مربع أو مستطيل يشبه الصندوق يخصص لمرافقيه، ثم جزء خلفي منخفض مسطح يمتد بمستوى أرضية العربة ويستخدم في الصعود إلى العربة ولوقوف التابع حامل الرمح أو لجلوس السائس ووجهه إلى الخلف. ولا تختلف عربة الحرب عن العربة الخاصة عادة إلا في خلو جزئها الأمامي من المظلة، مع تزويدها بالأسلحة وجعاب السهام1. وغالبًا ما تجر العربة أربعة حيوانات صغيرة تشبه الحمير لولا أنها طويلة الذيول بما يشبه خيول السيسي الصغيرة، أو تجرها ثيران.
النحت: أدت قلة المحاجر الصالحة في بلاد النهرين إلى صغر أحجام التماثيل السومرية ونحت أغلب المعروف منها من أحجار لينة مثل الحجر الجيري والألباستر، مع قلة المصنوع منها من أحجار صلبة كالبازلت أو الديوريت.
وظلت تماثيل الأرباب أكبر حجمًا مما سواها، كي تعبر بضخامتها النسبية عن جلال أربابها وتدل على تقوى أصحاب الفضل في إهدائها إلى معابدها "وتختلف هذه التماثيل عن تماثيل العبادة الفعلية الصغيرة التي تصنع من مواد ثمينة أو تغشى برقائق ذهبية وما يشبهها". واحتفظت أرضية معبد تل أسمر "في إشنونا القديمة" بثلاث عشر تمثالًا لأرباب وربات وكهنة، استمر أسلوب نحتها حتى أواسط عصر بداية الأسرات السومري2. ويبدو أن الكهنة كانوا قد اكتنزوها في أرضية معبدهم خلال إحدى مرات تجديده أو خلال فترة مضطربة خشوا فيها على مقتنياته.
ونحتت أغلب هذه التماثيل بخطوط جافة وزوايا حادة تشبه خطوط النقش السائدة في أوائل عصر بداية الأسرات السومري. وانصب أغلب الاهتمام فيها على تعبيرات وجوهها، فأفرغ المثالون ما كانوا يتخيلونه من رهبة أربابهم على وجوهها، وعبروا عن هذه الرهبة بضخامة الوجه وشدة اتساع العينين وتحديقهما بما يحتمل أن يعبر عن وصف المعبود بأنه بصير، أو وصف المتعبد بالانتباه والترقب لإجابة دعائه. ثم انطباقه الشفتين وكثافة شعر الرأس المجعد واسترساله على الكتفين أو على الصدر، مع اتصال شعر اللحية الطويلة بشعر الشارب واسرتسال شعرها على الصدر في تجاعيد أفقية حادة تتناسب مع خطوط الأنف والشفتين وشعر الرأس.
وتضمنت هذه المجموعة تمثالين لمعبودتين، بدت إحداهما رشيقة القوام ممتلئة الوجه طويلة الجيد، يستدير شعرها حول رأسها وتلتف عباءتها حول جسدها وتترك كتفها اليمنى عارية، ولا يعيب نحت تمثالها غير شدة اتساع عينيها المستديرتين وبعض الحدة في الخطوط مرفقيها.
ووضح من تماثيل الكهنة في نقس المجموعة تمثال لكاهن حليق الرأس والشارب واللحية، تتفق عيوب نحته مع عيوب تماثيل أربابه.
ثم تخفف فن النحت منذ أواخر عصر بداية الأسرات السومري من زواياه الحادة، واستحب ليونة السطوح واستدارة الأركان، وحاول الفنانون أن يظهروا فيه طيات البطن ولغد الرقبة. وترسموا الأسلوب
__________
1 Op. Cit., Pl. 36 Lower.
2 Frankfort, Suclpture Of The Third Millennium From Tell-Asmar And Khafaje, Chicago, 1930; The Art And Architecture Of The Ancient Orient, 24, Pls. 13-17.(1/405)
الواقعي في التعبير عن الملامح الشخصية على وجوه بعض تماثيلهم، وتفننوا في تمثيل تصفيفات الشعر وأزياء الثياب لبعض تماثيل النساء واستعانوا بإظهار البسمة الخفيفة على الشفاه للتخفيف من صلابة الوجود وللاقتراب بها من عالم الناس، ولو أنهم لم ينجحوا غير نجاح قليل في التعبير عن هذه البسمة، ولم ينجحوا في التخلص من جمود العيون وشدة تحديقها على الرغم من تطعيمهم إياها بمواد مختلفة. واحتفظت حفائر مدن تل أجرب وخفاجي وماري بمجموعة طيبة من هذه التماثيل نافست بعضها بعضًا في التعبير عن أساليب عصرها وكفاية فنانيها.
وأدت التماثيل المعدنية دورها في رواج الفنون السومرية الصغرى. وتمثل أغلب ما بقي منها من مقتنيات المعابد في رموز المعبودات، وتماثيل النذور الحيوانية، وقوائم المباخر، وقواعد أواني الدهون، ومساند المشاعل، وأطراف الموائد1، فضلًا عن عدد قليل من تماثيل الأفراد وابتكر الفنانون السومريون لتحفهم تلك إشكالًا خفيفة الظل من عوالم الإنسان والحيوان والنبات، ومن أمتع ما يستشهد به منها قطعة معدينة أخرجتها حفائر أور، لعنزة "أو جدي؟ " تتطاول على شجيرة قصيرة ذات هيئة محورة وفرعين يتماثلان في أغصانهما وبراعمهما وزهورهما المعدنية القليلة، ونطل برأسها فيما بينهما. ورصع الفنان خصل شعر الغنزة الطويل بقطع من اللازورد والأصداف ثبتها بالقار على جسمها الخشبي. وارتكزت العنزة والشجيرة على قاعدة صغيرة كفتت بمعينات صغيرة يتعاقب فيها اللونان الأحمر والأبيض، وصفحت أطرافها برقائق من الفضة2. ولا يكاد يعيب تمثال العنزة في منظرها الجانبي غير قصر رقبتها بحيث تبدو رأسها مدفونة بين كتفيها، تم وقوفها ثابتة على مجمع حافريها وليس على طرقيهما بحيث بدت في وقفتها وبارتفاعها وكأنها تتطلع إلى الشجيرة أو من خلالها دون الأكل من أوراقها3.
المساكن:
ترجع إلى عصر بداية الأسرات أطلال أحد قصور حكام مدينة كيش، وهو قصر بُني من اللبن فوق ربوة صناعية. وبقيت من أطلاله الأجزاء السفلى من جدرانه المتماسكة، وجزء من درجه، وقواعد بعض أعمدته، ويبدو أن درجه الصاعد على سفح الربوة كان يؤدي إلى مدخل مزخرف، يليه فناء مكشوف ذو أساطين من الآجر يمتد الضوء منه إلى الغرف الداخلية المتصلة به. وقامت سقوف قاعات القصر الرئيسية على أساطين مماثلة، وزينت بعض جدرانها بلوحات من الشست طعمت بأصداف ومناظر ترمز إلى انتصارات أصحاب القصر وجانب مما كان يجري في ضياعهم الزراعية من تربية الماشية والماعز وحلبها وتربية الجداء، وقد نفذت بعض هذه الأشكال بإتقان بارع وفي حيوية لطيفة4.
__________
1 Frankfort. More Sculpture…, Pls. 54, 95; The Art And Architecture…, Pl. 29, Etc…
2 Ibid., Pl. 28 Brit. Museum, Hight, C. 50 Cm.”.
3 قارن لهذا مناظر مصرية تتضمن عنصري الشجرة والعنزة أيضًا ولكن بأشكال محررة أخرى:
J. Leibovitch, Asae, Xlviii, 245 F.
4 Field Museum Anthropology Memoirs, I “1929”.
وانظر بقايا أطلال قصر حكم آخر في مدينة إريدو - مجلة سومر 31 "1950".(1/406)
المقابر:
لعل أمتع ما يستشهد به عادات الدفن ومحتويات المقابر، هو ما تضمنته مقابر مدينة أور1، وهي مقابر كثيرة العدد بنيت باللبن تحت سطح الأرض وقرب زقورة المدينة، وتألف بعضها من ثلاث غرف متوازية، وسقفت بعض غرفها بعقود. ومن أفضل ما بقي سليمًا منها ومن أحدثها مقبرة تنسب إلى عظيم يسمى مس كلام شار "أو مس كلام دج"، وسيدة تسمى شوب آد، ولا زال الرأي متأرجحًا بين اعتبارهما من الأمراء الحكام أو من الكهنة، وإن كان الاعتبار الأول هو الأرجح. وتضمنت هذه المقابر ما دلت به على بعض عقائد الدفن عند أهلها، وما عبرت به عن رقي الفن والصناعة ورقة الأذواق في عصرها فقد جرت عادة أصحابها الأثرياء على دفن أتباعهم معهم، من الجند والخدم والوصيفات والموسيقيات، وسائقي العربات والثيران والحمير البرية التي تجر العربات وتجر الزحافات الخشبية المستخدمة في نقل الرفات. واختلفت أعداد هؤلاء الأتباع في ست عشرة مقبرة بين الستة وبين الثمانين. ويفترض أنه كان يضحي بهم بالسم عند وفاة سادتهم، ثم يدفنون معهم مع إبقاء جثثهم في صورتها الدنيوية من حيث الملبس والزينة وأدوات الحرفة، ودفن أقربهم مكانة من صاحب المقبرة معه في حجرة دفنه، وترتيب بقيتهم في صفوف فيما بين مدخل المقبرة وبين مدخل حجرة الدفن. وليس ما يمكن تأكيده حتى الآن عما إذا كانت عادة دفن الأتباع هذه قد ارتبطت بإيمان أصحابها بحياة أخرى ودوا أن يصحبهم أتباعهم إليها ليقوموا على خدمتهم فيها. أم أنها ارتبطت بمجرد رغبة الأحياء في تكريم عظمائهم عند موتهم وتحريم خدمة أتباعهم لسادة آخرين، مع ما يقتضيه ذلك من إجبار أولئك الأتباع على التظاهر بالولاء الأبدي لأرباب نعمتهم ورضاهم بالتضحية بأنفسهم من أجلهم. أم أنها عادة ارتبطت بتقاليد دينية تتصل بعقائد العبادة والآلهة أكثر مما تتصل بأصحاب المقابر أنفسهم، كافتراض التضحية بأفراد المواكب الدينية ومنهم أصحاب المقابر أنفسهم في أعقاب أعياد رأس السنة الزراعية بعد أن يؤدي كل منهم دوره فيها، من أجل استدرار رضا الأرباب ودوام الخصب في البلاد. ووجدت فتحات في سقوف بعض المقابر دفعت أصحاب الفرض الثالث إلى الظن باحتمال مرور أنابيب فخارية فيها تصلها بأرضية معابد أو مقاصير مقامة فوقها2. وإن كان هذا الفرض الأخير لا يزال أضعف الفروض الثلاثة.
وعلى أية حال، فقد دل ما دفن به أصحاب المقابر وأتباعهم من حلي وأدوات على ثراء كبير. ومن خير ما تحتفظ به المتاحف الآن من هذه الحلي والأدوات خوذ فاخرة صنعت إحداها من الذهب المطروق، وخناجر ثمينة طعمت بعض مقابضها باللازورد وكسيت إغمادها برقائق ذهبية مزخرفة، ونصال حراب ورءوس بلط رمزية، ودبابيس مذهبة وحلي ذهبية من خواتم لطيفة وأقراص مستديرة وأخرى مشكلة على
__________
1 L. Woolley, Ur Excavations, The Royal Cemetery, 1934.
2 See, S. Smith, Jras, 1928, 849 F.; F. Bohi, Az, 1930, 83 F.; A. Moortgat, Tammuz, 1949.(1/407)
هيئة وريقات الزهور، وقلائد ذات حبات أبنوبية، ودلايات مشكلة على هيئات الزهور ووريقات الشجر، وعلب مزخرفة للدهون العطرة، ومجموعة ذهبية من ملقط ومثقب وملعقة دهون علقت ثلاثتها في حلقة فضية، وعصائب ذهبية، ورقعة داما مطعمة، وأباريق وصحاف نحاسية وفضية ولوحة خشبية مطعمة باللازورد والصدف صورت على أحد وجهيها مناظر حربية دقيقة، وصورت على وجهها الآخر مناظر من الحياة المدنية لملكها ويطلق عليها اصطلاحًا اسم لواء أور.
ومن أمتع أدوات الاستعمال الحرفي التي وجدت في المقابر ... مكفئة فاخرة، شكلت مقدمة إحداها على هيئة رأس ثور ملتح بلغت حد الروعة في تعبيراتها ودقة تفاصيلها ودلالتها على يد بارعة متمكنة. وطعم صدر صندوق القيثارة نفسها بمناظر حفل تعتبر من أرق مناظر فنون أور في خفة الظل وجرأة التعبير. واختار فنانها شخوص الحفل من عالم الحيوان وخلع عليهم تصرفات الإنسان، فصور ذئبًا قائمًا يتمنطق بحزام يثبت فيه سكينة ويقدم بين يديه مائدة حافلة بأطايب اللحوم، ويتبعه أسد مهندم، يحمل كأسًا وقنينة شراب، وصور داخل الحفل حمارًا منهمكًا في العزف على قيثارة يقيمها له دب كبير، ويتقدمه نمس ينقر على دف ويهز الصلاصل. وصور غزالة رشيقة تنتصب على قدميها لتقدم مبخرتين أو كأسين مرمريين لمعبود بجسم عقرب. وليس ما يمكن تأكيده عما إذا كان الفنان قد اختار شخوص موضوعه لمجرد الفكاهة وإظهار البراعة في التعبير، أم قصد بها نوعًا من أنواع الكاريكاتير الهادفة، أم اختارها للدلالة على مشاركة الكائنات المختلفة في عيد من أعياد الأرباب. وعلى أية حال فقد تكررت هذه التعبيرات على ختم من نفس العصر صور أسدًا على عرش يعب من كأس يقدمها إليه وعل، ومعه ثلاثة حمير يقومون على خدمته وإطرابه1. وختم آخر من تل أسمر صور أسدًا وحمارًا يمتصان شرابًا بغابتين رفيعتين2.
ولا شك في أنه كان لعصر بداية الأسرات السومري آدابه، كما كانت له عقائده وفنونه، لولا أنه لم يكتشف من نصوص هذه الآداب غير نتف نادرة3. ويبدو أن أهله تناقلوها شفاهة أكثر مما توارثوها كتابة، بحيث لم يعثر على مكتوباتها إلى بعد انتهاء عصرهم بفترة طويلة، وبعد أن قل استخدام اللغة السومرية كلغة حديثة عامة في العصر الأكدي وخلال عصر الإحياء السومري وما بعده4، مما سنعرض له في حينه.
__________
1 Lograin, Ur Excuvations, III "1936", Pl. 20 No. 3840
2 Frankfort, Cylinder Seals, 94fig.30.
3 Frankrnstein, Cople rendu.., II, 18-19, A. Barton, Miscellaneous Bobylonian Inscrip- tios, No. I.
4 Sec, W.G. Lambert, Bobyfonian Wisdom Literature, 1960, 3f.(1/408)
الفصل الخامس عشر: العصر الأكدى 2340-2180 "أو 2371-2230" ق. م.
مدخل
...
الفصل الخامس عشر العصر الأكدي 2340-2180 "أو 2371-2230" ق. م.
كان الأكديون فرعًا من هجرات سامية متوالية تكاثرت أعدادها في بوادي العراق والشام قبيل منتصف الألف الثالث ق. م، ثم انشعبت فروعًا كثيرة، فكان منها ما انتشر في نواحي الشام، واتجهت آمال بعض جماعاته إلى مناطق الهلال الخصيب في سوريا، كما كان منها ما اقتربت جماعاته من نهر الفرات واتجهت آمالها نحو المناطق الخصبة بالعراق. وأسلفنا أن أصحاب الشعبة الأولى عرفوا باسم أطلقه السومريون عليهم وهو "الأموريون" ربما يعني أهل الغرب "وإن ذكرت نصوص بابلية أحد آلهتهم الكبرى باسم أمورو مما يحتمل معه نسبتهم إليه". أما الجماعات الثانية فكان أظهر فروعها فرع "الأكديين" الذين اكتسبوا اسمهم الانتساب مؤخرًا فيما يحتمل إلى العاصمة أكد "أو أجادة" التي أصبحت مركزًا لنشاطهم السياسي والحربي بعد فترة من استقرارهم بالعراق وبعد أن انتظمت أمورهم وعز شأنهم فيه.
وليس ما يعرف يقينًا عن تفاصيل الظروف التي هيأت لهذا الفرع من الساميين الاستقرار في بلاد النهرين والتأثير في مجريات أمورها، ولكن يمكن القول احتمالًا بأنهم بدءوا دخولهم إليها عن طريق التسلل البطيء، حيث وجدت أسماء وكلمات سامية متفرقة في نصوص سومر منذ أواسط الألف الثالث ق. م. ومن أقدم ما أمكن ترسمه من هذه الكلمات كلمة مكر بمعنى تاجر وكلمة نانجار بمعنى نجار، فضلًا عما ورد في القوائم السومرية من تسمية بعض ملوك ما بعد الطوفان بأسماء سامية، واحتمال سبقهم بملك آخر قديم سمي ألوليم وهو اسم سامي أيضًا1. ويبدو أن تطاحن المدن السومرية في العراق الجنوبي من أجل الزعامة الداخلية صرف أنظار أهلها عما كان يجري على أطراف أرضهم، وذلك على الرغم مما ادعته نصوص زعيمهم زاجيزي السومري من أنه استطاع أن يمد فتوحه من البحر الأدنى حتى البحر الأعلى.
وفي هذه الظروف المحتملة، انفسح سبيل السعي أمام أهل الهجرات الجديدة الفتية فنزلوا وسط العراق على من سبقوهم من بني عمومتهم أصحاب الدماء السامية القديمة المتناثرة، وسيطر زعماؤهم على بضع مدن سومرية النشأة كانت أهمها مدينة كيش صاحبة الأثر القديم في مجريات الحوادث بين المدن السومرية الكبيرة الواقعة إلى جنوبها، فاستفادوا من حضارتها، هي وأمثالها، وتأقلموا عليها شيئًا فشيئًا، ولم يكن
__________
1 See, A. Deimel, Die Inschriften Von Fara, I, 35, Iii, 5; Salonen, Studia Orientalia, Xi, 1,23; Falkenstein, Compte Rendu…, Ii, 13; Sumero Akkadian Interconnections, Recontre Assyriologique Internasionsie, Ix, 1960.
سومر 1974 - ص65، 67-68.(1/409)
فيما يلي على استخدام هذا الاسم الأخير لشيوعه على الرغم من تحريفه. ووجه الرجل عنايته منذ أيام حكمه الأولى إلى قواته المحاربة، وزاد الاهتمام منذ عهده بتقوية الفرق ذات الأسلحة الخفيفة من القواسة، واستخدام الأسلحة البرونزية، وارتقت في جيشه أساليب المبارزة الفردية، وذلك مما يتفق مع الأصل البدوي له ولبني جلدته في الجيش.
اتخذ سرجون عاصمة جديدة قريبة من كيش عرفها التاريخ باسم أجاده "السومري" واسم أكد "السامي" أو عمر على تجديدها، ربما باعتبارها من المراكز الرئيسية لعبادة الربة إشتار "أو عشتار" التي اعتبرها راعيته منذ صغره، وكان معبدها فيها يسمى "يولماش "1، ونقل إليها بلاطه ليتميز عهده عن عهود من سبقوه شكلًا وموضوعًا، ومهد لآماله الداخلية بتلقيب نفسه بلقب "ملك "أرض" سومر وآكد" "Sharru Mat Shumeri U Akkade" بعد أن قصرت همة معاصره زاجيزي السومري على لقب ملك سومر وحدها. ثم مهد لأطماعه الخارجية بأن ادعى لنفسه لقب "شاركبرات أربعيم"، أي ملك الجهات "أو الأركان أو المناطق" الأربع2، وهو لقب اعتاد أسلافه أن يصفوا به سلطان أربابهم الكبار، فانتحله لنفسه وابتغى أن يقنع به نفسه ويقنع شعبه بأنه نائب الأرباب على جهات الأرض كلها.
وطال عهد سرجون نحو أربع وخمسين عامًا، فاستطاع أن يحقق الكثير من آماله، وسارت سياسته على أساس خطة مرسومة، وبدأ بما هو أقرب إليه، فدعم سيطرته على أصحاب الرءوس السود، على حد تعبير نصوصه، ثم اتجه إلى شمال العراق حيث تقل سيطرة السومريين، وواصل فتوحه هناك حتى بلغت جيوشه جبال زاجوراس التي تحف ببلاد النهرين وكسرت حدة الجوتيين الجبليين الأشداء، بأسلحتها البرونزية، ثم عاد سرجون وألقى بثقل جيوشه على المناطق الجنوبية السومرية بعد أن سبقته شهرته وسمعة انتصاراته إليه فخضت من شوكتها، وشدد على زعيمها الطموح زاجيزي الذي طال عهده، فهدم بجيشه أسوار مدينته وقسا في معاملته حتى ذكرت نصوصه أنه أمر بتطويق عنقه وجره حتى بوابة إنليل3، ربما ليخلع عنه ألقابه الدينية والدنيوية أمام المعبود إنليل ويخلعها على نفسه، ثم هاجم بجيوشه بقية المدن السومرية الكبيرة من أمثال أور وإنينمار وغيرها، وبلغ بجيوشه البحر "أي الخليج العربي" وغسل سلاحه فيه، وحق له حينذاك لقبه الذي ادعاه لنفسه وهلو لقب ملك أرض سومر وأكد، وتوفرت لدولته الموحدة منذ ذلك الحين إمكانيات بشرية وموارد مادية ضخمة لم تتهيأ لدويلات المدن السومرية أو السامية القديمة قبل عهده، كما توفرت لها السيطرة على شرايين التجارة الرئيسية في معظم بلاد النهرين.
وبقي لسرجون أمله الآخر، وهو السيطرة على ما يستطيع السيطرة عليه فيما وراء حدود بلاده، لتأمين سلامتها وتأمين سبل تجارتها الخارجية وضمان تزويدها بما ينقصها من المواد الأولية، فضلًا عن إشباع شهوة
__________
1 Th. J. Meek, Anet, 165, N. 33.
2 وأزى هذا اللقب لقب سومري تتألف كتابته من المقاطع "آن - أوب - دا - لمو - با"، ثم عبر الآشوريون عن مثله بلقب "شاركشتي" بمعنى ملك السكون.
3 G.A. Barton, Op. Cit., 101; Leo Oppenheim, Anet, 267.(1/410)
المجد الحربي عنده وحب الشهرة والرغبة في الاستزادة من النفوذ والسلطان. فوجه جيوشه إلى التخوم الغربية لدولته، وبدأ بالمنطقة المحيطة بدويلة ماري "وجعل فمها واحدًا"1 أي وحده كلمتها أو وحد حكمها تحت سلطانه، ثم وجه جيوشه إلى الحدود الغربية لدولة إلام "عيلام"، حيث حالفها النصر، فترتب على ذلك أن وقفت إلام كما وقفت ماري موقف الطاعة منه على حد رواية نصوصه. وأصبح لدولته بعض الإشراف على المناطق التجارية المتصلة بالخليج العربي والقريبة منه، مثل جزيرة دلمون "جزيرة البحرين"، وماجان التي يحتمل أنها كانت تشغل ما تشغله عمان الحالية، وملوخا التي يحتمل وقوعها بين المنطقتين السابقتين. وكانت ثلاثتها من البلاد البحرية والساحلية ذات الخبرة بالملاحة وصناعة السفن، فسارت سفنها على مياه أكد، على حد قوله، أو بمعنى آخر سارت السفن المصنوعة من أخشابها وبأيدي رجالها في الفرات حتى جاوزت عصامته أكد.
وأضافت نصوص سرجون، إن حقًّا وإن ادعاء، أن سلطانه امتد حتى غابة الأرز وجبل الفضة، وقد يعني هذا بلوغه منطقة أمانوس المنتجة للأخشاب والفضة "إن لم يعن منطقتي لبنان وطوروس". وذكرت أنه خاض أربعًا وثلاثين معركة وانتصر فيها2. ثم نسبت إليه نصوص خلفائه أنه غزا جانيش "أوبور شخاندا - قرب جول تبة الحالية" في كبادوكيا بآسيا الصغرى انتصارًا لجالية أكدية كانت تتعامل فيها في الصوف والفضة وتعرضت لاضطهاد أحد الحكام المحليين فيها "وهو نورداجان ملك بورشخاندا"، فأخذ سرجون بثأرها. وهاجمتها جيوشه، وقيل إن رجاله أرسلوا منها فسائل جديدة من التين والكروم والأزهار إلى بساتين عاصمته3. ولا ضرورة للتسليم بحرفية هذه الرواية وأشباهها، وإن لم تخل من دلالة على ما توافر للرجل من شهرة بين خلفائه بحيث اعتبروه أهلًا لكل أمر عظيم واعتبروا نهضة عهده أصلًا لامتداد نفوذهم الخارجي ودليلًا على قدمه. وتذكرنا نجدة سرجون في أكد لمواطنيه في آسيا الصغرى بنجدة المعتصم في بغداد المجاورة لها لمن استنجدت به من عمورية بآسيا الصغرى - مع الفارق الزمني الكبير بينهما.
ذاعت شهرة سرجون إلى هذه الحدود في عالمه القديم، وذكرت نصوصه أن أهل بلاطه سكنوا فيما لا يقل عن خمسة أميال مربعة حول قصره، وأن حراس قصره بلغوا 5400 جندي كانوا يأكلون يوميًّا من أسمطنه4. وليس من شك في أن عهد هذا الرجل يعتبر نقطة تحول رئيسية في تاريخ بلاد النهرين لأكثر من سبب واحد: فهو كما رأينا كان أول من عمل على توحيد أغلبها تحت زعامة سياسة واحدة، بينما لم تزد آمال سابقيه الأقربين على توحيد أرض سومر وحدها، وهو أول من ثبت دعائم أسرة سامية حاكمة
__________
1 Brit. Mus., 26, 472; Oppenheim, Op. Cit., 266.
2 Anno Poebel, Historical Texts, 1914, 175, 178; L. Oppenheim, Op. Cit., 268.
3 Boghazkoi-Studien “Yale Oriental Series”, Fasc. 6; Albright, Jsor, 1923, 1 F.
ل. ديلابورت: المرجع السابق - ص33 - وروى عن سرجون أنه وصل "أي وصل نفوذه" حتى كفتارة، وقد قربها بعض الباحثين إلى كفتورة التوراة أو كريت الحالية، وهو أمر مشكوك فيه. G. Roux, Ancient Iraq, 1966, 143.
4 Ebeling, In Alt. Texte Zum Alten Testament, 338; Oppenheim, Op. Cit., 268.(1/411)
قوية استمرت تعتلي العرش نحوًا من قرن ونصف قرن. ويغلب على الظن أنه حدثت في عهده محاولة من أقدم المحاولات لتقريب أسماء الشهور في المدن العراقية من بعضه البعض تمهيدًا لتوحيد التقاويم فيها وإن لم يقدر لهذه المحاولة استمرار طويل. ولا يقل عن ذلك كله أهمية أنه وبعض خلفائه الأقربين كانوا أول من حققوا لبلاد النهرين نفوذًا خارجيًّا سيطرت به على بعض ما يجاور حدودها من مناطق وجماعات1.
ومع ذلك كله انتهت حياة سرجون السياسية على غير ما توقعه لنفسه، فنشبت ضده ثورات عدة، وأيدت هذه الثورات جماهير سهل سوبارتو، وبلغ من عنف الثوار أن حاصروا عاصمته، ولكنه قاومهم بجيشه وشتت شملهم ثم انتقم من مدنهم. وعندما ابتغت نصوص خلفائه أن تجد تفسيرًا للمتاعب التي واجهها في خواتيم عمره، ردتها إلى انتقام إلهي. وذكرت أنه كان قد نكل بمدينة بابل مدينة الرب مردوك في ثورة غضبه وأزال أساساتها الموسومة باسمه ثم أعاد بناءها على هواه، فغضب مردوك عليه وابتلى قومه بالمجاعة وفرق شملهم من حوله وقضى عليه بعدم الراحة "في قبره"2. ولا يعنينا من هذا التفسير الديني إلا اعتباره صورة من تخيلات الشعوب القديمة عن أسباب زوال الدول، وبخاصة أن عبادة مردوك لم يكن لها شأن كبير في أيام وأن نصوص سرجون صورته حريصًا على التقرب من أربابه واعتبرته رئيس كهنة إشتار، والكاهن المنتخب للإله آنو ملك الأرض، والإنسي العظيم لإنليل. وذكرت أنه ركع ذات مرة في صلاته أمام المعبود داجان3، كما نصب ابنته كاهنة لإله القمر ننار في أور.
لم تنته القلاقل في الدولة الأكدية بانتصارات سرجون العجوز، وإنما استمرت في عهود خلفائه واستنفذت بعض جهود دولتهم، فاشتبكت جيوش ولده " ... " في فترة حكمه القصرة مع مدن أور وأوما ولجش ودير عواصم الحضارة السومرية الأولى4. وإن كان صراع جيوشه معها لم يصرفه عن أن يؤكد انتسابه إلى أرباب مدينة "كيش" السومرية القديمة، فاستمسك بلقب "شارو - كيس شاتيم" وهو لقب وصل بينه وبين ربها "آن" وحاشيته، ولم يصرفه كذلك عن مواصلة جهود أبيه في مجالات التوسع الخارجي، فشنت جيوشه حروبًا ظافرة على أرض في عيلام5. ثم وصل خليفته "مانيشتوسو" سياسته وادعت نصوصه أن جيوشه هاجمت حلفًا من اثنين وثلاثين أميرًا على الشاطئ العيلامي لتأمين استغلال مناجم الفضة القريبة منه.
غير أن أكبر من يقرنه التاريخ بسرجون من رجالات أسرته هو حفيده البعيد نرام سين "ربما بمعنى حبيب سين إله القمر" الذي أكمل آماله بعزيمة راسخة، وتوفر له عهد حكم طويل استمر نحو 36 عامًا،
__________
1 H.E. Hirsch, Die Insehriften Der Konige Von Agad, Afo, Xx, 1963, 1-82.
2 Brit. Mus. 26, 472; E. Ebeling, Op. Cit., 336 L. Oppenheim, Op. Cit., 266; F.F. Weidner, Archiv Fur Orientforschumg, Xiii “1940-1944”, 236, N. 26.
3 E. Ebeling, Op. Cit.; L. Oppenhiem, Op. Cit., 268.
4 زعمت نصوصه أن ضحايا هذه المدن السومرية بلغوا 8040 رجلًا مرة، و8900 مرة أخرى، غير أعداد الأسرى من المرتين.
5 ديلابورت: المرجع السابق - ص34.
6 V. Scheil, Map, Ii, 1-52; Risa, 129-31; G. Roux, Op. Cit., 144.(1/412)
وذكرت نصوصه أن مناطق نفود دولته اتسعت شرقًا في إلام "عيلام" وشمالًا على حدود آسيا الصغرى وجنوبًا بشرق في ماجان التي استغل رجاله محاجرها الديوريتية، وغربًا حتى أمانوس "جبل الأرز". وذكرت إحدى القوائم المتأخرة التي سجلها خلفاؤه أنه قبض بنفسه على ما نودانو ملك ماجان، وافترض بعض الباحثين ومنهم أولبرايت في عام 1920 رأيًا غريبًا بعيدًا عن المنطق الزمني والمنطق التاريخي زعموا فيه أن ماجان هي مصر القديمة وأن مانودانو هو تحريف لاسم الملك مني أول ملوك عصورها التاريخية "مع أن حكم قبل عهد نرام سين بثمانية قرون". وعاد أولبرايت فاعتذر عن تورطه في هذا التخريج وأصبح رأيه غير ذلك موضوع1. ووت نصوص نرام سين أنه غلب تسعة جيوش وأسر ثلاثة ملوك وقضى على ثورة تزعمتها ضده مدينة كيش. وربما يسر للنشاط الأكدي أن يمد أطرافه إلى قرب الشام أن مصر كانت تمر حين ذاك بأواخر عصر الانتقال الأول أو بداية الدولة الوسطى، ولم تكن تبغي غير أن تؤيد روابطها بجيرانها في الخارج عن طريق الحضارة دون السيطرة والغلبة. وعلى أية حال فليس من ضرورة للتسليم بحرفية ما جاءت به نصوص نرام سين عن انتصاراته المتكررة أو توسعه المتصل، وإنما يكفي القول إنه أحيا عهد سرجون في نشاطه العسكري وسمعته الخارجية، وأن توسعه هو وجده البعيد قد ساعد على انتشار الصبغة الأكديةالسامية في صورها اللغوية والأدبية الجديدة، وبنواحيها الفنية، في بعض المناطق المجاورة شمالًا وغربًا وجنوبًا بشرق، حيث تبادلت التأثير والتأثر مع غيرها. ووجدت لوحة مدرسية تتضمن جزءًا من موضوع تاريخي باللغة الأكدية، واحتفظت مدينة ماري بنصوص ذات صبغة أكدية عتيقة، إلى جانب أمثلة قليلة
أخرى.2
__________
1 See, Albright, “Mines And Naram-Sin”, Jea, Vi, 29 F.; A. Ungand, Archiv Fur Orientforscehung, Xiv, “1941-1944”, 199 F.
And Compare: Sayce, Jea, Vi, 296; Langdon, Jea, Vii, 123 F.
2 I. J. Gelb, Material For The Assyian Dictionary, I, No. 172; Revue D’assyriologie, L, 1-10.(1/413)
الفنون:
سجل أحد فناني نرام سين انتصاره على بعض خصومه "ملوك سودوري ولولوبو فيما وراء دجلة" على نصب تعتبر مناظره من أمتع النقوش الأكدية المتأثرة بالفن السومري حيوية وحركة، فصور فيه ملكه بجسم فارع مشدود على الرغم من لحيته الطويلة الكثة، وبقوسه المزدود وتاجه ذي القرون وصندله ذي الشرائط، يسير قدمًا برجاله ليهاجم بهم حصن أعدائه، وصور مقدمي جيشه وحملة ألويته يصعدون معه سفح التل الذي يقوم الحصن فوقه ويتخللون أدغاله "التي عبر عنها بشجرة هرمة"، فأبدع تصوير حركتهم الصاعدة وأبدع تصوير العمق بين صفيهم، وصور مبلغ أوامر الملك يأمر بها من خلفه، وصور نافخ البوق يرتكز على الأرض بيده ويشرع بوقه عاليًا ليرسل صوته قويًّا مدويًّا، وصور بعض الأعداء يتساقطون من سفح التل على أم رءوسهم، وصور بعضًا آخر يهبطون التل هبوطًا اضطراريًّا عموديًّا، وكأنه أراد أن يعبر عن التباين بين ارتقاء في جانب وبين هبوط في جانب آخر، ثم جعل غاية الركب قمة جبل عظيم تتوجه رموز مقدسة محورة قد ترمز إلى الثالوث الفلكي ثالوث القمر والشمس والزهرة.(1/413)
واكتفى فنان النصب بتصوير الخطوط العامة في وجوه رجاله دون تفصيل، فيما خلا وجه الملك، ولكنه عوض عمومية ملامح الوجوه بالتعبير عن القوة الدافعة في نفوس أصحابها عن طريق تمثيل صدورهم الناهضة ورءوسهم المشرعة واختلاف المستويات بين سيقانهم خلال عملية التسلق، وصور ثيابهم رقيقة تكاد تشف عن أجسادهم على غير العادة في أغلب الصور العراقية القديمة1.
وفي النحت طبعت الروح الأكدية فنون عصرها بطابعها، فنحت المثالون لملوكهم الكبار تماثيل تقرب من أحجامهم الطبيعية وشكلوها بالملامح السامية الصلبة الدقيقة. وكانوا قد ورثوا عن أواخر العصر السومري الأسلوب الواقعي فهذبوه، ومن خير ما يستشهد به من إنتاجهم الفني رأس ملكية "لعلها لسرجون؟ " صنعت من البرونز2، تخلى فنانها عن عادة التعبير باتساع محجري العينين وشدة تحديقهما عن شدة بأس الحكام ومهابتهم، وعبر عن شخصية نبيلة قبل كل شيء، فاكتفى بتمثيل العين اللوزية السامية في حجمها الطبيعي وأرخى جفنها الأعلى قليلًا، ولانت يده في التعبير عن انحدار صفحتي الخدين وامتلاء الشفتين ودقة عظام الأنف، وعني بتمثيل اللحية المرجلة ولكنه أعطاها في مجملها ملامح اللحية الطبيعية ووصل بينها وبين شعر الفودين وشعر الشارب، وترك خصل الشعر الطبيعي الممشطة تتهدل على الجبهة بعد أن سوى أطرافها، ومثل في مؤخرتها غطاء الرأس أو الخوذة الملكية، بعصابة مجدولة ذات شريط ذهبي تبرز مقدمتها قليلًا إلى الأمام على هيئة العمامة وتنعقد مؤخرتها "مع حملة الشعر" من الخلف بحلقات معدنية، وتنسدل تحتها ضفائر صغيرة تنهدل على العنق ...
ومارس الفنانون مهارتهم في الحجر، وبقيت إنتاجهم عدة رءوس حجرية اختلفت فيما بينها في درجات الإجادة وسلامة التعبير3.
واستفادت نقوش الأختام من الأساليب الراقية التي انتهى إليها عصر بداية الأسرات السومري، فحافظت على الخطوط الممتلئة اللينة، واستفادت من تنوع الموضوعات، ولكنها تأثرت إلى جانب ذلك بروح الكفاح في عصرها فعبرت عن مناظر الصراع الأسطورية القديمة تعبيرًا منطقيًّا يظهر الجهد والعزم والحركة ولا يعتمد فقد على تصوير البطش والهيئة المخيفة، ومن ذلك أن صورت إحداهما بطلها بجسم الفحل يعصر رقبة أسد
__________
1 See, Groenewegen- Frankfort, Arrest And Movement, 162 F.
وراجع عن نصب أخرى ونقوش مختلفة من عهد نرام سين:
Sidney Smith, Early History Of Assyria, 96 F. L.W. King, A History Of Sumer And Akkad, 245, Fig. 59; Geographical Journal, Lxv, “1925”, 63 F.
ديلابورت: المرجع السابق - شكل 28 وص112.
2 Frankfort, Op, Cit., Pls. 42-43; Annals Of Archaeology And Anthropology, Liverpool, Xix, “1932”.
3 Frankfort, More Sculpture, Pls. 68, 72; G. Contenau, Manuel…, 685, Figs., 474-5; Bulletin Of The Fogg Museum Of Art, Harvard University, Lx “1939”, 13-18. Frankfort Op. Cit., Pl. 45 A “Brit. Mus. 91478”.(1/414)
خاص، أسلوبًا قد يقبله ذوق وينفر منه آخر، وهو ترقيش جسومها ورءوسها بحبيبات وخطوط وتموجات تعبر عن الشعور والمخالب وزخارف الملابس.
وتخلفت بعض وثائق المعاملات الأكدية الصغيرة، ومن نماذجها إيصال يتحدث عن مقدار من الشعير عهد به فلاح إلى تاجر ليبيعه باسمه في سوق مدينة لولوبوم "قرب السليمانية وشرق كركوك الحالية"، وسجل كاتب الإيصال صنف الشعير ووزنه بالكور1.
وتقرير صغير آخر عين كاتبه فيه مقادير الغلال التي تسلمها منه شخص معين ذكره باسمه واسم بلده، وكان عليه أن يصرفها لعدد من الرجال والنساء والأطفال شهرًا بشهر لمدى أربعة شهور، وجعل نصيب رئيس العمال 120 كو شهريًّا، ولأربعة عمال 60 كو "للواحد؟ "، ولجاريتين 30 كو، ولولدين 30 كو، ولطفلين 20 كو، ولبنتين 20 كو. ثم جمع المقادير كلها في الشهر فأصبحت كورا و260 كو "والكور يساوي 300 كو"، وفي الأربعة شهور 7 كور و140 كو2.
__________
1 Th. J. Meek, Anet, 217.
2 Ibidem.(1/415)
نهاية دولة:
أسلفنا أنه ترتب على جهود عهد سرجون وعهد نرام سين بخاصة أن اصطبغت حضارات المناطق المجاورة لأطراف العراق بصبغة ثقافية متجانسة إلى حد ما، فوجد الخط المسماري سبيله على طول المسالك التجارية ومراكز الاستقرار المدني، بحيث عرفته بعض مناطق شمال سوريا وجنوب آسيا الصغرى وسواحل إلام "عيلام"، كما انتقلت منه إليها بعض مظاهر الدين العراقي وأساطيره.
غير أن الدولة الأكدية وإن نجحت في أغراضها التوسعية والحضارية إلا أنها لم تبرأ من بذور فشلها السياسي، ولعل أهمها تأثيرًا فيها هو أن ملوكها تعمدوا محاباة العنصر الأكدي على حساب العنصر السومري، وأسرفوا في تأكيد مظاهر سلطانهم الفردي، بحيث أصبح من رجال حاشيتهم من يُسمي ولده شروكين إيلي بمعنى سرجون إلهي، وأصبح أنصار نرام سين يرمزون إليه كما لو كان إله أكد وإله بلده وصوروه بتاج الأرباب1، على حين أصبح حكام المدن في عهده يلقبون بخدم الملك أو عبيده2. وإذا كانت محاباة العنصر الأكدي قد وجدت مبرراتها لدى الحكام في منطقية استعانتهم ببني جلدتهم الساميين واطمئنانهم إلى إخلاصهم، كما برروا الحكم المركزي بما يفيد الصالح العام للدولة، إلا أن هذا التطور أدى إلى تذمر أهل المدن السومرية ذوي الحضارة القديمة والنظام اللامركزي من حكم الأكاديين، ومحاولاتهم المتكررة للانسلاخ من جسم الدولة منذ أواخر عهد سرجون نفسه.
__________
1 ديلابورت: المرجع السابق - ص175.
2 Frankfort, Kingship And The Gods, Ch. Xxi; The Birth Of Civilization, 74.(1/415)
غير أن ذلك كله لم يمنع الملوك الأكديين من إظهار تقواهم وتأكيد صلاتهم بمعبودات دولتهم، سومريين وساميين، عن طريق إنشاء المعابد أو تجديدها وتوسيعها، مثلما فعلوا مع معبد إنليل في نيبور السومرية، وهو المسمى إكور، وقد تضمن إلى جانب تماثيل معبوده تماثيل أخرى لعدد من ملوك الأسرة الأكدية لتأكيد صلاتهم بمعبود المعبد من ناحية، وتكريمًا لأنفسهم في شخوص تماثيلهم من ناحية أخرى، وكانوا يخصصوا لهذه التماثيل أوقافًا للإنفاق منها على القائمين على رعايتها وتقديم القرابين أمامها. وظلت نصوص أشباه هذه التماثيل، وما كان يصحبها من النصب المنقوشة، مصدرًا لما احتفظت به نصوص العصور العراقية المتأخرة عن حوادث العصر الأكدي وتتابع ملوكه.
لم تتأت الأخطار التي حاقت بالدولة الأكدية من داخلها فحسب، وإنما هددتا في الوقت نفسه أخطار حدودية تمثلت في تحركات قبائل الجوتيين الذين لا يعرف التاريخ عنهم إلا أنهم من أهل الجبال، ولعلها جبال زاجوراس أي الجبال الشرقية أو الشمالية الشرقية، وأنه من الأقاليم التي نسبوا إليها إقليم شهر زور الذي ارتبط فيما بعد باسم اللولوبيين. وقد استكانوا لجبروت الدولة الأكدية في فترات بأسها، وتعلموا من جيوشها أساليب الحرب المنظمة وعتادها، ولكنهم ظلوا متنمرين لها يتحينون الفرص للانقلاب عليها. وقد تعددت المناوشات بين جماعاتهم وبينها من حين إلى آخر، لا سيما بعد عهد نرام سين، وكانت هذه المناوشات تنتهي بانتصاراتهم حينًا وانهزامهم حينًا آخر.
واستمر العاملان ينخران في جسم الدولة، الانشقاق الداخلي وتهديدات الجوتيين. واشتد الشقاق الداخلي بعد وفاة شارجالي شاري بن نرام سين أو حفيدة، بحيث تعاقب على العرش بعده أربعة ملوك في ثلاثة أعوام، واستقلت أوروك وتعاقب فيها هي الأخرى خمسة ملوك محليون فيما لا يزيد عن ربع القرن.
وشيئًا فشيئًا، وفي ظل هذه الظروف، تدفق الجوتيون على أرض الزراعة بالعراق وفرضوا وجودهم على أغلب أجزائها في فترات الضعف الأخيرة للدولة، وأذاقوا أهل المدن المتحضرة القديمة الأمرين من بأسهم، ووصفهم أحد الأدباء السومريين حينذاك بأنهم وحوش الجبال الذين فتكوا بالسكان واغتصبوا النساء من أزواجهم وسلبوا الأطفال من أمهاتهم، وعملوا على فساد الحكم ونهبوا سومر ونقلوا كنوزها معهم إلى الجبال. وذلك وصف قد يتفق مع ما هو معروف عن خشونة الجماعات الجبلية، لولا أنه يصور وجهة نظر واحدة وهي وجهة نظر خصومهم.
ومرة أخرى شاء أهل الدين والأساطير في نفر أن يبرروا زوال مجد أكد والأكديين فردوه إلى إثم نرام سين ورجاله في حق إكور معبد إنليل في نفر، وقصوا في رواياتهم أن إنليل كان قد أهلك كيش وأوروك وبارك في سرجون ووهبه السيادة كما بارك في أجادة "أكد" التي زاد مجدها بتدبير ربتها الحامية إنانا، فحلت الحكمة فيها كما انتشر الثراء، وبلغت أوجها في عهد نرام سين فرفع أسوارها كالجبال وكانت أبوابها مفتوحة يأتيها المارتو وهم القوم الذين لا يعرفون الغلة، وأهل ملوخا قوم الأرض السوداء، والعيلاميون(1/416)
من الشرق، والسوباريون من الشمال، وكلهم يحمل هداياه كل شبر وفي مطلع العام، ثم أصبحت أبواب أجادة مطروحة ساقطة وتركت إنانا هداياهم وحل الرعب في "معبدها" أولماش وصبت نقمتها على المدينة فولت عنها السيادة وأصبحت خرابًا، وأصبح نرام سين ينعيها، وكان قد عصى إنليل سبع سنوات وأذن لجنده بمهاجمة معبده إكور فنهبوه ودمروه حتى "أصبح البيت وقد تمدد كالشاب الميت المطروح، وقطعت الغلة من الباب الذي لم تكن الغلة تنقطع عنه"، ونهبوا نفر نفسها "فهاج إنليل وقذفهم بأهل الجبال الجوتيين فعم القحط والجوع أرض سومر كلها وتفشى فيها الغلاء والوباء وتهددت بالفناء، وحينئذ إنبرى ثمانية أرباب منهم سين وإنكي ونينورتا وأوتو ونيدابا ووعدوه بتدمير أجادة عسى أن يكشف الضر عن بقية البلاد، وواجهوا أجادة ونطقوا بلعنة الخراب عليها ودعوا عليها بأن يعود طوبها إلى أصله "الطيني" في ماء العمق، وتذبح زوجاتها عوضًا عن بقراتها وتذبح أبناءها عن أغنامها، وينضب منها كل شيء..". وانتهت الرواية بتأكيد حدوث ذلك كله، وبأن من أراد أن يسكن أجادة لم يعد يجد فيها موضعًا للسكنى، ومن أراد النوم فيها لم يعد يجد فيها موضوعًا ينام فيه1.
غير أن هذا التصوير لزوال الدولة الأكدية لم يمنع الكاتب السومري من أن يعترف بالحقيقة الواقعة التي ترتبت على زوالها وهي أنه تلاها عصر لم يكن يعرف أحد فيه الملك من غير الملك، نتيجة فيما يبدو لكثرة أدعياء الحكم وكثرة المتسيطرين من الجوتيين.
ومع توالي الأيام، خفت حدة الجوتيين وخشونتهم رويدًا رويدًا، ولم يكن أمامهم وهم غير ذوي ثقافة أصيلة إلا أن ينهلوا من معين الثقافة السومرية الأكدية فاصطبغوا بها وعبدوا أربابها مع أربابهم2، ويبدو أنهم اتخذوا مدينة كركوك واحدة من مدنهم الرئيسية، ولكن المدن المتحضرة القديمة ظلت كارهة لهم وظلت تتحين الفرص لمناضلتهم ولا سيما في المناطق الجنوبية البعيدة نوعًا عن حكمهم المباشر. وبدأت هذا النضال لجش وأوروك، بل واستعاد بعض الأمراء الأكديين سلطانهم في عهدهم بحيث مد أحدهم "شدرول" نفوذ إلى منطقة إشنونا قرب دجلة.
وكان نضال لجش "تلو" نضالًا سلميًّا اكتفت فيه بأن تستعيد للسومريين كيانهم ونشاطهم السلمي الذاتي في الداخل وفي الخارج، وبدأ بمسعاها ذاك في الربع الأخير من القرن الثاني والعشرين ق. م عصر جديد يسمى إصطلاحًا باسم العصر السومري الحديث أو عصر الإحياء السومري، وهو موضوع الفصل التالي.
__________
1 كرامر: من ألواح سومر - ملحق 1، ص389-394.
Speiser, Some Factors In The Collapee Of Akkad, Jaos, 1952, 97, 101; Kramer, Anet, 646f. Also, Oppenheim, Letters From Mesopotanla, 1967, 71-72 F.
2 ديلابورت: المرجع السابق - ص37.(1/417)
الفصل السادس عشر: عصر الاحياء السومرى "_25d9_2585_25d9_2586_25d8_25b0 2125 _25d9_2582._25d9_2585"
في لجش
...
الفصل السادس عشر عصر الإحياء السومري "منذ 2125ق. م."
في لجش:
استغلت لجش في نهضتها مسالك التجارة القديمة استغلالًا واسعًا لصالحها، وكان خير عهودها عهد ملكها التقي جوديا، قبيل أوائل القرن الحادي والعشرين ق. م أو أواسطه، وكان رجلًا اعتز أو اكتفى في أغلب نصوصه بلقب، "إنسي" القديم الذي تلقب به حكام لجش في عهود تبعيتهم للدولة الأكدية، وفي عهود سيطرة الجوتيين، ولكنه استعاض عن الانتساب إليهم في لقبه بالانتساب إلى سيادة ربه نين جيرسو الذي اعتبره ملكه واعتبر نفسه إنسيا له، ثم نعتته نصوص عهده بلقب "الراعي"، وقال في نقوش أحد تماثيله "أنا الراعي حبيب ملكه "نين جيرسو" طال عمري"1.
ولم تذكر نقوش جوديا الحرب غير مرة واحدة مع دولة أنشان. ولكن حملت قوافل التجارة شهرته وسجلت اسمه في شمال سوريا وفي عيلام والبحرين وعمان. واحتفظت له أرض لجش بأكثر من ستة عشر تمثالًا وجزءًَا من تمثال نحت أغلبها من أحجار الديوريت، وقد تفرقت بعد الكشف عنها في متاحف العراق واللوفر والمتحف البريطاني2. وأخذت هذه التماثيل بالأسلوب الواقعي الذي بدأ نضوجه من قبل خلال العصر الأكدي، وعبرت بخطوطها المرنة عن الجنس السومري ذي الرأس العريضة، وغلبت على ملامح صاحبها وهيئاته روح التقوى والتواضع الكريم، ويبدو أن اعتبار أهل عصره نكبة الجوتيين على أرضهم غضبًا من الأرباب كان له أثره في تغليب روح التقوى في حياتهم إبان سعيهم للتخلص من غزاتهم3.
وأظهرت تماثيل جوديا صاحبها جالسًا وواقفًا على هيئة المتعبد، في أحجام تقل عن حجمه الطبيعي "فيما خلا واحد منها"، وأعوزت الجالسة منها سلامة النسب بين الجذع العلوي والجذع السفلي، وبين الرأس والرقبة، ولكنها لم تخل على الرغم من ذلك من حيوية أضافها عليها صدق تمثيل ملامح وجهه العريض الحليق، وتفاصيل حاجبيه الكثيفين واتساع ما بين أنفه وشفته وامتلاء ذقنه وبروزها، وتفاصيل عمامته "أو قلنسوته" الصوفية الواسعة ذات الخصل، وبساطة ثيابه ورقة أطرافها الموشاة التي عبر الفنان عنها بتموجات خفيفة وخطوط مرسلة وزوايا منفرجة. وتخلصت بعض تماثيله الواقفة الصغيرة المنحوتة من حجر الديوريت وحجر الحية "السربنتين" من قلة التناسب بين أجزائها، وجنبته تصلب الهيئة ومثلته في وضع
__________
1 See, A. Parrot, Tello, Vingt Compagnes De Fouilles “1887-1933”, Paris, 1948 Pl.L,
2 Ibid.
3 Frankfort, The Art And Architecture…, 47.(1/418)
طبيعي خاشع لطيف تكاد تشف عباءته الثمينة عن عضلات بدنه، ولم يعبها بعض الشيء غير اتساع محجري العينين واتصال الحاجبين، وهو اتساع اتصفت به أغلب تماثيل العراق. والطريف أن من تماثيله الجالسة ما تتشابه بعض تفاصيله مع تفاصيل التماثيل المصرية في عصور الدولة الوسطى وما تلاها، من حيث نقش نصوص رأسية فوق الجزء الأسفل من ثوبه، ووضع مسطح مستطيل على ركبتيه تضمن في إحدى المرات تصميمها لمعبد وتصوير لوحة "مسطرة" وقلم؛ ثم من حيث نقش اسمه داخل مستطيل على كتفه1.
أقيمت أغلب تماثيل جوديا في معبد لجش الكبير، وأقيمت في فنائه عدة نصب، وتركت تحت أحجار أساسه آثار صغيرة منقوشة. واتسعت سطوح تماثيل جوديا تلك ونصبه وسطوح الصولجانات ورءوس المقامع التي أهداها إلى هذا المعبد، وإلى بقية معابد دولته، لتسجيل آيات تقواه إزاء أربابه ولا سيما نين جيرسو إله لجش الذي اعتبره ربه وملكه، واعتبر نفسه إنسيا له، روى كتبته فيها على لسانه اهتمامه باستيراد أحجار مختلفة الأنواع والألوان، ومعادن مختلفة القيم وأخشاب، عن طريق البر والنهر والبحر من أرض إلام "عيلام" وعاصمتها سوسه، ومن ماجان وملوخا، ومن كيماش وجبل الأرز وجبل الصنوبر، لصالح معبد لجش بوجه خاص، وأكد أنه التزم في تجديد هذا المعبد وبناء مقاصيره وصناعة رموز معبوده وأسلحته ما جرى به العرف القديم وما أوصى به المعبودان نين زاجا، ونين سيكيلا2.
وتحدثت نقوش الرجل عن فضل أربابه في منع طغيان الفرات على أرضه. وروت أنه رأى ذت مرة في رؤياه معبوده على هيئة شيخ متوج تسمو هامته إلى كبد السماء، يحيط به أسدان وحمار رابض وشمس مشرقة، وسيدة تمسك قلمًا مع لوحة النجم السعيد، ومعبود في إهاب محارب ظهر كأنه يخطط تصميم معبد. واستفتى جوديا وحي أربابه "أو على الأصح استفتى كهنتهم" في تأويل رؤياه، فأتاه وحي ربته نينا بأن الإله المتوج هو نين جيرسو، وأن الشمس ترمز إلى ربه نين جيزيدا، وأن السيدة ذات القلم واللوحة هي نيسابا، وأن المعبود في هيئة المحارب هو نندوب، وأن الرؤيا إيحاء له بإعادة بناء معبد نين جيرسو بعد خرابه في عهد الفوضى، وأما الحمار المضجع فهو جوديا نفسه! ويبدو أن الرجل كان لا يزال بحاجة إلى آية أخرى فسوف في الأمر حتى حل القحط بأرضه فاتجه بدعائه إلى نين جيرسو، وأتاه نداء ربه بأنه إذا بدأت يمينه في تأسيس معبد فلسوف ترقى الصرخة إلى السماء من أجل الرياح والأمطار، ولسوف تسقط السماء حينئذ فيضها بعد أن يضع الرب قدمه على الجبل العالي، جبل العاصفة، ولسوف ينزل الفيضان من قمة مقدسة شاهقة الارتفاع3. وعندما تم بناء المعبد أكدت نصوص الملك حسن معاملته لمن اشتركوا في بناءه من رعاياه، وأشركتهم في ثوابه، فتحدثت عن انتفاء الضرب واللكز، وقالت إنهم كانوا يعتبرون عملهم قربانًا لربهم4.
__________
1 Frankfort, Op. Cit., Pl. 46; Parrot, Op. Cit., Pl. Xvi D.
2 G.A. Barton, Op, Cit., 181 F., 201 F., 205 F.; L. Oppenheim, Op. Cit., 268-269.
3 G.A. Barton, Op. Cit., 214-217; Lambert And Tournay, Rb, 1948, 403 F.; Ra, 1952, 81.
4 Barton, 182-183; Frankfort, Kingship And The Gods, 255.(1/419)
ولم يكن جوديا، فيما تحدثت به عنه نصوصه، أقل ولاء لربات مدينته منه لأربابها، فكان من ابتهالاته للربة جاتومدو ربة لجش قوله لها: "مليكتي، بنت السماء البهية، يا من تجيبين الدعوات، وترفعين الرأس، وتهبين الحياة لأرض سومر، أنت تعرفين ما يصلح مدينتي، أنت مليكتي، أنت الأم التي أسست لجش، لا أم لي وأنت أمي، لا أب لي وأنت أبي ... ، جاتومدو ما ألذ "ترديد" اسمك"1.
وتخلفت من آيات النحت من عهد جوديا مفردات أخرى، ومنها رءوس رجال حليقي اللحى والشوارب، ورءوس وتماثيل نساء بلغت الغاية في بساطة خطوطها، وسلامة تعبيراتها، وإتقان تمثيل الحلي ووشي الملابس عليها على الرغم من قسوة أحجارها2، وتمثال قد يرجع إلى عهده أو إلى العصر الأكدي، يجمع بين جسم فحل رابص ورأس إنسان ملتح يلتفت جانبًا في تناسق لطيف3، وبقايا أسود كبيرة، ورأس مقمعة رمزية مذهبة شكلت سطوحها على هيئة رءوس السباع4.
وتضمنت ودائع أساسات المعابد اللجشية "لا سيما معبد نين جيرسو ومعبد إنانا" روائع معدينة صغيرة تميزت منها قطع على هيئة الأوتاد زودت بأشكال ربانية وملكية، كناية فيما يبدو عما كان الملوك يرجونه لمباني معابدهم من ثبات يتعهده الأرباب. ومن نماذج هذه الأوتاد وتد يتصل به تمثال صغير رابع لمعبود طويل الشعر واللحية يلبس قلنسوة لطيفة هرمية الشكل، أو لولبية الشكل، مائلة، ويعتلي منصة صغيرة ويرسل ساقيه منها، وقد احتضن الوتد بين ساقيه وبدا كأنما يهم بغرسه في الأرض5، ثم أوتاد أخرى احتضنها جوديا نفسه وقد حمل على رأسه سلة كان من المفروض أن تتضمن بعض أدوات البناء أو تتضمن الطين الذي كان يعتزم أن يضرب به اللبنة الأولى في أساس المعبد6.
وأدت نقوش العهد دورها في تسجيل آيات الرقي الفني خلاله، وصور بعضها زقورات ذات ثلاثة مسطحات، ليس من المستعبد أن إحداهما كانت تقوم في العاصمة لجش بالذات.
وجرت نقوش الأختام حينذاك على الأسلوب الأكدي، وشاعت فيها مثلها مناظر التقرب من الآلهة، ولكن روح التقوى غلبت فيها على مجرد الرغبة في الإهداء إلى الأرباب. واحتفظت نقوش أحد أختام جوديا وأحد نصبه بمنظر متماثل صور راعيه نين جيزايدا يأخذ بيده ليقدمه إلى كبير الأرباب واهب الفيضان الذي استوى على عرشه بتاجه ذي القرون، حيث تقرب جوديا إلى مولاه بآنية ينسكب على جانبيها الماء الطهور،
__________
1 A. Falkenstein, W. Von Soden, Sumerische Und Akkadiesche Hymmen Und Gebete, Zurich, 1953, 140, 173, Etc.
2 Frankfort, Op. Cit., Pl. 50, A-B, Etc..
3 Ibid., Pl. 50 C.
4 Parrot, Op, Cit., Fig. 42 H.
وانظر عن آثار أخرى من عهده: Frankfort, Op. Cit., 49 And References.
5 Ibid., Pl. 51 A.
6 Parrot, Op. Cit., Fig. 44; And See, E. Douglas Van Butren, Foundation Figurines And Offerings, Berlin, 1931.(1/420)
وبدا في ضحرته متواضعًا وجلا يلبس ملفعة بسيطة موشاة الأطراف ويضع كفه تجاه فمه في هيئة التوسل والدعاء، وظهرت خلفه ربته بثوب بسيط رقيق ذي خطوط طويلة، وقد رفعت يديها إجلالًا لربها الأكبر وتشفعًا لربيبها جوديا عنده، وظهر من خلفها تنين خرافي مجنح بجسم أسد ورأس ثعبان وساقي نسر. ونجح الفنان في الحالين في تمثيل ملامح شخوصه بوضوح وفي تحقيق التناسب في صورهم وفي التمييز بين شموخ المعبود وخشوع المتعبد ورجاء الشفيع وقوسة التنين1.
واحتفظت إحدى لوحات عهده بتصوير ممتع لفتى وفتاة يدقان على طبل كبير في حفل ديني. كما بقيت كأس كبيرة باسمه صنعت من حجر الحية، جسدت على سطوحها الخارجية بالنقش البارز هيئات حيوانات خرافية مجنحة قرناء تقف على سيقانها الخلفية وتمسك عمدًا ذات مقابض تشبه مقابض السيوف، وأفاع ضخمة قائمة متقابلة تلتف حول محور رأسي وقد رقشت أجسادها جميعها بقطع حجرية صغيرة وطعمت رءوسها بمواد ملونة2.
وصاحب تعمير المعابد ورقي الفنون في عهد جوديا نشاط عمراني، كان من صورة الاهتمام بوسائل الري، وبقي من نصوص عهده ما يتحدث عن شق قناة نسبت إلى رب لجش وسميت "نين جيرسو أوشومجال" ويبدو أن حفرها كان عملًا ذا بال بحيث أرخ به في سنته3.
وظل خلفاء جوديا يرددون ذكراه، وساعدت كثرة تماثيله في معبد لجش وكثرة الأوقاف المرصودة على قرابينها، على استمرار تبجيله أو تقديسه بعد عهده.
واحتفظت فنون لجش بمستواها الرفيع في عهد "أورنين جيرسو" بن جوديا، واحتفظت له أرضها ببضعة تماثيل صغيرة ممتعة تشبه تماثيل أبيه، صوره بعضها حليق الشارب واللحية على عادة الكهان، بينما صوره بعضها الآخر بشعر طويل ولحية, واستغل الفنانون بعض قواعد هذه التماثيل لنقش صور عدد من المتعبدين يتقدمون بقرابينهم وهم جثاة4.
__________
1 ديلابورت: المرجع السابق - شكل 31 Frankfort, Op. Cit., 49.
2 Ibid., Pl. 51 B. “Louvre Archives Photographiques”, And See Iraq, I “1934,” 60 F.
3 ديلابورت: المرجع السابق ص128
4 Parrot, Op. Cit., Pl. Xxiii A-C.(1/421)
في أوروك:
وقع عبء الكفاح المسلح ضد الغزاة الجوتيين على أكتاف دولة أرورك. ويحتمل أن تكون نهضتها قد عاصرت في بعض أيامها نهضة كل من لجش وأور1. ولعلها قد استغلت موقعها الجنوبي وحاولت توحيد كلمة المدن السومرية القريبة منها تحت رايتها ضد الغزاة - وظهر من أبرز حكامها أوتو حيجال
__________
1 انظر عن احتمال معاصرة جوديا لعهد مؤسس أسرة أور الثالثة أورنمو أو ولده شولجي:
Kramer, Bull. Of University Museum, 1952, 22; Orientalia, Xxiii, 1954, 6,N. 3.(1/421)
الذي أعلن حرب الخلاص باسم رعاته الأرباب إنليل وإنا وجلجميش الذين استنصرهم، وواصلت قواته الزحف من الوركاء وكلاب لستة أيام، وقبضت على نائبي الجوتيين في سومر، ثم هزمت قوات الجوتيين في موقعة فاصلة قرب كركر. وأسرت ملكهم تريكان وأهله بعد أن فر هاربًا إلى بلدة دبروم، وكانت نصوص أوروك قد وصفته بالأفعى وعقرب الجبال الذي نشر العداوة والبغضاء بين أهل سومر1. واستحقت أوروك بنصرها نوعًا من اعتراف أغلب المدن السومرية بزعامتها الشكلية، لولا أن الآمال العريضة ما لبثت حتى لعبت برءوس حكامها، فسارعوا باتخاذ لقب الملك العريض، ملك سومر وأكد، قبل أن يستكملوا عدتهم له، وشغلتهم مظاهر السلطان عن مواصلة العمل الجدي، فانفلتت الزعامة الفعلية منهم إلى دولة أور.
__________
1 C.J. Gadd, A Sumerian Reading-Book, 1924, 65-73; S.N. Krame, The Sumerians, 1963, 325-326;
فاضل عبد الواحد: سومر - 1974 ص47-57.(1/422)
في دولة أور:
نهضت أور نهضتها ببداية أسرة حكم جديدة أسسها "أورنمو" قبيل القرن الحادي والعشرين ق. م، وعرفت اصطلاحًا باسم أسرة أور الثالثة، وتعاقب على عرش هذه الأسرة خمسة ملوك سعوا إلى استعادة الحكم الموحد، واشتهر منهم إلى جانب مؤسسها أورنمو1 ولده "شوجلي أو شاخ جي"، وبمجهود هذين الملكين بالذات خضعت كثير من المدن السومرية والأكدية لأور، وذلك مما سمح لملوكها بأن يتلقبوا بمثل لقبي سرجون الأكدي، أي "ملك سومر وأكد"، و"ملك الجهات الأربع" وإن ظل هذا اللقب الأخير بخاصة لقبًا تشريفيًّا أكثر منه لقبًا فعليًّا؛ إذ إنه على الرغم من جهود الملكين وبعض خلفائهما في سبيل توسيع الحدود، واعتراف آشور في الشمال بنفودهم الاسمي، بحيث أقام أهل مدينة إشنونا معبدًا في مدينتهم نسبوه إلى ملك أور "شوسين"2، كما أرسل أحد ملوك آشور هدية ثمينة إلى بورسين ملك أور القوي، ملك الأقاليم الأربعة3، إلا أن حجم المملكة ظل أقل بكثير مما كان عليه في العصور الأكدي.
وأضافت دولة أور بضعة تجديدات في آفاق السياسة والتشريع ومجالات الصناعة والفن: فأثر لنظم الحكم الداخلية فيها أن مؤسسها أورنمو كان من أقدم مصدري التشريعات المكتوبة المعروفة في تاريخ العراق "بعد تنظيمات أوروكاجينا" حيث عثر على أجزاء من نسختين لتشريعه كتب إحديهما طالب في مدينة أور، وكتب الأخرى، طالب من مدينة نفر بعد وفاة أورنمو بنحو ثلاثة قرون، مما قد يعني أن هذا التشريع
__________
1 Bulletin Of The University, Xvii, No. 2 “1952”; Oirentalia “New Series”, Xxiii, 40 F.; Scientific American Bull., January 1953, Castellino, Az, Xviii, 1957 1-57.
2 S. Moscati, The Face Of The Ancient Orient, 1960, 26.
3 See, Frankfort, The Gimilsin Temple And The Palac Of The Rulers Of Tell-Asmar, Chicago, 1940.(1/422)
جاوز صيغته المحلية وطبق في مدن أخرى ولفترة طويلة. وبدأ كاتب التشريع باختيار المعبودين آن وإنليل للمعبود ننار إليه القمر ملكًا على مدينة أور، ثم اختيار هذا الأخير "أورنمو" تائبًا عنه أو ممثلًا له يقوم مقامه على الأرض. ولعل الربط بين التشريعات وبين اختيار الآلهة وإرادتهم أو إيحاءاتهم، وهو أمر سنراه أكثر وضوحًا في تشريعات أخرى تالية، كان مقصودًا لكفالة احترام بنودها وخلع الشرعية عليها فضلًا عن تأكيد دور الملوك كوسطاء بين الآلهة وبين شعوبهم عن طريقها. وتضمنت المواد الأولى من تشريع أورنمو العبارات المعتادة عن سعي صاحبه إلى ضبط الأوزان والمكاييل وتوحيدها، ورغبته في تخليص المواطنين ممن يستغلون ماشيتهم وأغنامهم ودوابهم، وإلى أن يمنع وقوع اليتيم فريسة للثرى ووقوع الأرملة ضحية للقوى وأن لا يكون مالك الشاقل ضحية صاحب المينه "وتساوي المينه Me-Na, Ma-Na ستين شاقلا". وكان كل من المينه أو المينا، والشيقل أو الشاقل، قطعة معدينة ذات وزن معلوم تقوم مقام العملة وليست منها. وتختلف قيمتها الحقيقة باختلاف نوع معدنها.
وأقر قانون أورنمو دفع غرامات على الجروح "التي لا تفضي إلى الوفاة"، فجعل غرم جرح الساق عشرة شواقل من الفضة، وغرم كسر العظام مينة من الفضة، وغرم قطع الأنف ثلثي مينه من الفضة، وغرامة كسر السن شاقلين من الفضة. وجعل التشريع العوض عن الجالية مثلها أو عشرة شواقل من الفضة أو ما يساويها من المقتنيات. وجعل حلوان إعادة العبد الآبق والجارية إلى مالكهما شاقلين من الفضة.
ونص على أن من اقتحم حقلًا مزروعًا فأفسده فعليه أن يعوض صاحبه بقيمة ما أفسده، ومن أغرق حقلًا عامدًا عوض صاحبه بثلاثة كور من الشعير من كل إكو من الأرض، ومن استأجر أرضًا لزراعتها فأهملها وأصبحت بورًا عوض صاحبها بثلاث كور من الشعير من كل إكو من مساحتها.
وجعل التشريع غرامة شهادة الزور15 شاقلا من الفضة. وأجاز إظهار البينة عن طريق الامتحان بإلقاء المتهم في النهر. ويبدو أن الحكمة من ذلك هي إيكال أمره إلى إله النهر إذا عجز القاضي عن إثبات التهمة عليه، فإن شاء الرب أنقذه وبرأه، وإن شاء أغرقه بذنبه. ولعل عدالة الجزاء كانت تقتضي أن يوثق المتهم ويثقل بالأحجار قبل إلقائه في الهر بحيث يكون غارقًا لا محالة، فإذا طفا ونجا اعتبر ذلك معجزة ودليلًا على رغبة الإله في تبرئته. "وذلك اعتقاد يمكن فهمه بمقارنته بما يأخذ به بعض البدو حتى الآن من امتحان المهتم عن طريق البشعة فإن احترق بها لسانه عند لمسها دل ذلك على احتمال إجرامه وإن سلم لسانه كان من أدلة براءته".
وفي الأحوال الشخصية نص التشريع على أن من تزوج بكرًا ثم طلقها دفع لها مينه من الفضة، وإذا تزوجها ثيبًا وطلقها دفع لها نصف مينه من الفضة، وإذا عاشر أرملة دون عقد زواج وتركها فلا تعويض لها عنده. وألزم والد الخطيبة برد ضعف هدايا الخطيب إذا أخلف وعده له وزوجها لآخر. ونص التشريع على أن رمي زوجة آخر بالفحشاء ثم برأها امتحان النهر غرم ثلث مينه من الفضة وأن من اغتصب جارية رجل آخر وكانت بكرًا غرم خمسة شواقل من الفضة، وإذا أوقعت زوجة رجلًا في حبائلها بطرق السحر فواقعها حق عليها الذبح دونه. ونص على أنه إذا ساوت جارية الرجل نفسها بسيدتها وأهانتها "أو أهانته"(1/423)
حشي فمها بالملح ونقع به. وأصبحت أغلب هذه البنود، وهي قلة من كثرة لم يعثر عليها، أساسًا لبعض ما تلاها من تشريعات1.
أعيد في عهد أورنمو تسوير عاصمته ذات الهيئة البيضية التي أطلت على نهر الفرات بميناء ذات أرصفة واسعة، وحماها الماء من ثلاث جهات، وبلغت مساحتها نيفًا ونصف ميل طولًا، وربع ميل عرضًا. وامتدت حولها ضواحيها وشغلت معها مساحة قدرها نحو أربعة أميال طولًا وميل ونصف عرضًا وأطل سور المدينة من داخله على ساحة متسعة "بلغت مساحتها 400 ياردة ×200 ياردة" قامت فيها معابد المدينة الكبرى المخصصة للمعبود ننار وزوجته ننجال وحاشيتها. وبقيت أجزاء لبعض هذه المعابد حتى الآن بحالة لا بأس بها.
وفي الحياة السياسية تجنبت أور إلى حد ما العوامل الوخيمة التي نخرت في كيان الدولة الأكدية من قبلها نتيجة للتفرقة بين السومريين وبين الساميين وشطر أهل البلد الواحد شطرين، فاستعانت بالعنصرين في جيشها وفي مناصب الإدارة. وجمعت بين اللغتين السومرية والأكدية في بعض الوثائق الرسمية والأدبية. وتسمى بعض ملوكها بأسماء سامية الصبغة مثل شوسين، إبي سين. ولو أن هذه السياسة لم تمنع ملوكها من انتسابهم إلى سومر أكثر من غيرها، ولا من مركزة الحكم في عاصمتهم كما فعل الأكديون من قبل، فظلت هذه العاصمة تشرف على كل كبيرة وصغيرة من شئون المدن والأقاليم، ويبدو أنها استعانت على ذلك باستحداث نظام يشبه نظام الوزارة، والعناية بنظام العدائين لتبليغ أوامرها إلى ولاة أقاليمها، واعتبرت أولئك الولاة مجرد موظفين كبار يخضعون للنقل من إقليم إلى إقليم.
ولم يضح ملوك أور بالهالة المقدسة التي اكتسبتها الملكية منذ أيام الدولة الأكدية، وكان أكثرهم استمساكًا بها "شولجي" "ذلك الذي كان اسمه يقرأ دونجي ثم ظهر رأي جديد يقرأه شاخ - جي"2، وقد اختير كاهنًا أكبر للمعبودة إنانا في أوروك في حياة أبيه، وذكرت نصوصه أن الإله اختاره بنفسه3، وأطلق اسمه بعد توليه العرش على أحد شهور دولته، ورفعه أهل بلاطه إلى مرتبة الربوبية أو ما هو قريب منها ورضي هو بها بطبيعة الحال، فسمى بعضهم أولاده باسم "شونجي إيلي" بمعنى شولجي إلهي، و"شولجي باني" بمعنى شوجلي الخالق، فضلًا عن "شولجي أبي". وأقطع شولجي ابنته منطقة واسعة، فأصبحت أميرة لها. وربط بين الميول الدينية في بعض المدن الكبيرة وبين عقائد بلده عن طريق تكليف كل مدينة بنفقات قرابين معبد إله العاصمة شهرًا على الأقل من كل عام، ووقع أغلب الغرم في ذلك على مدينة لجش فتكفلت بأداء القرابين أربعة أشهر كاملة.
__________
1 E. Szlechter, Le Code D’ur-Nammu, Rev. D’assyriologie, 49, 1955, 169 F.; Kranner And Gurney, As,Xvi “1965”, 13-19; J.J. Finkelstein, Supplement To Anet, 1969, 523-26.
2 Th. Jacobsen, Bulletin Of The American Schools Of Oriental Research, 1947, 16 F.
3 ديلابورت: المرجع السابق- ص180.(1/424)
وعبر كاتب سورمي عن رأي شولجي في نفسه فكتب على لسانه:
"أنا الملك، كنت بطلًا في بطن أمي، أنا شولجي، صاحب البأس منذ مولدي، أنا أسد ثاقب البصر، ابن مارد، أنا ملك أركان الدينا الأربعة، أنا حامي السومريين وراعيهم، أنا بطل، رب البلاد كلها.
أحب الخير وأقسي الشر وأمقت ألفاظ العداوة، أنا شولجي الملك المقتدر، أخضعت البلاد الثائرة وكفلت الأمان لشعبي ... شولجي الذي توفر له بأس السماء والأرض، ولم يكن له مثيل، شولجي الذي رعاه رب السماء"1.
ولم يكن اعتداد شولجي بنفسه بغير أثر سيئ على أذهان كتبة التاريخ بعد عهده، فذكروا أنه وإن اهتم الاهتمام الشديد بمدينة إريدو التي تقع قرب شاطئ البحر، إلا أنه استولى على ذخائر معبد إساجيلا معبد بابل، فغضب بعل ولم يرض عن جثته2.
وجرى خلفاء شوجلي ومنهم ولده أمرسين على سياسته في الاستمساك بهالة الملك المقدسة، وأثنت كاهنة من كاهنات لوكور على مولاها شوسين "الابن الثاني لشولجي في أوائل الألف الثاني ق. م" على ما أولاها إياه من هدايا ونعم، وصاغت مديحها في نشيد بدأته بوصف الملك بالطهر، وامتدحت أمه أبسيمتي لولادتها إياه، ثم عددت عطاياه لها بعد أن أطرته بنشيدها، وذكرت منها قلادة ذهبية وختما من اللازورد وخاتمًا ذهبيًّا وآخر من الفضة. وأكدت أن تطلع الملك إليها كان أثمن لديها من هداياه، وأضافت ان عاصمته تجثو لدى قدميه كالشبل الصغير، وترفع أكفها تضرعًا إليه، ثم نعتته بربها وحبيبها ورب بلده وحبيب إنليل, وعندما سجل أحد الناسخين المتأخرين هذه القصيدة بقلمه حرص على أن يسبق اسم شوسين بمخصص الأرباب3.
واحتفظت أرض أور بعدد كبير من لوحات المكتوبة، ومنها ما تناول العلاقات الاقتصادية، ومنها ما عدد القرابين والضرائب المرصودة لإله القمر ننار، ومنها ما تناول قضايا العقارات ونقض الالتزامات4. ويفهم من طريقة تأريخ أمثال هذه اللوحات أنها كانت تؤرخ بالأعوام والشهور، وأن الأعوام ظلت تسمى بأهم حدث فيها، وقد يكون هذا الحدث وهو ولاية ملك جديد أو قيامه بمشروع جديد مثلما سمي العام الثامن عشر من حكم أرونمو باسم "العام الذي بسط أورنمو الملك السبيل فيه من أسفل إلى أعلى" وقد يفهم من هذه التعبير امتداد نفوذه فيه من الجنوب إلى الشمال. وقد يؤرخ العام بإنقاذ منطقة فيه من ضرر ما. وكان أصحاب الوثيقة يقسمون فيها عادة باسم الملك الحاكم ويشهدون عليها الشهود، ويختمون
__________
1 S Moscati, Op. Cit., 38.
2 E. Ebeling, Op. Cit., 336; Anet, 267.
3 S.N. Kramer, Anet, 496.
كرامر: من ألواح سرمر - الفصل 23 - ص366-369.
4 Babylonica, Iii, 100 F.; C.J. Gadd, Sumerian Reading Book, 172-175; J.B. Nies, Ur Dynasty Tablets, 1920(1/425)
عليها بأختامهم. ومن نماذج هذه الوثائق صلك صغير يقول كاتبه: "180 كورًا من الشعير هدية "أو نذرا" لونانا حاكم زيمودار، تسلمها أورجالاليم باسم "معبد" شولجي نانا "الكائن" على ترعة دورول. شهر شيجوركود، عام ولاية شوسين الملك المقدس"1.
ثم وثيقة قرض يقول كاتبها: "120 شاقلا من الفضة، أرباحها 5 شواقل لكل 60 منها شاقل، اقترضها أداكالا من أوردولازاجا، على أن يسددها في شهر سيج وأقسم على ذلك باسم الملك". وبعد أن وقع ثلاثة شهود، أرخ الكاتب لوحته بقوله: "شهر شيجوركود في عام أنقد الملك المقدس إبي سين، سيمورو". ثم ختم المستدين على الوثيقة بختمه ثلاث مرات2.
وإذا حرر المتعاقدون لوحتهم خارج عاصمتهم، أضافوا إلى اسم الشهر والعام، اسم حاكم منطقتهم، وربما اسم الموظف الذي يؤدي عمل القاضي فيها أيضًا3.
__________
1 حكم شوسين فيما بين 1981-1972ق. م تقريبًا.
Th. J. Meek, Anet, 217; L. Legrain, R.A., Xxx “1933”, 117-125, No. 7.
2 يحتمل توقيت عهد إبي سين بما بين 1972ق. م.
Th. Meek, Op. Cit.,; J.B. Nies, Op. Cit; No. 30.
3 Meek, Op. Cit.,; Gadd, Op. Cit., 173.(1/426)
الفنون:
صاحب التقدم السياسي في أور نشاط معماري وتطور فني لم يبق للأسف من نماذجهما غير القليل. فقد بقيت من آثار معابد أور بقايا زقورة فخمة أقيمت في عهد أرونمو على أطلال زقورة أقدم منها نسبت إلى أيام أسرة أور الأولى1.
وقد شيدت فوق ربوة متسعة تنهض في الزاوية الغربية من الحرم المقدس للمدينة وهو حرم مسور واسع ذو بوابات، وشادها أصحابها من ثلاث مسطحات أو "طوابق" متتالية تميل قاعدتها الرباعية وجدران مسطحها الأول ميلًا قليلًا إلى الداخل، وتتعاقب المشكاوات على جوانبها، وتتوجها مقصورة علوية. وشادوا بناءها من اللبن كعادة أسلافهم ثم كسوا جدرانها الخارجية بالآجر الأحمر المرصوص فوق ملاط من القار. وكان يؤدي إلى مسطحها الاول ثلاثة طرق صاعدة طويلة ذات درجات كثيرة، طريق أوسط وطريقان جانبيان. وأكملت هذه الزقورة ورصف فناؤها في عهد شولجي بن أورنمو، ثم حظيت بتعديلات كثيرة حتى جددت بعد أمد طويل من إنشائها في عهد نبوخذ نصر ثم أكملها نابو نهيد خلال العصر الكلداني المتأخر حيث كسيت المقصورة العلوية بالطوب المزجج ذي اللون الأزرق اللامع، وترجع بقاياها الحالية إلى ما بقي من هذا التجديد بعد تخربها في العصر الفارسي، ولو أن ذلك لا ينفي أنها نشأت فخمة منذ بدايتها بحيث
__________
1 Antiquaries Journal, 1925, 437 F.; 1934, Pl. Xlix; H. Lenzen, Die Entwicklung Der Zikkurrat, 47 F.; L. Woolley, Ur Excavations, Ii, 1939, Pl. 41.
وانظر سومر 1961 - ص5.(1/426)
كانت تشرف على مدينتها وترتفع مقصورتها عن آية عمارة دنيوية أو دينية فيها. ويفترض بعض الباحثين أن مسطحاتها كانت تتضمن أشجارًا غرست في نقط متفرقة منها.
ونسب إلى عهد أورنمو معبد آخر للمعبود إنليل في مدينته نيبور "نفر" بلغت مساحة المسطح الأول لزقورته 57×38 مترًا، وكشف عن جانب من السور المبني باللبن الذي أحاط بها هي وبقية توابع المعبد.
ولوحظ من التجديدات العقائدية في معباد أور أن تماثيل معبوداتها أصبحت توضع داخل مشكاوات مرتفعة يؤدي إليها درج، بعد أن كانت توضع فوق قواعدها أمام المشكاوات وليس داخلها1.
وسرت رقة الطابع في نقوش العصر، وإن ظلت شواهدها قليلة هي الأخرى، ومنها عدة مناظر سلسة الخطوط نقشت على نصب كبير من الحجر الجيري أقيم باسم أورنمو بمناسبة إنشائه أحد المعابد، وبلغ ارتفاعه الأصلي نحو ثلاثة أمتار. وتكرر تصوير الملك على وجهيه بلحية طويلة وعباءة طويلة مرسلة واسعة الأكمام وقلنسوة عريضة الحافة نصف كرية، يقدم تسابيحه ويسكب قرابينه أمام ننار إليه القمر وحامي أور وزوجته الربة ننجال وغيرهما من الأرباب أصحاب العروش والتيجان ذات القرون، يتبعه ولي عهده أو كبير أتباعه في وضع ابتهال خاشع حي. ورفع بعض أولئك الأرباب بيمينه حلقة وعصا، يحتمل أنهما كانا من أدوات قياس المعبد في بداية بنائه. غير أن أطراف مناظر النصب هي تصوير أرونمو ينقل بعض أدوات البناء، وقد سلكها في عصا رفعها على كتفه على نحو ما يحمل الراعي زاده في عصاه، وتبعه تابع يعاونه في حملها، ثم تصوير سلم خشبي كبير في وضع مائل مجسم خلال مرحلة من مراحل البناء، وتصوير معبودة مجنحة تطل من بين السحب تصب ماء من قدرها كأنها ملاك2 ...
وثمة منظر على ختم يصور إبي سين ملك أور حليق اللحية برداء ذي ثنيات عريضة مزركشة يرسل أطرافه على ذراعه ويقيم بأطراف أنامله آنية دقيقة تلقاها من كاهن يواجهه في أدب وبساطة، أو يهديها إليه. وبدت ملامح الرجلين، على صغر صورتيهما، هادئة سمحة متفائلة بما يناسب الموقف أو المنظر الذي صورا فيه3.
وجارى فن النحت فن النقش في تطوره. وبقيت من نماذجه عدة رءوس نحت بعضها من الديوريت ونحت بعضها من الألباستر، وطعمت بعض عيونها بالمحار الأبيض واللازورد الأزرق، ممايعني أن الأحجار المناسبة للنحت كانت تستورد من أجله بخاصة، وقد بذل الفنانون فيها جهدًا ملحوظًا لإظهار تعبيرات الوجوه ومسطحات عظامها وهيئات الشفاة، وتصفيفات الشعر للرجال والنساء، وتفاصيل أغطية الرأس التي كان منها الشال والعقال للرجل والعصابة للمرأة، وإن ظلت العيون فيها جميعها جاحظة متسعة.
__________
1 Frankfort, The Art And Architecture…, 69.
2 Leo Legrain, “The Stele Of The Flying Angles”, Museum Journal, Xviii “1927”, 75 F.
3 Frankfort, Op. Cit., Pl. 54 A.(1/427)
ومن أمتع ما بقي من هذه الرءوس، رأسان تعتبران من روائع الفن الواقعي في عصرهما، إحداهما لأنثى "أو معبودة" نضرة الوجه زادت من حلاوتها نقاوة حجر المرمر الذي قدت رأسها منه، وقد انسابت جدائل شعرها على كتفيها من تحت عصابة رأس سميكة ملفوفة. والرأس الأخرى من الفخار لرجل ملتح يرتدي عمامة هرمية لطيفة فوق رأسه1.
واحتفظت أور بمقابر بعض أمرائها وأثريائها، وشابهت ... المقابر في أسلوبها طرز المقابر القديمة التي سبقت العصر الأكدي فيها، وتميزت عمارتها ببناء سقوف حجرات دفنها على هيئة عقود مقبية أو على هيئة الهرم الناقص، مع استخدام الدبش فيها. وما من شك في أنها كانت تتضمن، مثلما تضمنت المقابر السابقة عنها، ما تعبر به عن ترف حياة أصحابها ورقة أذواق عصرهم.
__________
1 Op. Cit., Pl. 54 B-C.(1/428)
من الأدب السومري:
احتفظت ألواح الألف الثاني ق. م وما بعده بآداب سومرية الصبغة والأسلوب، نسخها أصحابها عن أصول قديمة، وصعب تحديد عهود هذه الأصول تحديدًا مقنعًا، ولهذا لا نرى من بأس في أن نستشهد هنا بعدد منها خلال الحديث عن عصر إحياء الحضارة السومرية باعتباره عصر بلوغها ذروة نضوجها، دون أن ينفي ذلك احتمال تأليف بعضها قبله بكثير واحتمال تأليف بعضها بعده بقليل. وتضمنت تلك الآداب قصصًا وملاحم وأساطير ومحاورات دنيوية ودينية، كانت من أشهرها قصة الطوفان، وملاحم إينمركار، ولوجال بندا، ومغامرات جلجميش، ونزول الربة إنانا إلى العالم السفلي، ومحاورة الفلاح والراعي، ومحاورة الصيف والشتاء، ... ، وذلك فضلًا عن أمثال سائرة، ونصوص تعليمية تصور حياة الدراسة وتصور مواد التدريس، واشتركت هذه وتلك مع غيرها من الآداب القديمة في ملامح عامة، مثل غلبة الطابع الديني عليها، وكثرة استخدامها الرمز للتعبير عن الفكرة والحادثة، وكثرة التكرار اللفظي الذي يناسب الإلقاء والإنشاد أكثر مما يلائم القراءة، وصعوبة التمييز فيها بين ما هو شعر وبين ما هو نثر. ثم تميزت من ناحيتها بخصائص معينة ظهرت فيها أكثر مما ظهرت في غيرها، ومنها بداية بعض قصصها ومحاوراتها بملخص يمهد لها، أو بمقدمة ميثولوجية تكسبها نوعًا من القداسة.
تخلف من قصة الطوفان السومرية أقلها1 وصور هذا القليل زمنًا بعيدًا خلق فيه آن وإنليل وإنكي ونينهورساج البشر "أصحاب الرءوس السود"، والنباتات والحيوانات، وتكاثر الخلق والكائنات ونزلت الملكية من السماء إلى الأرض، حيث بدأ العمران من خمس مدن أشرف الإله آن "أو إنليل" على إنشائها في مواضع طاهرة وسماها بأسمائها، وهي: إريدو ... ولاراك وسيبار وشوروباك، وخصصها لعبادة خمسة من الأرباب والربات. ثم قضى بأن يغمر الفيضان الأرض لأمور لم تحتفظ بها السطور الباقية من القصة، وأعلن قضاءه في مجلس الأرباب، فدب الذعر في قلوبهم لا سيما ننتو وإنانا، وقلوب الملوك المقدسين. وكان أشدهم اهتمامًا به المعبود إنكي الحكيم رب مياه الأعماق، وملك صالح يدعى زيو سدرا. وأراد إنكي أن يخبر زيوسدرا باليوم الموعود بطريق غير مباشر، فأوحى إليه بأن يقف بجوار جدار مقدس وأن يستمع منه إلى صوته، وأتاه الصوت قائلًا: "سوف ألقي إليك كلمتي، فاستمع لأمري. بقضائنا سوف "يكتسح" الفيضان مراكز العبادة ويقضي على سلالة البشر. ذلك قرار مجلس الأرباب، وقضاء آن وإنليل ... ".ويبدو أنه نصحه بأن يبني سفينة كبيرة وينقل إليها ما تستطيع أن تحتمله من المخلوقات ... ، فصدع بأمره وعمل بنصيحته.
__________
1 بقي من ألواحها ثلث لوح وجد في نفر، كتب في العصر البابلي عن أصل سومري قديم.
2 Kramer, Anet, 43 F. “And References; M. Civil, The Sumerian Flood Story, Atrahasis, 1969; W.G. Lambert Babylonian Wisdons Literature, Exford, 1960, 92 F.; Civil Et Biggs, Ra, Lx, 1-5; R.D., Biggs, Anet, 1969, 594-5.
وراجع ص401 وحاشية 3.(1/429)
وفي اليوم الموعود هبت الأعاصير هبة عنيفة وأطاحت بالعواصم ومراكز العبادة وصحبها فيضان كاسح، واستمر ذلك سبعة أيام وسبع ليال اكتسح الفيضان الأرض فيها ودفع السفينة قدمًا ...
وبعد فترة ما بزغ المعبود أوتو رب الشمس فأنار السماء والأرض، وفتح زبوسدرا فتحة في جدار سفينته وتطلع منها فرأى أشعة أنوار ربه، وعلم بصفحه، فركع وضحى من أجله بفحل وشاة: كما استرضى بقية الأرباب الكبار.
ونادى آن وإنليل: "نسمة السماء ... نسمة الأرض"، فظهرت الخضرة على الأرض من جديد ونما النبات، ووهب الرب الأكبر زيوسدرا حياة سرمدية، فعاش في أرض العبور أرض دلمون، دار الشروق على البحر، وكان خلوده سببًا في الحفاظ على النبات وعلى سلالة البشر والاحتفاظ بأسمائهم.
ويحتمل من سياق لوح صغير أن زيوسدرا كان قد تلقى الحكمة عن أبيه شوروباك أحد ملوك ما قبل الطوفان، وورد في وصاياه أنه شوروباك بن وبرتوتو، وكان من قوله لولده: نصيحة أقدمها لك فتقبل نصيحتي، وكلمة أقولها لك، فأعرها سمعك، ولا تهمل وصيتي ولا تتعد كلمتي. وقوله: لا ينبغي اقتناء حمار مزعج النهيق، ولا ينبغي زراعة حقل على الطريق1.
وحظي جلجميش ملك أوروك2 بنصيب كبير من القصص السومري، وترتب على كثرة ما كتب أن ظهرت له صورتان، صورة احتفظت له بشجاعته وجرأته ولكنها لم تأب أن تعترف بتسليمه بالأمر الواقع حين يتبين عجزه أمام عدوه، وصورة أخرى جعلته مغامرًا مغوارًا لا يهن له عزم ولا يشق له غبار مهما واجهه من المصاعب.
وظهر جلجميش في صورته الأولى حاكمًا على مدينة أرورك ولكنه كان بمدينته أقل منزلة من أجا ملك كيش التي أكدت الأساطير السومرية أنها كانت أول مدينة نزلتها الملكية بعد الطوفان، وربما كان تابعًا له، وبيدو أن أجا هذا اشتط ذات مرة في طلب الجزى منه، فثارت نفس جلجميش وابتغى أن يرفع النير عن بلده، فجمع شيوخ المدينة ودعاهم إلى امتشاق السلاح ضد كيش، ولكنهم آثروا السلامة مع الخضوع ولم يستجيبوا له، فلم ييأس وأعاد الكرة على جمهور شعبه فاستجاب الناس لدعوته وهللوا له وعز عليهم أن تخضع مدينتهم لعدو، وفيها إيانا معبد آن الذي نزل من السماء وأقامه الأرباب الكبار بأنفسهم حتى أصبحت جدرانه تلامس السحاب ...
__________
1 ذكرت النصوص الإغريقية للعصور المتأخرة زيوسدرا باسم Xisouthros واعتبرته خلفا للملك Otiartes - تحريفا للاسمين القديمين.
2 كرامر: من ألواح سومر - لوحتا 61-62، ص434-435.(1/430)
واشتدت عزيمة جلجميش بتأييد شعبه، فنادى على تابعه وصديقه إنكيدو أن يدع أدوات الفلاحة جانبًا ويمتشق سلاح الحرب، وبلغ ذلك سمع أجا ملك كيش فخرج بجيوشه وحاصر أوروك. واستنفر جلجيمش من رجاله من يستطيع مواجهة أجا، فنفر له بطل يدعى بيرهور توري، ولكنه ما كاد يخرج من بوابة المدينة حتى تكاثر الأعداء عليه وأسروه واقتادوه إلى ملكهم فلم يهن عزمه أمامه واستمر يشيد بمولاه جلجميش وشجاعته.
وصعد جلجميش على أسوار المدينة فخشي عليه رجاله، وخرج تابع إنكيدو يرقب البوابة. ولما رأى جلجميش عقم المقاومة وكثرة العدو سلم بالأمر الواقع، فنادى أجا وامتدحه وعظمه، مداراة له وخضوعًا للأمر الاقع، فرق له قلبه ورفع الحصار عن مدينته وشكره على أدبه وأمنه على بلده.
سجلت هذه الأسطورة على إحدى عشرة لوحة صغيرة في فترة ما من الألف الثاني ق. م، ورأى ياكوبسن وكرامر في استشارة جلجميش لجماعة الشيوخ ثم جمهور الشعب نوعًا من أساليب الديموقراطية القديمة واعتبرا الجماعتين أشبه ببرلمان من مجلسين للشيوخ والشباب1. ولو أنه ليس من ضرورة للأخذ بحرفية هذا التخريج لأن القصة لا تحتمله.
وظهر جلجميش في صورته الأخرى يتحدى الموت ويحاول أن ينتصر عليه باكتساب شهرة فذة تخلد ذكره. وتخير مجال هذه الشهرة في أرض الأحياء أرض الأرز "هوروم" ليأتي ببعض أشجار أرزها إلى أوروك رغم أنف حاسرها المخيف هواوا.
واستفتى جلجميش أوتو رب الشمس وصاحب هذه الأرض فيما انتواه، وصور له قلقه من البقاء في مدينة يموت الإنسان فيها ويُفنى دون ذكر يخلده، فأشفق أوتو عليه من وعورة الطريق ومخاوفه، ولكنه بكى واستعطفه، فرق له واعتبر دموعه قربانًا له ووعده العون.
واصطحب جلجميش صديقه وتابعه إنكيدو، وجمع خمسين متطوعًا من الشبان الأعزاب الذين لا أم لهم ولا دار، حتى لا يشغلهم عن مهمتهم شاغل من الأهل وتسهل عليهم المغامرة. وقطع معهم الجبال السبعة التي تفصل بين أوروك وبين الأرض الموعودة ولما بلغها حاول صديقة إنكيدو أن يثنيه عن دخلوها وخوفه أهوالها، وذكره بحزن أمه عليه إن لقي حتفه فيها، فأقسم أبيه وأمه أنه لن يتراجع حتى يقاتل ذلك الكائن هواوا سواء أكان بشرًا أم إلهًا. وذكرت القصص أبا جلجميش باسم لوجال باندا وذكرت أمه باسم نينسون، وكانت أكثر احتفاء بها فوصفتها بالحكمة ودلتها النصوص الآشورية المتأخرة باسم نيسونا. وواصل جلجميش مغامرته حتى بلغ قصر هواوا الأرزي، وبعد أن قطع سبع شجرات وتركها إلى رجاله، اقتحم قاعة هواوا وهدده فيها ثم مال إلى أن يعفو عنه بعد أن ظهر عليه، ولكن إنكيدو خوفه عاقبة العفو عنه وشجعه على قتله وقطع رقبته. وليس من المستبعد أن هواوا هذا كان اسمًا رمزيًّا لزعيم أو جماعة عمل أو عملت على حرمان.
__________
1 Th. Jacobeen, “Primitve Democracy In Ancient Mesopotamia”, Jnes, 1945; Kramer, American Journal Of Archacology, 1949.(1/431)
العراقيين من الحصول على أشجار الأرز من غابات لبنان واحتكرته دونهم فنسبت الأسطورة تحطيم هذا الاحتكار وأهله إلى مجهود بطلها العظيم جلجميش.
واحتفظت الألواح السومرية بأسطورتين أخريين قصيرتين لمقاتلة الأبطال لكائنات خرافية شريرة، تضمنت أولاهما مقدمة قصة جلجميش وإنكيو. وكان بطلها المعبود إنكي الذي أراد أن يثأر من الوحش كور لاختطافه الربة إرشكيجال واغتنامه إياها لنفسه في عالمه السفلي، فتتبعه في قاربه، وأخذ كور يرشق سفينة إنكي بالأحجار ويضرب قاعدتها ويسلط مياه البحر على مقدمتها، ولم تعرف نهاية هذه الأسطورة ولكن يبدو أن إنكي انتصر فيها وأيد انتصاره بتحكمه في مياه الأعماق وتسميته بإله آبسو1.
وكان بطل الأسطورة الثانية "نينورتا" رب الرياح الجنوبية وابن إنليل "رب الهواء" وتنماخ التي لقبت بلقب " ... خرساج" ربما بمعنى ربة الجبل، وكان خصمه هو "أسج" "شيطان المرض القاطن في كرر، فتغلب عليه بعد جهد كبير، ولكن حدث بعد أن قضى عليه أن طغت المياه "المالحة؟ " الحبيسة تحت كور على سطح الأرض وغطت على مياه الأنهار، وأشاعت القحط، وظلت كذلك حتى عمل نينورتا على تكديس الأحجار فوق كور وجعل منها سد حجز به تلك المياه العظمى، وصرف ما غمر البلاد منها إلى نهر دجلة "؟ " وأزاح عن البلاد ما أصابها من كرب ومجاعة2. ومن طبعات الأختام التي صورت قتال الأبطال للكائنات الخرافية ختم من أور صور البطل فيه بهيئة بشرية وصور مساعده على هيئة رجل برأس ثور.
وطرق السومريون فن الحوار الذي يقوم على التفاخر، وعادة ما يكون طرفاه اثنين من الأرباب أو من الحيوانات أو من الأشجار، أو يقوم على التقاضي أمام معبود أو عدد من الأرباب3. ومن نماذجه حوار اشترك فيه أربعة: أوتو رب الشمس وأخته إنانا ورب الرعاة دوموزي ورب الزارعين إنكيمدو. وهو حوار يبدو أن مؤلفه أراد أن يعبر به عن فصل من فصول الصراع الدائم في العراق بين أهل البادية وأهل الحضر، وأضطرار الزارعيين إلى قبول الرعاة في أرضهم عن تراض في بعض الأحيان وعلى مضض في أغلب الأحيان. ولا يخلو الجزء الباقي من هذا الحوار من تكرار وسذاجة، ولكنه لا يخلو من طرافة على أية حال، ويمكن تلخيصه على النحو التالي:
تقدم الراعي والفلاح لخطبة العذراء إنانا، ورغبها أخوها أوتو في قبول الراعي دوموزي وأغراها بكثرة ما لديه من اللبن والشحم والدسم، فأبت إلا زواج الفلاح. وقالت لأخيها لن يتزوجني الراعي ويطويني في ثوبه الصوفي، وسيتزوجني الفلاح الذي ينمي النبات ويزرع الحبوب.
__________
1 كرامر: من ألواح سومر - الفصل 20 - ص284-286.
2 نفس المرجع: ص286-289.
3 L. Woolley, Ur Excavations, The Royal Cemetery, 359.
See, J.J.A. Van Dijk, La Sagesse Sumero-Accadienne, 31 F.; W.G. Lambert, Babylonian Wisdom Literature, 1969, 150 F.(1/432)
وهنا تقدم الراعي بنفسه إليها واستنكر منها أن تفضل الفلاح عليه، وأخذ يثبت لها أن الفلاح ما امتلك شيئًا إلا وكان عند الراعي ما يقابله، فلديه شاته البيضاء التي تقابل ثوبه الأبيض، وعنده اللبن الأصفر الذي يقابل جعته الفاخرة، والجبن الذي يقابل خبزه ... إلخ، وادعى أنه يستطيع أن يعول الفلاح بفتات موائده، ويبدو أنها اقتنعت برأيه ومالت إليه، فتشجع وواجه الفلاح وبدأه بالمشاجرة فاتقى الفلاح شره ولاينه ودعاه إلى أن يترك أغنامه ترعى في حقوله وترتوي من قنواته، فلانت شدة الراعي بدوره ومال إلى مصادقته ودعاه إلى عرسه لا سيما بعد أن عرض عليه أن يهدي عروسه بعض خيراته.
صور الأدباء السومريون عالم الموتى "كور" باعتباره عالم الظلام والمخاوف وعالمًا لا رجعة منه1. وحملت كلمة كور معاني كثيرة ومنها معاني الجبل والقطر الأجنبي والمتاهة والفراغ الكائن بين سطح الأرض وبين المحيط الأزلي2. ومما يستشهد به عن عالم الموتى أسطورة عرفت اصطلاحًا باسم "نزول إنانا إلى العالم السفلي".
وتروي الأسطورة أن إنانا اشتاقت إلى أن ترى ملك أختها الكبرى إرشكيجال ربة العالم السفلي، فتركت دنيا الأرض والسماء، وهجرت معابدها، ولكنها لم تنس فتنتها وزينتها فاكتحلت بكحل يسمى "دعه يأتي، دعه يأتي" وأصلحت هندامها، وتزينت بحليها الفاخرة وكانت منها قلادة تسمى "تعال يا رجل، تعال ... " وتحصنت برموزها السحرية السبعة واصطحبت تابعها الأمين "ننشوبر" إلى بوابة العالم السفلي، ولكنها تخوفت ما عساها تلقاه في ذلك العالم المجهول لا سيما من أختها اللدود ربة الموت والظلام، فأوصت تابعها بأن يترقب عودتها ثلاثة أيام فإن لم تعد إليه ملأ السماء صياحًا، واستصرخ الأرباب لإنقاذها.
وعندما اقتربت إنانا من قصر اللازورد عند مدخل العالم السفلي بدأت بأسلوب التعاظم وخاطبت الحارس بجفاء وأمرته بفتح بابه وذكرت له أنها "إنانا من مشرق الشمس"، فرد عليها بمثل لهجتها وقال لها، إذا كانت إنانا من مشرق الشمس، فلم أتيت إذن إلى أرض لا رجعة منها، وطريق لا يعد منه مسافر، وكيف طاوعك قلبك على ذلك؟ "، فادعت أنها علمت بمقتل زوج أختها الكبرى، السيد جوجا لانا، وأنها تود أن تحضر مراسيم جنازته، فاستأذنها في أن يبلغ الأمر لمولاته، ولما قص لمولاته قصتها ووصفها لها عرفتها وأمرته بأن يفتح لها مزاليج العالم السفلي السبعة وأن يجعلها تنحني في حضرتها، فأطاع امرها، وأدخل إنانا، وكانت كلما دخلت بابا نزعوا عنها أحد رموزها وحليها، فإذا سألتهم عن سر ذلك قالوا لها "اصمتي إنانا فتقاليد العالم السفلي قد استقرت، فلا تناقشي مراسيمها"، حتى إذا بلغت البوابة السابعة نزعوا عنها ثوبها، وأدخلوها على أختها التي استوت على عرشها فانحنت أماها عارية، ولم يلبث أعوانها القضاة السبعة "وهم فريق من
__________
1 Kramer, Jcs. Ii, “1948”, 60 F.; Anet, 41 F.
2 كرامر: من ألواح سومر - ص261، 282.(1/433)
الأنوناكي" أن ثبتوا عليها عيون الموت وقالوا كلمتهم بصرخة التجريم، فسقطت صريعة، فأخذوها وعلقوها في مسمار ... !
ومرت ثلاثة أيام على مصرعها، فعمل تابعها بوصيتها وملأ السماء نحيبًا من أجلها، واتجه إلى المعبود إنليل وبكى عنده وقال له فيما قال: "أيها الوالد إنليل، لا تترك ابنتك تهلك في العالم السفلي، لا تدع معدنك الطيب يعلوه الغبار، لا تدع لازوردك الحر يتفتت ... "، فقابله إنليل ببرود ورد عليه بما يفهم منه أنها هي التي اختارت مصيرها بنفسها ولم يجبرها أحد على أن تفعل ما فعلته.
وأعاد التابع الكرة على المعبود ننار رب القمر فلقي منه مثلما لقي من إنليل، فاتجه إلى إنكي رب الحكمة ووجد عنده بغينه، فخلق إنكي معبودين من درن قلامة ظفره المصبوغ باللون الأحمر، ووهب أحدهما طعام الحياة وأوصاه بأن ينثره على جسد إنانا ستين مرة، ووهب ثانيهما ماء الحياة وأوصاه أن يسكبه فوق جسدها ستين مرة، وأكد عليهما ألا يقربا نبات العالم السفلي ولا ماءه، فصدع الرسولان بما أمرهما به، وبذلك استخلصا جثة الملكة من مسمارها ونثرا عليها طعام الحياة وماءها فاستعادت إنانا حياتها، وتأهبت للصعود من العالم السلفي، ولكن الأنوناكي اشترطوا لخروجها أن تخضع للعرف القاضي بألا يخرج أحد من عالم الظلام دون تقديم بدليل عنه، فرضخت مرغمة واصطحبها زبانية الوت ضمانًا لوعدها، فقصدت بهم مدينة أوما ثم مدينة باد تبيعها ابتغاء التضحية بربيهما، ولكن هذين أظهرا لها الخضوع والتذلل حتى انصرفت عنهما واتجهت إلى كلاب دار زوجها دوموزي، وبدلًا من أن ينزل هذا لزوجته اعتلى عرشه، فحرضت الشياطين عليه ونطقت ضده بصرخة التجريم قائلة "أما هذا فخذوه" فبكى دوموزي حتى اخضر وجهه وتضرع إلى أخ زوجته أوتو رب الشمس أن يعينه وذكره بأنه هو الذي يزود بيت أمه بالزبد ويزود بيت ... باللبن.
وانتهى هنا الجزء الباقي من الأسطورة، ويبدو أن دوموزي لم يجد من ينجده فهبط العالم السفلى واستقر فيه، وظل النواح يتكرر عليه كل عام حتى حرمته التوراة وقال عنه النبي حقيال إنه لأمر بغيض.
وصورت إحدى لوحات قصة جلجميش محظورات العالم السفلي، في حديث جلجميش لصديقه وتابعه إنكيدو حين تطوع للنزول إلى العالم السفلى ليستنقذ منه آلتين موسيقيتين للربة إنانا، وأوصاه بألا يرتدي ثيابًا نظيفة وألا يتعطر وألا يأخذ معه عصا الرماية ولا يلبس نعلًا ولا يقبل زوجته أو يضربها ولا يقبل ولده أو يضربه، وكل ذلك حتى لا يستثير شياطين العالم السفلي ضده. ولكن إنكيدو تهاون وارتكب المحظور فأطبق عالم الموتى عليه وعجز عن الصعود منه. وعندئذ استنجد صديقه جلجميش رب الحكمة إنكي لينقذه، فأمر أوتو إله الشمس أن يثقب ثقبًا في العالم السفلي وأن يسمح لشيخ إنكيدو بالنفاذ منه، ففعل. وعندما خرج
__________
1 Edward Chiers, Reme D’assyrilologle, Xxxiv, 93 F.; S.N. Kramer, Op. Cit., 52 F.; Journal Of The Cunnform Studies, V, 1951.
كرامر: من ألواح سومر - الفصل 19 - لوحة 63.
2 نفس المرجع - لوحة 70، ص324.(1/434)
الشيخ عانقه جلجميش وأخذ يسأله عما شهده في العالم السفلي عن مصير أصحاب الأولاد وشهداء الحرب والذي لم يدفن والذي حرم من القربان ... إلخ.
وصور أحد الألواح السومرية مصير أورنمو ملك أور حين نزل العالم السفلي "كور" فاسترضى أربابه السبعة الكبار بالقرابين، كلًّا منهم في قصره، وترضى كاتبهم، واستقر في قصره حيث رحب الموتى به، وحيث زاره جلجميش الذي غدا بعد قاضيًا في العالم السفلي ولقنه مراسيم العالم الآخر، ولكن ما انقضت سبعة أيام ثم عشرة حتى حن أورنمو إلى مدينته التي لم يكمل أسوارها، وإلى قصره الذي تركه دون تطهير، وإلى زوجته وولده، وأخذ يتسمع نحيب بلاد سومر عليه وينتحب لبكائها1.
عرفت دور العالم عند السومريين باسم بيوت الألواح "أي - دبا" سواء في ذلك إن كانت دورًا للتعليم فعلًا أم كان مجرد خزائن للكتب "مع شيء من التجوز في التعبير عن الألواح باسم الكتب". وكان المشرف عليها يُدعى أوميا، أي الخبير، ويلقب بلقب أبي الدار إذا كان معلمًا، ويشاكه في إشرافه على تلاميذه وعقابهم عريف أو أكثر. ولم يعثر بعد على مبانٍ يمكن القطع باعتبارها مدارس فعلية، وكل ما يمكن تقديمه في هذا السبيل، معلقًا على الاحتمال وحده، عدة بيوت وجدت في كل من مدن نيبور، وسيبار "أبو حبة قرب بغداد"، وأور، وتل حرمل "قرب إشنونا"، قد تكون بيوت معلمين أو مدارس؛ لأنها تميزت عما سواها بكثرة ألواح الكتابة التي وجدت فيها، ثم حجرتان في بيت بمدينة ماري "تل الحريري" اشتملتا على صفوف من المصاطب مختلفة السعة بنيت من الآجر، تتسع الواحدة منها لشخص أو شخصين أو أربعة أشخاص، وقد تكونان مكتبًا أو مدرسة.
ولما كان الخط المسماري خطًّا معقدًا في أشكاله الاصطلاحية وفي تعبيراته، كان من الطبيعي أن يستهلك التلميذ في تجويده سنوات طويلة، يتعلم خلالها ما يناسب سنه من صيغ الرسائل وقصائد المعبودات والمقطوعات الأدبية والأسطورية المناسبة، وعددًا من المفردات التي تتناول مطالب بيئته وخصائها، كأسماء الوظائف وأسماء الحيوانات وأسماء الأشجار والنباتات، وأسماء المعادن والأحجار، وهلم جرًّا2. ووجدت لوحة في تل حرمل تتضمن أسماء مئات من الأشجار والقصب والمواد ومنها حوالي مائة اسم لطيور خصص كل منها في نهايته بصورة طائر. وكان اسم مؤلفها أو ناسخها هو: أرا - إيمتي، وقد سجل اسمه فيها وقدم له بأسماء عدد من الأرباب رعاة المعرفة والآداب كما لو كانوا قد شاركوه كتابته بإيحاءاتهم فقال: نيدابا - خاي - جشتن - أنا - أرا - إيمتي بن نورم لبسي الكاتب كتبوه.
وقدم صمويل كرامر نصًّا مسماريًّا وصف تلميذ في طرفًا من حياته المدرسية بناء على أسئلة وجهت إليه3، ويفهم من ترجمة كرامر للنص أن التلميذ كان يبكر فيأخذ من أمه رغيفين، وينطلق إلى المدرسة
__________
1 كرامر: المرجع السابق - ص262.
2 نفس المرجع: ص47.
3 نفس المرجع - الفصل الثاني - لوحتا 11-12.(1/435)
مترددًا وهو يحسب للعريف ألف حساب، وعند دخوله يحرص على تحية المعلم، ثم يستظهر لوحة في فترة الصباح، وبعد أن يتناول غذاءه، يكتب لوحة الجديد أو يستكمله، وفي العصر يتلقى درسه المكتوب، وبعد الانصراف يعود إلى داره فيطلع أباه على درسه وعلى ما استظهره في يومه. غير أن مجهوده لم يكن يعفيه من أذى الضرب في المدرسة جزاء الثرثرة وكثرة الحركة أو جزاء الهرب أو لرداءة خطه. ولم يكن لمثله إلا أن يلجأ إلى أقصر الطرق، فأشار على أبيه بدعوة المعلم في داره ومهاداته، فاستجاب الأب وأكرم المعلم وكساه وأهداه. ويفعل الاسترضاء فعله، فما أن يعيد الولد قراءة ألواحه أمام معلمه حتى يستبشر المعلم ويعلن رضاه عنه ويبرر هذ الرضا بما تبينه من طاعته وعمله بإرشاداته ويبشره بمستقبل باسم يتفوق فيه على أقرانه بعد أن أصبح من مريدي المعرفة.
وبغير أن نفسد جمال الصورة التي رسمناها للآداب السومرية، لا بأس من أن نضيف إليها حقيقة واقعة، وهي أن ما استشهدنا به منها يمثل إنتاجها الرقيق وحده، أما غثها فكثير. وفيما بين الغث والثمين وقع أدب ديني أسطوري صور كيد الأرباب السومريين بعضهم لبعض وإسفاف بعضهم مع بعض وذلك بما يمكن تعليله بأن السومريين الأوائل عاشوا لفترات طويلة أمام الطبيعة وجهًا لوجه، ووجدوها طبيعة صاخبة بهيمية غير متميزة، فألصقوا نفس الصفات بأربابها، ثم تعدوا هذه المرحلة من التفكير بعد أن تهذبت حضارتهم، ولكنهم لم ينسوا تمامًا تصورات أجدادهم الأولى، فأورثوها لأحفادهم. وقد مر بنا من صورها كيف تخيلوا القمر وُلِدَ سفاحًا، وكيف اغتصبت إنانا ألواح القدر في إنكي. وصورت أسطورة لهم شدة حسد المعبود إنكي للمعبود إنليل على اجتماع الناس على عبادته بلسان واحد، الأمر الذي أدى به إلى أن أشاع الوقيعة بينهم وبين ربهم إنليل، وبلبل ألسنتهم، وذلك على الرغم من أن إنكي الحسود هذا كان يوصف بالذات بأنه حكيم الأرباب. وربط صمويل نوح كرامر بين هذه الأسطورة وبين ما رواه العبرانيون عن قصة برج بابل ووحدة الألسن القديمة ثم بلبلتها فيه نتيجة لغيره ألوهيم من طموح الإنسان ليكون شبيهًا بإلهه.
وصورت أسطورة أخرى المعبودة إنانا، بعد نزولها من السماء على هيئة بغي مقدسة أدركها التعب فنامت تحت شجرة في بستان بأرض شوبر "في غرب إيران"، فغافلها البستاني وقبلها وضاجعها ثم هرب منها إلى بلاد سومر بلاد إخوته أصحاب الرءوس السود، واحتمى بعمرانها، فصبت إنانا نقمتها على بلده وسلطت عليها عواصف مدمرة وملأت آبارها بالدم.
وأضافت أسطورة ثالثة عن بداية الخلق في جنة تلمون، أن إنكي رب الحكمة ضاجع ننخرساج وأنجب منها فتاة، ثم طمع في ابنته منها واستولدها حفيدة، وضاجع الحفيدة واستولدها هي الأخرى، وظل كذلك حتى نبهت ننخرساج الزوجة الجدة حفيدتها الرابعة ألا تستسلم لجدها حتى يمهرها بنوعين من النبات، فأتاها بالمهر ونكحها هي الأخرى. وهنا سلمت الجدة بالأمر الواقع, وانتوت الانتقام،(1/436)
واستخدمت النباتين في توليد ثمانية أنواع جديدة من النباتات، وكان لها هدف معين منها. فلما رأى الجد النهم النبت الجديد طمع فيه وأكله، فلعنته ننخرساج وهجرته. ولما أصابه السقم وأوشك على الهلاك، جد في البحث عن زوجته الغاضبة ولم يدله عليها غير ثعلب. ولما كانت حكيمة، كما تقول الأسطورة، وضعته بين وركيها وأخرجت من مواطن دائه تسعة أولاد1، بعد أن استعبر بنتيجة ما فعل.
__________
1 Kramer, From The Tables…, Ch. Xi, Xxv; Basor, 1945 “Supl. No. 1”; Anet. 73 F.; Th. Jacobsen “J.A.”, The Intellectual Adventures Of The Ancient Man, 157 F.(1/437)
نهاية أور:
تعرضت دولة أور في أواسط القرن العشرين ق. م لهزتين عنيفتين، صدرتا عن شعبين ناهضين، وهما: شعب الإلاميين "العيلاميين" وشعب الأموريين. أما الإلاميون أو العيلاميون فكانوا من جيران الدولة القدماء في شرقها، وكثيرًا ما صدمتهم وتصادموا معها، وناوأتهم حتى أخضعت بعض جماعاتهم لسلطانها، ولكن حدث لأمر ما أن انبعثت فيهم روح جديدة شجعتهم على مهاجمة أور في عقر دارها. وناوأ الأموريون بدورهم الدولة من غربها، والأموريون هم أولئك الفروع من الساميين الذين انتشروا في باديتي الشام والعراق وامتدوا حتى غربي الفرات، والذين سماهم السومريون القدماء أهل "مارتو" أي أهل الغرب، ثم سماهم بنو عمومتهم الأكديون باسم "الأموريين"، وهو اسم يؤدي نفس المعنى القديم أي أهل الغرب "وإن كان أحد معبوداتهم الكبرى قد سمي أمورو مما يحمل على الظن بنسبتهم إلى اسمه"1. وكان قرب مناطق الأموريين من صحراوات شبه الجزيرة العربية يزودهم من حين إلى آخر بهجرات من بني عمومتهم البدو الساميين، وهذه قد تنطوي في ظلهم حينًا، وقد تغلب بعض جماعاتهم على أمرها حينًا آخر، ولكنها كانت تجدد دماءهم وحيويتهم في أغلب الأحيان. وظلت ضفاض الفرات وخيراتها الطبيعية والحضارية مطمعًا للأموريين القريبين منها، حتى توافرت لهم أسباب هجرة كبيرة قوية، وهي أسباب يصعب تحديد تفاصيلها، ولكنها لا تخرج في أغلب الظن عن احتمال فرارهم من اشتداد موجات الجفاف في أرضهم، أو ارتفاع نسبة التكاثر الداخلي في قبائلهم، أو ظهور زعامات قوية طموحة بين صفوفهم، ثم إحسان أقرب جماعاتهم من أرض العراق بتخلخل قبضة أواخر ملوك أور على أطراف دولتهم لا سيما بعد أن انشغلوا بضغط العيلاميين على مشارفها الشرقية.
وسيطر الأموريون في بداية تغلبهم على مناطق الحوف. ومن كبرى المدن التي أخضعوها لنفوذهم مدينة ماري قرب نهر الفرات، وكانت لأهلها صلة قديمة بالعنصر السامي. وبدأ حكام المدن يوازنون بين الولاء للغزاة وبين الولاء للعرش السومري. وكان من هؤلاء أمير سامي الأصل يدعى إشبي إرا، من حكام ماري، أخذ يظهر الولاء للفريقين حتى يتكشف له الفريق الغالب منهما فينضم إليه ويأخذ من
__________
1 See, Edzard, Die Zweite Zwischenzeit Babylenien, 1957; Kupper, Les Namades En Mesopotamie, 1957.(1/437)
ثم يعمل لما فيه مصلحته. وصورت هذه الأوضاع رسالة أرسلها "إبي سين" آخر ملوك أور إلى قائد من قادته يُدعى "بوزور نوموشدا" تولى حكم مدينة كازاللو "وهي مدينة غير معروفة قد تقع شرقي دجلة"1، عاب عليه فيها تردده في مهاجمة رجل ماري "إشبي إرا"، بعد أن تلقى من هذا القائد رسالة أخبره فيها أن إشبي إرا بث عيونه حوله، وأنه لن يستطيع مغادرة أرضه إلا بعد أن ينزاح خطره عنه ... ورد إبي سين أسباب المحنة إلى القضاء والقدر وإرادة الأرباب وفساد الدولة، فقال لقائده: "قضى إنليل بالشر على سومر وهبط عودها من أرض ... وتولى زعامة البلاد. وترك إنليل الملكية لإشي إرا الرجل الوضيع غير السومري. وسجدت سومر في مجمع الأرباب، وقضى إنليل أنه طالما بقي أهل السوء فيها فلسوف يدمر إشبي إرا رجل ماري بنيانها ويكتسح أرضها2.
ويبدو أن إشبي إرا استمر في خداعه وادعى الغيرة على مدن أخرى غير ماري، فنقل نشاطه إلى مدينة نيبور ثم إلى مدينة "إسين" إلى الجنوب منها بنحو ثلاثين كيلومتر. ومن هناك أرسل إلى أبي سين يدعى أنه سوف يدافع عن المدينتين ويطلب المدد منه لهذا الغرض، ولكن الملك السومري ظل على سوء الظن به، فانتهزها إشي إرا وكشف القناع عن أطماعه وسيطر على المدينتين لصالحه واتخذ ثانيتهما عاصمة له، في نفس الوقت الذي اندفع فيه حلفاؤه الساميرون إلى قلب العراق وسيطروا على سهل سوبار3.
واعترف الملك السومري إني سين في رسالته إلى قائده بهذه الحقيقة المرة، وحاول معه محاولته الأخيرة، فتنبأ له بأنه إن ضل وجرى مجرى المنحازين إلى الساميين فلن يقدره العدو قدره، ودعاه من ثم إلى التزام جادة الصواب، وبشره بأن الأموري لن يبلغ مأربه؛ لأن إنليل سوف يكشف الغمة ويرسل جماعات جديدة من بدو مارتو يفسدون عليه أمره، وقد يهاجمه العيلاميون أيضًا، وحين ذاك تستفيد سومر من تنافس الخصوم وتستعيد مجدها القديم.
وشيئًا فشيئًا انقطع التاريخ باسم إبي سين السومري في مدينة بعد أخرى "مثل مدن إشنونا ولجش وأوما.." مما يعني انسلاخها عنه أو وقوعها في يد عدوه. وسواء تقدم العيلاميون حينذاك من تلقاء أنفسهم، أم استنجد بهم إبي سين كما يعتقد الباحث ياكوبسن، فقد استغلوا الظرف لمصلحتهم ومدوا سلطانهم حتى مدينة لارسا التي قامت على مقربة من أور وقامت على أطلالها بلدة سنكرة الحالية، وكانت مركزًا من مراكز عبادة الشمس، وعرف معبد إله الشمس فيها باسم إبابار. وكان المنتفع بهذه الخطورة ملك منطقة إيموتبال وهي منطقة شرقية قريبة من الحدود الإيرانية، جرت في حكامها دماء إلامية أو عيلامية، وكان يتلقب بلقب أدا إيموتبال بمعنى والدها. وبعد أن سيطر على لارسا لقب نفسه بلقب أدا الغرب وعين ولده وردسين ملكًا عليها.
__________
1 Anet, 480 N. 3.
2 Kramer, Anet, 480-481; A. Falkenstein, Az, Xlix “1949”, 59 F.
3 See, Jacobsen, Journal Of Cuneiform Studies, Vii “2”, 1953, 39; F.A. Ali, Archiv Orientaini, Xxxiii, 1965, 520-540.(1/438)
وكان لسقوط أور بين فكي الكماشة، في منتصف القرن العشرين ق. م، واقتسام مجدها بين العيلاميين وبين الأموريين، بل وبين جماعات جبلية دعت النصوص أصحابها باسم السوباريين1 نتيجة فيما يبدو لسيطرتهم على مناطق سوبار "أوسوبارتو"، دوي كبير في نفوس أهلها ونفوس السومريين بكافة. ونظم شاعر سومري خبر دمار أور "بعد فترة من حدوثه" في قصيدة، واعتبره دمارًا لسومر كلها2.
وبدأ الشاعر قصيدته بقوله:"فارق الفحل مقره وتفرق قطيعه مع الرياح" وقصد بالفحل هنا إله أور. ثم عدد أسماء المدن السومرية الكبرى وذكر أن أربابها ورباتها فعلوا فعلة إله أور، فهجر إنليل نيبور وتفرق قطيعه ... ، وهجرت إنانا أوروك، وهجر إنكي إريدو ... ، وهلم جرًّا. ثم أخذ ينعى مصائر المدن وينعى تساقط لبنات مساكنها، وبدأها بمدينة أور ... ، ثم انتقل إلى وصف قرار الأرباب بدمارها وسفك دماء أهلها، وكيف أنه "أي الشاعر" آثر ألا يتركها على الرغم مم أصابها، وأنه أخذ يسكب دموع عينيه لربه آن، ويبتهل لربه إنليل، ولكن ما من سميع ولا مجيب. واستمر نحيب الناس ... ، وامتلأت الطرق بجثث القتلى الذين حطمتهم الرماح والمقامع، وظلوا تحت وهج الشمس حتى أذابت الشمس شحومهم، أما من نجوا فقد ذلوا وجاعوا حتى تخلت الأم عن ابنتها، وهجر الأب ولده، وفارقت الزوجة زوجها ...
ونعت الربة نينجال بدورها الدمار الذي يلحق بداخل المدينة وخارجها، وقالت: ... تراكم الوحل في أنهار مدينتي، وأصبحت كأنها جحور الثعالب، وما عاد الماء يجري فيها. وهجرها عمالها، ولم يتبق غلال في حقول بلدي وهجرها مزارعوها، ... وأصبحت أجمات النخيل والكروم بعسلها ونبيذها "جرداء" كقمة الجبل "؟ "، ... ضاعت مدينتي ولم أعد ملكتها، وتحولت دارى إلى أطلال، وقامت مدينة غير المدينة ودار غير الدار، يا ويلي، أين أجلس وأين أقف؟. أنا نينجال طردت من داري ولم يعد لي مقر، وغدوت شريدة في مدينة غريبة.
ورد الشاعر على نحيب ربته نينجال بنحيب مثله، قائلًا: مليكتي، أصبح فؤادك كالماء، فكيف تعيشين؟ أيتها السيدة العادلة التي تخربت مدينتها كيف تعيشين؟ ... ، دموعك أصبحت دموعًا غربية، فالبلد لم تعد تذرف الدموع ... ، وإلى متى يا ترى ستظلين غريبة بجوار مدينتك؟ ثم تمنى لها أن تئوب إلى ديارها أوبة الفحل إلى حظيرته، والشاة إلى قطيعها، والطفل إلى مهده، ودعا لها بأن يقضي لها آن ملك الأرباب بالأمان؛ ويمنحها إنليل ملك الدنيا الحظ "السعيد" حتى تعود أور إلى حالها من أجلها، وتمارس فيها سلطانها.
ويرى ياكوبسن أن تأليف القصيدة لا يتأخر أكثر من سبعين عامًا أو ثمانين عامًا بعد تدمير أور، بينما يستبعد كرامر مثل هذا التحديد ويكتفي بافتراض تأليفها فيما بين انتهاء عصر أور وبين العصر الكاسي.
__________
1 See, Anet, 460.
2 Th. Jacobsen, Ajsl, Lviii, 219 F.; M. Mitzel, Orientalia “New Series”, Xiv “1945”, 185 F.; Xv, 46 F. See, S.N. Kramer, Op. Cit., 455, See Also, Anet, 1969, 611-619.(1/439)
في عصر إسين - لارسا:
كان من الطبيعي أن يتنافس الغزاة الأموريون والعيلاميون على السلطان في العراق، فاستمرت الحروب سجالًا بينهما، وسمح هذا التنافس الحربي لبعض مدن العراق القديمة بأن تستأنف سيرها الحضاري على غفلة من هؤلاء وهؤلاء، وشجعها على ذلك أن الأموريين أنفسهم احتضنوا الحضارة السومرية الأكدية في العاصمة "إسين" وسمحوا لها بالنمو في مدنها القديمة، ولم يصروا على إرغام هذه المدن على الانطواء معهم في وحدة سياسية دائمة على الرغم من تلقب ملوكهم باللقب العريض المألوف لقب "ملك سومر وأكد".
ويبدو أن العيلاميين "الإلاميين" اتخذوا من جانبهم خطوة مماثلة، فتركوا لمدينة "لارسا" استقلالها الذاتي، واكتفوا بأن ولوا عليها أمراء من بيتهم المالك، وحمل بعض أولئك الأمراء كنيات سامية مما قد يعني أنهم بدورهم قد اختلطوا بالساميين العراقيين وتعايشوا معهم. وإن ظلت الأطماع السياسية تلعب برءوسهم في مقابل أطماع الأموريين.
ومع هذه السياسة من الأموريين والعيلامين دلت نصوص هؤلاء وهؤلاء على اهتمام زعمائهم المقيمين في إسين ولارسا، بالعمائر الدينية القديمة، وذلك مثل تجديد زقورة أور في عهدي إشمي داجان ملك إسين وعهد وردسين ملك لارسا، وتعيين إشمي داجان ابنته إناناتم كبيرة لكاهنات ننا "أنو ننار" رب القمر السومري.
وكشف الأثري ليونارد وولي عن ضاحية سكينة لمدينة أور بلغ اتساعها نحو عشرة آلاف ياردة مربعة وشيدت مساكنها في عصر إسين - لارسا، وهي بيوت بنيت قواعدها من الآجر وأقيمت بقية جدرانها من اللبن، ولم تختلف فيما بينها إلا من حيت مساحاتها. فالمنزل المتسع منها كان ذا فناء داخلي مرصوف بقوالب الآجر يتلقى الضوء والهواء من كوة كبيرة بطنف السقف العلوي للطابق الأول، وتتفتح عليه غرف الجلوس وغرف الضيافة، وتتفرع منه ملحقات الدار الصغيرة، ويبدأ من إحدى زواياه الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي. وجرت العادة على أن تسكن الأسرة في هذا الطابق العلوي الذي تطل شرفاته الخشبية الداخلية على الفناء وتعتمد على أساطين خشبية أيضًا ترتكز قواعدها على أرضيته. وتميزت بعض المساكن بمقاصير للعبادة الخاصة، وتضمنت بعضها مقابر أهلها تحت مقاصيرها أو تحت أرضية إحدى حجراتها السفلية. أما الطرقات فكانت ضيقة غير مرصوفة تتناثر فيها هياكل العبادة الصغيرة التي لا يزيد بنيانها أحيانًا عن قاعة واحدة أو قاعتين1.
__________
1 Antiquaries Journal, Vii, Pls. 41-42; Xi “1931”, 359 F(1/440)
تشريع إشنونا:
انتعشت دويلات المدن العراقية شيئًا فشيئًا من جديد وعاش بعضها بعد سقوط أور بفترة طويلة، وساعدها على ذلك أن نهضتها كانت نهضة فكرية أكثر منها عدائية أو توسعية، الأمر الذي صرف عنها حقد إسين ولارسا. وكان من أنشطها دويلة مدينة غشنونا التي يقوم على بعض أنقاضها الآن تل أسمر في منطقة ديالي على الطريق التجاري بين العراق وبين إلام. وكانت فيما يبدو أكثر ميلًا إلى السامية منها إلى السومرية على الرغم من موقعها، واعتبرت تشباك إلهها الأكبر، واتسع نشاطها إلى قرب كركوك. وخير ما يذكر لأهلها هو خروجهم بتشريع مكتوب في أوائل القرن التاسع عشر ق. م أو قبلها بقليل1. ووجدت بعض لوحاته في تل أبي حرمل قرب بغداد، ويعتبر هو التشريع الثاني من نوعه بعد البداية التي قام بها أور نمو ملك أور، أو هو الثالث بعد المحاولة الإدارية التي قام بها أوروكاجينا في لجش. وبقيت منه إحدى وستون مادة عاجلت أهم جوانب الحياة في عصرها وشهدت بالكفاية التشريعية لأصحابها، فاهتمت طائفة منها بتحديد أسعار الأقوات الضرورية لسواد الشعب مثل الشعير والزيت والملح، وجعلت كور الشعير بشاقل فضة وسعرت الثلاث "قا" من أحسن صنوف الزيوت بشاقل فضة، وكوري الملح بشاقل فضة، والقا من زيت السمسم الفاخرة بثلاث سيات من الشعير، إلخ. وقامت بذلك مقام التسعيرة الجبرية.
واهتمت مجموعة ثانية بتعيين الحد الأدنى "؟ " لأجور العربات والقوراب ومن يعملون عليها، والحد الأدنى "؟ " لأجور العمال الزراعيين. فجعلت أجرة العربة بثيرانها وسائقها طوال اليوم بانا و4 سيات من الشعير أو ثلث شاقل فضة، وجعلت أجرة نقل حمولة كور بالقارب 2 قو شعير، وأجرة المراكبي سية وقو من الشعير على أن يعمل على قاربه طوال اليوم، وجعلت إيجار المكاري وحماره طوال اليوم سيتين من الشعير أو وزن 12 حبة من الفضة، وجعلت أجرة الأجير في الشهر شاقلا من الفضة وبانا من الشعير، إلخ.
واهتمت مجموعة ثالثة بتحديد العقوبات على جرائم عصرها وعلى الأضرار التي تلحق بالغير، وجمعت في ذلك بين القصاص الغرامة فرضيت بالقتل عقابًا للقاتل، ولكنها أقرت مبدأ التعويض على الجروح التي لا تؤدي إلى الوفاة شأنها في ذلك شأن تشريع أور، فقضت على من عض أنف شخص أو اقتلع عينه بأن يدفع غرامة قدرها مينه من الفضة "وكانت في تشريع أور ثلثي مينه فقط مما يعني الرغبة في تشديد الجزاء"، وقضت على من كسر سنًّا لآخر أو قدمه أو قطع أذنه بأن يدفع نصف مينه من الفضة. وقضت على من شوه وجه آخر بأن يدفع له عشرة شواقل من الفضة. وألقت مسؤلية ما يأتيه العبد أو الفحل أو الكلب على كاهل صاحبه.
وعنيت مجموعة رابعة من تشريعات إشنونا بتنظيم العلاقات الأسرية والمعاملات الخاصة، فاشترطت رضا الوالدين على زواج ابنتهما، وذكرت أن من أغوى فتاة على معاشرته دون أن يعقد عليها أمام والديها
__________
1 نسب A. Goetze التشريع إلى الملك بلالا ما "مجلة سومر 1948"، ثم عدل عن هذه التسمية واكتفى بنسبة التشريع إلى مدينه.
See. A. Goetze, The Eshnunna Law, 1956.
وترجم طه باقر بنود التشريع في الجزء الثانيط من المجلد الرابع لمجلة سومر - وانظر أيضًا سومر 1961.(1/441)
لن تصبح زوجته ولو أقامت في داره حولًا كاملًا. وأخذت بما سنته أور من أنه إذا تعاقد رجل مع شاب على تزويجه ابنته ثم زوجها لغيره وجب عليه أن يرد له ضعف ما أخذه منه، ونصت على حق المحارب الذي يؤسر مدافعًا أو غازيًا وينقل إلى ديار أعدائه، في أن يسترد زوجته حين عودته ولو تزوجت غيره خلال غيابه عنها، ولكنها حرمت هذا الحق على من فارق بلده كارهًا له أو آبقًا من سيده. وجعلت القتل عقابًا للزوجة الزانية وعقابًا لمن يغتصب فتاة مخطوبة ... ، ونصت على أنه على من طلق زوجته ذات الأولاد وتزوج غيرها أن يفارق الدار وما فيها هو ومن أراد أن يتبعه من أهل داره، وفي هذا سبق من التشريعات العراقية القديمة لكفالة حقوق الزوجة الأم عما تطلعت إليه بعض القوانين الحالية.
واستنت سنة الشفعة، فاعترفت بأن الإخوة أحق بشراء نصيب أخيهم من الميراث إذا أراد بيعه، وبأن من باع دارًا أصبح أحق بشرائها ثانية لو باعها مشتريها.
وحددت أرباح القروض معدنية كانت أم عينية فجعلت ربح الشاقل من الفضة سدسًا وست حبات، وجعلت ربح كور الشعير بانا وأربع سيات من نفس نوعه.
غير أن كل هذه المكاسب التشريعية كانت لأحرار إشنونا، حتى الفقراء منهم، دون العبيد الذين أهدرت حقوقهم. فقد حرصت مجموعة خامسة من التشريعات نفسها على تأكيد حقوق القصور الملكية والمعابد والسادة فيما يمتلكون من العبيد والجواري والعقارات، فحرمت على الرقيق والإماء الموسومين بأسماء سادتهم أن يجتازوا بوابة إشنونا دون إذن سادتهم، وأكدت حق السادة في امتلاك أبناء جواريهم ولو رباهم غيرهم، وحرمت على أي من العبد والجارية أن يتاجر لحسابه، وتوعدت من يتعامل معه، أي أنها اعتبرت العبد لا يملك شيئًا، وأنه هو وما يملكه ملك لسيده، وإن لم تكن هذه النظرة إلى طبقة الأرقاء والعبيد غريبة تمامًا عن نظرة بقية الشعوب القديمة المعاصرة لها.
وفرضت التشريعات عشرة شواقل من الفضة على من يضبط نهارًا في حقل رجل من الموشكينو أو في داره، ويعتبر الموشكينو من اهل الطبقات العادية من الأحرار ويبدو أنها عنت بهم من يعملون لصالح القصور الملكية والمعابد بخاصة. وفرضت الإعدام من يضبط ليلًا في حقل رجل من الموشكينو أو في داره، ولعل التشديد في عقوبة سارق الليل ترجع إلى أنه قد لا يتورع عن ارتكاب جريمة القتل متسترًا بالظلام ولا يكتفي بالسرقة.
وهكذا تناولت تشريعات إشنونا أغلب مشكلات الحياة في عصرها، وأدى العثور على ألواحها الباقية في تل حرمل إلى جانب العثور على بعض تشريعات أور من قبلها إلى تعديل الفكرة القديمة الشائعة التي اعتبرت تشريعات حمورابي البابلي أقدم تشريعات مكتوبة في بلاد النهرين أو في الوجود. ويبدو أن حرمل هذه التي تبعد نحو ستة أميال شرقي بغداد، كانت تسمى "شادوبم" وتحتمل بداية عمرانها في منتصف الألف الثالث ق. م، ولكن ترجع أهم مبانيها ولوحاتها إلى النصف الأول من الألف الثاني ق. م. ومن هذه المباني معبد مسطح يتألف من مدخل وساحة ومقصورة تقع كلها على محور واحد، وأطلال قصر متسع،(1/442)
ومعابد أخرى صغيرة، وعدة بيوت وجدت فيها ألواح ذات صبغة تعليمية مما يوحي بانتماء بعضه إلى مدرسة، وذلك فضلًا على لوحات القانون سالف الذكر. أما من حيث الطابع الثقافي فقد جمعت آداب أبي حرمل أو إشنونا بين الثقافتين السومرية والسامية وغلبت الأخيرة، ووجدت لها لوحات للأسلوبين، كما وجدت منها لوحات كتبت نصوصها باللغتين1، وذلك على العكس من مدن أخرى ظلت وفية لثقافتها السومرية القديمة مثل نيبور.
__________
1 See. Sumer, Ii, 19 F.; Iii, 48 F.; Iv, 52 F., 63 F., 137 F.; V, 34 F.; Vi, 4 F.; 39 F. Vii, 28 F.; 126 F.; Xi, Pls. I-Xvi, Xvi, Xiii, 65 F.(1/443)
تشريع إسين:
يبدو أن صدور تشريع إشنونا "وتشريع أور من قبلها" شجع مدنًا عراقية أخرى على تجميع تقاليد عرفها وتنظيمها وتقنينها وتسجيلها. فخرجت إسين كبرى عواصم الأموريين بتشريع مكتوب في عهد لبت إشتار "أو لبت عشتار" خامس ملوكها في النصف الأول من القرن 19ق. م، أي بعد تشريع إشنونا بنحو نصف قرن1. وسجل رجاله تشريعهم على نصب حجري كبير لم يعثر عليه بعد، وسجلوا نسخًا أخرى منه على ألواح طينية صغيرة عثر منها حتى الآن على سبع لوحات تفاوتت في مدى اكتمالها وأعداد سطورها2، وتضمنت في مجملها ثماني وثلاثين مادة يحتمل أنها ألفت نحو نصف مواد التشريع.
اتخذ لبت إشتار في مقدمة تشريعه لقب ملك سومر وأكد، واعتبر نفسه ولدًا للإله الأكبر إنليل، ووصف نفسه بأنه الراعي الحكيم، ولكنه عقب على ذلك بأنه راعٍ متواضع وأنه مزارع. وأكد رعايته للمدن السومرية العتيقة نيبور وأور وإريدو وأوروك، وافتخر بأن ربه وهبه إمارة البلاد ليحق الحق فيها ويعمل على إسعاد السومريين والأكديين جميعهم، ويقاوم الفساد والقلاقل بقوة السلاح، ثم أكد أنه استوحى تشريعه من الرب أوتو "رب الشمس" والرب إنليل، وأقر كلماتهما المقدسة. وذلك قول فسرناه من قبل بالرغبة في كفالة الشرعية والاحترام والنفاذ للتشريعات. ثم ذكر أنه ابتغى أن يحرر أبناء مدن سومر وأكد وبناتها من الرق الذي فرض عليهم. وليس فيما بقي من تشريع لبت إشتار غير قليل بمكن ربطه بدعوة تحرير الرق التي تعهد بها، ولكنه على قلته يعتبر مفخرة لزمانه، فقد عالج ما أهملته التشريعات السابقة له من حقوق الرقيق وأباح للعبد أن يحرر نفسه إذا دفع لسيده ضعف ما اشتراه به "وذلك بما يشبه نظام المكاتبة في الشريعة الإسلامية". ولكنه فرض على من آوى عبدًا أبقًا في داره شهرًا أن يعوض أصحابه عنه عبدًا آخر أو يدفع عنه خمسة عشر شاقلا من الفضة، وصدر لهذا النص الجزائي شبيه في تشريع أور بالنسبة للجارية.
__________
1 وسبق تشريع حمورابي بنحو قرن ونصف قرن.
2 عثر على ست لوحات في نيبور، نقلت منها إلى متحف الجامعة بلندن، ويحتفظ متحف اللوفر باللوحة السابعة ولكن مصدرها غير معروف.
See, Francis Steele, “The Code Of Libit Ishtar”, American Journal Of Archaeoloy, Lii “1948”, 425 F., Szlechter, Ra, 1957, 57 F.; 177 F.; 1958, 74 F.; S.N. Kramer, Anet 159 F.(1/443)
وشهدت ألواح إسين باستجابة أصحابها لدعوة ملكهم. ومن أطرف حالات العتق التي صورتها قصة لزوجين أعتقا جارتيهما وحرما على أولادهما أن يسترقوها، وسمحا لها بالبقاء في دارهما حيث هي1.
وتناولت بنود التشريع الباقية أجور المراكب، وبعض حالات الملكية والمواريث وبعض حالات التعويض. فنصت بنود الملكية على أنه إذا جاورت أرض بور منزلًا عامرًا، وأنذر صاحب المنزل صاحبها بخوفه من أن يعتدي معتدٍ على منزله عن طريقها، ثم سرق منزله فعلًا، وجب على صاحب الأرض أن يعوضه عما سرق منه. ونصت على أنه إذا عجز مالك أو مالكة عن دفع ضرائب أرضه "الحكومية؟ "، وسددها شخص آخر ثلاثة أعوام حق لهذا الأخير أن يستولي عليها دون اعتراض من صاحبها.
ونصت تشريعات الأسرة على أنه إذا أنجب زوج أولادًا من جاريته وحررها، لا يحق لأولادها أن يشاركوا أبناءه من زوجته الشريعة في ميراثهم منه. وعلى العكس من ذلك إذا اتخذ رجل لنفسه حظية ولو "من الميدان العام"، مع عقم زوجته، وجب عليه أن ينفق على حظيته وأن يورث أولادها منه، ولكن ليس له أن يسكنها في داره ما دامت حليلته على قيد الحياة "وفي ذلك بعض التقدير لكرامة الزوجة الشرعية ومراعاة مشاعرها كعاقر محرومة". فإذا هجر رجل زوجته وبنى بغيرها، وجب عليه ان يستمر في الإنفاق عليها مادامت باقية في داره.
وتعدت التشريعات تعويضات الإضرار بالبشر إلى تعويضات أصحاب حيوانات الإيجار عن الأضرار التي تصيب حيواناتهم، فمن استأجر ثورًا وقطع أنفه "من حيث يوضع المقود" دفع ثلث ثمنه، فإذا فقأ عينه دفع نصف ثمنه، وإذا كسر قرنه أو قطع ذيله دفع ربع ثمنه.
ويحتمل من بعض الوثائق القضائية أن المحاكم كانت تأخذ بما يشبه نظام المحلفين، فقد تحدثت إحدى هذه الوثائق عن ثلاثة رجال: حلاق وبستاني وشخص ثالث لم تذكر مهنته، قتلوا أحد موظفي المعابد، وبلغ من فجورهم أن أخبروا زوجة القتيل بجريمتهم، ولكنها لسبب ما لم تبلغ الأمر إلى السلطات المسئولة، وعندما ترامى خبر الجريمة إلى أسماع الملك أور نينورتا ملك إسين أحال القضية إلى مجمع المواطنين في مدينة نيبور. وفي المحكمة طالب تسعة بإعدام القتلة والمرأة أيضًا، وكان منهم صياد طيور وفخراني وحاجب وبستاني ... ، ولكن وقف اثنان آخران، موظف بمعبد وبستاني، وتساءلا عن جريمة المرأة، وقالا إنها لم تشترك في القتل، ويحتمل أنهما بررا سكوتها بأن زوجها لم يكن يقوم بإعالتها. ويبدو أن المحكمة أخذت بهذا الرأي واكتفت بإعدام القتلة2. وهذا إن صح يعني أنه لم يكن من بأس في الأخذ برأي القلة ما دام صائبًا، ولم يكن من
__________
1 Revue D’assyriologie Et D’archeologie Orientale, Xiv.
ديلابورت: بلاد ما بين النهرين - ص81.
وانظر كرامر: المرجع السابق - ص123-127.
2 Edward Chiera, Old Babylonian Contracts, No. 173 But See, T. Jacobeen, Anakcta Biblica, Xii “1959” 133 F.; J.J. Finkelstein, Anet, 1969, 542.(1/444)
بأس في الاستنارة برأي العقلاء من العامة في شئون القضاء، وكل من المبدأين مقبول، وكان ثانيهما معمولًا به في أقاليم مصر القديمة.
وروت التقاويم العراقية قصة طريفة عن تاسع ملوك إسين "إرا إميتي"، فذكرت أنه اختار بستانيًّا يُدعى "بعل ابني" واعتبره بديلًا له واطمأن إليه فرفعه على العرش وألبسه تاجه، ولكن حدث أن زهقت روح الملك فجأة وهو يزدود ثريدًا ساخنًا، فاستغل البستاني الموقف لصالحه واستمسك بالعرش وحكم البلاد حكمًا فعليًّا. ويحتمل حدوث واقعة موت الملك خلال قيامه بشعيرة دينية بمناسبة خسوف القمر الذي يعتبر خسوفه نذير شؤم للحكام1.
__________
1 E. Ebbeling, Op. Cit., 336; And See. A. Ungand, Orientalia “N.S.”, Xii “1943”, 194 F.; R. Labat, Le Caractere Religieux De La Royaute Assyrobabylonienne, Paris, 1939, 104 F.; Frankfort, Kingship And The Gods, Chicago, 1947, 263 F.(1/445)
في لارسا:
لم تتخلف العاصمة الكبيرة الثانية "لارسا" عن ركب عصرها، فتوسعت في استخدام الكتابة لتسيجيل أغلب أمورها اليومية، شأنها شأن المدن المتحضرة في عصرها، ومن عقودها الطريفة الباقية وثيقة بين راعٍ وبين صاحب ماشية عهد إليه بتربية 446 رأسًا من الأغنام والماشية، فتعهد له من ناحيته بأن يعوضه عما يفقده منها، وأقسم على تعهده باسم ملك عصره "وردسين في الربع الثاني من القرن 18ق. م"، ثم وقع على الوثيقة بخاتمه ستة توقيعات، وشهد عليه فيها سبعة شهود، ثم أرخها الكاتب بعام بناء السور العظيم "وهو العام العاشر من حكم وردسين"1.
ووثيقة أخرى، استأجر مالك بها عاملًا يُدعى "سين إشمائي" "أي سين إسمعني"، حولًا كاملًا، وحدد له فيها أجره السنوي ستة شواقل من الفضة، دفع له أربعة منها مقدمًا، وأشهد الكاتب عليه فيها ثلاثة شهود، ثم أرخها بيوم محدد وشهر محدد من العام الثلاثين لهزيمة إسين، على حد قوله2.
وكان المتسبب في هزيمة إسين التي ذكرها هذا التاريخ هوريم سين ملك لارسا في العام التاسع والعشرين من حكمه، بعد فترة تنافس شديد بين أسرته الحاكمة وبين ملوكها، وكان انتصاره عليها حاسمًا مدمرًا لم يترك لها بعد غير استقلال داخلي ضئيل، وظل رجال دولته يؤرخون بذكره نحو ثلاثين عامًا3.
وثمة لوحة تضمنت على وجهيها تمرينًا تعليسيًّا قام على أساس تدوين عدد من البنود القانونية التي يحتمل ردها إلى عصر إسين - لارسا، وإن صعب تحديد تشريعها4. ومنها أنه إذا ضرب رجل امرأة حرة فأجهضها
__________
1 Th. J. Meek, Anet, 218 “Also Ajsl, Xxxiii, 203 F., No. 3”,.
2 Th. Meek, Op. Cit., 219 “P. Koschaker Und A. Ungand, Hammurabi Gesetz., Nr. 1676”
3 See, Anet, 219, N. 39.
4 Finkelstein, Jaos, 1966, 357 F.; Anet, 1969, 525-6, And 545,(1/445)
عن غير قصد، غرم عشرة شواقل فضية، فإذا أجهضها عامدًا غرم ضعف ذلك "أي 20 شاقلا"، وإذا تنصل ولد "بالتبني" من أبويه وجهر بذلك أمامها حرم من إرثهما وجاز لهما بيعه بيع الرقيق. وإذا استغنى أبوان عن ولدهما "المتبنى" تنازلا له عن بعض أملاكهما. وإذا أغرى رجل فتاة حرة في الطريق واغتصبها ولم يكن أبواها على علم بخروجها إلى الطرقات، جاز لهما أن يلزماه بتزوجها. فإذا كان خروجها عن رضا منهما، وأنكر الذي اغتصبها علمه بأنها من الحرائر وأقسم على ذلك أمام بوابة المعبد، برئ.(1/446)
في الفن:
صاحب الرقي الفكري في عصر إسين - لارسا، نشاط فني محلي في النقش والنحت، وتمثلت شواهد النقش حينذاك في لوحات ملونة من الطين المحروق قامت على مذابح المعابد "وشابهت لوحات القديسين في أديرة العصور الوسطى"، وتوضع بحيث تواجه المتعبد وتقوم أمامه مقام تمثال معبوده، ولذلك ظهرت هيئاتها بارزة مجسمة وشكلت بتصوير أمامي وليس جانبيًّا كالمعتاد. وعبرت هذه اللوحات عن هيئات الأرباب ورموزهم، فصور بعضها إله الشمس تخرج الأشعة من ساعديه. وصور بعضها ربة الموت على هيئة فتاة عارية بوجه ممتلئ حاو قوي الشكيمة وساقي طائر كاسر ومخالبه، وكان أصحابها يرمزون إليها بجانب صورتها البشري بهيئة البومة ويعتقدون أنها تطوف في الليل دون أن يسمع لها صوت1.
واحتفظ الأفراد في بيوتهم بلوحات مماثلة ولكنها صغيرة، يحتمل أنهم كانوا يقيمونها فوق مذابحهم الأسرية، ويصورون فيها هيئة المعبود الذي يتبركون بصورته ويعتبرونه راعي أسرتهم، مثل المعبودة نينتو ربة الولادة2، والمعبودة جولا التي رمزوا إليها بهيئة كلية ترضع أجراءها3، وذلك إلى جانب لوحات أخرى ذات طابع دنيوي تخدم غرض الزخرف4.
واشتركت اللوحات والتماثيل الصغيرة في تمثيل مردة مخيفين قد يرمزون إلى الكائنات الخرافية التي روت قصص الخليفة السومرية أنها عاشت في الهوة الأولى أو المحيط البدائي، وكانت ذات طبائع مزدوجة وخلقات مركبة، بحيث قد يمثل أحدها بوجهين أو بأربعة وجوه، أو يمثل بما يجمع إليه خصائص الذكر والأنثى، أو خصائص الإنسان والحيوان ... 5.
ولم يحل وجود لوحات العبادة تلك دون إقامة التماثيل المعتادة للأرباب والحكام وكبار الكهنة، أو نذور المتعبدين في ساحات المعابد ومقاصيرها وعند مداخلها. وتفاوتت هذه التماثيل في مادتها ومدى إتقانها.
__________
1 Frankfort, The Art And Architecture Of The Ancient Orient, Pl. 56, P. 56; Archiv. F. Orient-Forschung, Xii, 128 F.
2 Frankfort, Op. Cit., Pl. 58 C; Jens, 1944, 198 F.
3 Frankfort, Op. Cit., Pl. 59 A.
4 Ibid., Pl. 59 B-C.
5 Ibid., Pls. 58 A-B, 66.(1/446)
فصنعت من الصلصال والجص والحجر والمعدن1. ومن أمتع ما بقي منها في المعابد تمثال دقيق لكلبة "تشبه فصيلة البولدوج" تحمل آنية فوق ظهرها وتلتفت برأسها، ومثل الفنان شعر رأسها وتهدل أذنيها وطيات عنقها وتفاصيل مخالبها تمثيلًا صادقًا بارعًا، وسجل على بدنها إهداء من سومر إيلو ملك لارسا إلى إحدى ربات لجش2. وتجري مجرى هذا التمثال الصغير من حيث الإتقان عدة أوانٍ نقشت سطوحها بأشكال حيوانية وجسمت رءوس حيواناتها وأطلت مقدماتها من زوايا الآنية وطعمت عيونها تطعمًا بارعًا3.
واحتفظت مدن إسين ولارسا وإشنونا وماري وآشور بنماذج من فنون عصرها. وتعتبر فنون ماري أمتعها أسلوبًا وتعبيرًا، وكانت كذلك منذ عصر الإحياء السومري، ويبدو أن قربها من مواطن الحضارة الشامية كفل لها ثروة متنوعة من أساليب الفنون الشامية والعراقية في آن واحد، فتخير فنانوها ما يناسب أذواقهم من الجانبين، وظلوا أميل إلى إيثار المذهب الواقعي والأسلوب السلس وطابع السماحة في فنهم، وذلك بحيث لا يخلو أكثر تماثيلهم غلظة من ملامح الطيبة والوداعة4. وتجلت في تماثيلهم بوجه عام طراوة مستحبة في تشكيل خطوط الأجزاء العارية من الجسم وتشكيل طيات الثياب وزركشاتها5. وتأثرت تماثيل المعبودات بروح البساطة نفسها، فبقي منها تمثال لمعبودة لا تكاد بملامح وجهها واسترسال شعرها وطراز ثوبها وصورة قلادتها تختلف عن هيئات سيدات شمال سوريا الحاليات في شيء كثير، وقد ضمت إلى صدرها آنية أسطوانية صغيرة اتصلت فتحتها السفلى بجسم تمثالها، ويحتمل أن الماء كان يصلها عن طريق أنبوبة في ظهره ويندفع منها إلى حوض تطل عليه بما يشبه تماثيل النافورات6.
وظلت تماثيل آشور في أخشن تماثيل عصرها7، بينما ظلت تماثيل إشنونابين بين8.
واحتفظت كل من إشنونا وماري بأطلال من قصور حكامها، ويرجع قصر إشنونا إلى عصر تبعيتها لدولة أور الثالثة، ويبدو أنه تضمن إلى جانب مقر صاحب إدارات الحكم الرئيسية في إمارته، وكان من طابقين، ويفضي مدخله إلى ممر جانبي مسور طويل يتعين على الداخل أن يسلكه قبل أن يصل إلى الفناء الداخلي الكبير، ثم يقطع هذا الفناء على طريق ممهد بالطين قبل أن يبلغ مجلس الأمير، وذلك بما يكفل الأمان لصاحب القصر ويسمح لحراسه بمراقبة الداخلين إليه. وقام في طرفي القصر معبدان، معبد صغير؛
__________
1 Syria, Xix, 1938, Pl. X; Frankfort, Lioyd, And Jacobsen, The Gimilsin Temple And The Palace Of The Rulers Of Tell Asmar, 1940, 206-214 And Fig., 108-122.
ل. ديلابورت: المرجع السابق - ص220-221.
2 Frankfort, The Art And Architecture…, Pl. 67 B.
3 Ibid., Pl. 67 A; Encyclopedie Photographique De L’art, I, 248-249.
4 Frankfort, Op. Cit., Pl. 61 A-B.
5 "تمثالا بوزور عشتار وإدو إنو" Ibid. Pls. 60, 61 C.
6 Ibid., Pl. 62, P. 58.
7 W. Andrae, Das Wiederstehends Assur, 1938, 88, F. Taf. 44.
8 G. Contenau, Manuel, 801-3, Figs. 559-61.(1/447)
وآخر كبير أقامه حكام القصر باسم شوسين ملك أور في عهد تبعيتهم له، ثم ضموه إلى قصرهم بعد أن ضعف شأن دولته1.
وكفل لقصر ماري شهرته الخاصة، اتساع مساحته ورسوم جدرانه وكثرة ملحقاته وكثرة الألواح المكتوبة التي عثر عليها في ديوان سجلاته2. فقد شغل القصر نحو ستة أفدنة، وتضمن مائتين وستين حجرة بجدران مرسومة ملونة أخذت مناظرها بما أخذ به فن النحت في عهدها من واقعية الملامح وسلاسة الخطوط وحيوية الطابع وبساطة الأداء وتفاصيل الأزياء، فصورت مناظر حربية وأسطورية وقصصية ودينية لم يبق منها للأسف غير أجزاء يسيرة، وأحاطت بها إطارات ضيقة تتألف من شجيرات وكائنات خيرة وأخرى مخيفة، وإطارات زخرفية ذات وحدات لولبية تشبه مثيلاتها في الفن الإيجي. ولا تزال أكثر مناظر القصر حيوية مناظر مواكب القرابين وتصور رجالًا بوجوه نحيفة دقيقة ولحى طبيعية قصيرة يغطون رءوسهم بقلانس بعضها مرتفع يشبه القاووق، وبعضها عريض منخفض بشرائط بيضاء يشبه البيريه، وبعضها يشبه الطواقي الصوفية التي يلبسها أهل الجبال. ويرتدون ثيابًا مقفولة بحلفات واسعة تحت الرقبة، وعباءات زركشت أطرافها بأهداب تشبه ريش الطيور أو فلوس السمك ... ، ويسوق بعضه ثيرانًا كسيت أطراف قرونها بحليات معدنية وتدلت على جباهها حليات هلالية، وعبر الرسام عن تجعدات جلودها وشعور رءوسها تعبيرًا بارعًا بألوان متدرجة اكتفى فيها كلها باللون الأسود ومشتقاته.
واحتفظت لوحة مسمارية من أواسط الألف الثاني ق. م بنموذج لما كانت عليه صورة المدن السومرية خلال عصر إسين - لارسا، أو بعده بقليل، في هيئة تخطيط أو خارطة لمدينة نيبور "نفر" السومرية التي نسبها أهلها إلى معبودهم الأكبر إنليل، فسموها "إنليل كي" أي مقره. وهي خارطة كتبت أبعادها بالأرقام وبوحدة الجار القياسية "وتعادل اثني عشر قدمًا"، وسجلت عليها بياناتها المختصرة باصطلاحات سومرية وأكدية. وصورت نيبور قريبة من موارد الماء والزراعة يحد نهر الفرات "بورانون" جنوبها الغربي وتحد شمالها الغربي قناة، ويحيط بها سور كبير تنفتح في ضلعه الجنوبي ثلاث بوابات سميت بأسماء: البوابة السامية، والبوابة العظيمة، وبوابة الأنجاس "؟ " "كاجال موسو كاتم". وتنفتح في ضلعه الجنوبي ثلاث بوابات أيضًا سميت بأسماء بوابة إله القمر "كاجال نانا"، وبوابة أوروك "وتقع أوروك إلى الجنوب الشرقي من نيبور"، والبوابة المواجهة لمدينة أور. وتضمن الضلع الشمالي للسور بوابة واحدة سميت "بوابة ترجال" "حاكم العالم السفلي". وحف بالمدينة خندقان، خندق "خريتم" يوازي سورها الجنوبي الغربي، وآخر يوازي سورها الجنوبي الشرقي. وصور داخل المدينة بيوت على هيئة مستطيلات متفاوتة السعة، وبستان كبير، ومعبدان على أقل تقدير، معبد "إكور" "بمعنى البيت الجبلي"،
__________
1 Op. Cit., P. 52, Fig. 19; Frankfort, Lioyd And Jacobsen, The Gimilsin Temple And The Palace Of The Rulers Of Tell Asmar, Pl. I.
2 A. Parrot, Mari, 1945, 1953; C.F. Jean, Six Compognes De Fouilles A Mair…, Paris, 1952.(1/448)
ومعبد "كي - أور"، فضلًا عن معبد آخر يقع في ضاحية المدينة خارج سورها يسمى إسماخ بمعنى المعبد الشامخ1.
والخلاصة، أن الهجرات التي نزلت بلاد النهرين منذ أوائل الألف الثاني ق. م، والهجرات الأمورية منها بخاصة، لم تكن شرًّا كلها على العراق، وإنما كانت خيرًا له في بعض أمرها، وكان خير ما فيها هو أن الهجرات الأمورية منها جدتت دماء الساميين في أرض العراق وجددت حيويتهم، ولم تحل دون نشاط المدن الكبيرة وازدهارها في ظلها، ومن هذه المدن فيما رأينا، مدن إشنونا وإسين وماري، وإلى حد ما مدينة لارسا، ثم مدينة أرخى استفادت من تنافس المدينتين إسين ولارسا وإضعاف ثانيتهما لأولاهما، وقدر لها أن تغطي بشهرتها على شهرة مدن العراق كلها في عصرها، وتلك هي مدينة بابل موضوع البحث التالي.
__________
1 كرامر: من ألواح سومر - لوحة 80 شكل 81، ملحق 1 ص395-401.(1/449)
الفصل السابع عشر: دولة بابل الأولى "أو العصر البابلى القديم"
بداية دولة بابل الأولي
...
الفصل السابع عشر دولة بابل الأولى "أو العصر البابلي القديم" "1880"؟ "-1595ق. م":
ألف عصب هذه الدولة جماعة ممن أسلفنا ذكرهم من الأموريين الذين انتشروا بين المدن المتحضرة في العراق واستقروا فيها وولوا حكم بعضها. وكان بابل قبل زعامتهم لها بلدة عادية عرفها السومريون باسم "كدنجيرا"، فأحالوها إلى حاضرة كبيرة وأحسنوا استغلال موقعها الزراعي والتجاري لقيامها في منطقة خصبة يتقارب فيها نهرا دجلة والفرات، وعرفوها باسم "بابل"، وهو اسم ليس ما يمكن تأكيده عن معناه، وإن كان الشائع هو ترجمته بمعنى باب إل، أي باب الإله، ويرى أصحاب هذه الترجمة أنها كانت قريبة مما تدل عليه التسمية السومرية "كدنجيرا" التي استمرت تستخدم إلى جانبها مع مترادفات أخرى مستحدثة. وتقع أطلال المدينة حاليًا جنوبي مدينة بغداد على الشاطئ الشرقي للفرات، وتدل عليها خمس ربوات تحتفظ الشمالية منها باسم بابل. ونسب البابليون مدنًا أخرى إلى بقية أربابهم، مثل كارشمش بمعنى حصن الشمس أو مدينة الشمس، ونورأداد "وكان أداد ربًّا للحرب والعواصف".
وانتشرت بين أسماء الساميين الذين نزلوا هذه المدينة وانتسبوا إليها، أسماء مركبة ظهرت بوادرها بين الأموريين منذ أيام الأكديين وزادت منذ تكوين دولة إسين، وشاع في عدد كبير منها اسم إيل "أو إل" الذي تداخل اسمه في اسم المدينة المجددة بابل، مرادفًا لاسم الإله واسم الله "ولا زال باقيًا في أسماء إسماعيل وجبرائيل وعذارئيل ... ". ومن أسماء البابليين أسماء ذات دلالات لطيفة تدل على إحساس العبد منهم بقربه من ربه مثل "إبلوشو أبو شو" بمعنى إلهه أبوه "ويرادف المقطع شو الضمير هو في لغتنا العربية، وربما كان ينطق بمثل نطقه أي بضم الشين وفتح الواو، ويرادفه في ذلك الضمير سو في اللغة المصرية القديمة ولعله كان ينطق مثل نطقه"، و"إيلما أبي" بمعنى إلهي أبي، و"إيلو شو إبنيشو" بمعنى إلهه الذي بناه "أو سواه"، و"جيميل إيليشو" يمعنى عطية إلهه، و"إيلي دوري" بمعنى إلهي حصني، و"إيلي إشمأني" ربما بمعنى إلهي اسمعني، وإيلي أمورو بمعنى إلهي أمورو، و"إيلي إمدي" بمعنى إلهي سندي "لإمراة". وذلك فضلًا عن الأسماء المركبة التي تداخل فيها اسم رب القمر السامي سين، والتي عرفتها بلاد العراق قبل ذلك بزمن طويل وقبيل عصر الأكديين.
اعتلى زعماء الساميين عرض بابل منذ عام 1880ق. م تقريبًا، وتعاقب منهم خمسة ملوك في عصرهم الأول، هم: سومر أبوم؛ وسومو إيل، وسابو، ,أب إيل سين، وسين مو بالليط. وقد عملوا على تفاوت في مجهوداتهم، على تحصين مدينتهم وتنشيط اقتصادياتها وإعدادها للمشاركة بدورها في قيادة بلاد
__________
1 See. Th., Bauer, Die Ostkanaanaer; C.F. Jean, In Studia Mariana, 63 F.(1/450)
النهرين، وترقبوا فيها نتائج الصراع بين المدينتين المتنافستين إسين ولارسا. وعاصر أولهم، سومو أبوم، ملوك إسين ولارسا في عهد قوة المدينتين، واشتبكت جيوشه مع الجيوش الآشورية "في عهد ملكها إيلوشوما"، ولم ينته القتال بينهما إلى نتيجة حاسمة. وإن كان الملك البابلي قد عمل بعده على تحصين عاصمته بسور جديد من اللبن إتقاء للمفاجآت، وأزاد رجاله خطوطهم الدفاعية فشادوا سورًا آخر في إحدى ضواحي العاصمة، كما أزادوا ظهيرها الزراعي فضموا إليها منطقة خصبة تُدعى دلبات تبعد عنها بنحو سبعة وعشرين كيلومتر.
وعندما ازدادت سمعة بابل اعترفت بسلطانها اعترافًا جزئيًّا منطقة سيبار "أبو حبة" وأقسمت باسم ملك بابل في نصوصها المكتوبة. كما خضعت لسلطانها مدينة كيش بعد حرب طويلة تعاونت عليها فيها مع دولة لارسا. وانهزمت أمامها جيوش منطقة كازاللو ... ولو أن خضوع هذه المناطق القديمة لحكم الأسرة البابلية لم يكن دائمًا خضوعًا مخلصًا أو مطلقًا، فحاولت كيش أن ترفع النير عنها في عهد سومو أبوم نفسه، وذكر ملكها أنه لم يبق لديه بعد كفاح دام ثمان سنوات غير ثلاثمائة جندي، ولكنه واصل الجهاد معهم حتى استرد لبلده سيادتها.
وتجدد النزاع بين بابل وبين دويلات المدن الخاضعة لها في عهد ثاني ملوكها، مما لا نود التفصيل فيه، إلا أن ملكها أزاد سورها بعد انتصاره على خصومه وتوسعت جيوشه في فتوحها الإقليمية حتى سيطرت على إقليم أكد كله وسيطرت على عدة أجزاء من أرض سومر. ووجدت بابل في دولة لارسا وأسرتها الحاكمة نصف الإلامية أكبر منافس لها، بينما أصبحت دولة إسين فريسة للفريقين يقتطع ملوك لارسا بعض أجزائها حينًا، ويقتطع البابليون بعض أجزائها حينًا آخر. وظلت الحال كذلك حتى ولي حكم بابل سادس ملوكها وأكثرهم شهرة وهو حمورابي.(1/451)
حمورابي:
بدأ حكمه عام 1728 "في عرف أصحاب التأريخ المختصر"، وطال عهده ثلاثة وأربعين عامًا قدر له فيها أن ينهض ببابل من دويلة صغيرة إلى عاصمة دولة كبيرة ذات إمكانيات متعددة وأملاك واسعة وشهرة ضخمة، وبدأ تشريعاته التي خلدت اسمه في التاريخ منذ العام الثاني من حكمه، وخلد كتبته هذه البداية في تسمية عامها باسم عام "إقرار "حمورابي" العدالة في الأرض"1، وإن لم تكتمل هذه التشريعات إلا بعد ذلك بسنوات عدة "انظر ص463".
واستهدف الرجل منذ سنواته الأولى ضرورة توحيد بلاد النهرين تحت طاعته سواء بالسياسة أم بالحرب، مع إقصاء النفوذ شبه الإلامي عن جنوب العراق. وبدت منه في سبيل تحقيق هذا الهدف حنكة لا تقل عن حنكة سرجون الأكدي سامي الأصل مثله. فسجلت له حولياته أخبار جهوده في إخضاع مدن كثيرة مثل
__________
1 A. Ungand, “Datenlisten”, In Reallexlkan Der Assyriology, Ii, 187 F., Nr. 2.(1/451)
أوروك وإسين ومالحي ورابيكوم وغيرها، ولعله أراد بانتصاراته عليها أن يحد من نفوذ أعنف منافسيه ريم سين ذي الأصل الإلام وآخر ملوك لارسا عليها حتى يتفرغ له. وكان ريم سين كفئًا لمشاكل عهده بحيث ظل يناوئ حمورابي حتى العام الثلاثين من حكمه، وبحيث كتب أحد أعوان ملك دويلة ماري رسالة إلى ملكه يكشف له فيها عن أوضاع العراق، قائلًا له: "ليس هناك ملك واحد يمكن أن يقال عنه إنه أقوى الجميع، فإن عشرة أو خمسة عشر حاكمًا يتبعون حمورابي "ملك" بابل، ومثل هذا العدد يتبعون ريم سين "ملك لارسا"، ومثلهم يتبعون إبعل بي إيل "ملك" إشنونا ... إلخ"1.
وشيئًا فشيئًا إطمأن حمورابي إلى متانة موقفه وسلامة ظهره، وتفرغ من ثم لملك لارسا وحلفائه، فمال ميزان القوى إلى جانبه منذ العام الثلاثين من حكمه، حتى فر ريم سين إلى منطقة إيموتيبال مسقط رأس أسرته، وتتبعته الجيوش البابلية إليها، ثم واصلت انتصاراتها فيما يليها من أرض إلام وسيطرت على جزء منها. ويبدو أن الأمر كان كذلك فيما بين البابليين وبين إشنونا وسوبارتو، بحيث رددت حوليات حمورابي ذكر اسميهما مرات كثيرة. وعندما آتت جهود حمورابي وجيوشه ثمارها، استقرت زعامة دولته في العراق فاعترفت بنفوذها آشور في الشمال وإن لم تنطوِ تمامًا تحت سلطانها. وماري في الغرب، وخضعت لها أغلب المناطق الجبلية الشمالية والشمالية الشرقية.
وكشفت نصوص حمورابي عن جانب من سياسة الحرب في عهده، ومنها هدم أسوار المدن التي يخشى بأسها2، وتقوية أسوار المدن الموالية له في المناطق الإستراتيجية الحساسة "وسميت بعض هذه الأسوار بأسماء أرباب مدنها"3، والعمل على رعاية تماثيل أربابها بعد الاستيلاء عليها، حتى تكون سبيلًا لاستمالة مشاعر أتباعها. وكان من ذلك أن ذكر أحد نصوصه أنه أعلى كلمة الربة إنانا في نينوى وأعاد لمدينة آشور حصانتها4. أو لتحملها جيوشه معها باعتبارها موالية لها حين تعاون غزو مناطقها فتيسر لها مهمتها. وكانت رعاية هذه التماثيل تستتبع رعاية من يرافقونها من كهنتها وكاهناتها وإحياء أعيادها في معابد بابل نفسها ... 5.
واتبع حمورابي سياسة التحالف مع المدن القوية دون الإصرار على إخضاعها، أو على أقل تقدير حتى تسنح له فرصة إخضاعها. ويذكر من هذا القبيل تحالفه مع دويلة ماري، تحالفًا ظل هو الجانب الأقوى فيه، واستعان معه بها على بعض أعدائه6، حتى إذا ما ضعفت ماري نفسها تحت ضغط أعدائها أخضعتها جيوشه وضمتها إلى دولته، وهو ما كان يعتبر من حسن التدبير من وجهة نظر أنصاره، ويعتبر سمة للغدر من وجهة نظر خصومه. وكان من الطبيعي أن يلازم الاهتمام بالحروب في عهده اهتمام آخر برضا آلهة دولته الساميين والسومريين الذين رد إليهم تأييده ونصره، وبخاصة آنو وإنليل ومردوك. وتمثل هذا الاهتمام في
__________
1 Dossin, Syria, Xix, 177 F.
2 A. Ungand, Op. Cit., Nr. 25.
3 Ibid., No. 19, 20, 21.
4 See, Anet, 165.
5 Leonard W. King, The Letters And Inscriptions Of Hammur Abi, No. 34, 45.
6 W.F. Albright, Anet, 482; C. Jean, Archives Royales De Mari, Ii, No. 22.(1/452)
عهده كما تمثل في عهود من سبقوه ولحقوا به من الملوك، في إنشاء المعابد وتجديدها وزيادة تماثيلها والاحتفاء بأعيادها وأوقافها ورعاية كهنتها وكاهناتها1.
واحتفظت حولياته باسم نهير صغير شقه رجاله أو أزادوا اتساعه وامتداده، وقالت عنه "نهير حمورابي "واهب" الخير للناس، حبيب آنو وإنليل، الذي غذى نيبور وإريدو وأور ولارسا وأوروك وإسين بمورد ري دائم، وكان يبدأ من الفرات أسفل كيش ويمتد حتى الخليج العربي2.
تشريعات حمورابي:
لم تعتمد شهرة حمورابي على فتوحه وتدينه ورعياته لاقتصاديات بلده بقدر ما اعتمدت على تشريعاته الإدارية والقانونية. وهي تشريعات بدأ في إصدارها منذ العام الثاني من حكمه، وسجلها رجاله على نصب كثيرة، اشتهر منها نصب كبير من الديوريت "2.25 متر ارتفاعًا" نقشوه في السنوات الأخيرة من حكمه، وصوره في جزئه العلوي يتلقى الإذن بإصدار تشريعاته من رب العدالة ورب الشمس "شمش"، ويبدو أنهم أقاموه في معبد مردوك ببابل. ويبلغ أكبر عرض لهذا النصب ثلاثة أقدام، ونقشت نصوصه بخط دقيق. وكان العيلاميون قد استولوا عليه في أواخر القرن الثاني عشر ق. م، ونقلوه إلى عاصمتهم سوسه ضمن الغنائم نكاية في صاحبه الذي انتصر على أجدادهم، وأزالوا بعض سطوره ليسجلوا نصوص نصر ملكهم مكانها - ولكنهم لم يتموا هذا العمل ربما اتقاء للعنات الي صبها صاحبه على من يمحو كلماته. ثم نقل النصب بعد العثور عليه إلى متحف اللوفر، وعوضت نقص سطوره نصوص أخرى مرادفة لها.
لم تكن تشريعات حمورابي هي الأولى من نوعها في تاريخ بلاد النهرين كما كان يظن من قبل، فقد سبقتها كما مر بنا ثلاث محاولات لتشريع ولتدوين نصوص العرف القديم، في أور، وإشنونا، وإسين "وإصلاحات لجش احتمالا"، ولم تكن مرة أخرى بنت عهدها ولا جديدة كلها، وإنما تضمنت كثيرًا مما سبقها من نصوص العرف واللوائح ونصوص التقنين وأبقت بعضها على حاله، وعدلت بعضها الآخر وزادت عليه، ولكنها اكتبست شهرتها باعتبارها أكبر سجل قديم عثر عليه حتى الآن احتفظ بقوانين عهده وأحكام العرف في العهود التي سبقته. وأغلب الظن أنه تولى تجميع هذه التشريعات في عهد حمورابي عدد ما من رجاله القانونيين والإداريين أغفلت النصوص أسماءهم ونحلت فضلهم إلى ملكهم بل وجعلتها من وحي ربه إليه، وهو مسلك كثيرًا ما تكررت أمثاله في العصور القديمة والعصور الحديثة أيضًا.
تألفت المواد الباقية من تشريعات حمورابي من 282 مادة تناولت أمور القضاء والأمن، وحقوق المحاربين ومسئولياتهم، وعقود الزراعة، وشروط الفروض، والأحوال الشخصية بما تتضمنه من تقاليد الزواج والطلاق والمورايث، وتحدثت عن القصاص والتعويضات، وأجور أصحاب المهن ومسئولياتهم. وتضمنت في ثناياها أحكامًا راقية يتقبلها المنطق في كل عصر، وأحكامًا أخرى يصعب علينا قبولها إلا بمنطق الحياة في
__________
1 A. Ungand, Op. Cit., Nos. 3, 4, 5, 12, 13, 14, 16, 17, 18, 29, 43, 36…
2 ل. ديلابورت: بلاد ما بين النهرين - ص129.(1/453)
عصرها، ولم تخل في بعض تفاصيلها من تكرار وتناقض، ويرى بعض الباحثين في ترتيب بنود هذا التشريع ما يسمح بتقسيمها إلى ثلاث مجموعات: مجموعة تتضمن البنود 1-5 وتتعلق بأمور القضاء والتقاضي وما يشبه أصول المرافعات. ومجموعة ثانية تتألف من البنود 6-126 وتتصمن قانون الأموال أو المعاملات. ثم مجموعة ثالثة تتألف من البنود 127-282 وتتصمن قوانين الأسرة أو الأحوال الشخصية - غير أن هذا التقسيم يصعب تتبعه حرفيًّا في بنود التشريع. وتعبر الأرقام التي وضعناها بين قوسين فيما يلي عن أرقام بنود التشريع المتعارف عليها.
فمن أحكام التشريعات الراقية في شئون التقاضي والقضاء، أنه أيما مواطن اتهم مواطنًا آخر بجريمة يعاقب عليها بالإعدام ثم لم تثبت عليه قتل عوضًا عنه. وإذا اتهمه بجريمة يعاقب عليها بالتغريم، ثم ولم تثبت عليه دفع غرامتها. وقد ينطوي هذا تحت ما يعبر الآن عنه بمكافحة البلاغات الكاذبة وأحكام رد الشرف. ونصت على أنه أيما قاضٍ أصدر حكمه في قضية ودون حكمه ووقع عليه ثم زور فيه لغرض ما وثبت ذلك عليه، أقيل من منصبه وحرمت عليه مناصب القضاء ودفع ما يوازي اثنتي عشرة مرة من قيمة الشيء الذي زور فيه، وفي ذلك ما فيه من مكافحة الرشوة في القضاء وهي شر البلية.
وتضمنت مبادئها الراقية في مسئولية عن شئون الأمن وحقوق المواطنين عليها، أنه إذا سُرق مواطن ولم يتيسر القبض على سارقه واسترجاع المسروقات، عوضته مدينته وحاكم إقليمه عما سُرق منه بعد أن يعلنه ويثبت صحة دعواه أمام تمثال معبوده ورجال الإدراة في بلدته "23". وإذا قُتل مواطن ولم يتيسر معرفة قاتله والاقتصاص منه تعاونت المدينة وحاكم الإقليم على دفع دية إلى أهله مقدراها مينه من الفضة "24" وإذا شب حريق في دار مواطن وكلف آخر بإطفائه فاستغل وجوده في النار واختلس بعض متاعها، ألقي به في النار "25".
ومن مبادئها الراقية كذلك في إقرار حقوق المحاربين في مقابل مسئولياتهم، أنه إذا افتدى ممول محاربًا "ريدوم" أو متعهدًا بالجيش "بيثيروم" من الأسر وأعانه على العودة إلى بلده، رد المحارب فديته من أملاكه المنقولة، فإن لم يستطع تولاها عنه رب مدينته "أي حصل عليها من دخل معبده"، فإن لم يتيسر ذلك تولت الدولة سدادها عنه "32"، حتى لا يضطر إلى التضحية بأملاكه الثابتة التي تقطعها الدولة له، في سبيل افتداء نفسه. وكان إقطاع المحارب يُسمى كو، وقد يتألف من حقل أو بستان أو دار، أو يضم الثلاثة جميعها، ويدفع عنه صاحبه ضريبة سنوية ويورث حق الانتفاع به لولده الأكبر ولكن لا يحق له أن يبيعه أو يرهنه أو يورثه لزوجته أو لابنته، ويمكن أن ينزع منه هذا الإقطاع بأمر ملكي ويوهب لشخص آخر.
وإذا استشهد محارب آلت أملاكه إلى ولده "28"، فإذا كان ولده صغيرًا تولت أمه إدارتها نيابة عنه إن استطاعت، وربته من ريعها نظير انتفاعها بثلث إيرادها "29". فإذا لم يكن له ولد، وآلت إقطاعيته إلى شخص آخر، ثم ظهر أنه حي وعاد إلى بلده حق له أن يسترد إقطاعيته "27".(1/454)
وأخذت تشريعات حمورابي بمثل قوانين إشنونا من حيث حق المحارب الذي يؤسر في ديار الأعداء في أن يسترد زوجته إذا عاد إلى بلده، ولو كانت في فراش زوج جديد "135"، وحرمت هذا الحق على من فارع بلده كارهًا له "136". وحتمت على زوجة الأسير أن تلزم داره ما دام فيها ما يكفيها، وألا تلجأ إلى فراش آخر وإلا ألقي بها في النهر "133". فإذا لم يكن لديها ما يقيم أودها فلا بأس عليها فيما فعلت "134".
وجعلت تدوين عقود القروض والمشاركة والأمانات وشهادة الشهود عليها، أساسًا لحق التقاضى بشأنها "99+"1. وحددت أرباح القروض "122-123" بالخمس "88+" واشترطت سدادها بنفس المكاييل والأوزان التي أقرضت بها "94". وعلى هذا الأساس جعلت ربح كور الغلة 60 قو، وفائدة شاقل الفضة سدس شاقل وست سيات، ولو أن بعض لوحات القروض الفعلية من نفس العصر قد دلت على زيادة أرباح القروض ونقصانها عن هذه النسبة في بعض الحالات، وتتمثل حالات النقص فيما كانت تقرضه المعباد والإدارات الحكومية في ظروف خاصة إلى ما يوازي 12% تقريبًا2.
وأحاطت تشريعات حمورابي أفراد الأسرة وتقاليدها بضماناتها وعقوباتها، وزادت على ما نصت عليه تشريعات أور وإسين في حقوق الزوجة الشرعية فأباحت أن تسترق جاريتها ذات الولد إن تبينت منها تطلعًا إلى مساواة نفسها بها، وأباحت لها بيعها إن كانت غير ذات ولد، حتى ولو كانت أثيرة عند زوجها. وقد قرر رجل في عهد سين موبالليط والد حمورابي، في عقد زواجه، أن على زوجته الثانية أن تغسل قدمي زوجته الأولى وأن تحمل لها مقعدها حتى ولو شاءت أن تذهب به إلى معبد مردوك3. وأكدت التشريعات حق الزوجة في استرداد بائنتها "شريقتو - وتقوم مقام الدوطه عند بعض الشعوب المعاصرة" حين طلاقها - ما لم تكن ناشزًا، وأضافت إلى بائنة المطلقة ذات الأولاد نصف أملاك زوجها لتستغله في تربية أبنائها حتى يبلغوا أشدهم ثم تجتزئ منه نصيبًا تستعين به على زواج جديد إن استحبت فراقهم "137". وأضافت إلى بائنة المطلقة العاقر تعويضًا يبلغ مينه من الفضة بالنسبة للطبقات العليا وثلث مينه بالنسبة لأهل الطبقات العادية "138-140". ويبدو أنه لم يكن من الضروري أن يلتزم كل مطلق ومطلقة بهذه المبادئ، وكان الأمر يتوقف على ظروف الطلاق ومدى التراضي به بين المطلقين ومقدار ثرائهما4.
وردت بائنة الزوجة المتوفاة ذات الأولاد على أولادها "162"، وجعلت بائنة الزوجة العاقر المتوفاة من حق أبيها بعد أن يسترد زوجها منها قيمة هداياه إليها حين عرسها، وحين نتدبر أحكام البائنة هذه نرى
__________
1 انظر عن عقد شركة بين شخصين يدعى أحدهما نور شمش للمشاركة فيما يمتلكانه من فضة وعبيد وإماء يستغلونها في الداخل والخارج وقد أقسما فيه على الإخلاص بأسماء المعبودات شمش وإيا ومردوك وباسم حمورابي. وعن عقود بيع بيوت حددت فيها مساحاتها ومواقعها بالنسبة إلى البيوت التي تجاورها والطرقات التي تطل عليها:
ديلابورت: المرجع السابق - ص146، 288.
2 نفس المرجع ص153-154.
3 Pani Dhorme, Choix Des Textes Religieux Assyro-Babyloniens, No. Xix.
4 انظر ديلابورت: المرجع السابق - ص92.(1/455)
أن المشرع قد غطى بها كل حالاتها ودل بذلك على عقلية تقنينية واعية. وجعلت التشريعات للزوج حق الوصية أو الهبة لزوجته دون اعتراض من أبنائه، وسمحت لها بأن تتنازل عن جزء من هذه الهبة لأولادها، ولكن دون الغرباء "150"، واعترفت بحقها في أن تلزم بيت زوجها المتوفى إلا إذا أرادت أن تتركه لتتزوج وحينذاك يكون لها حق الخروج ببائنتها دون هدايا عرسها "172". وقضى المشرع على من اتهم سيدة بسوء السلوك دون بينة أكيدة، بحلق نصف شعره في ساحة القضاء تشهيرًا بافترائه عليها "127" فإذا اتهمها زوجها ولم يقدم بينة واضحة على فجورها، كفاها أن تقسم على طهرها أمام معبودها وتعود إلى دار زوجها "131" وهو ما أقرت الشريعة الإسلامية بما يشبهه مع تجديدات تتفق مع روح دينها.
وفي مقابل هذه الضمانات الواسعة التي كفلتها التشريعات للزوجة، ألزمت الزوجة بواجبات زوجها وبيتها، بحيث إذا شكاها زوجها أمام مجلس المدينة وتبين أعضاؤه إهمالها لواجباتها الزوجية حرموها من بائنتها وسمحوا لزوجها بأن يتزوج عليها ويستبقيها في داره إن شاء ويلزمها بخدمته "141". فإن تبينوا نشوزها وإضرارها بزوجها ألقوا بها في النهر "143"، فإن ثبت عليها الزنا أمروا بتقييدها هي ومن زنى بها وإلقائهما في النهر، إلا إذا عفا عنها زوجها وعفا الملك عن عشيقها "129". فإذا تآمرت زوجة على قتل زوجها من أجل عشيقها، أعدمت على الخازوق "153".
وفصلت التشريعات صلات الأولاد بأبويهم وحقوقهم في المواريث. فجعلت من حق كل ولد على أبيه أن يعينه بمهر يتزوج به، فإن مات الوالد دون أن يتزوج أحد أبنائه، أفرد له إخوته قيمة مهر تناسب ثروة أبيه قبل أن يقتسموا ميراثه "166". وكفلت نفس الأمر بالنسبة للابنة وبائنتها ... ، بحيث إذا مات أب دون أن يزوج ابنته ودون أن يخصص لها بائنة مسجلة أفرد لها إخوتها بائنة مناسبة من ميراثه "178-179". وقيدت حق الوالد في حرمان ولده بحكم القضاء في مدى عصيانه، فإن أدانوه أنذروه، فإن لم يرتدع وافقوا على حرمانه، وإن تبينوا براءته حموه في أبيه "168-169". وجعلت للأبناء الذكور حصصًا متساوية في ميراث أبيهم1 وبائنة أمهم، إلا إذا أوصى الأب لولده البكر بوصية "165". وجعلت للابنة العذراء المترهبة حق استغلال ما يعادل ثلث نصيب أخيها على أن تبقى الرقبة لإخوتها ولا يحق لها أن تتصرف فيها "181. واستثنت من ذلك من ترهبت في معبد مردوك رب بابل فسمحت لها بأن تستغل حصتها كما تشاء، وتهبها لمن تشاء بشرط ألا ترث حقوقًا إقطاعية، حتى لا تنتقل إلى أسرة غير أسرتها "182".
وألحقت التشريعات الأبناء بخير الأبوين، فنصت على أنه إذا تزوج عبد بحرة احتفظ أولادها بحريتهم، فإذا مات عنها زوجها استردت بائنتها، وإذا كانت ذات لد قاسمت مولى زوجها المقتنيات التي شاركت زوجها فيها بعد زواجها به، واحتفظت بنصفها من أجل أولادها "175 و176". وسمحت التشريعات
__________
1 من لوحات تقسيم المواريث الفعلية في عهد حمواربي لوحة قيل فيها: قسم نور شمش، وإيليما أخي، وبالاطوم، وهو موروم، ميراث أبيهم، ولا يحق لأحدهم أن يدعي على الآخر بشيء. وأقسموا "على ذلك بالآلهة" شمش وإيا ومردوك "والملك" حمورابي. ثم شهد على الاتفاق أربعة شهود، وأرخ بعام نهير حمواربي، وهو العام التاسع من حكمه.
See, Anet, 218.(1/456)
للأب بحق الاعتراف بأولاده من جاريته، فإذا اعترف بهم شاركوا أولاده الشرعيين ميراثه بشرط أن يتركوا لولده الشرعي البكر حق اختيار نصيبه بنفسه "170". وإن لم يعترف صراحة ببنوتهم حرموا من ميراثه، مع حرمان إخوتهم الشرعيين من استرقاقهم "171".
ونصت على أن من باع جاريته أم أولاده أو أجرها "أم أعارها؟ " لآخر في سبيل توفير الضرائب المستحقة عليه، حق له أن يستردها من شاريها أو مستأجرها بنفس ما أداه له في مقابلها "119". وحفظت مكانه الزوجة الشرعية بالنسبة للجارية، بمثل ما قدمنا لها به، وبأن نصت على أنه إذا أهدت زوجة زوجها جارية فأحبها وشجعها ذلك على أن تشارك الزوجة مكانتها حق للزوجة أن تعيده الجارية إلى الرق وتبيعها، فإن كانت قد حملت منه أو ولدت له دمغتها بميسم العبودية وأبقتها في دارها من أجل أولادها "146-147".
وأباح المشرع ثلاثة أيام للمشاورة في شراء العبد أو الجارية، وشهرًا يستطيع المشتري أن يعيد العبد خلاله إلى بائعه ويسترد ثمنه إذا تبين أنه مصاب بصرع، فإذا انقضى الشهر كان مالكًا له مسئولًا عن الدعاوى التي تقام بشأنه. ونصت على أنه إذا اشترى رجل عبدًا أو أمة من بلد غريب ثم عاد إلى بلده وتبين له أن العبد ملك لمواطن آخر من أهل بلده، وطالبه به سيده، وجب تسليمه إليه دون تعويض. فإذا كان العبد من بلد آخر دفع فيه سيده ما دفعه فيه مشتريه واسترده، فإذا أنكر العبد تبعيته لسيده ثم ثبتت التبعية عليه صلمت أذنه "278-282".
وتضمنت لوحة من لوحات النخاسة التي أخذت بتشريع حمورابي، ولو أنها متأخرة عن عهده، ما ذكر اسم الجارية واسم بلدتها واسم سيدها واسم مشتريها، وقيمة ثمنها الأصلي وما زاده المشتري عليه، ثم سجل الكاتب اسمه وأشهد خمسة أشخاص على لوحته1.
ونظمت التشريعات أمور التبني، فسمحت للرجل بأن يتخذ ربيبه ولدًا له، فإن فعل واعترف به ولدًا، ثم تنكر له ربيبه وكان لقيطًا وأبى أبوته وتطلع إلى اللحاق بأبويه بعد أن عرفهما، قطع لسانه أو فقئت عينه. وحرمت استرجاع الربيب إذا تبناه صانع ورباه وعلمه صنعته. ولكنها من ناحية أخرى أجازت رجوع الربيب إلى أبويه إذا عرفهما ولم يكن متبنيه قد اعترف به ولدًا له، كما أجازت رجوع الربيب إلى أبويه إذا لم يعلمه متبنيه الصانع حرفته. واشترطه على من يتبنى طفلًا ثم يستغني عنه بعد أن ينجب أولادًا من صلبه، ألا يرده إلى أهله صفر اليدين، وأن يهبه ما يساوي ثلث نصيب ولده من صلبه من ثروته المنقولة "185-193".
وقضت التشريعات على من ضرب أباه بقطع يده "195"، وعلى من ضاجع أمه بعد وفاة أبيه بأن يحرق معها "157"، وعلى من ضاجع زوجة أبيه الأرمل ذات الأولاد باستبعاده من أسرته "185، وقضت بالنفي على من يضاجع ابنته "154"، وبالهلاك غرقًا على من يضاجع زوجة ابنة بعد دخوله بها "155".
__________
1 See, Anet, 218-219.(1/457)
وعنيت التشريعات بأمور المعاملات الجارية، وتوسعت فيما تضمنته تشريعات إشنونا وإسين عن أجور العمال الزراعيين وشروط المشاركة في الزراعة والتجارة وتربية الأغنام والمواشي وتعويضاتها، وأجور المراكب تبعًا لحمولتها، وأجور حيوانات النقل والزراعة، وأجور النساجين وصانعي الجلود والصاغة والبنائين وأمثالهم. وكان خير ما أزادته هو تحديد أجور الأطباء، ومراعاة الحالة الطبقية والاقتصادية للمرضى. بحيث حددت أجر العملية في البدن أو في العين بالنسبة للثري بعشرة شواقل، وبالنسبة للشخص العادي بخمسة شواقل، وبالنسبة للعبد بشاقلين يتحملهما عنه سيده "215-217". وحددت أجرة العلاج العادي وجبر العظام بالنسبة للطبقات الثلاثة بخمسة شواقل وثلاثة وشاقلين على التوالي "220-223". ولم تنس في ذلك أجور علاج الحيوانات وتعويضاتها "224-225".
كانت هذه أهم النواحي الطيبة في تشريعات حمورابي، أما ما يؤخذ عليها من وجهة نظر تشريعاتنا على أقل تقدير، فهو اعترافها بالتفاوت في الحقوق والعقوبات بين الطبقات، فهي وإن استحدثت مبدأ العين بالعين والسن بالسن "196" والولد بالولد، إلا أنها قصرت تطبيقه وأمثاله على أفراد الطبقة الواحدة لمصلحة الطبقة العليا بخاصة، بينما قضت بالتعويض المادي وحده جزاء لاعتداء أحد أفراد الطبقة العليا على فرد من طبقة أخرى أقل منزلة من طبقته. فجعلت عقوبة فقء عين العامي أو كسر عظمه نصف مينه من الفضة، وجزاءهما بالنسبة للعبد نصف ثمنه، أما إذا صفع رجل رجلًا أرقى منزله منه جلد ستين جلدة علنًا وإذا صفع رجلًا من طبقته دفع مينه من الفضة، وإذا صفع عامي عاميًّا آخر دفع عشرة شواقل من الفضة وجعلت غرامة إحهاض المرأة من الخاصة عشرة شواقل فإذا ماتت قتلت ابنة قاتلها. وغرامة إجهاض المرأة من العامة خمسة شواقل، فإذا ماتت ففديتها نصف مينه من الفضة، وغرامة إجهاض الأمة شاقلين، فإذا ماتت ففديتها ثلث مينه من الفضة "196-214". وقضت بتغريم من يختلس شيئًا من مقتنيات المعبد أو الحكومة ثلاثين مثلًا لما اختلسه، فإن اختلسه من "موشكينوم" دفع عشرة أمثاله، فإن كان معدمًا قتل "8" أي أنها فرقت بين عقوبة سارق المعبد والدولة، وبين عقوبة سارق المواطن العادي، وجعلت الإعدام جزاء المفلس في الحالتين، وألزمت الأبناء أحيانًا بجرائر آبائهم، فإذا أهمل معماري في عمله وانهار المنزل الذي بناه على ابن صاحبه قتل ابنه، وإذا أجهض رجل سيدة من طبقته أو من الخاصة فماتت قتلت ابنته "210".
واصطبغت أغلب مواد تشريعات حمورابي بالشدة في مواجهة الإضرار بمصالح الدولة والاعتداءات على النفس والمال، وليس من المستعبد أن تكون قد تعمدت ذلك لمجرد التخويف ومنع الجريمة قبل وقوعها، أو لتقيدها بتعاليم دينية متشددة، أو لشيوع الفساد في مجتمعها وفيما قبل عهدها فجعلت الإعدام عقوبة للتآمر على مصالح الدولة وأمنها والوقوف في سبيل تنفيذ أوامرها، كإيواء ثائر أو مجرم هارب، أو التكتم على مؤامرات قطاع الطرق "109"، أو التهرب من خدمة الجيش ولو عن طريق تقديم بديل، وعقوبة للضابط الذي أباح مثل هذا الإبدال أو تكتم أمره "33". وعقوبة للاعتداء على أملاك المعابد وأملاك القصر. وجعلته عقوبة لمن يعجز عن رد المسروقات ودفع التعويضات عنها، وعقوبة لمن يسم عبدًا بغير ميسم سيده وبدون علمه "226، 227"، وعقوبة لخطف الأطفال، إخفاء العبيد، ونقب الدور(1/458)
"21"، وعقوبة لمن يتجر في المسروقات، ومن يدعي ملكيته لأشياء مسروقة ثم يثبت تدليسه "9-11"، وعقوبة الكاهنة التي تفتح حانة أو تتردد عليها لتسكر فيها "110"، وعقوبة للمعماري الذي يتسبب إهماله في انهيار منزل على صاحبه "229". وجعلته عقوبة للرؤساء الإداريين "ديكوم، ولوبروتوم" إذا حرموا جنديًّا مما أنعم الملك عليه به، أو اغتصبوا متاع داره أثناء غيابه أو أجروها لصالحهم أو تخلوا عنها لصاحب نفوذ في ساحة القضاء "34"، وحرمت عليهم شراءها وإلا خسروا ما اشتروها به "35".
وتضمنت التشريعات أنه إذا اتهم مواطن مواطنًا آخر بالاشتغال بالسحر، كان على المدعى عليه أن يلقي بنفسه في النهر فإذا ابتلعه الماء ورثه الآخر، وإذا نجا أعدم من اتهمه وآلت أملاكه إليه. وقضت بأنه إذا أدت العملية الجراحية إلى وفاة مريض حر أو إلى ذهاب نور عينه قطعت يد الطبيب "ولعل ذلك كان مشروطًا بإهمال الطبيب وإن لم ينص عليه صراحة"، فإذا كان المريض عبدًا عوض الطبيب سيده عن حياته بعبد مثله، وعن عينه بنصف ثمنه من الفضة "218-219".
وصف حمورابي نفسه في تعاليمه بما اعتاد الملوك القدماء أن يصفوا أنفسهم به، من حيث اتصالهم بالأرباب، وتقواهم إزاءهم في الوقت نفسه، ومن حيث ظهورهم بمظهر المتفضل حينًا ومظهر المقدر لواجبه حينًا آخر، ومن حيث اعتزازهم بجبروتهم وانتصاراتهم حينًا وافتخارهم بميلهم إلى السلام والتعمير حينًا آخر. فادعى البنوة للمعبود سين، ووصف نفسه بأنه إله بين الملوك، وأنه أول الملوك وزعيمهم، والخالد بينهم، وأنه محارب لا مثيل له، وأنه الملك الحكيم والملك الكامل، وأنه منقذ شعبه من البأساء، وأنه طرق جهات العالم الأربع، وأنه فتح كذا وأخضع كذا وكذا، وكان من آثار هذه السمعة الغالية التي ادعاها لنفسه أو ادعاها له أتباعه أن سمى بعض رعاياه أبناءهم باسم حمورابي إيلو بمعنى حمورابي إله "أو هو الإله". ولكنه وصف نفسه إلى جانب ذلك بأنه الأمير التقي، وأن الأرباب تخيروه لإصلاح أحوال الناس، وأنه المطيع للإله شمش العظيم، وأنه كثير الدعاء للأرباب، ويعرف الرب أداد تضرعه، وأنه لم يهمل رعاية أصحاب الرءوس السود الذين عهد بهم إليه رباه إنليل ومردوك، وأن ربه مردوك أمره بأن يرشد الناس إلى الطريق القويم ويحق الحق والعدالة ويدونها بلغة البلاد، فاستعان بأمر شمش القاضي الأعظم للسماء والأرض، وذلل الصعاب للناس، وكان أشبه بوالد لهم، ووضع أهل سومر وأكد في جوفه حتى سعدوا بحمايته وأظلهم بحكمه، ثم رجا أن تدوم عدالته وتنتشر في البلاد كلها بإذن مردوك مولاه، ودعا الملوك الذين سوف يعقبونه إلى أن يتبعوا أسلوب حكمه، ودعا كل مظلوم إلى أن يذهب بنفسه إلى نصب تشريعاته ويقرؤها بعناية ويتمعن حكمته فيها حتى تستبين له قضيته ويهدأ باله، واستعدى أربابه على كل من يمحو التشريعات أو يغير فيها. هذا ويضيف اللغويون أن هذه التشريعات لم تعبر عن نضج العقلية التشريعية في عصرها فحسب، وإنما عبرت كذلك عن دور الاكتمال في الأسلوب اللغوي البابلي الذي أصبح من بعد نموذجًا كلاسيكيًّا للكتابات الراقية في العراق كله.(1/459)
لم تكن تشريعات الرجل وليدة عهدها وحده كما قدمنا، ولم تكن فريدة في نوعها، وربما لم تكن تجديداتها من وضع حمورابي نفسه بالضرورة على أساس ما أسلفناه من أن أغلب التاريخ القديم وبعض الحديث تاريخ غير عادل حين ينسب خير الأعمال إلى الملوك ويغفل ذكر من شقوا في سبيلها من الرعية. ومع ذلك فقد كانت تشريعات عهده جديرة بشخصيته ويبدو أنه ظل معنيًّا بتطبيقها، وظل يتدخل في كثير من الشئون الإدراية بنفسه1، فتضمنت إحدى اللوحات الباقية من عهده أمرًا منه بافتداء أسير على حساب معبد مدينته قال فيه "وأما بخصوص إمانينوم الذي أسره العدو، فتصرف عشر مينات من الفضة من معبد سين إلى مموله "الذي افتداه"2. وسمع حمورابي بارتشاء بعض موظفيه، فأرسل مندوبًا من عنده للتحقق من الأمر وسماع أقوال الشهود والتحرز على الرشوة، ثم إرسال المتهمين والشهود إليه3. وكثيرًا ما تضمنت رسائله إلى عماله أوامره بالتحقيق في سرقات ومظالم سمع بها4، وأوامر أخرى بالتشديد على الملتزمين المتباطئين في تأدية الضرائب التي التزموا بها وإرسالهم إليه مع التحفظ على أملاكهم إن امتنعوا عن السداد5. وذلك فضلًا عن أوامره إلى حكام الأقاليم بتنفيذ الخدمات العامة في أقاليمهم، مثل حفر الترع وتطهيرها، والإشراف على تجميع العمال والأهالي للقيام بها6. غير أنه يبدو أن صفة العمومية التي أكدها حمورابي لتشريعاته لم تمنع قضاة عاصمته من أن يعترفوا بحق قضاة الأقاليم في تطبيقها بما يناسب أحوال أقاليمهم، أو هي على الأقل لم تجعلهم يصرون على مركزية القضاء في العاصمة، بحيث شهدت إحدى لوحاتهم القضائية برفضهم نظر قضية كان المدعى عليه فيها من أهل سيبار، وتحويلهم إياها غلى قضاء سيبار بالذات7.
ولا يستبعد أن من أسباب حرص حمورابي على تدوين كل قوانين عصره، رغبته في أن تتولى هيئة الموظفين المدنيين الخاضعة له خضوعًا كاملا، تطبيقها وفق نصوصها، وحتى لا يكون الكهنة حجة في الاستئثار بتفسير القانون وإصدار الأحكام أو تأويلها8.
تأثر الفن في عهد حمواربي بنهضة عصره، وكان من الطبيعي أن تظهر آيات رقية في تماثيل الملك نفسه وفي صوره. وبقيت راس جرانيتية يرجح أنها تمثل رأسه، وضحت فيه الملامح السامية النبيلة التي ظهرت من قبل خلال العصر الأكدي القديم، ونجح فنانها النجاح كله في تمثيل نحافة وجه صاحبها ومستويات عظام
__________
1 انظر عن رسائل حمورابي:
L. W. King, The Letters And Inscriptions Of Hammrabi; Harper, Letters And Inscriptions Of Hammubi; A. Uagand, Briefe Kenig Hammrabi
2 Yale Oriental Series, T. Ii. No. 32.
3 L. W. King, Op. Cit., No. 11.
4 Ibid., 3, 12, 18, 24, 30, 73, 74.
5 Ibid., Nos. 16, 30, 33.
6 Ibid., 5, 26.
7 ديلابورت: المرجع السابق - ص119.
8 كامبل طوسون: في تاريخ العالم "هامرتون" - معرب بالقاهرة: الفصل الثامن عشر - ص604-605.(1/460)
الخدين ودقة تمثيل ركن العين ومسطحات الجفنين وخطوط الشفتين وتعبيرهما عن شخصية صلبة مجربة1.
وعبر النقش عن جانب التقوى في شخصية حمورابي في صورته أمام ربه شمش في الجزء العلوي من النصب الكبير الذي سجلت تشريعاته عليه. فصوره واقفًا بعباءة محبوكة انسابت خطوطها المشدودة مع خطوط جسده، يحيي مولاه برفع يده ويواجهه في هيئة المقدر لجلاله، ولكنها مواجهة كريمة تشبه مواجهة الوزير لمليكه. وصور المعبود شمش نفسه أقرب إلى عالم الدنيا منه إلى عالم الخيال، لولا لحيته شديدة الكثافة والطول، وتاجه الطريف ذو الأربعة أزواج من القرون، وألسنة اللهب التي تشع من كتفيه. وصوره يمسك بالعصا والحلقة رمزي العدالة، وكأنه مع حمورابي أشبه برجلين متحدث ومستمع، وإن بدت شفتاهما مطبقتين. واستطاع الفنان أن يوازي بين جلسة المعبود وبين وقفة الملك، بالجمع بين استقامة جذع الإله واستقامة عصاه وبين استقامة جسم الملك2.
وثمة تمثال برونزي صغير ذهب إلى أبعد من ذلك في تمثيل العلاقة بين الإنسان وربه، وهو لشيخ ربعة يركع على ركبته اليمنى ويقيم اليسرى، ويضم مجمع ثوبه بيده اليسرى ويجمع أصابع يمناه ويقربها من شفتيه كأنه يدعو بها أو يتمنى. والطريف أن نفس حركة اليد على الفم لا زال يؤديها بعض المسلمين حين الدعاء خلال الاستماع إلى أذان الصلاة.. وقد عبرت شفتا صاحب التمثال عن استبشاره باستجابة ربه لأمنيته. ولا يخلو التمثال من عيوب يسيرة تتمثل في اتساع العينين وقلة تناسق الجزء الأسفل من الساق مع بقية الجسم، ولكنه في مجمله رائع التعبير، وغشي وجهه ويداه برقائق ذهبية، وثمة احتمال بتمثيله للملك حمورابي نفسه. وقد تكررت هيئته نقشًا على قاعدته وسجل نص معه يذكر إهداءه إلى المعبود أمورو "من أجل حياة حمورابي"3.
وكشفت الأبحاث الأثرية عن أطلال مشرقة من أحياء مدينة بابل في عهد حمورابي، قامت فوقها مباني قرى القصر وتل عمران والمركز الحالية. وشيدت بيوتها على نسق البيوت التي سبقت عهده، فبنيت أساساتها ومداميكها السفلى من الآجر؛ بينما شيدت مداميكها العليا من قوالب اللبن العادية. وكشفت الأبحاث كذلك عن أطلال بعض أحياء مدينة أكد من العهد نفسه؛ ويفهم منها أنها خضعت لتخطيط منظم وتميز فيها طريق مقدس يؤدي إلى معبد إشتار "عشتار" ووازته بضعة شوارع رئيسية تعامدت عليها شوارع أخرى4.
وارتفع شأن مردوك معبود بابل بارتفاع شأن مدينته، وكان يعتبر من قبل ولدًا للمعبود إنكي، ثم تعمد البابليون تعظيم شأنه ليكفلوا لمدينتهم زعامة دينية إلى جانب زعامتها السياسية وبحيث تنافس المدن الدينية الأخرى القديمة؛ فنسبوا إليه هزيمة التنين تيامة "رمز ملوحة البحر وأخطاره" وأضافوا أن انتصاره هذا
__________
1 توجد الرأس بمتحف اللوفر - ويبلغ ارتفاعها نحو 15 سم.
See, Frakfort, The Art And Architecture…, Pl. 163.
2 Cf. H. A. Corenewegen-H. Frankfort, Arrest And Movement…, 168 F.
3 في متحف اللوفر - وارتفاعه نحو 20 سم.
See, Frankfort, The Art And Architecture…, Pl. 64.
4 ديلابورت: المرجع السابق - ص49-50.(1/461)
جعل الآلهة الكبار يمنحونه حق تقرير المصائر، وخلع عليه رب الحكمة إيا حكمته واسمه، وقال "فليسم إيا مثلي"، ثم خاطبه قائلًا "أي بني"، ماذا هناك لا تعرفه وأستطيع أن أعلمك إياه؟ إن كل ما أعرفه تعرفه أنت أيضًا"1. ومثل مردوك في صوره المتأخرة بأذنين كبيرتين ترمزان إلى أنه "السميع"، وكثيرًا ما صور تحت قدميه وحش خرافي راقد يرمز إلى تيامة بعد أن أخضعها وذللها.
تعاقب بعد حمورابي خمسة ملوك على عرش بابل، شهدت أيامهم صورًا مختلفة من الحرب والسلام. واحتفظت حوليات ولده "سمسو إيلونا" ببعض هذه الصور، فذكرت من مشروعات عهده الإصلاحية أنه أعفى سومر وأكد من الضرائب في العام التالي لحكمه؛ وقد يعي ذلك أنه أعفى الممولين من متأخرات الضرائب بمناسبة اعتلائه العرش ثم ذكرت نفس الحوليات من صور القلاقل في عهده ما يدل على أعداء عديدين، وملك مغتصب شرير، وهدم أسوار وبناء أسوار، وعصيان أقطار كثيرة، ووجود جيش أموري وجيش كاسي. ورددت نصوص أخرى متأخرة عن عهده أسماء بعض خصومه، ومنهم رجل ادعى أنه ريم سين ملك لارسا القديم وجمع حوله حلفًا من المدن الكبيرة التي عز عليها خضوعها لبابل؛ مثل أوروك وإسين؛ فضلًا عن منطقته الأصيلة منطقة إيموتيبال، ولكن دارت الدائرة عليه وعلى حلفائه، وقيل إن الجيوش البابلية قبضت عليه حيًّا في قصره. وخصم عنيف آخر يدعى إليما إيلوم حكم أرض البحر وهي مناطق المناقع المستصلحة قرب مصبي دجلة والفرات، وقد حاربته جيوش سمسو إيلونا ولكن بغير نتيجة حاسمة، فاستمر خطره في عهد أبيشو البابلي الذي حاول أن يستعين على هزيمته ببناء سد على نهر دجلة يعوق تقدمه أو يغرق أرضه، فنجح رجاله في بناء السد كما روت الحوليات ولكنهم فشلوا في الانتصار على خصمه "راجع فيما بعد".
تلك صورة مصغرة للقلاقل التي واجهت خلفاء حمورابي، وما لبثت البلاد أن تعرضت بعدها لأخطار أشد وأعنف، وهي أخطار ندع مناقشة أسبابها ونتائجها إلى ما بعد كلمة قصيرة عن أثر العصر البابلي في التراث الأدبي لبلاد النهرين.
__________
1 ديلابورت: المرجع السابق ص171-172.(1/462)
من الأدب البابلي:
استفادت الحضارة البابلية من مخلفات السومريين اللغوية والأدبية، على نحو ما استفادت من تراثهم التشريعي. وكان أصحابها أسعد حظًّا من أسلافهم الأكديين أصحاب الثقافة السامية القديمة، فالأكديون كانوا ينحتون في الصخر عندما كتبوا لغتهم السامية بالكتابة المسمارية، وهذا لم يترك لهم مجالًا واسعًا للخروج بأدب سامي متميز، أما البابليون فقد وجدوا الأرض ممهدة بمجهودات سومرية وسامية خليطة، وعملوا من ناحيتهم على إدخال علامات جديدة في الكتابة المسمارية للتعبير عن أصوات لم تكن متميزة، ومنها التعبير بعلامتين متمايزتين عن كل من الجيم والقاف، وبدءوا في تصنيف قوائم لغوية تجمع بين كلمات سومرية قديمة ومترادفاتها السامية. وعمل كتبتهم على تسجيل أسماء الحيوانات والنباتات في قوائم متصلة، وسجلوا بعض القصص والأساطير السومرية والسامية الكبيرة بأسلوبهم الخاص.
أساطير نشأة الوجود:
انتفع البابليون ببعض عناصر الفكر السومري عن أصول الخلق المادي والمعنوي في دنياهم، وخرجوا بنطرية عن نشأة الوجود جعلوا ربهم مردوك قطب الدائرة فيها، ونافسوا بها نظريات السومريين أنفسهم، وضمنوها ما تواتر إليهم عن نشأة الحضارة الاولى عند مجمع البحرين، وما سبقها من خواء وعماء ووحشية وما صاحبها من تحديات مضنية في سبيل التغلب على أخطار البحر والتحكم في جبروت النهر، وفي سبيل التحول من الركود إلى النشاط، ومن الفوضى إلى الاستقرار، وضمنوها ما تواتر إليهم عن فاعلية البحر القديم، ووجود نوع من الشورى بين أصحاب الرأي القدماء حتى إذا ما اتفق رأيهم على زعيم أسلموا له أمرهم وعهدوا إليه بمقدراتهم.
وخرجت النظرية مهوشة مطولة يكثر فيها التكرر وتتعدد فيها الأسماء، كالعادة. ولكن يمكن الخروج من عناصرها المهذبة، بأنهم ردوا أصول الأشياء إلى ماء أزلي اختلط عذبه بمالحه، ومثل العذوبة فيه آبسو وهو مذكر، ومثلت الملوحة فيه تيامة وهو أنثى. وعنونوا نظريتهم بمقطعها الأول الذي يقول "إنوما إليش" بمعنى "حينما في العلا". واسترسلت الفقرة الأولى منها قائلة: "حينما في العلا لم يكن للسماء ذكر، وفي الدنا لم يكن للأرض اسم، ولم يكن من شيء غير آبسو والدهم وتيامة أمهم". وافترضت النظرية نشأة أجيال الأرباب في جوف ماء البحر "تيامة" جيلًا بعد جيل، وكان كل جيل منهم يفوق من سبقه، حتى انعقدت ألوية الحكمة بينهم للإله "إيا" الملقب بلقب "نوديمو". ولكن حكمة أولئك الأرباب لم تخل دون شدة صخبهم وسعيهم إلى التبديل والتغيير، الأمر الذي أقلق أباهم آبسو وجعله يهم بالقضاء عليهم، رغم معارضة أمهم تيامة التي قالت "وكيف نقضي على من خلقناهم بأنفسها؟ وإن مسلكهم معيب حقًّا ولكنه شيء متوقع". ثم ألقى "إيا" النعاس على آبسو وقتله وأفناه في نفسه وبنى بيته فيما كان يشغله "إي - آبسو" وعاش فيه هو وزوجته، وأنجبا ولدهما "مردوك" الذي فاقت قدرته كل الحدود، وهنا عاودت تيامة ذكرى زوجها(1/463)
المضحى به، وانقلبت على أحفادها، وسلطت عليهم الكواسر والزواحف والمخاوف. واستعانت عليهم بإله قديم يدعى "كنجو"، أغرته بنفسها وعهدت إليه بألواح القدر. وعجز الأرباب متفرقين ومجتمعين أمام هذين الحليفين، سواء بالمداهنة أم بالعنف، حتى تخيروا من بينهم "مردوك" وفوضوه السلطة المطلقة وخلعوا عليه قدراتهم وأسرار أسمائهم وارتضوه ملكًا عليهم. وقد تعدد لقاؤه مع تيامة بالسحر تراة وبالحرب أخرى، حتى تصيدها بشبكة وأطلق عليها ريح السموم فملأت جوفها ونفختها، فقيدها وذبحها، واندار على حليفها كنجو واسترد منه ألواح القدر وختمها بخاتمه واستودعها في مكنون صدره. ثم عاد إلى تيامة فبقرها وقسمها نصفين، مثل نصفي صدفة البحر، وجعل نصفها الأعلى سماء ونصفها الأسفل أرضًا، وعين في السماء حرسًا ونظم ماءها وعين مواضع الأرباب فيها. وأرسى الأرض وجبالها والدجلة والفرات وفجر العيون والينابيع1.
توسع البابليون فيما روته الأساطير السومرية عن خلق الإنسان وعلاقته بأربابه في بداية الخلق والنشأة، وضمنته في قصة أتراخاسيس الذي قد يعني اسمه معنى "فائق الإدراك "أو الحكمة"، ويفهم منها أن عالم السماء والأض كان قاصرًا على طوائف الأرباب بمراتبهم، حيث وقع غرم العمل في إصلاح الأرض وزراعتها لإعالة الجميع على أكتاف طائفة منهم تسمى إججي، حتى ناءت هذه الطائفة بمشقة العمل أربعين عامًا. ثم جمعت أمرها وحملت المشاعل وتظاهرت معلنة احتجاجها أمام قصر الإله الأعظم إنليل. واستفتى إنليل بطانته من مجمع الأرباب، واستقر رأيهم على خلق الإنسان كي يحمل النير عوضًا عنهم ويخدم الآلهة ويكد من أجل إقامة معابدها وتوحيد قرابينها.
وعملًا بمشورة إبا رب الحكمة، عهد الآلهة إلى الربة الأم ننتو التي لقبت بلقب مامي "أو ماما" بأن تخلق الإنسان الأول "لوللو" وأعانها الرب إيا فأعد لها الطين النقي الطاهر ومارس عددًا من الشعائر حين إعداده - ولأمر ما ذبح الآلهة في هذه المناسبة واحدًا منهم يدعى وإيلا ربما لشخصيته كما روت القصة، أو لأنه كان أشدهم ذنبًا في تحريض طائفة الإججي على العصيان كما روت قصة سومرية عن ذبيحها كنجو، وتفلت ننتو على الطين ومزجته بلحم الضحية ودمه، وعاونها إيا، وشكلت من الطين سبعة ذكور وسبع إناث، وقدرت تسعة شهور لحمل الإناث. وبين دقات الطبول وقراءة التعاويذ خرج الإنسان الحي، وأتاها الأرباب يقبلون قدميها عرفانًا بجميلها، واستحقت أن توصف لذلك بسيدة الآلهة "بليت إيلي".
وانقضى بعد ذلك ألف ومائتان من الأعوام تكاثر الناس فيها، واشتد صخبهم حتى ضاق إنليل بضجيجهم فأمر نمتار بأن يبتليهم بالأوبئة والأوجاع ليقلل أعدادهم، ولم ينقذهم من الفناء غير الرب إيا وفائق الحكمة
__________
1 Lapat, Le Poeme Babylonien De La Creation, 1935; A. Heidel, The Babylonian Genesis, 1942; E. A. Speiser, Anet, 60 F.; A.K. Grayson, Ibid., 501 F.(1/464)
أتراخاسيس اللذين قر رأيهما على استمالة نمتار بالقرابين من "طحين وخبز مقدد" عسى أن "تخجله الهدية فيرفع يده عن العالمين" ونجحت الحيلة وخف البلاء.
وبعد ألف ومائتي عام أخرى تضخمت شرور الناس، فقرر إنليل أن يبتليهم بالقحط والمجاعة، وأمر أداد بأن يحبس المطر وأن يرسل الرياح جافة حسوما، واستمر هذا لست سنوات فجفت الأرض وهزل البشر وقلت المواليد وأكل الناس أولادهم. وهنا استرضى إيا وأتراخاسيس أداد بقربات من طحين وخبز مقدد حتى لان جانبه وسمح لقليل من الطل والندى، وعمل إيا من ناحيته على أن يفتح ثغرة لمياه الأعماق فتدفقت تروي الأرض وتحيي أهلها، وبلغ استياء إنليل مداه لفشل خططه، وقر رأيه على أن يغرق كل الخلق بما أرادوا أن يحيوا به. وأمر بطوفان كاسح "أبوبو في البابلية وأماورو في السومرية" - وأخذ المواثيق على الأرباب أن يعاونوه على إحداثه.
واشتركت القصة في رواية أحداث الطوفان مع قصة جلجميش التالثة أحداثها - كما تشابهت إلى حد ما مع بعض قصص التوراة "سفر التكوين 6: 1-22" في تصوير غضب الإله على البشر وابتلائه لهم ثم عقابه لهم بالطوفان. ولكن ذهب القرآن الكريم مذهبًا آخر في تصوير ما أدى إلى الطوفان وتصوير بعض أحداثه "في سور: نوح والأعراف ويونس وهود والأنبياء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت والصافات والقمر".
جلجميش وقصة الطوفان:
هذا أشهر الأساطير التي روى البابليون في ثناياها قصة الطوفان القديمة بعد أن عدلوا فيها أضافوا إليها وغيروا بعض مسمياتها. وتخلفت من الصيغة البابلية لهذه الأساطير ألواح مبعثرة قليلة أمكن تصحيح قصتها واستكمالها من ألواح أخرى مرادفة لها وأكثر تفصيلًا منها كتبت بعدها باللغات الآشورية والحورية والحيثية1. وبهذا أمكن تكوين صورة عامة لها يفهم منها أن جلجميش كان حاكمًا على مدينة أوروك، أحبه شمش وحباه آنو وإنليل وإيا بنضرة الشباب وبسطه الجسم وجمال الصورة والقوة الخارقة والحكمة السابغة والنظرة الثاقبة حتى أصبح إنسانًا مثاليًّا، أو على حد تعبير الأسطورة حتى أصبح به ثلثان من الربوبية وثلث من البشرية. وقد اهتم بمدينته وأسوارها كما اهتم ببلاطه وفخامته ورفاهيته، فدب الحسد منه في نفوس معاصريه، وشكوه إلى أربابهم؛ وادعوا أنه يسخر أبناءهم ويحتبي عذاراهم ونساءهم، فاستجاب الأرباب لشكواهم وابتغوا أن يعيدوا السلام والطمأنينة إلى أرض أوروك التي أرسى الحكماء السبعة بنيانها "وهم سبعة حكماء أسطوريون نسبت القصص إليهم تأسيس وتحضير أقدم مدن في الوجود"2. وأمر آنو الربة أرورو أن تخلق من الطين إنسانًا ينافس جلجميش قوة واقتدارًا حتى تهبط عزيمته حسدًا منه فينصرف طغيانه عن شعبه. وأتمت أرورو أمرها وغسلت يديها وقبضت قبضة من طين البراري وتفلت عليها وخلقت منها غلامًا دُعي إنكيدو "أو
__________
1 See, Anet, 90, 163, 172; Alexander Heidel, The Gilgamesh Epic And The Old Testament Parallels, 1946; Ephraim Speiser, Anet, 72 F.
2 H. Zimmern, Az, Xxxv “1923”, 151 F.(1/465)
إنجيدو" عظيم البأس، له قوة الأسود وسرعة الطير، وفيه قبس من روح آنو ونينورتا، ولكنه نشأ على الرغم من قوته أشعر غير ذي فطنة ولا حكمة، فمال إلى مصاحبة الغزلان آكلات العشب دون الناس، وشاركها مرعاها وموارد شربها، وعزف عن طعام الناس وموارد شربهم. وبلغ من إخلاص لحيواناته أن تتبع شباك الصيادين فأتلفها، وتتبع حفرهم فردمها. فاشتكاه صائد إلى أبيه الشيخ، فوجهه أبوه إلى جلجميش وتنبأ له أنه سوف يستأسر إنكيدو عن طريق أنثى، فلما أعاد شكواه على جلجميش أوصاه بالفعل بأن يغويه بغانية جميلة، ففعل ما أوصاه به وارتحل بها ثلاثة أيام حتى بلغا البرية التي يعيش فيها، وتربصا به يومين حتى خرج بحيواناته يسقيها. واستطاعت الأنثى أن تلفه بجمالها، فكشفت له عن مفاتنها وخلعت له ملابسها وفرشتها له، ونجحت فيما فشل فيه غيرها، فاستجاب لها إنكيدو وقضى معها ستة أيام وسبع ليال، ولما أفاق بعدها التفت إلى البرية وحيواناتها، ولكن الحيوانات التي أحبته لفطرته وطهره ما أن رأيت وجهه بعد الخطيئة حتى ازورت عنه وهجرته، فأدرك دنسه واشتد به عذاب النفس والحزن واليأس. ولكن المرأة شغلته بحديثها المعسول وأوهمته أنه أصبح حكيمًا وحرضته على أن يواجه جلجميش ويستحوذ على مدينته أوروك وملكه العريض وينتقل من حياة البراري إلى جوار مقر آنو وإشتار "عشتار" وحياة المدنية. فاستجاب إنكيدوا للمرأة مرة أخرى ووصل معها إلى أوروك. وهنا تواردت الرؤى على جلجميش، ورأى فيما يرى النائم روح آنو تجلت في السماء على هيئة كوكب ونزلت عليه فحاول أن يرفعها أو يحركها ففشل، وتجمع أهل أوروك حولها وقبلوا قدميها. ولما أفاق جلجميش قص رؤياه على أمه الحكيمة نينسون، فنبأته بنبإ إنكيدو تنبأت له بأنه سيميل إليه كما يميل إلى أنثى. ثم رأى في رؤيا أخرى أن قومه ثبتوا فأسًا في الأرض وتجمعوا حولها، فاتجه إليها بدوره، ولما أعاد الرؤيا على أمه فسرتها له بنفس تأويلها الأول.
وقضى إنكيدوا مع غانيته ستة أيام وسبع ليال أخرى كاد ينسى نفسه فيها، فأثارت المرأة عزيمته ثانية وألبسته ثيابًا جديدة، وخرجت تشده كأنها أمه إلى أماكن الرعاة ليستعيد نخوته بينهم، فحن هناك إلى رضاعة لبن البراري، وعندما قدم إليه طعامهم وشرابهم ما درى كيف يطعمه ويشربه، فراضته المرأة عليه حتى اعتاده واستساغ الشراب العنيف وأسرف فيه، وأزال شعر بدنه واعتاد الطيوب، وأصبح يذود عن أغنام الرعاة ويصيد السباع. ثم أتى البرية رجل يستصرخه ضد جلجميش الذي استولى على زوجته، فاستثارت الغانية والناس همته حتى خرج إلى أوروك وهناك تجمع الناس حوله ورأوا فيه كفئًا لجلجميش وإن كان أقصر قامة منه.
وتلاقى البطلان في سوق المدينة وتصارعا مصارعة عنيفة، واستطاع جلجميش أن ينتصر على خصمه، ثم رق كل منمها للآخر وصادقه وأصبح كل منهما أحب إلى صديقه من نفسه، حتى كان يوم رأى فيه جلجميش صديقه دامع العين كسير الفؤاد، فلما سأله عما به شكا له الإعياء والمرض، فاعتزم جلجميش أن يدفع عنه الملل ويشركه في مغامرة مثيرة، وعرض عليه أن ينطلقا إلى حيث يعيش هواوا ويتعاونا على قتله عسى أن يذهب النحس عن الأرض بهلاكه، وهنا قصت الألواح مغامرة الصديقين في صورة قريبة من صورتها السومرية القديمة مع تعديلات يسيرة وتعبيرات تناسب آفاق المعرفة في عصرها، وكان من ذلك(1/466)
أن ذكرت جبل الأرز في أرض الأحياء التي اتجها إليها باسمه الكنعاني المعروف للساميين وهو جبل حرمون الذي ذكرت نصوص أوجاريت في الشام أن معبوداتها تستقر فوقه. ثم كان من أمتع ما جاءت به قول جلجميش لصديقه وهو يرد على مخاوفه من لقاء هواوا "من يستطيع أن يعاند السماء يا صديقي؟ ليس من يخلد تحت الشمس غير الأرباب، أما البشر فأيامهم معدودات ... ، وأنت هنا تخشى الموت؟، فأين بطولتك الفذة إذن؟ أولى بك أن تهيب بي أن تقدم ولا تخف، فإذا سقطت صريعًا تركت لنفسي سمعة طيبة، وقال عني خلفائي من أهل بيتي سقط جلجميش بعد أن تحدى هواوا".
وأضافت النسخ الآشورية للقصة أن جلجميش بعد أن نجح في إقناع شيوخ بلده بمغامرته التفتوا إلى إنكيدو وقالوا له "نحن أعضاء المجلس أمناك على الملك، فأعده سالمًا إلينا"، والتفت جلجميش إلى صديقه وقال له هيا بنا إلى القصر الكبير "إجالمه" وإلى حضرة الملكة العظيمة نينسون. وعندما قص عليها ما عزم عليه فزعت وارتدت رداءها الكهنوتي وصعدت الدرج وعلت السور وطلعت إلى السطح وحرقت البخور فتصاعد عبيره عاليًا لربها شمش ثم رفعت يديها إلى معبودها وقالت تخاطبه: لم وهبتني جلجميش ولدًا؟ ولم جعلت هذا الابن القلق من نصيبي؟
ثم انتهت الألواح إلى ما انتهت إليه القصة السومرية من قتل هواوا، وأضافت أن جلجميش انتشى بعد النصر واغتسل وعقص شعره وأرسل ضفيرته خلف ظهره واستبدل ثيابه وارتدى عباءة ذات أهداب، فلمحته الربة إشتار "عشاتر" وشغفت به حبًّا وابتغته زوجًا لها ومنته بأماني كثيرة ووعدته بملك عريض فاستهان بعرضها وذكرها بغرامياتها المتقلبة وكيف أحبت دوموزي في صباها ثم غدرت به، وكيف أحبت طائرًا ثم كسرت جناحه، وكيف عشقت أسدًا وحفرت له سبع حفر بعد سبع حفر، وكيف أحبت محاربًا وراعيًا، بل وأحبت بستاني القصر، ثم غدرت بمن أحبها منهم ومسخت منهم من استعصم عليها. فلما واجه جلجميش هذه الربة الحسناء بحقيقتها انقلب حبها له إلى حقد شديد وشكته إلى والديها في السماء "آنو وأنتوم" ودعت أباها إلى أن يرسل عليه فحل السماء ليقتله، وتوعدته إن لم يفعل بأن تفتح أبواب العالم السفلي فيخرج أمواته ويفتكون بالأحياء، فاستجاب لها أبوها وأرسل معها فحل السماء بعذاب شديد. وأراد إنكيدو أن يفتدي صديقه فتصدى للفحل ونجا من حفره بعد أن سقط في إحداها، ثم تعاون هو وجلجميش على ذبحه وقدما قلبه قربانًا إلى شمش، فجن جنون إشتار وصبت اللعنات على أوروك وحرضت الكاهنات على أهلها. فتصدى لها إنكيدو وتوعدها بأن يفعل بها مثل ما فعل بالفحل، وأفسد هو وصديقه خطتها وكان يوم انتصارهما عليها يومًا مشهودًا، خرجت العازفات فيه ينشدن بإيعاز من جلجميش: من هو أعظم المغاوير قدرًا؟ من هو أعظم الناس قدرًا؟ فيرد الناس وراءهن: ذاك هو جلميش: أعظم المغاوير قدرًا، ذاك جلجميش أعظم الناس شهرة. وتلك صورة من هتاف الأنصار للبطل تربط الماضي بالحاضر.
وانقلب حال السماء وأربابها، فاجتمع آنو وإنليل وشمش، وانقسموا فريقين: آنو وإنليل في جانب وقد اعتزما الفتك بإنكيدو لإهانته إشتار واشتراكه في قتل هواوا وقتل الفحل، وشمش في جانب آخر(1/467)
وقد أصر على حماية الصديقين واعترف بأنهما قتلا هواوا والفحل بأمره ... ، وانتصر رأي آنو وإنليل وابتليا إنكيدو بداء عضال لا يرتجى البرء منه واسترسلت الأسطور في وصف أسف جلجميش على صديقه، وخوف إنكيدو من عالم الفناء وأهواله، وتبرمه بما لحق به، حتى أتاه صوت شمش من السماء بعتاب رقيق، ذكره فيه بفضل ربه عليه حين وهبه القوة والبأس من قبل، وحين حباه بصداقته للبطل جلجميشن وحين أيده بنصره في مغامراته القديمة، فقرت نفس إنكيدو ورضي بنصيبه وتحولت لعناته إلى دعوات، ولكن ظلت الرؤى تتوارد عليه وتدفعه إلى أن يتذكر العالم الآخر رغم أنفه، حيث الدار التي لم يتركها شخص دخلها، وحيث الطريق التي لا رجعة منها، وحيث الظلام الأبدي الذي عز النور على أهله، وحيث الطعام طين وتراب، وحيث لا يجد الموتى ما يتدثرون به سوى أجنحة كأجنحة الطيور، وحيث تحيا ملكه العالم الآخر إرشكيجال وحيث تركع أمامها كاتبتها بلت سرى تقرأ لها لوحها المكتوب، وقد رآها إنكيدو في منامه ترفع رأسها وتتطلع إليه وتقول من أتى بهذا الشخص هنا؟ فأدرك أنها النهاية، واشتد به المرض وظل يعاني سكرات الموت عشرة أيام "أو اثني عشر يومًا"، فلما أحس دنو أجله دعا جلجميش وودعه وأفضى إليه بأسفه على أنه لم يمت شهيدًا في معركة وأن عليه أن يموت على فراشه. ولما قضى نحبه بكاه جلجميش وظل يندبه بحرقة ووفاء، وأبنه ونعى صفاته وشجاعته بعبارات ينفطر الفؤاد لها، ثم فاق إلى نفسه وتخيل نفسه يلقي مصير إنكيدو فطارت نفسه شعاعًا وكره الموت، واعتزم أن يلجأ إلى جده الأكبر الحكيم أوتانبشتيم "أو وتنابشتو، أو أوتونبشتم، ابن وبرتوتو، وهو نوح البابلي، في مقابل نوح السومري زيوسدرا، الذي يقابله Xisouthros في النصوص الإغريقية للعصور المتأخرة.1، عله يجد عنده سر الحياة، وانطلق من ثم يقطع البراري والقفار حتى بلغ جبلًا يُدعى جبل ماشو تتصاعد قممه إلى عنان السماء وتصل جذوره إلى العالم السفلي، ولقي حارسه وكان له وجه عقرب، فخوفه الحارس أهوال الطريق ولكنه لم ينثن عن عزمته وظل يقطع مفازاته ويتخطى أهواله حتى لقد ناداه شمش من علاه: إلى أين جلجميش؟ ارجع فلن تجد الحياة التي تسعى إليها ... ، فأجابه: وهل بعد أن أقطع البراري أضع رأسي في قلب الأرض وأنام مدى الدهر؟ دع ناظري يمتلئان بنورك دائمًا فإن الظلمة تتشتت أمام النور ...
واستمر جلجميش في طريقه، وقابل صاحبة حانة تدعى سيدوري روى لها قصته وقصة صديقه الذي اختطفه الموت بعد أن سقطت دودة من أنفه وتحول إلى طين، على حد قوله، فلم يستطعم الحياة من بعده، فردت عليه بأن الموت نهاية كل حي وأن للإنسان أن ينعم بحياته ويطعم ويشرب ويلبس ويمرح، وأنه ليس من سبيل إلى حياة الخلود التي يبتغيها، وأنه يفصل بينه وبين أوتا نبتشتيم بحر لم يعبره إنسان، وأنه لن يستطيع عبوره بغير مساعدة نوتي فظيع يدعى سورسونابو. وكأنما أراد القصاص أن يبين أن الرؤية الصحيحة قد تتوفر عند صاحبة حانة وتغيب عن جلجميش العظيم بعد أن ألهته عنها شدة رغبته في الحياة، وقابل جلجميش
__________
1 Anet, 88, N. 143 “Cf. Th… Jacobsen The Sumerian Kings List “1939”, 76-77, N. 34, And For His Father: Ibid., 75-76, N. 32; Anet, 594; Civil Et Biggs,. Ba, Lx, 1966, 1-5.(1/468)
النوتى وحاوره وراضاه حتى اصطحبه معه في قاربه، وركبا الموج شهرًا وثمانية عشر يومًا إلى أن بلغا مياه الأعماق. وخرج جلجميش إلى جزيرة جده أوتانبشتيم "أو وتنابشتو" وقابله ورأى فيه صورة من نفسه وقص عليه قصته ورجاه أن يدله على سر الخلود، ولكن جده أراد أن يزيده خبرة بأحداث الماضي البعيد قبل أن يلبي رجاءه، فقص عليه قصة الطوفان القديم، قائلًا له:
"سأكشف لك جلجميش سرًّا، وهو سر رباني. شوروباك مدينة تعرفها تقع على ضفة الفرات، هي مدينة عتيقة عاش الأرباب فيها، وعندما أرادت مشيئتهم إحداث الطوفان، كان بينهم آنو أبوهم، والشجاع إنليل مستشارهم، ومساعدهم نينورتا، وإنوجيه متولي أمر قنواتهم. وكان معهم كذلك رب الحكمة إيا الذي حزبه الأمر ولكنه لم يشأ أن يفشي سر الآلهة جهرة، فجعل أوتا نبشتيم يرى في منامه ما يحذره من الطوفان، ولما لم يدرك هذا الأخير مغزى رؤياه وتطلع إلى تفسيرها ألقى إيا حديثه إلى كوخه بطريق غير مباشر قائلًا: يا كوخ البوص، يا جدار ويا جدار؛ يا كوخ البوص، يا جدار ويا جدار، أصيخوا ورددوا:
يا رجل شوروباك يابن وبرتوتو.
أهدم الدار وابن سفينة. دع أملاكك، وانقذ حياتك ...
ارحل بها وخذ بذرة كل حي ...
اجعل عرضها مثل طولها.
ففهمت وقلت مولاي إيا أمرت سيدي وسأكون أهلًا لحمل الرسالة، ولكن بم أجيب أهل المدينة وشيوخها؟ فقال إيا، قل لهم إني سمعت أن إنليل غير راضٍ عني، ولهذا لن أبقى في مدينتكم ولن أطرق أرض إنليل - ولسوف أذهب إلى الأعماق وأعيش مع مولاي إيا - ولسوف يبارك لكم في الطير والأسماك ويجعل الأرض تؤتي أكلها، ذلك الذي يأمر في ظلمة الليل باخضرار اليابس - ولسوف يرسل عليكم مطرًا من الغلال "وكلمة الغلال تورية عن الهلاك لاشتراكهما في اللفظ" ... وبعد أن تعلم الحكيم من ربه كيف يصنع السفينة من البوص والأخشاب ولم تكن له معرفة سابقة بصناعتها قال: وعند الفجر تجمع الناس حولي، وحمل الصغار القار، وحمل الكبار كل الضروريات، وفي اليوم الخامس أتممت إطار السفينة، وكانت سعة أرضها فدانًا كاملًا، وارتفاع جدرانها 120 ذراعًا ... ، وجعلت لها سبعة مسطحات أي قسمتها ستة أقسام وقسمت أرضيتها تسعة أجزاء ... وأكرمت من عملوا معي ... ، وأكتملت السفينة في اليوم السابع وأنزلوها الماء، وحملتها بكل ما عندي، وما أملك من فضة وذهب، وحملتها بصنوف الأحياء كلهم، وأخذت معي كل عائلتي وأقربائي، وحيوانات البراري، وكل الصناع.
وحدد "شمش" وقتًا معينًا لي قائلًا: عندما يرسل من يبعث القلق بالليل، رذاذًا من المن، ارحل بسفينتك وأغلق مدخلها. وحان الوقت.. وتطلعت إلى الجو، فوجدته معتمًا، فغلقت السفينة، وعهدت بها إلى النوتى بوزور أموري. وظهرت غمامة سوداء في الفجر، رعد فيها أداد، وتقدمها شولات وهانيش(1/469)
رسولين فوق السهل والجبل، وحطم إراجال المساند "التي تسند الدنيا"، وخرج نينورتا فجعل الترع تفيض، وحمل الأنوناكيون المشاعل وجعلوا الأرض تتوهج بها، وبلغ غضب أداد السماوات، وأحال النوبر إلى ظلمة، وهبت عاصفة الجنوب يومًا كاملًا بسرعة عنيفة فنسفت الجبال، واقتلعت الناس، فخشي الأرباب عاقبة الطوفان وأجفلوا وصعدوا إلى سماء آنو "أعلى السماوات" وتجمعوا كالكلاب حين تقبع بجوار الجدران؛ وصرخت إشتار صرخة أنثى تلد، وولولت صاحبة الصوت الشجي قائلة: ضاعت الأيام الحوالي هباء لأني أخطأت في مجمع الأرباب؛ ولكن كيف أخطئ في مجمعهم وأعلن حربًا لفناء الناس وأنا التي وهبتهم الحياة، فتكاثروا كأسماك البحر ... " وبكى الأنوناكيون معها.
واستمرت أعاصير الطوفان ستة أيام "وست" ليالي واكتسحت الأرض كما تكتسحها عاصفة الجنوب، وفي اليوم السابع هبطت العاصفة وهدأ البحر وتوقف الطوفان، وتطلعت إلى الجو، فإذا سكون شامل والناس قد تحولوا إلى طين، وأصبحت الأرضيات في مستوى السقوف. ففتحت منفذًا، وسقط الضوء على وجهي، فسجدت وبكيت، وتطلعت أتلمس خطوط الساحل على مدى البحر هنا وهناك، وبدت يابسة. والتصقت السفينة "نسرات نابشتم أي منقذة الحياة" بجبل نيزير1 فاحتجزها، يومًا ويومين وثلاثة وأربعة وخمسة وستة ولم يدعها تتحرك. وفي اليوم السابع أطلقت حمامة، فذهبت وعادت وعز عليها أن تجد مكانًا ظاهرًا تحط عليه، وأرسلت سنونو فذهب وعاد حين لم يجد موضعًا ظاهرًا يحط عليه، فأرسلت غرابًا فذهب ورأى الماء يتناقص فأكل وعب ودار ولم يعد. وحينذاك واجهت الجهات الأربع وضحيت - وسكبت قربانًا فوق قمة الجبل، ونصبت 14 قدرًا، وعندما شم الأرباب الرائحة تجمعوا كالطيور حول الأضاحي. ثم وصلت العظيمة "إشتار" ورفعت حليها العظيمة التي أهداها لها آنو، وقالت: أيها الأرباب، بحق هذا اللازورد حول عنقي، سوف أذكر هذه الأيام ولن أنساها، ادعوا الأرباب إلى الأضاحي ولكن لا تدعوا إنليل الذي سبب الطوفان وأهلك شعبي، وبعد فترة وصل إنليل فلما رأى السفينة غضب وقال: هل نجت روح وما كان لبشر أن يبقى؟ فأجاب نينورتا، ومن غير إيا يفشي الخطط وهو العليم بكل شيء؟
وهنا قال إيا لإنليل العظيم: يا حكيم الأرباب يا بطل، كيف تتهور وتأمر بالطوفان؟ إنما تقع الخطيئة على مرتكبها، وعلى الباغي تدور الدوائر، كن رحيمًا وإلا قطع ... ، كن صبورًا وإلا أقصي ...
أما كان يخرج أسد فيقلل للناس عوضًا عن الفيضان؟
أما كان يخرج ذئب فيقلل للناس عوضًا عن الفيضان؟
أما كانت تحدث مجاعة فتقلل للناس عوضًا عن الفيضان؟
__________
1 تعدد المحاولات للتعرف على هذا الجبل في منطقة كردستان قرب السليمانية، وجنوبي الزاب الأصغر، وحيث يوجد بين أمر جدروون أبو بير إه نبه جدروون، أو جبل أرارات أو جرديان في أرمينيا - ولكن بغير دليل قاطع.(1/470)
لست أنا من يفشي سر الأرباب الكبار. لقد جعلت أتراخا سيس "= حكيم الحكماء أي أوتانبشتيم" يرى رؤيا كشف فيها سر الأرباب، فاقض فيه إذن!
"ولا يبعد أن القصاص أراد أن يعبر بمثل التساؤلات السابقة عن تساؤلات دارات في ذهنه هو عن حكمة الأرباب في إرسال الطوفان الذي أوشك أن يهلك الجميع".
وعند ذاك خرج إنليل من السفينة وأمسك يدي وأخرجني وأخرج زوجتي وجعلها تركع بجانبي، ووفق بيننا ولمس جبهتينا ليباركنا، وقال: لم يعد أوتانبشتيم بشرًا، سيكون هو وزوجته أشبه بنا معشر الأرباب، وسيستقر بعيدًا عند مصاب الأنهار. فرفعني الأرباب إلى مصاب الأنهار. ولكن أنت "يا جلجميش" من سيجمع لك الأرباب ليهبوك الحياة؟ قم لا تنم ... ".
وانتقضت ستة أيام وسبع ليال، وجلجميش قابع وقد غلبه النعاس. فقال أوتانبشتيم لزوجته: "انظري إلى هذا البطل الذي يبحث عن الحياة، لقد استولى عليه النعاس ... " فقالت له زوجته: "المسه لعله يصحو ويعود من حيث أتى". ولكنه قال لها: "إن الإنسان من طبعه الخداع، ولسوف يحاول أن يخدعك "أي ينكر أنه نام"، فقومي اخبزي له فطائر وضعيها فوق يا فوخه، وعلمي على الجدار "عدد" الأيام التي نامها". فخبزت سبع فطائر ووضعتها فوق رأسه "يومًا بعد يوم"، وعلمت "عدد" الأيام على الجدار، فجفت الفطيرة الأولى، وفسدت الثانية، وعفنت الثالثة وابيضت الرابعة، واخضرت الخامسة، وظلت السادسة كما هي، وعندما وضعت له السابعة صحا وقال لجده: "الواقع أنه قلما ينتابني النعاس، وحالما تلمسني أصحو". فقال جده: "قم جلجميش وعد الفطائر ولاحظ ما صارت إليه ... ". وأسقط في يد جلجميش وعلم بعزم جده على ترحيله، فقال له: "وما عساي أن أفعل وأين أذهب وقد خمدت أطرافي، وفي حجرة نومه يستقر الموت وأينما ذهبت فهو الموت ... ؟ ".
واستدعى أوتانبشتيم نوتيه وأمره بأن يأخذ جلجميش إلى البحيرة ليزيل أوساخه ويحمل الماء عنه أدران جلده وحتى يظهر بهاء جسده. وأوصاه بأن يزوده بثوب جديد وعمامة جديدة ويساعده على العودة إلى بلده. فنفذ النوتي ما أمره به واستعد للإبحار بجلجميش، ولكن زوجة أوتانبشتيم قالت له بحنان الجدة على حفيدها: "وما عساك معطيه وهو عائد إلى بلده؟ " فاستدعاه وقال له سوف أعهد إليك بسررباني، نباتا سوف يخزك شوكه مثل الورد "ينبت في غور البحر"، ما أن تحرزه حتى تتجدد حياتك. فما سمع جلجميش قوله حتى ربط أحجارًا إلى قدميه وغاص بها في الماء حتى رأى النبات واقتلعه ووخزه شوكه، ثم حل الأحجار فطنا، وقال للنوتي "سوف آخذ هذا النبات إلى أوروك وأسميه رجوع الشيخ إلى صباه وسوف آكله بنفسي".
وبعد ثلاثين مرحلة رأي جلجميش بئرًا صافيه فأراد أن يبترد فيها، ونزل الماء، ولكن أفعى شمت النبات فاختطفته واختفت به. وربما أراد راوي القصة بذكر اختطاف الحية لسر الحياة الأبدية أن يفسر به قدرتها على تجديد جلدها وشبابها الظاهري كلما أدركها الهرم ولحق البلى بجلدها. وقعد جلجميش يبكي(1/471)
ويندب حظه.. ثم رضخ للأمر الواقع واصطحب الملاح ودعاه إلى زيارة أوروك، ووصفها له بأن مساحة مساكنها تبلغ سارا، وتمتد بساتينها سارا، وتمتد حدودها سارا ... وهكذا انتهت القصة إلى ما يفيد بأن سنة الحياة والموت جارية منذ الأزل وحتى الأبد وأنه لم يغيرها أن أتى جلجميش البطل بالأعاجيب في سبيل تغييرها، وأنه لم يكتب له الخلود من البشر غير أوتانبشتيم الذي يكاد يرادف الخضر في الأقاصيص الشعبية عند المسلمين، وإن كانت القصة العراقية القديمة قد أشركت معه زوجته أيضًا في نعمة الخلود.
صعود إيتانا إلى السماء:
ورث البابليون عن السومريين من أساطير العبرة التي استخدمت حوار الحيوانات والطيور للتعبير عن فكرتها، أسطورة ملك من ملوك كيش القدماء كان يدعى إيتانا ويلقب بالراعي1، ثم صاغوها بأسلوبهم فخرجت تصور حكمة القدر في المنع والعطاء، وتصور عواقب البغي والصلاح، وتصور سداد حكمة الصغير عن رأي الكبير أحيانًا، وتصور أمل البشرية القديم الجديد في ارتقاء الجو إلى عالم السماء.
كان إيتانا من أوائل من نزلت الملكية عليهم من السماء بعد الطوفان، وقد أوتي من كل شيء فيما خلا نعمة الولد، وعلم من تنبوءات الكهان أنه لا علاج لعقمه إلا بنبات الإنجاب، وأنه لا وجود لهذا النبات إلا في السماء السابعة سماء آنو، ولما طال تضرعه لربه شمش كي يهبه اسما "أي ولدًا" يخلد ذكره، اتخذه شمش أداة لتنفيذ قضاء قديم، ودله على نسر عجوز مهيض الجناح مثلوب المخالب منبوذ في حفرة عميقة، وأمره بأن يعينه حتى يسترد قواه عله يحمله معه إلى السماء حيث توجد طلبته.
وكانت قصة النسر أنه تآخى مع أفعوان وعقد معه أغلظ الأيمان على الإخلاص، وأشهدا معًا رب الشمس على أن من خان العهد سوف يضل طريقه وتسد الجبال سبيله. وعاشا متجاورين، الأفعوان في ساق شجرة والنسر في قمتها، وأنجب كل منهما ولدًا. وكان للأفعوان نصيب مما يصيده النسر، وللنسر نصيب مما يصيده الأفعوان. حتى كان يوم دب فيه دبيب الشر في قلب النسر العجوز فقال لولده إنه يشتهي أن يفترس ابن الثعبان ثم يهجر الأرض ويتخذ سكنه في السماء. وهنا ذكره ولده الصغير الأريب بقسمه، وحذره من انتقام ربه، ولكنه لم يرعو وأتم جريمته. وعندما عاد الثعبان وافتقد ولده اتجه بشكواه إلى شمش فاستجاب له ربه الذي عز عليه أن يحنث النسر بقسمه باسمه، ووعده بأن ييسر له قتل ثور بري بين الجبال، وأن عليه أن يبقر بطنه ويختبئ فيها حتى إذا حط النسر عليه ليأكله تمكن منه وفعل به ما يشتهيه. وحدث ما رسمه شمش، واتخذ الثعبان مخبأه في جوف الثور، وعندما حطت عقبان السماء على الفريسة أقبل النسر معها يسعى إلى نصيبه، فنهاه ولده الحكيم وحذره أن تكون مكيدة، ولكنه لم يرعو واكتفى بأن دار حول جثة الثور عدة مرات حتى استيقن من أنه لا وجود لعدوه الأفعوان بجواره، ثم ولج بطن الثور يريد أطايبها، وهنا تمكن الأفعوان منه، فانهار الغادر الجبان باكيًا مستعطفًا، ولكن الأفعوان واجهه بأنه لا مفر من تنفيذ قضاء شمش فيه، ونتف ريشه وكسر جناحيه وثلم مخالبه ورماه في حفرة ليلقى حتفه فيها. وحينذاك أعلن
__________
1 Th. Jacobsen, The Sumerian King-List, 1939, 80-81; H. Frankfort, Cylinder Seals, 1939, 139-139.(1/472)
النسر توبته لربه، ولكن لم تفارقه حيلته، فنادى ربه قائلًا: "إذا ألقيتني ههنا فمن ذا الذي يعتبر بانتقامك مني؟ انقذ حياتي، ولأشيعن ذكرك وقدرتك للأبد"، فأجابه شمش بقوله "أنت شرير، وقد أسأت إلي، والآن دعوتني، ولن ألبي دعوتك "في التو"، ولكني سوف أرسل إليك فيما بعد من يأخذ بيدك".
سمع إيتانا هذه القصة من النسر بعد أن عثر عليه كسيرًا في حفرته، وقص عليه هو الآخر قصته، ثم أطعمه ورعاه حتى استرد قوته واستوى جناحاه. وعندما اعتزم الصعود إلى السماء، طلب النسر منه أن يلاصقه صدرًا لصدر، وأن يضم ساعديه حول وسطه ويستمسك بريشه، ثم أقلع به. ولما علا به في أجواء السماء قال له: تطلع يا صديقي إلى الأرض كيف تحولت إلى مجرد ربوة، وكيف يبدو البحر وكأنه مجرد جدول. وطفق كلما ارتقى به عاليًا نبهه إلى ملاحظة الأرض والبحر وكيف يتناقصان تدريجيًّا في مجال الرؤية، حتى أصبح البحر العريض في هيئة الدلو وتناقص بعد ذلك إلى هيئة سلة الخبز ثم اختفى عن النظر تمامًا هو الأرض "وتلك ملاحظات بارعة من القصاص بغير شك". ولما أوشكا بلوغ المنتهى، اختلفت الروايات في مصيرهما، فروت إحداهما أنهما بلغا سماء آنور ووقفا عند مدخلها وأديا التحية ثم صمتت. بينما روت أخرى أن النسر أجفل عندها وارتعد وهوى بحمله سريعًا مرحلة إثر مرحلة حتى سقط على الأرض، أرض آنو، من حيث طمعها أن يدخلا في سمائه1.
وأخذت بحوار الحيوانات والزواحف والطيور أقاصيص أخرى، بعضها سومري محور، وبعضها بابلي مستحدث. وكانت منها أقصوصة ألاعيب الثعلب ذلك الذي تطلع إلى ربه إنليل ووعده بأنه سوف يضحي له بكل عائلته ويصلي له إن هو وهبه قرونًا، ثم مكر بذئب وكلب، وتحاكموا جميعًا وتفاخروا أمام ربهم2 "على عادة الأساطير السومرية القديمة في التحاكم أمام الأرباب وأولي الرأي". وقصة الثعلب والسيسي. ثم محاورة الأثلة والنخلة ذات المقدمة الميثولوجية السومرية، وتفاخرها في قصر أول ملوك ما بعد الطوفان، على أيهما أنفع وأبهى. ومحاورة الصفصافة وشجرة الغار3، في صورة ظهرت لها أشباهها في كثير من الآداب القديمة، مثل الأدب المصري القديم، وتضمنت الآداب البابلية عددًا من الأمثال والعبارات المرحة جمعت بين الحكمة وبين الفكاهة.
وعلى أية حال فإنما يتضح من سياق الأساطير البابلية السابقة، شيء قريب مما عقبنا به على الأساطير السومرية، وهو أن براعة أهلها في التخيل والرمز لم تستطع أن تجنبهم الاعتراف بنوازع السوء في بعض أربابهم، أو في عناصر بيئتهم والأرباب المتحكمين فيها بمعنى أصح، فأب يريد أن يدمر أولاده وإيا يقتل جده، وتيامة تحارب أحفادها، ثم تلقى حتفها على يد واحد منهم. وفي قصة جلجميش رأينا كيف حقدت
__________
1 S. Langdon, Babylonica, Xii “1931” 1 F.; E. Ebeling, A.F.O, Xiv “1944”, 298 F.; E.A. Speiser, Akkadian Myths And Epics, Anet, 114 F.; R. Williams, Phoenix, X “1956”, 70 F.
2 Lambert, Op. Cit., 186 F. And References.
3 يوجد كلام باللغة الإنجليزية برجاء مراعاة ذلك(1/473)
إشتار على جلجميش وصديقه وكيف أجبرت أباها على أن يرسل فحلًا على الأرض بعذاب شديد. وفي قصة الطوفان رأينا كيف أنكر بعض الأرباب أفعال بعض آخر، وفي قصة أخرى يسرق رب الطير "زو" ألواح القدر من أربابها فيجمعون أمرهم على الانتقام منه وتثور ثارتهم ضده" مثلما استولت إتانا السومرية على ألواح القدر بالخديعة من إنكي في الزمن القديم". وزادت أساطير الدين فصورت "سين" رب القمر البابلي يعشق إحدى بقراته فينقلب ثورًا وينكحها سرًّا. وصورت آنو إله السماء يطرد ابنته "لاماشتو" من السماء إلى الأرض لسوء سلوكها. وقد تكون في هذه وتلك رموز دينية أو قومية لا ندركها، ولكنها لا تخلو على أية حال مما يدل على أن الآداب في كل عصر لا تبرأ من الغث إلى جانب الثمين، وعلى أن عوامل الصراع والعنف في البيئة العراقية القديمة أثرت في تصورات الساميين كما أثرت من قبل في تصورات السومريين وإن أصبحت في عهودهم المتحضرة أخف أثرًا بكثير1.
__________
1 See, Langdon, Semitic Mythology, 97; Landsberger, Jnes, Xiv, 14; Babylonion Inscriptions…, Iv, 126; Lambert, Op. Cit., 5 F.(1/474)
الفصل الثامن عشر: العصر الكاسي "1580- أواخر القرن 12 ق. م"
الحياة الساسية
...
الفصل الثامن عشر العصر الكاسي "1580- أواخر القرن 12ق. م":
الحياة السياسية:
تعرض الشرق الأدنى قبيل عهد حمورابي لأخطار الجماعات الهندوآرية التي صورنا تدفقها على أطرافه من أواسط آسيا، خلال حديثنا عن ممهدات عصر الهكسوس في مصر القديمة، وكيف بدأت على هيئة تسللات قبلية بسيطة واستمرت كذلك أجيالًا طويلة ثم أعقبتها هجرات عنيفة بقضها وقضيضها تفرقت فيما وجدت سبيلها ميسرًا إليه من مناطق آسيا الصغرى وشمال بلاد النهرين وشمالها الغربي وفي الشام ثم شمال مصر. وأسلفنا كيف عرفها التاريخ بعد استقرارها في كل بلد من هذه البلاد باسم خاص، فعرف أهلها في آسيا الصغرى باسم الخاتيين "ثم باسم الحيثيين"، وعرفهم في المناطق الشمالية الغربية من نهر الفرات باسم الحوريين "أو الخوريين"، وعرفهم في مرتفعات بلاد النهرين باسم الكاسيين "أو الكاشيين"، وكان الاسم الأخير فيما يحتمل اسمًا لجماعات آسيانية قديمة نزلوا عليها وأدمجوها تحت زعامتهم. وليس ما يعرف يقينًا عن موطن الكاسيين الأصليين، وهناك آراء تردهم إلى المرتفعات الشرقية، وتنسب اسمهم إلى اسم معبودهم كاشو، وتربط بينهم وبين جماعات متأخرة عنهم في الزمن ذكرها بطلميوس الجغرافي باسم Kossaeans وذكرهم غيره باسم Kosians 1.
وأحست دولة بابل بتسللات الكاسيين والحوريين والخاتيين أيضًا. ولكن أقربهم خطرًا عليها كانوا الكاسيين الذين لعبوا في مرتفعات العراق دور الجوتيين القدماء. واستطاعت جيوش حمواربي وجيوش خلفه سمسو إيلونا أن ترد خطرهم فانكسرت حدتهم إلى حين، واكتفوا بالتسلل السلمي البطيء إلى مدن العراق المتحضرة وعملوا فيها أجراء مرتزقة، بينما ظلت قبائلهم الكثيفة الطامعة في الخيرات والسيطرة تتربص بدولة بابل الدوائر. وأحاطت الدوائر ببابل من عاملين: عامل داخلي وآخر خارجي. فقد انشق على الدولة في الداخل أهل مناطقها الجنوبية، وكانوا فيما يبدو خليطًا من ذراري السومريين ومن قبائل أمورية مهاجرة، وعمل هؤلاء وهؤلاء شيئًا فشيئًا على استصلاح أراضي المناقع القريبة من مصاب النهرين ليكون لهم منها موطن جديد، وكونوا لأنفسهم دولة ناشئة عرفها التاريخ باسم دولة البحر "أو أرض أوروكوج" نظرًا لقربها من سواحل الخليج العربي، وظهر خطرهم فيما مر بنا منذ أواخر عهد سمسو إيلونا البابلي، وربما نجحوا في ضم نيبور المدينة الدينية القديمة إلى حوزتهم، فحاربت جيوش سمسو إيلونا جيوش
__________
1 Cf. Sidney Smith, Alalakh And Chronology, 21 F.; R. Girshman, Iran, Pelican Series, 65.
فيصل الوائلي: الكاشيون.(1/475)
ملكهم إيليما إيلوم مرتين بغير نتيجة حاسمة. واستمر خطر هذا الملك الأخير في عهد إبيشوم البابلي "خليفة سمسو إيلونا الذي حاول أن يستعين على هزيمته بإقامة سد في مجرى نهر دجلة يؤدي إلى إفاضة مائه على دولته، ولكنه فشل في الانتصار عليه1. وهكذا استمرت عوامل الشقاق الداخلي تعمل عملها في تفتيت جسم الدولة.
وبدأ الخطر الخارجي على دولة بابل من قبل الخاتيين "الحيثيين" الذين تكررت اعتداءاتهم على حدودها القريبة منهم، ثم ازدادت غاراتهم شدة عليها بتقادم عهدها وازدياد مساكلها الداخلية حتى استطاعوا في عهد مكلهم مورسيل الأول أن يحتلوا مدينة بابل نفسها وغنموا كنوزها ودمروها تدميرًا هائلًا حوالي عام 1595ق. م، وقضوا على استقلالها في عهد ملكها الحادي عشر "سمسوديتانا"2، ولا زالت آثار تدميرهم لها باقية. وحاول الخاتيون أن يمتدوا في جنوب بلاد النهرين، ولكن وقفت في سبيلهم دولة البحر الناشئة وكسرت شرتهم لا سيما بعد أن بعدت الشقة بينهم وبين أرضهم. ولهذا لم يجد التاريخ بأسًا في أن يحتفظ لهذه الدولة "دولة البحر" بذكرى طيبة فأطلق على أسرتها الحاكمة اصطلاحًا اسم أسرة بابل الثانية.
ولم تطل إقامة الخاتيين "الحيثيين" في بابل، ونزحوا عنها بعد أن أضعفوا شأنها في عالم الحرب والسياسة. وربما تركوا فيها حامية قليلة، فخلا المجال للخصمين الآخرين، دولة البحر والكاسيين. وكانت دولة البحر أسبق إلى الاستفادة من الوضع القائم، وشجعها أنها ساهمت في تخفيف قبضة الخاتيين على بابل ... ولكن المهمة كانت فوق طاقتها، ولم يطل أمد استقرارها هي الأخرى، واضطرت إلى أن تواجه أطماع الكاسيين الذين مالت كفة النصر إلى جانبهم في عهد زعيمهم جانداش الذي أعلن نفسه ملكًا على بابل والأركان "أو الأقاليم" الأربعة سومر وأكد، وبدأت منذ ذلك الحين أسرة مالكة جديدة عرفت اصطلاحًا باسم أسرة بابل الثالثة.
واستمرت دولة البحر قائمة لبعض الوقت في عصر الكاسيين، ونسبت الحوليات إلى أحد ملوكها الأواخر "إيا جميل" مهاجمته لأرض عيلام، ولكن الكاسيين استمروا يوجهون هجماتهم عليها حتى قضوا على استقلالها.
ساد الكاسيون جزءًا كبيرًا من العراق، ولكن أعدادهم كانت قليلة، وحضارتهم القومية كانت خشنة ضئيلة، فاكتفوا بأن اعتبروا أنفسهم طبقة أرستقراطية حاكمة بين السكان الأصليين وانتفعوا بحضارة بلاد النهرين وقلدوا فنونها في مبانيهم ومعابدهم وتماثيلهم، واعتبروا اللغة البابلية السامية لغة الكتابة الراقية إلى جانب لغتهم الخاصة. وكان كل ما أضافوه إلى حضارة بلاد النهرين هو أنهم أدخلوا إليها سلالات جديدة من خيول سهوب آسيا طغت شيئًا فشيئًا على أنواع الحمير الجبلية وسلالة السيسي القديمة، وغيروا
__________
1 See, Anet, 271; Ebeling, Aot, 337.
2 Anet, 271.(1/476)
بعض وحدات الأوزان والمقاييس "شأنهم شأن الهكسوس في مصر". وكان من التطورات اليسيرة التي لحقت بصناعة الأختام الأسطوانية في عصرهم كثرة صناعتها من اليشب وبداية صناعتها من العقيق اليماني وكثرة تسجيل دعوات التعبد وتمجيد الأرباب عليها على حساب صور الأشخاص والأشياء. ثم دخلت صناعة الحديد إلى العراق في النصف الأخير من عصرهم.
وأرخ الكتبة الكاسيون بسنوات حكم ملوكهم1. بعد أن كان أهل العراق يؤرخون بالأحداث الرئيسي أكثر من غيرها. وشاد بعض ملوكهم مدنًا جديدة نسبوا بعضها إلى أنفسهم، وأخصها مدينة دور كوريجالزو، أي مدينته أو حصنه، وهي عقرقوف الحالية التي تبعد عن بغداد بنحو عشرين ميلًا2.
وجرى الملوك على السياسة القديمة في منح الإقطاعيات العقارية للمقربين إليهم من العسكريين والمدنيين ويبدو أنهم حرروا ملكيتها بحيث أصبحت أشبه بالأملاك الخاصة لأصحابها، لا سيما بالنسبة لأفراد الطبقة الكاسية الحاكمة. ومن الوثائق الطريفة التي احتفظت بأسلوب منح الإقطاعيات والإعفاءات في عصرهم، هبة سجلها ملك كاسي يدعى "مليشيباك" باسم ابنته وابنه، ومنح كلًّا منهما بمقتضاها إقطاعية واسعة في أرض البحر بعد أن استصلحها أعوانه وأعدوها للزراعة وأنشئوا فيها قرًى جديدة. وشفع الملك تفاصيل هذه الهبة بإعفائها من التكاليف التي تفرضها دولته على مناطقها الزراعية، وهي تكاليف عرفتها بلاد النهرين قبل عهده بعصور طويلة، ويفهم من قراراته بشأنها أن الدولة كانت تحصل على جزء من باكورة المحاصيل الزراعية، وتستخدم مواشي الإقطاعيات لمصلحة أرضها الزراعية الخاصة حين تشاء وتسخر العمال الزراعيين في خدمة المرافق الملكية والمرافق العام مثل شق الترع وتطهيرها وتشييد جسورها وقطع الحشائش المائية والأعشاب البرية، وهي إجراءات اعتادت عليها أغلب الحكومات القديمة.
واتسعت الصبغة الإقطاعية في الدولة إلى حد يمكن اعتبارها معه ممثلة للعصور الوسطى البابلية، وكان من مظاهرها بين الطبقات العادية توارث الحرف بين أسر وطوائف معينة، يذكر الشخص فيها باسمه واسم أبيه ثم ينسب إلى حرفته، وذلك مما سمح بتتبع أصول بعض الأسر الحرفية فيها لبضعة أجيال، وكانت منها أسر للكتبة ارتبطت بالمعابد أكثر مما ارتبطت بغيرها وكان لها الفضل في نسخ كثير من الألواح الدينية والأدبية القديمة3.
وعبد الكاسيون أرباب بلاد النهرين إلى جانب أربابهم القوميين، بأسمائهم القديمة أحيانًا وبمسميات آرية أحيانًا أخرى4. واعتز أحدهم "أجوم" بأنه أرجع تمثال مردوك وتمثال زوجته زربانيتوم من دولة
__________
1 Cf. Albert T. Clay, Documents From The Temple Archives Of Nippur Dated In The Reigns Of Cassite Rulers, 1926; A. Pocbel, Assyriological Studies, 15.
2 Iraq, Supplement, 1944, 1945, Iraq, Viii “1946”, 73 F.
Lambert, Op. Cit., 13.
Sabatino Moscati, The Face Of The Ancient Orient, 1961, 154.(1/477)
هانا بعد أن اغتصبهما خلال فترة الفوضى التي عمت بلاد النهرين في أعقاب الغزو الخاتي، وأعادهما إلى إساجيل بابل في احتفال مهيب1. واتبع الملوك الكاسيون سياسة ملوك العالم القديم في اكتساب ود رجال الدين وتأكيد القربى من الأرباب عن طريق منح الهبات والإقطاعيات للمعابد وإعفائها من الضرائب، وكانوا يمنحون بعض هذه الهبات من خزائنهم ويسجل رجالهم أخبارها على نصب حجرية صغيرة تسمى كودورو، إلى جانب تسجيلها على ألواح الطمي العادية. واستغل الفنانون سطوح هذا النصف لتصوير هيئات ملوكهم أصحاب الفضل في منح الإقطاعيات، تصويرًا مختصرًا حينًا، وتصويرًا يفسر ملامحهم وملابسهم وأغطية رءوسهم حينًا آخر2. كما استغلوها لتطوير رموز أربابهم الذين أشهدوا على منحها ووضعوها تحت رعايتهم. ومن هذه الرموز رموز حيوانية تصرف الفنانون في تشكيل صورها، ورموز أخرى معمارية تصور واجهات الهياكل والمقاصير البدائية، وذلك مما جعل منها مصدرًا من مصادر المعرفة بعمارة المعابد الأولى. وكان الفنانون يضمنون نقوش نصبهم هذه مناظر أسطورية يستهدفونها لذاتها ومضمونها حينًا، ويستغلونها لغرض الزخرف وملء الفراغ وإظهار البراعة في التخيل والتصور حينًا آخر.
وتابع الكاسيون عادة الغزاة محبي الاستقرار في اتخاذ رعاية المعابد ستارًا يُنسي الناس أصلهم الدخيل القديم. فأصلحوا معابد بابلية كثيرة وأعادوا بناءها، وبقيت من شواهد معبادهم الجديدة أطلال زقورة ضخمة بجانب قصر الحكم في عاصمتهم دور كوريجالزو "عقرقوف بجوار بغداد"، أدت إليها ثلاثة طرق صاعدة ذات درجات، على مثال زقررة أور3. وأطلال معبد في الوركاء للمعبودة إنانا "يؤرخ عهده بأواسط القرن الخامس عشر ق. م"4.
وانضافت إلى عمارة المعابد في عصرهم تطورات وإضافات تناولت محاور المقاصير الرئيسية وتشكيل الواجهات الخارجية. فامتازت عمارة معبد الوركاء بتدعيم أركانه الخارجية بأكتاف ذات مستويين لم تمارسها بلاد النهرين إلا قبيل عصورها التاريخية ثم هجرتها. وامتازت بعض المشكاوات الخارجية للمعبد نفسه بتحوير زخارفها تحويرًا محدثًا عن طريق استغلال بطونها في بناء تماثيل أرباب وربات من اللبن تبرز من جسم البناء نفسه، مع تشكيل رأس كل معبود وجذعه الأعلى تشكيلًا كاملًا والاكتفاء بتشكيل الخطوط العامة لبقية جسمه على هيئة الثوب الطويل المحبوك، وتشكيل لبنات هذا الثوب بما يرمز إلى مدرجات الجبال بالنسبة للأرباب وتموجات الماء بالنسبة للربات. واستغل بناء المعبد المسطحات الفاصلة بين كل مشكاة وأخرى لتشكيل زخرف جديدة على هيئة خطى زجراج رأسيين متقابليين يعبران عن سلسولي ماء ويصبان فوق جبلين "؟ "، وأحاط المشكاوات بأطر علوية وسفلية تعاقبت فيها حليات على هيئة الأقراص والدوائر. وكان ذلك كله بدعًا في عمارة بلاد النهرين5. وأضافت العمائر المدينة الكاسية تجديدًا آخر تمثل في بناء
__________
1 ديلابورت: بلاد ما بين النهرين - ص52.
2 Frankfort, The Art And Architecture…, Pl. 71.
3 انظر سومر 1961. Ibid., 63; Iraq, 1944, 1945, 1946.
4 Frankfort, Op. Cit., Fig. 23.
5 Erster Vorl. Bericht…, Uruk-Warka, 1929, 30 F.; Frankfort, Op. Cit., Pl. 70 A.(1/478)
صفات ذات أعمدة حول أفنيتها الكبيرة، وظهر لها ما يماثلها في عمائر الحيثيين في الأناضول. ودعت هذه التجديدات في العمائر الدينية والمدنية إلى احتمال دخول الكاسيين بفكرتها من بيئاتهم الأصيلة القديمة1.
ولم تخل الفنون التشكيلية، من نماذج طيبة وإن كانت قليلة للغاية، ومن هذه النماذج رأس صغيرة للبوءة من الطين المحروق2 يعتبر آية من آيات الفن في تمثيل شرطة العين وتجويفها وتكوين الفم والأنف والتعبير عن شعيرات الوجه، بخطوط بسيطة متمكنة. ورأس صغيرة لرجل، من الطين المحروق الملون أيضًا3، مثلته بأنف أقنى بعض الشيء، وأجادت
التعبير عن بروز شفته العليا عن السفلى، وعن تصفيف شعره.
__________
1 Op. Cit., 64.
2 Ibid., Pl. 70 C. -وارتفاعها نحو 5 سم.
3 Ibid., Pl. 70 B. -وارتفاعها نحو 7 سم.(1/479)
العلاقات الخارجية:
وسارت العلاقات الخارجية السلمية للدولة الكاسية في نطاق عادي محدود. فسارت قوافلها التجارية في مسارتها التقليدية مع بلاد الشام ومصر، وكانت النصوص المصرية قد ذكرت اسم بابل مرتين خلال عصور دولتها الحديثة حتى عهد تحوتمس الثالث1، ثم أغفلته تمامًا، ربما بعد انتقال أزمة الحكم إلى الكاسيين، واستخدمت بلده كلمة سنجار لمدلول يتسع عن المدلول الإقليمي لكلمة بابل "كما ذكرت اسم جبل سنجار، وهو جبل يقع غربي الموصل"2. واكتست العلاقات المصرية البابلية بطابع الصداقة الشخصية خلال القرن الرابع عشر ق. م، وتمخضت هذه الصداقة عن مصاهرة البيتين الحاكمين أكثر من مرة، ومما يذكر في هذا زواج أمنحوتب الثالث بابنة الملك البابلي كاردونياش وطمعه فيما بعد في الزواج من بنت أخيها كادشمان خاربي "أو كادشمان إنليل"، مع ضنه في الوقت بتزويجه إحدى بناته أو إحدى أميرات بيته الفرعوني المالك. وعندما اضطرب حبل الأمن بين الأموريين والكنعانيين في الشام خلال عهد الفرعون المصري آخناتون، وتأثرت المتاجر البابلية بفوضى الطريق في أرض كنعان، لم يجد الملك الكاسي البابلي غير الفرعون المصري يستصرخه لتأمين تجارته ويقول له "كنعان أرضك ... وأمراؤها مواليك" وأرسل له مع رسالته هدية ثلاث مينات من اللازورد وخمسة جياد وخمس عربات3.
وظل الكاسيون يؤلفون الطبقة الحاكمة في قلب العراق ما يقرب من خمسة قرون "من أوائل القرن 16 إلى أواخر القرن 12ق. م"، ولم يجد المؤرخون بأسًا في أن يعتبروا أسرتهم، فيما أسلفنا، الأسرة البابلية
__________
1 وذكره أحد النصوص المصرية باسم ببر" ولم تكن الحروف الهجائية المصرية تتضمن حرف اللام وإنما تعبر عنه بالنون والراء أو بإحديهما".
See, Urk., Iv, 668, 12.
2 H. Gauthier, Dict. Geog., Ii, 20 F.; Ed. Meyer, Festschrift Fur Ebers, 63 F.; Muller, Egyptian Researches, Ii, 92.
3 ديلابورت: المرجع السابق - ص55.(1/479)
الثالث، على الرغم من أنهم كانوا أغرابًا في أصلهم عن بابل وعن محيطها كله. ولكن لم يخلص لهم أمر بلاد النهرين تمامًا خلال قرونهم الخمسة، ففضلا عن دولة البحر التي نازعتهم السيادة على المناطق الجنوبية في بداية عصرهم حتى تغلبوا عليها، تحكم الآشوريون في المناطق الشرقية والشمالية الشرقية من نهر دجلة، وتحكم الحوريون في المناطق الغربية والشمالية الغربية من نهر الفرات، بغير حدود صريحة فاصلة بين امتداد هؤلاء أو هؤلاء. ثم ظهر بعدهم الميتانيون.
مع آشور:
لم كتن آشور ذات شأن كبير في بداية الأمر، وقد اقتطع الحوريون جزءًا من أرضها، وعاملها الكاسيون على حذر. وحدث أن تصاهر البيتان الحاكمان في آشور وبابل لبعض الوقت، فتزوج الملك البابلي "كارونداش" من ابنة الملك الآشوري "آشور أون بالليط"، وجعل ولدها ولي عهده، فعز على الأمراء الكاسيين أن يسري الدم الآشوري في عروق صاحب عرشهم ويصبح ذلك سببًا لتدخل الآشوريين في شئون دولتهم، فاغتالوا ولي العهد وولوا غيره مكانه. ولا تعنينا هذه المصاهرة وذالك الاغتيال من حيث هما حادثان فرديان، ولكن تعنينا دلالتهما على عدم توافر الثقة بين الدولتين. وحدث أن خرج الآشوريون عن نطاقهم الإقليمي، وأوفدوا سفارة إلى الفرعون المصري آخناتون، فاحتج الملك البابلي على هذه الجرأة وكتب إلى الفرعون المصري بأنه لم يكن يحق للآشوريين أن يتصلوا به اتصالًا مباشرًا وأنه لا يزال يعتبرهم من أتباعه1.
مع الحوريين:
كان الحوريون فرعًا من الفروع الهندوآرية اتخذوا طريقهم إلى الشرق بنفس السبيل الذي اتخذه غيرهم من فروع الهجرات الكبيرة، أي عن طريق التسلل البطيء ثم عن طريق الهجرة العنيفة في ظل ظروف مناسبة2. واعتبر بعض الباحثين أقدم أمرائهم المعروفين في الشرق أميرًا يُدعى نيزادا حكم منطقة أوركيس في القرن الثالث والعشرين ق. م، غير أن هذا التقدير لا يخلو من شك كبير، وأقرب منه إلى الصحة ما يعرف عن ظهور أعمالهم وأخيلتهم الدينية في نصوص ماري منذ أوائل القرن السابع عشر ق. م، وظهور تأثيرهم في الدولة الحالية "الحيثية" منذ عهد ملكها نتيليس الأول، وذلك مما يحتمل معه إرجاع وصولهم إلى المشرق إلى القرن الثامن عشر ق. م أو ما هو قريب منه3. ثم امتد نشاطهم في قلب بلاد النهرين حتى
__________
1 ويضيف ديلاورت أن الملك الآشوري كان قد غار من إهداء الفرعون إلى توسراتا الميتاني عشرين وزنة من الذهب، وتساءل عن سبب عدم حظوته بمثل هذه المعاملة.
2 Cf. E.A. Speiser, Introduction To Hurrian, New Haven, 1940, 1941; I. J. Gelb, Hurrians And Subarians, Chicago, 1944.
3 See, S. Moscati, Op. Cit., 189; A. Pohl, Khurriti, Encyclopaedia Cattolica, Vi, Citta Del Vaticano, 1951, Coll. 1511-12.(1/480)
منطقة أرانجا "كركوك" ونوزي "يورجان تبة الحالية" جنوب شرق نينوى1. كما امتدوا غربًا في المناطق السورية، ولو أن هذا الامتداد كان فيما يغلب على الظن امتدادًا تجاريًّا وتسربًا سلميًّا يرتبط بالنفوذ الاقتصادي والنفوذ الحضاري أكثر مما يرتبط بالنفوذ الحربي أو السياسي. وقد أخذوا بالحضارة البابلية في العراق وكتبوا لغتهم الحورية بخطها المسماري، ولم يكونوا بغير أثر في حياتها العامة، لا سيما فيما شغلته فيما بعد دولة آشور "كما سنرى فيما بعد".
وعرف المصريون القدماء أقرب مناطق الحوريين إليهم بمترادفات: نهري، ونهرن، ونهرينا2، وعرف البابليون المنطقة نفسها باسم "ماتونخريما" "وماتوناريما". وليس ما يعرف إن كان الاسم المصري "نهرينا" ومرادفه البابلي "نخريما"، يدل على معنى "أرض النهر"، ويدل ذلك على "بعض" أراضي الفرات، أم يدل على صيغة التثنية ويعني نهرين معينين ويدل بذلك على ما يمتد بين نهر الفرات وبين فرعه نهير الخابور. وعلى أية حال فقد عنت النصوص المصرية بكلمة نهرن ومترادفاتها أراضي تمتد حول ضفتي الفرات.
مع الميتان:
وفدت على الحوريين وافدة جديدة من بني عمومتهم الهندوآريين حوالي القرن السادس عشر ق. م، واشتهر هؤلاء الوافدون باسم مثن والميتان والميتانيين، وذكرت النصوص المصرية بلادهم باسم "تاومثن" واسم "خاسوت متن"، أي أراضي مثن، وبراري "أو أقطار" متن. وقد أخذوا بالنظام الفيدرالي الذي اعتاده أغلب الهندوآريين ذوي الأصول الرعوية، وهو نظام كان يجعل السادية في أيدي طبقة من النبلاء المحاربين يسمون "ماريانو" ويعتبرون أنفسهم أقرانًا بعضهم لبعض ويعتبرون ملكهم رأس أقرانه. وذكرت النصوص المصرية أقدم ملوكهم المعروفين لها باسم سوشاتار.
واتخذ المتيانيون عاصمتهم في مدينة تسمى واسوكاني "أو أشوكاني"، وهي مدينة صعب تحديد مكان أطلالها وإن ذهب الظن إلى تقريبها إلى الفخارية على نهير الخابور شرق تل حلف وحران. وحاولوا أن يسودوا الحوريين، وربما نجحوا في ذلك وجعلوا أغلبهم من رعاياهم، كما شتتوا فريقًا منهم إلى أطراف الشام حيث تضمنت الرسائل المسمارية لأمراء جنوب الشام المرسلة إلى البلاط المصري أسماء قريبة من الأسماء الحورية.
واحتفظ الحوريون والميتانيون من أربابهم الهندو آريين بالأرباب إندرا، وفارونا، وميثرا، وربما تيشوب رب الزوابع، وهبة ربة الشمس أيضًا، ولكنهم جمعوا إلى أولئك الأرباب بعض أرباب بلاد النهرين الساميين وقدسوهم، لا سيما إشتار التي صوروها في أساطيرهم تناصر الخير وتقف في وجه مارد شرير يُدعى خيدامو.
__________
1 A.H. Gardiner Ancient Egyptian Onomastica, I, 185.
2 Urk. Iv, 697, 3-4, Wb. Ii, 286, 11; Zaes, Lxix, 24 F.; Davies, Tombe Of Two Officials, Pl. 28; Urk. Iv, 891, 8; 710, 4, 15; 711, 5; Papyrus Anastasi, Iv, 15, 4.(1/481)
واتسعت دولة الميتان فيما جارها من أرض العراق وأرض الشام وضغطت لفترة ما على نشاط جيرانها الآشوريين والخاتيين، وحاولت أن يكون لها ضلع في زعامة الشرق فتنازعت مصر في زعامتها التي حققتها لنفسها منذ أوائل دولتها الحديثة حين امتد نفوذها فيما بين الشلال الرابع جنوبًا وبين ضفاف الفرات شمالًا بشرق. ومر في ص216 وما بعدها كيف بدأ الميتان تنفيذ أطماعهم بطريق غير مباشر، فألبوا بعض أمراء الشام على المصريين منذ أواخر عهد الملكة المصرية حاتشبسوت وخلال أوئل عهد الفرعون تحوتمس الثالث، كيف تصدت لهم جيوش هذا الفرعون وأفسدت مشاريعهم ومشاريع حلفائهم، وكيف استمرت العلاقات بين الدولتين، مصر والميتان، علاقات عدائية حتى نهاية عهد الفرعون أمنحوتب الثاني، ثم مالت الدولتان إلى سياسة التقارب. وليس من المستبعد أن يكون التقارب قد بدأ من ناحية الميتان بعد أن أحسوا ببداية استيقاظ الآشوريين في شرقهم وبداية استعداد الخاتيين "الحيثيين" في شمالهم الغربي، وتمخض التقارب بين الدولتين عن مصاهرة بيتيهما الحاكمين منذ عهد الفرعون المصر تحوتمش الرابع وفي عهد ولده أمنحوتب الثالث، وعهد حفيده آخناتون. واستقرت حينذاك صداقة الدولتين، وراسل حكامهما بعضهم بعضًا بلفظ الأخوة، واعتاد كل منهم على أن يسأل الآخر في رسائله عن أهله وداره وخيوله وأتباعه. وتسامح المصريون مع ديانة أصدقائهم، ولم ير أمنحوتب الثالث بأسًا في أن يتقبل في قصره تمثالين صغيرين للمعبودين العراقيين شمش وإشتار أرسلهما الملك الميتاني مع ابنته عروس أمنحوتب لتستعين ببركتهما على إقرار حبها في قلبه، ولم يجد بأسًا في أن يتقبل تمثالًا آخر لإشتار أتاه هدية من صديقه الميتاني ليتبرك به في مرضه. ويبدو أنه كانت لبلاد النهرين في جملتها شهرة خاصة في الطب والسحر تعادل شهرة مصر فيهما؛ إذ تكررت نفس الظاهرة مع الحيثيين في عصر لاحق لهذا العصر، وطلب الملك الحيثي موتاللو من معاصره البابلي أن يوفد إليه طبيبًا وساحرًا، وإن كان قد طلب نفس الطلب من مصر أيضًا فأرسلت إليه تمثالًا لمعبودها رب الشفاء خنسو ومعه كاهن ملازم له. وليس من المستبعد حين يتم الكشف عن عاصمة الميتان القديمة أن يتضح مدى تأثر إنتاجهم الفني بالفن المصري القديم، وتتميز من آثارهم المعروفة أوانٍ فخارية لطيفة ذات صبغة صفراء وخطوط سوداء غليظة ورسوم تخطيطية بيضاء1.
وعلى أية حال، فقد ظلت دول العراق تتطلع إلى مصر خلال هذه العهود على أنها أكبر دول الشرق كله، بحكم ضخامة إمكانياتها المادية والبشرية والفكرية، وأسلفنا في بحثنا للتاريخ المصري "ص221" كيف ظل ملوك الشرق وأمراؤه يرجون فرعون مصر أن يفيض عليهم من ذهبها نظير هداياهم من الأرقاء والجواري والمركبات والجياد والأحجار الكريمة، تساوي في ذلك ملوك الميتان وملوك بابل وملوك آشور، فضلًا عن أمراء الشام وحكام قبرص. وكيف أنه على الرغم من ترحيب ملوك الشرق وأمرائه بمصاهرة أمنحوتب المصري، ظل ضنينًا عليهم بأميرات بيته، بحجة أنه لم يسبق أن تزوجت أميرة مصرية بشخص أجنبي.
__________
1 عثر على نماذج هذه الأواني في مناطق عدة مثل: نوزي وآشور ونينوى وتل حلف وتل العطشانة.
Cf. A. Parrot, Archeologie Mesopotamienne, I, Paris, 1946.(1/482)
لم يطل أمد السلام الذي حققه الميتان لأنفسهم، فبدأ الخاتيون ينافسونهم في المنطقة الشامية العراقية التي تلي الأناضول وتمتد فيما بين الفرات وبين ساحل البحر المتوسط، وكان لهم ضلع ذات مرة في إزاحة أحد الملوك الميتان عن عرشه وتنصيب أحد عملائهم وصيًّا على وريث العرش الصغير. وظلت الحال مائعة بين الدولتين حتى ولي عرش الخاتيين ملكهم الطموح سوبيلوليوما فهاجم بجيوشه أرض الميتان ولكن ملكهم توسراتا استعان بصهره الفرعون المصري أمنحوتب الثالث فأعانه بجيوش ردت الخاتيين على أدبارهم، واحتجز الملك الميتاني عربة وخيلًا من الغنائم لصهره أمنحوتب المصري، وبعض الحلي لأخته "زوجة أمنحوتب"1 ثم شغلت مصر مشاكلها الخاصة عن حليفتها، وعمل الملك الخاتي من ناحيته على تأليب بعض الأمراء الميتان على ملكهم وعلى استمالة ود الآشوريين في نضاله معهم، ثم ضرب ضربته فهاجم بجيوشه عاصمة الميتان وكاد أن يقضي على دولتهم لولا أن شغلته عنهم ثورة في أملاك دولته بشمالي الشام، وعندما انسحب بجيوشه من العراق، استغل أصدقاؤه الآشوريون تخلخل الموقف لصالحهم، فاتبعوا طريقته واستمالوا بعض الأمراء الميتان إلى صفوفهم، وهاجموا العاصمة الميتانية واستردوا منها كنوزًا كان الميتان قد اغتصبوها من أرضهم، ولكن آشور كانت على الرغم من ذلك لا تزال في بداية نهضتها ولهذا لم تستمر في الشوط إلى نهايته. وعادت أزمة الموقف السياسي إلى أيدي الخاتيين وساعدهم أن اغتيل خصمهم الميتاني العنيد توسراتا، فأجبروا ولده "ماتي يوزا" على عقد معاهدة معهم اعترف فيها بخضوعه لهم2. وما لبثت دولة الميتان حتى توارت من مسرح الحرب والسياسة، حوالي عام 1365ق. م3. وتشتت أهلها الآريون في نواحي الأناضول وسواحل الشام، ولم يعودوا يعرفون باسم الميتان وإنما باسمهم القديم "الحوريين" أو "الخوريين"، وكان لهم أثر لاينكر في نقل ثقافة بلاد النهرين وأساطيرها إلى المناطق التي نزلوها سواء حين قوتهم أم حين تظاقهم.
__________
1 ديلابورت: المرجع السابق - ص295.
2 نفس المرجع - ص296-297.
Cf. Goetze, Der Hethiterreich, In Der Alte Orient, 1928, 26 F.; L. Delaporte, Les Hittites, 93 F.(1/483)
الأفول حتى نهاية الأسرة البابلية السابعة:
لم تستفد دولة بابل الكاسية كثيرًا بزوال الضغط الميتاني على حدودها، بل على العكس من ذلك وجدت نفسها وجهًا لوجه أمام قوتين ناهضتين طموحتين، وهما دولة آشور ودولة الخاتيين، فضلًا عن دولة إلام "عيلام" منافستها العتيدة.
واستعرضت بابل عضلاتها مع إلام، وتحدت كل منهما الأخرى، ورُوي أن الملك العيلامي تحدى معاصره البابلي كوريجالزو تحديًا شخصيًّا، وقال له "أقبل، ندخل المعركة ... أنت وأنا"، وحالف الحظ البابلي فتقدم بجيوشه حتى العاصمة العيلامية سوسه، وشجعه هذا النصر على أن يجرب حظه مع آشور،(1/483)
ولكنه فشل معها. وظلت كفة النصر متأرجحة بين بابل وبين جارتيها إلام وآشور فطورًا يسود الهدوء، وطورًا يغلب البابليون وطورًا يغلبون، على حين أدى انشغال الخاتيين بمنافسة المصريين تارة ومنافسة الآشوريين تارة أخرى، إلى بقاء علاقات الود الظاهري قائمة بينهم وبين البابليين، بحيث طلب الملك الخاتي "الحيثي" خاتوسيل ذات مرة من حليفه البابلي "كادشمان إنليل الثالث؟ " أن يتعاون معه في مهاجمة عدو مشترك، قد يكون من الآشوريين أو من الهجرات الأرامية التي بدأت حينذاك تهدد سبل التجارة بين الدولتين.
وعلى أية حال، فسوف نوجز هذه الوجوه المختلفة للعلاقات بين بابل وبين جيرانها، في أن بابل فقدت روحها الجريئة الخلاقة في أغلب عهود الكاسيين، وسارت أمورها رتيبة مقلدة في أغلب أحوالها، فيما خلال هزات قليلة متباعدة، كان أعنفها بالنسبة لبابل مهاجمة جيوش الملك الآشوري توكلتي نينورتا الأول لها وتدميرها إياها وسلبها كنوزها. وبرر الكتبة الآشوريون هذه القسوة بادعائهم أن أرباب المدن البابلية كانوا قد هجروها استياء من مسلك كاشتيليات ملك بابل ولعنوها. ثم رحبوا بالفاتح الآشوري الذي انتقم لهم بتأديب مدنهم1، "وهذا هو منطق المنتصر في كل زمان، مع تغيير ألفاظه بما يتناسب مع عصره". ولكن ما لبث البابليون حتى أخذوا بثأرهم من آشور وحاصروا عاصمتها عقب اغتيال ملكها الفاتح العنيف توكلتي نينورتا في أواخر القرن 13ق. م.
وكان احتدام النتافس بين بابل وبين آشور فرصة الإلاميين، فتجرءوا على جنوب العراق وهاجموا بابل نفسها، وطالت اشتباكاتهم معها حتى دمروها أكثر من تدمير الآشوريين لها، وقضوا على الحكم الكاسي فيها في أواخر القرن الثاني عشر ق. م وغنموا ما بقي من كنوزها ونقلوا أغلب آثارها الفنية إلى عاصمتهم سوسه، سواء حبًّا في الغنم والنهب، أو لحرمانها من كل ما يذكرها بأيام مجدها، وكان من هذا الآثار ما يتعلق بملوك قدماء أحرزوا النصر عليها، مثل: نصب سرجون الأكدي، ونصب نرام سين، وعمود "أو مسلة" مانيشتوسو، ونصب تشريعات حمورابي الذي ظل في عاصمتهم حتى عثر عليه في أوائل القرن الحالي، ونصب أخرى كاسية وغير كاسية كثيرة، يغلب على الظن أنهم أجبروا الأسرى البابليين على نقلها بأنفسهم رغم ضخامتها وشدة ثقلها.
غير أن بابل ذات الماضي المجيد لم تكن لتموت بسهولة، وإن ترنحت طويلًا تحت ضربات خصومها، فتحاملت حتى نهضت وتزعمها ملوك ناضلوا في سبيل تحرير أرضهم من ربقة السيطرة الإلامية، وعرفت أسرتهم اصطلاحًا باسم الأسرة البابلية الرابعة، ومدت جيوش أشهر ملوكهم نبوخذ روسر "نبوخذ نصر الأول"2 جناحيها شرقًا للانتقام من الإلاميين وغربًا لإرهاب بقايا الأموريين وخلفائهم الأراميين، لولا أن هذه النهضة البابلية لم يطل أمدها، وتعرضت بابل مرة أخرى لهزات عنيفة أتتها من قبل دولة آشور التي
__________
1 See, A.F.O, Xviii, 33 F., 42; Maog, Xii, 2, 7, 23 F.
2 See, W.J. Hinke, A New Boundary Stone Of Nebuchadnezzor I, Philadelphia, 1907.(1/484)
نضج كيانها في المرحلة الثانية من عصرها الوسيط، وهزات أخرى أتتها من قبل الأراميين الذين فرضوا وجودهم على العراق فرضًا.
وشقت بابل طريقها على وهن، بالحرب تارة وبالمهادنة والمصاهرة والرضا بالأمر الواقع تارة أخرى، حتى بلغ عرشها أحد الأراميين في النصف الأول من القرن الحادي عشر ق. م، واستطاع أن يصاهر معاصره الملك الآشوري ويضمن مهادنته، ولكنه لم يستطع أن يكفل الأمن الداخلي في دولته. وأحدثت التحركات الأرامية القبلية الداخلية كثيرًا من الاضطراب حتى تعاقبت ثلاث أسر حاكمة "من الخامسة إلى السابعة" في نحو نصف قرن، وكانت الأسرة الثامنة التي تلتها أفضل حظًّا في طول أمد حكمها، ولكن كان عليها أن تنتظر مصيرها المحتوم على أيدي الآشوريين في عصرهم الحديث، مما سنعرض لذكره مرة أخرى في سياق الفصل التاسع عشر.(1/485)
من الحياة الفكرية في العصر الكاسي:
اتضحت ظاهرة جديرة بالتسجيل بالنسبة لحضارة أهل العراق منذ أواسط الألف الثاني ق. م أو منذ ما قبلها بقليل، وهي انتشار خطهم المسماري وأساليبهم السامية وطريقتهم في الكتابة على ألواح الطين، انتشارًا واسعًا بفضل البابليين أولًا ثم الحوريين والميتانيين والكاسيين، في المراسلات الدبلوماسية لأغلب مناطق الشام ومناطق آسيا الصغرى، وذلك بحيث لم يتميز عن خطهم وأسلوبهم حينذاك غير خط مصر القديمة وأسلوبها. واستمر الحال كذلك، حتى بعد أن ضعف شأن البابليين والحوريين والميتانيين والكاسيين بفترة طويلة، وذلك مما يعني أن الكتابة بالخط المسماري والأسلوب البابلي أصبحت مجرد تقليد لا يرتبط بالضرورة بسمعة أصحابه الأصليين، وكان شأنها في ذلك يشبه ما أصبحت عليه اللغة الفرنسية حين غدت لغة الدبلوماسية الأوروبية إبان ازدهار ملكيتها وإمبراطوريتها ثم استمرت كذلك حتى الحرب العالمية الثانية بعد أن انكمشت سمعة فرنسا وزعامتها بزمن طويل.
والطريف أن الإلاميين على الرغم من سعيهم المتصل لتحطيم بابل ونجاحهم فيما هدفوا إليه من تحطيمها، قد ظهر التشبه بين كتابتهم وكتابتها منذ أواخر القرن الثاني عشر ق. م، أي منذ أن حطموها، وإن كانوا قد قللوا عدد الرموز المسمارية إلى ما يزيد قليلًا عن المائة، وظلت هذه الرموز حتى العهد الأخميني يتشابه نحو خمسها مع كتابة بابل، أي حتى اسخدمت فيها الحروف الهجائية1.
ونشأ بعض الظن بظهور اسم العراق في أواخر العصر الكاسي، عن طريق تقريبه من كلمة أريقا التي ظهرت في نصوصهم خلال القرن الثاني عشر ق. م، ولكن لا زال الجدل واسعًا بشأن هذا الاسم، وتميل بعض الآراء إلى اعتباره اسمًا سومريًّا دارجًا يعني الموطن، بينما تميل آراء أخرى إلى اعتباره اسمًا إيراني
__________
1 راجع منس في الفصل 35 من موسوعة جون هامرتون: تاريخ العالم - معرب بالقاهرة.(1/485)
الأصل قريب الصلة بكلمة إيراك "على وزن إيران" ويعني معنى السهل أو البلاد السفلى "في مقابل مرتفعات إيران"، أما العرب فقد قربوه إلى معنى الجرف أو السهل وبخاصة في مناطقه الجنوبية1.
ويذكر لصيغ التراسل الإدارية في عصر الكاسيين تعبير الرئيس فيها عن نفسه بلفظ الأب، وتعبير الزميل أو الصديق عن صديقه بلفظ الأخ2، ولو أن ذلك لم يمنع تزلف المرءوسين إلى رؤسائهم وتعبيرهم عن شد خضوعهم لهم في رسائلهم، ومن ذلك أن وصف حاكم إقليم نفسه في رسالة إلى ملكه بأنه التراب الذي يطؤه3.
ومما نشر من لوحات التعامل في عصرهم لوحة تشير إلى رجل سجنه حاكم بلده، فكلفه آخر وقبل الحاكم كفالته فأطلق سجينه، وتعهد الضامن بأن يسلم ثلاثة عشر شاقلا وثلث شاقل من الذهب إلى وسيط لينقلها إلى السجين وزوجته ويسلمانها إلى الحاكم. وأرخ كاتب اللوحة موضوعها باليوم التاسع من تموز، العام الثامن للملك شاجاراكي شورياش "وقد حكم في أواسط القرن الثالث عشر ق. م"4. ولوحة أخرى تضمنت حكمًا في قضية استعار فيها رجل ثورًا من آخر ليعمل به في نتح الماء، فكسر ساقه. وعندما طالبه صاحب الثور بتعويض عنه ماطله ولم يوفِ بوعده، فقضى الحكم بأن يعوضه عنه من محصول حقله. وأرخ كاتب الجلسة القضية بشهر سيوان، العام الأول للملك العظيم تازي ماروتاش "وقد حكم في أوائل القرن الثالث عشر ق. م".
أخرج كتبة العصر الكاسي قوائم بكلمات كاسية وما يقابلها من المفردات البابلية، أي بما يقوم مقام القواميس المقارنة "المتواضعة" ويجري مجرى قوائم المفردات السامية - السومرية القديمة. أما من حيث إنتاجهم الأدبي بمعناه الضريح، فقد ظل أدبًا مقلدًا غير مبتدع، اعتبروا الأصول البابلية فيه نماذج كلاسيكية تحتذى، وترتب على تقديرهم لهذا الأصول أن أدوا للتراث العراقي مأثرة جليلة، ألا وهي نشاط بعض المعلمين والمتأدبين منهم بنسخ لوحات الأدب القديمة، والبابلية منها بخاصة، سواء بأمر الحكام ولمصلحة مكتباتهم، أم لتلبية مطالب هواة الأدب القديم في عصرهم. وقد أصبح لهذا النشاط أثره فيما بعد عصرهم في تزويد المكتبات الآشورية الكبيرة بنماذج تحتذى للنسخ، كان الكتبة الآشوريون يحتفظون في عناوين نسخها الجديدة بأسماء ناسخيها الكاسيين القدامى، فيقولون مثلًا: "محاورة الثعلب" عن ابني مردوك بن لودومونونا، معلم ... ، و"محاور الصفصافة وفقًا "للوحة" أورنانا، معلم ... "... وهلم جرًّا5.
__________
1 راجع كذلك: طه باقر: مقدسة في تاريخ الحضارات القديمة - جـ1 ص76.
2 The Babylonian Expedition Of The University Of Pennsylvania, Cuneiform Texts, Xvii, 76.
3 Ibid., 24.
4 Albert Clay, Op. Cit., No. 135.
5 J. Of Cuneiform Studies, Ii, 1 F. And 112 F.; W.G. Lambert, Babylonian Wisdom Literature, 1960, 13, 164, 186.(1/486)
وفي إنتاجه الخاص القليل، استخدم الأدب الكاسي أسلوبًا يختلف عن لغة الحديث في عصره، استعاره الأدباء من لغة العصر البابلي الأول، وضمنوه كلمات سامية ظهرت قبله أيضًا1.
لأمجدن رب الحكمة:
عبر الأدب الكاسي عن حياة القلق والمحن التي عاشها أهله في نهاية عصرهم وما تلاه، بتوجعات ومنظومات غلبت عليها نغمة الشك والحزن، وإن انتهت في أغلب أحوالها بالخضوع للواقع، والتسليم بحكمة الرب فيما يبتلى به عباده من سراء ومن ضراء. ولم يكن هذا الاتجاه جديدًا تمامًا على آداب بلاد النهرين، فقد خرجت بمثله عهود الأزمات حين انهيار دولة أور، وخلال عهود القلق التي انتهى بها عصر إسين - لارسا، ولكنه أصبح أظهر وأشد مررة في العصر الكاسي.
ومما يستشهد به في هذا السبيل، منظومة طويلة لسرى لاقى في حياته ما لاقاه أيوب في عصره، نعمة قصيرة وضراء طويلة، ثم أبل أخيرا بعد أن عز عليه الدواء. وأكد الرجل في توجعاته ما يعني أن المؤمن مصاب وأن القدر إذا انحط بكلكله على إنسان حطمه، أو على حد قوله عن ربه "ثقلت يده عليَّ فلم احتملها". ولم تحتفظ مقدمة منظومته بعنوانها، ولكن يفهم مما بقي منها أنها اشتهرت باسم "لود - لول بل - نميقي" وبما يعني "لأمجدن رب الحكمة"2.
وصور الرجل في بدايتها مكانته الأولى حين كان ذا لقب وجاه وأسرة. مزارع وأتباع، وتحدث عن تقواه إزاء الأرباب وإخلاصه لملكه، وحسن معاملته لقومه، ثم صور كيف انقلب ذلك كله إلى عكسه، فذهب الجاه وتمرد الأتباع وتنكر الأصدقاء ونضبت العافية وكلح وجه الدنيا وادلهم، فعاش عيشة السوائم، وهجره ربه ومكن الناس منه فحطموه وسحقوه دون ذنب يعرفه. وقال وهو يعترف بعجزه عن فهم حكمة الغيب وتصاريف القدر: "هديت بلدي إلى شعائر الرب، ودعوت قومي إلى تمجيد الربة، ومجت الملك كما مجدت الرب، ووجهت الناس إلى إجلال القصر، وظننت أن هذا يرضي الإله، ولكن يبدو أن ما يظنه المرء صوابًا قد يكون مسيئًا لربه، وما يتراءى للإنسان قبحه قد يكون حسنًا عند ربه. فمن ذا الذي يدرك إرادة أرباب السماء؟ ومن ذا الذي يدرك تدبير آلهة الأعماق؟ وأين عرف الناس سبيل الرب حقًّا؟ إن من عاش الأمس مات اليوم وفي برهة هلك وفجأة انسحق. يهلل الناس ويفرحون حينًا، وفجأة ينوحون كالنادبات. تتغير أحوالهم ما بين فتحة ساق وانطباقتها؛ يجوعون فيغدون كأنهم جثث هامدة، ويشبعون فيزاحمون أربابهم. في السراء يتطاولون إلى السماء، وفي الضراء يهوون إلى الجحيم. لقد عجزت "وأيم الحق" عن كنه هذه الأمور وما أدركت لها مغزى"3.
__________
1 Op. Cit., 14.
2 R.H. Pfeiffer, Anet, 434 F.; R.D. Biggs, Ibid., 1969, 596-600; And See, Lambert, Op. Cit., 21 F.
3 Tabiet Ii, 29-48.
وقارن هذا بتوجع رجل سومري قديم أمام ربه: Anet, 1969, 589-591.(1/487)
واسترسل الرجل في توجعاته، ولكنه أنهى شكاواه بما جعله يمجد رب الحكمة، إذ تواردت الرؤى عليه، وتجلى له فيها رسل ربه الأكبر، فحملوا له أنباء عفوه، ثم تجلى له ربه مردوك بنفسه فباركه وشفى علته في النفس والبدن وجعله يوقن بحكمته في بلائه وبأن العقبى للأخيار مهما توارت عليهم المصائب.
بين يائس وواعظ:
هذه قصيدة أخرى ضمنها ناظمها وجهتي نظر في تصاريف القدر وحظوظ البشر، وأجرى أفكارها على لسان صديقين، صديق يبرح به وعانى ألوانًا من العذاب، وأخذ يتكلم باسم الواقع ويعبر عن مرارته، ويبحث عمن يسمع له ويتفهم غرضه من شكواه. وصديق آخر مجامل متفائل يتكلم باسم الدين ويدعو إلى الصبر وإلى الثقة بعدالة الرب. ناء أولهما بزمانه الذي يبجل الثري اللئيم، وليس فيه من يأخذ بيد المستقيم، وتساءل: "هل "ترى إلى" الأسد الفاتك الذي ينعم بأكل خير اللحوم يقدم قربانًا وبخورًا لربته ليهدئ غضبها "ويجعلها تناصره"؟ ". فيرد الآخر بقوله "إنه عدو القطيع، ذلك الأسد الذي نوهت به، وتذكر أنه من أجل زئير الأسد تحفر له الحفر، وذاك الذي تقول إنه اجتبى بالثروة وتكدست خيراته، قد يهلكه الحاكم ويجعله طعامًا للنار في وقته المعلوم، فهل تريد أن تسلك سبيلهم؟ أجمل بك أن تتوخى رضا الرب ... ". وهنا يقول الأول: "منذ طفولتي بحثت عن تدبير الرب، وفي خشوع وتقوى تلمست الربة، ومع ذلك حملت بأنواع السخرة دون فائدة، وأعطاني الرب حرمانًا عوضًا عن الغنى". فيجيب الآخر: "لقد أبيت الحق، وضللت عن تدبير الرب، ولا تحسبن أن إرادة الإله تسير وفق رغبة نفسك، فإنما الطهر الحقيقي للربة هو الذي أهملته، ... وأمر الرب والربة لم يبلغ منك القلب"، إلخ1.
التابع الساخر:
قريب من الضياع السابق الذي تاه الناس فيه بين الخطإ وبين الصواب، ورأى الإنسان الشر فيه في موضع الإحسان، والإحسان فيه في موضع الإساءة، حوار ساخر أجوف بين سيد وعبده، صور الشك في القيم الاجتماعية السائدة، وجعل العبد صوت سيده، والسيد أسير تملق خادمه. وصور لكل شيء وجهين، كلاهما مقنع ولكنه مغرض. ويبدأ الحوار بقول السيد في تعاظم: "عبدي، أصغ إلي". فبرد العبد مطيعًا: "لبيك مولاي، لبيك". ويقول السيد متحمسًا: "أعد لي العربية فورًا فلسوف أنطلق إلى القصر". ويجيب التابع محبذًا "انطلق مولاي انطلق، فلسوف يتحقق لك كل ما ترجوه، وسوف يكون الملك حفيًّا بك". فلا يلبث السيد أن
__________
1 R.H. Pefeiffer, Op. Cit., 429 F.; Recueil Edward Dhorme, Paris, 1951, 685 F.; R. Biggs, Anet, 1969, 602-604.(1/488)
ينكص قائلًا: "كلا عبدي، لن أذهب إطلاقًا" ... فيطاوعه التابع قائلًا في تخابث "لا تركب، مولاي، لا تركب، فقد يرغمك "الملك" على سلوك طريق لا تعرفه، ويريك صنوفًا من الشقاء بالليل والنهار".
ويسترسل السيد والتابع في اقتراحات أخرى، لا يلبث كل منهما حتى ينقضها بنفس الإيمان الذي قبلها به. ومنها أن يقول السيد: "لسوف أقدم معروفًا لبلدي" فيجيب التابع: افعل سيدي افعل، فمن فعل معروفًا لبلده وضعت أعماله في دائرة مردوك". وهنا ينكص السيد قائلًا: "كلا يا عبدي لن أفعل معروفًا لبلدي". فيجد الخادم الرد جاهزًا ويقول: "لا تفعل سيدي لا تفعل، وانطلق إلى الخرائب وجس خلالها، وانظرإلى جماجم الأعالي والأسافل، فلن تفرق فيها بين خير وآثم". ويقول السيد: "لسوف أحب امرأة"، فيجيب التابع على عادته "نعم أحب مولاي، أحب، فمن أحب نسي السقم والهم". ولكن الرجل لا تفارقه رح التردد فيقول: "كلا، عبدي، لن أحب امرأة"، ولا تفارق العبد الحجة لتبرير تردد سيده فيقول: "لا تحب مولاي، لا تحب، فالمرأة بئر "عميق"، خنجر حاد النصل يحز في عنق الرجل".
وبعد أن يدور الرجل وظله في حلقه مفرغة لا يعرفان معها ما يحسن فعله وما لا ينبغي عمله، يسأل السيد: "وأين إذن الصواب يا عبدي؟ " فيجيب العبد: "هو أن تدق عنقي وعنقك، ثم يلقيا معًا في النهر". وهنا تملكت روح الجبن والأثرة السيد فقال: "كلا عبدي، لسوف أقتلك أنت وأرسلك أولًا"، فأجابه العبد وهو مطمئن إلى عجز سيده عن البقاء بدونه عجزه عن التفكير وعن التنفيذ بمفرده: "وهل يستطيع مولاي أن يعيش أيامًا ثلاثة بدوني؟ "1.
__________
1 E.A. Speiser, “The Case Of The Obliging Servant”, Jcs, Viii “1954”, No. 3; W.G. Lambert, Op. Cit., 139 F.; R.D. Biggs, Anet, 1969, 600-601.(1/489)
الفصل التاسع عشر: آشور
أ- المراحل الأولى: العصر العتيق- العصر القديم
...
الفصل التاسع عشر: آشور
أ- المراحل الأولى:
امتدت منطقة آشور في عصورها الأولى فيما بين نهري الزاب الأكبر والزاب الأصغر، وأطلت على نهر دجلة بضفتيه، وتكونت في مجملها من تلال وهضاب جيرية، ولكنها لم تعدم أمطارًا مناسبة، وانتفعت بسهولة خصبة متفرقة حول أربيل وكركوك وعلى ضفتي دجلة. واشترك في اسم آشور كل من أرضها وعاصمتها ومعبودها الأكبر وسكانها الأوائل، مع تحويره في التشكيل والنطق بين كل حالة وأخرى، مثل. آشور وآشور، وذكرت الألواح المسمارية أرضها باسم "مات آشور" وهذه قد تكون ذات صلة بالتسمية السومرية A. Usar، وذكرت أهلها باسم آشوريو. وانتشرت عبادة ربها آشور عن طريق الجاليات التجارية حتى أعالي دجلة وآسيا الصغرى بحيث تداخل اسمه في أسماء بعض الأفراد في منطقة كبادوكيا. ووردت تسمية آشور في بعض النصوص الأرامية بلفظ آثور. وذكرتها النصوص المصرية باسم "إسر" و"إسور".
في العصر العتيق:
عاصرت العاصمة آشور التي قامت فوق ربوة صخرية تحف بها مياه دجلة والتي قامت على أنقاضها قلعة الشرقاط الحالية، أواخر عصر بداية الأسرات السومري، وتعاملت مع أهله ومن تلاهم من الأكديين وانتفعت بحضارة هؤلاء وهؤلاء، لا سيما قواعد الكتابة المسمارية، وخلطت بين فنونهم وبين فنونها المحلية البسيطة. واعترفت بنفوذهم في عهود قوتهم، ولعلهم سلكوها حينذاك فيمن سموهم السوباريين "وأهل سبارتو، والسوبارتو". ثم اتضحت أسماء ملوك آشور منذ القرن الحادي والعشرين ق. م أو منذ ما قبله بقليل، وفيما يعاصر دولة أور الثالثة1، وامتاز منهم حينذاك بوزور آشور "الأول"، وشروكين "سرجون" الأول، وهو اسم سامي الصبغة. ويسمى عصر أولئك الملوك اصطلاحًا باسم العصر الآشوري العتيق، وقد امتدت فيه اتصالات آشور وتجارتها شيئًا فشيئًا حتى بلغت آسيا الصغرى.
في العصر الآشوري القديم:
بدأ الآشوريون وجهًا آخر من تاريخهم بعد أن احتكوا بالهجرات الحورية في أواخر القرن التاسع عشر ق. م وأوائل القرن الثامن عشر ق. م، وبدأت بينهم أسرة حكم جديدة يسمى عصرها اصطلاحًا باسم
__________
1 See, Revue D’assyriologie, Viii, 142; E. Ebeling, In Altorientalische Texte Zum Alten Testament, 2n. Ed., Edited By H. Grossman, 1926, 333 F.; E.F. Weinder, “Die Grossc Konigs-Liste Aus Assur”, Archiv Fur Orientforschung, Iii, “1926” 66 F(1/490)
العصر الآشوري القديم، وهي أسرة غلبت الصبغة السامية على بعض أسماء ملوكها أكثر مما كانت عليه في العصر العتيق مثل: إيلوشوما، وشمشي أداد، ويشمع أداد ... ، وعاصرت في بدايتها عهود إسين - لارسا ونشأة دولة بابل. واحتفظت أرضها ببضعة نماذج لفن النحت في عصرها اتصفت في مجملها بالخشونة وظهر أصحابها بالنقبة القصيرة دون العباءات الطويلة المعروفة للخاصة في بقية بلاد العراق1.
وعندما بدأت أحوال العراق تهتز لمولد الدولة البابلية حاول الآشوريون أن يكون لهم شأن في أحداث عصرهم فاشتبكت جيوش ملكهم إيلوشوما مع جيوش مؤسس الأسرة البابلية "سوم أبوم"2، ولكن بغير نتيجة حاسمة. ثم مضت كل من الدولتين في طريقها، حتى حاول الملك الآشوري شمشي أداد "1726-1694"3 أن يحقق لدولته كيانًا ينافس به دولة البابليين. واتخذ نينوى عاصمة لأول مرة، واتسع غربًا ناحية دويلة ماري ووجدت له عدة رسائل في أرضها، وروت نصوصه أنه تلقى في عاصمته جزى ملوك توكريش وملوك القطر الأعلى، وأنه أقام نصبًا باسمه العظيم في منطقة لبنان "لا - آب - آ - آن" على شاطئ البحر الكبير، وإذا صحت روايته الأخيرة هذه كان توسعه هو أقدم توسع آشوري معروف في بلاد الشام4. وربما عادت إلى هذه الفترة بضعة نصوص وجدت في كبادوكيا بآسيا الصغرى وكتبت باللهجة الآشورية القديمة5.
ولكن هذا الفاتح الآشوري ما لبث حتى اعترف مضطرًا بنفوذ معاصره الكبير حمورابي البابلي وأرخ رجاله وثائقهم باسمه إلى جانب اسمه6 ... ، وأخذت آشور حينذاك بالفن البابلي في أساليب النحت ونقوش الأختام7. واستعار كهنة دينها بعض صفات مردوك رب بابل وخلعوها على معبودهم آشور، وأضافوا أن مردوك خصص من أجله منذ الأزل آلهة الأقاليم الأربعة حتى يمجدوه ولا يتهرب من عبادته أحد8. واعتبروا إشتار "عشاتر" زوجة له ولقبوها بلقب بعليت بمعنى السيدة أو الربة أو الملكة، وخلعوا عليها طابع الحرب وصوروها بقوس وسيف 9.
واستردت آشور كيانها المتفرد بعد سقوط أسرة بابل الأولى، ولكن ظل دورها ثانويًّا في أحداث عصرها وفيما يوازي أغلب العصر الكاسي. وذكرتها النصوص المصرية لأول مرة في القرن الخامس عشر ق. م
__________
1 W. Anderae. Das Wiedererstehende Assur, 1938, 88, Taf. 44.
2 See, Anet, 267.
3 A. Poepel, Jnes, “1943”, 85 F.
4 B. Meissner, “Die Inschriften Der Altassyrischen Koenige”, Altorientalische Bibliothek, I, 1926, 24 F.; Anet, 274.
5 Jnes, Xiv, 17; Bin, Iv, 26…
6 L. Delaporte, Catalogue Des Cylindres, 1910, P. Xxxvi, N.1.
7 Ibid.; Frankfort, The Art And Architecture…, 65.
8 Sidney Smith, Early History Of Assyria, 1928, 122 F.
9 ديلابورت: المرجع السابق - ص381-382.(1/491)
باسم "آشور" خلال عهد الفرعون تحوتمس الثالث وذكرت أن أميرها أهدى إليه كمية من اللازورد الحر وأحجارًا كريمة أخرى1. ولم يكن الآشوريون أسعد حظًّا مع الميتانيين الذين توسعوا في أرضهم حتى كركوك خلال القرن الخامس عشر. ولهذا اكتفوا حينذاك بنظام دويلات المدن.
واحتفظت مدينة نوزي "إلى الشرق من كركوك" بعدد من لوحات التبني والوصايا والبيوع الآشورية، كتبت باللغة الأكدية وتحتمل نسبتها إلى أواسط الألف الثاني ق. م، ويتعهد المتنبي فيها عادة بضمان نصيب ربيبه في تركته، بحيث يصبح وريثه الشرعي والمسئول عن تماثيل معبودات أسرته، إن لم ينجب ولدًا من صلبه، فإن أنجب ولدًا حقت الأولوية للابن الشرعي وحق له أن يتولى رعاية تماثيل معبودات أسرته، وهنا قد يجعل الموصي لولده الشرعي سهمين من التركة ولربيبه سهمًا واحدًا، أو يجعل لكل منهما سهمًا بشرط أن يختار الابن الشرعي نصيبه بنفسه، وقد يتبنى الرجل زوج ابنته الوحيدة ويحفظ لها ممتلكاته العقارية عن طريقه، وهنا يحذره في وثيقة التبني بحرمانه من الإرث والتبني إذا طلقها، فضلًا عن تغريمه بغرامة كبيرة "تبلغ عادة مينه من الذهب ومينه من الفضة". وقد يكون التبني صوريًّا كذلك يتحايل به صاحب الأرض على بيع أرضه لشخص آخر من غير أسرته، فيتبناه ويهبه أرضه، ولكنه يحفظ حقه عنده بأن يشترط عليه من جهة أخرى أن يتولى إصلاحها لحسابه، ويفرض عليه شرطًا جزائيًّا إن أخل بتعهداته نحوه، وغالبًا ما يكون أجر الإصلاح والشرط الجزائي هما ثمن الأرض2. والطريف أن المجتمع الإغريقي قد لجأ إلى ما يشبه هذه الإجراءات بعد قرون طويلة من بدأ الآشوريين بها ليتحايل على تقاليد عدم توريث العقار للابنة وعدم بيعه لفرد من خارج العائلة.
__________
1 Urk. Iv, 668,6; 671, 8.
2 See, Anet, 219-220, And Refrences.(1/492)
ب- في العصر الأشورى الوسيط
مدخل
...
ب- في العصر الآشوري الوسيط:
ظل الآشوريون على مهادنتهم الظاهرية للبابليين والكاسيين والميتانيين على التعاقب، حتى تعرضت دولة الميتان لهجمات عنيفة من جيرانها الخاتيين "الحيثيين" خلال القرن الرابع عشر ق. م، وبدأت تضعف تحت ضرباتهم وتخسر سلطانها شيئًا فشيئًا، ففاقت آشور غلى نفسها وظهرت فيها أسرة حاكمة جديدة في الربع الثاني من القرن الرابع عشر ق. م، يسمى عصرها اصطلاحًا باسم العصر الآشوري الوسيط. واستطاعت هذه الأسرة أن تحالف الخاتيين ضد الميتان، وانتقمت لنفسها من هؤلاء الأخارى بهجمات سريعة مخربة "انظر ص493"، واستطاعت في الوقت نفسه أن ترتبط بالأسرة البابلية "الكاسية" برباط المصاهرة، وعلى أساس علاقات الند للند، وأصبحت ضلعًا في مشكلات وراثة العرش في بابل نفسها "راجع490"، ولكن البابليين الكاسيين تقبلوا نشاطها على حذر، وقد أسلفنا بعض شواهد هذا الحذر حين أوفد الآشوريون سفارتهم إلى الفرعون المصري آخناتون فاحتج البابليون الكاسيون على جرأتهم وأصر ملكهم على أنهم لا يزالون من أتباعه "راجع ص490".(1/492)
وانفسح السبيل أمام الآشوريين بعد انهيار دولة الميتان تحت ضغط الحيثيين في عام 1365ق. م فبرزت بينهم أسماء ضخمة لم يحتفظ التاريخ منها للأسف بغير أسماء الملوك كعادته1، ومن أوائلهم آشور أو بالليط الأول "1363-1328ق. م".
وشهدت آشور تحت زعامتهم مرحلتين للتوسع:
__________
1 See Also Lucenbill, Anc. Records, 1, 73.(1/493)
المرحلة الأولى:
وهذه استمرت خلال القرن الثالث عشر ق. م، وقدرت آشور فيها بأس جيرانها الخاتيين الأشداء ونفوذهم في أعالي الشام، فاكتفت بالتوسع في منطقة الجزيرة وتدعيم حدودها القريبة. وكشفت عن وجه العداء لبابل فهاجمتها جيوشها وخربتها أكثر من مرة، واحتلتها في إحدى المرات. وذهبت آمال بعض ملوكها إلى حد العمل على توحيد بلاد النهرين تحت سلطانهم، فتلقبوا بلقب "ملك سومر وأكد"، وكان أشهرهم شلمانصر الأول "1266-1243ق. م". وولده توكلتي نينورتا الأول "1243-1210ق. م".
فقد شهدت بوادي الشام والعراق تحركات سامية جديدة منذ أواسط الألف الثاني قبل ميلاد المسيح، واتجهت هذه التحركات بأطماعها ناحية الهلال الخصيب منذ القرن الرابع عشر، ووضحت تجمعاتها القبلية حينذاك في ناحية الفرات الأوسط شرقًا وفي أواسط سوريا وشرقها غربًا. وأشارت النصوص الآشورية "والمصرية" إلى قبائلها في مجموعها باسم الأخلامو واسم السوتو. وذكرت نصوص الملك الآشوري أريك دين إيلو انتصاره على الفريقين في أواخر القرن الرابع عشر أو أوائل القرن الثالث عشر ق. م1. وكانت قبائلهم قد تعدت الفرات حينذاك، ويبدو أنها حملت معها إلى العراق بعض العبرانيين المستضعفين؛ إذ ظهرت في لوحات نوزي القريبة من آشور أسماء عبرية الصبغة مثل هامانا وإيليا2، وتضمن بعضها عقود استرقاق عبرت عن الطريقة التي تسلل العبرانيون بها إلى أرض العراق واستقروا فيها، فقالت إحداها: "برغبته دخل مار إديجلات العبري من أرض آشور، "دار" تهب تيلا، باعتبار، عبدا"، وشهد على هذه اللوحة كاتبها وأحد عشر شاهدًا4. وقالت أخرى: "برغبتها دخلت سين بالطي العبرية دار تهب تيلا باعتبارها أمة، فإذا نقضت عهدها ودخلت بيت سيد آخر، فقأ سيدها عينها وباعها"3.
ولم يقنع المهاجرون الساميون طويلًا بالحياة القبلية ولم يكتفوا بالتسلل إلى مواطن الحضارة والخصب والعمران، وإنما أخذوا يتجمعون شيئًا فشيئًا في إمارات، وعرفتهم النصوص الآشورية حينذاك باسم الأراميين إلى جانب اسمي الأخلامو والسوتو القديمين. ولعلهم طمعوا في شغل ما شغله الميتان من قبل في شمال شرق سوريا وغرب الفرات، لولا أن نازعهم فيها كل من الآشوريين وبقايا الحيثيين. ومثل الآشوريين في هذا النزاع شلمانصر الأول الذي روت نصوصه عن قتال جيوشه للأخلامو والأراميين
__________
1 E.A. Speiser, Asor, X “1930”, No. 56.
2 E. Chiern, Joint Epedition With The Iraq Museum At Nuzi, 1934, N. 459.
3 Ibid., No. 452; E. Ebeling, Maog, Vii “1933”, 88.(1/493)
وبقايا الحيثيين أيضًا، ثم ولده توكلتي نينورتا الذي روت نصوصه أنه هاجم ماري وأرض خانا "عنات" وأرض راكيبوا وجبال الأخلامو. وتكررت الحروب في عهد آشور رش إيشي ضد أذخلامو، ولكن استمرت هجرات الأراميين تترى ولم تنقطع1.
وأكد الفن الآشوري في هذه المرحلة الأولى من العصر الوسيط أسلوبه الخاص في التعبير عن عقائد قومه، وعن طابع النقش والعمارة بعد أن هضم عدة عناصر استعارها من جيرانه، لا سيما الميتان الذين كانوا واسطة حضارية لنقل فنون الشام ومصر إلى العراق. فمن التعبيرات الخاصة بهذه المرحلة أن قللت النقوش الآشورية تصوير أرباب قومها بصورهم البشرية واكتفت بالرمز إليهم برموزهم المادية والمعنوية، ومن هذا القبيل تصوير الملك توكلتي نينورتا ساعيًا محييًا، وجاثيًا داعيًا، أمام مائدة يعلوها شكل مستطيل يشبه الشراع العريض يرمز إلى المعبود "نوسكو"2. وتصوير ملك آخر يتقبل خضوع أتباعه على حين تطل عليه من عل عدة رموز مقدسة يتميز منها كفا المعبود آشور تبرزان من بين السحب وتمسك إحداهما قوسًا دلالة على طابع الحرب فيه، وتمتد الأخرى مبسوطة ناحية الملك كأنهما تباركه وتعبر عن رعاية صاحبها له3. ثم ملك ثالث صور هو وجنوده في ساحة القتال يطل عليه وقرص يشرع قوسًا، يرمز غلى المعبود آشور المحارب، ومن حوله ذرات مطر تتساقط من السحب وتمثل الجانب الخير للمعبود نفسه4. وليس ما يعرف عما إذا كان صدوف الآشوريين في مثل هذه المناظر عن تجسيد أربابهم بصور محسوسة يدل على إمعانهم في تعظيمهم، أم كان نتيجة لنزعة طوطمية طرأت عليهم5.
وجرى الفنانون على الاتجاه نفسه في نقوش مناظر التعبد على الأختام، فقللوا من تصوير الأرباب فيها، بما كتفوا في أغلب الأحيان بتصوير التعبد أمام واجهات المعباد ومقاصيرها وزقوراتها، أو على الأكثر أمام تماثيل الرموز الحيوانية وغير الحيوانية لمعبوداتها6. وذلك في نفس الوقت الذي أزادوا فيه تصوير قتال الكائنات الخرافية ومناظر الصيد والحيوانات والأشجار، مع شيء من العناية بتفاصيل عضلات الإنسان والحيوانات، وتفاصيل الشعور والأجنحة. ونجحوا في التعبير عن مظهر الغضب وقوة الافتراس في هذه الكائنات فخلعوا عليها حيوية مقبولة. وأحاطوا بعض صورها بأطر زخرفية، وأرفقوا القليل منها بنصوص أفقية7.
__________
1 A. Dupont-Sommer, Les Arameens, Paris, 1949, 17.
2 Frankfort, The Art And Architecture…, Pl. 73 B.
3 Ibid., Pl. 73 A.
4 W. Andrae, Coloured Ceramics From Assur, Pl.8.
5 See, Frankfort, Op. Cit., 66.
6 Zeitschrift Fur Assyriologie, Xiv, 36 F., 43, Abb., 35-38, 46; A.Moortgant, Vorderasiatische Rollsiegel, Nr. 591, 592;Frankfort, Op. Cit., 24 A-B.
7 Frank, Op. Cit., 72, Pis. 75-76.(1/494)
ومارس الفنانون بضعة عناصر فنية جديدة انتقلت إليهم عن طريق الميتان كذلك ثم طوروها، وتمثلت فيما يرى هنري فرانكفورت في أربعة عناصر عقائدية وزخرفية ومعمارية، كان منها أن جروا على الرمز إلى بعض أربابهم، أرباب الحرب وحماة الملكية، بهيئة قرص مجنح1. انتقل إليهم فيما يغلب على الظن من مصر القديمة عن طريق الميتان أو السوريين. وأكثروا من تصوير شجرة الحياة المقدسة، وتصوير الكائنات الخرافية ذات الشوشة على رأسها. ويرى فرانكفورت أنهما عنصران دخلا الفن الآشوري خلال سيطرة الميتان على "جزء من" آشور، ويتمثل مجهود الآشوريين في تطوير العنصر الأول منهما في اعتبار شجرة الحياة عنصرًا زخرفيًّا خالصًا في رسومهم ونقوشهم2 "على الرغم من وضوح دور الشجر في عقائدهم الدينية بحيث كانوا يقيمون في عيد رأس السنة ساق شجرة عاريًا ويثبتون فيه أوراقًا وثمارًا معدنية"3.
ومارس الآشوريون مهارتهم في صناعة الخزف وزخارفه، وهذه يحتمل أنها خرجت من مصر بعد أن بلغت ذروتها في أيام الدولة الوسطى وانتشرت منها إلى كريت ورودس وسوريا ثم العراق، منذ عصر الهكسوس والهجرات الآرية، وهو عصر تخلخلت فيه الحواجز الدولية التقليدية, ويرى فرانكفورت أن تجديد الآشوريين في هذه الصناعة يتمثل في استخدام الخزف لتكسية الجدران4. ولكننا نضيف أن المصريين القدماء استخدموه لنفس الغرض في تكسية جدران بعض حجرات ودهاليز الجزء الأسفل من الهرم المدرج في سقارة قبل ذلك بأكثر من ألف وخمسمائة عام.
أما العنصر الرابع المعماري المستجد في هذه العصر الآشوري فيتمثل في تأزير الأجزاء السفلى من بعض جدران القصور بلوحات حجرية، سمح لهم بها توفر الأحجار في هضابهم وفي المرتفعات القريبة منهم، أكثر من توفرها فيما دون أرضهم من بلاد العراق.
وجرى الملوك الآشوريون على عادة مواطنيهم ملوك بلاد النهرين في تعمير المعابد والزقورات وبناء الجديد منها، وكان عهد توكلتي نينورتا من أنشط العهود في هذا السبيل، فجددت في عهده معابد كثيرة للمعبودات آشور وشمش وسين وآنو وأداد وإشتار وغيرهم5، وتهدمت هذه المعباد ولم يتبق منها غير رسوم قليلة تعرف الأثريون منها على تجديدات طفيفة في فنون عمارتها، ومنها بناء الزقورة على مساحة مربعة، وبداية الطرق المفتوحة ذات الدرجات المؤدية إليها بمدخل معقد، ثم الاتجاه شيئًا فشيئًا إلى الاستغناء عن استخدام هذه الطرق والاستعاضة عنها بالوصول إلى مسطح الزقورة عن طريق معبر يؤدي إليه من
__________
1 Frankfort, Cylinder Seals, 1939, Fig. 59; The Art And Architecture…, 66, 67, 71; O. Weber, Altorientalische Siegel Bilder, Nr. 316 A.
2 Frankfort, Op. Cit., 67-68 “After Helene J. Kantor”.
3 Sidney Smith, Early History Of Assyria, 123.
4 Frankfort, Op. Cit., 67.
5 W. Andrae, Das Wiedererstehende Assur, 1938, Abb. 24, 42, 47, 48, Etc.(1/495)
سطح المعبد الأراضي المجاور لها أو من سطح بناية تقوم مقامه، وأخيرًا وضع تمثال المعبود داخل مقصورته فوق صفة عالية يؤدي إليها درج، رمزًا إلى ارتفاع شأنه واتساع ما بينه وبين خلقه، ثم احتمال وجود مشكاوات فرعية ملحقة بمعبد رب الدولة آشور، لأرباب آخرين مثل مردوك البابلي الذي خرب توكلتي نينورتا عاصمته بابل ونقل تمثاله منها إلى آشور1. وليس ما يعرف عن ارتفاع الزقورات في هذه المرحلة، ولكن يحتمل من مناظرها في نقوش الأختام أنها كانت تتألف من أربع أو خمس طبقات2.
وصورت واجهات المعابد تحف بها صروح أبو أبراج عالية3، وتحلي سطوحها حليات معمارية بسيطة مدرجة ذات زوايا قائمة شاعت أمثالها في الحليات العلوية المسننة لعمائر الشرق الأدنى فيما تلا ذلك من عصور، لا سيما في الحصون، ولا تزال أشباهها تتمثل إلى حد ما في الحليات المسننة التي تعلو المساجد حتى الآن، وكانت تحف بمداخل المعابد الآشورية أحيانًا تماثيل حيوانية ترمز إلى معبوداتها الكبرى4، وتؤدي غرض الحراسة الرمزية لها فضلًا على ما تضفيه على المدخل من عنصر الزينة.
وشهدت آشور مقرين ملكيين جديدين في هذه المرحلة: مدينة كالح على الضفة اليسرى لنهر دجلة "في مقابل آشور ولكن على مبعدة منها على ضفته اليمنى" في عهد شلمانصر الأول، وامتد عمرانها فوق لسان خصب بين الدجلة وبين الزاب الأكبر، ثم مدينة أخرى شيدت في عهد ولده ونسبت إليه فسميت "كارتوكلتي نينورتا"، وقامت على مبعدة ميلين من آشور. وشاد له رجاله فيها قصرًا بقيت منه أطلال طفيفة يفهم منها أنهم زخرفوا بعض جدرانه بقطع من القاشاني المزخرف ولوحات مرسومة اقتبسوا موضوعاتها من عالم الإنسان والحيوان والنبات ومن الخطوط الهندسية5، ونجحوا في تحقيق التناسب والحيوية فيها إلى حد مقبول، وصوروا فيها الملك يقاتل بعربته الحربية منفردًا حينًا، ويشترك معه جنوده في الحرب الفعلية حينًا آخر6.
وأعقبت النهضة الآشورية الأولى في عصرها الوسيط فترة انتكاس، غاضت فيها أحداث التاريخ الآشوري وضعف فيها أن الملوك واضطرب أمن دولتهم، على الرغم من أن ظروف التوسع الخارجي كانت مهيأة لهم بعد أن انهارت دولة الخاتيين "الحيثيين" تحت ضربات الهجرات الآرية الكاسحة التي عرفت اصطلاحًا باسم شعوب البحر، في أواخر القرن الثالث عشر ق. م. ويبدو أنه وقف في سبيل استمرار النهضة الآشورية عدة عوامل داخلية وخارجية، كان منها تكرار النزاع على عرشها، والتمزق الداخلي في أرضها، بعد أن اغتيل توكلتي نينورتا في مؤامرة دبرها ولده وكان اغتياله بداية لتحلل كيان حكم أسرته.
__________
1 Frankfort, Op. Cit., 68-71.
2 Anton Moortgat, Op. Cit., Nr. 591, 592.
3 W. Andrae, Op. Cit., Abb. 49-50.
4 Ibid, Abb., 49.
5 Ibid., Taf. 2-3.
6 Ibid, Taf. 51 A; Coloured Ceramics, Pls. 6-8.(1/496)
وكان منها أن شعوب البحر التي حلت محل الحالتين كانت لا تزال في عنفوان شدتها فظلت مصدر رعب لجيرانها، وأن هجرات سامية جديدة بدأت تغذي قوة الأراميين في العراق، وأن بابل لم تن عن محاولة استرداد كيانها والانتقام لنفسها. ونكتفي هنا بالبابليين.
فقد سارعت بابل بعد اغتيال فاتحها الآشوري توكلتى نينورتا بمحاولة النهوض من كبوتها، فشنت هجومًا خاطفًا على الآشوريين فتكت فيه بملكهم الجديد وحاصرت عاصمته واستردت كرامتها الدينية باسترداد تمثال معبودها الأكبر "مردوك"، وقنعت بما أحرزته من نصر سريع، لتقي أطرافها الجنوبية من الإلاميين "العيلاميين"، ولكن نشاطها ضد هؤلاء وهؤلاء كان فيما يبدو أشبه بنضال اليائس؛ إذ ما لبثت أن انهارت تحت ضغطهما، ودمرها العيلاميون وقضوا على أسرتها الكاسية في نهاية القرن الثاني عشر، وتبع ذلك ما أوجزناه "ص493-495" من جهاد بابل جهاد مستميت في سبيل النهوض، ومقاومتها للعيلاميين حتى أجلتهم عن ديارهم، ثم مناطحتها للآشوريين وانتصارها عليهم مرة وانكماشها أمامهم أخرى.(1/497)
المرحلة الثانية:
بدأت مرحلة التوسع الآشوري الثانية في خلال العصر الوسيط بعهد تيجلات بيليسر الأول "1114 أو 1112-1076ق. م"، ذلك الذي وصف نفسه1 بأنه الملك الحق "لوجال كالاجا" "وفي الأكدية شارو دانو"2، ملك العالم، ملك آشور، ملك الأطراف الأربعة، البطل الهمام المؤيد بوحي آشور ونينورتا والأرباب الكبار سادته الذين دحروا أعداءه. وقد انفسح السبيل أمام آشور في هذا العهد نتيجة لظاهرتين، وهما، انكماش القوة المصرية الضاربة بعد كفاحها العنيف مع شعوب البحر ونتيجة لمشاكلها الداخلية، وانكماش نفوذها بالتالي في بلاد الشام، ثم خمود حمية شعوب البحر خلفاء الحيثيين في آسيا الصغرى وزوال رهبتهم من نفوس جيرانهم.
وترتب على هاتين الظاهرتين أن روت حوليات تيجلات بيليسر الآشوري أن آشور وبقية أربابه العظام منحوه البأس والسلطان وأوحوا إليه بأن يعمل على توسيع حدود أرضهم، وأنه أخضع اثنين وأربعين شعبًا وحارب ستين ملكًا وانتصر عليهم، وأنه هاجم أرض ناييري "في أرمينيا؟ " وأجبر أمراءها الثلاثة على أن يسجدوا لدى قدميه، واحتجز أبناءهم رهائن عنده3، وأنه بلغ جبال لبنان "شادي لبناني" وغزا
__________
1 A. Leo Oppenheim, Anet, 274-75; D. Luckenbill, Ancient Records Of Assyria And Babylonia, I, 300 F.
2 Ibid, And See, Th. Jacobsen, The Sumerian King-List, 181 F.; J. Lewy, Huca, Xix “1946”, 476.
3 D. Luckenbill, Op. Cit.; 271, 300 F.; F. Lehmann-Haupt, In Materialen Zur Alteren Geschichte Armeniens Und Mesopotamiens, 1907.(1/497)
أرض أمورو، وتلقى جزى جبيل "جوبال" وصيدا "صيدونى" وأرواد "أرمادا"، ثم هاجم أرض خاتي الكبرى وفرض الجزية على ملكها إيل تيشوب1، وغزا الصحراء بخيله ورجاله وبعون ربة آشور، وهاجم الأخلامو والأراميين ثماني عشرة مرة من أرض سوخي حتى مدينة قرقميش وأسر منهم وقتل ونهب، وانتصر على ست مدن على سفح جبل بشرى وحرقها ودمرها ونقل غنائمها إلى آشور2، كما عبر الفرات مرتين في عام واحد ليدحرهم، وتغلب عليهم ابتداء من تدمر في أرض أمورو، وعنات في أرض سوخي، حتى مدينة رابيقو في كاردونياش "بابل؟ "3. وجرب حظه مع بابل نفسها فانهزمت جيوشة أمام جيوش ملكها "ماردوك نادين أخى" حينًا، وانتصرت عليه حينًا آخر ودخلتها لأمد قصير4. وبلغ من ثقة تيجلات بيليسر بسيطرته على ملكه العريض أن بنى له رجاله قصرين فيما بين سوريا والعراق، في تل برسيب "تل أحمر" وخادانو "أرسلان تاتش" وزخرفوا جدرانهما برسوم حروبه ورحلات صيده وأساطير قومه، وتأثروا فيها بعض الشيء بالأسلوب السوري5.
لم تخل حوليات تيجلات بيليسر من ادعاء واضح في تعداد الشعوب التي أخضعها والتي قد لا يزيد أغلبها عن مدن وقبائل متفرقة، وفي تأكيد انتصاراته المستمرة، إلى جانب أن تعدد حروبه مع جماعات بعينها، مثل جماعات الأراميين، يدل ضمنًا على عدم وصوله معهم إلى نتائج حاسمة. غير أن هذه الحوليات لم تخل في الوقت نفسه من أهمية تاريخية في تصوير مناطق انتشار الأراميين بين قرقميش وتدمر وحدود بابل، ولم تخل من دلالة على خطة رسمت طريق التوسع الآشوري بعد عهده، في مناطق جنوب شرق آسيا الصغرى ولبنان وشمال سوريا، إشباعًا لشهوة المجد، وللاستفادة من أخشابها، وضمان تنفيذ موانيها التجارية لرغبات آشور، أو على الأقل لضمان تعاملها معها، وإن كان تيجلات بيليسر قد عبر عن هذا الضمان بتلقي جزاها. وكانت سياسته في معاقبة أعدائه نبراسًا متواضعًا للقسوة الآشورية حين بلغت عنفوانها، فكررت حولياته أنه حرق مدنًا وشرد أهلها وقطع رءوس زعمائها وعلقها على أسوارها، واعتبر أبناء المستسلمين له رهائن عنده.
ولم ينس تيجلات بيليسر حظه من الدنيا، فإلى جانب قصريه السابقين، ذكرت نصوصه أنه استقل سفينه من أرواد وأبحر بها مسافة طويلة، وصاد ما يسمونه فرس البحر في البحر الأعلى. وذكر ما يفهم منه أنه أمر باستيراد نباتات جديدة لتزرع في بساتينه، واستيراد قطعان من الماعز الجبلي لتطلق في ساحات الصيد والقنص المتخصصة له6.
__________
1 D. Luckenbli, P El: Anet. 275..
2 A. Dupont-Sommer, Op. Cit. 18..
3 Ibid., 18, 21: D. Luckenbill, Op. Cit., 287..
4 ديلابورت: المرجع السابق -ص300-301.
5 F. Thureau-Dangin ... , Tel Bersip, 45..
6 ديلابورت: بلاد ما بين النهرين -ص60.(1/498)
صاحب فترات الازدهار السياسي والحربي في المرحلة الثانية من العصر الوسيط نشاط مناسب في مجالات العمارة والفن والتشريع، وأخذت آشور تعبر بنفسها عن نفسها في كل هذه المجالات مع الاستفادة المستمرة من جيرانها.
ولما كانت عمارة المعابد في العصور القديمة من أهم ما أشبع رغبة الملوك في خلود الذكر والتفاخر، تعددت مشروعاتها الآشورية، ومنها معبد مزدوج في العاصمة آشور للمعبودين آنو وأداد، بدأ في عهد آشور رش إيشي وتم في عهد ولده تيجلات بيليسر الذي ذكرت نصوصه أنه رفع قمته إلى السماء، ويذهب الظن إلى أن برجيه كان يرتفعان نحو أربعة طوابق وأن واجهات جدرانه وأسواره كسيت بالآجر، ثم أعيد بناؤه بعد ذلك أكثر من مرة في العصر الآشوري الحديث.
وعثر في نينوى على تمثال لمعبودة فقد رأسه وأغلب ذراعيه وقدميه، ونحته فنان بأسلوب أقرب إلى الأسلوب الواقعي، فمثلها عارية بتقاطيع الجسم الأنثوي العادي، فأصبح على بساطته يتميز إلى حد كبير عن تماثيل المعبودات الآشورية الثقيلة ذات الملابس الكاسية.
ومن أهم ما استحدثته آشور في نظمها الإدارية منذ أوائل عصرها الوسيط، تأريخ وثائقها بأسماء كبار شخصياتها على التعاقب واحدًا فواحدًا كل عام، بحيث يبدأ تأريخ الوثائق باسم الملك الحاكم طيلة العام الأول لاعتلائه العرش، ثم يتجدد اختيار أحد كبار موظفيه عن طريق القرعة كل عام، ويلقب بلقب "ليمو" أو شاغل وظيفة "ليمو"1، ولعلها كانت تعني ولايته لأمور التشريع والتوثيق في عام بعينه.
ونظمت طريقة اختيار الليمو فيما بعد، فرتبت الوظائف الكبرى في الدولة ترتيبًا تنازليًّا، يبدأ بعد الملك بالوزير "؟ " ثم الترتانو وكبار رجال البلاط والحكومة المركزية ثم كبار ولاة الأقاليم، ويليها كل منهم عامًا واحدًا بعد عام الملك الذي يبدأ باعتلائه عرشه، حتى إذا انتهت القائمة وطال حكم الملك أكثر من ثلاثين عامًا، يبدأ التاريخ باسمه مرة ثانية ويعود الترتيب التنازلي بعده من جديد. ومعروف أن المصريين القدماء كانوا يعتبرون فترة الثلاثين عامًا فترة مثالية لتولي الملك عرشه ويحتفلون بعدها بعيد يعتقدون أن طقوسه تجدد قدرته على بداية فترة حكم جديدة. ولا ندري مدى الرابطة بين هذا التقليد الذي أخذ المصريون به منذ بداية عصورهم التاريخية وبين تحديد فترة الثلاثين عامًا للملك الآشوري. أما تأريخ الوثائق باسم حاكم كبير لفترة عام واحد، فظهر له شبيه فيما بعد في أثينا التي كانت تؤرخ وثائقها باسم من يلي منصب الإبينيموس أرخون السنوي، ولا ندري مرة أخرى مدى الصلة بين هذين التقليدين.
وقد يكتفي كاتب اللوحة الآشورية بذكر اسم صاحب الليمو، أو يضيف منصبه إليه، أو يضيف إليه اسم حادثة هامة حدثت في عامه. ومن هذا القبيل أن أرخت هبة عقارية من عهد آشور أو بالليط
__________
1 J. Lewy, Revue Hittie-Et Asiatique, V “1939”, 117 F.; U. Uugand, In Reallexikon Der Assyriologie, Ii,412 F.; E.F. Weidner, A.F. O., Xii “1941” 308 F.(1/499)
"1363-1328ق. م" بشهر كيناته، اليوم السادس، ليمو "أداد ناصر"، ثم وقعت بخاتم "آشور أو بالليط ملك آشور إبن إريبا أداد"1.
التشريعات الآشورية:
عثر في أطلال العاصمة آشور "قلعة الشرقاط الحالية" على لوحات تشريعية نسخت نصوصها "على لوحات من الصلصال" خلال عهد تيجلات بيليسر الأول في القرن الثاني عشر ق. م، ولكن ذهب ترجيح بعض الباحثين إلى رد أصول تشريعاتها إلى ما قبل عهده بزمن طويل، وربما إلى أواسط الألف الثاني ق. م2، وسوف نعود إلى مناقشة هذا الترجيح ومعناه.
عالجت هذه التشريعات كثيرًا مما عالجته التشريعات العراقية السابقة لها من شئون لأسرة وأمور البيع والشراء والقروض والرهون والاعتداءات على الغير اعتداء أدبيًّا أو ماديًّا3، ولوحظ من تجديداتها أنها استفادت من العقوبات العامة والخاصة لصالح الدولة، فضمنتها تسخير المذنبين في أعمال الملك "أي في مشاريع الدولة" لفترات تتراوح بين عشرين يومًا وبين أربعين يومًا، وهددت بالخصي والإعدام على الخازوق في كثير من عقوباتها، واشتدت في اشتراط التسجيل والإعلان وإشهاد الشهود في كثير من موضوعاتها، وأجازت رهن أفراد الأسرة ضمانًا للديون، وحرمت الاشتغال بالسحر وجعلت عقوبته الإعدام. ولأمر ما جعلت أمور النساء محورًا لعدد كبير من بنودها واشتدت على سيئات السلوك منهن. فقضت على سارقة المعبد بتنفيذ قضاء ربه فيها، وكفلت لزوجها حق تشويه أذنيها إذا سرقته وهو مريض، أو العفو عنها إذا شاء "3-4" وحرية افتدائها إذا سرقت شيئًا ذا قيمة من بيت جاره. أو التخلي عنها ليشوه المسروق أنفها بنفسه"5" وقضت على من تضع يديها على مواطن بتغريمها 30 مينه من الرصاص وجلدها عشرين عصا "7"، فإذا أصابت خصيته قطعوا إصبعها، وإذا أضرت الخصيتين فقئوا عينها "8"، ولعلها عنت بذلك سيئات السمعة والسلوك. وقضت على من تجهض نفسها بإعدامها على الخازوق، وتوعدت من يتستر عليها "53".
وجعلت التشريعات للزوج ولاية كاملة على زوجته، وسمحت له بأن يعفو عنها إن أخطأت في حقه، أو يطبق عليها بنفسه العقوبات البدنية التي فرضها القانون على مثل حالتها، فإذا كانت هذه العقوبات مما يسبب عاهات دائمة مثل فقء العين أو صلم الأذنين أو الجلد المبرح نفذها أمام القضاة وبحضور موظف مسئول، فإذا أتت أمرًا لم يتناوله القانون جاز له أن يحلق شعرها أو يعرك أذنيها دون عقاب عليه "57-59". فإذا شردت عنه وآوت إلى بيت آخر وبقيت به ثلاثة أيام كان له أن يشوه أذنيها أو يعفو عنها، ويجوز له أن يطالب بصلم أذني من آوتها وتغريم زوجها إن كان شريكًا لها بغرامة كبيرة "24".
__________
1 E. Ebeling, Maog, Vii "1933", 88; Anet, 220.
2 See, G.R. Driver And John C. Miles, Op. Cit.; Th. J. Meek, Anet, 180-188..
3 تعبر الأرقام الموجودة بين القوسين عن الأرقام الاصطلاحية لبنود التشريع.(1/500)
واعتبرت الزوجة متضامنة مع زوجها في ديونه وأخطائه وجرائمه "32"، واعتبرت ثروة أحدهما ثروة للآخر "35". ونظمت وضع زوجة المحارب الغائب فقضت أن تنتظره خمسة أعوام، فإذا كان لها أولاد ينفقون عليها استمرت في عصمته "36". أما إذا علمت بأسره وكانت غير ذات ولد فعليها أن تنتظره عامين فقط على أن يكفل القضاء لها ما تتعيش به سواء من إيجار أرض زوجها أو داره، أو من معاشات القصر الملكي، ثم يسمح بها بالزواج من آخر، على أن يستردها زوجها الأول إن عاد من الأسر "45".
وسمحت لوالد الخطيب الذي فقد ولده بأن يزوج خطيبته لأحد أولاده الآخرين الذين بلغوا العاشرة "زواجًا اسميًّا حتى يكبر؟ "، أو أحد أحفاده من خطيبها المفقود "؟ "، ولا يحق له أن يزوجها بولد دون العاشرة إى برضاء أبيها "43"، وسمحت للأرمل غير ذات الوالد بأن يتزوج أحد أبناء زوجها "من زوجة أخرى؟ " "46".
وأصرت التشريعات على خروج الحرائر محجبات من الرأس إلى القدم، لا سيما إذا خرجن وحدهن، وعلى أن تسلك الجواري سبيلهن إذا اصطحبن سادتهن. وأعفت من الحجاب الكاهنات اللائي وهبن عفافهن للمعبد ولم يتزوجن. وحرمته على الإماء والعاهرات تمام التحريم، وإذا استخدمته جردن من ثيابهن وضربن بالعصا وصب القار على رءوسهن. وأوجبت على المواطنين في هذه الحالة أن يقبضوا عليهن محجبات ويشهدوا عليهن، وتوعدت من يتغاضى عن ذلك بجلده وتسخيره وثقب أذنيه "40". واشترطت لحصانة المحظية أن يشهد سيدها خمسة أو ستة من جيرانه على أنها أصبحت زوجته وحينئذ يحق لها أن تتحجب ويحق لأبنائها أن يرثوه في إقطاعيته "41".
وحرصت على عفاف الزوجات، فقضت بقطع إصبع من يربت على خد أنثى متزوجة، وقطع شفته السفلى إن قبلها "9"، وقضت بالإعدام على من اغتصب امرأة متزوجة رغمًا عنها "12"، وقضت بإعدامهما معًا إن رضيت بما فعله معها. وقضت عليه بما يوازي قضاء زوجها فيها، فإن قتلها قتل، وإن صلم أذنيها خصي وشوه وجهه، وإن عفا عنها عفي عنه "15-16"، وقضت على من يصحب امرأة متزوجة في الطريق بتغريمه تعويضًا لزوجها "22"، وقضت بإعدام القوادة إن دفعت امرأة إلى الفسق رغمًا عنها "23".
وحرصت كذلك على سمعة المحصنات، فقضت على من يتهم امرأة بالزنا عند زوجها ويعجز عن إدانتها والاستشهاد على صدق قوله فيها، باستفتاء النهر في شأنه "17"، فإذا اتهمها علنًا ولم يأت عليها ببينة وجب ضربة أربعين عصا وخصيه وتغريمه 60 مينة من الرصاص وتسخيره في أعمال الملك شهرًا "18". وقضت على من يغتصب فتاة بكرًا بغير رضاها بتجريده من زوجته وتسليمها إلى والد الفتاة لينكحها من يشاء، وبأن يسلمه "المعتدي" مهر البكر، فإن شاء بعد ذلك زوجها له وإن شاء زوجها لغيره "55".
وكافحت اللواط فقضت بنكح من يأتيه مع جاره وخصيه "20"، وقضت على من يتهم جاره بأنه مأبون ثم لم يقم البينة على ادعائه، بخصيه وضربه خمسين عصا وتغريمه 60 مينه من الرصاص وتسخيره شهرًا في أعمال الملك "19".(1/501)
ولم تهمل التشريعات جانب المعبودات، قضت على من تثبت عليه البينية بالتجديف وسب المعبد بضربه أربعين عصا، وقضت على من يتهم آخر بهذه الخطيئة ويعجز عن إثباتها عليه، بنفس العقاب البدني مع تسخيره في أعمال الملك شهرًا.
وأقرت التشريعات جواز رهن أفراد الأسرة في دين، ولكنها حرمت على الدائن أن يزوج ابنة مدينه الرهينة دون موافقة أبيها "39، 48"، فإن مات أبوها وانتقلت ولايتها إلى أخوتها، أصبح لهؤلاء أن يحرروها من الدين خلال شهر، وإلا جاز للدائن أن يزوجها بمن يشاء "48"، أو بيعها إذا ورد ما يبيح ذلك في نصوص القرض "48"، ولكن حرم على الدائن أن يبيع الرهينة قبل نفاذ الأجل، وقضت عليه بالضرب والسخرة والغرامة وفقد دينه إن فعل، فإن مات الرهين عنده ميتة غير طبيعية عوض أهله عنه بمثله.
واشترطت التشريعات للبيوع العقارية أن يعلن المنادي عن العين المباعة ثلاث مرات خلال شهر حتى يتسنى لأصحاب الحقوق أن يسجلوا مستحقاتهم لدى المسجل الحكومي خلال هذا الشهر، فإن خلت العين من الالتزامات، وجب تسجيل بيعها في حضرة ممثل ملكي "أو وزير" وكاتب المدينة والمسجلين والمنادى إذا تمت الصفقة في العاصمة، أو أمام عمدة أي بلدة أخرى وثلاثة من أعيانها "لوحة ب6".
واستمرت التشريعات في أحكام أخرى صدرت لها أشباهها في التشريعات القديمة، لا سيما في شئون المواريث والمشاركة والإيجارات ... وما إليها. وإذا كان هناك ما نختتمها به فهو أنها لم تلتزم في تعبيرها عن الأحرار بلفظ واحد، وإنما فرقت في التعبير عنهم أحيانًا بين لفظ "السيد"، وبين لفظ "الآشوري" "في مثل لوحة "أ" مادتي 24، 40؛ ولوحة "ج" مادة 3؛ إلخ". وليس ما يعرف إن كان المشرع قد اعتبر ذلك مجرد ترادف لفظي، أم أنه استهدف به تخصيص الآشوري عن العراقي غير الآشوري، أم استهدف به التفرقة بين طبقة حاكمة وبين طبقة محكومة، لا سيما وأنه كان ينزل من يدعوه بالآشوري في منزلة أقل من منزلة من يدعوه السيد، أحيانًا. فهل إذا صح هذا الفرض الأخير، تكون التشريعات من وضع طبقة حاكمة مستوطنة ولكنها غير آشورية الأصل مثل طبقة الحوريين أو الميتانين الذين غلبوا على أجزاء من دولة آشور لفترات متفاوتة إبان قوتهم وضعفهم؟ لا سيما إذا جمعنا بين هذا الفرض وبين ما قدمنا به للتشريعات من اتجاه بعض الباحثين إلى ترجيح تأليفها في القرن الخامس عشر ق. م وهو قرن شهد نشاط الهجرات الهندوآرية، دون القرن الثاني عشر ق. م الذي نسخت خلاله في عهد تيجلات يليسير الآشوري؟ ولكن لِمَ أبقى نساخ عهد تيجلات بيليسر على هذه التفرقة بعد أن تخلصت أرضهم من تأثير الطبقة الأجنبية فيها؟ ذلك أمر يصعب القطع برأي فيه، ولا يكفي فيه الظن بسوء تصرف الناسخ.(1/502)
لم يطل أمد المرحلة الثانية من العصر الآشوري الوسيط، على الرغم من بدايتها المشرقة، ويبدو أن توسعها في عهد تيجلات بيليسر الأول بخاصة، كان طفرة سابقة لأوانها، فلم تستطع الدولة أن تحافظ على أطرافها البعيدة بعد وفاته، وانفصلت ولاياتها عنها واحدة بعد الأخرى.
وهادنت آشور بابل فترة طويلة حتى تتفرغ للآراميين الذين استمروا في مناوأتها على فترات متقطعة خلال القرنين الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد، واستمروا على إنشاء الإمارات بجوارها في شرق الفرات وغربه، فكونوا إمارة بيت أديني التي امتدت شرقًا حتى بلخ واتخذت عاصمتها في تل بارسيب على ضفة الفرات جنوبي قرقميش، وإمارتين في وادي بلح، وعدة إمارات في وادي الخابور من أهمها بيت باخياني "وكانت من مدنها جوزانا ووسيكاني". كما كونت قبائل تيمانايا الأرامية ثلاث إمارات شرقي الخابور الأعلى فيما يسمى منطقة طور عابدين وهي إمارات نصيبينا وخوريزانا وجيدارا. واحتفظت بعض روايات التوراة بذكرى هذه الإمارات القريبة من الخابور في تسمية أهلها أو أرضها "آرام النهرين"1، والنهران هما على الأغلب الفرات وفرعه الخابور، وتسمية "فدان "أوبادام" آرام"2. وكانت أكبر مدن المنطقة التي عاصرت روايات التوراة عنها هي مدينة حران.
واتجه فريق من الآراميين جنوبًا، فانتشرت قبائل السوخي على جوانب الفرات من عنات حتى رابيقو. وانتشرت قبائل اللاكي في سهل يقع جنوبي جبل سنجار. ولم يقتصر أمر الآراميين على ذلك، وإنما اتجهت بعض قبائلهم إلى الجنوب الشرقي من دولة آشور، فانتشرت قبائل الوتواتي على شواطئ دجلة فيما بين فرعيه الزاب الأسفل والأدهم3. ومال النصر في مراحله الأولى إلى صف جماعات الآراميين، بحيث اضطرت آشور إلى الانكماش في مناطقها الشرقية إلى حين.
__________
1 Roger, T. O. Callaghan, Aram Naharaim, Rome, 1948, 143.
2 سفر التكوين 25: 20، 28: 35 Abel, Geographie ... Vol. I, 245.
3 A. Dupont-Sommer, Op. Cit., 21-22.(1/503)
ج- في العصر الأشورى الحديث
مدخل
...
ج- في العصر الآشوري الحديث:
اكتفت آشور بحدودها الضيقة تحت ضغط الآراميين حتى تزعمها أشوردان "932-912ق. م"، فنهضت في عهده، وتأهبت لمكافحة الآراميين شرقًا وغربًا. ثم اشتدت عزائمها في عهد ولده أداد نيرارى الثاني "911-890ق. م" الذي علت شهرته على شهرة أبيه، ووصفت نصوصها الآراميين حينذاك بأنهم أهل براري1. ويبدو أن أولئك الآراميين الشرقيين وإن أخذوا بحضارة بلاد النهرين واطمأن بعضهم إلى حياة الاستقرار والزراعة، واستطاعوا أن يرهبوا دولة آشور فترة طويلة وكادوا يسيطرون على مسالك تجارتها، إلا أنهم ظلوا متخلفين حضاريًّا إلى حد ما، وظلوا يؤثرون النظام القبلي والتركز في إمارات منفصلة عرفت كل منها -كما مر بنا- باسم بيت كذا وبيت كذا، فشجع تفرقهم
__________
1 Op. Cit 18, 31..(1/503)
الآشوريين على الاستمرار في محاولة إخضاعهم كلما توفر لهم زعيم يستثير همهم، وهكذا تتبعوهم عامًا فعامًا في عهد أداد نيراري في منطقة طور عابدين حيث توزعت إمارات خوريزانا وجيدرا ونصيبينا، وفي وادي الخابور.
وبعهد هذا الملك أداد نيراري، بدأ عصر جديد طويل عرف اصطلاحًا باسم العصر الآشوري الحديث، أو عصر الاتساع الآشوري الكبير، وقد استمر نحو ثلاثة قرون من 911 إلى 612ق. م، وشهد مرحلتين عظيمتين من مراحل القوة والازدهار والتوسع توسطتهما فترة ركود وساعد آشور على التوسع في المرحلتين أن أغلب شعوب الشرق القديمة مصر وبابل وإلام، كانت قد بلغت دور شيخوختها، وأن الجماعات المستحدثة في الشرق بقيت على تفرقها ولم تلم شملها، فانفسخ السبيل أمام آشور لتصول وتجول فيه حيث شاءت.(1/504)
المرحلة الأولي:
وبدأ المرحلة الأولى أداد نيراري كما ذكرنا، ولم يتجه فيها إلى فتوح بعيدة، وإنما عمل على تثبيت قواعد حكمه واسترجاع الإشراف الفعلي لدولته على تخومها الغربية حول نهري الفرات والخابور، وإشعار أهل هذه التخوم، والآراميين منهم بخاصة، بسلطانه. ثم اتجه إلى تأمين حدوده الجنوبية، ولما تعارض سلطانه فيها مع سلطان بابل العجوز حاربها مرتين وغلبتها جيوشه في المرتين، وأتى نصره عليها بمعاهدة حدودية اعترفت بسيادته على أرض السواد من الخابور في الغرب إلى ما يجاور بغداد الحالية في الجنوب الشرقي.
وسار خلفه توكلتي نينورتا الثاني "890-884ق. م" الذي تميزت حوليات حروبه بما ذكرته من التفاصيل اليومية، على سياسته في إرهاب الآراميين، فكان من ضحاياهم في عهده قبيلة "بيت زماني" التي اتخذت أميدي حاضرة لها "وهي ديار بكر الحالية". وتتبعت جيوشه قبائلهم الجنوبية في وسط العراق وفيما بين دور كوريجالزو "عند أبواب بابل" حتى سيبار1، ثم اتجهت حروبه إلى الشمال بغية إرهاب الجماعات الجبلية والوصول إلى حدود يسهل احتلالها أو يسهل الدفاع عنها حسب مقتضيات الظروف.
ومنذ ذلك الحين اتجهت سياسة آشور إلى مثل ما سنه لها تيجلات بيليسر ابتداء من عصرها الوسيط من حيث توطيد سلطان الدولة على حدودها الغربية وإرهاب بابل من حين إلى آخر، وإخضاع القبائل الجبلية في الشمال الشرقي، ومحاولة السيطرة الكاملة على الطرق التجارية والحربية التي تتجه غربًا إلى الشام حيث المجد وحيث وفرة المنتجات وحيث المخارج البحرية. وشمالًا بغرب إلى جبال طوروس وآسيا الصغرى، مع محاولة إضعاف الفروع الآرامية الغربي التي استمرت في شرق سوريا وفي أوساطها وامتد نفوذها إلى موانيها البحرية.
وتميز من كبار القائمين على تنفيذ هذه السياسة في آشور ملكها آشور ناصربال الثاني "833-859ق. م" وكان من وجهة نظر المصالح الآشورية أعظم شخصية ضارية وضاربة في المرحلة الأولى من عصرها الحديث.
__________
1 Op. Cit, 31(1/504)
وقد ورث عن أسلافه الأقربين جيشًا محنكًا وسنة ثبتها هو وخلفاؤه، وهي: اضرب قبل أن تُضرب. وهاجم قبل أن تُهاجم، واجعل تنكيلك بأقرب خصومك عبرة يخشاها بقية أعداءك1. وبهذا استمر زحف الجيوش الآشورية، التي استمدت قوتها من تعاون المقاتلين على ظهور الخيل فيها مع الرماة والمشاة المدججين بالسلاح، واستخدام أدواته حصار ناجعة كانت منها الكباش أو الثيران التي تقوم مقام الدبابات وهي ذات ست عجلات ومقدمة مدببة يبدو أنها كانت تدفع بقوة من بعيد لتنقب الحصون وتدكها، وأخرى كانت تقوم مقام العربات المصفحة يستتر الجنود فيها وينقبون الحصون وهم في مأمن من سهام العدو، وأبراج متنقلة ليصعد الرماة في داخلها إلى مستوى أسوار العدو، وما يشبه الخراطيم لإطفاء النيران التي يصبها العدو على آلات الحصار. وكان إخضاع الجيوش الآشورية لكل منافس من منافسيها يوسع من حدود دولتها، فتنساق بهذا إلى أعداء ومنافسين جدد ما يتطلب منها تكرار الإجراء نفسه. ويبدو أن إحاطة آشور بالأعداء والمنافسين من كل جانب قد زكى فيها مر العصور على روح التحدي وإظهار العنف في المعاملة وقسوة الانتقام، والرغبة في إشاعة الرهبة حولها وتعويض قلة أعداد أهلها.
أكدت نصوص آشور ناصر بال أنه تلقى جزى الخاتيين، وبلغ جبال لبنان، وغمس أسلحته في بحر أمورو العميق "أي البحث المتوسط" وتلقى الجزى من المواني والجزر "الفينيقية" الكبيرة: صور وصيدا وجبيل، ومحلاتا، ومايزا، وأمورو، وأرواد التي في البحر، وأنه صعد جبال لبنان، وجلب "وجلب رجاله" أخشاب الأرز والصنوبر من جبال خامانا "أي أمانوس" لمعابد سين وشمش ربي النور، ولاستخدامها في قصره. وامتازت الروايات التي أثبتت على لسانه في حولياته بحيوية فياضة وتفاصيل ممتعة ظهرت بوادرها في حوليات أبيه كما أشرنا، ويقول فيها. أرسلت إلى كذا، وجعلت كذا على يساري, وعبرت نهر أورانتو مثلًا "أي نهر العاصي" وقضيت الليل على ضفافه واحتفلت بعيد كذا في قصر كذا....2، وغالبًا ما كان يفخر بعبوره نهر الفرات في قمة فيضانه مع جيشه الكبير على ناقلات، وأصبح مثل هذا الفخر عبارة تقليدية رددتها نصوص خلفائه. وسجلت مناظر عهده عبور الفرات هذا، فصورت نقل العربات على العابرات، وسباحة الجند بجانبها، واستعانتهم على تعويمها بقرب منفوخة من جلود الماعز، وصورت نقل الملك بعربته في قارب خاص، وسباحة الخيول طليقة أو النهر أو مع إمساك جنود القوارب بأعنتها3.
وصبغت نصوص هذا الفاتح الآشوري حروبه وانتصاراته بطابع القسوة الشديدة فتحدثت عن أن رجاله كانوا يسلخون جلود كبار الأعداء أحياء ويثبتوتها على آثارهم وأبواب عاصمتهم بالمسامير، وكانوا يعذبون بعضهم على الخوازيق ويقطعون أيديهم ويجمعون جماجمهم في أكوام، ثم يحرقون مئات الأسرى ولا يستثنون النساء، ويجدعون أنوف آخرين ويصلمون آذانهم ويبترون أصابعهم ويفقئون
__________
1 انظر جون هامرتون: تاريخ العالم - معرب بالقاهرة - الجزء الثاني - الخبر الثالث.
2 D.Luckenbill, Ancient Records, I,476 F.
3 W. Budge, Assyrian Sculptures In The Britsh Musum. Pls. Xxi A-B, Xxii A.(1/505)
أعينهم، وإن لم تمنع أمثال هذه المعاملة آشور ناصر بال من أن يشيد بفضل أربابه في تأييده، ويكرر اهتمامه بتقديم القرابين إليهم وحرصه على تخصيص أخشاب أرز جبال أمانوس لإبهاء احتفالات معابدهم.
ولسنا مضطرين بطبيعة الحال إلى التسليم بحرفية هذين الضدين من المعلومات، ففي كل منهما مبالغة، مبالغة في تصوير القسوة لتكون عبرة، ومبالغة في تصوير التقوى للتغطية على الأخطاء. وما ينطبق من حكمنا هذا على نصوص آشور ناصر بال ينطبق على نصوص غيره من الملوك القدماء.
ويفهم من حوليات هذا الملك أن عملية توطين الآشوريين في المدن المفتوحة ليصبحوا سادتها والمنتفعين بخيراتها وليخمدوا نشاط زعمائها ويكونوا عيونًا عليهم لدولتهم، قد سبقت عهده؛ إذ تحدث أحد نصوصه عن أن جماعة منهم توطئوا في منطقة جبلية شمالية قد أخذهم الغرور وابتغوا أن يتسعوا لحسابهم في المناطق القريبة منهم فعاملهم بقسوة لا تقل عن معاملته لأعدائه الأجانب1. وترك أخيرًا ملكًا موطدًا وترك معه قصرًا عظيمًا في كالح "نمرود" التي اهتم بها اهتمام شلما نصر الأول من قبله ويبدو أنها كانت تعتبر مصيفًا ملكيًّا2، ولا تزال بقايا قصره فيها من أروع المصادر لفن النقش في عهده مما سنعود فيما بعد إلى ذكره.
استفاد شلما نصر الثالث "شلمانواشاريدو" "859-824ق. م" من جهود أبيه آشور ناصر بال وحمية دولته، واستطاع أن يسود غرب آسيا من الخليج العربي حتى جبال أرمينيا، ومن الحدود الميدية حتى سواحل البحر المتوسط3. ولم يكن أقل اعتزازًا بجبروته من أبيه، فوصفته نصوصه بأنه الأفعوان الكبير أوشوم جال4 وكان لقب الأفعوان الكبير يوصف به الأرباب وتلقب به حمورابي ثم انتحله الملوك الآشوريون، ولعل فيه بعض الشبه بالصل الملكي المصري، وأنه طحن أعداءه جميعًا كما لو كانوا من صلصال. وأنه المقتدر الذي لا يعرف الرحمة في الحروب ... إلخ. وقد ساعدته الظروف فتدخل في مشكلات عرش بابل، ولم يكن ذلك بغير ثمن لصالحه وصالح دولته، فقد أصبحت له اليد العليا على صاحب عرشها بعد أن ناصره، وسمح له ذلك أن يتعداها بجيوشه إلى كلديا حتى الخليج العربي ويتلقى هدايا ملوكها "أو جزاهم على حد تعبير نصوصه" وقد روت قوله عنها: "هبطت إلى كلديا وقهرت مدنها وسرت حتى البحر الذي يسمونه البحر المالح "الخليج العربي"، وتلقيت في بابِل جزية أديني بن داكوري من الفضة والذهب وخشب أوشو العاج ... " وصور فنانوه جزية بيت داكوري هذه يحملها أهلها بين صفوف النخيل ويشرف عليها حراسه وكتبته. وسجلوا صورها على أبواب قصره المكسوة بصفائح البرونز في يلاوات5.
__________
1 ديلابورت: بلاد ما بين النهرين -ص418-419.
2 See, Iraq, 1950
3 See Luckenbill,M A. R. 475, 57 F. Ernest Michel. "Die Assur-Texte. Salmanassars Iii. Die Welt Des Orients, 1947, 57 F.
4 See, Anet, 276
5 L.W. King, Bronze Reliefs From The Gates Of Shalmaneser, London, 1915 Pl. 64(1/506)
وروت نصوصه في اتجاهه بجيوشه ناحية الشمال، أنه اكتسح أرض"مات" خاتي كلها وجعلها تلالًا خربة كأنما اكتسحها فيضان. ولعلها أرادت بمات خاتي هذه أطراف العراق القريبة من آسيا الصغرى، أو المناطق التي انتشر بقايا الحيثيين القدماء فيها بعد أن شتتهم أعداؤهم حول قرقيش1، وكان أبوه قد ادعى قتالهم أيضًا. واعتز شلما نصر بزيارته منابع دجلة في الشمال، وقالت نصوصه على لسان: "وبلغت منبع دجلة بحيث ينبع الماء، وغمست سلاح آشور في مياهه ... ، وأقمت حفلًا سعيدًا، وأمرت "بنقش" نصب باسمي وصورتي". وصور الفنانون هذه الزيارة على أبواب قصره، وهي زيارة اعتبرها L.W.King لأحد روافد دجلة العليا المسمى بالكاليم سو2. وعلى مقربة من هذه النواحي، ذكرت نصوصه حملة له على أورارتو "أورارتي"، وهو اسم أطلقه الآشوريون فيما يحتمل على المنطقة التي سماها أهلها بياينياس شمال آشور وفيما يتركز حول بحيرة فان الحالية وجبال أرارات شرق آسيا الصغرى، وكانت النصوص الآشورية قد بدأت ذكرها منذ عهد شلما نصر الأول في القرن الثالث عشر ق. م، ولكنها زادت في عهد سميه شلما نصر الثالث فذكرت ملكًا من ملوكها، ثم عادت بعد فترة فذكرت اسم سيدوري قائد أورارتو، وهو اسم ذكرته أقدم نقوش الأورارتيين أنفسهم بلفظ "ساردوري"، ويبدو أن شلما نصر قد أحرز بجيوشه نصرًا هناك مما خلع عليه شيئًا من القداسة وسمح لفنانه بأن ينقش ما يصور تقديم القربان لصورته على سفح جبل قريب من بحيرة فان3.
وكانت لشلما نصر، أو لجيوشه بمعنى أصح، قصة طويلة مع سوريا، امتازت نصوصه عنها بتضمينها عدة أسماء لا تزال حية في أسماء مدتها ومواقعها مع تحريفات وتصحيفات يسيرة مثل أسماء: خالمان عن حلب، وأماة عن حماة، ودمشقي عن دمشق، وخاوراني عن حوران، وأرانتو عن نهر الأورنت "العاصي"، وخمري عن عمري، وقرقرة عن قرقر، وعمون ... وما إليها. غير أن الأهم من ذلك هو تضمينها اسم أريبو أو عريبو بمعنى العرب، وأعراب البادية بخاصة، لأول مرة في النصوص القديمة المعروفة، واسم جنديبو تحريفًا لاسم أمير عربي يدعى جندب أو جندبة، واسم أخابو تحريفًا للاسم العبري أخأب أو أحأب.
وتجرأ شلما نصر على مهاجمة دمشق، أكبر الإمارات الأرامية العربية، بعد أن أرهب هو وأبوه الإمارات الأرامية الأخرى التي توزعت بين الفرات وبين قلب الشام ولكن دمشق لم تكن صيدًا سهلًا على الرغم من طول منافساتها مع جيرانها من الأراميين والعبرانيين، فعزمت على الوقوف في وجه جبروت الآشوريين، وجمع أميرها أداد إدري "هداد عذيري؟ " الأحلاف حوله من أهل الشام ومن العرب أو الأعراب ومن العبرانيين الذين تناسى معهم ضغائنهم القديمة في سبيل مواجهة عداء الغزو الآشوري العنيف، وخف بهم إلى قرقر حيث ضم إليه أميرها وجيشه.
__________
1 Cf D. Luckenbill, Ancient Recodrs, I, 475; Ii, 616 F; Anet, 275
2 L. W. King, Op Cit, 13
3 B. Pritchard, The Ancient Near East In Pictures, Fig. 155(1/507)
وعبرت نصوص شلما نصر عن لقائه "أو لقاء قواته" مع أولئك الأحلاف بتعبيرات مسرفة ولكنها طريفة ولا بأس من الاستشهاد ببعضها كنموذج لأمثالها. فقد روت على لسانه ما يقول: ".... حينما اقتربت من حلب خالمان خشي"أهلها" الحرب وارتموا على قدمي، فتلقيت جزاهم فضة وذهبًا وضحيت أمام أداد حلب، ورجعت من حلب وبلغت مدينتي إرهوليني الحموي، فهاجمتها وهاجمت عاصمته أرجانا واستولت على جزاه وممتلكاته وحرقت قصوره، ثم واصلت المسيرة إلى قرقرة فدمرتها ومزقتها وحرقتها وكان "أميرها" قد استنجد بألفين ومائتي عجلة حربية، وألف ومائتي فارس وعشرين ألفًا من مشاة أداد إدري الأموري "الإمريشو أو الإمريشي"، وسبعمائة عربة فارس وعشرة آلاف من مشاة إرهوليني الحموي، وألفي عربة وعشرة آلاف من مشاة أخاب وأرض إسرائيل "؟ " Akha-Ab-Bu Mat Siri-La-A-A وخمسمائة جندي من قوى، وألف جندي من مصرى، ... وألف "راكب" جمل من جنديبو الأريبي "أي جندب أو جندبة العربي"، و.... ألف من بأسا بن روهوبي العموني ... ، "وكلهم" اثنا عشر ملكًا تأهبوا لملاقاتي في معركة حاسمة، فقاتلتهم بقوات آشور العظيمة التي هيأها لي مولاي آشور، وبالأسلحة التي قدمها لي مرشدي نرجال ... ، وأوقعت بهم الهزيمة بين مدينتي قرقرة وجيلزاو، وذبحت ألفًا وأربعمائة من جنودهم بالسيف، وانحططت عليهم انحطاط أداد حين يرسل عواصفه الممطرة مدرارًا، وبعثرت جثثهم "في كل مكان"، وملأت السهل كله بهم، وأجريت دماءهم ... ، وضاق السهل عن نزول أرواحهم "إلى العالم السفلي" ... ، وجعلت جثثهم معبًرا لي على نهر الأرانتو "الأورنت" ...
وهكذا أكد شلما نصر انتصاره على خصومه الأراميين وحلفائهم في موقعة قرقر حوالي عام 833ق. م ولكن كانت هذه من المرات النادر بمحض الصدفة التي سجل الأراميون فيها وجهة نظرهم في مواجهة آشور، وقد أكدوا فيما سجلوه عنها أنهم أحرزوا فيها نصرًا كبيرًا. ولن نملك إزاء تضارب المصدرين إلا أن نفترض أن موقعة قرقرة لم تكن حاسمة أي طرف من الطرفين، لا سيما وأن الكتبة الآشوريين قد أعادوا ذكر انتصار ملكهم وتغنوا به مرارًا وتكرارًا في نقوش قصوره وعلى العمد والنصب، وذلك مما يعني تكرار حروب الأراميين معه، أو هو يعني تقديرهم الكبير لقوة الأراميين وحلفائهم واعتبار النصر عليهم، أي نصر، كسبًا كبيرًا ومجدًا عظيمًا. ويبدو أن الحلف الذي استشهدنا بروايته عن شلما نصر، لم يكن الحلف الوحيد الذي نجح الأرميون في تكوينه على الرغم من انسلاخ أخأب الإسرائيلي وقومه عنهم، فقد تحدثت النصوص الآشورية عن تحالف أداد إدري مع أمير حماة واثني عشر ملكًا نسبتهم إلى ساحل البحر حينًا، وإلى ساحل البحر الأعلى والبحر الأسفل حينًا آخر، وضمت إليهم كل ملوك خاتي مرة ثالثة، ثم جعلتهم خمسة عشر ملكًا مرة رابعة. وتبارى الكتبة الآشوريون في تضخيم أعداد قتلى خصومهم الأراميين فيما بين العام السادس والعام الرابع عشر من حكم ملكهم، فتارة هم ألف وأربعمائة، وتارة خمسة وعشرون ألفًا، وتارة عشرون ألفًا وخمسمائة، وتارة عشرون ألفًا وتسعمائة ... إلخ. وعلى أية حال فلم تهن عزيمة دمشق ومن بقي على الولاء لحلفها إلا بعد أن مزقتها الأطماع الداخلية، فاغتيل أداد إدري، وولي بعده حزائيل، وكان ذا كفاية حربية مثله، وإن كانت النصوص الآشورية قد ادعت أنه مجهول الأب.(1/508)
وروى شلما نصر قصته مع هذا الأمير الجديد قائلًا: "وهلك أداد إدري، وأصبح حزائيل أميرًا على دمشق ... وفي العام الثامن عشر من حكمي عبرت الفرات للمرة السادسة عشرة وكان حزائيل الأموري "خزائيل الأمريشو" قد اطمأن إلى جيشه الكثيف وتحصن في جبل سنر "سا-ني-رو" المواجه للبنان فقاتلته وأنزلت به الهزيمة وقتلت 16000 من رجاله بالسيف، واستولت على 1211 عربة، و470 جوادًا، وسيطرت على معسكره ولكنه فر بنفسه فتتبعته إلى دمشق عاصمته وقطعت بساتينها ... ، وواصلت المسيرة حتى جبال حوران "شادي مات خاوراني" مدمرًا وممزقًا ومحرقًا مدنًا لا عد لها ومستوليًا على أسلاب لا حصر لها ... ، ووصلت حتى جبال بعلي رأسي بجانب البحر وأقمت هنا نصبًا بصورتي، وتلقيت حينذاك جزى أهل صور وصيدا وياهو بن"أو أمير" عمري.
ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة بين الآشوريين وبين حزائيل، وإنما تكرر لقاؤهما مرات وكانت إحدى هذه المرات في العام الحادي والعشرين من حكم شلما نصر. وترتب على إضعاف دمشق أخيرًا ما يسر للآشوريين بسط سلطانهم على الإقليم الواقع شماليها والممتد فيما بين الفرات وبين البحر المتوسط.
وروى ملكهم هذا الأمر بأسلوبه فقال في نصوصه: "اكتسحت مدن أرض أمورو العليا فكانت تلالًا في مهب الريح العاصمة وسرت منتصرًا على طول شاطئ البحر الكبير"1. ويبدو أن مواني فينيقيا آثرت السلامة حرصًا على أمنها التجاري، فراسلت شلما نصر بهدايها واحتراماتها، وإن كان فنانوه قد اعتبروا هذه الهدايا جزى وأسلابًا، فصوورا على أبواب قصره هيئة ميناء صور فوق جزيرة صخرية وسط البحر تنتقل منها قوارب الجزى حتى الشاطئ حيث يساعد على رسوها رجال يجرونها بحبال، ثم صوروا حمولتها تنقل تحت إشراف الحرس الآشوري إلى حيث يستقبلها الملك بنفسه2. وهناك نحت الآشوريون لملكهم نصبًا تاريخيًّا في سفح جبل يجاور نهر الكلب قرب بيروت، إلى جانب لوحة تاريخية ضخمة للفرعون المصري رمسيس الثاني3. ثم ضمن الفنانون أغلب أحداث عصرهم نقشًا وتصويرًا على عمود أسود ذي أربعة أوجه يقل قطره إلى أعلى على هيئة جسم المسلة، لولا أن قمته شكلت على هيئة ثلاث درجات صغراها هي أعلاها "على عكس المسلات المصرية المدببة الطرف"، وشغلوا وجوهها الأربعة بنقوش وصور قليلة البروز للغاية، ووزعوا مناظرهم عليها في أربع وعشرين لوحة ضمنوها صور الأسلاب والغنائم والجزى وخضوع الأعداء، وعندما أرادوا أن يعبروا عن خضوع إسرائيل لملكهم صوروا ملكها ياهو بن عمري "وهو في الواقع ليس من بيت عمري وإنما ولاه الكهنة بعد انهيار بيت عمري" ساجدًا بين يدي الملك ويشرف عليه من عل رمز المعبود آشور ورمز المعبود شمش، وكأن خضوعه لم يكن للملك وحده وإنما لأربابه أيضًا. وتضمنت مناظر الغنائم وحدات تقليدية من حملة الجزى وبيئات الصيد، ومن أطرافها تصوير جمال ذات سنامين "من بكتريا"، وفيلة من منطقة مصرى في سوريا، وقردة بوجوه بشرية مفتعلة4.
__________
1 L.W. King, Op. Cit, 23
2 Ibid, Pl. 13
3B. Pritchard, Op. Cit, Fig. 103.
4 Ibid, Fig. 100(1/509)
نهاية مرحلة:
ادعت نصوص شلما نصر الثالث فيما ادعته، أنه قاد اثنتين وثلاثين حملة خلال فترة حكمه التي امتدت خمسة وثلاثين عامًا ولكن نشبت في نهاية عهده فترة ضعف بدأت بخروج ولده عليه بسبب ما هضمه حقه في ولاية العهد وتخطيه إياه إلى أخيه الأصغر شمشي أداد الخامس، ثم حدوث حرب أهلية استمرت نحو ست سنوات. وظلت آشور نحو ثلاثة أرباع القرن من الزمان "824-745ق. م" تتلقى ضربات جيرانها الآراميين والبابليين والميديين والسوريين والفلسطنيين والعبرانيين حينًا، وتضربهم حينًا آخر، ولكن بغير نتائج حاسمة لها أو لجيرانها. وظل ملوكها يدعون أنهم تلقوا خضوع أمراء أركان الدنيا الأربعة من مشرق الشمس عند البحر الكبير إلى مغرب الشمس عند البحر الكبير، ولكن بغير دليل صحيح بل حدث على العكس من ذلك وفي عهد شمشي أداد الخامس بالذات أن تجرأ أهل أورارتو "أرارات وبحيرة فان" فاتجهوا جنوبًا بشرق حتى الحدود الآشورية وسجلوا هناك نصبًا بانتصارهم لكل من لغتهم الخاصة وباللغة الآشورية وفرضوا الجزية على ميليتيا أو ملاطية الحالية وما يجاورها.
واحتفظت روايات المؤرخين الإغريق فيما سمعوه عن هذه الفترة وقصة محورة لملكة أطلقوا عليها اسم "سميراميس" تحريفًا فيما يبدو للاسم الآشوري "سمورمات" أو "شميران" وكانت وصية على ولدها أداد نيراري الثالث من زوجها شمشي أداد الخامس رووا أنهم سمعوا أسطورة تقول بأن أمها كانت آلهة تعبد في عسقلان قرب البحر ويرمز لها بصورة نصفها سمكة ونصفها حمامة ولما ولدت ابنتها على هيئة بشرية سوية تركتها للحمام يرعاها، فلهذا سميت محبوبة "رمات" والحمام "سمو" ثم عثر عليها كبير رعاة ملك آشور ورباها وتزوجها حاكم نينوى "أونيس" ولكن ملك آشور العظيم "نينوس" طمع فيها وأجبر زوجها على التخلي عنها فانتحر، ولجأت هي إلى الحيلة تنتقم له ولنفسها، فمكرت بالملك الغاضب وطلبت منه أن يعهد إليها بالعرش والسلطان خمسة أيام فرضي واستغلت هي سلطانها المؤقت وأمرت بسجن الملك ثم قتلته واستأثرت بالعرش بعده أكثر من أربعين عامًا.
أما من حيث الواقع فقد استطاع أداد نيراري الثالث "810-783ق. م" بعد أن صلب عوده وانتهت وصاية أمه عليه أن يحافظ على القليل الباقي من إرث أجداده وساعده الحظ فهادته أو تمسحت بسلطانه الأسمى بعض إمارات فلسطين ومنها منطقة إيدوم، ويبدو أن غيرتها من جارته دمشق قد رمتها في أحضانه، وكانت النتيجة الطبيعية لذلك هي أن زادت العزلة على دمشق وزادت وهنًا على وهن، وفي هذه الظروف روى كتبت الملك الآشوري أنه أخضع أرض أمورو وأرض عمري وإيدوم وفلسطين "بالاستو، بالاشتو"، وأن ملك دمشق اضطر إلى أن يعتبر نفسه تابعًا له وقدم له جزاه في قصره بدمشق. ويبدو أن مهادنة دمشق له كان لها ظل من الحقيقة فعلًا منذ عام 802ق. م1.
أما في الشرق والشمال فكان أهم ما تضمنته نصوص أداد نيراري الثالث هذا من أسماء الأقوام التي تلقى جزاها "أو وصلته متاجرها وهداياها بمعنى أصح" اسم أرض الماذيين وفارس "باراسو"، وسوف يكون لهؤلاء وهؤلاء على الترتيب أثر وأي أثر في مستقبل آشور البعيد ومستقبل بلاد النهرين كلها.
__________
1 D. Luckenbill, A.R. 734 F., 739 F. Anet. 281-282.(1/510)
ولكن ما لبثت الفتن الأهلية أن عادت بعد عهده، ومزقت وحدة آشور وأضعفت هيبتها، فأفلت منها ما كان قد هادنها أو والاها من بلاد الشام، وتراجعت الجيوش الآشورية مدحورة أمام تقدم نفوذ سارديوس وأرجستوس حاكمي أورارتو، وابتدأت أسباب التقارب بين البطائح الجبلية الشمالية والشمالية الشرقية وبين الماذبين، وانتهزت بابل المغلوبة على أمرها الفرصة فاستعادت انفصالها عن العجلة الآشورية، وإن ظلت على حالها من الضعف القديم.
وفي حمأة هذه المشكلات الداخلية والخارجية سجلت النصوص الآشورية حدوث كسوف كلي للشمس وافق عام 763ق. م، ورتبت عليه ما شاءت من تعليقات عقائدية وخرافية1. وفي هذه الظروف كذلك طويت صفحة المرحلة الأولى من العصر الآشوري الحديث.
__________
1 انظر جون هامرتون: المرجع السابق.(1/511)
مرحلة الأمجاد الأخيرة من العصر الآشوري الحديث:
بدأت المرحلة الثانية للتوسع الآشوري الحديث في عام 745ق. م بولاية تيجلات بيليسر الثالث، الذي ذكرته النصوص البابلية باسم "بولو". ويحتمل الاسمان أكثر من تفسر واحد، فقد يكون اسم بولو هو اسمه الشخصي ويدل بهذا على أنه لم يكن من صلب البيت الحاكم أصلًا، وإذا صح هذا أمكن افتراض أنه كان من قادة الجيش نظرًا لما تجلى من مهاراته الحربية فيما بعد، ولما اعتلى العرش تيمن باسم الفاتح القديم تيجلات بيليسر وتسمى باسمه، أو يكون اسم بولو مجرد مرادف بابلي اخترعه البابليون له لغرض ما في نفوسهم.
وأراد الحاكم الجديد تيجلات بيليسر أن يثبت قوة شخصيته وأن ينتشل آشور من وهدتها، فاتجه بفتوحه إلى حيث اعتاد الملوك العظام من قبله، وبدأ ببابل القريبة منه فهيمن عليها بعد مشقة وعهد بأمرها إلى صنيعة له يدعى نابو نصر، ثم اتجه بجيوشه إلى سوريا وبعد حروب عامين استعاد أغلبها للنفوذ الآشوري وأراد أن يعقب على ذلك بمواجهة سارديوس أمير أورارتو، ولكن دمشق التي خضعت له على مضض أعلنت ثورة عنيفة ضده عام 739ق. م، فأصبح يضرب بجيوشه في الجبهتين واستطاع أن يوهن أورارتو، ولكنه كان أكثر ضرابًا في الشام، وذكرت نصوصه من بلدانها إلى جانب الأسماء القديمة التي رددتها نصوص أسلافه، أسماء عسقلان ومؤاب وغزة التي لجأ حاكمها إلى مصر. ثم تدخل في مشكلات العبرانيين ... عليهم هوشع ملكًا بعد أن خلعوا ملكهم، وجعله صنيعة له بينهم1.
والتفت الرجل إلى بابل مرة أخرى، وكانت قد شهدت تنافسًا مسلحًا على عرشها، بعد وفاة نابو نصر العميل الآشوري فيها. وظهر من أشد المتنافسين على حكمها مردوك أباب إدين الثاني الذي ذكرته التوارة باسم مرداك بالادان. فانحطت جيوش تيجلات على المتنافسين وأجبرت مردوك أباب إدين على الفرار،
__________
1 Anet, 284(1/511)
وخضعت بابل للحكم الآشوري المباشر، ثم تقلد تيجلات تاجها وخلع على نفسه ألقاب ملوكها ولا سيما لقب ملك سومر وأكد، في عام 729 أو 728ق. م.
واتبع تيجلات بيليسر أربع وسائل لتثبيت قبضته على أطراف دولته وممتلكاتها، وهي: تعيين حكام آشوريين على مدنها الكبيرة دون الاكتفاء بحكامها المحليين، وإيفاد مندوبين فوق العادة لتفقدها وتنفيذ مطالب دولته منها، وربما كان من أولئك المندوبين من يلقبون بلقب رابشاق الذي ذكرته بعض قصص التوارة1، وفرض عبادة الرباب الشوريين على بعض أهل المدن العنيدة "مثل غزة" ثم تشريد أغلب أهل المناطق المفتوحة الخطرة، وتهجير أغلب الأيدي العاملة منهم إلى بلاد أخرى بعيدة عنها، حتى لا تقوم لبلادهم قائمة، مع إحلال غيرهم من مناطق بعيدة محلهم حتى يضغطوا على السكان الأصليين أو يظلوا بينهم أغرابًا مستضعفين، وتهجير بعض آخر إلى دولة آشور نفسها حتى يظلوا تحت إشراف حكامها وحتى يمكن استغلالهم في خدمتها استغلالها مباشرًا، فضلًا عمن يستعبدون منهم استعبادًا تامًّا عند خاصة أهلها.
وكان من هذا القبيل أن أمر في عامه الثالث بتهجير ثلاثين ألفصا وثلاثمائة شخص من سكان المنطقة السورية التي تمتد بين حماة وبين البحر إلى منطقة تسمى كو ... ، وتهجير 1223 آخرين إلى منطقة تدعى الأبا2 ويبدو أنه أحل محلهم سكانًا جلبهم رجاله من منطقة لولومو في جبال زاجوراس ومن ناييري قرب بحرية فان. وهجر بأمره في عام آخر عدد كبير من أهل "بيت خومريا"3 أي أرض عمري في منطقة العبرانيين، إلى آشور. بل وروت نصوصه أنه هجر بأمره أكثر من مائة ألف من أنصار ... في بابل نفسها بعد أن أخضعها لحكمه المباشر.
ومن أهم ما يرتبط بعهد تيجلات بيليسر، من وجهة النظر العربية، هو صدام جيوشه مع قبائل عربية كثيرة انتشرت على الطريق التجاري القديم في شمال شبه الجزيرة العربية بين البحر الأحمر وبين العراق. وذكرت نصوصه أسماء فريدة نتناولها في بحثنا لتاريخ شبه الجزيرة العربية فيما بعد، ومنها اسمان لمملكتين أطلقت على كل منها لقب "ملكة أريبي" وهما: زبيبي "تحريفًا فيما يبدو عن زبيبة" وقد ذكرت أنها أدت الجزية لآشور واعترفت بالطاعة لملكها، ثم سمسي "تحريفًا عن شمس" وذكرتها النصوص الآشورية في مناسبتين: مناسبة أدت الجزية فيها للملك الآشوري في بداية عهدها، ومناسبة أخرى قلبت له فيها ظهر المجن ونقضت إيمانها بالمعبود شمش، على حد تعبير النصوص الآشورية، فساعدت الأراميين أعداءه، وتركت رجالها يتعرضون لقوافله، فحاربها الآشوريون حتى أجبروها على الفرارا وضيقوا على كثير من أعوانها حتى أهلكهم الجوع، فاضطرت إلى الإذعان وتأدية الجزية، ولكن الملك الآشوري
__________
1 See For, "Rebshaq": W. Manitius, Za, Xxiv, 199 F; B.Meissner, Bobylonien And Assyrien I, 103.
2 D. Luckenbill, Ancient Records, I, 770
3 Ibid. 819.(1/512)
لم يطمئن إلى إخلاصها فعين رقيبًا أو قيمًا على بلادها، ولقبه بلقب "قيبو" ليشرف على توجيه سياستها ويكتب إليه عن أمرها1. ولم يكتف الآشوريون بأن يسجلوا نصرهم على الملكة شمس بالكتابة وحدها وإنما سجلوه تصويرًا ورمزا أيضًا "راجع فيما بعد". وأدرك تيجلات بيليسر أن أعراب الصحراء لن يتمكن منهم غير واحد منهم، فاستمال إليه بعض شيوخهم، وعين الشيخ أيديبيئيل مشرفًا على منطقة تدعى مصرى2 يبدو أنها كانت قريبة من الحدود المصرية الشمالية الشرقية عند أطراف سيناء الشمالية الشرقية.
ولم يسلم أهل الشام للآشوريين وملكهم تيجلات بيليسر تسليمًا مطلقًا، وإنما انبعثت ثوراتهم من حين إلى آخر، وظلت مصر ملجأ للفارين من وجهه، مثل هانو أمير غزة "خانونو الخزاتي" وزادت هذه الثورات بعد وفاته، فثارت صور ضد ولده شلما نصر الخامس "727-722ق. م" واستعصمت بجزيرتها وأسوارها. وتطلع العبرانيون إلى عون مصر فأعانتهم، ولهذا امتد حصار جيشه لعاصمتهم السامرة "سامرينا" ثلاث سنين دون جدوى، في نفس الوقت الذي استنفذت فيه قوى بقية جيوشه في الشام في إخضاع صور. ولم تكن بابل أقل ضيقًا بالحكم الآشوري، فاستغل الأراميون الكلدانيون تذمرها وسعوا إلى استعادة عرشها.
وترتب على ذلك كله أن عرش آشور لم يستمر في أسرة تيجلات بيليسر الثالث غير جيلين, انتقل منها في عام 721ق. م إلى أسرة شروكين الثاني أو سرجون الثاني على حد شهرته في الكتب التاريخية، وهو رجل لم يكن أقل كفاية من سميه شروكين الأكدي القديم.
كان من المشكلات التي واجهت سرجون الثاني في بداية عهده أن انتهز مردوك أبال إدين كبير بيت باكين الكلداني فترة البلبلة التي صحبت تغير الآشورية المالكة، فاستعان بقوات عيلامية على استرداد سلطانه على بابل، وهزم الجيوش الآشورية بمعاونتهم وأعلن نفسه ملكًا في نفس العام الذي اعتلى فيه سرجون عرش آشور أو بعده بعام واحد. وتحالف روزاس ملك أورارتو "وخليفة سارديوس" مع الماذيين في إيران في جانب، ومع الفريجيين في آسيا الصغرى "أو الموشكيين على حد تعبير النصوص الآشورية" في جانب آخر، وبدأ الأحلاف يعملون لحسابهم ويحطمون من بقي على الولاء لآشور من جيرانهم. وانحل الحصار الآشوري من حول السامرة واندلعت نيران الثورة في بقية بلاد الشام ابتداء من غزة حتى حماة وأرواد، وعاوتها مصر هنا وهناك.
وأجل سرجون أمر بابل وأورارتو وآسيا الصغرى والماديين أيضًا، وبدأ بفلسطين فأخضعها بجيوشه وأتم فتح السامرة العاصمة الشمالية للعبرانيين وخربها وشرد أهلها وأنهى استقلال دولتها، مما سنعود إلى تفصيله والتعليق عليه بعد قليل. ثم أخذ يضرب بقواته شمالًا وشرقًا، ضد أهل أورارتو، وضد الماذيين،
__________
1 Luckenbill, Op. Cit, I,777 F; Anet, 283, 284
2 Ibidem(1/513)
الذين روى أنه أسر ملكهم دايوكو، وضد أهل إقليم كيليكيا "خيلاكو" الذين حرضهم ضده ميداس الفريجي "أو مينا ملك موشكى".
وفرغ سرجون أخيرًا لمشكلة بابل بعد هزيمة جيوشه فيها باثني عشر عامًا أمام الكلدانيين والعيلاميين "الإلاميين". فانفرد بالكلدانيين الذين تركهم حلفاؤهم العيلاميون لمصيرهم، واسترجع التاج، وفر مردوك أبال إدين أمامه إلى الجنوب وأخذ معه أشراف بابل رهائن ليساوم بهم حين الحاجة. أما بابل نفسها فقد سلكت سبيل المدن المغلوبة على أمرها، ففتحت أبوابها لسرجون المنتصر، واعتبرته محررها، واستبدلت السيادة الآشورية بالسيادة الآرامية في عام 710ق. م. ولم يطل الصراع بين الآشوريين وبين الآرميين بعدها، فاجتاحت جيوش سرجون جنوب العراق وشردت بعض أهل بيت باكين وأحلت محلهم أسرى من أهل الجبال الشماليين، ولكن سرجون عفا عن زعيمهم مردوك أبال إدين واعتبره حاكمًا محليًّا في أرض الجنوب، سواء لإرضاء الآراميين. أو لإظهار نفسه بمظهر المترفع عن ملاحقته بعد أن أفقده عزه وشهرته.
وكانت لجيوش آشور في عهد سرجون جولات مع قبائل عربية، ذكرت نصوصه منها قبائل تمودي والسبئيين ومملكة سمسي مما سنعود إلى مناقشته في تفصيل عند معالجتنا لتاريخ شبه الجزيرة العربية.
واتبع سرجون طريقة تيجلات بيليسر في معاملة المدن المغلوبة، وهي تهجير عتاة أهلها وإحلال غيرهم محلهم ... هذا الإجراء الأخيرة في عهده أكثر مما وضح في عهد أسلافه، وكان يتخير "عن طريق أعوانه" المهجرين الجدد من مناطق متباعدة حتى لا تتحد كلمتهم عليه، ويتخير من صفوف المبعدين إلى آشور مشاة وفرسانًا يلحقهم بحرسه الخاص أحيانًا ليزيد ارتباطهم بشخصه بعد أن فقدوا ارتباطهم بوطنهم، ومن ذلك على سبيل المثال أن روت نصوصه أنه عمل على تهجير 27.290 من أهل السامرة العبرانيين إلى مناطق أخرى بعيدة مثل حران وضفاف الخابور وأطراف ماذي، وعمل على إسكان قوم آخرين مكانهم، بعد أن أمر بإعادة بناء السامرة إلى أفضل مما كانت عليه، وعين عليها حاكمًا جديدًا يؤدي الجزية إليه، وظل يرسل إلى أرضهم من شاء تهجيره من مشاغبي أهل البلاد الخاضعة، فأرسل إليها 715 من عرب البادية و709 من البابلين العصاة. وفعل بالمثل مع منطقة حماة، وتخير من أسراها 600 فارس من ذوي الدروع الجلدية والحرب وضمهم إلى حرسه الملكي، وهجر مكانهم إلى حماة 6300 آشوري. ويبدو أنه استن أوضاعًا خاصة للبلاد التابعة له عبرت عنها عبارات مختلة وردت على لسانه في سياق نصوصه، مثل قوله عن أهل أشدود "واعتبرتهم رعايا آشوريين وحملوا نيري" ومثل قوله عن مستوطنين آشوريين في قرقميش "وفرضت نير مولاي آشور فوق رقابهم"1
أكثرت نصوص سرجون من ترديد أخبار انتصاراته على عدد ممن أسلفنا ذكرهم من خصومه العتاة لا سيما حكام حماة وقرقميش وأشدود وغزة، وقائد مصري دعته باسم سيبئه"؟ " فضلًا عن أراميبي بابل
__________
1 Luckenbill, A.R., Ii, 8, 30; Anet, 284, 285, 286.(1/514)
وأمراء أورارتو. ولن نناقش هنا مدى الصحة في أخبار هذه الانتصارات ما دمنا لا نملك دليلًا للأسف على نقضها، فيما خلا حديثه عن مصر من بينها، ولكن حسبنا مما سنذكره عنها ما تنم عنه من صور الغليان في عهده وما تدل عليه من أن اتساع رقعة الدول كان يقتضي عينًا ساهرة على الدوام، وأن شعوب المدن المتحضرة في الهلال الخصيب لم تتقبل التوسع الآشوري راضية، وأن النجاح في بسط النفوذ عن طريق القوة الباطشة شيء، واستقرار أمور الدولة بعد اتساعها شيء آخر. وإن كان مما يعترف به لسرجون بالذات أنه كان سريع التصرف في مواجهة المشاكل ومتاعب الحروب، وأنه كان حريصًا على بث عيونه في أنحاء دولته ليكتبوا له باستمرار عما يجري فيها وما يتوقعونه منها. وتضمنت النصوص الآشورية أخبارًا طريفة عن أولئك الخصوم لا بأس من الاستشهاد ببعضها. فقد بلغ من حقدها على حاكم حماة أن اعتبرته حيثيًّا سوقيًّا ملعونًا مغتصبًا للعرش، وما ذاك إلا أنه حرض مدن أرواد وسميرا ودمشق والسامرة ضد الآشوريين وكون حلفًا يشبه حلف قرقر القديم، بل واتخذ قرقر بالذات مركزًا لنشاطه العسكري. ويحتمل أن مصر أيدته وعاونته. وعندما انتصر الآشوريون عليه سلخوا جلده. ووصفت النصوص الآشورية حاكم قرقميش بالوصف نفسه، فاعتبرته حيثيًّا خائنًا للعهود، وما ذاك إلا لأنه تعاون مع ميداس الفريجي "مينا الموشكي" على تحرير بلديهما من تدخل النفوذ الآشوري. واعتبرت النصوص نفسها أهل أشدود في فلسطين حيثيين أيضًا، وما ذاك إلا لأنه ملكهم امتنع عن دفع الجزية وحرض جيرانه على أن يفعلوا فعلته، فعزله سرجون وولى أخاه الصغير على عرشه، ولكن أهل أشدود كالوا له الصاع صاعين، فعزلوا صنيعته وطردوه وأمعنوا في مضايقته، وعينوا رجلًا من غير الأسرة المالكة؛ اعتبرته المتون الآشورية "إيونيا"1 مغتصبًا للعرش وغير أهل له، ثم روت على لسان سرجون أنه جن جنونه عندما سمع بخبره، فلم ينتظر تجييش جيوشه وركب عربة مدنية وهرع بها هو وحرسه الخاص على حده قوله، واتجه فورًا إلى أشدود، ففزع الإيوني ولجأ إلى الحدود المصرية. وحاصر سرجون المدينة حتى سلمت له هي وجيرانها فغنم منهم ونهب وسبى وعين حاكمًا آشوريًّا على منطقتها ونقل إليها مهجرين من المناطق الشرقية واعتبرهم رعايا آشوريين2. ولم تبرأ رواية سرجون عن كل ذلك من ادعاء وتهويل، فقد ذكرت رواية آشورية أخرى أن أهل أشدود حصنوا مدينتهم ضده وأحاطوها بخندق عميق يزيد عمقه عن عشرة أمتار، وراسلوا مصر وأمراء جنوب فلسطين وبعض جزر البحر، فخرج سرجون إليهم بجيش كثيف عبر به الدجلة والفرات إبان اشتداد فيضانهما الربيعي3. وذلك مما يعني أنه لم يفلح في هجومه بحرسه الخاص الذي قص قصته في روايته السابقة، فارتد عن المدينة وعاد إلى بلده واستعان عليه ببقية جنده.
وكانت لسرجون قصة قصيرة مع مصر ذكرنا طرفًا منها في سياق التاريخ المصري "ص291، 293" حين استجابت مصر لنداء هانو حاكم غزة الذي لجأ إليها منذ عهد تيجلات بيليسر، وساعدته على تكوين حلف
__________
1 For Jamani And Iodna As "Ionion" See, D.D Luckenbill. Za Xxviii "1913", 92 F
2 Luckenbill, A. R. Ii, 30, 62, 79 F, Etc
3 Ibid, 193 F.(1/515)
يناهض الآشوريون، وعهدت بمعاونته إلى قائدها ونائب ملكها، الذي أطلقت المصادر الآشورية عليه اسم "سيبئه"1 ولقب تورنان "أوتورتانو، أوتارتانو"، وهو لقب عسكري وإداري كبير2 ويبدو أنه كان يقيم في رفح. ولم تذكر المصادر المصرية شيئًا عن هذه الحادثة، ولكن الآشوريين رووا أنهم انتصروا على الحلف وأسروا حاكم غزة3 ثم زادوا على ذلك فرووا أن الملوك المصريين النوبيين الذين ولوا عرش مصر في ذلك الحين "أولئك الذين لم يتعودوا أن يسألوا عن صحة أجداد سرجون" "اعتدادًا بأنفسهم واستهانة بالآشوريين" آثروا عدم الاصطدام به وتركوا الإيوني حاكم أشدود الهارب لمصيره4.
وأضافت المصادر الآشورية اسمين أثارًا مشكلة عويصة، فروت أن ملكها تلقى جزى برءو "بوعو" ملك مصرو5، كما روت أنه تلقى اثني عشر جوادًا كبيرًا لا مثيل له هدية من شيلخيني "أوشلكاني" ملك مصرى، وأشارت معها إلى ما سمته باسم مدينة نخل مصر6. ويبدو أن هذه الأسماء لم تكن لها صلة بمصر بمعناها المعروف حيث ذكرت النصوص الآشورية ذكرت اسم برءو "برعو" ملك مصر ومع رؤساء البادية مثل سمسي ملكة أريبي، وبثع أمر السبئي، وذلك مما قد يعني أن منطقة مصر كانت من مناطق البادية أيضًا، ويغلب على الظن أنها كانت قريبة من البحر الأحمر ومن الحدود المصرية وأنها نفس المنطقة التي روى شلما نصر من قبل أنه عين عليه الشيخ البدوي إديبيئيل. أما اسم برءو فقد يكون تحريفًا لاسم شيخها البدوي في عهده. أو تكون تبعيتها القديمة لمصر قد أغرت الكتبة الآشوريين على اعتبار جزاها من جزى الفرعون المصري نفسه، وكان لقب ينطق في اللغة المصرية برعو فعلًا "وذلك على نحو ما اعتبروا جزى أو هدايا" ... العربية القريبة من حدودها والمتعاملة مع دولة سبأ من جزى الدولة السبئية الجنوبية البعيدة عنها تضخيمًا منهم لشأن ملكهم وامتداد سطوته ولو من قبيل المجاز". أما شيلخيني أو شلكاني ملك مصرى، فقد يكون اسمه تحريفًا لاسم عربي مثل سلحان، كما رأى الباحث ريكمان7، وليس اسًما لفرعون مصري كما ظن فيدنر8 لا سيما إذا أضفنا أن مصر لم تشتهر بتربية الخيول الكبيرة التي أشارت إليها نصوص سرجون، وإنما كانت جيادها صغيرة الحجم نسبيًّا على الرغم من تهجينها بسلالة ليبية في العصور المتأخرة.
__________
1 ورد هذا الاسم في سياق قصص من التوراة أيضًا "الملوك الثاني 17: 1-6" انظر ص291، وعن تحسين أصله المصري المحتمل، يراجع:
H.Kees, G.G. A. 1926, 426; J. Ranke, Keilschriftliches Material Zur Altaegyptischen Vokalisierung, 38 ;Helene Von Zeissl, Aethiopen And Assyren In Aegypten ... 1944, 18 F; See Also, Vetus Testamentum, 1952, 164-168; 1970, 116-118.
2 Cf. A. Ungel, Zatw, 1932, 204 F.
3 Luckenbill. A. R. Ii, 55.80
4 Ibid 62.
5 Ibidk, 18.
6 See E.F. Weidner, A. F. O. Xiv "1941", 40 F
7 Ryckmans, A.F.O. 1941, 54 F.
8 Cf. E.F. Weidner, Op. Cit.(1/516)
ويبقى اسم محل مصر، وهذا قد يترجم بمعناه الآشوري بمعنى قناة مصر، أو سيل مصر، ويدل بذلك على جزء من وادي العريش، أو جزء من خليج السويس، كما رأى بعض الباحثين، أو يدل على وادٍ قريب من رفح كما نم عن ذلك نص آخر1، أو يكون له بعض الصلة باسم قرية تخل الخالية في شبه جزيرة سيناء.
وكان أشد سرور سرجون من أمجاد عهده، هو سروره بولاء بعض حكام جزيرة قبرص له ورضاهم بإقامة نصب نقشت عليه صورته في جزيرتهم2. وعبرت نصوصه عن هذه الحال بأسلوبها المبالغ، فروت أن ملكها أخضع سبعة ملوك من إقليم إيا في قبرص "إيادنانا" وسط البحر الغربي على مسافة سبعة أيام، وعلى مبعدة لم يسمع عنها أسلافه ... 3. ولم تكن آشور بالدولة البحرية التي تستطيع أن تمد نفوذها على قبرص بمجهود يمينها كما ادعت نصوص سرجون، وإنما يبدو أن حكام صور وصيدا الفينيقيين أرباب الملاحة والتجارة، كان لهم نفوذ كبير على جزء من الجزيرة، فلما دانت مدينتاهم صور وصيدا لنفوذ سرجون، سارعوا بالتالي إلى إعلان ولائهم في الجزيرة له حتى لا يتصدى أعوانه لعرقلة نشاطهم التجاري على سواحل الشام وفيما بينها وبين قبرص.
واحتفظ عهد سرجون برسائل إدارية تكشف عن مدى سيطرة دولته على أتباعها. وكان يبث عيونًا عليهم يكتبون إليه عن مدى تقاربهم وتباعدهم، ويحرص على أن يتلقى تقارير عيونه أينما ارتحل في أنحاء دولته الواسعة. فحدث أن زار بابل مرة "في عام 713ق. م" وعهد إلى ولي عهده سينا خريب بتدبير أمور عاصمته، فأرسل ولده إليه يطمئنه على استقرار أمور الدولة، وبدأ رسالته بما يبدأ به التابع العادي رسالته، قائلًا له: "إلى الملك سيدي، من سينا خريب خادمك، سلامًا لملك مولاي، الأمن سائد في آشور وفي المعابد وفي حصون الملك كلها، فليسعد قلب الملك مولاي تمامًا"4. وشفع سينا خريب رسالته بتقرير مندوبيه ورؤساء حاميات الحدود قرب دولة أورارتو، وتحدثت هذه التقارير عن اشتباكات بين الأراميين وبين السميريين، وانتصار الأخيرين فيها، كما تحدثت عن زيارات ملوك المنطقة "في الشمال والشمال الشرقي" وأمرائها بعضهم لبعض5. وكان سرجون لا يريد تقارب هؤلاء بعضهم من بعض، فنمى إلى قصره ذات مرة أن ملك أورارتو وأمراءه سيخرجون بعدد من قواتهم العسكرية بحجة زيارة مدينة موتساتسير المقدسة، فكتب ناظر القصر "نيابة عن مولاه" إلى أمير هذه المدينة يبلغه استياء مولاه من سماحه لأولئك الحكام بدخول مدينته بجنودهم دون استئذانه، ولكن رد عليه أمير متساتسير بأنه لن يمانع في زيارة ملك آشور لمدينة بعسكره، فكيف يمنع ملك أورارتو عنها؟ 6.
__________
1 Op. Cit, 43 F.
2 Winckler, Die Keilschrifttexte Sargons, I, Pls. 4-47.
3 Luckenbill, Ancient Records, Ii, 99, 186.
4 Harper, Assyrian And Babylonian Letters, No 197.
5 Ibid, Nos 198, 492, 380.
6 Ibid, No. 409.(1/517)
وفي نهاية عهد سرجون بدأت نذر هجرة شعوبية عنيفة تمثلت في هجرة قبائل السميريين التي تدفقت بقضها وقضيضها على مملكة أورارتو وهزمت قواتها في عام 607ق. م واستمرت في تقدمها حتى لاقاها سرجون بجيشه في عام 705ق. م، ويبدو أنه قتل في المعركة أو اغتيل بعدها، ولكن بعد أن نجح جيشه في دفع السميريين ناحية الغرب فاندفعوا إلى آسيا الصغرى وهزموا في طريقهم جيش ميداس ملك فريجيا، "ميتا صاحب موشكى"، أحد أعداء الآشوريين الألداء، مما أدى به إلى الانتحار، وشيئًا فشيئًا أتى السميريون وحلفاؤهم التريرويون على مملكة فريجيا من أساسها1.
تتابع من الملوك العظام من أسرة سرجون ثلاثة، وهم: سين أخي ريبا "705-681ق. م" الذي اعتادت بعض المؤلفات التاريخية على أن تذكره باسم سينا خريب أو سينا حريب، وآشور أخا دين "681-638ق. م" أو أسرحدون أو أسرهدون كما اعتادت بعض الكتب على تسميته، ثم آشور بانيبا "668-626ق. م" الذي ذكره الإغريق باسم ساردانا بالوس. وسوف نذكر أولهم باسمه الأكثر شيوعًا وهو سينا خريب لقربه من اسمه الأصيل.
واجهت أولئك الملوك العظام مشكلات ضخمة متعددة ظهرت بوادرها منذ عهد سرجون نفسه، وامتدت جذورها إلى ما قبل عهده. وتوفر لكل منهم أسلوبه الخاص في معالجتها بما يتفق مع إمكانيات دولته ومشاعره الخاصة واتجاهات السياسية في أيامه. وأهم هذه المشكلات هي:
1- دولة بابل التي ظلت تأنف من الخضوع للآشوريين وظلت في الوقت نفسه مطمعًا للآراميين الكلدانيين.
2- استمرار العداء بين الدولتين العنيفتين المتجاورتين، آشور وإلام "أو عيلام"، مع استخدام العيلاميين لكل من الكلدانيين والبابلين للقيام بدور مخلب القط في بعض مراحل هذا العداء2.
3- وقوف المصريين في وجه التوسع الآشوري في الشام، وتأييدهم للمناطق السورية والفلسطينية ضده، مع تذمر هذه المناطق تلقائيًّا مع طابع العنف والتعالي عند الآشورين.
4- رغبة آشور في إجبار أعراب الصحاري والبوادي على الطاعة، مع تمرد هؤلاء الأخارى عليها على الرغم من قلة إمكانياتهم.
5- اضطراب الأوضاع في الأطراف الشمالية لآشور وفي آسيا الصغرى نتيجة للنزعات الاستقلالية فيها وخشونة طباع سكان جبالها ونزول هجرات هندوآرية جديدة عليها.
__________
1 Layard, Monuments Of Nineveh, I, Pl. 25
2 Harper, Op. Cit. 839.(1/518)
مع بابل:
سوف نعود إلى تفاصيل العلاقات الآشورية البابلية في تقديمنا لبابل الكلدانية بعد قليل، وتكفي الإشارة هنا إلى أنه عز على بابل أن تنجب زعيمًا من أهلها الأصيليين يستعيد لها مجدها القديم، فتعاقب على حكمها في عهد سينا خريب الآشوري ما لا يقل عن ستة ولاة ليس فيهم بابلي أصيل، وأن هذا الملك لجأ في تعقب أحد حكامها الكلدانيين بعد فراره بأعوانه إلى الشاطئ العيلامي، إلى إنشاء أول أسطول حربي كبير في تاريخ الآشوريين، اشترك في إنشائه صناع من صيدا وصور وقبرص، وعملوا فيه عامًا كاملًا على ضفاف دجلة والفرت، ونقلوا جزءًا منه على طريق البر، وعبر الآشوريون وحلفاؤهم به الخليج العربي وهزموا خصومهم، ثم أتى دور بابل نفسها فخربها رجال سينا خريب تخريبًا عنيفًا وسلطوا مياه نهر الفرات على أنقاضها حتى أغرقوها في عام 689ق. م. وبمنطق المنتصرين المعوج، لم يتورع ابن سينا خريب عن تبرير هذا التخريب على حساب البابليين المغلوبين بقوله: "لقد كانوا من قبل يذلون الضعيف وشاع الطغيان في مدينتهم والرشا والنهب. وكان الولد يسب أباه في الطريق، والعبد يهين مولاه، والجارية تعصي سيدتها ... ، ولقد عطلوا القرابين، ووضعوا أيديهم على كنوز إساجيل معبد الأرباب، وباعوا الفضة والذهب والأحجار الكريمة منه إلى عيلام ... ، فغضب مردوك إنليل الآلهة، ودبر أمره على قهر هذا البلد وتشتيت أهله".
وكان قتال الآشوريين للكلدانيين في شط العرب بالجنوب موضوعًا للوحة حية صور فنانها منطقة المناقع بأسماكها وحيواناتها المائية الصغيرة، تتخللها أحراج القصب المرتفعة التي آوى الكلدانيون إليها وتجمعوا فيها في جماعات صغيرة يتداولون مصيرهم. وصور قتالًا عنيفًا في مراكب من البوص المجدول المكسو بالقار، وصور السبايا الكلدانيات بثياب طويلة كاسية وشعور مرسلة يستعطفن الغازين1 "وتشبهن للغرابة هيئة الإغريقيات في المناظر اليونانية القديمة".
وانكمشت بابل العظيمة على نفسها، حتى ولي عرش آشور، آشور أخادين، وكان فيما يبدو من أم بابلية، وربما ولاه أبوه نائب ملك على بابل في حياته، فانصرفت عواطفه إليها وشجع على إحيائها وولى عليها ولده الأكبر شمش شوموكين، وتجاوز عن سلطان الكلدانيين في أرض البحر مع طاعتهم لولده2. وربما لم يفعل ذلك بدافع العاطفة وحدها، وإنما بدافع الرغبة أيضًا في التفرغ لتنفيذ حلمه الكبير بغزو مصر. واستقر الأمير الآشوري شمش شوموكين ببابل فترة طويلة ونهض بها خلال حياة أبيه وبعد وفاته، ثم استغل إمكانياته ونفوذه فيها في التضييق على أخيه الأصغر آشور بانيبال الذي نازعه عرش آشور بعد مقتل أبيه، وضم إليه حلفًا قويًّا من العيلاميين والأمراء الكلدانيين في أرض البخر، ولفيفًا من السوريين وأمراء البدو المتذمرين. ولكن ميزان القوى انقلب إلى جانب أخيه الصغير فشددت
__________
1 Layard, Monuments Of Nineveh, I, Pl. 25
2 Harper, Op. Cit, No. 839(1/519)
جيوشه الحصار على بابل عامين، حتى تفشت فيها الأوبئة والمجاعات واضطرت إلى التسليم وأشعل أميرها النار في قصره وهلك في لهيبها، ثم زادت جيوش آشور بانيبال بابل خرابًا على خراب ودمرتها "عام650ق. م" تدميرًا عنيفًا لم تفق منه إلا بعد جيل كامل يوم هبت هبتها الأخيرة للانتقام لنفسها وللقضاء على دولة آشور كلها. والغريب أن أنصار آشور بانيبال لم يتورعوا عن تمثيله على لوحة صغيرة باسمًا مستبشرًا يرفع بيده سلة من الخواص المجدول إلى ما فوق مستوى تاجه الطويل، وسجلوا حوله نصوصًا تشيد بفضله في إعادة بناء "إساجيل" مقر مردوك إله بابل1. واشتد هذا الملك على الكلدانيين الجنوبيين في أرض البحر في العام نفسه، فاضطر واليهم نابو بعل شوماني حليف أخيه إلى الفرار إلى عيلام. وعين آشور بانيبال "دوباشو" بلاطه واليًا عليهم، ووجه إليهم نداءه قال فيه: "أي خدمي ... سلام لكم وهدأت قلوبكم ... اذكروا فضلي عليكم قبل خطيئة نابو بعل شوماني ... وهأنذا أرسل إليكم بعل ابني الدوباشو الخاص بي ليرأسكم ... " ثم طلب منهم الطاعة وهددهم بإرسال جيوشه عليهم إن مالوا إلى العصيان2. وعاش نابو بعل شوماتي لاجئًا في عيلام لبضع سنوات، ثم حدث لسوء حظه أن اغتيل الملك العيلامي الذي آواه، وولي ملك آخر آثر مهادنة آشور بانيبال فأبدى استعداده لتسليمه إليه، ولما ضاقت السبل باللاجئ الكلداني نابو بعل شوماتي أمر تابعه بأن يقتله بسلاحه حتى لا يعاني تعذيب أعدائه، ولكن هذا لم يمنع الآشوريين من التمثيل بجثته حين سلمت إليهم فقطعوا رأسها وحرموا دفنها.
مع إلام "عيلام":
استمر العداء ضاربًا أطنابه بين الجارتين اللدودتين آشور وعيلام، وقد آثرنا التعبير عن هذه الأخيرة بنطق إلام وهو أقرب إلى لغة أهلها التي لا تتضمن العين السامية مع إلحاقه في كثير من الحالات أو إبداله باسم عيلام الشائع استخدامه في المؤلفات العربية. وظلت الانتصارات والهزائم الوقتية الخاطفة دولة بين الفريقين، حتى فت في عضد إلام اختلاف حكامها على أنفسهم بحيث انقسموا فريقين ووقفت جيوشهما بعضها لبعض بالمرصاد على ضفتي نهر الهدهد كما ذكر أحد التقارير الآشورية3. فتدخل الآشوريون في مشاكلهم لزيادة نارها وتأليب فريق على فريق، ثم أتت النهاية السياسية لعيلام على يد "جيش" آشور بانيبال فدمر عاصمتها سوسة تدميًرا شاملًا، وذكرت نصوصه أنه استولى على كل كنوزها ولم يدع في قصورها ملوكها شيئًا إطلاقًا إلا وأمر بحمله معه، حتى أواني الطعام والشراب والغسيل، ولم يدع معبدًا فيها إلا أمر بنهبه وتدميره وأسر معبوداته، ولم يدع مقبرة ملكية فيها إلا وأمر بفتح توابيتها وإخراج عظامها ثم نقلها إلى آشور، حتى يحرمها الخلود في أرضها على حد قوله. وزاد في نصوصه أنه ود لو حمل تراب سوسة معه إلى آشور4 "حتى يحرمها البقاء على وجه الأرض إلى أبد الآبدين. وبذلك أخذ بثأر البابليين
__________
1 B. Pritchard, The Ancient Near East In Pictures, Fig 129.
2 Harper, Op. Cit No. 289.
3 Ibid No. 289.
4 ديلابورت: المرجع السابق - ص419-421.(1/520)
القدماء عن غير قصد، مما فعله الإلاميون معهم في نهاية القرن الثاني ق. م حينما دمروا عاصمتهم وحرموها كنوزها وآثارها حتى الحجرية منها "كنصب تشريعات حمورابي وأمثاله"1.
وظلت انتصاراته على سوسه هذه مجالًا خصبًا لتصورات فنانيه، فأخرجوا لوحات كبيرة مبدعة صوروا فيها ساحة الحرب تموج بالهرج والمرج، يقتتل فيها المشاة والخيالة وفرسان العربات، يدقون الرءوس بالمقامع ويطعنون النحور والظهور بالحراب والسهام ويحزون الرقاب بالسيوف والخناجر. ويهرع بعضهم لنجدة بعض، وينحني بعضهم على جثة قتيل ليسلبه خوذته وسلاحه وجعبة سهامه، بينما يجثو بعض المغلوبين طلبًا للرحمة، ويلقي بعضهم بنفسه في النهر التماسًا للنجاة. وصوروا القلاع فوق قمم الجبال وعند ملتقى الأنهار يهدمها الغزاة ويشعلون النار فيها، فيغادرها أهلها ليلحقوا بأفراد جيشهم الذين ركبهم اليأس وساروا مشاة وفرسانًا يستحث بعضهم بعضًا، وقد تكدس شيوخهم وأطفالهم فوق عربات مرتفعة متسعة لكل منها عجلتان كبيرتان وجواد واحد يستحثه سائقه بصوت طويل. ثم صوروا العاصمة سوسه خاوية على عروشها إلا من أطلال البيوت والنخيل، بيضية يحيط بها خندق ومجرى ماء، ويقع على مبعدة منها نهر كرخا وقد امتلأ مجراه بجثث القتلى والخيول الشاردة والنافقة وبقايا العربات المحطمة. وخرج من المدينة المستضعفون من أهلها رجالًا ونساءً شيوخًا وصغارًا، يصفق بعضهم وينشدون نشيدًا مغتصبًا على أنغام الأوتار ليداروا به بطش الفاتحين، ويمشي بعضهم رافعين أكفهم في ضراعة رتيبة ذليلة، بحيث تحافظ الأم على رفع يدها والتمتمة بفمها بينما تمسك طفلها بيدها الأخرى وتنظر إليه حسيرة كسيرة الفؤاد، أو تنظر إلى من يسير خلفها تسأله عما سيئول إليه مصيرها ... أما رأس تيومان ملك إلام فكانت أداة رصع الفنانون بها صورهم الغريبة، فصوروا ملكهم يقطعها بيده في ساحة القتال، وصورها معلقة في رقبة حليفة دونانو الجمبولي الذي اقتيد إلى العاصمة بعد أن قطع لسانه وسلخ جلده، ثم ذبح كما تذبح الخراف، وصورها مرة ثالثة تتدلى من شجرة في مجلس شراب مولاهم.
غير أن انتصار آشور على إلام لم يكن خيرًا كله، فقد تحملت إلام حتى ذلك الحين كبح جماح بقية العشائر الإيرانية من ورائها، ولا سيما الجبلية منها، فلما انزاح هذا الحاجز بزوالها، وقع العبء على آشور وحدها فأحست بأن زيادة التوسع أصبحت تؤدي إلى زيادة المشاكل أمامها.
مع مصر والشام:
رأينا في سياق بحثنا للتاريخ المصري في صفحة 294 وما تلاها، كيف ادعت نصوص الآشوريين أنهم انتصروا على جيوش مصر وحلفائها في الشام انتصارًا مستمرًا، بينما خالفتها قصص التوراة ونصوص المصريين في بعض ما ادعته لأهلها. وأن القصة بدأت بعد أن هاجمت جيوش سينا خريب مملكة العبرانيين
__________
1 Frankfort, The Art And Architecture ... , Pls. 103-107.(1/521)
الجنوبية "يهوذا" التي استنجدت بالمصريين، فأعانوها، ليس حبًّا فيها، ولكن رغبة في اتخاذها موقعًا من مواقع دفع الغزو الآشوري. وروت نصوص سينا خريب أنه استولى على 46 مدينة من مدنها الكبرى فضلًا عن أعداد كثيرة من قراها، وقسمها بين أنصاره من حكام عقرون وأشدود وغزة، وأسر أكثر من مائتي ألف من أهلها، وحاصر عاصمتها أورشليم "أورشاليمو"، في عهد ملكها حزقيا ونبيها إشعيا.
وصور فنانه في نينوى حصنها ذا خرجات رباعية وصور رماة الآشوريين حولها يعتمدون على ركبة ونصف يسددون السهام عليها وأمام كل منهم ترس كبير. ويبدو أن ملكهم نجح في أسر عدد من المصريين، ومن ثم أرسل عامله "الرابشاق" إلى أورشليم ليدعو حزقيا إلى التسليم بعد أسر بعض حلفائه أو يؤلب قومه عليه ثم روت النصوص أن حزقيا اضطر تحت وطأة الحصار وإزاء ما أصاب النجدة المصرية وانفضاض أتباعه عنه إلى أداء الجزية مضاعفة إلى نينوى ومعها بناته وحظاياه وموسيقييه1.
وأسلفنا أنه على العكس من الرواية الآشورية روت أسفار التوارة أن الجيش الآشوري حل به الموت الإلهي وحام ملك الله فوقه ليلًا، وفي بكرة الصباح أصبحوا جثثًا هامدة2، فارتد الملك الآشوري مدحورا بخزي الوجه إلى أرضه3، بعد أن أصبح جيشه كالعاصفة في مهب الريح4. وروى هيرودوت أن المصريين أطلقوا بوحي ربهم جرذانًا على معسكرات الآشوريين فقطعت أوتار قسيهم وأتلفت جعاب سهامهم وأفسدت سبور دروعهم مما سهل تمزيقهم إربًا. وربط بعض الباحثين بين قصة الجرذان هذه وبين الهلاك الإلهي الذي تحدثت عنه التوارة، بأن الجرذان أفشت وباء الطاعون الدملي بين الآشوريين فأهلكت منهم خلقًا كثيرًا مما أجبر بقيتهم على الانسحاب5. وعقبنا كذلك بأن توقيت هذه القصة لا زال يتأرجح بين تعيينه بعام حصار أورشليم حوالي عام 701ق. م، وبين تعيينه بعام تخريب سينا خريب لمدينة لاشيش "لخيش" ومحاولته الوصول إلى الحدود المصرية حوالي عام 690ق. م، وكان انتصاره في لاشيش هذه موضوعًا للوحة حرة نقشها فنانه في قصر كالح، وتخلى فيها عن الحدود التخطيطية، وملأها ببيئة جبلية تنمو الكروم فوقها، وصور سينا خريب في مركز قيادته في حضن الجبل فوق عرش مرتفع "يشبه كراسي الأرابيسك الشرقية المرتفعة" يتقدم إليه كبير أتباعه ومجموعة من القادة يصعدون من أدنى الجبل واحدًا بعد الآخر، ويتفرق على السفح مجموعة أخرى بين صاعد وهابط وواقف، بينما ارتمى في حضرة الملك جماعة من يهود لاشيش يقبل بعضهم الأرض، ويجثو بعضهم الآخر يستعطفه، وقد تعمد الفنان تحقير شأنهم فصورهم قصار القامة يبدون في جثيهم وسجودهم على هيئة الأطفال6.
__________
1 Luckenbill, The Annals Of Sennacherib, 1924; Ancient Records, Ii, 233 F; Anet, 287-288.
2 الملوك الثاني: 19: 35.
3 أخبار الأيام الثاني: الإصحاح 32.
4 إشعيا 17: 13
5 Herdotus, Ii 141; Cf, L.L. Honor, Sennacherib's Invasion Of Palestine, 1926; J. Lewy, Olz. 1928, 150 F; U. Ungand, Zaw. Lix 199 F.
6C.T Gadd, Stones Of Assyria. London, 1936, Pl. 13.(1/522)
ولم تخل روايات الآشوريين عن بقية ثورات فلسطين من طرافة، حين تحدثت عن صدقيا ملك عسقلان الذي أبى أن ينحني للملك الآشوري على حد قولها، وألب عليه جيرانه، فأسره هو وأهله وأعقابه الذكور. وتحدثت عن أهل عقرون الذين خلعوا ملكهم بادي صنيعة الآشوريين وسلموه إلى حزقيا اليهودي فسجنه، وعندما استرد سينا خريب سيطرته على عقرون أراد أن يكون عادلًا من وجهة نظره، فأمر بقتل الموظفين والنبلاء الذين اشتركوا في خلع ملكهم وتعليق جثتهم على الأعمدة حول مدينتهم، واكتفى باعتبار المواطنين العاديين المتهمين بمشايعة الثوار الكبار، أسرى حرب، ثم غض الطرف عن بقية الجماهير التي لم يثبت عليها سوء السلوك1، على حد تعبير نصوصه.
ودافعت صيدا وصور عن كيانهما التجاري المستقل ضد سينا خريب، ولم يكتف لولي ملك صيدا بمحاولة تحقيق استقلال دولته، وإنما حاول أن يعيد إلى حوزتها تلك المنطقة القبرصية التي أعلن حكامها الولاء لسرجون، ولكن محاولته لم تجد أمام قوة آشور، ففر إلى قبرص حيث مات بها. وعين الملك الآشوري خلفًا له على صيدا يدعى إيثت بعل2. أما صور فقد استعصت أسوارها عليه حتى وفاته.
ولم تيأس المدينتان، فاستمر فضالهما، في عهد آشور أخادين "681-668ق. م". ولكن فشل مسعاهما نتيجة لعدم تكافؤ القوى بينهما وبين خصومهما، فدك الآشوريون أسوار صيدا ومبانيها، وتعقبوا ملكها عبدى ميلكرته في البحر حتى أسروه، وكلفوا أعدادًا كبيرة من سكان السواحل الفينيقيين وبقايا الحيثيين ببناء مدينة جديدة حلت محلها ونسبوها إلى ملكهم فسموها "كار آشور أخادين"، ثم زودوا هذه المدينة الجديدة بمهاجرين من أهل الجبال وساحل الخليج العربي. وادخروا نهاية قاسية لملك صيدا وأحد حلفائه الأشداء في جنوب آسيا الصغرى "سامواري ملك كوندي وسيزو في كيليكيا" فقطعوا رأسيهما وعلقوهما في عنقي أميرين من أهل صيدا وساقوهما في موكب النصر بنينوى وسط أصوات المزامير3، وظلت نصوص الملك الآشوري تؤكد سلطانه على ملوك جزر البحر4.
ووجد آشور أخادين متعة كبيرة في تكليف اثنين وعشرين حاكمًا من حكام بلاد الشام وآسيا الصغرى وقبرص، بتوريد كل ما يتطلبه بناء قصره في نينوى ابتداء من الأحجار، وتعمد كتبته أن يسجلوا هذا التكليف في نصوصهم بصورة توحي بأن الحكام كانوا يشاركون في عملية نقل المواد المطلوبة بأنفسهم "مع ما في ذلك من مشقة بالغة"5. ولم تكن الجيوش الآشورية أقل شدة، أو أقل نشاطًا من وجهة نظرها، في معاملة القبائل العربية مما سنتعرض له بالتفصيل في بحث تاريخ شبه الجزيرة العربية.
__________
1 Luckenbill. Op. Cit.
2 Ibid. Ii, 574; Annales Of Senacherib 76 F.
3 Luckenbill, A. R. Ii 527; R. Campell Thompson, The Prisme Of Esadrhaddon And Of Ashur Bmupal, 1931, 16.
4 J. Bury, History Of Greace, 1959, 219, N 1.
5 R. Campell Thompson, Op. Cit.(1/523)
وأدى آشور أخادين ما تردد فيه أبوه، فاستعرض عضلاته مع مصر، وكانت مصر تمر حينذاك بفترة من فترت الشيخوخة السياسية والحربية بعد أن أدت دورها الحضاري المجيد قرونًا طويلة، وكانت تسيطر عليها فيما مر بنا "ص288" أسرة جمعت دماؤها بين الدم المصري والدم النوبي، وولي عرشها حينذاك تهارقه الذي رددت قصص التوارة اسمه. وكانت الخلافات الداخلية قد فعلت فعلها فيها كما روى العبرانيون عن نبيهم إشعيا حين ينقل عن ربه: "أهيج مصريين على مصريين فيحارب رجل أخاه ورجل صاحبه، مدينة مدينة ومملكة مملكة"1.
نجح الآشوريون فيما رأينا في إضعاف حلفاء مصر بالشام ليفتوا في عضدها، وكانت أشد أولئك الأحلاف إخلاصًا مدينة صور التي روت النصوص أن حاكمها "بعلو" "بعل إيلي" أجاب على رسائل الملك الآشوري إجابة جافة، فشدد الآشوريون الحصار حولها، وحاولوا أن يمنعوا اتصالاتها البرية والبحرية2 إلى أن يفرغوا من حليفته الكبرى، فنجحوا بالنسبة للأولى وطال أمرهم في الثانية. وقد ابتغى آشور أخادين أن يغزو مصر غزوًا مباشرًا؛ أملًا في تحطيم قوتها العسكرية، وطمعًا في ثرائها، وليقطع معونتها عن حلفائها السوريين الذين ما فتئوا يتطلعون إليها على الرغم من تجاوز الحظ عن مشاريعها الحربية أكثر من مرة. ولقد أسلفنا في بحثنا للتاريخ المصري ص296 أن غزوه لمصر مر في مرحلتين، مرحلة بدأها عام 674ق. م بلغ فيها الحدود المصرية الفلسطينية، وهنا روت المصادر البابلية أن جيشه هزم في معركة دموية بمصر3، ثم ارتد عنها ليواجه حلفًا من السيكثيين والماذيين الذين هددوا الحدود الآشورية الشمالية الشرقية4. ثم مرحلة ثانية بدأها عام 671ق. م واستعان فيها ببعض أعراب الصحراء على تذليل مشقة الطريق عبر سيناء والصحراء الشرقية، وكانت له معارك ضارية في الطرق وإزاء منف، كما كانت له سياسته في ترك الأمراء المحليين في مناصبهم بعد أن ظن رضاهم بسلطانه، ثم خرج من مصر بكنوز طائلة وأعداد كبيرة من الفنيين والمهنيين ليحرم بلدهم منهم وتستفيد بهم دولته، ولكنه لم يهنأ طويلًا بنصره، فثارت مصر ضده وعاونت ملكها تاهرقه على استرجاع سلطانه، فجن جنون آشور أخادين، واعتزم الخروج لمقاومة الثورة بنفسه لولا أن مشكلات وراثة عرشه شغلته عامًا كاملًا أعدم فيه عددًا كبيرًا من كبار دولته، ثم خرج بجيشه قاصدًا مصر ولكنه مات في الطريق وأفل جيشه عائدًا إلى وطنه. وتكفل بمواجهة المقاومة المصرية خلف آشور بانيبال، واستعان على مشروعه ضدها بقوات من الشام ونواحي الفرات خرجت تحت راية اثنين وعشرين ملكًا، على حد رواية نصوصه، واستعان بخبرتهم الملاحية وهاجم مصر من البر والبحر، وانتصر بهم على جيش تاهرقه، ولكن هذا لم يقض على المقاومة، فما لبثت حتى اشتدت كرة أخرى، وعاد آشور بانيبال إليها بجيشه للمرة الثانية وبلغ انتقامه في هذه المرة مداه ودمر طيبة كبرى عواصم العالم القديم، حوالي عام 659ق. م "أما عن ظروف إجلاء الآشوريين عن مصر فتراجع عنها ص297+، ص300+"
__________
1 إشعيا 19: 20.
2 Luckenbill. Op. Cit, Ii, 554 F.
3 See, Anet 302.
4 ديلابورت: المرجع السابق -ص316.(1/524)
وبقيت أمام الملك الآشوري صور الحصينة، ويبدو أنه فت في عضدها سوء حظ حلفائها المصريين وقسوة الحصار عليها من البر والبحر، فاستسلمت للملك الآشوري حين خرج إليها بجيشه الكبير في غزوته الثالثة وتبعتها أرواد. وتبجحت النصوص الآشورية فروت أن ملك صور استرضاه بتقديم ولي عهده وبنته وبنات أخواته إليه بالهدايا، فأعاد إليه ولي عهده واستبقى البنات1، وهكذا فعل مع ملك أرواد الذي لم يخضع لأحد من ملوك أسرته على حد قوله، فقبل ابنته هدية منه. وفعل آشور بانيبال بعرب البادية ما فعله بغيرهم مما سنعود إليه في حينه، وكانت أشد نقمته عليهم لانضمام بعض زعمائهم إلى أخيه ضده، وتقلب عواطفهم معه، وبلغ من شدته معهم أن لجأ إليه أحد زعمائهم "يويطع بن حزائيل" معتذرًا خاضعًا فقبل عذره، ولكنه أمر بوضع مقود في عنقه وقرنه مع كلب ودب لحراسة إحدى بوابات عاصمته نينوى، كما أمر بقرن زعيم آخر من زعمائهم بأمراء عيلام وشدهم جميعًا كالخيول إلى عربته في بعض مواكبه2.
وعلى نحو ما بلغت جيوش آشور بانيبال مداها في بلاد المشرق، استطاعت أن تدق أبوبا مملكة ذات صبغة شرقية غربية في آسيا الصغرى، وهي مملكة ليديا التي اعتمدت في كثير من نشاطها المدني والحربي على الإغريق المستوطنين فيها، وتحالفت مع الآشوريين في عهد ملكها جيجيس ضد قبائل السميريين، ثم تحالفت مع مصر ضدهم، فبادلها الآشوريون عداء بعداء وفتكوا بجيشها، وعندما قتل ملكها جيجيس، عام 653ق. م في كفاحه مع السميريين، اضطر ولده أرديس إلى مهادنتهم3.
بداية النهاية:
أحاطت بالملوك السرجونيين هالات من المجد شجعتهم على أن يستبدوا بكل من وقعوا تحت طائلتهم، ولكن بنيانهم الداخلي لم يكن سليمًا تمامًا، ونخرت فيه عوامل التنازع الأسري في القصر الملكي منذ عهد سرجون نفسه الذي اغتيل في ميدان القتال أو بعده في عام 705ق. م، واغتيل بعده سينا خريب في المعبد بيد أحد أبنائه ومعونة صاحب الليمو عام 681ق. م، واستمرت الفتنة قائمة في آشور منذ يوم وفاته في 20 تيبتو إلى الثاني من أذارو "آذار"، ثم هدأت وأعلن آشور أخادين نفسه ملكًا في اليوم 18. وفرق آشور أخادين بين أولاده، فأوصى لأكبرهم شمشي شوموكين بحكم بابل، وأهمل الثاني، وأوصى للثالث آشور بانيبال بولاية عهد آشور. وعقد إتفاقيات متعددة مع أمراء الولايات والمدن في دولته أخذ عليهم فيها المواثيق بأسماء أربابه وأربابهم أن يظلوا مخلصين لولده هذا قلبًا وقالبًا وإلا حاق الشر بهم في الحياة وبعد الممات هم وكل أهلهم4. وليس ما يعرف إن كان قد فعل ذلك إيثارًا منه لابن زوجة على ابن زوجة أخرى،
__________
1 Luckenbill. Op. Cit. Ii, 547.
2 See, Anet, 298, 300.
3 J.B Bury, Op. Cit, 111-112.
4 D.J.Wiseman "The Vassal-Treaties Of Esarhaddon', Iraq, 1958; R. Borger, Za, 1961. 173-69; Anet, 1968, 534-41.(1/525)
أم فعله تقديرًا منه لاتساع دولته وصعوبة إشراف شخص واحد عليها. على أنه مهما يكن قصده فقد تنمو كل من الأخين المحظوظين للآخر، وانحاز إلى جانب كل منهما فريق من الأمراء والقادة، وتذبذبت عواطف الأب نفسه بين الفريقين، فبدأ باضطهاد أنصار الابن الأكبر الذين احتجوا على مضمون وصيته وأمر بسفك دماء عدد كبير منهم، ثم ... لتحريض من بقي منهم فعاد واضطهد أعوان الابن الأصغر وتغير قلبه عليه ومات وهو على هذا الإحساس نحوه، بينما ظلت أمه "زاكوتو" صاحبة الحظوة في عهد أبيه، والتي حملت في عهده لقب الملكة الوالدة، وفيه عطوفة لحفيدها الأصغر، وعندما خرج يقاتل إخوته وأعوانهم قامت على رعاية شئونه في العاصمة وأصبح كبار حكام الأقاليم يراسلونها باعتبارها الملكة الوالدة والوصية على العرش ويطمئنوها على ولدها "ويعنون حفيدها"، وينهون إليها أخبار أقاليمهم1، وعندما استتب الأمر لحفيدها ظل يتلقى نصائحها2.
ولم يكن للدولة بعد أن أضاع التنافس على السلطان صواب ملوكها، وبعد أن جرأ الابن منهم على أن يغتال أباه، وجرأ الأخ منهم على الفتك بأخيه، إلا أن تتوقع نازلة قريبة تحل بها وتهد بنيانها. ولكن وقبل أن نصل بالدولة إلى هذه النهاية، نستعرض في الصفحات التالية طرفًا مما اتصفت فبه الحياة الآشورية في فترات مجدها إبان عصرها التوسعي الحديث، من مظاهر الحضارة المادية الفنية والفكرية، إلى جانب ما استدعى السياق التاريخي تصويره متفرقًا في الصفحات السابقة من منظر المعارك وفخامة المواكب وصور استمتاع الملوك، ويلحظ القارئ أننا قد نسهب في شرح نماذج فنية عرقية بأكثر مما أسهبنا في شرح النماذج الفنية المصرية على الرغم من كثرتها، وذلك على أساس ما أصدرناه عن هذه الأخيرة من دراسات مستقلة بها.
صور من الحضارة:
ترك الآشوريون آثارًا عدة في عواصمهم الكبرى آشور ونينوى: وكالح ودورشروكين. وقامت نينوى بالقرب من الموصل الحالية، ووجدت بقايا آثارها في ربوتين رئيسيتين: ربوة قويونجيق في طرفها الشمالي الغربي وهي الأكبر، وربوة النبي يونس في طرفها الجنوبي الشرقي وهي الأصغر. وتوفرت محاجر الألباستر حولها فاستغلها المعماريون فيها في بناء وتزيين قصور ملوكهم. ولعبت المدينة دور العاصمة منذ القرن الثامن عشر ق. م وفيما يعاصر عهد حمورابي، وتجدد حظها في العصر الآشوري الحديث خلال القرن السابع ق. م وفي عهدي سينا خريب وآشور بانيبال بخاصة، حيث بلغ محيط سورها نحو عشرة أميال، وتضمن ما لا يقل عن خمس عشرة بوابة3. ولا تزال أطلال معالم مشروعات القنوات والحدائق باقية فيها من عهد سينا خريب، وقد ذكرت نصوصه أن رجاله زوعوا له فيه شجيرات ... التي سموها شجيرات الصوف.
ولم تكتشف كل ربوة قوبونجيق لاتساعها، ولكن الصورة العامة للمنطقة التي تشغلها هي قيام قصر سينا خريب في جنوبها الغربي، وقصر آشور بانيبال في شمالها، وقد اكتشف كلاهما في أوساط القرن الماضي.
__________
1 Harper, Op. Cit, No. 303.
2 Ibid. No. 324.
3 R.C. Thompson, Iraq, Vii, 1940, 91 F.(1/526)
وقدر لايارد مساحة الجدران المنقوشة المكتشفة من قصر سينا خريب حتى عام 1853 بنحو عشرة آلاف قدم وإن كان أغلبها قد تهدم في العصور القديمة، ونقل بعض ما بقي منها إلى حوزة المتحف البريطاني. وتناولت نقوشها ما يصور رحلات الصيد الملكية وحياة البلاط وتقارير تفصيلية للمنشآت المعمارية والدفاعية التي تمت في عهده وعمل فيها أسراه.
ومثل قصر آشور بانيبال في نينوى مصدرًا آخر للفن الآشوري، ولو أن ما عرف عنه على الرغم من روعته، لا يزال أقل مما عرف عن القصر الأول، ليس فقط لما أصابه من تدميرت متعاقبة، بل ولضياع كثير من نقوش جدرانه وصورها خلال عمليات نقلها في العصر الحديث؛ ولا تزال بقايا مناظر الصيد فيه تمثل ذروة ما بلغه الفن الآشوري في ميدانها.
وتخلفت فيما بين القصرين الكبيرين بنينوى بقايا معبدين للإلهين نابو وإشتار. وتحد مدخل المعبد الثاني منهما تماثيل ونقوش تصور الملك منشئ المعبد في طريقه إليه على عرش محمول فوق عجلات ويصحبه أهل بلاطه وحراسه وعدد من الموسيقيين.
وأدت كالحو، أو كالح التوراة، أو نمرود الحالية، دور العاصمة الآشورية الثانية. وهي مدينة قامت على الضفة اليسرى لدجلة، إلى الشمال الشرقي من مدينة آشور التي تقع على ضفته اليمنى، وامتد عمراتها فوق لسان خصب بين الدجلة والزاب الأكبر، ونشأت كمركز عسكري، ثم احتلت مكانتها المدنية بتشييد بعض قصور الملوك الآشوريين فيها منذ القرن الثالث عشر ق. م في عهد شلما نصر الأول، ثم زادت أهميتها في العصر الآشوري الحديث، وكشف فيها حتى الآن عن بقايا قصور الملوك الثلاثة الكبار آشور ناصر بال الثاني وشلما نصر الثالث وآشور أخادين. وهي قصور دلت على ما دلت عليه قصور نينوى، من حيث فخامة واجهاتها، وحراسة التماثيل الحيوانية البشرية الحجرية الضخمة لمداخلها "حراسة رمزية"، ومن حيث تعدد الأجنحة والقاعات فيها، وتميز القاعات الرئيسية منها وقاعات العرش بخاصة بمناظر منقوشة تسجل لقطات مختارة من حياة الملوك في الحرب والسلم مع كثير من المبالغات المعتادة، ولوحات منقوشة تنطق بمثل ذلك، كلوحة تصور خضوع ياهو الإسرائيلي أمام شلما نصر الثالث "عام 841ق. م"، وأخريات تتحدث عن حفل افتتاح قصر آشور ناصر بال في عام 879ق. م، بعد جهود طويلة ونفقات طائلة بذلت في تشييده، وأقيم بعدها حفل بلغ عدد المدعويين فيه 69574 شخصًا استضافهم الملك لعشرة أيام1، ثم من حيث قرب المعابد والمزارات والزقورات من الأحياء الملكية، وأخيرًا من حيث ما أدت المصادفات إليه من بقاء بعض التحف والطرف فيها مثل قطع العاج الثمينة المشكلة، والأواني المعدنية الفاخرة، واللوحات المسمارية ذات الصبغات الأدبية والإدارية والتنجيمية والتعليمية.
وتخير سرجون لنفسه عاصمة جديدة تقع إلى الشمال الشرقي من نينوى بنحو 16 كيلومتر، ونسبت إليه في تسميتها "دور شروكين" أي داره أو مدينته، وافتتحها قبل وفاته بنحو خمس سنين.
__________
1 Anet, 1968, 558-60.
2See, G. Loud, Khorsabad, I-Ii; Encyclopedie Photographique De I' Art, Ii, 1 F.(1/527)
ثم هجرها العمران بعده بفترة قليلة فغطاها الرديم وحمى لحسن الحظ جزءًا كبيرًا من أطلالها، واحتفظت المصادر العربية بجزء من التسمية القديمة لهذه المدينة مع قليل من التحريف حيث ذكرتها باسم "سرغون" بينما احتفظ اسمها الحالي بنطق آخر أطلقه الساسانيون عليها وهو "خسرو أباد" "أي مدينة خسرو"، مع تحريفه إلى "خور سباد" و"خور صباد" في اللغة الدارجة الحالية.
قامت هذه المدينة على خطه شبه مربعة بلغت مساحتها نحو ميل مربع، وأحاطت بها أسوار ضخمة تنفتح في واجهاتها الأربع سبعة مداخل متباعدة، وقيل إنه كان لها 150 برجًا. وشيد لسرجون فيها قصران من طابق واحد أحدهما كبير في الضلع الشمالي للمدينة والآخر صغير في ضلعها الغربي. وقام الكبير منهما فوق مسطح مرتفع يؤدي إليه طريق صاعد، وتضمن نحو مائتي قاعة بلغت أبعاد القاعات الرئيسية منها نحن 32×8 أمتار، وبلغت مساحة بهوها الكبير نحو 976 مترًا. وخدمت القاعات الصغرى منها أغراض الملحقات وأماكن الإدارية. ويذهب الظن إلى أن عددًا من حجراتها المستطيلة سقفت بعقود وأن عددًا من حجراتها المربعة سقفت بقباب. واتصلت بقصر سرجون عن طريق فنائه الواسع ستة معابد، ثلاثة كبيرة وثلاثة صغيرة، وجاورتها زقورة مشتركة بلغ طول ضلع قاعدتها 143 قدمًا، وتخلف منها ما يدل على ثلاث طبقات أو أربع، لونت كل طبقة منها بلون مختلف عن لون الأخرى، وبلغ ارتفاع كل واحدة منها ثمانية عشر قدمًا. ويحتمل أن الزقورة بنيت في أصلها مع سبع طبقات وتوجها قدس الأقداس على ارتفاع 143 قدمًا، أي بما يساوي طول ضلع القاعدة. وكان يدور حولها طريق صاعد مسور يبدأ من القاعدة حتى القمة. وأقيم أكبر المعابد الستة، وهو معبد نابو، فوق مسطح مرتفع يؤدي إليه طريق صاعد، وتقدمت بوابته الداخلية صوار مصفحة بالبرونز تعلوها رموز مقدسة، وكسيت جوانبها بقراميد من القاشاني الملون "أو الطوب المزجج" المزخرف، تصور حيوانات وطيور وأشجار، وقامت في واجهة المعبد أساطين نصفية.
واستخدم المعماريون في عمائر سرجون الأحجار بكثرة في الأساسات وقواعد الأساطين وتيجانها وأعتاب الأبواب الرئيسية، وفي رصف الأرضيات وحشو شرفات القصر، وتكسيه أسافل الجدران الكبيرة. بينما استخدموا قوالب اللبن في بناء بقية الجدران، واستخدموا الآجر في بناء الأقبية والعقود المدببة وما يشبهها، واستفادوا في تنفيذ مبانيهم وزخارفها من أساليب المباني الحيثية القديمة والمباني السورية المجاورة لأرضهم. وهكذا كسيت الجوانب الداخلية لمداخل الحصن والقصر الرئيسية بالجص حتى ارتفاع يصل إلى ما بين الخمسة والستة أقادم، وكسيت أكتافها بلوحات حجرية امتدت نحو 14 قدمًا طولًا وارتفعت نحو 13 قدمًا، ونقشت بصور مجسمة شديدة البروز لكائنات حارسة. وكسيت جوانب فناء القصر الرئيسي وجدران قاعاته الرئيسية بلوحات حجرية أيضًا نقشت بحوليات سرجون وصوره متبوعًا برجال حاشيته، في أحجام كبيرة يزيد بعضها عن الحجم الطبيعي لقامة الإنسان، بينما نقشت لوحات الممر المؤدي إلى قاعة العرش بصور كائنات حارسة. ولعل الآشوريون قد اقتبسوا أسلوب الكساء الحجري في أول الأمر من مباني الحيثيين في بوغازكوي من مباني شمال سوريا في مثل ألالاخ وتل العطشانة الحالية.(1/528)
وتميزت عمارة القصر الصغير ببناء صفة ذات أساطين تعقب المدخل وتقوم أساطينها الخشبية المرتفعة فوق قواعد حجرية شكلت بعض وجوهها على هيئات الأسود، وشكل بعضها الآخر بما يشبه هيئة الآنية "المصمتة" المزخرفة المنبعجة الجوانب. وكان الآشوريون قد استعاروا أسلوب الصفة وأساطينها ذات القواعد المشكلة من مباني جيرانهم الغربيين واحتفظوا لها باسمها الشائع في شمال سوريا، وهو "بيت خيلاني" ويبدو أن الصفة السورية كانت مجرد تقليد لأصل حيثي، بحيث رأى بعض الآثاريين أن الصفة الآشورية كانت أقرب إلى الأصل الحيثي منها إلى التقليد السوري، وأنها استخدمت كالصفة الحيثية جزءًا من بهو المدخل، بينما كانت تعتبر في سوريا بناية مستقلة بذاتها1.
عبر الفن التسجيلي الآشوري عن وجوه عدة من الحياة الحربية والاجتماعية والدينية في عصره، فضلًا عن دلالته الذاتية عن تطور الأساليب والمهارات الفنية عند أصحابه. ووجد هذا الفن مجالاته الرحبة على السطوح المعتادة القديمة مثل سطوح النصب، والجدران المكسورة بالخزف، والأخشاب المصفحة برقائق معدنية، وعلى الأختام وقواعد التماثيل والعروش، فضلًا عن سطوح جديدة على أعمدة تشبه هيئة المسلات وعلى الأفاريز الحجرية لجدران القصور والمعابد وكانت ترتفع إلى نحو سبعة أقدام. وظل هدف الفن على هذه السطوح كلها أكثر احتفالًا بإشباع شهوة الغلبة وحب الزهو والتعاظم عند الملوك، فصورهم يقودون الجيوش ويتقبلون خضوع زعماء خصومهم ويفتكون ببعضهم أو يشهدون التمثيل بهم. وصور ربهم آشور يشاركهم القتال ويصوب سهامه من قرصه المجنح. وصور المشاة والخيالة وفرسان العربات ذات العجلات الغليظة التي يستقلها اثنان أو ثلاثة "ويصحب الملك فيه عادة سائق وتابع مسلح" وصور تحركات الجيوش في ساعات الكر والفر وعمليات مهاجمة الأسوار بالمدببات والسهام والفئوس والعمد الطويلة. وصور هدم المدن وتحريقها، وراحة الجنود في معسكراتهم. كما صور ذلة الأسارة وتهجير المدنيين. وحرص على أن يجعل النصر من نصيب الآشوريون دائمًا، شأنه في ذلك شن كل فن تسجيلي قديم بالنسبة لأهله، وترتب على ذلك أن أصبحت أغلب لوحاته لا تخلو من رتابة ومناظر معادة، زادها افتعالًا مبالغة أغلب الفنانيين في تنميق زخارف السطوح والثياب والشعور واللحى، والمبالغة في إظهار عضلات الشخصيات الرئيسية وهم الملوك في أغلب الأحوال، ثم إخضاع بعض الكائنات الطبيعية لعناصر زخرفية مفتعلة، وعدم مراعاة التناسب أحيانًا بين المكان وشاغليه، سواء في الارتفاع أم في المساحة. ولم يخفف من ثقل هذه الظواهر غير نجاح بعض أولئك الفنانين في إظهار حيوية تحركات الأفراد ولفتاتهم، والتمييز بين ملابس طبقة وأخرى، والتمييز بين ملابس الآشوريين وبين ملابس أعدائهم، والتعبير عن البيئة الطبيعية
__________
1 عن احتمال اشتقاق كلمة خيلاني "أو هيلاني" من أصل حيثي بمعنى المدخل أو البوابة:
See, Frankfort. Op. Cit, 167 And Notes.(1/529)
بما يناسبها، كمنحدرات الجبال وحدود الجزر وأحراج البوص عند مصبات الأنهار، ثم إظهار طابع الطراوة في صور الولدان الخواص من خدم القصر بحيث تراهم في هيئات تشبه الإناث أو الأغوات وقد يرجع ذلك إلى كثرة الولدان الأجانب والمولدين من جواري أرمينيا وإيران وآسيا الصغرى في بلاطات الملوك وقصور السراة.
وعلى نحو ما سجل الفنانون لحظات انتصار ملوكهم، صوروا لحظات صيدهم للأسود والثيران الوحشية. وكان الجنود يحيطون عادة بساحة الصيد الملكية ويؤلفون سورًا حولها بتروسهم الكبيرة، وربما صادوا الأسود من أجماتها، واحتجزوها في أقفاص كبيرة استعدادًا لإطلاقها حين يحين وقت الصيد الملكي وحينئذ كان يعلو قفص الأسد قفص آخر يحتمي فيه حارسه حين يرفع الباب إلى أعلى لإطلاق الأسد من أسره1. وكان الملك يصيد راجلًا وعلى عربته وفوق صهوة جواده، ويكسو ذراعيه وساقيه بجلد سميك ذي شرائط ليتقي به تأثير مخالب الوحوش، أو يصحبه حراسه ليشاركوه الصيد ويناولوه السهام ويجهزوا على الوحوش الجريحة ويدافعوا عنه حين المفاجأة. وقد يسرف الفنان فيصور ملكه يرفع أسدًا صحراويًّا من ذيله، أو يصوره وقد تجمعت أمامه جثث عدد كبير من السباع وهو يطؤها بقدمه ويسكب عليها ماء مقدسًا ليقدمها قربانًا لإشتار ربة الحرب وسط تراتيل الكهان والحراس وأنغام الموسيقى الوترية. ولم يخفف من غلواء الفنانين في تصوير شجاعة ملوكهم إلا البراعة الفائقة من كبارهم في تصوير خصائص الحيوان ومظاهر اندفاعه وغضبه، وتهالكه وألمه، وبلغوا من ذلك حدًّا لم يبلغوه في تصوير الإنسان. وقد وفق فنان عهد آشور بانيبال التوفيق كله في تصوير الحيوانات الجريحة كتصوير لبوءة أدمتها السهام فانطلقت تزأر في ألم ممض وتجر مؤخرتها العاجزة وهي تقاوم نزعها الأخير2، وتصوير أسد هائل تقوقع على نفسه رافعًا كتفيه متحاملًا بأربعته على الأرض بكل قوته ليقاوم السقوط وهو ينزف دماءه بغزارة من فمه3، وآخر تدلى لسانه وبرزت أنيابه وتحجرت مآقيه بعد أن لقي حتفه4.
وعبرت المناظر عن الحياة المدنية للملوك، ولكنها صبغتها بصبغة رسمية غالبة، ومن أشهر صورها مناظر آشور ناصربال في كالح في مجالس قصره وفي أعقاب حفلات صيده، يستمتع بالشراب والموسيقى، أو يصب الماء من كأسه على صيده ليقدمه قربانًا لربه5. ثم مناظر سرجون مع رجال حاشيته عند استقبال مقدمي الهدايا إليه6، على جوانب أفنية قصره والردهة المؤدية إلى قاعة عرشه. وزيارة
__________
1 Frankfort, Op. Cit, Pl. 108' B.
2 Ibid.. Pl. 111 A.
3 Ibid. Pl. 111 B.
4 Ibid. Pl. 110.
5 W. Budge, Assyrian Sculputures In The British Muscum, Pls. Xix A-B, Xxxi; Compare Aslo B. Prithard, The Ancient Near East, Fig 156.
6 Frankfort, Op. Cit, Pls. 96, 97.(1/530)
شلما نصر الثالث لمنابع دجلة ودعواته أمام ربها1، وخروج سينا خريب في موكب النصر في عربة مدنية تعلوها مظلة مرتفعة تشبهها مظلات العربات الهندية2.
أما عن الحياة الداخلية الخاصة للملوك، فلعل أشهر مناظرها القليلة الباقية هي صور آشور ناصربال في مناسبات شرابه. وصورة آشور بانيبال وقد تخفف من ثيابه التقليدية واستلقى على سرير مرتفع تحت كرمة أو خميلة، ودلى قلادته من طرف سريره، ووضع سيفه على منضدة تجاوره، وجلست أمامه زوجة بدينة ثقيلة تشاركه الشراب، وأحاط بهما الأتباع والعازفون وخدم المائدة، وتدلت في الوقت نفسه رأس عدوه الألد ملك عيلام من شجرة مرتفعة غير مثمرة3.
وليس من نقوش متميزة يستشهد بها في تصوير حياة الأفراد، وقد يرجع ذلك إلى طغيان شخصيات الملوك وتغطيتها على من سواها، أو يرجع إلى قلة احتفال الأفراد أنفسهم بمقابرهم ومناظرها كما حفل المصريون. غير أن المناظر الملكية تجاوزت في بعض المرات حدود الحياة الملكية إلى تصوير حياة الأتباع، فصورت على سبيل المثال فترات الراحة للجنود، ومن هذا القبيل لقطات من معسكر آشور ناصربال صورت مطابخ الجيش ورجاله، وحظائر الخيول وسياسها، وعمليات إقامة السرادقات وإعدادها لسكنى الضباط4، ومنظر لركن من أركان معسكر آشور بانيبال بعد انتصاره على مدينة هامان، وقد وقف على باب المعسكر جندي مسلح جلست أمامه امرأة تمازحه، وجلس الجنود في الداخل يعبون من الكاسات ويصطلون5. وصورت بعض المناظر جوانب من حياة الطبقة الكادحة -عرضًا- كتصوير عمال يشدون خلفهم عربات كبيرة محملة بجذوع أشجار ضخمة، بحبال تنساق فوق أكتافهم كالدواب6.
وظل النقش المسطح المنخفض قليل الروز، أكثر شيوعًا مما سواه. وظل التصوير يؤثر طابع الضخامة والامتلاء بالنسبة للشخصيات الكبيرة، وطابع الرهبة بالنسبة للشخصيات الخرافية. وتقيدت أغلب المناظر بالتقاليد القديمة المألوفة، مثل تقسيم المسطحات إلى صفين أو ثلاثة صفوف، وانتهاء كل موضوع بنهاية صفه، واستقرار الأشخاص فوق خطوط الوقف، وشغل الفراغات بمفردات مناظر ليس من الضروري أن يتوافر الترابط بينهما دائمًا. ولكن شذت عن هذه التقاليد بضع لوحات كبيرة وصغيرة، تجاوز الفنانون في بعضها حدود الخطوط، ورابطوا بين مناظر الصفوف المتعاقبة، ثم تخلوا في بعض آخر عن فكرة الصفوف تمامًا ونجحوا في استخدام المسطح كله لتصوير مراحل متتابعة مترابطة من موضوع واحد، وهو موضوع الحرب في أغلب الأحوال، ويذكر من النماذج الناجحة لهذه الاتجاهات اتصال المناظر لكل صف على الوجوه الأربعة لمسلة آشور ناصربال بحيث ظهرت خلفية الخيول التي تجر العربة الملكية
__________
1 L. W. King. The Bronze Reliefs From The Gates Of Shalmaneser Iii, Pl. 59.
2 Frankfort, Op. Cit Pl. 89.
3 Ibid, Pl. 114 B; Pritchard, Op. Cit,Fig. 122.
4 جون هامرتون: تاريخ العالم – معرب بالقاهرة- ج2 – شكل بصفحة 255
5 Frankfort. Op. Cit., I, 107.
6 جون هامرتون: المرجع السابق: - شكل بصفحة 243.(1/531)
على وجه وظهرت بقية العربة وتوابعها في موازاة السطر نفسه على وجه آخر1. ثم تصوير قطعان الظباء والحمر الوحشية والخيول البرية وكلاب الصيد، تصوير من شاهدها ودرس خصائصها في أحوال أمنها وساعات فزعها، طليقة لا تتقيد صورها بخطوط الوقف ولا بالأرضية المستقيمة، مما سمح بإظهار العمق في مناظرها2. واتصال موضوع واحد على ثلاثة صفوف في مناظر الحرب الآشورية العربية، وهي مناظر تموج بالحركة والكر والفر والسرعة، يقاتل الآشوريون فيها بالحراب والسهام، مشاة وفي العربات وعلى صهوات الخيول، ويقاتل الأعراب فيها مشاة وعلى ظهور النجائب، يمتطي كل اثنين بعيرًا، أحدهما يسوقه بعصاه والآخر يرمي عن سوقه أمامًا وخلفًا، وتجري النجائب بسرعة عجيبة لتنقذ راكبها وتنجو بنفسها، حتى لتكاد تقفز أو تطير ... 3. ثم حرية المناظر في لوحات الحروب الآشورية العيلامية مما بسطناه في سياق حديثنا عن الحرب ذاتها. ويماثلها إلى حد ما منظر مهاجمة لاشيش في عهد سينا خريب ص532.
وتهيأت المواد الأولية لفن النحت في آشور أكثر مما تهيأت في بابل؛ لقربها من مناطق الجبال وقرب محاجر الألباستر من عاصمتها نينوى، ولاتساع أملاكها الخارجية الغنية بالأحجار والمعادن الصالحة للنحت والتشكيل، لولا أنه لم يبق من التماثيل الآشورية غير قلة لا تتفق مع إمكانيات عصرها. انحصرت نماذجها الناجحة في تماثيل الملوك والأرباب أكثر من تماثيل الأفراد، ولسنا ندري مرة أخرى إن كانت هذه الظاهرة قد ترتبت على محض المصادفة، أم ترتبت على انعدام شخصية الفرد أمام جبروت الملوك. ويستشهد من التماثيل الناجحة للملوك بتمثال حجري صغير لآشور ناصربال يبلغ ارتفاع نحو المتر ولا يخلو من التأثر بالسلوب البابلي، يمثله واقفًا في هيئة رسمية في سن الرجولة بشارب متدلٍ وشعر مرسل طويل ولحية ضخمة مزجلة مستعارة. ولا تخلو جزئيات هذا التمثال من عيوب، كضيق الجبهة، وتحديق العينين، ورقة الشفتين، وفرطحة القدمين، والافتعال في تمثيل اللحية المرجلة، وخشونة الظهر، ولكنه على الرغم ذلك مقبول في مجمله لا سيما ببدنه الملفوف، وانحدار كتفيه، وامتلاء ذراعه العارية، مع نحافة خصره تحت من تأثير ربطة الزنار، والحزور الزخرفية التي تزين ثوبه، وقد شكلت الشارتان اللتان يمسكهما في يدين بالنقش البارز في جسم تمثاله4 ونقشت بضعة سطور على صدره تشيد باتباع ملكه. وعثر عليه في مشكاة بمعبد نينورتا بعاصمته كالح، باعتباره باني المعبد ليستفيد عن طريق تمثاله بما يقدم إلى أرباب المعبد من صلوات ودعوات وقرابين. وتمثال صغير من الكهرمان كان جزءًا من حلية كبيرة، لملك آشوري
__________
ـــــــ
1 E. Unger,,, Der Obelisk Des Konigs Assurnasirpal Aus Nineveh', Mitt. Der Altorientalishen Gesell, Vi, 1932; And See, Landsberger, Sam'aal, Ankara, 1948, 24.
ويردها الأول إلى القرن الحادي عشر ق. م بينما يردها الثاني إلى القرن التاسع ق. م
2 Frankfort Op. Cit. Pls. 112-113, 194 B.
3 Ibid, Pl. 102 B.
4 W. Budge, Assyrian Sculptures In The British Museum. Pl. 1.(1/532)
غير معروف، تضمن مزايا التمثال السابق دون عيوبه، وزاد عليها سماحة مظهره، وسلامة تكوين العينين، وصدق تمثيل الشفتين، وطرافة تشكيل الشارب مبروم الطرفين، وانعقاد يديه على صدره، وتحلية صديريته الطويلة بزخارف نباتية لطيفة1. ثم تمثال صغير للمعبود نابو، من أواخر القرن التاسع ق. م، يمثله بجسد ملفوف ذي خطوط بسيطة، وشعر كث مرسل ولحية طويلة وشارب بسيط متدل، وتاج ذي قرون، ووجه لا يخلو من سماحة يزكيها عقد يديه أسفل صدره وتشابك كفيه في ليونة لطيفة2.
وجمعت بين النقش والنحت نقوش شديدة البروز أجيد تفريغ خلفياتها فبدت على هيئة التماثيل الناتئة من جدرانها، وتجلت نماذجها الكبيرة على أفاريز حجرية رجصية كست جوانب مداخل قصر آشور ناصربال، ومعبد نينورتا في كالح، وجوانب مداخل قصر سرجون ومدخل قاعة عرشه في خور سباد. وتراوحت ارتفاعاتها بين الثلاثة وبين الأربعة أمتار، وتجسمت مفرداتها على هيئة كائنات حارسة ذات هيئات بشرية مجنحة، وأخرى ذات هيئات بشرية خالصة، وثيران وأسود مجنحة برءوس بشرية ضخمة متوجة لم ينس الفنانون تفاصيلها الصغيرة حتى الأقراط المتدلية من الآذان. ولعب الخيال الفني والأسطوري دوره في تمثيل بعض هذه الكائنات الضخمة ذات الأجسام الحيوانية والرءوس البشرية بخمس سيقان، اثنتين أماميتين ضخمتين متجاورتين توحيان بطابع الثبات والاستقرار لمن يشاهدهما من الجانب، وتنسجمان مع امتلاء صدر حيوانهما وفخامة رأسه البشرية، ثم ثلاث سيقان أخريات ذوات حجم طبيعي تنسجم مع جسم الحيوان، وتتقدم إحداها الأخرى بحيث توحي في مجموعها بهيئة المشي لمن يشاهدها من الجانب.
وامتازت رءوس الكائنات عند مدخل قاعة عرش سرجون بتصويرها من الأمام والتفاتها ناحية الداخلين لتملأهم روعة ورهبة. وسمحت سطوحها المجسمة المتسعة بإظهار تفاصيل تكوين الجسم البشري لا سيما صفحات الوجوه وعضلات الذراعين والساقين، وتفاصيل الثياب والأجنحة، في أناة مستحبة غطت على عيوب طابع المبالغة في تمثيل اللحى الكثة والشعور الطويلة. واستغلت أرضياتها لنقش نصوص تمجد ملك عصرها3، وهكذا جمعت بين أغراض النقش والنحت والزخرف والتسجيل والرمز بالحماية المقدسة، كما جمعت بين الأسلوب الواقعي والتخيل الأسطوري، وجمعت بين الجمود وبين مظاهر الحركة والحيل الفنية.
وأدى فن الرسم الملون دوره، وبقيت منه نماذج قليلة ولكنها متقنة تشهد بتجارب طويلة سابقة، وأشهرها هي رسوم قاعة عرش سرجون والبهو المؤدي إليها؛ وتتألف من شرائط أفقية عريضة، تتكرر في كل شريط منها وحدتان زخرفيتان، إحداهما لحيوان أو كائن خرافي مقدس، والأخرى لزهرة كبيرة أو تخطيط هندسي لطيف، وتفصل بين كل شريط وآخر خطوط متجانسة، ويعلوها كلها ويتوسط اتساعها محراب مزخرف تظهر صورة الملك فيه وهو يحيي تمثال معبوده4.
__________
1 Frankfort, Op. Cit. Pls. 80-81. - وارتفاعه 24 سم ويوجد في متحف بوستن.
2 ديلابورت: بلاد ما بين النهرين - شكل 46
3 W.Budge, Op.Cit., Pls. Iv-Vi; G. Loud, Khorsabad, I, Fig 56; Ii, Pl. 46 A.
4 Ibid, Ii, Pls, 88-89; See Also, Layard, Monuments Of Nineveh, I, Pls. 86-87; Iraq Xii, 1950 Pl. Xxx; F. Thureau-Dangin,..Tell Barsip.54.(1/533)
وواصلت الفنون الصغرى، أو الفنون التطبيقية، طريقها في زخارف النسيج ونقوش الأختام ونقوش الأواني والكئوس وزخارف، فضلًا عن تشكيل القوائم المعدنية للمشاعل وموائد القربان، وتطعيم وتكفيت اللوحات الخشبية والمرمرية وقطع الأثاث الفاخر. وعبرت وحدات هذه الفنون عن الأذواق الآشورية المعاصرة لها وانتفعت في ذلك بتراث عصرها الوسيط، ولكنها استفادت في الوقت نفسه من محصول الإمبراطورية الواسعة، فظهرت فيها تأثيرات بابلية وحيثية وسورية ومصرية، بل وتأثيرات من أرمينيا، وما حولها أيضًا1.
وبلغت زخارف النسيج الآشورية مبلغًا كبيرًا من الرقة والتنوع في ملابس الملوك الخاصة، واعتمد أغلبها على زخارف نباتية اصطلاحية شاعت فيها صورة الشجرة المقدسة أو شجرة الحياة؛ ومناظر أسطورية لكائنات مجنحة خيرة وعاتية، وحيوانات أليفة وضارية2؛ وتخطيطات هندسية لطيفة تكاد تعتبر الأصل البعيد لتعاشيق الأرابيسك الإسلامية3. ومن أمتع ما يقرن بزخارف الملابس، تنوع هيئات أغطية الرءوس في المناظر الآشورية، فمنها قلانس تشبه الطاقية، وأخرى تشبه القاووق والطرطور والأسطوانة المرتفعة؛ وغيرها تشبه طربوشًا بلون واحد أو لونين قد يكون مرتفعًا يعلوه ما يشبه القمع المقلوب؛ وقد تتدلى منه عدبة طويلة تصل إلى ما تحت الكتفين، وذلك فضلًا عن التيجان المقدسة ذات الزوجين أو الثلاثة أزواج من القرون. وتنوعت طرز النعال أيضًا؛ فمنها ما يشبه الخف الصوفي؛ ومنها الطويل الذي يشبه ما يسمى الآن التوزلك أو البوت؛ ومنها الصندل العادي ذو الأشرطة؛ ومنها أشكال أخرى لا تحضرنا مرادفات أسمائها في اللغة العربية.
وشكلت زخارف بعض اللوحات المرمرية، في قصر سرجون بخورسباد وقصر سينا خريب في قويونجيق بنينوى، بوحدات تشبه وحدات زخارف السجاد الشرقي المألوفة4، وقد تكون أصلًا لها أو تكون مشتقة من زخارف بسط فرشت بها أرضيات القصور الآشورية فعلًا.
وانتفعت نقوش الأختام الأسطوانية والمسطحة من تراث العصر الآشوري الوسيط؛ وأحيت معه عناصر بابلية قديمة؛ واستعارت كذلك بعض الأساليب الحيثية القديمة؛ وامتازت النقوش الجيدة منها بوضوح مناظرها واستقلال مفرداتها وحيوية تفاصيلها النباتية والحيوانية، مثل حراشيف النخيل وسعفه وريش الأجنحة وزخارف الملابس؛ واستطاعت أن تعبر بوضوح عن مضمون بعض الأساطير وبعض مناظر الصيد والتعبد وتقديم القرابين.
ونهل الفنانون الآشوريون من فنون سوريا الخاضعة لهم، واتخذوها معبرًا لهم إلى اقتباس فنون الترف المصرية الخالصة، والمحورة منها بالطابع السوري. وكان أمتع هذه الفنون بالنسبة لهم هو تطعيم لوحات
__________
1 See, Frankfort, Op. Cit., 101f. An Eferences..
2 W. Budge, Op. Cit., Pis. Xlix-Liii..
3 Ibid., Pl. Liii, 36..
4 Perrot Et Chipiez, Histoire De L'art, Ii, Fig. 96..(1/534)
العاج وجوانب الصناديق الفاخرة وتكفيت الصحاف والأواني المعدنية وزخارف المقابض العاجية للمراوح الفاخرة والمرايا المعدنية. واحتفظت أطلال قصورهم بقطع عاجية مطعمة بهيئات كائنات حيوانية زخرفية مجنحة لها رءوس الكباش، ولها أمثالها في الفن الشامي، ومنها مقبض عاجي شكل على هيئة شيخ كنعاني1، ورءوس نسوية جمعت بين الطابع السوري الشمالي والطابع الحيثي المستحدث2. واحتفظت أطلال قصور الولاة الآشوريين في أرسلان تاش بتحف بارعة أخرى عبرت بزخارفها وموضوعات نقوشها عن بضعة أساليب وأساطير مصرية خليطة مقتبسة3.
وتضمنت قصور كالح وخورسباد نماذج رائعة للفن المصري السوري المقتبس، منها قطعة عاجية تمثل أنثى ذات وجه مصري نحيف طيب سمح تطل من نافذة أو كوة، هي فيما يغلب على الظن حتحور المصرية التي شبهها السوريون بعشتار، وسمتها كتب الفن الحديث "عشتار في النافذة" و"موناليزا العالم القديم"4.
ثم عدد من تماثيل أبو الهول الصغيرة ذات الوجوه المصرية الصميمة. وقطعة عاجية زخرفت بورقيات البردي المصرية وزهور اللوتس وبراعمه المحورة، وتداخلت فيها صور حيوانات سورية مجنحة. وقطعة عاجية أيضًا لصندوق ظهرت عليها صور عازفات ذوات ملامح مصرية وثياب سورية يعزفن على الناي والدف والوتر في حيوية دافقة. ومقبض مروحة شكلت وجوهه الأربعة على هيئة نوبيين بملابس مصرية تعلوهم زهور اللوتس المحورة. ومقبض مرآة على هيئة أنثى تجمع بين الهيئة المصرية والملامح السورية. وصحاف نقشت حوافها العريضة بمناظر صيد مصرية رقيقة قليلة الحشو قليلة التكلف في صور الحيوان والطير والإنسان. وأخرى زخرفت من داخلها بدوائر لولبية متعاقبة حول محور نباتي صغير أحاطت بها زخرفة إنشائية كبيرة تألفت من تكرار صور حيوانين خرافيين متقابلين ذوي طابع مصري يتوج رأس كل منهما التاج المصري المزدوج، وحددت قعري الدائرة أعمدة مصرية شكلت تيجانها على هيئة الجعل المصري المجنح. وتكررت الأعمدة بأحجام صغيرة بين كل حيوانين متقابلين وحف بهما شخصان يتعبدان5.
في الأدب:
كان حظ الآشوريين من الخلق الأدبي نصيبًا يسيرًا نسبيًّا، فعاشوا في آداب العصور التي سبقتهم، ولكن قامت لهم مأثرة عليها، وهي تجديدهم لأغلب لوحاتها وحفظهم إياها ونشرهم لها مع بعض التحوير والإضافة أحيانًا، لا سيما منذ أن أنشأ ملكهم سرجون مكتبته في نينوى، وزاد هذه المكتبة وأسس أمثالها أولاده وحفدته، وكان أكثرهم احتفاء بالثقافات القديمة وجمعها في مكتباته هو أشور بانيبال الذي أرسل
__________
1 Thureau-Dangin, Arsian-Tash, 1931, Pls. 19, 29, 33: Frankfort, Op. Cit., Ol. 168 C-D..
2 Ibid., Pl. 167 D-F..
3 Ibid., Pls. 168 A-B, 169 A-B; Thureau-Dangin, Op. Cit..
4 G. Loud, Op. Cit., Pl. 51..
5 Ibid., Pls. 166 B, 167 A-C, 170 A-C, 171, 172 B, 173 B..(1/535)
رقاعًا إلى ولاته على الأقاليم يأمرهم فيها بالتحري عن الألواح المسمارية القديمة حيثما وجدوها ويقول لكل منهم فيها "لا يجوز لأي إنسان أن يمنع شيئًا من الألواح عنك، وإذا عثرت على أيه لوحة أو رقية لم أعينها لم وتجد فيها صلاحية لقصرنا استول عليها وأرسلها إليَّ". وعثر في أطلال قصره بنينوى على لوحات كثيرة زادت من معرفة الباحثين المحدثين بالآداب القديمة. ولم تكن كل هذه الألواح أدبًا خالصًا ولا علمًا خالصًا وإنما تعلق أغلبها بالعبادات والتمائم والتعاويذ. ووجدت رسالة من هذا الملك إلى واليه في بابل يأمره فيها بأن يبحث جادًا عن لوحات تعاويذ الأنهار والشهور ورقي الوسائد الملكية وتقاويم الأيام ومراسيم رفع الأيدي ومجموعة الكروب ومجموعة سمع أنها معنونة بعنوان "لا تدع السوء يمس الذاهب إلى المزارع أو الداخل إلى القصر"، ثم أمره إلى جانب ذلك بأن يضم أشخاصًا معينين إلى معيته بعد أن سمع عن حيازتهم للوحات ثمينة قديمة1. واتخذت ألواح أخرى صبغة عملية وعلمية، فكان منها ما تحدث عن مركبات الزجاج وأطلية الخزف. ووجدت منها جداول تتضمن بضع مئات من أسماء النباتات تداخل بعضها في بعض، وعبر بعضها عن خصائص نباته وثماره واستعماله، مثل نبات القتب الذي أسموه نبات الغزل ونبات الهموم نظرًا لمفعوله المخدر الذي ينسي الهموم. وتضمنت الألواح تفاصيل عقاقير نباتية رتب كل منها باسم النبات ونوع المرض الذي يعالجه ثم طريقة تعاطيه، فكان منها ما يقول: "العرقسوس لعلاج السعال، يدق ويشرب مختمرًا". "والصبر، دواء للصفراء، يدق ويشرب"2. وكان في اطلاع بعض الملوك الآشوريين، لا سيما الملكيين آشور أخادين وآشور بانيبال على أشباه هذه العقاقير والوصفات ما جعلهم يبدون اهتمامًا كبيرًا بنشاط أطبائهم ويرسلونهم خصيصًا لعلاج أصدقائهم ثم يتلقون منهم تقارير عنهم وعن علاج ذوي قرباهم بخاصة3. وكثيرًا ما اختتمت نصوص الألواح بتحذير القارئ من سرقتها أو كسر طابع مكتبتها الخاصة أو العامة، وإلا تعرض لنقمة الآلهة.
وانتفع الكتبة الآشوريون بأساليب المعاجم القديمة في بابل، وزادوا مفرداتها ومترادفاتها الأجنبية نتيجة لاتساع صلات دولتهم بجيرانها، وضمنوها مفردات خاتية وكاسية ومصرية ... ، وبعد أن كانوا يؤرخون نصوصهم في عصرهم الآشوري الوسيط بأسماء الشهور: كيناته، وسين، وألاناتو، وشاساراته، وما يشبهها من أسماء غريبة، أصبحوا يذكرون شهورهم في عصرهم الحديث بأسماء: آبو، وتشرين، وتموز، ونيسانو، وأدارو، وأولولو، وهي نفس الأسماء المعروفة للشهور الأرامية الباقية حتى الآن، مع تغييرات طفيفة.
__________
1 Ee, G. Contenau, Op. Cit., 315 F.
2 See. R. Campell Thompson, The Assyrian Herbal, 1924; On The Chemistry Of The Ancient Assyrians, 1925.
3 R.H. Pfeiffer. State Letters Of Assyriaa, 1935, Nos. 285, 288, 294, 295, Etc..; G Contenau, Op. Cit., 187 F.(1/536)
ولم يخل الأدب الآشوري الخالص من مزايا خفيفة في تقاريره وأقاصيصه الحربية بخاصة، فوصف كاتب مدينة السامرة في حوليات العام الثامن لفاتحها سرجون الآشوري، قائلًا على لسانه: "لقد كانت قمة عظيمة ترتفع مثل سن الرمح وتسمو فوق الجبال حتى لكأنها رأس تعتمد السماء عليه، ولها جذور تمتد حتى تصل إلى قلب الجحيم. وكانت من خارجها كالسلسلة الفقرية للسمكة لا تسمح لأحد بالنفاذ منها". ولم يقصد كاتب سرجون بذلك أن يشيد بالمدينة، ولكنه ابتغى أن يشيد بمجهوده في تحطيمها على الرغم من حصانتها؛ إذ أتبع ذلك بوصف مسالكها الوعرة ثم عقب بخططه الحربية في تذليلها بفضل سعة أفقه وما أوحى أربابه به إليه. وعلى الرغم مما حفل به هذا الأدب الحربي من مبالغات وادعاءات ظل ذا قيمة لا تنكر في احتفاظه بأخبار شعوب قديمة لم تترك وثائق مكتوبة تنم عن تاريخها، مثل القبائل العربية الشمالية والقبائل الجبلية الشمالية، وإن كان قد صور أخبارها من وجهة نظره الخاصة.
ولعبت العرافة دورها في حياة الآشوريين، وتقبلها ملوكهم قبول حسن، وتكفل بها كهنة وكاهنات كان من أنشطهم كهنة المعبود آشور وكاهنات المعبودة إشتار ... ، ويبدو أنهم كانوا ينطقون بتنبوءاتهم وهم في غيبوبة أو حالة انجذاب فتؤخذ على أنها صادرة من روح المعبود عن طريق وساطتهم، ثم يدونها كتبتهم ويرسلونها إلى القصر إذا كانت تتعلق بشخص الملك ومشروعاته. ومن طريف ما تلقاه آشور أخادين من كاهنة إشتار أنها بعد أن وعدته النصر على أعدائه توقعت ... في تصديق نبوءتها، فقالت له "ماذا في قولي الذي تحدثت به إليك لا تستطيع أن تعتمد عليه ... ؟ وقالت له كاهنة أخرى من أبلا تدعى "بعلة أبيشا" على لسان ربتها إشتار: ".... لِمَ لَمْ تصدق النبوءة السابقة التي تحدثت بها إليك؟ صدق هذه، وادعني يوم اشتداد العاصفة ... ، واشكرني ... ".... حروب آشور بانيبال مع إخوته وفي أنحاء مملكته مجالًا خصبًا لتنبوءات العرافين وأمنيات المتزلفين، فأرسل إليه رجل يذكره برؤيا رآها جده ووعده آشور النصر خلالها، ... ثم دعا له بأن يفتح أقطارًا لم يفتحها أبوه ... ، وأرسل إليه يخبره بأنه رآه في منامه ورأى معه الربة إشتار ودار بينه وبينهما حديث انتهى بطبيعة الحال بتأكيد رعاية الربة له وتأييدها إياه1.
هذا عن أدوار المجد الآشوري، أما عن مرحلة انهياره، فهذه نتناولها في صفحات تالية مع مسبباتها المباشرة.
__________
1 See, R. H. Pfeiffer, “Akkadian Oracles And Prophstes”, Anet, 449-451; A. Goetze, Old Babylonian Omen Texts, 1947.(1/537)
الفصل العشرون: بابل الكلدانية أو العصر البابلي الأخير "626-539 _25d9_2582._25d9_2585"
تمهيد: عودة إلى الآراميين في بابل والعلاقات مع آشور
...
الفصل العشرون: بابل الكلدانية أو العصر البابلي الأخير "626-539ق. م"
تمهيد- عودة إلى الآراميين في بابل والعلاقات مع آشور:
كان الكلدانيون "أو قبائل كالدو" فرعًا من الأراميين الذين مر بنا أنهم جعلوا ضفاف العراق قبلتهم منذ القرن الرابع عشر ق. م أو نحوه. وأحست بابل بخطورتهم على اقتصادياتها منذ القرن الثالث عشر ق. م، حين كتب كل من الملك البابلي كادشمان إيلليل والملك الحيثي خاتوسيل إلى زميله، بتعكيرهم صفو الأمن على الطرق التجارية الواصلة بين الدولتين1. وتسلل الأراميون إلى أرض بابل في أواخر عصرها الكاسي، وعند سقوطه، وشجعهم انتشار بني عمومتهم حول نهري الفرات والخابور، وظهور إماراتهم العديد فيما يجاور آشور وتضييقهم عليها في أواخر عصرها الوسيط. ثم تجدد نشاطهم في دولة بابل في أواخر عصر أسرتها الرابعة، وبلغوا غايتهم منها حين اغتصب زعيمهم أداد أبالدين عرشها في عام 1083ق. م. واحتفظ به زهاء عشرين عامًا، وهادن ملك آشور "آشور بعل كالا" وزوجه ابنته وأهداها بائنة كبيرة. ومن البدهي أنه الآراميين مكانتهم في الدولة، فزاد تدفق قبائلهم على أرضها، وسادوا "دور كوريجالزو" قرب بغداد، وانتشرت بعض قبائلهم القوية على الشواطئ الشرقية لدجلة، وكانت أقواها قبائل الحامبولو2. وأحدثت تحركاتهم هزات عنيفة في الدولة، بحيث تعاقبت على عرشها ثلاث أسر حاكمة في أقل من نصف قرن3.
واستمر الأراميون في توسعهم، فامتدت قبائل كالدو في جنوبي العراق حتى الخليج العربي وكانوا ست إمارات أكبرها "بيت داكوري" و"بيت ياكين"4. وسيطرت قبائل أخرى على ما بين بابل وبورسيبا، فخافهم أهل المدينتين على مواكبهم الدينية5. وظهرت آشور حينذاك في ميدان العلاقات
__________
1 ديلابورت: المرجع السابق -ص59 Dupont Sommer, Op. Cit.,17.
2 وقامت إلى جانبها قبائل ليتلو وخندارو ليتاو وبوكودوا ... إلخ. Ibid., 23..
3 هي الأسرات الخامسة والسادسة والسابعة. ولم تدم السبعة غير ست سنوات حكم بابل فيها رجل إلامى الأصل "انظر ديلابورت: المرجع السابق -ص60-61".
4 وقامت إلى جانبها إمارات لاراك وبيت أموكاني وبيت شالي. Dupont Sommer, Op. Cit., 24.
5 وكانت بورسيبا مركز عبادة نابو الذي كان له دوره بجانب مردوك في احتفالات رأس السنة في بابل.(1/538)
بين الفريقين، وكانت قد بدأت عصرها الحديث في أواخر القرن العاشر فعملت فيها مر بنا آنفًا، على إضعاف جيرانها الأراميين الشماليين ثم تجرأت في عهد أداد نيراري الثاني وهاجمت البابليين وامتد تأثيرها على الأراميين المنتشرين بين بابل وبورسيبا1. وحاولت بابل بعد هدنة قصيرة أن تستخدم الأراميين لحسابها فحرضت بعض طوائف السوتيين على مهاجمة الأطراف الآشورية2، ولكن خاب مسعاها في عهد أوشكت آشور أن تبلغ فيه قمة من قمم مجدها، وهو عهد ملكها آشور ناصربال الثاني الذي اكتسح بجيشه عددًا كبيرًا من القبائل الأرامية الشمالية الضاربة على حدود العراق والشام وذكرت نصوصه أنه هجر 1500 من قبائل الأخلامو من بيت زماني التي قهرها أبوه قرب ديار بكر3.
ولم يكن الآراميون بغير أثر في المجتمع العراقي، على الرغم من تفرقهم واعتمادهم على حضارة البابليين والآشوريين. فقد ترتب على انتشارهم في أجزاء شتى من بلاد النهرين، وتدخلهم في المعاملات عن طريق التجارة، ووجود بعضهم خدمًا وأرقاء في بيوت الأثرياء وضياعهم، أن وجدت لهجاتهم سبيلها إلى السكان الأصليين وكتبها بعض المتعلمين بالخط المسماري، وبلغ من أمرها أن كتبت بها نصوص قصيرة على بعض آثار شلما نصر الثالث وسرجون وسينا خريب في كالح وخورسباد ونينوى ثم نقل بعض الأراميين الغربيين الذين أبعدوا إلى آشور الخط الأرامي الغربي من مواطنه في الشام إلى العراق، ونقلوا معه طريقة الكتابة على البردي التي تعلموها من المصريين والفينيقيين. ويحتمل من أحد مناظر عهد شلما نصر الثالث أن أحد كتبته الأراميين كان يكتب له على البردي، وإذا صح ذلك كان نموذجًا لكثيرين غيره. وعندما دعا صاحب وظيفة "الرابشاقه" ملك اليهود في أورشليم إلى التسليم خاطبه بالأرامية من خارج السور، وذلك مما يعني أن أمثاله من كبار الموظفين الآشوريين كانوا يعرفونها4.
وشهدت بابل حربًا أهلية بين ملكها وأخيه، واستعان ملكها "مردوك زاكير شوم" بالملك الآشوري شلما نصر الثالث فأعانه وأصبحت له اليد العليا على عرشه. وسمح ذلك للآشوري بأن يذهب بجيوشه أو بنفوذه حتى كلديا، وقال في نصوصه فيما استشهدنا به من قبل: "هبطت إلى كلديا وقهرت مدنها وسرت حتى البحر الذي يسمونه البحر المالح "الخليج العربي"؛ وتلقيت في بابل جزية أديني بن داكوري من الفضة والذهب وخشب أوشو والعاج ... ". وصور فنانوه على أبواب قصره المكسو بصفائح البرونز جزى بيت داكوري الكلدانية يحملها أهلها بين صفوف النخيل ويشرف عليها كتبة الملك وحراسة5.
__________
1 Dupont Sommer, Op. Cit., 31.
2 ديلابورت: المرجع السابق ص60.
3 Dupont Sommer Op. Cit., 18, 22.
4 ومما عثر عليه فعلًا رسالة بالأرامية موجهة من موظف آشوري يدعى بيليتر إلى موظف آشوري آخر يدعى بير أور، من منتصف القرن السابع ق. م.
5 L. King, Bronz Reliefs From The Gates Of Shalmaneser, 1915, Pl. 63.(1/539)
ولم يكن شلما نصر أقل اعتزازًا بخضوع أراميي الجنوب من اعتزازه بانتصارته المتكررة على بني عمومتهم الشماليين في بيت أديني وشمآل، وبني عمومتهم الغربيين في قرقر.... "راجع قصته معهم".
ومرة أخرى استعانت بابل بالكلدانيين ومن شابههم من الأراميين، فضلًا عن العيلاميين، في مهاجمة آشور بعد وفاة ملكها شلما نصر الثالث، ولكنها فشلت وقتل ملكها وخلا عرشها فترة من الزمن، ثم استعادت قواها وعاودت الكرة ضد الآشوريين في عهد ملكهم أداد نيراري الثالث ولكنه اكتسح أرضها وتلقى جزي الكلدانيين. وأصاب بابل بعد ذلك ما أصاب آشور من حيث غموض التاريخ واضطراب الحوادث، وانتهت في ذلك الحين الأسرة البابلية الثامنة، وتلتها الأسرة التاسعة التي عاصرت بداية المرحلة الآشورية الثانية من عصرها الحديث على نحو ما يرد ذكره بعد قليل.(1/540)
التطور السياسي:
في الفن:
حاول الفن البابلي أن يحتفظ خلال فترات الضعف السياسي هذه بإثارات من تقاليده القديمة تذكر أهله بمجدهم الغابر، مع تلوينها بصبغة حديثة خفيفة تتفق مع اتجاهات عصره والتجديدات الآشورية التي ظهرت فيه. ووجد فن النقش سبيله حينذاك على نصب الهبات ونصب الحدود الإقليمية "كودورو" وعلى النصب التذكارية للملوك. فاحتفظت آثار القرن الحادي عشر ق. م بنصب صغير "من عهد نبوخذ نصر الأول" صور فنانه عليه عددًا من هيئات الأرباب وصور مقاصيرهم ونواويسهم ورموزهم الحيوانية والنجمية والاصطلاحية. وليس للفن نصيب كبير في هذا النصب فيما خلا مجهود ناقشه في تصوير مفرداته الكثيرة على مسطحه الصغير ومحاربه ... طيات الثوب الواسع لصاحب النصب في جلوسه، ولكن بقيت له قيم أخرى معمارية ودينية تمثلت في صور ما ذكرناه من المقاصير والرموز المقدسة، مثل تصوير سقوف المقاصير على هيئات مخروطية ومائلة ومقبية، وتصوير أسطون لولبي بتاج على هيئة رأسي أسدين متدابرين، وقد ظهر له ما يماثله في الفن الإيراني، ومثل وضوح التفرقة بين رموز الثالوث السماوي الكبير، الشمس والقمر والزهرة، فظهر رمز الشمس على هيئة قرص تتوسطه نجمة رباعية تنبعث الأشعة من بؤرتها؛ وظهر رمز القمر على هيئة هلال داخل قرص القمر، وظهر رمز الزهرة على هيئة نجمة مثمنة داخل قرص كبير. وظهر من رموز النصب صورة حيوان بارك يخرج من ظهره خطان لولبيان يعبران فيما يبدو عن تموجات البرق ويرمزان إلى المعبود أداد رب العواصف والبروق1.
واحتفظت آثار القرن التاسع ق. م. بلوحة تذكارية مستطيلة سجلت قصة تجديد معبد شمش في سيبار "أبو حبة الحالية" خلال عهد نابو بالدينا "حوالي عام 870ق. م"2، وظهر شمش في أعلاها بهيئته البابلية التي صورتها له لوحة حمورابي، شيخًا مهيبًا برداء كاس وتاج ذي أربعة أزواج من القرون، مع تحوير
__________
1 B. Prichrd, The Ancient Near East, Fig. 142.
2 Frankfort, The Art And Architecture...., Pl. 121.(1/540)
يسير في طريقة تمشيط لحيته الطويلة، وزخارف ثوبه، ووضع عصاه، وزخارف عرشه التي مثلت معبودين يرفعان سقفه، وأشرقت عليه ثلاثة أقراص قد ترمز إلى الثالوث السماوي الكبير، الشمس والقمر والزهرة. وجلس شمش بعرشه داخل ناووس ينحدر سقفه انحدارًا لطيفًا إلى الخلف وتعتمد واجهته على أسطونين صور الفنان أسطونًا منهما مضلع الساق بما يشبه حراشيف النخيل، وشكل قاعدته وتاجه بوحدات نباتية محورة اعتبرها بعض الباحثين سلفًا قديمًا لما سُمي فيما بعد باسم زخارف الأعمدة الدورية وتقدم ناووس شمش صوان استند فوقه رمزه، وهو عبارة عن قرص ضخم ذي قاعدة مزخرفة تتوسطه نجمة رباعية تنبعث الأشعة من بؤرتها. ولم يصور الفنان القرص بجانبه الضيق الظاهر، وإنما صوره بواجهته الواسعة على عادة تقاليد الفن القديم في تصوير الأشياء من أوضح هيئاتها ووجوهها، ولكنه تحرر من ناحية أخرى في تصوير معبودين متجاورين يطلان من السماء على سقف الناووس ويشدان القرص، فصورهما تصويرًا جانبيًّا سليمًا بحيث أخفى أقربهما إلى الرائي جذع زميله، وصور ذراعيهما البعيدتين أكثر انخفاضًا من ذراعيهما القريبتين، وذلك مما ينم عن إحساسه بالفارق بين ما يبدو فوق مستوى النظر وما يبدو تحته. وصور الفنان ملكه يبتغي القربى من ربه في هيئة خاشعة تنم عن إحساسه بعظم الفارق بينه وبينه وتختلف إلى حد كبير عن هيئة حمروابي القديمة أمام ربه، فصوره بحجم صغير يحيي إلهه، متواضعًا يرفع يده ويبسط كفه، ويتقدمه كاهن يأخذ بيده، ويلمس مائدة ربه بيده الأخرى متبركًا بها، وتتبعه راعيته إشتار "؟ ". وصور الفنان هذه الشخصيات الثلاث تصويرًا جانبيًا سليمًا على الرغم من صغر أحجامها، وجعل اختلاف أوضاع أيدي أصحابها سببًا للتنويع ودفع الرتابة في التصوير. ثم فصل بين هذه المجموعة المصورة وبين نصوص اللوحة بفاصل عريض يعبر عن تموجات الماء، ورتب نصوصه تحته في سطور أفقية وزعها على ثلاثة أنهر رأسية وقص فيها نبأ آخر إصلاح للمعبد في عهدي ملكين بابليين سبقا عهد ملكه بأكثر من قرنين وتخرب المعبد بعدهما إلى أن انتهز مولاه فرصة عقد صلح مع آشور والتفت إلى أداء واجباته نحو معابد أربابه.
عاصرت الأسرة البابلية التاسعة بداية المرحلة الآشورية الثانية من عصرها الحديث، ولم تكن ذات أثر هام في حياة بلدها، فدانت بالطاعة لجبروت تيجلات بيليسر الثالث الآشوري. ثم انتقل الحكم منها إلى أسرة حاكمة جديدة خلال عهده، وهي الأسرة البابلية العاشرة منذ عام 732ق. م، وكان الحدث الهام في أوائل أيامها هو نجاح مردوك أبال أدين الكلدانى زعيم بيت ياكين في اعتلاء عرش بابل مستغلًا فرصة البابلية التي صاحبت انتقال العرش الآشوري إلى البيت السرجوني منذ عام 721ق. م، ومدعيًا أنه من سلالة إربا مردوك أحد ملوك الأسرة البابلية الثامنة، هادفًا بذلك إلى صبغ حكمه بصبغة شرعية، ولكن ذلك جر عليه وعلى أسرته عداء البيت السرجوني حتى عهد آشور بانيبال، كما فصلنا ذلك في حينه.(1/541)
وتركت أواخر القرن الثامن ق. م نصبًا من نصب الهبات "كودورو"، ظهر عليه الملك البابلي يعلن هبته لأحد أتباعه المقربين ويضعها تحت حماية أرباب ظهرت صور مقاصيرهم، وحيواناتهم المقدسة في أعلى النصب1. وصور الفنان ملكه وتابعه تصويرًا جانبيًّا سليمًا لا سيما بالنسبة للصدر الذي لم يلترم بتقليد تصويره باتساعه، وبالنسبة لتصوير قدمي التابع العاريتين اللتين اكتفى بتصوير أصابعهما الظاهرة وحدها، فأظهر الإصبع الكبير لإحداهما والأصابع الخمس للأخرى، ولو أنه تصوير سبقت له أمثلة قديمة أخرى كثيرة. ثم صور ملامح وجه ملكه ومسطح رقبته وصدره ورداء رأسه واستدارة ذراعه بخطوط ناعمة وروح بسيطة تختلف عن الروح الآشورية الرسمية المعاصرة لها في تصوير الملوك.
يقظة بابل وماذي وانهيار آشور:
شكلت علاقات بابل بآشور في أواخر عهد آشور بانيبال وعقب وفاته عدة عوامل، وهي اهتزاز الحدود الآشورية تحت ضغط القبائل الهندوآرية والجبلية من السميريين والسكيثيين والماذيين، واهنزاز العرش الآشوري نتيجة للخلافات الداخلية في البيت المالك، وازدياد حقد البابلين والكلدانيين بعد الانتقامات العنيفة التي أنزلها الآشوريون بهم مرة بعد مرة، ثم انتقال الحكم في بابل إلى أسرة كلدانية قوية استطاعت أن تستغل الظروف المحيطة بها وهي الأسرة الحادية عشرة والأخيرة.
وأسس الحكم البابلي الجديد كلداني يدعى نابو بولاسر "626-604ق. م" يحتمل أنه كان ولدًا لأمير يدعى كاندا لونو عينه آشور بانيبال على بابل بعد مقتل أخيه، وعمل قائدًا في الجيش الآشوري وحاكمًا على الأقاليم الجنوبية، ثم عمل لحسابه فزحف على بابل وولي عرشها بعد تفكك أواصر البيت الآشوري الحاكم، ولكن لم يتعد سلطانه في بداية أمره ما حولها.
وتتابعت الأحداث فيما حول بلاد النهرين، ففي شرقها بدأ الماذيون يلعبون دورهم، وكان هؤلاء "وهم من سماهم الإغريق باسم الميديين" فرعًا من الجماعات الإيرانية ذات الأصل الآري، رددت النصوص الآشورية اسمهم منذ القرن التاسع ق. م على أقل تقدير "وأن كان يحتمل ورود اسم قريب من اسمهم في عهد تجلات بيليسر الأول في أواخر القرن الحادي عشر أيضًا"، ثم ذكرتهم نصوص شلما نصر الثالت هم الفرس "باراسو" في جبال كردستان - وخضع القريبون منها لسلطانها. ثم اتضحت تجمعاتهم وأطماعهم منذ أواخر القرن الثامن ق. م، ومالوا إلى التحرر من نفوذ الآشوريين، وذكرت نصوص سرجون انتصاراته عليهم وأنه نفى بعضهم إلى سوريا وأحل محلهم مهاجرين من سماريا ومن شعوب مغلوبة أخرى، وأشارت الروايات العبرية إلى شيء من ذلك. ثم نجح الماذيون في تحقيق كيانهم المستقل حوالي عام 708ق. م بزعامة "دايوكو"، وروت القصص الإغريقية عن هذا الزعيم الذي سمته
__________
1 Frankfort, Op. Cit., Pl. 120.(1/542)
دايو كيس أن شعبه انتخبه ملكًا وأنه نجح في توحيد كلمة القبائل الماذية تحت حكمه واتخذ إكباتانا "وهي همدان الحالية" عاصمة. وأقام قصرة داخل حصن تحيط به سبعة أسوار، ثم احتجب عن رعاياه ولم يسمح لهم بأن يتصلوا به اتصالًا مباشرًا1. ولم يكن من المنتظر أن ترضى آشور عن انسلاخ ماذي عنها في عهدها السرجوني العظيم، فتكرر الصدام بينهما، ولكن قضاء الآشوريين على ممكلة إلام في عام 644ق. م أراح الماذيين من منافسيهم الخطرين في جنوب إيران الذين قاموا رغبتهم في الاتساع ناحية الجنوب منذ عهد ملكهم فرفارتي "Phraortes" في منتصف القرن السابع ق. م. وهكذا استغلوا الجبال الجنوبية الغنية بمعادنها وأحجارها الكريمة، كما استغلوا مزارع السفوح والوديان في بناء اقتصادهم، ولكنهم ظلوا أقل قوة من الآشوريين، وقُتل ملكهم فرافارتي في الحرب2.
واتسعت أمام الماذيين فرص الانطلاق بعد أن اهتزت أركان الآشوريين بطرد حاميتهم من مصر وخروج أغلب ولايات الشام عليهم وحدوث الانقسامات الداخلية في دولتهم، فانتظمت قبائل مانداهور الماذية تحت زعامة هواخشير "كيخسرو في الفارسية وأوماكيشتار في البابلية وكياكساريس Cyaxares" في اليونانية". وتوالت هجمات جيشه على آشور منذ العام الأول من حكمه، وحاصر نينوى بعد أن أعاد تنظيم قواته على نسق التنظيم الآشوري، لولا أن اهتز الشرق حينذاك باندفاع السكيثيين الذين أخذوا يضربون شرقًا وغربًا دون هدى، ومالوا في بداية الأمر إلى محالفة الآشوريين، ولكنهم ما لبثوا حتى هاجموا كلًّا من أطراف ماذي وآشور معًا، مما اضطر هواخشير الماذي إلى التراجع عن آشور ليحمي مملكته3.
وإلى الغرب من آشزر كانت دولة ليديا المتأغرقة تحاول طرد السميريين البرابرة من آسيا الصغرى. والتمس ملكها جيجيس عون آشور في عهد ملكها آشور بانيبال ولكنه لم يجد من معونتها ما كان يبتغيه، فقتل في الحرب ثم انفردت دولته بالمهمة وطردت السميريين من آسيا الصغرى في عهد ولده أرديس. واندفع السميريون في تقهقرهم على الحدود الآشورية فصدتهم عنها جيوش آشور بانيبال بعد جهد جهيد. واقتفى السكيثيون أثر السميريين في الاندفاع إلى الغرب فاقتحموا ممرات طوروس واجتاحوا مناطق غرب الدولة وولاياتها الساحلية دون مقاومة تذكر من الجيوش الآشورية التي أنهكتها الحروب المتواصلة، ولا من الفرق المؤلفة من الشعوب الخاضعة التي لم يكن لها من حسن التدريب ولا من الإخلاص للدولة ما يعوض ضعضعة الآشوريين. بل إن هذه الهزة قد شجعت المدن السورية على أن تنفض ما بقي من النفوذ الآشوري عنها، واحدة إثر الأخرى، بعد أن تبينت ضعف أصحابة. أما السكيثيون فيروي هيرودوت
__________
1 ديلابورت: المرجع السابق -ص320 Herodouts, I. 95 F.; J. Bury, The History Of Greece, 221.
2 Herodouts, I, 192..
3 See, Landsberger-Bauer, Za. Xxxvii, Nf. Iii, 82 F..(1/543)
أنهم أوشكوا أن يصلوا في اندفاعتهم إلى الحدود المصرية لولا أن صرفهم الفرعون بسماتيك عنها بالعطايا، مفضلًا ذلك عن استهلاك قوته الحربية معهم1، "وراجع ص302".
وأدلى نابو بولاسر البابلي الكلداني بدوره في أحداث عصره، فاشتبكت جيوشه مع الآشوريين منذ العام العاشر من حكمه على أقل تقدير، في قابلينو ومادانو وعلى نهر الزاب وحول العاصمة آشور نفسها، وفي تكريت "تاكريتين"2، ولكن دون نتائج حاسمة لأحد الجانبين، لا سيما وأنه لم يلق العون مخلصًا من كل البابليين، كما ظلت بقية القبائل الأرامية المجاورة له حريصة على استقلالها الذاتي بجانبه. وفي ظل هذه الظروف التي أحاطت بآشور وجيرانها، تلفت كل من الطرفين القريبين منها والطامعين فيها، ونعني بهما الكلدانيين والماذيين، كل منها إلى عون الآخر، بعد أن أيقنا أنه لا قبل لأحدهما منفردًا بأن يهدم آشور، فتحالفا وأيدا تحالفهما بمصاهرة البيتين الحاكمين فيهما3، وابتدأت جيوش الحليفين تدق على أبواب آشور من جديد.
ويفهم من الروايات البابلية أن المصريين كان لهم دور في معاونة الجيوش الآشورية4، وإذا صح ذلك معناه أن آشور لجأت في محنتها إلى عون مصر خصيمتها العتيدة، وأن مصر استجابت لها حرصًا على الوضع القائم ودفعًا للخطر الثنائي الجديد، ولكن الدفعة التي خرج بها الماذيون المتحفزون والبابليون الكلدانيون الحاقدون على آشور، كانت أقوى من أن تصدها دولة مزقتها الخلافات أو يصدها حليف بعيد الديار. فشدد الماذيون والبابليون حصارهم على نينوى ودمروها تدميرًا عنيفًا في عام 612ق. م، وقضوا على استقلالها، وقتلوا ملكها "سين شار إشكين" أو دفعوه إلى الاحتراق بنيرانها كما ذكرت الروايات الإغريقية، على نحو ما ملك شمش شوموكين قبل ذلك بست وثلاثين عامًا في نيران بابل. واعترفت الوثائق البابلية بأن أكثر الجهد كان من نصيب الماذيين العتاة، ليس في القضاء على نينوى وحدها، وإنما في اجتياح الأقاليم العراقية التي لم تعترف بالوضع الجديد ولم تنتظم في سلك الزعيم البابلي أيضًا. ولم يأبه الماذيون حين ذاك بمقدسات العراق ومعابدها5، ويذكر النص البابلي أنهم اكتسحوا ما فوقهم وما تحتهم وما على يمينهم ويسارهم، وكانوا كإعصار الفيضان. ولم يكن في وسع حليفهم البابلي غير السكوت في سبيل القضاء على الغول الآشوري، أو على حد تعبير النصوص البابلية لم يجد أمامه إلا أن يرسب شعره مهوشًا دون تمشيط ويؤثر النوم على الأرض دون المضاجع؛ تدليلًا على براءته من انتهاك حرمه المعابد على أيدي حلفائه6.
__________
1 Herodotus., I, 105: Ii, 30, 153-154, 157; Iv, 46..
2 Anet, 20.
3 ديلابورت: المرجع السابق -67.
4 See, Anet, 304.
5 Ibid., 309; Npfund-Langdon, Vab. Iv, 270 F.
6 Ibidem.(1/544)
وجمع الآشوريون فلولهم وتحصنوا في حران بقيادة آشور أو بالليط وريث العرش الآشوري، وكانت حران عصبًا رئيسيًّا لأحد الطرق التجارية الكبيرة في بلاد النهرين "وقد يعني اسمها معنى الطريق أيضًا"، ولكنهم ما لبثوا حتى أخلوها تحت ضغط الغزاة، فدخلها البابليون والماذيون وتركوا حامية بها "حوالي عام 610ق. م". ثم حاول آشور أو بالليط أن يجرب حظه للمرة الأخيرة فاستعان بجيش مصري على حد رواية البابليين وحاصر الحامية البابلية في حران "حوالي عام 609ق. م"، ولكن طال حصارها حتى لحقت بها النجدات البابلية والماذية وهزمت جيوشه بعد أن قاومها نحو ثلاث سنوات1.
وبذلك انتهى دور الآشوريين من التاريخ بعد أن أثبتوا أنهم كانوا أعنف قوة عسكرية منظمة شهدها الشرق القديم حتى عصرهم، وبعد أن ضربوا المثل في ضراوة القتال وأساليب العنف لجيرانهم الإيرانيين، لا سيما الماذيين والفرس، وبعد أن شتتوا جهودهم بتوسيع أملاكهم إلى آفاق بعيدة يصعب الاحتفاظ بها ويصعب الدفاع عنها سواء من الشرق أم من الغرب مما أدى إلى تفسخ قواهم، وبعد أن أثاروا حقد بقية بلاد النهرين عليهم بإصرارهم على إذلال بابل والسيطرة عليها على الرغم من سمعتها الواسعة القديمة، وعلى الرغم من استفادتهم من حضارتها.
الاتساع البابلي:
زادت صحوة الكلدانيين البابليين بعد القضاء على الغول الآشوري، واستمروا في تقوية جبهتهم الداخلية والتمسح بالدين عن طريق تعمير المعابد وتشييد الجديد منها، وسيطروا على أواسط بلاد النهرين وجنوبها، ورضوا مؤقتًا بسيطرة الماذيين على شمال العراق وأملاك الآشوريين في شرق دجلة. ثم طمعوا في إحياء الأملاك الآشورية الغربية لحسابهم، وبدءوا يعملون للسيطرة على بادية الشام وسوريا وفلسطين، ولكن طموحهم أثار مخاوف مصر من عودة التنافس على الطرق التجارية في الشام، فخرج الفرعون نيكاو الثاني بجيشه إلى فلسطين وكسر شوكة مملكة يهوذا التي أرادت أن تنتصر في عهد يوشيا2 للقوة البابلية الجديدة، وواصل طريقة إلى سوريا وأوقف مسيرة الاحتلال البابلي الجديد، ثم واصل طريقة نحو الفرات، ولكن انتصاراته أسكرته وأخذه الزهو فعاد وتوقف بجيوشه فترة طويلة في أرض لبنان، حيث أمر بتسجيل انتصاراته على صخور وادي الكلب "تلك الصخور التي حفلت بنقوش الفاتحين والمنتصرين" فكان توقفه بجيوشه فرصة سانحة اغتنمتها الجيوش البابلية فتجمعت وأزدادت أعدادها بقيادة ولي العهد البابلي نبوخذ نصر، والتقت بالمصريين في موقعة قرقميش عام 605 "أو 604" ق. م، ونجحت في أن توقف زحفهم3. وحاول المصريون أن يعيدوا الكرة لمهاجمة مصالح بابل في الشام عن طريق البحر
__________
1 See, Gadd, The Fall Of Niniveh, 1923.
2 الملوك الثاني 23: 29-35 - وراجع ص302.
3 "Woolley, Carchemish, Ii 125-127."(1/545)
مرة أو مرتين، ولكن مشروعاتهم لم يكتب لها التوفيق1. ويحتمل أنهم عاودوا إرسال الجيوش بالبر مرة أخرى في عهد بسماتيك الثاني "594-588ق. م" حيث أشارت نصوص عسكرية في أبي سنبل إلى امتداد نفوذه حتى قرقميش. ثم روى هيرودوت أن الفرعون أبريس "واح إب رع" "588-568ق. م" هاجم صيدا وصور برًّا وبحرًا بعد خضوعها للبابليين خوفًا من اتخاذهما سبيلًا لمهاجمة مصر عن طريق البحر2 "راجع ص305".
وواصل بنوخذ نصر الثاني "وصحيح اسمه في البابلية "نابو -كدوري -أوصر" بمعنى "الإله نابو يحمي الحدود" مشروعاته في الشام بعد اعتلائه العرش "605-562ق. م"، وسيطر على لبنان "لبنانو" وبرر عمله فيها بمنطق الفاتحين، فاعتبر نفسه محررها وناشر السلام في ربوعها، وادعى رعايته لأهلها المشردين، وبرر اهتمامه بها بملكية ربه مردوك لغاباتها وحب أربابه العراقيين لأخشابها وروائحها الزكية، ثم وعد أهلها بأن ينقش صورته على سفوح جبالهم حتى لا يعتد معتدٍ عليهم أو يعكر أحد صفو أمنهم3.
وخلدت التوراة والأساطير حروب نبوخذ نصر مع مدينتين، وهما: أورشليم عاصمة يهوذا، وصور الميناء الحصينة. وقد أسلفنا كيف تذبذبت يهوذا بين مصر وبين بابل في بداية النهضة البابلية، وكيف هزم فرعون نيكاو حاكم أورشليم اليهودي يوشيا عام 608ق. م. في مجدو، وكيف عزل ولده من بعده وعين على المدينة يهو ياقيم وألزمه الجزية. وظل الأمر كذلك حتى زال خوف أورشليم من مصر بعد موقعة قرقميش، فعادت إلى ترددها في علاقاتها مع بابل بين الطاعة وبين العصيان، حتى هاجمها نبوخذ نصر حوالي عام 600ق. م فاستسلمت له بسهولة، وأعلن له حاكمها يهو ياقيم الطاعة وصار عبده ثلاث سنوات على حد تعبير سفر الملوك، ثم ثار عليه بعدها وكون حلفًا ضده، فهاجمه نبوخذ نصر وضربه بمن خرجوا عن حلفه من أهل الشام و"أرسل ضده جيشًا مؤلفًا من كلدانيين وسوريين ومؤابيين وعمونيين" كما روت التوراة. وانتصر البابليون وأعوانهم في عام 597ق. م. وأسروا ملك أورشليم وعدة آلاف من جنوده وأهل دولته، وكان فيهم ألف من الصناع، وأمر نبوخذ نصر بنفي الأسرى جميعًا إلى بابل. وأطلق اليهود على هذا النفي اسم السبي الأول، ويبدو أن صحبهم فيه نبيهم حزقيال.
وعين نبوخذ نصر "صدقيا" اليهودي واليًا على أورشليم، تحت إشرافه، فظلت يهوذا خاضعة للبابليين أحد عشر عامًا، ثم ثارت عليهم، وانقسم أهلها حينذاك شيعتين، أشرنا إليهما في صفحة 306، شيعة تزعمها صدقيا وتكلم باسمها النبيء حننيا فدعا إلى كسر نير بابل والثورة عليها باسم الرب، وشيعة أخرى مضادة تزعمها النبي إرميا ودعا معها إلى وضع أعناق الأمة تحت نير ملك بابل بأمر الرب أيضًا4
__________
1 Herodotus, Ii, 159."
2 Ibid., Ii. 161."
3 Anet, 307; F.H. Wissbach, Die Inschriften Nebukhadenzars Ii Im Wadi Brissa And Am Nahr El-Kelb, 1966; Zehnpfund-Langdon, Vab, Iv, 151 F.
4 الملوك الثاني 24: 15-16.(1/546)
وكان في تعارض دعوة النبيين وتمسحهما في أوامر الرب ما دعا كلًّا منهما إلى إنكار نبوة الآخر1. وعاودت جيوش نبوخذ نصر مهاجمة أورشليم في عام 588 أو 587ق. م. وشددت الحصار عليها، ولكنها اضطرت إلى رفع هذا الحصار، بعد أن تحركت الجيوش المصرية لمساعدتها "في عهد واح إب رع"2، ثم عاودت حصارها مرة أخرى وضيقت عليها تضييقًا شديدًا نحو عام ونصف العام حتى دخلتها في عام 586 أو 585ق. م. ودمرتها، وأحرقت هيكل سليمان ونقلت خزائنه، ونفت أربعين ألفًا أو خمسين ألفًا من أهلها إلى بابل لينوحوا عند مياه الفرات على قول التوراة. وأسر البابليون صدقيا عند أريحا، وفعلوا معه ما اعتاد اليهود أن يفعلوه مع بعضهم البعض، بل ومع أنبيائهم أيضًا الذين كانوا يقتلونهم بغير حق، فقتلوا أولاده أمامه ثم فقئوا عينيه ليكون سفك دم أولاده آخر منظر يراه "في ربلة على نهر العاصي". واعتبرت التوراه ما حل باليهود حينذاك عقابًا لهم على "تماديهم في عصيان الرب حتى ثار غضبه على شعبه فأصعد عليهم الكلدانيين"3. وصدق الله تعالى حين قال في قرآنه الكريم: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ... } 4، والعلو هنا هو التمادي في الظلم. أما إرميا داعية الخضوع لبابل، فقد لجأ مضطرًا مع جماعة كبيرة ممن نجوا من القتل والتشريد إلى مصر، فوسعتهم رحابة صدرها5. وتابعت جيوش نبوخذ نصر مهاجمة المدن الفينيقية والسورية، وكانت أشد هذه المدن مقاومة لها مدينة صور التي ظلت على مقاومتها ثلاثة عشر عامًا "585-573ق. م" أبدت فيها من البسالة صورًا كثيرة وساعدها على المقاومة سهولة اتصالاتها بالبحر، ثم رضيت في نهاية الأمر بصلح اعترفت فيه بسيادة البابليين، واضطرت تحت ضغطهم إلى معاونتهم ضد مصر حين أرادوا أن يتخذوها قاعدة لمهاجمة السواحل المصرية عن طريق البحر6.
__________
1 إرميا 28: 1، 12-14، 15-17، 37: 1-5.
2 حزقيال 27: 15، إرميا 27: 5.
3 الأيام الثاني -الإصحاح 36.
4 سورة الإسراء -الآية 3 ومابعدها.
5 الملوك الثاني 25: 25-26، إرميا 44: 21، 30.
6 "Herodouts, Ii, 161."(1/547)
العمران والفنون:
أرادت بابل الكلدانية أن تعوض أجيال التبعية الطويلة التي مرت عليها، وقد أسكرتها نشوة النصر على الآشوريين على الرغم من قرابة الجنس والديار بينهما. ووجدت فرصتها الذهبية في طول عهد ملكها نبوخذ نصر الثاني، الذي امتد ثلاثة وأربعين عامًا، وفيما مر بنا من تعدد انتصاراته وأمجاده. فنشطت حركة العمران فيها كما لم تنشط من قبل، وبلغ محيط عمرانها حينذاك نحو 18 كيلومترًا، وذكر المؤرخون الإغريق أن أسوارها كانت أسوارًا دائرية عظيمة وأنه أحاطت بها أربعة خطوط دفاعية. أولها هو السور(1/547)
الداخلي للمدينة وقد بني من اللبن، وكان ذا أبراج، وبلغ سمكه 7.12 من الأمتار، وتلاه على مبعدة اثني عشر مترًا سور آخر خارجي ضخم بلغ محيطه أحد عشر ميلًا ونصف ميل، بني من الأجر وثبت بالقار وبلغ سمكه 7.81 من الأمتار، وأطل على خندق واسع، ودعم أصحابه أساسه بجدار ساند يرتفع بارتفاع الخندق ويبلغ سمكه 3.25 من الأمتار. أما خطا الدفاع الخارجيان، فسُمي أحدهما باسم السور الماذي، وامتد من الشمال إلى الجنوب من بلدة الحديثة على نهر دجلة حتى أبو حبة على نهر الفرات، وامتد الآخر من خان الناصرية على نهر الفرات حتى مدينة كيش على أحد فروعه.
وتمثلت أهم عمائر ومعالم بابل الكلدانية في قصر نبوخذ نصر؛ وفي زقورة "إ. تمن. آنكي" أو برج بابل كما سماها العبرانيون والإغريق والمسلمون؛ وحدائق المدرجات التي اشتهرت خطأ باسم الحدائق المعلقة، ثم بوابة إشتار "عشتار" فضلًا عن الأسوار الضخمة التي ذكرناها. وتعصب البابليون لتقاليدهم القديمة في تنفيذ أمثال هذه العمائر والمشروعات، وودوا لو اعتبروا تجديدات خصومهم الآشوريين كأنها لم تكن، ولو أن ذلك لم يكن متيسرًا دائمًا. فرجعوا من ناحيتهم بتخطيطات المعابد إلى أصولها البابلية القديمة، وأزادوا استخدام الآجر المحروق والمزجج، وأحلوا محل الرسوم المسطحة التي استحبها الآشوريون نقوشًا غائرة.
توسط قصر نبوخذ نصر الجدار الشمالي للمدينة، وبُني داخل حصن كبير على عادة القصور الملكية في بلده، وتألف من وحدات معمارية كثيرة، وتضمن عدة أفنية، وأحاطت به ملحقاته التي يحتمل أنه كان منها بعض إدارات الدولة، وتميزت فيه قاعة عرشه "التي بلغت مساحتها 52×17 مترًا" عن قاعات العروش الآشورية ببساطة طابعها، واحتل عرشها مشكاة كبيرة "أو حنية أو محرابًا ضخمًا" توسطت الجدار المواجه للمدخل. وكسيت جدران بهو القصر الكبير بقوالب الآجر ذات السطوح الخزفيه الزرقاء الداكنة، وزخرفت في أسافلها بإفريز من الأسود الحارسة صورت تصويرًا جانبيًّا "على العكس من أسود خور سباد الآشورية التي تواجه الداخل"، كما زخرفت في أعلاها بما يمثل أساطين ذات تيجان مركبة، تصل بين تيجانها وتعولها زخارف تكوينية تتألف من زهيرات محورة ومعينات صغيرة. وتعاقبت في كل هذه الوحدات الزخرفية ألوان بيضاء وصفراء فوق الأرضية الزرقاء الداكنة فخلعت طابعًا من البهجة على زخارفها الرقيقة1.
بدأ تجديد زقورة "إ. تمن. آنكي" في عهد نابو بولاسر مؤسس الأسرة. وأكدت نصوص الرجل ومناظره أنه استفتى وحي الأرباب في تخطيطها القديم واشترك مع ولديه في وضع أساسها، فحمل أدوات البناء فوق رأسه، وحمل ولي العهد طين اللبنة الأولى، ورفع ولده الآخر "نابوشوم ليشو" معولًا ومجرفة.
وخدمت الزقورة معبد الإله مردوك أساسًا، وهو ذلك الإله البابلي القديم الذي اعتبر أتباعه بقية الأرباب الكبار مجرد صور لنواحي قدرته، وقالوا يمجدونه: "سين قدسيتك، وآنو نصيحتك،
__________
1 Koldewey, Das Weiderstehende Babylon, Abb. 64.(1/548)
وداجان قيادتك، وإنليل ملكيتك، وأداد قدرتك، وإيا حكمتك" "وكان الآشوريون قد نسبوا مثل هذه الصفات أيضًا إلى ربهم نينورتا في عصرهم الوسيط، وإلى معبودهم الأكبر آشور في عصرهم الحديث". وخدمت زقورة بابل في أربعة معابد أخرى كبيرة أو نحوها، كان منها معبد "نين ماخ" "إي. ماه" ربة الخصب. وهي معابد أخذت في تخطيطها وتنظيم قاعاتها وقواعد تماثيلها بالأسلوب الأكدي القديم دون الأسلوب الآشوري الخصيم1.
ووصف المؤرخ هيرودوت هذه الزقورة إبان اكتمالها وصفًا شائقًا2، ثم وصفت لوحة من القرن الثالث ق. م. ما بقي منها على أيامها، كما احتفظت لها أجيال الرواة العبرانيين والمسلمين بصورة أسطورية غالية. أما من حيث الواقع فلم يتبق منها ما ينم عنها حتى الآن غير خطوطها الأرضية وأطلال ثلاث درجات تؤدي إلى مسطحها الأول من ناحية الجنوب، وترتب على ذلك أن تعددت النظريات المعمارية في تصوير هيئتها الأولى2، دون أن تسلم إحداها من شك ونقد. ويحتمل مما أتى به هؤلاء جميعًا أنها بنيت من اللبن وكسيت بالآجر. وأن واجهاتها كلها شكلت فيها مشكاوات رأسية متعاقبة، وأنها توسطت فناء مسورًا عظيم الاتساع "667×365 مترًا" يقع المدخل الرئيسي لسوره ناحية الشرق، وأن طول ضلع مسطحها الأول بلغ حوالي 183 مترًا، وربما تعاقبت على جوانبه أعمدة مربعة، بينما بلغ طول ضلع مسطحها الثاني نحو 106 من الأمتار وتضمن عدة مقاصير لكبار أرباب بابل والمدن المجاروة لها مثل الأرباب: مردوك ونابو وإيا وآنو وسين وتاشمتوم ونوسكو ... ، وعدة مقاصير لكنوز الزقورة. ثم قام في وسط المسطح، وهذا هو الأهم، بناء مدرج تألف من خمسة مسطحات تصغر مساحة كل مسطح منها عما تحته ويصل بينها درج جانبي صاعد يدور حولها حتى يؤدي إلى أعلاها حيث يتوسط المسطح العلوي منها ويتوجه قدس الأقداس الكبير. ويرى المعماريون الآثاريون الأخذ بما رواه هيرودوت وغيره من أن كل مسطح من المسطحات المتعاقبة للزقورة قد لون بلون مختلف عن لون الآخر، ومن الألوان التي يقترحونها لها على التتابع ألوان: الأبيض فالأسود فالبنفسجي فالأزرق فالبرتقالي فالقرمزي فالفضي فالذهبي، ولكن كل هذه الألوان والأصباغ ذهبت معه زقورتها حينما دمر الفرس أغلبها في عهد الملك أخشويرش، وبعد أن استخدم أهل المنطقة معظم لبناتها في مبانيهم المتعاقبة3.
ووصل بين زقورة بابل وبين "إساجيل" "E-Sag-Il" معبد مردوك الأرضي، طريق للمواكب ارتفعت أرضيته عن مستوى أرض المدينة ورصفت باللبن المكسو بالقار ثم غطيت ببلاطات متسعة من الحجر الجيري وحفت بها مربعات صغيرة من قطع الرخام الزاوي الأحمر "البرشيا"4. وكان يحف
__________
1 Op. Cit., Abb. 32 ; Antiquaries Journal, X, Pi. Xxxv, 374 F.
2 Herodotus. I, 181 ; O.E. Ravn, Herodotus's Description Of Babylon, 1932.
3 Memoires De L'academie Des Inscriptions, Xxxix., 1913.
4 See, Parrot, Ziggurats Et Tour De Babel, 1949.
وعن طرقات أخرى مرصوفة باللبن والقار -انظر سومر 1961 - ص3.(1/549)
بالطريق جداران وتطل على جانبيه أبراج متباعدة. ويبدو أن بعض واجهات جدارية كسيت بأفاريز من الخزف الملون نقشت نقشًا بارزًا بما يمثل الكائنات الحارسة وبخاصة الأسود.
ويخترق طريق المواكب بوابة إشتار "قاهرة أعدائها" وكان لها أصل قديم ثم جددت في العصر الكلداني وزيد ارتفاعها حتى بلغ أربعين قدمًا، فأصبحت من معالمه الرئيسية. وتقع في الركن الشمالي الشرقي من الحصن الجنوبي لبابل وتؤدي في الوقت نفسه إلى صرحين كبيرين يرتبط بهما جسر معلق يصلهما بالقصر الملكي. وتألفت البوابة من صرحين رئيسين علتهما زخرفة معمارية مسننة. وكسيت مساحة كبيرة من جوانبها الكلدانية المستحدثة بقوالب الآجر ذات السطوح الخزفية الزرقاء، وتعاقبت على سطوحها هذه تسعة صفوف نقشت بالنقش الغائر، مثل بعضها ثيرانًا ذات أشكال محورة، ومثل بعضها صور حيوانات خرافية متباعدة، وجمع بعضها الآخر في صوره بين أجزاء التنين والنسر والأسد والأفعوان ووحيد القرن. وعبرت هذه الصور في مجموعها عن رموز حيوانية للمعبودين أداد ومردوك، وسمي بعضها باسم سيروش، وتعاقبت في جسومها وشعورها وقرونها وأقدامها ومخالبها ألوان صفراء وخضراء وزرقاء بدرجات متفاوتة، وتعاقبت ظلالها فوق أرضية زرقاء، وبهذا أكسبت بوابتها طابع الجمال وخدمت غرض الدين وغرض الزخرف معًا، وزادها جمالًا أنه أحاطت بها أطر منقوشة تتألف من مربعات زخرفية وزهيرات كبيرة رقيقة. وكانت جدران البوابة القديمة قد تضمنت قبل العصر الكلداني صور الحيوانات نفسها، ولكن بعضها كان منقوشًا فوق الآجر العادي. وعندما رفع رجال نبوخذ نصر مستوى طريق المواكب غطت هذه التعلية على جزء كبير من صور البوابة القديمة، وكان ذلك لحسن حظها إذ بقي عدد منها كاملًا حتى الآن، بينما لم يبق من مناظر الآجر الخزفي التي شكلت في عهد نبوخذ نصر نفسه غير أسافلها التي حالت ألوانها. ويبدو أن الصور القديمة والحديثة قد بلغ عددها حين اكتماله نحو 575 صورة.
وصاحب الاهتمام بمعابد العاصمة بابل اهتمام مماثل بمعابد المدن الأخرى ذات الشهرة الدينية، فجددت في مدينة بورسيا "برص نمرود الحالية"، إلى الجنوب الغربي من بابل بنحو سبعة أميال، زقورة تشبه زقورة بابل، كانت بعض مداميك الآجرر فيها مزججة، وكانت مسطحاتها ملونة بألوان مختلفة، وتحدثت نصوص العصر نفسه عن عربة "صغيرة" للربة إنانا "أو إشتار" ربة الوركاء، شدت إليها سبعة أسود. أعادها نبوخذ نصر إلى معبدها "إيانا" بعد أن أبعدها عن أهل المدينة في عهد الملك إربا مردوك أحد ملوك الأسرة البابلية الثامنة وأقاموا لها تمثالًا مزيفًا، وترتب على فعلتهم هذه أن هجرت المعبودة معبدهم واعتكفت في مكان قصي كما روى نص الملك1.
__________
1 See, Anet, 399.(1/550)
الأفول أمام نهضة الفرس:
كانت انطلاقة بابل الكلدانية أشبه بصحوة الموت بالنسبة للعراق القديم، ولم يكن من المنتظر أن تستمر هذه الانطلاقة أمدًا طويلًا على الرغم من حدتها في عصر ماجت الهضاب الإيرانية المجاورة لها خلالة موجًا شديدًا بتحركات قبائل فتية عاتية أصرت على أن تفرض نفسها على عصرها فرضًا وأن تبدأ فيه من حيث انتهى غيرها. فقد أدى نجاح قبائل مانداهور في زعامة الدولة الماذية وتحطيم القوة الآشورية إلى نتيجتين متضادتين: نتيجة مباشرة، وهي تشجيع بقية الماذيين على مواصلة التوسع والدق العنيف على أبواب جيرانهم، ثم نتيجة لاحقة وهي تشجيع قبائل جبلية أخرى على أن تسلك سبيل الماذيين وتستفيد من تجاربهم بكل ما فيها من فشل ونجاح.
ورث الماذيون أملاك الآشوريين الشمالية والشرقية كما أسلفنا، وابتلعوا مناطق أورارتو شيئًا فشيئًا، وامتدوا شمالًا بغرب حتى بلغوا نهر هاليس في آسيا الصغرى، وهناك اصطدمت أطماعهم بدولة ليديا التي جمعت في سياستها وعلومها وحياة ملوكها بين تقاليد الشرق والغرب معًا واتخذت عاصمتها في مدينة سارديس "راجع أيضًا ص308". وتطور التنافس بين الماذيين وبين الليديين بعد فترة إلى صدام مسلح لزمت بابل فيه جانب حلفائها الماذيين، ولكن هذا الصدام توقف بصلح روى المؤرخون الإغريق من أسبابه المباشرة أنه حدث في أحد أيام العام السادس للحرب "وهو ما يوافق يوم 28 مايو عام 585ق. م" أن أظلمت السماء فجأة في واضحه النهار فأجفلت جيوش الفريقين واعتبراها نذيرًا من السماء، فتوقفا عن الحرب، وقيل إن ملكيهما اتفقا على توسيط ملكي بابل وكيليكيا بينهما، ثم انتهى الأمر إلى هدنة أيدها البيتان الحاكمان بالمصاهرة، واعتبرا نهر هاليس حدًّا فاصلًا بينهما. وأضاف الإغريق أن الفيلسوف ثاليس "طاليس" الميليتي أبا العلم الإغريقي كان قد تنبأ لقومه بكسوف الشمس في نفس العام1. وهي المرة الأولى التي تنبأ فيها عالم إغريقي بحدوث ظاهرة فلكية تنبأ صحيحًا.
ولكن لم يطل الأمد بالنهضة الماذية، وأحاط بها بعد وفاة ملكها هواخشير "كياكساريس"، ما أحاط بجيرانها أكثر من مرة. ترف مسرف ترتب على كثرة الأسلاب والمغانم، وطغيان سياسي ترتب على غرور الحكام الذين أسكرتهم نشوة انتصاراتهم المتكررة2، ثم طموح قبلي صدر عن جزء من الدولة للسيطرة على أجزائها الأخرى، وقد صدر في هذه المرة عن إقليم أنشان "في إلام القديمة". وهو إقليم كانت حياة أهله شاقة جافة ويمت حكامه بصلة القرابة أو المصاهرة للبيت المالك الماذي واستطاعوا أن يحتفظوا بمكانتهم إزاءه طوال ثلاث أجيال، ولكنهم ظلوا يعتقدون أنهم أعرق أصالة وأحق بالملك
__________
1 See, J. E. Bury, History Of Greece, 222.
2 See, Anet, 316.
وروى المؤرخون الإغريق روايات شتى عن قسوة آخر الملوك الماذيين ستياجيس، فذكرو أنه غضب ذات مرة على أحد كبار رجال دولته فقتل ولده أمامه وأرغمة على أن يأكل أحشاءه.(1/551)
وأقدر على تحقيق العدالة منه. وحقق حلمهم ذاك أميرهم "قورش" "وذكر أحد الأخبار الإغريقية أن أمه هي ابنة ستياجيس آخر الملوك الماذيين"، فلم شمل الحاقدين على البيت المالك وقضى على عرش ماذي حوالي عام 555ق. م1، وبدأ أسرة حاكمة جديدة، أو دولة جديدة ذكرتها المصادر الفارسية الحديثة باسم الدولة الهخامنشية، وأطلقت المصادر اليونانية عليها اسم الدولة الأخمينية، واعتادت المؤلفات الحديثة على أن تذكرها باسم الدولة الفارسية "الأولى" وهو ما سنجري عليه فيما يلي "راجع كذلك ص311". وكان من تمجيد هذا الملك لنفسه قوله "أنا ابن كامبوزيا "قمبيز" الملك العظيم ملك أنشان حفيد قورش الملك العظيم ملك أنشان، سليل شيشبيش الملك العظيم ملك أنشان، من أسرة "مارست" الملكية دائمًا". وقال حفيده أخشويرش ما معناه: أنا ابن الملك دارا الهخامنشي، فارسي ابن فارسي، آري من نسل آري. ورثت الدولة ملك الماذيين، ولم تكن تقف بعزائمها الجديدة عندما وقفوا عنده، فتخوفت نهضتها كل من بابل وليديا ومصر، وكانت ليديا هي البادئة بعد أن بلغت أوج مجدها وثرائها في عهد ملكها كرويسوس Croesus "560-546ق. م" وأخضعت المدن الإيونية والأيولية في آسيا الصغرى لنفوذها، حتى امتد سلطانها من نهر هاليس إلى بحر إيحه، وطمعت في أن تستغل البحر وتسيطر على جزره، وأصبحت شيئًا عظيمًا في نظر إغريق الشرق والغرب معًا. ثم أقلقتها نهضة فارس فأرادت أن تكون هي البادئة، وطلبت عون إغريق شبه جزيرة لاكيدايمونيا وزعيمتها إسبارطه، كما طلبت عون بابل ومصر. وتقدمت جيوشها ناحية الشرق، ولكنها ما لبثت حتى تحطمت أمام الطوفان الفارسي، فتراجعت فلولها إلى سارديس ولحق بها قورش وجنوده، فدمروا العاصمة وأسروا ملكها في عام 546ق. م. قبل أن يتمكن حلفاؤه من نجدته2، ... أتت نهايته على غير ما توقع لنفسه وعلى غير ما توقع الإغريق له.
وفي بابل لم تستمر النهضة بعد نبوخذ نصر طويلًا، وتعاقب ثلاثة من أسرته على العرش في مدى سبع سنوات ملؤها التفسخ والقلق، ثم انتقل الحكم منهم إلى "نابونهيد"، وكان من أسرة كهنوتية، أو على الأقل من أسرة يؤيدها الكهنة، ولو أنه لم يعتبر نفسه في نصوصه غريبًا عن الدوحة الحاكمة، فادعى أن الرؤى والآيات تعاقبت لتبشيره بأنه سيكون خليفة نبوخذ نصر ومتبعًا لسنته، برضا مردوك وبقية الأرباب. وأراد الرجل بعد اعتلائه العرش في عام 555ق. م3. أن يحقق حسن ظنه بنفسه، فأسرف في إظهار تقواه إزاء المعبودات بتجديد معابدهم وزيادتها، ومن أشهر ما جدده منها زقورة أور التي اعتبر مشيدها القديم أورنمو من أسلافه، ومعبد الشمس في سيبار الذي اعتبر مشيده نرام سين الأكدي من أجداده، وأسرف في إظهار حب العلم والشغف بجمع اللوحات والآثار القديمة4، وشاركته هذه الهواية ابنته التي عينها كبرى كاهنات رب القمر وادعى أن الرب اختارها زوجة بنفسه بعد أن هدد الدنيا
__________
1 Anet, 316.
2 Herodotus, I, 129, 177, Ete…
3 See, Anet, 309 F..
4 انظر مجلة سومر 1961- ص5.(1/552)
باسوداد وجهه، أي بخسوفه. كما شاركته الدعوة إلى رعاية المعابد سيدة عجوز لعلها كانت أمه، تعدت المائة في عهده وكانت لا تزال ذات سلطان وقوة جسدية وعقلية كاملة1.
وجرب نابونهيد أن يكون سياسيًّا، فتظاهر بمناصرة قورش الفارسي ضد الماذيين حلفاء بابل بالأمس، وهدف من ذلك تخليص مدينة حران الآشورية من سلطانهم لحسابه، ونجح في استعادتها فعلًا وجدد معبدها2، فكانت من الحسنات القليلة التي أداها لدولته. ثم تمادى في الثقة بنفسه فغزا شمال سوريا حتى وصل حماة وجبال أمانوس، وغزا جنوبها حتى إدوم وغزة. ولأمر ما أناب عنه على عرش بابل ولده بال شار أوصر "بعل إحم الملك"، واتجه إلى واحة تيماء3، ربما ليحيي أهميتها التجارية على الطريق التجاري بين ساحل البحر المتوسط وشمال غرب شبة الجزيرة العربية وبين العراق، ثم ينتفع باقتصادياتها، أو على أمل أن يستعين بها وبوسطها البدوي على تطعيم جيشه بقوات فتية يحيي بها مجد دولته ويستعد بها لمعركة قريبة لا محيص عنها بينه وبين الفرس الطموحين، أو ليتخذها ملجأ أخيرًا له لو عجز أمام الفرس.
ولكن خاب أمل الرجل في هذا كله وخابت سياسته مع تيماء وجيرانها؛ إذ اشتد عليها وقتل ملكها، ثم سورها وأقام بها بضع سنوات في قصر جديد، على الرغم من سوء ظنه بأهلها وسوء ظنهم به، بينما أناب عنه ولي عهده في العاصمة بابل سرة الدولة التي وجب عليه أن يرعاها بنفسه. وعندما عاد إليها في عام 545ق. م. كان سوء الإدارة قد عمل عمله فيها، وانتشرت المجاعة حولها4. وفي هذه الظروف صحت عزيمة الملك الفارسي على ضمها إلى ملكه في بداية تنفيذ مشروعه لغزو الهلال الخصيب كله. وهنا حاول نابونهيد أن يجمع الأحلاف حوله، ولكنه لم ينجح في ذلك غير نجاح قليل، وخشي الآخرون من بطش الفرس العتاة. ويبدو أن كلف نابونهيد بآثار الماضي جعله يكثر من صور وتماثيل آلهة المدن الأخرى القديمة في عاصمته مما جلب عليه كره كهنته. فاستعاض عن ولائهم باستدعاء تماثيل المعبودات إلى بابل ليشتركوا مع إلهها مردوك في حمايتها، ولكنه بمعبوداته كان أقل من أن يقف أمام الطوفان الفارسي فانهزم. ودخل قورش بجيوشه إلى بابل وادعى في نصوصه أنها فتحت أبوابها له ورحبت به ملكًا رد عليها مقومات الحياة، وروى أن أهلها فرشوا طريقه فيها بالرياحين.
وزاد قورش، أو من كتب نصوص النصر على لسانه، فرمى نابونهيد بالكفر والسخافة وتعقيد طقوس الأرباب، بل وبفساد الذوق حتى في اختيار تمثال معبوده الذي بدا وجهه فيه قائمًا كهيئة القمر في المحاق، ووصلت جدائل شعره حتى عرقوبيه. واتهمه بأنه تسبب في قتل نبلائه وتعطيل طرق التجارة
__________
1 Anet, 311, 560-62.
2 S. Smith. Babylonian Hisrtorical Texts. 1924. 27 F.
3.See, J. Lewy, Huca, 1946, 434 F. ; R..P.Dougherty, Nabonidus And Belshazzar, New Haven. 1929 ; Mizraim. I ;1933;, 140 F.; W.F. Albright. Jras. 1925. 293 F.
4 R.P.Dougherty, Records From Erech.1920.No.154; "Nabonidus In Arabia. Jaos, Xlii. 395 F. ; Anet. 1968.562-63(1/553)
بمشروعاته التوسيعة الفاشلة، حتى غضب عليه كل الأرباب والناس1، وما إلى ذلك من إدعاءات يعجز التاريخ عن تبين حقيقتها لأنها صدرت عن مصدر واحد وعلى لسان منتصر لا منافس له ولا معقب عليه. وزيادة في الاستمتاع بمظاهر النصر أبقى قورش على حياة نابونهيد وبعث به إلى كرمان. ومرة أخرى هلل اليهود للمنتصر وتشفوا في المنهزم وقالوا بلسان النبي دانيال: "قسمت مملكتك وأعطيت للميديين والفرس"، وزعموا أنها كانت نبوءة كتبت على أحد جدران قصر ملك بابل2.
__________
1 Sindey Smith, Babylonian Historical Texts, Pls. V-X, P. 83 F.; E Ebelling, Aot, 368 F.; Anet, 312 F., 315 F.
2 سفر دانيال: 5: 28.(1/554)
خاتمة:
انتهى دور بابل في التاريخ القديم كدولة مستقلة في عام 539ق. م، كما انتهى قبلها دور آشور بعد عام 612ق. م، ولكن زوال دورهما السياسي لم يستتبعه إطلاقًا زوال تأثيرهما الحضاري في الشرق والغرب معًا. ولم تكن بابل أقل حظًّا من أختها في ذلك، حتى لقد رأى فيها المؤرخون الإغريق الذين زاروها منذ عصرها الفارسي وخلال عصرها السليوكي، صورة تجمعت فيها المفاخر العقلية للعراق القديم كله، فتحدثوا عن تراثها الفلكي بما فيه من تقسيمات دائرة البروج ورموزها الاثنى عشر، وإضافة وتنظيم شهر النسيء "أو الكبس" فيها على أساس دورة زمنية مقدارها ثمان سنوات ودورة أخرى مقدارها تسعة عشر عامًا، وتحدثوا عن قدرة علمائها على التنبوء بخسوف القمر مستعينين بدورة الثمانية عشر عامًا، وعن معرفتهم بالمزولة الشمسية والمزولة المقعرة ثم بالساعة المائية، مع تقسيم الساعة إلى أجزاء ودقائق ... ، وبراعتهم في استخدام الطريقة الستينية التي توارثوها عن عصورهم القديمة ... إلخ1.
ومن طريف ما صوره أحد البابليين الأواخر، خريطة لما تشغله بابل وجاراتها من العالم المعروف لديه، على لوحة مسمارية سجلت في أعلاها بعض حملات سرجون الأكدي "ولعله أراد أن يفسر بها مواقع هذه الحملات"، فصور العالم على هيئة دائرة تحيط بها دائرة أوسع منها قليلًا، بهرتها بابل العظيمة على هيئة دائرة سوداء صغيرة، ويشقها طولًا الفرات ودجلة إلى حيث يصبان في مياة الخليج. ثم صور مدنًا أخرى وشعوبًا على هيئة دوائر سجل أسماءها فيها وبجوارها "ولكن دون اهتداء إلى توزيعاتها الجغرافية الصحيحة بطبيعة الحال". وصور في شمال البحر الكبير ثماني جزر قال عنها إنها لا ترى الشمس. وصور على أطراف دائرته مثلثات كبيرة تخيلها فيما يبدو جبالًا بعيدة أو رواسي ترتكز قبة السماء عليها.
__________
1 See, F. Thureau-Dangin, Esquisse D’une Histoire Du Systeme Sexagesimal, Paris, 1932; A.T. Olmstead, “Babylonian Astronomy”, Ajsk, 1938, 113-129; O. Neugebauer, The History Of Ancient Astronomy”, Jnes, Iv, 1944, 1 F.(1/554)
الخرائط واللوحات
...(1/556)
قائمة بأهم المفردات:
"أ"
إيبي 198، 199.
أيريس "واح إب رع" 300، 305، 306، 309.
آبو 442، 473.
إبشا 186.
أبو سنبل 111، 239، 278، 279، 305.
أبو صير 64، 130.
أبو الهول 120، 124، 125، 186، 189، 545.
أبيدوس 91-92، 155، 156، 163.
إبي سين 434، 436، 437، 448.
أبيس 302، 312، 330.
أتوم 65، 134، 178، 192، 331، 333.
أتون 333، 334-337.
إتى 164.
إثت تاوى 177، 191.
أثينا 308، 315، 316، 323، 324.
آجبة 35.
أحمس "الأول" 202، 203، 204، 205، 206.
أحمس "ملكة" 207.
أحمس "الثاني" انظر أمازيس
أحمس نفرتاري 206.
أحمس بانخبة 210، 213، 215.
أحمس بن إبانا 202، 210، 213، 215.
آخ339.
أخأب 517، 518.
آخناتون "أمنحوتب الرابع" 205، 208، 225-227، 273، 274، 335، 338، 362، 489، 502.
أخلامو "قبائل" 503، 504، 508، 543، 549.
أداد نيراري الثاني 513، 514.
أداد نيراري الثالث 520.
إدوم 265.
آراميون 264، 317، 503، 508، 513، 514، 542، 548.
أرتاكسرميس "الأول" 314، "الثاني" 316، 322، "الثالث" 326.
إرتن حر إرو "إناروس" 314.
أرسطو 321.
إرشكيجال 442، 443، 478.
إرميا 306، 318، 556.
إسبارطه 315، 316، 322، 324، 328.
إسرائيل "انظر عبرانين"
أسوان "آبو –الفنتيني" 144، 317+، 349.
إسين 448، 450-454، 455، 457.
إشتار "عشار، عشترة، عشتارتة" 247، 418، 419، 476، 477، 480، 481، 501، 547، 551، 558، 560.
أشدود 302، 523.
إشميا 294، 532.
أشمونين 154، 200، 287، 289، 290.
إشنونا 445، 450-457.
آشور 116، 224، 291، 294، 296-299، 300-303، الفصل التاسع عشر 500-547، 552-555، 561، 564.
آشور أخادين 297، 528، 533، 534، 537، 547.
آشور أوبالليط 490، "الأخير" 555.
آشور بانيبال 298، 299، 528-531، 534، 536، 537، 541(1/595)
آشور ناصربال "الثاني" 514-516، 537، 541.
إضراب عمال 250، 251.
إغريق 300، 301، 303، 305-308، 316، 318، 322، 323، 325، 328، 564.
أقاوشا "قبائل" 245.
الأقصر "انظر طيبة"
أكد "أجادة" 417، 419، 425، 426.
إكور 399، 426، 458.
الإسكندر المقدوني 37، 327، 328.
إلام "انظر عيلام"
أمازيس "أحمس الثاني" 307-309، 311، 312، 313.
أمنحوتب الأول 205، 206، 213.
أمنحوتب الثاني 205، 322.
أمنخوتب الثالث 205، 206، 208، 223-227، 334، 490-491.
أمنحوتب بن حابو 211، 212، 271.
أمنحوتب "كاهن" 252.
أمنمحات "وزير" 165، 166، 173.
أمنمحات الأول 173-175، 184، 350.
أمنمحات الثاني 176، 185، 186، 188.
أمنمحات الثالث 177، 180، 181، 182، 189، 190.
أمنمحات الرابع 186، 190.
أمنموبة 262، 265.
أمنموبى 361، 362.
أمور "أمورو، أموريون" 17، 141، 186، 196، 197، 198، 417، 447، 459.
آمون "آمون رع" 163، 177، 199، 200، 201، 206، 207، 208، 234، 235، 249، 254، 257، 258، 261، 263، 285، 288، 289، 295، 296، 299، 301، 328، 331، 333، 335، 336.
آمون حر "أمير يتايوس = آمون إرديس؟ " 315.
آمون حر الثاني 315، 316.
آمون رديس 290.
أميني "ملك" 173.
أميني "حاكم إقليم" 176.
آن "آنو" 398، 419، 433، 439، 440، 477.
إنانا 382، 385، 395، 399، 434، 442، 443، 446.
إنب حج 86-88 انظر "منف"
إنبو "أنوبيس - معبود" 340.
إنبو "بطل قصة" 352-353.
إنتف "أمير" 153، 163، 191.
إنتف "حاجب" 211.
إنسي 402، 404، 407، 421، 428.
إنكي 391، 398، 400، 439، 442، 444، 446، 484.
إنكيدو 441، 442، 444، 475-478.
إنليل 398، 419، 421، 424، 427، 432، 435، 440، 442، 446، 449، 447، 479، 480، 481.
أنوما إليش 493.
أنوناكي 398، 444، 480.
آني "تعاليم" 361.
أهناسيا 152-157، 280، 281، 289، 300، 336.
أوتانبشتيم "وتنابشتو، أوتونبشتيم" 478-481.
أوتو 391، 399، 442.
أوجاريت 77، 189.
أور 187، 379، 396، 401، 419، 421، 432، 438، 447-450.
أورارتو 517، 520، 521، 527، 528، 561.
أورانتو 517، 518.(1/596)
أورشليم 286، 294، 295، 303، 304، 305، 318، 321، 532، 556، 557.
أورنانشة 404.
أوروك "وركاء" 379-386، 390، 391، 431-432.
أوروكاجينا 406-407، 432.
أورنمو 432-433، 437، 445، 562.
أوزير 64-66، 134، 139، 159، 171، 192، 288، 331، 332، 340، 343، 345، 346، 347، 348، 366.
أوما 403، 405، 407، 444.
أونو 63، 65، 88 "انظر عين شمس".
آي 205.
إي - دبا 445.
إيا 474، 479، 480.
إياح حوتب 202-203.
إيام 141، 144، 145.
إياناتم 482-483.
إيبوور 149-150، 158، 363-365.
إيتانا 482، 483.
إيسة 65-66، 103، 104، 114، 345-348.
إيمحوتب "مهندس" 97-98، 103-104، 142، 212.
"ب"
با 339، 341، 357-359.
بابل 10، 187، 221، 222، 224، 421، الفصول 17، 18، 20.
بانحسي 144، 252.
بارايوتاميا 374.
باراسو 520 "انظر الفرس".
بارع مسو "من بحتي رع" 229.
باوفرع 119، 121.
ببي الأول 139، 141، 143.
ببي الثاني 139، 141، 142، 143، 145، 149، 150.
ببي نخت 139، 145-146.
بتاح 88، 97، 240، 294، 333.
بتاح حوتب 138، 359-360.
بحيرة الفيوم 45، 177، 180-181.
البحرين "انظر تلمون وهلون"
البداري 47-49.
بر إبسن 84-85.
بردي 37، 38، 78، 79، 95، 96، 168، 199، 230، 236، 253، 259، 295، 316، 317، 323، 327، 345، 363، 368، 549.
بردية تورين 38، 96، 111، 150، 193.
بر رعمسسو "سان الحجر – تانيس" 232، 233، 252، 254، 278، 281.
برعو 81 "انظر فرعون" 526.
برقل 214، 288 "انظر نباتا"
بسماتيك "الأول" 151، 298، 300-303.
بسماتيك "الثاني" 305، 307، "الثالث" 311.
بسماتيك "أمير" 315.
بسوسينيس "باسباخع مني" 262، 265.
بعل، بعلة 186، 248، 501.
بلتسي 244، 246 "انظر بالاستو، بالاشتو في البابلية"
بلوزيوم 311، 327.
بنتاورة "أمير" 348، 349.
بنتاورة "طالب" 199.
بني حسن 182، 183، 186، 187.
بهو الأساطين "بالكرنك" 271.
به "بوتو" 66، 67، 75.
بوابة إيمحوتب 142.
بوابة إشتار "عشتار" 510.
بوباسطة 281، 285.
بوخوريس "باكن رلف" 287، 291، 293.
بوينة "بونت" 134-135، 147، 166، 187، 315(1/597)
بيت باكين 523، 542، 548.
بي عنخ 253، 262.
بيعنخي 288-290، 293، 294.
بيك 231.
بي نجم 262، 267، 268.
بيوت الكا 169.
"ت"
تائنن 87، 88.
تاسي 173.
تاسوع عين شمس 65، 134، 333.
تاف نخت 287، 289، 290، 291.
تامري "مصر" 214.
تانت آمون 254، 258، 261.
تانوات آمون 299-300.
تانيس "انظر بر رعمسسو"
تاهرقه 294، 295، 297-300، 534.
تبي خرنيسو 84، 97.
تتي 139، 140.
تتي شري 202.
تحنيط 267، 342، 343.
تحنو 246، 280، 282.
تحوتمس الأول 205، 206، 207، 213، 214.
تحوتمس الثاني 205، 206، 215.
تحوتمس الثالث 205، 206، 207، 211، 216-221، 489، 492، 502.
تحوتمس "الرابع" 205، 206، 207، 334، 336، 492.
تحوتي "معبود" 137، 175، 177، 333، 351.
تحوني حوتب 176.
تدمر 508.
تشريع إسين 453-454.
تشريع إشنونا 451-453.
تشريع أورفو 432-434.
تشريع "إصلاحات" حور محب 210.
تشريع "غير محدد" 455، 456.
تشريعات آشورية 502، 510-512.
تشريعات حمورابي البابلية 463-470.
تعاليم تهذيبية 359-363.
تعاليم "الوزير" 209.
تفنوت 65، 349.
تفيبي 152، 153.
تقويم "مصري" 104، 106، "عراقي" 395، 421، 435، 487، 546.
تل الفراعين 66.
تل أجرب 383، 413.
تل أسمر 412، 415.
تماثيل "مصرية" 45، 49، 52، 53، 54، 71، 72، 100، 102، 110، 111، 120، 122، 123، 124، 125، 126، 127، 138، 143، 162، 170، 171، 181، 182، 207، 255، 273-276، 278، 279، 295-296، 309-310، 325، 326، 330، 341، 545 – تماثيل "عراقية" 383، 384، ... ، 412-413، 423، 428-431، 456-457، 470-471، 542، 543، 563 "انظر النقوش".
تنبوءات نفرتي "انظر نفررحو".
تهجير "سياسة" 516، 522، 524، 556.
توابيت 47، 48، 99، 126، 161، 171، 265، 267، 268، 326، 341 "انظر نصوص التوابيت"
توت عنخ آمون 205، 227، 274، 275، 288، 338.
توحيد "ديني" 333-338.
تورشا "قبائل" 240.
توكلتي نينورتا الأول 494، 503.
توكلتي نينورتا الثاني 514.
تونيب 226.
تي "ملكة" 271-272.
تيامة 473-474، 484.
تيجلات بيليسر الأول 507-508، 510، 512.
تيجلات بيليسر الثالث 521-523(1/598)
تيماء 563.
"ث"
ثارو 217، 230.
ثكر 246، 254، 259.
ثكرتي "تكلوت" 284، 287.
ثمحو 141، 145، 280، 282، 285.
ثني 67، 79، 86، 91، 155، 156.
ثيوقراطية 261، 284، 288.
"ج"
جاجا معنخ 349-350.
جانداش 486.
جبيل 54، 94، 112، 147، 185، 189، 191، 225، 255+، 347، 364، 508.
جدحر "تاخوس" 323، 324.
جدفرع 119، 120، 121، 129، 130.
جد كارع "إسي" 130، 138، 359.
جدو 64.
جدي 350-351.
جر 80، 93، 94، 95.
جرمو 35.
جزر بحر إيجه 183، 187، 188، 203.
جلجميش 11، 432، 439، 442، 444، 475، 482، 484.
جمدة نصر 376، 380.
جنديبو "جندب، جندبة" 517.
جيجونو 395.
جيجيس 300، 301، 535.
جيزة 36، 111، 112، 117، 120، 121، 124، 125، 128، 137، 143، 207.
"ح"
حاب "أبيس" 97.
حابو "معبد" 247، 277.
حاتشبسوت 205، 206، 207، 208، 211، 269، 270.
حانبو 167، 187، 203.
حة وعرة 197، 200، 202 "انظر أفاريس"
حتحور 75، 122، 126، 186، 331، 349، 545.
حجر رشيد 40-41.
حرخوف 139، 145، 146.
حريحور 252، 253، 254، 261، 262.
حزائيل 518، 519.
حزقيا 294، 532.
حساب الآخرة 117، 344.
حسونة "تل" 374، 375.
حسي رع 102.
حعبي 340، 365.
حعبي جفاي 184.
حقا نخت 167، 168.
حقاو خاسوت 185، 195.
حلف "تل" 374-375.
حماكا 84، 92.
حنفو "حنو" 166-167.
حنينا 306، 556.
حوتب حرس 110.
حوتب سخموي 80، 84.
حور 63، 66، 67، 74، 75، 82، 83، 84، 85، 86، 122، 129، 134، 156، 331، 332، 333، 346، 348.
حور آوت إب 190.
حورمحب 205، 229، 275، 278.
حورون "حورنا = حول" 124-125.
حوريون 10، 196، 485، 490، 491، 493، 500، 512.
حوني 106، 108.
حيثيون "انظر خاتي(1/599)
خابرياس 323، 324.
خابيرو 225.
خاتوسيلي 237.
خاتي "خاتيون – مات خاتي" "انظر حيثيين" 10، 195، 231، 232، 234-239، 485، 486، 492، 493، 502، 504، 515، 517، 525.
خباش 327.
خريطة 230 "مناجم" 230، 232 "حربية" 458 "نيبور" 564 "بابل".
خع سخم 80، 85.
خع سخموي 80، 85، 86، 96، 97.
خفاجي 376.
خفرع 119، 121-125، 128، 130.
خنتكاوس 127-128، 130.
خنجر....
خنادي 155.
خنسو 252، 253.
خنمة نفرة حجة 186.
خنوم 103-104، 320، 321، 331.
خنوم حوتب "ملاح" 147.
خنوم حوتب "وال" 174.
خورسباد "دورشروكين" 373، 537-538.
خوفو "خنوم خوفري" 111-119، 128.
خون إنبو 366-368 "انظر القروي الفصيح"
خوي "طبيب" 136.
خوي "ملاح" 147.
خيتي "الأول" 153-154.
خيتي "الثالث أو الرابع؟ " 155-157، 159، 160.
خيتي "بن تفيبي" 153.
"د"
دار الحياة 305، 314.
دارا الأول 312-314.
دار الثالث 328.
دانيون "قبائل" 244، 245.
داود 264، 265، 286.
دب 67.
دبحن 127.
ددف خور 119.
دلمون "تلمون" 390، 420، 440، 446.
دمشق "الآرامية" 517، 518، 520.
دمنهور 63.
دن "وديمو" 80، 84، 94، 95.
الدهور الحجرية "انظر فهرس الموضوعات"
دور كوريجا لزو "عقرقوف" 487، 488.
دولة البحر "البابلية" 485، 486، 490.
دوموزي 392، 442، 444.
ديانة
الدير البحري "معبد" 207، 216.
الدير البحري "مخبأ" 266، 267.
دير تاسا 46-47، 48.
ديموسثينيس 325.
ديموطي "خط" 40، 78، 296، 316، 327.
ديودور الصقلي 39، 95، 106، 114، 178، 181، 291، 292، 304، 327، 342.
"ر"
رابشاق 294، 522 "وحاشية1" 549.
راحنة "لاهون" 180.
رأس الشمرا 185 "انظر أوجاريت".
رخميرع 206، 209، 270 "حاشية1"(1/600)
رع 65، 80، 85، 104، 109، 121، 129، 130-132، 134، 240، 331، 332، 333، 340، 349، 353، 362، 368 إلخ.
رع حرآختي 124، 199، 201، 208، 335، 353.
رفح 291، 526.
رمسيس الأول 229، 278.
رمسيس الثاني 232-238، 275، 276، 277، 278، 279، 305.
رمسيس الثالث 243-249، 276، 277، 278.
رمسيوم 249، 277.
ريب إدي 225.
"ز"
زاجيزي "لوجال" 407، 419.
زبيبي "زبيبة" 522.
زقورة 394-395، "أور" 436، "عقرقوف" 488 "بابل" 558-559.
زو 424، 484.
زوسر 96-106، 131.
زيوسدرا 439، 440، 478.
"س"
سابني 145.
ساحورع 130، 134، 135.
سالتيس 197.
السامرة 290، 291، 317، 523.
سامي 6، 10، 12، 14+، 69، 141، 149، 155-156، 185، 186، 189، 195، 196، 377، 388، 391، 417-418، 423، 425، 434، 447، 448، 450، 460، 500، 503، 0508، 548 "وانظر شبه الجزيرة العربية".
سايس "ساو" 64، 66، 287، 298، 300، 302، 309.
ست "سوتيخ" 50، 64، 65، 66، 85، 86، 134، 198، 199، 345-348.
ست نخت 243.
ستياجيس 561.
سحتب إب رع "ملك" 173+.
سحتب إب رع "موظف" 177.
سنجم إب 85.
سخمة 331.
سرجون "الأكدي" 419، 423، 425، 461.
سرجون الأول "الآشوري" 500.
سرجون الثاني "الآشوري" 291، 294، 523، 528، 535، 537، 539، 545.
سمنخ كارع 205، 227، 274، 338.
سقارة "آثار" 88، 90، 91، 92، 97-102، 130، 132، 133، 142، 144، 309.
سقننرع 199، 200.
سكيم "سشم" 188.
سكيثيون 302، 553.
ساحان 265، 286.
سماتاوي تف نخت "قائد طيبة" 227.
سمرخت 80، 84.
سمنة 188، 191.
سمسو إيلونا 472، 485.
سمس "شمس" 524، 526.
سمندس 254، 257، 261، 262.
سميراميس "سمورمات، شميرام" 520.
سميريون 527، 535، 552.(1/601)
سنج 80.
سنجار 489.
سنفرو 106، 107-111، 121، 128، 349-350.
سنموت 270.
سنوسرت الأول 174، 175، 178، 184، 185، 189، 356-357.
سنوسرت الثاني 176، 178، 179، 180، 186.
سنوسرت الثالث 176، 178، 182، 188.
سنوهي 185، 356-357.
سهيل 103، 104.
سوبار "سوبارتو" 421، 499، 500.
سويدة 105، 106.
سويك 181، 191، 282، 331، 333.
سوبك نفرو 190 "سوبك كارع، سوبك نفرو رع"
سوبيلو ليوما 493.
سوسة 530، 531.
سوتو "قبائل" 503.
سوريا "الشام" 11-13، 17، 22، 25، 26، 54، 77، 94، 107، 108، 111، 112، 135، 141-142، 147، 167، 183، 184، 185، 186، 187، 188، 189، 190، 193، 194، 195، 196، 202، 212، 214، 216-221، 223، 225-227، 231، 234-240، 244، 247، 248، 253+، 286، 291، 295، 303، 304، 305، 318، 324، 327، 328، 422، 503، 508، 517، 519، 523، 533، 555، 557+، إلخ.
سولون 308.
سومو أبوم 460، 461، 501.
سيبار 445، 461.
سيبئة 291، 524، 526.
سيتي الأول 105، 231، 232، 275، 277.
سيتي الثاني 242.
سين 297، 418، 460، 480، 546، 562.
سين موبالليط 460.
سينا خريب "سين أخي إربا" 294، 518، 519، 531، 535، 536.
سيوة "وحي" 312، 328.
"ش"
شاباكا 289، 293، 295.
شابتونا "ربلة" 234، 247.
شانتيت "قبائل" 246.
شاج نانشة "شاج أنجور" 403.
شاخورو 395.
شاركبرات أربعيم 419.
شاروحين 202.
شاشانق 281، 285، 286، 287.
شبتكو 294.
شبتن وبة 285، 290، 300.
شبسبتاح 127.
شبسرع 136.
شبسكارع 130.
شبسكاف 122، 128.
شبه الجزيرة العربية 13-18، 23، 31، 32، 60، 134، 522، 523، 526، 535، 563.
شرادنة 240، 245.
شروكين "انظر سرجون"
شعوب البحر 240، 243-246، 280، 506، 507.
شلما نصر الأول 503.
شلما نصر الثالث 516-518، 537، 549.
شلما نصر الخامس 523.
شمش 418، 463، 471، 477، 479، 505، 515(1/602)
شمشي أداد الخامس 520.
شمشي شوموكين 529، 535.
شهور "مصرية" 105، 106 "شهور عراقية وآرامية" 396، 509، 510، 540، 546.
شو 65.
شوبر 400.
شوسين 434، 435.
شولجي 434، 435.
شيلية "حضارة" 20.
"ص"
صا "الحجر" 64، 287، 300 "انظر ساو، سايس"
صان "الحجر" 233 "وانظر حة وعرة، بر رعمسسو، تانيس"
صاوي "مصر" 300-310.
صدقيا 306، 556.
صلايات 52، 57، 70، 71، 73، 74، 75، 94.
صور 225، 295، 305، 306، 356، 532، 533.
صيدا 225، 226، 305، 306، 356، 532، 533.
"ط"
طوفان "سومري" 398، 401، 439 "بابل" 475-482.
طيبة 152، 155، 156، 157، 160، 163، 164، 169، 171، 172، 177، 181، 182، 191، 199، 200، 201، 204، 205، 208، 209، 233، 250، 251، 254، 261-264، 266-268، 276-278، 280، 281، 284، 285، 289، 296، 299، 300، 301، 309، 310، 321، 336، 534 "انظر الأقصر".
"ع"
عابيرو 225، 226.
عارونا 217، 218.
عامو 195، 199، 200، 201.
عامو حريوشع 141.
عيدو إشرتا 225، 226.
عبرانيون 81، 141، 195، 196، 202، 233، 265، 286، 290، 294، 305، 306، 311، 313، 316، 317-322، 362، 503، 517، 519، 520، 523، 531، 533، 534، 552، 556-557، 564 "وانظر اسرائيليون، أورشليم، السامرة، يهود".
العبيد "حضارة" 377-379.
عحا 79-80، 93.
عرب "انظر ساميون، وشبه الجزيرة العربية"
عسكرية "مصرية" 73، 75، 93، 94، 107، 135، 141-142، 152، 153، 156، 165، 169، 189، 200-202، 212-215، 217-220، 232، 234-237، 240، 244-245، 277، 289، 301، 303، 306، 317، 324 "عراقية" 404، 407، 419، 434، 462، 508، 515، 524، 531، 539 "وراجع سياسة العلاقات الخارجية".
عشتار 418، 473 "انظر إشتار".
عقائد "يراجع فهوس الموضوعات".
العقرب 67، 73.
عمارنة "ديانة" 206، 227، 336-337.
"رسائل" 224-227، 489، 492.
"فن" 206، 225، 273، 275.
عملة 313 "نقد" 324 "بيت المال" 82-83.
عنات 248.(1/603)
عنجاب 80، 84.
عنجة 63، 69.
عنجتي 63، 64.
عيلام "انظر إلام" 377، 386، 420، 421، 429، 447، 448، 451، 486، 494، 530، 531.
عين شمس "أونو-هليوبوليس" 65، 66، 83، 130، 178، 192، 331، 346.
"غ"
غزة 217، 291، 524، 526، 532.
"ف"
فارس "الفرس" 308، 309، 311-315، 316-328، 552+، 561، 562، 563 "وانظر عيلام"
فرعون "برعو" 81-83، 526 ألقابه 66-67، 80-82، 121.
الفرما 311، 327، 534.
فلسطين "انظر بلستي، الشام، غزة، أشدود، مجدو"
فنون "انظر تماثيل ونقوش، وفهرس الموضوعات"
فيلاي "قبيلة" 103، 323.
الفيوم 45-46، 177، 178، 180، 280 "انظر بحيرة الفيوم"
فينيقيا "انظر الشام، جبيل، صور، صيدا"
"ق"
قادش 216، 218.
قاع عا "قع" 80، 81، 94.
قانون أحمس 308.
قانون بوخوريس "باكن رنف" 291-293.
قانون "إصلاح" حورمحب 210.
قانون دارا 313.
قبرص "قيرس" 308، 311، 315، 323، 527، 533.
قحق ... 246.
قرطاجة 312.
قرقر "قرقرة" 517، 518.
قرقيش 220، 303، 556.
قرينة 306، 308.
القروي الفصيح 160، 366-368 "انظر خون إنبو".
قطنه 185، 219، 222، 225.
قمبيز 311-312، 562.
قناة سيزوستريس 178، قناة نيكاو 304 قناة دارا 313.
قوائم ملكية "مصرية" 38، 39، 139، "عراقية" 401.
"ك"
كاش "كوش" 184، 200، 201، 212، 288+، 526، 534 "انظر نوبة".
كاشتا 289.
كالح "نمرود" 536-537.
كامس 199، 200-202.
كاوعب 119، 120، 121.
كايسجنمي 139، 143.
كتابة "مصرية" 40، 59، 74، 75، 77-79، 266، 296 "عراقية" 391-394، 425، 495.(1/604)
كتب الموتى 38، 95، 326، 346-347.
كرما 146، 184، 198.
كرنك 38، 163، 177، 200، 207، 277، 278، 285، 295، 299، 335.
كرويسوس 308، 562.
كريت "كريتيون" 94، 167، 181، 187، 188، 198، 203، 308.
كلام "كالاما" 387، 403.
الكلب "نهر" 22، 234، 303، 555.
كودورو 488، 550، 551.
كور 442، 443، 445.
كي -إن -جي 387.
كيش 401-403، 405، 417، 421، 461.
كيمة 35.
"ل"
لابرينثوس "اللابرنت" 181.
لا مركزية "مصرية" 37، 38، 148+، 191+، 197+، "سومرية" 9، 401+، 408، 450+ "سورية" 11، 12 "عربية" 13، 14.
لارسا 450، 455، 458، 459.
لا شيش "لحيش" 295، 532.
لاهون "لاهنة –راهنة" 178-180، 290.
لجش 401-403-407، 421، 427، 428، 431، 448.
لوجال 402، 407.
لوحة المجاعة 103-104.
لود –لود بل –نميق 497.
لوكي "قبائل" 245.
ليبيا "ربو -ليبيون" 240، 241، 244، 245، 280-283، 290، 312، 526.
ليديا 300، 301، 308، 535، 553، 561، 562.
ليمو 509-510.
"م"
ما "لقب" 280، 282.
مات سوميريم 387.
ماجان 420، 422، 429.
ماخيموي "طبقة عسكرية" 285.
ماذي "ماذيون –ميديون" 302، 303، 311، 524، 552، 553، 555، 561.
مارتو 401، 426.
ماري 420، 445، 447، 448، 457، 458، 462.
ماسا حرتا "كاهن" 262، 263.
ماعت "العدالة" 111، 117، 120، 124، 130، 137، 142، 159، 209، 211، 244.
مانتيون 39، 95، 96، 97، 151، 153، 189، 193، 194، 195، 242، 261، 286، 300.
متون الأهرام 38، 63، 66، 117، 133-134، 143، 161، 309، 343، 344.
متون التوابيت 38، 159، 343، 344.
مجدو 185، 216، 219، 303.
مراكب خوفو 118-119، انظر أيضًا 90-91، 131، 340.
مردوك 294، 421، 462، 471، 474، 487، 501، 506، 507، 558، 559، 560، 562، 563.
مرروكا 139، 143.
مرمدة بني سلامة 44-45.(1/605)
مرترع 139، 140، 141، 143، 145.
مريكارع 155-157.
مساكن "مصرية" 44، 45، 58، 59، 60، 62، 73، 89-90، 93، 123-124، 169-170، 178، 179 "عراقية" 376، 378، 385، 413، 457-459، 536+.
مسكتة 91، 118، 131.
مسلة 131، 132، 178، 299، 519.
مشوش "قبائل المشاوش" 244، 280-282.
معابد الشعائر "الملكية المصرية" 90، 100، 109، 112، 117، 120، 121، 123، 126، 128، 132-133، 170-171 "انظر الرمسيوم وحابو" –معابد الشمس "المصرية" 131-132.
معابد عبادة "مصرية" 73، 80، 98-100، 139، 206، 207، 208، 230، 233، 248، 249، 330 -"وانظر معابد الشمس، والأقصر والكرنك".
معابد عبادة "عراقية" 378-379، 384، 395-397، 426، 488، 505-506 "وانظر زقورة".
معابد الوادي "المصرية" 106، 117، 121-123.
معاملات "آشورية" 509، 510، "أكدية" 425 "سومرية" 435، 436، 455 "كامية" 496 "مصرية" 292.
معاهدة "مصر مع الحيثيين" 237-239.
معرفة النار 5، 21.
معنجة 91، 118، 121، 340.
مصرو 523.
مصري 523.
مقدونيا 328.
مكت رع 167، 169-170، 172.
الملاح "قصة" 167، 354-356.
ملوخا ...
من خبر رع 205، 216، 267، 262، 263.
منديس 322، 323.
منف 40، 86، 83، 86-88، 112، 152، 161، 168، 181، 200، 233، 259، 290، 293، 294، 307، 309، 311، 315، 323، 346، 534 "انظر إنب حج".
موستيرية 21.
مونتو حوتب "وزير" 175.
مونتو حوتب "الأول" 155.
مونتو حوتب سمنخ إب تاوي 160.
مونتو حوتب سمنخ كارع 165، 166، 167.
مونتو حوتب تب تاوي رع 165، 166.
مونتو حوتب تب حية رع 160، 163، 164، 167، 170، 171، 172.
مونتومحات 296، 299، 300.
منكاورع 125-127.
مني 79، 80، 164.
مؤامرة الحريم 248، 249.
مورميل الثالث 227.
موسى "خروج" 195، 236، 240 –"انظر عبرانيون".
موشكينو 523، 524، 528.
ميتان "مثن –ميتانيون" 213، 214، 216، 220، 222، 223، 224، 231، 491، 493، 503، 505.
ميزوبو تاميا 374.
مين 72، 165، 331.
"ن"
نائب الملك في النوبة 213، 214، 252، 288.
نابو 294، 399.
نابو بالدنيا "نصب" 550، 551.(1/606)
نابو بولاسر 552-554.
نابو نهيد 436، 562-563، 564.
نرام سين 241، 442، 425، 426، 427، 563.
نايف عاورود 322.
تاييري "من أرمنيا" 507.
نباتا 214، 288، 305، 312 "انظر كائن"
نبت حت "نفتيس" 65، 245.
نبوخذ نصر 303، 304، 306، 327، 557، 558، 560، 562.
نبي رع 80.
نثر رخت 96 "انظر زوسر".
نخاية "ربة الكاب" 67، 82، 85.
نخل مصر 526، 527.
نخت حرحب "نكتانبو الثاني" 325، 326، 327، 328.
نخت نيف "نكتانب الأول" 323، 324.
نخن 67، 74، 79، 86.
نس بانب جدة 253، 254، 257، 261، 262.
نشأة الوجود "البابلية" 473-475.
نشأة الوجود "السومرية" 398-401.
نشأة الوجود "المصرية" 65، 88-89، 103، 157، 337، 340.
نعرمر 74، 89، 80.
نفر "فيجور" 426، 432، 437، 442، 458.
نفرتيتي 206، 273، 274، 338.
نفر حوتب "خع سخم رع" 191-192.
نفروحو "انظر نفرتي" 173، 350.
تفرير كارع 130، 136.
نقادة 49-62، 65، 69.
نقراطيس 307، 318، 323، 328.
نقوش "رسوم، ومناظر" 36، 38، 39، 46، 50، 51-53، 54، 55، 56، 57، 58، 67، 75، 94، 95، 99، 101-103، 110، 111، 118، 120، 126، 132، 133، 134، 138، 140، 142، 144، 160-162، 171، 177، 182-183، 186، 198، 206، 207، 274، 275، 276، 277، 278، 279، 376، 377، 380، 387، 384، 385، 473، 488، 500، 505، 542-544، 550-551 "وانظر أيضًا تماثيل".
ننا "ننار" 398، 434، 435، 444، 450.
ثن خرساج 40، 442، 446.
نهرينا 214، 215، 222، 491.
النوبة "نوبيون" 54، 93، 111، 134-135، 141-142، 144-147، 153، 165-167، 183-184، 187، 188، 189، 193، 200، 201، 212، 213، 214، 221، 222، 223، 224، 252، 278، 281، 288+، 305، 312، 526، 534 -"وانظر أيضًا كاش –نباتا –واوات".
نوبت 50، 65.
نوت 65، 331.
نوزي 502، 503.
نون 65، 88.
ني نثر 80، 85.
ني ماعت حاب 96، 97، 110.
ني وسررع 130، 131.
نيت 64، 202، 214، 223.
نيت إترت "نيتوكريس" 300.
نيت إقرتي 120-121.
نيت حوتب 80.(1/607)
نيسويتي 67، 82، 85.
نيكاو الأول 298.
نيكاو الثاني 178، 303، 304، 559.
نين جيرسو 428-430.
نينورتا 442.
نينوى 299، 373، 377، 532، 536، 537.
"هـ"
هانو "خانو؟ " 291، 523، 525.
هداد "حداد –أداد" 265.
هقر 323، 326.
هكسوس 185، 194، 195-198، 199+، 347، 505.
هنقو 140.
هوارة "انظر حة وعرة"
هواوا 441، 447.
هوشع 290، 521.
هيراطية 78، 179، 193، 266، 296، 345.
هيرودوت 39، 87، 151، 181، 300، 301، 303، 307، 308، 311، 312، 342، 556، 559.
هيروغليفية 40، 41، 74، 78، 133، 345.
"و"
واجة 67، 82، 85.
واجي 80.
واح إب رع 305-306 "انظر أبريس"، 300.
واحات 10، 12، 13، 14، 135، 145، 201، 263، 280، 282-284، 312، 328، 364.
وادي الحمامات 54، 134، 165، 166.
وادي الطميلات 134، 178.
وادي الملوك، وادي الملكات 228، 250، 266، 267، 272، 276.
واشبتاح "بتاح واش" 136.
واوات 141، 144، 167، 184 "وانظر نوبة –كاش"
وبواوت 346.
وجاحور رسنة 314.
وحم مسوت 173، 229، 253، 254.
وردسين 448، 450.
وركاء "انظر أوروك"
وزير 135-136، 138، 140، 141، 148، 165، 166، 173، 175، 209، 235، 434.
وساركون 281، 284، 287، 295.
وسركاف 129، 130، 131.
وتأمون 253-259.
وني 139-142، 149.
ونيس 130، 133، 143.
"ي"
ياهو بن عمري 519.
اليائس "حوار"158، 159، 357-359.
يربعام 286.
اليمن 23، 32، 134.
يوسيبيوس 39.
يهود، يهوذا "انظر عبرانيون"
يهو ياقيم 303، 304، 556.
يوشيا 303، 318، 555، 556.
يويا 228.(1/608)
الموضوعات:
صفحة
مقدمة 1-4
الفصل الأول
التشابه والتنوع في الشرق الأدنى القديم وتأثيرات البيئة في حياة أهله 5-18
عموميات "5" – مصر ووادي النيل "7" – بلاد النهرين "9" – بلاد الشام "11" – شبه الجزيرة العربي "13"
الفصل الثاني
الشرق الأدنى ودهوره الحجرية فيما قبل التاريخ 19-32
في الدهر الحجري القديم الأسفل 19
في الدهر الحجري القديم الأوسط 21
في الدهر الحجري القديم الأعلى 21
قرائن العمران في الدهور القديمة الثلاثة 22
من السلالات البشرية 22
بدايات الزراعة في فجر التاريخ "العصر النيوليثي" 25
تعدد الحرف وبدايات الفنون 27
بداية حرفة الرعي 29
بدايات المعادن "في العصر الخالكوليثي" 30
وضوح التجمعات 31
الكتاب الأول
مصر القديمة منذ فجر التاريخ حتى نهاية العصور الفرعونية
تمهيد بتقسيمات عصور مصر القديمة ومصادرها 35-42
مصر فجر تاريخها 43-76
في الفترة النيوليثية "الحجرية الحديثة": 43
في مرمدة بني سلامة "44" – في الفيوم "45" –في دير تاسا "46".
في الفترة الخالكوليثية "النحاسية الحجرية". 47
في البداري "47" – في حضارة نقادة الأولى "49" – في حضارة نقادة الثانية "54" – بين الصعيد والدلتا "60" – التطور الاجتماعي والسياسي نحو الوحدة "62" – من تطورات الفنون وتعبيراتها "67" – من آثار العقرب "73" – من آثار نعرمز "74".(1/609)
الفصل الرابع صفحة
بداية الأسرات والعصور التاريخية 77-95
معالم الكتابة وتوابعها "77" – الفرعون ونظم الإدارة "79" – في العمران والفكر "86" – النشاط الحدودي والخارجي "93".
الفصل الخامس
عصور الأهرام في الدولة القديمة 96-147
أولا – الرشاقة والابتكار في عصر الأسرة الثالثة. 96-106
بداية العصر "96" – إيمحوتب وشواهد العمارة والفن في سقارة "97" – قصة المجاعة "103" – التقويم "104".
ثانيا – الروعة والبنيان الراسخ في عصر الأسرة الرابعة 107-129
تجديدات عهد سنفرو، وتطور بناء الهرم "107" – عهد خوفو "111" – تعبيرات الهرم الأكبر وتوابعه "112" – هزة مؤقتة في عهد جدف رع "119" – آثار عهد خفرع "121" – أبو الهول "124" – عواقب الإسراف في عهود منكاورع وشبكاف وخنتكاوس "125".
ثالثا – التقوى والرفاهة في عصر الأسرة الخامسة 130-138
دعوى الأصل المقدس وملوك العصر "130" – معابد الشمس "131" -أهرام العصر ومعابدها "132" متون الأهرام "133" - الاتصالات الخارجية "134" - التطور السياسي والاجتماعي "135".
رابعا- البيروقراطية والتحرر في عصر الأسرة السادسة 139-147
شخصيات العصر - نمو البيروقراطية "139" - أحداث الشمال والتنظيمات العسكرية "141" – العمارة والفن والمجتمع "142" – رحلات الكشف في الجنوب "144".
الفصل السادس
عصر الانتقال الأول "عصر اللامركزية الأولى" 148-162
نهاية دورة "148" – الثورة الطبقية "149" – الغموض "150" – انتفاضة اليقظة في العهود الأهناسية "153" – ازدهار الفردية "156" – العصر بين دورتين تاريخيتين "160" – معالم الفن الإقليمي "161".
الفصل السابع
الدورة التاريخية الثانية – في الدولة الوسطى 163-190
أولا – عودة الوحدة في عصر الأسرة الحارية عشرة 163-172
ملوك العصر واسترجاع المركزية "164" – الاستثمار الحدودي والنشاط الخارجي "165" – صور من المجتمع "167" – في العمارة الدينية والفن "170".
ثانيا – الازدهار والكلاسيكية في عصر الأسرة الثانية عشرة 173-190
ملوك العصر والسياسة الداخلية "173" – في العمران "177" – في الأساليب الفنية "181" – في السياسة الخارجية "183".(1/610)
الفصل الثامن صفحة
عصر الانتقال الثاني "عصر اللامركزية الثانية" 191-203
أولا – عصر الأسرة الثالثة عشرة 191-194
في نصفه الأول "191" – الأفول في نصفه الثاني "193"
ثانيا – محنة الهكسوس 195
ثالثا – مراحل الجهاد والتحرير 199
الفصل التاسع
الدورة التاريخية الثالثة – في الدولة الحديثة 204-228
تمهيد 204
أولا – الانطلاق في عصر الأسرة الثامنة عشرة 205-228
في السياسة الداخلية: ملوك العصر "205" – من شخصيات الفراعنة "أمنحوتب الأول – تحوتمس الثالث – آخناتون" – دعاوى الأصل المقدس – "في عهود حاتشبسوت وتحوتمس الثالث وتحوتمس الرابع وأمنحوتب الثالث "206" – العاصمة طيبة "208" – الوزارة "209" – إصلاحات حورمحب "210" – من كبار شخصيات الشعب "211". في السياسة الخارجية: أهدافها "212" – تطبيقاتها في عهود أحمس الأول "212" – أمنحوتب الأول "213" – تحوتمس الأول "213" – حتشبسوت "215" تحوتمس الثالث والتقاليد العسكرية "216" - أمنحوتب الثاني "222" – تحوتمس الرابع "223" – أمنحوتب الثالث "223" – رسائل العمارنة – وآخناتون "224" – خلفاء آخناتون "سمنخ كارع – توت عنخ آمون – آي "227".
ثانيا – عهود الرعامسة 229-260
عودة الكفاح ثم الرفاهة مع عصر الأسرة التاسعة عشرة 229-242
السياسة الداخلية والخارجية في عهود رمسيس الأول "229" – سيتي الأول "229" – رمسيس الثاني "222" – مونبتاح "239" – سيتي الثاني ونهاية الأسرة "241".
ثالثا – آخر الشوط مع الرعامسة في عصر الأسرة العشرين 243-260
عهود ست نخت "243" – رمسيس الثالث "243" – عواقب الإسراف في عهود أواخر الرعامسة "247" حريحور "252" – قصة ونآمون "253".
رابعا – الثيوقراطية والفتور في عصر الأسرة الحادية والعشرين 261-268
السياسة الداخلية والخارجية في عهود الملوك نس بانب جدة – أمون منيسو – باسبا خع منى – أمنموبة – أسوخوز – باسباخع منى الثاني – كبار الكهنة من سلالة حريحور
سرقات المقابر – مومياوات الملوك والكهنة "266"
خامسا – نماذج من الفن والعمارة في الدولة الحديثة 269-279
أربع مراحل لأساليب النحت والتصوير "269" – معابد الكرنك وأبو سنبل "278"(1/611)
الفصل العاشر صفحة
الشيخوخة الثالثة في العصور المتأخرة 280-328
أولا – التخبط والتداخل في عهود الأسرات 22-24 280-287
التكوين الجنسي لقبائل الصحراء الغربية والمهجنين "280" – عهود الملوك شاشانق – وساركون – ثكرتي "284"
ثانيا – دفع النوبة لمصر في عصر الأسرة الخامسة والعشرين 288-299
الأصل العرقي للأسرة "288" – عهود كاشت "289" – بيعنخي "289" – تاف نخت "290" – باكن رتف "بوخوريس" وتشريعاته "291" شاباكا "293" – تاهرقه "295" تانوات آمون "299".
ثالثا – نهضة العصر الصاوي مع الأسرة السادسة والعشرين 300-310
عهود بسماتيك الأول "300" – نيكاو الثاني "303" – بسماتيك الثاني "305" – واح إب رع "305" – أحمس الثاني "307" – فنون العصر "309".
رابعا – النكسة مع الغزو الفارسي 311-315
الحكم الفارسي "311" – الثورات المصرية "314"
خامسا – ابتسامة مبتسرة في عصور الأسرات 28-30 316-328
التحرر وعصر الأسرة 28 "316" – الوثائق الآرامية في جزيرة آيو في أسوان "317"
عصر الأسرة التاسعة والعشرين – وعهدا نايف عاورود، وهجير "322".
عصر الأسرة الثلاثين – وعهود نخت نيف – جدحير – نخت حرحب "323"
سادسا – خاتمة المطاف القديم:
الغزو الفارسي الثاني "326" – غزروة الإسكندر الأكبر "328".
الفصل الحادي عشر
عقائد الدين والآخرة 329-344
أولا – عقائد التأليه 329-338
نشأتها "329" – خصائصها "330" – في سبيل الترابط "321" – في سبيل التوحيد "333" – دعوة آخناتون "335"
ثانيا – عقائد البعث والخلود 339-344
مقوماتها ومسبباتها "339" – وسائل تأمين الخلود "341" متون الأهرام – متون التوابيت – كتب الموتى "343 "
الفصل الثاني عشر
من الأدب المصري القديم 345-368
أولا – في أدب الأسطورة والملحمة 345-349
أسطورة أوزير وتوابعها "345" – الحق والبهتان "348" – بين هلاك البشرية وإنقاذها "349"(1/612)
ثانيا – في أدب القصة 349-359
سنقرو والحكماء "349" – قصة خوفو والحكيم جدى "350" قصة العاشقين والتمساح "351" قصة الأخوين "352" من قصص المغامرات: نجاة الملاح "354" – سنوهى "356" – اليائس من الحياة "357"
ثالثا – في أدب النصيحة 359-363
بتاح حوتب "359" – آنى "361" – أمنموبي "361" – من نصائح المعلمين "362"
رابعا – في أدب النقد والتوجعات 363-369
إيبولالا والثورة الطبقية "363" – القروي الفصيح "366"
الكتاب الثاني
العراق
"بلاد النهرين منذ فجر التاريخ حتى نهاية العصر الكلداني"
373-379
الفصل الثالث عشر
فجر التاريخ العراقي
"أ" في الفترة النيوليثية "جرمو – حسونة – حلف" 375
"ب" في الفترة الخالكوليثية "حضارة العبيد" 376
"ج" قبيل العصر الكتابي "حضارة الوركاء" 379
الفصل الرابع عشر
أوائل العصور التاريخية – عصر بداية الأسرات السومري 387-416
التكوين الجنسي "387" – الكتابة المسمارية "391" – العمارة الدينية "الزقورات" "394" – العقائد "387" – التطور السياسي "401" – الفنون "408" – المساكن "413" – المقابر "414".
الفصل الخامس عشر
العصر الأكدي 417-427
البداية والحياة السياسية 417
الفنون 422
نهاية دولة 425(1/613)
الفصل السادس عشر صفحة
عصر الإحياء السومري 428-459
بدايته: في لجش "428" – في أوروك "431" 428
دولة أور: في السياسة والتشريع "432" – في الفنون "436" 432
من الأدب السومري والدين 439
نهاية أور 447
عصر أين – لارسا 450
تشريع إشنونا 451
إين 453
في لارسا 455
في الفن 456
الفصل السابع عشر
دولة بابل الأولى "أو العصر البابلي القديم" 460-482
بدايتها 460
تشريعات حمورابي 463
في الفن 470
من الأدب البابلي 473
أساطير نشأة الوجود "473" – جلجميش وقصة الطرفان "475" صعود إيتانا إلى السماء "482" الحوار في الأساطير "482"
الفصل الثامن عشر
العصر الكاسي 485-499
الحياة السياسية: النشأة والسياسة الداخلية "485" 485
في العمارة والفن 488
العلاقات الخارجية: مع الشام ومصر "489" 489
مع آشور "490" – مع الحوريين "490" – مع الميتان "491"
الأفول حتى نهاية الأسرة البابلية السابعة 493
من الحياة الفكرية 495
الفصل التاسع عشر
آشور 500-547
"أ" المراحل الأولى "العصر العتيق – العصر القديم" 500
"ب" العصر الوسيط 502
التوسع في المرحلة الأولى "503" – الفن "504" – الأفول "506".(1/614)
المرحلة الثانية من العصر الوسيط 507
التوسع "507" – الفن والإدارة "509" – التشريعات "510" – النهاية "513".
"ج" العصر الآشوري الحديث: 513
المرحلة الأولى: عهود أداد نيراري –توكلي فينورتا الثاني – آشور ناصر بال الثاني – شلما نصر الثالث "513" – نهاية مرحلة "520".
مرحلة الأمجاد الأخيرة:
التوسع الخارجي: تيجلات بيليسر الثالث "521" – عهد سرجون "523" – خلفاء سرجون: سينا خريب – آشور أخادين – آشور بانيبال "528" – مع بابل "529" – مع إلام "530" مع مصر والشام "531" – مع عرب البادية "535" – بداية النهاية "535"
في العمران والفن والأدب 536
الفصل العشرون
بابل الكلدانية 548-565
تمهيد: عودة إلى الآراميين والعلاقات مع آشور 548
التطور السياسي "548" – في الفن "550"
يقظة بابل وماذي وانهيار آشور: 552
الاتساع البابلي 555
العمران والفنون 557
الأفول 561
خاتمة 564
الخرائط 566
اللوحات 568
فهرست بأهم المفردات 605(1/615)