت فداؤه أهلي
هم سيبلغه التمام فذا ... ظني به سينال أو يبلي
وأتى على غطفان فاختلفوا ... دين يجيىء وهارب مجل
ويحش تحت القدر يوقدها ... بغضا الغريف فأجمعت تغلي
وقال حين نزل في بني عدوان (من المنسرح) :
بدلت من وائل وكندة عد ... وإن وفهماً صمي ابنة الجبل
قوم يحاجون بالبهام ... ونسران قصار كهيئة الحجل
وقال وهي من محاسن قصائده (من الطويل) :
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وهل يعمن من كان أحدث عهده ... ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال
ديار لسلمى عافيات بذي خال ... ألح عليها كل أسحم هطال(1/58)
ومنها في قتال عدوه ثم وصف فرسه وخروجه إلى الصيد:
يكر كرير البكر شد خناقه ... ليقتلني والمرء ليس بقتال
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وليس بذي رمح فيطعنني به ... وليس بذي سيف وليس بنبال
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أشهد الخيل المغيرة بالضحى ... على هيكل نهد الجزارة جوال
سليم الشظى عبل الشوى سنج النسا ... له حجبات مشرفات على الفال
وصم صلاب ما يقين من الوجى ... كأن مكان الردف منه على رال
وقد أغتدي والطير ي وكناتها ... لغيث من الوسمي رائده خال
تحاماه أطراف الرماح تحامياً ... وجاد عليه كل أسحم هطال
بعجلزة قد أترز الجري لحمها ... كميت كأنها هراوة منوال
ذعرت بها سرباً نقياً جلوده ... وأكرعه وشي البرود من الخال(1/59)
كأن الصوار إذ تجهد عدوه ... على جمزا خيل تجول بإجلال
فجال الصوار واتقين بقرهب ... طويل القرى والروق أخنس ذيال
فعادى عداء بين ثور ونعجة ... وكان عداء الوحش مني على بال
كأني بفتخاء الجناحين لقوة ... صيود من العقبان طأطأت شملال
تخطف خزان الشربة بالضحى ... وقد حجرت منها ثعالب أورال
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البال
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
وقال لشهاب بن شداد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة ولعاصم بن عبيد بن ثعلبة (من الرجز) :
أبلغ شهاباً وأبلغ عاصماً ... هل قد أتاك الخبر مال
إنا تركنا منكم قتلى وجر ... حى وسبايا كالسعالي(1/60)
يمشين بين ارحلنا معترفا ... ت ما بجوع وهزال
وقال يعاتب الدهر من (من الوافر) :
ألم يخبرك أن الدهر غول ... ختور العهد يلتهم الرجالا
أزال من المصانع ذا رياش ... وقد ملك السهولة والجبالا
همام طحطح الآفاق وحياً ... وساق إلى مشارقها الرعالا
وسد بحيث ترقى الشمس سداً ... ليأجوج ومأجوج الجبالا
بعزهم عززت فإن يذلوا ... فذلكم أنالك ما أنالا
وقال يصف وادياً قطعه (من الطويل) :
وواد كجوف العير قفر قطعته ... به الذئب يعوي كالخليع المعيل
فقلت له لما عوى إن شأننا ... قليل الغنى إن كنتت لما تمول
كلانا إذا ما نال شيئاً أفاته ... ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل
وقال في ذلك (من مجزوء البسيط) :
عيناك دمعهما سجال ... كأن شأنيهما أوشال
أو جدول في ظلال نخل ... للماء من تحته مجال
من ذكر ليلى وأين ليلى ... وخير ما رمت ما ينال
قد أقطع الأرض وهي قفر ... وصاحبي بازال شملال
ناعمة نائم أبجلها ... كأن حاركها أثال
كأنها مفرد شبوب تلفه الريح والظلال
كأنها عنز بطن واد ... تعدو وقد أفرد الغزال(1/61)
عدواً ترى بينه أبواعاً ... تحفزه أكرع عجال
وغائط قد هبطت وحدي ... للقب من خوفه اجئلال
صاب عليه ربيع صيف ... كأن قريانه الرحال
تقدمني نهدة سبوح ... صلبها العض والحيال
كأنها لقوة طلوب ... كأن خرطومها منشال
تطعم فرخاً لها صغيراً ... ازرى به الجوع والأحثال
قلوب خزان ذي أورال ... قوتاً كما يرزق العيال
وغارة ذات قيروان ... كأن أسرابها رعال
كأنهم حرشف مبثوث ... بالجو إذ تبرق النعال
صبحتها الحي ذا صباح ... فكان أشقاهم الرجال
وله في مدح (من المتقارب) :
أفاد فجاد وساد فراد ... وقاد فذاد وعاد فأفضل
وقال في وصف الحرب وسوء عاقبتها (من الكامل) :
الحرب أول ما تكون فتية ... تبدو بزينتها لكل جهول
حتى إذا حميت وشب ضرامها ... عادت عجوزاً غير ذات حليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت ... مكروهة للشم والتقبيل
وقال في براز (من الطويل) :
ومستلئم كشفت بالرمح صدره ... أقمت بعضب ذي سفاسق ميله
فجعت به في ملتقى الحي خيله ... تركت عتاق الطير تحجل حوله(1/62)
كأن على سرباله نضح جريال
وقال يرد على بعض من عذله (من المنسرح) :
أنى علي استتب لومكما ... ولم تلوما حجراً ولا عصما
كلا يمين الإله يجمعنا ... شيء وأخوالنا بني جشما
حتى تزور الضباع ملحمة ... كأنها من ثمود أو إرما
وقال يهجو سبيع بن عوف بن مالك أحد بني طهية وكان بلغه عنه أنه لامه وعرض به (من الكامل) :
لمن الديار غشيتها بسحام ... فعمايتين فهضب ذي أقدام
فصفا الأطيط فصاحتين فغاضر ... تمشي النعاج بها مع الآرام
دار لهند والرباب وفرتنا ... ولميس قبل حوادث الأيام
عوجا على الطلل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بكى ابن حذام
أو ما ترى أظعانهن بواكراً ... كالنخل من شوكان حين صرام
فظللت في دمن الديار كأنني ... نشوان باكره صبوح مدام
وكان شاربها أصاب لسانه ... موم يخالط جسمه بسقام
ومجدة نسأتها فتكمشت ... رتك النعامة في طريق حام(1/63)
تخدي على العلات سام رأسها ... روعاء منسمها رثيم دام
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري ... إني امرؤ صرعي عليك حرام
فجزيت خير جزاء ناقة واحد ... ورجعت سالمة القرى بسلام
وكأنما بدر وصيل كتيفة ... وكأنما من عاقل أرمام
أبلغ سبيعاً إن عرضت رسالة ... أني كظنك إن عشوت أمامي
أقصر إليك من الوعيد فإنني ... مما ألاقي لا أشد حزام
وأنا المنبه بعد ما قد نوموا ... وأنا المعالن صفحة النوام
وأنا الذي عرفت معد فضله ... ونشدت عن حجر بن أم قطام
خالي ابن كبشة قد علمت مكانه ... وأبو يزيد ورهطه أعمامي
وإذا أذيت ببلدة ودعتها ... بل لا أقيم بغير دار مقام
وأنازل البطل الكريه نزاله ... وإذا أناضل لا تطيش سهامي
وقال في الأوصاف (من الطويل) :(1/64)
لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبور في عسيب يمان
ديار لهند والرباب وفرتنا ... ليالينا بالنعف من بدلان
فإن أمس مكروباً فيا رب قينة ... منعمة أعملتها بكران
لها مزهر يعلو الخميس بصوته ... أجش إذا ما حركته اليدان
وإن أمس مكروباً فيا رب غارة ... شهدت على أقب رخو اللبان
على ربذ يزداد عفواً إذا جرى ... مسح حثيث الركض والذالان
ويخدي على صم صلاب ملاطس ... شديدات عقد لينات متان
وغيث من الوسمي حو نباته ... تبطنته بشيظم صلتان
مخش مجش مقبل مدبر معاً ... كتيس ظباء الحلب العدوان(1/65)
إذا ما جنبناه تاود متنه ... كعرق الرخامى اللدن في الهطلان
وقال أيضاً أنه أنشدها في طريقه إلى قيصر وكان أصابه مرض (من الطويل) :
قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان ... ورسم عفت آياته منذ ازمان
أتت حجج بعدي عليه فأصبحت ... كخط زبور في مصاحف رهبان
ذكرت بها الحي الجميع فهيجت ... عقابيل سقم من ضمير وأشجان
فسحت دموعي في الرداء كأنها ... كلى من شعيب ذات سح وتهتان
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان
فإما تريني في رحالة جابر ... على حرج كالقر تخفق أكفاني
فيا رب مكروب كررت وراءه ... وعان فككت الكبل عنه ففدان
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة ... فقاموا جميعاً بين غاث ونشوان
وخرق بعيد قد قطعت نياطه ... على ذات لوث سهوة المشي مذعان
وغيث كألوان الفنا قد هبطته ... تعاور فيه كل أوطف حنان
على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري غير كز ولا وان
كتيس الظباء الأعفر انضرجت له ... عقاب تدلت من شماريخ ثلان(1/66)
وخرق كجوف العير قفر مضلة ... قطعت بسام ساهم الوجه حسان
يدافع أركان المطايا بركنه ... كما مال غصن ناعم بين أغصان
ومجر كغلان الأنيعم بالغ ... ديار العدو ذي زهاء وأركان
مطوت بهم حتى تكل غزاتهم ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
وحتى ترى الجون الذي كان بادناً ... عليه عواف من نسور وعقبان
وقال يصف الزمان ودورانه (من الوافر) :
أبعد الحارث الملك بن عمرو ... له ملك العراق إلى عمان
مجاورة بني شمجى بن جرم ... هواناً ما أتيح من الهوان
ويمنحها بنو شمجى بن جرم ... معيزهم حنانك ذا الحنان
وقال لبعض بني طيء امتن عليه بفضله (من البسيط) :
أفسدت بالمن ما أوليت من نعم ... ليس الكريم إذا أسدى بمنان
وقال يصف رمحه (من الطويل) :
جمعت ردينياً كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان(1/67)
هذا ما استحسنا جمعه من قصائد امرئ القيس. وله عدة معان جرت مجرى الأمثال ورواها الميداني والضبي وغيرهما من مؤلفي كتب الأمثال فمن ذلك قولهم: (الأمر سلكى وليس بمخلوجة) يضربونه في استقامة الأمر ونفي ضدها. والسلكى الطعنة المستقيمة والمخلوجة المعوجة ومن اللخمج وهو الجذب. وأتت الأمر على تقدير الجمع أو على تقدير مثل سلكى وقيل السلكى الأمر المستقيم كما قالوا: الجلى للأمر العظيم. وأصل هذا المثل من قول امرئ القيس: نطعنهم سلكى ومخلوجة أي طعنة مستقيمة وهي التي تقابل المطعون فتكون أسلك فيه.
ومنها قولهم: (حسبك من غنى شبع وري) أي اقنع بما يشبعك ويرويك وجد بما فضل. وهو لامرئ القيس يذكر معزى كانت له فقال من أبيات له مرت في ترجمته:
إذا ما لم تكن إبل فمعزى ... كان قرون جلتها العصي
فتملأ بيتنا اقطاً وسمناً ... وحسبك من غنى شبع وري
ومنها قولهم: (دع عنك نهباً صيح في حجراته) النهب المنهوب وكذل النهبى. والحجرات النواحي. يضرب لمن ذهب من ماله شيء ثم ذهب بعده ما هو أجل منه. وهاذ من بيت لامرئ القيس قاله حين نزل على خالد بن سدوس بن أصمع النبهاني فأغار عليه باعث بن حويص وذهب بإبله فقال له جاره خالد: أعطني صنائعك ورواحلك حتى أطلب عليها مالك. ففعل فانطوى عليها. ويقال بل لحق القوم فقال لهم: أغرتم على جاري يا بني جديلة فقالوا: والله ما هو لك بجار. قال: بلى ما هذه الإبل التي معكم إلا كالرواحل التي تحتي. قالوا: أكذلك. فأنزلوه وذهبوا بها فقال امرؤ القيس فيما هجاه به:
ع عنك نهباً صيح في حجراته ... ولكن حديثاً ما حديث الرواحل
يقول دع عنك النهب الذي انتهبه باعث ولكن حدثني حديثاً عن الرواحل التي ذهبت أنت بها ما فعلت. ثم قال في هجائه:
أعجبني مشي الحزقة خالد ... كمشي أتان حلئت بالمناهل
ومنها قولهم: (رضيت من الغنيمة بالإياب) أول من قاله امرؤ القيس في بيت له وهو:(1/68)
قد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
يضرب عند القناعة بالسلامة.
ومنها قولهم: (فلم ربض العير إذن) قاله امرؤ القيس لما ألبسه قيصر الثياب المسمومة وخرج من عنده وتلقاه غير فريض فتفاءل امرؤ القيس فقيل: لا بأس عليك: قال فلم ربض العير إذن أي أنا ميت. يضرب للشيء فيه علامة تدل على غير ما يقال لك.
ومنها قولهم: (ما له لا عد من نفره) قال أبو عبيد هذا دعاء في موضع المدح نحو قولهم: قاتله الله ما أفصحه قاله امرؤ القيس:
فهو لا تنمي رميته ... ما له لا عد من نفره
قوله: (لا تنمي رميته) أي لا ترتفع من مكانها الذي أصابها فيه السهم لحذق الرامي. ثم قال: (لا عد من نفره) أي أماته الله حتى لا يعد منهم كما يقال: قاتله الله ومعناه لا كان له غير الله تعالى قال أبو الهيثم خرج هذا وأمثاله مخرج الدعاء ومعناه التعجب. والنفر وأحدهم رجل ولا امرأة في النفر ولا في القوم.
ومنها قولهم: (يعود على المرء ما يأتمر) ويروى: يعدو. والائتمار مطاوعة الأمر يقال أمرته بكذا فأتمر أي جرى على ما أمرته وقبل ذلك يعني يعود على الرجل ما تأمره به نفسه فيأتمر هو أي يمتثله ظناً منه أنه رشد وربما كان هلاكه فيه ومنه قول امرئ القيس:
أحار بن عمرو كأني خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر
اعلم أن أخبار امرئ القيس كثيرة مفرقة في عدة كتب جمعنا منها ما أمكنا جمعه وأخص التآليف التي ساعدتنا على ذلك كتاب الأغاني وأمثال الميداني والعقد الفريد لابن عبد ربه والعمدة لابن الرشيق وتاريخ ابن الأثير وتاريخ أبي الفداء وشرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون وكتاب معجم البلدان لياقوت وديوانه المطبوع في باريز ونسخة أخرى من ديوانه طبعت في لندرة وفي كتاب طبقات الشعراء مخطوط ومجاميع شعرية مخطوطة وكتب غير هذه من مصنفات علماء أوربيين خبيرين بالآثار الشرقية.(1/69)
شعراء اليمن (مذحج)
الأفوه الأودي (570م)
هو صلاة بن عمرو بن مالك بن عوف بن الحارث بن عوف بن ضبة بن أود بن صعب بن سعد العشيرة من بني مذحج. والأفوه لقب. وكان يقال لأبيه عمرو بن مالك فارس الشوهاء وفي ذلك يقول الأفوه:
أبي فارس الشوهاء عمرو بن مالك ... غداة الوفا إذ مال بالجد عاثر
وكان الأفوه من كبار الشعراء القدماء في الجاهلية وكان سيد قومه وقائدهم في حروبهم وكانوا يصدرون عن رأيه والعرب تعده من حكمائها. ويعدون داليته من حكمهم وآدابهم وفيها يقول (من البسيط) :
أمارة الغي أن تلقى الجميع لدى ... الإبرام للأمر والأذناب اقتاد
حان الرحيل إلى قوم وإن بعدوا ... منهم صلاح لمرتاد وإرشاد
فسوف أجعل بعد الأرض دونكم ... وإن دنت رحم منكم وميلاد
إن النجاء إذا ما كنت في نفر ... من أجة الغي إبعاد فإبعاد
والخير تزداد منه ما لقيت به ... والشر يكفيك منه قل ما زاد
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمع أوتاد وأعمدة وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادو
تهدا الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... فإن تولت فبالأشرار تنقاد
إذا تولى سراة الناس أمرهم ... نما على ذاك أمر القوم فازدادوا(1/70)
ومنها أيضاً في ذم بعض أهل الشر من قومه:
فينا معاشر لم يبنوا لقومهم ... وإن بني قومهم ما أفسدوا عادوا
لا يرشدون ولن يرعوا لمرشدهم ... والجهل منهم معاً والغي ميعاد
اصحوا كقيل بن عمرو في عشيرته ... إذ أهلكت بالذي سدى لها عاد
أو بعده كقدار حين تابعه ... على الغواية أقوام فقد بادوا
ومن شعره أبيات قالها يفتخر بها على قوم من بني عامر كانت بينه وبينهم دماء فأدرك بثأره وزاد وأعطاهم ديات من قتل فضلاً على قتلى قومه فقبلوا وصالحوه. فقال (من الطويل) :
سقى دمنتين لم نجد لهما أهلاً ... بحقل لكم يا عز قدراً بني حقلا
نقاتل أقواماً فنسبي نساءهم ... ولم يردوا غيراً لنسوتنا حجلا
نقود ونأبى أن نقاد ولا ترى ... لقوم علينا في مكارمة فضلا
وإنا بطاء المشي عند نسائنا ... كما قيدت بالصيف نجدية بزلا
نظل غيارى عند كل ستيرة ... تقلب جيداً واضحاً وشوى عبلا
وإنا لنوعي المال دون دمائنا ... ونأبى فما نستام دون دم عقلا
وقال أبو عمرو: وغارت بنو أود وقد جمعها الأفوه على بني عامر فمرض الأفوه مرضاً شديداً فخرج بدله زيد بن الحارث الأودي وأقام الأفوه حتى أفاق من وجعه ومضى زيد بن الحارث حتى لقي بني عامر يتصارعون وعليهم عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب فلما التقوا عرف بعضهم بعضاً. فقال لهم بنو عامر: ساندونا فما أصبنا كان بيننا وبينكم. فقالت بنو أود وقد أصابوا منهم رجلين: لا والله حتى نأخذ بطائلنا. فقام أخو المقتول وهو(1/71)
رجل من بني كعب بن أود فقال: يا بني أود والله لتأخذن بطائلتي ولا تتجين على سيفي. فاقتتلت أود وبنو عامر فظفرت أود واصابت مغنماً كثيراً. فقال الأفوه في ذلك (من الوافر) :
ألا يا لهف لو شدت قناتي ... قبائل عامر يوم الصبيب
غداة تجمعت كعب إلينا ... جلائب بين أبناء الحرب
تداعوا ثم مالوا في ذراها ... كفعل معانت أمن الرجيب
وطاروا كالبغام ببطن قوم ... مواءلة على حذر الرقيب
وخيل عالكات اللجم فينا ... كأن كملتها أسد الضريب
هم سدوا عليكم بطن نجد ... وضرات الجبابة والهضيب
وله يفتخر (من الطويل) :
أبي فارس الشوهاء عمرو بن مالك ... غداة الوفا إذ مال بالجد عائر
وما غمزته الحرب إن شمرت له ... ولا خار إذ جرت عليه الجرائر
وقومي إذا كحل على الناس فرجت ... ولاذت بإذراء البيوت النواحر
وكان يتامى كل جلس عزيزة ... أهانوا لها الأموال والعرض وافر
هم صبحوا أهل الضعاف بغارة ... بشعث عليها المصلتون المغاور
وقال أيضاً في الفخر (من الكامل) :
وبروضة السلان منا مشهد ... والخيل شاحية وقد عظم الثبى
تخلي الجماجم والأكف سيوفنا ... ورماحنا بالطعن تنتظم الكلى(1/72)
عافوا الأتاوة فاستقت إسلامهم ... حتى ارتووا عللاً بأذنبة الردى
وقال يمدح بني أود (من السريع) :
أبلغ بني أود فقد أحسنوا ... أمس بضرب الهام تحت القنوس
في مضر الحمراء لم يتركوا ... غدارة غير النساء جلوس
من دونها الطير ومن فوقها ... هفاهف الريح كجث القليس
واجفل القوم نعامية ... عنا وفئنا بالنهاب النفسي
والدهر لا تبقى على صرفه ... مغفرة في حالق مرمريس
وقال أيضاً في معناه (من الوافر) :
فسائل جمعنا عنا وعنهم ... غداة الشيل بالأسل الطويل
ألم نترك سراتهم عيامى ... جثوماً تحت أرجاء الذيول
تبكيها الأرامل بالمآلي ... بدارات الصفائح والنصيل
وقد مرت كماة الحرب منا ... على ماء الدفينة والحجيل
وروي له في لسان العرب (من الكامل) :
إنا بنو أود الذي بلوائه ... منعت رئام قد غزاها الأجدع
ولكل ساع سنة ممن مضى ... تنمى به في سعيه أو تبدع(1/73)
وجاء له أيضاً (من الرمل) :
ملكنا ملك لقاح أول ... وأبونا من بني أود خيار
لقد كنتم حديثاً زمعاً ... وذنابى حيث يحتل الصغار
وذكر له ياقوت (من الوافر) :
جلبنا الخيل في غيدان حتى ... وقعناهن أيمن من صناف
وبالغرفي والعرجاء يوماً ... وأياماً على ماء الطفاف
وقال أيضاً (من الوافر) :
فسائل حاجراً عنا وعنهم ... ببرقة ضاحك يوم الجناب
تركنا الأزد يبرق عارضاها ... على ثجر فدارات النصاب
توفي الأفوه في أيام عمرو بن هند نحو سنة 570م. وجاء في كتاب المزهر للسيوطي والعمدة لابن رشيق عن بعضهم أن الأفوه أقدم من المهلهل ومن امرئ القيس وعمرو بن قميئة وأنه أول من قصد القصائد وليس لهذا القول بينة.(1/74)
عبد يغوث (580م)
هو عبد يغوث بن صلاءة وقيل بل هو عبد يغوث بن الحارث بن وقاص بن صلاءة (وهو قول ابن الكلبي) ابن المعقل واسم المعقل ربيعة بن كعب الأرت بن ربيعة بن كعب بن الحرث بن كعب وبن عمرو بن علة بن خلد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وكان عبد يغوث بن صلاءة شاعراً من شعراء الجاهلية فارساً سيداً لقومه من بني الحرث بن كعب وهو كان قائدهم في يوم الكلاب الثاني إلى بني تميم وفي ذلك اليوم أسر فقتل. وعبد يغوث من أهل بيت شعر معرق لهم في الجاهلية والإسلام منهم اللجلاج الحارثي وهو طفيل بن يزيد بن عبد يغوث بن صلاءة وأخوه مسهر فارس شاعر وهو الذي طعن عامر بن الطفيل في عينه يوم فيف الريح. ومنهم ممن أدرك الإسلام جعفر بن علبة بن ربيعة بن الحارث بن عبد يغوث بن الحارث بن معاوية بن صلاءة كان فارساً شاعراً صعلوكاً أخذ في دم فحبس بالمدينة ثم قتل صبراً. وكان من حديث هذا اليوم فيما ذكر أبو عبيدة: لما وقع كسرى بيني تميم يوم الصفا بالمشقر فقتل المقاتلة وبقيت الأموال والذراري بلغ ذلك مذحجاً. فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: اغتنموا بني تميم. ثم بعثوا الرسل في قبائل اليمن وأحلافها من قضاعة. فقالت مذحج للمأمور الحارثي وبنو كاهن: ما ترى. فقال لهم: لا تغزوا بني تميم فإنهم يسيرون أعقاباً. ويردون مياهاً جباباً. فتكون غنيمتكم تراباً (قال أبو عبيدة) فذكر أنه اجتمع من مذحج ولفها اثنا عشر ألفاً وكان رئيس مذحج عبد يغوث بن صلاءة ورئيس همدان يقال له مسرح ورئيس كندة البراء بن قيس بن الحارث فأقبلوا إلى تميم. فبلغ ذلك سعداً والرباب فانطلق ناس من أشرافهم إلى أكثم بن صيفي وهو قاضي العرب يومئذ فاستشاره. فقال لهم: أقلوا الخلاف على امرائكم واعلموا أن كثرة الصياح من الشفل والمرء يعجز لا محالة. ياقوم تثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين ورب عجلة تهب ريثاً. واتزروا للحرب وادرعوا الليل. فإنه أخفى للويل. ولا جماعة لمن اختلف. فلما انصرفوا من عند أكثم تهيئوا واستعدوا للحرب. وأقبل أهل اليمن من بني الحارث من أشرافهم يزيد بن عبد المدان ويزيد بن مخرم ويزيد بن الطيسم بن المأمور ويزيد بن هوبر حتى إذا كانوا بتيمن نزلوا قريباً من الكلاب. ورجل(1/75)
من بني زيد بن رياح بن يربوع يقال له مشمت بن زنباع في إبل له عند خال له من بني سعد يقال له زهير بن بو. فلما أبصرهم المشمت قال لزهير: دونك الإبل وتنح عن طريقهم حتى آتي الحي فأنذرهم. (قال) فركب المشمت ناقة ثم سار حتى أتى سعداً والرباب وهم على الكلاب فأنذرهم. فأعدوا للقوم وصبحوهم فأغاروا على النعم فطردوها. وجعل رجل يرتجز ويقول:
في كل عام نعم تنتابه ... على الكلاب غيباً أربابه
(قال) فأجابه غلام من بني سعد في النعم على فرس له فقال:
عما قليل سترى أربابه ... صلب القناة حازماً شبابه
على جياد ضمر عيابه
(قال) فأقبلت سعد والرباب ورئيس الرباب النعمان بن جساس ورئيس بني سعد قيس بن عاصم المنقري. فقال صبي حين دنا من القوم:
في كل عام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه
أربابه نوكى فلا يحمونه ... ولا يلاقون طعاناً دونه
أنعم الأبناء تحسبونه ... هيهات هيهات لما ترجونه
فقال ضمرة بن أسد الحارثي: انظروا إذا استقتم النعم فإن أتتكم الخيل عصباً عصباً وثبتت الأولى للأخرى حتى يلحق فإن أمر القوم هين. وإن لحق بكم القوم فلم ينظروا إليكم حتى يردوا وجوه النعم ولا ينتظر بعضهم بعضاً فإن أمر القوم شديد. وتقدمت سعد والرباب فالتقوا في أوائل الناس فلم يلتفتوا إليهم واستقبلوا النعم من قبل وجوهها فجعلوا يضربونها بأرماحهم واختلط القوم فاقتتلوا قتالاً شديداً يومهم حتى إذا كان من آخر النهار قتل النعمان بن جساس قتله رجل من أهل اليمن كانت أمه من بني حنظلة يقال له عبد الله بن كعب وهو الذي رماه. فقال للنعمان حين رماه: خذها وأنا ابن الحنظلية. فقال النعمان: ثكلتك أمك. رب حنظلية قد غاظتني فذهب مثلاً. وظن أهل اليمن أن بني تميم سيهزمهم قتل النعمان. فلم يزدهم ذلك إلا جرأة عليهم. فاقتتلوا حتى حجز بنيهم الليل فباتوا يحرس بعضهم بعضاً فلما أصبحوا غدوا على القتال. فنادى قيس بن عاصم: يا آل سعد. ونادى عبد يغوث يا آل سعد. قيس بن عاصم يدعو سعد بن زيد مناة بن تميم. وعبد يغوث يدعو سعد العشيرة. فلما سمع قيس ذلك نادى: يا آل كعب فنادى عبد يغوث يا آل كعب. قيس يدعو كعب بن(1/76)
سعد وعبد يغوث يدعو كعب بن عمرو. فلما رأى ذلك قيس من صنيع عبد يغوث قال: ما لهم أخزاهم الله ما ندعو بشعار إلا دعوا بمثله. فنادى قيس يا آل مقاعس يعني بني الحرث بن عمرو بن كعب وكان يلقب مقاعساً. فلما سمع وعلة بن عبد الله الجرمي الصوت وكان صاحب اللواء يومئذ طرحه. وكان أول من انهزم من اليمن. وحملت عليهم بنو سعد والرباب فهزموهم أفظع هزيمة. وعل رجل منهم يقول:
يا قوم لا يفلتكم اليزيدان ... مخرماً أعني به والديان
وجعل قيس بن عاصم ينادي: يا آل تميم لا تقتلوا إلا فارساً فإن الرجالة لكم. وجعل يرتجز ويقول:
لما تولوا عصباً سواربا ... أقسمت لا أطعن إلا راكبا
إني وجدت الطعن فيهم صائبا
وجعل يأخذ الأسارى فإذا أخذ أسيراً قال له: ممن أنت. فيقول: من بني رعبل وهم أنذال. فكان الأسارى يريدون بذلك رخص الفداء. فجعل قيس إذا أخذ أسيراً منهم دفعه إلى من يليه من بني تميم ويقول: أمسك حتى اصطاد لك رعبلة أخرى فذهبت مثلاً. فما زالوا في آثارهم يقتلون ويأسرون حتى أسر عبد يغوث أسره فتى من بني عمير بن عبد شمس وقتل يومئذ علمقة بن سياح القريعي وهو فارس هبود. وأسر الأهتم واسمه سنان بن سمي بن خالد بن منقر ويومئذ سمي الأهتم. ورئيس كندة البراء بن قيس وقتلت التيم الأدبر الحارثي وآخر من بني الحارث يقال له معاوية قتلهما النعمان بن جساس وقتل يومئذ من أشرافهم خمسة. وقتلت بنو ضمرة ابن لبيد الحماسي الكاهن قتله قبيصة بن ضرار بن عمرو الضبي.
وأما عبد يغوث فانطلق به العبشمي إلى أهله وكان العبشمي أهوج. فقالت له أمه ورأت عبد يغوث عظيماً جميلاً: من أنت؟ قال: أنا سيد القوم. فضحكت وقالت: قبحك الله من سيد قوم حين أسرك هذا الأهوج. فقال عبد يغوث:
وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم تر قبلي أسيراً يمانياً
(وهو من جملة القصيدة التي سنرويها بعيد هذا) ثم قال لها أيتها الحرة هل لك إلي(1/77)
خير. قالت: وما ذاك. قال: أعطي ابنك مائة ناقة من الإبل وينطلق بي إلى الأهتم فإني أتخوف أن تنزعني سعد والرباب منه. فضمن له مائة من الإبل وأرسل إلى بني الحارث فوجهوا بها إليه فقبضها العبشمي فانطلق به إلى الأهتم. وأنشأ عبد يغوث يقول (من الطويل) :
أأهتم يا خير البرية والداً ... ورهطاً إذا ما الناس عدوا المساعيا
تدارك أسيراً عانياً في بلادكم ... ولا تثقفني التيم ألق الدواهيا
فمشت سعد والرباب فيه. فأخذه عصمة بن أبير التيمي فانطلق به إلى منزله. فقال عبد يغوث: يا بني تيم اقتلوني قتلة كريمة. فقال له عصمة: وما تلك القتلة. قال: اسقوني الخمر ودعوني انح على نفسي. فقال له عصمة. فقال له عصمة: نعم. فسقاه الخمر ثم قطع له عرقاً يقال له الأكحل وتركه ينزف. ومضى عنه عصمة وترك معه ابنين له. فقالا: جمعت أهل اليمن وجئت لتصطلمنا فكيف رأيت الله صنع بك. فقال عبد يغوث في ذلك (من الطويل) :
ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا ... فما لكما في اللوم نفع ولا ليا
ألم تعلما أن الملامة نفعها ... قليل وما لومي أخي من شماليا
فيا راكباً إما عرضت فبلغن ... نداماي من نجران أن لا تلاقيا
أبا كرب واهلأيهمين كليهما ... وقيساً بأعلى حضرموت اليمانيا
جزى الله قومي بالكلاب ملامة ... صريحهم والآخرين المواليا
ولو شئت نجتني من الخيل نهدة ... ترى خلفها الجرد الجياد تواليا(1/78)
ولكنني أحمي ذمار أبيكم ... وكان الرماح تختطفن المحاميا
وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم ترا قبلي أسيراً يمانيا
وقد علمت عرسي مليكة أنني ... أنا الليث معدواً عليه وعاديا
أقول وقد شدوا لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا لي لسانيا
أمعشر تيم قد ملكتم فاسجحوا ... فإن أخاكطم لم يكن من بوائيا
فإن تقتلوني تقتلوني سيداً ... وإن تطلقوني تحربوني بماليا
أحقاً عباد الله أن لست سامعاً ... نسيد الرعاء المعزبين المتاليا
وقد كنت نحار الجزور ومعمل ... المطي وامضي حيث لا حي ماضيا
وانحر للشراب الكرام مطيتي ... واصدع بين القينتين ردائيا
وعادية سوم الجراذ وزعتها ... بكفي وقد انحوا إلي العواليا
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري نفسي عن رجاليا
ولم أسبإ الزق الروي ولم أقل ... لا يسار صدق اعظموا ضوء ناريا
(قال) فضحكت العبشمية. وهم أسروه وذلك أنه لم أسر شدوا لسانه بنسعة لئلا يهجوهم وأبوا إلا قتله. فقتلوه بالنعمان بن جساس.(1/79)
شعراء اليمن (مدحج)
يزيد بن عبد المدان (615م)
هو يزيد بن عبد المدان بن الديان بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحرث بن كعب بن خالد بن نخلة بن مذحج بن جابر بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. كان يزيد هذا من أشراف اليمن وكان قومه بنو عبد المدان قد بنوا على ما يقال كعبة نجران وعظموها مضاهاة للكعبة وسموها كعبة نجران وكان فيها أساقفة ورعاة أهل غيرة وكانت لهؤلاء على ما يستفاد من كلام ابن هشام في سيرة الرسول علاقات مع ملوك الروم بالقسطنطينية فكانوا يمدونهم بالأموال لتشييد البيع وتعليم الصغار.
أما خبر كعبة نجران فذكر هشام بن الكلبي أنها كانت قبة من أدم من ثلاثمائة جلد كان إذا جاءها الخائف أمن أو طالب حاجة قضيت أو مسترفد أفرد. وكان لعظمها عندهم يسمونها كعبة نجران وكانت على نهر بنجران وكانت لعبد المسيح بن دارس بن عدي بن معقل وكان يستغل من ذلك النهر عشرة آلاف دينار وكانت القبة تستغرقها.
قال صاحب معجم البلدان: ثم كان أول من سكن نجران من بني الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان يزيد بن عبد المدان. وذلك أن عبد المسيح زوجه ابنته دهيمة فولدت له عبد الله بن يزيد. ومات عبد الله بن يزيد فانتقل ماله إلى يزيد فكان أول حارثي حل في نجران.
ومن هذا ترى أن بين نسبه الذي ذكرناه في صدر الترجمة أخذاً عن الشريشي و (بين) ما ذكره ياقوت فرقاً ليس بقليل.
حكى ابن الكلبي عن أبيه (وفي الشريشي: حكى الأصمعي) قال: اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ وقدم أمية بن الأسكر الكناني وتبعته ابنة له من أجمل أهل زمانها فخطبها يزيد وعامر. فقالت أم كلاب امرأة أمية بن الأسكر: من هذان الرجلان فقال: هذا يزيد بن عبد المدان بن الديان وهذا عامر بن الطفيل. فقالت: نعم. قال: فهذا ابن أخيه. وأقبل يزيد فقال: يا أمية إن ابن الديان صاحب الكتيبة ورئيس مذحج ومكلم العقاب(1/80)
ومن كان يصوب أصابعه فتنطف دماً ويدلك راحتيه فتخرجان ذهباً. فقال أمية: بخ بخ مرعى ولا كالسعدان فأرسلها مثلاً. فقال يزيد: يا عامر هل تعلم شاعراً من قومي سار بمدحة إلى أحد من قومك. قال: اللهم لا. قال: فهل تعلم أن شعراء قومك يرحلون بمدائحهم إلى قومي. قال: الله نعم. قال: فهل لكم نجم يمان أو برد يمان أو سيف يمان أو ركن يمان. قال: لا. قال: فهل ملكناكم ولم تملكونا. قال: نعم. فنهض يزيد وأنشأ يقول (من الرجز) :
أمي يا ابن الأسكر بن مدلج ... لا تجلعن هوازناً كمذحج
إنك إن تلهج بأمر تلجج ... ما النبع في مغرسه كالعوسج
ولا الصري ح المحض كالممزج
(قال) فقال مرة بن دودان السلمي وكان عدواً لعامر:
يا ليت شعري عنك يا يزيد ... ماذا الذي من عامر تريد
لكل قوم فخركم عنيد ... أمطمعون نحن أم عبيد
لا بل عبيد زادنا الهبيد
(قال) فزوج أمية يزيد بن عبد المدان ابنته فقال يزيد في ذلك (من الكامل) :
يا للرجال لطارق الأحزان ... ولعامر بن طفيل الوسنان
كانت إتاوة قومه لمحرق ... زمناً وصارت بعد للنعمان
عد الفوارس من هوازن كلها ... فخراً علي وجئت بالديان
فإذا لي الشرف المتين بوالد ... ضخم الدسيعة زانني ونماني
يا عام إنك فارس ذو منعة ... غض الشباب أخو ندى وقيان
واعلم بأنك يا ابن فارس قرزل ... دون الذي تسعى له وتداني
ليست فوارس عامر بمقرة ... لك بالفضيلة في بني غيلان
فإذا لقيت بني الحماس ومالك ... وبني الضباب وحي آل قنان
فاسأل عن الرجل المنوه باسمه ... والدافع الأعداء عن نجران(1/81)
يعطى المقادة في فوارس قومه ... كرماً لعمرك والكريم يمان
فقال عامر بن الطفيل
عجباً لواصف طارق الأحزان ... ولما تجيء به بنو الديان
فخروا علي بحبوة لمحرق ... وأتاوة سبقت إلى النعمان
ما أنت وابن محرق وقبيله ... وأتاوة اللخمي في غيلان
فاقصد بفخرك قصد قومك نصرهم ... ودع القبائل من بني قحطان
إن كان سالفة الأتاوة فيكم ... أو لا ففخرك فخر كل يمان
وافخر برهط بني الحماس ومالك ... وبني الضباب ورعبل وقيان
فأنا المعظم وابن فارس قرزل ... وأبو براء زانني ونماني
وأبو جري ذو الفعال ومالك ... منعاً الذمار صباح كل طعان
وإذا تعاظمت الأمور هوازن ... كنت المنوه باسمه والباني
فلما رجع القوم على بني عامر وثبوا على مرة بن دودان وقالوا له: أنت من بني عامر وأنت شاعر ولم تهج بن يالديان. فقال مرة:
تكلفني هوازن فخر قوم ... يقولون الأنام لنا عبيد
أبونا مذحج وبنو أبيه ... إذا ما عدت الآباء هود
وهل لي إن فخرت بغير حق ... مقال والأنام لهم شهود
فأني تضرب الأعلام صفحاً ... عن العلياء أم من ذا تكيد
فقولوا يا بني غيلان كنا ... لهم قناً فما عنها محيد
وقال ابن الكلبي في هذه الرواية: قدم يزيد بن عبد المدان وعمرو بن معدي كرب ومكشوح المرادي على ابن جفنة زواراً وعنده وجوه قيس ملاعب الأسنة عامر بن مالك ويزيد بن عمرو بن صعق ودريد بن الصمة. فقال ابن جفنة ليزيد بن عبد المدان: ماذا كان يقول الديان إذا أصبح فإنه كان دياناً فقال: كان يقول آمنت بالذي رفع هذه يعني السماء ووضع هذه يعني الأرض وشق هذه يعني أصابعه ثم يخر ساجداً ويقول سجد وجهي للذي خلقه وهو عاشم. وما جشمني من شيء فإني جاشم. فإذا رفع رأسه قال:
إن تغفر اللهم فاغفر جماً ... وأي عبد لك ما ألما
قال ابن جفنة: إن هذا لذو دين ثم مال على القيسيين وقال: ألا تحدثوني عن هذه(1/82)
الرياح الجنوب والشمال والدبور والصبا والنكباء لم سميت بهذه الأسماء فإنه قد أعياني علمها. فقال القوم: هذه أسماء وجدنا العرب عليها لا نعلم غير هذا فيها. فضحك يزيد بن عبد المدان ثم قال: يا خير الفتيان ما كنت أحسب أن هذا يسقط علمه عن هؤلاء وهم أهل الوبر أن العرب تضرب أبياتها في القبلة مطلع الشمس لتدفئهم في الشتاء وتزول عنهم في الصيف فما هب من الرياح عن يمين البيت فهي الجنوب. وما هب عن شماله فهي الشمال. وما هبت من أمامه فهي الصبا. وما هبت من خلفه فهي الدبور وما استدار من الرياح بين هذه الجهات فهي النكباء. فقال ابن جفنة: أن هذا للعلم يا ابن عبد المدان. وأقبل على القيسيين يسألهم عن النعمان بن المنذر فعابوه وصغروه فنظر ابن جفنة إلى يزيد فقال له: ما تقول يا ابن عبد المدان. فقال يزيد: يا خير الفتيان ليس صغيراً من منعك العراق وشكك في الشام وقيل له أبيت اللعن وقيل لك يا خير الفتيان وألفى أباه ملكاً كما ألفيت أباك ملكاً فلا يسرك من يغرك فإن هؤلاء لو سألهم عنك النعمان لقالوا فيك مثل ما قالوا فيه. وايم الله ما فيهم رجل ألا ونعمة النعمان عنده عظيمة. فغضب عامر بن مالك وقال له: يا ابن الديان أما والله لتحلتبن بها دماً. فقال له: ولو أريد في هوازن من لا أعرفه. فقال: لا بل هم الذين تعرف. فضحك يزيد ثم قال: ما لهم جرأة بني الحارث ولا فتك مراد ولا بأس زبيد ولا كيد جعف ولا مغار طيء وما هم ونحن يا خير الفتيان بسواء ما قتلنا أسيراً قط ولا اشتهينا حرة قط ولا بكينا قتيلاً نبيء به وإن هؤلاء ليعجزون عن ثأرهم حتى يقتل السمي بالسمي والكني بالكني والجار بالجار. وقال يزيد بن عبد المدان فيما كان بينه وبين القيسي شعراً غدا به على ابن جفنة (من الطويل) :
تمالى على النعمان قوم إليهم ... موارده في ملكه ومصادره
على غير ذنب كان منه إليهم ... سوى أنه جادت عليهم مواطره
فباعدهم من كل شر يخافه ... وقربهم من كل خير يبادره
فظنوا وأعراض المنون كثيرة ... بأن الذين قالوا من الأمر ضائره
فلم ينقصوه بالذي قيل شعرة ... ولا فللت أنيابه وأظافره
وللحرث الجفني أعلم بالذي ... يبوء به النعمان إن جف طائره(1/83)
فيا حاركم فيهم لنعمان نعمة ... من الفضل والمن الذي أنا ذاكره
ذنوباً عفا عنها ومالاً أفاده ... وعهظماً كسيراً قومته جوابره
ولو سال عنك الغائبين ابن منذر ... لقالوا له القول الذي لا يحاذره
(قال) فلما سمع ابن جفنة هذا القول عظم يزيد في عينيه وأجلسه معه على سريره وسقاه بيده وأعطاه عطية لم يعطها أحد ممن وفد عليه قط. فلما قرب يزيد ركائبه ليرتحل سمع صوتاً إلى جانبه وإذا رجل يقول:
أما من شفيع من الزائرين ... يحب الثنا زنده ثاقب
يريد ابن جفنة إكرامه ... وقد يمسح الدرة الحالب
فينقذني من أظافيره ... وألا فإني غداً ذاهب
فقد قلت يوماً على كربة ... وفي الشرب في يثرب غالب
ألا ليت غسان في ملكها ... كلخم وقد يخطىء الشارب
وما في ابن جفنة من سبة ... وقد خف حملاً بها الغارب
كأني قريب من الأبعدين ... وفي الحلق مني شجي ناشب
فقال يزيد: علي بالرجل فأتي به فقال: ما خطبك أنت قتول هذا الشعر. قال: لا بل قاله رجل من جذام جفاه ابن جفنة وكانت له عند النعمان منزلة فشرب فقال له على شرابه شيئاً أنكره عليه ابن جفنة فحسبه وهو مخرجه غداً فقاتله. فقال يزيد: أنا أغنيك. فقال له: ومن أنت حتى أعرفك فقال: أنا يزيد بن عبد المدان. فقال: أنت لها وأبيك. قال: أجل قد كفيتك أمره فلا يسمعنك أحد تنشد هذا الشعر. وغدا يزيد على ابن جفنة ليودعه. فقال له: حياك الله يا ابن الديان حاجتك. قال: تلحق قضاعة الشام وتؤثر من أتاك من وفود مذحج وتهب لي الجذامي الذي لا شفيع له ألا كرمك. قال: قد فعلت أما إني حبسته لاهبه لسيد أهل ناحيتك وكنت ذلك السيد. ووهبه له فاحتمله يزيد معه ولم يزل مجاوراً له بنجران في بني الحارث بن كعب. وقال ابن جفنة لأصحابه: ما كانت يميني لتفي إلا بقتله أو هبته لرجل من بني الديان فإن يميني كانت على هذين الأمرين. فعظم بذلك يزيد في عين أهل الشام ونبه ذكره وشرف قال ابن الكلبي: جاور رجلان من هوازن يقال لهما عمرو وعامر في بني مرة بن عوف(1/84)
بن ذبيان وكانا قد أصاب دماً في قومهما. ثم إن قيس بن عاصم المنقري أغار على بني مرة بن عوف بن ذبيان. فأصاب عامراً أسيراً في عدة أسارى كانوا عند بني مرة. ففدى كل قوم أسيرهم من قيس بن عاصم وتركوا الهوازني فاستغاث أخوه بوجوه بني مرة فلم يغيثوه. فركب إلى موسم عكاظ فأتى منازل مذحج ليلاً فنادى:
دعوت سناناً وابن عوف وحارثاً ... وعاليت دعوى بالحصين وهاشم
أعيذهم في كل يوم وليلة ... بترك أسير عند قيس بن عاصم
حليفهم الأدنى وجار بيوتهم ... ومن كان عما سرهم غير نائم
فصموا وإحداث الزمان كثيرة ... وكم في بني العلات من متصامم
فيا ليت شعري من لا طلاق غلمة ... ومن ذا الذي يحظى به في المواسم
(قال) فسمع صوتاً من الوادي ينادي بهذه الأبيات:
أيها ذا الذي لم يجب ... عليك بحي يجلي الكرب
عليك بذا الحي من مذحج ... فإنهم للرضى والغضب
فنادوا يزيد بن عبد المدان ... وقيساً وعمرو بن معدي كرب
يفكوا أخاك بأموالهم ... وأقلل بمثلهم في العرب
أولاك الرؤوس فلا تعدهم ... ومن يجعل الرأس مثل الذنب
(قال) فاتبع الصوت فلم ير أحداً. فعدا على المكشوح واسمه قيس بن عبد يغوث المرادي فقال له: إني وأخي رجلان من بني جشم بن معاوية أصبنا دماً في قومنا وإن قيس بن عاصم أغار على بني مرة وأخي فيهم مجاور فأخذه أسيراً. فاستغثت بسنان بن أبي حارثة والحارث بن عوف والحارث بن ظالم وهشام بن حرملة فلم يغيثوه. فأتيت الموسم لأصيب به من يفك أخي فانتهيت إلى منازل مذحج فناديت بكذا وكذا فسمعت من الوادي صوتاً أجابني بكذا وكذا. وقد بدأت بك لتفك أخي. فقال له المكشوح: والله إن قيس بن عاصم لرجل ما قاضته معروفاً قط ولا هو لي بجار. ولكن اشتر أخاك منه وعلي الثمن ولا يمنعك غلاؤه. ثم أتى عمرو بن معدي كرب فقال له مثل ذلك. فقال: هل بدأت بأحد قبلي قال: نعم بقيس بن المكشوح. قال: عليك بمن بدأت به. فتركه وأتى يزيد بن عبد المدان فقال له: يا ابن النضر إن من قصتي كذا وكذا. فقال له: مرحباً بك وأهلاً ابعث إلى قيس بن عاصم فإن هو وهب لي أخاك شكرته وإلا أغرت عليه حتى يتقيني بأخيك. فإن نلتها(1/85)
وإلا دفعت إليك كل أسير من بني تميم بنجران فاشتريت به أخاك. قال: هذا الرضا. فأرسل يزيد إلى قيس بن عصام بهذه الأبيات (من البسيط) :
يا قيس أرسل أسيراً من بني جشم ... إني بكل الذي تأتي به جازي
لا تأمن الدهر إن تشجي بغصته ... فاختر لنفسك احمادي واعزازي
فافكك أخا منقر عنه وقل حسناً ... فيما سئلت وعقبه بإنجاز
(قال) وبعث بالأبيات رسولاً إلى قيس بن عاصم فأنشده إياها ثم قال: يا أبا علي إن يزيد بن عبد المدان يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن المعروف قروض ومع اليوم غد فأطلق لي هذا الجشمي فقد استعان بإشراف بني جشم وبعمرو بن معدي كرب وبمكشوح بن مراد فلم يصب عندهم حاجته فاستجار بي ولو أرسلت إلي في جميع أسارى مضر بنجران لقضيت حقك. فقال قيس بن عاصم لمن حضره من بني تميم: هذا رسول يزيد بن عبد المدان سيد مذحج وابن سيدها ومن لا يزال له فيكم يد وهذه فرصة لكم فما ترون. قالوا: نرى أن تغليه عليه ونحكم فيه شططاً فإنه لن يخذله أبداً ولو أتى ثمنه على ماله. فقال قيس: بئسما رأيتم أما تخافون سجال الحروب ودول الأيام ومجازاة القروض. فلما أبوا عليه قال: بيعونيه. فاغلوه عليه. فتركه في أيديهم وكان أسيراً في يد رجل من بني سعد وبعث إلى يزيد فاعلمه بما جرى وأعلمه أن الأسير لو كان في يده أو في يد منقر لأخذه وبعث به ولكنه في يد رجل من بني سعد. فأرسل يزيد إلى السعدي يزيد بن عبد المدان. فقال له: احتكم. فقال: مائة ناقة ورعاؤها. فقال له يزيد: إنك لقصير الهمة قريب الغنى جاهل بأخطار بني الحارث أما والله لقد غبنتك يا أخا بني سعد ولقد كنت أخاف أن يأتي ثمنه على جل أموالنا. ولكنكم عنده بنجران.
وقال ابن الكلبي: أغار عبد المدان على هوازن يوم السلف في جماعة من بني الحارث بن كعب وكانت حمية على بني عامر خاصة فلما التقى القوم حمل على يزيد بن معاوية النمري فصرعه وثنى بطفيل بن مالك فآجره الرمح وطار به فرسه قرزل فنجا واستحر القتل في بني عامر وتبعت خيل بن يالحارث من انهزم من بني عامر. وفي هذه الخيل عميرة ومعقل(1/86)
وكانا من فرسان بني الحرث بن كعب فلم يزالوا بقية يومهم لا يبقون على شيء أصابوه. فقال في ذلك عبد المدان:
عفا من سليمى بطن غول فيذبل ... فعمرة فيف الريح فالمتنخل
ديار التي صاد الفؤاد دلالها ... واعربنها يوم النوى حين ترحل
فإن تكل صدت عن هواها فراعها ... نوازل أحداث وشيب مجلل
فيا رب خيل قد هديت بشطبة ... يعارضها عبل الجرادة هيكل
سبوح إذا حال الحزام كأنه ... إذا انساب عند النقع في الخيل أجدل
يواغل جرداً كالقنا حارثية ... عليها قنان والحماس ورعبل
معاقلهم في كل يوم كريهة ... صدور العوالي والصفيح المصقل
ورعف من الماذي بيض كأنها ... بهاء مرتها بالعشيات شمأل
فما ذر قرن الشمس حتى تلاحقت ... فوارس يهديها عمير ومعقل
فجالت على الحي الكلابي جولة ... فباكرهم ورد من الموت معجل
فغادرن براً تحجل الطير حوله ... ونجي طفيلاً في العجاجة قرزل
فلم ينج إلا فارس من رجالهم ... يخفق ركضاً خشية الموت أعزل
ولما قتل يزيد في يوم الكلاب الثاني. قالت زينب بنت مالك بن جعفر بن كلاب أخت ملاعب الأسنة (الذي أسره يزيد في إغارته على بني عامر) ترثيه:
بكيت يزيد بن عبد المدا ... ن حلت به الأرض أثقالها
شريك الملوك ومن فضله ... يفضل في المجد أفضالها
فككت أسارى بني جعفر ... وكندة إذ نلت أقوالها
ورهط المجالد قد جللت ... فواضل نعماك أجبالها
وقالت ترثيه:
سأبكي يزيد بن عبد المدان ... على أنه الأحلم الأكرم
رماح من العزم مركوزة ... ملوك إذا برزت تحكم
(قال) فلامها قومها في ذلك وعيروها بأن بكت يزيد فقالت زينب:
ألا أيها الزاري علي بأنني ... نزارية أبكي كريماً يمانياً
وما لي لا أبكي يزيد وردني ... أجر جديداً مدرعي وردائيا(1/87)
وليزيد بن عبد المدان أخبار مع دريد بن الصمة وتذكر مع أخبار دريد في ترجمته فاستغنينا عن إعادتها في هذا الموضع.
وللأعشى في بني عبد المدان جملة مدائح أتينا على بعضها في ترجمة الأعشى فراجعها هناك.(1/88)
حنظلة الطائي (590م)
هو حنظلة بن أبي عفراء بن النعمان بن حبة بن سعبة بن الحارث بن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن سفر بن هنيء بن عمرو بن الغوث بن طي. وهو الذي بسببه تنصر المنذر بن ماء السماء. وذلك أنه كان بني غريين على قبري نديمييه عمرو بن مسعود الفقعسي وخالد ابن المضلل كما مر في ترجمة عبيد بن الأبرص وجعل له يومين يوم نعيم ويوم بؤس فأول من يطلع عليه يوم بؤسه يقتله ويطلي بدمه الغريين ومن جاءه يوم نعيمه أغناه. فلم يزل على ذلك حتى مر به حنظلة بن أبي عفراء الطائي. كان أوى المنذر في خبائه يوم خرج إلى الصيد. وذلك أنه ركب فرسه اليحموم فأجراه على أثر حمار وحش فذهب به الفرس في الأرض ولم يقدر على رده. وانفرد عن أصحابه وأخذته السماء بالمطر فطلب ملجأ يتقي به حتى دفع إلى خباء وإذ فيه رجل من طي يقال له حنظلة بن أبي عفراء ومعه امرأة له. فقال المنذر: هل من مأوى. قال حنظلة: نعم وخرج إليه وأنزله وهو لا يعرفه ولم يكن للطائي غير شاة فقال لامرأته: أرى رجلاً ذا هيئة وما أخلقه أن يكون شريفاً خطيراً فماذا نقريه. قالت: عندي شيء من الدقيق فاذبح الشاة وأنا أصنع الدقيق خبزاً. فقام الرجل إلى شاته فاحتلبها ثم ذبحها واتخذ من لحمها مضيرة (أكلة للعرب) فأطعمه وسقاه من لبنها واحتال له بشراب فسقاه وبات المنذر عنده تلك الليلة. فلما أصبح لبس ثيابه وركب فرسه ثم قال: يا أخا طي أنا الملك المنذر فاطلب ثوابك. قال: أفعل إن شاء الله. ثم لحقته الخيل فمضى نحو الحيرة. ومكث الطائي بعد ذلك زماناً حتى أصابته نكبة وساءت حاله. فقالت له امرأته: لو أتيت الملك لأحسن إليك. فأقبل حتى انتهى إلى الحيرة. فلما نظر إليه المنذر وافداً إليه ساءه ذلك وقال له: يا حنظلة هلا أتيت في غير هذا اليوم. فقال: أبيت اللعن لم يكن لي علم بما أنت فيه. فقال له: أبشر بقتلك.(1/89)
فقال له: والله قد أتيتك زائراً ولأهلي من خيرك مائراً فلا تكن ميرتهم قتلي. فقال: لا بد من ذلك فاسأل حاجة أقضيها لك. فقال: تؤجلني سنة أرجع فيها إلى أهلي وأحكم من أمرهم ما أريد ثم أصير إليك فانفذ في حكمك. فقال: ومن يكفل بك حتى تعود. فنظر في وجوه جلسائه فعرف منهم شريك بن عمرو فأنشد (من مجزوء الرمل) :
يا شريك يا ابن عمر ... ما من الموت محاله
يا شريك يا ابن عمر ... يا أخا من لا أخا له
يا أخا شيبان فك ... اليوم رهناً قد أناله
يا أخا كل مصاب ... وحيا من لا حيا له
إن شيبان قبيل ... أكرم الله رجاله
وأبوك الخير عمرو ... وشراحيل الحماله
رقياك اليوم في المجد ... وفي حسن المقاله
فوثب شريك وقال: أبيت اللعن يدي بيده ودمي بدمه. وقد زعموا أن كفيل حنظلة كان قراد بن الكبي. ثم أمر المنذر للطائي بخمس مائة ناقة. وقد دعل الأجل عاماً أجدع كاملاً من ذلك اليوم إلى مثله من القابل. فلما حال الحول وقد بقي من الأجل يوم واحد قال المنذر لشريك: ما أراك إلا هالكاً غداً فداء لحنظلة. فقال شريك:
فإن يك صدر هذا اليوم ولى ... فإن غداً لناظره قريب
فذهب قوله مثلاً. ولما أصبح وقف المنذر بين قبري نديميه وأمر بقتل شريك. فقال له وزراؤه: ليس لك أن تقتله حتى يستوفي يومه. فتركه المنذر وكان يشتهي أن يقتله لينجي الطائي. فلما كادت الشمس تغيب قام شريك مجرداً في إزار على النطع والسياف إلى جانبه. وكان المنذر أمر بقلته فلم يشعر إلا براكب قد ظهر فإذا هو حنظلة الطائي قد تكفن وتحنط وجاء بنادبته. فلما رآه المنذر: ما الذي جاء بك وقد أفلت(1/90)
من القتل. قال: الوفاء. قال: وما دعاك إلى الوفاء. قال: إن لي ديناً يمنعني من الغدر. قال: وما دينك. قال: النصرانية. قال: فاعرضها علي. فعرضها فتنصر المنذر. ورك تلك السنة من ذلك اليوم وعفا عن شريك والطائي. وقال: ما أدري أيكما أكرم وأوفى أهذا الذي نجا من السيف فعاد إليه أم هذا الذي ضمنه. وأنا لا أكون ألأم الثلاثة. قال الميداني: وتنصر مع الملك أهل الحيرة أجمعون.
أما حنظلة فإنه نسك بعد ذلك وفارق بلاد قومه ونزل الجزيرة مع النصارى حتى فقه في دينهم وبلغ نهايته وباع ماله وبنى ديراً بالقرب من شاطىء الفرات من الجانب الشرقي بن الدالبة والبهنسة أسفل من رحبة مالك بن طوق ومعدود من نواحي الجزيرة ذكره ياقوت في معجم البلدان ويعرف هذا الدير بدير حنظلة وترهب فيه حتى مات وفي هذا الدير يقول عبد الله بن محمد الأمين وقد نزل به فاستطابه:
ألا يا دير حنظلة المفدى ... لقد أورثتني سقماً وكداً
أزف من الفرات إليك زفاً ... واجعل حوله الورد المبدى
وأبدأ بالصبوح أمام صحبي ... ومن ينشط لها فهو المفدى
ألا يا دير جادتك الغوادي ... سحاباً حملت برقاً ورعدا
يزيد بناؤك النامي نماء ... ويكسو الروض حسناً مستجداً
وترهب حنظلة في الدير الذي بناه وفيه توفي نحو سنة 590م. وكان حنظلة الطائي شاعراً من شعراء الجاهلية لم يبق إلا القليل من شعره فمن ذلك ما رواه أبو الفرج بن الطيب النصراني (من الطويل) :
ومهما يكن من ريب دهر فإنني ... أرى قمر الليل المعذب كالفتى
يهل صغيراً ثم عظم ضوءه ... وصورته حتى إذا ما هو استوى
وقرب يخبو ضوءه وشعاعه ... ويمصح حتى يستسر فما يرى(1/91)
كذلك زيد الأمر ثم انتقاصه ... وتكراره في إثره بعدما مضي
تصبح فتح الدار والدار زينة ... وتأتي الجبال من شماريخها العلى
فلا ذو غنى يرجين من فضل ماله ... وإن قال أخرني وخذ رشوة أبى
ولا عن فقير يأتجرن لفقره ... فتنفعه الشكوى إليهن إن شكى
قال ياقوت: وحنظلة هذا عم إياس بن قبيصة بن أبي عفراء الذي كان ملك الحيرة ومن رهطه أبو زبيد الطائي الشاعر.(1/92)
قبيصة بن النصراني (592م)
هو أحد شعراء بني جرم وجرم رهط من طي وقد زعموا أنه هو أبو إياس بن قبيصة آخر ملوك الحيرة الذي استعمله عليها كسرى. وكان قبيصة سيداً شهماً مطاع الكلمة في قومه حضر حرب الفساد التي كانت بين الغوث وجديلة من بني طي وقد ذكرها في شعره. وشعره متين من حر كلام العرب تلاعبت بأكثره أيدي الضياع. فمن قوله ما رواه صاحب الحماسة (من الطويل) :
لم أر خيلاً مثلها يوم أدركت ... بني شمجى خلف اللهيم على ظهر
أبر بأيمان وأجراً مقدماً ... وانقض منا للذي كان من وتر
عشية قطعنا قرائن بيننا ... بأسيافنا والشاهدون بنو بدر(1/93)
فأصبحت قد حلت يميني وأدركت ... بنو ثعل تبلي وراجعني شعري
وقال أيضاً يعتذر من إحجام اتفق منه وتأخر عن الزحف ظهر للناس من فعله فأخذ يورك بالذنب على فرسه وإن نفرته كانت السبب في نكوصه (من الطويل) :
ألم تر أن الورد عرد صدره ... وحاد عن الدعوى وضوء البوارق
وأخرجني من فتية لم أرد لهم ... فراقاً وهم في مأزق متضايق
وعض على فاس اللجام وعزني ... على أمره إذ رد أهل الحقائق
فقلت له لما بلوت بلاءه ... وأني بمتع من خليل مفارق(1/94)
أحدث من لاقيت يوماً بلاءه ... وهم يحسبون أنني غير صادق
وقال أيضاً (من الرجز) :
هاجرتي يا بنت آل سعد ... أأن حلبت لقحة للورد
جهلت من عنانه الممتد ... ونظري في عطفه الألد
إذا جياد الخيل جاءت تردي ... مملوءة من غضب وحرد
وقال أيضاً يرثي بعض أهل قومه (من الوافر) :
ألا يا عين فاحتفلي وبكي ... على قرم لريب الدهر كاف(1/95)
وما للعين لا تبكي لحوط ... وزيد وابن عمهما ذفاف
وعبد الله يا لهفي عليه ... وما يخفى بزيد مناة خاف
وجدنا أهون الأموال هلكاً ... وجدك ما نصبت له الأثافي
وقال يفتخر (من الوافر) :
لعمر أبيك لا ينفك منا ... أخو ثقة يعاش به متين
مفيد مهلك ولزاز خصم على الميزان ذو زنة رزين(1/96)
يزيد نبالة عن كل شيء ... ونافلة وبعض القوم دون
قبض قبيصة في أواخر المئة السادسة للمسيح نحو سنة 592م.(1/97)
شعراء اليمن (طي)
حاتم الطائي (605م)
هو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم بن أبي أخزم واسمه هزومة بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيىء. وقال يعقوب بن السكيت: إنما سمي هزومة لأنه شج أو شج. وإنما سمي طيىء طيئاً واسمه جلهمة لأنه أول من طوى المناهل وهو ابن أدد بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ويكنى حاتم أبا سفانة وأبا عدي. كني بذلك بابنته سفانة وهي أكبر ولده وبابنه عدي بن حاتم وقد أدركت سفانة وعدي الإسلام فأسلما.
وحكي عن علي كرم الله وجهه أنه قال يوماً: يا سبحان الله ما أزهد كثيراً من الناس في الخير عجبت لرجل يجيئه أخوه في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلاً. فلو كنا لا نرجو جنة ولا نخاف ناراً ولا ننتظر ثواباً ولا نخشى عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق فإنها تدل على سبيل النجاة فقام رجل فقال: فداؤك أبي وأمي يا أمير المؤمنين اسمعته من رسول الله. قال: نعم. وما هو خير منه. لما اتينا بسبايا طيىء كانت في النساء جارية حماء حوراء العينين لعساء لمياء عيطاء شماء الأنف معتدلة القامة ردماء الكعبين خدلجة الساقين خميصة الخصر ضامرة الكشحين مصقولة المتنين. فلما رأيتها أعجبت بها فقلت لاطلبنها إلى رسول الله ليجعلها من فيئي. فلما تكلمت انسيت جمالها لما سمعت من فصاحتها فقالت: يا محمد هلك الوالد. وغاب الوافد. فإن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب فإني بنت سيد قومي. كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار ويقري الضيف ويشبع الجائع ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة قط. أنا بنت حاتم طيىء. فقال لها رسول الله: يا جارية هذه صفة المؤمن لو كان أبوك إسلامياً لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والله يحب مكارم الأخلاق.
وأم حاتم عتبة بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم وكانت في الجود بمنزلة حاتم لا تدخر شيئاً ولا يسألها أحد شيئاً فتمنعه. وكانت عتبة بنت عفيف وهي أم حاتم ذات يسار وكانت من أسخى الناس وأقراهم للضيف وكانت لا تمسك شيئاً تملكه فلما رأى(1/98)
أخوتها إتلافها حجروا عليها ومنعوها مالها. فمكثت دهراً لا يدفع إليها شيء منه حتى إذا ظنوا أنها قد وجدت ألم ذلك أعطوها صرمة من إبلها فجاءتها امرأة من هوازن كانت تأتيها في كل سنة تسألها فقالت لها: دونك هذه الصرمة فخذيها فوالله لقد عضني من الجوع ما لا أمنع معه سائلاً أبداً ثم أنشأت تقول:
لعمري لقدماً عضني الجوع عضة ... فآليت ألا أمنع الدهر جائعا
فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني ... فإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا
فماذا عساكم أن تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا
وماذا ترون اليوم ألا طبيعة ... فكيف بتركي يا ابن أم الطبائعا
قال ابن الكلبي: كانت سفانة بنت حاتم من أجود نساء العرب وكان أبوها يعطيها الصرمة بعد الصرمة من إبله فتهبها وتعطيها الناس فقال لها حاتم: يا بنية إن القرينين إذا اجتمعا في المال أتلفاه. فإما أن أعطي وتمسكي أو أمسك وتعطي فإنه لا يبقى على هذا شيء. وزاد الشريشي على هذا قوله: فقالت والله لا أمسك أبداً. قال: وأنا لا أمسك أبداً. قالت: لا نتجاور. فقاسمها ماله وتباينا.
قال ابن الأعرابي كان حاتم من شعراء العرب وكان جواداً يشبه شعره جوده ويصدق قوله فعله. وكان حيثما نزل عرف منزله. وكان مظفراً إذا قاتل غلب. وإذا غنم أنهب. وإذا سئل وهب. وإذا ضرب بالقداح فاز. وإذا سابق سبق. وإذا أسر أطلق. وكان يقسم بالله أن لا يقتل واحد أمه. وكان إذا أهل الشهر الأصم الذي كانت مضر تعظمه في الجاهلية ينحر في كل يوم عشراً من الإبل فأطعم الناس واجتمعوا إليه فكان ممن يأتيه من الشعراء الحطيئة وبشر بن أبي خازم. فذكروا أن أم حاتم أتيت وهي حبلى في المنام فقيل لها أغلام سمح يقال له حاتم أحب إليك أم عشرة غلمة كالناس. ليوث ساعة الباس. ليسوا بأوغال ولا أنكاس. فقالت حاتم. فولدت حاتماً فلما ترعرع جعل يخرج طعامه فإن وجد م يأكله معه أكل وإن لم يجد طرحه. فلما رأى أبوه أنه يهلك طعامه قال له إلحق بالإبل. فخرج إليها. ووهب له جارية وفرساً وفلها. فلما أتى الإبل طفق يبغي الناس فلا يجدهم ويأتي الطريق فلا يجد عليه أحداً. فبينما هو كذلك إذ بصر بركب على الطريق فأتاهم. فقالوا يا فتى هل من قرى. فقال تسألوني عن القرى وقد ترون الإبل. وكان الذين بصر(1/99)
بهم عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم والنابغة الذبياني وكانوا يريدون النعمان. فنحر لهم ثلاثة من الإبل. فقال عبيد إنما أردنا بالقرى اللبن. وكانت تكفينا بكرة إذا كنت لا بد متكلفاً لنا شيئاً. فقال حاتم قد عرفت ولكني قد رأيت وجوهاً مختلفة وألواناً متفرقة فظننت أن البلدان غير واحدة فأردت أن يذكر كل واحد منهم ما رأى إذا أتى قومه. فقالوا فيه أشعاراً امتدحوه بها وذكروا فضله. فقال حاتم أردتأن أحسن إليكم فكان لكم الفضل علي. وأنا أعاهد الله أن أضرب عراقيب إبلي عن آخرها أو تقدموا إليها فتقتسموها. ففعلوا فأصاب الرجل تسعة وتسعين بعيراً ومضوا على سفرهم إلى النعمان. وإن أبا حاتم سمع بما فعل فأتاه فقال له أين الإبل. فقال يا أبت طوقتك بها طوق الحمامة مجد الدهر وكرماً لا يزال الرجل يحمل بيت شعر أثنى به علينا عوضاً من إبلك. فلما سمع أبوه ذلك قال أبإبلي فعلت ذلك؟ قال نعم. قال والله لا أساكنك أبداً. فخرج أبوه بأهله وترك حاتماً ومعه جاريته وفرسه وفلوها. فقال يذكر تحول أبيه عنه (من الطويل)
وإني لعف الفقر مشترك الغنى ... وودك شكل لا يوافقه شكلي
وشكلي شكل لا يقوم لمثله ... من الناس إلا كل ذي نيقة مثلي
ولي نيقة في المجد والبذل لم تكن ... تانقها فيما مضى أحد قبلي
واجعل مالي دون عرضي جنة ... لنفسي فاستغني بما كان من فضلي
ولي مع بذل المال والبأس صولة ... إذا الحرب أبدت عن نواجذها العصل
وما ضرني أن سار سعد أهله ... وافردني في الدار ليس معي أهلي
سيكفي ابتناي المجد سعد بن حشرج ... واحمل عنكم كل ما حل من أزلي
وما من لئيم عاله الدهر مرة ... فيذكرها إلا استمال إلى البخل
وهذا الشعر يدل على أن جده صاحب هذه القصة معه لا إنها قصة أبيه. وهكذا ذكر يعقوب بن السيكت ووصف أن أبا حاتم هلك وحاتم صغير فكان في حجر جده سعد بن الحشرج فلما فتح يده بالعطاء وانهب ماله ضيق عليه جده ورحل عنه بأهله وخلفه في داره.(1/100)
فقال يعقوب خاصة: فبينا حاتم يوماً بعد أن أنهب ماله وهو نائم إذ انتبه وإذا حوله مائتا بعير أو نحوها تجول ويحطم بعضها بعضاً فساقها إلى قومه. فقالوا: يا حاتم ابق على نفسك فقد رزقت مالاً ولا تعودن إلى ما كنت عليه من الإسراف. قال: فإنها نهبي بينكم. فانتهبت فأنشأ حاتم يقول (من الطويل) :
تداركني جدي بسفح متالع ... فلا تيأسن ذو قومه أن يغنما
(قال) ولم يزل حاتم على حاله من إطعام الطعام وإنهاب ماله حتى مضى لسبيله. قال ابن الأعرابي: خرج الحكم بن العاصي ومعه عطر يريد الحيرة. وكان بالحيرة سوق يجتمع إليه الناس كل سنة. وكان النعمان بن المنذر قج جعل لبني لأم بن عمرو ربع الطريق طعمة لهم وذلك لأن بنت سعد بن حارثة بن لأم كانت عند النعمان وكانوا اصهاره. فمر الحكم بن أبي العاصي بحاتم بن عبد الله فسأله الجوار في أرض طي حتى يصير إلى الحيرة. فأجاره. ثم أمر حاتم بجزور فنحرت وطبخت أعضاء. فأكلوا ومع حاتم ملحان بن حارثة بن سعد بن الحشرج وهو ابن عمه. فلما فرغوا من الطعام طيبهم الحكم من طيبه ذلك. فمر حاتم بسعد بن حارثة بن لأم وليس مع حاتم من بني أبيه غير ملحان وحاتم على راحته وفرسه تقاد. فأتاه بنو لأم فوضع حاتم سفرته وقال: أطعموا حياكم الله. فقالوا: من هؤلاء معك يا حاتم. قال: هؤلاء جيراني. قال له سعد: فأنت تجير علينا في بلادنا. قال له: أنا ابن عمك وأحق من لم تخفروا ذمته. فقالوا: لست هناك. وأرادوا أن يفضحوه كما فضح عامر بن جوين قبله. فوثبوا إليه فتناول سعد بن حارثة بن لأم حاتماً. فأهوى له حاتم بالسيف فأطار أرنبة أنفه ووقع الشر حتى تحاجزوا. فقال حاتم في ذلك (من الطويل) :
وددت وبيت الله لو أن أنفه ... هواء فما مت المخاط عن العظم
ولكنما لاقاه سيف ابن عمه ... فأب ومر السيف منه على الخطم
فقالوا لحاتم: بيننا وبينك سوق الحيرة فنماجدك ونضع الرهن. ففعلوا ووضعوا تسعة أفراس رهناً على يدي رجل من كلب يقال له امرؤ القيس بن عدي ووضع حاتم فرسه. ثم خرجوا حتى انتهوا إلى الحيرة. وسمع بذلك إياس بن قبيصة الطائي فخاف أن يعينهم النعمان بن المنذر ويقويهم بماله وسلطانه للصهر الذي بينهم وبينه. فجمع إياس رهطه من بني حية(1/101)
وقال: يا بني حية إن هؤلاء القوم قد أرادوا أن يفضحوا ابن عمكم في مجدة. فقال رجل من بني حية: عندي مائة ناقة سوداء ومائة ناقة حمراء أدماء. وقام آخر فقال: عندي عشرة حصن على كل حصان منها فارس مدجج لا يرى منه إلا عيناه. وقال حسان بن جبلة الخير: قد علمتم أن أبي قد مات وترك كلأ كثيراً فعلي كل خمر أو لحم أو طعام ما أقاموا في سوق الحيرة. ثم قام إياس فقال: علي مثل جميع ما أعطيتم كلكم. (قال) وحاتم لا يعلم بشيء مما فعلوا. وذهب حاتم إلى مالك بن جبار ابن عم له بالحيرة كان كثير المال فقال: يا ابن عم أعني على مخابلتي ثم أنشد (من البسيط) :
يا مال إحدى صروف الدهر قد طرقت ... يا مال ما أنتم عنها بنزاح
يا مال جاءت حياض الموت واردة ... من بين غمر فخضناه وضحضاح
فقال له مالك: ما كنت لأحرب نفسي ولا عيالي وأعطيك مالي. فانصرف عنه وقال مالك في ذلك قوله:
أنا بني عمكم ما أن نباعكم ... ولا نجاوركم إلا على ناح
وقد بلوتك إذ نلت الثراء فلم ... الفك بالمال إلا غير مرتاح
ثم أتى حاتم ابن عم له يقال له وهم بن عمرو. وكان حاتم يومئذ مصارماً له لا يكلمه. فقالت له امرأته: أي وهم هذا والله أبو سفانة حاتم قد طلع. فقال: مالنا ولحاتم أثبتي النظر. فقالت: ها هو. قال: ويحك هو لا يكلمني فما جاء به إلي. فنزل حتى سلم عليه. فرد سلامه وحياه ثم قال له: ما جاء بك يا حاتم. قال: خاطرت على حسبك وحسبي. قال: في الرحب والسعة هذا مالي. (قال) وعدته يومئذ تسعمائة بعير فخدها مائة مائة حتى تذهب الإبل أو تصيب ما تريد. فقالت امرأته: يا حاتم أنت تخرجنا من مالنا وتفضح صاحبنا تعني زوجها. فقال: اذهبي عنك فوالله ما كان الذي غمك ليردني عما قبلي. وقال حاتم (من الطويل) :
ألا أبلغا وهم بن عمرو رسالة ... فإنك أنت المرء بالخير أجدر
رأيتك أدنى الناس منا قرابة ... وغيرك منهم كنت أحبو وأنصر(1/102)
إذا ما أتى يوم يفرق بيننا ... بموت فكن يا وهم ذو يتأخر
(قالوا) ثم قال إياس بن قبيصة: احملوني إلى الملك وكان به نقرس فحمل حتى أدخل عليه. فقال: أنعم صباحاً أبيت اللعن. فقال النعمان: وحياك إلهك. فقال إياس: أتمد اختانك بالمال والخيل وجعلت بني ثعل في قعر الكنانة. أظن أختانك أن يصنعوا بحاتم كما صنعوا بعامر بن جوين ولم يشعروا أن بني حية بالبلد. فإن شئت والله ناجزناك حتى يسفح الوادي دماً فليحضروا مجادهم غداً بمجمع العرب. فعرف النعمان الغضب في وجهه وكلامه فقال له النعمان: يا أحلمنا لا تغضب فإني سأكفيك. وارسل النعمان إلى سعد بن حارثة وغلى أصحابه: انظروا ابن عمكم حاتماً فارضوه فوالله ما أنا بالذي أعطيكم مالي تبذرونه وما أطيق بني حية. فخرج بنو لأم إلى حاتم فقالوا له: أعرض عن هذا المجاد ندع أرش أنف ابن عمنا. قال: لا والله لا أفعل حتى تتركوا أفراسكم ويغلب مجادكم. فتركوا أرش أنف صاحبهم وأفراسهم وقالوا: قبحها الله وأبعدها فإنما هي مقارف. فعمد إليها حاتم فعقرها وأطعمها الناس وسقاهم الخمر وقال حاتم في ذلك (من الكامل) :
أبلغ بني لأم بان خيولهم ... عقرى وأن مجادهم لم يمجد
ها إنما مطرت سماؤكم دماً ... ورفعت رأسك مثل رأس الأصيد
ليكون جيراني أكالاً بينكم ... بخلاً لكندي وسبي مزند
وابن النجود وإن غدا متلاطماً ... وابن العذور ذي العجان الأزبد
أبلغ بني ثعل بأني لم أكن ... أبداً لأفعلها طوال المسند
لا جئتهم فلاً وأترك صحبتي ... نهباً ولم تغدر بقائمه يدي
خرج حاتم في نفر من أصحابه في حاجة لهم فسقطوا على عمرو بن أوس بن طريف بن المثنى بن عبد الله بن يشجب بن عبد ود في فضاء من الأرض. فقال لهم أوس بن حارثة بن لأم: لا تعجلوا بقتله فإن أصبحتم وقد أحدق الناس بكم استجرتموه. وإن لم تروا(1/103)
أحداً قتلتموه. فأصبحوا وقد أحدق الناس بهم فاستجاروه فأجارهم. فقال حاتم (من الطويل) :
عمرو بن أوس إذا أشياعه غضبوا ... فأحرزوه بلاغرم ولا عار
إن بني عبد ود كلما وقعت ... إحدى الهنات أتوها غير أعمار
كان رجل يقال له أبو الخيبري مر في نفر من قومه بقبر حاتم وحوله أنصاب متقابلات من حجارة كأنهن نساء نوائح. (قال) فنزلوا به فبات أبو الخيبري ليلته كلها ينادى: أبا جعفر اقرأ ضيافك (قال) فيقال له: مهلاً ما تكلم من رمة بالية. فقال: إن طيئاً يزعمون أنه لم ينزل به أحد ألا قراه. (قال) فلما كان من آخر الليل نام أبو الخيبري حتى إذا كان في السحر وثب فجعل يصيح وا راحلتاه. فقال له أصحابه: ويلك مالك. قال: خرج والله حاتم بالسيف وأنا أنظر إليه حتى عقر ناقتي. قالوا: كذبت. قال: بلى. فنظروا إلى راحلته فإذا هي منخزلة لا تنبعث. فقالوا: قفد والله قراك. فظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه فانطلقوا فساروا ما شاء الله ثم نظروا إلى راكب فإذ1اهو عدي بن حاتم راكباً قارناً جملاً أسود فلحقهم فقال: أيكم أبو الخيبري. فقالوا: هو هذا. فقال: جاءني أبي في النوم فذكر لي شتمك إياه وأنه قرى راحلتك لأصحابك وقد قال في ذلك أبياتاً ورددها حتى حفظتها وهي (من المتقارب) :
أبا الخيبري وأنت امرؤ ... حسود العشيرة شتامها
فماذا أردت إلى رمة ... بداوية صخب هامها
تبغي أذاها وإعسارها ... وحولك غوث وأنعامها
وإنا لنطعم أضيافنا ... من الكوم بالسيف نعتامها
وقد أمرني أن أحملك على جمل فدونكه. فأ×ذه وركبه وذهبوا.
أغارت طيىء على إبل للنعمان بن الحارث بن أبي شمر الجفني ويقال هو الحارث بن عمر ورجل من بني جفنة وقتلوا ابناً له. وكان الحارث إذا غضب حلف ليقتلن وليسبين الذراري. فحلف ليقتلن من بني الغوث أهل بيت على دم واحد. فخرج يريد طيئاً فأصاب من بني عدي بن اخزم سبعين رجلاً رأسهم وهم بن عمرو من رهط حاتم. وحاتم يومئذ بالحيرة عند النعمان فأصابتهم مقدمات خيله فلما قدم حاتم الجبلين جعلت المرأة تأتيه بالصبي من ولديها فتقول: يا حاتم أسر أبو هذا. فلم يلبث إلا ليلة حتى سار إلى النعمان ومعه ملحان بن(1/104)
حارثة وكان لا يسافر إلا وهو معه فقال حاتم (من الطويل) :
إلا إنني قد هاجني الليلة الذكر ... وما ذاك من حب النساء ولا الأشر
ولكنني مما أصاب عشيرتي ... وقومي بأقران حواليهم الصبر
ليالي نمسي بين جو ومسطح ... نشاوى لنا من كل سائمة جزر
فيا ليت خير الناس حياً وميتاً ... يقول لنا خيراً ويمضي الذي ائتمر
فإن كان شر فالعزاء فإننا ... على وقعات الدهر من قبلها صبر
سقى الله رب الناس سحاً وديمة ... جنوب السراة من مآب إلى زغر
بلاد امرئ لا يعرف الذم بيته ... له المشرب الصافي وليس له الكدر
تذكرت من وهم بن عمرو جلادة ... وجراة معداه إذا نازح بكر
فأبشر وقر العين منك فإنني ... أجيء كريماً لا ضعيفاً ولا حصر
فدخل حاتم على الحارث فأنشده أبياتاً فأعجب به واستوهبهم منه فوهب له بني امرئ القيس بن عدي ثم أنزله فأتى بالطعام والخمر فقال له ملحان: أتشرب الخمر وقومك في الأغلال قم إليه فسله إياهم فدخل عليه فأنشده (من البسيط) :
إن امرأ القيس أضحى من صنيعتكم ... وعبد شمس أبيت اللعن فاصطنع
إن عدياً إذا ملكت جانبها ... من أمر غوث على مرأى ومستمع
ثم قال:
اتبع بني عبد شمس أمر صاحبهم ... أهلي قداؤك إن ضروا وإن نفعوا
لا تجعلنا أبيت اللعن ضاحكة ... كمعشر صلموا الآذان أو جدعوا
أو كالجناح إذا سلت قوادمه ... صار الجناح لفضل الريش يتبع(1/105)
فأطلق له بني عبد شمس بن عدي بن أخزم وبقي قيس بن جحدر بن ثعلبة وهو من لخم وأمه من بني عدي وهو جد الطرماح بن حكيم بن نفر بن قيس بن جحدر. فقال له النعمان: أفبقي أحد من أصحابك. فقال حاتم (من الطويل) :
فككت عدياً كلها من إسارها ... فأفضل وشفعني بقيس بن حجدر
أبوه أبي والأمهات أمهاتنا ... فأنعم فدتك النفس قومي ومعشري
فقال: هو لك يا حاتم. فقال حاتم (من الخفيف) :
أبلغ الحارث بن عمرو بأني ... حافظ الود مرصد للصواب
ومجيب دعاءه إن دعاني ... عجلاً واحداً وذا أصحاب
إنما بيننا ... وبينك فاعلم
سير سبع للعاجل المنتاب
فثلاث من السراة إلى الحلبط ... للخيل جاهداً والركاب
وثلاث يردن تيماء رهواً ... وثلاث يغررن بالإعجاب
فإذا ما مررت في مسبطر ... فاجمح الخيل مثل جمح الكعاب
بينما ذاك أصبحت وهي عضدي ... من سبي مجموعة ونهاب
ليت شعري متى أرى قبة ذا ... ت قلاع للحارث الحراب
بيفاع وذاك منها محل ... فوق ملك يدين بالأحساب
أيها الموعدي فإن لبوني ... بين حقل وبين هضب ذباب
حيث لا أرهب الخزاة وحولي ... ثعليون كالليوث الغضاب(1/106)
وقال حاتم أيضاً (من الطويل) :
لم ينسني أطلال ماوية ناسي ... ولا أكثر الماضي الذي مثله ينسي
إذا غربت شمس النهار وردتها ... كما يرد الظمآن آبية الخمس
(قال) كنا عند معاوية فتذاكرنا ملوك العرب حتى ذكرنا الزباء وابنة عفزر. فقال معاوية: إني لا أحب أن أسمع حديث ماوية وحاتم (وماوية بنت عفزر) . فقال رجل من القوم: أفلا أحدثك يا أمير المؤمنين. فقال: بلى. فقال: إن ماوية بنت عفزر كانت ملكة وكانت تتزوج من أرادت. وإنها بعثت غلماناً لها وأمرتهم أن يأتوها بأوسم من يجدونه بالحيرة فجاؤوها بحاتم. فقالت له: استقدم. فقال: حتى أخبرك. وقعد على الباب وقال: إني أنتظر صاحبين لي. فارتابت منه وسقته خمراً ليسكر فجعل يهريقه بالباب فلا تراه تحت الليل. ثم قال: ما أنا بذائق قرى ولا قار حتى أنظر ما فعل صاحباي فقالت: إنا سنرسل إليهم بقرى. فقال حاتم: ليس بنافعي شيئاً أو آتيهما. (قال) فأتاهما فقال: أفتكونان عبدين لابنة عفزر ترعيان غنمها أحب إليكما أم تقتلكما. فقالا: كل شيء يشبه بعضه بعضاً وبعض الشر أهون من بعض. فقال حاتم: الرحيل والنجاة. وقال يذكر ابنة عفزر وإنه ليس بصاحب ريبة (من الطويل) :
حننت إلى الأجبال أجبال طيىء ... وحنت قلوصي إن رأت سوط أحمرا
فقلت لها إن الطريق أمامنا ... وإنا لمحيو رعبنا إن تيسرا
فيا راكبي عليا جديلة إنما ... تسامان ضيماً مستبيناً فتنظرا
فما نكراه غير أن ابن ملقط ... أراه وقد أعطى الظلامة أو جرا
وإني لمزج للمطي على الوجا ... وما أنا من خلانك ابنة عفزرا
وما زلت أسعى بين ناب ودارة ... بلحيان حتى خفت أن اتنصرا
وحتى حسبت الليل والصبح إذ بدا ... حصانين سيالين جوناً وأشقرا(1/107)
لشعب من الريان أملك بابه ... أنادي به آل الكبير وجعفر
أحب إلي من خطيب رأيته ... إذا قلت معروفاً تبدل منكر
تنادي إلى جاراتها إن حاتماً ... أراه لعمري بعدنا قد تغيرا
تغيرت إني غير آت لريبة ... ولا قائل يوماً لذي العرف منكرا
فلا تسأليني واسألي أي فارس ... إذا بادر القوم الكنيف المسترا
ولا تسأليني واسألي أي فارس ... إذا الخيل جالت في قناً قد تكسرا
فلا هي ما ترعى جميعاً عشارها ... ويصبح ضيفي ساهم الوجه أغبرا
متى ترني أمشي بسيفي وسطها ... تخفني وتضمر بينها أن تجزرا
وإني ليغشى أبعد الحي جفنتي ... إذا ورق الطلح الطوال تحسرا
فلا تسأليني واسألي بي صحبتي ... إذا ما المطي بالفلاة تضورا
وإني لوهاب قطوعي وناقتي ... إذا ما انتشيت والكميت المصدرا
وإني كأشلاء اللجام ولن ترى ... أخا الحرب إلا ساهم الوجه أغبرا
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وإني إذا ما الموت لم يك دونه ... قدى الشبرا حمي الأنف أن أتأخرا
متى تبغ وداً من جديلة تلقه ... مع الشنء منه باقيا متأثرا
فالا يعادونا جهاراً نلاقهم ... لأعدائنا ردءاً دليلاً ومنذرا
إذا حال دوني من سلامان رملة ... وجدت توالي الوصل عندي ابترا
وذكروا أن حاتماً دعته نفسه إليها بعد انصرافه من عندها فأتاها يخطبها فوجد عندها النابغة ورجلاً من الأنصار من النبيت. فقالت لهم: انقلبوا إلى رحالكم وليقل كل واحد منكم(1/108)
شعراً يذكر فيه فعاله ومنصبه فإني أتزوج أكرمكم وأشعركم. فانصرفوا ونحر كل واحد منهم جزوراً ولبست ماوية ثياباً لأمة لها وتبعتهم. فأتت النبيتي فاستطعمته من جزوره فأطعمها ثيل جملة فأخذته. ثم أتت نابغة بني ذبيان فاستطعمته فأطعمها ذنب جزوره فأخذته. ثم أتت حاتماً وقد نصب قدره فاستطعمته فقال لها: قفي حتى أعطيك ما تنتفعين به إذا صار إليك. فانتظرت فأطعمها قطعاً من العجز والسنام ومثلها من المخدش وهو عند الحارك. ثم انصرفت. وأرسل كل واحد منهم إليها ظهر جمله وأهدى حاتم إلى جاراته مثل ما أرسل إليها ولم يكن يترك جاراته إلا بهدية وصحبوها فاستنشدتهم فأنشدها النبيتي:
هلا سألت النبيتيين ما حسبي ... عند الشتاء إذا ما هبت الريج
ورد جازرهم حرفاً مصرمة ... في الرأس منها وفي الأشلاء تمليح
إذا الرياح غدت ملقى أصرتها ... ولا كريم من الولدان مصبوح
وقال رائدهم سيان ما لهم ... مثلان مثل لمن يرعى وتسريح
فقالت له: لقد ذكرت مجهدة. ثم استنشدت النابغة فأنشدها يقول:
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي ... إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
وهبت الريح من تلقاء ذي أزل ... تزجي مع الليل من صرادها الصرما
إني أتمم أيساري وأمنحهم ... مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما
فلما أنشدها قالت: ما ينفك الناس بخير ما ائتدموا. ثم قالت: يا أخا طيىء أنشدني فأنشدها (من الطويل) :
أماوي قد طال التجنب والهجر ... وقد عذرتني من طلابكم العذر
أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر
أماوي إني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوماً حل في مالنا نذر
أماوي إما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر(1/109)
إذا أنا دلاني الذين أحبهم ... لملحودة زلج جوانبها غبر
وراحوا عجالاً ينفضون أكفهم ... يقولون قد دلى أناملنا الحفر
أماوي أن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء هناك ولا خمر
تري أن ما أهلكت لم يك ضرني ... وأن يدي مما بخلت به صفر
أماوي إني رب واحد أمه ... أجرت فلا قتل عليه ولا أسر
وقد علم الأقوام لو أن حاتماً ... أراد ثراء المال كان له وفر
وإني لا آلو بمال صنيعة ... فأوله زاد وآخره ذخر
يفك به العاني ويؤكل طيباً ... وما إن تعريه القداح ولا الخمر
ولا أظلم ابن العم إ كان إخوتي ... شهوداً وقد أودي بإخوته الدهر
عنينا زماناً بالتصعلك والغنى ... كما الدهر في أيامه العسر واليسر
كسبنا صروف الدهر ليناً وغلظة ... وكلاً سقاناه بكاسهما الدهر
فما زادنا بأواً على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
فقدماً عصيت العاذلات وسلطت ... على مصطفى مالي أناملي العشر
وما ضر جاراً يا ابنة القوم فاعلمي ... يجاورني ألا يكون له ستر
بعيني عن جارات قومي غفلة ... وفي السمع مني عن حديثهم وقر
فلما فرغ حاتم من إنشاده دعت بالغداء وكانت قد أمرت إماءها أن يقدمن إلى كل رجل منهم ما كان أطعمها. فقدمن إليهم ما كانت أمرتهن أن يقدمنه إليهم. فنكس النبيتي رأسه(1/110)
والنابغة. فلما نظر حاتم إلى ذلك رمى بالذي قدم إليهما وأطعمهما مما قدم إليه فتسللا لواذاً وقالت: إن حاتماً أكرمكم وأشعركم. فلما خرج النبيتي والنابغة قالت لحاتم: خل سبيل امرأتك فأبى فزودته وردته. فلما انصرف دعته نفسه إليها وماتت امرأته فخطبها فتزوجته فولدت عدياً.
وإن ابن عم لحاتم كان يقال له مالك قال لماوية امرأة حاتم: ما تصنعين بحاتم فوالله لئن وجد شيئاً ليتلفنه وإن لم يجد ليتكلفن وإن مات ليتركن ولده عيالاً على قومك. فقالت ماوية: صدقت إنه كذلك. وكان النساء أو بعضهن يطلقن الرجال في الجاهلية وكان طلاقهن أنهن إن كن في بيت من شعر حولن الخباء. إن كان بابه قبل المشرق حولنه قبل المغرب وإن كان بابه قبل اليمن حولنه قبل الشام. فإذا رأى ذلك الرجل علم أنها قد طلقته فلم يأتها. وإن ابن عم حاتم قال لماوية وكان أحسن الناس: طليقي حاتماً وأنا أتزوجك وأنا خير لك منه وأكثر مالاً وأنا أمسك عليك وعلى ولدك. فلم يزل بها حتى طلقت حاتماً. فأتاها حاتم وقد حولت باب الخباء فقال: يا عدي ما ترى أمك عدا عليها. قال: لا أدري غير أنها قد غيرت باب الخباء وكأنه لم يلحن لما قال. فدعاه فهبط به بطن واد. وجاء قوم فنزلوا على باب الخباء كما كانوا ينزلون فتوافوا خمسين رجلاً. فضاقت بهم ماوية ذرعاً وقالت لجاريتها: اذهبي إلى مالك فقولي له: إن أضيافاً لحاتم قد نزلوا بنا خمسين رجلاً فأرسل بناب نقرهم ولبن نغبقهم. وقالت لجاريتها: انظري إلى جبينه وفمه. فإن شافهك بالمعروف فاقبلي منه وإن ضرب بلحيته على زوره وأدخل يده في رأسه فاقفلي ودعيه. وإنها لما أتت مالكاً وجدته متوسداً وطباً من لبن وتحت بطنه آخر. فأيقظته. فأدخل يده في رأسه وضرب بلحيته على زوره. فأبلغته ما أرسلتها به ماوية وقالت: إنما هي الليلة حتى يعلم الناس مكانه. فقال لها: اقرئي عليها السلام وقولي لها: هذا الذي أمرتك أن تطلقي حاتماً فيه فما عندي من كبيرة. قد تركت العمل وما كتنت لأنحر صفية غزيرة بشحم كلاها وما عندي لبن يكفي أضياف حاتم. فرجعت الجارية فأخبرتها بما رأت منه وما قال. فقالت: ائتي حاتماً فقولي إن أضيافك قد نزلوا الليلة بنا ولم يعلموا بمكانك فأرسل إلينا بناب ننحرها ونقرهم وبلبن نسقيهم فإنما هي الليلة حتى يعرفوا مكانك. فأتت الجارية حاتماً فصرخت به. فقال حاتم: لبيك قريباً دعوت. فقالت: إن ماوية تقرأ عليك السلام وتقول لك: إن أضيافك قد نزلوا بنا الليلة فأرسل إليهم بناب ننحرها لهم ولبن نسقيهم. فقال: نعم وأبي. ثم قام إلى الإبل فأطلق(1/111)
ثنيتين من عقاليهما ثم صاح بهما حتى أتى الخباء فضرب عراقيبهما. فطفقت ماوية تصيح وتقول: هذا الذي طلقتك فيه تترك ولدك وليس لهم شيء. فقال حاتم (من الطويل) :
هل الدهر إلا اليوم أو أمس أو غد ... كذاك الزمان بيننا يتردد
يرد علينا ليلة بعد يومها ... فلا نحن ما نبقى ولا الدهر ينفد
لنا أجل إما تناهى إمامه ... فنحن على آثاره نتورد
بنو ثعل قومي فما أنا مدع ... سواهم إلى قوم وما أنا مسند
بدربهم أغشى دروء معاشر ويحنف عني الأبلج المتعمد
فمهلاً فداك اليوم أمي وخالتي ... فلا يأمرني بالدنية أسود
على جبن إذ كنت واشتد جانبي ... أسام التي أعييت إذ أنا أمرد
فهل تركت قبلي حضور مكانها ... وهل من أبى ضيماً وخسفاً مخلد
ومتعتسف بالمرح دون صحابه ... تعسفته بالسيف والقوم شهد
فخر على حر الجبين وزاده ... إلى الموت مطرور الوقيعة مزود
فما رمته حتى أرحت عويطه ... وحتى علاه حالك اللون أسود
فأقسمت لا أمشي إلى سر جارة ... مدى الدهر مادام الحمام يغرد
ولا أشتري مالاً بغدر علمته ... ألا كل مال خالط الغدر أنكد
إذا كان بعض المال رباً لأهله ... فإني بحمد الله مالي معبد
يفك به العاني ويؤكل طيباً ... ويعطى إذا من البخيل المطرد(1/112)
إذا ما البخيل الخب أخمد ناره ... أقول لمن يصلي بناري أوقدوا
توسع قليلاً أو يكن ثم حسبنا ... وموقدها الباري أعف وأحمد
كذاك أمور الناس راض دنية ... وسام إلى فرع العلا متورد
فمنهم جواد قد تلفت حوله ... ومنهم لئيم دائم الطرف أقود
وداع دعاني دعوة فأجبته ... وهل يدع الداعين إلا المبلد
أسرت عنزة حاتماً فجعل نساء عنزوة يدارين بعيراً ليفصدنه فضعفن عنه فقلن: يا حاتم أفاصده أنت إن أطلقنا يديك. قال: نعم. فأطلقن إحدى يديه فوجأ لبته فاستدمينه. ثم أن للبعير عضد أي لوى عنقه أي خر فقلن: ما صنعت. قال: هكذا فصادي فجرت مثلاً. (قال) فلطمته إحداهن. فقال: ما أنتن نساء عنزة بكرام. ولا ذوات أحلام. وأن امرأة منهن يقال لها عاجزة أعجبت به فأطلقته ولم ينقموا عليه ما فعل. فقال حاتم يذكر البعير الذي فصده (من الطويل) :
كذلك فصدي إن سألت مطيتي ... دم الجوف إذ كل الفصاد وخيم
أقبل ركب من بني أسد ومن قيس يريدون النعمان فلقوا حاتماً فقالوا له: إنا تركنا قومنا يثنون عليك خيراً وقد أرسلوا رسولاً برسالة. قال: وما هي. فأنشده الأسديون شعراً لعبيد ولبشر يمدحانه وأنشد القيسيون شعراً للنابغة. فلما أنشدوه قالوا: إنا نستحيي أن نسألك شيئاً وإن لنا لحاجة. قال: وما هي. قالوا: صاحب لنا قد أرجل. فقال حاتم: خذوا فرسي هذه فاحملوا عليها صاحبكم. فأخذوها وربطت الجارية فلوها بثوبها فأفلت فاتبعته الجارية. فقال حاتم: ما تبعكم من شيء فهو لكم. فذهبوا بالفرس والفلو والجارية. وإنهم وردوا على أبي حاتم فعرف الفرس والفلو فقال: ما هذا معكم. فقالوا: مررنا بغلام كريم فسألناه فأعطى الجسيم.
(قال) وكنا عند معاوية فتذاكرنا الجود فقال رجل من القوم: أجو الناس حياً وميتاً حاتم. فقال معاوية: وكيف ذلك فإن الرجل من قريش ليعطي في المجلس ما لم يملكه حاتم قط ولا قومه. فقال: أخبرك يا أمير المؤمنين إن نفراً من بني أسد مروا بقبر حاتم فقالوا: لننجلنه ولنخبرن العرب أنا نزلنا بحاتم فلم يقرنا. فجعلوا ينادون يا حاتم ألا تقري أضيافك. وكان رئيس القوم رجلاً يقال له أبو الخيبري فإذا هو بصوت ينادي في جوف الليل:(1/113)
أبا خيبري وأنت امرؤ ... ظلوم العشيرة شتامها
إلى آخرها. فذهبوا ينظرون فإذا ناقة أحدهم تكوس على ثلاثة أرجل عقيراً. (قال) فعجب القنوم من ذلك جميعاً.
وبروايتهم عن ابن الكلبي قال: حدثني الطائيون أن ابن دارة أتى عدي بن حاتم بعد ذلك فمدحه فقال:
أبوك أبو سفانة الخير لم يزل ... لدن شب حتى مات في الخير راغبا
به تضرب الأمثال في الجود ميتاً ... وكان له إذ كان حياً مصاحبا
قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به ... ولم يقر قبر قبله قط راكبا
وكان أوس بن سعد قال للنعمان بن المنذر: أنا أدخلك بين جبلي طيىء حتى يدين لك أهلهما. فبلغ ذلك حاتماً فقال (من الكامل) :
ولقد بغى بجلاد أوس قومه ... ذلاً وقد علمت بذكل سنبس
حاشا بني عمرو بن سنبس إنهم ... منعوا ذمار أبيهم أن يدنسوا
وتواعدوا ورد القرية غدوة ... وحلفت بالله العزيز لنحبس
والله يعلم لو أتى بسلافهم ... طرف الجريض لظل يوم مشكس
كالنار والشمس التي قالت لها ... بيد اللويمس عالماً ما يلمس
لا تطعمن الماء أن أوردتهم ... لتمام طميكم ففوزوا واحبسوا
أو ذو الحصين وفارس ذو مرة ... بكتيبة من يدركوه يغرس
وموطأ الأكناف غير ملعن ... في الحي مشاء إليه المجلس
(قال) وجاور في بني بدر من احترب من جديلة وثعل وكان ذلك زمن الفساد فقال بمدح بني بدر (من الكامل) :
إن كنت كارهة معيشتنا ... هاتي فحلي في بني بدر
جاورتهم زمن الفساد فنعم ... الحي في العوصاء واليسر
فسقيت بالماء النمير ولم ... أترك أواطس حماة الجفر(1/114)
ودعيت في أولى الندي ولم ... ينظر إلي بأعين خزر
الضاربين لدى أعنتهم ... الطاعنين وخيلهم تجري
والخالطين نحيتهم بنضارهم ... وذوي الغنى منهم بذي الفقر
وزعموا أن حاتماً خرج في الشهر الحرام يطلب حاجة فلما كان بأرض عنزة ناداه أسير لهم: يا أبا سفانة أكلني الإسار والقمل. قال: ويلك والله ما أنا في بلاد قومي وما معي شيء وقد أسأت بي إذ نوهت باسمي. فساوم به العنزيين فاشتراه منهم فقال: خلوا عنه وأنا أقيم مكانه في قيد حتى أؤدي فداءه. ففعلوا فأتى بفدائه. (وحدث الهيثم بن عدي) عمن حدثه عن ملحان ابن أخي ماوية امرأة حاتم قال: قلت لماوية يا عمة حدثيني ببعض عجائب حاتم فقالت: كل أمره عجب فعن أيه تسأل (قال) فلت حدثيني ما شئت. قالت: أصابت الناس سنة فأذهبت الخف والظلف. فأتت ليلة قد أسهرنا الجوع (قالت) فأخذ عدياً وأخذت سفانة وجعلنا نطلهما حتى ناما. ثم أقبل علي يحدثني ويعالمني بالحديث كي أنام فرققت له لما به من الجهد. فأمسكت عن كلامه لينام فقال لي: أنمت غراراً. فلم أجب فسكت فنظر في فتق الخباء فإذا شيء قد أقبل فرفع رأسه فإذا امرأة فقال: ما هذا. قالت: يا أبا سفانة أتيتك من عند صبية جياع يتعاوون كالذئاب جوعاً. فقال: أحضريني صبيانك فوالله لأشبعنهم (قالت) فقمت سريعاً. فقلت: بماذا يا حاتم فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل. فقال: والله لأشبعن صبيانك مع صبيانها. فلما جاءت قام إلى فرسه فذبحها ثم قدح ناراً ثم أججها ثم دفع إليها شفرة فقال: اشتوي وكلي ثم قال: أيقظي صبيانك. فأيقظتهم ثم قال: والله إن هذا للؤم تأكلون وأهل الصرم حالهم مثل حالكم. فجعل يأتي الصرم بيتاً بيتاً فيقول: انهضوا عليكم بالنار. (قال) فاجتمعوا حول تلك الفرس وتقنع بكسائه فجلس ناحية فما أصبحوا ومن الفرس على الأرض قليل ولا كثير إلا عظم وحافز. وإنه لأشد جوعاً منهم وما ذاقه.
أتى حاتم محرقاً. فقال له محرق: بايعني. فقال له: إن لي أخوين ورائي فإن يأذنا لي أبايعك وإلا فلا. قال: فاذهب إليهما فإن أطاعاك فأتني بهما وإن أبيا فآذن بحرب: فلما خرج حاتم قال (من الكامل) :(1/115)
أتاني من الديان أمس رسالة ... وغدراً بحي ما يقول مواسل
هما سألاني ما فعلت وإنني ... كذلك عما أحدثا أنا سائل
فقلت ألا كيف الزمان عليكما ... فقالا بخير كل أرضك سائل
فقال محرق: ما أخواه. قال: طرفا الجبل. فقال: ومحلوفه لأجللن مواسلاً الريط مصبوغات بالزيت ثم لأشعلنه بالنار. فقال رجل من الناس: جهل مرتق بين مداخل سبلات. فلما بلغ ذلك محرقاً قال: لأقدمن عليك قريتك. ثم أنه أتاه رجل فقال له: إنك إن تقدم القرية تهلك. فانصرف ولم يقدم.
غزت فزارة طيئاً وعليهم حصين بن حذيفة وخرجت طيىء في طلب القوم. فلحق حاتم رجلاً من بني بدر فطعنه ثم مضى فقال: إن مر بك أحد فقل له: أنا أسير حاتم. فمر به أبو حنبل فقال: من أنت. قال: أنا أسير حاتم. فقال له: إنه يقتلك فإن زعمت لحاتم أو لمن سألك أني أسرتك ثم صرت في يدي خليت سبيلك فلما رجعوا قال حاتم: يا أبا حنبل خل سبيل أسيري. فقال أبو حنبل: أنا أسرته. فقال حاتم: قد رضيت بقوله: فقال: أسرتي أبو حنبل. فقال حاتم (من الطويل) :
إن أباك الجون لم يك غادراً ... إلا من بني بدر أتتك الغوائل
وكان إذا جن الليل يوعز إلى غلامه أن يوقد النار في يفاع من الأرض لينظر إليها من أضله الطريق يأوي إلى منزله ويقول (من الرجز) :
أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا موقد ريح صر
عسى يرى نارك من يمر ... إن جلبت ضيفاً فأنت حر
قيل أن أحد قياصرة الروم بلغته أخبار جود حاتم فاستغربها. وكان قد بلغه أن لحاتم فرساً من كرام الخيل عزيزة عنده فأرسل إليه بعض حجابه يطلب منه الفرس هدية إليه وهو يريد أن يمتحن سماحته بذلك. فلما دخل الحاجب ديار طي سأل عن أبيات حاتم طي حتى دخل عليه فاستقبله أحسن استقبال ورحب به وهو لا يعلم أنه حاجب الملك. وكانت المواشي في المرعى فلم يجد إليها سبيلاً لقرى ضيفه فنحر الفرس وأضرم النار. ثم دخل إلى ضيفه يحادثه فأعلمه أنه رسول قيصر قد حضر يستميحه الفرس فساء ذلك حاتماً وقال: هلا أعلمتني(1/116)
قبل الآن فإني قد نحرتها لك إذ لم أجد جزوراً غيرها. فعجب الرسول من سخائه وقال: والله لقد رأينا منك أكثر مما سمعنا.
وكان حاتم منقطع النظير في الكرم فسار ذكره في الآفاق. وضربت به الأمثال ولهجت به الشعراء. قال بعضهم:
وحاتم طيىء إن طوى الموت جسمه ... فنشر اسمه في الجود عاش مخلدا
وقال آخر:
لما سألتك شيئاً ... بدلت رشداً بغي
ممن تعلمت هذا ... ألا تجود بشي
أما مررت بعبد ... لعبد حاتم طي
وقال آخر:
للجود حاتم طي ... وحاتم البخل عون
له مصابيح بيض ... والعرض أسود جون
قيل أن حاتماً جلس يوماً للشراب ودعا إليه من كان في الحلة فحضروا وكانوا ينيفون عن مائتي رجل. فلما فرغوا من شرابهم وأرادوا الانصراف أعطى كل واحد منهم ثلثاً من النوق.
وروى القاضي التنوخي عن أبي صالح قال: أنشدني ابن الكلبي لحاتم (من الطويل) :
إلههم ربي وربي إلههم ... فأقسمت لا أرسو ولا أتمعد
ويروى عن أبي صالح قال: حدث الهيثم عن مجاهد عن الشعبي قال: كان عبد الله بن شداد بن الهاد رجلاً من أبناء رسول الله قال لابنه: يا بني إذا سمعت كلمة من حاسد. فكن كأنك ليس بالشاهد. فإنك إذا أمضيتها حيالها. رجع العيب على من قالها. وكن كما قال حاتم (من الوافر) :
وما من شيمتي شتم ابن عمي ... وما أنا مخلف من يرتجيني
سأمنحه على العلات حتى ... أرى ماوي أن لا يشتكيني
وكلمة حاسد من غير جرم ... سمعت وقلت مري فأنقذيني(1/117)
وعابوها علي فلم تعبني ... ولم يعرق لها يوماً جبيني
وذي وجهين يلقاني طليقاً ... وليس إذا تغيب يأتسيني
نظرت بعينه فكففت عنه ... محافظة على حسبي وديني
فلوميني إذا لم أقر ضيفاً ... وأكرم مكرمي وأهن مهيني
وبروايتهم عن ابن الكلبي أنه أنشد لحاتم (من الطويل) :
أتعرف أطلالاً ونؤياً مهدماً ... كخطك في رق كتاباً منما
أذاعت به الأرواح بعد أنيسها ... شهوراً وأياماً وحولاً محرما
دوارج قد غيرن ظاهر تربه ... وغيرت الأيام ما كان معلما
وغيرها طول التقادم والبلى ... فما أعرف الأطلال إلا توهما
تهادى عليها حليها ذات بهجة ... وكشحاً كطي السابرية اهضما
ونحراً كفى نور الجبين يزينه ... توقد ياقوت وشذر منظما
كجمر الغضا هبت به بعد هجعة ... من الليل أرواح الصبا فتنسما
يضيء لنا البيت الظليل خصاصة ... إذا هي ليلاً حاولت أن تبسما
إذا انقلبت فوق الحشية مرة ... ترنم وسواس الحلي ترنما
وعاذلتين هبتا بعد هجعة ... تلومان متلافاً مفيداً ملوما
تلومان لما غور النجم ضلة ... فتى لا يرى الاتلاف في الحمد مغرما
فقلت وقد طال العتاب عليهما ... ولو عذراني أن تبيتا وتصرما
ألا لا تلوماني على ما تقدما ... كفى بصروف الدهر للمرء محكما
فإنكما لا ما مضى تدركانه ... ولست على ما فاتني متندما(1/118)
فنفسك أكرمها فإنك إن تهن ... عليك فلن تلفي لك الدهر مكرما
أهن للذي تهوى التلاد فإنه ... إذا مت كان المال نهباً مقسما
ولا تشقين فيه فيسعد وارث ... به حين تخشى أغبر اللون مظلما
يقسمه غنماً ويشري كرامة ... وقد صرت في خط من الأرض أعظما
قليل به ما يحمدنك وارث ... إذا ساق مما كنت تجمع مغنما
تحمل عن الأدنين واستبق ودهم ... ولن تستطيع الحلم حتى تحلما
متى ترق أضغان العشيرة بالأنا ... وكف الأذى يحسم لك الداء محسما
وما ابتعثتني في هواي لجاجة ... إذا لم أجد فيها أمامي مقدما
إذا شئت ناويت امرء السوء ما نزا ... إليك ولا طمت اللئيم الملطما
وذو اللب والتقوى حقيق إذا رأى ... ذوي طبع الأخلاق أن يتكرما
فجاور كريماً واقتدح من زناده ... وأسند إليه إن تطاول سلما
وعوراء قد أعرضت عنها فلم يضر ... وذي أود قومته فتقوما
واغفر عوراء الكريم اصطناعه ... واصفح من شتم اللئيم تكرما
ولا أخذل المولى وإن كان خاذلاً ... ولا أشتم ابن العم إن كان مفحما
ولا زادني عنه غنائي تباعداً ... وإن كان ذا نقص من المال مصرما
وليل بهيم قد تسربلت هوله ... إذا الليل بالنكس الضعيف تجهما
ولن يكسب الصعلوك حمداً ولا غناً ... إذا هو لم يركب من الأمر معظما
يرى الخمص تعذيباً وإن يلق شبعة ... يبت قلبه من قلة الهم مبهما
لحى الله صعلوكاً مناه وهمه ... من العيش أن يلقى لبوساً ومطعما(1/119)
ينام الضحى حتى إذا ليله استوى ... تنبه مثلوج الفؤاد مورما
مقيماً مع المثرين ليس ببارح ... إذا كان جدوى من طعام ومجثما
ولله صعلوك يساور همه ... ويمضي على الأحداث والدهر مقدما
فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة ... ولا شبعة إن نالها عد مغنما
إذا ما رأى يوماً مكارم أعرضت ... تيمم كبراهن ثمت صمما
ترى رمحه ونبله ومجنه ... وذا شطب عضب الضريبة مخذما
واحناء سرج فاتر ولجامه ... عتاد فتى هيجاً وطرفاً مسوما
وبروايتهم عن ابن الكلبي أنه أنشد لحاتم (من الطويل) :
وعاذلة هبت بليل تلومني ... وقد غاب عيوق الثريا فعردا
تلوم على إعطائي المال ضلة ... إذا ضن بالمال البخيل وصردا
تقول ألا أمسك عليك فإنني ... أرى المال عند الممسكين معبدا
ذريني وحالي إن مالك وافر ... وكل امرئ جار على ما تعودا
أعاذل لا آلوك إلا خليقتي ... فلا تجعلي فوقي لسانك مبردا
ذريني يكن مالي لعرضي جنة ... يقي المال عرضي قبل أن يتبددا
أريني جواداً مات هزلاً لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا
وإلا فكفي بعض لومك واجعلي ... إلى رأي من تلحين رأيك مسندا
ألم تعلمي إني إذا الضيف نابني ... وعز القرى أقري السديف المسرهدا
أسود سادات العشيرة عارفاً ... ومن دون قومي في الشدائد مذودا
وألفي لإعراض العشيرة حافظاً ... وحقهم حتى أكون المسودا
يقولون لي أهلكت مالك فاقتصد ... وما كنت لولا ما تقولون سيدا(1/120)
كلوا الآن من رزق الإله وأيسروا ... فإن على الرحمان رزقكم غدا
سأذخر من مالي دلاصاً وسابحاً ... واسمر خطياً وعضباً مهندا
وذلك يكفيني من المال كله ... مصوناً إذا ما كان عندي متلدا
وأنشد ابن الكلبي لحاتم (من الطويل) :
فلو كان ما يعطي رياء لأمسكت ... به جنبات اللوم يجذبنه جذبا
ولكنما يبغي به الله وحده ... فاعط فقد اربحت في البيعة الكسبا
وبروايتهم أنه أنشد بن الكلبي لحاتم (من الطويل) :
ألا أرقت عيني فبت أديرها ... حذار غد أحجى بأن لا يضيرها
إذا النجم أضحى مغرب الشمس مائلاً ... ولم يك بالآفاق بون ينيرها
إذا ما السماء لم تكن غير حلبة ... كجدة بيت العنكبوت ينيرها
فقد علمت غوث بأنا سراتها ... إذا أعلمت بعد السرار أمورها
إذا الريح جاءت من أمام أخائف ... وألوت بأطناب البيوت صدورها
وإنا نهين المال في غير ظنة ... وما يشتكينا في السنين ضريرها
إذا ما بخيل الناس هرت كلابه ... وشق على الضيف الضعيف عقورها
فإني جبان الكلب بيتي موطأ ... أجود إذا ما النفس شح ضميرها
وإن كلابي قد أهرت وعودت ... قليل على من يعتريني هريرها
وما تشتكي قدري إذا الناس أمحلت ... أؤثفها طوراً وطوراً أميرها
وأبرز قدري بالفضاء قليلها ... يرى غير مضنون به وكثيرها
وأبلي رهن أن يكون كريمها ... عقيراً أمام البيت حين أثيرها(1/121)
أشاور نفس الجود حتى تطيعني ... وأترك نفس البخل لا أستشيرها
وليس على ناري حجاب يكنها ... لمستوبص ليلاً ولكن أنيرها
فلا وأبيك ما يظل ابن جارتي ... يطوف حوالي قدرنا ما يطورها
وما تشتكيني جارتي غير أنها ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
سيبلغها خيري ويرجع بعلها ... إليها ولم يقصر علي ستورها
وخيل تعادى للطعان شهدتها ... ولو لم أكن فيها لساء عذيرها
وغمرة موت ليس فيها هوادة ... يكون صدور المشرفي جسورها
صبرنا لها في نهكها ومصابها ... بأسيافنا حتى يبوخ سعيرها
وعرجلة شعث الرؤوس كأنهم ... بنو الجن لم تطبخ بقدر جزورها
شهدت وعواناً أميمة إننا ... بنو الحرب نصلاها إذا اشتد نورها
على مهرة كبداء جرداء ضامر ... أمين شظاها مطمن نسورها
وأقسمت لا أعطي مليكاً ظلامة ... وحولي عدي كهلها وغيريرها
أبت لي ذاكم أسرة ثعلية ... كريم غناها مستعف فقيرها
وخوص دقاق قد حدوت لفتية ... عليهن إحداهن قد حل كورها
وبروايتهم عن ابن الكلبي أنه أنشد لحاتم (من الطويل) :
نعماً محل الضيف لو تعلمينه ... بليل إذا ما استشرفته النوابح
تقصى إلي الحي إما دلالة ... علي وإما قاده لي ناصح
(قال) جاور حاتم طيىء في زمن الفساد وكانت حرب الفساد في الجاهلية بين جديلة والغوث بن زياد بن عبد الله من بني عبس فاحسنوا جواره فقال (من الوافر) :
لعمرك ما أضاع بنو زياد ... ذمار أبيهم فيمن يضيع(1/122)
بنو جنية ولدت سيوفاً ... صوارم كلها ذكر صنيع
وجارتهم حصان ما تزنى ... وطاعمة الشتاء فما تجوع
شرى ودي وتكرمتي جميعاً ... لآخر غالب أبداً ربيع
ويروى عن أبي صالح أنه قال: أخبرنا أبو المنذر عن أبيه قال: وفد أوس بن حارثة بن لأم الطائي وحاتم بن عبد الله مع ناس من العرب على النعمان بن المنذر بالحيرة. فقال لإياس بن قبيصة: الطائي الغوثي ثم الطائي أيهما أفضل. قال: أبيت اللعن إني من أحدهما ولكن سلهما عن أحدهما يجيبانك. فدخل عليه أوس فقال: أنت أفضل أم حاتم. قال: أبيت اللعن لو كنت أنا وولدي لحاتم لأنهبنا غداة واحدة. ثم دخل عليه حاتم فقال: يا حاتم أنت أفضل أم أوس. فقال: أبيت اللعن لشر أوس خير مني. فنفل كلاً منهما مائة من الإبل.
وبروايتهم عن ابن الكلبي قال: أسرت بنو القذان من غنزة كعب بن مامة الأيادي وحاتم طيىء والحارث بن ظالم. وكان أسر حاتماً رجلان عمرو وأبو عمرو فأطلقاه على الثواب فلم يأتياه مخافة أن يأتيا طيئاً فتأسرهما. فقال:
لعمرو أبي عمرو وعمرو كليهما ... لقد حرما من حاتم خير حاتم
وروى أبو صالح عن بعض أهل العلم. أنه تذاكر فتية في الكوفة السؤدد. فأشكل عليهم. فتجمعوا وأتوا عدي بن حاتم. فدعا لهم بتمر ولبن. فأكلوا ثم قال: سألتم عن السؤدد. قالوا: نعم. قال: السيد فينا المنخدع في ماله. الذليل في عرضه. المطرح لحقده. المتعاهد لعامته.
وقال أبو صالح أنشدت لحاتم (من البسيط) :
ولا أزرف ضيفي إن تأوبني ... ولا أداني له ما ليس بالداني
له المواساة عندي إن تأوبني ... وكل زاد وإن أبقيته فإني
ويروى عن أبي صالح: إن حاتماً أوصى عند موته فقال: إني أعهدكم من نفسي بثلاث. ما خاتلت جارة لي قط أراودها عن نفسها. ولا أؤتمنت على أمانة إلا قضيتها. ولا أتي أحد من قبلي بسوءة أو قال بسوء.
وكان حاتم رجلاً طويل الصمت. وكان يقول: إذا كان الشيء يكفيكه الترك فاتركه.(1/123)
وبروايتهم عن أبي صالح. أنه أنشد لأبي العريان الطائي يمدح حاتماً:
إني إلى حاتم رحلت ولم ... يدع إلى العرف مثله أحد
الواعد الوعد والوفي به ... إذ لا يفي معشر بما وعدوا
والواهب الخيل والولائد والربر ... بفيها الأوانس الخرد
يرفلن في الريط والمروط كما ... تمشي نعاج الخميلة الميد
لا يستطيع الأولى تصلولهم ... جريك في ماقط ولو جهدوا
كفاك أما يد فمترعة ... للناس غيثاً تقضيه ويد
سقاءة للسمام يمنعها ... من كل غيم يشامه العيد
لا يخلط الخدع ما تقول ولا ... يدرك شيئاً فعلته حسد
ما نبه الطارقون من أحد ... في غير ما عمدهم وما اعتمدوا
مثلك في ليلة الشتاء إذا ... ما كان يبساً جلالها الجلد
وراحت الشول وهي متلية ... حدياً تهادى إلى الذرى حرد
والحجر النائحات واقتسمت ... بالنار عتد اقتداحها الزند
اقتل للجوع عند تلك ولن ... يدفأ فيها بمثلك الصرد
قد علموا والقدور تعلمه ... ومستهل الغرار مطرد
إن ليس عند اعترار طارفها ... لديك إلا استلالها مدد
قال أبو صالح قال أبو المنذر: كان بدء العداوة التي كانت بين طي وزارة بن عدس أن عمرو بن هند خرج غازياً فربع منفصاً فقال له زرارة: أبيت اللعن أغر على هذا الحي من طيىء. فقال: إن بيننا وبينهم عقداً فلم يزل به حتى أغار فأصاب أزواداً ورجالاً ونساء فذلك قول عارق:
أكل خميس أخطأ الغنم مرة ... وصادف حياً دائناً هو سائقه
فأقسمت لا أحتل إلا بصهوة ... حرام عليك رمله وشقائقه
فأقسمت جهداً بالمنازل من منى ... وما ضم من بطحائهن درادقه(1/124)
لئن لم تغير بعض ما قد صنعتم ... لانتحين العظم ذو أنا عارقه
قال أبن الكلبي قال أبو سحيم الكلابي: ضاف حاتماً ضيف في سنة لم يقدر على شيء وله ناقة يسافر عليها يقال لها أفعى. فعقرها وأطعم أضيافه قسمها وبعث إلى عياله بقسمها وقال حاتم في ذلك (من الطويل) :
لما رأيت الناس هرت كلابهم ... ضربت بسيفي ساق أفعى فخرت
فقلت لأصباه صغار ونسوة ... بشهباء من ليل الثمانين قرت
عليكم من الشطين كل ورية ... إذا النار مست جانبيها أرمعلت
ولا ينزل المرء الكريم عياله ... وأضيافه ما ساق مالاً بضرت
وبروايتهما عن أبي صالح قال: أنشد ابن الكلبي لحاتم (من الطويل) :
لا تستري قدري إذا ما طبختها ... علي إذا ما تطبخين حرام
ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي ... بجزل إذا أوقدت لا بضرام
وبروايتهم عن ابن الكلبي أنه أنشد لحاتم (من البسيط) :
ألا سبيل إلى مال يعارضني ... كما يعارض ماء الأبطح الجاري
ألا أعان على جودي بميسرة ... فلا يرد ندى كفي اقتاري
وقال لدهم بن عمرو (من الطويل) :
إذا كنت ذا مال كثير موجهاً ... تدق لك الأفحاء في كل منزل
فإن نزيع الجفر يذهب عيمتي=وأبلغ بالمخشوب غير المفلفل وبروايتهم عن ابن الكلبي أنه أنشد لحاتم (من البسيط) :
وإني لأستحيي صحابي أن يروا ... مكان يدي في جانب الزاد أقرعا
أقصر كفي أن تنال أكفهم ... إذا نحن أهوينا وحاجاتنا معا
وإنك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم اجمعا
أبيتُ خميص البطن مضطمر الحشى ... حياء أخاف الذم أن أتضلعا(1/125)
ويروى عن أبي صالح أنه قال: أنشدني ابن الكلبي لحاتم (من الطويل) :
أما والذي لا يعلم الغيب غيره ... ويحيي العظام البيض وهي رميم
لقد كنت أطوي البطن والزاد يشتهي ... مخافة يوماً أن يقال لئيم
وما كان بي ما كان والليل ملبس ... رواق له فوق الأكام بهيم
ألف بحلسي الزاد من دون صحبتي ... وقد آب نجم واستقل نجوم
وعن ابن الكلبي (من الطويل) :
وقائلة أهلكت بالجود مالنا ... ونفسك حتى ضر نفسك جودها
فقلت دعيني إنما تلك عادتي ... لكل كريم عادة يستعيدها
ومن منظماته قوله لما دخل على الحارث بن عمرو الجفني فأنشده (من المتقارب) :
أبى طول ليلك إلا سهودا ... فما إن تبين لصبح عمودا
أبيت كئيباً أراعي النجوم ... وأوجع من ساعدي الحديدا
أرجي فواضل ذي بهجة ... من الناس يجمع حزماً وجودا
نمته إمامة والحارثان ... حتى تمهل سبقاً جديدا
كسبق الجواد غداة الرهان ... أربى على السن شأواً مديدا
فاجمع فداء لك الوالدان ... لما كنت فينا بخير مريدا
فتجتمع نعمى على حاتم ... وتحضرها من معد شهودا
أم الهلك أدنى فما إن علمت ... علي جناحاً فاخشى الوعيدا
فأحسن فما عار فيما صنعت ... تحيي جدودا وتبري جدودا
وبروايتهم عن ابن الكلبي أنه أنشد لحاتم (من الطويل) :
صحا القلب من سلمى وعن أم عامر ... وكنت أراني عنهما غير صابر
ووشت وشاة بيننا وتقاذفت ... نوى غربة من بعد طول التجاور(1/126)
وفتيان صدق ضمهم دلج السرى ... على مسهمات كالقداح ضوامر
فلما أتوني قلت خير معرس ... ولم أطرح حاجاتهم بمعاذر
وقمت بموشي المتون كأنه ... شهاب غضاً في كف ساع مبادر
ليشقى به عرقوب كوماء جبلة ... عقيلة آدم كالهضاب بهازر
فظل عفاتي مكرمين وطابخي ... فريقان منهم بين شاو وقادر
شآمية لم يتخذ له حاسر ... الطبيخ ولا ذم الخليط المجاور
يقمص دهداق البضيع كأنه ... رؤوس القطا الكدر الدقاق الحناجر
كأن ضلوع الجنب في فورانها ... إذا استحمشت أيدي نساء حواسر
إذا استنزلت كانت هدايا وطعمة ... ولم تختزن دون العيون النواظر
كأن رياح اللحم حين تغطمطت ... رياح عبير بين أيدي العواطر
ألا ليت أن الموت كان حمامه ... ليالي حل الحي أكناف حابر
ليالي يدعوني الهوى فأجيبه ... حثيثاً ولا أرى إلى قول زاجر
ودوية قفر تعاوى سباعها ... عواء اليتامى من حذار التراتر
قطعت بمرداة كأن نسوعها ... تشد على قوم علندى مخاطر
وبروايتهم عن ابن الكلبي أنه أنشد لحاتم (من الطويل) :
لا نطرق الجارات من بعد هجعة ... من الليل إلا بالهدية تحمل
ولا يلطم ابن العم وسط بيوتنا ... ولا نتصبى عرسه حين يغفل
وبروايتهم عن ابن الكلبي أنه أنشد لحاتم (من البسيط) :
مهلاً نوار أقلي اللوم والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فعلا
ولا تقولي لمال كنت مهلكه ... مهلاً وإن كنت أعطي الجن والخبلا(1/127)
يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا
إن البخيل إذا ما مات يتبعه ... سوء الثناء ويحوي الوارث الإبلا
فأصدق حديثك إن المرء يتبعه ... ماكان يبني إذا ما نعشه حملا
ليت البخيل يراه الناس كلهم ... كما يراهم فلا يقري إذا نزلا
لا تعذليني على مال وصلت به ... رحماً وخير سبيل المال ما وصلا
يسعى الفتى وحمام الموت يدركه ... وكل يوم يدني للفتى الأجلا
إني لأعلم إني سوف يدركني ... يومي وأصبح عن دنياي مشتغلا
فليت شعري وليت غير مدركة ... لأي حال بها أضحى بنو ثعلا
أبلغ بني ثعل عني مغلغلة ... جهد الرسالة لا محكاً ولا بطلا
اغزوا بني ثعل فالغزو حظكم ... عدوا الروابي ولا تبكوا لمن نكلا
ويهاً فداؤكم أمي وما ولدت ... حاموا على مجدكم واكفوا من اتكلا
إذ غاب م غاب عنهم من عيرتنا ... وأبدت الحرب ناباً كالحاً عصلا
الله يعلم أني ذو محافظة ... ما لم يخني خليلي يبتغي بدلا
فإن تبدل بالقاني أخو ثقة ... عف الخليقة لا نكساً ولا وكلا
وقال (من الطويل) :
ومرقبة دون السماء علوتها ... أقلب طرفي في فضاء سباسب
وما أنا بالماشي إلى بيت جارتي ... طروقاً أحييها كآخر جانب(1/128)
ولو شهدتنا بالمزاح لأيقنت ... على ضرنا أنا كرام الضرائب
عشية قال ابن الذئيمة عارق ... إخال رئيس القوم ليس بآئب
وما أنا بالساعي بفضل زمامها ... لتشرب ما في الحوض قبل الركائب
فما أنا بالطاوي حقيبة رحلها ... لأركبها خفاً وأترك صاحبي
إذا كنت رباً للقلوص فلا تدع ... رفيقك يمشي خلفها غير راكب
انخها فأردفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العقاب فعاقب
ولست إذا ما أحدث الذهر نكبة ... بأخضع ولاج بيوت الأقارب
إذا أوطن القوم البيوت وجدتهم ... عماة عن الأخبار خرق المكاسب
وشر الصعاليك الذي هم نفسه ... حديث الغواني واتباع المآرب
وبروايتهم عن أبي صالح قال: أنشدني ابن الكلبي لحاتم (من الوافر) :
ألا أبلغ بني أسد رسولاً ... وما بين أن أزنكم بغدر
فمن لم يوف بالجيران قدماً ... فقد أوفت معاوية بن بكر
وبروايتهم عن ابن الكلبي قال: سارت محارب حتى نزلوا إعجاز إجاء وكانت منازل بني بولان وجرم بأموالهم فخافت طي أن يغلبوها عليها فقال حاتم يحضهم (من المتقارب) :
أرى أجاً من وراء الشقيق ... والصهو زوجها عامر
وقد زوجوها وقد عنست ... وقد أيقنوا أنها عاقر(1/129)
فإن يك أمر بإعجازها ... فإني على صدرها حاجر
وبروايتهم عن ابن الكلبي أنه أنشد لحاتم (من الطويل) :
وفتيان صدق لا ضغائن بينهم ... إذا أرملوا لم يولعوا بالتلاوم
سريت بهم حتى تكل مطيهم ... وحتى تراهم فوق أغبر طاسم
وإني أذين أن يقولوا مزايل ... بأي يقول القوم أصحاب حاتم
فإما تصيب النفس أكبر همها ... وإما أبشركم بأشعث غانم
وبروايتهم عن ابن الكلبي (من الوافر) :
كريم لا أبيت الليل جاد ... أعدد بالأنامل ما رزيت
إذا ما بت أشرب فوق ري ... لسكر في الشراب فلا رويت
إذا ما بت اختل عرس جاري ... ليخفيني الظلام فلا خفيت
أأفضح جارتي وأخون جاري ... معاذ الله أفعل ما حييت
وبروايتهم عن ابن الكلبي (من الطويل) :
ارسماً جديداً من نوار تعرف ... تسائله إذ ليس بالدار موقف
تبغ ابن عم الصدق حيث لقيته ... فإن ابن عم السوء إن سر يخلف
إذا مات من اسيد قام بعده ... نظير له يغني غناه ويخلف
وإني لاقري الضيف قبل سؤاله ... وأطعن قدماً والأسنة ترعف
وإني لاخزى أن ترى بي بطنة ... وجارات بيتي طاويات ونحف
وإني لأغشي أبعد الحي جفنتي ... إذا حرك الأطناب نكباء حرجف
وإني أرمي بالعداوة أهلها ... وإني بالأعداء لا أتنكف
وإني لأعطي سائلي ولربما ... أكلف ما لا أستطيع فأكلف(1/130)
وإني لمذموم إذا قيل حاتم ... نبا نبوة إن الكريم يعنف
سآبي وتأبى بي أصول كريمة ... وآباء صدق بالمودة شرفوا
واجعل مالي دون عرضي إنني ... كذلكم مما أفيد وأتلف
وأغفر إن زلت بمولاي نعلة ... ولا خير في المولى إذا كان يقرف
سأنصره إن كان للحق تابعاً ... وإن جار لم يكثر علي التعطف
وإن ظلموه قمت بالسيف دونه ... لأنصره إن الضعيف يؤنف
وإني وإن طال الثواء لميت ... ويعطمني ماوي بيت مسقف
وإني لمجزي بما أنا كاسب ... وكل امرئ رهن بما أنا متلف
وبروايتهم عن ابن الكلبي (من الطويل) :
وخرق كنصل السيف قد رام مصدفي ... تعسفته بالرمح والقوم شهدي
فخر على حر الجبين بضربة ... تقط صفاقاً عن حشاً غير مسند
فما رمته حتى تركت عويصه ... بقية عرف يحفز الترب مذود
وحتى تركت العائدات يعدنه ... ينادين لا تبعد وقلت له ابعد
أطافوا به طوفين ثم مشوا به ... إلى ذات الجاف بزخاء قردد
ومرقبة دون السماء طمرة ... سبق طلوع الشمس منها بمرصد
وسادي بها جفن السلاح وتارة ... على عدواء الجنب غير موسد
وبروايتهم عن ابن الكلبي (من الطويل) :
ألا أخلفت سوداء منك المواعد ... ودون الذي أملت منها الفراقد
تمنيننا غدواً وغيمكم غداً ... ضباب فلا صحو ولا الغيم جائد(1/131)
إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد ... بفضل الغنى ألفيت ما لك حامد
وماذا يعدي المال عنك وجمعه ... إذا كان ميراثاً وواراك لأحد
وبروايتهم عن ابن الكلبي (من الطويل) :
بكيت وما يبكيك من طلل قفر ... بسقف اللوى بين عموران فالغمر
بمنعرج الغلان بين ستيرة ... إلى دار ذاتالهضب فالبرق الحمر
إلى الشعب من أعلى ستار فثرمد ... فبلدة مبنى سنبس لابنتي عمرو
وما أهل طود مكفهر صحونه ... من الموت إلا مثل من حل بالصحر
وما دارع إلا كآخر حاسر وما مقتر إلا كآخر ذي وفر
تنوط لنا حب الحياة نفوسنا ... شقاء ويأتي الموت من حيث لا ندري
أماوي إما مت فاسعي بنطفة ... من الخمر رياً فانضحن بها قبري
فلو أن عين الخمر في رأس شارف من الأسد ورد لاعتلجنا على الخمر
ولا آخذ المولى لسوء بلائه ... وإن كان محني الضلوع على غمر
متى يأت يوماً وارثي يبتغي الغنى ... يجد جمع كف غير ملء ولا صفر
يجد فرساً مثل العنان وصارماً ... حساماً إذا ما هز لم يرض بالهبر
واسمر خطياً كأن كعوبه ... نوى القسب قد ارمى ذراعاً على العشر(1/132)
وإني لأستحي من الأرض إن أرى ... بها الناب تمشي في عشياتها الغبر
وعشت مع الأقوام بالفقر والغنى ... سقاني بكأسي ذاك كلتاهما دهري
ويروى لحاتم هذان البيتان (من المتقارب) :
قدوري بصحراء منصوبة ... وما ينبج الكلب أضيافيه
وإن لم أجد لنزيلي قرى ... قطعت له بعض أطرافيه
وقال حاتم الطائي يخاطب امرأته ماوية بنت عبد الله (من الطويل) :
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... وما ابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني لست آكله وحدي(1/133)
أخاً طارقاً أو جار بيت فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ... وما في إلا تلك من شيمة العبد
وكانت وفاة حاتم الطائي نحو سنة (605 م) وقبره بعوارض وهو جبل لطيىء.(1/134)
إياس بن قبيصة (612 م)
هو إياس بن قبيصة بن أبي عفراء بن النعمان بن حية بن سعبة بن الحارث بن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن سفر بن هنيء بن عمرو بن الغوث بن طي. وهو ابن أخي حنظلة بن أبي عفراء الذي بسببه تنصر المنذر صاحب الغريين. وأمه أمامة بنت مسعود أخت هانىء ابن مسعود بن عامر الشيباني.
كان إياس من أشراف طيىء وفصحائها المشهورين وشجعانها الموصوفين. وكان إياس قد اتصل من مجالسة كسرى ابرويزالي ما لم يتصل إلي أحد من الأعراب. واقطعه كسرى ثلاثين قرية على شاطىء الفرات. وولاه على عين تمر وما والاها إلى الحيرة. وذلك ليد أسفلها إياس عند كسرى يوم واقعة بهرام على ابرويز. وطلب من النعمان فرسه ينجو عليها فأبى واعترضه حسان بن حنظلة بن جنة الطائي وهو ابن عم إياس بن قبيصة فأركبه فرسه ونجا عليه ومر في طريقه بإياس فأهدى له فرساً وجزوراً فرعى له ابرويز هذه الوسائل.
ولما مات عمرو بن هند ولاه كسرى على الحيرة في الفترة إلى أن ولى النعمان أبا قابوس. فأقام إياس عند كسرى مكرماً. ثم تعدى الروم تخوم العجم فوجه كسرى إياساً لقتالهم بساتيدما وهو جبل بين ميافارقين وسعرت في ديار بكر فأدركهم إياس بمكان يعرف بدرب الكلاب سمي بذلك لأن قيصر انهزم من جيش كسرى بحيلة عملها عليه فاتبعه إياس فأدركهم بساتيدما مرعوبين مفلولين من غير قتال فقتلوا قتل الكلاب ونجا قيصر في خواص من أصحابه فسمي ذلك الموضع بدرب الكلاب لذلك. فعاد إياس ظافراً وقدمه كسرى ثم هلك النعمان كما مر تحت أرجل الفيلة وكان قبل موته أودع بني شيبان ماله ونعمه وحلقته وهي سلاح ألف فارس شاكة. فلما هلك النعمان بعث إياس إلى هانىء بن مسعود بن عامر رئيس شيبان في حلقة النعمان. ويقال كانت أربعمائة درع وقيل ثمانمائة فمنعها هانىء وغضب كسرى وأراد استئصال بكر بن وائل وأشار عليه النعمان بن زرعة من بني تغلب أن يمهل إلى فصل القيظ عند ورودهم مياه ذي قار. فلما قاظوا ونزلوا تلك المياه جاءهم النعمان بن زرعة يخيرهم في الحرب وإعطاء اليد فاختاروا الحرب اختارها حنظلة بن سنان العجلي وكانوا قد ولوه أمرهم(1/135)
وقال لهم: إنما هو الموت قتلاً إن أعطيتم باليد أو عطشاً إن هربتم وربما لقيكم بنو تميم فقتلوكم. ثم بعث كسرى إلى إياس بن قبيصة أن يسير إلى حربهم ويأخذ معه مسالح فارس وهم الجند الذين كانوا معه بالقطقطانية وبارق وتغلب. وبعث إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين وكان على طف شقران إن يوافي إياساً. فجاءت الفرس معها الجنود والأفيال عليها الأساورة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة. فقال: اليوم انتصف العرب من العجم ونصروا وحفظ ذلك اليوم فإذا هو يوم الوقعة. ولما تواقف الفريقان جاء قيس بن مسعود إلى هانىء وأشار عليه أن يفرق سلاح النعمان على أصحابه ففعل. واختلف هانىء بن مسعود وحنظلة بن ثعلبة بن سنان فأشار هانىء بركوب الفلاة وقطع حنظلة حزم الرحال وضرب على نفسه وآلى أن لا يفر. ثم استقوا الماء لنصف شهر واقتتلوا وهرب العجم من العطش واتبعهم بكر وعجل فاصطف العجم وقاتلوا وصبروا وراسلت إياد بكر بن وائل أنا نفر عند اللقاء فصحبوهم واشتد القتال وقطعوا الآمال حتى سقطت الرجال إلى الأرض. ثم حملوا عليهم واعترضهم يزيد بن حماد السكوني في قومه كان كميناً أمامهم. فشدوا على إياس بن قبيصة من معه من العرب فولت إياد منهزمة وانهزمت الفرس وجاوزوا الماء في حر الظهيرة في يوم قائظ فهلكوا أجمعين قتلاً وعطشاً. وأفلت إياس بن قبيصة على فرس له كانت عند رجل من بني تيم الله يقال له أبو ثور. فلما أراد أن يعزوهم أرسل إليه أبو ثور بها. فنهاه أصحابه أن يفعل. فقال: والله ما في فرس إياس ما يعز رجلاً ولا يذله وما كنت لأقطع رحمه فيها. فقال إياس (من الطويل) :
غزاها أبو ثور ثلما رأيتها ... دخيس دواء لا أضيع غزاها
فأعددتها كفؤا لكل كريهة ... إذا أقبلت بكر تجر رشاها
(قال) واتبعتهم بكر بن وائل يقتلونهم بقية يومهم وليلتهم حتى أصبحوا من الغد وقد شارفوا السواد ودخلوه. فذكروا أن مائة من بكر بن وائل وسبعين من عجل وثلاثين من أفناء بكر بن وائل أصبحوا وقد دخلوا السواد في طلب القوم. فلم يفلت منهم كبير أحد. وأقبلت بكر بن وائل على الغنائم فقسموها بينهم وقسموا تلك اللطائم بين نسائهم. فذلك قول الدهان ابن جندل:
إن كنت ساقية يوماً على كرم ... فاسقي فوارس من ذهل بن شيبانا
واسقي فوارس حاموا عن ديارهم ... وأعلى مفارقهم مسكاً وريحاناً(1/136)
(قال) فكان أول من انصرف إلى كسرى بالهزيمة إياس بن قبيصة. وكان لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتفيه. فلما أتاه إياس سأله عن الخبر. فقال: هزمنا بكر بن وائل فأتيناك بنسائهم. فأعجب ذلك كسرى وأمر له بكسوة. وإن إياساً استأذنه عند ذلك فقال: إن أخي مريض بعين التمر فأدرت أن آتيه. وإنما أراد أن يتنحى عنه. فأذن له كسرى. فترك فرسه الحمامة وهي التي كانت عند أبي ثور بالحيرة وركب نجيبته فلحق بأخيه. ثم أتى كسرى رجل من أهل الحيرة وهو بالخورنق. فسأله هل دخل على الملك أحد. فقال: نعم إياس فقال: ثكلت إياساً أمه. وظن أنه قد حدثه بالخبر. فدخل عليه فحدثه بهزيمة القوم وقتلهم. فأمر به فنزعت كتفاه.
وأقام إياس في ولاية الحيرة مكان النعمان ومعه الهمرجان من مرازبة فارس تسع سنين وفي الثامنة منها كانت البعثة.
وإياس معدود من شعراء الطبقة الثالثة كما مر وشعره مفرق ضاع أكثره فمن ذلك ما أورد له صاحب الحماسة قاله وقد هرب من كسرى (من الطويل) :
ما ولدتني حاصن ربعية ... لئن أنا مالأت الهوى لاتباعها
ألم ترى أن الأرض رحب فسيحة ... فهل تعجزني بقعة من بقاعها
ومبثوثة بث الدبا مسبطرة ... رددت على بطائها من سراعها(1/137)
وأقدمت والخطي يخطر بيننا ... لا علم من جبانها من شجاعها(1/138)
القسم الثاني
شعراء نجد والحجاز من ربيعة وتغلب
وقضاعة وإياد بني عدنان(2/139)
شعراء نجد والحجاز (ربيعة)
البراق (470 م)
جاء في جمهرة أنساب العرب للكلبي ما ملخصه: البراق هو أبو نصر البراق بن روحان بن أسد بن بكر بن مرة من بني ربيعة وهو من قرابة المهلهل وكليب وكان شاعراً مشهوراً من أهل اليمن من شعراء الطبقة الثانية وهو جاهلي قديم. وكان في صغره يتبع رعاة الإبل ويحلب اللبن ويأتي بن إلى راهب حول المراعي فيتعلم منه تلاوة الإنجيل وكان يدين بدينه وكان عم البراق لكيز بن أسد له ابنة حسنة الوجه كثيرة الأدب وافرة العقل شاع ذكرها عند العرب وكان اسمها ليلى فخطبها البراق إلى أبيها لكيز فوعده بها. وكان لكيز يتردد على عمرو بن ذي صهبان ابن أحد ملوك اليمن فيجزل عطيته ويحسن إكرامه فخطب منه ليلى وجهز إليه بالهدايا السنية فأنف أن يرد طلبته وأمل أن يكون الملك فرجاً لشدائد قومه وحصناً في جوارهم وذخيرة لعظائم أمورهم. فلما بلغ البراق خبر ليلى أتى إلى أبيه وإخوته وأمرهم بالرحيل فارتحلوا وتركوا على بني حنيفة قومهم في البحرين. فساء ذلك لكيزاً وقومه وأجل عهد زواج ابنته. وثارت في أثناء ذلك حرب ضروس بين بني ربيعة قوم البراق وقبائل قضاعة وطيىء وقتل كثيرون من الفيئتين وتعاظمت الشرور واتسع الخرق واضطرب حبل بني ربيعة فأضحوا على غمة من أمرهم. فاجتمع إلى البراق كليب بن ربيعة وإخوته يستنجدونه وكان البراق معتزلاً عنهم بقومه لرغبة لكيز عنه بابنته ليلى. فقالوا له: قد طم الخطب ولا قرار لنا عليه وأنشده كليب:
إليك أتينا مستجيرين للنصر ... فشمر وبادر للقتال أبا نصر
وما الناس إلا تابعون لواحد ... إذا كان فيه آلة المجد والفخر
فناد تجبك الصيد من آل وائل ... وليس لكم يا آل وائل من عذر
فأجابه البراق متهكماً (من الطويل) :
وهل أنا إلا واحد من ربيعة ... أعز إذا عزوا وفخرهم فخري
سأمنحكم مني الذي تعرفونه ... أشمر عن ساقي وأعلو على مهري
وادعو بني عمي جميعاً وإخوتي ... إلى موطن الهيجاء أو مرتع الكر
ثم ردهم خائبين ولم يوافقهم على القيام فيهم. وبلغ بني طيىء امتناع البراق من القيام(2/141)
في قومه فأرسلوا إليه يعدونه بما شاء من الكرامة والسيادة فيهم أن آزرهم على قتال ربيعة. فأخذت البراق الغيرة لذلك وزال ما كان في قلبه من الحقد والضغينة على قومه وأجاب بني طيىء (من الوافر) :
لعمري لست أترك آل قومي ... وأرحل عن فنائي أو أسير
بهم ذلي إذا ما كنت فيهم ... على رغم العدى شرف خطير
أأنزل بينهم إن كان يسر ... وأرحل إن ألم بهم عسير
وأترك معشري وهم أناس ... لهم طول على الدنيا يدور
ألم تسمع أسنتهم لها في ... تراقيكم وأضلعكم صرير
فكف الكف عن قومي وذرهم فسوف يرى فعالهم الضرير
ثم أمر البراق قومه بالركوب فركبوا وامتطى هو مهرته شبوب وكسر قناته وأعطى كل واحد من إخوته كعباً منها وقال لهم: حثوا أفراسكم وقلدوا نجائبكم قلائد الجزع في الاستنصار لقومكم. فامتثلوا رأيه وتفرقوا في أحياء ربيعة واستصرخوا قبائلهم فجزعت ربيعة لجزع البراق وأخذت أهبتها للحرب وتواردت قبائل ربيعة من كل فج وعقدوا له الرئاسة في قومه. ثم ساروا إلى ديار قضاعة وطيىء فأغاروا عليهم وفي أوائلهم نويرة بن ربيعة وأخوه المهلهل والحارث بن عباد الكبري وفي آخرهم البراق وكليب بن ربيعة فتذكر البراق صنيع طيىء وما عولت عليه من قتال ربيعة فأنشد (من الطويل) :
أقول لنفسي مرة بعد مرة ... وسمر القنا في الحي لا شك تلمع
أيا نفس رفقاً في الوغى ومسرة ... فما كأسها إلا من السم ينقع
إذا لم أقد خيلاً إلى كل ضيغم ... فآكل من لحم العداة وأشبع
فلا قدت من أقصى البلاد طلائعاً ... ولا عشت محموداً وعيشي موسع
إذا لم أطأ طياً وأحلافها معاً ... قضاعة بالأمر الذي يتوقع
فسيروا إلى طي لنخلي ديارهم ... فتصبح من سكانها وهي بلقع(2/142)
ثم قدم من الفرسان قوماً يستطردون للعدو ففعلوا فلحقتهم جموع طي وقضاعة حتى أبعدوا من ديارهم وتوسطوا ديار ربيعة فالتقتهم فرسان البراق وانطبقت عليهم من كل جانب فبرحوا بهم القتل وانهزم الباقون. ثم عاد بنو طي إلى القتال وتجرد نصيرين لهيم بن عمرو الطائي وكان من أشد الناس بأساً لمبارزة البراق فلم ينل منه ما أمل فقال البراق (من الوافر) :
دعاني سيد الحيين منا ... بني أسد السميذع للمغار
يقود إلى الوغى ذهلاً وعجلاً ... بني شيبان فرسان الوقار
وآل حنيفة وبني ضبيع ... وأرقمها وحي بني ضرار
وشوساً من بني جشم تراها غداة الروع كالأسد الضواري
وقم بني ربيعة آل قومي ... تهيأوا للتحية والمزار
إلى أخوالهم طي فاهدوا ... لهم طعناً من العنوان واري
صبحناهم على جرد عتاق ... بأسياف مهندة قواري
ولولا صائحات أسعفتهم ... جهاراً بالصراخ المستجار
لما رجعوا ولا عطفوا علينا ... وخافوا ضرب باترة الشفار
فيا لك من صراخ وفاتضاح ... ونقع ثائر وسط الديار
على قب مسومة عتاق ... مقلدة أعنتها كبار
فتعطف بالقنا في كل صبح ... وتحمل في العجاجة والغبار
وقد زرنا الضحاة بني لهيم ... فاحدرناهم في كل عار
فيممت السنان لصدر عمرو ... فطاح مجندلاً في الصف عاري
وقد جادت يداي على خميس ... بضربة باتر الحدين فاري
وأفلت فارس الجراح مني ... لضربة منصل فوق السوار
فقل لابن الذعير النذل هلا ... تصبر في الوغى مثل اصطباري(2/143)
ألم أدعوه في سبق فولى ... كمثل الكبش يأذن بالحذار
أنا ابن الشم من سلفي نزار ... كريم العرض معروف النجار
وحولي كل أروع وائلي ... سديد الرأي مشدود الإزار
ثم عاد الفريقان إلى القتال وقامت الحرب على ساق وقتل قوم من سواد طي وسدوس وبني ربيعة من جملتهم ظليل بن الروحان أخو البراق فقال يرثيه (من البسيط) :
عين تجود وقلب واله كمد ... لما ثوى في الثرى الضرغامة الأسد
غاب الكرى وتقضى النوم وانصرمت ... حبل التواصل لما أن دنا السهد
وفيها يقول منذراً بني قضاعة:
فإن تسيروا إلينا ترفدوا عجلاً ... ضرباً يظل على هاماتكم يقد
وإن وقفتم فإنا سائرون لكم ... يا آل خالي بجرد الخيل تنجرد
ثم برز بين الصفين ونادى ببراز مصعب بن عمرو بن لهيم خاله وحمل عليه حملة منكرة فأرداه قتيلاً ثم اقتتل القوم يومهم قتالاً شديداً إلى أن حجر بينهم الليل. ثم اجتمعوا ثانية والتقوا بدومة وهي على حدود بلاد أنمار وطالت بينهم الحرب تارة لقوم البراق وأخرى عليهم إلى أن أظفره الله بأعدائه وامتلأت أيديه من الغنائم وانقادت إليه قبائل العرب. ومن مآثره الحميدة في تلك الحروب أنه فك أسرى قومه واسترجع الظعائن وكانت من جملتهن ليلى فاصطلحت بعد ذلك القبائل وأقروا للبراق بالفضل والشرف الرفيع. أما عمرو بن ذي صهبان فإنه أرسل إلى لكيز يستنجز وعده في أمر ابنته ليلى فلم ير بداً من إجابة دعواه إلا أن ملك فارس حال دون مرامه فطلب ليلى من عمرو بن ذي صهبان وأرسل فرساناً سبوها في طريقها وحملوها إلى فارس مرغمة. فنما خبرها إلى البراق ورجع لكيز يستنصر بقومه فحشد البراق الفرسان وسار إلى فارس ولم يزل يكد ويسعى حيناً بالقتال وآخر بالكيد حتى خلصها من يد مغتصبيها وأعادها إلى ديار ربيعة فأثنى عليه آله جميلاً وتزوج البراق بليلى وتولى البراق رئاسة قومه زماناً فأعطى وكسى وقرى وصارت ربيعة بحسن تدبيره أوسع العرب خيراً لما حازوه من الغنائم. توفي البراق نحو سنة 470 م. أما شعره فكثير روى منه صاحب جمهرة العرب والرواة قسماً فمن ذلك قوله يحرض بني وائل على حرب الفرس (من البسيط) :(2/144)
لم يبق يا ويحكم إلا تلاقيها ... ومسعر الحرب لاقيها وآتيها
لا تطمعوا بعدها في قومكم مضر ... من بعد هذا فولوها مواليها
فمن بقي منكم في هذه فله ... فخر الحياة وإن طالت لياليها
ومن يمت مات معذوراً وكان له ... حسن الثناء مقيماً إذ ثوى فيها
إن تتركوا وائلاً للحرب يا مضر ... فسوف يلقاكم ما كان لاقيها
يا أيها الراكب المجتاز ترفل في حزن البلاد وطوراً في صحاريها
أبلغ بني الفرس عنا حين تبلغهم ... وحي كهلان أن الجند عافيها
لابد قومي أن ترقى وقد جهدت ... صعب المراقي بما تأبى مراقيها
أما إياد فقد جاءت بها بدعاً ... في ما جنى البعض إذ ما البعض راضيها
وله قوله يوم أغار على آل طي وقضاعة وكانوا نهبوا وسبوا وكانت ليلى من جملة السبي (من الرجز) :
لا فرجن اليوم كل الغمم ... من سبيهم في الليل بيض الحرم
صبراً إلى ما ينظرون مقدمي ... إني أنا البراق فوق الأدهم
لارجعن اليوم ذات المبسم ... بنت لكيز الوائلي الأرقم
وله لما اقتحم العجم على لكيز وسبوا ليلى وكان مع العجم برد الأيادي (من الطويل) :
أمن دون ليلى عوقتنا العوائق ... جنود وقفر ترتعيه النقانق
وعجم وأعراب وأرض سحيقة ... وحصن ودور دونها ومغالق
وغربها عني لكيز بجهله ... ولما يعقه عند ذلك عائق
وقلدني ما لا أطيق إذا ونت ... بنو مضر الحمر الكرام الشقائق
وإني لأرجوهم ولست بائس ... وإني بهم يا قوم لا شك واثق(2/145)
فمن مبلغ برد الأيادي وقومه ... بأني بثاري لا محالة لاحق
ستسعدني بيض الصوارم والقنا ... وتحملني القب العتاق السوابق
رمى الله من يرمي الكعاب بريبة ... ومن هو بالفحشاء والمكر ناطق
وله أيضاً وكان عاد من بعض غزواته بسبي وغنائم (من الطويل) :
عبرت بقومي البحر أنزف ماءه ... وهل ينزفن البحر يا قوم نازف
ويوم التقينا ظل يوم عصبصب ... وفيه غبار ثائر وعواصف
وضرب يقد الهام بالبيض موجع ... وفيه الجياد السابحات زواحف
إذا قيل قد ولت هزيماً فإنها ... بقدر لحاظ الطرف منك عواطف
وظل لها يوم يجمع هبوة ... بها يبتني سقف من الأفق واقف
ودارت رحى الحرب المشيبة للفتى ... وهالت ذوي الألباب تلك المواقف
بها نغم الأسياف تنطق بالطلى ... فصيحات حد ثائرات خفائف
فآبت إلى ما يستشير بني أبي ... وينهضها الشم الكرام الغطارف
ومن حسن شعره قوله في أخيه غرسان وكان الفرس قتلوه في بعض الوقعات فرحل عنه القوم وبقي البراق وحده فحمل جسد أخيه إلى نهر وغسله من الدم والتراب وفرش له فراشاً من ديباج كان معه ثم انعطف عليه وقبله وأنشأ يقول (من الطويل) :
تولت رجالي بالغنائم والغنى ... مزجين للأجمال من رملان
ونادوا نداء بالرحيل فلم أطق ... إياباً وصنوي في المعارك فان
أؤوب إلى أمي سليماً مكرماً ... وغرسان مقتول بدار هوان
أأترك من لا يترك الدهر طاعتي ... ملب لما أدعو بكل لسان
أخي ومعيني في الخطوب وصاحبي ... بكل إغاراتي بحد سنان(2/146)
فلما دعاني يا ابن روحان لم أخم ... وقومت عسالي وصدر حصاني
طعنت بنصل الرمح جبهة مالك ... وغيبنه فيه بغير توان
وجندلت عماراً بضربة صارم ... ومزقت شمل الجند بالخولان
وقال فيه أيضاً (من الطويل) :
بكيت لغرسان وحق لناظري ... بكاء قتيل الفرس إذ كان نائيا
بكيت على واري الزناد فتى الوغى ... السريع إلى الهيجاء إن كان عاديا
إذا ما علا نهداً وعرض ذابلاً ... وقحم بكرياً وهز يمانيا
فأصبح مغتالاً بأرض قبيحة ... عليها فتى كالسيف فات المجاريا
وقد أصبح البراق في دار غربة ... وفارق إخواناً له ومواليا
حليف نوى طاوي حشاً سافح دماً ... يرجع عبرات يهجن البواكيا
فمن مبلغ عني كريمة أمه ... لتندب غرساناً وبراق ثانيا
وله فيه أيضاً (من البسيط) :
كم باكيات ترى يرثين في أسد ... ونادبات بحسرات لغرسان
لهفي عليه ثوى في موطن خشن ... بين الجياد بأسياف ومران
والخيل تقرع عرضاً في أعنتها ... والأرض تقذف سيلاً من دم قان
فذاك مشرع آبائي الألى سلفوا ... بين المعارك من شيب وشبان(2/147)
ليلى العفيفة (483م)
هي ليلى بنت لكيز بن مرة بن أسد من ربيعة بن نزار. وكانت أصغر أولاد لكيز فنشأت في حجره وبرعت بفضلها وكانت تامة الحسن كثيرة الأدب خطبها كثيرون من سراة العرب منهم عمرو بن ذي صهبان من أبناء ملوك اليمن. وكانت ليلى تركه أن تخرج من قومها وتود لو أن أباها زوجها بالبراق بن روحان ابن عمها وهي تدين بدينه. ألا أنها لم تعص أمر أبيها وصانت نفسها عن البراق تعففاً فلقبت بالعفيفة. وكانت في أثناء ذلك حروب بين بني ربيعة وقبائل طي وقضاعة أبلى فيها البراق بلاء حسناً كما مر في ترجمته. ثم خمدت الحرب وآن وقت زفاف ليلى فسمع بخبرها ابن لكسرى ملك العجم فأراد أن يخطبها لنفسه فكمن لقومها في الطريق ونقلها إلى فارس فبقيت هناك أسيرة لا ترضى بزواج إلى أن انتزعها البراق من يد غاصبيها واستحق أن يتزوج بها. وكانت وفاة ليلى نحو 483 للمسيح. ولليلى العفيفة شعر وجدنا منه لمعاً في كتاب خط ومجموع شعر قديم فمنها قولها تودع البراق (من الطويل) :
تزود بنا زاداً فليس براجع ... إلينا وصال بعد هذا التقاطع
وكفكف بأطراف الوداع تمتعاً ... جفونك من فيض الدموع الهوامع
ألا فاجزني صاعاً بصاع كما ترى ... تصوب عيني حسرة بالمدامع
ولها في مدح البراق وهي ترد على أم الأغر أخت كليب وكانت لامتها على جزعها (من الطويل) :
أم الأغر دعي ملامك واسمعي ... قولاً يقيناً لست عنه بمعزل
براق سيدنا وفارس خيلنا ... وهو المطاعن في مضيق الحجفل
وعماد هذا الحي في مكروهه ... ومؤمل يرجوه كل مؤمل
ولما ضيق عليها العجم وضربوها لتقنع بمراد ملكهم جعلت تستصرخ بالبراق وبإخوتها وتهدد بني أنمار وإياد وكانوا وافقوا العجم على سبيها (من الرمل) :(2/148)
ليت البراق عيناً فترى ... ما أقاسي من بلاء وعنا
يا كليباً يا عقيلاً إخوتي ... يا جنيداً ساعدوني بالبكا
عذبت أختكم يا ويلكم ... بعذاب النكر صبحاً ومسا
يكذب الأعجم ما يقربني ... ومعي بعض حساسات الحيا
قيدوني غللوني وافعلوا ... كل ما شئتم جميعاً من بلا
فأنا كارهة بغيتكم ... ومرير الموت عندي قد حلا
أتدلون علينا فارساً ... يا بني أنمار يا أهل الخنا
يا إياد خسرت صفقتكم ... ورمى المنظر من برد العمى
يا بني الأعماص إما تقطعوا ... لبني عدنان أسباب الرجا
فاصطباراً وعزاء حسناً ... كل نصر بعد ضر يرتجى
قل لعدنان فديتم شمروا ... لبني الأعجام تشمير الوحى
واعقدوا الرايات في أقطارها ... واشهروا البيض وسيروا في الضحى
يا بني تغلب سيروا وانصروا ... وذروا الغفلة عنكم والكرى
واحذروا العار على أعقابكم ... وعليكم ما بقيتم في الورى
وقيل أن بني ربيعة لما بلغها قول ليلى هذا استفزتهم الحمية وخنقتهم العبرة وساروا جميعاً لنصر ليلى إلى أن أظفرهم الله بمطلوبهم. ومن قول ليلى أيضاً مرثية في ابن عمها غرسان أخي البراق وبلغها قتله في الحرب (من البسيط) :
قد كان بي ما كفى من حزن غرسان ... والآن قد زاد في همي وأحزاني
ما حال براق من بعدي ومعشرنا ... ووالدي وأعمامي وإخواني(2/149)
قد حال دوني يا براق مجتهداً ... من النوائب جهد ليس بالفاني
كيف الدخول وكيف الوصل وااسفا ... هيهات ما خلت هذا وقت إمكان
لما ذكرت غريباً زاد بين كمدي ... حتى هممت من البلوى بإعلان
تربع الشوق في قلبي وذبته كما ... ذاب الرصاص إذا أصلي بنيران
فلو تراني وأشواقي تقلبني ... عجبت براق من صبري وكتماني
لا در در كلبيب يوم راح ولا ... أبي لكيز ولا خيلي وفرساني
عن ابن روحان راحت وائل كثباً ... عن حامل كل أثقال وأوزان
وقد تزاور عن علم كليبهم ... وقد كبا الزند من زيد بن روحان
واسلموا المال والأهلين واغتنموا ... أرواحهم فوق قب شخص أعيان
حتى تلاقاهم البراق سيدهم ... أخو السرايا وكشف القسطل الباني
يا عين فابكي وجودي بالدموع ولا ... تمل يا قلب أن تبلى بأشجان
فذكر براق مولى الحي من أسد ... أنسى حياتي بلا شك وأنساني
فتى ربيعة طواف أماكنها ... وفارس الخيل في روع وميدان(2/150)
كليب بن ربيعة (494م)
هو وائل بن ربيعة بن الحرث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. وأخوه عدي هو المعروف بالمهلهل. ولد نحو سنة 440 م ونشأ في حجر أبيه ودرب على الحرب وكان وقتئذ عاملاً على ربيعة زهير بن جناب من قبل ملوك حمير يؤدون له الجزية. فدهمتهم سنة لم يمكن بني وائل أداء الضريبة فاعتاصوا على زهير فتلافى زهير أمرهم وأسر رؤساءهم وسراتهم وكان فيمن أسر كليب والمهلهل أخوه. فاجتمع بنو بكر وبنو وائل وكروا على زهير وقومه من مذحج وكندة وفكوا أغلال كليب والمهلهل والتقوا بهم عند السلام في أرض تهامة مما يلي اليمن فكانت الدائرة على مذحج نحو سنة 481 م. واستقل بنو معد مدة. ثم حاول ملوك حمير أن يستعيدوا ما فقدوه من الحقوق على وائل فنالوا منهم فأقاموا عليهم عاملين اسم الواحد عمرو بن عنق الحية وكان على تهامة. واسم الآخر لبيد بن عنبسة الغساني وكان على ربيعة ومضر في نجد. فبقي رؤساء ربيعة في السلم مدة يفدون على ملوك حمير ويطلبون نوالهم ويتخفونهم بالهدايا وهم يحسنون معاملتهم. ثم أخذوا العهد عليهم دون غيرهم من القبائل لأنهم كانوا أشد العرب بأساً وأمنعهم جواراً. ثم مات ربيعة نحو سنة 492 م فخلفه كليب في سيادة ربيعة. وكان لبيد بن عنبسة عامل ملوك كندة قد ثقلت وطأته على بني ربيعة فعتا وتجبر وأخذ فيهم بالعنف والظلم وأساء المعاشرة بينهم فزجروه فلم يزدجر وهو يزداد جوراً. وكان لبيد هذا تزوج في ربيعة الزهراء أخت كليب فأنكرت عليه يوماً صنعه بربيعة فقال لها: ما بال أخيك كليب ينتصر لمضر ويتهدد الملوك كأنه يعز بغيرهم. فقالت: ما أعرف أعز من كليب وهو كفو لها. فغضب لبيد ولطمها على وجهها لطمة أعشت عينها وخرجت باكية إلى كليب وهي تقول:
ما كنت أحسب والحوادث جمة ... أنا عبيد الحي من قحطان
حتى أتتني من لبيد لطمة ... فعشت لها من وقعها العينان
أن ترضى أسرة تغلب ابنة وائل ... تلك الدنية أو بنو شيبان(2/151)
لا يبرحوا الدهر الطويل أذلة ... هدل الأعنة عند كل رهان
فلما سمع كليب قولها ورأى ما بها من أثر اللطمة أخذته الحمية وسار إلى أبياث لبيد فهجم عليه وعلا رأسه بالسيف فقتله وأنشد (من الخفيف) :
إن يكن قتلنا الملوك خطاء ... أو صواباً فقد قتلنا لبيداً
وجعلنا مع الملوك ملوكاً ... بجياد جرد تقل الحديدا
نسعر الحرب بالذي يحلف النا ... س به قومكم ونذكي الوقودا
أو تردوا لنا الإتاوة والفيء ... ولا نجعل الحروب وعيدا
إن تلمني عجائز من نزار ... فأراني فيما فعلت مجيدا
فلما علمت ربعية أن كليباً قتل لبيداً أيقنت بانتشاب الحروب وخرج أخ للبيد حتى أتى ابن عنق الحية وأخبره بقتل أخيه فبلغا الأمر إلى سليمة بن الحارث ملك كندة فبلغه ملك حمير فجهز لهما جيشاً كبيراً وساروا إلى تهامة.
ولما بلغت كليباً أ×بار أهل اليمن نادى في قومه بالغارة وعقد الألوية فأجابته القبائل من ربيعة ومضر وإياد وساروا يتقدمهم كليب ورهطه الأراقم. فجرت بينهم عدة مواقع أشهرها موقعة خزاز أو خزازى وهو جبل قريب من أمرة على يسار الطريق بين البصر ومكة خلفه صحراء منبج نزلته قبائل اليمن عليهم عشرة من أقيال حمير. وبلغ ذلك كليباً فألقى النفير في قبائل ربيعة ومضر وإياد وطي وقضاعة وحضهم على الثبات. ثم قدم على كل قبيلة قائداً فقدم الأحوص بن جعفر على مضر. وعلى بني ذهل وبني شيبان مرة بن ذهل أبا جساس. وعلى بني ربيعة ذهل بن حارثة. وعلى بني قيس طرفة بن العبد. ثم سار كليب إلى العدو وأصحابه يتتابعون قبيلة بعد قبيلة حتى انتهوا إلى ماء الذنائب. وكان قد سبقهم إلى هناك طلائع وملوك من أهل اليمن فقتلوهم عن آخرهم. وكان كليب قدم على مدمته السفاح التغلبي واسمه سلمة بن خالد وأمره أن يعلو خزازاً فيوقد بها النار ليهتدي الجيش بالنار وقال له: إن غشيك العدو فأوقد نارين. وبلغ سلمة اجتماع ربيعة ومسيرها فأوقد لهم النار فحملت عليه اليمن. فأوقد أخرى فأتته ربيعة واقتتلوا اقتتالاً شديداً فانهزمت جموع اليمن ولذلك يقول السفاح:
وليلة بت أوقد في خزازى ... هديت كتائباً متحيرات(2/152)
ضللن من السهاد وكن لولا ... سهاد القوم تحسب هاديات
فكن مع الصباح على جذام ... ولخم بالسيوف مشهرات
وقيل أن حرب خزاز دامت أياماً متوالية نصر الله في آخرها بني نزار وفي هذه الحرب يقول شاعر يمني:
كانت لنا بخزازى وقعة عجب ... لما التقينا وحادي الموت يحميها
ملنا على وائل في وسط بلدتها ... وذو الفخار كليب العز يحميها
قد فوضوه وساروا تحت رايته ... سارت إليه معد من أقاصيها
وحمير قومنا صارت مقاولنا ... ومذحج الغر صارت في تعانيها
قال ابن الأثير: وكان يوم خزازى أعظم يوم التقته العرب في الجاهلية. وقال: إن نزاراً لم تكن تستنصف من اليمن ولم تزل اليمن قاهرة لها في كل شيء حتى كان يوم خزازى فلم تزل نزار ممتنعة قاهرة لليمن في كل يوم التقوا بها بعد خزازى حتى جاء الإسلام.
ولما فض كليب جموع اليمن في خزازى وهزمهم اجتمعت عليه معد كلها وجعلوا له قسم الملك وتاجه ونجبيبته وطاعته. وكان هو الذي ينزلهم منازلهم ويرحلهم ولا ينزلون ولا يرحلون إلا بأمره. فعبر بذلك حيناً من دهره ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه لما هو فيه من عزه وانقياد معد له حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى وإذا جلس لا يمر أحد بين يديه إجلالاً له ولا يحتبي أحد في مجلسه غيره ولا يغير إلا بإذنه. ولا تورد إبل أحد مع إبله ولا توقد نار مع ناره. ولم يكن بكري ولا تغلبي يجير رجلاً ولا بعيراً أو يحمي حمى إلا بأمره وكان هو يجير على الدهر فلا تخفر ذمته ويقول: وحش أرض كذا في جواري فلا يهاج. قيل أنه اتخذ جرو كلب فإذا نزل بمنزل فيه كلأ قذف ذلك الكليب فيه فيعوي فلا يرعى أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه وقالت العرب: أعز من كليب وائل. فلقب به وائل ثم اختصروا فقالوا: كليب. وكان كليب يفعل هذا بحياض الماء فلا يردها أحد. وكان يحمي الصيد فيقول صيد ناحية كذا وكذا في جواري فلا يصيد أحد منه شيئاً. وكان قد حمى حمى لا يطأه إنسان ولا بهيمة فدخل فيه يوماً فطارت قنبرة بين يديه من على بيضها فقال لها (من الرجز) :(2/153)
يا لك من قبرة بمعمري ... لا ترهبي خوفاً ولا تستنكري
قد ذهب الصياد عنك فأبشري ... ورفع الفخ فماذا تحذري
خلا لك الجو فبيضي واصفري ... ونقري ما شئت أن تنقري
فأنت جاري من صروف الحذر إلى بلوغ يومك المقدر
وكان لكليب أربعة أخوة عدي وامرؤ القيس وسلمة وعبد الله. وتزوج كليب جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان. وكان لمرة وهو من بني بكر عشرة بنين همام ونضلة ودب وكسر وسيار وجندب وسعد وبجير والحارث وجساس وكان أصغرهم. وكان له خالة اسمها البسوس بنت منقذ وهي التي يقال فيها اشأم من البسوس. فجاءت ونزلت على ابن أختها جساس فكانت جارة لبني مرة ومعها ابن لها وناقة خوارة مع فصيلها واسم الناقة سراب. وقيل أن الناقة كانت لرجل من بني جرم نزل بالبسوس. فخرج كليب يوماً يتعهد الإبل ومراعيها فأتاها وتردد فيها وكانت إبله وابل جساس مختلطة. فنظر كليب إلى سراب فأنكرها. فقال له جساس وهو معه: هذه ناقة جارنا الجرمي. فقال: لا تعد هذه الناقة إلى هذه الحمى. فقال جساس: لا ترعى إبلي مرعى إلا وهذه معها. فقال كليب: لئن عادت لاضعن سهمي في ضرعها. فقال جساس: لئن وضعت سهمك في ضرعها لاضعن سنان رمحي في صلبك. ثم تفرقا. وقال كليب لامرأته: أترين أن في العرب رجلاً مانعاً مني جاره. فقالت: لا أعلمه إلا جساساً. فحدثها الحديث. وكان بعد ذلك إذا أراج الخروج إلى الحي منعته وناشدته الله أن لا يقطع رحمه وكانت تنهى أخاها جساساً أن يسرح إبله.
ثم أن كليباً خرج إلى الحمى فوجد بيض القنبرة قد وطئتها سراب فكسرتها فغضب وأمر غلامه أن: ارم ضرعها. فخرقه بسهم وقتل فصيلها ثم طرد إبل جساس ونفاها عن مياه غديرين اسمهما شبيث والأحص حتى كادت تهلك عطشاً. وولت سراب ولها عجيج حتى بركت بفناء صاحبها. فلما رأى ما بها صرخ بالذل وسمعت البسوس صراخ جارها فخرجت إليه. فلما رأت ما بناقته وضعت يدها على رأسها ثم صاحت واذلاه وضربت وجهها وانتزعت خمارها. وصرخ الجرمي يدعو بالويل وتقول البسوس: واذلاه واذل جاراه. فقال لها جساس:(2/154)
اسكتي فلك بناقتك ناقة أعظم منها. فأبت أن ترضى حتى صاروا لها إلى عشر. فلما كان الليل أنشأت تقول تخاطب سعداً أخا الجساس وترفع صوتها لتسمع جساساً:
أيا سعد لا تغرر بنفسك واحترز ... فإني في قوم عن الجار أموات
ودونك اذوادي إليك فإنني ... محارة أن يغدروا ببنياتي
لعمرك لو أصبحت في دار منقر ... لما ضيم سعد وهو جار لابياتي
ولكنني أصبحت في دار معشر ... متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي
(وسمت العرب أبياتها هذه الموثبات) . فقال لها جساس: اسكتي ولا تراعي وسكن الجرمي وقال لهما: إني سأقتل جملاً أعظم من هذه الناقة سأقتل علالاً. وكان علالاً فحل إبل كليب لم ير في زمانه مثله وإنما أراد جساس بمقالته كليباً. وكان لكليب عين يسمع ما يقولون فأعاد الكلام على كليب فقال: لقد اقتصر من يمينه على علال. ثم أن جساساً مكث يتندس الخبر عن كليب فإذا بلغه أن معه سلاحه لم يأته حتى خرج كليب ذات يوم وليس معه سلاحه فتبعه جساس هو وعمرو بن الحارث بن شيبان ويقال أنه عمرو بن أبي ربيعة المزدلف بن ذهل بن شيبان حتى لحقاه في الحمى. فقال له جساس: در لي من قدامه حتى أقتله. وكان كليب لا يلتف وراءه من الكبر فقال له جساس: يا كليب الرمح وراءك. فقال: إن كنت صادقاً فأقبل إلي م أمامي. ولم يلتفت إليه فطعنه فأرداه عن فرسه. فقال: يا جساس أغثني بشربة من ماء. فقال جساس: تجاوزت شبيثاً والأحص. ويقال أن عمر بن الحارث قال لجساس: والله ما أظنك صنعت شيئاً وأخاف أن تكون قد طرحتنا في بلية. فعاج على كليب فذفف عليه أي تمم. وزغم مقاتل أن عمراً هو الذي طعنه فقصم صلبه فقال المهلهل:
قتيل ما قتيل المرء عمرو ... وجساس بن مرة ذو ضرير
ثم اجتز رأسه فلما عاد إلى الديار سأله مرة ما وراءك يا بني. قال: طعنت طعنة لتشغلن شيوخ وائل رقصاً. قال: أقتلت كليباً. قال: إي وأنصاب وائل وأي قتل. قال: إذن نسلمك بجريرتك ونريق دمك في صلاح العشيرة فلا أنا منك ولا أنت مني. فوالله لبئس ما فعلت وودت أنك وإخوتك متم قبل هذا. فرقت جماعتك وأطلت حربها وقتلت سيدها ورئيسها في شارف من الإبل والله لا تجتمع وائل بعدها أبداً ولا يقوم لها عماد في العرب. فقال له قومه: لا تقل هذا ولا تفعل فيخذلوه وإياك. فأمسك مرة وغمس يده مع ابنه في الحرب واستعد لها. ثم قال لبنيه: اظعنوا بنا عن مجاورة القوم حتى ننظر ما يصنعون. فظعنوا(2/155)
وجلوا الأسنة وشحذوا السيوف وقوموا الرماح. وكان همام أخو جساس آخى المهلهل وكان ينادمه في ذلك الوقت فبعث جساس إلى همام جارية لهم تخبره الخبر. فانتهت إليهما وأشارت إلى همام فقام إليها فأخبرته. فقال هل مهلهل: ما قالت لك الجارية. وكان بينهما عهد أن لا يكتم أحدهما صاحبه شيئاً. فذكر له ما قالت الجارية وأحب أن يعلمه ذلك في مداعبة وهزل. فقال له مهلهل: يد أخيك أقصر من ذلك. فأقبلا على شربهما. فقال له مهلهل: اشرب فاليوم خمر وغداً أمر. فشرب همام وهو حذر خائف. فلما سكر مهلهل عاد همام إلى أهله فساروا من ساعتهم إلى جماعة قومهم وظهر أمر كليب فذهبوا إليه فدفنوه. فلما دفن شقت الجيوب وخمشت الوجوه وخرجت الأبكار وذوات الخدور العواتق إليه. وتمام هذا الخبر في ترجمة المهلهل. وكان قتل كليب سنة 494 م. وكان شاعراً إلا أن شعره قليل مر شيء منه ويروى له أيضاً قوله يفتخر ويذكر رئاسته على نزار ووقعة السلان (من الوافر) :
دعاني داعيا مضر جميعاً ... وأنفسهم تدانت لاختلاق
فكانت جعوة جمعت نزاراً ... ولمت شعثها بعد الفراق
أجبنا داعي مضر وسرنا ... إلى الأملاك بالقب العتاق
عليها كل أبيض من نزار ... يساقي الموت كرهاً من يساقي
أمامهم عقاب الموت يهوي ... هوي الدلو أسلمها العراقي
فأدرينا الملوك بكل عضب ... وطار هزيمهم حذر اللحاق
كأنهم النعام غداة خافوا ... بذي السلام قارعة التلاقي
فكم ملك أذقناه المنايا ... وآخر قد جلبنا في الوثاق
وله أيضاً قوله يذكر وقعة خزاز (من الطويل) :
لقد عرفت قحطان صبري ونجدتي ... غداة خزاز والحقوق دوان
غداة شفيت النفس من ذل حمير ... وأورثتها ذلاً بصدق طعاني
زلفت إليهم بالصفائح والقنا ... على كل ليث من بني غطفان(2/156)
ووائل قد جذت مقادم يعرب ... فصدقها في صخرها الثقلان
ومما يروى له أيضاً قوله لما رمى ناقة الجرمي وكانت القبرة التي اتخذها في ذمته (من الرجز) :
يا طيرة بين نبات أخضر ... جاءت عليها ناقة بمنكر
إنك في حمى كليب الأزهر ... حميته من مذحج وحمير
فكيف لا أمنعه من معشري
ثم قال بعد ضربها (من الوافر) :
سيلعم آل مرة حيث كانوا ... بأن حماي ليس بمستباح
وأن لقوح جارهم ستغدو ... على الأقوام غدوة كالرواح
وتضحي بينهم لحماً عبيطاً ... يقسمه المقسم بالقداح
وظنوا أنني بالحنث أولى ... وأني كنت أولى بالنجاح
إذا عجت وقد جاشت عقيراً ... تبينت المراض من الصحاح
وما يسرى اليدين إذا أضرت ... بها اليمنى بمدركة الفلاح
بني ذهل بن شيبان خذوها ... فما في ضربيتها من جناح
وقد روى الرواة أيضاً لكليب قوله يؤنب بني أسد لخذلهم بني تغلب (من الوافر) :
إذا كانت قرابتكم علينا ... مقومة أعنتها إلينا
فأنتم يا بني أسد بن بكر ... تريدون الطعام فمن يقينا
وأنتم يا بني أسد عماد ... لهذا المعشر المتعصبينا(2/157)
نعيت إليهم وصرخت فيهم ... فجاؤوا بالجرائم أجمعينا
بني أسد يريدون المنايا ... عشيرتكم وأنتم تمكرونا
وحلوا يا بني أسد عليكم ... وجاؤوا للوغى مستصحبينا
وصرتم يا بني أسد وأنتم ... لإخوتكم هبلتم خائنينا
إذا كثرت قرابتكم علينا ... بإحلاس الحديد ملبسينا
فما يجري مسيركم وأنتم ... كلابكم علي يعسعسونا
أبا النصر بن روحان خليلي ... أقيلت بيعة المتبايعنا
أبا النصر بن روحان خليلي ... إذا خضنا الوغى لا تحملونا
أبا النصر بن روحان خليلي ... أراك العز رهطك مستهينا
أبا النصر بن روحان خليلي ... كفى شراً فماذا تفعلونا
ألم تترك ربيعة لا تقدها ... تزيدهم المذلة والمنونا
تكون هدية لجميع طي ... وكنتم بالسلامة رائحينا
على شأن اللكيز وشان ليلى ... أردتم أن تكونوا خاذلينا
بني أسد أراكم من هواكم ... تريدون القطيعة جاهلينا
بني أسد أردتم آل عمي ... قطيعتنا وكنتم واصلينا
بني أسد تحثكم ليوث ... وأنتم في اللقا متخلفونا
وهي طويلة لم نجد منها غير هذه الأبيات في مجموع خط من الشعر القديم. وقد أكثر العرب من ذكر كليب بن ربيعة ولشعرائهم فيه أقوال منها قول عمرو بن الأهتم (من الطويل) :
وإن كليباً كان يظلم قومه ... فأدركه مثل الذي تريان
فلما حشاه الرمح كف ابن عمه ... تذكر ظلم الأهل أي أوان(2/158)
وقال لجساس أغثني بشربة ... وإلا فخبر من رأيت مكاني
فقال تجاوزت الأحص وماءه ... وبطن شبيث وهو غير دفان
وقال النابغة الجعدي (من الطويل) :
وبلغ عقالاً أن خطة داحس ... بكفيك فاستأخر لها أو تقدم
تجير علينا وائلاً بدمائنا ... كأنك عما ناب أشياعنا عم
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر ذنباً منك ضرج بالدم
رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة ... كحاشية البرد اليماني السهم
وقال لجساس أغثني بشربة ... تدارك بها مناً علي وأنعم
فقال تجاوزت الأحص وماءه ... وبطن شبيث وهو ذو مترسم
وقال العباس بن مرداس السلمي يحذر كليب بن عهمة السلمي وكان جحد قومه حظهم فحذره غب الظلم فقال:
أكليب مالك كل يوم ظالماً ... والظلم انكد وجهه ملعون
فافعل بقومك ما أراد بوائل ... يوم الغدير سميك المطعون
وقال رجل من بني بكر بن وائل يفتخر:
ونحن قهرنا تغلب ابنة وائل ... بقتل كليب إذ طغى وتخيلا
أبا ناه بالناب التي شق ضرعها ... فأصبح موطؤ الحمى متذللاً
وكان مقتل كليب بالذنائب عن يسار فلجة مصعداً إلى مكة وقبره هناك وفيه يقول المهلهل:
ولو نبش المقابر عن كليب ... فتخبر بالذنائب أي زير(2/159)
المهلهل أخو كليب (531 م)
هو أبو ليلى عدي بن ربيعة التغلبي وقد مر تمام نسبه بترجمة أخيه وهو من شعراء نجد من الطبقة الأولى وهو خال امرئ القيس بن حجر. ومنه ورث هذا إجادة الشعر ولقب عدي مهلهلاً لقوله:
لما توغل في الكراع هجينهم ... هلهلت اثأر مالكاً أو صنبلا
(هلهلت أي قاربت وقيل رجعت الصوت) . وزغم غيرهم أنه لقب مهلهلاً لأنه أول من هلهل نسج الشعر أي أرقه وهو أول من قصد القصائد وقال فيها الغزل. وله ديوان شعر جمعه أدباء العصر. وكان عدي من أصبح أهل زمانه وجهاً وأفصحهم لساناً وأشدهم بأساً حضر حرب السلان مع أخيه كليب وأبلى كلاهما فيه بلاء حسناً وفي ذلك يقول مخاطباً ابن عنق الحية (من الكامل) :
لو كان ناه لابن حية زاجراً ... لنهاه ذا عن وقعة السلان
يوم لنا كانت رئاسة أهله ... دون القبائل من بني عدنان
غضبت معد غثها وسمينها ... فيه ممالاة على غسان
فأزالهم عنا كليب بطعنة ... في عمر بابل من بني قحطان
ولقد مضى عنها ابن حية مدبراً ... تحت العجاجة والحتوف دوان
لما رآنا بالكلاب كأننا ... أسد ملاوثة على خفان
ترك التي سحبت عليه ذيولها ... تحت العجاج بذلة وهوان
ونجا بمهجته وأسلم قومه ... متسربلين رواعف المران
يمشون في حلق الحديد كأنهم ... جرب الجمال طلين بالقطران(2/160)
نعم الفوارس لا فوارس مذحج ... يوم الهياج ولا بنو همدان
هزموا العداة بكل أسمر مارن ... مهند مثل الغدير يماني
وكان المهلهل في أول أمره صاحب لهو كثير المحادثة للنساء. فسماه أخوه كليب زير النساء أي جليسهن. ولما ابتدأت أن تثور الفتنة بين كليب وجساس حاول المهلهل أن يرشد أخاه ويرده عن غيه فاستشاط كليب وقال: إنما أنت زير النساء والله لئن قتلت ما أخذت بدمي إلا اللبن. فأنشأ المهلهل (من الطويل) :
أخ وحريم سيىء إن قطعته ... فقطع سعود هدمها لك هادم
وقفت على ثنتين إحداهما دم ... وأخرى بها منا تحز الغلاصم
فما أنت إلا بين هاتين غائص ... وكلتاهما بحر وذو الغي نادم
فمنقصة في هذه ومذلة ... وشر شمر بينكم متفاقم
وكل حميم أو أخ ذي قرابة ... لك اليوم حتى آخر الدهر لائم
فأخر فإن الشر يحسن آخراً ... وقدم فإن الحر للغيظ كاظم
فأجابه كليب (من الطويل) :
سأمضي له قدماً ولو شاب في الذي ... أهم به فيما صنعت المقادم
مخافة قول أن يخالف فعله ... وأن يهدم العز المشيد هادم
كما مر فأكب المهلهل على الشراب وهو يقول (من الطويل) :
دعيني فما في اليوم مصحي لشارب ... ولا في غد ما أقرب اليوم من غد
دعيني فإني في سمارير سكرة ... بها جل همي واستبان تجلدي(2/161)
فإن يطلع الصبح المنير فإنني ... سأغدو الهوينا غير وان مفرد
وأصبح بكراً غارة صلمية ... ينال لظاها كل شيخ وامرد
فلما سكر خرج همام إلى قومه ورجع المهلهل إلى الحي سكران فرآهم يعقرون خيولهم ويكسرون رماحهم وسيوفهم فقال: ويحكم ما الذي دهاكم. فلما أخبروه الخبر قال: لقد ذهبتم شر مذهب أتعقرون يخولكم حين احتجتم إليها وتكسرون سلاحكم حين افتقرتم إليه. فانتهوا عن ذلك. ورجع إلى النساء فنهاهن عن البكاء. وقال: استبقين للبكاء عيوناً تبكي إلى آخر الأبد. فظن قومه أن ذلك على وجه السكر. ثم أنشد وقال ابن الأثير أن هذا أول شعر قاله في هذه الحادثة (من الكامل) :
كنا نغار على العواتق أن ترى ... بالأمس خارجة عن الأوطان
فخرجن حين ثوى كليب حسراً ... مستيقنات بعده بهوان
فترى الكواعب كالظباء عواطلاً ... إذ حان مصرعه من الأكفان
يخمشن من آدم الوجوه حواسراً ... من بعده ويعدن بالأزمان
متسلبات نكدهن وقد ورى ... أجوافهن بحرقة ورواني
ويقلن من للمستضيق إذا دعا ... أم من لخضب عوالي المران
أم لا تسار بالجزور إذا غدا ... ريح يقطع معقد الأشطان
أم من لا سباق الديات وجمعها ... ولفادحات نوائب الحدثان
كان الذخيرة للزمان فقد أتى ... فقدانه وأخل ركن مكاني
يا لهف نفسي من زمان فاجع ألقى علي بكلكل وجران
بمصيبة لا تستقال جليلة ... غلبت عزاء القوم والنسوان
هدت حصوناً كن قبل ملاوذاً ... لذوي الكهول معاً وللشبان
أضحت وأضحى سورها من بعده ... متهدم الأركان والبنيان(2/162)
فابكين سيد قومه واندبنه ... شدت عليه قباطي الأكفان
وابكين للأيتام لما أقحطوا ... وابكين عند تخاذل الجيران
وابكين مصرع جيده متزملاً ... بدمائه فلذاك ما أبكاني
فلا تركن به قبائل تغلب ... قتلى بكل قرارة ومكان
قتلى تعاورها النسور أكفها ... ينهشنها وحواجل الغربان
ولما أصبح المهلهل غدا إلى أخيه فدفنه وقام على قبره يرثيه ويقول (من الوافر) :
أهاج قذاء عيني الإذكار ... هدواً فالدموع لها انحدار
وصار الليل مشتملاً علينا ... كان الليل ليس له نهار
وبت أراقب الجوزاء حتى ... تقارب من أوالئها انحدار
اصرف مقلتي في إثر قرم ... تباينت البلاد بهم فغاروا
وأبكي والنجوم مطلعات ... كأن لم تحوها عني البحار
على من لو نعيت وكان حياً ... لقاد الخيل يحجبها الغبار
دعوتك يا كليب فلم تجبني ... وكيف يجيبني البلد القفار
أجبني يا كليب خلاك ذم ... لقد فجعت بفارسها نزار
سقاك الغيث إنك كنت غيثاً ... ويسراً حين يلتمس اليسار
أبت عيناي بعدك أن تكفا ... كأن غضا القتاد لها شفار
وإنك كنت تحلم عن رجال ... وتعفو عنهم ولك اقتدار
وتمنع أن يمسهم لسان ... مخافة من يجير ولا يجار
وكنت أعد قربي منك ربحاً ... إذا ما عدت الربح التجار(2/163)
فلا تبعد فكل سوف يلقى ... شعوباً يستدير بها المدار
يعيش المرء عند بني أبيه ... ويوشك أن يصير بحيث صاروا
أرى طول الحياة وقد تولى ... كما قد يسلب الشيء المعار
كأني إذ نعى الناعي كليباً ... تطاير بين جنبي الشرار
قدرت وقد عشي بصري عليه ... كما دارت بشاربها العقار
سالت الحي أين دفنتموه ... فقالوا لي بسفح الحي دار
فسرت إليه من بلدي حثيثاً ... وطار النوم وامتنع القرار
وحادت ناقتي عن ظل قبر ... ثوى فيه المكارم والفخار
لدى أوطان أروع لم يشنه ... ولم يحدث له في الناس عار
اتغدو يا كليب معي إذا ما ... جبان القوم انجاه الفرار
أتغدو يا كليب معي إذا ما ... حلوق القوم يشحذها الشفار
أقول لتغلب والعز فيها ... أثيروها لذلكم انتصار
تتابع إخوتي ومضوا لأمر ... عليه تتابع القوم الحسار
خذ العهد الأكيد علي عمري ... بتركي كل ما حوت الديار
وهجري الغانيات وشرب كأس ... ولبسي جبة لا تستعار
ولست بخالع درعي وسيفي ... إلى أن يخلع الليل النهار
وألا أن تبيد سراة بكر ... فلا يبقى لها أبداً آثار
وما زال المهلهل يبكي أخاه ويندبه ويرثيه بالأشعار وهو يجتزي بالوعيد لبني مرة حتى يئس قومه وقالوا: أنه زير النساء. وسخرت منه بكر وهمت بنو مرة بالرجوع إلى الحمى وبلغ ذلك المهلهل فانتبه للحرب وشمر ذراعيه وجمع أطراف قومه. ثم جز شعره وقصر ثوبه وهجر(2/164)
اللهو وحرم القمار والشراب وأرسل رهطاً من أشراف قومه وذوي أسنانهم إلى بني شيبان فأتوا مرة بن ذهل وهو في نادي قومه فعظموا ما بينهم وبينه وقالوا له: إنكم أتيتم أمراً عظيماً بقتلكم كليباً بناب من الإبل وقطعتم الرحم وانتهكتم الحرمة بيننا وبينكم. وإنا نعرض عليك خلالاً أربعاً لك فيها مخرج ولنا فيها مقنع. إما أن تحيي لنا كليباً أو تدفع إلينا قاتله جساساً فنقتله به أو هماماً فإنه كفء له أو تمكنا من نفسك فإن فيك وفاء لدمه. فقال لهم: أما إحيائي كليباً فلست قادراً عليه. وأما دفعي جساساً إليكم فإنه غلام طعن طعنة على عجل وركب فرسه فلا أدري أي بلاد قصد. وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومهم فلن يسلموه بجريرة غيره. وأما أنا فما هو إلا أن تجول الخيل جولة فأكون أول قتيل بينها فما أتعجل الموت. ولكن لكم عندي خصلتان. أما أحداهما فهؤلاء أبنائي الباقون فخذوا أيهم شئتم فاقتلوه بصاحبكم. وأما الأخرى فإني أدفع لكم ألف ناقة سود الحدق حمر الوبر. فغضب القوم وقالوا: قد أسأت ببذل هؤلاء. وتسومنا اللبن من دم كليب. ونشبت الحرب بينهم واعتزلت قبائل بكر الحرب وكرهوا مساعدة بني شيبان على القتال وأعظموا قتل كليب فتحولت لجيم ويشكر وكف الحرث بن عباد عن نصرهم ومعه أهل بيته. وقال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل فأرسلها مثلاً. وقال أصحاب الأخبار: كانت حربهم أربعين سنة فيهن خمس وقعات أو مزاحفات وكانت تكون بينهم مغاورات وكان الرجل يلقى الرجل والرجلان الرجلين ونحو هذا.
وكان أول تلك الأيام _يوم غنيزة) وهي عند فلجة ورئيس تغلب المهلهل ورئيس شيبان الحرث بن مرة فتكافأوا فيه وكانوا على السواء لا لبكر ولا لتغلب وقيل بل ظفرت تغلب. ثم تفرقوا وغبروا زماناً. ثم أنهم التقوا (يوم النهي) وهو ماء لهم وكانت الدائرة لتغلب وكانت الشوكة في شيبان واستمر القتل فيهم إلا أنه لم يقتل في ذلك اليوم أحد من بني مرة. ويروى أن يوم النهي أول وقعة كانت بينهم. ثم التقوا (بالذنائب) وهي أعظم وقعة كانت لهم فظفرت بنو تغلب وقتلت بكراً مقتلة عظيمة وقتل فيها شراحيل بن مرة بن همام بن مرة وقتل تميم بن قيس بن ثعلبة وكان شيخاً كبيراً وأحد رؤساء بكر قتله عمرو بن مالك بن الفدوكس جد الأخطل الشاعر وقتل غير هؤلاء من رؤساء بكر ثم التقوا (يوم واردات) فاقتتلوا قتالاً شديداً فظفرت تغلب أيضاً وكثر القتل في بكر فقتل عمرو بن سدوس الذهلي وقتل همام بن مرة أخو جساس فمر به مهلهل فلما رآه قتيلاً قال: والله ما قتل بعد كليب أعز علي فقداً منك وتالله لا تجتمع بكر بعدكما على خير أبداً. وكاد جساس يؤخذ في تلك(2/165)
الوقعة فسلم. فقال المهلهل (من الكامل) :
لو أن خيلي أدركتك وجدتهم ... مثل الليوث بستر غب عرين
وفيها يقول:
ولأوردن الخيل بطن أراكة ... ولأقضين بفعل ذاك ديوني
ولأقتلن حجاحجاً من بكركم ... ولأبكين بها جفون عيون
حتى تظل الحاملات مخافة ... من وقعنا يقذفن كل جنين
وقال مهلهل لما أسرف في الدماء (من البسيط) :
أكثرت قتل بني بكر بربهم ... حتى بكيت وما يبكي لهم أحد
آليت بالله لا أرضى بقتلهم ... حتى أبهرج بكراً أينما وجدوا
وقال أيضاً يرثيه وهي من أجود مراثيه (من البسيط) :
كليب لا خير في الدنيا ومن فيها ... إن أنت خليتها في من يخليها
كليب أي فتى عز ومكرمة ... تحت السفاسف إذ يعلوك سافيها
نعى النعاة كليباً لي فقلت لهم ... مادت بنا الأرض أم مدت رواسيها
ليت السماء على من تحتها وقعت ... وحالت الأرض فانجابت بمن فيها
أضحت منازل بالسلان قد درست ... تبكي كليباً ولم تفزع أقاصيها
الحزم والعزم كانا من صنيعته ... ما كل آلائه يا قوم أحصيها
القائد الخيل تردي في أعنتها ... زهواً إذا الخيل بحت في تعاديها
الناجر الكوم ما ينفك يطعمها ... والواهب المئة الحمرا براعيها(2/166)
من خيل تغلب ما تلقى أسنتها ... إلا وقد خضبتها من أعاديها
قد كان يصبحها شعواء مشعلة ... تحت العجاجة معقوداً نواصيها
تكون أولها في حين كرتها ... وأنت بالكر يوم الكر حاميها
حتى تكسر شزراً في نحورهم ... زرق الأسنة إذ تروى صواديها
أمست وقد أوحشت جرد ببلقعة ... للوحش منها مقيل في مراعيها
ينفرن عن أم هامات الرجال بها ... والحرب يفترس الأقران صاليها
يهزهزون من الخطي مدمجة ... كمتاً أنابيبها زرقاً عواليها
نرمي الرماح بأيدينا فنوردها ... بيضاً ونصدرها حمراً أعاليها
يا رب يوم يكون الناس في رهج ... به تراني على نفسي مكاويها
مستقدماً غصصاً للحرب مقتحماً ... ناراً أهيجها حيناً وأطفيها
لا أصلح الله منا من يصالحكم ... ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها
وله أيضاً يرثيه ويتهدد بني عمه (من الخفيف) :
إن تحت الأحجار حزماً وعزماً ... وقتيلاً من الأراقم كهلا
قتلته ذهل فلست براض ... أو نبيد الحيين قيساً وذهلا
ويطير الحريق منا شراراً ... فينال الشرار بكراً وعجلا
قد قتلنا به ولا ثأر فيه ... أو تعم السيوف شيبان قتلا
ذهب الصلح أو تردوا كليباً ... أو تحلوا على الحكومة حلا
ذهب الصلح أو تردوا كليباً ... أو أذيق الغداة شيبان ثكلا
ذهب الصلح أو تردوا كليباً ... أو تنال العداة هوناً وذلا(2/167)
ذهب الصلح أو تردوا كليباً ... أو تذوقوا الوبال ورداً ونهلا
ذهب الصلح أو تردوا كليباً ... أو تميلوا عن الحلائل عزلا
أو أرى القتل قد تقاضى رجالاً ... لم يميلوا عن السفاهة جهلا
إن تحت الأحجار والترب منه ... لدفيناً علا علاء وجلا
عز والله يا كليب علينا ... أن ترى هامتي دهاناً وكحلا
ثم فر جساس هارباً إلى الشام إلا أنه أدركه بعض بني تغلب فقتله كما سيأتي مفصلاً في ترجمته. فلما قتل جساس أرسل أبوه مرة إلى المهلهل: إنك قد أدركت ثأرك وقتلت جساساً فاكفف عن الحرب ودع اللجاج والإسراف وأصلح ذات البيت فهو أصلح للحيين وأنكأ لعدوهم. فلم يجب إلى ذلك. وكان الحرث بن عباد قد اعتزل الحرب ولم يشهدها فلما قتل جساس وهمام ابنا مرة حمل ابنه بجيراً وقيل هو ابن عمرو بن عباد أخي الحرث بن عباد فلما حمله على الناقة كتب معه إلى مهلهل: إنك قد أسرفت في القتل وأدركت ثارك سوى ما قتلت من بكر وقد أرسلت ابني إليك فإما قتلته بأخيك وأصلحت بين الحيين وإما أطلقته وأصلحت ذات البين فقد مضى من الحيين في هذه الحروب من كان بقاؤه خيراً لنا ولكم.
فأتى بجير مهلهلاً وهو في قومه فقال له: خالي يقرأك السلام. فقال: من خالك يا غلام وترا نحوه بالرمح. فقال له امرؤ القيس بن أبان التغلبي: مهلاً يا مهلهل فإن أهل بيت هذا قد اعتزلوا حربنا والله لئن قتلته ليقتلن به رجل لا يسأل عن خاله. فلم يلتفت مهلهل إلى قوله وشد عليه فقتله وقال: بؤبشسع نعل كليب. فقال الغلام: إن رضيت بنو تغلب رضيت. فقتله المهلهل وقال في هذه المواقع (من الطويل) :
أليلتنا بذي حسم أنيري ... إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فإن يك بالذنائب طال ليلي ... فقد أبكي على الليل القصير
وأنقذني بياض الصبح منها ... لقد أنقذت من شر كبير
كان كواكب الجوزاء عود ... معطفة على ربع كسير(2/168)
كان الفرقدين يدا بغيض ... ألح على إفاضته قميري
أرقت وصاحبي بجنوب شعب ... لبرق في تهامة مستطير
ولو نشر المقابر عن كليب ... لخبر بالذنائب أي زير
ويوم الشعبتين لقر عيناً ... وكيف لقاء من تحت القبور
على أني تركت بوادرات ... بجيراً في دم مثل العبير
هتكت به بيوت بني عباد ... وبعض القتل أشفى للصدور
وهمام بن مرة قد تركنا ... عليه القشعمان من النسور
قتيل ما قتيل المرء عمرو ... وجساس بن مرة ذو ضرير
كان التابع المسكين فيها ... أجير في حدابات الوقير
على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا خاف المغار من المغير
على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا طرد اليتيم عن الجزور
على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا ما ضيم جار المستجير
على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا ضاقت رحيبات الصدور
على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا خاف المخوف من الثغور
على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا طالت مقاساة الأمور
على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا هبت رياح الزمهرير
على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا وثب المثار على المثير(2/169)
على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا عجز الغني عن الفقير
على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا خرجت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا هتف المثوب بالعشير
تسائلني أميمة عن أبيها ... وما تدري أميمة عن ضمير
فلا وأبي أميمة ما أبوها ... من النعم المؤثل والجزور
ولكنا طعنا القوم طعناً ... على الأثباج منهم والنحور
نكب القوم للأذقان صرعى ... وتأخذ بالترائب والصدور
فدى لبني شقيق حين جاؤوا ... كأسد الغاب تجلب بالزئير
كأن رماحهم أشطان بئر ... بعيد بين جاليها جرور
غداة كأننا وبني أبينا ... بجنب عنيزة ركنا ثبير
كأن الجدي جدي بنات نعش ... يكب على اليدين بمستدير
وتخبو الشعريان إلى سهيل يلوح كقمة الجبل الكبير
فلولا الريح اسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
وكانوا قومنا فبغوا علينا ... فقد لاقاهم لفح السعير
تظل الطير عاكفة عليهم ... كأن الخيل تنضح بالعبير
فلما بلغ الحرث بن عباد قتله قال: نعم الغلام أصح بين ابني وائل وباء بكليب. فلما سمعوا قول الحرث قالوا: إن مهلهلاً قال له: بوء بشسع نعل كليب. فغضب الحرث فنهض للقتال وركب فرسه النعامة ولم يكن في زمانها مثلها وولي أمر بكر وشهد حربهم وكان أول يوم شهده يوم قضة وهو يوم تحلاق اللمم وقاتل يومئذ الحرث بن عباد قتالاً شديداً فقتل في(2/170)
تغلب مقتلة عظيمة وفي هذا اليوم أسر الحرث مهلهلاً وهو لا يعرفه فقال له: دلني على عدي وأنا أخلي عنك فقال له المهلهل: عليك عهد الله بذلك إن دللتك عليه قال: نعم. قال: فأنا عدي فجز ناصيته وتركه.
واستمرت الحرب بين الحيين دهراً طويلاً وفني معظمهم إلى أن قام في الصلح عمرو بن هند ملك العراق. وقيل بل كان المصلح بينهم الحرث بن عمرو بن معاوية الكندي. وقيل أيضاً الحرث بن عوف المري. وآل أمر المهلهل إلى أن خرج إلى أخواله من بني يشكر ضجراً من الحرب وتطاول المدة وأقام بين أظهرهم إلى أن مات وقيل قتل وكان سبب قتله كما ذكر ابن الكلبي أنه أسن وخرف وكان له عبدان يخدمانه فملا منه وخرج بهما يريد سفراً فأناخا به في بعض الفلوات وعزما على قتله فلما عرف ذلك كتب بسكين على رحل ناقته هذا البيت وقيل في بعض الروايات أنه أوصاهما أن يقولاه لولديه (من الكامل) :
من مبلغ الحيين أن مهلهلاً ... لله دركما ودر أبيكما
ثم قتلاه ورجعا إلى قومه فقالا: مات. وأنشداهما قوله ففكر بعض ولده وقال: إن مهلهلاً لا يقول هذا الشعر الذي لا معنى له وإنما أراد أن يقول:
من مبلغ الحيين أن مهلهلاً ... أمسى قتيلاً في الفلاة مجندلا
لله دركما ودر أبيكما ... لا يبرح العبدان حتى يقتلا
فضربوا العبدين فأقرا بقتله فقتلا به وكان ذلك سنة 500 م.
وللمهلهل ديوان شعر ذكره الحاج خليفة في كتاب كشف الظنون وهو أول شاعر جمع له ديوان. قال ابن نباتة وشعر المهلهل من أعلى طبقات المتقدمين فمن ذلك قوله يخاطب بكراً (من الكامل) :
من مبلغ بكراً وآل أبيهم ... عني مغلغلة الردي الأقعس
وقصيدة شعواء باق نورها ... تبلى الجبال وأثرها لم يطمس
أكليب أن النار بعدك أخمدت ... ونسيت بعدك طيبات المجلس
أكليب من يحمي العشيرة كلها ... أو من يكر على الخميس الأشوس
من للأرامل واليتامى والحمى ... والسيف والرمح الدقيق الأملس(2/171)
ولقد شفيت النفس من سرواتهم ... بالسيف في يوم الذنيب الأغبس
إن القبائل أضرمت من جمعنا ... يوم الذنائب حر موت أحمس
فالإنس قد ذلت لنا وتقاصرت ... والجن من وقع الحديد الملبس
وله يرثي كليباً ويتهدد بني شيبان (من الكامل) :
لما نعى الناعي كليباً أظلمت ... شمس النهار فما تريد طلوعا
قتلوا كليباً ثم قالوا ارتعوا ... كذبوا لقد منعوا الجياد رتوعا
كلا وأنصاب لنا عادية ... معبودة قد قطعت تقطيعا
حتى أبيد قبيلة وقبيلة ... وقبيلة وقبيلتين جميعا
وتذوق حتفاً آل بكر كلها ... ونهد منها سمكها المرفوعا
حتى نرى أوصالهم وجماجماً ... منهم عليها الجامعات وقوعا
ونرى سباع الطير تنقر أعيناً ... وتجر أعضاء لهم وضلوعا
والمشرفية لا تعرج عنهم ... ضرباً يقد مغافراً ودروعا
والخيل تقتحم الغبار عوابساً ... يوم الكريهة ما يردن رجوعا
وقال أيضاً والعرب تسمي هذه القصيدة بالداهية وهي إحدى القصائد السبع المعروفة بالمنتقيات (من السريع) :
جارت بنو بكر ولم يعدلوا ... والمرء قد يعرف قصد الطريق
حلت ركاب البغي في وائل ... في رهط جساس ثقال الوسوق
يا أيها الجاني على قومه ... جناية ليس لها بالمطيق(2/172)
جناية لم يدر ما كنهها ... جان ولم يصب لها بالخليق
كقاذف يوماً بإجرامه ... في هوة ليس لها من طريق
من شاء ولى النفس في مهمه ... ضنك ولكن من له بالمضيق
إن ركوب البحر ما لم يكن ... ذا مصدر من مهلكات الغريق
ليس امرؤ لم يعد في بغيه ... غدا به تخريق ريح خريق
كمن تعدى بغيه قومه ... طار إلى رب اللواء الخفوق
إلى رئيس الناس والمرتجى ... لعقدة الشد ورتق الفتوق
من عرفت يوماً حزاز له ... عليا معد عند أخذ الحقوق
إذ أقبلت حمير في جمعها ... ومذحج كالعارض المستحقيق
وجمع همدان له لجبة ... وراية تهوي هوي الأنوق
تلمع لمع الطير راياته ... على أواذي لج بحر عميق
فاحتل أوزارهم إزره ... برأي محمود عليهم شفيق
وقد علتهم للقا هبوة ... ذات هياج كلهيب الحريق
فقلد الأمر بنو هاجر ... منهم رئيساً كالحسام البريق
مضطلعاً بالأمر يسمو له ... في يوم لا ينساغ حلق بريق
ذاك وقد عن لهم عارض ... كجنح ليل في سماء بروق
فانفرجت عن وجهه مسفراً ... منبلجاً مثل انبلاج الشروق
فذاك لا يوفي به غيره ... وليس يلقى مثله في فريق
قل لبني ذهل يردونه ... أو يصبروا للصيلم الخنفقيق
فقد ترووا م دم محرم ... وانتهكوا حرمته من عقوق(2/173)
واستسعروا من حربنا مأتماً ... أثابهم نيران حرب عقوق
لا يرقا الدهر لها عاتك ... إلا على أنفاس نجلى تفوق
تنفرج الظلماء عن وجهه ... كالليل ولى عن صديع أنيق
تجمل الراكب منها على ... سيساء حدبير من الشر نوق
إن امرءاً ضرجتم ثوبه ... بعاتك من دمه كالخلوق
سيد سادات إذا ضمهم ... معظم أمر يوم بؤس وضيق
لم يك كالسيد في قومه ... بل ملك دين له بالحقوق
إن نحن لم نثأر به فاشحذوا ... شفاركم منا لحز الحلوق
ذبحاً كذبح الشاة لا يتقي ... ذابحها إلا بشخب العروق
أصبح ما بين بني وائل ... منقطع الحبل بعيد الصديق
غداً نساقي فاعلموا بيننا ... رماحنا من قانىء كالرحيق
بكل مغوار الضحى فاتك ... شمردل من فوق طرف عتيق
سعالىء يحملن من تغلب ... فتيان صدق كليوث الطريق
ليس أخوكم تاركاً وتره ... وليس عن تطلابكم بالمفيق
ومن ذلك أيضاً قوله (من الكامل) :
أثبت مرة والسيوف شواهر ... وصرفت مقدمها إلى همام
وبني لجيم قد وطأنا وطأة ... بالخيل خارجة عن الأوهام
ورجعنا نجتنىء القنا في ضمر ... مثل الذئاب سريعة الإقدام
وسقيت تيم اللات كأساً مرة ... كالنار شب وقودها بضرام
وبيوت قيس قد وطأنا وطأة ... فتركنا قيساً غير ذات مقام(2/174)
ولقد قتلت الشعثمين ومالكاً ... وابن المسور وابن ذات دوام
ولقد خبطت بيوت يشكر خبطة ... أخوالنا وهم بنو الأعمام
ليست براجعة لهم أيامهم ... حتى تزول شوامخ الأعلام
قتلوا كليباً ثم قالوا ارتعوا ... كذبوا ورب الحل والإحرام
حتى تلف كتيبة بكتيبة ... ويحل اصرام على اصرام
وتقوم ربات الخدور حواسراً ... يمسحن عرض تمائم الأيتام
حتى نرى غرراً تجر وجمة ... وعظام رؤوس هشمت بعظام
حتى يعض الشيخ من حسراته ... مما يرى جزعاً على الإبهام
ولقد تركنا الخيل في عرصاتها ... كالطير فوق معالم الأجرام
فقضين ديناً كن قد ضمنه ... بعزائم غلب الرقاب سوام
من خيل تغلب عزة وتكرماً ... مثل الليوث بساحة الآنام
وأنشد أيضاً وكان رجع من اليمن فمر قريباً من قبر أخيه كليب وكانت عليه قبة رفيعة فلما رآه خنقته العبرة. وكان تحته بغل له نجيب فلما رأى القبر في غلس الصبح نفر منه هارباً فوثب عنه المهلهل وضرب عرقوبيه بسيفه وقال (من الهزج) :
رماك الله من بغل ... بمشحوذ من النبل
أما تبلغني أهلك ... أو تبلغني أهلي
أكل الدهر مركوب ... من النكباء والعزل
وقد قلت ولم أعدل ... كلاماً غير ذي هزل
ألا أبلغ بني بكر ... رجالاً من بني ذهل(2/175)
وأبلغ سالفاً حلوى ... إلى قارعة النخل
بدأتم قومكم بالغد ... ر والعدوان والقتل
قتلتم سيد الناس ... ومن ليس بذي مثل
وقلتم كفؤه رجل ... وليس الرأس كالرجل
وليس الرجل الماجد ... مثل الرجل النذل
فتى كان كألف من ... ذوي الأنعام والفضل
لقد جئتم بها دهما ... ء كالحية في الجذل
وقد جئتم بها شعوا ... أشابت مفرق الطفل
وقد كنت أخا لهو ... فأصبحت أخا شغل
ألا يا عاذلي أقصر ... لحاك الله من عذل
بأنا تغلب الغلبا ... ء نعلو كل ذي فضل
رجال ليس في حرج لهم ثمل ولا شكل
بما قدم جساس ... لهم من سيىء الفعل
سأجزي رهط جساس ... كحذو النعل بالنعل
وقال أيضاً (من الخفيف) :
إن في الصدر من كليب شجوناً ... هاجسات نكأن منه الجراحا
أنكرتني خليلتي إذ رأتي ... كاسف اللون لا أطيق المزاحا
ولقد كنت إذ أرجل رأسي ... ما أبالي الإفساد والإصلاحا
بئس من عاش في الحياة شقياً ... كاسف اللون هائماً ملتاحا
يا خليلي ناديا لي كليباً ... واعلما أنه ملاق كفاحا(2/176)
يا خليلي ناديا لي كليباً ... ثم قولا له نعمت صباحا
يا خليلي ناديا لي كليباً ... قبل أن تبصر العيون الصباحا
لم نر الناس مثلنا يوم سرنا ... نسلب الملك غدوة ورواحا
وضربنا بمرهفات عتاق ... تترك الهدم فوقهن صياحا
ترك الدار ضيفنا وتولى ... عذر الله ضيفنا يوم راحا
ذهب الدهر بالسماحة منا ... يا أذى الدهر كيف ترضى الجماحا
ويح أمي وويحها لقتيل ... من بني تغلب وويحا وواحا
يا قتيلاً نماه فرع كريم ... فقده قد أشاب مني المساحا
كيف أسلو عن البكاء وقومي ... قد تفانوا فكيف أرجو الفلاحا
وروى صاحب الأغاني للمهلهل قوله وهو يذكر ابنته الصغيرة وهجره لها وفيه أيضاً يذكر ثمانية ممن قتلوا من بني تغلب في هذه الحروب (من الخفيف) :
طفلة ما ابنة المجلل بيضا ... ء لعوب لذيذة في العناق
فاذهبي ما إليك غير بعيد ... لا يؤاتي العناق من في الوثاق
ضربت نحرها إلي وقالت ... يا عدياً لقد وقتك الأواقي
ما أرجي في العيش بعد نداما ... ي أراهم سقوا بكأس حلاق
بعد عمرو وعامر وحيي ... وربيع الصدوف وابني عناق
وامرئ القيس ميت يوم أودى ... ثم خلى علي ذات العراقي
وكليب شم الفوارس إذ حم ... رماه الكماة بالاتفاق(2/177)
إن تحت الأحجار جداً وليناً ... وخصيماً ألد ذا معلاق
حية في الوجار أربد لا ... تنفع منه السليم نفثة راق
وقال أيضاً (من الخفيف) :
بات ليلي بالأنعمين طويلا ... أرقب النجم ساهراً لن يزولا
كيف أمدي ولا يزال قتيل ... من بني وائل ينادي قتيلا
ازجر العين أن تبكي الطلولا ... إن في الصدر من كليب فليلا
إن في الصدر حاجة لن تقضى ... ما دعا في الغصون داع هديلا
كيف أنساك يا كليب ولما ... اقض حزناً ينوبني وغليلا
أيها القلب أنجز اليوم نحباً ... من بني الحصن إذ غدوا وذحولا
كيف يبكي الطلول من هو رهن ... بطعان الأنام جيلاً فجيلا
انتضوا معجس القسي وأبرقنا ... كما توعد الفحول الفحولا
وصبرنا تحت البوارق حتى ... دكدكت فيهم السيوف طويلا
لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
وقال يذكر قتل أخيه (من الوافر) :
قتيل ما قتيل المرء عمرو ... وجساس بن مرة ذي صريم
أصاب فؤاده بأصم لدن ... فلم يعطف هناك على حميم
فإن غداً وبعد غد لوهن ... لأمر ما يقام له عظيم
جسيماً ما بكيت به كليباً ... إذا ذكر الفعال من الجسيم
سأشرب كأسها صرفاً وأسقي ... بكأس غير منطقة مليم(2/178)
وقال أيضاً وكان رجع المهلهل إلى أهله بعد وقعة القضة وأسره فجعل النساء والولدان يستخبرونه وتسأله المرأة عن زوجها وأبيها والغلام عن أبيه وأخيه فقال (من الخفيف) :
ليس مثلي يخبر الناس عن آ ... بائهم قتلوا وينسى القتالا
لم أرم عرصة الكتيبة حتى ... انتعل الورد من دماء نعالا
عرفته رماح بكر فما يأ ... خذن إلا لباته والقذالا
غلبونا ولا محالة يوماً ... يغلب الدهر ذاك حالاً فحالا
ثم خرج حتى لحق بأرض اليمن وتنقل في القبائل حتى جاور قوماً من مذحج يقال لهم بنو جنب فخطب إليه أحدهم ابنته وقيل مية أخته فأبى أن يزوجها فأكرهوه فزوجها ثم قال في ذلك (من المنسرح) :
انكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الخباء من آدم
لو بابانين جاء يخطبها ... ضرج ما أنف خاطب بدم
أصبحت لا منفساً أصبت ولا ... أبت كريماً حراً من الندم
هان على تغلب الذي لقيت ... أخت بني المالكين من جشم
ليسوا بأكفائنا الكرام ولا ... يغنون من عيلة ولا عدم
وروى له صاحب الحماسة قوله (من الكامل) :
نبئت أن النار بعدك أوقدت ... واستب بعدك يا كليب المجلس
وتكلموا في أمر كل عظيمة ... لو كنت شاهدهم بها لم ينبسوا
وإذا تشاء رأيت وجهاً واضحاً ... وذراع باكية عليها برنس
تبكي عليك ولست لائم حرة ... تأسى عليك بعبرة وتنفس
وله يذكر يوم الصعاب من بعض أيام بكر وتغلب به قتل الحارث بن همام بن مرة(2/179)
بن ذهل بن شيبان. والصعاب رمال بين البصرة واليمامة صعبة المسالك وقيل هو جبل بين اليمامة والبحرين. وقيل أن في آخر هذا النهار انكسفت تغلب فقال المهلهل (من البسيط) :
شفيت نفسي وقومي من سراتهم ... يوم الصعاب ووادي حاربي ماس
من لم يكن قد شفى نفساً بقتلهم ... مني فذاق الذي ذاقوا من الياس
ومما يروى له وقد استشهد به صاحب لسان العرب قوله (من البسيط) :
إني وجدت زهيراً في مآثرهم ... شبه الليوث إذا استأسدتهم أسدوا
ومن قصائده قصيده يذكر فيها مآثره وحروبه مع بني بكر مطلعها (من المتقارب) :
أشاقتك منزلة دائره ... بذات الطلوح إلى كاثره
ومنها في وصف الخيل والجيش:
وخيل تكدس بالدار عين ... كمشي الوعول على الظاهره
وله أيضاً في وصف أخيه (من الكامل) :
خلع الملوك وسار تحت لوائه ... شجر العرى وعراعر الأقوام
إنا لنضرب بالصوارم هامها ... ضرب القدار نقيعة القدام
وله يفتخر بكثرة من أسرهم (من الوافر) :
فجاؤوا يهرعون وهم أسارى ... نقودهم على رغم الأنوف
وقال أيضاً (من البسيط) :
لو كنت أقتل جن الخابلين كما ... أقتل بكراً لأضحى الجن قد نفدا
وله أيضاً يذكر وادي الأحص لبني تغلب كانت فيه بعض وقائعهم مع إخوتهم بكر (من الكامل) :
وادي الأحص لقد سقاك من الغدى ... فيض الدموع بأهله الدعس(2/180)
صفحة 181 كتاب(2/181)
شعراء نجد والحجاز (تغلب)
السفاح التغلبي (555م)
هو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير من بني حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. هو من أقدم شعراء العرب وفرسانها يروى له شعر قليل. حضر وقعة خزازى وولاه كليب مقدمته وأمره أن يعلو جبل خزازى فيوقد بها النار ليهتدي الجيش بناره وقال له: إن غشيك العدو فأوقد نارين. وبلغ سلمة اجتماع ربيعة ومسيرها، فأقبل ومعه قبائل مذحج وكلما مر بقبيلة استفزها وهجمت مذحج على خزازى ليلاً فرفع السفاح نارين فأقبل كليب في جموع ربيعة إليهم فصبحهم فالتقوا بخزازى وانهزمت جموع اليمن فلذلك يقول السفاح (من الوافر) :
وليلة بت أوقد في خزازى ... هديت كتائباً متحيرات
ضللن من السهاد وكن لولا ... سهاد القوم تحسب هاديات
فكن مع الصباح على جذام ... ولخم بالسيوف مشهرات
وحضر وقعات البسوس وأبلى فيها وقال في ذلك (من الرجز) :
إن الكلاب ماؤنا فخلوه ... وساجراً والله لن تحلوه
وحضر أيضاً يوم الاقطانتين. والاقطانتين موضع معروف بناحية الرقة فيه قلت الزبان بن مجالد الذهلي خمسة وأربعين بيتاً من بني تغلب بابنه عمرو بن الزبان وإخوته وكان قاتلهم كثيف بن زهير بلطمة لطمة عمرو في حديث طويل فقتل عمراً وإخوته وجعل رؤوسهم في مخلاة وسيرها إلى الزبان على ناقة عمرو. فأوقع لذلك الزبان ببني تغلب. فقال السفاح يذكر تلك الموقعة وبلغه أن الزبان قذف جيف بني تغلب في ركية الاقطانتين (من الكامل) :
أبني أبي سعد وأنتم إخوة ... وعتاب بعد اليوم شيء أفقم(2/182)
هلا خشيتم أن يصادف مثلها ... منكم فيترككم كمن لا يعلم
ملأوا من الاقطانتين ركية ... منا وآبوا سالمين وأعنموا
وله أيضاً في شأن بني زبان قاله لعمرو بن لأي التيمي (من الوافر) :
ألا من مبلغ عمرو بن لأي ... فإن بيان فتيتهم لدينا
فلم نقتلهم بدم ولكن ... للؤمهم وهونهم علينا
وإني لن يفارقني بناك ... يرى التعداء والتقريب دينا
وعاش السفاح إلى عهد امرئ القيس. ولما ثارت الحرب بين بني الحارث الكندي أعمام امرئ القيس كان هو من رؤسائها وحضر يوم الكلاب الأول وفيه سمي السفاح لأنه سفح ما في أسقية أصحابه وقال لا ماء لكم دون الكلاب فقاتلوا عنه وإلا فموتوا أحراراً فكان ذلك سبب الظفر. وقيل أن السفاح قتل في آخر يوم الكلاب نحو سنة (555 م) .
وذكر ابن قتيبة أن السفاح التغلبي كان أبرص وأنه كان يخطب في حرب بكر وتغلب.(2/183)
الأخنس بن شهاب (556 م)
هو الأخنس بن شهاب بن شريق بن ثمامة بن أرقم بن عدي بن معاوية بن تغلب كان نصرانياً ورئيساً من رؤساء قومه حضر وقاع حرب البسوس وكان شاعرها له في ذكر أيامها شعر قليل. وهو يعد من شعراء الطبقة الثالثة. وله قصيدة مشتهرة يذكر فيها فضل قومه. وأودعها جملة فوائد في سكنى قبائل نجد ومنازلها وقد ذكر منها صاحب الحماسة قسماً إلا أنها طويلة فجمعنا منها ما حصلت عليه يدنا (من الطويل) :
فمن يك أمسى في بلاد مقامة ... يسائل أطلالاً بها لا تجاوب
فلابنة حطان بن قيس منازل ... كما نمق العنوان في الرق كاتب
تمشي بها حول النعام كأنها ... إماء ترجى بالعشي حواطب
وقفت بها أبكي وأشعر سخنة ... كما اعتاد محموماً بخيبر صالب(2/184)
خليلي عوجا من نجاء شملة ... عليها فتى كالسيف أروع شاحب
خليلاي هوجاء النجاء شملة ... وذو شطب لا يجتويه المصاحب
وقد عشت دهراً والغواة صحابتي ... أولائك خلصاني الذين أصاحب
قرينة من أسفي وقلد حلبله ... وحاذر جراه الصديق الأقارب
فأديت عني ما استعرت من الصبا ... وللمال عندي اليوم راع وكاسب
لكل أناس من معد عمارة ... عروض إليها يلجئون وجانب
لكيز لها البحران والسيف دونه ... وإن يأتهم ناس من الهند هارب(2/185)
تطاير عن إعجاز حوش كأنها ... جهام هراق ماءه فهو آئب
وبكر لها بر العراق وإن تخف ... يحل دونها من اليمامة حاجب
وصارت تميم بين قف ورملة ... لها من جبال منتأى ومذاهب
وكلب لها خبت فرملة عالج ... إلى الحرة الرجلاء حيث تحارب
وغسان حي عزهم في سواهم ... تجالد عنهم حسر وكتائب
وبهراء حي قد علمنا مكانهم ... لهم شرك حول الرصافة لاحب
وغارت إياد في السواد ودونها ... برازيق عجم تبتغي من تضارب
ونحن أناس لا حجاز بأرضنا ... مع الغيث ما نلفي ومن هو غالب
ترى رائدات الخيل حول بيوتنا ... معزى الحجاز أعوزتها الزرائب
فيغبقن أحلاباً ويصبحن مثلها ... فهن من التعداء قب شوازب
فوارسها من تغلب ابنة وائل ... حماة كماة ليس فيهم أشايب(2/186)
هم يضربون الكبش يبرق بيضه ... على وجهه من الدماء سبائب
وإن قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب
فلله قوم مثل قومي عصابة ... إذا اجتمعت عند الملوك العصائب
أرى كل قوم قاربوا قيد فحلهم ... ونحن خلعنا قيده فهو سارب
كانت وفاة الأخنس بعد حرب البسوس بزمان نحو سنة 556 م.(2/187)
جابر بن حني التغلبي
هو حابر بن حني بن حارثة بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب كان شاعراً نصرانياً مقدماً وقد تفاخر بدينه في شعره فقال (من الكامل) :
وقد زعمت بهراء أن رماحنا ... رماح نصارى لا تخوض إلى دم
وجابر بن حني كان مع امرئ القيس حين خرج إلى الروم مستنجداً بقيصر. وله في كتاب المفضليات قصيدته الغراء التي قالها في قتل شرحبيل بن عمرو الكندي عم امرئ القيس لما قتل يوم الكلاب (من الطويل) :
ألا يا لقوم للجديد المصرم ... وللحلم بعد الزلة المتوهم
وللمرء يعتاد الصبابة بعدما ... أتى دونها ما فرط حول مجرم
فيا دار سلمى بالصريمة فاللوى ... إلى مدفع القيقاء فالمتئلم
ظللت على عرفانها ضيف قفرة ... لأقضي منها حاجة المتلوم
أقامت بها بالصيف ثم تذكرت مصايرها بين الجواء فعيهم
تعوج رهباً في الزمام وتنثني ... إلى مهذبات في وشج مقوم
أنافت وزافت في الزمام كأنها ... إلى غرضها أجلاد هر مؤوم(2/188)
إذا زال رعن عن يديها ونحرها ... بدا رأس رعن وارد متقدم
وصدت عن الماء الرواء لجوفها ... دوي كدف القينة المتهزم
تصعد في بطحاء عرق كأنها ... ترقى إلى أعلى أريك بسلم
لتغلب أبكي إذ أثارت رماحها ... غوائل شر بينها متثلم
وكانوا هم البانين قبل اختلافهم ... ومن لا يشد بنيانه يتهدم
بحي ككوثل السفينة أمرهم ... إلى سلف عاد إذا احتل مرزم
إذا نزلوا الثغر المخوف تواضعت ... مخارمه واحتله ذو المقدم
انفت لهم من عقل قيس ومرثد ... إذا وردوا ماء ورمح بن هرثم
ويماً لدى الحشار من يلو حقه ... يبزبز وينزع ثوبه ويلطم
وفي كل أسواق العراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
وقيظ العراق من أفاع وغدة ... ورعي إذا ما أكلأوا متوخم(2/189)
ألا تستحي منا ملوك وتتقي ... محارمنا لا يبوء الدم بالدم
نعاطي الملوك السلم ما قصدوا بنا ... وليس علينا قتلهم بمحرم
وكائن أزرنا الموت من ذي تحية ... إذا ما ازدرانا أو أسف لمأثم
وقد زعمت بهراء أن رماحنا ... رماح نصارى لا تخوض إلى الدم
فيوم الكلاب قد أزالت رماحنا ... شرحبيل إذ آلى آلية مقسم
لينتزعن أرماحنا فأزاله ... أبو حنش عن ظهر شقاء صلدم
تناوله بالرمح ثم اتنى له ... فخر صريعاً لليدين وللفم
وكان معادينا تهر كلابه ... مخافة جيش ذي هاء عرمرم
يرى الناس منا جلد أسود سالخ ... وفروة ضرغام من الأسد ضيغم
وعمر بن همام صفقنا جبينه ... بشنعاء تشفي صورة المتظلم
توفي جابر بعد حروب كلاب بزمان نحو سنة 564 م. ويروى له قوله في الهجاء (من المتقارب) :(2/190)
أجدوا النعال لأقدامكم ... أجدوا فويهاً لكم جرول
وأبلغ سلامان إن جئتها ... فلا يك شبهاً لها المغزل
يكسي الأنام ويعري أسته ... وينسل من خلفه الأسفل
فإن بجيراً وأشياعه ... كما تبحث الشاة إذ تدال
أثارت عن الحتف فاغتالها ... فمر عل حلقها المغول
وآخر عهد لها مونق ... غدير وجزع لها مبقل(2/191)
أفنون (567م)
هو صريم بن معشر بن ذهل بن تيم بن عمرو بن مالك بن عمرو بن عثمان بن تغلب وأفنون لقبه سمي به لبيت شعر قاله (من البسيط) :
منيتنا الوديا مضنون مضنونا ... أزماننا إن للشبان أفنونا
يعد صريم من شعراء الطبقة الثالثة له شعر قليل متفرق فمن ذلك ما قاله يرثي به نفسه. وكان التقى في الجاهلية بكاهن فسأله عن موته فأخبره أنه يموت بمكان يقال له الالاهة. فمكث ما شاء الله ثم سافر في ركب من قومه إلى الشام فأتوها ثم انصرفوا فضلوا الطريق فاستقبلهم رجل فسألوه عن طريقهم. فقال: سيروا حتى إذا كنتم بمكان كذا وكذا عنت لكم الالاهة وهي قارة بالسماوة ووضح لكم الطريق. فلما سمع أفنون ذكر الالاهة تطير وقال: لأصحابه إني ميت قالوا: ما عليك بأس. قال: لست بارحاً. وأبى أن ي نزل. فبينا ناقته ترتعي وهو راكبها إذ أخذت بمشفرها حية فاحتكت الناقة بمشفرها فلدغت الحية ساقه فقال لأخيه وكان معه واسمه معاوية: احفر لي فإني ميت. ثم قال يرثي نفسه وهو يجود بها (من الطويل) :
ألا لست في شيء فروحاً معاوياً ... ولا المشفقات يتبعن الجواريا
ولا خير فيما كذب المرء نفسه ... وتقواله للشيء يا ليت ذا ليا
وإن أعجبتك الدهر حال من امرئ ... فدعه وواكل اله واللياليا
يرحن عليه أو يغيرن ما به ... وإن لم يكن في جوفه العيش وانيا(2/192)
فطأ معرضاً إن الحتوف كثيرة ... وإنك لا تبقي بنفسك باقيا
لعمرك م يدري امرؤ كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
كفى حزناً أن يرحل القوم غدوة ... وأصبح في عليا الالاهة ثاويا
ثم مات فدفنوه هناك. ومن شعره ما رواه له المبرد ياقوت من قصيدة (من البسيط) :
بلغ حبيباً وخلل في سراتهم ... إن الفؤاد انطوى منهم على حزن
قد كنت أسبق من جاروا على مهل ... من ولد آدم ما لم يخلعوا رسني
فالوا علي ولم أملك فيالتهم ... حتى انتحيت على الأرساغ والثنن
لو أنني كنت من عاد ومن ارم ... ربيت فيهم ومن لقمان أو جدن
لما فدوا بأخيهم من مهولة ... أخا السكون ولا جاروا عن السنن
سألت قومي وقد سدت أباعرهم ... ما بني رحبة ذات العيص فالعدن
إذا قربوا لابن سوار أباعرهم ... لله در عطاء كان ذا غبن
أنى جزوا عامراً سؤى بفعلهم ... أم كيف يجزونني السؤى من الحسن
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رئمان أنف إذا ما ضن باللبن(2/193)
ومن قوله أيضاً يفخر بقتل عمرو بن كلثوم لعمرو بن هند (من الطويل) :
لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا ... لتخدم أمي أمه بموفق
فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتاً ... فأمسك من ندمانه بالمخنق
وجلله عمرو على الرأس ضربة ... بذي شطب صافي الحديدة رونق(2/194)
عميرة بن جعيل
عميرة التغلبي (568 م)
هو عميرة بن جعيل بن عمرو بن مالك بن الحارث بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب ذكره أبو يعلى بن المفضل في جملة الشعراء المبرزين وانتقى من شعره قوله يهجو بني تغلب (من الطويل) :
كسى الله حي تغلب ابنة وائل ... من اللؤم أظفاراً بطيئاً نصولها
فما بهم ألا يكونوا طروقة ... هجاناً ولكن عفرتها فحولها
ترى الحاصن الغراء منهم لشارف ... أخي سلة قد كان منه سليلها
قليلاً تبغيها الفحولة غيره ... إذا استسعلت جنات أرض وغولها
إذا ارتحلوا من دار ضيم تعاذلوا ... عليها وردوا وفدهم يستقيلها
وقال عميرة أيضاً (من الطويل) :
ألا يا ديار الحي بالبردان ... أتت حجج بعدي لهن ثمان
فلم يبق منها غير نؤي مهدم ... وغير أوار كالركي دفان(2/195)
وغير حطوبات الولائد زعزعت ... بها الريح والأمطار كل كان
قفار مرورات يحار بها القطا ... يظل بها السبعان يعتركان
يثيران من نسج التراب عليهما ... قميصين أسماطاً ويرتديان
وبالشرف الأعلى وحوش كأنها ... على جانب الأرجاء عود هجان
فمن مبلغ عني إياساً وجندلاً ... أخا طارق والقول ذو نفيان
فلا توعداني بالسلاح فإنما ... جمعت سلاحي رهبة الحدثان
جمعت درينياً كأن سنانه ... سنا لهب لم يستعر بدخان
ليالي إذ أنتم لأهلي أعبد ... برمان لما أجدب الحرمان
وإذ لهم ذود عجاف وصية ... وأما كما من قنة أمتان
أكثر أخبار عميرة التغلبي ضائعة. توفي نحو سنة 568 م.(2/196)
عمرو بن كلثوم (600م)
هو أبو عباد عمرو بن كلثوم بن عمرو بن مالك بن عتاب نب سعد بن زهير بن جشم بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل الشاعر المشهور من أهل الجزيرة. من شعراء الطبقة الأولى. وأم عمرو هي ليلى بنت المهلهل أخي كليب قيل أن المهلهل لما تزوج هنداً بنت بعج بن عتبة ولدت له ليلى فقال المهلهل لامرأته هند: اقتليها. فلم تفعل أمها وأمرت خادماً لها أن تغيبها عنها. فلما نام المهلهل هتف به هاتف يقول (من الكامل) :
كم من فتى مؤمل ... وسيد شمردل
وعدة لا تجهل ... في بطن بنت مهلهل
فاستيقظ مذعوراً وقال: يا هند أين ابنتي. قالت: قتلتها. قال: كلا وإله ربيعة (فكان أول من حلف بها) فأصدقيني. فأخبرته. فقال: أحسني غذاءها. فتزوجها كلثوم بن عمرو بن مالك بن عتاب فلما حملت بعمرو قالت: إنه أتاني آت في المنام فقال (من الرجز) :
يا لك ليلى من ولد ... يقدم إقدام الأسد
من جشم فيه العدد ... أقول قيلاً لا فند
فولدت عمراً. ولما أتت عليه سنة قالت: أتاني ذلك الآتي في الليل فأشار إلى الصبي وقال (من الرجز) :
إني زعيم لك أم عمرو ... بماجد الجد كريم النجر
أشجع من ذي لبد هزبر ... وقاص آداب شديد الأسر
يسودهم في خمسة وعشر(2/197)
وقيل أنه كان الأمر كما سمعت وساد عمرو بن كلثوم قومه تغلب وهو ابن خمسة عشر. وكان أعز الناس نفساً وأكثرهم امتناعاً. وقال الشعر وأجاد فيه يقال أن قصيدته المعلقة كانت تزيد على ألف بيت وأنها في أيدي الناس غير كاملة وإنما في أيديهم ما حفظوه منها. وكان خبر ذلك ما ذكره أبو عمر الشيباني قال: أن عمراً بن هند الملك لما ملك (562م) وكان جباراً عظيم الشأن والملك جمع بكراً وتغلب ابني وائل وأصلح بينهم بعد حرب البسوس وأخذ من الحيين رهناً من كل حي مائة غلام من أشرافهم وأعلامهم ليكف بعضهم عن بعض. وشرط بعضهم على بعض وتوافقوا على أن لا يبقى واحد منهم لصاحبه غائلة ولا يطلبه بشيء مما كان من الآخر من الدماء. فكان أولائك الرهن يصحبونه في مسيره ويغزون معه فمتى التوى أحد منهم بحق صاحبه أقاد من الرهن.
فسرح عمرو بن هند ركباً من بني تغلب وبني بكر إلى جبل طيء في أمر من أموره فنزلوا بالطرفة وهي لبني شيبان وتيم واللات أحلاف بني بكر. فقيل أنهم أجلوا التغلبيين عن الماء وحملوهم على المفازة فمات التغلبيون عطشاً وقيل بل أصابتهم سموم في بعض مسيرهم فهلك عامة التغلبيين وسلم البكريون. فلما بلغ ذلك بني تغلب غضبوا وطلبوا ديات أبنائهم من بكر فأبت بكر بن وائل أداءها. فأتوا عمرو بن هند فاستعدوه على بكر وقالوا: غدرتم ونقضتم العهد وانتهكتم الحرمة وسفكتم الدماء. وقالت بكر: أنتم الذين فعلتم ذلك قذفتمونا بالعضيهة وسمعتم الناس بها وهتكتم الحجاب والستر بادعائكم الباطل علينا. قد سبقنا أولادكم إذا وردوا وحملناهم على الطريق إذ خرجوا فهل علينا إذ حار القوم وضلوا. أو أصابتهم السموم. فاجتمع بنو تغلب لحرب بكر بن وائل واستعدت لهم بكر. فقال عمرو بن هند: إني أرى والله الأمر سينجلي عن أحمر أجلح أصم من بني يشكر. فلما التقت جموع بني وائل كره كل صاحبه وخافوا أن تعود الحرب بينهم كما كانت. فدعا بعضهم بعضاً إلى الصلح وتحاكموا إلى الملك عمرو. فقال عمرو: ما كنت لأحكم بينكم حتى تأتوني بسبعين رجلاً من أشراف بكر بن وائل فاجعلهم في وثاق عندي فإن كان الحق لبني تغلب دفعتهم إليهم وإن لم يكن لهم حق خليت سبيلهم. ففعلوا وتواعدوا ليوم يعينه يجتمعون فيه.(2/198)
فقال الملك لجلسائه: من ترون تأتي به تغلب لمقامها هذا. فقالوا: شاعرهم وسيدهم عمرو بن كلثوم. قال: فبكر بن وائل. فاختلفوا عليه وذكروا غير واحد من أشراف بكر بن وائل. قال عمرو: كلا والله لا تفرج بكر بن وائل إلا عن الشيخ الأصم يعتز في ريطته فيمنعه الكرم من أن يرقعها قائده فيضعها على عاتقه (أرد بذلك النعمان بن هرم) . فلما أصبحوا جاءت تغلب يقودها عمرو بن كلثوم حتى جلس إلى الملك. وجاءت بكر بالنعمان بن هرم وهو أحد بني ثعلبة بن غنم بن يشكر فلما اجتمعوا عند الملك. قال عمرو بن كلثوم للنعمان: يا أصم جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل عنهم وهم يفخرون عليك. فقال النعمان: وعلى من أظلت السماء كلها يفخرون ثم لا ينكر ذلك. فقال عمرو بن كلثوم: أما والله لو لطمتك لطمة ما أخذوا لك بها. فقال له النعمان: والله لو فعلت ما أفلت بها أنت ومن فضلك. فغضب عمرو بن هند وكان يؤثر بني تغلب على بكر فقال لابنته: يا حارثة أعطيه لحناًُ بلسان أنثى أي شبيه بلسانك. فقال النعمان: أيها الملك اعط ذلك أحب أهلك إليك. فقال: يا نعمان أيسرك أني أبوك. قال: لا ولكن وددت أنك أمي. فغضب عمرو غضباً شديداً حتى هم بالنعمان وطرده. وقام عمرو بن كلثوم وأنشد معلقته وذكر الأصمعي أنه ارتجلها. وقام بأثره الحارث بن حلزة وارتجل قصيدته كما سيذكر في أخباره. أما قصيدة عمرو بن كلثوم فلم ينشدها على صورتها كما تذكر في أثناء المعلقات وإنما قال منها ما وافق مقصوده. ثم زاد عليها بعد ذلك أبياتاً كثيرة وافتخر بأمور جرت له بعد هذا العهد ذلك وفيها يشير إلى شتم عمرو بن هند لأمه ليلى بنت المهلهل كما سيأتي في سياق أخباره. وقام بمعلقته خطيباً بسوق عكاظ وقام بها في موسم مكة (راجع هذه المعلقة وشرحها في مجاني الأدب) . ألا أن عمرو بن هند أثر قصيدة الحارث بن حلزة كما سيذكر في أخبار الحارث وأطلق السبعين بكرياً. فضغن عمرو بن كلثوم على الملك وعاد التغلبيون إلى أحيائهم. فلبثوا كذلك ما شاء الله.
ثم أن عمرو بن هند قال ذات يوم لندمائه هل تعلمون أحداً من العرب تأنف أمه من خدمة أمي. فقالوا: نعم أم عمرو بن كلثوم. قال: ولم. قالوا: لأن أباها مهلهل بن ربيعة وعمها كليب بن وائل أعز العرب وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب وابنها عمرو وهو(2/199)
سيد قومه. فارسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويسأله أن يزير أمه. فأقبل عمرو من الجزيرة إلى الحيرة في جماعة بني تغلب وأقبلت ليلى بنت مهلهل في ظعن من بني تغلب وأمر عمرو بن هند برواقه فضرب فيما بين الحيرة والفرات وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا في وجوه بني تغلب. فدخل عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند في رواقه ودخلت ليلى وهند في قبة من جانب الرواق وكانت هند عمة امرئ القيس بن حجر الشاعر وكانت أم ليلى بنت مهلهل بنت أخي فاطمة بنت ربيعة التي هي أم امرئ القيس وبينهما هذا النسب. وقد كان عمرو بن هند أمر أمه أن تنحي الخدم إذا دعا بالطرف وتستخدم ليلى فدعا عمرو بمائدة ثم دعا بالطرف. فقالت هند: ناوليني يا ليلى ذلك الطبق. فقالت ليلى: لقتم صاحبة الحاجة إلى حاجتها. فأعادت عليها وألحت فصاحت ليلى: واذلاه يا لتغلب. فسمعها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه ونظر إليه عمرو بن هند فعرف الشر في عينه. فوثب عمرو بن كلثوم إلى سيف لعمرو بن هند معلق بالرواق ليس هناك سيف غيره فضرب به رأس عمرو بن هند ونادى في بني تغلب فانتهبوا في الرواق وساقوا نجائبه وساروا نحو الحزيرة وقيل أن عمرو بن كلثوم أنشد عندها معلقته. وضرب به المثل في الفتك.
ومن أخبار عمرو بن كلثوم بعد ذلك أنه أغار على بني تميم ثم مر من غزره ذلك على حي من بني قيس بن ثعلبة فملأ يديه منهم وأصاب أسارى وسبايا وكان فيمن أصاب أحمد ابن جندل السعدي ثم انتهى إلى بني حنيفة باليمامة وفيهم أناس من عجل. فسمع بها أهل حجر فكان أول من أتاه من بني حنيفة بنو سحيم عليهم يزيد بن عمرو بن شمر فلما رآهم عمرو بن كلثوم ارتجز وقال (من الرجز) :
من عال منا بعدها فلا اجتبر ... ولا سقى الماء ولا ارعى الشجر
بنو لجيم وجعاسيس مضر ... بجانب الدو يديهون العكر
فانتهى إليه يزيد بن عمرو فطعنه فصرعه عن فرسه وأسره وكان يزيد شديداً جسيماً فشده في القد وقال له أنت الذي تقول:(2/200)
متى تعقد قرينتنا بحبل ... نجد الحبل أو نقص القرينا
أما إني سأقرنك إلى ناقتي هذه فأطردكما جميعاً. فنادى عمرو بن كلثوم: يا لربيعة أمثلة. قال: فاجتمعت بنو لجيم فنهوه ولم يكن يريد ذلك به. فسار به حتى أتى قصراً بحجر من قصورهم وضرب عليه قبة ونحر له وكساه وحمله على نجيبه وسقاه الخمر فلما أخذت برأسه تغنى (من الوافر) :
أأجمع صحبتي السحر ارتحالا ... ولم أشعر ببين منك هالا
ولم أر مثل هالة في معد ... أشبه حسنها إلا الهلالا
ألا أبلغ بني جشم بن بكر ... وتغلب كلما أتيا حلالا
بأن الماجد القرم ابن عمرو ... غداة نطاع قد صدق القتالا
كتيبته ململمة رداح ... إذا يرمونها تفني النبالا
جزى الله الأغر يزيد خيراً ... ولقاه المسرة والجمالا
بمأخذه ابن كلثوم بن عمرو ... يزيد الخير نازله نزالا
بجمع من بني قران صيد ... يجيلون الطعان إذا أجالا
يزيد يقدم السفراء حتى ... يروي صدرها الأسل النهالا
وأخبر ابن الأعاربي وغيره قالوا: أن بني تغلب حاربوا المنذر بن ماء السماء فلحقوا بالشام خوفاً فمر بهم عمرو بن أبي حجر الغساني وقال ابن الأثير: بل خرج ملك غسان بالشام وهو الحرث بنأبي شمر الغساني فمر بأفاريق من تغلب فلم يستقبلوه. وركب عمرو بن كلثوم التغلبي فلقيه فقال له الملك: ما منع قومك أن يتلقوني. فقال: لم يعلموا بمرورك. فقال: لئن رجعت لأغزونهم غزوة تتركهم أيقاظاً لقدومي فقال عمرو: ما استقيظ قوم قط إلا نبل رأيهم وعزت جماعتهم فلا توقظن نائمهم. فقال: كأنك تتوعدني بهم أما والله لتعلمن إذا نالت غطاريف غسان الخيل في دياركم إن أيقاظ قومك سينامون نومة لا حلم فيها(2/201)
تجتث أصولهم وينفي فلهم إلى اليابس الجدد والنازح الثمد. ثم رجع عمرو بن كلثوم عنه وجمع قومه وقال (من الوافر) :
ألا فاعلم أبيت اللعن أنا ... على عمد سنأتي ما نريد
تعلم أن محملنا ثقيل ... وأن زناد كبتنا شديد
وأنا ليس حي من معد ... يوازينا إذا لبس الحديد
فلما عاد الحرث الأعرج غزا بني تغلب فاقتتلوا واشتد القتال بينهم. ثم انهزم الحرث وبنو غسان وقتل أخو الحرث في عدد كثير فقال عمرو بن كلثوم (من الكامل) :
هلا عطفت على أخيك إذا دعا ... بالثكل ويل أبيك يا ابن أبي شمر
قذف الذي جشمت نفسك واعترف ... فيها أخاك وعامر بن أبي حجر
قال ابن الأعرابي: بلغ عمرو بن كلثوم أن النعمان بن المنذ يتوعده فدعا كاتباً من العرب فكتب إليه (من الطويل) :
ألا أبلغ النعمان عني رسالة ... فمدحك حولي وذمك قارح
متى تلقني في تغلب ابنة وائل ... وأشياعها ترتقى إليك المسالح
وعمر عمرو بن كلثوم طويلاً وقد زعموا أنه أتت عليه خمسون ومائة سنة. فلما حضرته الوفاة جمع بنيه فقال: يا بني قد بلغت من العمر ما لم يبلغه أحد من آبائي ولا بد أن ينزل بي ما نزل بهم من الموت. وإني والله ما عيرت أحداً بشيء إلا عيرت بمثله إن كان حقاً فحقاً وإن كان باطلاً فباطلاً. ومن سب سب فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لكم وأحسنوا جوراكم يحسن ثناؤكم وانعوا من ضيم الغريب. قرب رجل خير من ألف ورد خير من خلف. وإذا حدثتم فعوا وإذا حدثتم فأوجزوا فإن مع الإكثار تكون الأهذار وأشجع القوم العطوف بعد الكر كما أن أكرم المنايا القتل. ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب ولا من إذا عوتب لم يعتب. ومن الناس من لا يرجى خيره ولا يخاف شره فبكوه خير من دره وعقوقه خير من بره. ولا تتزوجوا في حيكم فإنه يودي إلى قبيح البغض.(2/202)
وكان لعمرو أخ يقال له مرة فقتل المنذر بن النعمان وأخاه وإياه عنى الأخطل بقوله لجرير:
ابني كليب أن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا
وكان لعمرو بن كلثوم ابن يقال له عباد وهو قاتل بشر بن عمرو بن عدس وبقي له عقب اشتهر منهم كلثوم بن عمرو العتابي الشاعر صاحب الرسائل.
وقد سبق أن عمرو بن كلثوم من أفضل الشعراء ألا أنه من المقلين. قال المفضل: لله در عمرو بن كلثوم لو أنه رغب في ما رغب فيه أصحابه من كثرة الشعر. ولكن واحدته أجود من مائتهم. وكان بنو تغلب تعظم معلقته جداً ويرويها صغارهم وكبارهم حتى هجوا بذلك قال بعض شعراء بكر بن وائل:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يروونها أبداً مذ كان أولهم ... يا للرجال لشعر غير مسئوم
ويروى لعمرو بن كلثوم غير ذلك من المقاطيع منها هجوه النعمان بن المنذر (من الطويل) :
لحا الله أدنانا إلى اللوم زلفة ... والامنا خالاً وأعجزنا أبا
وأجدرنا أن ينفخ الكير خاله ... يصوغ القروط والشنوف بيثربا
وقال أيضاً يعيره بأمه سلمى (من البسيط) :
حلت سليمى بخبت بعد فرتاج ... وقد تكون قديماً في بني تاج
إذ لا ترجي سليمى أن يكون لها ... من بالخورنق من قين ونساج
ولا يكون على أبوابها حرس ... كما تلفف قبطي بديباج
تمشي بعدلين من لوم ومنقصة ... مشي المقيد في اليابوت والحاج
وجاء له في كتاب الحماسة قوله (من الطويل) :(2/203)
معاذ الإله أن تنوح نساؤنا ... على هالك أو أن نضج من القتل
قراع السيوف بالسيوف أحلنا ... بأرض براح ذي أراك وذي أثل
فما أبقت الأيام مل مال عندنا ... سوى جذم أذواد محذفة النسل
ثلاثة أثلاث فأثمان خيلنا ... وأقواتنا وما نسوق إلى القتل
ومن أمثاله في لزوم الطباع وغلبة الأخلاق على التكلف قوله (من الطويل) :
ولكن فطام النفس أيسر محملاً ... من الصخرة الصماء حين ترومها(2/204)
زهير بن جناب الكلبي (560 م)
هو زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة الكلبي القضاعي أحد المشاهير في الجاهلية الأولى وهو من أمراء العرب وشجعانها الموصوفين وصاحب المواقع الكثيرة. ولد في أواخر القرن الرابع للمسيح. قال ابن الأثير وزهير بن جناب هو أحد من اجتمعت عليه قضاعة وكان يدعى الكاهن لصحة رأيه. وفي أيامه دخلت النصرانية في قضاعة. قال ابن قتيبة في ذكر أديان العرب: وكانت النصرانية في بعض قضاعة. وكان زهير م المعمرين وزعم البعض أنه عاش مائتين وخمسين سنة وقد بالغ غيرهم إلى أن قالوا أن زهيراً الكلبي عاش أربعمائة وخمسين سنة إلا أن في هذا إفراطاً ظاهراً والأرجح ما رواه صاحب الأغاني أنه عمر نحو مائة وخمسين سنة وعليه فيكون مولده نحو سنة 400 للمسيح. وكان زهير شجاعاً مظفراً ميمون النقيبة وغزا غزوات كثيرة وأشهر المواقع التي اشتهرت عنه مواقعه مع غطفان وبكر وتغلب وبني القين. وكان سبب غزواته غطفان أن بني بغيض بن ريث بن غطفان حين خرجوا من تهامة ساروا بأجمعهم فتعرضت لهم صداء وهي قبيلة من مذحج فقاتلوهم فقاتلت بغيض عن حريمهم وأموالهم وظهروا على صداء وفتكوا بهم. فعزت تهامة وأثرت لذلك وقالت لنتخذن حرماً مثل مكة لا يقتل صيده ولا يهاج عائذه فبنوا حرماً ووليه بنو مرة بن عوف. فلما بلغ ذلك زهير بن جناب. قال: لا يكون ذلك أبداً وأنا حي. ثم نادى في قومه وأبلغهم ما بلغه وقال: إن أعظم مأثرة نذخرها بين العرب أن نمنعهم من ذلك. فأجابوه إلى مراده فغزا بهم غطفان وقاتلهم أبرح قتال وظفر بهم وأصاب حاجته منهم وأخذ فارساً وقتله في الحرم الذي بنوه فعطله. ثم من عليهم ورد النساء وأخذ الأموال ولبث زماناً من دهره يملك على قومه إلى أن ملك أبرهة بن صباح على اليمن وكان(2/205)
ملكه نحو سنة 440 بعد المسيح وملك زهاء عشرين سنة. فسار إلى بلاد نجد فاجتمع به زهير فأكرمه أبرهة وفضله على غيره من العرب وأمره على بكر وتغلب ابني وائل. فوليهم واستمر زهير أميراً عليهم حتى أصابتهم سنة فاشتد عليهم فيما يطلب منهم من الخراج فخرجوا عن طاعته. فأقام بهم زهير في الحرب ومنعهم من النجعة حتى يؤدوا ما عليهم. فكادت مواشيهم تهلك فلما رأى ذلك ابن زيابة أحد بني تيم الله بن ثعلبة وكان فاتكاً أتى زهيراً وهو نائم فاعتمد التيمي بالسيف على بطن زهير فمر فيها حتى خرج من ظهره مارقاً بين الصفاق وسلمت أمعاؤه وما فيه بطنه وظن التيمي أنه قد قتله. وعلم زهير أنه قد سلم فلم يتحرك لئلا يجهز عليه فسكت. فانصرف التيمي إلى قومه فأعلمهم أنه قتل زهيراً فسرهم ذلك ولم يكن مع زهير إلا نفر من قومه فأمرهم أن يظهروا أنه ميت وأن يستأذنوا بكراً وتغلب في دفنه فإذا أذنوا دفنوا ثياباً ملفوفة وساروا به مجدين إلى قومهم ففعلوا ذلك. فأذنت لهم بكر وتغلب في دفنه فحفروا وعمقوا ودفنوا ثياباً ملفوفة لم يشك من رآها أن فيها ميتاً. ثم ساروا مجدين إلى قومهم فجمع لهم زهير الجموع وبلغهم الخبر فقال ابن زيابة:
طعنة ما طعنت في غلس الليل ... زهيراً وقد توافى الخصوم
حين يحمي له المواسم بكر ... أين بكر وأين منها الحلوم
خانني السيف إذ طعنت زهيراً ... وهو سيف مضلل مشؤوم
وجمع زهير من قدر عليه من أهل اليمن وغزا بكراً وتغلب وكانوا علموا به فقاتلهم قتالاً شديداً انهزمت به بكر وقاتلت تغلب بعدها فانهزمت أيضاً. وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة وأخذت الأموال وكثرت القتلى في بني تغلب وأسر جماعة من فرسانهم ووجوههم.
ثم تفاقم الأمر على المعديين واجتمع بنو بكر وبنو تغلب وولوا عليهم ربيعة بن حارث بم مرة أبا المهلهل وكليب وساروا إلى محاربة زهير بن جناب وجيش ملوك اليمن فخلصوا المهلهل وكليباً وغلبوا بني كندة وكانوا محالفين لملوك اليمن. ثم التقوا بمذحج وعليهم زهير في موضع اسمه سلان في أرض تهامة مما يلي اليمن ففتكوا بهم وغلبوا زهيراً ومزقوا جيشه تمزيقاً نحو سنة 481م إلا أن في آخر حياة ربيعة قويت شوكة زهير بن جناب فاستعاد ما فقده بين المعديين من(2/206)
السلطان وضرب الجزية على بني معد. فلما قام كليب في ولاية أبيه أثار الحرب على ملوك اليمن والتقوا بخزاز فغلبهم كليب وكان زهير بن جناب على قسم من الجيوش وهو يومئذ أربى على مائة سنة. فعاد إلى قومه معتزلاً عن أمرة بني معد.
وأما حرب زهير مع بني قين بن جسر فسببها ما ذكر ابن الأثير قال: أن أختاً لزهير كانت متزوجة فيهم فجاء رسولها إلى زهير ومعه صرة فيها رمل وصرة فيها شوك قتاد فقال زهير: إنها تخبركم أنه يأتيكم عدو كثير ذو شوكة شديدة فاجتمعوا. فقال الجلاح بن عوف السحمي: لا نحتمل لقول امرأة. فظعن زهير وأقام الجلاح فصبحه الجيش فقتلوا عامة قوم الجلاح وذهبوا بأموالهم وماله ومضى زهير فاجتمع مع عشيرته من بني جناب وبلغ الجيش خبره فقصدوه فقاتلهم وصبر لهم فهزمهم وقتل رئيسهم فانصرفوا عنه خائبين.
ثم طال عمر زهير وثقلت همته وكف بصره وهو مع ذلك لا يزال مقدماً عند ملوك حمير وغسان. يدخل على الحارث بن مارية الجفني الغساني فينادمه ويحادثه فيطرب لحديثه ويستشيره في أمره. ولما دخل أبرهة الأشرم في بلاد اليمن قدم عليه زهير فأكرم وفادته وأثبته على أمرته وهو يومئذ يدين بالنصرانية. وأما وفاة زهير فكانت نحو سنة خمسمائة وستين للمسيح وقيل غير ذلك.
قال صاحب الأغاني: وكان زهير فيما ذكر أحد الذين شربوا الخمر في الجاهلية حتى قتلتهم وكان قد بلغ من السن الغاية التي ذكرناها. فقال ذات يوم: إن الحي ظاعن. فقال: عبد الله بن عليم بن جناب أن الحي مقيم. فقال زهير: إن الحي مقيم. فقال عبد الله: إن الحي ظاعن. فقال: من الذي يخالفني منذ اليوم. قيل: ابن أخيك عبد الله بن عليم. فقال: أو ما ههنا أحد ينهاه عن ذلك. قالوا: لا. نغضب وقال: لا أراني قد خولفت. ثم دعا بالخمر يشربها صرفاً بغير مزاج وعلى غير طعام حتى قتلته.
وكان زهير من أقدم الشعراء وأشرفهم شرعاً وقد عده من لهم معرفة بفن الشعر من شعراء الطبقة الثالثة وشعره قد فقد أكثره وقد ذكر ابن الأثير والميداني وصاحب الأغاني وكثيرون غيرهم شيئاً من محاسنها جمعناها ضناً بهذه الدرر أن تنفقد. فمن ذلك قوله (من الطويل) :
أبى قومنا أن يقبلوا الحق فانتهوا ... إليه وأنياب من الحرب تحرق
فجاؤوا إلى رجراجة مستميرة ... يكاد المرني نحوها الطرف يصعق(2/207)
دروع وأرماح بأيدي أعزة ... وموضونة مما أفاد مخرق
وخيل جعلناها دخيل كرامة ... عقاراً ليوم الحرب تخفى وتغبق
فما برحوا حتى تركنا رئيسهم ... يعفر فيه المضرحي المذلق
ومما يروى له قوله في حرب غطفان المتقدم ذكرها (من الوافر) :
فلم تبصر لنا غطفان لما ... تلاقينا وأحرزت النساء
ولولا الفضل منا ما رجعتم ... إلى عذراء شيمتها الحياء
فكم غادرت من بطل كمي ... لدى الهيجاء كان لها غناء
فدونكم ديوناً فاطلبوها ... وأوتاراً ودونكم اللقاء
فإنا حيث لا يخفى عليكم ... ليوث حين يحتضر اللواء
فقد أضحى لحي بني جناب ... فضاء الأرض والماء الرواء
نفينا نخوة الأعداء عنا ... بأرماح أسنتها ظماء
ولولا صبرنا يوم التقينا ... لقينا مثل ما لقيت صداء
غداة تعرضوا لبني بغيض ... وصدق الطعن للنوكى شفاء
وقد هربت حذار الموت قين ... على آثار ما ذهب العفاء
وقد كنا رجونا أن يمدوا ... فاخلفنا من القوم الرجاء
وقال يوم انتصر على ربيعة وأسر كليباً والمهلهل رواه ابن الأثير (من الخفيف) :
أين أين الفرار من حذر المو ... ت إذا يتقون بالأسلاب
إذ أسرنا مهلهلاً وأخاه ... وابن عمر في القيد وابن شهاب
وسبينا من تغلب كل بيضا ... ء كنور الضحى برود الرضاب(2/208)
حين تدعو مهلهلاً يا لبكر ... ها أهذي حفيظة الأحساب
ويحكم ويحكم أبيح حماكم ... يا بني تغلب أنا ابن الرضاب
وهم هاربون في كل فج ... كشريد النعام فوق الروابي
واستدارت رحى المنايا عليهم ... بليوث من عامر وجناب
فهم بين هارب ليس يألو ... وقتيل معفر في التراب
فضل العز عزنا حين نسمو ... مثل فضل السماء فوق السحاب
وقال السيوطي في المزهر أن زهير بن جناب هو القائل (من الوافر) :
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام
وجاء له في معجم البلدان لياقوت رواه عن ابن الكلبي قوله يفتخر (من الوافر) :
فما إبلي بمقتدر عليها ... ولا حلمي الأصيل بمستعار
ستمنعها فوارس من بلي ... وتمنعها الفوارس من صحار
وتمنعها بنو القين بن جسر ... إذا أوقدت للحدثين ناري
وتمنعها بنو نهد وجرم ... إذا طال التحاول في المغار
بكل مناجد خلد قواه ... واهيب عاكفون على الدوار
وذكر له البكري وصاحب الأغاني قوله في ذم الكبر وطول الحياة وفيه وصاة لبنيه وذكر مواقع سلان وخزاز (من مجزوء الكامل) :
ابني إن أهلك فإ ... ني قد بنيت لكم بنيه(2/209)
ولقد شهدت النار ... للسلان توقد في الطميه
وتركتكم أرباب سا ... دات زنادكم وريه
ولكل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحيه
والموت خير للفتى فليهلكن ... وبه بقيه
من أن يرى الشيخ البجا ... ل إذا تهادى بالعشيه
وقال أيضاً في طول عمره ويذكر السلان وخزاز (من الوافر) :
لقد عمرت حتى ما أبالي ... احتفي في صباحي أم مسائي
وحق لمن أتت مائتان عاماً ... عليه أن يمل من الثواء
شهدت الموقدين على خزازى ... وبالسلان جمعاً ذا زهاء
ونادمت الملوك من آل عمرو ... وبعدهم بني ماء السماء(2/210)
قس بن ساعدة (600م)
هو قس بن ساعدة بن عمرو بن عدي بن مالك بن ايدعان بن النمر بن وائلة بن الطمئنان بن زيد مناة بن تهدم بن أفصى بن دعمي بن إياد أسقف نجران خطيب العرب وشاعرها وحليمها وحكيمها وحكمها في عصره. يقال أنه أول من علا على شرف وخطب عليه. وأول من قال في كلامه: أما بعد. قيل: وبعد لفظة عربية وفصل الخطاب والذي أوتيه قس هو فصل الخصومة وهذا يؤيد ما قيل عنه أنه أول من قال: البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وأول من اتكأ عند خطبته على سيف أو عصاً. وأول من كتب من فلان إلى فلان. أدركه الرسول ورآه بعكاظ فكان يأثر عنه كلاماً يسمعه منه. وكان مؤمناً بالله وبالبعث. بليغ النطق وفيه يقول الأعشى:
وأفصح من قسم وأجرى من الذي ... بذي العين من خفان أصبح خادرا
وكان قس يفد على قيصر زائراً فيكرمه ويعظمه فقال له قيصر: ما أفضل العلم. قال: معرفة الرجل بنفسه. قال: فما أفضل العقل. قال: وقوف المرء عند علمه. قال: فما أفضل الأدب. قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. قال: فما أفضل المروءة. قال: قلة رغبة المرء في إخلاف وعده. قال: فما أفضل المال. قال: ما قضي به الحق.
وقيل أن الجارود بن عبد الله لما وفد في وفد عبد القيس على الرسول وكان سيداً في قومه معظماً في عشيرته فأسلم سأله محمد: يا جارود هل في جماعة عبد القيس من يعرف لنا قساً. قال: كلنا نعرفه. وأنا كنت من بينهم أقفو أثره واطلع خبره. كان قس سبطاً من أسباط العرب. صحيح النسب. فصيحاً ذا شيبة حسنة يتقفر القفار. ولا تكنه دار. ولا يقره قرار. يتحسى في تقفره بعض الطعام. ويأنس بالوحوش والهوام. يلبس المسوح. ويتبع السياح على منهاج المسيح. لا يغير الرهبانية. مقراً بالوحدانية. تضرب بحكمته الأمثال. وتكشف به الأهوال. وتتبعه الأبدال. أدرك رأس الحواريين سمعان(2/211)
فهو أول من تأله من العرب. واعبد من تعبد في الحقب. وأيقن بالبعث والحساب. وحذر سوء المنقلب والمآب. ووعظ بذكر الموت. وأمر بالعمل قبل الفوت. الحسن الألفاظ. الخاطب بسوق عكاظ. العارف بشرق وغرب. ويابس ورطب. وأجاج وعذب. كأني أنظر إليه. والعرب بين يديه. يقسم بالرب الذي هو له. ليبلغن الكتاب أجله. وليوفين كل عامل عمله. ثم أنشأ يقول (من الخفيف) :
هاج للقلب من هواه ادكار ... وليال خلالهن نهار
وجبال شوامخ راسيات ... وبحار مياههن غزار
ونجوم يحثها قمر الليل ... وشمس في كل يوم تدار
ضوؤها يطمس العيون وارعا ... د شديد في الخافقين مثار
وغلام واشمط ورضيع ... كلهم في التراب يوم يزار
وقصور مشيدة حوت الخير ... وأخرى خوت فهن قفار
وكثير مما تقصر عنه حدسة الناظر الذي لا يحار
والذي قد ذكرت دل على الله ... نفوساً لها هدى واعتبار
فقال محمد: يرحم الله قساً أني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة وحده.
ومن خطب قس المأثورة ما رواه أبو بكر الصديق قال: لست أنساه بسوق عكاظ (وهو سوق بين بطن النخلة والطائف كان لثقيف وقيس) على جمل له أورق. وهو يتكلم بكلام مؤنق. فقال حين خطب فأطنب. ورغب ورهب. وحذر وأنذر. وقال في خطبته: أيها الناس اسمعوا وعوا. وإذا وعيتم فانتفعوا. أنه من عاش مات. ومن مات فات. وكل ما هو آت آت. مطر ونبات. وأرزاق وأقوات. وآباء وأمهات. وأحياء وأموات. وجمع وشتات وآيات بعد آيات. ليل موضوع. وسقف مرفوع. ونجوم تغور. وأراض تمور. وبحور تموج(2/212)
وتجارة تروج. وضوء وظلام, وبر وآثام. ومطعم ومشرب. وملبس ومركب. ألا أن أبلغ العظات. السير في الفوات. والنظر إلى محل الأموات. إن في السماء لخبراً. وإن في الأرض لعبراً. ليل داج. وسماء ذات أبراج. وأرض ذات رتاج. وبحار ذات أمواج. مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون. أرضوا بالمقام فأقاموا. أم تركوا هناك فناموا. أقسم قس بالله قسماً حقاً. لا آثماً فيه ولا حانثاً. إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه. ثم قال: تباً لأرباب الغفلة. من الأمم الخالية، والقرون الماضية. يا معشر إياد. أين الآباء والأجداد. وأين المريض والعواد. وأين الفراعنة الشداد. أين من بني وشيد وزخرف ونجد. وغره المال والولد. أين من بغى وطغى. وجمع فأوعى. وقال أنا ربكم الأعلى. ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً. وأطول منكم آجالاً. طحنهم الثرى بكلكله. ومزقهم بتطاوله. فتلك عظامهم بالية. وبيوتهم خاوية. عمرتها الذئاب العاوية. كلا بل هو المعبود. ثم أنشأ يقول (من مجزوء الكامل) :
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
وأخبر بعض معاصريه عنه قال: لقد رأيت من قس عجباً. أشرف بي جملي على واد. وشجر من شجر عاد. مورقة مونقة. وقد تهدل أغصانها. (قال) فدنوت منه فإذا بقس في ظل شجرة بيده قضيب من أراك ينكث به الأرض وهو يترنم ويقول (من البسيط) :
يا ناعي الموت والملحود في جدث ... عليهم من بقايا خزهم خرق
دعهم فإن لهم يوماً يصاح بهم ... فهم إذا انتبهوا من نومهم فرق(2/213)
حتى يعودوا بحال غير حالهم ... خلقاً جديداً كما من قبلهم خلقوا
منهم عراة ومنهم في ثيابهم ... منها الجديد ومنها المنهج الخلق
(قال) فدنوت منه وسلمت عليه فرد علي السلام وإذا بعين خزارة في أرض خوارة ومسجد بين قبرين. وأسدين عظيمين. يلوذان به. ويتمسحان بأثوابه. فأراد أحدهما يسبق إلى الماء. وتبعه الآخر يطلب الماء. فضربه قس بالقضيب. وقال: ارجع ثكلتك أمك حتى يشرب الذي ورد قبلك. فرجع ثم ورد بعده فقلت له: ما هذان القبران. قال: هذان قبر أخوين لي كانا يعبدان الله معي في هذا لمكان لا يشركان بالله شيئاً فأدركهما الموت فقبرتهما حتى ألحق بهما. ثم نظر إلى السماء. فتغرغرت عيناه بالدموع وانكب عليهما وجعل يقول (من الطويل) :
خليلي هبا طالما قد رقدتما ... أجدكما لا تقضيان كراكما
ألم تعلما أني بسمعان مفرد ... وما لي فيها من خليل سواكما(2/214)
أقيم على قبريكما لست بارحاً ... طوال الليالي أو يجيب صداكما
جرى الموت مجرى اللحم والعظم منكما ... كأن الذي يسقي العقار سقاكما
تحمل من يهوى العقول وغادروا ... أخاً لكما أشجاه ما قد شجاكما
فأي أخ يجفو أخاً بعد موته ... فلست الذي من بعد موت جفاكما
أصب على قبريكما من مدامة ... فإلا تنالاهما تروجثاكما
أناديكما كيما تجيبا وتنطقا ... وليس مجاباً موته من دعاكما
كأنكما والموت أقرب غاية ... بروحي في قبريكما قد أتاكما
قضيت بأني لا محالة هالك ... وأني سيعروني الذي قد عراكما
فلو جعلت نفس لنفس وقاية ... لجدت بنفسي أن تكون فداكما(2/215)
سأبكيكما طول الحياة وما الذي ... يرد على ذي عولة إن بكاكما
وكان قس بن ساعدة من المعمرين. وقد اختلفوا في سنه زعموا أنه عاش سبعمائة سنة وقيل ستمائة سنة وأنه أدرك حواريي المسيح. وقيل أنه توفي في روحين وهي قرية قريبة من حلب وفي لحف جبل وهناك له مشهد مليح مقصود للزيارة وينذر له الناس نذوراً وعليه وقف. قال أبو جعبل الألبيري لما زار قبره:
هذه منازل ذي العلا ... قس بن ساعدة الإياي
كم عاش في الدنيا وكم ... أسدى إلينا من أياد
قد نالها بحلى البلا ... غة مفصحاً في كل ناد
قد قر في بطن الثرى ... متفرداً بين العباد
ولابن ساعدة حكم وأقوال تؤثر عنه فمن ذلك قوله: من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب. ويعد قس من شعراء العرب وشعره ضائع أكثره منه قوله (من الكامل) :
منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي
وطلوعها حمراء صافية ... وغروبها صفراء كالورس
تجري على كبد السماء كم ... يجري حمام الموت في النفس
ويروى له قوله من أبيات (من مجزوء البسيط) :
الحمد لله الذي ... لم يخلق الخلق عبث
وهو القائل أيضاً (من المتقارب) :
ويخلف قوم خلافاً لقوم ... وينطق للأول الأول(2/216)
ونقلنا من كتاب خط قديم في المكتبة البريطانية مايلي: ومن خطب قس بن ساعدة: أيها الأشهاد. أين ثمود وعاد. أين الآباء والأجداد. أين ذهب أبرهة ذو المنار. وعمرو ذو الأذعار. هل تدرون إلى ما صار إليه عبادة الفتاح. وأذينة الصياح. وجذيمة الوضاح. عزوا فقهروا. ونهوا وأمروا. وجددوا المصانع والآثار. وجدولوا الأنهار. وغرسوا الأشجار. واستخدموا الليل والنهار. فهجمت الآجال. دون الآمال. ألا وإن كل شيء إلى الزوال. ثم أنشد (من الكامل) :
قد كنت أسمع بالزمان ولا أرى ... إن الزمان يطيق نتف جناحي
فأراه أسرع في حتى أصبحت ... بيضاً متون عوارضي وصفاحي
وأنا الكبير لنسبة في قومه ... هيهات كما ناسمت من أرواحي
صافحت ذا جدن وأردك مولدي ... شمر بن عمرو يتقى بالراح
والقيل ذو يزن رأيت محله ... بالقهر بين جنادل وصفاح
فتك الزمان بملك حمير فتكة ... تسعى بكل عشية وصباح
أودى أبو كرب وعمرو قبله ... وأباد ملك أذينة الوضاح
وأباد أفريقيس بعد مقامه ... في الملك بالمستغرق المجتاح
والصعب ذو القرنين أصبح ثاوياً ... بالحنو بين تلاعب الأرواح
وغدا بأبرهة المنار فأصبحت ... أيامه مسلوبة الإصباح
أخنى على صيفي بحادث صرفه ... مستأثراً بجذيمة الوضاح
أفأين علكدة الهمام وملكه ... أم أين عز عبادة الفتاح
لا تمس في شك المنون أما ترى ... أيامه مشهورة الإيضاح
لا تأمنن مكر الزمان فإنه ... أردى الزمان بشمر الوضاح(2/217)
برك الزمان على ابن هاتك عرشه ... وعلى أذينة سالب الأنواح
وعلى الذي كانت بموكل داره ... نهب القيان وكل أجر وشاح
من بعد ملك الصين أصبح هالكاً ... أكرم به من هالك مجتاح
إن الذين تملكوا قد أهلكوا ... وعلى المقنع حل بالأبراح
شخصت على بعد النوى أشخاصهم ... فرأتهم الأوهام كالأشباح
أفبعد أملاك مضوا من حمير ... يرجى الفلاح ولات حين فلاح
من ذا تصافق كفه كف الردى ... يشري التقى عن بيعة الأرواح
وروى له صاحب لسان العرب قوله (من الخفيف) :
كل يهماء يقصر الطرف عنها ... أرقلتها قلاصنا إرقالا(2/218)
أمية بن أبي الصلت (624م)
هو أبو الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عمرو بن عوف بن عقدة بن عنزوة بن قسي وهو ثقيف بن النبيت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان. قال ابن هشام: ثقيف قسي بن منبه بن بكر بن هوازن. وأمه رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف. وهو شاعر مشهور من شعراء الطبقة الثانية وقيل من الطبقة الأولى. وكان من رؤساء ثقيف وفصحائهم المشهورين قرأ الكتب القديمة وتهذب أحسن تهذيب. وفي شعره ألفاظ مجهولة لا تعرفها العرب كان يأخذها من الكتب القديمة فمنها قوله:
قمر وساهور يسل ويغمد
وكان يسمي الله عز وجل في شعره (السلطيط) فقال:
والسلطيط فوق الأرض مقتدر
وسماه في موضع آخر (التغرور) فقال: وأيده التغرور. قال ابن قتيبة: وعلماؤنا لا يحتجون بشيء من شعره لهذه العلة. وقال أبو عبيدة: اتفقت العرب على أن أشعر أهل المدن أهل يثرب ثم عبد القيس ثم ثقيف وأن أشعر ثقيف أمية بن أبي الصلت. قال الكميت: أمية أشعر الناس قال كما قلنا ولم نقل كما قال. وروي عن مصعب بن عثمان أنه قال: كان أمية بن أبي الصلت قد نظر في الكتب وقرأها ولبس المسوح تعبداً وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية وحرم الخمر ونبذ الأوثان وكان محققاً والتمس الدين وهو القائل (من الخفيف) :
كل دين يوم القيامة عند ... الله إلا دين الحنيفة زور
ويقال أن أمية قدم على أهل مكة: باسمك اللهم. فجعلوها أول كتبهم مكان: بسم الله الرحمن الرحيم. وقد أخبر صاحب الأغاني عن أمية أموراً غريبة وأنه كان يطمع في النبوة وأن الجن كانت تطيعه وغير ذلك من الخوارق التي لم نر لتصديقها سبيلاً. وكان أمية بن أبي الصلت منقطعاً في الجاهلية إلى عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم الغالبي وكان رجلاً صالحاً وسيداً جواداً من قريش يصل الرحم ويطعم المسكين. فكان(2/219)
أمية يمتدحه وينال هباته. قيل أنه دخل عليه يوماً وعنده أمتان تسميان الجرادتين تتغنيان في الجاهلية سماهما بجرادتي عاد. فقال له عبد الله: أمر ما أتى بك. فقال أمية: كلاب غرماء نبحتني ونهشتني. فقال له عبد الله: قدمت علي وأنا عليل من حقوق لزمتني ونهشتني فانظرني قليلاً ما في يدي وقد ضمنتك قضاء دينك ولا أسأل عن مبلغه. قال: فأقام أمية أياماً فأتاه فقال (من الوافر) :
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
وعلمك بالحقوق وأنت فرع ... لك الحسب المهذب والسناء
خليل لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا مساء
وارضك كل مكرمة بنتها ... بنو تيم وأنت لها سماء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
تباري الريح مكرمة ومجداً ... إذا ما الكلب أحجره الشتاء
إذا خلفت عبد الله فاعلم ... بأن القوم ليس لهم جزاء
فأبرز فضله حقاً عليهم كما برزت لناظرها السماء
فهل تخفى السماء على بصير ... وهل بالشمس طالعة خفاء
فلما أنشده أمية هذا الشعر كانت عنده قينتان فقال: خذ أيتهما شئت فأخذ أحداهما وانصرف(2/220)
فمر بمجلس من مجالس قريش فلاموه على أخذها وقالوا له: لقيته عليلاً فلو رددتها عليه فإن الشيخ يحتاج إلى خدمتها كان ذلك أقرب لك عنده وأكثر من كل حق ضمنه لك فوقع الكلام من أمية موقعاً وندم. فرجع إيه ليردها عليه فلما أتاه بها قال له ابن جدعان: لعلك إنما رددتها لأن قريشاً لاموك على أخذها وقالوا كذا وكذا فوصف لأمية ما قال له القوم. فقال أمية: والله ما أخطأت يا أبا زهير. فقال عبد الله بن جدعان: فما الذي قلت في ذلك. فقال أمية (من الطويل) :
عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ... ببذل وما كل العطاء يزين
وليس بشين لامرئ بذل وجهه ... إليك كما بعض السؤال يشين
فقال عبد الله لأمية خذ الأخرى. فأخذهما جميعاً وخرج. فلما صار إلى القوم بهما أنشأ يقول (من مجزوء الكامل) :
ذكر ابن جدعان بخير ... كلما ذكر الكرام
من لا يخون ولا يعق ... ولا تغيره اللئام
نجب النجيبة والنجيب ... له الرحالة والزمام
وقيل أن ابن جدعان وفد على كسرى فأكل عنده الفالوذ فسأل عنه فقيل له: هذا الفالوذ قال: وما الفالوذ قال: لباب البر يلبك مع عسل النحل قال: ابغوني غلاماً يصنعه فأتوه بغلام يصنعه فابتاعه ثم قدم به مكة معه ثم أمره فصنع له الفالوذ بمكة فوضع الموائد بالأبطح إلى باب المسجد ثم نادى مناديه: ألا من اراد الفالوذ فيحضر. فحضر الناس فكان فيمن حضر أمية بن أبي الصلت فقال فيه (من الوافر) :
ومالي لا أحييه وعندي ... مواهب يطلعن من النجاد
إلي وأنه للناس نهي ... ولا يعتل بالكلم الصوادي
لابيض من بني تيم بن كعب ... وهم كالمشرفيات الحداد
لكل قبيلة هاد ورأس ... وأنت الرأس تقدم كل هاد
له بالخيف قد علمت معد ... وإن البيت يرفع بالعماد(2/221)
له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق دارته ينادي
إلى ردح من الشيزي ملاء ... لباب البر يلبك بالشهاد
ويحكي أن أمية دخل على عبد الله بن جدعان وهو يجود بنفسه فقال له أمية: كيف تجدك أبا زهير قال: إني لمدابر أي ذاهب فقال أمية (من مجزوء الكامل) :
علم ابن جدعان بن عمرو ... أنه يوماً مدابر
ومسافر سفراً بعيداً ... لا يؤوب به المسافر
فقدوره بفنائه ... للضيف مترعة زواخر
تبدو الكسور من انضرا ... ج الغلي فيها والكراكر
فكأنهن بما حمين ... وما شحن بها ضرائر
زبد وقرقرة كقر ... قرة الفحول إذا تخاطر
بذ المعاشر كلها ... بالفضل قد علم المعاشر
وعلا علو الشمس حتى ما يفاخره مفاخر
دانت له أبناء فهر من بني كعب وعامر
أنت الجواد ابن الجوا ... د بكم ينافر من ينافر
ولما ظهر الإسلام كان أمية مع قريش وقاوم محمداً كان يحرضهم بعد وقعة بدر وكان يرثي من قتل منهم في هذه الوقعة. ولما أن سافر إلى الشام وعاد إلى الحجاز عقب وقعة بدر مر بالقليب فقيل له أن فيه قتلى بدر ومنهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وهما ابنا خال أمية فجدع أذني ناقته وقال قصيدته التي يرثي بها من قتل من قريش ببدر ويحرضهم على أخذ الثأر (من مجزوء الكامل) :
ألا بكيت على الكرا ... م بني الكرام أولي الممادح(2/222)
كبكا الحمام على فرو ... ع الأيك في الغصن الجوانح
يبكين حرى مستكينات ... يرحن مع الروائح
أمثالهن الباكيا ... ت المعولات من النوائح
من يبكهم يبك على ... حزن ويصدق كل مادح
من ذا ببدر فالعقنقل ... من مرازبة جحاجح
فمدافع البرقين فالحنا ... ن من طرف الأوشاح
شمط وشبان بها ... ليل مغاوير دحادح
أو لا ترون لما أرى ... ولقد أبان لكل لامح
أن قد تغير بطن مكة ... فهي موحشة الأباطح
من كل بطريق لبطر ... يق نقي اللون واضح
دعموص أبواب الملو ... ك وجائب للخرق فاتح
ومن السراطمة الجلا ... حمة الملاوثة المناجح
القائلين الفاعلين ... الآمرين بكل صالح
المطعمين الشحم فوق ... الخبز شحماً كالأنافح
نقل الجفان مع الجفا ... ن إلى جفان كالمناضح
ليست بأصغار لمن ... يقفو ولارح رحارح(2/223)
وهب المئين من المئين ... إلى المئين من اللواقح
سوق المؤبل للمؤبل ... صادرات عن بلادح
لكرامهم فوق الكرا ... مزية وزن الرواجح
كتثاقل الأرطال بالقسطا ... س في ال] دي النوافح
خذلتهم فئة وهم ... يحمون عورات الفضائح
الضاربين التقدمية ... بالمهندة الصفائح
ولقد عناني صوتهم ... من بين مستسق وصابح
لله در بني علي ... ايم منهم وناكح
إن لم يغيروا غارة ... شعواء تحجر كل نابح
بالمقربات المبعدات ... الطامحات مع الطوامح
مرداً على جرد إلى ... أسد مكالبة كوالح
ويلاقي قرن قرنه ... مشي المصافح للمصافح
بزهاء ألف ثم ألف ... بين ذي بدن ورامح(2/224)
انبتوا من معاشر شعر الرأ ... س وهم الحقوهم المنعه
فبنو عمهم إذا حضر البأ ... س عليهم أكبادهم وجعه
وهم المطعمون إذ أقحط القطر ... وحالت فلا ترى قرعه
ويخبر أن أمية لما ظهر الرسول أخذ بنتيه وهرب بهما إلى أقصى اليمن ثم عاد إلى الطائف.
ولما مرض مرضه الذي مات فيه جعل يقول: قد دنا أجلي وهذه المرضة منيتي وأنا أعلم أن الحنيفية حق ولكن الشك يداخلني في محمد. ولما دنت وفاته أغمي عليه قليلاً ثم أفاق وهو يقول (من مجزوء الرجز) :
لبيكما لبيكما ... ها أنا ذا لديكما
لا مال يفديني ولا عشيرة تنجيني. ثم أغمي عليه أيضاً بعد ساعة حتى ظن من حضره من أهله أنه قد قضى ثم أفاق وهو يقول:
لبيكما لبيكما ... ها أنا ذا لديكما
لا بريء فأعتذر ولا قوي فانتصر. ثم أنه بقي يحدث من عنده ساعة ثم أغمي عليه مثل المرتين الأوليين حتى يئسوا من حياته وأفاق وهو يقول:
لبيكما لبيكما ... ها أنا ذا لديكما
محفوف بالنعم
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
ثم أقبل على القوم فقال: قد جاء وقتي فكونوا في أهبتي وحدثهم قليلاً حتى يئس القوم من مرضه وأنشأ يقول (من الخفيف) :
كل عيش وإن تطاول دهراً ... منتهى أمره إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا(2/225)
فاجعل الموت نصب عينك واحذر ... غولة الدهر إن للدهر غولا
وكانت وفاته في السنة الثانية للهجرة. وشعر أمية المروي عنه كثير جداً ذكرنا منه ما تيسر لنا جمعه. فمن ذلك قوله. وكان نبي المسلمين إذ سمعه يقول كاد أمية يسلم (من البسيط) :
الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبحنا ربي ومسانا
رب الحنيفة لم تنفد خوائنها ... مملوءة طبق الآفاق سلطانا
ألا نبي لنا منا فيخبرنا ... ما بعد غايتنا من رأس محيانا
بينا يرببنا آباؤنا هلكوا ... وبينما نقتني الأولاد أفنانا
وقد علمنا لو أن العلم ينفعنا ... أن سوف يلحق أخرانا بأولانا
ومن بديع شعره الدال على إيمانه قوله في العزة الإلهية وتكوين البرية (من الوافر) :
إله العالمين وكل أرض ... ورب الراسيات من الجبال
بناها وابتنى سبعاً شداداً ... بلا عمد يرين ولا رجال
وسواها وزينها بنور ... من الشمس المضيئة والهلال
ومن شهب تلألأ في دجاها ... مراميها أشد من النصال
وشق الأرض فانجست عيوناً ... وأنهاراً من العذب الزلال
وبارك في نواحيها وزكى ... بها ما كان من حرث ومال
فكل معمر لا بد يوماً وذي دنيا يصير إلى زوال
ويفنى بعد جدته ويبلى ... سوى الباقي المقدس ذي الجلال
وسيق المجرمون وهم عراة ... إلى ذات المقامع والنكال(2/226)
فنادوا ويلنا ويلاً طويلاً ... وعدوا في سلاسلها الطوال
فليسوا ميتين فيستريحوا ... وكلهم ببحر النار صال
وحل المتقون بدار صدق ... وعيش ناعم تحت الظلال
لهم ما يشتهون وما تمنوا ... من الأفراح فيها والكمال
وقال في كمالات الحضرة العلوية (من الطويل) :
لك الحمد والنعماء والملك ربنا ... فلا شيء أعلى مك مجداً وأمجد
مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد
عليه حجاب النور والنور حوله ... وأنهار نور حوله تتوقد
فلا بصر يسمو إليه بطرفه ... ودون حجاب النور خلق مؤيد
ملائكة أقدامهم تحت عرشه ... بكفيه لولا الله كلوا وأبلدوا
قيام على الأقدام عانين تحته ... فرائصهم من شدة الخوف ترعد
وسبط صفوف ينظرون قضاءه ... يصيخون بالأسماع للوحي ركد
أمين لوحي القدس جبريل فيهم ... وميكال ذو الروح القوي المسدد
وحراس أبواب السماوات دونهم ... قيام عليها بالمقاليد رصد
فنعم العباد المصطفون لأمره ... ومن دونهم جند كثيف مجند
ملائكة لا يفترون عبادة ... كروبية منهم ركوع وسجد
فساجدهم لا يرفع الدهر رأسه ... يعظم رباً فوقه ويمجد
وراكعهم يحنو له الدهر خاشعاً ... يردد آلاء الإله ويحمد
ومنهم ملف في الجناحين رأسه ... يكاد لذكرى ربه يتفصد
من الخوف لاذو سأمة بعبادة ... ولا هو من طول التعبد يجهد(2/227)
ودون كثيف الماء في غامض الهوا ... ملائكة تنحط فيه وتصعد
وبين طباق الأرض تحت بطونها ... ملائكة بالأمر فيها تردد
فسبحان من لا يعرف الخلق قدره ... ومن هو فوق العرش فرد موحد
ومن لم تنازعه الخلائق ملكه ... وإن لم تفرده العباد فمفرد
مليك السماوات الشداد وأرضها وليس بشيء عن قضاه تاود
هو الله باري الخلق والخلق كلهم ... إماء له طوعاً جميعاً واعبد
وأنى يكون الخلق كالخالق الذي ... يدوم ويبقى والخليقة تنفد
وليس لمخلوق من الدهر جده ... ومن ذا على مر الحوادث يخلد
ونفى ولا يبقى سوى الواحد الذي ... يميت ويحيي دائباً وليس يهمد
تسبحه الطير الجوانح في الخفى ... وإذ هي في جو السماء تصعد
ومن خوف ربي سبح الرعد فوقنا ... وسبحهه الأشجار والوحش أبد
وسبحه النينان والبحر زاخراً ... وما طم من شيء وما هو مقلد
ألا أيها القلب المقيم على الهوى ... إلى أي حين منك هذا التصدد
عن الحق كالأعمى المميط عن الهدى ... وليس يرد الحق إلا مفند
وحالات دنيا لا تدوم لأهلها ... وبينا الفتى فيها مهيب مسود
إذ انقلبت عنه وزال نعيمها ... وأصبح من ترب القبور يوسد
وفارق روحاً كان بين جنانه ... وجاور موتى ما لهم متردد
فأي فتى قبلي رأيت مخلداً له في قديم الدهر ما يتودد
ومن يبتليه الدهر منه بعثرة ... سيكبو لها والنائبات تردد
فلم تسلم الدنيا وإن ظن أهلها ... بصحتها والدهر قد يتجرد(2/228)
ألست ترى فيما مضى لك عبرة ... فمه لا تكن يا قلب أعمى يلدد
فكن خائفاً للموت والبعث بعده ... ولا تك ممن غره اليوم أو غد
فإنك في دنيا غرور لأهلها ... وفيها عدو كاشح الصدر يوقد
وقال في شأن الفيل يذكر الحنيفية دين إبراهيم وهي تروى أيضاً لأبي الصلت والده (من الخفيف) :
إن آيات ربنا باقيات ... ما رماري فيهن إلا الكفور
خلق الليل والنهار فكل ... مستبين حسابه مقدور
ثم يجلو النهار رب كريم ... بمهاة شعاعها منشور
حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يحبو كأنه معقور
لازماً حلقة الجران كما ... قطر من صخر كبكب محدور
حوله من ملوك كندة أبطال ... ملاويث في الحروب صقور
خلفوه ثم ابذعروا جميعاً ... كلهم عظم ساقه مكسور
كل دين يوم القيامة عند ... الله إلا دين الحنيفة زور
وقال أيضاً في ذكر خراب سدوم وقصة لوط (من الخفيف) :
ثم لوط أخو سدوم أتاها ... إذ أتاها برشدها وهداها
راودوه عن ضيفه ثم قالوا ... قد نهيناك أن تقيم قراها
عرض الشيخ عند ذاك بنات ... كظباء بأجرع ترعاها
غضب القوم عند ذاك وقالوا ... أيها الشيخ خطبة نأباها(2/229)
أجمع القوم أمرهم وعجوز ... خيب الله سعيها ورجاها
أرسل الله عند ذاك عذاباً ... جعل الأرض سفلها أعلاها
ورماها بحاصب ثم طين ... ذي حروف مسوم إذ رماها
وقال يذكر قصة تضحية إبراهيم لابنه إسحق (من الخفيف) :
ولإبراهيم الموقي بالنذ ... ر احتساباً وحامل الأجزال
بكره لم يكن ليصبر عنه ... أو يراه في معشر اقتال
ابني إني نذرتك لله ... شحيطاً فاصبر فدى لك حالي
واشدد الصفد لا أحيد عن ... السكين حيد الأسير ذي الأغلال
وله مدية تخايل في اللحم ... حذام حنية كالهلال
بينما يخلع السرابيل عنه ... فكه ربه بكبش جلال
فخذن ذا فأرسل ابنك إني ... للذي قد فعلتما غير قال
والد يتقي وآخر مولو ... د فطارا منه بسمع فعال
ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال
وقد روى له ابن هشام في سيرة الرسول قوله في التوحيد (من الطويل) :
إلى الله أهدي مدحتي وثنائياً وقولاً رصيناً لاينى الدهر باقيا
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه ... إله ولا رب يكون مدانيا
ألا أيها الإنسان إياك والردى ... فإنك لا تخفي من الله خافيا
وإياك لا تجعل مع الله غيره ... فإن سبيل الرشد أصبح باديا
حنانيك إن الجن كنت رجاءهم ... وأنت إلهي ربنا ورجائيا(2/230)
رضيت بك اللهم رباً فلن أرى ... أدين إلهاً غيرك الله ثانياً
وأنت الذي من فضل من ورحمة ... بعثت إلى موسى رسولاً مناديا
فقلت له اذهب وهارون فادعوا ... إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقوله له أأنت سويت هذه ... بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا
وقوله له أأنت رفعت هذه ... بلا عمد أرفق إذاً بك بانيا
وقولا له أأنت سويت وسطها ... منيراً إذا ما جنه الليل هاديا
وقوله له من يرسل الشمس غدوة ... فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب في الثرى ... فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤوسه ... وفي ذاك آيات لمن كان واعيا
وأنت لفضل منك نجيت يونساً ... وقد بات في أضعاف حوت لياليا
وإني ولو سبحت باسمك ربنا ... لأكثر إلا ما غفرت خطائيا
فرب العباد ألق سيباً ورحمة ... علي وبارك في بني وماليا
ولامية في مدح سيف بن ذي يزن لما استنجد بكسرى وأخرج الجيش من جزيرة العرب (من البسيط) :
ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن ... في البحر خيم للأعداء أحوالا
أتى هرقلاً وقد شالت نعامتهم ... فلم يجد عنده بعض الذي سالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد سابعة ... من السنين يهين النفس والمالا(2/231)
حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم ... تخالهم فوق متن الأرض أجبالا
من مثل كسرى شهنشاه الملوك له ... أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا
لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن ترى لهم في الناس أمثالا
غر جحاجحة بيض مرازبة ... أسد تربب في الغيطان أشبالا
لا يضجرون وإن حرت مغافرهم ... ولا ترى منهم في الطعن ميالا
يرمون عن شدف كأنها غبط ... في زمخر يعجل المرمي إعجالا
أرسلت أسداً على سود الكلاب فقد ... أضحى شريدهم في الأرض فلالا
فاشرب هنيئاً عليك التاج متكئاً ... في رأس غمدان داراً منك محلالا
واطل بالمسك إذ شالت نعامتهم ... واسبل اليوم في برديك أسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وفيه يقول أيضاً (من الوافر) :
جلبنا النصح تحمله المطايا ... إلى أكوار أجمال ونوق
مغلغلة مرافقها ... ثقالاً
إلى صنعاء من فج عميق
نوم بها ابن ذي يزن وتفري ... بطون خفافها أم الطريق
ونلمح من مخايله بروقاً ... مواصلة الوميض إلى بروق(2/232)
فلما واقعت صنعاء صارت ... بدار الملك والحسب العتيق
ومن بديع شعره في الفخر قوله. وهي قصيدة تعد من مجمهرات العرب (من الوافر) :
عرفت الدار قد أقوت سنينا ... لزينب إذ تحل بها قطينا
واذرتها حوافل معصفات ... كما تذري الململمة الطحينا
وسافرت الرياح بهن عصراً ... بأذيال يرحن ويغتدينا
فابقين الطلول مخبيات ... ثلاثاً كالحمائم قد بلينا
وارباء بعهد مرتدات ... اطلن بها الصفون إذا افتلينا
فإما تسألي عني لبيباً ... وعن نسبي أخبرك اليقينا
ثقي أني النبيه أباً وأماً ... وأجداداً سموا في الأقدمينا
لافصى عصمة الأفصى قسي ... على أفصى بن دعمي بنينا
ودعمي به يكنى إياد ... إليه تنسبي كي تعلمينا
ورثنا المجد عن كبرا نزار ... فأورثنا مآثرنا البنينا
وكنا حيثما علمت معد ... أقمنا حيث ساروا هاربينا
تنوح وقد تولت مدبرات ... تخال سواد ايكتها عرينا
وألقينا بساحتها حلولاً ... حلولاً للإقامة ما بقينا
فانبتنا خضارم فاخرات ... يكون نتاجها عنباً وتينا
وارصدنا لريب الدهر جرداً ... تكون متونها حصناً حصينا
وخطياً كاشطان الركايا ... وأسيافاً يقمن وينحنينا(2/233)
وقتياناً يرون القتل مجداً ... وشيباً في الحروب مجربينا
تخبرك القبائل من معد ... إذا عدوا سعاية أولينا
با، االنازلون بكل ثغر ... وإنا الضاربون إذا التقينا
وأنا المانعون إذا أردنا ... وأنا المقبلون إذا دعينا
وأنا الحاملون إذا أناخت ... خطوب في العشيرة تبتلينا
وأنا الرافعون على معد ... أكفاً في المكارم ما بقينا
نشرد بالمخافة من أتانا ... وعيطينا المقادة من يلينا
إذا ما الموت غلس بالمنايا ... وذبلت المهندة الجفونا
وألقينا الرماح وكان ضرب ... يكب على الوجوه الدارعينا
نفوا عن أرضهم عدنان طراً ... وكانوا بالرعاية قاطنينا
وهم قتلوا السبي أبا رعال ... بحلة حين إذ وسق الوطينا
وردوا خيل تبع في قديد ... وساروا للعراق مشرقينا
وبدلت المساكن من إياد ... كنانة بعد ما كانوا القطينا
نسير بمعشر قوماً لقوم وندخل دار قوم آخرينا
وروى له الأنباري صاحب كتاب الأضداد قوله في قومه (من المنسرح) :
قومي إياد لو أنهم أمم ... ولو أقاموا فتهزل النعم
قوم لهم ساحة العراق إذا ... ساروا جميعاً والقط والقلم
ويل أم قومي قوماً إذا قحط ... القطر وآضت كأنها آدم(2/234)
وشوذت شمسهم إذا طلعت ... بالجلب هفاً كأنه الكتم
ويروى بعدها هذا الشعر:
وجرهم دمنوا تهامة في الد ... هر وسالت عن مجمعهم اضم
ومن رواياته أيضاً ما ذكره له في صفة الخالق (من الكامل) :
ملك على عرش السماء مهيمن ... تعنو لعزته الوجوه وتسجد
لولا وثاق الله ضل ضلالنا ... ولسرنا أنا نتل فنواد
وروى له أيضاً (من الكامل) :
الحمد لله الذي لم يتخذ ... سنداً وقدر خلقه تقديرا
وعنا له وجهي وخلقي كله ... في الخاشعين لوجهه مشكورا
وقال في قضاء الله تعالى بالموت على البشر (من المنسرح) :
يوشك من فر من منيته ... في بعض غراته يوافقها
من لم يمت غبطاً يمت هرماً ... للموت كأس والمرء ذائقها
ومما روى صاحب لسان العرب لأمية بن أبي الصلت قوله يخاطب أبا مطر (من الوافر) :
أبا مطر هلم إلى صلاح ... فتكفيك الندامى من قريش
وتأمن وسطهم وتعيش فيهم ... أبا مطر هديت بخير عيش
وتسكن بلدة عزت لقاحاً ... وتأمن أن يزورك رب جيش
وقوله (من البسيط) :
سبحانه ثم سبحاناً يعود له ... وقبلنا سبح الجودي والجمد
وقوله أيضاً في صفة سنة مجاعة (من الخفيف) :
سنة أزمة تخيل بالنا ... س ترى للعضاه فيها صريرا(2/235)
لا على كوكب بنوء ولا ريح ... جنوب ولا ترى طخرورا
ويسوقون باقر السهل للطو ... د مهازيل خشية أن تبورا
عاقدين النيران في ثكن الأذ ... ناب منها لكي تهيج النحورا
سلع ما ومثله عشر ما ... عائل ما وعالت البيقورا
وقال في ذكر الملائكة (من الطويل) :
وتحت كثيف الماء من باطن الثرى ... ملائكة تنحط فيه وتسمع
وقال في عتبة يرثيه لما قتل في وقعة بدر (من الوافر) :
فلو قتلوا بحرب ألف ألف ... من الجنان والإنس الكرام
رأيناهم له ذحلاً وقلنا ... أرونا مثل حرب في الأنام
وله في الظلمات (من المتقارب) :
ودفع الضعيف وأكل اليتيم ... ونهك الحدود فكل حرم
وقال في وصف مطر (من الطويل) :
له نفيان يحفش ألا كم وقعه ... ترى الترب منه مائراً يتثلل
وقال يفتخر (من الرجز) :
نحن ثقيف عزنا منيع ... أعيط صعب المرتقى رفيع
وقال في وصف فرس (من الطويل) :
كميت بهيم اللون ليس بفارض ... ولا بخصيف ذات لون مرقم
وقال في ذكر الشمس وطلوعها (من الكامل) :
بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب أمر من حكيم مرشد(2/236)
فرأى مغيب الشمس عند مآبها ... في عين ذي خلب وثأط حرقد
وقال أيضاً:
والشمس تطلع كل آخر ليلة ... حمراء مطلع نورها متورد
تأبى فلا تبدو لنا في رسلها ... إلا معذبة وإلا تجلد
وقال أيضاً (من الوافر) :
سلامك ربنا في كل فجر ... بريئاً ما تغنثك الذموم
وخفضت النذور وأردفتهم=فضول الله وانتهت القسوم وكان لأمية أربعة بنين عمرو وربيعة ووهب والقسام وكان القاسم شاعراً وهو الذي يقول في مدح عبد الله بن جدعان (من الكامل) :
قومي ثقيف إن سألت وأسرتي ... وبهم أدافع ذكر من عاداني
إلى أن قال:
قوم إذا نزل الغريب بدارهم ... ردوه رب صواهل وقيان
لا ينكثون الأرض عند سؤالهم ... لتلمس العلات بالعيدان
وكان ربيعة ابنه شاعراً أيضاً وهو الذي يقول (من الطويل) :
وإن يك حياً من إياد فإننا ... وقيساً سواء ما بقينا وما بقوا
ونحن خيار الناس طراً بطانة ... لقيس وهم خير لنا إن هم بقوا(2/237)
القسم الثالث
شعراء بكر بن وائل من بني عدنان
وشعراء عبد القيس من بني ربيعة
الفند الزماني (530م)
هو شهل بن شيبان بن ربيعة بن زمان بن مالك بن صعب بن علي بن بكر بن وائل قيل وليس في العرب شهل بالشين المعجمة غيره على ما ذكروه. قال صاحب جمهرة النسب: والفند في اللغة القطعة العظيمة من الجبل وجمعه أفناد قيل لقب به لعظم شخصه. وقيل لقب به لأنه قال لأصحابه في يوم حرب: استندوا إلي فإني لكم فند. وقال غيرهم: بل لقب بالفند لأن بكر بن وائل بعثوا إلى بني حنيفة في حرب البسوس يستنصرونهم فأمدوهم به وعداد بني زمان في بني حنيفة. فلما أتى الفند بكراً وهو مسن قالوا: وما يغني هذا العشبة (والعشبة الشيخ الكبير) . فقال: أو ما ترضون أن أكون لكم فنداً تأوون إليه. وكان الفند هذا شاعراً من أهل اليمامة من شعراء الطبقة الثالثة وكان سيد بكر في زمانه وفارسها ووالي حربها. وشهد حرب بكر وتغلب وقد ناهز المائة سنة وكان قد اعتزلها من له من القوم فلما ألح المهلهل على بكر وأهلكهم أرسلوا إلى من باليمامة من بكر بن وائل يستنجدونهم فأمدوهم بالفند. فسار إلى بني شيبان وقد انتخب من فرسانه سبعين فارساً فأرسل بنو حنيفة إلى بني شيبان يقولون: إننا قد أمددناكم بألف وسبعمائة فارس. فلما قدموا فإذا هم سبعون تحت راية الفند. فقال لهم بنو بكر: أين جماعتكم. قال الفند: أنا بألف فارس وأصحابي بسبعمائة فارس. فقال رجل منهم: ذروني فكل ردف محال. فذهب مثلاً. ثم حارب معهم الفند يوم القضة وهو يوم التحالق وأبلى بلاء حسناً مع الحارث بن عباد. وكان معه بنتان له فأسفرت الواحدة عن وجهها وأخذت تحض الناس وتقول:
وغى وغى وغى وغى ... حر الحرار والتظى
وملئت منه الربى ... يا حبذا المحلقون بالضحى
وكانت الثانية تقول:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق(3/)
ثم أن بكراً عطفت على القوم بعد ذلك وقاتلوهم قتالاً شديداً. ورأى الفند في الحومة رجلاً من تغلب وخلفه رديف يقال له البزباز بن مازن فحملا على امرأة من بني بكر وطعنا صبياً معها فلما شعر به الفند حمل عليه فطعنه ورديفه فانتظمهما برمحه وقال (من الهزج) :
أيا طعنة ما شيخ ... كبير يفن بال
تقيم المأتم الأعلى ... على جهد واعوال
ولولا نبل عوض في ... خظباي وأوصالي
لطاعنت صدور الخيل ... طعناً ليس بالآلي
ترى الخيل على آثار مهري في السنا العالي
ولا تبقي صروف الدهر ... إنساناً على حال
تفتيت بها إذ كرم ... هـ الشكة أمثالي
كجيب الدفنس الور ... هاء ريعت بعد إجفال
كانت وفاة الفند سنة 530 بعد المسيح. وله الشعر المطبوع فمن ذلك قوله في رقعة التحالق ويوم واردات (من الخفيف) :
لقيت تغلب كعصبة ... عاد إذ أتاهم هول العذاب صباحا
ونهينا عن حربنا تغلب الشو ... س فما عافت البلاء المتاحا
دون أن أبصرت خيولاً لبكر ... وسيوفاً هندية ورماحا
فقتلنا بواردات رجالاً ... إذ بدا كاتم الضمير فباحا
ورجت تغلب تعيد كليباً ... فأطحنا سراتهم حيث طاحا
قد تركنا نساءهم معولات ... معلنات مع البكاء نواحا
وتركنا ديار تغلب قفراً ... وكسرنا من الغواة الجناحا
بقيت بعده الجليلة تبكي ... والخدود العيطاء تدعو لحاحا
وترى الزير يمعج القول فينا ... بعد ما صار مفرداً مستباحا
وقال في حرب البسوس (من الهزج) :
صفحنا عن بني ذهل ... وقلنا القوم إخوان
عسى الأيام أن يرجعن ... قوماً كالذي كانوا
فلما صرح الشر ... فأمسى وهو عريان
ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا
مشينا مشية الليث ... غدا والليث غضبان
بضرب فيه توهين ... وتخضيع واقران
وطعن كفم الزق ... غدا والزق ملآن
وبعض الحلم عند الجهل ... للذلة اذعان
وفي الشر نجاة حين ... لا ينجيك إحسان
جساس بن مرة (534م)(3/)
هو جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان كان صاهر كليباً ابن عمه وهو الذي يسمى الحامي الجار المانع الذمار لقتله كليباً بسبب ناقة البسوس بنت المنقذ بن سلمان المنقذي جدة جساس. وقد مر تفصيل الخبر في ترجمة كليب. وكان قبل اتقاد الحرب بين بني وائل يجتمع الحيان في مساكن واحدة فينزلون في الصيف موضعاً يقال له ذو خناصرة وذو القطب والحياطة والركبان والقياض وهو المعروف بالملاهي لأن الحيين كانا يلهوان به ويلعبان تحت ذمة كليب وكنفه ولذلك سمي باللاهي وهو مما يلي أرض غسان وكان كليب يظعن في الشتاء إلى أرض غسان من تهامة وكان حد الحمى الذي يحميه كليب ما بين الحرية من أرض غسان وجداري وهي المهجبة وكانت إبل جساس ترعى مع إبل كليب ثم دخلت سراب بين الإبل وعاثت بالحمى فأنكرها كليب ورماها بسهم. فقال جساس لما بلغه الخبر (من مجزوء الرمل) :
إنما جاري لعمري ... فاعلموا أدنى عيالي
وأرى للجار حقاً ... كيميني من شمالي
وأرى ناقة جاري ... فاعلموا مثل جمالي
إنما ناقة جاري ... في جواري وظلالي
إن للجار علينا ... دفع ضيم بالعوالي
فاقلي اللوم مهلاً ... دون عرض الجار مالي
سأؤدي حق جاري ... ويدي رهن فعالي
أو أرى الموت فيبقى لؤمه عند رجالي
وكان مورد هذا الحمى ومياهه سهاماً وسردداً وكانت تسمى أرض حماه أرض قساس وقيل العالية. فلما قتل جساس كليباً كما ذكر أقبل هارباً حتى عاينه أبوه مرة وهو في النادي. فقال: والله لقد جر جساس جريرة عظيمة. قالوا: وما ذاك. قال: لأني أرى في ركبتيه موضع برص ما رأيته منذ صغره فلما اشتد الركض بدا منه ذلك لأبيه. ثم وقف على أبيه فقال له: مالك يا جساس فأخبره بالخبر. فأنكر عليه أبوه فعله. فقال جساس (من الوافر) :
تأهب مثل أهبة ذي كفاح ... فإن الأمر جل عن التلاحي
وإني قد جنيت عليك حرباً ... تغص الشيخ بالماء القراح
مذكرة متى ما تصح منها ... تشب لها بأخرى غير صاح
تسعر نارها وهجاً وجاءت ... إذا خمدت كنيران الفصاح
وما تنفك نائحة تعزي ... بما ندبت وتعلن بالنواح
تعدت تغلب ظلماً علينا ... بلا جرم يعد ولا جناح
سوى كلب عوى في بطن قاع ... ليمنع حمية القاع المباح
فلما أن رأينا واستبنا ... عقاب البغي رافعة الجناح(3/)
صرفت إليه نحساً يوم سوء ... له كاس من الموت المتاح
تثكل دانيات البغي قوماً ... وتدعو آخرين إلى الصلاح
ذريني قد طربت وحان مني ... طراد الخيل عارضة الرماح
وما لي همة أرجو أخاها ... سوى الخطي والفرس الوقاح
فأجابه أبوه مرة:
لئن تك يا بني جنيت حرباً ... تغص الشيخ بالماء القراح
جمعت بها يديك على كليب ... فلا وكل ولا رث السلاح
ولكني إلى العلات أجري ... إلى الموت المحيط مع الصباح
وإني حين تشتجر العوالي ... أعيد الرمح في أثر الجراح
شديد البأس ليس بذي عياء ... ولكني أبوء إلى الفلاح
سألبس ثوبها وأذب عنها ... بأطراف العوالي والصفاح
فما يبقى لعزته ذليل ... فيمنعه من القدر المتاح
فإني قد طربت وهاج شوقي ... طراد الخيل عارضة الرماح
وأجمل من حياة الذل موت ... وبعض العار لا يمحوه ماح
مع غيرها من الأبيات. ثم أطلق جساساً وأنشأ يقول:
البغي فيه للمنية هاد ... والله للأقوام بالمرصاد
لو كان أقصر وائل عن ظلمنا ... لم يلف مضطجعاً بغير وساد(3/)
وهي أبيات. ثم انتشبت الحرب بين بكر وتغلب كما ذكر في أخبار المهلهل وجعلت تغلب تطلب جساساً أشد الطلب. وكان أبو نويرة التغلبي وغيره طلائع قومه وكان جساس وغيره طلائع قومهم والتقى بعض الليالي جساس وأبو نويرة فقال له أبو نويرة: اختر إما الصراع إما الطعان أو المسايفة. فاختار جساس الصراع فاصطرعا وأبطأ كل واحد منهما على أصحاب حيه وطلبوهما فأصابوهما وهما يصطرعان وقد كاد جساس يصرعه ففرقوا بينهما. فقال له أبوه مرة: الحق بأخوالك بالشام فامتنع فألح عليه أبوه فسيره سراً في خمسة نفر. وبلغ الخبر إلى مهلهل فندب أبا نويرة ومعه ثلاثون رجلاً من شجعان أصحابه فساروا مجدين فأدركوا جساساً فقاتلهم. فقتل أبو نويرة وأصحابه ولم يبق منهم غير رجلين وجرح جساس جرحاً شديداً مات منه وقتل أصحابه فلم يسلم غير رجلين أيضاً. فعاد كل واحد من السالمين إلى أصحابه. فلما سمع مرة قتل ابنه جساس. قال: إنما يحزنني أن كان لم يقتل منهم أحداً. فقيل له: أنه قتل بيده أبا نويرة رئيس القوم وقتل معه خمسة عشر رجلاً ما شركه أحد منا في قتلهم. وقتلنا نحن الباقين. فقال: ذلك مما يسكن قلبي عنه. وقيل أن جساساً آخر من قتل في حرب البسوس.(3/)
وذكر في سبب قتله غير ذلك قال الرواة: أن أخته جليلة كانت زوجة كليب وائل. فلما قتل كليب عادت إلى أبيها وهي حامل ووقعت الحرب وكان من الفريقين ما كان. ثم عادوا إلى الموادعة بعدما كادت تتفانى الفئتان فولدت أخت جساس غلاماً سمته هجرساً ورباه جساس وكان لا يعرف أباً غيره فزوجه ابنته فوقع بين هجرس وبين رجل من بكر كلام. فقال له البكري: ما أنت بمنته حتى نلحقك بأبيك. فأمسك عنه ودخل إلى أمه كئيباً حزيناً فأخبرها الخبر. فلما نام رأت امرأته من همه وفكره ما أنكرته فقصت على أبيها جساس قصته. فقال: ثائر ورب الكعبة وبات على مثل الرضف حتى أصبح فأحضر الهجرس فقال له: إنما أنت ولدي وأنت مني بالمكان الذي تعلم زوجتك ابنتي وقد كانت الحرب في أبيك زماناً طويلاً وقد اصطلحنا وتحاجزنا وقد رأيت أن تدخل فيما دخل فيه الناس من الصلح وأن تنطلق معي حتى نأخذ عليك مثل ما أخذ علينا. فقال الهجرس: أنا فاعل. فحمله جساس على فرس فركبه ولبس لأمته وقال: مثلي لا يأتي أهله بغير سلاحه. فخرجا حتى أتيا جماعة من قومهما فقص عليهم جساس القصة وأعلمهم أن الهجرس يدخل في الذي دخل فيه جماعتهم وقد حضر ليعقد ما عقدتم. فلما قربوا. الدم وقاموا إلى العقد أخذ الهجرس بوسط رمحه ثم قال: وفرسي وأذنيه ورمحي ونصليه وسيفي وغراريه لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ينظر إليه. ثم طعن جساساً وقتله ولحق بقومه وكان آخر قتيل في بكر سنة 534م.
وكان جساس من شعراء بكر يروى له أبيات فمن ذلك قوله يرد على كليب لما نهى سراب عن دخول الحمى (من الرجز) :
إني ورب الشاعر الغرور ... وباعث الموتى من القبور
وعالم المكنون في الضمير ... إن رمت منها معقر الجزور
لاثبن وثبة المغير ... الذيب أو ذي اللبدة الهصور
بصارم ذي فنن مشهور
وقال أيضاً وبلغه أن كليباً استضعفه وقال:
قد قال والقول عني راهق ... ألا إذا كانت له حقائق
فأجابه جساس (من الرجز) :
عند الزحام تعرف السلائق ... وذو الوعيد كاذب أو صادق
هل شيمة إلا لها خلائق
ويروى لجساس أيضاً قوله يجيب على مراثي المهلهل في أخيه كليب (من الوافر) :
ألا أبلغ مهلهل ما لدينا ... فأدمعنا كأدمعه غزار(3/)
بكينا وائل الباغي علينا ... وشر العيش ما فيه غيار
ونحن مع المنايا كل يوم ... ولا ينجي من الموت الفرار
وكل قد لقي ما قد لقينا ... وكل ليس منه له اصطبار
وقال أيضاً (من البسيط) :
أبلغ مهلهل عن بكر مغلغلة ... منتك نفسك من غي أمانيها
تبكي كليباً وقد شالت نعامته ... حقاً وتضمر أشياء ترجيها
فاصبر لبكر فإن الحرب قد لقحت ... وعز نفسك عمن لا يواليها
فقد قتلنا كليباً لم نبال به ... بناب جار ودون القتل يكفيها
نحمي الذمار ونحمي كل أرملة ... حقاً وندفع عنها من يعاديها
وله في المعنى (من السريع) :
إنا على ما كان من حادث ... لم نبدأ القوم بذات العقوق
قد جربت تغلب أرماحنا ... بالطعن إذ جاروا وحز الحلوق
لم ينههم ذلك عن بغيهم ... يوماً ولم يعترفوا بالحقوق
وأسعروا للحرب نيرانها ... للظلم فبنا بادياً والفسوق
أليس من أردى كليباً لمن ... دون كليب منكم بالمطيق
من شرع العدوان في وائل ... اقترف الظلم وضنك المضيق
بدأتم بالظلم في قومكم ... وكنتم مثل العدو الحنيق
والظلم حوض ليس يسقى به ... ذو منعة في كل أمر يطيق
فإن أبيتم فاركبوها بما ... فيه من الفتنة ذات البروق
وكان أخوة جساس يقولون الشعر أيضاً إلا أنه لم يبلغ إلينا منه إلا القليل فمن ذلك قول همام (من السريع) :
وإذا تكون كريهة ادعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
هذا لعمركم الصغار بعينه=لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
جليلة (538م)(3/)
هي بنت مرة الشيباني أخت جساس قاتل كليب بن ربيعة أخي مهلهل. وكان جليلة زوجة كليب فلما قتل جساس أخوها كليباً زوجها اجتمع نساء الحي للمأتم فقلن لأخت كليب رحلي جليلة عن مأتمك فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب. فقالت لها: يا هذه اخرجي عن مأتمنا فأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا. فخرجت وهي تجر أعطافها فلقيها أبوها مرة فقال لها: ما وراءك يا جليلة. فقالت: ثكل العدد. وحزن الأبد. وفقد حليل. وقتل أخ عن قليل. وبين ذين غرس الأحقاد. وتفتت الأكباد. فقال لها: أو يكف ذلك كرم الصفح. واغلاء الديات. فقالت جليلة: أمنية مخدوع ورب الكعبة البدن تدع لك تغلب دم ربها. (قال) ولما رحلت جليلة قالت أخت كليب: رحلة المعتدي وفراق الشامت ويل غداً لآل مرة من الكرة بعد الكرة. فبلغ قولها جليلة فقالت: وكيف تشمت الحرة بهتك سترها وترقب وترها. أسعد الله جد أختي أفلا قالت: نفرة الحياء وخوف الاعتداء. ثم أنشأت تقول (من الرمل) :
يا ابنة الأقوام إن لمت فلا ... تعجلي باللوم حتى تسالي
فإذا أنت تبينت الذي ... يوجب اللوم فلومي واعذلي
إن تكن أخت امرئ ليمت على ... شفق منها عليه فافعلي
جل عندي فعل جساس فيا ... حسرتي عما انجلى أو ينجلي
فعل جساس على وجدي به ... قاطع ظهري ومدن أجلي
لو بعين فقئت عيني سوى ... أختها فانفقات لم أحفل
تحمل العين أذى العين كما ... تحمل الأم أذى ما تفتلي
يا قتيلاً قوض الدهر به ... سقف بيتي جميعاً من عل
هدم البيت الذي استحدثته ... وانثنى في هدم بيتي الأول
ورماني قتله من كثب ... رمية المصمى به المستأصل
يا نسائي دونكن اليوم قد ... خصني الدهر برزء معضل
خصني قتل كليب بلظى ... من ورائي ولظى من أسفلي
ليس من يبكي ليومين كمن ... إنما يبكي ليوم ينجلي
يشتفي المدرك بالثأر وفي ... دركي ثأري ثكل المثكل
ليته كان دمي فاحتلبوا ... درراً منه دمي من أكحلي
إنني قاتلة مقتولة ... ولعل الله أن يرتاح لي
وبقيت جليلة في بيت أخيها جساس إلى أن قتل. وتنقلت مع بني شيبان قومها مدة حروبهم. وكانت وفاتها نحو سنة 538م.
عبد المسيح بن عسلة (592م)(3/)
هو أبو عسلة عبد المسيح بن عسلة أخو بني مرة بن ذهل بن شيبان كان شاعراً قديماً مبرزاً ذكره صاحب المفضليات وعده من ذوي الطبقات العليا من النظم ثم ذكر له مقاطيع من الشعر منها قوله (من الكامل) :
يا كعب إنك لو قصرت على ... حسن الندام وقلة الجرم
وسماع مدجنة تعللنا ... حتى تؤوب تناوم العجم
لصحوت والنمري يحسبها ... عم السماك وخالة النجم
هلهل لكعب بعدما وقعت ... فوق الشؤون بمعصم فعم
جسداً به نضح الدماء كما ... قنات أنامل قاطف الكرم
والخمر ليست من أخيك ... ولكن قد تخون بآمن الحلم
وتزين الرأي السفيه إذا ... جعلت شمول رياحها تنمي
وأنا امرؤ من آل مرة إن ... أكلمكم لا ترفأوا كلمي
من أسرة لي إن لقيتهم ... حامي الحقيقة دافعي الظلم
وقال عبد المسيح أيضاً (من البسيط) :
وعازب قد علا التهويل جنبته ... لا تنفع النعل في رقراقه الحافي
صبحته صاحباً كالسيد معتدلاً ... كأن جؤجؤه مداك أصداف
باكرته قبل أن تلفي عصافره ... مستخفياً صاحبي وغيره الخافي
لا ينفع الوحش منه أن تحذره ... كأنه معلق فيها بخطاف
إذا أواضع منه ظل منتحياً ... مر الآتي على بردته الطافي
وله أيضاً (من الطويل) :
ألا يا أسلمي على الحوادث فاطما ... فإن تسأليني فاسألي بي عالما
غدونا إليهم والسيوف عصينا ... بإيماننا نفلي بهن الجماجما
لعمري لأشبعنا ضباع عنيزة ... إلى الحول منها والنسور القشاعما
تمكك أطراف العظام غدية ... وتجعلهن للأنوف خواطما
ومستلب من درعه وسلاحه ... تركنا عليه الذئب ينهس قائما
فأما أخو قرط فلست بساخر ... فقولا ألا يا أسلم بمرة سالما
ولم نقف على تفاصيل أخباره. توفي نحو سنة 562 للمسيح.
بسطام بن قيس الشيباني (600م)(3/)
هو بسطام بن قيس بن مسعود ذي الجدين بن قيس بن خالد الشيباني فارس بكر ويضرب به المثل في الفروسية يقال: أفرس من بسطام. روى أخباره أبو عبيدة قال: أغار بسطام بن قيس على بني يربوع من تميم وهم بنعف عشاوة فأتاهم ضحى في يوم ريح فوافق ذلك سراح النعم فأخذه كله. ثم كر راجعاً وتداعت عليه بني يربوع فلحقوه وفيهم عمارة بن عتيبة بن الحرث بن شهاب فكر عليه بسطام فقتله. ولحقهم مالك بن حطان اليربوعي فقتله. وأتاهم أيضاً بجير بن أبي مليل فقتله بسطام وقتلوا من بني يربوع جمعاً وأسروا آخرين منهم مليل بن أبي مليل وسلموا وعادوا غانمين فقال بعض الأسرى لبسطام: أيسرك أن أبا مليل مكاني. قال: نعم. قال: فإن دللتك عليه أتطلقني الآن قال: نعم. قال: فإن ابنه بجيراً كان أحب خلق الله إليه وستجده الآن مكباً عليه يقبله فخذه أسيراً فعاد بسطام فرآه كما قال فأخذه أسيراً وأطلق اليربوعي. فقال له أبو مليل: قتلت بجيراً وأسرتني وابني مليلاً. والله لا أطعم الطعام أبداً وأنا موثق. فخشي بسطام أن يموت فأطلقه بغير فداء على أن يفادي مليلاً. والله لا أطعم الطعام أبداً وأنا موثق. فخشي بسطام أن يموت فأطلقه بغير فداء على أن يفادي مليلاً وعلى أن لا يتبعه بدم ابنه بجير ولا يبغيه غائلة ولا يدل له على عورة ولا يغير عليه ولا على قومه أبداً وعاهده على ذلك فأطلقه وجز ناصيته فرجع إلى قومه وأراد الغدر ببسطام والنكث به فأرسل بعض بني يربوع إلى بسطام بخبره فخدره.(3/)
ثم غزا بسطام بن قيس ومفروق بن عمرو والحرث بن شريك وهو الحوفزان بلاد بني تميم فأغاروا على بني ثعلبة بن يربوع وثعلبة بن سعد بن ضبة وثعلبة بن عدي بن فزارة وثعلبة بن سعد بن ذبيان فلذلك قيل لهذا اليوم يوم الثعالب. وكان هؤلاء جميعاً متجاورين بصحراء فلج فاقتتلوا فانهزمت الثعالب. فأصابوا فيهم واستاقوا إبلاً من نعمهم. ولم يشهد عتيبة بن الحارث بن شهاب هذه الوقعة لأنه كان نازلاً يومئذ في بني مالك بن حنظلة. ثم انبروا على بني مالك وهم بين صحراء فلج وبين الغبيط فاكتسحوا إبلهم. فركبت عليهم بنو مالك يقدمهم عتيبة بن الحارث بن شهاب ومعه فرسان من بني يربوع يأثفهم أي صار معهم مثل الأثافي للرماد. وتألف إليهم الأحيمر بن عبد الله والأسد بن حياة وأبو مرحب وجرو بن سعد الرياحي وهو رئيس بني يربوع وربيع والخليس وعمارة وبنو عتيبة بن الحرث ومعدان وعصمة ابنا قعنب. ومالك بن نويرة والمنهال بن عصمة أحد بني رياح بن يربوع وهو الذي يقول فيه متمم بن نويرة في شعره الذي يرثي فيه مالكاً أخاه:
لقد غيب المنهال تحت لوائه ... فتى غير مبطان العشية أروعا
فأدركوهم بغبيط المدرة فقاتلوهم حتى هزموهم وأدركوا ما كانوا استاقوا من أموالهم وألح عتيبة والأسيد والأحيمر على بسطام فلحقه عتيبة فقال: استأسر لي يا أبا الصهباء فقال: ومن أنت قال: أنا عتيبة وأنا خير لك من الفلاة والعطش فأسره عتيبة. ونادى القوم نجاداً أخا بسطام: كر على أخيك وهم يرجون أن يأسروه. فناداه بسطام إن كررت فأنا حنيف وكان بسطام نصرانياً فلحق نجاد بقومه. فلم يزل بسطام عند عتيبة حتى فادى نفسه. قال أبو عبيدة: فزعم أبو عمرو بن العلاء أنه فدى نفسه بأربعمائة بعير وثلاثين فرساً ولم يك عربي عكاظي أغلى فداء منه ثم أطلقه وجز ناصيته وعاهده أن لا يغزو بني شهاب أبداً. فقال عتيبة بن الحارث بن شهاب:
أبلغ سراة بني شيبان مألكة ... إني أبأت بعبد الله بسطاما
أفي أسرته في قيد وسلسلة ... صوت الحديد يغنيه إذا قاما(3/)
قال أبو عبيدة: خرج الأقرع بن حابس وأخوه فراس التميميان وهما الأقرعان في بني مجاشع من تميم وهما يريدان الغارة على بكر بن وائل ومعهما البروك أبو جعل. فلقيهم بسطام بن قيس الشيباني وعمران بن مرة في بني بكر بن وائل بزبانة فاقتتلوا قتالاً شديداً ظفرت فيه بكر وانهزمت تميم وأسر الأقرعان وناس كثير وافتدى الأقرعان نفسيهما من بسطام وعاهداه على إرسال الفداء فأطلقهما فبعدا ولم يرسلا شيئاً. وكان في الأسرى إنسان من يربوع فسمعه بسطام بن قيس في الليل يقول:
قدي بوالدة علي شفيقة ... فكأنها حرض على الأسقام
لو أنها علمت فيسكن جأشها ... أني سقطت على الفتى المنعام
أن الذي ترجين ثم إيابه ... سقط العشاء به على بسطام
سقط العشاء به على متنعم ... سمح اليدين معاود الأقدام
فلما سمح بسطام ذلك منه قال له: وأبيك لا يخبر أمك عنك غيرك وأطلقه وقال ابن رميض العنزي:
جاءت هدايا من الرحمن مرسلة ... حتى أنيخت لدى أبيات بسطام
جيش الهذيل وجيش الأقرعين معاً ... وكبة الخيل والأزواد في عام
مسوم خيله تعدو مقانبه ... على الذوائب من أولاد همام
قال أوس بن حجر:
وصبحنا عار طويل بناؤه ... نسب به ما لاح في الأفق كوكب
فلم أر يوماً كان أكثر باكياً ... ووجهاً ترى فيه الكآبة تجنب
أصابوا البروك وابن حابس عنوة ... فظل لهم بالقاع يوم عصبصب
وأن أبا الصهباء في حومة الوغى ... إذا ازورت الأبطال ليث مجرب
وأبو الصهباء هو بسطام بن قيس وأكثر الشعراء في هذا اليوم وفي مدح بسطام بن قيس تركنا ذكره اختصاراً.
قال أبو عبيدة: ثم غزا بسطام بن قيس والحوفزان الحارث (وذلك في يوم مخطط) متساندين يقودان بكر بن وائل حتى وردوا على بني يربوع بالفردوس. وهو بطن لإياد وبينه وبين مخطط ليلة وقد نذرت بهم بنو يربوع فالتقوا بالمخطط فاقتتلوا فانهزمت بكر بن وائل. وهرب الحوفزان وبسطام ففاتا ركضاً وقتل شريك بن الحوفزان قتله شهاب بن الحرث أخو عتيبة وأسر الأحيمر بن عبد الله بن الضريس الشيباني. فقال في ذلك مالك بن نويرة ولم يشهد هذا اليوم:
إن لا أكن يوم مخطط ... فقد خبر الركبان ما أتودد
بأبناء حي من قبائل مالك ... وعمرو بن يربوع أقاموا فاخلدوا(3/)
فقال الرئيس الحوفزان تكتبوا ... بني الحصن قد شارفتم ثم جردوا
فما فتئوا حتى رأونا كأننا ... مع الصبح آذي من البحر مزبد
بملمومة شهباء يبرق خالها ... ترى الشمس فيها حين دارت توقد
فما برحوا حتى علتهم كتائب ... إذا طعنت فرسانها لا تعرد
وقد كان لابن الحوفزان لو انتهى ... شريك وبسطام عن الشر مقعد(3/)
ولما كانت بكر بن وائل تحت يد كسرى وفارس (وكانوا يجيرونهم ويجهزونهم) أقبلوا من عند عامل عين التمر في ثلاثمائة فارس متساندين يتوقعون انحدار بني يربوع في الحزن. فاحتمل بنو عيينة وبنو عبيدة وبنو زبيد من بني سليط من أول الحي حتى استهلوا ببطن مليحة فطلعت بنو زبيد في الحزن حتى حلوا الحديقة والأفاقة وحلت بنو عبيدة وبنو عتيبة بعين بروضة اتلثمد. قال وأقبل الجيش حتى نزلوا هضبة الحصا ثم بعثوا رئيسهم فصادفوا غلاماً شاباً من بني عبيد يقال له قرط ابن اضبط. فعرفه بسطام وقد كان عرفه عامة غلمان بني ثعلبة حين أسره عتيبة. فقال له بسطام: أخبرني ما ذاك السواد الذي أرى بالحديقة. قال: هم بنو زبيد. قال: أفيهم أسيد بن حياة. قال: نعم. قال: كم هم. قال: خمسون بيتاً. قال: فأين بنو عتيبة وأين بنو ريم. قال: نزلوا روضة الثمد. قال: فأين سائر الناس. قال: هم محتجزون فخفا. قال: فمن هناك من بني عاصم. قال: الأحيمر وقعب ومعدان ابنا عصمة. قال: فمن فيهم من بني الحارث بن عاصم. قال حصين بن عبد الله. فقال بسطام لقومه: أطيعوني تقبضوا على هذا الحي من زبيد وتصبحوا سالمين غانمين. قالوا: وما يغني عنا بنو زبيد لا يودون رحلتنا. قال: إن السلامة إحدى الغنيمتين. فقال له مفروق: انتفخ تتحول يا أبا الصهباء. وقال له هانىء أحينا. فقال لهم: ويلكم إن أسيداً لم يظله بيت قط شاتياً ولا قائظاً إنما بيته القفر فإذا أحس بكم أجال على الشقراء فركض حتى يشرف على مليحة فينادي: يا آل يربوع غشيتم فيلقاكم طعن ينسيكم الغنيمة ولا يبصر أحدكم مصرع صاحبه. وقد جئتموني وأنا أتابعكم وقد أخبرتكم ما أنتم لاقون غداً. فقالوا: نلتقط بني زبيد ثم نلتقط بني عبيد وبني عتيبة كما نلتقط الكمأة ونبعث فارسين فيكونان بطريق أسيد فيحولان بينه وبين يربوع. ففعلوا. فلما أحس بهم أسيد ركب الشقراء ثم خرج نحو بني يربوع. فابتدره الفارسان. فطعن أحدهما فألقى نفسه في شق فأخطأه ثم كر راجعاً حتى أشرف على مليحة فنادى: يا صباحاه يا آل يربوع غشيتم فتلاحقت الخيل حتى توافوا بالعطفان. فاقتتلوا فكانت الدائرة على بني بكر. وأما بسطام فألح عليه فارسان من بني يربوع وكان دارعاً على ذات(3/)
النسوع. وكانت إذا أجرت لم يتعلق بها شيء من خليهم وإذا أوعثت كادوا يلحقونها. فلما رأى ثقل درعه وضعها بين يديه على القربوس وكره أن يرمي بها وخاف أن يلحق في الوعث. فلم يزل ديدنه وديدن طالبيه حتى حميت الشمس وخاف اللحاق. فمر بوجار ضبع فرمى الدرع فيها فمد بعضها بعضاً حتى غابت في الوجار فلما خفف عن الفرس نشطت ففاتت الطلب وكان آخر من أتى قومه وقد كان رجع إلى درعه لما رجع عنه القوم فأخذها. فقال العوام في بسطام وأصحابه:
فإن يك في جيش الغبيط ملامة ... فجيش العظالى كان أخزى وألوما
أناخوا يريدون الصباح فصبحوا ... فكانت على الغادرين غدوة اشأما
ففر أبو الصهباء إذ حمي الوغى ... والقى بأبدان السلاح وسلما
هذا وإن بسطاماً أغار على ألف بعير لمالك بن للشفق فيها فحلها قد فقأ عينه وفي الإبل مالك بن المشفق فركب فرساً له ونجا ركضاً حتى إذا دنا من قومه نادى: يا صباحاه فركبت بنو ضبة وتداعت بنو تميم فتلاحقوا بالبلقاء. فقال عاصم بن خليفة لرجل من فرسان قومه: أيهم رئيس القوم. قال: حاميتهم صاحب الفرس الأدهم يعني بسطام. فعلا عاصم عليه بالرمح فعارضه حتى إذا كان بحذائه رمى بالقوس وجمع يديه في رمحه فطعنه فلم تخطىء صماخ أذنه حتى خرج الرمح من الناحية الأخرى وخر على الألاءة والألاءة شجرة. فلما رأى ذلك بنو شيبان خلوا سبيل النعم وولوا الأدبار فمن قتيل وأسير. وأسر بنو ثعلبة نجاد قيس بن مسعود أخا بسطام في سبعين من بني شيبان. فقال ابن عنمة الضبي وهو مجاور يومئذ في بني شيبان يرثي بسطام وكان يخاف أن يقتلوه فقال:
لام الأرض ويل ما أجنت ... بحيث أضر بالحسن السبيل
يقسم ماله فينا وندعو ... أبا الصهباء إذ جنح الأصيل
لقد ضمنت بنو زيد بن عمرو ... ولا يوفى ببسطام قتيل
فخر على الألاءة لم يوسد ... كان جبينه سيف صقيل
فإن تجزع عليه بنو أبيه ... فقد فدعوا وحل بهم جليل
بمطعام إذا الأشوال راحت ... إلى الحجرات ليس لها فصيل
ولما بلغ مقتله إلى أمه قالت ترثيه:
ليبك ابن ذي الجدين بكر بن وائل ... فقد بان فيها زينها وجمالها
إذا ما غدا فيهم غدوا وكأنهم ... نجوم سماء بينهن هلالها
فلله عينا من رأى مثله فتى ... إذا لاخيل يوم الروع هب نزالها(3/)
عزيز المكر لا يهد جناحه ... وليث إذا الفتيان زلت نعالها
وحمال أثقال وعائد محجر ... تحل لديه كل ذاك رجالها
وتبكيك أسرى طالما قد فككتهم ... وأرملة ضاعت وضاع عيالها
مفرج حومات الخطوب ومدرك ... الحروب إذا صالت وعز صيالها
تغشى بها حيناً كذاك ففجعت ... تميم به أرماحها ونبالها
فقد ظفرت منا تميم بعثرة ... وتلك لعمري عثرة لا تقالها
أصيبت به شيبان والحي يشكر ... وطير يرى أرسالها وحبالها
ويحكى أن عنترة لما وقف على قبر بسطام قال: وا اسفاه عليك يا بسطام استودعك الله من خليل قتلت بمفارقة الأكباد. فيا ليتني كنت لك الفدى من نوائب الردى. وكان لا يقر له قرار لفراق بسطام الفارس المغوار. وقد احتضن القبر وأشار يرثيه بالأشعار فمن ذلك قوله:
قفا يا خليلي الغداة وسلما ... على من لنار الوجد في القلب أضرما
فذاك خليلي فارس الخيل كلها ... إذا اشتجرت فرسانها أو تلاحما
وتندبه شيبان في كل محفل ... إذا ما أثاروا عنه حزناً ومأتما
خليلي غدا شلواً رهيناً على الثرى ... يقلبه سبعاً ونسراً وقشعما
همام غدا يبكيه في الحرب شكله ... إذا بطل الحرب انتحى أو تصادما
أيا صاحبي فقدي لبسطام هدني ... وأجرى دموعي فوق خدي سجما
ستندبه الخيل العتاق لأنها ... لقد فقدت قرناً هماماً مقدما
ومن شعره قوله مهنئاً عنترة (من الكامل) :
بدوام سعدك تسعد الأمداد ... وبفضل مجدك تشهد الأمجاد
عشر لعشر أنامل لك في الندا ... للخلق من بركاتها إمداد
كف بمعروف لها معروفة ... ويد لبذل بذلها معتاد
لم يخل من بذلك يمينك مثلما ... لم يخل منك من الولاء فؤاد
يهنيك هذا العرس ما بين الملا ... يا فارس الأزمان والجواد
لا زلت في نعم تعم وعيشة ... مرضية ومزيدها يزداد
ومن شعره أيضاً قوله وقد أنشده عنترة (من الوافر) :
ما للفضائل عن مديحك معزل ... أم غير بابك للأنام مؤمل
والله لو صيغ الكلام جميعه ... شعراً لقصر عن مدى ما تفعل
سعد خصصت به وما مفخر ... إلا لك فيه الذراع الأطول
كرم وإقدام ورأي نافذ ... ما الغيث ما أسد الشرى ما المنهل
بطل الفوارس إن تضايق جحفل ... ليث الكتائب أن تلاحق محفل
أخلاقه شهد لطالب رفده ... لكنه يوم الكريهة حنظل(3/)
يا من إذا ورد العفاة جنابه ... أغناهم جدواه عن أن يسألوا
اقبل هدية من أتاك بفرحة ... متحققاً فيك الذراع الأطول
لم أمتدح أحداً سواك وإنني ... بصفات مجدك في الورى أتمثل
مالي غليك وسيلة أدلي بها ... أبداً ولا سبب به أتوصل
إلا خليل صادق ما شأنه ... شيء يكدر صفوه ويحول
شعراء بني عدنان (بكر بن وائل بنو ضبيعة وقيس بن ثعلبة)
سعد بن مالك البكري (530م)
هو سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة البكري بمن سراة بني بكر وفرسانها المعدودين ومن شعرائها المقلين. وهو الذي منع مرة أبا جساس أن يدفع جساساً ليتقل قوداً من كليب وائل لما أخذه أبوه فأوثقه رباطاً وجعله في بيت ثم دعا بطون بكر بن وائل واستشارهم في أمره. فقال سعد: لا واله ما نعطي تغلب جساساً ولنقاتلن دونه حتى نفنى جميعاً. فدعا بجزور فنحرت ثم تحالفوا على الدم. ونشبت الحرب زماناً. وكان لسعد فيها قدم. ولما دارت الدوائر على بكر ورأوا اعتزال الحارث بن عباد وكان تنحى بأهله وولده وولد إخوته وأقاربه وحل وتر قوسه ونزع سنان رمحه ولم يشدد فيها عروة ولم يحل منها عقدة. فقال سعد يعرض بالحارث ويعيره باعتزاله (من مجزوء الكامل) :
يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا
والحرب لا يبقى لجا ... حمها التخيل والمراح
إلا الفتى الصبار في ... النجدات والفرس الوقاح
والنثرة الحصداء ... والبيض المكلل والرماح
وتساقط الأوشاظ ... والذنبات إذ جهد الفضاح
والكر بعد الفر إذ ... كره التقدم والنطاح
كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح
فالهم بيضات الخدو ... ر هناك لا النعم المراح
بئس الخلائف بعدنا ... أولاد يشكر واللقاح
من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح
صبراً بني قيس لها ... حتى تريحوا أو تراحوا
إن الموائل خوفها ... يعتاقه الأجل المتاح
هيهات حال الموت دون ... الفوت وانتضي السلاح
كيف الحياة إذا خلت ... منا الظواهر والبطاح
أين الأعزة والأسنة ... عند ذلك والسماح(3/)
فقال الحارث عندما سمع الأبيات: أتراني ممن وضعته الحرب فقال: لا ولكن لا مخبأ لعطر بعد عروس. ولسعد بن مالك أيضاً قوله يذكر امتناع قبائل بكر عن مساعدتهم على تغلب (من السريع) :
إن لجيماً قد أبت كلها ... أن يرفدونا رجلاً واحداً
ويشكر أ'ضحت على نأيها ... لم تسمع الآن لها حامدا
ولا بنو ذهل وقد أصبحوا ... بها حلولاً خلقاً ماجدا
القائدي الخيل لأرض العدى ... والضاربين الكوكب الوافدا
وتعزى له أيضاً الأبيات الآتية قالها يفتخر بعد كسرة تغلب ويذكر أمورا جرت في حروبهم. ورويت هذه الأبيات لغيره (من الطويل) :
ونحن قهرنا تغلب ابنة وائل ... بقتل كليب إذ طغى وتخيلا
أبأناه بالناب التي شق ضرعها ... فأصبح موطؤ الحمى متذللا
ومنا الذي فادى من القوم رأسه ... بمستلئم من جمعهم غير أعزلا
فأدى إلينا بزه وسلاحه ... ومنفصلاً من عنقه قد تزملا
ومنا الذي سد الثنية غدوة ... على حلفة لم يبق فيها تحللا
بجهد يمين الله لا يطلعونها ... ولما نقاتل جمعهم حين أسهلا
وصدت لجيم للبراءة إذ رأت ... أهاضيب موت تمطر الموت معضلا
ويشكر قد مالت قديماً وارتعت ... ومنت بقرباها إليهم لتوصلا
تركنا حبياً يوم أرجف جمعه ... صريعاً بأعلى واردات مجندلا
قال مقاتل: كان حكم بكر بن وائل يوم قضة الحرث بن عباد وكان الرئيس الفند وكان فارسهم جحدر وكان شاعرهم سعد بن مالك. وكان موت سعد بن مالك في أثناء هذه الحروب وقيل أنه قتل يوم قضة ابن القبيحة بعد يوم التحالف نحو سنة 530 م وذهب ياقوت في معجم البلدان إلى أنه قتل يوم أسود الشاعبات وهو من زحفات قضة.
جحدر بن ضبيعة (530م)(3/)
هو أبو مكنف ربيعة بن ضبيعة وجحدر لقب وصف به. والجحدر باللغة الجعد القصير من الناس كان فارس بكر وسندهم وله شعر قليل قاله يوم القضة وذلك أن الحارث بن عباد قال للحارث بن عمام: هل أنت مطيعي يا جار فيما أريد أن أعمله. فقال له الحارث بن همام: هل أجد بداً من طاعتك والمصير إلى أمرك. فقال له الحارث بن عباد: إن القوم كانوا لك ولقومك مستقلين فزادهم ذلك في الحرب جرأة عليكم فقاتلهم بالنساء فضلاً عن الرجال. فقال له الحارث ابن همام: وكيف قتال النساء. قال: قلد كل امرأة منهم أدواة من ماء وأعطها هراوة واجعل جمعهن م ورائكم فإن ذلك يزيدكم جداً في القتال واجتهاداً وعلموا بعلامات يعرفنها. فإذا مرت المرأة منهن على صريع منكم عرفته بعلامة فسقته من الماء ونعشته وإذا مرت على رجل من غيركم ضربته بالهراوة فقتلته وأتت عليه. فأطاعوه وفعلوا ذلك وحلقت بنو بكر يومئذ رؤوسها استبسالاً للموت وجعلوا ذلك علامة بينهم وبين نسائهم ولم يبق منهم أحد إلاحلق رأسه غير جحدر فإنه كان رجلاً دميماً حسن اللمة فارساً من الفرسان المعدودين. فقال: يا قوم إن حلقتم رأسي شوهتم بي فدعوا لمتي لأول فارس يطلع من الثنية غداً م القوم ففعلوا ذلك وتركوا لمته. فلما قدم العدو طلع ابن عناق فش عليه جحدر فقتله. فقال رجل من بكر يمدح مسمع بن مالك وكان من أولاد جحدر بذلك:
يا ابن الذي لما حلقنا اللمما ... ابتاع منا رأسه تكرما
بفارس أول من تقدما
وكان جحدر يرتجز يومئذ ويقول (من مشطور الرجز) :
قد يتمت بنتي وآمت كنتي ... وشعثت بعد الرهان جمتي
ردوا علي الخيل إن المت ... إن لم يناجزها فجزوا لمتي
قد علمت والدة ما صمت ... ما لففت في خرق وشمت
إذا الكماة بالكماة التفت ... امخدج في الحرب أم أتمت
وقال أيضاً وهو يروي لبعض بني قيس بن ثعلبة (من الطويل) :
دعوت بني قيس إلي فشمرت ... خناذيذ من سعد طوال السواعد
إذا ما قلوب القوم طارت مخافة ... من الموت ارسوا بالنفوس المواجد(3/)
ثم قاتل جحدر قتالاً شديداً وقتل جمعاً من فرسان تغلب منهم عمرو وعامر طعن أحدهما بسنان رمحه والآخر بزجه. وأصاب جحدراً يومئذ جرح شديد فخر صريعاً يومئذ مع القتلى فمرت به النساء ولم يكن حلق رأسه فوجدنه ذا لمة فظننه من بني تغلب فقتلنه.
الحارث بن عباد (550م)
هو أبو بجير وقيل أبو المنذر الحارث بن عباد بن قيس بن ثعلبة الكبري من أهل العراق من فحول شعراء الطبقة الثانية. كان من سادات العرب وحكمائها وشجعاها الموصوفين. وقد اشتهر مراهقاً في حرب سدوس وذلك أن غلاماً لعمران بن نبيه السدوسي اسمه معمر بن سوار أورد إبل سيده عين ماء تعرف بعين قويرة فاصطدمت إبله بإبل عباد أبي الحارث فأهاب بها وحذر راعيها فلم ينته إلى أن اقتتلا فرمى الحارث معمراً وقتله فأقبل الفضيل بن عمران على الحارث فرماه بسهم آخر فاتبعه بغلامه وكان عمران أبوه من سراة قومه وسيداً مطاعاً. فكر الحارث إلى إبله وساقها عطاشاً إلى منازل أبيه عباد وأخبره بما جرى فقال (من الطويل) :
قتلت ابن عمران الفضيل وعبده ... بذحل غلامي معمر بن سوار
وما رمت قتلاً للفضيل وإنما ... أردت ذمامي إذ أخذت بثأري
رميت به سهماً فعجل حتفه ... وذلك شيء لم يكن بخياري
ألا فأسعدوني للوقيعة والبلا ... وإضمار خيل قربت لمغار(3/)
فتفل أبوه في وجهه وقال: لا حياك الله ولا بياك. إذن والله أسلمك إلى عمران بن نبيه فيقتلك بولده ولا أبعث على قومي حرب سدوس. فقال الحاري: لا يقتلني عمران بولده ولا تسليمك إياي يدفع عنك حرب سدوس وقد وقعت في البلاء فالبس لها جلباباً. وبلغ الصريخ إلى عمران بن نبيه فأغار في من حضر من قومه واجتمعت إليه قبائل سدوس. وقالوا: الرأي إليك فمر بما شئت. فقال لهم: ليس في ضبيعة كفوء لولدي ولست أرضى إلا بوائل بن ربيعة (يريد كليباً أو البراق بن روحان) . فقالوا: ليس هذا برأي أيقتل ابنك الحارث بن عباد وتريد التقاضي بكليب أو البراق هذا هو البغي الصريح. فأبى عمران بن نبيه فوجدوا لذلك واغتاظوا ووجهوا إليه يعتذرون من قتل ولده وسألوه أن يحكموه في الدية. فرد الرسل وصمم على قتل كليب أو البراق فثارت بينهم حرب شديدة والتقوا بجبل منور فحمل عمران بنفسه على بني ضبيعة وكانت الدائرة عليهم وقتل إخوة الحارث وأسر عقيل بن مروان سيد ضبيعة. ثم عاد بنو ضبيعة وولوا عليهم الحارث وهو شاب لم يبلغ الكهولة فسار بهم إلى سدوس واقتتلوا قتالاً شديداً وتطاردت الخيل وقتل يومها عباد أبو الحارث وقتل الحارث نصر بن مسعود أحد فرسان سدوس المبرزين ثم افترقوا على غير غلبة. ثم استشرى الفساد واتسع الخرق وحالفت القبائل قضاعة وطيىء قبيلة سدوس وقمت ربيعة مع ضبيعة إلى أن نصر الله ربيعة. وصار للحارث بن عباد اسم في قومه. وشهد يوم خزاز وجادت فيه مشاهده وحسن بلاؤه وبارز فرساناً من حمير وقتلهم وله في ذلك يفتخر (من الرجز) :
نحن منعناكم ورود النهر ... بالمرهفات والرماح السمر
فوارس من تغلب وبكر ... على خيول شزب وضمر(3/)
ولما كانت حرب البسوس اعتزل هو القتال واستعظم قتل كليب لسؤدده في ناقة واعتزل الحرب مع قبائل من بكر منها يشكر وعجل وقيس بن ثعلبة. وكان هو رأسها وشاعرها في زمانه فنزع سنان رمحه ووتر قوسه وقال لبني شيبان: يا بني شيبان ظلمتم قومكم وقتلتم سيدكم وهدمتم عزكم ونزعتم ملككم فوالله لا نساعدكم. فانصرفوا خائبين ولم يحارب أحد منهم مع شيبان حتى أسرف المهلهل في القتل وكان من أمره ما كان وقتل ولده بجيراً. قيل أن المهلهل لقيه يوم واردات فقال: من خالك يا غلام. وبوأ نحوه الرمح فقال له امرؤ القيس بن أبان التغلبي وكان على مقدمتهم في حروبهم: مهلاً يا مهلهل فإن عم هذا وأهل بيته قد اعتزلوا حربنا فلئن قتلته ليقتلن به رجل لا يسأل عن نسبه. فلم يلتف المهلهل إلى قوله وشد عليه فقتله فقال عند قتله: بؤ بشسع نعل كليب. فثارت بأبيه الحمية ونادى في قومه بالحرب وقال قصيدته المشهورة التي كرر فيها قوله: قربا مربط النعامة مني أكثر من عشرين مرة وقال ابن بدرون: أكثر من خمسين مرة. وكانت النعامة فرسه لم يكن في زمانها مثلها فجاؤوه بها فجز ناصيتها وقطع ذنبها وكان أول من فعل ذلك من العرب فاتخذته العرب سنة إذا قتل لأحدهم عزيز وأراد أن يطلب بثأره وهذا نص القصيدة (من الخفيف) :
كل شيء مصيره للزوال ... غير ربي وصالح الأعمال
وترى الناس ينظرون جميعاً ... ليس فيهم لذاك بعض احتيال
قل لأم الأغر تبكي بجيراً ... حيل بين الرجال والأموال
ولعمري لأبكين بجيراً ... ما أتى الماء من رؤوس الجبال
لهف نفسي على بجير إذا ما ... جالت الخيل يوم حرب عضال
وتساقى الكماة سماً نقيعاً ... وبدا البيض من قباب الحجال
وسعت كل حرة الوجه تدعو ... يا لبكر غراء كالتمثال
با بجير الخيرات لا صلح حتى ... نملأ البيد من رؤوس الرجال
وتقر العيون بعد بكاها ... حين تسقي الدما صدور العوالي
أصبحت وائل تعج من الحر ... ب عجيج الجمال بالأثقال
لم أكن من جناتها علم الله ... وإني لحرها اليوم صال
قد تجنبت وائلاً كي يفيقوا ... فأبت تغلب علي اعتزالي
وأشابوا ذؤابتي ببجير ... قتلوه ظلماً بغير قتال
قتله بشسع نعل كليب ... إن قتل الكريم بالشسع غال(3/)
يا بني تغلب خذوا الحذر إنا ... قد شربنا بكأس موت زلال
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيال
قربا مربط النعامة مني ... ليس قولي يراد لكن فعالي
قربا مربط النعامة مني ... جد نوح النساء بالأعوال
قربا مربط النعامة مني ... شاب رأسي وأنكرتني القوالي
قربا مربط النعامة مني ... للسرى والغدو والآصال
قربا مربط النعامة مني ... طال ليلي على الليالي الطوال
قربا مربط النعامة مني ... لاعتناق الأبطال بالأبطال
قربا مربط النعامة مني ... واعدلا عن مقالة الجهال
قربا مربط النعامة مني ... ليس قلبي عن القتال بسال
قربا مربط النعامة مني ... كلما هب ريح ذيل الشمال
قربا مربط النعامة مني ... لبجير مفكك الأغلال
قربا مربط النعامة مني ... لكريم متوج بالجمال
قربا مربط النعامة مني ... لا نبيع الرجال بيع النعال
قربا مربط النعامة مني ... لبجير فداه عمي وخالي
قرباها لحي تغلب شوساً ... لا عتناق الكماة يوم القتال
قرباها وقربا لأمتي در ... عاً دلاصاً ترد حد النبال
قرباها بمرهفات حداد ... لقراع الأبطال يوم النزال
رب جيش لقيته يمطر المو ... ت على هيكل خفيف الجلال
سائلوا كندة الكرام وبكراً ... واسألوا مذحجاً وحي هلال
إذ أتونا بعسكر ذي زهاء ... مكفهر الأذى شديد المصال
فقريناه حين رام قرانا ... كل ماضي الذباب عضب الصقال
فبلغ قوله المهلهل فقال يرد على قصيدته ويستقدم فرسه المشهر (من الخفيف) :
هل عفرت الغداة من أطلال ... رهن ريح وديمة مهطال
يستبين الحليم فيها رسوماً ... دارسات كصنعة العمال
قد رآها وأهلها أهل صدق ... لا يريدون نية الارتحال
يا لقومي للوعة البلبال ... ولقتل الكماة والأبطال
ولعين تبادر الدمع منها ... لكليب إذ فاقها بانهمال
لكليب إذ الرياح عليه ... ناسفات التراب بالأذيال
إنني زائر جموعاً لبكر ... بينهم حارث يريد نضالي
قد شفيت الغليل من آل بكر ... آل شيبان بين عم وخال
كيف صبري وقد قتلتم كليباً ... وشقيتم بقتله في الخوالي
فلعمري لأقتلن بكليب ... كل قيل يسمى من الأقيال
ولعمري لقد وطئت بني بكر ... بما قد جنوه وطء النعال
لم أدع غير أكلب ونساء ... وإماء حواطب وعيال(3/)
فاشربوا ما وردتم الآن منا ... واصدروا خاسرين عن شر حال
زعم القوم أننا جار سوء ... كذب القوم عندنا في المقال
لم ير الناس مثلنا يوم سرنا ... نسلب الملك بالرماح الطوال
يوم سرنا إلى قبائل عوف ... بجموع زهاؤوها كالجبال
بينهم مالك وعمرو وعوف ... وعقيل وصالح بن هلال
لم يقم سيف حارث بقتال ... أسلم الوالدات في الأثقال
صدق الجار أننا قد قتلنا ... بقبال النعال رهط الرجال
لا تمل القتال يا ابن عباد ... صبر النفس أنني غير سال
يا خليلي قربا اليوم مني ... كل ورد وأدهم صهال
قربا مربط المشهر مني ... لكليب الذي أشاب قذالي
قربا مربط المشهر مني ... واسألاني ولا تطيلا سؤالي
قربا مربط المشهر مني ... سوف تبدو لنا ذوات الحجال
قربا مربط المشهر مني ... إن قولي مطابق لفعالي
قربا مربط المشهر مني ... لكليب فداه عمي وخالي
قربا مربط المشهر مني ... لاعتناق الكماة والأبطال
قربا مربط المشهر مني ... سوف أصلي نيران آل بلال
قربا مربط المشهر مني ... إن تلاقت رجالهم ورجالي
قربا مربط المشهر مني ... طال ليلي وأقصرت عذالي
قربا مربط المشهر مني ... يا لبكر وأين منكم وصالي
قربا مربط المشهر مني ... لنضال إذا أرادوا نضالي
قربا مربط المشهر مني ... لقتيل سفته ريح الشمال
قربا مربط المشهر مني ... مع رمح مثقف عسال
قربا مربط المشهر مني ... قرباه وقربا سربالي
ثم قولا لكل كهل وناش ... من بني بكر جردوا للقتال
قد ملكناكم فكونوا عبيداً ... ما لكم عن ملاكنا من مجال
وخذوا حذركم وشدوا وجدوا ... واصبروا للنزال بعد النزال
فلقد أصبحت جمائع بكر ... مثل عاد إذ مزقت في الرمال
يا كليباً أجب لدعوة داع ... موجع القلب دائم البلبال
فلقد كنت غير نكس لدى البأ ... س ولا واهن ولا مكسال
قد ذبحنا الأطفال من آل بكر ... وقهرنا كماتهم بالنضال
وكررنا عليهم وانثنينا ... بسيوف تقد في الأوصال
اسلموا كل ذات بعل وأخرى ... ذات خدر غراء مثل الهلال
يا لبكر فأوعدوا ما أردتم ... واستطعتم فما لذا من زوال(3/)
وولي الحارث أمر بكر وشهد حربهم وكان أول يوم شهده يو قضة وهو يوم تحلاق اللمم لأن بكراً حلقوا رؤوسهم ليعرفوا بعضهم بعضاً. وقيل أنهم التقوا بمكان اسمه عويرض وصافح الحارث القتال بنفسه وكانت الدائرة على تغلب فانهزمت أقبح هزيمة وفيها أسر المهلهل وهو لا يعرفه فأطلقه قياماً بوعده ووفاء بذمته كما مر. ثم قال للمهلهل. دلني على كفوء لبجير قال: لا أعلمه إلا امرؤ القيس بن أبان. فجز ناصية المهلهل وقصد قصد امرئ القيس فشد عليه فقتله فقال في ذلك (من الخفيف) :
لهف نفسي على عدي ولم ... أعرف عدياً إذا أمكنتني اليدان
طل من طل في الحروب ولم ... يطلل قتيل أباته ابن أبان
فارس يضرب الكتيبة بالسيف ... وتسمو أمامه العينان
ودامت الحرب زماناً كما ورد في ذكر المهلهل. وقد كان الحارث آلى ألا يصالح تغلب حتى تكلمه الأرض. فلما كثرت وقائعه في تغلب ورأت تغلب أنها لا تقوم له حفروا سرباً تحت الأرض وأدخلوا فيه رجلاً وقالوا: إذا مر الحارث فغن بهذا البيت:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
أبو منذر كنية الحارث بن عباد. فلما أتى الحارث على ذلك الرجل غنى بذلك البيت. فقيل للحارث: بر قسمك فابق بقية قومك. ففعل واصطلحت بكر وتغلب. وعمر الحارث طويلاً وكانت وفاته نحو سنة 570 للمسيح. وشعره حسن مطبوع فمن ذلك قوله في حرب سدوس (من البسيط) :
سائل سدوس التي أفنى كتائبها ... طعن الرماح التي في رؤوسها شهب
إن لم تلاقوا بنا جهداً فقد شهدت ... فرسانكم أنني بالصبر معتصب
يا ويل أمكم من جمع سادتنا ... كتائباً كالربى والقطر ينسكب
أبا عقيل فلا تفخر بسادتكم فأنتم أنتم والدهر ينقلب
فإن سلمنا فإنا سائرون لكم ... بكل هندية في حدها شطب
وكل جرداء مثل السهم يكنفها ... من كل ناحية ليث له حسب
لا تحسبوا أننا يا قوم نفلتكم ... أو تهربون إذا ما اعوز الهرب
كلا ورب القلاص الراقصات ضحى ... تهوي بها فتية غر إذا انتدبوا
وقال أيضاً يفتخر ويذكر قوماً من سدوس (من الطويل) :
لقد شهدت حقاً سدوس بأنني ... أنا الفارس المعتاد قطع الحناجر
تلقيت نصراً والمعمر بعده ... وارديته كرهاً برغم المناخر(3/)
وسوف يرى منصور منا عجائباً ... يعدد ذكري في جميع المحاضر
ولا بد من غبر يتابع غبره ... ويتبع أولاداً وشيكاً بآخر
ظننتم سدوس إذ قتلتم والدي ... وتسعة إخواني أمد بعاشر
فهلا علمتم أن حولي فتية ... تصول على بيض السيوف البواتر
ومن حسن شعره قوله أيضاً (من البسيط) :
سل حي تغلب عن بكر ووقعتهم ... بالحنو إذ خسروا جهراً وما رشدوا
فأقبلوا بجناحيهم يلفهما ... منا جناحان عند الصبح فاطردوا
فأصبحوا ثم صفوا دون بيضهم ... وأبرقوا ساعة من بعد ما رعدوا
وأيقنوا أن شيباناً وإخوتهم ... قيساً وذهلاً ويتم اللات قد رصدوا
ويشكر وبنو عجل وإخوتهم ... بنو حنيفة لا يحصى لهم عدد
ثم التقينا ونار الحرب ساطعة ... وسمهري العوالي بيننا قصد
طوراً ندير رحانا ثم نطحنهم ... طحناً وطوراً نلاقيهم فنجتلد
حتى إذا الشمس دارت أجفلوا هرباً ... عنا وخلوا عن الأموال وانجردوا
قد قرت العين من عمران إذ قتلت ... ومن عدي مع القمقام إذ جهدوا
ومن زياد ومن غنم وإخوتها ... ومن حبيب أصابوا الذل فانفردوا
ومن بني الأوس إذ شلت قبيلتهم ... لا ينفعون ولا ضروا ولا حمدوا
فروا إلى النمر منا وهو عمهم ... فما وفى النمر إذ طاروا وهم مرد
نحن الفوارس نغشى الناس كلهم ... ونقتل الناس حتى يوحش البلد
لقد صبحناهم بالبيض صافية ... عند اللقاء وحر الموت يتقد
وقد فقدنا أناساً من أماثلنا ... ومثلهم فكذاك القوم قد فقدوا
والخيل تعلم أني من فوارسها ... يوم الطعان وقلب الناس يرتعد
وقد حلفت يميناً لا أصالحهم ... مادام منا ومنهم في الملا أحد
وله أيضاً يتهدد تغلب (من الكامل) :
حي المنازل أقفرت بسهام ... وعفت معالمها بجنب برام
جرت عليها الرامسات ذيولها ... وسجال كل مخلخل سجام
أقوت وقد كانت تحل بجوها ... حور المدامع من ظباء الشام
تركتك يوم تعرضت لك باللوا ... دنفاً تعالج لوعة الأسقام
إن الأرقام أصبحت مسؤولة ... بقرارة لمواطىء الأقدام
تركت ظباة سيوفنا ساداتهم ... ما بين مصروع وآخر دامي
لا تحسبن إذا هممت بحربنا ... أنا لدى الهيجاء غير كرام
ولقد علمت وأنت فينا شاهد ... وسيوفنا تفري فروع الهام
إنا لنمنع بالطعان ديارنا ... والضرب تحسبه شهاب ضرام(3/)
فوق الجياد شواخصاً أبصارها ... تعدو بكل مهند صمصام
ضمنت لها أرماحنا وسيوفنا ... بهلاك تغلب آخر الأيام
وإذا الكرام تذاكرت أيامها ... كنتم على الأيام غير كرام
فاسأل لكندة حين أقبل جمعها ... حول ابن كبشة وابن أم قطام
ملكان قد قادا الجيوش واثخنا ... بالقتل كل متوج قمقام
رجعا وقد نسيا الذي قصدا له ... والخيل تقرع مثل سيل عرام
وجرى النعام على الفلاة جوافلاً ... تبغي الرجال بوادر الأعظام
ووجدت ثم حلومنا عادية ... وكان أعدانا بلا أحلام
أفبعد مقتلكم بجيراً عنوة ... ترجون وداً آخر الأيام
كلا ورب الراقصات إلى منى ... كلا ورب الحل والإحرام
حتى تقيدونا النفوس بقتله ... وتروموا في الشحناء كل مرام
وتجول ربات الخدور حواسراً ... يبكين كل مغاور ضرغام
وقال أيضاً يفتخر وهذه القصيدة تعد من منتقيات قصائده (من الخفيف) :
هل عرفت الغداة رسماً محيلاً ... دارساً بعد أهله مجهولا
لسليمى كأنه سحق برد ... زاده قلة الأنيس محولا
زعزعته الصبا فأدرج سهلاً ... ثم هاجت له الدبور نحيلا
فكأن اليهود في يوم عيد ... ضربت فيه روقشاً وطبولا
وامترته الجنوب حتى إذا ما ... وجدت فوده عليها ثقيلا
ثم هالت عليه منها سجالاً ... مكفهراً فتستقيه سجيلا
وتذكرت منزلاً لرباب ... أنه كان مرة مأهولا
غير أن السنين والريح ألقت ... تربه في رسومه منخولا
سفهت تغلب غداة تمنت ... حرب بكر فقتلوا تقيلا
غير أنا قد احتوينا عليهم ... فتركناهم بقايا فلولا
اذكروا قتلنا الأرقام طراً ... يوم أضحى كليبها مقتولا
وقتلنا على الثنية عمراً ... وجلبنا عديهم مغلولا
وعدي طحى إلى النمر منا ... فأقمنا للنمر يوماً طويلا
آل عمرو قد انتقمنا بضرب ... يدع المرد حين يبدو كهولا
وبطعن لنا نوافذ فيهم ... كفواه المزاد يروي الشليلا
وزحفنا إلى تميم بن مر ... بجموع ترى لهن رعيلا
فاصبنا الذي أردنا وزدنا ... فوق أضعاف ما أردنا فصولا
ونصبنا لقيس عيلان حتى ... ما أردنا لربهم تحويلا
حين شدوا على البريد العذارى ... إذ رأونا قبائلاً وخيولا
في بياض الصباح يبدين شقاً ... كسعال تبادر الصر عيلا
فاسألوا ضبة بن كلب وأوداً ... تخبروا أننا شفينا الغليلا(3/)
منهم حين يصرخون بكعب ... وبذهل وكان قدماً نكولا
وطردنا من العراق إياداً ... وتركنا نصيبهم مرسولا
ثم ابنا والخيل تجنب شعثاً ... كالسعالي عفائفاً ومحولا
سلسات القياد كمتاً ودهماً ... ووراداً ترى بها تحجيلا
كل قوم تبيحهم وحمانا ... قد منعناه أن يباح سبيلا
وكليباً تبكي عليه البواكي ... وحبيب هناك يدعو العويلا
واسألوا كندة الملوك ببكر ... إذ تركنا سمينهم مهزولا
وأسرنا ملوكهم يوم سرنا ... وأذقنا الأعداء طعماً وبيلا
واردنا لتغلب يوم سوء وقتلنا منهم قبيلاً قبيلا
ونزلنا بواردات إليهم ... فتولوا ولم يطيقوا النزولا
وتركنا للخامعات شباباً ... جزراً تعتفيهم وكهولا
وروى سيبويه للحارث بن عباد قوله (من الكامل) :
والحرب لا يبقى لجا ... حمها التخيل والمراح
إلا الفتى الصبار في ... النجدات والفرس الوقاح(3/)
ومن كلام الحارث ما رواه عنه القطامي عن الكبي قال: وقدم مع وفد العرب على كسرى وتكلم الحارث وقال: دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظها وعلو سنائها. من طال رشاؤه كثر متحه. ومن ذهب ماله قل منحه. تناقل الأقاويل يعرف اللب. وهذا مقام سيوجف بما تنطق به الركب. وتعرف به كنه حالنا العجم والعرب. ونحن جيرانك الأدنون. وأعوانك المعينون. خيولنا جمة. وجيوشنا فخمة. إن استنجدتنا فغير ربض. وإن استطرقتنا فغير جهض. وإن طلبتنا فغير غمض. ولا ننثني لذعر. ولا ننتنكر لدهر. رماحنا طوال. وأعمارنا قصار. قال كسرى: أنفس عزيزة والله ضعيفة. قال الحارث: أيها الملك وأنى يكون لضعيف عزة. أو لصغير مرة. قال كسرى: لو قصر عمرك لم تستول على لسانك نفسك. قال الحارث: أيها الملك إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغرراً بنفسه على الموت. فهي منية استقبلها. وجنان استدبرها. والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدماً وأحبسها. وهي تصرف بها حتى إذا جاشت نارها. وسعرت لظاها وكشفت عن ساقها. جعلت مقادها رمحي. وبرقها سيفي. ورعدها زئيري. ولم أقصر عن خوض خضخاضها. حتى انغمس في غمرات لججها. وأكون فلكاً لفرساني إلى بحبوحة كبشها. فاستمطرها دماً وأترك حماتها جزر السباع وكل نسر قشعم. ثم قال كسرى لمن حضره من العرب: أكذلك هو. قالوا: فعاله انطق من لسانه. قال كسرى: ما رأيت كاليوم وفد أحشد. ولا شهود أوفد.
المرقش الأكبر (552م)
هو عوف وقيل عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الحصين بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل وهو عمر ربيعة بن سفيان المعروف بالمرقش الأصغر. والمرقش لقب غلب عليه لقوله (من السريع) :
الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم(3/)
وكان للمرقشين جميعاً موقع في بكر بن وائل وفي حروبها مع بني تغلب وبأس وشجاعة ونجدة وتقدم في المشاهد ونكاية في العدو وحسن أثر. وكان عوف بن مالك بن ضبيعة عم المرقش الأكبر من فرسان بكر بن وائل وهو القائل يوم قضة: يا لبكر بن وائل أفي كل يوم فراراً ومحلوفي لا يمر بي رجل من بكر بن وائل منهزماً إلا ضربته بسيفي. وبرك يقاتل فسمي البرك يومئذ. وكان أخوه عمرو بن مالك أيضاً من فرسان بكر وهو الذي أسر مهلهلاً. التقيا في خيلين من غير مزاحفة في بعض الغارات بين بكر وتغلب في موضع يقال له نقا الرمل فانهزمت خيل مهلهل وأدركه عمرو بن مالك فأسره فانطلق به إلى قومه وهم في نواحي هجر فأحسن أساره. ومر عليه تاجر يبيع الخمر قدم بها من هجر وكان صديقاً لمهلهل يشتري منه الخمر فأهدى إليه وهو أسير زق خمر فاجتمع إليه بنو مالك فنحروا عنده بكراً وشربوا عند مهلهل في بيته وقد أفرد له عمرو بيتاً يكون فيه. فلما أخذ فيهم الشراب تغنى مهلهل فيما كان يقوله من الشعر وينوح به على كليب فسمع ذلك عمرو بن مالك فقال: أنه لريان والله لا يشرب عندي ماء حتى يرد زبيب (يعني جملاً كان لعمرو بن مالك) . وكان يتناول الدهاس من أجواف هجر فيرعي فيها غباً بعد عشر في حمارة القيظ فطلبت ركبان بني مالك زبيباً وهم حراص على أن لا يقتل مهلهل فلم يقدروا على البعير حتى مات مهلهل عطشاً. ونحر عمرو بن مالك يومئذ ناباً فأسرج جلدها على مهلهل وأخرج رأسه وكانت بنت خال مهلهل امرأته بنت المجلل أحد بني تغلب وقيل في موت المهلهل غير ذلك كما مر في ترجمته.(3/)
وكان المرقش الأكبر أديباً شاعراً وكان أبوه دفعه وأخاه حرملة وكانا أحب ولده إليه إلى نصراني من أهل الحيرة فعلمهما الخط وتأدبا عليه. ولما بلغ خطب إلى عمه عوف بن مالك ابنة له تدعى أسماء بنت عوف عشقها وهو غلام. فقال عمه: لا أزوجك حتى تعرف بالبأس. وهذا قبل أن تخرج ربيعة من أرض اليمن وكان يعده فيها المواعيد. ثم انطلق مرقش إلى ملك من الملكوك فكان عنده زماناً ومدحه فأجازه وأصاب عوفاً زمان شديد فأتاه رجل من مراد أحد بني عطيف فأرغبه في المال فزوجه أسماء على مائة من الإبل. ثم تنحى عن بني سعد بن مالك ورجع مرقش فقال أخوته: لا تخبروه إلا أنها ماتت فذبحوا كبشاً وأكلوا لحمه ودفنوا عظامه ولفوها في ملحفة ثم قبروها. فلما قدم مرقش عليهم أخبروه أنها ماتت وأتوا به موضع القبر فنظر إليه وصار بعد ذلك يعتاده ويزوره. فبينا هو ذات يوم مضطجع وقد تغطى بثوبه وابنا أخيه يلعبان بكعبين لهما إذ اختصما في كعب فقال أحدهما: هذا كعبي أعطانيه أبي من الكبش الذي دفنوه وقالوا: إذا جاء مرقش أخبرناه أنه قبر أسماء. فكشف مرقش عن رأسه ودعا الغلام وكان قد ضني ضناً شديداً فسأله عن الحديث فأخبره به وبتزويج المرادي أسماء. فدعا مرقش وليدة له لها زوج من عقيلة كان صديقاً لمرقش. فأمرها بأن تدعو له زوجها فدعته وكانت له رواحل فأمره بإحضارها ليطلب المرادي فأحضره إياها فركبها ومضى في طلبه فمرض في الطريق وكان يحمل معروضاً. وإنما نزلاً كهفاً بأسفل نجران وهي أرض مراد ومع العقيلي امرأته وليدة مرقش فسمع مرقش فسمع مرقش زوج الوليدة تبكي من ذلك فقال لها زوجها: أطيعيني وإلا فإني تاركك وذاهب قال: فلما سمع مرقش قول العقيلي للوليدة كتب مرقش على مؤخرة الرحل هذه الأبيات (من الكامل) :
يا صاحبي تلبثا لا تعجلا ... إن الرواح رهين أن لا تفعلا
فلعل لبثكما يفرط سيبنا ... أو يسبق الإسراع سيباً مقبلا
يا راكباً إما عرضت فبلغن ... أنس بن سعد إن لقيت وحرملا
لله دركما ودر أبيكما ... إن أفلت العبدان حتى يقتلا
من مبلغ الأقوام إن مرقشاً ... أضحى على الأصحاب عبأ مثقلا
وكأنما ترد السباع بشلوه ... إذ غاب جمع بني ضبيعة منهلا(3/)
قال: فانطلق العقيلي وامرأته حتى رجعا إلى أهلهما فقالا: مات المرقش. ونظر حرملة إلى الرحل وجعل يقلبه فقرأ الأبيات فدعاهما وخوفهما وأمرهما بأن يصدقاه ففعلا فقتلهما وكانا قد وصفا له الموضع. فركب في طلب المرقش حتى أتى المكان فسأل عن خبره فبلغه أن مرقشاً كان في الكهف ولم يزل فيه حتى غنم أتت على الغار الذي هو فيه ترعى وأقبل راعيها إليها. فلما بصر به قال له: من أنت وما شأنك. فقال له مرقش: أنا رجل من مراد. وأنت راعي من أنت. قال: راعي فلان وإذا هو راعي زوج أسماء. فقال له مرقش: أتستطيع أن تكلم أسماء امرأة صاحبك. قال: لا ولا أدنو منها ولكن تأتيني جاريتها كل ليلة فاحلب لها عنزاً فتأتيها بلبتها. فقال له: خذ خاتمي هذا فإذا حلبت فألقه في اللبن فإنها ستعرفه وأنك مصيب به خيراً لم يصبه راع قط إن أنت فعلت ذلك. فأخذ الراعي الخاتم ولما راحت الجارية بالقدح وحلب لها العنز طرح الخاتم فيه فانطلقت الجارية به وتركته بين يديها. فلما سكنت الرغوة أخذته فشربته وكذلك كانت تصنع فقرع الخاتم ثنيتها فأخذته واستضاءت بالنار فعرفته. فقالت للجارية: ما هذا الخاتم. قالت: ما لي به علم فأرسلتها إلى مولاها وهو في شرف بنجران فأقبل فزعاً. فقال لها: لم دعوتني. قالت له: ادع عبدك راعي غنمك فدعاه. فقالت: سله أين وجد هذا الخاتم. قال: وجدته مع رجل في كهف جبان فقال لي: اطرحه في اللبن الذي تشربه أسماء فإنك مصيب به خيراً وما أخبرني من هو ولقد تركته بآخر رمق. فقال لها زوجها: وما هذا الخاتم. قالت: خاتم مرقش. فأعجل الساعة في طلبه. فركب فرسه وحملها على فرس آخر وسارا حتى طرقاه من ليلتهما إلى أهلهما فمات عند أسماء وقال قبل أن يموت (من الوافر) :
سرى ليلاً خيال من سليمى ... فارقني وأصحابي هجود
فبت أدير أمري كل حال ... واذكر أهلها وهم بعيد
أناس كلما أخلقت وصلاً ... عناني منهم وصل جديد
نواعم لا تعالج بؤس عيش ... أوانس لا تروح ولا ترود
يرحن معاً بطاء المشي بداً ... عليهن المجاسد والبرود
سكن ببلدة وسكنت أخرى ... وقطعت المواثق والعهود
ثم مات عند أسماء فدفن في أرض مراد نحو سنة 552م.(3/)
ووللمرقش الأكبر شعر حسن وهو يعد من أهل الطبقة الأولى في الشعر. وكان بنو بكر يدعون التقدم له ولعمرو بن القميئة إلا أن شعره قليل تولت عليه يد الضياع فمن ذلك قوله وكان خرج مع المجالد بن ريان غازياً فوقع ببني تغلب بجمران فنكأ فيهم وأصاب مالاً. فقال في ذلك المرقش الأكبر (من المتقارب) :
أتتني لسان بني عامر ... فجلى أحاديثها عن بصر
بأن بنب الرحم ساروا معاً ... بجيش كضوء نجوم السحر
بكل جنوب السرى نهدة ... كل كميت طوال أغر
فما شعر الحي حتى رأوا ... بريق القوانس فوق الغرر
فأقبلتهم ثم أدبرتهم ... وأصدرتهم قبل حين الصدر
فيا رب شلو تخطرفته ... كريم لدى مزحف أو مكر
وآخر شاص ترى جلده ... كقشر القتادة غب المطر
وكأين بنجران من مزعف ... ومن رجل وجهه قد عفر
ومن أقواله الحسنة الدالة على تدينه بالنصرانية قوله (من مجزوء الوافر) :
ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
وكذاك لا خير ولا ... شر على أحد بدائم
قد خط ذلك في الزبو ... ر الأوليات القدائم
وقال يفتخر (من الكامل) :
هلا سألت بنا فوارس وائل ... فلنحن أسرعها إلى أعدائها
ولنحن أكثرها إذا عد الحصى ... ولنا سوابقها ومجد لوائها
وروى له أبو محمد الأعرابي. وهذه الأبيات قد وردت في الحماسة منسوبة لبعض بني قيس بن ثعلبة (من البسيط) :
إنا محيوك يا سلمى فحيينا ... وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة ... يوماً سراة كرام الناس فادعينا
إن تبتدر غاية يوماً لمكرمة ... تلق السوابق منا والمصلينا
وليس يهلك منا سيد أبداً ... إلا افتلينا غلاماً سيداً فينا
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا ... ولو نسام بها في الأمن أغلينا
بيض مفارقنا تغلي مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا
المطعمون إذا هبت شآمية ... وخير ناد رآه الناس نادينا
إني لمن معشر أفنى أوائلهم ... قيل الكماة ألا أين المحامونا
لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس خالهم إياه يعنونا
إذا الكماة تنحوا أن يصيبهم ... حد الظباة وصلناها بأيدينا
ولا تراهم وإن جلت مصيبتهم ... مع البكاة على من مات يبكونا(3/)
ونركب الكره أحياناً فيفرجه ... عنا الحفاظ وأسياف توتينا
وقال المرقش الأكبر وهي من قصائده الحسنة (من الطويل) :
أمن آل أسماء الطلول الدوارس ... تخطط فيها الطير قفر بسابس
ذكرت بها أسماء لو أن وليها ... قريب ولكن حبستني الحوابس
ومنزل ضنك لا أريد مبيته ... كأني به من شدة الروع آنس
لتبصر عيني أن رأتني مكانها ... وفي النفس أن خلى الطريق كوادس
وجيف وابساس ونقر وهزة ... إلى أن تكل العيس والمرء حادس
ودوية غبراء قد طال عهدها ... تهالك فيها الورد والمرء ناعس
قطعت إلى معروفها منكراتها ... بعيهمة تنسل والليل دامس
تركت بها ليلاً طويلاً ومنزلاً ... وموقد نار لم ترمه القوابس
وتسمع تزقاء من البوم حولنا ... كما ضربت بعد الهدو النواقس
فيصبح ملقى رحلها حيث عرست ... من الليل قد دبت عليه الروامس
وتصبح كالدوداة ناط زمامها ... إلى شعب فيها الجواري العوانس
ولما اضأنا النار عند شوائنا ... عرانا عليها أطلس اللون بائس
نبذت إليه حزة من شوائنا ... حياء وما فحشي على من أجالس
فآب بها جذلان ينفض رأسه ... كما آب بالنهب الكمي المخالس
وأعرض أعلام كأن رؤوسها ... رؤوس رجال في خليخ تغامس
إذا علم خلفته يهتدي به ... بدا علم في الآل أغبر طامس
وقدر ترى شمط الرجال عيالها ... لها قيم سهل الخليقة آنس
ضحوك إذا ما الصحب لم يجتووا له ... ولا هو مضباب على الزاد عابس
تعاللتها وليس طبي بدرها ... وكيف التماس الدر والضرع يابس
بأسمر عار صدره من جلازه ... وسائره من العلاقة نائس
وقال المرقش الأكبر أيضاً (من الخفيف) :
لمن الظعن بالضحى طافيات ... شبهها الدوم أو خلايا سفين
جاعلات بطن الضباع شمالاً ... وبراق النعاف ذات اليمين
رافعات رقماً تهال له العين ... على كل بازل مستكين
أو علاة قد دربت درج الرجلة ... حرف مثل المهاة ذقون
عامدات لخل سمسم ما ... ينظرن صوتاً لحاجة المحزون
أبلغا المنذر المنقب عني ... غير مستعتب ولا مستعين
لات هنا وليتني طرف الزج ... وأهلي بالشأم ذات القرون
بامرئ ما فعلت عف يؤوس ... صدقته المنى لعوض الحين
غير مستسلم إذا اعتصر العا ... جز بالسكت في ظلال الهون
يعمل البازل المجدة بالرحل ... تشكى النجاد بعد الحزون(3/)
بفتى ناحف وأمر احذ ... وحسام كالملح طوع اليمين
وقال أيضاً في وصف الطلول ونجائب الإبل (من السريع) :
هل تعرف الدار بجنبي خيم ... غيرها بعدك صوب الديم
أعرفها داراً لاسماء فالدع ... على الخدين سح سجم
أمست خلاء بعد سكانها ... مقفرة ما إن بها من ارم
إلا من العين ترعى بها ... كالفارسيين مشوا في الكمم
بعد حلول قد أراهم بها ... لهم قباب وعليهم نعم
لو ما تسلي حبها جسرة ... وهل تسلي حبها من أمم
عرفاء كالفحل جمالية ... ذات حذاء ما تشكى السام
لم تقرأ القيظ جنيناً ولا ... آصرها تحمل بهم الغنم
بل عزبت في الشول حتى نوت ... وسوغت ذا حبك كالإرم
تعدو إذا حرك مجذافها ... عدو رباع مفرد كالزلم
كأنه نصع يمان وبالأكرع ... تخييف كلون الحمم
بات بغيب معشب نبته ... مختلط حربثه بالينم
والمرقش الأكبر اتصل مدة بالحارث أبي شمر ملك غسان النصراني ونادمه نحو سنة 524م ومدحه. واتخذه الحارث كاتباً له ومما أوصاه في ذلك قوله: إذا نزع بك الكلام إلى ابتداء معنى غير ما أنت فيه فصل بينه وبين ما تبتغيه من الألفاظ فإنك إن مذقت ألفاظك بغير ما يحسن أن تمذق به نفرت القلوب عن وعيها وملتها الأسماع واستثقلتها الرواة.
توفي المرقش الأكبر نحو 552م. وهو جد جد الأعشى ميمون بن قيس.
عمرو بن قميئة (560م)(3/)
هو عمرو بن قميئة بن ذريح بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. كان من أقدم شعراء بكر في الجاهلية ويعد من شعراء الطبقة الثانية ولد نحو سنة 469م ومات أبوه وخلفه صغيراً فكفله عمه مرثد بن سعد وكان يحبه حباً شديداً. وكان حيه محباً له معجباً به رفيقاً عليه. وكان عمرو بن قميئة شاباً جميلاً حسن الوجه مديد القامة حسن الشعرة. أخبر الرواة أن مرثد بن سعد بن مالك عم عمرو بن قميئة كانت عنده امرأة ذات جمال فهويت عمراً وشغفت به ولم تظهر له ذلك فغاب مرثد لبعض أمره وقال لقيط في خبره: مضى يضرب بالقداح فبعثت امرأته إلى عمرو تدعوه على لسان عمه وقالت للرسول: ائتني به من وراء البيوت ففعلت فلما دخل أنكر شأنها فوقف ساعة ثم راودته عن نفسه. فقال: لقد جئت بأمر عظيم وما كان مثلي ليدعى لمثل هذا والله لو لم أمتنع من ذلك وفاء لعمي لامتنعن منه خوف الدناءة والذكر القبيح الشائع عني في العرب. قالت: والله لتفعلن أو لأسوأنك. قال: إلى المساءة تدعينني. ثم قام فخرج من عندها وخافت أن يخبر عمه بما جرى فأمرت بجفنة فكفئت على أثر عمرو فلما رجع عمه وجدها متغضبة فقال لها: مالك. قالت: إن رجلاً من قومك قريب القرابة جاء يستامني نفسي منذ خرجت. قال: من هو. قالت: أما أنا فلا أسيمه ولكن قم فافتقد أثره تحت الجفنة. فلما رأى الأثر عرفه. (قالوا) : وكان لمرثد سيف يسمى ذا الفقار فأتى ليضرب به عمراً فهرب فأتى إلى نصارى الحيرة فكان عند اللخميين ولم يكن يقوى على بني مرثد لكثرتهم وقال لعمرو بن هند: إن القودم اطردوني. فقال له: ما فعلوا إلا وقد أجرمت وأنا أفحص عن أمرك فإن كنت مجرماً رددتك إلى قومك. فعضب وهم بهجائه وهجاء مرثد ثم أعرض عن ذلك ومدح عمه واعتذر إليه فقال (من الطويل) :
خليلي لا تستعجلا أن تزودا ... وأن تجمعا شملي وتنتظرا غدا
فما لبثي يوماً يسائق مغنم ... ولا سرعتي يوماً بسائقة الردى
وأن تنظرا في اليوم أقضي لبانة ... وتستوجبا مناً علي وتحمدا
لعمرك ما نفس بجد رشيدة ... تؤامرني سوءاً لاصرم مرثدا
وإن ظهرت مني قوارص جمة ... وأفرغ من لؤمي مراراً وأصعدا(3/)
على غير جرم أن أكون جنيته ... سوى قول باغ كادني فتجهدا
لعمري لنعم المرء تدعو بخلة ... إذا ما المنادي في المقامة نددا
عظيم رماد القدر لا متعبس ... ولا مؤيس منها إذا هو أوقدا
وإن صرحت كحل وهبت عرية ... من الريح لم تترك من المال مرقدا
صبرت على وطء الموالي وخطبهم ... إذا ضن ذو القربى عليهم واخمدا
ولم يحم حرم الحي إلا محافظ ... كريم المحيا ماجد غير أجردا
ولبث عمرو في حيه إلى أن نزل امرؤ القيس بن حجر ببكر بن وائل وضرب قبته وجلس إليه وجوه بكر بن وائل فقال لهم: هل فيكم أحد يقول الشعر. فقالوا: ما فينا شاعر إلا شيخ قد خلا من عمره وكبر. قال: فأتوني به. فأتوه بعمرو بن قميئة وهو شيخ فأنشده فأعجب به فخرج به معه إلى قيصر وإياه عني امرؤ القيس بقوله (من الطويل) :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
وقال مؤرج في الخبر: أن امرأ القيس قال لعمرو بن قميئة في سفره ألا تركيب إلى الصيد فقال عمرو (من الطويل) :
شكوت إليه أنني ذو جلالة ... وأني كبير ذو عيال مجنب
فقال لنا أهلاً وسهلاً ومرحباً ... إذا سركم لحم من الوحش فاركبوا
فبقي عمرو بن قميئة مع امرئ القيس مدة ومات معه في الطريق وله من العمر تسعون سنة (560م) فسمته العرب عمراً الضائع لموته في غربة وفي غير أرب ولا مطلب. وكان عمرو شاعراً فحلا متقدماً وهو من المقلين. وشعره متين روى منه الرواة قطعاً. وكانت بنو بكر تدعي لعمرو بن قميئة التقدم على الشعراء. قيل أن رجلاً سأل حماد الراوية بالبصرة وهو عند بلال بن بردة: من أشعر الناس قال: الذي يقول (من الطويل) :
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فما بال من يرمى وليس برام
والشعر لعمرو بن قميئة من قصيدة يقول فيها:
كأني وقد جاوزت تسعين حجة ... خلعت بها عني عنان لجامي
على الراحتين مرة وعلى العصا ... انوء ثلاثاً بعدهن قيامي
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فما بال من يرمى وليس برام
فلو أن ما أرمى بنبل رميتها ... ولكنما أمرى بغير سهام
إذا ما رآني الناس قالوا ألم يكن ... حديثاً جديد البري غير كهام(3/)
وافني وما أفني من الدهر ليلة ... وما يفني ما أفنيت سلك نظامي
وأهلكين تأميل يوم وليلة ... وتأميل عام بعد ذاك وعام
ولعمرو بن قميئة أيضاً قوله في سفره مع امرئ القيس (من السريع) :
قد سألتني بنت عمرو عن ... الأرضين إذ تنكر أعلامها
لما رأت ساتيدما استعبرت ... لله در اليوم من لامها
تذكرت أرضاً بها أهلها ... أخوالها فيها وأعمامها
قال أبو الندى: سبب بكائها أنها لما فارقت بلاد قومها ووقعت إلى بلاد الروم ندمت على ذلك. وإنما أراد عمرو بن قميئة بهذه الأبيات نفسه لابنته فكنى عن نفسه بها.
ومن حسن شعر ابن قميئة قصيدته التي مطلعها (من المتقارب) :
ناتك أمامة إلا سؤالا ... وإلا خيالاً يوافي خيالا
يوافي مع الليل ميعاده ... ويأبى مع الصبح إلا زيالا
فقد ريع قلبي إذ أعلنوا ... وقيل أجر الخليل الذيالا
وفيها يقول:
وبيداء يلعب فيها السرا ... ب يخشى بها المدلجون الضلالا
تجاوبتها راغباً راهباً ... إذا ما الظباء اعتنقن الظلالا
بضامرة كاتان الثميل ... عيرانة ما تشكى الكلالا
إلى ابن الشقيقة خير الملوك ... واوفاهم عند عقد حبالا
ألست أبرهم ذمة ... وأنضلهم إن أرادوا نضالا
فأهلي فداؤك مستعتباً ... عتبت فصدقت في المقالا
أتاك عدو فصدقته ... فهلا نظرت هديت السؤالا
فما قلت إذ نطقوا باطلاً ... ولا كنت أرهبه أن يقالا
فإن كان حقاً كما خبروا ... فلا وصلت لي يمين شمالا
وروى صاحب الحماسة لابن قميئة قوله (من المنسرح) :
يا لهف نفسي على الشباب ولم ... أفقد به إذ فقدته أمما
إذا سحب الريط والمروط إلى ... أدنى تجاري وانفض اللمما
لا تغبط المرء أن يقال له ... أمسى فلان لسنه خكما
إن سره طول عمره فلقد ... أضحى على الوجه طول ما سلما
وينشد له أيضاً قوله (من مجزوء البسيط) :
الكأس ملك لمن أعملها ... والملك منه صغير وكبير
منها الصبوح التي تتركني ... ليث عفرين والمال كثير
وروى له سيبويه قوله (من السريع) :
يا رب من يبغض أزوادنا ... رحن على بغضائه واغتدين
طرفة (564م)(3/)
هو أبو عمرو طرفة بن العبد بن سفيان بن حرملة بن سعد بن مالك بن ضبيعة من بني بكر بن وائل وهو ابن أخت جرير بن عبد المسيح المعروف بالمتلمس. كان من مشاهير الشعراء يعد بينهم من ذوي الطبقة الأولى. وله المعلقة المعروفة باسمه. وكان بلغ مع حداثة سنه ما لم يبلغ القوم مع طول أعمارهم. وله ديوان شعر يستشهد به أصحاب اللغة وهو من المقلين لأنه قتل مراهقاً كما سيذكر. وقال طرفة الشعر صغيراً. روي عنه أنه خرج مع عمه في سفر وهو ابن سبع سنين فنزلوا على ماء فذهب طرفة بفخ له إلى مكان اسمه معمر فنصبه للقنابر وبقي عامة يومه لم يصد شيئاً ثم حمل فخه وعاد إلى عمه. فحملوا ورحلوا من ذلك المكان فرأى القنابر يلقطن ما نثر لهن من الحب فقال (وهذه الأبيات رويت لكليب أخي المهلهل كما ذكرنا ولعل طرفة استشهد بها) _من الرجز) :
يا لك من قبرة بمعمر ... خلالك الجو فبيضي واصفري
قد رفع الفخ فماذا تحذري ... ونقري ما شئت أن تنقري
قد ذهب الصياد عنك فأبشري ... لا بد من أخذك يوماً فاحذري
وكان طرفة في أول أمره منصباً على اللهو يعاقر الخمرة وينفق عليها ماله وكان في حسب من قومه جرياً على هجائهم وهجاء غيرهم ومات أبوه وهو صغير فأبى أعمامه أن يقسموا ماله وظلموا حقاً لأمه وكان اسمها وردة فقال (من الكامل) :
ما تنظرون بحق وردة فيكم ... صغر البنون ورهط وردة غيب
قد يبعث الأمر العظيم صغيره ... حتى تظل له الدماء تصبب
والظلم فرق بين حيي وائل ... بكر تساقيها المنايا تغلب
قد يورد الظلم المبين آجناً ... ملحاً يخالط بالذعاف ويقشب
وقراب من لا يستفيق دعارة ... يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
والإثم داء ليس يرجى برؤه ... والبر برء ليس فيه معطب
والصدق يألفه الكريم المرتجى ... والكذب يألفه الدنيء الأخيب
ولقد بدا لي أنه سيغولني ... ما غال عاداً والقرون فاشعبوا
أدوا الحقوق تفر لكم أعراضكم ... إن الكريم إذا يحرب يغضب(3/)
قال ابن الأعرابي: وكان لطرفة أخ اسمع معبد. وكان لهما إبل يرعيانها يوماً ويوماً. فلما أغبها طرفة قال له أخوه معبد: لم لا تستريح في إبلك. ترى أنها أن أخذت تردها بشعرك هذا. قال: فإني لا أخرج فيها أبداً حتى تعلم أن شعري سيردها إن أخذت. فتركها وأخذها أناس من مضر فادعى جوار عمرو وقابوس ورجل من اليمن يقال له بشر بن قيس فقال في ذلك طرفة قوله (من الطويل) :
اعمرو بن هند ما ترى رأي صرمة ... لها سبب ترعى به الماء والشجر
وكان لها جاران قابوس منهما ... وعمرو ولم استرعها الشمس والقمر
رأيت القوافي يتلجن موالجاً ... تضيق عنها أن تولجها الإبر
وقال غيره: وكانت هذه الإبل ضلت لمعبد أخيه فسأل طرفة ابن عمه مالكاً أن يعينه في طلبها فلامه. وقال: فرطت فيها ثم أقبلت فيها ثم أقبلت تتعب في طلبها. فقال معلقته المشهورة (من الطويل) :
لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقوفاً بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد
كأن حدوج المالكية غدوة ... خلايا سفين بالنواصف من دد
عدولية أو من سفين ابن يامن ... يجور بها الملاح طوراً ويهتدي
يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم الترب المفايل باليد
وإني لأمضي الهم عند احتضاره ... بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
أمون كألواح الأران نسأتها ... على لاحب كأنه ظهر برجد
جمالية وجناء تردي كأنها ... سفنجة تبري لازعر أربد
تباري عتاقاً ناجيات واتبعت ... وظيفاً وظيفاً فوق مور معبد
تربعت القفين في الشول ترتعي ... حدائق مولي الأسرة أغيد
تريع إلى صوت المهيب وتتقي ... بذي خصل روعات أكلف ملبد
كأن جناحي مضرحي تكنفا ... حفافيه شكا في العسيب بمسرد
فطوراً به خلف الزميل وتارة ... على حشف كالشن ذاو مجدد
لها فخذان أكمل النحض فيهما ... كأنهما بابا منيف ممرد
وطي محال كالحني خلوفه ... وأجرنة لزت بدأي منضد
كأن كناسي ضالة يكنفانها ... واطر قسي تحت صلب مؤيد
لها مرفقان افتلان كأنما ... تمر بسلمي دالج متشدد
كقنطرة الرومي أقسم ربها ... لتكتنفن حتى تشاد بقرمد
صهابية العثنون مؤجدة القرى ... بعيدة وخد الرجل موارة اليد
أمرت يداها فتل شزر وأجنحت ... لها عضداها في سقيف مسند(3/)
جنوح دفاق عندل ثم أفرعت ... لها كتفاها في معالى مصعد
كأن علوب النسع في داياتها ... موارد من خلقاء في ظهر قردد
تلاقى وأحياناً تبين كأنها ... بنائق غر في قميص مقدد
واتلع نهاض إذا صعدت به ... كسكان بوصي بدجلة مصعد
وجمجمة مثل العلاة كأنما ... وعى الملتقى منها إلى حرف مبرد
وخد كقرطاس الشآمي ومشفر ... كسبت اليماني قده لم يحرد
وعينان كالماويتين استكنتا ... بكهفي حجاجي صخرة قلت مورد
طحوران عوار القذى فتراهما ... كمكحولتي مذعورة أم فرقد
وصادقتا سمع التوجس للسرى ... لجرس خفي أو لصوت مندد
مؤللتان تعرف العتق فيهما ... كسامعتي شاة بحومل مفرد
وأروع نباض أحذ ململم ... كمرداة صخر من صفيح مصمد
واعلم مخروت من الأنف مارن ... عتيق متى ترجم به الأرض تزدد
وإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت ... مخافة ملوي من القد محصد
وإن شئت سامى واسط الكور رأسها ... وعامت بضبعيها نجاء الخفيدد
على مثلها أمضي إذا قال صاحبي ... ألا ليتني أفديك منها وأفتدي
وجاشت إليه النفس خوفاً وخاله ... مصاباً ولو أمسى على غير مرصد
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
أحلت عليها بالقطيع فأجذمت ... وقد خب آل الأمعز المتوقد
ولست بمحلال التلاع لبيتة ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد
وإن تبغني في حلقة القوم تلقني ... وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد
متى تأتني أصبحك كأساً روية ... وإن كنت عنها ذا غنى فاغن وازدد
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني ... إلى ذروة البيت الرفيع المصمد
نداماي بيض كالنجوم وقينة ... تروح علينا بين برد ومجسد
إذا نحن قلنا اسمعينا انبرت لنا ... على رسلها مطروقة لم تشدد
إذا رجعت في صوتها خلت صوتها ... تجاوب اظار على ربع رد
وما زال تشرابي الخمور ولذتي ... وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت أفراد البعير المعبد
رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف المدد
ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي ... فذرني أبادرها بما ملكت يدي
فلولا ثلاث هن من حاجة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي(3/)
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنباً ... كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن مخدر ... بميسرة تحت الطراف المعمد
كريم يروي نفسه في حياته ... ستعلم أن متنا غداً أينا الصدي
فذرني أروي هامتي في حياتها ... مخافة شرب في الحياة مصرد
أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبر غوي في البطالة مفسد
ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح منضد
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد
أرى المال كنزاً ناقصاً كل ليلة ... وما تنقص الأيام فالدهر ينفد
لعمرك أن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد
فما لي أراني وابن عمي مالكاً ... متى أدن منه ينا عني ويبعد
يلوم وما أدر على م يلومني ... كما لامني في الحي قرط بن أعبد
واياسني من كل خير طلبته ... كانا وضعناه على رمس ملحد
على غير شيء قلته غير أنني ... نشدت فلم أغفل حمولة معبد
وقربت بالقربى وجدك أنني ... متى يك عهد للنكيثة أشهد
وأن أدع للجلى أكن من حماتها ... وأن تأتك الأعداء بالجهد أجهد
وإن يقذفوا بالقذع عرضك أسفهم ... بشرب حياض الموت قبل التهدد
بلا حدث أحدثته وكمحدث ... هجائي وقذفي بالشكاة ومطردي
فلو كان مولاي امرءاً هو غيره ... لفرج كربي أو لانظرني غدي
ولكن مولاي امرؤ هو خانقي ... على الشكر والتسآل أو أنا مفتد
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
فذرني وعرضي أنني لك شاكر ... ولو حل بيتي نائياً عند ضرغد
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وزارني ... بنون كرام سادة لمسود
وبقية هذه المعلقة في مجاني الأدب فعليك بها مع شرحها هنالك. قيل أن ابن عمه عمرو بن مرثد لما بلغته معلقة طرفة وسمع قوله:
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فوجه إلى طرفة فقال: يا ابن أخي أما الولد فالله يعطيكم وأما المال فسنجعلك فيه أسوتنا. فدعا ولده وكانوا سبعة فأمر كل واحد فدفع إلى طرفة عشراً من الإبل ثم أمر ثلاثة من بني بنيه فدفعوا له مثل ذلك.(3/)
وكان إذ ذاك مالكاً في الحيرة عمرو بن هند. وكان الشعراء يأتونه وينشدونه الشعر فوفد عليه طرفة مع خاله المتلمس وكان طرفة فتي السن. فلما دخل على الملك كان عنده المسيب بن علس ينشد شعراً في وصف جمل ثم حوله إلى نعت ناقة فقال طرفة: قد استنوق الجمل. فسار قوله مثلاً في التخليط. ويقال أن المنشد كان المتلمس أنشد في مجلس لبني قيس بن ثعلبة وكان طرفة يلعب مع الصبيان ويتسمع فأنشد المتلمس:
وقد أتناسى الهم عند احتضاره ... بناج عليه الصيعرية مكرم
كميت كناز اللحم أو حميرية ... مواشكة تنفي الحصى بملثم
كأن على أنسائها عذق خصبة ... تدلى من الكافور غير مكمم
والصيعرية سمة توسم بها الناقة في اليمن. فلما سمع طرفة البيت قال: استنوق الجمل. قالوا: فدعاه المتلمس وقال له: أخرج لسانك. فأخرجه فإذا هو أسود فقال: ويل لهذا من هذا.
ولما ورد طرفة على عمرو بن هند أعجب بشعره فنادمه مع المتلمس وأكرمه وبقي عنده زماناً وكان طرفة غلاماً معجباً تائهاً. فبينما كان يشرب يوماً بين يدي الملك إذا أشرفت أخته فرآها طرفة فقال فيها بيتين من الشعر فنظر إليه عمرو نظرة كادت تقتلعه من مجلسه. وكان عمرو لا يبتسم ولا يضحك وكانت العرب تسميه مضرط الحجارة لشدة ملكه وكانوا يهابونه هيبة شديدة. فقال المتلمس لطرفة حين قاموا: يا طرفة إني أخاف عليك من نظرته إليك. فلم يكترث طرفة لكلامه. ثم جعلهما عمرو بن هند في صحابة أخيه قابوس وكان يرشحه للملك وأمرهما بلزومه. وكان قابوس شاباً يعجبه اللهو وكان يركب يوماً في الصيد فيركض ويتصيد وهما معه يركضان حتى يرجعا عشية وقد لغبا فيكون قابوس من الغد في الشراب فيقفان في باب سرادقه إلى العشي. وكان قابوس يوماً على الشراب فوقفا ببابه النهار كله. ولم يصلا إليه فضجر طرفة وقال يهجو عمراً وأخاه قابوس (من الوافر) :
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثاً حول قبتنا تخور
من الزمرات أسبل قادماها ... وضرتها مركنة درور
يشاركنا لنا رخلان فيها ... وتعلوها الكباش فما تنور
لعمرك إن قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير
قسمت الدهر في زمن رخي ... كذاك الحكم يقصد أو يجور
لنا يوم وللكروان يوم ... تطير البائسات ولا نطير(3/)
فأما يومهن فيوم نحس ... تطاردهن بالحدب الصقور
وأما يومنا فنظل ركباً ... وقوفاً ما نحل وما نسير
وكان لطرفة ابن عم اسمه عبد عمرو بن بشر يخدم عمرو بن هند. وكان طرفة قد هجاه بقصيدته اللامية حيث يقول وبعض هذه الأبيات شرحها التبريزي في الحماسة (من الطويل) :
ألا أبلغا عبد الضلال رسالة ... وقد يبلغ الأنباء عنك رسول
دببت بسري بعدما قد علمته ... وأنت بأسرار الكرام نسول
وكيف تضل القصد والحق واضح ... وللحق بين الصالحين سبيل
وفرق عن بيتيك سعد بن مالك ... وعوفاً وعمراً ما تشي وتقول
فأنت على الأدنى شمال عرية ... شآمية تزوي الوجوه بليل
وأنت على الأقصى صباً غير قرة ... تذاءب منها مرزغ ومسيل
فأصبحت فقعاً نابتاً بقرارة ... تصوح عنه والذليل ذليل
وإن لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوراته لدليل
وإن امرءاً لم يعف يوماً فكاهة ... لمن لم يرد سوءاً بها لجهول
فلما جاء قابوس خرجوا كلهم يتصيدون وكان عمرو بن هند معهم وهو ينقم على طرفة. فلما توغلوا في الفلاة فرأوا صيداً فقال الملك لعبد عمرو بن بشر: انزل فبارزه. فنزل إليه فعالجه فلم يقدر عليه وكان عبد عمرو سميناً بادناً. فقال له عمرو كان ابن عمك طرفة رآك حين قال (من الطويل) :
يا عجباً من عبد عمرو وبغيه ... لقد رام ظلمي عبد عمرو فانعما
ولا خير فيه غير أن له غنى ... وأن له كشحاً إذا قام اهضما
يظل نساء الحي يعكفن حوله ... يقلن عسيب من سرارة ملهما
له شربتان بالنهار واربع ... من الليل حتى آض سخداً مورما
ويشرب حتى يغمر المحض قلبه ... وإن أعطه اترك لقلبي مجثما
كان السلاح فوق شعبة بانة ... ترى نفخاً ورد الأسرة اسحما
فقال له عبد عمرو وما هجاك به فهو أشد من هذا قال: وما هو. قال قوله: (فليت لنا مكان الملك عمرو) . وأنشده الأبيات.(3/)
فقال عمرو بن هند: ما أصدقك عليه. وقد صدقه ولكن خاف أن ينذره وتدركه الرحم وخاف من هجاء المتلمس له وأن تجتمع عليه بكر بن وائل أن قتلهما ظاهراً. ثم دعا المتلمس وطرفة فقال لهما: لعلكما اشتقتما إلى أهلكما وسركما أن تنصرفا. قالا: نعم. ثم أنه كتب لهما كتابين إلى المكعبر وكان عامله على البحرين وعمان. فخرجا من عنده وسارا حتى إذا هبطا بأرض قريبة من الحيرة فإذا هما بشيخ معه كسرة يأكلها وهو يتبرز ويقصع القمل. فقال له المتلمس: بالله ما رأيت شيخاً أحمق وأضعف وأقل عقلاً منك. فقال له: وما الذي أنكرت علي. فقال: تبرز وتأكل وتقصع القمل. قال: إني أخرج خبيثاً وأدخل طيباً وأقتل عدواً. ولكن أحمق مني وألأم حامل حتفه بيمينه لا يدري ما فيه. فتنبه المتلمس وكأنما كان نائماً فإذا هو بغلام من أهل الحيرة. فقال له المتلمس: يا غلام أتقرأ. قال: نعم. قال: اقرأ هذه فإذا فيها: باسمك اللهم من عمرو بن هند إلى المكعبر إذا أتاك كتابي هذا من المتلمس فاطقع يديه ورجليه وادفنه حياً. فألقى الصحيفة في النهر وقال: يا طرفة معك والله مثلها. فقال: كلا ما كان ليكتب لي مثل ذلك. ثم أتى طرفة إلى المكعبر فقطع يديه ورجليه ودفنه حياً فضرب المثل بصحيفة المتلمس لمن يسعى في حتفه بنفسه ويغرر بها.
وتمام حديث المتلمس في ترجمته. وكان موت طرفة نحو سنة 564م. وقيل أن عمره لم يتحاوز ستاً وعشرين سنة والشاهد على ذلك قول أخته الخرنق ترثيه (من الطويل) :
عددنا له ستاً وعشرين حجة ... فلما توفاها استوى سيداً ضخما
فجعنا به لما رجونا إيابه ... على خير حال لا وليداً ولا قحما
وزعم بعضهم أنه كان ابن عشرين سنة لما قتل والعرب تقول أشعر الناس ابن عشرين. وقد اختلف في قتله قيل أنه بعد نجاة المتلمس وصل إلى البحرين فلما قرأ العامل صحيفته وسأله عن المتلمس فأخبره بفراره عفا عنه لصدقه ورعايته لطابع الملك حيث لم يفكه. وقيل: أنه سجنه وبعثه إلى عمرو بن هند وقال له: ما كنت لأقتل طرفة وأعادي قبيلته فإذا أردت قتله فابعث إليه من يقتله. ففعل وخير في قتله فاختار أن يسقى الخمر ويفصد أكحلاه. ففعل به ذلك حتى مات نزفاً ودفن بهجر وقال البحتري يصدق ما تقدم:(3/)
ولقد سكنت إلى الصدور من النوى ... والشري اري عند طعم الحنظل
وكذاك طرفة حين أوجس ضربة ... في الرأس هان عليه فصد الأكحل
وقي في قتله غير ذلك. قيل أن عامل البحرين أمر بدفنه حياً.
وشعر طرفة من أمتن الشعر وأحسنه ومن قصائده المشهورة قوله في السجن يلوم أصحابه في خذلانهم إياه (من السريع) :
أسلمني قومي ولم يغضبوا ... لسوءة حلت بهم فادحه
كم من خليل كنت حاللته ... لا ترك الله له واضحه
كلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحه
وله يهجو بني المنذر بن عمرو (من الرمل) :
وركوب تعزف الجن به ... قبل هذا الجيل من عهد ابد
وضباب سفر الماء بها ... غرقت أولادها غير السدد
فهي موتي لعب الماء بها ... في غثاء ساقه السيل عدد
قد تبطنت بطرف هيكل ... غير مرباء ولا جأب مكد
قائداً قدام حي سلفوا ... غير انكاس ولا وغل رفد
نبلاء السعي من جرثومة ... تترك الدنيا وتنمي للبعد
يزعون الجهل في مجلسهم ... وهم أنصار ذي الحلم الصمد
حبس في المحل حتى يفسحوا ... لابتغاء المجد أو ترك الفند
سمحاء الفقر أجواد الغنى ... سادة الشيب مخاريق المرد
وقال يصف أحواله في أسفاره وتنقله في البلاد ولهوه (من الرمل) :
وبلاد زعل ظلمانها ... كالمخاض الجرب في اليوم الخدر
قد تبطنت وتحتي جسرة ... تتقي الأرض بملثوم معر
فترى المرو إذا ما هدرت ... عن يديها كالفراش المشفتر
ذاك عصر وعداني أنني ... نابني العام خطوب غير سر
من أمور حدثت أمثالها ... تبتري عود القوي المستمر
وتشكي النفس ما صاب بها ... فاصبري إنك من قوم صبر
إن نصادف منفساً لا تقلنا ... فرح الخير ولا نكبو لضر
أسد غاب فإذا ما فزعوا ... غير أنكاس ولا هوج هذر
ولي الأصل الذي في مثله ... يصلح الآبر زرع المؤتبر
طيب الباءة سهل ولهم ... سبل إن شئت في وحش وعر
وهم ما هم إذا ما لبسوا نسج داود لبأس محتضر
وتساقى القوم كأساً مرة ... وعلا الخيل دماء كالشقر
ثم زادوا أنهم في قومهم ... غفر ذنبهم غير فخر
لا تعز الخمر إن طافوا بها ... بسباء الشول والكوم البكر
فإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كل أمون وطمر
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر
ورثوا سودد عن آبائهم ... ثم سادوا سودداً غير زمر(3/)
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر
حين قال الناس في مجلسهم ... اقتار ذاك أم ريح قطر
بجفان تعتري نادينا ... من سديف حين هاج الصنبر
كالجوابي لا تني مترعة ... لقرى الأضياف أو للمحتضر
ثم لا يخزن فينا لحمها ... إنما يخزن لحم المدخر
ولقد تعلم بكر أننا ... آفة الجزر مساميح يسر
ولقد تعلم بكر أننا ... فاضلو الرأي وفي الروع وقر
يكشفون الضر عن ذي ضرهم ... ويبرون على الآبي المبر
فضل أحلامهم عن جارهم ... رحب الأذرع بالخير أمر
دلق في غارة مسفوحة ... ولدى البأس حماة ما نفر
نمسك الخيل على مكروهها ... حين لا يمسكها إلا الصبر
حين نادى الحي لما فزعوا ... ودعا الداعي وقد لج الذعر
أيها الفتيان في مجلسنا ... جردوا منها وراداً وشقر
اعوجيات طوالاً شزباً ... دوخل الصنعة فيها والضمر
من يعابيب ذكور وقح ... وهضبات إذا ابتل العذر
جافلات فوق عوج عجل ... ركبت فيها ملاطيس سمر
وأنافت بهواد تلع ... كجذوع شذبت عنها القشر
علت الأيدي بأجواز لها ... رحب الأجواف ما إن تنبهر
فهي تردي فإذا ما ألهبت ... طار من إحمائها شد الأزر
كايرات وتراها تنتحي ... مسلحبات إذا جد الحضر
دلق الغارة في أفزاعهم ... كرعال الطير أسرابا تمر
تذر الأبطال صرعى بينها ... ما يني منهم كمي منعفر
فقداء لبني قيس لعى ... ما أصاب الناس من سر وضر
حالتي والنفس قدماً إنهم ... نعم الساعون في القوم الشطر
وهم أيسار لقمان إذا ... أغلت الشتوة أبداء الجزر
لا يلحون على غارمهم ... وعلى الأيسار تيسير العسر
ولقد كنت عليكم عاتباً ... فعقبتم بذنوب غير مر
كنت فيكم كالمغطي رأسه ... فانجلى اليوم قناعي وخمر
سادراً أحسب غيي رشداً ... فتناهيت وقد صابت بقر
وقال يفتخر (من الكامل) :
إني من القوم الذين إذا ... ازم الشتاء ودوخلت حجره
يوماً ودونيت البيوت له ... فنثى قبيل ربيعهم قرره
رفعوا المنيح وكان رزقهم ... في المنقيات يقيمه يسره
شرطاً قويماً ليس يحبسه ... لما تتابع وجهة عسره
تلقى الجفان بكل صادقة ... ثمت تردد بينهم خيره
وترى الجفان لدى مجالسنا ... متحيرات بينهم سوره
فكأنها عقرى لدى قلب ... يصفر من أغرابها صقره(3/)
إنا لنعلم أن سيدركنا ... غيث يصيب سوامنا مطره
وإذا المغيرة للهياج غدت ... بسعار موت ظاهر ذعره
ولوا وأعطونا الذي سئلوا ... من بعد موت ساقط ازره
إنا لنكسوهم وإن كرهوا ... ضرباً يطير خلاله شرره
والمجد ننميه ونتلده ... والحمد في الأكفاء ندخره
نعفو كما تعفو الجياد على ... العلات والمخذول لا نذره
إن غاب عنه الأقربون ولم ... يصبح بريق مائه شجره
إن التبالي في الحياة ولا ... يغني نوائب ماجد عذره
كل امرئ فيما ألم به ... يوماً يبين من الغنى فقره
وله في معناه (من الطويل) :
إنا إذا ما الغيم أمسى كأنه ... سماحيق ثرب وهي حمراء حرجف
وجاءت بصراد كأن صقيعه ... خلال البيوت والمنازل كرسف
وجاء قريع الشول يرقص قبلها ... من الدفء والراعي لها متحرف
ترد العشار المنقيات شظيها ... إلى الحي حتى يمرع المتصيف
تبيت إماء الحي تطهى قدورنا ... ويأوي إلينا الأشعث المتجرف
ونحن إذا ما الخيل زايل بينها ... من الطعن نشاج مخل ومزعف
وجالت عذارى الحي شنى كأنها ... توالي صوار والأسنة ترعف
ولم يجم أهل الحي إلا ابن حرة ... وعم الدعاء المرهق المتلهف
ففئنا غداة الغب كل نقيذة ... ومنا الكمي الصابر المتعرف
وكارهة قد طلقتها رماحنا ... وأنقذنها والعين بالماء تذرف
ترد النحيب في حيازيم غصة ... على بطل غادرنه وهو مزعف
وقال حين اطرد فصار في غير قومه وفيه يمدح سعد بن مالك (من الطويل) :
تعير سيري في البلاد ورحلتي ... الأرب دار لي سوى حر دارك
وليس امرؤ أفنى الشباب مجاوراً ... سوى حيه إلا كآخر هالك
الارب يوم لو سقمت لعادني ... نساء كرام من حيي ومالك
ظللت بذي الأرطى فويق مثقب ... ببيئة سوء هالكاً أو كهالك
ترد علي الريح ثوبي قاعداً ... إلى صدفي كالحنية بارك
رأيت سعوداً من شعوب كثيرة ... فلم تر عيني مثل سعد بن مالك
أبر وأوفى ذمة يعقدونها ... وخيراً إذا ساوى الذرى بالحوارك
وأنمى إلى مجد تليد وسورة ... تكون تراثاً عند حي لهالك
أبي أنزل الجبار عامل رمحه ... عن السرج حتى خر بين السنابك
قال حين أطرد إلى النجاشي (من الطويل) :
ألا إنما أبكي ليوم لقيته ... بجرثم قاس كل ما بعده جلل(3/)
إذا جاء ما لا بد منه فمرحباً ... به حين يأتي لا كذاب ولا علل
ألا إنني شربت أسود حالكاً ... ألا بجلي من الشراب ألا بجل
فلا أعرفني إن نشدتك ذمتي كداعي هديل لا يجاب ولا يمل
وقال في يوم قضة وهو اليوم المعروف بتحلاق اللمم لما أمر الحارث بن عباد بني بكر بحلق رؤوسهم وكان هذا اليوم لبكر على تغلب كما مر (من الرمل) :
سائلوا عنا الذي يعرفنا ... بقوانا يوم تحلاق اللمم
يوم تبدي البيض عن أسوقها ... وتلف الخيل أعراج النعم
أجدر الناس برأس صلدم ... حازم الأمر شجاع في الوغم
كامل يحمل آلاء الفتى ... نبه سيد سادات خضم
خير حي من معد علموا ... لكفي ولجار وابن عم
يجبر المحروب فينا ماله ببناء وسوام وخدم
نقل للشحم في مشتاتنا ... نحر للنيب طراد القرم
نزع الجاهل في مجلسنا ... فترى المجلس فينا كالحرم
وتفرعنا من ابني وائل ... هامة المجد وخرطوم الكرم
من بني بكر إذا ما نسبوا ... وبني تغلب ضرابي البهم
حين يحمي الناس نحمي سربنا ... واضحي الأوجه معروفي الكرم
بجسامات تراها رسباً ... في الضريبات مترات العصم
وفحول ميكلات وقح ... اعوجيات على الشأو أزم
وقناً جرد وخيل ضمر ... شزب من طول تعلاك اللجم
أدت الصنعة في أمتنها ... فهي من تحت مشيحات الحزم
تتقي الأرض برح وقح ... ورق يقعرن أنباك الأكم
وتفرى اللحم من تعدائها ... والتغالي فهي قب كالعجم
خلج الشد ملحات إذا ... شالت الأيدي عليها بالجذم
قدماً تنضو إلى الداعي إذا ... خلل الداعي بدعوى ثم عم
بشباب وكهول نهد ... كليوث بين عريس الأجم
نمسك الخيل على مكروهها ... حين لا يمسك إلا ذو كرم
نذر الأبطال صرعى بينها ... تعكف العقبان فيها والرخم
ولطرفة مديح قليل فمن ذلك قوله يمدح قتادة بن سلمة الحنفي وكان أصاب قومه سنة فأتوه فبذل لهم فقال طرفة (من الكامل) :
إن امرءاً سرف الفؤاد يرى ... عسلاً بماء سحابة شتمي
وأنا امرء أكوي من القصر ... البادي وأغشى الدهر بالدهم
وأصيب شاكلة الرمية إذ ... صدت بصفحتها عن السهم
وأجر ذا الكفل القناة على ... أنسائه فيظل يستدمي
ويصد عنك مخيلة الرجل ... العريض موضحة عن العظم
بجسام سيفك أو لسانك ... والكلم الأصيل كارغب الكلم(3/)
أبلغ قتادة غير سائله ... منه الثواب وعاجل الشكم
أني حمدتك للعشيرة إذ ... جاءت إليك مرقة العظم
ألقوا إليك بكل أرملة ... شعثاء تحمل منقع البرم
ففتحت بابك للمكارم حين ... تواصت الأبواب بالأزم
فسقى بلادك غير مفسدها صوب الربيع ... وديمة تهمي
وقال يعتذر إلى عمرو بن هند حين بلغه أنه هجاه فأوعده (من الكامل) :
إني وجدك ما هجوتك والأ ... نصاب يسفح بينهن دم
ولقد هممت بذاك إذ حبست ... وأمر دون عبيدة الوذم
أخشى عقابك إن قدرت ولم ... أغدر فيؤثر بيننا الكلم
وقال أيضاً (من المديد) :
أشجاك الربع أم قدمه ... أم رماد دارس حممه
كسطور الرق رقشه ... بالضحى مرقش يشمه
لعبت بعدي السيول به ... وجرى في ريق رهمه
فالكثيب معشب أنف ... فتناهيه فمر تكمه
جعلته حم كلكلها ... لربيع ديمة تثمه
حابسي رسم وقفت به ... لو أطيع النفس لم أرمه
لا أرى إلا النعام به ... كالإماء أشرفت حزمه
تذكرون إذ نقاتلكم ... لا يضر معدماً عدمه
أنتم نخل نطيف به ... فإذا ما جز نصطرمه
خير ما ترعون من شجر ... يابس الطحماء أو سحمه
فسعى الغلاق بينهم ... سعي خب كاذب شيمه
أخذ الأزلام مقتسماً ... فأتى أغواهما زلمه
والقرار بطنه غدق ... زينت جلهاته أكمه
ففعلنا ذلكم زمناً ... ثم دانا بيننا حكمه
إن تعيدوها نعد لكم ... من هجاء سائر كلمه
وقتال لا يغبكم ... في جميع جحفل لهمه
رزه قدم وهب وهلا ... ذي زهاء جمة بهمه
يتركون القاع تحتهم ... كمراغ ساطع قتمه
لا ترى إلا أخا رجل ... آخذاً قرناً فملتزمه
فالهبيت لا فؤاد له ... والثبيت ثبته فهمه
للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه
وروي لطرفة في كتب الأدباء أبيات جمعها م يضن بالشعر القديم فمن ذلك قوله في صروف الدهر (من الطويل) :
فكيف يرجي المرء دهراً مخلداً ... وأعماله عما قليل تحاسبه
ألم تر لقمان بن عاد تتابعت ... عليه النسور ثم غابت كواكبه
وللصعب ذو القرنين أرخى لواءه ... إلى مالك ساماه قامت نوادبه
يسير بوجه الحتف والعيش جمعه ... وتمضي على وجه البلاد كتائبه
وقال أيضاً (من الطويل) :
كأن قولب الطير في قعر عشها ... نوى القسب ملقى عند بعض المآدب
وله في وصف الخيل (من الكامل) :(3/)
ولقد شهدت الخيل وهي مغيرة ... ولقد طعنت مجامع الربلات
ربلات جود تحت قد بارع ... حلو الشمائل خيرة الهلكات
ربلات خيل ما تزال مغيرة ... يقطرن من علق على الثنات
وقال أيضاً يذكر صروف الدهر (من الطويل) :
إذا شاء يوماً قاده بزمامه ... ومن يك في حبل المنية ينقد
إذا أنت لم تنفع بودك قربة ... ولم تنك بالبؤسى عدوك فابعد
أرى الموت لا يرعي على ذي قرابة ... وإن كان في الدنيا عزيز بمقعد
ولا خير في خير ترى الشر دونه ... ولا قائل يأتيك بعد التلدد
لعمرك ما الأيام إلا معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزود
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
وأصفر مضبوح نظرت حواره ... على النار واستودعته كف مجمد
ومن حكمه قوله (من البسيط) :
الخير خير وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وله في هجو قوم (من الكامل) :
ابني لبينى لستم بيد ... إلا يداً ليست لها عضد
وقال يفتخر (من الرمل) :
تهلك المدراة في أكنافه ... وإذا ما أرسلته يعتفر
ولقد تعلم بكر أننا ... وأضحو الأوجه في الأزبة غر
وله يخاطب في السجن عمرو بن هند (من الطويل) :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
فأقسمت عند النصيب أني لهالك ... بملنفة ليست بغبط وخفض
خذوا حذركم أهل المشقر والصفا ... عبيد أسبذ والقرض يجزي من القرض
ستصبحك الغلباء تغلب غارة ... هنالك لا ينجيك عرض من العرض
وتلبس قوماً بالمشقر والصفا ... شآبيب موت تستهل ولا تغضي
تميل على العبدي في جو داره ... وعوف بن سعد تخترمه عن المحض
هما أورداني الموت عمداً وجردا ... على الغدر خيلاً ما تمل من الركض
وقال يهجو من ينتحل شعر غيره (من البسيط) :
ولا أغير على الأشعار أسرقها ... عنها غنيت وشر الناس من سرقا
وإن أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وقال يذكر المنية (من الكامل) :
وتقول عاذلتي وليس لها ... بغد ولا ما بعده علم
إن الثراء هو الخلود وإن ... المرء يكرب يومه العدم
ولئن بنيت إلى المشقر في ... هضب تقصر دونه العصم
لتنقبن عني المنية إن ... الله ليس لحكمه حكم
وروى له ابن منظور قوله يهجو عمرو بن هند (من البسيط) :(3/)
أما الملوك فأنت اليوم الامهم ... لؤما وأبيضهم سربال طباخ
وقوله في الفخر (من المتقارب) :
ونفسك فانعى ولا تنعني ... وداو الكلوم ولا تبرق
وقوله وهو من الحكم (من الطويل) :
ولو حضرته تغلب ابنة وائل ... لكانوا له عزاً عزيزاً وناصرا
وقوله (من الرمل) :
خالط الناس بخلق واسع ... لا تكن كلباً على الناس تهر
وقد روى له قدامة قوله (من السريع) :
من عائدي الليلة أم من نصيح ... بت بنصب ففؤادي قريح
في سلف أرعن منفجر ... يقدم أولى ظعن كالطلوح
عالين رقماً فاخراً لونه ... من عبقري كنجيع الذبيح
وجامل خوع من نيبه ... زجر المعلى أصلاً والسفيح
موضوعها زول ومرفوعها ... كمرصوب لجب وسط ريح
الخرنق أخت طرفة (570م)
هي الخرنق بنت بدر بن هفان بن مالك وقيل ابنة سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. وهي أخت طرفة لأمه وأمهما وردة. ولما بلغت الخرنق سن الزواج تزوجها بشر بن عمرو بن مرثد سيد بني أسد. وكانت الخرنق شاعرة مطبوعة لها ديوان شعر صغير جمعه أبو عمرو بن العلاء. فمن ذلك ما قالته في عبد عمرو بن بشر وكان خرج مع طرفة أخيها والمتلمس عم طرفة وعمرو بن مرثد بن عمه إلى عمرو بن الهند فنادموه مدة حتى وشى بأخيها طرفة عبد عمرو بن بشر كما سبق في ترجمة طرفة فقالت الخرنق تهجو عبد عمرو (من الوافر) :
ألا ثكلتك أمك عبد عمرو ... أبا الخزيات آخيت الملوكا
هم دحوك للوركين دحاً ... ولو سألوا لأعطيت البروكا
ثم بلغها موت أخيها طرفة فقالت ترثيه (من الطويل) :
عددنا له خمساً وعشرين حجة ... فلما توفاها استوى سيداً ضخما
فجعنا به لما رجونا إيابه ... على خير حين لا وليداً ولا قحما
وقالت تهجو عبد عمرو (من الطويل) :
أرى عبد عمور قد أشاط ابن عمه ... وأنضجه في غلي قدر وما يدري
فهلا ابن حسحاس قتلت ومعبداً ... هما تركاك لا تريش ولا تبري
هما طعنا مولاك في فرج دبره ... وأقبلت ما تلوي على محجر تجري
ثم مات عبد عمرو فقالت الخرنق (من الوافر) :
ألا هلك الملوك وعبد عمرو ... وخليت العراق لمن بغاها(3/)
فكم من والد لك يا ابن بشر ... تازر بالمكارم وارتداها
بنى لك مرثد وأبوك بشر ... على الشم البواذخ من ذراها
ولها في عمرو بن مرثد وكان ملك الحيرة عمرو بن هند طرده (من الوافر) :
ألا من مبلغ عمرو بن هند ... وقد لا تعدم الحسناء ذاما
كما أخرجتنا من أرض صدق ... ترى فيها لمغتبط مقاما
كما قالت فتاة الحي لما ... أحس جنانها جيشاً لهاما
لوالدها واراته بليل ... قطاً ولقل ما سرى ظلاما
ألست ترى القطا متواترات ... ولو ترك القطا أغفى وناما
وأكثر شعر الخرنق في رثاء زوجها بشر بن عمرو لما قتله بنو أسد يوم قلاب. وكان من حديث هذا اليوم أن بشر بن عمرو غزا ومعه عمرو بن عبد الله الأشل أحد بني سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة متساندين (والمساندة أن يخرج رئيسان برايتين وجيشين في مكان واحد ويغيرون معاً فما أصابوا قسم على الجيشين) وكان عبد الله الأشل يدعى ذا الكف وكان بنو أسد إلى جنب جبل يقال له قلاب وكان بشر بن عمرو سيد بني مرثد وكان رجلاً ذا كبر ونخوة فغزا بني عامر بن صعصعة ومعه ناس من بني أسد فظفر وملأ يديه من النعم والسبي وانصرف راجعاً. فلما دنا من قلاب حتى خرج في أرض بني تميم قال له عمرو: أتريد أن تعتسف بالناس وتعرضهم لما لا قبل لهم به إن وراء هذا الجبل بني أسد. قال: ما أبالي من لقيت منهم. فناشده الله في العدول عنهم فأبى أن يقبل.
فقال عمرو بن عبد الله: إني مائل بمن معي إلى اليمامة فمال بمن معه من بني أسد بن ضبيعة إلى اليمامة وخرج في بني قيس بن ثعلبة ومعه ثلثة بنين له وكانوا فرساناً شجعاناً ومعه ناس من بني مرثد وغيرهم. وكانت عقاب تجيىء في كل يوم لبني أسد فتصيح صيحة واحدة ثم ترتفع. فقال كاهن بني أسد: إنما تبشركم بغنيمة باردة. فلم تعلم بنو أسد حتى هجم عليهم بشر قد ملأ يديه من نعم بني عامر وسبيهم. قال أبو عمرو: وأخبرني نوح بن ثعلب قال: لما هجم بشر على بني أسد انحطوا منهزمين من غير قتال. فقال بشر بن عمرو:
ألا لا تراعوا أنها خيل وائل ... عليها رجال يطلبون الغنائما(3/)
فقال كاهنهم: خذوا فأله من فيه. ارجعوا إليه فلنقتلنه ولنغنمن ما معه. فرجعوا عليه فقتلوه وهزموا أصحابه وقتل معه بنو مرثد وقتل معه بنوه الثلاثة. (قال) فبينما هم يسلبون القتلى إذ رأت بنو أسد رجلاً من بني قيس على رجل من بني أسد وكلاهما قتيل. فقال كاهن بني أسد: لا يلقونكم من بعد هذا اليوم إلا غلبوكم. قال أبو عمرو: وكان الذي قتل بشراً خالد بن نضلة بن الأشتر بن حجوان بن فقعس. وقال المرار بن سعيد بن نضلة ابن الأشتر يذكر أن جده خالد بن نضلة قتل بشراً ويفخر بذلك:
أنا ابن التارك البكري بشراً ... عليه الطير تركبه وقوعا
حشاه طعنة بعثت بليل ... نوائحه واهرقت الدموعا
وغادر مرفقاً والخيل تهفو ... بجنب الروم محتبلاً صريعا
وقال أبو مرهب الأسدي: إنما قتل بشراً عميلة بن المقتبس أحد بني والبة. وفي تصداق ذلك تقول الخرنق ترثي زوجها بشر بن عمرو (من الطويل) :
إن بني الحصن استحلت دماءهم ... بنو أسد حاربها ثم والبه
هم جدعوا الأنف الأشم فأوعبوا ... وجبوا السنام فالتحوه وغاربه
عميلة بواه السنان بكفه ... عسى أن تلاقيه من الدهر نائبه
وقالت الخرنق ترثي بشراً. ويقال هي الخرنق بنت سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة (من الوافر) :
ألا أقسمت آسى بعد بشر ... على حي يموت ولا صديق
وبعد الخير علقمة بن بشر ... إذا نزت النفوس إلى الحلوق
وبعد بني ضبيعة حول بشر ... كما مال الجذوع من الحريق
مني لهم بوالبة ... المنايا
بجنب قلاب للحين المسوق
فكم بقلاب من أوصال خرق ... أخي ثقة وجمجمة فليق
ندامى للملوك إذا لقوهم ... حبوا وسقوا بكاسهم الرحيق
هم جدعوا الأنوف وأوعبوها ... فما ينساغ لي من بعد ريقي
وبيض قد قعدن وكل كحل ... بأعينهن أصبح لا يليق
أضاع قدورهن مصاب بشر ... وطعنة فاتك فمتى تفيق
وقالت الخرنق أيضاً ترثي بشراً ومن قتل معه في يوم قلاب (من الكامل) :
لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر
النازلون بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزر
الضاربون بحومة نزلت ... والطاعنون بأذرع شعر
والخالطون لجينهم بنضارهم ... وذوي الغنى منهم بذي الفقر
إن يشربوا يهبوا وإن يذروا ... يتواعظوا عن منطق الهجر(3/)
قوم إذا ركبوا سمعت لهم ... لغطاً من التأييد والزجر
من غير ما فحش يكون بهم ... في منتج المهرات والمهر
هذا ثنائي ما بقيت لهم ... فإذا هلكت أجنني قبري
وقالت الخرنق أيضاً في ذلك ترثي بشراً (من الوافر) :
ألا لا تفخرن أسد علينا ... بيوم كان حيناً في الكتاب
فقد قطعت رؤوس بني قعين ... وقد نقعت صدور من شراب
وأردينا ابن حسحسا فأضحى ... تجول بشلوه نجس الذئاب
وقالت أيضاً في ذلك (من الكامل) :
سمعت بنو أسد الصياح فزادها ... عند اللقاء مع النفار نفارا
ورأت فوارس من صليبة وائل ... صبروا إذا نقع السنابك ثارا
بيضاً يحززن العظام كأنما ... يوقدن في حلق المغافر نارا
وقالت أيضاً ترثي بشراً (من الطويل) :
ألا ذهب الحلال في القفرات ... ومن يملأ الجفنات في الحجرات
ومن يرجع الرمح الأصم كعوبه ... عليه دماء القوم كالشقرات
وقالت أيضاً ترثيه (من السريع) :
يا رب غيث قد قرى عازب ... أجش أحوى في جمادى مطير
سار به أجرد ذو ميعة ... عبلاً شواه غير كاب عثور
فالبس الوحش بحافاته ... والتقط البيض بجنب السدير
ذاك وقدماً يعجل البازل ... الكوماء بالموت كشبه الحصير
يبغي عليها القوم إذ أرملوا ... وساء ظن الألمعي القرور
غاب وقد غنم أصحابه ... يلوي على أصحابه بالبشير
وقالت الخرنق أيضاً ترثي بشراً (من الوافر) :
لقد علمت جديلة أن بشراً ... غداة مربح مر التقاضي
غداة أتاهم بالخيل شعثاً ... يدق نسورها حد القضاض
عليها كل أصيد تغلبي ... كريم مركب الحدين ماض
بأيديهم صوارم مرهفات ... جلاها القيم خالصة البياض
وكل مثقف بالكف لدن ... وسابغة من الحلق المفاض
فغادر معقلاً وأخاه حصناً ... عفير الوجه ليس بذي انتهاض
وكانت وفاة الخرنق نحو سنة (570م) .
المرقش الأصغر (570م)(3/)
هو ربيعة بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة والمرقش الأكبر عم الأصغر، والأصغر عم طرفة بن العبد. وهو شاعر مشهور من أهل نجد من شعراء الطبقة الثانية والمرقش الأصغر أشعر المرقشين. وكان أجمل الناس وجهاً وأحسنهم شعراً كان كلفاً بفاطمة بنت الملك المنذر وقد أكثر من ذكرها في شعره. وقد مر في ترجمة عمه أنه كان من السادة الشجعان له في الحروب مآثر جليلة وكان المرقش نزيعة لا يفارق إبله ويقول فيها الشعر ومن بديع شعره قوله وهي قصيدة تعد من مجمهرات العرب (من الطويل) :
أمن رسم دار ماء عينك يسفح ... غدا من مقام أهله وتروحوا
تزجي به خنس الظباء سخالها ... وقد جازها بالجو ورد وأصبح
أمن بنت عجلان الخيال المطوح ... ألم ورحلي ساقط متزحزح
فلما انتهبت للخيال فراعني ... إذا هو رحلي والبلاد توضح
ولكنه زور يوقظ نائماً ... ويحدث أشجاناً بقلبك تجرح
بكل مبيت تعترينا ومنزل ... فلو أنها إذ تدلج الليل تصبح
فولت وقد ثابت تباريح ما ترى ... ووجدي بها إذ تحدر الدمع أبرح
غدونا بصاف كالعسيب مجلل ... طويناه حيناً فهو شرب ملوح
أسيل نبيل ليس فيه معابة ... كميت كلون الصرف أرجل أقرح
ويسبق مطروداً ويلحق طارداً ... ويخرج من فم المضيق ويجرح
تراه بشكات المدجج بعد ما ... تقطع أقران المغيرة يجمح
شهدت به عن غارة مسبطرة ... يطاعن بعض القوم والبعض طوحوا
كما انتفجت من الظباء جداية ... أشم إذا ذكرته الشد أفيح
يجم جموم الحي جاش مضيقه ... وجرده من تحت غيل وأبطح
ويستحسن له قوله وكان له صديق فتغير عليه لذنب تعمده المرقش فندم المرقش وعض على إصبعه فقطعها ندماً (من الطويل) :
متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ... ويغضب عليه لا محالة ظالما
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
ألم تر أن المرء يجذم كفه ... ويجشم من لوم الصديق المجاشما
أمن حلم أصبحت تسكت واجماً ... وقد تعتري الأحلام من كان نائما
وآلى جناب حلفة فأطعته ... فنفسك ول اللوم إن كنت لائما
كان عليه تاج آل محرق ... بأن ضر مولاه وأصبح سالما
توفي المرقش الأصغر نحو سنة 570م.
المتلمس (580م)(3/)
هو جرير بن عبد المسيح الضبعي أحد بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار كان من فحول شعراء أهل البحرين ويعد من شعراء الطبقة الثانية. والمتلمس لقب لقب به لقوله:
فهذا أوان العرض طن ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس
(والمتلمس مأخوذ من تلمس الرجل الحاجة إذا طلبها سراً من غيره وأصل ذلك من اللمس باليد) . وكان المتلمس حسن الشعر كثير الآداب حصيف الرأي خرج مع ابن أخته طرفة إلى عمرو بن هند وناداه حتى أراد قتلهما. وإليه تنسب صحيفة المتلمس التي يضرب بها المثل وقد مر ذكرها في ترجمة طرفة وقد جاء في تاريخ آلهة اليونان عن بلير وفنت أحد أبطال القدماء ما يشبه هذه الحكاية. فلما علم المتلمس بمضمون الصحيفة قذف بها في نهر الحيرة وقال (من الطويل) :
قذفت بها في اليم من جنب كافر ... كذلك ألقى كل رأي مضلل
رضيت بها لما رأيت مدادها ... يجول بها التيار في كل جدول
ثم هرب إلى الشام ولحق بملوك آل جفنة النصارى وقال (من الكامل) :
أألقي الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها
أراد أنه تخفف للفرار فألقى ما لا يثقل وما لابد للسفر منه وقال حين نجا (من الكامل) :
من مبلغ الشعراء عن أخويهم ... نبأ فتصدقهم بذاك الأنفس
أودي الذي علق الصحيفة منهما ... ونجا حذار حياته المتلمس
ألقى صحيفته ونجت كوره ... عنس مداخله الفقارة عرمس
عنس إذا ضمرت تعزز لحمها ... وإذا تشد بنسعها لا تنبس
وجناء قد طبخ الهواجر لحمها ... وكأن نقبتها أديم أملس
وفيها يقول مخاطباً طرفة:
ألق الصحيفة لا أبا لك إنه ... يخشى عليك من الحباء النقرس
وعلمت أني قد منيت بنيطل ... إذ قيل كان من آل دومي قومس
وفررت خشية أن يكون حباؤه ... عاراً يسب به قبيلي أحمس
وتركت حي بني ضبيعة خشية ... أن يوتروا بدمي وجلدي أملس
ثكلتك يا ابن العبد أمك سادراً ... أبساحة الملك الهمام تمرس
ثم بلغ المتلمس أن عامل عمرو بن هند في البحرين قتل طرفة فقال يذكر عاقبة عصيان طرفة أمره (من الطويل) :
عصاني فما لاقى الرشاد وإنما ... تبين من أمر الغوي عواقبه
فأصبح محمولاً على آلة الردى ... تمج نجيع الجوف منه ترائبه
فإما تحللها يعالوك فوقها ... وكيف توقى ظهر ما أنت راكبه(3/)
وبقي المتلمس في الشام وبلغه أن عمرو بن هند يقول: حرام عليه حب العراق أن يطعم منه حبة ولئن وجدته لأقتلنه. فقال المتلمس يهجو عمراً وهي من مختار شعره (من البسيط) :
يا آل بكر ألا لله أمكم ... طال الثواء وثوب العجز ملبوس
أغنيت شاتي فأغنوا اليوم تيسكم ... واستحمقوا في مراس الحرب أو كيسوا
إن العلاف ومن باللوذ من حضن ... لما رأوا أنه دين خلابيس
شدوا الجمال بأكوار على عجل ... والظلم ينكره القوم المكاييس
كونوا كسامة إذ شعف منازله ... ثم استمرت به البزل القناعيس
حنت قلوصي بها والليل مطرق ... بعد الهدوء وشاقتها النواقيس
معقولة ينظر التشريق راكبها ... كأنها من هوى للرمل مسلوس
وقد ألاح سهيل بعد ما هجعوا ... كأنه ضرم بالكف مقبوس
إني طربت ولم تلحى على طرب ... ودون الفرء امرات أماليس
حنت إلى نخلة القصوى فقتل لها ... بسل عليك ألا تلك الدهاريس
أمي شآمية إذ لا عراق لنا ... قوماً نودهم إذ قومنا شوس
لن تسلكي سبل البوباة منجدة ... ما عاش عمرو وما عمرت قابوس
لو كان من آل وهب بيننا عصب ... ومن نذير ومن عوف محاميس
أودى بهم من يراديني وأعلمهم ... جود الأكف إذا ما استعسر البوس
يا حار إني لمن قوم أولي حسب ... لا يجهلون إذا طاش الضغابيس
آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس
لم تدر بصرى بما آليت من قسم ... ولا دمشق إذا ديس الكداديس
عيرتموني بلا ذنب جواركم ... هذا نصيب من الجيران محسوس
فإن تبدلت من قومي عديكم ... إني إذاً لضعيف الرأي مألوس
كم دون أسماء من مستعمل قذف ... ومن فلاة بها تستودع العيس
ومن ذرى علم نأتي مسافته ... كأنه في حباب الماء مغموس
جاوزته بأمون ذات معجمة ... تنجو بكلكلها والرأس معكوس
وبقي المتلمس في مدينة بصرى من أعمال حوران إلى وفاته. وكانت وفاته سنة 580م.(3/)
وروي في بعض الكتب عنه أنه بقي زماناً طويلاً غائباً حتى ظن آله أنه مات. وكان له زوجة عاقلة بديعة المنظر تدعى أميمة فأشار أهلها عليها بالزواج فأبت فألحوا عليها لكثرة خطابها إلى أن أكرهوها على ذلك فزوجوها من قومها مرغمة وكانت تحب زوجها المتلمس محبة عظيمة. فلما كانت ليلة زفافها قدم المتلمس من سفرته فسمع في الحي صوت المزامير والدفوف ورأى علامات الفرح فسأل بعض أهل الحي عن السبب فقال له: أن أميمة زوجة المتلمس قد زوجها أهلها بفلان وهذه ليلة العرس. فلما سمع المتلمس هذا الكلام حاول الوصول إلى زوجته فسمعها تبكي وتنشد:
أيا ليت شعري والحوادث جمة ... بأي بلاد أنت يا متلمس
فأجابها المتلمس (من الطويل) :
بأقرب دار يا أميمة فاعلمي ... ومازلت مشتاقاً إذا الركب عرسوا
فسمع العريس قوله وعلم أنه زوجها فخرج من عنده وهو يقول:
فكنت بخير ثم بت بضده ... وضمكما بيت رحيب ومجلس
ثم تركهما وذهب. وأما شعر المتلمس فهو قليل اعتنى بجمعه الأدباء فجعلوه ديواناً ذكره الحاج خليفة في جملة دواوين العرب. والمتلمس معدود من أشعر المقلين المحكمين مع سلامة ابن جندل وحصين بن الحمام المري والمسيب بن علس. ومن جيد شعر المتلمس ما رواه له صاحب الحماسة وهو قوله (من الطويل) :
ألم تر أن المرء رهن منية ... صريع لعافي الطير أو سوف يرمس
فلا تقبلن ضيماً مخافة ميتة ... وموتن بها حراً وجلدك أملس
فمن طلب الأوتار ما حز أنفه ... قصير وخاض الموت بالسيف بيهس
نعامة لما صرع القوم رهطه ... تبين في أثوابه كيف يلبس
وما الناس إلا ما رأوا وتحدثوا ... وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا
ألم تر أن الجون أصبح راسياً ... تطيف به الأيام ما يتايس
عصى تبعاً أيام أهلكت القرى ... يطان عليه بالصفيح ويكلس
هلم إليها قد أثيرت زروعها ... وعادت عليها المنجنون تكدس
وذاك أوان العرض حي ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس
يكون نذير من ورائي جنة ... وينصرني منهم جلي واحمس
وجمع بني قران فاعرض عليهم ... فإن يقبلوا هاتا التي نحن نوبس
فإن يقبلوا بالود نقبل بمثله ... وإلا فإنا نحن آبى واشمس
وإن يك عنا في حبيب تثاقل ... فقد كان منا مقنب ما يعرس(3/)
ومن شعره الحسن ما قاله في هجو عمرو بن هند. وكان سبب ذلك أن المتلمس واسمه جرير بن عبد المسيح وقيل جرير بن يزيد بن عبد المسيح كان ينتسب إلى ضبيعة بن نزار وكان في أخواله من بني يشكر يعيش فيهم حتى كادوا يغلبون على نسبه فسأل عمرو بن هند يوماً الحارث بن التوأم اليشكري عن نسب المتلمس فقال: أواناً يزعم أنه من بني يشكر وآناً يزعم أنه من بني ضبيعة. فقال عمرو بن هند: ما أراه إلا كالساقط بين الفراشين. فبلغ ذلك المتلمس فقال (من الطويل) :
يعيرني أمي رجال ولا أرى ... أخا كرم إلا بأن يتكرما
ومن كان ذا عرض كريم فلم يصن ... له حسباً كان اللئيم المذمما
أحارث إنا لو تشاط دماؤنا ... تزيلن حتى لا يمس دم دما
امنتقلاً من آل بهثة خلتني ... ألا إنني منهم وإن كنت أينما
ألا إنني منهم وعرضي عرضهم ... كذي الأنف يحمي أنفه أن يكشما
وإن نصابي إن سالت وأسرتي ... من الناس حي يقتنون المزنما
وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من ميله فتقوما
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما
وهل لي أم غيرها إن تركتها ... أبى الله إلا أن أكون لها ابنما
وما كنت إلا مثل قاطع كفه ... بكف له أخرى فأصبح أجذما
فلما استفاد الكف بالكف لم يجد ... له دركاً في أن تبين فاحجما
يداه أصابت هذه حتف هذه ... فلم تجد الأخرى عليها مقدما
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغاً لنابيه الشجاع لصمما
وقد كنت أرجو أن أكون لعقبهم ... زنيماً فما أجررت أن أتكلما
لأورث بعدي سنة يقتدى بها وأجلو عن ذي شبهة إن توهما
أرى عصماً من نصر بهثة دانياً ... ويدفعني عن آل زيد فبئسما
إذا لم يزل حبل القرينين يلتوي ... فلا بد يوماً من قوى أن تجذما
إذا ما اديم القوم أنهجه البلى ... تفرى وإن كتبته وتخرما
وقال يهجوه (من الكامل) :
أطردتني حذر الهجاء ولا ... والله والأنصاب لا تئل
ورهنتني هنداً وعرضك في ... صحف تلوح كأنها خلل
شر الملوك وشرها حسباً ... في الناس من علموا ومن جهلوا
الغدر والآفات شيمته ... فافهم فعرقوب له مثل
بئس الفحولة حين جدتهم ... عرك الرهان وبئس ما بخلوا(3/)
أعني الخؤولة والعموم فهم ... كالطبن ليس لبيته حول
فبلغت هذه الأبيات عمرو بن هند فكماها في نفسه (أي كتمها) . وبعث إلى طرفة فقال له: ما لك لا تلزمني. فقال: أني ترعاية في إبلي (أي لازم لها) وأخاف عليها الإغارة. فقال عمرو لأخيه قابوس ولخال أبيه قيس بن بشر من بني هلال بن النمر بن قاسط رهط ماء السماء أم المنذر: أجيراً إبل طرفة. وقال لطرفة: أنا جار من أجار. فأقام طرفة معه. ثم انقض ذؤبان من اليمن (أي لصوصهم) فاستحفوها (يعني ذهبوا بها جميعاً) وفيها معبد ابن العبد أخو طرفة فبلغ طرفة الخبر فأخبر به عمراً وقال: أبيت اللعن إن إبلي أتي دونها في حبلك (أي في عهدك وجوارك) فجعل عمرو يسوفه حتى فاتت الإبل فقال طرفة:
أعمرو بن هند ما ترى رأي صرمة ... لها سبب ترعى به الماء والشجر
وكان لها جاران قابوس منهما ... وعمرو ولم استرعها الشمس والقمر
فإن القوافي يتلجن موالجاً ... تضايق عنها أن تولجها الإبر
قال أبو عبيدة: وخرج طرفة بعلة إبله وطلبها فلما أيس منها ومن الثواب عليها أ×ذ يهجو عمراً فأضمرها عمرو في نفسه ثم أراغ طرفة واطمعه في بره حتى أتاه فأراد قتله مع المتلمس كما مر.
ومن قول المتلمس حين لحق بالشام هارباً ما أنشده في هجاء عمرو وبه يعرض ببني قلابة رهطة (من الكامل) :
إن الحيية ذكرها لم ينفد ... أو كيف يغني عنها طول تودد
إن العراق وأهله كانوا الهوى ... فإذا نأى بي ودهم فليبعد
فلتتركنهم بليل ناقتي ... تذر السماك وتهتدي بالفرقد
تعدو إذا وقع الممر بدفها ... عدو الأتان تخاف ضيق المرصد
أجد إذا استنفرتها من مبرك ... حلبت مغابنها برب معقد
وإذا الركاب تواكلت بعد السرى ... وجرى السراب على متون الجدجد
مرحت وطاح المرو من أخفافها ... جذب القرينة للنجاء الأجرد
لبلاد قوم لا يرام هديهم ... وهدي قوم آخرين هو الردي
كطريفة بن العبد كان هديهم ... ضربوا قذالة رأسه بمهند
وابني أمامة قد أخذت كليهما ... وإخال أنك ثالث بالأسود
إن الخيانة والمغالة والخنا ... والغدر اتركه ببلدة مفسد
بالباب يطلب كل طالب حاجة ... فإذا خلا فالمرء غير مسدد
فإذا حللت ودون بيتي غاوة ... فابرق بأرضك ما بدا لك وارعد(3/)
ابني قلابة لم تكن عاداتهم ... أخذ الدنية قبل حطة معضد
إن ترحض السوءات عن أحسابكم ... نعم الجوائز إذ تساق لمعبد
فالعبد عبدكم اقبلوا بأخيكم ... كالعير أعرض جنبه للمطرد
ومن ظريف قول المتلمس أيضاً (من الطويل) :
تفرق أهلي من قيم وظاعن ... فلله دري أي أهلي اتبع
أقام الذين لا أبالي فراقهم ... وشط الذين بينهم أتوقع
على كلهم آسى وللأصل زلفة ... فزحزح عن الأدنين أن يتصدعوا
وفارق أهلي أهل عوف بن عامر ... وكانت خوى عوف قديماً تطلع
قضى ابن معاذ مرة دون قومه ... بعيب وأمري ما يكاد يجمع
أمرتهم عهدي بمنعرج اللوى ... ولا أمر للمعصي إلا مضيع
الكني إلى قومي ضبيعة إنهم ... أناسي فلوموا بعد ذلك أو دعوا
وقد كان أخوالي كريماً جوارهم ... ولكن إلينا في السلاليم مطلع
ويهرب منا كل وحش وينتمي ... غلة وحشنا وحش الفلاة فيرتع
فلا تحسبني خاذلاً متخلفاً ... ولا عين صيد من هواي ولعلع
ولكنني أغربت في جيش طوس ... وكانت معد كل أوب تصدع
وله أيضاً وهو من أقواله المذكورة (من الوافر) :
صبا من بعد سلوته فؤادي ... وسمح للقرينة بانقياد
كأني شارب يوم استبدوا ... وحث بهم لدى الموماة حادي
عقار اعتقت في الدن حتى ... كان حبابها حدق الجراد
جماد لها جماد ولا تقولن ... لها أبداً إذا ذكرت حماد
فإما حبها عرضاً وإما ... بشاشة كل علق مستفاد
واعلم علم حق غير ظن ... وتقوى الله من خير العتاد
لحفظ المال خير من بغاه ... وسير في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
ومن شعر المتلمس قوله لابنه ينصحه (من الطويل) :
لعلك يوماً أن يسرك أنني ... شهرت وقد رمت عظامي في قبري
فتصبح مظلوماً تسام دنية ... حريصاً على مثلي فقيراً إلى نصري
وتهجرك الإخوان بعدي وتبتلى ... وينصرني منك المليك فلا تدري
ول كنت حياً قبل ذلك لم ترم ... له خطة خسفاً وشوور في الأمر
وقال في الإباء والفخر وهي أبيات تمثل بها أبو سفيان يوم بويع بالخلافة لأبي بكر وأراد هو أن يبايع علياً (من البسيط) :
إن الهوان حمار القوم يعرفه ... والحر ينكره والرسلة الأجد
كونوا كبكر كما قد كان أولكم ... ولا تكونوا كعبد القيس إذ قعدوا(3/)
يعطون ما سئلوا والخط منزلهم ... كما أكب على ذي بطنه الفهد
ولن يقيم على خسف يسام به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذات يشجفما يرثي له أحد
كونوا كسامة إذ شعف منازله ... غذ قيل جيش وجيش حافظ رصيد
وفي البلاد إذا ما خفت نائرة ... مشهورة عن ولاة السوء مبتعد
وقال يحض قومه ضبيعة على عدوهم (من الكامل) :
أبلغ ضبيعة كهلها ووليدها ... والحرب تنبو بالرجال وتضرس
القوم آتوكم بأرعن جحفل ... حنقين إلا تفرسوهم تفرسوا
خير من القوم العصاة أميرهم ... يا قوم فاستحيوا النساء الجلس
ما إن أزال أذب عنكم كاشحاً ... قد كاد من حنق بسم يقلس
أتقول هم منعوا حنيفة حقهم ... بعد الكفالة والتوثق أو نسوا
لم يعلموا أن قد مشى حذر الخزى ... بالسيف للموت ابن بدرة بيهس
وقال في مدح قيس أحد سادات اليمن (من الطويل) :
إني لقطاع اللثاثة والهوى ... إذا ما حبال الغانيات تلبس
وادماء من حر الهجان كأنها ... بحر الصريم ناتىء متوجس
له جدد سود كأن ارندجاً ... بأكرعه وبالذراعين سندس
وبالوجه ديباج وفوق سراته ... دبا نورة والروق اسحم أملس
يجول بذي الأرطى كأن سراته ... كبريق بريع والسحابة ترجس
فبات إلى أرطاة حقف كأنا ... إلى دفها من آخر الليل معرس
إلى ربها قيس تروح وتغتدي ... فلا فرح قيس ولا متعبس
تناولني من أرضه وسمائه ... برحب ذراع ماجد متانس
إذا بلغت قيس اليماني ناقتي ... فأي خليل بعد قيس تلمس
لعمري لنعم المرء قيس إذا انتمى ... إلى بابه راج له ليس يحبس
وقال المتلمس أيضاً لعمرو بن هند (من مجزوء الكامل) :
ألك السدير وبارق ... ومرابض ولك الخورنق
والقصر ذو الشرفات من ... سنداد والنخل المبسق
والعمر ذو الأحساء ... واللذات من صاع وديسق
والتغلبية كلها ... والبدو من عان ومطلق
وتظل في دوامة ... المولود يظلمها تحرق
فلئت تعش فلتبلغن ... أرماحنا منك المخنق
ابقت لنا الأيام ... واللزبات والعاني المرهق
جرداً بأطناب البيو ... ت تعل من حلب وتغبق
ومثقفات ذبلاً ... حصداً أسنتها تألق
والبيض والزغف المضا ... عف سرده حلق موثق
وصوارماً نعصي بها ... فيها لنا حصن وملزق
ومحلة زوراء في ... حافاتها العقبان تخفق(3/)
وغذا فزعت رايتنا ... حلقاً وعادية وزردق
ما لليوث وأنت جا ... معها برأيك لا تفرق
والظلم مربوط با ... فنية البيوت أغر أبلق
وقال أيضاً (من الطويل) :
لم يرجعوا من خشية الموت والردى ... وقد جلبتها من بعيد جوالب
سيمنعها من أن ترد حفيظة ... فوارس صعب والكماة محارب
وآخر ما قال المتلمس قوله يرثي نفسه (من الطويل) :
خليلي إما مت يوماً وزحزحت ... مناياكما فيما يرجزه الدهر
فمراً على قبري فقوما فسلما ... وقولا سقاك الغيث والقطر يا قبر
كأن الذي غيبت لم يله ساعة ... من الدهر والدنيا لها ورق نضر
ولم تسقه منها بعذب ممتع ... برود حمته القوم رجراجة بكر
ولم يصطبح في يوم حر وقرة ... حميا فدبت في مفاصله الخمر
ولم يرع العيس الكوانس بالضحى ... بأسرار مولي الدته صفر
لسسن بقول الصيف حتى كأنما ... بألسنها من لس حلبها الصقر
ولم يمدح القرم الهمام بكفه ... لطائم يسقي من فواضلها القفر
رمى نحوه في الناس والناس حوله ... وذو يسره غلب مناكبه سعر
ومأطورة شد العسيفان أطرها ... إساراً وأطرا فاستوى الأطر والأسر
ترامقه المقلاد حتى تمكنت ... إليه طوال الباب مرده الجدر
فخاف وقد حلت له من فؤاد ... محل جليل الشأن قدمه الأمر
هذا ما ورد في ديوان المتلمس من الشعر رواه عنه الأيمة وقد جاء له أبيات متفرقة في كتب الأدباء. منها قوله (من الرجز) :
لا خاب من نفعك من رجاكا ... بسلاً وعادى الله من عاداكا
وقال في أبي قابوس (من البسيط) :
إني كساني أبو قابوس مرفله ... كأنها سلخ أبكار المخاريط
وقال وهو أحسن ما ورد في المستنجات (من الطويل) :
ومستنج تستكشط الريح ثوبه ... ليسقط عنه وهو بالثوب معصم
عوى في سواد الليل بعد اعتسافه ... لينبج كلب أو ليفزع نوم
فجاوبه مستسمع الصوت للقرى ... له عند اتيان المهبين مطعم
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلاً ... يكلمه من حبه وهو أعجم
وقد مر أيضاً للمتلمس أبيات في وصف الناقة فراجعها في أول ترجمة طرفة.
المسيب بن علس (580م)(3/)
هو المسيب بن علس بن مالك بن عمرو بن قمامة بن مالك بن ضبيعة البكري الشاعر المشهور من أهل العراق من شعراء الطبقة الثانية. وهو أحد فحول شعراء بكر بن وائل المعدودين وقيل أنه خال الأعشى. وكان في أيام عمرو بن هند دخل عليه ومدحه ولقي هناك طرفة والمتلمس. وشعر المسيب قليل في ذاته إلا أنه جيد الجملة وهو معدود بين أشعر المقلين. قال أبو عبيدة: أن أشعر المقلين في الجاهلية المتلمس والمسيب بن علس الضبعي وحصين بن الحمام المري. وكان المسيب بن علس يتردد على القعقاع بن شور ويمدحه وينال صلاته وكان القعقاع من الأجواد والأسخياء سيداً من عبد الله بن دارم يضرب بهالمثل في حسن المجالسة والمعاشرة واتيان الجليس بالشيء النفيس. ومن نظم المسيب فيه قوله (من الكامل) :
ارحلت من سلمى بغير متاع ... قبل العطاس ورعتها بوداع
من غير مقلية وإن حبالها ... ليست بأرمام ولا أقطاع
فرأيت أن الحكم مجتنب الصبا ... فصحوت بعد تشوق ورواع
فتسل حاجتها إذا هي أعرضت ... بخميصة سرح اليدين وساع
صكاء ذعلبة إذا استدبرتها ... حرج إذا استقبلتها هلواع
وكأن قنطرة بموضع كورها ... ملساء بين غوامض الأنساع
وإذا تعاورت الحصا أخفافها ... دوى نواديه بظهر القاع
وكأن غاربها رباوة مخرم ... وتمد ثني جديلها بشراع
وغذا أطفت بها أطفت بكلكل ... نبض الفرائض مجفر الأضلاع
مرحت يداها للنجاء كأنما ... تكرو بكفي لاعب بصاع
فعل السريعة بادرت جدادها ... قبل المساء تهم بالإسراع
فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع
ترد المياه ولا تزال غريبة ... في القوم بين تمثل وسماع
وإذا الملوك تدافعت أركانها ... أفضلت فوق أكفهم بذراع
وإذا تهيج الريح مع صرادها ... ثلجاً ينيخ النيب بالجعجاع
أحللت بيتك بالجميع وبعضهم ... متفرق ليحل بالأوزاع
ولانت أجود من خليج مفعم ... متراكم الآذي ذي دفاع
وكأن بلق الخيل في حافاته ... يرمي بهن دوالي الذراع
ولانت أشجع في الأعادي كلها ... من مخدر ليث معيد وقاع
يأتي على القوم الكثير سلاحهم ... فيبيت منه القوم في وعواع
أنت الوفي فما تذم وبعضهم ... يوفي بذمته عقاب ملاع
وإذا رماه الكاشحون رماهم ... بمعابل مذروبة وقطاع(3/)
ولذلكم زعمت تميم أنه ... أهل السماحة والندى والباع
وعمر القعقاع بن شور طويلاً وأدرك خلافة معاوية فنادمه وفي أيامه توفي. ومن شعر المسيب قوله يمدح (من المتقارب) :
أبلغ ضبيعة أن البلا ... د فيها لذي حسب مهرب
فقد يجلس القوم في أصلهم ... إذا لم يضاموا وإن أجدبوا
فإن الذي كنتم تحذرو ... ن جاءت عيون به تضرب
فلا تجلسوا غرضاً للمنون ... حذفاً كما تحذف الأرنب
وسيروا على إثر أولاكم ... ولا تنظروا مثلها واذهبوا
فإن مواليكم اصفقوا ... فكلهم جنبه أجرب
وإنهم قد دعوا دعوة ... سيتبعها ذنب أهلب
ستحمل قوماً على آلة ... تظل الرماح بهم تعلب
ولولا علالة أرماحنا ... لظلت نساؤوهم تجلب
فإن لم تكن بكم منة ... يبلغها البلد الأركب
فذيخوا عبيداً لأرباكم ... فإن ساءكم ذاكم فاغضبوا
وهل يجلس القوم لا ينكرون ... وكلهم أنفه يضرب
وسيروا فإنا لكم بالرضا ... عرانين شيبان أن تقربوا
فلا هاهناك ولا هاهنا ... لكم موئل غيرهم فانصبوا
لفرع نزار وهم أصلها ... نمى بهم العز فاغلولبوا
ويوم العيانة عند الكثيب ... يوم أشائمه تنعب
تبيت الملوك على عتبها ... وشيبان إن غضبت تعتب
وكالشهد بالراح أخلاقهم ... وأحلامهم منهما أعذب
وكالمسك ترب مقاملتهم ... ورياً قبورهم أطيب
وله قوله في يوم عرعر رواه له ياقوت (من الطويل) :
وخلوا سبيل بكرنا إن بكرنا ... يخد سنام الأكحل المتماحل
هو القيل يمشي آخذاً بطن عرر ... بتجفافه كأنه في سراول
ومن محاسن شعره قوله (من الكامل) :
بان الخليط ورفع الخرق ... ففؤاده في الحي معتلق
منعوا طلاقهم ونائلهم ... يوم الفراق ورهنهم غلق
قطعوا المزاهر واستتب بهم ... يوم الرحيل للعلع طرق
ترعى رياض الأخرمين لهم ... فيها موارد ماؤها غدق
بكثيب خربة أو بجوقو ... من دونه من عالج برق
وقال يمدح كلب بن وبرة (من الوافر) :
ولو أني دعوت بجو قو ... أجابتني بعادية جناب
مصاليت لدى الهيجاء صيد ... لهم عدد لهم لجب وغاب
وله من مطلع قصيدة في الرثاء (من الخفيف) :
طال ليلي بشط ذات الكراع ... إذ نعى فارس الجرارة ناعي
فارس في اللقاء غير يراع(3/)
وله وقد ذكر قصة زرقاء اليمامة حين أنذرت قومها بالهلاك وكانت شديدة البصر قال المسيب (من الطويل) :
لقد نظرت عين إلى الجزع نظرة ... إلى مثل موج المفعم المتلاطم
إلىحمير إذ وجهوا من بلادهم ... تضيق بهم لأياً فروج المخارم
وله يذكر بني ناجية وهم بنو سامة بن لؤي وكانوا يسكنون بعمان وكان لهم ثروة ومنعة فقال فيهم المسيب (من المتقارب) :
وقد كان سامة في قومه ... له مأكل وله مشرب
فساموه خسفاً فلم يرضه ... وفي الأرض عن خسفهم مذهب
فقال لسامة إحدى النسا ... ء مالك يا سام لا تركب
أكل البلاد بها حارس ... مطل وضرغامة أغلب
فقال بلى إنني راكب ... وإني لقومي مستعتب
فشد أموناً بأنساعها ... بنخلة إذ دونها كبكب
فجنبها الهضب تردي به ... كما شجر القارب الأحقب
فلما أتى بلداً سره ... به مرتع وبه معزب
وحصن حصين لأبنائهم ... وريف لإبلهم مخصب
تذكر لما ثوى قومه ... ومن دونهم بلد عزب
فكرت به حرج ضامر ... فآبت به صلبها أحدب
فقال ألا فأبشروا وأظعنوا ... فصارت علاف ولم يعقبوا
ولم ينه رحلتهم في السما ... ء نحس الخراتين والعقرب
فبلغه دلج ذائب ... وسير إذا صدح الجندب
فحين النهار يرى شمسه ... وحيناً يلوح بها كوكب
وهي طويلة. ومما يستجاد للمسيب قوله في وصف الغائص في البحر وانتخاب الدرر فيه (من الكامل) :
كجمانة البحري جاء بها ... غواصها من لجة البحر
نصف النهار الماء غامره ... وشريكه بالغيب ما يدري
فأصاب منيته فجاء بها ... صدفية كمضيئة الجمر
يعطى بها ثمناً فيمنعها ... ويقول صاحبه ألا تشرين الأول
وترى الصراري يسجدون لها ... ويضمها بيديه للنحر
وللمسيب بن علس قصيدة تعد من القصائد المنتقيات مطلعها (من الكامل) :
بكرت لتحزن صاحباً طفل ... وتباعدت وتجذم الوصل
ومن محاسن أبياتها قوله فيها يمدح:
ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم ... فلذي الرقيبة مالك فضل
كفاه متلفة ومخلفة ... وعطاؤه مستغرق جزل
يهب الجياد كأنها عسب ... جرداء طال سبيلها البقل
وإذا الشمال حذت طلائحها ... رمكاً فليس لمالك مثل
ولقد تناولني بنائلة ... فأصابني من ماله سجل
فلأشكرن فضول نعمته ... حتى أموت وفضله الفضل
توفي المسيب سنة 580 للمسيح.(3/)
أعشى قيس المعروف بالأعشى الأكبر (629م)
الأعشى هو ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الحصن بن عكابة بن أسد بن ربيعة بن نزار ويكنى أبا بصير (وقيل أبا نصير أو نصر) . وكان يقال لأبيه قيس بن جندل قتيل الجوع. سمي بذلك لأنه دخل غاراً يستظل فيه من الحر فوقعت صخرة عظيمة من الجبل فسدت فم الغار فمات فيه جوعاً. فقال فيه جهنام واسمه عمرو وهو من قومه من بني قيس بن ثعلبة يهجوه وكان يتهاجيان:
أبوك قتيل الجوع قيس بن جندل ... وخالك عبد من خماعة راضع
وهو أحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم وتقدم على سائرهم وليس ذلك بمجمع عليه لا فيه ولا في غيره. أخبر ابن سلام قال: سألت يونس النحوي من أشعر الناس قال: لا أومىء إلى رجل بعينه ولكني أقول امرؤ القيس إذا غضب والنابغة إذا رغب وزهير إذا رغب والأعشى إذا طرب. قال أبو عبيدة: من قدم الأعشى يحتج بكثرة طواله الجياد وتصرفه في المديح والهجاء وسائر فنون الشعر وليس ذلك لغيره. ويقال هو أول من سأل بشعره وانتجع به أقاصي البلاد. وكان يغني في شعره وكانت العرب تسميه صناجة العرب.
قال هشام بن الكلبي: أخبرني أبو قبيصة المجاشعي أن مروان بن أبي حفصة سئل من أشعر الناس قال الذي يقول (من الطويل) :
كلا أبويكم كان فرع دعامة ... ولكنه زادوا وأصبحت ناقصا
يعني الأعشى. قال يحيى بن سليم الكاتب: بعثني أبو جعفر أمير المؤمنين بالكوفة إلى حماد الراوية اسأله عن أشعر الشعراء. قال: فأتيت باب حماد فاستأذنت وقلت: يا غلام فأجابني إنسان من أقصى بيت في الدار فقال: من أنت. فقلت: يحيى بن سليم رسول أمير المؤمنين. قال: ادخل رحمك الله. فدخلت حتى وقفت على باب البيت فإذا حماد فقلت: إن أمير المؤمنين يسألك عن أشعر الناس فقال: نعم ذلك الأعشى صناجها. قال أبو عبيدة: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: عليكم بشعر الأعشى فإني شبهته بالبازي يصيد ما بين العندليب إلى الكركي.
قال يحيى بن الجون العبدي راوية بشار: نحن حاكة الشعر في الجاهلية والإسلام ونحن أعلم الناس به: أعشى بني قيس بن ثعلبة أستاذ الشعراء في الجاهلية وجرير بن الخطفي أستاذهم في الإسلام.(3/)
قال الشعبي: الأعشى أغزل الناس في بيت وأخنث الناس في بيت وأشجع الناس في بيت. فأما أغزل بيت فقوله (من البسيط) :
غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمسي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
وأما أخنث بيت فقوله:
قالت هريرة لما جئت زائرها ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل
وأما أشجع بيت فقوله:
قالوا الطراد فقلنا تلك عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نزل
ذكر الهيثم بن عدي أن حماد الراوية سئل عن أشعر العرب قال الذي يقول (من البسيط) :
نازعتهم قضب الريحان متكئاً ... وقهوة مزة راوقها خضل
وهذه الأبيات من قصيدة له سيأتي ذكرها.
حدث رجل عن ابن حرب قال: قال لي يحيى بن متى راوية الأعشى وكان نصرانياً عبادياً معمراً قال: كان الأعشى قدرياً وكان لبيد مثبتاً. قال لبيد:
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
وقال الأعشى (من المنسرح) :
استأثر الله بالوفاء وبال ... عدل وولى وولى الملامة الرجلا
وهو من جملة أبيات ستأتي.
قلت: فمن أين أخذ الأعشى مذهبه قال من قبل العباديين نصارى الحيرة كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك.
وكان الأعشى يوافي سوق عكاظ في كل سنة وكان المحلق الكلابي مئناثاً مملقاً فقال له امرأته: يا أبا كلاب ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر فما رأيت أحداً اقتطعه إلى نفسه إلا وأكسبه خيراً. قال: ويحك ما عندي إلا ناقتي وعليها الحمل. قالت: الله يخلفها عليك. قال: فهل له بد من الشراب والمسوح قالت: إن عندي ذخيرة لي ولعلي أن أجمعها. قال: فتلقاه قبل أن يسبق إليه أحد وابنه يقوده فأخذ الخطام. فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على خطامنا. قال: المحلق قال: شريف كريم ثم سلمه إليه فأناخه فنحر له ناقته وكشط له عن سنامها وكبدها ثم سقاه وأحاطت به بناته يغمزنه ويمسحنه فقال: ما هذه الجواري حولي قال: بنات أخيك وهن ثمان شريدتهن قليلة (قال) وخرج من عنده ولم يقل فيه شيئاً. فلما وفاى سوق عكاظ إذا هو بسرحة قد اجتمع الناس عليها وإذا الأعشى ينشدهم (من الطويل) :
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار باليفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
رضيعي لبان ثدي أم تحالفا ... بأسحم داج عوض لا نتفرق(3/)
فسلم عليه المحلق. فقال له: مرحباً يا سيدي بسيد قومه ونادى: يا معاشر العرب هل فيكم مذكار يزوج ابنه إلى الشريف الكريم (قال) فما قام من مقعده وفيهن مخطوبة إلا وقد زوجها.(3/)
ذكر علي بن محمد النوفلي أن أباه حدثه عن بعض الكلابيين من أهل البادية قال: كان لأبي المحلق شرف. فمات وقد أتلف ماله وبقي المحلق وثلاث أخوات له ولم يترك لهم إلا ناقة واحدة وحلتي برود جيدة كان يسد بها الحقوق. فأقبل الأعشى من بعض أسفاره يريد منزله باليمامة. فنزل الماء الذي به المحلق فقراه أهل الماء فأحسنوا قراه. فأقبلت عمة المحلق فقالت: يا ابن أخي هذا الأعشى قد نزل بمائنا وقد قراه أهل الماء. والعرب تزعم أنه لم يمدح قوماً إلا رفعهم ولم يهج قوماً إلا وضعهم فانظر ما أقول لك واحتل في زق من خمر م عند بعض التجار فأرسل إليه بهذه الناقة والزق وبردتي أبيك. فوالله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه ونظر إلى عطفيه في البردتين ليقولن فيك شعراً يرفعك به. قال: ما أملك غير هذه الناقة وأنا أتوقع رسلها. فأقبل يدخل ويخرج ويهم ولا يفعل. فكلما دخل على عمته حضته. حتى دخل عليها فقال: قد ارتحل الرجل ومضى. قالت: الآن والله أحسن ما كان القرى. تتبعه ذلك مع غلام أبيك وهو مولى له أسود شيخ. فحيثما لحقه أخبره عنك أنك كنت غائباً عن الماء. عند نزوله إياه وأنت لما وردت الماء فعلمت أنه كان به كرهت أن يفوتك قراه. فإن هذا أحسن لموقعه عنده. فلم تزل تحضه حتى أتى بعض التجار فكلمه أن يقرضه ثمن زق خمر وأتاه بمن يضمن ذلك عنه. فأعطاه. فوجه بالناقة والخمر والبردين مع مولى أبيه. فخرج يتبعه. فكلما مر بماء قيل ارتحل أمس عنه. حتى صار إلى منزل الأعشى بمنفوحة اليمامة. فوجد عنده عدة من الفتيان قد غداهم بغير لحم وصب لهم فضيحاً فهم يشربون منه إذ قرع الباب. فقال: انظروا من هذا. فخرجوا فإذا رسول المحلق يقول كذا وكذا. فدخلوا عليه وقالوا: هذا رسول المحلق الكلابي أتاك بكيت وكيت. فقال ائذنوا له. فدخل فأدى الرسالة. وقد أناخ الجزور بالباب ووضع الزق والبردين بين يديه. قال: اقره السلام وقل له: وصلتك رحم سيأتيك ثناؤنا. وقام الفتيان إلى الجزور فنحروها وشقوا خاصرتها عن كبدها وجلدها عن سنامها ثم جاؤوا بهما. فأقبلوا يشوون وصبوا الخمر فشربوا. وأكل معهم وشرب ولبس البردين ونظر إلى عطفيه فيهما فأنشأ يقول (من الطويل) :(3/)
أرقت وما هذا السهاد المؤرق
حتى انتهى إلى قوله:
أبا مسمع سار الذي قد فعلتم ... فانجد أقوام به ثم اعرقوا
به تعقد الأجمال في كل منزل ... وتعقد أطراف الحبال وتطلق
قال فسار الشعر وشاع في العرب. فما أتت على المحلق سنة حتى زوج أخواته الثلاث كل واحدة على مائة ناقة. فأيسر وشرف.
قال رجل: جاءت امرأة إلى الأعشى فقالت: إن لي بنات قد كسدن علي فشبب بواحدة منهن لعلها أن تنفق. فشبب بواحدة منهن فما شعر الأعشى إلا بجزور قد بعث به إليه. فقال: ما هذا. قالوا: زوجت فلانة. فشبب بالأخرى فأتاه مثل ذلك فسأل عنها فقيل زوجت. فما يشبب بواحدة فواحدة منهن حتى زوجن جميعاً.
ويحكى: أن الأعشى هجا رجلاً من كلب فقال (من الوافر) :
بنو الشهر الحرام فلست منهم ... ولست من الكرام بني عبيد
ولا من رهط جبار بن قرط ... ولا من رهط حارثة بن زيد
قال وهؤلاء كلهم من كلب فقال الكلبي: لا أبا لك أنا أشرف من هؤلاء قال فسبه الناس بعد بهجاء الأعشى إياه وكان متغيظاً عليه فأغار على قوم قد بات فيهم الأعشى فأسر منهم نفراً واسر الأعشى وهو لا يعرفه. ثم جاء حتى نزل بشريح بن السموأل بن عادياء الغساني صاحب تيماء بحصنه الذي يقال له الأبلق. فمر شريح بالأعشى فناداه الأعشى (من البسيط) :
شريح لا تتركني بعد ما علقت ... حبالك اليوم بعد القد أظفاري
قد جلت ما بين بانقيا إلى عدن ... وطال في العجم تردادي وتسياري
فكان أكرمهم عهداً وأوثقهم ... مجداً أبوك بعرف غير إنكار
كالغيث ما استمطروه جاد وابله ... وفي الشدائد كالمستأسد الضاري
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كهزيع الليل جرار
إذ سامه خطتي خسف فقال له ... قل ما تشاء فإني سامع حار
فقال غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظ لمختار
فشط غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري
أنا له خلف إن كنت قاتله ... وإن قتلت كريماً غير غوار
وسوف يعقبنيه إن ظفرت به ... رب كريم وبيض ذات أطهار
لا سرهن لدنيا ذاهب هدراً ... وحافظات إذا استودعن أسراري
فاختار أدراعه كي لا يسب بها ... ولم يكن وعده فيها بختار(3/)
قال فجاء شريح إلى الكلبي فقال له: هب لي هذا الأسير المضرور. فقال هو لك فأطلقه. وقال: أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك. فقال له الأعشي: إن من تمام صنيعتك أن تعطيني ناقة نجيبة وتخليني الساعة قال. فأعطاه ناقة فركبها ومضى من ساعته. وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى فأرسل إلى شريح: ابعث إلي الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه. فقال: قد مضى. فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه.
وأتى الأعشى الأسود العنسي وقد امتدحه فاستبطأ جائزته. فقال الأسود ليس عندنا عين ولكن نعطيك عرضاً. فأعطاه خمسمائة مثقال دهناً وبخمسمائة حللاً وعنبراً. فلما مر ببلاد بني عامر خافهم على ما معه. فأتى علقمة بن علاثة فقال له: أجرني. فقال له قد أجرتك قال: من الجن والإنس. قال: نعم. قال: ومن الموت. قال: لا. فأتى عامر بن الطفيل فقال: أجرني. قال: قد أجرتك. قال: من الجن والإنس. قال: نعم. قال: ومن الموت. قال: نعم. قال: وكيف تجيرني من الموت؟ قال: إن مت وأنت في جواري بعثت إلى أهلك الدية. فقال: الآن علمت أنك أجرتني من الموت. فمدح عامراً وهجا علقمة. فقال علقمة: لو علمت الذي أراد كنت أعطيته إياه. قال الكلبي ولم يهج علقمة بشيء أشد عليه من قوله (من الطويل) :
فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم ... وبحرك ساج لا يواري الدعامصا
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خائصا
فرفع علقمة يديه وقال: لعنه الله أنه كان كاذباً. أنحن نفعل هذا بجاراتنا.
ولم نقف على تتمة هذين البيتين. ولكن رأينا أبياً متفرقة في لسان العرب توافقهما في الوزن والقافية فاخترنا إثباتها كما هي ولعلها من تمامهما وهي:
تقمرها شيخ عشاء فأصبحت ... قضاعية تأتي الكواهن ناشصا
فإن يلق قومي قومهم تر بينهم ... قتالاً وأصقاد القنا ومداعصا
رمى بك في أخراهم تركك العلا ... وفضل أقوام عليك مراهصا
فعض حديد الأرض إن كنت ساخطاً ... بفيك وأحجار الكلاب الرواهصا
فلو كنتم نخلاً لكنتم جرامة ... ولو كنتم نبلاً لكنتم مشاقصا
إذا جردت يوماً حسبت خميصة ... عليها وجريال النضير الدلامصا
وذا شرفات يقصر الطرف دونه ... ترى للحمام الورق فيه قرامصا(3/)
فقلت ولم أملك أبكر بن وائل ... متى كنت فقعاً نابتاً بقصائصا
ألم تر أن العرض أصبح بطنه ... نخيلاً وزرعاً نابتاً وفصافصا
ثم أن الأعشى تزوج امرأة من عنزة. وعنزة هو ابن أسد بن ربيعة بن نزار. فلم يرضها ولم يستحسن خلقها. فطلقها وقال فيها. من جملة قصيدة (من الطويل) :
فبيني فإن البين خير من العصا ... وإلا تري لي فوق رأسك بارقه
وما ذاك عندي أن تكوني دنيئة ... ولا أن تكوني جئت عندي ببائقه
ويا جارتا بيني فإنك طالقه ... كذاك أمور الناس غاد وطارقه
قال الأعشى: أتيت سلامة ذا فائش فأطلت المقام ببابه حتى وصلت إليه فأنشدته (من المنسرح) :
إن محلاً وإن مرتحلا ... وإن في السفر من مضى مهلا
استأثر الله بالوفاء وبالع ... دل وولى الملامة الرجلا
الشعر قلدته سلامة ذا ... فائش والشيء حيث ما جعلا
فقال: صدقت الشيء حيث ما جعل. وأمر لي بمائة من الإبل وكساني حللاً وأعطاني كرشاً مدبوغة مملوءة عنبراً وقال: إياك أن تخدع عما فيها. فأتيت الحيرة فبعتها بثلثمائة ناقة حمراء.
قال هشام بن القاسم وكان علامة بأمر الأعشى: أنه وفد إلى نبي المسلمين وقد مدحه بقصيدته التي أولها (من الطويل) :
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وعادك ما عاد السليم المسهدا
ولكن أرى الدهر الذي هو خائن ... إذا أصلحت كفاي عاد فأفسدا
كهولاً وشباناً فقدت وثروة ... فلله هذا الدهر كيف ترددا
ومازلت أبغي المال مذ أنا يافع ... وليداً وكهلاً حين شبت وأمردا
وابتذل العيس المراقيل تغتلي ... مسافة ما بين النجير فصرخدا
ألا أيها ذا السائلي أين يممت ... فإن لها في أهل يثرب موعدا
فإن تسالي عني فيارب سائل ... حفي عن الأعشى به حيث اصعدا
أجدت برجليها النجاء وراجعت ... يداها خنافاً ليناً غير أحردا
وفيها إذا ما هجرت عجرفية ... إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا
وأما إذا ما ادلجت فترى لها ... رقبين جدياً ما يغيب وفرقدا
وفيها يقول لناقته:
فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفى حتى تزور محمدا
نبي يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم ... تراحي وتلقي من فواضله يدا
له صدقات ما تغب ونائل ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا
ومنها أيضاً:(3/)
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله ... فترصد للأمر الذي كان أرصدا
فإياك والميتات لا تقربنها ... ولا تأخذن سهماً حديداً لتقصدا
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
ولا تقربن حرة كان سرها ... عليك حراماً فانكحن أو تأبدا
وذا الرحم القربى فلا تقطعنه ... لعاقبة ولا الأسير المقيدا
ولاسبح على حين العشيات والضحى ... ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا
ولا تسخرن من بائس ذي ضرارة ... ولا تحسبن المال للمرء مخلدا
فبلغ خبره قريشاً فرصدوه على طريقه وقالوا: هذا صناجة العرب ما مدح أحداً قط إلا رفع قدره. فلما ورد عليهم قالوا له: أين أردت يا أبا نصير. قال أردت صاحبكم هذا لأسلم. قالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك وكلها بك رفق ولك موافق. قال: وما هن. فقال له أبو سفيان بن حرب: القمار. قال: لعلي إن لقيته أن أصيب منه عوضاً من القمار. ثم ماذا؟ قالوا: الربا. قال: ما دنت ولا أدنت ثم ماذا؟ قالوا: الخمر. قال: أوه ارجع إلى صبابة قد بقيت لي في المهراس فاشربها. فقال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال: نحن وهو الآن في هدنة فتأخذ مائة من الإبل وترجع إلى بلدك سنتك هذه وتنظر ما يصير إليه أمرنا. فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفاً وإن ظهر علينا أتيته. فقال: ما أكره ذلك. فقال أبو سفيان: يا معشر قريش هذا الأعشى والله لئن أتى محمداً واتبعه ليضرمن عليكم نيران العرب بشعره فاجمعوا له مائة من الإبل. ففعلوا. فأخذها وانطلق من بلده فلما كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله.
قال يحيى بن علي: قبر الأعشى بمنفوحة وأنا رأيته فإذا أراد الفتيان أن يشربوا خرجوا إلى قبره فشربوا عنده وصبوا عنده فضلات الأقداح.(3/)
حدث أبو سليمان النوفلي: أتيت اليمامة والياً عليها فمررت بمنفوحة وهي منزل الأعشى التي يقول فيها: (بشط منفوحة فالحاجر) فقلت: أهذه قرية الأعشى. قالوا: نعم. فقلت: أين منزله. قالوا: ذاك وأشاروا إليه. قلت: فأين قبره. قالوا: بفناء بيته. فعدلت إليه بالجيش فانتهيت إلى قبره فإذا هو رطب فقلت: ما لي أراه رطباً. فقالوا: إن الفتيان ينادمونه فيجعلون قبره مجلس رجل منهم فإذا صار إليه القدح صبوه عليه لقوله: ارجع إلى اليمامة فاشبع من الأطيبين القمار والخمر.
وله يشبب بهريرة مولاة حسن بن عمرو بن مرثد. وقد عدها بعضهم في جملة المعلقات السبع (من البسيط) :
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل
تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل
ليست كمن يكره الجيران طلعتها ... ولا تراها لسر الجار تختتل
يكاد يصرعها لولا تشددها ... إذا تقوم إلىجاراتها الكسل
هركولة فنق درم مرافقها ... كان أخمصها بالشوك منتعل
إذا تقوم يضوع المسك أصورة ... والزئبق الورد من أردانها شمل
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل
يوماً بأطيب منها نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذا دنا الأصل
ومنها:
صدت هريرة عنا ما تكلمنا ... جهلاً بأم خليد حبل من تصل
أأن رأت رجلاً أعشى أضر به ... ريب المنون ودهر مفند خبل
قالت هريرة لما جئت زائرها ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل
أما ترينا حفاة لا نعال لنا ... إنا كذلك ما نحفي وننتعل
وقد أخالس رب البيت غفلته ... وقد يحاذر مني ثم ما يئل
وقد أقود الصبي يوماً فيتبعني ... وقد يصاحبني ذو الشرة الغزل
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلول شلشل شول
في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل
نازعتهم قضب الريحان متكئاً ... وقهوة مزة راووقها خضل
لا يستفيقون منها وهي راهنة ... إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا
يسعى بها ذو زجاجات له نطف ... مقلص أسفل السربال معتمل(3/)
ومستجيب تخال الصنج تسمعه ... إذا ترجع فيه القينة الفضل
والساحبات ذيول الريط آونة ... والرافلات على إعجازها العجل
من كل ذلك يوم قد لهوت به ... وفي التجارب طول اللهو والغزل
وبلدة مثل ظهر الترس موشحة ... للجن بالليل في حافاتها زجل
لا يتنمى لها بالقيظ يركبها ... إلا الذين لهم فيما أتوا مهل
قطعتها بطليح حرة سرح ... في مرفقيها إذا استعرضتها فتل
بل هل ترى عارضاً قد بت أرمقه ... كأنما البرق في حافاته الشعل
له رداف وحوز مفام عمل ... مكلل بسجال الماء متصل
لم يلهني اللهو عنه حين أرقبه ... ولا اللذاذة من كأس ولا شغل
فقلت للشرب في درنا وقد ثملوا ... شيموا فكيف يشيم الشارب الثمل
قالوا نمار فبطن الخال جادهما ... فالعسجدية فالإبلاء فالرجل
فالسفح يجري وخنزير وبرقته ... حتى تدافع منه الربو والجبل
حتى تحمل منه الماء تكلفة ... روض القطا فكثيف الغينة السهل
يسقي دياراً لنا قد أصبحت غرضاً ... زوراً تجانف عنها القود والرسل
أبلغ يزيد بني شيبان مألكة ... أبا ثبيت أما تنفك تأتكل
ألست منتهياً عن نحن اثلتنا ... ولست ضائرها ما اطت الإبل
تغري بنا رهط مسعود وإخوته ... يوم اللقاء فتردي ثم تعتزل
كناطح صخرة يوماً ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
لا أعرفنك إن جدت عداوتنا ... والتمس النصر منكم عوض تحتمل
تلحم أبناء ذي الجدين إن غضبوا ... أرماحنا ثم تلقاهم وتعتزل
لا تقعدن وقد أكلتها حطباً ... تعوذ من شرها يوماً وتبتهل
سائل بني أسد عنا فقد علموا ... أن سوف يأتيك من أبنائنا شكل
واسأل قشيراً وعبد الله كلهم ... واسأل ربيعة عنا كيف نفتعل
إنا نقاتلهم حتى نقتلهم ... عند اللقاء وإن جاروا وإن جهلوا
قد كان في آل كهف إن هم احتربوا ... والجاشرية من يسعى وينتضل
إني لعمر الذي حطت مناسمها ... تخدي وسيق إليه الباقر الغيل
لئن قتلتم عميداً لم يكن صدداً ... لنقتلن مثله منكم فنمتثل
وإن منيت بنا في ظل معركة ... لا تلفنا من دماء القوم ننتقل
لا ينتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل
حتى يظل عميد القوم مرتفقاً ... يدفع بالراح عنه نسوة عجل
أصابه هندواني فأقصده ... أو ذابل من رماح الخط معتدل(3/)
كلا زعمتم بأنا لا نقاتلكم ... إنا لأمثالكم يا قومنا قتل
نحن الفوارس يوم الحنو ضاحية ... جنبي فطيمة لا ميل ولا عزل
قالوا الطراد فقلنا تلك عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نزل
قد نخضب العير من مكنون فائله ... وقد يشيط على أرماحنا البطل
وقال أيضاً (من الكامل) :
رحلت سمية غدوة أجمالها ... غضبي عليك فما تقول بدا لها
هذا النهار بدا لها من همها ... ما بالها بالليل زال زوالها
سفهاً وما تدري سمية ويحها ... أن رب غانية صرمت حبالها
ومصاب غادية كأن تجارها ... نشرت عليه برودها ورحالها
ومنها:
فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها
ومنها:
وسبيئة مما تعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها
وغريبة تأتي الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها
وجزور أسيار دعوت بحتفها ... ونياط مقفرة أخاف ظلالها
بهماء موحشة رفعت لعرضها ... طرفي لاقدر بينها أميالها
بجلالة سرح كأن بغرزها ... هراً إذا انتعل المطي طلالها
ومنها:
فتركتها بعد المراح رزية ... وأمنت عند ركوبها استعجالها
قبل امرئ طلق اليدين مبارك ... ألفى أباه بنجوة فسما لها
فتناولت قيساً تجر بلادة ... فاتته بعد تنوفة فأنالها
فإذا تخونها حبال قبيلة ... أخذت من الأخرى إليك حبالها
فكأنها لم تلق ستة أشهر ... صبراً إذا وضعت إليك رحالها
ولقد نزلت بخير من طىء الحصى ... قيس فأثبت نعلها وقبالها
ما النيل أصبح زاخراً من مده ... جاءت له ريح الصبا فجرى لها
يوماً بأجود نائلاً منه إذا ... نفس البخيل تجهمت لسؤالها
الواهب المائة الهجان وعبدها ... عوذاً تزجي تحتها أطفالها
والقارح الأحوى وكل طمرة ... ما إن تنال يد الطويل قذالها
وكأنما تبع الصوار بشخصها ... عجزاء ترزق بالسلي عيالها
طلباً حثيثاً بالوليد تبزه ... حتى توسط رمحه أكفالها
عودت كندة عادة فاصبر لها ... اغفر لجاهلها ورو سجالها
وكن لها جملاً ذلولاً ظهره ... احمل وكنت معاوداً تحمالها
وغذا تحل من الخطوب عظيمة ... أهلي فداؤك فاكفهم أثقالها
فلعمر من جعل الشهور علامة ... قدراً فبين نصفها وهلالها
ما كنت في الحرب العوان معمراً ... إذ شاجرت قوادها أخذالها(3/)
وسعى لكندة غير سعي مؤاكل ... قيس فضر عدوها ونبالها
وأهان صالح ماله لضعيفها ... واسا وأصلح بينها وسعى لها
ما إن يغيب لها كما غاب امرؤ ... هانت عشيرته عليه فعالها
وترى له صبراً على أعدائه ... وترى لنعمته على من نالها
أثراً من الخير المزين أهله ... كالغيث صاب ببلدة فاسألها
ثقف إذا نالت يداه غنيمة ... شد الركاب لمثلها لينالها
بالخيل شعثاً ما تزال جيادها ... رجعاً يغادر بالطريق سخالها
إما لصاحب نعمة طرحتها ... ووصال رحم قد بردت بلالها
ومنها:
وسمعت أكثر ما يقال لها اقدمي ... والنص والإيجاف كان صقالها
حتى إذا لمع الدليل بثوبه ... سقيت وصب وراتها أوشالها
فإذا سوابقها يثرن عجاجة ... مثل السحاب إذا قصدت رعالها
متباريات في الأعنة فطماً ... حتى تفيء عشية أنفالها
ومنها:
تأوي طوائفها إلى محصوفة ... مكروهة تخشى الكماة نزالها
وله في صفة الخمر أيضاً (من المتقارب) :
فقمنا ولما يصح ديكنا ... إلى خمرة عند جدادها
فقلت له هذه هاتها ... بأدماء في حبل مقتادها
فقام فصب لنا قهوة ... تسكننا بعد إرعادها
كميتاً تكشف عن حمرة ... إذا صرحت بعد ازبادها
فجال علينا بإبريقه ... مخضب كف بفرصادها
فرحنا تنعمنا نشوة ... تخور بنا بعد قصادها
ثم عثرنا على أبيات توافق ما ذكر وزناً وقافية وهي هذه:
فجالت وجال لها أربع ... جهدنا لها مع إجهادها
وبهماء بالليل عطشى الفلا ... ة يؤنسني صوت فيادها
وقومك إن يضمنوا جارة ... يكونوا بموضع أنضادها
تخللها من بكار القطاف ... ازيرق آمن إكسادها
ومثلك معجبة بالشباب ... صاك العبير بأجسادها
وذكر صاحب الحماسة أن كثيراً لما أنشد عبد الملك قوله فيه:
على ابن أبي العاصي دلاص حصينة ... أجاد المسدي نسجها وأذالها
قال له: قول الأعشى لقيس بن معدي كرب أحسن (من الكامل) :
وإذا تجيء كتيبة ملمومة ... خرساء يخشى الذائدون نهالها
كنت المقدم غير لابس جنة ... بالسيف تضرب معلماً أبطالها
وعلمت أن النفس تلقى حتفها ... ما كان خالقها المليك قضى لها(3/)
فقال كثير: يا أمير المؤمنين وصفتك بالحزم ووصف الأعشى صاحبه بالخرق ولقائل أن يقول: أن المبالغة في الشعر أحسن من الاقتصاد والأعشى أعطى المبالغة حقها فهو أعذر وطريقته أسلم.
قيل: وكان الأعشى يشبب بامرأة لها قتلة فمرة يأتي بها مصغرة ومرة يجيء بها على لفظ التكبير. ومن ذلك قوله (من الكامل) :
قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً ... وأرى ثيابك باليات همدا
وقال (من السريع) :
شاقتك من قتلة أطلالها ... بالسفح فالخبتين من حاجز
وقله في قتلة هذه أيضاً قوله وهو من قصيدة (من الخفيف) :
يوم تبدي لنا قتيلة عن جيد ... أسيل تزينه الأطواق
وله فيها من قصيدة (من الخفيف) :
من ديار بالهضب هضب القليب ... فاض ماء الشؤون فيض الغروب
أخلفتني به قتيلة ميعادي ... وكانت للوعد غير كذوب
ظبية من ظباء بطن خساف ... أم طفل بالجو غير ربيب
كنت أوصيتها بألا تطيعي ... في قول الوشاة والتخبيب
وله في سيل العرم (من المتقارب) :
وفي ذاك للمؤتسي إسوة ... ومأرب عفى عليها العرم
رخام بنته لهم حمير ... إذا جاء مواره لم يرم
فاروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤهم إذ قسم
فصاروا أيادي ما يقدرون ... منه على شرب طفل فطم
قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له.
وأنشد أبو عبيدة للأعشى (من الطويل) :
أصالحكم حتى تبؤوا بمثلها ... كصرخة حبلى يسرتها قبيلها
وهذا البيت في قصيدة له أيضاً.
وقوله (من الخفيف) :
فيهم المجد والسماحة والنجدة ... منهم والخاطب السلاق
وقوله (من المتقارب) :
إلى المرء قيس نطيل السرى ... ونأخذ من كل حي عصم
وقال الأعشى: وقد زعم أن سليمان بن داوود هو الذي بنى الأبلق الفرد بعد أن ذكر الملوك الذين أفناهم الدهر (من الطويل) :
ولا عاديا لم يمنع الموت ماله ... وورد بتيماء اليهودي أبلق
بناه سليمان بن داوود حقبة ... له أزج عال وطيء موثق
يوازي كبيداء السماء ودونه ... بلاط ودارات وكلس وخندق
له درمك في رأسه ومشارب ... ومسك وريحان وراح تصفق
وحور كأمثال الدمى ومناصف ... وقدر وطباخ وصاع وديسق
فذاك ولم يعجز من الموت ربه ... ولكن أتاه الموت لا يتابق(3/)
وكان الأعشى كثيراً ما يتجر في أثافت وكان له بها معصر للخمر يعصر فيه ما جزل له أهلها من أعنابهم. قال الأصمعي: وقفت باليمن على قرية فقلت لامرأة: بم تسمى هذه القرية؟ فقالت: أما سمعت قول الأعشى (من المتقارب) :
أحب أثافت ذات الكروم ... عند عصارة أعنابها
وله فيها أيضاً (من الطويل) :
فإن تمنعوا منا المشقر فالصفا ... فإنا وجدنا الخط جماً نخيلها
وإن لنا درنا فكل عشية=يحط إلينا خمرها وخميلها ومن شعره قوله (من الطويل) :
ألا قل لتيا قبل مرتها أسلمي ... تحية مشتاق إليها مسلم
تسر وتعطى كل شيء سألته ... ومن يكثر التسآل لا بد يحرم
فما لك عندي نائل غير ما مضى ... صبوت له فاصبر لذلك أو ذم
ولابأس أني قد أجاور حاجتي ... بمستحصف باق من الرأي مبرم
كأن على أنصاعها عذق نخلة ... تدلى من الكافور غير مكمم
عرندسة ما ينقص السير غرضها ... كأحقب بالوفراء جاب مكدم
تلاصقه قوداء مهضومة الحشا ... متى ما تخالفه عن القصد يعدم
إذا ما دنا منها اتقته بحافر ... كأن له في النخر آثار محجم
إذا جاهدته بالفضاء انبرى لها ... بشد كالهاب الحريق المضرم
فلما علته الشمس واستوقد الحصى ... تذكر أدنى الشرب للمتسمم
ومنها:
فلما أتاها ظن أن ليس شارباً ... من الماء إلا بعد طول التحمحم
ويسر سهماً ذا غرار يسوقه ... أمين القوى في ضالة المترنم
فمر يضيء السهم تحت لبانه ... وجال على وحشية لم يعتم
فجال وجالت ينجلي الترب عنهما ... له رهج في ساطع اللون أقتم
فدع ذا ولكن ما نرى رأي كاشح ... يرى بيننا من جهله دق منشم
إذا ما رآني مقبلاً شام نيله ... ويرمي إذا وليت ظهري بأسهم
على غير ذنب غير أن عداوة ... طمت بك فاستأخر لها أو تقدم
وكنت إذا نفس الغوي طحت به ... صفعت على العرنين منه بميسم
أراني برياً من عمير ورهطه ... إذا أنت لم تبرأ من الداء فاسقم
حلفت له بالراقصات إلى منى ... إذا محرم خلفته بعد محرم
ضوامر خوصاً قد أضربها السرى ... وطابقن مشياً في السريح المخدم
لئن كنت في جب ثمانين قامة ... وريقت أسباب السماء بسلم
ليستدرجنك القول حتى تهزه ... وتلعم أني عنكم غير ملجم
وتشق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم(3/)
فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا ... ولا لك حق الشرب من ماء زمزم
ولا جعل الرحمان بيتك في العلا ... بأجياد غربي الصفا والمحرم
فلا توعدني بالهجاء فإنني ... بنى الله بيتي في الدحيس العرمرم
وعز بني سعد بن قيس عن العلا ... واحسابهم عند الندى والتكرم
فلما رأيت الناس للشر أقبلوا ... وثابوا إلينا من فصيح وأعجم
وقيم علينا بالسيوف وبالقنا ... إلى راية مرفوعة عند موسم
دعوت خليلي مسحلاً ودعوا له ... جهنام جدعاً للهجين المذمم
فإني وثوبي راهب الحج والتي ... بناها قصي وحده وابن جرهم
لئن شب نيران العداوة بيننا ... ليرتحلن مني على ظهر شيهم
وتركب مني إن بلوت خليقتي ... على نشز قد شاب ليس بتوام
فما حسبي إن قسته بمقصر ... ولا أنا إن جد الهداء بمعجم
وولى عمير وهو كأب كأنما ... يطلى بحص أو يغشى بعظلم
ولها منها يفتخر:
ونحن غداة العسر يوم فطيمة ... منعنا بني شيبان شرب محلم
جبهناهم بالطعن حتى توجهوا ... وهزوا صدور السمهري المقوم
ومنها:
أجارهما بشر من الموت بعدما ... جرى لهما طير السنيح باشام
فإن أنتم لم تعرفوا ذاك فاسألوا ... أبا مالك أو سائلوا رهط أشيم
وكائن لنا فضلاً عليكم ونعمة ... قديماً فلا تدرون ما من منعم
فذلك من إنعامنا وبلائنا ... ونعمى عليكم لو شكرتم لأنعم
وتحدث أبو المنذر قالك كثرت إياد بتهامة وبنو معد بها حلول ولم يتفرقوا عنها فبغوا على بني نزار وكانت منازلهم بأجياد من مكة. وفي ذلك يقول الأعشى (من المتقارب) :
وبيداء تحسب آرامها ... رجال إياد بأجيادها
وقال معرضاً بأهل جبل الامرار (من الطويل) :
أمن جبل الأمرار صرت خيامكم ... على نبأ إن الأشافي سائل
وقال يذكر مدينة أورشليم (من المتقارب) :
وطوفت للمال آفاقه ... عمان فحمص فأوريشليم
أتيت النجاشي في داره ... وأرض النبيط وأرض العجم
وقال (من الطويل) :
ألم خيال من قتيلة بعد ما ... وهي حبلها من حبلنا فتصرما
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها ... وإن ذبحت صلى عليها وزمزما
ببابل لم تعصر فسالت سلافة ... تخالط قنديداً ومسكاً مختما
يطوف بها ساتق علينا متوم ... خفيف رفيق ما يزال مقدما
بكاس وغبريق كأن شرابه ... إذا صب في المصحاة خالط بقما(3/)
لها جلسان عندها وبنفسج ... وسيسنبر والمرزجوش منمنما
وآس وخيري وورد وسوسن ... يصبحنا في كل دجن تغيما
ومنها:
فدع ذا ولكن رب أرض متيهة ... قطعت بحرجوج إذا الليل أظلما
بناجية كالفحل فيها تجاسر ... إذا الراكب الناجي استقى وتعمما
ترى عينها صفواء في جنب موقها ... تراقب كفي والقطيع المحرما
كأني ورحلي والعنان ونمرقي ... على ظهر طاو اسفع الخد اخثما
ومنها:
فلما أضاء الصبح قام مبادراً ... وحان انطلاق الشاة من حيث خيما
فصبحه عند الشروق غدية ... كلاب الفتى البكري عوف بن أرقما
فذلك بعد الجهد شبهت ناقتي ... إذا الشاة يوماً في الكناس تجرثما
تؤم إياساً إن ربي أناله ... يد الدهر إلا عزة وتكرما
نماه الإله فوق كل قبيلة ... أباً فأباً يأبى الدنيئة وابنما
ولم يشتكس يوماً فيظلم وجهه ... ليركب عجزاً أو يصارع مأثما
ولو أن عز الناس في رأس صخرة ... ململمة تعيي الأرح المخدما
لأعطاه رب العرش مفتاح بابها ... ولو لم يكن باب لأعطاه سلما
فما نيل مصر إذ تسامى عبابه ... ولا بحر بانقيا إذا راح مفعما
بأجود منه نائلاً إن بعضهم ... إذا سئل المعروف صد وجمجما
هو الواهب الكوم الصفايا لجاره ... يشبهن دوماً أو نخيلاً مكمما
وكل كميت كالقناة محالة ... وكل طمر كالهراوة أدهما
وكل ذمول كالفنيق وقينة ... تجر إلى الحانوت برداً مسهما
ولم يدع ملهوف من الناس مثله ... ليدفع ضيماً أو ليحمل مغرما
وقال يمدح ذا فائش اليحصبي (من الطويل) :
ببعدان أو ريحان أو رأس سلبة ... شفاء لمن يشكو السمائم بارد
وبالقصر من أرياب لو بت ليلة ... لجاءك مثلوج من الماء بارد
وله (من الوافر) :
تصيف رملة البقار يوماً ... فبات بتلك يضربه الجليد
قال أبو عبيدة: أجود السهام التي وصفها العرب في الجاهلية سهام بلاد وسهام يثرب وهما بلدان عند اليمامة وأنشد للأعشى (من الكامل) :
أنى تذكر ودها وصفاءها ... سفهاً وأنت بصوة الأثماد
منعت قياس الماسخية رأسه ... بسهام يثرب أو سهام بلاد
وقال (من الطويل) :
أجدوا فلما خفت أن يتفرقوا ... فريقين منهم مصعد ومصوب
طلبتهم تطوي بي البيد جرة ... شويقية النابين وجناء ذعلب
مضبرة حرف كأن قتودها ... تضمنه من حمر بنيان أحقب(3/)
وقال يمدح ذا فائش الحميري (من المنسرح) :
قد علمت فارس وحمير ... والأعراب بالدشت أيهم نزلا
هل تعرف العهد من تنمص إذ ... تضرب لي قاعداً بها مثلا
وقال (من المتقارب) :
وإن أخاك الذي تعلمين ... ليالينا إذ نحل الجفارا
تبدل بعد الصبي حلمه ... وقنعه الشيب منه خمارا
وله يذكر الحضر وهو حصن قد مر ذكره في ترجمة عدي بن زيد (من المتقارب) :
ألم تر للحضر إذ أهله ... بنعمى وهل خالد من سلم
أقام به ساهبور الجنو ... د تضرب فيه القدم
وله من قصيدة (من الطويل) :
وكأس كعين الديك باكرت خدرها ... بفتيان صدق والنواقيس تضرب
سلاف كأن الزعفران وعندما ... يصفق في ناجودها ثم يقطب
لها أرج في البيت عال كأنه ... ألم به من بحر دارين اركب
وقال أيضاً في أبيات (من الطويل) :
أترحل من ليلى ولما تزود ... وكنت كمن قضى اللبانة من دد
أرى سفهاً بالمرء تعليق قلبه ... بغانية خود متى تدن تبعد
أتنسين أياماً لنا بدحيضة ... وأيامنا بين البدي فتهمد
ومنها:
لدى ابن يزيد أو لدى ابن معرف ... يقت لها طوراً وطوراً بمقلد
فأضحت كبنيان التهامي شاده ... بطين وجيار وكلس وقرمد
شددت عليها كورها فتكمشت ... تجور على ظهر السبيل وتهتدي
ثلاثاً وشهراً ثم صارت رذية ... طليخ سفار كالسلاح المقرد
إليك أبيت اللعن كان كلالها ... إلى الماجد الفرع الجواد المحمد
ومنها:
فما وجدتك الحرب إذ عط فحلها ... عن الأمر نعاساً على كل مرصد
لعمرك الذي حجت قريش قطينه ... لقد كدتم كيد امرئ غير مسند
فلا تجسبني كافراً لك نعمة ... على شاهدي يا شاهد الله فاشهد(3/)
قال صاحب معجم البلدان: دير نجران في موضعين أحدهما باليمن لآل عبد المدان بن الديان من بني الحارث بن كعب ومنه جاء القوم الذين أرادوا مباهلة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان بنو عبد المدان بن الديان بنوا مربعاً مستوي الأضلاع والأقطار مرتفعاً من الأرض يصعد إليه بدرجة على مثال بناء الكعبة فكانوا يحجونه هم وطوائف من العرب ممن يحل الأشهر ولا يحج الكعبة ويحجه خثعم قاطبة وكان أهل ثلاث بيوتات يتبارون في البيع وربها أهل المنذر بالحيرة وغسان بالشام وبنو الحارث بن كعب بنجران وبنوا دياراتهم في المواضع النزهة الكثيرة الشجر والرياض والغدران ويجعلون في حياطنها الفسافس وفي سقوفها الذهب والصور. وكان بنو الحارث بن كعب على ذلك إلى أن جاء الإسلام فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العاقب والسيد وإيليا أسقف نجران للمباهلة ثم استعفوه منها م قبل أن يتم. وكانوا يركبون إليها في كل يوم أحد وفي أيام أعيادهم في الديباج المذهب والزنانير المحلاة بالذهب وبعد ما يقضون صلاتهم ينصرفون إلى نزههم ويقصدهم الوفود والشعراء فيشربون ويستمعون الغناء. ويسكرون وفي ذلك يقول الأعشى (من المتقارب) :
وكعبة نجران حتم عليك ... حتى تناخي بأبوابها
نزور يزيداً وعبد المسيح ... وقيساً هم خير أربابها
إذا الحبرات تلوت بهم ... وجروا أسافل هدابها
وشاهدنا الجل والياسمو ... ن والمسمعات بقصابه
ويربطنا مغمل دائم ... فأي الثلاثة أزرى بها
قيل: وكان للأعشى قصر اسمه ريمان وفيه يقول (من مجزوء الكامل) :
يا من يرى ريمان أمسى ... خاوياً خرباً كعابه
أمسى الثعالب أهله ... بعد الذين هم مآبه
من سوقة حكم ومن ... ملك يعد له ثوابه
بكرت عليه الفرس بعد ... الحبش حتى هد بابه
وتراه مهدوم الأعا ... لي وهو مسحول ترابه
ولقد أراه بغبطة ... في العيش مخضراً جنابه
فحوى وما من ذي شبا ... ب دائم أبداً شبابه
وكان بساباط حجام يحجم الناس بنسيئة فإن لم يجىء أحد حجم أمه حتى قتلها فضربه العرب مثلاً وقالوا فيه: أفرغ من حجام ساباط. وإياه أراد الأعشى بقوله يذكر النعمان بن المنذر وكان أبرويز الملك قد حبسه بساباط ثم ألقاه تحت أرجل الفيلة (من الطويل) :(3/)
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بأمته يعطي القطوط ويأفق
وتججبى إليه السيلحون ودونها ... صريفون في أنهارها والخورنق
ويقسم أمر الناس يوماً وليلة ... وهم ساكتون والمنية تنطق
ويأمر لليحموم كل عشية ... بقت وتعليق فقد كاد يسبق
تعالى عليه الجل كل عشية ... ويرفع نقلاً بالضحى ويعرق
فذاك وما انجى من الموت ربه ... بساباط حتى مات وهو محرزق
وقال يمدح هوذة (من البسيط) :
سائل تميماً به أيام صفقتهم ... لما رآهم أسارى كلهم ضرعا
وسط المشقر في غيطاء مظلمة ... لا يستطيعون بعد الضرب منتفعا
بظلمهم بنطاع الملك إذ غدروا ... فقد حسوا بعد من أنفاسها جرعا
ويرى له قوله ولعله من تمام هذه الأبيات:
لا يرفع الناس من أوهى وإن جهدوا ... أن يرفعوه ولا يوهون من رفعا
غيث الأرامل والأيتام كلهم ... لم تطلع الشمس إلا ضر أو نفعا
وله يذكر وقعة الصليب وهو جبل عند كاظمة بين بكر بن وائل وبين عمرو بن تميم (من الوافر) :
وإنا بالصليب وبطن فلج ... جميعاً واضعين به لظانا
وقال يمدح يزيد وعبد المسيح ابني الديان وقيل يمدح السيد والعاقب أساقفة نجران (من الطويل) :
ألا سيدي نجران لا يوصينكما ... بنجران فيما نابها واعتراكما
فإن تفعلا خيراً وترتديا به ... فإنكما أهل لذاك كلاكما
وإن تكفيا نجران أمر عظيمة ... فقبلكما ما سادها أبواكما
وإن أحلبت صهيون يوماً عليكما ... فإن رحا الحرب الدكوك رحاكما
وله (من الخفيف) :
يوم فقت حمولهم فتولوا ... قطعوا معهد الخليط فساقوا
جاعلات حوز اليمامة فالأ ... شمل سيراً يحثهن انطلاق
جازعات بطن العتيك كما تم ... ضي رفاق تحثهن رفاق
وقال (من الخفيف) :
ما بكاء الكبير في الأطلال ... بسؤالي وما يرد سؤالي
دمنة قفرة تعاورها الصيف ... بريحين من صباً وشمال
لات هنا ذكرى خبيرة أو من ... جاء منها بطائف الأهوال
حل أهلي بطن الغميس فبادو ... لي وحلت علوية بالسنحال
وقال يفتخر بيوم ذي قار (من الطويل) :
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... وراكبها يوم اللقاء وقلت
كفوا إذ أتى الهامرز تحنف فوقه ... كظل العقاب إذ هوت فتدلت
أذاقوهم كأساً من الموت مرة ... وقد بذخت فرسانهم وأذلت(3/)
فصبحهم بالحنو حنو قراقر ... وذي قارها منها الجنود ففلت
على كل مجبول السراة كأنه ... عقاب سرت من مرقب إذ تدلت
فجادت على الهامرز وسط بيوتهم ... شآبيب موت أسبلت فاستهلت
تناهت بنو الأحزاب إذ صبرت لهم ... فوارس من شيبان غلب فولت
وله فيه أيضاً (من البسيط) :
لو أن كل معد كان شاركنا ... في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف
لما أتونا كأن الليل يقدمهم ... مطبق الأرض تغشاها لهم سدف
بطارق وبنو ملك مرازبة ... من الأعاجم في آذانها النطف
من كل مرجانة في البحر أحرزها ... تيارها ووقاها طينها الصدف
وظعننا خلفنا تجري مدامعها ... أكبادها وجلاً مما ترى تجف
يحسرن عن أوجه قد عاينت عبراً ... ولاحها عبرة ألوانها كسف
ما في الخدود صدود عن وجوههم ... ولا عن الطعن في اللبات منحرف
عوداً على بدء كر ما يلينهم ... كر الصقور بنات الماء تختطف
لما أمالوا إلى النشاب أيدهم ... ملنا ببيض فظل الهام يقتطف
وخيل بكر فما تنفك تطحنهم ... حتى تولوا وكاد اليوم ينتصف
وقال (من الوافر) :
عرفت اليوم من تيا مقاما ... بجو أو عرفت لها خياما
فهاجت شوق محزون طروب ... فأسبل دمعه فيها سجاما
ويوم الخرج من قرماء هاجت ... بكاك حمامة تدعو حماما
وقد قالت قتيلة إذ رأتني ... وقد لا تعدم الحسنا ذاما
أراك كبرت واستحدثت خلقاً ... وودعت الكواكب والمداما
فإن تك لمتي يا قتل أمست ... كأن على مفارقها ثغاما
وأقصر باطلي وصحوت حتى ... كأني لم أجد في دد ملاما
فإن دوائر الأيام يفني ... تتابع وقعها الذكر الحساما
وقد أقري الهموم إذا اعترتني ... عذافرة مضبرة عقاما
ومنها:
إذا ما صار نحو بلاد قوم ... أزارهم المنية والحماما
تروح جياده مثل السعالي ... حوافرهن تهتضم السلاما
كصدر السيف أخلصه صقال ... إذا ما هز مشهوراً حساما
وقال وقد سمى أهل كابل كابلاً (من مجزوء الكامل) :
ولقد شربت الخمر تر ... كض حولنا ترك وكابل
كدم الذبيح غريبة ... مما يعتق أهل بابل
باكرتها حولي ذوو ... الآكال من بكر بن وائل
وقال من قصيدة يذكر قصة اليمامة وتكذيب قومها لها عندما أنذرتهم بإقبال تبع في جيوشه (من البسيط) :
إذ أبصرت نظرة ليست بفاحشة ... إذ رفع الآل رأس الكلب فارتفعا(3/)
قالت أوى رجلاً في كفه كتف ... أو يخصف النعل لهفاً آية صنعا
فكذبوها بما قلت فصبحهم ... ذو آل حسان يزجي السمر والسلعا
فاستنزلوا آل جو من منازلهم ... وهدموا شاخص البنيان فاتضعا
وله (من الطويل) :
وإن مراءاً أسرى إليك ودونه ... فياف تنوفات وبيداء خيفق
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان الموفق
ومن حكمه المأثورة قوله (من الطويل) :
فإن القريب من يقرب نفسه ... لعمر أخيك الخير لا من تنسبا
وله من جملة قصيدة يمدح فيها هوذة (من المتقارب) :
على أنها إذ رأتني أقا ... د قالت بما قد أراه بصيرا
رأت رجلاً غائب الوافدين ... مختلف الخلق أعشى ضريرا
وفي ذاك ما يستفيد الفتى ... وأي امرئ لا يلاقي الشرورا
فإن الحوادث قد ضعضعت ... وإن الذي تعلمين استعيرا
إذا كان هادي الفتى في البلا ... د صدر لاقناة أطاع الأميرا
وخاف العثار إذا ما مشى ... وخال السهولة وعثاً وعورا
وبيداء يلعب فيها السراب ... لا يهتدي القوم فيها مسيرا
قطعت إذا سمع السامعون ... للجندب الجون فيها صريرا
بعيرانة كاتان الثميل ... توافي السرى بعد أين عسيرا
إلى ماجد كهلال السماء ... أرحى وفاداً ومجداً وخيرا
طويل النجاد رفيع العماد ... يحمي المضام ويعطي الفقيرا
أهوذ وأنت امرؤ ماجد ... وبحرك في الناس يعلو البحورا
مننت علي العطاء الجزيل ... وقد قصر الظن مني كثيرا
وأهلي فداؤك يوم الجفار ... إذا ترك القيد خطوي قصيرا
سائل تميماً وعندي البيان ... فإن يكتموا يجدوني خبيرا
ومنها:
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا
ومن نسج داود يحدى بها ... على أثر العيس عيراً فعيرا
إذا ازدحمت في المكان المضيق ... حث التزاحم منها القتيرا
له جرس كخفيف الحصاد ... صادف بالليل ريحاً دبورا
جيادك بالقيظ في نعمة ... تصان الجلال وتعطى الشعيرا
ولا بد من غزوة ف يالربيع ... وهول تكل الوقاح الشكورا
ينازع أرسانهن الرواة ... شعثاً إذا ما علون الثغورا
وجاءت تتابع فرسانها ... كما اتبع السابقون الحسيرا
فأنت الجواد وأنت الذي ... إذا ما النفوس ملأن الصدورا
جدير بطعنة يوم اللقاء ... تضرب منها النسا والنحورا
وله أيضاً من قصيدة (من الرمل) :(3/)
عد هذا في قريض غيره ... واذكرن في الشعر دهقان اليمن
بابي الأشعث قيس إنه ... يشتري الحمد بمنفوس الثمن
جئته يوماً فأدنى مجلسي ... وحباني بلجوج في السفن
وثمانين عشاراً كلها ... أركات في بريم وحصن
وغلام قائم ذي عدوة ... وذلول جسرة مثل الفدن
وله أيضاً من قصيدة (من البسيط) :
لما رأيت زماناً كالحاً يتماً ... قد صار فيه رؤوس الناس أذنابا
يممت خير فتى في الناس كلهم ... الشاهدين به أعني ومن غابا
أثوى ثواء كريم ثم متعني ... يوم العروبة إذ ودعت أصحابا
بعنتريس كأن الحص ليط بها ... ادماء لا بكرة تدعى ولا نابا
والرجل كالروضة المحلال زينها ... نبت الخريف وكانت قبل معشابا
جزى الإله إياساً خير نعمته ... كما جزى المرء نوحاً بعدما شابا
في فلكه إذ تبدأها ليصنعها ... وظل يجمع ألواحاً وأبوابا
وقال أيضاً من قصيدة (من الطويل) :
صحا القلب عن ذكرى قتيلة بعدما ... يكون لها مثل الأسير المكبل
ومنها:
فأية أرض لا أتيت سراتها ... وأية أرض لم أخنها بهوجل
ويوم حمام قد نزلناه نزلة ... فنعم مناح الضيف والمتحول
فابلغ بني عجل رسولاً وأنتم ... ذوو نسب دان ومجد مؤثل
فنحن رددنا الفارسيين عنوة ... ونحن كسرنا فيهم رمح عبدل
وقال أيضاً (من المتقارب) :
أعلقم قد صيرتني الأمور ... إليك وما كان لي منكص
كشاكم علاثة أثوابه ... وورثكم مجده الأحوص
وكل أناس وإن أفحلوا ... إذا عاينوا فحلكم بصبصوا
وإن فحص الناس عن سيد ... فسيدكم عنه لا يفحص
وهل تنكر الشمس في ضوئها ... أو القمر الباهر المبرص
فهب لي ذنوبي قدتك النفوس ... ولا زلت تنمي ولا تنقص
وله من قصيدة (من الطويل) :
إذا احمر آفاق السماء واعصفت ... رياح الشتاء واستهلت شهورها
ترى أن قدري لا تزال كأنها ... لدى الخائف المقرور أم يزورها
ومنها:
ولا نلعن الضياف إن نزلوا بنا ... ولا نمنع الكوماء منا بصيرها
وإني لتراك الضغينة قد أرى ... قذاها من المولى فلا استثيرها
ويوم من الشعرى كأن ظباءه ... كواعب مقصور عليها ستورها
تدلت عليه الشمس حتى كأنها ... من الحر ترمي بالسكينة قورها
عصبت له رأسي وكلفت قطعه ... هنالك حرجوجاً بطياً فتورها
ومنها:(3/)
وليل يقول القوم من ظلماته ... سواء بصيرات العيون وعورها
كأن لنا منه بيوتاً حصينة ... مسوحاً أعاليها وساجاً كسورها
تجاوزته حتى مضى مدلهمه ... ولاح من الشمس المضيئة نورها
وقد عثرنا على بعض أبيات متفرقة تربي على الألف فأثبتنا بعضها هنا حرصاً على الشعر القديم وكلفاً به فمن ذلك قوله (من الطويل) :
فأقحمته حتى استكان كأنه ... قريح سلاح يكتف المشي فاتر
وقال أيضاً (من الخفيف) :
بينما المرء كالرد يني ذي الجبة ... سواه مصلح التثقيف
أو كقدح النضار لأمه القين ... وداني صدوعه بالكتيف
رده دهره المضلل حتى ... عاد من بعد مشيه للدليف
وله في المدح (من الطويل) :
يداك يدا صدق فكف مفيدة ... وأخرى إذا ما ضن بالمال تنفق
وقال أيضاً (من الخفيف) :
كخذول ترعى النواصف من ... تثليث قفراً خلا لها الأسلاق
تنفض المرد والكباث بحملا ... ج لطيف في جانبيه انفراق
وقال أيضاً (من الخفيف) :
المهينين مالهم في زمان ... السوء حتى إذا أفاق أفاقوا
وله أيضاً (من الخفيف) :
روحته جيداء دانية المر ... تع لاخبة ولا مقلاق
حرة طفلة الأنامل كالد ... مية لا عابس ولا مهزاق
وقال أيضاً (من الكامل) :
ربي كريم لا يكدر نعمة ... فإذا تنوشد في المهارق أنشدا
وله أيضاً (من السريع) :
مستقدم البركة عبل الشوى ... كفت إذا عض بكاس اللجام
وقال أيضاً (من الطويل) :
ويهماء قفر تخرج العين وسطها ... وتلقى بها بيض النعام ترائكا
ومن نظمه قوله (من الطويل) :
لنا هضبة لا ينزل الذل وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصبا
وقال أيضاً (من الطويل) :
وزوراً ترى في مرفقيه ... تجانفاً
نبيلاً كدوك الصيدناني دامكا
وقال أيضاً (من المتقارب) :
وما ايبلي على هيكل ... بناه وصلب فيه وصارا
وله أيضاً (من الخفيف) :
جندك التالد العتيق من السا ... دات أهل القباب والآكال
وقال أيضاً (من المنسرح) :
أبيض لا يرهب الهزال ولا ... يقطع رحماً ولا يخون إلا
وقال أيضاً (من الطويل) :
تعالوا فإن العلم عند ذوي النهي ... من الناس كالبقاء باد حجولها
ومن نظمه (من الطويل) :
لقد كان في شيبان لو كنت عالماً ... قباب وحي حلة وقبائل
وهو من قصيدة قال صاحب اللسان ومطلعها:(3/)
أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت امرؤ يرجو شبابك وائل
قال صاحب اللسان وللأعشى قصيدة ميمية أولها (من الطويل) :
هريرة ودعها وإن لام لائم
يقول فيها:
طعام العراق المستفيض الذي ترى ... وفي كل عام حلة ودراهم
وله يقول (من الخفيف) :
فرع نبع يهتز في غصن المجد ... عظيم الندى كثير الحمال
وله قوله (من الطويل) :
ورجراجة تعشي النواظر ضخمة ... وشعث على أكتافهن الرحائل
ولعل البيتين التاليين من توابع المتقدم:
صددت عن الأعداء يوم عباعب ... صدود المذاكي أفرعتها المساحل
فليتك حال البحر دونك كله ... وكنت لقى تجري عليك السوائل
وله أيضاً (من الوافر) :
نفى عنها المصيف وصار صقلاً ... وقد كثر التذكر والفقود
وله في وصف ناقة (من الخفيف) :
عنتريس تعدو إذا مسها الصو ... ت كعدو المصلصل الجوال
وقال أيضاً (من الخفيف) :
لاحه الصيف والغيار وإشفا ... ق على سقبة كقوس الضال
وله أيضاً (من مجزوء الكامل) :
ولقد شربت الخمر أسقى ... من إناء الطرجهاره
وقال أيضاً (من الخفيف) :
غير ميل ولا عواوير في الهيجا ... ولا عزل ولا أكفال
وقال (من المتقارب) :
وقد أقطع الجوز جوز الفلا ... ة بالحرة البازل العنسل
وله أيضاً في جري فرس (من مجزوء الكامل) :
إلا بداهة أو علا ... لة سابح نهد الجزاره
وقال (من المتقارب) :
أعامل حتى متى تذهبين ... إلى غير والدك الأكرم
ووالدكم قاسط فارجعوا ... إلى النسب الأتلد الأقدم
وله يقول (من المتقارب) :
أخو الحرب لا ضرع واهن ... ولم ينتعقل بقبال خدم
وقال أيضاً في الهجاء (من الكامل) :
قوماً تعالج قملاً أبناؤهم ... وسلاسلاً أجداً وباباً مؤصدا
ومن نظمه أيضاً (من الطويل) :
مضاربها من طول ما ضربوا بها ... ومن عض هام الدراعين نواحل
وله (من الطويل) :
تدراكه في منصل الال بعدما ... مضى غير دأداء وقد كاد يذهب
وقال أيضاً (من الخفيف) :
مرحت حرة كقنطرة الرو ... مي تفري الهجير بالأرقال
تقطع الأمعز المكوكب وخداً ... بنواج سريعة الايغال
وله يقول (من الرمل) :
وشمول تحسب العين إذا ... صفقت وردتها نور الذبح
فلين ربك من رحمته ... كشف الضيقة عنا وفسح
ثم وجدنا ما يأتي من الأبيات وهي:(3/)
فترى القوم نشاوى كلهم ... مثل ما مدت نصاحات الربح
كل وضاح كريم جده ... وخذول الرجل من غير كسح
ومنها أيضاً:
أم كما قالوا سقيم فلئن نفض الأسقام عنه واستصح
ليعيدن لمعد عكرها ... دلج الليل وتأخاذ المنح
تبتني الحمد وتسمو للعلا ... وترى نارك من ناء طرح
كم أينا من أناس هلكوا ... ورأينا الملك عمراً بطلح
قاعداً يجبى إليه خرجه ... كل ما بين عمان فالملح
ولئن كنا كقوم هلكوا ... مالحي يا لقوم من فلح
قد بنى اللؤم عليهم بيته ... وفشى فيهم مع اللؤم القلح
فترى الأعداء حولي شزراً ... خاضعي الأعناق أمثال الوذح
وله يقول (من الوافر) :
ألسنا نحن أكرم إن نسبنا ... واضرب المهندة الصفاح
وله أيضاً (من مجزوء الكامل) :
ولقد شهدت التاجر الأ ... مان موروداً شرابه
وقال أيضاً (من الطويل) :
وما ذنبه إن عافت الماء باقر ... وما إن يعاف الماء إلا ليضربا
وله في معناه:
لكالثور والجني يضرب رأسه ... وما ذنبه إن عافت الماء مشربا
وله يقول (من الوافر) :
اتتك العيس تنفح في براها ... تكشف عن مناكبها القطوع
وله يقول (من المتقارب) :
به ترعف الألف إذا أرسلت ... غداة الصباح إذا النقع ثارا
ولعل البيت التابع من تتمته:
ولو رمت في ظلمة قادحاً ... حصاة بنبع لا وريت نارا
وله يقول (من البسيط) :
واستشفعت من سراة الحي ذا ثقة ... فقد عصاها أبوها والذي شفعا
وقلبت مقلة ليست بمقرفة ... إنسان عين وموقاً لم يكن قمعا
تخال حتماً عليها كلما ضمرت ... من الكلال بأن تسوفي النسعا
وله قوله (من الطويل) :
تجانف عن جو اليمامة ناقتي ... وما عدلت من أهلها لسوائكا
وقال (من البسيط) :
لسنا بعير وبيت الله مائرة ... ولكن علينا دروع القوم والحجف
ومن نظمه (من الطويل) :
فمات ولم تذهب حسيفة صدره ... يخبر عنه ذاك أهل المقابر
وله يقول (من الطويل) :
تضيفته يوماً فأكرم مقعدي ... واصفدني على الزمانة قائدا
وله قوله (من السريع) :
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
وقال يذكر تفضيل عامر على علقمة بن علاثة (من السريع) :
إن الذين فيه تماريتما ... بين للسامع والناظر
ما جعل الجد الظنون الذي ... جنب صوب اللجب الماطر(3/)
مثل الفراتي إذا ما طما ... يقذف بالبوصي والماهر
وله أيضاً (من البسيط) :
هم الخضارم إن غابوا وإن شهدوا ... ولا يرون إل جاراتهم خنعا
وله (من البسيط) :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وقال (من الطويل) :
أرى الناس هروني وشهر مدخلي ... ففي كل ممشى أرصد الناس عقربا
وقال (من البسيط) :
لا يسمع المرء فيها ما يؤنسه ... بالليل إلا نئيم البوم والضوعا
وله قوله (من مجزوء الكامل) :
يا جارتا ما أنت جاره ... بانت لتحرننا عفاره
وله أيضاً أبيات متفرقة مثل هذا وزناً وقافية جمعناها من لسان العرب وهي:
لا نقاصي حسب ولا ... أيد إذا مدت قصاره
من مبلغ شيبان أن ... المرء لم يخلق صباره
بيضاء غدوتها وصفراء ... العشية كالعراره
فاقدر بذرعك بيننا ... إن كنت بوأت القداره
وله قوله (من الكامل) :
إن الأحامرة الثلاثة أهلكت ... مالي وكنت بها قديماً مولعا
الخمر واللحم السمين واطلي ... بالزعفران فلن أزل مولعا
المثقب العبدي (587م)
واسمه العائد (ويروى العائذ. والعابد) بن محصن بن ثعلبة بن وائلة بن عدي بن عوف بن حرب بن دهن بن عذرة بن منبه بن نكرة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. وكنيته أبو عمرو كان شاعراً من أهل العراق. وهو معدود في شعراء الطبقة الثانية. والمثقب لقب عرف به لقوله
ظهرن بكلة وسدلن أخرى ... وثقبن الوصاوص للعيون
قال صاحب مسالك الأبصار في حقه: شهرته مشهورة وشمسه الضاحية لا تخفي ظهوره كان من السراة في القدماء. والسراة في جنح الظلماء. وقصائده لا يجد مثلها في البلاد من ثقب. وفرائده لا يكافيها در النجوم الأبكار المثقب. قد غرد بها كل مغرد وأنشدت على كل مورد.
وكان أبو المثقب محصن بن ثعلبة سيداً خطيراً. وكان يقال له المصلح وكان قام مع قيس بن شراحيل بن مرة بن ذهل بن شيبان في إصلاح ما بين بكر وتغلب وفيه قال بعض شعراء قيس:
ومنا مصلح الحيين بكر ... وتغلب بعدما عما فسادا
بني لبنيه مكرمة وعزا ... فكان الماجد البطل الجوادا
وقال المثقب يذكر ذلك:
أبي أصلح الحيين بكراً وتغلباً ... وقد أرعشت بكر وخف حلومها(3/)
وللمثقب ديوان شعر جمعه الأئمة واستشهد بقوله أهل اللغة. فمن محاسن شعره قصيدته الدالية. وقد أجاد بوصف راحلته (من السريع) :
هل عند عتم لفؤاد صد ... من نهلة في اليوم أو في غد
يجزي بها الجازون عني ولو ... يمنع شربي لسقتني يدي
إلا ببدري ذهب خالص ... كل صباح آخر المسند
من مال من يحبو ويجبى له ... سبعون قنطاراً من العسجد
أو مائة تجعل أولادها ... لغواً وعرض المائة الجلمد
إذ لم أجد حبلاً له مرة ... إذ تهنا بين الخل والأوبد
حتى تلوفيت بلكية ... معجمة الحارك والموفد
تعطيك مشياً حسناً مرة ... حثك بالمرود والمحصد
ينبي تجاليدي واقتادها ... ناو كرأس الفدن المؤيد
عرفاء وجناء جمالية ... مكربة أرساغها جلعد
تنمي بنهاض إلى حارك ... ثم كركن الحجر الأصلد
كأنما أوب يديها إلى ... حيزومها فوق حصى الفدفد
نوح ابنه الجون على هالك ... تندبه رافعة المجلد
كلفتها تهجير دوية ... من بعد شأوي ليلها الأبعد
في لاحب تعرف جناته منفهق الفقرة كالبرجد
تكاد إذ حرك مجذافها ... تنفك من مثناتها واليد
لا يرفع الصوت لها راكب ... إذا المهارى جودة في البد
تسمع تعزافاً له رنة ... في باطن الوادي وفي القردد
كأنها اسفع ذو جدة ... يمسده الوبل وليل سدي
ملمع الخدين قد أردفت ... أكرعه بالزمع الأسود
كأنما ينظر في برقع ... من تحت روق سلب المزود
يصيخ للنباة أسماعه ... إصاخة الناشد للمنشد
ضم صماخيه لنكرية ... من خشية القانص والموسد
وانتصب القلب لتقسيمه ... أمراً فريقين ولم يبلد
يتبعه في إثره واصل ... مثل رشاء الخلب الأجرد
تنحسر الغمرة عنه كما ... ينحسر النجم عن الفرقد
في بلدة تعرف جناتها ... فيها حناظيل من الرود
فاظ إلى العليا إلى المنتهى ... مستعرض المغرب لم يعضد
فذاكم شبهته ناقتي ... مرتجلاً فيها ولم اعتد
بالمرباء المرهوب أعلامه ... بالمرفع الكاثبة الأكبد
لما رأى فاليه ما عنده ... أعجب ذا الروحة والمغتدي
كالأجدل الطالب رهو القطا ... مستنشطاً في العنق الأصيد
يجمع في الوكر وزيماً كما ... يجمع ذو الوفضة في المرود
وكان المثقب العبدي يتردد على عمرو بن هند ويمدحه بمدائح منتخبة منها قوله (من الرمل) :(3/)
هل لهذا القلب سمع أو بصر ... أو تناه عن حبيب يذكر
أو لدمع عن سفاه نهية ... تمترى منه أسابي الدرر
مزمهلات كسمطي لؤلؤ ... خذلت أخراته فيه مغر
إن رأى ظعناً لليلى ... قد علا الحزماء منهن أسر
قد علت من فوقها أنماطها ... وعلا الأحداج رقم كالشقر
وإلى عمرو وإن لم آته ... تجلب المدحة أو يمضي السفر
واضح الوجه كريم نحره ... ملك السيف إلى بطن العشر
حجري عائدي نسباً ... ثم للمنذر إذ جلى الخمر
باحري الدم مر طعمه ... يبرىء الكلب إذا عض وهر
كل يوم كان عناً جللاً ... غير يوم الحنو جنبي قطر
ضرب الدوسر فينا ضربة ... أثبتت أوتاد ملك مستقر
صحبتنا فيلق ملمومة ... تمنع الأعقاب منهن الأخر
فجزاه الله من ذي نعمة ... وجزاه الله إن عبد كفر
وأقام الرأس وقع صادق ... بعدما صاف وفي الخد صعر
ولقد راموا بسعي ناقص ... كي يزيلوه فاعيا وابر
ولقد أودى بمن أودى به ... عيش دهر كان حلواً فامر
وقال يمدح عمرو بن هند وهذه القصيدة من مشوبات العرب السبع (من الوافر) :
أفاطم قبل بينك ودعيني ... ومنعك ما سألتك أن تبيني
ولا تعدي مواعد كاذبات ... تمر بها رياح الصيف دوني
فإني لو تخالفني شمالي ... بنصر ما وصلت به يميني
إذا لقطعتها ولقلت بيني ... كذلك اجتوي من يجتويني
لمن ظعن تطلع من صبيب ... فما خرجت من الوادي لحين
مررن على شراف فذات رجل ... ونكبن الذرانح باليمين
وهن كذاك حين قطعن فلجاً ... كان حمولهن على سفين
يشبهن السفين وهن بخت ... عراضات الأباهر والشؤون
وهن على الرجائز واكنات ... قواتل كل أشجع مستكين
كغزلان خذلن بذات ضال ... تنوش الدانيات من الغصون
ظهرن بكلة وسدلن رقماً ... وثقبن الوصاوص للعيون
ومن ذهب يلوح على تريب ... كلون العاج ليس بذي غصون
وهن على الظلام مطلبات ... طويلات الذوائب والقرون
بتلهية أريش بها سهامي ... تبذ المرشقات من القطين
علون رباوة وهبطن غيباً ... فلم يرجعن قائلة لحين
فقلت لبعضهن وشد رحلي ... لهاجرة عصبت لها جبيني
لعلك إن صرمت الحبل مني ... أكون كذاك مصحبتي قروني
فسل الهم عنك بذات لوث ... عذافرة كمطرقة القيون
بصادقة الوجيف كان هراً ... يباريها ويأخذ الوضين(3/)
كساها تامكاً قرداً عليها ... وسادي الرضيح من اللجين
إذا قلقت أشد لها سنافاً ... أمام الزور من قلق الوضين
كأن مواقع الثقنات منها ... معرس باكرات الورد جون
يجد تنفس الصعداء منها ... قوى النسع المحرم ذي المتون
تصك الجانبين بمشفتر ... له صوت ابح من الرنين
كأن نفي ما تنفي يداها ... قذاف غريبة بيدي معين
تسد بدائم الخطر إن جثل ... خواية دبر مقلات دهين
وتسمع للذباب إذا تغني ... كتغريد الحمام على الوكون
والقيت الزمام لها فنامت ... لعادتها من السدف المبين
كأن مناخها ملقى لجام ... على معزائها وعلى الوجين
كأن الكور والأنساع منها ... على قرواء ماهرة دهين
يشق الماء جؤجؤها وتعلو ... غوارب كل ذي حدب بطين
غدت قودا وقد شقت نساها ... تحاسر بالنحاح وبالوتين
إذا ما قمت أرحلها بليل ... تاوه آهة الرجل الحزين
تقول إذا درأت لها وضيني ... أهذا دينه أبداً وديني
أكل الدهر حل وارتحال ... أما يبقى علي وما يقيني
فابقى باطلي والجد منها ... كدكان الدرابنة المطين
ثنيت زمامها ووضعت رحلي ... ونمرقة رفدت بها يميني
فرحت بها تعارض مسبطراً ... على ضخضاحه وعلى المتون
إلى عمرو ومن عمرو اتتني ... أخي النجدات والحلم الرصين
فإما أن تكون أخي بحق ... فاعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني ... عدواً اتقيك وتتقيني
وما أدري إذا يممت وجهاً ... أريد الخير أيهما يليني
هل الخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني
وقال يمدح النعمان أبا قابوس وهي قصيدة انتقاها صاحب المفضليات (من الطويل) :
ألا إن هنداً أمس رث جديدها ... وضن وما كانالمتاع يؤودها
فلو أنها من قبل جادت لنا به ... على العهد إذ تصطادني وأصيدها
ولكنها ممن يميط بوده ... بشاشة أدنى خلة تستفيدها
وآمت صواديح النار وأعرضت ... لوامع يطوى ريطها وبرودها
قطعت بفتلاء اليدين ذريعة ... يغول البلاد سومها وبريدها
فبت وباتت بالتنوفة ناقتي ... وبات عليها صفنتي وقتودها
وأغضت كما أغضيت عني فعرست ... على الثفنات والجران هجودها
على طرق عند الأراكة ربة ... توازي شريم البحر وهو قعيدها
كان جنيناً عند معقد غرزها ... تزاوله عن نفسه ويزيدها(3/)
تهالك منه في الرخاء تهالكاً ... تقاذف إحدى الجون حان ورودها
فنهنهت منها والمناسيم ترتمي ... بمعزاء شتى لا يرد عنودها
وايقنت إن شاء الإله بأنه سيبلغني أجلادها وقصيدها
فإن أبا قابوس عندي بلاؤه ... جزاء بنعمى لا يحل كنودها
وجدت زناد الصالحين نمينه ... قديماً كما بذ النجوم سعودها
فلم علم الله الجبال عصينه ... أتاه بأمراس الحبال يقودها
فإن يك منا في عمان قبيلة ... تواصت بأجناب وطال عنودها
وقد أدركتها المدركات فأصبحت ... إلى خير من تحت السماء وفودها
إلى ملك بذ الملوك فلم يسع ... أفاعيله حزم الملوك وجودها
وأي أناس لا أباح بغارة ... يوازي كبيدات السماء عمودها
وجأواء فيها كوكب الموت فخمة ... تقمص بالأرض الفضاء وبيدها
لها فرط يحوي النهاب كأنه ... لوامع عقبان مروع طريدها
وأمكن أطراف الأسنة والقنا ... يعابيب قود ما تثنى خدودها
تنبع من أعطافها وجلودها ... حميم وآضت كالحماليج سودها
وطار قشاري الحديد كأنه ... نخالة أقواع يطير حصيدها
بكل مقصي ولك صفيحة ... تتابع بعد الجارشي حدودها
فانعم أبيت اللعن إنك أصبحت ... لديك لكيز كهلها ووليدها
وأطلقهم تمشي النساء خلالهم ... مفككة وسط الرجال قيودها
وقال المثقب يفتخر (من الطويل) :
فسار تعناه المبيت فلم يدع ... له طامس الظلماء والليل مذهبا
رأى ضوء نار من بعيد فخالها ... لقد أكذبته بل رأى كوكبا
فلما استبان أنها أنسية ... وصدق ظناً بعدما كان كذبا
رفعت له بالكف ناراً تشبها ... شآمية نكباء أو عاصف صبا
وقلت ارفعاها بالصعيد كفى بها ... مناد لساري ليلة إن تاوبا
فلما أتاني والسماء تبله ... فلاقيته أهلاً وسهلاً ومرحبا
وقمت إلى البرك الهواجد فاتقت ... بكوماء لم يذهب بها الني مذهبا
فرحبت أعلى الجنب منها بطعنة ... دعت مستكن الجوف حتى تصببا
تسامى بنات الغلي في حجراتها ... تسامي عتاق الخيل ورداً واشهبا(3/)
ومن ظريف قول المثقب العبدي ما قاله في خالد بن الحرث. وذلك أن الممزق العبدي واسمه شاس بن بهار (ويروى بن نهار) كان أسيراً عند بعض الملوك فكلمه فيه خالد بن الحرث بن انمار بن عمرو بن ربيعة بن الحارث فوهبه له. ويقال كلمه فيه أسد بن عمرو يوم أغار عليهم النعمان: فقال المثقب (من الرمل) :
إنما جاد بشاس خالد ... بعدما حاقت به إحدى العظم
من مناء يتخاسين به ... يبتدرن الزول من لحم ودم
باكر الجفنة ربعي الندى ... حسن مجلسه غير لطم
يجعل المال عطايا جمة ... إن بذل المال في العرض أمم
لا يبالي طيب النفس بما ... عطب المال إذا العرض سلم
لا تقولن إذا ما لم ترد ... أن تتم الوعد في شيء نعم
حسن قول نعم من بعد لا ... وقبيح قول لا بعد نعم
إن لا بعد نعم فاحشة ... فبلا فابدأ إذا خفت الندم
وإذا قلت نعم فاصبر لها ... بنجاز الوعد إن الخلف ذم
أكرم الجار وراع حقه ... إن عرفان الفتى الحق كرم
لا تراني راتعاً من مجلس ... في لحوم الناس كالسبع الضرم
إن شر الناس من يمدحني ... حين يلقاني وإن غبت شتم
وكلام سيىء قد وقرت ... عنه أذناي وما بي من صمم
ولبعض الصفح والأعراض عن ... ذي الخنا ابقى وإن كان ظلم
وقال أيضاً (من الطويل) :
ألا حييا الدار المحيل رسومها ... تهيج علينا ما يهيج قديمها
سقى تلك من دار ومن حل ربعها ... ذهاب الغوادي وبلها ومديمها
ظللت ارد العين من عبراتها ... إذا نزفت كانت سراعاً جمومها
كأني أقاسني من سوابق عبرة ... ومن ليلة قد ضاق صدري همومها
ترد بأثناء كأن نجومها ... حيارى إذا ما غاب قلت نجومها
فبت أضم الركبتين إلى الحشا ... كأني راقي حية أو سليمها
سيكفيك مر الهم عزمك صرمه ... ويكفيك مخلوج المور صريمها
ويعملة أربي بها البيد في السرى ... يقطع أجواز الفلاة رسمها
رجوم بأثقال شداد رجيلة ... إذا الآل في التيه استقلت حزومها
كأني واقتادي على حمشة الشوى ... يجور صراري بها ويقيمها
امضي بها الأهوال في كل قفرة ... ينادي صداها آخر الليل بومها
انص السرى فيها بكل هجيرة ... تغير ألوان الرجال سمومها
أرى بدعاً مستحدثات تريبني ... يجوز بها مستضعف وحليمها
فإن تك أموال أصيبت وحولت ... ديار فقد كنا بدار نقيمها(3/)
ونحمي عن الثغر المخوف ويتقى ... بغارتنا كيد العدى وضيوفها
صبرنا لها حتى تفرج بأسنا ... وفئنا لنا أسلابها وعظيمها
نعد لأيام الحفاظ مكارماً ... فعالاً وأعراضاً صحيحاً أديمها
أبي أصلح الحيين بكراً وتغلباً ... وقد أرعشت بكر وخف حلومها
وقام بصلح بين عوف وعامر ... وخطة فصل ما يعاب زعيمها
ومن شعر المثقب قوله وهو لم يرو في ديوانه (من الوافر) :
ألا من مبلغ عدوان عني ... وما يغني التوعد من بعيد
فإنك لو رأيت رجال أبوى ... غداة تسربلوا حلق الحديد
إذاً لظننت جنة ذي عرين ... وآساد الغريفة في صعيد
وهو القائل أيضاً (من الوافر) :
ألا تلك العمود تصد عنا ... كأنا في الوخيمة من جديس
لحى الرحمان أقواماً أضاعوا ... على الوعواع أفراسي وعيسي
ونصب الحي قد عطلتموه ... ونقر بالأثامج والوكوس
ومن حكمه قوله بالاغترار باشباه الأمور (من البسيط) :
إن الأمور إذا استقبلتها اشتبهت ... وفي تدبرها التبيان والعبر
وكانت وفاة المثقب في عهد النعمان أبي قابوس نحو سنة (587م) .
شعراء بني عدنان (بكر بن وائل بنو يشكر)
الحارث بن حلزة (580م)(3/)
هو أبو ظليم الحارث بن حلزة بن مكروه بن يزيد بن عبد الله بن مالك بن عبد بن سعد بن جشم بن عاصم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائف. هو شاعر مشهور من أهلالعراق من شعراء الطبقة الأولى وكان به وضح أي برص وهو يعد من المقلين. قال أبو عبيدة: برز في قصيدة واحدة جيدة طويلة ثلاثة نفر عمرو بن كلثوم وحارث بن الحلزة وطرفة بن العبد. وقد جاء في ترجمة عمرو بن كلثوم ذكر سبب إنشاده معلقته أمام عمرو بن هند وذلك أن النعمان بن هرم كان خطيب بني بكر فغاظ الملك بكلامه وأوشك ابن هند أن يقضي لبني تغلب على بكر فقال الحارث بن حلزة لقومه: إني قد قلت خطبة فمن قام بها ظفر بحجته وفلح على خصمه. فرواها أناساً منهم فلما قاموا بين يدي الملك لم يرضه أنشادهم فقال إني لا أرى أحداً يقوم بها مقامي لكن أكره أن أكلم الملك من وراء سبعة ستور وينضح أثري بالماء إذا انصرفت عنه. وكانوا يفعلون ذلك بمن فيه برص وقيل بل كان ابن هند يفعل ذلك لعظم سلطانه ولا ينظر إلى أحد به سوء. ثم خاف ابن حلزة على قومه وقال: أنا محتمل ذلك وأقرب من الملك فقيل له: أن به وضحاً. فأمر أن تمد بينه وبين الحارث سبعة ستور. فجعلت. فلما نظر عمرو بن كلثوم قال للملك: أهذا يناطقني وهو لا يطيق صدر راحلته. فأجابه الملك حتى أفحمه. وأنشد الحارث قصيدته (راجعها في الجزء السادس من مجاني الأدب مع شرحها في السابع) . وقيل أنه ارتجلها ارتجالاً. وزعم الأصمعي أن الحارث كان له يومئذ من العمر نحو مائة وخمس وثلاثين سنة. فتوكأ على قوسه فزعموا أنه اقتطم كفه وهو لا يشعر من الغضب حتى فرغ منها وأعجب عمرو بمنطقه. وكانت هند أم عمرو تسمع فقالت لابنها: تالله ما رأيت كاليوم قط رجلاً يقول مثل هذا القول يكلم من وراء سبعة ستور. فقال الملك: ارفعوا ستراً وادنوا الحارث. وما زالت هند يزيد إعجابها به والملك يقول: ارفعوا ستراً وادنوا الحارث حتى أزيلت الستور السبعة وأقعده الملك قريباً منه على مجلسه ثم أطعمه في جفنته وأمر أن لا ينضح أثره بالماء. ثم جز نواصي السبعين رجلاً الذين كانوا رهناً في يده م بكر ودفعهم إلى الحارث. ثم أمره أن لا ينشد قصيدته إلا متوضئاً. ولم تزل تلك النواصي في بني(3/)
بكر يفتخرون بها وبشاعرهم. وضرب بالحارث المثل في الفخر فقيل: افخر من الحارث بن حلزة. وكان أبو عمرو الشيباني يعجب لارتجال الحارث هذه اقصيدة في موقف واحد ويقول: لو قالها في حول لم يلم وقد جمع فيها ذكر عدة من أيام العرب عير ببعضها بني تغلب تصريحاً وعرض ببعضها لعمرو بن هند.
وعاش الحارث بعد ذلك مدة وهو يعد من المعمرين قيل أنه توفي نحو سنة 580م وله من السنين نحو مائة وخمسون سنة. ومن شعر الحارث ما رواه النضر بن شميل وكان يستحسنها ويستجيدها ويقول فيها لله دره ما أشعره (من مجزوء الكامل) :
من حاكم بيني وبين ... الدهر مال علي عمدا
اودى بسادتنا وقد ... تركوا لنا حلقاً وجردا
خيلي وفارسها ورب ... أبيك كان أعز فقدا
فلو أن ما يأوي إلي ... أصاب من ثهلان فندا
أو رأس رهوة أو رؤو ... س شمارخ لهددن هدا
فضعي قناعك إن ريب ... الدهر قد أفنى معدا
فلكم رأيت معاشراً ... قد جمعوا مالاً وولدا
وهم رباب حائر ... لا يسمع الآذان رعدا
عيشي بجد لا يضر ... ك نوكى ما لاقيت جدا
والنوك خير في ظلا ... ل العيش ممن عاش كدا
وقال أيضاً يمدح ابن مارية قيس بن شراحيل بن مرة بن همام وكان سعى في صلح بني تغلب ويعاتب رجلاً من بني تميم يقال له العلاق كان عمرو بن هند بعثه مع أشراف تغلب وبكر لما أرسلهم لبعض أموره فمات التغلبيون كما جاء في ترجمة عمرو بن كلثوم سابقاً (من المتقارب) :
فهلا سعيت لصلح الصديق ... كصل ابن مارية الأقصم
وقيس تدارك بكر العراق ... وتغلب من شرها الأعظم
فبيت شراحيل في وائل ... مكان الثريا من الأنجم
فأصلح ما أفسدوا بينهم ... كذلك فعل الفتى الأكرم
وقال أيضاً يوصي ابنه عمراً (من السريع) :
قلت لعمرو حين أرسلته ... وقد حبا من دونها عالج
لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
وأصبب لأضيافك ألبانها ... فإن شر اللبن الوالج
يترك ما رقح من عيشه ... يعيث فيه همج هامج
ويروى للحارث أيضاً قوله يفتخر (من الكامل) :
الفيتنا للضيف خير عمارة ... إلا يكن لبن فعطف المدمج
وبعثت من ولد الأغر معتياً ... صقراً يلوذ حمامه بالعوسج
فإذا طبخت بناره نضجته ... وإذا طبخت بغيرها لم ينضج
وأول هذه القصيدة قوله:(3/)
طرق الخيال ولا كليلة مدلج ... سدكاً بأرحلنا ولم يتعرج
أنى اهتديت وكنت غير رحيلة ... والقوم قد قطعوا مشان السجسج
ومدامة فرعتها بمدامة ... وظباء محنية ذعرت بسمحج
فكأنهن لا لىء وكأنه ... صقر يلوذ حمامة بالعوسج
صقر يصيد بظفره وجناحه ... فإذا أصاب حمامة لم تدرج
ولئن سألت إذا الكتيبة أحجمت ... وتبينت رعة الجبان الأهوج
وحسبت وقع سيوفنا برؤوسهم ... وقع السحاب على الطراف المشرج
وإذا اللقاح تروحت بعشية ... رتك النعام إلى كنيف العرفج
وقال أيضاً يمدح قيس بن شراحيل (من الكامل) :
لمن الديار عفون بالحبس ... آياتها كمهارق الفرس
لا شيء فيها غير اصورة ... سفع الخدود يلحن كالشمس
أو غير آثار الجياد بأعراض ... الخيام وآية الدعس
فوقفت فيها الركب أحدس في ... بعض الأمور وكنت ذا حدس
حتى إذا التفع الظباء بأطراف ... الظلال وقلن في الكنس
ويئست مما كان يشعفني ... منها ولا يسليك كاليأس
انمي إلى جرف مذكرة ... تهص الحصى بمناسم ملس
خذم نقائلها يطرن كأقطاع ... الفراء بصحصح شأس
أفلا تعديها إلى ملك ... شهم المقادة حازم النفس
وإلى ابن مارية الجواد وهل ... شروى أبي حسان في الإنس
يحبوك بالزغف الفيوض على ... هميلنها والأدم كالغرس
وبالسبيك الصفر يضعفها ... وبالبغايا البيض واللعس
لا يرتجي للمال يهلكه ... طلق النجوم إليه كالنحس
فله هنالك لا عليه إذا ... دنعت أنوف الناس للتعس
وكان للحارث ابن اسمه ظليم عاش زماناً بعده وكان من الشعراء والفرسان
المنخل اليشكري (597م)(3/)
قد اختلف في نسبه فقيل أنه المنخل بن عمرو وقيل ابن مسعود بن أفلت بن عمرو بن كعب بن سوأة بن غنم بن حبيب بن يشكر بن بكر بن وائل. وقيل المنخل بن الحارث بن ربيعة بن عمرو وهو شاعر مقل من شعراء الجاهلية وكان ينادم النعمان مع النابغة الذبياني وينشده القصائد. وكان النعمان يكرمه ويقربه إليه. غير أنه يؤثر شعر النابغة على شعره فسعى النخل بالنابغة وأوغر صدره عليه حتى هم بقتله فهرب النابغة منه وخلا المنخل بمجالسته. فلم يزل على ما أصاب عنده من النعمة إلى أن وقع في قلبه منه أمر ارتاب فيه النعمان. وقيل بل اتهمه بامرأته المتجردة فأخذه ودفعه إلى رجل من حرسه وصاحب سجنه يقال له عكب من بني تغلب ليقتله فعذبه حتى قتله وقال المنخل يحرض قومه عليه (من الوافر) :
ألا من مبلغ الحيين عني ... بأن القوم قد قتلوا أبيا
فإن لم تثأروا لي من عكب ... فلا رويتم أبداً صديا
يطوف بي عكب في معد ... ويطعن بالصميلة في قفيا
وقال أيضاً (من الخفيف) :
ظل وسط الندي قتلي بلا جر ... م وقومي يثخنون السخالا
وكان قتله نحو سنة (597م) . وقيل بل حبسه النعمان ثم غمض خبره فلم تعلم له حقيقة ويقال: أنه دفنه حياً ويقال: أنه غرقه. والعرب تضرب به المثل كما تضربه بالقارظ العنزي وأشباهه ممن هلك ولم يعلم له خبر. قال ذو الرمة:
تقارب حتى تطمع التابع الصبا ... وليست بأدنى من إياب المنخل
وقال النمر بن تولب:
وقولوا إذا ما أطلقوا عن بعيرهم ... تلاقونه حتى يؤوب المنخل
والمنخل يعد من شعراء الطبقة الثانية. ومن شعره المروي عنه قوله (من مجزوء الكامل) :
إن كنت عاذلتي فسيري ... نحو العراق ولا تحوري
لا تسألي عن جل ما ... لي وانظري كرمي وخيري
وفوارس كأوار حر ... النار أجلاس الذكور
شدوا دوابر بيضهم ... في كل محكمة القتير
واستلاموا وتلببوا ... إن التلبب للمغير
وعلى الجياد المضمرات ... فوارس مثل الصقور
يعكفن مثل أساود التنوم لم تعكف بزور
يخرجن من خلل الغبار ... يجفن بالنعم الكثير
أقررت عيني من الئك ... والفوائح بالعبير
وإذا الرياح تناوحت ... بجوانب البيت الكسير
الفيتني هش اليدين ... بمري قدحي أو شحيري
ولقد شربت من المدامة ... بالصغير وبالكبير(3/)
ولقد شربت الخمر ... بالخيل الإناث وبالذكور
ولقد شربت الخمر ... بالعبد الصحيح وبالأسير
فإذا انتشيت فإنني ... رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني ... رب الشوهية والبعير
وقال أيضاً: يذكر انتصار باعث بن صريم على بني أسيد. وكانوا غدروا بأخيه وائل ورموه في بئر ثم رجموه بالحجارة فسار باعث أخوه غليهم وقتل منهم عدداً كبيراً ورماهم في البئر ولم يزل يذبح منهم حتى ألقى دلوه فيها فخرجت ملأى من دمهم فقال المنخل (من الخفيف) :
وقرى باعث أسيد حرباً ... في الواحي يشب منها الضراما
جرد السيف ثائراً بأخيه ... يقتل الكهل منهم والغلاما
فملأنا الدلاء حتى عراها ... علقاً برد القلوب السقاما
سويد بن أبي كاهل اليشكري (600م)
هو سويد بن أبي كاهل بن حارثة بن حسل بن مالك بن عبد سعد بن جشم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر. وذكر خالد بن كلثوم أن اسم أبي كاهل شبيب ويكنى سويد أبا سعد. قال صاحب الأغاني: أنشدني وكيع عن حماد عن أبيه لسويد بن أبي كاهل شاهداً بذلك (من الرجز) :
أنا أبو سعد إذا الليل دجا ... دخلت في سرباله ثم النجا
وجعله محمد بن سلام في الطبقة السادسة وقرنه بعنترة العبسي وطبقته. وسويد شاعر متقدم من مخضرمي الجاهلية والإسلام كذلك ذكر ابن حبيب. وكان أبوه أبو كاهل شاعراً وهو الذي يقول:
كان رحلي على صقعاء حادرة ... طياً قد ابتل من طل خوافيها
أخبر محمد بن خلف وكيع قال: حدثني محمد بن الهيثم بن عدي قال: حدثنا عبد الله عباس قال: قال زياد الأعجم يهجو بني يشكر:
إذا يشكري مس ثوبك ثوبه ... فلا ذتكرن الله حتى تطهرا
فلو أن من لؤم تموت قبيلة ... إذاً لامات اللؤم لا شك يشكرا
(قال) فاتت بنو يشكر سويد بن أبي كاهل ليهجو زياداً فأبى عليهم. فقال زياد
وانبئتهم يستصرخون ابن كاهل ... وللؤم فيهم كاهل وسنام
فإن يأتنا يرجع سويد ووجهه ... عليه الخزايا غبرة وقتام
دعي إلى ذبيان طوراً وتارة ... إلى يشكر ما في الجميع كرام(3/)
فقال لهم سويد: هذا ما طلبتم لي. وكان سويد مغلباً. وأما قوله (دعي إلى ذبيان طوراً وتارة إلى يشكر) فإن أم سويد بن أبي كاهل كانت امرأة من بني غبر وكانت قبل أبي كاهل عند رجل من بني ذبيان بن قيس بن عيلان. فمات عنها فتزوجها أو كاهل وكانت فيما يقال حاملاً فاستلاط أبو كاهل ابنها لما ولدته وسماه سويداً واستلحقه فكان إذا غضب على بني يشكر ادعى إلى بني ذبيان وإذا رضي عنهم أقام على نسبه فيهم. وذكر علان الشعوبي أنه ولد في بني ذبيان وتزوجت أمه أبا كاهل وهو غلام يفعة فاستلحقه أبو كاهل وادعاه فلحق به. ولسويد بن أبي كاهل قصيدة ينتمي فيها إلى قيس ويفتخر بذلك وهي التي أولها (من الطويل) :
أبا قلبه إلا عميرة إن دنت ... وإن حضرت دار العدا فهو حاضر
شموس حصان السر ريا كأنها ... مرببة مما تضمن حائر
ويقول فيها أيضاً:
أنا الغطفاني زين ذبيان فابعدوا فللزنج أدنى منكم ويحاير
ابت لي عبس أن أسام دنية ... وسعد وذبيان الهجان وعامر
وحي كرام سادة من هوازن ... لهم في الملمات الأنوف الفواخر
أخبر محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا محمد بن اسحق البغوي قال: حدثنا أبو نصر صاحب الأصمعي أنه قرأ شعر سويد بن أبي كاهل على الأصمعي فلما قرأ قصيدته:
بسطت رابعة الحبل لنا ... فوصلنا الحبل منها ما اتسع
فضلها الأصمعي وقال: كانت العرب تفضلها وتقدمها وتعدها من حكمها. ثم قال الأصمعي: حدثني عيسى بن عمر أنها كانت في الجاهلية تسمى اليتيمة. وهي (من الرمل) :
بسطت رابعة الحبل لنا ... فوصلنا الحبل منها ما اتسع
حرة تجلو شتيتاً واضحاً ... كشعاع الشمس في الغيم سطع
صقلته بقضيب ناضر ... من أراك طيب حتى نصع
أبيض اللون لذيذاً طعمه ... طيب الريح إذا الريق خدع
تمنح المرآة وجهاً واضحاً ... مثل قرن الشمس في الضحو ارتفع
صافي اللون وطرفاً ساجياً ... اكحل العينين ما فيه قمع
وقروناً سابغاً أطرافها ... عللتها ريح مسك ذي فنع
هيج الشوق خيال زائر ... من حبيب خفر فيه قدع
شاحط جاز إلى أرحلنا ... عصب الغاب طروقاً لم يرع
آنس كان إذا ما اعتادني ... حال دون النوم مني فامتنع
وكذاك الحب ما أشجعه ... يركب الهول ويعصي من وزع(3/)
فأبيت الليل ما أرقده ... وبعيني إذا نجم طلع
وغذا ما قلت ليل قد مضى ... عطف الأول منه فرجع
يسحب الليل نجوماً ظلعاً ... فتواليها بطيئات التبغ
ويزجيها على إبطائها ... مغرب اللون إذا الليل انقشع
فدعاني ذكر سلمى بعد ما ... ذهب الجدة مني والريع
كم قطعنا دون سلمى مهمهاً ... نازح الغور إذا الآل لمع
في حرور ينضج اللحم بها ... يأخذ السائر فيها كالصقع
وتخطيت إليها من عدى ... بزماع الأمر والهم الكنع
وفلاة واضح أقرابها ... بآليات مثل مرفت القزع
يسج الآل على أعلامها ... وعلى البيد إذا اليوم متع
فركبناها على مجهولها ... بصلاب الأرض فيهن شجع
كالمغالي عارفات للسرى ... مسنفات لم توشم بالنسع
فتراها عصفاً منعلة ... بنعال القين يكفيها الوقع
يدرعن الليل بهوين بنا ... كهوي الكدر صبحن الشرع
فتناولن غشاشاً منهلاً ... ثم وجهن لأرض تنتجع
من بني بكر لها مملكة ... منظر فيهن وفيهم مستمع
بسط الأيدي إذا ما سئلوا ... نفع النائل إن شيء نفع
من أناس ليس من أخلاقهم ... عاجل الفحش ولا سوء الجزع
عرف للحق ما نعبا به ... عند مر الأمر ما فينا خرع
وإذا هبت شمال اطعموا ... في قدور مشبعات لم تجع
وجفان كالجوابي ملئت ... من سمينات الذرى فيها ترع
لا يخاف الغدر من جاورهم ... أبداً منهم ولا يخشى الطبع
ومساميح بما ضن به ... حاسر والأنفس عن سوء الطمع
حسنو الأوجه بيض سادة ... ومراجيح إذا جد الفزع
وزن الأحلام إن هم وازنوا ... صادقو البأس إذا البأس نصع
وليوث تتقى عرتها ... ساكنو الريح إذا طار القزع
فبهم ينكى عدو وبهم ... يراب الشعب إذا الشعب انصدع
عادة كانت لهم معلومة ... في قديم الدهر ليست بالبدع
وإذا ما حملوا لم يظلعوا ... وإذا حملت ذا الشق ظلع
صالحو أكفائهم خلانهم ... وسراة الأصل والناس شيع
أرق العين خيال لم يدع ... من سليمى ففؤادي منتزع
حل أهلي حيث لا أطلبها ... جانب الحصن وحلت بالفرع
لا ألاقيها وقلبي عندها ... غير إلمام إذا الطرف هجع
كالتؤامية إن باشرتها ... قرت العين وطاب المضطجع
بكرت مزمعة نيتها ... وحدى الحادي بها ثم اندفع
وكريم عندها مكتبل ... غلق إثر القطين المتبع
فكأني إذ جرى الآل ضحى ... فوق ذيال بخديه سفع(3/)
كف خداه على ديباجة ... وعلى المتنين لون قد سطع
راعه من طيىء ذو أسهم ... وضراء كن يبلين الشرع
فرآهن ولما يستبن ... وكلاب الصيد فيهن جشع
ثم ولى وجنابان له ... من غبار أكدري واتدع
فتراهن على مهلته ... يختلين الأرض والشاة يلع
دانيات ما تلبسن به ... واثقات بدواء إن رجع
يلهب الشد إذا أرهقته ... وإذا برز منهن ربع
ساكن القفر أخو دوية ... فإذا ما آنس الصوت امصع
كتب الرحمان والحمد له ... سعة الأخلاق فينا والضلع
وإباء للدنيات إذا ... أعطي المكثور ضيماً فكنع
وبناء للمعالي إنما ... يرفع الله ومن شاء وضع
نعم لله فينا ربها ... وصنيع الله والله صنع
كيف باستقرار حر شاحط ... ببلاد ليس فيها متسع
لا يريد الدهر عنها حولاً ... جرع الموت وللموت جرع
رب من انضجت غيظاً صدره ... قد تمنى لي شراً لم يطع
ويراني كالشجا في حلقه ... عسراً مخرجه ما ينتزع
مزبد يخطر ما لم يرني ... فإذا اسمعته صوتي انقمع
قد كفاني الله ما في نفسه ... ومتى لم يكف شيئاً لم يضع
بئس ما يجمع أن يغتابني ... مطعم وخم وداء يدرع
لم يضرني غير أن يحسدني ... فهو يزقو مثل ما يزقو الضوع
ويحييني إذا لاقيته ... وإذا يحلو له لحمي رتع
مستسر الشنء لو يفقدني ... لبدا منه ذباب فنبع
ساء ما ظنوا وقد أبليتهم ... عند غايات الندى كيف اقع
صاحب المئرة لا يسامها ... يوقد النار إذا الشر سطع
اصقع الناس برجم صائب ... ليس بالطيش ولا بالمرتجع
فارغ السوط فما يجهدني ... ثلب عود ولا شخت ضرع
كيف يرجون سقاطي بعدما ... جلل الرأس مشيب وصلع
ورث البغضة عن آبائه ... حافظ العقل لما كان استمع
فسعى مسعاتهم في قومه ... ثم لم يظفر ولا عجزاً ودع
ذرع الداء ولم يدرك به ... ترة فاتت ولا وهياً رقع
مقعياً يردي صفاة لم ترم ... في ذرى أعيط وعر المطلع
معقل يأمن من كان به ... غلبت من قبله أن تقتلع
غلبت عاداً ومن بعدهم ... وابت بعد فليست تتضع
لا يراها الناس إلا فوقهم ... فهي تأتي كيف شاءت وتدع
وهو يرميها ولن يبلغها ... رعة الجاهل يرضى ما صنع
كمهت عيناه حتى ابيضتا ... فهو يلحى نفسه لما نزع
إذ رأى أن لم يضرها جهده ... ورأى خلقاء ما فيها طمع(3/)
تعضب القرن إذا ناطحها ... وإذا صاب بها المردى انجزع
وإذا ما رامها اعيا به ... قلة العدة قدماً والجدع
وعدو جاهد ناضلته ... في تراخي الدهر عنكم والجمع
فتساقينا بمر ناقع ... في مقام ليس يثنيه الورع
وارتمينا والأعادي شهد ... بنبال ذات سم قد نقع
بنبال كلها مذروبة ... لم يطق صنعتها إلا صنع
خرجت عن بغضة بينة ... في شباب الدهر والدهر جذع
وتحارضنا وقالوا إنما ... ينصر الأقوام من كان ضرع
ثم ولى وهو لا يحمي استه ... طائر الأتراف عنه قد وقع
ساجد المنخر لا يرفعه ... خاشع الطرف أصم المستمع
فر مني هارباً شيطانه ... حيث لا يعطي ولا شيئاً منع
فر مني حيث لا ينفعه ... موقر الظهر ذليل المتضع
ورأى مني مقاماً صادقاً ... ثابت الموطن كتام الوجع
ولساناً صيرفياً صارماً ... كحسام السيف ما مس قطع
وأتاني صاحب ذو غيث ... زفيان عد انفاد القرع
قال لبيك وما استصرخته ... حاقراً للناس أقوال القذع
ذو عباب زبد آذيه ... خمط التيار يرمي بالقلع
زغربي مستعز بحره ... ليس للماهر فيه مطلع
هل سويد غير ليث خادر ... ثئدت أرض عليه فانتجع
(أخبر) محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا أحمد بن معتب الأودي عن الحرمازي أن سويد بن أبي كاهل جاور في بني شيبان فاساؤوا جواره وأخذوا شيئاً من ماله غصباً فانتقل عنهم وهجاهم فأكثر. وكان الذي ظلمته وأخذ ماله أحد بني محلم. فقال يهجوهم وإخوتهم بني أبي ربيعة (من الكامل) :
حشر الإله مع القرود محلماً ... وأبا ربيعة الأم الأقوام
فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى همام
الظاعنين على العمى قدامهم ... والنازلين بشر دار مقام
والواردين إذا المياه تقسمت ... نزح الركي وعاتم الأسدام
وقال يهجو بني شيبان (من الطويل) :
لعمري لبئس الحي شيبان إن علا ... غنيزة يوم ذو إهاب أغيبر
فلما التقوا بالمشرفية ذبذبت ... موالية استاه شيبان تقطر
كانت بهراء أغارت على بني شيبان فأخذوا منهم نساء واستاقوا نعماً ثم أنهم اشتروا منهم النساء وردوهن فعيرهم سويد بأنهن رددن حبالى فقال (من الطويل) :
ظللن ينازعن العضاريط أزرها ... وشيبان وسط القطقطانة حضر
فمنا يزيد إذ تحدى جموعكم ... فلم تفرحوه المرزبان المسور(3/)
ويزيد رجل من يشكر برز يوم ذي قار إلى أسوار حمل على بني شيبان فانكشفوا من بين يديه فاعترضه اليشكري دونهم فقتله وعادت شيبان إلى موقفها ففخر بذلك عليهم فقال:
وأحجمتم حتى علاه بصارم ... حسام إذا مس الضريبة يبتر
ومنا الذي أوصى بثلث تراثه ... على كل ذي باع يقل ويكثر
ليالي قلتم يا ابن حلزة ارتحل ... فزابن لنا الأعداء واسمع وأبصر
فأدى إليكم رهنكم وسط وائل ... حباه بها ذو الباع عمرو بن منذر
(قال) فاستعدت بنو شيبان عليه عامر بن مسعود الجمحي وكان والي الكوفة فدعا به فتوعده وأمره بالكف عنهم بعد أن كان قد أمر بحبسه فتعصبت له قيس وقامت بأمره حتى تخلصته فقال في ذلك (من الطويل) :
يكف لساني عامر وكأنما ... يكف لساناً فيه صاب وعلقم
أتترك أولاد البغايا وغيبتي ... وتحبسني عنهم ولا أتكلم
ألم تعلموا أني سويد وأنني ... إذا لم أجد مستأخراً أتقدم
حسبتم هجائي إذ بطنتم غنيمة ... علي دماء البدن إن لم تندموا
قال الحرمازي في خبره هذاع: وهاجى سويد بن أبي كاهل حاضر بن سلمة الغبري. فطلبهما عبد الله بن عامر بن كريز فهربا من البصرة. ثم هاجى الأعرج أخا بني قال بن يشكر. فأخذهما صاحب الصدقة وذلك في أيام ولاية عامر بن مسعود الجمحي الكوفة فحبسهما وأمر أن لا يخرجا من السجن حتى يؤديا مائة من الإبل. فخاف بنو حمال على صاحبهم ففكوه وبقي سويد فخذله بنو عبد سعد وهم قومه فسأل بني غبر وكان قد هجاهم لما ناقض شاعرهم قالوا له: يا سويد ضيعت البكار بطحال فأرسلوها مثلاً أي أنك عممت جماعتنا بالهجاء في هذه الأرجوزة فضاع منك ما قدرت أنا نفديك به من الإبل. فلم يزل محبوساً حتى استوهبته عبس وذبيان لمديحه لهم وانتمائه إليهم فأطلقوه بغير فداء.
وله قوله (من الطويل) :
كأحقب موشي القوائم لاحه ... بروضة معروف ليال صوارد(3/)
القسم الرابع
شعراء نجد والحجاز والعراق من تميم
ومزينة وأسد وكنانة بني الياس بن مضر
عدي بن زيد (587م)
هو عدي بن زيد بن حمار بن زيد بن أيوب بن مجروف بن عامر ابن عصية بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار شاعر فصيح من شعراء الجاهلية وكان نصرانياً وكذلك كان أبوه وأمه وأهله وليس هو ممن يعد في الفحول وكان قروياً. وقد أخذوا عليه في أشياء عيب فيها. وكان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان: عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم يعارضها ولا يجري معها مجراها. وكذلك عندهم أمية بن أبي الصلت. ومثله كان عندهم من الإسلاميين الكميت والطرماح. قال ابن الأعرابي فيما أخبرني به علي بن سليمان الأخفش قال: سبب نزول آل عدي بن زيد الحيرة أن جده أيوب بن مجروف كان منزله اليمامة في بني امرئ القيس بن زيد بن مناة. فأصاب دماً في قومه فهرب فلحق بأوس بن قلام أحد بني الحارث بن كعب بالحيرة. وكان بين أيوب بن مجروف وبين أوس بن قلام هذا نسب من قبل النساء. فلما قدم عليه أيوب بن مجروف أكرمه وأنزله في داره. فمكث معه ما شاء الله أن يمكث. ثم أن أوساً قال له: يا ابن خالي أتريد المقام عندي وفي داري. فقال له أيوب: نعم فقد علمت أني إن أتيت قومي وقد أصبت فيهم دماً لم أسلم وما لي دار إلا دارك آخر الدهر. قال أوس: إني قد كبرت وأنا خائف أن أموت فلا يعرف ولدي لك من الحق مثل ما أعرف وأخشى أن يقع بينك وبينهم أمر يقطعون فيه الرحم. فانظر أحب مكان في الحيرة إليك فأعلمني به لأقطعكه أو ابتاعه لك. (قال) وكان لأيوب صديق في الجانب الشرقي من الحيرة وكان منزل أوس في الجانب الغربي. فقال له: قد أحببت أن يكون المنزل الذي تسكنيه عند منزل عصام بن عبدة أحد بني الحارث بن كعب. فابتاع له موضع داره بثلثمائة أوقية من ذهب واتفق عليها مائتي أوقية ذهباً وأعطاه مائتين من الإبل برعائها وفرساً وقينة. فمكث في منزل أوس حتى هلك. ثم تحول إلى داره التي في شرقي الحيرة فهلك بها. وقد كان أيوب قبل مهلكه اتصل بالملوك الذين كانوا بالحيرة وعرفوا حقه وحق ابنه زيد بن أيوب. فلم يكن منهم ملك يملك إلا ولو ولد أيوب منه جوائز وحملات. ثم أن زيد بن أيوب تزوج بامرأة من آل قلام فولدت له حماراً. فخرج زيد بن أيوب يوماً من الأيام يريد الصيد في(4/)
ناس من أهل الحيرة وهم منتدون بحفير وهو مكان يذكره عدي بن زيد في شعره. فانفرد في الصيد وتباعد من أصحابه. فلقيه رجل من بني امرئ القيس الذين كان لهم الثأر قبل أبيه. فقال له وقد عرف فيه شبه أيوب: ممن الرجل. قال: من بني تميم. قال: من أيهم. قال: مري. قال له الأعرابي: وأين منزلك. قال: الحيرة. قال: أمن بني أيوب أنت. قال: نعم ومن أين تعرف بني أيوب. فقال له: سمعت بهم. فاستوحش زيد من الأعرابي وذكر الثأر الذي هرب أبوه منه. ولم يعلمه أنه قد عرفه. فقال له زيد بن أيوب: فمن أي العرب أنت. قال: أما امرؤ من طيء. فأمنه زيد وسكت عنه. ثم أن الأعرابي اغتفل زيد بن أيوب فرماه بسهم فوضعه بين كتفيه ففلق قلبه. ثلم يرم حافر دابته حتى مات. فلبث أصحاب زيد حتى إذا كان الليل طلبوه وقد افتقدوه وظنوا أنه قد أمعن في الصيد فباتوا يطلبونه حتى يئسوا منه ثم غدوا في طلبه فاقتفوا أثره حتى وقفوا عليه ورأوا معه أثر راكب يسايره. فاتبعوا الأثر حتى وجدوه قتيلاً. فعرفوا أن صاحب الراحلة قتله فاتبعوه وأغذوا السير فأدركوه مساء الليلة الثانية. فصاحوا به. وكان من أرمى الناس فامتنع منهم بالنبل حتى حال الليل بينهم وبينه وقد أصاب رجلاً منهم في مرجع كتفيه بسهم. فلما أجنه الليل مات وأفلت الرامي. فرجعوا وقد قتل زيد بن أيوب ورجلاً آخر معه من بني الحارث بن كعب. فمكث حمار في أخواله حتى ايفع ولحق بالوصفاء. فخرج يوماً من الأيام يلعب مع غلمان بني لحيان. فلطم اللحياني عين حمار. فشجه حمار. فخرج أبو اللحياني فضرب حماراً. فأتى حمار أمه يبكي. فقالت له: ما شأنك. فقال: ضربني فلان لأن ابنه لطمني فشججته. فجزعت من ذلك وحولته إلى دار زيد بن أيوب وعلمته الكتابة في دار أبيه. فكان حمار أول من كتب من بني أيوب. فخرج من أكتب الناس وطلب حتى صار كاتب الملك النعمان فلبث كاتباً له حتى ولد له ابن من امرأة تزوجها من طيء فسماه زيداً باسم أبيه. وكان لحمار صديق من الدهاقين العظماء يقال له فروخ ماهان وكان محسناً إلى حمار. فلما حضرت حماراً الوفاة أوصى بابنه زيد(4/)
إلى الدهقان وكان من المرازبة. فأخذه الدهقان إليه فكان عنده مع ولده. وكان زيد قد حذق الكتابة والعربية قبل أن يأخذه الدهقان. فعلمه لما أخذه الفارسية فلقفها وكان لبيباً. فأشار الدهقان على كسرى أنوشروان أن يجعله على البريد في حوائجه. ولم يكن كسرى يفعل ذلك إلا بأولاد المرازبة. فمكث يتولى ذلك لكسرى زماناً. وتزوج زيد بنعمة بنت ثعلبة العدوية فولدت له عدياً نحو سنة 480. وولد للمرزبان ابن فسماه شاهان مرد. فلما تحرك عدي بن زيد وايفع طرحه أبوه في الكتاب حتى إذا حذق أرسله المرزبان مع ابنه شاهان مرد إلى كتاب الفارسية. فكان يختلف مع ابنه ويتعلم الكتابة والكلام بالفارسية حتى خرج من أفهم الناس بها وأفصحهم بالعربية وقال الشعر وتعلم الرمي بالنشاب. فخرج من الأساورة الرماة وتعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها. وفي أثناء ذلك تتابعت الملوك على الحيرة إلى أن تولى النعمان الثالث (سنة 498م) فأثبت زيد بن حمار على ولايته. وقدم ابنه عدياً ونادمه وكان النعمان هذا يدين بالوثنية فخرج يوماً إلى الصيد ومعه عدي بن زيد فنزل في ظل شجرة مؤنقة. فقال عدي بن زيد: أيها الملك أبيت اللعن أتدري ما تقول هذه الشجرة. قال: وما الذي تقول. قال: فإنها تقول (من الرمل) :
من رآنا فليحدث نفسه ... أنه موف على قرن زوال
فصروف الدهر لا تبقى لها ... ولما تأتي به صم الجبال
رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
والأباريق عليها فدم ... وجياد الخيل تجري في الجلال
عمروا الدهر بعيش حسن ... قطعوا دهرهم غير عجال
عصف الدهر بهم فانقرضوا ... وكذاك الدهر حالاً بعد حال
قال ثم جاوزا الشجرة فمرا بمقبرة. فقال له عدي: أتدري ما تقول هذه المقبرة. قال: لا. قال: فإنها تقول (من الرمل) :
أيها الركب المخبو ... ن على الرض المجدونا
كما أنتم كذا كنا ... كما نحن تكونونا
فقال النعمان: قد علمت أن الشجرة والمقبرة لا تتكلمان. وقد علمت أنك إنما أردت عظتي فجزاك الله عني خيراً فما السبيل الذي تدرك به النجاة. قال: تدع عبادة الأوثان وتعبد الله وحده. قال: وفي هذا النجاة. قال: نعم. قال: فترك عبادة الأوثان وتنصر حينئذ وأخذ في العبادة والاجتهاد.(4/)
وبقي عدي مع النعمان مدة ثم أشرف على الخورنق يوماً فأعجبه ما أوتي من الملك والسعة ونفوذ الأمر وإقبال الوجوه عليه فقال لأصحابه: هل أوتي أحد مثل ما أوتيت. فاقل له نديمه عدي بن زيد: هذا الذي أوتيت شيء لم يزل ولا يزول أم شيء كان لمن قبلك زال عنه وصار إليك. قال: بل شيء كان لمن قبلي زال عنه وصار إلي وسيزول عني. قال: فلا أراك إلا عجبت بشيء يسير تكون فيه قليلاً وتغيب عنه طويلاً وتكون غداً بحسابه مرتهناً قال: ويحك فأين المهرب وأين المطلب. قال: إما أن تقيم في ملكك فتعمل بطاعة الله ربك على ما ساءك وسرك ومضك وأرمضك وإما أن تضع تاجك وتخلع أطمارك وتلبس أمساحك وتعبد ربك حتى يأتيك أجلك قال: فإذا كان السحر فاقرع علي بابي فإني مختار أحد الرأييت فإن اخترت ما أنا فيه كنت وزيراً لا يعصي وإن اخترت فلوات الأرض وقفر البلاد كنت رفيقاً لا يخالف. قال: فقرع عليه عند السحر بابه فإذا هو قد وضع تاجه وخلع أطماره ولبس أمساحه وتهيأ للسياحة فلزما عبادة الله في لجبال حتى مات النعمان وفيه يقول عدي بن زيد:
وتفكر رب الخورنق إذ ... أشرف يوماً وللهدى تفكير
سره حاله وكثرة ما يملك ... والبحر معرضاً والسدير
فارعوى قلبه وقال فما غبطة ... حي إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والنعمة ... وارتهم هناك القبور
ثم صاروا كأنهم ورق جف ... فالوت به الصبا والدبور
وهذه الأبيات من قصيدة كتبها عدي بن زيد لأبي قابوس لما حبسه وسيأتي ذكرها.(4/)
ولما ساح النعمان اختلف أهل الحيرة فيمن يملكونه إلى أن يعقد كسرى الأمر لرجل ينصبه فأشار عليهم المرزبان يزيد بن حمار بن عدي. فكن على الحيرة إلى أن ملك كسرى المنذر بن ماء السماء. ثم أن المرزبان وفد على كسرى ومعه ابنه شاهان مرد. فبينما هما واقفان بين يديه إذ سقط طائران على السور. فقال كسرى للمرزبان وابنه: ليرم كل واحد منكما أحد من هذين الطائرين فإن قتلتماهما أدخلتكما بيت المال وملأت أفواهكما بالجوهر. ومن أخطأ منكما عاقبته. فاعتمد كل واحد منهما طائراً منهما ورميا فقتلاهما جميعاً. فبعثهما إلى بيت المال فملئت أفواههما بدجوهراً وأثبت شاهان مرد وسائر أولاد المرزبان في صحابته. فقال فروخ ماهان عند ذلك للملك: إن عندي علاماً من العرب مات أبوه وخلفه في حجري فربيته فهو أفصح الناس وألبهم بالعربية والفارسية والملك محتاج إلى مثله فإن رأى أن يثبته في ولدي فعل. فقال: ادعه. فأرسل إلى عدي بن زيد وكان جميل الوجه فائق الحسن وكانت الفرس تتبرك بالجميل الوجه. فلما كلمه وجده أظرف الناس وأحضرهم جواباً. فرغب فيه وأثبته مع ولد المرزبان. فكان عدي أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى أنوشروان. فرغب أهل الحيرة إلى عدي ورهبوه. فلم يزل بالمدائن في ديوان كسرى يؤذن له عليه في الخاصة وهو معجب به قريب منه وأبوه زيد بن حمار يومئذ حي إلا أن ذكر عدي قد ارتفع وخمل ذكر أبيه. وكان عدي يتردد على المنذر وكان إذا دخل عليه قام جميع من عنده حتى يقعد عدي. فعلا له بذلك صيت عظيم. فكان إذا أراد المقام بالحيرة في منزله ومع أبيه وأهله استأذن كسرى فأقام فيهم الشهر والشهرين وأكثر وأقل. ولما توفي أنوشروان وملك هرمز ابنه أرسل عدي بن زيد إلى ملك الروم طيباريوس الثاني بهدية من طرف ما عنده. فلما أتاه عدي بها أكرمه وحمله إلى أعماله على البريد ليريه سعة أرضه وعظيم ملكه. وكذلك كانوا يصنعون فمن ثم وقع عدي بدمشق وقال فيها الشعر. فكان مما قاله بالشام وهي أول شعر قاله فيما ذكر قوله (من الخفيف) :
لمن الدار تعفت بخمي ... أصبحت غيرها طول القدم
ما تبين العين من آياتها ... غير نوي مثل خط بالقلم
وثلاث كالحمامات بها ... بين مجثاهن توشيم الحمم(4/)
اسأل الدار وقد أنكرتها ... عن حبيب فإذا فيها صمم
صالحاً قد لفها فاستوثقت ... لف بازي حماماً في سلم
فهو كالدلو بكف المستقي ... خذلت عنه العراقي فانجذم
(قال) وفسد أمر الحيرة وعدي بدمشق حتى أصلح أبوه بينهم. لأن أهل الحيرة حين كان عليهم المنذر أرادوا قتله لأنه كان لا يعدل فيهم وكان يأخذ من أموالهم ما يعجبه. فلما تيقن أن أهل الحيرة قد أجمعوا على قتله بعث إلى زيد بن حمار بن زيد بن أيوب وكان قبله على الحيرة فقال له: يا زيد أنت خليفة أبي وقد بلغني ما أجمع عليه أهل الحيرة فلا حاجة لي في ملككم دونكموه ملكوه من شئتم. فقال له زيد: إن الأمر ليس إلي ولكني أسبر لك هذا الأمر ولا آلوك نصحاً. فلما أصبح غدا إليه الناس فحيوه تحية الملك وقالوا له: ألا تبعث إلى عبدك الظالم (يعنون المنذر) فتريح منه رعيتك. فقال لهم: أو لا خير من ذلك. قالوا: أشر علينا. قال: تدعونه على حاله فإنه من أهل بيت ملك وأنا آتيه فأخبره أن أهل الحيرة قد اختاروا رجلاً يكون أمر الحيرة إليه إلا أن يكون غزو أو قتال. فلك اسم الملك وليس إليك سوى ذلك من الأمور. قالوا: رأيك أفضل. فأتى المنذر فأخبره بما قالوا. وقبل ذلك وفرح وقال: إن لك يا زيد علي نعمة لا أكفرها ما عرفت حتى سبد فولى أهل الحيرة زيداً على كل شيء سوى اسم الملك فإنهم أقروه للمنذر وفي ذلك يقول عدي (من الرمل) :
نحن كنا قد علمتم قبلكم ... عمد البيت وأوتاد الأصار
(قال) ثم هلك زيد وابنه عدي يومئذ بالشأم. وكان لزيد ألف ناقة للحمالات كان أهل الحيرة أعطوه إياها حين ولوه ما ولوه. فلما هلك أرادوا أخذها. فبلغ ذلك المنذر فقال: لا واللات والعزى لا يؤخذ مما كان في يد زيد ثفروق وأنا أسمع الصوت. ففي ذلك يقول عدي بن زيد لابنه النعمان بن المنذر (من الرمل) :
وأبوك المرء لم يشنأ به ... يوم سيم الخسف منا ذو الخسار(4/)
(قال) ثم أن عدياً قدم المدائن على كسرى بهدية قيصر فصادف أباه والمرزبان الذي رباه قد هلكا جميعاً. فاستأذن كسرى في الإلمام بالحيرة. فأذن له. فتوجه إليها. وبلغ المنذر خبره فخرج فتلقاه الناس ورجع معه وعدي أنبل أهل الحيرة في أنفسهم ولو أراد أن يملكوه لملكوه ولكنه كان يؤثر الصيد واللهو واللعب على الملك. فمكث سنين يبدو في فصلي السنة فيقيم في حفير ويشتو بالحيرة ويأتي المدائن في خلال ذلك فيخدم كسرى. فمكث كذلك سنين وكان لا يؤثر على بلاد بني يربوع مبدي من مبادي العرب ولا ينزل في حي من أحياء بني تميم غيرهم. وكان أخلاؤه من العرب كلهم بني جعفر. وكانت إبله في بلاد بني ضبة وبلاد بني سعد وكذلك كان أبوه يفعل لا يجاوز هذين الحيين بابله. ولم يزل على حاله تلك حتى تزوج هنداً بنت النعمان بن المنذر وهي يومئذ جارية حين بلغت أو كادت.(4/)
قال صاحب الأغاني ما ملخصه: وكانت هند من أجمل نساء أهلها وزمانها وأمها مارية الكندية فخرجت في خميس الفصح وهو بعد الشعانين بثلاثة أيام تتقرب في البيعة ولها حينئذ إحدى عشرة سنة وذلك في ملك المنذر وقد قدم عدي حينئذ بهدية من كسرى إلى المنذر. والنعمان يومئذ فتى شاب فاتفق دخولها بيعة دومة (وقيل بيعة توما) . وقد دخلها عدي ليتقرب وكان معه فتيان من أهل الحيرة وقد برع عليهم بجماله وحسن كلامه وفصاحته وما عليه من الثياب. وكان لابساً يلمقاً مذهباً لم ير مثله حسناً كان فرخانشاه مرد قد كساه إياه. وكانت بيعة توما حسنة البناء كثيرة السرج وفيها عدد من الرواهب انقطعن فيها إلى العبادة. فرأى عدي هند فسأل عنها عندما خرج من البيعة فقيل له إنها هند بنت النعمان. فوقعت في نفسه وبقي حولاً على ذلك. ثم أن عدياً صنع طعاماً واحتفل به ثم أتى النعمان بعد الفصح بثلاثة أيام وذلك في يوم الإثنين فسأله عدي أن يتغدى عنده هو وأصحابه ففعل. فلما أخذ منه الشراب. خطب هند إلى النعمان أبيها فأجابه وزوجه وضمها إليه بعد ثلاثة أيام. قال خالد بن كلثوم: فكانت معه حتى قتله النعمان فترهبت وحبست نفسها في الدير المعروف بدير هند في ظاهر الحيرة. وقال ابن الكلبي: بل ترهبت بعد ثلاث سنين واحتبست في الدير حتى ماتت وكانت وفاتها بعد الإسلام بزمان طويل في ولاية المغيرة بن شعبة الكوفة وخطبها المغيرة فردته كما سيأتي في خبرها.
وذكر هشام بن الكلبي قال: وكان لعدي بن زيد إخوان أحدهما اسمه عمار ولقبه أبي والآخر اسمه عمرو ولقبه سمي. وكان لهم أ× من أمهم يقال له عدي بن حنظلة من طيء. وكان أبي يكون عند كسرى وكانوا أهل بيت نصارى يكونون مع الأكاسرة ولهم ولهم معهم أكل وناحية يقطعونهم القطائع ويجزلون صلاتهم. وكان المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان بن المنذر في حجر عدي بن زيد. فهم الذين أرضعوه وربوه. وكان للمنذر ابن آخر يقال له الأسود أمه مارية بنت الحارث. فأرضعه ورباه قوم من أهل الحيرة يقال لهم بنو مرينا ينتسبون إلى لخم وكانوا أشرافاً. وكان للمنذر سوى هذين من الولد عشرة. وكان ولده يقال لهم الأشاهب من جمالهم. فذلك قول أعشى بن قيس بن ثعلبة:(4/)
وبنو المنذر الأشاهب في الحيرة ... يمشون غدوة كالسيوف(4/)
وكان النعمان من بينهم أ؛ مر أبرش قصيراً وأمه سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ من أهل فدك. فلما احتضر المنذر وخلف أولاده العشرة أوصى بهم إلى قبيصة الطائي وملكه على الحيرة إلى أن يرى كسرى رأيه فمكث مملكاً عليها أشهراً وكسرى في طلب رجل يملكه عليهم. فلم يجد أحداً يرضاه. فضجر وقال: لابعثن إلى الحيرة اثني عشر ألفاً من الأساورة ولاملكن عليهم رجلاً من الفرس ولآمرنهم أن ينزلوا على العرب في دورهم ويملكوا عليهم أموالهم ونساءهم. وكان عدي بن زيد واقفاً بين يديه. فأقبل عليه وقال: ويحك يا عدي من بقي من آل المنذر وهل فيهم أحد فيه خير. فقال: نعم أيها الملك السعيد إن في ولد المنذر لبقية فيهم كلهم خير. فقال: ابعث إليهم فأحضرهم. فبعث إليهم فأحضرهم وأنزلهم جميعاً عنده. ويقال بل شخص عدي بن زيد إلى الحيرة حتى خاطبهم بما أرادوا وأوصاهم ثم قدم بهم إلى كسرى. (قال (فلما نزلوا على عدي بن زيد أرسل إلى النعمان: لست أملك غيرهم. فلا يوحشنك ما أفضل به إخوتك عليك من الكرامة فإني إنما اغترهم بذلك. ثم كان يفضل إخوته جميعاً عليه في النزل والإكرام والملازمة ويريهم تنقصاً للنعمان وأنه غير طامع في تمام أمر على يده. وجعل يخلو بهم رجلاً رجلاً فيقول: إذا أدخلتكم على الملك فالبسوا أفخر ثيابكم وأجملها. وإذا دعا لكم بالطعام لتأكلوا فتباطأوا في الأكل وصغروا اللقم ونزروا ما تأكلون. فإذا قال لكم: أتكفوني العرب. فقولوا: نعم. فإذا قال لكم: فإن شذ أحدكم عن الطاعة وأفسد تكفوننيه. فقولوا: لا إن بعضنا لا يقدر على بعض. ليهابكم ولا يطمع في تفرقكم ويعلم أن للعرب منعة وبأساً. فقبلوا منه. وخلا بالنعمان فقال له: البس ثياب السفر وادخل متقلداً بسيفك. وإذا جلست للأكل فعظم اللقم وأسرع المضغ والبلغ وزد في الأكل وتجوع قبل ذلك فإن كسرى يعجبه كثرة الأكل من العرب خاصة ويرى أنه لا خير في العربي إذا لم يكن أكولاً شرهاً ولا سيما إذا رأى غير طعامه وما لا عهد له بمثله. وإذا سألك: هل تكفيني العرب. فقل: نعم. فإذا قال لك فمن لي بإخوتك. فقل له: إن عجزت عنهم فإني عن غيرهم لأعجز. (قال) وخلا ابن مرينا بالأسود فسأله عما أوصاه به عدي. فأخبره. فقال: غشك(4/)
والصليب والمعمودية وما نصحك وإن أطعتني لتخالفن كل ما أمرك به ولتملكن وإن عصيتني ليملكن النعمان. ولا يغرنك ما أراكه من الإكرام والتفضيل على النعمان فإن ذلك دهاء فيه ومكر وإن هذه المعدية لا تخلو من مكر وحيلة. فقال له: إن عدياً لم يألني نصحاً وهو أعلم بكسرى منك وإن خالفته أوحشته وأفسد علي. وهو جاء بنا ووصفنا وإلى قوله يرجع كسرى. فلما أيس ابن مرينا من قبوله منه قال: ستعلم. ودعا بهم كسرى فلما دخلوا عليه أعدبه جمالهم وكمالهم ورأى رجالاً قلما رأى مثلهم. فدعا لهم بالطعام ففعلوا ما أمرهم به عدي. فجعل ينظر إلى النعمان من بينهم ويتأمل أكله فقال لعدي بالفارسية: إن يكن في أحد منهم خير ففي هذا. فلما غسلوا أيديهم جعل يدعوهم رجلاً رجلاً فيقول له: أتكفيني العرب. فيقول: نعم. قال: كلها. قال: نعم. قال: فكيف لي بإخوتك. قال: إن عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز. فملكه خلع عليه وألبسه تاجاً قيمته ستون ألف درهم فيه اللؤلؤ والذهب. فلما خرج وقد ملك قال ابن مرينا للأسود: دونك عقبى خلافك لي. ثم أن عدياً صنع طعاماً في بيعة وأرسل إلى ابن مرينا أن: ائتني بمن أحببن فإن لي حاجة. فأتى في ناس فتغدوا في البيعة. فقال عدي بن زيد لابن مرينا: يا عدي إن أحق من عرف الحق ثم لم يلم عليه من كان مثلك. وإني قد عرفت أن صاحبك الأسود بن المنذر كان أحب إليك أن يملك من صاحبي النعمان. فلا تلمني على شيء كنت على مثله. وأنا أحب أن لا تحقد علي شيئاً لو قدرت ركبته. وأنا أحب أن تعطيني من نفسك ما أعطيك من نفسي فإن نصيبي في هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك. وقام إلى البيعة فحلف أن لا يهجوه أبداً ولا يبغيه غائلة أبداً ولا يزوي عنه خيراً أبداً. فلما فرغ عدي بن زيد قام عدي بن مرينا فحلف مثل يمينه أن لا يزال يهجوه أبداً ويبغيه الغوائل ما بقي. وخرج النعمان حتى نزل منزل أبيه بالحيرة. فقدم عليه عدي بن زيد لا مال عنده ولا أثاث ولا ما يصلح لملك. وكان آدم إخوته منظراً وكلهم أكثر مالاً منه. فقال له عدي: كيف أصنع بك ولا مال عندك. فقال له النعمان: ما(4/)
أعرف لك حيلة إلا ما تعرفه أنت. فقال له: قم بنا نمض إلى ابن قردس رجل من أهل الحيرة من دومة. فأتياه ليقترضا منه مالاً. فأبى أن يقرضهما وقال: ما عندي شيء. فأتيا جابر بن شمعون وهو الأسقف أحد بني الأوس بن قلام بن بطين بن جمهير بن لحيان بن بني الحارث بن كعب وكان جابر صاحب القصر الأبيض بالحيرة. فاستقرضا منه مالاً. فأنزلهما عنده ثلاثة أيام يذبح لهم ويسقيهم الخمر. فلما كان في اليوم الرابع قال لهما: ما تريدان. فقال له عدي: تقرضنا أربعين ألف درهم يستعين بها النعمان على أمره عند كسرى. فقال: لكما عندي ثمانون ألفاً. ثم أعطاهما إياها. فقال النعمان لجابر: لا جرم لا جرى لي درهم إلا على يديك إن أنا ملكت. ثم بقي عدي بن زيد مكرماً عند النعمان لا يفعل شيئاً إلا بمشورته. فرأى عدي بن مرينا تقدمه فساءه الأمر وكتب إلى عدي بن زيد:
ألا أبلغ عدياً عن عدي ... فلا تجزع وإن رثت قواكا
هياكلنا تبر لغير فقد ... لتحمد أو يتم به عناكا
فإن تظفر فلم تظفر حميداً ... وإن تعطب فلا يبعد سواكا
ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناك ما صنعت يداكا(4/)
(قال) ثم قال عدي بن مرينا للأسود: أما إذا لم تظفر فلا تجزن أن تطلب بثأرك من هذا المعدي الذي فعل بك ما فعل فقد كنت أخبرك أن معداً لا ينام كيدها ومكرها وأمرتك أن تعصيه فخالفتني. قال: فما تريد. قال: أريد أن لا يأتيك فائدة من مالك وأرضك إلا عرضتها علي. ففعل. وكان ابن مرينا كثير المال والضيعة. فلم يكن في الدهر يوم يأتي إلا على باب النعمان هدية من ابن مرينا. فصار من أكرم الناس عليه حتى كان لا يقضي في ملكه شيئاً إلا بأمر ابن مرينا. وكان إذا ذكر عدي بن زيد عند النعمان أحسن الثناء عليه وشيع ذلك بأن يقول: إن عدي بن زيد فيه مكر وخديعة. والمعدي لا يصلح إلا هكذا. فلما رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده لزموه وتابعوه. فجعل يقول لمن يثق به من أصحابه: إذا رأيتموني أذكر عدياً عند الملك بخير فقولوا: إنه لكذلك ولكنه لا يسلم عليه أحد. وإنه ليقول: إن الملك (يعني النعمان) عامله وإنه هو ولاه ما ولاه. فلم يزالوا بذلك حتى أضغنوه عليه فكتبوا كتاباً عن لسانه إلى قهرمان له ثم دسوا إليه حتى أخذوا الكتاب منه وأتوا به النعمان. فقرأه فاشتد غضبه فأرسل إلى عدي بن زيد: عزمت عليك إلا زرتني فإني قد اشتقت إلى رؤيتك. وعدي يومئذ عند كسرى. فاستأذن كسرى فأذن له. فلما أتاه لم ينظر إليه حتى حبسه في محبس لا يدخل عليه فيه أحد.
وقال المفضل الضبي خاصة: إن سبب حبس النعمان عدي بن زيد أن عدياً صنع ذات يوم طعاماً للنعمان وسأله أن يركب إليه ويتغدى عنده هو وأصحابه. فركب النعمان إليه. فاعترضه عدي بن مرينا فاحتبسه حتى تغدى عنده هو وأصحابه وشربوا حتى ثملوا. ثم ركب إلى عدي ولا فضل عنده فاحفظه ذلك. ورأى في وجه عدي الكراهة فقام وركب ورجع إلى منزله. فقال عدي بن زيد في ذلك من فعل النعمان (من مجزؤ الكامل) :
أحسبت مجلسنا وحسن ... حديثنا يودي بمالك
فالمال والأهلون مصرعة ... لأمرك أو نكالك
ما تأمرون فينا فأمرك ... في يمينك أو شمالك(4/)
(قال) وأرسل النعمان ذات يوم إلى عدي بن زيد فأبى أن يأتيه. ثم أعاد رسوله. فأبى أن يأتيه. وقد كان شرب. فغضب وأمر به فسحب من منزله حتى انتهي به إليه فحبسه في الصنين ولج في حبسه فجعل عدي يقول الشعر وهو في الحبس فمن ذلك قوله (من الخفيف) :
ليت شعري عن الهمام ويأتيك ... بخير الأنباء عطف السؤال
أين عنا إخطارنا المال والأنفس ... إذ ناهدوا ليوم المجال
ونضالي في جنبك الناس يرمو ... ن وارمي وكلنا غير آل
فأصيب الذي تريد بلا غش ... وأربي عليهم وأوالي
وبعينيك كل ذاك تخطرا ... ك ويمضيك نبلهم في النضال
جاعلاً سرك التخوم فما أحفل ... قول الوشاة والأنذال
ليت أني أخذت حتفي بكفي ... ولم ألق منيتي في القتال
محلوا محلهم لصرعتنا العا ... م فقد أوقعوا الرحا بالثفال
وهي قصيدة طويلة وقال أيضاً يعاتب النعمان على حبسه ويعرض بذكر أعدائه (من الوافر) :
ارقت لمكفهر بات فيه ... بوارق يرتقين رؤوس شيب
تلوح المشرفية في ذراه ... ويجلو صفح دخدار قشيب
كان مآتماً باتت عليه ... خضبن مآليا بدم خصيب
سقى بطن العقيق إلى آفاق ... ففاثور إلى لبب الكثيب
فروى قلة الادحال وبلا ... ففلجاً فالنبي فذا كريب
سعى الأعداء لا يألون شراً ... عليك ورب مكة والصليب
أرادوا كي تمهل عن عدي ... ليسجن أو يدهده في القليب
وكنت لزاز خصمك لم أعدد ... وقد سلكوك في يوم عصيب
أعالنهم وابطن كل سر ... كما بين اللحاء إلى العسيب
قفزت عليهم لما التقينا ... بتاجك فوزة القدح الأريب
وما دهري بان كدرت فضلاً ... ولكن ما لقيت من العجيب
ألا من مبلغ النعمان عني ... وقد تهوى النصيحة بالمغيب
احظي كان سلسلة وقيداً ... وغلاً والبيان لدى الطبيب
أتاك بأنني قد طال حبسي ... ولم تسام بمسجون حريب
وبيتي مقفر الأرجاء فيه ... أرامل قد هلكن من النحيب
يبادرن الدموع على عدي ... وما اقترفوا عليه من الذنوب
فإن أخطأت أو أوهمت أمراً ... فقد بهم المصافي بالحبيب
وإن أظلم فقد عاقبتموني ... وإن أظلم فذلك من نصيبي
وإن أهلك تجد فقدي ونجدي ... إذا التقت العوالي في الحروب
وما هذا بأول ما ألاقي ... من الحدثان والعرض القريب
فهل لك أن تدارك ما لدينا ... ولا تغلب على الرأي المصيب(4/)
فإني قد وكلت اليوم أمري ... إلى رب قريب مستجيب
وقال فيه أيضاً (من الرمل) :
طال ذا الليل علينا واعتكر ... وكأني ناذر الصبح سمر
إذ أتاني نبأ من منعم ... لم أخنه والذي أعطى الشبر
من نجيي الهم عندي ثاوياً ... فوق ما أعلن منه وأسر
وكأن الليل فيه مثله ... ولقدماً ظن الليل القصر
لم أغمض طوله حتى انقضى ... أتمنى لو أرى الصبح حسر
شئز جنبي كأني مهدأ ... جعل القين على الدف الإبر
غير ما عشق ولكن طارق ... خلس النوم واجداني السهر
وفيها يقول:
أبلغ النعمان عني مألكاً ... قول من قد خاف ظناً فاعتذر
إنني والله فأقبل حلفي ... لأبيل كلما صلى جار
مرعد أحشاؤه في هيكل ... حسن لمته وافي الشعر
ما حملت الغل من أعدائكم ... ولدى الله من العلم المسر
لا تكونن كآسي عظمه ... بأسى حتى إذا العظم جبر
عاد بعد الجبر ينعى وهنه ... ينحون المشي منه فانكسر
واذكر النعمى التي لم أنسها ... لك في السعي إذا العبد كفر
وقال أيضاً وهي قصيدة طويلة (من الرمل) :
أبلغ النعمان عني مألكاً ... أنني قد طال حبسي وانتظاري
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
وعداتي شمتت أعجبهم ... إنني غيبت عنهم في إساري
فلئن دهر تولى خيره ... وجرت بالنحس لي منه الجواري
لي بما منه قضينا حاجة ... وحياة المرء كالشيء المعار
لثق الريش تدلى غدوة ... من أعالي صعبة المرقى طمار
ليت شعري عن دخيل يفتري ... حيثما أدرك ليلي ونهاري
لامرئ لم يبل مني سقطة ... إن أصابته ملمات العثار
قاعداً يكرب نفسي بثها ... وحراماً كان سجني واحصاري
نحن كنا قد علمتم قبلكم ... عمد البيت وأوتاد الاصار
وأبوك المرء لم يشنأ به ... يوم سيم الخسف منا ذو الخسار
أجل نعمى ربها أولكم ... ودنوي كان منكم واصطهاري
أجل إن الله قد فضلكم ... فوق من احكأ صلباً بازار
وله أيضاً يصف براءته وزيادة أمه له (من الخفيف) :
ليس شيء على المنون بباق ... غير وجه المسج الخلاق
إن نكن آمنين فاجانا شر ... مصيب ذا الود والإشفاق
فبريء صدري من الظلم للرب ... وحنث بمعقد الميثاق
ولقد ساءني زيارة ذي قر ... بى حبيب لودنا مشتاق
ساءه ما بنا تبين في الأيدي ... واشناقها إلى الأعناق(4/)
فاذهبي يا أميم غير بعيد ... لا يؤاتي العناق من في الوثاق
واذهبي يا أميم إن يشا الله ... ينفس من ازم هذا الخناق
أوتكن وجهة فتلك سبيل الناس ... لا تمنع الحتوف الرواقي
ومنها في تحريض أهله على أنجاده:
وتقول الغداة أودي عدي ... وبنوه قد أيقنوا بعلاق
يا أبا مسهر فأبلغ رسولاً ... إخوتي إن أتيت صحن العراق
أبلغا عامراً وأبلغ أخاه ... أنني موثق شديد وثاقي
في حديد القسطاس يرقني الحا ... رس والمرء كل شيء يلاقي
في حديد مضاعف وغلول ... وثياب منضحات خلاق
فاركبوا في الحرام فكوا خاكم ... إن عيراً قد جهزت لانطلاق
ومما كتب به إلى النعمان وهو من غرر قصائده قوله (من الخفيف) :
أرواح مودع أم بكور ... لك فاعمد لأي حال تصير
وسطه كاليراع أو سرج المجدل ... حيناً يخبو وحيناً ينير
مثل نار الحراض يجلو ذرى المز ... ن لمن شامه إذا يستطير
مرح وبله يسح سبوب ... السما مجاً كأنه منخور
زجل عجزه يجاوبه دف ... لخوان مأدوبة وزمير
كدمى العاج في المحاريب أو كا ... لبيض في الروض زهره مستنير
زانهن الشفوف ينصحن ... بالمسك وعيش مفانق وحرير
ويقول العداة أودى عدي ... وعدي بسخط رب أسير
أيها الشامت المعير بالدهر ... أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من ... الأيام بل أنت جاهل مغرور
إن يصيبني بعض الهنات فلا وا ... ن ضعيف ولا أكب عثور
كقصير إذ لم يجد غير أن جد ... ع إشرافه لمكر قصير
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
لا تواتيك وإن صحوت وإن ... أجهد في العارضين منك القتير
يوم لا ينفع الرواغ ولا يقدم ... إلا المشع النحرير
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ... وان أم أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم ... لم يبق منهم مذكور
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة ... تجنى إليه والخابور
شاده مرمراً وجلله كلساً ... فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد الملك ... عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ أشر ... ف يوماً وللهدى تفكير
وكتب إليه يستعطفه ويعتذر إليه وفيها غناء لبابونة (من الوافر) :
ألا من مبلغ النعمان عني ... علانية فقد ذهب السرار
بأن المرء لم يخلق جديداً ... ولا هضباً ترقاه الوبار(4/)
ولكن كالشهاب فثم يخبو ... وحادي الموت عنه لا يحار
فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار
وقال أيضاً وفيه غناء لحنين الحيري المغني النصراني (من الوافر) :
ألا من مبلغ النعمان عني ... فبينا المرء أغرب إذ أراحا
أطعت بني تفيلة في وثاقي ... وكنا من حلوقهم ذباحا
منحتهم الفرات وجانبيه ... وتسقينا الأواجن والملاحا
وقال أيضاً وفيه غناء لابن محرز (من المنسرح) :
لم أر مثل الفتيان في غبن الأ ... يام. ينسون ما عواقبها
ينسون إخوانهم ومصرعهم ... وكيف تعتاقهم مخالبها
ماذا ترجي النفوس من طلب الخير ... وحب الحياة كاربها
تظن أن لن يصيبها عنت الدهر ... وريب المنون صائبها
ما بعد صنعاء كان يعمرها ... ولاة ملك جزل مواهبها
رفعها من بني لدى قزع ... المزن وتندى مسكاً محاربها
محفوفة بالجبال دون عرى ... الكائد ما ترتقي غواربها
يأنس فيها صوت النهام إذا ... جاوبها بالعشي قاصبها
ساقت إليها الأسباب جند بني ... الأحرار فرسلنها مواكبها
وفوزت بالبغال توسق با ... لحتف وتسعى بها توالبها
حتى رآها الأقوال من طرف ... المنقل مخضرة كتائبها
يوم ينادون آل بربر ... واليكسوم لا يفلتن هاربها
فكان يوم باقي الحديث وزا ... لت أمة ثابت مراتبها
وبدل الفتح بالزرافة والأيام ... جون جم عجائبها
بعد بني تبع نخاورة ... قد اطمأنت بها مرازبها
والحضر صابت عليه داهية ... من فوقه أيد مناكبها
ريبة لم توق والدها ... يحبها إذ أضاع راقبها
إذ غبقته صهباء صافية ... والخمر وهل يهيم شاربها
وأسلمت أهلها بليلتها ... تظن أن الرئيس خاطبها
في ليلة لا يرى بها أحد ... يحكي عليها إلا كواكبها
فكان حظ العروس إذ جشر ... الصبح دماء تجري سبائبها
وخرب الحضر واستبيح وقد ... أحرق في خدرها مشاجبها
وخرج النعمان إلى البحرين فأقبل رجل من غسان فأصاب في الحيرة ما أحب ويقال أنه جعبة بن النعمان الجفني فقال عدي بن زيد في ذلك (من الوافر) :
سما صقر فأشعل جانبيها ... والهاك المروح والعزيب
وثبن لدى المثوبة ملجمات ... وصبحن العباد وهن شيب
ألا تلك الغنيمة لا إفال ... ترجيها مسومة وئيب
ترجيها وقد صابت بقر ... كمما ترجو أصاغرها عتيب(4/)
(وقالوا جميعاً) : فلما سجن عدي بن زيد كتب إلى أخيه أبي وهو مع كسرى بهذا الشعر (من السريع) :
ابلغ أبياً على نأيه ... وهل ينفع المرء ما قد علم
بأن أخاك شقيق الفوا ... د كنت به واثقاً ما سلم
لدى ملك موثق في الحديد ... إما بحق وإما ظلم
فلا أعرفنك كدأب الغلا ... م ما لم يجد عارماً يعترم
فأرضك أرضك إن تأتنا ... ننم ليلة ليس فيها حلم
قال فكتب إليه أ×وه أبي:
إن يكن خانك الزمان فلا ... عاجز باغ ولا أليف ضعيف
ويمين الإله لو أنه جأوا ... ء طحوناً فيها تضيء السيوف
ذات رزء مجتابة غمرة المو ... ت صحيح سر بالها مكفوف
كنت في حميها لجئتك أسعى ... فأعلمن لو سمعت إذ تستضيف
أو بمال سئلت دونك لم يمنع ... تلاد لحاجة أو طريف
أو بأرض أسطيع آتيك فيها ... لم يهلني بعد بها أو مخوف
في الأعادي وأنت مني بعيد ... عز هذا الزمان والتعنيف
أن يعني والله ألف فجوع ... لا يعنيك ما يصوب الخريف
ولعمري لئن جزعت عليه ... لجزوع على الصديق أسوف
ولعمري لئن ملكت عزائي ... لقليل شرواك فيما أطوف(4/)
(قالوا جميعاً) : فلما قرأ أبي كتاب عدي قام إلى كسرى فكلمه في أمره وعرفه خبره. فكتب إلى النعمان يأمره بإطلاقه وبعث معه رجلاً. وكتب خليفة النعمان إليه: أنه قد كتب إليك في أمره. فأتى النعمان أعداء عدي من بني نفيلة وهم من غسان فقالوا له: اقتله الساعة. فأبى عليهم. وجاء الرسول. وكان أخو عدي تقدم إليه ورثاه وأمره أن يبدأ بعدي فيدخل إليه وهو محبوس بالصنين. فقال له: ادخل عليه فانظر ما يأمرك به فامتثله. فدخل الرسول على عدي فقال له: إني قد جئت بإرسالك فما عندك. قال: عندي الذي تحب. ووعده بعدة سنية وقال له: لا تخرجن من عندي وأعطني الكتاب حتى أرسله إليه. فإنك والله إن خرجت من عندي لأقتلن. فقال: لا أستطيع إلا أن آتي الملك بالكتاب فأوصله إليه. فانطلق بعض من كان هناك من أعدائه فأخبر النعمان أن رسول كسرى دخل على عدي وهو ذاهب به وإن فعل والله لم يستبق منا أحداً أنت ولا غيرك. فبعث إليه النعمان أعداءه فغموه حتى مات ثم دفنوه. ودخل الرسول إلى النعمان فأوصل الكتاب إليه. فقال: نعم وكرامة. وأمر له بأربعة آلاف مثقال ذهباً وجارية حسناء. وقال له: إذا أصبحت فأدخل أنت بنفسك فأخرجه. فلما أصبح ركب فدخل السجن. فأعلمه الحرس أنه قد مات منذ أيام ولم نجترىء على أخبار الملك خوفاً منه وقد عرفنا كراهته لموته. فرجع إلى النعمان وقال له: أني كنت أمس دخلت على عدي وهو حي وجئت اليوم فحجزني السجان وبهتني وكذر أنه قد مات منذ أيام. فقال له النعمان: أيبعث بك الملك إلي فتدخل إليه قبلي. كذبت. ولكن أردت الرشوة والخبث. فتهدده ثم زاده جائزة وإكرامه وتوثق منه أن لا يخبر كسرى إلا أنه قد مات قبل أن يقدم عليه. فرجع الرسول إلى كسرى وقال: إني وجدت عدياً قد مات قبل أن أدخل عليه. وندم النعمان على قتل عدي وعرف أنه احتيل عليه في أمره واجترأ أعداؤه عليه وهابهم هيبة شديدة. ثم أنه خرج على صيده ذات يوم فلقي ابناً لعدي يقال له زيد. فلما رآه عرف شبهه. فقال له: من أنت. فقال: أنا زيد بن عدي بن زيد. فكلمه فإذا غلام ظريف. ففرح به فرحاً شديداً وقربه وأعطاه ووصله واعتذر إليه من أمر أبيه وجهزه. ثم كتب إلى كسرى: أن عدياً كان ممن أعين به الملك في(4/)
نصحه ولبه فأصابه ما لا بد منه وانقطعت مدته وانقضى أجله ولم يصب به أحد أشد من مصيبتي. أما الملك فلم يكن ليفقد رجلاً إلا جعل الله له منه خلفاً لما عظم الله من ملكه وشأنه. وقد بلغ ابن له ليس بدونه رأيته يصلح لخدمة الملك فسرحته إليه فإن رأى الملك أن يجعله مكان أبيه فليفعل وليصرف عمه عن ذلك إلى عمل آخر. وكان هو الذي يلي المكاتبة عن الملك إلى ملوك العرب في أمورها وفي خواص أمور الملك. وكانت له من العرب وظيفة موظفة في كل سنة مهران أشقران يجعلان له هلاماً والكمأة الرطبة في حينها واليابسة والأقط والأدم وسائر تجارات العرب. فكان زيد بن عدي يلي ذلك له وكان هذا عمل عدي. فلما وقع زيد بن عدي عند الملك هذا الموقع سأله كسرى عن النعمان. فأحسن الثناء عليه. ومكث على ذلك سنوات على الأمر الذي كان أبوه عليه. وأعجب به كسرى. فكان يكثر الدخول عليه والخدمة له. وكانت لملوك العجم صفة من النساء مكتوبة عندهم فكانوا يبعثون في تلك الأرضين بتلك الصفة إذا وجدت حملت إلى الملك غير أنهم لم يكونوا يطلبونها في أرض العرب ولا يظنونها عندهم. ثم أنه بدا للملك في طلب تلك الصفة وأمر فكتب بها إلى النواحي. ودخل إليه زيد بن عدي وهو في ذلك القول فخاطبه فيما دخل إليه فيه ثم قال: إني رأيت الملك قد كتب في نسوة يطلبن له وقرأت الصفة. وقد كنت بآل المنذر عارفاً. وعند عبدك النعمان من بناته وأخواته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. قال: فاكتب فيهن. قال: أيها الملك إن شر شيء في العرب وفي النعمان خاصة أنهم يتكرمون زعموا في أنفسهم عن العجم. فأنا أكره أن يغيبهن عمن تبعث إليه أو يعرض عليه غيرهن. وإن قدمت أنا عليه لم يقدر على ذلك. فابعثني وابعث معي رجلاً من ثقاتك يفهم بالعربية حتى أبلغ ما تحبه فبعث معه رجلاً جلداً فهماً. فخرج به زيد فجعل يكرم الرجل ويلطفه حتى بلغ الحيرة. فلما دخل عليه أعظم الملك وقال: إنه قد احتاج إلى نساء لنفسه وولده وأهل بيته وأراد كرامتك بصهره فبعث إليك. فقال: ما هؤلاء النسوة. فقال: هذه صفتهن قد(4/)
جئنا بها. فقرأ زيد الصفة على النعمان. فشقت عليه وقال لزيد والرسول يسمع: أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته. فقال الرسول لزيد بالفارسية: ما المها والعين. فقال له بالفارسية: كاوان أي البقر. فأمسك الرسول. قال زيد للنعمان: إنما أراد كرامتك ولو علم أن هذا يشق عليك لم يكتب إليك به فأنزلهما يومين عنده. ثم كتب إلى كسرى أن الذي طلب الملك ليس عندي. وقال لزيد: اعذرني عند الملك. فلما رجعا إلى كسرى قال زيد للرسول الذي قدم معه: اصدق الملك عما سمعت فإني سأحدثه بمثل حديثك ولا أخالفك فيه. فلما دخلا على كسرى قال زيد: هذا كتابه إليك. فقرأه عليه. فاقل له كسرى: وأين الذي كنت خبرتني به. قال: كنت خبرتك بضنتهم بنسائهم على غيرهم وإن ذلك من شقائهم واختيارهم الجوع والعري على الشبع والرياش وإيثارهم السموم والرياح على طيب أرضك هذه حتى أنها ليسمونها السجن. فسل هذا الرسول الذي كان معي عما قال فإني أكرم الملك عن مشافهته بما قال وأجابه. قال للرسول: وما قال. فقال له الرسول: أيها الملك أنه قال: أما كان في بقر السواد وفارس ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا. فعرف الغضب في وجهه ووقع في قلبه منه ما وقع لكنه لم يزد على أن قال: رب عبد قد أراد ما هو أشد من هذا. ثم صار أمره إلى التباب. وشاع هذا الكلام حتى بلغ النعمان. وسكت كسرى أشهراً على ذلك. وجعل النعمان يستعد ويتوقع حتى أتاه كتابه أن: أقبل فإن للملك حاجة إليك. فانطلق حين أتاه كتابه فحمل سلاحه وما قوي عليه ثم لحق بجبلي طيء. وكانت فرعة بنت سعد بن حارة بن لام عنده وقد ولدت له رجلاً وامرأة وكانت أيضاً عنده زينب بنت أوس بن حارثة. فأراد النعمان طيئاً على أن يدخلوا الجبلين ويمنعوه. فأبوا ذلك عليه وقالوا له: لولا صهرك لقتلناك. فإنه لا طاقة لكم بكسرى. فأقبل حتى نزل بذي قار في بني شيبان سراً. فلقي هانىء بن قبيصة وقيل بل هانىء بن مسعود وكان سيداً منيعاً والبيت يومئذ من ربيعة في آل ذي الجدين لقيس بن مسعود بن قيس بن خلد ذي الجدين. وكان كسرى قد أطعم قيس بن مسعود الأبلة. فكره النعمان أن يدفع إليه أهله لذلك وعلم أن هانئاً يمنعه مما يمنع نفسه منه.(4/)
وقال حماد الراوية في خبره: أنه إنما استجار بهانىء كما استجار بغيره فأجاره وقال له: قد لزمني ذمامك وأنا مانعك مما أمنع نفسي وأهلي وولدي منه ما بقي من عشيرتي الأدنين رجل. وأن ذلك غير نافعك لأنه مهلكي ومهلكك. وعندي رأي لست أشير به عليك لادفعك عما تريده من مجاورتي ولكنه الصواب. فقال: هاته. فقال: أن كل أمر يجمل بالرجل أن يكون عليه إلا أن يكون بعد الملك سوقة. والموت نازل بكل أحد. ولأن تموت كريماً خير من أن تتجرع الذل أو تبقى سوقة بعد الملك. هذا إن بقيت. فامض إلى صاحبك واحمل إليه هدايا ومالاً والق نفسك بين يديه. فأما إن صفح عنك فعدت ملكاً عزيزاً. وأما إن أصابك فالموت خير من أن يتلعب بك صعاليك العرب ويتخطفك ذئابها وتأكل مالك وتعيش فقيراً مجاوراً أو تقتل مقهوراً. فقال: كيف بحرمي. قال: هن في ذمتي لا يخلص إليهن حتى يخلص إلى بناتي. فقال: هذا وأبيك الرأي الصحيح ولن أجاوزه. ثم اختار خيلاً وحللاً من عصب اليمن وجوهراً وطرفاً كانت عنده ووجه بها إلى كسرى وكتب إليه يعتذر ويعلمه أنه صائر إليه ووجه بها مع رسوله. فقبلها كسرى وأمره بالقدوم. فعاد إليه الرسول فأخبره بذكل وأنه لم ير له عند كسرى سوءاً. فمضى إليه حتى إذا وصل إلى المدائن لقيه زيد بن عدي على قنطرة ساباط فقال له: انج نعيم إن استطعت النجاء. فقال له: أفعلتها يا زيد أما والله لئن عشت لك لاقتلنك قتلة لم يقتلها عربي قط ولالحقنك بأبيك. فقال له زيد: امض لشأنك نعيم فقد والله آخيت لك آخية لا يقطعها المهر الأرن. فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه فقيده وبعث به إلى سجن كان له بخانقين. فلم يزل فيه حتى وقع الطاعون هناك فمات فيه. وقال حماد الراوية والكوفيون: بل مات بساباط في حبسه. وقال ابن الكلبي: ألقاه تحت أرجل الفيلة فوطئته حتى مات. واحتجوا بقول الأعشى:
فداك وما أنجى من الموت ربه ... بساباط حتى مات وهو محزرق
وأنكر هذا من زعم أنه مات بخانقين وقالوا: لم يزل محبوساً مدة طويلة وأنه إنما مات بعد ذلك بجين قبيل الإسلام وغضبت له العرب حينئذ. وكان قتله سبب وقعة ذي قار كما هو مذكور في ترجمة إياس بن قبيصة.(4/)
وقد سبق أن عدياً من مشاهير شعراء العباد ولقربه من الريف وسكناه الحيرة لانت ألفاظه فحمل عنه كثير وإلا فهو مقل ومن مشهوراته داليته الطائرة الذكر وهي من مجمهرات العرب ضمتها أجود الحكم ومطلعها (من الطويل) :
أتعرف رسم الدار من أم معبد ... نعم ورماك الشوق قبل التجلد
إلى أن يقول:
أعاذل ما أدنى الرشاد من الفتى ... وأبعده منه إذا لم يسدد
أعاذل قد لاقيت ما يزع الفتى ... وطابقت في الحجلين مشي المقيد
أعاذل ما يدريك أن منيتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى غد
أعاذل من يكتب له الموت يلقه ... كفاحاً ومن يكتب له الفوز يسعد
أعاذل أن الجهل من لذة الفتى ... وأن المنايا للرجال بمرصد
فذرني فما لي غير ما امض إن مضي ... أمامي من مالي إذا خف عودي
وحمت لميقات إلي منيتي ... وغودرت قد وسدت أو لم أوسد
وللوارث الباقي من المال فاتركي ... عتابي فإن مصلح غير مفسد
أعاذل من لا يصلح النفس خالياً ... عن اللب لا يرشد لقول المفند
كفى زاجراً للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدي
بليت وأبليت الرجال وأصبحت ... سنون طوال قد أتت دون مولدي
فلست بمن يخشى حوادث تعتري ... رجالاً فبادوا بعد بؤس واسعد
فنفسك فاحفظها عن الغي والردى ... متى تغوها يغو الذي بك يهتدي
وإن كانت النعماء عندك لامرئ ... فمثل بها واجز المطالب واردد
إذا ما امرؤ لم يرج منك مودة ... فلا ترجها منه ولا دفع مشهد
وعد سواة القول واعلم با، هـ ... إذا لم يبن في اليوم يصرمك في الغد
وإن أنت فاكهت الرجال فلا تجم ... وقل مثل ما قالوا ولا تتزند
إذا أنت نازعت الرجال نوالهم ... فعف ولا تطلب بجهد فتنكد
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلاً أن يسرك في غد
ستدرك من ذي الفحش حقك كله ... بحلمك في رفق ولم تتشدد
وسائش أمر لم يسسه أب له ... ورائم أسباب التي لم تعود
وراجي أمور جمة لا ينالها ... ستشعبه عنها شعوب لملحد
ووارث مجد لم ينله وماجد ... أصاب بمجد طارف غير متلد
فلا تقعدن عن سعي ما قد ورثته ... وما اسطعت من خير لنفسك فازدد
إذا ما رأيت الشر يبعث أهله ... وقام جناة الشر بالشر فاقعد
وبالعدل فانطق إن نطقت ولا تجر ... وذا الذم فاذممه وذا الحمد فاحمد(4/)
ولا تلح إلا من الام ولا تلم ... وبالبذل من شكوى صديقك فاقتد
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن مقتد
وفي الخلق اذلال لمن كان باخلاً ... ضنيناً ومن يبخل يذل ويزهد
أفاذتني الأيام والدهر إنه ... ودادي لمن لا يحفظ الود مفسدي
ولاقيت لذات الغنى وأصابني ... قوارع من يصبر عليها يخلد
إذا ما كرهت الخلة السوء لامرئ ... فلا تغشها واخلد سواها بمخلد
إذا أنت لم تنفع بودك أهله ... ولم تنك بالهيجا عدوك فابعد
ومن لا يكن ذا ناصر عند حقه ... يغلب عليه ذو النصير ويعتد
وفي كثرة الأيدي عن الظلم زاجر ... إذا خطرت أيدي الرجال بمشهد
وللمرء ذي الميسور خير مغبة ... من المرء ذي المعسورة المتردد
سأكسب مجداً أو تقوم نوائح ... علي بليل مبديات التبلد
ينحن على ميت وأعلن رنة ... تؤرق عيني كل باك ومسعد
ومن بديع قوله ما وصف به الخمرة (من الخفيف) :
بكر العاذلون في وضح الصبح ... يقولون لي أما تستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبد الله ... والقلب عندكم موثوق
لست أدري إذ أكثروا العذل فيها ... أعدو يلومني أم صديق
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
قدمته على عقار كعين الديك ... صفي سلافها الراووق
مرة قبل مزجها فإذا ما ... مزجت لذ طعمها من يذوق
وطفا فوقها فقاقيع كاليا ... قوت حمر يزينها التصفيق
ثم كان المزاج ماء سحاب ... لا صدى آجن ولا مطروق
وقال أيضاً وفيها ذكر جذيمة الأبرش والزباء (من الوافر) :
ألا يا أيها المثري المرجى ... ألم تسمع بخطب الأولينا
دعا بالبقة الأمراء يوماً ... جذيمة عام ينجوهم ثبينا
فلم ير غير ما ائتمروا سواه ... فشد لرحله السفر الوضينا
فطاوع أمرهم وعصى قصيراً ... وكان يقول لو نفع اليقينا
وله أيضاً كتبه في حبسه إلى النعمان (من الطويل) :
أيا منذراً كافيت بالود سخطة ... فماذا جزاء المجرم المتبغض
فإن جزاء يرجى منك كرامة ... ولست لنصح فيك بالمتعرض
ومما قاله أيضاً (من الخفيف) :
إن للدهر صولة فاحذرنها ... لا تنامن قد آمنت الدهورا
قد يبيت الفتى صحيحاً فيردى ... بعد ما كان آمناً مسرورا
إنما الدهر لين ونطوح ... يترك العظم واهياً مكسورا(4/)
فسل الناس أين آل قبيس ... طحطح الدهر قبله سابورا
خطفته منية فتردى ... وهو في الملك يأمل التعميرا
وبنو الأصفر الملوك كذا لم ... يترك الدهر منهم مذكورا
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغض الموت ذا الغنى والفقيرا
وقال في وصف ناقته (من المديد) :
من يكن ذا لقح راخيات ... فلقاحي ما تذوق الشعيرا
بل حواب في ظلال قسيل ... ملئت أجوافهن عصيرا
فتهادرن كذاك زماناً ... ثم موتن فكن قبورا
وقال أيضاً في الشعوب الهالكة (من الرمل) :
ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر حال بعد حال
وله في تكوين الباري للشمس (من البسيط) :
وجاعل الشمس مصراً لإخفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا
وقال أيضاً وهي قصيدة طويلة (من البسيط) :
ماذا ترجون إن أودى ربيعكم ... بعد الإله ومن أذكى لكم نارا
كلا يميناً بذات الورع لو حدثت ... فيكم وقابل قبر الماجد الزارا
بتل حجوش ما يدعو مؤذنهم ... لأمر دهر ولا يحتث أنفارا
ومنها في المدح:
واحور العين مربوب له غسن ... مقلد من نظام الدر تقصارا
عف المكاسب ما تكدى حسافته ... كالبحر يقذف بالتيار تيارا
وذي تناوير ممعون له صبح ... يغذو أوابد قد افلين أمهارا
كان ريقه شؤبوب غادية ... لما تقفى رقيب النفع مسطارا
ولا تحل نبي البشر قبته ... تسومه الروم إن تعطوه قنطارا
فأيكم لم ينله عرف نائله ... دثراً سواماً وفي الأرياف أوصارا
وروى له التبريزي الخطيب قوله (من الوافر) :
فإن لم تندموا فثكلت عمراً ... وهاجرت المروق والسماعا
ولا وضعت يداي عنان طرف ... ولا أبصرت من شمس شعاعا
وهو القائل أيضاً من يؤثر دنياه على دينه (من الطويل) :
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
وله أيضاً (من البسيط) :
تصنيف الحزن فانجابت عقيقته ... فيها خناذ وتقريب بلا تيم
ينتاب بالعرق من بقعان معهده ... ماء الشريعة أو فيضاً من الاجم
اهبطته الركب يعديني ... وألجمه
للنائبات بسير مجذم الأكم
وقال (من السريع) :
أبلغ خليلي عند هند فلا ... زلت قريباً من سواد الخصوص
موازي القرة أو دونها ... غير بعيد من عمير اللصوص
إنك ذو عهد وذو مصدق ... مخالف عهد الكذوب اللموص(4/)
تأكل ما شئت وتعتلها ... خمراً من الخص كلون الفصوص
ينفح من أردانك المسك ... والهندي والغار ولبني قفوص
تقنصك الخيل وتصطادك ... الطير ولا تنكع لهو القنيص
يا نفس ابقي واتقي شتم ذي ... الأعراض في غير نوص
قد يدرك المبطىء من حظه ... والجبن قد يسبق جهد الحريص
وقال أيضاً وفيه ذكر دير علقمة وهو دير بناه علقمة بن عدي اللخمي كان اجتمع به عدي بن زيد (من السريع) :
أنعم صابحاً علقم بن عدي ... إذا نويت اليوم لم ترحل
قد رحل الشبان غيرهم ... واللحم بالغيطان لم ينشل
وفي هذا الدير أيضاً يقول عدي (من السريع) :
نادمت في الدير بني علقما ... مشمولة تحسبها عندما
كان ريح المسك في كأسها ... إذا مزجناها بماء السما
من سره العيش ولذاته ... فليجعل الراح له سلما
علقم ما بالك لم تأتنا ... أما اشتهيت اليوم أن تنعما
وقال يهجو تميماً (من الطويل) :
تزود من الشبعان خلفك نظرة ... فإن بلاد الجوع حيث تميم
وروى له سفيان بن عيينة وكان يستحسن هذه الأبيات (من الخفيف) :
أين أهل الديار من قوم نوح ... ثم عاد من بعدهم وثمود
بينما هم على الأسرة والأنماط ... أفضت إلى التراب الجلود
والأطباء بعدهم لحقوهم ... ضل عنهم سعوطهم واللدود
وصحيح أضحى يعود مريضاً ... وهو أدنى للموت ممن يعود
ثم لم ينقض الحديث ولكن ... بعد ذا كله وذاك الوعيد
ومن حكمه السائرة قوله (من الرمل) :
اجتنب أخلاق من لم ترضه ... لا تعبه ثم تقفو في الأثر
وقال في القناعة (من البسيط) :
البس جديدك إني لابس خلقي ... ولا جديد لمن لم يلبس الخلقا
وله في التحذير من صحبة الإخوان (من الطويل) :
ولا تأمنن من مبغض قرب داره ... ولا من محب أن يمل فيبعدا
ومما رواه له ياقوت قوله (من المتقارب) :
ويح أم دار حللنا بها ... بين الثوية والمردمه
برية غرست في السواد ... كغرس المضيفة في اللهزمه
لسان لعربة ذو ولغة ... تولع في الريف بالهندمه
ومما روي له من قصيدة متفرقة الأبيات قوله في وصف فرس (من الطويل) :
مضمم أطراف العظام محنباً ... يهزهز غصناً ذا ذوائب مائعا
أجال عليه بالقناة غلامنا ... فأذرعنه لخلة الشاة راقعا
ومنها:
فضاف يعري جله عن سراته ... يبد الجياد فارهاً متتابعا(4/)
فاض كصدر الرمح نهداً مصدراً ... يكفكف منه خنزواناً منازعا
وما خنت ذا عهد وابت بعهده ... ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعا
فلم اجتعل فيما أتيت ملامة ... أتيت الجمال واجتنبت القنازعا
أراهم بحمد الله بعد خجيفهم ... غرابهم إذ مسه الفتر واقعا
وقال أيضاً مجاوباً (من البسيط) :
ناشدتنا بكتاب الله حرمتنا ... ولم تكن بكتاب الله ترتفع
وقال أيضاً (من الطويل) :
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وهو القائل أيضاً (من السريع) :
للشرف العود فأكنافه ... ما بين حمران فينصوب
خير لها إن خشيت حجرة=من ربها زيد بن أيوب متكئاً تخفق أبوابه=يسعى عليه العبد بالكوب وقال أيضاً (من الطويل) :
وغصن على الحيقار وسط جنوده ... وبين في فيداشه رب مارد
سلبن قباذاً رب فارس ملكه ... وحشت بكفيه بوارق آمد
ولعدي بن زيد ولدان زيد وعمرو. وكان كلاهما شاعراً وساتعمل كسرى زيداً عنده كما مر وأما عمرو فإنه قتل يوم ذي قار فقالت أمه ترثيه (من الرمل) :
ويح عمرو بن عدي من رجل ... خان يوماً بعد ما قيل كمل
كان لا يعقل حتى ما إذا ... جاء يأكل الناس عقل
ابهم دلاك عمرو للردى ... وقديماً حين للمرء الأجل
ليت نعمان علينا ملك ... وبني لي حي لم يزل
قد تنظرنا لغاد أوبة ... كان لو يغني عن المرء الأمل
بأن معه عضد مع ساعد ... بؤساً للدهر وبؤساً للرجل
ومن قوله (من الرمل) :
يا لرهطي أوقدوا ناراً ... إن الذي تهوون قد حارا
رب نار بت ارمقها ... تقضم الهندي والغارا
عندها خل يثورها ... عاقد في الجيد تقصارا
الأسود بن يعفر (600 م)(4/)
هو الأسود بن يعفر (وقيل يعفر بضم الياء) بن عبد قيس بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. وأمه بنت العباب من بني سهم بن عجل. وكان الأسود شاعراً متقدماً فصيحاً من شعراء الجاهلية ليس بالمكثر. وكان الأسود سيد جواداً له أخبار في الجود منها ما ذكره المفضل قال: كان الأسود بن يعفر مجاوراً في بني قيس بن ثعلبة ثم في بني مرة بن عباد بالقاعة فقامرهم فقمروه حتى حصل عليه تسعة عشر بكراً فقالت لهم أمه وهي رهم بنت العباب يا قوم: أتسلبون ابن أخيكم ماله قالوا: فماذا نصنع. قالت: احبسوا أقداحه. فلما راح القوم قالوا له: أمسك قدحك. فدخل ليقامرهم فردوا قداحه. فقال: لا أقيم بين قوم لا أضرب فيهم بقدح. فاحتمل قبل دخول الأشهر الحرم فأخذت إبله طائفة من بكر بن وائل فاستسعى الأسود بن مرة بن عباد وذكرهم الجوار وقال لهم (من الطويل) :
يا لعباد دعوة بعد هجمة ... فهل فيكم من قوة وزماع
فتسعوا لجار حل وسط بيوتكم ... غريب وجارات تركن جياع
وهي قصيدة طويلة. فلم يصنعوا شيئاً فادعى جوار بني محلم بن ذهل بن شيبان فقال (من الرجز) :
قل لبني محلم يسيروا ... بذمة يسعى بها خفير
لا قدح بعد اليوم حتى توروا
فسعوا معه حتى استنقذوا إبله فمدحهم بقصيدته التي أولها (من الطويل) :
أجارتنا غضي من السير أو قفي ... وإن كنت قد أزمعت بالبين فاصرفي
وفيها يقول:
تداركني أسباب آل محلم ... وقد كدت أهوي بين نيقين نفنف
هم القوم يمسي جارهم في غضارة ... سوياً سليم اللحم لم يتحرف
فلما بلغتهم أبياته ساقوا إليه مثل إبله التي استنقذوها من أموالهم (قال المفضل) كان رجل من بني سعد بن عوف بن مالك بن حنظلة يقال له طلحة جاراً لبني ربيعة بن عجل بن جشم فأكلوا إبله فسأل في قومه حتى أتى الأسود بن يعفر فسأله أن يعطيه ويسعى له في إبله فقال له الأسود: لست جامعهما لك ولكن اختر أيها شئت. قال: اختار أن تسعى لي بإبلي. فقال الأسود لأخواله من بني عجل (من الكامل) :
يا جار طلحة هل ترد لبونه ... فتكون أدنى للوفاء وأكرما
تالله لو جاورتموه بأرضه ... حتى يفارقكم إذا ما أحرما
جذلان يسر جلة مكنوزة ... حبناء بحونة ووطباً مجزما(4/)
وهي قصيدة طويلة فبعث أخواله من بني عجل بابل طلحة إلى الأسود بن يعفر فقالوا: أما إذ كنت شفيعه فخذها وتول ردها لتحرز المكرمة عنده دون غيرك.
ومن أخبار الأسود أيضاً ما أخبر ابن الأعرابي قال: قتل رجلان من بني سعد بن عجل يقال لهما وائل وسليط ابنا عبد الله عماً لخالد بن مالك بن ربعي النهشلي يقال له عامر بن ربعي وكان خالد بن مالك عند النعمان حينئذ ومعه الأسود بن يعفر. فالتفت النعمان يوماً إلى خالد بن مالك فقال له: أي فارسين في العرب تعرفهما أثقل على الأقران وأخف على متون الخيل. فقال له: أبيت اللعن أنت أعلم. فقال: خالا ابن عمك الأسود بن يعفر وقاتلا عمك عامر بن ربعي يعني العجليين وآئلاً وسليطاً. فتغير لون خالد بن مالك. وإنما أراد النعمان أن يحثه على الطلب بثأر عمه فوثب الأسود فقال: أبيت اللعن اللئيم من رأى حق أخواله فوق أعمامه. ثم التفت إلى خالد بن مالك فقال: يا ابن عم الخمر علي حرام حتى أثأر لك بعمك. قال: وعلي مثل ذلك. ونهضا يطلبان القوم وجمعا جمعاً من بني نهشل بن دارم. فأغار بهم على كاظمة وأرسلا رجلاً من بني زيد بن نهشل بن دارم يقال له عبيد يتجسس لهم الخبر. فرجع إليهم فقال له: جوف كاظمة ملآن من حجاج وتجار وفيهم وائل وسليط متساندان في جيش. فركبت بنو نهشل حتى أتوهم فنادوا: من كان حاجاً فليمض لحجه ومن كان تاجراً فليمض لتجارته. فلما خلص لهم وائل وسليط في جيشهما اقتتلوا. فقتل وائل وسليط قتلهما هزان بن زهير بن جندل بن نهشل عادى بينهما وادعى الأسود بن يعفر أنه قتل وائلاً. ثم عاد إلى النعمان فلما رآه تبسم وقال: وف نذرك يا أسود. قال: نعم أبيت اللعن. ثم أقام عنده مدة يندمه ويؤاكله ثم مرض مرضاً شديداً فبعث النعمان إليه رسولاً يسأله عن خبره وهول ما به فقال (من البسيط) :
نفع قليل إذا نادى الصدى أصلاً ... وحان منه لبرد الماء تغريد
وودعوني فقالوا ساعة انطلقوا ... أودى فأودى الندى والحزم والجود
فما أبالي إذا ما مت ما صنعوا ... كل امرئ بسبيل الموت مرصود(4/)
وكان للأسود أخ يقال له حطائط بن يعفر شاعر وكان ابنه الجراح شاعراً أيضاً (قال) : وأخوه حطائط الذي يقال لأمهما رهم بنت العباب عاتبته على جوده فقال (من الطويل) :
تقول ابنة العباب رهم حربتني ... حطائط لم تترك لنفسك مقعدا
إذا ما جمعنا صرمة بعد هجمة ... تكون علينا كابن أمك أسودا
فقلت ولم أعي الجواب تأملي ... أكان هزالاً حتف زيد وأربدا
اريني جواداً مات عزماً لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا
ذريني أكن للمال رباً ولا يكن ... لي المال رباً تحمدي غبه غدا
ذريني فلا أعيا بما حل ساحتي ... أسود فأكفى أو أطيع المسودا
ذريني يكن ما لي لعرضي وقاية ... يقي المال عرضي قبل أن يتبددا
أجارة أهلي بالقصيمة لا يكن ... علي ولا أظلم لسانك مبردا
أما الجراح بن الأسود فكان في صباه ضئيلاً ضعيفاً فنظر إليه الأسود وهو يصارع صبياً من الحي وقد صرعه الصبي والصبيان يهزأون منه فقال (من الطويل) :
سيجرح جراح واعقل ضيمه ... إذا كان مخشياً من الضلع المبدي
فآباء جراح ذؤابة دارم ... وأخوال جراح سراة بني نهد(4/)
(قال) : وكانت أم الجراح أخيذة أخذها الأسود من بني نهد في غارة أغارها عليهم. وكان من أخبار الجراح ما ذكره أبو عمرو الشيباني عن أبيه قال: كان أبو جعبل أخو عمرو بن حنظلة من البراجم قد جمع جمعاً من شذاذ أسد وتميم وغيرهم فغزوا بني الحرث بن تيم الله بن ثعلبة فنذروا بهم وقاتلوهم قتالاً شديداً حتى قضوا جميعهم. فلحق رجل من بني الحارث بن تيم الله بن ثعلبة جماعة من بني نهشل فيهم جراح بن الأسود بن يعفر والحر بن شمر ورافع بن صهيب وعمرو والحارث ابنا حدين بن سلمى بن جندل فقال لهم الحارث: هلم إلي طلقاء فقد أعجبني قتالكم سائر اليوم وأنا خير لكم من العطش. قالوا: نعم فنزل ليجز نواصيهم فنظر الجراح بن الأسود إلى فرس من خيلهم فإذا هو أجود فرس في الأرض فوثب فركبها وركضها ونجا عليها. فقال الحارثي للذين بقوا معه: أتعرفون هذا. قالوا: نعم نحن لك عليه خفراء. فلما أتى جراح أباه أمره فهرب بها في بني سعد فابتطنها ثلاثة أبطن وكان يقال لها العصماء. فلما رجع النفر النهشليون إلى قومهم قالوا: إنا خفراء فارس العصماء فواله لنأخذنها. فأوعدوه وقال جرير ورافع: نحن الخفيران بها. وكان بنو جرول خلفاء بني سلمى بن جندل على بني حارثة بن جندل فأعانه على ذلك التيحان بن بلج بن درول بن نهشل فقال الأسود بن يعفر يهجوه (من الطويل) :
أتاني ولم أخش الذي ابتعثا به ... خفيراً بني سلمى جرير ورافع
هم خيبوني يوم كل غنيمة ... وأهلكتهم لو أن ذلك نافع
فلا أنا معطيهم علي ظلامة ... ولا الحق معروفاً لهم أنا مانع
وإني لأقري الضيف وصى به أبي ... وجار أبي التيحان ظمآن جائع
فقولا لتيحان ابن خاذلة اسمها ... أمجر فلاقى الغي أم أنت نازع
ولو أن تيحان ابن بلج أطاعني ... لأرشدته وللأمور مطالع
وإن يك مدلولاً علي فإنني ... أخو الحرب لا قحم ولا متجازع
ولك تيحان ابن خاذلة اسمها ... له ذنب من أمره وتوابع
قال: فلما رأى الأسود أنهم لا يقلعون عن الفرس أو يردونها أحلفهم عليها فحلفوا أنهم خفراء لها فرد الفرس عليهم وأمسك أمهارها فردوا الفرس إلى صاحبها ثم أظهر الأمهار بعد ذلك فأوعدوه فيها أن يأخذوها فقال الأسود (من الطويل) :(4/)
أحقاً بني أبناء سلمى بن جندل ... وعيدكم إياي وسط المجالس
فهلا جعلتم نجوة من وعيدكم ... على رهط قعقاع ورهط بن حابس
هم منعوا منكم تراث أبيكم ... فصار التراث للكرام الأكايس
هم وردوكم ضفة البحر طامياً ... وهم تركوكم بين خاز وناكس
وقال أبو عمرو لما أسن الأسود بن يعفر كف بصره فكان يقاد إذا أراد مذهباً وقال في ذلك (من البسيط) :
قد كنت أهدي ولا أهدى فعلمني ... حسن المقادة إني أفقد البصرا
امشي واتبع جناباً ليهديني ... إن الجنيبة مما يجشم الغدرا
وللأسود شعر غير هذا متفرق من ذلك ما قاله في مسروق بن المنذر بن سلمى النهمشلي وكان سيداً جواداً مؤثراً للأسود بن يعفر كثير الرفد له والبر به. فمات مسروق واقتسم أهله ماله وبان فقده على الأسود بن يعفر فقال يرثيه (من البسيط) :
أقول لما أتاني هلك سيدنا ... لا يبعد الله رب الناس مسروقا
من لا يشيعه عجز ولا بخل ... ولا يبيت لديه اللحم موشوقا
مردى حروب إذا ما الخيل ضرجها ... نضح الدماء وقد كانت أفاريقا
والطاعن الطعنة النجلاء تحسبها ... شناً هزيماً يمج الماء مخروقا
وجفنة كنضيح البئر متأقة ... ترى جوانبها باللحم مفتوقا
يسرتها ليتامى أو لأرملة ... وكنت بالبائس المتروك محقوقا
يا لهف أمي إذا أودى وفارقني ... أودى ابن سلمى نقي العرض مرموقا
وقال أبو عمرو وعاتبت سلمى بنت الأسود أباها على إضاعته ماله في ما ينوب قومه من حمالة وما يمنحه فقراءهم ويعين به مستمخهم فقال لها (من الوافر) :
وقالت لا أراك تليق شيئاً ... أتهلك ما جمعت وتستفيد
فقلت بحسبها يسر وعار ... ومرتحل إذا رحل الوفود
فلومي إن بدا لك أو أفيقي ... فقبلك فاتني وهو الحميد
أبو العوراء لم أكمد عليه ... وقيس فاتني وأخي يزيد
مضوا لسبيلهم وبقيت وحدي ... وقد يفني رباعته الوحيد
فلولا الشامتون أخذت حقي ... وإن كانت بمطلبه كؤود
وقد اشتهر الأسود بن يعفر بقصيدته الدالية وهي معدودة من مختار أشعار العرب وحكمها مفصلة مأثورة يذكر فيها آل جفنة المسيحيين جمعنا منها ما استطعنا (من الوافر) :
أم الخلي وما أ؛ سن رقادي ... والهم محتضر لدي وسادي
من غير ما سقم ولكن شفني ... هم أراه قد أصاب فؤادي(4/)
ومن الحوادث لا أبا لك أنني ... ضربت علي الأرض بالأسداد
لا أهتدي فيها لموضع تلعة ... بين العراق وبين أرض مراد
ولقد علمت سوى الذي نبأتني ... أن السبيل سبيل ذي الأعواد
إن المنية والحتوف كلاهما ... يوفي المخارم يرقبان سوادي
لن يرضيا مني وفاء رهينة ... من دون نفسي طارفي وتلادي
ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد
أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
أرض توارثها لطيب مقيلها ... كعب ابن مامة وابن أم دؤاد
جرت الرياح على مقر ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد
ولقد غنوا فيه بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد
نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد
فإ&ذا النعيم وكل ما يلهي به ... يوماً يصير إلى بلى ونفاد
في آل غرف لو بغيت لي الأسى ... لوجدت فيهم أسوة العداد
ما بعد زيد في فتاة فرقوا ... قتلاً ونفياً بعد حسن ناد
فتخيروا الأرض الفضاء لعزهم ... ويزيد رافدهم على الرقاد
إما تراني قد بليت وغاضني ... ما نيل من بصري ومن أجلادي
وعصيت أصحاب الصبابة والصبا ... وأطعت عاذلتي وذل قيادي
فلقد أروح على البحار مرجلاً ... مذلاً بمالي ليناً أجيادي
ولقد لهوت وللشباب بشاشة ... بسلافة مزجت بماء غواد
من خمر ذي بذخ أغن منطق ... وافي بها كدراهم الأسجاد
يسعى بها ذو تومتين مقرطق ... قنات أنامله من الفرصاد
ولقد غدوت لعازب متناذر ... أحوى المذانب مونق الرواد
جادت سواريه وآزر نبته ... نفا من الصفراء والزباد
بالجو فالأمرات حول مغامر ... فبضارج فقصيمة الطراد
بمشمر عتد جهير شده ... قيد الأوابد والرهان جواد
يشوي لنا الوحد المدل بحضره ... بشريج بين الشد والأرواد
ولقد تلوت الظاعنين بجسرة ... أجد مهاجرة السقاب جماد
عيرانة سد الربيع خصاصها ... ما يستيبن بها مقيل قراد
فإذا وذلك لا مهاة لذكره ... والدهر يعقب صالحاً بفساد
ومن شعره (من البسيط) :
وسمحة المشي شملال قطعت بها ... أرضاً يحار بها الهادون ديموما
مهامهاً وخروقاً لا أنيس بها ... إلا الضوابح والأصداء والبوما
وهذه الأبيات من قصيدة أولها:
قد أصبح الحبل من أسماء مصروما ... بعد ائتلاف وود كان معلوما(4/)
واستبدلت خلة مني وقد علمت ... أن لن أبيت بوادي الخسف مذموما
لما رأت أن شيب الرأس شامله ... بعد الشباب وكان الشيب مسؤوما
وله في المديح (من الطويل) :
فتى يشتري حسن الثناء بماله ... إذا ألسنة الشهباء أعوزها القطر
ومن شعره أيضاً قوله (من الطويل) :
فإن يك يومي قد دنا وأخاله ... لوارده يوماً إلى ظل منهل
فقبلي مات الخالدان كلاهما ... عميد بني حجوان وابن المضلل
وعمرو بن مسعود وقيس بن خالد ... وفارس رأس العين سلمى بن جندل
وأسبابه أهلكن عاداً وأنزلت ... عزيزاً يغني فوق غرفة موكل
تغنيه بحاء الغناء مجيدة ... بصوت رخيم أو سماع مرتل
وله أيضاً وفيه غناء لسليم (من المنسرح) :
لا يعتري شربنا اللحاء وقد ... توهب فينا القيان والحلل
وفتية كالسيوف نادمهم ... لا حصر فيهم لا ولا بخل
بيض مساميح في الشتاء وإن ... أخلف نجم عن نوئه وبلوا
وقال أيضاً يصف وعلاً وكلبة (من الرجز) :
قد قلت لما بدت العقاب ... وضمها والبدن الحقاب
جدي لكل عامل ثواب ... الرأس والأكرع والإهاب
وروى له صاحب لسان العرب أبياتاً مفردة منها قوله (من الطويل) :
لهوت بسربال الشباب بلاوة ... فأصبح سربال الشباب شبارقا
وقوله (من الطويل) :
وفاقد مولاه أعارت رماحنا ... سناماً كنبراس النهامي منجلا
وقوله (من السريع) :
هل لشباب فات من مطلب ... أم هل بكاء البدن الأشيب
توفي الأسود نحو سنة 600 للمسيح.
قال صاحب مسالك الأبصار في حقه: عقدت على الأسود بن يعفر تمائم تميم. وحييت به مكارم كل ذميم. ولاذت دارم بداره. وزاد مناه زيد مناة في علو مقداره. وعرف أن الشبيبة لأسوده. وأن عبد القيس ألا على سؤدده. وفي شعره ما يجري مجرى الأمثال. ويصلح به ممتد الآمال.
سلامة بن جندل(4/)
هو ابن جندل بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم شاعر جليل من أهل الحجاز. وهو جاعلي قديم من فحول شعراء الطبقة الثانية يعد من أشعرالمقلين المحكمين في الجاهلية وهو من طبقة المتلمس والمسيب بن علس وحصين بن حمام المري. وكان من فرسان تميم المعدودين وأخوه أحمر بن جندل من الشعراء والفرسان. وشعر سلامة رقيق سلس غير أنه من حر الكلام المتين وكثيراً ما يستشهد به أهل اللغة. وكان سلامة في أيام عمرو بن هند والنعمان أبي قابوس وقد ذكره في شعره بعد أن رماه كسرى بين أرجل الفيلة فتوطأته حتى مات فقال سلامة من جملة قصيدة (من الطويل) :
هو المدخل النعمان بيتاً سماؤه ... نحور الفيول بعد بيت مسردق
ومن شعره قوله في ذكر الشباب (من البسيط) :
يا خد أمسى سواد الرأس خالطه ... شيب القذال اختلاط الصفو بالكدر
يا خد أمست لبانات الصبا ذهبت ... فلست منها على عين ولا أثر
كان الشباب لحاجات وكن له ... فقد فرغت إلى حاجاتي الأخر
ومن شعره الحسن المأثور عنه قوله (من البسيط) :
يا دار أسماء بالعلياء من اضم ... بين الدكادك من قو فمعصوب
كانت لنا مرة داراً فغيرها ... مر الرياح بسافي الترب مجلوب
هل في سؤالك عن أسماء من حوب ... وفي اسلام وإهداء المناسيب
ليست من الزل أردافاً إذا انصرفت ... ولا القصار ولا السود العناكيب
إني رأيت ابنة السعدي حين رأت ... شيبي وما خل من جسمي وتحنيبي
تقول حين رأت رأسي ولمته ... شمطاء بعد بهيم اللون غربيب
أودى الشباب حميداً ذو التعاجيب ... أودى وذلك شأو غير مطلوب
ولى حثيثاً وهذا الشيب يطلبه ... لو كان يدركه ركض اليعاقيب
ذاك الشباب الذي مجد عواقبه ... فيه نلذ ولا لذات للشيب
دع ذا وقل لبني سعد بفضلهم ... مدحاً يسير به غادي الأراكيب
إني وجدت بني سعد يفضلهم ... كل شهاب على الأعداء مشبوب
حامي الحقيقة لا تخشى كهامته ... يسقي الأعادي موتاً غير تقشيب
إلى تميم حماة العز نسبتهم ... وكل ذي حسب في الناس منسوب
قوم إذا صرحت كحل بيوتهم ... مأوى الضريك ومأوى كل قرضوب
ينجيهم من دواهي الدهر إن أزمت ... صبر عليها وقبض غير محسوب
وقد نقدم في الهيجاء إذ لقحت ... يوم لحفاظ ونحمي كل مكروب(4/)
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
وشد كور على وجناء ناجية ... وشد سرج على جرداء سرحوب
وكرنا الخيل في آثارها رجعاً ... كس السنابك من بدء وتعقيب
والعاديات أسابي الدماء بها ... كان أعناقها أنصاب ترجيب
من كل حت إذا ما ابتل ملبده ... صافي الأديم أسيل الخد يعبوب
ليس بأسفي ولا أقنى ولا سغل ... يعطي دواء قفي السكن مربوب
تدارك الصنع فيه فهو محتفل ... يعطي أساهي من جري وتقريب
يرقي الدسيع إلى هاد له تبع ... في جوجو كمداك الطيب مخضوب
في كل قائمة منه إذا اندفعت ... شؤبوب شد كفرغ الدلو أثعوب
كأنه يرفئي نام عن غنم ... مستنفر في سواد الليل مذؤوب
يحاضر الجون مخضراً جحافلها ... ويسبق الألف عفواً غير مضروب
مما يقدم في الهيجا إذا كرهت ... عند الطعان وينجي كل مكروب
همت معد بنا هماً فنهنهها ... عنا طعان وضرب غير تذبيب
إن واعدتنا معد وهي كاذبة ... عنا طعان وضرب غير تذبيب
إن واعدتنا معد وهي كاذبة ... نصراً فكان لنا ميعاد عرقوب
بالمشرفي ومجدول أسافلها ... صم العوامل صدقات الأنابيب
سوى الثقاف قناها فهي محكمة ... قليلة الزيغ من سن وتركيب
زرقاً اسنتها حمراً مثقفة ... أرطافهن مقيل لليعاسيب
تجلو أسنتها فتيان عادية ... لا مقرفين وليسوا بالجعابيب
كأنها بأكف القوم إذ لحقوا ... مواتح البئر أو أشطان مطلوب
كم من فقير بإذن الله قد جبرت ... وذي قنى بوأته دار محروب
سقنا ربيعة نحو الشام كارهة ... سوق البكار على رغم وتأنيب
إذا أرادوا نزولاً حث سبرهم ... دون النزول جلاد غير تذبيب
والحي قحطان قدماً ما يزال لها ... منا وقائع من قتل وتعذيب
لما التقى مشهد منا ومشهدهم ... يوم العذيب وفي أيام تحريب
لما رأوا أنها نار يضرمها ... من آل سعد بنو البيض المناجيب
ولى أبو كرب منا بمهدته ... وصاحباه على قود سراحيب
كلا الفريقين أعلاهم وأسفلهم ... يشقى بأرماحنا غير التكاذيب
حتى تركنا وما تثنى ظعائننا ... يأخذن بين سواد الخط فاللوب
وقد نحل إذا هبت شآمية ... بكل واد حطيب الجوف مجدوب
شيب المبارك مدروس مدافعه ... هابي المراغ قليل الودق موظوب
يقال محبسها أدنى لمرتعها ... وإن تعادى ببكىء كل محلوب(4/)
إنا إذا الشمس في قرن الضحى ارتفعت ... وفي المبارك جلدات المصاعيب
قد يسعد الجار والضيف الغريب بنا والمعتفون ونغلي ميسر النيب
يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير على الأعداء تأويب
ومن شعره قوله يذكر ما فعل زيد بن عدي بن زيد إذ حمل كسرى على قتل النعمان أبي قابوس (من الطويل) :
هو المدخل النعمان في أرض فارس ... وجاعله في قولهم في المدائن
وألقاه أيضاً بعد ذا تحت أفيل ... وفي العرب العربا بقايا ضغائن
ومن بديع شعره أيضاً قوله (من الطويل) :
لمن طلل مثل الكتاب المنمق ... خلا عهده بين الصليب ومطرق
اكب عليه كاتب بدواته ... وجدته في العين جدة مهرق
ألا هل أتى أبناءنا أهل مأرب ... كما قد أتى أهل النقا فالخورنق
بأنا حبسنا بالفروق نساءنا ... ونحن قتلنا من أتانا بملزق
ولولا سواد الليل ما آب عامر ... إلى جعفر سرباله لم يمزق
بضرب تظل الطير فيه جوانحا ... وطعن كأفواه المزاد المخرق
ضممنا عليهم جانبيهم بصادق ... من الطعن حتى أزمعوا بالتفرق
فألقوا لنا أرسان كل نجيبة ... وسابغة كأنها متن خرنق
ومجد معد كان فوق علاية ... سبقنا به إذ يرتقون ونرتقي
وقد روى له ياقوت وفي القافية سناد الأقواء (من الطويل) :
ومن كان لا يعتد أيامه له ... فأيامنا عنا تحل وتعرب
ألا هل أتى أفناء خندف كلها ... وعيلان إذ ضم الحنين بيترب
توفي سلامة نحو سنة 608 بعد المسيح.
أوس بن حجر (620 م)
قال الأصمعي: هو أوس بن حجر بن مالك شاعر تميم من شعراء الجاهلية وفحولها يجيد في شعره ما يريد. وهو من الطبقة الثانية وكان انقطع إلى فضالة بن كلدة الأسدي لما جاد عليه من النعم. فلما مات فضالة وكان يكنى أبا دليجة قال فيه أوس بن حجر يرثيه (من البسيط) :
يا عين لا بد من سكب وتهمال ... على فضالة جل الرزء والعالي
أبا دليجة من توصي بأرملة ... أم من لا شعث ذي طمرين ممحال
أبا دليجة من يكفي العشيرة إذ ... أمسوا من الأمر في لبس وبلبال
لازال مسك وريحان له أرج ... على صداك يصافي اللون سلسال
ومن فاضل مراثيه إياه ونادرها قوله (من الخفيف) :
أيتها النفس اجملي جزعاً ... إن الذي تكرهين قد وقعا
إن الذي جمع السماحة والنجدة ... والحزم والقوى جمعا(4/)
أودى وهل تنفع الإشامة من ... شيء لمن قد يحاول النزعا
الألمعي الذي يظن لك ال ... ظن كأن قد رأى وقد سمعا
اللمخلف المتلف المرزا ... لم يمتع بضعف ولم يمت طبعا
والحافظ الناس في تحوط إذا ... لم يرسلوا خلف عائذ ربعا
وعزت الشمال الرياح وقد ... أمسى كميع الفتاة ملتفعا
وشبه الهيدب العبام من ال ... أقوام سقباً ملبساً فرعا
وكانت الكاعب الممنعة ال ... حسناء في زاد أهلها سبعا
ليبكك الشرب والمدامة وال ... فتيان طراً وطامع طمعا
وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولباً جدعا
ومن شعره قوله (من البسيط) :
دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح
كأنما بين أعلاه وأسفله ... ريط منشرة أو ضوء مصباح
فمن بعقدته ... كمن بنجوته
والمستكن كمن يمشي بقرواح
كأن فيه إذا ما الرعد فجره ... دهماً مطافيل قد همت بإرشاح
فأصبح الروع والقيعان مترعة ... ما بين مرتئق منها ومنصاح
وله يقول (من الطويل) :
فإن يعط منا القوم نصبر وننتظر ... منى عقب كأنها ظمىء مورد
وإن نعط لا نجهل ولا تنطق الخنا=ونجز القروض أهلها ثم نقصد وقال يذكر الثور والكلاب تتبعه (من البسيط) :
ففاتهن وأزمعن اللحاق به ... كأنهن بجنبيه الزنابير
حتى إذا قلت نالته أوائلها ... ولو يشاء لنجته المشابير
كر عليها ولم يفشل يمارسها ... كأنه بتواليهن مسرور
يشلها بذليق حده سلب ... كأنه حين يعلوهن موتور
ثم استمر يباري ظله جذلاً ... كأنه مرزبان فاز محبور
وقال أيضاً (من الوافر) :
ورثنا المجد عن آباء صدق ... أسأنا في ديارهم الصنيعا
إذا الحسب الرفيع تواكلته ... بناة السوء أوشك أن يضيعا
ومن غرر قصائد أوس قصيدته اللامية المشهورة التي فيها يقول (من الطويل) :
ولا أعتب ابن العم إن كان ظالماً ... وأغفر منه الجهل إن كان أجهلا
وإن قال لي ماذا ترى يستشيرني ... يجدني ابن عمي مخلط الأمر مزيلا
أقيم بدار الحزم مادام حزمها ... وأخرى إذا حالت بأن تتحولا
واستبدل الأمر القوي بغيره ... إذا عقد مأفون الرجال تحللا
وإني امرؤ أعددت للحرب بعدما ... رأيت لها ناباً من الشر أعضلا
أصم ردينياً كأن كعوبه ... نوى القسب عراصاً مزجاً منصلا(4/)
عليه كمصباح العزيز يشبه ... لفصح ويحشوه الذبال المفتلا
وأملس حوليا كنهي قراره ... أحس بقاع نفح ريح فأجفلا
كأن قرون الشمس عند ارتفاعها ... وقد صادفت طلعاً من النجم أعزلا
تردد فيه ضوءها وشعاعها ... فأحصن وازين لامرئ أن تسربلا
وأبيض هندياً كأن غراره ... تلألؤ برق في حبي تكللا
إذا سل من غمد تآكل أثره ... على مثل مصحاة اللجين تآكلا
كأن مدب النمل يتبع الربى ... ومدرج ذر خاف برداً فأسهلا
على صفحتيه من متون جلائه ... كفى بالذي أبلى وأنعت منصلا
ومبضوعة من رأس فرع شظية ... بطود تراه بالسحاب مجللا
على ظهر صفوان كأن متونه ... عللن بدهن يزنق المتنزلا
يطيف بها راع يجشم نفسه ... ليكلا فيها طرفه متأملا
فلاقى امرءاً من ميدعان واسمحت ... قرونته باليأس منها عجلا
فقال له هل تذكرن مخبراً ... يدلعلى غنم ويقصر معملا
على خير ما أبصرتها من بضاعة ... لملتمس بيعاً لها وتنكلا
فويق جبيل شامخ الرأس لم يكن ... ليبلغه حتى يكل ويعملا
فابصر إلهاباً من الطود دونها ... يرى بين رأسي كل نيقين مهبلا
فأشرط فيه رأسه وهو معصم ... وألقى بأسبات له وتوكلا
وقد أكلت أظفاره الصخر كلما ... تعيا عليه طول مرقى تسهلا
فما زال حتى نالها وهو مشفق ... على موطن لو زل عنه تفصلا
فأقبل لا يرجو الذي صعدت به ... ولا نفسه إلا رجاء مؤملا
فلما قضى مما يريد قضاءه ... وحل بها حرصاً عليه فأطولا
أمر عليها ذات حد غرابها ... رقيق بأخذ بالمداوس صيقلا
على فخذيه من براية عودها ... شبيه سفي البهمى إذا ما تفتلا
فجردها صفراء لا الطول عليها ... ولا قصر أزرى بها فتعطلا
إذا ما تعاطوها سمعت لصوتها ... إذا أنبضوا عنها نئيماً وأزملا
وإن شد فيها النزع أدبر سهمها ... إلى منتهى من عجسها ثم أقبلا
وحشو جفير من فروع غرائب ... تنطع فيها صائغ وتنبلا
تخيرن أنضاء وركبن أنصلاً ... كجمر الغضا في يوم ريح تزيلا
فلما قضى في الصنع منهن فهمه ... فلم يبق إلا أن تسن وتصقلا
كساهن من ريش يمان ظواهراً ... سخاماً لؤاماً لين المس أطحلا
فذاك عتادي في الحروب إذا التظت ... وأردف بأس من حروب واعجلا
فإني رأيت الناس إلا أقلهم ... خفاف العهود يكثرون التنقلا(4/)
بني أم ذي المال الكثير يرونه ... وإن كان عبداً سيد الأمر جحفلا
وهم لمقل المال أولاد علة ... وإن كان محضاً في العمومة مخولا
وليس أخوك الدائم العهد بالذي يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمناً ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
وله في هجو من (من الكامل) :
ابني لبيني لم أجد أحداً ... في الناس الام منكم حسبا
وأحق من يرمى بداهية ... إن الدواهي تطلع الحدبا
وإذا تسوئل عن محاتدكم ... لم توجدوا رأساً ولا ذنبا
وقال في الفخر (من الوافر) :
ولست بخابىء أبداً طعاماً ... حذار غد لكل غد طعام
وعمر أوس بن حجر طويلاً وكانت وفاته في أول ظهور الإسلام قال صاحب مسالك الأبصار في حقه: تأجج قبساً. وتأرج نفساً. لو أنه أوس أبو القبيلة لما قدرت الخزرج على علائها أو أبو الطائي لما قاست بحبيب منه باقي أحبائها. شرفت به تميم. وعرفت بطيب شميم وفخر من أبيه بما لم يخفر به الفرزدق. ولم يأت بما لم يصدق. حتى كأنها انبجس حجر منه ماء. أو قدح ناراً لم تبق ظلماء. ومما وردت من صافيه. ونسلت من خوافيه. قوله....
ترجمة هذا الشاعر مأخوذة عن عدة كتب منها الكامل للمبرد ومجموعة المعاني وعن بعض كتب خطية قديمة.
علقمة الفحل (625م)(4/)
هو علمقة بن عبدة بن النعمان بن ناشرة بن قيس بن عبيد بن ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار. وكان زيد مناة بن تميم وفد هو وبكر بن وائل وكانا لدة عصر واحد علىب عض الملوك وكان زيد مناة حسوداً شرهاً طمعاً. وكان بكر بن وائل خبيثاً منكراً داهياً فخاف زيد مناة أن يحظى من الملك بفائدة يقل معها حظه فقال له: يا بكر لا تلق الملك بثياب سفرك ولكن تأهب للقائه وأدخل إليه في أحسن زينة ففعل بكر ذلك وسبقه زيد مناة إلى الملك فسأله عن بكر فقال: ذلك مشغول بمغازلة النساء والتصدي لهن وقد حدث نفسه بالتعرض لبنت الملك فغاظه ذلك وأمسك عنه ونمى الخبر إلى بكر بن وائل فدخل إلى الملك فأخبره بما دار بينه وبين زيد مناة وصدقه عنه واعتذر إليه مما قاله فيه عذراً قبله. فلما كان من غد اجتمعا عند الملك فقال الملك لزيد مناة ما تحب أن أفعل بك فقال: لا تفعل ببكر شيئاً إلا فعلت بي مثله. وكان بكر أعور العين اليمنى قد أصابها ماء فذهب بها فكان لا يعلم من رآه أنه أعور فأقبل الملك على بكر بن وائل وقال له: ما تحب أن أفعل بك يا بكر. فقال: تفقأ عيني اليمنى وتضعف لزيد مناة فأمر الملك بعين بكر اليمنى العوراء ففقئت وأمر بعيني زيد مناة ففقئتا فخرج بكر وهو أعور على حاله وخرج زيد مناة وهو أعمى. وأخبر بذلك الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة ويقال لعلقمة بن عبدة علقمة الفحل دعي بذلك من أجل رجل آخر شاعر من قومه يقال له علقمة الخصي وهو علقمة بن سهل. قال ذلك العسكري والأمير وغيرهما. وزعموا أنه قيل له الفحل لأنه خلف على امرأة امرئ القيس. ولم نر لذلك بينة. وفي علقمة قال الفرزدق:
والفحل علقمة الذي كانت له ... حلل الملوك كلامه يتنحل
أخبر حماد الراوية قال: كانت العرب تعرض أشعارها على قريش فما قبلوا منها كان مقبولاً وما ردوا منها كان مردوداً فقدم عليهم علقمة بن عبدة فأنشدهم (من البسيط) :
هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ ناتك اليوم مصروم
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته ... إثر الأحبة يوم البين مشكوم
لم أدر بالبين حتى أزمعوا ظعناً ... كل الجمال قبيل الصبح مزموم(4/)
رد الإماء جمال الحي فاحتملوا ... فكلها بالتزيديات معكوم
عقلاً ورقماً تظل الطير تتبعه ... كأنه من دم الأجواف مدموم
يحملن أترجة نضخ العبير بها ... كأن تطيابها في الأنف مشموم
كأن فارة مسك في مفارقها ... للباسط المتعاطي وهو مزكوم
فالعين مني كان غرب تحط به ... دهماء حاركها بالقتب محزوم
قد عريت حقبة حتى استطف لها ... كتر كحافة كير القين ملموم
كأن غسلة خطمي بمشفرها ... فيالخد منها وفي اللحيين تلغيم
قد أدبر العر عنها فهو شاملها ... من ناصع القطران الصرف ترسيم
تسقي مذانب قد زالت عصيفتها ... حدورها من أتىالماء مطموم
من ذكر سلمى وما ذكري الأوان لها ... إلا السفاه وظن الغيب ترجيم
صفر الوشاحين ملء الدرع خرعبة ... كأنها رشأ في البيت ملزوم
هل تلحقني بأولى القوم إذ شحطوا ... جلذية كاتان الضحل علكوم
تلاحظ السوط شزراً وهي ضامرة ... كما توجس طاوي الكشح موشوم
كأنها خاضب زعر قوائمه ... أجني له باللوى شري وتنوم
يظل في الحنظل الخطبان ينقفه ... وما استطف من التنوم مخذوم
فوه كشق العصا لأياً تبينه ... أسك ما يسمع الأصوات مصلوم
حتى تذكر بيضات وهيجه ... يوم رذاذ عليه الريح مغيوم
فلا تزيده في مشيه نفق ... ولا الزفيف دوين الشد مسؤم
يكاد منسمه يختل مقلته ... كأنه حاذر للنحس مشهوم
يأوي إلى خرق زعر قوادمها ... كأنهن إذا بركن جرثوم
وضاعة كعصي الشرع جؤجؤه ... كأنه بتناهي الروض علجوم
حتى تلافى وقرن الشمس مرتفع ... أدحي عرسين فيه البيض مركوم
يوحي إليها بإنقاض ونقنقة ... كما تراطن في أفدانها الروم
صعل كأن جناحيه وجؤجؤه ... بيت أطافت به خرقاء مهجوم
تحفه هقلة سطعاء خاضعة ... تجيبه بزمار فيه ترنيم
بل كل قوم وإن عزوا وإن كثروا ... عريفهم بأثافي الشر مرجوم
والجود نافية للمال مهلكة ... والبخل مبق لأهليه ومذموم
والمال صوف قرار يلعبون به ... على نقادته واف ومجلوم
والحمد لا يشترى إلا له ثمن ... مما تضن به النفوس معلوم
والجهل ذو عرض لا يستراد له ... والحلم آونة في الناس معدوم
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه ... أنى توجه والمحروم محروم
ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامته لا بد مشؤوم(4/)
وكل بيت وإن طالت إقامته ... على دعائمه لا بد مهدوم
قد أشهد الشرب فيهم مزهر رنم ... والقوم تصرعهم صهباء خرطوم
كأس عزيز من الأعناب عتقها ... لبعض أربابها حانية حوم
تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها ... ولا يخالطها في الرأس تدويم
عانية قرقف لم تطلع سنة ... يجنها مدمج بالطين مختوم
ظلت ترقرق في الناجود يصفقها ... وليد أعجم بالكتان مفدوم
كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مقدم بسبا الكتان ملثوم
أبيض أبرزه للضح راقبه ... مقلد قضب الريحان مفغوم
وقد غدوت على قرني يشيعني ... ماض أخو ثقة بالخير موسوم
وقد علوت قتود الرحل يسفعني ... يوم تجيء به الجوزاء مسموم
حام كأن أوار النار شامله ... دون الثياب ورأس المرء معموم
وقد أقود أمام الحي سلهبة ... يهدي بها نسب في الحي معلوم
لا في شظاها ولا أرساغها عتب ... ولا السنابك أفناهن تقليم
سلاءة كعصي النهدي غل بها ... ذو فيئة من نوى قران معجوم
تتبع جوناً إذا ما هيجت زجلت ... كأن دفاً على علياء مهزوم
يهدي بها أكلف الخدين مختبر ... من الجمال كثير اللحم عيثوم
إذا تزعم من حافاتها ربع ... حنت شغاميم في حافاتها كوم
وقد أصاحب فتياناً طعامهم ... خضر المزاد ولحم فيه تنشيم
وقد يسرت إذا ما الجوع كلفه ... معقب من قداح النبع مقروم
لو ييسرون بخيل قد يسرت بها ... وكل ما يسر الأقوام مغروم
فقالوا: هذا سمط الدهر. ثم عاد إليهم في العام المقبل فأنشدهم قوله وهي قصيدة مدح بها الحرث بن جبلة بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شاساً فرحل إليه يطلبه فيه (من الطويل) :
طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب
يكلفني ليلى وقد شط وليها ... وعادت عواد بيننا وخطوب
منعمة لا يستطاع كلامها ... على بابها من أن تزار رقيب
إذا غاب عنها البعل لم تفش سره ... وترضى إياب البعل حين يؤوب
فلا تعدلي بيني وبين مغمر ... سقتك روايا المزن حيث تصوب
سقاك يمان ذو حبي وعارض ... تروح به جنح العشي جنوب
وما أنت أم ما ذكرها ربعية ... يخط لها من ثرمداء قليب
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له من ودهن نصيب(4/)
يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهن عجيب
فدعها وسل الهم عنك بجسرة ... كهمك فيها بالرداف خبيب
وناجية أفنى ركيب ضلوعها ... وحاركها تهجر فدؤوب
وتصبح عن غب السرى وكأنها ... مولعة تخشى القنيص شبوب
تعفق بالأرطى لها وأرادها ... رجال فبذت نبلهم وكليب
إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتي ... بكلكلها والقصريين وجيب
لتبلغني دار امرئ كان نائياً ... فقد قربتني من نداك قروب
إليك أبيت اللعن كان وجيفها ... بمشتبهات هولهن مهيب
تتبع أفياء الظلال عشية ... على طرق كأنهن سبوب
هداني إليك الفرقدان ولا حب ... له فوق أصواء المتان علوب
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب
فأوردتها ماء كأن جمامه ... من الأجن حناء معاً وصبيب
تراد على دمن الحياض فإن تعف ... فإن المندى رحلة فركوب
وأنت امرؤ أفضت إليك أمانتي ... وقبلك ربتني فضعت ربوب
فأدت بنو كعب بن عوف ربيبها ... وغودر في بعض الجنود ربيب
فوالله لولا فارس الجون منهم ... لآبوا خزايا والإياب حبيب
تقدمه حتى تغيب حجوله ... وأنت لبيض الدارعين ضروب
مظاهر سربالي حديد عليهما ... عقيلا سيوف مخذم ورسوب
فجالدتهم حتى اتقوك بكبشهم ... وقد حان من شمس النهار غروب
وقاتل من غسان أهل حفاظها ... وهنب وقاس جالدت وشبيب
تخشخش أبدان الحديد عليهم ... كما خشخشت يبس الحصاد جنوب
تجود بنفس لا يجاد بمثلها ... وأنت بها يوم اللقاء تطيب
كأن رجال الأوس تحت لبانه ... وما جمعت جل معاً وعتيب
رغا فوقهم سقب السماء فداحص ... بشكته لم يستلب وسليب
كأنهم صابت عليهم صحابة ... صواعقها لطيرهن دبيب
فلم تنج إلا شطبة بلجامها ... وإلا طمر كالقناة نجيب
وإلا كمي ذو حفاظ كأنه ... بما ابتل من حد الظباة خضيب
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
وما مثله في الناس إلا قبيله ... مساو ولا دان لذاك قريب
فلا تحرمني نائلاً عن جنابه ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
فقالوا: هاتان سمطا الدهر. وهذه القصيدة قالها علقمة في مدج الحرث الوهاب سيد بني غسان وملك الشام.(4/)
قال ابن الأثير: وقيل أن سبب هذه الحرب أن الحارث الغساني خطب إلى المنذر ابنته هنداً فوعده بها. وكانت هند لا تريد الرجال وصنعت بجلدها شبه البرص فندم المنذر على تزويجها وأمسكها عن ملك غسان فصارت الحرب بسبب ذلك وأسر خلق كثير من أصحاب المنذر منهم شاس بن عبدة أخو علقمة.
فقال علقمة شعره يمدح الحرث الوهاب سيد بني غسان ويطلب منه فك أسار أ×ليه. فلبى الملك دعاه وشرح هذه القصيدة في الجزء الثالث من شرح المجاني.
قال أبو عبيدة: كان تحت امرئ القيس امرأة من طيىء تزوجها حين جاور فيهم فنزل به علقمة الفحل بن عبدة التميمي فقال كل واحد منهما لصاحبه: أنا أشعر منك. فتحاكما إليها فأنشد امرؤ القيس قوله: "خليلي مرا بي على أم جندب" حتى مر بقوله منها:
فللسوط ألهوب وللساق درة ... وللزجر منه وقع أهوج مهذب
إلى أن فرغ من ها فأنشدها علقمة قوله (من الطويل) :
ذهبت من الهجران في غير مذهب ... ولم يك حقاً كل هذا التجنب
فقالت له: علقمة أشعر منك. قال: وكيف. قالت: لأنك زجرت فرسك وحركته بساقك وضربته بسوطك وأن هجاء هذا الصيد ثم أدركه ثانياً من عنانه فغضب امرؤ القيس وقال: ليس كما قلت: ولكن هويته فطلقها فتزوجها علقمة بعد ذلك وبهذا سمي علقمة الفحل. وقال في فكه أخاه شاساً (من السريع) :
دافعته عنه بشعري إذ ... كان لقومي في الفداء حجد
فكان فيه ما أتاك وفي ... تسعين أسرى مقرنين صفد
دافع قومي في الكتيبة إذ ... طار لأطراف الظباة وقد
فأصبحوا عند ابن جفنة في ... الأغلال منهم والحديد عقد
إذ مخنب في المخنبين وفي ... النهكة غي بادىء ورشد
وقال أيضاً (من الطويل) :
تراءت واستار من البيت دونها ... إلينا وحانت غفلة المتفقد
بعيني مهاة يحدر الدمع منهما ... بريمين شتى من دموع وأثمد
وجيد غزال شادن فردت له ... من الحلي سمطي لؤلؤ وزبرجد
وقال أيضاً (من الطويل) :
ويلم لذات الشباب معيشة ... مع الكثر يعطاه الفتى المتلف الندي
وقد يعقل القل الفتى دون همه ... وقد كان لولا القل طلاع أنجد
وقد أقطع الخرق المخوف به الردى ... بعنس كجفن الفارسي المسرد
كأن ذراعيها على الخل بدما ... وثئن ذراعاً ماتح متجرد
وقال في يوم الكلاب الثاني (من الطويل) :(4/)
ود نفير للمكاور أنهم ... بنجران في شاء الحجاز الموقر
اسعياً إلى نجران في شهر ناجر ... حفاة واعيا كل أعيس مسفر
وقرت لهم عيني بيوم حذنة ... كأنهم تذبيح شاء معتر
عمدتم إلى شلو تنوذر قبلكم ... كثير عظام الرأس ضخم المذمر
وقال أيضاً (من الكامل) :
وأخي محافظة طليق وجهه ... هش جررت له الشواء بمسعر
من بازل ضربت بأبيض باتر ... بيدي أغر يجر فضل المئزر
ورفعت راحلة كأن ضلوعها ... من نص راكبها سقائف عرعر
حرجاً إذا هاج السراب على الصوى ... واستن في أفق السماء الأغبر
وله قوله (من الطويل) :
ومولى كمولى الزبرقان دملته ... كما دملت ساق تهاض بها وقر
إذا ما أحالت والجبائر فوقها ... أتى الحول لا برء جبير ولا كسر
تراه كأن الله يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه ثاب له وفر
ترى الشر قد أفنى دوائر وجهه ... كضب الكدى أفنى أنامله الحفر
وقال (من البسيط) :
وشامت بي لا تخفى عداوته ... إذا حمامي ساقته المقادير
إذ تضمنني بيت برابية ... آبوا سراعاً وأمسى وهو مهجور
فلا يغرنك جري الثوب معتجراً ... إني امرؤ في عند الجد تشمير
كأنني لم أقل يوماً لعادية ... شدوا ولا فتية في موكب سيروا
ساروا جميعاً وقد طال الوجيف بهم ... حتى بدا واضح الأقراب مشهور
ولم أصبح جمام الماء طاوية ... بالقوم وردهم للخمس تبكير
أوردتها وصدور العيس مسنفة ... والصبح بالكوكب الدري منحور
تباشروا بعدما طال الوجيف بهم ... بالصبح لما بدت منه تباشير
بدت سوابق من أولاه نعرفها ... وكبره في سواد الليل مستور
وقال في غزوهم طيئاً (من الطويل) :
ونحن جلبنا من ضربة خيلنا ... تكلفها حد الأكام قطائطا
سراعاً يزل الماء عن حجباتها ... ويشكون آثار السياط خوابطا
فأدركهم دون الهييماء مقصراً ... وقد كان شأوا بالغ الجهد باسطا
اصبن الطريف والطريف بن ملك ... وكان شفاء لو أصبن الملاقطا
إذا عرفوا ما قدموا لنفوسهم ... من الشر إن الشر مرد أراهطا
فلم أر يوماً كان أكثر باكياً ... وأكثر مغبوطاً يجل وغابطا
وقال في خلف بن نهشل بن يربوع (من البسيط) :
أمسى بنو نهشل نيان دونهم ... المطعمون ابن جارهم إذا جاعا
كان زيد مناة بعدهم غنم ... صاح الرعاء بها أن تهبط القاعا(4/)
أبلغ بني نهشل عني مغلغة ... إن الحمى بعدهم والثغر قد ضاعا
وقال أيضاً في يوم الكلاب الثاني (من الطويل) :
من رجل أحبوه رحلي وناقتي ... يبلغ عني الشعر إذ بات قائله
نذيراً وما يغني النذير بشبوة ... لمن شأوه حول البدي وجامله
فقل لتميم تجعل الرمل دونها ... وغير تميم في الهزاهز جاهله
فإن أبا بوس بيني وبينها ... بأرعن ينفي الطير حمر مناقله
إذ ارتحلوا أصم كل مؤيه ... وكل مهيب نقره وصواهله
فلا أعرفن سبباً تمد ثديه ... على معرض عن صهره لا يواصله
ومن الشعر المنحول إلى علقمة التميمي قوله (من الطويل) :
وعنس بريناها كأن عيونها ... قوارير في أدهانهن نضوب
ولست بجني ولكن ملاكاً ... تنزل من جو السماء يصوب
وأنت أزلت الخنزوانة عنهم ... بضرب له فوق الشؤون وجيب
وله يقول (من الوافر) :
وهل أسوى براقش حين أسوى ... ببلقعة ومنبسط أنيق
وحلوا من معين يوم حلوا ... بعزهم لدى الفج العميق
وقال أيضاً (من الرمل) :
فارس ما غادروه ملحماً ... غير زميل ولا نكس وكل
لو يشا طار به ذو ميعة ... لاحق الأطلال نهد ذو خصل
غير أن البأس منه شيمة ... وصروف الدهر تدري بالأجل
وقال (من البسيط) :
بمثلها تقطع الموماة عن عرض ... إذا تبغم في ظلمانه البوم
فطاف طوفين بالأدحي يقفره ... كأنه حاذر للنخس مشهوم
أخبر الحسن قال: سمعت أبي يقول سرق ذو الرمة قوله: "يطفوا إذا ما تلقته الجراثيم" من قول العجاج: "إذا تلقته العقاقيل طفا" وسرقه العجاج من علقمة بن عبدة في قوله (من البسيط) :
تطفوا إذا ما تلقته العقاقيل
حدث العمري عن لقيط قال: تحاكم علقمة بن عبدة التميمي والزبرقان بن بدر السعدي والمخبل وعمرو بن الأهتم إلى ربيعة بن حذار الأسدي. فقال: أما أنت يا زبرقان فشعرك كلحم لا أنضج فيؤكل ولا ترك نيئاً فينتفع به. وأما أنت يا عمر فإن شعرك كبرد حبرة يتلألأ في البصر فكلما أعدته نقص. وأنت يا مخبل فإنك قصرت عن الجاهلية ولم تدرك الإسلام وأما أنت يا علقمة فإن شعرك كمزادة قد أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء.
ويؤخذ من هذه الرواية أن علقمة بن عبدة عمر طويلاً ولم يمت إلا بعد ظهور الإسلام بقليل نحو 625 م. وكان أخوه شاس شاعراً روى له قيس بن عثعث قوله:(4/)
وجدت أمين الناس قيس بن عثعث ... فإياه فيما نابني فلأحمد
نماه زياد المجد من آل جابر ... وآل امرئ القيس الجواد بن مزيد
وكنت امرءاً بيني وبينك أحنة ... تبينت فيها أنني غير مهتد
حلفت بما ضم الحجيج إلى منى ... وما ثج من نحر الهدي المقلد
لأن أنت عافيت الذنوب التي ترى ... وأبلعتني ريقي وانظرتني غدي
لاستعتبن مما يسؤوك بعدها ... وإن بسني ذو لكنة بين أعبد
أخذنا ترجمة هذا الشاعر عن ديوانه طبعة لندرة وطبعة مصر وكتاب الأغاني طبعة ليدن وغير ذلك من كتب الأدب.
شعراء نجد والحجاز والعراق (مزينة)
زهير بن أبي سلمى المزني
هو زهير بن أبي سلمى واسم أبي سلمى ربيعة بن رباح بن قرة بن الحارث بن مازن بن ثعلبة بن ثور بن هرمة بن الأصم بن عثمان بن عمرو بن اد هي بنت كلب بن ربوة وهو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء. وإنما اختلف في تقديم أحد الثلاثة على صاحبيه. فأما الثلاثة فلا اختلاف فيهم وهم: امرؤ القيس وزهير والنابغة الذبياني. أخبر أبو خليفة عن محمد بن سلام عن أبي قيس عن عكرمة بن جرير عن أبيه قال: شاعر أهل الجاهلية زهير. أخبر أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: قال عمر بن الخطاب ليلة مسيره إلى الجابية. أين ابن عباس فأتاه فشكا تخلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: أو لم يعتذر إليك قال: بلى. قلت: فهو ما اعتذر به. ثم قال: أول من ريثكم عن هذا الأمر أبو بكر أن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة. ثم ذكر قصة طويلة ليست من هذا الباب فتركتها أنا. ثم قال: هل تروي لشاعر الشعراء. قلت: ومن هو قال: الذي يقول (من الطويل) :
ولو أن حمداً يخلد الناس اخلدوا ... ولكن حمد الناس ليس بمخلد(4/)
(وهذه من قصيدة سيأتي ذكرها) قلت: ذاك زهير. قال: فذاك شاعر الشعراء. قلت: وبم كان شاعر الشعراء. قال: لأنه كان لا يعاظل في الكلام وكان يتجنب وحشي الشعر ولم يمدح أحداً إلا بما فيه. قال الأصمعي: يعاظل بين الكلام يداخل فيه ويقال: يتبع حوشي الكلام ووحشي الكلام والمعنى واحد. وأخبر عمر بن موسى الجمحي عن أخيه قدامة ابن موسى وكان من أهل العلم أنه كان يقدم زهيراً. قلت: فأي شيء كان أعجب إليه قال: الذي يقول فيه (من البسيط) :
قد جعل المبتغون الخير من هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا
(وهذا أيضاً له من قصيدة ستأتي) قال ابن سلام: وأخبرني أبو قيس العنبري ولم أر بدوياً يفي به عن عكرمة بن جرير. قال: قلت لأبي يا أبة من أشعر الناس. قال: أعن الجاهلية تسألني أم عن الإسلام. قال: قلت ما أردت إلا الإسلام. فإذا ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها. قال: زهير أشعر أهلا. قلت: فالإسلام. قال: الفرزدق نبعة الشعر. قلت: فالأخطل. قال: يجيد مدح الملوك ويصيب وصف الخمر قلت: فما تركت لنفسك قال: نحرت الشعر نحراً.
سأل معاوية الأحنف بن قيس عن أشعر الشعراء فقال: زهير قال: وكيف قال: ألقى عن المادحين فضول الكلام قال: مثل ماذا قال: مثل قوله (من الطويل) :
فما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل
قال ابن عباس: خرجت مع عمر في أول غزاة غزاها فقال لي ذات ليلة: يا ابن عباس أنشدني لشاعر الشعراء قلت: ومن هو يا أمير المؤمنين. قال: ابن أبي سلمى قلت: وبم صار كذلك قال: لأنه لا يتبع حوشي الكلام ولا يعاظل من المنطق ولا يقول إلا ما يعرف ولا يمتدح الرجل إلا بما يكون فيه أليس الذي يقول (من الطويل) :
إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية ... من المجد لم يسبق إليها يسود
سبقت إليها كل طلق مبرز ... سبوق إلى الغايات غير مزند
(وهما من قصيدة طويلة سيرد ذكرها) أنشدني له فأنشدته حتى برق الفجر فقال: حسبك الآن اقرأ القرآن. قلت: وما اقرأ. قال: اقرأ الواقعة فقرأتها ونزل فأذن وصلى.(4/)
قال ابن الأعرابي وأبو عمرو الشيباني: كان من حديث زهير وأهل بيته أنهم كانوا من مزينة وكان بنو عبد الله بن غطفان جيرانهم وقدماً ولدتهم بنو مرة. وكان من أمر أبي سلمى أنه خرج وخالد أسعد بن الغرير بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض وابنه كعب بن سعد في ناس من بني مرة يغيرون على طيىء. فأصابوا نعماً كثيرة وأموالاً فرجعوا حتى انتهوا إلى أرضهم. فقال أبو سلمى لخاله أسعد وابن خاله كعب: افردا لي سهمي فأبيا عليه ومنعاه حقه فكف عنهما حتى إذا كان الليل أتى أمه فقال: والذي أحلف به لتقومن إلى بعير من هذه الإبل فلتقعدن عليه أو لأضربن بسيفي تحت قرطيك فقامت أمه إلى بعير منها فاعتنقت سنامه وساق بها أبو سلمى وهو يرتجز ويقول:
ويل لأجمالي العجوز مني ... إذا دنوت ونون مني
كأنني سمعمع من جن
وساق الإبل وأمه حتى انتهى إلى قومه مزينة فذلك حيث يقول:
ولتغدون إبل مجنبة ... من عند أسعد وابنه كعب
الآكلين صريح قومهما ... آكل الخزامى برعم الرطب
قال: فلبث فيهم حيناً ثم أقبل بمزينة مغيراً على بني ذبيان حتى إذا مزينة أسهلت وخلفت بلادها ونظروا إلى أرض غطفان تطايروا عنه راجعين وتركوه وحده فذلك حيث يقول:
من يشتري فرساً لخير غزوها ... وأبت عشيرة ربها أن تسهلا
قال: وأقبل حين رأى ذلك من مزينة حتى دخل في أخواله بني مرة فلم يزل هو وولده في بني عبد الله بن غطفان إلى اليوم.
وقال زهير في قتل ورد بن حابس العبسي هرم بن ضمضم المري الذي يقول فيه عنترة وفي أخيه:
ولقد خشيت بأن تموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم
مدح بها هرم بن سنان والحارث بن عوف بن سعد بن ذبيان المريين لأنهما احتملا ديته في مالهما (من الطويل) :
امن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلم
ودار لها بالرقمتين كأنها ... مراجع وشم في نواشر معصم
بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
وقفت بها من بعد عشرين حجة ... فلأيا عرفت الدار بعد توهم
أثافي سفعاً في معرس مرجل ... ونؤيا كجذم الحوض لم يتئلم
فلما عرفت الدار قلت لربعها ... ألا أنعم صباحاً أيها الربع وأسلم
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ... تحملن بالعلياء من فوق جرثم(4/)
علون بأنماط عتاق وكلة ... وراد حواشيها مشاكهة الدم
ووركن في السوبان يعلون متنه ... عليهن دل الناعم المتنعم
بكرن بكوراً واستحرن بسحرة ... فهن لوادي الرس كاليد للفم
وفيهن ملهى للطيف ومنظر ... أنيق لعين الناظر المتوسم
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم
فلما وردن الماء زرقاً جمامه ... وضمن عصي الحاضر المتخيم
جعلن القنان عن يمين وحزنه ... ومن بالقنان من محل ومحرم
ظهرن من السوبان ثم جزعنه ... على كل قيني قشيب مفأم
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم
يميناً لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم
سعى ساعياً غيط بن مرة بعد ما ... تنزل مابين العشيرة بالدم
تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفنوا ودقوا بينهم عطر منشم
وقد قلتما إن ندرك السلم واسعاً ... بمال ومعروف من القول نسلم
فأصبحتما منها على خير موطن ... بعيدين فيها من عقوق ومأثم
عظيمين في عليا معد وغيرها ... ومن ستج كنزاً من المجد يعظم
تعفى الكلوم بالمبين فأصبحت ... ينجمها من ليس فيها بمجرم
ينجمها قوم لقوم غرامة ... ولم يهريقوا بينهم ملء محجم
فأصبح يجري فيهم من تلادكم ... مغانم شتى من إفال مزنم
ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة ... وذبيان هل أقسمتم كل مقسم
فلا تكتمن الله ما في صدوركم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضرى إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحا بثفالها ... وتلقح كشافاً ثم تنتج فتتئم
فتنتج لكم غلمان اشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها ... قرى بالعراق من قفيز ودرهم
لعمري لنعم الحي جر عليهم ... بما لا يؤاتيهم حصين بن ضمضم
وكان طوى كشحاً على مستكنة ... فلا هو أبداها ولم يتقدم
وقال سأقضي حاجتي ثم اتقي ... عدوي بألف من ورائي ملجم
فشد ولم يفزع بيوتاً كثيرة ... لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم
لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه ... سريعاً وإلا يبد بالظلم يظلم(4/)
رعوا ظمأهم حتى إذا تم أوردوا ... غماراً تفرى بالسلاح وبالدم
فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا ... إلى كلأ مستوبل متوخم
لعمرك ما جرت عليهم رماحهم ... دم ابن نهيك أو قتيل المثلم
ولا شاركت في الموت في دم نوفل ... ولا وهب منهم ولا ابن المحزم
فكلاً أراهم أصبحوا يعقلونهم ... صحيحات مال طالعات بمخرم
لحي حلال يعصم الناس أمرهم ... إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم
كرام فلا ذو الضغن يدرك تبله ... لديهم ولا الجاني عليهم بمسلم
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم
واعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته وإن تخطىء يعمر فيهرم
ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن يوفي لا يذمم ومن يهد قلبه ... إلى مطمئن البر لا يتجمجم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم
ومن يجعل المعروف في غير أهله ... يكن حمده ذماً عليه ويندم
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن يغترب يحسب عدواً صديقه ... ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
ومن لم يزل يسترحل الناس نفسه ... ولا يعفها يوماً من الذل يندم
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... ولو خالها تخفى على الناس تعلم
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده ... وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
سألنا فأعطيتم وعدنا وعدتم ... ومن أكثر التسآل يوماً سيحرم(4/)
قال الأثرم أبو الحسن: حدثني أبو عبيدة قال: كان ورد بن حابس العبسي قتل هرم بن ضمضم المري فتشاجر عبس وذبيان قبل الصلح وحلف حصين بن ضمضم أن لا يغسل رأسه حتى يقتل ورد بن حابس أو رجلاً من بني عبس ثم من بني غالب. ولم يطلع على ذلك أحد وقد حمل الحمالة الحارث بن عوف بن أبي حارثة فأقبل على رجل من بني عبس ثم أحد بني مخزوم حتى نزل بحصين بن ضمضم. فقال له حصين: من أنت أيها الرجل. قال: عبسي. قال: من أي عبس قلم يزل ينتسب حتى انتسب إلى بني غالب فقتله حصين. وبلغ ذلك الحارث بن عوف وهرم بن سنان فاشتد عليهما. وبلغ بني عبس فركبوا نحو الحارث فلما بلغه ركبوهم إليه وما قد اشتد عليهم من قتل صاحبهم وأنهم يريدون قتل الحارث بعث إليهم بمائة من الإبل معها ابنه وقال للرسول: قل لهم الإبل أحب إليكم أم أنفسكم فأقبل الرسول حتى قال لهم ذلك. فقال لهم الربيع بن زياد: يا قوم إن أخاكم قد أرسل إليكم الإبل أحب إليكم أم ابني تقتلونه مكان قتيلكم. فقالوا: نأخذ الإبل ونصالح قومنا ونتم الصلح فذلك حين يقول زهير يمدح الحارث وهرماً
"أمن أم أوفى دمنة لم تكلم"
وهي أول قصيدة مدح بها هرماً ثم تابع ذلك بعد.(4/)
وقد أخبر الحسن بن علي بهذه القصة وروايته أتم من هذه قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: قال الحارث بن عوف بن أبي حارثة: أتراني أخطب إلى أحد فيردني قال: نعم. قال: ومن ذاك. قال: أوس بن حارثة في بلاده فوجداه في منزله فلما رأى الحارث بن عوف قال: مرحباً بك يا حارث. قال: وبك. ما جاء بك يا حارث. قال: جئتك خاطباً قال: لست هناك فانصرف ولم يكلمه. ودخل أوس على امرأته مغضباً وكانت من عبس فقالت: من رجل وقف عليك فلم تطل ولم تكلمه قال: ذاك سيد العرب الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري. قالت: فما لك لا تستنزله. قال: إنه استحمق. قالت: وكيف. قال: جاءني خاطباً. قالت: أفتريد أن تزوج بناتك. قال: نعم. قالت: فإذا لم تزوج سيد العرب. قال: فمن. قد كان ذلك. قالت: فتدارك ما كان منك. قال: بماذا. قالت: تلحقه فترده. قال: وكيف وقد فرط مني ما فرط إليه. قالت: تقول له إنك لقيتني مغضباً بأمر لم تقدم مني فيه قولاً فلم يكن عندي فيه من الجواب إلا ما سمعت فانصرف ولك عندي ما أحببت فإنه سيفعل. فركب في إثرهما. قال خارجة بن سنان: فوالله إني لأسير إذ حانت مني التفاتة فرأيته فأقبلت على الحارث وما يكلمني غماً. فقلت له: هذا أوس بن حارثة في إثرنا. قال: وما نصنع به امض فلما رآنا لا نقف عليه صاح يا حارث إربع علي ساعة. فوقفنا له فكلمه بذلك الكلام فرجع مسروراً فبلغني أن أوساً لما دخل منزله قال لزوجته: ادعي لي فلانة لأكبر بناته فاتته. فقال: يا بنية هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب قد جاءني طالباً خاطباً وقد أردت أن أزوجك منه فما تقولين. قالت: لا تفعل. قال: ولم؟ قالت: لأني امرأة في وجهي ردة وفي خلقي بعض العهدة ولست بابنة عمه فيرعى رحمي وليس بجارك في البلد فيستحي منك. ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي في ذلك ما فيه. قال: قومي بارك الله عليك ادعي لي فلانة لابنته الوسطى فدعتها. ثم قال لها مثل قوله لأختها فأجابته بمثل جوابها. وقالت: إن يخرقاء وليست بيدي صناعة ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي في ذلك ما تعلم وليس بابن عمي فيرعى حقي ولا جارك في بلدك فيستحييك. قال: قومي بارك الله عليك ادعي لي بهيسة(4/)
يعني الصغرى فأتى بها. فقال لها: كما قال لهما. فقالت: أنت وذاك. فقال لها: إني قد عرضت ذلك على أختيك فأبتاه. فقالت: ولم يذكر لها مقالتيهما لكني والله الجميلة وجهاً الصناع يداً الرفيعة خلقاً الحسيبة أباً فإن طلقني فلا أخلف الله عليه بخير. فقال: بارك الله عليك ثم خرج إلينا. فقال: قد زوجتك يا حارث بهيسة بنت أوس. قال: قد قبلت. فأمر أمها أن تهيئها وتصلح من شأنها ثم أمر ببيت فضرب له وأنزله إياه. فلما هيئت بعث بها إليه فلما أدخلت إليه لبثت هنيهة ثم خرج إلي فقلت: أفرغت من شأنك. قال: لا والله. قلت: وكيف ذلك؟ قال: لما مددت يدي إليها قالت: مه أعند أبي وإخوتي هذا والله ما لا يكون. قال: فأمر بالرحلة فارتحلنا ورحلنا بها معنا فسرنا ما شاء الله. ثم قال لي: تقدم فتقدمت وعدل بها عن الطريق فما لبث أن لحق بي فقتل: أفرغت؟ قال: لا والله. قلت: ولم؟ قال: قالت لي أكما يفعل بالأمة الجليبة أو السبية الأخيذة لا والله حتى تنجر الجزر وتذبح الغنم وتدعو العرب وتعمل ما يعمل لمثلي قلت: والله إني لأرى همة وعقلاً وأرجو أن تكون المرأة منجبة إن شاء الله. فرحلنا حتى جئنا بلادنا فأحضر الإبل والغنم ثم دخل عليها وخرج إلي فقلت: أفرغت؟ قال: لا. وقلت: ولم؟ قال: دخلت عليها أريدها وقلت لها: قد أحضرنا من المال ما قد ترين. فقالت: والله لقد ذكرت لي من الشرف ما لا أراه فيك. قلت: وكيف؟ قالت: أتفرغ لنكاح النساء والعرب تقتل بعضها وذلك في أيام حرب عبس وذبيان. قلت: فيكون ماذا؟ قالت: اخرج إلى هؤلاء القوم فأصلح بينهم ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتك. فقلت: والله إني لأرى همة وعقلاً ولقد قالت قولاً. قال: فاخرج بنا فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا فيما بينهم بالصلح فاصطلحوا على أن يحتسبوا القتلى فيؤخذ الفضل ممن هو عليه فحملنا عنهم الديات فكانت ثلاثة آلاف بعير في ثلاث سنين فانصرفنا بأجمل الذكر قال محمد بن عبد العزيز فمدحوا بذلك. وقال فيه زهير بن أبي سلمى قصيدته:
"أمن أم أوفى دمنة لم تكلم"
ومما مدح به هرماً وأباه وإخوته وغني فيه قوله (من البسيط) :
إن الخليط أجد البين فانفرقا ... وعلق القلب من أسماء ما علقا(4/)
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
واخلفتك ابنة البكري ما وعدت ... فأصبح الحبل منها واهناً خلقا
قامت تراءى بذي ضال لتحزنني ... ولا محالة أن يشتاق من عشقا
بجيد مغزلة ادماء خاذلة ... من الظباء تراعي شادناً خرقا
كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت ... من طيب الراح لما يعد أن عتقا
شج السقاة على ناجوها شبماً ... من ماء لينة لا طرقاًولا رنقا
ما زالت أرمقهم حتى إذا هبطت ... أيدي الركاب بهم من راكس فلقا
دجانية لشروري أو قفا ادم ... يسعى الحداة على آثارهم حزقا
كأن عيني في غربي مقتلة ... من النواضح تسقي جنة سحقا
تمطو الرشاء فتجري في ثنايتها ... من المحالة ثقباً رائداً قلقا
لها متاع وأعوان غدون به ... قتب وغرب إذا ما أفرغ اسحقا
وخلفها سائق يحدو إذا خشيت ... منه اللحاق تم الصلب والعنقا
وقابل يتغنى كلما قدرت ... على العراق يداه قائماً دفقا
يحيل في جدول تحبو ضفادعه ... حبو الجواري ترى في مائه نطقا
يخرجن من شربات ماؤها طحل ... على الجذوع يخفن الغم والغرقا
بل اذكرن خير قيس كلها حسباً ... وخيرها نائلاً وخيرها خلقا
القائد الخيل منكوباً دوائرها ... قد أحكمت حكمات القد والأبقا
غزت سماناً فآبت ضمراً خدجاً ... من بعد ما جنبوها بدناً عققا
حتى يؤوب بها عوجاً معطلة ... تشكو الدوابر والأنساء والصفقا
يطلب شأو امراين قدما حسناً ... نالا الملوك وبذا هذه السوقا
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا
أغر أبيض فياض يفكك عن ... أيدي العناة وعن أعناقها الربقا
وذاك أحزمهم رأياً إذا نبأ ... من الحوادث غادىالناس أو طرقا
فضل الجياد على الخيل البطاء فلا ... يعطي بذلك ممنوناً ولا نزقا
قد جعل المبتغون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا
إن تلق يوماً على علاته هرما ... تلق السماحة منه والندى خلقا
وليس مانع ذي قربى وذي رحم ... يوماً ولا معدماً من خابط ورقا
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا(4/)
هذا وليس كمن يعيا بخطته ... وسط الندي إذا ما ناطق نطقا
لو نال حي من الدنيا بمنزلة ... وسط السماء لنالت كفه الأفقا
ومن مدائحه إياهم قوله يمدح أبا هرم سنان بن أبي حارثة. وذكر ابن الكلبي: أنه هوي امرأة فاستهيم بها وتفاقم به ذلك حتى فقد فلم يعرف له خبر فتزعم بنو مرة أن الجن استطارته فأدخلته بلادها واستعجلته لكرمه. وذكر أبو عبيدة: أنه قد كان هرم حتى بلغ مائة وخمسين سنة فهام على وجهه خرفاً ففقد قال: فزعم لي شيخ من علماء بني مرة أنه خرج لحاجته بالليل فأبعد. فلما رجع مثل فهام طول ليلته حتى سقط فمات وتبع قومه أثره فوجدوه ميتاً فرثاه زهير بقوله (من الوافر) :
إن الرزية لا زرية مثلها ... ما تبتغي غطفان يوم أضلت
إن الركاب لتبتغي ذا مرة ... بجنوب نخل إذا الشهور أحلت
ولنعم حشو الدرع أنت لنا إذا ... نهلت من العلق الرماح وعلت
وقال يمدح سنان بن أبي حارثة (من المتقارب) :
أمن آل ليلى عرفت الطلولا ... بذي حرض ما ثلاث مثولا
بلين ونتحسب آيلتهن ... عن فرط حولين رقاً محيلا
إليك سنان الغداة الرحيل ... اعصي النهاة وأمضي الفؤولا
فلا تأمني غزو أفراسه ... بني وائل وارهبيه جديلا
وكيف اتقاء امرئ لا يؤو ... ب بالقوم في الغزو حتى يطيلا
بشعث معطلة كالقسي ... غزون مخاضاً وأدين حولا
نواشز أطباق أعناقها ... وضمرها قافلات قفولا
إذا اادلجوا لحوال الغوا ... ولم تلف في القوم نكساً ضئيلاً
ولكن جلداً جميع السلا ... ح ليلة ذلك عضاً بسيلا
فلما تبلج ما فوقه ... أناخ فشن عليه الشليلا
وضاعف من فوقها نثرة ... ترد القواضب عنها فلولا
مضاعفة كاضاة المسيل ... تغشي على قدميه فضولا
فنهنهها ساعة ثم قا ... ل للوازعين خلوا السبيلا
فاتبعهم فيلقاً كالسرا ... ب جأواء تتبع شخباً ثعولا
عناجيج في كل رهو ترى ... رعالاً سراغاً تباري رعيلا
جوانح يخلجن خلج الظبا ... ء يركضن ميلاً وينزعن ميلا
فظل قصيراً على صحبه ... وظل على القوم يوماً طويلا
وقال أيضاً يمدح هرم بن سنان (من البسيط) :
قف بالدنار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم
لا الدار غيرها بعدي النيس ولا ... بالدار لو كلمت ذا حاجة صمم(4/)
دار لأسماء بالغمرين ماثلة ... كالوحي ليس بها من أهلها ارم
وقد أراها حديثاً غير مقوية ... السر منها فوادي الجفر فالهدم
فلا لكان إلى وادي الغمار فلا ... شرقي سلمى فلا فيد فلا رهم
شطت بهم قرقرى برك بأيمنهم ... والعاليات وعن أيسارهم خيم
عوم السفين فلما حال دونهم ... فند القريات فالعتكان فالكرم
كأن عيني وقد سال السليل بهم ... وعبرة ما هم لو أنهم أمم
غرب على بكرة أو لؤلؤ قلق ... في السلك خان به رباته النظم
عهدي بهم يوم باب القريتين وقد ... زال الهماليج بالفرسان واللجم
فاستبدلت بعدنا داراً يمانية ... ترعى الخريف فأدنى دارها ظلم
إن البخيل ملوم حيث كان ولكن ... الجواد على علاته هرم
هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفواً ويظلم أحياناً فيظلم
وإن أتاه خليل يوم مسئلة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم
القائد الخيل منكوباً دوابرها ... منها الشنون ومنها الزاهق الزهمم
قد عوليت فهي مرفوع جواشنها ... على قوائم عوج لحمها زيم
تنبذ أفلاءها في كل منزلة ... تنتج أعينها العقبان والرخم
فهي تبلغ بالأعناق يتبعها ... خلج الأجرة في أشداقها ضجم
تخطو على ربذات غير فائرة ... تحذى وتعقد في أرساغها الخدم
قد أبدأت قطفاً في المشي منشزة ... الأكتاف تنكبها الحزان والأكم
يهوي بها ماجد سمح خلائقه ... حتى إذا ما أناخ القوم فاحتزموا
صدت صدوداً عن الأشواق واشترفت ... قبلاً تقلقل في أعناقها الجذم
ينزعن إمة أقوام لذي كرم ... بحر يفيض علىالعافين إذ عدموا
حتى تآوى إلى لا فاحش برم ... ولا شحيح إذا أصحابه غنموا
يقسم ثم يسوي القسم بينهم ... معتدل الحكم لا هار ولا هشيم
فضله فوق أقوام ومجده ما لم ينالوا وإن جادوا وإن كرموا
قود الجياد وأصهار الملوك وصبر ... في مواطن لو كانوا بها سئموا
ينزع أمة أقوام ذوي حسب مما ييسر أحياناً له الطعم
ومن ضريبته التقوى ويعصمه ... من سيىء العثرات الله والرحم
مورث المجد لا يغتال همته ... عن الرياسة لا عجز ولا سأم
كالهندواني لا يخزيك مشهده ... وسط السيوف إذا ما تضرب البهم
وقال أيضاً يمدح هرماً (من الكامل) :
لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن شهر(4/)
لعب الزمان بها وغيرها ... بعدي سوافي المور والقطر
قفراً بمندفع النحائت من ... ضفوى أولات الضال والسدر
دع ذا وعد القول في هرم ... خير البداة وسيد الحضر
تالله قد علمت سراة بني ... ذبيانعام الحبس والأصر
أن نعم معترك الجياع إذا ... خب السفير وسابىء الخمر
ولنعم حشو الدرع أنت إذا ... دعيت نزال ولج في الذعر
حامي الذمار على محافظة ... الجلى أمين مغيب الصدر
حدب على المولى الضريك إذا ... نابت عليه نوائب الدهر
ومرهق النيران يحمد في ... اللأواء غير ملعن القدر
ويقيك ما وقى الأكارم من ... حوب تسب به ومن غدر
وإذا برزت به برزت إلى ... صافي الخليقة طيب الخبر
متصرف للمجد معترف ... للنائبات يراح للذكر
جلد يحث على الجميع إذا ... كره الظنون جوامع الأمر
فلأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري
ولانت أشجع حين تتجه ... الأبطال من ليث أبى أجر
ورد عراض الساعدين حديد ... الناب بين ضراغم غثر
يصطاد أحدان الرجال فما ... تنفك أجريه على ذخر
والستر دون الفاحشات وما ... يلقاك دون الخير من ستر
أثني عليك بما علمت وما ... سلفت في النجدات والذكر
لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة البدر
ومن مدائحه هرماً قوله (من الوافر) :
لمن طلل برامة لا يريم ... عفا وخلا له حقب قديم
تحمل أهله منه فبانوا ... وفي عرصاته منهم رسوم
يلحن كأنهن يدا فتاة ... ترجع في معاصمها الوشوم
عفا من آل ليلى بطن ساق ... فأكثبة العجالز فالقصيم
تطالعنا خيالات لسلمى ... كما يتطلع الدين الغريم
لعمر أبيك ما هرم بن سلمى بملحي إذا اللؤماء ليموا
ولا ساهي الفؤاد ولا عيي ... اللسان إذا تشاجرت الخصوم
وهو غيث لنا في كل عام ... يلوذ به المخول والعديم
وعود قومه هرم عليه ... ومن عاداته الخلق الكريم
كما قد كان عودهم أبوه ... إذا أزمتهم يوماً أزوم
كبيرة مغرم أن يحملوها ... تهم الناس أو أمر عظيم
لينجوا من ملامتها وكانوا ... إذا شهدوا العظائم لم يليموا
كذلك خيمهم ولكل قوم ... إذا مستهم الضراء خيم
وإن سدت به لهوات ثغر ... يشار إليه جانبه سقيم
مخوف بأسه يكلاك منه ... عتيق لا ألف ولا سؤوم
له في الذاهبين أروم صدق ... وكان لكل ذي حسب أروم(4/)
وقال عمر لبعض ولد هرم: أنشدني بعض مدح زهير أباك فأنشده. فقال عمر: إن كان ليحسن فيكم القول قال: ونحن والله إن كنا لنحسن له العطاء. فقال: قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.
قال: وبلغني أن هرماً كان قد حلف أن لا يمدحه زهير إلا أعطاه ولا يسأله إلا أعطاه ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبداً أو وليدة أو فرساً فاستحيا زهير مما كان يقبل منه. فكان إذا رآه في ملىء قال: عموا صباحاً غير هرم وخيركم استثنيت. وروى المهلبي: وخيركم تركت.
أخبر الجوهري والمهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: قال عمر لابن زهير ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك. قال: أبلاها الدهر. قال: لكن الحلل التي كساها أبوك هرماً لم يبلها الدهر. وقد ذكر الهيثم بن عدي أن عائشة خاطبت بهذه المقالة بعض بنات زهير.
قال علي بن محمد المدائني: حدثني ابن جعدويه أن عروة بن الزبير لحق بعبد الملك بن مروان بعد قتل أخيه عبد الله بن الزبير فكان إذا دخل إليه منفرداً أكرمه وإذا دخل عليه وعنده أهل الشام استخف به. فقال له يوماً: يا أمير المؤمنين بئس المزور أنت تكرم ضيفك في الخلا وتهينه في الملا. فقال لله در زهير حيث يقول:
فقري في بلادك إن قوماً ... متى يدعوا بلادهم يهونوا
ثم استأذنه في الرجوع إلى المدينة فقضى حوائجه وأذن له. وهذا البيت من قصيدة لزهير قالها في بني تميم وقد بلغه أنها حشدت لغزو غطفان وهي (من الوافر) :
ألا أبلغ لديك بني تميم ... وقد يأتيك بالخبر الظنون
بأن بيوتنا بمحل حجر ... بكل قرارة منها نكون
إلى قلهى تكون الدار منا ... إلى أكناف دومة فالحجون
بأودية أسافلهن روض ... وأعلاها إذا خفنا حصون
نحل بسهلها فإذا فزعنا ... جرى منهن بالأصلاء عون
وكل طوالة واقب نهد ... مراكلها من التعداء جون
تضمر بالأصائل كل يوم ... تسن على سنابكها القرون
وكانت تشتكي الأضغان منها ... اللجون الخب واللحج الحرون
وخرجها صوارخ كل يوم ... فقد جعلت عرائكها تلين
وعزتها كواهلها وكلت ... سنابكها وقدحت العيون
إذا رفع السياط لها تمطت ... وذلك من علالتها متين
ومرجعها إذاً نحن انقلبنا ... نسيف البقل واللبن الحقين
فقري في بلادك إن قوماً ... متى يدعوا بلادهم يهونوا(4/)
أو انتجعي سناناً حيث أمسى ... فإن الغيث منتجع معين
متى تأتيه تأتي لج بحر ... تقاذف في غواريه السفين
له لقب لباغي الخير سهل ... وكيد حين تبلوه متين
قال ابن الأعرابي: كان الحارث بن ورقاء الصيداوي من بني أسد أغار على بني عبد الله بن غطفان فغنم فاستاق إبل زهير وراعيه يساراً فقال زهير (من البسيط) :
بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا ... وزودوك اشتياقاص أية سلكوا
رد القيان جمال الحي فاحتملوا ... إلى الظهيرة أمر بينهم لبك
ما إن يكاد يخليهم لوجهتهم ... تخالج الأمر إن الأمر مشترك
ضحوا قليلاً قفا كثبان اسنمة ... ومنهم بالقسوميات معترك
ثم استمروا وقالوا إن مشربكم ... ماء بشرقي سلمى فيد أوركك
يغشى الحداة بهم وعث الكثيب كما ... يغشي السفائن موج اللجة العرك
هل تبلغني أدنى دارهم قلص ... يزجي أوائلها التبغيل والرتك
مقورة تتبارى لا شوار لها ... إلا القطوع على الأنساع والورك
مثل النعام إذا هيجتها ارتفعت ... على لواحب بيض بينها الشرك
وقد أروح أمام الحي مقتنصاً ... قمراً مراتعها القيعان والنبك
وصاحبي وردة نهد مراكلها ... جرداء لا فحج فيها ولا صكك
مراً كفاتاً إذا ما الماء أسهلها ... حتى إذا ضربت بالسوط تبترك
كأنها من قطا الأجباب حلاها ... ورد وأفرد عنها أختها الشرك
جونية كحصاة القسم مرتعها ... بالسي ما تنبت القفعاء والحسك
أهوى لها أسفع الخدين مطرق ... ريش القوادم لم ينصب له الشبك
لا شيء أسرع منها وهي طيبة ... نفساً بما سوف ينجيها وتترك
دون السماء وفوق الأرض قدرهما ... عند الذنابي فلا فوت ولا درك
عند الذنابي لها صوت وأزملة ... يكاد يخطفها طوراً وتهتلك
حتى إذا ما هوت كف الوليد لها ... طارت وفي كفه من ريشها بتك
ثم استمرت إلى الوادي فالجاها ... منه وقد طمع الأظفار والحنك
حتى استغاثت بماء لا رشاء له ... من الأباطح في حافاته البرك
مكلل بأصول النبت تنسجه ... ريح خريق لضاحي مائه حبك
كما استغاث بسيء فز غيطلة ... خاف العيون فلم ينظر به الحشك
فزل عنها وأوفى رأس مرقبة ... كمنصب العتر دمى رأسه النسك
هلا سألت بني الصيداء كلهم ... بأي حبل جوار كنت أمتسك(4/)
فلن يقولوا بحبل واهن خلق ... لو كان قومك في أسبابه هلكوا
يا حار لا أرمين منكم بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك
أردد يساراً ولا تعنف عليه ولا ... تمعك بعرضك إن الغادر المعك
ولا تكونن كأقوام علمتهم ... يلوون ما عندهم حتى إذا نهكوا
طابت نفوسهم عن حق خصمهم ... مخافة الشر فارتدوا لما تركوا
تعلمن ها لعمر الله ذا قسماً ... فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك
لئن حللت بجو في بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك
ليأتينك مني منطق قذع ... باق كما دنس القبطية الودك
قال: فلما أنشد الحراث هذا الشعر بعث بالغلام إلى زهير وقيل بل أنشد قول زهير (من الوافر) :
تعلم أن شر الناس حي ... ينادى في شعارهم يسار
ولولا عسبه لرددتموه ... وشر منيحة عسب معار
يبربر حي يعدو من بعيد ... ضئيل الجسم يعلوه انبهار
إذا أبزت به يوماً أهلت ... كما تبزي الصعائد والعشار
فأبلغ إن عرضت لهم رسولا ... بني الصيداء إن نفع الجوار
بأن الشعر ليس له مرد ... إذا ورد المياه به البحار
فرد عليه فلامه قومه وقالوا له: اقتله ولا ترسل به إليه فأبى عليهم فقال زهير عند ذلك (من البسيط) :
أبلغ لديك بني الصيداء كلهم ... أن يساراً أتانا غير مغلول
ولا مهان ولكن عند ذي كرم ... وفي حبال وفي غير مجهول
يعطي الجزيل ويسمو وهو متئد ... بالخيل والقوم في الرجراجة الجول
وبالفوارس من ورقاء قد علموا ... فرسان صدق على جرد أبابيل
في حومة الموت إذ ثابت حلائبهم ... لا مقرفين ولا عزل ولا ميل
في ساطع من غيابات ومن رهج ... وعثير من دقاق الترب منخول
أصحاب زبد وأيام لهم سلفت ... من حاربوا اعذبوا عنه بتنكيل
أو صالحوا فله أمن ومنتقذ ... وعقد أهل وفاء غير مخذول(4/)
فقال الحارث لقومه: أيما أصلح ما فعلت أو ما أردتم. قالوا: بل ما فعلت. قال ابن الأعرابي: وحدثني أبو زياد الكلابي: أن زهيراً وأباه وولده كانوا في بني عبد الله بن غطفان ومنزلهم اليوم بالحاجز. وكانوا فيه في الجاهلية. وكان أبو سلمى تزوج إلى رجل من بني فهر بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان يقال له الغابر. والغابر هو أبو يسار هذا. فولدت له زهيراً وأوساً. وولد لزهير من ارمأة من بني سحيم وكان زهير يذكر في شعره بني مرة وغطفان ويمدحهم. وكان زهير في الجاهلية سيداً كثير المال حليماً معروفاً بالورع.
قال وحدث حماد الراوية عن سعيد الراوية عن سعيد بن عمرو بن سعيد: أنه بلغه أن زهيراً هجا آل بيت من كلب من بني عليم بن حبان وكان بلغه عنهم شيء من وراء. وكان رجل من بني عبد الله بن غطفان أتى بني غليب وأكرموه لما نزل بهم وأحسنوا جواره. وكان رجلاً مولعاً بالقمر فنهوه عنه. فأبى إلا المقارمة فقمر مرة فردوا عليه ثم قمر أخرى فردوا عليه ثم قمر الثالثة فلم يردوا عليه. فترحل عنهم وشكا ما صنع به إلى زهير والعرب حينئذ يتقون الشعراء اتقاء شديداً. فقال: ما خرجت في ليلة ظلماء إلا خفت أن يصيبني الله بعقوبة لهجائي قوماً ظلمتهم. قال: والذي هجاهم به قوله (من الوافر) :
عفا من آل فاطمة الجواء ... فيمن فالقوادم فالحساء
فذو هاش فميث عريتنات ... عفتها الريح بعدك والسماء
فذروة فالجناب كان خنس ... النعاج الطاويات بها الملاء
يشمن بروقه ويرش أريا ... الجنوب على حواجبها العماء
فلما أن تحمل آل ليلى ... جرت بيني وبينهم ظباء
جرت سنحاً فقلت لها أجيزي ... نوى مشمولة فمتى اللقاء
تحمل أهلها منها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء
كان أوابد الثيران فيها ... هجائن في مغابنها الطلاء
لقد طالبتها ولكل شيء ... وإن طالت لجاجته انتهاء
تنازعها المها شبهاً ودر ... النحور وشاكهت فيه الظباء
فأما ما فويق العقد منها ... فمن أدماء مرتعها الخلاء
وأما المقلتان فمن مهاة ... وللدر الملاحة والصفاء
فصرم حبلها إذ صرمته ... وعادى أن تلاقيها العداء
بآرزة القارة لم يخنها ... قطاف فيا لركاب ولا خلاء
كأن الرحل منها فوق صعل ... من الظلمان جؤجؤه هواء(4/)
أصك مصلم الأذنين أجنى ... له بالسي تنوم واء
أذلك أم شتيم الوجه جأب ... عليه من عقيقته عفاء
تربع صارة حتى إذا ما ... فنى الدحلان عنه والإضاء
تفرع للقنان وكل فج ... طباه الرعي منه والخلاء
فأوردها حياض صنيبعات ... فألفاهن ليس بهن ماء
فشج بها الأماعز فهي تهوي ... هوي الدلو أسلمها الرشاء
فليس لحاقه كلحاق إلف ... ولا كنجائها منه نجاء
وإن مالا لوعث خازمته ... بألواح مفاصلها ظماء
يخر نبيذها عن حاجبيه ... فليس لوجهه منه غطاء
يغرد بين خرم مقضيات ... صواف لم تكدرها الدلاء
يفضله إذا اجتهدا عليه ... تمام السن منه والذكاء
كأن سحيله في كل فجر ... على أحساء يمؤود دعاء
فاض كأنه رجل سليب ... على علياء ليس له رداء
كأن بريقه برقان سحل ... جلى عن متنه حرض وماء
فليس بغافل عنها مضيع ... رعيته إذا غفل الرعاء
وقد أغدو على ثبة كرام ... نشاوى واجدين لما نشاء
لهم راح وراووق ومسك ... تعل به جلودهم وماء
يجرون البرود وقد تمشت ... حمياً الكأس فيهم والغناء
تمشى بين قتلى قد أصيبت ... نفوسهم ولم تهرق دماء
وما ادري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
فإن قالوا النساء مخبآت ... فحق لكل محصنة هداء
وإما أن يقول بنو مصاد ... إليكم إننا قوم براء
وإما أن يقولوا قد وفينا ... بذمتنا فعادتنا الوفاء
وإما أن يقولوا قد أبينا ... فشر مواطن الحسب الإباء
وإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء
فذلكم مقاطع كل حق ... ثلاث كلهن لكم شفاء
فلا مستكرهون لما منعتم ... ولا تعطون إلا أن تشاءوا
جوار شاهد عدل عليكم ... وسيان الكفالة والتلاء
بأي الجيرتين أجرتموه ... فلم يصلح لكم إلا الأداء
وجار سار معتمداً إليكم ... أجاءته المخافة والرجاء
فجاور مكرماً حتى إذا ما ... دعاه الصيف وانقطع الشتاء
ضمنتم ما له وغدا جميعاً ... عليكم نقصه وله النماء
ولولا أن ينال أبا طريف ... إسار من مليك أو لحاء
لقد زارت بيوت بني عليم ... من الكلمات آنية ملاء
فتجمع أيمن منا ومنكم ... بمقسمة تمور بها الدماء
سيأتي آل حصن حيث كانوا ... من المثلات باقية ثناء
فلم أر معشراً أسروا هدياً ... ولم أر جار بيت يستباء(4/)
وجار اليبت والرجل المنادي ... أمام الحي عقدهما سواء
أبى الشهداء عندك من معد ... فليس لما تدب له خفاء
تلجلج مضغة فيها أنيض ... أصلت فهي تحت الكشح داء
غصصت بنيئها فبشمت منها ... وعندك لو أردت لها دواء
وإني لو لقيتك فاجتمعنا ... لكان لكل مندية لقاء
فأبرىء موضحات الرأس منه ... وقد يشفي من الجرب الهناء
فمهلاً آل عبد الله عدوا ... مخازي لا يدب لها الضراء
أرونا سنة لا عيب فيها ... يسوي بيننا فيها السواء
فإن تدعوا السواء فليس بيني ... وبينكم بني حصن بقاء
ويبقى بيننا قذع وتلفوا ... إذاً قوماً بأنفسهم أساءوا
ووتوقد ناركم شرراً ويرفع ... لكم في كل مجمعة لواء
وعن ابن الكلبي عن أبيه قال: وكان بشامة بن العذير خال أبي سلمى وكان زهير منقطعاً إليه وكان معجباً بشعره وكان بشامة رجلاً مقعداً ولم يكن له ولد وكان مكثراً من المال. ومن أجل ذلك نزل إلى هذا البيت في غطفان لخؤولتهم. وكان بشامة أحزم الناس رأياً. وكان غطفان إذا أرادوا أن يغزوا أتوه فاستشاروه وصدوا عن رأيه. فإذا رجعوا قسموا له مثل ما يقسمون لأفضلهم. فمن أجل ذلك كثر ماله. وكان أسعد غطفان في زمانه فلما حضر الموت جعل يقسم ماله في أهل بيته وبين بني إخوته. فأتاه زهير فقال: يا خالان لو قسمت لي من مالك. فقال: والله يا ابن أختي لقد قسمت لك أفضل ذلك وأجزله. قال: وما هو. قال: شعري ورثتنيه. وقد كان زهير قبل ذلك قال الشعر وقد كان أول ما قال. فقال له زهير: الشعر شيء ما قلته فكيف تعتد به علي. فقال له بشامة: ومن أين جئت بهذا الشعر لعلك نزى أنك جئت به من مزينة. وقد علمت العرب أن حصاتها وعين مائها في الشعر لهذا الحي من غطفان ثم لي منهم وقد رويته عني واحذاه نصيباً من ماله ومات. وبشامة شاعر مجيد وهو الذي يقول:
ألا ترين وقد قطعتني قطعاً ... ماذا من الفوت بين البخل والجود
إلا يكن ورق يوماً أراح به ... للخابطين فإني لين العود
قال ابن الأعرابي: أم أوفى التي ذكرها زهير في شعره كانت امرأته فولدت منه أولاداً ماتوا ثم تزوج بعد ذلك امرأة أخرى وهي أم ابنيه كعب وبجير فغارت من ذلك وأذته فطلقها ثم ندم فقال فيها (من الوافر) :(4/)
لعمرك والخطوب مغيرات ... وفي طول المعاشرة التقالي
لقد باليت مظعن أم أوفى ... ولكن أم أوفى لا تبالي
فأما إذا نايت فلا تقولي ... لذي صهر أذلت ولم تذالي
اصبت بني منك ونلت مني ... من اللذات والحلل الغوالي
وقال ابن الأعرابي: كان لزهير ابن يقال له سالم جميل الوجه حسن الشعر فأهدى رجل إلى زهير بردتين فلبسهما الفتى وركب فرساً له فمر بامرأة من العرب بماء يقال له النتاءة فقالت: ما رأيت كاليوم قط رجلاً ولا بردين ولا فرساً. فعثر به الفرس فاندقت عنقه وعنق الفرس وانشقت البردتان فقال زهير يرثيه (من الطويل) :
رأت رجلاً لاقى من العيش غبطة ... واخطاه فيها الأمور العظائم
وشب له فيها بنون وتوبعت ... سلامة أعوام له وغنائم
فأصبح محبوراً ينظر حوله تغبطه لو أن ذلك دائم
وعندي من الأيام ما ليس عنده ... فقلت تعلم إنما أنت حالم
لعلك يوماً أن تراع بفاجع ... كما راعني يوم النتاءة سالم
قال ابن الأعرابي: كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره وكان أبوه شاعراً وخاله شاعراً وأخته سلمى شاعرة وابناه كعب وبجير شاعرين وأخته الخنساء شاعرة وهي القائلة ترثيه:
وما يغني توقي الموت شيئاً ... ولا عقد التميم ولا الغضار
إذا لاقى منيته فأمسى ... يساق به وقد حق الحذار
ولاقاه من الأيام يوم ... كما من قبل لم يخلد قدار
وابن ابنه المضرب بن كعب بن زهير شاعر وهو القائل:
إن لأحبس نفسي وهي صادية ... عن مصعب ولقد بانت لي الطرق
رعوا عليه كما 'رى على هرم ... جدي زهير وفينا ذلك الخلق
مدح الملوك سعي في مسرتهم ... ثم الغني ويد الممدوح تنطلق
أخبر أبو خليفة بن محمد بن سلام قال: من قدم زهيراً احتج بأنه كان أحسنهم شعراً وأبعدهم من سخف وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من الألفاظ وأشدهم مبالغة في المدح وأكثرهم أمثالاً في شعره.
وقال أيضاً يمدح سنان بن أبي حارثة المري (من الطويل) :
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو ... واقفر من سلمى التعانيق فالثقل
وقد كنت من سلمى سنين ثمانياً ... على صير أمر ما يمر وما يحلو
وكنت إذا ما جئت يوماً لحاجة ... مضت واجمت حاجة الغد ما تخلو
وكل محب أحدث النأي عنده ... سلو فؤاد غير حبك ما يسلو(4/)
تاوبني ذكر الأحبة بعدما ... هجعت ودوني قلة الحزن فالرمل
فأقسمت جهداً بالمنازل من منى ... وما سحسقت فيه المقادم والقمل
لارتحلن بالفجر ثم لادابن ... إلى الليل إلا أن يعجرني طفل
إلى معشر لم يورث اللؤم جدهم ... أصاغرهم وكل فحل له نجل
تربص فإن تقو المروراة منهم ... وداراتها لا تقو منهم إذا نخل
فإن تقويا منهم فإن محجراً ... وجزع الحسا منهم إذا قل ما يخلو
بلاد بها نادمتهم وألفتهم ... فإن تقويا منهم فإنهم بسل
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم ... طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل
بخيل عليها جنة عبقرية ... جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا
وأن يقتلوا فيشتفى بدمائهم ... وكانوا قديماً من مناياهم القتل
عليها أسود ضاريات لبوسهم ... سوابغ بيض لا تخرقها النبل
إذا لقحت حرب عوان مضرة ... ضروس تهر الناس أنيابها عصل
قضاعية أو أختها مضرية ... يحرق في حافلتها الحطب الجزل
تجدهم على ما خيلت هم إزاءها ... وإن أفسد المال الجماعات والأزل
يحشونها بالمشرفية والقنا ... وفتيان صدق لا ضعاف ولا نكل
تهامون نجديون كيداً ونجعة ... لكل أناس من وقائعهم سجل
هم ضربوا عن فرجها بكتيبة ... كبيضاء حرس في طوائفها الرجل
متى يشتجر قوم تقل سرواتهم ... هم بيننا فهم رضى وهم عدل
هم جردوا أحكام كل مضلة ... من العقم لا يلفى لأمثالها فصل
بعزمة مأمور مطيع وآمر ... مطاع فلا يلفي لحزمهم مثل
ولست بلاق بالحجاز مجاوراً ... ولا سفراً إلا له منهم حبل
بلاد بها عزوا معداً وغيرها ... مشاربها عذب وأعلامها ثمل
هم خير حي من معد علمتهم ... لهم نائل في قومهم ولهم فضل
فرحت بما خبرت عن سيديكم ... وكانا امراين كل أمرهما يعلو
رأى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... فابلاهما خير البلاء الذي يبلو
تداركتما الأحلاف قد ثل عرشها ... وذبيان قد زلت بأقدامها النعل
فأصبحتما منها على خير موطن ... سبيلكما فيه وإن أحزنوا سهل
إذا السنة الشهباء بالناس أجحفت ... ونال كرام المال في الجحرة الأكل
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطيناً بها حتى إذا نبت البقل
هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا(4/)
وفيهم مقامات حسان وجوهم ... وأندية ينتابها القول والفعل
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم ... مجالس قد يشفى بأحلامها الجهل
وإن قام فيهم حامل قال قاعد ... رشدت فلا غرم عليك ولا خذل
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم ... فلم يفعلوا ولم يليموا ولم يألوا
وما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل
وقال أيضاً يمدح حصن بن حذيفة بن بدر (من الطويل) :
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعري أفراس الصبا ورواحله
وأقصرت عما تعلمين وسددت ... علي سوى قصد السبيل معادله
وقال العذارى إنما أنت عمنا ... وكان الشباب كالخليط نزايله
فأصبحت ما يعرفن إلا خليقتي ... وإلا سواد الرأس والشيب شامله
لمن طلل كالوحي عاف منازله ... عفا الرس منه فالرسيس فعاقله
فرقد فصارات فأكناف منعج ... فشرقي سلمى حوضه فأجاوله
فوادي اليدي فالطوي فثادق فوادي القنان جزعه فافاكله
وغيث من الوسمي حو تلاعه ... أجابت روابيه النجا وهواطله
هبطت بممسود النواشر سابح ... ممر أسيل الخد نهد مراكله
تميم فلوناه فأكمل صنعه ... فتم وعزته يداه وكاهله
أمين شظاه لم يخرق صفاقه ... بمنقبة ولم تقطع أباجله
إذا ما غدونا نبتغي الصيد مرة ... متى نره فإننا لا نخاتله
فبينا نبغي الصيد جاء غلامنا ... يدب ويخفي شخصه ويضائله
فقال شياه راتعات بقفرة ... بمستأسد القريان حو مسائله
ثلاث كأقواس السراء ومسحل ... قد اخضر من لس الغمير جحافله
وقد خرم الطراد عنه جحاشه ... فلم تبق إلا نفسه وحلائله
فقال أميري ما ترى رأي ما نرى ... انختله عن نفسه أم نصاوله
فبتنا عراة عند رأس جوادنا ... يزاولنا عن نفسه ونزاوله
ونضربه حتى اطمأن قذاله ... ولا قدماه الأرض إلا أنامله
فلأياً بلأي ما حملنا وليدنا ... على ظهر محبوك ظماء مفاصله
وقلت له سدد وأبصر طريقه ... وما هو فيه عن وصاتي شاغله
وقلت تعلم أن للصيد غرة ... وإلا تضيعها فإنك قاتله
فتبع آثار الشياه وليدنا ... كشؤبوب غيث يحفش الأكم وابله
نظرت إليه نظرة فرأيته ... على كل حال مرة هو حامله(4/)
يثرن الحصى في وجهه وهو لاحق ... سراع تواليه صباب أوائله
فرد علينا العير من دون إلفه ... على رغمه يدمى نساه وفائله
فرحنا به ينضو الجياد عشية ... مخضبة أرساغه وعوامله
بذي ميعة لا موضع الرمج مسلم ... لبطء ولا ما خلف ذلك خاذله
وأبيض فياض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغب فواضله
بكرت عليه غدوة فرأيته ... قعوداً لديه بالصريم عواذله
يفدينه طوراً وطوراً يلمنه ... واعيا فما يدرين أين مخاتله
فأقصرن منه عن كريم مرزاء ... عزوم على الأمر الذي هو فاعله
أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وذي نسب ناء بعيد وصلته ... بمال وما يدري بأنك واصله
وذي نعمة تمتها وشكرتها ... وخصم يكاد يغلب الحق باطله
دفعت بمعروف من القول صائب ... إذا ما أضل الناطقين مفاصله
وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله
عبأت له حلماً وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله
حذيفة ينميه وبدر كلاهما ... إلى باذخ يعلو على من يطاوله
ومن مثل حصن في الحروب ومثله ... لإنكار ضيم أو لأمر يحاوله
أبى الضيم والنعمان يحرق نابه ... عليه فأفضى والسيوف معاقله
عزيز إذا حل الحليفان حوله ... بذي لجب لجاته وصواهله
يهد له ما دون رملة عالج ... ومن أهله بالغور زالت زلازله
وأهل خباء صالح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله
فأقبلت في الساعين اسئل عنهم ... سؤالك بالشيء الذي أنت جاهله
وقال أيضاً يذكر النعمان بن المنذر حيث طلبه كسرى ليفتله ففر فأتى طيئاً وكانت ابنة أوس بن حارثة بن لأم عنده فأتاهم فسألهم أن يدخلوه جبلهم فأبوا ذلك عليه. وكانت له يد في بني عبس بمروان بن زنباع وكان أسر فكلم فيه عمرو بن هند عمه وشفع له فشفعه وحمله النعمان وكساه فكانت بنو عبس تشكر ذلك للنعمان. فلما هرب من كسرى ولم تدخله طيىء جبلها لقيته بنو رواحة من عبس فقالوا له: أقم عندنا فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا فقال لهم لا طاقة لكم بجنود كسرى فودعهم وأثنى عليهم. وقال الأصمعي: ليست لزهير. وقيل هي لصرمة الأنصاري ولا تشبه كلام زهير (من الطويل) :(4/)
ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بداليا
بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم ... وأموالهم ولا أرى الدهر فانيا
وإني متى أهبط من الأرض تلعة ... أجد أثراً قبلي جديداً وعافيا
أراني إذا ما بت بت على هوى ... وإني إذا أصبحت أصبحت غاديا
إلى حفرة أهدى إليها مقيمة ... يحث إليها سائق من ورائيا
كأني وقد خلفت تسعين حجة ... خلعت بها عن منكبي ردائيا
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابقاً شيئاً إذا كان جداثيا
أراني إذا ما شئت لا قيت آية ... تذكرني بعض الذي كنت ناسيا
وما إن أرى نفسي تقيها كريهتي ... وما إن تقي نفسي كرائم ماليا
ألا لا أرى على الحوادث باقياً ... ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا
وإلا السماء والبلاد وربنا ... وأيامنا معدودة واللياليا
ألم تر أن الله أهلك تبعاً ... وأهلك لقمان بن عاد وعاديا
وأهلك ذا القرنين من قبل ما ترى ... وفرعون جباراً طغى والنجاشيا
ألا لا أرى ذا إمة أصبحت به ... فتتركه الأيام وهي كما هيا
ألم تر للنعمان كان بنجوة ... من الشر لو أن امرءاً كان ناجيا
فغير منه ملك عشرين حجة ... من الدهر يوم واحد كان غاويا
فلم أر مسلوباً له مثل ملكه ... أقل صديقاً باذلاً أو مؤاسيا
فأين الذين كان يعطي جياده ... بأرسلنهن والحسان الغواليا
وأين الذين كان يعطيهم القرى ... بغلاتهن والمئين الغواديا
وأين الذين يحضرون جفانه ... إذا قدمت ألقوا عليها المراسيا
رأيتهم لم يشركوا بنفوسهم ... منيته لما رأوا أنها هيا
خلا أن حياً من رواحة حافظوا ... وكانوا أناساً يتقون المخازيا
فساروا له حتى أناخوا ببابه ... كرام المطايا والهجان المتاليا
فقال لهم خير وأثنى عليهم ... وودعهم وداع أن لا تلاقيا
واجمع أمراً كان ما بعده له ... وكان إذا ما اخلولج الأمر ماضيا
وقال أيضاً لأم ولده كعب (من الوافر) :
قالت أم كعب لا تزرني ... فلا والله مالك من مزار
رأيتك عبتني وصددت عني ... وكيف عليك صبري واصطباري
فلم أفسد بنيك ولم أقرب ... إليك من الملمات الكبار
أقيمي أم كعب واطمئني ... فإنك ما أقمت بخير دار
وقال يمدح هرم بن سنان بن أبي حارثة المري (من الطويل) :(4/)
غشيت دياراً بالبقيع فثهمد ... دوارس قد اقوين من أم معبد
اربت بها الأرواح كل عشية ... فلم يبق إلا آل خيم منضد
وغير ثلاث كالحمام خوالد ... وهاب محيل هامد متلبد
فلما رأيت أنها لا تجيبني ... نهضت إلى وجناء كالفحل جلعد
جمالية لم يبق سيري ورحلتي ... على ظهرها من نيها غير محفد
متى ما تكلفها مآبة منهل ... فتسعف أو تنهك إليه فتجهد
ترده ولما يخرج السوط شأوها ... مروحاً جنوح الليل ناجية الغد
كهمك إن تجهد تجدها نجيحة ... صبوراً وإن تسترخ عنها تريد
وتنضح ذفراها بجون كأنه ... عصيم كحيل في المراجل معقد
وتلوي بريان العسيب تمره ... على فرج محروم الشراب مجدد
تبادر أغوال العشي وتتقي ... علالة ملوي من القد محصد
كخنساء سفعاء الملاطم حرة ... مسافرة مزؤودة أم فرقد
غدت بسلاح مثله يتقي به ... ويؤمن جأش الخائف المتوحد
وسامعتين تعرف العتق فيهما ... إلى جذر مدلوك الكعوب محدد
وناظرتين تطحران قذاهما ... كأنهما مكحولتان بأثمد
طباها ضحاء أو خلاء فخالفت ... إليه السباع في كناس ومرقد
أضاعت فلم تغفر لها خلواتها ... فلاقت بياناً عند آخر معهد
دماً عند شلو تخجل الطير حوله ... وبضع لحام في إهاب مقدد
وتنفض عنها غيب كل خميلة ... وتخشى رماة الغوث من كل مرصد
فجالت على وحشيها وكأنها ... مسربلة في رازقي معضد
ولم تدر وشك البين حتى رأتهم ... وقد قعدوا أنفاقها كل مقعد
وثاروا بها من جانبيها كليهما ... وجالت وإن يجشمنها الشد تجهد
تبذ الألى يأتينها من ورائها ... وإن يتقدمها السوابق تصطد
فأنقذها من غ مرة الموت إنها ... رأت أنها إن تنظر النبل تقصد
نجاء مجد ليس فيه وتيرة ... وتذبيبها عنها بأسحم مذود
وجدت فألقت بينهن وبينها ... غباراً كما فارت دواخن غرقد
بملتئمات كالخذاريف قوبلت ... إلى جوشن خاظي الطريقة مسند
إلى هرم تهجيرها ووسيجها ... تروح من الليل التمام وتغتدي
إلى هرم سارت ثلاثاً من اللوى ... فنعم مسير الواثق المتعمد
سواء عليه أي حين أتيته ... أساعة نحس تتقى أم بأسعد
أليس بضراب الكماة بسيفه ... وفكاك أغلال الأسير المقيد
كليث أبي شبلين يحمي عرينه ... إذا هو لاقى نجدة لم يعرد(4/)
ومدره حرب حميها يتقى به ... شديد الرجام باللسان وباليد
وثقل على الأعداء لا يضعونه ... وحمال أثقال ومأوى المطرد
أليس بفياض يداه غمامة ... ثمال اليتامى في السنين محمد
إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية ... من المجد من يسبق إليها يسود
سبقت إليها كل طلق مبرز ... سبوق إلى الغايات غير مجلد
كفعل جواد يسبق الخيل عفوه ... فيسرع وإن يجهد ويجهدان يبعد
تقي نقي لم يكثر غنيمة ... بنهكة ذي قربى ولا بحقلد
سوى ربع لم يأت فيه مخانة ... ولا رهقاً من عائذ متهود
يطيب له أو افتراص بسيفه ... على دهش في عارض متوقد
فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت ... ولكن حمد الناس ليس بمخلد
ولكن منه باقيات وراثة ... فأورث بنيك بعضها وترود
تزود إلى يوم الممات فإنه ... ولو كرهته النفس آخر موعد
ومن الشعر المنحول إلى زهير بن أبي سلمى المزني قوله (من الوافر) :
ولا تكثر على ذي الضعف عتباً ... ولا ذكر التجرم للذنوب
ولا تسأله عما سوف يبدي ... ولا عن عيبه لك بالمغيب
متى تك في صديق أو عدو ... تخبرك الوجوه عن القلوب
وله قوله (من المنسرح) :
بمقلة لا تغر صادقة ... يطحر عنها القذاة حاحبها
وله (من الكامل) :
لمن الديار غشيتها بالفدفد ... كالوحي في حجر المسيل المخلد
وإلى سنان سيرها ووسيجها ... حتى تلاقيه بطلق الأسعد
نعم الفتى المري أنت إذا هم ... حضروا لدى الحجرات نار الموقد
ومفاضة كالنهي تنسجه الصبا ... بيضاء كفت فضلها بمهند
وقال (من البسيط) :
إن الخليط أجد البين فانجردوا ... وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
لو كان يقعد فوق لشمس من كرم ... قوم لا ولهم يوماً إذا قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
جن إذا فزعوا انس إذا أمنوا ... ممردون بهاليل إذا جهدوا
لو يعدلون بوزن أو مكايلة ... مالوا بوضرى ولم يعدل بهم أحد
محسدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله منهم ما به حسدوا
ومن شعره قوله (من الطويل) :
وإنك إن أعطيتني ثمن الغني ... حمدت الذي أعطيك من ثمن الشكر
وإن يفن ما تعطيه في اليوم أو غد ... فإن الذي أعطيك يبقى على الدهر
وله (من الكامل) :
ولانت أوصل من سمعت به ... لشوابك الأرحام والصهر(4/)
الحامل العبء الثقيل عن ... الجاني بغير يد ولا شكر
وأنشد (من البسيط) :
نام الخلي فنوم العين تقرير ... مما اذكرت وهم النفس مذكور
ذكرت سلمى وما ذكرى براجعها ... ودونها سبسب يهوي به المور
وما ذكرتك إلا هجت لي طرباً ... إن المحب ببعض الأمر معذور
ليس المحب بمن إن شط غيره ... هجر المحب وفي الهجران تغيير
وله (من الوافر) :
ألا أبلغ لديك بني سبيع ... وأيام النوائب قد تدور
فإن تك صرمة أخذت جهاراً ... لغرس النخل أرزه الشكير
فإن لكم مآقط غاشيات ... كيوم أضر بالرؤساء إير
كان عليهم بجنوب عسر ... غماماً يستهل ويستطير
وله من باب الإجازة مع ابنه كعب (من الطويل) : قال زهير:
وإني لتغدو بي علىالهم جسرة ... تخب بوصال صروم وتعنق
قال كعب بن زهير:
كبنيانة القريي موضع رحلها ... وآثار نسعيها من الدف أبلق
قال زهير:
على لاحب مثل المجرة خلته ... إذا ما علا نشزاً من الأرض مهرق
قال كعب:
منير هداة ليله كنهاره ... جميع إذا يعلو الحزونة أفرق
قال زهير:
يظل بوعساء الكثيب كأنه ... خباء على صقبى بوان مروق
قال كعب:
تراخى به حب الضحاء وقد رأى ... سماوة قشراء الوظيفين عوهق
قال زهير:
يحن إلىمثل الحبابير جثم ... لدى منهج من قيضه المتفلق
قال كعب:
تحطم عنها قيضها عن خراطم ... وعن حدق كالنيج لم يتفتق
وله يقول (من البسيط) :
جنبى عماية فالركاء فالعمقا
وقال أيضً (من الطويل) :
قطعت إذا ما الآل آض كأنه ... سيوف تنحى ساعة ثم تلتقي
وله يقول (من الوافر) : قال زهير:
تزيد الأرض إما مت خفاً ... وتحيي إن حييت بها ثقيلا
نزلت بمستقر العرض منها ... وتمنع جانبيها أن تميلا
فأجازه ابنه كعب: وقال (من الطويل) :
لسلمى بشرقي القنان منازل ... ورسم بصحراء اللبيين حائل
من الأكرمين منصباً وضريبة ... إذا ما شتا تأوي إليه الأرامل
وله (من الوافر) :
فلو إني لقيتك واتجهنا ... لكن لكل منكرة كفيل
ومن مدائحه قوله (من الطويل) :
ترى الجند والأعراب يغشون بابه ... كما وردت ماء الكلاب هوامله
فلو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله
وله (من الطويل) :
أنا ابن الذي لم يخزني في حياته ... ولم أخزه حتى تغيب في الرجم
وقال (من الطويل) :(4/)
تبدلت من حلوائها طعم علقم
وله قوله (من البسيط) :
ومن ضريبته التقوى ويعصمه ... من سيىء العثرات الله بالرحم
وله قوله (من الكامل) :
ولقد غدوت إلى القنيص بسابح ... مثل الوذيلة جرشع لام
وله يقول (من الوافر) :
أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالشراب وبالطعام
كما سحرت به ارم وعاد ... فأصحوا مثل أحلام النيام
وقال زهير (من الطويل) :
خذوا حظكم يا آل عكرم واذكروا ... أواصرنا والرحم بالغيب يرحم
ومن شعره قوله (من الوافر) :
جرى دمعي فهيج لي شجونا ... فقبي يستجن له جنونا
أأبكي للفراق وكل حي ... سيبكي حين يفتقد القرينا
فإن تصبح ظليمة فارقتني ... ببين فالرزيئة أن تبينا
فقد بانت بكرهي يوم بانت ... مفارقة وكنت بها ضنينا
فقال زهير (من البسيط) :
كم للمنازل من عام ومن زمن ... لآل أسماء بالقفين فالرقن
قد أترك القرن مصفراً أنامله ... يميد في الرمح ميد المائح الأسن
من لا يذاب له شحم السديف إذا ... زار الشتاء وعزت أثمن البدن
وله قوله (من الكامل) :
الود لا يخفى وإن أخفيته ... والبغض تبديه لك العينان
وقال أيضاً (من الطويل) :
بدا لي أن الله حق فزادني ... إلىالحق تقوى الله وما كان باديا
بدا لي أني عشت تسعين حجة ... تباعاً وعشراً عشتها وثمانيا
جمعنا ترجمة زهير بن أبي سلمى من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وكتاب شرح المعلقات للتبريزي ومن كتاب العقد الثمين في دواوين الشعراء المطبوع في بلاد أوربة وكتب أخرى غيرها.
شعراء نجد والحجاز والعراق (أسد)
عبيد بن الأبرص (555 م)(4/)
هو عبيد بن الأبرص بن حنتم بن عامر بن مالك بن زهير بن مالك بن الحرث بن سعيد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر شاعر فحل من شعراء الجاهلية من شعراء الطبقة الأولى. وجعله ابن سلام في الطبقة الرابعة وقرن به طرفة وعلقمة بن عبدة وعدي بن زيد. وعبيد بن الأبرص قديم الذكر عظيم الشهرة وشعره مضطرب ذاهب لم يبق منه إلا القليل. وكان من حديث ابن الأبرص أنه كان رجلاً محتاجاً ولم يكن له مال فأقبل ذات يوم ومعه غنيمة له ومعه أخته ماوية ليوردا غنهمها فمنعه رجل من بني مالك بن ثعلبة وجبهه. فانطلق حزيناً مهموماً للذي صنع به المالكي حتى أتى شجرات فاستظل تحتهن فنام هو وأخته فمر بهما المالكي فشتمه وقال فيه شعراً يعيره. فسمعه عبيد فرفع يديه ثم ابتهل فقال: اللهم إن كان فلان ظلمني ورماني بالبهتان فادلني منه (أي اجعل لي منه دولة) وانصرني عليه. ووضع رأسه فنام ولم يكن قبل ذلك يقول الشعر فذكر أنه أتاه آت في المنام بكبة من شعر حتى ألقاها في فيه ثم قال: قم. فقام وهو يرتجز يعني مالكاً وكان يقال لقومه بنو الزنية يقول (من الرجز) :
يا بني الزنية ما غركم ... لكم الويل بسربال حجر
ثم استمر بعد ذلك في الشعر وكان شاعر بني أسد غير مدافع. ومن أخباره ما رواه صاحب الأغاني عن ابن الكلبي وقال فيه أنه مصنوع يتبين التوليد فيه قال: إن عبيد الأبرص سافر في ركب من بني أسد فبينا هم يسيرون إذا هم بشجاع يتمعك على المرضاء فاتحاً فاه من العطش. وكان مع عبيد فضلة من ماء ليس معه ماء غيرها فنزل فسقاه الشجاع عن آخره حتى روي فاستنعش فانساب في الرمل. فلما كان من الليل ونام القوم ندت رواحلهم فلم ير لشيء منها أثر فقام كل واحد يطلب راحلته فتفرقوا. فبينا عبيد كذلك وقد أيقن بالهلكة والموت إذ هو بهاتف يهتف به:
يا أيها الساري المضل مذهبه ... دونك هذا البكر منا فاركبه
وبكرك الشارد أيضاً فاجنبه ... حتى إذا الليل تجنى غيهبه
فحط عنه رحله وسبسبه
فقال له عبيد: يا هذا المخاطب نشدتك الله ألا أخبرتني من أنت. فأنشأ يقول:
أنا الشجاع الذي ألفيته رمضاً ... في قفرة بين أحجار واعقاد
فجدت بالماء لما ضن حامله ... وفدت فيه ولم تبخل بأنكاد(4/)
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
فركب البكر وجنب بكره فبلغ أهله مع الصبح فنزل عنه وحل رحله وخلاه فغاب عن عينيه. وجاء من سلم من القوم بعد ثلاث.
وفي أيام عبيد تملك حجر بن الحارث أبو امرئ القيس على بني أسد وكان عبيد ممن ينادم الملك ثم تغير الملك عليه وكان حجر يتوعده في شيء بلغه عنه ثم استصلحه فقال يخاطبه (من البسيط) :
طاف الخيال علينا ليلة الوادي ... من أم عمرو ولم يلمم بميعاد
إني اهتديت لركب طال سيرهم ... في سبسب بين دكداك واعقاد اذهب إليك فإني من بني أسد
أهل القباب وأهل الجرد والنادي
أبلغ أبا كرب عني وإخوته ... قولاً سيذهب غوراً بعد أنجاد
لا أعرفنك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي
إن أمامك يوماً أنت مدركه ... لا حاضر مفلت منه ولا بادي
فانظر إلى ظل ملك أنت تاركه ... هل تسين أواخيه بأوتاد
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
ثم أبى بنو أسد أن يدفعوا الجباية لحجر وقتلوا رسله إليهم فغضب عليهم حجر وسار إليهم بجنده وأخذ سرواتهم وضربهم وأباح الأموال وصيرهم إلى تهامة وآلى بالله ألا يساكن بني أسد في بلد أبداً. وحبس منهم عمرو بن مسعود بن كلدة بن فزارة الأسدي وكان سيداً وعبيد بن الأبرص فسارت بنو أسد ثلاثاً ثم أن عبيد بن الأبرص قام فقال: أيها الملك اسمع مقالتي، ثم أنشد (من مجزوء الكامل) :
يا عين فابكي ما بنو ... أسد فهم أهل الندامة
أهل القباب الحمر والنعم ... المؤمل والمدامه
وذي الجياد الجرد ... والأسل المثقفة المقامة
حلاً أبيت اللعن حلاً ... إن فيما قلت آمه
في كل واد بين يثرب ... فالقصور إلى اليمامة
تطريب عان أو صيا ... ح محرق أو صوت هامه
ومنعتهم نجداً فقد ... حلوا على وجل تهامه
برمت بنو أسد كما ... برمت ببيضتها الحمامه
جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامه
مهما تركت تركت عفواً ... أو قتلت فلا ملامه
أنت المليك عليهم ... وهم العبيد إلى القيامه
ذلوا لسوطك مثل ما ... ذل الأشقر ذو الخزامه
فأطلق الملك سبيلهم.(4/)
ثم ثارت بنو أسد على حجر وقتلته كما ذكر في ترجمة امرئ القيس. فأتاه بنو أسد وعرضوا عليه أن يعطوه ألف بعير دية أبيه أو يقيدوه من أي رجل شاء من بني أسد أو يمهلهم حولاً. فقال امرؤ القيس: إما الدية فما ظننت أنكم تعرضونها على مثلي. وأما القود فلو قيد إلي ألف من بني أسد ما رضيتهم ولا رأيتهم كفوءاً لحجر. وأما النظرة فلكم ثم ستعرفونني في فرسان قحطان أحكم فيكم ظبا السيوف وشبا الأسنة. حتى أشفي نفسي وأنال ثأري فقال عبيد في ذلك (من مجزوء الكامل) :
يا ذا المخوفنا بقتل ... أبيه إذلالاً وحينا
أزعمت أنك قد قتلت ... سراتنا كذباً ومينا
هلا على حجر بن أم ... قطام تبكي لا علينا
إنا إذا عض الثقا ... ف برأس صعدتنا لوينا
نحمي حقيقتنا وبعض ... الناس يسقط بين بينا
هلا سألت جموع كندة ... يوم ولوا أين أينا
أيام نضرب هامهم ببواتر حتى انحنينا
وجموع غسان الملو ... ك أتينهم وقد انطوينا
لحقا أباطلهن قد ... عالجن أسفاراً واينا
نحن الأولى فاجمع جمو ... عك ثم وجههم إلينا
واعلم بأن جيادنا ... آلين لا يقضين دينا
ولقد أبحنا ما حميت ... ولا مبيح لما حمينا
هذا ولو قدرت عليك ... رماح قومي ما انتهينا
حتى تنوشك نوشة ... عاداتهن إذا انثوينا
نعني الشباب بكل عا ... تقة شمول ما صحونا
ونهين في لذاتنا ... عظم البلاد إذا انتشينا
لا يبلغ الباني ولو ... رفع الدعائم ما بنينا
كم من رئيس قدم ... قتلناه وضيم قد أبينا
وأوانس مثلا لدمى ... حور العيون قد استبينا
ولرب سيد معشر ... ضخم الدسيعة قد رمينا
عقبانه بظلال عقبان ... تتمم ما نوينا
حتى تركنا شلوه ... جزر السباع وقد مضينا
إنا لعمرك ما يضا ... م حليفنا أبداً لدينا
وعمر عبيد عمراً طويلاً وقتله المنذر بن ماء السماء وكان سبب ذلك أنه كان قد نادمه رجلان من بني أسد أحدهما خالد بن المضلل والآخر عمرو بن مسعود بن كلدة فأغضباه في بعض المنطق فأمر بأن يحفر لكل واحد حفيرة بظهر الحيرة ثم يجعلا في تابوتين ويدفنا في الحفيرتين. ففعل ذلك بهما حتى إذا أصبح سأل عنهما فأخبر بهلاكهما فندم على ذلك وغمه وفي عمرو بن مسعود وخالد بن المضلل الأسديين يقول شاعر بني أسد يرثيهما (من الكامل) :(4/)
يا قبر بين بيوت آل محرق ... جادت عليك رواعد وبروق
أما البكاء فقل عنك كثيره ... ولئن بكيت فالبكاء خليق
وقالت نادبة الأسديين:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
ثم ركب المنذر حتى نظر إليهما فأمر ببناء الغريين عليهما وجعل لنفسه يومين في السنة يجلس فيها عن الغريين يسمى أحدهما يوم نعيم والآخر يوم بؤس. فأول من يطلع عليه يوم نعيمه يعطيه مائة من الإبل شؤماً أي سوداً وأول من يطلع عليه يوم بؤسه يعطيه رأس ظربان أسود ثم يأمر به فيذبح ويغرى بدمه الغريان. فلبث بذلك برهة من دهره ثم أن عبيد بن الأبرص كان أول من أشرف عليه في بؤسه فقال: هلا كانالذبح لغيرك يا عبيد. فقال: أتتك بحائن رجلاه. فأرسلها مثلاً. فقال له المنذر: أو أجل بلغ أناه. ثم قال له: أنشدني فقد كان شعرك يعجبني. فقال عبيد: حال الجريض دون القريض وبلغ الحزام الطبيين. فأرسلهما مثلاً. فقال له النعمان: أسمعني. فقال: المنايا على الحوايا. فأرسلها مثلاً. فقال له آخر: ما أشد جزعك من الموت. فقال: لا يرحل رحلك من ليس معك. فأرسلها مثلاً. فقال له المنذر: قد أمللتني فأرحني قبل أن آمر بك. فقال عبيد: من عز بز. فأرسلها مثلاً. فقال المنذر: أنشدني قولك: (أقفر من أهله ملحوب) . فقال (من المنسرح) :
اقفر من أهله عبيد ... فليس يبدي ولا يعيد
عنت له عنة نكود ... وحان منها له ورود
فقال له المنذر: يا عبيد ويحك أنشدني قبل أن أذبحك. فقال له (من السريع) :
والله إن مت لما ضرني ... وإن أعش ما عشت في واده
فقال المنذر: أنه لا بد من الموت ولو أن النعمان عرض لي في يوم بؤس لذبحته فاختر إن شئت الأكحل وإن شئت الأبجل وإن شئت الوريد. فقال عبيد: ثلاث خصال كسحابات عاد. واردها شر وارد. وحاديها شر حاد. ومعادها شر معاد. ولا خير فيه لمرتاد. وإن كنت لا محالة قاتلي فاسقني الخمر حتى إذا ماتت مفاصلي وذهلت ذواهلي فشأنك وما تريد. فأمر المنذر بحاجته من الخمر حتى إذا أخذت منه وطابت نفسه دعا به المنذر ليقتله فلما مثل بين يديه أنشأ يقول (من الطويل) :
وخيرني ذو البؤس في يوم بؤسه ... خصالاً أرى في كلها الموت قد برق(4/)
كما خيرت عاد من الدهر مرة ... سحائب ما فيها لذي خيرة انق
سحاب ريح لم تؤكل ببلدة ... فتتركها إلا كما ليلة الطلق
فأمر به المنذر ففصد فلما مات غذي بدمه الغريان نحو سنة 555م. وقد يضرب المثل في يوم عبيد عند العرب لليوم المشؤوم الطالع قال أبو تمام:
لما أظلتني سماؤك أقبلت ... تلك الشهود علي وهي شهودي
من بعد ما ظن الأعادي أنه ... سيكون لي يوم كيوم عبيد
قال ابن الرشيق: وعبيد بن الأبرص قليل الشعر في أيدي الناس على قدم ذكره وعظم شهرته وطول عمره يقال أنه عاش ثلاثمائة سنة. (قلنا) وفي هذا غلو ظاهر. وإنما عبيد على ما يؤخذ من سياق آثاره لم يتجاوز المائة سنة. ومن حسن قول عبيد قصيدته الدالية المشتهرة وهي تعد من مجمهرات العرب. استهلها بقوله (من الطويل) :
أمن دمنة أقوت بجوة صرغد ... تلوح كعنوان الكتاب المجدد
وفيها يقول:
إذا كنت لم تعبأ برأي ولم تطع ... لنصح ولم تصغي إلى قول مرشد
فلم تتقي ذم العشيرة كلها ... وتدفع عنها باللسان وباليد
وتصفح عن ذي جهلها وتحوطها ... وتقمع عنها نخوة المتهدد
وتنزل منها بالمكان الذي به ... يرى الفضل في الدنيا على المتحمد
فلست وإن عللت نفسك بالمنى ... بذي سؤدد باد ولا كرب سيد
لعمرك ما يخشى الجليد تفحشي ... عليه ولا أنأى على المتودد
ولا أبتغي ود امرئ قل خيره ... وما أنا عن وصل الصديق باصيد
وإني لأطفي الحرب بعد شبوبها ... وقد أوقدت للغي في كل موقد
فأوقدتها للظالم المصطلي بها ... إذا لم يرعه رأيه عن تودد
واغفر للمولى هناة تريبني ... فأظلمه ما لم ينلني بمحتدي
ومن رام ظلمي منهم فكأنما ... توقص حيناً من شواهق صندد
وإني لذو رأي يعاش بفضله ... وما أنا من علم الأمور بمبتدي
إذا أنت حملت الخؤون أمانة ... فإنك قد أسندتها شر مسند
وجدت خؤون القوم كالصل يتقى ... وما خلت عم الجار إلا بمعهد
ولا تظهرن ود امرئ قبل خبره ... وعد بلاء المرء فاذمم أو احمد
ولا تتبعن الرأي منه تقصه ... ولكن برأي المرء ذي اللب فاقتد
ولا تزهدن في وصل أهل قرابة ... لذخر وفي وصل الأباعد فازهد
وإن أنت في مجد أصبت غنيمة ... فعد للذي صادفت من ذاك وازدد
تزود من الدنيا متاعاً فإنه ... على كل حال خير زاد المزود(4/)
تمنى مرىء القيس موتي وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
لعل الذي يرجو رداي وميتتي ... سفاهاً وجبناً أن يكون هو الردي
فما عيش من يرجو خلافي بضائري ... ولا موت من قد مات قبلي بمخلدي
وللمرء أيام تعد وقد رعت ... حبال المنايا للفتى كل مرصد
منيته تجري لوقت وقصده ... ملاقاتها يوماً على غير موعد
فمن لم يمت في اليوم لا بد أنه ... سيعلقه حبل المنية في غد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكان قد
فإنا ومن قد باد منا لكالذي ... يروح وكالقاضي البتات ليعتدي
ومن شعره المستجاد له قوله في الفخر (من السريع) :
يا أيها السائل عن مجدنا ... إنك عن مسعاتنا جاهل
إن كنت لم تسمع بآبائنا ... فسل تنبأ أيها السائل
سائل بنا حجراً غداة الوغى ... يوم تولى جمعه الحافل
يوم لقوا سعداً على ماقط ... وحاولت من دونه كاهل
فأوردوا سرباً له ذبلاً ... كأنهن اللهب الشاعل
وعامراً أن كيف يعلوهم ... إذا التقينا المرهف النائل
قومي بنو دودان أهل الحجى ... يوماً إذا القحت الحامل
كم فيه من سيد أيد ... ذي نفحات قائل فاعل
من قوله قول ومن فعله ... فعل ومن نائله نائل
القائل القول الذي مثله ... يمرع منه البلد الماحل
لا يحرم السائل إن جاءه ... ولا يعفي سيبه العاذل
الطاعن الطعنة يوم الوغى ... يذهل منه البطل الباسل
ويروى له أيضاً قوله يودع أهله قبل موته (من المتقارب) :
فابلغ بني وأعمامهم ... بأن المنايا هي الوارده
لها مدة فنفوس العباد ... إليها وإن كرهت قاصده
فلا تجزعوا لحمام دنا ... فللموت ما تلد الوالده
ووالله إن مت ما ضرني ... وإن عشت ما عشت في واحده
ومن حسن شعره أيضاً قوله (من الخفيف) :
ليس رسم على الدفين يبالي ... فلوى ذروة فجني ذيال
فالمروات فالصفيحة قفر ... كل قفر وروضة محلال
ومنها قوله في الصبر وهو أحسن ما جاء فيه:
صبر النفس عند كل ملم ... إن في الصبر حيلة المحتال
لا تضيقن في الأمور فقد ... تكشف غماؤها بغير احتيال
ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال
دار حي مضى بهم سالف الدهر ... فأضحت ديارهم كالخلال
وقال يرثي نفسه (من البسيط) :
يا حار ما راح من قوم ولا ابتكروا ... إلا وللموت في آثارهم حاد(4/)
يا حار ما طلعت شمس ولا غربت ... إلا تقرب آجال لميعاد
هل نحن إلا كأرواح يمر بها ... تحت التراب وأجساد كأجساد
ومن شعره المأثور عنه قصيدته البائية التي استنشده إياها المنذر قبل قتله وهي طويلة عزيزة الوجود عثرنا على نسخة خط منها يصحبها شرح للخطيب التبريزي شارح الحماسة (من مجزوء البسيط) :
اقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب
فراكس فثعلبات ... فذات فرقين فالقليب
فعردة فقفا حبر ... ليس بها منهم عريب
وبدلت منهم وحوشاً ... وغيرت حالها الخطوب
أرض توارثها الجدوب ... فكل من حلها محروب
أرض توارثها الجدوب ... فكل من حلها محروب
إما قتيلاً وإما هلكاً ... والشيب شين لم يشيب
عيناك دمعهما سروب ... كأن شأنيهما شعيب
واهية أو معين معن ... من هضبة دونها لهوب
أو فلج واد ببطن أرض ... الماء من تحته قسيب
أو جدول في ظلال نخل ... للماء من تحته سكوب
تصبو وأنى لك التصابي ... أني وقد راعك المشيب
فإن يكن حالها أجمعها ... فلا بديء ولا عجيب
أو يك أقفر منها جوها ... وعادها المحل والجدوب
فكل ذي نعمة مخلوس ... وكل ذي أمل مكذوب
وكل ذي إبل موروث ... وكل ذي سلب مسلوب
وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب
أعاقر مثل ذات رحم ... أو غانم مثل من يخيب
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
بالله يدرك كل خير ... والقول في بعضه تلغيب
والله ليس له شريك ... علام ما أخفت القلوب
أفلح بما شئت قد يبلغ ... بالضعف وقد يخدع الأريب
لا يعظ الناس من لا يعظ الد ... هر ولا ينفع التلبيب
إلا سجيات ما القلوب ... وكم يرى شانئاً حبيب
ساعد بأرض إن كنت فيها ... ولا تقل إنني غريب
قد يوصل النازح النائي وقد ... يقطع ذو السهمة القريب
والمرء ما عاش في تكذيب ... طول الحياة له تعذيب
يا رب ماء وردت آجن ... سبيله خائف جديب
ريش الحمام على أرجائه ... للقلب من خوفه وجيب
قعته غدوة مشيحاً ... وصاحبي بادن خبوب
عيرانة مؤجد فقارها ... كأن حاركها كثيب
أخلف ما بزالاً سديس ... لا خفة هي ولا نيوب
كأنها من حمير غاب ... جون بصفحته ندوب
أو شبب يرتعي الرخامى ... تلطه شمال هبوب
فذاك عصر وقد أراني ... تحملني نهدة سرحوب(4/)
مضبر خلقها تضبيراً ... ينشق عن وجهها السبيب
زيتية نائم عروقها ... ولئن أسرها رطيب
كأنها لقوة طلوب ... تييس في وكرها القلوب
باتت على أرم عذوباً ... كأنها شيخة رقوب
فأصبحت في غداة قر ... يسقط عن ريشها الضريب
فابصرت ثعلباً سريعاً ودونه سبسب جديب
فنفضت ريشها وولت ... وهي من نهضة قريب
فاشتال وارتاع من جسيس ... وفعله يفعل المذؤوب
فنهضت نحوه حثيثاً ... وحردت حرده تسيب
فدب من خلفها دبيباً ... والعين حملاقها مقلوب
فأدركته فطرحته ... والصيد من تحتها مكروب
فجدلته فطرحته ... فكدحت وجهه الجبوب
فعادوته فرفعته ... فأرسلته وهو مكروب
يضغو ومخلبها في دفه ... لا بد حيزومه منقوب
وله مطلع قصيدة (من الطويل) :
أمن منزل عاف ومن رسم أطلال ... بكيت وهل يبكي من الشوق أمثالي
ديارهم إذ هم جميع فأصبحت ... بسابس إلا الوحش في البلد الخالي
فإن يك غبراء الخبيبة أصبحت ... خلت منهم واستبدلت غير أبدالي
فقدماً أتى الحي الجميع بغبطة ... بها والليالي لا تدوم على حال
فابنا ونازعنا الحديث أوانساً ... عليهن جيشانية ذات أغيال
وقال يذكر سيره إلى غسان ودخوله على ملكها الحارث الأعرج (من الرمل) :
فانتجعنا الحارث الأعرج في ... جحفل بالليل خطار العوال
منزل دمنه آباؤنا ... المورثون المجد في أولى الليال
ولقد يغنى به جيرانك ... الممسكوا منك بأسباب الوصال
ثم عجناهن خوصاً كالقطا ... القاربات الماء من أثر الكلال
نحو قرص ثم جالت حولة ... الخيل قباً عن يمين وشمال
فاتبعنا ذات أولانا الألى ... الموقدي الحرب وموف بالحيال
مثل سحق البرد عفى بعدها ... القطر مغناه وتأديب الشمال
ومن مطالع قصائده أيضاً (من الوافر) :
تغيرت الديار بذي الدفين ... فأودية اللوى فرمال لين
فخرجي ذروة فلوى ذيال ... يعفي آيه مر السنين
تبين صاحبي أترى حمولاً ... يشبه سيرها عوم السفين
جعلن الفلج من ركك شمالاً ... ونكبن الطوي عن اليمين
فإن يك فاتني أسفاً شبابي ... وأضحى الرأس مني كاللجين
فقد ألج الخباء على ملوك ... كأن ديارهم أمل الحزين
ويروى له في الفخر (من البسيط) :
دعا معاشر فاستكت مسامعهم ... يا لهف نفسي لو تدعو بني أسد(4/)
لو هم حماتك بالمحمى حميت ولم ... يترك ليوم أقام الناس في كبد
كما حميناك يوم النعف من شطب ... والقصد للقوم من ريح ومن عدد
وقال يصف سحاباً (من البسيط) :
يا من لبرق أبيت الليل أرقبه ... في عارض كمضي الصبح لماح
دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح
كأن ريقه لما علا شطباً ... أقراب أبلق ينفي الخيل رماح
فمن بحوزته كمن بعقوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح
ومن شعره (من الطويل) :
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ... سلكن غميراً دونهن غموض
وخبت قلوص بعد هدء وهاجها ... مع الشوق برق بالحجاز وميض
فقلت لها لا تعجلي إن منزلاً ... نأتني به هند إلي بغيض
ومن مطالع قصائده قوله (من الكامل) :
حلت كبيشة بطن ذات رؤام ... وعفت منازلها بجر يرام
بادت معالمها وغير رسمها ... هوج الرياح وحقبة الأيام
وله (من الكامل) :
وكان اقتادي تضمن نسعها ... من وحش أورال هبيط مفرد
باتت عليه ليلة رجبية ... نصباً تسح الماء أو هي أبرد
وروى له البكري (من المنسرح) :
صاح ترى برقاً بت أرقبه ... ذات العشاء في غمائم غر
فحل في بركة بأسفل ذي ... ريد فشن في ذي العتير
فعنس فاعناب فجنبي ... عردة فبطن ذي الأحفر
وله أيضاً من مطلع قصيدة (من الكامل) :
لمن الديار ببرقة الروحان ... درست لطول تقادم الأزمان
فوقفت فيها ناقتي لسؤالها ... وصرفت والعينان تبتدران
وفي كتاب معجم ما استعجم له قوله (من الطويل) :
لمن طلل لم تعف منه المذانب ... فجنبا حبر قد تعفى فواهب
ديار بني سعد بن ثعلبة الأولى ... أضاع بهم دهراً على الناس رائب
وله يذكر يوم نسار من أيام العرب (من الوافر) :
ولقد تطاول بالنسار لعامر ... يوم تشيب له الرؤوس عصبصب
ولقد أتاني عن تميم أنهم ... ذئروا لقتلى عامر وتغضبوا
ولقد جرى لهم فلم يتعيفوا ... تيس قعيد كالوشيجة أعضب
ومن شعره (من الطويل) :
وقد أغتدي قبل الغطاط وصاحبي ... أمين الشظا رخو اللسان سبوح
وقد أترك القرن الكمي بصدره ... مشلشلة فوق السنان تفوح
دفوع لأطراف الأنامل ثرة ... لها بعد انزاح العبيط نشيح
إذا جاء سرب من نساء يعدنه ... تبادرن شتى كلهن ينوح
ومن قوله أيضاً (من البسيط) :(4/)
لمن جمال قبيل الصبح مزمومة ... ميممات بلاداً غير معلومه
مل عبقري عليها إذ غدوا صبح ... كأنها من نجيع الجوف مدمومه
كأن ظعنهم نخل موسعة ... سود ذوائبها بالحسن موسومه
ولعبيد الأبرص أيضاً قوله وفيه صوت وغناء لإبراهيم الموصلي (من البسيط) :
يا دار هند عفاها كل هطال ... بالخبت مثل سحيق اليمنة البالي
أرب فيها ولي ما يغيرها ... والريح مما تعفيها بأذيال
دار وقفت بها صبحي أسائلها ... والدمع قد بل مني جيب سربالي
شوقاً إلى الحي أيام الجميع بها ... وكيف يطرب أو يشتاق أمثالي
ورقة بن نوفل 592م
هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وأمه هند بنت أبي كثير بن عبد بن قصي قال صاحب الأغاني: وهو أحد من اعتزل عبادة الأوثان في الجاهلية وطلب وقرأ الكتب وامتنع من أكل ذبائح الأوثان. وكان امرءاً تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي. وكانت وفاة ورقة سنة 592م.
وكان ابن نوفل شاعراً روى له الأصبهاني هذه الأبيات وفي بعضها أصوات غنى فيها المغنون (من الكامل) :
رحلت قتيلة عيرها قبل الضحى ... وأخال إن شحطت تجاريك النوى
أو كلما رحلت قتيلة غدوة ... وغدت مفارقة لأرضهم بكى
ولقد ركبت على السفين ملججاً ... اذر الصديق وانتحي دار العدى
ولقد غزوت الحي يخشى أهله ... بعد الهدو وبعد ما سقط الندى
فلتلك لذات الشباب قضيتها ... عني فسائل بعضهم ما قد قضى
فارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يوماً فتدركه العواقب قد نما
يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزا
ومن شعره في التوحيد والدين قوله (من البسيط) :
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... أما النذير فلا يغرركم أحد
لا تعبدون إلهاً غير خالقكم ... فإن دعوكم فقولوا بيننا حدد
سبحان ذي العرش سبحاناً نعوذ به ... وقبل قد سج الجودي والجمد
مسخر كل ما تحت السماء له ... لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد
لا شيء مما نرى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ دان الشعوب له ... والجن والإنس يجري بينها البرد(4/)
أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوماً كما وردوا
ومن شعره ما قاله لزيد بن عمرو بن نفيل وكان نصرانياً فالتقى بورقة بن نوفل وتناشدا الأشعار في التوحيد وعبادة الله فقال ورقة (من الطويل) :
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنوراً من الله حاميا
بدينك رباً ليس رب كمثله ... وتركك جنات الجبال كما هيا
وإدراكك الدين الذي قد طلبته ... ولم تك عن توحيد ربك ساهيا
فأصبحت في دار كريم مقامها ... تعلل فيها بالكرامة لاهيا
تلاقي خليل الله فيها ولم تكن ... من الناس جباراً إلى النار هاويا
وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ... ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
أقول إذا ما زرت أرضاً مخوفة ... حنانيك لا تظهر علي الأعاديا
حنانيك إن الجن كانت رجاءهم ... وأنت إلهي ربنا ورجائيا
أدين لرب يستجيب ولا أرى ... أدين لمن لا يسمع الدهر داعيا
أقول إذا صليت في كل بيعة ... تباركت قد أكثرت باسمك داعيا
زيد بن عمرو بن نفيل (620م)
هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب وأمه جيداء بنت خالد بن جابر بن أبي حبيب بن فهم وكانت جيداء عند نفيل بن عبد العزى فولدت له الخطاب وعبد مهن ثم مات عنها نفيل فتزوجها عمرو فولدت له زيداً. وكان زيد بن عمرو أحد من اعتزل عبادة الأوثان وامتنع من أكل ذبائحهم وكان يقول: يا معشر قريش أيرسل الله قطر السماء وينبت بقل الأرض ويخلق السائمة فترعى فيه وتذبحوها لغير الله. والله ما أعلم على ظهر الأرض أحداً على دين إبراهيم غيري. وحدث محمد بن الضحاك عن أبيه قالا كان الخطاب بن نفيل قد أخرج زيد بن عمرو من مكة وجماعة من قريش ومنعوه أن يدخلها حين فارق أهل الأوثان وكان أشدهم عليه الخطاب بن نفيل وكان زيد بن عمرو إذا خلص إلى البيت استقبله ثم قال: يا مولاي لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً البر أرجو لا الخال. وهل مهجن كمن قال (من الرجز) :
عذت بمن عاذ به إبراهم ... مستقبل الكعبة وهو قائم
يقول ابقى لك عان راغم ... مهما تجشمني فإني جاشم(4/)
ثم يسجد. قال محمد بن الضحاك عن أبيه هو الذي يقول (من الرجز) :
لا هم إني حرم لا حله ... وإن داري أوسط المحله
عند الصفا ليست بها مضله
قال ابن اسحاق: واجتمعت قريش يوماً في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له ويعتكفون عنده ويدورون به. وكان ذلك عيداً لهم كل سنة يوماً فخلص منهم أربعة نجياً. ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض. قالوا: أجل وهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي وعبيد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة كانت أمه أميمة بنت عبد المطلب وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي وزيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن عبد الله بن قرط بن رزاح ب عدي بن كعب بن لؤي. فقال بعضهم لبعض: اعلموا والله ما قومكم على شيء لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع يا قوم التمسوا لأنفسكم ديناً فإنكم والله ما أنتم على شيء. فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم. فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم علماً من أهل الكتاب. وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أمحبيبة ابنة أبي سفيان مسلمة. فلما قدماها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هنالك نصرانياً.
قال ابن إسحاق: وكان زيد بن عمرو قد أجمع الخروج من مكة ليضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم فكانت صفية بنت الحضرمي كلما رأته تهيأ للخروج وأراده آذنت به الخطاب بن نفيل. وكان الخطاب بن نفيل عمه وأخاه لأمه وكان يعاتبه على فراق دين قومه وكان الخطاب قد وكل صفية به. وقال: إذا رأيته قد هم بأمر فآذنيني به. فقال عند ذلك زيد بن عمرو (من مجزوء الكامل) :
لا تحبسيني في الهوا ... ن صفي ما دأبي ودأبه
إني إذا خفت الهو ... ن مشيع ذلل ركابه
دعموص أبواب الملو ... ك وجائب للخرق نابه
قطاع أسباب تذ ... ل بغير أقران صعابه
وإنما أخذ الهوا ... ن العير إذ يوهى إهابه
ويقول إني لا أذل ... بصك جنبيه صلابه(4/)
وأخي ابن أمي ثم ... عمي لا يواتيني خطابه
وإذا يعاتبني بسوء ... قلت أعياني جوابه
ولو أشاء لقلت ما ... عندي مفاتحه وبابه
ثم خرج زيد سائحاً وقيل أنه قتل بالشام قتله أهل منيقعة. وزعم ابن هشام: أنه قتل في بلاد لخم. وقالوا غير ذلك ومن شعره قوله روته له أسماء بنت أبي بكر (من الوافر) :
عزلت الجن والجنان عيني ... كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا العزى أدين ولا أبنتيها ... ولا صنمي بني طسم أدير
ولا عتماً أدين وكان رباً ... لنا في الدهر إذ حلمي صغير
أرباً واحداً أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
ألم تعلم بأن الله أفنى ... رجالاً كان شأنهم الفجور
وأبقى آخرين ببر قوم ... فيربو منهم الطفل الصغير
رأينا المرء يعثر ذات يوم ... كما يتروح الغصن النضير
ولكن اعبد الرحمن ربي ... ليغفر ذنبي الرب الغفور
فتقوى الله ربكم احفظوها ... متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرار دارهم جنان ... وللكفار حامية سعير
وخزي في الحياة وإن يموتوا ... يلاقوا ما تضيق به الصدور
وقال زيد بن عمرو (من المتقارب) :
أسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخراً ثقالا
دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذباً زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدة ... أطاعت فصبت عليها سجالا
وكان موت زيد بن عمرو قبل ظهور الإسلام بقليل قال ابن دريد: ومن رجال عدي بن كعب زيد بن عمرو بن نفيل وكان قد تأله ورفض الأوثان ولم يأكل من ذبائحهم وفي زيد قال الشاعر:
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنوراً من النار حاميا(4/)
القسم الخامس
شعراء نجد والحجاز والعراق من عدوان
وذبيان وغني وهوازن بني قيس
عيلان بن مضر
ذو الإصبع العدواني (602م)
هو حرثان ابن الحارث بن محرث بن ثعلبة بن سيار بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن سعيد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار أحد بني عدوان وهم بطن من جديلة شاعر فارس من قدماء الشعراء في الجاهلية وله غارات كثيرة في العرب ووقائع مشهورة. أخبر محمد بن خلف وكيع وابن عمار والأسدي. قالوا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي. قال: حدثنا أبو عثمان المازني عن الأصمعي. قال: نزلت عدوان على ماء فاحصوا فيهم سبعين ألف غلام أغرل سوى من كان مختوناً لكثرة عددهم ثم وقع بأسهم بينهم فتفانوا. فقال ذو الإصبع (من مجزوء الوافر) :
وليس المرء في شيء ... من الإبرام والنقض
إذا أبرم أمراً خا ... له يقضى وما يقضي
جديد العيش ملبوس ... وقد يوشك أن يغضي
يقول اليوم أمضيه ... ولا يملك ما يمضي
عذير الحي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض
بغى بعض على بعض ... فلم يبقوا على بعض
فقد صاروا أحاديث ... برفع القول والخفض
ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض
ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي(5/625)
ومنهم من يجيز النا ... س بالسنة والفرض
وهم من ولدوا اشبوا ... بسر الحسب المحض
وممن ولدوا عامر ... ذو الطول وذو العرض
وهم بووا ثقيفاً دا ... ر لا ذل ولا خفض
وأمر اليوم أصلحه ... ولا تعرض لما يمضي
فبينا المرء في عيش له من عيشة خفض
أتاه طبق يوماً ... على مزلقة دحض
وهم كانوا فلا تكذب ... ذوي القوة والنهض
لهم كانت أعالي الأر ... ض فالسران فالعرض
إلى ما عازه الحزن ... فما أسهل للمحض
إلى الكفرين من ... نخلة فالدارة فالمرض
لهم كان جمام الما ... ء لا المزجى ولا البرض
فكان الناس إذ هموا ... بيسر خاشع مغص
تنادوا ثم ساروا بر ... أس لهم مرضي
فمن ساجلهم حرباً ... ففي الخيبة والخفض
وهم نالوا على الشنآ ... ن والشحناء والبغض(5/626)
معالي لم ينلها النا ... س في بسط ولا قبض
حدث محمد بن العباس اليزيدي عن محمد بن حبيب. قال: قيس تدعي هذه الحكومة وتقول أن عامر بن الظرب العدوابي هو الحكم وهو الذي كانت العصا تقرع له. وكان قد كبر. فقال له الثاني من ولده: إنك ربما أخطأت في الحكم فيحمل عنك. قال: فاجعلوا لي أمارة أعرفها فإذا زغت فسمعتها رجعت إلى الحكم والصواب. فكان يجلس قدام بيته ويقعد ابنه في البيت ومعه العصا. فإذا زاغ أو هفا قرع له الجفنة فرجع إلى الصواب وفي ذلك يقول المتلمس:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما
قال ابن حبيب: وربيعة تدعيه لعبد الله بن عمرو بن الحارث بن همام واليمن تدعيه. لربيعة ابن مخاشن وهو ذو الأعواد. وهو أول من جلس على منبر أو سرير وتكلم. وفيه يقول الأسود بن يعفر:
ولقد علمت لو أن علمي نافعي ... أن السبيل سبيل ذي الأعواد
أخبر هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف. قال: أخبرنا الرياشي قال: حدثنا الأصمعي. قال: زعم أبو عمرو بن العلاء أنه ارتحلت عدوان من منزل فعد فيهم أربعون ألف غلام أقلف. قال الرياشي: وأخبرني رجل عن هشام بن الكلبي. قال: وقع على إياد البق فأصاب كل رجل منهم بقتان.
قال: حدث عمر بن شبة أن عبد الملك بن مروان لما قدم الكوفة بعد قتله مصعب بن الزبير جلس لعرض أحياء العرب. وقال عمر بن شبة: أن مصعب بن الزبير كان صاحب هذه القصة. فقام إليه معبد بن خالد الجدلي وكان قصيراً دميماً. فتقدمه إليه رجل منا حسن الهيئة. (قال معبد) فنظر عبد الملك إلى الرجل وقال: ممن أنت. فسكت ولم يقل شيئاً. وكان منا. فقلت من خلفه: نحن يا أمير المؤمنين من جديلة. فأقبل على الرجل وتركني. فقال: من أيكم ذو الإصبع. قال الرجل: لا أدري. قلت: كان عدوانياً. فأقبل على الرجل وتركني وقال: لم سمي ذا الإصبع؟ قال الرجل: لا أدري. فقلت: نهشته حية في إصبعه فيبست. فأقبل على الرجل وتركني. فقال: وبم كان يسمى قبل ذلك. قال الرجل: لا أدري. قلت: كان يسمى حرثان. فأقبل على الرجل وتركني. فقال: من أي عدوان كان فقلت من خلفه: من بني ناج الذين يقول فيهم الشاعر:(5/627)
وأما بنو ناج فلا تذكونهم ... ولا تتبعن عينيك ما كان هالكا
إذ قلت معروفاً لأصلح بينهم ... يقول وهيب لا أسالم 1لكا
فأضحى كظهر الفحل جب سنامه ... يدب إلى الأعداء أحدب باركا
فأقبل على الرجل وتركني وقال: أنشدني قوله (عذير الحي من عدوان) قال الرجل: لست أرويها. قلت: يا أمير المؤمنين إن شئت أنشدتك. قال: ادن مني فإني أراك بقومك عالماً فأنشدته:
وليس الأمر في شيء ... من الإبرام والنقض
وقد مضت هذه القصيدة متقدمة في صدر هذه الأخبار.
فأقبل على الرجل وتركني وقال: كم عطاؤك؟ فقال: ألفان. فأقبل علي. فقال: كم عطاؤك. فقلت: خمسمائة. فأقبل على كاتبه وقال: اجعل الألفين لهذا والخمسمائة لهذا. فانصرفت بها.
ذكر ذلك أبو عمرو الشيباني والكلبي وغيرهما. أخبر أحمد ابن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة. قال: حدثنا أبو بكر العليمي. قال: حدثنا محمد بن داود الهشامي. قال: كان لذي الإصبع أربع بنات وكن يخطبن إليه فيعرض ذلك عليهن فيستحين ولا يزوجهن وكانت أمهن تقول لو زوجتهن فلا يفعل. قال: فخرج ليلة إلى متحدث لهن فاستمع عليهن وهن لا يعلمن. فقلن: تعالين نتمنى ولنصدق. فقالت كل واحدة منهن كلاماً ليس هنا موضع ذكره. فلما انتهين وسمعهن أبوهن زوجهن أربعتهن بمكثن برهة ثم اجتمعن إليه. فقال للكبرى: يا بنية ما مالكم. قالت: الإبل. قال: فكيف تجدونها. قالت: خير مال نأكل لحومها مزعاً. ونشرب ألبانها جرعاً. وتحملنا وضعيفنا معاً. قال: فكيف تجدين زوجك؟ قالت: خير زوج يكرم الحليلة. ويعطي الوسيلة. قال: مال عميم وزوج كريم. ثم قال للثانية: يا بنية ما مالكم. قالت: البقر. قال: فكيف تجدونها؟ قالت: خير مال تالف الغناء. وتودك السقاء. وتملأ الإناء. ونساء مع نساء. قال: فكيف تجدين زوجك؟ قالت: خير زوج يكرم أهله. وينسى فضله. قال: حظيت ورضيت. ثم قال للثالثة: ما مالكم. قالت: المعزى. قال: فكيف تجدونها؟ قالت: لا بأس بها نولدها فطماً. ونسلخها ادماً. فكيف: فكيف تجدين زوجك؟ قالت: لا بأس به ليس بالبخيل الختر. ولا بالسمح البذر. قال: جدوى مغنية.(5/628)
ثم قال الرابعة: يا بنية ما مالكم. قالت: الضأن. قال: وكيف تجدونها. قالت: شر مال جوف لا يشبعن. وهيم لا ينقعن. وصم لا يسمعن. وأمر مغويتهن يتبعن. قال: فكيف تجدين زوجك؟ قالت: شر زوج يكرم نفسه. ويهين عرسه. قال: أشبه امرأ بعض بزه. أخبر عمي. قال: حدثني محمد بن عبد الله الحزنبل. قال: حدثني عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه. قال: عمر ذو الإصبع العدواني عمراً طويلاً حتى خرف واهتر وكان يفرق ماله. فعذله أصهاره ولاموه وأخذوا على يده. فقال في ذلك (من لمنسرح) :
أهلكنا الليل والنهار معاً ... والدهر يغدو مصمماً جذعا
والشمس في رأس فلكنها انتصبت ... يرفعها في السماء ما ارتفعا
والنحس يجري أمامها صعداً ... وسعدها أي ذاك ما طلعا
فيسعد النائم المدثر ... بالسعد ويلقى اشقاء من سبعا
ما إن بها والأمور من تلف ... ما حم من أمر غيبة وقعا
أمر بليط السماء ملتبك ... والناس في الأرض فرقوا شيعا
ذلك من ريبهم بقدرته ... ما شاء من غير هيبة صنعا
ويفرق الجم بعد ثروته ... ما شاء من بعد فرقة جمعا
كما سطا بالأرام عاد ... وبالحجر وأزكى لتبع تبعا
فليس فيما صابني عجب ... إذ كنت شيباً أنكرت أو صلعا(5/629)
وكنت إذ رونق الأديم به ... ماء شبابي تخاله شرعا
والحي فيه الفتاة ترمقني ... حتى مضى شأو ذاك فانقطعا
إنكما صاحبي لن تدعا ... لومي ومهما أضع فلن تسعا
لم تعقلا جفرة علي ولم ... أوذ نديماً ولم أنل طبعا
إلا بأن تكذبا علي ولا ... أملك أن تكذبا وأن تلعا
إنكما من سفاه رأيكما ... لا تجنبان الشكاة والقذعا
وإنني سوف أبتدي بكما ... يا صاحبي الغداة فاستمعا
ثم اسألا جارتي وكنتها ... هل كنت ممن أراب أو قذعا
أو دعتاني فلم أجب ولقد ... يأمن مني خليلي انفجعا
آبي فلا أقرب الخباء إذا ... مأربه بعد هداة هجعا
ولا أروم الفتاة رؤيتها ... إن نام عنها الحليل أو شسعا
وذاك في حقبة خلت ومضت والدهر يجري علىالفتى لمعا
إن تزعما أنني كبرت فلم ... ألف ثقيلاً نكساً ولا ورعا
اجعل مالي دونالدنا غرضاً ... وما وهي م الأمور فانصدعا(5/630)
إما ترى شكتي رميح أبي ... سعد فقد أمل السلاح معا
السيف والقوس والكنانة قد ... أكملت فيها معابلاً صنعا
رصع أفواقها وأترصها ... أنبل عدوان كلها صنعا
ثم كساها احم أسحم ... وباصاً وكل الظواهر اتبعا
والمهر صافي الأديم أصنعه ... يطير عنه عفاؤه قزعا
أقصر من قيده وأودعه ... حتى إذا السرب ريع أو فزعا
كان أمام الجياد يقدمها ... يهز لدناً وجؤجؤاً تلعا
فغامس الموت أو حمى ظعناً ... أو رد نهباً لأي ذاك سعى
إما ترى رمحه فمطرد المتن ... إذا هز متنه سطعا
إما ترى سيفه فأبيض ... قصال إذا مس معظماً قطعا
إما ترى قوسه فبينة ... النبع هتوف تخالها ضلعا(5/631)
إما ترى نبله فخشرم ... خشاء إذا مس دبره لكعا
ذلك خير من التأبط في ... شق الشمال الحقين والقمعا
ثم ابتعثنا أسود عادية ... مثل السعالي قد آنس فزعا
لسنا بعالين دار عادية ... إلا تبددن نهبها مزعا
قال أبو عمرو: ولما احتضر ذو الإصبع دعا ابنه أسيداً. فقال له: يا بني إن أباك قد فني وهو حي وعاش حتى سئم العيش وإني موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته فاحفظ عني: ألن جانبك لقومك يحبوك وتواضع لهم يرفعوك. وابسط لهم وجهك يطيعوك ولا تستأثر عليهم بشيء يسودوك وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم. يكرمك كبارهم ويكبر على مودتك صغارهم. واسمح بمالك. وراحم خريم. واعزز جارك. وأعن من استعان بك. وأكرم ضيفك. واسرع النهضة في الصريخ فإن لك إجلالاً يعدوك وصن وجهك عن مسئلة أحد شيئاً فبذلك يتم سوددك ثم أنشأ يقول (من مجزوء الكامل) :
أأسيد إن مالاً ملكت ... فسر به سيراً جميلا
أأسيد إن أزمعت من ... بلد على بلد رحيلا
آخ الكرام إن استطعت ... إلى إخائهم سبيلا
فاحفظ وإن شحط المزا ... ر أخا أخيك والزميلا
واشرب بكأسهم وإن ... شربوا به السم الثميلا
واركب بنفسك إن هممت ... بها الحزونة والسهولا
اهن اللئام ولا تكن ... لإخائهم جملاً ذلولا
وصل الكرام وكن لمن ... ترجو مودته وصولا(5/632)
إن الكرام إذا تؤا ... خيهم وجدت لهم قبولا
ودع التواني في الأمو ... ر وكن لها سلساً ذلولا
ودع الذي يعد العشيرة ... أن يسيل ولن يسيلا
ابني إن المال لا ... يبكي إذا فقد البخيلا
وابسط يمينك بالندى ... وامدد لها باعاً طويلا
وابسط يديك بما ملكت ... وشيد الحسب الأثيلا
واعزم إذا حاولت أمراً ... يفرج الهم الدخيلا
وابذل لضيفك ذات ... رحلك مكرماً حتى يزولا
واحلل على الإيفاع ... للعافين واجتنب المسيلا
وإذا القروم تخاطرت ... يوماً وأرعدت الخصيلا
فاهصر كهصر الليث ... خضب من فريسته الثليلا
وانزل إلى الهيجا إذا ... أبطالها كرهوا النزولا
وإذا دعيت إلى المهم ... فكن لفادحه حمولا
حدث العتبي قال: جرى بين عبد الله بن الزبير وعبد الله بن أبي سفيان لحاء بين يدي معاوية فجعل ابن الزبير يعدل بكلامه عن عتبة ويعرض بمعاوية حتى أطال وأكثر فالتفت إليه معاوية متمثلاً وقال (من الطويل) :
ورام بعورات الكلام كأنها ... نوافر صبح نفرتها المراتع
وقد يرخص المرء الموارب بالخنا ... وقد تدرك المرء الكريم المصانع
ثم قال لابن الزبير: من يقول هذا. فقال: ذو الإصبع. فقال: أترويه؟ قال: لا. فقال: من هنا يروي هذه الأبيات فقام رجل من قيس فقال: أنا أرويها يا أمير المؤمنين.(5/633)
فقال: أنشدني. فأنشده حتى أتى على قوله:
وساع برجليه لآخر قاعد ... ومعط كريم ذو يسار ومانع
وبان لأحساب الكرام وهادم ... وخافض مولاه سفاهاً ورافع
ومغض على بعض الخصوم وقد بدت ... له عورة من ذي القرابة ضاجع
وطالب حوب باللسان وقلبه ... سوى الحق لا تخفى عليه الشرائع
فقال له معاوية: كم عطاؤك. قال: سبعمائة. قال: اجعلوها ألفاً وقطع الكلام بين عبد الله وعتبة. قال ابن عمرو: كان لذي الإصبع ابن عم يعاديه فكان يتدسس إلى مكارهه ويمشي به إلى أعدائه ويؤلب عليه ويسعى بينه وبين بني عمه ويبغيه. عندهم شراً. فقال فيه: وقد أنشدنا الأخفش هذه الأبيات عن ثعلب والأحول السكرى (من مجزوء الكامل) :
يا صاحبي قفا قليلا ... وتخبرا عني لميسا
عمن أصابه قلبه ... في مرها قعداً نكيسا
ولي ابن عم لا يزا ... ل إلي منكره دسيسا
دبت له فاحس بعد ... البرء من سقم دسيسا
إما علانية وإما ... مخمراً كهلاً وهيسا
إني رأيت بني أبيك ... يحمحمون إلي سوسا
حنقاً علي ولن ترى ... لي فيهم أثراُ بئيسا
أنجي على حر الوجو ... هـ بحد ميشار ضروسا
لو كنت ماء لم تكن ... عذب المذاق ولا مسوسا
ملحاً بعيد القعر قد ... فلت حجارته الفؤوسا
مناع ما ملكت يدا ... هـ وسائل لهم نحوسا(5/634)
وأنشدنا الأخفش عن هؤلاء الرواة بعقب هذه الأبيات وليس من شعر ذي الإصبع ولكنه يشبه معناه:
لو كنت ماء كنت غير عذب ... أو كنت سيفاً كنت غير عضب
أو كنت طرفاً كنت غير ندب ... أو كنت لحماً كنت لحم كلب
(قال) وفي مثله أنشدونا:
لو كنت مخاً كنت مخاً ريرا ... أو كنت برداً كنت زمهريرا
أو كنت ريحاً كانت الدبورا
قال أبو عمرو: وكان السبب في تفرق عدوان وقتال بعضهم بعضاً حتى تفانوا أن بني ناج بن يشكر بن عدوان أغاروا على بني عوف بن سعد بن ظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن عدوان ونذرت بهم بنو عوف فاقتتلوا فقتل بنو ناج ثمانية نفر فيهم عمير ابن مالك سيد بني عوف وقتلت بنوعوف رجلاً منهم يقال له سنن بن جابر وتفرقوا على حرب. وكان الذي أصابوه من بني وائلة ابن عمرو بن عباد وكان سيداً فاصطلح سائر الناس على الديات أن يتعاطوها ورضوا بذلك وأبى مرير بن جابر أن يقبل بسنان بن جابر دية واعتزل هو وبنو أبيه ومن أطاعهم وما والاهم وتبعه على ذلك كرب بن خالد أحد بني عبس بن ناج فمشى إليهما ذو الإصبع وسألهما قبول الدية وقال: قد قتل منا ثمانية نفر فقبلنا الدية وقتل منكم رجل فاقبلوا ديته. فأبيا ذلك وأقاما على الحرب فكان ذلك مبدأ حرب بعضهم بعضاً حتى تفانوا وتقطعوا. فقال ذو الإصبع في ذلك (من الطويل) :
ويا بؤس للأيام والدهر هالكا ... وصرف الليالي يختلفن كذلكا
أبعد أبي ناج وسعيك فيهم ... فلا تتبعن عينيك ما كان هالكا
إذا قلت معروفاً لأصلح بينهم ... يقول مرير لا أحاول ذلكا
فأضحوا كظهر العود جب سنامه ... يدب إلى الأعداء أحدب باركا
فإن تك عدوان بن عمرو تفرقت ... فقد غيبت دهراً ملوكاً هنالكا
وقال أبو عمرو: وفي مرير بن جابر يقول ذو الإصبع والقصيدة هي التي منها المذكور وأولها (من البسيط) :(5/635)
يا من لقلب شديد الهم مخزون ... أمسى تذكر رياً أم هارون
أمسى تذكرها من بعد ما شحطت ... والدهر ذو غلظة يوماً وذو لين
فإن يكن بعدها أمسى لنا شجناً ... وأصبح الولي منها لا يؤاتيني
فقد غنينا وشمل الدار مجتمع ... أطيع رياً ورياً لا تعاصيني
نرمي الوشاة فلا نخطي مقاتلهم ... بصادق من صفاء الود مكنون
ولي ابن عم على ما كان من خلق ... مختلفان فاقليه ويقليني
ازرى بنا إننا شالت نعامتنا ... فخالني دونه بل خلته دوني
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني
ولا تقوت عيالي يوم مسغبة ... ولا بنفسك في العزاء تكفيني
فإن ترد عرض الدنيا بمنقصتي ... فإن ذلك مما ليس يشجيني
ولا يرى في غير الصبر منقصة ... وما سواه فإن الله يكفيني
لولا أواصر قربى لست تحفظها ... ورهبة الله فيما لا يعاديني
إذاً بريتك برياً لا انجبار له ... إني رأيتك لا تنفك تبريني
إن الذي يقبض الدنيا ويبسطها ... إن كان أغناك عني سوف يغيني
الله يعلمني والله يعلمكم ... والله يجزيكم عني ويجزيني(5/636)
ماذ علي وإن كنتم ذوي رحم ... ألا أحبكم إذ لم تحبوني
لو تشربون دمي لم يرو شاربكم ... ولا دماؤكم جمعاً ترويني
ولي ابن عم لو أن الناس في كبد ... لظل محتجزاً بالنبل يرميني
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضريك حيث تقول الهامة اسقوني
عني إليك فما أمي براعية ... ترعى المخاض وما رأيي بمغبون
إني أبي أبي ذو محافظة ... وابن أبي أبي من أبيين
لا يخرج الكره مني غير مأبية ... ولا الين لمن لا يبتغي ليني
عف يؤوس إذا ما خفت من بلد ... هوناً فلست بوقاف على الهون
كل امرئ صائر يوماً لشيمته ... وإن تخلق أخلاقاً إلى حين
إني لعمرك ما بابي بذي غلق ... على الصديق ولا خيري بممنون
ولا لساني على الأدنى بمنمطلق ... بالفاحشات ولا فتكي بمأمون
عندي خلائق أوقام ذوي حسب ... وآخرون كثير كلهم دوني(5/637)
وأنتم معشر زيد على مائة ... فاجمعوا أمركم كلاً وكيدوني
فإن علمتم سبيل الرشد فانطلقوا ... وإن جهلتم سبيل الرشد فأتوني
يا رب ثوب حواشيه كأوسطه ... لاعيب في الثوب من حسن ومن لين
يوماً شددت على فرغاء فاهقة ... يوماً من الدهر تارات تماريني
ما1اعلي إذا تدعونني نزعاً ... ألا أجيبكم إذ لم تحيوني
قد كنت أعطيكم مالي وأمنحكم ... ودي على مثبت في الصدر مكنون
يا رب حي شديد الشغب ذي لجب ... دعوتهم راهن منهم ومرهون
رددت باطلهم في رأس قائلهم ... حتى يظلوا خصوماً ذا أفانين
ياعمرو لو لنت لي ألفيتني يسراً ... سمحاً كريماً أجازي من يجازيني(5/638)
قال أبو عمر وقالت أمامة بنت ذي الإصبع وكانت شاعرة ترثي قومها:
كم من فتى كانت له ميعة ... أبلج مثل القمر الزاهر
قد مرت الخيل بحافاتهم ... كمر غيث لجب ماطر
قد لقيت فهم وعدوانها ... قتلاً وهلكاً آخر الغابر
كانوا ملوكاً سادة في الورى ... دهراً لها الفخر على الفاخر
حتى تساقوا كاسهم بينهم ... بغياً فيا للشارب الخاسر
بادروا فمن يحلل بأوطانهم ... يحلل برسم مقفر داثر
قال أبو عمرو. ولأمامة ابنته هذه يقول ذو الإصبع ورأته قد نهض وسقط وتوكأ على العصا فبكت. فقال (من الكامل) :
جزعت أمامة أن مشيت على العصا ... وتذكرت إذ نحن ملتقيان
فلقبل ما رام الإله بكيده ... إرماً وهذا الحي من عدوان
بعد الحكومة والفضيلة والنهى ... طاف الزمان عليهم بأوان
وتفرقوا وتقطعت أشلاؤهم ... وتبددوا فرقاً بكل مكان
جدب البلاد فأعقمت أرحامهم ... والدهر غيرهم مع الحدثان
حتى أبادهم على أخراهم ... صرعى بكل نقيرة ومكان
لا تعجبن أمام من حدث عرا ... فالدهر غيرنا مع الأزمان(5/639)
النابغة الذبياني
النابغة اسمه زياد بن معاوية بن ضباب بن جناب بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر ويكنى أبا أمامة. وذكر أهل الرواية أنه إنما لقب النابغة لقوله (من الوافر) :
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على خوفي تظن بي الظنون
قلنا النابغة. قال: ذاك أشعر شعرائكم. وعن الشعبي: قال عمر: من أشعر الناس قالوا: أنت أعلم يا أمير المؤمنين. قال: من الذي يقول (من البسيط) :
إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند
وخبر الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد
قالوا النابغة: قال: فمن الذي يقول (من الطويل) :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
قالوا النابغة. قال: فهو أشعر العرب. وهذه الأبيات من قصائد له سيرد ذكرها في موضعها إن شاء الله. وكان يضرب للنابغة قبة من آدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها. وأول من أنشده الأعشى ثم حسان بن ثابت ثم أنشدته الشعراء ثم(5/640)
أنشدته خنساء بنت عمرو بن الشريد:
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
فقال: والله لولا أن أبا بصير أنشدني أنفاً لقلت أنك أشعر الجن والأنس. فقام حسان فقال: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك. فقال له النابغة: يا ابن أخي أنت لا تحسن أن تقول (من الطويل) :
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتاى عنك واسع
خطاطيف جحن في حبال متينة ... تمد بها أيد إليك نوازع
قال: فخنس حسان لقوله. وكان النابغة كبيراً عند النعمان خاصاً به وكان من ندمائه وأهل أنسه فرأى زوجته المتجردة يوماً وقد سقط نصيفها فاستترت بيدها وذراعها فكادت ذراعها تستر وجهها لعبالتها وغلظها فقال قصديته التي أولها (من الكامل) :
أمن آل مية رائح أو مغتد ... عجلان ذا زاد وغير مزود
أفد الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحال وكان قد
زعم الغداف بأن رحلتنا غداً ... وبذاك خبرنا الغداف الأسود(5/641)
لا مرحباً بغد ولا أهلا به ... إن كان تفريق الأحبة في غد
حان الرحيل ولم تودع مهدراً ... والصبح والإمساء منها موعدي
في إثر غانية رمتك بسهمها ... فأصاب قلبك غير أن لم تقصد
غنيت بذلك إذ هم لك جيرة منها بعطف رسالة وتودد
نظرت بمقلة شادن متربب ... أحوى أحم المقلتين مقلد(5/642)
والنظم في سلك يزين نحرها ... ذهب توقد كالشهاب الموقد
صفراء كالسيراء أكمل خلقها ... كالغصن في غلوائه المتاود
قامت تراءى بين سجفي كلة ... كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
أو درة صدفية غواصها ... بهج متى يرها يهل ويسجد
أو دمية من مرمر مرفوعة ... بنيت بآجر تشاد وقرمد
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد(5/643)
بمخضب رخص كأن بنانه ... عنم يكاد من اللطافة يعقد
وهي قصيدة طويلة من أجلها وقعت العداوة بينه وبين المنحل حتى وشى به إلى النعمان فخاف النابغة فهرب فصار في غسان.
قالوا جميعاً: فلما صار النابغة إلى غسان نزل بعمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر. فمدحه النابغة ومدح أخاه النعمان ولم يزل مقيماً مع عمرو حتى مات وملك أخوه النعمان فصار معه إلى أن استطلع النعمان فعاد إليه. فمما مدح به عمراً قوله (من الطويل) :
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يرعى النجوم بآئب(5/644)
وصدر أراح الليل عازن همه ... تضاعف فيه الحزن من كل جانب
علي لعمر نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب
حلفت يميناً غير ذي مثنوية ... ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
لئن كان للقبرين قبر بحلق ... وقبر بصيداء الذي عند حارب
وللحارث الجفني سيد قومه ... ليلتمسن بالجيش
دار المحارب
وثقت له بالنصر إذ قيل قد غزت ... كتائب من غسان غير أشائب
بنو عمه دنيا وعمرو بن عامر ... أولئك قوم بأسهم غير كاذب(5/645)
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب
يصانعنهم حتى يغرن مغارهم ... من الضاريات بالدماء الدوراب
تراهن خلف القوم خزراً عيونها ... جلوس الشيوخ في ثياب المرانب
جوانحقد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان او لغالب
لهن عليهم عادة قد عرفنها ... إذا عرض الخطي فوق الكوائب
على عارفات اللطعان عوابس ... بهن كلوم بين دام وجالب
إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا ... إلى الموت إرقال الجمال المصاعب(5/646)
فهم يتساقون المنية بينهم ... بأيديهم بيض رقاق المضارب
يطير فضاضاً بينها كل قونس ... ويتبعها منهم فراش الحواجب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
تورثن من أزمان يوم حليمة ... إلى اليوم قد جربن كل التجارب
تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب
بضرب يزيل الهام عن سكناته ... وطعن كايزاغ المخاض الضوارب(5/647)
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الجود والأحلام غير عوازب
محلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب
رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب
تحييهم بيض الولائد بينهم ... وأكسية الأضريج فوق المشاجب
يصونون أجساداً قديماً نعيمها ... بخالصة الأردان خضر المناكب
ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب(5/648)
حبوت بها غسان إذ كنت لاحقاً ... بقومي وإذ أعيت على مذاهبي
قال حسان بن ثابت: قدمت على النعمان بن المنذر وقد امتدحته. فأتيت حاجبه عصام بن شهبرة فجلست إليه فقال: إني لأرى عربياً أفمن الحجاز أنت. قلت: نعم. قال: فكن قحطانياً. قلت: فأنا قحطاني. قال: فكن يثربياً. قلت: فأنا يثربي. قال: فكم خزرجياً. قلت: فأنا خزرجي. قال: فكن حسان بن ثابت. قلت: فأنا هو. قال: أجئت بمدحة الملك. قال: نعم. قال: فإني أرشدك إلى دخلت إليه فإنه يسألك عن جبلة بن الأيهم ويسبه فإياك أن تساعده على ذلك ولكن أمر ذكره مراراً لا توافق فيه ولا تخالف وقل: ما دخول مثلي أيها الملك بينك وبين جبلة وهو منك وأنت منه. وإن دعاك إلى الطعام فلا تواكله فإن أقسم عليك فاصب منه اليسير إصابة بار قسمه مستشرف بمواكلته لا أكل جائع سغب ولا تطل محادثته ولا تبدأه بإخبار عن شيء حتى يكون هو السائل لك. ولا تطل الإقامة في مجلسه. فقلت: أحسن الله رفدك قد أوصيت واعياً ودخل. ثم خرج إلي فقال لي: ادخل فدخلت فسلمت وحييت تحية الملوك. فجاراني من أمر جبلة ما قاله عصام كأنه كان حاضراً وأجبت بما أمرني. ثم استأذنته في الإنشاد فأذن لي فأنشدته. ثم دعا بالطعام ففعلت ما أمرني عصام به. وبالشراب ففعلت مثل ذلك. فأمر لي بجائزة سنية وخرجت. فقال لي عصام: بقيت علي واحدة لم أوصك بها قد بلغني أن النابغة الذبياني قدم عليه وإذا قدم فليس لأحد منه حظ سواه فاستأذن حينئذ وانصرف مكرماً خير من أن تنصرف مجفواً. فأقمت ببابه شهراً. قم قدم عليه الفزاريان وكان بينهما وبين النعمان دخلل وكان معهما النابغة قد استجار بهما وسألهما مسئلة النعمان أن يرضى عنه فضرب عليهما قبة من آدم ولم يشعر بأن النابغة معهما. وقال أبو زيد عمرو بن شبة في خبره: لما صار معهما إلى النعمان كان يرسل إليهما بطيب والطاف مع قينة من إمائه. فكانا يأمرانها أن تبدأ بالنابغة قبلهما. فذكرت ذلك للنعمان فعلم أنه النابغة. ثم ألقى عليها شعره: (يا دار مية بالعلياء فالسند) وهي قصيدة ستذكر في موضعها. وسألها أن تغنيه به إذا أخذت فيه الخمر. ففعلت فأطربته. فقال: هذا شعر علوي هذا شعر النابغة. (قال) ثم خرج في غب سماء. فعارضه الفزاريان والنابغة بينهما(5/649)
قد خضبت بحناء فأقنأ خضابه. فلم رآه النعمان قال: هي بدم كانت أحرى أن تخضب. فقال الفزاريان: أبيت اللعن لا تثريب قد أجرناه والعفو أجمل. فأمنه واستنشده أشعاره. فعند ذلك قال حسان بن ثابت: فحسدته على ثلاث لا أدري على أيتهن كنت له أشد حسداً: على إدناء النعمان له بعد المباعدة ومسامرته له وإصغائه إليه أم على جودة شعره أم على مائة بعير من عصافيره أمر له بها. فقال أبو عبيدة: قيل لأبي عمرو: أفمن مخافته امتدحه وأتاه بعد هربه منه أم لغير ذلك. فقال: لا لعمر الله ما لمخافته فعل إن كان لامناً من أن يوجه النعمان له جيشاً وما كانت عشيرته لتسلمه لأول وهلة. ولكنه رغب في عطاياه وعصافيره. وكان النابغة يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب من عطايا النعمان وأبيه وجده لا يستعمل غير ذلك. وقيل أن السبب في رجوعه إلى النعمان بعد هربه منه أنه بلغه أنه عليل لا يرجى فأقلقه ذلك ولم يملك الصبر على البعد عنه مع ع لته وما خافه عليه وأشفق من حدوثه به فصار إليه وألفاه محموماً على سريره ينقل ما بين الغمر وقصور الحيرة. فقال لعصام بن شهبرة حاجبه من بني جرم كان النعمان يوليه أموره وجيوشه (من الوافر) :
ألم أقسم عليك لتخبرني ... أمحمول على النعش الهمام
فإني لا ألام على دخول ... ولكن ما وراءك يا عصام
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشهر الحرام
ونمسك بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام(5/650)
وفي هذه البيات غناء لحنين. قال حسان بن ثابت: خرجت إلى النعمان بن المنذر فلقيت رجلاً (وقال اليزيدي في خبره) : فلقيت صائغاً من أهل فدك. فلما رآني قال: كن يثربياً. فقلت: الأمر كذلك. قال: كن خزرجياً. قلت: أنا خزرجي. قال: كن نجارياً. قلت: أنا نجاري. قال: كن حسان بن ثابت. قلت: أنا هو. فقال: أين تريد. قلت: إلى هذا الملك. قال: تريد أن أسددك إلى أين تذهب ومن تريد. قلت: نعم. قال: إن لي به علماً وخبراً. قلت: فأعلمني ذلك. قال: فإنك إذا جئته متروك شهراً قبل أن يرسل إليك ثم عسى أن يسأل عنك رأس الشهر. ثم إنك متروك آخر بعد المسئلة ثم عسى أن يؤذن لك فإن أنت خلوته وأعجبته فأنت مصيب منه خيراً. فأقم ما أقمت فإن رأيت أبا أمامة فاظعن فلا شيء. لك عنده. قال: فقدمت ففعل بي ما قال الرجل. ثم أذن لي وأصبت منه مالاً كثيراً ونادمته وأكلت معه. فبينما أنا على ذلك وأنا معه في قبة له إذا رجل يرتجز حولها (من الرجز) :
أنائم أم سامع ذو القبه ... الواهب النوق الهجان الصلبه
ضرابة بالمشفر الأذبه ... ذات نجاء في يديها جلبه
في لاحب كأنه الأطبه
وكان حسان بن ثابت يقدم على جبلة بن الأيهم سنة ويقيم سنة في أهله. فقال: لو وفدت على الحارث فإن له قرابة ورحمً بصاحبي وهو أبذل الناس لمعروف وقد يئس مني أن أقدم عليه لما يعرف من انقطاعي إلى جبلة. فخرجت في السنة التي كنت أقيم فيها بالمدينة حتى قدمت على الحارث وقد هيأت مديحاً. فقال لي حاجبه وكان لي ناصحاً: إن الملك قد سر بقدومك عليه وهو لا يدعك حتى تذكر جبلة فإياك أن تقع فيه فإنه يختبرك فإنك إن وقعت فيه زهد فيك وإن ذكرت محاسنه ثقل عليه فلا تبتدىء بذكره. فإن سألك عنه فلا تطنب في الثناء عليه ولا تعبه. امسح ذكره مسحاً وجاوزه. وإنه سوف يدعوك إلى الطعام وهو(5/651)
يثقل عليه أن يؤكل طعامه أو يشرب شرابه. فلا تضع يدك في شيء حتى يدعوك إليه. قال: فشكرت له ذلك. ثم دعاني فسألني عن البلاد والناس وعن عيشنا في الحجاز وكيف ما بيننا من الحرب وكل ذلك أخبره حتى انتهى إلى ذكر جبلة. فقال: كيف تجد جبلة فقد انقطعت إليه وتركنا. فقلت له: إنما جبلة منك وأنت منه فلم أجر معه في مدح ولا ذم وفعلت في الطعام والشراب كما قال لي الحاجب. قال: ثم قال لي الحاجب: قد بلغني قدوم النابغة وهو صديقه وآنس به وهو قبيح أن يجفوك بعد البر فاستأذنه من الآن فهو أحسن فاستأذنته فأذن لي وأمر لي بخمسمائة دينار وكساء وحملان فقبضتها وانصرفت إلى أهلي.
وكان النابغة قد ركب إلى الحارث بن أبي شمر ليكلمه في أسرى بني أسد وبني فزارة فأعطاه إياهم وأكرمه. وقد كان حصن بن حذيفة الفزاري أصاب في غسان قبل ذلك بعام فقال الحارث للنابغة ما رمى بني أسد إلا حصن وقد بلغني إنه لا يزال يجمع علينا الجموع ليغير على أرضنا. وكان النعمان بن الحارث شديداً غليظاً فدخل عليه النابغة فقال له النعمان: إن حصناً عظيم الذنب إلينا وإلى الملك فقال النابغة: أبيت اللعن إن الذي بلغك باطل ففي ذلك يقول (من البسيط) :
إني كأني لدى النعمان خبره ... بعض الأود حديثاً غير مكذوب
بأن حصناً وحياً من بني أسد ... قاموا فقالوا حمانا غير مقروب
ضلت حلومهم عنهم وغرهم ... سن المعيدي في رعي وتعزيب
قاد الجياد من الجولان قائظة ... من بين منعلة تزجى ومجنوب(5/652)
حتى استغاثت بأهل الملح ما طعمت ... في منزل طعم نوم غير تأويب
ينضحن نضح المزاد الوافر أثاقها ... شد الرواة بماء غير مشروب
قب الأياطل تردي في أعنتها ... كالخاضبات من الزعر الظنابيب
شعث عليها مساعير لحربهم ... شم العرانين من مرد ومن شيب(5/653)
وما بحصن نعاس إذ تؤرقه ... أصوات حي على الأمرار محروب
ظلت أقاطيع أنعام مؤبلة ... لدى صليب على الزوراء منصوب
فإذ وقيت بحمد الله شرتها ... فانجي فزار إلى الأطواد فاللوب
ولا تلاقي كما لاقت بنوأسد ... فقد أصابتهم منها بشؤبوب
لم يبق غير طريد غير منفلت ... وموثق في حبال القد مسلوب
أو حرة كمهاة الرمل قد كبلت ... فوق المعاصم منها والعراقيب
تدعو قعيناً وقد عض الحديد بها ... عض الثقاف على صم الأنابيب(5/654)
مستشعرين قد ألفوا في ديارهم ... دعاء سوع ودعمي وأيوب
وقال أيضاً يعتذر إلى النعمان ويمدحه (من الطويل) :
أتاني أبيت اللعن إنك لمتني ... وتلك التي اهتم منها وانصب
فبت كأن العائدات فرشنني ... هراساً به يعلى فراشي ويقشب
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ولكنني كنت امرءاً لي جانب ... من الأرض فيه مستراد ومذهب
ملوك وإخوان إذا ما أتيتهم ... أحكم في أموالهم وأقرب(5/655)
كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ... لم ترهم في شكر ذلك أذنبوا
فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
بأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
فإن أك مظلوماً فعبد ظلمته ... وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب
وقال عامر بن الطفيل للنابغة في قصة:
ألا من مبلغ عني زياداً ... غداة القاع إذ أزف الضراب(5/656)
وهي أبيات فلما بلغ هذا الشعر شعراء بني ذبيان أرادوا هجاءه وائتمروه. فقال النابغة أنا عامراً له نجدة وشعر ولسنا بقادرين على الانتصار منه ولكن دعوني أجبه وأصغره وأفضل أباه وعمه عليه فإنه يرى أنه أفضل منهما وأعيره بالجهل والصبي فقال (من الوافر) :
فإن يك عامر قد قال جهلاً ... فإن مظنة الجهل الشباب
فكن كأبيك أو كأبي براء ... توافقك الحكومة والصواب
ولا تذهب بحلمك طاميات ... من الخيلاء ليس لهن باب
فإنك سوف تحلم أو تناهي ... إذا ما شبت أو شاب الغراب
فإن تكن الفوارس يوم حسي ... أصابوا من لقائك ما أصابوا
فما إن كان من نسب بعيد ... ولكن أدركوك وهم غضاب
فوارس من منولة غير ميل ... ومرة فوق جمعهم العقاب(5/657)
وقال يمدح النعمان ويعتذر إليه فإن بنى قريع وشوا به للنعمان ورموه بالمتجردة وقالوا انظر وصفه لها (من الطويل) :
يا دار مية بالعلياء بالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأبد
وقفت فيها أصيلاناً أسائلها ... عيت جواباً وما بالربع من أحد
إلا الأوراي لأياً ما أبينها ... والنوي كالحوض بالمظلومة الجلد(5/658)
ردت عليه أقاصيه ولبده ... ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد
خلت سبيل أتي كان يحسبه ... ورفعته إلى السجفين فالنضد
أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له ... وانم القتود على عيرانة أجد
مقذوفة بدخيس النخص بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد(5/659)
كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... يوم الجليل على مستأنس وحد
من وحش وجرة موشي أكارعه ... طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
سرت عليه من الجوزاء سارية ... تزجي الشمال عليه جامد البرد(5/660)
فارتاع من صوت كلاب فبات له ... طوع الشوامت من خوف ومن صرد
فبثهن عليه واستمر به ... صمع الكعوب بريات من الحرد
وكان ضمران منه حيث يوزعه ... طعن المعارك عند المخجر النجد
شك الفريصة بالمدرى فأنفذها ... طعن المبيطر إذ يشفي من العضد(5/661)
كأنه خارجاً من جنب صفحته ... سفود شرب نسوه عند مفتاد
فظل يعجم أعلى الروق منقبضاً ... في حالكاللون صدق غير ذي أود
لما رأى واشق إقعاص صاحبه ... ولا سبيل إلى عقل ولا قود
قالت له النفس إني لا أرى طمعاً ... وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
فتلك تبلغني النعمان إن له ... فضلاً على الناس في الأدنى وفي البعد(5/662)
ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه ... ولا أحاشي من الأقوام من أحد
إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن العند
وخيس الجن إن يقد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد
فمن أطاعك فانفعه بطاعته ... كما أطاعك وأدلله على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
إلا لمثلك أو من أنت سابقه ... سبق الجواد إذا استولى على الأمد(5/663)
أعطى لفاهرة حلو توابعها ... منالمواهب لا تعطى على نكد
الواهب المائة المعكاء زينها ... سعدان توضح في أوبارها اللبد
والراكضات ذيول الريط فانقها ... برد الهواجر كالغزلان بالجرد
والخيل تمزع غباً في أعنتها ... كالطير تنجو من الشؤبوب ذي البرد(5/664)
والأدم قد خيست فتلاً مرافقها ... مشدودة برحال الحيرة الجدد
أحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد
يحفه جانبا نيق وتتبعه ... مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد
فحسبوه فألفوه كما حسبت ... تسعاً وتسعين لم تنقص ولم تزد(5/665)
فكملت مائة فيها حمامتها ... وأسرعت حسبة في ذلك العدد
فلا لعمر الذي مسحت كعبته ... وما هريق على الأنصاب من جسد
والمؤمن العائذات الطير تمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسعد
ما قلت من سيىء مما أتيت به ... إذاً فلا رفعت سوطي إلي يدي
إذاً فعاقبني ربي معاقبة ... قرت بها عليه من يأتيك بالفند(5/666)
إلا مقالة أقوام شقيت بها ... كانت مقالتهم قرعاً على الكبد
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد
مهلاً فداء لك الأقوام كلهم ... وما أثمر من مال ومن ولد
لا تقذفني بركن لا كفاء له ... وإن تاثفك الأعداء بالرفد
فما الفرات إذا هب الرياح له ... ترمي أواذيه العبرين بالزبد
يمده كل واد منزع لجب ... فيه ركام من الينبوت والخضد
يظل من خوفه الملاح معتصماً ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد(5/667)
يوماً بأجود منه سيب نافلة ... ولا يحول عطاء اليوم دون غد
هذا الثناء فإن تسمع به حسناً ... فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد
ها إن ذي عذرة إلا تك نفعت ... فإن صاحبها مشارك النكد
حين أغار النعمان بن وائل بن الجلاح الكلبي على بني ذبيان أخذ منهم وسبى سبياً من غطفان وأخذ عقرب بنت النابغة فسألها من أنت فقالت: أنا بنت النابغة فقال لها: والله ما أحد أكرم علينا من أبيك وما أنفع لنا عند الملك ثم جهزها وخلاها ثم قال: والله ما أرى النابغة يرضى بهذا منا فأطلق له سبي غطفان وأسراهم وكان ابن جلاح قائداً للحارث بن أبي شمر ملك غسان فقال النابغة يمدحه (من الطويل) :
أهاجك من سعداك مغنى المعاهد ... بروضة نعمي فذات الأساود
تعاورها الأرواح ينسفن تربها ... وكل ملث ذي أهاضيب راعد(5/668)
بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... إلى كل رجاف من الرمل فارد
عهدت به سعدى وسعدى غريرة ... عروب تهادى في جوار خرائد
لعمري لنعم الحي صبح سربنا ... وأبياتنا يوماً بذات المراود
يقودهم النعمان منه بمحصف ... وكيد يغم الخارجي مناجد
وشيمة لا وان ولا واهن القوى ... وجد إذا خاب المفيدون صاعد
فآب بابكار وعون عقائل ... أوانس يحميها امرؤ غير زاهد
يخططن بالعيدان في كل مقعد ... ويخبأن رمان الثدي النواهد
ويضربن بالأيدي وراء براغز ... حسان الوجوه كالظباء العواقد
غرائر لم يلقين بأساء قبلها ... لدى ابن الجلاح ما يقثن بوافد
أصاب بني غيظ فأصحوا عباده ... وجللها نعمى علىغير واحد
فلا بد من عوجاء تهوي براكب ... إلى ابن الجلاح سيرها الليل قاصد
تخب إلى النعمان حتى تناله ... فدى لك من رب طريفي وتالدي
فسكنت نفسي بعدما طار روحها ... وألبستني نعمى ولست بشاهد
وكنت أمراً لا أمدح الدهر سوقة ... فلست على خير أتاك بحاسد
سبقت الرجال الباهشين إلى العلا ... كسبق الجواد اصطاد قبل الطوارد
علوت معداً نائلاً ونكاية ... فأنت لغيث الحمد أول رائد
وقال أيضاً يعتذر إلى النعمان ويمدحه (من الطويل) :
كتمتك ليلاً بالجمومين ساهراً ... وهمين هماً مستكناً وظاهرا(5/669)
أحاديث نفس تشتكي ما يريبها ... وورد هموم لن يجدن مصادرا
تكلفني أن يفعل الدهر همها ... وهل وجدت قبلي على الدهر قادرا
ألم تر خير الناس أصبح نعشه ... 'لى فتية قد جاوز الحي سائرا
ونحن لديه نسأل الله خلده ... يرد لنا ملكاً وللأرض عامرا
ونحن نرجي الخلد إن فاز قدحنا ... ونرهب قدح الموت إن جاء قامرا
لك الخير إن وارت بك الأرض واحداً ... وأصبح جد الناس يظلع عاثرا(5/670)
وردت مطايا الراغبين وعريت ... جيادك لا يحفي لها الدهر حافرا
رأيتك ترعاني بعين بصيرة ... وتبعث حراساً علي وناظرا
وذلك من قول أتاك أقوله ... وم دس أعدائي إيك المأبرا
فآليت لا آتيك إن جئت مجرماً ... ولا أبتغي جاراً سواك مجاورا
فأهلي فداء لأمرىء إن أتيته ... تقبل معروفي وسد المفاقرا
سأكعم كلبي أن يريبك نبحه ... وإن كنت أرعى مسحلان فحامرا(5/671)
وحلت بيوتي في يفاع ممنع ... يخل به راعي الحمولة طائرا
نزل الوعول العصم عن قذفاته ... وتضحي ذراه بالسحاب كوافرا
حذاراً على ألا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
أقول وإن شطت بي الدار عنكم ... إذا ما لقينا من معد مسافرا
الكني إلى النعمان حيث لقيته ... فأهدى له الله الغيوث البواكرا
وصبحه فلج ولا زال كعبه ... على كل من عادى من الناس ظاهرا(5/672)
ورب عليه الله أحسن صنعه ... وكان له على البرية ناصرا
فألفيته يوماً يبيد عدوه ... وبحر عطاء يستخف المعايرا
وقال يرد على بكر بن حزاز ويذكر خزيماً وزبان ابني سيار بن عمرو بن جابر وذلك أنه بلغه أنهما أعانا بدراً ورويا شعره فيه (من الوافر) :
ألا من مبلغ عني خزيماً ... وزبان الذي لم يرع صهري
فإياكم وعوراً داميات ... كأن صلاءهن صلاء جمر
فإني قد أتاني ما صنعتم ... وما شحتم من شعر بدر
فلم يك نولكم أن تشقذوني ... ودوني عازب وبلاد حجر(5/673)
فإن جوابها في كل يوم ... ألم بأنفس منكم ووفر
ومن يتربص الحدثان تنزل ... بمولاه عوان غير بكر
وكان خويلد بن عمرو بن خويلد لقي النابغة بعكاظ فأشار عليه أن يشير على قومه بترك حلف بني أسد فأبى النابغة الغدر وبلغه أن زرعة يتوعده فقال يهجوه (من الكامل) :
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها ... يهدي إلى غرائب الأشعار
فحلفت يا زرع بن عمر أنني ... مما يشق على العدو ضراري
أرأيت يوم عكاظ حين لقيتني ... تحت العجاج فما شققت غباري
إنا اقتسمنا خطتينا بيننا ... فحملت برة واحتملت فجار(5/674)
فلتأتينك قصائد وليدفعن ... جيش إليك قوادم الأكوار
رهط بن كوز محقبي أدراعهم ... فيهم ورهط ربيعة بن حذار
ولرهط حراب وقد سورة ... في المجد ليس غرابها بمطار
وبنو قعين لا محالة أنهم ... آتوك غير مقلمي الأظفار
سهكين من صدا الحديد كأنهم ... تحت السنور جنة البقار
وبنو سواءة زائروك بوفدهم ... جيشاً يقودهم أبو المظفار
وبنو جذيمة حي صدق سادة ... غلبوا حلى خبت إلى تعشار(5/675)
متكنفي جنبي عكاظ كليهما ... يدعو بها ولدانهم عرعار
قوم إذا كثر الصياح رأيتهم ... وفراً غداة الروع والأنفار
والغاضريون الذين تحملوا ... بلوائهم سيراً لدار قرار
تمشي بهم أدم كأن رحالها ... علق هريق على متون صوار
برز الأكف من الخدام خوارج ... من فرج كل وصيلة وازار
جمعاً يظل به الفضاء معضلاً ... يدع الأكام كأنهن صحار(5/676)
لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم ... طفحت عليك بناتق مذكار
حولي بنو دودان لا يعصونني ... وبنو بغيض كلهم أنصاري
زيد بن زيد حاضر بعراعر ... وعلى كنيب مالك بن حمار
وعلى الرميثة من سكين حاضر ... وعلى الدثينة من بني سيار
فيهم بنات العسجدي ولاحق ... ورقاً مراكلها من المضمار
يتحلب اليعضيد من أشداقها ... خبب السباع الوله الأبكار(5/677)
إن الرميثة مانع أرماحنا ... ما كان من سحم بها وصفار
فاصبن أبكاراص وهن بأمة ... أعجلنهن مظنة الإعذار
كان النعمان بن الحارث حمى ذا أقر وهو واد مملوء خصباً ومياهاً فاحتماه الناس وتربعته بنو ذبيان فنهاهم النابغة وحذرهم وخوفهم إغارة الملك فتربعوه وعيروه خوفه النعمان وكان منقطعاً إليه. فلما مات النعمان رثاه النابغة وانقطع إلى أخيه عمرو فوجه إليهم خيلاً فأصابوهم فقال (من البسيط) :
لقد نهيت بني ذبيان عن أقر ... وعن تربعهم في كل اصفار
وقلت يا قوم إن الليث منقبض ... على براثنه لوثبة الضاري
لا أعرفن ربرباً حوراً مدامعها ... كأن أبكارها نعاج دوار(5/678)
ينظرن شزراً إلى من جاء عن عرض ... بأوجه منكرات الرق أحرار
خلف العضاريط لا يوقين فاحشة ... مستمسكات بأقتاب وأكوار
يذرين دمعاً على الأشفار منحدراً ... يأملن رحلة حصن وابن سيار
إما عصيت فإني غير منفلت ... مني اللصاب فجنبا حرة النار
أو أضع البيت في سوداء مظلمة ... تقيد العير لا يسري بها الساري
تدافع الناس عنا حين نركبها ... من المظالم تدعى أم صبار(5/679)
ساق الرفيدات من جوش ومن عظم ... وماش من رهط ربعي وحجار
قرمي قضاعة حلا حول حجرته ... مدا عليه بسلاف وانفار
حتى استقل بجمع لا كفاء له ... ينفي الوحوش عن الصحراء جرار
لا يخفض الرز عن أرض ألم بها ... ولا يضل على مصباحه الساري
وعيرتني بنو ذبيان خشيته ... وهل علي بأن أخشاك من عار
وقال أبو بكر: بلغ بدر بن حزاز قول النابغة: (ينظرن شزراً ... إلخ) وهو في هذه القصيدة(5/680)
المتقدمة وقوله أيضاً: (يأملن رحلة ... إلخ) فغضب عند ذلك وقال يرد على النابغة ويذكران عمرو بن الحارث أخا النعمان أسر في تلك الوقعة ناساً من بني مرة فيهم بنو عم النابغة وكان النابغة قد قال: أو أضع البيت ... إلخ يعني الحرة ولم يفعل ما قال بل نزل برداً وهي أرض سهلة فأغار عليه جيش لابن جفنة وقيل لرجل من قضاعة فأصاب ناساً من قومه فشمت به بنو فزارة فقال بدر (من البسيط) :
أبلغ زياداً وحين المرء مدركه ... وإن تكيس أو كان ابن أحذار
اضطرك الحرز من ليلى إلى برد ... تختاره معقلاً عن جش أعيار
حتى لقيت ابن كهف اللوم في لجب ... ينفي العصافير والغربان جرار
فالآن فاسع بأقوام غدرتهم ... بني ضباب ودع عنك ابن سيار
قد كان وافد أقوام فجاء بهم ... وانتاش عانيه من أهل ذي قار
وأراد النعمان أن يغزو بني حن بن حزام وهم من بني عذرة وقد كانوا قبل ذلك قتلوا رجلاً من طيىء يقال له أبو جابر وأخذوا امرأته وغلبوا على وادي القرى وهو كثير النخل فلما أراد النعمان غزوهم نهاه النابغة عن ذلك وأخبره أنهم في حرة وبلاد شديدة فأبى عليه فبعث النابغة إلى قومه يخبرهم بغزو النعمان ويأمرهم أن يمدوا بني حن ففعلوا فهزموا غسان فقال النابغة في ذلك (من الطويل) :(5/681)
لقد قلت للنعمان يوم لقيته ... يريد بني حن يبرقة صادر
تجنب بني حن فإن لقاءهم ... كريه وإن لم تلق إلا بصابر
عظام اللهى أولاد عذرة إنهم ... لهاميم يستلهونها بالجراجر
هم منعوا وادي القرى من عدوهم ... بجمع مبير للعدو المكاثر
من الطالبات الماء بالقاع تستقي ... بإعجازها قبل استقاء الحناجر
بزاخية الوت بليف كأنه ... عفاء قلاص طار عنها تواجر(5/682)
صغار النوى مكنوزة ليس قشرها ... إذا طار قشر التمر عنها بطائر
هم طرفوا عنها بلياً فأصبحت ... بلي بواد من تهامة غائر
وهم منعوها من قضاعة ... كلها
ومن مضر الحمراء عند التغاور
هم قتلوا الطائي بالحجر عنوة ... أبا جابر واستنكحوا أم جابر
وقال أيضاً وهي ليست من مرويات الأصمعي. وقيل: تروى لأوس بن حجر (من البسيط) :
ودع أمامة والتوديع تعذير ... وما وداعك من قفت به العير
وما رأيتك إلا نظرة عرضت ... يوم النمارة والمأمور مأمور
إنالقفول إلى حي وإن بعدوا ... أمسوا دونهم ثهلان فالنير
هل تبلغنيهم حرف مصرمة ... أجد الفقار وادلاج وتهجير(5/683)
قد عريت نصف حول أشهر أجدداً ... يسفي على رحلها بالحيرةالمور
وفارقت وهي لم تجرب وباع لها ... من الفصافص بالنمي سفسير
ليست ترى حولها إلفاً وراكبها ... نشوان في جوة الباغوث مخمور
تلقي الأوزين في أكتاف دارتها ... بيضاً وبين يديها التبن منشور
لولا الهمام الذي ترجى نوافله ... لقال راكبها في عصبة سيروا
كأنها خاضب أظلافه لهق ... قهد الأهاب تربته الزنانير
أصاخ من نباة أصغى لها أذناً ... صماخها بدخيس الروق مستور
من حس أطلس تسعىتحته شرع ... كأن أحناكها السفلى مآشير
يقول راكبها الجني مرتفقاً ... هذا لكن ولحم الشاة محجور
وقال أيضاً مما كان بينه وبين يزيد بن سيار المري بسبب المحاش يعاتب بني مرة على إيثارهم وتحالفهم عليه وعلى قومه واجتماع قومه عليه مع طلب حوائجهم عند الملوك وكان النابغة محسوداً لعفته وشرفه (من الطويل) :
ألا أبلغا ذبيان عني رسالة ... فقد أصبحت عن منهج الحق جائره
أجدكم لن تزجروا عن ظلامة ... سفيهاً ولن ترعوا لذي الود آصره
ولو شهدت سهم وأفناء مالك ... فتعذرني من مرة المتناصره
لجاؤوا بجمع لم ير الناس مثله ... تضاءل منه بالعشي قصائره
ليهنأ لكم إن قد نفيتم بيوتنا ... مندى عبيدان المحلي باقره(5/684)
وإني لالقى من ذوي الضغن منهم ... وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره
كما لقيت ذات الصفا من حليفها ... وما انفكت الأمثال في الناس سائره
فقالت له ادعوك للعقل وافياً ... ولا تشغيني منك بالظلم بادره
فواثقها بالله حين تراضيا ... فكانت تديه المال غباً وظاهره
فلما توفى العقل إلا أقله ... وجارت به نفس عن الحق جائره
تذكر أنى يجعل الله جنة ... فيصبح ذا مال ويقتل واتره
فلما رأى أن ثمر الله ماله ... واثل موجوداً وسد مفاقره
أكب على فأس يحد غرابها ... مذكرة من المعاول باتره
فقام لها من فوق حجر مشيد ... ليقتلها أو تخطىء الكف بادره
فلما وقاها الله ضربة فأسه ... وللبر عين لا تغمض ناظره(5/685)
فقال تعالي نجعل الله بيننا ... على مالنا أو تنجزي لي آخره
فقالت يمين الله افعل إنني ... رأيتك مسحوراً يمينك فاجره
أبى لي قبر لا يزال مقابلي ... وضربة فأس فوق رأسي فاقره
وقال في أمر بني عامر (من الطويل) :
ليهنىء بني ذبيان أن بلادهم ... خلت لهم من كل مولى وتابع
سوى أسد يحمونها كل شارق ... بألفي كمي ذي سلاح ودلارع
قعوداً على آل الوجيه ولاحق ... يقيمون حولياتها بالمقارع
يهزون أرماحاً طوالاً متونها ... بأيد طوال عاريات الأشاجع(5/686)
فدع عنك قوماً لا عتاب عليهم ... هم ألحقوا عبساً بأرض القعاقع
وقد عسرت من دونهم بأكفهم ... بنو عامر عسر المخاض الموانع
فما أنا في سهم ولا نصر مالك ... ومولاهم عبد بن سعد بطامع
إذا نزلوا ذا ضرغد فعتائداً ... يغنيهم فيها نقيق الضفادع
قعوداً لدى أبياتهم يثمدونها ... رمى الله في تلك الأنوف الكوانع
قال يمدح النعمان ويعتذر غليه مما سعى به مرة بن ربيع بن قريع بن عوف بن كعب ويهجو مرة بن ربيع وكان النعمان قبل ذلك يغضب على النابغة ولم يكن ليجهز إليه جيشاً تعظم عليه فيه النفقة ولكن النابغة ذكر ما كان يعطيه وكان أسخى العرب فلم يصبر فقدم مع منظور وزبان ابني سيار بن عمرو الفزاريين كما تقدم الخبر. فضرب عليهما قبة ليخصهما مع قبته فجعلا لا يؤتيان بشيء إلا بدأ بالنابغة فقالت الجارية للنعمان: إن معهما شيخاً لا يؤتيان بشيء إلا بدأ به. ثم دس إلى قينة له بثلاث أبيات من أول قوله يا دار مية ... إلخ.(5/687)
فقال غنيه إذا أراد أن ينام وكذلك كان يفعل بملوك الأعاجم فلما سمعهن قال هذا شعر علوي هذا شعر النابغة ثم قبل عذره وعفا عنه وأكرمه (من الطويل) :
عفا ذو حساً في فرتنا فالقوارع ... فجنبا أريك فالتلاع الدوافع
فمجتمع الأشراج غير رسمها ... مصايف مرت بعدنا ومرابع
توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع
رماد ككحل العين لأياً أبينه ... ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
كان مجر الرامسات ذيولها ... عليه حصير نمقته الصوانع(5/688)
على ظهر مبناة جديد سيورها ... يطوف بها وسط اللطيمة بائع
فكفكفت مني عبرة فرددتها ... على النحر منها مستهل ودامع
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت الما أصح والشيب وازع
وقد حال هم دون ذلك شاغل ... مكان الشغاف تبتغيه الأصابع
وعيد أبي قابوس في غير كنهه ... أتاني ودوني راكس فالضواجع(5/689)
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع
يسهد من ليل التمام سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع
تناذرها الراقون من سوء سمعها ... تطلقه طوراً طوراً تراجع(5/690)
أتاني أبيت اللعن إنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع
مقالة أن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع
لعمري وما عمري علي بهين ... لقط نطقت بطلاً علي الأقارع
أقارع عوف لا أحاول غيرها ... وجوه قرود تبتغي من تجادع
أتاك امرؤ مستبطن لي بغضة ... له من عدو مثل ذلك شافع(5/691)
أتاك بقول هلهل اللسج كاذب ... ولم يأت بالحق الذي هو ناصع
أتاك بقول لم أكن لأقوله ... ولو كبلت في ساعدي الجوامع
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
بمصطحبات من لصاف وثبرة ... يرزن إلالاً سيرهن التدافع
سماماً تباري الريح خوصاً عيونها ... لهن رذايا بالطريق ودائع
عليهن شعث عامدون لحجهم ... فهن كأطراف الحني خواضع(5/692)
لكلفتين ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوى غيره وهو راتع
فإن كنت لاذو الضغن عني مكذب ... ولا حلفي على البراءة نافع
ولا أنا مأمون بشيء أقوله ... وأنت بأمر لا محالة واقع
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتاي عنك واسع(5/693)
خطاطيف حجن في حبال متينة ... تمد بها أيد إليك نوازع
أتوعد عبداً لم يخنك أمانة ... ويترك عبد ظالم وهو ظالع
وأنت ربيع ينعش الناس سيبه ... وسيف أعيرته المنية قاطع
أبى الله إلا عدله ووفاءه ... فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
وتسقى إذا ما شئت غير مصرد ... بزرواء في حافاتها المسك كانع
وقال يمدح النعمان بن الحارث الأصغر وقد خرج إلى بعض منتزهاته (من الطويل) :
إن يرجع النعمان نفرح ونبتهج ... ويأت معداً ملكها وربيعها(5/694)
ويرجع إلى غسان ملك وسؤدد ... وتلك المنى لو أننا نستطيعها
وإن يهلك النعمان تعر مطية ... ويلق إلى جنب الفناء قطوعها
وتنحط حصان آخر الليل نحطة ... تقضقض منها أو تكاد ضلوعها
على إثر خير الناس إن كان هالكاً ... وإن كان في جنب الفراش ضجيعها
وقال يمدح النعمان بن المنذر (من الوافر) :
امن ظلامة الدمن البوالي ... بمرفض الحبي إلى وعال
فأمواه الدنا فعويرضات ... دوارس بعد إحياء حلال
تابد لا ترى إلا صواراً ... بمرقوم عليه العهد خال
تعاورها السواري والغوادي ... وما تذري الرياح من الرمال
أثيت نبته جعد ثراه ... به عوذ المطافل والمتالي
يكشفن الألاء مزينات ... بغاب ردينة السحم الطوال(5/695)
كأن كشوحهن مبطنات ... إلى فوق الكعوب برود خال
فلما أن رأيت الدار قفراً ... وخالف بال أهل الدار بالي
نهضت إلى عذافرة صموت ... مذكرة تجل عن الكلال
فداء لامرئ سارت إليه ... بعذرة ربها عمي وخالي
ومن يغرف من النعمان سجلاً ... فليس كمن يتيه في الضلال
فإن كنت امرءاً قد سوت ظناً ... بعبدك والخطوب إلى تبال
فأرسل في بني ذبيان فاسأل ... ولا تعجل إلي عن السؤال
فلا عمر الذي أثني عليه ... وما رفع الحجيج إلى الأل
لما أغفلت شكرك فانتصحني ... وكيف ومن عطائك جل مالي
ولو كفي اليمين بغتك خوناً ... لأفردت اليمين من الشمال
ولكن لا تخان الدهر عندي ... وعند الله تجزية الرجال
له بحر يقمص بالعدولي ... وبالخلج المحملة الثقال
مضر بالقصور يذود عنها ... قراقير النبيط إلى التلال
وهوب للمخيسة النواجي ... عليها القنئات من الرحال
وقال في وقعة غزو عمرو بن الحارث الأصغر الغساني لبني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان (من الطويل) :
أهاجك من أسماء رسم المنازل ... بروضة نعمي فذات الأجاول
أربت بها الأرواح حتى كأنما ... تهادين أعلى تربها بالمناجل(5/696)
وكل ملث مكفهر سحابه ... كميش التوالي مرثعن الأسافل
إذا رجفت فيه رحى مرحجنة ... تبعج ثجاج غزير الحوافل
عهدت بها حياً كراماً فبدلت ... خناطيل آجال النعام الجوافل
ترى كل ذيال يعالج ربرباً ... على كل رجاف من الرمل هائل
يثرن الحصى حتى يباشرن برده ... إذا الشمس مجت ريقها بالكلاكل
وناجية عديت في متن لاحب ... كسحل اليماني قاصد للمناهل
له خلج تهوي فرادي وترعوي ... إلى كل ذي نيرين بادي الشواكل
وإني عداني عن لقائك حادث ... وهم أتى من دون همك شاغل
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا ... وصاتي ولم تنجح لديهم وسائلي
فقلت لهم لا أعرفن عقائلاً ... رعابيب من جنبي أريك وعاقل
ضوارب بالأيدي وراء براغز ... حسان كآرام الصريم الخواذل
خلايا المطايا يتصلن وقد أتت ... قنان أبير دونها والكواثل
وخلوا له بين الجناب وعالج ... فراق الخليط ذي الأذاة المزايل
ولا أعرفني بعد ما قد نهيتكم ... أجادل يوماً في شوي وحامل
وبيض غريرات تفيض دموعها ... بمستكره يذرينه بالأنامل
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل(5/697)
مخافة عمرو أن تكون جياده ... يقدن إلينا بين حاف وناعل
إذا استعجلوها عن سجية مشيها ... تتلع في أعناقها بالجحافل
شوارب كالأجلام قد آل رمها ... سماحيق صفراً في تليل وفائل
برا وقع الصوان حد نسورها ... فهن لطاف كالصعاد الذوابل
ويقذفن بالأولاد في كل منزل ... تشحط في أسلائها كالوصائل
ترى عافيات الطير قد وثقت لها ... بشبع من السخل العتاق الأكايل
مقرنة بالعيس والأدم كالقنا ... عليهاالخبور محقبات المراجل
وكل صموت نثلة تبعية ... ونسج سليم كل قضاء ذائل
علين بكديون وابطن كرة ... فهن وضاء صافيات الغلائل
عتاد امرئ لا ينقض البعد همه ... طلوب الأعادي واضح غير خامل
تحين بكفيه المنايا وتارة ... تسحان سحاً من عطاء ونائل
إذا حل بالأرض البرية أصبحت ... كئيبة وجه غبها غير طائل
يؤم بربعي كأن زهاءه ... إذا هبط الصحراء حرة راجل
وقال يرثي النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني (من الطويل) :
دعاك الهوى واستجهلتك المنازل ... وكيف تصابي المرء والشيب شامل(5/698)
وقفت بربع الدار قد غير البلى ... معارفها والساريات الهواطل
أسائل عن سعدى وقد مر بعدنا ... على عرصات الدار سبع كوامل
فسليت ما عندي بروحة عرمس ... تخب برحلي تارة وتناقل
موثقة الأنساء مضبورة القرا ... نعوب إذا كل العتاق المراسل
كأني شددت الرحل حين تشذرت ... على قارح مما تضمن عاقل
اقب ككد الأندري مسحج ... حزابية قد كدمته المساحل(5/699)
أضر بجرداء النسالة سمج ... يقلبها إذ أعوزته الحلائل
إذا جاهدته الشد جد وإن ونت ... تساقط لا وان ولا متخاذل
وإن هبطا سهلاً أثارا عجاجة ... وإن علوا حزناً تشظت جنادل
ورب بني البرشاء ذهل وقيسها ... وشيبان حيث استبلتها المناهل
لقد عالني ما سرها وتقطعت ... لروعاتها مني القوى والوسائل(5/700)
فلا يهنىء الأعداء مصرع ملكهم ... وما عتقت منه تميم ووائل
وكانت لهم ربعية يحذرونها ... إذا خضخضت ماء السماء القبائل
يسير بها النعمان تغلي قدوره ... تجيش بأسباب المنايا المراجل
يحث الحداة جالزاً بردائه ... يقي حاجبيه ما تثير القنابل
يقول رجال ينكرون خليقتي ... لعل زياداً لا أبا لك عاقل
أبي غفلتي أني إذا ما ذكرته ... ترحك داء في فؤادي داخل(5/701)
وإن تلادي إن ذكرت وشكتي ... ومهري وما ضمت لدي الأنامل
حباؤك والعيس العتاق كأنها ... هجان المهى تحدى عليها الرحائل
فإن تك قد ودعت غير مذمم ... أواسي ملك ثبتتها الأوائل
فلا تبعدن إن المنية موعد ... وكل امرئ يوماً به الحال زائل
فما كان بين الخير لو جاء سالماً ... أبو حجر إلا ليال قلائل
فإن تحي لا أملل حياتي وإن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل
فآب مصلوه بعين جلية ... وغودر بالجولان حزم ونائل(5/702)
سقى الغيث قبراً بين بصرى وجاسم ... بغيث من الوسمي قطر ووابل
ولا زال ريحان ومسك وعنبر ... على منتهاه ديمة ثم هاطل
وينبت حوذاناً وعوفاً منوراً ... سأتبعه من خير ما قال قائل
بكى حارث الجولان من فقد ربه ... وحوران منه موحش متضائل
قعوداً له غسان يرجون أوبه ... وترك ورهط الأعجمين وكابل(5/703)
وقال يبكي على بني عبس حين فارقوا بني ذبيان وانقطعوا إلى بني عامر (من الطويل) :
أبلغ بني ذبيان أن لا أخا لهم ... بعبس إذا حلوا الدماخ فأظلما
بجمع كلون الأعبل الجون لونه ... ترى في نواحيه زهيراً وحذيماً
هم يردون الموت عند حياضه ... إذا كن ورد الموت لا بد أكرما
وقال (من البسيط) :
بانت سعاد وأمسى حبلها انجذما ... واحتلت الشرع فالأجزاع من أضما
إحدى بلي وما هام الفؤاد بها ... إلا السفاه وإلا ذكرة حلما
ليست من السود أعقاباً إذا انصرفت ... ولا تبيع بجنبي نخلة البرما(5/704)
غراء أكمل من يمشي على قدم ... حسناً وأملح من حاورته الكلما
قالت أراك أخا رحل وراحلة ... تغشى متالف لن ينظرنك الهرما
حياك ربي فأنا لا يحل لنا ... لهوا لنساء وإن الدين قد عزما
مشمرين على خوص مزممة ... نرجو الإله ونرجو البر والطعما
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي ... إذا الدخان تشغى الأشمط البرما(5/705)
وهبت الريح من تلقاء ذي أرل ... تزجي مع الليل من صرادها صرما
صهب الظلال أتين التين عن عرض ... يزجين غيماً قليلاً ماؤه شبما
ينبئك ذو عرضهم عني وعالمهم ... وليس جاهل شيء مثل من علما
إني أتمم أيساري وأمنحهم ... مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما
وأقطع الخرق بالخرقاء قد جعلت ... بعد الكلال تشكي الأين واساما(5/706)
كادت تساقطني رحلي وميثرتي ... بذي المجاز ولم تحسس به نعما
من قول حرمية قالت وقد ظعنوا ... هل في مخفيكم من يشتري أدما
قلت له وهي تسعى تحت لبتها ... لا تحطمنك إن البيع قد زرما
باتت ثلاث ليال ثم واحدة ... بذي المجاز تراعي منزلاً زيما
فانشق عنها عمود الصبح جافلة ... عدو النحوص تخاف القانص اللحما
تحيد عن استن سود أسافله ... مشي الإماء الغوادي تحمل الحزما(5/707)
أو ذو وشوم بحوضي بات منكرساً ... في ليلة من جمادى أخضلت ديما
بات بحقف من البقار يحفزه ... إذا استكف قليلاً تربه انهدما
مولي الريح ورقيه وجبهته ... كالهبرقي تنحى ينفخ الفحما
حتى غدا مثل نصل السيف منصلتاً ... يقرو الأماعز من لبنان والأكما(5/708)
كان يزيد بن سنان بن أبي حارثة يمحش المحاش وهم خصيلة بن مرة وبنو نشبة بن غيط بن مرة على بني يربوع بن غيظ بن مرة رهط النابغة فتحالفوا على بني يربوع على النار فسموا المحاش لتحالفهم على النار ثم أخرجهم يزيد إلى بني عذرة بن سعد وكلهم يقول أن النابغة وأهل بيته من قضاعة وكانت قضاعة تحولت إلى اليمين ثم من عذرة ثم من ضنة فقال يزيد في ذلك يعير النابغة ويعرض به:
إني امرؤ من صلب قيس ماجد ... لا مدع حسباً ولا مستنكر
وهي أبيات فرد عليه النابغة (من الكامل) :
جمع محاشك يا يزيد فإنني ... أعددت يربوعاً لكم وتميما
ولحقت بالنسب الذي عيرتني ... وتركت أصلك يا يزيد ذميما
عيرتني نسب الكرام وإنما ... فخر المفاخر أن يعد كريما
حدبتعلي بطون ضنة كلها ... أن ظالماً فيهم وإن مظلوما
لولا بنو عوف بن بهثة أصبحت ... بالنعف أم بني أبيك عقيما(5/709)
وقال يمدح غسان حين ارتحل من عندهم راجعاً (من البسيط) :
لا يبعد الله جيراناً تركتهم ... مثل المصابيح تجلو ليلة الظلم
لا يبرمون إذا ما الأفق جلله ... برد الشتاء من الأمحال كالأدم
هم الملوك وأبناء الملوك لهم ... فضل على الناس في الأواء والنعم
أحلام عاد وأجساد مطهرة ... من المعقة والآفات والإثم
كانت بنو عامر قد بعثت إلى حصن بن حذيفة عيينة بن حصن إن أقطعوا حلف ما بينكم وبين بني أسد وألحقوهم ببني كنانة ونحالفكم فنحن بنو أبيكم فلما هم عيينة بذلك قالت لهم بنو ذبيان أخرجوا من فيكم من الحلفاء ونخرج من فينا فأبوا فقال النابغة لزرعة بن عمرو العامري (من البسيط) :
قالت بنو عامر خالوا بني أسد ... يا بؤس للجهل ضراراً لأقوام(5/710)
يأبى البلاء فلا نبغي بهم بدلاً ... ولا نريد خلاء بعد إحكام
فصالحونا جميعاً إن بدا لكم ... ولا تقولوا لنا أمثالها عام
إني لأخشى عليكم أن يكون لكم ... من أجل بغضائهم يوم كأيام
تبدو كواكبه والشمس طالعه ... لا النور نور ولا الاظلام إظلام(5/711)
أو تزجروا مكفهراً لا كفاء له ... كالليل يخلط أصراماً بإصرام
مستحقبي حلق الماذي يقدمهم ... شم العرانين ضرابون للهام
لهم لواء بكفي ما جد بطل ... لا يقطع الخرق إلا طرفه سام
يهدي كتاب خضراً ليس يعصمها ... إلا ابتدار إلى موت بالجام
كم غادرت خيلنا منكم بمعترك ... للخامعات أكفاً بعد إقدام(5/712)
يا رب ذات خليل قد فجعن به ... وموتمين وكانوا غير أيتام
والخيل تعلم أنا في تجاولنا ... عند الطعان أولو بؤسي وإنعام
ولوا وكبشهم يكبو لجبهته ... عند الكماة صريعاً جوفه دام
وقال يمدح عمرو بن هند وكان غزا الشام بعد قتل المنذر أبيه (من الوافر) :
أتاركة تدللها قطام ... وضناً بالتحية والكلام
فإن كان الدلال فلا تلجي ... وإن كان الوداع فبالسلام
فلو كانت غداة البين منت ... وقد رفعوا الخدور على الخيام
صفحت بنظرة فرأيت منها ... تحيت الخدر واضعة القرام
ترائب يستضيء الحلي فيها ... كجمر النار بذر بالظلام
كأن الشذر والياقوت منها ... على جيداء فاترة البغام
خلت بغزالها ودنا عليها ... أراك الجزع أسفل من سنام(5/713)
تسف بريره وترود فيه ... إلى دبر النهار من البشام
كأن مشعشعاً من خمر بصرى ... نمته البخت مشدود الختام
نمين قلاله من بيت راس ... إلى لقمان في سوق مقام
إذا فضت خواتمه علاه ... يبيس القمحان من المدام
على أنيابها بغريض مزن ... تقبله الجباة من الغمام
فأضحت في مداهن باردات ... بمنطلق الجنوب على الجهام
تلذ لطعمه وتخال فيه ... إذا نبهتها بعد المنام
فدعها عنك إذ شطت نواها ... ولجت من بعادك في غرام
ولكن ما أتاك عن ابن هند ... من الحزم المبين والتمام
فداء ما تقل النعل مني ... إلى أعلى الذؤابة للهمام
ومغزاه قبائل غائظات ... على الذهيوط في لجب لهام
يقدن مع امرئ يدع الهوينا ... ويعمد للمهمات العظام
أعين على العدو بكل طرف ... وسلهبة تجلل في السمام
وأسمر مارن يلتاح فيه ... سنان مثل نبراس النهام
وأنباه المنبىء أن حياً ... حلولاً من جدام أم جذام
وأن القوم نصرهم جميع ... فئام مجلبون إلى فئام
فأوردهن بطن الأتم شعثاً ... يصن المشي كالحدا التوأم(5/714)
على إثر الأدلة والبغايا ... وخفق الناجيات من الشآم
فباتوا ساكنين وبات يسري ... يقربه لهم ليل التمام
فصبحهم بها صهباء صرفاً ... كأن رؤوسهم بيض النعام
فذاق الموت من بركت عليه ... وبالناجين أظفار دوام
وهن كأنهن نعاج رمل ... يسوين الذيول على الخدام
يوصين الرواة إذا الموا ... بشعث مكرهين علىالفطام
وأضحى ساطعاً بجبال حسمى ... دقاق الترب محتزم القتام
فهم الطالبون ليدركوه ... وما راموا بذلك من مرام
إلى صعب المقادة ذي شريس ... نماه في فروع المجد نام
أبوه قبله وأبو أبيه ... بنوا مجد الحياة على إمام
فدوخت العراق فكل قصر ... يجلل خندق منه وحام
وما تنفك محلولاً عراها ... على متناذر الأكلاء طام
حين قتلت بنو عبس نضلة الأسدي وقتلت بنو أسد منهم رجلين أراد عيينة عون بني عبس وأن يخرج بني أسد من حلف بني ذبيان فقال النابغة (من الوافر) :
غشيت منازلاً بعريتنات ... فأعلى الجزع للحي المبن
تعاورهن صرف الدهر حتى ... عفون وكل منهمر مرن
وقفت بها القلوص على اكتئاب ... وذاك تفارط الشوق المعني(5/715)
اسائلها وقد سفحت دموعي ... كأن مفيضهن غروب شن
بكاء حمامة تدعو هديلاً ... مفجعة على فنن تغني
الكني يا عيين إيك قولاً ... ساهديه إليك إليك عني
قوافي كالسلام إذا استمرت ... فليس يرد مذهبها التظني
بهن أدين من يبغي أذاتي ... مداينة المداين فليدني
أتخذل ناصري وتعز عبساً ... أيربوع بن غيظ للمعن
كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشن
تكون نعامة طوراً وطوراً ... هوي الريح تنسج كل فن
تمن بعادهم واستبق منهم ... فإنك سوف تترك والتمني
لدى جرعاء ليس بها أنيس ... وليس بها الدليل بمطمئن
إذا حاولت في أسد فجوراً ... ف إني لست منك ولست مني
فه درعي التي استلامت فيها ... إلى يوم النسار وهم مجني
وهم وردوا الجفار على تميم ... وهم أصحاب يوم عكاظ إني
شهدت لهم مواطن صادقات ... اتينهم بود الصدر مني
وهم ساروا لحجر في خميس ... وكانوا يوم ذلك عند ظني
وهم زحفوا لغسان بزحف ... رحيب السرب أرعن مرجحن
بكل مجرب كالليث يسمو ... على أوصال ذيال رفن(5/716)
وضمر كالقداح مسومات ... عليها معشر أشباه جن
غداة تعاورته ثم بيض ... دفعن إليه في الرهج المكن
ولو أني أطعتك في أمور ... قرعت ندامة من ذاك سني
أغار أبو حريف الربيع بن زياد العبسي على يزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي وكان يزيد في جماعة كثيرة فلم يستطعه الربيع فاستاق سروح بني جعفر والوحيد ابني كلابي فقال في ذلك الربيع بن زياد:
وإذ أخطأن قومك يا يزيد ... فأبغي جعفراً لك والوليدا
فحلف يزيد بن عمرو أن لا يدهن حتى يغير على الربيع بن زياد فجمع يزيد من قبائل شتى فأغار فاستاق غنماً لهم وعصافير كانت للنعمان بن المنذر ترعى بذي ابان فقال يزيد في ذلك:
فكيف ترى معاقبتي وسعيي ... بأذواد القضيمة والقضيم
وهي أبيات فقال النابغة يذكر ذلك ويهجو يزيد (من الوافر) :
لعمرك ما خشيت على يزيد ... من الفخر المضلل ما أتاني
كأن التاج معصوباً عليه ... لأذواد أصبن بذي أبان
فحسبك أن تهاض بمحكمات ... يمر بها الروي على لساني(5/717)
فقبلك ما شتمت وقاذعوني ... فما نزر الكلام ولا شجاني
يصد الشاعر الثنينان عني ... صدود البكر عن قرم الهجان
أثرت الغي ثم نزعت عنه ... كما حاد الأزب عنالظعان
فإن يقدر عليك أبو قبيس ... تمط بك المعيشة في هوان
وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آن(5/718)
وكنت أمينه لو لم تخنه ... ولكن لا أمانة لليماني
قال يزيد بن عمرو يجيبه (من الوافر) :
وإن يقدر علي أبو قبيس ... تجدني عنده حسن المكان
تجدني كنت خيراً منك غيباً ... وأمضى باللسان وبالسنان
وأي الناس أغدر من شآم ... له صردان منطلق اللسان
وإن الغدر قد علمت معد ... بناه في بني ذبيان بان
ومما ينسب له قوله (من الوافر) :
كأن مدامة من بيت راس ... يكون مزاجها عسل وماء
وذكر الأصمعي أن أول بيت قاله النابغة هو قوله (من الوافر) :
قذاها أن صاحبها بخيل ... ويحاسب نفسه بكم اشتراها
وله (من الرمل) :
سألتني عن أناس هلكوا ... أكل الدهر عليهم وشرب(5/719)
وقال أيضاً (من المتقارب) :
بعاري النواهق صلت الجبين ... يستن كالتيس ذي الحلب
ومن نظمه قوله (من الطويل) :
لعمري لنعم المرء من آل ضجعم ... نزور ببصرى أو ببرقة هارب
فتى لم تلده بنت أم قريبة ... فيضوي وقد يضوي رديد الأقارب
وله يذكر حوادث الدهر في أهله (من البسيط) :
من يطلب الدهر تدركه مخالبه ... والدهر بالوتر ناج غير مطلوب
ما من أناس ذوي مجد ومكرمة ... إلا يشد عليهم شدة الذيب
حتى يبيد على عمد سراتهم ... بالنافذات من النبل المصييب
إني وجدت سهام الموت معرضة ... بكل حتف من الآجال مكتوب
وله يتغزل (من الطويل) :
أرسماً جديداً من سعاد تجنب ... عفت روضة الأجداد منها فيثقب
عفا آيه ريح الجنوب مع الصبا ... وأسحم دان مزنه متصوب
ومن نظمه أيضاً (من الطويل) :
كأن قتودي والنسوع جرى بها ... مصك يباري الجون جأب معقرب
رعى الروض حتى نشت الغدر والتوت ... برجلاتها قيعان شرج وايهب
وله يقول (من البسيط) :
حذاء مدبرة سكاء مقبلة ... للماء في النحر منها نوطة عجب
تدعو القطا وبها تدعى إذا نسبت ... يا حسنها حين تدعوها فتنتسب(5/720)
وله أيضاً (من الوافر) :
وما حاولتما بقياد خيل ... يصون الورد فيها والكميت
إذا ذبيان حتى صبحتهم ... ودونهم الربائع والخبيت
وقال أيضاً (من الوافر) :
كأن الظعن حين طفون ظهراً ... سفين البحر يممن القراحا
قفا فتبينا أعريتنات ... يوخي الحي أم اموا لباحا
كأن علىالحدود نعاج رمل ... زهاها الذعر أو سمعت صياحا
وقال أيضاً (من الكامل) :
واستبق ودك للصديق ولا تكن ... قتباً يعض بغارب ملحاحا
فالرفق يمن والأناة سعادة ... فتان في رفق تنال نجاحا
واليأس مما فات يعقب راحة ... ولرب مطعمة تعود ذباحا
يعد ابن جفنة وابن هاتك عرشه ... والحارثين بأن يزيد فلاحا
ولقد رأى أن الذي هو غالهم ... قد غال حمير قيلها الصباحا
وله أيضاً يرثي حصناً (من الطويل) :
يقولون حصن ثم تأب نفوسهم ... وكيف بحصن والجبال جموح
ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل ... نجوم السمء والأديم صحيح
وله يقول وهذا مما يستشهد به النحاة (من الطويل) :
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
وله (من الطويل) :(5/721)
أبقيت للعبسي فضلاً ونعمة ... ومحمدة من باقيات المحامد
حباء شقيق فوق أعظم قبره ... وما كان يحبى قبله قبر وافد
أتى أهله منه حباء ونعمة ... ورب امرئ يسعى لآخر قاعد
وقال أيضاً (من الكامل) :
يا عام لا أعرفك تنكر سنة ... بعد الذين تتابعوا بالمرصد
لو عاينتك كماتنا بطوالة ... بالحزورية أو بلابة ضرغد
لثويت في قد هنالك موثقاً ... في القوم أو لثويت غير موسد
وقال يبرىء نفسه مما وشى به إلى النعمان (من البسيط) :
إذاً فعاقبني ربي معاقبة ... قرت بها عين من يأتيك بالحسد
هذا لابرا من قول قذفت به ... طارت نوافذه حراً على كبدي
وقال أيضاً (من الوافر) :
فأضحت بعد ما فضلت بدار ... شطون لا تعاد ولا تعود
وله في وصف حية (من الرجز) :
صل صفاً لا تنطوي من القصر ... طويلة الإطراق من غير خهفر
داهية قد صغرت من الكبر ... كأنما قد ذهبت بها الفكر
مهروتة الشدقين حولاء النظر ... تفتر عن عوج حداد كافبر
وله يحرض قومه (من البسيط) :
يوما حليمة كأنا من قديمهم ... وعين باغ فكان الأمر ما ائتمرا
يا قوم إن ابن هند غر تارككم ... فلا تكونوا لأدنى وقعة جزرا
وله يمدح النعمان (من البسيط) :(5/722)
أخلاق مجدك جلت ما لها خطر ... في البأس والجود بين العلم والخبر
متوج بالمعالي فوق مفرقه ... وفي الوغى ضيغم في صورة القمر
وله فيه أيضاً (من الطويل) :
بخالة أو ماء الذنابة أو سوى ... مظنة كلب أو مياه المواطر
ترى الراغبين العاكفين ببابه ... على كل شيزى أترعت بالعراعر
له بفناء البيت سوداء فحمة ... تلقم أوصال الجزور العراعر
بقية قدر من قدور تورثت ... لآل الجلاح كابراً بعد كابر
تظل الإماء يبتدرن قديحها ... كما ابتدرت سعد مياه قراقر
وهم ضربوا أنف الفزاري بعد ما ... أتاهم بمعقود من الأمر قاهر
أتطمع في وادي القرى وجنابه ... وقد منعوا منه جميع المعاشر
وقال أيضاً (من الكامل) :
من مبلغ عمرو بن هند آية ... ومن النصيحة كثرة الإنذار
لا أعرفنك عارضاً لرماحنا ... في جف تغلب وادي الأمرار(5/723)
يا لهف أمي بعد أسرة جعول ... إلا ألاقيهم ورهط عرار
وله أيضاً وهي أول مجمهرات العرب (من البسيط) :
عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار ... ماذا يحيون من نؤي وأحجار
أقوى واقفر من نؤي وغيره ... هوج الرياح بهار الترب مواتر
دار لنعم بأعلى الجو قد درست ... لم يبق إلا رماد بين أظار
وقفت فيها سراة اليوم أسألها ... عن آل نعم أموناً عبر أسفار
فاستعجمت دار نعم لا تكلمنا ... والدار لو كلمتنا ذات أخبار
فما وجدت بها شيئاً ألوذ به ... إلا الثمام وإلا موقد النار
وقد أراني ونعماً لابئين معاً ... والدهر والعيش لم يهمم بإمرار
أيام تخبرني نعم وأخبرها ... ما أكتم الناس من باد وأسرار
لولا حبائل من نعم علقت بها ... لأقصر القلب عنها أي إقصار
فإن أفاق لقد طالت عمايته ... والمرء يخلق طوراً بعد أطوار
تبيت نعم على الهجران عاتبة ... سقياً ورعياً لذاك العاتب الزاري
رأيت نعماً وأصحابي على عجل ... والعيس للبين قد شدت بأكوار
فريع قلبي وكانت نظرة عرضت ... حيناً وتوفيق أقدار لأقدار
بيضاء كالشمس وافت يوم أسعدها ... لم تؤذ أهلاً ولم تفحش على جار
ومنها قوله:
أقول والنجم قد مالت أواخره ... إلى المغيب تبين نظرة حار
المحة من سنا برق رأى بصري ... أم وجه نعم بدا لي من سنا نار
بل وجه نعم بدا والليل معتكر ... فلاح من بين أثواب وأستار(5/724)
إن الحمول التي راحت مهجرة ... يتبعن أمر سفيه الرأي مغيار
نواعم مثل بيضات بمحنية ... يحفهن ظليم في نقاً هار
إذا تغنى الحمام الورق ذكرني ... ولو تغربت عنا أم عمار
ومهمه نازح تأوي الذئاب به ... نائسي المياه عن الوراد مقفار
جاوزته بعلنداة مذكرة ... وعث الطريق على الأحزان مخمار
بحنا بأرض إلى أرض لدى رجل ... ماض على الهول هاد غير محيار
إذا الركاب ونت عنها ركائبها ... تشذرت ببعيد الفتر خطار
كأنما الرحل منها فوق ذي جدد ... ذب الرياد إلى الأشباح نظار
مطرد أفردت عنه حلائله ... من حش وجرة أو من وحش ذي قار
محرس واحد جأب أطاع له ... بنات غيث من الوسمي مدرار
سراته ما خلا لباته لهق ... وفي القوائم مثل الوشم بالقار
وبات ضيفاً لأرطاة والجاه ... مع الظلام إليها وابل سار
حتى إذا ما انجلت ظلماء ليلته ... وأسفر الصبح عنه أي إسفار
أهوى له قانص يسعى بأكلبه ... عاري الأشاجع من قناص أنمار
محالف الصيد تباع له لحم ... ما إن عليه ثياب غير أطمار
يسعى بغضف براها وهي طاوية ... طول ارتحال لها منه وتسيار
حتى إذا الثور بعد النفر أمكنه ... أشلى وأرسل غضفاً كلها ضار
فكر محمية من أن يفر كما ... كر المحامي حفاظاً خشية العار
فشك بالروق منها صدر أولها ... شك المشاعب أعشاراً بأعشار
ثم انثنى يعد الثاني فأقصده ... بذات ثغر بعيد القعر نعار(5/725)
وأثبت الثالث الباقي بنافذة ... من باسل عالم بالطعن كرار
وظل في سبعة منها لحقن به ... يكر بالروق فيها كر إسوار
حتى إذا ما قضى منها لبانته ... وعاد فيها بإقبال وإدبار
انقض كالوكب الدري منصلتاً ... يهوي ويخلط تقريباً بإحضار
فذاك شبه قلوصي إذ أضر بها ... طول السرى وهجير بعد إبكار
وقال أيضاً (من البسيط) :
فإن يكن قد قضى من خله وطراً ... فإنني منك لما اقض أوطاري
يدني عليهن دفاً ريشه هدم ... وجؤجؤاً عظمه من لحمه عار
وقال أيضاً (من الطويل) :
تقدم لما فاته الذحل عندها ... وكانت له إذ خاس بالعهد قاهره
وله يقول (من مجزوء الكامل) :
المرء يأمل أن يعيش ... وطول عيش قد يضره
تفنى بشاشته ويبقى ... بعد حلو العيش مره
وتخونه الأيام حتى ... لا يرى شيئاً يسره
كم شامت بي إن هلكت ... وقائل لله دره
وقال أيضاً (من الطويل) :
ظللنا ببرقاء اللهيم تلفنا ... قبول تكاد من ظلالتها تمسي
ومن حكمه قوله (من الطويل) :
إذا أنا لم أنفع خليلي بوده ... فإن عدوي لا يضرهم بغضي
وقال يمدح قومه (من الطويل) :
إذا تلقهم لا تلق للبيت عورة ... ولا الجار محروماً ولا الأمر ضائعا(5/726)
وقال أيضاً (من البسيط) :
صبراً بغيض بن ريث إنها رحم ... حبتم بها فأناختكم بجعجاع
وله شطر في المديح وهو (من الطويل) :
وميزانه في سورة المجد ماتع
وله في توبيخ نفسه (من الكامل) :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمرك في المقال بديع
لو كنت تصدق حبه لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
وقال أيضاً (من الطويل) :
إذا غضبت لم يشعر الحي أنها ... غضوب وإن نالت رضى لم تزهزق
وله يمدح (من البسيط) :
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم ... وحامل الأصر عنهم بعدما غرقوا
وله من نوع الإجازة عندما لقي الربيع بن أبي الحقيق (من البسيط) :
قال النابغة:
كادت تهال من الأصوات راحلتي
قال الربيع بن الحقيق:
والشعر منها إذا ما أوحشت خلق
قال النابغة:
لولا أنهنهها بالسوط لاجتذبت
قال الربيع:
مني الزمام وإني راكب لبق
قال النابغة:
قد ملت الحبس في الآطام واشتعفت
قال الربيع:
إلى مناهلها لو أنها طلق
وله في المدح (من الوافر) :
تخف الأرض إن تفقدك يوماً ... وتبقى ما بقيت بها ثقيلا
لأنك موضع القسطاس منها ... فتمنع جانبيها أن تميلا(5/727)
وله في ذم النعمان (من الخفيف) :
حدثوني بني الشقيقة ما ... يمنع فقعاً بقرقر أن يزولا
قبح الله ثم ثنى بلعن ... وارث الصائغ الجبان الجهولا
من يضر الأدنى ويعز عن ضر ... الأقاصي ومن يخون الخليلا
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو قتيلا
وقال أيضاً (من الطويل) :
عهدت بها حياً كراماً فبدلت ... خناطيل آجال النعام الجوافل
وقال أيضاً (من البسيط) :
ماذا رزئنا به من جية ذكر ... نضناضة بالرزايا صل أصلال
لا يهنىء الناس ما يرعون من كلا ... وما يسوقون من أهل ومن مال
بعد ابن عاتكة الثاوي على أبوي ... أحضى ببلدة لا عم ولا خال
سهل الخليقة مشاء بأقدحه ... إلى ذوات الذرى حمال أثقال
حسب الخليلين نأي الأرض بينهما ... هذا عليها وهذا تحتها بال
وقال أيضاً (من الطويل) :
وعريت من مال وخير جمعته ... كما عريت مما تمر المغازل
وله أيضاً (من السريع) :
الطاعن الطعنة يوم الوغى ... يعل منها الأسل الناهل
وله يمدح (من السريع) :(5/728)
هذا غلام حسن وجهه ... مستقبل الخير سريع التمام
للحارث الأكبر والحارث ... الأصغر والأعرج خير الأنام
ثم لهند ولهند وقد ... أسرع في الخيارت منه إمام
خمسة آبائهم ما هم ... هم خير من يشرب صوب الغمام
وله في وصف الخيل (من البسيط) :
خيل صيام وخيل غير صامة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
وقال أيضاً (من الرجز) :
نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما
وصيرته ملكاً هماما ... حتى علا وجاوز الأقواما
وقال أيضاً (من الكامل) :
طلعوا عليك براية معروفة ... يوم الأبيس إذ لقيت لئيما
قوم تدارك بالعقيرة ركضهم ... أولاد زردة إذ تركت ذميما
وله أيضاً (من السريع) :
المم برسم الطلل الأقدم ... بجانب السكران فالأيهم
وله أيضاً (من البسيط) :
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربص المستنفر الحامي
وله أيضاً (من الوافر) :
ولست بذاخر لغد طعاماً ... حذار غد لكل غد طعام
تمخضت المنون له بيوم ... أتى ولكل حاملة تمام(5/729)
وله أيضاً (من الوافر) :
وأعيار صوادر عن حماتا ... لبين الكفر والبرق الدواني
ألا زعمت بنو عبس بأني ... ألا كذبوا كبير السن فإن
ومن نظمه (من الطويل) :
لسعدى بشرع فالبحار مساكن ... قفار فعفتها شمال وداجن
وله أيضاً (من الوافر) :
نأت بسعاد عنك نوى شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين
وحلت في بني القين بن جسر ... فقد نبغت لنا منهم شؤون
تأوبني بعملة اللواتي ... منعن النوم إذ هدأت عيون
كأن الرحل شد به خذوف ... من الجونات هادية عنون
من المتعرضات بعين نخل ... كان بياض لبته سدين
كقوس الماسخي أرن فيها ... من الشرعي مربوع متين
إلى ابن محرق أعملت نفسي ... وراحلتي قد هدت العيون
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على خوف تظن بي الظنون
فألقيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون
وقال أيضاً (من الطويل) :
فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء المعاديا
فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا(5/730)
وقال أيضاً يمدح عمرو بن الحرث في الثناء المسجع: ألا انعم صباحاً أيها الملك المبارك. السماء غطاؤك. والأرض وطاؤك. ووالدي فداؤك. والعرب وقاؤك. والعجم حماؤك. والحكماء جلساؤك. والمداراة سيماؤك. والمقاول إخوانك. والعقل شعارك. والسلم منارك. والحلم دثارك. والسكينة مهادك. والوقار غشاؤك. والبر وسادك. والصدق رداؤك. واليمن حذاؤك. والسخاء ظهارتك. والحمية بطانتك. والعلا غايتك. وأكرم الأحياء أحياؤك. وأشرف الأجداد أجدادك. وخير الآباء آباؤك. وأفضل الأعمام أعمامك. وأسرى الأخوال أخوالك. وأعف النساء حلائلك. وأفخر الفتيان أبناؤك. وأظهر الأمهات أمهاتك. وأعلى البنيات بنيانك. وأعذب المياه أمواهك. وأفسح الدارات داراتك. وأنزه الحدائق حدائقك. وأرفع اللباس لباسك. وأدفع الأجناد أجنادك. قد حالف الأضيج عاتقك. ولاءم المسك مسكك. وجاور العنبر ترائبك. وصاحب النعيم جسدك. العسجد أنيتك. واللجين صحافك. والعصب مناديلك. والحوارى طعامك. والشهد إدامك. واللذات غذاؤك. والخرطوم شرابك. والشرف مناصفك. والخير بفنائك. والشر بساحة أعدائك. والنصر منوط بلوائك. والخذلان مع ألوية حسادك. زين قولك فعلك. قد طحطح عدوك غضبك. وهزم مقانبهم مشهدك. وسار في الناس عدلك. وشسع بالنصر ذكرك. وسكن فوارع الأعداء ظفرك. الذهب عطاؤك. والدواب رمزك. والأوراق لحظك. والغنى أطرافك. وألف دينار مرجوحة إيماؤك. أيفاخرك المنذر اللخمي(5/731)
فوالله لقفاك خير من وجهه. ولشمالك أجود من يمينه. ولاخمصك خير من رأسه. ولخطاؤك خير من صوابه. ولصمتك خير من كلامه. ولأمك خير من أبيه. ولخدمك خير من قومه. فهب لي أسارى قومي. واسقهن بذلك شكري. فإنك من أشراف قحطان. وأنا من سروات عدنان.(5/732)
الحصين بن حمام (621م)
هو أبو يزيد الحصين بن الحمام بن ربيعة بن مساب بن حرام بن وائلة بن سهم بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار. قال أبو عبيدة: كان الحصين بن الحمام سيد بني سهم بن مرة وكان خصيلة بن مرة وصرمة بن مرة وسهم بن مرة أمهم جميعاً صرقلة بنت ضيم بن عوف بن بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. فكانوا يداً واحدة على من سواهم وكان حصين ذا رأيهم وقائدهم ورائدهم وكان يقال له: مانع الضيم. وحدثني جماعة من أهل العلم أن ابنه أتى باب معاوية بن أبي سفيان. فقال لآذنه: استأذن لي على أمير المؤمنين وقل: ابن مانع الضيم. فاستأذن له. فقال له معاوية: ويحك لا يكون هذا إلا ابن عورة بن الورد العبسي أو الحصين بن الحمام المري أدخله فلما دخل إليه. قال له: ابن من أنت قال: أنا ابن مانع الضيم الحصين بن الحمام. فقال: صدقت. ورفع مجلسه وقضى حوائحه. وكان الحصين يؤمن بالله ويقر بالبعث قبل الهجرة وفي شعره ما يدل على ذلك فقال من قصيدة (من المتقارب) :
وقافية غير إنسية ... قرضت من الشعر أمثالها
شرود تلمع بالخافقين ... إذا أنشدت قيل من قالها
وحيران لا يهتدي بالنهار ... من الظلع يتبع ضلالها
وداع دعا دعوة المستغيث ... وكنت كمن كان لبى لها
إذا الموت كان شجى بالحلوق وبادرت النفس أشغالها
صبرت ولم أك رعديدة ... وللصبر في الروع انجى لها
ويوم تسعر فيه الحروب ... لبست إلى الروع سربالها(5/733)
مضعفة السرد عادية ... وعضب المضارب مفاصلها
ومطرد من ردينية ... أذود عن الورد أبطالها
فلم يبق من ذاك إلا التقى ... ونفس تعالج آجالها
أمور من الله فوق السماء ... مقادير تنزل إنزالها
أعوذ بربي من المخزيا ... ت يوم ترى النفس أعمالها
وخف الموازين بالكافرين ... وزلزلت الأرض زلزالها
ونادى مناد بأهل القبور ... فهبوا لتبرز أثقالها
وسعرت النار فيها العذاب ... وكان السلاسل أغلالها
وكان الحصين فارساً مقداماً وله مع قومه وقائع اشتهر فيها منها أنه نزل بقومه بني سهم رجل يهودي من وادي القرى اسمه حصين بن حي فقتله بنو صرمة فقتل بنو سهم قوداً به يهودياً آخر من أهل تيماء يقال له جهينة بن أبي حمل كان بجوار بني صرمة. فشد بنو صرمة على ثلاثة من قضاعة جيران بني سهم فقتلوهم فقال حصين: اقتلوا من جيرانهم بني سلامان ثلاثة نفر. ففعلوا فاستعر الشر بينهم. وكانت بنو صرمة أكثر من بني سهم رهط الحصين بكثير. فقال لهم: الحصين يا بني صرمة قتلتم جارنا فقتلنا به جاركم. فقتلتم من جيراننا من قضاعة ثلاثة نفر وقتلنا من جيرانكم من بني سلامان ثلاثة نفر وبيننا وبينكم رحم ماسة قريبة فمروا جيرانكم من بني سلامان فيرتحلوا عنكم ونامر جيراننا من قضاعة فيرتحلوا عنا جميعاً ثم هم اعلم. فأبى ذلك بنو صرمة وقالوا: قد قتلتم جارنا ابن جوشن فلا نفعل حتى نقتل مكانه رجلاً من جيرانكم فإنا نعلم أنكم أقل منا عدداً وأذل وغنما بنا تعزون وتمنعون. فناشدهم الله والرحم فأبوا وأقبلت الحضر من محارب وكانوا في بني ثعلبة بن سعد فقالوا: نشهد نهب بني سهم إذا انتهبوا فنصيب منهم. وخذلت غطفان كلها حصيناً وكرهوا ما كان من منعه جيرانه من قضاعة وصافهم حصين الحرب وقاتلهم ومعه جيرانه وأمرهم ألا يزيدوهم على النبل وهزمهم الحصين وكف يده بعد ما(5/734)
أكثر فيهم القتل وأبى ذلك البطن من قضاعة أن يكفوا عن القوم حتى انخنوا فيهم. وكان سنان ابن أبي جارية خذل الناس عنه لعداوته قضاعة وأحب سنان أن يهب الحيان من قضاعة. وكان عيينة بن حصن وزبان بن سيار بن عمرو بن جابر ممن خذل عنه أيضاً. فأجلبت بنو ذبيان على بني سهم مع بني صرمة وأجلبت محارب بن خصفة معهم. فقال الحصين بن الحمام في ذلك من أبيات (من الطويل) :
ألا تقبلون النصف منا وأنتم ... بنو عمنا لا بل هامكم القطر
سنأبى كما تأبون حتى تلينكم ... صفائح بصرى والأسنة والأصر
أيؤكل مولانا ومولى ابن عمنا ... نعيم ومنصور كما نصرت جسر
فتلك التي لم يعلم الناس أنني ... خنعت لها حتى يغيبني القبر
فليتكم قد حال دون لقائكم ... سنون ثمان بعدها حجج عشر
أجدي لا ألقاكم الدهر مرة ... على موطن إلا خدودكم صعر
إذا ما دعوا للبغي قاموا واشرقت ... وجوههم والرشد ورد له نفر
فواعجبا حتى خصيلة أصبحت ... موالي عز لا تحل لها الخمر
الما كشفنا لأمة الذل عنكم ... تجردت لا بر جميل ولا شكر
فإن يك ظني صادقاً تجر منكم ... جواري الإله والخيانة والغدر
فأقواموا على الحرب والنزول على حكمهم. وغاظتهم بنو ذبيان ومحارب بن خصفة وكان رئيس محارب حميضة بن حرملة ونكصث عن حصين قبيلتان من بني سهم وخانتاه وهما عدوان وعبد عمرو ابنا سهم. فسار حصين وليس معه من بني سهم إلا بنو واثلة بن سهم وحلفاؤهم وهم الحرقة وكان فيهم العدد فالتقوا بدارة موضوع فظفر بهم الحصين وهزمهم وقتل منهم فأكثر وقال الحصين بن الحمام في ذلك (من الطويل) :(5/735)
جزى الله أفناء العشيرة كلها ... بدارة موضوع عقوقاً ومأثما
بني عمنا الأدنين منهم ورهطنا ... فزارة إن دارت بنا الحرب معظما
مواليكم مولى الولادة منهم ... ومولى اليمين حابساً قد تقسما
ولما رأينا الصبر قد حيل دونه ... وإن كان يوماً ذا كواكب مظلما
صبرنا وكان الصبر منا سجية ... بأسيافنا يقطعن كفاً ومعصما(5/736)
يقلن هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وجوه عدو والصدور حديثة ... بود فأدوى كل ود فأنعما
قليت أبا شبل رأى كر خلينا ... وخيلهم بين الستار وأظلما
تطاردهم نستنفذ الجرد بالقنا ... ويستنفذون السمهري المقوما
عشية لا تغي الرماح مكانها ... ولا النبل إلا المشرقي الصمما
من الصبح حتى تغرب الشمس لا ترى ... من الخيل إلا خارجياً مسوما
وأجرد كالسرحان يضربه الندى ... ومحبوكة كالسيد نيقاء صلدما(5/737)
يطأن من القتلى ومن قصد القنا ... جياداً فما يجزين إلا تقحما
عليهن فتيان كساهم محرق ... وكان إذا يكسو أجاد وأكرما
صفائح بصرى أخصلتها قيونها ... ومطرداً من نسج داوود مبهما
يهزون سمراً من رماح ردينة ... إذا حركت بضت عواملها دما
ولولا رجال من رزام بن مالك ... وآل سبيع أو أسوءك علقما
لأقسمت لا تنفك مني محاب ... على آلة حدباء حتى تندما
وحتى يروا قوماً تضب لثاتهم ... يهزون أرماحاً وجيشاً عرمرما
ولا غرو إلا الخضر خضر محارب يمشون حولي حاسراً وملأما
وجاءت حجاس قضها بقضيضها وجمع عوال ما أدق وألاما
وهاربة البقعاء أصبح جمعها ... أما جموع الناس جمعاً مقدما(5/738)
موالي موالينا ليسبوا نساءنا ... لعمري لقد جئتم بسنة أشاما
أثعلب لو كنتم موالي مثلها ... إذاً لمنعنا حوضكم أن يهدما
فقلت لهم يا آل ذبيان مالكم ... تفاقدتم لا تقدمون مقدما
أما تعلمون الحلف حلف عرينة ... وحلفاً بصحراء الشطون ومقسما
وأبلغ أنيساً سيد الحي أنه ... يسوس أموراً غيرها كان أحزما
فإنك لو فارقتنا قبل هذه ... إذاً لبعثنا فوق قبرك مأتما
وابلغ تليداً إن عرضت ابن مالك ... وهل ينفعن العلم إلا المعلما
فإن كنت عن أخلاق قومك راغباً ... فعذ بضبيع أو بعوف بن أصرما
أقيمي إليك عبد عمرو وشائعي ... على كل ماء وسط ذبيان خيما
وعوذي بأفناء العشيرة إنما ... يعوذ الذليل بالعزيز ليعصما
جزى الله فيها عبد عمرو ملامة ... وعدوان سهم ما أذل وألاما
وقالوا تبين هل ترى بين ضارج ... ونهي الأكف صاخراً غير أعجما(5/739)
وحي مناف قد رأينا مكانهم ... وقران إذ أجرى إلينا وألجما
وآل لقيظ إنني لن أسؤهم ... إذاً لكسوت العم برداً مسهما
ومعترك ضنك به قصد القنا ... صبرنا له قد بل أفراسنا دما
فألحقن أقواماً لئاماً بأصلهم ... وشيدن أحساباً وفاجأن مغنما
وأنجين من أبقين منا بخطة ... من العذر لم يدنس وإن كان مؤلما
أبي لابن سلمى إنه غير خالد ... ملاقي المنايا أي صرف تيمما
فلست بمبتاع الحياة بذلة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما
ولكن خذوني أي يوم قدرتم ... علي فخروا الرأس إن أتكلما
بآية إني قد فجعت بفارس ... إذا عرد الأقوام أقدم معلما
ولما رأيت الود ليس بنافعي ... عمدت إلى الأمر الذي كان أحزما(5/740)
تأخرت استبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
(قال أبو عبيدة) : وقتل في تلك الحرب نعيم بن الحارث بن عباد بن حبيب بن واتلة بن سهل قتلته بنو صرمة يوم دارة موضوع. وكان واداً للحصين فقال يرثيه (من الوافر) :
قتلنا خمسة ورموا نعيماً ... وكان القتل للفتيان زينا
لعمر الباكيات على نعيم ... لقد جلت رزيته علينا
فلا تبعد نعيم فكل حي ... سيلقى من صروف الدهر حينا
(قال أبو عبيدة) : ثم أن بني حمس كرهوا مجاورة بني سهم ففارقوهم ومضوا فلحق بهم الحصين بن الحمام فردهم ولامهم على كفرهم نعمته وقتاله عشيرته عنهم. وقال في ذلك (من الطويل) :(5/741)
إن امرءاً بعدي تبدل نصركم ... بنصر بني ذبيان حقاً لخاسر
أولئك قوم لا يهان ثويهم ... إذا صرحت كحل وهب الصنابر
وقال لهم أيضاً (من الوافر) :
ألا أبلغ لديك أبا حميس ... وعاقبة الملامة للمليم
فهل لكم إلى مولى نصور ... وخطبكم من الله العظيم
فإن دياركم بجنوب لبس ... إلى ثقف إلى ذات العظوم
غدتكم في غداة الناس حجنا ... غداء الجائع الجدع اللئيم
فسيروا في البلاد وودعونا ... بقحط الغيث والكلأ الوخيم
ومن أخبار الحصين ما ذكره أبو عبيدة قال: وزعموا أن المثلم بن رياح قتل رجلاً يقال له حباشة في جوار الحارث ابن ظالم المري فلحق المثلم بالحصين بن الحمام فأجراه. فبلغ ذلك الحراث بن ظالم فطلب الحصين بدم حباشة. فسأل في قومه وسأل في بني حمس جيرانه فقالوا: إنا لا نعقل بالإبل ولكن إن شئت أعطيناك الغنم فقال في ذلك وفي كفرهم نعمته (من الطويل) :
خليلي لا تستعجلا أن تزودا ... وإن تجمعا شملي وتنتظرا غداً
فما لبث يوماً بساق مغنم ... ولا سرعة يوماً بسابقة غدا
وإن تنظراني اليوم اقض لبانة ... وتستوجبا منا علي وتحمدا
لعمرك إني يوم أغدو بصرمتي ... تناهى حميس باديين وعودا
وقد ظهرت منهم بوائق جمة ... وأفرع مولاهم بنا ثم اصعدا
وما كان ذنبي فيهم غير أنني ... بسطت يداً فيهم واتبعتها يدا(5/742)
وإني أحامي من وراء حريمهم ... إذا ما المنادي بالمغيرة نددا
إذا الفوج لا يحميه إلاى محافظ ... كريم المحيا ماجد غير أجردا
فإن صرحت كحل وهبت عرية ... من الريح لم تترك لذي العرض مرفدا
صبرت على وطء الموالي وخطبهم ... إذا ضن ذو القربى عليهم واجمدا
وكانت وفاة الحصين قبل الهجرة بقليل. قال أبو عبيدة: مات في بعض أسفارهم فسمع صائح في الليل يصيح لا يعرف في بلاد بني مرة:
ألا هلك الحلو الحلال الحلاحل ... ومن عقده حزم وعزم ونائل
ومن خطبه فصل إذا القوم أفحموا ... يصيب مرادي قوله من يحاول
فلما سمع أخوه معية بن الحمام ذلك قال: هلك والله الحصين ثم قال يرثيه:
إذا لاقيت جمعاً أو فئاماً ... فإني لا أري كأبي يزيدا
أشد مهابة وأعز ركناً ... وأصلب ساعة الضراء عودا
صفتي وابن أمي والمؤاسي ... إذا ما النفس شارفت الوريدا
كان مصدراً يحبو ورائي ... إلى أشباله يبغي الأسودا
والحصين شاعر مقدم يعد من المقلين المحكمين من طبقة سلامة بن جندل والمتلمس والمسيب بن علس. فمن شعره قوله يرد على البرج بن الحلاس الطائي وكان أغار على جيرانه من الحرقة فأخذ أموالهم وأتى الصريخ الحصين بن الحمام فتبع القوم وأدركهم وقال للبرج: ما صبك على جيراني يا برج. فقال له: وما أنت وهم هؤلاء من أهل اليمن وهم منا وأنشأ يقول:
أنى لك الحرقات فيما بيننا ... عنن بعيد منك يا ابن حمام
أقبلت تزجي ناقة متباطئاً ... علطاً تزجيها بغير خطام(5/743)
فأجابه الحصين بن الحمام (من الكامل) :
برج يؤثمني ويكفر نعمتي ... صمي لما قال الكفيل صمام
مهلاً أبا زيد فإنك إن تشا ... أوردك عرض مناهل أسدام
أوردرك أقلبة إذا حافلتها ... خوض القعود خبيئة الأخصام
أقبلت من أرض الحجاز بذمة ... عطل أسوقها بغير خطام
في إثر إخوان لنا من طيىء ... ليسوا بأكفاء ولا بكرام
لا تحسبن أخا حلاس أنني ... رجل بخبرك لست كالعلام
ثم ناصب الحصين ابن الحمام البرج الحرب فقتل من أصحاب البرج عدة وهزم سائرهم وساتنقذ ما في أيديهم واسر البرج. ثم عرف له حق ندامته وعشرته إياه فمن عليه وجز ناصيته وخلى سبيله. فلما عاد البرج إلى قومه وقد هجاه الحصين ركب رأسه وخرج من بين أظهرهم فلحق ببلاد الروم فلم يعرف له خبر وقال ابن الكلبي: بل شرب الخمر صرفاً حتى قتله.
ولابن حمام أيضاً قوله في الفخر وكان أغار على بني عقيل وبني كعب فأثخن فيهم واستاق نعماً كثيراً وأصاب أسماء بنت عمرو سيد بني كعب ومن عليها. وقال في ذلك (من الوافر) :
فدى لبني عدي ركض ساقي ... وما جمعت من نعم مراح
تركنا من نساء بني عقيل ... أيامي تبتغي عقد النكاح
أرعيان الشوي وجدتمونا ... أم أصحاب الكريهة والنطاح
لقد علمت هوازن أن خيلي ... غداة النعف صادقة الصباح
عليها كل أروع هبرزي ... شديد حده شاكي السلاح(5/744)
فكر عليهم حتى التقينا ... بمصقول عوارضها صباح
فابنا بالنهاب وبالسبايا ... وبالبيض الخرائد واللقاح
واعتقنا ابنة العمري عمرو ... وقد خضنا عليها بالقداح
وروى له ابن اسحاق قوله يرد على الحارث بن ظالم وينتمي إلى غطفان (من الطويل) :
ألا لستم منا ولسنا إليكم ... برئنا إليكم من لؤي بن غالب
أقمنا على عز الحجاز وأنتم بمعتلج البطحاء بين الأخاشب
يعني قريشاً ثم ندم الحصين على ما قال وعرف ما قال الحارث فانتمى إلى قريش وأكذب نفسه فقال (من الطويل) :
ندمت على قول مضى كنت قلته ... تبينت فيه أنه قول كاذب
فليت لساني كان نصفين منهما ... بكيم ونصف عند مجرى الكواكب
أبونا كناني بمكة قبره ... بمعتلج البطحاء بين الأخاشب
لنا الربع من بيت الحرام وراثة ... وربع البطاح عند دار ابن حاطب
أي أن بني لوي كانوا أربعة كعب وعامر وسامة وعوف.(5/745)
شعراء نجد والحجاز والعراق (غني)
كعب بن سعد الغنوي (617م)
هو كعب بن سعد بن تيم بن مرة بمن بني غني بن أعصر وهو منبه بن سعد بن قيس عيلان شاعر جاهلي مجيد له ديوان شعر ذكره الحاج خليفة في كتاب كشف الظنون وهو يعد من أهل الطبقة الثانية. وشعره من النقي الحر يستشهد به أهل اللغة. وكان له أخر يدعى أبا المغوار قتل في حرب ذي قار وكان أبلى فيها بلاء حسناً فقال يرثيه وهي مرثاة معدودة في مراثي العرب الطائرة الذكر (من الطويل) :
تقول ابنة العبسي قد شبت بعدنا ... وكل امرئ بعد الشباب يشيب
وما الشيب إلا غائب كان جائياً وما القول إلا مخطىء ومصيب
تقول سليمى ما لجسمك شاحباً ... كأنك يحميك الشراب طبيب
فقلت ولم أعي الجواب ولم أبح ... وللدهر في الصم الصلاب نصيب
تتابع أحداث يجرعن إخوتي ... فشيبن رأسي والخطوب تشيب
لعمري لئن كانت أصابت منية ... أخي والمنايا للرجال شعوب
لقد كان أما حلمه فمروح ... علي وأما جهله فعزيب
أخي ما أخي لا فاحش عند ريبة ... ولا ورع عند اللقاء هيوب
أخ كان يكفيني وكان يعينني ... على النائبات السود حين تنوب
حليم إذا ما سورة الجهل أطلقت ... حبي الشيب للنفس اللجوج غلوب
هو العسل الماذي حلماً وشيمة ... وليث إذا لاقى العداة قطوب
هوت أمه ما يبعث الصبح غادياً ... وماذا يود الليل حين يؤوب(5/746)
هوت أمه ماذا تضمن قبره ... من المجد والمعروف حين ينوب
فتى أريحي كان يهتز للندى ... كما اهتز من ماء الحديد قضيب
كعالية الرمح الرديي لم يكن ... إذا ابتدر القوم العلاء يخيب
أخو سنوات يعلم الضيف أنه ... سيكثر ماء في إناه يطيب
حبيب إلى الزوار غشيان بيته ... جميل المحيا شب وهو أديب
إذا قصرت أيدي الرجال عن العلا ... تناول أقصى المكرمات كسوب
جموع خلال الخير من كل جانب ... إذا حل مكروه بهن ذهوب
مفيد لملقى الفائدات معاود ... لفعل الندى والمكرمات ندوب
وداع دعاهل من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت جهرة ... لعل أبا المغوار منك قريب
يجبك كما قد كان يفعل إنه ... بأمثالها رحب الذراع أريب
أتاك سريعً واستجاب إلى الندى ... كذلك قبل اليوم كان يجيب
كأنه لم يدع السوابح مرة ... إذا ابتدر الخيل الرجال شحوب
إذا ما تراءى للرجالل رأيته ... فلم ينطقوا اللغواء وهو قريب
على خير ما كان الرجال رأيته ... وما الخير إلا طعمة ونصيب
حليف الندى يدعو الندى فيجيبه ... سريعاً ويدعوه الندى فيجيب
غياث لعان لم يجد من يغيثه ... ومختبط يغشى الدخان غريب(5/747)
عظيم رماد النار رحب فناؤه ... إلى سند لم تحتجبه عيوب
يبيت الندى يا أم عمر ضجيعه ... إذا لم يكن في المنقيات حلوب
حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب
معنى إذا عادى الرجال عداوة ... بعيداً إذا عادى الرجال رهيب
غنينا بخير حقبة ثم جلحت علينا التي كل الأنام تصيب
فأبقت قليلاً ذاهباً وتجهزت ... لآخر والراجي الحياة كذوب
واعلم أن الباقي الحي منهم ... إلى أجل أقصى مداه قريب
لقد أفسد الموت الحياة وقد أتى ... على يومه علق علي جنيب
أتى دون حلو العيش حتى أمره ... نكوب على آثارهن نكوب
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلي فقد عادت لهن ذنوب
كان أبا المغوار لم يوف مرقباً ... إذا ما ربا القوم الغزاة رقيب
ولم يدع فتياناً كراماً لميسر ... إذا اشتد من ريح الشتاء هبوب
فإن غاب عنا غائب أو تخاذلوا ... كفى ذاك منهم والجناب خصيب
كان أبا المغوار ذا المجد لم تجب به البيد عيس بالفلاة جيوب
علاة ترى فيها إذا حط رحلها ... ندوباً على آثارهن ندوب
وإني لباكيه وإني لصادق ... عليه وبعض القائلين كذوب
فتى الحرب إن جارت كأن سماءها ... وفي السفر مفضال اليدين وهوب
وحدثتماني إنما الموت في القرى ... فكيف وهذي هضبة وكثيب(5/748)
وماء سماء كان غير مجمة ... ببادية تجري عليه جنوب
ومنزله في دار صدق وغبطة ... وما قال من حكم عليه طبيب
فلو كانت الدنيا تباع اشتريته ... بها إذ به كان الفوس تطيب
بعيني أو يمنى يدي وقيل لي ... هو الغانم الجذلان يوم يؤوب
لعمري كما أن البعيد لما مضى ... فإن الذي يأتي غداً لقريب
وإني وتأميلي لقاء مؤمل ... وقد شعبته عن لقاي شعوب
كداعي هذيل لا يزال مكلفاً ... وليس له حتى الممات مجيب
فوالله لا أنساه ماذر شارق ... وما اهتز من فرع الأراك قضيب
وفي أخيه أيضاً يقول (من الطويل) :
يمين امرئ آلى وليس بكاذب ... وما في يمين بثها صادق وزر
لئن كان أمسى ابن المغور قد ثوى ... فريداً لنعم المرء غيبه القبر
هو المرء للمعروف والدين والندى ... ومسعر حرب لا كهام ولا غمر
أقام ونادى أهله فتحملوا ... وصرمت الأسباب واختلف البحر
فأي امرئ غادرتم في بيوتكم ... إذا هي أمست لون آفاقها حمر
إذا الشول أمست وهي حدب ظهورها ... عجافاً ولم يسمع لفحل لها هدر
كثير رماد القدر يغشى فناؤه ... إذا نودي الأيسار واختضر الجزر
فتى كان يغلو اللحم نيئاً ولحمه ... رخيص بكفيه إذا تنزل القدر
يقسمها حتى يسيغ ولم يكن ... كآخر يضحي من تحينه زجر(5/749)
فتى الحي والأضياف إن روحتهم ... بليل وزاد السفر إن أرمد السفر
وحفت بقايا زادهم وتواكلوا ... واكسب مال القوم مجهولة قفر
إذا القوم أسروا ليلهم ثم أضبحوا ... غدا وهو ما فيه سقاط ولا فتر
وإن خشعت أبصارهم وتضاءلت ... من الأين جلي مثل ما ينظر الصقر
وإن جارة حلت وباتت وفي بها ... فباتت ولم يهتك لجارته ستر
عفيف عن السوآت ما التبست به ... صليت فما يلفي بعود له كسر
سلكت سبيل العالمين فما لهم ... وراء الذي لا قيت معدى ولا قصر
وكل امرئ يوماً ملاق حمامه ... وإن باتت الدعوى وطال بها العمر
فأبليت خيراً في الحياة وإنما ... ثوابك عندي اليوم أن ينطق الشعر
ليفدك مولى أو أخ ذو دمامة ... قليل الغناء لا عطاء ولا قصر
وروى البكري لكعب قوله (من الكامل) :
عرج نحي بذي الكوير طلولا ... أمست مودعة العراص حلولا
بربي العثاعث حيث واجهت الربى ... سند العروس وقابلت مهزولا
وجرت بها الحجج الروامس فاكتست ... بعد النضارة وحشة وذبولا
وروى له أيضاً (من الوافر) :
بأبدت العجالز من رياح ... وأقفرت المدافع من خراق
وأقفر من بني كعب جباح ... فذو عثث إلى وادي العناق(5/750)
وكانوا يدفعون الخصم عني ... فيقصر وهو مشدود الخناق
ولكعب حكم كثيرة في شعره منها قوله (من الوافر) :
وإذا عتبت على أخ فاستبقه ... لغد ولا تهلك بلا إخوان
وقوله (من الطويل) :
إذا أنت جالست الرجال فلا يكن ... عليك لعورات الكلام دليل
وقال الحاتمي: أشهر بيت قيل في الحض على طلب الغنى قول كعب بن سعد الغنوي (من البسيط) :
اعص العواذل وارم الليل عن عرض ... بذي شبيب يقاسي ليله جببا
حتى تمول مالاً أو يقال فتى ... لاقى التي تشعب الفتيان فانشعبا
وله (من الطويل) :
وعوراء قد قليت فلم التفت لها ... ومنا الكلم العوران لي بقبيل
وأعرض عن مولاي لو شئت سبني ... وما كل حين حلمه بأصيل
وما أنا للشيء الذي ليس نافعي ... ويغضب منه صاحبي بقوول
ولست بلاقي المرء ازعم أنه ... خليل وما قلبي له بخليل
وروى له صاحب الأساس جملة أبيات متفرقة منها قوله (من الطويل) :
قريب ثراه لا ينال عدوه ... له نبطاً آبي الهوان قطوب
وقوله أيضاً (من الطويل) :
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا(5/751)
شعراء نجد والحجاز والعراق (هوازن)
دريد بن الصمة (603م)
هو دريد بن الصمة واسم الصمة فيما ذكر أبو عمرو معاوية الأصغر بن الحارث بن معاوية الأكبر بن بكر بن علقة. وقيل: علقمة بن خزاعة بن غزية بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن. وأما أبو عبيدة فقال: هو دريد بن الصمة واسمه معاوية بن الحارث بن بكر بن علقة ولم يذكر معاوية. وقال ابن سلام الحارث بن معاوية بن بكر بن علقة. ودريد بن الصمة فارس شجاع شاعر فحل وجعله محمد بن سلام أول شعراء الفرسان وقد كان أطول الفرسان الشعراء غزواً وأبعدهم أثراً وأكثرهم ظفراً وأيمنهم نقيبة عند العرب وأشعرهم دريد بن الصمة. وقال أبو عبيدة: كان دريد بن الصمة سيد بني جشم وفارسهم وقائدهم وكان مظفراً ميمون النقيبة. وغزا نحو مائة غزاة ما أخفق في واحدة منها. وأدرك الإسلام فلم يسلم وخرج مع قومه يوم حنين مظاهراً للمشركين ولا فضل فيه للحرب وإنما أخرجوه تيمناً به وليقتبسوا من رأيه. فمنعهم مالك بن عوف من قبول مشورته وخالفه لئلا يكون له ذكر. فقتل دري يومئذ. وخبره يأتي بعد هذا. وكان لدريد أخوة وهم عبد الله الذي قتلته غطفان. وعبد يغوث قتله بنو مرة. وقيس قتله بنو أبي بكر بن كلاب. وخالد قتله بنو الحرث بن كعب. أمهم جميعاً ريحانة بنت معدي كرب الزبيدي أخت عمرو بن معدي كرب كان الصمة سباها ثم تزوجها فأولدها بنيه وغياها يعني أخوها عمرو بقوله في شعره:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني واصحابي هجوع
إذا لم تستطع سيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
وكان لدريد ابن يقال له سلمة وكان شرعاً وهو الذي رمى أبا عامر الأشعري بسهم فأصاب ركبته فقتله وارتجز فقال:
إن تسألوا عني فإني سلمه ... ابن سمادير لمن توسمه
أضرب لاسيف رؤوس المسلمه(5/752)
وكانت لدريد أيضاً بنت يقال لها عمرة شاعرة ولها فيه مراث كثيرة. قال أبو عبيدة: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: أحسن شعر قيل في الصبر على النوائب قول دريد بن الصمة (من الطويل) :
تقول ألا تبكي أخاك وقد أرى ... مكان البكا لكن بنيت على الصبر
فقلت أعبد الله أبكي أم الذي ... لهد الجدث الأعلى قتيل أبي بكر
وعبد يغوث تحجل الطير حوله ... وعز المصاب حثو قبر على قبر
أبى القتل إلا آل صمة إنهم ... أبو أغيره والقدر يجري إلى القدر(5/753)
فأما ترينا لا تزال دماؤنا ... لدى واتر يسعى بها آخر الدهر
فإن للحم السيف غير نكيرة ... ونلحمه حيناً وليس بذي نكر
يغار علينا واترين فيشتفى ... بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا ... فما ينقضي إلا ونحن على شطر
قال أبو عبيدة: فأما عبد الله بن الصمة فإن السبب في مقتله أنه كان غزا غطفان(5/754)
ومعه بنو جشم وبنو نصر أبناء معاوية فظفر بهم وساق أموالهم في يوم يقال له يوم اللوى ومضى بها. ولما كان منهم غير بعيد قال: انزلوا بنا. فقال أخوه دريد: يا أبا فرعان (وكانت لعبد الله ثلاث كنى أبو فرعان وأبو ذفافة وأبو أوفى وكلهم قد ذكرها دريد في شعره) نشدتك الله أن لا تنزل فإن غطفان ليست بغافلة عن أموالها. فأقسم لا يريم حتى يأخذ مرباعه وينقع نقيعه فيأكل ويطعم ويقسم البقية بين أصحابه. فبينا هم في ذلك وقد سطعت الدواخن إذا بغبار قد ارتفع أشد من دخانهم وإذا عبس وفزارة وأشجع قد أقبلت. فقالوا: لربيئتهم انظر ماذا ترى. فقال: أرى قوماً جعادً كأن سرابيلهم قد غمست في الجادي. قال: تلك أشجع ليست بشيء. ثم نظر فقال: أرى قوماً كأنهم الصبيان أسنتهم عند آذان خيلهم. قال: تلك فزارة. ثم نظر فقال: أرى قوماً أدماناً كأنما يحملون الجبل بسوادهم يخدون الأرض بأقدامهم خداً ويجرون رماحهم جراً. قال: تلك عبس والموت معهم. فتلاحقوا بالمنعرج من رميلة اللوى فاقتتلوا فقتل رجل من بني قارب وهم من بني عبس عبد الله بن الصمة. فتنادوا: قتل أبو ذفافة. فعطف دريد فذب عنه فلم يغن شيئاً. وجرد دريد فسقط. فكفوا عنه وهم يرون أنه قتل. واستنقذوا المال ونجا من هرب. فمر الزهدمان وهما من بني عبس وهما زهدم وقيس ابنا حزن بن وهب بن رواحة وإنما قيل لهما الزهدمان تغليباً لأشهر الاسمين عليهما كما قيل العمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما والقمران للشمس والقمر.
قال دريد: فسمعت زهدماً العبسي يقول لكردم الفزاري: إني لأحسب دريداً حياً فانزل فأجهز عليه. قال: قد مات. قال: انزل فانظر إلى سبته هل ترمز. قال دريد: فسددت من حتارها (أي من شرجها) . (قال) فنظر فقال: هيهات أي قد مات فولى عني. (قال) ومال بالزج في شرج دريد فطعنه فيه فسال دم كان احتقن في جوفه. قال دريد: فعرفت الخفة حينئذ. فأمهلت حتى إذا كان الليل مشيت وأنا ضعيف قد تزفني الدم حتى ما أكاد أبصر. فجزت بجماعة تسير فدخلت فيهم فوقعت بين عرقوبي بعير ظعينة فنفر البعير فنادت نعوذ بالله منك. فانتسبت لها فأعلمت الحي بمكاني. فغسل عني الدم وزودت زاداً وسقاء فنجوت. وزعم بعض الغطفانيين أن المرأة كانت فزارية وأن الحي كانوا علموا بمكانه فتركوه فداوته المرأة حتى برىء ولحق بقومه.(5/755)
(قال) ثم حج كردم بعد ذلك في نفر من بني عبس. فلما قاربوا ديار دريد تنكروا خوفاً. ومر بهم دريد فأنكرهم فجعل يمشي فيهم ويسألهم من هم. فقال له كردم: عمن تسأل: فدفعه دريد وقال: أما عنك وعمن معك فلا أسأل أبداً. وعانقه وأهدى إليه فرساً وسلاحاً وقال له: هذا بما فعلت بي يوم اللوى. وكانت امرأته أم معبد قد رأته شديد الجزع على أخيه فعاتبته وصغرت شأن أخيه وسبته فطلقها وقال فيها (من الطويل) :
أرث جديد الحبل من أم معبد ... بعاقبة أم أخلفت كل موعد
وبانت ولم أحمد إليك جوارها ... ولم ترج منا ردة اليوم أو غد
أعاذلتي كل امرئ وابن أمه ... متاع كزاد الراكب المتزود
أعاذل إن الرزء أمثال خالد ... ولا رزء مما أهلك المرء عن يد
ومنها في رثاء أخيه:
نصحت لعارض وأصحاب عارض ... ورهط بني السوداء والقوم شهدي
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد
وقلت لهم إن الأحاليف أصبحت ... مطنبة بين الستار فثهمد
ولما رأيت الخيل قتلى كأنها ... جراد يباري وجهه الريح مغتد(5/756)
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وإنني غير مهتد
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
دعاني أخي والخيل بيني وبينه ... فلما دعاني لم يجدني بمقعد
أخي أرضعتني أمه بلبانها ... بثديي صفاء بيننا لم يجدد
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارساً ... فقلت أعبد الله ذلكم الردي
فجئت إليه والرماح تنوشه ... كوقع الصياصي في النسيج الممدد
وكنت كذات البو ريعت فأقبلت ... إلى جلد من مسك سقب مقدد
فما رحت حتى خرقتني رماحهم ... وغودرت أكبو في القنا المتقصد
فطاعنت عنه الخيل حتى تنفست ... وحتى علاني حالك اللون أسودي(5/757)
قتال امرئ آسى أخاه بنفسه ... ويعلم أن المرء غير مخلد
فإن تمكن الأيام والدهر تعلموا ... بني قارب أنا غضاب بمعبد
فإن يك عبد الله خلى مكانه ... فما كان وقافاً ولا طائش اليد
ولم تدر ما أدم الرياح تناوحت ... برطب الفضاء والضريع المعضد
وتخرج منه صرة القر جراة ... وطول السرى دري عضب مهند
كميش الإزار خارج نصف ساقه ... بعيد من الآفات طلاع أنجد
قليل التشكي للمصيبات حافظ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
إذا هبط الأرض الفضاء تزينت ... لرؤيته كالماء آن التبدد
وكم غارة بالليل واليوم قبله ... تداركتها مني ببيد عمرد
سليم الشظا عبل السوابح والشوى ... طويل القنا نهد نبيل المقلد(5/758)
يفوت طويل القوم عقد عذاره ... منيف كجزع النخلة المتجرد
وكنت كأني واثق بمصدر تمشى ... بأكناف الجبال فثهمد
له كل من يلقى من الناس واحداً ... وإن يلق مثنى القوم يفرح ويزدد
تراه خميس البطن والزاد حاضر ... عتيد ويغدو في القميص المقدد
وإن مسه الإقواء والجهد زاده سماحاً وإتلافاً لما كان في اليد
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل أبعد
طيب نفسي أنني لم أقل له ... كبت ولم أبخل بما ملكت يدي
وقال دريد (من البسيط) :
أبا دفافة من للخيل إذ طردت ... فاضطرها الطعن في وعث وإيجاف
يا فارس الخيل في الهيجاء إذ شغلت ... كلتا اليدين دروراً غير وقاف
قال أبو عبيدة في خبره بلغ دريد بن الصمة أن زوجته سبت أخاه فطلقها وألحقها بأهلها وقال في ذلك (من الوافر) :
أعبد الله إن سبتك عرسي ... تقدم بعض لحمي قبل بعض(5/759)
إذا عرس امرئ شتمت أخاه ... فليس فؤاد شانئه بحمص
معاذ الله أن يشتمن رهطي ... وإن يملكن إبرامي ونقضي
وقال أبو عبيدة: أغار دريد بن الصمة بعد مقتل أخيه عبد الله على غطفان يطالبهم بدمه. فاستقراهم حياً حياً وقتل من بني عبس ساعدة بن مر وأسر ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب أسره مرة بن عوف الجشمي. فقالت بنو جشم: لو فاديناه. فأبى ذلك دريد عليهم وقتله بأخيه عبد الله. وقتل من بني فزارة رجلاً يقال له جذام وأخوه له واصاب جماعة من بني مرة ومن بني ثعلبة بن سعد ومن أحياء غطفان وذلك في يوم الغدير وفي هذا اليوم ومن قتل فيه منهم يقول (من المتقارب) :
تأبد من أهله معشر ... فحرم سويقة فالأصفر
فجزع اللحيف إلى واسط ... فذلك مبدي وذا محضر
فابلغ سليمى وألفافها ... وقد يعطف النسب الأكبر
بأني ثارت بإخوانكم ... وكنت كأني بهم مخفر
صبحنا فزارة سمر القنا ... فمهلاً فزارة لا تضجروا
وأبلغ لديك بني مازن ... فكيف الوعيد ولم تقدروا
فإن تقتلوا فئة أفردوا أصابهم الحين أو تظفروا
فإن حراماً لدى معرك ... وإخوته حولهم أنسر
ويوم يزيد بني ناشب ... وقبل يزيدكم الأكبر
أثرنا صريخ بني ناشب ... ورهط لقيط فلا تفخروا
تجر الضباع بأوصالهم ... ويلقحن فيهم ولم يقبروا
ويقول في ذلك أيضاً دريد بن الصمة في قصيدة له أخرى (من الطويل) :
جزينا بني عبس جزاء موفراً ... بمقتل عبد الله يوم الذنائب
ولولا سواد الليل أدرك ركضنا ... بذي الرمث والأرطى عياض بن ناشب(5/760)
قتلنا بعبد الله خير لداته ... ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب
وقال دريد أيضاً في هذه الواقعة:
قتلنا بعبد الله خير لداته ... وخير شباب الناس لو صم أجمعا
ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب ... منيته أجرى إليها وأوضعا
فتى مثل نصل السيف يهتز للندى ... كعالية الرمح الرديني أروعا
وقال ابن الكلبي: قالت ريحانة بنت معدي كرب لدريد بن الصمة بعد حول من مقتل أخيه: يا بني إن كنت عجزت عن طلب الثأر بأخيك فاستعن بخالك وعشيرته من زبيد. فأنف من ذلك وحلف لا يكتحل ولا يدهن ولا يمس طيباً ولا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتى يدرك ثأره فغزا هذه الغزاة وجاءها بذؤاب بن أسماء فقتله بفنائها وقال: هل بلغت ما في نفسك. قالت: نعم متعت بك. وقال أبو عبيدة: إنه غز في قومه بني خزاعة من بني جشم. فأغاروا على إبل لبني كعب بن أبي بكر بن كلاب فانطلقوا بها. وخرج بنو أبي بكر بن كلاب في طلبها حتى إذا دنوا منها قال عمرو بن سفيان الكلابي وكان حازماً عاقلاً: امكثوا. ومضى هو متنكراً حتى أتى رجلاً من بني خزاعة فسلم عليه واستسقاه. فسقاه وانتسب له هلالياً. فسأله عن قومه وأين مرعى إبلهم وأعلمه أنه جاء زائر لقومه يريد مجاورتهم. فخبره الرجل بكل ما أراد. ورجع إلى قومه وقد عرف بغيته. فصبح القوم فظفرت بهم بنو كلاب وقتلوا قيس بن الصمة وذهبوا بإبل بني خزاعة وارتجعوا أموالهم. وكان يقال لعمرو بن سفيان ذو السيفين لأنه كان يقلى الحرب ومعه سيفان خوفاً من أن يخونه أحدهما. وإياه عنى دريد بن الصمة بقوله (من البسيط) :
إن امرءا بات عمرو بين صرمته ... عمرو بن سفيان ذو السيفين مغرور
يا آل سفيان ما بالي وبالكم ... هل تنتهون وباقي القول مأثور
يا آل سفيان ما بالي وبالكم ... أنتم كبير وفي الأحلام عصفور
هلا نهيتم أخاكم عن سفاهته ... إذ تشربون وغاوي الخمر مدحور
لا أعرفن لمة سوداء داجية ... تدعو كلاباً وفيها الرمح مكسور(5/761)
لن تسبقوني ولو أمهلتكم شرفاً ... عقبى إذا أبطأ الفحج المخاصير
وأخبرنا بخبر ابتداء هذه الحروب محمد بن العباس اليزيدي قال: قرأت عن أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال: أغارت بنو عامر بن صعصعة وبنو جشم بن معاوية على أسد وغطفان. وكان دريد وعمرو بن الصمة وعمرو بن سفيان بن دي اللحية متساندين فدريد على بني جشم بن معاوية وعمرو بن معاوية على بني عامر. فقال عبد الله بن الصمة لأخيه: إني غير معطيك الرئاسة ولكن لي في هذا اليوم شأناً. ثم اشترك عبد الله وشراحيل بن سفيان. فلما أغار القوم أخذ عبد الله من نعم بني أسد ستين وأصاب القوم ما شاءوا وأدرك رجل من بني جذيمة عبد الله بن الصمة. فقال له عبد الله بن الصمة: ارجع فإني كنت شاركت شراحيل بن سفيان. فإن استطاع دريد فليأته وليأخذ مالي منه. وأقام دريد في أواخر الحي. فقال له عمرو: ارتحل بالناس قبل أن يأتيك الصرخاء. فقال: إني انتظر أخي عبد الله. حتى إذا طال عليه قال له: إن أخاك قد أدرك فوارس من الحليفيين يسوقون بظعنهم فقتلوه. فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيث يفترقون قال دريد لشراحيل: إن عبد الله أنبأني ولم يكذبني قط إن له شراكة مع شراحيل فأدوا إلينا شراكته. فقالوا له: ما شاركناه قط. فقال دريد ما أنا بتارككم حتى أستحلفكم عند ذي الخلصة (وثن من أوثانهم) . فأجابوه إلى ذلك وحلفوا له. ثم جاء عبد الله قد قتل. فقالوا: ما حلفنا. وجعلوا يناشدون عبد الله أن يعطيهم. فقالك لا حتى يرضى دريد. فأبى أن يرضى. فتوعدوه أن يسرقوا إبله. فقال دريد في ذلك (من البسيط) :
هل مثل قلبك في الأهواء معذور ... والشيب بعد شباب المرء مقدور
قد خف صحبي وولوني وأرقني ... خود ترببها الأبواب والدور
لما رأيت بان جدوا وشيعني ... يوم الصبابة والمنصور منصور
واكبتهم بأمون جسرة أجد ... كأنها فدن بالطين ممدور
وجناء لا يسأم الإيضاع راكبها ... إذا السراب اكتساه الحزن والقور(5/762)
كأنها بين جنبي واسط شبب ... وبين ليان طاوي الكشح مذعور
وذكر الأبيات التي تقدمت في الخبر قبل هذا وزاد فيها:
إلى الصراخ وسبربالي مضاعفة ... كأنها مفرط بالسي ممطور
بيضاء لا ترتدي إلا على فزع ... من نسج داوود فيها المسك مقتور
إذا غلبتم صديقاً تبطشون به ... كما تهدم في الماء الجماهير
وأنتم معشر في عرقتكم شنج ... بذخ الظهور وفي الأستاه تأخير
وقد أروع سوام القوم ضاحية ... بالجرد يركضها الشعث المغاوير
قوم إذا اختلف الهيجاء واختلفت ... صبر إذا عرد العزل العواوير
يحملن كل هجان صارم ذكر ... وتحتهم شزب قب مضامير
أوعدتم إبلي كلا سيمنعها ... بنو غزية لا ميل ولا صور
كأن ولدانهم لما اختلطن بهم ... تحت العجاجة بالأيدي عصافير
وأما عبد يغوث بن الصمة فخبر مقتله أنه كان ينزل بين أظهر بني الصادر فقتلوه. قال أبو عبيدة في خبره: قتله مجمع بن مزاحم أخو شجنة بن مزاحم وهو من بني يربوع بن غبط بن مرة. فقال دريد بن الصمة (من البسيط) :
أبلغ نعيماً وأوفى إن لقيتهما ... إن يكن كان في سمعيهما صمم
فما أخي بأخي سوء فينقصه ... إذا تقارب بابن الصادر القسم
ولن يزال شهاباً يستضاء به ... يهدي المقائب ما لم يهلك الصمم
عاري الأشاجع معصوب بلمته ... أمر الزعامة في عرنينه شمم
قال أبو عبيدة: ثم إن بني الحرث بن كعب غرت بني جشم بن معاوية فخرجوا إليهم فقاتلوهم فقتلت بنو الحرث خالد بن الصمة وإياه عني. وقال غير أبي عبيدة:(5/763)
خالد بن الحرث الذي عناه دريد وعمه خالد بن الحرث أخو الصمة ابن الحرث قتلته أحمس بطن من شنوأة وكان دريد بن الصمة أغار عليهم في قومه فظفر بهم واستاق إبلهم وأموالهم وسبى نساءهم وملأ يديه وأيدي أصحابه ولم يصب أحد ممن كان معه إلا خالد بن الحارث عمه رماه رجل منهم بسهم فقتله. فقال دريد بن الصمة يرثيه (من البسيط) :
يا خالداً خالد الأيسار والنادي ... وخالد الريح إذ هبت بصراد
وخالد القول والفعل المعيش به ... وخالد الحرب إذ غصت بأوراد
وخالد القول والفعل المعيش به ... وخالد الحرب إذ غصت بأوراد
وخالد الركب إذ جد السفار بهم ... وخالد الحي لما ضن بالزاد
وقال أبو عبيدة: قال دريد يرثي أخاه خالداً (من الطويل) :
أميم أجدي عافي الرزء واجشمي ... وشدي على رزء ضلوعك وابؤسي
حرام عليها أن ترى في حياتها ... كمثل أبي جعد فعودي أو اجلسي
أعف وأجدى نائلاً لعشيرة ... وأكرم مخلود لدى كل مجلس
وألين منه صفحة لعشيرة ... وخيراً أبا ضيف وخيراً لمجلس
تقول هلال خارج من غمامة ... إذا جاء يجري في شليل وقونس
يشد متون الأقربين بهاؤه ... وتخبت نفس الشانىء المتعبس
وليس بمكباب إذا الليل جنه ... نؤوم إذا ما ادلجوا في المعرس
ولكنه مدلاج ليل إذا سرى ... يند سراه كل هاد مملس
هذه رواية أبي عبيدة. وأخبر محمد بن الحسن بن دريد أن خالد بن الصمة قتل في غارة أغارتها بنو الحرث بن كعب على بني نصر بن معاوية في يوم يقال له يوم ثيل فأصابوا أناساً من بنو نصر وبلغ الخبر بني جشم فلحقوهم ورئيس بني جشم يومئذ مالك بن حزن فاستنقذوا ما كان في أيديهم من غنائم بني نصر فأصابوا ذا القرن الحارثي أسيراً وفقأوا عين شهاب بن أبان الحارثي بسهم. وقتل يومئذ خالد بن الصمة وكان مع مالك بن حزن. وأصابت بنو جشم منهم ناساً وكان رئيس بني الحرث بن كعب يومئذ شهاب بن أبان ولم(5/764)
يشهد دريد بن الصمة ذلك اليوم. فلما رجعوا قتلوا ذا القرن بخالد بن الصمة. ولما قدم لتضرب عنقه صاح بأوس بن الصمة وكان له صديقاً ولم يكن أوس حاضراً. فلم ينفعه ذلك وقتل. فلما قدم أوس غضب وقال: أقتلتم رجلاً استجار باسمي. فقال عوف بن معاوية في ذلك:
نبئت أوساً بكى ذا القرن إذ شربا ... على عكاظ بكاء غال مجهودي
إني حلفت بما جمعت من نشب ... وما ذبحت على أنصابك السود
لتبكين قتيلاً منك مقترباً ... إني رأيتك تبكي للأباعيد
قال أبو عبيدة وابن الأعرابي جميعاً في هذه الرواية: أسرد دريد بن الصمة عياضاً الثعلبي أحد بني ثعلبة بن سعد بن ذبيا فأنعم عليه ثم أن دريداً أتاه بعد ذلك يستثيبه فقال له: أئت رحلك حتى أبعث إليك بثوابك فانصرف دريد فبعث إليه بوطب نصفه لبن ونصفه بول فغضب دريد ولم يلبث إلا قليلاً حتى أغار على بني ثعلبة واستاق إبل عياض وأفلت عياض منه جريحاً فقال دريد في ذلك من قصيدته (من الطويل) :
فإن تنج تدمى عارضاك فإننا ... تركنا بنيك للضباع وللرخم
جزيت عياضاً كفره وعقوقه ... وأخرجته من المدفأة الدهم
ألا هل أتاه ما ركبنا سراتهم ... وما قد عقرنا من صفي ومن قرم
وهجا دريد بن الصمة عبد الله بن جدعان التيمي تيم قريش فقال (من البسيط) :
هل بالحوادث والأيام من عجب ... أم بابن جدعان عبد الله من كلب
إذا لقيت بني حرب وإخوتهم ... لا يأكلون عطين الجلد والأهب
فاقعد بطيناً مع الأقوام ما قعدوا ... وإن غزوت فلا تبعد من النصب
فلو ثقفتك وسط القوم ترصدني ... إذاً تلبس منك العرض بالحقب
وما سمعت بصقر ظل يرصده ... من قبل هذا بجنب المرج من خرب
(قال) فلقيه عبد الله بن جدعان بعكاظ فحياه وقال له: هل تعرفني يا دريد؟ قال: لاه. قال: فلم هجوتني. قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن جدعان. قال: هجوتك لأنك كنت امرءاً كريماً فأحببت أن أضع شعري موضعه. فقال له عبد الله: لئن كنت هجوت(5/765)
لقد مدحت وكساه وكساه وحمله على ناقة برحلها. فقال دريد يمدحه (من المتقارب:
إليك ابن جدعان أعملتها ... مخففة للسرى والنصب
فلا خفض حتى تلاقي امرءاً ... جواد الرضا وحليم الغضب
وجلداً إذا الحرب مرت به ... يعين عليها بجزل الحطب
رحلت البلاد فما إن أرى شبيه ابن جدعان وسط العرب
سوى ملك شامخ ملكه ... له البحر يجري وعين الذهب
ثم أن دريد بن الصمة مر بالخنساء بنت عمرو بن الشريد وهي تهنأ بعيراً لها ودريد بن الصمة يراها وهي لا تشعر به فأعجبته فانصرف إلى رحله وأنشأ يقول (من الكامل) :
حيوا تماضر واربعوا صحبي ... وقفوا فإن وقوفكم حسبي
أخناس قد هام الفؤاد بكم ... وأصابه تبل من الحب
ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم طالي أنيق جرب
متبذلاً تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب
متبدلاً تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب
متحسراً نضح الهناء به ... نضح العبير بريطة العطب
فسليهم عني خناس إذا ... عض الجميع الخطب ما خطبي
قالوا وتماضر اسمها والخنساء لقب غلب عليها. فلما أصبح غدا على أبيها فخطبها إليه. فقال له أبوها: مرحباً بك أبا قرة إنك للكريم لا يطعن في حسبه. والسيد لا يرد عن حاجته. والفحل لا يقرع أنفه. ولكن لهذه المرأة في نفسها ما ليس لغيرها وأنا أذكرك لها وهي فاعلة. ثم دخل إليها وقال لها: يا خنساء أتاك فارس هوازن وسيد بني جشم دريد بن الصمة يخطبك وهو ممن تعلمين ودريد يسمع قولهما. فقالت: يا أبت أتراني تاركة بني عمي مثل عوالي الرماح وناكحة شيخ بني جشم هامة اليوم أو غد. فخرج إليه أبوها فقال: يا أبا قرة قد امتنعت ولعلها إن تجيب فيما بعد. فقال: قد سمعت قولكما وانصرف ثم أنشأت تقول:
تخطبني هبلت على دريد ... وقد طردت سيد آل بدر(5/766)
معاذ الله ينكحني حبركي ... يقال أبوه من جشم بن بكر
ولو أمسيت في جشم هدياً ... لدق أمسيت في دنس وفقر
فغضب دريد من قولها فقال يهجوها (من الوافر) :
لمن طلل بذات الخمس أمس ... عفا بين العقيق فبطن ضرس
شبهها غمامة يوم دجن ... تلألأ برقها أو ضوء شمس
فأقسم ما سمعت كوجد عمرو ... بذات الخال من جن وإنس
وقاك الله يا ابنة آل عمرو ... من الفتيان أمثالي ونفس
فلا تلدي ولا ينكحك مثلي ... إذا ما ليلة طرقت بنحس
وتزعم أنني شيخ كبير ... وهل خبرتها أني ابن خمس
تريد شر نبث القدمين شثناً ... يقلع بالجديرة كل كرس
وما قصرت يدي عن عظم أمر ... أهم به ولا سهمي بنكس
وما أنا بالمزجي حين يسمو ... عظيم في الأمور ولا بوهس
وقد اجتاز عرض الحزن ليلاً ... باعبس من جمال الغيد حلس
كأن على تنائفه إذا ما ... أضاءت شمسه أثواب ورس
إذا عقب الدقور عددن مالاً ... تحب حلائل الأبرام عرسي(5/767)
وقد علم المراضع في جمادى ... إذا استعجلن عن خز بنهس
بأني لا أبيت بغير لحم ... وأبدأ بالأرامل حين أمسي
وإني لا يهر الضيف كلبي ... ولا جاري يبيت خبيث نفس
فإن أكدى فتامكة تؤدى ... وإن أربى فإني غير نكس
وأصغر من قداح النبع فرع ... به علمان من حز وضرس
دفعت إلى المفيض إذا استقلوا ... على الركبان مطلع كل شمس
(قال) فقيل للخنساء. ألا تجبينه. فقالت: لا أجمع عليه أن أرده وأن أهجوه.
وحدث دماذ عن أبي عبيدة قال: لما أسن دريد جعل له قومه بيتاً منفرداً عن البيوت ووكلوا به أمه تخدمه فكانت إذا أرادت أن تبعد في حاجة قيدته بقيد الفرس فدخل إليه رجل من قومه فقال له: كيف أنت يا دريد؟ فأنشأ يقول (من البسيط) :
أصبحت أقذف أهداف المنون كما ... يرمي الدرية أدنى فوقة الوتر
في منزل نازح الحي منتبذ ... كمربط العز لا أدعى إلى خبر
كأنني خرب قصت قوادمه ... أو جثة من بغاث في يدي خصر
يمضون أمرهم دوني وما فقدوا ... مني عزيمة أمر ما خلا كبري
ونومة ليست أقضيها وإن منعت ... وما مضى قبل من شأوي ومن عمري
وإنني رابني قيد حبست به ... وقد أكون وما يمشى على أثري
إن السنين إذا قربن من مائة ... لوين مرة أحوال على مرر(5/768)
أخبر هاشم بن محمد قال: حدثنوا دماذ عن أبي عبيدة قال: قالت امرأة دريد له: أسننت وضعف جسمك وقتل أهلك وفني شبابك ولا مال لك ولا عدة فعلى أي شيء تعول إن طال بك العمر أو على أي شيء يحلف أهلك إن قتلت فقال دريد (من الوافر) :
أعاذل إنما أفنى شبابي ... ركوبي في الصريخ إلى المنادي
مع الفتيان حتى كل جسمي ... واقرح عاتقي حمل النجاد
أعاذل إنه مال طريف ... أحب إلي من مال تلاد
أعاذل عدتي بدني ورمحي ... وكل مقلص شكس القياد
ويبقى بعد حلم القوم حلمي ... ويفنى قبل زاد القوم زادي
وقال أبو عبيدة فيما رويناه عن دماذ عنه: قتلت بنو يربوع الصمة أبا دريد غدراً وأسروا ابن عم له فغزاهم دريد ببني نصر فأوقع ببني يربوع وبني سعد جميعاً فقتل فيهم وكان في من قتل عمار بن كعب وقال في ذلك (من الوافر) :
دعوت الحي نصراً فاستهلوا ... بشبان ذوي كرم وشيب
على جرد كأمثال السعالي ... ورجل مثل أهمية الكثيب
فما جبنوا ولكنا نصبنا ... صدور الشرعبية للقلوب
فكم غادرن من كاب صريع ... يمج نجيع جائفة ذنوب
وتلكم عادة لبني رباب ... إذا ما كان موت من قريب
فاجلوا والسوام لنا مباح ... وكل كريمة خود عروب
وقد ترك ابن كعب في مكر ... حبيساً بين ضبعان وذيب
وقال أبو عبيدة: وكان الصمة أبو دريد شاعراً وهو الذي يقول في حرب الفجار التي كانت بينهم وبين قريش:
لاقت قريش غداة العقيق ... أمراً لها وجدته وبيلا(5/769)
وجئنا إلينهم كموج الآتي ... يعلو النجاد ويملأ المسيلا
وأعددت للحرب خيفانة ... ورمحاً طويلاً وسيفاً صقيلا
ومحكمة من دروع القيون ... تسمع للسيف فيها صليلا
(قال) وكان أخوه مالك بن الصمة شاعراً وهو القائل يرثي أخاه خالداً:
ابني غزية إن شلواً ما جداً ... وسط البيوت السود مدفع كركر
لا تسقيني بيديك إن لم ألتمس ... بالخيل بين هيولة فالقرقر
وحدث أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال: تحالف دريد بن الصمة ومعاوية بن عمرو بن الشريد وتواثقا إن هلك أحدهما أن يرثيه الباقي بعده وإن قتل أن يطلب بثأره. فقتل معاوية بن عمرو بن الشريد قتله هاشم بن حرملة بن الأشعر المري فرثاه دريد بقصيدته التي أولها (من الوافر) :
ألا بكرت تلوم بغير قدر ... فقد أخفيتني ودخلت ستري
فإن لم تتركي عذلي سفاهاً ... تلمك علي نفسك أي عصر
أسرك أن يكون الدهر بيداً ... علي بشره يغدو ويسري
وألا ترزئي نفساً ومالاً ... يضرك هلكه في طول عمري
فإن الرزء يوم وقفت أدعو ... فلم أسمع معاوية بن عمرو
رأيت مكانه فعرضت بداً ... وأي مقيل رزء يا ابن بكر
إلى ارم وأحجار وصير ... وأغصان من السلمات سمر
وبنيان القبور أتى عليها ... طوال الدهر من سنة وشهر(5/770)
ولو أسمعته لسرى حثيثاً ... سريع السعي أو لأتاك يجري
بشكة حازم لا عيب فيه ... إذا لبس الكماة جلود نمر
فإما يمس في جدث مقيماً ... بمسهلة من الأرواح قفر
لعز علي هلكك يا ابن عمرو ... وما لي عنك من عزم وصبر
وقف عارض الجشمي على دريد وقد خرف وهو عريان وهو يكون كوم بطحاء بين رجليه يلعب بذلك. فجعل عارض يتعجب مما صار إليه دريد فرفع رأسه دريد إليه وقال (من مجزوء الكامل) :
كأنني رأس حضن ... في يوم غيم ودجن
يا ليتني عهد زمن ... انفض رأسي وذقن
كأنني فحل حصن ... أرسل في حبل عنن
أرسل كالظبي الأرن ... ألصق أذناً بأن
(قال) ثم سقط. فقال له عارض: انهض دريد فقال (من الرجز) :
لا نهض في مثل زماني الأول ... محنب الساق شديد الأعضل
ضخم الكراديس خميص الأشكل ... ذي حنجر رحب وصلب أعذل
وذكر محمد بن جرير الطبري قال: لما سمعت هوازن بفتح مكة جمعها مالك بن عمرو بن عوف النضري فاجتمعت إليه ثقيف مع هوازن ولم يجتمع إليه من قيس إلا هوازن وناس قليل من بني هلال وغابت عنها كعب وكلاب فجمعت نصر وجشم وسعد وبنو بكر وثقيف واحتشدت وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعاً مجرباً، وفي ثقيف في الأحلاف قارب بن الأسود بن مسعود وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف فلما أجمع مالك المسير حط مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم فلما نزلوا بأوطاس اجتمع إليه الناس(5/771)
وأنعم بمجال الخيل ليس بالحزن الضرس ولا السهل الدهس مالي أسمع رغاء الإبل ونهيق الحمير وبكاء الصغير وثغاء الشاء. قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم فقال: أين مالك فدعا له به فقال: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا اليوم كائن له ما بعده من الأيام مالي أسمع رغاء البعير ونهيق الحمير وبكاء الصبيان وثغاء الشاء. قال: سقت مع الناس نساءهم وأموالهم. قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل مع كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. قال: فانقض به ووبخه ولامه ثم قال: راعي ضأن والله أي أحمق وهل يرد المنهزم شيء إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت لهم عليك فضحت في أهلك ومالك ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب. قال: لم يشهدها أحد منهم. قال: غاب الحد والجد لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب. ولوددت أنكم فعلتم مثل ما فعلوا فمن شهدها منهم قالوا: بنو عمرو بن عامر وبنو عوف بن عامر. قال: ذإنك الجذعان من عامر لا يضران ولا ينفعان. ثم قال: يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً أرفعهم إلى أعلى بلادهم وعلياء قومهم ثم الق القوم بالرجال على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك ولم تفضح في حريمك قال: لا والله ما أفعل ذلك أبداً إنك قد خرفت وخرف رأيك وعلمك. والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لاتكئن على هذا السيف حتى يخرج من وراء ظهري. فنفس على دريد أن يكون له في ذلك اليوم ذكر ورأي. فقالوا له: أطعناك وخالفنا دريداً. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه ثم قال (من مجزوء الرجز) :
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع
قال فلما لقيهم رسول الله انهزم المشركون فأتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف وعسكر بعضهم بأوطاس وتوجه بعضهم نحو نخلة وشبعت خيل رسول الله من سلك نخلة. فأدرك ربيعة بن رفيع السلمي أحد بني يربوع بن سماك بن عوف دريد بن الصمة فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنها امرأة وذلك أنه كان في شجار له فأناخ به فإذا هو برجل شيخ كبير ولم يعرفه الغلام فقال له دريد: ماذا تريد؟ قال: أقتلك. قال: ومن أنت. قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمي. فأنشأ دريد يقول (من المتقارب) :(5/772)
ويح ابن أكمة ماذا يريد ... من المرعش الذاهب الأدرد
فأقسم لو أن بي قوة ... لولت فرائصه ترعد
ويا لهف نفسي أن لا تكون ... معي قوة الشامخ الأمرد
ثم ضربه السلمي بسيفه فلم يغن شيئاً. فقال له: بئس ما ولدتك أمك خذ سيفي هذا من مؤخر رحلي في القراب فاضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كذلك كنت أفعل بالرجال. ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة فرب يوم قد منعت فيه نساءك. فزعمت بنو سليم أن ربيعة قال: لما ضربته بالسيف سقط فانكشف فإذا عجانه وبطن فخذيه مثل القراطيس من ركوب الخيل عراء. فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه. فقالت له: لقد أعتق قتيلك ثلاثاً من أمهاتك وبعث رسول الله في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعري ابن عم أبي موسى الأشعري فهزمهم الله وفتح عليه. فيزعمون أن سلمة بن دريد بن الصمة رماه بسهم فأصاب ركبته فقتله يعني أبا عامر. فقال عمرة بنت دريد ترثيه:
لعمرك ما خشيت على دريد ... بطن سميرة جيش العناق
جزى عنا الإله بني سليم ... وعقتهم بما فعلوا عقاق
واسقانا إذا عدنا إليهم ... دماء خيارهم يوم التلاق
فرب عظيمة دافعت عنهم ... وقد بلغت نفوسهم التراقي
ورب كريمة أعتقت منهم ... وأخرى قد فككت من الوثاق
ورب منوه بك من سليم ... أجبت وقد دعاك بلا رماق
فكان جزاؤنا منهم عقوقاً ... وهماً ماع منه مخ ساق
عفت آثار خيلك بعد أين ... فذي بقر إلى فيف النهاق
وقال عمرة ترثيه أيضاً:
قالوا قتلنا دريداً قلت قد صدقوا ... وطال دمعي على الخدين يبتدر(5/773)
لولا الذي قهر الأقوام كلهم ... رأت سليم وكعب كيف تاتمر
إذاً لصحبهم غباً وظاهرة ... حيث استقر نواهم جحفل دفر
قال محمد بن السائب الكلبي: كان دريد بن الصمة يوماً يشرب مع نفر من قومه. فقالوا له: يا أبا دفاقة وكان يكنى بأبي دفاقة وبأبي قرة. أينجو بني الحارث بن كعب منك وقد قتلوا أخاك خالداً. فقال لهم: إن القوم جمرة مذحج وهم أكفاء جشم ولا يجمل بي هجاؤهم. فأحفظوه بكثرة القول وأغضبوه فقال (من الرمل) :
يا بني الحارث أنتم معشر ... زندكم وار في الحرب بهم
ولكم خيل عليها فتية ... كأسود الغاب يحمين الأجم
ليس في الأرض قبيل مثلكم ... حين يرفض العدا غير جشم
لست للصمة إن لم آتكم ... بالخناذيذ تباري في اللجم
فتقر العين منكم مرة ... بانبعاث الحر نوحاً تلتدم
ويرى نجران منكم بلقعاً ... غير شمطاء وطفل قد يتم
فانظروها كالسعالي شزباً ... قبل رأس الحول إن لم أخترم
قال: فنمى قوله إلى عبد الله بن عبد المدان فقال يجيبه:
نبئت أن دريداً ظل معتراَ ... يهدي الوعيد إلى نجران من حضن
كالكلب يعوي إلى بيداء مقفرة ... من ذا يواعدنا بالحرب لم يحن
إن تلق حي بني الديان تلقهم ... شم الأنوف إليهم غرة اليمن
ما كان في الناس للديان من شبه ... إلا رعين وإلا آل ذي يزن
أغمض جفونك عما لسبت نائله ... نحن الذين سبقنا الناس بالدمن
نحن الذين تركنا خالداً عطباً ... وسط العجاج كأن المرء لم يكن
أن تهجنا تهج أنجاداً شرامحة ... بيض الوجوه مرافيداً على الزمن
أورى زياد لنا زنداً ووالدنا ... عبد المدان وأورى زنده قطن(5/774)
وأغار دريد بن الصمة في نفر من أصحابه فمروا بأسماء بن زنباع الحارثي ومعه ظعينته زينب فأحاطوا به لينتزعوها من يده فقاتلهم دونها فقتل منهم وجرح. ثم اختلف هو ودريد طعنتين فطعنه دريد فأخطأه وطعنه أسماء فأصاب عينه وانهزم دريد ولحق أصحابه. فقال دريد في ذلك (من البسيط) :
شلت يميني ولا أشرب معتقة ... إذ أخطأ الموت أسماء بن زنباع
(قال) وهي قصيدة. ونسخت من كتاب أبي عمرو الشيباني الذي ذكرته يأثره عن محمد بن السائب الكلبي قال: جاور رجل من ثمالة عبد الله بن الصمة فهلك عبد الله وأقام الرجل في جوار دريد. وأغار أنس بن مدركة الخثعمي على بني جسم فأصاب مال الثمالي وأصاب ناساً من ثمالة كانوا جيراناً لدريد فكف دريد عن طلب القوم وشغل بحرب من يليه وقال لجاره ذلك: أمهلني عامي هذا. فقال الثمالي: قد أمهلتك عامين وخرج دريد ليلة لحاجته وقد أبطأ في أمر الثمالي فسمعه يقول:
كسك دريد الدهر ثوب خزاية ... وجدعك الحامي حقيقته أنس
دع الخيل والسمر الطوال لخثعم ... فما أنت والرمح الطويل وما الفرس
وما أنت والغزو المتابع للعدا ... وهمك سوق العود والدلو والمرس
فلو كان عبد الله حياً لردها ... وما أصبحت أبلي بنجران تحتبس
فلو كان عبد الله حياً لردها ... وما أصبحت إبلي بنجران تحتبس
ولا أصبحت عرسي بأشقى معيشة ... وشيخ كبير من ثمالة في تعس
يراعي نجوم الليل من بعد هجعة ... إلى الصبح محزوناً يطاوله النفس
وكنت وعبد الله حي وما أرى ... أبالي من الأعداء من قام أو جلس
فأصبحت مهضوماً حزيناً لفقده ... وهل من نكير بعد حولين تلتمس
قال: فضاق دريد ذرعاً بقوله وشاور أولي الرأي من قومه فقالوا له: ارحل إلى يزيد بن عبد المدان فإن أنساً قد خلف المال والعيال بنجران للحرب التي وقعت بين خثعم وأن يزيد يردها عليك. فقال دريد: بل أقدم إليه قبل ذلك مدحه ثم انظر ما موقعي من الرجل فقال هذه القصيدة وبعث بها إلى يزيد (من الوافر) :
بني الديان ردوا مال جاري ... وأسرى في كبولهم الثقال
وردوا السبي إن شئتم بمن ... وإن شئتم مفاداة بمال(5/775)
فأنتم أهل عائدة وفضل ... وأيد في مواهبكم طوال
متى ما تمنعوا شيئاً فليست ... حبائل أخذه غير السؤال
وحربكم بني الديان حرب ... يغص المرء منها بالزلال
وجارتكم بني الديان بسل ... وجاركم يعد مع العيال
بني الديان إن بني زياد ... هم أهل التكرم والفعال
فأولوني بني الديان خيراً ... أقر لكم به أخرى الليالي
قال: فلما بلغ يزيد شعره قال: وجب حق الرجل فبعث إليه أن أقدم علينا فلما قدم عليه أكرمه وأحسن مثواه. فقال له دريد يوماً: يا أبا النضر إني رأيت منكم خصالاً لم أرها من أحد من قومكم إني رأيت أبنيتكم متفرقة ونتاج خيلكم قليلاً وسرحكم يجيىء معتماً وصبيانكم يتضاغون من غير جوع. قال أجل أما قلة نتاجنا فنتاج هوازن يكفينا، وأما تفرق أبنيتنا فللغيرة على النساء، وأما بكاء صبياننا فإنا نبدأ بالخيل قبل العيال وأما تمسينا بالنعم فإن فينا الغرائب والأرامل تخرج المرأة إلى مالها حيث لا يراها أحد (قال) وأقبلت طلائعهم على يزيد فقال شيخ منهم:
أتتك السلامة فارع النعم ... ولا تقل الدهر إلا نعم
وسرح دريداً بنعم جشم ... وإن سألك المرء إحدى القحم
فقال له دريد: من أين جاء هؤلاء؟ فقال: هذه طلائعنا لا نسرح ولا نصطبح حتى ترجع إلينا. فقال له: ما ظلمكم من جعلكم جمرة مذحج. ورد يزيد عليه الأسارى من قومه وجيرانه. ثم قال له: سلني ما شئت فلم يسأله شيئاً إلا أعطاه إياه. فقال دريد في ذلك (من المتقارب) :
مدحت يزيد بن عبد المدان ... فأكرم به من فتى ممتدح
إذا المدح زان فتى معشر ... فإن يزيد يزين المدح
حللت به دون أصحابه ... فأورى زنادي لما قدح(5/776)
ورد النساء بأطهارها ... ولو كان غير يزيد فضح
وفك الرجال وكل امرئ ... إذا أصلح الله يوماً صلح
وقلت له بعد عتق النساء ... وفك الرجال ورد اللقح
أجر لي فوارس من عامر ... فأكرم بنفحته إذ نفح
وما زلت أعرف في وجهه ... بوقت السؤال ظهور الفرح
رأيت أبا النضر في مذحج ... بمنزلة الفجر حين اتضح
إذا قارعوا عنه لم يقرعوا ... وإن قدموه لكبش بطح
وإن حضر الناس لم يخزهم ... وإن وازنوه قرن رجح
فذاك فتاها وذو فضلها ... وإن نابح بفخار نج
(قال) وقال ابن الكلبي: خرج دريد بن الصمة في فوارس من قومه في غزاة له فلقيه مسهر بن يزيد الحارثي الذي فقأ عين عامر بن الطفيل يقود بامرأته أسماء بنت حزن الحارثية فلما رآه القوم قالوا: الغنيمة. هذا فارس واحد يقود ظعينة وخليق أن يكون الرجل قرشياً. فقال دريد: هل منكم رجل يمضي إليه فيقتله ويأتينا به وبالظعينة. فانتدب إليه رجل من القوم فحمل عليه فلقيه مسهر فاختلفا طعنتين بينهما فقتله مسهر بن الحارث. ثم حمل عليه آخر فكانت سبيله سبيل صاحبه حتى قتل منهم أربعة نفر. وبقي دريد وحده فأقبل إليه فلما رآه ألقى الخطام من يده إلى المرأة وقال خذي خطامك فقد أقبل إلي فارس ليس كالفرسان الذين تقدموه. ثم قصد إليه وهو يقول:
أما ترى الفارس بعد الفارس ... أرداهما عامل رمح يابس
فقال له دريد: من أنت لله أبوك. قال: رجل من بني الحارث بن كعب قال: أنت الحصين. قال: لا. قال: فالمحجل هوذة. قال: لا. قال: فمن أنت. قال: أنا مسهر بن يزيد. (قال) فانصرف دريد وهو يقول (من الطويل) :
أمن ذكر سلمى ماء عينيك يهمل ... كما انهل خرز من شعيب مشلشل
وماذا ترجي بالسلامة بعدما ... نات حقب وابيض منك المرجل(5/777)
وحالت عوادي الحرب بيني وبينها ... وحرب يعل الموت صرفاً وينهل
قراها إذا باتت لدي مفاضة ... وذو خصل نهد المراكل هيكل
كميش كتيس الرمل أخلص متنه ... ضريب الخلايا والنقيع المعجل
عتيد لأيام الحروب كأنه ... إذا انجاب ريعان العجاجة أجدل
يحارب جرداً كالسراحين ضمراً ... ترود بأبواب البيوت وتصهل
على كل حي قد أطلت بغارة ... ولا مثل ما لاقى الحماس وزعبل
غداة راونا بالغريف كأننا ... حبي أدرته الصبا متهلل
يمشعلة تدعو هوازن فوقها ... نسيج من الماذي لام مرفل
لدى معرك فيه تركنا سراتهم ... ينادون منهم موثق ومجدل
نجذ جهاراً بالسيوف رؤوسهم وأرماحنا منهم تعل وتنهل
ترى كل مسود العذارين ... فارس
يطيف به نسر وغربان جيال
وروي هذا الخبر عن أبي عبيدة مع بعض فرق قال: خرج دريد بن الصمة في فوارس بني جشم حتى إذا كانوا بواد لبني كنانة يقال له الأخرم وهو يريد الغارة على بني كنانة رفع له رجل من ناحية الوادي معه ظعينة. فلما نظر إليه قال لفارس من أصحابه: صح به إن خل عن الظعينة وانج بنفسك وهو لا يعرفه. فانتهى غيه الرجل وألح عليه. فلما أبى ألقى زمام الراحلة وقال للظعينة:
سيري على رسلك سير الآمن ... سير رداح ذات جأش ساكن
إن انثنائي دون قرني شائني ... وغبلي بلائي وأخبري وعايني
ثم حمل على الفارس فصرعه وأخذ فرسه فأعطاه الظعينة. فبعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع صاحبه فرآه صريعاً. فصاح به فتصامم عنه. فظن أنه لم يسمع فغشيه. فألقى الزمام عليها ثم حمل الفارس فصرعه وهو يقول:
خل سبيل الحرة المنيعة ... إنك لاق دونها ربيعه(5/778)
في كفه خطية منيعه ... أو لافخذها طعنة سريعه
فالطعن مني في الوغى شريعه
فلما أبطأ على دريد بعث فارساً آخر لينظر ما صنعا. فانتهى إليهما فرآهما صريعين ونظر إليه يقود ظعينته ويجر رمحه. فقال له الفارس: خل عن الظعينة. فقال لها ربيعة: اقصدي قصد البيوت. ثم أقبل عليه فقال:
ماذا تريد من شتيم عابس ... ألم تر الفارس بعد الفارس
أرداهما عامل رمح يابس
ثم طعنه فصرعه. فانكسر رمحه. فارتاب دريد وظن أنهم قد أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل. فلحق بهم فوجد ربيعة لا رمح معه وقد دنا من الحي ووجد القوم قد قتلوا. فقال له دريد: أيها الفارس إن مثلك لا يقتل وإن الخيل ثائرة بأصحابها ولا أرى معك رمحاً وأراك حديث السن فدونك هذا الرمح فإني راجع إلى أصحابي فمثبط عنك: فأتى دريد أصحابه فقال: إن فارس الظعينة قد حماها وقتل فوارسكم وانتزع رمحي ولا طمع لكم فيه. فانصرف القوم. وقال دريد (من الكامل) :
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حامي الظعينة فارساً لم يقتل
أردى فوارس لم يكونوا نهزة ... ثم استمر كأنه لم يفعل
متهلل تبدو أسرة وجهه ... مثل الحسام جلته أيدي الصيقل
يزجي طعينته ويسحب رمحه ... متوجهاً يمناه نحو المنزل
وترى الفوارس من مخافة رمحه ... مثل الشعاب خشين وقع الأجدل
يا ليت شعري من أبوه وأمه ... يا صاح من يك مثله لم يجهل
فقال ربيعة:
إن كان ينفعك اليقين فسائل ... عني الظعينة يوم وادي الأكرم
هل هي لأول من أتاه نهزة ... لولا طعان ربيعة بن مكدم
أو قال من أدى الفوارس سبة ... خل الظعينة طائعاً لا تندم
فصرفت راحلة الظعينة نحوه ... عمداً ليعلم بعض ما لم يعلم(5/779)
وهتكت بالرمح الطويل أهابه ... فهوى صريعاً لليدين وللفم
ونضحت آخر بعده جياشة ... فخلا فأهواه لشدق الأضجم
ولقد شفعتهما بآخر ثالث ... وأبى الفرار لي الغداة تكرمي
(قل) فلم يلبث بنو مالك بن كنانة رهط ربيعة بن مكدم أن أغاروا على بني جشم رهط دريد فقتلوا واسروا وغنموا وأسروا دريد بن الصمة. فأخفى نسبه. فبينما هو عندهم إذ جاء نسوة يتهادين إليه. فصرخت امرأة منهن فقالت: هلكتم وأهلكتم. ماذ جر علينا قومنا؟ هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينة. ثم ألقت عليه ثوبها وقالت: يا آل فراس أنا جارة له منكم. هذا صاحبنا يوم الوادي. فسألوه من هو. فقال: أنا دريد بن الصمة. فما فعل ربيعة بن مكدم. قالوا: قتلته بنو سليم. قال: فمن الظعينة التي كانت معه. قالت المرأة: ريطة بنت جذل الطعان وأنا هي وأنا امرأته. فحبسه القوم وآمروا أنفسهم وقالوا: لا ينبغي أن تكفر نعمة دريد عندنا. وقال بعضهم: والله لا يخرج من أيدينا إلا برضا المخارق الذي أسره. وانبعثت المرأة في الليل فقالت:
سنجزي دريداً عن ربيعة نعمة ... وكل فتى يجزى بما كان قدما
فإن كان خيراً كان خيراً جزاؤه ... وإن كان شراً كان شراً مذمما
سنجزيه نعمى لم تكن بصغيرة ... بإعطائه الرمح السديد المقوما
فقد أدركت كفاه فينا جزاءه ... وأهل بأن يجزى الذي كان أنعما
فلا تكفروه حي نعمان فيكم ... ولا تركبوا هلك الذي ملأ الفما
فإن كان حياً لم يضق بثوائه ... ذراعاً غنياً كان أو كان معدما
ففكوا دريداً من أسار مخارق ... ولا تجعلوا البؤسى إلى الشر سلما
فأصبح القوم فتعاونوا بينهم فأطلقوه. وكسته ريطة وجهزته ولحق بقومه. ولم يزل كافاً عن غزو بني فراس حتى هلك.
قال صاحب الأغاني: هذه الأخبار التي ذكرتها عن ابن الكلبي موضوعة كلها والتوليد بين فيها وفي أشعاره وما رأيت شيئاً منها في ديوان دريد بن الصمة على سائر الروايات. وأعجب من ذلك هذا الخبر الأخير فإنه ذكر فيه من لحق دريداً من الهجنة والفضيحة في أصحابه وقتل من قتل معه وانصرافه منفرداً. وشعر دريد هذا يفخر فيه بأنه ظفر بيني الحارث وقتل أماثلهم وهذا من أكاذيب ابن الكلبي وإنما ذكرته على ما فيه(5/780)
لئلا يسقط من الكتاب شيء وقد رواه الناس وتداولوه.
ومن شعر دريد قوله يتذكر أيام الصبا (من البسيط) :
يا هند لا تنكري شيبي ولا كبري ... فهمتي مثل حد الصارم الذكر
ولي جنان شديد لو لقيت به ... حوادث الدهر ما جارت على بشر
فما توهمت أني خضت معركة ... إلا تركت الدما تنهل كالمطر
كم قد عركت مع الأيام نائبة ... حتى عرفت القضا الجاري مع القدر
عمري مع الدهر موصول بآخره ... وإنما فضله بالشمس والقمر
ويل لكسرى إذا جالت فوارسنا ... في أرضه بالقنا الخطية السمر
أولاد فارس ما للعهد عندهم ... حفظ ولا فيهم فخر لمفتخر
يمشون في حلل الديباج ناعمة ... مشي البنات إذا ما قمن في السجر
ويوم طعن القنا الخطي تحسبهم ... عانات وحش دهاها صوت منذعر
غداً يرون رجالاً من فوارسنا ... إن قاتلوا الموت ما كانوا على حذر
خلقت للحرب أحميها إذا بردت ... واجتني من جناها يانع الثمر
يا آل عدنان سيروا واطلبوا رجلاً ... مثاله مثل صوت العارض المطر
قد جد في هد بيت الله مجتهداً ... بعزمة مثل وقع الصارم الذكر
وعن قليل يلاقي بغيه وير ... حرباً أشد عليه من لظى سقر
ويبتلى برجال في الحروب لهم ... بأس شديد وفيهم عزم مقتدر
الموت حلو لما لاقت شمائلهم ... وعند غيرهم كالحنظل الكدر
والناس صنفان هذا قلبه خزف ... عند اللقاء وهذا قد من حجر
وله (من الوافر) :
ألا أبلغ بني عبس بأني ... أكون لهم على نفسي دليلا(5/781)
وإني قد تركت وصال هند ... وبدل ودها عندي ذهولا
فإنك إن تركت سراة قومي ... إذا ما حربهم نتجت فصيلا
ألست أعد سابغة ونهداً ... وذا حدين مشهوراً صقيلا
واعفو عن سفيههم وأرضى ... مقالة من أرى منهم خليلا
بجنب الشعب يرهقني إذا ما ... مضى فيه الرعيل رأى رعيلا
ونحن معاشر خرجوا ملوكاً ... تفك من المكبلة الكبولا
متى ما تأت نادينا تجدنا ... حجاحجة خضارمة كهولا
وشباناً إذا فزعوا تغشوا ... سوابغ يسحبون لها ذيولا
وقال أيضاً (من المتقارب) :
قطعت من الدهر عمراً طويلا ... وأفنيت جيلاً وأبقيت جيلا
وهذ بني الشيب حتى عرفت ... أمان الصديق بلوت الخليلا
وشبت وما شاب رأسي وما ... رأى الضعف نحو جناني سبيلا
ولا بت إلا وظهر الجواد مقيلي إذا مل غيري المقيلا
فيوماً تراني قتيل المدام ... وبين الرياحين أمسي جديلا
ويوماً تراني كماة الحروب ... أرد الطعان وأشفي الغليلا
فويل لمن بات في نومه ... يراني أهز الحسام الصقيلا
وويل لمن ظن في نفسه ... بأن سيراني طريحاً قتيلا
أنا نائبات الزمان اللتي ... تذل العزيز وتحيي الذليلا
وفي السلم أعطي عطاء جزيلاً ... وفي الحرب أطعن طعناً وبيلا
واحتقر الجمع يوم اللقاء ... وعندي الكثير أراه القليلا(5/782)
وإن جزت بالجيش وقت الضحى ... تركت الأراضي تصير محيلا
فقولوا لمن جاءني بالخداع ... وراح بأسري يجر الذيولا
يبارزني والقنا شرع ... وينظر يوماً عيه ثقيلا
وله يقول (من الرمل) :
يا نديمي اسقني كأس الحميا ... في ثنيات اللوى من كف ريا
بين روض ونبات عرفه ... طيب أهدى لنا مسكاً زكيا
يا نديمي اسقياني خمرة ... ودعاني أبصر الشيين شيا
ففؤادي قد صحا من سكره ... واشتفى الداء الذي كان دويا
ليت عبد الله أبقاه الردى ... يا بني العم وعاد اليوم حيا
ليته عاد كما أعهده حسن القامة وضاح المحيا
ليرى أعداه مع وحش الفلا ... تتهادى منهم لحماً طريا
وتركت الأرض من فيض الدما ... تشتكي بعد الظما فيضاً رويا(5/783)
القسم السادس
شعراء نجد والحجاز والعراق
من بني عبس بن قيس عيلان بن مضر
الربيع بن زياد (590م)
هو الربيع بن زياد بن عبد الله بن سفيان بن ناشب بن هدم بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار. وأمه فاطمة بنت الخرشب واسم الخرشب عمرو بن النضر بن حارثة بن طريف بن أنمار بن بغيض بن ريث بن غطفان. وهي إحدى المنجبات كان يقال لبنيها الكملة وهم الربيع وعمارة وأنس. ولما سأل معاوية علماء العرب عن البيوتات والمنجبات وحظر عليهم أن يتجاوزوا في البيوتات ثلاثة وفي المنجبات ثلاثاً عدوا فاطمة بنت الخرشب فيمن عدوا وقبلها حيية بنت رياح الغنوية أم الأحوص وخالد ومالك وربيعة بني جعفر بن كلاب وماوية بنت عبد مناة بن مالك بن زيد بن عبد الله بن دارم بن عمرو بن تميم وهي أم لقيط وحاجب وعلقمة بني زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم. ولدت فاطمة بنت الخرشب من زياد بن عبد الله العبسي سبعة فعدت العرب المنجبين منهم ثلاثة وهم خيارهم فمنهم الربيع ويقال له الكامل وعمارة وهو الوهاب وأنس وهو أنس الفوارس وهو الواقعة وقيس وهو البرد والحارث وهو الحرون ومالك وهو لاحق وعمرو وهو الدراك. قال محمد بن موسى قال ابن النطاح وحدثني أبو عثمان العمري أن عبد الله بن جدعان لقي فاطمة بنت الخرشب وهي تطوف بالكعبة فقال لها نشدتك برب هذه البنية أي بنيك أفضل قالت: الربيع لا بل عمارة لا بل أنس ثكلتهم إن كنت أدري أيهم أفضل. قال ابن النطاح: وحدثني أبو اليقظان سحيم بن حفص العجيفي قال حدثني أبو الخنساء قال: سئلت فاطمة عن بنيها أيهم أفضل فقالت الربيع لا بل عمارة لا بل أنس لا بل قيس وعيشي ما أدري أم والله ما حملت واحداً منهم تضعاً ولا ولدته يتناً ولا أرضعته غيلاً ولا منعته قيلاً ولا أبته على ماقة. قال أبو اليقظان أما قولها ما حملت واحداً منهم تضعاً فتقول لم أحمله في دبر الطهر وقولها ولا ولدته يتناً وهو أن تخرج رجلاه قبل رأسه ولا أرضعته غيلاً أي ما أرضعته قبل أن أحلب ثديي ولا منعته قيلاً أي لم أمنعه اللبن عند القائلة ولا ابته على ماقلة أي وهو يبكي. وسئلت فاطمة بنت الخرشب عن بينها فوصفتهم وقالت في عمارة لا ينام ليلة يخاف ولا يشبع ليلة يضاف. وقالت في الربيع: لا تعد مآثره ولا(6/787)
يخشى في الجهل بوادره وقالت في أنس: إذا عزم أمضى وإذا سئل أرضى وإذا قدر أغضى وقالت في الآخرين أشياء لم يحفظها أبو اليقظان. قال بعض الشعراء يمدح بني زياد من فاطمة يقال أنه قيس بن زهير ويقال حاتم طيىء:
بنو جنية ولدت سيوفاً ... قواطع كلهم ذكر صنيع
وجارتهم حصان لم تزن ... وطاعمة الشتاء فما تجوع
سرى ودي ومكرمتي جميعاً ... طوال زمانه مني الربيع
وقالت سلمة بن الخرشب خالهم فيهم يخاطب قوماً منهم أرادوا حربه:
أتيتم إلينا ترجفون جماعة ... فأين أبو قيس وأين ربيع
وذاك ابن أخت زانه ثوب خاله ... وأعمامه الأعمام وهو بزيع
رفيق بداء الحرب طب بصعبها ... إذا شئت رأي القوم فهو جميع
عطوف على المولى ثقيل على العدا ... أصم على العوراء وهو سميع
وقال رجل من طيىء يقال له الربيع بن عمارة يرثي الربيع وعمارة ابني زياد العبسيين:
فلن تكن الحوادث حرقتني ... فلم أر هالكاً كابني زياد
تهاب الأرض أن يطآ عليها ... بمثلهما تسالم أو تعادي
فلا برحت تجود على عهاد ... نجاء بالروائح والغوادي
ديار الأخطبين وكيف أسقي ... قتيلاً بين نهد أو مراد
هما رمحان خطيان كانا ... من السمر المثقفة الصعاد
مثقفة صدورهما وشيفت ... صدور أسنة لهما حداد
وقال الأثرم: أغار حمل بن بدر أخو حذيفة بن بدر الفزاري على بني عبس فظفر بفاطمة بنت الخرشب أم الربيع بن زياد وإخوته راكبة على جمل لها فقدها بجملها فقالت له: أي(6/788)
رجل ضل حلمك والله لئن أخذتني فصارت هذه الأكمة بين وبك التي أمامنا وراءنا لا يكون بينك وبين بني زياد صلح أبداً لأن الناس يقولون في هذه الحال ما شاؤوه وحسبك من شر سماعه. قال: إني أذهب بك حتى ترعي على إبلي. فلما أيقنت أنه ذاهب بها رمت بنفسها على رأسها من البعير فماتت خوفاً من أن يلحق بنيها عار فيها.
وحكى ابن الأعرابي قال: وفد أبو براء ملاعب الأسنة وهو عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب وإخوته طفيل ومعاوية وعبيدة ومعهم لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر وهو غلام على النعمان بن المنذر فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي. وكان الربيع ينادم النعمان مع رجل من أهل الشام تاجر يقال له سرحون بن توفيل وكان حريفاً للنعمان يعني سرحون يبايعه وكان أديباً حسن الحديث والمنادمة فاستخفه النعمان وكان إذا أراد أن يخلو عن شرابه بعث إليه وإلى النطاسي متطبب كان له والي الربيع بن زياد وكان يدعى الكامل. فلما قدم الجعفريون كانوا يحضرون النعمان لحاجتهم. فإذا خلا الربيع بالنعمان طعن فيهم وذكر معايبهم. ففعل ذلك بهم مراراً. وكانت بنو جعفر له أعداء فصده عنهم. فدخلوا عليه يوماً فرأوا منه تغيراً وجفاء وقد كان يكرمهم قبل ذلك ويقرب مجلسهم. فخرجوا من عنده غضاباً ولبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم ويغدو بإبلهم كل صباح فيرعاها فإذا أمسى انصرف بإبلهم. فأتاهم ذات ليلة فألفاهم يتذاكرون أمر الربيع وما يلقون منه. فسألهم فكتموه. فقال لهم: والله لا أحفظ لكم متاعاً ولا أسرح لكم بعيراً أو تخبروني. وكانت أم لبيد امرأة من بني عبس وكانت يتيمة في حجر الربيع. فقالوا: خالك قد غلبنا على الملك وصد عنا وجهه. فقال لهم لبيد: هل تقدرون على أن تجمعوا بينه وبين فازجره عنكم بقول ممض ثم لا يلتفت النعمان إليه بعده أبداً. فقالوا: وهل عندك من ذلك شيء. قال: نعم. قالوا: فإنا نبلوك بشتم هذه البقلة لبقلة قدامهم دقيقة القضبان قليلة الورق لا صقة فروعها بالأرض تدعى التربة. فقال: هذه التربة التي لا تذكي ناراً ولا تؤهل داراً. ولا تسر جاراً. عودها ضئيل. وفرعها كليل. وخيرها قليل. بلدها شاسع ونبتها خاشع. وآكلها جائع. والمقيم عليها ضائع. أقصر البقول فرعاً. وأخبثها مرعى. وأشجها قلعاً. فتعساً لها وجدعاً. ألقوا بي أخا بني عبس. أرجعه عنكم بتعس ونكس. وأتركه من أمره في لبس. فقالوا: نصبح فنرى فيك رأينا: فقال لهم عامر: انظروا غلامكم فإن رأيتموه نائماً فليس أمره بشيء وإنما يتكلم بما جاء على لسانه ويهذي بما يهجس في خاطره. وإذا رأيتموه(6/789)
ساهراً فهو صاحبكم. فرمقوه بأبصارهم فوجدوه قد ركب رحلاً فهو يكدم بأوسطه حتى أصبح. فلما أصبحوا قالوا: أنت والله صاحبنا. فحلقوا رأسه وتركوا ذؤابتين وألبسوه حلة. ثم غدروا به معهم على النعمان فوجدوه يتغدى ومعه الربيع وهما يأكلان ليس معه غيره والدار والمجالس مملوة من الوفود. فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين. فدخلوا عليه وقد كان تقارب أمرهم فذكروا للنعمان الذي قدموا له من حاجتهم فاعترض الربيع في كلامهم. فقام لبيد يرتجز ويقول:
يا رب هيجا هي خير من دعه ... أكل يوم هامتي مقزعه
نحن بنو أم البنين الأربعة ... ومن خيار عامر بن صعصعه
المطعمون الجفنة المدعدعه ... والضاربون الهام تحت الخيضعه
يا واهب الخير الكثير من سعه ... إليك جاوزنا بلاداً مسبعه
مخبر عن هذا خبيراً فاسمعه ... مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه
ثم أخذ في هجاء الربيع هجاء سفهاً. فلما فرغ من إنشاده التفت النعمان إلى الربيع شزراً يرمقه. فقال: أكذا أنت. قال: لا والله لقد كذب علي ابن الحمق اللئيم. فقال النعمان: أف لهذا الغلام لقد خبث علي طعامي. فأمر النعمان ببني جعفر فأخرجوا وقام الربيع فانصرف إلى منزله. فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه به وأمره بالانصراف إلى أهله. وكتب إليه الربيع. إني قد تخوفت أن يكون قد وقر في صدرك ما قاله لبيد ولست برائم حتى تبعث من يفحص عن أمري فيعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال. فأرسل إليه: إنك لست صانعاً بانتفائك مما قال لبيد شيئاً ولا قادراً على ما زلت به الألسن فالحق بأهلك. فقال الربيع (من البسيط) :
لئن رحلت جمالي إن لي سعة ... ما مثلها سعة عرضاً ولا طولا
بحيث لو وزنت لخم بأجمعها ... لم يعدلوا ريشة من ريش شمويلا
ترعى الروائم أحرار البقول بها ... لا مثل رعيكم ملحاً وغسويلا
فابرق بأرضك يا نعمان متكئاً ... مع النطاسي يوم وابن توفيلا(6/790)
فكتب إليه النعمان:
شرد برحلك عني حيث شئت ولا ... تكثر علي ودع عنك الأباطيلا
فقد ذكرت به والركب حامله ... ورداً يعلل أهل الشام والنيلا
فما انتفاؤك منه بعد ما خرعت ... هوج المطي به ابراق شمليلا
قد قيل ذلك أن حقاً وإن كذباً ... فما اعتذارك من شيء إذا قيلا
فالحق بحيث رأيت الأرض واسعة ... وانشر بها الطرف إن عرضاً وإن طولا
ومن شعر الربيع بن زياد العبسي قوله (من المتقارب) :
حرق قيس علي البلاد ... حتى إذا اضطرمت أجذما
جنية حرب جناها فما ... تفرج عنه وما أسلما
غداة مررت بآل الرباب ... تعجل بالركض أن تلجما
فكنا فوارس يوم الهرير ... إذا مال سرجك فاستقدما(6/791)
عطفنا وراءك أفراسنا ... وقد أسلم الشفتان الفما
إذا نفرت من بياض السيوف ... قلنا لها أقدمي مقدما
وله يرثي مالك بن زهير العبسي (من الكامل) :
إني أرقت فلم أغمض حار ... من سيىء النبأ الجليل الساري
من مثله تمسي النساء حواسراً ... وتقوم معولة مع الأسحار
أفبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجو النساء عواقب الأطهار
ما إن أرى في قتله لذوي النهى ... إلا المطي تشد بالأكوار
ومجنبات ما يذقن عدوفاً ... يقذفن بالمهرات والأمهار(6/792)
ومساعراً صدأ الحديد عليهم ... فكأنما طلي الوجوه بقار
من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسراً يندبنه ... يلطمن أوجههن بالأسحار
قد كن يخبأن الوجوه تستراً ... فاليوم حين برزن للنظار
يضربن حر وجوهن على فتى ... عف الشمائل طيب الأخبار
وتمام أخبار الربيع بن زياد فيما يلي من ترجمة قيس بن زهير.(6/793)
عنترة العبسي (615م)
هو عنترة بن شداد وقيل ابن عمرو بن شداد وقيل عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قواد (وقيل قراد بالراء) بن مخزوم بن ربيعة وقيل مخزوم بن عوف بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. وله لقب يقال له عنترة الفلجاء وذلك لتشقق شفتيه ويلقب أيضاً بأبي المغلس. وأمه أمة حبشية يقال لها زبيبة. وكان لها ولد عبيد من غير شداد وكانوا إخوته لأمه. قد كان شداد نفاه مرة ثم اعترف به فألحق بنسبه وكانت العرب تفعل ذلك تستعبد بني الإماء فإن أنجب اعترفت به وإلا بقي عبداً. وكان عنترة قبل أن يدعيه أبوه حرشت عليه امرأة أبيه وقالت: إنه يراودني عن نفسي. فغضب من ذلك غضباً شديداً وضربه ضرباً مبرحاً وضربه بالسيف فوقعت عليه امرأة أبيه وكفته عنه. فلما رأت ما به من الجراح بكت وكان اسمها سمية وقيل سهية. فقال عنترة (من الطويل) :
أمن سهية دمع العين تذريف ... لو أن ذا منك قبل اليوم معروف
كأنها يوم صدت ما تكلمني ... ظبي بعسفان ساجي الطرف مطروف
تجللتني إذ أهوى العصى قبلي ... كأنها صنم يعتاد معكوف
المال مالكم والعبد عبدكم ... فهل عذابك عني اليوم مصروف
تنسى بلائي إذا ما غارة لقحت ... تخرج منها الطوالات السراعيف
يخرجن منها وقد بلت رحائلها ... بالماء يركضها المرد الغطاريف
قد أطعن الطعنة النجلاء عن عرض ... تصفر كف أخيها وهو منزوف
قال ابن الكلبي: شداد جد عنترة غلب على نسبه وهو عنترة بن عمرو بن شداد. وقد سمعت من يقول: أن شداداً عمه كان نشأ عنترة في حجره فنسب إليه دون أبيه (قال)(6/794)
وإنما ادعاه أبوه بعد الكبر وذلك لأن أمه كانت أمة سوداء يقال لها زبيبة. وكانت العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولد من أمة استعبدوه. وكان لعنترة أخوة من أمه عبيد وكان سبب ادعاء أبي عنترة إياه أن بعض أحياء العرب أغاروا على بني عبس فأصابوا منهم واستاقوا إبلاً. فتبعهم العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم عما معهم وعنترة يومئذ فيهم. فقال له أبوه: كر يا عنترة. فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلاب والصر. فقال: كر وأنت حر. فكر وقاتل يومئذ قتالاً حسناً فادعاه أبوه بعد ذلك وألحق به نسبه.
وحكى غير ابن الكلبي: أن السبب في هذا أن عبساً أغاروا على طيىء فأصابوا نعماً. فلما أرادوا القسمة قالوا لعنترة: لا نقسم لك نصيباً مثل انصبائنا لأنك عبد. فلما طال الخطب بينهم كرت عليهم طيىء فاعتزلهم عنترة وقال: دونكم القوم فإنكم عددهم واستنقذت طيىء الإبل. فقال له أبوه: كر يا عنترة. فقال: أويحسن العبد الكر. فقال له أبوه: العبد غيرك فاعترف به فكر واستنقذ النعم.
قاتل ابن الكلبي: وعنترة أحد أغربة العرب وهم ثلاثة عنترة وأمه زبيبة وخفاف بن عمير الشريدي وأمه ندبة والسليك بن عمير السعدي وأمه السلكة وإليهن ينسبون وفي ذلك يقول عنترة:
إني امرؤ من خير عبس منصباً ... شطري وأحمي سائري بالمنصل
وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظت ... ألفيت خيراً من معم مخول
وهذه الأبيات قالها في حرب داحس والغبراء. قال أبو عمرو الشيباني: غزت بنو عبس بني تميم وعليهم قيس بن زهير فانهزمت بنو عبس وطلبتهم بنو تميم. فوقف لهم عنترة ولحقتهم كبكبة من الخيل. فحامى عنترة عن الناس فلم يصب مدبراً. وكان قيس بن زهير سيدهم فساءه ما صنع عنترة يومئذ فقال حين رجع: والله ما حمى الناس إلا ابن السوداء وكان قيس أكولاً فبلغ عنترة ما قال. فقال يعرض به قصيدته (من الكامل) :
طال الثواء على رسوم المنزل ... بين اللكيك وبين ذات الحرمل
فوقفت في عرصاتها متحيراً ... أسل الديار كفعل من لم يذهل(6/795)
لعبت بها الأنواء بعد أنيسها ... والرامسات وكل جون مسبل
أفمن بكاء حمامة في أيكة ... ذرفت دموعك فوق ظهر المحمل
كالدر أو فضض الجمان تقطعت ... منه عقائد سلكه لم يوصل
لما سمعت دعاء مرة إذ دعا ... ودعاء عبس في الوغى ومحلل
ناديت عبساً فاستجابوا بالقنا ... وبكل أبيض صارم لم ينحل
حتى استباحوا آل عو عنوة ... بالمشرفي وبالوشيج الذبل
إني ارمؤ من خير عبس منصباً ... شطري واحمي سائري بالمنصل
إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا ... أشدد وإن يلفوا بضنك انزل
حين النزول يكون غاية مثلنا ... ويفر كل مضلل مستوهل
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل
وإا الكتيبة أحجمت وتلاحظت ... ألفيت خيراً من معم مخول
والخيل تعلم والفوارس إنني ... فرقت جمعهم بطعنة فيصل
إذ لا أبادر في المضيق فوارسي ... ولا أوكل بالرعيل الأول
ولقد غدوت أمام راية غالب ... يوم الهياج وما غدوت بأعزل
بكرت تخوفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل ... لا بد أن أسقي بكأس المنهل
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
إن المنية لو تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل(6/796)
والخيل ساهمة الوجوه كأنما ... تسقى فوارسها نقيع الحنظل
وإذا حملت على الكريهة لم أقل ... بعد الكريهة ليتني لم افعل
وحكى أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: أنشد النبي قول عنترة (من الكامل) :
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل
فقال النبي: ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة.
قال أبو عبيدة: كان لعترة إخوة من أمه فأحب عنترة أن يدعيهم قومه فأمر أخاً له كان خيرهم في نفسه يقال له حنبل فقال له: ارو مهرك من اللبن ثم مر به علي عشاء فإذا قلته لكم ما شأن مهركم متخدراً مهزولاً ضامراً فاضرب بطنه بالسيف كأنك تريهم أنك قد غضبت مما قلت. فمر عليهم. فقال له: يا حنبل ما شأن مهركم متخدراً عجراً من اللبن. فأهوى أخوه بالسيف إلى بطن مهره فضربه فظهر اللبن. فقال في ذلك عنترة (من الكامل) :
ابني زبيبة ما لمهركم ... متخدراً وبطونكم عجر
ألكم بأيغال الوليد على ... إثر الشياه بشدة خبر
وهي قصيدة لم نقف على تتمتها لا في ديوانه ولا في غيره من كتب السير. (قال) فاستلاطه نفر من قومه ونفاه آخرون ففي ذلك يقول عنترة قصيدته يعدد فيها بلاءه وآثاره عند قومه (من الوافر) :
ألا يا دار عبلة بالطوي ... كرجع الوشم في رسغ الهدي
كوحي صحائف من عهد كسرى ... فأهداها لا عجم طمطمي
أمن زو الحوادث يوم تسمو ... بنو جرم لحرب بني عدي
إذا اضطربوا سمعت الصوت فيهم ... خفياً غير صوت المشرفي
وغير نوافذ يخرجن منهم ... بطعن مثل أشطان الركي(6/797)
وقد خذلتهم ثعل بن عمرو ... سلاميوهم والجرولي
وقيل أنه قال هذه القصيدة لأنه وقعت ملاحاة بينه وبين بني عبس في إبل أخذها من حليف لهم اقتتلوا عليها. فأرادوا أن يردها فأبى. فخرج بإبله وماله فنزل في طيىء فكان بين جديلة وثعل قتال شديد وكان عنترة في بني جديلة فقاتل معهم ذلك اليوم فظفرت جديلة ولم يكن لهم ظفر إلا في ذك اليوم. فأرسلت بنو ثعل إلى غطفان أن جوارنا كان أقرب والحق أعظم من أن يجيىء رجل منكم يعين علينا. فارتحت غطفان إلى عنترة فأرضوه وتركوا إبله فقال عنترة في ذلك ما تقدم ذكره.
قال النضر بن عمرو: قيل لعنترة أنت أشجع العرب وأشدها. قال: لا. قيل: فبماذا شاع لك هذا في الناس. قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزماً وأحجم إذا رأيت الإحجام حزماً. ولا أدخل موضعاً إلا أرى لي منه مخرجاً. وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع فأثني عليه فأقتله.
وكان السبب في قتله فيما رواه صاحب الأغاني أنه أغار على بني نبهان من طيىء فأطرد لهم طريدة وهو شيخ كبير فجعل يرتجز وهو يطردها ويقول:
آثار ظلمان بقاع محرب
قال وكان وزر بن جابر النبهاني في فتوة فرماه وقال: خذها وأنا ابن سلمى فقطع مطاه فتحامل بالرمية حتى أتى أهله فقال وهو مجروح (من الطويل) :
وإن ابن سلمى عنده فاعلموا دمي ... وهيهات لا يرجى ابن سلمى ولا دمي
إذا ما تمشى بين أجبال طيىء ... مكان الثريا ليس بالمتهضم
رماني ولم يدهش بأزرق لهذم ... عشية حلوا بين نعف ومخرم
قال ابن الكلبي: وكان الذي قتله يلقب بالأسد الرهيص. وأما أبو عمرو الشيباني فذكر أنه غزا طيئاً مع قومه فانهزمت عبس فخر عن فرسه ولم يقدر من الكبر أن يعود فيركب فدخل دغلاً وابصره ربيئة طيىء فنزل إليه وهاب أن يأخذه أسيراً فرماه وقتله. وذكر أبو عبيدة: أنه كان قد أسن واحتاج وعجز بكبر سنه عن الغارات وكان له على رجل من غطفان بكر فخرج يتقاضاه إياه فهاجت عليه ريح من صيف وهو بين شرج وناظرة فأصابته فقتلته.(6/798)
وكان عمرو بن معدي كرب يقول: ما أبالي من لقيت من فرسان العرب ما لم يلقني حراها وهجيناها يعني بالحرين عامر بن الطفيل وعتيبة بن الحرث بن شهاب وبالعبدين عنترة والسليك بن السلكة.
ومما قاله يخاطب به الربيع بن زياد العبسي (من الوافر) :
إن تك حربكم أمست عواناً ... فإني لم أكن ممن جناها
ولكن ولد سودة أرثوها ... وشبوا نارها لمن اصطلاها
فإني لست خاذلكم ولكن ... سأسعى الآن إذ بلغت إناها
وقال (من الكامل) :
وكتيبة لبستها بكتيبة ... شهباء باسلة يخاف رداها
خرساء ظاهرة الأداة كأنها ... نار يشب وقودها بلظاها
فيها الكماة بنو الكماة كأنهم ... والخيل تعثر في الوغى بقناها
شهب بأيدي القابسين إذا بدت ... بأكفهم بهر الظلام سناها
صبر أعدوا كل أجرد سابح ... ونجيبة ذبلت وخف حشاها
يعدون بالمستلمين عوابساً ... قوداً تشكي أينها ووجاها
يحملن فتياناً مداعس بالقنا ... وقراً إذا ما الحرب خف لواها
من كل أروع ماجد ذي صولة ... مرس إذا لحقت خصى بكلاها
وصحابة شم الأنوف بعثتهم ... ليلاً وقد مال الكرى بطلاها
وسريت في وعث الظلام أقودها ... حتى رأيت الشمس زال ضحاها
ولقيت في قبل الهجير كتيبة ... فطعنت أول فارس أولاها(6/799)
وضربت قرني كبشها فتجدلا ... وحملت مهري وسطها فمضاها
حتى رأيت الخيل بعد سوادها ... حمر الجلود خضبن من جرحاها
يعثرن في نقع النجيع جوافلاً ... ويطأن من حمي الوغى صرعاها
فرجعت محموداً برأس عظيمها ... وتركتها جزراً لمن ناواها
ما استمت أنثى نفسها في موطن ... حتى أوفي مهرها مولاها
ولما رزأت أخا حفاظ سلعة ... إلا له عندي بها مثلاها
واغض طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد ... لا أتبع النفس اللجوج هواها
ولئن سالت بذاك عبلة خبرت ... أن لا أريد من النساء سواها
وأجيبها إما دعت لعظيمة ... وأعينها وأكف عما ساها
وقال في قتل ورد بن حابس نضلة الأسدي (من المتقارب) :
غادرن نضلة في معرك ... يجر الأسنة كالمحتطب
فمن يك عن شأنه سائلاً ... فإن أبا نوفل قد شجب
تذاءب ورد على إثره ... وأدركه وقع مرد خشب
تدارك لا يتقي نفسه ... بأبيض كالقبس الملتهب
وقال أيضاً وكانت حنظلة من بني تميم غزت بن عبس وعليهم عمرو بن عمرو بن عدس الدرامي فقتلته بنو عبس. وتزعم بنو تميم أنه تردى من ثنية وهزمت بنو تميم وذلك اليوم يوم أقرن (1غادرن نضلة في معرك ... يجر الأسنة كالمحتطب
فمن يك عن شأنه سائلاً ... فإن أبا نوفل قد شجب
تذاءب ورد على إثره ... وأدركه وقع مرد خشب
تدارك لا يتقي نفسه ... بأبيض كالقبس الملتهب
وقال أيضاً وكانت حنظلة من بني تميم غزت بن عبس وعليهم عمرو بن عمرو بن عدس الدرامي فقتلته بنو عبس. وتزعم بنو تميم أنه تردى من ثنية وهزمت بنو تميم وذلك اليوم يوم أقرن (من الطويل) :
كأن السرايا بين قو وقارة ... عصائب طير ينتحين لمشرب(6/800)
وقد كنت أخشى أن أموت ولم تقم ... قرائب عمرو وسط نوح مسلب
شفى النفس مني أو دنا من شفائها ... ترديهم من حالق متصوب
تصيح الردينيات في حجباتهم ... صياح العوالي في الثقاف المثقب
كتاب تزجى فوق كل كتيبة ... لواء كظل الطائر المتلقب
وقال أيضاً وكانت له امرأة من بجيلة لا تزال تذكر خيله وتلومه في فرس كان يؤثره على خيله (من الكامل) :
لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
إن الغبوق له وأنت مسوءة ... فتاوهي ما شئت ثم تحوبي
كذب العتيق وماء شن بارد ... إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي
إن الرجال لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
ويكون مركبك القعود ورحله ... وابن النعامة يوم ذلك مركبي
إني أحاذر أن تقول ظعينتي ... هذا غبار ساطع فتلبب
وأنا امرؤ أن يأخذوني عنوة ... أقرن إلى شر الركاب واجنب
وقال أيضاً في رجل من بني أبان بن عبد الله بن دارم وكان استعار عنترة رمحاً فأعاره إياه فأمسكه عنه ولم يصرفه إليه فقال في ذلك (من الوافر) :
إذا لاقيت جمع بني أبان ... فإني لائم للجعد وراح
تضمن نعمتي فعدا عليها ... بكوراً أو تعجل في الرواح
ألم تعلم لحاك الله أني ... أجم إذا لقيت ذوي الرماح
كسوت الجعد جعد بني أبان ... سلاحي بعد عري وافتضاح(6/801)
وقال أيضاً (من الطويل) :
طربت وهاجتك الظباء السوانح ... غداة غدت منها سينح وبارح
فمالت بي الأهواء حتى كأنما ... بزندين في جوفي من الوجد قادح
تعزيت عن ذكرى سهية حقبة ... فبح عنك منها بالذي أنت بائح
لعمري لقد أعذرت لو تعذرينني ... وخشنت صدراً غيبه لك ناصح
أعاذل كم من يوم حرب شهدته ... له منظر بادي النواجذ كالح
فلم أر حياً صابروا مثل صبرنا ... ولا كافحوا مثل الذين نكافح
إذا شئت لاقاني كمي مدجج ... على اعوجي بالطعان مسامح
نزاحف زحفاً أو نلاقي كتيبة ... تطاعننا أو يذعر السرح صائح
فلما التقينا بالجفار تصعصعوا ... وردت على أعقابهن المسالح
وسارت رجال نحو أخرى عليهم ... الحديد كما تمشي الجمال الدوالح
إذا ما مشوا في السابغات حسبتهم ... سيولاً وقد جاشت بهن الأباطح
فأشرع رايات وتحت ظلالها ... من القوم أبناء الحروب المراجح
ودرنا كما دارت على قطبها الرحى ... ودارت على هام الرجال الصافئح
بهجرة حتى تغيب نورها ... وأقبل ليل يقبض الطرف سائح
تداعى بنو عبس بكل مهند ... حسام يزيل الهام والصف جانح
وكل رديني كأن سنانه ... شهاب بدا في ظلمة الليل واضح
تركنا ضراراً بين عان مكبل ... وبين قتيل غاب عنه النوائح(6/802)
وعمراً وحياناً تركنا بقفرة ... تعودهما فيها الضباع الكوالح
يجررن هاماً فلقته رماحنا ... تزيل منهن اللحى والمسايح
وقال أيضاً في قتل قرواش وقتل عبد الله بن الصمة (من الطويل) :
نحا فارس الشهباء والخيل جنح ... على فارس بين الأسنة مقصد
ولولا يد نالته منا لأصبحت ... سباع تهادى شلوه غير مسند
فلا تكفر النعمى واثن بفضلها ... ولا تأمنن ما يحدث الله في غد
فإن يك عبد الله لاقى فوارساً ... يردون خال العارض المتوقد
فقد أمكنت منك الأسنة عانياً ... فلم تجز إذ تسعى قتيلاً بمعبد
وقال أيضاً حين قتلت بنو العشراء من مازن قرواش بن هني العبسي. وكان قرواش قتل حذيفة بن بدر الفزاري فلما أسرته بنو مازن قتلته بحذيفة فقال عنترة في ذلك (من الطويل) :
هديكم خير أباً من أبيكم ... اعف وأوفى بالجوار وأحمد
واطعن في الهيجا إذا الخيل صدها ... غداة الصباح السمهري المقصد
فهلا وفى الفوغاء عمرو بن جابر ... بذمته وابن اللقيطة عصيد
سيأتيكم عني وإن كنت نائياً ... دخان العلندي دون بيتي مذود
قصائد من قيل امرئ يحتديكم ... بني العشراء فارتدوا وتقلدوا
وكانت بنو عبس غزت بني عمرو بن الهجيم فقاتلوهم قتالاً شديداً فرمى عنترة رجلاً منهم يقال له جرية وكان شديد البأس رئيساً فظن أنه قتله ولم يفعل فقال في ذلك (من الوافر) :
تركت جرية العمري فيه ... سديد العير معتدل شديد(6/803)
جعلت بني الهجيم له دواراً ... إذا يمضي جماعتهم يعود
إذا تقع الرماح بجانبيه ... تولى قابعاً فيه صدود
فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يفقد فحق له الفقود
وهل يدري جرية أن نبلي ... يكون جفيرها البطل النجيد
كأن رماحهم أشطان بئر ... لها في كل مدلجة خدود
كان عمارة بن زياد يحسد عنترة ويقول لقومه: إنكم أكثرتم ذكره والله لوددت أن لقيته خالياً حتى أعلمكم أنه عبد. وكان عمارة دواداً كثير الإبل منيعاً لما له مع جوده وكان عنترة لا يكاد يمسك إبلاً يعطيها إخوته ويقسمها فبلغه قول عمارة فقال في ذلك (من الوافر) :
وسيفي صارم قبضت عليه ... أشاجع لا ترى فيها انتشارا
وسيفي كالعقيقة وهو كمعي ... سلاحي لا أفل ولا فطارا
وكالورق الخفاف وذات غرب ... ترى فيها عن الشرع أزورارا
ومطرد الكعوب أحص صدق ... تخال سنانه بالليل نارا
ستعلم أينا للموت أدنى ... إذا دانيت بي الأسل الحرارا
ومنجوب له منهن صرع ... يميل إذا عدلت به الشوارا
أقل عليك ضراً من قريح ... إذا اصحابه ذمروه سارا
وخيل قد زحتف لها بخيل ... عليها الأسد تهتصر اهتصارا
وقال أيضاً في قتل قرواش العبسي (من الوافر) :
من يك سائلاً عني فإني ... وجروة لا ترود ولا تعار(6/804)
مقربة الشتاء ولا تراها ... وراء الحي يتبعها المهار
لها بالصيف أصبرة وجل ... ونيب من كرائمها غزار
ألا أبلغ بني العشراء عني ... علانية فقد ذهب السرار
قتلت سراتكم وخسلت منكم ... خسيلاً مثل ما خسل الوبار
ولم نقتلكم سراً ولكن ... علانية وقد سطع الغبار
فلم يك حقكم أن تشتمونا ... بني العشراء إذ جد الفخار
كانت طيىء أغارت على بني عبس والناس خلوف وعنترة في ناحية من إبله على فرس له. فأخبر فكر وحده واستنقذ الغنيمة من أيديهم وأصاب رهطاً ثلاثة أو أربعة وكان عنترة في بني عامر حينئذ. فجلس يوماً مع شاب منهم فاسمعوه شيئاً كرهه وكان في قبيلة من بني الحريش يقال لهم بنو شكل فقال في ذلك (من الكامل) :
ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى ببينهم الغراب الأبقع
خرق الجناح كأن لحيي رأسه ... جلمان بالأخبار هش مولع
فزجرته ألا يفرخ عشه ... أبداً ويصبح واحداً يتفجع
إن الذين نعيت لي بفراقهم ... قد أسهروا ليلي التمام فأوجعوا
ومغيرة شعواء ذات أشلة ... فيها الفوارس حاسر ومقنع
فزجرتها عن نسوة من عامر ... أفخاذهن كأنهن الخروع
وعرفت أن منيتي إن تأتني ... لا ينجني منها الفرار الأسرع
فصبرت عارفة لذلك حرة ... ترسو إذا نفس الجبان تطلع(6/805)
وقال أيضاً وكان في إبل له يرعاها ومعه عبد له وفرس فأغارت عليه بنو سليم فقاتلهم حتى كسر رمحه. وسار إلى الفرس فرمى رجلاً منهم من بجلة وطردوا إبله فذهبوا بها وكان أصابها م بني سليم وكان عنترة حاسراً (من الوافر) :
خذوا ما أسارت منها قداحي ... ورفد الضيف والأنس الجميع
فلو لاقيتني وعلي درعي ... علمت على تحتمل الدروع
تركت جبيلة بن أبي عدي ... يبل ثيابه علق نجيع
وآخر منهم أجررت رمحي ... وفي البجلي معبلة وقيع
كانت بنو عبس لما أخرجتهم حنيفة من اليمامة أرادوا أن يأتوا بني تغلب. فمروا بحي من كلب على ماء يقال له عراعر. فطلبوا أن يسقوهم من الماء وأن يوردوه إبلهم وسيدهم يومئذ رجل من كلب يقال له مسعود بن مصاد فأبوا وأرادوا سلبهم. فقاتلوهم فقتل مسعود وصالحوهم على أن يشربوا من الماء ويعطوهم شيئاً فانكشفوا عنهم فقال عنترة (من الطويل) :
ألا هل أتاها أن يوم عراعر ... شفى سقماً لو كانت النفس تشتفي
فجئنا على عمياء ما جمعوا لنا ... بأرعن لا خل ولا متكشف
تماروا بنا إذ يمدرون حياضهم ... على ظهر مقضي من الأمر محصف
وما نذروا حتى غشينا بيوتهم ... بغية موت مسبل الودق مزعف
فظلنا نكر المشرفية فيهم ... وخرصان لدن المسهري المثقف
علالتنا في يم كل كريهة ... بأسيافنا والقرح لم يتقرف
أبينا فلا نعطي السواء عدونا ... قياماً بأعضاد السراء المعطف
بكل هتوف عجسها رضوية ... وسهم كسير الحميري المؤنف(6/806)
فإن يك عز في قضاعة ثابت ... فإن لنا برحرحان وأسقف
كتائب شهباً فوق كل كتيبة ... لواء كظل الطائر المتصرف
وقال أيضاً لعمرو بن أسود أخي بني سعد بن عوف بن ملك بن زيد مناة بن تميم (من البسيط) :
قد أوعدوني بأرماح معلبة ... سود لقطن من الحومان أخلاق
لم يسلبوها ولم يعطوا بها ثمناً ... أيدي النعام فلا أسقاهم الساقي
عمرو بن أسود فازباء قاربة ... ماء الكلاب عليها الطنىء معناق
وقال (من الكامل) :
سائل عميرة حيث حلت جمعها ... عند الحروب بأي حي تلحق
ابحي قيس أم بعذرة بعد ما ... رفع اللواء لها وبئس الملحق
واسأل حذيفة حين أرش بيننا ... حرباً ذوائبها بموت تخفق
فلتعلمن إذا التقت فرساننا ... بلوى النجيرة إن ظنك أحمق
وقال أيضاً (من الكامل) :
عجبت عبيلة من فتى متبذل ... عاري الأشاجع شاحب كالمنصل
شعث المفارق منهج سرباله ... لم يدهن حولاً ولم يترجل
لا يكتسي إلا الحديد إذا اكتسى ... وكذاك كل مغاور مستبسل
قد طال ما لبس الحديد فإنما ... صدأ الحديد بجلده لم يغسل
يا عبل كم من غمرة باشرتها ... بالنفس ما كادت لعمرك تنجلي
فيها لوامع لو شهدت زهاءها ... لسلوت بعد تخضب وتكحل
إما تريني قد نحلت ومن يكن ... غرضاً لأطراف الأسنة ينحل(6/807)
فلرب أبلج مثل بعلك بادن ... ضخم على ظهر الجواد مهبل
غادرته متعفرً أوصاله ... والقوم بين مجرح ومجدل
فيهم أخو ثقة يضارب نازلاً ... بالمشرفي وفارس لم ينزل
ورماحنا تكف النجيع صدورها ... وسيوفنا تخلي الرقاب فتختلي
والهام تندر بالصعيد كأنما ... تلقى السيوف بها رؤوس الحنظل
ولقد لقيت الموت يوم لقيته ... متسربلاً والسيف لم يتسربل
فرأيتنا ما بيننا من حاجز ... إلا المجن ونصل أبيض مقصل
ذكر أشق به الجماجم في الوغى ... وأقول لا تقطع يمين الصيقل
ولرب مشعلة وزعت رعالها ... بمقلص نهد المراكل هيكل
سلس المعذر لاحق أقرابه ... متقلب عبثاً بفأس المسحل
نهد القطاة كأنها من صخرة ... ملساء يغشاها المسيل بمجفل
وكأن هاديه إذا استقبلته ... جذع أذل وكان غير مذلل
وكأن مخرج روحه في وجهه ... سربان كانا مولجين لجيأل
وكأن متنيه إذا جردته ... ونزعت عنه الجل متنا إيل
وله حوافر موثق تركيبها ... صم النسور كأنها من جندل
وله عسيب ذو سبيب سابغ ... مثل الرداء على الغني المفضل
سلس العنان إلى القتال فعينه ... قبلاء شاخصة كعين الأحول
وكأن مشيته إذا نهنهته ... بالنكل مشية شارب مستعجل
فعليه اقتحم الهياج تقحماً ... فيها وانقض انقضاض الأجدل(6/808)
وجلس عنترة يوماً في مجلس بعد ما كان قد أبلى واعترف به أبوه وأعتقه فسابه رجل من بني عبس وذكر سواده وأمه وإخوته. فسبه عنترة وفخر عليه وقال: فيما قال له: إني لأحضر البأس وأوفي المغنم واعف عند المسئلة وأجود بما ملكت يدي وأفضل الخطة الصماء قال له الرجل: أنا أشعر منك. قال: ستعلم ذلك. فقال عنترة يذكر قتل معاوية بن نزال وهي أول كملة قالها (من الكامل) :
هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم
أعياك رسم الدار لم يتكلم ... حتى تكلم كالأصم الأعجم
ولقد حبست بها طويلاً ناقتي ... أشكو إلى سفع رواكد جثم
يا دار عبلة بالجواء تكلمي ... وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
دار لآنسة غضيض طرفها ... طوع العناق لذيذة المتبسم
فوقفت فيها ناقتي وكأنها ... فدن لأقضي حاجة المتلوم
وتحل عبلة بالجواء وأهلنا ... بالحزن فالصمان فالمتثلم
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
شطت مزار العاشقين فأصبحت ... عسراً علي طلابك ابنة محزم
علقتها عرضاً واقتل قومها ... وعماً ورب البيت ليس بمزعم
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم
كيف المزار وقد تربع أهلها ... بعنيزتين وأهلنا بالعيلم
إن كنت أزمعت الفراق فإنما ... زمت ركائبكم بليل مظلم(6/809)
ما راعني إلا حمولة أهلها ... وسط الديار تسف حب الخمخم
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سوداً كخافية الغراب الأسحم
إذ تستبيك باصلتي ناعم ... عذب مقبله لذيذ المطعم
وكأنما نظرت بعيني شادن ... رشاء من الغزلان ليس بتوام
وكأن فارة تاجر بقسيمة ... سبقت عوارضها إليك من الفم
أو روضة أنفاً تضمن نبتها ... غيث قليل الدمن ليس بمعلم
أو عاتقاً من أذرعات معتقاً ... مما تعتقه ملوك الأعجم
جادت عليها كل عين ثرة ... فتركن كل حديقة كالدرهم
سحاً وتسكاباً فكل عشية ... يجري عليها الماء لم يتصرم
فترى الذباب بها يغني وحده ... هزجاً كفعل الشارب المترنم
غرداً يسن ذراعه بذراعه ... فعل المكب على الزناد الأجذم
تمسي وتصبح فوق ظهر حشية ... وأبيت فوق سراة أدهم ملجم
وحشيتي سرج على عبل الشوى ... نهد مراكله نبيل المحزم
هل تبلغني دارها شدنية ... لعنت بمحروم الشراب مصرم
خطارة غب السرى زيافة ... تقص الأكام بكل خف ميثم(6/810)
وكأنما اقص الأكام عشية ... بقريب بين المنسمين مصلم
يأوي إلى حزق النعام كما أوت ... حزق يمانية لأعجم طمطم
يتبعن قلة رأسه وكأنه ... زوج على حرج لهن مخيم
صعل يعود بذي العشيرة بيضه ... كالعبد ذي الفرو الطويل الأصلم
شرب بماء الدحر ضين فأصبحت ... زوراء تنفر عن حياض الديلم
وكأنما ينأى بجانب دفها ... الوحشي بعد مخيلة وترغم
هر جنيب كلما عطفت له ... غضبى اتقاها باليدين وبالفم
بركت على ماء الرداع كأنما ... بركت على قصب أجش مهضم
وكأن رباً أو كحيلاً معقداً ... حش القيان به جوانب قمقم
ينباع من ذفرى غضوب حرة ... زيافة مثل الفنيق المقرم
إن تغدفي دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلئم
اثني علي بما علمت فإنني ... سمح مخالقتي إذا لم أظلم
فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل ... مر مذاقته كطعم العلقم
ولقد شربت من المدامة بعد ما ... ركد الهواجر بالمشوف المعلم
بزجاجة صفراء ذات أسرة ... قرنت بأزهر في الشمال مفدم(6/811)
فإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي
وحليل غانية تركت مجدلاً ... تمكو فريصته كشدق الأعلم
عجلت يداي له بمارن طعنة ... ورشاش نافذة كلون العندم
وتتمة هذه المعلقة في الجزء السادس من مجاني الأدب وقال أيضاً في حرب كانت بينهم وبين جديلة طيىء وكان بين جديلة وبين بني شيبان حلف. فأمدت بنو شيبان بني جديلة فقاتل عنترة يومئذ قتالاً شديداً وأصاب دماء وجراحة ولم يصب نعماً فقال عنترة في ذلك (من الكامل) :
وفوارس لي قد علمتهم ... صبر على التكرار والكلم
يمشون والماذي فوقهم ... يتوقدون توقد الفحم
كم من فتى فيهم أخي ثقة ... حر أغر كغرة الرئم
ليسوا كأقوام علمتهم ... سود الوجوه كمعدن البرم
كنا إذا نفر المطي بنا ... وبدا لنا أحواض ذي الرضم
نعدي فنطعن في أنوفهم ... نختار بين القتل والغنم
إنا كذلك يا سهي إذا ... غدر الحليف نمور بالخطم
وبكل مرهفة لها نفذ ... بين الضلوع كطرة الفدم
كانت بين عنترة وبين زياد ملاحاة فقال يذكر أيامه التي كانت له في حرب داحس والغبراء ويذكر يوماً انهزمت فيه بنو عبس فثبت من بين الناس. فمنع الناس حتى تراجعوا(6/812)
وكانت عبس أرادت النزول ببني سليم في حرتهم. فبلغ ذلك حذيفة بن بدر الفزاري فتبع بني عبس فهزمهم واستنقذ ما كان في أيديهم فلم يزل عنتر دون النساء واقفاً حتى رجعت خيل بني عبس وانصرف حذيفة وانتهى إلى ماء يقال لها الهباءة. فنزل يغتسل هو وأخ له يقال له حمل بن بدر فأصابوا حذيفة وأخاه في الماء يغتسلان فقتلوهما. فقال عنترة في ذلك (من الوافر) :
ناتك رقاش إلا عن لمام ... وأمسى حبلها خلق الرمام
وما ذكري رقاش إذا استقرت ... لدى الطرفاء عند ابني شمام
ومسكن أهلها من بطن جزع ... تبيض به مصاييف الحمام
وقفت وصحبتي بأرينبات ... على اقتاد عوج كالسمام
فقلت تبينوا ظعناً أراها ... تحل شواحطاً جنح الظلام
وقد كذبتك نفسك فاكذبنها ... لما منتك تغريراً قطام
ومرقصة رددت الخيل عنها ... وقد همت بإلقاء الزمام
فقلت لها اقصري منه وسيري ... وقد قرع الخرائز بالخدام
أكر عليهم مهري كليماً ... قلائده سبائب كالقرام
كأن دفوف مرجع مرفقيه ... توارثها منازيع السهام
تقعس وهو مضطمر مضر ... بقارحه على فأس اللجام
يقدمه فتى من خير عبس ... أبوه وأمه من آل حام
وقال يرثي مالك بن زهير العبسي وتولى قتله بنو بدر (من الطويل) :
لله عينا من رأى مثل مالك ... عقيرة قوم إن جرى فرسان(6/813)
فليتهما لم يجريا نصف غلوة ... وليتهما لم يرسلا لرهان
وليتهما ماتا جميعاً ببلدة ... وأخطأهما قيس فلا يريان
لقد جلبا حيناً وحرباً عظيمة ... يبيد سراة القوم من غطفان
وكان فتى الهيجاء يحمي ذمارها ... ويضرب عند الكر كل بنان
وقال (من الوافر) :
ومكروب كشفت الكرب عنه ... بطعنة فيصل لما دعاني
دعاني دعوة والخيل تردي ... فما أدري أباسمي أم كناني
فلم أمسك بسمعي إذ دعاني ... ولكن قد أبان له لساني
فكان إجابتي إياه أني ... عطفت عليه خوار العنان
باسمر من رماح الخط لدن ... وأبيض صارم ذكر يمان
وقرن قد تركت لدى مكر ... عليه سبائب كالأرجوان
تركت الطير عاكفة عليه ... كما تردي إلى العرس البواني
ويمنعهن أن يأكلن منه ... حياة يد ورجل تركضان
فما أوهى مراس الحرب ركني ... ولكن ما تقادم من زماني
وقد علمت بنو عبس بأني ... أهش إذا دعيت إلى الطعان
وأن الموت طوع يدي إذا ما ... وصلت بنانها بالهندواني
ونعم فوارس الهيجاء قومي ... إذا علقوا الأعنة بالبنان(6/814)
هم قتلوا لقيطاً وابن حجر ... وأردوا حاجباً وابني أبان
وكانت بنو عبس خرجوا من بني ذبيان فانطلقوا إلى بني سعد من زيد مناة بن تميم فحالفوهم وكانوا فيهم وكانت لهم خيل عتاق وإبل كرام. فرغبت بنو سعد فيها فهموا أن يغدروا فيهم فظن ذلك قيس بن زهير ظناً. وكان رجلاً منكر الظن فأتاه به خبر. فانظرهم حتى إذا كان الليل سرج في الشجر نيراناً وعلق عليها الإداوى وفيها الماء يسمع خريرها وأمر الناس فاحتملوا فانسلوا من تحت ليلتهم وباتت بنو سعد وهم يسمعون صوتاً ويرون ناراً. فلما أصبحوا نظروا فإذا هم قد ساروا فاتبعوهم على الخيل فأدركوهم بالفروق. وهو واد بين اليمامة والبحرين فقاتلوهم حتى انهزمت بنو سعد. وكان قتالهم يوماً مطرداً إلى الليل. وقتل عنترة ذلك اليوم معاوية بن نزال جد الأحنف ثم رجعوا إلى بني ذبيان فاصطلحوا فقال عنترة يذكر يوم الفروق (من الطويل) :
ألا قاتل الله الطلول البواليا ... وقاتل ذكراك السنين الخواليا
وقولك للشيء الذي لا تناله ... إذا ما هو احلولى ألا ليت ذاليا
ونحن منعنا بالفروق نساءنا ... نطرف عنها مشعلات غواشيا
حلفنا لهم والخيل تردي بنا معاً ... نزايلكم حتى تهزوا العواليا
عوالي زرقاً من رماح ردينة ... هرير الكلاب يتقين الأفاعيا
تفاديتم أستاه نيب تجمعت ... على رمة من العظام تفاديا
ألم تعلموا أن الأسنة أحرزت ... بقيتنا لو أن للدهر باقيا
أبينا أبينا أن تضب لثاتكم ... على مرشقات كالظباء عواطيا
وقلت لمن قد أحضر الموت نفسه ... ألا من لأمر حازم قد بدا ليا
وقلت لهم ردوا المغيرة عن هوى ... سوابقها وأقبلوها النواصيا(6/815)
فما وجدونا بالفروق أشابة ... ولا كشفاً ولا دعينا مواليا
وإنا نقود الخيل حتى رؤوسها ... رؤوس نساء لا يجدن فواليا
تعالوا إلى ما تعلمون فإنني ... أرى الدهر لا ينجي من الموت ناجيا
هذا وقد عثرنا في كثير من الكتب كالصحاح للجوهري وشرح مغني اللبيب للسيوطي والأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وشرح المفضليات للمرزوقي وفي جمهرة أشعار العرب لأبي زيد محمد بن الخطاب وفي نضرة الأغريض لأبي علي مظفر بن الفضل الحسيني وفي غيرها من الشروح والدواوين على أبيات منسوبة إلى عنترة لم تدخل في ما رواه الأصمعي وأبو عمرو بن العلاء والمفضل وأبو سعيد السكري من شعره. فجمعنا كل ما وجدناه من هذا القبيل صحيحاً كان أو مصنوعاً. فمن ذلك قوله وكانت العرب كثيراً ما تعيره بالسواد فلما كثرة الأقاويل في ذلك قال (من الوافر) :
لئن اك أسوداً فالمسك لوني ... وما لسواد جلدي من دواء
ولكن تبعد الفحشاء عني ... كبعد الأرض من جو السماء
وقال (من الرجز) :
حظ بني نبهان منها الأخيب ... كأنما آثارها بالحجب
آثار ظلمان بقاع محرب
وله (من الكامل) :
وكان مهري ظل منغمساً به ... بين الشقيق وبين مغرة جابا
وقال (من الكامل) :
ما زلت أرميهم بقرحة مهرتي ... ولبان لا وجل ولا هياب
وقال (من الوافر) :
فيخفق تارة ويفيد أخرى ... ويفجع ذا الضغائن بالأريب(6/816)
وقال (من الطويل) :
وكأنس كعين الديك باكرت حدها ... بفيتان صدق والنواقيس تضرب
سلاف كأن الزعفران وعندما ... تصفق في ناجودها حين تقطب
لها أرج في البيت غال كأنما ... ألم بنا من نجو دارين اركب
وقال (من الكامل) :
هذا لعمركم الصغار بعينه ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
وكان قد خرج يوماً من الحي لنجدة صديق له من بني مازن يقال له حصن بن عوف وعند رجوعه إلى ديار قومه تذكر أرض الشربة والعلم السعدي حيثما كانت عبلة وكانت قد طالت غيبته فقال (من المتقارب) :
ترى هذه ريح أرض الشربه ... أم المسك هب مع الريح هبه
ومن دار عبلة نار بدت ... أم البرق سل من الغيم عضبه
أعبلة قد زاد شوقي وما ... أرى الدهر يدني إلي الأحبه
وكم جهد نائبة قد لقيت ... لأجلك يا بنت عمي ونكبه
فلو أن عينك يوم اللقاء ... ترى موقفي زدت لي في المحبه
يفيض سناني دماء النحور ... وقرني يشك مع الدرع قلبه
وافرح بالسيف تحت الغبار ... إذا ما ضربت به ألف ضربه
وتشهد لي الخيال يوم الطعان ... بأني أفرقها ألف سربه
وإن كان جلدي يرى أسوداً ... فلي في المكارم عز ورتبه
ولو صلت العرب يوم الوغى ... لأبطالها كنت للعرب كعبه
ولو أن للموت شخصاً يرى ... لروعته ولاكثرت رعبه(6/817)
وقال عند مبارزته روضة بن منيع السعدي وكان قد جاء من بلاده ليخطب عبلة بنت مالك (من البسيط) :
كم يبعد الدهر من أرجو أقاربه ... عني ويبعث شيطاناً أحاربه
فيا له من زمان كلما انصرفت ... صروفه فتكت فينا عواقبه
دهر يرى الغدر من إحدى طبائعه ... فكيف يهنا به حر يصاحبه
جربته وأنا غر فهذبني ... من بعد ما شيبت رأسي تجاربه
وكيف أخشى من الأيام نائبة ... والدهر أهون ما عندي نوائبه
كم ليلة سرت في البيداء منفرداً ... والليل للغرب قد مالت كواكبه
سيفي أنيسي ورمحي كلما نهمت ... أسد الدحال إليها مال جانبه
وكم غدير مزجت الماء فيه دماً ... عند الصباح وراح الوحش طالبه
يا طامعاً في هلاكي عد بلا طمع ... ولا ترد كأس حتف أنت شاربه
وقال يتوعد النعمان ملك العرب ويفتخر بقومه (من الطويل) :
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ... ولا ينال العلا من طبعه الغضب
لله در بني عبس لقد نسلوا ... من الأركارم ما قد تنسل العرب
قد كنت فيما مضى أعرى جمالهم ... واليوم أحمي حماهم كلما نكبوا
لئن يعيبوا سوادي فهو لي نسب ... يوم النزال إذا ما فاتني النسب
إن كنت تلعم يا نعمان أن يدي ... قصيرة عنك فالأيام تنقلب
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها ... عند التقلب في أينابها العطب
اليوم تعلم يا نعمان أي فتى ... يلقى أخاك الذي قد غره العصب
فتى يخوض غبار الحرب مبتسماً ... وينئني وسنان الرمح مختضب(6/818)
إن سل صارمه سالت مضاربه ... وأشرق الجو وانشقت له الحجب
والخيل تشهد لي أني أكفكفها ... والطعن مثل شرار النار يلتهب
إذا التقيت الأعادي يوم معركة ... تركت جمعهم المغرور ينتهب
لي النفوس وللطير اللحوم وللو ... حش العظام وللخيالة السلب
لا أبعد الله عن عيني غطارفة ... إنساً إذا نزلوا جناً إذا ركبوا
أسود غاب ولكن لا نيوب لهم ... إلا الأسنة والهندية القضب
تعدو بهم أعوجيات مضمرة ... مثل السراحين في أعناقها القبب
مازلت القى صدور الخيل مندفقاً ... بالطعن حتى يضج السرج واللبب
فالعمي لو كان في أجفانهم نظروا ... والخرس لو كان في أفواههم خطبوا
والنقع يوم طراد الخيل يشهد لي ... والضرب والطعن والأقلام والكتب
وقال يتهدد عمارة والربيع ابني زياد العبسيين معرضاً بذكر قومهما (من الطويل) :
لغير العلا مني القلى والتجنب ... ولولا العلا ما كنت في العيش ارغب
ملكت بسيفي فرصة ما استفادها ... من الدهر مفتول الذراعين أغلب
لئن تك كفي ما تطاوع باعها ... فلي في وراء الكف قلب مذرب
وللحلم أوقات وللجهل مثلها ... ولكن أوقاتي إلى الحلم أقرب
أصول على أبناء جنسي وارتقي ... ويعجم في القائلون وأعرب
واعلم أن الجود في الناس شيمة ... تقوم بها الأحرار والطبع يغلب
فيا ابن زياد لا ترم لي عداوة ... فإن الليالي في الورى تتقلب
ويا لزياد انزعوا الظلم منكم ... فلا الماء مورود ولا العيش طيب
لقد كنتم في آل عبس كواكباً ... إذا غاب منها كوكب لاح كوكب(6/819)
خسفتم جميعاً في بروج هبوطكم ... جهاراً كما كل الكواكب تنكب
وقال في إغارته على بني عامر (من الوافر) :
سلي يل عبل عنا يوم زرنا ... قبائل عامر وبني كلاب
وكم من فارس خليت ملقى ... خضيب الراحتين بلا خضاب
يحرك رجله رعباً وفيه ... سنان الرمح يلمع كالشهاب
قتلنا منهم مئتين حراً ... والغاً في الشعاب وفي الهضاب
وكانت عبلة قد أسمعته يوماً كلاماً يكرهه فخرج عنها غضبان وقال في ذلك (من الطويل) :
سلا القلب عما كان يهوى ويطلب ... وأصبح لا يشكو ولا يتعتب
صحا بعد سكر وانتخى بعد ذلة ... وقلب الذي يهوى العلا يتقلب
إلى كم أداري من تريد مذلتي ... وابذل جهدي في رضاها وتغضب
عبيلة أيام الجمال قليلة ... لها دولة معلومة ثم تذهب
فلا تحسبي أني على البعد نادم ... ولا القلب في نار الغرام يعذب
وقد قلت أني سلوت عن الهوى ... ومن كان مثلي لا يقول ويكذب
هجرتك فأمضي حيث شئت وجربي ... من الناس غيري فاللبيب يجرب
لقد ذل من أمسى على ربع منزل ... ينوح على رسم الديار ويندب
وقد فاز من في الحرب أصبح جائلاً ... يطاعن قرناً والغبار مطنب
نديمي رعاك الله قم عن لي على ... كؤوس المنايا من دم حين أشرب
ولا تسقني كأس المدام فإنها ... يضل بها عقل الشجاع ويذهب(6/820)
وقال أيضاً (من الطويل) :
أحن إلى ضرب السيوف القواضب ... وأصبو إلى طعن الرماح اللواعب
وأشتاق كاسات المنون إذا صفت ... ودارت على رأسي سهام المصائب
ويطربني والخيل تعثر بالقنا ... حداة المنايا وارتهاج المواكب
وضرب وطعن تحت ظل عجاجة كجنح الدجى من وقع أيدي السلاهب
تطير رؤوس القوم تحت ظلامها ... وتنقض فيها كالنجوم الثواقب
وتلمع فيها البيض من كل جانب ... كلمع بروق في ظلام الغياهب
لعمرك إن المجد والفخر والعلا ... ونيل الأماني وارتفاع المراتب
لمن يلتقي أبطالها وسراتها ... بقلب صبور عند وقع المضارب
ويبني بحد السيف مجداً مشيداً ... على فلك العلياء فوق الكواكب
ومن لم يروي رمحه من دم العدا ... إذا اشتبكت سمر القنا بالقواضب
ويعطي القنا الخطي في الحرب حقه ... ويبري بحد السيف عرض المناكب
يعيش كما عاش الذليل بغصة ... وإن مات لا يجري دموع النوادب
فضائل عزم لا تباع لضارع ... وأسرار حزم لا تذاع لعائب
برزت بها دهراً على كل حادث ... ولا كحل إلا من غبار الكتائب
إذا كذب البرق اللموع لشائم ... فبرق حسامي صادق غير كاذب
وقال يتوعد بني زبيد (من الوافر) :
إذا قنع الفتى بذميم عيش ... وكان وراء سجف كالبنات
ولم يهجم على أسد المنايا ... ولم يطعن صدور الصافنات
ولم يقر الضيوف إذا أتوه ... ولم يرو السيوف من الكماة(6/821)
ولم يبلغ بضرب الهام مجداً ولم يك صابراً في النائبات
فقل للناعيات إذا بكته ... إلا فاقصرن ندب النادبات
ولا تندبن إلا ليث غاب ... شجاعاً في الحروب الثائرات
دعوني في القتال أمت عزيزاً ... فموت العز خير من حياتي
لعمري ما الفخار بكسب مال ... ولا يدعي الغني من السراة
ستذكرني المعامع كل وقت ... على طول الحياة إلى الممات
فذاك الذكر يبقى ليس يفنى ... مدى الأيام في ماض وآت
وإني اليوم أحمي عرض قومي ... وأنصر آل عبس على العداة
وآخذ ما لنا منهم بحرب ... تخر لها متون الراسيات
وأترك كل نائحة تنادي ... عليهم بالتفرق والشتات
وكان قد خرج عن قومه غضبان فنزل على بني عامر وأقام فيهم زماناً. فأغارت هوازن وجشم على ديار عبس. وكان على هوازن يومئذ دريد بن الصمة. فأرسل قيس بن زهير وكن سيد عبس يستنجد عنترة فأبى وامتنع. ولما عظم الخطب على بني عبس خرجت إليه جماعة من نساء القبيلة من جملتهن الجمانة ابنة قيس. فلما قدمن عليه طلبن منه أن ينهض معهن لمقاومة العدو وإلا انقلعت العشيرة وتشتت شملها. فاحتمس ونهض من وقته طالباً ديار قومه وقال في ذلك (من الوافر) :
سكت فغر أعدائي السكوت ... وظنوني لأهلي قد نسيت
وكيف أنام عن سادات قوم ... أنا في فضل نعمتهم ربيت
وإن دارت بهم خيل الأعادي ... ونادوني أجبت متى دعيت
بسيف حده موج المنايا ... ورمح صدره الحتف المميت
خلقت من الحديد أشد قلباً ... وقد بلي الحديد وما بليت(6/822)
وإني قد شربت دم الأعادي ... بأقحاف الرؤوس وما رويت
وفي الحرب العوان ولدت طفلاً ... ومن لبن المعامع قد سقيت
فما للرمح في جسمي نصيب ... ولا للسيف في أعضاي قوت
ولي بيت علا فلك الثريا ... تخر لعظم هيبته البيوت
وقال عند خروجه إلى قتال العجم (من الطويل) :
أشاقك من عبل الخيال المبرج ... فقلبك فيه لاعج يتوهج
فقدت التي بانت فبت معذباً ... وتلك احتواها عنك للبين هودج
كأن فؤادي يوم قمت مودعاً ... عبيلة مني هارب يتفحج
خليلي ما أنسكما بل فداكما ... أبي وأبوها أين أين المعرج
الما بماء الدحر ضين فكلما ... ديار التي في حبها بت الهج
ديار لذات الخدر عبلة أصبحت ... بها الأربع الهوج العواصف ترهج
ألا هل ترى إن شط عني مزارها ... وأزعجها عن أهلها الآن مزعج
فهل تبلغني دارها شدنية ... هملعة بينالقفار تهملج
عبيلة هذا در نظم نظمته ... وأنت له سلك وحسن ومنهج
وقد سرت يا بنت الكرام مبادراً ... وتحتي مهري من الإبل أهوج
بأرض تردى الماء من هضباتها ... فأصبح فيها نبتها يتوهج
وأورق فيها الآس والضال والغضا ... ونبق ونسرين وورد وعوسج
لئن أصحت الأطلال منها خواليا ... كأن لم يكن فيها من العيش مبهج
فيا طالما مازحت فيها عبيلة ... ومازحني فيها الغزال المغنج
اغن مليح الدل أحور أكحل ... أزج نقي الخد أبلج ادعج(6/823)
له حاجب كالنون فوق جفونه ... وثغر كزهر الأقحوان مفلج
وإخوان صدق صادقين صحبتهم ... على غارة من مثلها الخيل تسرج
يطوف عليهم خندريس مدامة ... ترى حبباً من فوقها حين تمزج
ألا إنها نعم الدواء لشارب ... ألا فاسقنيها قبلما أنت تخرج
فنصحي سكارى والمدام مصفف ... يدار علينا والطعام المطهج
كأن دماء الفرس حين تحادرت ... خلوق العذارى أو قباء مدبج
فويل لكسرى إن حللت بأرضه ... وويل لجيش الفرس حين أعجعج
واحمل فيهم حملة عنترية ... أرد بها الأبطال في القفر تنتج
واصدم كبش القوم ثم أذيقه ... مرارة كأس الموت صبراً يمجمج
وآخذ ثأر الندب سيد قومه ... وأضرمها في الحرب ناراً تؤجج
وإني لحمال لكل ملمة ... تخر لها شم الجبال وتزعج
وإني لأحمي الجار من كل ذلة ... وافرح بالضيف المقيم وأبهجد
وأحمي حمى قومي على طول مدتي ... إلى أن يروني في اللفائف أدرج
فدونكم يا آل عبس قصيدة ... يولح لها ضوء من الصبح أبلج
ألا إنها خير القصائد كلها ... يفصل منها كل ثوب وينسج
وقال أيضاً (من الكامل) :
والخيل تعلم حين تصبح ... في حياض الموت ضبحا
وقال يعاتب زمانه ويشكو من جور قومه (من الطويل) :
أعاتب دهراً لا يلين لناصح ... وأخفي الجوى في القلب والدمع فاضحي
وقومي مع الأيام عون على دمي ... وقد طلبوني بالقنا والصفائح(6/824)
وقد أبعدوني عن حبيب أحبه ... فأصبحت في قفر عن الإنس نازح
وقد هان عندي بذل نفس عزيزة ... ولو فارقتني ما بكتها جوارحي
وأيسر من كفي إذا ما مددتها ... لنيل عطاء مد عنقي لذابح
فيا رب لا تجعل حياتي مذمة ... ولا موتتي بين النساء النوائح
ولكن قتيلاً يدرح الطير حوله ... وتشرب غربان الفلا من جوانحي
وله (من البسيط) :
وللموت خير للفتى من حياته ... إذا لم يثب للأمر إلا بقائد
فعالج جسيمات الأمور ولا تكن ... هبيت الفؤاد همة للسوائد
إذا الريح جاءت بالجهام تشله ... هذا ليله مثل القلاص الطرائد
وأعقب نوء المدبرين بغبرة ... وقطر قليل الماء بالليل بارد
كفى حاجة الأضياف حتى يريحها ... على الحي منا كل أروع ماجد
تراه بتفريج الأمور ولفها ... لما نال من معروفها غير زاهد
وليس أخونا عند شر يخافه ... ولا عند خير إن رجاه بواحد
إذا قيل من للمعضلات أجابه ... عظام اللهى منا طوال السواعد
وكان عمارة بن زياد العبسي قد خطب عبلة من أبيها مالك بحضور جماعة من سادات عبس. وكان مالك وولده عمرو يحبان عمارة ويرغبان في مصاهرته لغناه وشهرته فأجاباه إلى ذلك بعدما كانا قد عاهدا عنترة على زواجها فقال عنترة في ذلك (من الوافر) :(6/825)
إذا جحد الجميل بنو قراد ... وجازى بالقبيح بنو زياد
فهم سادات عبس أين حلوا ... كما زعموا وفرسان البلاد
ولا عيب علي ولا ملام ... إذا أصلحت حالي بالفساد
فإن النار تضرم في جماد ... إذا ما الصخر كر على الزناد
ويرجى الوصل بعد الهجر حيناً ... كما يرجى الدنو من البعاد
حلمت فما عرفتم حق حلمي ... ولا ذكرت عشيرتكم ودادي
سأجهل بعد هذا الحلم حتى ... أريق دم الحواضر والبوادي
ويشكو السيف من كفي ملالاً ... ويسام عاتقي حمل النجاد
وقد شاهدتم في يوم طي ... فعالي بالمهندة الحداد
رددت الخيل خالية حيارى ... وسقت جيادها والسيف حاد
ولو أن السنان له لسان ... حكى كم شك درعاً بالفؤاد
وكم داع دعا في الحرب باسمي ... وناداني فخضت حشى المنادي
لقد عاديت يا ابن العم ليثاً ... شاعاً لا يمل م الطراد
يرد جوابه قولاً وفعلاً ... ببيض الهند والسمر الصعاد
فكن يا عمرو منه على حذار ... ولا تملأ جفونك بالرقاد
ولولا سيد فينا مطاع عظيم القدر مرتفع العماد
أقمت الحق في الهندي رغماً ... وأظهرت الضلال من الرشاد
وقال عند خروجه إلى العراق في طلب النوق العصافيرية مهر عبلة (من المتقارب) :
أرض الشربة شعب ووادي ... رحلت وأهلها في فؤادي
يحلون فيه وفي ناظري ... وإن أبعدوا في محل السواد(6/826)
إذا خفق البرق من حيهم ... أرقت وبت حليف السهاد
إذا قام سوق لبيع النفوس ... ونادى وأعلن فيها المنادي
وأقبلت الخيل تحت الغبار ... بوقع الرماح وضرب الحداد
هنالك أصدم فرسانها ... فترجع مخذولة كالعماد
وارجع والنوق موقورة ... تسير الهوينا وشيبوب حاد
وتسهر لي أعين الحاسدين ... وترقد أعين أهل الوداد
وقال في إغارته على بني زبيد (من الوافر) :
ألا من مبلغ أهل الحجود ... مقال فتى وفي بالعهود
سأخرج للبراز خلي بال ... بقلب قد من زبر الحديد
واطعن بالقنا حتى يراني ... عدوي كالشرارة من بعيد
إذا ما الحرب دارت لي رحاها ... وطاب الموت للرجل الشديد
ترى بيضاً تشعشع في لظاها ... قد التصقت بأعضاد الزنود
فأقحمها ولكن مع رجال ... كان قلوبها حجر الصعيد
وخيل عودت خوض المنايا ... تشيب مفرق الطفل الوليد
سأحمل بالأسود على أسود ... وأخضب ساعدي بدم الأسود
بمملكة عليها تاج عز ... وقوم من بني عبس شهود
فأما القائلون هزبر قوم ... فذاك الفخر لا شرف الجدود
وأما القائلون قتيل طعن ... فذلك مصرع البطل الجليد
وقال في إغارته على بني كندة وخثعم (من الوافر) :
صحا من بعد سكرته فؤادي ... وعاود مقلتي طيب الرقاد(6/827)
وأصبح من يعاندني ذليلاً ... كثير الهم لا يفديه فاد
يرى في نومه فتكات سيفي ... فيشكو ما يراه إلى الوساد
ألا يا عبل قد عاينت فعلي ... وبان لك الضلال من الرشاد
وإن أبصرت مثلي فاهجريني ... ولا يلحقك عار من سوادي
وإلا فاذكري طعني وضربي ... إذا ما لج قومك في بعادي
طرقت ديار كندة وهي تدوي ... دوي الرعد من ركض الجياد
وبددت الفوارس في رباها ... بطعن مثل أفواه المزاد
وخثعم قد صبحناها صباحاً ... بكوراً قبل ما نادى المنادي
غدوا لما رأوا من حد سيفي ... نذير الموت في الأرواح حاد
وعدنا بالنهاب وبالسرايا ... وبالأسرى تكبل بالصفاد
وقال وهي المعروفة بالمؤنسة (من الوافر) :
ألا يا عبل ضيعت العهودا ... وأمسى حبلك الماضي صدودا
وما زال الشباب ولا اكتهلنا ... ولا أبلى الزمان لنا جديدا
وما زالت صوارمنا حداداً ... تقد بها أناملنا الحديدا
سلي عنا الفزاريين لما ... شفينا من فوارسها الكبودا
وخلينا نساءهم حيارى ... قبيل الصبح يلطمن الخدودا
ملأنا سائر الأقطار خوفاً ... فأضحى العالمون لنا عبيدا
وجاوزنا الثريا في علاها ... ولم نترك لقاصدنا وفودا
إذا بلغ الفطام لنا صبي ... تخر له أعادينا سجودا
فمن يقصد بداهية إلينا ... يرى منا جبابرة اسودا(6/828)
ويوم البذل نعطي ما ملكنا ... ونملا الأرض إحساناً وجودا
وننعل خيلنا في كل حرب ... عظاماً داميات أو جلودا
فهل من يبلغ النعمان منا ... مقالاً سوف يبلغه رشيدا
إذا عادت بنو الأعجام تهوي ... وقد ولت ونكست البنودا
وقوله أيضاً (من الوافر) :
أعادي صرف دهر لا يعادى ... واحتمل القطيعة والبعادا
وأظهر نصح قوم ضيعوني ... وإن خانت قلوبهم الودادا
أعلل بالمنى قلباً عليلاً ... وبالصبر الجميل وإن تمادى
تعيرني العدا بسواد جلدي ... وبيض خصائلي تمحو السوادا
سلي يا عبل قومك عن فعالي ... ومن حضر الوقيعة والطرادا
وردت الحرب والأبطال حولي ... تهز أكفها السمرا الصعادا
وخضت بمهجتي بحر المنايا ... ونار الحرب تتقد اتقادا
وعدت مخضباً بدم الأعادي ... وكرب الركض قد خضب الجوادا
وكم خلفت من بكر رداح ... بصوت نواحها تشجي الفؤادا
وسيفي مرهف الحدين ماض ... تقد شفاره الصخر الجمادا
ورمحي ما طعنت به طعيناً ... فعاد بعينه نظر الرشادا
ولولا صارمي وسنان رمحي ... لما رفعت بنو عبس عمادا
وقال يشكو من أهل زمانه ويمدح جماعة من قومه كان يعتمد عليهم في مهماته وهي من القصائد الحكمية (من الطويل) :
لأي حبيب يحسن الرأي والود ... وأكثر هذا الناس ليس لهم عهد(6/829)
أريد من الأيام ما لا يضرها ... فهل دافع عني نوائبها الجهد
وما هذه الدنيا لنا بمطيعة ... وليس لخلق من مداراتها بد
تكون الموالي والعبيد لعاجز ... ويخدم فيها نفسه البطل الفرد
وكل قريب له بعيد مودة ... وكل صديق بين أضلعه حقد
فلله قلب لا يبل غليله ... وصال ولا يلهيه من حله عقد
يكلفني أن أطلب العز بالقنا ... وأين العلا إن لم يساعدني الجد
أحب كما يهواه رمحي وصارمي ... وسابغة زغف وسابقة نهد
فيا لك من قلب توقد في الحشى ... ويا لك من دمع غزير له مد
وإن تظهر الأيام كل عظيمة ... فلي بين أضلاعي لها أسد ورد
إذا كان لا يمضي الحسام بنفسه ... فللضارب الماضي بقائمه حد
وحولي من دون الأنام عصابة ... توددها يخفى وأضغانها تبدو
يسر الفتى دهر وقد كان ساءه ... وتخدمه الأيام وهو لها عبد
ولا مال إلا ما أفادك نيله ... ثناء ولا مال لمن لا له مجد
ولا عاش إلا من يصاحب فتية ... غطاريف لا يعنيهم النحس والسعد
إذا طلبوا يوماً إلى الغزو شمروا ... وإن ندبوا يوماً إلى غارة جدوا
ألا ليت شعري هل تبلغني المنى ... وتلقى بي الأعداء سابحة تعدو
جواد إذا شق المحافل صدره ... يروح إلى ظعن القبائل أو يغدو
خفيت على إثر الطريدة في الفلا ... إذا هاجت الرمضاء واختلف الطرد
ويصحبني من آل عبس عصابة ... لها شرف بين القبائل يمتد
بهاليل مثل الأسد في كل موطن ... كأن دم الأعداء في فمهم شهد(6/830)
وقال يرثي تماضر زوجة الملك زهير بن جذيمة العبسي وهي أم قيس بن زهير (من الكامل) :
جازت ملمات الزمان حدودها ... واستفرغت أيامها مجهودها
وقضت علينا بالمنون فعوضت ... بالكره من بيض الليالي سودها
بالله ما بال الأحبة أعرضت ... عنا ورامت بالفراق صدودها
رضيت مصاحبة البلى واستوطنت ... بعد البيوت قبورها ولحودها
حرصت على طول البقاء وإنما ... مبدي النفوس أيادها ليعيدها
عبثت بها ال] ام حتى أوثقت ... أيدي البلى تحت التراب قيودها
فكأنما تلك الجسوم صوارم ... نحت الحمام من اللحود غمودها
نسجت يد الأيام من أكفانها ... حللاً والقت بينهن عقودها
وكسا الربيع ربوعها أنواره ... لما سقتها الغاديات عهودها
وسرى بها نشر النسيم فعطرت ... نفحات أرواح الشمال صعيدها
هل عيشة طابت لنا إلا وقد ... أبلى الزمان قديمها وجديدها
أو مقلة ذاقت كراها ليلة ... إلا وقد هدم القضاء وطيدها
شقت على العليا وفاة كريمة ... شقت عليها المكرمات برودها
وعزيزة مفقودة قد هونت ... مهج النوافل بعدها مفقودها
ماتت ووسدت الفلاة قتيلة ... يا لهف نفسي إذ رأت توسيدها
يا قيس إن صدورنا وقدت بها ... نار بأضلعنا تشب وقودها
فانهض لأخذ الثأر غير مقصر ... حتى نبيد من العداة عديدها(6/831)
وقال يصف حاله ويذكر جور قومه وظلمهم له (من الطويل) :
إذا فاض دمعي واستهل على خدي ... وجاذبني شوقي إلى العلم السعدي
اذكر قومي ظلمهم لي وبغيهم ... وقلة إنصافي على القرب والبعد
بنيت لهم بالسيف مجداً مشيداً ... فلما تناهى مجدهم هدموا مجدي
يعيبون لوني بالسواد وإنما ... فعالهم بالخبث أسود من جلدي
فواذل جيراني إذا غبت عنهم ... وطال المدى ماذا يلاقون من بعدي
أيحسب قيس أنني بعد طردهم ... أخاف الأعادي أو أذل من الطرد
وكيف يحل الذل قلبي وصارمي ... إذا اهتز قلب الضد يخفق كالرعد
متى سل في كفي بيوم كريهة ... فلا فرق ما بين المشايخ والمرد
وما الفخر إلا أن تكون عمامتي ... مكورة الأطراف بالصارم الهندي
نديمي إما غبتما بعد سكرة ... فلا تذكرا أطلال سلمى ولا هند
ولا تذكرا لي غير خيل مغيرة ... ونقع غبار حالك اللون مسود
فإن غبار الصافنات إذا علا ... نشقت له ريحاً ألذ من الند
وريحانتي رمحي وكاسات مجلسي ... جماجم سادات حراص على المجد
ولي من حسامي كل يوم على الثرى ... نقوش دم تغني الندامى عن الورد
وليس يعيب السيف أخلاق غمده ... إذا كان في يوم الوغى قاطع الحد
فلله دري كم غبار قطعته ... على ضامر الجنبين معتدل القد
وطاعنت عنه الخيل حتى تبددت هزاماً كأسراب القطاء إلى الورد
فزارة قد هيجتم ليث غابة ... ولم تفرقوا بين الضلالة والرشد
فقولوا لحصن إن تعانى عدواتي ... يبيت على نار من الحزن والوجد(6/832)
وكان قد أخذ أسيراً في حرب كانت بين العرب والعجم وكانت عبلة من جملة السبايا فتذكر أيامه معها وهو في السلاسل والقيود فعظم عليه الأمر وخنقته العبرة فقال (من الكامل) :
فخر الرجال سلاسل وقيود ... وكذا النساء بخانق وعقود
وإذا غبار الخيل مد رواقه سكري به لا ما جنى العنقود
يا دهر لا تبق علي فقد دنا ... ما كنت أطلب قبل ذا واريد
فالقتل لي من بعد عبلة راحة ... والعيش بعد فراقها منكود
يا عبل قد دنت المنية فاندبي ... إن كان جفنك بالدموع يجود
يا عبل إن تبكي علي فقد بكى ... صرف الزمان علي وهو حسود
يا عبل إن سفكوا دمي ففعائلي ... في كل يوم ذكرهن جديد
لهفي عليك إذا بقيت سبية ... تدعين عنتر وهو عنك بعيد
ولقد لقيت الفرس يا ابنة مالك ... وجيوشها قد ضاق عنها البيد
وتموج موج البحر إلا أنها ... لاقت أسوداً فوقهن حديد
جاروا فحكمنا الصوارم بيننا ... فقضت وأطراف الرماح شهود
يا عبل كم من جحفل فرقته ... والجو أسود والجبال تميد
فسطا علي الدهر سطوة غادر ... والدهر يبخل تارة ويجود
وكان قد خرج يوماً في سفر له ولما طالت غيبته عن بني عبس تنفس الصعداء. وأنشأ يقول (من الطويل) :
إذا رشقت قلبي سهام من الصد ... وبدل قربي حادث الدهر بالبعد
لبست لها درعاً من الصبر مانعاً ... ولاقيت جيش الشوق منفرداً وحدي
وبت بطيف منك يا عبل قانعاً ... ولو بات يسري في الظلام على خدي(6/833)
فبالله يا ريح الحجاز تنفسي على كبد حرى تذوب من الوجد
ويا برق إن عرضت من جانب الحمى ... فحي بني عبس على العلم السعدي
وما شاق قلبي في الدجى غير طائر ... ينوح على غصن رطيب من الرند
به مثل ما بين فهو يخفي من الجوى ... كمثل الذي أخفي ويبدي الذي أبدي
ألا قاتل الله الهوى كم بسيفه ... قتيل غرام لا يوسد في اللحد
وكان قد بلغه أسر ولديه غضوب وميسرة مع صديق له من بني عبس يقال له عروة بن الورد في حصن العقاب وهو مكان في اليمن فخرج يريد خلاصهم وقال في ذلك (من الخفيف) :
أحرقتني نار الجوى والبعاد ... بعد فقد الأوطان والأولاد
شاب رأسي فصار أبيض لوناً ... بعد ما كان حالكاً بالسواد
وتذكرت عبلة يوم جاءت لوداعي والهم والوجد باد
وهي تذري من خيفة البعد دمعاً ... مستهلاً بلوعة وسهاد
فلت كفي لدموع عنك فقلبي ... ذاب حزناً ولوعتي في ازدياد
ويح هذا الزمان كيف رماني ... بسهام صابت صميم فؤادي
غير أني مثل الحسام إذا ما ... زاد صقلاً جاد يوم جلاد
حنكتني نوائب الدهر حتى ... أوقفتني على طريق الرشاد
ولقيت الأبطال في كل حرب ... وهزمت الرجال في كل واد
وتركت الفرسان صرعى بطعن ... من سنان يحكي رؤوس المزاد
وحسام قد كنت من عهد شدا ... د قديماً وكان من عهد عاد
وقهرت الملوك شرقاً وغرباً ... وأبدت الأقران يوم الطراد
قل صبري على فراق غضوب ... وهو قد كان عدتي واعتمادي(6/834)
وكذا عروة وميسرة حا ... مي حمانا عند اصطدام الجياد
لأفكن أسرهم عن قريب ... من أيادي الأعداء والحساد
وقال وهي المعروفة بالعقيقية (من الكامل) :
بين العقيق وبين برقة تهمد ... طلل لعبلة مستهل المعهد
يا مسرح الآرام في وادي الحمى ... هل فيك ذو شجن يروح ويغتدي
في أيمن العلمين درس معالم ... أوهي بها جلدي وبان تجلدي
من كل فاتنة تلفت جيدها ... مرحاً كسالفة الغزال الأغيد
يا عبل كم يشجى فؤادي بالنوى ... ويروعني صوت الغراب الأسود
كيف السلو وما سمعت حمائماً ... يندبن إلا كنت أول منشد
ولقد حبست الدمع لا بخلاً به ... يوم الوداع على رسوم المعهد
وسالت طير الدوح كم مثلي شجا ... بأنينه وحنينه المتردد
ناديته ومدامعي منهلة ... أين الخلي من الشجي المكمد
لو كنت مثلي ما لبثت ملوناً ... وهتفت في غصن النقا المتاود
رفعوا القباب على وجوه أشرقت ... فيها فغيبت السهى في الفرقد
واستوقفوا ماء العيون بأعين ... مكحولة بالسحر لا بالأثمد
والشمس بين مضرج ومبلج ... والغصن بين موشح ومقلد
يطلعن بين سوالف ومعاطف ... وقلائد من لؤلؤ وزبرجد
قالوا اللقاء غداً بمنعرج اللوى ... وأطول شوق المستهام إلى غد
وتخال أنفاسي إذا رددتها ... بين الطلول محت نقوش المبرد
وتنوفة مجهولة قد خضتها ... بسنان رمح ناره لم تخمد(6/835)
باكرتها في فتية عبسية ... من كل أروع في الكريهة أصيد
وترى بها الرايات تخفق والقنا ... وترى العجاج كمثل بحر مزبد
فهناك تنظر آل عبس موقفي ... والخيل تعثر بالوشيج الأملد
وبوارق البيض الرقاق لوامع ... في عارض مثل الغمام المرعد
وذوابل السمر الدقاق كأنها ... تحت القتام نجوم ليل أسود
وحوافر الخيل العتاق على الصفا ... مثل الصواعق في قفار الفدفد
باشرت موكبها وخضت غبارها ... وطفئت جمر لهيبها المتوقد
وكررت والأبطال بين تصادم ... وتهاجم وتحزب وتشدد
وفوارس الهيجاء بين ممانع ... ومدافع ومخادع ومعربد
والبيض تلمع والرماح عواسل ... والقوم بين مجدل ومقيد
وموسد تحت التراب وغيره ... فوق التراب يئن غير موسد
والجو أقتم والنجوم مضيئة ... والأفق مغبر العنان الأربد
أقحمت مهري تحت ظل عجاجة بسنان رمح ذابل ومهند
ورغمت أنف الحاسدين بسطوتي ... فغدوا لها من راكعين وسجد
وله (من الطويل) :
ويمنعنا من كل ثغر نخافه ... اقب كسرحان الإباءة ضامر
وكل سبوح في الغبار كأنها ... إذا اغتسلت بالماء فتخاء كاسر
وقال أيضاً (من الرجز) :
أنا الهجين عنتره ... كل امرئ يحمي حره(6/836)
أسوده وأحمره ... والواردات مشفره
وله (من الطويل) :
أصدق منه الزور خوف ازوراره ... وأرضى استماع الهجر خشية هجره
وقال عند خروجه إلى ديار بني زبيد في طلب رأس خالد بن محارب (من البسيط) :
أطوي فيافي الفلا والليل معتكر ... وأقطع البيد والرمضاء تستعر
ولا أرى مؤنساً غير الحسام وإن ... قل الأعادي غداة الروع أو كثروا
فحاذري يا سباع البر من رجل ... إذا انتضى سيفه لا ينفع الحذر
ورافقيني تري هاماً مفلقة ... والطير عاكفة تمسي وتبتكر
ما خالد بعدما قد سرت طالبه ... بخالد لا ولا الجيداء تفتخر
ولا ديارهم بالأهل آنسة ... يأوي الغراب بها والذئب والنمر
وقال عند مبارزته أنس بن مدرك الخثعمي (من الوافر) :
إذا لعب الغرام بكل حر ... حمدت تجلدي وشكرت صبري
وفضلت البعاد على التداني ... وأخفيت الهوى وكتمت سري
ولا أبقي لعذالي مجالاً ... ولا أشفي العدو بهتك ستري
عركت نوائب الأيام حتى ... عرفت خيالها من حيث يسري
وذل الدهر لما أن رآني ... ألاقي كل نائبة بصدري
وما هاب الزمان علي لوني ... ولا حط السواد رفيع قدري
إذا ذكر الفخار بأرض قوم ... فضرب السيف في الهيجاء فخري
سموت إلى العلا وعلوت حتى ... رأيت النجم تحتي وهو يجري(6/837)
وقوماً آخرون سعوا وعادوا ... حيارى ما رأوا أثراً لأثري
وقال يتوعد قوماً بالحرب (من الطويل) :
إذا لم أروي صارمي من دم العدا ... ويصبح من أفرنده الدم يقطر
فلا كحلت أجفان عيني بالكرى ... ولا جاءني من طيف عبلة مخبر
إذا ما رآني الغرب ذلك لهيبتي ... وما زال باع الشرق عني يقصر
أنا الموت إلا أنني غير صابر ... على أنفس الأبطال والموت يصبر
أنا الأسد الحامي حمى من يلوذ بي ... وفعلي له وصف إلى الدهر يذكر
إذا ما لقيت الموت عممت رأسه ... بسيف على شرب الدما يتجوهر
سوادي بياض حين تبدو شمائلي ... وفعلي على الأنساب يزهو ويفخر
ألا فليعش جاري عزيزاً وينثني ... عدوي ذليلاً نادماً يتحسر
هزمت تميماً ثم جندلت كبشهم ... وعدت وسيفي من دم القوم أحمر
بني عبس سودوا في القبائل وافخروا ... بعبد له فوق السماكين منبر
إذا ما منادي الحي نادى أجبته ... وخيل المنايا بالجماجم تعثر
سل المشرفي الهندواني في يدي ... يخبرك عني أنني أنا عنتر
وقال أيضاً (من الطويل) :
إذا كان أمر الله أمراً يقدر ... فكيف يفر المرء منه ويحذر
ومن ذا يرد الموت أو يدفع القضا ... وضربته محتومة ليس تعبر
لقد هان عندي الدهر لما عرفته ... وأني بما تأتي الملمات أخبر
وليس سباع البر مثل ضباعه ... ولا كل من خاض العجاجة عنتر
سلوا صرف هذا الدهر كم شن غارة ... ففرجتها والموت فيها مشمر(6/838)
دعوني أجد السعي في طلب العلا ... فأدرك سؤلي أو أموت فأعذر
ولا تختشوا مما يقدر في غد ... فما جاءنا من عالم الغيب مخبر
وكم من نذير قد أتانا محذراً ... فكان رسولاً في السرور يبشر
قفي وانظري يا عبل فعلي وعايني ... طعاني إذا ثار العجاج المكدر
تري بطلاً يلقى الفوارس ضاحكاً ... ويرجع عنهم وهو أشعث أغبر
ولا ينثني حتى يخلي جماجماً ... تمر بها ريح الجنوب فتصفر
وأجساد قوم يسكن الطير حولها ... إلى أن يرى وحش الفلاة فينفر
وقال في حرب كانت بين عامر وعبس يذكر قتل زهير بن جذيمة (من الطويل) :
إذا نحن حالفنا شفار البواتر ... وسمر القنا فوق الجياد الضوامر
على حرب قوم كان فينا كفاية ... ولو أنهم مثل البحار الزواخر
وما الفخر في جمع الجيوش وإنما ... فخار الفتى تفريق جمع العساكر
سلي يا ابنة الأعمام عني وقد أتت ... قبائل كلب مع غني وعامر
تموج كموج البحر تحت غمامة ... قد انتسجت من وقع ضرب الحوافر
فولوا سراعاً والقنا في ظهورهم ... تشك الكلى بين الحشى والخواصر
وبالسيف قد خلفت في القفر منهم ... عظاماً ولحماً للنسور الكواسر
وما راع قومي غير قول ابن ظالم ... وكان خبيثاً قوله قول ماكر
بغى وادعى أن ليس في الأرض مثله ... فلما التقينا بأن فخر المفاخر
أحب بني عبس ولو هدروا دمي ... محبة عبد صادق القول صابر
وادنوا إذا ما أبعدوني والتقي ... رماح العدا عنهم وحر الهواجر(6/839)
تولى زهير والمقانب حوله ... قتيلاً وأطراف الرماح الشواجر
وكان أجل الناس قدراً وقد غدا ... أجل قتيل زار أهل المقابر
فوا أسفا كيف اشتفى قلب خالد بتاج بني عبس كرام العشائر
وكيف أنام الليل من دون ثأره ... وقد كان ذخري في الخطوب الكبائر
وقال في كبره (من البسيط) :
ذنبي لعبلة ذنب غير مغتفر ... لما تبلج صبح الشيب في شعري
يا منزلاً ادمعي تجري عليه إذا ... ضن السحاب على الأطلال بالمطر
أرض الشربة كم قضيت مبتهجاً ... فيها مع الغيد والأتراب من وطر
أيام غصن شبابي في نعومته ... ألهو بما فيه من زهر ومن ثمر
هم الأحبة إن خانوا وإن نقضوا ... عهدي فماحلت عن وجدي ولا فكري
أشكو من الهجر في سر وفي علن ... شكوى تؤثر في صلد من الحجر
وقال أيضاً (من الكامل) :
أرض الشربة تربها كالعنبر ... ونسيمها يسري بمسك أذفر
يا عبل كم من غمرة باشرتها ... بمثقف صلب القوائم أسمر
فأتيتها والشمس في كبد السما ... والقوم بين مقدم ومؤخر
ضجوا فصحت عليهم فتجمعوا ... ودنا إلي خميس ذاك العسكر
فشككت هذا بالقنا وعلوت ذا ... مع ذاك بالذكر الحسام الأبتر
وقصدت قائدهم قطعت وريده ... وقتلت منهم كل قرم أكبر
تركوا اللبوس مع السلاح هزيمة ... يجرون في عرض الفلاة المقفر
ونشرت رايات المذلة فوقهم ... وقسمت سلبهم لكل غضنفر(6/840)
ورجعت عنهم لم يكن قصدي سوى ... ذكر يدوم إلى أوان المحشر
من لم يعش متعززاً بسنانه ... سيموت موت الذل بين المعشر
لابد للعمر النفيس من الفنا ... فاصرف زمانك في الأعز الأفخر
وقال (من الكامل) :
يا عبل خلي عنك قول المفتري ... واصغي إلى قول المحب المخبر
وخذي كلاماً صنعته من عسجد ... ومعانياً رصعتها بالجوهر
كم مهمه قفر بنفسي خضته ... ومفاوز جاوزتها بالأبجر
كم جحفل مثل الضباب هزمته ... بمهند ماض ورمح أسمر
كم فارس بين الصفوف أخذته ... والخيل تعثر بالقنا المتكسر
يا عبل دونك كل حي فاسألي ... إن كان عندك شبهة في عنتر
يا عبل هل بلغت يوماً أنني ... وليت منهزماً هزيمة مدبر
كم فارس غادرت يأكل لحمه ... ضاري الذئاب وكاسرات الأنسر
أفري الصدور بكل طعن هائل ... والسابغات بكل ضرب منكر
وإذا ركبت ترى الجبال تضج من ... ركض الخيول وكل قطر موعر
وإذا غزوت تحوم عقبان الفلا ... حولي فتطعم كبد كل غضنفر
ولكم خطفت مدرعاً من سرجه ... في الحرب وهو بنفسه لم يشعر
ولكم وردت الموت أعظم مورد ... وصدرت عنه فكان أعظم مصدر
يا عبل لو عاينت فعلي في العدا ... من كل شلو بالتراب معفر
والخيل في وسط المضيق تبادرت ... نحوي كمثل العارض المتفجر
من كل أدهم كالرياح إذا جرى ... أو أشهب عالي المطا أو اشقر(6/841)
فصرخت فيهم صرخة عبسية ... كالرعد تدوي في قلوب العسكر
وعطفت نحوهم وصلت عليهم ... وصدمت موكبهم بصدر الأبجر
وطرحتهم فوق الصعيد كأنهم ... إعجاز نخل في حضيض المحجر
ودماؤهم فوق الدروع تخضبت ... منها فصارت كالعقيق الأحمر
ولربما عثر الجواد بفارس ... ويخال أن جواده لم يعثر
ومن حكمه قوله (من الطويل) :
دهتني صروف الدهر وانتشب الغدر ... ومن ذا الذي في الناس يصفو له الدهر
وكم طرقتني نكبة بعد نكبة ... ففرجتها عني وما مسني ضر
ولولا سناني والحسام وهمتي ... لما ذكرت عبس ولا نالها فخر
بنيت لهم بيتاً رفيعاً من العلا ... تخر له الجوزاء والفرغ والغفر
وها قد رحلت اليوم عنهم وأمرنا ... إلى من له في خلقه النهي والأمر
سيذكرني قومي إذا الخيل أقبلت ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
يعيبون لوني بالسواد جهالة ... ولولا سواد الليل ما طلع الفجر
وإن كان لوني أسوداً فخصائلي ... بياض ومن كفي يستنزل القطر
محوت بذكري في الورى ذكر من مضى ... وسدت فلا زيد يقال ولا عمرو
وقال في صباه (من الطويل) :
إذا اشتغلت أهل البطالة في الكأس ... أو اغتبقوها بين قس وشماس(6/842)
جعلت منامي تحت ظل عجاجة ... وكأس مدامي تحت جمجمة الرأس
وصوت حسامي مطربي وبريقه ... إذا اسود وجه الفق بالنقع مقباسي
وإن دمدمت أسد الشرى وتلاحمت ... أفرقها والطعن يسبق أنفاسي
ومن قال إني أسود ليعيبني ... أريه بفعلي أنه أكذب الناس
فسيري مسير الأمن يا بنت مالك ... ولا تحنجي بعد الرجاء إلى اليأس
فلو لاح لي شخص الحمام لقيته ... بقلب شديد البأس كالجبل الراسي
وقال عند مبارزته عمرو بن ود العامري وكان من فرسان العرب وصناديدها (من الطويل) :
شريت القنا من قبل أن يشرتي القنا ... ونلت المنى من كل أشوس عابس
فما كل من يشري القنا يطعن العدا ... ولا كل من يلقى الرجال بفارس
خرجت إلى القرم الكمي مبادراً ... وقد هجست في القلب مني هواجسي
وقلت لمهري والقنا يقرع القنا ... تنبه وكن مستيقظاً غير ناعس
فجاوبني مهري الكريم وقال لي ... أنا من جياد الخيل كن أنت فارسي
ولما تجاذبنا السيوف وأفرغت ... ثياب المنايا كنت أول لابس
ورمحي إذا ما اهتز يوم كريهة ... تخر له كل الأسود القناعس
وما هالني يا عبل فيك مهالك ... ولا راعني هول الكمي الممارس
فدونك يا عمرو بن ود ولا تحل ... فرمحي ظمآن لدم الأشاوس
وكانت عبلة نظرت إليه وفيه آثار الجراح فضحكت فقال في ذلك (من الكامل) :
ضحكت عبيلة إذ رأتني عارياً ... خلق القميص وساعدي مخدوش
لا تضحكي مني عبيلة واعجبي ... مني إذا التفت علي جيوش(6/843)
ورأيت رمحي في القلوب محكماً ... وعليه من فيض الدماء نقوش
ألقي صدور الخيل وهي عوابس ... وأنا ضحوك نحوها وبشوش
إني أنا ليث العرين ومن له ... قلب الجبان محير مدهوش
إني لأعجب كيف ينظر صورتي ... يوم القتال مبارز ويعيش
وكان قد خرج إلى العراق في طلب النوق العصافيرية مهر عبلة فأسر هناك فتذكر ديار قومه وهو في سجن المنذر بن ماء السماء فقال (من الطويل) :
أيا علم السعدي هل أنا راجع ... وأنظر في قطريك زهر الأراجع
وتبصر عيني الربوتين وحاجراً ... وسكان ذاك الجزع بين المراتع
وتجمعنا أرض الشربة واللوى ... ونرتع في أكناف تلك المرابع
فيا نسمات البان بالله خبري ... عبيلة عن رحلي بأي المواضع
ويا برق بلغها الغداة تحيتي ... وحي دياري في الحمى ومضاجعي
أيا صادحات الأيك إن مت فاندبي ... على تربتي بين الطيور السواجع
ونوحي على من مات ظلماً ولم ينل ... سوى البعد عن أحبابه والفجائع
ويا خيل فابكي فارساً كان يلتقي ... صدور المنايا في غبار المعامع
فأمسى بعيداً في غرام وذلة ... وقيد ثقيل من قيود التوابع
ولست بباك إن أتتني منيتي ... ولكنني أهفو فتجري مدامعي
وليس بفخر وصف بأسي وشدت ... وقد شاع ذكري في جميع المجامع
وكان مالك بن قواد لما فر بابنته عبلة من وجه عنترة ونزل على قيس بن مسعود سيد بني شيبان أكرمه قيس وأحسن إليه. وكان لقيس ولد من الفرسان يقال له بسطام ويكنى بأبي اليقظان فلما نظر إلى عبلة أعجبته ووقعت في قلبه موقعاً عظيماً فخطبها من أبيها فوعده بزواجها على شرط أن يأتي له برأس عنترة. فقبل بذلك ونهض من وقته طالباً ديار(6/844)
عبس فالتقاه عنترة في الطريق وكان قد بلغه خبره فبارزه وهو يقول (من الرمل) :
يا أبا اليقظان أغواك الطمع ... سوف تلقى فارساً لا يندفع
زرتني تطلب مني غفلة ... زورة الذئب على الشاة رتع
يا أبا اليقظان كم صيد نجا ... خالي البال وصياد وقع
إن تكن تشكو لأوجاع الهوى ... فأنا أشفيك من هذا الوجع
بحسام كلما جردته ... في يميني كيفما مال قطع
وأنا الأسود والعبد الذي ... يقصد الخيل إذا النقع ارتفع
نسبتي سيفي ورمحي وهما ... يؤنساني كلما اشتد الفزع
يا بني شيبان عمي ظالم ... وعليكم ظلمه اليوم رجع
ساق بسطاماً إلى مصرعه ... عالقاً منه بأذيال الطمع
وأنا أقصده في أرضكم ... وأجازيه على ما قد صنع
وقال يتوعد بني شيبان (من الرجز) :
مدت إلي الحادثات باعها ... وحاربتني فرأت ما راعها
ما دست في أرض العداة غدوة ... إلا سقى سيل الدما بقاعها
ويل لشيبان إذا صبحتها ... وأرسلت بيض الظبي شعاعها
وخاض رمحي في حشاها وغدا ... يشك مع دروعها أضلاعها
واصبحت نساؤها نوادباً ... على رجال تشتكي نزاعها
وحر أنفاسي إذا ما قابلت ... يوم الفراق صخرة أماعها
يا عبل كم تنعق غربان الفلا ... قد مل قلبي في الدجى سماعها
فارقت أطلالاً وفيها عصبة ... قد قطعت من صحبتي أطماعها(6/845)
وقال (من الوافر) :
لقد قالت عبيلة إذ رأتني ... ومفرق لمتي مثل الشعاع
إلا لله درك من شجاع ... تذل لهوله أسد البقاع
فقلت لها سلي الأبطال عني ... إذا ما فر مرتاع القراع
سليهم يخبروك بأن عزمي ... أقام بربع أعداك النواعي
أنا العبد الذي سعدي وجدي ... يفوق على السهى في الارتفاع
سموت إلى عنان المجد حتى ... علوت ولم أجد في الجو ساع
وخر رام أن يسعى كسعيي ... وجد بجده يبغي اتباعي
فقصر عن لحاقي في المعالي ... وقد أعيت به أيدي المساعي
ويحمل عدتي فرس كريم ... أقدمه إذا كثر الدواعي
وفي كفي صقيل المتن عضب ... يداوي الرأس من ألم الصداع
ورمحي السمهري له سنان ... يلوح كمثل نار في يفاع
وما مثلي جزوع في لظاها ... ولست مقصباً إن جاء داع
وقال يتوعد جموع الفرس بالحرب (من الكامل) :
قف بالمنازل إن شجتك ربوعها ... فلعل عينك تستهل دموعها
واسأل عن الأظعان أين سرت بها ... آباؤها ومتى يكون رجوعها
دار لعبلة شط عنك مزارها ... ونأت ففارق مقلتيك هجوعها
فسقتك يا أرض الشربة مزنة ... منهلة يروي ثراك هموعها
وكسا الربيع رباك في أزهاره ... حللاً إذا ما الأرض فاح ربيعها
يا عبل لا تخشي علي من العدا ... يوماً إذا اجتمعت علي جموعها(6/846)
إن المنية يا عبيلة دوحة ... وأنا ورمحي أصلها وفروعها
وغدا يمر على الأعاجم من يدي ... كأس أمر من السموم نقيعها
وأذيقها طعناً تذل لوقعه ... ساداتها ويشيب منه رضيعها
وإذا جيوش الكروي تبادرت ... نحوي وأبدت ما تكن ضلوعها
قاتلتها حتى تمل ويشتكي ... كرب الغبار رفيعها ووضيعها
فيكون للأسد الضواري لحمها ... ولمن صحبنا خيلها ودروعها
يا عبل لو أن المنية صورت ... لغدا إلي سسجودها وركوعها
وسطت بسيفي في النفوس مبيدة ... من لا يجيب مقالها ويطيعها
وقال في يوم المصانع (من الوافر) :
إذا كشف الزمان لك القناعا ... ومد إليك صرف الدهر باعا
فلا تخشى المنية والتقيها ... ودافع ما استطعت لها دفاعا
ولا تختر فراشاً من حرير ... ولا تبك المنازل والبقاعا
وحولك نسوة يندبن حزناً ويهتكن البراقع واللفاعا
ويقل لك الطبيب دواك عندي ... إذا ما جس كفك والذراعا
ولو عرف الطبيب دواء داء ... يرد الموت ما قاسى النزاعا
وفي يوم المصانع قد تركنا ... لنا بفعالنا خبراً مشاعا
أقمنا بالذوابل سوق حرب ... وصيرنا النفوس لها متاعا
حصاني كان دلال المنايا ... فخاض غبارها وشرى وباعا
وسيفي كان في الهيجا طبيبا ... يداوي رأس من يشكو الصداعا
أنا العبد الذي خبرت عنه ... وقد عاينتني فدع السماعا(6/847)
ولو أرسلت رمحي مع جبان ... لكان بهيبتي يلقى السباعا
ملأت الأرض خوفاً من حسامي ... وخصمي لم يجد فيها اتساعا
إذا الأبطال فرت خوف بأسي ... ترى الأقطار باعاً أو ذراعا
وقال في حرب كانت بينهم وبين العجم (من البسيط) :
يا عبل قري بوادي الرمل آمنة ... من العداة وإن خوفت لا تخفي
فدون بيتك أسد في أناملها ... بيض تقد أعالي البيض والحجف
لله در بني عبس لقد بلغوا ... كل الفخار ونالوا غاية الشرف
خافوا من الحرب لما أبصروا فرسي ... تحت العجاجة يهوي بي إلى التلف
ثم اقتفوا أثري من بعد ما علموا ... أن المنية سهم غير منصرف
خضت الغبار ومهري أدهم حلك ... فعاد مختضباً بالدم والجيف
مازلت أنصف خصمي وهو يظلمني ... حتى غدا من حسامي غير منتصف
وإن يعيبوا سواداً قد كسيت به ... فالدر يستره ثوب من الصدف
وله (من الوافر) :
وحارثة بن لام قد فجعنا ... به أحياء عمر في التلاقي
تركناه بشعب بين قتلى ... نجيعهم به فوق التراقي
وقال في وقعة كانت بينهم وبين بني زبيد (من البسيط) :
لقد وجدنا زبيداً غير صابرة ... يوم التقينا وخيل الموت تستبق
إذا أدبروا فعملنا في ظهورهم ... ما تعمل النار في الحلفى فتحترق
وخالد قد تركت الطير عاكفة ... على دماه وما في جسمه رمق
خلقت للحرب أحميها إذا بردت ... واصطلي بلظاها حيث اخترق(6/848)
والتقي الطعن تحت النقع مبتسماً ... والخيل عابسة قد بلها العرق
لو سابقتني المنايا وهي طالبة ... قبض النفوس أتاني قبلها السبق
ولي جواد لدى الهيجاء ذو شغب ... يسابق الطير حتى ليس يلتحق
ولي حسام إذا ما سل في رهج ... يشق هام الأعادي حين يمتشق
أنا الهزبر إذا خيل العدا طلعت ... يوم الوغى ودماء الشوس تندفق
ما عبست حومة الهيجاء وجه فتى ... إلا ووجهي إليها باسم طلق
ما سابق الناس يوم الفضل مكرمة ... إلا بدوت إليها حيث تستبق
وقال هو في سجن المنذر بن ماء السماء عندما خرج إليه في طلب النوق العصافيرية مهر عبلة كما مر (من الوافر) :
ترى علمت عبيلة ما ألاقي ... من الأهوال في أرض العراق
طغاني بالريا والمكر عمي ... وجار علي في طلب الصداق
فخضت بمهجتي بحر المنايا ... وسرت إلى العراق بلا رفاق
وسقت النوق والرعيان وحدي ... وعدت أجد من نار اشتياقي
وما أبعدت حتى ثار خلفي ... غبار سنابك الخيل العتاق
وطبق كل ناحية غبار ... وأشعل بالمهندة الرقاق
وضجت تحته الفرسان حتى ... حسبت الرعد محلول النطاق
فعدت وقد علمت بأن عمي ... طغاني بالمجال وبالنفاق
وبادرت الفوارس وهي تجري ... بطعن في النحور وفي التراقي
وما قصرت حتى كل مهري ... وقصر في السباق وفي اللحاق
نزلت عن الجواد وسقت جيشاً ... بسيفي مثل سوقي للنياق(6/849)
وفي باقي النهار ضعفت حتى ... اسرت وقد عيي عضدي وساقي
وفاض علي بحر من رجال ... بأمواج من السمر الدقاق
وقادوني إلى ملك كريم ... رفيع قدره في العز راق
وقد لاقيت بين يديه ليثاً ... كريه المتلقى مر المذاق
بوجه مثل دور الترس فيه ... لهيب النار يشعل في المآقي
قطعت وريده بالسيف جزراً ... وعدت إليه أحجل في وثاقي
عساه يجود لي بمراد عمي ... وينعم بالجمال وبالنياق
وقال عند مبارزته مسحل بن طراق الكندي وكان المذكور قد خطب عبلة من أبيها عندما هرب بها من بني شيبان إلى ديار كندة (من الوافر) :
أنا البطل الذي خبرت عنه ... وذكري شاع في كل الآفاق
إذا افتخر الجبان ببذل مال ... ففخري بالمضمرة العتاق
وإن طعن الفوارس صدر خصم ... فطعني في النحور وفي التراقي
وإني قد سبقت لكل فضل ... فهل من يرتقي مثلي المراقي
ألا فاخبر لكندة ما تراه ... قريباً من قتال مع محاق
وأوصيهم بما تختار منهم ... فمالك رجعة بعد التلاقي
وله (من الوافر) :
صحا م سكره قلبي وفاقا ... وزار النوم أجفاني استراقا
واسعدني الزمان فصار سعدي ... يشق الحجب والسبع الطباقا
أنا العبد الذي يلقى المنايا ... غداة الروع لا يخشى المحاقا
أكر على الفوارس يوم حرب ... ولا أخشى المهندة الرقاقا(6/850)
وتطربني سيوف الهند حتى ... أهيم إلى مضاربها اشتياقا
وإني أعشق السمر العوالي ... وغيري يعشق البيض الرشاقا
وكاسات الأسنة لي شراب ... ألذ به اصطباحاً واغتباقا
وأطراف القنا الخطي نقلي ... وريحاني إذا المضمار ضاقا
جزى الله الجواد اليوم عني ... بما يجزي به الخيل العتاقا
شققت بصدره موج المنايا ... وخضت النقع لا أخشى اللحاقا
ألا يا عبل لو أبصرت فعلي ... وخيل الموت تنطبق انطباقا
سلي سيفي ورمحي عن قتالي ... هما في الحرب كانا لي رفاقا
سقيتهما دماً لو كان يسقى ... به جبلا تهامة ما أفاقا
وكم من سيد خليت ملقى ... يحرك في الدما قدما وساقا
وقال أيضاً (من الطويل) :
لعل ترى برق الحمى وعساكا ... وتجني أراكات الغضا بجناكا
وما كنت لولا حب عبلة حائلاً ... بدلك أن تسقي غضاً وأراكا
وقال في وقعة كانت بينهم وبين طيىء (من البسيط) :
يا عبل إن كان ظل القسطل الحلك ... أخفى عليك قتالي يوم معتركي
فسائلي فرسي هل كنت أطلقه ... إلا على موكب كالليل محتبك
وسائلي السيف عني هل ضربت به ... يوم الكهريهة إلا هامة الملك
وسائلي الرمح عني هل طعنت به ... إلا المدرع بين النحر والحنك(6/851)
اسقي الحسام واسقي الرمحخ نهلته ... واتبع القرن لا أخشى من الدرك
كم ضربة لي بحد السيف قاطعة ... وطعنة شكت القربوس بالكرك
لولا الذي ترهب الأملاك قدرته ... جعلت متن جوادي قبة الفلك
وكان قد خرج إلى دمشق الشام فلما طالت غيبته قال (من الكامل) :
ريح الحجاز بحق من أنشاك ... دري السلام وحيي من حياك
هبي عسى وجدي يخف وتنطفي ... نيران أشواقي ببرد هواك
يا ريح لولا أن فيك بقية ... من طيب عبلة مت قبل لقاك
كيف السلو وما سمعت حمائماً ... يندبن إلا كنت أول باك
بعد المزار فعاد طيف خيالها ... عني قفار مهامه الأعناك
يا عبل ما أخشى الحمام وإنما ... أخشى على عينيك وقت بكاك
يا عبل لا يحزنك بعدي وابشري ... بسلامتي واستبشري بفكاكي
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك ... إن كان بعض عداك قد أغراك
يخبرك من حضر الشآم بأنني ... أصفيت وداً من أراد هلاكي
ذل الأولى احتالوا علي وأصبحوا ... يتشفعون بسيفي الفتاك
فعفوت عن أموالهم وحريمهم ... وحميت ربع القوم مثل حماك
ولقد حملت على الأعاجم حملة ... ضجت لها الأملاك في الأفلاك
فنثرتهم لما أتوني في الفلا ... بسنان رمح للدما سفاك
وقال أيضاً (من الكامل) :
تمشي النعام به خلاء حوله ... مشي النصارى حول بيت الهيكل
احذر محل السوء لا تحلل به ... وإذا نبا بك منزل فتحول(6/852)
تلقى خصاصة بيتنا أرماحنا ... شالت نعامة أينا لم يفعل
قال صاحب الأغاني: هذا الشعر فيما ذكر يحيى بن علي عن إسحاق لعنترة بن شداد العبسي. وما رأيت هذا الشعر في شيء من دواوين شعر عنترة ولعله من رواية لم تقع إلينا وذكر غير أبي أحمد أن الشعر لعبد قيس بن خفاف البرجمي ألا أن البيت الأوسط لعنترة لا يشك فيه.
وقال ايضاً (من الكامل) :
وأنا المنية في المواطن كلها ... والطعن مني سابق الآجال
إني ليعرف في الحروب مواقفي ... في آل عبس منصبي وفعالي
منهم أبي حقاً فهم لي والد ... والأم من حام فهم أخوالي
وقال في صباه (من الوافر) :
دموع في الخدود لها مسيل ... وعين نومها أبداً قليل
وصب لا يقر له قرار ... ولا يسلو ولو طال الرحيل
فكم أبلى بإبعاد وبين ... وتشجيني المنازل والطلول
وكم أبكي على ألف شجاني ... وما يغني البكاء ولا العويل
تلاقينا فما أطفى التلاقي ... لهيباً لا ولا برد الغليل
طلبت من الزمان صفاء عيش ... وحسبك قدر ما يعطي البخيل
وها أنا ميت إن لم يعني ... على أسر الهوى الصبر الجميل
وقال يستدعي فرسان العجم للمبارزة (من الرمل) :
نفسوا كربي وداووا عللي ... وأبرزوا لي كل ليث بطل
وانهلوا من حد سيفي جرعاً ... مرة مثل نقيع الحنظل
وإذا الموت بدا في جحفل ... فدعوني للقاء الجحفل(6/853)
يا بني الأعجام ما بالكم ... عن قتالي كلكم في شغل
أين من كان لقتلي طالباً ... رام يسقيني شراب الأجل
أبرزوه وانظروا ما يلتقي ... من سناني تحت ظل القسطل
وكانت بنو طيىء قد أغارت على بني عبس فأصابوا منهم وقتلوا أنفاراً من الحي وسبوا نساء كثيرة وكان عنترة معتزلاً عنهم في ناحية من إبله على فرس له فمر به أبوه فقال: ويك يا عنترة كر. فقال عنترة. العبد لا يحسن الكر وإنما يحسن الحلب والصر. فقال: كر وأنت حر. فكر وحده وهبت في إثره رجال عبس فهزم السرية المغيرة واستنقذ الغنيمة من أيديهم وقال في ذلك (من الوافر) :
عقاب الهجر أعقب لي الوصالا ... وصدق الصبر أظهر لي المحالا
عتبت الدهر كيف يذل مثلي ... ولي عزم أقد به الجبالا
أنا الرجل الذي خبرت عنه ... وقد عاينت من خبري الفعالا
غداة أتت بنو طي وكلب ... تهز بكفها السمر الطوالا
بجيش كلما لاحظت فيه ... حسبت الأرض قد ملئت رجالا
وداسوا أرضنا بمضمرات ... فكان صهيلها قيلاً وقالا
تولوا جفلاً منا حيارى ... وفاتوا الظعن منهم والرحالا
وما حملت ذوو الأنساب ضيماً ... ولا سمعت لداعيها مقالا
وما رد الأعنة غير عبد ... ونار الحرب تشتعل اشتعالا
بطعن ترعد الأبطال منه ... لشدته فتجتنب القتالا
صدمت الجيش حتى كل مهري ... وعدت فما وجدت لهم ظلالا
وراحت خيلهم من وجه سيفي خفافاً بعد ما كانت ثقالا
تدوس على الفوارس وهي تعدو ... وقد أخذت جماجمهم نعالا(6/854)
وكم بطل تركت بها طريحاً يحرك بعد يمناه الشمالا
وخلصت العذارى والغواني ... وما أبقيت مع أحد عقالا
ولما قتل عنترة مسحل بن طراق الكندي الذي تقدم ذكره أرسل عبلة مع مالك بن زهير إلى ديار عبس وتخلف هو مع بسطام بن قيس الشيباني وكان قد تذكر أعمال عمه وبغضه له فقال في ذلك (من الوافر) :
إذا ريح الصبا هبت أصيلا ... شفت بهبوبها قلباً عليلا
وجاءتني تخبر أن قومي ... بمن أهواه قد جدوا الرحيلا
وما عنوا على من خلفوه ... بوادي الرمل منطرحاً جديلا
يحن صبابة ويهيم وجداً ... إليهم كلما ساقوا الحمولا
ألا يا عبل إن خانوا عهودي ... وكان أبوك لا يرعى الجميلا
حملت الضيم والهجران جهدي ... على رغمي وخالفت العذولا
عركت نوائب الأيام حتى ... رأيت كثيرها عندي قليلا
وعاداني غراب البين حتى ... كأني قد قتلت له قتيلا
وقد غنى على الأغصان طير ... بصوت حنينه يشفي الغليلا
بكى فأعرته أجفان عيني ... وناح فزاد أعوالي عويلا
فقلت له جرحت صميم قلبي ... وأبدى نوحك الداء الدخيلا
وما أبقيت في جفني دموعاً ... ولا جسماً أعيش به نحيلا
ولا أ [قى لي الهجران صبراً ... لكي ألقى المنازل والطلولا
ألفت السقم حتى صار جسمي ... إذا فقد الضنى أمسى عليلا
ولو أني كشفت الدرع عني ... رأيت وراءه رسماً محيلا(6/855)
وفي الرسم المحيل حسام نفس ... بفلل حده السيف الصقيلا
وقال أيضاً (من الوافر) :
لمن طلل بوادي الرمل بال ... محت آثاره ريح الشمال
وقفت به ودمعي من جفوني ... يفيض على مغانيه الخوالي
أسائل عن فتاة بني قراد ... وعن أترابها ذا الجمال
وكيف يجيبني رسم محيل ... بعيد لا يعن على سؤال
إذا صاح الغراب به شجاني ... وأجرى أدمعي مثل اللآلي
وأخبرني بأصناف الرزايا ... وبالهجران من بعد الوصال
غراب البين ما لك كل يوم ... تعاندني وقد أشغلت بالي
كأني قد ذبحت بحد سيفي ... فراخك أو قنصتك بالحبال
بحق أبيك داوي جرح قلبي ... وروح نار سري بالمقال
وخبر عن عبيلة أين حلت ... وما فعلت بها أيدي الليالي
فقلبي هائم في كل أرض ... يقبل إثر أخفاف الجمال
وجسمي في جبال الرمل ملقى ... خيال يرتجي طيف الخيال
وفي الوادي على الأغصان طير ... ينوح ونوحه في الجو عال
فقلت له وقد أبدى نحيباً ... دع الشكوى فحالك غير حالي
أنا دمعي يفيض وأنت باك ... بلا دمع فذاك بكاء سال
لحى الله الفراق ولا رعاه ... فكم قد شك قلبي بالنبال
أقاتل كل جبار عنيد ... ويقتلني الفراق بلا قتال
وقال أيضاً (من الوافر) :(6/856)
عذابك يا ابنة السادات سهل ... وجور أبيك إنصاف وعدل
فجوروا واطلبوا قتلي وظلمي ... وتعذيبي فإني لا أمل
ولا أسلو ولا أشفي الأعادي ... فساداتي لهم فخر وفضل
أناس أنزلونا في مكان ... من العلياء فوق النجم يعلو
إذا جاروا عدلنا في هواهم ... وإن عزوا لعزتهم نذل
وكيف يكون لي عزم وجسمي ... تراه قد بقي منه الأقل
فيا طير الأراك بحق رب ... يراك عساك تعلم أين حلوا
وتطلق عاشقاً من أسر قوم ... له في حبهم أسر وغل
ينادوني وخيل الموت تجري ... محلك لا يعادله محل
وقد أمسوا يعيبوني بأمي ... ولوني كلما عقدوا وحلوا
لقد هانت صروف الدهر عندي ... وهانوا أهله عندي وقلوا
ولي في كل معركة حديث ... إذا سمعت به الأبطال ذلوا
غللت رقابهم وأسرت منهم ... وهم في عظم جمعهم استقلوا
وأحصنت النساء بحد سيفي ... وأعدائي لعظم الخوف فلوا
أثير عجاجها والخيل تجري ... ثقالاً بالفوارس لا تمل
وارجع وهي قد ولت خفافاً ... محيرة من الشكوى تكل
وأرضى بالإهانة مع أناس ... أراعيهم ولو قتلي أحلوا
واصبر للحبيب وإن جفاني ... ولم أترك هواه ولست أسلو
عسى الأيام تنعم لي بقرب ... وبعد الهجر مر العيش يحلو
وقال في إغارته على بني ضبة (من الكامل) :(6/857)
عفت الديار وباقي الأطلال ... ريح الصبا وتغلب الأحوال
وعفا مغانيها فاخلق رسمها ... ترداد وكف العارض الهطال
فلئن صرمت الحبل يا ابنة مالك ... وسمعت في مقالة العذال
فسلي ليكما تخبري بفعائلي ... عند الوغى ومواقف الأهوال
والخيل تعثر بالقنا في جاحم ... تهفو به ويجلن كل مجال
وأنا المجرب في المواقف كلها ... من آل عبس منصبي وفعالي
منهم أبي شداد أكرم والد ... والأم من حام فهم أخوالي
وأنا المنية حين تشتجر القنا ... والطعن مني سابق الآجال
ولرب قرن قد تركت مجدلاً ... ولبانه كنواضح الجريال
تنتابه طلس السباع مغادراً ... في قفرة متمزق الأوصال
ولرب خيل قد وزعت رعيلها ... بأقب لا ضغن ولا مجفال
ومسربل حلق الحديد مدجج ... كالليث بين عرينة الأشبال
غادته للجنب غير موسد ... متثني الأوصال عند مجال
ولرب شرب قد صبحت مدامة ... ليسوا بأنكاس ولا أوغال
وكواعب مثل الدمى أصبيتها ... ينظرن في خفر وحسن دلال
فسلي بني عك وخثعم تخبري ... وسلي الملوك وطيىء الأجبال
وسلي عشائر ضبة إذ أسلمت ... بكر حلائلها ورهط عقال
وبني صباح قد تركنا منهم ... جزراً بذات الرمث فوق أثال
زيداً وسوداً والمقطع أقصدت ... أرماحنا ومجاشع بن هلال(6/858)
رعناهم بالخيل تردي بالقنا ... وبكل أبيض صارم فصال
من مثل قومي حين يختلف القنا ... وإذا تزل قوائم الأبطال
يحملن كل عزيز نفس باسل ... صدق اللقاء مجرب الأهوال
ففدى لقوم عند كل عظيمة ... نفسي وراحلتي وسائر مالي
قومي صمام لمن أرادوا ضيمهم ... والقاهرون لكل أغلب صال
والمطعمون وما عليهم نعمة ... والأكرمون أباً ومحتد وخال
نحن الحصى عدداً ونحسب قومنا ... ورجالنا في الحرب غير رجال
منا المعين على الندى بفعاله ... والبذل في اللزبات بالأموال
إنا إذا حمس الوغى نروي القنا ... ونعف عند تقاسم الأنفال
نأتي الصريخ على جياد ضمر ... خمص البطون كأنهن سعال
من كل شوهاء اليدين طمرة ... ومقلص عبل الشوى ذيال
لاتأسين على خليط زايلوا ... بعد الأولى قتلوا بذي أغيال
كأنوا يشبون الحروب إذا خبت ... قدماً بكل مهند فصال
وبكل محبوك السراة مقلص ... تنمو مناسبه لذي العقال
ومعاود التكرار طال مضيه ... طعناً بكل مثقف عسال
من كل أروع للكماة منازل ... ناج من الغمرات كالرئبال
يعطي المئين إلى المئين مرزءاً ... حمال مقطعة من الأثقال
وإذا الأمور تحولت ألفيتهم ... عصم الهوالك ساعة الزلزال
وهم الحماة إذا النساء تحسرت ... يوم الحفاظ وكان يوم نزال(6/859)
يقصون ذا الأنف الحمي وفيهم ... حلم وليس حرامهم بحلال
والمطعمون إذا السنون تتابعت ... محلاً وضن سحابها بسجال
وكان قد خرج عن قومه غضبان وسار بماله وإخوته وأهله ولحق بجال الردم وقال في ذلك (من البسيط) :
لا تقتض الدين إلا بالقنا الذبل ... ولا تحكم سوى الأسياف في القلل
ولا تجاور لئاماً ذل جارهم ... وخلهم في عراص الدار وارتحل
ولا تفر إذا ما خضت معركة ... فما يزيد فرار المرء في الأجل
يا عبل أنت سواد القلب فاحتكمي ... في مهجتي واعدلي يا غاية الأمل
وإن ترحلت عن عبس فلا تقفي ... في جار ذل ولا تصغي إلى العذل
لأن أرضهم من بعد رحلتنا ... تبقى بلا فارس يدعى ولا بطل
سلي فزارة عن فعلي وقد نفرت ... في جحفل حافل كالعارض الهطل(6/860)
وموكب خضت أعلاه وأسفله ... بالضرب والطعن بين البيض والأسل
ماذا أريد بقوم يندرون دمي ... ألست أولاهم بالقول والعمل
لا يشرب الخمر إلا من له ذمم ... ولا يبيت له جار على وجل
وقال في إغارته على بني حريقة (من الكامل) :
حكم سيوفك في رقاب العذل ... وإذا نزلت بدار ذل فارحل
وإذا الجبان نهاك يوم كريهة ... خوفاً عليك من ازدحام الجحفل
فاعص مقالته ولا تحفل بها ... وأقدم إذا حق اللقا في الأول
واختر لنفسك منزلاً تعلو به ... أو مت كريماً تحت ظل القسطل
إن كنت في عدد العبيد فهمتي ... فوق الثريا والسماك الأعزل
أو أنكرت فرسان عبس نسبتي ... فسنان رمحي والحسام يقر لي
وبذا بلي ومهندي نلت العلا ... لا بالقرابة والعديد الأجزل
ورميت رمحي في العجاج فخاضه ... والنار تقدح من شفار الأنصل
خاض العجاج محجلاً حتى إذا ... شهد الوقيعة عاد غير محجل(6/861)
ولقد نكبت بني حريقة نكبة ... لما طعنت صميم قلب الأخيل
وقتلت فارسهم ربيعة عنوة ... والهيذبان وجابر بن مهلهل
لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كاس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أطيب منزل
وقال يخاطب عمرو بن ضمرة (من الوافر) :
فؤاد ليس يثنيه العذول ... وعين نومها أبداً قليل
عركت النائبات فهان عندي ... قبيح فعال دهري والجميل
وقد أوعدتني يا عمرو يوماً ... بقول ما لصحته دليل
ستعلم أينا يبقى طريحاً تخطفه الذوابل والنصول
ومن تسبى حليلته وتمسي ... مفجعة لها دمع يسيل
أتذكر عبلة وتبيت حياً ... ودون خبائها أسد مهول
وتطلب أن تلاقيني وسيفي ... يدك لوقعه الجبل الثقيل
وقال أيضاً (من الخفيف) :
حار بيني يا نائبات الليالي ... عن يميني وتارة عن شمالي
واجهدي في عداوتي وعنادي ... أنت والله لم تلمي ببالي
إن لي همة أشد من الصخر ... وأقوى من راسيات الجبال
وحساماً إذا ضربت بهالدهر ... تخلت عنه القرون الخوالي
وسناناً إذا تعسفت في الليل ... هداني وردني عن ضلالي
وجواداً ما سار إلا سرى البر ... ق وراه من اقتداح النعال
أدهم يصدع الدجى بسواد ... بين عينيه غرة كالهلال(6/862)
يفتديني بنفسه وأفديه ... بنفسي يوم القتال ومالي
وإذا قام سوق حرب العوالي ... وتظلى بالمرهفات الصقال
كنت دلالها وكان سناني ... تاجر أيستري النفوس الغوالي
يا سباع الفلا إذا اشتعل الحر ... ب اتبعيني من القفار الخوالي
اتبعيني تري دماء الأعادي ... سائلات بين الربى والرمال
ثم عودي من بعد ذا واشكريني ... واذكري ما رأيته من فغالي
وخذي من جماجم القوم قوتاً ... لبنيك الصغار والأشبال
وقال أيضاً (من الوافر) :
سلي يا عبل عمراً عن فعالي ... باعداك الأولى طلبوا قتالي
سليه كيف كان لهم جوابي ... إذا ما قال ظنك في مقالي
أتونا في الظلام على جياد ... مضمرة الخواصر كالسعالي
وفيهم كل جبار عنيد ... شديد البأس مفتول السبال
ولما أوقدوا نار المنايا ... بأطراف المثقفة العوالي
طفاها أسود من آل عبس ... بأبيض صارم حسن الصقال
إذا ما سل سال دماً نجيعاً ... ويخرق حده صم الجبال
وأسمر كلما رفعته كفي ... يلوح سنانه مثل الهلال
تراه إذا تلوى في يميني ... تسابقه المنية في شمالي
ضمنت لك الضمان ضمان صدق ... واتبعت المقالة بالفعال
وفرقت الكتائب عند ضرب ... تخر له صناديد الرجال
وما ولى شجاع الحرب إلا ... وبين يديه شخص من مثالي(6/863)
ملأت الأرض خوفاً من حسامي ... فبات الناس في قيل وقال
ولو أخلفت وعدي فيك قالت ... بنو الأنذال إني عنك سال
وقال يخاطب بعض فرسان العرب (من الكامل) :
دع ما مضى لك في الزمان الأول ... وعلى الحقيقة إن عزمت فعول
إن كنت أنت قطعت براً مقفراً ... وسلكته تحت الدجى في جحفل
فأنا سريت مع الثريا مفرداً ... لا مؤنس لي غير حد المنصل
والبدر من فوق السحاب يسوقه ... فيسير سير الراكب المستعجل
والنسر نحو الغرب يرمي نفسه ... فيكاد يعثر بالسماك الأعزل
والغول بين يدي يخفى تارة ... ويعود يظهر مثل ضوء المشعل
بنواظر زرق ووجه أسود ... وأظفار يشبهن حد المنجل
والجن تفرق حول غابات الفلا ... بهماهم ودمادم لم تغفل
وإذا رأت سيفي تضج مخافة ... كضجيج نوق الحي حول المنزل
تلك الليالي لو يمر حديثها ... بوليد قوم شاب قبل المحمل
فاكفف ودع عنك الإطالة واقتصر ... وإذا استطعت اليوم شيئاً فافعل
وقال أيضاً (من الكامل) :
وتظل عبلة في الخدور تجرها ... واظل في حلق الحديد المبهم
يا عبل لو أبصرتني لرأيتني ... في الحرب أقدم كالهزبر الضيغم
وصغارها مثل الدبى وكبارها ... مثل الضفادع في غدير مقحم
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المطعم
لما سمعت نداء مرة قد علا ... وأبني ربيعة في الغبار الأقتم(6/864)
ومحلم يسعون تحت لوائهم ... والموت تحت لواء آل محلم
أيقنت أن سيكون عند لقائهم ... ضرب يطير عن الفراخ الجثم
يدعون عنتر والسيوف كأنها ... لمع البوارق في سحاب مظلم
يدعون عنتر والدروع كأنها ... حدق الضفادع في غدير ديجم
تسعى حلائلنا إلى جثمانه ... بجنى الأراك تفيئة والشبرم
فأرى مغانم لو أشاء حويتها ... فيصدني عنها الحيا وتكرمي
وقال أيضاً (من الطويل) :
وأنت الذي كلفتني دلج السرى ... وجون القطا بالجهلتين جثوم
وقال أيضاً (من الطويل) :
سأضمر وجدي في فؤادي وأكتم ... وأسهر ليلي والعواذل نوم
واطمع من دهري بما لا أناله ... والزم منه ذل من ليس يرحمد
وأرجو التداني منك يا ابنة مالك ... ودون التداني نار حرب تضرم
ألم تسمعي نوح الحمائم في الدجى ... فمن بعض أشجاني ونوحي تعلموا
ولم يبق لي يا عبل شخص معرف ... سوى كبد حرى تذوب فاسقم
وتلك عظام باليات وأضلع ... على جلدها جيش الصدود مخيم
إذا نام جفني كان نومي علالة ... أقول لعل الطيف يأتي يسلم
أحن إلى تلك المنازل كلما ... غدا طائر في أيكة يترنم
بكيت من البين المشت وإنني ... صبور على طعن القنا لو علمتم
وقال في صباه يمدح الملك زهير بن جذيمة العبسي (من الخفيف) :
هذه نار عبلة يا نديمي ... قد جلت ظلمة الظلام البهيم(6/865)
تتلظى ومثلها في فؤادي ... نار شوق تزداد بالتضريم
إلى أن قال:
ومعيني على النوائب ليث ... هو ذخري وفارج لهمومي
ملك تسجد الملوك لذكرا ... هـ وتومي إليه بالتفخيم
وإذا سار سابقته المنايا ... نحو أعداه قبل يوم القدوم
وكانت أمه زبيبة كثيراً ما تعنفه وتلومه على ركوب الأخطار في الوقائع والحروب خوفاً عليه من القتل فتذكر كلامها يوماً وهو في بعض المعامع فقال (من الوافر) :
تعنفني زبيبة في الملام ... على الإقدام في يوم الزحام
تخاف علي أن ألقى حمامي ... بطعن الرمح أو ضرب الحسام
مقال ليس تقبله كرام ... ولا يرضى به غير اللئام
يخوض الشيخ في بحر المنايا ... ويرجع سالماً والبحر طام
ويأتي الموت طفلاً في مهود ... ويلقى حتفه قبل الفطام
فلا ترضى بمنقصة وذل ... وتقنع بالقليل من الحطام
فعيشك تحت ظل العز يوماً ... ولا تحت المذلة ألف عام
وقال أيضاً (من الطويل) :
سلي يا ابنة العبسي رمحي وصارمي ... وما فعلا في يوم حرب الأعاجم
سقيتهما والخيل تعثر بالقنا ... دماء العدا ممزوجة بالعلاقم
وفرقت جيشاً كان في جنباته ... دمادم رعد تحت برق الصوارم
على مهرة مسوبة عربية ... تطير إذا اشتد الوغى بالقوائم
وتصهل خوفاً والرماح قواصد ... وقد غرقت في موجه المتلاطم
وكم فارس يا عبل غادرت ثاوياً ... يعض علىكفيه عضة نادم(6/866)
تقلبه وحش الفلا وتنوشه ... من الجو أسراب النسور القشاعم
أحب بني عبس ولو هدروا دمي ... لأجلك يا بنت السراة الأكارم
وأحمل ثقل الضيم والضيم جائر ... وأظهر أني ظالم وابن ظالم
وقال يمدح الملك كسرى أنو شروان وهو إذ ذاك في المدائن (من الوافر) :
فؤاد لا يسليه المدام ... وجسم لا يفارقه السقام
واجفان تبيت مقرحات ... تسيل دماً إذا جن الظلام
ألا يا عبل قد شمت الأعادي ... بإبعادي وقد أموا وناموا
وقد لاقيت في سفري أموراً ... تشيب من له في المهد عام
وبعد العسر قد لاقيت يسراً ... وملكاً لا يحيط به الكلام
وسلطاناً له كل البرايا ... جنود والزمان له غلام
يفيض عطاؤه من راحتيه ... فما ندري أبحر أم غمام
وقد خلعت عليه الشمس تاجاً ... فلا يغشى معالمه ظلام
جواهره النجوم وفيه بدر ... أقل صفات صورته التمام
بنو نعش لمجلسه سرير ... عليها والسماوات الخيام
ولولا خوفه في كل قطر ... من الآفاق ما قر الحسام
جميع الناس جسم وهو روح ... به تحيا المفاصل والعظام
تصلي نحوه من كل فج ... ملوك الأرض وهو لها إمام
فدم يا سيد الثقلين وابقى ... مدى الأيام ما ناح الحمام
وقال (من الكامل) :
هاج الغرام فدر بكاس مدام ... حتى تغيب الشمس تحت ظلام(6/867)
ودع العواذل يطنبوا في عذلهم ... فأنا صديق اللوم واللوام
يدنو الحبيب وإن تناءت داره ... عني بطيف زار الأحلام
فكان من قد غاب جاء مواصلي ... وكأنني أومي له بسلام
ولقد لقيت شدائداً وأوابداً ... حتى ارتقيت إلى أعز مقام
وقهرت أبطال الوغى حتى غدوا ... جرحى وقتلى من ضراب حسامي
ما راعني إلا الفراق وجوره ... فأطعته والدهر طوع زمامي
وقال يتوعد قومه وكان قد خرج عنهم غضبان (من الطويل) :
اظلماً ورمحي ناصري وحسامي ... وذلاً وعزي قائد بزمامي
ولي بأس مفتول الذراعين خادر ... يدافع عن أشباله ويحامي
وإني عزيز الجار في كل موطن ... وأكرم نفسي أن يهون مقامي
هجرت البيوت المشرفات وشاقني ... بريق المواضي تحت ظل قتام
وقد خيروني كأس خمر فلم أجد ... سوى لوعة في الحرب ذات ضرام
سأرحل عنكم لا أزور دياركم ... وأقصدها في كل جنح ظلام
وأطلب أعدائي بكل سميذع ... وكل هزبر في اللقاء همام
منعت الكرى إن لم أقدها عوابساً ... عليها كرام في سروج كرام
تهز رماحاً في يديها كأنما ... سقين من اللبات صرف مدام
إذا شرعوها للطعان حسبتها ... كواكب تهديها بدور تمام
وبيض سيوف في ظلال عجاجة ... كقطر غواد في سواد غمام
ألا غنيا لي بالصهيل فإنه ... سماعي ورقراق الدماء ندامي
وحطا على الرمضاء رحلي فإنها ... مقيلي وإخفاق البنود خيامي(6/868)
ولا تذكرا لي طيب عيش فإنما ... بلوغ الأمامي صحتي وسقامي
وف يالغزو ألقى أرغد العيش لذة ... وفي المجد لا في مشرب وطعام
فما لي أرضى الذل حظاً وصارمي ... جريء على الأعناق غير كهام
ولي فرس يحكي الرياح إذا جرى ... لا بعد شأو من بعيد مرام
يجيب إشارات الضمير حساسة ... ويغنيك عن سوط له ولجام
وقال يرثي الملك زهير بن جذيمة العبسي (من الخفيف) :
خسف البدر حين كان تماما ... وخفي نوره فعاد ظلاما
ودراري النجوم غارت وغابت ... وضياء الآفاق صار قتاما
حين قالوا زهير ولى قتيلاً ... خيم الحزن عندنا وأقاما
قد سقاه الزمان كاس حمام ... وكذاك الزمان يسقي الحماما
كان عوني وعدتي في الرزايا ... كان درعي وذابلي والحساما
يا جفوني إن لم تجودي بجمع ... فجعلت الكرى عليك حراما
قسماً بالذي أمات وأحيا ... وتولى الأرواح والأجساما
لا رفعت الحسام في الحرب حتى ... أترك القوم في الفيافي عظاما
يا بني عامر ستلقون برقاً ... من حسامي يجري الدما سجاما
وتضج النساء من خيفة السبي ... وتبكي على الصغار اليتامى
وله (من الطويل) :
قفا يا خليلي الغداة وسلما ... وعوجا فإن لم تفعلا اليوم تندما
على طلل لو أنه كان قبله ... تكلم رسم دارس لتكلما
أيا عزنا لا عز في الناس مثله ... على عهد ذي القرنين لن يتهدما(6/869)
إذا خطرت عبس ورائي بالقنا ... علوت بها بيتاً من المجد معلما
إذا ما ابتدرنا النهب من بعد غارة ... أثرنا غباراً بالسنابك اقتما
ألا رب يوم قد انخنا بدارهم ... أقيم بهم سيفي ورمحي المقوما
وما هز قوم راية للقائنا ... من الناس إلا دارهم ملئت دما
وأنا أبدنا جمعهم برماحنا ... وإنا ضربنا كبشهم فتحطما
بكل رقيق الشفرتين مهند ... حسام إذا لاقى الضريبة صمما
يفلق هام الدارعين ذبابه ... ويفري من الأبطال كفاً ومعصما
وقال أيضاً (من الطويل) :
وكان إذا ما كان يوم كريهة ... فقد علموا أني وهو فتيان
فسوف ترى إن كنت بعدك باقياً ... وأمكنني دهري وطول زماني
فأقسم حقاً لو بقيت لنظرة ... لقرت بها العينان حتى تراني
فإن الرباط النكد من آل داحس ... أبين فما يفلجن يوم رهان
جلبن بإذن الله مقتل ملك ... وطرحن قيساً من رواء عمان
لطمن على ذات الإصاد وجوهكم ... يرون الأذى من ذلة وهوان
سمنع عنك السبق إن كنت سابقاً ... وتقتل إن زلت بك القدمان
أحل به أمس جنيدب نذره ... فأي قتيل كان في غطفان
إذا سجعت بالرقمتين حمامة ... أو الرس تبكي فارس الكتفان(6/870)
وله يقول (من مجزوء الرمل) :
أنا في الحرب العوان ... غير مجهول المكان
أينما نادى المنادي ... في دجى النقع يراني
وحسامي مع قناتي ... لفعالي شاهدان
غنني أطعن خصمي ... وهو يقظان الجنان
اسقه كاس المنايا ... وقراها منه دان
أشعل النار ببأسي ... واطاها بجناني
إنني ليث عبوس ... ليس لي في الخلق ثان
خلق الرمح لكفي ... والحسام الهندواني
ومعي في المهد كانا ... فوق صدري يؤنساني
فإذا ما الأرض صارت ... وردت مثل الدهان
والدما تجري عليها ... لونها أحمر قاني
ورأيت الخيل تهوي ... في نواحي الصحصحان
فاسقياني لا بكأس ... من دم كالأرجوان
واسمعاني نغمة ال ... سياف حتى تطرباني
أطيب الأصوات عندي ... حسن صوت الهندواني
وصير الرمح جهراً ... في الوغى يوم الطعان(6/871)
وصياح القوم فيه ... وهو للأبطال دان
وقال (من الوافر) :
أحبك يا ظلوم فأنت عندي ... مكان الروح من جسد الجبان
ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الطعان
وقال يمدح الملك كسرى أنو شروان (من الكامل) :
يا أيها الملك الذي راحاته ... قامت مقام الغيث في أزمانه
يا قبلة القصاد يا تاج العلا ... يا بدر هذا العصر في كيوانه
يا مخجلاً نوء السماء بجوده ... يا منقذ المحزون من أحزانه
يا ساكنين ديار عبس إنني ... لاقيت من كسرى ومن إحسائه
ما ليس يوصف أو يقدر أو يفي ... أوصافه أحد بوصف لسانه
ملك حوى رتب المعالي كلها ... بسمو مجد حل في إيوانه
موىل به شرف الزمان وأهله ... والدهر نال الفخر من تيجانه
وإذا سطا خاف الأنام جميعهم ... من بأسه والليث عند عيانه
المظهر الإنصاف في أيامه ... بخصاله والعدل في بلدانه
أمسيت في ربع خصيب عنده ... متنزهاً فيه وفي بستانه
ونظرت بركته تفيض وماؤوها ... يحكي مواهبه وجود بنانه
في مربع جمع الربيع بربعه ... من كل فن لاح في أفنانه
وطيوره من كل نوع أنشدت ... جهراً بأن الدهر صوع عنانه
ملك إذا ما جال في يوم اللقا ... وقف العدو محيراً في شانه
والنصر من جلسائه دون الورى ... والسعد والإقبال من أعوانه(6/872)
فلأشكرن صنيعه بين الملأ ... وأطاعن الفرسان في ميدانه
وقال أيضاً يفتخر (من الوافر) :
إاذ خصمي تقاضاني بدين ... قضيت الدين بالرمح الرديني
وحد السيف يرضينا جميعاً ... ويحكم بينكم عدلاً وبيني
جهلتم يا بني الأنذال قدري ... وقد عرفته أهل الخافقين
وما هدمت يد الحدثان ركني ... ولا امتدت إلي بنان حيني
علوت بصارمي وسنان رمحي ... على أفق السهى والفرقدين
وغادرت المبارز وسط قفر ... يعفر خده والعارضين
وكم من فارس أضحى بسيفي ... هشيم الرأس مخضوب اليدين
تحوم عليه عقبان المنايا ... وتحجل حوله غربان بين
وآخر هارب من هول شخصي ... وقد أجرى دموع المقلتين
وسوف أبيد جمعكم بصبري ... ويطفا لاعجي وتقر عيني
وله يتشوق إلى ديار قومه (من البسيط) :
يا طائر البان قد هيجت أشجاني ... وزدتني طرباً يا طائر البان
إن كنت تندب إلفاً قد فجعت به ... فقد شجاك الذي بالبين أشجاني
زدني من النوح وأسعدني على حزني ... حتى ترى عجباً من فيض أجفاني
وقف لتنظر ما بين لا تكن عجلاً ... واحذر لنفسك من أنفاس نيراني
وطر لعلك في أرض الحجاز ترى ... ركباً على عالج أو دون نعمان
يسري بجارية تنهل أدمعها ... شوقاً إلى وطن ناء وجيران
ناشدتك الله يا طير الحمام إذا ... رأيت يوماً حمول القوم فأنعاني(6/873)
وقل طريحاً تركناه وقد فنيت ... دموعه وهو يبكي بالدم القاني
وله (من الطويل) :
لمن طلل بالرقمتين شجاني ... وعاثت به أيدي البلى فحكاني
وقفت به والشوق يكتب أسطراً ... بأقلام دمعي في رسوم جناني
أسأئله عن عبلة فأجابني ... غراب به ما بي من الهيمان
ينوح على إلف له وإذا شكا ... شكا ينحيب لا بنطق لسان
ويندب من فرط الجوى فأجبته ... بحسرة قلب دائم الخفقان
ألا يا غراب البين لو كنت صاحبي ... قطعنا بلاد الله بالدوران
عسى أن نرى من نحو عبلة مخبراً ... بأية أرض أو بأي مكان
وقد هتفت في جنح ليل حمامة ... مغردة تشكو صروف زمان
فقلت لها لو كنت مثلي حزينة ... بكيت بدمع زائد الهملان
وما كنت في دوح تميس غصونه ... ولا خضبت رجلاك أحمر قاني
أيا عبل لو أن الخيال يزورني ... على كل شهر مرة لكفاني
لئن غبت عن عيني يا ابنة مالك ... فشخصك عندي ظاهر لعياني
غداً تصبح الأعداء بين بيوتكم ... تعض من الأحزان كل بنان
فلا تحسبوا أنالجيوش تردني ... إذا جلت في أكنافكم بحصاني
دعوا الموت يأتيني على أي صورة ... أتى لأريه موقفي وطعاني
وقال يصف ديار أهله ويتشوق إليهم (من الكامل) :
يا دار أين ترحل السكان ... وغدت بهم من بعدنا الأظعان(6/874)
بالأمس كان بك الظباء أوانساً ... واليوم في عرصاتك الغربان
يا دار عبلة أين خيم قومها ... لما سرت بهم المطي وبانوا
ناحت خميلات الأراك وقد بكى ... من وحشة نزلت عليه ألبان
يا دار أرواح المنازل أهلها ... فإذا ناوا تبكيهم الأبدان
يا صاحبي سل ربع عبلة واجتهد ... إن كان للربع المحيل لسان
يا عبل ما دام الوصال ليالياً ... حتى دهانا بعده الهجران
ليت المنازل أخبرت مستخبراً ... أين استقر بأهلها الأوطان
يا طائراً قد بات يندب إلفه ... وينوح وهو موله حيران
لو كنت مثلي ما لبثت ملوناً ... حسناً ولا مالت بك الأغصان
أين الخلي القلب ممن قلبه ... من حر نيران الجوى ملآن
عرني جناحك واستعر دمعي الذي ... أفنى ولا يفنى له جريان
حتى أطير مسائلاً عن عبلة ... إن كان يمكن مثلي الطيران
وقال في حرب كانت بين العرب والعجم وكان عنترة قد صافح القتال بنفسه وقتل جمهوراً من أبطال العجم (من الوافر) :
سلي يا عبلة الجبلين عنا ... وما لا قت بنو الأعجام منا
أبدنا جمعهم لما أتونا ... تموج مواكب إنساً وجنا
وراموا أكلنا من غير جوع ... فأشبعناهم ضرباً وطعنا
ضربناهم ببيض مرهفات ... تقد جسومهم ظهراً وبطنا
وفرقنا المواكب عن نساء ... يزدن على نساء الأرض حسنا
وكم من سيد أضحى بسيفي ... خضيب الراحتين بغير حنا(6/875)
وكم بطل تركت نساه تبكي ... يرددن النواح عليه حزنا
وحجار رأى طعني فنادى ... تأنى يا ابن شداد تأنى
خلقت من الجبال أشد قلباً ... وقد تفنى الجبال ولست أفنى
أنا الحصن المشيد لآل عبس ... إذا ما شادت الأبطال حصنا
شبيه الليل لوني غير إني ... بفعلي من بياض الصبح أسنى
جوادي نسبتي وأبي وأمي ... حسامي والسنان إذا انتسبنا
وقال يرثي مالك بن زهير العبسي وكان صديقاً له (من الطويل) :
ألا يا غراب البين في الطيران ... أعرني جناحاً قد عدمت بناني
ترى هل علمت اليوم مقتل مالك ... ومصرعه في ذلة وهوان
فإن كان حقاً فالنجوم لفقده ... تغيب ويهوي بعده القمران
لقد كان يوماً أسود الليل عابساً ... يخاف بلاه طارق الحدثان
به كنت أسطو حينما جدت العدا ... غداة اللقا نحوي بكل يمان
فقد هد ركني فقده ومصابه ... وخلى فؤادي دائم الخفقان
فوا أسفا كيف انثنى عن جواده ... وما كان سيفي عنده وسناني
رماه بسهم الموت رام مصمم ... فيا ليته لما رماه رماني
فسوق ترى إن كنت بعدك باقياً ... وأمكنني دهر وطول زمان
وأقسم حقاً لو بقيت لنظرة ... لقرت بها عيناك حين تراني(6/876)
وقال في يوم شعب جبلة وفيه قتل لقيط بن زرارة أبو دخنتوس إحدى شواعر العرب (من الوافر) :
أرى لي كل يوم مع زماني ... عتاباً في البعاد وفي التداني
يريد مذلتي ويدور حولي ... بجيش النائبات إذا رآني
كأني قد كبرت وشاب رأسي ... وقل تجلدي وهي جناني
ألا يا دهر يومي مثل أمسي ... وأعظم هيبة لمن التقاني
ومكروب كشفت الكرب عنه ... بضربة فيصل لما دعاني
دعاني دعوة والخيل تجري ... فما أدري أباسمي أم كناني
ففرقت المواكب عنه قهراً ... بطعن يسبق البرق اليماني
وما لبيته إلا وسيفي ... ورمحي في الوغى فرسا رهان
وكان إجابتي إياه أني ... عطفت عليه موار العنان
بأسمر من رماح الخط لدن ... وأبيض صارم ذكر يمان
وقرن قد تركت لدى مكر ... عليه سبائباً كالأرجوان
تركت الطير عاطفة عليه ... كما تردي إلى العرس الغواني
وتمنعهن أن يأكلن منه ... حياة يد ورجل تركضان
وما أوهى مراس الحرب ركني ... ولا وصلت إلي يد الزمان
وما دانيت شخص الموت إلا ... كما يدنو الشجاع من الجبان
وقد علمت بنو عبس بأني ... أهش إذا دعيت إلى الطعان
وأن الموت طوع يدي إذا ما ... وصلت بنانها بالهندواني
ونعم فوارس الهيجاء قومي ... إذا علق الأسنة بالبنان(6/877)
هم قتلوا لقيطاً وابن حجر ... وأردوا حاجباً وبني أبان
وقال أيضاً (من الوافر) :
طربت وهاجني البرق اليماني ... وذكرني المنازل والمغاني
وأضرم في صميم القلب ناراً ... كضربي بالحسام الهندواني
لعمرك ما رماح بني بغيض ... تخون أكفهم يوم الطعان
ولا أسيافهم في الحرب تنبو ... إذا عرف الشجاع من الجبان
ولكن يضربون الجيش ضرباً ... ويقرون النسور بلا جفان
ويقتحمون أهوال المنايا ... غداة الكر في الحرب العوان
أعبلة لو سالت الرمح عني ... أجابك وهو منطلق اللسان
بأني قد طرقت ديار تيما ... بكل غضنفر ثبت الجنان
وخضت غبارها والخيل تهوي ... وسيفي والقنا فرسا رهان
وإن طرب الرجال بشرب خمر ... وغيب رشدهم خمر الدنان
فرشدي لا يغيبه مدام ... ولا أصغي لقهقهة القناني
وبدر قد تركناه طريحاً ... كان عليه حلة أرجوان
شككت فؤاده لما تولى ... بصدر مثقف ماضي السنان
فخر على صعيد الأرض ملقى عفير الخد مخضوب البنان
وعدنا والخفار لنا لباس ... نسود به على أهل الزمان
وقال يمدح الملك قيس بن زهير بن جذيمة العبسي (من الوافر) :
ذكرت صبابتي من بعد حين ... فعاد لي القديم من الجنون(6/878)
وحن إلى الحجاز القلب مني ... فهاج غرامه بعد السكون
أتطلب عبلة مني رجال ... أقل الناس علماً باليقين
رويداً إن أفعالي خطوب ... تشيب لهولها روس القرون
فكم ليل ركبت به جواداً ... وقد أصبحت في حصن حصين
وناداني عنان في شمالي ... وعاتبني حسام في يميني
أيأخذ عبلة وعد ذميم ... ويحظى بالغنى والمال دوني
فكم يشكو كريم من لئيم ... وكم يلقى هجان من هجين
وما وجد الأعادي في عيباً ... فعابوني بلون في العيون
ومالي في الشدائد من معين ... سوى قيس الذي منها يقيني
كريم في النوائب ارتجيه ... كما هو للمعامع يصطفيني
لقد أضحى متيناً حبل راج ... تمسك منه بالحبل المتين
من القوم الكرام وهم شموس ... ولكن لا توارى بالدجون
إذا شهدوا هياجاً قلت أسد ... من السمر الذوابل في عرين
أيا ملكاً حوى رتب المعالي ... إليك قد التجأت فكن معيني
حللت من السعادة في مكان ... رفيع القدر منقطع القرين
فمن عاداك في ذلك شديد ومن والاك في عز مبين
وقال أيضاً (من الكامل) :
قف بالديار وصح إلى بيداها ... فعسى الديار تجيب من ناداها
دار يفوح المسك من عرصاتها ... والعود والند الذكي جناها
دار لعبلة شط عنك مزارها ... ونات لعمري ما أراك تراها(6/879)
ما بال عينك لا تمل من البكا ... رمد بعينك أم جفاك كراها
يا صاحبي قف بالمطايا ساعة ... في دار عبلة سائلاً مغناها
أم كيف تسأل دمنة عادية ... سفت الجنوب دمانها وثراها
يا عبل قد هام الفؤاد بذكركم ... وارى ديوني ما يحل قضاها
يا عبل إن تبكي علي بحرقة ... فلطالما بكت الرجال نساها
يا عبل إني في الكريهة ضيغم ... شرس إذا ما الطعن شق جباها
ودنت كباش من كباش تصطلي ... نار الكريهة أو تخوض لظاها
ودنا الشجاع من الشجاع وأشرعت ... سرم الرماح على اختلاف قناها
فهناك أطعن في الوغى فرسانها ... طعناً يشق قلوبها وكلاها
وسلي الفوارس يخبروك بهمتي ... ومواقفي في الحرب حين أطاها
وأزيدها من نار حربي شعلة ... وأثيرها حتى تدور رحاها
وأكر فيهم في لهيب شعاعها ... وأكون أول وافد يصلاها
وأكون أول ضارب بمهند ... يفري الجماجم لا يريد سواها
وأكون أول فارس يغشى الوغى ... فأقود أول فارس يغشاها
والخيل تعلم من فارس خليته ... في وسط رابية يعد حصاها
يا عبل كم من حرة خليتها ... تبكي وتنعى بعلها وأخاها
يا عبل كم من مهرة غادرتها ... من بعد صاحبها تجر خطاها
يا عبل لو أني لقيت كتيبة ... سبعين ألفاً ما رهبت لقاها
وأنا المنية وابن كل منية ... وسواد جلدي ثوبها ورداها(6/880)
وقال في إغارته على بني جهينة (من الوافر) :
سلوا عنا جهينة كيف باتت ... تهيم من المخافة في رباها
رأت طعني فولت واستقلت ... وسمر الخط تعمل في قفاها
وما أبقيت فيها بعد بشر ... سوى الغربان تحجل في فلاها
وقال أيضاً (من الوافر) :
لقينا يوم صهباء سريه ... حناظلة لهم في الحرب نيه
لقيناهم بأسياف حداد ... وأسد لا تفر من المنيه
وكان زعيمهم إذ ذاك ليثاً ... هزبراً لا يبالي بالرزيه
فخلفناه وسط القاع ملقى ... وها أنا طالب قتل البقيه
ورحنا بالسيوف نسوق فيهم ... إلى ربوات معضلة خفية
وكم من فارس منهم تركنا ... عليه من صوارمنا قضيه
فوارسنا بنو عبس وأنا ... ليوث الحرب ما بين البريه
نجيد الطعن بالسمر العوالي ... ونضرب بالسيوف المشرفيه
وتنعل خيلنا في كل حرب ... من السادات أقحافاً دميه
ويوم البذل نعطي ما ملكنا ... من الأموال والنعم البهيه
ونحن العادلون إذا حكمنا ... ونحن المشفقون على الرعيه
ونحن المنصفون إذا دعينا ... إلى طعن الرماح السمهريه
ونحن الغالبون إذا حملنا ... على الخيل الجياد الأعوجيه
ونحن الموقدون لكل حرب ... ونصلاها بأفئدة جريه
ملأنا الأرض خوفاً من سطانا ... وهابتنا الملوك الكسرويه(6/881)
سلوا عنا ديار الشام طراً ... وفرسان الملوك القيصريه
أنا العبد الذي بديار عبس ... ربيت بعزة النفس الأبيه
سلوا النعمان عني يوم جاءت ... فوارس عصبة النار الحميه
أقمت بصارمي سوق المنايا ... ونلت بذابلي الرتب العليه
وكانت عنترة لطيف المحاضرة رقيق الشعر لا يأخذ مأخذ الجاهلية في ضخامة الألفاظ وخشونة المعاني كما يستفاد ذلك بمطالعة ما تقدم من شعره.
قيل ونشأ بمصر من أفاضل الرواة رجل يقال له الشيخ يوسف بن إسماعيل وكان يتصل بباب العزيز في القاهرة. فاتفق أن حدثت ريبة في دار العزيز ولهجت الناس بها في المنازل والأسواق فساء العزيز ذلك وأشار إلى الشيخ يوسف المذكور أن يطرف الناس بما عساه أن يشغلهم عن هذا الحديث. وكان الشيخ يوسف واسع الرواية في أخبار العرب كثير النوادر والأحاديث. وكان قد أخذ روايات شتى عن أبي عبيدة ونجد بن هشام وجهينة اليماني الملقب بجهينة الأخبار وعبد الملك بن قريب المعروف بالأصمعي وغيرهم من الرواة فأخذ يكتب قصة لعنترة ويوزعها على الناس فأعجبوا بها واشتغلوا عما سواها. ومن تلطفه في الحيلة أنه قسمها إلى إثنين وسبعين كتاباً والتزم في آخر كل كتاب أن يقطع الكلام عند معظم الأمر الذي يشتاق القارىء إلى الوقوف على تمامه فلا يفتر عن طلب طلب الكتاب الذي يليه فإذا وقف عليه انتهى به إلى مثل ما انتهى الأول وهكذا إلى نهاية القصة. وقد أثبت في هذا الكتب ما ورد من أشعار العرب المذكورين فيها غير أنه لكثرة تداول الناسخين لها فسدت روايتها بما وقع فيها من الأغلاط المكررة بتكرار النسخ.(6/882)
عروة بن الورد (616م)
هو عروة بن الورد بن زيد وقيل ابن عمرو بن زيد نب عبد الله بن ناشب بن هرم بن لديم بن عود بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار شاعر من شعراء الجاهلية وفارس من فرسانها وصعلوك من صعاليكها المعدودين المقدمين الأجواد. وكان يلقب عروة الصعاليك لجمعه إياهم وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم ولم يكن لهم معاش ولا مغزى وقيل بل لقب عروة الصعاليك لقوله:
لحا الله صعلوكاً إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفاً كل مجزر
وهو من قصيدة طويلة وهي (من الطويل) :
أقلي علي اللوم يا ابنة منذر ... ونامي وإن لم تشتهي النوم فاسهري
ذريني ونفسي أم حسان إنني ... بها قبل أن لا أملك البيع مشتري
أحاديث تبقى والفتى غير خالد ... إذا هو أمسى هامة فوق صير
تجاوب أحجار الكناس وتشتكي ... إلى كل معروف رأته ومنكر(6/883)
ذريني أطوف في البلاد لعلني ... أخليك أو أغنيك عن سوء محضر
فإن فاز سهم للمنية لم أكن ... جزوعاً وهل عن ذاك من متأخر
وإن فاز سهمي كفكم عن مقاعد ... لكم خلف أدبار البيوت ومنظر
تقول لك الويلات هل أنت تارك ... ضبواً برجل تارة وبمنسر
ومستثبت في مالك العام إنني ... أراك على اقتاد صرماء مذكر
فجوع لأهل الصالحين مزلة ... مخوف رداها أن تصيبك فاحذر(6/884)
أبى الخفض من يغشاك من ذي قرابة ... ومن كل سوداء المعاصم تعتري
ومستهنىء زيد أبوه فلا أرى ... له مدفعاً فاقني حياءك واصبري
لحا الله صعلوكاً إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفاً كل مجزر
يعد الغنى من نفسه كل ليلة ... أصاب قراها من صديق ميسر
ينام عشاء ثم يصبح ناعساً يحت الحصا عن جنبه المتعفر
يعين نساء الحي ما يستعنه ... ويمسي طليحاً كالبعير المحسر(6/885)
ولكن صعلوكاً صفيحة وجهه ... كضوء شهاب القابس المتنور
مطلاً على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر
إذا بعدوا لا يأمنون اقترابه تشوف أهل الغائب المتنظر
فذلك إن يلق المنية يلقها ... حميداً وإن يستغن يوماً فأجدر
أيهلك معتم وزيد ولم أقم ... على ندب يوماً ولي نفس مخطر
ستفزع بعد اليأس من لا يخافنا ... كواسع في أخرى السوام المنفر
يطاعن عنها أول القوم بالقنا ... وبيض خفاف ذات لون مشهر(6/886)
فيوماً على نجد وغارات أهلها ... ويوماً بأرض ذات شت وعرعر
يناقلن بالشمط الكرام أولي القوى ... نقاب الحجاز في السريح المسير
يريح علي الليل أضياف ماجد ... كريم ومالي سارحاً مال مقتر
قال صاحب الأغاني: أخبرني أحمد بن عبد العزيز أن ابن معاوية قال: لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوج إليهم. قوال عبد الملك بن مروان: ما يسرني أن أحداً من العرب ممن ولدني لم يلدني إلا عروة بن الورد لقوله (من الطويل) :
إني امرؤ عافي إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى ... بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أقسم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد(6/887)
أخبر أحمد بن عبد العزيز قال: حدثني عمر بن شبة قال: بلغني أن عمر بن الخطاب قال للحطيئة: كيف كنتم في حربكم. قال: كنا ألف حازم. قال: وكيف؟ قال: كان فينا قيس بن زهير وكان حازماً وكنا لا نعصيه وكنا نقدم إقدام عنترة ونأتم بشعر عروة بن الورد وننقاد لأمر الربيع بن زياد.
ويقال أن عبد الملك قال: من زعم أن حاتماً أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد. وحدثنا معن بن عيسى قال: سمعت أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال لمعلم ولده: لا تروهم قصيدة عروة بن الورد التي يقول فيها (من الوافر) :
دعيني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير
وابعدهم وأهونهم عليهم ... وأن أمسى له حسب وخير
ويقصيه الندي وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير
ويلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه والذنب جم ... ولكن للغنى رب غفور
ويقول أن هذا يدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم.
أغار عروة بن الورد على مزينة فأصاب منهم امرأة من كنانة ناكحاً فاستاقها ورجع وهو يقول (من الطويل) :
تبغ عداء حيث حلت ديارها ... وأبناء عوف في القرون الأوائل
فالا أنل أوساً فإني حسبها ... بمنبطح الأوعال من ذي الشلائل(6/888)
ثم أقبل سائراً حتى نزل ببني النضير فلما رأوها أعجبتهم فسقوه الخمر ثم استوهبوها منه فوهبها لهم وكان لا يمس النساء فلما أصبح وصحا ندم فقال: (سقوني الخمر ثم تكنفوني) الأبيات.
(قال) وأجلاها النبي مع من أجلى من بني النضير. وذكر أبو عمرو السيباني من خبر عروة بن الورد وسلمى هذه أنه أصاب امرأة من بني كنانة بكراً يقال لها سلمى وتكنى أم وهب فأعتقها واتخذها لنفسه فمكثت عنده بضع عشرة سنة وولدت له أولاداً وهو لا يشك في أنها أرغب الناس فيه وهي تقول له: لو حججت بي فأمر على أهلي وأراهم. فحج بها فأتى مكة ثم أتى المدينة وكان يخالط من أهل يثرب بني النضير فيقرضونه إن احتاج ويبايعهم إذا غنم. وكان قومها يخالطون بني النضير فأتوهم وهو عندهم فقالت لهم سلمى: أنه خارج بي قبل أن يخرج الشهر الحرام فتعالوا إليه وأخبروه أنكم تستحيون أن تكون امرأة منكم معروفة النسب صحيحته سبية وافتدوني منه فإنه لا يرى أني أفارقه ولا أختار عليه أحداً. فأتوه فسقوه الشراب فلما ثمل قالوا له: فادنا بصاحبتنا فإنها وسيطة النسب فينا معروفة وإن علينا سبة أن تكون سبية فإذا صارت إلينا وأردت معاودتها فاخطبها إلينا فإننا ننكحك. فقال لهم: ذاك لكم ولكن لي الشرط فيها أن تخيروها فإن اختارتني انطلقت معي إلى ولدها وإن اختارتكم انطلقتم بها. قالوا: ذاك لك. قال: دعوني الليلة وأفاديها غداً. فلما كان الغد جاؤوه فامتنع من فدائها فقالوا له: قد فاديتنا بها منذ البارحة وشهد عليه بذلك جماعة ممن حضر فلم يقدر على الامتناع وفاداها. فلما فادوه بها خيروها فاختارت أهلها ثم أقبلت عليه فقالت: يا عروة أما إني أقول فيك وإن فارقتك الحق. والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك واغض طرفاً واقل فحشاً وأجود يداً وأحمى لحقيقته. وما مر علي يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلي من الحياة بين قومك. لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت أمة عروة كذا وكذا إلا سمعته. ووالله لا أنظر في وجه غطفانية أبداً فأرجع راشداً إلى ولدك وأحسن إليهم. فقال عروة في ذلك (سقوني الخمر ثم تكنفوني) وأولها (من الوافر) :
أرقت وصحبتي بمضيق عمق ... لبرق من تهامة مستطير(6/889)
إذا قلت استهل على قديد ... يحور ربابه حور الكسير
تكشف عائذ بلقاء تنفي ... ذكور الخيل عن ولد شفور
سقى سلمى وأين ديار سلمى ... إذا حلت مجاورة السرير
إذا حلت بأرض بني علي ... وأهلي بين زامرة وكير
ذكرت منازلاً من أم وهب ... محل الحي أسفل ذي النقير
وأحدث معهداً من أم وهب ... معرسنا فويق بني النضير
أطعت الآمرين بصرم سلمى ... فطاروا في عضاه اليستعور
سقوني النسىء ثم تكنفوني ... عداة الله من كذب وزور(6/890)
وقالوا لست بعد فداء سلمى ... بمغن ما لديك ولا فقير
ولا وأبيك لو كاليوم أمري ... ومن لك بالتدبر في الأمور
إذاً لملكت عصمة أم وهب ... على ما كان من حسك الصدور
فيا للناس كيف غلبت نفسي ... على شيء ويكرهه ضميري
ألا يا ليتني عاصيت طلقاً ... وجباراً ومن لي من أمير
وأخبر علي بن سليمان الأخفش عن بعثلب عن ابن الأعرابي بهذه الحكاية كما ذكر أبو عمرو وقال فيها أن قومها أغلوا بها الفداء وكان معه طلق وجبار أخوه وابن عمه. فقالا له: والله لئن قبلت ما أعطوك لا تفتقر أبداً. وأنت على النساء قادر متى شئت. وكان قد سكر فأجاب إلى فدائها. فلما صحا ندم فشهدوا عليه بالفداء فلم يقدر على الامتناع وجاءت سلمى تثني عليه فقالت: والله إنك ما علمت لضحوك مقبلاً. كسوب مدبراً. ثقيل على ظهر العدو. طويل العماد. كثير الرماد. راضي الأهل والجانب. فاستوص ببنيك خيراً. ثم فارقته فتزوجها رجل من بني عمها فقال لها يوماً من الأيام: يا سلمى أثني علي كما أثنيت على عروة(6/891)
وقد كان قولها فيه اشتهر فقال له: لا تكلفني ذلك فإني إن قلت الحق غضبت ولا واللات والعزى لا أكذب فقال: عزمت عليك لتأتيني في مجلس قومي فلتثنين علي بما تعلمين. وخرج فجلس في ندي القوم وأقبلت فرماها القوم بأبصارهم فوقفت عليهم وقال: انعموا صباحاً إن هذا عزم علي أن أثني عليه بما أعلم. ثم أقبلت عليه فقالت: والله إن شملتك لالتحاف. وإن شربك لاشتفاف. وإنك لتنام ليلة تخاف. وتشبع ليلة تضاف. وما ترضي الأهل ولا الجانب. ثم انصرفت فلامه قومه وقالوا: ما كان أغناك عن هذا القول منها.
كان عروة بن الورد يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس من عشيرته في الشدة ثم يحفر لهم الأسراب ويكنف عليهم الكنف ويكسيهم. ومن قوي منهم إما مريض يبرأ من مرضه أو ضعيف تثوب قوته خرج به معه فأغار وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيباً. حتى إذا أخصب الناس وألبنوا وذهبت السنة ألحق كل إنسان بأهله وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها. فربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى. فلذلك سمي عروة الصعاليك. فقال في بعض السنين وقد ضاقت حاله (من الطويل) :
لعل انطلاقي في البلاد ورحلتي ... وشدي حيازيم المطية بالرحل
سيدفعني يوماً إلى رب هجمة ... يدافع عنها العقوق وبالبخل
فزعموا أن الله عز وجل قيض له وهو مع قوم من هلال عشيرته في شتاء شديد ناقتين دهماوين. فنحر لهم أحداهما وحمل متاعهم وضعفاءهم على الأخرى وجعل ينتقل بهم من مكان إلى مكان. وكان بين النقرة والربذة فنزل بهم ما بينهما بموضع يقال له ماوان. ثم إن الله عز وجل قيض له رجلاً صاحب مائة من الإبل قد فر بها من حقوق قومه. وذلك أو ما البن الناس فقتله وأخذ إبله وامرأته وكانت من أحسن النساء. فأتى بالإبل أصحاب(6/892)
الكنيف فحلبها لهم وحملهم عليها حتى إذا دنوا من عشيرتهم أقبل يقسمها بينهم وأخذ مثل نصيب أحدهم. فقالوا: لا واللات والعزى لا نرضى حتى نجعل المرأة نصيباً فمن شاء أخذها. فجعل يهم بأن يحمل عليهم فيقتلهم وينتزع الإبل منهم ثم يذكر أنه صنيعته وأنه إن فعل ذلك أفسد ما كان صنع. فافكر طويلاً ثم أجابهم إلى أن يرد عليهم الإبل إلا راحلة يحمل عليها المرأة حتى يلحق بأهله. فأبوا ذلك عليه حتى انتدب رجل منهم فجعل له راحلة من نصيبه. فقال عروة في ذلك قصيدته التي أولها (من الطويل) :
ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم ... كمما الناس لما أخصبوا وتمولوا
وإني لمدفوع إلي ولاؤهم ... بماوان إذ نمشي وإذ نتملل
وإذ ما يريح الحي صرماء جونة ... ينوس عليها رحلها ما يحلل
موقعة الصفقين حدباء شارف ... تقيد أحياناً لديهم وترحل
عليها من الولدان ما قد رأيتم ... وتمشي بجنبيها أرامل عيل(6/893)
وقلت لها يا أم بيضاء فتية ... طعامهم من القدور المعجل
مضيغ من النيب المسان ومسخن ... من الماء نعلوه بآخر من عل
فإني وإياهم كذي الأم أرهنت ... له ماء عينيها تفدي وتحمل
فلما ترجت نفعه وشبابه ... أتت دونها أخرى جديداً تكتحل
فباتت لحد المرفقين كليهما ... توحوح مما نالها وتولول
تخير من أمرين ليسا بغبطة ... هو الثكل إلا أنها قد تجمل
كليلة شيباء التي لست ناسياً ... وليلتنا إذ من ما من قرمل
أقول له يا مال أمك هابل ... متى حبست على الأفيح تعقل(6/894)
بديمومة ما إن تكاد ترى بها ... من الظمأ الكوم الجلاد تنول
تنكر آيات البلاد لمالك ... وأيقن أن لا شيء فيها يقول
وقال ابن الأعرابي في هذه الرواية أيضاً كان عروة قد سبي امرأة من بني هلال بن عامر بن صعصعة يقال لها ليلى بنت شعواء فمكثت عنده زماناً وهي معجبة له تريه إنها تحبه ثم استزارته أهلها فحملها حتى أتاهم بها. فلما أراد الرجوع أبت أن ترجع معه وتوعده قومها بالقتل فانصرف عنهم وأقبل عليها فقال لها: يا ليلى خبري صواحبك عني كيف أنا. فقالت: ما أرى لك عقلاً أتراني قد اخترت عليك وتقول خبري عني. فقال في ذلك (من الطويل) :
تحت إلى سلمى بحر بلادها ... وأنت عليها بالملا كنت أقدرا
تحل بواد من كراء مضلة ... تحاول سلمى أن أهاب وأحصرا
وكيف ترجيها وقد حيل دونها ... وقد جاورت حياص بتيمن منكرا
تبغاني الأعداء إما إلى دم ... وإما عراض الساعدين مصدرا(6/895)
يظل الأباء ساقطاً فوق متنه ... له العدوة الأولى إذا القرن أصحرا
كأن خوات الرعد رزء زئيره ... من اللاء يسكن العرين بعثرا
إذا نحن أبردنا وردت ركابنا ... وعن لنا من أمرنا ما تيسرا
بدا لنا مني عند ذاك صريمتي ... وصبري إذا ما الشيء ولى فأدبرا
وما أنس مالأشياء لا أنس قولها ... لجارتها ما إن يعيش باحورا
لعلك يوماً أن تسري ندامة ... علي بما جشمتني يوم غضورا
فغربت إن لم تخبريهم فلا أرى ... لي اليوم أدنى منك علماً وأخبرا
قعيدك عمر الله هل تعلمينني ... كريماً إذا أسود الأنامل أزهرا(6/896)
صبوراً على رزء الموالي وحافظاً ... لعرضي حتى يؤكل النبت أخضرا
أقب ومخماص الشتاء مرزا ... إذا أغبر أولاد الأذلة أسفرا
وهي طويلة (قال) ثم إن بني عامر أخذوا امرأة من بني عبس ثم من بني سكين يقال لها أسماء فما لبثت عندهم إلا يوماً حتى استنقذها قومها. فبلغ عروة أن عامر بن الطفيل فخر بذلك وذكر أخذه إياها فقال عروة يعيرهم بأخذه ليلى بنت شعواء الهلالية (من الطويل) :
إن تأخذوا أسماء موقف ساعة ... فمأخذ ليلى وهي عذراء أعجب
لبسنا زماناً حسنها وشبابها ... وردت إلى شعواء والرأس أشيب
كمأخذنا حسناء كرهاً ودمعها ... غداة اللوى معصوبة يتصبب
وقال ابن الأعرابي: أجدب ناس من بني عبس في سنة أصابتهم فأهلكت أموالهم وأصابهم جوع شديد وبؤس فأتوا عروة بن الورد فجلسوا أمام بيته. فلما بصروا به صرخوا وقالوا: يا أبا الصعاليك أغثنا. فرق لهم وخرج ليغزو بهم ويصيب معاشاً فنهته امرأته عن ذلك لما تخوفت عليه من الهلاك. فعصاها وخرج غازياً فمر بمالك بن حمار الفزراي ثم الشخمي فسأله أين يريد فأخبره. فأمر له بجزور فنحرها فأكلوا منها. وأشار عليه مالك أن يرجع فعصاه ومضى حتى انتهى إلى بلاد بني القين فأغار عليهم فأصاب هجمة عاد بها على نفسه وأصحابه وقال في ذلك (من الطويل) :
أرى أم حسان الغداة تلومني ... تخوفني الأعداء والنفس أخوف(6/897)
تقول سليمى لو أقمت لسرنا ... ولم تدر أني للمقام أطوف
لعل الذي خوفتنا من أمامنا ... يصادفه في أهله المتخلف
إذا قلت قد جاء الغنى حال دونه ... أبو صبية يشكو المفاقر أعجف
له خلة لا يدخل الحق دونها ... كريم أصابته حوادث تجرف
فإني لمستاف البلاد بسربة ... فبملغ نفسي عذرها أو مطوف
رأيت بني لبنى عليهم غضاضة ... وبيتهم وسط الحلول التكنف
أرى أم سرياح غدت في ظعائن ... تأمل من شام العراق تطوف(6/898)
وقد مر بمالك بن حمار الفزاري ونهاه عن الغزو كما مر في محلة فأعطاه مالك بعيراً فقسمه بين أصحابه وسار حتى أتى أرض بني القين وهم بأرض التيه فهبط أرضاً ذات لخافيق وهي الجحرة الواحدة لخفوق فيها ماء فرأى عليه آثاراً فقال: هذه آثار من يرد هذا الماء فاكمنوا فاحر أن يكون قد جاءكم رزق. وفي أرض بني القين عرى من الشجر العظام إذا أجدب الناس رعوها فعاشوا فيها. فأقام أصحاب عروة يوماً ثم ورد عليهم فصيل فقالوا: دعنا فلنأخذه فلنأكل منه يوماً أو يومين. فقال: إنكم إذاً تنفرون أهله وإن بعده إبلاً. فتركوه ثم ندموا على تركه وجعلوا يلومون عروة من الجوع الذي جهدهم. ثم وردت إبل بعده بخمس فيها ظعينة ورجل معه السيف والرمح والإبل مائة متال. فخرج إليه عروة فرماه في ظهره بسهم أخرجه من صدره فخر ميتاً واستاق عروة الإبل والظعينة حتى أتى قومه. فقال في ذلك (من الطويل) :
أليس ورائي أن أدب على العصا ... فيشمت أعدائي ويسأمني أهلي
رهينة قعر البيت كل عشية ... يطيف بي الولدان أهدج كالرأل
أقيموا بني لبنى صدور ركابكم ... فكل منايا النفس خير من الهزل
فإنكم لن تبلغوا كل همتي ... ولا أربي حتى تروا منبت الأثل
فلو كنت مثلوج الفؤاد إذا بدت ... بلاد الأعادي لا أمر ولا أحلي
رجعت على حرسين إذ قال مالك ... هلكت وهل يلحى على بغية مثلي
لعل انطلاقي في البلاد ورحلتي ... وشدي حيازيم المطية بالرحل
سيدفعني يوماً إلى رب هجمة ... يدافع عنها بالعقوق وبالبخل(6/899)
قليل تواليها وطالب وترها ... إذا صحت فيها بالفوارس والرجل
إذا ما هبطنا منهلاً في مخوفة ... بعثنا ربيئاً في المرابي كالجذل
يقلب في الأرض الفضاء بطرفه ... وهن مناخات ومرجلنا يغلي
حدث حر بن قطن أن ثمامة بن الوليد دخل على المنصور فقال: يا ثمامة أتحفظ حديث ابن عمك عروة الصعاليك بن الورد العبسي. فقال: أي حديثه يا أمير المؤمنين فقد كان كثير الحديث حسنه. قال: حديثه مع الهذلي الذي أخذ فرسه. قال: ما يحضرني ذلك فأرويه يا أمير المؤمنين. فقال المنصور: خرج عروة حتى دنا من منازل هذيل فكان منها على نحو ميلين وقد جاع. فإذا هو بأرنب فرماها ثم أورى ناراً فشواها وأكلها ودفن النار على مقدار ثلاثة أذرع وقد ذهب الليل وغارت النجوم. ثم أتى سرحة فصعدها وتخوف الطلب فلما تغيب فيها إذا الخيل قد جاءت وتخوفوا البيات. (قال) فجاءت جماعة منهم ومعهم رجل على فرس فجاء حتى ركز رمحه في موضع النار وقال: لقد رأيت النار هاهنا. فنزل رجل فحفر قدر ذراع فلم يجد شيئاً. فاكب القوم على الرجل يعذلونه ويعيبون أمره ويقولون: عنيتنا في مثل هذه الليلة القرة وزعمت لنا شيئاً كذبت فيه. فقال: ما كذبت ولقد رأيت النار في موضع رمحي. فقالوا: ما رأيت شيئاً ولكن تحذلقك وتداهيك هو الذي حملك على هذا. وما نعجب إلا لأنفسنا حين أطعنا أمرك واتبعناك. ولم يزالوا بالرجل حتى رجع عن قوله لهم فرجع الرجل ورجع القوم فاتبعهم عروة حتى إذا وردوا منازلهم تكمن عروة في كسر بيت الرجل وإذا بعبد أسود قائم عند المرأة يحدثها وقد أتاها بعلبة فيها لبن وقال: اشربي يا سيدتي. فقالت: لا أو تبدأ فبدأ الأسود وشرب ثم شربت هذا وعروة يشاهد ذلك. فجاء الرجل فقالت له المرأة: لعن الله صلبك عنيت قومك منذ الليلة. قال: لقد رأيت ناراً. ثم دعا بالعلبة ليشرب فقال حين ذهب ليكرع: ريح رجل ورب الكعبة. فقالت امرأته: وهذه أخرى وأي ريح رجل تجده في أنائك غير ريحك. ثم صاحت فجاء(6/900)
قومها فأخبرتهم خبره فقالت: يتهمني ويظن بي الظنون. فأقبلوا عليه باللوم حتى رجع عن قوله. فقال عروة: هذه ثانية. (قال) ثم أوى الرجل إلى فراشه فوثب عروة إلى الفرس وهو يريد أن يذهب به. فضرب الفرس بيده ونخر. فرجع عروة إلى موضعه. ووثب الرجل فقال: ما كنت لتكذبني فما لك. فأقبلت عليه امرأته لوماً وعذلاً. (قال) فصنع عروة ذلك ثلاثاً ومنعه الرجل. ثم أوى الرجل إلى فراشه وضجر من كثرة ما يقوم فقال: لا أقوم إليك الليلة. وأتاه عروة فجال في متنه وخرج ركضاً. وركب الرجل فرساً عنده أنثى. (قال عروة) فجعلت اسمعه خلفي يقول: إلحقي فإنك من نسله. فلما انقطع عن البيوت قال له عروة بن الورد: أيها الرجل قف فإنك لو عرفتني لم تقدم علي أنا عروة بن الورد وقد رأيت الليلة منك عجباً فأخبرني به وأرد إليك فرسك. قال: وما هو؟ قال: جئت مع قومك حتى ركزت رمحك في موضع نار وقد كنت أوقدتها فثنوك عن ذلك فانثنيت وقد صدقت. ثم اتبعتك حتى أتيت منزلك وبينك وبين النار ميلان فأبصرتها منهما. ثم شممت رائحة رجل في إنائك وقد رأيت الرجل حين آثرته زوجتك بالإناء وهو عبدك الأسود فقلت: ريح رجل. فلم تزل تثنيك عن ذلك حتى انثنيت. ثم خرجت إلى فرسك فأردته فاضطرب وتحرك فخرجت إليه ثم خرجت وخرجت ثم أضربت عنه. فرأيتك في هذه الخصال أكمل الناس ولكنك تنثني وترجع. فضحك وقال: ذلك لأخوال السوء والذي رأيت من صرامتي فمن قبل أعمامي وهم هذيل. وما رأيت من كعاعتي فمن قبل أخوالي وهم بطن من خزاعة. والمرأة التي رأيت عندي امرأة منهم وأنا نازل فيهم فذلك الذي يثنيني عن أشياء كثيرة. وأنا لاحق بقومي وخارج عن أخوالي هؤلاء ومخل سبيل المرأة. ولولا ما رأيت من كعاعتي لم يقو على مناواة قومي أحد من العرب. فقال عروة: خذ فرسك راشداً. قال: ما كنت لآخذه منك وعندي من نسله جماعة مثله فخذه مباركاً لك فيه. قال ثمامة: إن له عندنا أحاديث كثيرة ما سمعنا له بحديث هو أظرف من هذا.
قال المنصور: أفلا أحدثك بحديث هو أظرف من هذا. قال: بلى يا أمير المؤمنين فإن الحديث إذا جاء منك كان له فضل على غيره. قال: خرج عروة وأصحابه حتى أتى ماوان فنزل أصحابه وكنف عليهم كنيفاً من الشجر وهم أصحاب الكنيف الذي سمعته قال فيهم:
إلا أن أصحاب الكنيف وجدتهم ... كما الناس لما أمرعوا وتمولوا
ثم مضى يبتغي لهم شيئاً وقد جهدوا فإذا هو بأبيات شعر وبامرأة قد خلا من سنها(6/901)
وشيخ كبير كالحنو الملقى. فكمن في كسر بيت منها وقد أجدب الناس وهلكت الماشية. فإذا هو في البيت بسحور ثلاثة مشوية (فقال ثمامة: وما السحور. قال: الحلقوم بما فيه) والبيت خال فأكلها وقد مكث قبل ذلك يومين لا يأكل شيئاً فأشبعته وقوي فقال: لا أبالي من لقيت بعد هذا. ونظرت المرأة فظنت أنالكلب أكلها فقالت للكلب: أفعالتها يا خبيث وطردته. فإنه لكذلك إذا هو عند المساء بابل قد ملأت الأفق وإذا هي تلتفت فرقاً فعلم أن راعيها جلد شديد الضرب لها. فلما أتت المناخ بركت ومكث الراعي قليلاً ثم وضع العلبة على ركبتيه وحلب حتى ملأها. ثم أتى الشيخ فسقاه ثم أتى ناقة أخرى ففعل بها كذلك وسقى العجوز. ثم أتى أخرى ففعل بها كذلك فشرب هو ثم التفع بثوب واضطحع ناحية. فقال الشيخ للمرأة وأعجبه ذلك: كيف ترين ابني؟ فقالت: ليس بابنك. قال: فابن من ويلك. قالت: ابن عروة بن الورد. قل: ومن أين؟ قالت: أتذكر يوم مر بنا ونحن نريد سوق ذي المجاز. فقلت: هذا عروة بن الورد ووصفته لي بجلد فإني تزوجت به. (قال) فسكت حتى إذا نوم وثب عروة وصاح بالإبل فقطع منها نحواً من النصف ومضى ورجا أن لا يتبعه الغلام وهو غلام حين بدأ شاربه فاتبعه. (قال) فانحدرا وعالجه. (قال) فضرب الأرض به فيقع قائماً فتخوفه على نفسه ثم واثبه فضرب به وبادره. فقال: إني عروة بن الورد وهو يريد أن يعجزه عن نفسه. (قال) فارتدع ثم قال: ما لك ويلك لست أشك أنك قد سمعت ما كان من أمي. (قال) قلت: نعم فاذهب معي أنت وأمك وهذه الإبل ودع هذا الرجل فإنه لا يهنئك عن شيء. قال: الذي بقي من عمر الشيخ قليل وأنا مقيم معه ما بقي فإن له حقاً وزماماً فإذا هلك فما أسرعني إليك وخذ من هذه الإبل بعيراً. قلت: لا يكفيني أن معي أصحابي قد خلفتهم. قال: فثانياً. قلت: لا. قال: فثالثاً واله لا زدتك على ذلك شيئاً. فأخذها ومضى إلى أصحابه. ثم إن الغلام لحق به بعد هلاك الشيخ. قال: والله يا أمير المؤمنين لقد زينته عندنا وعظمته في قلوبنا. قال: فهل أعقب عندكم. قال: لا ولقد كنا نتشاءم بأبيه لأنه هو الذي أقوع الحرب بين عبس وفزارة بمراهنته حذيفة ولقد بلغني أنه كان له ابن أسن من عروة فكان يؤثره على عروة فيما يعطيه ويقربه فقيل له: أتؤثر الأكبر مع غناه عنك على الأصفر لئن بقي مع ما أرى من شدة نفسه ليصرين الأكبر عيالاً عليه.
تتابعت على معد سنوات جهدن الناس جهداً شديداً وكانت غطفان من أحسن معد فيها حالاً وترك الناس الغزو لجدوبة الأرض وكان عروة في تلك السنين غائباً فرجع(6/902)
مخففاً قد ذهبت إبله وخيله وجاء إلى قومه وقد عنن بعضهم عليه عنة فندب منهم رهطاً فخرجوا معه فنحر لهم بعيراً وحملوا سلاحهم على بعير آخر وقدد لهم بعيراً فوزعه بينهم وخرج يريد أرض قضاعة وقصد قبل أرض بني القين فمر بمالك بن حمار الفزاري وقد تقدما معه. فقال له مالك: أين تنطلق بفتيانك هؤلاء تهلكهم ضيعة. قال: إن الضيعة ما تأمرون به أن أقيم حتى أهلك هزالاً. فقال: إن أطعتني رجعت على حرسين فكان طريقك حتى تأتي قومي فتكون فيهم. قال: فما أصنع بمن كنت عودتهم إذا جاؤوني واعتروني. قال: تعتذر فيعذروك إذا لم يكن عندك شيء. قال: لكن أنا لا أعذر نفسي بترك الطلب. فقال عروة يذكر شدة حال أهل الكنيف ومن بماوان وقيامه بأمرهم حتى صلحوا وندبه إياهم حتى خرجوا معه (من الطويل) :
قلت لقوم في الكنيف تروجوا ... عشية بتنا عند ماوان رزح
تنالوا الغني أو تبلغوا بنفوسكم ... إلى مستراح من حمام مبرح
ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً ... من المال يطرح نفسه كل مطرح
وفي هذه القصيدة يقول:
ليبلغ عذراً أو يصيب رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح(6/903)
لعلكم أن تصلحوا بعد ما أرى ... نبات العضاه الثائب المتروح
ينوؤون بالأيدي وأفضل زادهم ... بقية لحم من جزور مملح
ومن شعر عروة بن الورد قوله يذكر بني ناشب قبيلة من عبس (من الطويل) :
أيا راكباً إما عرضت فبلغن ... بني ناشب عني ومن يتنشب
أكلكم مختار دار يحلها ... وتارك هدم ليس عنها مذنب
وأبلغ بني عوذ بن زيد رسالة ... بآية ما إن يقصبوني يكذبوا
فإن شئتم عني نهيتم سفيهكم ... وقال له ذو حلمكم أين تذهب
وإن شئتم حاربتموني إلى مدى ... فيجهدكم شأو الكظاظ المغرب
فيلحق بالخيرات من كان أهلها ... وتعلم عبس رأس من يتصوب
وقال أيضاً (من الرمل) :
لا تلم شيخي فما أدرى به ... غير أن شارك نهداً في النسب
كان في قيس حسيباً ماجداً ... فأتت نهد على ذاك الحسب
وله قوله (من الطويل) :
إذا المرء لم يبعث سواماً ولم يرح ... عليه ولم تعطف عليه أقاربه
فللموت خير للفتى من حياته ... فقيراً ومن مولى تدب عقاربه(6/904)
وسائلة أين الرحيل وسائل ... ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه
مذاهبه أن الفجاج عريضة ... إذا ضن عنه بالفعال أقاربه
فلا أترك الإخوان ما عشت للردى ... كما أنه لا يترك الماء شاربه
ولا يستضام الدهر جاري ولا أرى ... كمن بات تسري للصديق عقاربه
وإن جارتي الوت رياح ببيتها ... تغافلت حتى يستر البيت جانبه
وقال (من الوافر) :
أفي ناب منحناها فقيراً ... له بطنابنا طنب مصيت
وفضلة سمنة ذهبت إليه ... وأكثر حقه ما لا يفوت
فإن حميتنا أبداً حرام ... وليس لجار منزلنا حميت
وربت شبعة آثرت فيها ... يداً جاءت تغير لها هتيت
يقول الحق مطلبه جميل ... وقد طلبوا إليك فلم يقيتوا
فقلت له ألا أحي وأنت حر ... ستشبع في حياتك أو تموت
إذا ما فاتني لم أستقله ... حياتي والملائم لا تفوت(6/905)
وقد علمت سليمى أن رأيي ... ورأي البخل مختلف شتيت
وإني لا يريني البخل رأي ... سواء إن عطشت وإن رويت
وإني حين تشتجر العوالي ... حوالي اللب ذو رأي زميت
وأكفى ما علمت بفضل علم ... واسأل ذا البيان إذا عميت
وقال أيضاً (من الطويل) :
ما بين من عار إخال علمته ... سوى أن أخوالي إذا نسبوا نهد
إذا ما أردت المجد قصر مجدهم ... فأعيا علي أن يقاربني المجد
فيا ليتهم لم يضربوا في ضربة ... وإني عبد فيهم وأبي ع بد
ثعالب في الحرب العوان فإن تنج ... وتنفرج الجلى فإنهم الأسد
قيل أن عروة بلغه عن رجل من بني كنانة بن خزيمة أنه من أبخل الناس وأكثره مالاً فبعث عليه عيوناً فأتوه بخبره فشد على إبله فاستاقها ثم قسمها في قومه فقال عند ذلك (من الكامل) :
ما بالثراء يسود كل مسود ... مثر ولكن بالفعال يسود
بل لا أكاثر صاحبي في يسره ... وأصد إذ في عيشه تصريد
فإذا غنيت فإن جاري نيله ... من نائلي وميسري معهود
وإذا افتقرت فلن أرى متخشعاً ... لأخي غنى معروفه مكدود
وقال في مالك بن حمار الفزاري (من الطويل) :
جزى الله خيراً كلما ذكر اسمه ... أبا مالك إن ذلك الحي اصعدوا(6/906)
وزود خيراً مالكاً إن مالكاً ... له ردة فينا إذا القوم زهد
فهل يطربن في إثركم من تركتم ... إذا قام يعلوه جلال فيقعد
تولى بنو زبان عنا بفضلهم ... وود شريك لو نسير فنبعد
ليهنىء شريكاً وطبه ولقاحه ... وذو العس بعد النومة المتبرد
وما كان منا مسكناً قد علمتم ... مدافع ذي رضوى فعظم فصندد
ولكنها والدهر يوم وليلة ... بلاد بها الإجناء والمتصيد
وقلت لأصحاب الكنيف ترحلوا ... فليس لكم في ساحة الدار مقعد
وله قوله (من الوافر) :
إذا آذاك مالك فامتهنه ... لجاديه وإن قرع المراح
وإن أخنى عليك فلم تجده ... فنبت الأرض والماء القراح
فرغم العيش إلف فناء قوم ... وإن آسوك والموت الرواح
قال ابن الأعرابي في النوادر الصغرى قال عبد الملك بن مروان قال عروة (من الكامل) :
قالت ماضر إذ رأت مالي خوى ... وجفا الأقارب فالفؤاد قريح
مالي رأيتك في الندي منكساً ... وصباً كأنك في الندي نطيح
خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة ... إن القعود مع العيال قبيح
المال فيه مهابة وتجلة ... والفقر فيه مذلة وفضوح(6/907)
وقال أيضاً (من الطويل) :
عفت بعدنا من أم حسان غضور ... وفي الرحل منها آية لا تغير
وبالغر والغراء منها منازل ... وحول الصفا من أهلها متدور
ليالينا إذ جيبها لك ناصح ... وإذا ريحها مسك ذكي وعنبر
ألم تعلمي يا أم حسان أننا ... خليطاً زيال ليس عن ذاك مقصر
وأن المنايا ثغر كل ثنية ... فهل ذاك عما يبتغي القوم محصر
وغبراء مخشي رداها مخوفة ... أخوها بأسباب المنايا مغرر
قطعت بها شك الخلاج ولم أقل ... لخيابة هيابة كيف تأمر
تدارك عوذاً بعد ما ساء ظنها ... بماوان عرق من أسامة أزهر(6/908)
هم عيروني أن أمي غريبة ... وهل في كريم ماجد ما يعير
وقد عيروني المال حين جمعته ... وقد عيروني الفقر إذ أنا مقتر
وعيرني قومي شبابي ولمتي ... متى ما يشا رهط امرئ يتعير
حوى حي أحياء شتير بن خالد ... وقد طمعت في غنم آخر جعفر
ولا أنتمي إلا لجار مجاور ... فما آخر العيش الذي أتنظر
قيل غزت بنو عامر يوم شعر وهم يريدون أن يصيبوا شيئاً ويدركوا بثأرهم في شعر وكان أول من لقوا يومئذ بني عبس فانكشفوا وأصيب ناس منهم من بني جعفر خاصة فزعموا أن ابن الطفيل وكان غلاماً شاباً أدركه العطش فخشي أن يؤخذ فخنق نفسه حتى مات فسمي ذلك اليوم يوم التخانق فقال عروة ويقال قالها في يوم الرقم وهي (من الطويل) :
ونحن صبحنا عامراً إذ تمرست ... علالة أرماح وضرباً مذكرا
بكل رقاق الشفرتين مهند ... ولدن من الخطي قد طر أسمرا(6/909)
عجبت لهم إذ يخنقون نفوسهم ... ومقتلهم تحت الوغى كان أعذرا
يشد الحليم منهم عقد حبله ... ألا إنما يأتي الذي كان حذرا
وقال عروة أيضاً لسلمة بن الخرشب الأنماري (من الكامل) :
أخذت معاقلها اللقاح لمجلس ... حول ابن أكثم من بني أنمار
ولقد أتيتكم بليل دامس ... ولقد أتيت سراتكم بنهار
فوجدتكم لقحاً حبسن بخلة ... وحبسن إذ صرين غير غزار
منعوا البكارة والأفال كليهما ... ولهم أضن بأم كل حوار
قيل غزت بنو عبس طيئاً بعد ما رمي عنترة فسبوا نساء خارجات من الجبل فتبعتهم طيىء فقاتلتهم عبس حتى ردوهم إلى جبلهم. وجاؤوا بالنساء إلى بني عبس. وكان عامر بن الطفيل حين بلغه قتل عنترة قال: لا ترك الله ليطيىء أنفاً إلا جدعه. أما علينا فليوث وأما على جيرتهم فلا شيء. وقد قتلوا فارس العرب وكانت عبس إنما تنتظر من طيىء مثل تلك الغرة حين نزلوا من الجبل واصابت عبس حاجتها. فقال عروة بن الورد في ذلك (من الطويل) :(6/910)
أبلغ لديك عامراً إن لقيتها ... فقد بلغت دار الحفاظ قرارها
رحلنا من الأجبال أجبال طيىء ... نسوق النساء عوذها وعشارها
ترى كل بيضاء العوارض طفلة ... تفري إذا شال السماك صدارها
وقد علمت أن لا انقلاب لرحلها ... إذا تركت من آخر الليل دارها
قال ابن الأعرابي: قال عبد الملك بن مروان: عجبت للناس كيف نسبوا الجود والسخاء إلى حاتم وظلموا عروة بن الورد وهو الذي يقول (من الطويل) :
إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلاً وأوشكت ... صلات ذوي القربى له أن تنكرا
وما طالب الحاجات من كل وجهة ... من الناس إلا من أجد وشمرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
وروى له صاحب الحماسة قوله (من الطويل) :
سلي الطارق المعتر يا أم مالك ... إذا ما أتاني بين قدري ومجزري(6/911)
أيسفر وجهي أنه أول القرى ... وابذل معروفي له دون منكري
وقال عروة أيضاً (من الطويل) :
وقالوا أحب وأنهق لا تضيرك خيبر ... وذلك من دين اليهود ولوع
لعمري لئن عشرت من خشية الردى ... نهاق الحمير إنني لجزوع
فلا والت تلك النفوس ولا أتت ... على روضة الأجداد وهي جميع
فكيف وقد ذكيت واشتد جانبي ... سليمى وعندي سامع ومطيع
لسان وسيف صارم وحفيظة ... ورأي لآراء الرجال صروع
تخوفني ريب المنون وقد مضى ... لنا سلف قيس معاً وربيع(6/912)
وله قوله (من الطويل) :
أتجعل أقدامي إذا الخيل أحجمت ... وكري إذا لم يمنع الدبر مانع
سواء ومن لا يقدم المهر في الوغى ... ومن دبره عند الهزاهز ضائع
إذا قيل يا ابن الورد أقدم إلى الوغى ... أجبت فلاقاني كمي مقارع
بكفي من المأثور كالملح لونه ... حديث بإخلاص الذكورة قاطع
فاتركه بالقاع رهناً ببلدة ... تعاوره فيها الضباع الخوامع
محالف قاع كان عنه بمعزل ... ولكن حين المرء لا بد واقع
فلا أنا مما جرت الحرب مشتك ... ولا أنا مما أحدث الدهر جازع
ولا بصري عند الهياج بطامح ... كأني بعير فارق الشول نازع
وقال أيضاً (من الطويل) :
تقول ألا أقصر من الغزو وأشتكي ... لها القول طرف أحور العين دامع
سأغنيك عن رجع لملام بمزمع ... من الأمر لا يعشو عليه المطاوع
لبوس ثياب الموت حتى إلى الذي ... يوائم إما سائم أو مصارع
ويدعونني كهلاً وقد عشت حقبة ... وهن عن الأزواج نحوي نوازع
كأني حصان مال عنه جلاله ... أغر كريم حوله العوذ راتع
فما شاب رأسي من سنين تتابعت ... طوال ولكن شيبته الوقائع
وله يقول (من الطويل) :
فراشي فراش الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال مقنع
أحدثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع
وقال أيضاً (من الطويل) :
لكل أناس سيد يعرفونه ... وسيدنا حتى الممات ربيع(6/913)
إذا أمرتني بالعقوق حليلتي ... فلم أعصها إني إذاً لمضيع
وله (من الطويل) :
أعيرتموني أن أمي تريعة ... وهل ينجبن في القوم غير الترائع
وما طالب الأوتار إلا ابن حرة ... طويل نجاد السيف عاري الأشاجع
وقال (من البسيط) :
هلا سألت بني عيلان كلهم ... عند السنين إذا ما هبت الريح
قد حان قدح عيال الحي إذ شبعوا ... وآخر لذوي الجيران ممنوح
وقال عروة أيضاً لرجلين كانا معه في الكنيف يقال لهما بلج وقرة أصابا بعد ذلك وألبنا فأتاهما يستثيبهما فلم يعطياه شيئاً. فقال يذكرهما (من الوافر) :
أأي الناس آمن بعد بلج ... وقرة صاحبي بذي طلال
الما أغزرت في العس برك ... ودرعه بنتها نسيا فعالي
سمن على الربيع فهن ضبط ... لهن لبالب تحت السخال
وقال يرد على قيس بن زهير (من الوافر) :
تمنى غربتي قيس وإني ... لأخشى إن طحابك ما تقول(6/914)
وصارت دارنا شحطاً عليكم ... وجف السيف كنت به تصول
عليك السلم فأسلمها إذا ما ... أواك له مبيت أو مقيل
بأن يعيا القليل عليك حتى ... تصير له يأكلك الذليل
فإن الحرب لو دارت رحاها ... وفاض العز واتبع القليل
أخذت وراءنا بذناب عيش ... إذا ما الشمس قامت لا تزول
وقال يذكر الحكم بن مروان بن زنباع. ويقال بل هي لعروة بن عثيم بن الكك (من الوافر) :
إلى حكم تناجل منسماها ... حصى المعزاء من كنفي حقيل
ولم أسألك شيئاً قبل هاتي ... ولكني على أثر الدليل
وكانت لا تلوم فارقتني ... ملامتها على دل جميل
وآست نفسها وطوت حشاها ... على الماء القراح مع المليل(6/915)
وله قوله (من الطويل) :
دعيني أطوف في البلاد لعلني ... أفيد غنى فيه لذي الحق محمل
أليس عظيماً أن تلم ملمة ... وليس علينا في الحقوق معول
وقال أيضاً (من الطويل) :
بنيت على خلق الرجال بأعظم ... خفاف تثنى تحتهن المفاصل
وقلب جلا عنه الشكوك فإن تشا ... يخبرك ظهر الغيب ما أنت فاعل
وقال (من الوافر) :
وخل كنت عين الرشد منه ... إذا نظرت ومستعمعاً سميعا
أطاف بغيه وعدلت عنه ... وقلت له أرى أمراً فظيعا
كانت وفاة عروة بن الورد قبل الهجرة بقليل نحو سنة 616م.(6/916)
قيس بن زهير (632م)
هو قيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي صاحب الحروب بين عبس وذبيان بسبب الفرسين داحس والغبراء كما سيأتي ذكر ذلك في موضعه. كان فارساً شاعراً داهية يضرب به المثل. فيقال: أدهى من قيس. حكى المدانئي أن رجلاً مر بحي الأحوص فلما دنا من القوم حيث يرونه نزل عن راحلته فأتى شجرة فعلق عليها وطباً من لبن ووضع في بعض أغصانها حنظلة ووضع صرة من تراب وصرة من شوك. ثم أتى راحلته فاستوى عليها وذهب فنظر الأحوص والقوم في أمره فعي به. فقال: أرسلوا إلى قيس بن زهير فجاء فقال له الأحوص: ألم تخبرني أنه لا يرد عليك أمر ألا عرفت ما أتاه ما لم تر نواصي الخيل. قال: فما الخبر فأعلموه. فقال: وضح الصبح لذي عينين فصار مثلاً يضرب في وضوح الشيء. ثم قال: هذا رجل أسره جيش قاصد لكم. ثم أطلق بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق أن لا ينذركم فعرض لكم بما فعل أما الصرة من التراب فإنه يزعم أنه قد أتاكم عدد كثير. وأما الحنظلة فإنه يخبر أن بني حنظلة غزتكم وأما الشوك فإنه يخبر أن لهم شوكة. وأما اللبن فهو دليل على قرب القوم أو بعدهم أن كان حلوا أو حامضاً. فاستعد الأحوص وورد الجيش كما ذكر.(6/917)
وحكي أن النعمان بن المنذر أرسل إلى أبيه زهير يخطب ابنته وسأله أن يبعث إليه ببعض بنيه فأرسل إليه ولده شاساً فلما قدم عليه أكرمه وأحسن جائزته ورده إلى أبيه وعرض عليه أن يتبعه قوماً يخفرونه. فقال: لا شيء أمنع لي من سنبتي إلى أبي وخرج وحده فمر بماء من مياه بني غني فأكل وشرب ونزل إلى الماء يغتسل وكان رباح بن الأشل الغنوي نازلاً في بيته على الماء ومعه امرأته فرآها تحد النظر إلى شاس وقد شما منه رائحة المسك فأخذته غيرة ففوق إليه سهماً فقتله وغيب أثره وأخذ ما معه. وكان معه عيبة مملوءة مسكاً وعطراً من عطر النعمان وحللاً من ثيابه وأبطأ خبر شاس عن زهير فأخبر بما انصرف به من عند النعمان ولم يدر من قتله فقلق لذلك. فقال قيس: يا أبت أنا أكشف لك خبر أخي. ثم دعا بامرأة حازمة من نساء قومه وكانت السنة شديدة فأمرها أن تأخذ لحماً سميناً فتقدده وتخرج به إلى بني عامر وغني وتعرض ذلك عليهم وقتل: أني قد زوجت ابنتي وأنا أبتغي لها طيباً وثياباً ففعلت إلى أن وقعت على امرأة الغنوي. فقالت لها: إن كتمت علي أعطيتك حاجتك وأخبرتها بأمر شاس وأعطتها مسكاً وثياباً وباعتها ذلك بما معها من الشحم واللحم وخرجت العبسية حتى أتت قيساً فأخبرته فأخبر أباه فركب في قوم من بني عبس وأغار على غني فقتلهم وفرقهم.
وحكي أنه في بعض حروبه لبني ذبيان وهو يوم الشعب المشهور صعد بالجيش والنعم إلى الجبل وعقل الإبل عشرة أيام لا تشرب والماء كثير تحت الجبل. فلما همت بنو ذبيان بالصعود إلى الجبل حل عقال الإبل وأمسك بذنب كل بعير رجل معه سلاحه فمرت الإبل طالبة الماء لا تمر بشيء إلا طحنته والرجال في أعقابها تضرب من مرت به فكانت الهزيمة على بني ذبيان.(6/918)
وحكي: أنه لما تطاولت الحروب بينه وبين حذيفة وحمل ابني بدر الذبيانيين جمع جمعاً عظيماً. وبلغ بني عبس أنهم قد ساروا إليهم. فقال قيس: أطيعوني فوالله لئن لم تفعلوا لا تكئن على سيفي إلى أن يخرج من ظهري. قالوا: فإنا نطيعك فأمرهم فسرحوا السوام والضعاف بليل وهم يريدون أن يظعنوا من منزلهم ذلك ثم ارتحلوا في الصبح وأصبحوا على ظهر العقبة وقد مضى سوامهم وضعفاؤهم. فلما أصبحوا طلعت عليهم الخيل من الثنايا. فقال قيس: خذوا غير طريق المال فلا حاجة للقوم أن يقعوا في شوكتكم ولا يريدون غير ذهاب أموالكم فأخذوا غير طريق المال. فلما أدرك حذيفة الأثر ورآه. قال: أبعدهم الله وما خيركم بعد ذهاب أموالهم فأخذوا غير طريق المال. فلما أدرك حذيفة الأثر ورآه. قال: أبعدهم الله وما خيركم بعد ذهاب أموالهم وسارت ظعن عبس والمقاتلة من ورائهم وتبع حذيفة وبنو ذبيان المال فلما أدركوا ردوا أوله على آخره ولم يفلت منهم شيء وجعل يطرد ما قدر عليه من الإبل فيذهب بها وينفرد واشتد الحر. فقال قيس: يا قوم إن القوم قد فرق بينهم المغنم واشتغلوا فأعطفوا الخيل في آثارهم فلم يشعر بنو ذبيان ألا بالخيل فلم يقاتلهم كثير أحد وإنما كان هم الرجل في غنيمته أن يحوزها ويمضي. فوضعت بنو عبس فيهم السلاح حتى ناشدتهم بنو ذبيان البقية ولم يكن لهم هم غير حذيفة فأرسلوا الخيل تقص أثرهم. وكان حذيفة قد استرخى حزام فرسه فنزل عنه ووضع رجله على حجر مخافة أن يقص أثره. ثم شد الحزام فعرفوا حنف فرسه (والحنف أن تميل أحد اليدين على الأخرى) فتبعوه ومضى حتى استغاث بجفر الهباءة وهو موضع بماء الهباءة وقد اشتد الحر وقد رمى بنفسه ومعه حمل بن بدر أخوه وورقاء بن بلال وقد نزعوا سلاحهم وطرحوا سروجهم ودوابهم تتمعك وجعل ربيئتهم يتطلع فإذا لم ير شيئاً رجع فنظر نظرة فقال: إني رأيت شخصاً كالنعامة فلم يكترثوا بقوله. وبينما هم يتكلمون إذ دهمهم شداد بن معاوية فحال بينهم وبين الخيل. ثم جاء قرواش وقيس حتى تتاموا خمسة فحمل بعضهم على خيلهم فطردها وحمل البقية على من في الجفر فقال حذيفة: يا بني عبس فأين العقول والأحلام فضربه أخوه حمل بين كتفيه وقال اتق مأثور القول فذهبت مثلاً يعني أن كتقول قولاً تخضع فيه وتقتل ويشتهر عنك. وقتل حذيفة وحمل ومن معه وتمزقت بنو ذبيان وأسرف قيس في النكاية والقتل ثم ندم على ذلك ورثى حمل بن بدر بالأبيات المشهورة في الحماسة وسيأتي ذكرها وهو أول من رثى مقتوله.
ولما أطال الحروب ومل أشار على قومه بالرجوع إلى قومهم ومصالحهم. فقالوا:(6/919)
سر نسر معك فقال: لا والله لا نظرت في وجهي ذبيانية قتلت أباها أو أخاها أو زوجها أو ولدها. ثم خرج على وجهه حتى لحق بالنمر بن قاسط فقال: يا معشر النمر أنا قيس بن زهير غريب حرب فانظروا إلى امرأة قد أدبها الغنى وأذلها الفقر. فزوجوه امرأة منهم. ثم قال: إني لا أقيم فيكم حتى أخبركم بأخلاقي. إني امرؤ غيور فخور أنف ولست أفخر حتى ابتلى ولا أغار حتى أرى ولا آنف حتى أظلم. فرضوا بأخلاقه فأقام فيهم زماناً. ثم أراد التحول عنهم فقال: يا معشر النمر إني أرى لكم علي حقاً بمصاهرتي لكم ومقامي بين أظهركم وإني آمركم بخصال وأنهاكم عن خصال. عليكم بالأناة فيها تدرك الحاجة. وتسويد من لا تعابون بتسويده. والوفاء فيه تتعايشون. وإعطاء من تريدون إعطاءه قبل المسألة, ومنع من تريدون منعه قبل الإلحاح. وخلط الضيف بالإلزام. وإياكم والرهان فيه ثكلت مالكاً أخي. والبغي فإنه صرع زهيراً أبي وحملاً. والسرف في الدماء فإن قتل أهل الهباءة أورثني العار. ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق.
ثم رحل إلى عمان فأقام بها حتى مات. وقيل: أنه خرج هو وصاحب له من بني أسد عليهما المسوح يسيحان في الأرض ويتقوتان مما تنبت إلى أن دفعا في ليلة قرة إلى أخبية لقوم من العرب وقد اشتد بهما الجوع فوجدا رائحة القتار فسعيا يريدانه فلما قاربا أدركت قيساً شهامة النفس والأنفة فرجع وقال لصاحبه: دونك وما تريد فإن لي لبثاً على هذه الأجارع أترقب داهية القرون الماضية. فمضى صاحبه ورجع من الغد فوجده قد لجأ إلى شجرة بأسفل واد فنال من ورقها شيئاً ثم مات. وفي ذلك يقول الحطيئة من أبيات:
إن قيساً كان ميتته ... أنفاً والحر منطلق
في دريس لا يغيبه ... رب حر ثوبه خلق
ومن شعر قيس بن زهير يرثي حمل بن بدر قوله الذي تقدمت الإشارة إليه (من الوافر) :
تعلم أن خير الناس ميت ... على جفر الهباءة لا يريم(6/920)
ولولا ظلمه مازلت أبكي ... عليه الدهر ما طلع النجوم
ولكن الفتى حمل بن بدر ... بغى والبغي مرتعه وخيم
أظن الحلم دل علي قومي ... وقد يستهجل الرجل الحليم
ومارست الرجال ومارسوني ... فمعوج علي ومستقيم
وزاد عليها في الأغاني قوله:
فلا تغش المظالم لن تراه ... يمتع بالغنى الرجل الظلوم
ولا تعجل بأمرك واستدمه ... فما صلى عصاك كمستديم
ألاقي من رجال منكرات ... فأنكرها وما أنا بالغشوم
ولا يعتبك عن قرب بلاء ... إذا لم يعطك النصف الخصوم
ولنرجع الآن إلى أصل الحروب بين عبس وذبيان فنقول: إن قيس بن زهير المقدم ذكره كان قد اشترى من مكة درعاً حسنة تسمى ذات الفضول وورد بها إلى قومه فرآها عمه الربيع بن زياد وكان سيد بني عبس فأخذها منه غصباً فانتقل عنه قيس بن زهير بأهله وماله ونزل على بني ذبيان وسيدهم حمل بن بدر بن حصين وأخوه حذيفة فأكرموه وأحسنوا جواره. كان لرجل من بني يربوع يقال له قرواش فرس تسمى جلوى ولرجل منهم يقال له حوط فرس يقال له ذو العقال وكان لا يطرقه شيئاً. وإنهم توجهوا في نجعة والفحل مع ابنتين(6/921)
لحوط يقودانه. فمرت به جلوى فلما استنشاها هجم فأرسلتا الفتاتان مقوده فوثب على جلوى. فنتجها قرواش مهراً فسماه داحساً وخرج داحس كأنه أبوه.
ثم أن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي أغار على بني يربوع لم يصب أحداً غير ابنتي قرواش بن عوف ومائة من الإبل لقرواش واصاب الحي وهم خلوف ولم يشهد من رجالهم غير غلامين من بني ازنم بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع فجالا في متن الفرس مرتد فيه وهو مقيد بقيد من حديد. فأعجلهما القوم عن حل قيده وأتبعهما القوم. فضبر بالغلامين ضبراً حتى نجوا به. ونادتهما إحدى الجاريتين: إن مفتاح القيد مدفون في مذود الفرس بمكان كذا وكذا أي بجنب مذود وهو مكان أي لا ينزلا عنه إلا في ذلك المكان. فسبقا إليه حتى أطلقاه. ثم كرا راجعين. فلما رأى ذك قيس بن زهير رغب في الفرس فقال لهما: لكما حكمكما وادفعا إلي الفرس. فقالا: أو فاعل أنت. قال: نعم. فاستوثقا منه على أن يرد ما أصاب من قليل وكثير ثم يرجع عوده على بدئه ويطلق الفتاتين ويخلي عن الإبل وينصرف عنهم راجعاً. ففعل ذلك قيس. فدفعا إيه الفرس. فلما رأى ذلك أصحاب قيس قالوا: لا نصالحك أبداً أصبنا مائة من الإبل وامرأتين فعمدت إلى غنيمتنا فجعلتها في فرس لك تذهب به دوننا. فعظم في ذلك الشر حتى اشترى منهم غنيمتهم بمائة من الإبل. فلما جاء قرواش قال للغلامين الأزنميين: أين فرسي. فأخبراه. فأبى أن يرضى ألا أن يدفع إليه فرسه. فعظم في ذلك الشر حتى تنافروا فيه. فقضى بينهم أن ترد الفتاتان والإبل إلى قيس بن زهير ويرد إليه الفرس. فلما رأى ذلك قرواش رضي بعد شر وانصرف قيس بن زهير ومعه داحس. فمكث ما شاء الله.
وزعم بعضهم أن الرهان إنما هاجه بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر أن قيساً دخل على بعض الملوك وعنده قينة لحذيفة بن بدر تغنيه بقول امرئ القيس:
دار لهند والرباب وفرتنا ... ولميس قبل حوادث الأيام
وهن فيما يذكر نسوة من بني عبس. فغضب قيس بن زهير وشق رداءها وشمتها. فغضب حذيفة. فبلغ ذلك قيساً فأتاه يسترضيه فوقف عليه فجعل يكلمه وهو لا يعرفه من الغضب وعنده أفراس له فعابها وقال: ما يرتبط مثلك مثل هذه يا أبا مسهر. فقال حذيفة: أتعيبها. قال: نعم. فتجاريا حتى تراهنا.(6/922)
وقال بعض الرواة أن الذي هاج الرهان أن رجلاً من بني عبد الله بن غطفان ثم أحد بني جوشن وهم أهل بيت شؤم أتاه الورد العبسي أبو عروة بن الورد وأتى حذيفة زائراً فعرض عليه حذيفة خيله فقال: ما أرى فيها جواداً مبراً فقال له حذيفة: فعند من الجواد المبر. فقال: عند قيس بن زهير. فقال له: هل لك أن تراهنني عنه. قال: نعم قد فعلت. فراهنه على ذكر من خيله وأنثى. ثم أن العبسي أتى قيس بن زهير وقال: إني قد راهنت حذيفة على فرسين من خيلك ذكر وأنثى وأوجبت الرهان. فقال قيس: ما أبالي من راهنت غير حذيفة. فقال: ما راهنت غيره. فقال له قيس: إنك ما علمت لأنكد. ثم ركب قيس حتى أتى حذيفة فوقف عليه. فقال له: ما غدا بك؟ قال: غدوت لأواضعك الرهان. قال: بل غدوت لتغلقه. قال: ما أردت ذلك. فأبى حذيفة إلا الرهان. فقال قيس: أخيرك ثلاث خلال فإن بدأت فاخترت قبلي فلي خلتان ولك الأولى وإن بدأت فاخترت قبلك فلك خلتان ولي الأولى. قال حذيفة: فابدأ. قال قيس: الغاية من مائة غلوة قال حذيفة: فالمضار أربعون ليلة والمجرى من ذات الاصاد. ففعلا ووضعا السبق على يدي ابن غلاق أحد بني ثعلبة. فأما بنو عبس فزعموا أنه أجرى الخطار والحنفاء. وزعمت بنو فزارة أنه أجرى قرزلاً والحنفاء وأجرى قيس داحساً والغبراء.
ويزعم بعضهم أن الذي هاج الرهان أن رجلاً من بني المعتمر بن قطيعة بن عبس يقال له سراقة راهن شاباً من بني بدر وقيس غائب على أربع جزائر من خمسين غلوة. فلما جاء قيس كره ذلك وقال له: لم ينته رهان قط إلا إلى شر. ثم أتى بني بدر فسألهم المواضعة. فقالوا: لا حتى نعرف سبقنا فإن أخذنا فحقنا وإن تركنا فحقنا. فغضب قيس ومحك وقال: أما إذا فعلتم فاعظموا الخطر وابعدوا الغاية. قالوا: فذلك لك. فجعلوا الغاية من واردات إلى ذات الأصاد. وذلك مائة غلوة. والثنية فيما بينهما. وجعلوا القضية في يدي رجل من بني ثعلبة بن سعد يقال له حصين وملأوا البركة ماء وجعلوا السابق أول الخيل يكرع فيها.(6/923)
ثم أن حذيفة بن بدر وقيس بن زهير أتيا المدى الذي أرسلن منه ينظران إلى الخيل كيف خروجها منه. فلما أرسلت عارضها. فقال حذيفة: خدعتك يا قيس. قال: ترك الخداع من أجرى من مائة غلوة. فأرسلها مثلاً. ثم ركضا ساعة فجعلت خيل حذيفة تبر وخيل زهير تقصر. فقال حذيفة: إنك لا تركض مركضاً. فأرسلها مثلاً. وقال: سبقت خيلك يا قيس. فقال قيس: رويداً تعلون الجدد. فأرسلها مثلاً. قال وقد جعل بنو فزارة كميناً بالثنية. فاستقبلوا داحساً فعرفوه فأمسكوه وهو السابق ولم يعرفوا الغبراء وهي خلفهم مصلية حتى مضت الخيل واستهلت من الثنية ثم أرسلوه فتمطر في آثارها فجعل يبدرها فرساً فرساً حتى سبقها إلى الغاية مصلياً وقد طرح الخيل غير الغبراء. ولو تباعدت الغاية لسبقها. فاستقبلها بنو فزارة فلطموها ثم حلاؤها عن البركة. ثم لطموا داحساً وقد جاءا متواليين. فجاء قيس وحذيفة في آخر الناس وقد دفعتهم بنو فزارة عن سبقهم لطموا أفراسهم ولم تطقهم بنو عبس يقاتلونهم وإنما كان من شهد ذلك من بني عبس أبياتاً غير كثيرة. فقال قيس بن زهير: يا قوم إنه لا يأتي قوم إلى قومهم شراً من الظلم فأعطونا حقنا. فأبت بنو فزارة أن يعطوهم شيئاً. وكان الخطر عشرين من الإبل. فقالت بنو عبس: أعطونا بعض سبقنا. فأبوا. فقالوا: أعطونا جزوراً ننحرها نطعمها أهل الماء فإنا نكره القالة في العرب. فقال رجل من بني فزارة مائة جزور وجزور واحد سواء. والله ما كنا لنقر لكم بالسبق علينا ولم نسبق. فقام رجل من بني مازن بن فزارة فقال: يا قوم إن قيساً كان كارهاً لأول هذا الرهان وقد أحسن في آخره وأن الظلم لا ينتهي إلا إلى الشر فأعطوه جزوراً من نعمكم. فأبوا. فقام إلى جزور من إبله فعقلها ليعطيها قيساً ويرضيه. فقام ابنه فقال: إنك لكثير الخطأ أتريد أن تخالف قومك وتلحق بهم خزاية بما ليس عليهم. فأطلق الغلام عقالها فلحقت بالنعم. فلما رأى ذلك قيس بن زهير احتمل عنهم هو ومن معه من بني عبس. فأتى على ذلك ما شاء الله. ثم أن قيساً أغار عليهم فلقي عوف بن بدر فقتله وأخذ إبله وقال في ذلك (من الوافر) :
شفيت النفس من حمل بن بدر ... وسيفي من حذيفة قد شفاني(6/924)
فإن أك قد بردت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلا بناني
فبلغ ذلك بني فزارة فهموا بالقتال وغضبوا. فحمل الربيع بن زياد أحد بني عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس دية عوف بن بدر مائة عشراء متلية واصطلح الناس فمكثوا ما شاء الله.
ثم أن مالك بن زهير أتى فابتنى باللقاطة قريباً من الحاجز. فبلغ ذلك حذيفة بن بدر فدس له فرساناً على أفراس من سمان خيله وقال: لا تنتظروا مالكاً إن وجدتموه إن تقتلوه. والربيع بن زياد العبسي مجاور حذيفة بن بدر. وكانت امرأة الربيع بن زياد معاذة ابنة بدر. فانطلق القوم فلقوا مالكاً فقتلوه. ثم انصرفوا عنه فجاؤوا عشية وقد جهدوا أفراسهم فوقفوا على حذيفة ومعه الربيع بن زيادز فقال حذيفة: أقدرتم على حماركم. قالوا: نعم وعقرناه. فقال الربيع: ما رأيت كاليوم قط أهلكت أفراسك من أجل حمار. فقال حذيفة لما أكثر عليه من الملامة وهو يحسب أن الذي أصابوا حماراً: إنا لم نقتل حماراً ولكنا قتلنا مالك بن زهير بعوف بن بدر. فقال الربيع: بئس لعمر الله القتل. فقلت: أما والله إني لأظنه سيبلغ ما يكره. فتراجعا شيئاً من كلام ثم تفرقا. فقام الربيع يطأ الأرض وطأ شديداً. وأخذ يومئذ حمل بن بدر ذا النون سيف مالك بن زهير.
قال أبو عبيدة: فزعموا، حذيفة لما قام الربيع بن زياد أرسل إليه بمولدة له فقال لها: اذهبي إلى معاذة فانظري ما ترين الربيع يصنع. فانطلقت الجارية حتى دخلت البيت فاندست بين الكفاء والنضد. فجاء الربيع فنفذ البيت حتى أتى فرسه فقبض بمعرفته ثم مسح متنه حتى قبض بعكوة ذنبه ثم رجع إلى البيت ورمحه مركوز بفنائه فهزه هزاً شديداً ثم ركزه كما كان. ثم قال لامرأته: اطرحي لي شيئاً. فطرحت له شيئاً فاضطجع عليه وقال: قد حدث أمر ثم تغنى وقال قصيدته المتقدمة التي يقول في مطلعها:(6/925)
نام الخلي ولم أغمض حار ... من سيىء النبأ الجليل الساري
فرجعت المرأة فأخبرت حذيفة الخبر فقال: هذا حين اجتمع أمر إخوتكم. ووقعت الحرب. وقال الربيع لحذيفة وهو يومئذ جاره: سيرني فإني جاركم مسيرة ثلاث ليال. ومع الربيع فضلة من خمر. فلما سار الربيع دس حذيفة في أثره فوارس فقال: اتبعوه فإذا مضت ثلاث ليال فإن معه فضلة من خمر فإن وجدتموه قد هراقها فهو جاد وقد مضى فانصرفوا. وإن لم تجدوه قد أراقها فاتبعوه فإنكم تجدونه قد مال لأدنى منزلة فرتع وشرب فاقتلوه. فتبعوه فوجدوه قد مال لأدنى منزل وشق الزق ومضى فانصرفوا. فما أتى الربيع قومه وقد كان بينه وبين قيس بن زهير شحناء وذلك أن الربيع ساوم قيس بن زهير في درع كانت عنجه. فلما نظر إليها وهو راكب وضعها بين يديه ثم ركض بها فلم يردها على قيس. فعرض قيس لفاطمة ابنة الخرشب الأنماية من أنمار بن بغيض وهي إحدى منجبات قيس وهي أم الربيع وهي تسير في ظعائن من بني عبس فاقتاد جملها يريد أن يرتهنها بالدرع حتى يرد عليه. فقالت: ما رأيت كاليوم فعل رجل. أي قيس ضل حلمك أترجو أن تصطلح أنت وبنو زياد وقد أخذت أمهم فذهبت بها يميناً وشمالاً فقال الناس في ذلك ما شاؤوا وحسبك من شر سماعه. فأرسلتها مثلاً. فعرف قيس بن زهير ما قالت له فخلى سبيلها واطرد إبلاً لبني زياد فقدم بها مكة فباعها من عبد الله بن جدعان القرشي وقال في ذلك قيس بن زهير (من الوافر) :
ألم يبلغك والانماء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
ومحبسها على القشي تشرى ... بأدراع وأسياف حداد
كما لاقيت من حمل بن بدر ... وإخوته على ذات الأصاد
هم فخروا علي بغير فخر ... وذادوا دون غايته جوادي
وكنت إذا منيت بخصم سوء ... دلفت له بداهية ناد
بداهية تدق الصلب منه ... فتقصم أو تجوب على الفؤاد(6/926)
وكنت إذا أتاني الدهر ربق ... بداهية شددت لها نجادي
ألم تعلم بنو الميقاب إني ... كريم غير مغتلث الزناد
أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى جار كجار أبي دؤاد
إليك ربيعة الخير بن قرط ... وهوباً للطريف وللتلاد
كفاني ما أخاف أبو هلال ... ربيعة فانتهت عني الأعادي
تظل جياده يحدين حولي ... بذات الرمث كالحدا الغوادي
كأني إذا انخت إلى ابن قرط ... عقلت إلى يلملم أو نصاد
وقال أيضاً قيس بن زهير (من المتقارب) :
إن تك حرب فلم أجنها ... جنتها خيارهم أو هم
حذار الردى إذ رأوا خيلنا ... مقدمها سابح أدهم
عليه كمي وسرباله ... مضاعفة نسجها محكم
فإن شمرت لك عن ساقها ... فويهاً ربيع ولم يساموا(6/927)
نهيت ربيع فلم يزدجر ... كما انزجر الحارث الأضجم
(4ال) فكانت تلك الشحناء بين بني زياد وبين بني زهير فكان قيس يخاف خذلانهم إياه. فزعموا أن قيساً دس غلاماً له مولداً فقال: انطلق كأنك تطلب إبلاً فإنهم سيسألونك فاذكر مقتل مالك ثم احفظ ما يقولون. فأتاهم العبد فسمع الربيع يتغنى بقوله:
أفبعد مقتل مالك بن زهير
فلما رجع العبد إلى قيس فأخبره بما سمع من الربيع بن زياد عوف قيس إن قد غضب. فاجتمعت بنو عبس على قتال بني فزارة فأرسلوا إليهم أن ردوا علينا إبلنا التي ودينا بها عوفاً أخا حذيفة بن بدر لأمه. فقال: لا أعطيكم دية ابن أمي وإنما قتل صاحبكم حمل بن بدر وهو ابن الأسدية وأنتم وهو أعلم.
ثم أن الأسلع بن عبد الله مشى في الصلح ورهن بني ذبيان ثلاثة من بنيه وأربعة من بني أخيه حتى يصطلحوا جعلهم على يدي سبيع بن عمرو فمات سبيع وهم عنده. فلما حضرته الوفاة قال لابنه مالك بن سبيع: إن عندك مكرمة لا تبيد أن أنت احتفظت بهؤلاء الأغيلمة. وكأني بك لو قد مت قد أتاك حذيفة خالك فعصر عينيه وقال: هلك سيدنا. ثم خدعك عنهم حتى تدفعهم إليه فيتقلهم. فلا شرف بعدها. فإن خفت ذلك فاذهب بهم إلى قومهم. فلما ثقل جعل حذيفة يبكي ويقول: هلك سيدنا. فوقع ذلك له في قلب مالك. فلما هلك سبيع أطاف بابنه مالك فأعظمه. ثم قال له: يا مالك إني خالك وإني أسن منك فادفع إلي هؤلاء الصبيان ليكونوا عندي إلى أن ننظر في أمرنا. ولم يزل به حتى دفعهم إلى حذيفة باليعمرية فلما دفع مالك إلى حذيفة الرهن جعل كل يوم يبرز غلاماً فينصبه غرضاً ويرمي بالنبل. ثم يقول: ناد أباك. فينادي أباه حتى يمزقه النبل. ويقول لواقد بن جندب: ناد أباك. فجعل ينادي يا عماه خلافاً عليهم ويكره أن يأبس أباه بذلك. وقال لابن جنيدب: ناد جنيبة. وكان جنيبة لقب أبيه. فجعل ينادي يا عمراه باسم أبيه حتى قتل وقتل عتبة بن(6/928)
قيس بن زهير. ثم إن بني فزارة اجتمعوا هم وبنو ثعلبة وبنو مرة فالتوا هم وبنو عبس فقتلوا منهم مالك بن عمرو بن سبيع الثعلبي قتله مروان بن زنباع العبسي وعبد العزى بن حذار الثعلبي والحرث بن بدر الفزاري وهرم بن ضمضم المري قتله ورد بن حابس العبسي ولم يشهد ذلك اليوم حذيفة بن بدر فقالت ناجية أخت هرم بن ضمضم المري:
يا لهف نفسي لهفة المفجوع ... أن لا أرى هرماً على مودوع
من أجل سيدنا ومصرع جنبه ... علق الفؤاد بحنظل مجدوع
سئل قيس بن زهير كم كنتم يوم الفروق. قال: مائة فارس كالذهب لم نكثر فنقل ولم نقل فنضعف. ثم سار بنو عبس حتى وقعوا باليمامة. فقال قيس بن زهير: إن بني حنيفة قوم لهم عز وحصون فحالفوهم فخرج قيس حتى أتى قتادة بن مسلمة الحنفي وهو يومئذ سيدهم. فعرض عليهم قيس نفسه وقومه. فقال: ما يرد مثلكم ولكن لي في قومي أمراء لا بد من مشاورتهم وما ننكر حسبك ولا نكايتك. فلما خرج قيس من عنده قيل له: ما تصنع أتعمد إلى أفتك العرب وأحزمهم فتدخله أرضك ليعلم وجوه أرضك وعورة قومك ومن أين يؤتون. فقال: كيف أصنع وقد وعدت له على نفسي وأنا أستحي من رجوعي. فقال له السمين الحنفي: أنا أكفيك قيساً وهو رجل حازم متوثق لا يقبل إلا للوثيقة. فلما أصبح قيس غدا عليه ولقيه السمين. فقال: إنك على خير وليست عليك عجلة. فلما رأى ذلك قيس ومر على جمجمة بالية فضربها برجله ثم قال: رب خسف قد أقرت به هذه الجمجمة مخافة مثل هذا اليوم وما أراها وألت منه وأن مثلي لا يرضى إلا القوي من الأمر. فلما لم ير ما يحب احتمل فلحق ببني عامر بن صعصعة فنزل هو وقومه على بني شكل وهم بنو أختهم وبنو شكل هم من بني الخريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وكانت أمهم عبسية فجاوروهم فكانوا يرون منه أثرة وسوء جوار وأشياء تريبهم ويستجفون بهم فقال نابغة بني ذبيان:
لحا الله عبساً عبس آل بغيض ... كلحى الكلاب العاويات وقد فعل
فأصبحتم والله يفعل ذاكم ... يعزكم مولى مواليكم شكل
فمكثوا مع بني عامر يتجنون عليهم ويرون منهم ما يكرهون حتى غزتهم بنو ذبيان وبنو أسد ومن تبعهم من بني حنظلة يوم جبلة فأصابوا يومئذ زمان بدر فكانوا معهم(6/929)
ما شاء الله. ثم أن رجلاً من الضباب أسرته بنو عبد الله بن غطفان فدفعه الذي أسره إلى رجل من أهل تيماء يهودي فاتهمه اليهودي بقبيح فقال الحنبص الضبابي لقيس بن زهير: أد إلينا ديته فإن مواليك بني عبد الله بن غطفان أصابوا صاحبنا وهم حلفاء بني عبس فقال: ما كنا لنفعل فقال: والله لو أصابه مر الريح لوديتموه. فقال قيس بن زهير في ذلك (من الطويل) :
لحا الله قوماً أرشوا الحرب بيننا ... سقونا بها مراً من الشرب آجنا
وحرملة الناهيهم عن قتالنا ... وما دهره ألا يكون مطاعنا
فهلا بني ذبيان وسط بيوتهم ... رهنت بمر الريح إن كنت راهنا
وخالستهم حقي خلال بيوتهم ... وإن كنت ألقى من رجال ضغائنا
إذا قلت قد أفلت من شر حنبص ... لقيت بأخرى حنبصا متباطنا
فقد جعلت أكبادنا تجتويهم ... كما يجتوي سوق العضاه الكرازنا
يدروننا بالمنكرات كأنما ... يدرون ولداناً ترمي الرهادنا
فقال النابغة الذبياني جواباً لقيس:
غبك بكاء السداد إنك لن ... تهبط أرضاً تحبها أبدا
نحن وهبناك للجريش وقد ... جاوزت في الحي جعفراً عددا
وقال قيس بن زهير (من الكامل) :
مالي أرى إبلي تحل كأنها ... نوح تجاوب موهناً أعشارا
لن تهبطي أبداً جنوب مويسل ... وقنا قراقرقين فالأمرارا
أجهلت من قوم هرقت دماءهم ... بيدي ولم أدهم بجنب تغارا(6/930)
إن الهوادة لا هوادة بيننا ... إلا التجاهل فاجهدن فزارا
إلا التزاور فوق كل مقلص ... يهدي الجياد إلى الخميس أغارا
فلأهبطن الخيل حر بلادكم ... لحق الأياطل تنبذ الأمهارا
حتى تزور بلادكم وتروا بها ... منكم ملاحم تخشع الأبصارا
وله في مالك بن زهير ومالك بن بدر (من الوافر) :
أخي والله خير من أخيكم ... إذا ما لم يجد بطل مقاما
أخي والله خير من أخيكم ... إذا ما لم يجد راع مساما
أخي والله خير من أخيكم ... إذا الخفرات أبدين الخداما
قتلت به أخاك وخير سعد ... فإن حرباً حذيف وإن سلاما
ترد الحرب ثعلبة بن سعد ... بحمد الله يرعون البهاما
وكيف تقول صبر بني حجان ... إذا غرضوا ولم يجدوا مقاما
ولولا آل مرة قد رأيتم ... نواصيهن ينضون القتاما
وقال (من الطويل) :
تعرفن من ذبيان من لو لقيته ... بيوم حفاظ طار في اللهوات
ول أن سافي الريح يجعلكم قذى ... بأعيننا ما كنتم بقذاة
وله (من الطويل) :
إذا أنت أقررت الظلامة لامرئ ... رماك بأخرى شعبها متفاقم
فلا تبد للأعداء إلا خشونة ... فما لك منهم إن تمكن راحم
ومما ينسب إلى قيس بن زهير قوله (من الوافر) :
لعمرك ما أضاع بنو زياد ... ذمار أبيهم فيمن يضيع(6/931)
بنو جنية ولدت سيوفاً ... صورام كلها ذكر صنيع
شرى ودي وشكري من بعيد ... لآخر غالب أبداً ربيع
وقد مر أن هذه الأبيات تنسب أيضاً إلى حاتم طي.
وأدرك قيس بن زهير الإسلام وقيل أنه أسلم مدة ثم ارتد عن الإسلام وساح في الأرض حتى انتهى إلى عمان فتنسك ومات هناك راهباً 632م قال أبو الفداء والفيروزابادي وغيرهما. وكان أبو قيس زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحرث بن قطيعة بن عبس سيد غطفان وحليف ملوك الحيرة تزوج إليه النعمان جد النعمان بن المنذر لشرفه وسؤدده.(6/932)
كتاب شعراء النصرانية بعد الإسلام
القسم الأول
الشعراء المخضرمون
من المعلوم أن المخضرم ويقال المحضرم من عاش مدة في الجاهلية قبل الهجرة وأدرك الإسلام فعاش في زمن نبيه أو في عهد خلفائه الأولين.
1- عثمان بن الحويرث
هو عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي كان من جملة الحنفاء الذين اعتزلوا عن قومهم وطلبوا الدين الحق ثم تنصروا. قال أحمد ابن واضح الشهير باليعقوبي في تاريخه (طبعة ليدن 1: 298) : (تنصر من أحياء العرب قوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى منهم عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى وورقة بن نوفل بن أسد) . وكان عثمان من قرابة ورقة جدهما أسد بن عبد العزى وكلاهما من قرابة رسول الإسلام.
وقد جاء ذكر عثمان في أخبار أيام العرب في ذكر الفجار الثاني. وهي حرب جرت بين قريش وهوازن نحو السنة 590 أعني ثلاثين سنة قبل الهجرة.
قال صاحب الأغاني أن عثمان بن الحويرث (كان علي بني عبد الدار ولفها) فتولى قيادتهم في محاربة هوازن.(7/)
أما تنصره فقد رواه ابن هشام في سيرة الرسول قال (ص 143-144) : (اجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له ويعتكفون عنده ويدورون به وكان ذلك عيدا لهم كل سنة يوما فخلص منهم أربعة نجيا ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض. قالوا: أجل. وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش ... وعثمان بن الحويرث ... وزيد بن عمرو بن نفيل ... فقال بعضهم لبعض: (تعلموا والله ما قومكم على شيء لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم. ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع. يا قوم التمسوا لأنفسكم دينا فإنكم والله ما أنتم على شيء) فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم. فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية ... وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين على الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة ابنة أبي سفيان مسلمة فلما قدماها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هناك نصرانيا.. وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده. وله عند قيصر حديث ... ) .
وهذا الحديث الذي لم يذكره ابن هشام في السيرة فقد رواه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق الفاكهي من أقدم كتبة الإسلام في كتابه المنتقى من أخبار أم القرى قال (ص 143-144) :
تملك عثمان بن الحويرث بن أسد على قريش بمكة(7/)
قال الزبير بن بكار فيما رويناه عنه: حدثني علي بن صالح ... عن عروة بن الزبير قال: خرج عثمان بن الحويرث وكان يطمع أن يملك قريشا وكان من أظرف وأعقلها حتى قدم على قيصر وقد رأى موضع حاجتهم إليه ومتجرهم من بلاده فذكر له مكة ورغبة فيها وقال: (تكون زيادة في ملكك كما ملك كسرى صنعاء) فملكه عليهم وكتب له إليهم. فلما قدم عليهم قال: (يا قوم إن قيصر قد علمتم أمانكم ببلاده وما تصيبون من التجارة في كنفه وقد ملكني عليكم وإنما أنا ابن عمكم وأحدكم وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة من السمن والأوهاب فأجمع ذلك ثم ابعث به إليه. وأنا أخاف أن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام فلا تتجروا به وينقطع مرفقكم منه) . فلما قال لهم ذلك خافوا قيصر وأخذ بقلوبهم ما ذكر من متجرهم فاجمعوا على أن يعقدوا على رأسه التاج عشية وفارقوه على ذلك. فلما طافوا عشية بعث الله عليه ابن عمه أبا زمعة الأسود بن المطلب بن أسد فصاح على أحفل ما كانت قريش في الطواف وقال: (عياذ الله ملك تهامة) فانحاشوا انحياش حمر الوحش ثم قالوا: (صدقت واللات والعزى ما كان بتهامة قط) فانتفضت قريش عما كانت قالت له. ولحق (عثمان) القيصر ليعلمه. ثم روى الزبير بسنده أن قيصر حمل عثمان على بغلة عليها سرج عليه الذهب حين ملكه. قال الزبير: أتى عثمان بن الحويرث حين قدم مكة بكتاب قيصر مختوم في أسفله بالذهب ... وذكر الزبير خبرا فيما انتهى إليه أمر عثمان بن الحويرث وملخص ذلك أنه خرج إلى قيصر بالشام. فسأل تجار قريش بالشام عمرو بن جنفة الغساني أن يفسد على عثمان عند قيصر.
فسأل عمرو في ذلك ترجمان قيصر فأخبر الترجمان قيصر عن عثمان حين حضر عثمان وترجم عنه بأن عثمان تسنم الملك بأمر قيصر فأخرج عثمان له. ثم تحيل عثمان حتى عرف من أين أتى ودخل على قيصر وعرفه ما يقتضي أن الترجمان كذب عليه فكتب قيصر إلى عمرو بن جفنة يأمره بأن يحبس لعثمان من أراد حبسه من تجار قريش بالشام ففعل ذلك عمرو ثم سم عثمان فمات بالشام. (قال) وذكرنا هذا الخبر بنصه في أصل هذا الكتاب.(7/)
ومما ذكره ياقوت عن عثمان في معجم البلدان (128: 1) أنه كان (هجاء لقريش عالما بمثالبها) . ولعثمان شعر لم نقف منه إلا على أبيات نقلناها عن كتاب البيان والتبيين للجاحظ عن نسخة باريس () يهجو بها عمرو بن العاص (من الطويل) :
له أبوان فهو يدعى إليهما ... وشر العباد من له أبوان
وقد حكما فيه لتصدق أمه ... وكان لها علم به ببيان
فقالت صراحا وهي تعلم غيره ... ولكنها تهذي بغير لسان
2- الحارث بن كلدة
هو الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج الثقفي كان نصرانيا على مذهب النساطرة قال جمال الدين ابن القفطي في تاريخ الحكماء (ص 161) : (الحرث بن كلدة ... طبيب العرب في وقته أصله من ثقيف من أهل الطائف. رحل إلى أرض فارس وأخذ الطب من أهل تلك الديار من أهل جنديسابور وغيرها في الجاهلية قبل الإسلام وجاد في هذه الصناعة وطب بأرض فارس وعالج وحصل له بذلك مال كثير هناك وشهد أهل فارس ممن رآه بعلمه وكان قد عالج بعد إجلائهم فبرأ وأعطاه مالاً وجاريةً سماها الحارث سمية ثم أن نفسه اشتاقت إلى بلاده فرجع إلى الطائف واشتهر طبه بين العرب وكان رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) يأمر سعد بن أبي وقاص بأن يأتيه فيستوصفه في مرض نزل به فيدل أنه جائز أن يشارو أهل الكفر في الطب إذ كان من أهله والله أعلم.
(قال محمد بن زياد الأعرابي: وكان للحارث بن كلدة تقدم في النحو واللغة. قال أبو عمر: ومات الحارث بن كلدة في أول الإسلام ولم يصح إسلامه ... (قال) وكان الحرث يضرب العود تعلم ذلك أيضاً بفارس واليمن وبقي إلى زمن معاوية فقال له معاوية: ما الطب يا حارث؟ فقال: الأزم يا معاوية (يعني الجوع والحمية عن الطعام) .
وروى له عبد الرحمان بن أبي بكرة قوله: من سره البقاء والإبقاء فليباكر الغداء وليخفف الرداء وليقل من غشيان النساء (أراد بخفة الرداء أن لا يكون عليه دين) .(7/)
وقد روى ابن أبي أصيبعة أخبار الحارث بن كلدة في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء (19: 1 - 113) قال عنه (أنه بقي أيام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأيام أبي بكر وعثمان وعلي ومعاوية. قال أبو زيد: وكانت للحارث معالجات كثيرة ومعرفة بما كانت العرب تعتاده وتحتاج إليه. (قال) وللحارث بن كلدة من الكتب كتاب المحاورة في الطب بينه وبين كسرى أنوشروان) . وروي هناك (ص 110) بعض كلامه مع كسرى عن الطب وخواصه.
أما شعر الحارث بن كلدة فروى له ابن عبد ربه في العقد الفريد (3: 114) أبياتا قالها في يوم الحريرة وهو أحد أيام حرب الفجار الآخر كان لهوازن على كنانة وقريش (من الكامل) :
تركت الفارس البذاخ منهم ... تمج عروقه علقاً عبيطا
دعست بنانه بالرمح حتى ... سمعت لمتنه فيه أطيطا
لقد أرديت قومك يا ابن صخر ... وقد جشمتهم أمراً شطيطا
وكم أسلمت منكم من كمي ... جريحا قد سمعت له غطيطا
وروى له أيضاً البحتري في حماسته (ع 381) وصاحب مجموعة المعاني (ص 64) قوله في الموءخاة عند الرخاء والخذلان عند الشدة (من الطويل) :
فأما إذا استغنيتم فعدوكم ... وأدعى إذا ما الدهر نابت نوائبه
فإن يك خير فالبعيد يناله ... وإن يك شر فابن عمك صاحبه
وهذه أبيات ذكرها له صاحب الحماسة البصرية (ج 2 ص 33) من نسخة مكتبتنا الشرقية وقال أنها تروى أيضا لغيلان بن سلمة الثقفي وهي (من الوافر) :
ألا أبلغ معاتبتي وقولي ... بني عمي فقد حسن العتاب
وسل هل كان لي ذنب إليهم ... هم منه فأعنته غضاب
كتبت إليهم كتبا مراراً ... فلم يرجع إلي لها جواب
فما أدري أغيرهم ثناء ... وطول العهد أم مال أصابوا
فمن يك لا يدوم له وفاء ... وفيه حين يغترب انقلاب
فعهدي دائم لهم وودي ... على حال إذا شهدوا وغابوا
ومما روي للحارث بن كلدة في كتاب حماسة ابن الشجري (نسخة مكتبة باريس ص 76) بيتان رواهما الجاحظ في كتاب البيان والتبيين للحارث بن حلزة (اطلب الصفحة 30 من ديوانه الذي طبع في المشرق قبلاً من البسيط) :
لا أعرفنك إن أرسلت قافيةً ... تلقي المعاذير إن لم تنفع العذر
إن السعيد له في غيره عظة ... وفي التجارب تحكيم ومعتبر(7/)
والحارث بن كلدة هو أبو النضر بن الحارث وكان ابن خالة بني الإسلام وكان نصرانيا كأبيه قال ابن أبي أصيبعة (123: 1) : (إنه سافر البلاد كأبيه واجتمع مع الأفاضل والعلماء بمكة وغيرها وعاشر الأحبار والكهنة واشتغل وحصل من العلوم القديمة أشياء جليلة القدر واطلع على علوم الفلسفة وأجزاء الحكمة وتعلم من أبيه أيضاً ما كان يعلمه من الطب وغيره) على أنه كان معاديا لرسول المسلمين إذا سمع القرآن اعرض عنه واستهزأ به ثم حاربه يوم بدر فكان من جملة المأسورين مع عقبة ابن أبي معيط فقتلهما محمد بعد مصرفه من بدر في الصفراء على ثلثة أميال من المدينة في السنة الثانية من الهجرة. فأتت أخت النضر قتيلة بنت الحارث إلى الرسول وقالت ترثي أخاها (من الكامل) :
يا راكباً عن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق
بلغ به ميتاً فإن تحيةً ... ما إن تزال بها الركائب تحقق
مني إليه وعبرةً مسفوحةً ... جادت بدرتها وأخرى تخنق
فليسمعن النضر إن ناديته ... إن كان يسمع ميت أو ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تمزق
صبراً يقاد إلى المنية متعباً ... رسف المقيد وهو عان موثق
أمحمد ولأنت نسل نجيبة ... في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
والنضر أقرب من أخذت بزلة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق
لو كنت قابل فدية لفديته ... بأعز ما يفدى به من ينفق
قال أبو الفرج الأصبهاني: فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو سمعت هذا فبل أن أقتله ما قتلته. فيقال إن شعرها أكرم شعر موتورة وأعفه وأكفه وأحلمه.
3- أبو القيس صرمة الراهب(7/)
هو أبو قيس صرمة بن أنس وقيل ابن أبي أنس ابن صرمة بن مالك من بني عدي ابن النجار من الخزرج وكان يلقب بالراهب لنسكه. قال في كتاب أنساب العرب وابن إسحاق في سيرة الرسول (ص 348) : (كان أبو قيس رجلا قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الأوثان واغتسل من الجنابة وتطهر من الحائض من النساء وهم بالنصرانية ثم أمسك عنها ودخل بيتاً واتخذ مسجداً لا يدخله عليه طامث ولا جنب وقال: (أعبد رب إبراهيم حين فارق الأوثان وكرهها (حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فاسلم فحسن إسلامه وهو شيخ كبير وكان قوالاً بالحق معظماً لله عز وجل في الجاهلية يقول في ذلك الشعار الحسنة) .
هذا ما ورد في كتب الرواة ومن العجب أن ابن سعد في طبقاته الكبرى لم يذكره في جملة الصحابة. وفي تلقيب القدماء له بالراهب دليل كاف على نصرانيته وقد قال رسول المسلمين (لا رهبانية في الإسلام) . ولا ندرك قولهم (هم بالنصرانية ثم أمسك عنها) وهم يردفونه بقولهم أنه (دخل البيت واتخذ له مسجداً لا تدخله النساء) وكل ذلك من أعمال رهبان النصارى. ففي قولهم إذن نظر وكذلك في زعمهم أنه عاش نحواً من مائة وعشرين سنة. ولم يذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين. ويتفق الذين ذكروه على أنه كان شاعراً وله الأشعار الحسنة في الدين والأدب مع الإشارة إلى نصرانيته. فمن ذلك ما روى له ابن هشام في سيرة الرسول (ص 348) وابن الأثير في أسد الغابة في معرفة الصحابة (278: 5) وابن حجر العسقلاني في تمييز الصحابة (486: 2) وغيرهم ما يدل على رهبانيته (من الطويل) :
يقول أبو قيس وأصبح غادياً ... ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا
أوصيكم بالله والبر والتقى ... وأعراضكم والبر بالله أول
وإن قومكم سادوا فلا تحسدنهم ... وإن كنتم أهل السيادة فاعدلوا
وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكم ... فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا
وإن ناب غرم فادح فارفقوهم ... وما حملوكم في الملمات فاحملوا
وإن أنتم أمعرتم فتعففوا ... وإن كان فضل الخير فيكم فأضلوا
ومن وصاياه التقوية في الجاهلية قوله (من الخفيف) :
سبحوا الله شرق كل صباح ... طلعت شمسه وكل هلال
عالم السر والبيان لدينا ... ليس ما قال ربنا بضلال(7/)
وله الطير تستريد وتأوي ... في وكور من آمنات الجبال
وله الوحش بالفلاة تراها ... في حقاف وفي ظلال الرمال
وله هودت يهود ودانت ... كل عين إذا ذكرت عضال
وله شمس النصارى وقاموا ... كل عيد لربهم واحتفال
وله الراهب الحبيس تراه ... رهن بؤس وكان ناعم بال
يا بني الأرحام لا تقطعوها ... وصلوها قصيرةً من طوال
واتقوا الله في ضعاف اليتامى ... ربما يستحل غير الحلال
واعلموا أن لليتيم ولياً ... عالماً يهتدي بغير السؤال
ثم مال اليتيم لا تأكلوه ... إن مال اليتيم يرعاه والي
يا بني التخوم لا تخزلوها ... إن خذل التخوم ذو عقال
يا بني الأيام لا تأمنوها ... واحذروا مكرها ومر الليالي
واعلموا أن مرها لنفاد ... الخلق ما كان من جديد وبال
واجمعوا أمركم على البر والتقوى ... وترك الخنا وأخذ الحلال
ومما روي له في الإسلام مشيراً إلى نبيهم قوله وفيه أيضاً دلائل على نصرانيته حيث يذكر (صلاته في كل بيعة) (طويل) :
ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مؤاتيا
ويعرض في أهل المواسم عرضة ... فلم ير من يؤمن ولم ير داعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه ... فأصبح مسروراً بطيبةً راضيا
وألفى صديقاً واطمأنت به النوى ... وكان لنا عوناً من الله باديا
يقص لنا ما قال نوح لقومه ... وما قال موسى إذ أجاب المناديا
وأصبح لا يخشى عداوة واحد ... قريباً ولا يخشى من الناس نائيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
ونعلم أن الله لا شيء غيره ... ونعلم أن الله أفضل هاديا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم ... جميعا وإن كان الحبيب المصافيا
أقول إذا صليت في كل بيعة ... تباركت قد أكثرت لأسمك داعيا
فطأ معرضاً إن الحتوف كثيرة ... وإنك لا تبقي بنفسك باقيا
فو الله ما يدري الفتى كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
ولا تحفل النخل المقيمة ربها ... إذا أصبحت رياً وأصبح ثاويا
بدا لي إن عشت تسعين حجةً ... وعشر أول وما بعدها ثمانيا
فكم ألفها لما مضت وعددتها ... بحبسها في الدهر ولا لياليا
4-أكثم بن صيفي(7/)
هو أكثم بن صيفي بن رباح بن الحارث بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم أشهر حكام العرب في الجاهلية وحكمائهم وخطبائهم.
كان من نصارى تميم وأدرك الإسلام. ويقول بعض الكتبة أرسل وفدا من قومه إلى نبي المسلمين مع ابنه حبيش فلما رجعوا أعلموه بأمره فاستحسن طريقته وحض قومه على اتباعها وأنه حاول الخروج إلى محمد فمات قبل اجتماعه به والله أعلم.
وكان أكثم أحد المعمرين ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين ومما رووا له في ذلك قوله (من الطويل حماسة البحتري ع 461) :
وان امرءاً قد عاش تسعين حجة ... إلى مائة لم يسأم العيش جاهل
مضت مئتان غير ست وأربع ... وذلك من عد الليالي قلائل
فإن صح قوله بلغ من العمر مائةً وتسعين سنة. على أن لهذين البيتين روايةً أخرى لعلها هي الصحيحة تجعل عمره خمساً وتسعين سنة فقط وهي:
وان امرءاً قد عاش تسعين حجة ... لخمس ولم يسأم العيش جاهل
فلا ترج عمراً بعد من فاد إنما ... بقاؤك في الدنيا ليال قلائل
وكان العرب يتقاضون إلى أكثم ولا يردون حكمه لنزاهته وبره. روى في الأغاني (73: 15) رفع قبيلتي الرباب وسعد دعواهما إلى حكمه. وأخبر السجستاني (ص 12) أن القعقاع وخالد بن مالك بن سلم النهشلي تنافرا إلى أكثم بن صيفي أيهما أقرب إلى المجد والسؤدد فقال: سفيهان يريدان الشر ارجعا فإن أبيتما فاني لست مفضلا أحداً من قومي على أحد كلهم إلي شرع سواء. وخلا بكل واحد مهما يسأله الرجوع عما جاء له فلما أبيا بعث معهما رجلا إلى ربيعة بن حذار الأسدي وحبس عنده إبلهما فغضبا وطلبا ردها بعنف فقال أكثم (طويل) :
نبئت أن الأقرعين وخالداً ... أرادوا بأن يستنقصوا عز أكثما
(فوبل أمهم لن يستطيعوا لمأرب) ... بعمد أرادوا أن أنم ويغنما
قال: أي يغنم خالد. وقال أكثم (طويل) :
سأحبسها حتى يبين سبيلها ... ويسرحها تحدى إلى الحي اسلم
ويمنعها قومي وتمنعها يدي ... وجرداء من أهل الأفاقة صلدم(7/)
وأخبر أبو حاتم السجستاني أيضا أن النعمان بن المنذر أصاب أسارى من تميم وحبسهم بالحيرة والقطقطانة فركب إليه وفودهم وفيهم أكثم بن صيفي حتى انتهوا إلى النجف ثم قدموا الحيرة وأقاموا مدةً لم يحظوا بالدخول على النعمان ثم شخص النعمان إلى القطقطانة موضع في البرية قرب الكوفة حيث كان سجن النعمان فسار الوفد إليها وهجم أكثم على بابها ونادى حارس السجن بقوله (من الرجز) :
يا حمل بن مالك بن أهبان ... هل تبلغن ما أقول النعمان
إن الطعام كان عيش الإنسان ... أهلكتني بالحبس بعد الحرمان
من بين عار جائع وعطشان ... وذاك من شر حباء الضيفان
فسمع النعمان صوته وأذن لوفد تميم أن يأتوه وقال: مرحبا بكم سلوني ما شئتم إلا أسارى عندي. فطلب إليه القوم حوائجهم وأبى أكثم أن يسأله فقال له النعمان: ما يمنعك. فقال أكثم: أبيت اللعن قد علم قومي أني من أكثرهم مالاً ولم أسأل أحداً شيئا إن المسئلة من أضعف المكسبة وقد تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
فقال النعمان: صدقت سل حاجتك. فقال: ناقتك برحلها وخلعتك وكل مكروب بالقطقطانة والحيرة عرفني. قال: ذلك لك. فركب ناقته في كسوته ثم نادى يا أهل السجن إن النعمان قد جعل لي من عرفني. قالوا: كلنا نعرفك أنت أكثم بن صيفي. ثم فعل مثل ذلك بالحيرة فأخرجهم ثم قال (من الوافر) :
ثوينا بالقطاقط ما ثوينا ... وبالعبرين حولاً ما نريم
وأخبر أهلنا أن قد هلكنا ... وقد أعيا الكواهن والبسوم
وآسانا على ما كان أوسٌ ... وبعض القوم ملحي ذميم
فقلت لهم أيا قومي أبانت ... فكونوا الناهضين بها وقوموا
بوفد من سراة بني تميم ... إلى أمثالهم لجأ اليتيم
فإنكم لأن تكفوه أهل ... عليكم حق قومكم قديم
وإنكم بعقوة ذي بلاء ... وحق الملك مكشوف عظيم(7/)
هذا ما وجدنا من شعر أكثم بن صيفي. أما حكمة فكثيرة لو جمع ما بقي منها لأنافت على عدة صفحات. وقد عرف أكثم بحكمته حتى ضرب به المثل في ذلك وكاتبه الملوك يطلبون أقواله. منهم ملك هجر أو نجران طلب أن يكتب إليه بأشياء ينتفع بها وأن يوجز. فكتب إليه كتاب (كتاب المعمرين ص 16) : (إن أحمق الحمق الفجور. وأمثل الأشياء ترك الفضول. وإياك والتبذير فإن التبذير مفتاح البؤس. وأحوج الناس إلى الغنى من لا يصلحه إلا الغنى وأولئك الملوك. وحب المديح رأس الضياع. وفي المشورة صلاح الرعية ومادة الرأي. ورضا الناس غاية لا تدرك فتحر الخير بجهدك ولا تحفل سخط من رضاه الجور ... إلخ.
وروى له هناك حكما اقترحها عليه ملك عرب الشام الحارث بن أبي شمر الغساني ليرسلها إلى هرقل ملك الروم فيعرف أن في العرب مثل خطباء غسان حكمة وعقولا وألسنة. فأجاب أكثم إلى أمره. وكذلك نقلوا عن أكثم حكما بليغة كتبها لبعض ملوك فارس الذي كان عير العرب بخفة أحلامهم وقلة عقولهم فأمره النعمان بن المنذر أن يبين له شيئا يعجب به ملك فارس ويرغبه بع في العرب. فكتب: (لن يهلك امرؤ حتى يضيع الرأي عند فعله ويستبد على قومه بأمره ويعجب بما ظهر من مروءته ويغتر بقوته والأمر يأتيه من فوقه وغلى الله تصير المصائر) وهي طويلة اكتفينا بهذا.
ولما كان يوم الكلاب أشار أكثم على قومه بني تميم حين سارت إليهم مذحج بأجمعها فقال: (استشيروا واقلوا الخلاف على أمرائكم وكونوا جميعا فإن الجميع غالب ولا جماعة لمن اختلف. تثبتوا ولا تسارعوا فإن احزم الفريقين اركنهما ورب عجلة تهب ريثاً) .
ومما يدل على نصرانية أكثم عدة حكم أخذها من الإنجيل المقدس والأسفار الإلهية هذه البعض منها تروى في العقد الفريد لابن عبد ربه وفي كتاب المعمرين وفي شرح رسالة ابن زيدون كقوله: (أحسن يحسن إليك. ولكل عمل ثواب. ارحم ترحم. وكما تدين تدان. وستساق إلى ما أنت لاق. ولا تلزم أخاك ماساءك. ولا تكونن راضياً بالقول. ففضل الفعل على القول مكرمة. حيلة ما لا حيلة له الصبر. واستر سوءة أخيك لما تعرف فيك. والدال على الخير كفاعله. وجاز بالحسنة ولا تكافئ بالسيئة. أفضل الزاد ما تزود للمعاد) .(7/)
ولما حضرت أكثم بن صيفي الوفاة جمع ولده وقال: (يا بني الدهر قد أدبني وقد أحببت أن أؤدبكم وأزودكم أمراً يكون لكم بعدي معقلاً. يا بني تباروا فإن البر ينسئ في الأجل وينمي العدد وكفوا ألسنتكم فإن مقتل الرجل بين فكيه والصدق منجاة ومن قنع بما هو فيه قرت عينه فإن مصارع الألباب تحت ظلال الطمع ومن سلك الجدد أمن العثار وخير الأمور أوساطها والمكثار كحاطب ليل ومن أكثر سقط. لا تمنعكم مساوئ رجل من ذكر محاسنه والحر حر وإن مسه الضر ... )
5- عبد المسيح بن بقيلة
أحد أعيان نصارى الحيرة الذي اشتهر في الجاهلية وأول الإسلام. ولشهرته وشيوع أخباره نسبت إليه أمور غريبة كقصته مع سطيح الغساني وكزعمهم أنه عاش 350 سنة. وكل من ذكروه مجمعون على شرفه وثباته في النصرانية بعد الإسلام ومصالحة خالد بن الوليد قومه على يده في الحيرة.
قال في معجم الشعراء للمرزباني: (هو عبد المسيح الغساني ابن عمرو بن قيس ابن حيان بن بقيلة (وفي الأغاني: 15: 11 روى نفيلة وهو تصحيف) . وبقيلة اسمه ثعلبة بن سنين (والصواب: سبين) الحارث. وسمي بقيلة لأنه خرج في بردين أخضرين فقيل له: يا حارث ما أنت إلا بقيلة خضراء فغلبت عليه) . قال ابن دريد في الاشتقاق (ص 285) : (وبنو سبين في الحيرة منهم بقيلة صاحب القصر الذي يقال له قصر بني بقيلة بالحيرة ومنهم عبد المسيح الذي صالح خالد بن الوليد على الحيرة) .
وقال ابن الأثير في المرصع (ص 40) : (ابن بقيلة جاهلي قديم من المعمرين يقال أنه عاش ثلثمائة وخمسين سنة وأدرك الإسلام فلم يسلم وعاش إلى أن غزا خالد بن الوليد الحيرة في خلافة الصديق (أبي بكر) رض واسمه عبد المسيح بن عمرو بن نفيلة (بقيلة) أو عبد المسيح وزيراً للنعمان) . وذكره أبو حاتم السجستاني في جملة المعمرين (ص 38) وجاء في كتاب أنساب العرب لسلمة بن مسلم (ومن علماء غسان وشعرائهم وملوكهم ومعمريهم عبد المسيح بن عمرو ... ) (وهو ابن أخت سطيح) وورد مثل ذلك في التذكرة الحمدونية.(7/)
وقد روى بعض الكتبة كابن هشام في سيرة الرسول (ص 9-11) والطبري في تاريخه (983: 1) وابن عبد ربه في العقد الفريد (133: 1-134) وابن العربي في المحاضرات (50: 2-51) أخباراً غريبة مصنوعة عن وفود عبد المسيح بن بقيلة على سطيح الكاهن خاله لا نعيرها بالاً لما فيها من التباين والتناقض. زعموا أن كسرة أوفد عبد المسيح من العراق إلى سطيح الذئبي هذا وكان بالشام وهو خاله أشبه بنسناس منه بإنسان مسخ بلا عظام ليفسر لكسرى رؤيا رآها استدل بها على مولد نبي المسلمين وسقوط دولة ملوك العجم بعد أربعة عشر ملكاً. ومما رووا هناك من الأشعار لعبد المسيح قوله عند قدومه على سطيح فوجده مشرفاً على الموت (من الرجز) :
أصم أم يسمع غطريف اليمن ... أم فاز فازكم به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن ... وكاشف الكربة في الوجه الغضن
أتاك شيخ الحي من آل سنن ... وأمه من آل ذئب بن ضجن
أزرق ممهى الناب صرار الأذن ... ابيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قيل العجم يسري للوسن ... يجوب بالأرض علنداة شجن
يرفعني وجناً ويهوي بي وجن ... لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن
حتى أتى عاري الجآجي والقطن ... تلقه في الريح بوغاء الدمن
كأنما حثحث من حصني ثكن
ثم قال عبد المسيح عند رجوعه إلى كسرى بعد أن فسر له سطيح الرؤيا وقضى نحبه (من البسيط) :
شمر فانك ماضي الهم شمير ... لا يفزعنك تشديد وتعزيز
إن كان ملك بني ساسان أفرطهم ... فان ذا الدهر أطوار دهارير
فربما أصبحوا منهم بمنزلة ... يهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم بنو الصرح بهرامٌ وإخوته ... والهرمزان وسابور وشابور
حثوا المطي وجدوا في رحالهم ... فما يقوم لهم سرج ولا كور
والناس أولاد علات فمن علموا ... أن قد اقل فمهجور ومحقور
وهم بنو آدمٍ لما رأوا نسباً ... وذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشر مقرونان في قرن ... فالخير متبع والشر محذور
وروى في كتاب الحماسة البصرية (ج 2 ص 32 من نسخة مكتبتنا الشرقية) أبياتاً من هذه القصيدة رواها في التاج (219: 3) لغيره من الشعراء (من البسيط) :
استقدر الله خيراً وارضين به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
تأتي أمور فما تدري أعاجلها ... خير لنفسك أم ما فيه تأخير(7/)
وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
حتى كأن لم يكن إلا تذكره ... والدهر أيتما حين دهارير
ثم أتبعها بالثلثة الأبيات السابقة مع اختلاف في بعض الروايات كما أثبتناها.
وكان عبد المسيح عبادياً كثير التقى عمر ظاهر الحيرة ديراً بموضع يقال له الجرعة عرف بدير الجرعة وبدير عبد المسيح (معجم البلدان لياقوت 651: 2 و 677) . وفي هذا الدير يقول على ما روى ياقوت (من الرمل) :
كم تجرعت بدير الجرعة ... غصصاً كبدي بها منصدعه
من بدور فوق أغصان على ... كثب زرن احتسابا بيعه
وكان قبل تشييده للدير ابتنى قصراً بالحيرة انب حمدون في التذكرة قال: (وهذا القصر هو المعروف بقصر ابن بقيلة) وروى له بيتين أنشدهما لما بناه (من الوافر) :
لقد بينت حصناً ... لو أن المرء تنفعه الحصون
طويل الرأس أقعس مشمخراً ... لأنواع الرياح به حنين
وأما أخباره مع خالد بن الوليد فذكرها البلاذري في فتوح البلدان قال (ص 243) : (أن خالد بن الوليد سار من اليمامة إلى العراق سنة 12 هـ (634 م) قاصداً الحيرة فخرج إليه عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة (واسم بقيلة الحارث وهو من الأزد) وهانئ بن قبيصة بن مسعود الشيباني وإياس بن قبيصة الطائي ويقال فروة بن إياس وكان إياس عامل كسرى أبرويز على الحيرة بعد النعمان ابن المنذر فصالحوه على مئة ألف درهم ويقال على ثمانين ألف درهم في كل عام وعلى أن يكونوا عيوناً للمسلمين على أهل فارس وأنه لا يهدم لهم بيعة ولا قصراً ...
وذلك في سنة 12 هـ.. وكان أهلها تحصنوا في القصر الأبيض وقصر ابن بقيلة وقصر العدسيين وهم من كلب نسبوا إلى أمهم وهي كلبية أيضاً) .(7/)
وذكر البلاذري هناك حديثاً فكاهياً جرى لخالد مع عبد المسيح لما استقبله (فقال له خالد: من أين أقصى أثرك يا شيخ؟ فقال: من ظهر أمي. قال: فمن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي. قال: ويحك في أي شيء أنت؟ قال: في ثيابي. قال: ويحك وعلى أي شيء أنت؟ قال: على الأرض. قال: أتعقل؟ قال: نعم وأقيد. قال: ويحك إنما أكلمك بكلام الناس. قال: وأنا إنما أجيبك جواب الناس. قال: أسلم أنت أم حرب؟ قال: بل سلم. قال: فما هذه الحصون؟ قال: بنيناها للسفيه حتى يجيء الحليم. ثم تذاكرا الصلح فاصطلحا على مائة ألف يؤدونها في كل سنة..) .
وهذا الخبر قد رواه كثيرون فزادوا وانقصوا. منهم الجاحظ في البيان والتبيين (203: 1) والمسعودي في مروج الذهب (220: 1) وصاحب الأغاني (11: 15-12) وذكر هناك أن عبد المسيح كان أعد لنفسه سم ساعة ليشربه إن لم يقو على مصالحة خالد فتناوله خالد وسمى اسم الله وأكله (فتجلته غشية ثم أفاق يمسح العرق عن وجهه فرجع ابن نفيلة (بقيلة) إلى قومه فأخبرهم بذلك وقال: ما هؤلاء القوم إلا من الشياطين وما لكم بهم طاقة فصالحوهم على ما تريدون ففعلوا) .
ومما روي من خدم عبد المسيح للعرب ما ذكره صاحب أنساب العرب) قال: إن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص بعد فتح المدائن أن العرب لا تصلح إلا بأرض تصلح بها الإبل. فأتاه ابن نفيلة (بقيلة) العبادي فقال: أدلك على بقعة ارتفعت عن البقة وسفلت عن الفلاة) فدله على موضع الكوفة. قال ياقوت (323: 4) وكان يقال له سور ستان. وقال أيضا (677: 2) إن عبد المسيح بقي في ديره حتى مات وخرب الدير بعد مدة.
أما شعر عبد المسيح فمتفرق نروي ما وجدنا منه في مخطوطات مكتبتنا الشرقية ومطبوعاتها. فمن قوله ما أنشده بعد مالحة خالد (في الوافر) :
أبعد المنذرين أرى سواماً ... تروح بالخورنق والسدير
تحاماه فوارس كل حي ... مخافة ضيغم عالي الزئر
وبعد فوارس النعمان أرعى ... قلوصاً بين مرة والحفير
فصرنا بعد هلك أبي قبيس ... كجرب المعز في اليوم المطير
تقسمنا القبائل من معد ... علانيةً كأيسار الجزور
وكنا لا يرام لنا حريم ... فنحن كضرة الضرع الفخور
نؤدي الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج من قريظة والنضير(7/)
كذاك الدهر دولته سجال ... فيوم من مساءة أو سرور
ووجدنا في بعض مخطوطات باريس قوله (مجزوء الكامل) :
المرء يأمل أن يعيش م وطول عيش قد يضره
تفنى بشاشته ويأ ... تي بعد حلو العيش مره
وتسره الأيام حتى م ما يرى شيئاً يسره
وجاء في التذكرة الحمدونية: وفي معجم البلدان (677: 2) ذكر أن بعض مشايخ أهل الحيرة خرج إلى ظهرها يختط ديراً فلما حفر موضع الأساس وأمعن في الاحتفار أصاب كهيئة بيت وظهر أزج معقود من حجارة فظنوه كنزاً ففتحوه فإذا على سرير من رخام عليه رجل ميت وعند رأسه لوح فيه (أنا عبد المسيح بن بقيلة) (وافر) :
حلبت الدهر اشطره حياتي ... ونلت من المنى بلغ المزيد
وكافحت الأمور وكافحتني ... ولم أحل بمعضلة كؤود
وكذلك أنال بالشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود
ومما روى القالي في أماليه لعبد المسيح لابن عبد كلال (وافر) :
نميل على جوانبه كأنا ... نميل إذا نميل على أبينا
نقلبه لنخبر حالتيه ... فنخبر منهما كرماً ولينا
فأمر له بمائة ألف.
6- الحرقة هند بنت النعمان(7/)
هي التي تعرف بهند الصغرى ابنة النعمان بن المنذر ملك الحيرة. قال أبو الفرج في كتاب الأغاني (32: 2-33) : (إن هنداً كانت من أجمل نساء أهلها وزمانها وأمها مارية الكندية ... رآها عدي بن يزيد الشاعر النصراني العبادي وزير النعمان يوم خميس دخلت البيعة مع حاشيتها وعمرها حينئذ إحدى عشرة سنة فهويها. ثم أتى النعمان بعد الفصح بثلاثة أيام وذلك في يوم الاثنين فسأله أن يتغذى عنده هو وأصحابه فلما أخذ منهم الشراب خطبها إلى النعمان فأجابه وزوجه وضمها إليه. قال خالد بن كلثوم: فكانت معه حتى قتله النعمان فترهبت وحبست نفسها في الدير المعروف بدير هند في ظاهر الحيرة. وقال ابن الكلبي: بل ترهبت بعد ثلث سنين ومنعته نفسها واحتبست في الدير حتى ماتت وكانت وفاتها بعد الإسلام بزمن طويل في ولاية المغيرة بن شعبة الكوفة وخطبها المغيرة فردته) . وروى ابن حبيب عن ابن الإعرابي أن النعمان لما حبس عدياً اكرهه في أمرها على طلاقها ولم يزل به حتى طلقها وقيل أنها ترهبت وبنت ديرها المنسوب إليها بعد أن حبس كسرى أباها ومات في حبسه. أقامت في ديرها مترهبة حتى ماتت فدفنت فيه.
ومما رواه أيضا أبو الفرج (في الأغاني 33: 2) أن هنداً بنت النعمان كانت هوى زرقاء اليمامة وأنها ترهبت لما قتلت الزرقاء. وقد أصاب إسماعيل الموصلي في كتاب الأوائل (خزانة الأدب 182: 3) منتقداً لزعمه: (وفي قول أبي الفرج نظر فإن هنداً بنت النعمان ماتت في ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفة وزرقاء اليمامة من جديس في زمن ملوك الطوائف وبينهما زمان طويل فما أعلم من أين وقع لأبي الفرج هذا) .
ويلوح من أخبار العرب أن الحرقة ابنة النعمان بعد أن قتل أبوها عدياً وقتل كسرى أباها طلبها كسرى وألح في طلبها فأبت الاقتران به. قال في العقد الفريد: (لما قتل النعمان استجارت الخرقاء (الحرقة) بحيي بكر وتغلب من كل طالب يطلبها وألح كسرى في طلبها فاجتمعت القبائل وجرت وقائع يطول ذكرها. ثم إن الخرقاء لبست المسوح وتعففت من الأزواج) .(7/)
وقد بنى رواة العرب على ذلك رواية تاريخية في كتاب (حرب بني شيبان مع كسرى أنوشروان في شأن الحرقة ابنة النعمان) منه نسخة خطية في مكتبة لندن وفي مكتبتنا الشرقية. وقد طبع هذا الكتاب في بمباي سنة 1305 هـ.
وقد ورد هناك أبيات للحرقة نظنها مصنوعة. فمن ذلك قولها لما استجارت ببعض قبائل إياد وغسان فأبوا أن يجيروها خوفاً من كسرى فقالت (من الكامل) :
لم يبق في كل القبائل مطمع ... لي في الجوار فقتل نفسي أعود
ما كنت أحسب والحوادث جمة ... أني أموت ولم يعدني العود
حتى رأيت على جراية مولدي ... ملكاً يزول وشمله يتبدد
فدهيت بالنعمان أعظم دهيةٍ ... ورجعت من بعد السميدع أطرد
وغشيت كل العرب حتى لم أجد ... ذا مرة حسن الحفيظة يعهد
ورجعت في أكدار نفسي لا أعي ... عطشا وجوعاً حره يتوقد
يا نفسي موتي حسرةً واستيقني ... سيضم جسمك بعد ذلك الملحد
خاب الرجا ذهب العواقل الوفا ... لا السهل سهل ولا نجودي أنجد
جمدت عيون الناس من عبراتها ... وقلوبهم صم صلاد جلمد
لا يرحمون يتيمةً مكروبةً ... مقتولة الآباء نضواً تطرد
تبغي الجوار فلا تجار وقبل ذا ... كان المنادي للجوار يسود
أفٍ لدهر لا يدوم سروره ... ولخصب عيش غضه يتنكد
ما الدهر إلا مثل ظل زائل ... وبدور شمس فارقتها الأسعد
وصروف هذا الدهر أعظم مطلباً ... للأعظمين فهلكهم يتودد
قومي تهيئي لممات فانه ... أولى بذي حزن إذا لا يسعد
وقالت لما استجارت ببني شيبان وأدخلتها صفية بنت ثعلبة في حمى قومها (من الكامل) :
أحيوا الجوار فقد أماتته معاً ... كل الأعارب يا بني شيبان
شيبان قومي هل قبيل مثلهم ... عند الكفاح وكرة الفرسان
لا والذائب من فروع ربيعة ... ما مثلهم في نائب الحدثان
قوم يجيرون اللهيف من العدى ... عند الكفاح ومن صروف زمان
يا آل شيبان ظفرتم في الدنى ... بالفخر والمعروف والإحسان(7/)
ثم ذكروا ما جرى بين جيوش العجم وبني شيبان من الوقائع التي جعلوا ختامها يوم ذي قار. وهو من أشهر أيام العرب انتصروا فيه على جيوش فارس. وذو قار هذه واد متاخم لسواد العراق يذكر العرب فيه يومين والمراد هنا هو يوم ذي قار الثاني الذي وقع نحو السنة 611 للميلاد قبل الهجرة بإحدى عشرة سنة. وإنما اختلفوا في سببه. وقد جعله هنا صاحب حرب بني شيبان وكسرى المدافعة عن الحرقة بنت النعمان والله أعلم. ومما رووا لها قولها تحرض بني شيبان على مقاتلة العجم فقالت تخاطب زعيمهم عمر بن ثعلبة (من الكامل) :
حافظ على الحسب الأرفع ... بمدججين مع الرماح الشرع
وصوارم هندية مصقولة ... بسواعد مفتلوة لم تمنع
وسلاهب من خيلكم معروفة ... بالسبق عادية بكل سميدع
واليوم يوم الفصل منك ومنهم ... فاصبر لكل شديدة لم تدفع
يا عمروا يا عمر الكفاح فتى الوغى ... يا ليت غاب في اجتماع المجمع
احذر على فقدان صبرك واظفرن ... فتضيع مجداً كان غير مضيع
أظهر وفاءً يا فتى وعزيمةً ... كيا يذاع بفخركم في تبع
وقالت الحرقة أيضاً لعمرو (من الطويل) :
فديتك من عمرو يروح ويغتدي ... ببأس إذا ناوه قوم بهائل
زعمنا بعمرو أنف كسرى وجنده ... وما كان مرغوماً بكل القبائل
وهذا قصارى الأمر فاحمل محسراً ... لكميك ما بين الظبى والذوابل
وقالت بعن انتصار بني شيبان تمدح صفية أخت عمرو بن ثعلبة وقومها (من الكامل) :
المجد والشرف الجسيم الأرفع ... لصفية في قومها يتوقع
ذات الحجاب لغير يوم كريهة ... ولدى الهياج يحل عنها البرقع
لا أنس ليلة إذ نزلت بسوحها ... والقلب يخفق والنواظر تدمع
والنفس في غمرات حرب فادح ... ولها الفؤاد كئيبة اتفجع
مطرودة من بعد قتل أبوتي ... ما أن أجار ولم يسعني المضجع
ويئست من جار يجير تكرماً ... فأجرت واندملت هناك الأضلع
فألح كسرى بالجنود عليهم ... وطميح يردف بالسيوف ويدفع
كم زادهم من غارة ملمومة ... بالقب تقطب والأسنة تلمع
وهم عليه واردون بعزمهم ... والنصر تحت لوائهم يترعرع
حتى غدا العجمي في أجناده ... والقوم جرحى والمذاكي ضلع
قد أهلك الدهر الغواة بفعلهم ... والحق بان ونوره لا يقلع(7/)
وذكر الراوي بعد ذلك مصالحة كسرى للعرب وزواج الحرقة مع ابن عمها الملك الريان بن المنذر الذي أدرك الإسلام ومات في سنة الهجرة في يوم أحد. على أن هذه الرواية تخالف ما سبق من امتناع الحرقة هند بنت النعمان عن الزواج بعد موت أبيها وانحباسها في الدير الذي شيدته في الحيرة.
ثم أن الكتبة لم يقتصروا على ما ذكروه من أمر هند بنت النعمان وإنما زعموا أن الحجاج بن يوسف الثقفي عامل الأمويين على الكوفة خطبها لحسنها وبذل لها مالاً كثيراً فتزوجها وإنما تركته وهجته فطلقها فأعطت من بشرها بخلاصها منه مائتي ألف درهم. هكذا ورد في الكتاب الرابع من ألف ليلة ولية (ص 69) .
وجاء هناك أن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان أرسل إليها يخطبها فاشترطت عليه أن يأمر الحجاج فيقود محملها إلى دمشق لتعبث به. ولما أخذ بزمام بعيرها كشفت ستارة المحمل وضحكت منه. فأنشد هذا البيت:
فإن تضحكي يا هند يا رب ليلة ... تركتك فيها تسهرين نواحاً
فأجابته بهذين البيتين (من البسيط) :
وما نبالي إذا أرواحنا سلطت ... بما فقدناه من مال ومن نشب
فالمال مكتسب والعز مرتجع ... إذا اشتفى المرء من داء ومن عطب
ٍوروى هناك أنها رمت من يدها بدينار وزعمت أنه درهم طلبت من الحجاج أن يناوله إياها فقال: هذا دينار ليس درهماً. فقالت: الحمد لله الذي عوضنا بالدرهم الساقط ديناراً فناولنا إياه. فخجل من ذلك ثم أوصلها إلى قصر أمير المؤمنين عبد الملك ابن مروان ودخلت عليه وكانت محظية عنده.
ولا غرو أن هذه الرواية أيضاً مصنوعة لأن موتها وقع قبل عهد الحجاج وملك عبد الملك بن مروان كما سترى. ورد في معجم ما استعجم للبكري (ص 362) (أن هند بنت النعمان التي تعرف بحرقة (ويقرأ بحريقة) هي التي دخلت على خالد ابن الوليد لما افتتح الحيرة فقال لها: أسلمي حتى أزوجك رجلاً شريفا من المسلمين. قالت: أما الدين فلا رغبة بي عن ديني ولا أبتغي به بدلاً وأما التزويج فلو كانت في بقية لما رغبت فيه فكيف وأنا عجوز هامة اليوم أو غد) .(7/)
وكان فتح خالد للحيرة السنة الثانية عشرة للهجرة فوجد هنداً عجوزاً فكيف أمكن عبد الملك بعد ذلك بخمسين سنة أن يخطبها؟ ومنه ترى ما في أخبار العرب من الاضطراب. ثم أردف البكري: (وقال خالد لهند: سليني حاجتك. فقالت: هؤلاء النصارى الذي في أيديكم تحفظونهم. فقال: هذا فرض علينا وقد وصانا به نبينا. قالت: ما لي حاجة غير هذه أنا ساكنة في دير بنيته ملاصق هذه الأعظم البالية من أهلي حتى ألحق بهم. فأمر لها بمعونة ومال وكسوة. فقالت: (ما لي إلى شيءٍ من هذا حاجة. لي عبدان يزرعان مزرعةً لي القوت منها ما يمسك رقمي (رمقي) .
وزاد ياقوت على هذا في معجم البلدان (708: 2) أن خالداً قال لها: أخبريني بشيء أدركت. قالت: لقد طلعت الشمس بين الخورنق والسدير إلا على ما هو تحت حكمنا فما أمسى المساء حتى صرنا خولا لغيرنا ثم أنشأت تقول (من الطويل) : ٍبينا نسوس الناس والأمر أمرنا=إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فتباً لدينا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف
ثم قالت: (اسمع مني دعاء كنا ندعو به لأملاكنا: شكرتك يد افتقرت بعد غنى ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر. وأصاب الله بمعروفك مواضعه ولا أزال عن كريم نعمة الا جعلك سبباً لردها إليه ولا جعل لك إلى لئيم حاجةً وعقد لك المنن في أعناق الكرام) . (قال) فتركها وخرج فجاءها النصارى وقالوا: ما صنع بك الأمير؟ قالت:
صان لي ذمتي وأكرم وجهي ... إنما يكرم الكريم الكريم(7/)
وروى أبو الفرج في الأغاني (141: 14) والمبرد في الكامل قالا: ركب المغيرة بن شعبة وهو والي الكوفة فصار إلى دير هند بنت النعمان وهي عمياء مترهبة بنت تسعين سنة فاستأذن عليها فقيل لها: أمير هذه المدرة بالباب. فقالت: قولوا له: أمت ولد جبلة بن الأيهم أنت؟ قال: أنت؟ قال: لا قالت: أفمن ولد المنذر بن ماء السماء أنت؟ قال: لا قالت: فمن أنت؟ قال: أنا المغيرة بن شعبة. قالت: أنت عامل الكوفة؟ قال: نعم. قالت: فما حاجتك؟ قال: جئتك خاطباً. قالت: لو جئتني لجمال أو لمال لأجبناك: (مالي رغبة لجمال ولا لكثرة مال) ولكنك أردت أن تتشرف في محافل العرب فقول: تزوجت بنت النعمان بن المنذر وإلا فأي خير في اجتماع أعور وعمياء. هذا والصليب ما لا يكون أبداً أو ما يكفيك فخراً أن تكون في ملك النعمان وبلاده فتدبرها كما تريد. فقال: وكيف كان أمركم. قالت: (سأختصر لك الجواب أمسينا مساء وليس في الأرض عربي إلا وهو يرغب إلينا ويرهبنا ثم أصبحنا وليس في الأرض عربي إلا ونحن نرغب إليه ونرهبه) قالت هذا وبكت فخرج المغيرة وهو يقول:
أدركت ما منيت خالياً ... لله درك يا ابنة النعمان
فلقد رددت على المغيرة ذهنه ... إن الملوك ذكية الأذهان
إني لحلفك بالصليب مصدق ... والصلب أصدق حلفة الرهبان
وكانت بعد ذلك تدخل عليه فيكرمها ويبرها.
وأخبر الجاحظ في كتاب المحاسن والمساوئ (ص 175) وابن العربي في محاضرة الأبرار (225: 2) وغيرهما قالوا: إن زياد بن أبيه مر بالحيرة فنظر إلى دير هناك فقال لخادمه: لمن هذا؟ قال: دير حرقة بنت النعمان بن المنذر. فقال: ميلوا بنا إليه لنسمع كلامها. فجاءت إلى وراء الباب فكلمها الخادم فقال لها: كلمي الأمير. قالت: أأوجز أم أطيل؟ قال: بل أوجزي. قالت: كنا ÷ل بيت طلعت الشمس علينا وما على الأرض أحد أعز منا فما غابت تلك الشمس حتى رحمنا عدونا. (قال) فأمر لها بأوساق من شعير فقالت: أطعمتك يد شبعى جاعت ولا أطعمتك يد جوعى شبعت. فسر زياد بكلامها فقال لشاعر معه: قيد هذا الكلام ليدرس فقال:
سل الخير أهل الخير قدماً ولا تسل ... فتى ذاق طعم الخير منذ قريب(7/)
ويقال أن فروة بن إياس بن قبيصة انتهى إلى دير حرقة بنت النعمان فألفاها وهي تبكي فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: ما من دار امتلأت سروراً غلا امتلأت بعد ذلك ثبوراً ثم قالت: فبينا نسوس ... (البيتان) .
وأخبر الطرطوشي في سراج الملوك وعبد القادر البغدادي في خزانة الأدب (183: 3) والخفاجي في شرحه على درة الغواص (ص 252) وابن العربي في المسامرات (141: 1) قالوا: لما قدم سعد بن أبي وقاص القادسية أميراً قيل له: ها هنا عجوز من بنات الملوك يقال لها الحرقة بنت النعمان وكانت من أجل عقائل العرب وكانت إذا خرجت من بيتها نشرت عليها ألف قطيفة خز وديباج ومعها ألف وصيف. فأرسل إليها سعد فجاءت كالشن البالي في جوار لها زيهن كزيها فلما وقفن بين يديه قال: أيتكن حرقة؟ قالت هي: (أنا حرقة فما تكرارك الاستفهام عني؟ إن الدنيا دار قلعة وزوال وانها تنتقل بأهلها انتقالاً ولا تدوم على حال. يا سعد كنا ملوك هذا المصر قبلك يجبي إلينا خراجه ويطيعنا أهله. فلما أدبر الأمر وانقضى صاح بنا صائح الدهر فصدع عصانا وشتت ملأنا والدهر ذو نوائب وصروف. فلو رأيتنا في أيامنا لأرعدت فرائصك فرقاً منا. فقال لها سعد: ما أنعم ما تنعمتم به؟ قالت: سعة الدنيا علينا وكثرة الأصوات إذا دعونا. ثم أنشأت تقول من شعر لها: فبينا نسوس ... (البيتان) فقال سعد: قاتل الله عدي بن زيد كأنه ينظر لهذه حيث يقول:
إن للدهر صولة فاحذر منها ... لا تبيتن قد أمنت الدهورا
كم يبيت الفتى معافى فيردى ... ولقد بات آمناً مسرورا
ثم قالت: (يا سعد ليس من قوم في يسرة إلا والدهر يعقبهم حسرةً حتى يأتي أمر الله على الفريقين) . فأكرمها وأحسن جائزتها.
قال ابن العربي في محاضرة الأبرار (142: 1) فبينما هي تخاطب سعداً إذ دخل عمرو بن معدي كرب فقال: (أنت خرقة التي كانت تفرش الأرض من قصرك إلى بيعتك بالديباج المبطن الموشى؟ قالت: نعم. قال: ما الذي دهمك وأذهب محمود شيمك وغور ينابيع نعمك وقطع سطوات نقمك. قالت: يا عمرو إن للدهر عثرات تلحق السيد من الملوك بالعبد المملوك وتخفض ذا الرفعة وتذل ذا النعمة وإن هذا أمر كنا ننتظره فلما حل بنا لم ننكره.(7/)
وروى ابن العربي أيضاً (352: 2) عن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله قال: دخلت على خرقة (حرقة) بنت النعمان وقد ترهبت في دير لها بالحيرة وهي في ثلاثين جارية لم ير مثل حسنهن قط فقلت: يا خرقة (حرقة) كيف رأيت في الدنيا غيرات الملك؟ قالت: (ما نحن فيه اليوم خير مما كنا أمس. إنا مجد في الكتب إنه ليس من أهل بيت يعيشون في حيرة إلا سيعقبون بعدها غبرة. وإن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه. وإن على أبواب السلطان كإخوان من الفتن من أصاب من دنياهم شيئاً أصابوا من دينه مثليه وقد قلت في ذلك شيئاً) . فقلت: وما هو؟ فقالت: بينانسوس ... (البيتان) .
ومن شعرها ما رواه صاحب الأغاني (135: 20) تحرض قومها يوم ذي قار (من الوافر) :
ألا أبلغ بني بكر رسولاً ... فقد جد النفير بعنقير
فليت الجيش كلهم فداكم ... ونفسي والسرير وذا السرير
كأني حين جد به إليكم=معلقة الذوائب بالعبور
فلو أني أطقت لذاك دفعاً ... إذن لدفعته بدمي وزيري
وقد وقفنا للحرقة في نسخة مخطوطة من الحماسة في مكتبتنا الشرقية (ص 135) على رثاء قالته في عداء وهو زوجها الأول عدي بن زيد (من الطويل) :
أعداء من لليعملات على الوجى ... وأضياف ليل بيتوا لنزول
أعداء ما للعيش بعدك لذة=ولا للخليل بهجة بخليل
أعداء ما وجدي عليك بهين ... ولا الصبر إن أعطيته بجميل
كأني والعداء لم نسر ليلةً ... ولم نزج أنضاءً لهن ذميل
ولم نلو رحيلنا ببيداء بلقع ... ولم نرم جور الليل حيث يميل
هذا ما حصلنا عليه من آثار تلك المرأة التي تمتعت دهراً بنعيم الدنيا ثم زهدت بملاذها الباطلة وانقطعت في ديرها إلى خدمة باريها على آخر أنفاسها فماتت كما قال في الأغاني في ولاية المغيرة بن شعبة أعني نحو 20 للهجرة (642 م) ودفنت في ديرها.
7- الزبرقان بن بدر(7/)
هو الحصين بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن بهدلة بن عوف بن كعب ابن سعد بن زيد بن مناة بن تميم. والزبرقان لقب ومعناه القمر سمي به لجماله ودعي لذلك بقمر نجد. وقال السهيلي (بل سمي بالزبرقان لأنه كان يرفع له بيت من عمائم وثياب وينضح بالزعفران والطيب وكانت بنو عامر تحجُّه) . وقال قوم: إنما سمي بالزبرقان لخفة لحيته. وقال غيرهم لأنه كان يصبغ عمامته بالزعفران وكانت سادة العرب تفعل ذلك (الاشتقاق لابن دريد 155-156) . وكان الزبرقان يكنى أبا العباس وكان له بنون العباس وشدرة وعياش ربما كني بهم وكانت ابنته بكرة ابنته بكرة ابنة هنيدة بنت صعصعة بن ناجية تزوجها الحكم بن عثمان بن أبي العاص وهي أم يزيد بن الحكم قيل أنها أول عربية ركبت البحر فأخرج بها إلى الحكم وهو يتوج (الأغاني10: 11) وكانت بعض قبائل العرب تتفاخر بالزبرقان وتنسبه إلى قومها. فقيل له: إنك من بني عامر ذي المجاسد وكان سيدهم وصاحب مرباعهم فقال (من الطويل) :
إن أك من كعب بن سعد فإنني ... رضيت بهم من حي صدق ووالد
وإن يك من كعب بن يشكر منصبي ... فان أبانا عامر ذو المجاسد
وكان الزبرقان من نصارى تميم والدليل عليه قوله لمحمد يفتخر بقومه تميم وبتشييدهم للبيع (الطبري 1712: 1 سيرة ابن هشام 935) :
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع
وذلك أنه وفد على رسول الإسلام السنة التاسعة للهجرة من بني تميم وهم على ما روى صاحب الأغاني (8: 4-9) سبعون أو ثمانون رجلاً فيهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب وقيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم فقدموا المدينة ودخلوا المسجد فوقفوا عند الحجرات فنادوا بصوت عال جاف: اخرج إلينا يا محمد فقد جئنا لنفاخرك وقد جئنا بشاعرنا وخطيبنا. ثم ذكر هناك ما دار بينهم من الخطب ثم قالوا: يا محمد ائذن لشاعرنا. فقال: نعم. فقام الزبرقان وقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع
تلك المكارم حزناها مقارعةً ... إذا الكرام على أمثالها اقترعوا
كم قد نشدنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل العز يتبع
وننحر الكوم عبطاً في أرومتنا ... للنازلين إذا ما استطعموا شبعوا(7/)
ونحن نطعم عند القحط مطعمنا ... من العبيط إذا لم يظهر الفرع
وننصر الناس تأتينا سراتهم ... من كل أوب فنمضي ثم تتبع
فلا ترانا على حي نفاخرهم ... إلا استقادوا أو كاد الرأس يقتطع
فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع
وروى له ابن هشام في سيرة الرسول (ص 937) قوله يخاطب محمداً ورواه في الأغاني لعطارد بن حاجب (طويل) :
أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا ... إذا اختلفوا عند احتضار المواسم
بأنا فروع الناس في كل موطن ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
ثم رووا هناك ما رد به عليه حسان بن ثابت. وزعموا أن الوفد أسلموا ومنهم الزبرقان وأن بني الإسلام استعمله على صدقة قومه بني تميم. قال ابن سعد في طبقاته (24: 7) : (فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليها وارتدت العرب ومنعوا الصدفة وثبت الزبرقان بن بدر على الإسلام وأخذ الصدقة من قومه فأداها إلى أبي بكر الصديق وكان ينزل أرض بني تميم ببادية البصرة وكان ينزل البصرة كثيراً) .
وقال ابن سلام الجمحي في كتاب طبقات الشعراء (ص 25) : (وكان الزبرقان شاعراً مفلقاً) . ثم ذكر تحامل بني قريع عليه وحملهم الحطيئة على هجائه وهجاه البغيض والمخبل السعدي. قال ابن سلام: (وكان الزبرقان يعاتبهم ولم يكن يهجوهم وكان حليماً) . وكان سبق فأضاف الحطيئة وجعله في جواره في سنة مجدية وأوصى امرأته بإكرامه فصدر منها يوماً جفوة فسعى بنو بغيض فجذبوه حتى هجا الزبرقان فاستعدى عليه عمر بن الخطاب فحبسه عمر ثم استندمه وأطلق سبيله (الأغاني 52: 2-55) .(7/)
ومما يدل على تردد الزبرقان في إسلامه ما ذكره الطبري (1919: 3) أنه هو وعطارد بن حاجب ونظراءهم بعد وفاة نبي المسلمين ارتدوا وتبعوا مسيلمة بن حبيب وسجاع التغلبية ثم عادوا بعد قتل مسيلمة إلى إسلامهم. وذكر في الأغاني (152: 12) غدر الزبرقان بقيس بن عاصم وكان كلاهما متوالياً صدقات قومه فلما توفي محمد (دس الزبرقان إلى قيس من زين له المنع لما في يده وخدعه بذلك وقال له: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي فهلم نجمع هذه الصدقة ونجعلها في قومنا فإن استقام الأمر لأبي بكر وأدت العرب إليه الزكاة جمعنا له الثانية) ففرق قيس الإبل في قومه وانطلق الزبرقان إلى أبي بكر بسبعمائة بعير فاداها وقال في ذلك (الطبري 1924: 3) (من الطويل) :
وفيت بأذواد الرسول وقد أبت ... سعاة فلم يردد بعيراً مجيرها
معاً ومعناها من الناس كلهم ... ترامي الأعادي عندنا ما يضيرها
فأديتها كي لا أخون بذمتي ... محانيق لم تدرس لركب ظهورها
أردت بها التقوى ومجد حديثها ... إذا عصبة سامى قبيلي فخورها
وإني لمن حي إذا عد سعيهم ... يرى الفخر منها حيها وقبورها
أصاغرهم لم يضرعوا وكبارهم ... رزان مراسيها عفاف صدورها
ومن رهط كناد توفيت ذمتي ... ولم يثن سيفي ذبحها وهريرها
وقبة ملك قد دخلت وفارس ... طعنت إذا ما الخيل شد مغيرها
ففرجت أولاها بنجلاء ثرة ... بحيث الذي يرجو الحياة يضيرها
ومشهد صدق قد شهدت فلم أكن ... به خاملاً واليوم يثني مصيرها
أرى رهبة الأعداء مني جراءةً ... ويبكي إذا ما النفس يوحي ضميرها
قال أبو الفرج فلما عرف قيس ما كاده به الزبرقان قال: لو عاهد الزبرقان أمه لغدر بها. فنشب الشر لذلك بين الأحياء.
وجاء في التبريزي في شرح الحماسة (ص 666) وفي الأغاني (44: 12) وفي الشعر والشعراء لابن قتيبة (ص 250) وكان للزبرقان أخت تدعى خليدة زوجها رجلاً يدعى هزالاً كان قتل واحداً من بني عبد القيس في جوار الزبرقان فعيره بذلك المخبل وهجا خليدة. ثم نزل يوماً عندها ضيفاً وهو لم يعرفها فقرته وأحسنت إليه وزودته لما ارتحل فسألها عن اسمها فعرفها وصرخ: وا سوءتاه ثم قال:
ضللت لعمري في خليدة أنني ... سأعتب قومي بعدها وأتوب(7/)
فأشهد والمستغفر الله أنني ... كذبت عليها والهجاء كذوب
وقال ابن قتيبة في الشعر والشعراء (219) أن عمرو بن معدي كرب الزبيدي أحد فرسان العرب كان ابن خالة الزبرقان التميمي. وقال عن الأضبط بن قريع الشاعر السعدي (ص 225) أنه من رهط الزبرقان. وبين الفرزدق والزبرقان قرابة أيضاً وكانت هنيدة عمة الفرزدق امرأة الزبرقان فقال الفرزدق يرد على جرير (نقائض جرير والفرزدق ص 713) :
وإن تهج آل الزبرقان فإنما ... هجوت الطوال الشم من هضب يذبل
وقد ينبح الكلب النجوم ودونها ... فراسخ تنضي العين للمتأمل
وقال دثار بن شيبان النمري يمدح بني بهدلة وخص منهم الزبرقان:
من يك سائلاً عني فإني ... أنا النمري جار الزبرقان
طريد عشيرة وطريد حرب ... بما اجترحت يدي وجنى لساني
أبيت الليل أرقب كل نجم ... شآم قر في بلد يمان
كأني إذا حللت به طريداً ... حللت على الممنع من أبان
إلى بيت الأكارم من معد ... محلاً بيناً لمن ابتغاني
فخلوا عنهم يا آل لأي ... فليس لكم بسعيهم يدان
غداة سعى لهم عمرو بن عوف ... وذو البردين نعم الساعيان
سيدركنا بنو القمر بن بدر ... سراج الليل للشمس الحصان
وذو البردين المذكور هنا هو عامر بن بهدلة أخذ بردين عرضهما المنذر بن ماء السماء على أعز العرب قبيلة وأكثرهم عدداً فاتزر بهم الأحيمر وقال: (أيها الملك إن العز والعدد من العرب في معد ثم في نزار ثم في مضر ثم في خندف ثم في تميم ثم في سعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بهدلة) فلم يقم إليه أحد من الناس فقال الزبرقان (طويل) :
وبردا ابن ماء المزن عمي اكتساهما ... بعز معد حين عدت محاصله
رآه كرام الناس أولاهم به ... ولم تجدوا في عزهم من يعادله
ولزبرقان شعر متفرق في كتب الأدب فمن ذلك ما ورد له في حماسى البحتري (ع 1304) قال يعاتب ابن عمه علقمة بن هوذة (من مجزوء الكامل) :
ولي ابن عم لا يزا ... ل يعيبني ويعين عائب
وأعينه في النائبا ... ت ولا يعين على النوائب
تسري عقاربه إلي ... ولا تناوله عقارب
لاه ابن عمك ما يخا ... ف الجازيات من العواقب
ومما روى له في الوفاء (ع 723) قال (من الوافر) :
وفيت بذمة القيسي لما ... تواكلها الصحابة والجوار(7/)
كما أوفيت بالعكلي ضرباً ... بفصل السيف إذ علن السرار
وروى له في الامتناع عن مصالحة آل ظلام لأسرهم أحد قومه (ع 108) قال (من البسيط) :
أبعد بشر أسيراً في بيوتهم ... ترجو الهوادة عندي آل ظلام
فلن أصالحهم ما دمت ذا فرس ... واشتد قبضاً على السيلان إبهامي
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربض المستنفر الحامي
وروى له بيتاً مفرداً في الأنفة من الظلم (ع 74) قال (من الكامل) :
أغشى المهالك بالرجال ولا ... أعطي المقادة سائمي الحقرا
وروى له أبو بكر بن الأنباري في الأضداد في أن (المولى) تأتي بمعنى ابن العم (ص 30) قال (من الوافر) :
ومن الموالي موليان فمنهما ... معطي الجزيل وباذل النصر
ومن الموالي ضب جندلة ... لحز المروءة طاهر الغمر
ومما ذكره له الراغب الأصبهاني في محاضراته (372: 1) قوله في من يمنع معروفه ويعضل ظلمه (من الطويل) :
طوى كل معروف وأحضر دونه ... عقارب أخشى لسعها وأفاعيا
وروى له ياقوت في معجم البلدان في باب أطد (307: 1) وعتكان (611: 3) حيث حمل صدقات قومه إلى أبي بكر (من البسيط) :
ساروا غلينا بنصف الليل فاحتملوا ... فلا رهينة إلا سيد صمد
سيروا رويداُ فانا لن نفوتكم ... وإن ما بيننا سهل لكم حدد
إن الغزال الذي ترجون غرته ... جمع يضيق به العتكان أو أطد
مستحقباً حلق الماذي بحفرته ... ضرب طلحف وطعن بينه خضد
وروى أيضاً (619: 4) يخاطب رجلاً من بني عوف كان قد هجا أبا جهل وتناول قريشاً (من الوافر) :
أتدري من هجوت أبا حبيب ... سليل خضارم سكنوا البطاحا
أزاد الركب تذكر أم هشاماً ... وبيت الله والبلد اللقاحا
هم منعوا الأباطح دون فهر ... ومن بالخيف والبدن اللقاحا
بضرب دون بيضتهم طلحفٍ ... إذا الملهوف لاذ وصاحا
وما تدري بأيهم تلاقي ... صدور المشرفية والرماحا(7/)
هذا وما وفقنا عليه من شعر الزبرقان. وقد اختلفوا في الحكم عن طبقته. سبق لابن سلام في طبقاته (ص 25) أنه دعا الزبرقان (شاعراً مفلقاً) وكذلك قدمه وفد تميم لمحمد كشاعرهم وفي ذلك دليل على حسن رتبته بين الشعراء. وقد حكم غيرهم في أنه من الشعراء المتوسطين فذكره السيوطي في المزهر (244: 2) بين المغلبين لتغلب الحطيئة وبغيض بن عامر والمخبل السعدي وعمرو بن الأهتم عليه في بعض المواقف. وكذلك ورد في الأغاني (174: 21) لربيعة بن حذار الأسدي لما تحاكم إليه علقمة بن عبدة التميمي والزبرقان والمخبل وعمرو بن الأهتم أنه قال للزبرقان: (أنا أنت يا زبرقان فإن شعرك كلحم لم ينضج فيؤكل ولا ترك نيئاً فينتفع به) .
8- عدي بن حاتم
هو عدي بن حاتم الطائي بن عبد الله الطائي ويكنى أبا طريف. وأبوه حاتم هو الذي يضرب العرب به المثل في الجود والكرم. وقد نشأ عدي في حجر والده وتخلق بأخلاقه وصار بعد وفاته خلفاً له في رئاسة قومه فكان بنو طي ينقادون له في كل أمورهم. وكان عدي نصرانياً لا خلاف في ذلك وقد صرح بنصرانيته بان هشام في سيرة الرسول (ص 747) والطبري في تاريخه (1707: 1) وقد ذكر عن نفسه أنه كان ملكاً في قومه يسير فيهم بالمرباع على خلاف قوانين دينه وأنه كان ركوسياً وقد اختلفوا في معنى ذلك فقالوا الركوسية مذهب من مذاهب النصارى وقال ابن الأعرابي بل هو نعت من نعوتهم (راجع التاج في مادة ركس) ومما رواه في معجم البلدان عن سبب تنصره (913: 3) أنه كان عتر عند صنم لطيء يدعى الفلس يعبدونه ويهدون إليه ويعترون عنده عتائرهم ولا يأتيه خائف إلا أمن ويزعمون أن لا أحداً يستطيع أن ينتهك حرمته إلا أصيب بداهية. فخرج مالك ابن كلثوم الشمخي يطلب ناقةً لجارة استغاثت به فوجدها موقوفة عند الفلس فحل عقالها ونول الصنم برمحه فدعا عليه سادن الصنم. فبلغ خبره عدياً وجلس هو ونفر يحدثون بما صنع مالك وفرغ من ذلك عدي بن حاتم وقال: انظروا ما يصيبه في يومه. فمضت له أيام لم يصبه شيء فرفض عدي عبادته وعبادة الأصنام وتنصر.(7/)
وبقي عدي على نصرانيته بعد ظهور الإسلام إلى السنة التاسعة من الهجرة وهو شديد الكراهية لرسول العرب حتى غزا المسلمون أحياء طيء فأسروا السفانة ابنة حاتم أخت عدي فلاذت بمحمد بقولها: أمنن علي من الله عليك. فعرف محمد أنها ابنة حاتم الطائي ففك أسرها وأعادها إلى قومها في الشام مكرمة. فلما قدمت الشام أخبرت أخاها بما فعل محمد فأثر ذلك به ودفعه على أن يفد بقومه إلى محمد ويدين بالإسلام فولاه صدقات قومه. وكان عدي أحد المعمرين قيل أنه عمر 180 سنة على ما روى أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين (ص 37) وتوفي سنة 68 هـ 690 م) فيكون وقع إسلامه إذ أربى عمره على المئة والثلثين سنة فتأمل.
ومما يخبر عنه في الإسلام أنه كان موالياً لعلي ولأنصاره وأنه حارب مع المسلمين في مواقع كثيرة فسار مع خالد لفتح فارس وحضر يوم القادسية ويوم المدائن ويوم جلولا ويوم نهاوند ويوم تستر وشهد مع علي الجمل وصفين في محاربته لمعاوية وذهبت عينه يوم الجمل وحارب الخوارج وهو لم يزل في عز قوته ثم نزل الكوفة وابتنى بها داراً في طيء ومات بالكوفة زمن المختار.
وكان عدي أبياً فخوراً يرى السباق لقبيلته. قيل أنه لما قدم على رسول الإسلام وحادثه قال له: (إن فينا أشعر الناس وأسخى الناس وأفرس الناس) . أراد بأشعر الناس امرء القيس بن حجر وبأسخاهم حاتماً والده وبأفرسهم عمرو بن معدي كرب. وكان لعدي حظوة لدى الخلفاء والأرباب فكان الجناة يستشفعون به فينال لهم النجاة من العقاب.
وكان عدي مع ذلك شاعراً وإن لم يبلغ في ذلك مبلغ أبيه. فمما رواه له البحتري في حماسته (ص 58) قوله (من الطويل) :
من مبلغ أفناء مذحج أنني ... ثأرت بخالي ثم لم أتأثم
تركت أبا بكر ينوء بصدره ... بصفين مخضوب الكعوب من الدم
يذكرني ثأري غداة لقيته ... فأجررته رمحي فخر على الفم
يذكرني ياسين حين طعنته ... فهلا تلا ياسين قبل التقدم
وروى له أيضاً (ص 303) قوله (من المنسرح) :
أصبحت لا أتبع الصديق ولا ... أملك ضراً للشانئ الشرس
وإن عدا بي الكميت منطلقاً ... لم تملك الكف رجعة الفرس
أصبحت حشاً مميتاً خلقاً ... قلبي لحب الحياة في لبس(7/)
وروى له أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين (ص 37) قوله وكان لما أسن استأذن قومه في وظاء يجلس عليه في ناديهم وكان قد كبر ورق عظمه. فابطأوا عليه فقال (من الوافر) :
أجيبوا يا بني ثعل بن عمرو ... ولا تكموا الجواب من الحياء
فاني قد كبرت ورق عظمي ... وقل اللحم من بعد النقاء
وأصبحت الغداة أريد شيئاً ... يقيني الأرض من برد الشتاء
وطاءً يا بني ثعل بن عمرو ... وليس لشيخكم غير الوطاء
فإن ترضوا به فسرور راض ... وان تأبوا فاني ذو إباء
سأترك ما أردت لما أردتم ... وردك من عصاك من العناء
لأني من مساءتكم بعيد ... كبعد الأرض من جو السماء
وإني لا أكون بغير قومي ... فليس الدلو إلا بالرشاء
فأذنوا له أن يبسط في ناديهم وطابت به أنفسهم وقالوا: أنت شيخنا وسيدنا وابن سيدنا وما فينا أحد يكره ذلك ولا يدفعه.
وقد رويت له أبيات من الرجز قالها في صفين (وقعة صفين 281: 3) :
أقول لما أن رأيت المعمعة ... واجتمع الجندان وسط البلقعه
هذا علي والهدى حقاً معه ... فمن أراد غيه فضعضعه
يا رب فاحفظه ولا تضيعه ... فانه يخشاك ربي فارفعه
وروي له أيضاً غذ حمل في صفين على عبد الرحمان بن خالد (321: 4)
أرجو إلهي وأخاف ذنبي ... وليس شيء مثل عفو ربي
يا ابن الوليد بغضكم في قلبي ... كالهضب بل فوق قنان الهضب
وروي لابنه طريف وكان في يوم صفين حاملاً للواء فاقتحم ساحة الوغى وهو يقول راجزاً (302: 4)
أبعد عمار وبعد هاشم ... وابن بديل فارس الملاحم
ترجو البقاء مثل حلم الحالم ... وقد عضضنا أمس بالأباهم
فاليوم لا تقرع سن النادم ... ليس امرؤ من يومه بسالم
ومن ظريف ما أخبره ابن قتيبة في الشعر والشعراء عن كرم عدي بن حاتم ما حرفه قال (ص 237) : (أتى سالم بن دارة الأسدي عدي بن حاتم فقال له: قد مدحتك. فقال عدي: أمسك عليك حتى أنبئك مالي فتمدحني على حسبه. لي ألف صانية وألفا درهم وثلاثة أعبد وفرسي هذا حبيس في سبيل الله فقل. قال:
تحن قلوصي في معد وإنما ... تلاقي الربيع في ديار بني ثعل
وأبقى الليالي من عدي بن حاتم ... حساماً كلون الملح سل من الخلل
أبوك جواد لا يشق غباره ... وأنت جواد ما تعذر بالعلل(7/)
فإن تتقوا شراً فمثلكم اتقى ... وان تفعلوا خيراً فمثلكم فعل
فقال له عدي: أمسك عليك لا يبلغ مالي أكثر من هذا. وشاطره ماله.
سمعان بن هبيرة
هو أبو السمال (ويروى السماك والسمال) سمعان بن هبيرة بن مساحق بن بجير ابن عمير الأسدي شاعر نصراني من بني أسد بن خزيمة أسلم مع قومه عند ظهور الإسلام لكنه ارتد إلى دينه بعد وفاة محمد وتبع طليحة بن خويلد بن نوفل مع الحليفين أسد وغطفان. فأسرع أبو بكر وأرسل سريةً مع خالد بن الوليد فانهزم طليحة ولحق بنواحي الشام عند بني جفنة النصارى وتبدد قومه. فعاد سمعان بن هبيرة إلى الإسلام.
وقد نظم أبو حاتم السجستاني سمعان بن هبيرة في سلك المعمرين قال (ص 54) : إنه عاش مائة وسبعاً وستين سنة. قال الصفدي في الوافي بالوفيات (سمعان بن هبيرة أبو السمال الأسدي الكوفي شاعر فصيح وفد على معاوية وكان مع طليحة على الردة وكان لا يغلق على أربابه باباً فينادي مناديه في السوق والكناسة: (من كان ها هنا من الأعراب ممن ليست له خطة فعليه بمنازل أبي السمال ألا وبني كلب خاصة) . فقيل له: لم خصصت كلباً. قال: لأنهم ليس لهم في الكوفة كثير أهل. فلما بلغ ذلك عثمان بن عفان اتخذ للأضياف منازل. قال ابن المزربان: وسمعان بن هبيرة هو الذي شرب الخمر عند النجاشي في شهر رمضان نهاراً فهرب أبو السمال وحد علي بن أبي طالب عنه النجاشي. ومن شعره (من البسيط) :
لن ندعي معشراً ليسوا بأخوتنا ... حتى الممات وأن عزوا وأن كرموا
إذ نحن حي جميع الأمر حلتنا ... غوراً تهامة والإساف والحرم
ثم استمرت بهم درا مفرقة ... بين الجميع ودهر زينة أضم
وهو الذي يقول (من الطويل) :
وهازئة من شيبتي وتحنني ... وطول قعودي بالوصيد أفكر
تقول فنى سمعان بعد اعتداله ... وبعد سواء الرأس فالرأس أزعر
فقلت لها لا تهزئي إن قصرك م المنايا وريب الدهر بالمرء يغدر
فكم من صحيح عاش دهراً بنعمة ... فحل به يوم أغر مشهر
وصار لقى في البيت لا يبرح الفنا ... رذياً عليه كأبة وتوقر
وقد كان مدلاجاً إلى المجد متعباً ... إليه المطايا عمره ليس يفتر
فلما ترمته المنايا وريبها ... تقوس منه الظهر فالخطو مقصر(7/)
وعاد كفرخ النسر أعمى عن التي ... يريد طوال الدهر يهدي ويهدر
فإن أك شيخاً فانياً فلربما ... أصبت الذي أهوى وما كنت احذر
ورب خيور جمة قد لقيتها ... وشر كثير عن شواتي تحدر
وخيل دعتني للنزال أجبتها=وفي الكف مني مشرقي مذكر
وتحتي طمر مستطار فؤاده ... سليم الشظا نهد كميت مضمر
تنازلت إذ نادوا نزال ونلت ما ... ينال الكريم الأحوذي المشمر
فذلك دهر قد مضى حلو عيشه ... وغادرني شأواً لي الذئب يكشر
وقد كنت أباءً على القرن مرجماً ... أجود واحمي المسنفات وأحبر
وللموت خير لامرئ من حياته ... بدارة ذل على بلايا يوقر
(قال) يريد (على البلايا) فادغم اللام. وقال أبو حاتم: وآخر حرف في كتاب سيبويه (علماء يتوكلون) يريد (على الماء) .
10- النجاشي الحارثي
هو قيس بن عمرو بن مالك بن معاوية بن خديج بن حماس شاعر اليمن من بني الحارث بن كعب الأنصاري أصحاب نجران واسمه النجاشي يدل على ما كان لرهطه من العلاقة مع الحبس الذين ملكوا في اليمن بعد محاربتهم لذي نؤاس اليهودي.(7/)
عاش دهراً في الجاهلية ولما فتح السلمون أنحاء اليمن أسلم النجاشي مع من دخل الإسلام لكنه لم يكترث لفرائض دينه. قال ابن قتيبة في الشعر والشعراء (ص 188) : وفي خزانة الأدب (368: 4) (وكان النجاشي فاسقاً رقيق الإسلام) ثم روى قصته في رمضان مع سمعان بن هبيرة المعروف بأبي السمال قال (وخرج في شهر رمشان على رفس له يريد الكناسة فمر بابي سمال الأسدي فوقف عليه فقال: هل لك في رؤوس حملان في كرش في تنور من أول الليل إلى آخره قد أينعت وتهرأت. فقال له: ويحك في شهر رمضان تقول هذا. قال: ما شهر رمضان وشوال غلا واحداً. قال: فما تسقيني عليها. قال: (شراباً كأنه الورس يطيب النفس ويجري في العرق ويكثر الطرق ويشد العظام ويسهل الكلام) . فثنى رحله فنزل ودخلا المنزل فأكلا وشربا. فلما أخذ فيهما الشراب تفاخرا فعلت أصواتهما فسمع ذلك جار لهما فأتى علي بن أبي طالب رض فأخبره فبعث في طلبهما. فأما أبو السمال فشف الخص ونفذ إلى جيرانه فهرب وأخذ النجاشي فأتي به علي بن أبي طالب فقال له: ويحك ولداننا صيام وأنت مفطر. فضربه ثمانين سوطاً وزاده عشرين سوطاً فقال: ما هذه العلاوة يا أبا الحسن. قال: هذه لجرأتك على الله في شهر رمضان. ثم وقفه للناس في تبانه ليروه فهجا أهل الكوفة قائلاً (من البسيط) :
إذا سقى الله قوماً صوب غادية ... فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا
السارقين إذا ما جن ليلهم ... والطالبين إذا ما أصبحوا السورا
ألق العداوة والبغضاء بينهم ... حتى يكونوا لمن عاداهم جزرا
ومما يدل على ضعف إسلامه قوله يهجو قريشاً ولقبها بسخينة وهو طعام رقيق من دقيق وسمن كان القرشيون يكثرون من أكله (من الطويل) :
إن قريشاً والإقامة كالذي ... وفي طرفاه بعد أن كان أجدعا
وحق لمن كانت سخينة قومه ... إذا ذكر الأقوام أن يتقنعا
وقال يهجوهم أيضاً (من الطويل) :
سخينة حي يعرف الناس لونها ... قديماً ولم تعرف بمجد ولا كرم
فيا ضيعة الدنيا وضيعة أهلها ... إذا ولي الملك التنابلة القزم
وعهدي بهم في الناس ناس وما لهم ... من الحظ إلا رعية الشاء والنعم
وهجا كذلك تميم بن أبي مقبل وحيه بني العجلان (ابن قتيبة ص 188 وخزانة الأدب 112: 1) فقال (من الطويل) :(7/)
إذا الله عادى أهل لؤم ورقة ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
ولا يردون الماء غلا عشية ... إذا صدر الوراد عن كل منهل
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم ... وتأكل من كعب وعوف ونهشل
وما سمي العجلان إلا لقيلهم ... خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل
أولئك إخوان اللعين وأسوة اله ... جين ورهط الواهن المتذلل
وكان بنو العجلان يفتخرون باسمهم لقب به جدهم عبد الله بن كعب لتعجيله القرى لضيوفه فلما قال النجاشي شعره رغبوا عنه واستعدوا على النجاشي عمر بن الخطاب فحبسه وقيل جلده.
ومن هجائه قوله يهجو الأنصار وقومهم الخزارجة من بني النجار (من الطويل) :
لستم بني النجار أكفاء مثلنا ... فأبعدكم منا هناك بأبعد
فإن شئتم نافرتكم عن أبيكم ... إلى من أردتم من تهام ومنجد
فالتجأ بنو النجار إلى حسان بن ثابت ليرد عليه ففعل وهجا بني الحماس رهط النجاشي وبني الحارث بن كعب فاهتم للأمر عبد الله بن مدان الحارثي فأتى بالنجاشي إلى حسان فاعتذر إليه ... ومن أقوال النجاشي في بني عبد المدان يمدحهم قوله (من الوافر) :
وقد كنا نقول إذا رأينا ... لذي جسم يعد وذي بيان
كأنك أيها المعطى بياناً ... وجسماً من بني عبد المدان
وكان النجاشي يتشيع ومن قوله في يوم صفين كتب به إلى معاوية (ابن قتيبة) ص 89 العقد الفريد لابن عبد ربه 294: 2 وخزانة الأدب 368: 4 وحماسة البحتري (ص 233) قال (من البسيط) :
يا أيها الملك المبدي عداوته ... انظر لنفسك أي الأمر تأتمر
وما شعرت بما أضمرت من حنق ... حتى أتتني به الأخبار والنذر
فإن نفست على الأقوام مجدهم ... فابسط يديك فإن المجد يبتدر
واعلم بأن علي الخير من نفر ... شم العرانين لا يعلوهم بشر
نعم الفتى أنت إلا أن بينكما ... كما تفاضل ضوء الشمس والقمر
وما أخالك إلا لست منتهياً ... حتى يمسك من أظفاره ظفر
إني امرؤ قل ما أثني على أحد ... حتى أبين ما يأتي وما يذر
لا تحمدن امرءاً حتى تجربه ... ولا تذمن من لم يبله الخبر
ومنها في حماسة البحتري (ص 19) :
أمشي الضراء لأقوام أحاربهم ... حتى إذا ظهرت لي منهم الفقر(7/)
جمعت ضبراً جراميزي بداهية ... مثل المنية لا تبقي ولا تذر
وقال أيضاً يهجو معاوية بابن حرب ويذكر يوم صفين (مجموعة المعاني ص 44 حماسة البحتري 54 والأغاني 73: 12 و76) (من الطويل) :
فمن ير خيلينا غداة تلاقيا ... يقل جبلا الغوري ينتطحان
ففرت ثقيف فرق الله جمعها ... إلى جبل الزيتون والقطران
كأني أراهم يطرحون ثيابهم ... من الروع والخيلان تطردان
فيا حزناً أن لا أكون شهدتهم ... فأدهن من شحم اللئام سناني
وأما بنو نصر ففر شريدهم ... إلى الصلتان الجون والعلجان
وفرت تميم سعدها وربابها ... إلا منبت التنوم والشبهان
وصدت بنو ود صدوداً عن القنا ... إلى آبل في ذلة وهوان
ونجى ابن حرب سابح ذو علالة ... أجش هزيم والرماح دواني
من الأعوجيات الطوال كأنه ... على شرف التقريب شاه إران
شديد على فأس اللجام شكيمه ... يفرج عنه الربو بالعسلان
سليم الشظا عبل الشوا شنج النسا ... اقب الحشا مستطلع الزفيان
كأن عقاباً كاسراص تحت سرجه ... يحاول قرب الوكر بالطيران
إذا قلت أطراف العوالي ينلنه ... مرته به الساقان والقدمان
إذا ابتل بالماء الحميم رايته ... كقادمة الشؤبوب ذي الهطلان
كأن جنابي سرجه ولجامه ... من الماء ثوباً مائح خضلان
من الورد أو أحرى كأن سراته ... بعيد جلاء ضرجت بدهان
جزاه بنعمى كان قدمها له ... بما كان قبل الحرب غير مهان
ومنها بيتان في خزانة الأدب (400: 1) يعرض باختلاف الأزد في قبائلهم قال:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل بها ريب من الحدثان
فأما التي صحت فأزد شنوءة ... وأما التي شلت فأزد عمان
ومنها ما رواه المسعودي في مروج الذهب (378: 4) ذاكراً لرفع معاوية وحزبه المصاحف في ساحة الحرب يوم صفين:
فأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا ... عليها كتاب الله خير قران
ونادوا عليها يا ابن عم محمد ... أنا تتقي أن يهلك الثقلان
وإلى ذلك يشير النجاشي في أبيات رواها في حماسة البحتري (ص 43) :
أبلغ شهاباً أخا خولان مألكة ... أن الكتائب لا يهزمن بالكتب
تهدي الوعيد برأس السر ومتكئاً ... فإن أردت مصاع القوم فاقترب
وإن تغب في جمادى عن وقائعنا ... فسوف نلقاك في شعبان أو رجب(7/)
وروى له المسعودي (طبعة مصر 37: 2) رثاء الحسن بن علي لما سممته جعدة بنت الأشعث (من السريع) :
جعدة بكيه ولا تسأمي ... بعد بكاء المعول الثاكل
لم يسل السم إلى مثله ... في الأرض من حاف ولا ناعل
كان إذا شبت له ناره ... يرفعها بالسند الغائل
كيما يراها بائس مرمل ... وفرد قوم ليس بالآهل
يغلي بنيء اللحم حتى إذا ... أنضجه لم يغل للآكل
أعني الذي أسلمنا هلكه ... للزمن المستخرج الماحل
وروى له المبرد في الكامل (ص 187) يخاطب معاوية ويمدح علياً (من المتقارب) :
دعاً يا معاوي ما لن يكونا ... فقد حقق الله ما تحذرونا
أتاكم علي باهل العراق ... وأهل الحجاز فما تصنعونا
ومن شعره قوله يخاطب قومه اليمنيين لما أراد معاوية أن يغزو اليمن في البحر وتميماً في البر (خزانة الأدب 467: 1) (طويل) :
ألا أيها الناس الذين تجمعوا ... بعكا أناس أنتم أم أباعر
أيترك قيساً آمنين بدارهم ... ونركب ظهر البحر والبحر زاخر
فو الله ما أدري وأني لسائل ... أهمدان تحمي ضيمها أم يحابر
أم الشرف الأعلى من أولاد حمير ... بنو مالك أن تستمر المراثر
أأوصى أبوهم بينهم أن تواصلوا ... وأوصى أبوكم بينكم أن تدابروا
فرجع القوم جميعاً من وجههم فبلغ ذلك معازية فسكن منهم وقال: أنا أغزيكم في البحر لأنه أرفق من الخيل وأقل مؤونة.
وروى البحتري (ص 61) للنجاشي في إخلاف الوعد (من الطويل) :
متى نلقكم عاماً يكن عام علة ... وينظر بنا عام من الدهر مقبل
فوالله ما ندري أما عندكم لنا ... يريث على الموعود أم نحن نعجل
وروى له أيضاً في التشبه بالأجداد (ص 221) قوله (من الطويل) :
وما في من خير وشر فإنها ... سجية آبائي وفعل جدودي
هم القوم فرعي منهم متفرع ... وعودهم عند الحوادث عودي
وروى له الجاحظ يذكر فضل قحطان على عدنان (من الطويل) :
أيا راكباً إما عرضت فبلغن ... بني عامر مني لذاك ابن صعصع
ثبتم ثبات الخيزراني في الوغى ... حديثاً متى ما يأتك الخير ينفع
ومن ظريف ما روي للنجاشي في خزانة الأدب (367: 4) قوله في التقائه بالذئب (من الطويل) :
وماء كلون الغسل قد عاد آجناً ... قليل به الأصوات في بلد محل
وجدت عليه الذئب يعوي كأنه ... خليع خلا من كل مال ومن أهل(7/)
فقلت له يا ذئب هل لك في فتى ... يؤاسي بلا من عليك ولا بخل
فقال هداك الله للرشد إنما ... دعوت لما لم يأته سبع قبلي
فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني عن كان ماؤك ذا فضل
فقلت إليك الحوض إني تركته ... وفي صغوه فضل القلوص من السجل
فطرب يستدعي ذئاباً كثيرةً ... وعديت كل من هواه على شغل
وروى البحتري (ص 221) منها بيتاً في الائتساء بالأجداد:
خلائق فينا من وجدنا ... كذلك طيب الفرع ينمي على الأصل
وذكر له الطبري (2684: 1) بيتين في الربعي بن عامر وكان استخلفه الأحنف ابن قيس على طخارستان سنة 22 هـ (644 م) قال وقد نسبه إلى أمه وكانت من أشراف العرب (من الطويل) :
ألا رب من يدعى الفتى ليس بالفتى ... ألا إن ربعي ابن كأس هو الفتى
طويل قعود القوم في قعر بيته ... إذا شبعوا من ثفل جفنته سقى
وفي معجم البلدان (105: 1) روى له قوله (من الطويل) :
ألج فؤادي اليوم فيما تذكرا ... وشطت نوى من حل جواً ومحضراً
من الحي إن كانوا هناك وغذ ترى ... لك العين فيهم مستراداً ومنظرا
وما القلب إلا ذكره حارثية ... حواريةً يحيى لها أهل أبهرا
قال: أبهر مدينة مشهورة بين قزوين وزنجان وهمذان من نواحي الجبل, وأخبر المبرد (ص 768) أن رجلاً وقف على قبر النجاشي فترحم وقال: (لولا أن القول لا يحيط بما فيك والوصف يقصر دونك لأطنبت بل لأسهبت) ثم عقر ناقته على قبره وقال (من الطويل) :
عقرت على قبر النجاشي ناقتي ... بأبيض عضب أخلصته صياقله
على قبر من لو أنني مت قبله ... لهانت عليه عند قبري رواحله
وقال خديج بن عمرو أخو النجاشي يرثيه (معجم البلدان 352: 4:
من كان يبكي هالكاً فعلى فتى ... ثوى بلوى لحج وآبت رواجله
فتى لا يطيع الزاجرين عن الندى ... وترجع بالعصيان عنه عواذله
قال ياقوت: (لحج مخلاف في اليمن) .
11- حجية بن المضرب الكندي(7/)
هكذا كتب اسمه صاحب الأغاني (117: 4-118 و 14: 21) وضبطه بتقديم الجيم المضمومة على الحاء المفتوحة. وفي الاشتقاق لابن دريد (ص 222) كتب حجية بتقديم الحاء على الجيم ومثله في حماسة أبي تمام (ص 522) وفي نوادر أبي زيد (ص 53 و 77) وكذلك رووا (المضرب) بفتح الراء المشددة. كان حجية من أهل اليمن من بني قتيرة من حي السكون من كندة جاهلياً أدرك الإسلام. وكان يدين بالنصرانية كما شهد عليه صاحب الأغاني (15: 21) وقد روى له هناك أخباراً قليلة يؤخذ منها أنه عاش إلى أيام عمر بن الخطاب. ويؤخذ منها أيضاً ومن نوادر أبي زيد (ص 53) أنه كان لحجية أخوان معدان ومنذر وكانت امرأته زينب من بنات عمه له ولد منها يدعى حوطاً. وقال التبريزي في الحماسة (ص 86) : (ويكنى أبا حوط وهو شاعر جاهلي وفارس مقدام حليف في بني أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان) .
وقد افتتح أبو الفرج الأصبهاني أخبار حجية بقصة القاسم بن محمد بن أبي بكر وأخته وكيف احتملهما عمهما عبد الرحمان بن أبي بكر من مصر لما قتل أباهما معاوية ابن حديج الكندي وعمرو بن العاص (قال) : وقدم بهما إلى المدينة فبعثت إليهما عائشة (زوج رسول المسلمين) وعنيت بتربيتهما. ولما شبا ردتهما إلى عبد الرحمان بقولها: (ها هما هذان فضمهما إليك وكن لهما كجحية أخي كندة) .
فاستطرد هنا صاحب الأغاني وذكر بر جحية ببني أخيه فقال: (أنه أي جحية) كان له أخ يقال له معدان مات وترك صبية صغاراً في حجر أخيه فكان أبر الناس بهم وأعطفهم عليهم وكان يؤثرهم على صبيانه فمكث بذلك ما شاء الله. ثم إنه عرض له سفر لم يجد بداً من الخروج فيه فخرج وأوصى بهم امرأته وكانت إحدى بنات عمه وكان يقال لها زينب فقال: (اصنعي ببني أخي ما كنت أصنع بهم) .(7/)
ثم مضى لوجهه فغاب أشهراً ثم رجع وقد ساءت حال الصبيان وتغيرت فقال لامرأته: ويلك ما لبني معدان مهازيل وارى بني سماناً؟ قالت: كنت أواسي بينهم ولكنهم كانوا يعبثون ويلعبون. فخلا بالصبيان فقال: كيف كانت زينب لكم. قالوا: (سيئة. ما كانت تعطينا من القوت إلا ملء هذا القدح من اللبن) . وأروه قدحاً صغيراً فغضب على امرأته غضباً شديداً ورتكها حتى إذا أراح عليه راعياه إبله قال لهما: اذهبا فأنتما وإبلكما لبني معدان. فغضبت من ذلك زينب وهجرته وضربت بينه وبينها حجاباً. فقال: والله لا تذوقين منها صبوحاً ولا غبوقاً أبداً. وقال في ذلك (من الطويل) :
لججنا ولجت هذه في التعصب ... ولط الحجاب بيننا والتغضب
وخطت بفردي إثمد جفن عينها ... لتقتلني وشد ما حب زينب
تلوم على مال شفاني مكانه ... فلومي حياتي ما بدا لك واغضبي
رحمت بني معدان إذ قل مالهم ... وحق لهم مني ورب المحصب
وكان اليتامى لا يشد احتلالهم ... هدايا لهم في كل قعب مشعب
فقلت لعبدينا أريحا عليهم ... سأجعل بيتي مثل آخر معزب
وقلت خذوها واعلموا أن عمكم ... هو اليوم أولى منكم بالتكسب
عيالي أحق أن ينالوا خصاصة ... وأن يشربوا رنقاً لدى كل مشرب
ذكرت بهم عظام من لو أتيته ... حريباً لآساني لدى كل مركب
أخي والذي إن أدعه لملمة ... يجبني وإن اغضب إلى السيف يغضب
فلا تحسبيني بلدماً إن نكحته ... ولكنني جحية بن المشرب
ففي بر جحية بأولاد أخيه وتفضيلهم على بنيه لما يشعر بفضيلة مسيحية راسخة. وقد روى صاحب لسان العرب (66: 19) حديثاً لعائشة تثني فيه على جحية وعلى شعره حيث قالت: (ترووا لشعر جحية فانه يعين على البر) .(7/)
ومما ورد من أخباره في كتاب الأغاني (16: 21) أن زينب امرأة جحية لما بلغها شعر زوجها السابق وما وهبه بني معدان كرماً لم ترض بفعله الجميل فخرجت حتى أتت المدينة فأسلمت وذلك في ولاية عمر بن الخطاب. فقدم جحية المدينة فطلب زينب أن ترد عليه وكان نصرانياً فنزل بالزبير بن العوام فأخبره بقصته فقال له: إياك أن يبلغ هذا عنك عمر فتلقى منه أذى. وانتشر خبر جحية وفشا بالمدينة وعلم فيما كان مقدمه فبلغ ذلك عمر فقال للزبير: قد بلغني قصة ضيفك وقد هممت به لولا تحرمه بالنزول عليك فرجع الزبير إلى جحية فاعلمه قول عمر فقال جحية في ذلك (من البسيط) :
غن الزبير بن عوام تداركني ... منه بسيب كريم سيبه عصم
نفسي فداؤك مأخوذاً بحجرتها ... إذ شاط لحمي وإذ زلت بي القدم
إذ لا يقرم بها إلا فتى أنف ... عاري الأشاجع في عرنينه شمم
ثم انصرف من عنده متوجهاً إلى بلده آئساً من زينب كئيباً حزيناً فقال في ذلك أبياتاً ذكر في الأغاني (117: 4-118) فيها صوتاً ليونس (من الطويل) :
تصابيت أم هاجت لك الشوق زينب ... وكيف تصابي المرء والرأس أشيب
إذا قربت زادتك شوقاً بقربها ... زان جانبت لم يسل عنها التجنب
فلا إلياس إن ألممت يبدو فترعوي ... ولا أنت مردود بما جئت تطلب
وفي اليأس لو يبدو لك اليأس راحة ... وفي الأرض عمن لا يؤاتيك مذهب
(قلنا) إن في فعل عمر لعجباً غذ فصل بين جحية وامرأته وتهدد زوجها بالأذى. وفيه دليل واضح على ما كان من الضغط في أول الإسلام على من يأبى الدخول في دينهم. وفي ثناء عائشة لبر جحية وإكرام الزبير لضيفه ما هو أجمل بهما.
أما شعر جحية فقد أخذ أكثره الضياع وإنما وقفنا له على بعض المقاطيع نرويها بحرفها. فمن ذلك مدحه لابن العباس القرشي الهاشمي (من الطويل) :
إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه ... رأيت له في كل أحواله فضلا
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل ... بمنتصحات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع ... لذي إربة في القول جداً ولا هزلا
وروى له القالي في أماليه (54: 1) عن ابن الكلبي قوله يمدح يعفر بن زرعة أحد الأملوك أملوك ردمان (من الطويل) :
إذا كنت سئالاً عن المجد والعلى ... وأين العطاء الجزل والنائل الغمر(7/)
فنقب عن الأملوك واهتف بيعفر ... وعش جار ظل لا يغالبه الدهر
أولئك قوم شيد الله فخرهم ... فما فوقه فخر وأن عظم الفخر
أناس إذا ما الدهر اظلم وجهه ... فأيديهم بيض وأوجههم غر
يصونون أحساباً ومجداً مؤثلاً ... ببذل أكف دونها المزن والبحر
فلو لامس الصخر الأصم أكفهم ... أفاض ينابيع الندى ذلك الصخر
سموا في المعالي رتبةً فوق رتبة ... أحلتهم حيث النعائم والنسر
أفادت لهم أحسابهم فتضاءلت ... لنورهم الشمس المنيرة والبدر
ولو كان في الأرض البسيطة منهم ... لمختبط عاف لما عرف الفقر
شكرت لكم آلاءكم وبلاءكم ... وما ضاع معروف يكافئه الشكر
وجاء لأبي زيد في نوادره (ص 63) : قال جحية بن مضرب الكندي وزعم المفضل أنه بلغ بعض الملوك عن جحية شيء فبلغ ذلك جحية فقال (من الطويل) :
إن كان ما بلغت عني فلامني ... صديقي وحزت من يدي الأنامل
وكفنت وحدي منذراً في ثيابه ... وصادف حوطاً من أعادي قاتل
قال أبو زيد: منذر أخوه وحوط ابنه. وقوله في ثيابه أي لا أجد له كفناً غيرها.
وهذا البيتان رواهما أبو تمام في حماسته (68: 1-69) لمعدان بن جواس الكندي.
امرؤ القيس بن عابس
هو امرؤ القيس بن عابس بن المنذر بن امرئ القيس بن السمط بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر. كان من نصارى كندة ومن أهل اليمن كسمية امرئ القيس بن حجر. وروى اسمه في شرح شواهد التلخيص (ص 62) (ابن عانس) بالنون. قال ابن دريد في الاشتقاق (ص 222) : (وكان شاعراً أدرك الإسلام) .
وهو معدود من الصحابة. قال ابن الأثير في أسد الغابة (115: 1) : (وفد إلى النبي فأسلم وثبت على إسلامه ولم يكن فيمن ارتد من كندة وكان شاعراً نزل الكوفة) . وهو غير امرئ القيس بن الأصبع الكلبي وكان أيضاً نصرانياً كما رواه في الأغاني (163: 14) وأسلم في زمن عمر بن الخطاب فعقد له على من أسلم من قضاعة بالشام وهو الذي زوج بثلث بناته المحياة وسلمى والرباب علي بن أبي طالب وولديه الحسن والحسين.(7/)
ومما ورد من أخبار امرئ القيس بن عابس في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة (123: 1) وفي أسد الغابة لابن الأثير (115: 1) ما حرفه: (كان بين امرئ القيس ورجل من حضر موت اسمه ربيعة بن عيدان خصومة فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال للحضرمي: بينتك وإلا فيمينه. قال: يا رسول الله إن حلف ذهب بأرضي. فقال: من حلف على يمين كاذبة يقتطع بها حق أخيه لقي الله وهو عليه غضبان. فقال امرؤ القيس: يا رسول الله فما لمن تركها وهو يعلم أنه محق. قال: الجنة. قال: فإني أشهدك أني قد تركتها له) . (قلنا) وهذا نعم الدليل على استقامة الكندي ونفوره من الحلف كما اعتاده النصارى وتعلموه من إنجيلهم.
ويؤخذ من تاريخ الطبري (2005: 1) أن امرؤ القيس بن عابس حضر فتح اليمن مع ابن زياد. وقال عبد الرحيم العباسي في شرح شواهد التلخيص المسمى معاهد التنصيص (ص 62) : (وشهد فتح النجير باليمن وهو حصن قرب حضر موت ثم حضر الكنديين حين ارتدوا فثبت على إسلامه ... ولما خرجوا ليقتتلوا وثب على عمه فقال له: ويحك يا امرء القيس أتقتل عمك. قال: أنت عمي والله عز وجل ربي فقتله) . (قلنا) هذا ما تعلمه من دينه الجديد. وورد في ابن حجر أنه حضر فتوح الشام وكان يوم اليرموك على كردوس.
أما شعر امرئ القيس بن عابس فقليل روى له القدماء نتفاً فمن ذلك قوله (من الكامل) :
قف بالديار وقوف حابس ... وتأن انك غير آنس
لعبت بهن الغاديا ... ت الرائحات إلى الروامس
ماذا عليك من الوقو ... ف بها مدى الطللين دارس
يا رب باكية علي ... ومنشد لي في المجالس
أو قائل يا فارساً ... ماذا رزئت من الفوارس
لا تعجبوا إن تسمعوا ... هلك امرؤ القيس بن عابس
قال ابن قتيبة في الشعر والشعراء بعد ذكر الأبيات الأولى الثلثة (ص 369) : أخذه الكميت كله غير القافية فقال:
قف بالديار وقوف زائر ... وتأي انك غير صاغر
ماذا عليك من الوق ... ف بهامد الطللين داثر
درجت عليه الغاديا ... ت الرائحات من الأعاصير(7/)
قال ابن حجر العسقلاني (124: 1) يذكر نسب امرئ القيس بن عابس: (وجد أبيه امرؤ القيس بن السمط كان يقال له ابن تملك وهي أمه وقد ذكره امرؤ القيس الشاعر في قصيدته الرائية فدعاه امرء القيس بن تملك فنسبه إلى أمه) . وإلى ابن عابس نسبت الأبيات اللامية الآتية في لسان العرب (20: 20) وفي الشعر والشعراء لابن قتيبة (ص 22) (من الهزج) :
أيا تملك يا تملي ... ذريني وذري عذلي
ذريني وسلاحي ثم م شدي الكف بالغزل
ونبلي وفقاها م كعراقيب قطاً طحل
ومني نظرة بعدي ... ومني نظرة قبلي
فإما مت يا تملي ... فموتي حرةً مثلي
قال ابن حجر: وهذا الشعر مما اختاره الأصمعي لخفة رويه. ومما ورد في كتاب الأغاني (97: 3-98) من الأبيات التي عليها أصوات ما روي لامرئ القيس بن عابس وقد رواها قوم لامرئ القيس بن حجر بالغلط وهي الأبيات الآتية (من الكامل) :
حي الحمول بجانب العزل ... إذ لا يوافق شكلها شكلي
الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل
إني بحبلك واصل حبلي ... وبريش نبلك رائش نبلي
وشمائلي ما قد علمت وما ... نبحت كلابك طارقاً مثلي
وذكر هناك (ص 96-99) الغناء الذي وضعه أبو هارون عطرد على هذه الأبيات وكيف طرب لها الوليد بن يزيد فرمى حاله في بركة مملوءة خمراً فنهل منها حتى سكر فأخرج منها كالميت.
وذكر أيضاً دخول عباد بن سلمة ابن قاضي البصرة ليلاً على عطرد مع جماعة فلما رآه عطرد ومن معه فزع فقال له عباد: لا ترغ
غني قصدت إليك من أهلي ... في حاجة يأتي لها مثلي
فقال عطرد: وما هي أصلحك الله؟ قال:
لا طالباً شيئاً إليك سوى ... (حي الحمول بجانب العزل)
أراد أن يسمعهم غناءه في الأبيات السابقة. فقال: انزلوا على بركة الله فلم يزل يغنيهم هذا وغيره حتى أصبحوا.
وروى ياقوت في معجم البلدان (809: 2 و 662: 4) لامرئ القيس بن عابس في وصف روضة منصح وهي روضة لبني وكيعة بن كندة (من الطويل) :
ألا ليت شعري هل أرى الورد مرةً ... يطالب سرباً موكلاً بغرار
أمام رعيل أو بروضة منصح ... أبادر أنعاماً وأجل صوار
وهل اشربن كأساً بلذة شارب ... مشعشعة أو من صريح عقار
إذا ما جرت في العظم خلت دبيبها ... دبيب صغار النمل وهي سوار(7/)
وقال ابن حجر (124: 1) أن ابن عابس كتب إلى أبي بكر في الردة (من الوافر) :
ألا بلغ أبا بكر رسولاً ... وبلغها جميع المسلمينا
فليس مجاوراً بيتي بيوتاً ... بما قال النبي مكذبينا
ويروى له في كتب الأدباء أبيات متفرقة. منها بيت في الكامل للمبرد (ص 546) (من الهزج) :
وقد اختلس الضربة ... لا يدمى لها نصلي
وروى له البكري في معجم ما استعجم (ص 669) في مادة عمواس من قرى الشام بين الرملة وبيت المقدس (من الرمل) :
رب خرق مثل الهلال وبيضا ... ء لعوب بالجزع من عمواس
وكذلك روى ياقوت في معجم البلدان (141: 1) عن امرئ القيس بن عابس (من المتقارب) :
فيا هند لا تنكحي بوهةً ... عليه عقيقته أحسبا
(قال) أي كأن عقيقته لم تحلق في صغره حتى شاخ والأحسب ما كان في شعره شقرة.
ولم يذكر أحد سنة وفاة امرئ القيس بن عابس.
نائلة بنت الفرافصة زوجة الخليفة عثمان
هي نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة الراقي نسبها إلى علي بن جناب من بني كلب النصارى. والفرافصة بفتح الفاء الأولى وكسر الثانية ويروى القراصفة بالقاف. وقد شهد في كتاب الأغاني (70: 15) عن نصرانية الفرافصة أبي نائلة كما شهد الطبري في تاريخه على نصرانية ابنته نائلة. أما زواجها بالخليفة عثمان فوقع سنة 28 هجرية (650 م) قال الطبري في تاريخه (2827: 1) : (وفي هذه السنة تزوج عثمان نائلة بنت الفرافصة وكانت نصرانية فتحنثت (كذا) قبل أن يدخل بها) .
وقد ذكر كتاب الأغاني (70: 15) سبب هذا الزواج وذلك أن عثمان بن عفان بلغه أن سعيد بن العاص وهو على الكوفة تزوج هنداً بنت الفرافصة وبلغه نسبها وجمالها فكتب إليه: إن كانت لها أخت فزوجنيها. فبعث سعيد إلى الفرافصة يخطب احدى بناته على عثمان فأمر الفرافصة ابنه ضباً فزوجها إياه وكان ضب مسلماً وكان الفرافصة نصرانياً وقد أوصاها قبل فراقها بما يحس بها فعله إذا صارت بين نساء قريش. (قال) فلما حملت كرهت الغربة وحزنت لفراق أهلها فأنشأت تقول لأخيها ضب (من الطويل) :
ألست ترى يا ضب بالله إنني ... مصاحبة نحو المدينة أركبا
إذا قطعوا حزناً تحت ركابهم ... كما حركت ريح يراعاً مثقبا(7/)
لقد كان في أبناء حصن بن ضمضم ... لك الويل ما يغني الخباء المطنبا
قضى الله حقاً أن تموتي غريبةً ... بيثرب لا تلقين أماً ولا أبا
ولابن عائشة المغني لحن في هذا الأبيات. ثم ذكر أبو الفرج دخولها على عثمان فقال لها: ألا تكرهين ما رأيت من شيبي. فقالت: إني من نسوة أحب أزواجهن إليهن الكهول. وإنها كانت من أحظى نسائه عنده. وفي كتاب البدء والتاريخ (202: 5) أنه أعطاها مائة ألف من بيت المال.
وكانت نائلة أبية كريمة الطبع فلما تآمر الناس على عثمان في السنة 35 هـ (656 م) وحصروه أربعين ليلة صرفت نائلة زوجها عن نصيحة مروان بن الحكم فشتمها مروان وذكر نصرانية والدها بقلوه (الطبري 2974: 1-2976) : (وما أنت وذاك فو الله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضأ فقال تله: مهلاً يا مروان عن ذكر الآباء تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه وأن أباك لا يستطيع أن يدفع عنه. أما والله لولا أنه عمه (أي عم عثمان) وأنه يناله غمه أخبرتك عنه ما لن أكذب عليه) . فأراد مروان أن يتعرض لها فقال عثمان: (لا تذكرنها بحرف فأسود لك وجهك فهي والله أنصح لي منك) . فكف مروان.
وما لبث الناس أن تسوروا دار عثمان ومعهم السيوف يتقدمهم محمد بن أبي بكر فجلس عثمان والمصحف في يده فنشرت نائلة شعرها فقال لها عثمان: خذي خمارك فلعمري لدخولهم علي أعظم من حرمة شعرك. وأهوى رجل إليه بالسيف. فأكبت عليه نائلة ابنة الفرافصة واتقت السيف بيدها فتعمدها وقطع أصابعها وولت تغمز أوراكها ثم ضرب عثمان فقتله. قال الطبري (3008: 1) : وأخذت ابنة الفرافصة حليها فوضعته في حجرها وذلك قبل أن يقتل فلما قتل ناحت عليه وقالت ترثيه (من الطويل) :
ألا أن خير الناس بعد ثلثة ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
وما لي لا أبكي وتبكي قرابتي ... وقد غيبت عنا فضول أبي عمرو(7/)
فترى ما أظهرته نائلة من الشهامة في الدفاع عن زوجها ولا شك بأن ما استقته من مناهل النصرانية من المبادئ الشريفة هو الذي أرشدها إلى بذل نفسها دون الخليفة زوجها على خلاف نسائه العشر. وقد روى في الأغاني (71: 15) أن نائلة بعثت قميص عثمان المضرج بدمه مع النعمان بن بشير إلى معاوية وأهل الشام وكتبت إلى معاوية كتاباً مطولاً دونه هناك وفيه تصف قتل عثمان ومما قالت ما حرفه: إني أقص عليكم خبره لأني كنت مشاهدةً أمره كله حتى قضى الله عليه. إن أهل المدينة حصروه في داره يحرسونه ليلهم ونهارهم قياماً على أبوابه بسلاحهم يمنعونه كل شيء قدروا عليه حتى منعوه الماء ... فمكث هو ومن معه خمسين ليلة وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد ابن أبي بكر وعمار بن ياسر وكان علي (بن أبي طالب) مع الحضريين من أهل المدينة ولم يقاتل مع أمير المؤمنين ولم ينصره ولم يأمر بالعدل الذي أمر الله تبارك وتعالى به ... فدخل عليه القوم ... فقتلوه رحمة الله عليه في بيته وعلى فراشه وقد أرسلت إليكم بثوبه وعليه دمه ... ) .(7/)
قال الطبري (3255: 1) : (ولما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان رض الذي قتل فيه مخضباً بدمه وبأصابع نائلة زوجته مقطوعةً بالبراجم إصبعان منها وشيء من الكف وإصبعان مقطوعتان من أصولهما ونصف الإبهام وضع معاوية القميص على المنبر وكتب بالخبر على الأجناد وثاب الناس إليه وبكوا سنةً وهو على المنبر والأصابع معلقة فيه آلى الرجال من أهل الشام ألا يأتوا النساء ولا يمسهم الماء للغسل ولا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان أو تفنى أرواحهم) . وكان ذلك سبب خروج معاوية بن سفيان ومحاربته لعلي بن أبي طالب في صفين. ومما رواه ابن عبد ربه في العقد الفريد (272: 3) إن معاوية بعث إلى نائلة يخطبها فأرسلت إليه ما ترجو من امرأة جذماء؟ وقيل أنها قالت لما قتل عثمان: إني رأيت الحزن يبلى كما يبلى الثوب وقد خشيت أن يبلى حزن عثمان من قلبي. فدعت بفهر فهتمت فاها لتبقى ثابتة على عهد زوجها عثمان. قال النووي في تهذيب السماء (ص 1855) : (سمعت عثمان وروى عنها النعمان بن بشير وغيره.. وولدت لعثمان أم خالد وأروى وأم أبان وكانت أحظى نساء عثمان عنده في وقتها وتزوجها وهي نصرانية وأسلمت عنده على يده) .
وقد روى أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر في كتاب بلاغات النساء (ص 70-72) خطبةً خطبت بها نائلة في مسجد المدينة بعد قتل عثمان وهي متسلبة في أطمار معها نساء من قومها والخطبة طويلة افتتحتها بقولها: (معاشر المؤمنة وأهل الملة لا تستنكروا مقامي ولا تستكثروا كلامي فغني حرى عبرى رزئت جليلاً وتذوقت ثكلاً من عثمان) .
ثم أطنبت في فضل زوجها ومحاسنه وأردفت بتقريع أهل المدينة قائلةً: (سفكتم دمه وانتهكتم حرمه واستحللتم من الحرم الأربع حرمة الإسلام وحرمة الخلافة وحرمة أشهر الحرام وحرمة البلد الحرام فليعلمن الذين سعوا في أمره ودبوا في قتله ومنعونا عن دفنه اللهم أن بئس للظالمين بدلاً وأنهم شر مكاناً وأضعف جنداً لتتعبدكم الشبهات ولتفرقن بكم الطرقات ولتذكرن بعدها عثمان ولا عثمان وكيف بسخط الله من بعده ... ) .
(قال) ثم أقبلت بوجهها على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: اللهم اشهد
أيا قبر النبي وصاحبيه ... عذيري إن شكوت ضياع ثوبي(7/)
فاني لا سبيل فتنفعوني ... ولا أيديكم في منع حوبي
14- ميسون بنت بحدل الكلبية
هي امرأة أخرى من نصارى كلب وأبوها بحدل بن أنيف من بني الحارثة بن جناب. وقد وصفها ابن عساكر في تاريخ دمشق وغيره بالذكاء وقالوا أنها كانت لبيبة ورعة وهي زوج معاوية بن أبي سفيان وأم ابنه يزيد. قال ابن الكلبي في الجمهرة (خزانة الأدب 592: 3) : (كان معاوية بن أبي سفيان بعث رسولاً إلى بهدلة بن حسان بن عدي يخطب إليه ابنته. فأخطأ الرسول فذهب على بحدل بن أنيف فزوجه ابنته ميسون) وكانت بدوية فلما اتصلت بمعاوية ونقلها من البدو إلى الشام ضاقت نفسها لما تسرى عليها وكانت تكثر الحنين إلى أناسها والتذكر لمسقط رأسها فعذلها على ذلك وقال لها: أنت في ملك عظيم وما تدرين قدره وكنت قبل اليوم في العباءة. فقالت (من الوافر) :
لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إلي من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف
وأكل كسيرة في كسر بيتي ... أحب إلي من أكل الرغيف
وكلب ينبح الطراق دوني ... أحب غلي من قط ألوف
وبكر يتبع الأظعان صعب ... أحب إلي من بغل زفوف
أصوات الرياح بكل فج ... أحب إلي من نقر الدفوف
وخرق من بني عمي نحيف ... أحب إلي من علج عليف
خشونة عيشتي في البدو أشهى ... إلى نفسي من العيش الظريف
فما أبغي سوى وطني بديلاً ... فحسبي ذاك من وطن شريف
فلما سمع معاوية الأبيات قال لها: ما رضيت يا ابنة بحدل حتى جعلتني علجاً عليفاً. قال اللخمي: (فطلقها وألحقها بأهلها وقال لها: كنت فبنت. فقالت: لا والله ما سررنا إذ كنا ولا أسفنا إذ بنا. ويقال أنها كانت حاملاً بيزيد فوضعته في البرية فمن ثم كان فصيحاً) . (قلنا) وفي خبر طلاقها المذكور نظر والأصح عندنا ما روى الكلبي عن عوانة (الخزانة 594: 3) قال: (لما زفت ميسون بنت بحدل من بادية كلب على معاوية وهو بريف الشام ثقل عليها الغربة والبعد عن قومها فسمعها ذات ليلة تقول هذه الأبيات فقال: أنا والله العلج. وازداد بها عجباً وإليها ميلاً) وذكر ابن الأثير في تاريخه أن ميسون ولدت لمعاوية ابنةً اسمها أمة رب المشارق ماتت صغيرة.
15- أبو زبيد الطائي(7/)
(اسمه ورهطه) هو أبو زبيد الطائي حرملة بن المنذر بن معدي كرب بن حنظلة بن النعمان بن حية من قبيلة طيىء الراقبة إلى زيد بن كهلان من عرب اليمن.
قال ابن دريد في الاشتقاق (ص 231) : (وزبيد تصغير الزبد وهو العطاء) .
ورهطه بنو الحية هم رهط إياس بن قبيصة وحنظلة بن أبي عفراء (الأغاني) .
(زمانه ودينه) قال أبو الفرج الأصبهاني (42: 11) : أبو زبيد هو ممن أدرك الجاهلية والإسلام فعد في المخضرمين. وجعله أبو الحاتم السجستاني في جملة المعمرين قال (ص 98) أنه عاش مائة وخمسين سنة. وهكذا روى ابن الكلبي (الأغاني 28: 11) وبلغ إلى زمن علي ومعاوية. أما دينه فكان في الجاهلية النصرانية بلا شك كمعظم أبناء قبيلته طيء وكإياس بن قبيصة وحنظلة بن أبي عفراء اللذين أثبتنا نصرانيتهما (اطلب كتابنا النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية 89-90 و 133 و 135) أما في الإسلام أثبت على دينه أو أسلم فجاء فيه قولان قال الطبري في تاريخه (ج 1 ص 2843) : (قد أبو زبيد على الوليد بن عقبة في الكوفة فلم يزل الوليد به وعنه حتى أسلم في آخر إمارة الوليد وحسن إسلامه) وكذا ورد في حاشية كتاب الاشتقاق لابن دريد (ص 231) ويرد هذا القول ما جاء في معظم كتب الأدباء الذين يصفون أبا زبيد بالنصراني حيثما ورد اسمه. فإذا رووا له بيتاً قالوا (قال أبو زبيد النصراني) دون إشارة على تغييره دينه. قال أبو حاتم السجستاني في المعمرين (ص 98) (وكان أبو زبيد نصرانياً) لا بل يصرحون بموته نصرانياً. قال ابن قتيبة في الشعر والشعراء (ص 167) : (أدرك أبو زبيد الإسلام ومات نصرانياً) ومثله قال ابن سلام الجمحي في طبقات الشعراء (ص 196) وقال أبو الفرج في الأغاني (42: 11) (وكان أبو زبيد نصرانياً وعلى دينه مات) وتجد هناك عثمان الخليفة يكلمه بقوله (يا أخا تبع المسيح) وذكر أيضاً (ص 28) أنه قبل موته (كان يحمل في كل أحد إلى البيعة) وبهذه الشواهد رد كاف على زعم الطبري. قال في خزانة الأدب ينتقد على زعم الطبري (155: 2) (وهذا خلاف ما قال العلماء أنه مات على نصرانيته) .(7/)
(مقامه وأخباره) كان مقام أبي زبيد بالرقة في الجزيرة وبها مات (أغاني 28: 11) وقال (ص 27) : (كان أخوال أبي زبيد بني تغلب وكان يقيم فيهم أكثر أيامه وكان له غلام يرعى إبله) وقال ابن سلام في طبقات الشعراء (ص 196) : (وكان أبو زبيد الطائي من زوار الملوك ولموك العجم خاصةً وكان عالماً بسيرها) وروى في الأغاني (26: 11) (أنه أتى النعمان بن المنذر وجالسه) وقال ابن سلام: وكان عثمان ابن يقربه ويدينه ويدني مجلسه) وكان أبو زبيد طويل القامة جميل المنظر. روى في الأغاني (28: 11) عن ابن الكلبي عن أبيه أن (طول أبي زبيد كان ثلثة عشر شبراً) (1) أما جماله فقد روى عنه (33: 6) مسنداً قوله إلى ابن دريد قال: (كان وضاح اليمن والمقنع الكندي وأبو زبيد الطائي يردون مواسم العرب مقنعين يسترون وجوههم خوفاً من العين (!!) وحذاراً على أنفسهم من النساء لجمالهم.) .
وقال أيضاً: (28: 11) كان أبو زبيد الطائي ممن إذا دخل مكة دخلها متنكراً. وقال في خزانة الأدب (155: 2) (أن عمر بن الخطاب استعمل أبا زبيد على صدقات قومه ولم يستعمل نصرانياً غيره) وروي عن أبي زبيد أنه تنقل إلى بلاد مختلفة وأنه دخل مكة والمدينة وسكن مدة في الكوفة ينادم الوليد بن عقبة. قال في الأغاني (82: 4-83) : (أن أبا زبيد وفد على الوليد بن عقبة حين استعمله عثمان على الكوفة فأنزله الوليد دار العقيل بن أبي طالب وهي دار القبطي على باب المسجد فاستوهبها منه فوهبها له. فاحتج عليه أهل الكوفة أن أبا زبيد كان يخرج إليه من داره يخترق المسجد وهو نصراني فيجعله طريقاً. وقيل أنه كان يخرج من منزله حتى يشق الجامع إلى الوليد فيسمر عنده ويشرب معه ويخرج فيشق المسجد وهو سكران فذلك نبههم عليه) .(7/)
وقد ورد ذكر أبي زبيد في كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار لخليل بن أيبك الصفدي قال: (ومنهم أبو زبيد الطائي واسمه حرملة بن المنذر وكان نصرانياً من متنصرة العرب، والواقع في هذا الدين أكله إذ اغترب (كذا) ، قل أن طوت طي. على مثله بردها، أو مدت بمثل أنواء قريحته وردها، تجلب سرابيل الدماء، وانتسب إلى المنذر وهو ابن ماء السماء، إلا أنه لو ولد مثل المنذر لقدمه على نبيه لتحقيقه، أو وآخى النعمان لما أجراه إلا مجرى شقيقه) .
(أبو زبيد والأسد) ومما اشتهر به أبو زبيد وصفه للأسد قيل أنه لقيه في بعض أسفاره بالنجف فرأى من بطشه ما أرعد فرائصه فوصفه وصفاً لم يأت بمثله غيره.
أخبر أمين الدولة الشيرزي في كتابه جمهرة الإسلام قال: حضر أبو زبيد ذات يوم عند عثمان بن عفان وعنده المهاجرين (المهاجرون) والأنصار فتذاكروا مآثر العرب وأيامها وسيرها وأشعارها فالتفت إليه عثمان فقال: يا أخا تبع دين المسيح أسمعنا بعض شعرك فقد أنبئت أنك تجيد الشعر. فأنشده كلمته العينية التي يصف فيها الأسد وهي (اطلب الحماسة البصرية 219: 2-220) .
من مبلغ قومنا النائين إذ شخصوا ... أن الفؤاد إليهم شيق ولع
تناذروني كأني في أكفهم ... حتى إذا ما رأوني خالياً نزعوا
واستحدث القوم أمراً غير ما وهموا ... وطار أنصارهم شتى وما جمعوا
والدار إما نأت بي عنهم فلهم ... ودي ونصري إذا أعداؤهم سبعوا
إما بحد سنان أو محافلةً ... فلا قحوم ولا فان ولا ضرع
حمال أثقال أهل الود آونةً ... أعطيهم الود مني بله ما سمعوا
كأنما يتفادى أهل أمرهم ... من ذي زوائد في أرساغه فدع
ضرغامة أهرت الشدقين ذي لبد ... كأنه برنس في الغاب مدرع
بالشي أسفل من حماء ليس له ... إلا بنيه وإلا عرسه سبع
أبن عريسه غناؤها أشب ... ودون غايتها مستورد شرع
شأس الهبوط رناء الحاقنين متى ... ينشغ بوارده يحدث لها فزع
أبو شتيمين من حصاء قد أفلت ... كأن أطباءه في رسغها رقع
أعطيتها جهدها حتى إذا وجمت ... صدت وصدا فلا غيل ولا فدع
وردين قد أخذا أخلاق شيخهما ... ففيهما عزمة الظلماء والجشع
غذاهما بلحوم القوم مذ شدنا ... فما يزال بوصلي راكب يضع(7/)
على جناجنه من ثوبه هبب ... وفيه من صائك مستكرة دفع
كأنما هو في أهداب أرملة ... مسرول وإلى الإبطين مدرع
أفز عنه بني الخالات جرأته ... لا الصيد يمنع منه وهو ممتنع
في ما اكتسبن رئيس غير منفصم ... وليس فيما يرى من كسبه طمع
حتى انتهى إلى آخرها فقال له عثمان (الأغاني 42: 11-52) وطبقات الشعر للجمحي ص 196 والمحاسن والأضداد للجاحظ ص 112) : تالله تذكر الأسد ما حييت والله أني لحسبك جباناً هراباً (ويروى: هداناً) . قال: كلا يا أمير المؤمنين ولكني رأيت منه منظراً وشهدت منه مشهداً لا يبرح ذكره يتجدد في قلبي ومعذور أنا يا أمير المؤمنين غير ملوم. فقال عثمان: وأنى كان ذلك.
قال: (خرجت في صيابة أشراف من افناء قبائل العرب ذوي هيئة وشارة حسنة ترتمي بنا المهاري بانسائها (الأغاني: باكسائها) ومعنا البغال عليها العبيد يقودون عتاق الخيل ونحن نريد الحارث ابن أبي شمر الغساني ملك الشام فاخروط (غ: اخرورط) بنا المسير في حمارة القيظ حتى عصبت الأفواه وذبلت الشفاه وشالت (غ: وسالت) المياه وأذكت الجوزاء المعزاء وداب (غ: وذاب) الصيهد وصر الجندب وضاف (غ: وأضاف) العصفور الضب في وجاره (غ: في وكره. ويروى: في جواره) فقال قائلنا: يا أيها الركب غوروا بنا في ضوج هذا الوادي. وإذا واد قد بدا قد بدا يميناً كثير الدغل، دائم الغلل، شجراؤه مغنه، وأطياره مرنة، فعطفنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات، ونبعات منهدلات، فأصبنا من فضلات المزاود وأتبعناها بالماء البارد.(7/)
(وإنا لنصف حر يومنا ومماطلته إذ صر أقصى الخيل أذنيه، وفحص الأرض بيديه، فو الله ما لبث أن جال، ثم حمحم فبال، ثم فعل فعله الفرس الذي يليه واحداً فواحداً. فتضعضعت الخيل وتكعكعت الإبل وتقهقرت البغال. فمن نافر بشكاله، وناهض بعقاله، وجائل بجلاله، فعلمنا أن قد أتينا وأنه السبع. ففزع كل واحد إلى سيفه فاستله من حرابه ثم وقفنا رزدقاً أرسالاً. فاقبل أبو الحرث من أجمته، يتطالع (غ: يتظالع) في مشيته كأنه مجنوب أو في هجار. لصدر نحيط، ولبلاعمه غطيط، ولطرفه وميض، ولأرساغه نقيض، كأنه يخبط هشيماً، أو يطأ صريماً، وإذا هامة كالمجن، وخد كالمسن. وعينان سجراوان كأنهما سراجان يقدان وقصرة ربلة، ولهزمة (غ: ولهذمة) رهلة، وكتد مغبط، وزور مفرط، وساعد مجدول، وعضد مفتول، وكف شثنة البراثن، إلى مخالب كالمحاجن، ثم ضرب بيده فأرهج، وكشر فأفرج، عن أنياب كالمعاول مصقولة، غير مفلولة، وفم أشدق، كالغار الأخرق، تمطى فأشرع (غ: فأسرع) بيديه، وحفز وركيه برجليه، حتى صار ظله مثليه، ثم أقعى فاقشعر، ثم مثل (غ: تمثل) فاكفهر، ثم تجهم فازبأر، فلا والذي (غ: وذو) بيته في السماء ما اتقيناه إلا باخ لنا من بني فزارة، كان ضخم الجزارة، فوقصه ثم أقعصه فقضقض متنه، وبقر بطنه، وجعل يلغ في دمه. فذمرت لأصحابي فهجهجنا به فبعد لأي ما استقدموا فكر مقشعراً بزبرة (غ: بزبره) كأن به شيهماً (غ: شمصاً) حولياً فاختلج رجلاً أعجز ذا حوايا فنفضه نفضةً تزايلت مفاصله وانقطعت أوداجه ثم نهم فقرقر، ثم زفر فبربر، ثم زأر فجرجر، لم لحظ فو الله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه، من عن شماله ويمينه، فأرعشت الأيدي واصطكت الأرجل وأطت الأضلاع، وارتجت الأسماع، وحجمت (غ: وشخصت) العيون، ولحقت الظهور بالبطون، وانخزلت المتون، وساءت (غ: وتحققت) الظنون) .(7/)
فقال له عثمان: اسكت قطع الله لسانك فقد أرعبت قلوب المسلمين. ثم حضر بعد ذلك عند معاوية بن أبي سفيان وعنده جماعة من أصحابه فقال: أيكم يصف لي الأسد؟ فقام أبو زبيد الطائي ثم جثا بين يدي معاوية فقال: يا أمير المؤمنين أنا أصفه لك حتى كأنك تراه. (له عينان حمراوان كوهج النيران، كأنما نقرتا بالمناقير في عرض الصفوان، هامته رعد، إذا مشى تبهنس، وإذا أليل اعلنكس وتجسس، من قاسمه ظلم، ومن قارعة غشم) ثم أنشأ (من الطويل) :
عبوس شموس مصلخد خنابس ... جريء على الأرواح للفرن قاهر
منيع ويحمي كل وادٍ يرومه ... شديد أصولٍ الماضغين مكابر
براثينه شثن وعيناه في الدجى ... كجمر الغضا في وجهه الشر ظاهر
يدل بأنياب حداد كأنها ... إذا قلص الأشداق عنها خناجر
فقال له معاوية: نعته نعتاً خلته أن سيثب علي من ورائي.
ومما رواه أبو علي القالي في أماليه (3: 183-185) ورفعه إلى أبي عبيدة قال:
اجتمع عند يزيد بن معاوية أبو زبيد الطائي وجميل بن معمر العذري والأخطل التغلبي فقال لهم: أيكم يصف الأسد في غير شعر فقال أبو زبيد: (لونه ورد، وزئيره رعد (وقال مرة أخرى: رغد) ، ووثبه شد، وأخذه جد، وهوله شديد، وشره عتيد، ونابه حديد، وأنقه أخثم، وخده أدرم، ومشفره أدلم، وكفاه عراضتان، ووجنتاه ناتئتان، وعيناه وقادتان، كأنهما لم بارق، أو نجم طارق، إذا استقبلته قلت أفدع، وإذا استعرضته قلت أكوع، وإذا استدبرته قلت أصمع، بصير إذا استغضى، هموس إذا مسى، إذا قفى كمش، وإذا جرى طمش، وبراثنه شنتة، ومفاصله مترصة، مصعق لقلب الجبان، مروع لماضي الجنان، إن قاسم ظلم، وإن كابر دهم، وإن نال غشم. ثم أنشأ يقول (من الرجز) :
خبعثن أشوس ذو تهكم ... مشتبك الأنياب ذو تبرطم
وذو أهاويل وذو تجهم ... ساط على الليث الهزبر الضيغم
وعينه مثل الشهاب المضرم ... وهامه كالحجر الململم(7/)
فقال (يزيد) : حسبك يا أبا زبيد. ثم قال: قل يا جميل. فقال: يا أمير المؤمنين وجهه فدغم، وشدقه شدقم، وأنفه معرنزم، مقدمه كثيف، ومؤخره لطيف، ووثبه خفيف، وأخذه عنيف، عبل الذراع، شديد النخاع، مرد للسباع، مصعق الزئير، شديد المرير، أهرت الشدقين، مترص الحصيرين، يركب الأهوال، ويهتصر الأبطال، ويمنع الأشبال، ما إن يزال جاثماً في خيس، أو رابضاً على فريس، أو ذا ولغ ونهيس. ثم قال:
ليث عرين ضيغم غضنفر ... مداخل في خلقه مضبر
يخاف من أنيابه ويذعر ... ما إن يزال قائماً يزمجر
له على كل السباع مفخر ... قضاقض شثن البنان قسور
فقال: حسبك يا ابن معمر. ثم قال: قل يا أخطل. فقال: ضيغم ضرغام، غشمشم همهام، على الأهوال مقدام، وللأقران هطام، رئبال عنبس، جريء دلهمس، ذو صدر مفردس، ظلوم أهوس، ليث كروس
قضاقض جهم شديد المفصل ... مضبر الساعد ذو تعثكل
شر نبث الكفين حامي أشبل ... إذا لقاه بطل لم ينكل
ململم الهامة كمش الأرجل ... ذو لبد يغتال في تمهل
أنيابه في فيه مثل الأنصل ... وعينه مثل الشهاب المشعل
فقال له: حسبك. وأمر لهم بجوائز.
ومن قول أبي زبيد في وصف الأسد ما رواه الصفدي في جمهرة الإسلام (ص 238 من نسخة ليدن) (من الطويل) :
فلا يعلقنكم مهصر الناب عنبس ... عبوس له خلق غليظ غضنفر
له زبر كاللبد طارت رعابلاً ... وكتفان كالشرخين عبل مصير
رحيب مشق الشدق اغضف ضيغم ... له لحظات مشرفات ومحجر
وعينان كالوقبين في قبل صخرة ... يرى فيهما كالجمرتين التبصر
من الأسد عادي يكاد لصوته ... رؤوس الجبال الراسيات تقعر
كأن اهتزام الرعد خالط جوفه ... إذا حن فيه الخيزران المثجر
يظل مغباً عنده من فرائس ... رفيت عظام أو غريض مشرر
وخلقان درسان حوالي عرينه ... ورفض سلاح أو قنان مقتر
أقل فأقوى ذات يوم وخيبة ... لأول من يلقى وغي ميسر
فأبصر ركباً رائحين عشيةً ... فقالوا أبغل مائل الجل أشقر
بل السبع فاستنجوا وأين نجاؤكم ... فهذا ورب الرقصات المزعفر
فولوا سراعاً يندهون مطيهم ... وراح على آثارهم يتقمر
فساراهم ما إن لحس حسيسه ... مدى الصوت لا يدنو ولا يتأخر
فلما رأوا أن ليس شيء يريبهم ... وقد أدلجوا الليل التمام وأبكروا(7/)
وقد برد الليل الطويل عليهم ... ومر بهم لفح من القر أعسر
تنادوا بان حلوا قليلاً وعرسوا=وحفوا الركاب حولكم وتيسروا
بعينيه لما عرسوا ورحالهم ... ومسقطهم والصبح قد كاد يسفر
ففاجأهم يستن ثاني عطفه ... له غبب كأنما بابت يمكر
فنادوا جميعاً بالسلاح ميسراً ... وأصبح في حافاتهم يتنمر
وندت مطاياهم فمن بين عاتق ... ومن بين مود بالبسيطة يعجز
وطاروا بأسياف لهم وقطائف ... وكلهم يخفي الوعيد ويزجز
فأول من لاقى يجول بسيفه ... عظيم الحوايا قد شتا وهو اعجز
فقضقض بالنابين قلة رأسه ... ودق صليف العنق والعنق أصعر
ووافى به من كان يرجو إيابه ... فصادف منه بعض ما كان يحذر
ومن وصفه للأسد ما روي في بعض المجاميع المخطوطة (من الرجز) :
كالليث عنده الليوث الضيغم ... يرضعن أشبالاً ولما تفطم
فهو يحامي غيره ويحتمي ... عبل الذراعين كريه الشدقم
ليث الليوث في الصدام مصدم ... وكهمس الليل مصك هيصم
ذي جبهة غرا وأنف أخثم ... يكنى من الناس أبا محطم
قسورة عبس صفي الشجعم ... صم صمات مصلخد صلدم
أغضف رئبال خدب قدعم ... منتشر العرف هضيم هيضم
من هيبة المنون لم يجمجم ... رهبة مرهوب اللقاء ضيغم
إذا تناجي النفس قالت صمم ... غمغمة في جوفها المغمم
مجرمز شأن ضرار شيظم ... عند العراك الفنيق المعلم
يفدي الكمي بالسلاح المعلم ... منه بأنياب ولما تقضم
ترى من الفرس به نضج الدم ... بالنحر والشدقين لون العندم
أغلب كم رض أنوف الرغم ... إذا الأسود أحجمت لم يحجم
ومما يروى لأبي زبيد أيضاً في وصف الأسد قوله (طويل) :
يظل مغباً عنده من فرائيس ... رفات عظام أو غريض مشرشر
ومن وصفه للأسد ما رواه ابن السكيت في تهذيب الألفاظ (ص 283) (من البسيط) :
إذا تبهنس يمشي خلته وعثاً ... وعت سواعد منه بعد تكسير
وقال أيضاً فيه (من الوافر) :
فلما أن رآهم قد توافوا ... أتاهم وسط أرجلهم يميس
وفي اللسان (في مادة حمر) له في وصف الأسد أيضاً (من الطويل) :
إذا علقت قرناً خطاطف كفه ... رأى الموت رأي العين اسود أحمرا(7/)
ومما أخبر ابن الأعرابي (الأغاني 26: 11) أنه كان لأبي زبيد كلب يقال له أكدر وكان له سلاح يلبسه إياه فكان لا يقوم له الأسد. فخرج ليلةً قبل أن يلبسه سلاحه فلقيه الأسد فقلته ويقال أخذ سلاحه فافلت منه فقال عند ذلك أبو زبيد (من البسيط) :
أحال أكدر مشياً لا لعادته ... حتى إذا كان بين البئر والعطن
لاقى لدى ثلل الأطواء داهيةً ... أسرت واكدر تحت الليل في قرن
حطت به شيمة ورهاء تطرده ... حتى تناهى إلى الجولان في السنن
إلى مقابل خطو الساعدين له ... فوق السراة كذفرى الفالج القمن
رئبال غاب فلا قحم ولا ضرع ... كالبغل يحتطم العجلين في شطن
وهي قصيدة طويلة. (قال) فلامه قومة على كثرة وصفه للأسد وقالوا له: قد خفنا ان تسبنا العرب بوصفك له. قال: لو رأيتم ما لقي اكدر لما لمتموني. ثم أمسك عن وصفه فلم يصفه بعد ذلك بشعره حتى مات.
فهذه الأوصاف أدل دليل على ما قيل عن أبي زبيد أنه امتاز بوصف الأسود (أبو زبيد والوليد بن عقبة وموتهما) قال أبو الفرج (الأغاني 186: 4-187) : الوليد هو ابن أبي معيط وأخو عثمان الخليفة من أمه وأمهما أروى بنت كريز بنت عبد المطلب. والوليد هذا من فتيان قريش وشعرائهم وشجعانهم وأجوادهم وكان عثمان جعله والياً على الكوفة فكان لم يزل مدمناً على شرب الخمر فجلده الحد على شربه (الأغاني 28: 11) . وكان أبو زبيد الطائي ينادم الوليد في أيام ولايته ثم عزل الوليد وعدل عن أمور الدولة وصار على الرقة واعتزل علياً ومعاوية فلحق إليه أبو زبيد فكان ينادمه وكان يحمل في كل أحد إلى البيعة مع النصارى فبينا هو يوم أحد يشرب والنصارى حوله رفع نظره إلى السماء فنظر ثم رمى بالكأس من يده وقال (حماسة البحتري ص 107 وكتاب المعمرين 98) (من الطويل) :
إذا أصبح المرء الذي كان حازماً ... يحل به حل الحوار ويحمل
فليس له في العيش خير يريده ... وتكفينه ميتاً أعف وأجمل
أتاني رسول الموت يا مرحباً به ... ويا حبذا هو مرسلاً حين يرسل(7/)
قال الجمحي: ثم مات فجاءه أصحابه فوجدوه ميتاً فدفن هناك على نهر البليخ فلما حضرت الوليد بن عقبة الوفاة أوصى أن يدفن على جنب أبي زبيد. جاء في كتاب أدب النديم لكشاجم (إن الوليد بن عقبة لم يزل ينادم أبا زبيد الطائي والياً وعزولاً على وتيرة واحدة من الإنصاف لم ينتقل عنها ويجله ويعظمه ولا يقدم عليه أحداً حتى هلك أبو زبيد فوجد عليه الوليد وجداً شديداً ثم اعتل ومات فيقال أنه دفن إلى جانبه, ومر بقبريهما أشجع بن عمرو السلمي ومعه صديقان له يقال لهما حمزة وسعيد فوقف بهما ثم قال:
مررت على عظان أبي زبيد ... رهيناً تحت موحشة صلود
نديم للوليد ثوى فأضحى ... مجاور قبره قبر الوليد
وما أدري بمن تبدو المنايا ... بأشجع أو بحمزة أو سعيد
فقال أنهم ماتوا على هذا النسق أولاً فأولاً. (قلنا) هذا ما ورد عن وفاة أبي زبيد أنه سبق الوليد بموته. وجاء في الأغاني في محل آخر (28: 11) : (وقيل أن أبا زبيد مات بعد الوليد فأوصى أن يدفن إلى جنب الولد) .
وقد مدح أبو زبيد الوليد لإحسانه إليه. أخبر في الأغاني (183: 4) قال: كان أبو زبيد استودع بني كنانة بن تيم التغلبيين إبلاً فلم يردوها عليه حين طلبها فلاذ بالوليد وكان عمر ولاه صدقات بني تغلب فأخذ له بحقه فقال أبو زبيد يمدحه (من البسيط) :
يا ليت شعري بأنباء أنبأها ... قد كان يعيا بها صدري وتقديري
عن امرئ ما يرده الله من شرف ... أفرح به ومري غير مسرور
وفيها يقول:
إن الوليد له عندي وحق له ... ود الخليل ونصح غير مذخور
لقد رعاني وأدناني وأظهرني ... على الأعادي بنصر غير تقدير
فشذب القوم عني غير مكترث ... حتى تناءوا على رغم وتصغير
نفسي ندا أبي وهب وقل له ... يا أم عمرو فحلي اليوم أو سيري(7/)
ثم روى عن ابن الأعرابي ما يلي قال: كان الوليد بن عقبة قد استعمل الربيع ابن مري بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي على الحمى فيما بين الجزيرة وأظهر الحيرة فأجدبت الجزيرة وكان أبو زبيد في تغلب فخرج بهم ليرعيهم فأبى عليه الأوسي وقال: إن شئت أرعيك وحدك فعلت وإلا فلا. فأتي أبو زبيد الوليد بن عقبة فأعطاه ما بين القصور الحمر من الشام إلى القصور الحمر من الحيرة وجعل له حمى وأخذها من الآخر أبو زبيد يمدح الوليد (من الوافر) :
لعمر أبيك يا ابن أبي مري ... لعيرك من أباح لها الديارا
أباح لها أبارق ذات نور ... ترعي القف منها والقفارا
بحمد الله ثم فتى قريش ... أبي وهب غدت بطناً غزارا
أباح لها ولا يحمي عليها ... إذا ما كنتم سنةً جزارا
فتى طالت يداه إلى المعالي ... وطحطحن المقطعة القصارا
فلما عزل الوليد ووليها سعيد (والصواب سعد بن أبي وقاص) انتزعها منه وأخرجها من يده فقال (خزانة الأدب 282: 3) (من الخفيف) :
ولقد مت غير أني حي ... يوم باءت بودها خنساء
من بني عامر لها شق قلبي ... قسمة مثل ما يشق الرداء
إلى أن قال:
فانتهوا أن للشدائد أهلاً ... وذروا ما تزين الأهواء
ليت شعري وأين مني ليت ... إن ليتاً وإن لواً عناء
أي ساع سعى ليقطع شربي ... حين لاحت للصابح الجوزاء
واستظل العصفور كرهاً مع الضب وأوفى في عوده الحرباء
ونفى الجندب الحصا بكراعيبه وأذكت نيرانها المعزاء
من سموم كأنها حر نار ... سفعتها ظهيرة غراء
وإذا أهل بلدة أنكروني ... عرفتني الدوية الملساء
عرفت ناقتي الشمائل مني ... فهي إلا بغامها خرساء
عرفت ليلها الطويل وليلي ... إن ذا النوم للعيون غطاء
ومما روي له في مدح الوليد قوه يتشوق إليه لما خرج من الكوفة (من الطويل) :
لعمري لئن أمسى الوليد ببلدة ... سواي لقد أمسيت للدهر معورا
خلا إن رزق الله غاد ورائح ... واني له راج وإن سرت أشهرا
إذا صادفوا دوني الوليد كأنما ... يرون بوادي ذي حماس مزعفرا
ثم قال:
تناذره السفار فاجتنبوا له ... منازله عن ذي حماس وعرعرا
خضيب بنان ما يزال براكب ... يخب وصاحي جلده قد تقشرل(7/)
ومن أخباره مع أخواله بني تغلب ما رواه ابن الأعرابي (الأغاني 27: 11) قال: كان أخوال أبي زبيد بني تغلب وكان يقيم فيهم أكثر أيامه وكان له غلام يرعى إبله فغزت بهراء بني تغلب فمروا بغلامه فدفع غليهم ابن أبي زبيد وقال: انطلقوا وأدلكم على عورة القوم وأقاتل معكم. ففعلوا والتقوا فهزمت بهراء وقتل الغلام. فقال أبو زبيد وفي هذه الأبيات غناء لابن محرز (من المنسرح) :
هل كنت في منظر ومستمع ... عن نصر بهراء غير ذي فرس
نسعى إلى فتية الأراقم واس ... تعجلت قبل الجمان والقبس
في عارض من جبال بهرائها م الأولى مرين الحرور عن درس
فبهرة من لقوا حسبتهم ... أحلى وأشهى من بارد الدبس
لا ترة عندهم فتطلبها ... ولا هم نهزة لمختلس
جود كرام إذا هم ندبوا ... غير لئام ضجر ولا كُسُس
صمت عظام الحلوم عن قعدوا ... من غير عي بهم ولا خرس
تقود أفراسهم نساؤهم ... يزجون أجمالهم مع الغلس
صادفت لما خرجت منطلقاً ... جهم المحيا كباسل شرس
تخال في كفه مثقفة ... تلمع فيها كشعلة القبس
بكف حران ثائر بدم ... طلاب وتر في الموت منغمس
إما تقارن (1) بك الأرواح فلا ... أبكيك إلا للدلو والمرس
حمدت أمري ولمت أمرك إذ ... أمسك جلز السنان للنفس
وقد تصليت حر نارهم ... كما تصلى المقرور من قرس
تذب عنه كف بها رمق ... طيراً عكوفاً كزور العرس
عما قليل علون جثته ... فهن من والغ ومنتهس
فلما فرغ أبو زبيد من قصيدته بعثت إليه بنو تغلب بدية غلامه وما ذهب من إبله فقال في ذلك (من الطويل) :
ألا أبلغ بني نصر بن عمرو ... بأني في مودتكم نفيس
وفيها تقول:
فما أنا بالضعيف فتظلموني ... ولا جافي اللقاء ولا خسيس
أخي حق مؤاساتي أخاكم ... بملي ثم يظلمني السريس
ومما يذكر من أخبار أبي زبيد (الأغاني 27: 11) ما روى حماد عن أبيه قال: كان لأبي زبيد نديم يشرب معه بالكوفة فغاب أبو زبيد غيبة ثم رجع فأخبروه بوفاته فعدل إلى قبره قبل دخوله منزله فوقف عليه ثم قال (من السريع) :
يا هاجري غذ جئت زائره ... ما كان من عادتك الهجر
يا صاحب القبر السلام على ... من حال دون لقائه القبر
ثم انصرف وكان بعد ذلك يجيء إلى قبره يشرب عنده ويصب الشراب على قبره.(7/)
(شعر أبي زبيد) لأبي زبيد شعر كثير متفرق ولا نعرف له ديواناً مستقلاً.
وهو ممن يرجع أهل اللغة إلى كلامه لفصاحة أقواله وقد جعله ابن سلام (ص 196) في الطبقة الخامسة من الشعراء الإسلاميين وقد اختار البحتري في حماسته كثيراً من أبياته وفيها الحكم والأقوال البليغة فمن ذلك قوله في صحة المودة وحفظ الإخاء من قصيدة رواها الزبيدي (في الأغاني 182: 4) (من الخفيف) :
من يرى العير لابن أروى على ظه ... ر المرورى حداتهن عجال
مصعدات والبيت بيت أبي الوه ... ب خلاء تحن فيه الشمال
يعرف الجاهل المضلل إن الد ... هر فيه النكراء والزلزال
ليت شعري كذاكم العهد أم كا ... نوا أناساً كمن يزول فزالوا
بعد ما تعلمين يا أم زبيد ... كان فيهم عز لنا وجمال
ووجوه بودنا مشرفات ... ونوال إذا أريد النوال
أصبح البيت قد تبدل بالحسي ... وجوهاً كأنها الأقتال
كل شيء يحتال فيه الرجال ... غير أن ليس للمنايا احتيال
ولعمر الإله لو كان للس ... يف مصالٌ أو للسنان مقال
ما تناسيك الصفاء ولا الود م ولا حال دونك الأشغال
ولحرمت لحمك المتعضى ... ضلةً ضل بالهم ما اغتالوا
قولهم شربك الحرام وقد كا ... ن شراب سوى الحرام حلال
وأبى الظاهر العداوة إلا ... شنآناً وقول ما لا يقال
من رجال تقارضوا منكرات ... لينالوا الذي أرادوا فنالوا
غير ما طالبين ذحلاً ولكن ... مال دهر على أناس فمالوا
من يخنك الصفاء أو يتبدل ... أو يزل مثلما تزول الظلال
فاعلمن أنني أخوك أخو الو ... د حياتي حتى تزول الجبال
ليس بخلاً عليك عندي بمال ... أبداً ما أقل نعلاً قبال
ولك النصر باللسان وبالكف ... إذا كان لليدين مصال
وقال في الرجل ذي النميمة الذي يسخط قومه (من الطويل) :
ومن شر أخلاق الرجال نميمة ... متى ما تبع يوماً بها العرض ينفق
وإن امرءاً لا يتقي سخط قومه ... ولا يحفظ القربى لغير موفق
أبيت الذي يأتي الدني شبيبتي ... إلى أن علا وخط من الشيب مفرقي
وقال في من يحرم خيره الأقارب ويولي الأجانب (من الطويل) :
وأنت امرؤ منا خلقت لغيرنا ... حياتك لا ترجى وموتك فاجع(7/)