الخبر عن تملك السلطان مدينة مالقة من يد ابن اشقيلولة
كان بنو اشقيلولة هؤلاء من رؤساء الأندلس المؤملين لمدافعة العدو و كانوا نظراء لابن الأحمر في الرياسة و هما أبو محمد عبد الله و أبو اسحق إبراهيم ابنا أبي الحسن بن أشقيلولة و كان أبو محمد منهم صهرا له على ابنته فكانوا له بذلك خاصة فأشركهم في أمره و اعتضد بعصابتهم و بأبيهم من قبل على مقاومة ابن هود و سائر الثوار حتى إذا استمكن من فرصته و استوى على كرسيه استبد دونهم و أنزلهم إلى مقامات الوزراء
و عقد لأبي محمد صهره على ابنته على مدينة مالقة و الغربية و عقد لأبي الحسن صهره على أخته على وادي آش و ما إليها و عقد لابنه أبي اسحق إبراهيم بن علي على قمارش و ما إلى ذلك و وجدوا في أنفسهم و استمر الحال على ذلك و لما هلك الشيخ ابن الأحمر سنة إحدى و سبعين و ستمائة و ولى ابنه الفقيه محمد سموا إلى منازعته و أوفد أبو محمد صاحب مالقة ابنه أبا سعيد على السلطان يعقوب بن عبد الحق و هو منازل طنجة و وفد معه أبو محمد إلى السلطان بطاعته و بيعته أهل مالقة سنة ثلاث و سبعين و ستمائة و عقد له عليها و نزع ابنه أبو سعيد فرج إلى دار الحرب ثم رجع لسنته فقتل بمالقة و لما أجاز السلطان إلى الأندلس إجازته الأولى سنة أربع و سبعين و ستمائة تلقاه أبو محمد بالجزيرة مع ابن الأحمر و فاوضهما السلطان في أمر الجهاد و ردهما إلى أعمالهما و لما أجاز إجازته الثانية سنة ست و سبعين و ستمائة لقيه بالجزيرة الرئيسان ابنا أشقيلولة : أبو محمد مصاحب مالقة و أخوه أبو إسحق صاحب وادي آش و قمارش فشهدا معه الغزاة و لما قفل اعتل أبو محمد صاحب مالقة ثم هلك غرة جمادى من سنته فلحق ابنه محمد بالسلطان آخر شهر رمضان و هو متلوم بالجزيرة منصرفه عن الغزو كما ذكرناه فنزل له عن البلد و دعاه إلى احتيازها فعقد عليها لابنه أبي زيان منديل فسار إليها في بعث و كان ابن أشقيلولة لحين فصوله إلى لقاء السلطان أمر ابن عمه محمد الأزرق بن أبي الحجاج يوسف بن الزرقاء بإخلاء منازل السلطان بالقصبة و إعدادها فتم ذلك لثلاث ليال و اضطرب الأمير أبو زيان معسكره بخارجها و أنفذ محمد بن عمران بن عيلة في رهط من رجال بني مرين إلى القصبة فنزلها و ملك أمر البلد و كان السلطان ابن الأحمر لما بلغه وفاة أبي محمد بن أشقيلولة سما أمله إلى الاستيلاء على مالقة و أن ابن أخته شيعة له و بعث لذلك وزيره أبا سلطان عزيز الداني فوافى معسكر الأمير أبي زيان بساحتها و رجا أن يتجافى عنها لسلطانه فأعرض عن ذلك و تجهم له و دخل إليها لثلاث بقين من رمضان و انقلب الداني عنها بخفي حنين و لما قضى السلطان بالجزيرة صومه و نسكه خرج إلى مالقة فوافاها سادس شوال و برز إليه أهلها في يوم مشهود و احتفلوا له احتفال أيام الزينة سرورا بمقدم السلطان و دخلولهم في إيالته و أقام فيهم إلى خاتم سنته ثم عقد عليها لعمر بن يحيى بن محلى من صنائع دولتهم و أنزل معه المسالح و زيان بن أبي عياد بن عبد الحق في طائفة لنظره من أبطال بني مرين و استوصاه بمحمد بن أشقيلولة و ارتحل إلى الجزيرة ثم أجاز إلى المغرب سنة سبع و سبعين و ستمائة و قد اهتزت الدنيا لقدومه و امتلأت القلوب سرورا بما كيفه الله من نصر المسلمين بالعدوة و علو راية السلطان على كل راية و عظمت لذلك موجدة ابن الأحمر و نشأت الفتنة كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/261)
الخبر عن تظاهر ابن الأحمر و الطاغية على منع السلطان أبي يوسف من إجازة ابن الأحمر و اصفاق يغمراسن بن زيان معهم من وراء البحر على الأخذ بحجزته عنهم و واقعة السلطان على يغمراسن بخرزوزة
لما أجاز أمير المسلمين إلى العدوة إجازته الأولى و لقي العدو بأستجة و قتل الله ذننه بأيدي عسكره و صنع له من الظهور و العز ما لا كفاء له ارتاب ابن الأحمر بمكانه فبدا له ما لم يكن يحتسب و ظن بأمير المسلمين الظنون و اعترض ذكره شأن يوسف بن تاشفين و المرابطين مع ابن عباد سلطان الأندلس و أكد ذلك عنده جنوح الرؤساء من بني أشقيلولة و غيرهم إليه و انقيادهم لأمره فشرق بمكانه و حذر غوائله و تكدر الجو بينهما و أجاز الإجازة الثانية فانقبض ابن الأحمر عن لقائه و دارت بينهما مخاطبات شعرية في معنى العتاب على ألسنة كتابهما نسردها الآن فمن ذلك قصيدة كتبها إليه ابن الأحمر سنة أربع و سبعين و ستمائة بعد واقعة ذننه و اعتزامه على الرجوع إلى المغرب فخاطبه بها ليلة الإقامة بالجزيرة حذرا من غائلة العدو و ينحو فيها منحى الاستعطاف و هي من نظم كاتبه أبي عمر بن المرابط :
( هل من معيني في الهوى أو منجدي ... من متهم في الأرض أو من منجد )
( هذا الهوى داع فهل من مسعف ... بإجابة و إنابة أو مسعد )
( هذا سبيل الرشد قد وضحت فهل ... بالعدوتين من امرىء مسترشد )
( يرجو النجاة بجنة الفردوس أو ... يخشى المصير إلى الجحيم الموقد )
( يا آمل النصر العزيز على العدا ... أجب الهدى تسعد به و تؤيد )
( سر النجاة إلى النجاة مشمرا ... إن الهدى لهو النجاة لمن هدي )
( يا من يقول غدا أتوب و لا غد ... ألديك علم أن تعيش إلى غد )
( لا تغترر بنسيئة الأجل الذي ... إن لم يحن لك نقده فكأن قد )
( سفر عليك طويلة أيامه ... لم تستعدا لطوله فاستعدد )
( أو ما علمت بأنه لا بد من ... زاد لكل مسافر فتزود )
( هذا الجهاد رئيس أعمال التقى ... خذ منه زادك لارتحالك تسعد )
( هذا الرباط بأرض أندلس فرح ... منه لما يرضي إلهك و اغتدي )
( سودت وجهك بالمعاصي فالتمس ... وجها للقيا الله غير مسود )
( و امح الخطايا بالدموع فربما ... محت الدموع خطيئة المتعمد )
( من ذا يتوب لربه من ذنبه ... أو يقتدي بنبيه أو يفتدي )
( و تعوضت مهنم بكل معاند ... مستكبر قد كان لم يتشهد )
( كم من أسير عندهم و أسيرة ... فكلاهما يبني الفداء فما فدي )
( كم من عقيلة معشر معقولة ... فيهم تود لو أنها في ملحد )
( كم من وليد بينهم قدود من ... ولداه ودا أنه لم يولد )
( كم من تقي في السلاسل موثق ... يبكي لآخر في الكبول مقيد )
( و شهيد معترك نوزعه الردى ... ما بين حدي ذابل و مهند )
( ضجت ملائكة السماء لحالهم ... و رثى لهم من قلبه كالجلمد )
( أفلا تذوب قلوبكم إخواننا ... مما دهانا من ردى أو من ردي )
( أفلا تراعون الأذمة بيننا ... من حرمة و محبة و تودد )
( أكذا يعيث الروم في إخوانكم ... و سيوفكم للثأر لم تتقلد )
( يا حسرتي لحمية الإسلام قد ... خمدت و كانت قبل ذا تتوقد )
( أين العزائم ما لها لا تقتضي ... هل يقطع الهندي غير مجرد )
( أبني مرين أنتم جيراننا ... و أحق من في صرخة بهم ابتدي )
( فالجار كان به يوصي المصطفى ... جبريل حقا في الصحيح المسند )
( أبني مرين و القبائل كلها ... في المغرب الأدنى لنا و الأبعد )
( كتب الجهاد عليكم فتبادروا ... منه إلى الفرض الأحق الأوكد )
( و ارضوا بإحدى الحسنيين و أقرضوا ... حسنا تفوزوا بالحسان الخرد )
( هذي الجنان تفتحت أبوابها ... و الحور قاعدة لكم بالمرصد )
( هل من بايع من ربه من مشتر ... منه الحصول على النعيم السرمد )
( لله في نصر الخليفة موعد ... صدق فثوروا لانتجاز الموعد )
( هذي الثغور بكم إليكم تشتكي ... شكوى العديم إلى الغني الأوجد )
( ما بال شمل المسلمين مبدد ... فيها و شمل الكفر غير مبدد )
( أنتم جيوش الله ملء فضائله ... تأسون للدين الغريب المفرد )
( ماذا اعتذاركم غدا لنبيكم ... و طريق هذا العذر غير ممهد )
( إن قال لم فرطتم في أمتي ؟ ... و تركتموهم للعدو المعتدي ؟ )
( تالله لو أن العقوبة لم تخف ... لكفى الحياء من وجه ذاك السيد )
( إخواننا صلوا عليه و سلموا ... و سلوا الشفاعة منه يوم المشهد )
( واسعوا لنصرة دينه يسقيكم ... من حوضه في الحشر أعذب مورد )
و صدر جوابها من نظم عبد العزيز شاعر السلطان يعقوب بن عبد الحق بما نصه :
لبيك لا تخش اعتداء المعتدي الخ و كذلك أجاب عنها أيضا مالك بن المرحل بقوله :
شهد الإله و أنت يا أرض اشهدي الخ فأجابهما أبو عمرو بن المرابط كاتب ابن الأحمر بقوله :
قل للبغاة و للعداة الحسد الخ و لما أجاز السلطان يعقوب بن عبد الحق الإجازة الثانية سنة ست و سبعين و ستمائة كما نذكره صار ابن الأحمر إلى الاستعتاب و الرضا و لقي يعقوب بن عبد الحق فأنشد كاتبه أبو عمرو بن المرابط يوم اجتماعها قوله بشرى لحزب الله و الإيمان الخ و لما انقضى المجلس أمر السلطان شاكله عبد العزيز بمساجلة قصيدته و أنشدها ثاني المجلس بحضرة ابن الأحمر و نصها اليوم كن في غبطة و أمان الخ ثم كان أثناء ذلك ما وقع من استيلاء السلطان يعقوب بن عبد الحق على مدينة مالقة و الغربية جل عمله بعد مهلك صاحبها أبي محمد عبد الله بن أشقيلولة فبرم لذلك و خيل عليه ففزع إلى مداخلة الطاغية في شأنه و اتصال يده بيده و أن يعود إلى مكان أبيه من ولايته ليدافع به السلطان و قومه عن أرضه و يأمن معه من زوال سلطانه لما كانت كلمة الإسلام حجزا دونه فاهتبل الطاغية غرتها و نكث عهد أمير المسلمين و نقض السلم و نبذ إليه العهد و اغزى أساطيله الجزيرة الخضراء حيث مسالح السلطان و عساكره و أرست بالزقاق حيث فراض الجواز هنا و انقطع المسلمون من جنود السلطان و قومه وراء البحر و يئسوا من صريخه و انتبذ عمر ابن يحيى بن محلى عن قومه بمكان إمارته مالقة و كان بنو محلى هؤلاء من كبار قومهم بطوية و كانوا حلفاء لبني حمامة بن محمد منذ دخلوهم المغرب و أصهر عبد الحق أبو الأملاك إلى أبيهم محلى في ابنته أم اليمن فكان من ولدها السلطان يعقوب بن عبد الحق و كانت امرأة صالحة خرجت إلى الحج سنة ثلاث و أربعين و ستمائة فقضت فريضة الله عليها و عادت إلى المغرب رابعة من السنين سنة سبع و أربعين و ستمائة ثم خرجت ثانية سنة اثنتين و خمسين و ستمائة فتطوعت بحجة أخرى و هلكت بمصر منصرفها من تلك السنة سنة ثلاث و خمسين و ستمائة فكان لبني محلى أبيها مكان من الدولة و دالة على السلطان لخؤلتهم و وشايج قرابتهم و غنائهم في قومهم و لما استولى السلطان على حضرة الموحدين مراكش عقد لمحمد بن علي بن محلى على جميع أعمالها فكانت له بالاضطلاع بها مقاما محمودة و اتصلت ولايته عليها من لدن سنة ثمان و عشرين إلى سنة سبع و ثمانين و ستمائة ثم كان مهلكه أيام يوسف بن يعقوب كما نذكر و لما نزع محمد بن أشقيلولة إلى السلطان بالجزيرة سنة ست و سبعين و ستمائة متجافيا له عن ولاية مالقة بعد وفاة أبيه الرئيس أبي محمد و استولى السلطان عليها و اعتزم على الإجازة كلها قدمناه و عقد على مالقة و الغربية و سائر ثغورها و أعمالها لعمر بن يحيى بن محلى و كان أخوه طلحة بن يحيى ذا بأس و مرامة و قوة شكيمة و اعزاز على السلطان بمكان الخؤلة و هو الذي قتل يعقوب بن عبد الحق بغبولة سنة ثمان و ستين و ستمائة كما قلناه و ظاهر فتح الله الهدراي مولى السلطان و وزيره على قتال أبي العلاء بن أبي طلحة بن أبي قريش عامل المغرب بكدية العرايش بظاهر فاس سنة اثنتين و ستين و ستمائة و نزع سنة أربع و سبعين و ستمائة إلى جبل آزروا عند مرجع السلطان من إجازته الأولى فاستزله و رجعه إلى مجلسه من جملته ثم نزع من الجزيرة إلى غرناطة سنة ست و سبعين و ستمائة عند مرجع السلطان من أمر مالقة و أجاز البحر إلى بلاد الريف ثم رجع إلى القبلة و أقام بين بني توجين ثم أجاز البحر إلى الأندلس سنة سبع و سبعين و ستمائة عندما أضرم نار هذه الفتنة بين هذا السلطان و بين ابن الأحمر و الطاغية و احتل أسطول النصارى بالزقاق و انقطعت عساكر السلطان وراء البحر و أحس أخوه عمر صاحب مالقة بإظلام الجو بينه و بين السلطان بما كان من أمر أخيه طلحة من قبل فلاطفه ابن الأحمر عند استقراره بغرناطة في مداخلة أخيه عمر في النزول عن مالقة و الاعتياض عنها بشلوبانية و المنكب طعمة و خاطبه في ذلك أخوه طلحة فأجاب و خرج ابن الأحمر بعساكره إلى مالقة و تقبض عمر بن محلى على زيان بن بو عياد قائد بني مرين و محمد بن أشقيلولة و أمكن ابن الأحمر من البلد فداخلها آخر رمضان من سنته
و أنزل ابن محلى بشلوبانية و احتمل ذخيرته و ما كان السلطان ائتمنه عليه من المال و العدد الجهادية و اتصلت يد ابن الأحمر بيد الطاغية على منع أمير المسلمين من الإجازة و راسلوا بن مراسن بن زيان من وراء البحر و راسلهم في مشاقة السلطان و إفساد ثغوره و إنزال العوائق به المانعة من حركته و الأخذ بأذياله عن النهوض إلى الجهاد و أسنوا فما بينهما الاتحاف و المهاداة و جنب يغمراسن إلى ابن الأحمر ثلاثين من عتاق الخيل مع ثياب من عمل الصوف و بعث إليه ابن الأحمر صحبة ابن مروان التجاني كفء ذلك عشرة آلاف دينار ثم يرض بالمال في هديته ورده
و أصفقت أيديهم جميعا على السلطان و رأوا أن قد بلغوا في إحكام أمرهم و سد مذاهبه إليهم و اتصل الخبر بأمير المسلمين و هو بمراكش كان صمد إليها مرجعه من الغزو في شهر المحرم فاتح سبع و سبعين و ستمائة لما كان من عيث العرب جشم بتامسنا و إفسادهم السابلة فنقف أطرافها و حسم أدواءها و لما بلغه خبر ابن محلى و مالقة و منازلة الطاغية للجزيرة نهض لثالثة من شوال يريد طنجة و لما انتهى إلى تامسنا وافاه الخبر بنزول الطاغية على الجزيرة و إحاطة عساكره بها سادس شوال بعد أن كانت أساطيله منازلتها منذ ربيع و أنه مشرف على الهامها و بعثوا إليه يستعدونه فاعتزم على الرحيل
ثم اتصل به الخ بخروج مسعود بن كانون أمير سفيان من جشم ببلاد نفيس من المصامدة خامس ذي القعدة و أن الناس اجتمعوا إليه من قومه و غيرهم فكر إليه راجعا و قدم بين يديه حافده تاشفين بن أبي مالك و وزيره يحيى حازم و جاء على ساقتهم و فروا أمام جيوشه و انتهب معسكرهم و حللهم و استباح عرب الحرث ابن سفيان و لحق مسعود بمعقل السكسيوي و نازله السلطان بعساكره أياما
و سرح ابنه الأمير أبا زيان منديل إلى بلاد السوس لتمهيدها و تدويخ أقطارها فأوغل في ديارها و قفل إلى أبيه خاتم سنته و اتصل بالسلطان ما نال أهل الجزيرة من ضيق الحصار و شدة القتال و أعواز الأقوات و أنهم قتلوا الأصاغر من أولادهم خشية عليهم من معرة الكفر فأهمه ذلك و أعمل النظر فيه و عقد لولى عهده ابنه الأمير أبي يعقوب من مراكش على الغزو إليها و أغزى الأساطيل في البحر إلى جهاد عدوهم فوصل إلى طنجة لصفر من سنة ثمان و سبعين و ستمائة و أوعز إلى البلاد البحرية لاعداد الأساطيل بسبتة و طنجة و سلا و قسم الأعطيات و توفرت همم المسلمين على الجهاد و صدقت عزائمهم على الموت و أبلى الفقيه أبو حاتم العزفي صاحب سبتة لما بلغه خطاب أمير المسلمين في ذلك البلاء الحسن و قام فيه المقام المحمود و استقر كافة أهل بلده فركبوا البحر أجمعين من المحتلم فما فوقه
و رأى ابن الأحمر ما نزل بالمسلمين في الجزيرة و إشراف الطاغية على أخذها فندم في ممالأته و نبذ عهده و أعد أساطيل سواحله من المنكب و ألمرية و مالقة مددا للمسلمين و اجتمعت الأساطيل بمرفأ سبتة تناهز السبعين قد أخذت بطرفي الزقاق في أحفل زي و أحسن قوة و أكمل عدة و أوفر عدد و عقد عليهم الأمير أبو يعقوب رايته و أقلعوا عن طنجة ثامن ربيع الأول و انتشرت قلوعهم في البحر فأجازوه و باتوا ليلة المولد الكريم بمرقى الجبل و صبحوا العدوة و أساطيلهم تناهز أربعمائة فتظاهروا في دروعهم و أسبغوا من شكتهم و أخلصوا لله عزائمهم و صدقوا مع الله نياتهم و تنادوا بالجنة شعارهم و وعظ و ذكر خطباؤهم و التحم القتال و نزل الصبر و لم يكن إلا كلاولا حتى نضحوا العدو بالنبل فانكشفوا و تساقطوا في العباب فاستلحمهم السيف و غشيهم اليم و ملك المسلمون أساطيلهم و دخلوا مرقى الجزيرة و فرضتها عنوة فاختل معسكر الطاغية و داخلهم الرعب من إجازة الأمير أبي يعقوب و من معه من الحامية فأفرج لحينه عن البلد و انتشرت النساء و الصبيان بساحته و غلبت المقاتلة كثيرا من العسكر على مخلفهم فغنموا من الحنطة و الأدم و الفواكه ما ملأ أسواق البلد أياما حتى وصلتها الميرة من النواحي
و أجاز الأمير أبو يعقوب من جينه فأرهب العدو في كل ناحية و صده عن الغزو شأن الفتنة مع ابن الأحمر فرأى أن يعقد مع الطاغية سلما و يصل به لمنازلة غرناطة يدا و أجابه إلى ذلك الطاغية رهبة من بأسه و موجدة على ابن الأحمر في مدد أهل الجزيرة و بعث أساقفته لعقد ذلك فأجازهم الأمير أبو يعقوب إلى أبيه أمير المسلمين فغضب لها و نكر على ابنه و زوى عنه وجه رضاه و رجعهم إلى طاغيتهم مخفقي السعي و أجاز أبو يعقوب ابن السلطان إلى أبيه ومعه وفد أهل الجزيرة فلقوا السلطان بمكانه من بلاد السوس و ولى عليهم ابنه أبا زيان فنزل بالجزيرة و أحكم العقدة مع الطاغية و نازل المريلة من طاعة ابن الأحمر برا و بحرا فامتنعت عليه و انضوى إليه أهل الحصون الغربية بطاعتهم حذرا من الطاغية فتقبلهم ثم جاءه المدد من المغرب و نازل رندة فامتنعت و الطاغية أثناء ذلك يجوس خلال الأندلس و نازل ابن الأحمر بغرناطة مع بني أشقيلولة و ابن الدليل ثم راجع ابن الأحمر مسالمة بني مرين و بعث لأبي زيان ابن السلطان بالصلح و اجتمع معه بأحواز مريلة كما نذكر بعد
و لما ارتحل السلطان من معسكره إلى جبل السكسيوي يريد السوس ثم أغزى العساكر و رجع من طريقه إلى مراكش حتى إذا انقضت غزاة البربر رجع إلى فاس و بعث خطابه إلى الآفاق مستنفرا للجهاد و فصل في رجب من سنة ثمان و سبعين و ستمائة حتى انتهى إلى طنجة و عاين ما اختل من أحوال المسلمين في تلك الفترة و ما جرت إليه فتنة ابن الأحمر من اعزاز الطاغية و ما حدثته نفسه من التهام الجزيرة الأندلسية و من فيها و ظاهره على ابن الأحمر منافسوه في رياسته بنو أشقيلولة فاستجره الرئيس أبو الحسن بن أبي اسحق صاحب وادي آش و نازل معه غرناطة سنة تسع و سبعين و ستمائة خمسة عشر يوما ثم أفرجوا و لقيتهم عساكر غرناطة من زناتة بعد ذلك من سنتهم و غلبهم طلحة بن محلى و تاشفين بن معطى كبير تيربيغين بحصن المسلى فأظهرهم الله عليهم و هلك من النصارى ما يناهز سبعمائة من فرسانهم و استشهد فيها من أعياص بني مرين عثمان بن محمد بن عبد الحق و استجر الطاغية سنة ثمانين و ستمائة بعدها الرئيس أبو محمد عبد الله أخو صاحب وادي آش إلى منازلة غرناطة فنازلها الطاغية و أقام عليها أياما ثم ارتحل و قد اعتزلهم و أشفق السلطان على المسلمين و على ما نال ابن الأحمر من خسف الطاغية فراسله في الموادعة و اتفاق الكلمة و شرط عليه النزول عن مالقة فرجع السلطان إلى إزالة العوائق عن شأنه من الجهاد و كان من أعظمها فتنة يغمراسن
و استيقن ما دار بينه و بين ابن الأحمر و الطاغية ابن أخي أدفونش من الاتصال و الاصفاق في تجديد الصلح و الاتفاق فلج و كشف الوجه في العناد و أعلن بما وقع بينه و بين أهل العدوة مسلمهم و كافرهم من الوصلة و أنه معتزم على طي بلاد المغرب فصرف أمير المسلمين عزمه إلى غزو يغمراسن و قفل إلى فاس لثلاثة أشهر من نزوله طنجة فدخلها آخر شوال و أعاد الرسل إلى يغمراسن لإقامة الحجة عليه و التجأ بمسالمة بني توجين و التجافي عنهم لموالاتهم أمير المسلمين فقام يغمراسن في ركائبه و قعد و لج في طغيانه و ارتحل أمير المسلمين من فاس سنة تسع و سبعين و ستمائة و قدم ابنه أبا يعقوب في العساكر و أدركه بتازى و لما انتهى إلى ملوية تلوم في انتظارالعساكر ثم ارتحل إلى تاسة ثم تاقيا و صمد إليه بغمراسن بحشود زناتة و العرب بحللهم و كافة ناجعتهم و التقت عيون القوم فكانت بينهم حرب و ركب على آثارهما العسكران و التحم القتال و كان الزحف بخرزوزة من ملعب تيفني و رتب أمير المسلمين مصافه و جعل كتيبته و كتيبة ابنه الأمير أبي يعقوب جناحين للعسكر وا شتد القتال سائر النهار و انكشف بنو عبد الواد عندما أراح القوم و انتهب جميع مخلفهم و ما كان في معسكرهم من المتاع و الكراع و السلاح و الفساطيط و بات عسكر أمير المسلمين ليلتهم في صهوات خيلهم و اتبعوا من الغد آثار عدوهم و اكتسحت أموال العرب الناجعة الذين كانوا مع يغمراسن و امتلأت أيدي بني مرين من نعمهم و شائهم و دخلوا بلاد يغمراسن و زناتة و وافاه هنالك محمد بن عبد القوي أمير بني توجين لقيه بناحية القصبات و عاثوا جميعا في بلاده نهبا و تخريبا ثم أذن لبني توجين في اللحاق ببلادهم و أخذ هو بمخنق تلمسان متلوما لوصول محمد بن عبد القوي و قومه إلى منجاتهم من جبل و نشريس حذرا عليهم من غائلة يغمراسن ثم أفرج عنها و قفل إلى المغرب و دخل فاس شهر مضان من سنة ثمانين و ستمائة ثم نهض إلى مراكش فاحتل بها فاتح إحدى و ثمانين و ستمائة بعدها و سرح ابنه الأمير أبا يعقوب إلى السوس لتدويخ أقطاره و وافاه بمراكش صريخ الطاغية على ابنه شانجة الخارج عليه فاغتنم الفرصة في فساد بينهم لقضاء أربه من الجهاد و ارتحل مبادرا بالإجازة إلى الأندلس و الله تعالى أعلم (7/262)
الخبر عن إجازة السلطان أبي يوسف صريخا للطاغية لخروج ابنه شانجة عليه و افتراق كلمة النصرانية و ما كان في هذه الأجبار من الغزوات
لما رجع السلطان من غزاة تلمسان إلى فاس و ارتحل إلى مراكش وفاه بها وفد الطاغية من بطارقته و زعماء دولته و قواميس ملته صريخا على ابنه شانجة خرج عليه في طائفة من النصارى و غلبوه على أمره فانتصر أمير المسلمين و دعاه لحربهم و أمله لاسترجاع ملكه من أيديهم فأجاب أمير المسلمين داعية رجاء للكرة بافتراقهم و ارتحل حتى انتهى إلى قصر المجاز و أوعز إلى الناس بالنفير إلى الجهاد و أجاز إلى الخضراء فاحتل بهالربيع الثاني من سنة إحدى و ثمانين و ستمائة و اجتمعت عليه مسالح الثغور بالأندلس و سار حتى نزل صخرة عباد فوفاه بها الطاغية ذليلا لعز الإسلام مؤملا صريخ السلطان فأكبر و فادته و أكرم موصله و عظم قدره و أمده لنفقاته بمائة ألف من مال المسلمين استرهن فيها التاج الذخيرة عند سلفه و بقي بدارهم فخرا للأعقاب لهذا العهد و دخل معه دار الحرب غازيا حتى ينازل قرطبة و بها شانجة ابن الطاغية الخارج عليه مع طائفة فقاتلها أياما ثم أفرج عنها
و تنقل في جهاتها و نواحيها و ارتحل إلى طليطلة فعاث في جهاتها ثم خرب عمرانها حتى انتهى إلى حصن مجريط من أقصى الثغر فامتلأت أيدي المسلمين و ضاق معسكرهم بالغنائم التي استاقوها و ضل إلى الجزيرة فاحتل بها لشعبان من سنته و كان عمر بن محلى نزع إلى طاعة السلطان فهم به ابن الأحمر و نبذ إليه عهده و ارتجع المنكب من يده و نازله بعساكره فاتح هذه السنة فجهز السلطان إليه لوصوله الجزيرة أسطوله و أفرج ابن الأحمر عنه فبادر إلى السلطان بطاعته و وصل بيعة شلوبانية فأبقاه فيها بدعوته ثم راجع طاعة ابن الأحمر في شوال من سنته فتقبل فيئته و أعاضه عنها بالمنكب إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى و الله أعلم (7/270)
الخبر عن شأن السلم مع ابن الأحمر و تجافي السلطان له عن مالقة ثم تجدد الغزو بعد ذلك
لما اتصلت يد السلطان بيد الطاغية خشي ابن الأحمر غائلته فجنح إلى موالاة شانجة الخارج عن أبيه و وصل يده بيده و أكد له العقد على نفسه و أضرمت له الأندلس نارا و فتنة و لم تغن شانجة عن ابن الأحمر شيئا و رجع السلطان من غزاته مع الطاغية و قد ظهر على ابنه فأجمع على منازلة مالقة و نهض إليها من الجزيرة فاتح اثنتين و ثمانين و ستمائة فتغلب على الحصون الغربية كلها ثم أسعف إلى مالقة فأناخ عليها بعساكره و ضاق النطاق على ابن الأحمر و بدا له سوء المغبة في شأن مالقة و مداخلة ابن محلى في الغدر بها و أعمل نظره في الخلاص من ورطتها و لم ير لها إلا ولي عهد السلطان ابنه أبا يوسف فخاطبه بمكانه من المغرب مستصرخا لرقع هذا الخرق و جمع كلمة المسلمين على عدوهم فأجابه و اغتنم المثوبة في مسعاه
و أجاز لشهر صفر فوافى أمير المسلمين بمعسكره على مالقة و رغب منه السلم لابن الأحمر عن شأن مالقة و التجافي له عنها فأسعف رغبة ابنه لما يؤمل في ذلك من رضى الله في جهاد عدوه إعلاء كلمته و انعقد السلم و انبسط أمل ابن الأحمر و تجددت عزائم المسلمين و قفل السلطان إلى الجزيرة و بعث السرايا في دار الحرب فأوغلوا و أثخنوا ثم استأنف الغزو بنفسه إلى طليطلة فخرج من الجزيرة غازيا غرة ربيع الثاني من سنة اثنتين و ثمانين و ستمائة حتى انتهى إلى قرطبة فأثخن و غنم و خرب العمران و افتتح الحصون ثم ارتحل نحو البرت و خلف معسكره بظاهر بياسة و أغذ السير في أرض قفر لليلتين انتهى إلى البرت من نواحي طليطلة فسرح الخيل في البسائط حتح تقرى جميع ما فيها و لم ينته إلى طليطلة لتثاقل الناس بكثرة الغنائم و أثخن في القتل و قفل على غير طريقه فأثخن و خرب و انتهى إلى أبدة و وقف بساحتها و العدو منحجزون ثم رجع إلى معسكره بساسة و أراح ثلاثا ينسف آثارها و يقتلع أشجارها و قفل إلى الجزيرة فاحتل بها شهر رجب و قسم الغنائم و نفل من الخمس و ولى على الجزيرة حافده عيسى ابن الأمير أبي مالك ابنه فهلك شهيدا بالمعترك لشهرين من ولايته و أجاز السلطان غرة شعبان إلى المغرب و معه ابنه أبو زيان منديل و أراح بطنجة ثلاثا و أغذ السير إلى فاس فاحتل بها آخر شعبان و لما قضى صيامه و نسكه ارتحل إلى مراكش لتمهيدها و تفقد أحوالها و قسم من نظره لنواحي سلا و أزدرد فأقام برباط الفتح شهرين اثنين و احتل مراكش فاتح ثلاث و ثمانين و ستمائة و بلغه مهلك الطاغية ابن أدفونش و اجتماع النصرانية على ابنه شانجة الخارج عليه فتحركت إلى الجهاد عزائمه و سرح الأمير أبا يعقوب ولي عهده بالعسكر إلى بلاد السوس لغزو العرب و كف عاديتهم و محو آثار الخوارج المنتزين على الدولة فأجفلوا أمامه و اتبع آثارهم إلى الساقية الحمراء آخر العمران من بلاد السوس فهلك أكثر العرب في تلك القفار مسغبة و عطشا و قفل لما بلغه من اعتلال أمير المؤمنين و وصل إلى مراكش و قد أبل و قد اعتزم على الجهاد و الغزو و شكر الله كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/271)
الخبر عن إجازة السلطان أبي يوسف الرابعة و محاصرة شريش و ما تخلل ذلك من الغزوات
لما اعتزم أمير المسلمين على الإجازة و اعترض جنوده و حاشيته و أزاح عللهم و بعث في قبائل المغرب بالنفير و نهض من مراكش في جمادى الآخرة لثلاث و ثمانين و ستمائة و احتل رباط الفتح منتصف شعبان فقضى به صومه و نسكه ثم ارتحل إلى قصر مصمودة و شرع في إجازة العساكر و الحشود من المرتزقة و المطوعة خاتم سنته ثم أجاز البحر بنفسه غرة صفر من سنة أربع و ثمانين و ستمائة بعدها و احتل بظاهرها ثم سار منها إلى الخضراء و أراح أياما ثم خرج غازيا حتى انتهى إلى وادلك و سرح الخيول في بلاد العدو و بسائطها يحرق و ينسف فلما خرب بلاد النصرانية و دمر أرضهم قصد مدينة شريش فنزل بساحتها و أناخ علما و بث السرايا و الغارات في جميع نواحيها و بعث المسالح التي كانت بالثغور فتوافت لديه و لحقه حافده عمر بن أبي مالك بجمع وافر من المجاهدين من أهل المغرب فرسانا ورجالا و وافته حصة العزفي من سبتة غزاة ناشبة تناهز خمسمائة من الرجل و أوعز إلى ولي عهده الأمير أبي يعقوب باستنفار من بقي بالعدوة من المسلمين إلى الجهاد و عقد لحافده الآخر منصور بن عبد الواحد على ألف فارس من الغزاة و أعطاه الراية و سرحه لغزو إشبيلية لآخر صفر من سنته فغنموا و مروا بقرمونة في منصرفهم فاستباحوها و اثخنوا بالقتل و الأسر و رجعوا و قد امتلأت أيديهم من الغنائم و بعث وزيره محمد بن عطوا و محمد بن عمران بن عبلة عيونا فوافوا حصن القناطر و روطه و استكشفوا ضعف الحامية و اختلال الثغور فعقد ثانية لحافده عمر بن عبد الواحد على مثلها من الفرسان لثالثة من ربيع و أعطاه الراية و سرحه إلى بسائط وادلك فرجعوا من الغنائم بما ملأ العساكر بعد أن أثخنوا فيها بالقتل و التخريب و تحريق الزروع و اقتلاع الثمار و أبادوا عمرانها ثم سرح ثامن ربيع عسكرا للإغارة على حصن اركش و وافوه على غرة فاكتسحوا أموالهم ثم عقد تاسع ربيع لابنه أبي معروف على ألف من الفرسان و سرحه لغزو إشبيلية فساروا حتى توقف عليها
و انحجزت منه حاميتها فخرب عمرانها و حرق زروعها و قطع شجرها و امتلأت أيدي عسكره سبيا و أموالا و رجع إلى معسكر السلطان مملؤ الحقائب ثم عقد ثالثة لحافده عمر منتصف ربيع لغزو حصن كان بالقرب من معسكره و سرح الرجل من الناشبة و الفعلة بالآلات و أمده بالرجل من المصامدة و غزاة سبتة فاقتحموه عنوة على أهله و قتلوا المقاتلة و سبوا النساء و الذرية و أرغموا خده بالتراب
و لسبع عشرة من الشهر ركب السلطان إلى حصن سقوط قريبا من معسكره فخربه و حرقه بالنار و استباحه و قتل المقاتلة و سبى أهله و لعشرين من شهره وصل ولي عهده الأمير أبو يعقوب من العدوة بنفير أهل المغرب و كافة القبائل في جيوش ضخمة و عساكر موفورة و ركب أمير المسلمين للقائهم و برور مقدمهم و اعترض العساكر الموافية يومئذ فكانت ثلاثة عشر ألفا من المصامدة و ثمانية آلاف من برابرة المغرب متطوعون كلهم بالجهاد فعقد السلطان له على خمسة آلاف من المرتزقة و ألفين من المتطوعة و ثلاثة عشر ألفا من الرجل و ألفين من الناشبة و سرحه لغزو إشبيلية و الإثخان في نواحيها فعبى كتائبه و نهض لوجهه و بث الغارات بين يديه فأثخنوا و سبوا و قتلوا و اقتحموا لحصون و اكتسحوا الأموال و عاج على الشرق و الغابة من بسيط إشبيلية فنسف قراها و اقتحم من حصونها عدة و قفل إلى معسكر أمير المسلمين ظاهرا عزيزا غانما و لسادس ربيع الثاني وصل الأمير أبو زيان منديل بن طريف بعسكر وافر من المسلمين فعقد له غداة وصوله و أمده بعسكر آخر و أغزاه قرمونة و الوادي الكبير فأغار على قرمونة و طمعت حاميتها في المدافعة فبرزوا له و صدقهم القتال فانكشفوا حتى احجزوهم في البلد ثم أحاطوا ببرج كان قريبا من البلد فقاتلوه ساعة من نهار و اقتحموه عنوة و لم يزل يتقرى المنازل و العمران حتى وقف بساحة إشبيلية فأغار و اقتحم برجا كان هنالك عينا على المسلمين و أضرمه نارا و امتلأت أيدي عساكره و قفل إلى معسكر أمير المسلمين
و لثلاث عشرة من ربيع الثاني عقد للأمير أبي يعقوب لمنازلة جزيرة كيوثر فصمد إليها و قاتلها و اقتحمها عنوة و في ثاني جمادى عقد لطلحة بن يحيى بن محلى و كان بعد مداخلته أخاه عمر في شأن مالقة سنة خمس و سبعين و ستمائة خرج إلى الحج فقضي فرضه و رجع و مر في طريقه بتونس واتهمه الدعي ابن أبي عمارة كان بها يومئذ فاعتقله سنة اثنتين و ثمانين ثم سرحه و لحق بقومه بالمغرب ثم أجاز الأندلس غازيا في ركاب السلطان فعقد له في هذه الغزاة على مائتين من الفرسان و سرحه إلى إشبيلية ليكون رتبة للمعسكر و بعث معه لذلك عيونا من اليهود و المعاهدين من النصارى يتعرفون له أخبار الطاغية شانجة و أمير المسلمين أثناء ذلك يغادي شريش و يراوحها بالقتال و التخريب و نسف الآثار وبث السرايا كل يوم و ليلة في بلاد العدو فلا يخلو يوما عن تجهيز عسكر أو اغزاء جيش أو عقد راية أو بعث سرية حتى انتسف العمران في جميع بلاد النصرانية و خرب بسائط إشبيلية و ليلة و قرمونة و استجة و جبال الشرق و جميع بسائط الفرنتيرة و أبلى في هذه الغزوات عياد العاصي من شيوخ جشم و خضر الغزي أمير الأكراد بلاء عظيما
و كان لهم فيها ذكر و كذلك غزاة سبتة و سائر المجاهدين و العرب من جشم و غيرهم فلما دمرها تدميرا و نسفها تخريبا و اكتسحها غارة و نهبا و زحم فصل الشتاء و انقطعت الميرة عن العسكر اعتزم على القفول و أفرج عن شريش لآخر رجب و وافاه مدد غرناطة من عساكر الغزاة و قائدهم يعلى بن أبي عياد بن عبد الحق بوادي بردة فلقاهم مبرة و تكريما و انقلبوا إلى أهلهم و اتصل به أن العدو أوعز إلى أساطيله باحتلال الزقاق و الاعتراض دون الفراض فأوعز أمير المسلمين إلى جميع سواحله من سبتة و طنجة و المنكب و جزيرة و طيف و بلاد الريف و رباط الفتح و استدعى أساطيله فتوافت منها ستة و ثلاثون أسطولا متكاملة في عدتها و عديدها فأحجمت أساطيل العدو عنها و ارتدت على أعقابها و احتل بالجزيرة غرة رمضان و استيقن الطاغية شانجة و أهل ملته أن بلادهم قد فنيت و أرضهم خربت و تبينوا العجز عن المدافعة و الحماية فجنحوا إلى السلم و ضرعوا إلى أمير المسلمين في كف عاديته عنهم على ما يذكر و وصل إلى السلطان بمكانه من منازلة شريش عمر بن أبي يحبى بن محلى نازعا إلى طاعته فاتهمه لما سبق من تلاعبه و أمر أخاه طلحة فنكبه و احتمل إلى طريف فاعتقل بها و سار طلحة إلى المنكب فاستصفى أموال أخيه عمر و ذخائره وسار إلى السلطان و أقر ثانية أخاه موسى على عمله بالمنكب و أمده بعسكر من الرجل ثم أطلق عمر لليال من اعتقاله و أجاز طلحة و عمر في ركاب السلطان
ونزع منصور بن أبي مالك حافد السلطان إلى غرناطة ثم لحق منها بالمنكب و أقام مع موسى بن أبي يحيى بن محلى فأقره السلطان و رضي بمقامه و الله تعالى أعلم (7/273)
الخبر عن و فادة الطاغية شانجة و انعقاد السلم و مهلك السلطان على تفيئة ذلك
لما نزل ببلاد النصرانية بلاد ابن أدفونش من أمير المسلمين ما نزل من تدمير قراهم و اكتساح أموالهم و سبي نسائهم و إبادة مقاتلتهم و تخريب معاقلهم و انتساف عمرانهم زاغت منهم الأبصار و بلغت القلوب الحناجر و استيقنوا أن لا عاصم من أمير المسلمين فاجتمعوا إلى طاغيتهم شانجة خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة متوجعين مما أذاقهم جنود الله من سوء العذاب و أليم النكال و حملوه على الضراعة لأمير المسلمين في السلم و إيفاد الملأ من كبار النصرانية عليه في ذلك و إلا فلا تزال تصيبهم منه قارعة و تحل قريبا من دارهم فأجاب إلى ما دعوه إليه من الخسف و الهضيمة لدينه و أوفد على أمير المسلمين من بطارقتهم و شمامستهم و أساقفهم يخطبون السلم و يضرعون في المهادنة و الإبقاء و وضع أوزار الحرب فردهم أمير المسلمين اعتزازا عليهم ثم أعادهم الطا
غية بترديد الرغبة على أن يشترط ما شاء من عز دينه و قومه فأسعفهم أمير المسلمين و جنح إلى السلم لما تيقن من صاغيتهم إليه و ذلهم لعز الإسلام و أجابهم إلى ما سألوه و اشترط عليهم ما تقبلوه من مسالمة المسلمين كافة من قومه و غير قومه و الوقوف عند مرضاته في ولاية جيرانه من الملوك أو عداوتهم و رفع الضريبة عن تجار المسلمين بدار الحرب من بلاده و ترك التضريب بين ملوك المسلمين و الدخول بينهم في فتنة و بعث لعمه عبد الحق ابن الترجمان باشتراط ذلك و أحكام عقده فاستبلغ و أكد في الوفاء و وفدت رسل ابن الأحمر على الطاغية و هو عنده لعقد السلم معه دون أمير المسلمين على قومه و مدافعته عنهم فأحضرهم بمشهد ابن الترجمان و أسمعهم ما عقد أمير المسلمين على قومه و أهل ملته و قال لهم إنما أنتم عبيد آبائي فلستم معي في مقام السلم و الحرب و هذا أمير المسلمين و لست أطيق مقاومته و لا دفاعه عنكم فانصرفوا و لما رأى عبد الحق صاغيته إلى مرضاة السلطان وسوس إليه بالوفادة لتتمكن الألفة و تستحكم العقدة و أراه مغبة ذلك في سل السخيمة و تسكين الحفيظة و تمكين الألفة فصغى إلى وفاته و سأل لقي الأمير أبي يعقوب ولي عهده من قبل ليطمئن عليه فوصل إليه و لقيه على فراسخ من شريش
و باتا بمعسكر المسلمين هنالك ثم ارتحلا من الغد للقاء أمير المسلمين و قد أمر الناس بالاحتفال للقاء الطاغية و قومه إظهار شعار الإسلام أبهته فاحتفلوا و تأهبوا و أظهروا عز الملة و شدة الشوكة و وفور الحامية
و لقيه أمير المسلمين بأحسن مبرة و أتم كرامة يلقى بها مثله من عظماء الملل و قدم الطاغية بين يديه هدية أتحف بها أمير المسلمين و ابنه من ظرف بلاده كان فيها زوج من الحيوان الوحشي المسمى بالفيل و حمارة من حمر الوحش إلى غير ذلك من الظرف فقبلها السلطان و ابنه و قابلوه بكفائها و مضاعفتها و كمل عقد السلم و تقبل الطاغية سائر الشروط و رضي بعز الإسلام عنه و انقلب إلى قومه بملء صدره من الرضا و المسرة و سأل منه أمير المسلمين أن يبعث من كتب العلم التي بأيدي النصارى منذ استيلائهم على مدن الإسلام فاستكثر من أصنافها قي ثلاثة عشر حملا بعث بها إليه فوقفها السلطان بالمدرسة التي أسسها بفاس لطلب العلم
و قفل أمير المسلمين إلى الجزيرة لليلتين بقيتا لرمضان فقضى صومه و نسكه و جعل من قيام ليله جزءا لمحاضرة أهل العلم و أعد الشعراء كلمات أنشدوها يوم الفطر بمشهد الملأ في مجلس أمير المسلمين و كان من أسبقهم في ذلك الميدان شاعر الدولة عزوز المكانسي ذكر فيها سير أمير المسلمين و غواته على نسق
ثم أعمل أمير المسلمين نظره في الثغور فرتب بها المسالح و عقد عليها لابنه الأمير أبي زيان منديل و أنزله بركوان مقربة مالقة و استوصاه بأن لا يحدث في بلاد ابن الأحمر حدثا و عقد لعياد بن أبي عياض العاصمي على مسلحة أخرى و أنزله بأصطبونة و أجاز ابنه الأمير أبا يعقوب لتفقد أحوال المغرب و مباشرة أموره فأجاز في أسطول القائد محمد بن القاسم الرنداحي قائد سبتة و أوعز إليه بالبناء على قبر أبيه أبي الملوك عبد الحق و لقيه إدريس بتافرطست فاختط هنالك رباطا و بني على قبورهم أسمنة من الرخام و نقشها بالكتابة و رتب عليها قراء لتلاوة القرآن و وقف على ذلك ضياعا و فدنا و هلك خلال ذلك وزيره يحيى بن أبي منديل العسكري لمنتصف رمضان ثم اعتل بعد ذلك أمير المسلمين لشهر ذي الحجة و اشتد وجعه و هلك لآخر محرم سنة خمس و ثمانين و ستمائة و الله أعلم (7/276)
الخبر عن دولة السلطان و ما كان فيها من الأحداث و شأن الخوارج لأول دولته
لما اعتل أمير المسلمين أبو يوسف بالجزيرة مرضه نساؤه و طيرن الخبر إلى ولي العهد الأمير أبي يعقوب و هو بمكانه من المغرب فأغذ السير و قضى أمير المسلمين قبل وصوله فأخذ له البيعة على الناس وزراء أبيه و عظماء قومه و أجاز إليهم البحر فجددوا بيعته غرة صفر سنة خمس و ثمانين و ستمائة و أخذوها على الكافة و انعقد أمر السلطان يومئذ ففرق الأموال و أجزل الصلات و سرح السجون و رفع عن الناس الأخذ بزكاة الفطر و وكلهم فيها إلى أمانتهم و قبض أيدي العمال عن الظلم و الاعتداء و الجور على الرعايا و رفع المكوس و محا رسم الرتب و صرف اعتناءه إلى إصلاح السابلة و كان أول شيء أحدث من أمره إلى أن بعث ابن الأحمر و ضرب موعدا للقائه فبدر إليه و لقيه بظاهر مربالة لأول ربيع و لقاه مبرة و تكريما و تجافى له عن جميع الثغور الأندلسية التي كانت لمملكته ما عدا الجزيرة و طريف و تفرقا من مكانهما على أكمل حالات المصافاة و الوصلة و رجع السلطان إلى الجزيرة و وافاه بها وفد الطاغية شانجة مجددين عقد السلم الذي عقد له أمير المسلمين عفا الله عنه فأجابهم و لما تمهد أمر الأندلس و مر عن النظر فيها عهد لأخيه أبي عطية العباس على الثغور الغربية و الإمارة عليها و عقد لعلي بن يوسف بن بزكاسن على مسالحها و أمده بثلاثة آلاف من عساكره و أجاز إلى المغرب فاحتل بقصر مصمودة سابع ربيع الثاني ثم ارتحل إلى فاس و احتل بها لاثنتي عشرة خلت من جمادى و لحين استقراره بدار ملكه خرج عليه محمد بن إدريس بن عبد الحق في إخوته و بنيه و ذويهم و لحق بجبل ورغة و دعا لنفسه و سرح إليه السلطان أخاه أبا معروف فبدا له في النزوع إليهم و لحق بهم فأغزاهم السلطان عساكره و ردد إليهم البعوث و الكتائب و تلطف في استنزال أخيه فنزل عن الخلاف و عاد إلى حسن طاعته و فر أولاد إدريس إلى تلمسان و تقبض عليهم أثناء طريقهم و سرح السلطان أخاه أبا زيان إلى تازى و أوعز إليه بقتلهم بمليلي خارج تازى لرجب من سنة خمس و ثمانين و ستمائة و رهب الأعياص عند ذلك من بادرة السلطان ففرقوا و لحق بغرناطة أولاد أبي العلاء إدريس بن عبد الحق و أولاد يحيى بن عبد الحق و أولاد عثمان بن يزول و رجع أولاد أبي يحيى إلى السلطان بعد اقتضاء عهده و أمانه و هلك أخوه محمد بن يعقوب بن عبد الحق لشعبان من سنته و هلك عمر ابن أخيه أبي مالك بطنجة ثم خرج على السلطان عمر بن عثمان بن يوسف العسكري بقلعة قندلاوة و نبذ الطاعة و أذن بالحرب و أوعز السلطان إلى بني عسكر ومن إليهم من القبائل المجاورين لها فاحتشدوا له و نازلوه ثم نهض بركابه و عساكره إلى منازلته و احتل بسدورة و خافه عمر على نفسه و أيقن أنه أحيط به فسأل الأمان و بذله السلطان عل شريطة اللحاق بتلمسان فبعث من يوثق به من الخبرة فنزل فوفى له السلطان بعهده و لحق بتلمسان بأهله و ولده
ثم ارتحل السلطان في رمضان من سنته إلى مراكش لتمهيد أنحائها و تثقيف أطرافها و احتل بها في شوال و اعتمل النظر في مصالحها و نزع خلال ذلك طلحة بن محلى البطوي إلى بني حسان من المعقل و خرج على السلطان و دعا لنفسه و عقد السلطان لمنصور ابن أخيه أبي مالك على العساكر و عهد له بولاية السوس و سرحه لاستنزال الخوارج و محو آثار الفساد و ارتاب بمكان أخيه عمر فغربه إلى غرناطة فقتله أولاد أبي العلاء يوم وصوله إليها فسار الأمير منصور في الجيوش و الكتائب و غزا عرب المعقل و أثخن فيهم و قتل طلحة بن محلى في بعض حروبهم لثلاث عشرة في جمادى سنة ست و ثمانين و ستمائة و بعث برأسه إلى سدة السلطان فعلق بتازى ثم نهض في رمضان لغزو المعقل بصحراء درعة لما أضروا العمران و أفسدوا السابلة و سار إليهم في اثني عشر ألفا من الفرسان و مر على بلاد هسكورة معترضا جبل درن و أدركهم بالقفر نواجع فأثخن فيهم بالقتل و السبي و استكثر من رؤسهم فعلقت بشرفات مراكش و سجلماسة و فاس و عاد من غزوه إلى مراكش آخر شوال فنكب محمد بن علي بن محلى عاملها القديم الولاية عليها من لدن غلب الموحدين لما وقع من الارتياب بأولاد محلى لما أتاهم كبيرهم طلحة فنكب غزة المحرم من سنة سبع و ثمانين و ستمائة و هلك في محبسه لشهر صفر بعده و هلك على ذلك المزوار قاسم بن عتو و عقد السلطان على مراكش و أعملها لمحمد بن عطو الجاناتي من موالي دولتهم ولاء الحلف و ترك معه ابنه أبا عامر ثم ارتحل إلى حضرة فاس فاحتل بها منتصف ربيع و وافته بها عرسه بنت موسى بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق من غرناطة في وفد من وزراء ابن الأحمر و أهل دولته فأعرس بها و كان بعث إلى أبيها من قبل في الاصهار بها و وافت معها رسل ابن الأحمر يسألونه التجافي عن وادي آش فأسعفهم بها كما نذكره إن شاء الله تعالى و الله أعلم (7/278)
الخبر عن دخول وادي آش في طاعة السلطان ثم رجوعها إلى طاعة ابن الأحمر
كان أبو الحسن بن أشقيلولة ظهير السلطان ابن الأحمر على ملكه و معينه على شأنه و كان له في الدولة بذلك مكان و لما هلك خلف من الولد أبا محمد عبد الله و أبا اسحق ابراهيم فعقد ابن الأحمر لأبي محمد على مالقة و لأبي اسحق على قمارش و وادي آش و لما هلك السلطان ابن الأحمر حدثت مغاضبات و منافسات بينهما و بينه و تأدى ذلك إلى الفتنة كما قلناه و دخل أبو محمد في طاعة السلطان أبي يوسف ثم هلك فلحق ابنه محمد بالسلطان و نزل له عن البلد سنة ست و سبعين و ستمائة ثم هلك أبو اسحق سنة اثنتين و ثمانين و ستمائة و غلب ابن الأحمر على حصن قمارش و صار إليه و كان الرئيس أبو اسحق قد عقد لابنه أبي الحسن على وادي آش و حصونها و اتصلت الفتنة بينه و بين ابن الأحمر و ظاهر أبو الحسن عليه الطاغية و أجلب أخوه أبو محمد معه على غرناطة هو و ابن الدليل و طال أمر الفتنة بينهما و بين ابن الأحمر ثم انعقد السلم بين المسلمين و النصارى و خشي أبو محمد بن أشقيلولة على نفسه عادية ابن الأحمر فتذمم بطاعة صاحب المغرب و أقام دعوته بوادي آش سنة ست و ثمانين و ستمائة فلم يعرض لها ابن الأحمر حتى إذا وقعت المواصلة بينه و بين ابن السلطان أبي يعقوب و كان شأن هذا الصهر على يده بعث رسله إلى السلطان يسأله التجافي عن وادي آش فتجافى له عنها و بعث إلى أبي الحسن بن أشقيلولة بذلك فتركها و ارتحل إليه سنة سبع و ثمانين و ستمائة و لقيه بسلا فأعطاه القصر الكبير و أعماله طعمة سوغه إياها ثم نزل لبنيه آخر دولتهم و استمكن ابن الأحمر من وادي آش و حصونها و لم يبق له بالأندلس منازع من قرابته و الله يؤتي ملكه من يشاء و الله أعلم (7/280)
الخبر عن خروج الأمير أبي عامر و نزوعه إلى مراكش ثم فيئته إلى الطاعة
لما احتل السلطان بفاس و أقام بها خرج عليه ابنه أبو عامر و لحق بمراكش و دعا لنفسه أخريات شوال من سنة سبع و ثمانين و ستمائة و ساعده على الخلاف و الانتزاء عاملها محمد بن عطو و خرج السلطان في أثره إلى مراكش فبرز إلى لقائه فكانت الدائرة عليهم و حاصرهم السلطان بمراكش أياما ثم خلص أبو عامر إلى بيت المال فاستصفى ما فيه و قتل المشرف ابن أبي البركات و لحق بجبال المصامدة و دخل السلطان من غده إلى البلد يوم عرفة فعفا و سكن و نهض منصور ابن أخيه لأمير أبو مالك من السوس إلى حاجة فدوخ انحاءها ثم سرح إليه المدد من مراكش فأوقعوا بوكنة من برابرة السوس و قتل منهم ما يناهز أربعين من سرواتهم و كان فيمن قتل منهم شيخهم حيون بن ابراهيم ثم إن ابنه أبا عامر ضاق ذرعه بسخط أبيه و إجلابه في الخلاف فلحق بتلمسان و معه وزيره ابن عطو فاتح سنة ثمان و ثمانين و ستمائة فآواهم عثمان بن يغمراسن و مهد لهم المكان و لبثوا عنده أياما ثم عطف السلطان على ابنه رحم لما عطفت ابنته عليه فرضي عنه و أعاده إلى مكانه و طالب عثمان بن يغمراسن أن يسلم إليه ابن عطو الناجم في النفاق مع ابنه فأبى من إضاعة جواره و إخفار ذمته و أغلظ له الرسول في القول فسطا به و اعتقله فثارت من السلطان الحفائظ الكامنة و تحركت الأحن القديمة و النزلات المتوارثة و اعتزم على غزو تلمسان و الله أعلم (7/281)
الخبر عن تجدد الفتنة مع عثمان بن يغمراسن وغزو السلطان مدينة تلمسان و منازلته إياها
كانت الفتنة بين هذين الحيين قديمة من لدن مجالاتهم بالقفر من حمراء ملوية إلى صا إلى فيكيك و لما انتقلوا إلى التلول و تغلبوا على الضواحي بالمغرب الأقصى و الأوسط لم تزل فتنتهم متصلة و أيام حروبهم فيها مذكورة و كانت دولة الموحدين عند اختلالها و التياثها تستنصر منهم بالتضريب بينهم و الفتنة فتأكدت لذلك أحوالها و اتصلت أيامها و كان بين يغمراسن بن زيان و أبي يحيى بن عبد الحق فيها وقائع و مشاهد نقلنا منها بعضا من كل و استظهر الموحدون بيغمراسن عليه في بعضها و كان الغلب أكثر ما يكون لأبي يحيى بن عبد الحق لوفور قبيلة إلا أن يغمراسن كان يتصدى لمقاومته في سائر وقائعه و لما طمس أثر بني عبد المؤمن و استولى يعقوب ابن عبد الحق على ملكهم و صارت في جملته عساكرهم و تضاعف عليه و أسف على ملك يغمراسن ملكه و جمع له فأوقع به في تلاغ الواقعة المعروفة ثم أوقع به ثانية و ثالثة و لما استوت قدم يعقوب بن عبد الحق في ملكه و استكمل فتح المغرب و سائر أمصاره و كبح يغمراسن عن التطاول إلى مقاومته و أوهن قواه بفل جموعه و منازلته في داره و مظاهرة أقتاله من زناتة بني توجين و مغراوة عليه فانصرف بعد ذلك إلى الجهاد فكان له فيه شغل عما سواه كما نقلناه في أخباره
و لما انصرف ارتاب ابن الأحمر بمكان السلطان يعقوب بن عبد الحق من الأندلس و حذره على ملكه و تظاهر مع الطاغية على منعه من الإجازة إلى عدوتهم لهم خشوا أن لا يستقلوا بمدافعته فراسلوا يغمراسن في الأخذ بحجزته وأجابهم إليها و جرد عزائمه لها و اتصلت أيديهم في التظاهر عليه ثم فسد ما بين ابن الأحمر و الطاغية و لم يكن له بد من ولاية يعقوب بن عبد الحق فتولى بواسطة ابنه يوسف بن يعقوب كما ذكرناه و أطلعوه على خباء يغمراسن في مظاهرتهم فأغزاه سنة تسع و سبعين و ستمائة و هزمه بخرزونة و نازله بتلمسان و وطأ عدوه من بني توجين بساحته كما ذكرناه ثم انصرف إلى شأنه من الجهاد و هلك يغمراسن بن زيان على تفيئة ذلك سنة إحدى و ثمانين و ستمائة و أوصى ابنه عثمان ولي عهده زعموا أن لا يحدث نفسه بمقاومة بني مرين و مساماتهم في الغلب و أن لا يبرز إلى لقائهم بالصحراء و أن يلوذ منهم بالجدران متى سموا إليه و ألقي إليه زعموا أن بني مرين بن تغلبهم على مراكش و انضياف سلطان الموحدين إلى سلطانهم ازدادت قوتهم و تضاعف غلبهم و قال له زعموا فيما أوصاه و لا يغرنك أني رجعت إليهم بعدها و برزت إلى لقائهم فإني أنفت أن أرجع عن مقاومتهم بعد اعتيادها و أترك مبارزتهم و قد عرفها الناس و أنت لا يضرك العجز عن مبارزتهم و النكول عن لقائهم فليس لك في ذلك مقام معلوم و لا عادة سالفة و اجهد جهدك فى التغلب على إفريقية وراءك فإن فعلت كانت المناهضة و هذه الوصاة زعموا هي التي حملت عثمان و بنيه من بعده على طلب ملك إفريقية و منازلة بجاية و حربهم مع الموحدين و لما هلك يغمراسن ذهب ابنه إلى مسالمة بني مرين فبعث أخاه محمدا إلى السلطان يعقوب بن عبد الحق و أجاز البحر إليه بالأندلس و وافاه بأركش في إجازته الرابعة سنة أربع و ثمانين و ستمائة فعقد له ما جاء إليه من السلم و المهادنة و رجعه إلى أخيه و قومه ممتلئا كرامة و سرورا و هلك يعقوب بن عبد الحق أثر ذلك سنة خمس و ثمانين و ستمائة و قام بالأمر ابنه يوسف بن يعقوب و انتزى الخوارج عليه بكل جهة فشمر لهم و استنزلهم و حسم أدواءهم ثم خرج عليه ابنه آخرا كما ذكرناه بمالأة وزير السلطان محمد بن عطو ثم فاء إلى طاعة أبيه و رضي عنه و أعاده إلى مكانه من حضرته و طالب عثمان بن يغمراسن كما ذكرناه في ابن عطو المنتزي عليه مع ابنه فأبى عثمان من تسليمه و تحركت حفيظة السلطان و اعتزم على غزوهم فارتحل من مراكش لصفر من سنة سبع و ثمانين و عقد عليها لابنه الأمير أبي عبد الرحمن ثم نهض لغزاته من فاس آخر ربيع من سنته في عساكره و جنوده و حشد القبائل و كافة أهل المغرب و سار حتى نزل تلسمان فانحجز عثمان و قومه بها و لاذوا منه بجدرانها فسار في نواحيها ينسف الآثار و يخرب العمران و يحطم الزرع ثم نزل بذراع الصابون بساحتها ثم انتقل منه إلى تامة و حاصرها أربعين يوما و قطع أشجارها و أباد خضراءها و لما امتنعت عليه أفرج عنها و انكفأ راجعا إلى المغرب و قضى نسك الفطر بعين الصفا من بلاد بني يرناتن و نسك الأضحى و قربانه بتازى و تلبث بها و منها كان فصوله للغزو عند انتقاض الطاغية كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/282)
الخبر عن انتقاض الطاغية و إجازة السلطان لغزوه
لما رجع السلطان من غزو تلمسان وافاه الخبر بأن الطاغية شانجة انتقض و نبذ العهد و تجاوز التخوم و أغار على الثغور فأوعز إلى قائد المسالح علي بن يوسف بن يزكاسن بالدخول إلى دار الحرب و منازلة شريش و شن الغارات على بلاد الطاغية فنهض لذلك في ربيع الآخر من سنة تسعين و ستمائة و جاس خلالها و توغل في أقطارها و أبلغ في النكاية و فصل السلطان من تازى غازيا على أثره في جمادى و احتل قصر مصموة و استنفر أهل المغرب و قبائله و نفروا و شرع في إجازتهم البحر و بعث الطاغية أساطيله إلى الزقاق حجزا دون الإجازة فأوعز السلطان إلى قواد أساطيله بالسواحل فأغزاهم و التقت الأساطيل ببحر الزقاق في شعبان فاقتتلوا و انكشف المسلمون و محصهم الله ثم أغزاهم ثانية و خامت أساطيل العدو عن اللقاء و صاعدوا عن الزقاق و ملكته أساطيل السلطان فأجاز أخريات رمضان و احتل بطريف ثم دخل دار الحرب غازيا فنازل حصن بجير ثلاثة أشهر و ضيق عليهم و بث السرايا في أرض العدو و ردد الغارات على شريش و إشبيلية و نواحيها إلى أن بلغ في النكاية و الإثخان و قضى من الجهاد و طرا و زاحمه فصل الشتاء و انقطاع الميرة عن العسكر فأفرج عن الحصن و رجع إلى الجزيرة ثم أجاز إلى المغرب فاتح إحدى و تسعين و ستمائة فتظاهر ابن الأحمر و الطاغية على منعه كما نذكره إن شاء الله تعالى و الله أعلم (7/284)
الخبر عن انتقاض ابن الأحمر و مظاهرته للطاغية على طريف أعادها الله للمسلمين
لما قفل السلطان من غزاتة فاتح إحدى و تسعين و ستمائة كما ذكرناه و قد أبلغ في نكاية العدو و أثخن في بلاده فأهم الطاغية أمره و ثقلت عليه وطأته و التمس الوليجة من دونه و حذر ابن الأحمر غائلته و رأى أن مغبة حاله الاستيلاء على الأندلس و غلبه على أمره ففاوض الطاغية و خلصوا نجيا و تحدثوا أن استمكانه من الإجازة إليهم إنما هو لقرب مسافة بحر الزقاق و انتظام ثغور المسلمين حفافيه لتصرف شوانيهم و سفنهم متى أرادوا فضلا عن الأساطيل و أن أم تلك الثغور طريف و أنهم إذا استمكنوا منها كانت ربيئة لهم على بحر الزقاق و كان أسطولهم بمرقاها بمرصد الأساطيل صاحب المغرب الخائضين لجة ذلك البحر فاعتزم الطاغية على منازلة طريف و زعم له ابن الأحمر بمظاهرته على ذلك و شرط له المدد و الميرة لأقوات العسكر أيام منازلتها على أن تكون له إن خلصت و تعاونوا على ذلك و أناخ الطاغية بعساكر النصرانية على طريف و ألح عليها بالقتال و نصب الآلات و انقطع عنها المدد و الميرة و احتلت أساطيله ببحر الزقاق فحالفوا دون الصريخ من السلطان و إخوانهم المسلمين و ضرب ابن الأحمر معسكره بمالقة قريبا منه و سرب إليه المدد من السلاح و الرجال و الميرة من الأقوات و بعث عسكرا لمنازلة حصن أصطبونة و تغلب عليه بعد مدة من الحصار و اتصلت هذه الحال أربعة أشهر حتى أصاب أهل طريف الجهد و نال منهم الحصار فراسلوا الطاغية في الصلح و النزول عن البلد فصالحهم و استنزلهم سنة إحدى و تسعين و ستمائة و وفى لهم بعهده و استشرف ابن الأحمر إلى تجافي الطاغية عنها لما عقدوا عليه فأعرض عن ذلك و استأثر بها بعد أن كان نزل له عن ستة من الحصون عوضا منها ففسد ذات بينهما و رجع ابن الأحمر إلى تمسكه بالسلطان و استعانته به لأهل ملته على الطاغية و أوفد ابن عمه الرئيس أبا سعيد فرج بن اسمعيل بن يوسف و وزيره أبا سلطان عزيز الداني في وفد من أهل حضرته لتجديد العهد و تأكيد المودة و تقرير المعذرة عن شأن طريف فوافوه بمكانه من منازلة تازوطا كما يذكر بعد فأبرموا العقد و أحكموا الصلح و انصرفوا إلى ابن الأحمر سنة اثنتين و تسعين و ستمائة بإسعاف غرضه من المواخاة و اتصال اليد و هلك خلال ذلك قائد المسالح بالأندلس علي بن يزكاسن في ربيع الأول سنة انتين و تسعين و ستمائة و عقد السلطان لابنه ولي عهده الأمير أبي عامر على ثغور الأندلس التي في طاعته و عهد له بالنظر في مصالحها و أنفذه إلى قصر المجاز بعسكره فوافاه هنالك السلطان ابن الأحمر كما يذكر إن شاء الله تعالى و الله أعلم (7/285)
الخبر عن وفادة ابن الأحمر على السلطان و التقائهما بطنجة
لما رجعت الرسل إلى ابن الأحمر و قد كرمت وفادتهم و قضيت حاجتهم و أحكمت في المواخاة مقاصدهم وقع ذلك مع ابن الأحمر أجمل موقع و طار سرورا من أعواده و أجمع الرحلة إلى السلطان لإحكام الود و الاستبلاغ في العذر عن واقعة طريف و شأنها و استعدادهم لإغاثة المسلمين و نصرهم من عدوهم فاعتزم على ذلك و أجاز البحر ذا القعدة سنة اثنتين و تسعين و ستمائة و احتل بنيونش من ساحة سبتة ثم ارتحل إلى طنجة و قدم بين يدي نجواه هدية سنية أتحف بها السلطان كان من أحفلها و أحسنها موقعا لديه فيما زعموا المصحف الكبير أحد مصاحف عثمان ابن عفان أحد الأربعة المنبعثة إلى الآفاق المختص هذا منها بالمغرب كما نقله السلف كان بنو أمية يتوارثونه بقرطبة فتلقاه الأمير أبو عامر هنالك و أخوه الأمير
أبو عبد الرحمن ابنا السلطان واحتفلا في مبرته ثم جاء السلطان على أثرهما من حضرته لتلقيه و برور مقدمه ووافاه بطنجة و بلغ تكرمته وبر وفادته ما يكرم به مثله و بسط ابن الأحمر العذر عن شأن طريف فتجافى السلطان عن العذل وأعرض عنه وقبل منه و بر و احتفى و وصل و أجزل و نزل له ابن الأحمر عن الجزيرة و رندة و الغريبة و عشرين حصنا من ثغور الأندلس كانت من قبل لطاعة صاحب المغرب و نزل عساكره و عاد ابن الأحمر إلى الأندلس خاتم اثنتين وتسعين و ستمائة محبوا محبورا و أجازت عساكر السلطان معه لحصار طريف و عقد على حربها و منازلتها لوزيره الطائر الذكر عمر بن السعود بن الخرباش الجشمي فنازلها مدة و امتنعت فأفرج عنها و صرف السلطان همته إلى غزو تلمسان و حصارها كما يذكر إن شاء الله تعالى (7/286)
الخبر عن انتزاء الوزير الوساطي بحصن تازوطا من جهات الريف واستنزال السلطان إياه
كان بنو الوزير هؤلاء رؤساء بني واطاس من قبل بنى مرين و يرون أن نسبهم دخيل في بنى مرين و أنهم من أعقاب علي بن يوسف بن تاشفين لحقوا بالبدر و نزلوا على بنى واطاس و رسخت فيهم عروقهم حتى لبسوا جلدتهم و لم يزل السرو متربعا بين أعينهم لذلك و الرياسة شامخة بأنوفهم و كانوا يرومون الفتك بالأمراء من أولاد عبد الحق فلم يطيقوه و لما احتل السعيد بتازى غازيا إلى تلمسان كما ذكرناه و لحق ببلدهم الأمير أبو يحيى بن عبد الحق ائتمروا في الفتك به و نذر بشأنهم فارتحل ففروا إلى غبولة و عين الصفا من بلاد بني يزناسن و هنالك بلغه خبر مهلك السعيد و كانت بلاد الريف لبني واطاس من لدن دخول بني مرين المقرب واقتسامهم لأعماله فكانت ضواحيها لنزلهم وأمصارها و رعاياها لجبايتهم و كان حصن تازوطابها من أمنع المعاقل بالمغرب و كان الملوك من أولاد عبد الحق يعتنون بشأنه و ينزلونه من أوليائهم من يثقون بغنائه و اطلاعه ليكون آخذا بناصية هؤلاء الرهط و شجا في صدورهم عما يسيمون إليه و كان السلطان قد عقد عليه لمنصور ابن أخيه الأمير أبي مالك بعد مهلك ابنه أمير المسلمين يعقوب بن عبد الحق و كان عمر بن يحيى ابن الوزير و أخوه عامر رئيسين على بني واطاس لذلك العهد فاستوهنوا أمر السلطان بعد مهلك أبيه و حدثوا أنفسهم بالانتزاء بتازوطا و الاستبداد بتلك الناحية فوثب عمر منهم بمنصور ابن أخي السلطان شهر شوال من سنة إحدى و تسعين و ستمائة و فتك برجاله و ذويه و أزعجه عنها و غلبه على مال الجباية الذي كان بقصره فاستصفاه و استأثر به و استبد و شحن الحصن برجاله و حاشيته و وجوه قومه و وصل منصور إلى السلطان و هلك لليال من منجاته أسفا لما أصابه و سرح السلطان وزيره الطائر الذكر عمر بن السعود بن خرباش بالعساكر لمنازلته فأناخ عليه ثم نهض السلطان على أثره و وافاه و اضطرب معسكره بساحته و خالف عامر أخاه عمر إلى السلطان بقومه حذرا من مغبة الأمر و أشفق عمر لشدة الحصار و يئس من الخلاص و ظن أن قد أحيط به و دس إلى أخيه عامر فاستأذن السلطان في مداخلته في الدخول على الحصن فأذن له و احتمل ذخيرته و فر إلى تلمسان و بدا لعامر في رأيه عندما خلص إلى الحصن و خلاله من أخيه عمر الجو و حذر غائلة السلطان و خشي أن يثأر منه بابن أخيه فامتنع بالحصن ثم ندم و سقط في يده و في خلال ذلك كان وصول وفد الأندلس و أرسوا أساطيلهم بمرسى غساسة فبعث إليهم عامر أن يشفعوا له عند السلطان لوجاهتهم لديه فتقبلت شفاعتهم على شريطة إجازته إلى الأندلس و كره ذلك و قدم بين يديه بعض حاشيته إلى الأسطول مكرا بهم و خاض الليل إلى تلمسان و تقبض السلطان على ولده و قتل و أسلم أهل الأسطول من كان من حاشيته لديهم و تجافوا عن إجازتهم على السلطان لما مكر بهم عامر فأمر فاستلحموا مع من كان بالحصن من أتباعهم و قرابتهم و ذرياتهم و تملك السلطان حصن تازوطا و أنزل به عماله و مسلحته و قفل إلى حضرته بفاس آخر جمادى من سنة اثنتين و تسعين و ستمائة و الله تعالى أعلم (7/287)
الخبر عن نزوع أبي عامر ابن السلطان إلى بلاد الريف وجهات غمارة
كان الأمير أبو عامر بعد إجازة ابن الأحمر إلى السلطان أبيه و رضاه عنه و تأكيد مؤاخاته و إغراء وزيره بمنازلة طريف و استنزاله أولاد الوزير المنتزين بحصن تازوطا رجع من قصر مصمودة إلى بلاد الريف بإيعاز أبيه إليه بذلك لتسكين أحوالها و كان أولاد الأمير أبي يحيى بن عبد الحق قد نزعوا إلى تلمسان لسعاية فيهم و قرت في صدر السلطان فأقاموا بها أياما ثم استعطفوا السلطان و استرضوه فرضي و أذن لهم في الرجوع في محلهم من قومهم و دولتم و بلغ الخبر الأمير أبا عامر و هو بمعسكره من الريف فأجمع على اغتيالهم في طريقهم فظن أنه يرضي بذلك أباه و أعرضهم بوادي القطف من ملوية سنة خمس و تسعين و ستمائة فاستلحمهم و انتهى الخبر إلى السلطان فقام في ركائبه و قعد و تبرأ إلى ابنه من إخفار ذمته و من صنيع ابنه و سخطه و أقصاه فذهب مغاضبا و لحق ببلاد الريف ثم صعد إلى جبل غمارة فلم يزل طريدا بينهم و نازلته عساكر أبيه لنظر ميمون بن وردار الجشمي ثم لنظر يرزيكن بن المولاة تاميمونت و أوقع بهم مرارا آخرها بيرزبكن سنة سبع و تسعين وستمائة و ذكر الربجي مؤرخ دولتهم أن خروجه بجبل غمارة كان سنة أربع و تسعين و ستمائة و قتله لأولاد الأمير أبي يحيى كان سنة خمس و تسعين و ستمائة بعدها أغزاهم من مثوى انتزائه و قتلهم كما ذكرناه و الله أعلم و لم يزل هذا دأبه إلى أن هلك ببني سعيد من جبال غمارة سنة ثمان و تسعين و ستمائة و نقل شلوه إلى فاس فووري بباب الفتوح ملحد قومهم هنالك و أعقب ولدين نقلهما السلطان جدهما فكانا الخليفتين من بعده ملى ما نذكره إن شاء الله تعالى و الله أعلم (7/288)
الخبر عن حصار تلمسان الكبير و ما تخلل ذلك من الأحداث
كان عثمان بن يغمراسن بعد إفراج السلطان سنة تسع و ثمانين و ستمائة و انتقاض الطاغية و ابن الأحمر عليه كما قلناه صرف إلى ولايتهما وجه تدبيره و أوفد على الطاغية ابن بريدى من صنائع دولته سنة اثنتين و تسعين وستمائة و وجهه الطاغية مع الريك ريكسن رسول من كبار قومه ثم عاد الله الحاج مسعود من حاشيته و وصل يده بيده يظن ذلك دافعا عنه و اعتدها السلطان عليه و طوى له على النث حتى إذا فرغ من شأن الأندلس و هلك الطاغية شانجة سنة ثلاث و تسعين و ستمائة لإحدى عشرة من سني ملكه و ارتحل السلطان إلى طنجة لمشارفة أحوال الأندلس سنة أربع و تسعين و ستمائة فأجاز الله السلطان ابن الأحمر و لقيه بطنجة و أحكم معه المؤاخاة و لما استيقن سكون أحوالها نزل لابن الأحمر عن جميع الثغور التي بها الطاغية و أجمع غزو تلمسان و لحق به بين يدي ذلك ثابت بن منديل المغراوي صريخا على ابن يغمراسن و مستجيشا بقومه فتقبله و أجاره
و كان أصاب الناس أعوام اثنتين و تسعين و ستمائة قحط و نالتهم سنة وهنوا لها ثم أن الله رحم خلقه و أدر نعمته و أعاد الناس إلى ما عهدوه من سبوغ نعمهم و خصب عيشهم و وفد عليه سنة أربع و تسعين و ستمائة ثابت بن منديل أمير مغراوة مستصرخا به من عثمان بن يغمراسن فبعث من كبار قومه موسى بن أبي حمو إلى تلمسان شغيعا في ثابت بن منديل فرده عثمان أقبح رد و أساء في إجابته فعاود الرسالة إليهم في شأنه فلم يزدهم إلا إصرارا فاعتزم على غزو بلادهم و استعد لذلك و نهض سنة أربع و تسعين و ستمائة حتى انتهى إلى بلاد تاوريرت و كانت تخما لعمل بني مرين و بني عبد الواد في جانبها عامل السلطان أبي يعقوب و في جانبها الآخر عامل عثمان بن يغمراسن فطرد السلطان عامل ابن يغمراسن و تميز بها و اختط الحصن الذي هنالك لهذا العهد تولاه بنفسه يغادي الفعلة و يراوحهم و أكمل بناء في شهر رمضان من سنته و اتخذه ثغرا لملكه و أنزل بني عسكر لحياطته و سد فروجه و عقد عليهم لأخيه أبي يحيى بن يعقوب و انكفأ راجعا إلى الحضرة ثم خرج من فاس سنة خمس و تسعين و ستمائة غازيا إلى تلمسان و مر بوجدة فهدم أسوارها و تغلب على مسيفة و الزغاوة وانتهى إلى ندرومة و نازلها أربعين يوما و رماها بالمنجنيق و ضيق عليها و امتنعت عليه فأفرج عنها ثاني الفطر ثم أغزى تلمسان سنة ست و تسعين و ستمائة و برز لمدافعته عثمان بن يغمراسن فهزمه و حجزه بتلمسان و نزل بساحتها وقتل خلقا من أهلها و نازلها أياما ثم أقلع عنها و قفل إلى المغرب و قضى منسك الأضحى من سنته بتازى فأعرس هنالك لحافدة أبي ثابت ابن منديل كان أصهر فيها إلى جدها قبل مهلكه سنة ست و تسعين و ستمائة قتيلا ببحيرة الزيتون من ظاهر فاس قتله بعض بني ورتاجن في دم كان لهم في قومه فثأر السلطان به من قاتله و أعرس بحافدته و أوعز ببناء القصر بتازى و قفل إلى فاس فاتح سنة سبع و تسعين و ستمائة ثم ارتحل إلى مكناسة و انكفأ إلى فاس ثم نهض جمادى غازيا تلمسان و مر بوجدة فأوعز ببنائها و تحصين أسوارها و اتخذ بها قصبة و دارا لسكناه و مسجدا و أغزى إلى تلمسان و نزل بساحتها و أحاطت عساكره إحاطة الهالة بها و نصب عليها القوس البعيدة النزع العظيمة الهيكل المسماة بقوس الزيار ازدلف إليه الصناع و المهندسون بعملها و كانت توقر على أحد عشر بغلا ثم لما امتنعت عليه تلمسان أفرج عنها فاتح سنة ثمان و تسعين و ستمائة و مر بوجدة فأنزل بها الكتائب من بني عسكر لنظر أخيه أبي يحيى بن يعقوب كما كانوا بتاوريرت و أوعز إليهم بترديد الغزاة على أعمال ابن يغمراسن و إفساد سابلتها و ضاقت أحوالهم و يئسوا من صريخ صاحبهم فأوفدوا على الأمير أبي يحيى و فدا منهم يسألون الأمان بمن وراءهم من قومهم على أن يمكنوه من قياد بلدهم و يدينوا بطاعة السلطان فبذل لهم من ذلك ما أرضاهم و دخل البلد بعساكره و اتبعهم أهل تاوونت و أوفد مشيختهم جميعا على السلطان آخر جمادى فقدموا عليه لحضرته و أدوا طاعتهم فقبلها و رغبوا إليه في الحركة إلى بلادهم ليريحهم من ملكة عدوه وعدوهم ابن يغمراسن و وصفوا من عسفه و جوره و ضعفه عن الحماية ما استنهض السلطان لذلك على ما يذكر إن شاء الله تعالى والله أ علم (7/289)
الخبر عن الحصار الكبير لتلمسان و ما تخلل ذلك من الأحداث
لما توفرت عزائم السلطان عن النهوض إلى تلمسان و مطاولة حصارها إلى أن يظفر بها و بقومها و استيقن أنه لا مدافع له عن ذلك نهض من فاس شهر رجب من سنة ثمان و تسعين و ستمائة بعد أن استكمل حشده و نادى في قومه و اعترض عساكره و أجزل أعطياتهم و أزاح عليهم و ارتحل في التعبية و احتل بساحة تلمسان ثاني شعبان و أناخ عليها و شرب معسكره بفنائها و حجز ضمان بن يغمراسن و حاميتما من قومه و أدار الأسوار سياجا على عمرانها كله و من ورائها نطاق الحفير البعيد المهوى و رتب المسالح على أبوابها و فرجها و سرح عساكره لمحاصرتها فاقتحموها و آتوا طاعتهم و أوفد مشيختهم وسط شعبان ثم سرح عسكره لمحاصرة وهران و تقرى البسائط و منازلة الأمصار فأخذت مازونة في جمادى الآخرة من سنة سبع و تسعين و ستمائة و تنس في شعبان بعده و تالموت و القصبات و تامزردكت في رمضان منه و فيه كان فتح مدينة وفران و سارت عساكره في الجهات إلى أن بلغت بجاية كما نذكره و أخذ الرعب بقلوب الأمم بالنواحي و تغلب على ضواحي مغراوة و توجين و سارت فيها عساكره و دوختها كتائبه و اقتحمت أمصارها مثل مليانة و مستغانم و شرشال و البطحاء و وانشريش و المرية و تافركينت و أطاعه زيري المنتزي ببرشك و أتى بيعته و ابن علان المنتري بالجزائر و أزعج الناكثين منهم عن طاعته و استألف أهل الطاعة كما نذكره و حذره الموحدون من ورائهم بإفريقية ملوك بجاية و ملوك تونس فمدوا إليه يد المواصلة و لاطفوه بالمتاحفة و المهاداة كما نذكره و خاطب صاحب الديار المصرية ملك الترك و هاداه و راجعه كما نذكره و وفد عليه شرفاء مكة بني أبي نمى كما نذكر و هو في خلال ذلك مستجمع للمطاولة بالحصار و التضييق متجاف عن القتال إلا في بعض الأيام و لم تبلغ أربعة أو خمسة ينزل شديد العقاب و السطوة بمن يميرها و يأخذ بالمرصاد على من يتسلل بالأقوات إليها قد جعل سرداق الأسوار المحيطة ملاكا لأمره في ذلك فلا يخلص إليهم الطيف و لا يكاد يصل إليهم العيث مدة مقامه عليها إلى أن هلك بعد مائة شهر كما نذكره و اختط بمكان فسطاط المعسكر قصرا لسكناه و اتخذ به مسجدا لمصلاه و أدار عليها السور و أمر الناس بالبناء فبنوا الدور الواسعة و المنازل الرحيبة و القصور الأنيقة و اتخذوا البساتين و أجروا المياه ثم أمر بإدارة السور سياجا على ذلك سنة اثنتين و سبعمائة و صيرها مصرا فكانت من أعظم الأمصار و المدن و أحفلها اتساع خطة و كثرة عمران و نفاق أسواق و احتفال بناء و تشييد منعة و أمر باتخاذ الحمامات و المارستان و ابتنى مسجدا جامعا و شيد له مأذنة رفيعة فكان من أحفل مساجد الأمصار و أعظمها و سماها المنصورة و استبحر عمرانها و نفقت أسواقها و رحل إليها التجار بالبضائع من الآفاق فكانت إحدى مدائن المغرب
و خربها آل يغمراسن عند مهلكه و ارتحال كتائبه عنها بعد أن كان بنو عبد الواد أشرفوا على الهلاك و أذنوا بالانفراض كما نذكره فتداركهم من لطف الله ما شأنه أن يتدارك المتورطين في المهالك و الله غالب على أمره (7/291)
الخبر عن افتتاح بلاد مغراوة و ما تخلل ذلك من الأحداث
لما أناخ السلطان على تلمسان و تغلب على ضواحي بني عبد الواد و افتتح أمصارهم سما إلى التغلب على ممالك مغراوة و بني توجين و كان ثابت بن منديل قد وفد على السلطان بمقر ملكه من فاس سنة أربع و تسعين و ستمائة و أصهر إليه في حافدته فعقد له عليها و هلك ثابت بمكان وفادته من دولتهم و أعرس السلطان بحافدته سنة ست و تسعين و ستمائة كما ذكرنا ذلك من قبل فلما تغلب السلطان على مال بني عبد الواد جهز عساكره إلى بلاد مغراوة و عقد عليها لعلي بن محمد من عظماء بني ورتاجن فتغلبوا على الضواحي و شردوا مغراوة إلى رؤوس المعاقل و اعتصم راشد بن محمد بن ثابت بن منديل صهر السطان بمليانة فنازلوه بها ثم استنزلوه على الأمان تسع و تسعبن و ستمائة فأوفدوه على السلطان فلقاه مبرة و تكرمة و خلطه بجملته لمكان صهره معه ثم افتتحوا مدينة تدلس و مازونة و شرشال و أعطى زبري بن حماد المنتزي على برشك من بلادهم يد الطاعة و أوفد على السلطان للبيعة و استولوا على ضواحي شلف كلها ولاذت مغراوة بطاعة السلطان و عقد عليهم و على جميع بلادهم لعمر بن ويفرن بن منديل فآسف ذلك راشد بن محمد لما كان يراه لنفسه من الاختصاص و لما كانت أخته حظية السلطان و كريمته و نافس عمر بن وبفرن في إمارة قومه فلحق بجبال متيجة و أجلب على من هنالك من عمال السلطان و عساكره و انحاش إليه مرضى القلوب من قومه فاعصوصبوا عليه و داخلوا أهل مازونة فانتقضوا على السلطان و ملكوه أمرهم في ربيع من المائة السابعة ثم بيت عمر بن ويفرن بمعسكره من أزمور فقتله و استباح المعسكر و بلغ الخبر إلى السلطان فسرح العساكر من بنى مرين و عقد لعلي بن الحسن بن أبي الطلاق على قومه من بني عسكر و لعلي بن محمد الخيري على قومه من بني ورتاجن و جعل الأمر شورى بينهما وأشرك معهما عليا الحساني من صنائع دولته و أبا بكر بن إبراهيم بن عبد القوي من أعياص بني توجين و عقد على مغراوة محمد بن عمر بن منديل و أشركه معهم و زحفوا إلى راشد و لما أحس بالعساكر لجأ إلى معقل بني بو سعيد فيمن معه من شيعة مغراوة و أنزل بما زونة عليا و حمو ابني عمه يحيى بن ثابت و استوصاهم بضبط البلد و أنه مشرف عليهم من الجبل و جاءت عساكر السلطان إلى بلاد منراوة فتغلبوا على البسائط و أناخوا بمازونة و ضربوا معسكرهم بساحتها و أخذوا بمخنقها و اهتبل علي و قومه غرة في معسكر بني مرين فبيتهم سنة إحدى و سبعمائة وانفض المعسكر و تقبض على علي بن محمد الخيري ثم امتنعوا عليه و عاد المعسكر إلى مكانهم من حصارهم و جهدهم حالهم فنزل إليهم حمو بن يحيى على حكم السلطان و انفذوه إليه فتقبض عليه ثم نزل علي ثانيه من غير عهد فأشخصوه إلى السلطان فلقاه مبزة و تكريما تأنيسا الراشد المنتزي بمعقله و اقتحمت على أهلها عنوة سنة ثلاث و سبعمائة فمات منهم عالم و احتملت رؤوسهم إلى سدة السلطان رؤسهم إلى سدة السلطان فرميت في حفائر البلد المحصور إرهابا لهم و تخذيلا و لما عقد السلطان لأخيه أبي يحيى على بلاد الشرق و سرحه لتدويخ التخوم نازل راشد بمعقله من بني بو سعيد فبيت راشد معسكرهم إحدى لياليه فانفضوا و قتل طائفة من بنى مرين و وجد السلطان لها فأمر بقتل علي و حمو ابني عمه يحيى و من كان معتقلا معهما من قومهما و رفعوا كل الجذوع و أثبتوهم بالسهام و نزل راشد بعدها عن معقله و لحق بمتيجة و انحاش إليه منيف بن ثابت و أوشاب من مغراوة و تحيز الآخرون إلى أميرهم محمد بن عمر بن منديل الذي عقد له السلطان عليهم ثم تأشبت على راشد و منيف خوارج الثعالبة و مليكش و صمد إليهم الأمير أبو يحيى في عساكره ثانية و نازلهم بمعاقلهم و رغبوا في السلم فبذله السلطان لهم و أجاز منيف بن ثابت إلى الأندلس فيمن إليه من بنيه و عشيره فاستقروا بها آخر الأيام و لحق راشد ببلاد الموحدين و وفد محمد بن منديل سنة خمس و سبعمائة على السلطان فأوسعه حبا و تكريما و تمهدت بلاد مغراوة و استبد بملكها السلطان و صرف إليها العمال و لم يزل كذلك إلى أن ملك سنة ست و سبعمائة و الله تعالى أعلم (7/293)
الخبر عن افتتاح بلاد توجين و ما تخلل ذلك
لما نازل يوسف بن يعقوب تلمسان و أحاط بها و تغلب على بني عبد الواد و سما إلى تملك بلاد توجين و كان عثمان بن يغمراسن قد غلبهم على مواطنهم و ملك جبل وانشريش و تصرف في بني عبد القوي بالولاية و العزل و أخذ الأتاوة سنة إحدى و سبعمائة و أوعز إليه السلطان ببناء البطحاء التي هدمها محمد بن عبد القوي فبناها و توغل في قاصية المشرق ثم انكفأ راجعا إلى حضرة أخيه و عطف على بلاد بني توجين سنة اثنتين و سبعمائة و فر بنو عبد القوي إلى ضواحيهم بالقفر و دخل إلى جبل وانشريش و هدم حصونهم به و رجع إلى الحضرة ثم بادر أهل تافركينت سنة ثلاث و سبعمائة بإيتاء طاعتهم و انتقضوا طاعتهم بعدها ثم بعث أهل المرية طاعتهم السلطان فتقبلها و أوعز ببناء قصبتها و راجع بنو عبد القوي بعد ذلك بصائرهم فدخلوا في طاعة السلطان و وفدوا عليه بمكانه من المنصورة مدينته المحيطة على تلمسان سنة ثلاث و سبعمائة فتقبل طاعتهم و رعى سابقتهم و أعادهم إلى بلادهم و أقطعهم و ولى عليهم علي بن الناصر بن عبد القوي و أوعز ببناء قصبة المرية سنة أربع و كملت سنة خمس و سبعمائة و هلك علي بن الناصر خلال ذلك فعقد عليهم لمحمد بن عطية الأصم كما ذكرناه فاستمر على الطاعة ثم انتقض سنة ست و سبعمائة و حمل قومه على الخلاف و انتبذوا عن الوطن إلى أن هلك يوسف بن يعقوب كما نذكره إن شاء الله تعالى و الله تعالى أعلم (7/295)
الخبر عن مراسلة الموحدين ملوك إفريقية بتونس و بجاية لزناتة و أحوالهم معهم
كان لبني أبي حفص ملوك أفريقية مع زناتة هؤلاء أهل المغرب من بنى مرين و بني عبد الواد سوابق مذكورة فكمان لهم على يغمراسن و بنيه طاعة معروفة يؤذون بيعتها و يخطبون على منابرهم بدعوتها مذ تغلب الأمير أبي زكريا بن عبد الواحد على تلمسان و عقده عليا ليغمراسن و استمر حالهم على ذلك و كانت لهم أيضا مع بنى مرين ولاية و سابقة بما كان بنو مرين مذ أول أمرهم يخاطبون الأمير أبا زكريا و يبعثون له بيعة البلاد التي يتغلبون عليها مثل مكناسة و القصر و مراكش أخرا ثم صارت مخالصته من لدن عهد المستنصر و يعقوب بن عبد الحق و كانوا يتحفونهم بالمال و الهدايا في سبيل المدد على صاحب مراكش و قد ذكرنا السفارة التي وقعت بينهما سنة خمس و ستين و ستمائة و أن يعقوب أوفد عامر بن إدريس و عبد الله بن كندوز و محمد الكناني و أوفد عليه المستنصر سنة سبع و ستين و ستمائة بعدها كبير الموحدين يحيى بن صالح الهنتاتي في وفد من مشيخة الموحدين و معهم هدية سنية ثم أوفد الواثق ابنه سنة تسع و سبعين قاضي بجاية المذكور أبا العباس أحمد الغماري و أسنى الهدية معه و لم يزل الشأن بينهم هذا إلى أن افترق أمر آل أبي حفص و طار الأمير أبو زكريا بابن الأمير أبي اسحق بن يحيى بن عبد الواحد من عشه بتلمسان في وكر عثمان بن يغمراسن وأسف إلى بجاية فاستولى عليها سنة ثلاث و ثمانين و ستمائة و استضاف إليها قسنطينة و بونة و صيرهما عملا لملكه و نصب لهما كرسيا لأمره و أسف ضمان بن يغمراسن لفراره من بلده لما كان عليه من التمسك بدعوة عمه أبي حفص صاحب تونس فشق ذلك عليه و نكره و استمرت الحال على ذلك و لما نزل السلطان يوسف بن يعقوب بمخنق تلمسان و أرسى قواعد ملكه بساحتها و سرح عساكره لالتهام الأمصار و الجهات و توجس الموحدون الخيفة منه على أوطانهم و كان الأمير أبو زكريا في جهات تدلس محاميا عن حوزته و عمله و وصله هنالك راشد بن محمد نازعا عن السلطان أبي يعقوب ثم طلعت العساكر على تلك الجهات في اتباعه فزحف إليه عسكر الموحدين سنة تسع و تسعين و ستمائة بناحية جبل الزاب ففضوا جمعه و أوقعوا به و استلحموا جنوده و استمر القتل فيهم و بقيت عظامهم ماثلة بمصارعهم سنين
و رجع الأمير أبو زكريا إلى بجاية فانحصر بها و هلك على تفيئة ذلك على رأس المائة السابعة و قارن ذلك مغاضبة بينه و بين أمير الزواودة لعهده عثمان بن سباع بن يحيى ابن دريد بن مسعود البلط فوفد على السلطان أخريات إحدى و سبعمائة و رغبه في ملك بجاية و استمده للسير إليها فأوعز إلى أخيه الأمير أبي يحيى بمكانه من منازلة مغراوة و مليكش و الثعالبة بأن ينهض إلى أعمال الموحدين و سار عثمان بن سباع و قومه بين يدي العساكر يتقصون الطريق إلى أن تجاوز الأمير أبو يحيى بعساكره بجاية و احتل بتاكرارت من أوطان سدوبكش من أعمال بجاية و أطل على بلاد سدويكش وانكفأ راجعا فأوطأ عساكره ساحة بجاية و بها الأمير خالد بن يحيى و ناشبهم القتال بعض أيام جلا فيها أولياء السلطان أبي البقاء عن أنفسهم و سلطانهم و أمر بروض السلطان المسمى بالبديع فخربه و كان من آنق الرياض و أحفلها و قفل إلى مكانه من تدويخ البلاد و أعرض عن أعمال الموحدين و كان صاحب تونس لذلك العهد محمد بن المستنصر الملقب بأبي عصيدة بن يحيى الواثق فأوفد على السلطان شيخ الموحدين بدولته محمد بن أكمازير عاقدا أسباب الولاية و محكما مذاهب الوصلة و مقررا سوابق السلف فوفد في مشيخة من قومه لشعبان سنة ثلاث و سبعمائة و ناغاه الأمير أبو البقاء خالد صاحب بجاية و أوفد مشيخة من أهل دولته كذلك و بر السلطان و فادتهم و أحسن منقلبهم
ثم عاد ابن أكمازير سنة أربع و سبعمائة و معه شيخ الموحدين و صاحب السلطان أبو عبد الله بن يزريكن في وفد من عظماء الموحدين و أوفد صاحب بجابة حاجبه أبا محمد الرخامي و شيخ الموحدين بدولته عياد بن سعيد بن عثيمن و وفدوا جميعا على السلطان ثالث جمادى فأحسن السلطان في تكرمتهم ما شاء و وصلهم إلى نفسه بمساكن داره واراهم أريكة ملكه و أطافهم قصوره و رياضه بعد أن فرشت و نمقت فملأ قلوبهم جلالا و عظمة ثم بعثهم إلى المغرب ليطوفوا على قصور الملك بفاس و مراكش و يشاهدوا آثار سلفهم و أوعز إلى عمال المغرب بالاستبلاغ في تكرمتهم و اتحافهم فانتهوا من ذلك إلى الغاية و انقلبوا إلى حضرته آخر جمادى و انصرفوا إلى ملكهم بالحديث عن شأن رسالتهم و كرامة وفدهم
ثم أعاد ملوكهم مراسلة السلطان سنة خمس و سبعمائة بعدها فوفد أبو عبد الله بن أكمازير من تونس و عياد بن سعيد من بجاية و أوفد السلطان على صاحب تونس مع رسوله صاحب الفتبا بحضرته الفقية أبا الحسن التونسي و علي بن يحيى البركشي رسولين يسألان المدد بأسطوله فقضوا رسالتهم و انقلبوا سنة خمس و سبعمائة و وصل بخبرها أبو عبد الله المزدوري من مشيخة الموحدين و اقترن بذلك وصول حسون بن محمد بن حسون المكناسي من صنائع السلطان كما أوفده مع ابن عثيمن على مراسلة الأمير أبي البقاء خالد صاحب بجاية في طلب الأسطول أيضا فرجعوه بالمعاذبر و أوفدوا معه عبد الله بن عبد الحق بن سليمان فتلقاهم السلطان بالمبرة و أوعز إلى عامله بوهران أن يستبلغ في تكريم عمرة الأسطول فجرى في ذلك على مذهبه و انقلبوا جميعا أحسن منقلب و غنى السلطان عن أسطولهم لفوات وقت الحاجة إليه من منازلة بلاد السواحل إذ كان قد تملكها أيام مما طلتهم ببيعته و اتصل الخبر بصاحب تلمسان الأمير أبي زيان بن عثمان المبايع أيام الحصار عند مهلك أبيه عثمان بن يغمراسن آخر سنة ثلاث و سبعمائة فبلغه صنيع الموحدين في موالاة عدوه السلطان يوسف بن يعقوب و مظاهرته بأساطيلهم عليه فأسفهم ذلك و أخرسوا منابرهم عما كانت تنطق به من الدعاء من عهد يغمراسن فلم يراجعوا دعوتهم من بعد و هلك السلطان على نفيئة ذلك و البقاء لله وحده (7/296)
الخبر عن مراسلة ملوك المشرق الأقصى و مهاداتهم و وقادة أمراء الترك على السلطان و ما تخلل ذلك
لما استولى السلطان على المغرب الأوسط بممالكه و أعماله و هنأته ملوك الأقطار و أعراب الضواحي و القفار و صلحت السابلة و مشت الرفاق إلى الآفاق و استجد أهل المغرب عزما في قضاء فرضهم و رغبوا من السلطان إذنه لركب الحاج في السفر إلى مكة فقد كان عهدهم بمثلها الفساد السابلة و استهجان الدول فبينما السلطان في ذلك آمل اذ داخله لحرم الله و روضة نبيه صلى الله عليه و سلم شوق فأمر بانتساخ مصحف رائق الصنعة كتبه و نمقه أحمد بن الحسن الكاتب المحسن و استوسع في جرمه و عمل غشاءه من بديع الصنعة و استكثر فيه من معالق الذهب المنظم بخرزات الدر و الياقوت و جعلت منها حصاة وسط المعلق تفوق الحصيات مقدارا و شكلا و حسنا و استكثر من الأصونة عليه و وقفه على الحرم الشريف و بعث به مع الحاج سنة ثلاث و سبعمائة و عني بشأن هذا الركب فسرح معهم حامية من زناتة تناهز خمسمائة من الأبطال و قلد القضاء عليهم محمد بن رغبوش من أعلام أهل المغرب و خاطب صاحب الديار المصرية و استوصاه بحاج المغرب من أهل مملكته و أتحفه بهدية من طرف بلاده استكثر فيها من الخيل العراب و المطايا الفارهة يقال إن المطايا كانت منها أربعمائة حدثني بذلك من لقيته إلى ما يناسب ذلك من طرف المغرب و ما عونه و نهج بها السبيل للحاج من أهل المغرب فأجمعوا الحج سنة أربع و سبعمائة بعدها و عقد السلطان على دلالتهم لأبي زيد الغفاري و فصلوا من تلمسان لشهر ربيع الأول
و في شهر ربيع الآخر بعده كان مقدم الحاج الأولين حملة المصحف و وفد معهم على السلطان الشريف لبيدة بن أبي نمي نازعا عن سلطان الترك لما كان تقبض على أخويه حميضة و رميثة اثر مهلك أبيهم أبي نمي صاحب مكة سنة إحدى و سبعمائة فاستبلغ السلطان في تكريمه و سرحه إلى المغرب ليجول في أقطاره و يطوف على معالم الملك و قصوره و أوعز إلى العمال بتكريمه و إتحافه على شاكلته و رجع إلى حضرة السلطان سنة خمس و سبعمائة و فصل منها إلى المشرق و صحبه من أعلام المغرب أبو عبد الله موري حاجا و لشعبان من سنة خمس و سبعمائة وصل أبو زيد الغفاري دليل ركب الحاج الآخرين و معه بيعة الشرفاء أهل مكة للسلطان لما أسفهم صاحب مصر بالقبض على إخوانهم و كان شأنهم ذلك متى غاظهم السلطان فقد سبق في أخبار المستنصر بن أبي حفص مثلها و أهدوا إلى السلطان ثوبا من كسوة البيت شغف به و اتخذ منه ثوبا للباسه في الجمع و الأعياد يستبطنه بين ثيابه تبركا به و لما وصلت هدية السلطان إلى صاحب مصر لعهده الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي حسن موقعها لديه و ذهب إلى المكافأة فجمع من طرف بلاده من الثياب و الحيوان ما يستغرب جنسه و شكله من نوع الفيل و الزرافة و أوفد بها من عظماء دولته الأمير اليليلي و فصل من القاهرة أخريات سنة خمس و سبعمائة و وصلت إلى تونس في ربيع من سنة ست و سبعمائة بعدها ثم كان وصولها إلى سدة السلطان بالمنصورة من البلد الجديد في جمادى الآخرة و اهتز السلطان لقدومها و أركب الناس إلى لقائها و احتفل للقاء هذا الأمير اليليلي و من معه من أمراء الترك و بر و فادتهم و استبلغ في تكريمهم نزلا و قرى و بعثهم إلى المغرب على العادة في مبرة أمثالهم و هلك السلطان خلال ذلك و تقبل أبو ثابت سنة من بعده في تكريمهم فأحسن منقلبهم و ملاء حقائبهم صلة و فصلوا من المغرب لذي الحجة سنة سبع و سبعمائة و لما انهوا إلى بلاد بني حسن في ربيع من سنة ثمان و سبعمائة اعترضهم الأعراب بالقفر فانتهبوهم و خلصوا إلى مصر بجريعة الزمن ثم يعاودوا بعدها إلى المغرب سفرا و لا لفتوا إليه وجها و طالما أوفد عليهم ملوك المغرب بعدها من رجال دولتهم من يؤبه له و يهادونهم و يكافئون و لا يزيدون في ذلك كله على الخطاب شيئا و كان الناس لعهدهم ذلك يتهمون أن الذين نهبوهم أعراب حصين بدسيسة من صاحب تلمسان أبي حمو لعهدهم منافسة لصاحب المغرب لما بينهم من العداوات و الأحن القديمة
أخبرني شيخنا محمد بن إبراهيم الأبلي قال : ضرت بين يدي السلطان و قد وصله بعض الحاج من أهل بلده مستصحبا كتاب الملك الناصر بالعتاب عن شأن هؤلاء الأمراء و ما أصابهم في طريقهم من بلاده و أهدى له مع ذلك كوبين من دهن البلسان المختص ببلدهم و خمسة مماليك من الترك رماة بخمسة أقواس من قسي الغز المؤنقة الصنعة من العرى و العقب فاستقل السلطان هديته تلك بالنسبة إلى ما أهدوا إلى ملك المغرب ثم استدعى القاضي محمد بن هدية و كان يكتب عنه فقال له : اكتب الآن إلى الملك الناصر كما أقول لك و لا تحرف كلمة عن موضعها إلا ما تقتضيه صناعة الإعراب و قل له : أما عتابك عن شأن الرسل و ما أصابهم في طريقهم فقد حضروا عندي و أبنت لهم الاستعجال حذرا مما أصابهم و أريتهم مخاوف بلادنا و ما فيها من غوائل الأعراب فكان جوابهم أنا جئنا من عند ملك المغرب فكيف نخاف مغترين بشأنهم يحسبون أن أمره نافذ في أعراب قلاتنا و أما الهدية فترد عليك أما دهن البلسان فنحن قوم بادية لا نعرف إلا الزيت و حسبنا به دهنا و إما المماليك الرماة فقد افتتحنا بهم إشبيلية و صرفناهم إليك لتستفتح بهم بغداد و السلام قال لي شيخنا و كان الناس إذ ذاك لا يشكون أن انتهابهم كان بإذن منه و كان هذا الكتاب دليلا على ما في نفسه و ربك يعلم ما تكن صدورهم و ما يعلنون (7/298)
الخبر عن انتقاض ابن الأحمر و استيلاء الرئيس سعيد على سبتة و خروج عثمان بن العلاء في غمارة
لما أحكم السلطان عقد المهادنة و الولاية مع السلطان ابن الأحمر المعروف بالفقيه عند إجازته إليه بطنجة سنة اثنتين و تسعين و ستمائة كما ذكرناه و فرغ لعدوه تمسك ابن الأحمر بولايته تلك إلى أن هلك سنة إحدى و سبعمائة في شهر شعبان منه و قام بالأمر الأندلسي من بعده ابنه محمد المعروف بالمخلوع و استبد عليه كاتبه أبو عبد الله بن الحكيم من مشايخ رندة كان اصطفاه لكتابته أيام أبيه فاضطلع بأموره و غلب عليه و كان هذا السلطان المخلوع ضرير البصر و يقال إنه ابن الحكيم فغلب عليه و استبد إلى أن قتلهما أخوه أبو الجيوش نصر سنة ثمان و سبعمائة كما نذكره و كان من أول آرائه عند استيلائه على الأمر من بعد أبيه المبادرة إلى إحكام ولاية السلطان و اتصال يده بيده فأوفد إليه لحين ولايته وزير أبيه السلطان أبي عزيز الداني و وزيره الكاتب أبا عبد الله بن الحكيم فوصلا إلى السلطان بمعسكره من حصار تلمسان و تلقاهما بالقبول و المبرة و جددت له أحكام الود و الولاية و انقلبا إلى مرسلهما خير منقلب و تقدم السلطان إليهم في المدد برجل الأندلس و ناشبتهم المعودين منازلة الحصون و المناغرة بالرباط فتبادروا إلى إسعافه و بعثوا حصتهم لحين مرجعهم إلى سلطانهم فوصلت سنة اثنتين و سبعمائة و كانت لهم نكاية في العدو و أثر البلد المخروب ثم بدا لمحمد بن الأحمر المخلوع في ولاية السلطان لمنافسات جرت إلى ذلك و بعث إلى أدفونش هراندة بن شانجه و أحكم له عقد السلم ولاطفة في الولاية فانعقد ذلك بينهما سنة ثلاث و سبعمائة و اتصل خبره بالسلطان فسخطه و رجع إليهم حصتهم آخر سنة ثلاث و سبعمائة و اتصل خبره بالسلطان لسنة من مقدمهم بعد أن أبلوا و أثخنوا و طوى لهم على النث و اعتمل ابن الأحمر و شيعته في الاستعداد لمدافعة السلطان و الارصاد لسطوته بهم و أوعز إلى صاحب مالقة ابن عمه الرئيس أبي سعيد فرج بن إسمعيل بن محمد بن نصر وليه من دون القرابة بما كان له من الصهر على أخته و المضطلع له بثغر الغربية فأوعز إليه بمداخلة أهل سبتة في خلع طاعة السلطان و القبض على ابن العزفي و الرجوع إلى ولاية ابن الأحمر و كان أهل سبتة منذ هلك إبراهيم الفقية أبو القاسم العزفي سنة سبع و سبعين و ستمائة قام بأمرهم ولده أبو حاتم و كان أبو طالب رديفا له في الأمر إلا أنه استبد عليه بصاغيته إلى الرياسة و ايثار أبي حاتم للخمول مع إيحابه حق أخيه الأكبر و أجابته الداعي من دون دفع إليه فاستقام أمرهما مدة و كان من سياستهما من أول أمرهما الأخذ بدعوة السلطان فيما لنظرهما و العمل بطاعته و التجافي عن السكني بقصور الملك و التحرج من أبهة السلطان لمكانهم فأنزلوا بالقصبة عبد الله بن مخلص قائدا من البيوتات اصطنعوه و جعلوا إليه أحكام البلد و ضبط الحامية له فاضطلع بذلك سنين ثم اسفه يحيى بن أبي طالب ببعض النزعات الرياسية و حجر عليه الأحكام في ذويه ثم أعزى به أباه و طالبه بحساب الخرج لعطاء الحامية و غفلوا عما وراءها من التظنن فيه و الريبة به ثقة بمكانه و استنامة إليه و هم مع ذلك على أولهم في موالاة السلطان و الأخذ بدعوته و الوفود عليه في أوقاته و لما فسدت ولاية ابن الأحمر للسلطان و عقد على محاولة سبتة وجد السبيل إلى ذلك بما طوى صاحب الأحكام بالقصبة على النث فداخله الرئيس أبو سعيد صاحب الثغر بمالقة جاره بسبتة و وعده الغدر ببني العزفي و أن يصحبهم في أساطيله فشرع الرئيس أبو سعيد في إنشاء الأساطيل البحرية و استنفار الناس للمثاغرة و أن العدو لمالقة بالمرصاد و شحنها بالفرسان و الرجل و الناشبة و الأقوات و أخفى وجه قصده عن الناس حتى إذا قلعت أساطيله بيت سبتة لسبع و عشرين من سؤال سنة خمس و سبعمائة و أرسى بساحتها الموعد صاحب القصبة فأدخله إلى حصنه فملكه و نشر راياته بأسوارها و سرب جيوشه إلى البلد فتسايلوا و ركب إلى دور بني العزفي فتقبض عليهم و على والدهم و حاشيتهم و طير الخبر إلى السلطان بغرناطة فوصل الوزير أبو عبد الله بن الحكيم و نادى في الناس بالأمان و بسط المعدلة و أركب ابن العزفى السفن إلى مالقة ثم أجازوا غرناطة و قدموا على ابن الأحمر فأجل قدومهم وأركب الناس إلى لقائهم و جلس لهم جلوسا فخما حتى أدوا بيعتهم و قضوا وفادتهم و أنزلوا بالقصور و أجريت عليهم سنية الأرزاق و استقروا بالأندلس إلى أن صاروا بعد إلى المغرب كما نذكر و استبد الرئيس أبو سعيد بأمر سبته و ثقف أطرافها و سد ثغورها و أقام دعوة ابن عمه صاحب الأندلس بأنحائها و كان عثمان بن أبي العلاء بن عبد الله بن عبد الحق من أعياص الملك المريني أجاز معه البحر إليها أميرا على الغزاة بمالقة و قائدا لعصبتهم تحت لوائه فموه بنصبه للملك بالمغرب و خاطب قبائل غمارة في ذلك فوقفوا بين الإقدام و الإحجام واتصل ذلك كله بالسلطان و هو بمعسكره من حصار تلمسان فاستشاط لها غيظا و حمي أنفه نفرة و استنفره الصريخ فبعث ابنه الأمير أبا سالم لسد تلك الفرجة و جمع إليه العساكر و تقدم إليه باحتشاد قبائل الريف و بلاد تازى فأغذ السير إليها و أحاطت عساكره بها فحاصرها مدة ثم بيته عثمان بن أبي العلاء فاختل معسكره و أفرج عنها منهزما فسخطه السلطان و ذوى عنه وجه رضاه و سار عثمان بن أبي العلاء في نواحي سبتة و بلاد غمارة و تغلب على تكيساس و انتهى إلى قصر ابن عبد الكريم في آخر سنة ست و سبعمائة لسنة من استيلائهم على سبتة مقيما رسم السلطان مناديا بالدعاء لنفسه فاعتزم السلطان على النهوض إليه من أمر تلمسان لما كانت على شفا هلكة و محابينة انفضاض لولا عوائق الأقدار بمهلكه كما نذكره إن شاه الله تعالى (7/301)
الخبر عن انتقاض بني كمي من بنى عبد الواد و خروجهم بأرض السوس
كان هؤلاء الرهط من بنى عبد الواد من بطون بني على من شعب أبي القاسم و كانوا يرجعون في رياستهم إلى كندوز بن كمي و لما استقل زيان برياسة أولاد علي بن ثابت بن محمد من أولاد طاع الله و نفس عليه كنذوز هذا ما آتاه الله من الرياسة و جاذبه حبلها و احتقر زيان شأنه فلم يحفل به ثم تأشب عليه أخلاط من قومه و واضعه الحرب و هلك زيان بيد كندوز و قام بأمر أولاد علي جابر بن يوسف بن محمد ثم تناقلت الرياسة فيهم إلى أن عادت لولد ثابت بن محمد و استقل بها أبو عزة زكرار بن زيان و لم تطل أيامه و التحم بين أولاد كمي و بين أولاد طاع الله و تناسوا الإحن و صارت رياسة طاع الله لولد يغمراسن بن زيان و استتبعوا قبائل عبد الواد كافة و اعتمل يغمراسن في الثأر بأبيه زيان من قاتله كندوز فاغتاله ببيته دعاه لمأدبة جميع لها بني أبيه حتى إذا اطمأن المجلس تعاوروه بأسيافهم و احتزوا رأسه و بعثوا به إلى أمهم فنصبت عليه القدر ثالث أثافيها تشفيا منه و حفيظة و طالب يغمراسن بقية بني كندوز ففروا أمام مطالبته و أبعدوا المذهب و لحقوا بالأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص فأقاموا بسدته أحوالا و كانوا يرجعون في رياستهم لعبد الله بن كندوز ثم تذكروا عهد البداوة و حنرا إلى عشير زناتة فراجعوا المغرب و لحقوا ببني مرين أقتالهم و نزل عبد الله بن كندوز على يعقوب بن عبد الحق خير نزل فلقاه من البر و الترحيب بماملاء صدره و أكد اغتباطه و أقطعه بناحية مراكش الكفاية له و لقومه و أنزلهم هنالك و جعل انتجاع إبله و راحلته لحسان بن أبي سعيد الصبيحي و أخيه موسى من ذويهم و حاشيتهم و ألطف منزلة عبد الله و رفع مكانه بمجلسه و اكتفى به في كثير من أمرره و أوفده على المستنصر صاحب إفريقية سنة خمس و ستين و ستمائة مع عامر ابن أخيه إدريس كما قدمناه و استقر بنو كندوز هؤلاء بالمغرب الأقصى و استمرت الأيام على ذلك و صاروا من جملة قبائل بني مرين و في عدادهم و هلك عبد الله بن كندوز و صارت رياستهم لعمر ابنه من بعده
و لما لفت السلطان يوسف بن يعقوب عزائمه إلى بني عبد الواد و نازل تلمسان و طاول حصارها و استطال بنو مرين و ذووهم على بني عبد الواد و أحسوا بهم أخذتهم العزة بالإثم و أدركتهم النعرة فأجمع بنو كندوز هؤلاء الخلاف و الخروج على السلطان و لحقوا بحاجة سنة ثلاث و سبعمائة و احتفل الأمير بمراكش يعيش بن يعقوب لغزوهم سنة أربع و سبعمائة فناجزوه الحرب بتادرت و استمروا على خلافهم ثم قاتلهم يعيش و عساكره ثانية بتامطريت سنة أربع و سبعمائة فهزمهم الهزيمة الكبرى التي قصت جناحهم و أوهت من رياستهم و قتل جماعة من بني عبد الواد بأزعار وتاكما و أثخن يعيش بن يعقوب في بلاد السوس و هدم تارودانت قاعدة أرضها و أم قراها كان بها عبد الرحمن بن الحسن بن يدر من بقية الأمراء على السوس من قبل بني عبد المؤمن و قد مر ذكرهم و كانت بينه و بين عرب المعقل من الشبانات و بني حسان منذ انقرضت دولة الموحدين حرب سجال هلك في بعضها عمه علي بن يدر سنة ثمان و ستين و ستمائة و صارت إمارته بعد حين إلى عبد الرحمن هذا و لم يزالوا في حربه إلى أن تملك السوس يعيش بن يعقوب و هدم تارودانت قاعدة أرضها ثم راجع عبد الرحمن أمره و بنى بلده تارودانت هذه سنة ست بعدها و يزعم بنو يدر هؤلاء أنهم مستقرون بذلك القصر من لدن عهد الطوالع من العرب و أنهم لم يزالوا أمراء به تعقد لهم ولايته كابرا عن كابر و لقد أدركت على عهد السلطان أبي عنان و أخيه أبي سالم من بعده شيخا كبيرا من ولد عبد الرحمن فحدثني بمثل ذلك و أنهم من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه و الله أعلم و لم يزل بنو كندوز مشردين بصحراء السوس إلى أن هلك السلطان و راجعوا طاعة الملوك من بني مرين من بعده و عفوا لهم عما سلف من هذه الجريمة و أعادوهم إلى مكانهم من الولاية فأمحضوا النصيحة و المخالصة إلى هذا العهد كما سنذكره إن شاء الله تعالى (7/303)
الخبر عن مهلك المشيخة من المصامدة بتلبيس أبي الملياني
قد ذكرنا شأن أبي علي الملياني و أوليته في أخبار مغراوة الثانية و ما كان من ثورته بمليانة و انتزئه عليها ثم إزعاج العسكر إياه منها و لحاقه بيعقوب بن عبد الحق سلطان بنى مرين و ما أحله من مراتب التكرمة و الميرة و أقطعه بلد أغمات طعمة فاستقر بها و ما كان منه في العبث بأشلاء الموحدين و نبش أجداثهم و موجدة السلطان و الناس عليه لذلك و أرصد له المصامدة الغوائل لما كان مد في ذلك و لما هلك يعقوب بن عبد الحق استعمله يوسف بن يعقوب على جبايه المصامدة فلم بضطلع بها و سعى به مشيختهم عند السلطان أنه احتجز المال لنفسه و حاسبوه فصدقوه السعاية فاعتقله السلطان و أقصاه و هلك سنة ست و ثمانين و ستمائة و اصطنع السلطان أحمد ابن أخيه و استعمله في كتابته و أقام على ذلك ببابه و في جملته و كان السلطان سخط على مشيخة المصامدة علي بن محمد كبير هنتاتة و عبد الكريم بن عيسى كبير كدميوة و أوعز إلى ابنه الأمير على بمراكش باعتقالهما فاعتقله فيمن لهما من الولد و الجاشية و أحسن بذلك أحمد بن الملياني فاستعجل الثأر و كانت العلامة السلطانية على الكتاب في الدولة لم تختص بكاتب واحد بل كل منهم بضع العلامة بخطه على كتابه إذا أكمله لما كانوا كلهم ثقاتا أمناء و كانوا عند السلطان كأسنان المشط فكتب أحمد بن الملياني إلى ابن السلطان الأمير بمراكش سنة سبع و تسعين و ستمائة كتابا عن أمر أبيه يأمره فيه بقتل مشيخة المصامدة و لا يمهلهم طرفة عين و وضع عليها العلامة التي تنفذ بها الأوامر و ختم الكتاب و بعث به مع البريد و نجا بنفسه إلى البلد الجديد و عجب الناس بشأنه و لما وصل الكتاب إلى ابن السلطان بمراكش أخرج أولئك الرهط المعتقلين من المصامدة إلى مصارعهم و قتل على بن محمد و ولده و عبد الكريم بن عيسى و ولد عيسى و علي و منصور و ابن أخيه عبد العزيز و طير الأمير وزيره إلى أبيه بالخبر فقتله لحينه حنقا عليه و أنفذ البريد باعتقال ابنه و جرد على ابن الملياني ففقد و لحق بتلمسان و نزل على آل زيان ثم لحق من بعدها بالأندلس عند إفراج السلطان عنها في تلك السنة كما ذكرناه و بها هلك و اقتصر السلطان من يومئذ في علامته كل من يختار من صنائعه يثق بأمانته و جعلها لذلك العهد لعبد الله بن أبي مدين خالصته المضطلع بأمور مملكته فاختصت من بعده لهذا العهد و الله تعالى أعلم (7/305)
الخبر عن رياسة اليهود بني رقاصة و مقتلهم
كان السلطان يعقوب في صباه مؤثرا للذاته و مستترا بها عن أبيه يعقوب بن عبد الحق لمكانه من الدين و الوقار و كان يشرب الخمر و يعاقر بها الندمان و كان خليفة بن رقاصة من اليهود المعاهدين بفاس قهرمانا لداره على عادة الأمراء في مثله من المعاهدين فكان يزدلف إليه بوجوه الخدم و مذاهبها فاستعمله هذا الأمير في اعتصارها و القيام على شؤنها فكانت له بذلك خلوة منه أوجبت له الحظ عنده حتى إذا هلك يعقوب بن عبد الحق و استقل ابنه يوسف بأعباء ملكه و اتصلت خلواته في معاقرة الندمان و انفرد ابن وقاصة بخلوته ذلك مع ما كان من القهرمة عظمت رياسته و علا كعبه في الدولة و تلقى الخاصة الأوامر منه فصار له الوجه بينهم و عظم قدره بعظم الدولة
أخبرني شيخى الأبلي قال : و كان لخليفة هذا أخ يسمى إبراهيم و ابن عم يسمى خليفة لقبوه بالصغيرة لمكانه هو من هذا الاسم و كان له صهر يعرفون ببني السبتي كبيرهم موسى و كان رديفه في قهرمته فلم يفق السلطان من نشوة صباه و ملهاه حتى وجدهم على حال استتبعوا فيها العلية من القبيل و الوزراء و الشرفاء و العلماء و أوجده السبيل عليهم فسطا بهم سطوة واحدة و اعتقلوا في شعبان من سنة إحدى و سبعمائة بمعسكره من حصار تلمسان و قتل خليفة الكبير و أخوه إبراهيم و موسى بن السبتي لم و أخوته بعد أن امتحنوا و مثل بهم و أتت النكبة على حاشيتهم و ذويهم و أقاربهم فلم تبق منهم باقية و استبقى منهم خليفة الأصغر احتقارا لشأنه حتى كان من قتله بعدما نذكر و عبث بسائرهم و طهرت الدولة من رجسهم و أزيل منها معرة رياستهم و الأمور بيد الله سبحانه (7/307)
الخبر عن مهلك السلطان أبي يعقوب
كان في جملة السلطان و حاشيته مولى من العبيد الخصيان من موالي ابن الملياني يسمى سعادة صار إلى السلطان من لدن استعماله إياه بمراكش و كان على ثبج من الجهل و الغباوة بمكان و كان السلطان يخلط الخصيان بأهله و يكشف لهم الحجاب عن ذوات محارمه و لما كانت واقعة العز مولاه و اتهم بمداخلة بعض الحرم و قتل بالظنة و استراب السلطان بكثير من حاشيته الملابسين لداره اعتقل جملة من الخصيان كان فيهم عنبر الكبير عريفهم و حجب سائرهم فارتاعوا لذلك و سولت لهذا الخصي الخبيث نفسه الشيطانية الفتك بالسلطان فعمد إليهم و هو في بعض الحجر من قصره و آذنه فأذن له فألفاه مستلقيا على فراشه مختضبا بالحناء فوثب عليه و طعنه طعنات قطع بها أمعاءه و خرج هاربا و انطلق بعض الأولياء في أثره فأدرك من العشي بناحية تاسالة فتقبض عليه و سيق إلى القصر فقتله العبيد و الحاشية و صابر السلطان ميتته إلى آخر النهار ثم قضى رحمه الله يوم الأربعاء سابع ذي القعدة من سنة ست و سبعمائة و قبر هنالك ثم نقل بعدما سكنت الهيعة إلى مقبرتهم بشالة فدفن بها مع سلفه و البقاء لله وحده (7/307)
الخبر عن ولاية السلطان أبي ثابت و استلحامه المرشحين و ما تخلل ذلك من الأحداث
كان الأمير أبو عامر ابن السلطان أبي يعقوب و ولي عهده لما هلك طريدا ببلاد بني سعيد بغمارة و الريف سنة ثمان و تسعين و ستمائة كما ذكرنا خلف ولديه عامرا و سليمان في كفالة السلطان جدهما فكان لهما بعينه حلاوة و في قلبه لوطة لمكان حبه لأبيهما و اغترابه عنه فحدب عليهما و آثرهما من نفسه بمكان و كان الأمير أبو ثابت عامر أصغر قومه إقداما و شجاعة و جراءة و كانت له في بني و رتاجن خؤلة فلحين مهلك السلطان عرضوا له و دعوه للبيعة فبايعوه و حضر لها الأمير أبو يحيى بن يعقوب عم أبيه عز بمجتمعهم اتفاقا و حملوه على الطاعة و كان أقرب للأمر منه لو حضره رجال فأعطى القياد في المساعدة و طوى على النث و بادر الحاشية و الوزراء بالبلد الجديد عند مهلك السلطان فبايعوا ابنه الأمير أبا سالم و كاد أمر بني مرين أن يفترق و كلمتهم أن تفسد فبعث الأمير أبو ثابت لحينه إلى تلمسان للأمير أبي زيان و أبي حمو ابني عثمان بن يغمراسن و عقد لهما حلفا على الإفراج عنهم ثم أمره أن يمده بالآلة و يرفعا له كسر البيت إن كان غير ما أمل و حضر للعقد أبو حمو فأحكمه و مال أكثر بني مرين و أهل الحل و العقد إلى الأمير أبي ثابت و تفرد ببيعة أبي سالم البطانة و الوزراء و الحاشية و الأجناد و من إليهم و كان بالبلد الجديد مسكنه و أشاروا عليه بالمناجرة فخرج و قد عبى كتائبه فوقف و تهيب و خام عن اللقاء و وعدهم الإقدام بالغداة و كر راجعا إلى قصره فيئسوا منه و تسللوا إذا إلى الأمير أبي ثابت و هو بمرقب من الجبل مطل عليهم حتى إذا انحجر أبو سالم بالبلد انحاش إليه الجملة دفعة واحدة فلما استوفت القبائل و العساكر لديه زحف إلى البلد الجديد مثوى السلطان و سياج قصوره و مختط عزمه و انتهى إلى ساحتها مغتنما الفرصة و خرج إليه أبو زيد يخلف بن عمران الفودودي فأرجل عن فرسه بأمر أبي يحيى و قتل بين يديه قعصا بالرماح و كان قريب عهد بالوزارة استوزره السلطان قبيل ملكه في شعبان من سنة ست و سبعمائة
و فر أبو سالم إلى جهة المغرب و صحبه من عشيره من أولاد رحو بن عبد الله بن عبد الحق العباس و عيسى و علي ابنا رحو و ابن أخيهم جمال الدين بن موسى و أتبعهم الأمير أبو ثابت شرذمة من عسكره أدركوهم بندرومة فتقبضوا عليهم و نفذ أمر السلطان بقتل أبي سالم و جمال الدين و استبقى الآخرين و أمر بإحراق باب البلد ليفتحها العسكر فأطل عليهم قهرمان دارهم عبد الله بن أبي مدين الكاتب و أخبره بفرار أبي سالم و باتفاق الناس على طاعته و رغب إليه في المسالمة ليلتهم حتى ينفجر الصباح خشية على دارهم من معزة العساكر و هجومها ففعل و أمره الأمير أبو يحيى باعتقال أبي الحجاج بن اشقيلولة فاعتقله لقديم من العداوة كانت بينهما ثم أمر بقتله و انفاذ رأسه فقتل و أمر السلطان ليلتئذ بإضرام النيران حتى إذا أضاء الظلام و بات راكبا و دخل القصر لصبحه فوارى جده بعد أن صلى عليه و غص بمكان الأمير أبي يحيى لما تعدد فيه الترشيح و فاوض في شأنه كبير القرابة يومئذ عبد الحق بن عثمان ابن الأمير أبي يفرن محمد بن عبد الحق و من حضره من الوزراء مثل إبراهيم بن عبد الجليل الونكاسي و إبراهيم بن عيسى اليرنياني و غيرهما من الخاصة فأشاروا بقتله و نميت عنه كلمات في معنى التربص بالسلطان و دولته و ابتغاء العصابة لأمره و ركب الأمير أبو يحيى إلى القصر ثالث البيعة فأخذ السلطان بيده و دخل معه إلى الحرم لعزائهن عن أخيه السلطان ثم خرج على الخاصة و تخلف عنه السلطان و قد دس إلى عبد الحق بن عثمان أن يتقبض عليه ففعل ثم برز السلطان إليهم و هو موثق فأمر بالإجهاز عليه و لم يمهله و ألحق به يومئذ وزيره عيسى بن موسى الفودودي و فشا الخبر بمهلك هؤلاء الرهط فرهب منه القرابة و فر يعيش بن يعقوب أخو السلطان و ابنه عثمان المعروف بأمه قضينت و مسعود بن الأمير أبي مالك و العباس بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق و لحقوا جميعا بعثمان بن أبي العلاء بمكانه من غمارة و خلا الجو من المرشحين و استبد السلطان بملك قومه و أمن غوائل المنازعين
و لما تم له الأمر و استوسق أمر الملك و في لبني عثمان بن يغمراسن بالإفراج عنهم و نزل لهم عن جميع البلاد التي صارت إلى طاعته من بلاد المغرب الأوسط من أعمالهم و أعمال بني توجين و مغراوة و دعاه إلى بدار المغرب ما كان من اختلال عثمان بن أبي العلاء بن عبد الله بن عبد الحق بسبتة و دعائه لنفسه بين يدي مهلك السلطان و خروجه إلى بلاد غمارة و استيلائه على قصر كتامة فاعتزم على الرحلة إلى المغرب و فوض الأمر في الرحلة بأهل المدينة الجديدة للوزير إبراهيم بن عبد السلام لما كانت حين غاصة بالساكن مستبحرة في الاعتمار ممتلئة من الخرثي و الآلة فأحسن السياسة في أمرهم و ضرب لهم الآجال و المواعيد إلى أن استوقوا الرحلة و تركوها قواء خربها بنو عثمان بن يغمراسن عند رحلة بنى مرين إلى المغرب و تحينوا لذلك فترات الفتن فطمسوا معالمها طمسا و نسفوها نسفا و قدم السلطان بين يديه من قرابته الحسن بن عامر بن عبد الحق انعجون في العساكر و الجنود و عقد له على حرب ابن أبي العلاء و تلوم بالبلد الجديد لموافاة المسالح التي كانت بثغور المشرق و لما نزل عنها جميعا لبني عثمان بن يغمراسن ارتحل غزة ذي الحجة و دخل فاس فاتح سبع و سبعمائة و الله أعلم (7/308)
الخبر عن انتزاء يوسف بن أبي عياد بمراكش و تغلب السلطان عليه
لما فصل أبو ثابت عن معسكرهم بتلمسان إلى المغرب قدم بين يديه من قرابته الحسن بن عامر بن عبد الحق انعجون ابن السلطان أبي يوسف في العساكر و الجنود و عقد له على حرب عثمان بن أبي العلاء كما ذكرناه و عقد على بلاد مراكش و نواحيها لابن عمه الآخر يوسف بن محمد بن أبي عياد بن عبد الحق و عهد له بالنظر في أحوالها فسار إليه و احتل بها ثم حدثته نفسه بالانتزاء فقتل الوالي بمراكش و استركب و استلحق و انخذ الآلة و جاهر بالخلعان و تقبض على والي البلد فقتله بالسوط في جمادى سنة سبع و سبعمائة و دعا لنفسه و اتصل الخبر بالسلطان لأول قدومه فسرح إليه وزيره يوسف بن عيسى بن السعود الجشمي و يعقوب بن أصناك في خمسة آلاف من عساكره و دفعهم إلى حربه و خرج في أثرهم بكتائبه و برز يوسف بن أبي عياد و أجازوا أم الربيع فانهزم أمام الوزير و عساكره و اتبعه الوزير ففر إلى أغمات ثم فر إلى جبال هسكورة و لحق به موسى بن سعيد الصبيحي من أغمات تدلى من سورها و دخل الوزير يوسف إلى مراكش ثم خرج إثره و لحقه فكانت بينهما جولة و قتل منهم خلق و لحق بهسكورة و دخل السلطان أبو ثابت مراكش منتصف رجب من سنة سبع و سبعمائة و أمر بقتل أوربة المداخلة كانوا له في انتزاثه فاستلحموا و لما لحق يوسف بن أبي عياد بحبال هسمكورة و نزل على مخلوف بن عبو و تذمم بجواره فلم يجره على السلطان و تقبض عليه و اقتاده إلى مراكش مع ثمانية من أصحابه تولوا كبر ذلك الأمر فقتلوا في مصرع واحد بعد أن مثل بهم السلطان بالسياط و بعث برأس يوسف إلى فاس فنصب بسورها و أثخن القتل فيمن سواهم ممن داخله في الانتراء فاستلحم منهم أمم بمراكش و أغمات و سخط خلال ذلك وزيره إبراهيم بن عبد الجليل فاعتقله و اعتقل عشيره من بني دولين و من بني و نكاسن و قتل الحسن بن دولين منهم ثم عفا عنهم و خرج منتصف شعبان إلى منازلة السكسيوي و تدويخ جهات مراكش فتلقاه السكسيوى بطاعته المعروفة و أسنى الهدية فتقبل طاعته و خدمته ثم سرح قائده يعقوب بن آصناد في اتباع زكنة حتى توغل في بلاد السوس ففروا أمامه إلى الرمال و انقطع أثرهم و رجع إلى معسكر السلطان و انكفأ السلطان بعساكره إلى مراكش فاحتل بها غرة رمضان ثم قفل إلى فاس بعد أن قتل جماعة من شيوخ بني ورا و جعل طريقه في بلاد صنهاجة و سار في بلاد تامسنا و تلقاه عرب جشم من قبائل الخلط و سفيان و بنى جابر و العاصم فاستصحبهم إلى آنفى و تقبض على ستين من أشياخهم فاستلحم منهم عشرين ممن نمي عنهم إلى افساد السابلة و دخل رباط الفتح أخريات رمضان فقتل هنالك من الأعراب أمة ممن يؤثر عنه الحرابة ثم ارتحل منتصف شوال الغز و رياح أهل آزغار و الهبط و اثار بالإحن القديمة فأثخن فيهم بالقتل و السبي و قفل إلى فاس فاحتل بها منتصف ذي القعدة و فجأه الخبر بهزيمة عبد الحق بن عثمان و استلحام الروم من عساكره و مهلك عبد الواحد الفودودي من رجالات دولته و أن عثمان بن أبى العلاء قد استفحل أمره بجهات غمارة فأجمع لغزوه و الله أعلم (7/311)
الخبر عن غزاة السلطان لمدافعة عثمان بن أبي العلا ببلاد الهبط و مهلكه بطنجة بعد ظهوره
لما ملك الرئيس أبو سعيد فرج بن إسمعيل بن يوسف بن نصر سبتة سنة خمس و سبعمائة و أقام بها الدعوة لابن عمه المخلوع محمد بن محمد الفقيه ابن محمد الشيخ ابن يوسف بن نصر كما ذكرناه و أجاز معه رئيس الغزاة المجاهدين بمحل إمارته من مالقة عثمان بن أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق من أعياص هذا البيت كان مرشحا للملك فيهم و استقدمه معه ليفرق به الكلمة في المغرب بفتنة الدولة مدافعة عن سبتة لما كان هاج السلطان قومه فأخذها و استقام ملكها و طمع عثمان في ملك المغرب بامدادهم و مظاهرتهم و سولت له نفسه ذلك فخرج سبتة و ولى على جيش الغزاة بعده عمر ابن عمه رحو بن عبد الله و نجم هو ببلاد غمارة فدعا لنفسه لم أجابته القبائل منهم و احتل بحصن علودان من أمنع معاقلهم و بايعوه على الموت ثم نهض إلى أصيلا و العريش فغلب عليها و اتصل ذلك كله بالسلطان الهالك أبي يعقوب فلم يحركه استهانة بأمرهم و بعث ابنه أبا سالم بالعساكر فنازل سبتة أياما ثم أقلع عنها و بعث بعده أخاه يعيش بن يعقوب و أنزله طنجة و جمر معه الكتائب و جعلها ثغرا و زحف إليه عثمان بن أبي العلاء فتأخر عن طنجة إلى القصر ثم اتبعه فخرج إليه أهل القصر فرسانا و رجالا و رماة مع يعيش فوصلوا إلى وادي وراء ثم انهزموا إلى البلد و مات عمر بن ياسين و نزل عثمان عليهم القصر يوما ثم دخله من غده ثم كان مهلك السلطان و فر يعيش بن يعقوب خيفة من أبي ثابت فلحق بعثمان بن أبي العلاء و استقام أمره بتلك الجهات برهة و كان السلطان أبو ثابت لما احتل بالمغرب شغله ما كان من انتزاء يوسف بن أبي عياد بمراكش كما قدمناه فعقد على حرب عثمان بن أبي العلاء مكان عمه يعيش بن يعقوب لعبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من رجال بيته فزحف إليه و نهض عثمان إلى لقائه منتصف ذي الحجة سنة سبع و سبعمائة فهزمه و استلحم من كان معه من جند الروم و هلك في تلك الوقعة عبد الواحد الفودودي من رجالات السلطان المرشحين ردفاء الوزارة و سار عثمان إلى قصر كتامة فنزله و استولى على جهاته وعلى تفيئة ذلك كان رجوع السلطان من غزاة مراكش و قد حسم الداء و محا أثر النفاق فاعتزم على الحركة إلى بلاد غمارة يمحو منها أثر دعوة ابن أبي العلاء التي كادت تلج عليه ممالكه بالمغرب و يرده على عقبه و يستخلص سبتة من يد ابن الأحمر لما صارت ركابا لمن يروم الانتزاء و الخروج من القرابة و الأعياص المستنفرين وراء البحر غزاة في سبيل الله فنهض من فاس منتصف ذي الحجة من سنة سبع و سبعمائة و لما انتهى إلى قصر كتامة تلوم به ثلاثا حق توافت عساكره و حشوده و كمل اعتراضها و فر عثمان بن أبي العلاء أمامه و ارتحل السلطان في اتباعه فنازل حصن علودان و اقتحمه عنوة و استلحم به زهاء أربعمائة ثم نازل بلد الدمنة و اقتحمها و أثخن فيها قتلا و سبيا لتمسكهم بطاعة ابن أبي العلاء و مظاهرتهم له ثم كبس القصر و استباحه ثم ارتحل إلى طنجة و احتل بها غزة ثمان و سبعمائة و انحجر ابن أبي العلاء بسبتة مع أوليائه و سرح السلطان عساكره فتفرقت نواحي سبتة بالاكتساح و الغارة و أمر باختطاط بلد تيطاوين لنزول معسكره و الأخذ بمخنق سبتة و أوفد كبير الفقهاء بمجلسه أبا يحيى بن أبي الصبر إليهم في شأن النزول عن البلد و في خلال ذلك اعتل السلطان فمرض وقضى أياما قلائل و هلك في ثامن صفر من سنته و دفن بظاهر طنجة ثم حمل شلوه بعد أيام إلى مدفن آبائه بشالة فووري هنالك رحمة الله عليه و عليهم (7/312)
الخبر عن دولة السلطان أبي الربيع و ما كان فيها من الأحداث
لما ملك السلطان أبو ثابت تصدى للقيام بالأمر عمه علي ابن السلطان أبي يعقوب المعروف بأمه رزيكة و خلص الملأ من بني مرين أهل الحل و العقد إلى أخيه أبي الربيع فبايعوه و تقبض على عمه علي بن رزبكة المستام للإمرة فاعتقله بطنجة إلى أن هلك بها سنة عشر و سبعمائة لجمادى و بث العطاء في الناس و أجزل و ارتحل في فاس و اتبعه عثمان بن أبي العلاء في جيش كثيف و بنته و قد نذر به العسكر فأيقظوا ليلتهم و وافاهم على الظهر بساحة علودان فناجزهم الحرب و كانت الدائرة على عثمان و قومه و تقبض على ولده و كثير من عساكره و أثخن أولياء السلطان فيهم بالقتل و السبي و كان الظهور الذي لا كفاء له و وصل أبو يحيى بن أبي الصبر إلى الأندلس و قد أحكم عقدة الصلح و قد كان ابن الأحمر جاء للقاء السلطان أبي ثابت و وصل إلى الجزيرة الخضراء فأدركه خبر مهلكه فتوقف عن الجواز و أجاز ابن أبي الصبر بإحكام المؤاخاة و اجتاز عثمان بن أبي العلاء إلى العدوة فيمن معه من القرابة فلحق بغرناطة و أغذ السلطان السير إلى ضرته فدخل فاس آخر ربيع من سنة ثمان و سبعمائة و استقامت الأمور و تمهد الملك و عقد السلم مع صاحب تلمسان موصى بن عثمان بن بغمراسن و أقام وادعا بحضرته و كانت أيامه خير أيام هدنة و سكونا و ترفا لأهل الدولة و في أيامه تغالى الناس في أثمان العقار فبلغت قيمتها فوق المعتاد حتى لقد بيع كثير من الدور بفاس بألف دينار من الذهب العين تنافس الناس في البناء فعالوا الصروح و اتخذوا القصور المشيدة بالصخر و الرخام و زخرفوها بالزليج و النقوش و تناغوا في لبس الحرير و ركوب الفاره و أكل الطيب و اقتناء الحلى من الذهب و الفضة و استبحر العمران و ظهرت الزينة و الترف و السلطان وادع بداره متملى أريكته إلى أن هلك كما نذكر إن شاء الله تعالى و الله أعلم (7/314)
الخبر عن مقتل عبد الله بن أبي مدين
كان أبو شعيب بن مخلوف من بنى أبي عثمان من قبائل كتامة المجاورين للقصر الكبير و كان منتحلا للدين و مشتهرا به و لما أجلب بنو مرين على المغرب و جالوا في بسائطه و تغلبوا على ضواحيه صحب البر منهم البر و الفاجر من أهله مثله و كان بنو عبد الحق قد تحيزوا لأبي شعيب هذا فيمن تحيزوا للصحابة من أهل الدين فكان إمام صلاتهم و كان يعقوب بن عبد الحق أشدهم صحابة له و أوفاهم به ذماما فاتصل به حبله و اتصلت صحابته و عظم في الدولة قدره و انبسط بين الناس جاه ولده و أقاربه و حاشيته و ربى بنو شعيب هذا عبد الله و محمد المعروف بالحاج و أبو القاسم و من بعدهم من إخوتهم بقصر كتامة في جو ذلك الجاه و هلك السلطان يعقوب بن عبد الحق فاستخلصهم يوسف بن عبد الحق لخدمته و استعملهم على مختصاته ثم ترقى بهم في رتب خدمته و أخصائه درجة بعد أخرى إلى أن هلك أبوهم أبو مدين شعيب سنة سبع و تسعين و ستمائة و كان المقدم منهم عند السلطان عبد الله فاربى على ثنيات العز و الوزارة و الخلة و الولاية و تقدم لحظوته في مجلسه كل حظوة و اختصه بوضع علامته على الرسائل و الأوامر الصادرة عنه و جعل إليه حسبان الخراج و الضرب على أيدي العمال و تنفيذ الأوامر بالقبض و البسط فيهم و استخلصه لمناجاة الخلوات و الإفضاء بذات الصدور فوقف ببابه الإشراف من الخاصة و القبيل و القرابة و الولد و سودوه و خطبوا نائله و كان عبد الله قد استعمل مع ذلك أخاه محمدا على جباية المصامدة بمراكش و هنأ أبا القاسم الدعة بفاس فأقام بها متمليا راحته عريضا جاهه طاعما كاسيا تتسرب إليه أموال العمال في سبيل الاتحاف و تقف ببابه صدور الركائب إلى أن هلك السلطان أبو يوسف و يقال إن له خائنة في دمه مع سعاية الملياني و لما ولي من بعده أخوه أبو الربيع فتقتل فيه مذاهب سلفه و كان بنو وقاصة اليهود حين نكبوا باشر نكبتهم لمكانه من إصدار الأوامر و يزعمون أن له فيهم سعاية و كان خليفة الأصغر منهم قد استبقى كما ذكرناه فلما أفضى الأمر إلى السلطان أبي الربيع استعمل خليفة بداره في بعض المهن و باشر الخدم حتى اتصل بمباشرة السلطان فجعل غايته السعاية بعبد الله بن أبي مدين لن و كان يؤثر عن السلطان أبي الربيع بأنه لا تؤمن بوائقه مع حرم ذوبه و تعرف خليفة ذلك من مقالات الناس فدس إلى السلطان أن عبد الله بن أبي مدين يعرض باتهام السلطان في ابنته و أن صدره و غر بذلك و أنه مترصد بالدولة و كان يخشى العائلة بما كان عليه من مداخلة القبيل و لما كان داعيته من دواعي آل يعقوب فتعجل السلطان دفع غائلته و استدعاه صبيحة زفاف ابنته زعموا عن زوجها فاستحثه قائد الروم من داره بفاس و نذر بالشر فلم يغنه النذر و مر في طريقه إلى دار السلطان بمقبرة أبي يحيى بن العربي فطعنه القائد هنالك من ورائه طعنة أكبته على ذقنه و احتز رأسه و ألقاه بين يدي السلطان و دخل الوزير سلمان بن يرزيكن فوجده بين يديه فذهبت نفسه عليه و على مكانه من الدولة حسرة و أسفا و أيقظ السلطان لمكر اليهودي فوقفه على براءة كان ابن أبي مدين لن بعثها للسلطان معه بالتنصل و الحلف فتيقظ و علم مكر اليهودي به فندم و فتك لحينه بخليفة بن وقاصة و ذويه من اليهود المتصدين للخدمة و سطا بهم سطوة الهلكة فأصبحوا مثلا للآخرين و الله أعلم (7/315)
الخبر عن ثورة أهل سبتة بالأندلسيين و مراجعتهم طاعة السلطان
لما قفل السلطان أبو الربيع من غزاة سبتة بعد أن شرد عثمان بن أبي العلاء و أحجره بسبتة و أجاز منها إلى العدوة و من كان معه من القرابة كما قلناه بلغه الخبر بضجر أهل سبتة و مرض قلوبهم من ولاية الأندلسيين و سوء ملكتهم و دس إليه بعض أشياعه بالبلد بمثل ذلك فأغزى صنيعته تاشفين بن يعقوب الوطاسي أخا وزيره في عساكر ضخمة من بني مرين و سائر الطبقات من الجند و أوعز إليه بالتقدم إلى سبتة و منازلتها فأغذ إليها السير و نزل بساحتها و لما أحس به أهل البلد تمشت رجالاتهم و تنادوا بشعارهم و ثاروا على من كان بينهم من قواد ابن الأحمر و عماله و أخرجوا منها حاميته و جنوده و اقتحمها العساكر و احتل بقصبتها تاشفين بن يعقوب عاشر صفر من سنة تسع و سبعمائة و طير الفوائق بالخبر إلى السلطان فعم السرور و عظم شأن الفرح و تقتض على قائد القصبة أبي زكريا يحيى بن مليلة و على قائد البحر أبي الحسن بن كماشة و على قائد الحروب بها من الأعياص عمر بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق كان صاحب الأندلس عقد له مكان ابن عمه عثمان بن أبي العلاء عند إجازته البحر إلى الجهاد كما ذكرناه و كتب إلى السلطان بالفتح و أوفد عليه الملأ من مشيخة أهل سبتة و أهل الشورى و بلغ الخبر إلى ابن الأحمر فارتاع لذلك و خشي عادية السلطان و جيوش المغرب حين انتهوا إلى الفرضة و قد كان الطاغية في تلك الأيام نازل الجزيرة الخضراء و أقلع عنها على الصلح بعد أن أذاقها من الحصار شدة و بعد أن نازل جبل الفتح فتغلب عليه و ملكه و انهزم زعيم من زعمائه يعرف بألفنش بيرس هزمه أبو يحيى بن عبد الله بن أبي العلاء صاحب الجيش بمالقة لقيه و هو يجوس خلال البلاد بعد تملك الجبل فهزم النصارى و قتلوا أبرح قتل و أهم المسلمين شأن الجبل فبادر السلطان أبو الجيوش بإنفاذ رسله راغبين في السلم خاطبين للولاية و تبرع بالنزول عن الجزيرة و رندة و حصونها ترغيبا للسلطان الجهاد فتقبل منه السلطان و عقد له الصلح على ما رغب و أصهر إليه في أخته فأنكحه إياها و بعث بالمدد للجهاد أموالا و خيولا و جنائب مع عثمان بن عيسى اليرنياني و اتصلت بينهما الولاية إلى مهلك السلطان و البقاء لله وحده (7/316)
الخبر عن بيعة عبد الحق بن عثمان بممالأة الوزير و المشيخة و ظهور السلطان عليهم ثم مهلكه باثر ذلك
كانت رسل ابن الأحمر خلال هذه المهادنة و المكاتبات تختلف إلى باب السلطان و وصل منهم في بعض أحيانها خلف من مترفيهم فجاهر بالكبائر فكشف صفحة وجهه في معاقرة الخمر و الإدمان عليه و كان السلطان منذ شهر جمادى الأولى سنة تسع و سبعمائة قد عزل القاضي بفاس أبا غالب المغيلي و عهد بإحكام القضاء لشيخ الفتيا المذكور بها أبي الحسن الملقب بالصغير و كان على نهج من تغيير المنكرات و التعسف فيها حتى لقد كان مطاوعا في ذلك و سواس النسك الأعجمي و متجاوزا به الحدود المتعارفة بين أهل الشريعة في سائر الأمصار و أحضر عنده ذات يوم هذا الرسول ثملا و حضر العدول فاستروحوه ثم أمضى حكم الله فيه و أقام عليه الحد و أضرمته هذه الموجدة فاضطرم غيظا و تعرض للوزير رحو بن يعقوب الوطاسي منصرفه من دار السلطان في موكبه و كشف عن ظهر يريه السياط و ينعي عليهم سوء هذا المرتكب مع الرسل فتبرم لذلك الوزير و أدركته الحفيظة و سرح وزعته و حشمه في إحضار القاضي على أسوا الحالات من التنكيل والتل لذقنه فمضوا لتلك الوجهة و اعتصم القاضي بالمسجد الجامع و نادى المسلمين فثارت العامة فيهم و مرج أمر الناس و اتصل الخبر بالسلطان فتلافاه بالبعث في أولئك النفر من وزعة الوزير و ضرب أعناقهم و جعلهم عظة لمن وراءهم فأسرها الوزير في نفسه و داخل الحسن بن علي بن أبي الطلاق من بني عسكر بن محمد شيخ بني مرين و المسلم له في شوارهم و قائد الروم غنصاله المنفرد برياسة العسكر و شوكته و كان لهم بالوزير اختصاص آثروه له على سلطانه فدعا لهم لبيعة عبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق كبير القرابة و أسد الأعياص و خلع طاعة السلطان فأجابوه و بايعوا له و تم أمرهم نجيا ثم خرج عاشر جمادى من سنة عشر و سبعمائة إلى ظاهر البلد الجديد بمكان الرمكة و جاهروا بالخلعان و أقاموا الآلة و بايعوا سلطانهم عبد الحق على عيون الملأ و عسكروا بالعدوة القصوى من سبو تخم بلاد العسكر و أزاء نبدورة من معاقل الحسن بن علي زعيم تلك الثورة ثم ارتحلوا من الغد إلى تازى و خرج السلطان في أثرهم فعسكر بسبو وتلوم لاعتراض العساكر و إزاحة العلل و احتل القوم يرباط تازى و أوفدوا على موسى عثمان بن يغمراسن سلطاني بني عبد الواد يدعونه إلى المظاهرة و اتصال اليد و المدد بالعساكر و الأموال جنوحا إلى التي هي آثر لديه من تفريق كلمة عدوه فتثاقل عن ذلك لمكان السلم الذي عقد له السلطان مذ أول الدولة و ليستبين سبيل القوم و قدم السلطان بين يديه يوسف بن عيسى الجشمي و عمر بن موسى الفودودي في جموع كتيبة من بني مرين و سار في ساقتهم فانكشف القوم عن تازى و لحقوا بتلمسان صرخا و حمد السلطان مغبة تثاقله عن نصرهم و وجد بها الحجة عليهم إذ غاية مظاهرته إياهم أن يملكهم تازى و قد انكشفوا عنها فيئسوا من صريخه و أجاز عبد الحق بن عثمان و رخو بن يعقوب إلى الأندلس فأقام رخو بها إلى أن قتله أولاد ابن أبي العلاء و رجع الحسن بن علي إلى مكانه من قييله و محله من مجلس السلطان بعد أن اقتضى عهد بالأمان على ذلك و لما احتل السلطان بتازى حسم الداء و محا أثر الشقاق و أثخن في حاشية الخوارج و ذويهم بالقتل و السبي ثم اعتل أثناء ذلك و هلك لليال من اعتلاله سلخ جمادى الأخيرة من سنة عشر و سبعمائة و وري بصحن الجامع الأعظم من تازى و بويع السلطان أبو سعيد كما نذكره إن شاء الله (7/318)
الخبر عن دولة السلطان أبي سعيد و ما كان فيها من الأحداث
لما هلك السلطان أبو الربيع بتازى تطاول للأمر عمه عثمان ابن السلطان أبي يعقوب المعروف بأمه قضنيت و استام المنصب وأسدى في ذلك و ألحم و حضر الوزراء و المشيخة بالقصر بعد هدء من الليل و أثاروا شيخ القرابة يومئذ و كبير الأعياص المرشحين وسربت إليهم الأموال و جاءهم عثمان ابن السلطان أبي بعقوب مستاما فزجروه و استدعوا السلطان أبا سعيد فحضر و بايعوه ليلتئذ و أنفذ كتبه إلى النواحي و الجهات باقتضاء البيعة و سرح ابنه الأكبر الأمير أبا الحسن إلى فاس فدخلها غرة رجب من سنة عشر و سبعمائة و دخل القصر و اطلع على أمواله و ذخيرته و في غد ليلته أخذت البيعة للسلطان بظاهر تازى على بني مربن و سائر زناتة و العرب و القبائل و العساكر و الحاشية و الموالي و الصناع و العلماء و الصلحاء و نقباء الناس و عرفائهم و الخاصة و الدهماء فقام بالأمر و استوسق له الملك و فرق الأعطيات و أسنى الجوائز و تفقد الدواوبن ورفع الظلامات و حط المغارم و المكوس و سرح أهل السجون و رفع عن أهل فاس و ظيفة الرباع و ارتحل لعشرين من رجب إلى ضرته فاحتل بفاس و قدم عليه و فود التهنئة من جميع بلاد المغرب ثم خرج لذي القعدة بعدها إلى رباط الفتح لتفقد الأحوال و النظر في أحوال الرعايا و اهتم بالجهاد و أنشأ الأساطيل للغزو في سبيل الله و لما قضى منسك الأضحى بعده رجع إلى حضرته بفاس ثم عقد سنة إحدى عشرة و سبعمائة لأخيه الأمير أبي البقاء يعيش على ثغور الأندلس : الجزيرة و رندة و ما إليها من الحصون ثم نهض من الحصون سنة ثلاث عشرة و سبعمائة إلى مراكش لما كان بها من اختلال الأحوال و خروج عدي بن هنو الهسكوري و نقضه للطاعة فنازله و حاصره مدة و اقتحم حصنه عنوة عليه و حمله إلى دار ملكه عنوة فأودعه المطبق ثم رجع إلى غزو تلمسان والله أعلم (7/319)
الخبر عن حركة السلطان أبي سعيد إلى تلمسان أولى حركاته إليها
لما خرج عبد الحق بن عثمان على السلطان أبي الربيع و تغلب على تازى بمظاهرة الحسن بن علي بن أبي الطلاق كبير بني عسكر و اختلف رسلهم إلى أبي جمو موسى بن عثمان سلطان بني عبد الواد اسف ذلك بنى مرين و حرك من إحنهم و لما لحق الخارجون على الدولة بالسلطان أبي حمو و أقبل عليهم أضرم ذلك حقد بني مرين و ولى السلطان أبو سعيد الأمر و في أنفسهم من بني عبد الواد غصة فلما استوسق أمر السلطان و دوخ الجهات المراكشية و عقد على البلاد الأندلسية و فرغ من شأن المغرب اعزم كل غزو تلمسان فنهض إليه سنة أربع عشرة و سبعمائة و لما انتهى إلى وادي ملوية قدم ابنيه أبا الحسن و أبا علي في عسكرين عظيمين في الجناحين و سار في ساقتهما و دخل بلاد بنى عبد الواد كل هذه التعبية فاكتسح نواحيها و اصطلم نعمها و نازل وجدة فقاتلها قتالا شديدا و امتنعت عليه ثم نهض إلى تلمسان فنزل بالملعب من ساحتها و انحجر موسى بن عثمان من وراء أسوارها و غلب على معاقلها و رعاياها و سائر ضواحيها فحطمها حطما و نسف جهاتها نسفا و دوخ جبال بني يرناسن و فتح معاقلها و أثخن فيها و انتهى إلى وجدة و كان معه في معسكره أخوه يعيش بن يعقوب و قد أدركته بعض استرابة بأمره ففر إلى تلمسان و نزل على أبي حمو و رجع السلطان على تعبيته إلى تازى فأقام بها و بعث ابنه الأمير أبا علي إلى فاس فكان من خروجه على أبيه ما نذكر إن شاء الله تعالى (7/320)
الخبر عن انتقاض الأمير أبي علي و ما كان بينه و بين أبيه من الواقعات
كان للسلطان أبي سعيد اثنان من الولد أكبرهما لأمته الحبشية و هو علي و الأصغر لمملوكة من سبي النصارى و هو عمر و كان هذا الأصغر آثرهما لديه و أعلقهما بقلبه منذ نشأ فكان عليه حدبا و به مشغوفا و لما استولى على ملك المغرب رشحه بولاية عهده و هو شاب لم يطر شاربه و وضع له ألقاب الإمارة و صير معه الجلساء و الخاصة و الكتاب و أمره باتخاذ العلامة في كتبه و عقد على وزارته لإبراهيم بن عيسى اليرنياني من صنائع دولتهم و كبار المرشحين بها و لما رآه أخوه الأكبر أبو الحسن صاغية أبيه الله و كان شديد البرور بوالديه انحاش إليه و صار في جملته و خلط نفسه بحاشيته طاعة لأبيه و استمرت حال الأمير أبي علي على هذا و خاطبه الملوك من النواحي و خاطبهم و هادوه و عقد الرايات و اثبت في الديوان و محا و زاد في العطاء و نقص و كاد أن يستبد و لما قفل السلطان أبو سعيد من غزاته إلى تلمسان سنة أربع عشرة و سبعمائة أقام بتازى و بعث ولديه إلى فاس فلما استقر الأمير أبو علي بفاس حدثته نفسه بالاستبداد على أبيه و خلعه وراوضه المداخلون له في المكر بالسلطان حتى يتقبض عليه فأبي و بعث الخلاف إلى و جاهر بالخلعان و دعا لنفسه فأطاعه الناس لما كان السلطان جعل إليه من أمرهم و عسكر بساحة البلد الجديد يريد غزو السلطان فبرز من تازى بعسكره يقدم رجلا و يؤخر أخرى
ثم بدا للأمير أبي علي في شأن وزيره و حدثته نفسه بالتقبض عليه استرابة به لما كان بلغه من المكاتبة بينه و بين السلطان فبعث لذلك عمر بن يخلف الفردودي و تفطن الوزير لما حاوله من المكر فتقبض عليه و نزع إلى السلطان أبي سعيد فتقبله و رضي عنه و ارتحل إلى لقاء ابنه و لما تراءى الجمعان بالقرمدة ما بين فاس و تازى و اختل مصاف السلطان و انهزم عسكره و أفلت بعد أن أصابته جراحه في يده وهن لها و لحق بتازى فليلا جريحا و لحق به ابنه الأمير أبو الحسن نازعا إليه من جملة أخيه أبي علي بعد المحنة وفاء لحق أبيه فاستبشر السلطان بالظهور و الفتح وحمد المغبة و أناخ الأمير أبو علي بعساكره على تازى و سعى الخواص بين السلطان و ابنه في الصلح على أن يخرج له السلطان عن الأمر و بقتصر على تازى وجهاتها فتم ذلك بينهما و انعقد و شهد الملأ من مشيخة العرب و زناتة و أهل الأمصار و استحيهم عقده و انكفأ الأمير أبو علي إلى حضرة فاس مملكا و توافت إليه بيعات الأمصار بالمغرب و وفودهم و استوسق أمره
ثم اعتل على أثر ذلك و اشتد وجعه و صار إلى حال الموت و خشي الناس على أنفسهم تلاشى الأمر بمهلكه فسايلوا إلى السلطان بتازى ثم نزع على الأمير أبي علي وزيره أبو بكر بن النوار و كاتبه منديل بن محمد الكتاني و سائر خواصه و لحقوا بالسلطان و حملوه على تلافى الأمر فنهض من تازى و اجتمع إليه كافة بني مرين و الجند و عسكر على البلد الجديد و أقام محاصرا لها و ابتنى دارا لسكناه و جعل لابنه الأمير أبي الحسن ما كان لأخيه أبي علي من ولاية العهد و تفوبض الأمر
و تفرد أبو علي بطائفة من النصارى المستخدمين بدولتهم كان قائدهم يمت إليه بخؤولة و ضبط البلد مدة مرضه حتى إذا أفاق و تبين اختلال أمره بعث إلى أبيه في الصفح و الرضى و أن ينزل له عما انتزى عليه من الأمر على أن يقطعه سجلماسة و ما إليها و يسوغه ما احتمل من المال و الذخيرة من دراهم فأجابه لذلك و انعقد بينهما سنة خمس عشرة و سبعمائة و خرج الأمير أبو علي بخاصته و حشمه و عسكر بالزيتون من ظاهر البلد و وفى له السلطان بما اشترط و ارتحل إلى سجلماسة و دخل السلطان إلى البلد الجديد و نزل بقصره و أصلح شؤون ملكه و أنزل ابنه الأمير أبا الحسن بالدار البيضاء من قصوره و فوض إليه في سلطانه تفويض الاستقلال و أذن له في اتخاذ الوزراء و الكتاب و وضع العلامة على كتبه و سائر ما كان لأخيه و وفدت إليه بيعات الأمصار بالمغرب و رجعوا إلى طاعته
و نزل الأمير أبو علي بسجلماسة فأقام بها ملكا و دون الدواوين و استلحق و استركب و فرض العطاء و استخدم ظواعن العرب من المعقل و افتتح معاقل الصحراء و قصور تاورت و تيكورارين و تمنطيت و غزا بلاد السوس فافتتحها و تغلب على ضواحيها و أثخن في أعرابها من ذوي حسان و الشبانات و زكنة حتى استقاموا على طاعته
و بيت عبد الرحمن بن يدر أمير الأنصار بالسوس في تارودانت مقره فافتتحها عليه عنوة و قتله و اصطلم نعمته و أباد سلطانه و أقام لبني مرين في بلاد القبلة ملكا و سلطانا و انتقض على السلطان سنة عشرين و سبعمائة و تغلب على درعة و سما إلى طلب مراكش فعقد السلطان على حربه لأخيه الأمير أبي الحسن و جعله إليه و أغزاه و نهض على أثره و اعتل بمراكش و ثقف أطرافها و حسم عللها و عقد عليها لكندوز بن عثمان من صنائع دولتهم و قفل بعساكره إلى الحضرة ثم نهض الأمير أبو علي سنة اثنتين و عشرين و سبعمائة بجموعه من سجلماسة و أغذ السير إلى مراكش فاختلفت عساكره بها قبل أن يجتمع لكندوز أمره فتقبض عليه و ضرب عنقه و رفعه على القناة و ملك مراكش و سائر ضواحيها و بلغ الخبر إلى السلطان فخرج من حضرته في عساكره بعد أن احتشد و أزاح العلل و استوفى الأعطيات و قدم بين يديه ابنه الأمير أبا الحسن ولي عهده الغالب على أمر في عساكره و جموعه و جاء في ساقته و سار على هذه التعبية و لما انتهى إلى بوبو من وادي ملوية نذروا بالبيات من أبي على و جنوده فحذروهم و أيقظوا ليلتهم و بيتهم بمعسكرهم ذلك فكانت الدبرة عليه و فل عسكره و ارتحلوا من الغد في أثره و سلك على جبال درن و افترقت جنوده في أوعاره و لحقهم من معراتها شناعات حتى ترجل الأمير أبو علي عن فرسه و سعى على قدميه و خلص من ورطة ذلك الجبل بعد عصب الريق و لحق بسجلماسة و مهد السلطان نواحي مراكش و عقد عليها لموسى بن علي بن عمد الهنتاتي فعظم غناؤه في ذلك و اضطلاعه و امتدت أيام ولايته و ارتحل السلطان إلى سجلماسة فدافعه الأمير أبو علي بالخضوع في الصفح و الرضا و العودة إلى السلم فأجابه السلطان لما كان شغفه من حبه فقد كان يؤثر عنه من ذلك غرائب و رجع إلى الحضرة و أقام الأمير أبو علي بمكانه من ملك القبلة إلى أن هلك السلطان و تغلب عليه أخوه السلطان أبو الحسن كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/321)
الخبر عن نكبة منديل الكتاني و مقتله
كان أبوه محمد بن محمد الكتاني من علية الكتاب بدولة الموحدين ونزع من مراكش عندما انحل نظام بنى عبد المؤمن و انفض جمعهم إلى مكناسة فأوطنها في إيالة بني مرين و اتصل بالسلطان يعقوب بن عبد الحق فصحبه فيمن كان يثائر على صحابته من أعلام المغرب و سفر عنه إلى الملوك كما ذكرنا في سفارته إلى المستنصر سنة خمس و ستين و ستمائة و هلك السلطان يعقوب بن عبد الحق فازداد الكتاني عند ابنه يوسف بن يعقوب حظوة و مكانه إلى أن سخطه و نكبه سنة سبع و سنين و ستمائة و أقصاه من يومئذ و هلك في حال سخطته و بقي من بعده ابنه منديل هذا في جملة السلطان أبي يعقوب متبرما بمقام عبد الله بن أبي مدين المستولى على قهرمة دار السلطان و مخالصته في خلواته مغضيا لذلك متوقعا النكبة في أكثر أيامه مضطرمة له بالحسد جوانحه مع ما كان عليه من القيام كل حسبان الديوان عرف فيه بسبقه و تشابه صديقه و عدوه و لما تغلب السلطان على ضواحي شلف و مغراوة و استعمل على حسبان الجباية و جعل إليه ديوان العسكر هنالك و إلى نظره اعتراضهم و تمحيصهم فنزل على مليانة مع من كان هنالك من الأمراء مثل علي بن محمد الخيري و الحسن بن على بن أبي الطلاق العسكري إلى أن هلك السلطان أبو يعقوب و رجع أبو ثابت البلاد إلى أبي زيان و أخيه أبي حمو فخف عليهما و حلا بعيونهما و استبلغا في تكريمه و انصرف إلى مغربه و كان معسكر السلطان يوسف بن يعقوب على تلمسان قد صحب أخاه أبا سعيد عثمان بن يعقوب في حال خموله و تأكدت بينهما الخلة التي رعاها له السلطان أبو سعيد فلما ولي أمر المغرب مت بذلك إليه فعرفه له و اختصه و خالصه و جعل إليه وضع علامته و حسبان جبايته و مستخلص أحواله و المفاوضة بذات صدره و رفع مجلسه في بسائطه و قدمه على خاصته و كان كثير الطاعة للأمير أبي علي ابنه المتغلب على أبيه قبل أول أمره و لما استبد و خلع أباه انحاش منديل هذا إليه ثم نزع عنه حين تبتين اختلال أمره و كان الأمير أبو الحسن يحقد عليه ولاية أخيه أبي علي لما كان بينهما من المنافسة و كان كثيرا ما يوغر صدره بإبحاب حق عمر عليه وامتهانه في خدمته و طوى له على النث حق إذا انفرد بمجلس أبيه و فصل عمر إلى سجلماسة أحكم السعاية فيه و الحاح في الهلكة التي أحكم السلطان عليها أذنا واعية حتى تأذن الله بإهلاكه و كان منديل هذا كثيرا ما يغضب السلطان في المحاورة و الخطاب دالة عليه و كبرا فاعتد عليه من ذلك كلمات و أحوالا و سخطه سنة ثمان عشرة و سبعمائة و أذن لابنه الأمير أبي الحسن في نكبته فاعتقله و استصفى أمواله و طوى ديوانه و امتحنه أياما ثم قتله بمحبسه خنقا و يقال جوعا و ذهب مثلا في الغابرين و الله خير الوارثين (7/324)
الخبر عن انتقاض العزفي بسبتة و منازلته ثم مصيرها إلى طاعة السلطان بعد مهلكه
كان بنو العزفي لما تغلب عليهم الرئيس أبو سعيد و نقلهم إلى غرناطة سنة خمس و سبعمائة استقروا بها في إيالة المخلوع ثالث ملوك بنى الأحمر حتى إذا استولى السلطان أبو الربيع على سيتة سنه تسع و سبعمائة أذنوه في الإجازه إلى المغرب فأجازوا إلى فاس فاستقروا بها و كان يحيى و عبد الرحمن ابنا أبي طالب من سراتهم و كبارهم و كانوا يغشون مجالس أهل العلم لما كانوا عليه من انتحال الطلب و كان أبو سعيد أيام إمارة بني أبيه يجالس بالمسجد الجامع القرويين شيخ الفتيا أبا الحسن الصغير و كان يحيى بن أبي طالب يلازمه فاتصل به و صارت له وسيلة يحتسبها عنده فلما ولي الأمر و استقل به رعى لهم زمام صحابتهم و وفى لهم مقاصدهم و عقد ليحيى على سبتة و رجعهم إلى مقر إمارتهم منها و محل رياستهم فارتحلوا إليها سنة عشر و سبعمائة و أقاموا دعوة السلطان أبي سعيد و التزموا طاعته ثم تغلب الأمير أبو على علي أمر أبيه و استبد عليه فعقد على سبتة لأبي زكريا حيون بن أيي العلاء القرشي و عزل يحيى بن أبي طالب عنها و استقدمه إلى فاس فقدمها هو و أبوه أبو طالب و عمه حاتم و استقروا في جملة السلطان و هلك أبو طالب بفاس خلا ل ذلك حتى إذا كان من خروج الأمير أبي علي على أبيه ما قدمناه لحق يحيى بن أبي طاب و أخوه بالسلطان نازعين من جملة الأمير أبي علي فلما اعتل بالبلد الجديد و نازله السلطان بها فحينئذ عقد السلطان ليحيى بن أبي طالب على سبتة و بعثه إليها ليقيم دعوت بتلك الجهات و تمسك بابنه محمد رهنا على طاعته فاستقل بإمارتها و أقام دعوة السلطان و طاعته بها و أخذ بيعته على الناس و اتصل ذلك سنتين و هلك عمه أبو حاتم هنالك بعد مرجعه معه من المغرب سنة ست عشرة و سبعمائة ثم انتقض على طاعة السلطان و نبذ طاعة الأمراء و رجع إلى حال سلفه من أمر الشورى في البلد و استقدم من الأندلس عبد الحق بن عثمان فقدم عليه و عقد له على الحرب ليفرق الكلمة به و يوهن ببأسه عزائم السلطان في مطالبته و جهز السلطان إليه العساكر من بنى مرين و عقد كل حربه للوزير إبراهيم بن عيسى فزحف إليه و حاصره و تعلل عليهم بطلب ابنه فبعث به السلطان إلى وزيره إبراهيم ليعطي طاعته فيسلمه و جاءه الخبر من عيون كانت بالعسكر و أن ابنه كائن بفسطاط الوزير بساحة البحر بحيث تتأتى الفرصة في أخذه فبيت المعسكر و هجم عبد الحق بن عثمان بحشمه و ذويه على فسطاط الوزير فاحتمله إلى أبيه و ركبت العساكر للهيعة فلم يقفوا عل خبر حتى تفقد الوزير ابن العزفي و اتهموا قائدهم إبراهيم بن عيسى الوزير بممالأة العدو على ذلك فاجتمعت مشيختهم و تقبضوا عليه و حملوه إلى السلطان ابتلاء للطاعة و استبصارا في نصع السلطان فشكر لهم و أطلق وزيره لابتلاء نصيحته و رغب يحيى بن العزفي بعدها في رضى السلطان و ولايته و نهض السلطان سنة تسع عشرة و سبعمائة إلى طنجة لاختبار طاعته فعقد له على سبتة و اشترط هو على نفسه الوفاة لجباية السلطان و أسنى هديته في كل سنة و استمرت الحال على ذلك إلى أن هلك يحيى العزفي سنة عشرين و سبعمائة و قام بالأمر بعده ابنه محمد إلى نظر عمه محمد بن علي بن الفتيه أبي القاسم شيخ قرابتهم و كان قائد الأساطيل بسبتة و ولي النظر فيها بعد أن نزع القائد يحيى الرنداحي إلى الأندلس و اختلف الغوغاء بسبتة و انتهز السلطان الفرصة فأجمع على النهوض إليها سنة ثمان و عشرين و سبعمائة و بادروا بايتاء طاعتهم و عجز محمد ابن يحيى عن المناهضة و ظنها محمد بن عيسى من نفسه فتعرض للأمر في أوغاد من اللفيف فاجتمعوا إليه و دافعهم الملأ عن ذلك و حملوهم على الطاعة و اقتادوا بني العزفي إلى السلطان فانقادوا و احتل السلطان بقصبة سبتة و ثقف جهاتها و رم منثلمها و أصلح خللها و استعمل كبار رجالاته و خواص مجلسه في أعمالها فعقد لحاجبه عامر بن فتح الله الصدراتي على حاميتها و عقد لأبي القاسم بن أبي مدين على جبايتها و النظر في مبانيها و إخراج الأموال للنفقات فيها و أسنى جوائز الملأ من مشيختها و وفر أقطاعاتهم و جراياتهم و أوعز ببناء البلد المسمى أفراك على سبتة فشرعوا في بنائها سنة تسع و عشرين و سبعمائة و انكفأ راجعا إلى حضرته و الله تعالى أعلم (7/326)
الخبر عن استقدام عبد المهيمن للكتابة و العلامة
كان بنو عبد المهيمن من بيوتات سبتة و نسبهم في حضرموت و كانوا أهل تجلة و وقار منتحلين للعلم و كان أبو محمد قاضيا بسبتة أيام أبي طالب و أبي حاتم و كان له معهم صهر و نشأ ابنه عبد المهيمن هذا في حجر الطلب و الجلالة و قرأ صناعة العربية على الأستاذ الغافقي و حذق فيها و لما نزلت بهم نكبة الرئيس أبي سعيد سنة خمس و سبعمائة و احتملوا إلى غرناطة احتمل فيهم القاضي محمد بن عبد المهيمن و ابنه و قرأ عبد المهيمن بغرناطة على مشيختها و ازداد علما و بصرا باللسان و الحديث و استكتب بدار السلطان محمد المخلوع و اختص بوزيره المتغلب على دولته محمد بن الحكيم الرندي فيمن اختص به من رؤساء بني العزفي ثم رجع بعد نكبة ابن الحكيم إلى سبتة و كتب عن قائدها ابن مسلمة مدة و لما استخلص بنو مرين سبتة سنة تسع و سبعمائة اقتصر على الكتابة و أقام منتحلا مذاهب سلفه في انتحال العلم و نزول المرؤة و لما استولى السلطان أبو سعيد على المغرب و استقل بولاية العهد و تغلب على الآمر ابنه أبو علي و كان محبا للعلم مولعا بأهله منتحلا لفنونه و كانت دولته خلوا من صناعة التراسل مذ عهد الموحدين للبداوة الموجودة في أولهم و حصل للأمير أبي علي بعض البصر بالبلاغة و اللسان تفطن به لشأن ذلك و خلو دولتهم من الكتاب المرسلين و أنهم إنما يحكون الخط الذي حذقوا فيه و رأى الأصابع تشير إلى عبد المهيمن في رياسة تلك الصناعة فولع به و كان كثير الوفادة مع أهل بلده أوقات و فادتهم فيختصه الأمير أبو علي بمزيد بره و كرامته و يرفع مجلسه و يخطبه للكتابة و هو يمتنع عليه حتى إذا أمضى عزيمته في ذلك أوعز إلى عامله بسبتة سنة اثني عشرة و سبعمائة أن يشخصه إلى بابهم فقلده كتابته و علامته حتى إذا خرج أبو علي على أبيه تحيز عبد المهيمن إلى الأمير أبي الحسن فلما صولح أبو علي على النزول عن البلد الجديد و كتب شرطه على السلطان كان من جملتها كون عبد المهيمن معه و أمضى له السلطان ذلك و أنف الأمير أبو الحسن منها فأقسم ليقتلنه إن عمل بذلك فرفع عبد المهيمن أمره إلى السلطان و لاذبه و ألقى نفسه بين يديه فرق لشكواه و أمره باعتزالهما معا و الرجوع إلى خدمته و أنزله بمعسكره و أقام على ذلك و اختصه منديل الكتاني كبير الدولة و زعيم الخاصة و أنكحه ابنته و لما نكب منديل جعل السلطان علامته لأبي القاسم بن أبي مدين و كان غفلا خلوا من الآداب فكان يرجع إلى عبد السلطان علامته لأبي القاسم بن أبي مدين و كان غفلا خلوا من الآداب فكان يرجع إلى عبد المهيمن في قراءة الكتب إصلاحها إنشائها حتى عرف السلطان له ذلك فاقتصر عليه و جعل وضع العلامة إليه سنة ثمان عشرة و سبعمائة فاضطلع بها و رسخت قدمه في مجلس السلطان و ارتفع صيته و استمر على ذلك أيام السلطان و ابنه أبي الحسن من بعده إلى أن هلك بتونس في الطاعون الجارف سنة تسع و أربعين و سبعمائة و الله سبحانه و تعالى خير الوارثين (7/328)
الخبر عن صريخ أهل الأندلس و مهلك بطرة على غرناطة
كان الطاغية شانجة بن أدفونش قد تكالب على أهل الأندلس من بعد أبيه هراندة الهالك سنة اثنتين و ثمانين و ستمائة و منذ غلب على طريف شغل السلطان يوسف بن يعقوب بعده ببني يغمراسن ثم تشاغل حفدته من بعده بأمرهم و تقاصرت مددهم و هلك شانجة سنة ثلاث و سبعين و ولى ابنه هراندة و نازل الجزيرة الخضراء فرضة الجهاد لبني مرين حولا كاملا و نازلت أساطيله جبل الفتح و اشتد الحصار على المسلمين و راسل هراندة بن أدفونش صاحب برشلونة أن يشغل أهل الأندلس من ورائهم و يأخذ بحجزتهم فنازل ألمرية و حاصرها الحصار المشهور سنة تسع و سبعمائة و نصب عليها الآلات و كان منها برج العود المشهور بطول الأسوار بمقدار ثلاث قامات و تحيل المسلمون على إحراقه فأحرق و حفر العدو تحت الأرض مسربا مقدار ما يسير فيه عشرون راكبا و تفطن المسلمون و احتفر قبالتهم مثله إلى أن نفذ بعضهم لبعض و اقتتلوا من تحت الأرض و عقد ابن الأحمر لعثمان بن أبي العلاء زعيم الأعياص على عسكر بعثه مددا لأهل المرية فلقيه جمع من النصارى كان الطاغية بعثهم لحصار مرشانة فهزمهم عثمان و استلحمهم و نزل قريبا من معسكر الطاغية و ألح بمغاداتهم و مراوحتهم إلى أن رغبوا إليه في السلم و أفرج عن البلد و تغلب الطاغية خلال ذلك على جبل الفتح و أقامت عساكره على سماتة و اسطبونة و زحف العباس بن رحو بن عبد الله و عثمان بن أبي العلاء في العساكر لإغاثة البلدين فأوقع عثمان بعسكر اسطبونة و قتل قائدهم آلفنش بيرش في نحو ثلاثة آلاف فارس و استلحموا ثم زحف عثمان لإغاثة العباس و كان دخل عوجين فحاصرته جموع النصارى به فانفضوا الخبر زحفه و بلغ الخبر إلى الطاغية بمكانه من ظاهر الجزيرة بفتكة عثمان في قومه فسرح جموع النصرانية ولقيهم عثمان فأوقع بهم و قتل زعيمهم و ارتحل الطاغية يريد لقاءهم فخالف أهل البلد إلى معسكره و انتهبوا محلاته و فساطيطه و أتيحت للمسلمين عليهم الكرة و امتلأت الأيدي من غنائمهم و أسراهم ثم لم هلك الطاغية أثر هذه الهزائم سنة اثنتي عشرة و سبعمائة و هو هراندة بن شانجة و ولى بعده ابنه الهنشة طفلا صغيرا جعلوه لنظر عمه دون بطرة ابن شانجة و زعيم النصرانية جوان فكفلاه و استقام أمرهم على ذلك و شغل السلطان أبو سعيد ملك المغرب بشأن ابنه و خروجه فاهتبل النصرانية الغرة في الأندلس و زحفوا إلى غرناطة سنة ثمان عشرة و سبعمائة و أناخوا فيها بعسكرهم و أممهم و بعث أهل الأندلس صريخهم إلى السلطان و اعتذر لهم بمكان أبي العلاء من دولتم و محله من رياستهم و أنه مرشح للأمر في قومه بنى مرين يخشى معه تفريق الكلمة و شرط عليهم أن يدفعوه إليه برمته حتى يتم أمر الجهاد و يعيد إليهم حوطة على المسلمين و لم يمكنهم ذلك لمكان عثمان بن أبي العلاء لصرامته و عصابته من قومه فأخفق سعيهم و استلحموا و أطالت أمم النصرانية بغرناطة و طمعوا في التهامها ثم إن الله نفس مخنقهم و دافع قدرته عنهم و كيف لعثمان بن أبي العلاء و عصبته واقعة فيهم كانت أغرب الوقائع صمدوا إلى موقف الطاغية بجملتهم و كانوا زهاه مائتين أو أكثر و صابروهم حق خالطوهم في مراكزهم فصرعوا بطرة و جوان و ولوهم الأدبار و اعترضتهم من ورائهم مسارب الماء للشرب من شقيل فتطارحوا فيها و هلك أكثرهم و اكتسحت أموالهم و أعز الله دينه و أهلك عدوه و نصب رأس بطرة بسور البلد عبرة لمن يذكر و هو باق هنالك لهذا العهد و الله تعالى أعلم (7/329)
الخبر عن صهر الموحدين و الحركة إلى تلمسان على أثره و ما تخلل ذلك من الأحداث
لما انفرج الحصار عن ولد يغمراسن بن زيان أحد ملوك بنى عبد الواد سنة ست و سبعمائة و تجافى أبو ثابت عن بلادهم و نزل لهم عما كان بنو مرين ملكوه منها بسيوفهم و استقل أبو حمو بملك بي عبد الواد على رأس الحول منها صرف نظره و اهتمامه إلى بلاد المشرق فتغلب على بلاد مغراوة ثم على بلاد بني توجين و محا منها أثر سلطانهم و لحق أعياصهم من ولد عبد القوي بن عطية ولد منديل بن عبد الرحمن بالموحدين بي أبي حفص مع من تبعهم من رؤوس قبائلهم و صاروا في جملة عساكرهم و استلحق مولانا السلطان أبو يحيى و حاجبه يعقوب بن عمر منهم جندا كثيفا أثبتهم في الديوان و غالب بهم الخوارج و المنازعين للدولة ثم زحف أبو حمو إلى الجزائر و غلب ابن علان عليها سنة و نقله إلى تلمسان و وفى له و فر بنو منصور أمراء ملكيش أهل بسيط متيجة من صنهاجة فلحقوا بالموحدين و اصطنعوهم و تملك قاصية المغرب الأوسط و تاخم عمل الموحدين بعمله ثم تغلب على تدلس سنة اثنتي عشرة و سبعمائة و تجنى على مولانا السلطان أبي يحيى بما وقع بينهم من المراسلة أيام انتزى ابن مخلوف ببجاية كما ذكرناه في أخباره فحث عزائمه لمنزلتها و طلب بلاد الموحدين و أوطأ عساكره أرضهم و نازل أمصارهم بجاية و قسنطينة و اختص بجاية بشوكته من ذلك و جهز العساكر مع مسعود ابن عمه أبي عامر إبراهيم لمضايقتها و كان خلال ذلك ما قدمناه من خروج محمد بن يوسف ابن يغمراسن عليه سنة و قيام بنى توجين بأمره و اقتطاع جبل وانشريس من عمالة ملكه
و استمرت الحال على ذلك حتى هلك السلطان أبو حمو سنة ثمان عشرة و سبعمائة و قام بأمرهم ابنه أبو تاشفين عبد الرحمن فصنع له في ابن عمه محمد بن يوسف و نهض إليه بعساكر بني عبد الواد حتى نازله بمعتصمه من جبل وانشريش و داخله عمر بن عثمان كبير بنى تيغربن في المكربه فتقبض عليه و قتله سنة تسع عشرة و سبعمائة و ارتحل إلى بجاية حتى احتل بساحتها و امتنع عليه الحاجب ابن عمر فأقام يوما أو بعضه ثم انكفأ راجعا إلى تلمسان و ردد البعوث إلى أوطان بجاية و ابتنى الحصون لتجمير الكتائب فابتنى بوادي بجاية من أعلاه حصن بكر ثم حصن تامز يزدكت ثم اختط بتيكلات على مرحلة منها بلدا سماها تامز يزدكت على اسم المعقل الذي كان لأولهم بالجبل قبالة وجدة و امتنع يغمراسن به على السعيد كما قدمناه فاختط بلد تبكلات هذه و ثخنها بالأقوات و العساكر و صيرها ثغرا لملكه و أنزل بها جنده و عقد عليها لموسى بن علي الكردي كبير دولته و دولة أبيه و استحثه أمراء الكعوب من بني سليم لملك إفريقية حين مغاضبتهم لمولانا السلطان أبي يحيى اللحياني و أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أبي عمران و أبي اسحق بن أبي يحيى الشهيد مرة بعد أخرى كما ذكرناه في أخبارهم جميعا و كانت حروبهم سجالا إلى أن كان بين جيوش زناتة و الموحدين الزحف المشهور بالرياش من نواحي مرماجنة سنة تسع و عشرين و سبعمائة زحفت فيه إلى السلطان أبي يحيى عساكر زناتة مع حمزة بن عمر أمير بني كعب و من إليه من البدو و عليهم يحيى بن موسى من صنائع دولة آل يغمراسن و قد نصبوا للملك محمد بن أبي عمران بن أبي حفص و معهم عبد الحق بن عثمان من أعياص بني عبد الحق في بنيه و ذويه و كان نزع إليهم من عند الموحدين كما ذكرناه فاختل مصاف مولانا السلطان أبي يحيى وانهزم و استولوا على فساطيطه بما فيها من الذخيرة و الحرم و انتهبوا معسكره و تقبضوا على ولدبه الموليين أحمد و عمر و أشخصوهما إلى تلمسان و أصيب السلطان في بدنه بجراحات أوهنته و خلص إلى بونة ناجيا برمقه و ركب السنين منها إلى بجاية فأقام بها يدمل جراحه و استولت زناتة على تونس و دخلها محمد بن أبي عمران و سموه باسم السلطان و مقادته في يد يحيى بن موسى أمير زناتة و اعتزم مولانا السلطان أبو يحيى على الوفادة على ملك المغرب السلطان أبي سعيد صريخا على آل يغمراسن و أشار حاجبه محمد بن سيد الناس بإنفاذ ابنه الأمير أبي زكريا صاحب الثغر استنكافا له عن مثلها فتقبل إشارته و أركب ابنه البحر لذلك و بعث إليه معه أبا محمد عبد الله بن تاشفين من مشيخة الموحدين نافضا أمامه طرف المقاصد و المحاورات و نزلوا بغساسة من سواحل المغرب و قدموا على السلطان أبي سعيد بحضرته و أبلغوه صربخ مولانا السلطان أبي يحيى فأهتز لذلك هو و ابنه الأمير أبو الحسن و قال لابنه الأمير في ذلك المحفل : يا بني لقد قصدك أكبر أقوامنا و موصلك و الله لأبذلن في مظاهرتكم مالي و قومي و نفسي و لأسيرن بعساكري إلى تلمسان فأنزلها مع أبيك فانصرفوا إلى منازلهم مسرورين و كان فيما شرطه عليهم السلطان أبو سعيد مسير مولانا السلطان أبي يحيى بعساكره إلى منازلة تلمسان معه فقبلوا و نهض السلطان أبو سعيد إلى تلمسان سنة ثلاثين و سبعمائة و لما انتهوا إلى وادي ملوية و عسكر بضره جاءهم الخبر اليقين باستيلاء السلطان أبي يحيى على حضرة تونس و إجهاضه زناتة و سلطانهم عنها فاستدعى مولانا السلطان الأمير أبا زكريا يحيى ابنه و وزيره أبا محمد عبد الله بن تافراكين و أمرهم بالإنصراف إلى صاحبهم و أسنى جوائزهم و حاجاتهم و ركبوا أساطيلهم من غساسة و أرسل معهم للخطبة الصهر إبراهيم بن أبي حاتم العزفي و القاض بحضرته أبي عبد الله بن عبد الرزاق و انكفأ على عقبه راجعا إلى حضرته و لما انعقد الصهر بين الأمير أبي الحسن و السلطان أبي يحيى في ابنته شقيقة الأمير يحيى زفها إليهم في أساطيله مع مشيخة من الموحدين كبيرهم أبو القاسم بن عبو و وصلوا بها إلى مرسى غساسة سنة إحدى و ثلاثين بين يدي مهلك السلطان أبي سعيد فقاموا لها على أقدام البر و التكرمة و بعثوا الظهر إلى غساسة لركوبها و حمل أثقالها و صيغت حكمات الذهب و الفضة و مدت ولايا الحرير المغشاة بالذهب و احتفل لوافدها و أعراسها غاية الاحتفال بما لم يسمع مثله في دولتهم و تولت قهارمة الدار من عجز النساء ما يتولاه مثلهم من ذلك فطم الصنيع و تحدث الناس به و هلك السلطان أبو سعيد بين يدي موصلها و البقاء لله وحده (7/331)
الخبر عن مهلك السلطان أبي سعيد عفا الله عنه و ولاية السلطان أبي الحسن و ما تخلل ذلك من الأحداث
كان السلطان لما بلغه وصول العروس بنت مولانا السلطان أبي يحيى سنة إحدى و ثلاثين و سبعمائة واهتزت الدولة لقدومها عليهم تعظيما لحق أبها و قومها و احتفاء بها ارتحل السلطان أبو سعيد إلى تازى ليشارف أحوالها بنفسه احتفاء في تكرمتها و سرورا بعرس ابنه و اعتل هنالك و مرض حق إذا أشفى على الهلكة ارتحل به ولي العهد الأمير أبو الحسن إلى الحضرة و حمله في فراشه على أكتاف الحاشية و الخول حتى نزل بسبو ثم أدخله كذلك ليلا إلى داره و أدركته المنية في طريقه فقضى رحمة الله عليه فوضعوه بمكانه من البيت و استدعى الصالحين لمواراته فووري لشهر ذي الحجة سنة إحدى و ثلاثين و ستمائة و البقاء لله وحده و كل شيء هالك إلا وجهه
و لما هلك السلطان أبو سعيد اجتمع الخاصة من المشيخة و رجالات الدولة لولي عهده الأمير أبي الحسن و عقدوا له على أنفسهم و آتوه طاعتهم و بيعتهم و أمر بنقل معسكره من سبو و أضرب بالزيتون من ساحة فاس و لما ووري السلطان خرج إلى معسكره بالتعبية و اجتمع إليه الناس على طبقاتهم لأداء البيعة و جلس بفسطاطه و تولى أخذ البيعة له يومئذ على الناس المزوار عبو بن قاسم رئيس الوزعة و المتصرفين و حاجب الباب القديم الولاية بذلك في دارهم منذ عهد السلطان يوسف بن يعقوب و زفت إليه يومئذ عروسه بنت السلطان أبي يحيى فأعرس بها بمكانه من المعسكر و أجمع أمره على الانتقام لأبيها من عدوه و بدأ باستكشاف حال أخيه أبي علي و كان السلطان أبوهما يستوصيه به لما كان له بقلبه من العلاقة و كان ولي العهد هذا يؤثر لرضاه جهده فاعتزم على الحركة إلى سجلماسة لمشارفة أحواله و الله تعالى أعلم (7/334)
الخبر عن حركة السلطان أبي الحسن إلى سجلماسة و انكفائه عنها إلى تلمسان بعد الصلح مع أخيه و الاتفاق
لما هلك السلطان أبو سعيد و كملت بيعة السلطان أبي الحسن و كان كثيرا ما يستوصيه بأخيه أبي علي لما كان كلفا به شفوقا عليه فأراد مشارفة أحواله قبل النهوض إلى تلمسان فارتحل معسكره بالزيتون قاصدا سجلماسة و تلقته في طريقه وفود الأمير أبي علي أخيه مؤديا حقه موجبا مبرته مهنئا له بما آتاه الله من الملك متجافيا عن المنازعة فيه قانعا من تراث أبيه بما حصل في يده طالبا العقد له بذلك من أخيه فأجابه السلطان أبو الحسن إلى ما سأل و عقد له على سجلماسة و ما إليها من بلاد القبلة كما كان لعهد أبيهما و شهد الملأ من القبيل و سائر زناتة و العرب و انكفأ راجعا إلى تلمسان لإجابة صريخ الموحدين و أغذ السير إليها و لما انتهى إلى تلمسان تنكب عنها متجاوزا إلى جهة المشرق لوعد مولانا السلطان أبي يحيى بالنزول معه على تلمسان كما كان عليه وفاقهم و مشارطتهم مع الأمير أبي زكريا الرسول إليهم فاحتل بتاسالت في شعبان من سنة اثنتين و ثلاثين و سبعمائة و تلوم بها و أوعز إلى أساطيله بمراس المغرب فأغزاها إلى سواحل تلمسان و جهز لمولانا السلطان أبي يحيى مددا من عسكره أركبهم الأساطيل من سواحل وهران و عقد عليهم لمحمد البطوي من صنائع دولته و نزلوا بجاية و وافوا بها مولانا السلطان أبا يحيى فصاروا في جملته و نهضوا معه إلى تيكلات ثغر بنى عبد الواد المجمرة بها الكتائب لحصار بجاية و بها يومئذ ابن هزرع من قوادهم و أجفل من كان بها من العسكر قبل وصوله إليهم فلحقوا بآخر عملهم من المغرب الأوسط و أناخ مولانا السلطان أبو يحيى عليها بعساكر من الموحدين و العرب و البربر و سائر الحشود فخربوا عمرانها و انتهبوا ما كان من الأقوات مختزنا بها و كان بحرا لا يدرك ساحله لما كان السلطان أبو حمو من لدن اختطها قد أوعز إلى العمال بسائر البلاد الشرقية من عمل البطحاء أن ينقلوا أعشار الحبوب إليها و سائر الأقوات و تقبل ابنه السلطان أبو تاشفين مذهبه في ذلك و لم يزل دأبهم إلى حين حلت بها هذه الفاقرة فانتهب الناس من تلك الأقوات ما لا كفاء له و أضرعوا مختطها بالأرض فنسفوها نسفا و ذروها قاعا صفصفا و السلطان أبو الحسن خلال ذلك متشوف لأحوالهم منتظر قدوم مولانا السلطان أبي يحيى عليه لمنازلة تلمسان حتى وافاه الخبر بانتقاض أخيه كما نذكره فانكفأ راجعا و اتصل الخبر بمولانا السلطان أبي يحيى فقفل إلى حضرته و حمل البطوي معه و أسنى جائزته و جوائز عسكره و انصرفوا إلى السلطان مرسلهم في سفنهم من ساعتها و انقبض عنان السلطان أبي تاشفين عن غزو بلاد الموحدين إلى أن انقرض أمره و البقاء لله وحده (7/335)
الخبر عن انتقاض الأمير أبي علي و نهوض السلطان أبي الحسن إليه و ظفره به
لما توغل السلطان أبو الحسن في غزاة تلمسان و تجاوزها إلى تاسالت لوعد مولانا السلطان أبي يحيى دس أبو تاشفين إلى الأمير أبي علي في اتصال اليد و الاتفاق على السلطان أبي الحسن و أن يأخذ كل واحد منهما بحجزته عن صاحبه متى هم به و انعقد بينهما على ذلك و انتقض الأمير أبو علي على أخيه السلطان أبي الحسن و نهض من سجلماسة إلى درعة فقتل بها عامل السلطان و استعمل عليه من ذويه و سرح العسكر إلى بلاد مراكش و اتصل الخبر بالسلطان و هو بمعسكره بتاسالت فأحفظه شأنه و أجمع على الانتقام منه فانكفأ راجعا إلى الحضرة و أنزل بثغرتا وريرت تخم عمله معسكرا و عقد عليه لابنه تاشفين و جعله إلى نظر وزير منديل بن حمامة بن تيربيغين و أغذ السير إلى سجلماسة فنزل عليها و أحاطت عساكره بها و أخذ بمخنقها وحشد الفعلة و الصناع لعمل الآلات لحصارها و البناء بساحتها و أقام يغاديها القتال و يراوحها حولا كريتا و نهض أبو تاشفين في عساكره و قومه إلى ثغر المغرب ليوطئه عساكره و بعث في نواحيه يجاذب السلطان عن مكانه من حصار و لما انتهى إلى تاوريرت برز إليه ابن السلطان في وزرائه و عساكره و زحفوا إليه في التعبية فاختل مصافه و انهزم و لم يلق أحدا و عاد إلى منحجره و بادر إلى إمداد الأمير أبي علي بعسكره فعقد على حصة من جنده و بعث بهم إليه فتسربوا إلى البلد زرافات و وحدانا حتى استكملوا عنده و طاولهم السلطان الحصار و أنزل بهم أنواع الحرب و النكال حتى تغلب عليهم و اقتحم البلد عنوة و تقبض على الأمير أبي علي عند باب قصره و سيق إلى السلطان فأمهله و اعتقله و استولى على ملكه و عقد على سجلماسة و استعمل عليها و رحل منكفئا إلى الحضرة فاحتل بها سنة ثلاث و ثلاثين و سبعمائة و اعتقل أخاه في إحدى حجر القصر إلى أن قتله لأشهر من اعتقاله خنقا بمحبسه و عدد له هذا الفتح بفتح الجبل و استرجاعه من يد العد و دمره الله بأيدي عسكره و تحت راية ابنه أبي مالك كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/336)
الخبر عن منازلة جبل الفتح و استئثار الأمير أبي مالك و المسلمين به
لما هلك السلطان أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد المتغلب على ملك الأندلس من يد ابن عمه أبي الجيوش قام بالأمر بعده ابنه محمد طفلا صغيرا لنظر وزيره محمد بن المحروق من بيوت الأندلس وصنائع الدولة و استبد عليه فلما شب و ناهز أنف من الاستبداد عليه و أغراه المعلوجي من حشمه بالوزير فاغتاله و قتله سنة تسع و عشرين و سبعمائة و شمر للاستبداد و شد أواخي الملك و كان الطاغية قد أخذ جبل الفتح سنة تسع و جاورت النصرانية به ثغور الفرضة و كان شجى في صدرها و أهم المسلمين شأنه و شغل عنهم صاحب المغرب بما كان فيه من فتنة ابنه فرجعوا الجزيرة و حصونها إلى ابن الأحمر منذ سنة اثنتي عشر و سبعمائه لأول المائة الثامنة و استغلظ الطاغية عليهم بعد ذلك فرجعوا الجزيرة إلى صاحب المغرب سنة تسع و عشرين و سبعمائة و ولى عليها السلطان أبو سعيد من أهل دولته سلطان بن مهلهل من عرب الخلط أخواله و أسف الطاغية إلى حصونها عند مهلك السلطان أبي سعيد فملك أكثرها و منع البحر من الإجازة و قارن ذلك استبداد صاحب الأندلس و قتله لوزيره ابن المحروق و أهمه شأن الطاغية فبادر لإجازة البحر و وفد على السلطان أبي الحسن بدار ملكه من فاس سنة اثنتين و ثلاثين و سبعمائة فأكبر موصله وأركب الناس للقائه و أنزله بروض المصارة لصق داره و استبلغ في تكريمه و فاوضه ابن الأحمر في شأن المسلمين وراء البحر و ما أهمهم من عدوهم و شكا إليه حال الجبل و اعتراضه شجى في صدر الثغور فأشكاه السلطان و عامل الله في أسباب الجهاد و كان مشغوفا به متقبلا مذهب جده يعقوب فيه و عقد لابنه الأمير أبي مالك على خمسة آلاف من بني مرين و أنفذه مع السلطان محمد بن إسمعيل لمنازلة الجبل فاحتل بالجزيرة و تتابع إليه الأسطول بالمدد و أرسل ابن الأحمر حاشرين في الأندلس فتسايلوا إليه و أضربوا معسكرهم جميعا بساحة الجبل و أبلوا في حربه و منازلته البلاء الحسن إلى أن تغلبوا عليه سنة ثلاث و ثلاثين و سبعمائة و اقتحمه المسلمون عنوة و نفلهم الله من كان به من النصرانية بما معهم و وافاه الطاغية بأمم الكفر لثالثة فتحه و قد شحنه المسلمون بالأقوات نقلوها من الجزيرة على خيولهم و باشر نقلها الأمير أبو مالك و ابن الأحمر فنقلها الناس عامة و تحيز الأمير أبو مالك إلى الجزيرة و ترك بالجبل يحيى بن طلحة بن محلى من وزراء أبيه و وصل الطاغية بعد ثلاث فأناخ عليه و برز أبو مالك بعساكره فنزل بحزائه و بعث إلى الأمير أبي عبد الله صاحب الأندلس فوصل بحشد المسلمين بعد أن دوخ أرض النصرانية و خرج فنزل بازاء عسكر الطاغية و تحصن العدو في محلتهم و قاموا كذلك عادية لقرب العهد بارتجاعه و خفة ما به من الحامية و السلاح فبادر السلطان ابن الأحمر إلى لقاء الطاغية و سبق الناس إلى فسطاطه عجلا بائعا نفسه من الله في رضى المسلمين و سد فرجتهم فتلقاه الطاغية راجلا حاسرا إعظاما لموصله و أجابه إلى ما سأل من الإفراج عن هذا المعقل و أتحفه بذخائر مما لديه و ارتحل لفوره و أخذ الأمير أبو مالك في تثقيف أطراف الثغر و سد فروجه و أنزل الحامية به و نقل الأقوات إليه و كان فتحا طوق دولة السلطان أبي الحسن قلادة الفخر إلى آخر الأيام ثم رجع بعدها إلى شأنه من منازلة تلمسان و الله تعالى أعلم (7/337)
الخبر عن حصار تلمسان و تغلب السلطان أبي الحسن عليها و انقراض أمر بني عبد الواد بمهلك أبي تاشفين
لما تغلب السلطان على أخيه و حسم علة انتزائه و منازعته و سد ثغور المغرب و عظمت لديه نعمة الله بظهور عسكره على النصرانية و ارتجاع جبل الفتح من أيديهم بعد أن أقام في ملكة الطاغية نحوا من عشرين سنة فرغ لعدوه و أجمع على غزو تلمسان و وفد عليه رسل السلطان أبي يحيى في سبيل التهنئة بالفتح و الأخذ بحجزة أبي تاشفين على الثغور و أوفد السلطان إلى أبي تاشفين شفعاء في أن يتخلى عن عمل الموحدين جملة و لتراجع لهم عن تدلس و يرجع إلى تخوم عمله منذ أول الأمر و لو عامئذ ليعلم الناس جاه السلطان عند الملوك و يقدروه حق قدره و استنكف أبو تاشفين مع ذلك و أغلظ للرسل في القول و أفحش بمجلسه بعض السفهاء من العبيد في الرد عليهم و النيل من مرسلهم فانقلبوا إليه بما أحفظه فانبعثت عزائم السلطان للصمود إليهم و عسكر بساحة البلد الجديد و بعث وزراءه إلى قاصية البلاد
المراكشية لحشد القبائل و العساكر ثم تعجل فاعترض جنوده و أزاح عللهم و عبى مواكبه و سار في التعبية و فصل بمعسكره من فاس أواسط خمس و ثلاثين و سبعمائة و سار يجر الشوك و المدر من أمم المغرب و جنوده و مر بوجدة فجمر الكتائب لحصارها ثم مر بند رومة فقاتلها بعض يوم و اقتحمها فقتل حاميتها و استولى عليها آخر سنة خمس و ثلاثين و سبعمائة ثم سار على تعبيته حتى أناخ على تلمسان و بلغه الخبر بتغلب عساكره على وجدة سنة ست و ثلاثين و سبعمائة فأوعز إليه بتخريب أسوارها فأضرعوها بالأرض
و توافت إليه إمداد النواحي و جهاتها و حشودها و ربض على فريسته و وفدت إليه قبائل مغراوة و بني توجين فآتوه طاعتهم ثم سرح عساكره إلى الجهات فتغلب على وهران و هنين ثم على مليانة و تنس و الجزائر كذلك سنة ست و ثلاثين و سبعمائة و نزع إليه يحيى بن موسى صاحب القاصية الشرقية من عمله و المتاخم كان لعمل الموحدين و القائم بحصار بجاية بعد نكبة موسى بن علي فلقاه مبرة و تكريما و رفع بساطه و نظمه في طبقات وزرائه و جلسائه و عقد على فتح البلاد الشرقية ليحيى ابن سليمان العسكري كبير بنى عسكر بن محمد و شيخ بنى مرين و صاحب شوراهم بمجلس السلطان و المخصوص بصهر من السلطان عقد له على ابنته فسار في الألوية و الجنود و طوع ضاحية الشرق و قبائله و افتتح أمصاره حتى انتهى إلى ألمرية و نظم البلاد في طاعة السلطان و أحشد مقاتلتها إلى معسكره فلحقوا له و كاثروا جنوده و استعمل السلطان على وانشريش و عمل الحشم من بني توجين و عقد لسعد بن سلامة بن على كل بني يدللتن و جعل الوالي بالقلعة إلى نظره و كان خلص إليه بالمغرب قبل فصوله نازعا عن أبي تاشفين لمكان أخيه قريعه محمد من الدولة
و استعمل السلطان أيضا على شلف و سائر أعمال المغرب الأوسط و اختط السلطان بغربي تلمسان البلد الجديد لسكناه و نزل عساكره و سماه المنصورية و أدار على البلد المخروب سياجا من السور و نطاقا من الخندق و نصب المجانيق و الآلات من وراء خندقه و شيد قبالة كل برج من أبراج البلد برجا على ساقة خندقه ينضح رماته بالنبل رماتهم و يشغلونهم بأنفسهم حتى شيد برجا آخر أقرب منه و ترتفع شرفاته فوق خندقهم و لم يزل يتقرب بوضع الأبراج من حد إلى ما بعده حتى اختطها من قرب على ساقه خندقهم و تماصع المقاتلة بالسيوف من أعيالها و رتب المجانيق إلى رجمها و دكها فنالت من ذلك فوق الغاية و اشتد الحرب و ضاق نطاق الحصار و كان السلطان يصحبهم كل يوم بالبكور و التطواف على البلد من جميع جهاته لتفقد المقاتلة في مراكزهم و ربما ينفرد في طوافه بعض الأيام عن حاشيته فاهتبلوا الأمر يحسبونه غرة و صفوا جيوشهم من وراء السور مما يلي الجبل المطل على البلد حتى إذا حاذاه السلطان في تطوافه فتحوا أبوابهم و أرسلوا عليه عقبان جنودهم و اضطروه إلى سفح الجبل حتى لحق بأوعاره و كاد أن ينزل عن فرسه هو و وليه عريف بن يحيى أمير سويد و وصل الصائح إلى المعسكر فركب الأميران ابناه : أبو عبد الرحمن و أبو مالك في جموع بني مرين و تهاوت فرسان المعسكر من كل جانب فشمر جنود بني عبد الواد إلى مراكزهم ثم دفعوهم عنها و حملوهم على هوة الخندق فتطارحوا فيه و ترادفوا و هلك بالكظيظ أكثر ممن هلك بالقتل و استلحم في ذلك اليوم زعماء ملئهم مثل عمر بن عثمان كبير الحشم من بنى توجين و محمد بن سلامة بن علي كبير بنى يدللتن منهم أيضا و غيرهم و كان يوما له ما بعده و اعتز بنو مرين عليهم من يومئذ و نذر بنو عبد الواد بالتغلب عليهم و اتصلت الحرب مدة عامين ثم اقتحمها السلطان غلابا لسبع و عشرين من رمضان سنة سبع و ثلاثين و سبعمائة و وقف أبو تاشفين بساحة قصره مع خاصته و قاتل هنالك حتى قتل ابناه عثمان و مسعود و وزيره موسى بن علي و ولته عبد الحق بن عثمان من أعياص عبد الحق نزع إليه من جملة الموحدين كما أشرنا إليه و نستوفي خبره فهلك هو و ابنه و ابن أخيه و أثخنت السلطان أبا تاشفين الجراحة و وهن لها فتقبض عليه و اختبنه بعض الفرسان إلى السلطان فلقيه الأمير أبو عبد الرحمن صالي تلك الحروب و أورد غمرتها بنفسه فاعترضه و قد غض الطرف بموكبه فأمر به في الحين فقتل و احتز رأسه و سخط ذلك السلطان من فعله لحرصه على توبيخه و تقريعه و ذهب مثلا في الغابرين و اقتحم السلطان بكافة عساكره و تواقع الناس بباب كشوط لجنوبهم من كظيظ الزحام فهلك منهم أمم
و انطلقت أيدي النهب على البلد فلحقت الكثير من أهله معرات في أموالهم و حرمهم و خلص السلطان إلى المسجد الجامع مع لمة من خواصه و حاشيته و استدعى شيوخ الفتيا بالبلد أبو زيد و أبو موسى ابنا الإمام وفاء بحق العلم و أهله فخلصوا إليه بعد الجهد و وعظوه و ذكروه بما نال الناس من النهب فركب لذلك بنفسه و سكن و أوزع جنوده و أشياعه من الرعية و قبض أيديهم عن الفساد و عاد إلى معسكره بالبلد الجديد و قد كمل الفتح و عز النصر و شهد ذلك اليوم أبو محمد بن تاقراكين وافاه رسولا عن مولانا السلطان أبي يحيى مجددا للعهد فأعجله السلطان إلى مرسله بالخبر و سابق السابقين و دخل تونس لسبع عشرة ليلة من نوبة الفتح فعظم السرور عند السلطان أبي يحيى بمهلك عدوه و الانتقام منه بشارة و اعتدها بمساعيه و رفع السلطان أبو الحسن القتل عن بنى عبد الواد أعدائهم و شفى نفسه بقتل سلطانهم و عفا عنهم و أثبتهم في الديوان وفرض لهم العطاء و استتبعهم على راياتهم و مراكزهم و جمع كلمة بنى واسين من بني مرين و بني عبد الواد و توجين و سائر زناتة و أنزلهم ببلاد المغرب و سد بكل طائفة منهم ثغرا من أعماله و ساروا عصبا تحت لوائه فأنزل منهم بقاصية السوس و بلاد غمارة و أجاز منهم إلى ثغور عمله بالأندلس حامية و مرابطين و اندرجوا في جملته و اتسع نطاق ملكه و أصبح ملك زناتة بعد أن كان ملك بنى مرين و سلطان العدوتين بعد أن كان سلطان المغرب و الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين (7/339)
الخبر عن نكبة الأمير عبد الرحمن بمتيجة و تقبض السلطان عليه ثم مهلكه آخرا
قد قدمنا ما كان من اشتراط السلطان أبي سعيد على الموحدين منازلتهم تلمسان مع عساكره و تلوم السلطان أبي الحسن بتاسالت لانتظار مولانا السلطان أبي يحيى و لما نازل تلمسان بعساكره المرة الثانية لم يطالبهم بذلك و كان أبو محمد بن تافراكين يتردد إليه و هو بمعسكره من حصار تلمسان مؤديا حقه مستخبرا مآل عدوهم فلما تغلب على تلمسان أسر إليه سفيره أبو محمد بن تافراكين بأن سلطانه قادم عليه للقائه و تهنئته بالظفر بعدوه و تشوف السلطان أبو الحسن إليها لما كان يحب الفخر و يعنى به و ارتحل من تلمسان سنة ثلاث و ثلاثين و سبعمائة و عسكر ببسيط بمتيجة منتظرا وفادة مولانا السلطان أبي يحيى عليه و تكاسل السلطان عنها لما أراه سيفه المتحكم في دولته محمد بن الحكيم من حذر مغبتها و قال له : إن لقاء سلطانين لا يتفق إلا في يوم على أحدهما فكره ذلك السلطان و تقاعد عنه : و طال مقام السلطان أبي الحسن في انتظار الموعد الذي ألقى إليه أبو محمد بن تافراكين و اعتل لأشهر من مقامه و مرض بفسطاطه و تحدث أهل المعسكر بمهلكه و كان ابنا الأمير أبو عبد الرحمن و أبو مالك متناغيين في ولاية عهده منذ أيام جدهما أبي سعيد و كان السلطان قد جعل لهما من أول دولته ألقاب الإمارة و أحوالها من اتخاذ الوزراء و الكتاب و وضع العلامة و تدوين الدواوين و إثبات العطاء و استلحاق الفرسان و الإنفراد بالعساكر فكانا من ذلك على ثبج و جعل لهما مع ذلك الجلوس لمقعد فصله مناوبة لتنفيذ الأوامر السلطانية فكانا لذلك رديفين له في سلطانه
و لما اشتد و جع السلطان تمشت سماسرة الفتن بين هذين الأميرين و حزب أهل المعسكر لهما أحزابا و بث كل واحد منهما المال و حمل على المقربات و صارت شيعا و انقسموا فرقا و هم الأمر أبو عبد الرحمن بالتوثب على الأمر قبل أن يتبين حال السلطان بإغراء وزرائه و بطانته بذلك و تفطن خاصة السلطان لها فأخبروه الخبر و حضوه على الخروج إلى الناس قبل أن يتفاقم الأمر ويتسع الخرق فبرز إلى فسطاط جلوسه و تسامح أهل المعسكر به فازدحموا على مجلسه و تقبيل يده و تقبض على أهل الظنة من العساكر فأودعهم السجن وسخط على الأميرين و رحل الناس من معسكرهما فردهما إلى معسكره ثم رجع إلى فسطاطه فارتاب الأميران لذلك و وجما وطفئت نار فتنتهما و سكن سعي المفسدين عندما وانتبذ الناس عنهما فاشتدت روعة الأمير أبي عبد الرحمن و ركب من فساطيطه و خاض الليل و أصبح بحلة أولاد علي أمراء زغبة بالموطنين بأرض حمزة فتقبض عليه أميرهم موسى بن أبي الفضل و رده إلى أبيه فاعتقله بوجدة و رتب العيون لحراسته من حشمه إلى أن قتل بعد ذلك سنة اثنتين و أربعين و سبعمائة وثب بالسخان فقتله و أنفذ السلطان حاجبه علان بن محمد فقضى عليه و لحق وزيره زيان بن عمر الوطاسي بالموحدين فأجاروه و رضي السلطان صبيحة نزوع أبي عبد الرحمن عن أخيه أبي مالك و عقد له على ثغور عمله بالأندلس و صرفه إليها و انكفأ إلى تلمسان و الله أعلم (7/342)
الخبر عن خروج ابن هيدور و تلبسيه بأبي عبد الرحمن
لما تقبض السلطان على ابنه عبد الرحمن و أودعه السجن تفرق خدمة و حشمه و انذعروا في الجهات و همل جازر من مطبخه كان يعرف بابن هيدور كان شبيها له في الصورة فلحق ببني عامر من زغبة و كانوا لذلك العهد منحرفين عن الطاعة خوارج على الدولة لما كان السلطان و أبوه اختصا عريف بن يحيى أمير بني سويد أقتالهم منذ نزع إليهم عن أبي تاشفين فركبوا سنن الخلاف و لبسوا جلدة النفاق و انتبذوا بالقفار و رياستهم لذلك العهد لصغير بن عامر اخوته و عقد السلطان على حربهم لونزمار ابن وليه عريف و كان سيد البدو يومئذ فجمع لهم و شمر لطلبهم و أبعدوا أمامه في المذاهب و أوقع بهم مرارا و لحق بهم هذا الجازر و انتسب لهم إلى السلطان أبي الحسن و أنه أبو عبد الرحمن ابنه النازع عنه فشبه لهم و بايعوه و أجلبوا به على نواحي المرية و برز إليهم قائدها مجاهد بن من صنائع الدولة فقضوا جمعه و انهزم أمامهم ثم جمع لهم ونزمار و فروا عن تلك النواحي و افترق جمعهم و نبذوا لذلك الجازر عهده فلحق ببني يرناتن من زواوة و نزل على سيدتهم شمسي فقامت بأمره و حمل بنوها من بني عبد الصمد قومهم على طاعته و شاع في الناس خبره فمن مصدق و من مكذب حتى تبينت و وقفوا على كذبه في انتسابه فنبذوا عهده و لحق بالزواودة أمراء رياح و نزل على سيدهم يعقوب بن علي و انتسب له في مثل ذلك فأجاره إن صدق نسبه و أوعز السلطان إلى السلطان أبي يحيى صاحب إفريقية في شأنه فبعث إلى يعقوب و أشخصه إلى السلطان مع ذويه فلحق به بمكانه من سبتة فامتحنه السلطان و قطعه من خلاف و انحسم داؤه و بقي بالمغرب تحت جراية من الدولة إلى أن هلك سنة ثمان و ثمانين و سبعمائه و الله تعالى أعلم (7/343)
الخبر عن شأن الجهاد و اغزاء السلطان ابنه الأمير أبا مالك و استشهاده
لما فرغ السلطان من أمر عدوه و ما تبع من ذلك من الأحوال صرف اعتزامه إلى الجهاد لما كان كلفا به و كان الطاغية منذ شغل بنى مرين عن الجهاد منذ عهد يعقوب بن عبد الحق قد اعتزوا على المسلمين بالعدوة و نازلوا معاقلهم و تغلبوا على الكثير منها و ارتجعوا الجبل و نازلوا السلطان أبا الوليد في عقر داره بغرناطة و وضعوا عليه الجزية فتقبلها و أسفوا إلى لتهام المسلمين بالأندلس فما فرغ السلطان أبو الحسن من شأن عدوه و علت على الأيدي يده و انفسح نطاق ملكه دعته نفسه إلى الجهاد و أوعز إلى ابنه الأمير أبي مالك أمير الثغور من عمله بالعدوة سنة أربعين و سبعمائة بالدخول إلى دار الحرب و جهز إليه العساكر من حضرته و أنفذ إليه الوزراء فشخص غازيا في الحفل و توغل في بلاد الطاغية و اكتسحها و خرج بالسبي و الغنائم إلى أدنى صدره من أرضهم و أناخ بها و اتصل به الخبر بأن النصارى جمعوا له و أغذوا السير في اتباعه و أشار عليه الملأ بالخروج من أرضهم و إجازة الوادي الذي كان تخما بين أرض الإسلام و دار الحرب و أن يسير إلى مدن المسلمين فيمتنع بها فلج في إبايته و صمم عل التعريس و كان قرما ثبتا إلا أنه غير بصير بالحروب لمكان سنه فصبحهم عساكر النصرانية في مضاجعهم قبل أن يركبوا و خاطبوهم في ابايتهم و أدرك الأمير أبو مالك بالأرض قبل أن يستوي على فرسه فجدلوه و استلحموا الكثير من قومه و احتووا على المعسكر بما فيه من أموال المسلمين و أموالهم و رجعوا على أعقابهم و اتصل الخبر بالسلطان فتفجع لهلاك ابنه و استرحم له و احتسب عند الله أجره و في سبيله قتله و شرع في إجازة العساكر للجهاد و تجهيز الأساطيل (7/344)
الخبر عن واقعة الملند و الظفر به و ظهور أساطيل المسلمين على أسطول النصارى
لما بلغ الخبر إلى السلطان باستشهاد ابنه أخرج وزارءه إلى السواحل لتجهيز الأساطيل و فتح ديوان العطاء و اعترض الجنود و أزاح عللهم و استنفر أهل المغرب و ارتحل إلى سبتة ليباشر أحوال الجهاد و تسامعت أمم النصرانية بذلك فاستعدوا للدفاع و أخرج الطاغية أسطوله إلى الزقاق ليمنع السلطان من الإجازة و استحث السلطان أساطيل المسلمين من مراسي العدوة و بعث إلى الموحدين بتجهيز أسطولهم إليه فعقدوا عليه لزيد بن فرحون قائد أسطول يحاية من صنائع دولتهم و وافى سبتة في ستة عشر من أساطيل إفريقية كان من طرابلس و قابس و جربة و تونس و بونة و بجاية و توافت أساطيل المغربين بمرسى سبتة تناهز المائة و عقد السلطان عليها لمحمد بن علي العزفي الذي كان صاحب سبتة يوم فتحها و أمره بمناجزة أسطول النصارى بالزقاق و قد اكتمل عديدهم و عدتهم فاستلأموا و تظاهروا في السلاح و زحفوا إلى أسطول النصارى و تواقفوا مليا ثم قربوا الأساطيل بعضها إلى بعض و قرنوها للمصاف فلم يمض إلا كلا ولا حتى هبت ريح النصر و أظفر الله المسلمين بعدوهم و خالطوهم في أساطيلهم و استلحموهم هبرا بالسيوف و طعنا بالرماح و ألقوا أشلاءهم في اليم و قتلوا قائدهم الملند و استاقوا أساطيلهم مجنوبة إلى مرسى سبتة فبرز الناس لمشاهدتها و طيف بكثير من رؤسهم في جوانب البلد و نظمت أصفاد الأسرى بدار الانشاء و عظم الفتح و جلس السلطان للتهنئة و أنشدت الشعراء بين يديه و كان يوما من أعز الأيام و المنة لله (7/345)
الخبر عن واقعة طريف و تمحيص المسلمين
لما ظفر المسلمون بأسطول النصارى و خضدوا شوكتهم عن ممانعة الجواز شرع السلطان في إجازة العساكر الغزاة من المطوعة و المرتزقة و انتظمت الأساطيل سلسلة واحدة من العدوة إلى العدوة و لما استكمل إجازة العساكر أجاز هو في أسطوله مع خاصته و حشمه آخر سنة أربعين و سبعمائة و نزل بساحة طريف و أناخ بعساكره عليها و اضطرب معسكره بفنائها و بدأ بمنازلتها و وافاه سلطان الأندلس أبو الحجاج ابن السلطان أبي الوليد بعسكر الأندلس من غزاة زناتة و حامية الثغور و رجل البدو فعسكروا حذاء معسكره و أحاطوا بطريف نطاقا واحدا و أنزلوا بهم أنواع القتال و نصبوا عليها الآلات و جهز الطاغية أسطولا آخر اعترض به الزقاق لقطع المرافق عن المعسكر و طال ثواؤهم بمكانهم من حصار البلد ففنيت أزودتهم و افتقدوا العلوفات فوهن الظهر و اختلت أحوال المعسكر و احتشد الطاغية أمم النصرانية و ظاهره البرتقال صاحب أشبونة و غرب الأندلس فجاء معه في قومه و زحف إليهم لستة أشهر من نزولهم و لما قرب معسكرهم سرب إلى طريف جيشا من النصارى أكمنه بها فدخلوه ليلا على حين غفلة من العسس الذي أرصد لهم و أحسوا بهم آخر ليلتهم فثاروا بهم من مراصدهم و أدركوا أعقابهم قبل دخول البلد فقتلوا منهم عددا و لبسوا على السلطان بأنه لم يدخل البلد سواهم حذرا من سطوته و زحف الطاغية من الغد في جموعه و عبى السلطان مواكب المسلمين صفوفا و تزاحفوا و لما نشب الحرب برز الجيش الكمين من البلد و خالفوهم إلى المعسكر و عمدوا إلى فسطاط السلطان ودافعهم عنه الناشبة الذين أعدوا لحراسته فاستلحموهم ثم دافعهم النساء عن أنفسهن فقتلوهن و خلصوا إلى حظايا السلطان : عائشة بنت عمه أبي يحيى بن يعقوب و فاطمة بنت مولانا السلطان أبي يحيى ملك إفريقية و غيرهما من حظاياه فقتلوهن و استلبوهن و انتهبوا سائر الفساطيط و أضرموا المعسكر نارا و أحس المسلمون بما وراءهم في معسكرهم فاختل مصافهم و ارتدوا على أعقابهم بعد أن كان ابن السلطان صمم في طائفة من قومه و ذويه حتى خالطهم في صفوفهم فأحاطوا به و تقبضوا عليه و ولى السلطان متحيزا إلى فئة المسلمين و استشهد كثير من الغزاة و وصل الطاغية إلى فسطاط السلطان من المحلة و أنكر قتل النساء و الولدان و وقف منه لمنتهى أثره و انكفأ راجعا إلى بلاده و لحق ابن الأحمر بغرناطة و خلص السلطان إلى الجزيرة ثم إلى الجبل ثم ركب السفين إلى سبتة في ليله و محص الله المسلمين و أجزل ثوابهم و أرجأ لهم الكرة على عدوهم (7/346)
الخبر عن منازلة الطاغية الجزيرة ثم تغلبه عليها بعد أن غلب على القلعة من ثغور ابن الأحمر
لما رجع الطاغية من طريف استأسد على المسلمين بالأندلس و طمع في التهامهم و جمع عساكر النصرانية و نازل قلعة بني سعيد ثغر غرناطة و على مرحلة منها و جمع الآلات و الأيدي على حصارها و اشتد مخنقها و أصابهم الجهد من العطش فنزلوا على حكمه سنة اثنتين و أربعين و سبعمائة و أدال الله الطيب منها بالخبيث و انصرف إلى بلده و كان السلطان أبو الحسن لما أجاز إلى سبتة أخذ نفسه بالعودة إلى الجهاد لرجع الكرة و بعث في الأمصار للاستنفار و أخرج قواده إلى سواحل البحر لتجهيز الأساطيل حتى اكتمل له منها عدد ثم ارتحل إلى سبتة لمشارفتها و قدم عساكره إلى العدوة مع وزيره عسكر بن تاحضريت و بعث على الجزيرة محمد بن العباس بن تاحضريت من قرابة الوزير و بعث إليها مددا من العسكر مع موسى بن إبراهيم اليرنياني من المرشحين للوازرة ببابه و بلغ الطاغية خبره فجهز أسطوله و أجراه إلى بحر الزقاق لمدافعته وتلاقت الأساطيل و محص الله المسلمين و استشهد منهم أعاد وتغلب أسطول الطاغية على بحر الزقاق و ملكوه دون المسلمين و أقبل الطاغية من إشبيلية في عساكر النصرانية حتى أناخ بها على الجزيرة الخضراء مرفأ أساطيل المسلمين و فرضة المجاز و أمل أن ينظمها في مملكته مع جارتها طريف و حشد الفعلة و الصناع للآلات و جمع الأيدي عليها و طاولها الحصار و اتخذ أهل المعسكر بيوتا من الخشب للمطاولة و جاء السلطان أبو الحجاج بعساكر الأندلس فنزل قبالة الطاغية بظاهر جبل الفتح في سبيل الممانعة و أقام السلطان أبو الحسن بمكانه من سبتة ليسرب عليها المدد من الفرسان و المال و الزرع في أحايين الفعلة من أساطيلهم و تحت جناح الليل فلم يغنهم ذلك و اشتد عليهم الحصار و أصابهم الجهد و أجاز إليه السلطان أبو الحجاج يفاوضه في شأن السلم مع الطاغية بعد إذن الطاغية له في الإجازة مكرا به و ترصد له بعض الأساطيل في طريقه فصدقهم المسلمون القتال و خلصوا إلى الساحل بعد غص الريق و ضاقت أحوال الجزيرة و من كان بها من عساكر السلطان و سألوا من الطاغية الأمان على أن ينزلوا عن البلد فبذله و خرجوا فوفى لهم و أجازوا إلى المغرب سنة ثلاث و أربعين و سبعمائة فأنزلهم السلطان ببلاده على خير نزل و لقاهم من المبرة و الكرامة ما أعاضهم مما فاتهم و خلع عليهم و حملهم و أجازهم بما تحدث به الناس و تقبض على وزيره عسكر بن تاحضريت عقوبة على تقصيره في المدافعة مع تمكنه منها بما كان لديه من العساكر و انكفأ السلطان إلى حضرته موقنا بظهور أمر الله و إنجاز وعده في رجوع الكرة و علو الدين و الله متم نوره و لو كره الكافرون (7/347)
الخبر عن شفاعة صاحب تونس في أولاد أبي العلاء و وصولهم إلى السلطان
كان عثمان بن أبي العلاء من أعياص آل عبد الحق شيخ الغزاة المجاهدين من زناتة و البربر بالأندلس و كان له فيها مقام معلوم في حماية الثغور و مدافعة العدو و غزو دار الحرب و مساهمة صاحب الأندلس الجهاد كما نستوفي أخباره و كان السلطان أبو سعيد لما استصرخ بأهل الأندلس اعتذر بمكانه بينهم و اشترط عليهم أن يمكنوه من قياده حف يقضي نوبة الجهاد فلم يسعفوه بذلك و لما هلك عثمان بن أبي العلاء قام بالأمر من بعده في مراسم الجهاد بنوه و كانوا يرجعون في رياستهم إلى كبيرهم أبي ثابت عامر و قويت عصابتهم بالموالي و الأبناء و غلبت على يد السلطان يدهم و استبدوا عليه في أكثر الأحوال و استنكف لها و كان ذلك مما دعاه إلى القدوم على السلطان أبي الحسن و ارتاب بنو أبي العلاء في إجازته إليه و اتهموه على أنفسهم و أسعدهم إلى منازلة جبل الفتح على كره فلما تغلب المسلمون عليه و قضى ابن الأحمر من مدافعة الطاغية عنه بالرغبة ما قضى كما ذكرناه و اعتزم على القفول إلى حضرته أجمعوا الفتك به في طريقه و داخلوا في ذلك مولاه ابن المعلوجي لما أسفهم به من إرهاف حده و التضييق عليهم في جاههم فبرموا و طووا على البث حتى إذا و جدوا من أبي العلاء صاغية إلى ذلك خفوا إلى إجابتها و نذر بهم محمد بن الأحمر فبعث عن السفن تعرضه في طريقه و ساحل إليهم و تسابقوا لشأنهم قبل فوته فأدركوه دون حصن أصطبونة و عتبوه فاستعتب و أغلظوا له في القول و قتلوا مولاه عاصما صاحب ديوان العطاء تجنيا عليه و نكر ذلك السلطان فتناولوه بالرماح قعصا و طعنا حتى أقعصوه و رجعوا إلى المعسكر فاستدعوا من كان داخلهم من الموالي و جاؤا بأخيه أبي الحجاج يوسف بن أبي الوليد فبايعوا له و أصفقوا على تقديمه و سرح لحينه قائد ابن عزون فاستولى له على دار ملكه و تم أمره و حجبه رضوان مولى أبيهم و استبد عليه و سكن بين جنبيه من بنى أبي العلاء و قتلهم لأخيه داء دخيل حتى إذا سما السلطان أبو الحسن إلى الجهاد و أجاز المدد إلى ثغور عمله بالأندلس و عقد لابنه الأمير أبي مالك أسر إليهم في شأن بنى أبي العلاء بما كان أبوه السلطان أبو سعيد اشترط عليهم في مثلها و وافق منه داعية لذلك فتقبض عليهم أبو الحجاج و أودعهم المطبق أجمع ثم أشخصهم في السفين إلى مراسي إفريقية فنزلوا بتونس على مولانا السلطان أبي يحيى و بعث فيهم السلطان أبو الحسن إليه فاعتقلهم ثم أوعز إليه مع عريف الوزعة ببابه ميمون بن بكرون في إشخاصهم إلى حضرته فتوقف عنها و أبى من إخفار ذمتهم و وسوس إليه وزيره أبو محمد بن تافراكين بأن مقصد السلطان فيهم غير ما ظنوا به من الشر و رغب ببعثهم إليه و المبالغة في الشفاعة فيهم علما بأن شفاعته لا ترد فأجابه لذلك و جنبوهم إليه مع ابن بكرون و اتبعهم أبو محمد بن تافراكين بكتاب الشفاعة فيهم من السلطان و قدموا على السلطان أبي الحسن مرجعه من الجهاد سنة اثنتين و أربعين و سبعمائة فتلقاهم بالبر و الترحيب إكراما لشفيعهم و أنزلهم بمعسكره و جنب لهم المقربات بالمراكب الثقيلة و ضرب لهم الفساطيط و أسنى لهم الخلع و الجوائز و فرض لهم أعلى رتب العطاء و صاروا في جملته و لما احتل بسبتة لمشارفة أحوال الجزيرة سعى عنده فيهم بأن كثيرا من المفسدين يداخلونهم في الخروج و التوثب على الملك فتقبض عليهم و أودعهم في السجن بمكناسة إلى أن كان من خبرهم مع ابنه أبي عنان ما نذكره إن شاء الله تعالى و الله أعلم (7/349)
الخبر عن هدية السلطان إلى المشرق و بعثه بنسخ المصحف من خطه إلى الحرمين و القدس
كان للسلطان أبي الحسن مذهب في ولاية ملوك المشرق و الكلف بالمعاهد الشريفة تقبله من سلفه و ضاعفه لديه متن ديانته و لما قضى من أمر تلمسان ما قضى و تغلب كل المغرب الأوسط و صار أهل النواحي تحت ربقة منه و استطال بجناح سلطانه خاطب لحينه صاحب مصر و الشام محمد بن قلاوون الملك الناصر و عرفه بالفتح و ارتفاع العوائق عن الحاج في سابلتهم و كان فرانقه في ذلك فارس بن ميمون بن وردار وعاد بجواب الكتاب وتقرير المودة بين السلف وأجمع السلطان على كتب نسخة عتيقة من المصحف الكريم بخط يده ليوقفها بالحرم الشربف قربة إلى الله تعالى وابتغاء للمثوبة فانتسخها وجمع الوراقين لمعاناة تذهيبها وتنميقها و القراء لضبطها و تهذيبها حتى اكتمل شأنها وصنع لها وعاء مؤلفا من خشب الأبنوس والعاج والصندل فائق الصنعة وغشى بصفائح الذهب ونظم الجوهر و الياقوت و اتخذ له أصونة الجلد المحكمة الصنعة و غشي بصفائح الذهب ونظم بالجوهر و الياقوت و اتخذت له أصونة الجلد المحكمة الصناعة المرقوم أديمها بخطوط الذهب من فوقها غلاف الحرير والديباج وأغشية الكتان و أخرج من خزائنه أموالا عينها لشراء الضياع بالمشرق لتكون وقفا على القراء فيها و أوفد على الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر والشام خواص مجلسه وكبار أهل دولته مثل عريف بن يحيى أمير زغبة و السابق المقدم في بساطه على كل خالصة عطية بن مهلهل بن يحيى كبير الخولة وبعث كاتبه أبا الفضل بن محمد بن أبي مدين و عريف الوزعة ببابه و صاحب دولته عبو بن قاسم المزوار و احتفل في الهدية للمزوار للسلطان صاحب مصر احتفالا تحدث الناس به دهرا و وقفت على برنامج الهدية بخط أبي الفضل بن أبي مدين هذا الرسول و وعيته وأنسيته و ذكر لي بعض قهارمة الدار أنه كان فيها خمسمائة من عتاق الخيل المقربات بسروج الذهب و الفضة و لجمها خالصا ومغشي و مموها وخمسمائة حمل من متاع المغرب وما عونه و أسلحته و من نسج الصوف المحكم ثيابا و أكسية و برانس وعمائم وأزرا معلمة و غير معلمة ومن نسج الحرير الفائق المعلم بالذهب ملونا و غير ملون و ساذجا و منمقا و من الدرق المجلوبة من بلاد الصحراء المحكمة بالدباغ المتعارف و تنسب إلى اللمط
و من خرثي المغرب وما عونه وما يستظرف صناعته بالمشرق حتى لقد كان فيها مكيل من حصى الجوهر و الياقوت و اعتزمت حظية من حظايا أبيه على الحج في ركابه ذلك فأذن لها و استبلغ في تكريمها و استوصى بها وافده و سلطان مصر في كتابه
وفصلوا من تلمسان سنة وأدوا رساتهم إلى الملك الناصر وهديتهم فتقبلها وحسن لديه موقعها وكان يوم وفادتهم عليه بمصر يوما مشهودا تحدث به الناس دهرا و لقاهم في طريقهم أنواع البر و التكرمة حتى قضوا فرضهم و وضعوا المصحف الكريم حيث أمرهم صاحبهم و أسنى هدية السلطان من فساطيطهم الغريبة الشكل و الصنعة بالمغرب و من ثياب الإسكندرية البديعة النسج المرقومة بالذهب و رجعهم بها إلى مرسلهم و قد استبلغ في تكريمهم و وصلتهم و بقي حديث هذه الهدية مذكورا بين الناس لهذا العهد
ثم انتسخ السلطان نسخة أخرى من المصحف الكريم على القانون الأول و وقفها على القراءة بالمدينة و بعث بها من تحيره لذلك العهد من أهل دولته سنة و اتصلت الولاية بينه و بين الملك الناصر إلى أن هلك سنة إحدى و أربعين و سبعمائة و ولي الأمر من بعده ابنه أبو الفداء إسمعيل فخاطبه السلطان و أتحفه و عزاه عن أبيه و أوفد عليه كاتبه و صاحب ديوان الخراج أبا الفضل بن عبد الله بن أبي مدين فقضى من و فادته ما حمل و كان شأنه عجبا في إظهار أبهة سلطانه و الأنفاق على المستضعفين من الحاج في طريقه و اتحاف رجال الدولة التركية بدات يده و التعفف عما في أيديهم ثم شرع بعد استيلائه على إفريقية كما نذكره في كتاب نسخة أخرى من المصحف الكريم ليوقفها ببيت المقدس فلم يقدر اتمامها و هلك قبل فراغه من نسخها كما نذكره إن شاه الله تعالى (7/350)
الخبر عن هدية السلطان إلى ملك مالي من السودان المجاورين للمغرب
كان للسلطان آبي الحسن مذهب في الفخر يتطاول به إلى مناغات الملوك الأعاظم و اقتفاء سننهم في مهاداة الأقتال و الأمصار و إيفاد الرسل على ملوك النواحي القاصية و التخوم البعيدة و كان ملك مالي أعظم ملوك السودان لعهده مجاورا لملكه بالمغرب على مائة مرحلة في القفر من ثغور ممالكه القبلية و لما غلب بني عبد الواد على تلمسان و ابتزهم ملكهم و استولى على ممالك المغرب الأوسط و تحدث الناس بشأن أبي تاشفين و حصاره و مقتله و ما كان للسلطان في ذلك من سورة التغلب و آية العز و إهانة العدو و شاعت أخبار ذلك في الآفاق و سما سلطان مالي منسا موسى المتقدم ذكره في أخبارهم إلى مخاطبته فأوقد عليه فرانقين من أهل مملكته مع ترجمان من الملثمين المجاورين لممالكهم من صنهاجة فوفدوا على السلطان في التهنئة بالغلب والظفر بالعدو فأكرم و فادتهم و أحسن مثواهم و منقلبهم و نزع إلى طريقته في الفخر فأتحف طرفا من متاع المغرب و ماعونه من ذخيرة داره و أسناها و عين رجالا من أهل دولته كان فيهم كاتب الديوان أبو طالب بن محمد بن أبي مدين و مولاه عنبر الخصي و أوفدهم بها على ملك مالي منسا سليمان بن منسا موسى لمهلك أبيه قبل مرجع و فده و أوعز إلى أعراب الفلاة من المعقل بالسير معهم ذاهبين و جاءين فشمر لذلك على بن غانم أمير أولاد جار الله من المعقل و صحبهم في طريقهم امتثالا لأمر السلطان و توغل ذلك الركاب في القفر إلى بلد مالي بعد الجهد و طول المشقة فأحسن مبرتهم و أعظم موصلهم و أكرم و فادتهم و منقلبهم و عادوا إلى مرسلهم في و فد من كبار مالي يعظمون سلطانه و يوجبون حقه و يؤدون طاعته من خضوع مرسلهم و قيامه بحق السلطان و اعتماله في مرضاته ما استوصاهم به فأدوا رسالتهم و بلغ السلطان أربا من اعتزازه على الملوك و خضوعهم لسلطانه و قضاء حق الشكر لله في صنعه (7/352)
الخبر عن اصهار السلطان إلى صاحب تونس
لما هلكت ابنة السلطان أبي يحيى بطريف فيمن هلك من حظايا السلطان أبي الحسن بفساطيطه بقي في نفسه منها شيء حنينا إلى ما شغفته به من خلالها و عزة سلطانها و قيامها على بيتها و ظفرها في تصريفها و الاستمتاع بأصول الترف و لذاذة العيش في عشيرتها فسما أمله إلى الاعتياض عنها ببعض أخواتها و أوفد في خطبتها وليه عريف بن يحيى أمير زغبة و كاتب الجباية و العساكر بدولته أبا الفضل ابن عبد الله بن أبي مدين و فقيه الفتوى بمجلسه أبا عبد الله محمد بن سليمان السطي و مولاه عنبر الخصي فوفدوا يوم مثنى من سنة ست و أربعين و سبعمائة و أنزلوا منزل البر و استبلغ في تكريمهم و دس الحاجب أبو عبد الله بن تافراكين إلى سلطانه غرض و فادتهم فأبى من ذلك صونا لحرمه عن جولة الأقطار و تحكم الرجال و استعظاما لمثل هذا العرس و لم يزل حاجبه ابن تافراكين يخفض عليه الشأن و بعظم عليه حق السلطان أبي الحسن في رد خطبته مع الأذمة السابقة بينهما من الصهر و المخالصة إلى أن أجاب و أسعف و جعل ذلك الله فانعقد الصهر بينهما و أخذ الحاجب في شوار العروس و تأنق فيه و احتفل و استكثر و طال ثواء الرسل إلى أن استكمل و ارتحلوا من تونس لربيع من سنة تسع و أربعين و سبعمائة و أوعز مولانا السلطان أبو يحيى إلى ابنه الفضل صاحب بونة و شقيق هذا العروس أن يزفها على السلطان أبي الحسن قياما بحقه و بعث من بابه مشيخة من الموحدين مقدمهم عبد الواحد بن محمد بن أكمازير صحبوا ركابها إليه و وفدوا جميعا على السلطان و اتصل الخبر أثناء طريقهم بمهلك مولانا السلطان أبي يحيى عفا الله عنه فعزاهم السلطان أبو الحسن عنه عندما و صلوا إليه و استبلغ في تكريمهم و أجمل موعد أخيها الفضل بسلطانه و مظاهرته على تراث أبيه فأطمأنت به الدار إلى أن سار في جملة السلطان و تحت ألويته إلى إفريقية كما نذكر إن شاء الله تعالى (7/353)
الخبر عن حركة السلطان إلى إفريقية و استيلائه عليها
كان السلطان أبو الحسن قد امتدت عينه إلى ملك إفريقية لولا مكان السلطان أبي يحيى من ولايته و صهره و أقام يتحين لها الأوقات و لما بعث الله في الصهر وأشيع بتلمسان أن الموحدين ردوا خطبته نهض من المنصورة بتلمسان و أغذ السير إلى فاس ففتح ديوان العطاء و أزاح علل العسكر و عقد على المغرب الأقصى لحافده منصور ابن الأمير أبي مالك و فوض إلى الحسن بن سليمان بن يرزبكن في أحكام الشرطة وعقد له على الضاحية و ارتحل إلى تلمسان مضمرا الحركة إلى أفريقية حتى إذا جاء الخبر اليقين بالإسعاف إلى و الزفاف إلى سكن عزمه و هدأ طائره فلما هلك السلطان أبو يحيى في رجب من سنة سبع و أربعين و سبعمائة و كان من قيام ابنه عمر بالأمر و نزوع الحاجب أبي محمد بن تافراكين في رمضان منها ما ذكرنا تحركت عزائم السلطان لذلك و رغبه ابن تافراكين في ملك الموحدبن فرغب و جاء على أثره الخبر بما كان من قتل عمر لأخيه أحمد ولي العهد و كان يستظهر على عهده بكتاب أبيه و ما أودعه السلطان بحاشبيته من الوفاق على ذلك بخطه و اقتضاه منه حاجبه أبو القاسم بن عتو في سفارته إليه فامتعض السلطان لما أضاع عمر من عهد أبيه و هدر من دم أخيه و ارتكب مذاهب العقوق فيهم و خرق السياج الذي فرضه بخطه عليهم فأجمع الحركة إلى أفريقية و لحق به خالد بن حمزة بن عمر نازعا إليه ومستغذا مسيره ففتح ديوان العطاء و نادى في الناس بالمسير إلى أفريقية و أزاح عللهم و كان صاحب بجاية المولى أبو عبد الله حافد مولانا الأمير أبي يحيى وفد على السلطان أبي الحسن إثر مهلك جده بقرب المآب بسفارة أبيه إليه و بطلب الإقرار على عمله فلما استيأس منه و استيقن حركته بنفسه إلى إفريقية طلب الرجوع إلى مكانه فأسعف و فصل إلى بجاية
ولما قضى السلطان منسك الأضحى من سنة تسع و أربعين و سبعمائة عقد لابنه الأمير أبي عنان على المغرب الأوسط و عهد إليه بالنظر في أموره كافة و جعل إليه جبايته و ارتحل يريد إفريقية و سار في جملته هو و خالد بن حمزة أمير البدو و لما احتل بوهران و وافاه هنالك وفد قسطيلة و بلاد الجريد يقدمهم أحمد بن مكي أمير حربه و رديف أخيه عبد الملك في إمارته و يحيى بن محمد بن يملول أمير توزر سقط إليها بعد خروج الأمير أبي عمر العباس و لي العهد عنها و مهلكه بتونس و أحمد بن عامر بن العابد رئيس نفطة رجعا إليهما كذلك بعد مهلك ولي العهد فلقيه هؤلاء الرؤساء بوهران في ملأ من وجوه بلادهم فآتوه بيعتهم و قضوا حق طاعته و تثاقل محمد بن ثابت أمير طرابلس عن اللحاق به فبعث بيعته معهم فأكرم وفدهم و عقد لهم على أمصارهم و صرفهم إلى أعمالهم و تمسك بأحمد بن مكي لصحابة ركابه و في جملته و أغذ السير و لما احتل ببني حسن من أعمال بجاية وافاه بها منصور بن فضل بن مزني أمير بسكرة و بلاد الزاب في وفد من أهل وطنه و يعقوب بن علي بن أحمد سيد الزواودة و أمير البدو بضاحية بجاية و قسنطينة فتلقاهم بالمبرة و الاحتفاء و ألزمهم ساقته و سرح بين يديه قائده حمو بن يحيى العسكري من صنائع أبيه فلما عسكر بساحة بجاية أبو عبد الله و أبى عليه أهل البلد رهبة من السلطان و رغبة فيه و انفضوا من حوله و لحقت مشيختهم من القضاة و أهل الفتيا و الشورى بمجلس السلطان و سابقهم إليه حاجبه فارح مولى ابن سيد الناس فأدى طاعته و رجعه إليه للخروج للقاء ركابه و ارتحل حتى إذا أطلت راياته على البلد بادر المولى أبو عبد الله و لقيه بساحة البلد و اعتذر من تخلفه فتقبل عذره و أحله من البر و التكرمة محل الولد العزيز و أقطعه عمل كومية من نواحي هنين و أسنى جرايته بتلمسان و أصحبه إلى ابنه أبي عنان صاحب المغرب الأوسط و استوصاه به و دخل بجاية فرفع عنهم الظلامات و حط عنهم الربع من المغارم و نظر في أحوال ثغورها فثقفها و سد فروجها و عقد عليها لمحمد بن النوار من طبقة الوزراء و المرشحين لها و أنزل معه حامية من بني مرين و كاتب الخراج ببابه بركات بن حسون بن البواق وارتحل مغذا لسيره حتى احتل بقسطينة و تلقاه أميرها أبو زيد حافد مولانا السلطان أبي يحيى و أخواه أبو العباس أحمد و أبو يحيى زكريا و سائر إخوتهم فأتوه ببيعتهم و نزلوا له عن عملهم و أدالهم السلطان منه بندرومة من عمل تلمسان عقد للمولى أبي زيد على إمارتها و جعل له إسوة إخوته في أقطاع جبايتها و دخل البلد و عقد عليها لمحمد بن العباس و أنزل معه العباس بن عمر في قومه من بني عسكر و أمضى أقطاعات الزواودة و وافاه هنالك عمر بن حمزة سيد الكعوب لعهده و أمير البدو مستحثا لركابه و أخبره برحيل السلطان عمر ابن مولانا السلطان أبي يحيى من تونس فيمن اجتمع إليه من أولاد مهلهل أقتالهم من الكعوب موجها إلى ناحية قابس و أشار على السلطان بتسريح العساكر لاعتراضه قبل أن يخلص إلى طرابلس فسرح معه حمو بن يحيى العسكري قائده في عسكر من بني مرين و الجند و ارتحلوا في اتباع السلطان أبي حفص و تلوم السلطان أبو الحسن بقسنطينة و اعترض عساكره بسطح الجعاب منها و صرف بوسف بن مزني إلى عمله بالزاب بعد أن خلع عليه و حمله
ثم عقد للمولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى على مكان عمله ببونة و ملأ حقائبه جائزة و خلعا نفيسة و سرحه ثم ارتحل على أثرهم و أوعز حمو بن يحيى مع الناجعة من أولاد أبي الليل و لحقوا بالأمير أبي فمن بمباركة من ناحية قابس فأوقعوا به و تردى عن فرسه في حومة القتال هو و مولاه ظافر السنان القائم بدولته من المعلوجي فتقبض عليهما و سيقا إلى أبي حمو فاعتقلهما إلى الليل ثم ذبحهما و أنفذ برؤسهما إلى السلطان و لحق الفل بقابس فتقبض عبد الملك بن مكي على أبي القاسم بن عتو صاحب الأمير أبي حفص و شيخ الموحدين و على صخر بن موسى شيخ بنى سكين من سدويكش فيمن تقبض عليه من ذلك الفل و أشخصهم مقرنين في الأصفاد إلى السلطان و سرح السلطان عساكره إلى تونس و عقد عليهم ليحيى بن سليمان صهره من بني عسكر على إبنته و أنفذ معه أحمد بن مكي فاحتلوا بتونس و استولوا عليها و انطلق ابن مكي إلى مكان عمله من هنالك لما عقد له السلطان عليه و سرحه الله بعد أن خلع عليه و كل حاشيته و حملهم و نزل السلطان بناحية باجة فوافاه هنالك البريد برأس الأمير أبي حفص و عظم الفتح
ثم ارتحل إلى تونس و احتل بها يوم الأربعاء الثامن لجمادى الآخرة من سنة ثمان و تلقاه و فد تونس و ملؤها من شيوخ الشورى و أرباب الفتيا فآتوا طاعتهم و انقلبوا مسرورين بملكتهم ثم عبى يوم السبت إلى دخولها مواكبه و صف جنوده سماطين من معسكره بسيجوم إلى باب البلد يناهز ثلاثة أميال أو أربعة و ركب بنو مرين إلى مراكزهم في جموعهم و تحت راياتهم و ركب السلطان من فسطاطه و راكبه من على يمينه و ليه عريف بن يحيى أمير زغبة و يليه أبو محمد عبد الله بن تافراكين و من على يساره الأمير أبو عبد الله محمد أخو مولانا السلطان أبي يحيى و يليه الأمير أبو عبد الله ابن أخيه خالد كانا معتقلين بقسنطينة مع و لدهما منذ خروج أخيه الأمير أبي فارس فأطلقهم السلطان أبو الحسن و صحبوه إلى تونس فكانوا طرازا في ذلك الموكب فيمن لا يحصى من أعياص بني مرين و كبرائهم و هدرت طبوله و خفقت راياته وكانت يومئذ مائة و جاء و المواكب تجتمع عليه صفا صفا إلى أن و صل إلى البلد و قد ماجت الأرض بالجيوش و كان يوما لما ير مثله فيما عقلناه و دخل السلطان إلى القصر وخلع على أبي محمد بن تافراكين كسوته و قرب الله فرسه بسرجه و لجامه
و طعم الناس بين يديه و انتشروا و دخل السلطان مع أبي محمد بن تافراكين إلى حجر القصر و مساكن الخلفاء فطاف عليها و دخل منه إلى الرياض المتصلة به المدعوة برأس الطابية فطاف على بساتينه و جوائزه و أفضى منه إلى معسكره و أنزل يحيى ابن سليمان بقصبة تونس في عسكر لحمايتها و وصل إليه فل الأمير أبي حفص و الأسرى بقابس مقرنين في أصفادهم فأودعهم السجن بعد أن قطع أبا القاسم بن عتو و صخر بن موسى من خلاف لفتيا الفقهاء بحرابتهم و ارتحل من الغد إلى القيروان فجال في نواحيها و وقف على آثار الأولين و مصانع الأقدمين و الطلول الماثلة لصنهاجة و العبيديين و زار أجداث العلماء و الصالحين
ثم سار إلى المهدية و وقف على ساحل البحر و نظر في عاقبة الذيز كانوا من قبل أشد قوة و آثارا في الأرض و اعتبر بأحوالهم و مر في طريقه بقصر الأجم و رباط المنستير وانكفأ راجعا إلى تونس و احتل بها غر ة رمضان و أنزل المسالح على ثغور إفريقية و أقطع بني مرين البلاد و الضواحي و أمضى أقطاعات الموحدين للعرب و استعمل على الجهات و سكن القصر و قد عظم الفتح و عظمت في الاستيلاء على الممالك و الدول المنة و اتصلت ممالكه ما بين مسراته و السوس الأقصى من هذه العدوة و إلى رندة من عدوة الأندلس و الملك لله يؤتيه من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين و دفع إليه بتونس يهنؤنه بالفتح و كان سابقهم في تلك النوبة أبو القاسم الرحوي من ناشئة أهل الأدب فرفع الله قوله :
( أجابك شرق إذ دعوت و مغرب ... فمكة هشت للقاء ويثرب )
( و ناداك مصر و العراق و شامه ... بدارا فصدع الدين عندك يشعب )
( و حيتك أو كادت تحيى منابر ... عليها دعاة الحق باسمك تخطب )
( فسارع منا كل دان و شاسع ... إلى طاعة من طاعة الله تحسب )
( و تاقت لك الأرواح حبا و رغبة ... و أنت على الآمال تنأى و تقرب )
( ففي البلد ة البيضاء ومعشر ... و أنت بأفق الناصرية ترقب )
( و وافتك من ذات النخيل و فودها ... فلقاهم أهل لديك و مرحب )
( و لم تتلكأ عن إباء بجاية ... و لكن تراض الصعب حينا و تركب )
( تابت فلما أن أطلت عساكر ... ترى الشهب منها تستباح و تنهب )
( تبادر منهم مذعن و مسلم ... و أذعن منهم شاغب و مؤلب )
( و ما تونس إلا بمصر مروع ... و في حرم أمست لديك تسرب )
( و ما أهلها إلا بغاث لصائد ... و بالعز منها استنصروا و تعقبوا )
( و قد كنت قبل اليوم كهف زعيمهم ... فها أنت كهف للجميع و مهرب )
( فكل يرى أن الزمان أداله ... بكم فأجاب العيش و العيش مخصب )
( وكذلك إبن طائع و ان اعتلت ... به السن أحوالا و أنت له أب )
( و ما ذاك إلا أن عدلك ينتمي ... إلى الخلفاء الراشدين و بنسب )
( تساميت في ملك و نسك بحظة ... حذياك محراب لديها و مركب )
( إذا لذ لأملاك خمر مدامة ... فلذلك القرآن يتلى و يكتب )
( و إن أد من القوم الصبوح فإنما ... على ركعات بالضحى أنت تدأب )
( و إن حمدوا الشرب الغبوق ... فإنما شرابك بالإمساء ذكر مرتب )
( و إن خشنت أخلاقهم و تحجبوا ... فما أنت فظ بل و لا متحجب )
( لقد كرمت منك السجايا فأصبحت ... إذا ما أمر الدهر تحلو و تعذب )
( كما شيدت بيتا في ذؤابة معشر ... يزيدهم قحطان فخرا و يعرب )
( هم التاركو قلب القساور خضعا ... وعن شأوهم كفت عبيد و أغلب )
( هم الناس و الأملاك تحت جوارهم ... هم العظم الأرض العظيمة مغرب )
( هم المالكو الملك العظيم فبيتهم ... على كاهل السبع الشداد مطنب )
( لقد أصبحت بغداد تحسد بأسهم ... وحلة ودت أن تكون مناسب )
( تجلت ببيت المجد منهم كواكب ... لقد حل منها شارق و مغرب )
( فالله منهم ثلة بغريبة ... يروم بناها الأعجمي فيعرب )
( لقد قام عيد الحق للحق طالبا ... فما فاته منه الذي قام يطلب )
( و أعقب يعقوبا يؤم سبيله ... فلم يخطه و هو السبيل المنجب )
( و خلف عمانا فلله صارم ... به بان للإسلام شرع و مذهب )
( فكم في سبيل الله شن إغارة ... لما شاد أهل الكفر أمست تخرب )
( و لما أراد الله إتمام منة ... تقلدها منا مطيع و مذنب )
( أتى بك للدين الحنيفي آية ... تعرى بها عن لامع الحق غيهب )
( فجئت بما يرضى به الله سالكا ... سبيلا إلى رضوانه بك يذهب )
( و قمت بأمر الله حق قيامه ... يناضل عنه منك نضل مدرب )
( و أصبح أهل الله أهلا و شيعة ... لكم و لهم منكم مكان و منصب )
( و حل بأهل الفتك ما حل عزمهم ... و قام لديهم واعظ مترقب )
( و جاهدت في الرحمن حق جهاده ... فراهب أهل الكفر بأسك يرهب )
( و أنقذت من أيدي الإغارة أمة ... و أولى جهاد كان بل هو أوجب )
( فأصبحت الدنيا عروسا يزفها ... لأمرك من جاري المقادير مغرب )
( فلا مصر إلا قد تمناك أهله ... ولا أرض إلا باذ كارك تخصب )
( و ما الأرض إلا منزل أنت ربه ... وما حلها إلا الودود المرجب )
( تملكت شطر الأرض كسبا و شطرها ... وراثا فطاب الكل إرثا و مكسب )
( بجيش على الألواح و الماء يمتطي ... وجيش على الضمر السوابق يركب )
( و جيش من الإحسان و العدل و التقى ... و ذلك لعمر الله أغلى و أغلب )
( فلا مركب إلا يزين راكبا ... ولا راكب إلا به ازدان مركب )
( و لا رمح إلا و هو أهيف خاطر ... ولا سيف إلا و هو أبيض فأضب )
( فكم كاتب خطيه و دواته ... ولم يقر خطا يغتدى و هو يكتب )
( يمر على الأبطال و هو كأنه ... هزبر و أبطال الفوارس ربرب )
( و كم كاتب لا ينكر الطعن رمحه ... خبير بأيام الأعاريب معرب )
( له من عجيب السحر بالقول أضرب ... وفي هامة القوم المضارب مضرب )
( فها هو في الأقوال واش محبر ... و ها هو في الأمثال ثاو مجرب )
( و من ساحب بردا من العلم و التقى ... عليه ذيول الداودية تسحب )
( له صبغة في العلم جاءت بأصبغ ... و شهبان فهم لم يشمهن أشهب )
( فيا عسكرا قد ضم أعلام عالم ... به طاب في الدنيا لنا متقلب )
( هم الفئة العلياء و المعشر الذي ... إذا حل شعبا فهو للحق مشعب )
( لك الفضل في الدنيا على كل قاطن ... و مرتحل أنى يجيء و يذهب )
( و يا مالكا عدلا رضى متورعا ... مناقبه العلياء تتلى و تكتب )
( شرعت من الإحسان فينا شريعة ... تساوى بهاناء و من يتقرب )
( و أسميت أهل النسك إذ كنت منهم ... فمنك أخو التقوى قريب مقرب )
( و أعليت قدر العلم إذ كنت عالما ... فقيها و في طلابه لك مأرب )
( فمدحك محتوم على كل قائل ... ومن ذا الذي يحصي الرمال و يحسب )
( فلله كم تعطي و تمطي و تجتبي ... فللبحر من كفيك قد صح منسب )
( فلا برحت كفاك في الأرض مزنة ... يطيب بها للخلق مرعى و مشرب )
( و لا زلت في علياء مجدك راقيا ... وشانئك المدحوض ينكى و ينكب )
( توافى على أقصى أمانيك آمنا ... فلا بر يستعصى و لا يتعصب ) (7/354)
الخبر عن واقعة العرب مع السلطان أبي الحسن بالقيروان و ما تخللها من الأحداث
كان هؤلاء الكعوب من بني سليم رؤساء البدو بأفريقية و كان لهم اعتزاز على الدولة لا يعرفون غيره مذ أولها بل و ما قبله إذ كان سليم هؤلاء منذ تغلب العرب من مضر على الدول و الممالك أول الإسلام انتبذوا إلى الضواحي و القفار و أعطوا من صدقاتهم عن عزة و ارتاب الخلفاء بهم لذلك حتى لقد أوصى المنصور ابنه المهدي أن لا يستعين بأحد منهم كما ذكر الطبري فلما انثالت الدولة العباسية و استبد الموالي من العجم عليهم اعز بنو سليم هؤلاء بالقفر من أرض نجد و أجلبوا على الحاج بالحرمين و نالتهم منهم معرات و لما انقسم ملك الإسلام بين العباسية و الشيعة و اختطوا القاهرة نفقت لهم أسواق الفتنة و التعزز و ساموا الدولتين بالهضيمة و قطع السابلة ثم أغراهم العبيديون بالمغرب و أجازوا إلى برقة على أثر الهلاليين فخربوا عمرانها و أجروا في خلائها حتى إذا خرج ابن غانية على الموحدين و انتزى بالثغور الشرقية طرابلس و قابس و اجتمع معه قراقش الغزي مولى بني أيوب ملوك مصر والشام و انضاف إليهم أفاريق العرب من بني سليم هؤلاء و غيرهم أجلبوا معه على الضواحي و الأمصار و صاروا في جملتهم من ناعق فتنتهم و لما هلك قراقش وابن غانية و استبد آل أبي حفص بأفريقية و أعز الزواودة على الأمير أبي زكريا يحيى ابن عبد الواحد بن أبي حفص استظهر عليهم بني سليم هؤلاء و زاحمهم بظواعنهم و أقطعهم بأفريقية و نقلهم عن مجالاتهم بطرابلس و أنزلهم بالقيروان فكان لهم من الدولة مكان و عليها اعتزاز و لما افترق سلطان بني أبي حفص و استبد الكعوب برياسة البدو و ضربوا بين أعياصها و سعوا في شقاقها و أصابت منهم و أصابوا منها و كان بين مولانا الأمير أبي يحيى و ببن حمزة بن عمر أخي الأمير منازعة و فتن و حرب سجال أعانه عليها م كان من زحف بني عبد الواد إلى أفريقية وطمعهم في تملك ثغورها فكان يستجر جيوشهم لذلك و ينصب الأعياص من بني أبي حفص يزاحم بهم ثم غلبه مولانا السلطان أبو بكر آخرا و استجره إلى الطاعة ما كان من قطع كلمة الزبون عن مولانا السلطان أبي يحيى و هلاك عدوه من آل يغمراسن بسيف و ليه و ظهيره السلطان أبي الحسن فأذعن و سكن غرب اعتزازه و حمل بني سليم على إعطاء صدقاتهم فأعطوها بالكراهة ثم هلك باغتيال الدولة له فيما يزعمون و قام بالأمر بنوه و لم يعرفوا عواقب الأمور و لا أبلوا باعتساف الدولة و لم يعهدوا و لا سموا لسلفهم غير الاعتزاز فحدثتهم أنفسهم بالفتنة و الاعتزاز على قائد الدولة : و حاربوه فغلبوه و أجلبوا كل السلطان في ملكه ونازلوه بعقر داره سنة اثنتين و أربعين و سبعمائة و لما سامهم الأمير ابن مولانا السلطان أبي يحيى الهضيمة بعد مهلك أبيه نزعوا إلى أخيه ولي العهد فجاء إلى تونس وملكها سبعا ثم اقتحم عليه أخوه الأمير أبو حفص فقتله و تقبض يوم اقتحامه البلد على أبي الهول بن حمزة أخيهم فقتله صبرا بباب داره بالقصبة فأسفهم بها
و نزعوا إلى السلطان أبي الحسن و رغبوه في ملك أفريقية و استعدوه إليها
و لما تغلب السلطان على الوطن و كانت حاله في الاعتزاز على من في طاعته غير حال الموحدين و ملكته للبدو غير ملكتهم و حين رأى اعتزازهم على الدولة و كثرة ما أقطعتهم من الضواحي و الأمصار نكره و أدالهم من الأمصار التي أقطعهم الموحدون بأعطيات فرضها لهم في الديوان و استكثر جبايتهم فنقصهم الكثير منها و شكا الله إليه الرعية من البدو و ما ينالونهم به من الظلامات و الجور بفرض الاتاوة التي يسمونها الخفارة فقبض أيديهم عنها و أوعز إلى الرعايا بمنعهم منها فارتابوا لذلك و فسدت نياتهم و ثقلت وطأة الدولة عليهم فترصدوا لها و تسامح ذؤبانهم و بواديهم بذلك فأغاروا على قياطين بني مرين و مسالحهم بثغور أفريقية و فروجها و استاقوا أموالهم و كثر شاكيهم و أظلم الجو منهم بينهم و بين السلطان و الدولة
و وفد عليه بتونس بعد مرجعه من المهدية و فد من مشيختهم كان فيهم خالد بن حمزة مستحبة إلى أفريقية و أخوه أحمد و خليفة بن عبد الله بن مسكين و ابن عمه خليفة بن بو زيد من أولاد القوس فأنزلهم السلطان و أكرمهم
ثم رفع إليه الأمير عبد الرحمن ابن السلطان أبي يحيى زكريا بن اللحياني كان في جملته و كان من خبره أنه رجع من المشرق بعد مهلك أبيه بمصركما قدمناه سنة اثنتين و ثلاثين و سبعمائة فدعا لنفسه بجهات طرابلس و تابعه أعراب ذباب و بايع له عبد الملك بن مكي صاحب قابس و نهض معه إلى تونس في غيبة السلطان لتخريب تامز يزدكت كما ذكرناه فملكها أياما و أحس بمرجع السلطان فأجفل عنها و لحق عبد الواحد بن اللحياني إلى تلمسان إلى أن دلف الله السلطان أبو الحسن بعساكره ففارقهم و خرج إليه فأحله محل التكرمة و المبرة و استقر في جملته إلى أن ملك تونس و رفع إليه عند مقدم هذا الوفد أنهم دسوا إليه مع بعض حشمه و طلبوه في الخروج معهم لينصبوه للأمر بأفريقية و تبرأ إلى السلطان من ذلك فأحضروا بالقصر و وبخهم الحاجب علال بن محمد بن المصمود و أمر بهم فسحبوا إلى السجن
و فتح السلطان ديوان العطاء و عسكر بسيجوم من ساحة البلد بعد قضائه منسك الفطر من سنته و بعث في المسالح و العساكر فتوافت إليه و اتصل الخبر بأولاد أبي الليل و أولاد القوس باعتقال و فدهم و عسكرة السلطان لهم فضاقت عليهم الأرض بما رحبت و تعاقدوا على الموت و بعثوا إلى أقتالهم أولاد مهلهل بن قاسم بن أحمد
و كانوا بعد مهلك سلطانهم أبى حفص قد لحقوا بالقفر و انتبذوا عن أفريقية فرارا من مطالبة السلطان بما كانوا شيعة لعدوهم فأغذ السير إليهم أبو الليل بن حمزة متطارحا عليهم بنفسه في الاجتماع على الخروج على السلطان فأجابوه و ارتحلوا معه و توافت أحياء بنى كعب و حكيم جميعا بتوزر من بلاد الجريد فهدروا الدماء بينهم و تدامروا وتبايعوا على الموت و التمسوا من أعياص الملك من ينصبونه للأمر فدلهم بعض سماسرة الفتن على رجل من أعقاب أبي دبوس فريسة بني مرين من خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش عندما استولى عليها و كان من خبره أن أباه عثمان بن ادريس بن أبي دبوس لحق بمهلك أبيه بالأندلس و صحب هنالك مرغم بن صابر شيخ بني ذباب و هو أسير ببرشلونة فلما انطلق من أسره صحبه إلى وطن ذباب بعد أن عقد قمص برشلونة بينهما حلفا و أمدهما بأسطول على مال التزماه له و نزل بضواحي طرابلس و جبال البربر بها و دعا لنفسه هنالك و قام بدعوته كافة العرب من ذباب وقاتل طرابلس فامتنعت عليه ثم بايعه أحمد بن أبي الليل شيخ الكعوب بأفريقية و أجلب به على تونس فلم يتم أمره لرسوخ دعوة الحفصيين بأفريقية وانقطاع أمر بني عبد المؤمن منها و آثارهم منذ الأحوال العديدة و الآماد المتقادمة فنسي أمرهم
و هلك عثمان بن إدريس هذا بجربة ثم ابنه عبد السلام بعده و ترك من الولد ثلاثة : أصغرهم أحمد و كان صناع اليدين و لحقوا بتونس بعدما طوحت بهم طوائح الاغتراب وظنوا أن قد تنوسي شأن أبيهم فتقتض عليهم مولانا السلطان أبو يحيى و أودعهم السجن إلى أن غربهم إلى الإسكندرية سنة أربع و أربعين و سبعمائة و رجع أحمد إلى أفريقية واحتل بتوزر محترفا بالخياطة يتعيش منها فاستدعاه بنو كعب هؤلاء حين اتفقت أهواؤهم و من اتبعهم من أحلافهم أولاد القوس و سائر شعوب علاق و خرج إليهم من توزر فنصبوه للأمر وجمعوا له شيئا من الفساطيط والآلة و الكسوة الفاخرة و المقربات و أقاموا له رسم السلطان و عسكروا عليه بحللهم و قياطينهم وارتحلوا لمناجزة السلطان و لما قضى منسك الأضحى من سنة ثمان و أربعين و سبعمائة و ارتحل من ساحة تونس يريدهم فوافاهم في الفرح بين بسيط تونس و بسيط القروان المسمى بالثنية فأجفلوا أمامه و صدقوه القتال منهزمين و هو في اتباعهم إلى أن احتل بالقيروان ورأوا أن لا ملجأ منه فتذامروا و اتفقوا على الاستماتة و دس إليهم من عسكر السلطان بنو عبد الواد و مغراوة و بنو توجين فغلبوا بني مرين و وعدوهم بالمناجزة صبيحة يومهم ليتحيزوا إليهم براياتهم و صبحوا معسكر السلطان و ركب إليهم في الآلة و التعبية فاختل المصاف و تحيز إليهم الكثير ونجا السلطان إلى القيروان فدخلها في الفل من عساكره ثامن المحرم سنة تسع و أربعين و سبعمائة و تدافعت ساقات العرب في أثره و تسابقوا إلى المعسكر فانتهبوه و دخلوا فسطاط السلطان فاستولوا على ذخيرته و الكثير من حرمه و أحاطوا بالقيروان و أحاطت حللهم بها سياجا و تعاوت ذئابهم بأطراف البقاع و أجلب ناعق الفتنة من كل مكان و بلغ الخبر إلى تونس فاستحصن بالقصبة أولياء السلطان و حرمه و نزع ابن تافراكين من جملة السلطان بالقيروان إليهم فعقدوا له على حجابة سلطانهم أحمد بن أبي دبوس و دفعوه إلى محاربة من كان بالقصبة بتونس و أغذ إليها السير و اجتمع إليه أشياخ الموحدين و زعانف الغوغاء و الجند و أحاطوا بالقصبة و عاودها القتال و نصب المنجنيق لحصارها و وصل سلطانه أحمد على أثره فامتنعت عليهم و لم يغنوا فيها غناء و افترق أمر الكعوب و خالف بعضهم بعضا إلى السلطان و تساقطوا إليه فتنفس مخنق الحصار عن القيروان و اختلفت إليه رسل أولاد مهلهل و أحسن بهم أولاد أبي الليل بن حمزة بنفسه و عاهد السلطان على الإفراج و لم يفوا بعهده و داخل السلطان أولاد مهلهل في الخروج إلى سوسة فعاهدوه على ذلك و أوعز أسطوله بمرساها و خرج من معهم ليلا على تعبية فلحق بسوسة و بلغ الخبر إلى ابن تافراكين بمكانه من حصار القصبة فركب السفين ليلا إلى الإسكندرية و ارتاب سلطانهم ابن أبي دبوس لما و قف على خبره فانفض جمعهم و أفرجوا عن القصبة و ركب السلطان أسطوله من سوسة و نزل بتونس آخر جمادى و اعتمل في إصلاح أسوارها و إدارة الخندق عليها وأقام لها من الامتناع و التحصين رسما ثبت له من بعده و دفع به في نحر عدوه
و استقل من نكبة القيروان و عثرتها و خلص من هوتها و الله يفعل ما يشاء
ولحق أولاد أبى الليل و سلطانهم أحمد بن أبي دبوس بتونس فأحاطوا بالسلطان و استبلغوا في حصاره و خلصت ولاية أولاد مهلهل للسلطان فعول علهم ثم راجع بنو حمزة رأيهم في طاعة السلطان فدخل كبيرهم عمر إليه في شعبان و تقبضوا على سلطانهم أحمد بن أبي دبوس و قادوه إلى السلطان استبلاغا في الطاعة و امحاضا للولاية فتقبل فيئتهم و أودع ابن أبي دبوس السجن و أصهر إلى عمر بابنه أبي الفضل فعقد له على بنته و اختلفت أحوالهم في الطاعة و الانحراف إلى أن كان ما نذكر و الله غالب على أمره (7/361)
الخبر عن انتقاض الثغور الغربية و رجوعها إلى دعوة الموحدين
كان المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى لما قدم على السلطان أبي الحسن بتلمسان في زفاف شقيقته سنة سبع و أربعين و سبعمائة بعدما اتصل به في طريقه مهلك أبيه أوسع له السلطان كنفه و مهد له جانب كرامته و بره و غمز له بوعد في المظاهرة على ملك أبيه تعزى به عن فقده و ارتحل السلطان إلى أفريقية و المولى الفضل يرجو أن يجعل سلطانها إليه حتى إذا استولى السلطان على الثغرين بجاية وقسنطينة وارتحل إلى تونس عقد له على مكان إمارته أيام أبيه ببونة فصرفه إليه فانقطع أمله و فسد ضميره و طوى على البث حتى إذا كانت نكبة السلطان بالقيروان سما إلى التوثب على ملك سلفه و كان أهل قسنطينة و بجاية قد برموا من الدولة و استنقلوا وطأة الإيالة لما اعتادوا من الملك الرفيق فأشرأبوا إلى الثورة عندما بلغهم خبر النكبة و قد كان توافى بقسنطينة ركاب من المغرب في طوائف من الوفود و العساكر و كان فيهم ابن صغير من أبناء السلطان عقد له على عسكر من أهل المغرب و أوعز إليه باللحاق بتونس و فيهم عمال المغرب قدموا عند رأس الحول بجبايتهم و حسبانهم و فيهم أيضا و فد من زعماء النصارى بعثهم الطاغية ابن أدفونش مع تاشفين ابن السلطان لما أطلقه من الأسر بعدما عقد السلم و المهادنة وكان أسيرا عندهم من لدن واقعة طريف كما ذكرناه و كان أصابه مس من الجنون
فلما خلصت الولاية بين السلطان و الطاغية و عظم عنه الاتحاف و المهاداة و بلغه خبر السلطان و تملكه أفريقية أطلق ابنه تاشفين و بعث معه هؤلاء الزعماء للتهنئة وفيهم أيضا وفد من أهل مالي ملوك السودان بالمغرب أوفدهم ملكهم منسا سليمان للتهنئة بسلطان أفريقية و كان معهم أيضا يوسف بن مزبي عامل الزاب و أميره قدم بجباية عمله و اتصل به خبر الركاب بقسنطينة فلحق بهم مؤثرا صحابتهم إلى سدة السلطان و توافت هؤلاء الوفود جميعا بقسنطينة و اعصوصبوا على و لد السلطان
فلما و صل خبر النكبة اشرأب الغوغاء من أهل البلد إلى الثورة و تحلبت شفاههم إن ما بأيديهم من أموال الجباية و أحوال الثورة فنقموا عليهم سوء الملكة و دس مشيختهم إلى المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى بمكانه من بونة و قد كشف القناع في الانتزاء على عمله و الدعاء لنفسه فخطبوه للأمر و استحثوه للقدوم فأغذ السير و تسامع بخبره أولياء السلطان فخشي ابن مزني على نفسه و خرج إلى معسكره بحلة أولاد يعقوب ابن علي أمير الزواودة و لجأ ابن السلطان وأولياؤه إلى القصبة و مكر بهم أهل البلد في الدفاع دونهم حتى إذا أطلت رايات المولى الفضل و ثبوا بهم و حجزوهم إلى القصبة و أحاطوا بها حتى استنزلوهم على أمان عقدوه لهم و لحقوا بحلة يعقوب فعسكروا بها بعد أن نقض أهل البلاد عهدهم في ذات يدهم فاستصفوه و أشار عليهم ابن مزني باللحاق ببسكرة لتكون ركابهم إلى السلطان فارتحلوا جميعا في جوار يعقوب لما له في تلك الضواحي حتى لحقوا ببسكرة و نزلوا منها على ابن مزني خيرنزل و كفاهم كل شيء يهمهم على طبقاتهم ومقاماتهم و عناية السلطان بمن كان وافدا منهم حتى سار بهم يعقوب بن علي إلى السلطان و أوفدهم عليه في رجب من سنته و اتصل الخبر بأهل بجابة بالفعلة التي فعل أهل قسنطينة فساجلوهم في الثورة و كنسوا منازل أولياء السلطان و عماله فاستباحوها و استلبوهم و أخرجوهم من بين ظهرانيهم عراة فلحقوا بالمغرب و طيروا الخبر إلى المولى الفضل و استحثوه للقدوم فقدم عليهم و عقد على قسنطينة و بونة لمن استكفى به من خاصته و رجالات دولته و احتل بجاية لشهر ربيع من سنته
و أعاد ملك سلفه و استوسق أمره بهذه الثغور إلى أن كان من خبره مع السلطان بعد خروجه من بجاية ما نذكره إن شاء الله (7/366)
الخبر عن انتزاء أولاد السلطان بالمغرب الأوسط و الأقصى ثم استقلال أبي عنان بملك المغرب
لما اتصل خبر النكبة بالقيروان بالأمير أبي عنان ابن السلطان و كان صاحب تلمسان و المغرب الأوسط و تساقط إليه الفل من عسكر أبيه عراة زرافات و وحدانا و أرجف الناس بمهلك السلطان بالقيروان فتطاول الأمير أبو عنان للاستئثار بسلطان أبيه دون الأبناء لما كان له من الإيثار عند أبيه لصيانته و عفافه و استظهاره القرآن فكان محلا بعين أبيه لأمثالها و كان عثمان بن يحيى بن جرار من مشيخة بني عبد الواد و أولاد يندوكسن بن طاع الله منهم و كان له محل من الدولة كما ذكرناه عند أخباره و كان السلطان أذن له في الرجوع إلى المغرب فرجع من معسكره بالمهدية و نزل بزاوية العباد من تلمسان و كان مسمتا وقورا جهينة خبر ممتعا في حديثه و كان مرجما فيه الوقوف على الحدثان و كان الأمير أبو عنان متشوقا إلى خبر أبيه ففزع إلى عثمان بن جرار في تعرفها و استدعاه و أنس به و كان في قلبه مرض من السلطان فأودع إذن الأمير أبي عنان ما أراد من الأماني بتورط السلطان في المهلكة و بشره بمصير الأمر إليه فصادف منه إذنا واعية و اشتمل عليه ابن جرار من بعدها و رد الخبر بنكبة السلطان فأغراه ابن جرار بالتوثب على الملك وسول له الاستئثار به من دون إخوانه يقينا بمهلك السلطان ثم أوهمه الصدق بإرجاف الناس بموت السلطان فاعتزم و شحذ عزيمته في ذلك ما اتصل به من حافد السلطان منصور ابن الأمير أبي مالك صاحب فاس و أعمال المغرب من الانتزاء على عمله و أنه فتح ديوان العطاء و استلحق و استركب لغيبة بني مرين عن بلادهم و خلاء جوه من عساكرهم و أظهر العسكر و الحشد لاستنقاذ السلطان من هوة القيروان يسد منها حسوا في ارتقاء و تفطن لشأنه الحسن بن سليمان بن يرزيكن عامل القصبة بفاس و صاحب الشرطة بالضواحي فاستأذنه باللحاق بالسلطان فأذن له راحة من مكانه و أصحبه عمال المصامدة و نواحي مراكش ليستقدمهم على السلطان بجباياتهم فلحق بالأمير أبي عنان على حين أمضى عزيمته على التوثب و الدعاء لنفسه فقبض أموالهم و أخرج ما كان بموضع السلطان بالمنصورة من المال و الذخيرة و جاهر بالدعاء لنفسه و جلس للبيعة بمجلس السلطان من قصره في ربيع سنة تسع و أربعين و سبعمائة فبايعه الملأ و قرأ كتاب بيعتهم على الإشهاد ثم بايعه العامة و انفض المجلس و قد عقد سلطانه و رست قواعد ملكه و ركب في التعبية و الآلة حتى نزل بقبة الملعب و طعم الناس و انتشروا و عقد على و زارته للحسن بن يرزيكن ثم لفارس بن ميمون بن ورداد و جعله رديفا له و تبعا و رفع مكان ابن جرار عليهم و اختص لولايته و مناجاة خلوته كاتبه أبا عبد الله محمد بن محمد بن أبي عمر و سنذكر خبره ثم فتح الديوان و استركب من تساقط إليه من فل أبيه وخلع عليهم و دفع إليهم أعطياتهم و أزاح عللهم و بينما هو يريد الرحلة إلى المغرب بلغه أن ونزمار بن عريف ولي السلطان و خالصته عريف بن يحيى و كان أمير زغبة لعهده و مقدما على سائر البدو و بلغه أنه قد جمع له يريد حربه و غلبه على ما صار إليه من الانتزاء و الثورة على أبيه و أنه قصد تلمسان بجموعه من العرب و زناتة المغرب الأوسط فعقد للحسن بن سليمان وزيره على حربه و أعطاه الآلة وسرحه للقائه و سرح معه من حضر من بني عامر أقتال سويد و ارتحل في عسكره حتى احتل تسالة و ناجزه ونزمار الحرب ففلت جموعه و منحوا أكتافهم واتبع الوزير عسكرهم و اكتسح أموالهم و حللهم و عاد إلى سلطانه بالفتح و الغنائم
و ارتحل الأمير أبو عنان إلى المغرب و عقد على تلمسان لعثمان بن جرار و أنزله بالقصر القديم منها حتى كان من أمره مع عثمان بن عبد الرحمن ما ذكرناه في أخبارهم
و لما انتهى إلى وادي الزيتون وشى إليه بالوزير الحسن بن سليمان أنه مضمر الفتك به بتازى تزلفا إلى السلطان و وفاء بطاعته و أنه داخل في ذلك الحافد منصورا صاحب أعمال المغرب بما كان يظهر من طاعة جده فارتاب الأمير أبو عنان به و استظهر واشيه على ذلك بكتابه فلما قرأه تقبض عليه و قتله بالمساء خنقا و أغذ السير إلى المغرب
و بلغ الخبر منصور بن أبي مالك صاحب فاس فزحف للقائه و التقى الجمعان بناحية تازى و بوادي أبي الأجراف فاختل مصاف منصور و انهزمت جموعه و لحق بفاس و انحجر بالبلد الجديد و ارتحل الأمير أبو عنان في أثره و تسايل الناس على طبقاتهم إليه و آتوه الطاعة و أناخ بعساكره على البلد الجديد في ربيع الآخر سنة تسع و أربعين و أخذ بمخنقها و جمع الأيدي و الفعلة على الآلات لحصارها و لحين نزوله على البلد الجديد أوعز إلى الوالي بمكانه أن يطلق أولاد أبي العلاء المعتقلين بالقصبة فأطلقهم و لحقوا به فأقاموا معه على حصار البلد الجديد و طال تمرسه بها إلى أن ضاقت أحوالهم و اختلفت أهواؤهم و نزع إليه أهل الشوكة منهم و نزع إليهم عثمان بن إدريس بن أبي العلاء فيمن إليه من الحاشية بإذنه له في ذلك سرا ليمكن إليه فدس إليه و واعدوه الثورة بالبلد فثار بها و اقتحمها الأمير أبو عنان عليهم و نزل منصور بن أبي مالك على حكه فاعتقله إلى أن قتله بمحبسه و استولى على دار الملك و سائر أعمال المغرب و تسابقت إليه وفود الأمصار للتهنئة بالبيعة
و تمسك أهل سبتة بطاعة السلطان و الانقياد لقائدهم عبد الله بن على بن سعيد من طبقة الوزراء حينا ثم توثبوا به و عقدوا على أنفسهم للأمير أبي عنان و قادوا عاملهم إليه و تولى كبر الثورة فيهم زعيمهم الشريف أبو العباس أحمد بن محمد بن رافع من بيت أبي الشريف من آل الحسين كانوا انتقلوا إليه من صقلية و استوسق للأمير أبي عنان ملك المغرب و اجتمع إليه قومه من بني مرين للأمر و أقام مع السلطان بتونس و فاء بحقه و حص جناح أبيه عن الكرة على الكعوب الناكثين لعهده الناكبين عن طاعته فأقام بتونس يرجو الأيام و يؤمل الكرة
و الأطراف تنتقص و الخوارج تتجدد إلى أن ارتحل إلى المغرب بعد اليأس كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/368)
الخبر عن انتقاض النواحي و انتزاء بني عبد الواد بتلمسان و مغراوة بشلف و توجين بالمرية
لما كانت نكبة السلطان بالقيروان و انتثر ملك زناتة و انتقضت قواعد سلطانهم اجتمع كل قوم منهم لابرام أمرهم و النظر في شأن جماعتهم و كانوا جميعا نزعوا إلى الكعوب الخارجين على السلطان و بنزوعهم تمت الدبرة عليه و لحقوا بتونس مع الحاجب أبي محمد بن تافراكين ليلحقوا منها بأعمالهم و كان في جملة السلطان جماعة من أعياصهم منهم عثمان و إخوته الزعيم و يوسف و إبراهيم أبناء عبد الرحمن بن يحيى ابن يغمراسن بن زيان سلطان بني عبد الواد صار في إيالة السلطان منذ فتح تلمسان و إنزالهم بالجزيرة للرباط ثم رجعوا بعد استئثار الطاغية بها من مكانهم من دولته و ساروا إلى القيروان تحت لوائه و منهم علي بن راشد بن محمد بن منديل و قد ذكرنا أخبار أبيه و أنه ربي في إيالة السلطان و جو الدولة يتيما و كفلته نعمتها منذ نشأته حتى كأنه لا يعرف سواها فاجتمع بنو عبد الواد بتونس و عقدوا على أنفسهم لعثمان ابن عبد الرحمن لما كان كبير إخوته و أتوه ببيعتهم شرقي المصلى العتيق المطل على سيجوم من ساحة البلد لعهده بهم يومئذ و قد و ضعوا له درقة بالأرض من اللمط أجلسوه عليها ثم ازدحموا مكبين على يده يقبلونها للبيعة ثم اجتمع من بعدهم مغراوة إلى علي بن راشد و بايعوه و حفوا به و تعاهد بنو عبد الواد و مغراوة على الألفة و انتظام الكلمة و هدر الدماء و ارتحلوا إلى أعمالهم بالمغرب الأوسط فنزل علي بن راشد قومه بموضع عملهم من ضواحي شلف و تغلبوا على أمصاره و افتتحوا تدلس و أخرجوا منها أولياء السلطان و عسكره و قتلوا القاضي بمازونة سرحان كان مقيما بها لدعوة السلطان ثم سولت له نفسه التوثب و الانتزاء فدعا لنفسه وقتله علي بن راشد و قومه
و أجاز عبد الرحمن و قومه من بني عبد الواد إلى محلل ملكهم بتلمسان فألفوا عثمان ابن جرار قد انترى بها بعد منصرف الأمير أبي عنان و دعا لنفسه فتجهم له الناس لتوئبه عل المنصب الذي ليس لأبيه و استمسك بالبلد أياما يؤمل نزوع قومه إليه ثم زحف إليه بنو عبد الواد و سلطانهم فصدقوه الزحف و ثارت به الغوغاء وكسروا أبواب البلد و خرجوا إلى السلطان فأدخلوه القصر و احتل به في جمادى من سنة تسع و أربعين و سبعمائة و تسابق الناس إلى مجلسه مثنى و فرادى و بايعوه البيعة العامة ثم تفقد ابن جرار ثم أغرى به البحث فعثر عليه ببعض زوايا القصر و احتمل إلى المطبق فأودع به إلى أن سرب إليه الماء فات غريقا في هوته و ساهم السلطان أبو سعيد عثمان أخاه أبا ثابت الزعيم في سلطانه و أشركه في أمره و أردفه في ملكه وجعل الله أمر الحرب و الضواحي و البدو كلها و استوزر قريبه يحيى بن داود بن مكن من و لد محمد بن يندوكس بن طاع الله و استوسق ملكهم و أوفدوا مشيختهم على الأمير أبي عنان صاحب المغرب و سلطان بنى مرين فعقدوا معه السلم و المهادنة و اشترطوا له عن أنفسهم دفاع السلطان إليه و زحفوا إلى وهران من ثغور أعمالهم و نازلوا بها أولياء السلطان و عساكره و عاملها يومئذ عبد الله بن أجانا من صنائع السلطان أبي الحسن إلى أن غلبوه عليها و استنزلوه صلحا لأشهر من حصارها
و استمسك أهل الجزائر بطاعة السلطان و اعتصموا بها و عقد علها لقائده محمد بن يحيى بن العسكري من صنائع أبيه بعثه إليهم من تونس بعد نكبة القيروان ونجم بالمدية علي ابن يوسف بن زيان بن محمد بن عبد القوي داعيا لنفسه و طالبا سلطان سلفه و امتنع عليه معقل ملكهم بجبل وانشريش لمكان ولد عمر بن عثمان و قوم هم من بني تيغرين في رياسته و انحاش إليه أولاد عزيز من بني توجين أهل ضاحية المدية فقاموا بأمره و اعصوصبوا عليه و كانت بينه و بين أبناء عمر بن بوانشريش حرب سجال إلى أن هلك و خلص أمر بني توجين لأبناء عمر بن عثمان و هم على مذهبهم من طاعة السلطان و تمسكهم بدعوته و هو مقيم خلال هذا بتونس إلى أن أزمع الرحلة و احتل بالجزائر كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/371)
الخبر عن رجوع الثغور الغربية لأمراء الموحدين ببجاية و قسنطينة
لما توثب الأمير أبو عثمان على ملك أبيه و بويع بتلمسان و كانت للأمير أبي عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا صاحب بجاية لديه خلة و مصافاة من لدن بعثه إليه السلطان أبوه من بجاية و أنزله بتلمسان فدعا له السابقة و آثره بالإمارة و عقد له على محل إمارته من بجاية و أمده بما يرضيه من المال و السلاح و دفعه إليها ليكون حجرا دون السلطان بتونس و ضمن له هذا الأمير صده عن الخلوص إليه و سد المذاهب دونه و أوعز أبو عنان إلى أساطيله بوهران فركبها الأمير إلى تدلس و دخلها و نزل إليه صنهاجة أهل ضاحية بجاية عن عمه الأمير أبي العباس الفضل و اعصوصبوا عليه و قاموا بأمره لقديم نعمته و سالف إمارة أبيه و لما ارتحل الأمير أبو عنان إلى المغرب رحل في جملته الأمير أبو زيد عبد الرحمن ابن الأمير أبي عبد الله صاحب قسنطينة و معه إخوته فاختصهم يومئذ بتغريبه و خلطهم بنفسه فلما غلب الأمير أبو عنان منصور ابن أخيه أبي مالك على البلد الجديد و استولى على المغرب رأى أن يبعث ملوك الموحدين إلى بلادهم و يدفع في صدر أبيه بمكانهم فسرح الأمير أبا زيد و إخوته و كان منهم السلطان أبو العباس الذي جبر الله به الصدع و نظم الشمل فوصلوا إلى موطن ملكهم و محل إمارتهم و كان مولاهم نبيل حاجب أبيهم قد تقدم إلى بجاية و لحق بالأمير أبي عبد الله من حصارها ثم تقدم إلى قسنطينة و بها مولى من موالي السلطان المتغلب عليها و هو الأمير أبو العباس الفضل فلحين إطلاله على جهاتها و شعور أهلها بمكانه لفحت منهم عزائز المودة و ذكروا جميع الإيالة و أجمعوا التوثب بواليهم و احتل نبيل بظاهر قسنطينة فشرهت العامة إلى إمارته و القيام بدعوة مواليه و توثب أشياعهم على أولياء عمهم فأخرجوهم و استولى القائد نبيل على قسنطينة و أعمالها و أقام دعوة الأمير أبي زيد و إخوته كما كانت أول مرة بها و : جاؤا من المغرب إلى مراكز إمارتهم و دعوتهم قائمة و رايتهم على أنحائها خافقة فاحتلوا بها حلول الآساد بعرانينها و الكواكب بآفاقها و نهض الأمير أبو عبد الله محمد فيمن اجتمع الله من البطانة و الأولياء إلى محاصرة بلد بجاية فأحجر عمه بالبلد و أخذ بمخنقها أياما ثم أفرج عنها ثم رجع إلى مكانه من حصارها و دس إليه بعض أشياعه بالبلد و سرب إليه المال في الغوغاء فواعدوه فتح أبواب الربض في إحدى ليالي رمضان سنة تسع و أربعين و سبعمائة و اقتحم البلد و ملاء الفضاء بهدير طبوله فهب الناس من مراقدهم فزعين و قد و لج الأمير وقومه البلد و نجا الأمير الفضل إلى شعاب الجبل و كواريه المطل على القصبة راجلا حافيا فاختفي به إلى أن عثر عليه ضحى النهار وسيق إلى ابن أخيه فحن عليه و أركبه السفين إلى محل إمارته من بونة وخلص ملك بجاية للأمير أبي عبد الله هذا و اقتعد سرير آبائه بها وكتبوا للأمير أبى عنان بالفتح و تجديد المخالصة و الموالاة و العمل عن مدافعة أبيه من جهاته و الله تعالى (7/373)
الخبر عن نهوض الناصر ابن السلطان و وليه عريف بن يحيى من تونس إلى المغرب الأوسط
لما بلغ السلطان خبر ما وقع بالمغرب من انتقاض أطرفه وتغلب الأعياص من قومه وسواهم على أعماله و وصل إليه يعقوب بن علي أمير الزواودة بولده و عماله و وفده نظر في تلافي أمره بتسريح و لده الناصر إلى المغرب الأوسط لارتجاع ملكه و محو آثار الخوارج من أعمالهم فنهض مع يعقوب بن علي و أصحبه و ليه عريف بن يحيى أمير زغبة ليستظهر به على ملك المغرب و قدمها طليعة بين يديه و سار الناصر إلى بسكرة و اضطرب معسكره بها ثم فصل من بلاد رياح إلى بلاد زغبة و اجتمع إليه أولياؤهم من العرب و من زناتة من بني توجين أهل و انشريش و غيرهم و زحف إليهم الزعيم أبو ثابت من تلمسان في قومه من بني عبد الواد و غيرهم للمدافعة و التقى الجمعان بوادي بورك فانفضت جموع الناصر وانذعروا و رجع على عقبه إلى بسكرة وخلص عريف بن يحيى إلى قومه سويد ثم قطع القفر إلى المغرب الأقصى و لحق بالأمير أبي عنان فنزل منه بألطف محل و رجع الناصر إلى بسكرة و ارتحل مع أوليائهم أولاد مهلهل لمدافعة أولاد أبي الليل و سلطانهم المولى الفضل عن تونس كما ذكرناه و أحسوا به فنهض إليهم و فروا أمامه إلى أن خلص الناصر إلى بسكرة ثانية و اتخذها مثوى إلى أن لحق بأبيه بالجزائر عند رحلته من تونس إليها كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/374)
الخبر عن رحلة السلطان أبي الحسن إلى المغرب و تغلب المولى الفضل على تونس و ما دعا إلى ذلك من الأحوال
لما خلص المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى من نكبة بجاية و امتن عليه ابن أخيه فلحق بمحل إمارته من بونة و وافته بها مشيخة أولاد أبي الليل أوفدهم عليه بنو حمزة بن عمر يستحثونه لملك إفريقية يرغبونه فيه فأجاب داعيتهم و نهض إليهم بعد قضاء نسك الفطر من سنة تسع و أربعين و نزل مجللهم وأوجفوا بخيلهم و ركابهم على ضواحي إفريقية وجبوها و صمدوا إن تونس فنازلوها و أخذوا بمخنقها أياما ثم أخذ بحجزتهم عنها شيعة السلطان و أولياؤه من أولاد مهلهل و ابنه الناصر عند قفوله من المغرب الأوسط مفلولا فرحلوهم و شردوهم ثم رجعوا إلى مكانهم من حصارها ثم انفضوا عنها و تحيز خالد بن حمزة إلى شيعة السلطان أبي الحسن مع أولاد مهلهل و قومه فاعتزوا به و ذهب عمر بن حمزة إلى المشرق لقضاء فرضه و أجفل أبو الليل أخوه مع المولى الفضل إلى القفر حتى كان من دخول أهل الجريد في طاعته ما نذكره إن شاء الله تعالى و كان السلطان لما خلص من القيروان إلى تونس وفد إليه أحمد بن مكي مهنيا و مفاوضا في شأن الثغر و ما مني به من انتقاض الأطر إلى و فساد الرعية و تدارك السلطان أمره عند فواته بالتولية على أهل القطر من جنسهم استئلافا للكافة و استبقاء لطاعتهم فعقد على عمل قابس وجربة و الحامة و ما إليها لعبد الواحد ابن السلطان زكريا بن أحمد اللحياني وأنفذه مع أحمد بن مكي إلى عمله فهلك بجربة لليال من مقدمه في الطاعون الجارف عامئذ
وعقد لأبي القاسم بن عتو شيخ الموحدين على توزر ونفطة و سائر بلاد الجريد بعد أن كان استخلصه بعد مفر أبي محمد بن تافراكين قريعه و ما أضمر كل من سوء دخلته فنزل بتوزر وجمع أهل الجريد على الولاية و المخالصة و لما نازل المولى أبو العباس الفضل تونس مرتين و شرد أولاد مهلهل و امتنعت عليه عمد إلى الجريد سنة خمس و أربعين و سبعمائة يحاول فيه ملكا وخاطب أبا القاسم بن عتو يذكره عهده و عهد سلفه و حقوقهم فتذكر و حن و نظر إلى ما ناله به السلطان من المثلة في أطرافه واستثار كامن حقده فانحرف و حمل الناس على طاعة المولي الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى فسارعوا إلى الإجابة و بايعه أهل توزر و قفصة و نفطة والحامة ثم دعا ابن مكين إلى طاعته فأجاب إلها و بايعه أهل قابس و جربة أيضا وانتهى الخبر إلى السلطان باستيلاء المولى الفضل على أمصار إفريقية وأنه ناهض إلى تونس فأهمه الشأن و خشي على أمره و كانت بطانته يوسوسون إليه بالرحلة إلى المغرب لاسترجاع نعمتهم باسترجاع ملكه فأجابهم إليها و شحن أساطيله بالأقوات وأزاح علل المسافرين و لما قضى منسك الفطر من سنة خمسين و سبعمائة ركب البحر أيام استفحال فصل الشتاء و عقد لابنه أبي الفضل على تونس ثقة بما بينه و بين أولاد حمزة من الصهر و تفاديا بمكانه من معرة الغوغاء و ثورتهم و أقلع من مرسى تونس و لخمس دخل مرسى بجاية وقد احتاجوا إلى الماء فمنعهم صاحب بجاية من الورود و أوعز إلى سائر سواحله بمنعهم فزحفوا إلى الساحل و قاتلوا من صدهم عن الماء إلى أن غلبوهم و استقوا و أقلعوا و عصفت بهم الريح ليلتئذ وجاءهم الموج من كل مكان و ألقاهم اليم بالساحل بعد أن تكسرت الأجفان وغرق الكثير من بطانته و عامة الناس و قذف الموج بالسلطان فألقاه إلى الجزيرة قرب الساحل من بلاد زواوة مع بعض حشمه عراة فمكثوا ليلتهم و صبحهم جفن من الأساطيل كان قد سلم من ذلك العاصف فقربوا إليه حين رأوه و قد تصايح به البربر من الجبال و تواثبوا إليه فاختطفه أولياؤه من أهل الجفن قبل أن يصل إليه البربر و قذفوا به إلى الجزائر فنزل بها ولأم صدعه و خلع على من و صل من فل الأساطيل ومن خرج إليه من أوليائه و لحق به ابنه الناصر من بسكرة و اتصل بالمولى الفضل خبر رحيله من تونس و هو ببلاد الجريد فأغذ السير إلى تونس و نزل بها على ابنه ومن كان بها من مخلف أوليائه فغلبوهم عليها و اتصل أهل البلد بهم و أحاطوا يوم منى بالقصبة و استنزلوا ابن السلطان أبا الفضل الأمير بالقصبة على الأمان فخرج إلى بيت أبي الليل بن حمزة و أنفذ معه من أبلغه إلى مأمنه فلحق بأبيه بالجزائر وبادر إلى السلطان ين بن يوسف المنتزي بالمدية من بني عبد القوي فصار في جملته و خرج له عن الأمر و زعم أنه إنما كان قائما بدعوته فتقتل منه و أقره على عمله
ووفد عليه أوليائه من العرب سويد و الحرث و الحصين و من إليهم ممن اجتمع إلى وليه ونزمار بن عريف المتمسك بطاعته و وفد عليه أيضا على بن راشد أمير مغراوة وأغزاه بني عبد الواد و اشترط عليه إقراره بوطنه و عمله إذا تم أمره فأبى من قبول الاشتراط ظنا بعهده عن النكث فنزع عنه و صار إلى مظاهرة بني عبد الواد عليه و بعث أبو سعيد عثمان صاحب تلمسان إلى الأمير أبي عنان في المدد فبعث إليه بعسكر من بني مرين عقد عليهم ليحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي من تيربيغن و زحف الزعيم أبو ثابت إلى حرب السلطان أبي الحسن فيمن اجتمع له من عسكر بني مرين و مغراوة و خرج السلطان من الجزائر و عسكر بمتيجة و احتشد ونزمار سائر العرب بحللهم و وافاه بهم و ارتحلوا إلى شلف و لما التقى الجمعان بشدبونة صدقه مغراوة الحملة و صابرهم ابنه الناصر وطعن في الجولة فهلك و اختل مصاف إلى السلطان و استبيح معسكره و انتهب فساطيطه و خلص مع وليه و نزمار بن عريف و قومه بعد أن استبيحت حللهم فخرجوا إن جبل و انشريش ثم لحقوا بجبل راشد و رجع القوم عن اتباعهم و انكفؤا إلى الجزائر فتغلبوا عليها وأخرجوا من كان بها من أولياء السلطان و محوا آثار دعوته من الغرب الأوسط جملة والأمر بيد الله يؤتيه من يشاء (7/375)
الخبر عن استيلاء السلطان على سجلماسة ثم فراره عنها أمام ابنه إلى مراكش و استيلائه عليها و ما تخلل ذلك
لما انفضت جموع السلطان بشدبونة و قل عساكره وهلك الناصر ابنه خلص إلى الصحراء مع وليه و نزمار ولحق بحلل قومه سويد و أوطانهم قبلة جبل و انشريش وأجمع أمره على قصد المغرب موطن قومه و منبت عزه و دار ملكه و ارتحل معه وليه ونزمار بالنازعة من قومه وخرجوا إلى جبل راشد ثم أبعدوا المذاهب و قطعوا المفاوز إلى سجلماسة في القفر فلما أطلوا عليها و عاين أهلها السلطان تهافتوا عليه تهافت الفراش و خرج إليه العذارى من و راء ستورهن صاغية إليه و إيثارا لإيالته و فر العامل بسجلماسة إلى منجاته و كان الأمير أبو عنان لما بلغه الخبر بقصد سجلماسة ارتحل إليها في قومه و كافة عساكره بعد أن أزاح عللهم و أفاض عطاءه فيهم و كان ببني مرين نفرة عن السلطان و حذر من غائلته لجنايتهم بالتخاذل في المواقف والفرار عنه في الشدائد و لما كان يبعد بهم في الأسفار ويتجشم بهم المهالك فكانوا لذلك مجتمعين على منابذته و مخلصين في مناصحة ابنه منازعة فما لبث السلطان أن جاءه الخبر بوصولهم إليه في العساكر الضخمة مغذين السير إلى دفاعه و علم من حاله أنه لا يطيق دفاعهم و أجفل عنه و نزمار وليه في قومه سويد و كان من خبره أن عريف بن يحيى كان نزع إلى الأمير أبي عنان و أحله بمحله المعهود من تشريفهم وولايتهم حنى إذا بلغه الخبر بمناصحة و نزمار للسلطان و مظاهرته و تصده المغرب معه بناجعته زوى عنه وجه رضاه بعض الشيء و أقسم له لئن لم نفارق السلطان لأوقعن بك و بابنك عشر وكان معه في جملة الأمير أبي عنان و أمره بأن يكتب له بذلك فآثر و نزمار رضى أبيه و علم أن غناءه عن السلطان في و طن المغرب قليل فأجفل عنه و لحق بالزاب و انتبذ عن قومه وألقى عصاه ببسكرة فكان ثواؤه بها إلى أن لحق بالأمير أبي عنان كل ما نذكره ولما أجفل السلطان عن سجلماسة دخل الأمير أبو عنان إليها و ثقف أطرافها و سد فروجها و عقد علها ليحياتن بن عمر بن عبد المؤمن كبير بني و نكاسن وبلغه تصد السلطان إلى مراكش فاعتزم على الرحلة إليها و أبى عليه قومه فرجع بهم إلى فاس إلى أن كان من خبرهم مع السلطان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/278)
الخبر عن استيلاء السلطان على مراكش ثم انهزامه أمام الأمير أبي عنان و مهلكه بجبل هنتاتة عفا الله عنه
لما أجفل السلطان عن سجلماسة سنة إحدى و خمسين و سبعمائة بين يدي الأمير أبي عنان و عسكر بني مرين قصد مراكش وركب إليها الأوعار من جبال المصامدة ولما شارفها تسارع إليه أهل جهاتها بالطاعة من كل أوب و نسلوا من كل حدب ولحق عامل مراكش بالأمر أبي عنان و نزع إلى السلطان صاحب ديوان الجباية أبو محمد بن محمد بن أبي مدين بما كان في المودع من مال الجباية فاختصه واستكتبه و جعل الله علامته و استركب و استلحق وجبى الأموال وبث العطاء ودخل في طاعته قبائل العرب من جشم و سائر المصامدة وثاب له بمراكش ملك أقل معه أن يستولي على سلطانه و يرتجع فارط أمره من يد مبتزه و كان الأمير أبو عنان لما رجع إلى فاس عسكر بساحتها و شرع في العطاء و إزاحة العلل و تقبض على كاتب الجباية يحيى بن حمزة بن شعيب بن عمد بن أبي مدين اتهمه بممالأة بني مرين في الإمالة عليه عن اللحاق بمراكش من سجلماسة و أثار حقده في ذلك ما كان من نزوع عمه أبي المجد إلى السلطان بأموال الجباية و وسوس الله في السعاية به كاتبه و خالصته أبو عبد الله محمد بن أبي محمد بن أبي عمر لما بينهما من المنافسة فتقبض عليه و امتحنه ثم قطع لسانه و هلك في ذلك الامتحان وارتحل الأمير أبو عنان و جموع بي مرين إلى مراكش و برز السلطان إلى لقائهم ومدافعتهم وانتهى كل واحد من الفريقين إلى وادي أم ربيع وتربص كل بصاحبه إجازة الوادي ثم أجازه السلطان أبو الحسن و أصبحوا جميعا في التعبية و التقى الجمعان بتامرغوست في آخر صفر من سنة إحدى و خمسين و سبعمائة فاختل مصاف السلطان و انهزم عسكره و لحق به أبطال بي مرين فرجعوا عنه حياة و هيبة وكبا به فرسه يومئذ في مفره فسقط إلى الأرض و الفرسان تحوم حوله و اعترضهم دونه أبو دينار سليمان بن على بن أحمد أمير الزواودة و رديف أخيه يعقوب كان هاجر مع السلطان من الجزائر و لم يزل في جملته إلى يومئذ فدافع عنه حتى ركب وسار من و رائه ردءا له و تقبض على حاجبه علاء بن محمد فصار في يد الأمير أبي عنان و أودعه السجن إلى أن امتن عليه بعد مهلك أبيه
وخلص السلطان إلى جبل هنتاتة و معه كبيرهم عبد العزيز بن عمد بن على فنزل عليه و أجاره و اجتمع إليه الملأ من قومه هنتاتة و من انضاف إليهم من المصامدة وتدامروا و تعاهدوا على الدفاع عنه و بايعوه على الموت و جاء أبو عنان على أثره حتى احتل بمراكش و أنزل عساكره على جبل هنتاتة ورتب المسالح لحصاره وحربه و طال عليه ثواؤه وطلب السلطان من ابنه الإبقاء و بعث في حاجبه محمد بن أبي عمر فحضر عنده و أحسن العذر عن الأمير أبي عنان والتمس له الرضى منه فرضي عنه وكتب له بولاية عهده و أوعز إليه بأن يبعث له مالا وكسى فسرح الحاجب ابن أبي عمر بإخراجها من المودع بدار ملكهم و اعتل السلطان خلال ذلك فمرضه أولياؤه و خاصته و افتصد لإخراج الدم ثم باشر الماء لفصده للطهارة فورم وهلك لليال قريبة عفا الله عنه لثلاث و عشرين من ربيع الثاني سنة اثنتين و خمسين و سبعمائة و بعث أولياؤه الخبر إلى ابنه بمعسكره من ساحة مراكش ورفعوه على أعواده إليه فتلفاه حافيا حاسرا وقبل أعواده و بكى واسترجع مراكش عن أوليائه و خاصته و أنزلهم بالمحل الذي رضوه من دولته و وارى أباه بمراكش إلى أن نقله إلى مقبرة سلفهم بشالة في طريقه إلى فاس و تلقى أبا دينار ابن على بن أحمد بالقبول و الكرامة و أحله محل الرحب و السعة و أسنى جائزته وخلع عليه و حمله و انصرف من فاس إلى قومه يستحثهم للقاء السلطان أبي عنان بتلمسان لما كان أجمع على الحركة إلها بعد مهلك أبيه ورعى لعبد العزيز بن محمد أمير هنتاتة إجارته للسلطان و استماتته دونه فعقد له على قومه و أحله بالمحل الرفيع من دولته و مجلسه و استبلغ في تكريمه و الله تعالى أعلم (7/379)
الخبر عن حركة السلطان أبي عنان إلى تلمسان و ايقاعه ببني عبد الواد بانكاد و مهلك سلطانهم سعيد
لما هلك السلطان أبو الحسن و انقضى شأن الحصار ارتحل السلطان أبو عنان إلى فاس ونقل شلو أبيه إلى مقبرتهم بشالة فدفنه مع من هنالك من سلفه و أغذ السير إلى فاس وقد استبد بالأمر و خلت الدولة عن المنازع فاحتل بفاس و أجمع أمره على غزو بني عبد الواد لارتجاع ما بأيديهم من الملك الذي سموا لاستخلاصه و لما كان فاتح سنة ثلاث و خمسين و سبعمائة نادى بالعطاء و أزاح العلل و عسكر بساحة البلد الجديد و اعترض العساكر و ارتحل يريد تلمسان و اتصل الخبر بأبي سعيد وأخيه فجمعوا قومهم و من إليهم من الأشياع و الأحزاب من زناتة و العرب وارتحلوا إلى لقائه و نزل السلطان بعساكره وادي ملوية وتلوم به أياما لاعتراض الحشود و العرب ثم رحل على التعبية حتى إذا احتل ببسيط أنكاد و تراءى الجمعان انفض سرعان المعسكر و لحقوا بالعرب و ركب السلطان في التعبية و خاض بحر القتال و قد أظلم الجوبه حتى إذا خلص إليهم من غمره و خالطهم في صفوفهم ولوا الأدبار و منحوهم الأكتاف و اتبع بنو مرين آثارهم فاستولوا على معسكرهم واستباحوه و استباحوهم قتلا و سبيا وصفدوهم أسرى و غشهم الليل و هم متسايلون في أثرهم و تقبض على أبي سعيد سلطانهم فسيق إلى السلطان فأمر باعتقاله وأطلق أيدي بني مرين من الغد على حلل العرب من المعقل فاستباحوهم و اكتسحوا أموالهم جزاء بما شرهوا إليه من النهب في المحنة في هيعة ذلك المجال ثم ارتحل على تعبيته إلى تلمسان فاحتل بها لربيع من سنته و استوت في ملكها قدمه و أحضر أبا سعيد فقرعه و وبخه وأراه أعماله حسرة عليها و أحضر الفقهاء و أرباب الفتيا فأفتوا بحرابته و قتله فأمضى حكم الله فيه فذبح في محبسه لتاسعة من اعتقاله و جعله مثلا للآخرين و خلص أخوة الزعيم أبو ثابت إلى قاصية الشرق فكان من خبره ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم (7/281)
الخبر عن شأن أبي ثابت و ايقاع بني مرين به بوادي شلف و تقبض الموحدين عليه بجاية
لما أوقع السلطان ببني عبد الواد بأنكاد و تقبض على أبي سعيد سلطانهم خلص أبو ثابت أخوه في فل منهم و مر بتلمسان فاحتمل حرمهم و مخلفهم و أجفل إلى الشرق فاحتل بشلف من بلاد مغراوة وعسكر هنالك و اجتمع إليه أوشاب من زناتة وحدث نفسه باللقاء و وعدها بالصبر و الثبات و سرح السلطان وزيره فارس بن ميمون بن ودرار في عساكر بني مرين و الجند فأغذ السير إليهم و ارتحل من تلمسان على أثره و لما تراءى الجمعان صدق الفريقان المجاولة و خاضوا النهر بالقراع ثم صدق بنو مرين الحملة و اجتازوا النهر إليهم فانكشفوا و اتبعوا آثارهم واستلحموهم و استباحوا معسكرهم و استاقوا أموالهم و دوابهم و نساءهم و ارتحلوا في اتباعهم وكتب الوزير بالفتح إلى السلطان و مر أبو ثابت بالجزائر طارقا وأجاز إلى قاصية المشرق فاعترضهم قبائل زواوة و أرجلوهم عن خيلهم و انتهبوا أسلابهم و مروا حفاة عراة و احتل الوزير بالجزائر و استولى علما و اقتضى بيعة السلطان منهم فآتوها واحتل الوزير بالمدية و أوعز إلى أمير بجاية المولى أبي عبد الله حافد مولانا الأمير أبي يحيى مع وليه و نزمار وخالصته يعقوب بن على بالتقبض على أبي ثابت و أشياعه فأذكوا العيون عليهم و قعدوا لهم بالمرصاد و عثر بعض الحشم على أبي ثابت و أبي زيان ابن أخيه أبي سعيد و وزيرهم يحيى بن داود فرفعوهم إلى الأمير ببجاية فاعتقلهم و ارتحل للقاء السلطان بالمدية وبعثهم مع مقدمته وجاء على أثرهم ونزل على السلطان بمعسكره من المدية خير نزل بعد أن تلقاه بالمبرة والاحتفاء وركب للقائه و نزل عن فرسه للسلطان فزل السلطان برا له و أودع أبا ثابت السجن و توافت إليه وفود الزواودة بمكانه من ألمدية فأكرم و فدهم و أسنى أعطياتهم من الخلع و الحملان و الذهب و انقلبوا خير منقلب ووافته بمكانه ذلك بيعة ابن مزني عامل الزاب و وفدهم فأكرمهم و وصلهم وفرغ السلطان من شأن المغرب الأوسط و بث العمال في نواحيه و ثقف أطرافه وسما إلى ملك إفريقية كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/382)
الخبر عن تملك السلطان أبي عنان بجاية و انتقال صاحبها إلى المغرب
لما و صل السلطان أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا يحيى صاحب بجاية إلى السلطان بمكانه من المدية في شعبان من سنته وأقبل السلطان عليه و بوأه كنف ترحيبه و كرامته خلص الأمر به نجيا و شكا إليه ما يلقاه من أهل عمله من الامتناع من الجباية و السعي في الفساد و ما يتبع ذلك من زبون الحامية و استبداد البطانة و كان السلطان متشوقا لمثلها فأشار عليه بالنزول عنها و أن يديله عنها بما ضاء من بلاده فسارع إلى قبول إشارته ودس إليه مع حاجبه محمد بن أبي عمرو أن يشهد بذلك على رؤوس الملاء ففعل وفعل عليه بطانته ذلك و في بعضهم من عسكره فلحق بإفريقية ومنهم على ابن القائد محمد بن الحكيم و أمره السلطان أن يكتب بخطه إلى عامله على البلد بالنزول عنها و تمكين عمال السلطان منها ففعل و عقد السلطان عليها لعمر بن على الوطاسي من أولاد الوزير الذي ذكرنا خبر انتزائهم بتازوطا من قبل و لما قضى السلطان حاجته من المغرب الأوسط و استولى على بجاية انكفأ راجعا إلى تلمسان لشهود الفير بها و دخلها في يوم مشهود وحمل أبا ثابت ووزيره يحيى بن داود على جملين يخطوان بهما في ذلك المحفل بين السماطين فكانا عبرة لمن حضر و سيقا من الغد إلى مصارعها فقتلا قعصا بالرماح و أنزل السلطان المولى الأمير أبا عبد الله صاحب بجاية خير نزل و فرش له في مجلسه تكرمة له إلى أن كان من توثب صنهاجة وأهل بجاية بعمر بن على ما نحن ذاكروه إن شاء الله تعالى (7/383)
الخبر عن ثورة أهل بجاية و نهوض الحاجب إليه في العساكر
كان صنهاجة هؤلاء من أعقاب ملكانة ملوك القلعة و بجاية نزل أولوهم بوادي بجاية بين القبائل من برابرتها الكتاميين في مواطن بنى وريا كل منذ أول دولة الموحدين و أقطعوهم على العسكرة معهم و لما ضعفت جنود الموحدين و قل عددهم انفردوا بالعسكرة مع السلطان و صار لهم بذلك اعتزاز وزبون على الدولة وكان الأمير أبو عبد الله هذا قد أصاب منهم لأول أمره و قتل محمد بن تميم من أكابر مشيختهم و كان صاحبه فارح مولى ابن سيد الناس عريفا عليه من عهد أبيه الأمير أبي زكريا و كان مستبدا على المولى أبي عبد الله فلما نزل عن إمارته للسلطان أبي عنان سخط ذلك و نقمه عليه و أسرها في نفسه و لم يبدها لكماله و سرحه أميره مع عمر بن علي الوطاسي لينقل حرمه و متاعه و ماعون داره فوصل إليها و شكا إليه الصنهاجيون مغبة أمرهم في ثقل الوطأة و سوء الملكة فأشكاهم و دعاهم إلى الثورة ببني مرين و القيام بدعوة الموحدين للمولى أبي زيان صاحب قسنطينة فأجابوه وتواعدوا بالفتك بعمر بن على بمجلسه من القصبة و تولى كبرها منصور بن الحاج من مشيختهم و باكره بداره على عادة الأمراء و لما أكب عليه ليلثم أطرافه طعنه بخنجره وفر إلى بيته جريحا فولجوا عليه و استلحموه و ثارت الغوغاء من أهل البلد في ذي الحجة من سنة ثلاث و خمسين و سبعمائة
وركب الحاجب فارح و هتف الهاتف بدعوة المولى أبي زيد صاحب قسنطينة و طيروا بالخبر و استدعوه فتثاقل عن إجابتهم وبعث مولى ابن المعلوجي للقيام بأمرهم وبلغ الخبر إلى السلطان فاتهم المولى أبا عبد الله بمداخلة حاجبة فاعتقله بداره واعتقل و فدا من ملاء بجاية كان ببابه و ثبتت آراء المشيخة من أهل بجاية و تمشت رجلاتهم و أولو الرأي و الشورى منهم في الفتك بصهاجة و العلج و داخلهم القائد هلال مولى ابن سيد الناس من المعلوجي و على بن محمد بن ألميت حاجب الأمير أبي زكريا يحيى و محمد ابن الحاجب أبي عبد الله بن سيد الناس و تواعدوا للفتك بفارح يوم وصول النائب من قبل صاحب قسنطينة فجهروا بالنكير على الحاجب ودعوه إلى المسجد ليؤامروه و نذر بأمرهم فاعتد دار شيخ الفتيا أحمد بن إدريس فاقتحموا عليه الدار و باشره مولا محمد بن سيد الناس فطعنه و أشواه و رمي بشلوه من سقف الدار و قطع رأسه فبعثوا به إلى السلطان و فز منصور بن الحاج وقومه صنهاجة من البلد و كان بالمرسي أحمد بن سعيد القرمرني من خاصة السلطان جاء في السفن لبعض حاجاته من تونس ووافى مرسي بجاية يومئذ فأنزلوه واعصوا صبوا عليه و تنادوا بدعوة السلطان و طاعته فأشار علهم أحمد القرموني أن يبعثوا إلى قائد تدلس من مشيخة بني مرين يحياتن بن عمر بن عبد المؤمن الونكاسي فاستدعوه و وصل إليهم في جملة من العسكر و بعثوا بأخبارهم إلى السلطان و انتظروا فلما بلغ الخبر إلى السلطان أمر حاجبه محمد بن أبي عمر بالنهوض إلى بجاية فعسكر بساحة تلمسان و انتقى له السلطان من قومه و جنوده خمسة آلاف فارس أزاح عللهم و استوفي أعطياتهم و سرحه فنهض من تلمسان بعد قضاء منسك الأضحى و أغذ السير إلى بجاية و لما نزل ببني حسن جمع له بمعسكرهم من تيكلات و خرج إليه المشيخة و الوزراء فتقبض على القائد هلال وأشخصه إلى السلطان و دخل البلد على التعبية و احتل بقصبتها لمحرم فاتح أربع وخمسين و سبعمائة و سكن الناس و خلع على المشيخة و اختص علي بن ألميت ومحمد بن سيد الناس و استظهر بهم على أمره و تقبض على جماعة من الغوغاء وعلى من تحت أيديهم ممن يتم بالمداخلة في الثورة يناهزون مائتين واعتقلهم وأركبهم السفن إلى المغرب فودع الناس و سكنوا و توافت و فود الزواودة من كل جهة فأجزل صلاتهم و اقتضى الطاعة منهم و وصل عامل الزاب يوسف و سد فروجه و ارتحل إلى تلمسان أول جمادى لشهرين من مدخله و أغذ السير بمن معه من العرب و الوفود وكنت يومئذ في جملتهم وقد خلع على و حملني و أجزل صلتي وضرب لي الفساطيط فوفدت في ركابه و قدم تلمسان لأول جمادى الأخيرة فجلسن السلطان للوفد و اعترض ما جنب له من الجياد و الهدية وكان يوما مشهودا ثم أسنى السلطان جوائز الوفد و اختص يوسف بن مزني و يعقوب بن علي بمزيد من البر و الصلة و خصوا بجاه من الكرامة وآمرهم في شأن إفريقية و منازلة قسنطينة ورجع معهم الحاجب ابن أبي عمر على كره منه لما نذكره من أخباره وانصرفوا إلى مواطنهم لأول شعبان من سنة أربع و خمسين و سبعمائة و انقلبت معه بعد إسناء الجائزة و الخلع و الحملان من السلطان و الوعد الجميل بتجديد ما إلى قومه ببلده من الأقطاع و الله أعلم (7/383)
الخبر عن الحاجب ابن أبي عمرو و ما عقد له السلطان على ثغر بجاية و على منازلة قسنطينة و نهوضه لذلك
سلف هذا الرجل من أهل المهدية من أجواد العرب من بني تميم بإفريقية وانتقل جده علي إلى تونس باستدعاء السلطان المستنصر و كان فقيها عارفا بالفتيا والأحكام و قلده القضاء بالحضرة و استعمله على كتب علامته في الرسائل و الأوامر الكبرى و الصغرى فاضطلع بذلك و هلك على حالة من التجلة و المنصب و قلد ابنه عبد الله من بعده العلامتين أيام أبي حفص عمر ابن الأمير أبي زكريا كما كان لأبيه فاضطلع لذلك و كان أخوه أحمد بن على مستنا وقورا منتحلا للعلم ونشأ ابنه محمد و قرا بتونس و تفقه على مشيختها و لما التاثت أمورهم و تلاشت أحوالهم خرج محمد بن أحمد بن على مبتغيا للرزق و المعاش و طوحت به الطوائح إلى بلد القل و كان منتحلا للطلب و الكتابة فاستعمل شاهدا بمرسى القل أيام رباسة الحاجب ابن أبي عمرو و كانت له صحبة مع حسن بن محمد السبتي المنتحل بنسب الشرف و كانا رفيقين في مطارح اغترابهما فسعى له في مرافقة الشهرة فأسعفا و اتصلا بابن أبي عمرو فحمد مذاهبهما و لما نزع الشريف عبد الوهاب زعيم تدلس إلى طاعة الموحدين أيام التياث أبي حمو بخروج محمد بن يوسف عليه و اعتلال الدولة و دخل في أمر ابن أبي عمرو و جملته فبعث محمد ابن أبي عمرو هذا و صاحبه إلى تدلس و استعمل حسن الشريف في القضاء ومحمد بن أبي عمرو في شهادة الديوان فلما برئت الدولة من مرضها و استفحل أمر أبي حنو و تغلب على تدلس و صار رئيس الفتيا من الإمام لاقتضاء طاعتها و انفاذ أهلها على السلطان في الوفد و استقرا بتلمسان يومئذ و استعملا في خطة حفصاء متعاقبين أيام بني عبد الواد و أيام السلطان أبي الحسن و تعصب على بن أبي عمرو أيام قضائه جماعة من مشيخة البلد و سعوا به إلى السلطان أبي الحسن وتظلموا فأشكاهم على علم ببراءته و اختصه بتأديب ولده فارس هذا و تعليمه فأفرغ وسعه في ذلك وربى و لده محمدا هذا الحاجب مع السلطان أبي عنان توأما وخليلا و ألقى عليه محبته حتى إذا خلص له الملك رفع رتبة محمد بن أبي عمرو هذا ورقاه من منزلة إلى أخرى حتى إذا أربى به على سائر المراتب و جعل إليه العلامة والقيادة و الحجابة و السفارة و ديوان الجند و الحساب و القهرمة و سائر ألقاب دولته وخصوصيات داره فانصرفت إليه الوجوه و وقفت ببابه الأشراف من الأعياص والقبائل و الشرفاء و العلماء و سرب إليه العمال أموال الجباية تزلفا و طال أمره واستيلاؤه على السلطان و نفس عليه رجال الدولة و وزراؤها ما آتاه الله من الحظ حتى إذا خلا لهم وجه السلطان منه عند نهوضه إلى بجاية حامت أغراض السعاية على مكانه فقرطست و ألقى السلطان أذنه إلى استماعها فلما رجع من بجاية و كانت له الدالة على السلطان وجد عليه في قبول الألاقي و لقيه مغاضبا فتنكر له السلطان ثم تجنى بطلب الغيبة عن الدولة و يعقد له على بجاية متوهما أن السلطان ضنين به فبادر السلطان إلى إسعافه و بداله ما لم يحتسب من الأعراض عنه ورجع إلى الرغبة في الإقالة فلم يسعف و عقد له على حرب قسنطينة و حكمه في المال والجيش و ارتحل في شعبان من سنة أربع و خمسين و سبعمائة و احتل ببجاية آخرها وأشتى بها
ونصب الموحدون تاشفين ابن السلطان أبي الحسن المعتقل عندهم من لدن عهد المولى لفضل و اعتقاله إياه فنضبوه للأمر لتفريق كلمة بني مرين و جمعوا له الآلة والفساطيط و قام بأمره ميمون بن علي لمنافسته مع أخيه يعقوب و سمع بخبره يعقوب فأغذ السير بحاله من بلاد الزاب و فرق جمعهم و ردهم على أعقابهم وأحجزهم بالبلد و لما انصرم الشتاء وقضى منسك الأضحى عسكر بساحة البلد و اعرض العساكر و أزاح علهم و فزق أعطياتهم و ارتحل إلى منازلة قسنطينة و اجتمع إليه الزواودة بحللهم و جمع المولى أبو زيد صاحب قسنطينة من كان على دعوته من أحياء بونة و ميمون بن على بن أحمد و شيعته من الزواودة و عقد عليهم لحاجبه نبيل و سرحه للقاء ابن أبي عمرو و عساكره فأوقع بهم الحاجب لجمادى من سنة خمس و خمسين و سبعمائة و اكتسح أموالهم و نازل قسنطينة حتى تفادوا منه بتمكينه من تاشفين ابن السلطان أبي الحسن المنصوب للأمر فاقتادوه إليه وأشخصه إلى أخيه السلطان و أوفد المولى أبو زيد ابنه على السلطان أبي عنان فتقبل وفادته و شكر مراجعته و انكفأ الحاجب ابن أبي عمرو إلى بجاية و أقام بها إلى أن هلك في المحرم سنة ست و خمسين و سبعمائة فذهب حميد السيرة عند أهل البلد و تفجعوا لمهلكه و بعث السلطان دوابه لارتحال عياله و ولده و نقل شلوه إلى مقبرة أبيه بتلمسان و سرح ابنه أبا زيان في عساكر بنى مرين لمواراته بها و عقد على بجاية لعبد الله بن على بن سعيد و زيره فنهض إليها في شهر ربيع من سنة ست وخمسين و سبعمائة و استقر بها و تقتل ما حمده الناس من مذاهب الحاجب و سيرته فها على ما نذكره و جهز العساكر إلى حصار قسنطينة إلى أن كان من فتحها ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى (7/386)
الخبر عن خروج أبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن بجبل السكسيوي و مكر عامل درعة به و مهلكه
كان السلطان أبو عنان بعد مهلك أبيه لحق به في جملته أخواه أبو الفضل عمد و أبو سالم إبراهيم وتدبر في ترشيحهما و حذر عليهما مغبته فأشخصهما إلى الأندلس واستقرا بها في إيالة أبي الحجاج ابن السلطان أبي الوليد ابن الرئيس أبي سعيد ثم ندم على ما أتاه من ذلك فما استولى على تلمسان والمغرب الأوسط و رأى أن قد استفحل أمره و اعتز بسلطانه أوعز إلى أبي الحجاج أن يشخصهما إليه ليكون مقامهما لديه أحوط للكلمة من أن يعتمد على تفريقهما سماسرة الفتن و خشي أبو الحجاج عليهما غائلته فأبى من إسلامهما إليه و أجاب الرسل بأنه لا يخفر ذمته و جوار المسلمين المجاهدين فأحفظ السلطان كلمته و أوعز إلى حاجبه محمد بن أبي عمرو بأن يخاطبه في ذلك بالتوبيخ و اللائمة فكتب له كتابا قرعه فيه و قفني عليه الحاجب ببجاية أيام كوني معه فقضيت عجبا من فصوله و أغراضه و لما قرأه أبو الحجاج دس إلى كبيرهما أبي الفضل باللحاق بالطاغية و كانت بينهما ولاية و مخالصة منذ مهلك أبيه الهنشة على جبل الفتح سنة إحدى و خمسين و سبعمائة فنزع إليه أبو الفضل و أجاره و جهز به أسطولا إلى مراسي المغرب و أنزله بساحة السوس فلحق بالسكسوي عبد الله و دعا لنفسه وبلغ الخبر إلى السلطان بين مقدم حاجبه ابن أبي عمرو من فتح بجاية سنة أربع و خمسين وسبعمائة فجهز عساكره إلى المغرب و عقد على حرب السكسيوي لوزيره فارس بن ميمون بن و ردار و سرحه إليه فنهض من تلمسان لربيع سنة أربع و خمسين و سبعمائة و أغذ السر إلى السكسيوي و نزل بمخنقه و أحاط به و اختط مدينة لمعسكره و تجهيز كتائبه بسفح جبله سماها القاهرة واستبد الحصار على السكسيوي و أرسل إلى الوزير في الرجوع إلى طاعته المعروفة وأن ينبذ العهد إلى أبي الفضل قارقه وانتقل إلى جبال المصامدة
ودخل الوزير فارس إلى أرض السوس فدوخ أقطارها و مهد الحال و سارت الألوية و الجيوش في جهاته و رتب المسالح في ثغوره و أمصاره مثل ايغري و فوريان وتارودانت و ثقف أطرافه و سد فروجه وسار أبو الفضل في جبال المصامدة إلى أن انتهى إلى صناكة و ألقى بنفسه على ابن حميدي منهم مما يلي بلاد درعة فأجاره وقام بأمره و نازله عامل درعة يومئذ عبد الله بن مسلم الزردالى من مشيخة دولة بنى عبد الواد كان اصطنعه السلطان أبو الحسن منذ تغلبه علهم و فتحه لتلمسان سنة سبع و ثلاثين و سبعمائة فاستقر في دولتهم ومن جملة صنائعهم فأخذ بمخنق ابن حميدي و أرهبه بوصول العساكر و الوزراء إليه و داخله في التقبض على أبي الفضل و أن يبذل له في ذلك ما أحب من المال فأجاب و لاطف عبد الله بن مسلم الأمير أبا الفضل و وعده من نفسه الدخول في الأمر و طلب لقاءه فركب إليه أبو الفضل و لما استمكن منه عبد الله بن مسلم تقبض عليه و دفع لابن الحميدي ما اشرط له من المال و أشخصه معتقلا إلى أخيه السلطان أبي عنان سنة خمس وخمسين و سبعمائة فأودعه السجن وكتب بالفتح إلى القاصية ثم قتله لليال من اعتقاله خنقا بمحبسه و انقضى أمر الخوارج و تمهدت الدولة إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/388)
الخبر عن انتقاض عيسى بن الحسن بجبل الفتح و مهلكه
كان عيسى بن الحسن بن علي بن أبي الطلاق هذا من مشيخة بني مرين وكان صاحب شوراهم لعهده وقد كنا قصصا من أخبار أبيه الحسن عند ذكر دولة أبي الربيع وكان السلطان أبو الحسن قد عقد له على ثغور عمله بالأندلس وأنزله يجبل الفتح عندما أكمل بناءه وجعل إليه النظر في مسالح الثغور وتفريق العطاء على مسالحها فطال عهد ولايته ورسخ فيها قدمه وكان السلطان أبو الحسن يبعث عنه في الشورى متى عنت وحضره عند سفره إلى إفريقية وأشار عليه بالاقتصار عنها وأراه أن قبائل بني مرين لاتفي اعدادهم بمسالح الثغور إذا رتبت شرقا وغربا وعدوة البحر وأن إفريقية تحتاج من ذلك إلى أوفر الأعداد وأشد الشوكة لتغلب العرب عليها وبعد عهدهم بالانقياد فأعرض السلطان عن نصيحته لما كان شره إلى تملكها وصرفه إلى مكان عمله بالثغور الأندلسية ولما كانت نكبة القيروان وانتزى الأبناء بفاس وتلمسان أجاز البحر لحسم الداء ونزن بغساسة ثم انتقل إلى وطنه بتازى وجمع قومه بني عسكر وألقى السلطان أبا عنان قد هزم عساكر ابن أخيه وأخذ بمخنقه فأجاب عليه وبيته بمعسكره من ساحة البلد الجديد وعقد السلطان أبو عنان على حربه لصنيعته سعيد بن موسى العجيسي وأنزله بثغر بلاد بني عسكر على وادي بوحلوا و تواقفا كذلك أياما حتى تغلب السلطان أبو عنان على البلد الجديد تم أرسل عيسى بن الحسن في الرجوع إلى طاعته وأبطأ عنه صريخ السلطان أبي الحسن بإفريقية فراجعه واشترط عليه فتقبل وسار إليه فتلقاه السلطان وامتلاء سرورا بمقدمه وأنزله بصدوره وجعل الشورى إليه في مجلسه واستمرت على ذلك حاله
ولما تمكنت حال ابن أبي عمرو بعد مهلك السلطان أبي الحسن انفرد بخلة السلطان ومناجاته وحجبه عن الخاصة والبطانة أحفظه ذلك ولم يبدها واستأذن السلطان في الحج فأذن له وقضى فرضه ورجع إلى محله من بساط السلطان سنة ست وخمسين وسبعمائة ولقي ابن أبي عمرو بجباية وتطارح عليه في أن يصلح حاله عند سلطانه فوعده في ذلك ولما وفد على السلطان وجده قد استبد في الشورى وتنكر للخاصة والجلساء فاستأذنه في الرجوع إلى محله من الثغر لإقامة رسم الجهاد فأذن له وأجاز البحر إلى جبل الفتح من سنته وكان صاحب ديوان العطاء بالجبل يحيى الفرقاجي وكان مستظهرا على العمال وكان ابنه أبو يحيى قدم برم بمكانه فلما وصل عيسى إلى الجبل اتبعه السلطان بأعطيات المسالح مع مسعود بن كندوس من صنائع دولته فسرب الفرقاجي إلى الضرب على يده شأنه مع ابنه أيام مغيبه وأنف عيسى من ذلك فتقبض عليه وأودعه المطبق ورد ابن كندوس على عقبه وأركبه السفين من ليلته إلى سبتة وجاهر بالخلعان وبلغ الخبر إلى السلطان أبي عنان فقلق لذلك وقام في ركائبه وقعد وأوعز بتجهيز الأساطيل وظن أنه قد تدبر من الطاغية وابن الأحمر وبعث أحمد بن الخطيب قائد البحر بطنجة عينا على شأنهم فوصل إلى مرسى الجبل وكان عيسى بن الحسن لما جاهر بالخلعان تمشت رجالات الثغر و عرفاء الرجل من غمارة الغزاة الموطنون بالجبل وتحدثوا في شأنه وامتنعوا من الخروج على السلطان وتآمروا في إسلامه برمته وخلا به سلمان بن داود من عرفاء العسكر كان من خواصه وأهل شوراه وكان عيسى قد مكن قومه عند السلطان واستعمله على رنده فلما جاهر عيس بالخلعان وركب ظهر الغدر خالفه سلمان هذا إلى طاعة السلطان وأنفذ كتبه وطاعته واشتبه عليه الأمر فندم إذ لم يكن بني أمره على أساس من الرأي فلما احتل أسطول أحمد بن الخطيب بمرسى الجبل خرج إليه وناشده الله والعهد أن يبلغ السلطان طاعته والبراءة مما صنع أهل الجبل ونسبها إليهم فعند ذلك خشي غمارة على أنفسهم فثاروا به ولجأ إلى الحصن فاقتحموه عليه وشدوه وابنه وثاقا وألقوه في أسطول ابن الخطيب وأنزله بسبتة وطير للسلطان بالخبر فخلع عليه وأمر خاصته فخلعوا عليه وبعث عمر ابن وزيره عبد الله بن على وعمر بن العجوز قائد جند النصاري فأحضروهما بدار السلطان يوم منى من سنة ست وخمسين وسبعمائة وجلس لهما السلطان ووقفا بين يديه وتنصلا واعتذرا فلم يقبل منهما وأودعما السجن وشدد وثاقهما حتى قضي منسك الأضحى ولما كان ختم سنته أمر بهما فجنبا إلى مصارعهما وقتل عيسى قعصا بالرماح وقطع ابنه أبو يحي من خلاف وأبى من مداواة قطعه فلم يزل يتخبط في دمه إلى أن هلك لثالثة قطعه وأصبحا مثلا في الآخرين وعقد على جبل الفتح وسائر ثغور الأندلس لسلمان بن داود إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/390)
الخبر عن نهوض السلطان إلى فتح قسنطينة وفتحها ثم فتح تونس عقبها
لما هلك الحاجب محمد بن أبي عمرو عقد السلطان على ثغور بجاية وما وراءها من بلاد إفريقية لوزيره عبد الله بن علي بن سعيد وسرحه إليها وأطلق يده في الجباية والعطاء وكانت جبال ضواحي قسنطينة قد تملكها السلطان لما كانت الزواودة متغلبة عليها وكان عامة أهل ذلك الوطن قبائل سدويكش وعقد السلطان عليهم لموسى ابن إبراهيم بن عيسى وأنزله بتاوريرت آخر عمل بجاية في أقاربه وولده وصنائعه ولما نزل ابن أبي عمرو بجاية وأخذ بمخنق قسنطينة ثم ارتحل عنا على ما عقد من السلم مع المولى الأمير أبي زيد أنزل موسى بن إبراهيم بميلة فاستقر بها ولما ولى الوزير عبد الله بن على أمر إفريقية أوعز إليه السلطان بمنازلة قسنطينة فنزلها سنة سبع وخمسين وسبعمائة وأخذ بمخنقها ونصب المنجنق علها واشتد الحصار بأهلها وكادوا أن يلقوا باليد لولا ما بلغ العسكر من الإرجاف بمهلك السلطان فأفرجوا عنها ولحق المولى أبو زبد ببونة وأسلم البلد إلى أخيه مولانا الأمير أبي العباس أيده الله تعالى عندما وصل إليه من إفريقية كان بها مع العرب طالبا ملكهم بتونس ومجلبا بهم على ابن تافراكين منذ نازلوا تونس سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة كما مر فلما رجع الآن إلى قسنطينة مع خالد بن حمزة داخل المولى أبا زيد في خروجه إلى حصار تونس وإقامة مولانا أبي العباس بقسنطينة فأجاب لذلك وخرج معه ودخل مولانا أبو العباس إلى قسنطينة ودعا نفسه وضبط قسنطينة وكان مدلا ببأسه وإقدامه وداخل بعض المنحرفين من بنى مرين من أولاد بو سعيد وسدوبكش في تبييت موسى بن إبراهيم بمعسكره من ميلة فبيتوه وانتهبوا معسكره وقتلوا أولاده وخلص إلى تاوريرت ثم إلى بجاية ولحق بمولانا السلطان مفلولا ونكر السلطان على وزيره عبد الله بن على ما وقع بموسى بن إبراهيم وأنه قصر في إمداده فسرح شعيب بن ميمون وتقبض عليه وأشخصه إلى السلطان معتقلا وعقد على بجاية مكانه ليحيي بن ميمون بن مصمود من صنائع دولته وفى خلال ذلك راسل المولى أبو زيد الحاجب أبا محمد عبد الله بن تافراكين المتغلب على عمه إبراهيم في النزول لهم عن بونه والقدوم عليهم بتونس فقبلوه وأحلوه محل ولي العهد واستعملوا على بونة من صنائعهم ولما بلغ خبر موسى بن إبراهيم إلى السلطان أيام التشريق من سنة سبع وخمسين وسبعمائة اعتزم على الحركة إلى إفريقية واضطرب معسكره بساحة البلد الجديد وبعث في الحشد إلى مراكش وأوعز إلى بني مرين بأخذ الأهبة للسفر وجلس للعطاء والاعتراض من لدن وصول الخبر إليه إلى شهر ربيع من سنة ثمان وخمسين وسبعمائة ثم ارتحل من فاس وسرح في مقدمته وزيره فارس بن ميمون في العساكر وسار في ساقته على التعبية إلى أن احتل ببجاية وتلوم لإزاحة العلل ونازل الوزير قسنطينة ثم جاء السلطان على أثره ولما أطلت راياته وماجت الأرض بعساكره ذعر أهل البلد وألقوا بأيديهم إلى الإذعان وانفضوا من حول سلطانهم مهطعين إلى السلطان وتحيز صاحب البلد في خاصته إلى القصبة ووصل أخوه المولى الفضل فطلب الأمان فبذله السلطان لهم وخرجوا وأنزلهم بمعسكره أياما ثم بعث بالسلطان في الأسطول إلى سبتة فاعتقله بها إلى أن كان من أمره ما نذكره بعد
وعقد على قسنطينة لمنصور ابن الحاج خلوف الباباني من مشيخة بني مرين وأهل الشورى منهم وأنزله بالقصبة في شعبان من سنته ووصل إليه بمعسكره من ساحة قسنطينة بيعة يحيي بن يملول صاحب توزر وييعة علي بن الخلف صاحب نفطة ووفد ابن مكي مجددا طاعته ووصل إليه أولاد مهلهل أمراء الكعوب وأقتال بني أبي الليل يستحثونه لملك تونس فسرح معهم العساكر وعقد عليهم ليحيي بن رحو بن تاشفين وبعث أسطوله في البحر مددا لهم وعقد عليه للرئيس محمد بن يوسف الأبكم وساروا إلى تونس وأخرج الحاجب أبا محمد بن تافراكين سلطانه أبو اسحق ابن مولانا السلطان أبي يحيي مع أولاد أبي الليل وجهز معه العساكر لما أحس بقدوم عساكر السلطان ووصل الأسطول إلى مرسى تونس فقاتلهم يوما أو بعض يوم وركب الليل إلى المهدية فتحصن بها ودخل أولياء السلطان إلى تونس في رمضان من سنة ثمان وخمسين وسبعمائة وأقاموا بها دعوته واحتل يحيي بن رحو بالقصبة وأنفذ الأوامر وكتبوا إلى السلطان بالفتح ونظر السلطان بعد ذلك في أحوال ذلك وقبض أيدي العرب من رياح عن الأتاوة التي يسمونها الخفارة فارتابوا وطالبهم بالرهن فأجمعوا على الخلاف فأرهف لهم حده وتبين يعقوب ابن علي أميرهم مكره فخرج معهم ولحقوا جميعا بالزاب وارتحل في أثرهم وسار يوسف بن مزني عامل الزاب ببعض الطريق أمامه حتى نزل بعسكرة ثم ارتحل إلى طولقة فتقبض على مقدمها عبد الرحمن بن أحمد بإشارة ابن مزني وخرب حصون يعقوب بن علي وأجفلوا إلى القفر أمامه ورجع عنهم وحمل له ابن مزني جباية الزاب بعد أن رد عامة معسكره بالقرى من الأدم والحنطة والحملان والعلوفة ثلاث ليال نفذت في ذلك وكافأه السلطان على صنيعه فخلع عليه وعلى أهله وولده وأسنى جوائزهم ورجع إلى قسنطينة واعتزم على الرحلة إلى تونس وضاق ذرع العساكر بشأن النفقات والأبعاد في المذهب وارتكاب الخطر في دخول إفريقية فتمشت رجالاتهم في الانفضاض عن السلطان و داخلوا الوزير فارس بن ميمون فوفقهم على ذلك وأذن المشيخة والنقباء لمن تحت أيديهم من القبائل في اللحاق بالمغرب حتى تفردوا وأنهى إلى السلطان أنهم تآمروا في قتله ونصب إدريس بن أبي عثمان بن أبي العلاء للأمر فأسرها في نفسه ولم يبدها لهم ورأى قلة من معه من العساكر و بانفضاضهم فكر راجعا إلى المغرب بعد أن ارتحل عن قسنطينة مرحلتين إلى الشرق وأغذ السير إلى فاس واحتل بها غزة ذي الحجة من سنته وتقبض يوم دخوله على وزيره فارس بن ميمون اتهمه بمداخلة بنى مرين في شأنه وقتله رابع أيام التشريق قعصا بالرماح وتقبض على مشيخة بنى مرين فاستلحمهم وأودع منهم السجن وبلغ إلى الجهات خبر رجوعه من قسنطينة إلى المغرب فارتحل أبو محمد بن تافراكين من المهدية إلى تونس ولما أطل عليها ثار شيعته بالبلد على من كان بها من عساكر السلطان وخلصوا إلى السفين فنجوا إلى المغرب وجاء على أثرهم يحيي بن رحو بمن معه من العساكر من أولاد مهلهل كان بناحية الجريد لاقتضاء جبايته واجتمعوا جميعا بباب السلطان وأرجأ حركته إلى العام القابل فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/392)
الخبر عن وزارة سليمان بن داود ونهوضه بالعساكر إلى إفريقية
لما رجع السلطان من إفريقية ولم يستتم فتحها بقي في نفسه منها شيء وخشي على ضواحي قسنطينة من يعقوب بن علي ومن معه من الزواودة المخالفين فأهمه شأنهم واستدعى سليمان بن داود من مكانه بثغور الأندلس وعقد له على وزارته وسرحه في العساكر إلى إفريقية فارتحل إليه في ربيع من سنة تسع وخمسين وسبعمائة وكان يعقوب بن علي لما كشف وجهه في الخلاف إلى أقام السلطان مكانه أخاه ميمون بن على منازعه وقدمه على أولاد محمد من الزواودة وأحله بمكانه من رياسة البدو و الضواحي ونزع إليه عن أخيه يعقوب الكثير من قومهم وتمسك بطاعة السلطان طوائف من أولاد سباع بن يحيي وكبيرهم يومئذ عثمان بن يوسف بن سليمان فانحاشوا جميعا للوزير ونزلوا على معسكره بحللهم وارتحل السلطان في أثره حتى احتل بتلمسان فأقام بها لمشارفة أحواله منها واحتل الوزير سليمان بوطن قسنطينة وأغذ السير إلى عمال الزاب يوسف بن مزني بأن تكون يده معه وأن يؤامره في أحوال الزواودة لرسوخه في معرفتها فارتحل إليه من بسكرة ونازلوا جبل أوراس واقتضوا جبابته و مغارمه وشردوا المخالفين من الزواودة عن العيث في الوطن فتم غرضهم من ذلك وانتهى الوزبر وعساكر السلطان إلى أول أوطان إفريقية من آخر مجالات رياح وانكفأ راجعا إلى المغرب ووافى السلطان بتلمسان ووصلت معه وفود العرب الذين أبلوا في الخدمة فوصلهم السلطان وخلع عليهم وحملهم وفرض لهم العطاء بالزاب وكتب لهم به وانقلبوا إلى أهلهم ووفد على أثرهم أحمد بن يوسف بن مزني أوفده أبوه بهدية السلطان من الخيل والرقيق والرزق فتقبلها السلطان وأكرم وفادته وأنزله واستصحبه إلى فاس ليريه أحوال كرامته وليستبلغ في الاحتفاء به واحتل بدار ملكه منتصف ذي القعدة من سنة تسع وخمسين وسبعمائة و الله أعلم (7/395)
الخبر عن مهلك السلطان أبي عنان ونصب السعيد للأمر باستبداد الوزير حسن بن عمر في ذلك
لما وصل السلطان إلى دار ملكه بفاس احتل بها بين يدي العيد لأكبر حتى إذا قضى الصلاة من يوم الأضحى أدركه المرض وأعجله طائف الوجع عن الجلوس يوم العيد على العادة فدخل إلى قصره ولزم فراشه واستبد به وجعه و أطاف به النساء يمرضنه وكان ابنه أبو زيان ولى عهده وكان وزيره يحيى بن موسى القفولي من صنائع دولتهم وأبناء وزرائهم قد عقد له السلطان على وزارته واستوصاه به فتعجل الأمر وداخل رؤوس بني مرين فى الانحياش إلى أميرهم والفتك بالوزير الحسن بن عمر وداخله في ذلك عمر بن ميمون لعداوة بينهما وبين الوزير فخشيهما الحسن بن عمر على نفسه وفاوض عليه أهل المجلس بذات صدره وكانت نفرتهم عن ولي العهد مستحكمة لما أبلوا من سوء خلته وشر ملكته فاتفقوا على تحويل الأمر عنه ثم نمي إليهم أن السلطان مشرف على الهلكة لا محالة وأنه موقع بهم من قبل مهلكه فأجمعوا أمرهم على الفتك به والبيعة لأخيه السعيد طفلا خماسيا وباكروا دار السلطان فتقبضوا على وزيره موسى بن عيسى وعمر بن ميمون فقتلوهما وأجلسوا السعيد للبيعة وأوعز وزيره مسعود بن رحو بن ماسى بالتقبض على أبي زيان من نواحي القصر فدخل إليه وتلطف في إخراجه من بين الحرم وقاده إلى أخيه فبايع وتل إلى بعض حجر القصر فأتلف فها مهجته واستقل الحسن بن عمر بالأمر يوم الأربعاء الرابع والعشرين لذي الحجة من سنة تسع وخمسين وسبعمائة والسلطان أثناء ذلك على فراشه يجود بنفسه وارتقب الناس دفنه يوم الأربعاء والخميس بعده فلم يدفن فارتابوا وفشا الكلام وارتاب الجماعة فأدخل الوزير زعموا إليه بمكانه من بيته من غطه حتى أتلفه ودفن يوم السبت وحجب الحسن بن عمر الولد المنصوب للأمر وأغلق عليه بابه وتفرد بالأمر والنهي دونه ولحق عبد الرحمن ابن السلطان أبي عنان بجبل الكاي يوم بيعة أخيه وكان أسن منه وإنما آثروه لمكان ابن عمه مسعود بن ماسي من وزارته فبعثوا إليه من لاطفه واستنزله على الأمان وجاء به إلى أخيه فاعتقله الحسن بالقصبة من فاس وبعث على أبناء السلطان الأصاغر الأمراء بالثغور فجاء المعتصم من سجلماسة وامتنع المعتمد بمراكش وكان بها في كفالة عامر بن محمد الهنتاني استوصاه به السلطان وجعله هنالك لنظره فمنعه من الوصول وخرج به من مراكش إلى معقله من جبل هنتاتة وجهز الوزير العساكر لمحاربته ولم يزل هنالك إلى أن استنزله عمه السلطان أبو سالم عند استيلائه على ملك المغرب كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم (7/396)
الخبر عن تجهيز العساكر إلى مراكش ونهوض الوزير سليمان بن داود لمحاربة عامر بن محمد
كان عامر بن محمد بن علي شيخ هنتاتة من قبائل المصامدة وكان السلطان يعقوب قد استعمل أباه محمد بن علي على جبايتهم والسلطان أبو سعيد استعمل عمه موسى بن علي وربي عامر هذا في كفالة الدولة وسار في جملة السلطان إلى إفريقية وولاه السلطان أحكام الشرطة بتونس ولما ركب البحر إلى المغرب أركب حرمه وحظاياه في السفن وجعلهم إلى نظر عامر بن محمد وأجازوا البحر إلى الأندلس فنزلوا ألمرية وبلغهم غرق السلطان أبي الحسن و عسكره فأقام بهم بمكانه من ألمرية ودعى للسلطان أبي عنان فلم يجب داعية وفاء ببيعة أبيه حتى إذا هلك السلطان أبو الحسن بدارهم بالجبل ورعى لهم السلطان أبو عنان إجارتهم لأبيه حين لفظته البلاد وتحاماه الناس أجمع أمره على الوفادة عليه فوفد بمن معه من الحرم وأكرم السلطان أبو عنان وفادته وأحسن نزله ثم عقد له على جباية المصامدة سنة أربع وخمسين وسبعمائة وبعثه لها من تلمسان فاضطلع بهذه الولاية وأحسن الغناء فيها والكفاية عليها حتى كان السلطان أبو عنان يقول : وددت لو أصبت رجلا يكفيني ناحية المشرق من سلطاني كما كفاني عامر بن محمد ناحية المغرب وأتورع ونافسه الوزراء في مقامه ذلك عند السلطان ورتبته وانفرد الحسن بن عمر آخر الأمر بوزارة السلطان واشتدت منافسته وانتهت إلى العداوة والسعاية
وكان السلطان بين يدي مهلكه ولى أبناءه الأصاغر على أعمال ملكه فعقد لابنه محمد المعتمد على مراكش واستوزر له وجعله إلى نظر عامر واستوصاه به فلما هلك السلطان واستقل الحسن بن عمر بالأمر ونضب السعيد للملك استقدم الأبناء من الجهات فبعث عن المعتمد من مراكش فأبى عليه عامر من الوفادة عليهم وصعد به إلى معقله من جبل هنتاتة وبلغ الحسن بن عمر خبره فجهز إليه العساكر وأزاح عللهم وعقد على حربه للوزير سليمان بن داود مساهمه في القيام بالأمر وسرحه في المحرم سنة ستين وسبعمائة فأغذ السير إلى مراكش واستولى عليها وصعد إلى الجبل فأحاط به وضيق على عامر وطاول منازلته وأشرف على اقتحام معقله إلى أن بلغه خبر افتراق بني مرين وخروج منصور بن سليمان من أعياص الملك على الدولة وأنه منازل للبلد الجديد فانفض العسكر من حوله وتسابقوا إلى منصور بن سليمان فلحق به الوزير سليمان بن داود وتنفس الحصار عن عامر إلى أن استولى السلطان أبو سالم على ملك المغرب في شعبان من سنة ستين وسبعمائة واستقدم عامرا و المعتمد ابن أخيه من مكانهم بالجبل فقدم عليه وأسلمه إليه كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/397)
الخبر عن ظهور أبي حمو بنواحي تلمسان وتجهيز العساكر لمدافعته ثم تغلبه وما تخلل ذلك من الأحداث
كان ولد عبد الرحمن بن يحيي بن يغمراسن هؤلاء أربعة كما ذكرناه في أخبارهم وكان يوسف كبيرهم وكان سكوتا منتحلا لطرق الخير لا يريد علوا في الأرض ولما هلك أخوه عثمان بتلمسان عقد له على هنين وكان ابنه يوسف بن موسى متقبلا مذهبه في السكوت والدعة و مجانبة أهل الشر ولما تغلب السلطان أبو عنان علهم ستة ثلاث وخمسين و سبعمائة وفر أبو ثابت إلى قاصية المشرق واستلبهم قبائل زواوة و أرجلوهم عن خيلهم سعوا على أقدامهم وانتبذ أبو ثابت وأبو زيان ابن أخيه أبي سعيد وموسى ابن أخيه يوسف ووزيرهم يحيي بن داود ناحية عن قومهم وسلكوا غير طريقهم وتقبض على أبي ثابت ويحيي بن داود محمد بن عثمان وخلص موسى إلى تونس فنزل على الحاجب محمد بن تافراكين وسلطانه خير نزل وأجارهم مع فل من قومه خلصوا إليهم وأسنوا جرايتهم وبعث السلطان أبو عنان فيهم إلى ابن تافراكين فأبى من إسلامهم وجاهر بإجارتهم على السلطان
ولما استولت عساكر السلطان على تونس وأجفل عنها سلطانها أبو اسحق إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي يحيي خرج موسى بن يوسف هذا في جملته ولما رجع السلطان إلى المغرب صمد المولى أبو اسحق إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي يحيي و ابن أخيه المولى أبي زيد صاحب قسنطينة مع يعقوب بن علي وقومه من الزواودة إلى منازلة قسنطيته وارتجاعها وسار في جملتهم موسى بن يوسف هذا فيمن كان عنده من زناتة قومه وكان ينو عامر من زغبة خارجين على السلطان أبي عنان منذ غلبه بنو عبد الواد على تلمسان وكانت رياستهم إلى صغير بن عامر بن إبراهيم لحق بإفريقية في قومه ونزلوا على يعقوب بن علي وجاوروه بحللهم وظعنهم فلما أفرجوا عن قسنطينة بعد امتناعها واعتزم صغير على الرحلة بقومه إلى وطنهم من صحراء المغرب الأوسط دعوا موسى ين يوسف هذا إلى الرحلة معهم لينصبوه للأمر ويجلبوا به على تلمسان فخلى الموحدون سبيله وأعانوه بما اقتدروا عليه لوقتهم وعلى حال سفرهم من آلة وفسطاط وارتحل مع بني عامر وارتحل مع صولة بن يعقوب بن علي وزيان بن عثمان بن سباع من أمراء الزواودة وصغار بن عيسى في حلل من بني سعيد إحدى بطون رباح وأغذوا السير إلى المغرب للعيث في نواحيه وجمع لهم أقتالهم من سويد أولياء السلطان والدولة والتقوا بقبلة تلمسان فانهزمت سويد وهلك عثمان ين ونزمار كبيرهم وكان مهلك السلطان في خلال ذلك
وكان السلطان حين استعمل الأبناء على الجهات عقد لمحمد المهدي من أولاده على تلمسان ولما اتصل الخبر بوفاة السلطان بالمغرب أغذوا السير إلى تلمسان وملكوا ضواحيها وجهز الحسن بن عمر لها عسكرا عقد عليه وعلى الحامية الذين بها لسعيد ابن موسى العجيسي من صنائع السلطان وسرحه إليها وسار في جملته أحمد بن مزني فاصلا إلى عمله بعد أن وصله وخلع عليه وحمله وسار سعيد بن موسى في العساكر إلى تلمسان واحتل بها في صفر من سنة ستين وسبعمائة وزحف إليه جموع بني عامر وسلطانهم أبو حمو موسى بن يوسف فغلبوهم على الضاحية وأحجزوهم بالبلد ثم ناجزوهم الحرب أياما واقتحموها عليهم لليال خلون من ربيع واستباحوا من كان بها من العسكر و امتلاءت أيديهم من أسلابهم ونهابهم وخلص سعيد بن موسى بابن السلطان إلى حلة صغير بن عامر فأجاره ومن جاء على أثره من لم قومه وأوفد برجالات من بني عامر ينصبون له الطريق أمامه إلى أن أبلغوه مأمنه من دار ملكهم واستولى أبو حمو على ملك تلمسان واستأثر بالهدية التي ألفى بمودعها كان السلطان انتقاها وبعث بها إلى صاحب برشلونة بطرة بن ألقنط وبعث إليه فيه بفرس أدهم من مقرباته بمركب ولجام مذهبين ثقيلين فاتخذ أبو حمو ذلك الفرس لركوبه وصرف الهدية في مصارفه ووجوه مذاهبه و الله غالب على أمره (7/398)
الخبر عن نهوض الوزير مسعود بن ماسي إلى تلمسان وتغلبه عليها ثم انتقاضه ونصبه سليمان بن منصور للأمر
لما بلغ الوزير الحسن ين عمر خبر تلمسان واستيلاء أبي حمو عليها جمع مشيخة بني مرين وأمرهم بالنهوض إليها فأبوا عليه من النهوض بنفسه وأشاروا بتجهيز العساكر ووعدوه مسيرهم كافة ففتح ديوان العطاء وفرق الأموال وأسنى الصلات وأزاح العلل وعسكر بساحة البلد الجديد ثم عقد عليهم لمسعود بن رحو بن ماسي وحمل معه المال وأعطاه الآلة وسار في الألوية والعساكر وكان في جملته منصور بن سلمان ين منصور بن أبي مالك بن يعقوب بن عبد الحق وكان الناس يرجفون بأن سلطان المغرب صائر إليه بعد مهلك أبي عنان وشاع ذلك على ألسنة الناس وذاع وتحدث به السمر والندمان وخشي منصور على نفسه لذلك فجاء إلى الوزير الحسن وشكا إليه ذلك فانتهره أن يختلج بفكره هذا الوسواس انتهارا خلا من وجه السياسة فانزجر واقتصر ولقد شهدت هذا الموطن ورحمت ذلة انكساره وخضوعه قي موقفه ورحل الوزير مسعود في التعبية وأفرج أبو حمو عن تلمسان ودخلها مسعود في ربيع الثاني واستولى عليها وخرج أبو حمو إلى الصحراء وقد اجتمعت عليه جموع العرب من زغبة والمعقل ثم خالفوا بني مرين إلى المغرب واحتلوا بانكاد بحللهم وظواعنهم وجهز إليهم مسعود بن رحو عسكرا من جنوده انتقى فيه مشيخة بني مرين وأمراءهم وعقد عليهم لعامر ابن عمه عبو بن ماسي وسرحهم فزحفوا إليه بساحة وجدة وصدتهم العرب الحملة فانكشفوا واستبيح معسكرهم واستلبت مشيختهم وأرجلوا عن خيلهم ودخلوا إلى وجدة عراة وبلغ الخبر إلى بني مرين بتلمسان وكان في قلوبهم مرض من استبداد الوزير عليهم وحجره لسلطانهم فكانوا يتربصون بالدولة فما بلغ الخبر وحاص الناس لها حيصة الحمر خلص بعضهم نجيا بساحة البلد واتفقوا على البيعة ليعيش بن على بن أبي زيان ابن السلطان أبي يعقوب فبايعوه
وانتهى الخبر إلى الوزير مسعود بن رحو وكان متحينا السلطان منصور بن سليمان فاستدعاه وأكرهه على البيعة وبايعه معه الرئيس الأكبر من بني الأحمر وقائد جند النصارى القهردور وتسايل إليه الناس وتسامع الملأ من بني مرين بالخبر فتهاووا إليه من كل جانب وذهب يعيش بن أبي زيان لوجهه فركب البحر وخلص إلى الأندلس وانعقد الأمر لمنصور بن سليمان واحتمل بي مرين على كلمته وارتحل بهم من تلمسان يريد المغرب واعترضهم جموع العرب في طريقهم فأوقعوا بهم وامتلأت أيديهم من أسلابهم وظعنهم وأغذوا السير إلى المغرب واحتلوا بسبوا في منتصف جمادى الأخيرة وبلغ الخبر إلى الحسن بن عمر فاضطرب معسكره بساحة البلد وأخرج السلطان في الآلة والتعبية إلى أن أنزله بفسطاطه ولما غشهم الليل انفض عنه الملأ إلى السلطان منصور بن سلمان فأوقد الشموع وأذكى النيران حوالي الفسطاط وجمع الموالي والجند وأركب السلطان ودخل إلى قصره و انحجز بالبلد الجديد وأصبح منصور بن سليمان فارتحل في التعبية حتى نزل بكدية العرائس في الثاني والعشرين لجمادى الأخيرة واضطرب معسكره بها وغدا عليها بالقتال وشد عليها الحملات وامتنعت يومها ثم جمع الأيدي على اتخاذ الآلات للحصار واجتمعت إليه وفود الأمصار بالمغرب للبيعة ولحقت به كتائب بني مرين التي كانت محجرة بمراكش لحصار عامر مع الوزير سليمان بن داود فاستوزره وأطلق عبد الله بن علي وزير السلطان أبي عنان من معتقله بسبتة فخلص منه خلوص الأبريز بعد السبك وأمر منصور بن سليمان بتسريح السجون فخرج من كان بها من دعار بجاية وقسنطينة وكانوا معتقلين من لدن استيلاء السلطان أبي عنان على بلادهم وانطلقوا إلى مواطنهم وأقام على البلد الجديد يغاديها القتال ويراوحها ونزع عنه إلى الوزير الحسن بن عمر طائفة من بني مرين ولحق آخرون ببلادهم وانتقضوا عليه ينتظرون مآل أمره ولبث على هذه الحال إلى غرة شعبان فكان من قدوم السلطان أبي سالم لملك سلفه بالمغرب واستيلائه عليه ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/400)
الخبر عن نزول المولى أبي سالم بجبال غمارة واستيلائه على ملك المغرب ومقتل منصور بن سليمان
كان السلطان أبو سالم بعد مهلك أبيه واستقراره بالأندلس وخروج أبي الفضل بالسوس لطلب الأمر ثم ظفر السلطان أبي عنان به و مهلكه كما ذكرناه قد تورع وسكن وسالمه السلطان ثم لما هلك سلطان الأندلس أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة يوم الفطر بمصلى العيد طعنه أسود مدسوس كان ينسب إلى أخيه محمد من بعض إماء قصرهم ونصبوا للأمر ابنه محمدا وحجبه مولاه رضوان واستبد عليه وكان للسلطان أبي عنان اعتزازكما ذكرناه وكان يؤمل ملك الأندلس وأوعز إليهم عندما طرقه طائف المرض سنة سبع وخمسين وسبعمائة أن يبعثوا إليه طبيب دارهم إبراهيم بن زرور الذمي وامتنع من ذلك اليهودي واعتذر وردوه فتنكر لهم السلطان ولما وصل إلى فاس من فتح قسنطينة وإفريقية تقبض على وزيره والمشيخة من قبله تجنيا عليهم إذ لم يبادروا السلطان بنفسه أو حاجبه للتهنئة وأظلم الجو بينهم واعتزم على النهوض إليهم وكانوا منحاشين بالجملة إلى الطاغية بطرة بن أدفونش صاحب قشتالة منذ مهلك أبيه الهنشة على جبل الفتح سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ثم استبد رضوان على الدولة بعد مهلك أبي الحجاج فكانت له صاغية إليه ظاهرها النظر للمسلمين بمسالمة عدوهم وكان السلطان أبو عنان يعتد ذلك عليهم وعلم أنه لا بد أن يمدهم بأساطيله ويدافعوه عن الإجازة إليهم وكان بين الطاغية بطرة وبين قمص برشلونة فتنة هلك فيها أهل ملتهم فصرف السلطان قصده إلى قمص برشلونة وخاطبه في اتصال اليد على ابن أدفونش واجتمع أسطول المسلمين وأسطول النصارى القمص بالزقاق وضربوا لذلك الموعد وأتحفه السلطان بهدية سنية من متاع المغرب وماعونه ومركب ذهبي صنيع ومقرب من جياده وأنفذها إليه فبلغت تلمسان وهلك قبل وصولها إلى محلها ولما هلك السلطان أبو عنان أمل أخوه المولى أبو سالم ملك أخيه وطمع في مظاهرة أهل الأندلس له على ذلك لما كان بينهم وبين أخيه واستدعاه أشياع من أهل المغرب ووصل البعض منهم إليه بمكانه من غرناطة وطلب الإذن من رضوان في الإجازة فأبى عليه فأحفظه ذلك ونزع إلى ملك قشتالة متطارحا بنفسه عليه أن يجهز له الأسطول للإجازة إلى المغرب فاشترط عليه وتقبل شرطه وأجازه في أسطوله إلى مراكش فامتنع عامر من قبوله لما كان فيه من التضييق والحصار بحضرة سليمان بن داود كما ذكرناه فانكفأ راجعا على عقبه فلها حاذى طنجة وبلاد غمارة وألقى بنفسه إليهم ونزل من الصفيحة من بلادهم واشتملت عليه قبائلهم وتسايلوا إليه من كل جانب وبايعوه على الموت
وملك سبتة وطنجة وبها يومئذ السلطان أبو العباس بن أبي حفص صاحب قسنطينة لحق بها بعد الخروج من اعتقاله بسبتة كما ذكرناه فاختصه المولى أبو سالم بالصحبة والخلة والبواء في اغترابه ذلك إلى أن استولى على ملكه وألفى بطنجة الحسن بن يوسف الورتاجني وكاتب ديوان الجند أبا الحسن بن على بن السعود والشريف أبا القاسم التلمساني فكان منصور بن سليمان ارتاب بهم واتهمهم بمداخلة الوزير الحسن بن عمر بمكانه من البلد الجديد فصرفهم من معسكر إلى الأندلس فوافوا الأمير أبا سالم عند استيلائه على طنجة فصاروا إلى إيالته واستوزر الحسن بن يوسف واستكتب لعلامته أبا الحسن على بن السعود واختص الشريف بالمجالسة و المراكبة ثم قام أهل الثغور الأندلسية بدعوته وأجاز يحيي بن عمر صاحب جبل الفتح بمن كان معه من العسكر وطالت حصاة المولى أبي سالم واتسع معسكره وبلغ الخبر إلى الثائر على البلد الجديد منصور بن سليمان فجهز عسكرا لدفاعه وعقد عليه لأخويه عيسى و طلحة وأنزلهما قصر كتامة وقاتلوه فهزموه واعتصم بالجبل وبادر الحسن بن عمر من وراء الجدران فبعث طاعته إليه ووعده بالتمكين من دار ملكه وداخل بعض أشياع المولى أبي سالم مسعود بن رحو بن ماسي وزير منصور في النزوع إلى السلطان وكان قد ارتاب بمنصور وابنه علي فنزغ وانفض الناس من حول منصور وتخاذل أشياعه من بني مرين ولحق بباديس من سواحل المغرب ومشى أهل العسكر بأجمعهم في ساقاتهم ومواكبهم على التعبية فلحقوا بالسلطان أبي سالم واستعدوه إلى دار ملكه فأغذ السير وخلع الحسن بن عمر سلطانه السعيد من الأمر لتسعة أشهر من خلافته وأسلمه عمه وخرج إليه فبايعه
ودخل السلطان إلى البلد الجديد يوم الجمعة منتصف شعبان من سنة ستين وسبعمائة واستولى على ملك المغرب وتوافت وفود النواحي بالبيعات وعقد للحسن بن عمر على مراكش وجهزه إليها بالعساكر ريبة بمكانه واستوزر مسعود بن رحو بن ماسي والحسن بن يوسف الورتاجني و اصطفى من خواصه خطيب أبيه الفقيه أبا عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق وجعل إلى مؤلف هذا الكتاب توقيعه وكتابة سره وكنت نزعت إليه من معسكر منصور بن سليمان بكدية العرايس لما رأيت من اختلال أحواله ومصير الأمر إلى السلطان فأقبل علي وأنزلني بمحل التنويه واستخلصني لكتابته واستوسق أمره بالمغرب وتقبض شيعة السلطان بباديس على منصور بن سليمان وابنه علي وقادوهم مصفدين إلى سدته وأحضرهم ووبخهم وجنبوا إلى مصارعهم فقتلوا قعصا بالرماح آخر شعبان من سنته وجمع الأبناء والقرابة المرشحين من ولد أبيه وأشخصهم إلى رندة من ثغورهم بالأندلس ووكل بهم من يحرسهم ونزع محمد ابن أخيه أبو عبد الرحمن منهم إلى غرناطة ثم لحق منها بالطاغية واستقر لديه حتى كان من تملكه المغرب ما نقصه إن شاء الله وهلك الباتون غرقا بالبحر بإيعاز السلطان بذلك بعد مدة من سلطانه أركبهم السفن إلى المشرق ثم غرقهم وخلص الملك من الخوارج والمنازعين واستوسق له الأمر و الله غالب على أمره واحتفل السلطان في كرامة مولانا السلطان أبي العباس وأشاد ببره وأوعز باتخاذ دار عامر بن فتح الله وزير أبيه لنزله ومهد له المجلس لضيق أريكته ووعده بالمظاهرة على ملكه إلى أن بعثه من تلمسان عند استيلائه عليها كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/402)
الخبر عن خلع ابن الأحمر صاحب غرناطة ومقتل رضوان ومقدمه على السلطان
لما هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة ونصب ابنه محمد للأمر واستبد عليه رضوان مولى أبيه وكان قد رشح ابنه الأصغر اسمعيل بما ألقى عليه وعلى أمه من محبته فلما عدلوا بالأمر عنه حجبوه ببعض قصورهم وقد كان له صهر من ابن عمه محمد بن اسمعيل ابن الرئيس أبي سعيد في شقيقته فكان يدعوه سرا إلى القيام بأمره متى أمكنته فرصة في الدولة فخرج السلطان إلى بعض منتزهاته برياضه فصعد سور الحمراء ليلة سبع و عشرين من رمضان من سنة ستين وسبعمائة في بعض أوشاب جمعهم من الطغام لثورته وعمد إلى دار الحاجب رضوان فاقتحم عليه الدار وقتله بين حرمه وبناته وقربوا إلى اسمعيل فرسه فركب فأدخلوه القصر وأعلنوا بيعته وقرعوا طبولهم بسور الحمراء وفر السلطان من مكانه بمنتزهه إلى وادي آش بعد مقتل حاجبه رضوان واتصل الخبر بالسلطان المولى أبي سالم فامتعض لمهلك رضوان وخلع السلطان رعيا لما سلف له في جوارهم وأزعج لحينه أبا القاسم الشريف من أهل مجلسه لاستقلاله فوصل إلى الأندلس وعقد مع أهل الدولة على إجازة المخلوع من وادي آش إلى المغرب وأطلق اعتقالهم الوزير الكاتب أبا عبد الله بن الخطيب كانوا اعتقلوه لأول أمرهم لما كان رديفا للحاجب رضوان وركنا لدولة المخلوع فأوصى المولى أبو سالم إليهم بإطلاقه فأطلقوه ولحق الرسول أبو القاسم الشريف بسلطانه المخلوع بوادي آش للإجازة إلى المغرب وأجاز لذي العقدة من سنته وقدم على السلطان بفاس وأجل قدومه وركب للقائه ودخل به إلى مجلس ملكه وقد احتفل ترتيبه وغص بالمشيخة والعلية ووقف وزيره ابن الخطيب فأنشد السلطان قصيدته الرائقة يستصرخه لسلطاته ويستحثه لمظاهرته على أمره واستعطف واسترحم بما أبكى الناس شفقة له ورحمة ونص القصيدة :
( سلا هل لديها من محبرة ذكر ... وهل أعشب الوادي ونم به الزهر )
( وهل باكر الوسمي دارا على اللوى ... عفت آيها إلا التوهم والذكر )
( بلادي التي عاطيت مشمولة الهوى ... بأكنافها والعيش فينان مخضر )
( وجوي الذي ربى جناحي وكرة ... فها أناذا مالي جناح ولا وكر )
( نبت بي لا عن جفوة و قلالة ... ولا نسخ الوصل الهني لها هجر )
( ولكنها الدنيا قليل متاعها ... ولذتها دأبا تزور وتزور )
( فمن لي بنيل الدنيا القرب ودوننا ... مدى طال حتى يومه عندنا شهر )
( والله عينا من رآنا وللأسى ... ضرام له في كل جانحة جمر )
( وقد بددت در الدموع يد النوى ... وللبين أشجان تضيق لها الصدر )
( بكينا على النهر السرور عشية ... فعاد أجاجا بعدنا ذلك النهر )
( أقول لأظعاني وقد غالها السرى ... وآنسها الحادي وأوحشها الزجر )
( رويدك بعد العسر يسر فأبشري ... بإنجاز وعد الله قد ذهب العسر )
( وإن تجبن الأيام لم تجبن النهى ... وإن يخذل الأقوام لم يخذل الصبر )
( وإن عركت مني الخطوب مجربا ... نقابا تسوى عنده الحلو والمر )
( فقد عجمت عودا صليتا مقوما ... وعزما كما تمضي المهندة البكر )
( إذا أنت بالبيضاء قد زرت منزلي ... فلا اللحم حل ما جنيت ولا الظهر )
( زجرنا بإبراهيم ملء همومنا ... فلما رأينا وجهه صدق الزجر )
( بمنتخب من آل يعقوب كلما ... دجا الخطب لم يكذب لعرمته فخر )
( تناقلت الركبان طيب حديثه ... فلما رأته صدق الخبر الخير )
( ندى لو حواه البحر لذ مذاقة ... ولم يتعقب مده أبدا جزر )
( وبأس غدا يرتاح من خوفه الردى ... وترفا في أذياله الفتية البكر )
( أطاعته حتى العصم في قنن الربا ... وهشت إلى تأميله الأنجم الزهر )
( قصدناك يا مولى الملوك على النوى ... لتنصفنا مما جنى عبدك الدهر )
( كففتنا بك الأيام عن غلوائها ... وقد رابنا منها التعسف والكبر )
( وعدنا بذاك المجد فانصرف الردى ... ولذنا بذاك العز فانهزم الشر )
( ولما أتينا البحر نرهب موجه ... ذكرنا بذاك العز الغمر فاحتقر البحر )
( خلافتك العظمى ومن لم يدن بها ... فإيمانة لغو وعرفانه نكر )
( ووصفك يهدي المدح قصد صوابه ... إذا ضل في أوصاف من دونك الشعر )
( دعتك قلوب المسلمين وأخلصت ... وقد طاب منها السر لله والجهر )
( ومدت إلى الله الأكف ضراعة ... فقال لهن الله قد قضى الأمر )
( وألبستها النعمى ببيعتك التي ... لها الطائر الميمون والمحتد الحر )
( فأصبح ثغر الثغر يبسم ضاحكا ... وقد كان مما نابه ليس يفتر )
( وأمنت بالسلم البلاد وأهلها ... فلا ضيمة تعدو ولا روعة تعرو )
( وقد كان مولانا أبوك مصرحا ... بأنك في أولاده الولد البر )
( وقد كنت حقا بالخلافة بعده ... على الفور لكن كل شيء له قدر )
( فأوحشت من دار الخلافة أهلها ... أقامت زمانا لا يلوح بها البدر )
( ورد عليك الله حقك إذ قضى ... بأن تشمل النعمى وينسدل الستر )
( وقاد إليك الملك رفقا بخلقه ... وقد عدموا ركن الأمانة واضطروا )
( وزادك بالتمحيص عزا ورفعة ... وأجرا ولولا السبك ما عرف التبر )
( وأنت الذي تدعى إذا دهم الردى ... وأنت الذي ترجى إذا أخلف القطر )
( وأنت إذا جاز الزمان بحكمه ... لك النقض والإبرام والنهي والأمر )
( وهذا ابن نصر قد أتى وجناحه ... كسير ومن علياك يلتمس النصر )
( غريب يرجى منك ما أنت أهله ... فإن كنت تبغي الفخر قد جاءك الفخر )
( فعد يا أمير المؤمنين لبيعة ... موثقة قد حل عقدتها الغدر )
( ومثلك فن يرعى الدخيل ومن دعا ... بآل مرين جاءه العز والنصر )
( وخذ يا إمام الحق للحق ثأره ... ففي ضمن ما تأتي به العز والأجر )
( وأنت لها يا ناصر الحق فلتقم ... بحق فما زيد يزجى ولا عمرو )
( فإن قيل مال مالك الدثر وافر ... وإن قيل جيش عندك العسكر الحر )
( يكف بك العادي ويحيا بك الهدى ... ويبني بك الإسلام ما هدم الكفر )
( أعده إلى أوطانه عنك ثانيا ... وقلده نعماك التي مالها حصر )
( وعاجل قلوب الناس فيه بجبرها ... فقد صدهم عنه التغلب والقهر )
( وهم يرقبون الفعل منك وصفقة ... تحاولها يمناك ما بعدها خسر )
( مرامك سهل لا يؤدك كفله ... سوى أنه عرض له في الغلى حظر )
( وما العمر إلا زينة مستعارة ... ترد ولكن الثناء هو العمر )
( ومن باع ما يفنى بباق مخلد ... فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر )
( ومن دون ما تبقيه يا مالك العلى ... جياد المذاكي و المحجلة الغر )
( وارد وشقر واضحات شياتها ... فأجسامها تبر وأراجلها در )
( وشهب إذا ما ضمرت يوم غارة ... مطهمة غارت بها الأنجم الزهر )
( وأسد رجال من مرين أعزة ... عمائمها بيض وآمالها سمر )
( علهم من الماذي كل مفاضة ... تدافع في أعطافها اللجج الخضر )
( هم القوم إن هبو الكشف مملة ... فلا الملتقى صعب ولا المرتقى وعر )
( إذا سئلوا أعطوا وإن نوزعوا سطوا ... وإن وعدوا أوفوا وإن عاهدوا بروا )
( وإن سمعوا العواء وافوا بأنفس ... كرام علي هاماتها في الورى البر )
( وإن مدحوا هزوا ارتياحا كأنهم ... نشاوى تمشت في معاطفهم خمر )
( وتبسم ما بين الوشيج ثغورهم ... وما بين قضب الدوح يبتسم الزهر )
( أمولاي غاضت فكرتي وتبدلت ... طباعي فلا طبع يقيني ولا فكر )
( ولولا حنان منك داركتني به ... وأحييتني لم يبق عين ولا أثر )
( فأوجدت منى فائتا أي فائت ... وأنشرت ميتا ضم أشلاءه قبر )
( بدأت بفضل لم أكن لعظمه ... بأهل فحل اللطف وانشرح الصدر )
( وطوقتني النعمى المضعفة التي ... يقل عليها مني الحمد والشكر )
( وأنت بتتميم الصنائع كافل ... إلى أن يعود العز والجاه والوقر )
( جزاك الذي أسنى مقامك رحمة ... تفك بها العاني وينفس مضطر )
( إذا نحن أثنينا عليك بمدحة ... فهيهات يحصى الرمل أو يحصر القطر )
( ولكننا نأتي بما نستطيعه ... ومن بذل المجهود حق له العذر )
ثم انقضى المجلس وانصرف ابن الأحمر إلى نزله وقد فرشت له القصور وقربت له الجياد بالمراكب المذهبة وبعث إليه بالكسا الفاخرة ورتب الجرايات له ولمواليه من المعلوجي وبطانته من الصنائع وانحفظ عليه رسم سلطانه في الركب والرجل ولم يفقد من ألقاب ملكه إلا الأداة أدبا مع السلطان واستقر في حملته إلى أن كان من لحاقه بالأندلس وارتجاع ملكه سنة ثلاث وستين وسبعمائة ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/405)
الخبر عن انتقاض الحسن بن عمر وخروجه بتادلا وتغلب السلطان عليه ومهلكه
لما فصل الوزير الحسن بن عمر إلى مراكش واستقر بها تأثل له بها سلطان ورياسة نفسها أهل مجلس السلطان وسعوا في تنكر السلطان له حتى أظلم الجو بينهما وشعر الوزير بذلك فارتاب بمكانه وخشي بادرة السلطان على نفسه وخرج من مراكش في شهر صفر من سنة إحدى وستين وسبعمائة فلحق بتادلا منحرفا عن الطاعة مرتبكا أمره وتلقاه بنو جابر من جشم واعصوصبوا عليه وأجاروه وجهز السلطان عساكره إلى حربه وعقد علها لوزيره الحسن بن يوسف وسرحه إليه فاحتل بتادلا ولحق الحسن بن عمر بالجبل واعتصم به مع الحسين بن على الورديغي كبيرهم وأحاطت بهم العساكر وأخذوا بمخنقهم وداخل الوزير بعض أهل الجبل من صناكة في الثورة بهم وسرب إليهم المال فثاروا بهم وانفض جمعهم وتقبض على الحسن بن عمر وقاده برمته إلى عسكر السلطان فاعتقله الوزير وانكفأ راجعا إلى الحضرة وقدم بها على السلطان في يوم مشهود واستركب السلطان فيه العسكر وجلس ببرج الذهب مقعده في ساحة البلد لاعتراض عساكره وحمل السلطان الحسن بن عمر على جمل طيف به بين أهل ذلك المحشر وقرب إلى مجلس السلطان فأومأ إلى تقبيل الأرض فوق جمله وركب السلطان إلى قصره وانفض الجمع وقد شهروا وصاروا عبرة من عبر الدنيا ودخل السلطان قصره فاقتعد أريكته واستدعى خاصته وجلساءه وأحضره فوبخه وقرر عليه مرتكبه فتلوى بالمعاذير وفزع إلى الإنكار وحضرت هذا المجلس يومئذ فيمن حضره من العلية والخاصة فكان مقاما تسيل فيه العيون رحمة وعبرة ثم أمر به السلطان فسحب على وجهه ونتفت لحيته وضرب بالعصي وتل إلى محبسه وقتل لليال من اعتقاله قعصا بالرماح بساحة البلد ونصب شلوه بسور البلد عن باب المحروق وأصبح مثلا في الآخرين (7/410)
الخبر عن وفد السودان وهديتهم وأغرابهم فيها بالزرافة
كان السلطان أبو الحسن لما أهدى إلى ملك السودان منسا سليمان بن منسا موسى هديته المذكورة في خبره اعتمل في مكافأته وجمع لمهادات من طرف أرضه وغرائب بلاده وهلك السلطان أبو الحسن خلال ذلك ووصلت الهدية إلى أقصى ثغورهم من الأرس وهلك منسا سليمان قبل وصولها واختلف أهل مالي وافترق أمرهم وتواثب ملوكهم على الأمر وقتل بعضهم بعضا وشغلوا بالفتنة حتى قام فيهم منسا زاطة واستوثق له أمرهم ونظر في أعطاف ملكه وأخبر بشأن الهدية وأخبر أنها بوالاتن فأمر بإنفاذها إلى ملك المغرب وضم إليها حيوان الزرافة الغريب الشكل العظيم الهيكل المختلف الشبه بالحيوانات وفصلوا بها من بلادهم فوصلوا إلى فاس في صفر من سنة اثنتين وستين وسبعمائة وكان يوم وفادتهم يوما مشهودا جلس لهم السلطان ببرج الذهب مجلس العرض ونودي في الناس بالبروز إلى الصحراء فبرزوا ينسلون من كل حدب حتى غص بهم الفضاء وكب بعضهم بعضا في الازدحام على الزرافة إعجابا بخلقتها وأنشد الشعراء في معرض المدح و التهنئة ووصف الحال وحضر الوفد بين يدي السلطان وأدوا رسالتهم بتأكيد الود والمخالصة والعذر عن إبطاء الهدية بما كان من اختل إلى أهل مالي وتواثبهم على الأمر وتعظيم سلطانهم وما صار إليه والترجمان يترجم عنهم وهم يصدقونه بالنزع في أوتار قسيهم عادة معروفة لهم وحيوا السلطان يحثون التراب على رؤوسهم على سنة ملوك العجم ثم ركب السلطان وانفض ذلك الجمع وقد طار به الذكر واستقر ذلك الوفد في إيالة السلطان وتحت جرايته وهلك السلطان قبل انصرافهم فوصلهم القائم بالأمر من بعده وانصرفوا إلى مراكش وأجازوا منها إلى ذوي حسان عرب المعقل من السوس المتصلين ببلادهم ولحقوا من هنالك بسلطانهم والأمر لله وحده (7/411)
الخبر عن حركة السلطان إلى تلمسان واستيلائه عليها وايثار أبي زيان حافد أبي تاشفين بملكها وما كان من ذلك من صرفه أمراء الموحدين إلى بلادهم
لما استقل السلطان بملك المغرب سنة ستين وسبعمائة كما ذكرناه وكان العامل على درعة عبد الله بن مسلم الزردالي من أخلاف بني عبد الواد وشيعة أبي زيان اصطنعه السلطان أبو الحسن عند تغلبه على تلمسان واستعمله أبو عنان بعد ذلك على بلاد درعة كما ذكرناه وتأتى له المكر بأبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن حين خروجه عل أخيه السلطان أبي عنان بجبل ابن حميدي فارتاب عند استقلال المولى أبي سالم بالأمر وخشي بادرته لما رآه من حقد عليه بسبب أخيه أبي الفضل لما كان بينهما من لحمة الاغتراب فداخل بطانة له من عرب المعقل واحتمل ذخائره وأمواله وأهله وقطع القفر إلى تلمسان ولحق بالسلطان أبي حمو آخر سنة ستين وسبعمائة فنزل منه خبر نزل وعقد له حين وصوله كل وزارته وباهى به وبمكانه وفوض إليه في التدبير والحل والعقد فشمر عن ساعده في الخدمة وجأجأ بعرب المعقل من مواطنهم رغبة في ولايته و ايثارا لمكانته من الدولة ورهبة من سلطان المغرب لما كانوا ارتكبوه من موافقة بنى مرين مرة بعد أخرى فاستقروا بتلسمان وانحاشوا جميعا إلى بنى عبد الواد وبعث السلطان أبو سالم إلى أبي حمو في شأن عاملهم عبد الله بن مسلم فلم يرجع له جوابا عنه حضر عليه ولاية المعقل أهل وطنه فلج في شأنهم فأجمع السلطان أمر ه عل النهوض إليهم واضطرب معسكره بساحة البلد وفتح ديوان العطاء ونادى في الناس بالنفبر إلى تلمسان وأزاح العلل
وبعث الحاشدين من وزرائه إلى مراكش فتوافت حشود الجهات ببابه وفصل من فاس في جمادى من سنة إحدى وستين وسبعمائة وجمع أبو حمو من في إيالته وعلى التشييع لدولته من زناتة والعرب من بنى عامر والمعقل كافة ما عدا العمارنة كان أميرهم الزبير بن طلحة متحيزا إلى السلطان وأجفلوا عن تلمسان وخرجوا إلى الصحراء ودخل السلطان إلى تلمسان ثالث رجب وخالفه أبو حمو وأشياعه إلى المغرب فنزلوا كرسيف بلد ونزمار بن عريف وخربوه واكتسحوا ما وجدوا ليه حقدا على ونزمار وقومه بولاية بنى مرين وتخطوا إلى وطاط فعاثوا في نواحيه وانقلبوا إلى أنكاد وبلغ السلطان خبرهم فتلافى أمر المغرب وعند عل تلمسان لحافد من حفدة السلطان أبي تاشفين كان ربي في حجرهم وتحت كفالة نعمتهم وهو أبو زيان محمد بن عثمان وشهرته بالفتى وأنزله بالقصر القديم من تلمسان وعسكر عليه زناتة الشرق كلهم واستوزر له ابن عمه عمر بن عمد بن إبراهيم بن مكي ومن أبناء وزرائهم سعيد بن موسى بن علي وأعطاه عشرة أحمال من المال دنانير ودراهم ودفع إليه الآلة وذكر حينئذ لمولانا السلطان أبي العباس سوابقه وإيلافه في المنزل الخشن فنزل له عن محل إمارته قسنطينة وصرف أيضا المولى أبا عبد الله صاحب بجاية لاسترجاع بلده بجاية فعقد لهما بذلك وحملهما وخلع عليهما وأعطاهما حملين من المال
وكانت بجاية لذلك العهد قد تغلب عليها عمهم المولى أبو اسحق إبراهيم صاحب تونس فكتب إلى عاملهم على قسنطينة منصور بن الحاج خلوف أن ينزل عن بلدة مولانا السلطان أبي العباس أحمد ويمكنه منها وودع هؤلاء الأمراء وانكفأ راجعا إلى حضرته لسد ثغور المغرب وحسم داء العدو فدخل فاس في شعبان من سنته ولم يلبث أن رجع أبو زيان على أثره بعد أن أجفل عن تلمسان ولحق بوانشريش وتغلب عليه أبو حمو وفض جموعه فلحق بالسلطان واستقل أبو حمو بملك تلمسان وبعث في السلم إلى السلطان فعقد له من ذلك ما رضيه كما ذكرناه (7/412)
الخبر عن مهلك السلطان أبي سالم واستيلاء عمر بن عبد الله على ملك المغرب ونصبه للملوك واحدا بعد واحد إلى أن هلك
كان السلطان قد غلب على هواه الخطيب أبو عبد الله بن مرزوق وكان من خبره أن سلفه من أهل رباط الشيخ أبي مدين كان جده قيما على خدمة قبره ومسجده واتصل القيام على هذا الرباط في عقبه وكان جده الثالث محمد معروفا بالولاية ولما مات دفنه يغمراسن بالقصر القديم ليجاوره بجده تبركا به وكان ابنه أحمد أبو محمد هذا قد ارتحل إلى المشرق وجاور الحرمين إلى أن هلك وربى ابنه محمد بالمشرق ما بين الحجاز ومصر وقفل إلى المغرب بعد أن أسر أشياء في الطلب وتفقه على أولاد الإمام ولما ابتنى السلطان أبو الحسن مسجد العباد ولاه الخطابة به وسمعه يخطب على المنبر وقد أحسن في ذكره والدعاء له فحلا بعينه واستخلصه لنفسه وأحله محل القرب من نفسه وجعله خطيبا حيث يصلى من مساجد المغرب وسفر عنه إلى الملوك ولما كانت نكبة القيروان خلص إلى المغرب واستقر برباط العباد بجبل سلفه بعد أحوال أضربنا عن ذكرها اختصارا
ولما خلص السلطان إلى الجزائر داخله أبو سعيد صاحب تلمسان في السفارة عنه إلى السلطان أبي الحسن وصلاح ما بينهما فسار لذلك ونقمه أبو ثابت وبنو عبد الواد ونكروه على سلطانهم وسرحوا صغير بن عامر في اتباعه فتقبض عليه وأودعوه المطبق ثم اشخصوه بعد حين إلى الأندلس فاتصل بأبي الحجاج صاحب غرناطة وولاه خطابته لما اشتهر به من إجادة الخطبة للملوك بزعمهم وألف السلطان أبا سالم في مثوى اغترابهما من غرناطة وشاركه عند أبي الحجاج في مهماته ولما نزل بجبال غمارة داخل بني مرين والوزراء في القيام بدعوته وكان له في ذلك مقام محمود فرعى السلطان وسائله بولاته القديمة والحادثة إلى مقامه عند أبيه فما استوثق به ملك المغرب استخصه بولايته وألقى عليه محبته وعنايته وكان مؤامره ونجي خلوته والغالب على هواه فانصرفت إليه الوجوه وخضعت له الرقاب ووطئ عقبه الأشراف والوزراء وعطف على بابه القواد والأمراء وصار زمام الدولة بيده وكان يتجافى عن ذلك أكثر أوقاته حذرا من سوء المغبة ويزجر من يتعرض له في الشكاية ويردهم إلى أصحاب المراتب والخطط بباب السلطان وهم يعلمون أنه قد ضرب كل أيديهم فنقموا ذلك وسخطوا الدولة من أجله ومرضت قلوب أهل الحل والعقد من تقدمه : ونفس عليه الوزراء ما ثبت له عند السلطان من الحظ فتربصوا بالدولة وشمل هذا الداء الخاصة والعامة وكان عمر بن عبد الله ابن علي لما هلك أبوه الوزير عبد الله بن عل في جمادى سنة ستين وسبعمائة عند استيلاء السلطان عل ملكه تحلبت شفاه أهل الدولة على تراثه وكان مثريا فاستجار مهم بابن مرزوق وساهمه في تراث أبيه بعد أن حملوا السلطان على النيل منه والإهانة له فأجاز منهم ورفع عند السلطان رتبته وحمله على الإصهار إليه في أخته وقلده السلطان أمانة البلد الجديد دار ملكه متى عنت له الرحلة عنها وأصهر عمر إلى وزير الدولة مسعود بن ماسي تسكينا لروعته واستخلاصا لمودته وسفر عن السلطان إلى صاحب تلمسان في شعبان من سنة اثنين وستين وسبعمائة ونمي عنه أنه داخل صاحب تلمسان في بعض المكر فهم بنكبته وقتله ودافع عنه ابن مرزوق وخلص من عقابه وطوى على البث وتربص بالدولة وأعيد إلى مكانه من الأمانة عل دار الملك أول ذي القعدة مرجعه من تلمسان لما كان السلطان قد تحول عنها إلى القصبة بفاس واختظ إيوانا فخما لجلوسه بها لضيق قصوره بها فلم استولى عمر على دار الملك حدثته نفسه بالتوثب وسول له ذلك ما اطلع عليه من مرض القلوب و النكير على الدولة لمكمان ابن مرزوق من السلطان فداخل قائد الجند غريسة ابن انطول وتعدوا لذلك ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي القعدة سنة اثنتين وستين وسبعمائة وخلصوا إلى تاشفين الموسوس ابن السلطان أبي الحسن بمكانه من البلد الجديد فخلعوا عليه وألبسوه شارة الملك وقربوا له مركبه وأخرجوه إلى أريكة السلطان فأقعدوه عليها وأكرهوا شيخ الحامية والناشبة محمد بن الزرقاء على البيعة له وجاهروا بالخلعان وقرعوا الطبول ودخلوا إلى مودع المال ففرضوا العطاء من غير تقدير ولا حسبان وماج أهل البلد الجديد من الجند بعضهم في بعض واختطفوا ما وصلوا إليه من العطاء وانتبهوا ما كان بالمخازن الخارجية من السلع والعدة وأضرموا النار في بيوتها سترا عل ما ضاع منها وأصبح السلطان بمكانه من القصبة فركب واجتمع إليه من حضر من الأولياء والقبائل وغدا على البلد الجديد وطاف بها يروم منها منفذا فاستعصب واضطرب معسكره بكدية العرائس لحصارها ونادى في الناس بالاجتماع إليه ونزل عند قائلة الهاجرة بفسطاطة فتسايل الناس عنه إلى البلد الجديد فوجا بعد فوج بمرأى منه إلى أن سار إليها أهل مجلسه وخاصته فطلب النجاة بنفسه وركب في لمة من الفرسان مع وزرائه : مسعود بن رحو بن سليمان بن داود ومقدم الموالى والجند ببابه سليمان بن نصار وأذن لابن مرزوق في الدخول إلى داره ومضى على وجهه ولما غشيهم الليل انفضوا عنه ورجع الوزير إلى دار الملك فتقبض عليهما عمر بن عبد الله و مساهمه غريسة بن أنطول واعتقلاهما متفرقين وأشخص علي بن مهدي بن يرزيجن في طلب السلطان فعثر عليه نائما في بعض المحاشر بوادي ورغة وقد نزع عنه لباسه اختفاء بشخصه وتوارى على العيون بمكانه فتقبض عليه وحمله على بغل وطير الخبر إلى عمر بن عبد الله فأزعج لتلقيه شعيب بن ميمون بن وردار وفتح الله بن عامر ابن فتح الله وأمرهما بقتله وإنفاذ رأسه فلقياه بخندق القصب إزاء كدية العرائس فأمر بعض جنود النصارى أن يتولى ذبحه وحمل رأسه في مخلاة فوضعه بين يدي الوزير والمشيخة واستقل عمر بالأمر ونصب الموسوس تاشفين يموه به على الناس وذوات الأمور إلى غاياتها ولكل أجل كتاب (7/413)
الخبر عن الفتك بابن أنطول قائد العسكر من النصارى ثم خروج يحيى بن رحو و بني مرين عن الطاعة
لما تقبض عمر بن عبد الله على الوزير كان معتقل سلمان بن داود بدار غريسة قائد النصارى ومعتقل ابن ماسي بداره ضنا به عن الامتهانذ لمكان صهره ولما كان يؤمل منه من الاستظهار على أمره بعصابته من الأبناء والأخوة والقرابة و كان غريسة بن أنطول صديقا لسليمان بن ونصار فما رجع عن السلطان ليلة انفصالهم نزل عليه وكان يعاقره الخمر فأتاه سحرا وتفاوضا في اعتقال عمرو وإقامة معتقله سليمان بن داود في الوزارة لما هو عليه من السن ورسوخ القدم في الأمر ونمي إلى عمر الخبر فارتاب وكان خلوا من العصابة ففزع إلى قائد المركب السلطاني من الرجل الأندلسيين يومئذ إبراهيم البطروجي فباثه أمره وبايعه على الاستماتة دونه ثم استقل عصابتهم ففزع إلى يحيى بن رحو شيخ بني مرين وصاحب شوراهم فشكا إليه فأشكاه ووعده الفتك بابن أنطول وأصحابه وانبرم ابن أنطول وسليمان ابن ونصار على شأنهم وغدوا إلى القصر وداخل ابن أنطول طائفة من النصارى للاستظهار بهم ولما توافت بنو مرين بمجلس السلطان على عادتهم وطعموا دعا عمر بن عبد الله القائد ابن أنطول بين يدي يحيى بن رحو وقد أحضر البطروجي رجل الأندلسيين فسأله تحويل سليمان بن داود من داره إلى السجن فأبى وضن به عن الإهانة حتى يسأل مثلها من كان ابن ماسي صاحبه فأمر عمر بالتقبض عليه فشكر في وجوه الرجال واخترط سكينه للمدافعة فتواثبت بنو مرين وقتلوه لحينه واستلحموا من وجد بالدار من جند النصارى عند دخولهم وفروا إلى معسكرهم ويعرف بالملاح جوار البلد الجديد
وأرجف الغوغاء بالمدينة أن ابن انطول غدر بالوزير فقتل جند النصارى حيث وجدوا من سكك المدينة وتزاحفوا إلى الملاح لاستلحام من به من الجند وكب بنو مرين لحماية جندهم من معرة الغوغاء وانتهت يومئذ الكثير من أموالهم وآنيتهم وأمتعتهم وقتل النصارى كثيرا من المجان كانوا يعاقرون الخمر بالملاح واستبد عمر بالدار واعتقل سليمان بن ونصار إلى الليل وبعث من قتله بمحبسه وحول سليمان بن داود إلى بعض الدور بدار الملك واعتقله بها واستولى على أمره ورجع في الشورى إلى يحيى بن رحو و اعصوصب بنو مرين عليه واعتز على الأمراء والدولة وكان عدو الخاصة السلطان أبي سالم حريصا على قتلهم وكان عمر يريد استبقاءهم لما أمله في ابن ماسي فخشنت صدورهم عليه ودبروا في شأنه وخاطب هو عامر بن محمد في اتصال اليد واقتسام ملك المغرب وبعث إليه بأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم اعتده عنده وليجة لخلاصه من ربقة الحصار الذي هم به مشيخة بني مرين وكان أبو الفضل هذا بالقصبة تحت الرقبة والأرصاد فتفقد من مكانه وأغلظ المشيخة في العتب لعمر في ذلك فلم يستعتب ونبذ إليهم العهد وامتنع بالبلد الجديد ومنعهم من الدخول إليها فاعصوصبوا على كبيرهم يحيى بن رحو وعسكروا بباب الفتوح وجأجؤا بعبد الحليم ابن السلطان أبي علي وكان من خبرهم معه ما نذكره وأطلق عمر بن عبد الله مسعود بن ماسي من محبسه وسرحه إلى مراكش و أوعده في الاجلاب عليهم إن حاصروه كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/416)
الخبر عن وصول عبد الحليم ابن السلطان من تلمسان وحصار البلد الجديد
كان السلطان أبو الحسن لما قتل أخاه السلطان أبا علي وقضى الحق الذي له في ذمته عمل بالحق الذي عليه في ولده وحرمه فكفلهم وغذاهم بنعمته وساواهم بولده في كافة شؤونهم وأنكح ابنته تاحضريت العزيزة عليه عليا منهم المكنى بأبي سلوس ونزع عنه وهو بالقيروان أيام النكبة ولحق بالعرب وأجلب معهم على السلطان بالقيروان وتونس ثم انصرف من إفريقية ولحق بتلمسان ونزل على سلطانها أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن فبؤاه كرامته ثم شرع في الإجازة إلى الأندلس وبعث فيه السلطان أبو عنان قبل فصوله فاشخصوه إليه فاعتقله ثم أحضره ووبخه على مرتكبه مع السلطان أبي الحسن وجحده حقه ثم قتله لليلتين من شهور إحدى وخمسين وسبعمائة ولما هلك السلطان أبو الحسن ولحقت جملته من الخاصة والأبناء بالسلطان أبي عنان وأشخص إخوته إلى الأندلس وأشخص معهم ولد الأمير أبي علي هؤلاء عبد الحليم وعبد المؤمن والمنصور والناصر وسعيد ابن أخيهم أبي زيان فاستقروا بالأندلس في جوار ابن الأحمر ثم طلب أبو عنان إشخاصهم بعد كما طلب إشخاص أخيه فأجارهم ابن الأحمر جميعا وامتنع من إسلامهم إليه وكان من المغاضبة لذلك ما قدمناه
ولما اعتقل السلطان أبو سالم الأبناء المرشحين برندة كما قدمناه نزع منهم عبد الرحمن بن علي بن أبي يفلوسن إلى غرناطة فلحق بأعماله وكان السلطان أبو سالم بمكانهم مستريبا بشأنهم حتى لقد قتل محمد بن أبي يفلوسن ابن أخته تاحضريت وهو في حجرها وحجره استرابه بما نمي عنه ولما أجاز أبو عبد الله المخلوع ابن أبي الحجاج إلى المغرب ونزل عليه وصار إلى إيالته ورأى أن قد ملك أمره في هؤلاء المرشحين بغرناطة وأرسل الرئيس محمد بن اسمعيل عند توثبه على الأمراء واستلحامه أبناء السلطان أبي الحجاج فراسله في اعتقالهم ثم فسد ما بين الرئيس والطاغية وأخذ منه كثيرا من حصون المسلمين وبعث إلى السلطان أبي سالم في أن يخلي سبيل المخلوع إليه فامتنع وفاء للرئيس ثم دافع الطاغية عن ثغوره بإسعافه طلبته فجهز المخلوع وملأ حقائبه صلة وأعطاه الآلة وأوعز إلى أسطوله بسبتة فجهز وبعث علال بن محمد ثقة أبيه فأركبه الأسطول وركب معه إلى الطاغية وخلص الخبر أن الرئيس بمكانه من ملك غرناطة وكان أبو حمو صاحب تلمسان يراسله في أولاد أبي علي وأن يجيزهم إليه ليجدهم زبونا على السلطان أبي سالم فبادر لحينه وأطلقهم من مكان اعتقالهم وأركب عبد الحليم وعبد المؤمن وعبد الرحمن ابن أخيهما على أبي يفلوسن في الأسطول وأجازهم إلى مرسى هنين بين يدي مهلك السلطان أبي سالم فنزلوا من صاحب تلمسان بأعز جوار ونصب عبد الحليم منهم لملك المغرب
وكان محمد السبيع بن موسى بن إبراهيم نزع عن عمر ولحق بتلمسان فتوافى معهم وأخبرهم بمهلك السلطان وبايع له وأغراه بالرحلة إلى المغرب ثم تتابعت وفود بني مرين بمثلها فسرحه أبو حمو وأعطاه الآلة واستوزر له محمد السبيع وارتحل معه يغذ السير ولقي في طريقه محمد بن زكراز من أولاد على من شيوخ بنى ونكاس أهل دبدوا وثغر المغرب منذ دخول بني مرين إليه فبايعه وحمل قومه على طاعته وأغذ السير وكان يحيى بن رحو والمشيخة لما نبذ عمر بن عبد الله إليهم العهد وعسكروا بباب الفتوح أوفدوا مشيخة منهم على تلمسان لاستقدام السلطان عبد الحليم فوافوه بتازي ورجعوا معه وتلقته جماعة بني مرين بسبوا ونزلوا على البلد الجديد يوم السبت سابع محرم من سنة ثلاث وستين وسبعمائة واضطرب معسكرهم بكدية العرائس وغادوا البلد القتال وراوحوها سبعة أيام وتتابعت وفودهم وبيعات الأمصار توافيهم والحشود تتسايل إليهم ثم أن عمر بن عبد الله برز من السبت القابل في مقدمة السلطان أبي عمر بمن معه من جند المسلمين والنصارى رامحة وناشبة ويهل بالسلطان من جاء به في الساقة على التعبية المحكمة وناشبهم الحرب فدلفوا إليه فاستطرد لهم ليتمكن الناشبة من عقرهم من الأسوار حتى فشت فيهم الجراحات ثم صمم نحوهم وانفرج القلب وانفضت الجموع وزحف السلطان في الساقة فانذعروا في الجهات وافترق بنو مرين إلى مواطنهم ولحق يحيى بن رحو بمراكش مع مبارك بن إبراهيم شيخ الخلط ولحق عبد الحليم وإخوته بتازي بعد أن شهد لهم أهل المقام بصدق الجلاد وحسن البلاء في ذلك المجال وصابر عمر بن عبد الله قدوم محمد بن أبي عبد الرحمن كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/418)
الخبر عن قدوم الأمير محمد ابن الأمير عبد الرحمن وبيعته بالبلد الجديد في كفالة عمر بن عبد الله
لما نبذ بنو مرين عهدهم واعصوصبوا عليه ونكروا ما جاء به من البيعة لأبي عمر مع فقده العقل الذي هو شرط الخلافة شرعا وعادة ونقموا عليه اتهم نفسه في نظره وفرع إلى التماس المرشحين فوقع نظره على حافد السلطان أبي الحسن محمد ابن الأمير أبي عبد الله النازع لأول دولة السلطان أبي سالم من رندة إلى الطاغية وكان قد نزل منه بخير مثوى فبعث إليه مولاه عتيقا الخصي ثم تلاه بعثمان بن الياسمين ثم تلاهما بالرئيس الأبكم من بني الأحمر في كل ذلك يستحث قدومه وخاطب المخلوع ابن الأحمر وهو في جوار الطاغية كما قدمناه قريب عهد بجواره فخاطبه في استحثه واستخلاصه من يد لطاغية وكان المخلوع يرتاد لنفسه منزلا من ثغور المسلمين لما فسد يبنه ولبين الطاغية ورام لنزوع عن إيالته فاشترط على الوزير عمر النزول له عن رندة فتقبل شرطه وبعث إليه بالنزول عنها بعد أن وضع الملأ عليه خوطهم من بنى مرين والخاصة والشرفاء والفقهاء فسار ابن الأحمر إلى الطاغية وسأله تسريح محمد هذا إلى ملكه وأن قبيله دعوة إلى ذلك فسرحه بعد أن شرط عليه وكتب الكتاب بقبوله وفضل من إشبيبلية في شهر المحرم فاتح ثلاث وستين وسبعمائة ونزل بسبتة وبها سعيد بن عثمان من قرابة عمر بن عبد الله أرصده لقدومه فطير بالخبر إليه فخلع أيا عمر من الملك لعام من ييعته وأنزله بداره مع حرمه وبعث إلى السلطان أبي زيان محمد بالبيعة وللآلة ولفساطيط ثم جهز عسكرا للقائه فتلقوه بطنجة وأغذ السر إلى الحضرة فنزل منتصف شهر صفر بكدية العرائس واضطرب معسكره بها وتلقاه لوزير يومئذ وبايعه وأخرج فسطاطه فاضطربه بمعسكره وتلوم السلطان هنالك ثلاثا ثم دخل في الرابع إلى قصر واقتعد أريكته وتودع ملكه وعمر مستبد عليه لا يكل إليه أمرا ولا نهيا واستطال عند ذلك المنازعون أولاد أبي علي كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/420)
الخبر عن تجهيز السلطان عبد الحليم واخوته إلى سجلماسة بعد الواقعة علهم بمكناسة
لما سمع عبد الحليم بقدوم محمد بن أبي عبد الرحمن من سبتة إلى فاس وهو بمكانه من تازى سرح أخاه عبد المؤمن وعبد الرحمن ابن أخيه إلى اعتراضه فانتهوا إلى مكناسة وخاموا عن لقائه فلما دخل إلى البلد الجديد أجلبوا بالغارة على النواحي وكثر العيث وأجمع الوزير عمر على الخروج إليهم بالعساكر فبرز بالتعبية والآلة وبات بوادى النجاء ثم اصبح على تعبيته وأغذ السير إلى مكناسة فزحف إليه عبد المؤمن وابن أخيه عبد الرحمن في جموعهما فجاولهما القتال ساعة ثم صمم إليهم فدفعهم عن مكناسة وانكشفوا فلحقوا بأخيهم السلطان عبد الحليم بتازى ونزل الوزير عمر بساحة مكناسة وأوفد بالفتح على السلطان وكنت وافده إليه يومئذ فعمت البشرى واتصل السرور وتهنأ السلطان بملكه وتودع من يومئذ سلطانه ولما وصل عبد المؤمن إلى أخيه عبد الحليم بتازى مفلولا انتقض معسكره ونزعوا عنه إلى فاس وذهب لوجهه هو وإخوته مع وزيرهم السبيع بن محمد ومن كان معهم من عرب المعقل فلحقوا بسجلماسة وكان أهلها قد دخلوا في بيعتهم ودانوا بطاعتهم فاستعزوا بها وجددوا رسم الملك والسلطان إلى أن كان من خروجهم ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/421)
الخبر عن قدوم عامر بن محمد ومسعود بن ماسي من مراكش وما كان من وزارة ابن ماسي واستبداد عامر بمراكش
كان السلطان أبو سالم لما استقل بملك المغرب استعمل على جباية المصامدة وولاية مراكش محمد بن أبي العلاء بن أبي طلحة من أبناء العمال وكان مطلعا بها وناقش الكبير من ذوي عامر فأحفظه ذلك وربما تكررت سعايته في عامر عند السلطان ولم يقبل ولما بلغ إلى عامر مهلك السلطان أبي سالم وقيام عمر بالأمر وكانت بينهما خلة بيت محمد ابن أبي العلاء فتقبض عليه وامتحنه وقتله واستقل بأمر مراكش وبعث إليه الوزير عمر بأبي الفضل بن السلطان أبي سالم يعتده لما يقع من حصار بنى مرين إياه أن يجلب به عامر عليهم و يستنقضه كما ذكرناه ثم سرح مسعود بن ماسي كما ذكرناه ولما أحاط بنو مرين بالبلد الجديد جمع عامر من إليه من الجند والحشود وزحف بأبي الفضل بن السلطان أبي سالم إلى انفي ونزل بوادي أم ربيع ولما انفضن جمعهم من على البلد الجديد لحق به يحيى بن رحو وكان له صديقا ملاطفا فتنكر له توفية لعمر بن عبد الله وصاحبه مسعود وبعثه إلى الجبل ولم يشهد الجمع فذهب مغاضبا ولحق بسجلماسة بالسلطان عبد الحليم وهلك في بعض حروبه مع العرب ولما انفض عبد المؤمن وأجفل عبد الحليم من تازي ولحقوا بسجلماسة واستوسق الأمر لعمر بن عبد الله وفرغ من شأن المنازعين ومضايقتهم له رجع إلى ما كان يؤمله من الاستظهار على أمره بمسعود بن ماسي وأخوته وأقاربه لمكان الصهر الذي بينهما فاستقدمه للوزارة مرضاة لبنى مرين لما كانوا عليه من استمالتهم لجميع المذاهب والاغضاء عما نالوه به من النكاية وكان عامر بن محمد مجمعا القدوم على السلطان فقدم في صحابته ونزلا من الدولة بخير منزل وعقد السلطان لمسعود بن رحو على وزارته بإشارة الوزير عمر فاضطلع بها ودفعه عمر إليها استمالة إليه وثقة بمكانه واستظهارا بعصابته وعقد مع عامر بن محمد الحلف كل مقاسمة المغرب من لحم وأدم رفيع وجعل إمارة مراكش لأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم إسعافا بغرض عامر بن محمد في ذلك وأصهر عامر إليهم في بنت مولانا السلطان أبي يحيى المتوفي عنها السلطان أبو عنان فحملوا أولياءها على العقد عليها وانكفأ راجعا إلى مكان عمله بمراكش يجر الدنيا وراءه عزا وثروة وتابعا لجمادى من سنة ثلاث وستين وسبعمائة وصرف عمر عزيمته إلى تشريد عبد الحليم وأخيه من سجلماسة كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/422)
الخبر عن زحف الوزير عمر بن عبد الله إلى سجلماسة
لما احتل عبد الحليم وإخوته بسجماسة اجتمع إليهم عرب المعقل كافة بحللهم واقتضوا خراج البلد فوزعوه فيهم وانتضوا على الطاعة رهنهم وأقطعهم جنات المختص بأسرها واعصوصبوا عليه واستحثه يحيى بن رحو ومن هنالك من مشيخة بنى مرين إلى النهوض للمغرب فأجمع أمره على ذلك وتدبر الوزير عمر أمره وخشي أن يضطرم جمره فأجمع إليه الحركة ونادى في الناس بالعطاء والرحلة فاجتمعوا إليه وبعث العطاء فهم واعترض العساكر و أزاح العلل وارتحل من ظاهر فاس في شعبان من سنة ثلاث وستين و سبعمائة وارتحل معه ظهيره مسعود بن ماسي وبرز السلطان عبد الحليم إلى لقائهم ولما تراءت الفئتان بتاغزوطت عند فرج الجبل المفضي من تلول المغرب إلى الصحراء هموا باللقاء ثم تواقفوا أياما وتمشت بينهم رجالات العرب في الصلح و التجافي لعبد الحليم عن سجماسة تراث أبيه فعقد بينما و افترقا ورجع كل واحد منهما إلى عمله ومكانه من سلطانه ودخل عمر و الوزير مسعود إلى البلد الجديد في رمضان من ستنه وتلقاهما سلطانهما بأنواع المبرة والكرامة ونزع الوزير محمد بن السبيع عن السلطان عبد الحليم إلى الوزير عمر وسلطانه فتقبل وحل محل التكرمة والردافة للوزارة واستقر كل بمكانه وتوادعوا أمرهم إلى ما كان من خلع عبد المؤمن لأخيه عبد الحليم ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/423)
الخبر عن بيعة العرب لعبد المؤمن وخروج عبد الحليم إلى المشرق
لما رجع عبد الحليم بعد عقد السلم مع الوزير عمر إلى سجلماسة واستقر بها وكان عرب المعقل من ذوي منصور فريقين : الأحلاف وأولاد حسين وكانت سجلماسة وطنا للأحلاف وفي مجالاتهم منذ أول أمرهم ودخولهم المغرب وكان من أولاد حسين في ممالأة الوزير عمر ما قدمناه فكانت صاغية السلطان عبد الحليم إلى الأحلاف بسبب ذلك أكثر فأسف ذلك أولاد حسين على الأحلاف وتجددت لذلك الفتنة وتزاحفوا وأخرج السلطان عبد الحليم أخاه عبد المؤمن لرقع ما بينهما من الخرق ولأمته فلما قدم على أولاد حسين دعوه أن البيعة والقيام بأمره فأبى فأكرهوه عليها وبايعوه وزحفوا إلى سجلماسة في صفر من سنة أربع وستين وستمائة وبرز عبد الحليم إليهم في أوليائه من الأحلاف وتواقفوا مليا وعقلوا رواحلهم وانكشف الأحلاف وانهزموا وهلك يحيى بن رحو كبير المشيخة من بني مرين يومئذ في حربهم وتغلبوا على سجلماسة ودخل إليها عبد المؤمن وتخلى له أخوه عبد الحليم عن الأمر وخرج إلى المشرق لقضاء فرضه فودعه وزوده بما أرادوا وارتحل إلى الحج وقطع المفازة إلى بلد مالي من السودان وصحب منها ركاب الحج إلى مصر ونزل على أميرها المتغلب على سلطانها يومئذ وهو مليغا الحاصكي وأنهى خبره إليه وعرف بمكانه فاستبلغ في تكويمه بما يناسب بيته وسلطانه وقضى حجه وانصرف إلى المغرب فهلك بقرب الإسكندرية سنة ست وستين وسبعمائة واستقل عبد المؤمن بأمر سجلماسة حتى كان من نهوض العسكر إليه ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/424)
الخبر عن نهوض ابن ماسي بالعساكر إلى سجلماسة واستيلائه عليها ولحاق عبد المؤمن بمراكش
لما افترقت كلمة أولاد السلطان أبي عنان وخلع عبد المؤمن أخاه تطاول الوزير عمر إلى التغلب عليهم ونزع إليه الأحلاف عدو أولاد حسين وشيعة عبد الحليم المخلوع فجهز العساكر وبث العطاء وأزاح العلل وسرح ظهيره مسعود بن ماسى إلى سجلماسة فنهض إليها في ربيع من سنة أربع وستين وسبعمائة وتلقاه الأحلاف بحلهم وناجعتهم وأغذ السير ونزع الكثير من أولاد حسين للوزير مسعود وبعث عامر بن محمد عن عبد المؤمن من سجلماسة فتركها ولحق بعامر فتقبض عليه واعتقله بداره من جبل هنتاتة ودخل الوزير مسعود إلى سجلماسة واستولى عليها واقتلع منها جرثومة الشقاق بافتراق دعوة أولاد أبي علي منها وكر راجعا إلى المغرب لشهرين من حركته فاحتل بفاس إلى أن كان من خبر انتقاضه على عمر وفساد ذات بينهما ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/425)
الخبر عن انتقاض عامر ثم انتقاض الوزير ابن ماسي على أثره
لما استقل عامر بالناحية الغربية من جبال المصامدة و مراكش وما إلى ذلك من الأعمال واستبد بها ونصب لأمره أبا الفضل ابن السلطان أبي سالم واستوزر له واستكفأ لأمره وصارت كأنها دولة مستقلة فصرف إليه النازعون من بني مرين على الدولة وجوه مفرهم ولجؤا إليه فأجارهم عن الدولة واجتمع إليه منهم ملأ وأشاروا إليه باستقدام عبد المؤمن وأنه أبلغ ترشيحا من أبي الفضل بنسبه وقيامه على أمره وصاغية بني مرين إليه فاستدعاه واظهر لعمر أنه يروم بذلك مصلحته والمكر بعبد المؤمن ونمي ذلك كله إلى عمر فارتاب به ونزع إليه آخرا السبيع بن موسى بن إبراهيم الوزير كان لعبد الحليم فكشف القناع في بطانته وتجهيز العساكر إليه واستراب بأهل ولايته وعثر على كتاب من الوزير مسعود بن ماسي إليه يخالصه وببذل له النصيحة فتقبض على حامله وأودعه السجن فتنكر مسعود وأغراه صحابته الملاشون له من بني مرين بالخروج ومنازعة عمر في الأمر ووعدوه النصر منه فاضطرب معسكره بالزيتون من خارج فاس موربا بالنزهة أبان الربيع وزخرف الأرض في شهر رجب من سنة خمس وستين وسبعمائة وبني أصحابه الفساطيط في معسكره حتى إذا استوفي جمعهم واعتزم على الخروج ارتحل مجاهرا بالخلاف وعسكر بوادي النجا بمن كان يعده الخروج معه من بي مرين ثم ارتحل إلى مكناسة وكتب إلى عبد الرحمن بن علي بن يفلوسن يستقدمه للبيعة وكان بجهات تادلا قد خرج بها بعد انصرافهم من سجلماسة وتخلف عن أخيه عبد المؤمن وبعث عامر إليهم بعثا فهزموه ثم لحق ببي ونكاسن فبعث إليه ابن ماسي وأصحابه فقدم عليهم وبايعوه وأخرج عمر سلطانه محمد بن أبي عبد الرحمن وعسكر بكدية العرائس وبث العطاء وأزاح العلل ثم ارتحل إلى وادي النجا فبيته مسعود وقومه فثبت هو و عسكره في مراكزهم حتى إنجاب الظلام وفروا أمامهم فاتبعوا آثارهم وانفض جمعهم وبدا لهم ما لم يحتسبوه من اصفاق الناس على السلطان ووزيره عمر واعتصامهم بطاعته فانذعروا
ولحق مسعود بن ماسي بن رحو بتادلا ولحق الأمير عبد الرحمن ببلاد بنى ونكاسن ورجع عمر والسلطان إلى مكانهما من الحضرة واستمال مشيخة بنى مرين فرجعوا إليه وعفا لهم عنها واستصلحهم وتمسك أبو بكر بن حمامة بدعوة عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وأقامهما في نواحيه وبايعه عليها موسى بن سيد الناس من بنى علي أهل جبل دبدو من بنى ونكاسن بما كان صهرا له وخالفه قومه إلى الوزير عمرو واعدوه بالنهوض إلى أبي بكر بن حمامة فنهض وغلبه على بلاده واقتحم حصنه انكاوان وفر هو وصهره موسى وفارقوا سلطانهم عبد الرحمن ونبذوا إليه عهده ورجعوا إلى طاعة صاحب فاس فلحق هو بتلمسان ونزل كل السلطان أبي حمو فاستبلغ في تكريمه ولحق وزيره مسعود بن ماسي بدبدة ونزل على أميره محمد بن زكراز صاحب ذلك الثغر وبعث إلى الأمير عبد الرحمن من تلمسان ليطارد به لفرصة ظنها في المغرب ينتهزها وأبي عليه أبو حمو من ذلك فركب مطلية الفرار ولحق بابن ماسي وأصحابه فنصبره للأمر وأجلبوا عل تازى ونهض الوزير إليهم في العساكر واحتل بتازى و تعرضوا للقائه ففض جموعهم وردهم عل أعقابهم إلى جبل دبدو وسعى بينهم ونزمار بن عريف ولمي الدولة في قبض عنانهم عن المنازعة والتجافي عن طلب الأمر وأن يجيزوا إلى الأندلس للجهاد فأجاز عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره ابن ماسي من غساسة فاتح سبع وستين وسبعمائة وخلا الجو من أجلابهم وعنادهم ورجع الوزير إلى فاس واحتشد إلى مراكش كما نذكر إن شاء الله تعالى (7/425)
الخبر عن نهوض الوزير عمر وسلطانه إلى مراكش
لما فرغ عمر من شأن مسعود وعبد الرحمن بن أبي يفلوسن صرف نظره إلى ناحية مراكش وانتزى عامر بن محمد بها وأجمع أمره على الحركة إليه فأفاض العطاء ونادى بالسفر إلى حرب عامر وأزاح العلل وارتحل إليه لرجب من سنة سبع وستين وسبعمائة وصعد عامر وسلطانه أبو الفضل إلى الجبل فاعتصم به وأطلق عبد المؤمن من معتقله ونصب له الآلة وأجلسه عل سرير حذاء سرير أبي الفضل يوهم أنه قد بايع له وأنه أحكم أمره يحأجيء بذلك لبنى مرين لما يعلم من صاغيتهم إليه وخشي مغبة ذلك فألان له القول ولاطفه في الخطاب وسعى بينهما في الصلح حسون بن علي الصبيحي فعقد له عمر من ذلك ما أرضاه وانقلب إلى فاس ورجع عامر عبد المؤمن إلى معتقله وأمر الأحوال على ما كانت من قبل إلى أن بلغهم قتل الوزير لسلطانه كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/427)
الخبر عن مهلك السلطان محمد بن أبي عبد الرحمن وبيعة عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن
كان شأن هذا الوزير عمر في الاستبداد كل سلطانه هذا عجبا حق بلغ مبلغ الحجر من الصبيان وكان جعل عليه العيون والرقباء حتى من حرمه وأهل قصره وكان السلطان كثيرا ما يتنفس الصعداء مع ندمائه ومن يختصه بذلك من حرمه إلى أن حدث نفسه باغتيال الوزير وأمر بذلك طائفة من العبيد كانوا يختصون به فنمى القول وأرسل به إلى الوزير بعض الحرم كانت عينا له عليه فخشي على نفسه وكان من الاستبداد والدولة أن الحجاب مرفوع له عن خلوات السلطان وحرمه ومكاشفة رتبه فخلص إليه في حشمه وهو معامر لندمائه فطردهم عنه وتناوله غطا حتى فاض وألقوه في بئر في روض الغزلان واستدعى الخاصة فأراهم مكانه وأنه سقط عن دابته وهو ثمل في تلك البئر وذلك في المحرم فاتح ثمان وستين وسبعمائة لست سنين من خلافته واستدعى من حينئذ عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن وكان في بعض الدور من القصبة بفاس تحت الرقباء والحراسة من الوزير لما كان السلطان محمد يروم الفتك به غيرة منه على الملك لمكان ترشيحه فحضر بالقصر وجلس على سرير الملك وفتحت الأبواب لبنى مرين والخاصة والعامة فازدحموا على تقبيل يده معطين الصفقة بطاعته وكمل أمره وبادر الوزير من حينه إلى تجهيز العساكر إلى مراكش ونادى بالعطاء وفتح الديوان وكمل الأعراض وارتحل بسلطانه من فاس في شهر شعبان وأغذ السير إلى مراكش ونازل عامر بن محمد بمعقله من جبل هنتاتة ومعه الأمير أبو الفضل ابن السلطان أبي سالم وعبد المؤمن ابن السلطان أبي علي أطلقه من الاعتقال أيضا وأجلسه موازى ابن عمه واتخذ له الآلة يموه به في شأنه الأول ثم سعى بينه وبين عمر في الصلح فانعقد بينما وانكفأ راجعا بسلطانه إلى فاس في شهر شوال فكان حتفه إثر ذلك كما نذكره إن شاء الله تعالى و الله أعلم (7/428)
الخبر عن مقتل الوزير عمر بن عبد الله واستبداد السلطان عبد العزيز بأمره
كان عمر قد عظم استبداده على السلطان عبد العزيز فحجره ومنعه من التصرف في شيء من أمره ومنع الناس من النهوض له في شيء من أمورهم وكانت أمه حذرة عليه إشفاقا وحبا وكان عمر لما ملك أمره واستبد عليه سما إلى الإصهار إليهم في بنت السلطان أبي عنان واشترط لها زعموا تولية أخيها الأمير ونمي ذلك إلى السلطان وأن عمر مغتاله لا محالة وقارن ذلك أن عمر أوعز إلى السلطان بالتحول عن قصره إلى القصبة فركب أسنة الغدر لاضطراره واعتزم على الفتك به وأكمن بزوايا داره جماعة من الرجال وأعدهم بالتوثب به ثم استدعاه إلى بيته للمؤامرة معه على سنته فدخل معه وأغلق الموالي من الخصيان باب القصر من ورائه ثم أغلظ له السلطان بالقول وعتبه ودلف الرجال إليه من زوايا الدار فتناولوه بالسيوف هبرا وصرخ ببطانته بحيث أسمعهم فحملوا على الباب وكسروا أغلاقه فألفوه مضرجا بدمائه فولوا الأدبار وانفضوا من القصر وانذعروا وخرج السلطان إلى مجلسه فاقتعد أريكته واستدعى خاصته وعقد لعمر بن مسعود بن منديل بن حمامة من بني مرين وشعيب بن ميمون بن وردان من الجشم ويحيى بن ميمون بن المصمود من الموالي وكملت بيعته منتصف ذي القعدة سنة ثمان وستين وسبعمائة وتقتض على علي بن الوزير عمر وأخيه وعمه وحاشيتهم وسر بهم واعتقلهم حتى أتى القتل عليهم لليال واستأصل المكان شأفتهم وسكن وأمن ورد النافرين بأمانه وبسط بشره ثم تقبض لأيام على سليمان بن داود ومحمد السبيع وكانا في مخالصة عمر بمكان فاعتقلهما استرابة بهما ولشيء نمى له عنهما وأودعهما السجن إلى أن هلكا واعتقل معهما علال بن محمد والشريف أبا القاسم ريبة بصحابتهما ثم امتن عليهما بشفاعة ابن الخطيب وزير ابن الأحمر وأقصاه ثم أطلق عنانه في الاستبداد وقبض أيدي الخاصة والبطانة عن التصرف في شيء من سلطانه إلا بإذنه وعن أمره وهلك لأشهر من استبداد الوزير شعيب بن ميمون ثم هلك يحيى بن ميمون على ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/429)
الخبر عن انتزاء أبي الفضل بن المولى أبي سالم ثم نهوض السلطان إليه و مهلكه
لما فتك السلطان عبد العزيز بعمر بن عبد الله المتغلب عليه سولت لأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم نفسه مثلها في عامر بن محمد لمكان استبداده عليه وأغراه بذلك البطانة وتوجس لها عامر فتمارض بداره واستأذنه في الصعود إلى معتصمه بالجبل ليمرضه هنالك أقاربه وحرمه وارتحل بجملته ويئس أبو الفضل من الاستمكان منه وأغراه حشمه بالراحة من عبد المؤمن ولليال من منصرف عامر ثمل أبو الفضل ذات ليلة وبعث عن قائد الجند من النصارى فأمر بقتل عبد المؤمن بمكان معتقله من قصبة مراكش فجاء برأسه إليه وطار الخبر إلى عامر فإرتاع وحمد الله إذ خلص من غائلته وبعث ببيعته إلى السلطان عبد العزيز وأغراه بأبي الفضل ورغبه في ملك مراكش ووعده بالمظاهرة فأجمع السلطان أمره على النهوض إلى مراكش ونادى في الناس بالعطاء وقضى أسباب حركته وارتحل من فاس سنة تسع وستين وسبعمائة واستبد أبو الفضل من بعد مهلك عبد المؤمن واستوزر طلحة النوري وجعل علامته لمحمد بن محمد بن منديل الكناني وجعل شوراه لمبارك بن إبراهيم بن عطية الخلطي ثم اشخص طلحة النوري بسعاية الكناني فقتله واعتمد منازلة عامر بعساكره ولما فصل لذلك من مراكش جاءه الخبر بحركة السلطان عبد العزيز إليه فانفض معسكره ولحق بتادلا ليعتصم بها في معقل بنى جابر وعاج السلطان بعساكره عن مراكش إليها فنازله وأخذ بمخنقه وقاتله ففل عسكره وداخله بعض بني جابر في الإخلال بمصافة يوم الحرب على مال يعطيه لهم ففعلوا وانهزمت عساكر أبي الفضل وجموعه وتقبض على أشياعه وسيق مبارك بن إبراهيم إلى السلطان فاعتقله إلى أن قتله مع عامر عند مهلكه كما نذكره وفر الكناني إلى حيث لم يعلم مسقطه ثم لحق بعامر بن محمد ولحق أبو الفضل بقبائل صناكة من ورائهم وداخلهم أشياع السلطان من بني جابر وبذلوا لهم المال الدثر في إسلامه فأسلموه وبعث السلطان إليهم وزيره يحيى بن ميمون فجاء به أسيرا وأحضره السلطان فوبخه وقرعه واعتقله بفسطاط في جوازه ثم غط من الليل وكان مهلكه في رمضان من سنة تسع وستين و سبعمائة سنين من إمارته على مراكش وبعث السلطان إلى عامر يختبر طاعته بذلك فأبى عليه وجاهر بالخلاف إلى أن كان من شأنهما ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/430)
الخبر عن نكبة الوزير يحيى بن ميمون بن مصمود ومقتله
كان يحيى بن ميمون هذا من رجالات دولتهم وربى في دولة السلطان أبي الحسن وكان عمه علال عدوا له بعداوة أبيه ولما انتزى السلطان أبو عنان على ملك أبيه استخلص يحيى هذا سائر أيامه وهلك عمر يوم مهلكه كما ذكرناه واستعمل يحيى هذا ببجاية فلم يزل بها إلى أن تقبض عليه الموحدون لما استخلصوا بجاية من يده وسار إلى تونس واعتقل بها مدة ثم صرفوه إلى المغرب أيام عمر فاختص به ولما عقد له السلطان عبد العزيز على وزارته وكان قوي الشكيمة شديد الحزم صعب العداوة مرهف الحد وكان عمه علال بعد أن أطلقه السلطان من الاعتقال نكبه عن إذنه وأقامه متصرفا بين يديه فألقى إلى السلطان استبداد يحيى عليه وحذره من شأنه ورفع إليه أنه يروم تحويل الدعوة لبعض القرابة من آل عبد الحق وأنه داخل في ذلك قواد الجند من النصارى وأصاب الوزير وجع قعد به عن مجلس السلطان فاختلف الناس إلى زيارته وعكف ببابه قواد النصارى فاستريب بأمرهم وتيقن الأمر بعكوفهم فأرسل السلطان من حشمه من تقبض عليه وأودعه السجن ثم جنب إلى مصرعه من الغد وقتل قعصا بالرماح وقتل المتهمون من القرابة وقواد الجند واستلحموا جميعا وصاروا مثلا في الآخرين والأمر لله (7/431)
الخبر عن حركة السلطان إلى عامر بن محمد ومنازلته بجبله ثم الظفر به
لما فرغ السلطان من شأن أبي الفضل عقد على مراكش لعلي بن محمد بن أجانا من صنائع دولتهم وأوعز إليه بالتضييق على عامر والأخذ بمخنقه لم إلجائه إلى الطاعة
وانقلب إلى فاس واعتزم على الحركة إلى تلمسان وبينما هو في الاستنفار لذلك إذ جاءه الخبر بأن علي بن أنجانا نهض إلى عامر وحاصره أياما وأن عامرا زحف إليه ففض معسكره وتقبض على ابن أخانا والكثير من العسكر فاعتقلهم فقام السلطان في ركائبه وقعد واجمع أمره على النهوض إليه بكافة بني مرين وأهل المغرب فبعث في الحشود وبث العطاء وعسكر بظاهر البلد حتى استوفى الغرض وعقد على وزارته لأبي بكر بن الغازي بن يحيى بن الكاس لمكان فيه من مخايل الرياسة والكفاية وارتفع محله وارتحل سنة سبعين و سبعمائة فاحتل بمراكش ثم خرج إلى منازلة الجبل ونازله وكان عامر بن محمد قد نصب بعض الأعياص من آل عبد الحق من ولد أبي ثابت بن يعقوب اسمه تاشفين ولحق به علي بن عمر وبعلان من شيوخ بنى ورتاجن كبير بني مرين وصاحب الشورى فيهم لعهده فاشتد أزره به وتوافى به كثير من الجند النازعين عن السلطان رهبة من بأسه أو سخطة لحاله أو رغبة فما عند عامر فرتبهم وأمسك الله يده عن العطاء فلم تنس بقطرة وطال مثوى السلطان بساحته وعلى حصاره ورتب المقاعد للمقاتلة و غاداه للقتال و راوحه وتغلب على حصونه شيئا فشيئا إلى أن تغلق بأعلى جبل تامسكروط وكان لأبي بكر بن غازي غناء مذكور ويئس أصحاب عامر وأشياعه من عطائه وفسد ما بينه وبين علي بن عمر هذا فدس إلى السلطان يطلب الأمان وتوثق لنفسه ثم نزع إليه وداخله فارس بن عبد العزيز أخي عامر في القيام بدعوة السلطان والخلاف إلى على عمه لما كان يوثق به من إرهاف الحد وتفضيل ابنه أبي بكر عليه فبلغ خبره إلى السلطان واقتضى له وثيقة من الأمان والعهد بعث به إليه فثار بعمه واستدعى القبائل من الجبل فأجابوه واستحث السلطان للزحف إليهم فزحفت العساكر الجنود واستولت على معتصم الجبل ولما استيقن عامر أن قد أحيط به أوعز إلى ابنه أن يلحق بالسلطان مموها بالنزوع فألقى بنفسه إليه وبذل له الأمان وألحقه بجملته وانتبذ عامر عن الناس وذهب لوجهه ليخلص إلى السوس فرده الثلج وقد كانت السماء أرسلت به منذ أيام بردا وثلجا حتى تراكم بالجبل بعضه على بعض وسد المسالك فاقتحمه عامر وهلك فيه بعض حرمه ونفق مركوبه وعاين الهلكة العاجلة فرجع مخفيا أثره إلى غار أوى إليه مع أدلاء بذل لهم المال يسلكون به ظهر الجبل إلى الصحراء بالسوس وأقاموا ينتظرون إمساك الثلج وأقام وأغرى السلطان بالبحث عنه فدلهم عليه بعض البربر عثروا عليه فسيق إلى السلطان وأحضره ببن يديه ووبخه فاعتذر ونجع بالطاعة ورغب في الإقالة واعترف بالذنب فحمل إلى مضرب بنى له بازاء فسطاط السلطان واعتقل هنالك وتقبض يومئذ على محمد الكناني فاعتقل وانطلقت الأيدي على معاقل عامر ودياره فانتهب من الأموال والسلاح والذخيرة والزرع والأقوات والخرق ما لا عين رأت ولا خطر على قلب أحد منهم واستولى السلطان على الجبل ومعاقله في رمضان من سنة إحدى وسبعين وسبعمائة لحول من يوم حصاره وعقد على هنتاتة لفارس بن عبد العزيز بن محمد ابن علي وارتحل إلى فاس واحتل بها أخر رمضان ودخلها في يوم مشهود برز فيه الناس وحمل عامر وسلطانه تاشفين على جملين وقد أفرغ عليهما الرث وعبثت بهما أيدي الإهانة فكان ذلك عبرة لمن رآه ولما قضى منسك الفطر أحضر عامر فقرعه بذنوبه وأوتي بكتابه بخطه يخاطب فيه أبا حمو ويستنجده على السلطان فشهد عليه وأمر به السلطان فامتحن ولم يزل يجلد حتى انتن لحمه وضرب بالعصي حتى ورمت أعضاؤه وهلك بين يدي الوزعة وأحضر الكناني ففعل به مثله وجنب تاشفين سلطانه إلى مصرعه فقتل قعصا بالرماح وجنب مبارك بن إبراهيم من محبسه بعد الاعتقال فالحق بهم ولكل أجل كتاب وصفا الجو للسلطان من المنازعين وفرغ لغزو تلمسان كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/431)
الخبر عن ارتجاع الجزيرة الخضراء
قد تقدم لنا ذكر تغلب الطاغية ابن ألهنشة على الجزيرة سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة وأنه نازل بعدها جبل الفتح سنة إحدى وخمسين و سبعمائة وهلك بالطاعون وهو محاصر له عندما استفحل أمره واشتدت شوكته وكفى الله شأنه وولى أمر الجلالقة بعده ابنه بطرة وعدا على سائر إخوته وفر أخوه القمط ابن حظية أبيه المسماة بلغتهم البريق بهمزة إلى قمط برشلونة فأجاره وأنزله خير نزل ولحق به من الزعماء المريكس ابن خالته وغيره من اقماطهم وبعث إليه بطرة ملك قشتالة في إسلام أخيه فأبى من إخفار جواره وحدثت بينهما بذلك الفتنة الطويلة افتتح بطرة فيها كثيرا من معاقل صاحب برشلونة وأوطأ عساكره نواحي أرضه وحاصر بلنسية قاعدة شرق الأندلس مرارا أرجف عليها بعساكره وملأ البحر إليها بأساطيله إلى أن ثقلت على النصرانية وطأته وساءت فيها ملكته فانتقضوا عليه ودعوا القمط أخاه في زحف إلى قرطبة وثار على بطرة أهل اشبيلية وتيقن صاغية النصارى إليه ففر عن ممالكه ولحق بملك الإفرنج وراء جليقية وفي الجوف عنها وهو صاحب انكلطرة واسمه ألفنس غالس ووفد عليه صريخا سنة سبع وستين وسبعمائة فجمع قومه وخرج في صريخه إلى أن استولى على ممالكه ورجع ملك الإفرنج فعاد النصارى إلى شانهم مع بطرة وغلب القمط على سائر الممالك فتحيز بطرة إلى ثغوره مما يلي بلاد المسلمين ونادى صريخا بابن الأحمر فانتهز فيها الفرصة ودخل بعساكر المسلمين فاثخن في أرض النصرانية وخرب معاقلهم ومدنهم مثل أبدة وجيان وغيرهما من أمهات أمصارهم ثم رجع إلى غرناطة ولم تزل الفتنة قائمة بين بطرة وأخيه القمط إلى أن غلب عليه القمط وقتله وفي خلال هذه الفتن بقيت ثغورهم مما يلي أرض المسلمين عورة وتشوف المسلمون إلى ارتجاع الجزيرة التي قرب عهدهم بانتظامها في ملكة المسلمين وكان صاحب المغرب في شغل عن ذلك بما كان فيه من انتقاض أبي الفضل ابن أخيه وعامر بن محمد فراسل صاحب الأندلس أن يزحف إليه بعساكره على أن عليه عطاءهم و إمداده بالمال والأساطيل على أن يكون مثوبة جهاده خالصة له فأجاب إلى ذلك وبعث إليه أحمال المال وأوعز إلى أساطيله بسبتة فعمرت وأقلعت من مرسى الجزيرة لحصارها وزحف ابن الأحمر بعساكر المسلمين على أثرها بعد أن قسم فيهم العطاء وأزاح العلل واستعد الآلات للحصار فنازلها أياما قلائل ثم أيقن النصارى بالهلك لبعدهم عن الصريخ ويأسهم عن مدد ملوكهم وألقوا باليد وسألوا النزول على حكم السلم فأجابهم السلطان إليه ونزلوا عن البلد وأقيمت فيها شعائر الإسلام ومراسمه ومحيت منها كلمة الكفر وطواغيته وكتب الله أجرها لمن أخلص في معاملته وكان ذلك سنة سبعين وسبعمائة وولى ابن الأحمر عليها من قبله ولم تزل لنظره إلى أن تمخض النظر عن هدمها خشية استيلاء النصرانية عليها فهدمت أعوام ثمانين وسبعمائة وأصبحت خاوية كأن لم تغن بالأمس والبقاء لله وحده (7/433)
الخبر عن حركة السلطان إلى تلمسان واستيلائه عليها وعلى سائر بلادها وفرار أبي حمو عنها
كان عرب المعقل موطنين بصحراء المغرب من لدن السوس ودرعة وتافيلالت وملوية وصا وكان بنو منصور منهم أولاد حسين والأحلاف مختصين بطاعة بنى مرين وفي وطنهم وكانوا مغلوبين للدولة تحت قهر من سلطانها ولما ارتجع بنو عبد الواد ملكهم بتلمسان على يد أبي حمو وكان الأحلاف بالمغرب عاث هؤلاء المعقل وأكثروا في الوطن الفساد ولما استقالت الدولة من عثارها تحيزوا إلى بنى عبد الواد و أقطعوهم في أوطانهم واستقروا هنالك من لدن نزوع عبد الله بن مسلم العامل بدرعة إلى أبي حمو ووزارته له وفسد ما بين سلطان المغرب وأبي حمو من جزاء ذلك ونهض أبو حمو سنة ست وستين و سبعمائة إلى المغرب وعاث في نواحي دبدو ثغر المغرب فنشأت لذلك نار العداوة بينه وبين صاحب الثغر محمد بن زكراز فكمان داعية لعداء صاحب المغرب على الأيام ولما استبد السلطان عبد العزيز وهلك صاحبهم عبد الله بن مسلم وترددت الرسل بين أبي حمو وبين السلطان عبد العزيز كان فما اشترط عليه التجافي عن قبول عرب المعقل عرب وطنه لما فيه من الاستكثار بهم عليه وأبى عليهم أبو حمو منها لاستظهاره بهم على زغبة من أهل وطنه وغيرهم وكثر التلاحي في ذلك وأحفظ السلطان وهم بالنهوض أليه سنة سبعين وسبعمائة وأقصر لما أخذ بحجزته من خلاف عامر وصاحب الثغر محمد بن زكراز أثناء ذلك يحرضه كل الحركة إلى أبي حمو ورغبه في ملك تلمسان ولما قضى السلطان حركة مراكش وفرغ من شأن عامر ورجع إلى فاس ولقي بها أبو بكر بن عريف أمير سويد في قومه من بني مالك بحللهم وناجعتهم صريخا على أبي حمو لما نال منهم وتقبض على أخيهم محمد ورؤساء بني مالك جزاء بما يعرف لهم ولسلفهم من ولاية صاحب المغرب ووفد عليه رسل أهل الجزائر ببيعتهم يستحثون السلطان لاستنقاذهم من لهواته وأمر السلطان بذلك وليه ونزمار ومحمد بن زكراز صاحب دبدو فزعموا له بالغناء في ذلك واعتزم على النهوض إلى تلمسان وبعث الحاشدين إلى مراكش للاحتشاد وتوافى الناس ببابه على طبقاتهم أيام منى من سنة إحدى وسبعين وسبعمائة وأفاض العطاء وأزاح العلل ولما قضى منسك الأضحى اعترض العساكر ورحل إلى تلمسان واحتل بتازى وبلغ خبر نهوضه إلى أبي حمو فجمع من إليه من زنانة الشرق وبني عامر من عرب المعقل وزغبة وتوافت جموعه بساحة تلمسان واضطرب هنالك معسكره واعترض جنوده واعتزم على الزحف للقاء بني مرين ثقة بمكان المعقل وتحيز من كان معه من عرب المعقل الأحلاف وعبيد الله إلى السلطان عبد العزيز بمداخلة وليهم ونزمار واجتمعوا إليه وسرح معهم صنائعه فارتحلوا بين يديه وسلكوا طريق الصحراء وبلغ خبر تحيزهم وإقبالهم إلى أبي حمو فأجفل هو وجنوده وأشياعه من بني عامر وسلكوا على البطحاء ثم ارتحلوا عنها وعاجوا على منداس وخرجوا إلى بلاد الديالم ثم لحقوا بوطن رياح فنزلوا على أولاد سباع بن علي بن يحيى
و ارتحل السلطان عبد العزيز من تازى وتذم بين يديه وزيره أبا بكر بن غازي فدخل تلمسان وملكها ورحل السلطان على أثره واحتل بتلمسان يوم عاشوراء من سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة فدخلها في يوم مشهود واستولى عليها وعقد لوزيره أبي بكر ابن غازي على العساكر من بني مرين والجنود والعرب من المعقل و سويد وسرحه في اتباعه وجعل شوراه إلى وليه ونزمار وفوض إليه في ذلك فارتحلوا من تلمسان آخر المحرم وكنت وافدا على أبي حمو فلما أجفل عن تلمسان ودعته وانصرفت إلى هنين للإجازة إلى الأندلس ووشى بعض المفسدين إلى السلطان بأني احتملت مالا للأندلس فبعث جريدة من معسكره للقبض علي ووافوني بوادي الزيتون قبل مدخلي إلى تلمسان فأحضرني وسألني وتبين كذب الواشي فأطلقي وخلع علي وحملي ولما ارتحل الوزير في اتباع أبي حمو استدعاني وأمرني بالنهوض إلى رياح والقيام فهم بدعوته وطاعته وصرفهم عن طاعة أبي حمو وصريخه فنهضت لذلك ولحقت بالوزير بالبطحاء وارتحلت معه إلى وادي ورك من بلاد العطاف فودعته وذهبت لوجهي وجمعت رياح على طاعة السلطان ونكبت بهم عن طاعة أبي حمو فنكبوا عنها وخرج أبو زيان من محل نزوله بحصين فلحق بأولاد محمد ابن على بن سباع من الزواودة وارتحل أبو حمو من المسيلة فزل بالدوسن وتلوم بها وأوفدت من الزواودة على الوزير ونزمار فكانوا أدلاءهم في النهوض إليه ووافوه بمكانه من الدوسن في معسكره من زناتة وحلل بني عامر والوزير في التعبية وأمم زناتة والعرب من المعقل وزغبة ورياح مخيفة به فأجهضوه عن ماله ومعسكره فانتهب بأسره واكتسحت أموال العرب الذين معه ونجا بدمائه إلى مصاب وتلاحق به ولده وقومه متفرقين على كل مفازة وتلوم الوزر بالدوسن أياما ووافاه بذلك لحاق بني مرين وانقلب إلى المغرب ومر على قصور بنى عامر بالصحراء فاستباحها وشردهم عنها إلى قاصية القفر ومفازة العطش ولحق بتلمسان في ربيع الثاني
ووفدت أنا بالزواودة على السلطان ورئيسهم أبو دينار بن على بن أحمد فبر السلطان مقدمه ورعى له سوابقه عند أخيه وخلع عليه وحمله وخلع على الوفد كافة وانصرفوا إلى مواطنهم وبعث السلطان عماله على الأمصار وعقد لصنائعه على النواحي وجهز الكتائب مع وزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة لحصار حمزة بن علي بن راشد من آل ثابت بن منديل كان ربي في حجر الدولة ونشأ في جو نعمتها وسخط حاله لديهم فنزع إلى وطن سلفه من مغراوة ونزل بجبل بني بو سعيد فأجاروه وبايعوه على الموت دونه وسرح السلطان وزيره إلى الأخذ بمخنقهم فنزل عليهم وقاتلهم وامتنعوا في رأس شاهقهم فأوطن الوزير بالخميس من وادي شلف وأحجرهم بمعتصمهم وتوافت لديه الأمداد من تلمسان فجهزها كتائب وبوأهم المقاعد للحصار وأقام هنالك واستولى السلطان كل سائر الوطن من الأمصار والأعمال وعقد عليها واستوثق له ملك المغرب الأوسط كما كان لسلفه و الله تعالى أعلم (7/435)
الخبر عن اضطراب المغرب الأوسط ورجوع أبي زيان إلى تيطرا واجلاب العرب بأبي حمو على تلمسان إلى أن غلبهم السلطان جميعا على الأمر واستوسق له الملك
لما خلص أبو حمو من وقعة الدوسن هو وأحياء بنى عامر أشياعه لحقوا بالصحراء وأبعدوا فها عن قصورهم قبلة جبل راشد وجمع الوزير ونزمار بن عريف بأحياء العرب كافة من زغبة والمعقل وكان السلطان لما احتل بتلمسان طلب العرب منه إطلاق أيديهم على ما أقطعهم أبو حمو إياه من الوطن على الزبون والاعتزاز عليه فاستنكف من ذلك لعظم سلطانه واستبداد ملكه فسخطوا أحوالهم ورجوا أن يكون لأبي حمو ظهور ينالون به من ذلك ما أملوه فلما انهزم وقلت عساكره وظهر السلطان ظهورا لاكفاء له فيئسوا أجمع رحو بن منصور أمير الخراج من عبيد الله إحدى بطون المعقل الخروج على السلطان ولما خرج العرب إلى مشاتيهم لحق بأبي حمو وأحياء بنى عامر وكاثروهم وقادوهم إلى العيث في الأوطان فأجلبوا على ممالك السلطان ونازلوا وجدة في رجب من سنة اثنتين وسبعين و سبعمائة وصمدت نحوهم العساكر من تلمسان فأجفلوا وعاجوا إلى البطحاء فاكتسحوا أوطانها ونهض اليهم الوزير في العساكر ففروا أمامه واتبع آثارهم إلى أن أصحروا واستنسر خلال ذلك حمزة بن على بن راشد فبيت معسكر الوزير بمكانه من حصار شلف ففض جموعه ولحق مفلولا بالبطحاء وبلغ الخبر إلى حصين وكانوا راهبين من السلطان لما اشتهر عنهم من الأجلاب على الدول والقيام بأمر الخوارج فجأجؤا بأبي زيان الثائر كان عندهم من مكانه بأحياء أولاد يحيى بن علي بن سباع من الزواودة فلحق بهم وأجلبوا على ضواحي المدية ونازلوا عسكر السلطان بها واضطرم المغرب الأوسط نازلا واتصل ذلك به مدة ولما كان سنة ثلاث وسبعين و سبعمائة استمال السلطان رحو بن منصور عن أبي حمو وبذل له مالا وأقطعه ما أحب من الضواحي وفعل ذلك بسائرهم وملأ صدورهم ترغيبا واعتزم على تجهيز العساكر معهم لحسم أدواء الفساد وإخراج الثوار من النواحي واتهم وزيره عمر بن مسعود بالمداهنة في أمر المغراوي فسرح من دولته من تقبض عليه وأشخصه إلى حضرته مقيدا واعتقله بفاس وجهز عساكره واعترض جنوده وعقد لوزيره أبي بكر بن غازي على حرب الثوار والخوارج فنهض من تلمسان في رجب سنة ثلاث وسبعين و سبعمائة واعتمد حمزة على ابن راشد في معتصمه بجبل بني بو سعيد وألح عليه بالقتال فعضتهم الحرب بنابها وداخلهم الرعب وأوفدوا مشيختهم على الوزير بالطاعة ونبذ العهد إلى حمزة فعقد لهم ما ابتغوه ولحق حمزة بأبي زبان بمكانه من حصين ثم أثنى عزمه عن ذلك ورجع إلى ضواحي شلف وبيته بعض الحامية فثبتوا في مراكزهم وانفض جمعه وتقبض عليه وسيق إلى الوزير فاعتقله وبعث إلى السلطان في شأنه فأمر بقتله فاحتز رأسه ورؤوس أشياعه وبعث بهم إلى السلطان وعلق أشلاءهم بسور مليانة ثم زحف إلى حصين فأحجرهم بمعقلهم بتيطرا واجتمعت إليه أحياء زغبة كافة فأحاط بهم من كل جانب وطاولهم الحصار وعاودوهم الحرب وخاطبني السلطان بمكاني من الزاب وأوعز إلى بنفير رياح كافة إلى معسكر الوزير فاستنزلهم بأحيائهم وناجعتهم ونازلنا الجبل من ناحية الصحراء مما يلي ضواحي رياح فأصابهم الجهد وداخلهم الرعب وانفضوا من المعقل وانذعروا في الجهات في المحرم فاتح أربع وسبعين وسبعمائة ولحق أبو زيان بواركلي واستولى الوزير على المعقل وانتهب ما فيه واقتضى رهن حصين على الطاعة وقرر علهم الوضائع و المغارم فأعطوها عن يد وكان أبو حمو في خلال ذلك قد أجلب على تلمسان ينتهز الفرصة في انتباذ العسكر عن السلطان وكان وليه خالد بن عامر أمير بني عامر من زغبة مريد الطاعة لما اتهم أبو حمو به من ولاية رديفة عبد الله بن عسكر بن معروف دونه فأسخطه ذلك وداخل السلطان عبد العزيز في الانحراف إلى إليه عن أبي حمو على مال حمله إليه فنزع عنه وجهز له السلطان عسكر الحرب أبي حمو في ذي القعدة من سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة من بني عامر وأولاد يغمور من المعقل وعقد عليهم لمحمد بن عثمان من قرابة أبي بكر بن غازي وتعرضوا للقائهم ففض جمعهم ومنحوا أكتافهم وأحيط بمعسكر أبي حمو وحلل العرب فاكتسح ما فيها واستولى بنو مرين على أمواله وحرمه وولده فاستاقوهم إلى السلطان وأشخصهم إلى فاس فأنزلهم بقصوره وتقبض على مولاه عطية بن موسى صاحب شلف فامتن عليه وألحقه بجملته ونجا أبو حمو وألقى بنفسه إلى عبد الله بن صغير مستميتا فامتن عليه وبعث معه الادلاء إلى تيكورارين من بلاد القبلة فنزلها وكان ذلك بين يدي فتح تيطرا بليال واستوت قدم السلطان في ملكه واستولى على المغرب الأوسط ودفع الثوار والخوارج عنه واستمالة كافة العرب إلى طاعته فأتوها راغبين راهبين ووفد عليه للوزير أبو بكر بن غازي من قاصية الشرق ومعه مشيخة العرب من كل حي من أحيائهم فوصلهم واحتفى بقدومهم وركب للقاء الوزير وطلب المشيخة في الرهن على الطاعة والاستحثاث لتشريد أبي حمو من تيكورارين وأوسع حفايتهم وبرهم وانصرفوا إلى مشاتيهم معتملين في أسباب الحركة إلى تيكورارين إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/438)
الخبر عن قدوم ابن الخطيب على السلطان بتلمسان نازعا إليه عن سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس
أصل هذا الرجل من لوشة على مرحلة من غرناطة في الشمال من البسيط الذي فيه ساحتها المسمى بالمرج على وادي سنجيل ويقال شنبيل المنحرف في ذلك البسيط من الجنوب إلى الشمال كان له بها سلف معروفون في وزارتها وانتقل أبو عبد الله إلى غرناطة واستخدم لملوك بي الأحمر واستعمل على مخازن الطعام ونشأ ابنه محمد هذا بغرناطة وقرأ وتأدب على مشيختها واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل وأخذ عنه العلوم الفلسفية وبرز في الطب وانتحل الأدب وأخذ عن أشياخه وامتلأ حوض السلطان من نظمه ونثره مع انتقاه الجيد منه وبلغ في الشعر والترسيل حيث لا يجاري فيهما وامتدح السلطان أبا الحجاج من ملوك بنى الأحمر وملأ الدولة بمدايحه وانتشرت في الأفاق قدماه فرقاه السلطان إلى خدمته وأثبته في ديوان الكتاب ببابه مرؤسا بأبي الحسن بن الحباب شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية وكاتب السلطان بغرناطة من لدن أيام محمد المخلوع من سلفه عندما قتل وزيره محمد بن الحكيم المستبد عليه كما مر في أخبارهم فاستبد ابن الحباب برياسة الكتاب من يومئذ إلى أن هلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة فولى السلطان أبو الحجاج يومئذ محمد بن الخطيب هذا رياسة الكتاب ببابه مثناة بالوزارة ولقبه بها فاستقل بذلك وصدرت عنه غرائب من الترسيل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة ثم داخله السلطان في تولية العمال على يديه بالمشارطات فجمع له بها أموالا وبلغ به المخالصة إلى حيث لم يبلج بأحد من قبله وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان ملك بني مرين بالعدوة مغريا بأبيه السلطان أبي الحسن فجلى في أغراض سفارته
ثم هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة عدا عليه بعض الزعانف يوم الفطر بالمسجد في سجوه للصلاة وطعنه فأشواه وفاض لوقته وتعاورت سيوف الموالي المعلوجي هذا القاتل فمزقوه أشلاء وبويع ابنه محمد بالأمر لوقته وقام بأمره مولاهم رضوان الراسخ القدم في قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من ملوكهم واستبد بالدولة وأفراد ابن الخطيب بوزارته كما كان لأبيه واتخذ لكتابته غيره وجعل ابن الخطيب رديفا له في أمره وتشار كافي الاستبداد معا فجرت الدولة على أحسن حال وأقوم طريقة ثم بعثوا الوزير ابن الخطيب سفيرا إلى السلطان أبي عنان مستمدين له على عدوهم الطاغية على عادتهم مع سلفه فلما قدم على السلطان ومثل بين يديه تقدم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس وفقهائها استأذنه في إنشاد شيء من الشعر يقدمه بين يدي نجواه فأذن له وأنشد وهو قائم :
( خليفة الله ساعد القدر ... علاك ما لاح في الدجى قمر )
( ودافعت عنك كف قدرته ... ما ليس يستطيع دفعه البشر )
( وجهك في النائبات بدر دجى ... لنا وفي المحل كفك المطر )
( والناس طرا بأرض أندلس ... لولاك ما أوطنوا ولا عمروا )
( وجملة الأمر أنة وطن ... في غير علياك ماله وطر )
( ومن به مذ وصلت حبلهم ... ما جحدوا نعمة ولا كفروا )
( وقد أهمتهم نفوسهم ... فوجهوني إليك وانتظروا )
فاهتز السلطان لهذه الأبيات وأذن له في الجلوس وقال له قبل أن يجلس : ما ترجع إليهم إلا بجميع عطائهم ثم أثقل كاهلهم بالإحسان وردهم بجميع ما طلبوه وقال شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف وكان معه في ذلك الوفد : لم يسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا ومكثت دولتهم هذه بالأندلس خمس سنين ثم نازلهم محمد الرئيس ابن عم السلطان يشاركه في جده الرئيس أبي سعيد وتحين خروج السلطان إلى منتزهه خارج الحمراء وتسور دار الملك المعروفة بالحمراء وكبس رضوانا في بيته فقتله وذهب للملك إسماعيل ابن السلطان أبي الحجاج لما كان صهره على شقيقته وكان معتقلا بالحمراء فأخرجه وبايعه له وقام بأمره مستبدا عليه وأحس السلطان محمد بقرع الطبول وهو بالبستان فركب باديا إلى وادي آش وضبطها وبعث بالخبر إلى السلطان أبي سالم إثر ما استولى على ملك آبائه بالمغرب وقد كان مثواه أيام أخيه أبي عنان عندهم بالأندلس واعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير ابن الخطيب وضيق عليه في محبسه وكانت بينه وبين الخطيب ابن مرزوق مودة استحكمت أيام مقامه بالأندلس كما مر وكان غالبا على هوى السلطان أبي سالم فزتن له استدعاء هذا السلطان المخلوع من وادي آش يعده زبونا على أهل الأندلس ويكف به عادية القرابة المرشحين هنالك متى طمحوا إلى ملك المغرب فقبل ذلك منه وخاطب أهل الأندلس في تسهيل طريقه من وادي آش إليه وبعث من أهل مجلسه الشريف أبا القاسم التلمساني و حمله مع ذلك الشفاعة في ابن الخطيب وحل معتقله فأطلق وصحب الشريف أبا القاسم إلى وادي آش وسار في ركاب السلطان وقدموا على السلطان أبي سالم فاهتز لقدوم ابن الأحمر وركب في المواكب لتلقيه وأجلسه إزاء كرسيه وأنشد ابن الخطيب قصيدته كما مر يستصرخ السلطان لنصره فوعده وقد كان يوما مشهودا وقد مر ذكره ثم أكرم مثواه وأرغد نزله ووفر أرزاق القادمين في ركابه وانتصر به وارغد عيش ابن الخطيب في الجراية والأقطاع ثم استأنس واستأذن السلطان في التحول إلى جهات مراكش والوقوف على آثار الملك بها فأذن له وكتب إلى العمال باتحافه فتبادروا في ذلك وحصل منه على حظ وعندما مر بسلا في قفوله من سفره دخل مقبرة الملوك بشالة ووقف على قبر السلطان أبي الحسن وأنشد قصيدته على روي الراء الموصولة يرثيه ويستثير به استرجاع ضياعه بغرناطة مطلعها :
( إن بان منزله وشطت داره ... قامت مقام عيانه أخباره )
( قسم زمانك عبرة أو غيرة ... هذا ثراه وهذه آثاره )
فكتب السلطان أبو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة فشفعوه واستقر هو بسلا منتبذا عن سلطانه طول مقامه بالعدوة ثم عاد السلطان محمد المخلوع إلى ملكه بالأندلس سنة ثلاث وستين وسبعمائة كما مر في أخباره وبعث عن مخلفه بفاس من الأهل والولد والقائم بالدولة يومئذ عمر بن عبد الله بن علي فاستقدم ابن الخطيب من سلا وبعثهم لنظره فسر السلطان بمقدمه ورده إلى منزلته كما كان مع رضوان كافله وكان عثمان بن يحيى عمر شيخ الغزاة وابن أشياخهم قد لحق بالطاغية في ركاب أبيه عندما أحس بالشر من الرئيس صاحب غرناطة وأجاز يحيى من هنالك إلى العدوة وأقام عثمان بدار الحرب فصحب السلطان في مثوى اغترابه هنالك وتغلب في مذاهب خدمته وانحرفوا عن الطاغية بعد ما يئسوا من الفتح على يديه فتحولوا عنه إلى ثغور بلاده وخاطبوا عمر بن عبد الله في أن يمكنهم من بعض الثغور الغربية التي أطاعتهم بالأندلس يرتقبون منها الفتح وخاطبني السلطان المخلوع في ذلك وكانت بيني وبين عمر بن عبد الله ذمة مرعية ومخالصة متأكدة فوفيت للسلطان بذلك من عمر بن عبد الله وحملته كل أن يرد عليه مدينة رندة إذ هي من تراث سلفه فقبل إشارتي في ذلك وتسورها السلطان المخلوع ونزل بها وعلى بن يحيى في جملته وهو مقدم في بطانته
ثم غزوا منها مالقة فكانت ركابا للفتح وملكها السلطان واستولى بعدها كل دار ملكها بغرناطة وعثمان بن يحيى مقدم القوم في الدولة عريق في المخالصة وله على السلطان دالة واستبداد على هواه فلما فصل ابن الخطيب بأهل السلطان وولده وأعاده السلطان إلى مكانه من الدولة من علو يده وقبول إشارته فأدركته الغير من عثمان ونكر على السلطان الاستكفاء به والتخوف من هؤلاء الأعياص على ملكه فحذره السلطان وأخذ في التدبير عليه حتى نكبه وأباه وإخوته في رمضان سنة أربع وستين وسبعمائة وأودعهم المطبق ثم غر بهم بعد ذلك وخلا لابن الخطيب الجو وغلب على هوى السلطان ودفع إليه تدبير المملكة وخلط بينه بندمائه وأهل خلوته وانفرد ابن الخطيب بالجل والعقد وانصرفت إليه الوجوه وعلقت عليه الآمال وغشي بابه الخاصة والكافة وغضت به بطانة السلطان وحاشيته فتوافقوا على السعاية فيه وقد صم السلطان عن قبولها ونمي الخبر بذلك إلى ابن الخطيب فشمر عن ساعده في التقويض عنهم واستخدم للسلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن ملك العدوة يومئذ في التقبض على ابن عمه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي على كانوا قد نصبوه شيخا على الغزاة في الأندلس لما أجاز من العدوة بعدما جاس خلالها لطلب الملك وأضرم بها نار الفتنة في كل ناحية وأحسن دفاعه الوزير عمر بن عبد الله القائم حينئذ بدولة بي مرين فاضطر إلى الإجازة إلى الأندلس فأجاز هو ووزيره مسعود بن ماسي ونزلوا على السلطان على المخلوع أعوام سبع وستين و سبعمائة فأكرم نزلهم وتوفي علي بن بدر الدين شيخ الغزاة فقدم عبد الرحمن مكانه وكان السلطان عبد العزيز قد استبد بملكه بعد قتله الوزير عمر بن عيد الله فغص بما فعله السلطان المخلوع من ذلك وتوقع انتقاض أمره منهم ووقف على مخاطبات ابن عبد الرحمن يسربها في بني مرين فجزع لذلك وداخله ابن الخطيب في اعتقال ابن أبي يفلوسن وابن ماساي وأراحة نفسه من شغبهم على أن يكون له المكان من دولته متى نزع إليه فأجابه إلى ذلك وكتب له العهد بخطه على يد سفيره إلى الأندلس وكاتبه أبي يحيى بن أبي مدين بنى مرين وأغرى ابن الخطيب سلطانه بالقبض على ابن أبي يفلوسن وابن ماسي فتقبض عليهما واعتقلهما وفي خلال ذلك استحكمت نفرة ابن الخطيب لما بلغه عن البطانة من القدح فيه والسعاية وربما ختل أن السلطان مال إلى قبولها وأنهم قد احفظوه عليه فأجمع التحول عن الأندلس إلى المغرب واستأذن السلطان في تفقد الثغور الغربية وسار إليها في لمة من فرسانه ومعه ابنه علي الذي كان خالصة السلطان وذهب لطبنه فما حاذى جبل الفتح فرضة المجاز إلى العدوة مال إليه وسرح إذنه بين يديه فخرج قائد الخيل لتلقيه وقد كان السلطان عبد العزيز قد أوعز إليه بذلك وجهز إليه الأسطول من حينه فأجاز إلى سبتة وتلقاه بها بأنواع التكرمة وامتثال الأوامر ثم سار لقصد السلطان فقدم عليه سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بمقامته من تلمسان فاهتزت له الدولة وأركب السلطان خاصته لتلقيه وأحله بمجلسه بمحل الأمن والغبطة ومن دولته بمكان الشرف والعزة وأخرج لوقته كاتبه أبا يحيى بن أبي مدين سفيرا إلى الأندلس في طلب أهله وولده فجاء بهم على أكمل الحالات من الأمن و التكرمة ثم لغط المنافسون له في شأنه وأوعزوا سلطانه بتتبع عثراته وأبدى ما كان كامنا في نفسه من سقطات دالته وإحصاء عصابته وشاع على ألسنة أعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة أحصوها عليه ونسبوها إليه ورفعت إلى قاضي الحضرة الحسن بن الحسن فاسترعاها وسجل عليه بالزندقة وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه وبعث القاضي أبو الحسن إلى السلطان عبد العزيز في الانتقام منه بتلك السجلات وإمضاء حكم الله فيه فصم لذلك وأنف لذمته أن تخفر ولجواره أن يردى وقال لهم : هلا انتقمتم وهو عندكم وأنتم عالمون بما كان عليه ؟ وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري ثم وفر الجراية والاقطاع له ولبنيه ولمن جاء من فرسان الأندلس في جملته فلما هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة ورجع بنو مرين إلى المغرب وتركوا تلمسان سار هو في ركاب الوزير أبي بكر بن غازي القائم بالدولة فنزل بفاس واستكثر من شراء الضياع وتأنق في بناء المساكن واغتراس الجنات وحفظ عليه القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفي واتصلت حاله على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/440)
الخبر عن مهلك السلطان عبد العزيز وبيعة ابنه السعيد واستبداد أبي بكر بن غازي عليه ورجوع بني مرين إلى المغرب
كان السلطان منذ أول نشأته قد أزمنت به الحمى بما أصابه من مرض النحول ولأجل ذلك تجافى السلطان أبو سالم على احتماله مع الأبناء إلى رندة ولما شب أفاق من مرضه وصلح بدنه ثم عاوده وجعه في مثواه بتلمسان وتزايد نحوله ولما كمل الفتح واستفحل سلطانه واشتد به الوجع وصابر المرض وكتمه عن الناس خشية الإرجاف واضطرب معسكره خارج تلمسان للحاق بالمغرب ولما كان ليلة الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وسبعمائة قضى متودعا بين أهله وولده ودس الخدم بالخبر إلى الوزير فخرج على الناس وقد احتمل محمد السعيد ابن السلطان على كنفه فعزى الناس عن خليفتهم لسبع سنين من خلافته وألقى ابنه بين أيديهم فازدحموا عليه باكين متفجعين يعطونه الصفقة ويقبلون يديه للبيعة وأخرجوه للمعسكر ثم أخرج الوزير شلو السلطان على أعواده وأنزله بفساطيطه وأيقظ بالليل بحراسة المعسكر وأذن للناس بالرحيل فخرجوا أفواجا إلى المحلة ثم ارتحلوا لثلاث وأغذوا السير إلى المغرب واحتلوا بتازى ثم أغذوا السير إلى فاس واحتل ابن السلطان بدار ملكه وجلس للبيعة العامة بقصره وتوافت وفود الأمصار ببيعتهم على العادة واستبد عليه الوزير أبو بكر بن غازي وحجبه بقصره وحجره عن التصرف في شيء من سلطانه ولم يكن في سن التصرف واستعمل على الجهات وجلس بمجلس الفضل واشتغل بأمر المغرب إبراهيم ونقضا إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/446)
الخبر عن استيلاء أبي حمو على تلمسان والمغرب الأوسط
لما فصل بنو مرين من تلمسان إثر مهلك السلطان عبد العزيز واحتلوا بتازي اجتمع المشيخة وعقدوا على تلمسان لإبراهيم ابن السلطان أبي تاشفين كان ربي في كفالة دولتهم منذ مهلك أبيه فآثروه بذلك لخلوصته و بعثوه مع رحو بن منصور أمير عبيد الله من المعقل وسرحوا معهما من كان بالمغرب من مغراوة إلى وطن ملكهم بشلف وعقدوا عليهم لعلي بن هرون بن منديل بن عبد الرحمن وأخيه رحمون وانصرفوا إلى بلادهم وكان عطية بن موسى مولى أبي حمو قد صار إلى السلطان عبد العزيز وألحقه بجملته وبطانته فلما هلك السلطان خرج من القصر واختفى بالبلد حتى إذا فصل بنو مرين من معسكرهم ظاهر البلد خرج من مكان اختفائه وقام بدعوة مولاه أبي حمو واجتمع إليه شيعة من أهل البلد مع من تأشب إليه من الغوغاء وحملوا الخاصة على البيعة لأبي حمو ووصلهم إبراهيم بن أبي تاشفين مع رحو بن منصور وقومه من عبيد الله فنبذوه وامتنعوا عليه فرجع عنهم إلى المغرب وطير أولاد يعمور أولياه أبي حمو من عبيد الله بالخبر إليه وهو بمثواه من تيكورارين واتصل بابنه أبي تاشفين وهو عند يحيى بن عامر فدخل إلى تلمسان ومن معه من بني عبد الواد وتساقط إليه فلهم من كل جانب ووصل السلطان على إثرهم بعد اليأس منه فدخلها في جمادى من سنة أربع وسبعين و سبعمائة واستقل بملكه وتقبض على بطانته الذين آسفوه في اغترابه ونمي له عنهم السعي عليه فقتلهم ورجع ملك بني عبد الواد وسلطانهم ونهض إلى مغراوة أولياء بني مرين بمكانهم من شلف فغلبهم عليه بعد مطاولة وحروب سجال هلك فها رحمون بن هرون ومحا دعوة بني مرين من ضواحي المغرب الأوسط وأمصاره واستقل بالأمر حسبما ذكرناه في أخباره واتصل الخبر بالوزير أبي بكر بن غازي فهم بالنهوض إليه ثم ثنى عزمه ما كان من خروج الأمير عبد الرحمن بناحية بطوية فشغله شأنه عن ذلك (7/446)
الخبر عن إجازة الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن إلى المغرب واجتماع بطوبة إليه وقيامهم بشأنه
كان محمد المخلوع ابن الأحمر قد رجع من رندة إلى ملكه بغرناطة في جمادى من سنة ثلاث وستين وسبعمائة وقتل له الطاغية عدوة الرئيس المنتزي على ملكهم حين هرب من غرناطة إليه وفاء بعهد المخلوع واستوى على كرسته واستقل بملكه ولحق به كاتبه وكاتب أبيه محمد بن الخطيب واستخلصه وعقد له على وزارته وفوض إليه في القيام بملكه فاستولى عليه وملك هواه وكانت عينه ممتدة إلى المغرب وسكناه إلى أن نزلت به آفة في رياسته فكان لذلك يقدم السوابق والوسائل عند ملوكه وكان لأبناء السلطان أبي الحسن كلهم غيرة على ولد عمهم السلطان أبي علي وبخشونهم على أمرهم ولما لحق الأمير عبد الرحمن بالأندلس اصطفاه ابن الخطيب واستخلصه لنجواه ورفع في الدولة رتبته وأعلى منزلته وحمل السلطان على أن عقد له على الغزاة والمجاهدين من زناتة مكان بني عمه من الأعياص فكانت له آثار في الاضطلاع بها ولما استبد السلطان عبد العزيز بأمره واستقل بملكه وكان ابن الخطيب ساعيا في مرضاته عند سلطانه فدس إليه باعتقال عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره المطارد به مسعود بن ماسي وأدار ابن الخطيب في ذلك مكره وحمل السلطان علهما إلى أن سطا بهما ابن الأحمر واعتقلهما سائر أيام السلطان عبد العزيز سلطان المغرب سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة لما قدم من الوسائل ومهد من السوابق فقدمه السلطان وأحلة من مجلسه محل الاصطفاء والقرب وخاطب ابن الأحمر في أهله وولده فبعثهم إليه واستقر في جملة السلطان ثم تأكدت العداوة بينه وبين ابن الأحمر فرغب السلطان في ملك الأندلس وحمله عليه وتواعدوا لذلك عند مرجعه من تلمسان إلى المغرب ونمي ذلك إلى ابن الأحمر فبعث إلى السلطان بهدية لم يسمع بمثلها انتقى فيها من متاع الأندلس وماعونها وبغالها الفارهة ومعلوجي السبي وجواريه وأوفد بها رسله يطلب إسلام وزيره ابن الخطيب إليه فأبى السلطان من ذلك ونكره ولما هلك واستبد الوزير ابن غازي بالأمر تحيز إليه ابن الخطيب وداخله وخاطبه ابن الأحمر فيه بمثل ما خاطب السلطان فلم يؤب واستنكف ذلك وأقبح الرد وانصرف رسله إليه وقد رهب سطوته فأطلق ابن الأحمر لحينه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وأركبه الأسطول وقذف به إلى ساحل بطوية ومعه الوزير مسعود بن ماسي ونهض إلى جبل الفتح فنازله بعساكره ونزل عبد الرحمن ببطوية في ذي القعدة من سنة أربع وسبعين وسبعمائة ومعه وزيره مسعود بن ماسي فاجتمع قبائل بطوية إليه وبايعوه على القيام بدعوته والموت دونه واتصل الخبر بالوزير أبي بكر بن غازي فعقد لابن عمه محمد بن عثمان على سبتة وبعثه لسد ثغورها لما خشي علها من ابن الأحمر ونهض من فاس بالآلة والعساكر ونازل عبد الرحمن ببطوية فقاتله أياما ثم رجع إلى تازي ثم إلى فاس ودخل الأمير عبد الرحمن تازي واستولى عليها ودخل الوزير إلى فاس وقعد بمجلس الفصل وهو مجمع العودة إلى تازي لتشريد عدوه إلى أن جاء الخبر ببيعة السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/447)
الخبر عن بيعة السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم واستقلاله بالملك وما كان خلال ذلك من الأحداث
لما نزل محمد بن عثمان بالثغر من سبتة لسد فروجها ومدافعة ما يخشى من عادية ابن الأحمر عليها وكان قد طاول حصار جبل الفتح واخذ بمخنفه وتكررت المراسلة بينه وبين محمد بن عثمان بالعتاب فاستعتب له وقبح ما جاء به ابن عمه من الاستغلاظ له فوجد ابن الأحمر بذلك السبيل إلى غرضه وداخله في البيعة للسلطان أبي سالم من الأبناء الذين كانوا بطنجة تحت الرقبة والحوطة وأن يقيمه للمسلمين سلطانا يحوط سياجهم ويدافع عنهم ولا يتركهم فوضى وهملا ويجب بيعة الصبي الذي لم تنعقد بيعته شرعا واختص هذا بالسلطان من بين أولئك الأبناء وفاء بحقوق أبيه ووعده بالمظاهرة على ذلك واشترط عليه أن ينزلوا له عن الجبل إذا انعقد أمرهم ويشخصوا إليه بيعة الأبناء والقرابة من طنجة ليكونوا في إيالته وتحت حوطته وأن يبعثوا إليه ابن الخطيب متى قدروا عليه وبعثوا إليه بقية الأبناء والقرابة فقبل محمد بن عثمان شرطه كان سفيره في ذلك أحمد المرغني من طبقات كتاب الأشغال بسبتة كان السلطان أبو الحسن تزوج أمه ليلة إجازته من واقعة طريف وافتقاد حظاياه حتى لحق به الحرم من فاس فردها إلى أهلها ونشأ المرغني في توهم هذه الكفالة فانتفخ نحره لذلك ويحسبها وصلة إلى أبناء السلطان أبي الحسن وكان سفيرا بين محمد بن عثمان وابن الأحمر فأمل الرياسة في هذه الدولة وركب محمد بن عثمان من سبتة إلى طنجة وقصد مكان اعتقالهم واستدعى أبا العباس أحمد ابن السلطان أبي سالم من مكانه مع الأبناء فبايع له وحمل الناس على طاعته واستقدم أهل سبتة بكتاب للبيعة فقدموا وخاطب أهل الجبل فبايعوا وأفرج ابن الأحمر عنهم وبعث إليه محمد بن عثمان بالنزول عن جبل الفتح وخاطبوا أهله بالرجوع إلى طاعته فارتحل من مالقة إليه ودخله واستولى عليه ومحا دعوة بني مرين مما وراء البحر وأهدى للسلطان أبي العباس وأمده بعسكر من غزاة الأندلس وحمل إليه مالا للإعانة على أمره وكان محمد بن عثمان عند فصوله من فاس وودعه الوزير ابن عمه فاوضه في شأن السلطان وأن يقدم للناس إماما يرجعون إليه ويترك له أمرهم وآمره في ذلك ولم يفترقا على مبرم من أمرهم فلما ارتكب هذا المرتكب وجاء بهذا الأمر خاطب الوزير يموه عليه بأنه فعل بمقتضى المؤامرة وأنه عن إذنه والله أعلم بما دار بينهما ولج الوزير في تكذيبه والبراءة للناس مما رمى به ولاطفه في نقض ذلك الأمر ورد أبا العباس إلى مكانه مع الأبناء تحت الحوطة وأبى محمد بن عثمان من ذلك ودافعه باجتماع الناس عليه وانعقاد الأمر وبينما الوزير يروم ذلك جاه الخبر بأن محمد بن عثمان أشخص الأبناء المعتقلين كلهم إلى الأندلس وأنهم حصلوا في كفالة ابن الأحمر فوجم وأعرض عن ابن عمه وسلطانه ونهض إلى تازى ليفرغ من عدوه إليهم فنازل الأمير عبد الرحمن وأخذ بمخنقه واهتبل محمد بن عثمان الغزة في ملك المغرب فوصله مدد السلطان ابن الأحمر و عسكره تحت رايته عقدها عليهم لبوسف بن سلمان بن عثمان ين أبي العلاء من مشيخة الغزاة المجاهدين وعسكر آخر من رجل الأندلس الناشبة يناهزون سبعمائة وبعث ابن الأحمر رسله إلى الأمير عبد الرحمن باتصال اليد بابن عمه السلطان أبي العباس أحمد ومظاهرته على ملك سلفه بفاس واجتماعهما لمنازلتها وعقد بينهما الاتفاق والمواصلة وأن يختص عبد الرحمن بملك سلفه فتراضيا وزحف محمد بن عثمان وسلطانه إلى فاس خالفوا إليه الوزير وانتهوا إلى قصر ابن عبد الحليم وبلغ الخبر إلى الوزير بمكانه من حصار تازي فانفض معسكره ورجع إلى فاس ونزل بكدية العرائس
وانتهى السلطان أبو العباس أحمد إلى زرهون فصمد إليه الوزير بعساكره وصمم نحوه بمكانه من قنة الجبل فاختل مصافه وانهزمت ساقة العسكر من ورائه ورجع على عقبه مفلولا وانتهب المعسكر ودخل إلى البلد الجديد و جأجأ بالعرب أولاد حسين أن يعسكروا له بالزيتون ظاهر فاس وبخرج بجموعه إلى حللهم فنهض إليهم الأمير عبد الرحمن من تازى بمن كان معه من العرب الأحلاف وشردهم إلى الصحراء وشارف السلطان أبا العباس أحمد بجموعه العرب وزناتة وبعثوا إلى ولي سلفهم ونزمار بن عريف بمكانه من قصر مرادة الذي اختطه بملوية فجاءهم وأطلعوه على كامن أسرارهم فأشار عليهم بالاجتماع والاتفاق فاجتمعوا بوادي النجا وحضر لعقدهم واتفاقهم وحلفهم على اتصال اليد على عدوهم ومنازلته بالبلد الجديد حتى يمكن الله منه وارتحلوا بجمعهم إلى كدية العرائس في ذي القعدة من سنة خمس وسبعين وسبعمائة وبرز إليهم الوزير بعساكره فدارت الحرب وحمى الوطيس واشتد القتال مليا ثم زحف إليه العسكران بساقتهما وآلتهما فاختل مصافه وانهزمت جيوشه وجموعه وأحيط به وخلص إلى البلد الجديد بعد غص الريق وأضرب السلطان أبو العباس معسكره بكدية العرائس ونزل الأمير عبد الرحمن بأزائه وضربوا على البلد الجديد سياجا بالبناء للحصار و أنزلوا بها أنواع القتال و الأرهاف
ووصلهم مدد السلطان ابن الأحمر من رجال الناشبة واحتكوا في ضياع ابن الخطيب بفاس فهدموها وعاثوا فيها ولما كان فاتح سنة ست وسبعين وسبعمائة داخل محمد بن عثمان ابن عمه أبا بكر في النزول عن البلد الجديد والبيعة للسلطان لما كان الحصار قد اشتد ويئس من الصريخ وأعجزه المال فأجاب واشترط عليهم الأمير عبد الرحمن التجافي له في أعمال مراكش وأن يديلوه بها من سجلماسة فعقدوا له عل كره وطووا على المكر وخرج الوزير أبو بكر للسلطان أبي العباس أحمد وبايعه واقتضى عهد بالأمان وتخلية سبيله من الوزارة فبذله ودخل السلطان أبو العباس أحمد إلى البلد لجديد سابع المحرم وارتحل الأمير عبد الرحمن يومئذ إلى مراكش واستولى عليها وارتحل معه علي بن عمر بن ويغلان شيخ بنى مرين والوزير ابن ماسي ثم نزع عنه ابن ماسي إلى فاس لعهد كان قد اقتضاه من السلطان أبي العباس وأجاز البحر إلى الأندلس فاستقر بها في إيالة ابن الأحمر واستقل السلطان أبو العباس ابن السلطان أبي سالم بملك المغرب ووزيره محمد بن عثمان وفوض إليه شؤونه وغلب على هواه وصار أمر الشورى إلى سليمان بن داود كان نزع إليه من البلد الجديد من جملة أبي بكر بن غازي بعد أن كان أطلقه من محبسه واستخلصه وجعل إليه مرجع أمره فتركه أحوج ما كان إليه ولحق بالسلطان أبي العباس بمكانه من حصار البلد الجديد فلما استوثق ملكه ألقى الوزير محمد بن عثمان مقاد الدولة له وصار إلي أمر الشورى ورياسة المشيخة واستحكمت المودة بينه وبين ابن الأحمر وتأكدت المداخلة وجعلوا إليه المرجع في نقضهم و ابرامهم لمكان الأبناء المرشحين من إيالته ولما ارتحل الأمير عبد الرحمن إلى مراكش نبذوا إليه العهد وتعلوا عليه بأن العقد الأول له : إنما كان على ملك سلفه و مراكش إنما ألجأهم إلى العقد عليها إلجاء واعتزموا على النهوض إليه ثم أقصروا وانعقدت بينهما السلم سنة ست وسبعين وسبعمائة وجعلوا التخم بينهما أزمور وعقدوا على ثغرها لحسان الصبيحي فلم يزل عليها إلى أن هلك كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/449)
الخبر عن مقتل ابن الخطيب
ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد دار ملكه فاتح ست وسبعين و سبعمائة واستقل بسلطانه والوزير محمد بن عثمان مستبد عليه وسليمان بن داود رديف له وقد كان الشرط وقع بينه وبين السلطان ابن الأحمر عندما بويع بطنجة على نكبة ابن الخطيب وإسلامه إليه لما نمي إليه عنه أنه كان يغري السلطان عبد العزيز لملك الأندلس فلما زحف السلطان أبو العباس من طنجة ولقي الوزير أبا بكر بن غازي بساحة البلد الجديد فهزمه السلطان ولاذ منه بالحصار آوى معه ابن الخطيب إلى البلد الجديد خوفا على نفسه فلما استوف السلطان على البلد الجديد أقام أياما ثم أغراه سليمان بن داود بالقبض عليه فقبضوا عليه وأودعوه السجن وطيروا بالخبر إلى السلطان ابن الأحمر وكان سليمان بن داود شديد العداوة لابن الخطيب لما كان سليمان قد تابع السلطان ابن الأحمر على مشيخة الغزاة بالأندلس حتى أعاده إليه إلى ملكه فلما استقر له سلطانه أجاز إليه سليمان سفيرا عن عمر بن عبد الله ومقتضيا عهده من السلطان فصده ابن الخطيب عن ذلك بأن تلك الرياسة إنما هي لأعياص الملك من آل عبد الحق لأنهم يعسوب زناتة فرجع سليمان آيسا وحقد ذلك لابن الخطيب ثم جاور الأندلس بمحل إمارته من جبل الفتح فكانت تقع بينه وبين ابن الخطيب مكاتبات ينفس كل منهما لصاحبه بما يحفظه لما كمن في صدورهما وحين بلغ الخبر بالقبض على ابن الخطيب إلى السلطان بعث كاتبه ووزيره بعد ابن الخطيب وهو أبو عبد الله بن زمرك فقدم على السلطان أبي العباس وأحضر ابن الخطيب بالشورى في مجلس الخاصة وأهل الشورى وعرض عليه بعض كلمات وقعت له في كتابه فعظم عليه النكرير فيها فوبخ ونكل وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك الملاثم تل إلى محبسه واشتوروا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجلة عليه وأفتى بعض الفقهاء فيه ودس سليمان بن داود إليه لبعض الأوغاد من حاشيته بقتله فطرقوا السجن ليلا ومعهم زعانفة جاؤوا في لفيف الخدم مع سفراء السلطان ابن الأحمر وقتلوه خنقا في محبسه وأخرجوا شلوه من الغد فدفن في مقبرة باب المحروق ثم أصبح من الغد على شأفة قبره طريحا وقد جمعت له أعواد وأضرمت عليه نارا فاحترق شعره واسود بشره وأعيد إلى حفرته وكان في ذلك انتهاء محنته وعجب الناس من هذه السفاهة إلى جاء بها سليمان واعتدوها من هناته وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته والله الفعال لما يريد وكان عفى الله عنه أيام امتحانه بالسجن يتوقع مصيبة الموت فيتجيش هو أتقه بالشعر يبكي نفسه ومما قال في ذلك :
( بعدنا وإن جاورتنا البيوت ... وجئنا بوعظ ونحن صموت )
( وأنفاسنا سكنت دفعة ... كجهر الصلات تلاه القنوت )
( وكنا عظاما فصرنا عظاما ... وكنا نقوت فها نحن قوت )
( وكنا شموس سماء العلا ... عزين فناحت عليها البيوت )
( فكم جزلت ذا الحسام الظبا ... وذو البحث كم جدلته التحوت )
( وكم سيق للقبر في خرقة ... فتى ملئت من كساه التخوت )
( فقل للعدا ذهب ابن الخطيب ... وفات ومن ذا الذي لا يفوت )
( فمن كان يفرح منكم له ... فقل يفرح اليوم من لا يموت ) (7/452)
الخبر عن إجازة سليمان بن داود الأندلس ومقامه إلى أن هلك بها
كان سليمان بن داود هذا منذ عضته الخطوب واختلفت عليه النكبات يروم الفرار بنفسه إلى الأندلس للمقامة مع الغزاة المجاهدين من قومه ولما استقر السلطان ابن الأحمر بفاس عند خلعه ووفادته على السلطان أبي سالم سنة إحدى وستين وسبعمائة وداخله سليمان بن داود في تأميل الكون عنده فعاهده على ذلك وأن يقدمه على الغزاة المجاهدين من قومه ولما عاد إلى ملكه وفد عليه سليمان بن داود بغرناطة في سبيل السفارة عن عمر بن عبد الله سنة ست وستين وسبعمائة وأن يؤكد عقده من السلطان فحال دون ذلك ابن الخطيب ومارى السلطان عن ذلك بأن شياخة الغزاة مخصوصة بأعياص الملك من بنى عبد الحق لمكان عصابتهم بالأندلس فأخفق أمل سليمان حينئذ وحقدها على ابن الخطيب ورجع إلى مرسله ثم كانت نكيته أيام السلطان عبد العزيز فلم يخلص منها إلا بعد مهلكه أطلقه أبو بكر بن غازي المستبد بالأمر من بعده ليعتضد بمكانه على شأنه فلما استبد الحصار على ابن غازى خرج عنه سليمان ولحق بالسلطان أبي لعباس ابن المولى أبي سالم بمكانه من ظاهر البلد الجديد فكمان ذلك من أسباب الفتح ولما دخل السلطان إلى دار ملكه من البلد الجديد فاتح سنة ست وستين وسبعمائة واستوثق أمره رفع مجلس سليمان وأحله محل الشورى واعتضد به وزيره محمد بن عثمان واستخلصه كما ذكرناه وكان يرجع إلى رأيه وهو في خلال ذلك يحاول اللحاق يالأندلس فكان من أول عمله التقرب إلى السلطان ابن الأحمر باغراء الوزير محمد بن عثمان بقتل ابن الوزير مسنويه فتم ذلك لأول الدولة وجرت الأمور بعدها على الاعتمال في مرضاته إلى أن حاول السفارة إليه في أغراض سلطانه سنة ثمان وستين و سبعمائة في صحابة ونزمار بن عريف فتلقاهما السلطان ابن الأحمر بما يتلقى به أمثالهما وأغرب في تكرمتهما وأما ونزمار فأنقلب راجعا لأول تأدية الرسالة ينقض من السلطان حظه لقواد أسطوله بتسهيل الإجازة إليه متى رامها وخرج يتصيد فلحق بمرسى مالقة ودفع أمر السلطان بخطه إلى قائد الأسطول فأجازه إلى سبتة ولحق بمكانه وأما سليمان فاعتزم على المقام عند ابن الأحمر وأقام هنالك خالصة ونجيا ومشاورا إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين وسبعمائة (7/454)
الخبر عن شأن الوزير أبي بكر بن غازي وما كان من تغريبه إلى مايرقة ثم رجوعه وانتقاضه بعد ذلك
لما اشتد الحصار بالوزير أبي بكر بن غازي وفنيت أمواله وأموال السلطان وظن أنه أحيط به داخله الوزير محمد بن عثمان من مكانهم بحصاره في النزول عن البلد على الأمان والإبقاء فأجاب وخرج إلى السلطان أبي العباس بن أبي سالم فعقد له أمانا بخطه وتحول إلى دار بفاس وأسلم سلطانه المنصوب للأمر فتسلمه منه الوزير محمد بن عثمان واشتد في الاحتياط عليه إلى أن بعثه إلى السلطان ابن الأحمر فكان في جملة الأبناء عنده ودخل السلطان أبو العباس إلى دار ملكه واقتعد سريره ونفذت في الممالك أوامره وأقام أبو بكر بن غازي على حاله بداره والخاصة يباكرونه والنفوس منطوية على تأميله فغص به أهل الدولة وترددت فيه السعاية وتقبض عليه السلطان وأشخصه إلى غساسة وركب منها السفين إلى ميورقة آخر ست وسبعين و سبعمائة فأقام بها شهرا ومخاطباته مترددة إلى الوزير محمد بن عثمان ثم عطفته عليه رحم فأذن له في القدوم إلى المغرب والمقامة بغساسة فقدمها أوائل سنة سبع وسبعين وسبعمائة واستبد بامارتها وبدا له رأي في تأميل الوثبة وظهر ما كان يخفيه لابن عمه من المنافسة فخاطب ابن الأحمر وراء البحر ولاطفه بالتحف والهدايا فكتب إلى ابن عمه محمد بن عثمان يحضه على إعادته إلى مكانه دفعا لغوائله فأبى من ذلك وداخله ونزمار بن عريف في بعضها كذلك فلح في الامتناع وحمل سلطانه على نبذ العهد لأبي بكر بن غازي فتنكر له وأجمع المسير إليه بعساكر العرب فخرج من فاس سنة تسع وسبعين و سبعمائة وبلغ الخبر إلى أبي بكر بن غازي فاستجاش بالعرب وأحثهم للوصول فوصل إليه الأحلاف من المعقل وسرب فيهم أمواله وخرج من غساسة فألقى بينهم نفسه وعمد إلى بعض العرب الطارئين فنصبه للأمر مشبها ببعض أبناء السلطان أبي الحسن وزحف إليه السلطان حتى نزل بتازى فأجفلت أحياء العرب أمام العساكر من بني مرين والجند ونجا ابن غازي معهم بدمائه ثم داخله و نزمار بن عريف في الاذعان للسلطان عن شق الخلاف فأجاب ووصل به إلى سدة الملك فبعث به السلطان محتاطا عليه إلى فاس فاعتقل بها ونزلت مقدمات العساكر بوادي ملوية وداخل صاحب تلمسان منهما رعب فأوفد على السلطان من قومه وكبار مجلسه ملاطفا مداريا فتقبل منه وعقد السلم وأصدر به كتابه وعهده بخطه وانكفأ راجعا إلى حضرته بعد أن بث العمال في تلك النواحي على جبايتها فجمعوا له منها ما رضي ولما احتل بدار ملكه أنفذ أمر بقتل أبي بكر بن غازي فقتل بمحبسه طعنا بالرماح وذهب مثلا في الأيام واستوثق للسلطان أمره وأحكم العقد مع الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن صاحب مراكش وترددت المهاداة بينهما بعض إلى بعض و إلى صاحب الأندلس و إليه منهما فامتلأت المغرب هدنة وأمنا وانبعثت الآمال بساطا وغبطة والحال متصلة على ذلك لهذا العهد آخر سنة إحدى وثمانين وسبعمائة أيام إشرافنا على هذا التأليف والله مقدر الليل والنهار (7/455)
الخبر عن انتقاض الصلح بين الأمير عبد الرحمن صاحب مراكش والسلطان أبي العباس صاحب فاس واستيلاء عبد الرحمن على أزمور ومقتل عاملها حسون بن علي
كان علي بن عمر كبير بني ورتاجن وشيخ بني ويغلان منهم قد تحيز إلى الأمير عبد الرحمن منذ إجازته إلى الأندلس و استيلائه على تازى ثم زحفه إلى حصار البلد الجديد مع السلطان أبي العباس كما مر فوصل في جملته إلى مراكش وكان صاحب شواره وكبير دولته وكان يظعن على خالد بن إبراهيم الهربرحى شيخ جاجة من قبائل المصامدة ما بين مراكش وبلاد السوس وقد كان علي بن عمر انتقض على ابن غازي الوزير المستبد بعد السلطان عبد العزيز ولحق بالسوس ومر بخالد بن ابراهيم هذا فاعترضه في طريقه وأخذ الكثير من أثقاله ورواحله وخلص هو إلى منجاته بالسوس وقد حقد ذلك لخالد ثم حث شيوخ المعقل عندما أجاز الأمير عبد الرحمن من الأندلس إلى نواحي تازى يروم اللحاق بهم فوفدوا عليه وسار معهم إلى أحيائهم وأقام معهم وهو في طاعة الأمير عبد الرحمن ودعوته إلى أن اتصل به بين يدي حصاره البلد الجديد مع السلطان أبي العباس فلما فتح السلطان البلد الجديد أول سنة ست وسبعين و سبعمائة واستولى على ملكهم بها وفصل عبد الرحمن إلى مراكش كما كان الوفاق بينهم وسار علي بن عمر في جملة السلطان عبد الرحمن إلى مراكش واستأذنه في قتل خالد صاحبه فلم يأذن له فأحفظه ذلك وطوى عليه وبعد أيام صعد جبل وريكة في غرض من أغراض الدولة وتقدم إلى حافده عامر ابن ابنه محمد بقتل خالد فقتله بظاهر مراكش ولحق بجده علي بن عمر بوريكة فتلطف له الأمير عبد الرحمن و أرسله بالملاينة والاستعطاف ثم ركب إليه بنفسه واستصلحه ونزل به إلى مراكش فأقام معه أياما ثم ارتاب ولحق بأزمور وعاملها يومئذ حسون بن علي الصبيحي فأغراه بالإجلاب على عمل مراكش وزحفوا جميعا إلى عمل صنهاجة
وسرح الأمير عبد الرحمن لمدافعتهم كبير دولته يومئذ وابن عمه عبد الكريم بن عيسى ابن سليمان بن منصور بن أبي مالك وهو عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق فخرج في العساكر ومعه منصور مولى الأمير عبد الرحمن فلقوا علي بن عمر فهزموه وأخذوا سواده ولجأ إلى أزمور ثم وفد هو و حسون بن علي إلى السلطان بفاس ووقعت أثناء ذلك المراسلة بين السلطانين وانعقد بينهما الصلح فأقام علي بن عمر بفاس ورجع حسون بن علي إلى مكان عمله بأزمور ثم انتقض ما بين السلطانين ثانيا وكان عند الأمير عبد الرحمن أخوان من ولد محمد بن يعقوب بن حسان الصبيحي وهما علي وأحمد جرثومتا بغي وفساد وعدا على كبيرهما علي بن يعقوب ابن علي بن حسان فقتله واستعدى أخوه موسى عليه السلطان فأعداه وأذن له في أن يثأر منه بأخيه فيقتله فخرج لذلك أحمد أخو علي وهم بقتل موسى فاستجار موسى بيعقوب بن موسى بن سيد الناس كبير بني ونكاسن وصهر الأمير عبد الرحمن وأقام أياما في جواره ثم هرب إلى أزمور فلحقه نار الفتنة ونهض الأمير عبد الرحمن إلى أزمور فلم يطق حسان بن علي دفاعه فملكها عليه وقتله واستباحها وبلغ الخبر إلى السلطان بفاس فنهض في عساكره وانتهى إلى سلا ورجع الأمير عبد الرحمن إلى مراكش وسار السلطان في اتباعه حتى نزل بحصن أكمليم من مراكش وأقام هنالك نحوا من ثلاثة أشهر والقتال يتردد بينهم ثم سعى بين السلطانين في الصلح فاصطلحوا على حدود العمالات أولا وانكفأ صاحب فاس إلى عمله وبلده وبعث الحسن بن يحيى بن حسون الصنهاجي عاملا على الثغر بأزمور فأقام بها وكان أصله من صنهاجة أهل وطن أزمور وله سلف في خدمة بني مرين منذ أول دولتهم وكان أبوه يحيى في دولة السلطان أبي الحسن عاملا في الجباية بأزمور وغيرها وهلك في خدمته بتونس أيام مقام السلطان بها وترك ولده يستعمل في مثل ذلك ونزع الحسن هذا منهم إلى الجندية فلبس شارتها وتصرف في الولاية المناسبة لها واتصل بخدمة السلطان أبي العباس لأول بيعته بطنجة وكان يومئذ عاملا بالقصر الكبير فدخل في دعوته وصار في جملته وشهد معه الفتح واستعمله في خطط السيف حتى ولاه أزمور هذه الولاية فقام بها كما نذكره
وأما الصبيحيون فالخبر عن أوليتهم أن جدهم حسان من قبيلة صبيح من أفاريق سويد جاء مع عبد الله بن كندوز الكمي من بني عبد الواد حين جاء من تونس وأوفد على السلطان ابن عبد الحق ولقيه كما مر وكان حسان من رعاة إبله فلما استقر عبد الله بن كندوز بناحية مراكش وأقطعه السلطان يعقوب في أعمالها وكان الظهر الذي يحمل عليه السلطان متفرقا في سارية المغرب فجمعه وجعله لنظر عبد الله بن كندوز فجمع له الرعاة وكبيرهم يومئذ حسان الصبيحي فكان يباشر السلطان في شأن ذلك الظهر ويطالعه في مهماته فحصلت له مداخلة أجلبت إليه الحظ حتى ارتفع وكبر ونشئوا في ظل الدولة وعزها وتصرفوا في الولايات فيها وانفردوا بالشاوية فلم تزل ولايتها متوارثة فيهم منقسمة بينهم لهذا العهد إلى ما كانوا يتصرفون فيه من غير ذلك من الولايات وكان لحسان من الولد علي ويعقوب و طلحة وغيرهم ومن حسان هذا تفرعت شعوبهم في ولده وهم لهذا العهد متصرفون في الدولة على ما كان سلفهم من ولاية الشاوية والنظر في رواحل السلطان والظهر الذي يحمل من الإبل ولهم عدد وكثرة ونباهة في الدولة و الله أعلم (7/457)
الانتقاض الثاني بين صاحب فاس وصاحب مراكش ونهوض صاحب فاس إليه وحصاره ثم عودهما إلى الصلح
لما رجع السلطان إلى فاس على ما استقر من الصلح طلب الأمير عبد الرحمن أن يدخل عمالة صنهاجة ودكالة في أعماله وكتب السلطان إلى الحسن بن يحيى عامل أزمور وتلك العمالة بأن يتوجه إليه ويسد المذاهب في ذلك دونه وكان الحسن بن يحيى مضطغنا على الدولة فلما وصل إليه داخله في الخلافة وأن يملكه تلك العمالة فازداد الأمير عبد الرحمن بذلك قوة على أمره وتعلل على صاحب فاس بأن يكون حدا بين الدولتين ووادي أم ربيع واستمر صاحب فاس على الاباية من ذلك فنهض الأمير عبد الرحمن من مراكش ودخل الحسن بن يحيى في طاعته فملكها وبعث مولاه منصورا في العساكر إلى أنفاه فاستولى عليها وصادر أعيانها وقاضيها وواليها وبلغ الخبر إلى السلطان فنهض من فاس في عساكره وانتهى إلى سلا فهرب منصور من أنفاء وتركها ولحق بمولاه عبد الرحمن فأجفل من أزمور إلى مراكش والسلطان في أثره حتى انتهى إلى قنطرة الوادي على غلوة من البلد وأقام خمسة أشهر يحاصرها واتصل الخبر بالسلطان ابن الأحمر صاحب الأندلس فبعث خالصته الوزير أبا القاسم الحكيم الرندي ليعقد الصلح بينهما فعقده على أن يسترهن السلطان أولاد الأمير عبد الرحمن و حافد أبي الحسن وانكفأ السلطان راجعا إلى سلا ولحق به جماعة من جملة الأمير عبد الرحمن من بني مرين وغيرهم نزعوا عنه وكان محمد بن يعقوب الصبحي لقي في طريقه مولى الأمير عبد الرحمن جاء به مكرها إلى السلطان وكان من النازعين أيضا يعقوب بن موسى بن سيد الناس كبير بني ونكاسن وأبو بكر بن رحو بن الحسن بن علي بن أبي الطلاق ومحمد بن مسعود الإدريسي وزيان بن عمر بن علي الوطاسي وغيرهم من المشاهير وقدموا على السلطان بسلا فتقبلهم وأحسن كرامتهم ورحل راجعا إلى فاس و الله أعلم (7/459)
انتقاض علي بن زكريا شيخ الهساكرة على الأمير عبد الرحمن وفتكه بمولاه منصور ومقتل الأمير عبد الرحمن
لما رجع السلطان إلى فاس وبدا من الخلل في دولة الأمير عبد الرحمن وانتقاض الناس عليه ما قدمناه نزع يده من التعويل على العساكر وشرع في تحصين البلد وضرب الأسوار على القصبة وحفر الخنادق وتبين بذلك اختلال أمره وكان علي بن زكريا شيخ هسكورة كبير المصامدة وكان في دعوته منذ دخل مراكش فتلافى أمره مع صاحب فاس ومد إليه يدا من طاعته ثم انتقض على الأمير عبد الرحمن ودخل في دعوة السلطان وبعث إليه الأمير عبد الرحمن مولاه منصورا يستألفه فأرصد إليه في طريقه من حاشيته من قتله وبعث برأسه إلى فاس فنهض السلطان في عساكره إلى مراكش واعتصم الأمير عبد الرحمن بالقصبة وقد كان إلى أفردها عن المدينة بالأسوار وخندق عليها فملك السلطان المدينة ورتب على القصبة المقاتلة من كل جهة ونصب الآلة وأدار عليها من جهة المدينة حائطا وأقام يحاصرها تسعة أشهر يغاديها القتال و يراوحها وكان أحمد بن محمد الصبيحي من الذين بوؤا المقاعد لقتالها فهم بالانتقاض وحدثته نفسه بغدرة السلطان والتوثب به وسعى بذلك إلى السلطان فتقبض عليه وحبسه وبعث السلطان بالنفير إلى أعماله فتوافت الأمداد من كل ناحية وبعث إليه صاحب الأندلس مددا من العسكر فلما اشتد القتال والحصار بالأمير عبد الرحمن ونفذت الأقوات وأيقن أصحابه بالهلكة وأهمتهم أنفسهم وهرب عنه وزيره محمد بن عمر شيخ الهساكرة والمصامدة لعهد السلطان أبي الحسن وابنه وقد مر ذكره فلما لحق هذا بالسلطان وعلم أنه إنما جاء مضطرا قبض عليه وحبسه ثم انفض الناس عن الأمير عبد الرحمن ونزلوا من الأسوار ناجين إلى السلطان وأصبح في قصبته منفردا وقد بات ليلته يراوض ولديه على الاستماتة وهما : أبو عامر وسليم وركب السلطان من الغد في التعبية وجاء إلى القصبة فاقتحمها بمقدمته ولقيهم الأمير عبد الرحمن وولداه مباشرا إلى الميدان بين أبواب دورهم فجالوا معهم جولة قتل فيها ولداه تولى قتلهم علي بن إدريس وزيان بن عمر الوطاسي وطال مما كان زيان يمتري يدي نعمهم ويحر ذيله خيلاء في جاههم فذهب مثلا في كفران النعمة وسوء الجزاء و الله لا يظلم مثقال ذرة وكان ذلك خاتم جمادى الأخيرة سنة أربع وثمانين وسبعمائة لعشر سنين من إمارته على مراكش ثم رحل السلطان منقلبا إلى فاس وقد استولى على سائر أعمال المغرب وظفر بعدوه ودفع النازعين عن ملكه و الله أعلم (7/460)
اجلاب العرب على المغرب في مغيب السلطان بغرية من ولد أبي علي وأبي تاشفين بن أبي حمو صاحب تلمسان ومجيء أبي حمو على أثرهم
كان أولاد حسين من عرب المعقل مخالفين على السلطان من قبل مسيره إلى مراكش
وكان شيخهم يوسف بن علي بن غانم قد حدثت بينه وبين الوزير القائم على الدولة محمد بن عثمان منافرة وفتنة وبعث العساكر إلى سجلماسة فخرب ما كان له بها من العقار والأملاك وأقام منتقضا بالقفر فلما حاصر السلطان الأمير عبد الرحمن بمراكش وأخذ بمخنقه أرسل أبا العشائر ابن عمه منصور إلى يوسف بن على وقومه ليجلبوا به على المغرب ويأخذوا بحجزة السلطان عن حصاره فسار لذلك ولما قدم على يوسف سار به إلى تلمسان مستجيشا بالسلطان أبي حمو لذلك القصد لما كان بينه وبين الأمير عبد الرحمن من العهد على ذلك فبعث أبو حمو معهم ابنه أبا تاشفين في بعض عساكره وسار في الباقين على أثرهم وسار أبو تاشفين وأبو العشائر إلى أحياء العرب فدخلوا إلى أحواز مكناسة وعاثوا فها وكان السلطان عند سفره إلى مراكش استخلف على دار ملكه بفاس علي بن مهدي العسكري في جماعة من الجند واستنجد بونزمار بن عريف شيخ سويد وولي الدولة المقيم بأحياء ملوية فحالف بين عرب المعقل واستألف منهم العمارنة والمنبات وهم الأحلاف واجتمع مع علي بن مهدي وساروا لمدافعة العدو بنواحي مكناسة فصدوهم عن مرامهم ومنعوهم من دخول البلاد فأقاموا متواقفين أياما وشد أبو حمو في عسكره مدينة تازى وحاصرها سبعا وخرب قصر الملك هنالك ومسجده المعروف بقصر تازورت وبينما هم على ذلك بلغ الخبر اليقين بفتح مراكش وقتل الأمير عبد الرحمن فأجفلوا من كل ناحية وخرج أولاد حسين وأبو العشائر وأبو تاشفين والعرب الأحلاف في اتباعهم وأجفل أبو حمو عن تازى راجعا إلى تلمسان ومر بقصر ونزمار في نواحي بطوية المسمى بمرادة هدمه ووصل السلطان إلى فاس وقد تم له الظهور والفتح إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/461)
نهوض السلطان إلى تلمسان وفتحها وتخريبها
كان السلطان لما بلغه ما فعل العرب وأبو حمو بالمغرب لم بشغله ذلك عن شأنه ونقم على أبي حمو ما أتاه من ذلك وأنه نقص عهده من غير داع إلى النقض فلما احتل بدار ملكه بفاس أراح أياما ثم أجمع النهوض إلى تلمسان وخرج في عساكره على عادتهم وانتهى إلى تاوربرت وبلغ الخبر إلى أبي حمو فاضطرب أمره واعتزم على الحصار وجمع أهل البلد عليه واستعدوا له ثم خرج في بعض تلك الليالي بولده وأهله وخاصته وأصبح محيما بالصفصف وانفض أهل البلد إليه بعضهم بعياله وولده مستمسكين به متفادين من معرة هجوم العساكر فلم يرعه ذلك عن قصده وارتحل ذاهبا إلى البطحاء ثم قصد بلاد مغراوة فنزل في بنى بو سعيد قريبا من شلف وأنزل أولاده الأصاغر وأهله بحصن تاحجمومت وجاه السلطان إلى تلمسان فلكها واستقر فيها أياما ثم هدم أسوارها وقصور الملك بها بإغراء وليه ونزمار جزاء بما فعله أبو حمو في تخريب قصر تازروت وحصن مرادة ثم خرج من تلمسان في اتباع أبي حمو ونزل على مرحلة منها وبلغه الخبر هنالك بإجازة السلطان موسى ابن عمه أبي عنان من الأندلس إلى المغرب وأنه خالفه إلى دار الملك فانكفأ راجعا وأغذ السير إلى المغرب كما نذكر ورجع أبو حمو إلى تلمسان واستقر في ملكه بها كما ذكرناه في أخباره (7/462)
إجازة السلطان موسى ابن السلطان أبي عنان من الأندلس إلى المغرب واستيلاؤه على الملك وظفره بابن عمه السلطان أبي العباس و ازعاجه إلى الأندلس
قد تقدم أن السلطان محمد بن الأحمر المخلوع كان له تحتهم في دولة السلطان أبو العباس بن أبي سالم صاحب المغرب بما كان من إشارته علي محمد بن عثمان ببيعته وهو معتقل بطنجة ثم بما أمده من مدد العساكر والأموال حتى أمره واستولى على البلد الجديد كما قدمناه في أول خبره ثم بما كان له من الزبون عليهم بالقرابة المرشحين الذين كانوا معتقلين بطنجة مع السلطان أبي العباس من أسباط السلطان أبي الحسن من ولد أبي عنان وأبي سالم والفضل وأبي عامر وأبي عبد الرحمن وغيرهم وكانوا متعاهدين في معتقلهم أن من أتاح إليه له الملك منهم يخرجهم من الاعتقال ويجيزهم إلى الأندلس فما بويع السلطان أبو العباس وفى لهم بهذا العهد وأجازهم إلى الأندلس فنزلوا على السلطان ابن الأحمر أكرم نزل أنزلهم بقصور ملكه بالحمراء وقرب لهم المراكب وأفاض عليهم العطاء ووسع لهم الجرايات والأرزاق وأقاموا هنالك في ظل ظليل من كنفه فكان لهم به وثوب على ملك المغرب وكان الوزير القائم بها محمد بن عثمان يقدر له قدر ذلك كله فيجري في أغراضه و قصوده ويحكمه في الدولة ما شاء أن يحكمه حتى توجهت الوجوه إلى ابن الأحمر وراء البحر من أشياخ بني مرين والعرب وأصبح المغرب كأنه من بعض أعمال الأندلس ولما نهض السلطان إلى تلمسان خاطبوه وأوصوه بالمغرب وترك محمد بن عثمان بدار الملك كاتبه محمد بن الحسن كان مصطنعا عنده من بقية شيع الموحدين ببجاية فاختصه ورقاه واستخلفه في سفره هذا على دار الملك فلما انتهوا إلى تلمسان وحصل له من الفتح ما حصل كتبوا بالخبر إلى السلطان ابن الأحمر مع شيطان من ذرية عبو بن قاسم المرواني كان بدارهم وهو عبد الواحد بن محمد بن عبو كان يسمو بنفسه إلى العظائم التي ليس لها بأهل ويتربص لذلك بالدولة وكان ابن الأحمر بع كثرة تحكمه فيهم يتنحى لهم بعض الأوقات بما يأتونه من تقصير في شفاعة أو محالفة في الأمر لا يجدون عنها وليجة فيصطنع لهم ذلك فلنا قدم عليه عبد الواحد هذا بخبر الفتح وقص عليه القصص دس له أن أهل الدولة مضطربون على سلطانهم ومستبدلون به لو وجدوا وبلغ من ذلك ما حمل وما لم يحمل وأشار له بجلاء المغرب من الحامية جملة وأن دار الملك ليس بها إلا كاتب حضري لا يحسن المدافعة وهو أعرف به فانتهز الفرصة ابن الأحمر وجهز موسى ابن السلطان أبي عنان من الأسباط المقيمين عنده واستوزر له مسعود بن رخو بن ماسي من طبقات الوزراء من بنى مرين ومن بني قودر من أحلافهم وله في ذلك سلف وقد كان بعثه من قبل وزيرا للأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن حين أجاز إلى المغرب أيام استبداد أبي بكر بن غازي فلم يزل معه حتى كان حصار البلد الجديد واستيلاء السلطان أبي العباس عليها وذهب عبد الرحمن إلى مراكش فاستأذنه مسعود في الانصراف إلى الأندلس فأذن له ورجع عنه إلى فاس ثم فارقها وأجاز إلى الأندلس متودعا ومتوددا للكل ومعولا على ابن الأحمر فتلقاه بالقبول وأوسع له النزول والجراية وخلطه بنفسه وأحضره مع ندمائه ولم يزل كذلك إلى أن جهزه وزيرا إلى المغرب مع السلطان أبي عنان وبعث معهما عسكرا ثم ركب السفين إلى سبتة وكانت بينه وبين شرفائها ورؤساء الشورى بها مداخلة فقاموا بدعوة السلطان موسى وأدخلوه وقبضوا على عاملها رحو بن الزعيم المكدوني وجاؤا به إلى السلطان فملكها غرة صفر من سنة ست وثمانين وسبعمائة وسلمها إلى ابن الأحمر فدخلت في طاعته وسار هو إلى فاس فوصلها لأيام قريبة وأحاط بدار الملك واجتمع عليه الغوغاء ونزل الدهش بمحمد بمن الحسن فبادر بطاعته ودخل السلطان إلى دار الملك وقبض عليه لوقته وذلك في عشر ربيع الأول من السنة وجاء الناس بطاعته من كل جانب وبلغ الخبر إلى السلطان أبي العباس بمكانه من نواحي تلمسان بأن السلطان موسى قد نزل بسبتة فجهز علي بن منصور وترجمان الجند وجند النصارى ببابه مع طائفة منهم وبعثهم حامية لدار الملك فانتهوا إلى تازى وبلغهم خبر فتحها فأقاموا هنالك وأغذ السلطان أبو العباس السير إلى فاس فلقيهم خبر فتحها بتاوريرت فتقدم إلى ملوية وتردد في رأيه بين المسير إلى سجلماسة مع العرب أوقصد المغرب ثم استمر عزمه ونزل بتازى وأقام فيا أربعا وتقدم إلى الركن وأهل دولته خلال ذلك يخوضون في الانتقاض عليه تسللا إلى ابن عمه السلطان موسى المتولي على فاس ويوم أصبح من الركن أرجفوا به ثم انتقضوا عليه طوائف قاصدين فاس ورجع هو إلى تازى بعد أن انتهب معسكره وأضرمت النار في خيامه وخزائنه ثم أصبح بتازى من ليلته فدخلها وعاملها يومئذ الخير من موالى السلطان أبي الحسن وذهب محمد بن عثمان إلى ولي الدولة ونزمار بن عريف وأمراء المغرب من المعقل ولما دخل السلطان أبو العباس إلى تازى كتب إلى ابن عمه السلطان موسى يذكره العهد بينهما وقد كان السلطان ابن الأحمر عهد إليه أن يبعث به إليه إن ظفر به فبادر السلطان موسى باستدعائه مع جماعة من وجوه بني عسكر أهل تلك الناحية وهم زكريا بن يحيى بن سليمان ومحمد بن داود بن أعراب ومعهم العباس بن عمر الوسناني فجاءوا به وأنزلوه بالزاوية بغدير الحمص بظاهر فاس فقيد هنالك ثم بعثه إلى الأندلس موكلا به مع عمر بن رحو أخي الوزير مسعود بن ماسي واستصحب ابنه أبا فارس وترك سائرهم بفاس وأجاز البحر من سبتة فأنزله السلطان ابن الأحمر بقلعة ملكه الحمراء وفك قيوده ووكل به ووسع له في الجراية فأقام هنالك محتاطا به إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/463)
نكبة الوزير محمد بن عثمان ومقتله
أصل هذا الوزير محمد بن الكاس إحدى بطون بني ورتاجن وكان بنو عبد الحق عندما تأثلوا ملكهم بالمغرب يستعملون منهم في الوزارة وربما وقعت بينهم هنالك وبين بني إدربس وبني عبد الله منافسة قتلوا فما بعض بني الكاس منهم في دولة السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن ثم استوزره السلطان أبو الحسن بعد مهلك وزيره يحيى بن طلحة ابن محلى بمكانه من حصار تلمسان وقام بوزارته أياما وحضر معه وقعة طريف سنة إحدى وأربعين وسبعمائة من هذه المائة واستشهد فيها ونشأ ابنه أبو بكر في ظل الدولة ممتعا بحسن الكفالة وسعة الرزق وكانت أمه أم ولد وخلفه عليها ابن عمه محمد بن عثمان هذا الوزير فنشأ أبو بكر في حجره وكان أعلى رتبة منه بأولية أبيه وسلفه حتى إذا بلغ أشده واستوى سمت به الحال وجال أمصار الملوك في اختياره وترشيحه حتى استوزره السلطان عبد العزيز كما قلناه وقام بوزارته أحسن قيام وأصبح محمد بن عثمان هذا رديفه
وهلك السلطان عبد العزيز فنصب أبو بكر ابنه السعيد للملك صبيا لم يثغر وكان من انتقاض أمره وحصاره بالبلد الجديد واستيلاء السلطان أبي العباس عليه ما قدمناه قام محمد بن عثمان بوزارة السلطان أبي العباس مستبدا عليه ودفع إليه أمور ملكه وشغل بلذاته فقام محمد بن عثمان بوزارة السلطان أبي العباس من أمور الدولة ما عاناه حتى كان من استيلاء السلطان موسى على دار ملكهم ما مر وانفض بنو مرين عنه للسلطان أبي العباس كما ذكرناه ورجع إلى تازى فدخلها السلطان أبو العباس وفارقهم محمد بن عثمان إلى ولي الدولة ونزمار بن عريف وهو مقيم بتازي وتذمم له فتجهم له ونزمار وأعرض عنه فسار معدا إلى أحياه المنيات من عرب المعقل كانوا هنالك قبلة تازى لذمة صحابة كانت بينه وبين شيخهم أحمد ابن عبو فنزل عليه متذمما به فخادعه وبعث بخبره إلى السلطان فجهز إليه عسكرا مع المزوار عبد الواحد بن محمد بن عبو بن قاسم بن ورزوق بن بومريطت والحسن العوفي من الموالي فتبرأ منه العرب وأسلموه إليه فجاءوا به وأشهروه يوم دخوله إلى فاس واعتقل أياما وامتحن في سبيل المصادرة ثم استصفى ثم قتل ذبحا بمحبسه و الله وارث الأرض ومن عليها (7/466)
الخبر عن خروج الحسن بن الناصر بغمارة ونهوض الوزير ابن ماسي إليه بالعساكر
لما استقل السلطان موسى بملك المغرب وقام مسعود بن ماسي بوزارته مستبدا عليه وكان من تغريبهم السلطان أبا العباس إلى الأندلس وقتلهم وزيره محمد بن عثمان وافتراق أشياع الوزير محمد بن عثمان وقرابته وبطانته فطلبوا بطن الأرض ولحق منهم ابن أخيه العباس بن المقداد بتونس فوجد هنالك الحسن بن الناصر ابن السلطان أبي علي قد لحق بها من مقره بالأندلس في سبيل طلب الملك فثاب له رأي في الرجوع به إلى المغرب لطلب الأمر هنالك فخرج به من تونس وقطع المفاوز ولمشاق إلى أن انتهى إلى جبل غمارة ونزل على أهل الصفيحة منهم فأكرموا مثواه وتلقيه وأعلنوا بالقيام بدعوته واستوزر العباس بن المقداد وبلغ الخبر إلى مسعود ابن ماسي فجهز العساكر مع أخيه مهدي بن ماسي فحاصره بجبل الصفيحة أياما وامتنع عليهم فتجهز الوزير مسعود بن ماسي بالعساكر من دار الملك وسار لحصاره ثم رجع من طريقه لما بلغه من وفاة السلطان بعد والله أعلم (7/467)
وفاة السلطان موسى والبيعة للمنتصر ابن السلطان أبي العباس
كان السلطان موسى لما استقل بملك المغرب استنكف من استبداد ابن ماسي عليه وداخل بطانته في الفتك به وأكثر ما كان يفاوض في ذلك كاتبه وخالصته محمد ابن كاتب أبيه وخالصته محمد بن أبي عمر وكان للسلطان مرسى ندمان يطلعهم كل الكثير من أموره منهم العباس بن عمر بن عثمان الوسناقي وكان الوزير مسعود بن ماسي قد خلف أبا عمر كل أمه وربي في حجر فكان يدلي إليه بذلك وينهى أبيه ما يدور في مجلس السلطان في شأنه فحصلت للوزير بذلك نفرة طلب لأجلها البعد عن السلطان وبادر للخروج لمدافعة الحسن القائم بغمارة واستخلف على دار الملك أخاه يعيش بن رحو بن ماسي فلما انتهى إلى القصر الكبير لحقه الخبر بوفاة السلطان موسى وكانت وفاته في جمادى الآخرة طرته المرض فهلك ليوم وليلة لثلاث سنين من خلافته وكان الناس يرمرن يعيش أخا الوزير بأنه سمه وبادر يعيش فنصب ابن عمه للملك وهو المنتصر ابن السلطان أبي العباس وانكفأ راجعا لوزير مسعود من القصر وقتل السبيع محمد بن موسى في طبقة الوزراء وقد مر ذكره وذكر قومه وكان اعتقله أيام السلطان موسى فقتله بعد وفاته واستمرت أمور الدولة في استقلاله والله أعلم (7/467)
إجازة الواثق محمد بن أبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن من الأندلس والبيعة له
كان الوزير مسعود بن ماسي لما استوحش من السلطان موسى بعث ابنه يحيى وعبد الواحد المزوار إلى السلطان ابن الأحمر يسأل منه إعادة السلطان أبي العباس إلى ملكه فأخرجه ابن الأحمر من الاعتقال وجاء به إلى جبل الفتح يروم إجازته إلى العدوة فلما توفي السلطان موسى بدا للوزير مسعود في أمره ودس للسلطان ابن الأحمر في رده وأن يبعث إليه بالواثق محمد بن أبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن من القرابة المقيمين عنده ورآه أليق بالاستبداد والحجر فأسعفه ابن الأحمر في ذلك ورد السلطان أحمد إلى مكانه بالحمراء وجاء بالواثق فحضر بجبل الفتح عنده وفي خلال ذلك وصل جماعة من أهل الدولة وانتقضوا على الوزير مسعود ولحقوا بسبتة وأجازوا إلى السلطان ابن الأحمر وهم يعيش بن علي بن فارس الياباني وسيور بن يحيى بن عمر الونكاسني وأحمد بن محمد الصبيحي فوفد إليهم الواثق ورجعوا به إلى المغرب على أنهم في خدمة الوزير حتى إذا انتهوا إلى جبل زرهون المطل على مكناسة أظهروا الخلاف على الوزير وصعدوا إلى قبائل زرهون واعتصموا بجبلهم ولحق بهم من كان كل مثل دينهم من الخلاف على ابن ماسي وصاروا معهم يدا مثل طلحة بن الزبير الورتاجنى وسيور بن يحياتن بن عمر الونكاسني ومحمد التونسي من بنى أبي الطلاق وفارح بن مهدي من معلوجي السلطان وأصله من موالي بنى زيان ملوك تلمسان
وكان أحمد بن محمد الصبيحي حين جاه مع الواثق قد استطال عل أصحابه وأصهر الاستبداد بما كان من طائفة الجند المستخدمين فغص به أهل الدولة وتبرؤا منه للسلطان الواثق فأظهر لهم البراءة منه فوثبوا به وقتلوه عند خيمة السلطان وتولى كبر ذلك يعيش بن علي بن فارس الياباني كبير بني مرين فذهب مثلا في الغابرين ولم تبك عليه سماء ولا أرض وكان رزوق بن بوفريطت من موالي بنى علي بن زيان من شيوخ بنى ونكاسن من أعيان الدولة ومقدمي الجند قد انتقض على الدولة أيام السلطان موسى ولحق بأحياء أولاد حسين من عرب المعقل المخالفين منذ أيام السلطان موسى ونزل على شيخهم يوسف بن كل بن غانم لذمة صحابة بينهما من جوارهم في المواطن وكان معه في ذلك محمد بن يوسف بن علال كان أبوه يوسف من صنائع السلطان أبي الحسن ونشأة دولته استوحشا من الوزير فلحقا بالعرب فلما جاء هذا السلطان الواثق قدما عليه فلقيهما بالتكرمة وأحلهما في مقامهما من الدولة وخرج الوزير مسعود بن ماسي في العساكر ونزل قبائلهم بجبل مغيلة وقاتلهم هنالك أياما وداخل الذين مع الواثق واستمالهم وبعث عسكرا إلى مكناسة فحاصروها وكان بها يومئذ عبد الحق بن الحسن بن يوسف الورتاجني فاستنفر له منها وملكها وترددت المراسلات بينه وبين الواثق وأصحابه على أن ينصبوه للأمر ويبعث بالمنتصر المنصوب عنده إلى أبيه السلطان أبي العباس بالأندلس وانعقد الأمر بينهم على ذلك وسار الواثق في أصحابه إلى الوزير ابن ماساي فنزل عليه مضى يعيش بن علي بن فارس عنهم ذاهبا لوجهه وسار الوزير بالواثق إلى دار الملك فبايعه في شوال سنة ثمان وثمانين وسبعمائه بعد أن اشترط عليه لنفسه وأصحابه ما شاء وأجاز سلطانه المنتصر إلى أبيه السلطان أبي العباس بالأندلس وقبض على جماعة ممن كان مع الواثق مثل المزوار عبد الواحد وقتله وعلى فارح بن مهدي وحبسه وعلى الخير مولى الأمير عبد الرحمن وامتحنه وعلى آخرين سواهم ثم قبض على جماعة من بطانة السلطان موسى كانوا يداخلونه في القبض والفتك به فحبسهم وقتل بعضهم وعلى جند الأندلس الذين جاءوا مددا للواثق وعلى قوادهم من معلوجي ابن الأحمر فأودعهم السجن ثم تقبض على كاتب السلطان مرسى بن أبي الفضل بن أبي عمر مرجعه من السفارة عن سلطانه إلى الأندلس فاعتقله وصادره ثم خلى سبيله ثم بعث إلى الحسن بن الناصر الثائر بجبل الصفيحة من غمارة مع إدريس بن موسى بن يوسف الياباني فخادعه بإستدعائه للملك والبيعة له فخدعه واستنزله وجاء به فاعتقله أياما ثم أجازه للأندلس واستقر الأمر على ذلك والله أعلم (7/468)
الفتنة بين الوزير ابن ماسي وبين السلطان ابن الأحمر واجازة السلطان أبي العباس إلى سبتة لطلب ملكه واستيلاؤه عليها
لما بلغ الوزير ابن ماسي للواثق ورأى أنه قد استقل بالدولة ودفع عنها الشواغب وصرف نظره إلى ما فرط من أعمال الدولة وافتتح أمره بسبتة وقد كان السلطان موسى لأول إجازته أعطاها لابن الأحمر كما مر فبعث إليه الآن الوزير ابن ماسي في ارتجاعها منه كل سبيل الملاطفة فاستشاط لها ابن الأحمر ولج في الرد فنشأت الفتنة لذلك وجهز ابن ماسي العساكر لحصار سبتة مع العباس بن عمر بن عثمان الوسنافي ويحيى بن علال بن أمصمود والرئيس محمد بن أحمد الأبكم من بني الأحمر ثم من بيت السلطان الشيخ فاتح أمرهم وممهد دولتهم وراسل السلطان إشبيلية و الجلالقة من بني أدفونش وراء البحر بأن يبعث إليهم ابن عم السلطان ابن الأحمر محمد بن اسمعيل مع الرئيس الأبكم ليجلبا من ناحيته على الأندلس وجاءت عساكر الوزير إلى سبتة فحاصروها ودخلوها عنوة واعتصم حامية الأندلس الذين كانوا بها بالقصبة واتصلت الجولة بين الفريقين وسط البلد وأوفد أهل القصبة النيران بالجبل علامة عل أمرهم ليراها ابن الأحمر وكان مقيما بمالقة فبادر بتجهيز الأسطول مشحونا بالمقاتلة مددا لهم ثم استدعى السلطان أبو العباس من مكانه بالحمراء وأركبه السفين إلى القصبة في غرة صفر سنه تسع وثمانين وسبعمائة وأشرف عليهم من الغد وناداهم من السور يدعوهم إلى طاعته فلما رأوه اضطربوا وافترقوا وخرج إليهم فنهب سوادهم ودخلوا في طاعته متسايلين ورجع جمهور العسكر ومقدموهم إلى طنجة واستولى السلطان على مدينة سبتة وبعث إليه ابن الأحمر بالنزول عنها وردها إليه فاستقرت في ملكه وكملت بها بيعته وكان يوليه أمر الأضياف الواردين و الله تعالى أعلم (7/470)
مسير السلطان أبي العباس من سبتة لطلب ملكه بفاس ونهوض ابن ماسي لدفاعه ورجوعه منهزما
ولما استولى السلطان أبو العباس على سبتة وتم له ملكها واعتزم على المسير لطلب ملكه بفاس وأغراه ابن الأحمر بذلك ووعده بالمدد لما كان من مداخلة ابن ماسي لجماعة من بطانته في أن يقتلوه ويملكوا الرئيس الأبكم يقال : إن الذي داخله في ذلك من بطانة ابن الأحمر يوسف بن مسعود البلنسني ومحمد ابن الوزير أبي القاسم بن الحكيم الرندي وشعر بهم السلطان ابن الأحمر وهو يومئذ على جبل الفتح يطالع أمور السلطان أبي العباس فقتلهم جميعا وإخوانهم ويقال : إن ذلك كان بسعاية القائم على دولته مولاه خالد كان يغص بهم ويعاديهم فأخفى عليهم هذه وتمت سعايته بهم فاستشاط ابن الأحمر غضبا على ابن ماسي وبعث إلى السلطان أبي العباس يستنفره للرحلة إلى طلب ملكه فاستخلف على سبتة رحو ابن الزعيم المكرودي عاملها من قبل كما مر وسار إلى طنجة وعاملها من قبل الواثق صالح بن رحو الياباني ومعه بها الرئيس الأبكم من قبل العساكر فحاصرها أياما وامتنعت عليه فجمر عنهم الكتائب وسار إلى أصيلا فدخلت في دعوته وملكها ونهض الوزير من فاس في العساكر بعد أن استخلف أخاه يعيش على دار الملك وسار ولحقت مقدمته بأصيلا ففارقها السلطان أبو العباس وصعد إلى جبل الصفيحة فاعتصم به وجاء الوزير ابن ماسي فتقدم إلى حصاره بالجبل وجمع عليه رماة الرجل من الأندلسيين الذين كانوا بطنجة وأقام يحاصره بالصفيحة شهرين وكان يوسف بن علي بن غانم شيخ أولاد حسين من عرب المعقل مخالفا على الوزير مسعود وداعية إلى السلطان أبي العباس وشيعة له وكان يراسل ابن الأحمر في شأنه فلما سمع باستيلائه على سبتة وإقباله إلى فاس جمع أشياعه من العرب ودخل في طاعته إلى بلاد المغرب ما بين فاس ومكناسة وشن الغارات على البسائط واكتسحها وأرجف الرعايا وأجفلوا إلى الحصون وكان ونزمار بن عريف ولي الدولة شيعة للسلطان وكان يكاتبه وهو بالأندلس ويكاتب ابن الأحمر بشأنه فلما اشتد الحصار بالسلطان في الصفيحة بعث ابنه أبا فارس إلى ونزمار بمكانه من نواحي تازى وبعث معه سيور بن يحيى بن عمر فقام ونزمار بدعوته وسار به إلى مدينة تازى وعاملها سلمان الغودودي من قرابة الوزير ابن ماسي فلما نزل بها أبو فارس ابن السلطان بادر إلى طاعته وأمكنه من البلد فاستولى عليها واستوزر سليمان هذا وسار إلى صفيروا ومعه ونزمار للاجتماع بعرب المعقل وأسف بهم إلى حصار فاس وكان محمد بن الدمغة عاملا على ورغة فبعث إلية السلطان عسكرا مع العباس بن المقداد ابن أخت الوزير محمد بن عثمان فقتلوه وجاءوا برأسه ونجم الخلاف على يعيش بالبلد الجديد من كل جهة وطير الخبر بذلك كله إلى أخيه بمكانه من حصار السلطان بالصفيحة فانفضت عنه العساكر وأجفل راجعا إلى فاس وسار السلطان في اتباعه ودخل في طاعته عامل مكناسة وجاء الخير مولى الأمير عبد الرحمن ولقيه يوسف بن علي بن غانم ومن معه من أحياه العرب وساروا جميعا إلى فاس وكان أبو فارس ابن السلطان قد رحل من تازى إلى صفيروا للقاء أبيه فاعترضه ابن ماسي في العساكر رجاء أن يفله ولقيه ببني بهلول فنزع أهل المعسكر إلى أبي فارس ابن السلطان وهو بمكناسة فارتحل يغذ السير إلى فاس وسار ابنه أبو فارس للقائه على وادي النجا وصبحوا البلد الجديد فنزلوا عليه بجموعهم وقد اعتصم به الوزير في أوليائه وبطانته ومعه بغمراسن بن محمد السالفي ومراهن بني مرين الذين استرهنهم عند مسيره للقاء السلطان بأصيلا و الله أعلم (7/471)
ظهور دعوة السلطان أبي العباس في مراكش واستيلاء أوليائه عليها
كان الوزير مسعود بن ماسي قد ولى على مراكش وأعمال المصامدة أخاه عمر بن رحو وكانت منتظمة في طاعته فلما بلغ الخبر بوصول السلطان إلى سبتة واستيلائه عليها قامت رؤوس أوليائه إلى إظهار دعوته بتلك النواحي فقام بدعوته بجبل الهساكرة علي بن زكريا وبعث الوزير مسعود من مكانه في حصار السلطان بالصفيحة في أمداده بالعساكر من مراكش فزحف إليه مخلوف بن سليمان الوارتيبي صاحب الأعمال ما بين مراكش والسوس وقعد الباقون عن نصره وتفرقوا وصعد أبو ثابت حافد علي بن عمر إلى جبل الهساكرة ومعه يوسف بن يعقوب بن علي الصبيحي فاستمد علي بن زكريا ورجع إلى مراكش مجلبا على علي ابن رحو مناوشة القتال ساعة ثم غلبه على البلد وملكها من يده ونزل بقصبة الملك وحبس عمر بن رحو بها وكتب للسلطان بذلك وهو بمكناسة متوجها إلى فاس فكتب إليه بأن يصله بعساكر مراكش لحصار دار الملك فجمع العساكر واستخلف على قصبة مراكش بعض بني عمه ولحق بالسلطان وأقام معه في حصار البلد الجديد و الله أعلم (7/473)
ولاية المنتصر ابن السلطان أبي علي على مراكش واستقلاله بها
كان السلطان أبو العباس حين ملك المغرب بعث ابنه المنتصر في البحر إلى سلا واستوزر له عبد الحق بن يوسف الورتاجني فوصل إلى سلا وأقام بها ومر به رزوق بن توفريطت راجعا من دكالة حين نزول السلطان على البلد الجديد فتلطف في استدعائه ثم قبض عليه وبعث به لأبيه مقيدا فأودعه السجن وقتل بعد ذلك بمحبسه ثم بعث السلطان إلى ابنه المنتصر بولاية مراكش وأن يسير إليها فلما وصل إلى مراكش امتنع النائب بالقصبة فدس لعبد الحق وزير المنتصر أن النائب قد هم بقتله وحينئذ يمكن المنتصر من القصبة فأجفل بالمنتصر وصعد إلى جبل هنتاتة وطير بالخبر إلى السلطان فتغير لأبي ثابت وأمره أن يكاتب نائبه بتمكين ابنه من القصبة واستوزر له سعيد بن عبدون وبعثه بالكتاب وعزل عبد الحق عن وزارة ابنه واستدعاه لفاس فوصل سعيد بن عبدون إلى مراكش ودفع إلى النائب بالقصبة كتاب مستخلفه إلى الامتثال وأمكنه من القصبة واعتزل عنها فدخلها وبعث عن المنتصر ابن السلطان واستولوا عليها وقبضوا على نائب عامر الذي كان بها وسائر شيعته وبطانته وامتحنوهم واستصفوهم إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/473)
حصار البلد الجديد وفتحها ونكبة الوزير ابن ماسي ومقتله
لما نزل السلطان على البلد الجديد واجتمع إليه سائر قبيلته وأوليائه وبطانته داخل الوزير مسعودا الحنق على بني مرين لانتباذهم عنه فأمر بقتل أبنائهم الذين استرهنوهم على الوفاء له فلاطفه يغمراسن السالفي في المنع من ذلك فأقصر عنه وضيق السلطان مخنقه بالحصار ثلاثة أشهر حتى دعا إلى النزول والطاعة فبعث إليه ولي الدولة ونزمار بن عريف وخالصته محمد بن علال فعقد لهم الأمان لنفسه ولمن معه على أن يستمر على الوزارة ويبعث بسلطانه الواثق إلى الأندلس واستحلفهم على ذلك وخرج معهم للسلطان فدخل السلطان البلد الجديد خامس رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة لثلاثة أعوام وأربعة أشهر من خلعه ولحين دخوله قبض على الواثق وبعث به معتقلا إلى طنجة وقتل بها بعد ذلك ولما استولى على أمره قبض على الوزير ابن ماسي ليومين من دخوله وإخوته وحاشيته وامتحنهم جميعا فهلكوا في العذاب ثم سلط على مسعود من العذاب والانتقام ما لا يعبر عنه ونقم عليه ما فعله في دور بني مرين النازعين إلى السلطان فإنه كان متى هرب عند أحد منهم يعمد إلى بيوته فينهبها ويخربها فأمر السلطان بعقابه في أطلالها فكان يؤتى به إلى كل بيت منها فيضرب عشرين سوطا إلى أن قتله العذاب وتجاوز الحد ثم أمر به فقطعت أربعته فهلك عند قطع الثانية فذهب مثلا في الآخرين (7/474)
وزاوة محمد بن علال
كان أبوه يوسف بن علال من رؤساء الدولة وصانعة السلطان أبي الحسن وربي في داره ولما ضخم أمره سما به إلى ولاية الأعمال فولاه على درعة فانتزى وانتخب أولياء الدولة ثم ولاه السلطان أبو عنان أمر طنجة ومائدته وضيوفه واستكفى به في ذلك وولاه أخوه أبو سالم بعده كذلك ثم بعثه إلى سجلماسة فعانى بها من أمور العرب مشقة وعزلها عنها وهلك بفاس وكان له جماعة من الولد قد نشؤا في ظل هذه النعمة وحدبت النجابة بمحمد المذكور منهم فلما استولى السلطان أبو العباس استعمله في أمور الضيوف والمائدة كما كانت لأبيه ثم رقاه إلى المخالصة وخلطه بنفسه فلما خلع السلطان واستولى الوزير ابن ماسي على المغرب وكانت بينه وبين أخيه يعيش بن ماسي إحن قديمة فسكن لصولتهم حتى إذا اضطرمت نار الفتنة بالمغرب وأجلبت عرب المعقل الخلاف فاستوحش محمد هذا فلحق بأحيائهم مع رزوق بن توفريطت كما مر ذكره ونزل على يوسف بن علي بن غانم شيخ أولاد حسين وأقاما معه في خلافه حتى إذا أجاز السلطان الواثق إلى الأندلس ووصل مع أصحابه إلى جبل رزهون وأظهروا الخلاف على ابن ماسي بادر محمد هذا ورزوق إلى السلطان ودخلا في طاعته متبرئين من النفاق الذي حملهم عليه عداوة الوزير ابن ماسي فما كان إلا أن انعقد الصلح بين الواثق وابن ماسي وسار به وأصحابه إلى فاس وحصلوا في قبضة ابن ماسي فعفا لهم عما كان منهم استعملهم في مهود ولايتهم ثم جاء الخبر بإجازة السلطان أبي العباس إلى سبتة فاضطرب محمد بن يوسف وذكر مخالصة السلطان و منافرة ابن ماسي فأجمع أمره ولحق بسبتة فتلقاه السلطان بالكرامة وسر بمقدمه ودفعه إلى القيام بأمر دولته فلم بزل متصرفا بين يديه إلى أن نزل إلى البلد الجديد ولأيام من حصارها خلع عليه الوزارة ودفعه إليها فقام بها أحسن قيام ثم كان الفتح وانتظم أمر الدولة ومحمد هذا يصرف الوزارة على أحسن أحوالها إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/475)
ظهور محمد بن السلطان عبد الحليم بسجلماسة
قد تقدم لنا ذكر السلطان عبد الحليم ابن السلطان أبي على وكان يدعى بحلى كيف بايع له بنو مرين و أجلبوا به على عمر بن عبد الله سنة ثلاث و ستين و سبعمائة أيام مبعثه للسلطان أبي عمر ابن السلطان أبي الحسن و حاصروا معه البلد الجديد حتى خرج لدفاعهم وقاتلهم فانهزموا و افترقوا ولحق السلطان عبد الحليم بتازى وأخوه عبد المؤمن بمكناسة و معه ابن أخيهما عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ثم بايع الوزير عمر بن عبد الله لمحمد بن أبي عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن واستبدل به من أبي عمر لما كان بنو مرين يرمونه بالجنون والوسوسة فاستدعى محمد بن أبي عبد الرحمن من مطرح اغترابه بإشبيلية و بايعه و خرج في العساكر لمدافعة عبد المؤمن وعبد الرحمن عن مكناسة فلقيهما وهزهما ولحقا بالسلطان عبد الحليم بتازى وساروا جميعا إلى سجلماسة فاستقروا فيها والسلطان عبد الحليم وقد تقدم خبر ذلك كله في أماكنه ثم كان الخلاف بين عرب المعقل أولاد حسين والأحلاف وخرج عبد المؤمن للإصلاح بينهم فبايع له أولاد حسين ونصبوه كرها للملك وخرج السلطان عبد الحق إليهم في جموع الأحلاف فقاتلوه وهزموه وقتلوا كبار قومه كان منهم يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي شيخ بني تيربيغن وكبير دولة بني مرين أجلت المعركة عن قتله و دخل عبد المؤمن البلد منفردا بالملك وصرف السلطان أخاه عبد الحليم إلى المشرق لقضاء فرضه برغبته في ذلك فسار على طريق القفر مسلك الحاج من التكرور إلى أن وصل القاهرة والمستبد بها يومئذ يلبغا الخاصكي على الأشرف شعبان بن حسين من أسباط الملك الناصر محمد بن قلاوون فأكرم وفادته ووسع نزله وجرايته وأدر لحاشيته الأرزاق ثم أعانه على طريقه للحج بالأزواد و الأبنية و الظهر من الكراع و الخف ولما انصرف من حجه زوده لسفر المغرب وهلك بضروجة سنة سبع و ستين و سبعمائة و رجعت حاشيته إلى المغرب بحرمه و ولده و كان ترك محمدا هذا رضيعا فشب متقلبا من الدولة من ملك إلى آخر منتبذا عن قومه بغيرة السلطان أبي الحسن من بنى عمهم السلطان أبي علي و كان أكثر مما يكون مقامه عند أبي حمو سلطان بني عبد الواد بتلمسان لما يروم به من الأجلاب على المغرب ودفع عادية بني مرين عنه فلما وقع بالمغرب من انتقاض عرب المعقل على الوزير مسعود بن ماسي سنة تسع وثمانين وسبعمائة واستمروا على الخلاف انتهز أبو حمو الفرصة وبعث محمد بن عبد الحليم هذا إلى المعقل ليجلب بهم على المغرب ويمزقوا من الملك ما قدروا عليه فلحق بأحيائهم ونزل على الأحلاف إلى الذين هم أمس رحما بسجلماسة وأقرب موطنا إليها وكان الوزير ابن ماسي قد ولى عليها من أقاربه علي بن إبراهيم بن عبو بن ماسي فلما ظهر عليه السلطان أبو العباس وضيق مخنقه بالبلد الجديد دس إلى الأحلاف و إلى قريبه علي ابن إبراهيم أن ينصب محمد ابن السلطان أبي العباس عنه وينفسوا من حصاره ففعلوا ذلك ودخل محمد إلى سجلماسة فملكها وقام علي بن إبراهيم بوزارته حتى إذا استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد وفتك بالوزير مسعود بن ماسي و بإخوته وسائر قرابته اضطرب علي بن إبراهيم وفسد ما بينه وبين سلطانه محمد فخرج عن سجلماسة ودعا إلى أبي حمو سلطان تلمسان كما كان
ثم زادت هواجس على بن إبراهيم وارتيابه فخرج عن سجلماسة وتركها ولحق بأحياء العرب و سارت طائفة منهم معه إلى أن أبلغوه مأمنه ونزل على السلطان أبي حمو إلى أن هلك فسار إلى تونس وحضر وفاة السلطان أبي العباس بها سنة تسع وتسعين وسبعمائة ولحق محمد ابن السلطان عبد الحليم بعد مهلك أبي حمو بتونس ثم ارتحل بعد وفاة السلطان أبي العباس إلى المشرق لحجة فرضه و الله تعالى أعلم (7/476)
نكبة ابن أبي عمر و مهلكه وحركات ابن حسون
لما استقل السلطان بملكه واقتعد سريره صرف نظره إلى أولياء تلك الدولة ومن يرتاب منه وكان محمد بن أبي عمر قد تقدم ذكره وأوليته من جملة خواصه وأوليائه و ندمائه وكان السلطان يقسم له من عنايته وجميل نظره ويرفعه عن نظرائه فلما ولي السلطان موسى نزعت إليه نوازع المخالصة لأبيه من السلطان أبي عنان فقد كان أبوه أعز بطانته كما مر فاستخلصه السلطان موسى للشورى ورفعه على منابر أهل الدولة وجعل إليه كتاب علامته على المراسم السلطانية كما كان لأبيه وكان يفاوضه في مهماته ويرجع إليه في أموره حتى غص به أهل الدولة ونمى عنه للوزير مسعود بن ماسي أنه يداخل السلطان في نكبته وربها سعى عند سلطانه في جماعة من بطانة السلطان أحمد فأتى عليهم النكال والقتل لكلمات كانت تجري بينهم وبينه في مجالسة المنادمة عند السلطان حقدها لهم فما ظفر بالحظ من سلطانه سعى بهم فقتلهم وكان القاضي أبو اسحق اليزناسني من بطانة السلطان أحمد وكان يحضر مع ندمائه فحقد له ابن أبي عامر وأغرى به سلطانه فضربه وأطافه وجاء بها شنعاء غريبة في القبح وسفر عن سلطانه إلى الأندلس وكان يمر بمجلس السلطان أحمد ومكان اعتقاله وربما يلقاه فلا يلم إليه ولا يجيبه ولا يوجب له حقا فأحفظ ذلك السلطان ولما فرغ من ابن ماسي قبض على ابن أبي عمر هذا وأودعه السجن ثم امتحنه بعد ذلك إلى أن هلك بالسياط عفا الله عنه وحمل إلى داره وبينما أهله يحضرونه إلى قبره وإذا بالسلطان قد أمر بأن يسحب بنواحي البلد إبلاغا في التنكيل فحمل من نعشه وقد ربط حبل برجله وسحب في سائر أنحاء المدينة ثم ألقي في بعض المزابل ثم قبض على حركات ابن حسون و كان مجلبا في الفتنة وكان العرب المخالفون من المعقل لما أجاز السلطان إلى سبتة وحركات هذا بتدلا راودوه على طاعة السلطان فامتنع أولا ثم أكرهوه و جاؤا به إلى السلطان فطوى على ذلك حتى استقام أمره وملك البلد الجديد فتقبض عليه وامتحنه إلى أن هلك والله وارث الأرض ومن عليها (7/478)
خلاف علي بن زكريا بجبل الهساكرة ونكبته
لما ملك السلطان البلد الجديد واستولى على ملكه وفد عليه علي بن زكريا شيخ هسكورة مستصفيا بما قدم من سوابقه وقد كان حضر معه حصار البلد الجديد واستدعاه فجاء بقومه وعساكر المصامدة و أبلى في حصارها فرعى السلطان سوابقه وولاه الولاية الكبرى على المصامدة على عادة الدولة في ذلك ثم وفد معه محمد بن إبراهيم الميراري من شيوخ المصامدة وكانت له ذمة صهر مع الوزير محمد ابن يوسف بن علال على أخته فولاه السلطان مكان علي بن زكريا فغضب لها واستشاط و بادر إلى الانتقاض والخلاف ونصب بعض القرابة من بني عبد الحق فجهز إليه السلطان العساكر مع محمد بن يوسف بن علال وصالح بن حمو الياباني وأمر صاحب درعة وهو يومئذ عمر بن عبد المؤمن بن عمر أن ينهض إليه بعساكر درعة من جهة القبلة فساروا إليه و حاصروه في جبله وجاولوه مرات ينهزم في جميعها حتى غلبوه على جبله وسار إلى إبراهيم بن عمران الصناكي المجاور له في جبله فاستذم به وخشي إبراهيم معرة الخلاف و الغلب و رغبه الوزير محمد بن يوسف بما بذل له فأمكنه منه وقبض على الوزير وجاء به إلى فاس فأدخله في يوم مشهود وشهره واعتقل فلم يزل في الاعتقال إلى أن هلك السلطان أبو العباس وارتاب به أهل الدولة بعده فقتلوه كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/479)
وفادة أبي تاشفين على السلطان أبي العباس صريخا على أبيه ومسيره بالعساكر ومقتل أبيه السلطان أبي حمو
كان أبو تاشفن ابن السلطان أبي حمو قد وثب على أبيه آخر ثمان وثمانين وسبعمائة بممالئته لغيره من إخوته واعتقله بوهران وخرج بالعساكر لطلب إخوته المنتصر وأبي زيان وعمر فامتنعوا عند حصين بجبل تيطرى فحاصرهم أياما ثم تذكر غائلة أبيه فبعث ابنه أبا زيان في جماعة من بطانته منهم ابن الوزير عمران بن موسى وعبد الله بن جابر الخراساني فقتلوا بعض ولده بتلمسان و مضوا إليه وهو بمحبسه في وهران فلما شعر بهم أشرف من الحصن ونادى في أهل المدينة متذمما بهم فهرعوا إليه وتدلى إليهم في عمامته وقد احتزم بها فأنزلوه و أحدقوا به و أجلسوه على سريره و تولى كبر ذلك خطيب البلد ابن جذورة ولحق أبو زيان بن أبي تاشفين ناجيا إلى تلمسان واتبعه السلطان أبو حمو ففر منها إلى أبيه ودخل أبو حمو تلمسان وهي طلل وأسوارها خراب فأقام فها رسم دولته وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين فأجفل من تيطرى وأغذ السير فدخلها واعتصم أبوه بمئذنة المسجد فاستنزله منها وتجافى عن قتله ورغب إليه أبوه في رحلة المشرق لقضاء فرضه فاسعفه وأركبه السفين مع بعض تجار النصارى إلى الإسكندرية موكلا به فلما حاذى مرسى بجاية لاطف النصراني في تخلية سبيله فأسعفه وملك أمره وبعث إلى صاحب الأمر ببجاية يستأذنه في النزول فأذن له وسار منها إلى الجزائر واستخدم العرب واستصعب عليه أمر تلمسان فخرج إلى الصحراء وجاء إلى تلمسان من جهة المغرب فهزم عساكر ابنه أبي تاشفين وملكها وخرج أبو تاشفين هاربا منها فلحق بأحياء سويد في مشاتيهم ودخل أبو حمو تلمسان في رجب سنة تسعين وسبعمائة وقد تقدم شرح هذه الأخبار كلها مستوعبة ثم وفد أبو تاشفين مع محمد بن عريف شيخ سويد على السلطان أبي العباس صريخا على أبيه ومؤملا الكرة بإمداده فبعث له السلطان وأجمل عليه المواعيد وقام أبو تاشفين في انتظارها والوزير محمد بن يوسف بن علال يعده ويمنيه ويحلف له على الوفاء وبعث السلطان أبو حمو إلى ابن الأحمر لما يعلم من استطالته على دولة بني مرين كما مر يتوسل إليه في أن يصدهم عن صريخ أبي تاشفين وإمداده عليه فجلا ابن الأحمر في ذلك وجعلها من أهم حاجاته وخاطب السلطان أبا العباس في أن يجيز إليه أبا تاشفين فتعلل عليه في ذلك بأنه استجار بابنه أبي فاس و استذم به ولم يزل الوزير ابن علال يفتل لسلطانه ولابن الأحمر في الذروة والغارب حتى تم أمره وأنجز له السلطان بالنظر موعد وبعث ابنه الأمير أبا فارس والوزير ابن علال في العساكر صريخين له وانتهوا إلى تازى وبلغ الخبر إلى أبي حمو فخرج من تلمسان في عساكره واستألف أولياءه من عبيد الله ونزل بالغيران من وراء جبل بنى راشد المطل على تلمسان وأقام هنالك متحصنا بالجبل وجاءت العيون إلى عساكر بني مرين بتازى بمكانه هو وأعرابه من الغيران فأجمعوا غزوه وسار الوزير علال وأبو تاشفين وسلكوا القفر ودليلهم سليمان بن ناجي من الأحلاف حتى صبحوا أبا حمو ومن معه من أحياء الجراح في مكانهم بالغيران فجاولوهم ساعة ثم ولوا منهزمين وكبا بالسلطان أبي حمو فرسه فسقط وأدركه بعض أصحاب أبي تاشفين قتلوه قعصا بالرماح وجاؤوا برأسه إلى ابنه أبي تاشفين والوزير ابن علال فبعثوا به إلى السلطان وجيء بابنه عمير أسيرا فهم أخوه أبو تاشفين بقتله فمنعه بنو مرين أياما ثم أمكنوه منه فقتله ودخل تلمسان آخر إحدى وتسعين و سبعمائة وختم الوزير وعساكر بنى مرين بظاهر البلد حتى دفع إليهم ما شارطهم عليه من المال ثم قفلوا إلى المغرب وأقام أبو تاشفين بتلمسان يقيم دعوة السلطان أبي العباس صاحب المغرب ويخطب له على منابر تلمسان وأعمالها ويبعث إليه بالضريبة كل سنة كما اشترط على نفسه وكان أبو حمو لما ملك تلمسان ولى ابنه أبا زيان على الجزائر فلما بلغه مقتل أبيه امتعض ولحق بأحياء حصين ناجيا وصريخا وجاءه وفد بي عامرمن زغبة يدعونه للملك
فسار إليهم وقام بدعوته شيخهم المسعود بن صغير ونهضوا جميعا إلى تلمسان في رجب سنة إثنتين وتسعين وسبعمائة فحاصرها أيامأ ثم سرب أبو تاشفين المال في العرب فافترقوا عن أبي زيان وخرج إليهم أبو تاشفين فهزمه في شعبان من السنة
ولحق بالصحراء واستألف أحياء المعقل وعاود حصار تلمسان في شوال وبعث أبو تاشفين ابنه صريخا إلى المغرب فجاءه بمدد من العساكر ولما انتهى إلى تاوريرت أفرج أبو زيان عن تلمسان وأجفل إلى الصحراء ثم أجمع رأيه على الوفادة إلى صاحب المغرب فوفد عليه صريخا فتلقاه وبر مقدمه ووعده النصر من عدوه وأقام هنالك إلى حين مهلك أبي تاشفين و الله أعلم (7/479)
وفاة أبي تاشفين واستيلاء صاحب المغرب على تلمسان
لم يزل هذا الأمير أبو تاشفين مملكا على تلمسان ومقيما فيها لدعوة صاحب المغرب أبي العباس ابن السلطان أبي سالم ومؤديا الضريبة التي فرضها عليه منذ ملك وأخوه الأمير زيان عند صاحب المغرب ينتظر وعده بالنصر عليه حتى تغير السلطان أبو العباس على أبي تاشفين في بعض النزعات الملوكية فأجاب داعي أبي زيان وجهزه بالعساكر لملك تلمسان فسار لذلك منتصف سنة خمس وتسعين وسبعمائة
وانتهى إلى تازى وكان أبو تاشفين قد طرقه مرض أزمن به ثم هلك منه في رمضان من السنة وكان القائم بدولته أحمد بن العز من صنائعهم وكان يمت إليه بخؤلة فولى بعده مكانه صبيا من أبنائه وأقام بكفالته وكان يوسف بن أبي حمو و هو ابن الزابية واليا على الجزائر من قبل أبي تاشفين فلما بلغه الخبر أغذ السير مع العرب فدخل تلمسان وقتل أحمد بن العز والصبي المكفول ابن أخيه أبي تاشفين فلما بلغ الخبر إلى السلطان أيي العباس صاحب المغرب خرج إلى تازى وبعث من هنالك ابنه أبا فارس في العساكر ورد أبا زيان بن أبي حمو إلى فاس ووكل به وسار ابنه أبو فارس إلى تلمسان فملكها وأقام فها دعوة أبيه وتقدم وزير أبيه صالح بن أبي حمو إلى مليانة فملكها وما بعدها من الجزائر وتدلس إلى حدود بجاية واعتصم يوسف بن الزابية بحصن تاجمعومت وأقام الوزير صالح يحاصره وانقرضت دعوة بني عبد الواد من المغرب الأوسط و الله غالب على أمره (7/482)
وفاة أبي العباس صاحب المغرب واستيلاء أبي زيان بن أبي حمو على تلمسان والمغرب الأوسط
كان السلطان أبو العباس بن أبي سالم لما وصل إلى تازى وبعث ابنه أبا فارس إلى تلمسان فملكها وأقام هو بتازى يشارف أحوال ابنه ووزيره صالح الذي تقدم لفتح البلاد الشرقية وكان يوسف بن علي بن غانم أمير أولاد حسين من المعقل قد حج سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة واتصل بملك مصر من الترك الملك الظاهر برقوق
وتقدمت إلى السلطان فيه وأخبرته بمحله من قومه فأكرم تلقيه وحمله بعد قضاء حجه هدية إلى صاحب المغرب يطرفه فيها بتحف من بضائع بلده على عادة الملوك فلما قدم يوسف بها على السلطان أبي العباس أعظم موقعها وجلس في مجلس حفل لعرضها والمباهاة بها وشرع في المكافأة عليها بمتخير الجياد والبضائع والثياب حتى استكمل من ذلك ما رضيه واعتزم على إنفاذها مع يوسف بن علي حاملها الأول وأنه يرسله من تازى أيام مقامته تلك فطرقه هنالك مرض كان فيه حتفه في محرم سنة ست وتسعين و سبعمائة واستدعوا ابنه أبا فارس من تلمسان فبايعوه بتازى وولوه مكانه ورجعوا به إلى فاس وأطلقوا أبا زيان بن أبي حمو من الاعتقال وبعثوا به إلى تلمسان أميرا عليها وقائما بدعوة السلطان أبي فارس فيها فسار إليها وملكها وكان أخوه يوسف بن الزابية قد اتصل بأحياء بني عامر يروم ملك تلمسان والاجلاب عليها فبعث إليهم أبو زيان عندما بلغه ذلك وبذل لهم عطاء جزيلا على أن يبعثوا به إليه فأجابوه إلى ذلك وأسلموه إلى ثقات أبي زيان وساروا به فاعترضهم بعض أحياء العرب ليستنقذوه منهم فبادروا بقتله وحملوا رأسه إلى أخيه أبي زيان فسكنت أحواله وذهبت الفتنة بذهابه واستقامت أمور دولته وهم على ذلك لهذا العهد و الله غالب على أمره و هو على كل شيء قدير
و قد انتهى بنا القول في دولة بنى عبد الواد من زناتة الثانية وبقي علينا خبر الرهط الذين تحيزوا منهم إلى بني مرين من أول الدولة وهم بنو كمي من فصائل علي بن القاسم إخوة طاع الله بن علي وخبر بني كندوز أمرائهم بمراكش فلنرجع إلى ذكر أخبارهم وبها نستوفي الكلام في أخبار بني عبد الواد والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين (7/482)
الخبر عن القرابة المرشحين من آل عبد الحق من الغزاة المجاهدين بالأندلس الذين قاسموا ابن الأحمر في ملكه وانفردوا برياسة جهاده
كانت الجزيرة الأندلسية وراء البحر منذ انقراض أمر بنى عبد المؤمن وقيام ابن الأحمر بأمرها قليلة الحامية ضعيفة الأحوال إلا من يلهمه الله لعمل الجهاد من قبائل زناتة المؤملين كرة الملك و المقتسمين ممالك المغرب وخصوصا بنى مرين أهل المغرب الأقصى لاتصال عدوة الأندلس ببسائطه ولتعدد الفراض ببحر الزقاق القريب العدوتين وما زال أهل الزقاق على قديم الزمان لأجل ذلك فرضة دون سواحل المغرب
ولما استولى بنو مرين على ممالكه وضاقت أحوال المسلمين بالأندلس وأخذ بمخنقهم الطاغية حتى ألجأهم إلى سيف البحر و استأثر بالقوسرة و ما وراءها
واستأثر بنو القمص أهل برشلونة وقطلوسة بشرق الأندلس وانتشر في الأقطار ما كان من أمر قرطبة وأضنيها إشبيلية وبلنسية وامتعض لذلك المسلمون وتنافسوا في الجهاد وإمداد الأندلس بأموالهم وأنفسهم وسابق الناس إلى ذلك الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بما كان صاحب الوقت والمؤمل للكرة فاستنفذ الكثير من أمواله و مقرباته في إمدادهم بعد أن كانوا آثروا القيام بدعوته وأوفدوا عليه المشيخة ببيعتهم وكان ليعقوب بن عبد الحق أمل في الجهاد وحرص عليه فاعتزم في سلطان أخيه أبي
يحيى على الإجازة لذلك فمنعه ضنة به عن الاغتراب عنه وأوعز إلى صاحب سبتة يومئذ أبي علي بن خلاص بمنعه منها فوعر له السبيل وسد عليه المذاهب
ولم ينشب يعقوب بن عبد الحق أن قام بسلطان المغرب بعد أخيه أبي يحيى و شغل بشأنه وأهمه شأن ابن أخيه إدريس منهم في الجهاد بعد العدوة فاغتنمها منه وعقد له من مطوعة زناتة على ثلاثة آلاف أو يزيدون وأجاز معه رحو ابن عمه عبد الله بن عبد الحق وفصلوا إلى الأندلس سنة إحدى وستين وستمائة فحسنت آثارهم في الجهاد وكرمت مقاماتهم ثم رجع عامر بن إدريس إلى المغرب وكثر انتقاض القرابة ونافسها أقيال زناتة في مثلها فاجتمع أبناء الملوك بالمغرب الأوسط مثل عبد الملك ويغمراسن بن زيان وعامر بن منديل بن عبد الرحمن وزيان بن محمد ابن عبد القوي فتعاقدوا على الإجازة إلى الأندلس إلى الجهاد وأجازوا فيمن خف معهم من قومهم سنة ست وسبعين وستمائة فامتلأت الأندلس بأقيال زناتة وأعياص الملك منهم وكان فيمن أجاز من أعياصهم بنو عيسى بن يحيى بن وسناف بن عبو ابن أبي بكر بن حمامة ومنهم سليمان وإبراهيم وكانت لهما آثار في الجهاد ومقامات محمودة وكان موسى بن رحو لما نازله السلطان وبني أبيه عبد الله بن عبد الحق بحصن علودان ونزلوا على عهده لحق بتلمسان وكان بنو عبد الله بن عبد الحق وإدريس بن عبد الحق عصبة من بين سائرهم لأن عبد الله وإدريس كانا شقيقين
لسوط النساء بنت عبد الحق فاقتفى أثر يعقوب بن عبد الحق بن عبد الله محمدا ابن عمه إدريس وخرج على السلطان بقصر كتامة سنة ثلاث وستين وستمائة ثم استرضاه عمه واستنزله وبقي يعقوب بن عبد الله في انتقاضه ينتقل في الجهات إلى أن قتله طلحة بن محلى من أولياء السلطان سنة ثلاث وستين وستمائة بجهات سلا فكفى السلطان شأنه ولما كان من عهد السلطان لابنه أبي مالك ما قدمناه نفس عليه هؤلاء القرابة هذا الشأن فانتفضوا ولحق ابن ادريس بحصن علودان ولحق موسى بن رحو بن عبد الله بجبال غمارة ومعه أولاد عمه أبي عياد بن عبد الحق ونازلهم السلطان حتى نزلوا على عهده وأجازهم إلى الأندلس سنة سبعين وستمائة فأقاموا بها للجهاد سوقا ونافسهم أقيال زناتة في مثلها بتلمسان وأجاز منها إلى الأندلس سنة سبعين وستمائة فولاه السلطان ابن الأحمر على جميع الغزاة المجاهدين هنالك لما كان كبيرهم ومحل سؤلهم ولم يلبث أن عاد إلى المغرب فولى السلطان مكانه أخاه عبد الحق ثم رجع عنه مغاضبا إلى تلمسان فولي مكانه على الغزاة المجاهدين إبراهيم بن عيسى بن يحيى بن وسناف إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/485)
الخبر عن موسى بن رحو فاتح هذه الرياسة بالأندلس وخبر أخيه عبد الحق من بعده وابنه حمو بن عبد الحق بعدهما
لما هلك السلطان الشيخ بن الأحمر وولى ابنه السلطان الفقيه ووفد على السلطان يعقوب بن عبد الحق صريخا للمسلمين فأجاز إليه أول إجازته سنة ثلاث وسبعين وستمائة وأوقع بجيوش النصرانية وقتل الزعيم دننه واستولى له الغلب على الأندلس وبدا لابن الأحمر في أمره وخشي مغبته و توقع أن يكون شأنه معه شأن يوسف بن تاشفين و المرابطين مع ابن عياد وكان بالأندلس قرابته بنو أشقيلولة قد قاسموه في ممالكها وانفردوا بوادي آش و مالقة وقمارش حسبما ذكرناه في أخباره مع السلطان وانتقض عليه أيضا من رؤساء الأندلس ابن عبد ريل وابن الدليل فكانوا يجلبون على بلاد المسلمين وكانوا قد استنجدوا جيوش النصرانية ونازلوا غرناطة و عاثوا في الجهات فلما استوت قدم السلطان يعقوب بن عبد الحق بالأندلس وصل هؤلاء الثوار به أيديهم فخشيهم ابن الأحمر جميعا على نفسه وقلب السلطان ليوسف ظهر المجن واستظهر عليه بالأعياص من قرابته وكان هؤلاء القرابة من أولاد رحو بن عبد الله بن عبد الحق و إدريس بن عبد الحق وينسبون جميعا إلى سوط النساء كما ذكرناه ومن أولاد أبي عياد بن عبد الحق لما أوجسوا الخيفة من السلطان واستشعروا النكير منه لحقوا بالأندلس ثورية بالجهاد وانتبذوا عن الهول فرارا من محله وقد كان السلطان أبو يوسف حين انتقضوا عليه أشخصهم إلى الأندلس فاجتمع منم عند ابن الأحمر عصابة من أولاد عبد الحق كما قلناه و أولاد وسناف وأولاد نزول و تاشفين بن معطي كبير بني تيربيغن من بني محمد وتبعهم أولاد محلى أخوال السلطان أبي يوسف وكان ابن الأحمر كثيرا ما يعقد لهم على الغزاة المجاهدين من زناتة لدار الحرب فعقد أولا لموسى بن رحو سنة ثلاث وسبعين وستمائة ولأخيه عبد الحق بعد انصرافه إلى المغرب ثم لإبراهيم بن عيسى بعد انصرافهما معا كما قلناه ثم رجعا فعقد لموسى بن رحو ثانية على أشياخه اثبت له قدما في الرياسة ليحسن به دفاع السلطان أبي يوسف عنهم ثم تداولت الامارة فيهم ما بينهم وبين عمومتهم وربما عقد قبل ذلك أزمان الفترة ليعلى بن أبي عياد بن عبد الحق في بعض الغزوات و لتاشفين بن معطي في أخرى سنة تسع وسبعين وستمائة ومعه طلحة بن محلى فاعرضوا الطاغية دون حصر المسلمين و ربما كان لهم الظهور ثم حدثت الفتنة بينه وبين السلطان أبي تاشفين وعقد ابن الأحمر في بعض حروبه معه ليعلى بن أبي عياد على زناتة جميعا وحاشهم إلى رايته فانفضت جموع أبي يوسف وظهروا عليه وتقبضوا في المعركة على ابنه منديل واستاقوه أسيرا إلى أن أطلقه السلطان ابن الأحمر في سلم عقده بعد مهلكه مع أبيه يوسف بن يعقوب واستبد موسى بن رحو من بعدها بإمارة الغزاة بالأندلس إلى أن هلك فوليها من بعده أخوه عبد الحق إلى أن هلك سنة تسع وسبعين وستمائة وكان مظفر الراية على عدو المسلمين ولما هلك ولي من بعده ابنه حمو بن عبد الحق فكانت هذه الإمارة متصلة في بني رحو إلى أن انتقلت منهم إلى إخوانهم من بني أبي العلاء وغيرهم واندرج حمو في جملة عثمان بن أبي العلاء من بعد حسبما نذكر وأما إبراهيم بن عيسى الوسنافي فإنه رجع إلى المغرب ونزل على يوسف بن يعقوب وقتله بمكانه من حصار تلمسان بعد حين من الدهر وبعد أن كبر وعمي والله مالك الأمور لا رب غيره وكان مهلك ابن أبي عياد سنة سبع وثمانين وستمائة ومعطي بن أبي تاشفين سنة تسع وثمانين وستمائة و طلحة بن محلى سنة ست وثمانين وستمائة و الله أعلم (7/487)
الخبر عن عبد الحق بن عثمان شيخ الغزاة بالأندلس
كان عبد الحق هذا من أعياص الملك المريني و يعاسيبهم وهو من ولد محمد بن عبد الحق ثاني الأمراء على بني مرين بعد أبيهم عبد الحق وهلك أبوه عثمان بن محمد بالأندلس إحدى أيام الجهاد سنة تسع وسبعين وستمائة وربي عبد الحق هذا في حجر السلطان يوسف بن يعقوب إلى أن كان من أمر خروجه مع الوزير رحو بن يعقوب على السلطان أبي الربيع ما ذكرناه في أخباره ولحق بتلمسان و أجاز منها إلى الأندلس وسلطانه يومئذ أبو الجيوش ابن السلطان الفقيه وشيخ زناتة حمو بن عبد الحق بن رحو وخاطبهم السلطان أبو سعيد ملك المغرب في اعتقاله فأجابوه وفر من محبسه ولحق بدار الحرب ولما انتقض أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد وبايع لنفسه بمالقة و زحف إلى غرناطة فنازلها ووقعت الحرب بظاهرها بين الفريقين وأخذ في بعض حروبهما حمو بن عبد الحق أسيرا وسيق إلى السلطان أبي الوليد وكان معه عمه أبو العباس بن رحو فأبى من اسار ابن أخيه وخلى عنه فرجع إلى سلطانه فارتاب به لذلك وعقد على الغزاة مكانه لعبد الحق بن عثمان استدعاه من مكانه بدار الحرب ثم غلبهم أبو الوليد على غرناطة وتحول أبو الجيوش على وادي آش على سلم انعقد بينهم وسار معه عبد الحق بن عثمان على شأنه ثم وقعت بينه وبين أبي الجيوش مغاضبة لحق لأجلها بالطاغية وأجاز إلى سبتة فاستظهر به أبو يحيى بن أبي طالب العزفي أيام حصار السلطان أبي سعيد إياه فكان له في حماية ثغره والدفاع عنه آثار مذكورة ثم عقد السلطان أبو سعيد السلم ليحيى العزفي وأفرج عنه فارتحل عبد الحق بن عثمان إلى أفريقية ونزل ببجاية سنة تسع عشرة وسبعمائة على أبي عبد الرحمن بن عمر صاحب السلطان أبى يحيى المستبد بالثغور الغربية فأكرم نزله وأوسع قراره وضرب له الفساطيط بالزينة من ساحة البلد استبلاغا في تكريمه وحمله وأصحابه على مائة وخمسين من الخيل ثم أقدمهم على السلطان بتونس فبر مقدمهم وخلط عبد الحق بنفسه وآثره بالخلة والصحابة وأجله بمكان الاستظهار به وبعصابته ولما عقد السلطان لمحمد بن سيد الناس على حجابته سنة سبع وعشرين وسبعمائة واستقدمه لذلك من ثغر بجاية كما ذكرناه عظمت رياسته واستغلظ حجابه وحجب عبد الحق ذات يوم عن بابه فسخطها وذهب مغاضبا و داخل أبا فارس في الخروج على أخيه فأجابه وخرج به من تونس فكان من خبرهم ومقتل أبي فارس وخلوص عبد الحق إلى تلمسان ونزوله على أبي تاشفين و غزوه إلى إفريقية مع عساكر بني عبد الواد سنة سبع وعشرين وسبعمائة ما ذكرناه في أخبار الدولة الحفصية
ثم لما رجع بنو عبد الواد إلى تلمسان صمد مولانا السلطان أبو يحيى إلى تونس في أخريات سنته و فر ابن أبي عمران السلطان المنصوب بتونس من بنى أبي حفص إلى أحياء العرب وتقبض على أبي رزين ابن أخي عبد الحق بن عثمان في جملة من أصحابه فقتله قعصا بالرماح ورجع عبد الحق بن عثمان إلى مكانه من تلمسان فأقام بمثواه عند أبي تاشفين متبوئا من الكرامة و الاعتزاز ما شاء إلى أن هلك بمهلك أبي تاشفين يوم اقتحم السلطان أبو الحسن تلمسان عليهم سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وقتلوا جميعا عند قصر الملك أبو تاشفين و أبناء عثمان و مسعود و حاجبه موسى بن علي ونزيله عبد الحق هذا و أبو ثابت ابن أخيه فقطعت رؤوسهم وتركت أشلاؤهم بساحة القصر عبرة للمعتبرين حسبما ذكرناه في أخبار أبي تاشفين و الله أعلم (7/488)
الخبر عن عثمان بن أبي العلاء من أمراء الغزاة المجاهدين بالأندلس
كان أولاد سوط النساء من ولد عبد الحق أهل عصابة واعتزاز على قومهم وهم أولاد إدريس وعبد الله ابنها و الشقيقين كما ذكرنا وكان مهلك إدريس الأكبر يوم مهلك أبيه بتافريطت ومهلك عبد الله قبله وخلف عبد الله ثلاثة من الولد تشعب فهم نسله وهم : يعقوب و رحو و إدريس و استعمل أبو يحيى بن عبد الحق يعقوبا منهم على سلا عند افتتاحه إياها سنة تسع و أربعين و ستمائة ثم انتزى بها بعد ذلك على عمه يعقوب سنة ثمان و خمسين و ستمائة و كان من شأن ثورة النصارى به ما ذكرناه واستخلصها يعقوب بن عبد الحق ولحق يعقوب بن عبد الله بعلودان من بلاد غمارة و امتنع بها و خرج على أثر ابنا عمه إدريس و هما : عامر ومحمد وانتزوا بالقصر الكبير ولحق بهم كافة أولاد سوط النساء وطالبهم السلطان فلحقوا بجبال غمارة و نازلهم ثم استنزلهم بعد ذلك على الأمان و عقد لعامر علي الغزو إلى الأندلس سنة ستين وستمائة كما ذكرنا وأجاز معه رحو بن عبد الله ورجع محمد بن عامر ومر إلى تلمسان سنة ثمانين و ستمائة وأجاز منا إلى الأندلس
ثم خرجوا على السلطان يعقوب بن عبد الحق سنة تسع وثمانين وستمائة و معهم ولد أبي عياد بن عبد الحق واعتصموا بعلودان و استنزلهم السلطان على اللحاق بتلمسان فلحقوا بها وأجاز أولاد سوط النساء وأولاد أبي عياد كافة إلى الأندلس واستقروا بها يومئذ ورجع عامر منهم و محمد و كان من خبره ما نذكر وهلك يعقوب بن عبد الله سنة ثمان وستين وستمائة في اغترابه بقفوله من رباط الفتح قتله طلحة بن محلى واستقر بنوه من أولاد سوط النساء بالمغرب وكان ابنه أبو ثابت أميرا على بلاد السوس أيام السلطان يوسف بن يعقوب و أوقع بالركبة سنة تسع وتسعين وستمائة ولم يزل بنوه بالمغرب من يومئذ وكان من إخواته أبي العلاء و رحو ابنا عبد الله بن عبد الحق تشعب نسله فيهما وأجاز رحو إلى الأندلس مع عامر و محمد ابن عمه إدريس لهم أجاز موسى ابنه سنة تسع وتسعين وستمائة مع أولاد أبي عياد وأولاد سوط النساء كم رجع إلى محلة من الدولة وفر ثانيا سنة خمس وسبعين وستمائة إلى تلمسان وأجاز منها إلى الأندلس واستقر بها وأجاز أولاد أبي العلاء سنة خمس وثمانين وستمائة مع أولاد أبي يحيى بن عبد الحق وأولاد عثمان بن عبد الحق واستقروا بالأندلس وكانوا يرجعون في رياستهم لكبيرهم عبد الله بن أبي العلاء وعقد له ابن الأحمر على الغزاة من زناتة فيمن كان يعقد لهم من زناتة قبل استقرار المنصب إلى أن هلك شهيدا في إحدى غزوات سنه ثلاث وتسعين وستمائة وعقد المخلوع ابن الأحمر لأخيه عثمان بن أبي العلاء على حامية مالقة و غربيها من الغزاة لنظر ابن عمه الرئيس أبي سعيد فرج بن اسمعيل بن يوسف بن نصر ولما غدر الرئيس أبو سعيد بسبتة سنة خمس وسبعمائة وتمت له في مثلها الحيلة واضطرمت نار العداوة بينه وبين صاحب المغرب فنصبوا عثمان هذا للأمر وأجازوه إلى غمارة فثار بها ودعا لنفسه وتغلب على أصيلا و العرائش و كان ما ذكرنا إلى أن غلبه أبو الربيع سنة ثمانين وستمائة ورجع إلى مكانه بالأندلس ولما اعتزم أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد على الخروج على أبي الجيوش صاحب غرناطة داخل في ذلك شيخ الغزاة بمالقة عثمان بن أبي العلاء فساعده عليه واعتقل أباه الرئيس أبا سعيد وزحف إلى غرناطة سنة أربع عشرة وسبعمائة فلما استولى عليها عقد لعثمان هذا على إمارة الغزاة المجاهدين من زناتة و صرف عنها عثمان بن عبد الحق : بن عثمان فلحق بوادي آش مع أبي الجيوش وصار حمو بن عبد الحق بن رحو في جملته بعد أن كان شيخا على الغزاة كما قلناه واستمرت أيام ولاية عثمان هذا وبعد فيها صيته و غص صاحب المغرب أبو سعيد بمكانه ولما استصرخه المسلمون للجهاد سنة ثمان عشرة وسبعمائة اعتذر بمكان عثمان هذا واشترط عليهم القبض عليه حتى يرجع عنهم فلم يكن ذلك ونازل الطاغية غرناطة وحاصرها وكان لعثمان وبنيه في ذلك آثار مذكورة
وأتاح الله للمسلمين في النصرانية على يد عثمان هذا و بنيه ما لم يخطر على قلب أحد منهم فتأكد اغتباط الدولة والمسلمين بمكانهم إلى أن هلك أبو الوليد سنة خمس و عشرين و سبعمائة باغتيال بعض الرؤساء من قرابته بمداخلة عثمان هذا زعموا في غدره ونصب للأمر ابنه محمد صبيا لم يبلغ الحلم وأقام بأمره وزيره محمد بن المحروق من صنائع دولتهم فاستبد عليه وألقى زمام الدولة بيد عثمان في النقض والإبرام فاعتز عليهم وقاسمهم في الأمر واستأثر في أعطيات الغزاة بكثير من أموال الجباية حتى خشي الوزير على الدولة وأدار الرأي في كبره على التغلب فجمح و فسد ما بينه و بين الوزير ابن المحروق فانتقض عليه و خرج مغاضبا فاضطربت فساطيطه بمرج غرناطة و اعصوصب جماعة الغزاة من قبائل زناتة عليه واعتصم الوزير وأهل الدولة بالحمراء وسعى الناس بينهما أياما وأدار الوزير الرأي في أن ينصب له كفوا من قرابته يجاذبه الحبل يشغله بشأنه عن الدولة فجأجأ بيحيى بن عمر بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق وكان في جملة عثمان وأصهر إليه في ابنته وعقد له على الغزاة وتسايلوا إليه وبرز عثمان بمعسكره في عشيره وولده وعقد معه السلم في أن يحيز إلى المغرب وأوفد بطانته على السلطان أبي سعيد سنة ثمان و عشرين و سبعمائة وارتحل من ساحة غرناطة في ألف فارس من ذويه وأقاربه وحشمه وقصد تدرش ليجعلها فرضة لمجازه حتى إذا حاذى تدرش وكان بينه وبين رؤسائها مداخلة فخرجوا إليه مؤدين حق مبرته فغدر بهم وأركب إليها فملكها وضبطها وأنزل بها حرمه وأثقاله ودعا محمد ابن الرئيس أبي سعيد من شلوبانية كان منزلا بها فجاء إليه ونصبه للأمر وشن الغارات على غرناطة صباحا ومساء واضطرمت نار الفتنة و استركب يحيى بن رحو من قدر عليه من زناتة وطالت الحرب سنين حتى إذا فتك السلطان محمد بن الأحمر بوزيره ابن المحروق استدعى عثمان بن أبي العلاء وعقد له السلم على أن يجيز عمه إلى المغرب و يلحق بغرناطة لشأنه من رياسة الغزاة فتم ذلك سنة تسع وعشرين وسبعمائة ورجع إلى مكانه من الدولة وهلك إثر ذلك لسبع وثلاثين سنة من إمارته على الغزاة والبقاء لله وحده (7/490)
الخبر عن رياسة ابنه أبي ثابت من بعده ومصير أمرهم
لما هلك شيخ الغزاة ويعسوب زناتة عثمان بن أبي العلاء قام بأمره وقومه ابنه أبو ثابت عامر وعقد السلطان أبو عبد الله بن أبي الوليد له على الغزاة المجاهدين كما كان أبوه فعظم شأنه قوة وشكيمة و كثرة عصابة ونفوذ رأي وبسالة وكان لقومه اعتزاز على الدولة بما عجموا من عودها وكانوا أولي بأس وقوة فيها واستبداد عليها وكان السلطان محمد بن أبي الوليد مستنكفا عن الاستبداد عليه في القلة والكثرة فكان كثيرا ما يخرقهم بتسفيه آرائهم والتضييق عليهم في جاههم ولما وفد على السلطان أبي الحسن سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة صريخا على الطاغية واستبد ابنه الأمير أبا مالك لمنازلة جبل الفتح اتهموه بمداخلة السلطان أبي الحسن في شأنهم فتنكروا وأجمعوا الفتك به و داخلوا في ذلك بعض صنائعه ممن كان متربصا بالدولة فساعدهم ولما افتتح الجبل و كان من شأنه ما قدمنا ذكره و زحف الطاغية فأناخ عليه و قصد ابن الأحمر الطاغية في بنيه راغبا أن يرجع إلى الحصن فرجع وافترقت عساكر المسلمين ارتحل السلطان ابن الأحمر إلى غرناطة سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة وقد قعدوا له بمرصد من طريقه ونمي الخبر إليه فدعا بأسطوله لركوب البحر إلى مالقة واستبق إليهم الخبر بذلك فتبادروا إليه ولقوه بطريقه من ساحل اصطبونة فلاحوه وعاتبوه في شأن صنيعته عاصم من معلوجيه و حاجهم عنه فاعتوروا عاصما بالرماح فنكر ذلك عليهم فألحقوه به وخر صريعا عن مركوبه وبعثوا إلى أخيه يوسف فأعطوه بيعتهم و صفقة أيمانهم ورجعوا به إلى غرناطة وهو حذر منهم لفعلتهم التي فعلوا واستمرت الحال على ذلك ولما استكمل السلطان أبو الحسن فتح تلمسان وصرف عزائمه إلى الجهاد داخل ابن الأحمر في إزاحتهم عن الأندلس مكان جهاده فصادف منه إسعاف وقبولا وحرصا على ذلك وتقبض على أبي ثابت و إخوته إدريس ومنصور وسلطان وفر أخوهم سليمان فلحق بالطاغية وكان له في يوم طريف أثر في الإيقام بالمسلمين ولما تقبض ابن الأحمر على أبي ثابت و إخوته أودعهم جميعا المطبق أياما ثم غربهم إلى إفريقية فنزلوا بتونس كل مولانا السلطان أبي يحيى وأوعز إليه السلطان أبو الحسن بالتوثق منهم أن يتصلوا بنواحي المغرب و يخالفوه إليها أيام شغله بالجهاد في الأندلس فاعتقلهم وأوفد أبا محمد بن تافراكين إلى سدة السلطان أبي الحسن إليه شفيعا فيهم فتقبل شفاعته و أحسن نزلهم و كرامتهم حتى إذا احتل بسبتة أيام حصار الجزيرة في سنة ثلاث و أربعين و سبعمائة سعى بهم عنده فتقبض عليهم واعتقلهم بمكناسة ولما انتزى ابنه الأمير أبو عنان على الأمر وهزم منصور ابن أخيه أبي مالك صاحب فاس ونازله بالبلد الجديد بعث فيهم إلى مكناسة فأطلقهم من الاعتقال و أفاض فيهم الإحسان واستظهر على شأنه وأحل أبا ثابت محل الشورى من مجلسه وداخل إدريس أخاه في المكر بالبلد الجديد فنزع إليها ومكر بهم وثار عليهم إلى أن نزلوا على حكم السلطان أبي عنان فعقد لأبي ثابت على سبتة وبلاد الريف ليشارف منها الأندلس محل إمارته وأطلق يده في المال والجيش و فصل لذلك فهلك بالطاعون يومئذ سنة تسع و أربعين و سبعمائة بمعسكره أزاء معسكر السلطان من حصار البلد الجديد و استقر إخوانه في إيالة السلطان أبي عنان بالمغرب الأقصى إلى أن كان من مفر أخيه إدريس وولايته على الغزاة بالأندلس ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/493)
الخبر عن يحيى بن عمر بن رحو و إمارته على الغزاة بالأندلس أولا و ثانيا و مبدأ ذلك و تصاريفه
كان رحو بن عبد الله كبير ولد عبد الله بن عبد الحق وكان له بنون كثيرون وتشعب نسله فيهم منهم : موسى و عبد الحق و العباس و عمر و محمد و علي و يوسف أجازوا كلهم إلى الأندلس مع أولاد سوط نساء من تلمسان كما قدمناه و أقام عمر بعدها بتلمسان مدة واتخذ بها الأهل و الولد ثم لحقهم ولد موسى إمارة الغزاة بعد إبراهيم ابن عيسى الوسنافي وبعده أخوه عبد الحق على الغزاة أقام بها مدة و أجاز إلى سبتة مع الرئيس أبي سعيد و عثمان بن أبي العلاء سنة خمس وسبعمائة و ولى بعدها على الغزاة المجاهدين ثم رجع إلى الأندلس و لم يلبث بها أن أجاز إلى المغرب ونزل على السلطان أبي سعيد فأكرم نزله ثم رجع إلى الأندلس و لما ولي إمارة الغزاة عثمان بن أبي العلاء وكان بينهم من المنافسة ما يكون بين فحول الشول أشخص بني رحو جميعا إلى إفريقية فزلوا على مولانا السلطان أبي يحيى خير نزل اصطفاهم و استخلصهم و استظهر جمعهم في حروبه و هلك عمر بن رحو ببلاد الجريد و قبره ببشرى من نفزاوة معروف و نزع ابنه يحيى من بين إخوته عن مولانا السلطان أبي يحيى وصار في جملة ابن أبي عمران ثم لحق بزواوة و أقام في بني يتراتن سنين ثم أجاز إلى الأندلس واستقر بمكانه من قومه واصطفاه عثمان بن أبي العلاء وأصهر إليه بابنته وخلطه بنفسه ولما فسد ما يبنه وبين ابن المحروق وزير السلطان بغرناطة سنة سبع و عشرين و سبعمائة و اعصوصب عليه الغزاة بمعسكره من مرج غرناطة دس إليه يومئذ ابن المحروق إلى يحيى بن عمر هذا ودعاه إلى مكان عمله ليضبطه بذلك فأجاب ونزع عن عثمان وقومه إلى ابن المحروق وسلطانه و عقد له على الغزاة فتسايلوا إليه عن عثمان شيخهم وانصرف إلى المدية و كان من شأنه ما قصصناه في أخباره وأقام يحيى بن عمر في رياسته إلى أن هلك ابن المحروق بفتكة سلطانه واستدعى عثمان بني أبي العلاء للرياسة فرجع إليها
و صرف يحيى بن عمر إلى وادي آش و عقد له على الغزاة بها فأقام حينا ثم رجع إلى مكانه بين قومه واصطفاه عثمان بن أبي العلاء و ابنه أبا ثابت لما كانت أمه بنت موسى بن رحو فكان يتعصب لخؤلته فيهم ثم هلك عثمان و كان ما قدمناه من شأن ولده و فتكهم بالسلطان المخلوع وتقبض أخوهم أبو الحجاج عليهم و أشخصهم إلى أفريقية وقوض مباني رياستهم و عقد على الغزاة مكانهم ليحيى بن عمر هذا فاضطلع بها أحسن اضطلاع و استمرت حاله و حضر مشاهد أبي الحجاج مع السلطان أبي الحسن فظهرت كفايته و غناؤه و لما هلك أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة طعينا بمصلى العيد في أخر سجدة من صلاته بيد عبد من عبيد اصطبله مصاب في عقله أغري زعموا به وقتل لحينه هبرا بالسيوف وبويع لابنه محمد أخذ له البيعة على الناس يومئذ مولاه رضوان من معلوجاتهم حاجب أبيه وعمه وقام بأمره واستبد عليه و حجره فقاسم يحيى بن عمر هذا في شأنه وشاركه في أمره و شد أزر سلطانه به حتى إذا ثار بالحمراء الرئيس ابن عمهم محمد ابن اسمعيل بن محمد ابن الرئيس أبي سعيد قائما بدعوة اسمعيل بن أبي الحجاج أخي السلطان محمد كان ساكنا بالحمراء و تحينوا لذلك مغيب السلطان في متنزهه بروضة خارج الحمراء فخالفوه إليها و كبسوها ليلا فقتلوا الحاجب المستبد رضوان و أجلس السلطان على سرير ملكه و نادوا بالناس إلى بيعته و لما أصبح غدا عليهم يحيى بن عمر بعد أن يئسوا منه و خشوا عاديته فأتاهم ببيعته و أعطى عليها صفقته و انصرف إلى منزله و بعد استيلائهم استخلصوا إدريس بن عثمان بن أبي العلاء كان وصل إليهم من دار الحرب بأرض برشلونة كما نذكر وولوه إمارة الغزاة وائتمروا في التقبض على يحيى بن عمر و نذر بذلك فركب في حاشيته يؤم دار الحرب من أرض الجلالقة و اتبعه إدريس فيمن إليه من قومه فقاتلهم صدر نهاره وفض جموعهم ثم خلص إلى تخوم النصرانية ولحق منها بسدة ملك المغرب أثر سلطانه المخلوع محمد بن أبي الحجاج وخلف ابنه أبا سعيد عثمان بدار الحرب ونزل يومئذ على السلطان أبي سالم سنة إحدى و ستين و سبعمائة فأكرم مثواه و أحله من مجلسه محل الشورى و المؤامرة و استقر في جملته إلى أن بعث ملك قشتالة في السلطان المخلوع بإشارة ابنه أبي سعيد و سعايته في ذلك ليجلب به على أهل الأندلس بما نقضوا من عهده وجهزه السلطان أبو سالم سنة ثلاث و ستين و سبعمائة فصحبه يحيى بن عمر هذا ولقيهم ابنه أبو سعيد عثمان وقاموا بأمر سلطانهم واستولى على الأندلس بمظاهرتهم وكان لهم أثار في ذلك ولما استولى على غرناطة سنة ثلاث و ستين و سبعمائة عقد ليحيى بن عمر على إمارة الغزاة كما كان و أعلى يده واستخلص عثمان لشوراه وخلطه ببطانته ونافسه الوزير يومئذ محمد بن الخطيب فسعى فيهم وأغرى السلطان بهم فتقبض عليهم سنة أربع و ستين و سبعمائة و أودعهم المطبق ثم أشخص يحيى سنة ست و ستين و سبعمائة إلى المشرق وركب السفن من المدية فنزل بالاسكندرية و رجع منها إلى المغرب و نزل على عمر بن عبد الله أيام استبداده و استقر في كرامة وخير مقامة و لم يزل بالمغرب على أعز الأحوال إلى أن هلك سنة اثنتين و ثمانين و سبعمائة ثم استخلص ابنه أبا سعيد عثمان من الاعتقال سنة تسع و ستين و سبعمائة إلى إفريقية ونزل ببجاية على مولانا السلطان أبي العباس حافد مولانا السلطان أبي يحيى و استقر في جملته و حضر معه فتح تونس و أبلى فيه و أقطع له السلطان و أسنى له الجراية وخلطه بنفسه و اصطفاه لشوراه و خلته و هو لهذا العهد من عظماء مجلسه و ظهرائه في مقامات حروبه و إخوته بالأندلس على مراكز عزهم وفي ظلال عصبيتهم مع قومهم وقد ذهب مواجد السلطان بالأندلس عليهم و صار إلى جميل رأيه فيهم و الله مالك الملك و مقلب القلوب لا رب غيره (7/495)
الخبر عن إدريس بن عثمان بن أبي العلاء و إمارته بالأندلس و مصاير أمره
لما هلك أبو ثابت بن عثمان بن أبي العلاء سنة خمسين و سبعمائة و استمر إخوته في جملة السلطان أبي عنان ملك المغرب و أقطعهم و أسنى جراياتهم و كان في إدريس منهم بقية الترشيح يراه الناس به فلما نهض السلطان إلى فتح قسنطينة سنة ثمان و خمسين و سبعمائة توغل في ديار إفريقية و حام قومه عن مواقعها تحيلوا عليه في الرجوع به عن قصده منها وأذنت المشيخة لمن معهم من قومهم في الانطلاق إلى المغرب حتى خف المعسكر من أهله وتآمروا زعموا في اغتيال السلطان و الإدالة منه بإدريس هذا ونذر بذلك فكر راجعا كما ذكرناه في أخباره ولما اشيع ذلك ركب إدريس ظهر الغدر وفر من العسكر ليلا و لحق بتونس و نزل على القائم بالدولة يومئذ الحاجب أبي محمد بن تافراكين خير نزل و أبره وركب السفين من تونس إلى العدوة فنزل على ابن القمص صاحب برشلونة في حشمه و ذويه و أقام هنالك إلى أن كان من مهلك رضوان الحاجب المستبد بالأندلس سنة ستين و سبعمائة ما قدمناه فنزع إلى منبته من غرناطة ونزل على اسمعيل ابن السلطان أبي الحجاج والقائم بدولته يومئذ الرئيس محمد ابن عمه اسمعيل بن محمد الرئيس أبي سعيد فلقوه مبرة وتكريما ورجوه بالإدالة به من يحيى بن عمر أمير الغزاة يومئذ لما كانوا يتهمونه به من ممالأة المخلوع صاحب الأمر عليهم و لما نزع يحيى بن عمر إلى الطاغية و لحق بدار الحرب سنة إحدى و ستين و سبعمائة عقدوا لإدريس بن عثمان هذا على الغزاة مكانه و ولوه خطة أبيه و أخيه بدولتهم فاضطلع بها و مالأ الرئيس محمدا على قتل سلطانه اسمعيل بن الحجاج واستبد بالأمر و لسنتين من ولايته غلبه المخلوع أبو عبد الله على الأمر و زحف إليه من رندة كان نزل بها بعد خروجه من دار الحرب مغاضبا للطاغية وأذن له وزير المغرب عمر بن عبد الله في نزولها فنزلها ثم زحف إلى الثائر بغرناطة على ملكهم الرئيس و حاشيته فأجفلوا و لحق الرئيس محمد بن إدريس هذا بقشتالة و نزلوا في جملتهم و حاشيتهم على الطاغية فتقبض عليهم وقتل الرئيس محمد و حاشيته جزاء بما أتوه من غدر رضوان ثم غدر السلطان اسمعيل من بعده وأودع إدريس و من معه من الغزاة السجن بإشبيلية فلم يزل في أسره إلى أن تحيل في الفرار بمداخلة مسلم من الأسرى أعد له فرسا أزاء معتقله ففك قيده ونقب البيت وامتطى فرسه ولحق بأرض المسلمين سنة ست و ستين و سبعمائة و اتبعوه فأعجزهم و جاء إلى السلطان أبي عبد الله محمد المخلوع فأكرم نزله وأحسن مبرته ثم استأذنه في اللحاق بالمغرب فأذن له و أجاز إلى سبتة و بلغ شأنه إلى صاحب الأمر بالمغرب يومئذ عمر بن عبد الله فأوعز إلى صاحب سبتة بالتقبض عليه لمكان ما يؤنس من ترشيحه و أودعه السجن بمكناسة ثم نقله السلطان عبد العزيز إلى سجن الغدر بفاس ثم قتلوه خنقا سنة سبعين و سبعمائة و الله وارث الأرض ومن عليها (7/497)
الخبر عن إمارة على بن بدر الدين على الغزاة بالأندلس و مصاير أمره
قد ذكرنا أن موسى بن رحو بن عبد الله بن عبد الجق كان أجاز إلى الأندلس مع محمد وعامر ابني إدريس بن عبد الحق و قومهم أولاد سوط النساء سنة تسع و ستين و سبعمائة ثم رجع إلى المغرب وفر إلى تلمسان و أجاز منها إلى الأندلس و ولي إمارة الغزاة بها إلى أن هلك بعد أن أصهر إليه السلطان يوسف بن يعقوب في ابنته فعقد له عليها وزفها إليه سنة تسع و سبعين و سبعمائة مع وفد من قومهم و كان لموسى بن رحو من الولد جماعة أكبرهم المحمدان جمال الدين و بدر الدين وضع عليهما هذين اللقبين على طريقة أهل المشرق الشريف المكي الوافد على المغرب لذلك العهد من شرفاه مكة و كان هؤلاء الأعياص من ملوكهم و أقيالهم يعظمون أهل البيت النبوي و يلتمسون الدعاء و البركة منهم فيما تيسر من أحوالهم فحمل موسى بن رحو ولديه هذين عند وضعهما إلى الشريف يحنكهما ويدعو لهما فقال له الشريف خذ إليك جمال الدين وقال في الآخر خذ إليك بدر الدين فاستحب موسى دعاءهما بهذين اللقبين تبركا في بتسمية الشريف بهما فاشتهرا بهذين الاسمين ولما بلغا الأشد و شاركا أباهما في حمل الرياسة و كان من مهلكه ما ذكرناه وانحرفت رياسة الغزاة عنهما إلى عمهما عبد الحق و ابنه فلحق جمال الدين منهما بالطاغية سنة ثلاث ثم أجاز البحر من قرطاجنة إلى السلطان يوسف بن يعقوب من معسكره من حصار تلمسان واستقر في جملته حتى إذا هلك السلطان تصدى ابنه أبو سالم للقيام بأمر وكان مغلبا مضعفا فلم يتم أمره و تناول الملك أبو ثابت حافد السلطان واستولى علبه و فر أبو سالم عشي مهلكه و معه من القرابة جمال الدين هذا وأعمامه العباس وعيسى و فر أبو رحو بن عبد الله فتقبض عليهم في طريقهم بمديونة وسيقوا إلى السلطان أبي ثابت فقتل عمه أبا سالم و جمال الدين بن موسى بن رحو و امتن على الباقين واستحياهم و انصرف السلطان بعدها إلى الأندلس فكانت له في الجهاد آثاركما ذكرناه قبل و أما بدر الدين فلم يزل بالأندلس مع قومه ومحله من الرياسة و التجلة محله من النسب إلى أن هلك فقام بأمره من بعده ابنه علي بن بدر الدين مزاحما لقومه في الرياسة مباهيا في الترشيح و كان كثيرا ما يعقد له ملوك بني الأحمر على الغزاة من زناتة المرابطين بالثغور فيما بعد عن الحضرة من قواعد الأندلس مثل مالقة و المرية و وادي آش سبيل المرشحين من أهل بيته و كانت إمارة الغزاة بالأندلس مستأثرة بأمر السيف و الحرب مقارعة للسلطان أكثر الجباية في الأعطية و الأرزاق لما كانت الحاجة إليهم في مدافعة العدو و مقارعة ملك المغرب إلى ملك الأندلس يغضون لهم عن استطالتهم عليهم لمكان حاجتهم إلى دفاع العدوين حتى إذا سكن ريح الطاغية بما كان من شغله بفتنة أهل دينه منذ منتصف هذه المائة وشغل بنو مرين أيضا بعد مهلك السلطان أبي الحسن وتناسوا عهد الغلب على أقتالهم وجيرانهم وتناسوا عهد ذلك أجمع فاعتزم صاحب الأندلس على محو هذه الخطة من دولته و أغراه بذلك وزيره ابن الخطب كما ذكرناه حرصا على خلاء الجوله فتقبض على يحيى بن عمر و بنيه سنة أربع و ستين و سبعمائة كما ذكرناه و عقد على الغزاة المجاهدين لابنه ولي عهده الأمير يوسف و محا رسم الخطة لبني مرين بالجملة إلى أن توهم فناء الحامية منهم بفناء بيوت العصبية الكبرى فراجع رأيه في ذلك و كان علي بن بدر الدين خالصة له و كان مقدما على الغزاة بوادي آش و لما لحق السلطان به ناجيا من النكبة ليلة مهلك رضوان مانع دونه و ظاهره على أمره حتى إذا ارتحل إلى المغرب ارتحل معه و نزلوا جميعا على السلطان أبي سالم سنة إحدى و ستين و سبعمائة كما ذكرناه و لما رجع إلى الأندلس رجع في جملته فكان له بذلك عهد وذمه رعاهما السلطان له و كان يستخلصه و يناجيه فلما تفقد مكان الأمير على الغزاة و نظر من يوليه عثر اختياره على هذا لسابقته و وسائله و ما تولاه من نصحه و وقوفه عند حده فعقد له سنة سبع و ستين و سبعمائة على الغزاة كما كان أولوه فقام بها و اضطلع بأمورها و استمرت حاله إلى أن هلك حتف أنفه سنة ثمان و ستين و سبعمائة و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام (7/499)
الخبر عن إمارة عبد الرحمن بن علي أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي على الغزاة بالأندلس و مصاير أمره
كان أولاد السلطان أبي علي قد استوقروا بالأندلس و أجازوا إلى طلب الأمر بالمغرب و كان من أمرهم ما شرحناه إلى أن أجاز عبد الرحمن هذا مع وزيره المصادر به مسعود بن رحو بن ماسي سنة ست و ستين و سبعمائة من غساسة على سلم عقده لهم وزير المغرب المستبد بأمره يومئذ عمر بن عبد الله و نزل عبد الرحمن هذا بالمنكب و كان السلطان يومئذ معسكرا بها فتلقاه من البر بما يناسبه وأكرم مثواه و أسنى الجراية له و لوزيره و لحاشيته و استقروا في جملة الغزاة المجاهدين حتى إذا هلك علي بن بدر الدين سنة ثمان و ستين و سبعمائة نظر السلطان فيمن يوليه أمرهم فعثر اختياره على عبد الرحمن هذا لما عرف به من البسالة و الإقدام و لقرب الشرائح بينه و بين ملك المغرب يومئذ التي هي ملاك الترشيح لهذه الخطة بالأندلس كما قدمناه لما كانت رشائح ولد عبد الله بن عبد الحق قد بعدت باتصال الملك في عمود نسب صاحب المغرب دون نسبهم فآثره صاحب الأندلس بها و عقد له على الغزاة المجاهدين سنة ثمان و ستين و سبعمائة و أضفي عليه لبوس الكرامة و التجلة و أقعده بمجلس المؤازرة كما كان الأمراء قبله و اتصل الخبر بسلطان المغرب يومئذ عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن فغص بمكانه و توهم أن هذه الإمارة زيادة في ترشيحه و وسيلة لملكه و كانت لوزير الأندلس محمد بن الخطيب مداخلة مع صاحب المغرب بما أمل أن يجعله فيئة لاعتصامه فأوعز إليه بالتحيل على إفساد ما بينه و بين صاحب الأندلس فجهد في ذلك جهده و نسب عليه و على وزيره مسعود بن ماسي إلى عظماء القبيل و بعض البطانة من أهل الدولة التحسب و الدعوة إلى الخروج على صاحب المغرب فأحضرهم السلطان ابن الأحمر و أعطاهم كتابهم فشهد عليهم و أمر بهم فاعتقلوا في المطبق سنة سبعين و سبعمائة و استرضى صاحب المغرب بفعلته فيهم و نزع الوزير ابن الخطيب بعد ذلك إلى السلطان عبد العزيز وتبين للسلطان مكره و احتياله عليه في شأنهم و لما هلك عبد العزيز و أظلم الجو بين صاحب الأندلس و بين القائم بالدولة أبي بكر بن غازي كما قدمناه و امتعض ابن الأحمر للمسلمين من الفوضى أطلق عبد الرحمن بن أبي يفلوسن و وزيره مسعود بن ماسي من الاعتقال و جهز لهما الأسطول فأجازوا فيه إلى المغرب و نزلوا بمرسى غساسة على بطوية داعيا لنفسه فقاموا بأمره و كان من شأنه مع الوزير أبي بكر بن غازي ما قصصناه واستقر آخرا بمراكش و تقاسم ممالك المغرب و أعماله مع السلطان أبي العباس أحمد ابن أبي سالم صاحب المغرب لهذا العهد و صار التخم بينهما وادي ملوية و وقف كل واحد منهما عند حده و أغفل صاحب الأندلس هذه الخطة من دولته ومحا رسمها من ملكه و صار أمر الغزاة المجاهدين إليه و باشر أحوالهم بنفسه وعمهم بنظره وخص القرابة المرشحين منهم بمزيد تكرمته و عنايته و الأمر على ذلك لهذا العهد و هو سنة ثلاث و ثمانين و سبعمائة و الله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء و ينزع الملك ممن يشاء لا رب غيره ولا معبود سواه
تم كتاب أخبار الدول الإسلامية بالمغرب لولى الدين أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون الحضري الإشبيلي المالكي
والحمد لله رب العالمين (7/500)
القسم الأول من التعريف بابن خلدون مؤلف هذا الكتاب
أصل هذا البيت من إشبيلية انتقل عند الجلاء و غلب ملك الجلالقة ابن أدفونش عيها إلى تونس في أواسط المائة السابعة ( نسبه ) عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون هذا لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هذه العشرة و يغلب على الظن أنهم أكثر و أنه سقط مثلهم عددا لأن خلدون هذا هو الداخل إلى الأندلس فإن كان أول الفتح فالمدة لهذا العهد سبعمائة سنة فيكونون زهاء العشرين ثلاثة لكل مائة كما تقدم في أول الكتاب الأول و نسبنا في حضرموت من عرب اليمن إلى وائل بن حجر من أقيال العرب معروف و له صحبة قال أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة : هو وائل بن حجر بن سعد بن مسروق بن وائل ابن النعمان بن ربيعة بن الحرث بن عوف بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن شرحبيل بن الحرث بن مالك بن مرة بن حمير بن زيد بن الحضرمي بن عمر بن عبد الله بن عوف بن جردم بن جرسم بن عبد شمس بن زيد بن لؤي بن ثبت بن قدامة بن أعجب بن مالك بن مالك بن لؤي بن قحطان و ابنه علقمة بن وائل و عبد الجبار بن علقمة بن وائل
[ وذكره أبو عمر بن عبد البر في حرف الواو من الاستيعاب و أنه وفد على النبي صلى الله عليه و سلم فبسط له رداءه و أجلسه عليه و قال : اللهم بارك في وائل بن حجر و ولده و ولد ولده إلى يوم القيامة ] وبعث معاوية بن أبي سفيان إلى قومه يعلمهم الإسلام والقرآن فكان له بذلك صحابة مع معاوية و وفد عليه لأول خلافته فأجازه فرد عليه جائزته ولم بقبلها و لما كانت وقعة حجر بن عدي الكندي بالكوفة اجتمع رؤوس أهل اليمن فيهم وائل هذا فكانوا مع زياد بن أبي سفيان عليه حتى أوثقوه و جازا به إلى معاوية فقتله كما هو معروف
و قال ابن حزم : و يذكر بنو خلدون الإشبيليون من ولده جدهم الداخل من المشرق خالد المعروف بخلدون بن عثمان بن هانئ بن الخطاب بن كريت بن معد يكرب بن الحرث بن وائل بن حجر قال : و من عقبه كريت بن عثمان بن خلدون و أخوه خالد و كانا من أعظم ثوار الأندلس
قال ابن حزم : و أخوه محمد كان من عقبه أبو العاصي عمرو بن محمد بن خالد بن محمد بن خلدون و ترك أبو العاص محمدا و أحمد و عبد الله قال : و أخوهم عثمان له عقب و منهم الحكيم المشهور بالأندلس تلميذ مسلمة المجريطي و هو أبو مسلم عمر بن محمد بن تقي بن عبد الله بن أبي بكر بن خالد بن عثمان بن خلدون الداخل و ابن عمه أحمد بن محمد بن عبد الله قال : و لم يبق من ولد كريت الرئيس المذكور إلا أبو الفضل بن محمد بن خلف بن أحمد بن عبد الله بن كريت انتهى كلام ابن حزم
سلفه بالأندلس و لما دخل خلدون بن عثمان جدنا إلى الأندلس نزل بقرمونة في رهط من قومه حضرموت ونشأ بيت بنيه بها ثم انتقل إلى إشبيلية و كانوا في جند اليمن و كان الكريت من عقبه و أخيه خالد الثورة المعروفة بإشبيلية أيام الأمير عبد الله المرواني ثار على أبي عبدة و ملكها من يده أعواما ثم ثار عليه عبد الله بن حجاج بإملاء الأمير عبد الله و قتله و ذلك في أواخر المائة الثالثة
و تلخيص الخبر عن ثورته ما نقله ابن سعيد عن الحجازي و ابن حيان و غيرهما و ينقلونه عن ابن الأشعث مؤرخ إشبيلية أن الأندلس لما اضطرمت بالفتن أيام الأمير عبد الله تطاول رؤساء إشبيلية إلى الثورة و الاستبداد و كان رؤساؤها المتطاولون إلى ذلك في ثلاثة بيوت : بيت أبي عبدة و برئيسهم يومئذ ابن عبد الغافر بن أبي عبيدة و كان عبد الرحمن الداخل ولى إشبيلية و أعمالها أبا عبدة و كان حافده أمية من أعلام الدولة بقرطبة و يولونه الممالك الضخمة و بيت بني خلدون و رئيسهم كريت المذكور و يردفه خالد أخوه
قال ابن حيان : و بيت بني خلدون إلى الآن في إشبيلية نهاية في النباهة و لم تزل أعلامه بين رياسة سلطانية و رياسة علمية ثم بيت بني حجاج و رئيسهم يومئذ عبد الله قال ابن حيان : هو من لخم وبيتهم إلى الآن في إشبيلية ثابت الأصل نابت الفرع موسوم بالرياسة السلطانية و العلمية فلما عظمت الفتنة بالأندلس أعوام الثمانين ومائتين و كان الأمير عبد الله قد ولى على إشبيلية أمية بن عبد الغافر و بعث معه ابنه محمدا و جعله في كفالته فاجتمع هؤلاء النفر و ثاروا بمحمد بن الأمير عبد الله و بأمية صاحبهم و هو يمالئهم على ذلك و يكيد بابن الأمير عبد الله و حاصروه حتى طلب منهم اللحاق بأبيه فأخرجوه و استبد أمية بإشبيلية و دس على عبد الله بن حجاج من قتله و أقام أخاه إبراهيم مكانه و ضبط إشبيلية و استرهن أولاد بني خلدون و بني حجاج ثم ثاروا به وهم بقتل أبنائهم فراجعوا طاعته و حلفوا له فأطلق أبناءهم فانتقضوا ثانية و حاربوه فاستمات و قتل حرمه و عقر خيوله و أحرق موجوده و قاتلهم حتى قتلوه مقبلا غير مدبر و عاثت العامة في رأسه وكتبوا إلى الأمير عبد الله بأنه خلع فقتلوه فقبل منم مداراة و بعث عليهم هشام بن عبد الرحمن من قرابته فاستبدوا عليه و فتكوا بابنه و تولى كبر ذلك كريت بن خلدون واستقل بإمارتها
وكان إبراهيم بن حجاج بعدما قتل أخوه عبد الله على ما ذكره ابن سعيد عن الحجازي سمت نفسه إلى التفرد فظاهر ابن حفصون أعظم ثوار الأندلس يومئذ و كان بمالقة و أعمالها إلى رندة فكان له منه ردء ثم انصرف إلى مداراة كريت بن خلدون و ملابسته فردفه في أمره و أشركه في سلطانه و كان في كريت تحامل على الرعية و تعصب فكان يتجهم لهم و يغلظ عليهم و ابن حجاج يسلك بهم الرفق و التلطف في الشفقة بهم عنده فانحرفوا عن كريت إلى إبراهيم ثم دس إلى الأمير عبد الله يطلب منه الكتاب بولاية إشبيلية لتسكن إليه العامة فكتب إليه العهد بذلك و أطلع عليه عرفاء البلد مع ما أشربوا من حبه و النفرة عن كريت ثم أجمع الثورة و هاجت العامة بكريت فقتلوه و بعث برأسه إلى الأمير عبد الله و استقر بإمارة إشبيلية
قال ابن حيان : وحصن مدينة قرمونة من أعظم معاقل الأندلس و جعلها مرتبطا لخيله و كان يعتقل بينها و بين إشبيلية و اتخذ الجند و رتبهم طبقات و كان يصانع الأمير عبد الله بالأموال و الهدايا و بعث إليه المدد في الصوائف و كان مقصودا ممدحا قصده أهل البيوتات فوصلهم و مدحه الشعراء و مدحه أبو عمر بن عبد ربه صاحب العقد و قصده من بين سائر الثوار فعرف حقه و أعظم جائزته و لم يزل بين بني خلدون بإشبيلية كما ذكره ابن حيان و ابن حزم و غيرهما سائر أيام بني أمية إلى زمان الطوائف و انمحت عنهم الإمارة بما ذهب لهم من الشوكة و لما غلب كعب بن عباد على إشبيلية و استبد على أهلها استوزر من بني خلدون هؤلاء و استعملهم في رتب دولته و حضروا معه وقعة الجلالقة كانت لابن عباد و ليوسف بن تاشفين على ملوك الجلالقة فاستشهد فيهما طائفة كبيرة من بني خلدون هؤلاء ثبتوا في الجولة مع ابن عباد فاستلحموا في ذلك الموقف بما كان الظهور للمسلمين و نصرهم الله على عدوهم ثم تغلب يوسف بن تاشفين و المرابطون على الأندلس و اضمحلت دولة العرب و فنيت قبائلهم
سلفه بإفريقية و لما استولى الموحدون على الأندلس و ملكوها من يد المرابطين و كان ملوكهم عبد المؤمن و بنيه و كان الشيخ أبو حفص كبير هنتاتة زعيم دولتهم و ولوه على إشبيلية و غرب الأندلس مرارا ثم ولوا ابنه عبد الواحد عليها في بعض أيامهم ثم ابنه أبا زكريا كذلك فكان لسلفنا بإشبيلية اتصال بهم و أهدى بعض أجدادنا من قبل الأمهات و يعرف بالمحتسب للأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص أيام ولايته عليهم جارية من سبي الجلالقة اتخذها أم ولد و كان له منها ابنه أبو زكريا يحيى ولى عهده الهالك في أيامه و أخواه عمر و أبو بكر و كانت تلقب أم الخلفاء ثم انتقل الأمير أبو زكريا إلى ولاية إفريقية سنة عشرين و ستمائة و دعا لنفسه بها و خلع دعوة بني عبد المؤمن سنة خمس و عشرين و ستمائة و استبد بإفريقية و انتقضت دولة الموحدين بالأندلس و ثار عليهم ابن هود ثم هلك و اضطربت الأندلس و تكالب الطاغية عليها و تردد الغزو إلى الفرنتيرة بسيط قرطبة و إشبيلية إلى جيان و ثار ابن الأحمر من غرب الأندلس من حصن أرجونة يرجو التماسك بما بقى من رمق الأندلس و فاوض أهل الشورى يومئذ بإشبيلية و هم بنو الباجي و بنو الجد و بنو الوزير و بنو سيد الناس و بنو خلدون و داخلهم في الثورة على ابن هود و أن يتجافوا للطاغية عن الفرنتيرة و يتمسكوا بالجبال الساحلية و أمصارها المتوغرة من مالقة إلى غرناطة إلى المرية فلم يوافقوه على بلادهم و كان مقدمهم أبو مروان الباجي فنابذهم ابن الأحمر و خلع طاعة الباجي و بايع مرة لابن هود و مرة لصاحب مراكش من بني عبد المؤمن و مرة للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية و نزل غرناطة و اتخذها دار ملكه و بقيت الفرنتيرة و أمصارها ضاحية من ظل الملك فخشي بنو خلدون سوء العاقبة من الطاغية وارتحلوا من إشبيلية إلى العدوة و نزلوا سبتة و أجلب الطاغية على تلك الثغور فلك قرطبة و إشبيلية و قرمونة و جيان و ما إليها في مدة عشرين سنة و لما نزل بنو خلدون بسبتة أصهر إليهم العزفي بأبنائه و بناته فاختلط بهم و كان له معهم صهر مذكور و كان جدنا الحسن بن محمد و هو سبط ابن المحتسب قد أجاز فيمن أجاز إليهم فذكروا سوابق سلفه عند الأمير أبي زكريا فقصده و قدم عليه فأكرم قدومه و ارتحل إلى المشرق فقضى فرضه ثم رجع و لحق بالأمير أبي زكريا على بونة فأكرمه و استقر في ظل دولته ومرعى نعمته و فرض له الأرزاق و أقطع الأقطاع و هلك هنالك فدفن ببونة سنة سبع وأربعين وستمائة و ولي ابنه المستنصر محمد فأجرى جدنا أبا بكر على ما كان لأبيه ثم ضرب الدهر ضرباته و هلك المستنصر سنه خمس و سبعين و ستمائة و ولي ابنه يحيى و جاء أخوه الأمير أبو اسحق من الأندلس بعد أن كان فر إليها أمام أخيه المستنصر فخلع يحيى و استقل هو بملك إفريقية ودفع جدنا أبا بكر محمدا كل عمل الأشغال في الدولة على سنن عظماء الدولة الموحدين فيها قبله من الانفراد بولاية العمال و عزلهم و حسبانهم على الجباية فاضطلع بتلك الرتبة ثم عقد السلطان أبو اسحق لابنه محمد و هو جدنا الأقرب على حجابة ولي عهده ابنه أبي فارس أيام أن اقصاه إلى بجاية ثم استعفى جدنا من ذلك فأعفاه و رجع إلى الحضرة و لما غلب الدعي ابن أبي عمارة على ملكهم بتونس اعتقل جدنا أبا بكر محمدا و صادره على الأموال ثم قتله خنقا في محبسه و ذهب ابنه محمد جدنا الأقرب مع السلطان أبي اسحق و أبنائه إلى بجاية فتقبض عليه ابنه أبو فارس و خرج مع العساكر هو و إخوته لمدافعة الدعي ابن أبي عمارة و هو يشبه بالفضل بن المخلوع حتى إذا استلحموا بمرما جنة خلص جدنا محمد مع أبي حفص ابن الأمير أبى زكريا من الملحمة و معها الفازازي و أبو الحسين بن سيد الناس فلحقوا بمنجاتهم من قلعة سنان و كان الفازازي من صنائع المولى أبي حفص و كان يؤثره عليهم فأما أبو الحسين بن سيد الناس فاستنكف من إيثار الفازازي عليه بما كان أعلى رتبة منه ببلده إشبيلية و لحق بالمولى أبي زكريا الأوسط بتلمسان و كان من شأنه ما ذكرناه و أما محمد بن خلدون فأقام مع الأمير أبي حفص و سكن لإيثار الفازازي و لما استولى أبو حفص على الأمور رعى له سابقته و أقطعه و نظمه في جملة القواد و مراتب أهل الحروب و استكفى به في الكثير من أمر ملكه و رشحه لحجابته من بعد الفازازي و هلك فكان من بعده حافد أخيه المستنصر أبو عصيدة و اصطفى لحجابته محمد بن إبراهيم الدباغ كاتب الفازإزي و جعل محمد بن خلدون رديفا له في حجابته فكان كذلك إلى أن هلك السلطان و جاءت دولة الأمير خالد فأبقاه على حاله من التجلة و الكرامة و لم يستعمله ولا عقد له إلى أن كانت دولة أبي يحيى بن اللحياني فاصطنعه واستكفى به عندما تنبضت عروق التغلب من العرب و دفعه إلى حماية الجزيرة من لاج إحدى بطون سليم الموطنين بنواحيها فكانت له في ذلك آثار مذكورة و لما انقرضت دولة ابن اللحياني خرج إلى الشرق وقضى سنة ثمان عشرة و أظهر التوبة والإقلاع و عاود الحج متنقلا سنة ثلاث و عشرين و سبعمائة و لزم كسر بيته و أبقى السلطان أبو يحيى عليه نعمته في كثير مما كان بيده من الاقطاع و الجراية و دعاه إلى حجابته مرارا فامتنع أخبرني محمد بن منصور بن مزني قال : لما هلك الحاجب بن محمد بن عبد العزيز الكردي المعروف بالمزوار سنة سبع و عشرين و سبعمائة استدعى السلطان جدك محمد بن خلدون و أراده على الحجابة و أن يفوض إليه أمره فأبى و استعفى فأعفاه و أمره فيمن يوليه حجابته فأشار عليه بصاحب ثغر بجاية محمد بن أبى الحسين بن سيد الناس لاستحقاقه ذلك بكفايته و اضطلاعه و لقديم صحابة بين سلفهما بتونس و إشبيلية من قبل وقال له : هو أقدر على ذلك بما هو عليه من الحاشية والدين فعمل السلطان على إشارته و استدعى ابن سيد الناس و ولاه حجابته و كان السلطان أبو يحيى إذا خرج من تونس يستعمل جدنا محمدا عليها وثوقا بنظره و استنامة إليه إلى أن هلك سنة سبع و ثلاثين و سبعمائة و نزع ابنه و هو والدي محمد بن أبي بكر عن طريقة السيف و الخدمة إلى طريقة العلم و الرباط لما نشأ عليه في حجر أبي عبد الله الرندي الشهير بالفقيه كان كبير تونس لعهده في العلم و الفتيا و انتحال طرق الولاية التي ورثها عن أبي حسين وعمه حسن الوليين الشهيرين و كان جدنا رحمه الله قد لازمه من يوم نزوعه عن طريقه و ألزمه ابنه و هو والدي رحمه الله فقرأ وتفقه و كان مقدما في صناعة العربية و له بصر بالشعر و فنونه عهدي بأهل البلد يتحاكمون إليه فيه و يعرضون حوكهم عليه و هلك في الطاعون الجارف سنة تسع و أربعين و سبعمائة
( أما نشأتي ) فإني ولدت بتونس في غرة رمضان سنة اثنتين و ثلاثين و سبعمائة وربيت في حجر والدي رحمه الله إلى أن أيفعت وقرأت القرآن العظيم على الأستاذ أبي عبد الله محمد بن سعد بن نزال الأنصارى أصله من جالبة الأندلس من أعمال بلنسية أخذ عن مشيخة بلنسية و أعمالها و كان إماما في القراءات لا يلحق شأوه و كان من أشهر شيوخه في القراءات السبع أبو العباس أحمد بن محمد بن البطوي و مشيخته فيها و أسانيده معروفة و بعد أن استظهرت القرآن العظيم عن حفظي قرأته عليه بالقراآت السبع المشهورة إفرادا وجمعا في إحدى و عشرين ختمة ثم جمعتها في ختمة واحدة أخرى ثم قرأت برواية يعقوب ختمة واحدة جميعا بين الروايتين عنه وعرضت عليه رحمه الله قصيدة الشاطبي اللامية في القراءات والرائية في الرسم و أخبرني بهما عن الأستاذ أبي عبد الله البطوي و غيره من شيوخه وعرضت عليه كتاب التفسير لأحاديث الموطأ لابن عبد البر حذا به حذو كتابه التمهيد على الموطأ مقتصرا على الأحاديث فقط و درست عليه كتبا جمة مثل كاب التسهيل لابن مالك و مختصر ابن الخطيب في الفقه ولم أكملها بالحفظ وفي خلال ذلك تعلمت صناعة العربية على والدي و على أستاذي تونس : منهم الشيخ أبو عبد الله محمد العربي الحصايري و كان إماما في النحو و له شرح مستوفى على كتاب التسهيل و منهم أبو عبد الله محمد بن الشواش المزازي و منهم أبو العباس أحمد بن القصار كان ممتعا في صناعة النحو و له شرح على قصيدة البردة المشهورة في مدح الجناب النبوي و هو حي لهذا العهد بتونس
و منه إمام العربية و الأدب بتونس أبو عبد الله محمد بن بحر لازمت مجلسه و أفدت عليه و كان بحرا زاخرا في علوم اللسان و أشار علي بحفظ الشعر فحفظت كتب الأشعار الستة والحماسة للأعلم شعر حبيب و طائفة من شعر المتنبي و من أشعار كتاب الأغاني و لازمت أيضا مجلس إمام المحدثين بتونس شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جابر بن سلطان القيسي الواد ياشي صاحب الرحلتين وسمعت عليه كتاب مسلم بن الحجاج إلا في فوتا يسيرا من كتاب الصيد وسمعت عليه كتاب الموطأ من أوله إلى آخره و بعضا من الأمهات الخمس و ناولني كتبا كثيرة في العربية والفقه و أجازني إجازة عامة و أخبرني عن مشايخه المذكورين أشهرهم بتونس قاضي الجماعة أبو العباس أحمد بن الغماز الخزرجي
وأخذت الفقه بتونس من جماعة منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحياني و أبو القاسم محمد القصير وقرأت عليه كتاب التهذيب لأبي سعيد البرادعي مختصر المدونة وكتاب المالكية وتفقهت عليه وكنت في خلال ذلك انتاب مجلس شيخنا الإمام قاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن عبد السلام مع أخي عمر رحمة الله عليهما و أفدت منه وسمعت عليه أثناء ذلك كتاب الموطأ للإمام مالك و كانت له طرق عالية عن أبي محمد بن هرون الطائي قبل اختلاطه إلى غير هؤلاء من مشيخة تونس وكلهم سمعت عليه وكتب لي و أجازني ثم درجوا كلهم في الطاعون الجارف
وكان قدم علينا في جملة السلطان أبي الحسن عندما ملك إفريقية سنة ثمان وأربعين جماعة من أهل العلم كان يلزمهم شهود مجلسه و يتجمل بمكانهم فيه فمنهم شيخ الفتيا بالمغرب و إمام مذهب مالك أبو عبد الله محمد بن سليمان السطي فكنت انتاب مجلسه و أفددت عليه ومنهم كاتب السلطان أبي الحسن و صاحب علامته التي توضع أسفل مكتوباته إمام المحدثين أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي لازمته و أخذت عنه سماعا و إجازة الأمهات الست و كتاب الموطأ و السير لابن اسحق و كتاب ابن الصلاح في الحديث وكتبا كثيرة سرت عن حفظي و كانت بضاعته في الحديث وافرة و نحلته في التقييد و الحفظ كاملة كانت له خزانة من الكتب تزيد على ثلاثة آلاف سفر في الحديث و الفقه و العربية و الأدب و المعقول و سائر الفنون مضبوطة كلها مقابلة و لا يخلو ديوان منها عن ضبط بخط بعض شيوخه المعروفين في سنده إلى مؤلفة حتى الفقه و العربية الغريبة الإسناد إلى مؤلفها في هذه العصور و منهم الشيخ أبو العباس أحمد الزواوي إمام المقرئين بالمغرب قرأت عليه القرآن العظيم بالجمع الكبر بين القراآت السبع من طريق أبي عمر و الداني و ابن شريح و لم أكملها وسمعت عليه عدة كتب و أجازني بالإجازة العامة
ومنهم شيخ العلوم العقلية أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأيلي أصله من تلمسان وبها نشأ وقرأ كتب التعليم و حذق فيها و أظله الحصار الكبير بتلمسان أعوام المائة السابعة فخرج منها و حج و لقي أعلام المشرق يومئذ فلم يأخذ عنهم لأنه كان مختلطا بعارض عرض في عقله ثم رجع من المشرق وأفاق و قرأ المنطق و الأصلين على الشيخ أبي موسى عيسى ابن الإمام و كان قرأ بتونس مع أخيه أبي زيد عبد الرحمن على تلميذ أبي زيتون الشهير الذكر وجاء إلى تلمسان بعلم كثير من المنقول و المعقول فقرأ الأيلي على أبى موسى منهما كما قلناه ثم خرج من تلمسان هاربا إلى المغرب لأن سلطانها أبا حمو يومئذ من ولد يغمراسن بن زيان كان يكرهه على التصرف في أعماله و ضبط الجباية بحسبانه ففر إلى المغرب و لحق بمراكش و لازم العالم الشهير الذكر أبا العباس بن البناء فحصل عنه سائر العلوم العقلية و ورث مقامه فيها و أرفع ثم صعد إلى جبل الهسكرة بعد وفاة الشيخ باستدعاء علي بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه فأفاده وبعد أعوام استنزله ملك المغرب السلطان أبو سعيد و أسكنه بالبلد الجديد و الأبلي معه
ثم اختصه السلطان أبو الحسن و نظمه في جملة العلماء بمجلسه و هو في خلال ذلك يعلم العلوم العقلية و يبثها بين أهل المغرب حتى حذق فيها الكثير منهم من سائر أمصاره وألحق الأصاغر بالأكابر في تعليمه و لما قدم على تونس في جملة السلطان أبي الحسن لزمته و أخذت عنه العلوم العقلية و المنطق وسائر الفنون الحكمية و التعليمية و كان رحمه الله تعالى يشهد لي بالتبريز في ذلك
و ممن قدم في جملة السلطان أبي الحسن صاحبنا أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان المالقي كان يكتب عن السلطان ويلازم خدمة أبي محمد عبد المهيمن رئيس الكتاب يومئذ و صاحب العلامة التي توضع عن السلطان أسفل المراسيم و المخاطبات و بعضها يضعه السلطان بخطه و كان ابن رضوان هذا من مفاخر المغرب في براعة خطه و كثرة علمه و حسن سنته و إجادته في فقه الوثائق و البلاغة في الترسيل عن السلطان و حوك الشعر و الخطابة على المنابر لأنه كان كثيرا ما يصلي بالسلطان فلما قدم علينا بتونس صحبته و اغتبطت به و إن لم أتخذه شيخا لمقاربة السن فقد أفدت منه كما أفدت منهم وقد مدحه صاحبنا أبو القاسم الرحوي شاعر تونس في قصيدة على روي النون يرغب منه أن يذكره لشيخه أبي محمد عبد المهيمن في إيصال مدحه للسلطان أبي الحسن في قصيدة على روي الياء وقد تقدم ذ كرها في أخبار السلطان و ذكر في مدح ابن رضوان أعلام العلماء القادمين مع السلطان وهي هذه :
( عرفت زماني حين أفكرت عرفاني و أيقنت أن لا حظ في كف كيوان ... )
( و أن لا اختيار في اختيار مقوم و أن لا قراع بالقران لأقران ) ( و أن نظام الشكل أكمل نظمه لأضعاف قاض في الدليل برجحان )
( وأن افتقار المرء من فقراته و من ثقله يغني اللبيب بأوزان )
إلى أخرها ثم يقول في ذكر العلماء القادمين :
( هم القوم كل القوم أما حلومهم فأرسخ من طودي ثبير و ثهلان )
( فلا طيش يعلوهم و أما علومهم فأعلامها تهديك من غير نيران )
ثم يقول في أخرها
( و هامت على عبد المهيمن تونس و قد ظفرت منه بوصل وقربان )
( و ما علقت مني الضمائر غيره و إن هويت كلا بحب ابن رضوان )
وكتب هذا الشاعر صاحبنا الرحوي يذكر عبد المهيمن بذلك
( لهي النفس في اكتساب و سعي و هو العمر في انتهاب وفي )
( و أرى الناس بين ساع لرشد يتوخى الهدى و ساع لغي )
( و أرى العلم للبرية زينا فتزي منه بأحسن زي )
( و أرى الفضل قد تجمع كلا ... في ابن عبد المهيمن الحضرمي )
ثم يقول في أخرها
( ينبغي القرب من مراقي الأماني و الترقي للجانب العلوي )
( فأنلها مرامها مستهلا ... كل دان يسعى وكل قصي )
ثم كانت واقعة العرب على السلطان بالقيروان فاتح تسع و أربعين و سبعمائة فشغلوا عن ذلك و لم يظفر هذا الرحوي بطلبته ثم جاء الطاعون الجارف فطوى البساط بما فيه و هلك عبد المهيمن فيمن هلك و دفن بمقبرة سلفنا بتونس لخلة كانت بينه و بين والدي رحمه الله أيام قدومهم علينا فلما كانت وقعة القيروان ثار أهل تونس بمن كان عندهم من أشياع السلطان أبي الحسن فاعتصموا بالقصبة دار الملك حيث كان ولد السلطان و أهله و انتقض عليه ابن تافراكين و خرج من القيروان إلى العرب و هم يحاصرون السلطان و قد اجتمعوا على أبي دبوس و بايعوا له كما مر في أخبار السلطان فبعثوا ابن تافراكين إلى تونس فحاصر القصبة و امتنعت عليه و كان عبد المهيمن يوم ثورة أهل تونس و قد سمع الهيعة خرج من بيته إلى دارنا فاختفى عند أبي رحمه الله وأقام متخفيا عندنا نحوا من ثلاثة أشهر ثم نجا السلطان من القيروان إلى سوسة وركب البحر إلى تونس و فر ابن تافراكين إلى المشرق و خرج عبد المهيمن من الاختفاء و أعاده السلطان إلى ما كان عليه من وظيفة الولاية و الكتابة و كان كثيرا ما يخاطب والدي رحمه الله و يشكره على موالاته و مما كتب إليه و حفظته من خطه :
( محمد ذو المكارم قد ثناني فعال شكره أبدا عناني )
( جزى الله ابن خلدون حياة منعمة وخلدا في الجنان )
( فكم أولى ووالى من جميل وبر بالفعال وباللسان )
( و راعى الحضرمية في الذي قد جنى من وده ورد الحنان )
( أبا بكر ثناؤك طول دهري أردد باللسان و بالجنان )
( وعن علياك ما امتدت حياتي ... أكافح بالحسام و باللسان )
( فمنك أفدت خلا لست دهري أرى عن حبه أثني عناني )
و هؤلاء الأعلام الذين ذكرهم الرحوي في شعره هم سباق الحلبة في مجلس السلطان أبي الحسن اصطفاهم لصحابته من بين أهل المغرب فأما ابنا الإمام منهم فكانا أخوين من أهل برشك من أعمال تلمسان واسم أكبرهم أبو زيد عبد الرحمن و الأصغر أبو موسى عيسى و كان أبوهما إماما ببعض مساجد برشك و اتهمه المتغلب يومئذ على البلد زيرم بن حماد بأن عنده وديعة من المال لبعض أعدائه فطالبه بها ولاذ بالامتناع و بيته زيرم لينتزع المال من يده فدافعه و قتل و ارتحل ابناه هذان الأخوان إلى تونس في أخر المائة السابعة و أخذا العلم بها عن تلميذ ابن زيتون وتفقها على أصحاب أبي عبد الله بن شعيب الدكالي و انقلبا إلى المغرب بحظ وافر من العلم وأقاما بالجزائر يبثان العلم بها لامتناع برشك عليهما في أجل زيرم المتغلب عليها و السلطان أبو يعقوب يومئذ صاحب المغرب الأقصى من بني مرين جاثم على تلمسان يحاصرها الحصار الطويل المشهور وبث بها جيوشه في نواحها و غلب على الكثير من أعمالها و أمصارها و ملك عمر مغراوة بشلف و حصر مليانة بعث إليها الحسن بن أبي الطلاق من بني عسكر و علي بن محمد ابن الخير من بنى ورتاجن ومعهما لضبط الجباية و استخلاص الأموال الكاتب منديل بن محمد الكناني فارتحل هذان الأخوان من الجزائر و أخذا عليه فحليا بعين منديل الكناني فقربهما و اصطفاهما و اتخذهما لتعليم ولده محمد فلما هلك يوسف بن يعقوب سلطان المغرب بمكانه من حصار تلمسان سنة خمس و سبعمائة على يد خصي من خصيانه طعنه فأشواه و هلك وأقام بالملك بعده حافده أبو ثابت بعد أمور ذكرناها في أخباره و وقع بينه و بين صاحب تلمسان من بعده يومئذ أبي زيان محمد بن عثمان بن يغمراسن و أخيه أبي حمو العهد المتأكد على الإفراج عن تلمسان ورد أعمالها عليه فوفى لهم بذلك و عاد إلى المغرب و ارتحل ابن أبي الطلاق من شلف و الكناني من مليانة راجعين إلى المغرب و مروا بتلمسان فأوصى لهما أبو حمو وأثنى عليهما حلة بمقامهما في العلم و اغتبط بهما أبو حمو وبنى لهما المدرسة المعروفة بهما بتلمسان و أقاما عنده على مجرى أهل العلم وسننهم و هلك أبو حمو و كانا كذلك مع ابنه أبي تاشفين إلى أن زحف السلطان أبو الحسن المريني إلى تلمسان و ملكها عنوة سنة سبع و ثلاثين و سبعمائة و كانت لهما شهرة في أقطار المغرب أسست لهما عقيدة صالحة فاستدعهما لحين دخوله و أدنى مجلسهما و شاد بمكرتهما ورفع جاههما على أهل طبقتهما و صار يجمل بهما مجلسه متى مر بتلمسان و وفدا عليه في الأولى التي نفر فيها أعيان بلادها ثم استنفرهما إلى الغزو وحضرا معه واقعة طريف و عادا إلى بلدهما وتوفي أبو زبد منهما إثر ذلك وبقي أخوه موسى متبوئا ما شاء من ظلال تلك الكرامة
و لما سار السلطان أبو الحسن إلى أفريقية سنة ثمان وأربعين و سبعمائة كما مر في أخباره استصحب أبا موسى ابن الإمام معه مكرما موقرا عالي المحل قريب المجلس منه فلما استولى على إفريقية سرحه إلى بلده فأقام بها يسيرا و هلك في الطاعون الجارف سنة تسع و أربعين و سبعمائة وبقي أعقابهما بتلمسان دارجين في مالك تلك الكرامة موقوين فيها طبقا على طبق إلى هذا العهد وأما السطي واسمه محمد بن سليمان من قبيلة سطة من بطون أوربة بنواحي فاس فنزل أبوه سلمان مدينة فاس ونشأ محمد فيها و أخذ العلم عن الشيخ أبي الحسن الصغير إمام المالكية بالمغرب و الطائر الذكر و قاضي الجماعة بفاس و تفقه وقرأ عليه و كان أحفظ الناس لمذهب مالك وأفقههم فيه و كان السلطان أبو الحسن لعظم همته وبعد شأوه في الفضل يتشوف إلى تزيين مجلسه بالعلماء و اختار منهم جماعة لصحابته مجالسته كان منهم هذا الإمام محمد بن سليمان وقدم علينا بتونس في جملته فشهدنا وفور فضله و كان في الفقه من بينهم لا يجارى حفظا و فهما عهدي به رحمه الله تعالى و أخي موسى يقرأ عليه كتاب التبصرة لأبي الحسن اللخمي و هو يصححه عليه من إملائه وحفظه في مجالس عديدة و كان هذا حاله في أكثر ما يعاني في جملة من الكتب و حضر مع السلطان أبي الحسن واقعة القيروان و خلص معه إلى تونس و أقام بها نحوا من سنتين و انتقض المغرب على السلطان واستقل به ابنه أبو عنان ثم ركب السلطان أبو الحسن في أساطيله من تونس آخر سنة خمسين و سبعمائة و مر ببجياية فأدركه الغرق في سواحلها فغرقت أساطيله و غرق أهله و أكثر من كان معه من هؤلاء الفضلاء و غيرهم و رمى به البحر ببعض الجزر هنالك حتى استنقذه منها بعض أساطيله و نجا إلى الجزائر بعد أن تلف موجوده و هلك الكثير من عياله و أصحابه و كان من أمره ما مر في أخباره (7/503)
القسم الثاني من التعريف بابن خلدون مؤلف هذا الكتاب
وأما الأيلي و اسمه محمد بن إبراهيم فمنشؤه بتلمسان و أصله من جالية الأندلس من أهل أيلة من بلد الجوف منها أجاز بأبيه و عمه أحمد فاستخدمهم يغمراسن ابن زيان و ولده في جندهم و أصهر إبراهيم منهما إلى القاضي بتلمسان محمد بن غلبون في ابنته فولدت له محمدا هذا و نشأ بتلمسان في كفالة جده القاضي فنشأ له بذلك ميل إلى انتحال العلم عن الجندية التي كانت منتحل أبيه وعمه فما أيفع و أدرك سبق إلى ذهنه محبة التعاليم فبرز بها و اشتهر و عكف الناس عليه في تعلمها و هذا في سن البلوغ ثم أظل السلطان يوسف بن يعقوب وخيم عليها يحاصرها و سير العساكر إلى الأعمال فافتتح أكثرها و كان إبراهيم الأيلي قائدا بهنين مرسى تلمسان في لجة من الجند فلما ملكها يوسف بن يعقوب اعتقل من وجد بها من أشياع بني عبد الواد و اعتقل إبراهيم الأيلي و شاع الخبر في تلمسان بأن يوسف ابن يعقوب يسترهن أبناءهم و يطلقهم فتشوف ابنه محمد إلى اللحاق بهم من أجل ذلك و أغراه أهله بالعزم عليه فتسور الأسوار و خرج إلى أبيه فلم يجد خبر الاسترهان صحيحا و استخدمه يوسف بن يعقوب قائدا على الجند الأندلس بين بتاوريرت فكره المقام على ذلك ونزع عن طوره و لبس المسوح وسار قاصدا إلى الحج و انتهى إلى رباط العباد مختفيا في صحبة الفقراء فوجد هنالك رئيسا من أهل كربلاء من بني الحسين جاء إلى المغرب يروم إقامة دعوته فيه و كان مغفلا فلما رأى عساكر يوسف بن يعقوب و شدة غلبه أيس من مرامه و نزع عن ذلك و اعتزم على الرجوع إلى بلده فسار شيخنا محمد بن إبراهيم في جملته
قال رحمه الله : و بعد حين انكشف لي حاله و ما جاء له و اندرجت في جملته و أصحابه و تابعيه قال : و كان يتلقاه في كل بلد من أصحابه و أشياعه و خدمه من يأتيه بالأزواد و النفقات من بلده إلى أن ركبنا البحر من تونس إلى الإسكندرية قال : واشتدت علي الغلمة في البحر و استحييت من كثرة الاغتسال لمكان هذا الرئيس فأشار على بعض بطانته بشرب الكافور فاغترفت منه غرفة فشربتها فاختلطت وقدم الديار المصرية على تلك الحال وبها يومئذ تقي الدين بن دقيق العيد و ابن الرفعة و صفي الدين الهندي و التبريزي و غيرهم من فرسان المعقول و المنقول فلم يكن قصاراه إلا تمييز أشخاصهم إذا ذكرهم لنا لما كان به من الاختلاط ثم حج مع ذلك الرئيس و سار في جملته إلى كربلاء فبعث به من أصحابه من أوصله إلى مأمنه ببلاد زواوة من أطر إلى المغرب وقال لي شيخنا رحمه الله : كان معي دنانير كثيرة تزودتها من المغرب و استبطنتها في جبة كنت ألبسها فلما نزل بي ما نزل انتزعها مني حتى إذا بعث أصحابه يشيعوني إلى المغرب دفعها إليهم حتى إذا أوصلوني إلى المأمن أعطوني إياها و أشهدوا علي في كتاب حملوه معهم إليه كما أمرهم ثم قارن وصول شيخنا إلى المغرب مهلك يوسف بن يعقوب و خلاص أهل تلمسان من الحصار فعاد إلى تلمسان و قد أفاق من اختلاطه و انبعثت همته إلى تعلم العلم و كان مائلا إلى العقليات فقرأ المنطق على أبي موسى ابن الإمام و جملة من الأصلين و كان أبو حمو صاحب تلمسان قد استفحل ملكه و كان ضابطا للأمور وبلغه عن شيخنا تقدمه في علم الحساب فدفعه إلى ضبط أمواله و مشارفة أحواله و تفادى شيخنا من ذلك فأكرهه عليه فأعمل الحيلة في الخلاص منه و لحق بفاس أيام السلطان أبي الربيع و بعث فيه أبو حمو فاختفى بفاس للتعاليم من اليهودي خليفة المغيلي فاستوفى عليه فنونها و حذق و خرج متواريا من فاس فلحق بمراكش أعوام عشر و سبعمائة و نزل على الإمام أبي العباس بن البناء شيخ المعقول و المنقول و المبرز في التصوف علما و حالا فلزمه و أخذ عنه و تضلع في المعقول و التعاليم وا لحكمة ثم استدعاه شيخ الهساكرة علي بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه و كان في طاعة السلطان فدخل إليه شيخنا وأقام عنده مدة قرأ عليه فيها و حصل و اجتمع طلبة العلم هنالك على الشيخ فكثرت إفادته و استفادته و علي ابن محمد في ذلك على محبته و تعظيمه و امتثال إشارته فغلب على هواه و عظمت رياسته في تلك القبائل و لما استنزل السلطان أبو سعيد علي بن تروميت من جبله نزل الشيخ معه و سكن بفاس و انثال عليه طلبة العلم من كل ناحية فانتشر علمه و اشتهر ذكره فلما فتح السلطان أبو الحسن تلمسان و لقي أبا موسى ابن الإمام ذكره له بأطيب الذكر و وصفه بالتقدم في العلوم و كان السلطان معتنيا بجمع العلماء بمجلسه كما ذكرناه فاستدعاه من مكانه بفاس و نظمه في طبقة العلماء بمجلسه و عكف على التدريس و التعليم و لزم صحابة السلطان و حضر معه واقعة طريف و واقعة القيروان بإفريقية و كانت قد حصلت بينه وبين والدي رحمه الله خلة كانت وسيلتي إليه في القراءة عليه فلزمت مجلسه و أخذت عنه العلوم العقلية بالتعاليم ثم قرأت المنطق و ما بعده من الأصلين و علوم الحكمة و عرض أثناء ذلك ركوب السلطان أساطيله من تونس إلى المغرب و كان الشيخ في نزلنا و كفالتنا فأشرنا عليه بالمقام وثبطناه عن السفر فقبل و أقام و طالبنا به السلطان أبو الحسن فأحسنا له العذر فتجافى عنه و كان من حديث غرقه في البحر ما قدمناه و أقام الشيخ بتونس و نحن و أهل بلدنا جميعا نتساجل في غشيان مجلسه و الأخذ عنه فلما هلك السلطان أبو الحسن بجبل هنتانة و فرغ ابنه أبو عنان من شواغله و ملك تلمسان من بني عبد الواد كتب فيه يطلبه من صاحب تونس و سلطانها يومئذ أبو اسحق إبراهيم ابن السلطان أبي يحيى في كفالة شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين فأسلمه إلى سفيره و ركب معه البحر في أسطول أبي عنان الذي جاء فيه السفير و مر ببجاية و دخلها وأقام بها شهرا حتى قرأ عليه طلبة العلم بها مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه برغبتهم في ذلك منه و من صاحب الأسطول ثم ارتحل و نزل بمرسى هنين و قدم على أبي عنان بتلمسان و أحله محل التكرمة و نظمه في طبقة أشياخه من العلماء و كان يقرأ عليه و يأخذ عنه إلى أن هلك بفاس سنة سبع و خمسين وسبعمائة و أخبرني رحمه الله أن مولده بتلمسان سنة إحدى و ثمانين و ستمائة
و أما ( عبد المهيمن ) كاتب السلطان أبي الحسن فأصله من سبتة و بيتهم بها قديم و بعرفون ببني عبد المهيمن و كان أبوه محمد قاضيها أيام بني العزفي و نشأ ابنه عبد المهيمن في كفالته و أخذ عن مشيختها و اختص بالأستاذ أبي اسحق الغافقي و لما ملك عليهم الرئيس أبو سعيد صاحب الأندلس سبتة ونقل بني العزفي في جملة أعيانها إلى غرناطة و نقل معهم القاضي محمد بن عبد المهيمن و ابنه عبد المهيمن فاستكمل قراءة العلم هنالك و قرأ على مشيختها ابن الزبير و نظرائه و تقدم في معرفة كتاب سيبويه و برز في علو الإسناد و كثرة المشيخة فكتب له أهل المغرب و الأندلس و المشرق و استكتبه رئيس الأندلس يومئذ الوزير أبو عبد الله ابن الحكيم الرندي المستبد على السلطان المخلوع ابن الأحمر فكتب عنه و نظمه في طبقة الفضلاء الذين كانوا بمجلسه مثل المحدث أبي عبد الله بن سيد الفهري و أبي العباس أحمد العزفي و العالم الصوفي المتجرد أبي عبد الله محمد بن خميس التلمساني و كانا لا يجاريان في البلاغة والشعر إلى غير هؤلاء ممن كان مختصا به وقد ذكرهم ابن الخطيب في تاريخ غرناطة فلما انكب الوزير الحكيم و عادت سبتة إلى طاعة بني مرين عاد عبد المهيمن إليها و استقر بها ثم ولي الأمر أبو سعيد و غلب عليه ابنه أبو علي و استبد بحمل الدولة تشوف إلى استدعاء الفضلاء و تجمل بمكانهم فاستقدم عبد المهيمن من سبتة و استكتبه سنة اثني عشرة و سبعمائة ثم خالف على أبيه سنة أربع عشرة و سبعمائة و امتنع بالبلد الجديد و خرج منا إلى سجلماسة لصلح عقده مع أبيه فتمسك السلطان أبو سعيد بعبد المهيمن و اتخذه كاتبا إلى أن دفعه إلى رياسة الكتاب و رسم علامته في الرسائل و الأوامر فتقدم لذلك سنة ثمان عشرة و سبعمائة و لم يزل عليها سائر أيام السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن و سار مع أبي الحسن إلى إفريقية و تخلف عن واقعة القيروان بتونس لما كان به من علة التقرس فلما كانت الهيعة بتونس و وصل خبر الواقعة
و تحيز أولياء السلطان إلى القصبة مع حرمه تسرب عبد المهيمن في المدينة منتبذا عنهم و توارى في بيتنا خشية أن يصاب معهم بمكروه فلما انجلت تلك النيابة و رجع السلطان من القيروان إلى سوسة و ركب منها البحر إلى تونس أعرض عن عبد المهيمن لما سخط غيبته عن قومه بالقصبة و جعل العلامة لأبي الفضل ابن الرئيس عبد الله بن أبي مدين وقد كانت من قبل مقصورة على هذا البيت و أقام عبد المهيمن عطلا من العمل شهرا ثم اعتبه السلطان و رضي عنه و رد إليه العلامة كما كان ثم توفي لأيام قلائل بتونس بالطاعون الجارف سنة تسع و أربعين و سبعمائة و مولده سنة خمس و سبعين و ستمائة من المائة قبلها وقد استوعب ابن الخطيب التعريف به في تاريخ غرناطة فليطالع هناك من أحب الوقوف عليه
وأما ابن رضوان الذي ذكره الرحوي في قصيدته فهو أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان البحاري أصله من الأندلس نشأ بمالقة و أخذ عن مشيختها و حذق في العربية و الأدب و تفنن في العلوم و نظم و نثر و كان مجيدا في الترسيل ومحسنا في كتابة الوثائق و ارتحل بعد واقعة طريف و نزل سبتة ولقي بها السلطان أبا الحسن و مدحه و أجازه و اختص بالقاضي إبراهيم بن يحيى و هو يومئذ قاضي العساكر و خطيب السلطان و كان يستنيبه في القضاء و الخطابة ثم نظمه في جملة الكتاب بباب السلطان اختص بخدمة عبد المهيمن رئيس الكتاب و الأخذ عنه إلى أن رحل السلطان إلى إفريقية و كانت واقعة القيروان و انحصر بالقصبة بتونس مع من انحصر بها من أشياعه مع أهله و حرمه و كان السلطان قد خلف ابن رضوان في بعض خدمته فجلا عند الحصار فيما عرض لهم من المكاتبات و تولى كبر ذلك فقام فيه أحسن قيام إلى أن وصل السلطان من القيروان فرعى له حق خدمته تأنيسا و قربا و كثرة استعمال إلى أن رحل من تونس في الأسطول إلى المغرب سنة خمسين و سبعمائة كما مر و استخلف بتونس ابنه أبا الفضل و خلف أبا القاسم بن رضوان كاتبا له فأقاما كذلك أياما ثم غلبهم على تونس سلطان الموحدين الفضل ابن السلطان أبي يحيى و نجا أبو الفضل إلى أبيه و لم يطق ابن رضوان الرحلة معه فأقام بتونس حولا ثم ركب البحر إلى الأندلس و أقام بالمرية مع جملة من هنالك من أشياع السلطان أبي الحسن كان فيهم عامر ابن محمد بن علي شيخ هنتاتة كافلا لحرم السلطان لأبي الحسن و ابنه أركبهم السفين معه من تونس عندما ارتحل فخلص إلى الأندلس و نزلوا بالمرية و أقاموا بها تحت جراية سلطان الأندلس فلحق بهم ابن رضوان و أقام معهم و دعاه أبو الحجاج سلطان الأندلس إلى أن يستكتبه فامتنع ثم هلك السلطان أبو الحسن و ارتحل مخلفه الذين كانوا بالمرية و وفدوا على السلطان أبي عنان و وفد معهم ابن رضوان فرعى له و سائله في خدمة أبيه و استكتبه و اختصه بشهود مجلسه مع طلبة العلم بحضرته و كان محمد بن أبي عمرو يومئذ رئيس الدولة و نجي الخلوة و صاحب العلامة و حسبان الجباية و العساكر قد غلب على هوى السلطان و اختص به فاستخدم له ابن رضوان حتى علق منه بذمة ولاية و صحبة و انتظام في السمر و غشيان المجالس الخاصة و هو مع ذلك يدنيه من السلطان و ينفق سوته عنده و يستكفي به في مواقف خدمته إذا غاب عنها لما هو أهم فحلا بعين السلطان و نفقت عنده فضائله فلما سار أبو عمرو في العساكر إلى بجاية سنة أرج و خمسين و سبعمائة انفرد ابن رضوان بعلامة الكتاب عن السلطان ثم رجع ابن أبي عمرو و قد سخطه السلطان فأقصاه إلى بجاية و ولاه عليها و على سائر أعمالها و على حرب الموحدين بقسنطينة وأفرد ابن رضوان بالكتابة و جعل إليه العلامة كما كانت لابن أبي عمرو فاستقل بها موفر الاقطاع و الإسهام و الجاه ثم سخطه أخر سبع و خمسين و سبعمائة و جعل العلامة لمحمد بن أبي القاسم بن أبي مدين و الإنشاء و التوقيع لأبي اسحق إبراهيم بن الحاج الغرناطي فلما كانت دولة السلطان أبي سالم جعل العلامة لعلي بن محمد بن مسعود صاحب ديوان العساكر و الإنشاء و التوقيع و السر لمؤلف الكتاب عبد الرحمن ابن خلدون ثم هلك أبو سالم سنة اثنتين و ستين و سبعمائة و استبد الوزير عمر بن عبد الله على من كفله من أبنائه فجعل العلامة لابن رضوان سائر أيامه وقتله عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن و استبد بملكه فلم يزل ابن رضوان على العلامة و هلك عبد العزيز و ولي ابنه السعيد في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي بن الكاس و ابن رضوان على حاله ثم غلب السلطان أحمد على الملك و انتزعه من السعيد و أبي بكر بن غازي و قام بتدبير دولته محمد بن عثمان بن الكاس مستبدا عليه و العلامة لابن رضوان كما كانت إلى أن هلك بأزمور في حركة السلطان أحمد إلى مراكش لحصار عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي
و كان في جملة السلطان أبي الحسن جماعة كثيرة من فضلاء المغرب و أعيانه هلك كثير منهم في الطاعون الجارف بتونس و غرق جماعة منهم في أسطوله لما غرق و تخطت النكبة مهم آخرين إلى أن استوفوا ما قدر من آجالهم
فمن حضر معه بإفريقية الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد الزواوي شيخ القراء بالمغرب أخذ العلم و العربية عن مشيخة فاس و روى عن الرحالة أبي عبد الله بن رشيد و كان إماما في فن القراءات و صاحب ملكة فيها لا يجاري و له مع ذلك صوت من مزامير آل داود وكان يصلي بالسلطان التراويح و يقرأ عليه بعض الأحيان حزبه
و ممن حضر معه بإفريقية الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن الصباغ من أهل مكناسة كان مبرزا في المعقول و المنقول و عارفا بالحديث و برجاله و إماما في معرفة كتاب الموطأ وإقرائه أخذ العلوم عن مشيخة فاس و مكناسة و لقي شيخنا أبا عبد الله الأيلي و لازمه و أخذ عنه العلوم العقلية فاستنفد بغية طلبه عليه فبرز آخرا و اختاره السلطان لمجلسه و استدعاه و لم يزل معه إلى أن هلك غريقا في ذلك الأسطول
و منهم القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد النور من أعمال ندرومة و نسبه في صنهاجة كان مبرزا في الفقه على مذهب الإمام مالك بن أنس تفقه فيه على الآخرين أبى زيد و أبي موسى ابني الإمام و كان من جملة أصحابهما و لما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان رفع من منزلة ابني الإمام و اختصهما بالشورى في بلدهما و كان يستكثر من أهل العلم في دولته و يجرى لهم الأرزاق و يعمر بهم مجلسه فطلب يومئذ من ابن الإمام أن يختار له من أصحابه من ينظمه في فقهاء المجالس فأشار عليه بابن عبد النور هذا فأدناه و قرب مجلسه و ولاه قضاء عسكره و لم يزل في جملته إلى أن هلك بالطاعون بتونس سنة تسع و أربعين و سبعمائة وكان قد خلف أخاه عليا رفيقه في تدريس ابن الإمام إلا أنه أقصر باعا منه في الفقه فلما خلع السلطان أبو عنان طاعة أبيه السلطان أبي الحسن و نهض إلى فاس استنفره في جملته و ولاه قضاء مكناسة فلم يزل بها حتى تغلب عمر بن عبد الله على الدولة كما مر فنزع إلى قضاء فرضه فسرحه فخرج حاجا سنة أربع و ستين و سبعمائة فلما قدم على مكة و كان به بقية مرض هلك في طواف القدوم و أوصى أمير الحاج على ابنه محمد و أن يبلغ وصيته به للأمير المتغلب على الديار المصرية يومئذ يلبغا الخاصكي فأحسن خلافته فيه و ولاه من وظائف الفقهاء ما سد به ختله و صان عن سؤال الناس وجهه و كان له عفا الله عنه كلف بعلم الكيمياء طالبا لمن غلط في ذلك و أمثاله فلم يزل يعاني من ذلك ما يورطه مع الناس في دينه و عرضه إلى أن دعته الضرورة للترحل عن مصر و لحق ببغداد و ناله مثل ذلك فلحق بماردين و استقر عند صاحبها فأحسن جواره إلى أن بلغنا بعد التسعين أنه هلك هنالك حتف أنفه و البقاء لله وحده
و منهم شيخ التعاليم أبو عبد الله محمد بن النجار من أهل تلمسان أخذ العلم ببلده عن مشيختها و عن شيخنا الأيلي و برز عليه ثم ارتحل إلى المغرب فلقي بسبتة إمام التعاليم أبا عبد الله محمد بن هلال شارح المجسطي في الهيئة و أخذ بمراكش عن الإمام أبي العباس بن البناء و كان إماما في علم النجامة و أحكامها و ما يتعلق بها و رجع إلى تلمسان بعلم كثير و استخلصته الدولة فلما هلك أبو تاشفين و ملك السلطان أبو الحسن نظمه في جملته و أجرى له رزقه فحضر معه بإفريقية و هلك في الطاعون
ومنهم أبو العباس أحمد بن شعيب من أهل فاس برع في الأدب و اللسان و العلوم العقلية من الفلسفة و التعاليم و الطب و غيرها و نظمه السلطان أبو سعيد في جملة الكتاب و أجرى عليه رزق الأطباء لتقدمه فيه فكان كاتبه و طبيبه و كذا مع السلطان أبي الحسن بعده فحضر بإفريقية و هلك بها في ذلك الطاعون و كان له شعر سابق به الفحول من المتقدمين و المتأخرين و كانت له إمامة في نقد الشعر و بصر به و ما حضرني الآن من شعره إلا قوله :
( دار الهوى نجد وساكنها أقصى أماني النفس من نجد )
( هل باكر الوسمي ساحتها واستن في قيعانها الجرد )
( أو بات معتل النسيم بها مستشفيا بالبان و الرند )
( يتلو أحاديث الذين هم قصدي و إن جاروا عن القصد )
( أيام سمر ظلالها وطني ... منها وزرق مياهها وردي )
( ومطارح النظرات في رشاء ... أحوى المدامع أهيف القد )
( يرنو إليك بعين جارية ... قتل المحب بها على عمد )
( حتى أجد بهم على عجل ريب الخطوب و عاثر الجد )
( فقدوا فما و أبيك بعدهم عيشي شفى إلا على الفقد )
( وغدوا دفينا قد تضمنه بطن الثري و قرارة اللحد )
( ومشردا من دون رؤيته قذف النوى و تنوفة البعد )
( أجرى علي العيش بعدهم أني جرعت حميمهم وحدي )
( لا تلحني يا صاح في شجن أخفيت منه فوق ما أبدى )
( بالقرب لي سكن يؤو بني من ذكره سهد على سهد )
( فرخان قد تركا بمضيعة رزئت عن الرفداء والرفد )
و منهم صاحبنا الخطيب أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق من أهل تلمسان كان سلفه نزلاء الشيخ أبي مدين بالعباد و متوارثين خدمة تربيه من لدن جدهم خادمه في حياته و كان جده الخامس أو السادس واسمه أبو بكر بن مرزوق معروفا بالولاية فيهم و لما هلك دفنه يغمراسن بن زيان السلطان بتلمسان من بني عبد الواد في التربة بقصره ليدفن بإزائه متى قدر بوفاته و نشأ محمد هذا بتلمسان و مولده فما أخبرني سنة عشر و سبعمائة و ارتحل مع أبيه إلى المشرق سنة ثمان عشرة و سبعمائة و مر ببجاية فسمع بها على الشيخ أبي علي ناصر الدين و دخل الشرق و جاور أبوه بالحرمين الشريفين و رجع هو إلى القاهرة و أقام بها و قرأ على برهان الدين الصفاقصي الممالكي و أخيه و برع في الطلب و الرواية و كان يجيد الخطين ثم رجع سنة ثلاث و ثلاثين و سبعمائة إلى المغرب و لقي السلطان أبا الحسن بمكانه من حصار تلمسان و قد شيد بالعباد مسجدا عظيما و كان عمه ابن مرزوق خطيبا به على عادتهم في العباد و توفي فولاه السلطان خطابة ذلك المسجد مكان عمه و سعه يخطب على المنبر و يشيد بذكره و الثناء عليه فحلا بعينه و اختصه و قربه و هو مع ذلك يلازم مجلس الشيخين ابني الإمام و يأخذ نفسه بلقاء الفضلاء و الأكابر و الأخذ عنهم و السلطان كل يوم يزيد ترقيه و حضر معه واقعة طريف التي كان فيها تمحيص المسلمين فكان يستعمله في السفارة عنه إلى صاحب الأندلس ثم سفر عنه بعد أن ملك إفريقية إلى ابن أدفونش ملك قشتالة في تقرير الصلح و استنقاذ ابنه أبي عمر تاشفين كان أسر يوم طريف فغاب في تلك السفارة عن واقعة القيروان و رجع بتاشفين مع طائفة من زعماء النصرانية جاؤا في السفارة عن ملكهم و لقيهم خبر واقعة القيروان بقسنطينة من بلاد إفريقية و بها عامل السلطان و حاميته فثار أهل قسنطينة بهم جميعا و نهبوهم و خطبوا للفضل ابن السلطان أبي يحيى و راجعوا الموحدين و استدعوه فجاء إليهم و ملك البلد و انطلق ابن مرزوق عائدا إلى المغرب مع جماعة من الأعيان و العمال و السفراء عن الملوك و وفد على السلطان أبي عنان مع أمة حظية أبي الحسن وأثيرته كانت راحلة إليه فأدركها الخبر بقسنطينة و حضرت الهيعة فوثب ابنها أبو عنان على ملك أبيه و استيلائه على فاس فرجعت إليه و ابن مرزوق في خدمتها ثم طلب اللحاق بتلمسان فسرحوه إليها و أقام بالعباد مكان سلفه و على تلمسان يومئذ أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يغمراسن بن زيان قد بايع له قبيلة بني عبد الواد بعد واقعة القيروان بتونس و ابن تافراكين يومئذ محاصر للقصبة كما مر في أخبارهم و انصرفوا إلى تلمسان فوجدا بها أبا سعيد عثمان بن جرار وقد استعمله عليها السلطان أبو عنان عند انتقاضه على أبيه و مسيره إلى فاس و انتقض ابن جرار من بعده و دعا لنفسه و صمد إليه عثمان بن عبد الرحمن و معه أخوه أبو وثابت و قومهما فملكوا تلمسان من يد ابن جرار و حبسوه ثم قتلوه و استبد أبو سعيد بملك تلمسان و أخوه أبو ثابت يردفه وركب السلطان أبو الحسن البحر من تونس و غرق أسطوله و نجا هو إلى الجزائر فاحتل بها و أخذ في الحشد إلى تلمسان فرأى أبو سعيد أن يكف غربه عنهم بمواصلة تقع بينهما و اختار لذلك الخطيب ابن مرزوق فاستدعاه و أسر إليه بما يلقيه عند السلطان أبي الحسن و ذهب لذلك على طريق الصحراء و أطل أبو ثابت و قومه على الخبر فنكروه على أبي سعيد و عاتبوه فأنكر فبعثوا صغير بن عامر في اعتراض ابن مرزوق فجاء به و حبسوه أياما ثم أجازوه البحر إن الأندلس فنزل على السلطان أبي الحجاج بغرناطة و له إليه وسيلة منذ اجتماعه به بمجلس السلطان أبي الحسن بسبتة إثر واقعة طريف فرعى له أبو الحجاج ذمة تلك المعرفة و أدناه و استعمله في الخطابة بجامعة بالحمراء فلم يزل خطيبه إلى أن استدعاه السلطان أبو عنان سنة أربع و خمسين و سبعمائة بعد مهلك أبيه و استيلائه على تلمسان و أعمالها فقدم عليه و رعى له و سائله و نظمه في أكابر أهل مجلسه و كان يقرأ الكتب بين يديه في مجلسه العلي و يدرس في نوبته مع من يدرس في مجلسه منهم ثم بعثه إلى تونس عام ملكها سنة ثمان و خمسين و سبعمائة ليخطب له ابنه السلطان أبي يحيى فردت تلك الخطبة و اختفت بتونس و وشي إلى السلطان أبي عنان أنه كان مطلعا على مكانها فسخطه لذلك و رجع السلطان من قسنطينة فثار أهل تونس بمن كان بها من عماله و حاميته و استقدموا أبا محمد بن تافراكين من المهدية فجاء و ملك البلد وركب القوم الأسطول و نزلوا بمرامي تلمسان و أوعز السلطان باعتقال ابن مرزوق و خرج لذلك يحيى بن شعيب من مقدمي الحجاب ببابه فلقيه بتاسالت فقيده هنالك و جاء به فأحضره السلطان و قرعه ثم حبسه مدة و أطلقه بين يدي مهلكه
و اضطربت الدولة بعد موت السلطان أبي عنان و بايع بعض بني مرين لبعض الأعياص من بني يعقوب بن عبد الحق و حاصروا البلد الجديد و بها ابنه السعيد و وزيره المستبد عليه الحسن بن عمر و كان السلطان أبو سالم بالأندلس غربه إليها أخوه السلطان أبو عنان مع بني عمهم ولد السلطان أبي علي بعد وفاة السلطان أبي الحسن و حصولهم جميعا في قبضته فلما توفي أراد أبو سالم النهوض لملكه بالمغرب فمنعه رضوان القائم يومئذ بملك الأندلس مستبدا على ابن السلطان أبي الحجاج فلحق هو بإشبيلية من دار الحرب و نزل على بطرة ملكهم يومئذ فهيأ له السفن و أجازه إلى العدوة فنزل بجبل الصفيحة من بلاد غمارة وقام بدعوته بنو مسير و بنو منير أهل ذلك الجبل منهم ثم أمدوه و استولى على ملكه في خبر طويل ذكرناه في أخبار دولته و كان ابن مرزوق يداخله و هو بالأندلس ويستخدم له و يفاوضه في أموره و ربما كان يكاتبه و هو بجبل الصفيحة و يداخل زعماء قومه في الأخذ بدعوته فلما ملك السلطان أبو سالم رعى له تلك الوسائل أجمع و رفعه على الناس و ألقى عليه محبته و جعل زمام الأمور بيده فوطىء الناس عقبه و غشى أشراف الدولة بابه و صرفت الوجوه إليه فمرضت لذلك قلوب أهل الدولة و نقموه على السلطان و تربصوا به حتى و ثب عبد الله بن عمر بالبلد الجديد و افترق الناس عن السلطان و قتله عمر بن عبد الله أخر اثنتين و ستين و سبعمائة و حبس ابن مرزوق و أغرى به سلطانه الذي نصبه محمد بن أبي عبد الرحمن بن أبي الحسن فامتحنه و استصفاه ثم أطلقه بعد أن رام كثير من أهل الدولة قتله فمنعه منهم و لحق بتونس سنة أربع و ستين و سبعمائة و نزل على السلطان أبي اسحق و صاحب دولته المستبد عليه أبي محمد بن تافراكين فأكرموا نزله و ولوه الخطابة بجامع الموحدين بتونس و أقام بها إلى أن هلك السلطان أبو اسحق سنة سبعين و سبعمائة و ولى ابنه خالد و زحف السلطان أبو العباس حافد السلطان أبي يحيى من مقره بقسنطينة إلى تونس فملكها وقتل خالدا سنة اثنتين و سبعين و سبعمائة
و كان ابن مرزوق يستريب منه لما كان يميل و هو بفاس مع ابن عمه محمد صاحب بجاية و يؤثره عند السلطان أبي سالم عليه فعزله السلطان أبو العباس عن الخطبة بتونس فوجم لها و أجمع الرحلة إلى المشرق و سرحه السلطان فركب السفن و نزل بالإسكندرية ثم رحل إلى القاهرة ولقي أهل العلم و أمراء الدولة و نفقت بضائعه عندهم و أوصلوه إلى السلطان و هو يومئذ الأشرف فكان يحضر يومئذ مجلسه و ولاه الوظائف العلمية فكان ينتجع منا معاشه و كان الذي وصل حبله بالسلطان أستاذ داره محمد بن آقبغا آض لقيه أول قدومه فحلا بعينه و استظرف جملته فسعى له و أنجح سعايته و لم بزل مقيما بالقاهرة موقر الرتبة معروف الفضيلة مرشحا لقضاء المالكية ملازما للتدريس في وظائفه إلى أن هلك سنة إحدى و ثمانين و سبعمائة هكذا ذكر من حضره من جملة السلطان أبي الحسن من أشياخنا و أصحابنا و ليس موضوع الكتاب الإطالة فلنقتصر على هذا القدر و نرجع إلى ما كنا فيه من أخبار المؤلف (7/519)
ولاية العلامة بتونس ثم الرحلة بعدها إلى المغرب و الكتابة على السلطان أبي عنان
و لم أزل منذ نشأت و ناهزت مكبا على تحصيل العلم حريصا على اقتناء الفضائل متنقلا بين دروس العلم و حلقاته إلى أن كان الطاعون الجارف و ذهب الأعيان و الصدور و جميع المشيخة و هلك أبواي رحمهما الله و لزمت مجلس شيخنا أبي عبد الله الأيلي و عكفت على القراءة عليه ثلاث سنين إلى أن شدوت بعض الشيء و استدعاه السلطان أبو عنان فارتحل إليه و استدعاني أبو محمد بن تافراكين المستبد على الدولة يومئذ بتونس إلى كتابة العلامة عن السلطان أبي اسحق منذ نهض إليه من قسنطينة صاحبها أبو زيد حافد السلطان أبي يحيى في عساكره و معه العرب أولاد مهلهل الذين استنجدوه لذلك فخرج ابن تافراكين و سلطانه أبو اسحق مع العرب أولاد أبي الليل و بث العطاء في عسكره و عمر له المراتب و الوظائف و تعلل عليه صاحب العالمة أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر بالاستزادة من العطاء فعزله و أدالني منه فكتبت العلامة عن السلطان وهي الحمد لله و الشكر لله بالقلم الغليظ ما بين البسملة و ما بعدها من مخاطبة أو مرسوم و خرجت معهم أول سنة ثلاث و خمسين وسبعمائة و قد كنت منطويا على الرحلة من إفريقية لما أصابني من الاستيحاش لذهاب أشياخي و عطلاني عن طلب العلم فلما رجع بنو مرين إلى مراكزهم بالمغرب و انحسر تيارهم عن أفريقية و أكثر من كان معهم من الفضلاء صحابة و أشياخ فاعتزمت على اللحاق بهم و صدني عن ذلك أخي وكبيري محمد رحمه الله فلما دعيت إلى هذه الوظيفة سارعت إلى الإجابة لتحصيل غرضي من اللحاق بالمغرب و كان كذلك فإنا لما خرجنا من تونس نزلنا بلاد هوارة و زحفت العساكر بعضها إلى بعض بفحص مرما جنة و انهزم صفنا و نجوت أنا إلى أبة فأقمت بها عند الشيخ عبد الرحمن الوسناني من كبراء المرابطين ثم تحولت إلى سبتة و نزلت بها على محمد بن عبدون صاحبها فأقمت عنده ليالي حتى هيا لي الطريق مع رفيق من المغرب و سافرت إلى قفصة و أقمت بها أياما حتى قدم علينا بها الفقيه محمد ابن الرئيس منصور بن مزني و أخوه يوسف يومئذ صاحب الزاب و كان هو بتونس فلما حاصرها الأمير أبو زيد خرج إليه فكان معه فلما بلغهم الخبر بأن السلطان أبا عنان ملك المغرب نهض إلى تلمسان فملكها و قتل سلطانها عثمان بن عبد الرحمن و أخاه أبا ثابت و أنه انتهى إلى المدية و ملك بجاية من يد صاحبها الأمير أبي عبد الله من حفدة السلطان أبي يحيى و راسله عندما أطل على بلده فسار إليه و نزل له عنها و صار في جملته و ولى أبو عنان على بجاية عمر ابن لأعلي شيخ بني وطاس من بني الوزير شيوخهم فلما بلغهم هذا الخبر أجفل الأمير عبد الرحمن من مكانه عن حصار تونس و مر بقفصة فدخل إلينا محمد بن مزني ذاهبا إلى الزاب فرافقته إلى بسكرة و دخلت إلى أخيه هنالك و نزل هو بعض قرى الزاب تحت جراية أخيه إلى أن انصرم الشتاء
و كان أبو عنان لما ملك بجاية و لى عليها عمر بن علي بن الوزير من شيوخ بني وطاس فجاء فارح مولى الأمير أبي عبد الله لنقل حرمه و ولده فداخل بعض السفهاء من صنهاجة في قتل عمر بن علي فقتله في مجلسه و وثب هو على البلد و أرسل إلى الأمير أبي زيد يستدعيه من قسنطينة فتمشت رجالات البلد بينهم خشية من سطوة السلطان ثم ثاروا بفارح فقتلوه و أعادوا دعوة السلطان كما كانت و بعثوا عن عامل السلطان بتدلس يحياتن بن عمر بن عبد المؤمن من شيوخ بني ونكاسن من بنى مرين فملكوه قيادهم و بعثوا إلى السلطان بطاعتهم فأخرج لوقته حاجبه محمد بن أبي عمرو واكتنف له الجند و صرف معه وجوه دولته و أعيان بطانته و ارتحلت من بسكرة وافدا على السلطان أبي عنان بتلمسان فلقيت ابن أبي عمرو بالبطحاء و تلقاني من الكرامة بما لم أحتسبه و ردني معه إلى بجاية فشهدت الفتح و تسايلت وفود إفريقية إليه فلما رجع إلى السلطان وفدت معهم فنالني من كرامته و إحسانه ما لم أحتسبه إذ كنت شابا لم يطر شاربي ثم انصرفت مع الوفود و رجع ابن أبي عمرو إلى بجاية فأقمت عنده حتى انصرم الشتاء أواخر أربع و خمسين و سبعمائة و عاد السلطان أبو عنان إلى فاس و جمع أهل العلم للتحليق بمجلسه و جرى ذكري عنده و هو ينتقي طلبة العلم للمذاكرة في ذلك المجلس فأخبره الذين لقيتهم بتونس عني و وصفوني له فكتب إلي الحاجب يستقدمني فقدمت عليه سنة خمس و خمسين و سبعمائة و نظمني في أهل مجلسه العلمي و ألزمني شهود الصلوات معه ثم استعملني في كتابته و التوقيع بين يديه على كره مني إذ كنت لم أعهد مثله لسلفي و عكفت على النظر و القراءة و لقاء المشيخة من أهل المغرب و من أهل الأندلس الوافدين في غرض السفارة و حصلت من الإفادة منهم على البغية
و كان في جملته يومئذ الأستاذ أبو عبد الله محمد بن الصفار من أهل مراكش إمام القراءات لوقته أخذ عن جماعة من مشيخة المغرب كبيرهم شيخ المحدثين الرحالة أبو عبد الله محمد بن رشيد الفهري سيد أهل المغرب و كان يعارض السلطان القرآن برواياته السبع إلى أن توفي
و منهم قاضي الجماعة بفاس أبو عبد الله محمد المغربي صاحبنا من أهل تلمسان أخذ العلم بها عن أبي عبد الله محمد السلوي ورد عليها من المغرب خلوا من المعارف ثم دعته همته إلى التحلي بالعلم فعكف في بيته على مدارسة القران فحفظه وقرأه بالسبع ثم عكف على كتاب التسهيل في العربية فحفظه ثم على مختصر ابن الحاجب في الفقه و الأصول فحفظه ثم لزم الفقيه عمران المشد الي من تلاميذ أبي علي ناصر الدين و تفقه عليه و برز في العلوم إلى حيث لم تلحق غايته و بنى السلطان أبو تاشفين مدرسة بتلمسان فقدمه للتدريس بها يضاهي به أولاد الإمام و تفقه عليه بتلمسان جماعة كان من أوفرهم سهما في العلوم أبو عبد الله المغربي هذا
و لما جاء شيخا أبو عبد الله الأيلي إلى تلمسان عند استيلاء السلطان أبي الحسن عليها و كان أبو عبد الله السلوي قد قتل يوم فتح تلمسان قتله بعض أشياع السلطان لذنب أسلفه في خدمة أخيه أبي علي بسجلماسة قبل انتحاله العلم كان السلطان توعده عليه فقتل بباب المدرسة فلزم أبو عبد الله المغربي بعده مجلس شيخنا الأيلي مجالس ابني الإمام و استبحر في العلم و تفنن و لما انتقض السلطان أبو عنان سنة تسع و أربعين و سبعمائة و خلع أباه ندبه إلى كتب البيعة فكتبا و قرأها على الناس في يوم مشهود و ارتحل مع السلطان إلى فاس فلما ملكها عزل قاضيها الشيخ المعمر أبا عبد الله بن عبد الرزاق و ولاه مكانه فلم يزل قاضيا بها إلى أن أسخطه لبعض النزعات الملوكية فعزله و أدال منه بالفقيه أبي عبد الله الفشتالي آخر سنة ست و خمسين و سبعمائة ثم بعثه في سفارة إلى الأندلس فامتنع من الرجوع و قام السلطان لها في ركابه و نقم على صاحب الأندلس تمسكه به و بعث إليه فيه يستقدمه فلاذ ابن الأحمر بالشفاعة فيه و اقتضى له كتاب أمان بخط السلطان أبي عنان و أوفده في جماعة من شيوخ العلم بغرناطة القاطنين بها منهم : شيخنا أبو القاسم الشريف السبي شيخ الدنيا جلالة و علما و وقارا و رياسة إمام اللسان فصاحة و بيانا و تقدما في نظمه و نثره و ترسلاته و شيخنا الأخر أبو البركات محمد بن محمد بن الحاج البلقيني من أهل المرية شيخ المحدثين و الفقهاء و الأدباء و الصوفية و الخطباء بالأندلس و سيد أهل العلم بإطلاق و المتفنن في أساليب المعارف و آداب الصحابة للملوك فن دونهم فوفدوا به على السلطان شفيعين على عظيم تشوفه للقائهما فقبلت الشفاعة و أنجحت الوسيلة
حضرت بمجلس السلطان يوم وفادتهما سنة سبع و خمسين و سبعمائة و كان يوما مشهودا و استقر القاضي المغربي في مكان بباب السلطان عطلا من الولاية و الجراية و جرت عليه بعد ذلك محنة من السلطان وقعت بينه و بين أقاربه امتنع من الحضور معهم عند القاضي الفشتالي فتقدم السلطان إلى بعض أكابر الوزعة ببابه أن يسحبه إلى مجلس القاضي حتى ينفذ فيه حكمه فكان الناس يعدونها محنة ثم ولاه السلطان بعد ذلك قضاء العساكر في دولته عند ما ارتحل إلى قسنطينة فلما افتتحها و عاد إلى دار ملكه بفاس آخر ثمان و خمسين و سبعمائة اعتل القاضي المغربي في طريقه و هلك عند قدومه بفاس
و منهم صاحبنا الإمام العالم القدوة فارس المعقول و المنقول و صاحب الفروع و الأصول أبو عبد الله محمد بن أحمد الشريف الحسني و يعرف بالعلوي نسبة إلى قرية من أعمال تلمسان تسمى العلوين فكان أهل بلده لا يدافعون في نسبهم وربما يغمز فيه بعض الفجرة ممن لا يروعه دينه و لا معرفته بالأنساب ببعض من اللغو لا يلتفت إليه نشأ هذا الرجل بتلمسان و أخذ العلم عن مشيختها و اختص بأولاد الإمام وتفقه عليهما في الفقه و الأصول و الكلام ثم لزم شيخنا أبا عبد الله الأيلي و تضلع من معارفه فاستبحر و تفجرت ينابيع العلوم من مداركه ثم ارتحل إلى تونس في بعض مذاهبه سنة أربعين و سبعمائة و لقي شيخنا القاضي أبا عبد الله ابن عبد السلام و حضر مجلسه و أفاد منه و استعظم رتبته في العلم و كان ابن عبد السلام يصغي إليه و يؤثر محله و يعرف حقه حتى لقد زعموا أنه كان يخلو به في بيته فيقرأ عليه فصل التصوف من كتاب الإشارات لابن سينا لما كان هو أحكم ذلك الكتاب على شيخنا الأيلي و قرأ عليه كثيرا من كتاب الشفاء لابن سينا و من تلاخيص كتب أرسطو لابن رشد و من الحساب و الهندسة و الفرائض علاوة على ما كان يحمله من الفقه و العربية و سائر علوم الشريعة و كانت له في كتب الخلافيات يد طولى و قدم عالية فعرف له ابن عبد السلام ذلك كله و أوجب حقه و انقلب إلى تلمسان و انتصب لتدريس العلم وبثه فملأ المغرب معارف و تلاميذ إلى أن اضطرب المغرب بعد واقعة القيروان ثم هلك السلطان أبو الحسن و زحف أبو عنان إلى تلمسان فملكها سنة ثلاث و خمسين و سبعمائة فاستخلص الشريف أبا عبد الله و اختاره لمجلسه العلي مع من اختاره من المشيخة و زحف يه إلى فاس فتبرم الشريف من الاغتراب و ردد الشكوى وعرف السلطان ذلك و ارتاب به ثم بلغه أثناء ذلك أن عثمان بن عبد الرحمن سلطان تلمسان أوصاه على ولده و أودع له مالا عند بعض الأعيان من أهل تلمسان و أن الشريف مطلع على ذلك فانتزع الوديعة و سخط الشريف بذلك و نكبه و أقام في اعتقاله أشهرا ثم أطلقه أول ست و خمسين و سبعمائة و أقصاه ثم أعتبه بعد فتح قسنطينة و أعاده إلى مجلسه إلى أن هلك السلطان آخر تسع و خمسين و سبعمائة
و ملك أبو حمو بن يوسف بن عبد الرحمن تلمسان من يد بني مرين و استدعى الشريف من فاس فسرحه القائم بالأمر يومئذ الوزير عمر بن عبد الله فانطلق إلى تلمسان و أطلقه أبو حمو براحتيه و أصهر له في ابنته فزوجها إياه و بنى له مدرسة جعل في بعض جوانبها مدفن أبيه و عمه و أقام الشريف يدرس العلم إلى أن هلك سنة إحدى و سبعين و سبعمائة و أخبرني رحمه الله أن مولده سنة عشر و سبعمائة و منهم صاحبنا الكاتب القاضي أبو القاسم محمد بن يحيى البرجي من برجة الأندلس كان كاتب السلطان أبي عنان و صاحب الإنشاء و السر في دولته و كان مختصا به و أثيرا لديه و أصله من برجة الأندلس نشأ بها و اجتهد في العلم و التحصيل و قرأ و سمع و تفقه على مشيخة الأندلس و استبحر في الأدب وبرز في النظم و النثر و كان لا يجاري في كرم الطباع و حسن المعاشرة و لين الجانب و بذل البشر و المعروف و ارتحل إلى بجاية في عشر الأربعين و سبعمائة و بها الأمير أبو زكريا ابن السلطان أبي يحيى منفردا بملكها على حين أقفر من رسم الكتابة و البلاغة بادرت أهل الدولة إلى اصطفائه و إيثاره بخطة الإنشاء و الكتاب عن السلطان إلى أن هلك الأمير أبو زكريا و نصب ابنه محمد مكانه فكتب عنه على رسمه ثم هلك السلطان أبو يحيى و زحف السلطان أبو الحسن إلى إفريقية و استولى على بجاية و نقل الأمير محمدا بأهله و حاشيته إلى تلمسان كما تقدم في أخباره فنزل أبو القاسم البرجي تلمسان و أقام بها و اتصل خبره بأبي عنان ابن السلطان أبي الحسن و هو يومئذ أميرها و لقيه فوقع من قلبه بمكان إلى أن كانت واقعة القيروان و خلع أبو عنان و استبد بالأمر فاستكتبه و حمله إلى المغرب و لم يسم به إلى العلامة لأنه آثر بها محمد بن أبي عمر بما كان أبوه يعلمه القرآن و العلم و ربي محمد بداره فولاه العلامة و البرجي مرادف له في رياسته إلى أن انقرضوا جميعا و هلك السلطان أبو عنان و استولى أخوه أبو سالم على ملك المغرب و غلب ابن مرزوق على هواه كما قدمناه فنقل البرجي من الكتابة و استعمله في قضاء العساكر فلم يزل على القضاء إلى أن هلك سنة ست و ثمانين و سبعمائة و أخبرني رحمه الله أن مولده سنة عشر و سبعمائة
و منهم شيخنا المعمر الرحالة أبو عبد الله محمد بن عبد الرزاق شيخ وقته جلالة و تربية و علما و خبرة بأهل بلده و عظمة فيهم نشأ بفاس و أخذ عن مشيختها و ارتحل إلى تونس فلقي القاضي أبا اسحق بن عبد الرفيع و القاضي أبا عبد الله النفزاوي و أهل طبقتهما و أخذ عنهم وتفقه عليهم و رجع إلى المغرب و لازم سنن الأكابر و المشايخ إلى أن ولاه السلطان أبو الحسن القضاء بمدينة فاس فأقام على ذلك إلى أن جاء السلطان أبو عنان من تلمسان بعد واقعة القيروان و خلعه أباه فعزله بالفقيه أبي عبد الله المغربي و أقام عطلا في بيته
و لما جمع السلطان مشيخة العلم للتحليق بمجلسه و الإفادة منهم و استدعى شيخنا أبا عبد الله بن عبد الرزاق فكان يأخذ عنه الحديث و يقرأ عليه القرآن برواياته في مجلس خاص إلى أن هلك رحمه الله بين يدي مهلك السلطان أبي عنان إلى آخرين و آخرين من أهل المغرب و الأندلس كلهم لقيت و ذاكرت وأفدت منه و أجازني بالإجازة العامة (7/532)
حديث النكبة من السلطان أبي عنان
كان اتصالي بالسلطان أبي عنان آخر سنة ست و خمسين و سبعمائة و قر بي و أدناني و استعملني في كتابته و اختصني بمجلسه للمناظرة و التوقيع عنه فكثر المنافسون و ارتفعت السعايات حتى قويت عنده بعد أن كان لا يغير عن صفائه ثم اعتل السلطان آخر سبع و خمسين و سبعمائة و كان قد حصلت بيني و بين الأمير محمد صاحب بجاية من الموحدين مداخلة أحكها ما كان لسلفي في دولتهم و غفلت عن التحفظ من مثل ذلك من غيرة السلطان فما هو إلا أن شغل بوجعه حتى نمي إليه بعض النواة أن صاحب بجاية معتمل في الفرار ليسترجع بلده و بها يومئذ وزيره الكبير عبد الله بني علي فانبعث السلطان لذلك و بادر بالقبض عليه و كان فيما نمي إليه أني داخلته في ذلك فقبض علي و امتحني و حبسني ثم أطلق الأمير محمدا و ما زلت أنا في اعتقاله إلى أن هلك و خاطبته بين يدي مهلكه مستوطفا بقصيدة أولها :
( على أي حال لليالي أعاتب ... وأي صروف للزمان أغالب )
( كفى حزنا أني على القرب نازح ... و أني على دعوى شهودي غائب )
( و أني على حكم الحوادث نازل ... تسالمني طورا و طورا تحارب )
ومنها في التشوق :
( سلوتهم إلا ادكار معاهد ... لها في الليالي الغابرات غرائب )
( و إن نسيم الريح منهم يشوقني ... إليهم و تصيبي البروق اللواعب )
و هي طويلة نحو مائتين بيتا ذهبت عن حفظي فكان لها منه موقع و هش لها و كان بتلمسان فوعد بالإفراج عني عند حلوله بفاس و لخمس ليال من حلوله طرقه الوجع و هلك لخمس عشرة ليلة في رابع و عشرين ذي الحجة خاتم تسع و خمسين و سبعمائة و بادر القائم بالدولة الوزير الحسن بن عمر إلى إطلاق جماعة من المعتقلين كنت فيهم فخلع علي و حملني و أعادني إلى ما كنت عليه و طلبت منه الانصراف إلى بلدي فأبى علي و عاملي بوجوه كرامته و مذاهب إحسانه إلى أن اضطرب أمره و انتقض عليه بنو مرين و كان ما قدمناه في أخبارهم (7/539)
الكتابة عن السلطان أبي سالم في السر و الإنشاء
و لما أجاز السلطان أبو سالم من الأندلس لطلب ملكه و نزل بجبل الصفيحة من بلاد غماره و كان الخطيب ابن مرزوق بفاس فبث دعوته سرا و استعان بي على أمره بما كان بيني و بين أشياخ بني مرين من المحبة و ائتلاف فحملت الكثير منهم على ذلك و أجابوني إليه و أنا يومئذ أكتب عن القائم بأمر بني مرين منصور بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق و قد نصبوه للملك و حاصروا الوزير الحسن بن عمر و سلطانه السعيد ابن أبي عنان بالبلد الجديد فقصدني ابن مرزوق في ذلك و أوصل إلي كتاب السلطان أبي سالم بالحض على ذلك و إجمال الوعد فيه و ألقى علي حمله فنهضت به و تقدمت إلى شيوخ بني مرين و أمراء الدولة بالتحريض على ذلك حتى أجابوا و بعث ابن مرزوق إلى الحسن بن عمر يدعو إلى طاعة السلطان أبي سالم و قد ضجر من الحصار فبادر إلى الإجابة و اتفق رأى بنى مرين على الانفضاض عن منصور بن سليمان و الدخول إلى البلد الجديد فلما تم عقدهم على ذلك نزعت إلى السلطان أبي سالم في طائفة من وجوه أهل الدولة كان منهم محمد بن عثمان بن الكاس المستبد بعد ذلك بملك المغرب على سلطانه و كان ذلك النزوع مبدأ حظه و فاتحة رياسته بسعايتي له عند السلطان فلما قدمت على السلطان بالصفيحة بما عندي من أخبار الدولة و ما أجمعوا عليه من خلع منصور بن سلمان و بالموعد الذي ضربوه لذلك و استحثثته فارتحل و لقينا البشر بإجفال منصور بن سليمان و فراره إلى نواحي بادس و دخول بني مرين إلى البلد الجديد و إظهار الحسن بن عمر دعوة السلطان أبي سالم ثم لقيتنا بالقصر الكبير قبائل السلطان و عساكره على راياتهم و وزير منصور بن سلمان و هو مسعود بن رحو بن ماساي فتلقاه السلطان بالكرامة كما يحب له و استوزره عوضا نائبا للحسن بن يوسف بن علي بن محمد الورتاجني السابق إلى وزارته لقيه بسبتة و قد غر به منصور بن سليمان إلى الأندلس فاستوزره و استكفاه
و لما اجتمعت العساكر عنده بالقصر صعد إلى فاس و لقيه الحسن بن عمر بظاهرها فأعطاه طاعته و دخل إلى دار ملكه و أنا في ركابه لخمس عشرة ليلة من نزوعي إليه منتصف شعبان سنة ستين و سبعمائة فرعى لي السابقة و استعملني في كتابة سره و الترسيل عنه و الإنشاء لمخاطباته و كان أكثرها يصدر عني بالكلام المرسل بدون أن يشاركني أحد ممن ينتحل الكتابة في الأسجاع لضعف انتحالها و خفاء المعاني منها على أكثر الناس بخلاف غير المرسل فانفردت به يومئذ و كان مستغربا عند من هم من أهل هذه الصناعة
ثم أخذت نفسي بالشعر و انثال علي منه بحور توسطت بين الإجادة و القصور و كان مما أنشدته إياه ليلة المولد النبوي من سنة ثلاث و ستين و سبعمائة
( أسرفن في هجري و في تعذيبي ... و أطلن موقف عبرتي و نحيبي )
( و أبين يوم البين موقف ساعة ... لعواد مشغوف الفؤاد كئيب )
( لله عهد الظاعنين و قد غدا ... قلبي رهين صبابة و وجيب )
( غربت ركائبهم و دمعي سافح ... فشربت بعدهم بماء غروب )
( يا ناقعا بالعتب غلة شوقهم ... رحماك في عذلي و في تأنيبي )
( يستعذب الصب الملام و إنني ... ماء المدام لدي غير شروب )
( ما هاجني طرب و لا اعتاد الجوى ... لولا تذكر منزل و حبيب )
( أصبوا إلى أطلال كانت مطلعا ... للبدر منهم أوكناس ربيب )
( عبثت به أيدي البلى و ترددت ... في عطفها للدهر أي خطوب )
( تبلى معاهدها و إن عهودها ... ليجرها وصفي و حسن نسيبي )
( وإذا الديار تعرضت لمتيم ... هزت لذكراها أولى التشبيب )
( إيه على الصبر الجميل فإنه ... ألوى بدين فؤادي المنهوب )
( لم أنسها والدهر يثني صرفه ... و يغض طرفي حاسد و رقيب )
( و الدار مونقة بما لبست من الأ ... يام تجلوها بكل قشيب )
( يا سائق الأظعان يعتسف الفلا ... بتواصل الأسناد و التأويب )
( متهافتا عن رحل كل مدلل ... نشوان من آن ومس لغوب )
( تتجاذب النفحات فضل ردائه ... في ملتقاها من صبا و جنوب )
( إن هام من ظمأ الصبابة صحبه ... نهلوا بمورد دفعه المسكوب )
( إن تعترض مسراهم سدف الدجى ... صدعوا الدجى بغرامه المشبوب )
( في كل شعب منية ... من دونها هجر الأماني أو لقاء شعوب )
( هلا عطفت صدورهن إلى التي ... فيها لغانية أعين و قلوب )
( فتؤم من أكناف يثرب مأمنا ... يكفيك ما تخشاه من تثريب )
( حيث النبوة آيها مجلوة ... تتلو من الآثار كل غريب )
( سر عجيب ليس يحجبه الثرى ... ما كان سر الله بالمحجوب )
و منها بعد تعديد معجزاته صلى الله عليه و سلم و الأطناب في مدحه :
( إني دعوتك واثقا بإجابتي ... يا خير مدعو و خير مجيب )
( قصرت في مدحي فإن يك طيبا ... فبما لذكرك من أريج الطيب )
( ماذا عسى يبغي المطيل و قد حوى ... في مدحك القرآن كل مطيب )
( يا هل تبلغني الليالي زورة ... تدني إلي الفوز بالمرغوب )
( أمحو خطيآتي بإخلاصي بها ... و أحط أوزاري و إصر ذنوبي )
( في فتية هجروا المنى و تعودوا ... إنضاء كل نجيبة و نجيب )
( يطوي صحائف ليلهم نوق الفلا ... ما شئت من خبب و من تقريب )
( إن رنم الحادي بذكرك رددوا ... أنفاس مشتاق إليك طروبي )
( أو غرد الركب الخلي بطيبة ... حنوا لملقاها حنين النيب )
( و رثوا اعتساف البيد عن آبائهم ... إرث الخلافة في بنى يعقوب )
( الظاعنون الخيل و هي عوابس ... يغشى مثار النقع كل سبيب )
( و الواهبون المقربات صوافنا ... من كل خوار العنان لعوب )
( و المانعون الجار حتى عرضه ... في منتدى الأعداء غير معيب )
( تخشى بوادرهم ويرجى حلمهم ... و العز شيمة مرتجى و مهيب )
و منها إلى ذكر إجازته البحر و استيلائه على ملكه :
( سائل بنى طامي العباب و قد سرى ... تزجيه ربح العزم ذات هبوب )
( تهديه شهب أسنة و عزائم ... يصد عن ليل الحادث المرهوب )
( حتى انجلت ظلل الظلام بسعيه ... وسطا الهدى بفريقه المغلوب )
( أبني الأولى شادوا الخلافة بالتقى ... و استأثروا بتاجها المغصوب )
( جمعوا لحفظ الدين أي مناقب ... كرموا بها في مشهد و مغيب )
( لله مجدك طارفا أو تالدا ... فلقد شهدنا منه كل عجيب )
( كم رهبة أو رغبة لك في العلا ... تقتاد بالترغيب و الترهيب )
( لا زلت مسرورا بأشرف دولة ... يبدو الهدى من أفقها المرغوب )
( تحيي المعالي غاديا أو رائحا ... و حديد سعدك ضامن المطلوب )
و من قصيدة خاطبته بها عند وصول هدية ملك السودان إليه و فيها الحيوان الغريب المسمى بالزرافة :
( قدحت يد الأشواق من زندي ... و هفت بقلبي زفرة الوجد )
( و نبذت سلواني على ثقة ... بالقرب فاستبدلت بالبعد )
( و لرب وصل كنت آمله ... فاعتضت منه بمؤلم الصد )
( لا عهد عند الصبر أطلبه ... إن الغرام أضاع من عهدي )
( يلحى العذول فما أعنفه ... وأقول ضل فأبتغي رشدي )
( و أعارض النفحات أسألها ... برد الجوى فتزيد في الوقد )
( يهدي الغرام إلى مسالكها ... لتعللي بضعيف ما تهدي )
( يا سائق لأظعان معتسفا ... طي الفلاة لطية الوجد )
( أرح الركاب ففي الصبا نبأ ... يغني عن المستنة الجرد )
( وسل الربوع برامة خبرا ... عن ساكني نجد و عن نجد )
( مالي يلام على الهوى خلقي ... و هي التي تأبى سوى الحمد )
( لأبيت إلا الرشد مذ وضحت ... بالمستعين معالم الرشد )
( نعم الخليفة في هدى وتقى ... و بناء عز شامخ الطود )
( نجل السراة الغر شأنهم ... كسب العلا بمواهب الوجد )
ومنها في ذكر خلوصي إليه و ما ارتكبته فيه :
( لله منى إذ تأوبني ... ذكراه و هو بشاهق فرد )
( شهم يفل بواترا قضبا ... و جموع أقيال أولى اليد )
( أو ريت زند العزم في طلبي ... و قضيت حق المجد من قصدي )
( و وردت عن ظمأ مناهله ... فرويت عن عز و من رفدي )
( هي جنة المأوى لمن كانت ... آماله بمطالب المجد )
( لو لم أعل برد كوثرها ... ما قلت هذي جنة اللد )
( من مبلغ قومي و دونهم ... قذف النوى و تنوفة البعد )
( أني أنفت على رجائهم ... و ملكت عز جميعهم وحدي )
( و رقيمة الأعطاف حالية ... موشية بوشائح البرد )
( وحشية الأنساب ما أنست ... في موحش البيداء بالغرد )
( تسمو بجيد بالغ صعدا ... شرف الصروح بغير ما جهد )
( طالت رؤوس الشامخات به ... ولربما قصرت عن الوهد )
( قطعت إليك تنائفا وصلت ... آسارها بالقهد و الوخد )
( تحدي على استصغائها ذللا ... وتبيت طوع القن والقد )
( بسعودك اللاتي ضمن لها ... طول الحياة بعيشة رغد )
( جاءتك في وفد الأحابش لا ... يرجون غيرك مكرم الوفد )
( وافوك انضاء تقلبهم ... أيدي السري بالغور والنجد )
( كالطيف يستقري مضاجعه ... أو كالحسام يسل من غمد )
( يثنون بالحسنى التي سبقت ... من غير إنكار و لا جحد )
( و يرون لحظك من وفادتهم ... فخرا على الأتراك والهند )
( يا مستعينا جل في شرف ... عن رتبة المنصور والمهدي )
( جازاك ربك عن خليقته ... خير الجزاء فنعم من يسدي )
( وبقيت للدنيا وساكنها ... في عزة أبدا وفي سعد )
وأنشدته في سائر أيامه غير هاتين القصيدتين كثيرا لم يحضرني الآن شيء منه ثم غلب ابن مرزوق على هواه وأفرد بخالصته وكبح الشكائم عن قربه فانقبضت وقصرت الخطو مع البقاء على ما كنت فيه من كتابة سره وإنشاء مخاطباته ومراسمه ولاني آخر الدولة خطة المظالم فوفيتها حقها ودفعت للكثير مما أرجو ثوابه ولم يزل ابن مرزوق آخذا في سعايته بي وبأمثالي من أهل الدولة غيرة ومنافسة إلى أن انتقض الأمر على السلطان بسببه وثار الوزير عمر بن عبد الله بدار الملك فصار إليه الناس ونبذوا السلطان وبيعته وكان في ذلك هلاكه على ما ذكرناه في أخبارهم
ولما قام الوزير عمر بالأمر أقرني علي ما كنت عليه ووفر أقطاعي وزاد في جرايتي وكنت أسمو بطغيان الشباب إلى أرفع مما كنت فيه وأدل في ذلك بسابق مودة معه منذ أيام السلطان أبي عنان وصحابة استحكم عقدها بيني وبين الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية فكان ثالث آثافينا و مصقلة فكاهتنا و اشتدت غيرة السلطان لذلك كما مر وسطا بنا وتغافل عن عمر بن عبد الله لمكان أبيه من ثغر بجاية ثم حملني الإدلال عليه أيام سلطانه وما ارتكبه في حقي من القصور بي عما أسمو إليه إلى أن هجرته و قعدت عن دار السلطان مغاضبا له فتنكر لي و أقطعني جانبا من الإعراض فطلبت الرحلة إلى بلدي بإفريقية وكان بنو عبد الواد قد راجعوا ملكهم بتلمسان و المغرب الأوسط فمنعني من ذلك أن يغتبط أبو حمو صاحب تلمسان بمكاني فأقيم عنده وألح في المنع من ذلك وأبيت أنا إلا الرحلة و استجرت في ذلك برديفه وصهره الوزير مسعود بن رحو بن ماسي ودخلت عليه يوم الفطر سنة ثلاث وستين وسبعمائة فأنشدته :
( هنيئا لصوم لا عداه قبول وبشرى لعيد أنت فيه منيل )
( وهنئتها من عزة و سعادة تتابع أعوام بها و فصول )
( سقى الله دهرا أنت إنسان عينه ولامس ربعا في حماك محول )
( فعصرك ما بين الليالي مواسم ... له غرر وضاحة و حجول )
( وجانبك المأمول للجود مشرع يحوم عليه عالم و جهول )
( عساك وإن ضن الزمان منولي فرسم الأماني من سواك محيل )
( أجرني فليس الدهر لي بمسالم ... إذا لم يكن لي في ذراك مقيل )
( وأوليتني الحسنى بما أنا آمل ... فمثلك يؤلي راجيا وينيل )
( و و الله ما رمت الترحل عن قلبي ... و لا سخطة للعيش فهو جزيل )
( ولا رغبة عن هذه الدار إنها ... لظل على هذا الأنام ظليل )
( ولكن نأى بالشعب عنا حبائب شجاهن خطب والفراق طويل )
( يهيج بهن الوجد إني نازح ... وأن فؤادي حيث هن حلول )
( عزيز عليهن الذي قد لقيته ... وأن اغترابي في البلاد يطول )
( توارت بابني البقاع كأنني ... تخطفت أو غالت ركابي غول )
( ذكرتك يا مغنى الأحبة والهوى فطارت لقلبي أنة و عويل )
( وحييت عن شوق رباك كأنما يمثل لي فيء ... بها و طول )
( أأحبابنا والعهد بيني وبينكم كريم وما عهد الكريم يحول )
( إذا أنا لم ترض الحمول مدامعي فلا قربتني للقاء حمول )
( إلام مقامي حيث لم ترد العلا مرادي ولم تعط القياد ذلول )
( أجاذب فضل العمر يوما وليلة وساء صباح بها وأصيل )
( ويذهب بي ما بين يأس ومطمع ... زمان بنيل المعلوات بخيل )
( تعللني منه أمان خوادع ... ويؤنسني منه أمان مطول )
( أما لليالي لا ترد خطوبها ... ففي كبدي من وقعهن فلول )
( يروعني عن صرفها كل حادث ... تكاد له صم البلاد تزول )
( أداري على رغم العداة بريبة ... يصانع واش خوفها و عذول )
( وأغدو بأشجاني عليلا كأنما تجود بنفسي زفرة وغليل )
( وإني و إن أصبحت في دار غربة ... تحيل الليالي سلوتي و تديل )
( وصدتني الأيام عن خير منزل ... عهدت به أن لا يضام نزيل )
( لأعلم أن الخير والشر ينتهي ... مداه وأن الله سوف يديل )
( وإني عزيز بابم ماساي مكثر ... وإن هان أنصار وبان خليل )
فأعانني الوزير مسعود عليه حتى أذن لي في الانطلاق على شريطة العدول عن تلمسان في أي مذهب أردت فاخترت الأندلس وصرفت ولدي وأمهم إلى أخوالهم أولاد القائد محمد بن الحكيم بقسنطينة فاتح أربع وستين وسبعمائة وجعلت أنا طريق على الأندلس وكان سلطانها أبو عبد الله المخلوع وحين وفد على السلطان أبي سالم بفاس وأقام عنده حصلت لي معه سابقة وصلة ووسيلة خدمة من جهة الوزير أبي عبد الله بن الخطيب لما كان بيني وبينه من الصحابة فكنت أقوم بخدمته واعتمل في قضاء حاجاته في الدولة ولما أجاز باستدعاء الطاغية لاسترجاع ملكه حين فسد ما بين الطاغية وبين الرئيس المتوثب عليه بالأندلس من قرابته خلفته فما ترك من عياله وولده بفاس خير خلف في قضاه حاجاتهم وإدرار أرزاقهم من المتولين لها والاستخدام لهم ثم فسد ما بين الطاغية وبينه قبل ظفره بملكه برجوعه عما اشترط له من التجافي عن حصون المسلمين التي تملكها بالإجلاب ففارقه إلى بلاد المسلمين باستجة وكتب إلى عمر بن عبد الله يطلب مصرا ينزله من أمصار الأندلس الغربية التي كانت ركابا لملوك المغرب في جهادهم وخاطبني أنا في ذلك فكنت له نعم الوسيلة عند عمر حتى تم قصده من ذلك وتجافى له عن رندة وأعمالها فنزلها وتملكها وكانت دار هجرته وركاب فتحه وملك منها الأندلس أواسط ثلاث وستين و سبعمائة و استوحشت أنا من عمر إثر ذلك كما مر وارتحلت إليه معولا على سوابقي عنده فقرب في المكافآت كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/540)
الرحلة إلى الأندلس
ولما أجمعت الرحلة إلى الأندلس بعثت بأهلي وولدي إلى أخوالهم بقسنطينة وكتبت لهم إلى صاحبها السلطان أبي العباس من حفدة السلطان أبي يحيى وبأني أمر على الأندلس وأجيز عليه من هنالك وسرت إلى سبتة فرضة المجاز وكبيرها يومئذ الشريف أبو العباس أحمد بن الشريف الحسني ذو النسب الواضح السالم من الريبة عند كافة أهل المغرب انتقل سلفه إلى سبتة من صقلية وأكرمهم بنو العزفي أولا وصاهروهم ثم عظم صيتهم في البلد فتنكروا لهم و غربهم يحيى العزفي آخرهم إلى الجزيرة فاعترضتهم مراكب النصارى في الزقاق فأسروهم وانتدب السلطان أبو سعيد إلى فديتهم رعاية لشرفهم فبعث إلى النصارى في ذلك فأجابوه وفادى هذا الرجل وأباه على ثلاثة آلاف دينار ورجعوا إلى سبتة وانقرض بنو العزفي ودولتهم وهلك والد الشريف وصدر هو إلى رياسة الشورى لما كانت واقعة القيروان وخلع أبو عنان أباه واستولى على المغرب وكان بسبتة عبد الله بن علي الوزير واليا من قبل السلطان أبي الحسن فتمسك بدعوته ومال أهل البلد إلى السلطان أبي عنان وبث فيهم الشريف دعوته فثاروا بالوزير وأخرجوه و وافدوا على أبي عنان و أمكنوه من بلدهم فولى عليها من عظماء دولته سعيد بن موسى العجيسى كان كافل تربيته في صغره وأفرد هذا الشريف برياسة الشورى في سبتة فلم يكن يقطع أمرا دونه ووفد على السلطان بعض الأيام فتلقاه من المبرة بما لا يشاركه فيه أحد من وفود الملوك والعظماء ولم يزل على ذلك سائر أيام السلطان وبعد وفاته وكان معظما وقور المجلس هش اللقاء كريم الوقادة متحليا بالعلم والأدب منتحلا للشعر غاية في الكرم وحسن العهد وسذاجة النفس ولما مررت به سنة أربع وستين وسبعمائة أنزلني ببيته أزاء المسجد الجامع ورأيت منه ما لا يقدر مثله من الملوك وأركبني الحراقة ليلة سفري يباشر دحرجها إلى الماء بيده إغرابا في الفضل والمساهمة وحططت بجبل الفتح وهو يومئذ لصاحب المغرب ثم خرجت منه إلى غرناطة وكتبت للسلطان ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب بشأني وليلة بت بقرب غرناطة على بريد منها لقيني كتاب ابن الخطيب يهنئني بالقدوم ويؤنسني ونصه :
( حلت حلول الغيث في البلد المحل ... على الطائر الميمون والرحب والسهل )
( يمينا بمن تعنو الوجوه لوجهه ... من الشيخ والطفل المعصب )
( لقد نشأت عندي للقياك غبطة ... تنسي اغتباطي بالشبيبة والأهل )
( و ودي لا يحتاج فيه لشاهد ... وتقريري المعلوم ضرب من الجهل )
أقسمت بمن حجت قريش لبيته وقبر صرفت أزمة الأحياء لميته و نور ضربت الأمثال بمشكاته وزيته لو خيرت أيها المحب الحبيب الذي زيارته الأمنية السنية والعارفة الوارفة واللطيفة المطيفة بين رجع الشباب يقطر ماؤه ويرف نماؤه ويغازل عيون الكواكب فضلا عن الكواعب إشارة وإيماء بحيث لا آلو في حظ يلم بسياج لمته أو يقدح ذباله في ظلمته أو يقدم حواريه في ملمته من الأحابش وأمته وزمانه روح وراح و مغدى في النعيم مراح وخصب صراح و رنى وجراح وانتخاب واقتراح وصدر ما به إلا انشراح ومسرات يردفها أفراح وبين قدومك خليع الرسن ممتعا والحمد لله باليقظة والوسن محكا في نسك الجنيد أو فتك الحسن ممتعا بظرف المعارف مالئا آلف الصيارف ماحيا بأنوار البراهين شبه الزخارف لما اخترت الشباب وإن شاقني زمنه وأعياني ثمنه وأجرت سحاب دمعي دمنه فالحمد لله الذي رفأ حنوه اغترابي وملكني أزمة آرابي وغبطني بمالي وترابي و مألف أترابي وقد أغصني بلذيذ شرابي ووقع على سطوره المعتبرة إضرابي وعجلت هذه مغبطة بمناخ المطية وملتقى للسعود غير البطية وتهني الآمال الوثيرة الوطية فما شئت من نفوس عاطشة إلى ريك متجملة بزيك عاقلة خطي سمهريك ومولى مكارمه مشيدة لأمثالك ومضان منالك وسيصدق الخبر ما هنالك ويسع فضل مجدك في التخلف عن الإصحار لا بل اللقاء من وراء البحار والسلام
ثم أصبحت من الغد قادما على البلد وذلك ثامن ربيع الأول عام أربعة وستين وسبعمائة وقد اهتز السلطان لقدومي وهيأ لي المنزل من قصوره بفرشه وما عونه وأركب خاصته للقائي تحفيا وبرا مجازاة بالحسنى ثم دخلت عليه فقابلني بما يناسب ذلك وخلع علي وانصرفت وخرج الوزير ابن الخطيب فشيعني إلى مكان نزلي ثم نظمني في علية أهل مجلسه واختصني بالنجاء في خلوته والمواكبة في ركوبه و المواكلة و المطاية والمفاكهة في خلوات أنسه وأقمت عنده وسفرت عنه سنة خمس وستين وسبعمائة إلى الطاغية ملك قشتالة يومئذ بطرة بن الهنشة بن أدفونش لإتمام عقد الصلح ما بينه وبين ملوك العدوة بهدية فاخرة من ثياب الحرير والجياد والمقربات بمراكب الذهب الثقيلة فلقيت الطاغية بإشبيلية وعاينت آثار سلفي بها وعاملني من الكرامة بما لا مزيد عليه وأظهر الاغتباط بمكاني وعلم أولية سلفنا بإشبيلية وأثنى علي عنده طبيبه إبراهيم ابن زرور اليهودي المقدم في الطب و النجامة وكان لقيني بمجلس السلطان أبي عنان وقد استدعاه يستطبه وهو يومئذ بدار ابن الأحمر بالأندلس ثم نزع بعد مهلك رضوان بن القائم بدولتهم إلى الطاغية فأقام عنده ونظمه في أطبائه فلما قدمت أنا عليه أثنى علي عنده فطلب الطاغية حينئذ المقام عنده وأن يرد علي تراث سلفي بإشبيلية وكان بيد زعماء دولته فتفاديت من ذلك بما قبله ولم يزل على اغتباطه إلى أن انصرفت عنه فزودني وحملني واختصني ببغلة فارهة بمركب ثقيل ولجام ذهبيين أهديتهما إلى السلطان فأقطعني قرية البيرة من أراضي السقي بمرج غرناطة وكتب لي بها منشورا كان نصه ثم حضرت ليلة المولد النبوي لخامسة قدومي وكان يحتفل في الصنيع فيها والدعوة وإنشاد الشعر اقتداء بملوك المغرب فأنشدته ليلتئذ :
( حي المعاهد كانت قبل تحييني ... بواكف الدمع يرويها و يظميني )
( إن الألى نزحت داري ودارهم ... تحملوا القلب في آثارهم دوني )
( وقفت أنشد صبرا ضاع بعدهم ... فيهم وأسأل رسما لا يناجيني )
( أمثل الربع من شوقي فألثمه ... وكيف والفكر يدنيه ويقصيني )
( وينهب الوجد مني كل لؤلؤة ... ما زال قلبي عليها غير مأمون )
( سقت جفوني مغاني الربع بعدهم ... بالدمع وقف على أطلاله الجوني )
( قد كان للقلب عن داعي الهوى شغل ... لو أن قلبي إلى السلوان يدعوني )
( أحبابنا هل لعهد الوصل مدكر ... منكم وهل نسمة عنكم تحييني )
( مالي وللطيف لا يعتاد زائره ... وللنسيم عليلا لا يداويني )
( يا أهل نجد وما نجد وساكنها ... حسنا سوى جنة الفردوس والعين )
( أعندكم أنني ما مر ذكركم ... إلا انثنيت كأن الراح تثنيني )
( أصبو إلى البرق من أنحاء أرضكم ... شوقا ولولاكم ما كان يصبيني )
( يا نازحا والمنى تدنيه من خلدي ... حتى لأحسبه قربا يناجيني )
( أسلى هواك فؤادي عن سواك ... وما سواك يوما بحال عنك يسليني )
( ترى الليالي أنستك أذكاري يا ... من لم تكن ذكره الأيام تنسيني )
ومنها في وصف الإيوان الذي بناه لجلوسه بين قصوره
( يا مصنعا شيدت منه السعود حمى ... لا يطرق الدهر مبناه بتوهين )
( صرخ يحار لديه الطرف مفتتنا ... فيما يروقك من شكل وتلوين )
( بعدا لإيوان كسرى إن مشورك ... السامي لأعظم من تلك الأواوين )
( ودع دمشق ومغناها فقصرك ذا ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون )
ومنها في التعريض بمنصرفي من العدو :
( من مبلغ عني الصحب الألى تركوا ... ودي وضاع حماهم إذ أضاعوني )
( أني أويت من العليا إلى حرم ... كادت مغانيه بالبشرى تحييني )
( وأنني ظاعنا لم ألق بعدهم ... دهرا أشاكي ولا خصما يشاكيني )
( لا كالتي أخفرت عهدي ليالي إذ ... أقلب الظرف بين الخوف والهون )
( سقيا ورعيا لأيامي التي ظفرت ... يداي منها بحظ غير مغبون )
( أرتاد منها مليا لا يما طلني ... وعدا و أرجو كريما لا يعنيني )
( وهاك منها قواف طيها حكم ... مثل الأزاهر في طي الرياحين )
( تلوح إن جليت درا وإن تليت ... تثني عليك بأنفاس البساتين )
( عانيت منها بجهدي كل شاردة ... لولا سعودك ما كانت تواتيني )
( يمانع الفكر عنها ما تقسمه ... من كل حزن بطي الصدر مكنون )
( لكن بسعدك ذلت لي شواردها ... فرضت منها بتحبير و تزيين )
( بقيت دهرك في أمن وفي دعة ... ودام ملكك في نصر وتمكين )
وأنشدته سنة خمس وستين وسبعمائة في إعذار ولده و الصنيع الذي احتفل لهم فيه ودعا إليه الجفلى من نواحي الأندلس ولم يحضرني منها إلا ما أذكره :
( صحا الشوق لولا عبرة ونحيب ... وذكرى تجد الوجد حين تثوب )
( وقلب أبى إلا الوفاء بعهده ... وإن نزحت دار وبان حبيب )
( ولله مني بعد حادثة النوى ... فؤاد لتذكير العهود طروب )
( يؤرقه طيف الخيال إذا سرى ... وتذكي حشاه نفحة وهبوب )
( خليلي لا تستعديا قد دعا الأسى ... فإني لما يدعو الأسى لمجيب )
( ألما على الأطلال نقض حقوقها ... من الدمع فياض الشؤن سكوب )
( ولا تعذ لاني في البكاء فإنها ... حشاشة نفسي الدموع تذوب )
ومنها في تقدم ولده للاعذار من غير نكول :
( فيمم منه الحفل لا متقاعس ... ولا نكس عند اللقاء هيوب )
( وراح كما راح الحسام من الوغى ... تروق حلاه و الفرند خضيب )
( شواهر أهدتهن منك شمائل ... وحلق بصفوف المجد منك مشوب )
ومنها في الثناء على ولديه :
( هما النيران الطالعان على الهدى ... بآيات فتح شأنهن عجيب )
( شهابان في الهيجا نعامان في الثوى ... تسح المعالي منهما وتصوب )
( يدان لبسط المكرمات نماهما ... إلى المجد فياض اليدين وهوب )
وأنشدته ليلة المولد الكريم من هذه السنة :
( أبى الطيف أن يعتاد إلا توهما ... فمن لي ألقى الخيال المسلما )
( وقد كنت أستهديه لو كان نافعي ... واستمطر الأجفان لو تمطر الظما )
( ولكن خيال كاذب وطماعة ... تعلل قلبا بالأماني متيما )
( أيا صاحبي نجواي والحب لوعة ... يبيح بشكواها الضمير المكتما )
( خذا لفؤادي العهد من نفس الصبا ... وطي النقا و البان من أجرع الحمى )
( الأصنع الشوق الذي هو صانع ... فحبي مقيم أقصر الشوق أوسما )
( وإني ليد عوني السلو تعللا ... وتنهاني الأشجان أن أتقدما )
( لمن دمن أقفرن إلا هواتف ... تردد في أطلالهن الترنما )
( عرفت بها سما الهوى وتنكرت ... فعجت على آياتها متوسما )
( وذو الشوق يعتاد الربوع دوارسا ... ويعرف آثار الديار توهما )
( تؤوبني والليل بيني وبينه ... وميض بأطراف الثنايا تضرما )
( أجد لي العهد القديم كأنه ... أشار بتذكار العهود فأفهما )
( عجبت لمرتاع الجوانح خافق ... بكيت له خلف الدجا وتبسما )
( وبت أرويه كؤوس مدامعي ... وبات يعاطيني الحديث عن الحمى )
( وصافحته عن رسم دار بذي الغضي ... لبست بها ثوب الشبيبة معلما )
( لعهدي بها تدني الظباء أوانسا ... وتطلع في آفاقها الغيد أنجما )
( أحن إليها حيث سار بي الهوى ... وأنجد رحلي في البلاد وأتهما )
ولما استقر القرار واطمأنت الدار وكان من السلطان الاغتباط والاستبشار وكثر الحنين إلى الأهل والتذكار أمر لاستقدام أهلي من مطرح اغترابهم من قسنطينة بعث إليهم من جاء بهم إلى تلمسان وأمر قائد الأسطول بالمرية فسار في إجازتهم في أسطوله واحتلوا بالمرية واستأذنت السلطان في تلقيهم وقدمت بهم على الحضرة بعد أن هيأت لهم المنزل والبستان ودمنة الفلح وسائر ضروريات المعاش
وكتبت إلى الوزير ابن الخطيب عندما قاربت الحضرة وقد كتبت إليه أستأذنه في القدوم وما اعتمده في أحواله
سيدي قدمت بالطير اليمانين على البلد الأمين واستضفت الرفاء إلى البنين ومتعت بطول السنين وصلتني البراءة المعربة عن كتب اللقاء ودنو المزار وذهاب البعد وقرب الديار وأستفهم سيدي عما عندي في القدوم على المخدوم وأحب أن يستقدمني سيدي إلى الباب الكريم في الوقت الذي يجد المجلس الجمهوري لم يقض حجيجه و لم يصخ بهيجه و يصل الأهل بعده إلى المحل الذي هيأته السعادة لاستقرارهم واختاره اليمن قبل اختيارهم والسلام
ثم لم يلبث الأعداء وأهل السعايات أن حملوا الوزير ابن الخطيب من ملابستي للسلطان واشتماله علي وحركوا له جواد الغيرة فتنكر وشممت منه رائحة الانقباض مع استبداده بالدولة وتحكمه في سائر أحوالها وجاءتني كتب السلطان أبي عبد الله صاحب بجاية بأنه استولى عليها في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة واستدعاني إليه فاستأذنت السلطان ابن الأحمر في الارتحال إليه وعميت عليه شأن ابن الخطيب إبقاء للمودة فارتمض لذلك ولم يسعه إلا الاسعاف فودع وزود وكتب لي مرسوما بالتشييع من إملاء الوزير ابن الخطيب نصه :
هذا ظهير كريم تضمن تشييعا و ترفيعا وإكراما وإعظاما وكان لعمل الصنيع ختاما وعلى الذي أحسن تماما وأشاد به للمعتمد به بالاغتباط الذي راق قساما و توفر إقساما وأعلق بالقبول أن نوى بعد القوى رجوعا وآثر على الظعن المزمع مقاما
أمر به وأمضى العمل بمقتضاه وحبسه الأمير أبو عبد الله ابن مولانا أمير المسلم ين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر أيد الله أمره وأعز نصره وأعلى ذكره للولي الجليس الحظي المكين المقرب الأود الابن الفقيه الجليل الصدر الأوحد الرئيس العالم الفاضل الكامل الموقع الأمين الأظهر الأرضى الأخلص الأصفى أبي زيد عبد الرحمن ابن الشيخ الجليل الحسيب الأصيل المرفع المعظم الصدر الأوحد الأسمى الأفضل الموقر المبرور أبي يحيى ابن الشيخ الجليل الكبر الرفيع الماجد القائد الحظي المعظم الموقر المبرور المرحوم أبي عبد الله بن خلدون وصله إليه أسباب السعادة وبلغه من فضله أقصى الإرادة أعلن بما عنده أيده الله من الاعتقاد الجميل في جانبه المرفع و إن كان غنيا عن الإعلان وأعرب عن معرفة مقداره في الحسبان العلماء الرؤساء الأعيان وأشاد باتصال رضاه عن مقاصده البرة وشيمه الحسان من لدن وفد على بابه وفادة العز الراسخ البنيان وأقام المقام الذي عين له رفعة المكان وإجلال الشان إلى أن عزم على قصد وطنه أبلغه الله في ظل الأمن والأمان وكفالة الرحمن بعد الاغتباط المربي على الخير بالعيان والتمسك بجواره بجهد الإمكان ثم قبول عذره بما جبلت الأنفس عليه من الحنين إلى المعاهد والأوطان بعد أن لم يدخر عنه كرامة رفيعة ولم يحجب عنه وجه صنيعه فولاه القيادة والسيادة وأحله جليسا معتمدا بالاستشارة ثم أصحبه تشييعا يشهد بالضنانة بفراقه ويجمع له بر الوجاهة من جميع آفاقه و يجعله بيده رثيمة خنصر ووثيقة سامع أو مبصر فمهما لوى أخدعه إلى هذه البلاد بعد قضاء وطره وتمليه من نهمة سفره أو نزع به حسن العهد وحنين الود فصدر العناية به مشروح وباب الرضا والقبول مفتوح وما عهده من الحظوة والبر ممنوح فما كان القصد في مثله من أمجاد الأولياء التحول ولا الاعتقاد الكريم التبدل ولا الزمن الأخير أن ينسخ الأول على هذا فليطو ضميره وليرد ما شاء نميره ومن وقف عليه من القواد والأشياخ والخدام برا وبحرا على اختل إلى الخطط والرتب وتباين الأحوال والنسب أن يعرفوا حق هذا الاعتقال في كل ما يحتاج إليه من تشييع ونزول وإعانة وقبول واعتناء موصول إلى أن يكل الغرض ويؤدي من امتثال هذا الأمر الواجب المفترض بحول الله وقوته
وكتب في التاسع عشر من جمادى الأولى عام ست وستين وسبعمائة
وبعد التاريخ العلامة بخط السلطان ونصها صح هذا (7/548)
الرحلة من الأندلس إلى بجاية و ولاية الحجابة بها على الاستبداد
كانت بجاية ثغرا لإفريقية في دولة بني أبي حفص من الموحدين ولما صار أمرهم للسلطان أبي يحيى منهم واستقل بملك إفريقية ولى في ثغر بجاية ابنه الأمير أبو زكريا وفي ثغر قسنطينة ابنه الأمير أبا عبد الله وكان بنو عبد الواد ملوك تلمسان والمغرب الأوسط ينازعونه في أعماله ويحجرون الكتائب على بجاية و يجلبون على قسنطينة إلى أن تمسك السلطان أبو بكر بذمة من السلطان أبي الحسن ملك المغرب الأوسط والأقصى من بني مرين وله الشفوف على سائر ملوكهم وزحف السلطان أبو الحسن إلى تلمسان فأخذ بمخنقها سنتين أو أزيد وملكها عنوة وقتل سلطانها أبا تاشفين وذلك سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وخف ما كان على الموحدين من أمر بني عبد الواد واستقامت دولتهم ثم هلك أبو عبد الله ابن السلطان أبي يحيى بقسنطينة سنة أربعين وسبعمائة وخلف سبعة من الأولاد كبيرهم أبو زيد عبد الرحمن ثم أبو العباس أحمد فولى الأمير أبو زيد مكان أبيه في كفالة نبيل مولاهم ثم توفي الأمير أبو زكريا ببجاية سنة ست وأربعين وسبعمائة وخلف ثلاثة من الأولاد كبيرهم أبو عبد الله محمد وبعث السلطان أبو بكر ابنه الأمير أبا حفص عليها فمال أهل بجاية إلى الأمير أبي عبد الله بن زكريا وانحرفوا عن ا الأمير عمر وأخرجوه وبادر السلطان فرقع هذا الخرق بولاية أبي عبد الله عليهم كما طلبوه ثم توفي السلطان أبو بكر منتصف سبع وأربعين وسبعمائة وزحف أبو الحسن إلى إفريقية فملكها ونقل الأمراء من بجاية و قسنطينة إلى المغرب وأقطع لهم هنالك إلى أن كانت حادثة القيروان وخلع السلطان أبو عنان أباه وارتحل من تلمسان إلى فاس فنقل معه هؤلاء الأمراء أهل بجاية و قسنطينة وخلطهم بنفسه وبالغ في تكرمهم ثم صرفهم إلى ثغورهم الأمير أبا عبد الله أولا و إخوته من تلمسان وأبا زيد و إخوته من فاس ليستبدوا بثغورهم ويخذلوا الناس عن السلطان أبي الحسن فوصلوا إلى بلادهم وملكوها بعد أن كان الفضل ابن السلطان أبي بكر قد استولى عليها من يد بني مرين فانترعوها منه واستقر أبو عبد الله ببجاية حتى إذا هلك السلطان أبو الحسن بجبال المصامدة و زحف أبو عنان إلى تلمسان سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة فهزم ملوكها من بني عبد الواد وأبادهم ونزل المدية وأطل على بجاية و بادر الأمير أبو عبد الله للقائه وشكا إليه ما يلقاه من زبون الجند والعرب وقلة الجبابة وخرج له عن ثغر بجاية فلكها وأنزل عماله بها ونقل الأمير أبا عبد الله معه إلى المغرب فلم يزل عنده في كفاية وكرامة ولما قدمت على السلطان أبي عنان سنة خمس وخمسين وسبعمائة واستخلصني منه نبضت عروق السابق بين سلفي وسلف الأمير أبي عبد الله واستدعاني لصحابته فأسرعت وكان السلطان أبو عنان شديد الغيرة من مثل ذلك ثم كثر المنافسون ورفعوا إلى السلطان وقد طرقه مرض أرجف له الناس فرفعوا له أن الأمير أبا عبد الله اعتزم على الفرار إلى بجاية وأني عاقدته على ذلك على أن يوليني حجابته فانبعث له السلطان وسطا بنا واعتقلني نحوا من سنتين إلى أن هلك وجاء السلطان أبو سالم واستولى على المغرب ووليت كتابة سره ثم نهض إلى تلمسان وملكها من يد بني عبد الواد وأخرج منها أبا حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يغمراسن ثم اعتزم على الرجوع إلى فاس وولى على تلمسان أبا زيان محمد بن أبي سعيد عثمان ابن السلطان أبي تاشفين وأمده بالأموال والعساكر من أهل وطنه ليدافع أبا حمو عن تلمسان ويكون خالصة له وكان الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية كما ذكرناه والأمير أبو العباس صاحب قسنطينة بعد أن كان بنو مرين حاصروا أخاه أبا زيد بقسنطينة أعواما تباعا ثم خرج لبعض مذاهبه إلى بونة وترك أخاه أبا العباس بها فخلعه واستبد بالأمر وخرج إلى العساكر المجمرة عليها من بني مرين فهزمهم وأثخن فيهم ونهض السلطان إليه من فاس سنة ثمان وخمسين وسبعمائة فتبرأ منه أهل البلد وأسلموه فبعثه إلى سبتة في البحر واعتقله بها حتى إذا ملك السلطان أبو سالم سبتة عند إجازته من الأندلس سنة ستين وسبعمائة أطلقه من الاعتقال وصحبه إلى دار ملكه ووعده برد بلده عليه
فلما ولى أبو زيان على تلمسان أشار عليه خاضته ونصحاؤه بأن يبعث هؤلاء الموحدين إلى ثغورهم فبعث أبا عبد الله إلى بجاية وقد كان ملكها عمه أبو اسحق صاحب تلمسان ومكفول بن تافراكين من يد بني مرين وبعث أبا العباس إلى قسنطينة و بها زعيم من زعماء بنى مرين وكتب إليه السلطان أبو سالم أن يفرج له عنها فملكها لوقته وسار الأمير أبو عبد الله إلى بجاية فطال إجلابه عليها ومعاودته حصارها وألح أهلها في الامتناع منه مع السلطان أبي اسحق وقد كان لي المقام المحمود في بعث هؤلاء الأمراء إلى بلادهم وتوليت كبر ذلك مع خاصة السلطان أبي سالم وكتاب أهل مجلسه حتى تتم القصد من ذلك وكتب لي الأمير أبو عبد الله بخطه عهدا بولاية الحجابة متى حصل على سلطانه ومعنى الحجابة في دولنا بالمغرب الاستقلال بالدولة و الوساطة بين السلطان وبين أهل دولته لا يشاركه في ذلك أحد وكان لي أخ صغير اسمه يحيى أصغر مني فبعثه مع الأمير أبي عبد الله حافظا للرسم ورجعت مع السلطان إلى فاس ثم كان ما قدمته من إنصرافي إلى الأندلس والمقام بها إلى أن تنكر الوزير ابن الخطيب وأظلم الجو بيني وبينه
وبينما نحن في ذلك وصل الخبر باستيلاء الأمير أبي عبد الله على بجاية من يد عمه في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة وكتب لي الأمير أبو عبد الله يستقدمني فاعتزمت على ذلك ونكر السلطان أبو عبد الله ابن الأحمر ذلك مني لا لظنه سوى ذلك إذ لم يطلع على ما كان بيني وبين الوزير ابن الخطيب فأمضيت محرم ووقع منه الإسعاف والبر والألطاف وركبت البحر من مرسى المرية منتصف ست وستين وسبعمائة ونزلت بجاية لخامسة من الإقلاع فاحتفل السلطان صاحب بجاية لقدومي وأركب للقائي وتهافت أهل البلد علي من كل أوب يمسحون أعطافي و يقبلون يدي وكان يوما مشهودا
ثم وصلت إلى السلطان فحيا وفدى وخلع وحمل وأصبحت من الغد وقد أمر السلطان أهل الدولة بمباكرة بابي واستقللت بحمل ملكه و استفرغت جهدي في سياسة أموره وتدبير سلطانه وقدمني للخطابة بجامع القصبة وأنا مع ذلك عاكف بعد انصرافي من تدبير الملك غدوة إلى تدريس العلم أثناء النهار بجامع القصبة لا أنفك عن ذلك
و وجدت بينه وبين ابن عمه السلطان أبي العباس صاحب قسنطينة فتنة أحدثتها المشاحة في حدود الأعمال من الرعايا والعمال وشبت نار هذه الفتنة بعرب أوطانهم من الزواودة من رياح تنفيقا لسوق الزبون يميرون به أموالهم فكانوا في أهم شقة بجمع بعضهم لبعض فالتقو سنة ست وستين وسبعمائة بفدحيوه وانقسم العرب عليهما وكان يعقوب بن علي مع السلطان أبي العباس فانهزم السلطان أبو عبد الله ورجع إلى بجاية مفلولا بعد أن كنت جمعت له أموالا كثيرة أنفق جميعها في العرب ولما رجع وأعوزته النفقة خرجت بنفسي إلى قبائل البربر بالجبال الممتنعين من المغارم منذ سنين فدخلت بلادهم واستبحت حماهم وأخذت رهنهم على الطاعة حتى استوفيت منهم الجباية وكان لنا في ذلك مدد وإعانة ثم بعث صاحب تلمسان إلى السلطان يطلب منه الصهر فأسعفه بذلك ليصل يده به على ابن عمه وزوجه ابنته ثم نهض السلطان أبو العباس سنة سبع وستين وسبعمائة وجاس أوطان بجاية وكاتب أهل البلد وكانوا وجلين من السلطان أبي عبد الله لما كان يرهف الحد لهم ويشد وطأته عليهم فأجابوه إلى الانحراف عنه وخرج الشيخ أبو عبد الله يروم مدافعته ونزل جبل إيزو معتصما به فبيته السلطان أبو العباس في قبائل وجموع الأعراب من أولاد محمد من رياح بمكانه ذلك بإغراء ابن صخر وقبائل سدوبكش وكبسه في محيمه وركض هاربا فلحقه وقتله وسار إلى البلد بمواعدة أهلها وجاءني الخبر بذلك وأنا مقيم بقصبة السلطان بقصوره وطلب مني جماعة من أهل البلد القيام بالأمر والبيعة لبعض أبناء السلطان فتفاديت من ذلك وخرجت إلى السلطان أبي العباس فأكرمني وحياني وأمكنته من بلده وأجرى أحوالها كلها على معهودها وكثرت السعاية عنده في والتحذير من مكاني وشعرت بذلك فطلبت الإذن في الانصراف بعهد كان منه في ذلك فأذن لي بعدما أبى وخرجت إلى العرب ونزلت على يعقوب بن علي ثم بدا له الشأن في أمري وقبض على أخي واعتقله ببونة وكبس بيوتنا فظن بها ذخيرة وأموالا فأخفق ظنه ثم ارتحلت من أحياء يعقوب بن علي وقصدت بسكرة لصحابة بيني وبين شيخها أحمد بن يوسف بن مزنى و بين أبيه فأكرم وبر وساهم في الحادث بماله وجاهه و الله أعلم (7/557)
مشايعة أبي حمو صاحب تلمسان
كان السلطان أبو حمو قد التحم ما بينه وبين السلطان أبي عبد الله صاحب بجاية بالصهر في ابنته و كانت عنده بتلمسان فلما بلغه مقتل أبيها واستيلاء السلطان أبي العباس ابن عمه صاحب قسنطينة على بجاية أظهر الامتعاض لذلك وكان أهل بجاية قد توجسوا الخيفة من سلطانهم بإرهاف حده وشدة بطشه وسطوته فانحرفوا عنه باطنا وكاتبوا ابن عمه بقسنطينة كما ذكرناه
ودسوا للسلطان أبي حمو بمثلها يرجون الخلاص من صاحبهم بأحدهما فلما استولى السلطان أبو العباس وقتل ابن عمه رأوا أن جرحهم قد اندمل وحاجتهم قد قضيت فاعصوصبوا عليه وأظهر السلطان أبو حمو الامتعاض للواقعة يسر منها حسوا في ارتقاء ويجعله ذريعة للاستيلاء على بجاية لما كان يرى نفسه كفؤها بعدده وعديده وما سلف من قومه في حصارها فسار من تلمسان يجر الشوك والمدر خيم بالرشة من ساحتها ومعه أحياء زغبة بجموعهم وظعائنهم من لدن تلمسان إلى بلاد حصين من بني عامر و بني يعقوب و سويد و الديالم والعطاف وحصين
و انحجر أبو العباس بالبلد في شرذمة من الجند أعجله السلطان أبو حمو عن استكمال الحشد ودافع أهل البلد أحسن الدفاع وبعث السلطان أبو العباس عن أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عم أبي حمو من قسنطينة كان معتقلا بها وأمر مولاه وقائد عسكره بشيرا أن يخرج معه في العساكر وساروا حتى نزلوا بني عبد الجبار قبالة معسكر أبي حمو وكانت رجالات زغبة قد وجموا من السلطان وأبلغهم النذير أنه إن ملك بجاية اعتقلهم بها فراسلوا أبا زيان وركبوا إليه واعتقدوا معه وخرج رجل البلد بعض الأيام من أعلى الحصن ودفعوا شرذمة كانت مجمرة بإزائهم فاقتلعوا خباءهم وأسهلوا من تلك العقبة إلى بسيط الرشة و عاينهم العرب بأقصى مكانهم من المعسكر فأجفلوا وتتابع الناس في الإنجفال حتى أفردوا السلطان في محيمه فحمل رواحله وسار وغصت الطرق بزحامهم وتراكم بعضهم على بعض فهلك منهم عوالم وأخذهم سكان الجبال من البربر بالنهب من كل ناحية وقد غشيهم الليل فتركوا أزوادهم ورحالهم وخلص السلطان ومن خلص منهم بعد غص الريق وأصبحوا على منجاة و قذفت بهم الطرق من كل ناحية إلى تلمسان وكان السلطان أبو حمو قد بلغه خبر خروجي من بجاية و ما أحدثه السلطان بعدي في أهلي ومخلفي فكتب إلي يستقدمني قبل هذه الواقعة وكانت الأمور قد اشتبهت فتفاديت بالأعذار وأقمت بأحياء يعقوب بن علي ثم ارتحلت إلى بسكرة فأقمت بها عند أميرها أحمد بن يوسف بن مزني فلما وصل السلطان أبو حمو إلى تلمسان وقد جزع للواقعة أخذ في استئلاف قبائل رياح ليجلب بهم مع عساكره على أوطان بجاية وخاطبني في ذلك لقرب عهدي باستتباعهم وملك زمامهم ورأى أن يعول علي في ذلك واستدعاني لحجابته وعلامته وكتب بخطه مدرجة في الكتاب نصها :
الحمد لله على ما أنعم والشكر لله على ما وهب ليعلم الفقيه المكرم أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون حفظه الله أنك تصل إلى مقامنا الكريم بما خصصناكم به من الرتبة المنيعة والمنزلة المنيفة وهو قلم خلافتنا والانتظام في سلك أوليائنا وقد أعلمناكم بذلك وكتب بخط يده عبد الله المتوكل على الله موسى بن يوسف لطف الله به وخار له
وبعده بخط الكاتب ما نصه : بتاريخ السابع عشر من شهر رجب الفرد الذي من عام تسع وستين وسبعمائة عرفنا الله خيره ونص الكتاب الذي هذه مدرجته وهو بخط الكاتب : أكرمكم الله يا فقيه أبا زيد و وإلى رعايتكم إنا قد ثبت عندنا وصح لدينا ما انطويتم عليه من المحبة في مقامنا والانقطاع إلى جنابنا والتشييع قديما وحديثا لنا مع ما نعلمه من محاسن اشتملت عليها أوصافكم ومعارف فقتم فيها نظراءكم ورسوخ القدم في الفنون العلمية والآداب العربية وكانت خطة الحجابة ببابنا العلي أسماه الله إلى درجات أمثالكم وأرفع الخطط لنظرائكم قربا منا واختصاصا بمقامنا واطلاعا على خفايا أسرارنا آثرناكم بها إيثارا وقدمناكم لها اصطفاء واختيارا فاعملوا على الوصول إلى بابنا العلي أسماه الله لما لكم فيه من التنويه والقدر النبيه حاجبا لعلي بابنا ومستودعا لأسرارنا وصاحبا لكريم علامتنا إلى ماشاكل ذلك من الأنعام العميم و الخير الجسيم والاعتناء والتكريم لا يشارككم مشارك في ذلك ولا يزاحمكم أحد وإن وجد من أمثالكم فاعملوه وعولوا عليه و الله تعالى يتولاكم و يصل سراءكم ويوالي احتفاءكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وتأدت إلي هذه الكتب السلطانية على يد سفير من وزرائه جاء إلى أشياخ الزواودة في هذا الغرض فقمت له في ذلك أحسن قيام وشايعته أحسن مشايعة وحملتهم على إجابة داعي السلطان و البدار إلى خدمته وانحرف كبراؤهم عن السلطان أبي العباس إلى خدمنه والاعتمال في مذاهبه واستقام غرضه من ذلك وكان أخي يحيى قد خلص من اعتقاله وقدم علي ببسكرة فبعثته إلى السلطان أبي حمو كالنائب عني في الوظيفة متفاديا تجشم أهوالها بما كنت نزعت عن غواية الرتب وطال علي إغفال العلم فأعرضت عن الخوض في أحوال الملوك وبعثت الهمة على المطالعة والتدريس فوصل إليه الأخ فاستكفي به في ذلك ودفعه إليه
و وصلني مع هذه الكتب السلطانية كتاب رسالة من الوزير أبي عبد الله بن الخطيب من غرناطة يتشوق إلي وتأدى إلى تلمسان على يد سفراء السلطان ابن الأحمر فبعث إلي من هنالك ونصه :
( بنفسي وما نفسي علي رخيصة ... فينزلني عنها المكان بأثمان )
( حبيب نأى عني وصم لا أنثني ... وراش سهام البين عمدا فأضناني )
( وقد كان هم الشيب لا كان كائنا ... فقد آدني هذا ترحل همان )
( شرعت له من دمع عيني موردا ... فكدر شربي بالفراق و أظماني )
( و أرعيته من حسن عهدي حمية ... فأجدب آمالي وأوحش أزماني )
( حلفت على ما عنده لي من رضى ... قياسا بما عندي فأحنث أيماني )
( وإني على ما نالني منه من قلى ... لأشتاق من لقياه نعبة ظمآن )
( سألت جنوني فيه تقريب عرسه ... فقست بحر الشوق جن سليمان )
( إذا ما دعا داع من القوم بإسمه ... وثبت وما استثبت شيمة هيمان )
( و تالله ما أصغيت فيه لعاذل ... تحاميته حتى ارعوى و تحاماني )
( ولا استشعرت نفسي برحمة عابد ... تظلل يوما مثله عبد رحمن )
( ولا شعرت من قبله بتشوق ... تخلل منها بين روح وجثمان )
أما الشوق فحدث عن البحر ولا حرج وأما الصبر فسل به أية درج بعد أن تجاوز اللوى والمنعرج لكن الشدة تعشق الفرج والمؤمن ينشق من روح الله الأرج وإني بالصبر على إبر الزبر لا بل الضرب الهبر ومطاولة اليوم والشهر تحت حكم القهر ومن للعين أن تسلو سلو القصر عن إنسانها المبصر أو تذهل ذهول الزاهد عن سرها الرائي والمشاهد وفي الجسد مضغة يصلح إذا صلحت فكيف حاله إن رحلت عنه أو ترحت وإذا كان الفراق هو الحمام الأول فعلام المغول أعيت مراوضة الفراق على الرواق وكادت لوعة الاشتياق أن تفضي إلى السياق
( تركتموني بعد تشييعكم ... أوسع أمر الصبر عصيانا )
( أقرع سني ندما تارة ... و أستميح الدفع أحيانا )
وربما تعللت بغشيان المعاهد الخالية وجددت رسوم الأسى بمباكرة الرسوم البالية أسائل نون النؤى عن أهليه وهيام المرقد المهجور عن مصطليه وثاء الأثافي المثلثة من منازل الموحدين وأحار بين تلك الأطلال حيرة الملحدين لقد ضلت إذا وما أنا من المهتدين كلفت لعمر الله بسائل عن جفوني المؤرقة ونائم عن شجوني المجتمعة المتفرقة ظعن عن ملال لا متبرما بشرحال وكدر الوصل بعد صفائه وضرح النصل بعد عهد وفائه
( أقل اشتياقا أيها القلب إنما ... رأيتك تصفي الود من ليس جازيا )
فها أنا أبكي عليه بدم أساله وأندب في ربع الفراق آسى له وأشكو الله حال قلب صدعه وأودعه من الوجد ما أودعه لما خدعه ثم تلاه وودعه وأنشق رياه أنف ارتياح قد جدعه واستعديه على ظلم ابتدعه
( خليلي فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حب قاتله قبلي )
فلولا عسى الرجاء ولعله لا بل شفاعة المحل الذي حله لنشرت ألوية العتب وبثثت كتائبها كمينا في شعاب الكتب تهز من الألفات رماحا هز الأسنة وتوتر من النونات أمثال الغيم المرنة وتقود من مجموع الطرس والنقس بلقا تردي في الأعنة ولكنه أوى إلى الحرم الأمين و تفيأ ظلال الجوار المؤمن من معرة الغوار عن الشمال واليمين حرم الخلال المزنية و الظلال اليزنية و الهمم السنية والشيم التي لا ترضى بالدون ولا بالدنية حيث الرفد الممنوح والطير الميامن يزجر لها السنوح والمثوى الذي إليه مهما تقارع الكرام على الضيفان حول جوابي الجفان فهو الجنوح
( نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نورا ومن فلق الصباح عمودا )
ومن حل بتلك المثابة فقد اطمأن جنبه وتغمد بالعفو ذنبه ولله در القائل :
( فوحقه لقد انتدبت لوصفه ... بالبخل لولا أن حمصا داره )
( بلد متى أذكره هيج لوعتي ... وإذا قدحت الرنذ طار شراره )
اللهم غفرا وأين قراره النخيل من مثوى الألف البخيل ومكذبة المخيل وأين نائية هجر من متبرئ ممن ألحد وفجر
( من أنكر غيث مسودة ... في الأرض ينوء بمخلفها )
( فبنان بني مزنى مزن ... تنهل بلطف مصرفها )
( مزن مذحل ببسكرة ... يوما نطقت بمصحفها )
( شكرت حتى بعبارتها ... و بمنعها و بأحرفها )
( ضحكت بأبي العباس من الأ ... يام ثنايا زخرفها )
( وشكرت الدنيا متى عرفت ... مزن فيها بمعرفها )
بل نقول لا محل للولد لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد لقد حل بينك عرى الجلد وخلد الشوق بعدك يا ابن خلدون في الصميم من الخلد فحيا الله زمانا شفيت في قربك زمانته و احتليت في ذروة مجدك جمانته ويا من لمشوق لم يفض من طول خلتك لبانته وأهلا بروض أضلت شباب معارفك بانته فحمائمه بعدك تندب فيساعدها الجندب و نواسمه ترق فتتغاشى و عشبانه تتهافت وتتلاشى و أدواحه في ارتباك وحمائمه في مأتم ذي اشتباك كأن لم تكن قمر هالات قبابه ولم يكن أنسك شارع بابه إلى صفوة الظرف ولبابه ولم يسبح إنسان عينك في ماء شبابه فلهفا عليك من درة اختلستها يد النوى ومطل بردها الدهر ولوى ونعق غراب بينها في ربوع الهوى ونطق بالزجر فما نطق عن الهوى وبأي شيء يعتاض منك أيتها الرياض بعد أن طما نهرك الفياض وفهقت الحياض ولا كان الشانيء المشنوء والحرب المهنوء من قطيع ليل أغار على الصبح فاحتمل وشارك في الأمر الناقة والجمل واستأثر جنحه ببدر النادي لما كمل فشرع الشراع فراع وواصل الإسراع فكأنما هو تمساح النيل ضايق الأحباب في البرهة واختطف بهم من الشط نزهة العين وعين النزهة ولجج بها والعيون تنظر والعبر عن الاتباع تخطر فلم يقدر إلا على الأسف و التماح الأثر المنتسف و الرجوع بملء العيبة من الخيبة ووفر الحبرة من الحسرة إنما نشكو إلى الله البث والحزن ونستمطر منه المزن وبسيف الرجاء نصول إذا شرعت لليأس أسنة ونصول
( ما أقدر الله أن يدني على شحط ... من داره الحزن ممن داره صول )
فإن كان كلام الفراق رغيبا لما نويت مغيبا وجللت الوقت الهني تشغيبا فلعل الملتقى يكون قريبا وحديثه يروى صحيحا غريبا إيه سيدي كيف حال تلك الشمايل المزهرة المخايل والشيم الهامية الديم ؟ هل يمر ببالها من راعت بالبعد باله وأخمدت بعاصف البين ذباله ؟ أو ترثي لمؤق شأنها سكب لا يفتر وشوق يبت حبال المشوق ويبتر وضنى تقصر عن حلله الفائقة صنعاء وتستر والأمر أعظم و الله يستر وما الذي يضيرك صير من بلفح السموم يضيرك بعد أن أضرمت وأشعلت وأوقدت وجعلت وفعلت فعلتك التي فعلت إن تترفق بذماء أو ترد بنغبة ماء أرماق ظماء و تتعاهد المعاهد بتحية عليها شذ أنفاسك أو تنظر إ لينا من البعد بمقلة حوراء من بياض قرطاسك وسواد أنفاسك فربما قنعت الأنفس المحبة بخيال يزور وتعللت بنوال منذور ورضيت لما لم تصد العنقاء بزرزور
( يا من ترحل والرياح لأجله ... تشتاق أن يعبق شذا رياها )
( تحيا النفوس إذا بعثت تحية ... و إذا قرأت ترى ومن أحياها )
ولئن أحييت بها فما سلف نفوسنا تفديك و الله إلى الخير يهديك فنحن نقول معشر موديك ثن ولا تجعلها بيضة الديك وعذرا فإني لم أجترئ على خطابك بالفقرة الفقيرة وأدللت لدي محرابك برفع العقيرة عن نشاط بعث مرسومه ولا اغتباط بالأدب إلا بسياسة تسوسه أو في على الفترة ناموسه وإنما هو نفاق نفثة المصدور وهناء الجرب المجدور و إن تعلل به مخارق فثم قياس فارق والذي هيأ هذا القدر وسببه وسهل المكروه إلي منه وحببه ما اقتضاه الصنو يحيى أمد الله حياته وحرس من الحوادث جهاته من خطاب ارتشف لهذه القريحة العديمة بلالتها بعد أن رضي غلالتها ورسخ إلى الصهر الحضرمي سلالتها فلم يسع إلا إسعافه بما أعافه فأمليت مجيبا ما لا يعد في يوم الرهان مجيبا وأسمعته وجيبا لما ساجلت بهذه الترهات سحرا عجيبا حتى إذا ألف القلم العريان فسحه وجمح برذون الغزارة فلم أطق كبحه لم أفق من غمرة غلوه وموقف شلوه إلا وقد تحيز إلى فتك مغترا بل معترا واستقبلها ضاحكا مفترا وهش لها برا وإن كان من الخجل مصفرا وليس بأول من هجر في التماس الوصل ممن هجر أو بعث التمر إلى هجر وأي نسب بيني اليوم وبين زخرف الكلام و إجالة جياد الأقلام في محاورة الأعلام بعد أن حال الجريض دون القريض و شغل المريض عن التعريض وغلب الشوق الكسل ونشرت الشعرات البيض كأنها الأسل تروع برقط الحيات سرب الحياة وتطرق بذوات الغرر والشباب عند البيات والشيب الموت العاجل وإذا ابيض زرع صبحته المناجل والمعتبر الآجل وإذا اشتغل الشيخ بغير معاده حكم في الظاهر بإبعاده وأسره في ملكة عاده فأغض أبقاك الله وأسمح لمن قصر عن المطمح وبالعين الكليلة فالمح واغتنم لباس ثوب الثواب واشف بعض الجوى بالجواب
تولاك الله فيما استضفت وملكت ولا بعدت ولا هلكت وكان لك أية سلكت ووسمك من السعادة بأوضح السمات وأتاح لقاءك من قبل الممات والسلام الكريم يعتمد حلال ولدي وساكن خلدي بل أخي وإن اتقيت عتبه وسيدي ورحمة الله وبركاته من محبة المشتاق إليه محمد بن عبد الله بن الخطيب في الرابع عشر من شهر ربيع الثاني من عام سبعين وسبعمائة
وكان تقدم منه قبل هذه الرسالة كتاب آخر إلي بعث به إلى تلمسان فتأخر وصوله حتى بعث به أخي يحيى عند وفادته على السلطان ونص الكتاب
يا سيدي إجلالا واعتدادا وأخي ودا واعتقادا ومحل ولدي شفقة حلت مني فؤادا طال علي انقطاع أنبائك واختفاء أخبارك فرجوت أن أبلغ المنية بهذا المكتوب إليك وتخترق الموانع دونك وإن كنت في موالاتك كالعاطش الذي لا يروى والآكل الذي لا يشبع شأن من تجاوز الحدود الطبيعية والعوائد المألوفة فأنا بعد إنهاء التحية المطلولة الروض بماء الدموع وتقرير الشوق القديم اللزيم وشكوى البعاد الأليم والابتهال في إتاحة القرب قبل الفوت من الله ميسر العسير ومقرب البعيد أسأل عن أحوالك سؤال أبعد الناس مجالا في مجال الخلوص لك وأشدهم حرصا على اتصال سعادتك وقد اتصل بي في هذه الأيام ما جرى به القدر من تنويع الحال لديك واستقرارك ببسكرة على الغبطة بك باللجا إلى تلك الرياسة الزكية الكريمة الأب الشهيرة الفضل المعروفة القدر على البعد حرسها الله ملجأ للفضلاء ومخيما لرجال العلياء ومهبا لطيب الثناء بحوله وقوته وقاربت كل ساح السلامة فاحمدوا الله على الخلاص وقاربوا في معاملة الآمال وضنوا بتلك الذات الفاضلة عن المشاق و أبخلوا بها عن المتالف فمطلوب الحريص على الدنيا خسيس والموانع الحافة جمة والحاصل حسرة وما قل سعي يحمد حاله العاقبة والعاقل لا يستنكحه الاستغراق فيما آخره الموت إنما ينال منه الضروري ومثلك لا يعجزه مع الناس العافية إضعاف ما يرجى به العمر من المأكل والمشرب وحسبنا الله
وإن تشوفت لحال المحب تلك السيادة الفذة والبنوة البرة فالحال حال من جعل الزمام بيد القدر والسير في مهيع الغفلة والسبح في تيار الشواغل ومن وراء الأمور غيب محجوب وأجل مكتوب يؤمل فيه عادة الستر من الله إلا أن الضجر الذي تعلمونه حفظه الناس لما عجزت الحيلة وأعوز الناصر وسدت المذاهب والشأن اليوم شأن الناس فيما يقرب من الاعتدال
وفيما يرجع إلى السلطان تولاه الله على إضعاف ما باشر سيدي من الأغياء في البر ووصل سبب الالتحام والاشتمال مع الإقبال وما ينتجه متعود الظهور وا لحمد لله
وفما يرجع إلى الأحباب والأولاد فعلى ما علمت الآن الشوق يخامر القلوب وتصور اللقاء مما يزهد في الوطن وحاضر النعم سنى الله ذلك على أفضل حال ويسره قبل الارتحال من دار المحال
وفيما يرجع إلى الوطن فأحوال النائم خصبا وهدنة وظهورا على العدو وحسبك فافتتاح حصن آش و برغة القاطعة بين بلاد الإسلام ووبرة و العارين وبيغه وحصن السهلة في عام ثم دخل بلد إطريرة بنت إشبيلية عنوة والاستيلاء على ما يناهز خمسة آلاف من السبي من فتح دار الملك وبلدة قرطبة ومدينة جيان عنوة في اليوم الأغر المحجل وقتل المقاتلة وسبي الذرية وتعفية الآثار حتى لا يلم بها العمران ثم افتتاح مدينة رندة التي تلف جيان في ملاءتها دار التجر والرفاهية والبنآت الحافلة والنعم الثرة نسأل الله جل وعلا أن يصل عوائد نصره ولا يقطع عنا سيب رحمته وأن ينفع بما أعان عليه من السعي في ذلك والإعانة عليه
ولم يتزيد من الحوادث إلا ما علمتم من أخذ الله لنسب السوء وخبث الأرض المسلوب من أثر الخير عمر بن عبد الله وتحكم شر الميتة في نفسه و إتيان النكال على حاشيته والاستئصال على نفيسه و الاضطراب مستول على الوطن بعده إلا أن القرب على علالته لا يرجحه غيره
والأندلس اليوم شيخ غزاتها عبد الرحمن بن علي ابن السلطان أبي علي بعد وفاة الشيخ أبي الحسن على بن بدر الدين رحمه الله وقد استقر بها بعد انصراف سيدي الأمير المذكور والوزير مسعود بن رحو وعمر بن عثمان بن سليمان
والسلطان ملك النصارى بطرة قد عاد إلى ملكه بإشبيلية وأخوه مخلب عليه بقشتالة وقرطبة مخالفة عليه قائمة بطائفة من كبار النصارى الخائفين على أنفسهم داعين لأخيه والمسلمون قد اغتنموا هبوب هذه الريح وخرق الله لهم عوائد في باب الظهور والخير لم تكن تخطر في الآمال وقد تلقب السلطان أيده الله بعقب هذه المكنفات بالغني بالله وصدرت عنه مخاطبات بمجمل الفتوح ومفصلها يعظم الحرص على إيصالها إلى تلك الفضائل لو أمكن
وأما ما يرجع إلى ما يتشوف إليه ذلك الكمال من شغل الوقت فصدرت تقاييده وتفاصيل يقال فها بعد ما اعتملت تلك السيادة بالانصراف يا إبراهيم ولا إبراهيم اليوم
منها أن كتابا رفع إلى السلطان في المحبة من تصنيف ابن أبي حجلة من المشارقة فعارضته وجعلت الموضوع أشرف وهو محنة الله فجاء كتابا ادعى الأصحاب غرابته وقد وجه إلى الشرق وصحبته كتاب تاريخ غرناطة وغيره من تأليفي وتعرف تحبيسه بخانقاه سعيد السعداء من مصر وانتال الناس عليه وهو في لطافة الإعراض متكلف أغراض المشارقة من ملحه :
( سلمت لمصرفي الهوى من بلد ... يهديه هواؤها لدى استنشاقه )
( من ينكر دعوتي فقل عني له ... تكفي امرأة العزيز من عشاقه )
و الله يرزق الإعانة في انتساخه وتوجهه وصدر عني جزء سميته الغيرة على أهل الخيرة وجزء سميته حمد الجمهور على السنن المشهور و الإكباب على اختصار كتاب التاج للجوهري ورد حجمه إلى مقدار الخمس مع حفظ ترتيبه
السهل و الله المعين على مشغلة نقطع بها هذه البرهة القريبة البداءة من التتمة ولا حول ولا قوة إلا بالله
و المطلوب المثابرة على تعريف يصل من تلك السيادة والبنوة إذ لا يتعذر وجود قافل من حج أو لاحق بتلمسان يبعثها السيد الشريف منها فالنفس شديدة التعطش والقلوب قد بلغت من الشوق والاستطلاع الحناجر و الله أسأل أن يصون في البعد و ديعتي منك لديه و يلبسك العافية و يخلصك وإياي من الورطة و يحملنا أجمعين على الجادة ويختم لنا بالسعادة والسلام الكريم عودا على بدء ورحمة الله وبركاته من المحب المشوق الذاكر الداعي ابن الخطيب في الثاني من جمادي الأولى من عام تسعة وستين وسبعمائة انتهى
فأجبته عن هذه المخاطبات وتفاديت من السجع خشية القصور عن مساجلته فلم يكن شأوه يلحق ونص الجواب : سيدي مجدا وعلوا و واحدي ذخرا مرجوا ومحل والدي برا وحنوا ما زال الشوق مذنأت بي وبك الدار و استحكم بيننا البعاد يرعي سمعي أنباءك ويخيل إلي من أيدي الرياح تناول رسائلك حتى ورد كتابك العزيز على استطلاع وعهد غير مضاع وود ذي أجناس و أنواع فنشر بقلبي ميت السلو و حشر أنواع المسرات وقدح للقائك زناد الأمل و الله أسأل الامتناع بك قبل الفوت على ما يرضيك ويسني أماني و أمانيك و حييته تحية الهائم لمواقع الغمائم و المدلج للصباح المتبلج و أملى على معترج الأولياء خصوصا فيك من اطمئنان الحال وحسن القرار وذهاب الهواجس وسكون النفرة و عموما في الدولة من رسوخ القدم وهبوب ريح النصر و الظهور على عدو الله باسترجاع الحصون التي استنقذوها في اعتلال الدولة وتخريب المعاقل التي هي قواعد النصرانية غريبة لا تثبت إلا في الحلم وآية من آيات الله و إن خبيئة هذا الفتح في طيء العصور السالفة إلى هذه المدة الكريمة لدليل على عناية الله بتلك الذات الشريفة حيث أظهر على يدها خوارق العادة وما تجد آخر الأيام من معجزات الملة وكمل فيها و الحمد لله بحسن التدبير و يمن التعبية من حميد الأثر و خالد الذكر طراز في حلة الخلافة النصرية و تاج في مفرق الوزارة كتبه الله لك فما يرضاه الله من عباده
و وقفت عليه الأشراف من أهل هذا العصر المحروس و أذعته في الملأ سرورا لعز الإسلام وإظهارا للنعمة واستطرادا لذكر الدولة المولوية بما تستحقه من طيب الثناء و التماس الدعاء و التحديث بنعمتها والإشادة بفضلها على الدول السالفة والخالفة وتقدمها فانشرحت الصدور حباء و امتلأت القلوب إجلالا وتعظيما وحسنت الآثار اعتقادا ودعاء
وكان كتاب سيدي لشرف تلك الدولة عنوانا ولما عساه يستعجم من نعتي في مناقبها ترجمانا زاده الله من فضله وأمتع المسلمين سكون الغريب من الشوق المزعج والحيرة التي تكاد تذهب بالنفس أسفا لتجفي عرمها عن الأمن والتقويض عن دار العزيز المولى المنعم والسيد الكريم والبلد الطيب والإخوان البررة و لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير إن تشوفت السيادة الكريمة إلى الحال فعلى ما علمتم سيرا مع الأمل ومغالبة للأيام على الحظ وإقطاعا للغفلة جانب العمر
( هل نافعي والجد في صبب ... مدى مع الآمال في صعد )
رجع الله بنا إليه ولعل في عظتكم النافعة شفاء من هذا الداء العياء إن شاء الله وأن لطف الله مصاحب من هذه الرياسة المزنية وحسبك بها عليه عصمة وافية صرفت وجه القصد إلى ذخيرتي التي كنت أعتدها منهم كما علمتم حين تفاقم الخطب وتلون الدهر والإفلات من مظان النكبة وقد رنقت حولها بعدما جرته الحادثة بمهلك السلطان المرحوم على يد ابن عمه قريعة في الملك و قسيمه في النسب والتياث الجاه وتغير السلطان واعتقال الأخ المخلف و اليأس منه لولا تكييف الله في نجائه و العيث بعده في المنزل والولد واغتصاب الضياع المقتناة من بقايا ما متعت به الدولة النصرية أبقاها الله من النعمة فآوى إلى
الوكر و ساهم في الحادث وأشرك في الجاه والمال وأعان على نوائب الدهر وطلب الوثر حين رأى الدهر قلاني و أمل الملوك استخلاصي وتجاوزوا في إتحافي والله المخلص من عقال الآمال والمرشد إلى نبذ هذه الحظوظ المورطة
وأنبأني سيدي بما صدر عنه من التصانيف الغريبة في هذه الفتوحات الجليلة وبودي لو وقع الإتحاف بها أو بعضها فلقد عاودني الندم على ما فرطت
وأما أخبار هذا القطر فلا زيادة على ما علمتم من استقرار السلطان أبي اسحق ابن السلطان أبي يحيى بتونس مستبدا بأمره بالحضرة بعد مهلك شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين القائم بأمره رحمة الله عليه مضايقا في حياته الوطن و أحكامه بالعرب المستظهرين بدعوته مصانعا لهم بوفرة على أمان الرعايا والسابلة لو أمكن حسن السياسة جهد الوقت ومن انتظام بجاية محل دولتنا في أمر صاحب قسنطينة و بونة خلافا كما علمتم محملا الدولة بصرامته وقوة شكيمته فوق طوقها من الاستبداد والضرب على أيدي المستقلين من الأعراب منتقض الطاعة أكثر أوقاته لذلك إلا ما شمل البلاد من تغلب العرب ونقص الأرض من الأطراف
والوسط وخمود ذبال الدول في كل جهة و كل بداية إلى تمام
وأما أخبار المغرب الأقصى والأدنى فلديكم طلعه وأما المشرق فأخبار الحاج هذه السنة من اختلاله وانتقاض سلطانه و انتزاء الجفاة على كرسية وفساد المصانع و السقايات المعدة لوفد الله وحاج بيته ما يسخن العين ويطيل البث حتى زعموا أن الهيعة اتصلت بالقاهرة أياما وكثر الهرج في أزقتها وأسواقها لما وقع بين سندمر المتغلب بعد يلبغا الخاصكي و بين سلطانه ظاهر القلعة من الجولة التي كانت دائرتها عليه أجلت عن زهاء الخمسمائة قتلى من حاشيته و موالي يلبغا و تقبض على الباقين فأودع منهم السجون وصلب الكثير وقتل سندمر في محبسه و ألقى زمام الدولة بيد كبير من موالي السلطان فقام بها مستبدا و قادها مستقلا وبيد الله تصاريف الأمور ومظاهر الغيوب جل وعلا
و رغبتي من سيدي أبقاه الله أن لا يغب خطابه عني متى أمكن أن يصل منته الجمة وأن يقبل عني أقدام تلك الذات المولوية ويعرفه بما عندي من التشيع لسلطانه والشكر لنعمته وأن ينهي عني لحاشيته وأهل اختصاصه التحية المختلسة من أنفاس الرياض كبيرهم وصغيرهم
و قد تأذى مني إلى حضرته الكريمة خطاب على يد الحاج نافع سلمه الله تناوله من الأخ يحيى عند لقائه إياه بتلمسان بحضرة السلطان أبي حمو أيده الله فربما يصل وسيدي يوضح من ثنائي ودعاني ما عجز عنه الكتاب و الله يبقيكم ذخرا للمسلمين وملاذا للأملين بفضله والسلام الكريم عليكم وعلى من لاذ بكم من السادة الأولاد المناجيب و الأهل والحاشية و الأصحاب من المحب فيكم المعتد بكم شيعة فضلكم ابن خلدون ورحمة الله وبركاته
عنوانه سيدي وعمادي ورب الصائع والأيادي والفضائل الكريمة الخواتم و المبادي إمام الأمة علم الأئمة تاج الملة فخر العلماء عماد الإسلام مصطفى الملوك الكرام كافل الإمامة تاج الدول أثير الله ولي أمير المؤمن الغني بالله أيده الله الوزير أبو عبد الله بن الخطيب أبقاه الله وتولى عن المسلمين جزاه
و كتب إلي من غرناطة : يا سيدي وولي وأخي و محل ولدي كان الله لكم حيث كنتم ولا أعدمكم لطفه وعنايته لو كان مستقركم بحيث يتأتى الله ترديد رسول وإنفاذ مقتطع أو توجيه نائب لرجعت على نفسي باللائمة في إغفال حقكم ولكن العذر ما علمتم واحمدوا الله على الاستقرار في كنف ذلك الفاضل الذي وسعكم كنفه وشملكم فضله شكرا لله حسبه الذي لم يخلف وشهرته التي لم تكدر
و إني اغتنمت سفر هذا الشيخ وافد الحرمين بمجموع الفتوح في إيصال كتابي هذا و بودي لو وقفتم على ما لديه من البضاعة التي أنتم رأسها وصدرها فيكون لكم في ذلك بعض أنس و ربما تأدى ذلك في بعضه مما لم يختم عليه وظواهر الأمور نحيل عليه في تعريفكم بها وأما البواطن فما لا تتأتى كثرة و جمامة و أخص ما أظن تشوفكم إليه حالي فاعلموا أني قد بلغ بي الماء الزبى و استولى علي سوء المزاج المنحرف وتوالت الأمراض وأعوز الشفاء لبقاء السبب والعجز عن دفعه وهي هذه المداخلة جعل الله عاقبتها إلى خير ولم أترك وجها من وجوه الحيلة إلا بذلته فما أغنى عني شيئا ولولا أني بعدكم شغلت الفكر بهذا التأليف مع الزهد وبعد العهد وعدم الإلماع بمطالعة الكتب لم تتمش من طريق فساد الفكر إلى هذا الحد و أخر ما صدر عني كناش سميته باستنزال اللطف الموجود في أسر الوجود أمليته في هذه الأيام التي أقيم فيها رسم النيابة عن السلطان في سفره إلى الجهاد بودي لو وقفتم عليه وعلى كتابي في المحبة وعسى الله أن ييسر ذلك
ومع هذا كله و الله ما قصرت في الحرص على إيصال مكتوب إليكم إما من جهة أخيكم أومن جهة السيد الشريف أبي عبد الله حتى في المغرب إذا سمعت الركب متوجها منه فلا أدري هل بلغكم شيء من ذلك أم لا و الأحوال كلها على ما تركتموها عليه وأحبابكم بخير على ما علمتم من الشوق والتشوف والارتماض على مفارقتكم ولا حول ولا قوة إلا بالله
و الله يحفظكم ويتولى أموركم والسلام عليكم ورحمة الله من المحب الواحش ابن الخطيب في ربيع الثاني من عام إحدى وسبعين وسبعمائة
وبباطنه مدرجة نصها :
سيدي رضي الله عنكم إستقر بتلمسان في سبيل تقلب ومسارعة مزاج تعرفونه
صاحبنا المقدم في الطب أبو عبد الله الشقوري فإذا اتصل بكم فأعينوه على ما يقف عليه اختياره وهذا لا يحتاج معه إلى مثلكم
عنوانه سيدي و محل أخي الفقيه الجليل الصدر الكبير المعظم الرئيس الحاجب العالم الفاضل الوزير ابن خلدون وصل الله سعده وحرس مجده بمنه
وإنما طولت بذكر هذه المخاطبات وإن كانت فيما يظهر خارجة عن غرض الكتاب لأن فيها كثيرا من أخباري وشرح حالي فيستوفي ذلك منها ما يتشوف إليه من المطالعين للكتاب
ثم إن السلطان أبا حمو لم يزل معتملا في الإجلاب على بجاية واستئلاف قبائل رياح لذلك ومعولا علي مشايعتي فيه ووصل يده مع ذلك بالسلطان أبي اسحق ابن السلطان أبي بكر صاحب تونس من بني أبي حفص لما كان بينه وبين أخيه صاحب بجاية وقسنطينة من العداوة التي تقتضيها مقاسمة النسب والملك فكان يوفد رسله عليه في كل وقت ويمرون بي وأنا ببسكرة فأكد الوصلة بمخاطبة كل منهما وكان أبو زيان ابن عم السلطان أبي حمو بعد إجفاله عن بجاية واختلال معسكره قد سار في أثره إلى تلمسان وأجلب على نواحيها فلم يظفر بشيء وعاد إلى حصين فأقام بينهم و اشتملوا عليه ونجم النفاق في سائر أعمال المغرب الأوسط ولم يزل يستألفهم حتى اجتمع له الكثير منهم فخرج في عساكره منتصف تسع وستين وسبعمائة إلى حصين وأبي زيان و اعتصموا بجبل تيطري وبعث إلي في استنفار الزواودة للأخذ بحجزتهم من جهة الصحراء و كتب يستدعي أشياخهم يعقوب بن علي كبير أولاد محمد و عثمان بن يوسف كبير أولاد سباع بن يحيى و كتب إلى ابن مزنى قعيدة وطنهم بامدادهم في ذلك فأمدهم و سرنا مغربين إليه حتى نزلنا القطفا بتل تيطري وقد أحاط السلطان به من جهة التل على أنه إذا فرغ من شأنهم سار معنا إلى بجاية وبلغ الخبر إلى صاحب بجاية أبي العباس فعسكر بمن استألف من بقايا قبائل رياح وعسكر بطرف ثنية القطفا المفضية إلى المسيلة وبينما نخن على ذلك اجتمع المخالفون من زغبة وهم خالد بن عامر كبير بني عامر وأولاد عريف كبراء سويد ونهضوا إلينا بمكاننا من القطفا فأجفلت أحياء الزواودة وتأخرنا إلى المسيلة ثم إلى الزاب و سارت زغبة إلى تيطري واجتمعوا مع أبي زيان وحصين وهجموا على معسكر أبي حمو ففلوه ورجع منهزما إلى تلمسان
ولم يزل من بعد ذلك على استئلاف زغبة و رباح يؤمل الظفر بوطنه وابن عمه والكزة على بجاية عاما فعاما و أنا على حالي في مشايعته وايلاف ما بينه و بين الزواودة و السلطان أبي اسحق صاحب تونس وابنه خالد من بعده ثم دخلت زغبة في طاعته و اجتمعوا على خدمته ونهض من تلمسان لشفاه نفسه من حصين و بجاية و ذلك في أخريات إحدى وسبعين وسبعمائة فوفدت عليه بطائفة من الزواودة أولاد عثمان بن يوسف بن سليمان لنشارف أحواله ونطالعه بما يرسم له في خدمته فلقيناه بالبطحاء و ضرب لنا موعدا بالجزائر انصرف به العرب إلى أهليهم وتخلفت بعدهم لقضاء بعض الأغراض واللحاق بهم وصليت به عيد الفطر على البطحاء وخطبت به وأنشدته عند انصرافه من المصلى تهنئة بالعيد و غرضه :
( هذي الديار فحيهن صباحا ... وقف المطايا بينهن طلاحا )
( لا تسأل الأطلال إن لم تروها ... عبرات عينك واكفا ممتاحا )
( فلقد أخذن على جفونك موثقا ... أن لا يرين مع البعاد شحاحا )
( إيه على الحي الجميع وربما ... طرب الفؤاد لذكرهم فارتاحا )
( ومنازل للظاعنين استعجمت ... حزنا وكانت بالسرور فصاحا )
وهى طويلة ولم يبق في حفظي منها إلا هذا
وبينما نحن في ذلك إذ بلغ الخبر بأن السلطان عبد العزيز صاحب المغرب الأقصى من بني مرين قد استولى على جبل عامر بن محمد الهنتاني بمراكش و كان أخذ بمخنقه منذ حول و ساقه إلى فاس فقتله بالعذاب و أنه عازم على النهوض إلى تلمسان لما سلف من السلطان أبي حمو إثناء حصار السلطان عبد العزيز لعامر في جبله من الإجلاب على ثغور المغرب ولحين وصول هذا الخبر أضرب السلطان أبو حمو على ذلك الذي كان فيه وكر راجعا إلى تلمسان وأخذ في أسباب الخروج إلى الصحراء مع شيعة بني عامر من أحياء زغبة فاستألف وجمع وسدد الرجال و قضى عيد الأضحى و طلبت منه الإذن في الانصراف إلى الأندلس لتعذر الوجهة إلى بلاد رياح و قد أظلم الجو بالفتنة وانقطعت السبل فأذن لي و حملني رسالة إلى السلطان ابن الأحمر وانصرفت إلى المرمى بهنين و جاءه الخبر بنزول صاحب المغرب تازا في عساكره فأجفل بعدي من تلمسان ذاهبا إلى الصحراء على طريق البطحاء وتعذر علي ركوب البحر من هنين فأقصرت وتأدى الخبر إلى السلطان عبد العزيز بأني مقيم بهنين و أن معي وديعة احتملتها إلى صاحب الأندلس تخيل ذلك بعض الغواة و كتب به إلى السلطان عبد العزيز فأنفذ من وقته سرية من تازا تعترضني لاسترجاع تلك الوديعة و استمر هو إلى تلمسان و وافتني السرية بهنين و كشفوا الخبر فلم يقفوا على صحته وحملوني إلى السلطان فلقيته قريبا من تلمسان و استكشفني عن ذلك الخبر فأعلمته بنفيه و عنفنني على مفارقة دارهم فاعتذرت له لما كان من عمر بن عبد الله المستبد عليهم وشهد لي كبير مجلسه و ولي أبيه و ابن وليه و نزمار بن عريف و وزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة و احتفت الألطاف وسألني في ذلك المجلس عن أمر بجاية و أفهمني أنه يروم تملكها فهونت عليه السبيل في ذلك فسر به وأقمت تلك الليلة في الاعتقال ثم أطلقني من الغد فعمدت إلى رباط الشيخ الولي أبي مدين ونزلت بجواره مؤثرا للتخلي والانقطاع للعلم لو تركت له (7/561)
مشايعة السلطان عبد العزيز صاحب المغرب على بني عبد الواد
و لما دخل السلطان عبد العزيز إلى تلمسان و استولى عليها و بلغ خبره إلى أبي حمو و هو بالبطحاء فأجفل من هنالك و خرج في قومه و شيعته من بني عامر ذاهبا إلى بلاد رياح فسرح السلطان وزيره أبا بكر بن غازي في العساكر لاتباعه و جمع عليه أحياء زغبة و المعقل باستئلاف وليه ونزمار و تدبيره ثم أعمل السلطان نظره و رأى أن يقدمني أمامه إلى بلاد رياح لأوطيء أمره و أحملهم على مناصرته و شفاء نفسه من عدوه بما كان السلطان أيس من استتباع رياح و تصريفهم فيما يريده من مذاهب الطاعة فاستدعاني من خلوتي بالعبادة عند رباط الولي أبي مدين و أنا قد أخذت في تدريس العلم و اعتزمت على الانقطاع فآنسني و قربني و دعاني لما ذهب إليه من ذلك فلم يسعني إلا إجابته و خلع علي و حملني و كتب إلى شيوخ الزواودة بامتثال أمري و ما ألقيه إليهم من أوامره وكتب إلى يعقوب بن علي و ابن مزنى بمساعدتي على ذلك و أن يحاولوا على استخلاص أبي حمو من بين أحياء بني عامر و يحولوه إلى حي يعقوب بن علي فودعته و انصرفت في عاشوراء سنة إثنتين وسبعين و سبعمائة فلحقت الوزير في عساكره و أحياء العرب من المعقل و زغبة على البطحاء و لقيته و دفعت إليه كتاب السلطان و تقدمت أمامه و شيعني ونزمار يومئذ و أوصاني بأخيه محمد و قد كان أبو حمو قبض عليه عندما أحس منهم بالخلاف و أنهم يرومون الرحلة إلى المغرب و أخرجه معه من تلمسان مقيدا و احتمله في معسكره فأكد على ونزمار في المحاولة على استخلاصه بما أمكن وبعث معي ابن أخيه عيسى في جماعة من سويد بيدروني و تقدم إلى أحياء حصين بإخراج أبي زيان من بينهم فسرنا جميعا و انتهينا إلى أحياء حصين و أخبرهم فرج بن عيسى بوصية عمه و نزمار إليهم فنبذوا إلى أبي زيان عهده و بعثوا معه من أوصله إلى بلاد رياح و نزل على أولاد يحيى بن علي بن سباع و توغلوا به في القفر و استمريت ذاهبا إلى بلاد رياح فلما انتهيت إلى المسيلة ألفيت السلطان أبا حمو و أحياء رياح مسعكرين قريبا منها في و طن أولاد سباع بن يحيى من الزواودة و قد تسايلوا إليه و بذل فيهم العطاء ليجتمعوا إليه فلما سمعوا بمكاني من المسيلة جاؤا إلي فحملتم على طاعة السلطان عبد العزيز و أوفدت أعيانهم و أشياخهم على الوزير أبي بكر بن غازي فلقوه ببلاد الديالم عند نهر و اصل فأتوه طاعتهم و دعوه إلى دخول بلادهم في اتباع عدوه و نهض معهم و تقدمت أنا من المسيلة إلى بسكرة فلقيت بها يعقوب بن علي و اتفق هو و ابن مزنى على طاعة السلطان و بعث ابنه محمدا للقاء أبي حمو و أمر بني عامر خالد بن عامر يدعوهم إلى نزول وطنه و البعد به عن بلاد السلطان عبد العزيز فوجده متدليا من المسيلة إلى الصحراء و لقيه على الدوسن و بات ليلتهم يعرض عليهم التحول من وطن أولاد بنى سباع إلى وطنهم بشرقي الزاب و أصبح يومه كذلك فما راعهم آخر النهار إلا انتشار العجاج خارجا إليهم من أفواه الثنية فركبوا يستشرفون و إذا بهوادي الخيل طالعة من الثنية و عساكر بني مرين و المعقل و زغبة منثالة أمام الوزير أبي بكر بن غازي قد دل بهم الطريق و فد أولاد سباع الذين بعثهم من المسيلة فلما أشرفوا على المخيم أغاروا عليه مع غروب الشمس فأجفل بنو عامر و انتهب مخيم السلطان أبي حمو و رحاله و أمواله
ونجا بنفسه تحت الليل و تمزق شمل و لده و حرمه حتى خلصوا الله بعد أيام واجتمعوا بقصور مصاف من بلاد الصحراء و امتلأت أيدي العساكر و العرب من نهابهم و انطلق محمد بن عريف في تلك الهيعة و أطلق الموكلون به و جاء إلى الوزير وأخيه و نزمار وتلقوه بما يجب له و أقام الوزير أبو بكر بن غازي بالدوسن أياما أراح فيها و بعث الله ابن مزنى بطاعته و أرغد له من الزاد و العلوفة و ارتحل راجعا إلى المغرب و تخلفت بعده أياما عند أهلي ببسكرة ثم ارتحلت إلى السلطان في و فد
عظيم من الزواودة يقدمهم أبو دينار أخو يعقوب بن علي و جماعة من أعيانهم
فسابقنا الوزير إلى تلمسان و قدمنا على السلطان فوسعنا من حبائه و تكرمته و نزله ما بعد العهد بمثله ثم جاء من بعدنا الوزير أبو بكر بن غازي على الصحراء بعد أن مر بقصور بني عامر هنالك فخربها و كان يوم قدومه على السلطان يوما مشهودا و أذن بعدها لوفود الزواودة في الانصراف إلى بلادهم و قد كان ينتظر بهم قدوم الوزير ووليه و نزمار بن عريف فودعوه و بالغ في الإحسان و انصرفوا إلى بلادهم ثم أعمل نظره في إخراج أبي زيان من بين أحياء الزواودة لما خشي من رجوعه إلى حصين فآمرني في ذلك و أطلقني إليهم في محاولة انصرافه عنهم فانطلقت لذلك و كان أحياء حصين قد توجسوا الخيفة من السلطان و تنكروا له و انصرفوا إلى أهلهم بعد مرجعهم من غزاتهم مع الوزير و بادروا باستدعاء أبي زيان من مكانه عند أولاد يحيى بن علي و أنزلوه بينهم و اشتملوا عليه و عادوا إلى الخلاف الذي كانوا عليه أيام أبي حمو و اشتعل المغرب الأوسط نارا و نجم صبي من بيت الملك في مغراوة و هو حمزة بن علي بن راشد فر من معسكر الوزير ابن غازي أيام مقامه عليها فاستولى على شلف و بلاد قومه و بعث السلطان وزيره عمر بن مسعود في العساكر لمنازلته و أعيا داؤه و انقطعت أنا ببسكرة و حال ذلك ما بيني و بين السلطان إلا بالكتاب و الرسالة و بلغني في تلك الأيام و أنا ببسكرة مفر الوزير ابن الخطيب من الأندلس و قدومه على السلطان بتلمسان حين توجس الخيفة من سلطانه بما كان له من الاستبداد عليه وكثرة السعاية من البطانة فيه فأعمل الرحلة إلى الثغور الغربية لمطالعتها بإذن سلطانه فلما حاذى جبل الفتح قبل الفرضة دخل إلى الجبل و بيده عهد السلطان عبد العزيز إلى القائد بقبوله و أجاز البحر من حينه إلى سبتة و سار إلى السلطان بتلمسان و قدم عليه بها في يوم مشهود و تلقاه السلطان من الحظوة و التقريب و إدرار النعم بما لا يعهد بمثله بهتب إلى من تلمسان يعرفني بخبره و يلم ببعض العتاب على ما بلغه من حديثي الأول بالأندلس و لم يحضرني الآن كتابه فكان جوابي عنه ما نصه :
الحمد لله و لا قوة إلا بالله و لا راد لما قضى الله
يا سيدي و نعم الذخر الأبدي و العروة الوثقى التي أعلقتها يدي أسلم عليك سلام القدوم على المخدوم و الخضوع للملك المتبوع لا بل أحييكم تحية المشوق للمعشوق و المدلج للصباح المتبلج و أقرر ما أنتم أعلم بصحيح عقدي فيه من حبي لكم و معرفي بمقداركم و ذهابي إلى أبعد الغايات في تعظيمكم و الثناء عليكم و الإشادة في الأفاق بمناقبكم ديدنا معروفا و سجية راسخة يعلم الله وكفى بالله شهيدا و هذا كما في علمكم أسنى ما اختلف أولا و لا أخرا و لا شاهدا ولا غائبا و أنتم أعلم بما تعني نفسه و أكبر شهادة بما في خفايا ضميري و لو كنت ذلك فقد سلف من حقوقكم و جميل أخذكم و اجتلاب الحظ لو هيأه القدر لمساعيكم و إيثاري بالمكان من سلطانكم و دولتكم ما يستلين معاطف القلوب ويستل سخائم الهواجس فأنا أحاشيكم من استشعار نبوة أو إخفار و طن و لو تعلق بقلب ساق حرزرزور فحاش لله أن يقدح في الخلوص لكم أو يرجح سوائبكم إنما هي خبيئة الفؤاد إلى الحشر أو اللقاء و و الله و جميع ما يقسم به ما اطلع على مستكنه مني غير صديقي و صديقكم الملابس كان لي و لكم الحكيم الفاضل أبي عبد الله الشقوري أعزه الله نفثة مصدور و مباثة خلوص إذ أنا أعلم الناس بمكانه منكم وقد علم ما كان مني حين مفارقة صاحب تلمسان واضمحلال أمره من إجماع الأمر على الرحلة إليكم و الخفوق إلى حاضرة البحر للإجازة إلى عدوتكم تعرضت فيهم للتهم و وقفت بمجال الظنون حتى تورطت فى الهلكة بما ارتفع عني مما لم آته و لا طويت العقد عليه لولا حلم مولانا الخليفة ولولا حسن رأيه في و ثبات بصيرته لكنت في الهالكين الأولين كل ذلك شوقا إلى لقائكم و تمثلا لأنسكم فلا تظنوا بي الظنون و لا تصدقوا التوهمات فأنا من قد عملتم صداقة و سذاجة و خلوصا و اتفاق ظاهر و باطن أثبت الناس عهدا وأحفظهم غيبا و أعرفهم بوزان الإخوان و مزايا الفضلاء و لأمر ما تأخر كتابي من تلمسان فإني كنت استشعر ممن استضافني ريبا بخطاب سواه خصوصا جهتكم لقديم ما بين الدولتين من الاتحاد و المظاهرة و اتصال اليد مع أن الرسول تردد إلي و أعلمني اهتمامكم و اهتمام السلطان تولاه الله باستكشاف ما أبهم من حالي فلم أترك شيئا مما أعلم تشوقكم إليه إلا و كشفت له قناعة و أمنته على إبلاغه ولم أزل بعد إيناس المولى الخليفة لدمئي و جذبه بضبعي سابحا في تيار الشواغل كما علمتم القاطعة حتى عن الفكر
وسقطت إلي محل مجد خدمتي من هذه القاصية أخبار خلوصكم إلى المغرب قبل فصول راحلتي إلى الحضرة غير خلية و لا ملتئمة و لم يتعين ملقي العصا و لا مستقر النوى فأرجأت الخطاب إلى استجلائها و أفدت من كتابكم العزيز الجاري على سنن الفضل و مذاهب المجد غريب ما كيفه القدر من بديع الحال لديكم و عجيب تأتى أملكم الشارد فيه كما كنا نستبعده عند المفاوضة فحمدت الله لكم على الخلاص من ورطة الدول على أحسن الوجوه و أجمل المخارج الحميدة العواقب في الدنيا و الدين العائدة بحسن المال في المخلف من أهل و ولد و متاع و أثر بعد أن رضتم جموح الأيام و توقلتم قلل العز و قدتم ا الدنيا بحذافيرها وأخذتم بآفاق السماء على أهلها و هنيئا فقد نالت نفسكم التواقة أبعد أمانيها ثم تاقت إلى ما عند الله و أشهد لما ألهمتم للإعراض عن الدنيا و نزع اليد من حطامها عند الأصحاب و الأقيال و نهى الآمال إلا جذبا و عناية من الله و حبا و إذا أراد الله أمرا يسر أسبابه
و اتصل بي ما كان من تحفي السيادة المولوية بكم و اهتزاز الدولة لقدومكم و مثل هذه الخلافة أيدها الله من يثابر على المفاخر و يستأثر بالأخاير و ليت ذلك عند إقبالكم على الحظ و أنسكم باجتلاء الآمال حتى يحسن المتاع و يتجمل السرير الملوكي بمكانكم فالظن أن هذا الباعث الذي هزم الآمال و نبذ الحظوظ وهون المفارق العزيز سومكم الله حتى يأخذ بيدكم إلى قضاء المجاهدة و يستوي بكم على جدد الرياضة و الله يهدي للتي هي أقوم كأني بالأقدام نقلت والبصائر بإلهام الحق صقلت و المقامات خلفت بعد أن استقبلت و العرفان شيمة أنواره و بوارقه و الوصول انكشفت حقائقه لما ارتفعت عوائقه و أما حالي و الظن بكم الاهتمام بها و البحث عنها فغير خفية بالباب المولوي أعلاه الله ومظهرها في طاعته و مصدرها عن أمره و تصاريفها في خدمته و الزعم أني قمت المقام المحمود في التشيع و الإنحياش و استمالة الكافة إلى المناصحة و مخالصة القلوب للولاية و ما يتشوقه مجدكم و يتطلع إليه فضلكم و أما اهتمامكم في خاصتها من النفس و الولد فجهينة خبره مؤدي كتابي إليكم ناشيء تأديبي و ثمرة ترتيبي فسهلوا له الإذن و ألينوا له جانب النجوى حتى يؤدي ما عندكم و ما عندي وخذوه بأعقاب الأحاديث إن يقف عند مباديها و ائتمنوه على ما تحدثون فليس بضنين على السر
و تشوقي بما يرجع به إليكم سيدي و صديقي و صديقكم المقرب في المجد و الفضل المساهم في الشدائد كبير المغرب و ظهير الدولة أبو يحيى بن أبي مدين كان الله له في شأن الولد و المخلف تشوق الصديق لكم الضنين على الأيام بقلامة الظفر من ذات يديكم فأطلعوه طلع ذلك و لا يهمكم بالفراق الواقع حسن فالسلطان كبير و الأثر جميل و العدو الساعي قليل حقير و النية صالحة و العمل خالص و من كان لله كان الله له
و استطلاع الرياسة المرتبة الكافلة كافأ الله يده البيضاء عني و عنكم إلى مثله من أحوالكم استطلاع من يسترجح وزانكم و يشكر الزمان على ولائه بمثلكم
و قد قررت من علو مناقبكم و بعد شأوكم و غريب منحاكم ما شهدت به آثاكم الشائعة الخالدة في الرياسة المتأدية على ألسنة الصادر و الوارد من الكافة من حمل الدولة و استقامة السياسة و وقفته على سلامكم و هو يراجعكم بالتحية و يساهمكم بالدعاء
و سلامي على سيدي و فلذة كبدي و محل و لدي الفقيه الزكي الصدر أبي الحسن نجلكم أعزه الله و قد وقع مني موقع البشرى حلوله من الدولة بالمكان العزيز و الرتبة النابهة و الله يلحفكم جميعا رداء العافية و الستر و يمهد لكم محل الغبطة و الأمن ويحفظ عليكم ما أسبغ من نعمته و يجريكم على عوائد لطفه و عنايته و السلام الكريم يخصكم من المحب الشاكر الداعي الشائق شيعة فضلكم عبد الرحمن بن خلدون و رحمة الله و بركاته في يوم الفطر عام اثنين و سبعين و سبعمائة
وكان بعث إلي مع كتابه نسخة كتابه إلى سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس عندما دخل جبل الفتح و صار إلى إيالة بني مرين فخاطبه من هنالك بهذا الكتاب فرأيت أن أثبته هنا و إن لم يكن من غرض التأليف لغرابته و نهايته في الجودة وأن مثله لا يهمل من مثل هذا الكتاب مع ما فيه من زيادة الاطلاع على أخبار الدول في تفاصيل أحوالها و نص الكتاب
( بانوا فمن كان باكيا يبكي ... هذي ركاب السرى بلا شك )
( فمن ظهور الركاب معملة ... إلى بطون الربى إلى الفلك )
( تصدع الشمل مثل ما انحدرت ... إلى صبوب جواهر السلك )
( من النوى قبل لم أزل حذرا ... هذا النوى جل مالك الملك )
مولاي كان الله لكم و تولى أمركم أسلم عليكم سلام الوداع و أدعو الله في تيسر اللقاء و الاجتماع من بعد التفرق و الانصداع و أقرر لديكم أن الإنسان أسير الأقدار مسلوب الاختيار متقلب في حكم الخواطر و الأفكار و أن لا بد لكل أول من آخر و أن التفرق لما لزم كل اثنين بموت أو حياة و لم يكن منه بد كان خير أنواعه الواقعة بين الأحباب ما وقع على الوجوه الجميلة البريئة من الشرور
ويعلم مولاي حال عبده منذ و صل إليكم من المغرب بولدكم و مقامه لديكم بحال قلق و لولا تعليلكم و وعدكم و ارتقاب اللطائف في تقليب قلبكم و قطع نواحل الأيام حريصا على استكمال سنكم و نهوض ولدكم و اضطلاعكم بأمركم و تمكن هدنة و طنكم و ما تحمل في ذلك من ترك غرضه لغرضكم و ما استقر بيده من عيوبهم و أن العبد الآن تسبب لكم في الهدنة من بعد الظهور و العز و نجح السعي و تأتي لسنين كثيرة الصلح و من بعد أن لم يبق لكم بالأندلس مشغب من القرابة و تحرك لمطالعة الثغور الغربية و قرب من فرضة المجاز و اتصال الأرض ببلاد المشرق لطرقته الأفكار و زعزعت صبره رياح الخواطر و تذكر أشراف العمر على التمام و عواقب الاستغراق و سيرة الفضلاء عند شمول البياض فغلبته حال شديدة هزمت التعشق بالشمل الجميع و الوطن المليح و الجاه الكبير و السلطان القليل النظير و عمل بمقتضى قوله موتوا قبل أن تموتوا فإن صحت الحال المرجوة من إمداد الله تنقلت الأقدام إلى أمام و قوى التعلق بعروة الله الوثقى وإن و قع العجز أو افتضح العزم فالله يعاملنا بلطفه و هذا المرتكب مرام صعب لكن سهله علي أمور : منها أن الانصراف لما لم يكن منه بد لم يتعين على غير هذه الصورة إذ كان عندكم من باب المحال و منها أن مولاي لو سمح لي بغرض الإنصراف لم تكن لي قدرة على موقف وداعه لا و الله ! و لكان الموت أسبق إلي و كفى بهذه الوسيلة الحسنة التي يعرفها وسيلة و منها حرصي على أن يظهر صدق دعواي فيما كنت أهتف به و أظن أني لا أصدق و منها اغتنام المفارقة في زمن الأمان و الهدنة الطويلة و الاستغناء إذا كان الإنصراف المفروض ضروريا قبيحا في غير هذه الحال و منها و هو أقوى الأعذار أني مهما لم أطق تمام هذا الأمر أو ضاق ذرعي به لعجز أو مرض أو خوف طريق أو نفاد زاد أو شوق غالب رجعت رجوع الأب الشفيق إلى الولد البر الرضي إذ لم أخلف ورائي مانعا من الرجوع من قول قبيح و لا فعل بل خلفت الوسائل المرعية و الآثار الخالدة و السير الجميلة وانصرفت بقصد شريف فقت به أشياخي و كبار وطني و أهل طوري و تركتكم على أتم ما أرضاه مثنيا عليكم داعيا لكم و إن فسح الله في الأمد و قضي الحاجة فأملى العودة إلى ولدي و تربتي و إن قطع الأجل فأرجو أن أكون ممن و قع أجره على الله
فإن كان تصرفي صوابا و جاريا على السداد فلا يلام من أصاب و إن كان عن حمق و فساد عقل فلا يلام من اختل عقله و فسد مزاجه بل يعذر و يشفق عليه و يرحم و إن لم يعط مولاي أمري حقه من العدل و جليت الذنوب ونشرت بعدي العيوب فحياؤه و تناصفه بنكر ذلك و يستحضر الحساب من التربية و التعليم و خدمة السلف و تخليد الآثار و تسمية الولد و تلقيب السلطان والإرشاد إلى الأعمال الصالحة و المداخلة و الملابسة لم يتخلل ذلك قط خيانة في مال و لا سر و لا غش في تدبير و لا تعلق به محار و لا كدره نقص و لا حمل عليه خوف منكم و لا طمع فيما بيدكم و إن لم تكن هذه دواعي الرعي و الوصلة والإبقاء ففيم تكون بين بني آدم ؟
وأنا قد رحلت فلا أوصيتكم بمال فهو عندي أهون متروك و لا بولد فهم رجالكم و خدامكم و من يحرص مثلكم على الاستكثار منهم و لا بعيال فهي من مزيات بيتكم و خواص داركم إنما أوصيكم بحظي العزيز كان على بوطنكم و هو أنتم فأنا أوصيكم بكم فارعوني فيكم خاصة أوصيكم بتقوى الله و العمل لغد و قبض عنان اللهو في موطن الجد و الحياء من الله الذي محص و أقال و أعاد النعمة بعد زوالها لينظر كيف تعملون و أطلب منكم عوض ما و فرته عليكم من زاد طريق و مكافأة و إعانة زادا سهلا عليكم و هو أن تقولوا لي : غفر الله لك ما ضيعت من حقي خطأ أو عمدا و إذا فعلتم ذلك فقد رضيت
واعلموا أيضا على جهة النصيحة أن ابن الخطيب مشهور في كل قطر و عند كل ملك و اعتقاده و بره و السؤال عنه و ذكره بالجميل و الأذن في زيارته حنانة منكم و سعه ذرع و دها فإنما كان ابن الخطيب بوطنكم سحابة رحمة نزلت ثم أقشعت و ترك الأزاهر تفوح و المحاسن تلوح و مثاله معكم مثل المرضعة أرضعت السياسة و التدبير الميمون ثم رفدتكم في مهد الصلح و الأمان و غطتكم بقناع العافية و انصرفت إلى الحمام تغسل اللبن و الوضر و تعود فإن و جدت الرضيع نائما فحسن أو قد انتبه فلم تتركه إلا في حد الانفطام و نختم هذه العزارة بالحلف الأكيد أني ما تركت لكم وجه نصيحة في دين و لا في دنيا إلا و قد و فيت لكم و لا فارقتكم إلا عن عجز و من ظن خلاف هذا فقد ظلمني و ظلمكم و الله يرشدكم ويتولى أمركم و يعول خاطركم في ركوب البحر
انتهت نسخة الكتاب وفي طيها هذه الأبيات :
( صاب مزن الدموع من جفن صبك ... عندما استروح الصيا من مهبك )
( كيف يسلو يا جنتي عنك و قد ... كان قبل الوجود جن بحبك )
( ثم قل كيف كان قبل انتشاء الر ... و ح من أنسك الشهي و قربك )
( لم يدع ... بيتك المنيع حماه لسواه إلا بيت ربك )
( أول عذري الرضى فما جئت بدعا ... دمت و الفضل و الرضى من دابك )
( وإذا ما ادعيت كربا لفقدي ... أين كربي و وحشتي من كربك )
( ولدي في ذراك و كري في دو ... حك لحدي و وحشتي من كربك )
( يا زمانا أغرى الفراق بشملي ... ليتني أهبتي أخذت لحربك )
( أركبتني صروفك الصعب حتى ... جئت بالبين و هو أصعب صعبك )
وكتب آخر النسخة يخاطبني
هذا ما تيسر و الله ولي الخيرة لي و لكم من هذا الخباط الذي لا نسبة بينه و بين أولى الكمال ردنا الله إليه و أخلص توكلنا عليه و صرف الرغبة كل ما لديه
و في طي النسخة مدرجة نصها
رضي الله عن سيادتكم أونسكم بما صدر مني أثناء هذا الواقع مما استحضره الولد في الوقت و هو يسلم عليكم بما يجب لكم و قد حصل من حظوة هذا المقام الكريم على حظ و افر و أجزل إحسانه و نوه بجرايته وأثبت الفرسان خلفه والحمد لله
ثم اتصل مقامي ببسكرة و المغرب الأوسط مضطرب بالفتنة المانعة من الاتصال بالسلطان عبد العزيز و حمزة بي راشد ببلاد مغراوة و الوزير عمر بن مسعود في العساكر يحاصره بحصن تاجحمومت و أبو زيان العبد الوادي ببلاد حصين و هم مشتملون عليه و قائمون بدعوته
ثم سخط السلطان و زيره عمر بن مسعود و نكر منه تقصيره في أمر حمزة و أصحابه فاستدعاه إلى تلمسان و قبض عليه و بعث به إلى فاس معتقلا فحبس هنالك وجهز العساكر مع الوزير ابن غازي فنهض إليه و حاصره ففر من الحصن و لحق بمليانة مجتازا عليها فأنذر به عاملها فتقبض عليه و سيق إلى الوزير في جماعة من أصحابه فضربت أعناقهم و صلبهم عظة و مزدجر الأهل الفتنة
ثم أوعز السلطان بالمسير إلى حصين و أبي زيان فسار في العساكر و استنفر أحياء العرب من زغبة فأوعبهم و نهض إلى حصين فامتنعوا بجبل تيطري و نزل الوزير بعساكره و من معه من أحياء زغبة على جبل تيطري من جهة التل فأخذ بمخنقهم و كاتب السلطان أشياخ الزواودة من رياح بالمسير إلى حصار تيطري من جهة القبلة
وكاتب أحمد بن مزني صاحب بسكرة بإمدادهم بأعطياتهم و كتب إلي يأمرني بالمسير بهم لذلك فاجتمعوا علي و سرت بهم أول سنة أربع و سبعين و سبعمائة حتى نزلنا بالقطفة في جماعة منهم على الوزير بمكانه من حصار تيطري فحدلهم حدود الخدمة و شارطهم على الجزاء و رجعت إلى أحيائهم بالقطفة فاشتدوا في حصار الجبل و ألجؤهم بسوامهم و ظهرهم إلى قنته فهلك لهم الخف و الحافر وضاق ذرعهم بالحصار من كل جانب و راسل بعضهم في الطاعة خفية فارتاب بعضهم من بعض و انفضوا ليلا من الجبل و أبو زيان معهم ذاهبين إلى الصحراء و استولى الوزير على الجبل بما فيه من مخلفهم و لما بلغوا مأمنهم من القفر نبذوا إلى أبي زيان عهده فلحق بجبال غمرة و وفد أعيانهم على السلطان عبد العزيز بتلمسان و فاؤا إلى طاعته فتقبل طاعتهم و أعادهم إلى أوطانهم و تقدم الوزير عن أمر السلطان بالمسير مع أولاد يحيى بن علي بن سباع للقبض على أبي زيان في جبل غمرة وفاء بحق الطاعة لأن غمرة من رعاياهم فمضينا لذلك فلم نجده عندهم و أخبرونا أنه ارتحل عنهم إلى بلد و اركلا من مدن الصحراء فنزل على صاحبها أبي بكر بن سليمان فانصرفنا من هنالك و مضى أولاد يحيى بن علي إلى أحيائهم و رجعت أنا إلى أهلي ببسكرة و خاطبت السلطان بما وقع في ذلك وأقمت منتظرا أوامره حتى جائني استدعاؤه إلى حضرته فرحلت الله (7/580)
القسم الأول من فضل الوزير ابن الخطيب
و كان الوزير ابن الخطيب آية من آيات الله في النظم و النثر و المعارف و الأدب لا يساجل مداه و لا يهتدى فما بمثل هداه
فمما كتب عن سلطانه إلى سلطان تونس جوابا عن كتاب وصل إليه مصحوبا بهدية من الخيل و الرقيق فراجعهم عنه بما نصه إلى آخره :
الخلافة التي ارتفع في عقائد فضلها الأصيل القواعد الخلاف و استقلت مباني فخرها الشائع و عزها الذائع على ما أسسه الأسلاف و وجب لحقها الجازم و فرضها اللازم الاعتراف و وسعت الآملين لها الجوانب الرحيبة و الأكناف فامتزاجنا بعلائها المنيف و ولائها الشريف كما امتزج الماء و السلاف و ثناؤنا على مجدها الكريم و فضلها العميم كما تأرجت الرياض الأفواف لما زارها الغمام الوكاف و دعاؤنا بطول بقائها و اتصال علائها يسمو به إلى قرع أبواب السموات العلا الاستشراف و حرصنا على توفية حقوقها العظيمة و فواضلها العميمة لا تحصره الحدود و لا تدركه الأوصاف و إن عذر في التقصير عن نيل ذلك المرام الكبير الحق و الإنصاف خلافه و جهة تعظيمنا إذ توجهت الوجوه و من نؤثره إذا أهمنا ما نرجوه و نفديه و نبديه إذا استمنح المحقوب و استدفع المكروه السلطان الكذا بن أبي اسحق بن السلطان الكذا أبي يحيى بن أبي بكر بن السلطان الكذا أبي زكرياء بن السلطان الكذا أبي اسحق ابن الأمير الكذا أبي زكرياء ابن الشيخ الكذا أبي محمد بن عبد الواحد بن أبي حفص أبقاه الله و مقامه مقام إبراهيم رزقا و أمانا لا يخص جلب الثمرات إليه وقتا و لا يعين زمانا و كان على من يتخطف الناس من حوله مؤيدا بالله معانا
معظم قدره العالي على الأقدار و مقابل داعي حقه بالابتدار المثنى على معاليه المخلدة الآثار في اصونة النظام و النثار ثناء الروضة المعطار على الأمطار الداعي إلى الله بطول بقائه في عصمة منسدلة الأستار و عزة ثابتة المركز مستقيمة المدار و أن يختم له بعد بلوغ غايات الحال و نهاية الأعمال بالزلفي وعقبي الدار
عبد الله الغني بالله أمير المسلمين محمد بن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل ابن فرج بن نصر
سلام كريم كما حملت احاديث الازهار نسمات الاسحار و روت ثغور الأقاحي و البهار عن مسلسلات الأنهار و تجلى على منصة الاشتهار وجه عروس النهار يخص خلافتكم الكريمة النجار العزيزة الجار و رحمة الله و بركاته
أما بعد حمد الله الذي أخفى حكمته البالغة عن اذهان البشر فعجزت عن قياسها و جعل الأرواح اجنادا مجندة كما و رد في الخبر تحن إلى أجناسها منجد هذه الملة من أوليائه الجلة بمن يروض الآمال بعد شماسها وييسر الأغراض قبل التماسها و يعنى بتجديد المودات في ذاته و ابتغاء مرضاته على حين أخلاف لباسها الملك الحق و أصل الأسباب بحوله بعد انتكاث امراسها ومغني النفوس بطوله بعد إفلاسها حمدا يدر أخلاف النعم بعد إبساسها وينشر رمم الأموال من أرماسها و يقدس النفوس بصفات ملائكة السموات بعد إبلاسها
والصلاة و السلام على سيدنا و مولانا محمد رسوله سراج الهداية و نبراسها عند اقتناء الأنوار و اقتباسها مطهر الأرض من أوضارها و أدناسها و مصطفى الله من بين ناسها و سيد الرسل الكرام ما بين شيثها و إلياسها الآتي مهيمنا على آثارها في حين فترتها و من بعد نصرتها و استيئاسها مرغم الضراغم في أخياسها بعد افترارها و افتراسها و معفر أجرام الأصنام و مصمت أجراسها
و الرضا عن آله و أصحابه و عثرته و أحزابه حماه شرعته البيضاء و حراسها و ملقحي غراسها ليوث الوغى عند احتدام مراسها و رهبان الدجى تتكفل مناجاة السميع العليم في و حشة الليل البهيم بإيناسها و تفاوح نسيم الأسحار عند الاستغفار بطيب أنفاسها
والدعاء لخلافتكم العلية المستنصرية بالصنائع التي تشعشع أيدي العزة القعساء من أكواسها و لا زالت العصمة الالهية كفيلة باحترامها و احتراسها و أنباء الفتوح المؤيدة بالملائكة و الروح ريحان جلاسها و آيات المفاخر التي ترك الأول للآخر مكتتبة الأسطار بأطراسها و ميادين الوجود مجالا لجياد جودها و بأسها و العز والعدل منسوبين لفسطاطها و قسطاسها و صفيحة النصر العزيز تقبض كفها المؤيدة بالله على رياسها عند اهتياج أضدادها و شره أنكاسها لانتهاب البلاد و انتهاسها و هبوب رياح رياحها و تمرد مرداسها
فأنا كتبناه إليكم كتب الله لكم من كتائب نصره أمدادا تذعن أعناق الأنام لطاعة ملككم المنصور الأعلام عند إحساسها و آتاكم من آيات العنايات آية تضرب الصخرة الصماء ممن عصاها بعصاها فتبادر بانبجاسها من حمراء غرناطة حرسها الله و أيام الإسلام بعناية الملك العلام تحتفل وفود الملائكة الكرام لولائمها و أعراسها و طاعين الطعان في عدو الدين المعان تجدد عهدها بعام عمواسها
و الحمد لله حمدا معادا يقيد شوارد النعم و يستدر مواهب الجود و الكرم و يؤمن من انتكاث الجدود و انتكاسها و لي الآمال و مكاسها و خلافتكم هي المثابة التي يزهى الوجود بمحاسن مجدها زهو الرياض بوردها وآسها و تستمد أضواء الفضائل من مقباسها و تروي رواة الإفادة و الإجادة غريب الوجادة عن ضحاكها و عباسها و إلى هذا أعلى الله معارج قدركم و قد فعل و أنطق بحجج فخركم من احتفى و انتعل فإنه و صلنا كتابكم الذي حسبناه على صنائع الله لنا تميمة لا تقلع بعدها عين و جعلناه على حلل مواهبه قلادة لا يحتاج معها زين و دعوناه من جيب الكنانة آية بيضاء الكتابة لم يبق معها شك و لا مين و قرأنا منه وثيقة ود هضم فيها عن غريم الزمان دين و رأينا منه إنشاء خدم اليراع بين يديه و شاء و احترم بهميان عقدته مشاء و سئل عن معانيه الاختراع فقال : { إنا أنشأناهن إنشاء } فأهلا به من عربي أبي يصف السانح و البانة و يبين فيحسن الإبانة أدى الأمانة و سئل عن حيه فانتمى إلى كنانة وأفصح و هو لا ينبس و تهللت قسماته و ليل حبره يعبس و كأن خاتمه المقفل على صوانه المتحف بباكر الورد في غير أوانه رعف من مسك عنوانه والله من قلم دبج تلك الحلل و نقع بمجاج الدواة المستمدة من عين الحياة الغلل فلقد تخارق في الجود مقتديا بالخلافة التي خلد فخرها في الوجود فجاد بسر البيان و لبابه و سمح في سبيل الكرم حتى بماء شبابه و جمع لفرط بشاشته و فهامته بعد شهادة السيف بشهامته فمشى من الترحيب في الطرس الرحيب على أم هامته
و أكرم به من حكيم أفصح بملغوز الإكسير في اللفظ اليسير و شرح بلسان الخبير سر صناعة التدبير كأنما خدم الملكة الساحرة بتلك البلاد قبل اشتجار الجلاد فآثرته بالطارف من سحرها و التلاد أو عثر بالمعلقة و تيك القديمة المطلقة بدفية دار أو كنز تحت جدار أو ظفر لباني الحنايا قبل أن تقطع به عن أمانيه المنايا ببديعة أو خلف جرجير الروم قبل منازلة القروم على وديعة أو أسلمه ابن أبي سرح في نشب للفتح و سرح أو حتم له روح بن حاتم ببلوغ المطلب أو غلب الحظوظ بخدمة آل الأغلب أو خصه زيادة الله بمزيد أو شارك الشيعة في أمر أبي يزيد أو سار على منهاج في مناصحة بني صنهاج و فضح بتخليد أمداحهم كل هاج
و أعجب به و قد عزز منه مثنى البيان بثالث فجلب سحر الأسماع و استرقاق الطباع بين مثان للإبداع و مثالث كيف اقتدر على هذا المحيد و ناصح مع التثليث مقام التوحيد نستغفر الله ولي العون على الصمت و الصون فالقلم هو الموحد قبل الكون و المتصف من صفات السادة أولي العيادة بضمور الجسم و صفرة اللون إنما هي كرامة فاروقية و أثارة من حديث سارية و بقية سفر وجهها في الأعقاب بعد طول الانتقاب و تداول الأحقاب و لسان مناب عن كريم جناب و إصابة السهم لسواه محسوبة و إلى الرامي الذي سدده منسوبة و لا تنكر على الغمام بارقة و لا على المتحققين بمقام التوحيد كرامة خارقة فما شاءه الفضل من غرائب بر و جد و محاريب خلق كريم ركع الشكر فيها و سجد حديقة بيان استثارت نواسم الإبداع من مهبها و استزارت غمائم الطباع من مصبها فآتت أكلها مرتين بإذن ربها لا بل كتيبة عز طاعنت بقنا الألفات سطورها فلا يرونها النقد و لا يطورها و نزعت عن قسي النونات خطوطها و اصطفت من بياض الطرس و سواد النفس بلق تحوطها
فما كأس المدير على الغدير بين الخورنق و السدير تقامر بنرد الحباب عقول ذوي الألباب و تغرق كسرى في العباب و تهدي ـ و هي الشمطاء ـ نشاط الشباب و قد أسرج ابن سريج و ألجم و أفصح الغريض بعد ما جمجم و أعرب التاي الأعجم و وقع معبد بالقضيب و شرعت في حساب العقد بنان الكف الخضيب و كأن الأنامل فوق مثالث العود و مثانيه و عند إغراء الثقيل بثانية و إجابة صدى الغناء بين مغانيه المراود تشرع في الوشي أو العناكب تسرع في المشي و ما المخبر بنيل الرغائب أو قدوم الحبيب الغائب لا بل إشارة البشير بكم المشير على العشير بأجلب للسرور من زائره المتلقى بالبرور و أدعى للحبور من سفيره المبهج السفور فلم نر مثله من كتيبة كتاب تجنب الجرد تمرح في الأرسان و تتشوف مجالي ظهورها إلى عرائس الفرسان و تهز معاطف الارتياح من صهيلها الصراح بالنغمات الحسان إذا أوجست الصريخ نازعت أفناء الأعنة و كاثرت بأسنة آذانها مشرعة الأسنة فإن ادعى الظليم أشكالها فهو ظالم أو نازعها الظبي هواديها و أكفالها فهو هاذ أو حالم و إن سئل الأصمعي عن عيوب الغرر والأوضاح قال مشيرا إلى وجوهها الصباح :
( جلدة بين العين والأنف سالم ... )
من كل عبل الشوى مسابق للنجم إذا هوى سامي التليل عريض ما تحت الشليل ممسوحة أعطافه بمنديل النسيم البليل
من أحمر كالمدام تجلى على الندام عقب الفدام أتحف لونه بالورد في زمن البرد وحيي أفق محياه بكوكب السعد وتشوف الواصفون إلى عد محاسنه فأعيت على العد بحر يساجل البحر عند المد وريح تباري الريح عند الشد بالذراع الأشد حكم له مدير فلك الكفل باعتدال فضل القد وميزه قدره المميز عند الاستباق بقصب السباق عند اعتبار الحد وولد مختط غرته أشكال الجمال على الكمال بين البياض والحمرة ونقاء الخد وحفظ رواية الخلق الوجيه عن جده الوجيه ولا تنكر الرواية على الحافظ ابن الجد
وأشقر أبي الخلق والوجه الطلق أن يحفر كأنما صيغ من العسجد وطرف بالدر وأنعل بالزبرجد ووسم في الحديث بسمة اليمن والبركة واختص بفلج الخصام عند اشتجار المعركة و انفرد بمضاعف السهام المنكسرة على الهام في الفرائض المشتركة واتصف فلك كفله بحركتي الإرادة والطبع من أصناف الحركة أصغى إلى السماء بأذن ملهم وأغرى لسان الصهيل ـ عند التباس معاني الهمز و التسهيل ـ ببيان المبهم وفتنت العيون من ذهب جسمه ولجين نجمه بالدينار والدرهم فإن انقض فرجم أو ريح لها حجم و إن اعترض فشفق لاح به للنجم نجم
و أصفر قيد الأوابد الحرة وأمسك المحاسن وأطلق الغرة وسئل من أنت في قواد الكتائب وأولي الأخبار العجائب ؟ فقال : أنا المهلب بن أبي صفرة نرجس هذه الألوان في رياض الأكوان تحثى به وجوه الحرب العوان أغار بنخوة الصاثل على معصفرات الأصائل فارتداها وعمد إلي خيوط شعاع الشمس عند جانحة الأمس فألحم منها حلته و اسداها واستعدت عليه تلك المحاسن فما أعداها فهو أصيل تمسك بذيل الليل عرفه وذيله وكوكب يطلعه من الفتام ليله فيحسده فرقد الأفق و سهيله
وأشهب تغشى من لونه مفاضة وتسربل منه لأمة فضفاضة قد احتفل زينه لما رقم بالنبال لجينه فهو الأشمط الذي حقه لا يغمط و الدارع المسارع والأعزل الذارع وراقي الهضاب الفارع و مكتوب الكتيبة البارع وأكرم به من مرتاض سالك ومجتهد على غايات السابقين الأولين متهالك وأشهب يروي من الخليفة ذي الشيم المنيفة عن مالك
وحباري كلما سابق وبارى استعار جناح الحبارى فإذا أعملت الحسبة قيل من هنا جاءت النسبة طرد النمر لما عظم أمره وأمر فنسخ وجوده بعدمه وابتزه الفروة ملطخة بدمه وكأن مضاعف الورد نثر عليه من طبقه أو الفلك لما ذهب الحلك مزج فيه بياض صبحه بحمرة شفقه
وقرطاسي حقه لا يجهل ( متى ما ترقى العين فيه تسفل ) إن نزع عنه جله فهو نجم كله انفرد بمادة الألوان قبل أن تشوبها يد الأكوان أو تمزجها أقلام الملوان يتقدم الكتيبة منه لواء ناصع أو أبيض مناصع لبس وقار المشيب في ريعان العمر القشيب وأنصتت الآذان من صهيلة المطيل المطيب لما ارتدى بالبياض إلى نغمة الخطيب وإن تعتب منه للتأخير متعتب قلنا : الواو لا ترتب ما بين فحل وحرة و بهرمانة و درة ويا الله من ابتسام غرة و وضوح يمن في طرة وبهجة للعين وقرة و إن ولع الناس بامتداح القديم وخصوا الحديث بفري الأديم وأوجف المتعصب وإن أبى المنصب مرتبة التقديم وطمح إلى رتبة المخدوم طرف الخديم و قورن المثري بالعديم و بخس في سوق الكسد الكيل و دجا الليل وظهره في فلك الأنصاف الميل لما تذوكرت الخيل فجيء بالوجيه والخطار و الذائد و ذي الخمار وداحس والسكب والأبجر وزاد الركب والجموح و اليحموم و الكميت ومكتوم والأعوج وحلوان و لاحق و الغضبان و عفرز و الزعفران والمحبر واللعاب والأغر والغراب وشعلة والعقاب والفياض واليعبوب والمذهب و اليعسوب و الصموت و القطيب و هيدب و الصبيب و أهلوب و هداج و الحرون و خراج و علوى و الجناح و الأحوى و مجاح و العصا و النعامة و البلقاء والحمامة و سكاب و الجرادة و خوصاء و العرادة فكم بين الشاهد و الغائب والفروش و الرغائب و فرق ما بين الأثر و العيان غني عن البيان و شتان بين الصريح و المشتبة و لله در القائل :
( خذ ما تراه و دع شيئا سمعت به )
والناسخ يختلف به الحكم و شر الدواب عند التفضيل بين هذه الدواب الصم البكم إلا ما ركبه نبي أو كان له يوم الافتخار و برهان خفي و مفضل ما سمع على ما رأى غبي فلو أنصفت محاسنها التي وصفت لأقضمت حب القلوب علفا و أوردت ماء الشبيبة نطفا و اتخذت لها من عذر الخدود الملاح عذر موشية و عللت بصفير الحان القيان كل عشية و أنعلت بالأهلة وغطيت بالرياض بدل الأجلة
إلى الرقيق الخليق بالحسن الحقيق يسوقه إلى مثوى الرعاية روقه الفتيان رعاته و يهدي عقيقها من سبحه أشكالا تشهد للمخترع سبحانه بإحكام مخترعاته وقفت ناظر الاستحسان لا يريم لما بهره منظرها الوسيم و تخامل الظليم و تضاؤل الريم و أخرس مفوه اللسان و هو بملكات البيان الحفيظ العليم و ناب لسان الحال عن لسان المقال عند الاعتقال فقال يخاطب المقام الذي أطلعت أزهارها غمائم جوده و اقتضت اختيارها بركات وجوده : لو علمنا أيها الملك الأصيل الذي كرم منه الاجمال و التفصيل أن الثناء يوازيها لكلنا لك بكيلك أو الشكر يعادلها و يجازيها لتعرضنا بالوشل إلى نيل نيلك أو قلنا هي التي أشار إليها مستصرخ سلفك المستنصر بقوله :
ادرك بخيلك حين شرق بدمعه الشرق و انهزم الجمع و استولى الفرق واتسع فيه ـ و الحكم لله ـ الخرق و رأى أن مقام التوحيد بالمظاهرة على التثليث و حزبه الخبيث الأولى و الأحق
و الآن قد أغنى الله بتلك النية عن اتخاذ الطوال الردينية و بالدعاء من تلك المثابة الدينية إلى رب المنية و عن الجرد العربية في مقاود الليوث الأبية وجدد برسم هذه الهدية مراسيم العهود الودية و الذمم الموحدية لتكون علامة على الأصل و مكذبة لدعوى الوقف و الفصل و إشعارا بالألفة التي لا تزال ألفها ألف الوصل و لأمها حراما على النصل
وحضر بين يدينا رسولكم فقرر من فضلكم ما لا ينكره من عرف علو مقداركم وأصالة داركم و فلك إبداركم وقطب مداركم و أجبناه عنه بجهد ما كنا لنقنع من جناه المهتصر بالمقتضب المختصر و لا لنقابل طول طوله بالقصر لولا طرو الحصر
و قد كان بين الأسلاف ـ رحمة الله عليهما و رضوانه ـ ود أبرمت من أجل الله معاقده و وثرت للخلوص الجلي النصوص مضاجعه القارة و مراقده وتعاهد بالجميل يوجع لفقده فاقده أبى الله إلا أن يكون لكم الفضل في تجديده و العطف بتوكيده فنحن الآن لا ندري أي مكارمكم نذكر أو أي فواضلكم نشرح أو نشكر أمفاتحتكم التي هي في الحقيقة عندنا فتح أم هديتكم و في وصفها للأقلام سبح و لعدو الإسلام بحكمة حكمتها كبح إنما نكل الشكر لمن يوفي في جزاء الأعمال البرة و لا يبخس مثقال الذرة ولا أدنى من مثقال الذرة ذي الرحمة الثرة و الألطاف المتصلة المستمرة لا إله إلا هو
و إن تشوفتم إلى الأحوال الراهنة و أسباب الكفر الواهية بقدرة الله ـ الواهنة فنحن نطرفكم بطرفها و نطلعكم على سبيل الإجمال بطرفيها و هو أننا لما أعادنا الله من التمحيص إلى مثابة التخصيص من بعد المرام العويص كحلنا بتوفيق الله بصر البصيرة و وقفنا على سبيله مساعي الحياة القصيرة و رأينا كما نقل إلينا و كرر على من قبلنا و علينا ـ أن الدنيا ـ و إن غر الغرور و أنام على سرر الغفلة السرور فلم ينفع الخطور على أجداث الأحباب و المرور ـ جسر يعبر و متاع لا يغبط من حبي و لا يحبر إنما هو خير يخبر و أن الحسرة بمقدار ما على تركه يجبر و أن الأعمار أحلام و أن الناس نيام و ربما رحل الراحل عن الخان و قد جلله بالأذى و الدخان أو ترك به طيبا و ثناء يقوم بعد للآتي خطيبا فجعلنا العدل في الأمور ملاكا و التفقد للثغور مسواكا و ضجيع المهاد حديث الجهاد و أحكامه مناط الاجتهاد و قوله : { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة } من حجج الاستشهاد و بادرنا رمق الحصون المضاعة و جنح التقية دامس و عواريها لا ترد يد لامس و ساكنها بائس و الأعصم في شعفاتها من العصمة يائس فزينا ببيض الشرفات ثناياها وأفعمنا بالعذب الفرات ركاياها و غشينا بالصفيح المضاعف أبوابها و احتسبنا عند موفي الأجور ثوابها وبيضنا بناصع الكلس أثوابها فهي اليوم توهم حس العيان أنها قطع من بيض العنان و تكاد تناول قرص البدر بالبنان متكفلة للمؤمنين من فزع الدنيا و الآخرة بالأمان و أقرضنا الله قرضا و أوسعنا مدونة الجيش عرضا و فرضنا إنصافه مع الاهلة فرضا و استندنا من التوكل على الله الغني الحميد إلى ظل لواء و نبذنا إلى الطاغية عهده على سواء و قلنا : ربنا أنت العزيز وكل جبار لعزك ذليل و حزبك هو الكثير و ما سواه قليل أنت الكافي و وعدك الوعد الوافي فأفض علينا مدارع الصابرين و اكتبنا من الفائزين بحظوظ رضاك الظافرين و ثبت أقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين
فتحركنا أول الحركات و فاتحة مصحف البركات في خف من الحشود واقتصار على ما بحضرتنا من العساكر المظفرة و الجنود إلى حصن آشر البازي المطل و ركاب العدو الضال المضل و مهدي نفثات الصل على امتناعه وارتفاعه و سمو يفاعه و ما بذل العدو فيه من استعداده و توفير أسلحته و أزواده و انتخاب أنجاده فصلينا بنفسنا ناره و زاحمنا عليه الشهداء نصابر أواره و نلقى بالجوارح العزيزة سهامه المسمومة و جلا مده الملمومة وأحجاره حتى فرعنا بحول من لا حول و لا قوة إلا به ـ أبراجه المنيعة وأسواره وكففنا عن البلاد و العباد أضراره بعد أن استضفنا إليه حصن السهلة جاره و رحلنا عنه بعد أن شحناه رابطة و حامية و أزوادا نامية و عملنا بيدنا في رم ما ثلم القتال و بقر من بطون مسابقة الرجال و اقتدينا بنبينا ـ صلوات الله عليه و سلامه ـ في الخندق لما حمى ذلك المجال و وقع الارتجاز المنقول حديثه و الارتجال و ما كان ليقر للإسلام مع تركه القرار و قد كثب الجوار و تداعى الدعرة و تعاوى الشرار
و قد كنا أغرينا من بالجهة الغربية من المسلمين بمدينة برغه التي سدت بين القاعدتين رندة و مالقة الطريق و ألبست ذل الفراق ذلك الفريق و منعتهما أن يسيغا الريق فلا سبيل إلى الإلمام لطيف المنام إلا في الأحلام و لا رسالة إلا أجنحة هدل الحمام فيسر الله فتحها و عجل منحها بعد حرب انبتت فها النحور و تزينت الحور و تبع هذه الأم بنات شهيرة و بقع للزرع و الضرع خيرة فشفي الثغر من بوسه و تهلل وجه الإسلام بتلك الناحية الناجية بعد عبوسة
ثم أعملنا الحركة إلى مدينة إطريرة على بعد المدى و تغلغلها في بلاد العدا واقتحام هول الفلا و غول الردى مدينة تبنتها حمص فأوسعت الدار وأغلت الشوار و راعت الاستكثار و بسطت الاعتمار رجح لدينا قصدها على البعد و الطريق الجعد ما أسفت به المسلمين من اسئصال طائفة من أسراهم مروا بها آمنين و بطائرها المشئوم متيمنين قد أنهكهم الاعتقال و القيود الثقال و أضرعهم الأسار و جللهم الإنكسار فجدلوهم في مصرع واحد و تركوهم عبرة للرائي و المشاهد و أهدوا بوقيعتهم إلى الإسلام ثكل الواجد و ترة الماجد فكبسناها كبسا و فجأناها بإلهام من لا يضل و لا ينسى و صبحتها الخيل ثم تلاحق الرجل لما جن الليل و حاق بها الويل فأبيح منها الذمار و أخذها الدمار و محقت من مصانعها البيض الأهلة و خسفت الأقمار و شفيت من دماء أهلها الضلوع الحرار و سلطت على هياكلها النار واستولى على الآلاف العديدة من سبيها و انتهى إلى إشببلية الثكلى المغار فجلل وجوه من بها من كبار النصرانية الصغار و استولت الأيدي على ما لا يسعه الوصف و لا تقله الأوقار
وعدنا و الأرض تموج سبيا لم نترك بعفرين شبلا و لا بوجرة ظبيا والعقائل حسرى و العيون يبهرها الصنع الأسرى و صبح السرى قد حمد من بعد المسرى فسبحان الذي أسرى و لسان الحمية ينادي في تلك الكنائس المخربة و النوادي : يا لثارات الأسرى !
و لم يكن إلا أن نفلت الأنفال و وسمت بالأوضاح الأغفال و تميزت الهوادي و الأكفال و كان إلى غزو مدينة جيان الاحتفال قدنا الله الجرد تلاعب الظلال نشاطا و الأبطال تقتحم الأخطار رضى بما عند الله و اغتباطا والمهندة الدلق تسبق إلى الرقاب استلالا و اختراطا و استكثرنا من عدد القتال احتياطا و أزحنا العلل عمن أراد جهادا منجيا غباره من دخان جهنم و رباطا ونادينا الجهاد ! الجهاد ! يا أمة الجهاد ! راية النبي الهادي ! الجنة تحت ظلال السيوف الحداد ! فهز النداء إلى الله تعالى كل عارم و غامر و ائتمر الجم من دعوى الحق إلى أمر آمر و أتى الناس من الفجوج العميقة رجالا و على كل ضامر و كاثرت الرايات أزهار البطاح لونا وعدا و سدت الحشود مسالك الطريق العريضة سدا و مد بحرها الزاخر مدا فلا يجد لها الناظر و لا المناظر حدا
و هذه المدينة هي الأم الولود و الجنة التي في النار لسكانها من الكفار الخلود وكرسي الملك و مجنبة الوسطى من السلك باءت بالمزايا العديدة ونجحت و عند الوزان بغيرها من أمات البلدان رجحت غاب الأسود وجحر الحيات السود و منصب التماثيل الهائلة و معلق النواقيس المصلصلة
فأدنينا إليها المراحل و عنينا ببحار المحلات المستقلات منها الساحل و لما أكثبنا جوارها و كدنا نلتمح نارها تحركنا إليها و وشاح الأفق المرقوم بزهر النجوم قد دار دائره و الليل من خوف الصباح على سطحه المستباح قد شابت غدائره و النسر يرفرف باليمن طائره و السماك الرامح يثأر بعز الاسلام ثائره و النعائم راعدة فرائص الجسد من خوف الأسد والقوس يرسل سهم السعادة بوتر العادة إلى أهداف النعم المعادة والجوزاء عابرة نهر المجرة و الزهرة تغار من الشعري العبور بالضرة و عطارد يسدي في حبل الحروب على البلد المحروب و يلحمه و يناظر على أشكالها الهندسية فيفحمه والأحمر يبهر و يعلمه الأبيض يغري وينهر و المشتري يبديء في فضل الجهاد ويعيد و يزاحم في الحلقات على ما للسعادة من الصفقات و يزيد و زحل عن الطالع منزحل و عن العاشر مرتحل و في زلق السعود و حل و البدر يطالع حجر المنجنيق كيف يهوي إلى النيق و مطلع الشمس يرقب و جدار الأفق يكاد بالعيون عنها ينقب
و لما فشا سر الصباح و اهتزت أعطاف الرايات بتحيات مبشرات الرياح أطلننا عليه إطلال الأسود على الفرائس و الفحول على العرائس فنظرنا منظرا يروع بأسا ومنعة و يروق وضعا و صنعة تلفعت معاقله الشم للسحاب ببرود و وردت من غدر المزن في برود و أشرعت لاقتطاف أزهار النجوم و الذراع بين النطاق معاصم رود و بلدا يحيي الماسح و الذارع و ينظم المحاني والأجارع فقلنا : اللهم نفله أيدي عبادك و أرنا فيه آية من آيات جهادك ونزلنا بساحتها العريضة المتون نزول الغيث الهتون و تيمنا من فحصها بسورة { التين و الزيتون } متبرئة من أمان الرحمان للبلد المفتون و أعجلنا الناس بحمية نفوسهم النفيسة و سجية شجاعتهم البئيسة عن أن تبوأ للقتال المقاعد و تدني بأسماع شهير النفير منهم الأباعد و قبل أن يلتقي الخديم بالمخدوم و يركع المنجنيق ركعتي القدوم فدفعوا من أصحر إليهم من الفرسان
وسبق إلى حومة الميدان حتى أحجروهم في البلد و سلبوهم لباس الجلد في موقف يذهل الوالد عن الولد صابت السهام فيه غماما و طارت كأسراب الحمام تهدى حماما واضحت القنا قصدا بعد أن كانت شهابا رصدا و ماج بحر القتام بأمواج النصول و أخذ الأرض الرجفان لزلزال الصياح الموصول فلا ترى إلا شهيدا تظلل مصرعه الحور و صريعا تقذف به إلى الساحل تلك البحور و نواشب تبأى بها الوجوه الوجيهة عند الله و النحور فالمقضب فوده يخضب و الأسمر غصنه يستثمر و المغفر حماه يخفر و ظهور القسي تقصم و عصم الجند الكوافر تفصم وورق اليلب في المنقلب يسقط و البيض تكتب و السمر تنقط فاقتحم الربض الأعظم لحينه و أظهر الله لعيون المبصرين و المستبصرين عزة دينه و تبرأ الشيطان من خدينه و نهب الكفار و خذلوا و بكل مرصد جدلوا ثم دخل البلد بعده غلابا و جلل قتلا و استلابا فلا تسل إلا الظبا والأسل عن قيام ساعته و هول يومها و شناعته و تخريب المبائت و المباني وغنى الأيدي من خزائن تلك المغاني و نقل الوجود الأول إلى الوجود الثاني وتخارق السيف فجاء بغير المعتاد و نهلت القنا الردينية من الدماء حتى كادت تورق كالأغصان المغترسة و الأوتاد و همت أفلاك القسي و سحت وأرنت حتى بحت و نفدت موادها فشحت مما ألحت و سدت المسالك جثث القتلى فمنعت العابر و استأصل الله من عدوه الشأفة و قطع الدابر وأزلف الشهيد و أحسب الصابر و سبقت رسل الفتح الذي لم يسمع بمثله في الزمن الغابر تنقل البشرى من أفواه المحابر إلى آذان المنابر
أقمنا بها أياما نعقر الأشجار و نستأصل بالتخريب الوجار و لسان الانتقام من عبدة الأصنام ينادي : يا لثارات الإسكندرية تشفيا من الفجار ورعيا لحق الجار و قفلنا و أجنحة الرايات برياح العنايات خافقة و أوفاق التوفيق الناشئة من خطوط الطريق موافقة و أسواق العز بالله نافقة و حملاء الرفق مصاحبة ـ و الحمد لله مرافقة و قد ضاقت ذروع الجبال عن أعناق الصهب السبال و رفعت على الأكفال ردفاء كرائم الأنفال و قلقلت من النواقيس أجرام الجبال بالهندام و الاحتيال و هلك بمهلك هذه الأم هذه الأم بنات كن يرتضعن ثديها الحوافل و يستوثرن حجرها الكافل شمل التخريب أسوارها و عجلت النار بوارها
ثم تحركنا بعدها حركة الفتح و أرسلنا دلاء الأدلاء قبل المتح فبشرت بالمنح و قصدنا مدينة أبدة و هي ثانية الجناحين وكبرى الأختين و مساهمة جيان في حين الحين مدينة أخذت عرض الفضاء الأخرق و تمشت فيه أرباضها تمشي الكتابة الجامحة في المهرق المشتملة على المتاجر و المكاسب و الوضع المتناسب و الفلح المعيي ريعه عمل الحاسب و كوارة الدبر اللاسب المتعددة اليعاسب فأناخ العفاء بربوعها العامرة ودارت كؤوس عقار الحتوف ببنان السيوف على متديريها المعاقرة وصبحتها طلائع الفاقرة و أغريت ببطون أسوارها عوج المعاول الباقرة و دخلت مدينتها عنوة السيف في أسرع من خطرة الطيف و لا تسأل عن الكيف فلم يبلغ العفاء من مدينة حافلة و عقيلة في حلل المحاسن رافلة ما بلغ من هذه البائسة التي سجدت لآلهة النيران أبراجها و تضاءل بالرغام معراجها و ضفت على أعطافها ملابس الخذلان وأقفر من كنائسها كناس الغزلان (7/591)
القسم الثاني من فضل الوزير ابن الخطيب
ثم تأهبنا لغزو أم القرى الكافرة و خزائن المزاين الوافرة و ربة الشهرة السافرة و الأنباء المسافرة قرطبة و ما أدراك ماهية ! ذات الأرجاء الحالية الكاسية و الأطواد الراسخة الراسية و المباني المباهية و الزهراء الزاهية و المحاسن غير المتناهية حيث هالة بدر السماء قد استدارت من السور المشيد البناء دارا و نهر المجرة من نهرها الفياض المسلول حسامه من غمود الغياض قد لصق بها جارا و فلك الدولاب المعتدل الانقلاب قد استقام مدارا و رجع الحنين اشتياقا إلى الحبيب الأول و ادكارا حيث الطود كالتاج يزدان بلجين العذب المجاج فيزري بتاج كسرى و دارا حيث قسي الجسور المديدة كأنها عوج المطي العديدة تعبر النهر قطارا حيث آثار العامري المجاهد تعبق بين تلك المعاهد شذي معطارا حيث كرائم السحائب تزور عرائس الرياض الحبائب فتحمل لها من الدر نثارا حيث شمول الشمال تدار على الأدواح بالغدو و الرواح فترى الغصون سكارى و ما هي بسكارى حيث أيدي الافتتاح تفتض من شقائق البطاح أبكارا حيث ثغور الأقاح الباسم تقبلها بالسحر زوار النواسم فتخفق قلوب النجوم الغيارى حيث المصلى العتيق قد رحب مجالا و طال منارا و أزرى ببلاط الوليد احتقارا حيث الظهور المثارة بسلاح الفلاح تجب عن مثل أسنمة المهارى والبطون كأنها لتدميث الغمائم بطون العذارى والأدواح العالية تخترق أعلامها الهادية بالجداول الحيارى فما شئت من جو بقيل ومعرس للحسن ومقيل ومالك للعقل وعقيل وخمائل كم فيها للبلابل من قال وقيل وخفيف يجاور بثقيل وسنابل تكي من فوق سوقها وقصب بسوقها الهمزات على الألفات والعصافير البديعة الصفات فوق القضب المؤتلفات تميل لهبوب الصبا والجنوب مالئة الجيوب بدر الحبوب وبطاح لا تعرف عين المحل فتطلبه بالذحل ولا تصرف في خدمة بيض قباب الأزهار عند افتتاح السوسن والبهار غير العبدان من سودان النحل وبحر الفلاحة الذي لا يدرك ساحله ولا يبلغ الطية البعيدة راحله إلى الوادي وسمر النوادي وقرار دموع الغوادي للتجاسر على تخطيه عند تمطيه الجسر العادي والوطن الذي ليس من عمرو ولا زيد و الفرا الذي في جوفه كل صيد أقل كرسيه خلافة الإسلام وأغار بالرصافة والجسر دار السلام وما عسى أن تطنب في وصفه ألسنة الأقلام أو تعبر به عن ذلك الكمال فنون الكلام
فأعملنا الله إليها السرى والسير وقدنا إليها الخيل قد عقد الله في نواصيها الخير ولما وقفنا بظاهرها المبهت المعجب واصطففنا بخارجها المنبت المنجب والقلوب تلتمس الإعانة من منعم مجزل وتستتزل مدد الملائكة من منجد منزل والركائب واقفة من خلفنا بمعزل تتناشد في معاهد الإسلام :
( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل )
برز من حاميتها المحاميه ووقود النار الحاميه وبقية السيف الوافرة على الحصاد النامية قطع الغمائم الهامية وأمواج البحور الطامية واستجنت بظلال أبطال المجال أعداد الرجال الناشبة والرامية وتصدى للنزال من صناديدها الصهب السبال أمثال الهضاب الراسية تجنها جنن السوابغ الكاسية وقواميسها المفادية للصلبان يوم بوسها بنفوسها المواسية وخنازيرها التي عدتها عن قبول حجج الله ورسوله ستور الظلم الغاشية وصخور القلوب القاسية فكان بين الفريقين أمام جسرها الذي فرق البحر وحلى بلجينه ولآليء زبنه منها النحر حرب لم تنسج الأزمان على منوالها ولا أتت الأيام الحبالي بمثل أجنة أهوالها من قاسها بالفجار أفك وفجر أو مثلها بجفر الهباءة خرف وهجر ومن شبهها بحرب داحس والغبراء فما عرف الخبر فليسأل من جرب وخبر ومن نظرها بيوم شعب جبلة فهو ذو بله أو عادلها ببطن عاقل فغير عاقل أو احتج بيوم ذي قار فهو إلى المعرفة ذو إفتقار أو ناضل بيوم الكديد فسهمه غير السديد إنما كان مقاما غير معتاد ومرعى نفوس لم يف بوصفه لسان مرتاد وزلزال جبال اوتاد ومتلف مذخور لسلطان الشيطان وعتاد أعلم فيه البطل الباسل و تورد الأبيض الباتر وتأود الأسمر العاسل ودوم الجلمد المتكاسل وانبعث من حدب الحنية إلى هدف الرمية الناشر الناسل و رويت لمرسلات السهام المراسل ثم أفضى أمر الرماح إلى التشاجر والارتباك ونشبت الأسنة في الدروع نشب السمك في الشباك ثم اختلط المرعي بالهمل و عزل الرديني عن العمل وعادت السيوف من فوق المفارق تيجانا بعد أن شقت غدر السوابغ خلجانا واتحدت جداول الدروع فصارت بحرا وكان التعانق فلا ترى إلا نحرا يلازم نحرا عناق وداع وموقف شمل ذي انصداع وإجابة مناد إلى فراق الأيد وداع واستكشفت مآل الصبر الأنفس الشفاقة وهبت بريح النصر الطلائع المبشرة الهفافة ثم أمد السيل ذلك العباب وصقل الاستبصار الألباب واستخلص العزم صفوة اللباب وقال لسان النصر ادخلو عليهم الباب فأصبحت طوائف الكفار حصائد مناجل الشفار فمغافرهم قد رضيت حرماتها بالإخفار ورؤوسهم محطوطة في غير مقام الاستغفار وعلت الرايات من فوق تلك الأبراج المستطرقة والأسوار ورفرف على المدينة جناح البوار لولا الانتهاء إلى الحد والمقدار والوقوف عند اختفاء سر الأقدار
ثم عبرنا نهرها و شددنا بأيدي الله قهرها وضيقنا حصرها و أدرنا بلآليء القباب البيض خصرها و أقمنا بها أياما تحوم عقبان البنود على فريستها حياما و ترمي الأدواح ببورها وتسلط النيران على أقطارها فلولا عائق المطر لحصلنا من فتح ذلك الوطن على الوطر فرأينا أن نروضها بالاجتثاث و الانتساف و نوالي على زروعها وربوعها كرات رياح الاعتساف حتى يتهيأ للاسلام لوك طعمتها ويتهنا بفضل الله إرث نعمتها ثم كانت من موقفها الإفاضة من بعد نحر النحور وقذف جمار الدمار على العدو المدحور وتدافعت خلفنا السيقات المتسقات تدافع أمواج البحور
وبعد أن ألححنا على جناتها المصحرة وكرومها المستبحرة إلحاح الغريم وعوضناها المنظر الكريه من المنظر الكريم وطاف عليها طائف من ربنا فأصبحت كالصريم و أغرينا حلاق النار بجمم الجميم و راكمنا في أحواف أجرافها غمائم الدخان يذكر طيبه البان بيوم الغميم وأرسلنا رياح الغارات لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم و استقبلنا الوادي يهول مدا ويروع سيفه الصقيل حدا فيسره الله من بعد الأعواز وانطلقت على الفرصة بتلك الفرضة أيدي الانتهاز وسألنا من سائله أسد بن الفرات فأفتى برجحان الجواز فعم الاكتساح و الاستباح جميع الأحواز فأديل المصون وانتهبت القرى و هدت الحصون واجتثت الأصول وحطمت الغصون و لم نرفع عنها إلى اليوم غارة تصابحها بالبوس وتطلع عليها غررها الضاحكة باليوم العبوس فهي الآن مجرى السوابق ومجر العوالي على التوالي والحسرات تتجدد في أطلالها البوالي وكأن بها قد ضرعت و إلى الدعوة المحمدية أسرعت بقدرة من لو انزل القرآن على الجبال لخشعت من خشية الله وتصدعت و عزة من أذعنت الجبابرة لعزه وخضت وعدنا والبنود لا يعرف اللف نشرها والوجوه المجاهدة لا يخالط التقطيب بشرها والأيدي بالعروة الوثقى متعلقة والألسن بشكر نعم الله منطلقة والسيوف في مضاجع الغمود قلقه و سرابيل الدروع خلقه و الجياد من ردها إلى المرابط و الأواري رد العواري حنيقة وبعبرات الغيظ المكظوم مختنقة تنظر إلينا نظر العاتب وتعود من ميادين الاختيال والمراح تحت حلل السلاح عود الصبيان إلى المكاتب والطبل بلسان العز هادر و العزم إلى منادي العود الحميد مبادر و وجود نوع الرماح من بعد ذلك الكفاح نادر والقاسم يرتب بين يديه من السبي النوادر ووارد مناهل الأجور غير المحلاء و لا المهجور غير صادر ومناظر الفصل الآتي عقب أخيه الشاتي على المطلوب المواتي مصادر و الله على تيسير الصعاب وتخويل المنن الرغاب قادر لا إله إلا هو فما أجمل لنا صنعه الحفي وأكرم بنا لطفه الخفي اللهم لا نحصي ثناء عليك ولا نلجأ منك إلا إليك ولا نلتمس خير الدنيا والآخرة إلا لديك فأعد علينا عوائد نصرك يا مبدىء يا معيد وأعنا من وسائل شكرك على ما ينثال به المزيد يا حي يا قيوم يا فعال لما يريد
و قارنت رسالتكم الميمونة لدينا حذق فتح بعيد صيته مشرئب ليته وفخر من فوق النجوم العواتم مبيته عجبنا من تأتي أمله الشارد و قلنا : البركة في قدم الوارد و هو أن ملك النصارى لاطفنا بجملة من الحصون كانت من مملكة الإسلام قد غصبت والتماثيل فيها ببيوت الله قد نصبت أدالها الله بمحاولتنا الطيب من الخبيث والتوحيد من التثليث وعاد إليه الإسلام عود الأب الغائب إلى البنات الحبائب يسأل عن شؤونها ويمسح دموع الرقة من جفونها وهي للروم خطة خسف قلما ارتكبوها فيما نعلم من العهود ونادرة من نوادر الوجود و إلى الله علينا وعليكم عوارف الجود وجعلنا في محاريب الشكر من الركع السجود
عرفناكم بمجملات أمور تحتها تفسير و يمن من الله وتيسير إذ استيفاء الجزئيات عسير لنسركم بما منح الله دينكم ونتوج بعز الملة الحنيفية جبينكم ونخطب بعده دعاءكم وتأمينكم فإن دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب سلاح ماض و كفيل بالمواهب المسئولة من المنعم الوهاب متقاض أولى من ساهم في بر وعامل الله بخلوص سر وأين يذهب الفضل عن بيتكم و هو صفة حيكم و تراث ميتكم ولكم مزية القدم ورسوخ القدم والخلافة مقرها إيوانكلم و أصحاب الإمام مالك رضي الله عنه مستقرها قيروانكم و هجير المنابر ذكر إمامكم والتوحيد إعلامكم و الوقائع الشهيرة في الكفر منسوبة إلى أيامكم والصحابة الكرام فتحة أوطانكم و سلالة الفاروق عليه السلام و شائج سلطانكم و نحن نستكثر من بركة خطابكم ووصلة جنابكم ولولا الأعذار لوالينا بالمتزيدات تعريف أبوابكم
والله عز و جل يتولى عنا من شكركم المحتوم ما قصر المكتوب منه عن المكتوم ويبقيكم لإقامة الرسوم ويحل محبتكم من القلوب محل الأرواح من الجسوم و هو سبحانه يصل سعدكم ويحرس مجدكم و يوالي نعمه عندكم
و السلام الكريم الطيب الزكي المبارك البر العميم يخصكم كثيرا أثيرا ما أطلع الصبح وجها منيرا بعد أن أرسل النسيم سفيرا وكان الوميض الباسم لأكواس الغمائم على أزهار الكمائم مديرا ورحمة الله وبركاته
و كتب إلي يهنئني بمولود ويعاتب على تأخير الخبر بولاده عنه :
( هنيئا أبا الفضل الرضا وأبا زيد ... و أمنت من بغي يخاف ومن كيد )
( بطالع يمن طال في السعد شأوه ... فما هو من عمره الرجال ولا زيد )
( وقيد بشكر الله أنعمه التي ... أوابدها تأبى سوى الشكر من قيد )
أهلا بدري المكاتب وصدري المراتب وعتبى الزمن العاتب وبكر المشتري والكاتب ومرحبا بالطالع في أسعد المطالع والثاقب في أجلى المراقب وسهلا بغني البشير وعزة الأهل والعشير و تاج الفخر الذي يقصر عنه كسرى و أردشير الآن اعتضدت الحلة الحضرمية بالفارس وأمن السارح في حمى الحارس وسعدت بالمنير الكبير أفلاك التدوير من حلقات المدارس وقرت بالجنى الكريم عين الغارس واحتقرت أنظار الآبلي وأبحاث ابن الدارس و قيل للمشكلات : طالما ألفت الخمرة وأمضيت على الأذهان الامرة فتأهبي للغارة المبيحة لحماك و تحيزي إلى فئة البطل المستأثر برشف لماك ولله من نصبة احتفى فها المشترى و احتفل و كفى سني تربيتها و كفل و اختال عطارد في حلل الجذل لها ورفل واتضحت الحدود وتهللت الوجوه وتنافست المثلثات تؤمل الحظ و ترجوه ونبه البيت على واجبه وأشار لحظ الشرف بحاجبه وأسرع نير النوبة في الأوبة قائما في الاعتذار مقام التوبة واستأثر بالبروج المولدة بيت البنين وتخطت خطا القمر رأس الجو زهر وذنب التنين و ساوق منها حكم الأصل حذوك النعل بالنعل تحويل السنين وحقق هذا المولود بين المواليد نسبة عمر الوالد فتجاوز درجة المئين واقترن بعاشره السعدان اقتران الجسد وثبت بدقيقة مركزه قلب الأسد وسرق من بيت أعدائه خرثي الغل والحسد و نظفت طرق التسيير كما نفعل بين يدي السادة عند المسير و سقط الشيخ الهرم من الدرج في البير ودفع المقاتل إلى الوبال الكبير
( لم لا ينال العلا أو يعقد التاج ... والمشتري طالع والشمس هيلاج )
( والسعد يركض في ميدانها مرحا ... جذلان والفلك الدوار هملاج )
كأن به و الله يهديه قد انتقل من مهد التنويم إلى النهج القويم ومن أريكة الذراع إلى تصريف اليراع ومن كتد الداية إلى مقام الهداية و الغاية المختطقة البداية جعل الله وقايته عليه عوذة و قسم حسدته قسمة محرم اللحم بين منخنقة ونطيحة و متردية و موقوذة وحفظ هلاله في البدار إلى تمه وبعد تمه وأقر به عين أبيه وأمه غير أني و الله يغفر لسيدي بيد أني راكع في سبيل الشكر و ساجد فأنا عاتب وواجد إذ كان ظني أن البريد بهذا الخبر إلي يعمل وأن إتحافي به لا يهمل فانعكست القضية و رابت الحال المرضية وفضلت الأمور الذاتية الأمور العرضية والحكم جازم وأحد الفرضين لازم إما عدم السوية ويعارضه اعتناء حبله مغار و عهده سلم لم يدخلها جزية و لا صغار أو جهل بمقدار الهبة ويعارضه علم بمقدار الحقوق ورضى مناف للعقوق فوقع الأشكال و ربما لطف عذر كان عليه الاتكال وإذا لم يبشر مثلي بمنحة الله قبل تلك الذات السرية الخليقة بالنعم الحرية فمن الذي يبشر وعلى من يعرض بزها أو ينشر وهي التي واصلت التفقد و بهرجت المعاملة وأبت أن تنقد وأنست الغربة وجرحها غير مندمل ونفست الكربة و جنحها على الجوانح مشتمل فمتى فرض نسيان الحقوق لم ينلني فرض ولاشهد به علي سماء و لا أرض وإن قصر فيما يجب لسيدي عمل لم يقصر رجاء ولا أمل ولي في شرح حمده ناقة و جمل و منه جل وعلا نسأل أن يريه قرة العين في نفسه و ماله و بنيه و يجعل أكبر عطايا الهيالج أصغر سنيه ويقلد عواتق الكواكب البابانية حمائل أمانيه و إن تشوف سيدي لحال وليه فخلوة طيبة ورحمة من جانب الله صيبة وبرق يشام فيقال : حدث ما وراءك ياهشام و لله در شيخنا إذ يقول :
( لا بارك الله في إن لم ... أصرف النفس في الأهم )
( و كثر الله في همومي ... إن كان غير الخلاص همي )
و إن أنعم سيدي بالإلماع بحاله وحال الولد المبارك فذلك من غرر إحسانه ومنزلته في لحظ لحظبي بمنزلة إنسانه والسلام (7/620)
العودة إلى المغرب الأقصى
و لما كنت في الاعتمال في مشايعة السلطان عبد العزيز ملك المغرب كما ذكرت تفاصيله وأنا مقيم ببسكرة في جوار صاحبها أحمد بن يوسف بن مزنى وهو صاحب زمام رياح و أكثر عطائهم من السلطان مفترض عليه في جباية الزاب و هم يرجعون إليه في الكثير من أمورهم فلم أشعر إلا وقد حدثت المنافسة منه في استتباع العرب و وغر صدره و صدق في ظنونه و توهماته و طاوع الوشاة فما يوردون على سمعه من التقول والاختلاق وجاش صدره بذلك فكتب إلى ونزمار بن عريف ولي السلطان وصاحب شواره يتنفس الصعداء من ذلك فأنهاه إلى السلطان فاستدعاني لوقته و ارتحلت من بسكرة بالأهل والولد في يوم المولد الكريم سنة أربع وسبعين وسبعمائة متوجها إلى السلطان وكان قد طرقه المرض فما هو إلا أن وصلت مليانة من أعمال المغرب الأوسط لقيني هنالك خبر وفاته وأن ابنه أبا بكر السعيد نصب بعده للأمر في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي وأنه ارتحل إلى المغرب الأقصى مغذا السير إلى فاس وكان على مليانة يومئذ علي بن حسون بن أبي علي الهساطي من قواد السلطان وموالي بيته فارتحلت معه إلى أحياء العطاف و نزلنا على أولاد يعقوب بن موسى من أمرائهم و بدرني بعضهم إلى حلة أولاد عريف أمراء سويد ثم لحق بنا بعد أيام علي بن حسون في عساكره وارتحلنا جميعا إلى المغرب على طريق الصحراء وكان أبو حمو قد رجع بعد مهلك السلطان من مكان انتباذه بالقفر في تيكورارين إلى تلمسان فاستولى عليها وعلى سائر أعماله و أوعز إلى بني يغمور من شيوخ عبيد الله في المعقل أن يعترضونا بحدود بلادهم من رأس العين مخرج وادي صا فاعترضونا هنالك فنجا من نجامنا على خيولهم إلى جبل دبدو و انتهبوا جميع ما كان معنا و أرجلوا الكثير من الفرسان و كنت فيهم و بقيت يومئذ في قفره ضاحيا عاريا إلى أن حصلت إلى العمران ولحقت بأصحابي بجبل دبدو ووقع في خلال ذلك من الألطاف إلى ما لا يعبر عنه و لا يسع الوفاء بشكره ثم سرنا إلى فاس و وفدت على الوزير أبى بكر وابن عمه محمد بن عثمان بفاس في جمادي من السنة وكان لي معه قديم صحبة و اختصاص منذ نزع معي إلى السلطان أبي سالم بجبل الصفيحة عند إجازته من الأندلس لطلب ملكه كما مر في غير موضع من الكتاب فلقيني من بر الوزير و كرامته و توفير جرايته وإقطاعه فوق ما احتسب وأقمت بمكاني من دولتهم أثير المحل ثابت الرتبة عظيم الجاه منوة المجلس عند السلطان ثم انصرم فصل الشتاء وحدث بين الوزير أبي بكر بن غازي و بين السلطان ابن الأحمر منافرة بسبب ابن الخطيب وما دعا إليه ابن الأحمر من إبعاده عنهم وأنف الوزير من ذلك فأظلم الجو بينهما وأخذ الوزير في تجهيز بعض القرابة من بني الأحمر ليشغله به ونزع ابن الأحمر إلى إطلاق عبد الرحمن بن أبي يفلوسن من ولد السلطان أبي علي و الوزير مسعود بن رحو بن ماسي كان حبسهما أيام السلطان عبد العزيز وأشار بذلك ابن الخطيب حين كان في وزارتهما بالأندلس فأطلقهما الآن و بعثهما لطلب الملك بالمغرب و أجازهما في الأسطول إلى سواحل غساسة فنزلوا بها ولحقوا بقبائل بطوية هنالك فاشتملوا عليها و قاموا بدعوة الأمير عبد الرحمن و نهض ابن الأحمر من غرناطة في عساكر الأندلس فنزل على جبل الفتح فحاصره و بلغت الأخبار بذلك إلى الوزير أبي بكر بن غازي القائم بدعوة بني مرين فوجه لحينه ابن عمه محمد بن عثمان بن الكاس إلى سبتة لإمداد الحامية الذين لهم بالجبل و نهض هو في العساكر إلى بطوية لقتال الأمير عبد الرحمن فوجده قد ملك ملك تازي فأقام عليها يحاصره وكان السلطان عبد العزيز قد جمع شبابا من بني أبيه المرشحين فحبسهم بطنجة صاحبه على ما كان منه واشتد عذل ابن الأحمر على إخلائهم الكرسي من كفئه ونصبهم السعيد بن عبد العزيز صبيا لم يثغر فاستعتب له محمد و استقال من ذلك فحمله ابن الأحمر على أن يبايع لأحد الأبناء المحبوسين بطنجة و قد كان الوزير أبو بكر أوصاه أيضا بأنه إن تضايق عليه الأمر من الأمير عبد الرحمن يفرج عنه بالبيعة لأحد أولئك الأبناء
وكان محمد بن الكاس قد استوزره السلطان أبو سالم لابنه أحمد أيام ملكه فبادر من وقته إلى طنجة وأخرج السلطان أحمد ابن السلطان أبي سالم من محبسه وبايع له وسار به إلى سبتة وكتب لابن الأحمر يعرفه بذلك و بطلب منه المدد على أن ينزل له عن جبل الفتح فأمده بما شاء من المال والعسكر و استولى على جبل الفتح وشحنه بحاميته و كان أحمد ابن السلطان أبي سالم قد تعاهد مع بني أبيه في محبسهم على أن من صار له الملك إليه منهم يجيز الباقين إلى الأندلس فلما بويع له ذهب إلى الوفاء لهم بعهدهم و أجازهم جميعا فنزلوا على السلطان ابن الأحمر فأكرم نزلهم و وفر جراياتهم و بلغ الخبر بذلك كله إلى الوزير أبي بكر بمكانه من حصار الأمير عبد الرحمن بتازى فأخذه المقيم المقعد من فعلة ابن عمه وكر راجعا إلى دار الملك وعسكر بكدية العرائس من فاس وتوعد ابن عمه محمد بن عثمان فاعتذر بأنه امتثل وصيته فاستشاط وتهدده و اتسع الخرق بينهما و ارتحل محمد بن عثمان بسلطانه و مدده من عسكر الأندلس إلى أن احتل بجبل زرهون المطل على مكناسة فعسكر به واشتملوا عليه وزحف إليهم الوزير أبو بكر وصعد الجبل فقاتلوه وهزموه و رجع إلى مكانه بظاهر دار الملك وكان السلطان ابن الأحمر قد أوصى محمد بن عثمان بالاستعانة بالأمير عبد الرحمن و الاعتضاد به ومساهمته في جانب من أعمال المغرب يستبد به لنفسه فراسله محمد ابن عثمان في ذلك و استدعاه واستمده وكان ونزمار بن عريف ولي سلفهم قد أظلم الجو بينه وبين الوزير أبي بكر لأنه سأله و هو يحاصر تازى في الصلح مع الأمير عبد الرحمن فامتنع واتهمه بمداخلته والميل له فاعتزم على التقبض عليه ودس إليه بعض عيوته فركب الليل ولحق بأحياء الأحلاف من المعقل وكانوا شيعة للأمير عبد الرحمن ومعهم علي بن عمر الويغلاني كبير بني ورتاجن كان انتقض على الوزير ابن غازي ولحق بالسوس ثم خاض القفر إلى هؤلاء الأحلاف فنزل بينهم مقيما لدعوة الأمير عبد الرحمن فجاءهم ونزمار مفلتا من حبالة الوزير أبي بكر و حرضهم على ما هم فيه ثم بلغهم خبر السلطان أحمد بن أبي سالم و وزيره محمد ابن عثمان وجاءهم وافد الأمير عبد الرحمن يستدعيهم وخرج من تازي فلقيهم ونزل بين أحيائهم ورحلوا جميعا إلى إمداد السلطان أبي العباس حتى انتهوا إلى صفروي ثم اجتمعوا جميعا على وادي النجا وتعاقدوا على شأنهم وأصبحوا غدا على التعبية كل من ناحيته
وركب الوزير أبو بكر لقتالهم فلم يطق و ولى منهزما فانحجر بالبلد الجديد وخيم القوم بكدية العرائس محاصرين له و ذلك أيام عيد الفطر من سنة خمس وسبعين وسبعمائة فحاصروها ثلاثة أشهر و أخذوا بمخنقها إلى أن جهد الحصار الوزير ومن معه فأذعن للصلح على خلع الصبي المنصوب السعيد ابن السلطان عبد العزيز وخروجه إلى السلطان أبي العباس ابن عمه والبيعة له وكان السلطان أبو العباس و الأمير عبد الرحمن قد تعاهدوا عند الاجتماع بوادي النجا على التعاون و التناصر على أن الملك للسلطان أبي العباس بسائر أعمال المغرب وأن للأمير عبد الرحمن بلد سجلماسة و درعة و الأعمال التي كانت لجده السلطان أبي علي أخي السلطان أبي الحسن ثم بدا للأمير عبد الرحمن في ذلك أيام الحصار واشتط بطلب مراكش و أعمالها فأغضوا له في ذلك وشارطوه على ذلك حتى يتم لهم الفتح فلما انعقد ما بين السلطان أبي العباس و الوزير أبي بكر و خرج إليه من البلد الجديد وخلع سلطانه الصبي المنصوب و دخل السلطان أبو العباس إلى دار الملك فاتح ست و سبعين وسبعمائة و ارتحل الأمير عبد الرحمن يغذ السير إلى مراكش و بدا للسلطان أبي العباس و وزيره محمد بن عثمان في شأنه فسرحوا العساكر في اتباعه وانتهوا خلفه إلى وادي بهت فواقفوه ساعة من نهار ثم أحجموا عنه وولوا على راياتهم و سار هو إلى مراكش و رجع عنه وزيره مسعود بن ماسي بعد أن طلب منه الإجازة إلى الأندلس يتودع بها فسرحه لذلك وسار إلى مراكش فملكها
و أما أنا فكنت مقيما بفاس في ظل الدولة و عنايتها منذ قدمت على الوزير سنة أربع وسبعين وسبعمائة كما مر عاكفا على قراءة العلم وتدريسه فلما جاء السلطان أبو العباس والأمير عبد الرحمن و عسكروا بكدية العرائس وخرج أهل الدولة إليهم من الفقهاء والكتاب والجند وأذن للناس جميعا في مباكرة أبواب السلطانين من غير نكير في ذلك فكنت أباكرهما معا وكان بيني و بين الوزير محمد بن عثمان ما مر ذكره قبل هذا فكان يظهر لي رعاية ذلك ويكثر من المواعيد وكان الأمير عبد الرحمن يميل إلي ويستدعيني أكثر أوقاته و يشاورني في أحواله فغص بذلك الوزير محمد بن عثمان وأغرى سلطانه فتقبض علي وسمع الأمير عبد الرحمن بذلك و علم آني إنما أتيت من جراه فحلف ليقوضن خيامه وبعث وزيره مسعود بن ماسي لذلك فأطلقني من الغد ثم كان افتراقها لثالثة و دخل الأمير أبو العباس دار الملك وسار الأمير عبد الرحمن إلى مراكش و كنت أنا يومئذ مستوحشا فصحبت الأمير عبد الرحمن معتزما على الإجازة إلى الأندلس من ساحل آسفي معولا في ذلك على صحابة الوزير مسعود بن ماسي لهواي فيه فلما رجع مسعود ثني عزمي في ذلك و لحقنا بو نزمار بن عريف بمكانه من نواحي كرسيف لتقدمه وسيلة إلى السلطان أبي العباس صاحب فاس في الجواز إلى الأندلس و وافينا عنده داعي السلطان فصحبناه إلى فاس و استأذنه في شأني فأذن لي بعد مطاولة وعلى كره من الوزير محمد بن عثمان بن داود بن أعراب ورجال الدولة
وكان الأخ يحيى لما رحل السلطان أبو حمو من تلمسان رجع عنه من بلاد زغبة إلى السلطان عبد العزيز فاستقر في خدمته وبعده في خدمة ابنه السعيد المنصوب مكانه ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد استأذن الأخ في اللحاق بتلمسان فأذن له وقدم على السلطان أبي حمو فأعاده لكتابة سره كما كان أول أمره و أذن لي أنا بعده فانطلقت إلى الأندلس بقصد القرار و الدعة إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/632)
الاجازة الثانية إلى الأندلس ثم إلى تلمسان واللحاق بأحياء العرب والمقامة عند أولاد عريف
و لما كان ما قصصته من تنكر السلطان أبي العباس صاحب فاس و الذهاب مع الأمير عبد الرحمن ثم الرجوع عنه إلى ونزمار بن عريف طلبا للوسيلة في انصرافي إلى الأندلس بقصد الفرار و الانقياض و العكوف على قراءة العلم فتم ذلك ووقع الإسعاف به بعد الامتناع وأجزت إلى الأندلس في ربيع سنة ست وسبعين وسبعمائة و لقيني السلطان بالكرامة وأحسن النزل على عادته و كنت لقيت بجبل الفتح كاتب السلطان ابن الأحمر من بعد ابن الخطيب الفقيه أبا عبد الله بن زمرك ذاهبا إلى فاس في غرض التهنئة و أجاز إلى سبتة في أسطوله و أوصيته بإجازة أهلي و ولدي إلى غرناطة فلما وصل إلى فاس و تحدث مع أهلي في إجازتهم تنكروا لذلك وساءهم استقراري بالأندلس و اتهموا أني ربما أحمل السلطان ابن الأحمر على الميل إلى الأمير عبد الرحمن الذي اتهموني بملابسته و منعوا أهلي من اللحاق بي
و خاطبوا ابن الأحمر في أن يرجعني إليهم فأبى من ذلك فطلبوا منه أن يجيزني إلى عدوة تلمسان و كان مسعود بن ماسي قد أذنوا له في اللحاق بالأندلس فحملوه مشافهة السلطان بذلك و أبدوا له أني كنت ساعيا في خلاص ابن الخطيب وكانوا قد اعتقلوه لأول استيلائهم على البلد الجديد وظفرهم به وبعث إليه ابن الخطيب مستصرخا به ومتوسلا فخاطبت في شأنه أهل الدولة و عولت فيه منهم على ونزمار و ابن ماسي فلم تنجح تلك السعاية و قتل ابن الخطيب بمحبسه فلما قدم ابن ماسي على السلطان ابن الأحمر وقد أغروه بي فألقى إلى السلطان ما كان مني في شأن ابن الخطيب فاستوحش من ذلك وأسعفهم بإجازتي إن العدوة ونزلت بهنين والجو بيني وبين السلطان أبي حمو مظلم بما كان مني في إجلاب العرب عليه بالزاب كما مر فأوعز بمقامي بهنين ثم وفد عليه محمد بن عريف فعذله في شأني فبعث عني إلى تلمسان واستقررت بها بالعباد و لحق بي أهلي و ولدي من فاس وأقاموا معي وذلك في عيد الفطر سنة ست وسبعين وسبعمائة و أخذت في بث العلم و عرض للسلطان أبي حمو رأي في الزواودة و حاجة إلى استئلافهم فاستدعاني و كلفني السفارة إليهم في هذا الغرض فاستوحشت منه و نكرته على نفسي لما آثرته من التخلي و الإنقطاع و أجبته إن ذلك ظاهرا وخرجت مسافرا من تلمسان حتى انتهيت إلى البطحاء فعدلت ذات اليمين إلى منداس ولحقت بأحياء أولاد عريف قبلة جبل كزول فلقوني بالتحف و الكرامة وأقمت بينهم أياما حتى بعثوا عن أهلي و ولدي بتلمسان و أحسنوا العذر إلى السلطان عني في العجز عن قضاء خدمته و أنزلوني بأهلي في قلعة أولاد سلامة من بلاد بني توجين التي صارت لهم بأقطاع السلطان فأقمت بها أربعة أعوام متخليا عن الشواغل كلها وشرعت في تأليف هذا الكتاب وأنا مقيم بها و أكملت المقدمة على ذلك النحو الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة فسألت فيها شآبيب الكلام و المعاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها وكانت من بعد ذلك الفيئة إلى تونس كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/637)
الفيئة إلى السلطان أبي العباس بتونس
و لما نزلت بقلعة ابن سلامة من أحياء أولاد عريف و سكنت بقصر أبي بكر بن عريف الذي اختطه بها و كان من أحفل المساكن و أوثقها ثم طال مقامي هنالك و أنا مستوحش من دولة المغرب و تلمسان و عاكف على تأليف هذا الكتاب و قد فرغت من مقدمته إلى أخبار العرب و البربر و زناتة و تشوفت إلى مطالعة الكتب و الدواوين التي لا توجد إلا بالأمصار بعد أن أمليت النكير من حفظي و أردت التنقيح و التصحيح ثم طرقني مرض أربى على البنية لولا ما تدارك من لطف الله فحدث عندي ميل إلى مراجعة السلطان أبي العباس و الرحلة إلى تونس حيث قرار آبائي و مساكنهم و آثارهم و قبورهم فبادرت إلى خطاب السلطان بالفيئة إلى طاعته و المراجعة فما كان غير بعيد و إذا بخطابه و عهوده بالإذن و الاستحثاث للقدوم فكان الخفوق للرحلة فظعنت عن أولاد عريف مع عرب الاجص من بادية رياح كانوا هنالك ينتجعون الميرة بمنداس و ارتحلنا في رجب سنة ثمانين و سبعمائة و سلكنا القفر إلى الدوسن من أطراف الزاب ثم صعدت إلى التل مع حاشية يعقوب بن علي وجدتهم بفرفار الضيعة التي اختطها بالزاب فرحلت معهم إلى أن نزلنا عليه بضاحية قسنطينة و معه صاحبها الأمير إبراهيم ابن السلطان أبي العباس بمخيمه و معسكره فحضرت عنده و قسم لي من بره و كرامته فوق الرضى و أذن لي في الدخول إلى قسنطينة و إقامة أهلي في كفالة إحسانه ريثما أصل إلى حضرة أبيه و بعث يعقوب بن علي معي ابن أخيه أبي دينار في جماعة من قومه و سرت إلى السلطان أبي العباس و هو يومئذ قد خرج من تونس في العساكر إلى بلاد الجريد لاستنزال شيوخها عن كراسي الفتنة التي كانوا عليها فوافيته بظاهر سوسة فحيا وفادتي بر مقدمي و بالغ في تأنيسي و شاورني في مهمات أموره ثم ردني إلى تونس و أوعز إلى نائبه بها مولاه فارح بتهيئه المنزل و الكفاية من الجراية و العلوفة و جزيل الإحسان فرجعت إلى تونس في شعبان من السنة و آويت إلى ظل ظليل من عناية السلطان و حرمته و بعثت إلى الأهل و الولد و جمعت شملهم في مرعى تلك النعمة و ألقيت عصا التسيار و طالت غيبة السلطان إلى أن افتتح أمصار الجريد و ذهب فلهم في النواحي و لحق زعيمهم يحيى بن يملول ببسكرة و نزل على صهره ابن مزني و قسم السلطان بلاد الجريد بين ولده فأنزل ابنه محمدا المنتصر بتوزر و جعل نفطة و نفزاوة من أعماله و أنزل ابنه أبا بكر بقفصة و عاد إلى تونس مظفرا مزهرا فأقبل على و ستدناني لمجالسته و النجاء في خلوته فغص بطانته من ذلك و أفاضوا في السعايات عند السلطان فلم تنجح و كانوا يعكفون على إمام الجامع و شيخ الفتيا محمد بن عرفة و كان في قلبه نكتة من الغيرة من لدن اجتماعنا في المرسى بمجالسة الشيوخ فكثيرا ما كان يظهر شفوفي عليه وإن كان أسن مني فاسودت تلك النكتة في قلبه و لم تفارقه و لما قدمت تونس انثال علي طلبة العلم من أصحابه و سواهم يطلبون الإفادة و الاشتغال و أسعفتهم بذلك فعظم عليه و كان يسر التنفير إلى الكثير منهم فلم يقبلوا و اشتدت غيرته و وافق ذلك اجتماع البطانة إليه و اتفقوا على شأنهم في التأنيب و السعاية بي و السلطان خلال ذلك معرض عنهم في ذلك و قد كلفني بالأكباب على تأليف هذا الكتاب لتشوقه إلى المعارف و الأخبار و اقتناء الفضائل فأكملت منه أخبار البربر و زناتة و كتبت من أخبار الدولتين و ما قبل الإسلام ما وصل إلي منها و أكملت منها نسخة رفعتها إلى خزانته و كان مما يغرون به السلطان قعودي على امتداحه فإني كنت قد أهملت الشعر و انتحاله جملة و تفرغت للعلم فقط فكانوا يقولون له إنما ترك ذلك استهانة بسلطانك لكثرة امتداحه للملوك قبلك و تنسمت ذلك عنهم من جهة بعض الصديق من بطانتهم فلما رفعت له الكتاب و توجته باسمه أنشدت في ذلك اليوم هذه القصيدة امتدحه و أذكر سيره و فتوحاته و أعتذر عن انتحال الشعر و استعطفه بهدية الكتاب إليه فقلت :
( هل غير بابك للغريب مؤمل ... أوعن جنابك للأماني معدل )
( هي همة بعثت إليك على النوى ... عزما كما شحذا لحسام الصيقل )
( متبوأ الدنيا و منتجع المنى ... و الغيث حيث العارض المتهلل )
( حيث القصور الزاهرات منيفة ... تعنو لها زهر النجوم و تحفل )
( حيث الخيام البيض ترفع للقرى ... قد فاح في أرجائهن المندل )
( حيث الحمى للعز في ساحاته ... ظل أفاءته الوشيج الذبل )
( حيث الرماح يكاد يورق عودها ... مما تعل من الدماء و تنهل )
( حيث الكرام ينوب عن نار القرى ... عرف الكباء بحيهم و المندل )
( حيث الجياد أملن شجعان الوغى ... مما أطالوا في المنار و أوغلوا )
( حيث الوجوه الغر قنعها الحيا ... و البشر في صفحاتها يتهلل )
( حيث الملوك الصيد و النفر الألى ... عز الجوار لديهم و المنزل )
( من شيعة المهدي بل من شيعة ... التوحيد جاء به الكتاب مفصل )
( شادوا على التقوى مباني عزهم ... لله ما شادوا بذاك و أثلوا )
( بل شيعة الرحمن ألقى حبهم ... في خلقه فسموا بذاك و فضلوا )
( قوم أبو حفص أب لهم و ما ... أدراك و الفاروق جد أول )
( نسب كما اضطردت أنابيب القنا ... و أتى على تقويمهن معدل )
( سام على هام الزمان كأنه ... للفجر تاج بالبدور مكلل )
( فضل الأنام حديثهم و قد يمهم ... و لأنت إن نصبوا أعزوا أفضل )
( و بنوا على قلل التخوم و وطدوا ... و بناؤك العالي أشد و أطول )
( و لقد أقول لخائض بحر الغلا ... و الليل مدثر الجوانب أليل )
( ماض على غول الدجى لا يتقي ... منها و ذا بله ذبال مشعل )
( متقلب فوق الرماح كأنه ... طيف بأطراف المهاد موكل )
( يبغي منال الفوز من طرق الغنى ... و يرود مخصبها الذي لا يمجل )
( أرح الركاب فقد ظفرت بواهب ... يعطي عطاء المنعمين فيجزل )
( لله من خلق كريم في الندى ... كالروض حياه ندي مخضوضل )
( هذا أمير المؤمنين إمامنا ... في الدين و الدنيا إليه الموئل )
( هذا أبو العباس خير خليفة ... شهدت له الشيم التي لا تجهل )
( مستنصر بالله في قهر العدا ... و على إعانة ربه متوكل )
( سبق الملوك إلى العلا متمهلا ... لله منك السابق المتهلل )
( فلأنت أعلى المالكين و إن غدوا ... يتسابقون إلى العلاء و أكمل )
( قايس قديما منهم بقديمكم ... فالأمر فيه واضح لا يجهل )
( دانوا لقومكم بأقوم طاعة ... هي عروة الدين التي لا تفصل )
( سائل تلمسانا بها و زناتة ... و مرين قبلهم بها قد ينقل )
( و أسأل بأندلس مدائن ملكها ... تخبرك حين استأنسوا و استأهلوا )
( و أسأل بذامرا كشا و قصورها ... فلقد تجيب رسومها من يسأل )
( يا أيها الملك الوفي ياذا الذي ... ملاء القلوب و فوق ما يتمثل )
( لله منك مؤيد عزماته ... تمضي كما يمضي القضاء المرسل )
( حيث الزمان يحت أعظم حته ... فافتر عنه و هو أكلح أعضل )
( و الشمل من أنبائه متصدع ... و علا خلافتهم مضاع مهمل )
( و الخلق قد صرفوا إليك قلوبهم ... و رجوا اصلاح الحال منك و أملوا )
( فعجلته لما انتدبت لأمره ... بالبأس و العزم الذي لا يمهل )
( ذللت منه جامحا لا ينثني ... سهلت وعرا كاد لا يتسهل )
( و ألنت من سوس العتاة و ذدتهم ... عن ذلك الحرم الذي قد حللوا )
( كانت لصولة صولة و لقومه ... يعدو ذويب بها و تسطو المعقل )
( و مهلهل تسدي و تلحم في التي ... ما أحكموها فهي بعد مهلهل )
و المراد بصولة هنا صولة بن خالد بن حمزة أولاد أبي الليل و ذؤيب هو ابن عمه أحمد بن حمزة و المعقل فريق من العرب من أحلافهم و مهلهل هم بنو مهلهل بن قاسم أنظارهم و أقتالهم ثم رجع إلى وصف العرب و أحيائهم :
( عجب الأنام لشأنهم بادون قد ... قذفت بحيهم المطي الذلل )
( رفعوا القباب على العماد و عندها ... الجرد السلاهب و الرماح العسل )
( في كل طامي الرب منعقد الحصا ... تهدي للجته الظماء فتنهل )
( حي شرابهم السراب و رزقهم ... ريح يروح به الكمي و منصل )
( حي حلول بالعراء و دونهم ... قذف النوى إن يظعنوا أو يقبلوا )
( كانوا يروعون الملوك بما بدوا ... و غدت ترفه بالنعيم و تخضل )
( فبدوت لا تلوي على دعة و لا ... تأوي إلى ظل القصور و تهزل )
( طورا يصافحك الهجير و تارة ... فيه بخفاق البنود تظلل )
( و إذا تعاطى الضمر في يوم الوغى ... كأس النجيع فبالصهيل تعلل )
( مخشوشنا في العز معتملا له ... في مثل هذا يحسن المستعمل )
( تفري حشى البيداء لا يسري بها ... ركب و لا يهوي إليه جحفل )
( و تجر أذيال الكتائب فوقها ... تختال في السمر الطوال و ترفل )
( ترميهم منها بكل مدجج ... شاكي السلاح إذا استعار الأعزل )
( و بكل أسمر غصنه متأود ... و بكل أبيض شطه متهدل )
( حتى تفرق ذلك الجمع الألى ... عصفت بهم ريح الجلاء فزلزلوا )
( ثم استملتهم بنعمتلك التي ... خضعوا لعزك بعدها و تذللوا )
( و نزعت من أهل الجريد غواية ... و قطعت من أسبابها ما أوصلوا )
( خربت من بنيانها ما شيدوا ... و قطعت من أسبابها ما أوصلوا )
( و نظمت من أمصاره و ثغوره ... للملك عقدا بالفتوح يفصل )
( فسددت مطلع النفاق و أنت لا ... تنبو ظباك و لا العزيمة تنكل )
( بشكيمة مرهوبة و سياسة ... تجري كما يجري فرات سلسل )
( عذب الزمان لها و لذ مذاقه ... من بعد ما قد مر منه الحنظل )
( فضوى الأنام لعز أروع مالك ... سهل الخليقة ما جد متفضل )
( و تطابقت فيه القلوب على الرضا ... سيان منها الطفل و المتكهل )
( يا مالكا و مع الزمان و أهله ... عدلا و أمنا فوق ما قد أملوا )
( فالأرض لا يخشى بها غول و لا ... يعدو بساحتها الهزبر المشبل )
( و السرب يجتابون كل تنوفة ... سرب القطاما راعهن الأجدل )
( سبحان من بعلاك قد أحيا المنى ... و أعاد حلي الجيد و هو معطل )
( سبحان من بهداك أوضح للورى ... قصد السبيل فأبصر المتأمل )
( فكأنما الدنيا عروس تجتلى ... فتميس في حلل الجمال و ترفل )
( و كأن مطبقة البلاد بعدله ... عادت فسيحا ليس فيها مجهل )
( و كأن أنوار الكواكب ضوعفت ... من نور غرته التي هي أجمل )
( و كأنما رفع الحجاب لناظر ... فرأى الحقيقة في الذي يتخيل )
و منها في العذر عن مدحه :
( مولاي غاضت فكرتي و تبلدت ... مني الطباع فكل شيء مشكل )
( تسمو إلى درك الحقائق همتي ... فأصد عن إدراكهن و أعزل )
( و أجد ليلى في امتراء قريحتي ... فتعود غورا بعدما تسترسل )
( فأبيت يختلج الكلام بخاطري ... و النظم يشرد و القوافي تجفل )
( و إذا امتريت العفو منه جاهدا ... عاب الجهابذ صنعه و استرذلوا )
( من بعد حول انتقيه و لم يكن ... في الشعر لي قول يعاب و يمهل )
( فأصونه عن أهله متواريا ... أن لا يضمهم و شعري محفل )
( و هي البضاعة في القبول نفاقها ... سيان فيه الفحل و المتطفل )
( و بنات فكري إن أتتك كليلة ... زهراء تخطر في القصور و تخطل )
( فلها الفخار إذا منحت قبولها ... و أنا على ذاك البليغ المقول )
و منها في ذكر الكتاب المؤلف بخزانته :
( و إليك من سير الزمان و أهله ... عبرا يدين بفضلها من يعدل )
( صحفا تترجم عن أحاديث الأولى ... درجوا فتجمل عنهم و تفصل )
( تبدي التبابع و العمالق سرها ... و ثمود قبلهم و عاد الأول )
( و القائمون بملة الإسلام من ... مضر و بريرهم إذا ما حصلوا )
( لخصت كتب الأولين بجمعها ... و أتيت أولها بما قد أغفلوا )
( و ألنت حوشي الكلام كأنما ... سرد للغات بها لنطقي ذلل )
( و جعلته لسوار ملكك مفخرا ... يبهي الندي به و يزهو المحفل )
( و الله ما أسرفت فيما قلته ... شيئا و لا الإسراف مني يجمل )
( و لأنت أرسخ في المعالي رتبة ... من أن يموه عنده متطفل )
( فملاك كل فضيلة و حقيقة ... الناس تعرف فضلها أن بدلوا )
( و الحق عندك في الأمور مقدم ... أبدا فماذا يدعيه المبطل )
( و الله أعطاك التي لا فوقها ... فاحكم بما ترضى فأنت الأعدل )
( أبقاك ربك للعباد تربهم ... فالله يخلقهم و رعيك يكفل )
و كنت انصرفت من معسكره على سوسة إلى تونس بلغني و أنا مقيم بها أنه أصابه في طريقه مرض و عقبه برء فخاطبته بهذه القصيدة :
( ضحكت وجوه الدهر بعد عبوس ... و تخللتنا رحمة من بوس )
( و توضحت غرر البشائر بعدما ... انبهمت فأطلعها حداة العيس )
( صدعوا بها ليل الهموم كأنما ... صدعوا الظلام بجذوة المقبوس )
( فكأنهم جنات عدن في الورى ... نشرت لها الآمال من مرموس )
( قرت عيون الخلق منها بالتي ... شربوا النعيم لها بغير كؤوس )
( يتمايلون من المسرة و الرضا ... و يقابلون أهلة بشموس )
( من راكب وافى يحيى راكبا ... و جليس أنس قاده لجليس )
( و مشفع لله يؤنس عنده ... أثر الهدى في المعهد المأنوس )
( يعتد منها رحمة قدسية ... فيبؤ للرحمن بالتقديس )
( طب بإخلاص الدعاء و إنه ... يشفي من الداء العيا و البوس )
والمعني به إمام الجامع الأعظم جامع الزيتونة بتونس
( يا ابن الخلافة و الذين بنورهم ... نهجت سبيل الحق بعد دروس )
( و الناصر الدين القويم بعزمه ... طردت إمامتها بغير عكوس )
( هجر المنى فيها و لذات المنى ... في لذة التهجير و التغليس )
( حاط الرياضة بالسياسة فانطوت ... منه لا كرم مالك و سيوس )
( أسد يحامي عن حمى أشباله ... حتى ضووا منه لأمنع خيس )
( قسما بموشي البطاح و قد غدت ... تختال زهوا في ثياب عروس )
( و الماثلات من الحنايا جثما ... بالبيد من طسم و فل جديس )
( وخز البلى منها الغوارب و الذرى ... فلفتن حذرا بالعيون الشوس )
( لبقاك حرز للأنام و عصمة ... و حياة أرواح لنا و نفوس )
( و لأنت كافل ديننا بحماية ... لولاك ضيع عهدها و تنوسي )
( الله أعطاك التي لا فوقها ... و حباك حظا بالموكوس )
( تعنو القلوب إليك قبل وجوهنا ... سيان من رأس و من مرؤوس )
( فإذا أقمت فإن رعبك راحل ... يحمي على الأعداء كل وطيس )
( و إذا رحلت فالسعادة آية ... تقتادها في موكب و خميس )
( و إذا الأدلة في الكمال تطابقت ... جاءت بمسموع لها و مقيس )
( فانعم بملكك دولة عادية ... تشقي الأعادي بالعذاب البيس )
( و إليكها مني على خجل بها ... عذراء قد حليت بكل نفيس )
( عذراك قد طمس الشباب و نوره ... و أضاء صبح الشيب عند طموس )
( لولا عنايتك التي أوليتني ... ما كنت أعني بعدها بطروس )
( و الله ما أبقت ممارسة ... النوى مني سوى رسم أمر دريس )
( انحنى الزمان علي في الأدب الذي ... دارسته بمجامع و دروس )
( فسطا على فرعي و روع مأمني ... و اجتث من دوح النشاط غروسي )
( و رضاك رحمتي التي أعتدها ... تحيي منى نفسي و تذهب بوسي )
ثم كثرت سعاية البطانة بكل نوع من أنواع السعايات و ابن عرفة يزيد في إغرائهم متى اجتمعوا إليه إلى أن أغروا السلطان بسفري معه و لقنوا النائب بتونس القائد فارح من موالي السلطان أن يتفادى من مقامي معه خشية على أمره مني بزعمه و تواطؤا على أن يشهد ابن عرفة بذلك للسلطان حتى شهد به في غيلة مني و نكر السلطان عليهم ذلك بعث إلي و أمرني بالسفر معه فسارعت إلى الامتثال و قد شق ذلك علي إلا أني لم أجد محيصا فخرجت معه و انتهيت إلى تبسة وسط وطن تلول أفريقية و كان منحدرا في عسكره و توابعه من العرب إلى توزر لأن ابن يملول أجلب عليها سنة ثلاث و ثمانين و سبعمائة و استنقذها من يد ابنه فسار السلطان إليه و شرده عنها و أعاد إليها ابنه و أولياءه و لما فر من تبسة رجعني إلى تونس فأقمت بضيعة الرياحين من نواحيها لضم زراعتي بها إلى أن قفل السلطان ظافرا منصورا فصحبته إلى تونس
و لما كان شهر شعبان من سنة أربع و ثمانين و سبعمائة أجمع السلطان الحركة إلى الزاب بما كان صاحبه ابن مزني قد آوى ابن يملول إليه و مهد له في جواره فخشيت أن يعود في شأني ما كان في السنة قبلها و كان بالمرسى سفينة لتجار الإسكندرية قد شحنها التجار بأمتعتهم و عروضهم و هي مقلعة إلى الإسكندرية فتطارحت على السلطان و توسلت إليه في تخلية سبيلي لقضاء فرضي فأذن لي في ذلك و خرجت إلى المرسى و الناس متسايلون على أثري من أعيان الدولة و البلد و طلبة العلم فودعتهم و ركبت البحر منتصف شعبان من السنة و قوضت عنهم بحيث كانت الخيرة من الله سبحانه و تفرغت لتجديد ما كان عندي من أثار العلم و الله ولي الأمور سبحانه (7/639)
الرحلة إلى المشرق و ولاية القضاء بمصر
و لما رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة أربع و ثمانين و سبعمائة أقمنا في البحر نحوا من أربعين ليلة ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر و لعشر ليال من جلوس الملك الظاهر على التخت و اقتعاد كرسي الملك دون أهله بني قلاوون و كنا على ترقب ذلك لما كان يؤثر بقاصية البلاد من سموه لذلك و تمهيده له و أقمت بالإسكندربة شهرا لتهيئة أسباب الحج و لم يقدر عامئذ فانتقلت إلى القاهرة أول ذي العقدة فرأيت حاضرة الدنيا و بستان العالم و محشر الأمم و مدرج الذر من البشر وإيوان الإسلام و كرسي الملك تلوح القصور و الأواوين في جوه و تزهر الخوانق و المدارس و الكواكب بآفاقه و تضيء البدور و الكواكب من علمائه قد مثل بشاطيء النيل نهر الجنة و مدفع مياه السماء يسقيهم العلل و النهل سيحه و يجني إليهم الثمرات و الخيرات ثجه و مررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة و أسواقها تزخر بالنعم و ما زلنا نتحدث بهذا البلد و بعد مداه في العمران و اتساع الأحوال و لقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا و أصحابنا حاجهم و تاجرهم في الحديث عنه سألت صاحبنا كبير الجماعة بفاس و كبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقري مقدمه من الحج سنة أربعين و سبعمائة فقلت له : كيف هذه القاهرة ؟ فقال : من لم يرها لم يعرف عز الإسلام
و سألت شيخنا أبا العباس بن إدريس كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال : كأنما انطلق أهله من السحاب يشير إلى كثرة أممه و أمنهم العواقب
و حضر صاحبنا قاضي العسكر بفاس الفقيه الكاتب أبو القاسم البرجي بمجلس السلطان أبي عنان منصرفه من السفارة عنه إلى ملوك مصر و تأدية رسالته النبوبة إلى الضريح الكريم سنة ست و خمسين و سبعمائة فسألته عن القاهرة فقال
أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار : إن الذي يتخيله الإنسان فإنما يراه دون الصورة التي تخيلها الاتساع الخيال عن كل محسوس إلا القاهرة فإنها أوسع من كل ما يتختل فيها فأعجب السلطان و الحاضرون لذلك
و لما دخلتها أقمت أياما و انثال علي طلبة العلم بها يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة و لم بوسعوني عذرا فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها
ثم كان الاتصال بالسلطان فأبر مقامي و آنس الغربة و وفر الجراية من صدقاته شأنه مع أهل العلم و انتظرت لحاق أهلي و ولدي من تونس و قد صدهم السلطان هنالك عن السفر اغتباطا بعودي إليه فطلبت من السلطان صاحب مصر الشفاعة إليه لتخلية سبيلهم فخاطبه في ذلك بما نصه
بسم الله الرحمن الرحيم
عبد الله و وليه أخوه برقوق [ ]
السلطان الأعظم المالك الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المؤيد المجاهد المرابط المثاغر المظفر الشاهنشاه سيف الدنيا و الدين سلطان الإسلام و المسلمين محيي العدل في العالمين منصف المظلومين من الظالمين وارث الملك سلطان العرب و العجم و الترك اسكندر الزمان مولي الإحسان مملك أصحاب التخوت و الأسرة و التيجان واهب الأقاليم و الأقطار مبيد الطغاة و البغاة و الكفار ملك البحرين مسلك سبيل القبلتين خادم الحرمين الشريفين ظل الله في أرضه القائم بسنته و فرضه سلطان البسيطة مؤمن الأرض المحيطة سيد الملوك و السلاطين قسيم أمير المؤمنين أبو سعيد برقوق ابن الشهيد شرف الدنيا و الدين أبي المعالي أنس خلد الله سلطانه و نصر جيوشه و أعوانه يخص الحضرة السنية السرية المظفرة الميمونة المنصورة المصونة حضرة السلطان العالم العادل المؤيد المجاهد الأوحد أبي العباس ذخر الإسلام و المسلمين عدة الدنيا و الدين قدوة الموحدين ناصر الغزاة و المجاهدين سيف جماعة الشاكرين صلاح الدول لا زالت مملكته بقوته عامرة و مهابته لنفوس الجبابرة قاهرة و معدلته تبوئه غرفات العز في الدنيا و الآخرة سلام صفا و رده و ضفا برده و ثناء فاح نده و لاح سعده و وداد زاد وجده و جاد جده
أما بعد حمد الله الذي جعل القلوب أجنادا مجندة و أسباب الوداد على البعاد مؤكدة و وسائل المحبة بين الملوك في كل يوم مجددة و الصلاة و السلام على سيدنا و مولانا محمد عبده و رسوله الذي نصره الله بالرعب مسيرة شهر و أيده و أعلى به منار الدين و شيده و على آله و أصحابه الذين اقتفوا طريقه و سؤدده صلاة دائمة مؤبده فإننا نوضح لعلمه الكريم أن الله و له الحمد جعل جبلتنا الشريفة مجبولة على تعظيم العلم الشريف و أهله و رفعة شأنه و نشر إعلامه و محبة أهله و خدامه و تيسير مقاصدهم و تحقيق أملهم و الإحسان إليهم و التقرب إلى الله بذلك في السر و العلانية فإن العلماء رضي الله عنهم و رثة الأنبياه و قرة عين الأولياء و هداة خلق الله في أرضه لا سيما من رزقه الله الدراية فيما علمه من ذلك و هداه للدخول إليه من أحسن المسالك مثل من سطرنا هذه المكاتبة بسببه : المجلس السامي الشيخي لأجلي الكبيري العالمي الفاضلى لأثيلي الأثيري الإمامي العلامي القدوة المقتدي الفريدي المحققي الأصيلى الأوحدي الماجدي الولوي جمال الإسلام و المسلمين جمال العلماء في العالمين أوحد الفضلاء قدوة البلغاء علامة الأمة إمام الأئمة مفيد الطالبين خالصه الملوك و السلاطين عبد الرحمن بن خلدون المالكي أدام الله نعمته فانه أولى بالإكرام و أحرى و أحق بالرعاية و أجل قدرا و قد هاجر إلى ممالكنا الشريفة و آثر الإقامة عندنا بالديار المصربة لا رغبة عن بلاده بل تحببا إلينا و تقربا إلى خواطرنا بالجواهر النفيسة من ذاته الحسنة و صفاته الجميلة و وجدنا منه فوق ما في النفوس مما يجل عن الوصف و يربي على التعداد يا له من غريب وصف ودار قد أتى عنكم بكل غريب و ما برح من حين ورد علينا يبالغ في شكر الحضرة العلية و مدح صفاتها الجميلة إلى أن استمال خواطرنا الشريفة إلى حبها و آثرنا المكاتبة إليها
( و العين تعشق قبل الأذن أحيانا )
و ذكر لنا في أثناء ذلك أهله و أولاده في مملكة تونس تحت نظر الحضرة العلية و قصد إحضارهم إليه ليقيموا عنده و يجتمع شمله بهم مدة إقامته عندنا فاقتضت آراؤنا الشريفة الكتابة إلى الحضرة العلية لهذين السببين الجميلين و قد آثرنا إعلام الحضرة العلية بذلك ليكون على خاطره الكريم و القصد من محبته يقدم أمره العالي بطلب أهل الشيخ ولي الدين المشار إليه و إزاحة أعذارهم و إزالة عوائقهم و الوصية بهم و تجهيزهم إليه مكرمين محترمين على أجمل الوجوه صحبة قاصده الشيخ الصالح العارف السالك الأوحد سعد الدين مسعود المكناسي الواصل بهذه المكاتبة أعزه الله و يكون تجهيزهم على مركب من مراكب الحضرة للعلية مع توصية من بها من البحرية بمضاعفة إكرام المشار إليهم و رعايتهم و التأكيد عليهم في هذا المعنى و إذا وصل من بها من البحرية كان لهم الأمن و الإحسان فوق ما في أنفسهم و يربي على أملهم بحيث يهتم بذلك على ما عهد من محبته و جميل اعتماده مع ما يتحف به من مراسلاته و مقاصده و مكاتباته و الله تعالى يحرسه بملائكته و آياته بمنه و يمنه إن شاء الله كتب خامس عشر صفر المبارك من سنة ست و ثمانين و سبعمائة حسب المرسوم الشريف الحمد لله و صلواته على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم
ثم هلك بعض المدرسين بمدرسة القمحية بمصر من وقف صلاح الدين بن أيوب فولاني تدريسها مكانه و بينا أنا في ذلك إذ سخط السلطان قاضي المالكية في دولته لبعض النزعات فعزله و هو راج أربعة بعدد المذاهب يدعى كل منهم قاضى القضاة تمييزا عن الحكام يالنيابة عنهم لاتساع خطة هذا المعمور و كثرة عوالمه و ما يرتفع من الخصومات في جوانبه و كبير جماعتهم قاضي الشافعية لعموم ولايته في الأعمال شرقا و غربا و بالصعيد و الفيوم و استقلاله بالنظر في أموال اليتامى و الوصايا و لقد يقال بأن مباشرة السلطان قديما بالولاية إنما كانت تكون له
فلما عزل هذا القاضي المالكي سنة ست و ثمانين و سبعمائة اختصني السلطان بهذه الولاية تأهيلا لمكاني و تنويها بذكري و شافهته بالتفادي من ذلك فأبى إلا إمضاءه و خلع علي بإيوانه و بعث من كبار الخاصة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين فقمت بما دفع إلي من ذلك المقام المحمود و وفيت جهدي بما آمنني عليه من أحكام الله لا تأخذني في الله لومة و لا يرغبنى عنه جاه و لا سطوة مسويا بين الخصمين آخذا بحق الضعيف من الحكمين معرضا عن الشفاعات و الوسائل من الجانبين جانحا إلى التثبت في سماع البينات و النظر في عدالة المنتصبين لتحمل الشهادات فقد كان البر منهم مختلطا بالفاجر و الطيب ملتبسا بالخبيث و الحكام ممسكون عن انتقادهم متجاوزون عما يظهر عليهم من هناتهم لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة فإن غالبهم مختلطون بالأمراء معلمون للقرآن و أئمة في الصلوات يلبسون عليهم بالعدالة فيظنون بهم الخير و بقسمون الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاء و التوسل لهم فأعضل داؤهم و فشت المفاسد بالتزوير و التدليس بين الناس منهم و وقفت على بعضها فعاقبت فيه بموجع العقاب و مؤلم النكال و تأدى لعلمي الجرح في طائفة منهم فمنعتهم من تحمل الشهادة و كان منهم كتاب الدواوين للقضاة و التوقيع في مجالسهم و تدربوا على إملاء الدعاوي و تسجيل الحكومات و استخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود بإحكام كتابتها و توثيق شروطها فصار لهم بذلك شفوف على أهل طبقتهم و تمويه على القضاة بجاههم يدرعون به مما يتوقعونه من مغبتهم لتعرضهم لذلك بفعلاتهم و قد يسلط بعض قلمه على العقود المحكمة فيوجد السبيل إلى حلها بوجه فقهي أو كتابي و يبادر إلى ذلك متى دعا الله داعي جاع أو منحة و خصوصا في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر لكثرة عوالمه فأصبحت خافية الشهرة مجهولة الأعيان عرضة للبطلان باختلاف المذاهب المنصوبة للأحكام بالبلد فمن اختار فيها بيعا أو تمليكا شارطوه و أجابوه مفتاتين فيه على الحكام الذين ضربوا فيه سد الحظر و المنع حماية عن التلاعب و فشا من ذلك الضرر في الأوقاف و طرق الغرر في العقود و الأملاك
فعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم علي و أحقدهم ثم التفت إلى أهل الفتيا بالمذهب و كان الحكام منهم على جانب الحيرة لكثرة معارضتهم و تلقينهم الخصوم و فتياهم بعد نفوذ الحكم و إذا فيهم أصاغر فبينما هم يتشبثون بأذيال الطلب و العدالة و لا يكادون إذا بهم ظهروا إلى مراتب الفتيا و التدريس فاقتعدوها و تناولوها بالجزاف و أجازوها من غير مرتب و لا مستند للأهلية و لا مرشح إذ الكثرة فيهم بالغة و من كثرة الساكن مشتقة و قلم الفتيا فى هذا المصر طلق و عنانها مرسل يتجاذب كل الخصوم منها رسنا و يتناول من حافته شقا يروم به الفتح على خصمه و يستظهر به لإرغامه فيعطيه المفتي من ذلك ملء رضاه و كفاء أمنيته متتبعا إياه في شغب الخلاف فتتعارض الفتاوى و تتناقض و بعظم الشغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم و الخلاف في المذاهب كثير و الإنصاف متعذر و أهلية المفتي و شهرة الإفتاء عندنا فلا يكاد هذا المدى ينحسم و لا الشغب ينقطع
فصدعت في ذلك بالحق و كبحت أعنة أهل الهوى و الجهل و رددتهم على أعقابهم و كان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا و هناك و لا ينتمون إلى شيخ معروف مشهود و لا يعرف لهم كتاب في فن اتخذوا الناس هزوا و عقدوا المجالس مثلبة للأعراض و مثابة للحرم فأرغمهم ذلك مني و ملأهم حسدا و حقدوا علي و خلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة ليشرون بها الجاه و يجترؤوا به على الله و ربما اضطر أهل الحقوق إلى تحكيمهم فيحكون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم يترخصون به الإصلاح لا يزعهم الدين عن التعرض لأحكام الله بالجهل فقطعت الحبل في أيديهم و أمضيت حكم الله فيمن أجازوه فلم يغنوا عن الله شيئا و أصبحت زواياهم مهجورة و بئرهم التي يمتاحون منها معطله و انطلقوا يواطؤن السفهاء من النيل في عرضي و سوء الأحدوثة عني بمختلق الإفك و قول الزور و يبثونه في الناس و يدسون إلى السلطان التظلم مني فلا يصغي إليهم و أنا في ذلك محتسب على الله ما منيت به في هذا الأمر و معرض فيه عن الجاهلين و ماض على سبيل سوي من الصرامة و قوة الشكيمة و تحري العدالة و خلاص الحقوق و التنكب عن خطة الباطل متى دعيت إليها و صلابة العود عن الجاه و الإعراض متى غمزني لامسها و لم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة فنكروه منى و دعوني إلى متابعتهم فيما يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر و مراعاة الأعيان و القضاء للجاه بالصور الظاهرة أو دفع الخصوم إذا تعذرت بناء على أن الحاكم لا يتعين عليه الحكم مع وجود غيره و هم يعلمون أن قد تمالؤا عليه
و ليت شعري ما عذرهم في الصور الظاهرة إذا علموا خلافها و النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ من قضيت له من حق أخيه شيئا فإنما أقضي له من النار ]
فأبيت من ذلك كله إلا إعطاء العهدة حقها و الوفاء لها و لمن قلدنيها فأصبح الجميع علي البا و لمن ينادي بالتأفف مني عونا و في النكير علي أمة و أسمعوا الشهود الممنوعين أن قد قضيت فيهم بغير وجه الحق لاعتمادي على علمي في الجرح و هي قضية إجماع و انطلقت الألسن و ارتفع الصخب و أرادني بعض على الحكم بغرضهم فتوقفت و أغروا بي الخصوم فتنادوا بالتظلم عند السلطان فجمع القضاة و أهل الفتياء قي مجلس جعل للنظر في ذلك فخلصت تلك الحكومة من الباطل خلوص الإبريز و تبين أمرهم للسلطان و أمضيت فيها حكم الله تعالى إرغاما لهم فغدوا على حرد قادرين و دسوا الأولياء السلطان و عظماء الدولة يقبحون لهم إهمال جاههم و رد شفاعاتهم مموهين بأن الحامل على ذلك جهل المصطلح و ينفقون هذا الباطل بعظائم ينسبونها إلي تبعث الحليم و تغري الرشيد يستثيرون حفائظهم علي و يشربونهم البغضاء إلي و الله يجازيهم وسائلهم
فكثر الشغب علي من كل جانب و أظلم الجو بيني و بين أهل الدولة و ووافق ذلك مصابي بالأهل و الولد و صلوا من المغرب في السفين فأصابها قاصف من الريح فغرقت و ذهب الموجود و السكن و المولود فعظم المصاب و الجزع و رجح الزهد و اعتزمت على الخروج عن المنصب فلم يوافقني عليه النصيح ممن استشرته خشية من نكير السلطان و سخطه فتوقفت بين الورد و الصدر على صراط الرجاء و اليأس و عن قريب تداركني اللطف الرباني و شملتني نعمة السلطان أيده الله في النظر بعين الرحمة و تخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم أطق حملها و لا عرفت كما زعموا مصطلحها فردها إلى صاحبها الأول و أنشطني من عقالها فانطلقت حميد الأثر مشيعا من الكافة بالأسد و الدعاء و حميد الثناء تلحظني العيون بالرحمة و تتناجى الآمال في بالعودة و رتعت فيما كنت راتعا فيه قبل من مراعي نعمته و ظل رضاه و عنايته بالعافية التي سألها رسول الله صلى الله عليه و سلم من ربه عاكفا على تدريس علم أو قراءة كتاب أو إعمال قلم في تدوين أو تأليف مؤملا من الله قطع صبابة العمر في العبادة و محو عائق السعادة بفضل الله و نعمته (7/648)
السفر لقضاء الحج
ثم مكثت بعد العزل ثلاث سنين و اعتزمت على قضاء الفريضة فودعت السلطان و الأمراء و زودوا و أعانوا فوق الكفاية و خرجت من القاهرة منتصف رمضان سنة تسع و ثمانين و سبعمائة إلى مرسي الطور بالجانب الغربي من بحر السويس و ركبت البحر من هنالك عاشر الفطر و وصلنا إلى الينبع لشهر فوافينا المحمل و رافقتهم من هنالك إلى مكة و دخلتها ثاني ذي الحجه فقضيت الفريضة في هذه السنة ثم عدت إلى الينبع فأقمت بها خمسين ليلة حتى تهيأ لنا ركوب البحر ثم سافرنا إلى أن قاربنا مرسى الطور فاعترضتنا الرياح فما وسعنا إلا قطع البحر إلى جانبه الشرقي و نزلنا بساحل القصير ثم بذرقنا ثم سرنا مع أعراب تلك الناحية إلى مدينة قوص قاعدة الصعيد فأرحنا بها أياما ثم ركبنا في بحر النيل إلى مصر فوصلنا إليها لشهر من سفرنا و دخلتها في جمادي سنة تسعين و سبعمائة و قضيت حق السلطان في لقائه و إعلامه بما اجتهدت فيه من الدعاء له فتقبل ذلك بقبول حسن و أقمت فيما عهدت من رعايته و ظل إحسانه
و كنت لما نزلت بالينبع لقيت بها الفقيه الأديب المتفنن أبا القاسم بن محمد بن شيخ الجماعة و فارس الأدباء و منفق سوق البلاغة أبي إسحاق إبراهيم الساحلي المعروف جده بالطوبجن و قد قدم حاجا و في صحبته كتاب رسالة من صاحبنا الوزير الكبير العالم كاتب سر السلطان ابن الأحمر صاحب غرناطة الحظي لديه أبي عبد الله بن زمرك خاطبني فيه بنظم و نثر يتشوف و يذكر بعهود الصحبة نصه :
( سلوا البارق النجدي على عمل نجدي ... تبسم فاستبكى جفوفي من الوجد )
( أجاد ربوعي باللوى درك اللوى ... و سح به صوب الغمائم من بعدي )
( و يا زاجر الأظعان و هي ضوامر ... دعوها ترد هيما عطاشا على نجد )
( و لا تنشقوا الأنفاس منها مع الصبا ... فإن زفير الشوق من مثلها يعدي )
( براها الهوى بري القداح و خطها ... حزون على صفح من القفر ممتد )
( عجبت لها أني تجاذبني الهوى ... و ما شوقها شوقي و لا وجدها وجدي )
( لئن شاقها بين العذيب و بارق ... مياه بفيء الظل للبان و الرند )
( فما شاقني إلا بدور خدورها ... وقد لحن يوم النفر في قضب ملد )
( فكم في قباب الحي من شمس كلة ... وفي فلك الأزرار من قمر سعد )
( و كم صارم قد سل من لحظ أحور ... و كم ذابل قد هز من ناعم القد )
( خذوا الحذر من سكان رامة إنها ... ضعيفات كر اللحظ تفتك بالأسد )
( سهام جفون من قسي حواجب ... يصاب بها قلب البري على عمد )
( و روض جمال ضاع عرف نسيمه ... و ما ضاع غير الورد في صفحة الخد )
( و نرجس لحظ أرسل الدمع لؤلؤا ... فرش بماء الورد روضا من الورد )
( و كم غصن قد عانق الغصن مثله ... و كل على كل من الشوق و يستعدي )
( قبيح و داع قد جلا لعيوننا ... محاسن من روض الجمال بلا عد )
( رعى الله ليلى لو علمت طريقها ... فرشت لأخفاف المطي بها خدي )
( و ما شاقني و الطيف يرهب أدمعي ... و يسبح في بحر من الليل مزبد )
( و قد سل خفاق الذوائب بارق ... كما سل لماع الصقال من الغمد )
( و هزت محلاة يد الشوق في الدجى ... فحل الذي أبرمت للصبر من عقدي )
( و أقلق خفاق الجوانح نسمة ... تنم مع الأصباح خافقة البرد )
( و هب عليل لف طي بروده ... أحاديث أهداها إلى الغور من نجد )
( سوى صادح في الأيك لم يدر ما الهوى ... و لكن دعا مني الشجون على وعد )
( فهل عند ليلى نعم الله ليلها ... بأن جفوفي ما تمل من السهد )
( و ليلة إذ وافى الحجيج إلى منى ... وفت لي المني منها بما شئت من قصد )
( فقضيت منها فوق ما أحسب المنى ... و برد عفاف صانه الله من برد )
( و ليس سوى لحظ خفي نجيله ... و شكوى كما أرفض الجمان من العقد )
( غفرت لدهري بعدها كل ما جنى ... سوى ما جشى وفد المشيب على فودي )
( عرفت بهذا الشيب فضل شبيبتي ... و مازال فضل الضد يعرف بالضد )
( و من نام في ليل الشباب ضلالة ... سيوقظه صبح المشيب إلى الرشد )
( أما و الهوى ما حدت عن سنن الهدى ... و لا جرت في طرق الصبابة عن قصد )
( تجاوزت حد العاشقين الأولى مضوا ... و أصبحت في دين الهوى أمة وحدي )
( نسيت و ما أنسى وفائي لخلتي ... و أقفر ربع القلب إلا من الوجد )
( إليك أبا زيد شكاة رفعتها ... و ما أنت من عمر ولدى و لا زيد )
( بعيشك خبرني و ما زلت مفضلا ... أعندك من شوق كمثل الذي عندي )
( فكم ثار بي شوق إليك مبرح فظلت ... يد الأشواق تقدح من زندي )
( و صفق حتى الريح في لمم الربى ... و أشفق حتى الطفل في كبد المهد )
( يقابلني منك الصباح بوجنة ... حكى شفقا فيه الحياء الذي تبدي )
( و توهمي الشمس المنيرة غزة ... بوجهك صان الله وجهك عن رد )
( محياك أجلى في العيون من الضحى ... و ذكرك أحلى في الشفاه من الشهد )
( و ما أنت إلا الشمس في علو أفقها ... نفديك من قرب و تلحظ من بعد )
( و في غمة من لا ترى الشمس عينه ... و ما نفع نور الشمس في الأعين الرمد )
( من القوم صانوا المجد صون عيونهم ... كما قد أباحوا المال ينهب للرفد )
( إذا ازدحموا يوما على الماء أسرة ... فما ازدحموا إلا على مورد المجد )
( و مهما أغاروا منجدين صريخهم ... يشبون نار الحرب في الغور و النجد )
( و لم يقتنوا بعد الثناء ذخيرة ... سوى الصارم المصقول و الصافن النهد )
( و ما اقتسم الأنفال إلا ممدح ... بلاها بأعراف المطهمة الجرد )
( أتنسى و لا تنسى ليالينا التي ... خلسنا بها العينين من جنة الخلد )
( ركبنا إلى اللذات في طلق الصبا ... مطايا الليالي وادعين إلى حد )
( فإن لم ندر فيها الكؤوس فإننا ... وردنا بها للأنس مستعذب الورد )
( لقيتك في غرب و أنت رئيسه ... و بابك للأعلام مجتمع الوفد )
( فآنست حتى ما شكوت بغربة ... و واليت حتى لم أجد مضض الفقد )
( وعدت لقطري شاكرا ما بلوته ... من الخلق المحمود و الحسب العد )
( إلى أن أجزت البحر يا بحر نحونا ... و زرت مزار الغيث في عقب الجهد )
( ألذ من النعمى على حال فاقة ... و أشهى من الوضل الهني على صد )
( و لو ساء أن قوضت رحلك بالنوى ... و عوضت منها بالزميل و بالوخد )
( لقد سرني أن لحت في أفق العلا ... على الطائر الميمون و الطالع السعد )
( طلعت بأفق الشرق نجم هداية ... فجئت مع الأنوار فيه على وعد )
( يمينا بمن تسري المطي سراهم ... عليها سهام قد رمت هدف القصد )
( إلي بيته كيما تزور معاهدا ... بأن بها جبريل عن كرم العهد )
( لأنت لنا مهما دجاليل مشكل ... قدحت به للنور وارية الزند )
( و حيث استقلت في ركاب لطية ... فأنت تحيي النفس في القرب و البعد )
( و إني بباب الملك حيث عهدتني ... مذيل ظلال الجاه مستحصف العقد )
( أجهز بالإنشاء كل كتيبة ... من الكتب و الكتاب في عرضها جندي )
( نلوذ من المولى الإمام محمد ... بظل على نهر المبرة ممتد )
( إذا فاض من يميناه بحر سماحة ... و عم به الطوفان في النجد و الوهد )
( ركبنا إلى الإحسان في سفن الرجا ... بحور عطاء ليس تزجر عن صد )
( فمن مبلغ الأنصار عني ألوكة ... مغلغلة في الصدق منجزة الوعد )
( بآية ما أعطى الخليفة ربه ... مفاتيح فتح ساقها سائق السعد )
( و دونك من روض المحامد نفحة ... تفوق إذا اصطف الندي من الند )
( ثناء يقول المسك إن ذاع عرفه ... أيالك من ند أيالك من ند )
( و ما الماء في جو السحاب مروقا ... بأظهر ذات منك في كنف المهد )
( فكيف و قد حلتك أسرابها الجلا ... و باهت بك الأعلام بالعلم الفرد )
( و ما الطل في ثغر من الزهر باسم ... بأصفى و أذكى من ثنائي و من ودي )
( و لا البدر معصوما بتاج تمامه ... بأبهر من ودي و أسير من حمدي )
( بقيت ابن خلدون إمام هداية ... و لا زلت من دنياك في جنة الخلد )
و وصلها بقوله : سيدي شيخ الأعلام كنز رؤساء الإسلام مشرف حملة السيوف و الأقلام جمال الخواص و الظهراء أثير الدول خالصة الملوك مجتبى الخلفاء سر العلاء أوحد الفضلاء قدوة العلماء حجة البلغاء أبقاكم الله بقاء جميلا يعقد لواء الفخر و يعلى منار الفضل و يرفع عماد المجد و يوضح معالم السيادة و يرسل أشعة السعادة و يفيض أنوار الهداية و يطلق ألسنه المحامد و ينير أفق المعارف و يعذب مورد العناية و يمتع بعمر النهاية و لا نهاية
بآي التحيات أفاتحك و قدرك أعلى و مطلع فضلك أوضح و أجلى إن قلت تحية كسرى فى الثناء و تبع فأثرك لا يقتفى و لا يتبع تلك تحية عجماء لا تبين و لا تبين و زمزمة نافرها اللسان العريي المبين و هذه جهالة جهلاء لا ينطبق على حروفها الاستعلاء قد محا رسومها الخفاء و على آثار دمنتها العفاء و إن كانت التحيتان طالما أوجف بهما الركاب و قعقع البريد و لكن أين يقعان مما أريد
تحية الإسلام أصل في الفخر نسبا و أوصل بالشرع سببا فالأولى أن نحييك بما حيا الله في كتابه رسله و أنبياءه و حيت به ملائكته في جواره أولياءه فأقول :
السلام عليكم يرسل من رحمة الله غماما و يفتق من الطروس عن أزهار المحامد كماما و يستصحب من البركات ما يكون على التي هي أحسن من ذلك مقاما و أجدد السؤال عن الحال الحالية بالعلم و الدين المستمدة من أنوارها سرج المهتدين زادها الله صلاحا و عرفها نجاحا يتبع فلاحا و أقرر ما عندي من تعظيم ارتقي كل آونة شرفه و اعتقاد جميل يرفع عن وجه البدر كلفه و ثناء أنشر بيدك البيضاء صحفه و على ذلك أيها السيد المالك فقد تشعبت علي في مخاطبتك المسالك إن أخذت في تقرير فضلك العميم و نسبك الصميم فو الله ما أدري بأي بيعة لفخرك تدفع الظلم و في أي بحر من ثنائك يسبح القلم الأمر جلل و الشمس تكبر على حلي و حلل و إن أخذت في شكاة الفراق و الاستعداء على الأشواق اتسع المجال و حصرت الروية و الارتحال فالأولى أن أثرك عذبة اللسان تلعب بها رياح الأشواق و أسلة اليراع تخضب مفارق الطروس بصبيغ الحبر المراق و غيرك من تركض في مخاطبته جياد اليراع في مجال الرقاع مستولية على أمد الإبداع و الاختراع فإنما هو بث يبكي و فراق يشكي فيعلم الله مرضي عن أن أشافه من أنبائك ثغور البروق البواسم و أن أحملك الرسائل حتى مع سفراء النواسم و أن أجتلي غرر ذلك الجبين في محيا الشارق و لمح البارق
و لقد وجهت إليك جملة من الكتب و القصائد و لا كالقصيدة الفريدة في تأبين الجواهر اللائي استأثر بهن البحر قدس الله أرواحهم و أعظم الله أجرك فيهم فإنها أنافت على مائة و خمسين بيتا و لا أدري هل بلغكم ذلك أم غاله الضياع و غدر وصوله بعد المسافة و الذي يطرق في سوء الظن بذلك ما صدر في مقابلته منكم فإني على علم من كرم قصدكم و من حين استغربناكم بذلك الأفق الشرقي لم يصلني منكم كتاب مع علمي بضياع اثنين منهما بهذا الأفق الغربي اهـ
و في الكتاب إشارة إلى أنه بعث قصيدة في مدح الملك الظاهر صاحب مصر و بطلب مني رفعها إلى السلطان و عرضها عليه بحسب الإمكان و هي على روي الهمزة و مطلعها :
( أمدامع منهلة أم لؤلؤ ... لما استهل العارض المتلألئ )
و بعث في طي الكتاب و اعتذر بأنه استناب في نسخها فكتبت همزة رويها ألفا قال و حقها أن تكتب بالواو لأنها تبدل بالواو و تسهل بين الهمزة و الواو و حرب الإطلاق أيضا يسوقها واوا هذا مقتضى الصناعة و إن قال بعض الشيوخ تكتب ألفا على كل حال على لغة من لا يسهل لكنه ليس بشيء و أذن لي في نسخ القصيدة المذكورة بالخط المشرقى لتسهل قراءتها عليهم ففعلت ذلك و رفعت النسخة و الأصل للسلطان و قرأها كاتب سره و لم يرجع إلي منها شيء و لم أستجز أن أنسخها قبل رفعها إلى السلطان فضاعت من يدي
و كان في الكتاب فصل عرفني فيه بشأن الوزير مسعود بن رحو المستبد بأمر المغرب لذلك العهد و ما جاء به من الانتقاض عليهم و الكفران لصنيعهم يقول فيه : كان مسعود بن رحو الذي أقام بالأندلس عشرين عاما يتبثك النعيم و يقود الدنيا و يتحيز العيش و الجاه قد أجيز صحبة ولد عثمان كما تعرفتم من نسخة كتب انشائه بجبل الفتح لأهل الحضرة فاستولى على المملكة و حصل على الدنيا و انفرد برياسة دار المغرب لضعف السلطان رحمه الله و لم يكن إلا أن كفرت الحقوق و حنظلت نخلته السحوق و شف على سواد جلدته سواد العقوق و داخل من سبتة فانتقضت طاعة أهلها و ظنوا أن القصبة لا تثبت لهم و كان قائدها الشيخ الأبهة فل الحصار و جلى القتال و محش الحرب أبو زكريا بن شعيب فثبت للصدمة و نور للأندلس فبادره المدد من الجبل و من مالقة و توالت الأمداد و خاف أهل البلد و رجع شرفاؤه و دخلوا القصبة و استغاث أهل البلد بمن جاورهم و جاءهم المدد أيضا ثم دخل الصالحون في رغبة هذا المقام و رفع القتال و في أثناء ذلك غدروا ثانية فاستدعى الحال إجازة السلطان المخلوع أبي العباس لتبادر القصبة به و يتوجه منها إلى المغرب لرغبة بني مرين و غيرهم فيه و هو ولد السلطان المرحوم أبي سالم الذي قلدكم رياسة داره و أوجب لكم المزية على أوليائه و أنصاره
و بعده فصل آخر يطلب فيه كتبا من مصر يقول فيه :
و المرغوب من سيدي أن يبعث لي ما أمكن من كلام فضلاء الوقت و أشياخهم على الفاتحة إذ لا يمكن بعث تفسير كامل لأني أثبت في تفسيرها ما أرجو به النفع عند الله و قد علمتم أن عندي التفسير الذي أوصله عثمان النجاني من تأليف الطيبي والسفر الأول من تفسير أبي حيان و ملخص إعرابه و كتاب المغني لابن هشام و سمعت عن براءة تفسير للإمام بهاء الدين ابن عقيل و وصلت إلي براءة من كلام أكمل الدين الأشيري رضي الله عن جميعهم و لكني لم أصل إلا للبسملة و ذكر أبو حيان في صدر تفسيره أن شيخه سليمان النقيب أو أبا سلمان لا أدري الآن صنف كتابا في البيان في سفرين جعله مقدمة لكتاب تفسيره الكبير فإن أمكن سيدي توجيهه لا بأس انتهى
و في الكتاب فصول أخرى في أغراض متعددة لا حاجة إلى ذكرها ههنا ثم ختم الكتاب بالسلام و كتب اسمه محمد بن يوسف بن زمرك الصريحي و تاريخه العشرون من محرم سنة تسع و ثمانين و سبعمائة و كتب إلي قاضي الجماعة بغرناطة أبو الحسن عل بن الحسن البني :
الحمد لله و الصلاة و السلام على سيدنا و مولانا محمد رسول الله يا سيدى و واحدي ودا و حبا و نجي الروح بعدا و قبربا أبقاكم الله و ثوب سيادتكم سابغ و قمر سعادتكم كلما أفلت الأقمار بازغ أسلم بأثم عليكم و أقرر بعض ما لدي من الأشواق إليكم من حضرة غرناطة مهدها الله عن ذلك لكم يتضوع طيبه و شكر لا يذوى و إن طال الزمان طيبه قد كان بلغ ما جرى من تأخيركم عن الولاية التي تقلدتم أمرها و تحملتم مرها فتمثلت بما قاله شيخنا أبو الحسن بن الجياب عند انفصال صاحبه الشريف أبي القاسم عن خطة القضاء
( لا مرحبا بالناس أنفارك ... إذ جهلت رفعة مقدارك )
( لو أنها قد أوتيت رشدها ... ما برحت تعشو إلى نارك )
ثم تعرفت كيفية انفصالكم و أنه كان عن رغبة من السلطان المؤيد هنا لكم فرددت و قد توهمت مشاهدتكم هذه الأبيات
( لك الله يا بدر السماحة و البشر ... لقد حزت في الأحكام منزلة الفخر )
( و لكنك استعفيت عنها تورعا ... و تلك سبيل الصالحين كما تدري )
( جريت على نهج السلامة في الذي ... تخيرته للنشر منك و للحشر )
( و حق بأن العلم ولاك خطة ... من العز لا تنفك عنها مدى العمر )
( تزيد على مر الجديدين جدة ... و تسري النجوم الزاهرات و لا تسري )
( و من لاحظ الأحوال وازن بينها ... وكم لذوي الدنيا الدنية من خطر )
( و أمسى لأنواع الولايات نابذا ... فغير نكير أن يواجه بالنكر )
( فهينيك يهنيك الذي أنت أهله ... من الزهد فيها و التوقي من الوزر )
( و لا تكترث من حاسديك فإنهم ... حصى و الحصى لا يرتقي مرتقى الدر )
( ومن عامل الأقوام بالله مخلصا ... له فيهم نال الجزيل من الأجر )
( بقيت لرفع المجد تحمي ذماره ... و خار لك الرحمن في كل ما يجري )
إيه سيدي رضي الله عنكم و أرضاكم أطنبتم في كتابكم في الثناء على السلطان الذي أنم بالإعفاء و المساعدة على الانفصال عن خطة القضاء و استوهبتم الدعاء له من الأولياء و لله دركم في التنبيه على الإرشاد إلى ذلكم فالدعاء له من الواجب فيه استقامة الأمور و صلاح الخاصة و الجمهور و عند ذلك ارتفعت أصوات العلم و الصلحاء بهذا القطر لي و لكم بجميل الدعاء أجاب الله فيكم أحسنه و أجمله و بلغ كل واحد منكم ما قصده و أمله و أنتم أيضا من أهل العلم و الجلالة و الفضل و الأصالة و قد بلغتم بهذه البلاد الغاية من التنويه و الحظ الشريف النبيه لكن أراد الله سبحانه أن يكون لمحاسنكم في تلك البلاد العظيمة ظهور و تحدث بعد الأمور أمور و بكل اعتبار فالزمان بكم حيث كنتم مباه و المحامد مجموعة لكم جمع ثناه و لما وقف على مكتوبكم إلي مولانا السلطان أبو عبد الله أطال الله الثناء على مقاصدكم و تحقق جميل ودادكم و صحيح اعتقادكم و عمر مجلسه يومئذ بالثناء عليكم و الشكر لما لديكم
ثم ختم الكتاب بالسلام من كاتبه علي بن عبد الله بن الحسن مؤرخا بصفر سنة تسعين و سبعمائة و في طيه مدرجة بخطه و قد قصر فيها عن الإجادة نصها :
سيدي رضي الله عنكم و أرضاكم و أظفركم يمناكم بذوائب مناكم أعتذر لكم عن الكتاب المدرج به هذا غير خطي فإني في ذلك الوقت بحال مرض في عيني و لكم العافية الوافية فيسعني سمحكم و ربما كان لديكم تشوف بما نزل في هذه المدة بالمغرب من الهرج أماطه الله و أمن بلاد المسلمين
و الموجب أن الحصة الموجهة في خدمة أميرهم الواثق ظهر له و لوزيره و من ساعده على رأيه إمساكها رهينة و جعله في القيود إلى أن يقع الخروج لهم على مدينة سبتة و كان القائد على هذه الحصة العلج المدعو المهند و صاحبه الفتى المدعو نصر الله
وكثر التردد في القضية إلى أن أبرز القدر توجيه السلطان أبي العباس تولاه الله صحبة فرج بن رضوان بحصة ثانية و كان ما كان حسبما تلقيتم من الركبان هذا ما وسع الوقت من الكلام ثم دعا و ختم الكتاب
و إنما كتبت هذه الأخبار و إن كانت خارجة عن غرض هذا الكتاب المؤلف لأن فيها تحقيقا لهذه الواقعات و هي مذكورة في أماكنها فربما يحتاج الناظر إلى تحقيقها من هذا الموضع
و بعد قضاء الفريضة رجعت إلى القاهرة محفوفا بستر الله و لطفه و لقيت السلطان فتلقاني أيده الله بمعهود مبرته و عنايته و كانت فتنة الناصري بعدها سنة إحدى و تسعين و سبعمائة و الله يعرفنا عوارف لطفه و يمد علينا ظل ستره و يختم لنا بصالح الأعمال و هذا آخر ما انتهيت إليه و قد نجز الغرض مما أردت إيراده في هذا الكتاب و الله الموفق برحمته للصواب و الهادي إلى حسن المآرب و الصلاة و السلام على سيدنا و مولانا محمد و على آله و الأصحاب و الحمد لله رب العالمين (7/657)
القسم الأول من ولاية الدروس و الخوانق
أهل هذه الدولة التركية بمصر و الشام معنيون على القدم منذ عهد مواليهم ملوك بني أيوب بإنشاء المدارس لتدريس العلم و الخوانق لإقامة رسوم الفقراء في التخلق بآداب الصوفية السنية في مطارحة الأذكار و نوافل الصلوات أخذوا ذلك عمن قبلهم من الدول الخلافية فيختطون مبانيها و تقفون الأراضي المغلة للإنفاق منها على طلبة العلم و متدربي الفقراء و إن استفضل الريع شيئأ عن ذلك جعلوه في أعقابهم خوفا على الذرية الضعاف من العيلة و اقتدى بسنتهم في ذلك من تحت أيديهم من أهل الرياسة و الثروة فكثرت لذلك المدارس و الخوانق بمدينة القاهرة و أصبحت معاشا للفقراء من الفقهاء و الصوفية و كان ذلك من محاسن هذه الدولة التركية و آثارها الجميلة الخالدة
و كنت لأول قدومي على القاهرة و حصولي في كفالة السلطان شغرت مدرسة بمصر من إنشاء صلاح الدين بن أيوب وقفها على المالكية يتدارسون بها الفقه و وقف عليها أراض من الفيوم تغل القمح فسميت لذلك القمحية كما وقف أخرى على الشافعية هنالك و توفي مدرسها حينئذ فولاني السلطان تدريسها و أعقبه بولاية قضاء المالكية سنة ست و ثمانين و سبعمائة كما ذكرت ذلك من قبل و حضرني يوم جلوسي للتدريس فيها جماعة من أكابر الأمراء تنويها بذكرى و عناية من السلطان و منهم بجانبي و خطبت يوم جلوسي في ذلك الحفل بخطبة ألممت فيها بذكر القوم بما يناسبهم و يوفي حقهم و وصفت المقام و كان نصها :
الحمد لله الذي بدأ بالنعم قبل سؤالها و وفق من هداه للشكر على منالها و جعل جزاء المحسنين في محبته ففازوا بعظيم نوالها و علم الإنسان الأسماء و البيان و ما لم يعلم من أمثالها و ميزه بالعقل الذي فضله على أصناف الموجودات و أجيالها و هداه لقبول أمانة التكليف و حمل أثقالها و خلق الجن و الإنس للعبادة ففاز منهم بالسعادة من جد في أمثالها و يسر كلا لما خلق له من هداية نفسه أو إضلالها و فرغ ربك من خلقها و خلقها و أرزاقها و آجالها و الصلاة على سيدنا و مولانا محمد نكتة الأكوان و جمالها و الحجة البالغة لله على كمالها الذي رقاه في أطوار الاصطفاء و آدم بين الطين و الماء فجاء خاتم أنبيائها و أرسلها و نسخ الملل بشريعته البيضاء فتميز حرامها من حلالها و رضي لنا الإسلام دينا فأتم علينا النعمة بإكمالها
والرضى عن آله و أصحابه غيوث رحمته المنسجمة و طلالها و ليوث ملاحمه المشتهرة و أبطالها و خير أمة أخرجت للناس في توسطها و اعتدالها و ظهور الهداية و الاستقامة في أحوالها صلى الله عليه و عليهم صلاة تتصل الخيرات باتصالها و تنال البركات من خلالها
أما بعد فإن الله سبحانه لما أقر هذه الملة الإسلامية في نصابها و شفاها من أدوائها و أوصابها و أورث الأرض عباده الصالحين من أيدي غصابها بعد أن باهلت فارس بتاجها و عصابها و خلت الروم إلى تماثيلها و أنصابها و جعل لها من العلماء حفظة و قواما و نجوما يهتدي بها التابع و أعلاما يقربونها للدراية تبيانا و إفهاما و يوسعونها بالتدوين ترتيبا و إحكاما و تهذيبا لأصولها و فروعها و نظاما ثم اختار لها الملوك يرفعون عمدها و يقيمون صغاها بإقامة السياسة و أودها و يدفعون بعزائمهم الماضية في صدر من أرادها بكياد أو قصدها فكان لها بالعلم الظهور و الانتشار و الذكر السيار و البركات المخلدة و الآثار و لها بالملوك العز و الفخار و الصولة التي يلين لها الجبار و بذل لعزة المؤمنين بها الكفار و تجلل وجوه الشرك معها الصغار و لم تزل الأجيال تتداول على ذلك و الأعصار و الدول تحتفل و الأمصار و الليل يختلف و النهار حتى أظلت الإسلام دول هذه العصابة المنصورة من الشرك الماحين بأنوار أسنتهم ظلم الضلالة و الشك القاطعين بنصالهم المرهفة علائق المين و الإفك المصيبين بسهامهم النافذة ثغر الجهالة و الشرك المظهرين سر قوله : [ لا تزال طائفة من أمتي ] فيما يتناولونه من الأخذ و الترك ففسحوا خطة الإسلام و قاموا بالدعوة الخلافية أحسن القيام و بثوها في أقصى التخوم من الحجاز و الشام و اعتمدوا في خدمة الحرمين الشريفين ما فضلوا به ملوك الأنام و اقتعدوا كرسي مصر الذي ألقت له الأقاليم يد الاستسلام على قدم الأيام فزخر بها منذ دولتهم بحر العمران و تجاوبت فيها المدارس بترجيع المثاني و القرآن و عثرت المساجد بالصلوات و الأذان تكاثر عدد الحصى و الشهبان و قامت المآذن على قدم الاستغفار و السبحان معلنة بشعار الإيمان و ازدان جوها بالقصر فالقصر و الإيوان فالإيوان و نظم دستها بالعزيز و الظاهر و الأمير و السلطان فما شئت من ملك يخفق العز في إعلامه و تتوقد في ليل المواكب نيران الكواكب من أسنته و سهامه و من أسرة للعلماء تتناول العلم بوعد الصادق و لو تعلق بأعنان السماء و تنير سراجه في جوانب الشبه المدلهمة الظلماء و من قضاة يباهون بالعلم و السؤدد عند الانتماء و يشتملون الفضائل و المناقب اشتمال الصماء و يفصلون الخصومات برأي يفرق بين اللبن و الماء
و لا كدولة السلطان الظاهر و العزيز القاهر يعسوب العصائب و الجماهر و مطلع أنواع العز الباهر و مصرف الكتائب تزري بالبحر الزاخر و تقوم بالحجة للقسي على الأهلة في المفاخر سيف الله المنتضى على العدو الكافر و رحمته المتكفلة للعباد باللطف الساتر رب التيجان و الأسرة و المنابر و الأواوين العالية و القصور الأزاهر و الملك المؤيد بالبيض البواتر و الرماح الشواجر و الأقلام المرتضعة أخلاف العز في مهود المحابر و الفيض الرباني الذي فاق قدرة القادر و سبقت به العناية للأواخر سيد الملوك و السلاطين كافل أمير المؤمنين أبو سعيد أمده الله بالنصر المصاحب و السعد المؤازر و عرفه آثار عنايته في الموارد و المصادر و أراه حسن العاقبة في الأولى و سرور المنقلب في الآخر فإنه لما تناول الأمر بعزائمه و عزمه و آوى الملك إلى كنفه العزيز و حزمه أصاب شاكلة الرأي عندما سدد من سهمه و أوقع الرعايا في ظل من أمنه و عدل من حكمه و قسم البأس و الجود بين حربه و سلمه ثم أقام دولته بالأمراء الذين اختارهم باختيار الله لأركانها و شد بهم أزره في رفع القواعد من بنيانها من بين مصرف لعنانها متقدم القدم على أعيانها في بساط إيوانها و رب مشورة تضيء جوانب الملك بلمعانها و لا يذهب الصواب عن مكانها و منفذ أحكام يشرق الحق في بيانها و يضوع العدل من أردانها ونجي خلو في الهم الأعظم من شانها و صاحب فلم يفضي بالأسرار إلى الأسل الجرار فيشفي الغليل بإعلانها حفظ الله جميعهم و شمل بالسعادة والخيرات المبدأة المعادة تابعهم و متبوعهم
و لما سبحت في اللج الأزرق و خطوت من أفق المغرب إلى أفق المشرق حيث نهر النهار ينصب من صفحه المشرق و شجرة الملك التي أعز بها الإسلام تهتز في دوحه المعرق وأزهار الفنون تسقط علينا من غصنه المورق و ينابيع العلوم و الفضائل تمدو شلنا من فراته المغدق أو لوني عناية و تشريفا و غمروني إحسانا و معروفا و أوسعوا بهمتي إيضاحا و نكرتي تعريفا ثم أهلوني للقيام بوظيفة السادة المالكية بهذا الوقف الشريف من حسنات السلطان صلاح الدين أيوب ملك الجلاد والجهاد و ماحي آثار التثليث والرفض الخبيث من البلاد و مطهر القدس الشريف من رجس الكفر بعد أن كانت النواقيس و الصلبان فيه بمكان العقود من الأجياد و صاحب الأعمال المتقبلة يسعى نورها بين يديه في يوم التناد فأقامني السلطان أيده الله لتدريس العلم بهذا المكان لا تقدما على الأعيان و لا رغبة عن الفضلاء من أهل الشان و إني موقن بالقصور بين أهل العصور معترف بالعجز عن المضاء في هذا القضاء و أنا أرغب من أهل اليد البيضاء و المعارف المتسعة الفضاء أن يلمحوا بعين الارتضاء و يتغمدوا بالصفح و الإغضاء و البضاعة بينهم مزجاة و الاعتراف من اللوم إن شاء الله منجاه و الحسنى من الإخوان مرتجاة و الله تعالى يرفع لمولانا السلطان في مدارج القبول أعماله و يبلغه في الدارين آماله و يجعل للحسنى و المقر الأسنى منقلبه و مآله و يديم على السادة الأمراء نعمته و يحفظ على المسلمين بانتظام الشمل دولتهم و دولته و يمد قضاة المسلمين و حكامهم بالعون و التسديد و يمتعنا بانفساح آجالهم إلى الأمد البعيد و يشمل الحاضرين برضوانه في هذا اليوم السعيد بمنه و كرمه
و انفض ذلك المجلس و قد شيعتني العيون بالتجلة و الوقار و تناجت النفوس بالأهلية للمناصب و أقيمت على الاشتغال بالعلم و تدريسه إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ نزعة من النزعات الملوكية فعزله و استدعاني للولاية في مجلسه و بين أمرائه فتفاديت من ذلك و أبى إلا إمضاءه و خلع علي و بعث معي من أجلسني بمقعد الحكم في المدرسة الصالحية في رجب ست و ثمانين و سبعمائة فقمت في ذلك المقام المحمود و وفيت عهد الله في إقامة رسوم الحق و تحري المعدلة حتى سخطني من لم ترضه أحكام الله و وقع من شغب أهل الباطل و المراء ما تقدم ذكره
و كنت عند وصولي إلى مصر بعثت عن ولدي من تونس فمنعهم سلطان تونس من اللحاق بي اغتباطا بمكاني فرغبت من السلطان يشفع عنده في شأنهم فأجاب و كتب رسالة بالشفاعة فركبوا البحر من تونس في السفين فما هو إلا أن وصلت مرسى الإسكندرية فعصفت بهم الرياح و غرق المركب بمن فيه و ما فيه و ذهب الموجود المولود فعظم الأسف واختلط الفكر و أعفاني السلطان من هذه الوظيفه و أراحني و فرغت لشأني من الاشتغال بالعلم تدريسا و تأليفا
ثم فرغ السلطان من اختطاط مدرسته بين القصرين و جعل فيها مدافن أهله و عين لي فيها تدريس المالكية فأنشأت خطبة أقوم بها في يوم مفتتح التدريس على عادتهم في ذلك و نصها :
الحمد لله الذي من على عباده بنعمته و إيجاد خلقه و صرفهم في أطوار استعباده بين قدره ومراده و عرفهم أسرار توحيده في مظاهر وجوده و آثار لطفه في وقائع عباده و عرضهم على أمانة التكاليف ليبلوهم بصادق وعده و إبعاده و يسر كلا لما خلق له من هدايته أو إضلاله و غيه أو رشاده و استخلف الإنسان في الأرض بعد أن هداه النجيدين لصلاحه أو فساده و علمه ما لم يكن يعلم من مدارك سمعه و بصره و البيان عما في فؤاده و جعل منهم أنبياء و ملوكا يجاهدون في الله حق جهاده و يثابرون على مرضاته في اعتمال العدل و اعتماده و رفع البيوت المقدسة بسبحات الذكر و أوراده
و الصلاة و السلام على سيدنا و مولانا محمد سيد البشر من نسل آدم و أولاده لا بل سيد الثقلين في العالم من إنسه و جنه و أرواحه و أجساده لا بل سيد الملائكة والنبيين الذي ختم الله كمالهم بكماله و آمادهم بآماده الذي شرف به الأكوان فأضاءت أرجاء العالم لنور ولاده و فصل له الذكر الحكيم تفصيلا كذلك ليثبت فن فؤاده و ألقى على قلبه الروح الأمين بتنزيل رب العالمين ليكون من المنذرين لعباده فدعا إلى الله على بصيرة بصادق جداله و جلاده و أنزل عليه النصر العزيز و كانت ملائكة السماء من إمداده حتى ظهر نور الله على رغم من رغم بإطفائه وإخماده و كمل الدين الحنيف فلا تخشى و الحمد لله غائلة انقطاعه و لا نفاذه ثم أعد له من الكرامات ما أعد في معاده و فضله بالمقام المحمود في عرصات القيامة بين أشهاده و جعل له الشفاعة فيمن انتظم في أمته و اعتصم بمقاده
و الرضى عن آله و أصحابه غيوث رحمته و ليوث إنجاده من ذوي رحمه الطاهرة و أهل وداده المتزودين بالتقوى من خير أزواده و المراغمين بسيوفهم من جاهر بمكابرة الحق و عناده و أراد في الدين بظلمه و إلحاده حتى استقام الميسم في دين الله و بلاده و انتظمت دعوة الإسلام أقطار العالم و شعوب الأنام من عربه و عجمه و فارسه و رومه و تركه و أكراده صلى الله عليه و عليهم صلاة تؤذن باتصال الخير و اعتياده و تؤهل لاقتناء الثواب و زياده و سلم كثيرا و عن الأئمة الأربعة علماء السنة المتبعة و الفئة المجتباة المصطنعة و عن إمامنا من بينهم الذي حمل الشريعة و بينها و حرر مقاصدها الشريفة و عينها و تعرض في الآفاق منها و المطالع بين شهبها اللوامه فزينها نكتة الهداية إذا حقق مناطها و شرط التحصيل و الدراية إذا روعيت أشراطها و قصد الركاب إذا ضربت في طلب العلم آباطها عالم المدينة و إمام هذه الأمة الأمينة و مقبس أنوارالنبوة من مشكاتها المبينة الإمام مالك بن أنس ألحقه الله برضوانه و عرفنا بركة الاقتداء بهديه و عرفانه و عن سلف المؤمنين و المهتدين و تابعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد فإن الخلق عيال الله يكنفهم بلطفه و رحمته و يكفلهم بفضله و نعمته و ييسرهم لأسباب السعادة بآداب دينه و شرعته و يحملهم في العناية بأمورهم و الرعاية لجمهورهم على مناهج سنته و لطائف حكمته و لذلك اختار لهم الملوك الذين جبلهم على العدل و فطرته و هداهم إلى التمسك بكلمته ثم فضلهم بما خولهم من سعة الرزق و بسطته و اشتقاق التمكين في الأرض من قدرته فتسابقوا بالحيرات إلى جزائه و مثوبته و ذهبوا بالدرجات العلى في وفور الأجر و مزيته
و إن مولانا السلطان الملك الظاهر العزيز القاهر العادل الطاهر القائم بأمور الإسلام عندما أعيا حملها الاكتاد و قطب دائرة الملك الذي أطلع الله من حاشيته الأبدالا و أنبت الأوتاد ومنفق أسواق العز بما بذل فيها من جميل نظره المدخور والعتاد رحمة الله الكافلة للخلق و يداه المبسوطتان بالأجل و الرزق و ظله الواقي للعباد بما اكتنفهم من العدل و الحق قاصم الجبابرة و المعفي على آثار الأعاظم من القياصرة و ذوي التيجان من التبابعة و الأكاسرة أولي الأقيال و الأساورة و حائز قصب السبق في الملوك عند المناضلة و المفاخرة و مفوض الأمور بإخلاصه إلى ولي الدنيا و الآخرة مؤيد كلمة الموحدين و رافع دعائم الدين و ظهير خلافة المؤمنين سلطان المسلمين أبو سعيد صدق الله فيما يقتفي من الله ظنونه و جعل النصر ظهيره كما جعل السعد قرينه و العز خدينه و كان وليه على القيام بأمور المسلمين و معينه و بلغ الأمة في اتصال أيامه و دوام سلطانه ما يرجونه من الله و يؤملونه لما قلده الله هذا الأمر الذي استوى له على كرسي الملك و انتظمت عقود الدول في لبات الأيام و كانت دولته واسطة السلك و جمع له الدين بولاية الحرمين و الدنيا بسلطان الترك و أجرى له أنهار مصر من الماء و المال فكان مجازه فيها بالعدل في الأخذ و الترك و جمع عليه قلوب العباد فشهد سرها بمحبه الله له شهادة خالصة من الريب بريئة من الشك حتى استولى من العز و الملك على المقام الذي رضيه و حمده ثم تاقت نفس إلى ما عند الله فصرف قصده إليه و اعتمده و سارع إلى فعل الخيرات بنفس مطمئنة لا يسأل عليها أجرا و لا يكدرها بالمنة و أحسن رعاية الدين و الملك تشهد بها الأنس و الجنة لا بل النسم و الأجنة ثم آوى الخلق إلى عدله تصديقا بأن الله يؤوه يوم القيامة إلى ظلاله المستجنة و نافس في اتخاذ المدارس و الربط لتعليم الكتاب و السنة و بناء المساجد المقدسة يبني له بها الله البيوت في الجنة و الله لا يضيع عمل عامل فما أظهره أو أكنه
و إن ما أنتجته قرائح همته و عنايته و أطلعته آفاق عدله و هدايته و وضحت شواهده على بعد مداه في الفخر و غاليه و نجح مقاصده في الدين و سعايته هذا المصنع الشريف و الهيكل الهمم البشرية ترتيبه و رصفه لا ! بل الكلم السحرية تمثيله و وصفه و شمخ بمطاولة السحب و مناولة الشهب مارنه العزيز و أنفه و ازدهي بلبوس السعادة و القبول من الله عطفه إن فاخر بلاط الوليد كان له الفخار أو باهى القصر و الإيوان شهد له المحراب و المنار أو ناظر صنعاء و غمدان قامت بحجته الآثار إنما هو بهو ملؤه دين و إسلام و قصر عليه تحية و سلام و فضاء رباني ينشأ في جوه للرحمة و السكينة ظلة و غمام و كوكب شرق يضاحك وجه الشمس منه ثغر بسام دفع إلى تشييد أركانه و رفع القواعد من بنيانه سيف دولته الذي استله من قراب ملكه و انتضاه و سهمه الذي عجم عيدان كنانته فارتضاه و حسام أمره الذي صقل فرنده بالعز و العزم و أمضاه و حاكمه المؤيد الذي طالب غريم الأيام بالأمل العزيز المرام فاستوفى دينه و اقتضاه الأمير الأعز الأعلى جهركس الخليلي أمير الماخورية باسطبله المنيع حرسه الله من خطوب الأيام و قسم له من عناية السلطان أوفر الحظوظ و السهام فقام بالخطو الوساع لأمره المطاع و أغرى بها أيدي الاتقان و الإبداع و اختصها من أصناف الفعلة بالماهر الصناع يتناظرون في إجادة الأشكال منها و الأوضاع و يتناولون الأعمال بالهندام إذا توارت عن قدرتهم بالامتناع فكأن العبقري يفري الفري أو العفاريت قدمت من أماريت و كأنما حشرت الجن و الشياطين أو نشرت القهارمة من الحكماء الأول و الأساطين جابوا لها الصخر بالأذواد لا بالواد واستنزلوا صم الأطواد على مطايا الأعواد و رفعوا سمكها إلى أقصى الآماد على بعيد المهوى من العماد و غشوها من الوشي الأزهر المضاعف الصدف و المرمر و مائع اللجين الأبيض و الذهب الأحمر بكل مسهم الحواشي حالي الأبراد و قدروه مساجد للصلوات و الأذكار و مقاعد للسبحات بالعشي و الإبكار و مجالس للتلاوة و الاستغفار في الآصال و الأسحار و زوايا للتخلي عن ملاحظة الأسماع و الأبصار و التعرض للفتوح الربانية و الأنوار و مدارس لقدح زناد الأفكار و نتاج المعارف الأبكار و صوغ اللجين و النضار في محك القرائح و الأبصار لتفجر ينابيع الحكمة في رياضه و بستانه و تتفتح أبواب الجنة من غرفه و إيوانه و تقتاد غر السوابق من العلوم و الحقائق في طلق ميدانه و يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح إلى الله من نواحي أركانه و توفر الأجور لغاشيته محتسبة عند الله في ديوانه راجحة في ميزانه
ثم اختار لها من أئمة المذاهب الأربعة أعيانا و من شيوخ الحقائق الصوفية فرسانا تصفح لهم أهل مملكته إنسانا إنسانا و أشد بقدرهم عناية و إحسانا و دفعهم إلى وظائفه توسعا في مذاهب الخير و افتنانا و عهد إليهم برياضة المريدين و إفادة المستفيدين احتسابا لله و قربانا و تقيلا لمذاهب الملوك من قومه و استنانا ثم نظمني معهم تطولا و امتنانا و نعمة عظمت موقعا و جلت شانا و أنا و إن كنت لقصور البضاعة متأخرا عن الجماعة و لقعود الهمة عيالا على هؤلاء الأئمة فسمحهم يغطي و يلحف و بمواهب العفو و التجاوز يمنح و يتحف و إنما هي رحمة من مولانا السلطان أيده الله خصت كما عمت و وسمت أغفال النكرة و الإهمال و سمت و كملت بها مواهب عطفه و جبره و تمت و قد ينتظم الدر مع المرجان و تلتبس العصائب بالتيجان و تراض المسومة العراب على مسابقة الهجان و الكل في نظر مولانا السلطان و تصريفه و الأهلية بتأهيله و المعرفة بتعريفه و قوام الحياة والآمال بلطائف إحسانه و صنوبه و الله يوزعنا شكر معروفه و يوفقنا للوفاء بشرطه في هذا الوقف و تكليفه و يحمي حماه من غير الدهر و صروفه و يفيء على ممالك الإسلام ظلال أعلامه و رماحه و سيوفه و يريه قرة العين في نفسه و بنيه و حاشيته و ذويه و خاصته و لفيفه عن الله و فضله
ثم تعاون العداة عند أمير الماخورية القائم للسلطان بأمور مدرسته و أغروه بصدي عنها و قطع أسبابي من ولايتها و لم يمكن السلطان إلا إسعافه فأعرضت عن ذلك و شغلت بما أنا عليه من التدريس و التأليف
ثم خرجت عام تسعة و ثمانين و سبعمائة للحج و اقتضيت إذن السلطان في ذلك فأسعف و زود هو و أمراؤه بما أوسع الحال و أرغده و ركبت بحر السويس من الطور إلى الينبع ثم صعدت مع المحمل إلى مكة فقضيت الفرض عامئذ و عدت في البحر فنزلت بساحل القصير ثم سافرت منه إلى مدينة قوص في آخر الصعيد و ركبت منها بحر النيل إلى مصر و لقيت السلطان و أخبرته بدعائي له في أماكن الإجابة و أعادني إلى ما عهدت من كرامته و تفيء ظله
ثم شغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش فولاني إياها بدلا من مدرسته و جلست للتدريس فيها في محرم أحد و تسعين و سبعمائة و قمت ذلك اليوم على العادة بخطبة نصها :
الحمد لله إجلالا و إعظاما و اعترافا بحقوق النعم و التزاما و اقتباسا للمزيد منها و اغتناما و شكرا على الذي أحسن و تماما و سع كل شيء رحمة و إنعاما و أقام على توحيده من أكوانه و وجوده آيات واضحة و أعلاما و صرف الكائنات في قبضة قدرته ظهورا و خفاء و إيجادا وإعداما و أعطى كل شيء خلقه ثم هداه إلى مصالحه إلهاما و أودع مقدور قضائه في مسطور كتابه فلا يجد محيصا عنه و لا مراما و الصلاة و السلام على سيدنا و مولانا محمد نبي الرحمة الهامية غماما و الملحمة التي أراقت من الكفر نجيعا و حطمت أصناما و العروة الوثقى فاز من اتخذها عصاما أول النبيين رتبة و آخرهم ختاما و سيدهم ليلة قاب قوسين إذ بات للملائكة و الرسل إماما و على آله و أصحابه الذين كانوا ركنا لدعوته و سناما و حربا على عدوه و سماما و بعلوا في مظاهرته جدا و اعتزاما و قطعوا في ذات الله و ابتغاء مرضاته أنسابا و أرحاما حتى ملأوا الأرض إيمانا و إسلاما و أوسعوا الجاحد و المعاند تبكيتا و إرغاما فأصبح ثغر الدين بساما و وجه الكفر و الباطل عبوسا جهاما صلى الله عليه و عليهم ما عاقب ضياء ظلاما صلاة ترجح القبول ميزانا و تبوىء عند الله مقاما
و الرضى عن الأئمة الأربعة الهداة المتبعة مصابيح الأمان و مفاتيح السنة الذين أحسنوا بالعلم قياما و كانوا للمتقين إماما
أما بعد فإن الله سبحانه تكفل لهذا الدين بالعلاء و الظهور و العز الخالد على الظهور و انفساح خطته في آفاق المعمور فلم يزل دولة عظيمة الآثار غزيرة الأنصار بعيدة لصيت عالية المقدار جامعة بمحاسن آدابه و عزة جنابه معاني الفخار منفقة بضائع علومه في الأقطار مفجرة ينابيعها كالبحار مطلعة كواكبها المنيرة في الآفاق أضواء من النهار و لا كالدولة التي استأثرت بقبلة الإسلام و منابره و فاخرت بحرمات الله و شعائره و اعتمدت بركة الإيمان و أواصره و اعتملت في إقامة رسوم العلم ليكون من مفاخره و شاهدا بالكال لأوله و آخره
و إن مولانا السلطان الملك الظاهر العزيز القاهر شرف الأوائل و الأواخر و رافع لواء المعالي و المفاخر رب التيجان و الأسرة و المنابر و المجلي في ميدان السابقين من الملوك الأكابر في الزمن الغابر حامل الأمة بنظره الرشيد و رأيه الظافر و كافل الرعايا في ظله المديد و عدله الوافر و مطلع أنوار العز و السعادة من أفقه السافر واسطة السلك من هذا النظام و التاج المحلى في مفارق الدول و الأيام سيد الملوك و السلاطين بركة الإسلام و المسلمين كافل أمير المؤمنين أبو سعيد أعلى الله مقامه و كافأ عن الأمة إحسانه الجزيل و أنعامه و أطال في السعادة و الخيرات المبدأة المعادة لياليه و أيامه لما أوسع الدين و الملك نظرا جميلا من عنايته و أنام الخلق في حجر كفالته و مهاد كفايته و أيقظ لتفقد الأمور و صلاح الخاصة و الجمهور عين كلاءته كما قلده الله رعايتها و أقام حكام الشريعة و السياسة يوسعون نطاق الحق إلى غايته و يطلعون وجه العدل سافرا عن آيته و نصب في دست النيابة من وثق بعدله و سياسته و رضي الدين بحسن إيالته و أمنه على سلطانه و دولته و هو الوفي و الحمد لله بأمانته ثم صرف نظره إلى بيوت الله يعنى بإنشائها و تأسيسها و بعمل النظر الجميل في إشادتها و تقديسها و يقرض الله القرض الحسن في وقفها و تحبيسها و ينصب فيها لبث العلم من يؤهله لوظائفها و دروسها فيضفي عليه بذلك من العناية أفخر لبوسها حتى زهت الدولة بملكها و مصرها و فاخرت الأنام بزمانها الزاهر و عصرها و خضعت الأواوين لإيوانها العالي و قصرها فابتهج العالم سرورا بمكانها و اهتزت الأكوان للمفاخرة بشأنها و تكفل الرحمن لمن اعتز به الإيمان و صلح على يده الزمان بوفور المثوبة و رجحانها
و كان مما قد من به الآن تدريس الحديث بهذه المدرسة وقف الأمير صرغتمش من سلف أمراء الترك خفف الله حسابه و ثقل في الميزان يوم يعرض على الرحمن كتابه و أعظم جزاءه في هذه الصدقة الجارية و ثوابه عناية جدد لي لباسها و إيثارا بالنعمة التي صححت قياسها و عرفت منه أنواعها و أجناسها فامتثلت المرسوم و انطلقت أقيم الرسوم و أشكر من الله و سلطانه الحظ المقسوم و أنا مع هذا معترف بالقصور بين أهل العصور مستعيذ بالله و بركة هؤلاء الحضور السادة الصدور أن يجمح بي مركب الغرور أو يلج شيطان الدعوى و الزور في شيء من الأمور و الله تعالى ينفع مولانا السلطان بصالح أعماله و يعرفه الحسنى و زيادة الحظ الأسنى في عاقبته و مآله و يريه في سلطانه و بنيه و حاشيته و ذويه مرة عينه و رضى آماله و يديم على السادة الأمراء ما خولهم من رضاه و إقباله و يحفظ المسلمين في هذا الأمر السعيد بدوامه و اتصاله و يسدد قضاتهم و حكامهم لاعتماد الحق و اعتماله بمن الله و إفضاله (7/667)
القسم الثاني من ولاية الدروس و الخوانق
و قد رأيت أن أقرر للقراءة في هذا الدرس كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه فإنه من أصول السنن و أمهات الحديث و هو مع ذلك أصل مذهبنا الذي عليه مدار مسائله و مناط أحكامه و إلى آثاره يرجع الكثير من فقهه
فلنفتتح الكلام بالتعريف بمؤلفه رضي الله عنه و مكانه من الأمانة و الديانة و منزلة كتابه الموطأ من كتب الحديث ثم نذكر الروايات و الطرق التي وقعت في هذا الكتاب و كيف اقتصر الناس منها على رواية يحيي بن يحيي و نذكر أساندي فيها ثم نرجع إلى الكلام على متن الكتاب
أما الإمام مالك رضي الله عنه فهو إمام دار الهجرة و شيخ أهل الحجاز في الحديث و الفقه غير منازع و المقلد المتبوع لأهل الأمصار و خصوصا أهل المغرب قال البخاري : مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي كنيته أبو عبد الله حليف عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله القرشي التيمي ابن أخي طلحة بن عبيد الله كان إماما روى عنه يحيى بن سعيد انتهى كلام البخاري
و جده أبو عامر بن عمرو بن الحرث بن عثمان و يقال : غيمان بغين معجمة مفتوحة و ياء تحتانية ساكنة ابن جثيل بجيم مضمومة و ثاء مثلثة مفتوحة و ياء تحتانية ساكنة و يقال حثيل أو خثيل بحاء مضمومة مهملة أو معجمة عوض الجيم و يقال حسل بحاء مهملة مكسورة و سين مهملة ساكنة ابن عمرو بن الحرث و هو ذو أصبح و ذو أصبح بطن بن حمير و هم أخوة يحصب و نسبهم معروف فهو حميري صليبة و قرشي حلفا ولد سنة إحدى و تسعين فيما قال ابن بكير و أربع و تسعين فيما قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم و نشأ بالمدينة و تفقه بها أخذ عن ربيعة الرأي و ابن شهاب و عن عمه أبي سهيل و عن جماعة ممن عاصرهم من التابعين و تابعي التابعين و جلس للفتيا و الحديث في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم شابا يناهز العشرين و أقام مفتيا بالمدينة ستين سنة و أخذ عنه الجم الغفير من العلماء الأعلام و ارتحل إليه من الأمصار من لا يحصى كثرة و أعظم من أخذ عنه الإمام محمد بن إدريس الشافعي و ابن وهب و الأوزاعي و سفيان الثوري و ابن المبارك في أمثال لهم و أنظار و توفي سنة تسع و سبعين و مائة باتفاق من الناقلين لوفاته و قال الواقدي : عاش مالك تسعين سنة و قال سحنون عن ابن نافع : توفى مالك ابن سبع و ثمانين سنة و لم يختلف أهل زمانه في أمانته و إتقانه و حفظه و تثبته و ورعه حتى لقد [ قال سفيان بن عيينة : كنا نرى في الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : تضرب أكباد الإبل في طلب العلم فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة ] إنه مالك بن أنس
و قال الشافعي : إذا جاء الأثر ف مالك النجم و قال : إذا جاءك الحديث عن مالك فشد به يديك و قال أحمد بن حنبل : إذا ذكر الحديث فـ مالك أمير المؤمنين
و قد ألف الناس في فضائله كتبا و شأنه مشهور
و أما الذي بعثه على تصنيف الموطأ فيما نقل أبو عمر بن عبد البر فهو أن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عمل كتابا على مثال الموطأ ذكر فيه ما اجتمع عليه أهل المدينة و لم يذكر فيه شيئا من الحديث فأتي به مالك و وقف عليه و أعجبه و قال : ما أحسن ما عمل هذا ! و لو كنت أنا الذي عملت لبدأت بالآثار ثم شددت ذلك بالكلام و قال غيره : حج أبو جعفر المنصور و لقيه مالك بالمدينة فأكرمه و فاوضه و كان فيما فاوضه : يا أبا عبد الله لم يبق على وجه الأرض أعلم مني و منك و قد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس كتابا ينتفعون به تجنت فيه رخص ابن عباس و شدائد ابن عمر و وطئه للناس توطئة قال مالك : فلقد علمني التأليف فكانت هذه و أمثالها من البواعث لمالك على تصنيف هذا الكتاب فصنفه و سماه الموطأ أي المسهل قال الجوهري وطؤ يوطؤ وطأة أي صار وطيئا و وطأته توطئة و لا يقال وطيته و لما شغل بتصنيفه أخذ الناس بالمدينة يومئذ في تصنيف موطأت فقال لمالك أصحابه : نراك شغلت نفسك بأمر قد شركك فيه الناس و أتي ببعضها فنظر فيه ثم طرحه من يده و قال : ليعلمن أن هذا لا يرتفع منه إلا ما أريد به وجه الله فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار و ما سمع لشيء منها بعد ذلك ذكر و أقبل مالك على تهذيب كتابه و توطئته فيقال إنه أكمله في أربعين سنة و تلقت الأمة هذا الكتاب بالقبول في مشارق الأرض و مغاربها و من لدن صنف إلى هلم و طال ثناء العلماء في كل عصر عليه و لم يختلف في ذلك اثنان قال الشافعي و عبد الرحمن بن مهدى : ما في الأرض كتاب بعد كتاب الله أنفع و في رواية أصح و في رواية أكثر صوابا من موطأ مالك و قال يونس بن عبد الأعلى : ما رأيت كتابا ألف في العلم أكثر صوابا من موطأ مالك
و أما الطرق و الروايات التي وقعت في هذا الكتاب فإنه كتبه عن مالك جماعة نسب الموطأ إليهم بتلك الرواية و قيل موطأ فلان لراويه عنه فمنها موطأ الإمام محمد بن إدريس الشافعي و منها موطأ عبد الله بن وهب و منها موطأ عبدالله بن مسلمة القعنبي و منها موطأ مطرف بن عبدالله الساري نسبة إلى سليمان بن يسار و منها موطأ عبد الرحمن بن القاسم رواه عنه سحنون بن سعيد و منها موطأ يحيى بن يحيى الأندلسي رحل إلى مالك بن أنس من الأندلس و أخذ عنه الفقه و الحديث و رجع بعلم كثير و حديث جم و كان فيما أخذ عنه الموطأ و أدخله الأندلس و المغرب فأكب الناس عليه و اقتصروا على روايته دون ما سواها و عولوا على نسقها و ترتيبها في شرحهم كتاب الموطأ و تفاسيرهم و يشيرون إلى الروايات الأخرى إذا عرضت في أمكنتها فهجرت الروايات الأخرى و سائر تلك الطرق و درست تلك الموطآت إلا موطأ يحيى بن يحيى فبروايته أخذ الناس في هذا الكتاب لهذا العهد شرقا و غربا
و أما سندي في هذا الكتاب المتصل بيحيى بن يحيى فعلى ما أصفه :
حدثني به جماعة من شيوخنا رحمة الله عليهم منهم إمام المالكية قاضي الجماعة بتونس و شيخ الفتيا بها أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن يوسف الهواري سمعته عليه بمنزله بتونس من أوله إلى آخره و منهم شيخ المسندين بتونس الرحالة أبو عبد الله محمد بن جابر بن سلطان القيسي الوادي آشي سمعت عليه بعضه و أجازني بسائره و منهم شيخ المحدثين بالأندلس و كبير القضاة بها أبو البركات محمد بن محمد بن محمد ـ ثلاثة من المحدثين ـ ابن إبراهيم بن الحاج البلفيقي لقيته بفاس سنة ست و خمسين و سبعمائة من هذه المائة السابعة مقدمه من السفارة بين ملك الأندلس و ملك المغرب و حضرت مجلسه بجامع القرويين من فاس فسمعت عليه بعضا من هذا الكتاب و أجازني بسائره ثم لقيته لقاءة أخرى سنة اثنتين و ستين و سبعمائة استقدمه ملك المغرب السلطان أبو سالم ابن السلطان أبي الحسن للأخذ عنه و كنت أنا القارىء فيما يأخذه عنه فقرأت عليه صدرا من كتاب الموطأ و أجازني بسائره إجازة أخرى
و منهم شيخ أهل المغرب لعصره في العلوم العقليه و مفيد جماعتهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي قرأت عليه بعضه و أجازني بسائره قالوا كلهم : حدثنا الشيخ المعمر أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون الطائي عن القاضي أبي القاسم أحمد بن يزيد بن بقي عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الحق الخزرجي
و حدثني به أيضا شيخنا أبو البركات عن إمام المالكية ببجاية ناصر الدين أبي علي منصور بن أحمد بن عبد الحق المشدالي عن الإمام شرف الدين محمد بن أبي الفضل المرسي عن أبي الحسن علي بن موسى بن النقرات عن أبي الحسن علي بن أحمد الكناني قال الخزرجي و الكناني : حدثنا أبو عبد الله محمد بن فرج مولى ابن الطلاع عن القاضي أبي الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث بن الصفار قاضي الجماعة بقرطبة
و حدثني به أيضا شيخنا أبو عبد الله بن جابر عن القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن الغماز عن شيخه أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي عن القاضي أبي القاسم عبد الرحمن بن حبيش و أبي عبد الله محمد بن سعيد ين زرقون شارح كتاب الموطأ قال ابن زرقون : حدثنا به أبو عبد الله الخولاني عن أبي عمرو عثمان بن أحمد القيجاطي و قال ابن حبيش : حدثنا به القاضي أبو عبد الله بن أصبغ و يونس بن محمد بن مغيث قالا : قرأناه على أبي عبد الله محمد بن الطلاع و قال ابن حبيش أيضا : حدثنا به أبو القاسم أحمد بن محمد ورد عن القاضي أبي عبد الله محمد بن خلف بن المرابط عن المقرئ أبي عمر أحمد بن محمد بن عبد الله المعافري الطلمنكي قال القاضي أبو الوليد بن مغيث والقيجاطي والطلمنكي : حدثنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن يحيى عن عم أبيه أبي مروان عبيد الله بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى و قال الطلمنكي : حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن حدير البزاري قال حدثنا أبو محمد قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أبو عبيد الله محمد بن وضاح قال حدثنا يحيى عن مالك إلا ثلاثة أبواب من آخر كتاب الاعتكاف أولها خروج المعتكف إلى العيج فإن يحيى شك في سماعها عن مالك فسمعها عن زياد بن عبد الرحمن الملقب شبطون عن مالك
و لي في هذا الكتاب طرق أخرى لم يحضرني الآن اتصال سندي فيها
فمنها عن شيخنا أبي محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي كاتب السلطان أبي الحسن لقيته بتونس عند استيلاء السلطان عليها و هو في جملته سنة و ثمان و أربعين و سبعمائة و حضرت مجلسه و أخذت عنه كثيرا و سمعت عليه بعض الموطأ و أجازني بالإجازة العامة و هو يرويه عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير و عن شيخه الأستاذ أبي إسحاق الغافقي و عن أبي القاسم القبتوري و جماعة من مشيخة أهل سبتة و يتصل سنده فيه بالقاضي عياض و أبي العباس العز في صاحب كتاب الدر المنظم في المولد المعظم و منها عن شيخنا أبي عبد الله الكوسي خطيب الجامع الأعظم بغرناطة سمعت عليه بعضه و أجازني بسائره و هو يرويه عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير عن القاضي أبي عبد الله بن بكار و جماعة من مشيخة أهل الأندلس و يتصل سنده فيه بالقاضي أبي الوليد الباجي و الحافظ أبي عمر بن عبد البر بسندهما
و منها عن شيخنا المكتب أبي عبد الله محمد بن سعد بن برال الأنصاري شيخ القراءة بتونس و معلمي كتاب الله قرأت عليه القرآن العظيم بالقراءات السبع و عرضت عليه قصيدتي الشاطبي في القراءة و في الرسم و عرضت عليه كتاب التقصي لابن عبد البر و غير ذلك و أجازني بالإجازة العامة و في هذه بالإجازة الخاصة و هو يروي هذا الكتاب عن القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن الغماز و عن شيخه أبي العباس أحمد بن موسى البطرني بسندهما
و منها عن شيخنا الأستاذ أبي عبد الله محمد بن الصفار المراكشي شيخ القراءات بالمغرب سمعت عليه بعض هذا الكتاب بمجلس السلطان أبي عثمان ملك المغرب و هو يسمعه إياه و أجازني بسائره و هو يرويه عن شيخه محدث المغرب أبي عبد الله محمد بن رشيد الفهري السبتي عن مشيخة أهل سبتة و أهل الأندلس حسبما ذلك مذكور في كتب رواياتهم و طرق أسانيدهم إلا أنها لم تحضرني الآن و فيما ذكرناه كفاية و الله يوفقنا أجمعين لطاعته و هذا حين أبتدي و بالله أهتدي
و انفض ذلك المجلس و قد لاحظتني بالتجلة و الوقار العيون و استشعرت أهليتي للمناصب القلوب و أخلص النجي في ذلك الخاصة و الجمهور و أنا أنتاب مجلس السلطان في أكثر الأحيان لتأدية الواجب من التحية و المشافهة بالدعاء إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النزعات الملوكية فأبعده و أخره عن خظة القضاء في رجب ست و ثمانين و سبعمائة و دعاني للولاية في مجلسه و بين أمرائه فتفاديت من ذلك و أبى إلا إمضاءه و خلع علي و بعث الأمراء معي إلى مقعد الحكم بمدرسة القضاء فقمت في ذلك المقام المحمود و وفيت عهد الله و عهده في إقامة رسوم الحق و تحري المعدلة حتى سخطني من لم ترضه أحكام الله و وقع في ذلك ما تقدم ذكره و كثر شغب أهل الباطل و المراء فأعفاني السلطان منها لحول من يوم الولاية و كان تقدمها وصول الخبر بغرق السفين الواصل من تونس إلى الأسكندرية و تلف الموجود و المولود و عظم الأسف و حسن العزاء و الله قادر على ما يشاء
ثم خرجت عام تسعة و ثمانين و سبعمائة لقضاء الفرض و ركبت بحر السويس من الطور إلى الينبع و رافقت المحمل إلى مكة فقضيت الحج عامئذ و عدت إلى مصر في البحر كما سافرت أولا و شغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش فولاني السلطان إياها بدلا من مدرسته في محرم أحد و تسعين و سبعمائة و مضيت على حالي من الانقباض و التدريس و التأليف حتى ولاني خانقاه بيبرس ثم عزلني عنها بعد سنة أو أزيد بسبب أنا أذكره الآن (7/681)
ولاية خانقاه بيبرس والعزل منها
لما رجعت من قضاء الفرض سنة تسعين و سبعمائة و مضيت على حالي من التدريس و التأليف و تعاهد السلطان باللقاء و التحية و الدعاء و هو ينظر إلى بعين الشفقة و يحسن المواعيد و كانت بالقاهرة خانقاه شيدها السلطان بيبرس ثامن ملوك الترك الذي استبد على الناصر محمد بن قلاون هو و رفيقه سلار و أنف الناصر من استبدادهما و خرج للصيد فلما حاذى الكرك امتنع به و تركهم و شأنهم فجلس بيبرس على التخت مكانه و كاتب الناصر أمراء الشام من مماليك أبيه و استدعوه للقيام معه و زحف بهم إلى مصر و عاد إلى سلطانه و قتل بيبرس و سلار سنة ثمان و سبعمائة و شيد بيبرس هذا أيام سلطانه داخل باب النصر من أعظم المصانع و أحفلها و أوفرها ريعا و أكثرها أوقافا و عين مشيختها و نظر لمن يستعد له بشرطه في وقفه فكان رزق النظر فيها و المشيخة واسعا لمن يتولاه و كان ناظرها يومئذ شرف الدين الأشقر إمام السلطان الظاهر فتوفي عند منصرفي من قضاء الفرض فولاني السلطان مكانه توسعة علي و إحسانا إلي و أقمت على ذلك إلى أن وقعت فتنة الناصري (7/690)
فتنة الناصري و سياقه الخبر عنها بعد تقديم كلام في أحوال الدول يليق بهذا الموضع و يطلعك على أسرار في تنقل أحوال الدول بالتدريج إلى الضخامة و الاستيلاء ثم إلى الضعف و الاضمحلال والله بالغ أمره
و ذلك أن الدول الكلية و هي التي تتعاقب فيها الملوك واحدا بعد واحد في مدة طويلة قائمين على ذلك بعصبية النسب أو الولاء و هذا كان الأمل في استيلائهم و تغلبهم فلا يزالون كذلك إلى انقراضهم و غلب مستحقين آخرين ينزعونه من أيديهم بالعصبية التي يقتدرون بها على ذلك و يحوزون الأعمال التي كانت بأيدي الدولة الأولى يفضون جبايتها بينهم على تفاضل البأس و الرجولة و الكثرة في العصابة أو القلة و هم على حالهم من الخشونة لمعاناة البأس و الإقلال من العيش لاستصحاب حال البداوة و عدم الثروة من قبل ثم تنمو الثروة فيهم بنمو الجباية التي ملكوها و يزين حب الشهوات للإقتدار عليها فيعظم الترف في الملابس و المطاعم و المساكن و المراكب و الممالك و سائر الأحوال و يتزايد شيئا فشيئا بتزايد النعم و تتسع الأحوال أوسع ما تكون و يقصر الدخل عن الخرج و تضيق الجباية عن أرزاق الجند و أحوالهم و يحصل ذلك لكل أحد ممن تحت أيديهم لأن الناس تبع لملوكهم و دولتهم و يراجع كل أحد نظره فيما هو فيه من ذلك فيرجع وراءه و يطلب كفاء خرجه بدخله
ثم إن البأس يقل من أهل الدولة بما ذهب لهم من الخشونة و ما صاروا إليه من رقة الحاشية و التنعم فيتطاول من بقي من رؤساء الدولة إلى الاستبداد بها غيرة عليها من الخلل الواقع بها و يستعد لذلك بما بقي عنده من الخشونة و يحملهم على الإقلاع عن الترف و يستأنف لذلك العصابة بعشيرة أو بمن يدعوه لذلك فيستولي على الدولة و يأخذ في دوائها من الخلل الواقع و هو أحق الناس به و أقربهم إليه فيصير الملك له و في عشيره و تصير كأنها دولة أخرى تمر عليها الأوقات و يقع فيها ما وقع في الأولى فيستولي آخر منهم كذلك إلى أن تنقرض الدولة بأسرها و تخرج عن القوم الأولين أجمع و تأتي دولة أخرى مباينة لعصابة هؤلاء في النسب أو الولاء سنة الله في عباده
و كان مبدأ هذه الدولة التركية أن بني أيوب لما ملكوا مصر و الشام كما قصصناه عليك في أخبارهم وا ستقل بها كبيرهم صلاح الدين و شغل بالجهاد و انتراع القلاع و الحصون من أيدي الفرنج الذين ملكوها بالسواحل و كان قليل العصابة إنما كان عشيره من الكرد يعرفون ببني هذان و هم قليلون و إنما كثر منهم جماعة المسلمين بهمة الجهاد الذي كان صلاح الدين يدعو إليه فعظمت عصابته بالمسلمين و أسع داعيه و نصر الله الدين على يده و انتزع السواحل كلها من أيدي نصارى الفرنج حتى مسجد بيت المقدس فإنهم كانوا ملكوه و أفحشوا فيه بالقتل و السبي فأذهب الله هذه الوصمة على يد صلاح الدين و انقسم ملك بني أيوب بعده بين ولده و ولد أخيه و استفحل أمرهم و اقتسموا مدن الشام و مصر بينهم إلى أن جاء أخوهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر أخي صلاح الدين وأراد الاستكثار من العصابة لحماية الدولة و إقامة رسوم الملك و أن ذلك يحصل باتخاذ المماليك و الإكثار منهم كما كان آخرا في الدولة العباسية ببغداد و أخذ التجار في جلبهم إليه فاشترى منهم أعدادا و أقام لتربيتهم أساتيذ معلمين لحرفة الجندية من الثقافة و الرمي بعد تعليم الآداب الدينية و الخلقية إلى أن اجتمع له منهم عدد جم يناهز الألف و كان مقيما بأحواز دمياط في حماية البلاد من طوارق الفرنج المتغلبين على حصنها دمياط و كان أبوه قد اتخذ لنزله هنالك قلعة سماها المنصورة و بها توفي رحمه الله فكان نجم الدين نازلا في مدافعة ساكني دمياط من الفرنج فأصابه هنالك حدث الموت و كان ابنه المعظم تورنشاه نائبا في حصن كيفا من ديار بكر وراء الفرات فاجتمع الجند على بيعته و بعثوا عنه و انتظروا و تقطن الفرنج لشأنهم فهجموا عليهم و اقتتلوا فنصر الله المسلمين و أسر ملك الفرنج ريد إفرنس فبعثوا به إلى مصر و حبس بدار لقمان إلى أن فادوه بدمياط كما هو مذكور في أخبار بني أيوب و نصبوا للملك و لهذا اللقاء زوجة الصالح أيوب و اسمها شجر الدر فكانت تحكم بين الجند و تكتب على المراسيم و ركبت يوم لقاء الفرنج تحت الصناجق و الجند محدقون بها حتى أعز الله دينه و أتم نصره ثم وصل تورنشاه المعظم فأقاموه في خطة الملك مكان أبيه الصالح أيوب و وصل معه مماليك يدلون بمكانهم منه و لهم به اختصاص و منه مكان و كان رؤساء الترك يومئذ القائمون بالدولة من عهد أبيه و جده أقطاري الجمدار و أيبك التركماني و قلاون الصالحي فأنفوا من تصرفات مماليك تورنشاه و استعلائهم بالحظ من السلطان و سخطوهم و سخطوه و أجمعوا قتله فلما رحل إلى القاهرة اغتالوه في طريقه بفارسكو و قتلوه و نصبوا للأمر أيبك التركماني منه و استحدثوا هذه الدولة التركية كما شرحناه في أخبارها و هلك بعده أيبك ابنه علي المنصور ثم مولاه قطز ثم الظاهر بيبرس البندقداري ثم ظهر أمر الططر و استفحل ملكهم و زحف هولاكو بن طولي بن جنكيز خان من خراسان إلى بغداد فملكها و قتل الخليفة المستعصم آخر بني العباس ثم زحف إلى الشام فملك مدنه و حواضره من أيدي بني أيوب إلى أن استوعبها و جاء الخبر بأن بركة صاحب صراي شريكه في نسب جنكيز خان زحف إلى خراسان فامتعض لذلك و كر راجعا و شغل بالفتنة إلى أن هلك و خرج قطز من مصر عندما شغل هولاكو بفتنة بركة فملك الشام كله أمصاره و مدنه و أصاره للترك موالي بني أيوب و استفحلت دولة هؤلاء المماليك و اتصلت أيامها واحدا بعد واحد كما ذكرنا في أخبارهم ثم قلاون عندما ملك بيرس الظاهر منهم فتظاهر به و أصهر إليه و الترف يومئذ لم يأخذ منهم و الشدة والشكيمة موجودة فيهم و البأس والرجولة شعار لهم و هلك الظاهر بيبرس و ابناه من بعده كما في أخبارهم و قام قلاون بالأمر فاتسع نطاق ملكه و طال ذرع سلطانه و قصرت أيدي الططر عن الشام بمهلك هولاكو و ولاية الأصاغر من ولده فعظم ملك قلاون و حسنت آثار سياسته و أصبح حجة على من بعده ثم ملك من بعده ابناه : خليل الأشرف ثم محمد الناصر و طالت أيامه و كثرت عصابته من مماليكه حتى كمل منهم عدد لم يقع لغيره و رتب للدولة المراتب و قدم منهم في كل رتبة الأمراء و أوسع لهم الأقطاع و الولايات حتى توفرت أرزاقهم و اتسعت بالترف أحوالهم و رحل أرباب البضائع من العلماء و التجار إلى مصر فأوسعهم حباء و برا و تنافست أمراء دولته في اتخاذ المدارس و الربط و الخوانق و أصبحت دولتهم غرة في الزمان و واسطة في الدول ثم هلك الناصر بعد أربعين و سبعمائة فطفق أمراء دولته ينصبون بنيه للملك واحدا بعد آخر مستبدين عليهم متنافسين في الملك حتى يغلب واحد منهم الآخر فيقتله و يقتل سلطانه من أولاد الناصر و ينصب آخر منهم مكانه إلى أن انساق الأمر لولده حسن النصر فقتل مستبده شيخون و ملك أمره و ألقي زمام الدولة بيد مملوكه يلبغا فقام بها و نافسه أقرانه و أغروا به سلطانه فأجمع قتله و نمي إليه الخبر و هو في علوفة البرسيم عند خيله المرتبطة لذلك فاعتزم على الامتناع و استعد للقاء و استدعاه سلطانه فتثاقل عن القدوم و استشاط السلطان و ركب في خاصته إليه فركب هو لمصادمته و هاجم السلطان ففله و رجع إلى القلعة و هو في اتباعه فلم يلفه بقصره و أغرى به البحث فتقبض عليه و استصفاه و قتله و نصب للملك محمد المنصور بن المظفر حاجي بن الناصر و قام بالدولة أحسن قيام و أغرى نفسه بالاستكثار من المماليك و تهذيبهم بالتربية و توفير النعم عندهم بالإقطاع و الولايات حتى كمل منهم عدد لم تعهده الدولة ثم خلع المنصور بن المظفر لسنتين و نصب مكانه للملك شعبان الأشرف بن حسين بن الناصر فأقام على التخت و هو في كفالته و هو على أوله في إعزاز الدولة و إظهار الترف و الثروة حتى ظهرت مخايل العز و النعم في المساكن و الجياد و المماليك و الزينة ثم بطروا النعمة و كفروا الحقوق فحنقوا عليه لما كان يتجاوز الحدود بهم في الآداب فهموا بقتله و خلصوا نجيا لذلك في متصيدهم الشتوي و قد برزوا له بخيامهم و سلطانهم على عادتهم و لما أحس بذلك ركب ناجيا بنفسه إلى القاهرة فدخلوا على السلطان الأشرف و جاءوا به على إثره و أجازوا البحر فقبضوا عليه عشي يومهم ثم قتلوه في محبسه عشاء و انطلقت أيديهم على أهل البلد بمعرات لم يعهدوها من أول دولتهم من النهب و التخطف و طروق المنازل و الحمامات للعبث بالحرم و إطلاق أعنة الشهوات و البغي في كل ناحية فمرج أمر الناس و رفع الأمر إلى السلطان و كثر الدعاء و اللجأ إلى الله و اجتمع أكابر الأمر إلى السلطان و فاوضوه في كف عاديتهم فأمرهم بالركوب و نادى في جنده و رعيته بإنطلاق الأيدي عليهم و الاحتياط بهم في قبضة القهر فلم يكن إلا كلمح البصر و إذا بهم في قبضة الأسر ثم عمرت بهم السجون و صفدوا و طيف بهم على الجمال ينادى بهم إبلاغا في الشهرة ثم وسط أكثرهم و تتبع البقية بالنفي و الحبس بالثغور القصية ثم أطلقوا بعد ذلك و كان فيمن أطلق جماعة منهم بحبس الكرك : فيهم برقوق الذي ملك أمرهم بعد ذلك و بركة الجوباني و ألطنبغا الجوباني و جهركس الخليلي
و كان طشتمر دوادار يلبغا قد لطف محله عند السلطان الأشرف و ولي الدوادارية له و كان يؤمل الاستبداد كما كان أستاذه يلبغا فكان يحتال في ذلك بحمع هؤلاء المماليك اليلبغاوية من حيث سقطوا يريد بذلك اجتماعهم عصبة له على هواه و يغري السلطان بها شفاها و رسالة إلى أن اجتمع أكثرهم بباب السلطان الأشرف و جعلهم في خدمة ابنه علي ولي عهده فلما كثروا و أخذتهم أريحية العز بعصبيتهم صاروا يشتطون على السلطان في المطالب و يعتزون بعصبية اليلبغاوية و اعتزم السلطان الأشرف عام سبعة و سبعين و سبعمائة على قضاء الفرض فخرج لذلك خروجا فخما و استناب ابنه عليا على قلعته و ملكه في كفالة قرطاي من أكابر اليلبغاوية و أخرج معه الخليفة و القضاة فلما بلغ العقبة اشتط المماليك طلب جرايتهم من العلوفة و الزاد و اشتط الذين بمصر كذلك في طلب أرزاقهم من المتولين للجباية و صار الذين مع السلطان إلى المكاشفة في ذلك بالأقوال و الأفعال و طشتمر الدوادار يغضي عنهم يحسب وقت استبداده قد أزف إلى أن راغمهم السلطان بالزجر فركبوا عليه هنالك و ركب من خيامه مع لفيف بن خاصته فنضحوه بالنبل و رجع إلى خيامه ثم ركب الهجن مساء و سار فصبح القاهرة و عرس هو و لفيفه بقبة النصر
و كان قرطاي كافل ابنة علي المنصور حدث بينه و بين ناظر الخاص المقسي مكالمة عند مغيب السلطان أحقدته و جاشت بما كان في نفسه فأغرى عليا المنصور بن السلطان بالتوثب على الملك فارتاح لذلك و أجابه و أصبح يوم ثورة المماليك بالعقبة و قد أجلس عليا مكفوله بباب الإسطبل و عقد له الراية بالنداء على جلوسه بالتخت و بينما هم في ذلك صبحهم الخبر بوصول السلطان الأشرف إلى قبة النصر ليلتئذ فطاروا إليه زرافات و وحدانا فوجدوا أصحابه نياما هنالك و قد تسلل من بينهم هو و يلبغا الناصري من أكابر اليلبغاوية فقطوا رؤوسهم جميعا و رجعوا بها تسيل دما و وجموا لفقدان الأشرف و تابعوا النداء عليه و إذا بامرأة قد دلتهم عليه في مكان عرفته فتسابقوا إليه و جاءوا به فقتلوه لوقته بخلع أكتافه و انعقدت بيعة ابنه المنصور و جاء طشتمر الدوادار من الغد بمن بقي بالعقبة من الحرم و مخلف السلطان و اعتزم على قتالهم طمعا في الاستبداد الذي في نفسه فدافعوه و غلبوه و حصل في قبضتهم فخلعوا عليه بنيابة الشام و صرفوه لذلك و أقاموا في سلطانهم و كان أينبك أميرا آخر من اليلبغاوية قد ساهم قرطاي في هذا الحادث و أصهر إليه في بعض حرمه فاستنام له قرطاي و طمع هو في الاستيلاء و كان قرطاي مواصلا صبوحه بغبوقه و يستغرق في ذلك فركب في بعض أيامه و أركب معه السلطان عليا واحتاز الأمر من يد قرطاي و صيره إلى صفد و استقل بالدولة ثم انتقض طشتمر بالشام مع سائر أمرائه فخرج أينبك في العساكر و سرح المقدمة مع جماعة من الأمراء و كان منهم برقوق و بركة المستوليان عقب ذلك و خرج هو و السلطان في الساقة فلما انتهوا إلى بلبيس ثار الأمراء الذين في المقدمة عليه و رجع إليه أخوه منهزما فرجع إلى القلعة ثم اختلف عليه الأمراء و طالبوه بالحرب في قبة النصر فسرح العساكر لذلك فلما فصلوا فر هو هاربا و قبض عليه و ثقف بالإسكندربة و اجتمع أمراء اليلبغاوية يقدمهم قطلقتمر العلائي و يلبغا الناصري و دمرداش اليوسفي و بركة و برقوق فتصدى دمرداش و يلبغا و بركة و برقوق إلى الاستقلال بالأمر و تغلبوا على سائر الأمراء و اعتقلوهم بالإسكندربة و فوضوا الأمر إلى يلبغا الناصري و هم يرونه غير خبير فأشاروا باستدعاء طشتمر و بعثوا إليه و انتظروا فلما جاءه الخبر بذلك ظنها منية نفسه و سار إلى مصر فدفعوا الأمر إليه و جعلوا له التولية و العزل و أخذ برقوق و بركة يستكثران من المماليك بالاستخدام و الجاه و توفير الاقطاع إكثافا لعصبيتهما فانصرفت الوجوه عن سواهما و ارتاب طشتمر بنفسه و أغزاه أصحابه بالتوثب و لما كان الأضحى في سنة تسع و سبعين و سبعمائة استعجل أصحابه على غير روية و ركبوا و بعثوا إليه فأحجم و قاتلوا فانهزموا و تقبض على طشتمر و حبس بالإسكندرية و بعث معه يلبغا الناصري و خلت الدولة للأميرين برقوق و بركة من المنازعين و عمروا المراتب بأصحابهما ثم كثر شغب التركمان و العرب بنواحي الشام فدفعوا يلبغا الناصري إلى النيابة بحلب ليستكفوا به في تلك الناحية ثم تنافس برقوق و بركة في الاستقلال و أضمر كل واحد منهما لصاحبه و خشي منه فقبض برقوق على بطانة بركة من عصابته ليخص بذلك جناحه فارتاع لذلك بركة و خرج بعصابته إلى قبة النصر ليواضع برقوقا و أصحابه الحرب هنالك و رجا أن تكون الدائرة له و أقام برقوق بمكانه من الاسطبل و سرب أصحابه في جموعهم إلى مجاولة أولئك و أقاموا كذلك أياما يغادونهم و يراوحونهم ثلاثا إلى أن عضت بركة و أصحابه الحرب فانفضوا عنه و جيء ببركة و بعث به إلى الإسكندربة فحبس هنالك إلى أن قتله ابن عرام نائب الإسكندرية و ارتفع أصحابه إلى برقوق شاكين فثارهم منه بإطلاق أيديهم في النصفة فانتصفوا منه بقتله في ساحة القلعة بعد أن سمر و حمل على جمل عقابا له و لم يقنعهم ذلك فأطلق أيديهم فيما شاءوا منه ففعلوا ما فعلوا و انفرد برقوق بعد ذلك بحمل الدولة ينظر في أعطافها بالتهديد و التسديد و المقاربة و الحرص على مكافأة الدخل بالخرج و نقص ما أفاض فيه بنو قلاون من الإمعان في الترف و السرف في العوائد و النفقات حتى صار الكيل في الخرج بالمكيال الراجح و عجزت الدولة عن تمشية أحوالها و راقب ذلك كله برتوق و نظر في سد خلل الدولة منه و إصلاحها من مفاسده يعتد ذلك ذريعة للجلوس على التخت و حيازة إسم السلطان من أولاد قلاون بما أفسد الترف منم و أحال الدولة بسببهم إلى أن حصل من ذلك على البغية و رضي به أصحابه و عصابته فجلس على التخت في تاسع عشر رمضان من سنة أربع و ثمانين و سبعمائة و تلقب بالظاهر و رتب أهل عصابته في مراتب الدولة فقام و قاموا بها أحسن قيام و انغلبت الدولة من آل قلاون إلى برقوق الظاهر و بنيه و استمر الحال على ذلك و نافسه اليلبغاوية رفقاؤه في ولاء يلبغا فما صار إليه من الأمر و خصوصا يلبغا نائب حلب فاعتزم على الانتقاض و شعر به الظاهر فبعث باستدعائه فجاء و حبسه مدة ثم رجعه إلى نيابة حلب و قد وغر صدره من هذه المعالمة و ارتاب به الظاهر فبعث سنة تسعين و سبعمائة دواداره للقبض عليه و يستعين في ذلك بالحاجب و انتقض و استدعى نائب ملطية و هو منطاش من أمراء اليلبغاوية و كان قد انتقض قبله و دعا نواب الشام إلى المسير إلى مصر إلبا على الظاهر فأجابوه و ساروا في جملته و تحت لوائه و بلغ الخبر إلى الظاهر برقرق فأخرج عساكره مع أمراء اليلبغاوية من أصحابه : و هم الدوادار الأكبر يونس و جهركس الخليلي أمير الاسطبل و الأتابكي أيتمش و أيدكار حاجب الحجابا و أحمد بن يلبغا أستاذهم و يخرج الناصري من حلب في عسكره و استنفر العرب و التركمان و أمراء الشام و لما تراءى الجمعان بناحية دمشق نزع كثير من عسكر السلطان إليهم و صدقوا الحملة على من بقي فانفضوا و نجا إيتمش إلى قلعة دمشق فدخلها و قتل جهركس و يونس و دخل الناصري دمشق ثم أجمع المسير إلى مصر و عميت أنباؤهم حتى أطلوا على مصر
و في خلال ذلك أطلق السلطان الخليفة من محبسه كان بعض الغواة أنمى عنه أنه داخله شيطان من شياطين الجند يعرف بقرط في قتل السلطان يوم ركوبه إلى الميدان قبل ملكه بسنين فلما صح الخبر أمر بقتله و حبس الخليفة سبعا إلى تلك السنة فأطلقه عند هذا الواقع و لما وصل إلى قيطا اجتمعت العساكر و وقف السلطان أمام القلعة يومه حتى غشيه الليل ثم دخل إلى بيته و خرج متنكرا و تسرب في غيابات المدينة و باكر الناصري و أصحابه القلعة و أمير حاج ابن الأشرف فأعادوه إلى التخت و لقبوه المنصور و بعثوا عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية و كان فيهم ألطنبغا الجوباني الذي كان أمير مجلس و قبض السلطان الظاهر عليه و حبسه أياما ثم أطلقه و بعثه نائبا على دمشق ثم ارتفعت عنه الأقوال بأنه يروم الانتقاض و داخل الناصري نائب حلب في ذلك و أكد ذلك عند السلطان ما كان بينه و بين الناصري من المصافاة و المخالصة فبعث عنه و لما جاء حبسه بالإسكندرية فلما ملك الناصري مصر و أجلس أمير حاج بن الأشرف على التخت بعث عنه ليستعين به على أمره و ارتابوا لغيبة الظاهر و بالغو في البحث عنه فاستدعى الجوباني و استنام له و استحلفه على الأمان فحلف له و جاء به إلى القلعة بعد أن ساور صاحبه الناصري في المضي إليه و تأمينه و حبسوه في بعض قصور الملك و تشاوروا في أمره فأشار أمراء اليلبغاوية كلهم بقتله وبالغ في ذلك منطاش و وصل نعير أمير بني مهنا بالشام للصحابة بينه و بين الناصري فحضهم على قتله و منع الجوباي من ذلك وفاء بيمينه فغلت صدورهم منه و اعتزموا على بعثه إلى الكرك و دافعوا منطاشا بأنهم يبعثونه إلى الإسكندرية فيعترضه عند البحر بما شاء من رأيه و وثق بذلك فقعد له عند المرساة و خالفوا به الطريق إلى الكرك و ولوا عليها نائبا و أوصوه به فأخفق مسعى منطاش و دبر في اغتيال الدولة و تمارض في بيته و جاءه الجوباني عائذا فقبض عليه و جبسه بالإسكندرية و ركب منتقضا و وقف عند مدرسة الناصري بالقلعة و استجاش هو بأمراء اليلبغاوية فذهبوا في إجابته و وقفوا بالرميلة أمام القلعة و لم يزل ذلك بينهم أياما حتى انتقض جمع الناصري و خرج هاربا فاعترضه أصحاب الطريق بفارسكو و ردوه فحبسه منطاش بالإسكندرية مع صاحبه و استقل بأمر الملك و بعث إلى الكرك بقتل الظاهر فامتنع النائب و اعتذر بوقوفه على خط السلطان و الخليفة و القضاة و بث الظاهر عطاءه في عامة أهل الكرك فانتدبت طائفة منهم لقتل البريدي الذي جاء في ذلك فقتلوه و أخرجوا الظاهر من محبسه فأصحروا واستألف أفاريق من العرب و اتصل به بعض مماليكه و ساروا إلى الشام و اعترضة ابن باكيش نائب غزة فأوقع به الظاهر و سار إلى دمشق و أخرج منطاش العساكر مع سلطانه أمير حاج و سار على التعبئة ليمانع الظاهر عن دمشق و سبقه الظاهر فمنعه جنتمر نائب دمشق فواقعه و أقام محاصرا له و وصل إليه كمشبغا الحموي نائب حلب و كان قد أظهر دعوته في عمله و تجهز للقائه بعسكره فلقيه و أزال علله فأقام له أبهة الملك و بيناهم في الحصار إذ جاء الخبر بوصول منطاش بسلطانه و عساكره لقتالهم فلقيهم الظاهر بشقحب فلما تراءى الجمعان حمل الظاهر على السلطان أمير حاج و عساكره ففضهم و انهزم كمشبغا إلى حلب و سار منطاش في اتباعه فهجم الظاهر على تعبئة أمير حاج ففضها و احتاز السلطان و الخليفة و القضاة و وكل بهم و اختلط الفريقان و صاروا في عمياء من أمرهم و فر منطاش إلى دمشق و اضطرب الظاهر أخبيته و نزل على دمشق محاصرا لها و خرج إليه منطاش من الغد فهزمه و جمع القضاة و الخليفة فشهدوا على أمير حاج بالخلع و على الخليفة بإعادة الظاهر إلى ملكه و رحل إلى مصر فلقيه بالطريق خبر القلعة بمصر و تغلب مماليكه عليها و ذلك أن القلعة لما خلت من السلطان و منطاش و الحامية و كان مماليك السلطان محبوسين هنالك في مطبق أعد لهم فتناجوا في التسور منه إلى ظاهره و التوثب على القلعة و الملك فخرجوا و هرب دوادار منطاش الذي كان هنالك بمن كان معه من الحاشية و ملك مماليك الظاهر القلعة و رأسهم مملوكه بطا و ساس أمرهم و انتظر خبر سلطانه فلما وصل الخبر بذلك إلى الظاهر أغذ السير إلى مصر و تلقاه الناس فرحين مسرورين بعوده و جبره و دخل منتصف صفر من سنة إحدى و تسعين و سبعمائة و ولى بطا دوادارا و بعث عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية و أعتبهم و أعادهم إلى مراتبهم و بعث الجوباني إلى دمشق و الناصري إلى حلب كما كانا و عادت الدولة إلى ما كانت عليه و ولى سودون على نيابته و كان ناظرا بالخانقاه التي كنت فيها و كان ينقم علي أحوالا من معاصاته فيما يريد من الأحكام في القضاء أزمان كنت عليه و من تصرفات دواداره بالخانقاه و كان يستنيبه عليها فوغر صدره من ذلك و كان الظاهر ينقم علينا معشر الفقهاء فتاوى استدعاها منا منطاش و أكرهنا على كتابها فكتبناها و ورينا فيها بما قدرنا عليه و لم يقبل السلطان ذلك و عتب عليه و خصوصا علي فصادف سودون منه إجابة في إخراج الخانقاه عني فولى فيها غيري و عزلني عنها و كتبت إلى الجوباني بأبيات اعتذر عن ذلك ليطالعه بها فتغافل عنها و أعرض عني مدة ثم عاد إلى ما أعرف من رضاه و إحسانه و نص الأبيات :
( سيدي و الظنون فيك جميلة ... و أياديك بالأماني كفيلة )
( لا تحل عن جميل رأيك إني ... مالي اليوم غير رأيك حيلة )
( و اصطنعني كما اصطنعت بإسدا ... ء يد من شفاعة أو وسيلة )
( لا تضعني فلست منك مضيعا ... ذمة الحب و الأيادي الجميلة )
( و أجرني فالخطب عض بنابيه ... و أجرى إلى حماي خيوله )
( و لو أني دعا بنصري داع ... كنت لي خير معشر و فصيلة )
( أنه أمري إلى الذي جعل الله ... أمور الدنيا له مكفولة )
( و أراه في ملكه الآية ... الكبرى فولاه ثم كان مديله )
( أشهدته عناية الله في التمحيص ... أن كان عونه و منيله )
( العزيز السلطان و الملك الظا ... هر فخر الدنيا و عز القبيلة )
( و مجير الإسلام من كل خطب ... كاد زلزال بأسه أن يزيله )
( و مديل العدو بالطعنة النجلا ... و تفري ماذيه و نصوله )
( و شكور لأنعم الله يفني ... في رضاه غدوه و أصيله )
( و تلطف في وصف حالي و شكوى ... خلتي يا صفية و خليله )
( و قل له و المقال يكرم من مثلك ... في محفل العلا أن يقوله )
( يا خوند اسوك يا معد الد ... هر إذا عدل الزمان فصوله )
( لا تقصر في جبر كسرى فما ... زلت أرجيك للأياد الطويلة )
( أنا جار لكم منعتم حماه ... و نهجتم إلى المعالي سبيله )
( و غريب أنستموه على الوحشة ... و الحزن بالرضى و السهولة )
( و جمعتم من شمله فقضى الله ... فراقا و ما قضى مأموله )
( غاله الدهر في البنين و في الأهـ ... ل و ما كان ظنه أن يغوله )
( و رمته النوى ... فقيدا قد احتاجت عليه فروعه و أصوله )
( فجذبتم بضبعه و أنلتم ... كل ما شاءت العلا أن تنيله )
( و رفعتم من قدره قبل أن ... إليكم عياءه و خموله )
( و فرضتم له حقيقة ود ... حاش لله أن ترى مستحيلة )
( همة ما عرفتها لسواكم ... و أنا من خبرت دهري و جيله )
( و العدا نمقوا أحاديث إفك ... كلها في طرائق معلولة )
( روجوا في شأني غرائب زور ... نصبوها لأمرهم أحبولة )
( و رموا بالذي أرادوا من ... البهتان ظنا بأنها مقبولة )
( زعموا أنني أتيت من الأقوا ... ل ما لا يظن بي أن أقوله )
( كيف لي أغمط الحقوق و أني ... شكر نعماكم علي الجزيلة ؟ )
( كيف لي أنكر الأيادي التي تعـ ... رفها الشمس و الظلال الظليلة ؟ )
( إن يكن ذا فقد برئت من ... الله تعالى و خنت جهرا رسوله )
( طوقونا أمر الكتاب فكانت ... لقداح الظنون فينا مجيلة )
( لا و رب الكتاب أنزله الله ... على قلب من وعى تنزيله )
( ما رضينا بذاك فعلا و لا جئناه ... طوعا و لا اقتفينا دليله )
( إنما سامنا الكياب ظلوم ... لا يرجى دفاعه بالحيلة )
( سخط ناجز و حلم بطيء ... و سلاح للوخز فينا صقيلة )
( و دعوني و لست من منصب الحكم ... و لا ساحبا لديهم ذيوله )
( غير أني وشى بذكري واش ... يتقصى أوتاره و ذخوله )
( فكتبنا معولين على حلمك ... تمحو الأصار عنا الثقيلة )
( ما أشرنا به لزيد و لا عمرو ... و لا عينوا لنا تفصيله )
( إنما يذكرون عمن و فيمن ... مبهمات أحكامها منقولة )
( و بظنن أن ذاك على ما ... اضمروا من شناعة أو رذيلة )
( و هو ظن عن الصواب بعيد ... و ظلام لم يحسنوا تأويله )
( و جناب السلطان نزهه الله ... عن العاب بالهدى و الفضيلة )
( و أجل الملوك قدرا صفوح ... يرتجي ذنب دهره ليقيله )
( فاقبلوا العذر إننا اليوم نرجو ... بحياة السلطان منكم قبوله )
( و اعينوا على الزمان غريبا ... يشتكي جدب عيشه و محوله )
( جاركم ضيفكم نزيل حماكم ... لا يضيع الكريم يوما نزيله )
( جددوا عنده رسوم رضاكم ... فرسوم الكرام غير محيلة )
( داركوه برحمة فلقد أمـ ... ست عقود اصطباره محلولة )
( و انحلوه جبرا فليس يرجي ... غير إحسانكم لهذي النحيلة )
( يا حميد الآثار في الدهر يا ... ألطنبغايا روض العلا و مقيله )
( كيف بالخانقاه ينقل عني ... لا لذنب أ و جنحة منقولة )
( بل تقلدتها شغورا بمرسو ... م شريف و خلعة مسدولة )
( و لقد كنت آملا لسواها ... و سواها بوعده أن ينيله )
( و توثقت للزمان علييها ... بعقود ما خلتها محلولة )
( أبلغن قصتي فمثلك من يقـ ... صد فعل الحسنى بمن ينتمي له )
( و اغنموا من مثوبتي و دعائي ... قربة عند ربكم مقبولة )
و في التعريض بسفره إلى الشام :
( واصحب العز ظافرا بالأماني ... و اترك العصبة العدا مفلولة )
( و اعتمل في سعادة الملك الظا ... هر أن تمحو الأذى و تزيله )
( و تعيد الدنيا لأحسن شمل ... حين تضحي بسعده مشمولة )
( و اطلب النصر من سعادته يصحبك ... دأبا في الظعن و الحيلولة )
( و ارتقب ما يحله بالأعادي ... في جمادى أو زد عليه قليله )
( و خذوه فألا بحسن قبول ... صدق الله في الزمان مقولة )
( فلقد كان يحسن الفال عند ... المصطفى دائما و يرضى جميلة ) (7/691)
السعاية في المهاداة و الاتحاف بين ملوك المغرب و الملك الظاهر
كثيرا ما يتعاهد الملوك المتجاورون بعضهم بعضا بالاتحاف بطرف أوطانهم للمواصلة و الإعانة متى دعا إليها داع و كان صلاح الدين بن أيوب هادي يعقوب المنصور ملك المغرب من بني عبد المؤمن و استجاش به بأسطوله في قطع مدد الفرنج عن سواحل الشام حين كان معنيا بإرجاعهم عنها و بعث في ذلك رسوله عبد الكريم بن منقذ من أمراء شيزر فأكرم المنصور رسوله و قعد عن إجابته في الأسطول لما كان في الكتاب إليه من العدول عن تخطيطه بأمير المؤمنين فوجدها غصة في صدره منعته من إجابته إلى سؤاله و كان المانع لصلاح الدين من ذلك كاتبه الفاضل عبد الرحيم البيساني بما كان يشاوره في أموره و كان مقيما لدعوة الخليفة العباسي بمصر فرأى الفاضل أن الخلافة لا تنعقد لاثنين في الملة كما هو المشهور و إن اعتمد أهل المغرب سوى ذلك لما يرون أن الخلافة ليست لقبا فقط و إنما هي لصاحب العصبية القائم عليها بالشدة و الحماية و الخلاف في ذلك معروف بين أهل الحق فلما انقرضت دولة الموحدين و جاءت دولة بني مرين من بعدهم و صار كبراؤهم و رؤساؤهم يتعاهدون قضاء فرضهم لهذه البلاد الشرقية فيتعاهدهم ملوكها بالإحسان إليهم و تسهيل طريقهم فحسن في مكارم الأخلاق انتحال البر و المواصلة بالاتحاف و الاستطراف و المكافأة في ذلك بالهمم الملوكية فسنت لذلك طرائق و أخبار مشهورة من حقها أن تذكر و كان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق ثالث ملوك بني مرين أهدى لصاحب مصر عام سبعمائة و هو يومئذ الناصر بن محمد بن قلاون هدية ضخمة أصحبها كريمة من كرائم داره احتفل فيها ما شاء من أنواع الطرف و أصناف الذخائر و خصوصا الخيل و البغال أخبرني الفقيه أبو إسحاق الحسناوي كاتب الموحدين بتونس أنه عاين تلك الهدية عند مرورها بتونس قال : و عددت من صنف البغال الفارهة فيها أربعمائة و سكت عما سوى ذلك و كان مع هذه الهدية من فقهاء المغرب أبو الحسن التنسي كبير أهل الفتيا بتلمسان ثم كافأ الناصر عن هذه الهدية بأعلى منها و أحفل مع أميرين من أمراء دولته أدركا يوسف بن يعقوب و هو يحاصر تلمسان فبعثهما إلى مراكش للنزاهة في محاسهنا و أدركه الموت في مغيبهما و رجعا من مراكش فجهزهما حافده أبو ثابت المالك بعده و شيعهما إلى مصر فاعترضهما قبائل حصين و نهبوهما و دخلا بجاية ثم مضيا إلى تونس و وصلا من هنالك إلى مصر و لما ملك السلطان أبو الحسن تلمسان اقترحت عليه جارية أبيه أبي سعيد و كانت لها عليه تربية فأرادت الحج في أيامه و بعنايته فأذن لها في ذلك و بعث في خدمتها وليه عريف بن يحيى من أمراء سويد و جماعة من أمرائه و بطانته و استصحبوا هدية منه للملك الناصر احتفل فيها ما شاء و انتقى من الخيل العتاق و المطايا الفره و قماش الحرير و الكتان و الصوف و مدبوغ الجلود الناعمة و الأواني المتخذة من النحاس و الفخار المخصوص كل مصر من المغرب بأصناف من صنائعها متشابهة الأشكال و الأنواع حتى لقد زعموا أنه كان فيها مكيلة من اللآلئ و الفصوص و كان ذلك وقر خمس مائة بعير و كانت عتاق الخيل فيها خمس مائة فرس بالسروج الذهبية المرصعة بالجواهر و اللجم المذهبة و السيوف المحلاة بالذهب و اللآلئ كانت قيمة المركب الأول منها عشرة آلاف دينار و تدرجت على الولاء إلى آخر الخمس مائة فكانت قيمته مائة دينار تحدث الناس بهذه الهدية دهرا و عرضت بين يدي الملك الناصر فأشار إلى خاسكيته بانتهابها فنهبت بين يديه و بولغ في كرامة أولئك الضيوف في إنزالهم و قراهم و إزوادهم إلى الحجاز و إلى بلادهم و بقي شأن الهدية حديثا يتجاراه الناس في مجالسهم و أسمارهم و كان ذلك عام ثمانية و ثلاثين و سبعمائة و لما فصل أرسال ملك المغرب و قد قضوا فرضهم بعث الملك الناصر معهم هدية كفاء هديتهم و كانت أصنافها حمل القماش من ثياب الحرير و القماش المصنوعة بالإسكندرية تحمل كل عام إلى دار السلطان قيمة ذلك الحمل خمسون ألف دينار و خيمة من خيام السلطان المصنوعة بالشام على مثال القصور تشتمل على بيوت للمراقد و أواوين للجلوس و الطبخ و أبراج للإشراف على الطرقات و أبراج أحدها لجلوس السلطان للعرض و فيها تمثال مسجد بمحرابه و عمده و مأذنته حوائطها كلها من خرق الكتان الموصولة بحبك الخياطة مفضلة على الأشكال التي يقترحها المتخذون لها و كان فيها خيمة أخرى مستديرة الشكل عالية السمك مخروطة الرأس رحبة الفناء تظل خمس مائة فارس أو أكثر و عشرة من عتاق الخيل بالمراكب الذهبية الصقيلة لجمها كذلك و مرت هذه الهدية بتونس و معها الخدام القائمون بنصب الأبنية فعرضوها على السلطان بتونس و عاينت يومئذ أصناف تلك الهدية و توجهوا بها إلى سلطانهم و بقى التعجب منها دهرا على الألسنة و كان ملوك تونس من الموحدين يتعاهدون ملوك مصر بالهدية في الأوقات
و لما وصلت إلى مصر و اتصلت بالملك الظاهر و غمرني بنعمه و كرامته كاتبت السلطان بتونس يومئذ و أخبرته بما عند الملك الظاهر من التشوف إلى جياد الخيل و خصوصا من المغرب لما فيها من تحمل الشدة و الصبر على المتاعب و كان يقول لي مثل ذلك و أن خيل مصر قصرت بها الراحة و التنعم عن الصبر على التعب فحضضت السلطان بتونس على إتحاف الملك الظاهر بما ينتقيه من الجياد الرائعة فبعث له خمسة انتقاها من مراكبه و حملها في البحر في السفين الواصل بأهلي و ولدي فغرقت بمرسى الإسكندرية و نفقت تلك الجياد مع ما ضاع في ذلك السفين و كل شيء بقدر
ثم وصل إلينا عام ثلاثة و تسعين و سبعمائة شيخ الأعراب : المعقل بالمغرب يوسف بن علي بن غانم كبير أولاد حسين ناجيا من سخط السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم من ملوك بني مرين بفاس يروم قضاء فرضه و بتوصل بذلك لرضى سلطانه فوجد السلطان غائبا بالشام في فتنة منطاش فعرضته لصاحب المحمل فلما عاد من قضاء فرضه و كان السلطان قد عاد من الشام فوصلته به و حضر بين يديه و شكا بثه فكتب الظاهر فيه شفاعة لسلطان وطنه بالمغرب و حمله مع ذلك هدية إليه من قماش و طيب و قسي و أوصاه بانتقاء الخيل له من قطر المغرب و انصرف فقبل سلطانه فيه شفاعة الظاهر و أعاده إلى منزلته و انتقى الخيول الرائعة لمهاداة الملك الظاهر و أحسن في انتقاء أصناف الهدية فعاجلته المنية دون ذلك و ولي ابنه أبو فارس و بقي أياما ثم هلك و ولي أخوه أبو عامر فاستكمل الهدية و بعثها صحبة يوسف بن علي الوارد الأول
و كان السلطان الملك الظاهر لما أبطأ عليه وصول الخيل من المغرب أراد أن يبعث من أمرائه من ينتقي له ما يشاء بالشراء فعين لذلك مملوكا من مماليكه منسوبا إلى تربية الخليلي اسمه قطلوبغا و بعث عني فحضرت بين يديه و شاورني في ذلك فوافقته و سألني كيف يكون طريقه فأشرت بالكتاب في ذلك إلى سلطان تونس من الموحدين و سلطان تلمسان من بني عبد الواد و سلطان فاس و المغرب من بني مرين و حمله لكل واحد منهم هدية خفيفة من القماش و الطيب و القسي و انصرف عام تسعة و تسعين و سبعمائة إلى المغرب و شيعه كل واحد من ملوكه إلى مأمنه و بالغ في إكرامه بما يتعين و وصل إلى فاس فوجد الهدية قد استكملت و يوسف ابن علي على المسير بها عن سلطانه أبي عامر من ولد السلطان أبي العباس المخاطب أولا و أظلهم عيد الأضحى بفاس و خرجوا متوجهين إلى مصر و قد أفاض السلطان من إحسانه و عطائه على الرسول قظلوبغا و من في جملته بما أقر عيونهم و أطلق بالشكر ألسنتهم و ملأ بالثناء ضمائرهم و مروا بتلمسان و بها يومئذ أبو زيان ابن السلطان أبي حمو من آل يغمراسن بن زيان فبعث معهم هدية أخرى من الجياد بمراي و كان يحوك الشعر فامتدح الملك الظاهر بقصيدة بعثها مع هديته و نصها من أولها إلى آخرها :
( لمن الركائب سيرهن دميل ... و الصبر إلا بعدهن جميل )
( يا أيها الحادي رويدك إنها ... ظعن يميل القلب حيث تميل )
( رفقا بمن حملته فوق ظهورها ... فالحسن فوق ظهورها محمول )
( لله آية أنجم : شفافة ... تنجاب عنها للظلام سدول )
( شهب بآفاق الصدور طلوعها ... و لها بأستار الجدول أفول )
( في الهودج المزرور منها غادة ... تزع الدجى بجبينها فيحول )
( فكأنها قمر على غصن على ... متني كثيب و الكثيب مهيل )
( ثارت مطايا فثار بي الهوى ... و اعتاد قلبي زفرة و غليل )
( أومت لتوديعي فغالب عبرتي ... نظر تخالسه العيون كليل )
( دمع أغيض منه خوف رقيبها ... طورا و يغلبني الأسى فيسيل )
( ويح المحب وشت به عبراته ... فكأنها قال عليه و قيل )
( صان الهوى و جفونه يوم النوى ... لمصون جوهر دمعهن تذيل )
( و تهابه أسد السرى في خيسها ... و يروعه ظبي الحمى المكحول )
( تأبى النفوس الضيم إلا في الهوى ... فالحر عبد و العزيز ذليل )
( يا بانة الوادي و يا أهل الحمى ... هل ساعة تصغين لي فأقول )
( مالي إذا هب النسيم من الحمى ... أرتاح شوقا للحمى و أميل )
( خلوا الصبا يخلص إلي نسيمها ... إن الصبا لصبابتي تعليل )
( ما لي أحلا عن ورود محله ... و أذاد عنه و ورده منهول )
( و الباب ليس بمرتج عن مرتج ... و الظن في المولى الجميل جميل )
( من لي بزورة روضة الهادي الذي ... ما مثله في المرسلين رسول )
( هو أحمد و محمد و المصطفى ... و المجتبى و له انتهى التفضيل )
( يا خير من أهدى الهدى و أجل من ... أثنى عليه الوحي و التنزيل )
( وحي من الرحمن يلقيه على ... قلب النبي محمد جبريل )
( مدحتك آيات الكتاب و بشرت ... بقدومك التوراة و الانجيل )
( صلة الصلاة عليك تحلو في فمي ... مهما تكرر ذكرك المعسول )
( فور بعك المأهول إن بأضلعي ... قلبا بحبك ربعه مأهول )
( هل من سبيل للسرى حتى أرى ... خير الورى فهو المنى و السول )
( حتام تمطلني الليالي وعدها ... إن الزمان بوعده لبخيل )
( ما عاقني إلا عظيم جرائمي ... إن الجرائم حملهن ثقيل )
( أنا مغرم فتعطفوا أنا مذنب ... فتحاوزوا أنا عاثر فأقيلوا )
( و أنا البعيد فقربوا و المستجير ... فأمنوا و المرتجى فأنيلوا )
( يا سائقا نحو الحجاز حمولة ... و القلب بين حموله محمول )
( لمحمد بلغ سلام سميه ... فذمامه بمحمد موصول )
( و سل الإله له اغتفار ذنوبه ... يسمع هناك دعاؤك المقبول )
( و عن المليك أبي سعيد فلتنب ... فلكم له نحو الرسول رسول )
( متحمل لله كسوة بيته ... يا حبذاك المحمل المحمول )
( سعد المليك أبي سعيد إنه ... سيف على أعدائه مسلول )
( ملك يحج المغرب الأقصى به ... فلهم به نحو الرسول وصول )
( ملك به نام الأنام و أمنت ... سبل المخاف فلا يخاف سبيل )
( فالملك ضخم و الجناب مؤمل ... و الفضل و العطاء جزيل )
( و الصنع أجمل و الفخار مؤثل ... و المجد أكمل و الوفاء أصيل )
( يا مالك البحرين بلغت المنى ... قد عاد مصر على العراق يصول )
( يا خادم الحرمين حق لك الهنا ... فعليك من روج الإله قبول )
( يا متحفي و مفاتحي برسالة ... سلسالة يزهى بها الترسيل )
( أهديتها حسناء بكرا ما لها ... غيري و إن كثر الرجال كفيل )
( ضاء المداد من الوداد بصحفها ... حتى اضمحل عبوسه المجبول )
( جمعت و حاملها بحضرتنا كما ... جمعت بثينة في الهوى و جميل )
( و تأكدت بهدية ودية ... هي للإخاء المرتضى تكميل )
( أطلعت فيها للقسي أهلة ... يرتد عنها الطرف و هو كليل )
( و حسام نصر زاهيا بنضاره ... راق العيون فرنده المعسول )
( ماضي الشبا ... لمصابه تعنو الظبا فيه تصول على العدا و تطول )
( و بدائع الحلل اليمانية التي ... روى معاطفها بمصر النيل )
( فأجلت فيها ناظري فرأيتها ... تحفا يجول الحسن حيث تجول )
( جلت محاسنها فأهوى نحوها ... بفم القبول اللثم و التقبيل )
( يا مسعدي و أخي العزيز و منجدي ... و من القلوب إلى هواه تميل )
( إن كان رسم الود منك مبديلا ... بالبر و هو بذيله موصول )
( فنظيره عندي و ليس يضيره ... بمعارض وهم و لا تخييل )
( ود يزيد و ثابت شهدا به ... و لخالد بخلوده تذييل )
( و إليكها تنبيك صدق مودتي ... صح الدليل و وافق المدلول )
( فإذا بذاك المجلس السامي سمت ... فلديك إقبال لها و قبول )
( دام الوداد على البعاد موصلا ... بين القلوب و حبله موصول )
( و بقيت في نعم لديك مزيدها ... و عليك يضفو ظلها المسدول )
ثم مروا بعدها بتونس فبعث سلطان تونس أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي العباس من ملوك الموحدين هدية ثالثة انتقى لها جياد الخيل و عزز بها هدية السلطانين وراءه مع رسوله من كبار الموحدين أبي عبد الله بن تافراكين و وصلت الهدايا الثلاث إلى باب الملك الظاهر في آخر السنة و عرضت بين يدي السلطان و انتهب الخاسكية ما كان فيها من الأقمشة و السيوف و البسط و مراكب الخيل و حمل كثيرا منهم على كثير من تلك الجياد و ارتبط الباقيات
و كانت هدية صاحب المغرب تشتمل على خمسة و ثلاثين من عتاق الخيل بالسروج و اللجم الذهبية و السيوف المحلاة و خمسة و ثلاثين حملا من أقمشة الحرير و الكتان و الصوف و الجلد منتقاة من أحسن هذه الأصناف
و هدية صاحب تلمسان تشتمل على ثلاثين من الجياد بمراكبها المموهة و أحمالا من الأقمشة
و هدية صاحب تونس تشتمل على ثلاثين من الجياد مغشاة ببراقع الثياب من غير مراكب و كلها أنيق في صنعه مستطرف في نوعه و جلس السلطان يوم عرضها جلوسا فخما في إيوانه و حضر الرسل و أدوا ما يجب عن ملوكهم و عاملهم السلطان بالبر و القبول و انصرفوا إلى منازلهم للجرايات الواسعة و الأحوال الضخمة ثم حضر وقت خروج الحاج فأستأذنوا في الحج مع محمل السلطان فأذن لهم و أرغد أزودتهم و قضوا حجهم و رجعوا إلى حضرة السلطان و معهود مبرته ثم انصرفوا إلى مواطنهم و شيعهم من بر السلطان و إحسانه ما ملأ حقائبهم و أسنى ذخيرتهم و حصل لي أنا من بين ذلك في الفخر ذكر جميل بما تناولت بين هؤلاء الملوك من السعي في الوصلة الباقية على الأبد فحمدت الله على ذلك (7/706)
ولاية القضاء الثانية بمصر
ما زلت منذ العزل عن القضاء الأول سنة سبع و ثمانين و سبعمائة مكبا على الاشتغال بالعلم تأليفا و تدريسا و السلطان يولي في الوظيفة من يراه أهلا متى دعاه إلى ذلك داع من موت القائم بالوظيفة أو عزله و كان يراني الأولى بذلك لولا وجود الذين شغبوا من قبل في شأني من أمراء دولته و كبار حاشيته حتى انقرضوا و اتفقت وفاة قاضي المالكية إذ ذاك ناصر الدين بن التنسي و كنت مقيما بالفيوم لضم زرعي هنالك فبعث عني و قلدني وظيفة القضاء في منتصف رمضان من سنة إحدى و ثمانمائة فجريت على السنن المعروف مني من القيام بما يجب للوظيفة شرعا و عادة و كان رحمه الله يرضى بما يسمع عني في ذلك ثم أدركته الوفاة في منتصف شوال بعدها و أحضر الخليفة و القضاة و الأمراء و عهد إلى كبير أبنائه فرج و لأخوته من بعده واحدا واحدا و أشهدهم على وصيته بما أراد و جعل القائم بأمر ابنه في سلطانه إلى أتابكه ايتمش و قضى رحمة الله عليه و ترتبت الأمور من بعده كما عهد لهم و كان النائب بالشام يومئذ أمير من خاسكية السلطان يعرف بتنم و سمع بالواقعات بعد السلطان فنص أن لم يكن هو كافل ابن الظاهر بعده و يكون زمام الدولة بيده و طفق سماسرة الفتن يغرونه بذلك و بينما هم في ذلك إذ وقعت فتنة الأتابك أتيمش و ذلك أنه كان للأتابك دوادار غر يتطاول إلى الرئاسة و يترفع على أكابر الدولة بحظه من أستاذه و ما له من الكفالة على السلطان فنقموا حالهم مع هذا الدوادار و ما يسومهم به من الترفع عليهم و التعرض لإهمال نصائحهم فأغروا السلطان بالخروج من ربقه الحجر و أطاعهم في ذلك و أحضر القضاة بمجلسه للدعوى على الأتابك باستغنائه عن الكافل بما علم من قيامه بأمره و حسن تصرفاته و شهد بذلك في المجلس أمراء أبيه كافة و أهل المراتب و الوظائف منهم شهادة قبلها القضاة و أعذروا إلى الأتابك فيهم فلم يدفع في شيء من شهادتهم و نفذ الحكم يومئذ برع الحجر عن السلطان في تصرفاته و سياسة ملكه و انفض الجمع و نزل الأتابك من الإسطبل إلى بيت سكناه ثم عاود الكثير من الأمراء نظرهم فيما أتوه من ذلك فلم يروه صوابا و حملوا الأتابك على نقضه و القيام بما جعل له السلطان من كفالة ابنه في سلطانه و ركب و ركبوا معه في أخر شهر المولد النبوي و قاتلهم أولياء السلطان فرج عشي يومهم و ليلتها فهزموهم و ساروا إلى الشام مستصرخين بالنائب تنم و قد وقر في نفسه ما وقر من قبل فبر وفادتهم و أجاب صريخهم و اعتزموا على المضي إلى مصر و كان السلطان لما انفضت جموع الأتابك و سار إلى الشام اعتمله في الحركة و السفر لخضد شوكتهم و تفريق جماعتهم و خرج في جمادى حتى انتهى إلى غزة فجاءه الخبر بأن نائب الشام تنم و الأتابك و الأمراء الذين معه خرجوا من الشام زاحفين للقاء السلطان و قد احتشدوا و أوعبوا و انتهوا قريبا من الرملة فراسلهم السلطان مع قاضي القضاة الشافعي صدر الدين المناوي و ناصر الدين الرماخ أحد المعلمين لثقافة الرماحم يعذر إليهم و يحملهم على اجتماع الكلمة و ترك الفتنة و إجابتهم إلى ما يطلبون من مصالحهم فاشتطوا في المطالب و صمموا على ما هم فيه و وصل الرسولان في بخبرهم فركب السلطان من الغد و عبى عساكره و صمم لمعاجلتهم فلقيهم أثناء طريقه و هاجمهم فهاجموه ثم ولوا الأدبار منهزمين و صرع الكثير من أعيانهم و أمرائهم في صدر موكبه فما غشيهم الليل إلا و هم مصفدون في الحديد يقدمهم الأمير تنم نائب الشام و أكابرهم كلهم و نجا الأتابك أيتمش إلى القلعة بدمشق فآوى إليها و اعتقله نائب القلعة و سار السلطان إلى دمشق فدخلها على التعبئة في يوم أغر و أقام بها أياما و قتل هؤلاء الأمراء المعتقلين و كبيرهم الأتابك ذبحا و قتل تنم من بينهم خنقا ثم ارتحل راجعا إلى مصر
و كنت استأذنت في التقدم إلى مصر بين يدي السلطان لزيارة بيت المقدس فأذن لي في ذلك و وصلت إلى القدس و دخلت المسجد و تبركت بزيارته و الصلاة فيه و تعففت عن الدخول إلى القمامة لما فيها من الإشادة بتكذيب القرآن إذ هو بناء أمم النصرانية على مكان الصليب بزعمهم فنكرته نفسي و نكرت الدخول إليه و قضيت من سنن الزيارة و نافلتها ما يجب و انصرفت إلى مدفن الخليل عليه السلام و مررت في طريقي إليه ببيت لحم و هو بناء عظيم على موضع ميلاد المسيح شيدت القياصرة عليه بناء بسماطين من العمد الصخور منجدة مصطفة مرقوما على رؤوسها صور ملوك القياصرة و تواريخ دولهم ميسرة لمن يبتغي تحقيق نقلها بالتراجمة العارفين لأوضاعها و لقد يشهد هذا المصنع بعظم ملك القياصرة و ضخامة دولتهم ثم ارتحلت من مدفن الخليل إلى غزة و ارتحلت منها فوافيت السلطان بظاهر مصر و دخلت في ركابه أواخر شهر رمضان سنة اثنين و ثمانمائة و كان بمصر فقيه من المالكية يعرف بنور الدين بن الخلال ينوب أكثر أوقاته عن قضاة القضاة المالكية فحرضه بعض أصحابه على السعي في المنصب و بذل ما تيسر من موجوده لبعض بطانة السلطان الساعين له في ذلك فتمت سعايته في ذلك و لبس منتصف المحرم سنة ثلاث و ثمانمائة و رجعت أنا للإشتغال بما كنت مشتغلا به من تدريس العلم و تأليفه إلى أن كان السفر لمدافعة تمر عن الشام (7/714)
سفر السلطان إلى الشام لمدافعة الططر عن بلاده
هؤلاء الططر من شعوب الترك و قد اتفق النسابة و المؤرخون على أن أكثر أمم العالم فرقتان و هما : العرب و الترك و ليس في العالم أمة أوفر منهما عددا هؤلاء في جنوب الأرض و هؤلاء في شمالها و ما زالوا يتناوبون الملك في العالم فتارة يملك العرب و يزحلون الأعاجم إلى آخر الشمال و أخرى يزحلهم الأعاجم و الترك إلى طرف الجنوب سنة الله في عباده
فلنذكر كيف انساق الملك لهؤلاء الططر و استقرت الدول الإسلامية فيهم لهذا العهد فنقول : إن الله سبحانه خلق هذا العالم و اعتمره بأصناف البشر على وجه الأرض في وسط البقعة التي انكشفت من الماء فيه و هي عند أهل الجغرافيا مقدار الربع منه و قسموا هذا المعمور بسبعة أجزاء يسمونها الأقاليم مبتدأة من خط الإستواء بين المشرق و المغرب و هو الخط الذي تسامت الشمس فيه رؤوس السكان إلى تمام السبعة أقاليم و هذا الخط في جنوب المعمور و تنتهي السبعة الأقاليم في شماله و ليس في جنوب خط الإستواء عمارة إلى آخر الربع المنكشف لإفراط الحر فيه و هو يمنع من التكوين و كذلك ليس بعد الأقاليم السبعة في جهة الشمال عمارة لإفراط البرد فيها و هو مانع من التكوين أيضا و دخل الماء المحيط بالأرض من جهة الشرق فوق خط الإستواء بثلاث عشرة درجه في مدخل فسيح و انساح مع خط الاستواء مغربا فمر يالصين و الهند و السند و اليمن في جنوبها كلها و انتهى إلى وسط الأرض عند ياب المندب و هو البحر الهندي و الصيني ثم انحرف من طرفه الغربي في خليج عند باب المندب و مر في جهة الشمال مغربا باليمن و تهامه و الحجاز و ميدين و أيلة و فاران و انتهى إلى مدينة القلزم و يسمى بحر السويس و في شرقيه بلاد الصعيد إلى عيذاب و بلاد البجاة و خرج من هذا البحر الهندي من وسطه خليج آخر يسمى الخليج الأخضر و مر شمالا إلى الأبلة و يسمى بحر فارس و عليه في شرقيه بلاد فارس و كرمان و السند و دخل الماء أيضا من جهة الغرب في خليج متضايق في الإقليم الرابع و يسمى بحر الزقاق تكون سعته هنالك ثمانية عشر ميلا و يمر مشرقا ببلاد البربر من المغرب الأقصى و الأوسط و أرض أفريقية و الإسكندرية و أرض التيه و فلسطين و الشام و عليه في الغرب بلاد الإفرنج كلها و خرج منه في الشمال خليجان : الشرقي منهما خليج القسطنطينية والغربي خليج البنادقة و يسمى هذا البحر البحر الروسي و الشامي
ثم إن هذه السبعة الأقاليم المعمورة تنقسم من شرقيها و غربيها بنصفين : فنصفها الغربي في وسطه البحر الرومي و في النصف الشرقي من جانبه الجنوبي البحر الهندي و كان هذا النصف الغربي أقل عمارة من النصف الشرقي لأن البحر الرومي المتوسط فيه انفسح في انسياحه فغمر الكثير من أرضه و الجانب الجنوبي منه قليل العمارة لشدة الحر فالعمران فيه من جانب الشمال فقط و النصف الشرقي عمرانه أكثر بكثير لأنه لا بحر في وسطه يزاحم و جانبه الجنوبي فيه البحر الهندي و هو متسع جدا فلطف الهواء فيه بمجاورة الماء و عدل مزاجه للتكوين فصارت أقاليمه كلها قابلة للعمارة فكثر عمرانه و كان مبدأ هذا العمران في العالم من لدن آدم صلوات الله عليه و تناسل ولده أولا في ذلك النصف الشرقي و بادت تلك الأم ما بينه و بين نوح و لم نعلم شيئا من أخبارها لأن الكتب الإلهية لم يرد علينا فيها إلا أخبار نوح و بنيه و أما ما قبل نوح فلم نعرف شيئا من أخباره و أقدم الكتب المنزلة المتداولة بين أيدينا التوراة و ليس فيها من أخبار تلك الأجيال شيء و لا سبيل إلى اتصال الأخبار القديمة إلا بالوحي و أما الأخبار فهي تدرس بدروس أهلها
و اتفق النسابون على أن النسل كله منحصر في بني نوح و في ثلاثة من ولده و هم سام و حام و يافث فمن سام : العرب و العبرانيون و السبائيون و من حام : القبط و الكنعانيون و البربر و السودان و من يافث : الترك و الروم و الخزر و الفرس و الديلم و الجيل
و لا أدري كيف صح انحصار النسب في هؤلاء الثلاثة عند النسابين أمن النقل ؟ و هو بعيد كما قدمناه أو هو رأي تفرغ لهم من انقسام جماعة المعمور فجعلوا شعوب كل جهة لأهل نسب واحد يشتركون فيه فجعلوا الجنوب لبني سام و المغرب لبني حام و الشمال لبني يافث إلا أنه المتناقل بين النسابة في العالم كما قلناه فلنعتمده و نقول : أول من ملك الأرض من نسل نوح عليه السلام النمرود بن كنعان بن كوش بن حام و وقع ذكره في التوراة و ملك بعده عابر بن شالخ الذي ينسب إليه العبرانيون و السريانيون و هم النبط و كانت لهم الدولة العظيمة و هم ملوك بابل من نبيط بن أشور بن سام و قيل نبيط بن ماش بن إرم و هم ملوك الأرض بعد الطوفان على ما قاله المسعودي و غلبهم الفرس على بابل و ما كان في أيديهم من الأرض و كانت يومئذ في العالم دولتان عظيمتان لملوك بابل هؤلاء و للقبط بمصر : هذه في المغرب و الأخرى في المشرق و كانوا ينتحلون الأعمال السحرية و يعولون عليها في كثير من أعمالهم و برابي مصر و فلاحة بن وحشية يشهدان بذلك فما غلب الفرس على بابل استقل لهم ملك المشرق و جاء موسى صلوات الله عليه بالشريعة الأولية و حرم السحر و طرقه و غلب الله له القبط بإغراق فرعون و قومه ثم ملك بنو إسرائيل الشام و اختطوا بيت المقدس و ظهر الروم في ناحية الشمال و المغرب فغلبوا الفرس الأولى على ملكهم و ملك ذو القرنين الإسكندر ما كان بأيديهم ثم صار ملك الفرس بالمشرق إلى ملوكهم الساسانية و ملك بني يونان بالشام و المغرب إلى القياصرة كما ذكرنا ذلك كله من قبل و أصبحت الدولتان عظيمتين و انتظمتا العالم بما فيه و نازع الترك ملوك فارس في خراسان و ما وراء النهر و كانت بينهم حروب مشهورة و استقر ملكهم في بني أفراسياب ثم ظهر خاتم الأنبياء محمد صلوات الله عليه و جمع العرب على كلمة الإسلام فاجتمعوا له { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم و لكن الله ألف بينهم } و قبضه الله إليه و قد أمر بالجهاد و وعد عن الله بأن الأرض لأمته فزحفوا إلى كسرى و قيصر بعد سنتين من وفاته فانتزعوا الملك من أيديهما و تجاوزوا الفرس إلى الترك و الروم إلى البربر و المغرب و أصبح العالم كله منتظما في دعوة الإسلام ثم اختلف أهل الدين من بعده في رجوعهم إلى من ينظم أمرهم و تشيع قوم من العرب فزعموا أنه أوصى بذلك لابن عمه علي و امتنع الجماعة من قبول ذلك و أبوا إلا الاجتهاد في تعيينه فمضى على ذلك السلف في دولة بني أمية التي استفحل الملك و الإسلام فيها و تناقل التشيع بتشعب المذاهب في استحقاق بني علي و أيهم يتعين له ذلك حتى انساق مذهب من مذاهبهم إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فطهرت شيعته بخراسان و ملكوا تلك الارض كلها و العراق بأسره ثم غلبوا على بني أمية و انتزعوا الملك من أيديهم و استفحل ملكهم و الإسلام باستفحاله و تعدد خلفاؤهم ثم خامر الدولة ما يخامر الدول من الترف و الراحة ففشلوا و كثر المنازعون لهم من بني علي و غيرهم فظهرت دولة لبني جعفر الصادق بالمغرب و هم العبيديون بنو عبيد الله المهدي بن محمد قام بها كتامة و قبائل البربر و استولوا على المغرب و مصر و دولة بني العلوي بطبرستان قام بها الديلم و أخوانهم الجيل و دولة بني أمية النائية بالأندلس لأن بني العباس لما غلبوهم بالمشرق و أكثروا القتل فيهم هرب عبد الرحمن بن معاوبة بن هشام بن عبد الملك و نجا إلى المغرب و ركب البحر إلى الأندلس فاجتمع عليه من كان هنالك من العرب و موالي بني أمية فاستحدث هنالك ملكا آخر لهم و انقسمت الملة الإسلامية بين هذه الدول الأربع إلى المائة الرابعة ثم انقرض ملك العلولة من طبرستان و انتقل إلى الديلم فاقتسموا خراسان و فارس و العراق و غلبوا على بغداد و حجر الخليفة بها بنو بويه منهم و كان بنو سامان من أتباع بني طاهر قد تقلدوا عمالات ما وراء النهر فلما فشل أمر الخلافة استبدوا بتلك النواحي و أصاروا لهم فيها ملكا ضخما و كان آخرهم محمود بن سكتكين من موالهم فاستبد عليهم و ملك خراسان و ما وراء النهر إلى الشاش ثم غزنة و ما وراءها جنوبا إلى الهند و أجاز إلى بلاد الهند فافتتح منها كثيرا و استخرج من كنوزها ذخائر لم يعثر عليها أحد قبله و أقامت الملة على هذا النمط إلى انقضاء المائة الرابعة و كان الترك منذ تعبدوا للعرب و أسلموا على ما بأيديهم وراء النهر من كاشغر و الصاغون إلى فرغانة و ولاهم الخلفاء عليها فاستحدثوا بها ملكا و كانت بوادي الترك في تلك النواحي منتجعة أمطار السماء و عشب الأرض و كان الظهور فيهم لقبيلة الغز من شعوبهم و هم الخوز إلا أن استعمال العرب لها عرب خاءها المعجمة غينا و أدغمت واوها في الزاي الثانية فصارت زايا واحدة مشددة و كانت رياسة الغز هؤلاء في بني سلجوق بن ميكائل و كانوا يستخدمون لملوك الترك بتركستان تارة و لملوك بني سامان في بخارى أخرى و تحدث بينهما الفتنة فيتألفون من شاءوا منهما و لما تغلب محمود بن سبكتكين على بني سامان و أجاز من خراسان فنزل بخارى و اقتعد كرسيهم و تقبض على كبار بني سلجوق هؤلاء و حبسهم بخراسان ثم مات و قام بالأمر أخوه مسعود فملك مكانه و انتقض عليه بنو سلجوق هؤلاء و أجاز الغز إلى خراسان فملكوها و ملكوا طبرستان من يد الديلم ثم إصبهان و فارس من أيدي بني بويه و ملكهم يومئذ طغرلبك بن ميكائيل من بنى سلجوق و غلب على بغداد من يد بني معز الدولة بن بويه المستبدين على الخليفة يومئذ المطيع و حجره عن التصرف في أمور الخلافة و الملك ثم تجاوز إلى عراق العرب فغلب على ملوكه و أبادهم ثم بلاد البحرين و عمان ثم على الشام و بلاد الروم و استوعب ممالك الإسلام كلها فأصارها في ملكه و انقبضت العرب راجعة إلى الحجاز مسلولة من الملك كأن لهم فيه نصيب و ذلك أعوام الأربعين و الأربعمائة و خرج الإفرنج على بقايا بني أمية بالأندلس فانتزعوا الملك من أيديهم و استولوا على حواضر الأندلس و أمصارها و ضاق النطاق على العبيديين بالقاهرة بملوك الغز يزاحمونهم فيها من الشام بمحمود بن زنكي و غيره من أبنائهم و مماليكهم و بملوك المغرب قد اقتطعوا ما وراء الإسكندرية بملوك صنهاجة في أفريقية و الملثمين المرابطين بعدهم بالمغرب الأقصى و الأوسط و المصامدة الموحدين بعدهم كذلك و أمام الغز و السلجوقية في ملك المشرق و بنوهم و موالهم من بعدهم إلى انقضاء القرن السادس و قد فشل ريح الغز و اختلت دولتهم فظهر فيهم جنكيزخان أمير المغل من شعوب الططر و كان كاهنا وجده النجر كاهنا مثله و يزعمون أنه ولد من غير أب فغلب الغز في المفازة و استولى على ملك الططر و زحف إلى كرسي الملك بخوارزم و هو علاء الدين خوارزم شاه سلفه من موالي طغرلبك فغالبه على ملكه و فر أمامه و اتبعه إلى بحيرة طبرستان فنجا إلى جزيرة فيها و مرض هنالك و مات و رجع جنكيزخان إلى مازندران من أمصار طبرستان فنزلها و أقام بها و في عساكره من المغل حتى استولوا على جميع ما كان للغز و أنزل ابنه طولي بكرسي خراسان و ابنه دوشيخان بصراي و بلاد الترك و ابنه جفطاي بكرسي الترك فيما وراء النهر و هي كاشغر و تركستان و أقام بمازتدران إلى أن مات جنكيزخان و دفن بها و مات ابنه طولي و له ولدان قبلاي و هولاكو ثم هلك قبلاي و استقل هولاكو بملك خراسان و حدث بينه و بين بركة بن دوشيخان فتنة بالمنازعة في القانية تحاربوا فيها طويلا ثم أقصروا و صرف هولاكو وجهه إلى بلاد أصبهان و فارس ثم إلي الخلفاء المستبدين ببغداد و عراق العرب فاستولى على تلك النواحي و اقتحم بغدادا على الخليفة المستعصم آخر بني العباس و قتله و أعظم فيها العيث و الفساد و هو يومئذ على دينه من المجوسية ثم تخطاه إلى الشام فملك أمصاره و حواضره إلى القدس و ملوك مصر يومئذ من موالي بني أيوب قد استحاشوا ببركة صاحب صراي فزحف إلى خراسان ليأخذ بحجزة هولاكو عن الشام و مصر و بلغ خبره إلى هولاكو فحرد لذلك لما بينهما من المنافسة و العداوة و كر راجعا إلى العراق ثم إلى خراسان لمدافعة بركة و طالت الفتنة بينهما إلى أن هلك هولاكو سنة ثلاث و ستين من المائة السابعة و زحف أمراء مصر من موالي بني أيوب و كبيرهم يومئذ قطز و هو سلطانهم فاستولى على أمصار الشام التي كان هولاكو انتزعها من أيدي بني أيوب واحدة واحدة و استضاف الشام إلى مصر في ملكه ثم هدى الله أبغا بن هولاكو إلى الإسلام فأسلم بعد أن كان أسلم بركة ابن عمه صاحب التخت بصراي من بني دوشي خان على يد مريد من أصحاب شمس الدين كبرى فتواطأ هو و أبغا بن هولاكو على الإسلام ثم أسلم بعد ذلك بنو جقطاي وراء النهر فانتظمت ممالك الإسلام في أيدي ولد جنكيزخان من المغل ثم من الططر و لم يخرج عن ملكهم منها إلا المغرب و الأندلس و مصر و الحجاز و أصبحوا و كأنهم في تلك الممالك خلف من السلجوقية و الغز و استمر الأمر على ذلك لهذا العهد و انقرض ملك بني هولاكو بموت أبي سعيد أخرهم سنة أربعين من المائة الثامنة و افترقت دولتهم بين عمال الدولة و قرابتها من المغل فملك عراق العرب و أذربيجان و توريز الشيخ حسن سبط هولاكو و اتصل ملكها في بنيه لهذا العهد وملك خراسان و طبرستان شاه ولي من تابعة بني هولاكو و ملك أصبهان و فارس بنو مظفر البردي من عمالهم أيضا و أقاموا بنو دوشي خان في مملكة صراي و آخرهم بها طقطمش بن بردي بك ثم سما لبي جقطاي وراء النهر و ملوكهم أمل في التغلب على أعمال بني هولاكو و بني دوشي خان بما استفحل ملكهم هنالك لعدم الترف و التنعم فبقوا على البداوة و كان لهم ملك اسمه ساطلمش هلك لهذا العهد و أجلسوا ابنه على التخت مكانه و أمراء بي جقطاي جميعا في خدمته و كبيرهم تيمور المعروف بتمر بن طرغاي فقام بأمر هذا الصبي و كفله و تزوج أمه و مد يده إلى ممالك بني دوشي خان التي كانت على دعوتهم وراء النهر مثل سمرقند و بخارى و خوارزم و أجاز إلى طبرستان و خراسان فملكهما ثم ملك أصبهان و زحف إلى بغداد فملكها من يد أحمد بن أويس و فر أحمد مستجيرا بملك مصر و هو الملك الظاهر برقوق و قد تقدم ذكره فأجاره و وعده النصر من عدوه و بعث الأمير تمر رسلا إلى صاحب مصر يقرون معه الولاية و الاتحاد و حسن الجوار فوصلوا إلى الرحبة فلقيهم عاملها و دار يبنهم الكلام فأوحشوه في الخطاب و أنزلهم فبيت جميعهم و قتلهم و خرج الظاهر برقوق من مصر و جمع العرب و التركمان و أناخ على الفرات و صرخ بطقطمش من كرسيه بصراي فحشد و وصل إلى الأبواب ثم زحف تمر إلى الشام سنة ست و تسعين و سبعمائة و بلغ الرها و الظاهر يومئذ على الفرات فخام تمر عن لقائه و سار إلى محاربة طقطمش فاستولى على أعماله كلها و رجعت قبائل المغل إلى تمر و ساروا تحت رايته و ذهب طقطمش في ناحية الشمال وراء بلغار متذمما بقبائل اروس من شعوب الترك في الجبال و سارت عصائب الترك كلها تحت رايات تمر ثم اضطرب ملوك الهند و استصرخ خارج منهم بالأمير تمر فسار إليهم في عساكر المغل و ملك دلي و فر صاحبها إلى كنباية مرسى بحر الهند و عاثوا في نواحي بلاد الهند ثم بلغه هنالك مهلك الظاهر برقوق بمصر فرجع إلى البلاد و مر على العراق ثم على أرمينته و أرزنكان حتى وصل سيواس فخربها و عاث في نواحيها و رجع عنها أول ستة ثلاث من المائة التاسعة و نازل قلعة الروم فامتنعت و تجاوزها إلى حلب فقابله نائب الشام و عساكره في ساحتها ففضهم و اقتحم المغل المدينة من كل ناحية و وقع فيها من العيث و النهب و المصادرة و استباحة الحرم ما لم يعهد الناس مثله و وصل الخبر إلى مصر فتجهز السلطان فرج ابن الملك الظاهر إلى المدافعة عن الشام و خرج في عساكره من الترك مسابقا المغل و ملكهم تمر أن يصدهم عنها (7/717)
لقاء الأمير تمر سلطان المغل و الططر
لما وصل الخبر إلى مصر بأن الأمير تمر ملك بلاد الروم و خرب سيواس و رجع إلى الشام جمع السلطان عساكره و فتح ديوان العطاء و نادى في الجند بالرحيل إلى الشام و كنت أنا يومئذ معزولا عن الوظيفة استدعاني دواداره يشبك و أرادني على السفر معه في ركاب السلطان فتجافيت عن ذلك ثم أظهر العزم علي بلين القول و جزيل الانعام فأصخيت و سافرت معهم منتصف شهر المولد الكريم من سنة ثلاث و ثمانمائة فوصلنا إلى غزة فأراحنا بها أياما نترقب الأخبار ثم وصلنا إلى الشام مسابقين الططر إلى أن نزلنا شقحب و أسرينا فصبحنا دمشق و الأمير تمر في عساكره قد رحل من بعلبك قاصدا دمشق فضرب السلطان خيامه و أبنيته بساحة قبة يلبغا و يئس الأمير تمر من مهاجمة البلد فأقام بمرقب على قبة يلبغا يراقبنا و نراقبه أكثر من شهر تجاول العسكران في هذه الأيام مرات ثلاثا أو أربعا فكانت حربهم سجالا ثم نمي الخبر إلى السلطان و أكابر أمرائه أن بعض الأمراء المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب إلى مصر للثورة بها فأجمع رأيهم للرجوع إلى مصر خشية من انتقاض الناس وراءهم و اختلال الدولة بذلك ليلة الجمعة من شهر ( ) و ركبوا جبل الصالحية ثم انحطوا في شعابه و ساروا على شافة البحر إلى غزة و ركب الناس ليلا يعتقدون أن السلطان سار على الطريق الأعظم إلى مصر فساروا عصبا و جماعات على شقحب إلى أن وصلوا إلى مصر و أصبح أهل دمشق متحيرين قد عميت علهم الأنباء
و جاءني القضاة و الفقهاء و اجتمعت بمدرسة العادلية و اتفق رأيهم على طلب الأمان من الأمير تمر على بيوتهم و حرمهم و شاوروا في ذلك نائب القلعة فأبى عليهم ذلك و نكره فلم يوافقوه و خرج القاضي برهان الدين بن مفلح الحنبلي و معه شيخ الفقراء بزاوية فأجابهم إلى التأمين و ردهم باستدعاء الوجوه و القضاة فخرجوا إليه متدلين من السور بما صبحهم من التقدمة فأحسن لقاءهم و كتب لهم الرقاع بالأمان و ردهم على أحسن الآمال و اتفقوا معه على فتح المدينة من الغد و تصرف الناس في المعاملات و دخول أمير ينزل بمحل الإمارة منها و يملك أمرهم بعز ولايته
و أخبرني القاضي برهان الدين أنه سأله عني و هل سافرت مع عساكر مصر أو أقمت بالمدينة فأخبره بمقامي بالمدرسة حيث كنت و بتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع و أنكر البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول و بلغني الخبر من جوف الليل فخشيت البادرة على نفسي و بكرت سحرا إلى جماعة القضاة عند الباب و طلبت الخروج أو التدلي من السور لما حدث عندي من توهمات ذلك الخبر فأبوا علي أولا ثم أصخوا لي و دلوني من السور فوجدت بطانته عند الباب و نائبه الذي عينه للولاية على دمشق و اسمه شاه ملك من بني جقطاي أهل عصابته فحييتهم و حيوني و فديت و فدوني و قدم لي شاه ملك مركوبا و بعث معي من بطانة السلطان من أوصلي إليه فلما وقفت بالباب خرج الإذن بإجلاسي في خيمة هنالك تجاور خيمة جلوسه ثم زيد في التعريف باسمي أني القاضي المالكي المغربي فاستدعاني و دخلت عليه بخيمة جلوسه متكئا على مرفقه و صحاف الطعام تمر بين يديه يشير بها إلى عصب المغل جلوسا أمام خيمته حلقا حلقا فلما دخلت عليه فاتحت بالسلام و أوميت إيماءة الخضوع فرفع رأسه و مد يده إلي فقبلتها و أشار بالجلوس فجلست حيث انتهيت ثم استدعى من بطانته الفقيه عبد الجبار بن النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم فأقعده يترجم ما بيننا و سألني من أين جئت من المغرب و لما جئت فقلت : جئت من بلادي لقضاء الفرض ركبت إليها البحر و وافيت مرسى الإسكندرية يوم الفطر سنة أربع و ثمانين من هذه المائة الثامنة و المفرحات بأسوارهم لجلوس الظاهر على تخت الملك لتلك العشرة الأيام بعددها فقال لي : و ما فعل معك قلت كل خير بر مقدمي و أرغد قراي و زودني للحج و لما رجعت وفر جرايتي و أقمت في ظله و نعمته رحمه الله و جزاه فقال : و كيف كانت توليته إياك القضاء ؟ فقلت : مات قاضي المالكية قبل موته بشهر و كان يظن بي المقام المحمود في القيام بالوظيفة و تحري المعدلة و الحق و الإعراض عن الجاه فولاني مكانه و مات لشهر بعدها فلم يرض أهل الدولة بمكاني فأدالوني منها بغيري جزاهم الله فقال لي : و أين ولدك فقلت : بالمغرب الجواني كاتب للملك الأعظم هنالك فقال و ما معنى الجواني في وصف المغرب فقلت هو عرف خطابهم معناه الداخلي أي الأبعد لأن المغرب كله على ساحل البحر الشامي من جنوبه فالأقرب إلى هنا برقة و أفريقية والمغرب الأوسط : تلمسان و بلاد زناتة و الأقصى : فاس و مراكش و هو معنى الجواني فقال لي : و أين مكان طنجة من ذلك المغرب فقلت : في الزاوية التي بين البحر المحيط و الخليج المسمى بالزقاق و هو خليج البحر الشامي فقال : و سبتة فقلت : على مسافة من طنجة على ساحل الزقاق و منها التعدية إلى الأندلس لقرب مسافته لأنها هناك نحو العشرين ميلا فقال : و فاس فقلت : ليست على البحر و هي في وسط التلول و كرسي ملوك المغرب من بني مرين فقال : و سجلماسة قلت : في الحد ما بين الأرياف و الرمال من جهة الجنوب فقال : لا يقنعني هذا و أحب أن تكتب لي بلاد المغرب كلها أقاصيها و أدانيها و جباله و أنهاره و قراه و أمصاره حتى كأني أشاهده فقلت : يحصل ذلك بسعادتك و كتبت له بعد انصرافي من المجلس لما طلب من ذلك و أوعبت الغرض فيه في مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشرة من الكراريس المنضفة القطع ثم أشار إلى خدمه بإحضار طعام من بيته يسمونه الرشتة و يحكمونه على أبلغ ما يمكن فأحضرت الأواني منه و أشار بعرضها علي فمثلت قائما و تناولتها و شربت و استطبت و وقع ذلك منه أحسن المواقع ثم جلست و سكتنا و قد غلبني الوجل بما وقع من نكبة قاضي القضاة الشافعية صدر الدين المناوي أسره التابعون لعسكر مصر بشقحب و ردوه فحبس عندهم في طلب الفدية منه فأصابنا من ذلك وجل فزورت في نفسي كلاما أخاطبه به و أتلطفه بتعظيم أحواله و ملكه و كنت قبل ذلك بالمغرب قد سمعت كثيرا من الحدثان في ظهوره و كان المنجمون المتكلمون في قرانات العلويين يترقبون القران العاشر في المثلثة الهوائية و كان يترقب عام ستة و ستين من المائة السابعة فلقيت ذات يوم من عام أحد و ستين و سبعمائة بجامع القرويين من فاس الخطيب أبا على بن باديس خطيب قسنطينة و كان ماهرا في ذلك الفن فسألته عن هذا القران المتوقع و ما هي آثاره فقال لي : يدل على ثائر عظيم في الجانب الشمالي الشرقي من أمة بادية أهل خيام تتغلب على الممالك و تقلب الدول و تستولي على أكثر المعمور فقلت : و متى زمنه ؟ فقال : عام أربعة و ثمانين تنتشر أخباره و كتب لي بمثل ذلك الطبيب ابن زرزر اليهودي طبيب ملك الأفرنج ابن أذفونش و منجمه و كان شيخي رحمه الله إمام المعقولات محمد بن إبراهيم الآبلي متى فاوضته في ذلك أو سايلته عنه يقول : أمره قريب و لابد لك إن عشت أن تراه
و أما المتصوفة فكنا نسمع عنهم بالمغرب ترقبهم لهذا الكائن و يرون أن القائم به هو الفاطمي المشار إليه في الأحاديث النبوية من الشيعة و غيرهم فأخبرني يحيى بن عبد الله حافد الشيخ أبي يعقوب البادسي كبير الأولياء بالمغرب أن الشيخ قال لهم ذات يوم و قد انفتل من صلاة الغداة : إن هذا اليوم ولد فيه القائم الفاطمي و كان ذلك في عشر الأربعين من المائة الثامنة فكان في نفسي من ذلك كله ترقب له
فوقع في نفسي لأجل الوجل الذي كنت فيه أن أفاوضه في شيء من ذلك يستريح إليه و يأنس به مني ففاتحته و قلت : أيدك الله ! لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنى لقاءك فقال لي الترجمان عبد الجبار : و ما سبب ذلك فقلت : أمران الأول أنك سلطان العالم و ملك الدنيا و ما أعتقد أنه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك و لست ممن يقول في الأمور بالجزاف فإني من أهل العلم و أبين ذلك فأقول :
إن الملك إنما يكون بالعصبية و على كثرتها يكون قدر الملك و اتفق أهل العلم من قبل و من بعد أن أكثر أمم البشر فرقتان : العرب و الترك و أنتم تعلمون ملك العرب كيف كان لما اجتمعوا في دينهم على نبيهم و أما الترك ففي مزاحمتهم لملوك الفرس و انزاع ملكهم أفراسياب خراسان من أيديهم شاهد بنصابهم من الملك و لا يساويهم في عصبيتهم أحد من ملوك الأرض من كسرى أو قيصر أو الاسكندر أو بختنصر أما كسرى فكبير الفرس و مليكهم و أين الفرس من الترك و أما قيصر و الإسكندر فملوك الروم و أين الروم من الترك و أما بختنصر فكبير أهل بابل و النبط و أين هؤلاء من الترك و هذا برهان ظاهر على ما ادعيته في هذا الملك
و أما الأمر الثاني بما يحملني على تمني لقائه فهو ما كنت أسمعه من أهل الحدثان بالمغرب و الأولياء و ذكرت ما قصصته من ذلك قبل فقال لي : و أراك قد ذكرت بختنصر مع كسرى و قيصر و الإسكندر و لم يكن في عدادهم لأنهم ملوك أكابر و بختنصر قائد من قواد الفرس كما أنا نائب من نواب صاحب التخت و هو هذا و أشار إلى الصف القائمين وراءه و كان واقفا معهم و هو ربيبه الذي تقدم لنا أنه تزوج أمه بعد أبيه ساطلمش فلم يلفه هناك و ذكر له القائمون في ذلك الصف أنه خرج عنهم
فرجع إلي فقال : و من أي الطوائف هو بختنصر فقلت : بين الناس فيه خلاف فقيل من النبط بقية ملوك بابل و قيل من الفرس الأولى فقال : يعني من ولد منوشهر قلت نعم هكذا ذكروا فقال : و منوشهر له علينا ولادة من قبل الأمهات ثم أفضت مع الترجمان في تعظيم هذا القول منه و قلت له : و هذا مما يحعلني على بني لقائه
فقال الملك : و أي القولين أرجح عندك فيه فقلت إنه من عقبة ملوك بابل فذهب هو إلى ترجيح القول الآخر فقلت : يعكر تملينا رأي الطبري فإنه مؤرخ الأمة و محدثهم و لا يرجحه غيره فقال : و ما علينا من الطبري نحضر كتب التاريخ للعرب و العجم و نناظرك فقلت : و أنا أيضا أناظر على رأي الطبري و انتهى بنا القول فسكت و جاءه الخبر بفتح باب المدينة و خروج القضاة وفاء بما زعموا من الطاعة التي بذل لهم فيها الأمان فرفع من بين أيدينا لما في ركبته من الداء و حمل على فرسه فقبض شكائمه و استوى في مركبه و ضربت الآلات حفافيه حتى ارتج لها الجو و سار نحو دمشق و نزل في تربة منجك عند باب الجابية فجلس هناك و دخل إليه القضاة و أعيان البلد و دخلت في جهملتهم فأشار إليهم بالانصراف و إلى شاه ملك نائبه أن يخلع عليهم في وظائفهم و أشار إلي بالجلوس فجلست بين يديه ثم استدعى أمراء دولته القائمين على أمر البناء فأحضروا عرفاء البنيان المهندسين و تناظروا في إذهاب الماء الدائر بحفير القلعة لعلهم يعثرون بالصناعة على منفذه فتناظروا في مجلسه طويلا ثم انصرفوا و انصرفت إلى بيتي داخل المدينة بعد أن استأذنته في ذلك فأذن فيه و أقمت في كسر البيت و اشتغلت بما طلب مني في وصف بلاد المغرب فكتبته في أيام قليلة و رفعته إليه فأخذه من يدي و أمر موقعه بترجمته إلى اللسان المغلي ثم اشتد في حصار القلعة و نصب عليها الآلات من المجانيق و النفوط و العرادات و النقب فنصبوا لأيام قليلة ستين منجنيقا إلى ما يشاكلها من الآلات الأخرى و ضاق الحصار بأهل القلعة و تهدم بناؤها من كل جهة فطلبوا الأمان
و كان بها جماعة من خدام السلطان و مخلفه فأمهنم السلطان تمر و حضروا عنده و خرب القلعة و طمس معالمها و صادر أهل البلد على قناطير من الأموال استولى عليها بعد أن أخذ جميع ما خلفه صاحب مصر هنالك من الأموال و الظفر و الخيام ثم أطلق أيدي النقابة على بيوت أهل المدينة فاستوعبوا أناسيها وأمتعتها و أضرموا النار فيما بقي من سقط الأقمشة و الخرثي فاتصلت النار بحيطان الدور المدعمة بالخشب فلم تزل تتوقد إلى أن اتصلت بالجامع الأعظم و ارتفعت إلى سقفه فسال رصاصه و تهدمت سقفه و حوائطه و كان أمرا بلغ مبالغه في الشناعة و القبح و تصاريف الأمور بيد الله يفعل في خلقه ما يريد و يحكم في ملكه ما يشاء و كان أيام مقامي عند السلطان تمر خرج إليه من القلعة يوم أمن أهلها رجل من أعقاب الخلفاء بمصر من ذرية الحاكم العباسي الذي نصبه الظاهر بيبرس فوقف إلى السلطان تمر يسأله النصفة في أمره و يطلب منه منصب الخلافة كما كان لسلفه فقال له السلطان تمر : أنا أحضر لك الفقهاء و القضاة فإن حكموا لك بشيء أنصفتك فيه و استدعى الفقهاء و القضاة و استدعاني فيهم فحضرنا عنده و حضر هذا الرجل الذي يسأل منصب الخلافة فقال له عبد الجبار : هذا مجلس النصفة فتكلم فقال : إن هذه الخلافة لنا و لسلفنا إن الحديث صح الأمر لبني العباس ما بقيت الدنيا يعني أمر الخلافة و إني أحق من صاحب المنصب الآن بمصر لأن آبائي الذين ورثتهم كانوا قد استحقوه و صار إلى هذا بغير مستند فاستدعى عبد الجبار كلا منا في أمره فسكتنا برهة ثم قال : ما تقولون في هذا الحديث قال برهان الدين بن مفلح : الحديث ليس بصحيح و استدعى ما عندي في ذلك فقلت : الأمر كما قلتم من أنه غير صحيح فقال السلطان تمر : فما الذي أصار الخلافة لبني العباس إلى هذا العهد في الإسلام ؟ و شافهني بالقول فقلت : أيدك الله ! اختلف المسلمون من لدن وفاة النبي صلى الله عليه و سلم هل يحب على المسلمين ولاية رجل منهم يقوم بأمورهم في دينهم و دنياهم أكل لا يجب ذلك ؟ فذهبت طائفة إلى أنه لا يجب و منهم الخوارج و ذهب الجماعة إلى وجوبه و اختلفوا في مستند ذلك الوجوب فذهب الشيعة كلهم إلى حديث الوصية و أن النبي صلى الله عليه و سلم أوصى بذلك لعلي و اختلفوا في تنقلها عنه إلى عقبه إلى مذاهب كثيرة تشذ عن الحصر و أجمع أهل السنة على إنكار هذه الوصية و أن مستند الوجوب في ذلك إنما هو الاجتهاد يعنون أن المسلمين يجتهدون في اختيار رجل من أهل الحق و الفقه و العدل بفوضون إليه النظر في أمورهم
و لما تعددت فرق العلوية و انتقلت الوصية بزعمهم من بني الحنفية إلى بني العباس أوصي بها أبو هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس و بث دعاته بخراسان و قام أبو مسلم بهذه الدعوة فملك خراسان و العراق و نزل شيعتهم الكوفة و اختاروا للأمر أبا العباس السفاح ابن صاحب هذه الدعوة ثم أرادوا أن تكون بيعته على إجماع من أهل السنة و الشيعة فكاتبوا كبار الأمة يومئذ و أهل الحل و العقد بالحجاز و العراق يشاورونهم في أمره فوقع اختيارهم كلهم على الرضى به فبايع له شيعته بالكوفة بيعة إجماع و إصفاق ثم عهد بها إلى أخيه المنصور و عهد بها المنصور إلى بنيه فلم تزل متناقلة فيهم إما بعهد أهل العصر إلى أن كان المستعصم آخرهم ببغداد فلما استولى عليها هولاكو و قتله افترق قرابته و لحق بعضهم بمصر و هو أحمد الحاكم من عقب الراشد فنصبه الظاهر بيبرس بمصر بممالأة أهل الحل و العقد من الجند و الفقهاء و انتقل الأمر في بيته إلى هذا الذي بمصر لا يعلم خلاف ذلك فقال لهذا الرافع : قد سمعت مقال القضاة و أهل الفتيا و ظهر أنه ليس لك حق تطلبه عندي فانصرف راشدا (7/728)
الرجوع عن هذا الأمير تمر إلى مصر
كنت لما لقيته و تدليت إليه من السور كما مر أشار على بعض الصحاب ممن يخبر أحوالهم بما تقدمت له من المعرفة بهم فأشار بأن أطرفه ببعض هدية و إن كانت نزرة فهي عندهم متأكدة في لقاء ملوكهم فانتقيت من سوق الكتب مصحفا رائعا حسنا في جزء محذو و سجادة أنيقة و نسخة من قصيدة البردة المشهورة للأبوصيري في مدح النبي صلى الله عليه و سلم و أربع علب من حلاوة مصر الفاخرة و جئت بذلك فدخلت عليه و هو بالقصر الأبلق جالس في إيوانه فلما رآني مقبلا مثل قائما و أشار إلي عن يمينه فجلست و أكابر من الجقطية حفافية فجلست قليلا ثم استدرت بين يديه و أشرت إلى الهدية التي ذكرتها و هي بيد خدامي فوضعتها و استقبلني ففتحت المصحف فلما رآه و عرفه قام مبادرا فوضعه على رأسه ثم ناولته البردة فسألني عنها و عن ناظمها فأخبرته بما وقفت عليه من أمرها ثم ناولته السجادة فتناولها و قبلها ثم وضعت علب الحلوى بين يديه و تناولت منها حرفا على العادة في التأنيس بذلك ثم قسم هو ما فيها من الحلوى بين الحاضرين في مجلسه و تقبل ذلك كله و أشعر بالرضى به ثم حومت على الكلام بما عندي في شأن نفسي و شأن أصحاب لي هنالك فقلت أيدك الله لي كلام أذكره بين يديك فقال : قل فقلت أنا غريب بهذه البلاد غربتين واحدة من المغرب الذي هو وطني و منشأي و أخرى من مصر و أهل جيلي بها و قد حصلت في ظلك و أنا أرجو رأيك لي فيما يؤنسني في غربتي فقال : قل الذي تريد أفعله لك فقلت : حال الغربة أنستني ما أريد و عساك أيدك الله أن تعرف لي ما أريد فقال : انتقل من المدينة إلى الأردو عندي و أنا إن شاء الله أوفي كنه قصدك فقلت يأمر لي بذلك نائبك شاه ملك فأشار إليه بإمضاء ذلك فشكرت و دعوت و قلت : و بقيت لي أخرى فقال : و ما هي فقلت هؤلاء المخلفون عن سلطان مصر من القراء و الموقعين و الدواوين و العمال صاروا إلى إيالتك و الملك لا يغفل مثل هؤلاء فسلطانكم كبير و عمالاتكم متسعة و حاجة ملككم إلى المتصرفين في صنوف الخدم أشد من حاجة غيركم فقال و ما تريد لهم قلت : مكتوب أمان يستنيمون إليه و يعولون في أحوالهم عليه فقال لكاتبه : اكتب لهم بذلك فشكرت و دعوت و خرجت مع الكاتب حتى كتب لي مكتوب الأمان و ختمه شاه ملك بخاتم السلطان و انصرفت إلى منزلي و لما قرب سفره و اعتزم على الرحيل عن الشام دخلت عليه ذات يوم فلما قضينا المعتاد التفت إلي و قال : عندك بغلة هنا قلت نعم قال حسنة قلت نعم قال و تبيعها فأنا أشتريها منك فقلت أيدك الله ! مثلي لا يبيع من مثلك إنما أنا أخدمك بها و بأمثالها لو كانت لي فقال : أنا أردت أن أكافئك عنها بالإحسان فقلت : و هل بقي إحسان وراء ما أحسنت به اصطنعتني و أحللتني من مجلسك محل خواصك و قابلتني من الكرامة و الخير بما أرجو الله أيقابلك بمثله و سكت و سكت و حملت البغلة و أنا معه في المجلس إليه و لم أرها بعد
ثم دخلت عليه يوما آخر فقال لي : أتسافر إلى مصر فقلت أيدك الله رغبتي إنما هي أنت و أنت قد آويت و كفلت فإن كان السفر إلى مصر في خدمتك فنعم و إلا فلا بغية لي فيه فقال لا بل تسافر إلى عيالك و أهلك فالتفت إلى ابنه و كان مسافرا إلى شقحب لمرباع دوابه و اشتغل يحادثه فقال لي الفقيه عبد الجبار الذي كان يترجم بيننا : إن السلطان يوصي ابنه بك فدعوت له ثم رأيت أن السفر مع ابنه غير مستبين الوجهة و السفر إلى صفد أقرب السواحل إلينا أملك لأمري فقلت له ذلك فأجاب إليه و أوصي بي قاصدا كان عنده من حاجب صفد ابن الداويداري فودعته و انصرفت و اختلفت الطريق مع ذلك القاصد فذهب عني و ذهبت عنه و سافرت في جمع أصحابي فاعترضتنا جماعة من العشير قطعوا علينا الطريق و نهبوا ما معنا و نجونا إلى قرية هنالك عرايا و اتصلنا بعد يومين أو ثلاث بالصبيبة فخلفنا بعض الملبوس و أجزنا إلى صفد فأقمنا بها أياما ثم مر بنا مركب من مراكب ابن عثمان سلطان بلاد الروم وصل فيه رسول كان سفر إليه عن سلطان مصر و رجع بجوار رسالته فركبت معهم البحر إلى غزة و نزلت بها و سافرت منها إلى مصر فوصلتها في شعبان من هذه السنة و هي سنة ثلاث و ثمانمائة و كان السلطان صاحب مصر قد بعث من بابه سفيرا إلى الأمير تمر إجابة إلى الصلح الذي طلب منه فأعقبني إليه فلما قضى رسالته رجع و كان وصوله بعد وصولي فبعث إلي مع بعض أصحابه يقول لي : إن الأمير تمر قد بعث معي إليك ثمن البغلة التي ابتاع منك و هي هذه فخذها فإنه عزم علينا من خلاص ذمته من مالك هذا فقلت لا أقبله إلا بعد إذن من السلطان الذي بعثك إليه و أما دون ذلك فلا و مضيت إلى صاحب الدولة فأخبرته الخبر فقال و ما عليك فقلت : إن ذلك لا يجمل بي أن أفعله دون إطلاعكم عليه فأغضى عن ذلك و بعثوا إلي بذلك المبلغ بعد مدة و اعتذر الحامل عن نقصه بأنه أعطيه كذلك و حمدت الله على الخلاص
و كتبت حينئذ كتابا إلى صاحب المغرب عرفته بما دار بيني و بين سلطان الططر تمر و كيف كانت واقعته معنا بالشام و ضمنت ذلك في فصل من الكتاب نصه :
و إن تفضلتم بالسؤال عن حال المملوك فهي بخير و الحمد لله و كنت في العام الفارط توجهت صحبة الركاب السلطاني إلى الشام عندما زحف الططر إليه من بلاد الروم و العراق مع ملكهم تمر و استولى على حلب و حماة و حمص و بعلبك و خربها جميعا و عاثت عساكره فيها بما لم يسمع أشنع منه و نهض السلطان في عساكره لاستنقاذها و سبق إلى دمشق و أقام في مقابلته نحوا من شهر ثم قفل راجعا إلى مصر و تخلف الكثير من أمرائه و قضاته و كنت في المخلفين و سمعت أن سلطانهم تمر سأل عني فلم يسع إلا لقاؤه فخرجت إليه من دمشق و حضرت مجلسه و قابلني بخير و اقتضيت منه الأمان لأهل دمشق و أقمت عنده خمسا و ثلاثين يوما أباكره و أراوجه ثم صرفني و ودعني على أحسن حال و رجعت إلى مصر و كان طلب مني بغلة كنت أركبها فأعطيته إياها و سألني البيع فتأففت منه لما كان يعامل به من الجميل فبعد انصرافي إلى مصر بعث إلي بثمنها مع رسول كان من جهة السلطان هنالك و حمدت الله تعالى على الخلاص من ورطات الدنيا
و هؤلاء الططر هم الذين خرجوا من المفازة وراء النهر بينه و بين الصين أعوام عشرين و ستمائة مع ملكهم الشهير جنكزخان و ملك المشرق كله من أيدي السلجوقية و مواليهم إلى عراق العرب و قسم الملك بين ثلاثة من بنيه و هم جفطاي و طولي و دوشي خان :
فجفطاي كبيرهم و كان في قسمته تركستان و كاشغر و الصاغون و الشاش و فرغانة و سائر ما وراء النهر من البلاد
و طولي كان في قسمته أعمال خراسان و عراق العجم و الري إلى عراق العرب و بلاد فارس و سجستان و السند و كان أبناؤه : قبلاي و هولاكو
و دوشي خان كان في قسمته بلاد قبجق و منها صراي و بلاد الترك إلى خوارزم
و كان لهم أخ رابع يسمى أوكداي كبيرهم و يسمونه الخان و معناه صاحب التخت و هو بمثابة الخليفة في ملك الإسلام و انقرض عقبه و انتقلت الخانية إلى قبلاي ثم إلى بني دوشي خان أصحاب صراي و استمر ملك الططر في هذه الدول الثلاث و ملك هولاكو بغداد و عراق العرب إلى ديار بكر و نهر الفرات ثم زحف إلى الشام و ملكها و رجع عنها و زحف إليها بنوه مرارا و ملوك مصر من الترك يدافعونهم عنها إلى أن انقرض ملك بني هولاكو أعوام أربعين و سبعمائة و ملك بعدهم الشيخ حسن النوين و بنوه و افترق ملكهم في طوائف من أهل دولتهم و ارتفعت نقمتهم عن ملوك الشام و مصر ثم في أعوام السبعين أو الثمانين و سبعمائة ظهر في بني جفطاي وراء النهر أمير اسمه تيمور و شهرته عند الناس تمر و هو كافل لصبي متصل النسب معه إلى جفطاي في آباء كلهم ملوك و هذا تمر بن طرغاي هو ابن عمهم كفل صاحب التخت منهم اسمه محمود و تزوج أم صرغتمش و مد يده إلى ممالك التتر كلها فاستولى عليها إلى ديار بكر ثم جال في بلاد الروم و الهند و عاثت عساكره في نواحيها و خرب حصونها و مدنها في أخبار يطول شرحها ثم زحف بعد ذلك إلى الشام ففعل به ما فعل و الله غالب على أمره ثم رجع آخرا إلى بلاده و الأخبار تتصل بأنه قصد سمرقند و هي كرسيه
و القوم في عدد لا يسعه الإحصاء إن قدرت ألف ألف فغير كثير و لا تقول أنقص و إن خيموا في الأرض ملأوا الساح و إن سار في كتائبهم في الأرض العريضة ضاق بهم الفضاء و هم في الغارة و النهب و الفتك بأهل العمران و ابتلائهم بأنواع العذاب على ما يحصلونه من فئاتهم آية عجب و على عادة بوادي الأعراب
و هذا الملك تمر من زعماء الملوك و فراعنتهم و الناس ينسبونه إلى العلم و آخرون إلى اعتقاد الرفض لما يرون من تفضيله لأهل البيت و آخرون إلى انتحال السحر و ليس من ذلك كله في شيء إنما هو شديد الفطنة و الذكاء كثر البحث و اللجاج بما يعلم و بما لا يعلم عمره بين الستين و السبعين و ركبته اليمنى عاطلة من سهم أصابه في الغارة أيام صباه على ما أخبرني فيجرها في قريب المشي و يتناوله الرجال على الأيدي عند طول المسافة و هو مصنوع له و الملك لله يؤتيه من يشاء من عباده (7/737)
ولاية القضاء الثالثة و الرابعة و الخامسة بمصر
كنت لما أقمت عند السلطان تمر ثلاث الأيام التي أقمت طال مغيبي عن مصر و شيعت الأخبار عني بالهلاك فقدم للوظيفة من يقوم بها من فضلاء المالكية و هو جمال الدين الأقفهسي غزير الحفظ و الذكاء عفيف النفس عن التصدي لحاجات الناس ورع في دينه فقلدوه منتصف جمادى الآخرة من السنة
فلما رجعت إلى مصر عدلوا عن ذلك الرأي و بدا لهم في أمري فولوني في أواخر شعبان من السنة و استمررت على الحال التي كنت عليها من القيام بالحق و الإعراض عن الأغراض و الإنصاف من المطالب و وقع الإنكار علي ممن لا يدين للحق و لا يعطي النصفة من نفسه فسعوا عند السلطان في ولاية شخص من المالكية يعرف بجمال الدين البساطي بذل في ذلك لسعاة داخلوه قطعة من ماله و وجوها من الأغراض في قضائه قاتل الله جميعهم فخلعوا عليه أواخر رجب سنة أربع و ثمانمائة ثم راجع السلطان بصيرته و انتقد رأيه و رجع إلي الوظيفة خاتم سنة أربع و ثمانمائة فأجريت الحال على ما كان و بقي الأمر كذلك سنة و بعض الأخرى و أعادوا البساطي إلى ما كان و بما كان و على ما كان و خلعوا عليه سادس ربيع الأول سنة ست و ثمانمائة ثم أعادوني عاشر شعبان سنة سبع و ثمانمائة ثم أدالوا به مني أواخر ذي القعدة من السنة و بيد الله تصاريف الأمور
تم الجزء السابع من تاريخ ابن خلدون وبتمامه اكتمل للمؤرخ ديوان المبتدأ والخبر من عرب وعجم وبربر ويليه الجزء الثامن وهو فهارس عامة للتاريخ المذكور وضع بإشراف إلى دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع في بيروت
وكان الفراغ من طبعة في الرابع والعشرين من شعبان عام 1401 هـ الموافق 26حزيران 1981 م والحمد لله رب العالمين (7/741)