من تأمل أحوال الوزراء يجد الصالح بن رزيك ربى رجال الدولة، وجاء الضرغام فأفناهم، ثم جاء شاور فأتلف أموال مصر وأطمع الغز في البلاد وجرأ الفرنج علنا حتى كان ما كان مما يأتي ذكره إن شاء الله.
وفيها أحضر القاضي رشيد الدين أبو الحسين أحمد بن القاضي رشيد الدين أبي الحسن علي بن إبراهيم بن محمد بن الحسين بن الزبير الأسواني، وقد فر إلى قريب برقة، فدخل على حالة سيئة، فأمر به شاور فضربت عنقه، وصلب عند مسجد الزيني على الخليج، بالقرب من قبو الكرماني، في يوم الأربعاء العشرين من ذي العقدة.(3/288)
سنة ثلاث وستين وخمسمائة
فيها بعث شاور إلى نور الدين رسالةً مع شهاب الدين محمود، خال صلاح الدين يوسف، تتضمن أنه يحمل إليه مالاً في كل سنة من مصر مصانعةً ليصرف عنه أسد الدين شيركوه. فأجاب نور الدين إلى ذلك، وأعطى شيركوه مدينة حمص وأعمالها زيادةً على ما كان بيده، وذلك في شعبان، وأمره بترك ذكر مصر. فأرسل شاور إليه كتاباً يشكر صنيعه.
وفيها قتل شاور القاضي الرشيد أبا الحسين أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد بن الحسين بن الزبير الغساني الأسواني، صاحب كتاب الجنان ورياض الأذهان؛ وكان من أهل العلم والأدب؛ وله رسالة أودعها من كل علم مشكلة ومن كل فن أفضله. وسار إلى اليمن رسولاً وكان أسود في أيام الحافظ، وتلقب بعلم المهتدين؛ فقال فيه شاعر من أهل اليمن من قصيدة بعث بها إلى الحافظ:
بعثت لنا علم المهتدين ... ولكنّه علم أسود
وولي نظر الإسكندرية. فقتله شاور في المحرم، بسبب أنه داخل شيركوه وصلاح الدين وخدمهما، بعد أن عذبه عذابا شديداً، ثم ضرب عنقه.(3/289)
فيها خرج يحيى بن الخياط يريد الوزارة، فبعث إليه شاور عسكراً هزموه حتى لحق بالفرنج.
وفيها ولي خطابة الجامع العتيق بمصر نتاج الشرف حسن بن أبي الفتوح ناصر ابن إسماعيل الحسني بعد موت أبيه يوم عيد الفطر.(3/290)
سنة أربع وستين وخمسمائة
فيها تمكن الفرنج من ديار مصر وحكموا فيها حكماً جائراً، وركبوا المسلمين بالأذى العظيم وقد تيقنوا أنه لا حامي للبلاد، وتبين لهم ضعف الدولة وانكشفت لهم عورات الناس. فجمع مري جموعه واستشارهم في قصد ديار مصر، فقووا عزمه على المسير إليها فأجمع أمره على الرحيل واستدعى وزيره وأمره بإقطاع بلاد مصر لأصحابه، ففرق قراها عليهم بعد ما كتب جميع قراها وارتفاع كل ناحية؛ واستنجد عسكراً قوي به جنده.
فورد الخبر إلى شاور بمسير الفرنج إلى مصر في نصف المحرم، فبعث إلى ملك الفرنج الأمير ظهير الدين بدران وقيس بن طي بن شاور.
وكان نور الدين بحلب، فأسرع مري إلى المجيء إلى مصر ظناً أن نور الدين بعيد منه وعساكره متفرقة عنه. فبلغ ذلك نور الدين، فأخذ في جمع عساكره.(3/291)
ووصل مري إلى الداروم. فبلغ شاوراً فارتاع وبعث أميراً يعرف ببدران لكشف الخبر، فلما اجتمع بمري خدعه ووعده بعدة من قرى مصر، نحو الثلاث عشرة قرية، وأمره أن يخبر شاور أنهم إنما قصدوا البلد لخدمة. فلما عاد إلى شاور جهز إلى مري شمس الخلافة محمد بن مختار، فعندما دخل عليه قال له: مرحباً بشمس الخلافة. فقال: فمرحباً بالملك الغدار، وإلا ما أقدمك إلينا؟ قال: اتصل بنا أن الفقيه عيسى وصل إليكم ليزوج أختاً للكامل بن شاور بصلاح الدين يوسف ويتزوج الكامل بأخت صلاح الدين، فحسبنا أن هذا عمل علينا. فقال ما لهذا صحة، ولو فعل لما كان ناقضاً للهدنة. فقال: الصحيح أن قوماً من وراء البحر انتهوا إلينا وغلبوا على رأينا وخرجوا طامعين في بلادكم؛ فخفنا من ذلك، فخرجت لتوسط الأمر بينهم وبينكم. فقال له: فكم تريد أن يكون مبلغ القطيعة التي نقوم بها؟ قال: ألفي ألف دينار. فقال: حتى أعود إلى شاور بهذا الخبر وأرجع إليكم بالجواب، فلا تبرحوا من مكانكم. فقال مري: بل ننزل على بلبيس حتى تعود.
وكان قد كتب إلى شاور: إني قد قصدت الخدمة على ما قررته لي من العطاء في كل عام، فكتب إليه شاور: إن الذي قررته إنما جعلته لك متى احتجت إلى نجدتك أو إذا قدم علي عدو، فأما مع خلو بالي من الأعداء فلا حاجة لي إليك ولا لك عندي مقرر. فأجابه: لا بد من حضوري وأخذي المقرر. فعلم شاور أنه قد غدر وخان الأيمان، ونقض العهود، وطمع في البلاد. فجمع الأجناد وحشد العساكر إلى القاهرة؛ وسير إلى بلبيس حفنة من العسكر، ونقل إليها ما تحتاج إليه من الأقوات والغلات.
فنزل مري على بلبيس أول يوم من صفر، وكتب عدة من أعيان المصريين كتباً إلى مري يعدونه المساعدة، لكراهتهم في شاور، منهم علم الملك ابن النحاس، ويحيى(3/292)
ابن الخياط، وابن قرجلة، وجماعة؛ فقوي الفرنج. وعندما قدم مري إلى بلبيس أرسل إلى طي بن شاور، وكان ببلبيس، أين ينزل؟ فقال لرسوله: قل له ينزل على أسنة الرماح. فغضب من هذا وجعله سبباً لنقض ما قرره مع شمس الخلافة، وحاصر البلد حتى افتتحها قهراً بالسيف يوم الثلاثاء ثاني صفر، وأخذ الطاري والناصر، ابني شاور أسيرين، وقتل جميع من كان فيها وأسرهم وسباهم، ونهب سائر ما تحتوي عليه؛ وأسر المعظم سليمان بن شاور وقيس بن طي بن شاور.
وأرسل إلى شاور يقول له: إن ابنك قال أيحسب مري أن بلبيس جبنة يأكلها! نعم بلبيس جبنة والقاهرة زبدة. فصعد شاور إلى العاضد وسأله مكاتبة نور الدين وطلب معونته فإن الفرنج قد ملكوا بلبيس والمسلمون يضعفون عن وقفهم، وأنه متى حصل التقاعد أخذت مصر وأسر الفرنج من فيها من المسلمين؛ ويحثه على إرسال من يتدارك هذا الأمر. فكتب العاضد إلى نور الدين برأي شمس الخلافة، فإنه اجتمع بالكامل ابن شاور وقال له: عندي أمر لا يمكنني أن أفضي به إليك إلا بعد أن تحلف لي أنك لا تطلع أباك عليه. فلما حلف له قال: إن أباك قد وطن نفسه على المصابرة، وآخر أمره يسلم البلد إلى الفرنج ولا يكاتب نور الدين؛ وهذا عين الفساد؛ فاصعد أنت إلى العاضد وألزمه أن يكتب إلى نور الدين فليس لهذا الأمر غيره. فصعد الكامل إلى الخليفة العاضد وكتبا الكتاب وأرسلاه إلى نور الدين. فقيل للعاضد لم لا أطلعت وزيرك على ذلك؛ فقال أعرف أنه لا يوافقني عليه لكراهته في الغز وأنا أعلم من أي باب أدخل عليه.(3/293)
وأرسل إلى شاور يقول أين استدعائي الغز من المسلمين لنصرة الإسلام من استدعائك الفرنج للإعانة على المسلمين. فقال للرسول: قل لمولانا عني أنت مغرور بالغز والله لئن يثبت لهم رجل بديار مصر لا كانت عاقبته وخيمةً إلا عليك. فلما بلغه ذلك قال: رضيت أن تكون إسلامية وأكون فداء المسلمين.
فوافت كتب العاضد وكتب جماعة من الأعيان إلى نور الدين بحلب، فانزعج لذلك وجمع الأمراء للمشورة فأشاروا بإرسال أسد الدين شيركوه. وكان بحمص وقد وصلت إليه الكتب من مصر باستدعائه لإنجازهم وإنقاذهم مما نزل بهم، فخرج منها يريد السلطان بحلب، وخرج رسول السلطان من حلب بطلبه، فتلاقيا بباب مدينة حلب، وعادا. فلما رآه السلطان عجب من سرعة مجيئه، فأعلمه بموافاة الكتب إليه تستدعيه إلى مصر؛ فسر بذلك وتفاءل به، وأعطاه مائتي ألف دينار وثياباً وسلاحاً ودواب، وحكمه في العسكر فاختار ألفي فارس وجمع فسار في ستة آلاف فارس.
وخرج معه نور الدين إلى دمشق، فوصل إليها في سلخ صفر، وجهز أسد الدين وأعطى نور الدين كل فارس ممن معه عشرين ديناراً مصرية غير محسوبة عليه من جامكيته وأضاف إليه جماعة من الأمراء، منهم عز الدين جرديك، وغرس الدين قلج، وشرف الدين بزغش، وعين الدولة الياروقي، وقطب الدين ينال المنبجي، وصلاح الدين يوسف بن أيوب. وكان صلاح الدين كارهاً مسيره إلى مصر كأنما يساق(3/294)
إلى الموت فأخرجه نور الدين كرهاً ليحق قول الله سبحانه إذ يقول: " وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُو خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ". فإن نور الدين أحب مسير صلاح الدين إلى مصر فكان مسيره إليها لخروج الملك عن أولاده، وكره صلاح الدين مسيره إلى مصر فكان في مسيره إليها تملكه إياها وغيرها من الأقاليم.
وسار شيركوه من دمشق في ثاني عشر ربيع الأول وتقدم الفقيه عيسى الهكاري إلى العاضد سراً وخفية من شاور ليحلفه على أشياء.
وأما مري فإنه كثرت أمراء الفرنج عنده لقصد سبي بلبيس، فغزاها برجاله، وأمر بإخراج الأسرى من أهل بلبيس إلى ظاهر البلد؛ وركب وقد اعتقل رمحه وحمل على الأسرى حتى فرقهم فرقتين، فجعل لنفسه الفرقة التي وقعت عن يمينه، وأنعم بالفرقة اليسرى على أهل عسكره؛ وقال لمن صار إليه من الأسرى: قد أطلقتكم شكراً لله على ما أولاني من فتح مصر فإني ملكتها بلا شك. وما زال واقفاً حتى عدى أكثرهم النيل إلى جهة منية حمل، وأخذ عسكره أسراهم فاقتسموهم، فبقوا في أيدي الفرنج بعد ذلك نحو الأربعين سنة وهلك كثير منهم هنالك، وأفلت بعضهم.
وكان شمس الخلافة قد صار إلى مري قبل أخذه مدينة بلبيس بإجابته إلى القطيعة التي طلبها، فعاقه عنده حتى أخذ بلبيس، كما تقدم ذكره ثم أذن له في الانصراف إلى القاهرة، واعتذر بأنه بلغه عن قيس بن طي أشياء أمضته حتى فعل ما فعل،(3/295)
وأنه باق على ما تقرر معه بقاء شمس الخلافة وأشار على شاور بالاحتراز وقال إن الرجل مخاتل. وأنفذت الكتب إلى نور الدين.
وكان شاور قد شرع في بناء سور على مدينة مصر واستعمل فيه الناس فلم يبق أحد من المصريين إلا وعمل فيه؛ وحفر من ورائه خندقاً، فلم يكمل من ناحية النيل. وعمل في السور ثمانية أبواب أحدها بدار النحاس على ساحل البحر، هدم في سنة وخمسين وستمائة وآخر بجانب كوم البواصين، وثالث على سكة سوق وردان سقط سنة إحدى وستين وستمائة، وباب في طريق زين العابدين، وباب عرف بباب الصفاء، وباب بحري مصلي الأموات سقط قبيل سنة خمسين وستمائة، وباب عند أقمنة الجير مما يلي درب السرية، وباب لقنطرة بني وائل وتحته قنطرة بني وائل التي تصب في بركة الشعيبية، التي كانت قديماً بستان الأمير تميم بن المعز، وكان الماء يدخل إليها من خليج مصر.
وسار مري بعقيب مسير شمس الخلافة عنه يريد منازلة القاهرة بعد ما أقام ببلبيس خمسة أيام، فداخل الناس منه رعب شديد وخوف عظيم، فاجتمعوا بالقاهرة ووطنوا أنفسهم على الموت. وكان هذا من لطف الله فإنه لو قدر أن الفرنج أحسنوا السيرة في أهل بلبيس لكان الناس لا يدافعونهم عن القاهرة ألبتة لما في قلوبهم من كراهة شاور. فما هو إلا أن قصد مري القاهرة وإذا بشاور قد قام في حريق مصر، وأمر شاور الناس بالانتقال منها إلى القاهرة، وحثهم على الخروج منها. فتركوا أموالهم وأثقالهم ونجوا بأنفسهم وأولادهم وحرمهم؛ وقد ماج الناس واضطربوا اضطراباً عظيماً.(3/296)
ووقعت النار في الأسطول فخرج العبيد إلى مصر وقد انطلقت النار في مساكنها فانتهبوا سائر ما كان بمصر. وبلغ بالناس الحال أن كانت الدابة تكري من مصر إلى القاهرة ببضعة عشر ديناراً والجمل بثلاثين ديناراً. ونزلوا بمساجد القاهرة وحماماتها، وملأوا جميع الشوارع والأزقة، وصاروا مطروحين بعيالهم وأولادهم على الطرق وقد ذهبت أموالهم وسلبت عامة أحوالهم؛ وهم مع ذلك ينتظرون هجوم الفرنج على القاهرة وقتل رجالها وسبي من بها من الحريم والصبيان.
وكان ابتداء الحريق بمصر في يوم الثلاثاء التاسع من صفر الموافق له ثامن عشر هاتور؛ واستمرت النار في المساكن أربعة وخمسين يوماً، والنهابة تهد ما هنالك وتحفر لطلب الخبايا.
ونزل مري بعساكره على بركة الحبش في يوم الأربعاء العاشر من صفر، فخرج إليه شمس الخلافة. فلما دخل إليه سأله أن يخرج معه إلى باب الخيمة، فخرج؛ فأراه شمس الخلافة جهة مصر وقال له أترى دخاناً في السماء؟ قال: نعم. قال: هذا دخان مصر ما أتيتك إلا وقد احترقت بعشرين ألف قارورة نفط وفرق فيها عشرة آلاف مشعل، وما بقي فيها ما يؤمل بقاؤه ونفعه؛ فخل الآن عنك. فقال مري: لا بد من النزول على القاهرة ومعي فرنج من هذا البحر قد طمعوا في أخذها.
ثم رحل فنزل على القاهرة في عاشر صفر مما يلي باب البرقية نزولاً قارب به البلد حتى صارت سهام الجرخ تقع في خيمه. وقاتل أهل القاهرة قتالاً شديداً وحفظوها(3/297)
وبذلوا جهدهم. واشتد الفرنج في محاصرة القاهرة وضيقوا على أهلها حتى تزلزل الناس زلزالاً شديداً وضعفت قواهم، وشاور هو القائم بتدبير الأمور، فتبين له العجز عن مقاومة الفرنج وأنه يضعف عن ردهم. وخاف من غلبتهم فرجع عن مقاومتهم إلى مخادعتهم وإعمال الحيلة؛ فأرسل شمس الخلافة إلى مري يطلب منه الصلح على أن يحمل إليه أربعمائة ألف دينار معجلة. فأجاب إلى ذلك. ويقال إنه خوفه من نور الدين واعتذر بأنه لولا الخوف من العاضد ومن معه من المسلمين وإلا سلمه البلد؛ وإنه تقدم له بألف ألف دينار. فتقرر الصلح.
على أن مري قال لا أسمع من كلام شاور فإنه غدار، ولا بد من كلام الخليفة العاضد. فمشى أبو الفتح عبد الجبار بن عبد الجبار بن إسماعيل بن عبد القوي، المعروف بالجليس قاضي القضاة وداعي الدعاة، ومعه الأستاذ صنيعة الملك جوهر، بين الفرنج وبين الناس حتى تقرر الأمر على تعجيل مائة ألف دينار وحمل الباقي بعد ذلك مع القطيعة المقررة كل سنة، وزيادة عشرة آلاف دينار وعشرة آلاف إردب غلة على ما يقترح من أصنافها. فأرسل العاضد القاضي الفاضل عبد الرحيم إلى الشيخ الموفق ابن الخلال كاتب الدست، وكان مريضاً والفاضل ينوب عنه بتعيين الكامل بن شاور، وقال له: استشره في هذا الأمر. فمضى الفاضل إليه، وعرض ما تقرر عليه، وبلغه عن العاضد ما أشار به من أخذ رأيه في ذلك. فقال: قبل الأرض عني لمولانا وقل له عن مملوكه إن وعد المشتري وصبر البائع فليست بعالية، وبين قيل وقال يتصرم الوقت.
وشرع شاور في حمل المال، فلم يجد في حاصل الخبايا بالقصر سوى مائتي ألف دينار مدفونة في أحد كمي المجلس من ذخائر الحافظ، أطلعهم عليها أستاذ من أستاذي القصر؛ فأخرجت وحمل إلى الفرنج منها على يد ابن عبد القوي مائة ألف دينار، فأخذوها بعد امتناع. ووقع الطلب من أهل القاهرة ومصر، فلم يتحصل من الناس إلا نحو الخمسة(3/298)
آلاف دينار، لفقر أهل مصر وسوء حالهم وذهاب أموالهم في الحرق والنهب بحيث صاروا لا يجدون القوت عجزاً عنه، ولأن أهل القاهرة أكثرهم الجند وأهل الدولة وأتباعهم فقال الفقيه عمارة:
يا ربّ إنّي أرى مصراً قد انتبهت ... لها عيون اللّيالي بعد رقدتها
فاجعل بها ملّة الإسلام باقيةً ... واحرس عقود الهدى من حلّ عقدتها
وهب لنا منك عوناً نستجير به ... من فتنة يتلظّى جمر وقدتها
فبينما الفرنج في استحثاث أهل القاهرة في حمل المال إذ وصل إليهم في مستهل ربيع الآخر خبر قدوم أسد الدين بالعساكر فأزعجهم ذلك ورحلوا عن القاهرة يوم السبت، ثالث ربيع الآخر، ومعهم من الأسرى اثنا عشر ألفاً ما بين رجل وصبي وامرأة. فنزلوا على بلبيس، وساروا منها إلى فاقوس.
ونزل أسد الدين بالمقس إلى اللوق خارج القاهرة يوم الأربعاء سابع ربيع الآخر، فخرج إليه العاضد وتلقاه.
وكان شاور لما بلغه وصول شيركوه إلى صدر أخرج شمس الخلافة إلى مري وقال له: قد وقف المال علينا، وقد جئت إليك أستوهب منك بعض ما قطعت علينا. فقال مري: اطلب ما شئت. قال: تهب لي من الألفي ألف ألف ألف. قال: قد فعلت فقال شمس الخلافة: ما بلغني أن ملكاً وهب مثل هذا لقوم هم في مثل حالنا.. فقال مري: أنا أعلم أنك رجل عاقل وأن شاوراً ملك، وأنكما ما سألتماني أن أهب لكما هذا المال العظيم إلا لأمر قد حدث. فقال: صدقت؛ هذا أسد الدين قد وصل إلى صدر نصرةً لنا وما بقي لك مقام؛ وشاور يقول لك أرى أن ترحل ونحن باقون على الهدنة فإنه أوفق لنا ولك،(3/299)
وإذا حصل هذا الرجل عندنا أرضيناه من هذه الألف ألف بشيء وحملنا الباقي إليك متى قدرنا، وإن نحن أخرجنا في رضاهم أكثر من هذا المال عدنا عليك بما يبقى علينا من المقدار. فقال مري: أنا راض بذلك. فقال: وأن تطلق ابن طي بن شاور وجميع من في عسكرك من الأسارى، ولا تأخذ من بلبيس بعد انصرافك شيئا. فأجاب إلى ذلك، وأطلق ابن شاور ورحل.
ولما قارب شيركوه القاهرة خرج شاور إلى لقائه وقابله بالاحترام والإكرام، وأشار عليه باتباع الفرنج. فلم ير ذلك واعتذر بما هم فيه من التعب.
ونزل أسد الدين بظاهر القاهرة، ودخل على العاضد فخلع عليه في تاسعة بالإيوان، وعاد إلى مخيمه، وقد فرح الناس بقدومه. وأجريت عليه وعلى عساكره الجرايات الكبيرة والإقامات الوافرة. وثقل ذلك على شاور ولم يقدر على عمل شيء لما عرفه من ميل العاضد إلى شيركوه؛ وشرع يماطل بما تقرر لشيركوه ولنور الدين وهو يركب كل يوم إليه ويسير معه، ويعده ويمنيه.
وعزم على أن يعمل دعوةً ويحضر شيركوه وجميع أمرائه، فإذا صاروا إليه قبض عليهم واستخدم من معهم من الجند يمنع بهم الفرنج. فنهاه ابنه شجاع عن ذلك وقال: والله لئن عزمت على هذا لأعرفن شيركوه. فقال: يا بني، والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعاً. قال: صدقت؛ ولأن نقتل ونحن مسلمون خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج؛ فإنه ليس بينك وبين عود الفرند إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل معه فارساً واحداً. فترك شاور ما عزم عليه.
ولما طال مطال شاور على الغز اتفق صلاح الدين يوسف وعز الدين جرديك على قتل شاور.
واتفق أن شاوراً رأى في منامه كأنه دخل دار الوزارة فوجد على سرير ملكه رجلا وبين يديه دواته وهو يوقع، والحاجب بين يديه يتناول منه التوقيع؛ فقال: من هذا الذي جلس في مجلسي ووقع من دواتي، فقيل له: هذا محمد رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال: وما يصنع محمد عندي؛ أما كان له في مملكة غيري مصنع. ثم إنه قام إليه وضربه(3/300)
بسيفه حتى قتله وألقاه بظاهر الدار. فلما استيقظ هاله ما رآه، واستدعى أبا الحسن علي بن نصر الأرتاحي العابد، وكان نادراً في علمه، وقص عليه ما رأى. فقال له: هؤلاء الذين في القصر من نسل رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكون هلاكهم على يدك. فأمره بكتمانه؛ فلم يظهر حتى قتل شاور.
ويقال إن العاضد خرج متنكراً إلى شيركوه وأمره بقتل شاور؛ فركب على عادته إلى شيركوه ومعه الطبل والبوق وخرج من باب القنطرة. فلما صار في مخيم الغز تلقاه صلاح الدين وجرديك في جماعتهم وأعلموه أن أسد الدين توجه إلى القرافة، فقال نمضي إليه. فساروا جميعاً وصلاح الدين وجرديك عن يمينه وشماله، وكان اليوم كثير الضباب، فتناول صلاح الدين شاور على غرة هو وجرديك وألقياه عن فرسه إلى الأرض، وأحاط أصحابهما بمن مع شاور فانتهبوهم وفروا عنه. وأخذ أسيراً إلى المخيم، وأرسلوا إلى شيركوه، فحضر. وبلغ ذلك العاضد فأنفذ في الحال إلى شيركوه أحد الأستاذين بسيف وقال: هذا غلامنا ولا خير فيه لك ولا لنا، فأمض حكم الله فيه. فقتل في يوم السبت السابع عشر من ربيع الآخر، وحملت رأسه إلى العاضد.
وفر الكامل شجاع بن شاور هو وأولاد أخيه إلى القصر، فكان آخر العهد بهم، وأحضرت رءوسهم يوم الاثنين رابع جمادى الأولى. وبعث شيركوه يطلبهم، فأرسل إليه العاضد طبقاً من فضة مغطى؛ فلما كشف عنه وجد فيه رأس شجاع ورءوس أولاد أخيه، فتأسف على قتل شجاع لما كان يبلغه عنه من منعه أباه من عزمه على الفتك بهم.
وكانت وزارة شاور هذه كثيرة الوقائع والنوازل فإنه أطمع الغز والفرنج في البلاد وجرهم إليها؛ فأحرق مصر وأزال نعم أهلها وأذهب أموالهم؛ وكان السبب في إزالة الدولة الفاطمية من ديار مصر وتملك الغز لها.
وكان مع ذلك منقاداً لولده الكامل قد أطلقه وسلم الأمر إليه بحيث إنه كان يأتي(3/301)
إلى داره فيحتجب عنه. وكان ضيق العطن، لا يصبر على شيء مما ينقل إليه من الاخبار. وكان إذا سئل وهو في الخدمة لا يرد سائلا في شيء. وكان شديد النكال إذا عاقب، فتكشفت في وزارته الثانية التي قتل فيها صفحاته، وأحرقت كافة أهل مصر لفحاته، وأغرقتهم نفحاته فغصه الدهر وعضه، وأوجعه الثكل وأمضه. وكان عاقبة أمره القتل والعار، وسوء المنقلب والدمار.
ثم إن أسد الدين ركب بعد قتل شاور بجموعه ودخل إلى القاهرة في يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الآخر يريد لقاء الخليفة العاضد، فهاله ما رأى من كثرة اجتماع الناس وتخوف منهم، فأراد أن يفرقهم، فقال لهم: إن أمير المؤمنين قد أمركم بنهب دار شاور؛ فتسارعوا إليها وانتهبوا سائر ما كان فيها. فصعد شيركوه إلى القصر، وخلع عليه العاضد خلع الوزارة ولقبه بالملك المنصور أمير الجيوش. ونزل إلى دار الوزارة حيث كان ينزل شاور ومن قبله من الوزراء، فلم يجد ما يجلس عليه لما شملها من النهب. فجلس للهناء وغلب على الأمر.
وخرج إليه التوقيع بخط القاضي الفاضل وإنشائه، فقرأه الجليس ابن عبد القوي قاضي القضاة، على رءوس الأشهاد، وفي أعلاه بخط العاضد: هذا عهد لا عهد لوزير بمثله، وتقلي طوق أمانة رآك الله وأمير المؤمنين أهلا بحمله؛ والحجة عليك عند الله بما أوضحه لك من مراشد سبله. فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخار بأن خدمتك اعتزت بأن اعتزت إلى بنوة النبوة؛ واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلا، وَلاَ تَنقُضُوا الأَيَمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلا ". وهو توقيع كبير.(3/302)
وكتب القاضي الفاضل إلى نور الدين محمود بن زنكي كتاباً بأن يقر شيركوه عنده بمصر وأنه فوض إليه الوزارة وأمر الجيوش، تاريخه سابع عشري ربيع الآخر، وكتب العاضد علامته بين سطريه الأولين بخطه الله ربي؛ فعاد الجواب بالامتثال.
وسلك أسد الدين مع العاضد مسالك الأدب حتى أعجب به، ومال إليه. وركب إلى مصر فرآها مشوهةً بالحريق وقد تلفت فيها أماكن وسلمت أماكن، وتشعث الجامع؛ فشق عليه، وعاد. وقد حضر إليه الأمير ابن مماتي والقاضي الفاضل، فأمر بإحضار أعيان المصريين الذين جلوا عن مصر في الفتنة وصاروا بالقاهرة، فتغمم لما نزل بهم وسفه رأي شاور فيما فعله، وأمرهم بالعود إلى مصر. فشكوا ما حل بهم من الفقر وذهاب الأحوال وخراب المنازل، وقالوا: إلى أي موضع نرجع وفي أي مكان نأوى. فقال: لا تقولوا هذا، وعلي بإذن الله حراستكم وإعادتها إليكم بما كانت عليه وأحسن؛ فاستدعوا مني كل مالكم فيه راحة، فهي بلدي وربما أسكن فيها بينكم. فشكروا له ودعوا.
وأمر فنودي على الناس بالرجوع إلى مصر، فتراجعوا إليها شيئاً بعد شيء.
وجعل أسد الدين اجتماعه بالخليفة العاضد في الشباك على العادة. فأول ما اجتمع به قال له الأستاذ صنيعة الملك جوهر، وكان أكبر الأستاذين وأفصحهم لساناً، وهو قائم على رأس العاضد: يقول لك مولانا لقد كنا نؤثر مقامك عندنا أول طروقك بلادنا، ولكن أنت تعلم الموانع عنه؛ ولقد تيقنا أن الله عز وجل ادخرك لنا نصرة على أعدائنا. فقال أسد الدين شيركوه: يا مولانا بإمالة اللام والله لأنصحنك في الخدمة ولأجعلن(3/303)
دولتك بعون الله قاهرة. فقال الأستاذ: يقول لك مولانا الأمل فيك هذا وأكثر. ثم جددت له الخلع وأفيضت عليه، ونزل إلى داره.
وحسن عنده موقع الجليس ابن عبد القوى، قاضي القضاة وداعي الدعاة، وأثنى عليه وشكره، وقال لولا مذهبه! فقال: إنه ولد بالمغرب وله دالة على الخليفة، ولولا ضبطه حواصل القصر لخرجت كلها لكرم العاضد؛ لكنه يحترمه ويقبل مشورته. فازدادت مكانته عند أسد الدين وأقره على حاله.
واستبد أسد الدين بأمور المملكة، وغلب على الدولة، واستعمل أصحابه وثقاته على الأعمال، وأقطع البلاد لعساكره. ولما أكب الناس عليه بالتواقيع قلق من كثرة ما يوقع وقال: أظن مولانا استخدمني كاتبا.
في رابع جمادى الأولى قتل الكامل شجاع بن شاور، والمعظم سليمان بن شاور، وركن الإسلام نجم أخو شاور، وأحضرت رءوسهم إلى أسد الدين شيركوه.
ولما بلغ نور الدين وزارة شيركوه للعاضد واستبداده بالأمر كره ذلك وأمضه، وظهر ذلك على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وأخذ يتحدث في ذلك، وأفضى به إلى الأمير مجد الدين ابن الداية. وأخذ يعمل الحيلة في إفساد أمر أسد الدين وابن أخيه صلاح الدين، وكاتب العاضد في ذلك غير مرة، ويلتمس منه أن يبعث إليه أسد الدين، يريد بذلك إخراجه عن مصر. فلم يسمح العاضد بإرساله لأنه دبر الأمور وقام بحمل أعباء المملكة من غير أن يغير على أصحاب العاضد شيئا من أحوالهم، ولا أنكر عليهم أمراً من أمورهم، بل أقرهم على عوائدهم سوى أنه أقطع البلاد لأصحابه.
وتولى عنه التدبير ابن أخيه صلاح الدين وقام بمباشرتها، فصار إليه الأمر والنهي حتى مات أسد الدين، بعد أن استقر في الوزارة ثلاثة وستين يوما، يوم الأحد الثالث(3/304)
والعشرين من جمادى الآخرة بخناق تولد له من إكثاره أكل اللحوم الغليظة، ودفن في الدار فلم تخرج له جنازة.
وكان شجاعا قوياً، جلداً عفيفاً، متألهاً، يحب أهل الخير، وله إيثار، وفيه ضبط وإمساك. وأصله من دوين، بليدة من عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج، وهو من قبيل الروادية إحدى بطون الهذبانية من قبائل الأكراد. وقدم هو وأخوه نجم الدين أيوب، وكان أسن منه، إلى بغداد واتصلا بخدمة مجاهد الدين بهروز شحنة العراق من قبل السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي ولازماه. فبعث بأيوب إلى تكريت، وكانت إقطاعه، فأقره فيها دزداراً، ومعناه حافظ القلعة، فإن دز بالفارسي القلعة، ودار الحافظ. فأقام بها ومعه أخوه شيركوه، وله به إقطاع،(3/305)
إلى أن انهزم عماد الدين زنكي من العراق من قراجا الساقي ووصل إلى تكريت، فأمكنه أيوب من قلعتها ورفعه إليها بالحبال، وخدمه هو وأخوه شيركوه، فاعتدها يداً لهما. ثم أقام له السفن حتى عبر دجلة؛ وتبعه أصحابه فأحسن إليهم وسيرهم إليه.
فبلغ ذلك الأمير مجاهد الدين بهروز فأنكر عليه وأخرجه من قلعة تكريت، فسار هو وشيركوه إلى عماد الدين زنكي، وهو يومئذ صاحب الموصل، فأكرمهما وأقطعهما إقطاعاً، وتقدما عنده. فلما ملك بعلبك جعل نجم الدين دزدارها، فأقام بها إلى أن قتل عماد الدين زنكي وحصر عسكر دمشق بعلبك لأخذها لصاحب دمشق، مجير الدين أبق بن محمد بن بوري بن ظهير الدين طغتكين الأتابك. فبعث إلى سيف الدين غازي بن عماد الدين زنكي بالموصل يعرفه ويطلب منه عسكرا فلم يجبه؛ فسلم بعلبك لصاحب دمشق على إقطاع، وصار أحد أمراء دمشق.
وأما شيركوه فإنه لما خدم عماد الدين زنكي تمكن منه، بواسطة الوزير جمال الدين الأصفهاني، إلى أن قتل، فتعلق بخدمة ابنه نور الدين محمود بن زنكي وتخصص(3/306)
به، حتى عظمت منزلته عنده. وصار معه إلى حلب فأقطعه وأنعم عليه، ثم أعطاه مدينة الرحبة وتدمر إلى أن جهزه إلى مصر وعاد منها وهو كثير الذكر لها، فخافه نور الدين وصرفه عنه وأعطاه مدينة حمص، وجعله مقدم عسكره إلى أن قدم مصر وملكها كما تقدم إلى أن مات؛ فدفن بالقاهرة، ثم نقل منها إلى المدينة النبوية بعد مدة.
ولما احتضر قال: من ههنا؟ فقال الطواشي بهاء الدين قراقوش: عبدك قراقوش. فقال: بارك الله فيك، الحمد لله الذي بلغنا من هذه الديار ما أردنا، ومتنا وأهلها راضون عنا. أوصيكم لا تفارقوا سور القاهرة حتى تطير رءوسكم، واحذروا من التفريط في الأسطول.
ولما توفي أسد الدين افترق أهل القصر وحواشي الخليفة العاضد من الأستاذين وغيرهم فرقتين. فأما إحداهما وكبيرهم الأستاذ صنيعة الملك مؤتمن الخلافة جوهر فإنهم قالوا قد مات أسد الدين المهدد به في الشرق والغرب ولم يحدث إلا خير، ومن الرأي أن نمسك مخلفته ونضيف إليها من جياد فرسان الغز ما تكون جملته ثلاثة آلاف فارس، ونقدم عليهم بهاء الدين قراقواش، وننزلهم بالشرقية، ونجعلها بأجمعها إقطاعاً لهم يسكنون بها، فيصيرون بيننا وبين الفرنج الذين طمعوا في البلاد، يقاتلون عن حرمهم(3/307)
وإقطاعاتهم. ويرتب مولانا من أجناد الديار المصرية من ينتفع به، ولا يقيم وزيراً تثقل وطأته ويشارك الخليفة في أمره، بل يجعل صاحب وساطة بين الناس وبين الخليفة.
وقالت الطائفة الأخرى لا وحق الله، ما يكون وزير مولانا إلا ابن أخي وزيره الذي هو منه وإليه، يعنون صلاح الدين، وإذا بقي المذكور أقام معه قراقوش وغيره من المعتبرين.
وكذلك وقع في عسكر أسد الدين، فإن شهاب الدين محمود الحارمي، خال صلاح الدين، والأمير عبد الدولة ياروق الياروقي وأخاه الأمير بهاء الدولة والأمير قطب الدين خسرو بن تليل، والأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المشطوب طلب كل منهم الوزارة لنفسه وجمع أصحابه ليغالب عليها.
واجتمع مماليك أسد الدين، وهم خمسمائة، على صلاح الدين وطلبوا وزارته، وتحدثوا بأن أسد الدين أوصى إليه، فبعث العاضد إليهم وسأل الأمراء من يصلح للوزارة؛ فسار إليه شهاب الدين محمود الحارمي وأرشده إلى تولية صلاح الدين. وكان العاضد قد مال إليه وقال لأصحابه من الأستاذين وغيرهم لما اختلفوا، كما تقدم ذكره، والله إني لأستحي من تسريح صلاح الدين وما بلغت غرضاً في حقه لقرب عهد مقام عمه. فأرسل إليه وخلع عليه خلع الوزارة بالعقد والجوهر، وحنكه، ونعته بالملك الناصر، وذلك في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من جمادى الآخرة.(3/308)
وصفة الخلعة ثوب أبيض دبيقي بطرازين ذهبا، وطيلسان مقور بطراز ذهب دقيق، وعمامة بيضاء مذهبة، وفي عنقه العقد الجوهر وقيمته عشرة آلاف دينار؛ وقد تقلد سيف الوزارة وقيمته خمسة آلاف دينار. وركب فرسا حجرةً صفراء من مراكب العاضد قيمتها ثمانية آلاف دينار، وعليها سرفسار ذهب مجوهر، وأعلاقها من سبتة، وفي عنقها مشدة بيضاء برأسها مائتا حبة جوهراً وفي أربع قوائمها أربعة عقود من جوهر، وعلى رأسه قصبة ذهب في رأسها طلعة مجوهرة ومشدة بيضاء بأعلام ذهب. وحمل بين يديه عدة بقج فيها أنواع من الثياب، وقيد معه أيضا عدة خيول؛ ومنشور الوزارة ملفوف في ثوب أطلس أبيض بخط القاضي الفاضل ومن إنشائه؛ وقرأه الجليس ابن عبد القوي. وهو كبير جداً وعلى رأسه بخط العاضد: هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عند الله سبحانه عليك؛ فأوف بعهدك ويمينك، وخذ كتاب أمير المؤمنين ناهضا بيمينك، ولمن مضى بجدنا رسول الله أحسن أسوة، ولمن بقى بقربنا أعظم سلوة. " تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيِدُونَ عُلُوّاً في الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً والْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ". فكان آخر منشور كتب عن العاضد.
ولما نزل صلاح الدين إلى دار الوزارة لم يطعه أحد من الأمراء النورية ولا خدموه، فسعى الفقيه عيسى الهكاري في الإصلاح بينه وبينهم، وبدأ بالمشطوب فقال له: هذا الأمر لا يصل إليك مع وجود عين الدولة والحارمي وابن تليل. ثم قصد الحارمي(3/309)
وقال له: هذا صلاح الدين ابن أختك، وعزه وملكه لك، وقد استقام له الأمر، فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه ولا يصل إليك. وما زال بهم حتى مالوا إليه وأطاعوا بأجمعهم إلا عين الدولة فإنه قال لا أخدم يوسف أبداً، وخرج من القاهرة بجماعة وصار إلى نور الدين بالشام.
فلما بلغ نور الدين استيلاء صلاح الدين أقام ثلاثة أيام لا يقدر أحد أن يراه من شدة ما عظم عليه ذلك وأغضبه.
واستمال صلاح الدين قلوب الناس، وساس الأمور وكاتب الأطراف، وأقبل على الجد، وتاب عن الخمر، وأعرض عن اللهو، وتقرب إلى الخليفة العاضد بما يرضيه فأحبه وأدناه حتى كان يدخله إليه القصر راكباً ويقيم عنده بالقصر عدة أيام. وعظم في الدولة حتى حسده الأمراء وباينه جماعة منهم وتوجهوا إلى الشام. وشرع في استمالة قلوب الناس إليه فبذل فيهم المال وأخرج ما كان في خزائن عمه أسد الدين؛ واستدعى من العاضد فأمده بشيء كثير من المال، فكان أمره في زيادة وقوة وأمر العامة في نقص وضعف.
وركب العاضد ومعه الملك الناصر صلاح الدين يوسف في غرة شهر رمضان، وحمل العادل أبو بكر السيف. ثم ركب أيضا جمعتين في شهر رمضان إلى الجامع الأزهر والجامع الأنور على العادة، وركب في عيد الفطر.
وأرسل إلى نور الدين يسأله في إرسال أبيه وأخيه فلم يجبه إلى ذلك.(3/310)
وصارت الخطبة بديار مصر للعاضد ومن بعده للملك العادل نور الدين، وهو في الظاهر ملك الديار المصرية وصلاح الدين لا يتصرف إلا عن أمره كالنائب في الأمر عنه؛ ونور الدين لا يفرده بكتاب، بل يكتب: الأمير الأسفهلار صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا؛ ويجعل علامته على رأس الكتاب تعظيماً لنفسه وترفعاً عن أن يكتب اسمه.
وعندما بلغه وفاة أسد الدين شق عليه استيلاء صلاح الدين، وتتبع أصحابه وأصحاب أسد الدين، وأخذ إقطاع صلاح الدين وإقطاع أسد الدين، ومنع نوابه من التصرف في حمص، وأبعد أهاليهم واستثقلهم وطردهم عنه. وكتب إلى الأمراء بمصر بمفارقته وتركه بمصر وحيداً ليوهن أمره. وشرع يذمه ويذكره بالسوء ويعنته في الطلب بحمل الأموال إليه، وصار كثيراً ما يقول: ملك ابن أيوب ويستعظم ذلك احتقاراً له.
وثقل ذلك على أهل الدولة وحواشي الخليفة العاضد، فإنه أقطع أصحابه أجل البلاد وآواهم، وأبعد أهل مصر وأضعفهم، واستبد بجميع الأمور ومنع العاضد من التصرف؛ ففطن العاضد لما يريد من إزالة الدولة. فثار الأستاذ مؤتمن الخلافة، وهو يومئذ من أكابر خدام القصر، وبعث بمكاتبة إلى الفرنج يستنجد بهم على الغز، ويحثهم على قصد البلاد ليخرج إليهم صلاح الدين بعساكره فيثور عند ذلك بصعيد مصر وطوائف العسكر،(3/311)
ويصير صلاح الدين محصوراً بين الفرنج وبينهم فيأخذونه ويتلفون من معه. ووافقه على ذلك جماعة.
وبعث رجلاً بالكتاب إلى الفرنج بعد ما جعله في نعل كي لا يعثر عليه. فلما وصل الرجل إلى البئر البيضاء قريباً من بلبيس، ظفر به بعض أصحاب صلاح الدين ومعه نعلان جديدان في يده، فارتاب لما رآه من سوء حاله وحسن النعلين، وعلم أنهما لا يليقان به، ولو كانا من ملابسه لكان تبين فيهما أثر الاستعمال. فأخذهما منه وفتحهما فوجد فيهما الكتب إلى الفرنج، فتقرب بذلك إلى صلاح الدين، وحضر بالرجل والكتب إليه؛ فكتم ذلك، وتتبع من كتب الكتب حتى أحضر إليه برجل يهودي، فلما خاف منه أسلم وأخبره الخبر.
فبلغ ذلك مؤتمن الخلافة وخشي على نفسه، فلزم القصر وامتنع من الخروج مدة وصلاح الدين لا يلتفت إليه، فاغتر بإعراضه عنه وخرج إلى منظرة له على النيل، بستان بناحية الخرقانية قريباً من قليوب. فأرسل إليه صلاح الدين بجماعة من أصحابه هاجموه وقتلوه، وصاروا إليه برأسه، وذلك في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة؛ وجعل زمام القصور عوضه الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي. فغضب لقتله السودان وحرك منهم ما كانوا يتكتمونه؛ فاجتمعوا لحرب صلاح الدين في سادس عشريه، صبيحة قتل مؤتمن الخلافة، وقد صاروا في جمع كثير من الأمراء المصريين وعوام البلد يزيد على الخمسين ألفاً، وزحفوا إلى دار الوزارة.
فبدر إليهم فخر الدين شمس الدولة توران شاه، وركب صلاح الدين بعساكره وقد تجمعت الريحانية والجيوشية والفرجية ومن انصاف إليها في بين القصرين، وخرجت إليهم الأرمن؛ فوقع بين الفريقين قتال عظيم استظهر فيه العبيد على الغز، والعاضد(3/312)
في المنظرة يشرف على الوقعة. فلما تبين الغلب للعبيد وكادوا أن يهزموا الغز رمى أهل القصر بالنشاب والحجارة حتى امتنعوا عن مقاتلة العبيد، فنادى شمس الدولة النفاطين وأمرهم بإحراق المنظرة التي فيها العاضد فطيب قارورة وصوب على المنظرة بها، فإذا بباب الطاق قد فتح وخرج منه زعيم الخلافة، أحد الأستاذين الخواص، وقال: أمير المؤمنين يسلم على شمس الدولة ويقول دونكم والعبيد الكلاب أخرجوهم من بلادكم. فلما سمع العبيد ذلك، وكان قد قتل أحد مقدميهم، وبعث صلاح الدين في أثناء محاربته لهم إلى حارة السودان خارج باب زويلة، المعروفة بالمنصورة، فأحرقها وتلفت أموالهم وهلكت أولادهم وحرمهم؛ ضعفت لهذه الأمور أنفس العبيد، وانهزموا بعد ما ثبتوا يومين، وتعين لهم الفل. فركب الغز أقفيتهم يقتلون ويأسرون، إلى أن وصوا إلى السيوفية وثبتوا هنالك، فألقى شمس الدولة النيران في المواضع التي امتنعوا بها.
وأحرق أيضاً دار الأرمن التي كانت بين القصرين، وكان بها خلق كثير من الأرمن كلهم رماة لهم جار، وكانوا في هذه الحروب قد أنكوا الغز بشدة رميهم ومنعوهم أن يتجاوزوا من موضعهم إلى محاربة العبيد، فلما احترقت عليهم الدار لم يكد يفلت منهم أحد. فالتجأ العبيد إلى عدة أماكن، وكلما امتنعوا بموضع ألقى فيه الغز النار وقاتلوهم، حتى صاروا إلى باب زويلة وأخذت عليهم أفواه السكك وقد وهنوا ولم يجدوا لهم ملجأ. فصاحوا وطلبوا الأمان، فأمنوا على ألا يبقى منهم أحد بالقاهرة؛ فخرجوا بأجمعهم إلى الجيزة. ومال الغز على أموالهم وديارهم واستباحوا جميع ما فيها؛ وذلك يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة. فما هو إلا أن صاروا بالجيزة حتى عدى إليهم شمس الدولة بالعسكر فأبادهم حصداً بالسيف، ولم ينج منهم إلا الشريد. وأمر صلاح الدين بتخريب المنصورة وصيرها بستانا؛ فمضى العبيد وذهبت آثارهم من مصر.(3/313)
وقوي صلاح الدين، وتلاشى العاضد وانحل أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة. ووالي صلاح الدين الطلب من العاضد في كل يوم ليضعفه، فأتى على المال والخيل والرقيق وغير ذلك، حتى ان العاضد كان في بعض الأيام بالبستان الكافوري وإذا بقاصد صلاح الدين قد وافاه يطلب منه فرساً وهو راكب، فقال ما عندي إلا الفرس الذي أنا راكبه، ونزل عنه، وشق خفيه ورمى بهما وسلم إلى القاصد الفرس وعاد إلى قصره ماشياً، فلزم مجلسه ولم يعد بعدها يركب حتى مات.
وأخرج صلاح الدين خاله الأمير شهاب الدين الحارمي إلى الصعيد يتبع من فر من العبيد فأفناهم، ولم يبق منهم بديار مصر إلا من اختفى، بعد أن كانت البلاد كلها لا تخلو مدينة ولا محلة من أن يكون فيها مكان معد للعبيد، محمي لا يدخله وال ولا غيره. وكان منهم ضرر على الناس.
وأخذ صلاح الدين في القبص على دور العبيد والأرمن والأمراء، وأسكن فيها أصحابه معه بالقاهرة.
وكان قاع النيل في هذه السنة ست أذرع وثماني أصابع، وبلغ ثمان عشرة ذراعا.(3/314)
سنة خمس وستين وخمسمائة
فيها قدم من الشام إخوة صلاح الدين يوسف وعياله؛ وقيل كان قدومهم في سنة أربع.
فيها تحرك الفرنج لغزو ديار مصر خوفاً من صلاح الدين ونور الدين عندما بلغهم تمكنه من ديار مصر وقطع آثار جند المصريين. فكاتبوا فرنج صقلية وغيرهم واستنجدوا بهم، فأمدوهم بالمال والسلاح والرجال، وساروا بالدبابات والمنجنيقات إلى دمياط، فنزلوا عليها في مستهل صفر بألف ومائة مركب، ما بين شين ومسطح وشلندي وطريدة، وأحاطوا بها براً وبحراً.
فبعث صلاح الدين بالأمير تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ابن أخي صلاح الدين، وأتبعه بالأمير شهاب الدين الحارمي، في عساكر إلى دمياط، وأمدهم بالمال والميرة والسلاح.
وألح الفرنج على أهل دمياط وضايقوهم، والناس فيها صابرون في محاربتهم. وبعث صلاح الدين إلى نور الدين يستنجده ويعلم أنه لا يمكنه الخروج من القاهرة إلى لقاء الفرنج خوفاً من قيام المصريين عليه؛ فجهز إليه نور الدين العساكر شيئاً بعد شيء، وخرج بنفسه إلى بلاد الفرنج بالساحل وأغار عليها واستباحها.(3/315)
واستمر الفرنج على دمياط أحداً وخمسين يوما، ثم رحلوا عنها في الحادي والعشرين، وقيل في الثالث والعشرين، من ربيع الآخر، خوفاً على بلادهم من نور الدين ولفناء وقع فيهم؛ وغرق من مراكبهم نحو الثلثمائة مركب. فأحرقوا ما ثقل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها.
وبلغت النفقة من صلاح الدين على هذه النوبة ألف ألف دينار مصرية. وكان يقول ما رأيت أكرم من العاضد؛ أرسل إلى مدة مقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار سوى الثياب وغيرها.
وورد كتاب نور الدين إلى العاضد يهنئه برحيل الفرنج عن دمياط، وكان صلاح الدين سير إليه يبشره برحيلهم، وسير إليه العاضد يستقيله من الأتراك خوفاً منهم ويطلب الاقتصار على الملك الناصر صلاح الدين، فتضمن كتابه مدح الأتراك والثناء عليهم.
وفيها أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يبعث إليه بأبيه نجم الدين أيوب ابن شاذي، فأرسله إليه في عسكر، وسار معه كثير من التجار ممن له هوىً في مصر وغرض في صلاح الدين. فخرج ابنه صلاح الدين إلى لقائه ومعه الخليفة العاضد إلى صحراء الإهليلج خارج باب الفتوح ولقيه هناك؛ ولم تجر العادة بخروج الخليفة إلى لقاء أحد؛ وذلك في رابع عشر شهر رجب. ولقبه العاضد بالملك الأوحد، وزينت القاهرة ومصر لقدومه فكان من الأيام المذكورة؛ وبالغ العاضد في احترامه والإقبال عليه. ونزل اللؤلؤة.
وكان سبب تجهيز الملك العادل نور الدين لنجم الدين أيوب كثرة ورود مكاتبة الخليفة المستنجد بالله العباسي عليه من بغداد يعاتبه على تأخير إقامة الخطبة العباسية بمصر، فوالي نور الدين كتابة الملاطفات إلى صلاح الدين يأمره بذلك، وهو يعتذر إليه(3/316)
عن ترك الخطبة بما يخافه من المصريين. فوردت رسل المستنجد إلى دمشق بالاستحثاث والعزم على إقامة الخطبة بمصر ولا بد؛ فرأى نور الدين أن مثل هذا المهم لا يقوم به إلا نجم الدين أيوب، وكان يتولى قلعة بعلبك، فأرسل إليه وقرر معه الأمر وسيره.
وكان وصوله إلى القاهرة لست بقين من رجب، وقيل في جمادى الآخرة، فقررت له ولاية الإسكندرية وولاية دمياط والبحيرة. وأقطع الأمير فخر الدين شمس الدولة توران شاه، ابن والد الملوك الملك الأفضل نجم الدين أيوب، قوص وأسوان وعيذاب، وكانت عبرتها يومئذ في تلك السنة مائتي ألف دينار وستة وستين ألف دينار؛ فاستناب عنه في قوص الأمير شمس الخلافة محمد بن مختار.
فيها ثار الأمير عباس بن شاذي بمرج بني هميم، من أعمال قوص، ومنع رسلان دعمش المتوجه لجباية خراج قوص من التوجه، واستباح عسكره.
وفيها أبطل صلاح الدين الأذان بحي على خير العمل محمد وعلي خير البشر، فكانت أول وصمة دخلت على الدولة. ثم أمر أن يذكر في الخطبة يوم الجمعة الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان ثم علي، وذلك يوم الجمعة لعشر مضين من ذي الحجة.(3/317)
ثم أمر أن يذكر العاضد في الخطبة بكلام يحتمل التلبيس على الشيعة، فكان الخطيب يقول: اللهم أصلح العاضد لدينك. لا غير.
وفي يوم الاثنين، بعد طلوع الشمس، الثاني عشر من شوال حدثت زلزلة عظيمة مهولة بدمشق سقط منها بعض شرف الجامع الأموي وتشقق رأسا المنارتين الشرقية والغربية، وكانت المنارة الشمالية تهتز اهتزاز السعفة في الريح العاصفة. ثم جاءت زلزلة أخرى بعد ساعة، ثم جاءت زلزلة ثالثة بعد العصر. وأثرت هذه الزلزلة آثاراً شنيعة بحلب وبعلبك وحمص وحماة وشيزر وكفر طاب وتل بارين والمعرة وتل باشر وعزاز وأفامية وأبو قبيس والمنيطرة وحصون الباطنية بأسرها. وامتدت إلى الجزيرة والموصل ونصيبين وسنجار ودنيسر وماردين والرها وحران ورأس العين والرقة وقلعة جعبر وقلعة نجم وبالس ومنبج وبزاعا وعين تاب وحارم وأنطاكية وما خلفها من الثغور وبيروت وأطرابلس وعرقة وطرسوس وجبلة والمرقب واللاذقية وعكا وصور وغيرها؛ فمنها ما دمر بأسره ومنها ما ذهب أكثره ومنها ما ذهب بعضه ومنها ما تشعث. وهلك بحلب عدد كثير من الناس وببعلبك، ولم يهلك بدمشق غير واحد أصابته قطعة من حجر فسقط على درج جيرون فمات. وجاءت بدمشق زلازل في عدة ليالي وأيام إلى يوم الجمعة عاشر ذي القعدة.
فيها ولي القاضي المفضل أبو القاسم هبة الله بن كامل قضاء القضاة في ذي الحجة؛ فرتب صلاح الدين الفقيه عيسى الهكاري بحكم القاهرة وابن كامل بحكم مصر.(3/318)
سنة ست وستين وخمسمائة
فيها رفع صلاح الدين جميع المكوس بديار مصر وأبطلها.
وفيها أمر بهدم المعونة بمصر فهدمت، وعمرها مدرسة للشافعية؛ ولم يكن قبل ذلك بديار مصر مدرسة لأحد من الفقهاء فإن الدولة كانت إسماعيلية. وهذه المدرسة بجوار جامع عمرو بن العاص وعرفت أخيراً بالمدرسة الشريفية؛ وهي أول مدرسة عمرت بمصر لإلقاء العلم. وأنشأ دار الغزل به مدرسةً للمالكية بجوار الجامع أيضا، وتعرف اليوم هذه المدرسة بالقمحية.
وفيها عزل صلاح الدين قضاء مصر من الشيعة، وولي قاضي القضاة صدر الدين عبد الملك بن درباس الهدباني الشافعي، وجعل إليه الحكم في جميع بلاد مصر بعدما أحضره من المحلة، وخلع عليه في يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة؛ فعزل من كان بها من القضاة واستناب عنه قضاةً شافعية. ومن حينئذ اشتهر مذهب الشافعي ومذهب مالك بديار(3/319)
مصر وتظاهر الناس بهما، واختفى مذهب الشيعة من الإمامية الإسماعيلية. وبطل من حينئذ مجلس الدعوة بالجامع الأزهر وغيره.
وفيها ابتدأ صلاح الدين في غزو الفرنج، فجمع الجنود والعساكر، وخرج في أحسن زي إلى بلاد عسقلان والرملة فشن الغارات عليها، وهجم ربض مدينة غزة، وواقع ملك الفرنج على الداروم ففل جمعه وقتل منه كثيراً من الفرنج، ونجا ملكهم بحشاشته. وعاد صلاح الدين مظفراً غانماً.
ثم خرج في النصف من ربيع الأول ومعه مراكب مفصلة على الجمال، فسار إلى أيلة، وكان بها قلعة منيعة قد ملكها الفرنج، فألقى المراكب المحمولة معه بعد إقامتها وإصلاحها في البحر، وشحنها بالرجال والسلاح، وضايق قلعة أيلة في البر والبحر حتى افتتحها في العشرين من ربيع الآخر، وقتل من بها من الفرنج، وسلمها لثقات من أصحابه أقامهم فيها وقواهم بالسلاح والميرة ونحو ذلك.
ووردت عليه قافلة أهله فسار بهم إلى القاهرة ودخل في سادس عشري جمادى الأولى. ثم سار إلى الإسكندرية لمشاهدة سورها وترتيب أمورها، فدخلها وأمر بإصلاح السور والأبراج؛ فعمر ما تهدم منه.
وفيها اشترى الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب منازل العز بمصر، في النصف من شعبان، وجعلها مدرسة للشافعية، وأوقف عليها عدة أماكن، منها الروضة تجاه مصر.(3/320)
وفيها خرج الأمير شمس الدولة توران شاه إلى بلاد الصعيد، وأوقع بالعربان، وغنم منها غنائم تجل عن الوصف، وعاد إلى القاهرة.
وفيها ابتدأ صلاح الدين بعمارة السور الجديد على القاهرة.
وفيها كثر بمصر عسكر صلاح الدين وأقاربه وأصحابه، وانكفت أمراء المصريين عن التصرف ومنعوا من كل شيء، فبسطوا ألسنتهم بالقول ضد ما عليه صلاح الدين وأصحابه من الفعل في محو آثار الدولة الفاطمية وإزالة رسومها، وخلع العاضد وقتله. والدعاء للخليفة العباسي. فلما رأى أمره قد قوي وأوتاد دولته قد تمكنت من البلاد عزم على إظهار ما يخفيه؛ فواعد أمراء النشابين على أن يمضوا إلى بيوت الأمراء المصريين في الليل، ويقف كل أمير منهم بجنده على باب أمير من أمراء مصر، فإذا خرج للخدمة قبض عليه واحتاط على داره وما فيها وأخذها لنفسه.
فأصبحوا واقفين على منازل الأمراء المصريين بأجنادهم، فما هو إلا أن يخرج الأمير من منزله ليصير إلى الخدمة على عادته فإذا بالأمير الشامي الذي قد عين له وقد قبض عليه وأوثقه، وهجم بمن معه على داره فملكها بجميع ما تحتوي عليه، وما يتعلق بصاحبها وينسب إليه من أهل ومال وخيول وعبيد وجوار، وماله من إقطاع. فلم ينتشر الضوء حتى علت الأصوات وارتفعت الضجات وثار الصياح من كل جانب، وصار الأمراء الشاميون في سائر نعم أمراء مصر، وأصبح الأمراء المصريون أسرى معتقلين في أيدي أعاديهم. فال أمرهم إلى أن صار الأمير منهم بواباً على الدار التي كان يسكنها، وصار آخر منهم سائس فرس كان يركبها، وصار آخر وكيل القبض في بلد كانت إقطاعاً له؛ ونحو ذلك من أنواع الهوان.
وبلغ ذلك العاضد فشق عليه وأرسل إلى صلاح الدين يسأله عن سبب القبض على الأمراء، فبعث إليه بأن هؤلاء الأمراء كانوا عصاةً لأمرك والمصلحة قتلهم وإقامة غيرهم ممن يمتثل أمرك. فسكت.(3/321)
وتقوى صلاح الدين وعظم أمره، وذهب من كان يخشاه ويخافه، وأخرج أكثر إقطاعات الأجناد بمصر، وزاد الأمير شمس الدولة على إقطاعه ناحية بوش ودهشور والمنوفية وغير ذلك. وانحل أمر العاضد.
فيها قبض صلاح الدين على جميع بلاد العاضد ومنع عنه سائر مواده، بحيث لم يبق له شيئاً؛ وقبض على القصور وسلمها إلى الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي، وهو يومئذ زمام القصور من بعد قتل مؤتمن الخلافة، وصار له في القصر موضع، فلا يدخل شيء من الأشياء إلى القصر ولا يخرج منه إلا بمرأى منه ومسمع. وضيق على أهل القصر حتى قبض في هذه الأيام على جميع ما فيها، وصار العاضد معتقلاً تحت أيديهم.
وفيها أمر صلاح الدين بتغيير شعار الفاطميين، وأبطل ذكر العاضد من الخطبة. وكان الخطيب يدعو للإمام أبي محمد، فتخاله العامة والروافض العاضد وهو يريد أبا محمد الحسن المستضئ بأمر الله أمير المؤمنين الخليفة. ثم أعلن بالعزم على إقامة الخطبة العباسية.
وفيها مات الشيخ الموفق يوسف بن محمد أبو الحجاج، ابن الخلال، كاتب الدست(3/322)
وفي يوم الجمعة سلخ ذي الحجة عزم صلاح الدين على الإعلان بالأمر وكشف الغطاء فأحجم الخطباء عن ذلك تقيةً وحذراً، فانتدب لذلك رجل من أهل المغرب يقال له اليسع ابن عيسى بن حزم بن عبد الله بن اليسع أبو يحيى الغافقي الأندلسي، فقصد المنبر مستعداً من الحديد بما يدفع عن نفسه إن أراده أحد بسوء؛ فخطب ودعا للخليفة أبي محمد الحسن المستضئ بأمر الله أمير المؤمنين، وذكر نسبه إلى العباس. وقيل بل كان ذلك في السنة الآتية.(3/323)
سنة سبع وستين وخمسمائة
في أول المحرم نسخ منشور بنقل السنة الخراجية إلى السنة الهلالية لخلو هذه السنة من نوروز. ومنذ نقلت السنة في أيام الأفضل أمير الجيوش، كما تقدم ذكره، لم تنقل، وانسحب الأمر حتى تداخلت السنون، وصار التفاوت بين العربية والقبطية سنتين.
وفي رابعه جلس العاضد بعد الإرجاف بأنه أثخن في رمضه، فشوهد على ما حقق الإرجاف من ضعف القوى وتخاذل الأعضاء وظهور الحمى؛ وقيل إنها تفشت بأعضائه.(3/324)
وأمسك طبيبه المعروف بابن السديد عن الحضور إليه، وامتنع من مداواته، وخذله مساعدةً عليه للزمان، وميلا مع الأيام.
وفيها نزل نجم الدين أيوب بجماعة معه إلى الجامع وأمر الخطيب ألا يذكر العاضد، وقال إن ذكرته ضربت عنقك. فقال لمن أخطب؟ فقال للخليفة المستضيء بأمر الله العباسي. فلما خطب لم يذكر العاضد ولا غيره، بل دعا للأئمة المهديين والملك الناصر. فقيل له في ذلك، فقال: ما علمت اسم المستضيء ولا نعوته، وفي الجمعة الثانية أفعل ما يجب فعله وأذكره. فلما بلغ العاضد ذلك قال في الجمعة الأخرى يعينون اسم الرجل المخطوب له. فلما كانت الجمعة الثانية، وهي سابعه، خطب باسم الخليفة المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد ابن المستظهر بالله. وقطعت الخطبة للعاضد لدين الله فانقطعت ولم تعد بعدها إلى اليوم الخطبة للفاطميين.
وذلك أنه لما ثبتت قدم صلاح الدين بالديار المصرية وأزال المخالفين له، وضعف أمر الخليفة العاضد بقتل رجاله وذهاب أمواله، وصار الحكم على قصره قراقوش، طواشي أسد الدين، نيابة عن صلاح الدين، وتمكنت عساكر نور الدين من مصر طمع في أخذها. وكتب إلى صلاح الدين وفي ظنه وظن جميع عساكره أن صلاح الدين إنما هو نائب عنه في مصر متى أراد سحبه بإذنه لا يمتنع عليه يأمره بقطع خطبة العاضد وإقامتها للمستضيء العباسي. فاعتذر بالخوف من قيام المصريين عليه وعلى من معه لميلهم كان إلى الفاطميين، ولأنه خاف من قطع خطبة العاضد وإقامة الخطبة للمستضيء أن يسير(3/325)
نور الدين إلى مصر وينزعه منها. فلم يقبل منه نور الدين وألح عليه وألزمه إلزاماً لم يجد مندوحة عن مخالفته، وساعدته الأقدار بمرض العاضد المرض الذي غلب على الظن أنه لا يعيش منه. فجمع صلاح الدين أصحابه إليه واستشارهم في ذلك، فاختلفوا، فمنهم من أشار بقطع خطبة العاضد، ومنهم لم يشر بها.
وكان قد دخل إلى مصر رجل عجمي يعرف بالأمير العالم، يزعم أنه عباسي فاطمي من أيام الصالح بن رزيك، وما زال ينتقل في قوالب الانتساب وأساليب الاكتساب. فلما رأى ما هم فيه من الإحجام وأن أحداً لا يتجاسر ويخطب للمستضيء قبل الخطيب، فلم ينكر أحد عليه ولا تحرك له. فتيقن حينئذ صلاح الدين ذهاب قوة القوم من وال يغريهم. فتقدم إلى جميع الخطباء بأن يخطبوا في الجمعة الآتية للمستضيء، وكتب بذلك إلى سائر أعمال مصر. فكان الذي ابتدأ بالخطبة للمستضيء في الجامع العتيق بمصر أبو عبد الله محمد ابن الحسن بن الحسين بن أبي المضاء الدمشقي. وكان قدم به أبوه إلى مصر فنشأ بها وقرأ الأدب، ورحل إلى دمشق وبغداد وتفقه، وعاد إلى مصر، واتصل بخدمة السلطان صلاح الدين فولاه الخطابة بمصر ثم بعثه رسولا إلى بغداد، فمات بدمشق. وولي الخطابة بعده الشيخ أبو إسحاق العراقي.
فكتم أهل العاضد ذلك عنه لشدة ما به من المرض. وكان ذلك من أعجب ما يؤرخ، فإن الخطبة بديار مصر أول ما خطب بها للمعز لدين الله، أول خلائف الفاطميين بمصر،(3/326)
عمر بن عبد السميع العباسي الخطيب بجامع عمرو، كما تقدم ذكره، وكان الذي قطع خطبة العاضد، آخر خلائفهم، رجل عباسي. ومثله في الغرابة أن الفاطميين لم يتمكنوا من الديار المصرية حتى قصدوها بعساكرهم مرتين مع القائم بن المهدي ولم يفتح، وفتحوها في الثالثة على يد جوهر؛ وكذا حصل في زوالهم من مصر فإن شيركوه قصد مصر مرتين ورجع، ثم قصدها في المرة الثالثة واستقر بها حتى أزالت عساكره الدولة.
في ثامنه أمر صلاح الدين بركوب عساكره كلها قديمها وجديدها، بعد أن تكامل سلاحهم وخيولهم، وخرج لعرضهم، وهي تمر عليه موكباً بعد موكب وطلباً بعد طلب. والطلب بلغة الغز هو الأمير المقدم الذي له علم معقود وبوق مضروب وعدة من الجند ما بين مائتي فارس إلى مائة فارس إلى سبعين فارسا. واستمر طول النهار في عرضهم. وكانت العدة الحاضرة مائة وسبعة وأربعين طلباً والغائب منها عشرون طباً، وتقدير العدة أربعة عشر ألف فارس.
في يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت من المحرم، عشية يوم عاشوراء، نفذ حكم الله المقدور، وقضاؤه الذي يستوي فيه الآمر والمأمور، في العاضد لدين الله، في الثلث الأول من ليلة الاثنين يوم عاشوراء، وقامت عليه الواعبة، وعظمت ضوضاء الأصوات النادبة، حتى كأن القيامة قد قامت. وكان بين وضع اسمه من أعواد المنابر ورفع جسمه على أعواد النعش ثلاثة أيام. فاعتني به صلاح الدين عن أن يبتذل أو يهان بعد الموت، وكان من معه من الأمراء يريدون ذلك؛ وأمر بكف الأيدي واعتقال الألسنة عن التعرض إليه بسوء؛ وركب معزياً لأهل القصر. وأمر بتجهيزه وقد أظهر الكآبة والحزن وأجرى دمعه، ووعد أهله بحسن الخلافة على أيتام العاضد وهم ثلاثة عشر ولداً: أبو الحسن، وأبو سليمان داود، وأبو الحجاج يوسف، وأبو الفتوح، وأبو إسحاق إبراهيم، وأبو الفضل(3/327)
جعفر، وأبو داود موسى، وأبو زكريا يحيى، وعبد القوي، وعبد الكريم، وعبد الصمد، وأبو اليسر، وأبو القاسم عيسى.
وأمر بإنشاء الكتب إلى البلاد بذكر وفاة العاضد وأن الخطبة استقرت للمستضيء بأمر الله أمير المؤمنين العباسي، وألا يخوض أحد في شأن العاضد ولا يطعن في سلطان. وكتب إلى نور الدين بموت العاضد وإقامة الخطبة للمستضيء كما أشار به مع ابن أبي عصرون.
وفي حادي عشره عمل الباقي بالإيوان، وحضر السلطان صلاح الدين؛ وكان محفلا حافلا وجمعاً حاشداً، فيه خلق من الزوايا وأهل التصوف وغيرهم. واهتم بما يحمل من أطعمة العزاء.
وكانت النفوس متطلعةً إلى إقامة خليفة بعد العاضد من أهله يشار إليه بالأمر، فلم يرض ذلك صلاح الدين.
ومات العاضد وعمره إحدى وعشرون سنة غير عشرة أيام، منها في الخلافة إلى أن أعيدت دولة بني العباس في مستهل المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة عشر يوماً. وكان كريماً سمحاً لطيفاً، لين الجانب، يغلب عليه الخير وينقاد إليه. وكان أسمر حلو السمرة كبير العينين أزج الحاجبين، في أنفه حلس وفي منخريه انتشار، وفي شفتيه غلظ.(3/328)
وترك العاضد من الولد الأمير داود، والأمير عليا ويقال أبو علي، والأمير عبد الكريم، وتميماً، وموسى، وعبد القوي، وجعفر، وعبد اصمد، وأبا الفتوح، وحيدرة، وإبراهيم، ويحيى، وجبريل، وعيسى، وسليمان، ويوسف غير أن أيامه كانت ذات مخاوف وتهديدات، وقاسى شاوراً وتلوناته ومخايلاته، ثم محاصرة الفرنج ومضايقته. وفي أيامه احترقت مصر وذهبت أموال أهلها وزالت نعمتهم بالحريق والنهب. وكان متغالياً في مذهبه شديدا على من خالفه. ولم يكن فيمن ولي من أبائه من أبوه غير خليفة سواه ومن قبله الحافظ، وما عداهما فلم يل منهم أحد الخلافة إلا من كان أبوه خليفة.
وقال ابن خلكان: سمعت جماعة من المصريين يقولون إن هؤلاء القوم في أوائل دولتهم قالوا لبعض العلماء اكتب لنا ورقة تذكر فيها ألقاباً تصلح للخلفاء حتى إذا تولى واحد لقبوه ببعض تلك الألقاب، فكتب لهم ألقاباً كثيرةً، وآخر ما كتب في الورقة العاضد، فاتفق أن آخر من ولي منهم تلقب بالعاضد؛ وهذا من عجيب الاتفاق.
قال: وأخبرني أحد علماء المصريين أيضا أن العاضد رأى في آخر دولته في منامه كأنه بمدينة مصر وقد خرجت إليه عقرب من مسجد معروف بها فلدغته، فلما استيقظ ارتاع لذلك وطلب بعض معبري الرؤيا وقص عليه المنام، فقال ينالك مكروه من شخص هو مقيم في هذا المسجد، فطلب والي مصر وأمره يكشف عمن هو مقيم في المسجد المذكور، وكان العاضد يعرفه. فمضى الوالي إلى المسجد فرأى فيه رجلا صوفياً، فأخذه ودخل به على العاضد، فلما رآه سأله من أين هو، ومتى قدم البلاد، وفي أي شيء قدم، وهو يجاوبه عن كل سؤال. فلما ظهر له منه ضعف الحال والصدق والعجز عن إيصال المكروه إليه أعطاه شيئاً وقال له: يا شيخ ادع لنا، وأطلق سبيله؛ فنهض من عنده وعاد إلى المسجد. فلما استولى صلاح الدين وعزم على القبض على العاضد واستفتى الفقهاء أفتوه بجواز ذلك(3/329)
لما كان عليه العاضد وأشياعه من انحلال العقيدة وفساد الاعتقاد وكثرة الوقوع في الصحابة، وكان أكثرهم مبالغة في الفتيا الصوفي المقيم في المسجد وهو نجم الدين الخبوشاني فإنه عدد مساوئ القوم وسلب عنهم الإيمان، وأطال الكلام في ذلك؛ فصحت بذلك رؤيا العاضد.
وحكى الشريف الجليس أن العاضد طلبه يوماً، فلما دخل عليه رأى عنده مملوكين من الترك عليهما أقبية، فسأله عنهما، فقال له: هذه هيئة الذين يملكون ديارنا ويأخذون أموالنا؛ فلما دخل الغز كانت هيئتهم كهيئة هذين المملوكين.
ومن العجيب أنه لم يمت بالقصر منهم إلا المعز أولهم بمصر والعاضد آخرهم، وعدتهم أربعة عشر دفنوا كلهم بالتربة في المجلس؛ فلو اتفق أنه مات آخر لم يوجد له عندهم مكان يدفن فيه لامتلائه بقور الأربعة عشر، وهذا أيضاً من عجيب أمرهم.
ولما مات العاضد استولى صلاح الدين على جميع ما كان في القصر، فإن قراقوش قام بحفظه، فلم يجد فيه كثير مال، لكنه وجد فيه من الفرش والسلاح والذخائر والتحف ما يخرج عن الإحصاء، ووجد فيه من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا من مثله، ومن الجواهر ما لا يوجد عند غيرهم مثله. منها حبل ياقوت زنته سبعة عشر درهماً أو سبعة عشر مثقالا، ونصاب زمرد طوله أربعة أصابع في عرض كبير، ولؤلؤ كثير،(3/330)
وإبريق من حجر مانع يسع مائه رطل ماء، وسبعمائة يتيمة بزهر، والطبل الذي صنع لإزالة القولنج، وكان بالقرب من موضع العاضد، فلما احتاطوا بالقصر ظنوه عمل للعب فسخروا من العاضد، وضرب عليه إنسان فضرط فتضاحك من حضر منهم، ثم ضرب عليه آخر فضرط، ثم آخر من بعد فضرط، حتى كثر ذلك فألقاه من يده فتكسر؛ وقيل للسلطان عليه وأنه عمل للقولنج فندم على كسره.
ووجد من الكتب النفيسة ما لا يعد؛ ويقال إنها كانت ألف ألف وستمائة ألف كتاب، منها مائة ألف مجلد بخط منسوب، وألف ومائتان وعشرون نسخة من تاريخ الطبري؛ فباع السلطان جميع ذلك، وقام البيع فيها عشر سنين.
ونقل أهل العاضد وأقاربه إلى مكان بالقصر ووكل بهم من يحفظهم. وأخرج سائر ما في القصر من العبيد والإماء فباع بعضهم وأعتق بعضهم ووهب منهم. وخلا القصر من ساكنه كأن لم يغن بالأمس.
وكانت مدة الدولة الفاطمية بالمغرب ومصر منذ دعي للمهدي عبيد الله برقادة من القيروان إلى حين قطعت من ديار مصر مائتي سنة وتسعاً وستين سنة وسبعة أشهر وأياماً، أولها لإحدى عشرة بقيت من ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين وآخرها سلخ ذي الحجة سنة ست وستين وخمسمائة. منها بالمغرب إلى حين قدوم القائد جوهر إلى مصر أحد وستون سنة وشهران وأيام؛ ومنها بالقاهرة ومصر مائتا سنة وثماني سنين. وما أعجب قول المهدي ابن الزبير في مدح العاضد:(3/331)
بل عاد للدّنيا الجمال ... وبدا على الدّين الجلال
أصبحت في الخلفاء را ... بع عشرهم، وهو الكمال
فإن الشيء إذا كمل بدأ نقصه، وبالعاضد تم ملك الفاطميين وزال بموته.
قال ابن سعيد: ولم يسمع فيما بكيت به دولة بعد انقراضها أحسن من قصيدة عمارة ابن علي اليمني الذي قتله صلاح الدين، وهي:
رميت يا دهر كفّ المجد بالشّلل ... وجيده بعد حسن الحلي بالعطل
سعيت في منهج الرأي العثور، فإن ... قدرت من عثرات الدّهر فاستقل
جدعت مارنك الأقني، فأنفك لا ... ينفكّ ما بين قرع السّنّ والحجل
هدمت قاعدة المعروف عن عجل ... سقيت مهلا، أما تمشي على مهل!
لهفي ولهف بني الآمال قاطبةً ... على فجيعتنا في أكرم الدّول
قدمت مصر، فأولتني خلائفها ... من المكارم ما أربى على الأمل
قومٌ عرفت بهم كسب الألوف، ومن ... كمالها أنّها جاءت ولم أسل
وكنت من وزراء الدّست حين سما ... رأس الحصان بهاديه على الكفل
ونلت من عظماء الجيش مكرمةً ... وخلّةً حرست من عارض الخلل
يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصّرت في عذلي
بالله زر ساحة القصرين، وابك معي ... عليهما، لا على صفّين والجمل
وقل لأهلهما: والله ما التحمت ... فيكم جراحي، ولا قرحي بمندمل(3/332)
ماذا عسى كانت الإفرنج فاعلةً ... في نسل آل أمير المؤمنين علي
هل كان في الأمر شيءٌ غير قسمة ما ... ملكتم بين حكم السّبي والنّفل
وقد حصلتم عليها، واسم جدّكم ... محمّد، وأبوكم غير منتقل
مررت بالقصر والأركان خالية ... من الوفود، وكانت قبلة القبل
فملت عنها بوجهي خوف منتقد ... من الأعادي، ووجه الودّ لم يمل
أسبلت من أسفٍ دمعي غداة خلت ... رحابكم وغدت مهجورة السّبل
أبكى على مأثراتٍ من مكارمكم ... حال الزّمان عليها وهي لم تحل
دار الضّيافة كانت أُنس وافدكم ... واليوم أوحش من رسمٍ ومن طلل
وفطرة الصّوم إن أضحت مكارمكم ... تشكو من الدّهر ضيماً غير محتمل
وكسوة الناس في الفصلين قد درست ... ورثّ منها جديدٌ عندهم وبلي
وموسم كان في يوم الخليج لكم ... يأتي تجملكم فيه على الجمل
وأوّل العام والعيدين كم لكم ... فيهنّ من وبل جودٍ ليس بالوشل
والأرض تهتزّ في يوم الغدير كما ... يهتزّ ما بين قصريكم من الأسل
والخيل تعرض في وشيٍ وفي شيةٍ ... مثل الطّواويس في حليٍ وفي حلل
ولا حملتم قرى الأضياف من سعة ال ... أطباق إلا على الأكتاف والعجل
وما خصصتم ببرٍّ أهل ملّتكم ... حتّى عممتم به الأقصى من الملل
كانت رواتبكم للذّمّتين وللضّم ... يف المقيم، وللطّاري من الرّسل(3/333)
ثم الطّراز بتنّيس الذي عظمت ... منه الصّلات لأهل الأرض والدّول
وللجوامع من أحباسكم نعمٌ ... لمن تصدّر في علمٍ وفي عمل
وربمّا عادت الدّنيا لمعقلها ... منكم فأضحت بكم محلولة العقل
والله لا فاز يوم الحشر مبغضكم ... ولا نجا من عذاب الله غير ولي
ولا سقى الماء من حرٍّ ومن ظمإ ... من كفّ خير البرايا خاتم الرّسل
ولا رأى جنة الله التي خلقت ... من خان عهد الإمام العاضد بن علي
أئمتي، وهداتي، والذّخيرة لي ... إذا ارتهنت بما قدّمت من عملي
تالله لم أُوفهم في المدح حقّهم ... لأنّ فضلهم كالوابل الهطل
ولو تضاعفت الأقوال واستبقت ... ما كنت فيهم بحمد الله بالخجل
باب النّجاة هم، دنيا وآخرةً ... وحبّهم فهو أصل الدّين والعمل
نور الهدى، ومصابيح الدّجا، ومحلّم ... الغيث إن ونت الأنواء في المحل
أئمةٌ خلقوا نوراً، فنورهم ... من نور خالص نور الله لم يفل
والله لا زلت عن حبّي لهم أبداً ... ما أخّر الله لي في مدّه الأجل
عمارة قالها المسكين، وهو علي ... خوفٍ من القتل، لا خوف من الزّلل
ووجد على بعض جدران القصر مكتوباً:
يا هذه الدنيا عجبت لمولع ... بك كيف أضحى في هواك يقاد
ما صحّ منك لآل أحمد موعد ... فكيف منك لغيرهم ميعاد
أمّا نعيمك فهو ظلٌّ زائل ... وصلاح ما تأتيه فهو فساد(3/334)
ذكر طرف من ترتيب الدولة الفاطمية
اعلم أن الدولة كانت إذا خلت من وزير صاحب سيف يتغلب عليها فإنه يجلس صاحب الباب في باب القصر المعروف بباب الذهب، وهو أحد أبواب القصر، ويقف بين يديه الحجاب والنقباء، وينادي مناد: يا أرباب الظلامات؛ فيحضر إليه أرباب الحوائج. فمن كان أمره مما يشاقة به نظر في أمره بمن يتعلق من القضاة أو الولاة، فيسير إلى ذلك كتاباً بكشف ظلامته. فإن كان مع المتظلم قصة أخذها منه الحاجب، فإذا اجتمع معه عدة دفعها إلى الموقع بالقلم بالقلم الدقيق فيوقع عليها، ثم تحمل منه إلى الموقع بالقلم الجليل ليبسط ما أشار إليه الموقع بالقلم الدقيق. فإذا تكاملت حملت في خريطة إلى الخليفة فوقع عليها، ثم أخرجت في الخريطة إلى الحاجب فيقف بها على باب القصر ويسلم لكل أحد توقيعه.
فإن كان في الدولة وزير صاحب سيف فإنه يجلس يومين في كل أسبوع في مكان معد له في القصر، ويجلس قبالته قاضي القضاة وعن جانبيه شاهدان معتبران، ويجلس في جانب الوزير الموقع بالقلم ويليه صاحب ديوان المال، وبين يديه صاحب المال وأسفهسلار العساكر، وبين أيديهما النواب والحجاب على طبقاتهم(3/335)
وكان أجل الخدم صاحب الباب، وهو من الأمراء المطوقين؛ ثم الأسفهسلار، وهو زمام كل زمام وإليه أمور الأجناد، ثم حامل سيف الخليفة أيام الركوب؛ ثم زمام الحافظية والآمرية، وهما أجل الأجناد.
وكانت ولاية الأعمال أجلها ولاية عسقلان، ثم ولاية قوص، ثم ولاية الشرقية، ثم ولاية الغربية، ثم ولاية الإسكندرية.
وكان قاضي القضاة ينظر في الأحكام الشرعية، فلما صارت الوزارة إلى أرباب السيوف كان يقلد القضاة نيابة عنه. والقاضي أجل أرباب العمائم رتبة؛ وتارة يكون داعي الدعاة، وتارة تفرد الدعوة عنه. ويجلس في يومي الثلاثاء والسبت بزيادة جامع عمرو بن العاص، وله طراحة ومسند حرير والشهود حوله؛ وله خمسة من الحجاب اثنان منهما بين يديه واثنان على باب المقصورة واحد ينفذ الخصوم إليه. وله أربعة من الموقعين، ودواته بين يديه على كرسي محلى بفضة يحمل إليه من الخزائن ولها حامل بجار سلطاني في كل شهر. ويخرج إليه من إصطبل الخليفة بغلة شهباء، وهي مختصة به دون غيرها، ويكون عليها سرج محلى ثقيل وراويتان من فضة، ومكان الجلد حرير.(3/336)
وتخلع عليه الخلع المذهبة، فيسير من غير طبل ولا بوق إلا أن يضاف إليه الدعوة فإنه يسير حينئذ بالطبل والبوق، فإن ذلك من رسوم الداعي مع البنود. فإن كان إنما خلع عليه لوظيفة القضاة فقط فإنه يسير بالعز أرجالاً حوله وبين يديه المؤذنون يعلنون بذكر الخليفة، أو الخليفة والوزير إن كان ثم وزير صاحب سيف؛ ويركب معه يومئذ نواب الباب والحجاب ولا يجلس أحد فوقه ألبتة، ولا يمكنه حضور جنازة ولا عقد نكاح إلا بإذن، ولا يقوم لأحد من الناس إذا كان في مجلس الحكم، ولا ينشئ عدالةً ألبتة إلا بإذن، فلا تثبت إذا أذن له في إنشائها لأحد حتى يركيه عشرون عدلاً من عدول البلد بين مصر والقاهرة ويرضاه الشهود كلهم.
فإن كان في الدولة وزير سيف لا يخاطب حينئذ من يتولى الحكم بقاضي القضاة فإنه من نعوت الوزير.
ويصعد القاضي إلى القصر في يومي الخميس والاثنين بكرةً للسلام على الخليفة؛ وله النواب، وإليه النظر في دار الضرب لتحرير العيار. ولا يصرف القاضي إلا بجنحة.
وكان في الدولة داعي الدعاة، ورتبته تلي رتبة قاضي القضاة، ويتزيا بزيه، ولا بد أن يكون عالماً بمذاهب أهل البيت، عليهم السلام، وله أخذ العهد على من ينتقل إلى مذهبه؛ وبين يديه اثنا عشر نقيباً؛ وله نواب في سائر البلاد. ويحضر إليه فقهاء الشيعة بدار العلم ويتفقون على دفتر يقال له مجلس الحكمة يقرأ في كل يوم اثنين وخميس بعد أن تحضر مبيضته إلى داعي الدعاة ويتصفحه ويدخل به إلى الخليفة فيتلوه عليه إن امكن، ويأخذ خطه عليه في طاهره. ثم يخرج فيجلس على كرسي الدعوة بالإيوان من القصر، فيقرؤه على الرجال؛ ثم يخرج ليقرأه على النساء. وله أخذ النجوى من المؤمنين بالأعمال كلها، ومبلغها ثلاثة دراهم وثلث، فيحملها إلى الخليفة.
كان متولي ديوان الإنشاء يخاطب بالأجل، ويقال له كاتب الدست، وهو الذي يتسلم(3/337)
الكتب الواردة ويعرضها على الخليفة من يده ثم يأمر بتنزيلها والجواب عنها. والخليفة يستشيره في أكثر أموره ولا يحجب عنه شيء متى جاء، وهذا أمر لا يصل إليه غيره، وربما بات عنده. وجارية في كل شهر مائة وعشرون ديناراً، مع الكسوة والرسوم؛ ولا يدخل إلى ديوانه ولا يجتمع بكتابه إلا الخواص، وله حاجب من الأمراء وفراشون ومرتبة هائلة، ومخاد ومسند، ودواة بغير كرسي وهي من أنفس الدوي، ولها أستاذ من خدام الخليفة برسم حملها.
ولا بد للخليفة من جليس يذاكره ما يحتاج إلى علمه من كتابات وتجويد الخط ومعرفة الأحاديث وسير الخلفاء ونحو ذلك، يجتمع به أكثر أيام الأسبوع، وبرسمه أستاذ محنك يحضر فيكون ثالثهما، فيقرأ ملخص السير ويكرر عليه ذكر مكارم الأخلاق. ورتبته عظيمة تلحق برتبة كاتب الدست، ويكون صحبته دواة محلاة. فإذا فرغ من المجالسة ألقى في الدواة كاغدة فيها عشرة دنانير وقرطاساً فيه ثلاثة مثاقيل ند مثلث خاص ليتبخر به عند دخوله على الخليفة ثاني مرة. وله منصب التوقيع بالقلم الدقيق، كما تقدم، ويجلس حال التوقيع على طراحة ومسند، وله فراشون من فراشي الخاص تقدم له ما يوقع عليه. ويختص به موضع من ديوان المكاتبات لا يدخل إليه أحد إلا بإذن.
ورأس أصحاب دواوين المال من يلي النظر على الدواوين وله العزل والولاية، وهو الذي يعرض الأوراق على الخليفة أو الوزير، ويعتقل من شاء بكل مكان؛ ويجلس بالمرتبة والمسند وبين يديه حاجب من أمراء الدولة، وتخرج له الدواة بغير كرسي ويندب من يطلب الحساب، ويحث في طلب المال ومطالبة أرباب الضمانات.
وكان لهم ديوان التحقيق، ومقتضاه المقابلة على الدواوين ولمتوليه الخلع والرتبة والحاجب، ويلحق بناظر الدواوين.
وديوان المجلس، وفيه علوم الدولة، وهو أصل الدواوين، وفيه عدة كتاب لكل منهم(3/338)
مجلس معد ومعتاد. وصاحب هذا الديوان هو الذي يتحدث في الإقطاعات، ويخلع عليه، وهو لاحق بديوان النظر، ويجلس بالمرتبة والمسند والدواة والحاجب.
والتوقيع بالقلم الجليل يسمى الخدمة الصغرى، ولمتوليها الطراحة والمسند بغير حاجب، بل ويندب له فراش لترتيب ما يوقع عليه، ولا يوقع الخليفة عليه بيده إذا كان وزيره صاحب سيف إلا في أربعة مواضع: إذا رفعت إليه قصة وقع عليها يعتمد ذلك إن شاء، أو كتب بجانبها الأيمن يوقع بذلك، فيخرج إلى صاحب ديوان المجلس دون غيره فيوقع جليلا، ويدخل بها إلى الخليفة ثانيا فيضع علامته عليها. وكانت علامتهم كلهم الحمد لله رب العالمين؛ ثم يخرج بها فتثبت في الدواوين. أو يوقع في مسامحة، أو تسويغ، أو تحبيس ما مثاله: قد أنعمنا بذلك، أو قد أمضينا ذلك. فإذا أراد الخليفة الاطلاع على شيء وقع ليخرج الحال في ذلك، فإذا خرج الحال عاد إليه ليعلم عليه، فإن كان الوزير صاحب سيف وقع الخليفة بخطه: وزيرنا السيد الأجل، واللقب المعروف به، أمتعنا الله ببقائه، يتقدم بإنجاز ذلك إن شاء الله. فيكتب الوزير تحت خطه. يمتثل أمر مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ثم يثبت في الدواوين.
ولديوان الجيش مستوف مسلم له غيرة، ويجلس بطراحة لحركة العرض والحلي والشيات. وفي هذا الديوان خازنان برسم رفع الشواهد، فإذا عرض الجندي حلي وذكرت صفات فرسه، ولا يثبت له إلا الفرس الجيد، ولا يثبت له برذون ولا بغل، ويقف بين يدي هذا المستوفي نقباء الأجناد لإنهاء أمور الأجناد، وفسح للأجناد في آخر الدولة أن يقابض بعضهم بعضاً.
وديوان الرواتب فيه أسماء كل مرتزق في الدولة ضمن له جار وجراية، وكاتبه يجلس بطراحة وتحت يده عشرة كتاب، وترد إليه التعريفات من سائر الأعمال باستمرار ما هو مستمر ومباشرة من يستجد وموت من مات ليوجب استحقاقه.(3/339)
وفي هذا الديوان عدة عروض. أولها: راتب الوزير وهو في الشهر خمسة آلاف دينار، ولكل من أولاده وإخوته من ثلثمائة دينار إلى مائتي دينار. وقرر لشجاع بن شاور خمسمائة دينار، ولكل من حواشي من خمسمائة دينار إلى ثلثمائة، وذلك سوى الإقطاعات.
وثانيها: حواشي الخليفة، وأولهم الأستاذون المحنكون؛ وهم: زمام القصر، وصاحب بيت المال، وحامل الرسالة، وصاحب الدفتر، وشاد التاج الشريف، وزمام الأشراف الأقارب، وصاحب المجلس؛ ولكل منهم مائة دينار في الشهر. ولمن يلي هؤلاء يتناقص عشرة، وهكذا إلى من يكون جاريه عشرة دنانير. وعدة هؤلاء ألف فما فوقها، وهم خصيصون؛ وللطبيب الخاص مائة دينار في الشهر، ولعدة من الأطباء برسم أهل القصر كل منهم عشرة دنانير.
ثالثها: أرباب الرتب بحضرة الخليفة، وأولهم كاتب الدست الشريف، وجاريه في الشهر مائة وخمسون دينارا، ولكل من كتابه ثلاثون ديناراً؛ ولمتولي مجالسة الخليفة والتوقيع بالقلم الدقيق في المظالم مائة دينار؛ ولصاحب الباب مائة وعشرون ديناراً، ولكل من حامل السيف وحامل الرمح سبعون دينارا؛ ولكل من أزمة العساكر والسودان مائتان وخمسون دينارا إلى أربعين ديناراً إلى ثلاثين ديناراً.
رابعها: قاضي القضاة، وله في الشهر مائة دينار؛ ولداعي الدعاة مائة دينار؛ وكل من قرأ الحضرة من عشرين ديناراً إلى خمسة عشر إلى عشرة دنانير؛ ولكل من خطباء الجوامع من عشرين ديناراً إلى عشرة دنانير؛ ولكل من الشعراء من عشرين ديناراً إلى عشرة دنانير.
خامسها: أرباب الدواوين، وأولهم متولي ديوان النظر، وله في الشهر سبعون ديناراً؛ ولمتولي ديوان التحقيق خمسون ديناراً؛ ولمتولي ديوان المجلس أربعون ديناراً؛ ولصاحب دفتر المجلس خمسة وثلاثون دينارا، ولكاتبه خمسة دنانير؛ ولمتولي ديوان الجيش أربعون(3/340)
دينارا، وللموقع بالقلم الجليل ثلاثون دينارا؛ ولكل من أصحاب دواوين المعاملات عشرون دينارا؛ ولكل معين عشرة دنانير وفيهم من له سبعة وخمسة.
سادسها: المستخدمون بالقاهرة ومصر في خدمة الواليين، لكل منهم خمسون دينارا؛ ولحماة الأهراء والمناخات والجوالي والبساتين والأملاك لكل منهم من عشرين دينارا إلى خمسة عشر إلى عشرة إلى خمسة.
سابعها: الفراشون برسم خدمة القصور؛ ومنهم برسم خدمة الخليفة خمسة عشر، منهم صاحب المائدة وحامي المطابخ؛ وجاريهم من ثلاثين دينارا إلى ما حولها سوى الرسوم؛ ويليهم الرشاشون ونحوهم، وعدتهم ثلثمائة فراش مولاهم أستاذ، وجاري كل منهم من عشرة دنانير إلى خمسة.
ثامنها: صبيان الركاب وهم ينيفون على ألفي رجل، ولهم اثنا عشر مقدما أكبرهم مقدمو الركاب، ومقدم المقدمين منهم هو صاحب ركاب الخليفة الأيمن؛ ولكل من المقدمين في الشهر خمسون ديناراً. وصبيان الركاب أربع جوق، جوقة لكل منهم في الشهر عشرون ديناراً، ويليهم من له خمسة عشر ثم عشرة ثم خمسة دنانير، وهم يندبون إلى الأعمال ويحملون المخلفات لركوب الخليفة في الأعياد والمواسم.
وكان لنقيب الأشراف اثنا عشر نقيبا، ويخلع عليه فيسير بالطبل والبوق والبنود مثل الأمراء، وله ديوان ومشارف وعامل ونائبه؛ وجاريه في الشهر عشرون(3/341)
دينارا، ولمشارف ديوانه عشرة دنانير، ولنائبه في النقابة ثمانية دنانير، وللعامل خمسة دنانير.
وللمحتسب عدة نواب بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال، ويجلس بجامع القاهرة ومصر يوما بعد يوم، وتطوف نوابه على أرباب المعايش. ويخلع على المحتسب ويقرأ سجله على منبر جامع عمرو بن العاص.
وكانت لهم خدمة يقال لها النيابة، ومتوليها يتلقى الرسل الواردين من الملوك؛ وكانت خدمة جليلة لمتوليها نائب، ومن خواصه أنه ينعت أبداً كل من يليها بغذي الملك، وله النظر في دار الضيافة، ويعرف هذا اليوم بالمهمندار. وكان له في الشهر خمسون ديناراً وفي كل يوم نصف قنطار خبز مع بقية الرسوم.
وللخدمة في ديوان الصعيد عدة كتاب؛ ولأسفل الأرض ديوان؛ وللثغور ديوان؛ وللجوالي ديوان، وللمواريث ديوان، ولديوان الخراجي والهلالي عدة دواوين، منها ديوان الرباع، وديوان المكوس، وديوان الصناعة، وديوان الكراع وفيه معاملات الإصطبلات وما فيها، وديوان الأهراء، وديوان المناخات، وديوان العمائر ومحله بصناعة مصر لإنشاء الأسطول ومراكب الغلات السلطانية والأحطاب، وكانت تزيد على خمسين عشارياً وعشرين(3/342)
ديماساً، منها عشرة خاصة برسم ركوب الخليفة أيام الخليج والبقية برسم ولاة الأعمال تجرد إليهم وينفق عليها من الديوان؛ وديوان الأحباس.
وكانت عادتهم إذا انقضى عيد النحر عمل الاستيمار ويثبت فيه جميع ما يشتمل عليه مصروف تلك السنة من عين وورق وغلة وغيرها مفصلا بالأسماء، وأولهم الوزير حتى ينتهي إلى أرباب الضوء، ثم يعمل في ملف حريري يشد له جوهر يشده؛ وكان يبلغ في السنة ما يزيد على مائة ألف دينار عيناً ومائتي ألف درهم فضة وعشرة آلاف إردب غلة؛ ويعرض على الخليفة، فيستوعبه، ويشطب على بعضه وينقص قوماً ويزيد قوماً ويستجد آخرين بحسب ما يعن له. فيحمل الأمر على الشطب. وعمل مرة في أيام المستنصر بالله، فوقع بظاهره: الفقر مر المذاق، والحاجة تذل الأعناق، وحراسة النعم بإدرار الأرزاق؛ فليجروا على رسومهم في الإطلاق. " مَا عِنْدكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ باقٍ ".
وكان من عادتهم إخراج الكسوة في كل سنة لجميع أهل الدولة من صغير وكبير في أوقات معروفة؛ فبلغت كسوة الصيف والشتاء في السنة ستمائة ألف دينار ونيف.
وكانوا يتأنقون في المآكل، حتى إن الخادم والسائس من غلمانهم ينفق في كل يوم على طعامه العشرة دنانير والعشرين ديناراً لسعة أحوالهم.
وكانوا يفرقون في أول كل سنة دنانير يسمونها دنانير الغرة تبلغ خمسمائة دينار في السنة، فيتبرك بها من يأتيه منها برسوم مقررة لكل أحد.
وإذا أهل رمضان لا يبقى أمير ولا مقدم إلا ويأتيه طبق لنفسه، ولكل واحد من أولاده ونسائه طبق فيه أنواع الحلوى العجيبة الفاخرة.
وكانت خلعهم ثمينةً جداً بحيث يبلغ طراز الخلعة خمسمائة دينار ذهبا، ويختص الأمراء في الخلع بالأطواق والأساورة الذهب مع السيوف المحلاة؛ ويتشرف الوزير عوضاً عن الطوق بعقد جوهر فكاكه خمسة آلاف دينار يحمل إليه، ويختص بلبس الطيلسان المقور.(3/343)
ولا يركب الخليفة إلا بمظلة منسوجة بالذهب مرصعة بالجوهر.
وسيأتي من إيراد خربات ترتيبهم وحكاية أمور دولتهم عند ذكر خطط القاهرة إن شاء الله ما يعرفك مقدار ما كانوا فيه من أمور الدنيا وحقارة من جاء بعدهم. فلله عاقبة الأمور.(3/344)
ذكر ما عيب عليهم
لا شك في أن القوم كانوا شيعةً يرون تفضيل علي بن أبي طالب على من عداه من الصحابة، وكانوا ينتحلون من مذاهب الشيعة مذهب الإسماعيلية وهم القائلون بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق وتنقلها في أولاده الأئمة المستورين إلى عبيد الله المهدي، أول من قام منهم بالمغرب. وبقية الشيعة لا يقولون بإمامة إسماعيل، وينكرون عليهم ذلك أشد الإنكار.
وكانوا مع انتحالهم مذهب التشيع غلاةً في الرفض؛ إلا أن أولهم كانوا أكابر صانوا أنفسهم عما تحرف به آخرهم. ثم إن الحاكم بأمر الله أكثر من النظر في العقائد، وكان قليل الثبات سريع الاستمالة، إذا مال إلى اعتقاد شيء أظهره وحمل الناس عليه، ثم لا يلبث أن يرجع عنه إلى غيره فيريد من الناس ترك ما كان قد أهم به والمصير إلى ما استحدثه ومال إليه. واقترن به رجل يعرف باللباد والزوزني فأظهر مذاهب الباطنية، وقد كان عند أولهم منها طرف، فأنكر الناس هذا المذهب لما يشتمل عليه مما لم يعرف عند سلف الأمة وتابعيهم ولما فيه من مخالفة الشرائع.
فلما كانت أيام المستنصر وفد إليه الحسن بن الصباح، فأشاع هذا المذهب في الأقطار ودعا الكافة إليه، واستباح الدماء بمخالفته؛ فاشتد النكير، وكثر الصائح عليهم من كل ناحية حتى أخرجوهم عن الإسلام ونفوهم عن الملة.
ووجد بنو العباس السبيل إلى الغض منهم لما مكنوا من البغض فيهم وقاسوه من الألم بأخذه ما كان بأيديهم من ممالك القيروان وديار مصر والشام والحجاز واليمن وبغداد أيضا، فنفوهم عن الانتساب إلى علي بن أبي طالب، بل وقالوا إنما هم من أولاد اليهود؛ وتناولت الألسنة ذلك، فملئوا به كتب الأخبار.
ثم لما اتصل بهم الغز ووزر لهم أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين، وهم من صنائع دولة بني العباس الذين ربوا في أبوابها وغذوا بنعمها ونشئوا على اعتقاد موالاتها(3/345)
ومعاداة أعدائها، لم يزدهم قربهم من الدولة الفاطمية إلا نفوراً، ولا ملأهم إحسانها إليهم إلا حقداً وعداوة لها، حتى قووا بنعمتها على زوالها، واقتدروا بها على محوها.
وكانت أساسات دولتهم راسخة في التخوم، وسيادة شرفهم قد أنافت على النجوم، وأتباعهم وأولياؤهم لا يحصى لهم عدد، وأنصارهم وأعوانهم قد ملئوا كل قطر وبلد؛ فأحبوا طمس أنوارهم، وتغيير منارهم، وإلصاق الفساد والقبيح بهم، شأن العدو وعادته في عدوه.
فتفطن، رحمك الله، إلى أسرار الوجود، وميز الأخبار كتمييزك الجيد من النقود، تعثر إن سلمت من الهوى بالصواب. ومما يدلك على كثرة الحمل عليهم أن الأخبار الشنيعة، لا سيما التي فيها إخراجهم من ملة الإسلام، لا تكاد تجدها إلا في كتب المشارقة من البغداديين والشاميين، كالمنتظم لابن الجوزي، والكامل لابن الأثير، وتاريخ حلب لابن أبي طي، وتاريخ العماد لابن كثير، وكتاب ابن واصل الحموي، وكتاب ابن شداد، وكتاب العماد الأصفهاني، ونحو هؤلاء. أما كتب المصريين الذين اعتنوا بتدوين أخبارها فلا تكاد تجد في شيء منها ذلك ألبتة. فحكم العقل، واهزم جيوش الهوى، وأعط كل ذي حق حقه، ترشد إن شاء الله تعالى.(3/346)
ذكر ما صار إليه أولادهم
ولما مات العاضد غسله ابنه داود وصلى عليه، وجلس على الشدة، واستدعى صلاح الدين ليبايعه، فامتنع، وبعث إليه: أنا نائب عن أبيك في الخلافة ولم يوص بأنك ولي عهده. وقبض عليه وعلى بقية أولاد العاضد وأقاربه في سادس شعبان سنة تسع وستين وخمسمائة، ونقله هو وجميع أقاربه وأهله إلى دار المظفر من حارة برجوان في العشر الأخير من شهر رمضان، ووكل عليهم وعلى جميع ذخائر القصر، وفرق بين الرجال والنساء حتى لا يحصل منهم نسل. وأغلقت القصور وتملكت الأملاك التي كانت لهم، وضربت الألواح على رباعهم وفرقت على خواص صلاح الدين كثير منها وبيع بعضها. وأعطى القصر الكبير لأمرائه فسكنوا فيه. وأسكن أباه نجم الدين أيوب في اللؤلؤة على الخليج، وصار كل من استحسن من الغز داراً أخرج صاحبها منها وسكنها.
ونقلوا إلى قلعة الجبل، وهم ثلاثة وستون نفراً، في يوم الخميس ثاني عشري رمضان سنة ثمان وستمائة، فمات منهم إلى ربيع الأول سنة أربع وعشرين وستمائة ثلاثة وعشرون. وتولى وضع القيود في أرجلهم الأمير فخر الدين الطبنا أبو شعرة بن الدويك والي القاهرة.
قال المهدي أبو طالب محمد بن علي، ابن الخيمي: وفي سنة ثلاث وعشرين وستمائة عوقبت بالقلعة، فوجدت بها من الأشراف أربعين شريفاً وهم: الأمير سليمان بن داود ابن العاضد، وأبو الفتوح بن العاضد، وحيدرة بن العاضد، وجبريل بن العاضد، وعلي بن(3/347)
العاضد، وعبد القاهر بن حيدرة بن العاضد، وإسماعيل بن عيسى بن العاضد، وعبد الوهاب ابن إبراهيم بن العاضد، وأبو القاسم بن أبي الفتوح ابن العاضد، وقمر بن علي بن العاضد، ويحيى بن جبريل بن الحافظ، وسليمان بن يحيى المذكور، وتميم بن يحيى المذكور، وعبد الله ابن أبي الطاهر بن جبريل، وسليمان بن أبي الطاهر بن جبريل، وأبو جعفر بن أبي الطاهر، وعبد الظاهر بن أبي الفتوح بن جبريل، وأبو الحسن بن أبي اليسر بن جبريل، وأحمد ابن أبي اليسر بن جبريل، وأبو الحسن بن أبي العباس حسن بن الحافظ، وإبراهيم ابن عبد المحسن بن عبد الوهاب بن أبي الحسن بن أبي القاسم بن المستنصر، ويونس ابن سليمان بن عبد الخالق بن أبي الحسن بن أبي القاسم، وأبو اليسر بشارة بن عبد المحسن ابن أبي محمد بن أبي الحسن بن أبي القاسم بن المستنصر، وجعفر بن موسى بن محسن ابن داود بن المستنصر، وعلي بن سليمان بن أبي عبد الله بن داود بن المستنصر، وأبو الفضل ابن عبد المجيد بن أبي الحسن بن جعفر بن المستنصر، ويحيى بن صدقة بن شبل بن عبد المجيد بن أبي الحسن بن جعفر بن المستنصر، وعبد الله كمال بن داود بن داود ابن يحيى بن أبي علي بن جعفر بن المستنصر، وأبو علي بن عبد الرحمن بن يحيى بن أبي علي بن جعفر بن المستنصر، وسليمان بن عبد الصمد بن أبي عبد الله بن عبد الكريم بن أبي ايسر بن جعفر بن المستنصر، وأبو علي بن عبد الصمد، أخوه، وعبد الكريم ابن إبراهيم بن أبي الحسن بن عبد الله بن المستنصر، وعبد الغني بن أبي الرضا بن أبي الحسن بن عبد الله بن المستنصر، وعبد الصمد بن سليمان بن محمد بن حيدرة بن عقيل ابن المستنصر، وإسماعيل بن صدقة بن أبي اليسر بن إسحاق بن المستنصر، وأبو محمد ابن موسى بن عبد القادر بن أبي الحسن بن إسحاق بن المستنصر، وعبد الصمد بن حسن ابن أبي الحسن من أولاد المستنصر.
ولم يزالوا معتقلين بقلعة الجبل إلى أن حولوا منها سنة إحدى وسبعين وستمائة.(3/348)
هذا آخر ما وجد بخط مؤلفه عفا الله عنه آخر كتاب اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا للمقريزي.
من كتابة فقير رحمة الله محمد بن أحمد الجيزي الأزهري الشافعي، لطف الله تعالى به وغفر ذنوبه وستر عيوبه والمسلمين أجمعين.
في سنة أربع وثمانين وثمانمائة.(3/349)