ملوك بني حبوس ـ الخبر عن ملوك بني حبوس بن ماكسن من بني زيري من صنهاجة من غرناطة من عدوة الأندلس و أولية ذلك و مصايره
لما استبد باديس بن المنصور بن بلكين بن زيري بن مناد بن هاد بولاية أفريقية سنة خمس و ثمانين و ثلثمائة ولى عمومته و قرابته ثغور عمله فأنزل حمادا بأشير أخاه يطوفت بتاهرت و زحف زيري بن عطية صاحب فاس من مغراوة بدعوة المؤيد هشام خليفة قرطبة إلى عمل صنهاجة في جموع زناتة و نزل تاهرت و سرح باديس عساكره لنظر محمد بن ابي العون فالتقوا على تاهرت و انهزم صنهاجة فزحف باديس بنفسه للقائهم و خالف عليه فلفول بن سعيد بن خزرون صاحب طبنة ثم أجفل زيري بن عطية أمامه و رجع إلى المغرب فرجع باديس الى القيروان و ترك عمومته أولاد زيري بأشير مع حماد و أخيه يطوفت و هم زاوي و حلال و عرم و معنين و أجمعوا على الخلاف و الخروج على باديس سنة سبع و ثمانين و ثلثمائة فأسلموا حمادا برمته و استولوا على جميع ما معه و اتصل الخبر بأبي البهار بن زيري و هم مع باديس فخشيه على نفسه و لحق بهم و اجتمعوا في الخلاف و اشتغل باديس عنهم بحرب فلفول بن يانس مولى الحاكم القادم على طرابلس من قبله و انفسح مجالهم في الفساد و العيث و وصلوا أيديهم بفلفول و عاقدوه
ثم رجع أبو البهار عنهم إلى باديس فتقبله و صالح له ثم رجعوا إلى حماد سنة إحدى و تسعين و ثلثمائة و لقيهم فهزمهم و قتل ماكسن و ابنه
و لحق زاوي بجبل شنوق من ساحل مليانة و أجاز البحر إلى الأندلس في بنيه و بني أخيه و حاشيته و نزل على المنصور بن أبي عامر صاحب الدولة و كافل الخلافة الأموية فأحسن نزلهم و أكرم وفادتهم و اصطنعهم لنفسه و اتخذهم بطانة لدولته و أوليائه على ما يرومه من قهر الدولة و التغلب على الخلافة و نظمهم في طبقات زناتة و سائر رجالات البربر الذين أدال بجموعهم من جنود السلطان و عساكر الأموية و قبائل العرب و استغلظ أمر صنهاجة بالأندلس و استفحلت إمارتهم و حملوا دولة المنصور بن أبي عامر و ولديه المظفر و الناصر من بعده على كاهلهم
و لما انقرض أمرهم و اضمحلت دولتهم و نشأت الفتنة بالأندلس بين البرابرة و أهلها فكان زاوي كش تلك الوقائع و محش حروبها
و تمرس بقرطبة هو و قومه صنهاجة و كافة زناتة و البربر حتى أثبتوا قدم خليفتهم المستعين سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر الذي أتوه ببيعتهم و أعطوه على الطاعة صفقتهم كما ذكرناه في أخبارهم
ثم اقتحموا به قرطبة عنوة و اصطلموا عامة أهلها و أنزلوا المعرات بذوي الصون منها و بيوتات الستر من خواصها فحدث الناس ذلك بأخبارها و توصل زاوي عند استباحة قرطبة إلى رأس أبيه زيري بن مناد المتصور بجدران قصر قرطبة فأزاله و أصاره إلى قومه ليدفن في جدثه
ثم كان شأن بني حمود من العلوية وافترق أمر البرابرة و اضطرمت الأندلس نارا و امتلأت جوانبها فتنة و أسرى الرؤساء من البرابرة و رجالات الدولة على النواحي و الأمصار فملكوها و تحيزت صنهاجة إلى ناحية ألبيرة فكانت ضواحيها و حصل عليها استيلاؤهم و زاوي يومئذ عضد البرابرة فنزل غرناطة و اتخذها دارا لملكته و معتصما لقومه
ثم وقع في نفسه سوء أثر البربر بالأندلس أيام الفتنة و حذر مغبة الفعلة و استعاضت الدولة فاعتزم على الرحلة و آوى إلى سلطان قومه بالقيروان سنة عشر و أربعمائة بعد مغيبه عشرين سنة و أنزل على المعز بن باديس حافد أخيه بلكين أجل ما كانت دولتهم بأمر أفريقية و أترف و أوسع ملكا و أوفر عددا فلقيه المعز بأحسن أحوال البر و التجلة و أنزله أرفع المنازل من الدولة و قدمه على الأعمام و القرابة و أسكنه بقصره و أبرز الحرم للقائه فيقال : إنه لقيه من ذوات محارمه ألف امرأة لا تحل له واحدة منهن و وارى إبراهيم مع سلوه بجدثه
و كان استخلف على عمله ابنه ونا فظعن لأهل غرناطة فانتقضوا عليه و بعثوا عن حبوس ابن عمه ماكسن بن زيري مكانه ببعض حصون عمله فبادر إليهم و نزل بغرناطة فانتقضوا عليه و بايعوه و استحدث بها ملكا و كان من أعظم ملوك الطوائف بالأندلس إلى أن هلك سنة تسع و عشرين و أربعمائة و ولي من بعده ابنه باديس بن حبوس و يلقب بالمظفر و لم يزل مقيما لدعوة آل حمو أمراء مالقة بعد تخلفهم عن قرطبة سائر أيامه و زحف إليها العامري صاحب المرية سنة تسع و عشرين و أربعمائة فلقيه باديس بظاهر غرناطة فهزمه و قتله و طالت أيام و مد ملوك الطوائف أيديهم جميعا إلى مدده فكان ممن استمده محمد بن عبد الله البرزالي لما حاصره اسمعيل بن القاضي بن عباد بعساكر أبيه فأمده باديس بنفسه و قومه و صار إلى صريخه مع ابن بقية قائد إدريس بن حمود صاحب المالقة سنة إحدى و ثلاثين و أربعمائة و رجعوا من طريقهم و طمع اسمعيل بن القاضي بن عباد مع صريخه فيهم فاتبعهم و لحق بباديس في قومه فاقتتلوا و فر عسكر اسمعيل و أسلموه فقتله صنهاجة و حمل رأسه إلى ابن حمود
و كان القادر بن ذي النون صاحب طليطلة أيضا يستدفع به و بقومه استطالة ابن عباد و أعوانه و باديس هذا هو الذي مصر غرناطة و اختط قصبتها و شاد قصورها و شيد حصونها و آثاره في مبانيها و مصانعها باقية لهذا العهد
و استولى على مالقة عند انقراض بني حمود سنة تسع و أربعين و أضافها إلى عمله و هلك سنة سبع و ستين و أربعمائة و ظهر أمر المرابطين بالمغرب و استفحل ملك يوسف بن تاشفين فولي من بعده حافده عبد الله بن بلكين بن باديس و تغلب المظفر و عقد لأخيه تميم على مالقة فاستقام أمرها إلى أن أجاز يوسف بن تاشفين إلى العدوة إجازته المعروفة كما نذكره في أخباره و نزل بغرناطة سنة ثلاث و ثمانين فتقبض على عبد الله بن بلكين و استصفى أمواله و ذخيرته و ألحق به أخاه تميما من مالقة و استصحبهما إلى العدوة فأنزل عبد الله و تميما بالسوس الأقصى و أقطع لهما إلى أن هلكوا في إيالته و يزعم بنو الماكسن من بيوتات طنجة لهذا العهد أنهم من أعقابهم فاضمحل ملك بلكانة من صنهاجة و من أفريقية و الأندلس أجمع و البقاء لله وحده (6/238)
الطبقة الثانية من صنهاجة و هم الملثمون و ما كان لهم بالمغرب من الملك و الدولة
هذه الطبقة من صنهاجة هم الملثمون الموطنون بالقفر وراء الرمال الصحراوية بالجنوب أبعدوا في المجالات هنالك منذ دهور قبل الفتح لا يعرف أولها فأصحروا عن الأرياف و وجدوا بها المراد و هجروا التلول و جفوها و اعتاضوا منها بألبان الأنعام و لحومها انتباذا عن العمران و استئناسا بالانفراد و توحشا بالعز عن الغلبة و القهر
فنزلوا من ريف الحبشة جوارا و صاروا بين بلاد البربر و بلاد السودان حجزا و اتخذوا اللثام خطاما تميزوا بشعاره بين الأمم و عفوا في تلك البلاد و كثروا و تعددت قبائلهم من كذالة فلمتونة فمسوقة فوتريكة فناوكا فزغاوه ثم لمطة إخوة صنهاجة كلهم ما بين البحر المحيط بالمغرب إلى غدامس من قبلة طرابلس و برقة
و للمتونة فيهم بطون كثيرة منه بنو ورتنطق و بنو زمال و بنو صولان و بنو ناسجة و كان موطنهم من بلاد الصحراء يعرف كأكدم و كان دينهم جميعا المجوسية شأن برابرة المغرب
و لم يزالوا مستقرين بتلك المجالات حتى كان إسلامهم بعد فتح الأندلس و كانت الرياسة فيهم للمتونة
و استوسق لهم ملك ضخم مذ دولة عبد الرحمن بن معاوية الداخل توارثه ملوك منهم : تلاكاكين و ورتكا اوراكن بن ورتنطق جد أبي بكر بن عمر أمير لمتونة في مبتدأ دولتهم و طالت أعمارهم فيها إلى الثمانين و نحوها و دوخوا تلك البلاد الصحراوية و جاهدوا من بها من أمم السودان و حملوهم على الإسلام فدان به كثيرهم
و اتقاهم آخرون بالجزية فقبلوها منهم و ملك عليهم بعد تلاكاكين المذكور ثيولوثان
قال ابن أبي زرع : أول من ملك الصحراء من لمتونة ثيولوثان فدوخ بلاد الصحراء و اقتضى مغارم السودان و كان يركب في مائة ألف نجيب و توفي سنة اثنتين و عشرين و مائتين و ملك بعده يلتان و قام بأمرهم و توفي سنة سبع و ثمانين ومائتين وقام بأمرهم بعده ابنه تميم إلى سنة ست و ثلثمائة وقتله صنهاجة و افترق أمرهم كلام ابن أبي زرع و قال غيره : كان من أشهرهم تيزا و ابن وانثبق بن بيزا و قيل برويان بن واشنق بن يزار ملك الصحراء بأسرها على عبد الرحمن الناصر و ابنه الحكم المستنصر في المائة الرابعة
و في عهد عبيد الله و ابنه أبي القاسم من خلفاء الشيعة كان يركب في مائة ألف نجيب و عمله مسيرة شهرين في مثلها و دان له عشرون ملكا من ملوك السودان يعطونه الجزى و ملك من بعده بنوه
ثم افترق أمرهم من بعد ذلك و صار ملكهم طوائف و رياستهم شيعا
قال ابن أبي زرع :
افترق أمرهم بعد تميم بن بلتان مائة و عشرون سنة إلى أن قام فيهم أبو عبيد الله بن تيفاوت المعروف بناشرت اللمتوني فاجتمعوا عليه و أحبوه و كان من أهل الدين و الصلاح و حج و هلك لثلاثة أعوام من رياسته في بعض غزواته
و قام بأمرهم صهره يحيى بن إبراهيم الكندالي و بعده يحيى بن عمر بن تلاكاكين كلامه
و كان لهذه الطبقة ملك ضخم بالمغرب و الأندلس أولا و بأفريقية بعده فنذكره الآن على نسقه (6/241)
الخبر عن دولة المرابطين من لمتونة و ما كان لهم بالعدوتين من الملك و أولية ذلك و مصايره
كان لهؤلاء الملثمون في صحاريهم كما قلناه و كانوا على دين المجوسية إلى أن ظهر فيهم الإسلام لعهد المائة الثالثة كما ذكرناه و جاهدوا جيرانهم من السودان عليه فدانوا لهم و استوسق لهم الملك ثم افترقوا و كانت رياسة كل بطن منهم في بيت مخصوص
فكانت رياسة لمتونة في بني ورتانطق بن منصور وصالة بن المنصور بن مزالت ابن أميت بن رتمال بن ثلميت و هو لمتونة
و لما أفضت الرياسة إلى يحيى بن إبراهيم الكندالي و كان له صهر في بني ورتانطق هؤلاء و تظاهروا على أمرهم و خرج يحيى بن إبراهيم لقضائه فرصة في رؤساء من قومه في سني أربعين و أربعمائة فلقوا في منصرفهم بالقيروان شيخ المذهب المالكي أبو عمران الفاسي و اغتنموا ما متعوا به من هدية و ما شافههم به من فروض أعيانهم من فتاويه
و سأله الأمير يحيى أن يصحيهم من تلميذه من يرجعون إليه في نوازلهم و قضايا دينهم فندب تلميذه إلى ذلك حرصا على إيصال الخبر إليهم لما رأى من رغبتهم فيه
فاستوعروا مسغبة بلادهم و كتب لهم الفقيه أبو عمران إلى الفقيه محمد وكاك ابن زلوا اللمطي بسلجماسة من الآخذين عنه و عهد إليه أن يلتمس لهم من يثق بدينه و فقهه و يروض نفسه على مسغبة أرضهم في معاشه فبعث معهم عبد الله بن ياسين بن مكو الجزولي و وصل معهم يعلمهم القرآن و يقيم لهم الدين ثم هلك يحيى ابن ابراهيم و افترق أمرهم و اطرحوا عبد الله بن ياسين و استصعبوا عمله و تركوا الأخذ عنه لما تجشموا فيه من مشاق التكليف فأعرض عنهم و ترهب و تنسك معه يحيى بن عمر بن تاكلاكين من رؤساء لمتونة و أخوه أبو بكر فنبذوا عن الناس في ربوة يحيط بحر النيل من جهاتها ضحضاحا في المصيف و غمرا في الشتاء فتعود جزرا منقطعة فدخلوا في غياضها منفردين للعبادة و تسامح بهم من قلبه مثقال حبة من خير فتسايلوا إليهم و دخلوا دينهم و غيضتهم
و لما كمل معهم ألف من الرجالات قال لهم شيخهم عبد الله بن ياسين : إن ألفا لن تغلب من قلة و قد تعين علينا القيام بالحق و الدعاء إليه و حمل الكافة عليه فأخرجوا بنا لذلك فخرجوا و قتلوا من استعصى عليهم من قبائل لمتونة و كدالة و مهمومة حتى أنابوا إلى الحق و استقاموا على الطريقة و أذن لهم في أخذ الصدقات من أموال المسلمين وسماهم بالمرابطين و جعل أمرهم في العرب إلى الأمير يحيى بن عمر فتخطوا الرمال الصحراوية إلى بلاد درعة و سجلماسة فأعطوهم صدقاتهم و انقلبوا ثم كتب إليهم وكاك اللمطي بما نال المسلمين فيما إليه من العسف و الجور من بني وانودين أمراء سجلماسة من مغراوة و حرضهم على تغيير أمرهم فخرجوا من الصحراء سنة خمس و أربعين و أربعمائة في عدد ضخم ركبانا على المهارى أكثرهم و عمدوا إلى درعة لا بل كانت هنالك بالحمى و كانت تناهز خمسين ألفا و نحوها
و نهض إليهم مسعود بن وانودين أمير مغراوة و صاحب سجلماسة و درعة لمدافعتهم عنها و عن بلاده فتواقعوا و انهزم ابن وانودين و قتل و استلحم عسكره مع أموالهم و استلحمهم و دوابهم وابل الحمى التي كانت ببلد درعة و قصدوا سجلماسة فدخلوها غلابا و قتلوا من كان بها من أهل مغراوة وأصلحوا من أحوالها و غيروا المنكرات و أسقطوا المغارم و المكوس و اقتضوا الصدقات و استعملوا عليها منهم و عادو إلى صحرائهم فهلك يحيى بن عمر سنة سبع و أربعين و قدم مكانه أخاه أبا بكر و ندب المرابطين إلى فتح المغرب فغزا بلاد السوس سنة ثمان و أربعين و أربعمائة و افتتح ماسة و تارودانت سنة تسع و أربعين و أربعمائة و فر أميرها لقوط بن يوسف بن علي المغراوي إلى تادلا و استضاف إلى بني يفرن ملوكها و قتل معهم لقوط بن يوسف المغراوي صاحب غمات و تزوج امرأته زينب بنت اسحق النفزاوية و كانت مشهورة الجمال و الرياسة و كانت قبل لقوط عند يوسف بن علي بن عبد الرحمن بن واطاس و كان شيخا على وريكة و هي زوجة هيلانة في دولة امغارن في بلاد المصامدة و هم الشيوخ و تغلب بنو يفرن على وريكة و ملكوا غمات فتزوج لقوط زينب هذه ثم تزوجها بعده أبو بكر بن عمر كما ذكرنا ثم دعا المرابطين الى جهاد برغواطة الذين كانوا بتامستا و إنفا وجهات الريف الغربي فكانت لهم فيهم وقائع و أيام استشهد عبد الله بن ياسين في بعضها سنة خمسين و أربعمائة و قد أم المرابطين بعده سليمان بن حروا ليرجعوا إليه في قضايا دينهم
و استمر أبو بكر بن عمر في إمارة قومه على جهادهم ثم استأصل شأفتهم و محا أثر دعوتهم من المغرب و هلك في جهادهم سليمان بن عدو سنة إحدى و خمسين و أربعمائة لسنة من وفاة عبد الله بن ياسين
ثم نازل أبو بكر مدينة لواتة و افتتحها عنوة و قتل من كان بها من زناتة سنة اثنتين و خمسين و أربعمائة و بلغه و هو لم يستتم فتح المغرب بعد ما وقع من الخلاف بين لمتونة و مسوفة ببلاد الصحراء حيث أصل أعياصهم و وشايج أعراقهم و منيع عددهم فخشي افتراق الكلمة و انقطاع الوصلة و تلافى أمره بالرحلة و أكد ذلك زحف بلكين بن محمد بن حماد صاحب القلعة إلى المغرب سنة ثلاث و خمسين و أربعمائة لقتالهم فارتحل أبو بكر إلى الصحراء و استعمل على المغرب ابن عمه يوسف بن تاشفين و نزل له عن زوجه زينب بنت اسحق و لحق بقومه و رفع ما كان بينهم من خرق الفتنة و فتح بابا من جهاد السودان فاستولى على نحو تسعين رحلة من بلادهم
و أقام يوسف بن تاشفين بأطراف المغرب و نزل بلكين صاحب القلعة فاس و أخذ رهنها على الطاعة و انكفأ راجعا فحينئذ سار بن تاشفين في عسكره من المرابطين و دوخ أقطار المغرب ثم رجع أبو بكر الى المغرب فوجد يوسف بن تاشفين قد استبد عليه و أشارت عليه زينب أن يريه الاستبداد في أحواله و أن يعد له متاع الصحراء و ماعونها ففطن لذلك الأمير أبو بكر و تجافى عن المنازعة و سلم له الأمر و رجع إلى أرضه فهلك لمرجعه سنة ثمانين و أربعمائة
و اختط يوسف مدينة مراكش سنة أربع و خمسين و أربعمائة و نزلها يالخيام و أدار سورها على مسجد و قصبة صغيرة لاختزان أمواله و سلاحه و كمل تشييدها و أسوارها علي ابنه من بعده سنة ست و عشرين و خمسمائة و جعل يوسف مدينة مراكش لنزله و لعسكره و للتمرس بقبائل المصامدة المصيفة بمواطنهم بها في جبل درن فلم يكن في قبائل المغرب أشد منهم و لا أكثر جمعا ثم صرف عزمه إلى مطالبة مغراوة و بني يفرن و قبائل زناتة بالمغرب و جذب الخيل من أيديهم و كشف ما نزل بالرعايا من جورهم و عسفهم فقد كانوا من ذلك على ألم حدث المؤرخون في أخبار مدينة فاس و دولتهم فيها بكثير منه فنازل أولا قلعة فازاز و بها مهدي بن توالي من بني يحفش
قال صاحب نظم الجواهر : و هم بطن من زناتة و كان أبو توالي صاحب تلك القلعة و وليها هو من بعده فنازله يوسف بن تاشفين
ثم استجاش به على فاس مهدي بن يوسف الكرنامي صاحب مكناسة بما كان عدوا لمعنصر المغراوي صاحب فاس فزحف في عساكر المرابطين إلى فاس و جمع إليه معنصر ففض جموعه و ارتحل يوسف إلى فاس و تقرى منازلها و افتتح جميع الحصون المحيطة بها و أقام عليها أياما قلائل و ظفر بعاملها بكار بن ابراهيم فقتله ثم نهض إلى مغراوة و افتتحها و قتل من كان بها من أولاد وانودين المغراوي و رجع إلى فاس فافتتحها صلحا سنة خمس و خمسين و أربعمائة ثم رجع إلى غمارة و نازلهم و فتح كثيرا من بلادهم
و أشرف على طنجة و بها سكوت البرغواطي الحاجب صاحب سبتة و بقية الأمراء من موالي الحمودية و أهل دعوتها ثم رجع إلى منازلة قلعة فازاز و خالفه معنصر إلى فاس فاستولى عليها و قتل عاملها
و استدعى يوسف بن تاشفين مهدي بن يوسف صاحب مكناسة ليستجيش به على فاس فاستعرضه معنصر في طريقه قبل أن تتصل بأيديهما و ناجزه الحرب ففض جموعه و قتله وبعث برأسه إلى وليه و مساهمه في شدته الحاجب سكوت البرغواطي
و استصرخ أهل مكناسة بالأمير يوسف بن تاشفين فسرح عساكر لمتونة إلى حصار فاس فأخذوا بمخنقها و قطعوا المرافق عنها و ألحوا بالقتال عليها فمسهم الجهد
و برز معنصر إلى مناجزة عدوه لإحدى الراحتين فكانت الدائرة عليه و هلك و اجتمع زناتة من بعده على القاسم بن محمد بن عبد الرحمن من ولد موسى بن أبي العافية كانوا ملوكا بتازا و تسول فزحفوا إلى عساكر المرابطين و التقوا بوادي سيمير فكان الظهور لزناتة و استلحم كثير من المرابطين و اتصل خبرهم بيوسف بن تاشفين و هو محاصر لقلعة مهدي بلاد فازاز فارتحل سنة ست و خمسين و أربعمائة و نزل عليها عسكر من المرابطين و صار ينتقل في بلاد المغرب فافتتح بني مراسن ثم قبولادة ثم بلاد ورغة سنة ثمان و خمسين و أربعمائة ثم افتتح بلاد غمارة سنة ستين و أربعمائة و في سنة اثنتين و ستين و أربعمائة نازل فاس فحاصرها مدة ثم افتتحها عنوة قول بمفازتها ثلاثة آلاف من مغراوة و بنى يفرن و مكناسة و قبائل زناتة حتى أعوزت مدافنهم فرادى فاتخذت لهم الأخاديد و قبروا جماعات منهم و خلص من نجا منهم من القتل إلى بلاد تلمسان و أمر بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين القرويين و الأندلسيين من عدويتها و صيرها مصرا واحدا و أدار عليها الأسوار و حمل أهلها على الاستنكار من المساجد و رتب بناءها و ارتحل سنة ثلاث و ستين و أربعمائة إلى وادي ملوية فافتتح بلادها و حصون وطاط من نواحيها ثم نهض سنة خمس و ستين و أربعمائة إلى مدينة الدمنة فافتتحها عنوة ثم افتتح حصن علودان من حصون غمارة ثم نهض سنة سبع و ستين و أربعمائة إلى جبال غياثة و بنى مكود من أحوازتازا فافتتحها و دوخها ثم اقتسم المغرب عمالات على بنيه و أمراء قومه و ذويه ثم استدعاه المعتمد بن عباد إلى الجهاد فاعتذر له بمكان الحاجب سكوت البرغواطي و قومه من أولياء الدولة الحمودية بسبتة فأعاد إليه ابن عباد الرسل بالمشايعة إليهم فجهز إليهم قائده صالح بن عمران في عساكر لمتونة فلقيه سكوت الحاجب بظاهر طنجة في قومه و معه ابنه ضياء الدولة فانكشف و قتل الحاجب سكوت و لحق ابنه العزيز ضياء الدولة و كتب صالح بن عمران بالفتح إلى يوسف بن تاشفين ثم أغزى الأمير يوسف بن تاشفين إلى المغرب الأوسط سنة اثنتين و سبعين و أربعمائة قائده مزدلى بن تبلكان بن محمد بن وركوت من عشيرة في عساكر لمتونة لمحاربة مغراوة ملوك تلمسان و بها يومئذ الأمير العباس بن بختي من ولد يعلى بن محمد بن الخير بن محمد بن خزر فدوخوا المغرب الأوسط و صاروا في بلاد زناتة و ظفروا بيعلى ابن الأمير العباسي فقتلوه و انكفأوا راجعين من غزاتهم
ثم نهض يوسف بن تاشفين سنة ثلاث و سبعين و أربعمائة بعدها إلى الريف و افتتح كرسيف و مليلة و سائر بلاد الريف و خرب مدينة نكور فلم تعمر بعده ثم نهض في عساكره المرابطين إلى بلاد المغرب الأوسط فافتتح مدينة وجده و بلاد بني يزتاسن ثم افتتح مدينة تلمسان و استلحم من كان بها من مغراوة و قتل العباس بن بختي أمير تلمسان و أنزل محمد بن تيغمر المستوفى بها في عساكر المرابطين فصارت ثغرا للمكه
و نزل بعساكره و اختط بها مدينة تاكرارت بمكان محلته و هو اسم المحلة بلسان البربر ثم افتتح مدينة تنس و وهران و جبل وانشريس إلى الجزائر و انكفأ راجعا إلى المغرب فاحتل مراكش سنة خمس و سبعين و أربعمائة و لم يزل محمد بن تيغمر واليا بتلمسان إلى أن هلك و ولي بعده أخوه تاشفين ثم إن الطاغية تكالب على بلاد المسلمين وراء البحر و انتهز الفرصة فيها بما كان من الفرقة بين ملوك الطوائف فحاصر طليطلة و بها القادر بن يحيى بن ذي النون حتى نالهم الجهد و تسلمها منه صلحا سنة ثمان و سبعين و أربعمائة على أن يملكه بلنسية فبعث معه عسكرا من النصرانية فدخل بلنسية و تملكها على حين مهلك صاحبها أبي بكر بن العزيز بين يدي حصار طليلطة وسار الطاغية في بلاد الأندلس حتى وقف بفرضة المجاز من صريف و أعيا أمره أهل الأندلس و اقتضى منهم الجزية فأعطوها ثم نازل سرقسطة و ضيق على ابن هود بها طال مقامه و امتد أمله إلى تملكها فخاطب المعتمد بن عباد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين منتجزا و عده في صريخ الإسلام بالعدوة و جهاد الطاغية
و كاتبه أهل الأندلس كافة من العلماء و الخاصة فاهتز للجهاد و بعث ابنه المعز في عساكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز فنازلها برا و أحاطت بها أساطيل ابن عباد بجرا فاقتحموها عنوة في ربيع الآخر سنة ست و سبعين و أربعمائة و تقبض على ضياء الدولة و قيد إلى المغرب فقتله صبرا و كتب إلى أبيه بالفتح ثم أجاز ابن عباد البحر في جماعته و المرابطين و لقيه بفاس مستنفرا للجهاد و أنزل له ابنه الراضي عن الجزيرة الخضراء لتكون رباطا لجهاده فأجاز البحر في عساكر المرابطين و قبائل المغرب و نزل الجزيرة سنة تسع و ثمانين و أربعمائة ولقيه المعتمد بن عباد و ابن الأفطس صاحب بطليوس
و جمع ابن أدافونس ملك الجلالقة أمم النصرانية لقتاله و لقي المرابطين بالزلاقة من نواحي بطليوس فكان للمسلمين عليه اليوم المشهور سنة إحدى و ثمانين و أربعمائة ثم رجع إلى مراكش و خلف عسكرا بالاشبيلية لنظر محمد و مجون بن سيمونن بن محمد بن وركوت من عشيرة و يعرف أبوه بالحاج و كان محمد من بطانته و أعاظم قواد تكاليب الطاغية على شرق الأندلس و لم يغن فيه أمراء الطوائف شيئا فزحف إله من سبتة ابن الحاج قائد يوسف بن تاشفين في عساكر المرابطين فهزموا جميع النصارى هزيمة شنيعة و خلع ابن رشيق صاحب مرسية و تمادى إلى دانية ففر علي بن مجاهد أمامه إلى بجاية و نزل على الناصر بن علناس فأكرمه و وصل ابن جحاف قاضي بلنسية إلى محمد بن الحاج مغريا بالقادر بن ذي النون فأنفذ معه عسكرا و ملك بلنسية و قتل ابن ذي النون و ذلك سنة خمس و ثمانين و أربعمائة و انتهى الخبر إلى الطاغية فنازل بلنسية و اتصل حصاره إياها إلى أن ملكها سنة خمس و ثمانين و أربعمائة ثم استخلصها عساكر المرابطين و ولى عليها يوسف بن تاشفين الأمير مزدلي و أجاز يوسف بن تاشفين ثانية سنة ست و ثمانين و أربعمائة و تثاقل أمراء الطوائف عن لقائه لما أحسوا من نكيره عليهم لما يسمون به عليهم من الظلامات و المكوس و تلاحق المغارم فوجد عليهم و عهد برفع المكوس و تحرى المعدلة فلما أجاز انقبضوا عنه إلا ابن عباد فإنه بادر إلى لقائه و أغراه بالكثير منهم فتقبض على ابن رشيق فأمكن ابن عباد منه العداوة التي بينهما وبعث جيشا إلى المرية ففر عنها ابن صمادح و نزل على المنصور بن الناصر ببجاية و توافق ملوك الطوائف على قطع المدد عن عساكره و محلاته فساء نظره و أفتاه الفقهاء و أهل الشورى من المغرب و الأندلس بخلعهم و انتزاع الأمر من أيديهم و صارت إليه بذلك فتاوى أهل الشرق الأعلام مثل :
الغزالي و الطرطوشي فعهد إلى غرناطة و استنزل صاحبها عبيد الله بن بلكين بن باديس و أخاه تميما من مالقة بعد أن كان منهما مداخلة الطاغية في عداوة يوسف بن تاشفين وبعث بهما إلى المغرب فخاف ابن عباد عند ذلك منه و انقبض عن لقائه و فشت السعايات بينهما
و نهض يوسف بن تاشفين إلى سبتة فاستقربها و عقد للأمير سير بن أبي بكر بن محمد وركوت على الأندلس و أجازه فقدم عليها و قعد ابن عباد عن تلقيه و مبرته فأحفظه ذلك و طالبه بالطاعة للأمير يوسف و النزول عن الأمر ففسد ذات بينهما و غلبه على جميع عمله
و استنزل أولاد المأمون من قرطبة و يزيد الرايض من رندة و قرمونة و استولى على جميعها و قتلهم و صمد إلى أشبيلية فحاصر المعتمد بها و ضيق عليه و استنجد الطاغية فعمد إلى استنقاذه من هذا الحصار فحاصر المعتمد بها و ضيق عليه و استنجد الطاغية فعمد الى استقاذه من هذا الحصار فلم يغن عنه شيئا و كان دفاع لمتونة مما فت في عضده و اقتحم المرابطون أشبيلية عليه عنوة سنة أربع و ثمانين و أربعمائة و تقبض على المعتمد و قاده أسيرا إلى مراكش فلم يزل في اعتقال يوسف بن تاشفين إلى أن هلك في محبسه بأغمات سنة سبعين و أربعمائة ثم عمد إلى بطليوس و تقبض على صاحبها عمر بن الأفطس فقتله و ابنيه يوم الأضحى سنة تسع و ثمانين بما صح عنده من مداخلتهم الطاغية و أن يملكوه مدينة بطليوس ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الثالث سنة تسعين و أربعمائة و زحف إليه الطاغية فبعث عساكر المرابطين لنظر محمد بن الحاج فانهزم النصارى أمامه و كان الظهور للمسلمين
ثم أجاز الأمير يحيى بن أبي بكر بن يوسف بن تاشفين سنة ثلاث و تسعين و أربعمائة و انضم إليه محمد بن الحاج و سير بن أبي بكر و اقتحموا عامة الأندلس من أيدي ملوك الطوائف و لم يبق منها إلا سرقسطة في يد المستعين بن هود معتصما بالنصارى
و غزا الأمير مزدلي صاحب بلنسية إلى بلاد برشلونة فأثخن بها و بلغ إلى حيث لم يبلغ أحد قبله ورجع و انتظمت بلاد الأندلس في ملكة يوسف بن تاشفين و انقرض ملك الزائف منها أجمع كأن لم يكن و استولى على العدوتين و اتصلت هزائم المرابطين مرارا و تسمى بأمير المسلمين و خاطب المستنصر العباسي الخليفة لعهده ببغداد و بعث إليه عبد الله بن العرب على يد المعافري الأشبيلي و ولده القاضي أبا بكر فتلطفا في القول و أحسنا في الإبلاغ و طلبا من الخليفة أن يعقد له على المغرب و الأندلس فعقد له و تضمن ذلك مكتوب الخليفة بذلك منقولا في أيدي الناس و انقلبا إليه بتقليد الخليفة و عهده على ما إلى نظره من الأقطار و الأقاليم و خاطبه الإمام الغزالي و القاضي أبو بكر الطرطوشي يحضانه على العدل و التمسك بالخير و يفتيانه في شأن ملوك الطوائف بحكم الله
ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الرابع إلى الأندلس سنة سبع و تسعين و أربعمائة و قد كان ما قدمناه في أخبار بن حماد من زحف المنصور بن الناصر إلى تلمسان سنة سبع و تسعين و أربعمائة للفتنة التي وقعت بينه و بين تاشفين بن تيغمر و افتتاحه أكثر بلادهم فصالحه يوسف بن تاشفين و استرضاه بعدول تاشفين عن تلمسان سنة سبع و تسعين و أربعمائة و بعث إليهما مزدلي من بلنسية و ولي بلنسية عوضا منه أبا محمد بن فاطمة و كثرت غزواته في بلاد النصرانية
و هلك يوسف على رأس المائة الخامسة و قام بالأمر من بعده ابنه علي بن يوسف فكان خير ملك و كانت أيامه صدرا منها و داعة و لدولته على الكفر و أهله ظهور و عزة و أجاز إلى العدوة فأثخن في بلاد العدو قتلا و سبيا و ولى على الأندلس الأمير تميم بن و جمع الطاغية للأمير تميم فهزمه تميم ثم أجاز علي بن يوسف سنة ثلاث و نازل طليطلة و أثخن في بلاد النصارى و رجع و على أثر ذلك قصد ابن ردمير سرقسطة و خرج ابن هود للقائه فانهزم المسلمون و مات ابن هود شهيدا و حاصر ابن ردمير البلد حتى نزلوا على حكمه
ثم كانت سنة تسع و خمسمائة شأن برقة و تغلب أهل جنوة عليها و أخلوها ثم رجع العمران إليها على يد مرتانا قرطست من قواد المرابطين كما مر في ذكرها عند ذكر الطوائف ثم استمرت حال علي بن يوسف في ملكه و عظم شأنه و عقد لولده تاشفين على غرب الأندلس سنة ست و عشرين و خمسمائة و انزله قرطبة و اشبيلية و أجاز معه الزبير بن عمر وحشد قومه و عقد لأبي بكر بن إبراهيم المسوقي على شرق الأندلس و أنزله بلنسية و هو ممدوح بن خفاجة و مخدوم أبي بكر بن باجة الحكيم المعروف بابن الصائغ و عقد لابن غانية المسوقي على الجزائر الشرقية دانية و ميورقة و استقامت أيامه و لأربع عشرة سنة من دولته كان ظهور الإمام المهدي صاحب دعوة الموحدين فقيها منتحلا للعلم و الفتيا و التدريس آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر متعرضا بذلك للمكروه في نفسه
و نالته بجاية و تلمسان و مكناسة أذايات من الفسقة و من الظالمين و أحضره الأمير علي بن يوسف للمناظرة ففلج علي خصومه من الفقهاء بمجلسه و لحق بقومه هرغة من المصامدة و استدرك علي بن يوسف رأيه فتفقده و طالب هرغة بإحضاره فأبوا عليه فسرح إليهم البعث فأوقعوا به و تقاسم معهم هنتانة و تينملل على إجارته و الوفاء بما عاهدهم عليه من القيام بالحق و الدعاء إليه حسبما يذكر ذلك كله بعد دولتهم و هلك المهدي في سنة أربع و عشرين و خمسمائة وقام بأمرهم عبد المؤمن بن علي الكومي كبير أصحابه بعهده إليه و انتظمت كلمة المصامدة و أغزوا مراكش مرارا
و فشل ريح لمتونة بالعدوة الأندلسية و ظهر أمر الموحدين و فشت كلمتهم في برابرة المغرب و هلك علي بن يوسف سنة سبع و ثلاثين و خمسمائة و قام بالأمر من بعده ولده تاشفين و ولي عهده و أخذ بطاعته و بيعته أهل العدوتين كما كانوا على حين استغلظ أمر الموحدين و استفحل شأنهم و ألحقوا في طلبه
و غزا عبد المؤمن غزوته الكبرى إلى جبال المغرب و نهض تاشفين بعساكره بالبسائط إلى أن نزل تلمسان و نازله عبد المؤمن والموحدون بكهف الضحاك بين الصخرتين من جبل تيطري المطل عليها و وصله هنالك مدد صنهاجة من قبل يحيى بن عبد العزيز صاحب بجاية مع قائده طاهر بن كباب و شرهوا إلى مدافعة الموحدين فغلبوهم و هلك طاهر و استلحم الصنهاجيون و فر تاشفين إلى وهران في موادعة لب بن ميمون قائد البحر بأساطيله و اتبعه الموحدون و اقتحموا عليه البلد فهلك يقال سنة إحدى و أربعين و خمسمائة و استولى الموحدون على المغرب الأوسط و استلحموا لمتونة
ثم بويع بمراكش ابنه إبراهيم و ألفوه مضعفا عاجزا فخلع و بويع عمه إسحق بن علي بن يوسف بن تاشفين و على هيئة ذلك وصل الموحدون إليها و قد ملكوا جميع بلاد المغرب عليه فخرج إليهم في خاصته فقتلهم الموحدون و أجاز عبد المؤمن و الموحدون إلى الأندلس سنة إحدى و خمسين و خمسمائة و ملكوا و استلحموا أمراء لمتونة و كافتهم و فروا في كل وجه و لحق فلهم بالجزائر الشرقية ميورقة و منورقة و يابسة إلى أن جددوا من بعده للملك بناحية أفريقية و الله غالب على أمره (6/242)
دولة ابن غانية ـ الخبر عن دولة ابن غانية من بقية المرابطين و ما كان له من الملك و السلطان بناحية قابس و طرابلس و اجلابه على الموحدين و مظاهرة قراقش الغزي له على أمره و أولية ذلك و مصايره
كان أمر المرابطين من أوله في كدالة من قبائل حتى هلك يحيى بن إبراهيم فاختلفوا على عبد الله بن ياسين إمامهم و تحول عنهم إلى لمتونة و أقصر عن دعوته و تنسك و ترهب كما قلناه حتى إذا أجاب داعية يحيى بن عمرو أبي بكر بن عمر من بني ورتانطق بيت رياسة لمتونة
و اتبعهم الكثير من قومهم و جاهدوا معه سائر قبائل الملثمين و كان مسوقة قد دخل في دعوة المرابطين كثير منهم فكان لهم بذلك في تلك الدولة حظ من الرياسة و الظهور و كان يحيى المسوفي من رجالاتهم و شجعانهم و كان مقدما عند يوسف بن تاشفين لمكانه في قومه
و اتفق انه قتل بعض رجالات لمتونة في ملاحاة وقعت بينهما فتثاور الحيان و فر هو إلى الصحراء ففدى يوسف بن تاشفين القتل و وداه و استرجع عليا من مفره لسنين من مغيبه و أنكحه امرأة من أهل بيته تسمى غانية بعهد أبيها إليه في ذلك فولدت منه محمدا و يحيى و نشأا في ظل يوسف بن تاشفين و حجر كفالته
و رعى لهما علي بن يوسف ذمام هذه الأمور و عقد ليحيى على غرب الأندلس و أنزله قرطبة و عقد لمحمد على الجزائر الشرقية و ميورقة و منورقة و يابسة سنة عشرين و خمسمائة و انقرض بعد ذلك أمر المرابطين و تقدم وفد الأندلس إلى عبد المؤمن و بعث معهم أبا اسحق براق بن محمد المصمودي من رجالات الموحدين و عقد له على حرب لمتونة كما يذكر في أخبارهم فملك أشبيلية و اقتضى طاعة يحيى بن علي بن غانية و استنزله عن قرطبة إلى حمال و القليعة فسار منها إلى غرناطة يستنزل من بها من لمتونة و يحملهم على طاعة الموحدين فهلك هنالك سنة ثلاث و أربعين و خمسمائة و دفن بقصر باديس و أما محمد بن علي فلم يزل واليا إلى أن هلك و قام بأمره بعده ابنه عبد الله
ثم هلك و قام بالأمر أخواه اسحق بن محمد بن علي و قيل إن إسحق ولي بعد ابنه محمد و أنه قتله غيرة من أخيه عبد الله لمكان أبيه منه فقتلهما معا و استبد بأمره إلى أن هلك سنة ثمانين و خمسمائة و خلف ثمانية من الولد و هم : محمد و علي و يحيى و عبد الله و الغاري و سير و المنصور و جبارة فقام بالأمر ابنه محمد و لما أجاز يوسف بن عبد المؤمن بن علي إلى ابن الزبرتير لاختبار طاعتهم و لحين وصوله نكر ذلك إخوته و تقبضوا عليه و اعتقلوه و قام بالأمر أخوه علي بن محمد بن علي و تلوموا في رد ابن الزبرتير إلى مرسله و حالوا بينه و بن الأسطول حين بلغهم أن الخليفة يوسف القسري استشهد في الجهاد باركش من العدوة و قام بالأمر ابنه يعقوب و اعتقلوا ابن الزبرتير و ركبوا البحر في اثنتين و ثلاثين أقطعة من أساطيلهم و أسطوله و ركب معه إخوته يحيى و عبد الله و الغازي و ولي علي ميورقة عمه أبا الزبير و أقلعوا إلى بجاية فطوقوها على حين غفلة من أهلها و عليها السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن و كان بايميلون من خارجها في بعض مذاهبه فلم تمانعه أهل البلد و استولوا عليها في صفر سنة إحدى و ثمانين و خمسمائة و اعتقلوا بها السيد أبا موسى بن عبد المؤمن كان قافلا من أفريقية يؤم المغرب و اكتسحوا ما كان بدار السادة و الموحدين و كان والي القلعة قاصدا مراكش و هو يستخبر خبر بجاية فرجع و ظاهر السيد أبا الربيع و زحف إليهما علي بن غانية فهزمهما و استولى على أموالها و أسريا و لحقا بتلمسان فنزلا بها على السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن و أخذ في تحصين تلمسان و رم أسوارها و أقام عند السيد يرومان الكرة من صاحب تلمسان
و عاث علي بن محمد بن غانية في الأموال و فرقها في ذؤبان العرب و من انضاف إليهم و رحل إلى الجزائر فافتتحها و ولى عليها يحيى بن أبي طلحة ثم افتتح مازونة و انتهى إلى مليانة فافتتحها و ولى عليها بدر بن عائشة ثم نهض إلى القلعة فحاصرها ثلاثا و دخلها عنوة و كانت في المغرب خطة مشهورة
ثم قصد فسنطينة فامتنعت عليه و اجتمعت إليه وفود العرب فاستنجدهم وجاؤا بأحلافهم و لما اتصل الخبر بالمنصور و هو بسبتة مرجعه من الغزو سرح العساكر في البر لنظر السيد أبي زيد بن حفص بن عبد المؤمن و عقد له على المغرب الأوسط و بعث الأساطيل إلى البحر و قائدها أحمد الصقلي و عقد عليها لأبي محمد بن إبراهيم بن جامع و زحف العساكر من كل جهة فثار أهل الجزائر على يحيى بن أبي طلحة و من معه و امكنوا السيد أبا يزيد فقتلهم على شلف و عفا عن يحيى لنجدة عمه طلحة و كان بدر بن عائشة أسرى من مليانة و اتبعه الجيش فلحقوه أمام العدو فتقبضوا عليه بعد قتال البرابرة حين أرادوا إجارته و قادوه إلى السيد أبي يزيد فقتله
و سبق الأسطول إلى بجاية فثار بيحيى بن غانية و فر إلى أخيه علي لمكانه من حصار قسنطينة بعد أن كان أخذ بمخنقها و نزل السيد أبو زيد بعساكره بتكلات من ظاهر بجاية و أطلق السيد أبا موسى من معتقله
ثم رحل في طلب العدو فأفرج عن قسنطينة بعد أن كان أخذ و مضى شديدا في الصحراء و الموحدون في اتباعه حتى انتهوا مغرة و نغارس
ثم نقلوا إلى بجاية و استنفر السيد أبا زيد بها و قصد علي ابن غانية في قفصة فملكها و نازل بورق و قسطيلية فامتنعت و ارتحل إلى طرابلس و فيها قراقش الغزي المطغري و كان من خبره على ما نقل أبو محمد التيجاني في كتاب رحلته : أن صلاح الدين صاحب مصر بعث تقي الدين ابن أخيه شاه إلى المغرب لافتتاح ما أمكنه من المدن تكون له معقلا يتحصن فيه من مطالبة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام الذي كان صلاح الدين عمه من وزرائه و استعجلوا النصر فخشوا عاديته ثم رجع تقي الدين من طريقه لأمر عرض له ففر قراقش الأرمني بطائفة من جنوده و فر إبراهيم بن قراتكين سلاح دار المعظم نسبة للملك المعظم شمس الدولة بن أيوب أخي صلاح الدين
فأما قراقش فلحق ششرية و افتتحها و ذلك سنة ست و ثمانين و خمسمائة و خطب فيها لصلاح الدين و لا ستاذه تقي الدين
و كتب لهما بفتح زويلة و غلبه بني خطاب الهواري على ملك فزان و كانت ملكا لعمه محمد بن الخطاب بن يصلتن بن عبد الله بن صنغل بن خطاب و هو آخر ملوكهم و كانت قاعدة ملكه زويلة
و تعرف زويلة ابن خطاب فتقبض عليه و غلبه على المال حتى هلك و لم يزل يفتح البلاد إلى أن وصل طرابلس و اجتمع عليه عرب دياب بن سليم و نهض بهم إلى جبل نفوسة فملكه و استخلص أموال العرب و اتصل به مسعود بن زمام شيخ الوزاودة من رياح عند مفرة من المغرب كما ذكرناه و اجتمعت أيديهم على طرابلس و افتتحها و اجتمع إليه ذؤبان العرب من هلال و سليم و فرض لهم العطاء و استبد بملك طرابلس و ما وراءها و كان قراقش من الأرمن و كان يقال له المعظمي و الناصري لأنه يخطب للناصر صلاح الدين
و كان يكتب في ظهائره ولي أمير المؤمنين بسكون الميم و يكتب علامة الظهيرة بخطه و ثقب بالله وحده أسفل الكتاب و أما إبراهيم بن قراقش صاحبه فإنه سار مع العرب إلى قفصة فملك جميع منازلها و راسل بني الزند رؤساء قفصة فأمكنوه من البلد لانحرافهم عن بني عبد المؤمن فدخلها و خطب للعباسي و لصلاح الدين إلى أن قتله المنصور عند فتح قفصة كما نذكره في أخبار الموحدين (6/252)
رجع الخبر إلى ابن غانية
و لما وصل علي بن غانية إلى طرابلس و لقي قراقش اتفقا على المظاهرة على الموحدين و استمال ابن غانية كافة بني سليم من العرب و ما جاورهم من مجالاتهم ببرقة و خالطوه في ولايتهم و اجتمع إليه من كان محرفا عن طاعة الموحدين من قبائل هلال مثل :
جشم و رياح و الأبثج و خالفتهم زغبة إلى الموحدين فاحتفلو بطاعتهم سائر أيامهم و لحق بابن غانية فل قومه من لمتونة و منونة من أطراف البقاع فانعقد أمره و تجدد بذلك القطر سلطان قومه و جدد رسوم الملك و اتخذ الآلة و افتتح كثيرا من بلاد الجريد و أقام فيها الدعوة العباسية ثم بعث ولده و كاتبه عبد المؤمن من فرسان الأندلس إلى الخليفة الناصر بن المستضيء ببغداد مجددا ما سلف لقومه من المرابطين بالمغرب من البيعة و الطاعة و طلب المدد و الإعانة فعقد له كما كان لقومه و كتب الكتاب من ديوان الخليفة إلى ملك مصر و الشام النائب عن الخليفة بها صلاح الدين يوسف بن أيوب فجاء إلى مصر فكتب له صلاح الدين إلى قراقش و اتصل أمرهما في إقامة الدعوة العباسية
و ظاهره ابن غانية على حصار قابس فافتتحها قراقش من يد سعيد بن أب الحسن و ولى عليها مولاه و جعل فيها ذخائره ثم اتصل بها إلى أن وصل قفصة خلعوا طاعة ابن غانية فظاهره قراقش عليها فافتتحها عنوة ثم رحل إلى توزر و قراقش في مظاهرته فافتتحها أيضا و لما اتصل بالمنصور ما نزل بأفريقية من أجلاب ابن غانية و قراقش على بلاد الجريد نهض من مراكش سنة ثمان و ثمانين و خمسمائة لحسم هذا الداء و استنقاذ ما غلبوا عليه و وصل إلى تونس فأراح بها و سرح في مقدمته السيد أبا يوسف يعقوب بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن و معه عمر بن أبي زيد من أعيان الموحدين فلقيهم ابن غانية في جموعه بعهده فانهزم الموحدون و قتل ابن أبي زيد و جماعة منهم و أسر علي بن الزبرتير في آخرين و امتلأت أملاك العدو من أسلابهم و متاعهم و وصل سرعان الناس إلى تونس و صمد المنصور إليهم فأوقع بهم بظاهر الحامة في شعبان من سنته و أفلت ابن غانية و قراقش بحومة الوفر و بادر أهل قابس و كانت خالصة لقراقش دون ابن غانية فأتوا طاعتهم و أسلموا من كان عندهم من أصحابه و ذويه فاحتلموا الى مراكش و قصد المنصور إلى توزر فحاصرها فأسلموا إليه من كان فيها من أصحاب ابن غانية وبادر أهلها بالطاعة
ثم رجع إلى قفصة فحاصرها حتى نزلوا على حكمه و قتل من كان بها من الشحود و قتل ابراهيم بن قراتكين و امتن على سائر الأعوان و خلى سبيلهم و أمن أهل البلد في نفسهم و جعل أملاكهم بأيديهم على حكم المساقاة
ثم غزا العرب و استباح حللهم و أحياءهم حتى استقاموا على طاعته و فر ذو المراس كثير الخلاف و الفتنة منهم إلى المغرب و خمسمائة و رجع ابن غانية و قراقش إلى حالهما من الاجلاب على بلاد الجريد إلى أن هلك علي في بعض حروبهما مع أهل نفزاوة سنة أربع و ثمانين و خمسمائة أصابه سهم غرب كان فيه هلاكه فدفن هنالك و عفى على قبره و حمل شلوه إلى ميورقة فدفن بها و قام بالأمر أخوه يحيى بن إسحق بن محمد بن غانية و جرى في مظاهرة قراقش و موالاته على سنن أخيه علي
ثم نزع قراقش إلى طاعة الموحدين سنة ست و ثمانين و خمسمائة فهاجر إليهم بتونس و تقبله السيد أبو زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن معه أياما
ثم و وصل إلى قابس فدخلها مخادعه و قتل جماعة منهم و استبد على أشياخ دباب و الكعوب من بني سليم فقتل سبعين منهم بقصر العروسيين كان منهم :
محمود بن طرق أبو المحاميد و حميد بن جارية أبو الجواري
و نهض إلى طرابلس فافتتحها و رجع إلى بلاد الجريد استولى على أكثرها ثم فسد ما بينه و بين يحيى بن غانية و سار إليه يحيى فانتهز قراقش و لحق بالجبال و توغل فيها ثم فر إلى الصحراء و نزل ودان و لم يزل بها إلى أن حاصره ابن غانية من بعد ذلك بمدة و جمع عليه أهل الثأر من دباب و اقتحمها عليه عنوة و قتله و لحق ابنه بالموحدين
و لم يزل بالحضرة إلى أيام المستنصر ثم فر إلى ودان و أجلب في الفتنة فبعث إليه ملك كام من قتله لسنة ست و خمسين و خمسمائة
رجع الخبر و استولى ابن غانية على الجريد و استنزل ياقوت فولى قراقش من طرده كذا ذكره التجاني في رحلته و لحق ياقوت بطرابلس و نازله ابن غانية بها و طال أمر حصاره و بالغ ياقوت في المدافعة و بعث يحيى عن أسطول ميورقة فأمده أخوه عبد الله بقطعتين منه فاستولى على طرابلس و أشخص ياقوت إلى ميورقة و اعتقل بها إلى أن أخذها الموحدون
و كان من خبر ميورقة أن علي بن غانية لما نهض إلى فتح بجاية ترك أخاه محمدا و علي بن الزبرتير في معتقلهما فلما خلا الجو من أولاد غانية و كثير من الحامية داخل ابن الزبرتير في معتقله نفر من أهل الجزيرة و ثاروا بدعوة محمد و حاصروا القصيبة إلى أن صالحهم أهلها على إطلاق محمد بن إسحق فأطلق من معتقله و صار الأمر له فدخل في دعوة الموحدين و وفد مع علي بن الزبرتير على يعقوب المنصور
و خالفهم إلى ميورقة عبد الله بن إسحق ركب البحر من أفريقية إلى صقلية و أمدوه بأسطول ووصل إلى ميورقة عند وفادة أخيه على المنصور فملكها و لم يزل بها واليا
و بعث إلى أخيه علي بالمدد إلى طرابلس كما ذكرناه و بعثوا إليه ياقوت عنوة إلى أن غلب عليه الموحدون سنة تسع و تسعين و خمسمائة فقتل و مضى ياقوت إلى مراكش و بها مات
( رجع الخبر ) و لما فرغ ابن غانية من أمر طرابلس ولى عليها تاشفين ابن عمه الغازي و قصد قابس فوجد بها عامل الموحدين ابن عمر تافراكين بعثه إليهم صاحب تونس الشيخ أبو سعيد بن أبي حفص فاستدعاه أهلها لما فر عنهم نائب قراقش أخذ ابن غانية لطرابلس فنازل قابس و ضيق عليها حتى سألوه الأمان على أن يخلي سبيل ابن بافراس فعقد لهم ذلك و أمكنوه من البلد فملكها سنة إحدى و تسعين و خمسمائة و أغرمهم ستين ألف دينار و قصد المهدية سنة سبع و تسعين و خمسمائة فاستولى عليها و قتل الثائر بها محمد بن عبد الكريم الكرابي
( و كان من خبره ) انه نشأ بالمهدية و صار من جندها المرتدين و هو كوفي الأصل و كانت له شجاعة معروفة فجمع لنفسه خيلا و رجالا و صار يغير على المفسدين من الأعراب بالأطراف فداخلهم هيبة و بعد في ذلك صيته و أمده الناس بالدعاء
و قدم أبو سعيد بن أبي حفص على أفريقية من قبل المنصور لأول ولايته و ولى على المهدية أخاه يونس و طالب محمد بن عبد الكريم بالسهمان في المغانم و امتنع فانزل به النكال و عاقبه بالسجن فدبر ابن عبد الكريم الثورة و داخل فيها بطانته و تقبض على يونس سنة خمس و تسعين و خمسمائة و اعتقله إلى أن فداه أخوه أبو سعيد بخمسمائة دينار من الذهب العتيق و استبدل ابن عبد الكريم بالمهدية و دعا لنفسه و بلغت المتوكل على الله ثم وصل السيد أبو زيد بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن واليا على أفريقية فنازل ابن عبد الكريم بتونس سنة ست و تسعين و خمسمائة و اضطرب معسكره بحلق الوادي و برز إليه جيوش الموحدين فهزمهم و طال حصاره لهم ثم سألوه الإفراج عنهم فأجاب لذلك و ارتحل عنهم إلى حصار يحيى بن غانية بفاس فنازله مدة ثم ارتحل إلى قفصة و خرج ابن غانية في اتباعه فانهزم ابن عبد الكريم أمامه و لحق بالمهدية و حاصره ابن غانية بها سنة سبع و تسعين و خمسمائة و أمده السيد أبو زيد بقطعتين من الغزاة حتى سأل ابن عبد الكريم النزول على حكمه و خرج إليه فقبض عليه ابن غانية و هلك في اعتقاله و استولى على المهدية و استضافها إلى ما كان بيده من طرابلس و قابس و صفاقس و الجريد ثم نهض إلى الجانب الغربي من أفريقية فنازل باجة و نصب عليها المجانيق و افتتحها عنوة و خربها و قتل عاملها عمر بن غالب و لحق شريدها بالأربس و شقبنا رية و تركها خالية على عروشها و بعد مدة تراجع إليها ساكنها بأمن السيد أبي زيد فزحف إليها ابن غانية و نازلها و زحف إليه السيد أبو الحسن أخو السيد أبي زيد فلقيه بقسنطينة و انهزم الموحدون و استولى على معسكرهم
ثم نهض إلى بسكرة واستولى عليها و قطع أيدي أهلها و تقبض على حافظها أبي الحسن بن أبي يعلى و تملك بعدها بلنسية و القيروان و بايعه أهل بونة و رجع إلى المهدية و قد استفحل ملكه فأزمع على حصار و ارتحل إليها سنة تسع و تسعين و خمسمائة و استعمل على المهدية علي بن الغازي و يعرف بالكافي بن عبد الله بن محمد بن علي بن غانية و نزل بالجبل الأحمر من ظاهر تونس و نزل أخوه بحلق الوادي ثم ضايقوه بمعسكرهم و ردموا خندقها و نصبوا المجانيق و الآلات و اقتحموها لأربعة أشهر من حصارها في ختام المائة السادسة و قبض على السيد أبي زيد و ابنه و من كان معه من الموحدين و أخذ أهل تونس بغرم مائة ألف دينار و ولى بقبضها منهم كاتبه ابن عصفور و أبا بكر بن عبد العزيز بن السكاك فأرهقوا الناس بالطلب حتى لاذ معظمهم بالموت و استعملوا القتل فيما نقل أن اسمعيل بن عبد الرفيع من بيوتاتها ألقى بنفسه في بئر فهلك فرجع الطلب ببقيتها عنهم
و ارتحل إلى نفوسة و السيد أبو زيد معتقل في معسكره ففعل بهم مثل ذلك و أغرمهم بالناصر بمراكش ما دهم أهل أفريقية منه و من ابن عبد الكريم قبله فامتعض لذلك و رحل إليها سنة إحدى و ستمائة و بلغ يحيى بن غانية خبر زحفه إليه فخرج من تونس إلى القيروان ثم إلى قفصة و اجتمع إليه العرب و أعطوه الرهن على المظاهرة و الدفاع و نازل طرة من حصون مغراوة فاستباحها و انتقل إلى حامة مطماطة
و نزل الناصر تونس ثم قفصة ثم قابس و تحصن منه ابن غانية في جبل دمر فرجع عنه إلى المهدية و عسكر عليها و اتخذ الآلة لحصارها
و سرح الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص لقتال ابن غانية في أربعة آلاف من الموحدين سنة اثنتين و ستمائة فلقيه بجبل تاجورا من نواحي قابس و أوقع به و قتل أخاه جبارة بن إسحق و استنقذ السيد أبا زيد من معتقله ثم افتتح الناصر المهدية و دخل إليها علي بن الغازي في دعوة فتقبله و رفع مكانه بهدية وافق وصولها برسمه إليه على يد واصل مولاه و كان بها ثوبان منسوجان بالجواهر فوصله بذلك كله و لم يزل معه إلى أن استشهد مجاهدا
و ولى الناصر على المهدية محمد بن يغمور من الموحدين و رجع إلى تونس ثم نظر فيمن يوليه أمر أفريقية لسد فرجها و الذب عنها و مدافعة ابن غانية و جموعه دونها
فوقع اختياره على الشيخ أبي محمد بن أبي حفص فعقد له على ذلك سنة ثلاث كما ذكرناه في أخباره
و رجع الناصر إلى المغرب و أجمع ابن غانية النهوض لقتال الموحدين بتونس و جمع ذؤبان العرب من الزواودة و غيرهم و أوفد الزواودة يومئذ محمد بن مسعود بن سلطف و تحيز بنو عوف بن سليم إلى الموحدين و التقوا بشبور من نواحي تبسة فانهزمت جموع ابن غانية و لجأ إلى جهة طرابلس
ثم نهض إلى المغرب في جموعه من العرب و الملثمين فانتهى إلى سجلماسة و امتلأت أيدي اتباعه من النهاب و خرقوا الأرض بالعيث و الفساد و انتهى إلى المغرب الأوسط و داخله المفسدون من زناتة و أغزوا به صاحب تلمسان السيد أبا عمران موسى بن يوسف بن عبد المؤمن فلقيه بتاهرت فهزمه ابن غانية و قتله و أسرو وافده وكر راجعا إلى أفريقية فأعترضه الشيخ أبو محمد صاحب أفريقية في جموع الموحدين و استنقذ الغنائم من أيديهم و لجأ ابن غانية إلى جبال طرابلس و هاجر أخوه مسير بن اسحق إلى مراكش فقبله الناصر و أكرمه ثم اجتمع إلى ابن غاينة طوائف العرب من رياح و عوف و هيث و من معهم من قبائل البربر و عزم على دخول أفريقية و نهض إليهم الشيخ أبو محمد سنة ست و ستمائة و لقيهم بجبل نفوسة ففل عسكرهم و استلحم أمرهم و غنم ما كان معهم من الظهر و الكراع و الأسلحة و قتل يومئذ محمد بن الغازي و جوار بن يفرن و قتل معه ابن عمه من كتاب ابن أبي الشيخ ابن عساكر بن سلطان و هلك يومئذ من العرب الهلاليين أمير قرة سماد بن نخيل
حكى ابن نخيل أن مغانم الموحدين يومئذ من عساكر الملثمين كانت ثمانية عشر ألفا من الظهر فكان ذلك مما أوهن من شدته و وطى من بأسه و ثارت قبائل نفوسة بكاتبه ابن عصفور فقتلوا ولديه و كان ابن غانية يبعثه عليهم للمغرم و سار أبو محمد في نواحي أفريقية و دفع سلبهم و استثار أشياخيهم بأهلهم و أسكنهم بتونس حسما لفسادهم و صحلت أحوال أفريقية إلى أن هلك الشيخ أبو محمد سنة ثمان عشرة و ستمائة و ولي أبو محمد السيد أبو العلا إدريس بن يونس بن عبد المؤمن و يقال بل وليها قبيل مهلك الشيخ أبي محمد فاستطار بعد مهلكه سور بن عبابة و لخم فعابه رعيته و نهض إليه السيد أبو العلا و نزل قابس و أقام بقصر العروسيين و سرح ولده السيد أبا زيد بعسكر من الموحدين إلى درج و غدامس و سرح عسكرا آخر إلى ودان لحصار ابن غانية فأرجف بهم العرب و نهضوا وهم السيد أبو العلا
و فر ابن غانية إلى الزاب و اتبعه السيد أبو زيد فنازل ببسكرة و اقتحمها عليه و نجا ابن غانية و جمع أوباشا من العرب و البربر و اتبعه السيد أبو زيد في الموحدين و قبائل هوارة و تزاحفوا بظاهر تونس سنة إحدى و عشرين و ستمائة فانهزم ابن غانية و جموعه و قتل كثير من الملثمين و امتلأت أيدي الموحدين من الغنائم
و كان طرأ له يومئذ حماس من بعد ما سعى في هذا الزحف أثر مذكور و بلاء حسن و بلغ السيد أبا زيد إثر هذه الوقيعة خبر مهلك أبيه بتونس فانكف راجعا و أعيد بنو أبي حفص إلى مكان أبيهم الشيخ أبي محمد بن أثال بأفريقية و استقل الأمير أبو زكريا منهم بأمرها و اقتلعها عن ملكه إلى عبد المؤمن و تناولها من يد أخيه أبي محمد عبد الله
و هذا الأمير أبو زكريا هو جد الخلفاء الحفصيين و ما هد أمرهم بأفريقية فأحسن دفاع ابن غانية عنها و شرده في أقطارها و رفع يده شيئا فشيئا عن النيل من أهلها و رعاياها
و لم يزل شريدا مع العرب بالقفار فبلغ سجلماسة من أقصى المغرب و العقبة الكبرى من تخوم الديار المصرية و استولى على ابن مذكور صاحب السويقة من تخوم برقة و أوقع بمغراوة بواجر ما بين متيجة و مليانة و قتل أميرهم منديل بن عبد الرحمن و صلب شلوه بسور الجزائر و كان يستخدم الجند فإذا سئموا الخدمة تركهم لسبيلهم إلى أن هلك لخمسين سنة من إمارته سنة إحدى و ثلاثين و ستمائة و قيل ثلاث و ثلاثين و دفن و عفى أثر مدفنه يقال بوادي الرجو أن قتله الأريس يقال بجهة مليانة من وداي شلف و يقال بصحراء باديس و مديد من بلاد الزاب و انقرض أمر الملثمين من مسوقة و لمتونة و من جميع بلاد أفريقية و المغرب و الأندلس بمهلكه و ذهب ملك صنهاجة من الأرض بذهاب ملكه و انقطاع أمره و قد خلف بنات بعثهن زعموا إلى الأمير أبي زكريا لعهده بذلك إلى علجه جابر فوضعن في يده و بلغه وفاة أبيهن و حسن ظنه في كفالته إياهن فأحسن الأمير أبو زكريا كفالتهن و بنى لهن بحضرته دارا لصونهن معروفة لهذا العهد بقصر البنات
و أقمن تحت حراسته و في سعة من رزقة موصولات لوصاة أبيهن بذلك منهن و حفظهن لوصاته و لقد يقال أن ابن عم لهن خطب إحداهن فبعث إليها الأمير أبو زكريا فقال لها :
هذا ابن عمك و أحق بك فقالت لو كان ابن عمنا ما كفلنا الأجانب إلى أن هلكن عوانس بعد أن متعن من العمر بحظ
أخبرني والدلي رحمه الله أنه أدرك واحدة منهن أيام حياته في سني العشر و السبعمائة تناهز التسعين من السنين قال : و لقيتها و كانت من أشرف النساء نفسا و أسراهن خلقا و أزكاهن خلالا و الله وارث الأرض و من عليها
و مضى هؤلاء الملثمون و قبائلهم لهذا العهد بمجالاتهم من جوار السواد ان حجزا بينهم و بين الرمال التي هي تخوم بلاد البربر من المغربين و أفريقية و هم لهذا العهد متصلون من ساحل البحر المحيط في المغرب إلى ساحل النيل بالمشرق و هلك من قام بالملك منهم بالعدوتين و هم قليل من مسوقة و لمتونة كما ذكرناه أكلتهم الدولة و ابتلعتهم الآفاق و الأقطار و أفناهم الرق و استلحمهم أمراء الموحدين و بقي من أقام بالصحراء منهم على حالهم الأول من افتراق الكلمة و اختلاف البين و هم الآن يعطون طاعة لملوك السودان يحبون إليهم خراجهم و ينفرون في معسكرهم
و اتصل بنيانهم على بلاد السودان إلى المشرق مناظر السلع العرب بلاد المغربين و أفريقية فكدالة منهم في مقابلة ذوي حسان بن المعقل عرب السوس الأقصى و لمتونة و تريكة في مقابلة ذوي منصور و ذوي عبد الله بن المعقل أيضا عرب المغرب الأقصى و مسوقة في مقابلة زغبة عرب المغرب الأوسط و لمطة في مقابلة رياح عرب الزاب و بجاية و قسنطينة و تاركا في مقابلة سليم عرب أفريقية و أكثر ما عندهم من المواشي الإبل لمعاشهم و حمل أثقالهم و ركوبهم و الخيل قليلة لديهم أو معدومة و يركبون من الإبل الفارهة و يسمونها النجيب و يقاتلون عليها إذا كانت بينهم حرب و سيرها هملجة و تكاد تلحق بالركض و ربما يغزوهم أهل القفر من العرب و خصوصا بنو سعيد من بادية رياح فهم أكثر العرب غزوا إلى بلادهم فيستبيحون من صحبوه منهم يرمونه في بطون مغاير
فإذا اتصل الصائح بأحيائهم و ركبوا في اتباعهم و اعترضوهم على المياه قبل فصولهم من تلك البلاد فلا يكادون يخلصون و يشتد الحرب بينهم فلا يخلص العرب من غوائلهم إلا بعد جهد و قد يهلك بعضهم و لله الخلق و الأمر
و إذ عرض لنا ملوك السودان فلنذكر ملوكهم لهذا العهد الجاورين لملوك المغرب (6/256)
ملوك السودان ـ الخبر عن ملوك السودان المجاورين للمغرب من وراء هؤلاء الملثمين و وصف أحوالهم و الإلمام بما اتصل بنا من دولتهم
هذه الأمم السودان من الآدميين هم أهل الإقليم الثاني و ما وراءه إلى آخر الأول بل و إلى آخر المعمورة متصلون ما بين المغرب و المشرق و يجاورون بلاد البربر بالمغرب و أفريقية و بلاد اليمن و الحجاز في الوسط و البصرة و ما وراءها من بلاد الهند بالمشرق و هم أصناف و شعوب و قبائل أشهرهم بالمشرق الزنج و الحبشة و النوبة و أما أهل المغرب منهم فنحن ذاكروهم بعدما ننسبهم فبنو حام بن نوح بالحبش من ولد حبش بن كوش بن حام و النوبة من ولد نوبة بن كوش بن كنعان بن حام فيما قاله المسعودي و قال ابن عبد البر إنهم من ولد نوب بن قوط بن مصر بن حام و الزنج من ولد زنجي بن كوش و أما سائر السودان فمن ولد قوط بن حام فما قاله ابن عبد البر و يقال : هو قبط بن حام
و عد ابن سعيد من قبائلهم و أممهم سبعة عشر أمة فمنهم في المشرق الزنج على بحر الهند لهم مدينة فنقية و هم مجوس و هم الذين غلب رقيقهم بالبصرة على ساداتهم مع دعي الزنج في خلافة المعتمد
قال : و يليهم بربرا و هم الذين ذكرهم امرؤ القيس في شعره و الإسلام لهذا العهد فاش فيهم و لهم يومئذ مقاشن على البحر الهندي يعمرها تجار المسلمين و من غربيهم و حولهم الدمادم و هم حفاة عراة
قال : و خرجوا إلى بلاد الحبشة و النوبة عند خروج التتر إلى العراق فعاثوا فيها ثم رجعوا إلى
قال : ويليهم الحبشة و هم أعظم أمم السودان و هم مجاورون لليمن على شاطىء البحر الغربي و منه غزو ملك اليمن ذي نواس و كانت دار مملكتهم كفرة و كانوا على دين النصرانية و أخذ بالإسلام واحد منهم زمن الهجرة على ما ثبت في الصحيح و الذي أسلم منهم لعهد النبي صلى الله عليه و سلم و هاجر إليه الصحابة قبل الهجرة إلى المدينة فآواهم و منعهم و صلى عليه النبي صلى الله عليه و سلم عندما نعي إليه كان إسمه النجاشي و هو بلسانهم : أنكاش بالكاف المشمة بالجيم عربتها العرب جيما محضة و ألحقتها ياء النسب شأنها في الإسلام الأعجمية إذا تصرفت فيها و ليس هذا الاسم سمة لكل من تملك منهم كما يزعم كثير من الناس ممن لا علم له بهذا و لو كان لشهروا اسمه إلى اليوم لأن ملكهم لم يتحول منهم و ملكهم لهذا العهد اسمه الخطى ما أدري اسم السلطان نفسه أو اسم العشيرة الذين فيهم الملك
و في غربية مدينة دامون و كان بها ملك من أعاظمهم و له ملك ضخم و في شماليه ملك آخر منهم اسمه حق الدين محمد بن علي بن واصمع في مدينة أسلم أولوه في تواريخ مجهولة
و كان جده واصمع مطيعا لملك دامون و أدركت الخطى الغيرة من ذلك فغزاه و استولى على بلاده
ثم اتصلت الفتنة و ضعف أمر الخطى فاسترجع بنو واصمع بلادهم من الخطى و بنيه و استولوا على وفات و خربوها
و بلغنا أن حق الدين هلك و ملك بعده أخوه سعد الدين و هم مسلمون و يعطون الطاعة للخطى أحيانا و ينابذونه أخرى و الله مالك الملك
( قال ابن سعيد ) : ويليهم البجاوة و هم نصارى و مسلمون و لهم جزيرة بسواكن في بحر السوس ويليهم النوبة إخوة الزنج و الحبشة و لهم مدينة دنقلة غرب النيل و أكثرهم مجاورون للديار المصرية و منهم رقيق
ويليهم زغاوة و هم مسلمون و من شعوبهم تاجرة ويليهم الكانم و هم خلق عظيم والإسلام غالب عليهم و مدينتهم حميمي و لهم التغلب على بلاد الصحراء إلى فزان و كانت لهم مهادنة مع الدولة الحفصية مذ أولها و يليهم من غربهم كوكو و بعدهم نغاله و التكرور و لمى و تميم و جاى و كورى و أفكزار و يتصلون بالبحر المحيط إلى غانية في الغرب كلام ابن سعيد و لما فتحت أفريقية المغرب دخل التجار بلاد المغرب فلم يجدوا فيهم أعظم من ملوك غانية كانوا مجاورين للبحر المحيط من جانب الغرب و كانوا أعظم أمة و لهم أضخم ملك و حاضرة ملكهم غانية مدينتان على حافتي النيل من أعظم مدائن العالم و أكثرها معتمرا ذكرها مؤلف كتاب رجار و صاحب المسالك و الممالك
و كانت تجاورهم من جانب الشرق أمة أخرى فيما زعم الناقلون تعرف صوصو بصادين مضمومتين أو سينين مهملتين ثم بعدها أمة أخرى تعرف مالي ثم بعدها أمة أخرى تعرف كوكو و يقال كاغو ثم بعدها أمة أخرى تعرف بالتكرور
( و أخبرني ) الشيخ عثمان ففيه أهل غانية و كبيرهم علما و دينا و شهرة قدم مصر سنة تسع و تسعين و ستمائة حاجا بأهله و ولده و لقيته بها فقال : إنهم يسمون التكر و رزغاي و مالي انكاويه
ثم أن أهل غانية ضع ملكهم و تلاشى أمرهم و استفحل أمر الملثمين المجاورين لهم من جانب الشمال مما يلي البربر كما ذكرناه و عبروا على السودان و استباحوا حماهم و بلادهم و اقتضوا منهم الأتاوات و الجزى و حملوا كثيرا منهم على الإسلام فدانوا به ثم اضمحل ملك أصحاب غانية و تغلب عليهم أهل صوصو المجاورون لهم من أمم السودان و استعبدوهم و أصاروهم في جملتهم ثم أن أهل مالي كثروا أمم السودان في نواحيهم تلك و استطالوا على الأمم المجاورين لهم فغلبوا على صوصو أو ملكوا جميع ما بأيديهم من ملكهم القديم و ملك أهل غانية إلى البحر المحيط من ناحية الغرب و كانوا مسلمين يذكرون أن أول من أسلم منهم مالك اسمه برمندان هكذا ضبطه الشيخ عثمان و حج هذا الملك و اقتفى سننه في الحج ملوكهم من بعده
و كان ملكهم الأعظم الذي تغلب على صوصو و افتتح بلادهم و انتزع الملك من أيديهم إسمه ماري جاطة و معنى ماري عندهم الأمير الذي يكون نسل السلطان و جاطة الأسد و اسم الحافد عندهم تكن و لم يتصل بنا نسب هذا الملك و ملك عليهم خمسا و عشرين سنة فيما ذكروه ولما هلك ولي عليهم من بعده منساولي و معنى منسا السلطان و معنى ولي بلسانهم علي و كان منساولي هذا من أعاظم ملوكهم و حج أيام الظاهر بيبرس و ولي عليهم من بعده أخوه واتى ثم بعده أخوة خليفة و كان محمقا راويا فكان يرسل السهام على الناس فيقتلهم مجانا فوثبوا عليه فقتلوه و ولي عليهم من بعده سبط من أسباط ماري جاطة يسمى أبا بكر و كان ابن بنته فملكوه على سنن الأعاجم في تمليك الأخت و ابن الأخت ولم يقع إلينا نسبه و نسب أبيه
ثم ولي عليهم من بعده مولى من مواليهم تغلب على ملكهم اسمه ساكورة و قال الشيخ عثمان : ضبطه بلسانهم أهل غانية سيكرة و حج أيام الملك الناصر و قتل عند مرجعه بتاجورا و كانت دولته ضخمة اتسع فيها نطاق ملكهم و تغلبوا على الأمم المجاورة لهم و افتتح بلاد كوكو و أصارها في ملكه أهل مالي و اتصل ملكهم من البحر المحيط و غانة بالمغرب إلى بلاد التكرور في المشرق و اعتز سلطانهم و هابتهم أمم السودان و ارتحل إلى بلادهم التجار من بلاد المغرب و أفريقية
و قال الحاج يونس ترجمان التكروري إن الذي فتح كوكو هو سغمنجه من قواد منسا موسى و ولي من بعده ساكورة و هذا هو ابن السلطان ماري جاطة ثم من بعده ابنه محمد بن قوم ثم انتقل ملكهم من ولد السلطان ماري جاطة إلى ولد أخيه أبي بكر فولى عليهم منسا موسى بن أبي بكر و كان رجلا صالحا و ملكا عظيما له في العدل أخبار تؤثر عنه و حج سنة أربع و عشرين و سبعمائة لقيه في الموسم شاعر الأندلس أبو إسحق إبراهيم الساحلي المعروف بالطونجق و صحبه إلى بلاده و كان له اختصاص و عناية ورثها من بعده ولده إلى الآن و أوطنوا و الاتر من تخوم بلادهم من ناحية المغرب و لقيه في منصرفه صاحبنا المعمر أبو عبد الله بن خديجة الكومي من ولد عبد المؤمن كان داعية بالزاب للفاطمي المنتظر و أجلب عليهم بعصائب من العرب فمكر به واركلا و اعتقله ثم خلى سبيله بعد حين فخاض إلى السلطان منسا موسى مستجيشا به عليهم و قد كان بلغه توجهه للحج فأقام في انتظاره ببلد غدامس يرجو نصرا على عدوه و معونة على أمره لما كان عليه منسا موسى من استفحال ملكه بالصحراء الموالية لبلد واركلا و قوة سلطانه فلقي منه مبرة و ترحبا و وعده بالمظاهرة و القيام بثأره و استصحبه إلى بلدة أخرى و هو الثقة
قال : كنا نواكبه أنا و أبو إسحق الطونجق دون وزراته و وجوه قومه نأخذ بأطراف الأحاديث نتمتع و كان متحفا في كل منزل بطرف المآكل و الحلاوات قال : و الذي تحمل آلته و حربته من الطوائف خاصة إثنا عشر ألفا لابسات أقبية الديباج و الحرير اليماني
قال الحاج يونس ترجمان هذه الأمة بمصر : جاء هذا الملك منسا موسى من بلده بثمانين حملا من التبر كل حمل ثلاثة قناطير قال : و إنما يحملون على الوصائف و الرجال في أوطانهم فقط و أما السفر البعيد كالحج فعلى المطايا
قال أبو خديجة : و رجعنا معه إلى حضرة ملكه فأراد أن يتخذ بيتا بمقعد سلطانه محكم البناء مجللا لغرابته بأرضهم فأطرافه أبو اسحق الطونجق ببناء قبة مربعة الشكل استفرغ فيها إجادته و كان صناع اليدين و اضفى عليها من الكلس و والي عليها بالأصباغ المشعبة فجاءت من أتقن المباني و وقعت من السلطان موقع الاستغراب لفقدان صنعة البناء بأرضهم و وصله بإثنتي عشر ألفا من مثاقيل التبر مثوبة عليها إلى ما كان له من الاثرة و الميل إليه و الصلات السنية و كان بين هذا السلطان منسا موسى و بين ملك المغرب لعهده من بني مرين السلطان أبي الحسن مواصلة و مهاداة سفرت بينهما فيها الأعلام من رجال الدولتين و استجاد صاحب المغرب من متاع وطنه و تحت ممالكة مما تحدث عنه الناس على ما نذكره عند موضعه بعث بها مع علي بن غانم المغفل و أعيان من رجال دولته
و توارثت تلك الوصلة أعقابهما كما سيأتي و اتصلت أيام منسا موسى هذا خمسا و عشرين سنة
و لما هلك ولي أمر مالي من بعده إبنه منسا مغا و مغا عندهم محمد و هلك لأربع سنين من ولايته و ولي أمرهم من بعده منسا سليمان بن أبي بكر و هو أخو موسى و اتصلت أيامه أربعا و عشرين سنة
ثم هلك فولة بعده ابنه منسا بن سليمان و هلك لتسعة من ولايته فولي عليهم من بعده ماري جاطه بن منسا مغا بن منسا موسى و اتصلت أيامه أربعة عشر عاما و كان أشر وال عليهم بما سامهم من النكال و العسف و إفساد الحرم و أتحف ملك المغرب لعهده السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن بالهدية المذكورة سنة إثنتين و ستين و سبعمائة و كان فيها الحيوان العظيم الهيكل المستغرب بأرض المغرب المعروف بالزرافة تحدث الناس بما اجتمع غيه من مفترق الجلى و الشبه في جثمانه و نعوته دهرا
و أخبرني القاضي الثقة أبو عبد الله محمد بن وانسول من أهل سجلماسة و كان أوطن بارض كوكو من بلادهم و استعملوه في خطة القضاء بما لقية منذ سنة ست و سبعين و سبعمائة فأخبرني عن ملوكهم بالكثير مما كتبته و ذكر لي عن هذا السلطان جاطه أنه أفسد ملكهم و أتلف ذخيرتهم و كاد أن ينتقض شأن سلطانهم
قال : و لقد انتهى الحال به في سرفه و تبذيره أن باع حجر الذهب الذي كان في جملة الذخيرة عن أبيهم و هو حجر يزن عشرين قنطارا منقولا من المعدن من غير علاج بالصناعة و لا تصفية بالنار كانوا يرونه من أنفس الذخائر و الغرائب لندور مثله في المعدن فعرضه جاطه هذا الملك المسرف على تجار مصر المترددين إلى بلده و ابتاعوه منه بأبخس ثمن اذ استهلك من ذخائر ملوكهم سرفا و تبذيرا في سبيل الفسوق و التخلف
قال : و أصابته على النوم و هو مرض كثيرا ما يطرق أهل الإقليم و خصوصا الرؤساء منهم يعتاده غشي النوم عامة أزمانه حتى يكاد أن لا يفيق و لا يستيقظ إلا في القليل من أوفاته و يضر صاحبه و يتصل سقمه إلى أن يهلك
قال : و دامت هذه العلة بخلطه مدة عامين إثنين و هلك سنة خمس و سبعين و سبعمائة و ولا من بعده إبنه موسى فأقبل على مذاهب العدل و النظر لهم و نكب عن طرق أبيه جملة و هو الآن مرجو الهداية و يغلب على دولته وزيره ماري جاطه و معنى ماري عندهم الوزير و جاطه تقدم و هو الآن قد حجر السلطان و استبد بالأمر عليه و نظر في تجهيز العساكر و تجهيز الكتائب و دوخ اقطار الشرق من بلادهم و تجاوز تخوم كوكو و جهز إلى منازلة تكرت بما وراءها من بلاد الملثمين كتائب نازلتها الأول الدولة و أخذت بمخنقها ثم أفرجت عنها و حاطهم الآن هدنة
و تكرت هذه على سبعين مرحلة من بلد واركلا في الجانب القبلي الغربي و فيها من الملثمين يعرف بالسلطان و عليهم طريق الحاج من السودان و بينه و بين أمير الزاب و واركلا مهاداة و مراسلة قال : و حاضرة الملك لأهل مالي هو بلد بني بلد متسع الخطة معين على الزرع مستبحر العمارة نافق الأسواق و هو الآن محط لركاب البحر من المغرب و أفريقية و مصر و البضائع مجلوبة إليها من كل قطر
ثم بلغنا لهذا العهد أن منسا موسى توفي سنة تسع و ثمانين و سبعمائة و ولي بعده أخوه منسا مغا ثم قتل لسنة أو نحوها و ولي بعده صندكي زوج أم موسى صندكي الوزير و وثب عليه بعد أشهر رجل من بيت ماري جاطة ثم خرج من بلاد الكفرة وراءهم و جاءهم رجل اسمه محمود ينسب إلى منساقوين منسا ولي بن ماري جاطه الأكبر فتغلب على الدولة و سلك أمرهم سنة اثنتين و تسعين و سبعمائة و لقبه منسا مغا و الخلق و الأمر لله وحده (6/264)
الخبر عن لمطة و كزولة و هسكورة بني تصكي و هم أخوة هوارة و صنهاجة
هؤلاء القبائل الثلاث قد تقدم لنا أنهم إخوة لصنهاجة و أن أم الثلاثة تصكي العرجاء بنت زحيك مادغيس فأما صنهاجة فمن ولد عاميل بن زعزاع و أما هوارة فمن ولد أوريغ و هو ابنها ابن يرنس و أما الآخرون فلا تحقيق في نسبهم
قال ابن حزم : إن صنهاجة و لمطة لا يعرف لهما أب و هذه الأمم الثلاث موطنون بالسوس و ما يليه من بلاد الصحراء و جبال درن ملؤوا بسائطه و جباله فأما لمطة فأكثرهم مجاورون الملثمين من صنهاجة و لهم شعوب كثيرة و أكثرهم ظواعن أهل وبر و منهم بالسوس قبيلتا زكن و لخس صاروا في عداد ذوي حسان من معقل و بقايا لمطة بالصحراء مع الملثمين و معظمهم قبيلة بين تلمسان و أفريقية و كان منهم الفقيه وكاك بن زيرك صاحب أبي عمران الفاسي و كان نزل سجلماسة و من تلميذه كان عبد الله بن ياسين صاحب الدولة اللمتونية على ما مر
و أما كزولة فبطونهم كثيرة و معظمهم بالسوس و يجاورون لمطة و يحاربونهم و منهم الآن ظواعن بأرض السوس و كان لهم مع المعقل حروب قبل أن يدخلوا السوس فلما دخلوه تغلب عليهم و هم الآن من خولهم و أخلافهم و رعاياهم
و أما هسكورة و هم لهذا العهد في عداد المصامدة و ينسبون إلى دعوة الموحدين و هم أمم كثيرة و بطون واسعة و موطنهم بجبالهم متصلة من درن إلى تادلا من جانب الشرق إلى درعة من جانب القبلة و كان دخول بعضهم في دعوة المهدي قبل فتح مراكش و لم يستكملوا الدخول في الدعوة إلا بعده فلذلك لا يعدهم كثير من الناس في الموحدين و إن عدوا فليسوا من أهل السابقة منهم لمخالفتهم الإمام أول الأمر و ما كان من حروبهم معه و مع أوليائه و شيعته و كانوا ينادون بخلافهم و عداوتهم و يجهرون بلعنهم فتقول خطباؤهم في مجامع صلواتهم : لعن الله هنتاتة و تينملل و هرنة و هرزجة فلما استقاموا من بعد ذلك لم يكن لهم مزية السابقة كما كانت لهنتاتة و تينملل و هزعة و هزرجة فاستقامتهم على الدعوة كان بعد فتح مراكش
و بطون هسكورة هؤلاء متعددون فمنهم مصطاوة و عجرامة و زمراوة و انتيفت و بنو نفال و بنو رسكونت إلى آخرين لم يحضرني أسماؤهم
و كانت الرياسة عليهم آخر دولة الموحدين لعمر بن وقاريط المنتسب و ذكره في أخبار المأمون و الرشيد من بني عبد المؤمن خلاف الموحدين بمراكش ثم كان من بعده مسعود بن كلداسن و هو القائم يأمر دبوس و المظاهر له على شأنه و أظنه جد بني مسعود الرؤساء عليهم لهذا العهد من فطواكة المعروفين ببني خطاب لاتصال الرياسة في هذا البيت و لما انقرض أمر الموحدين استعصوا على بني مرين مدة و اختلف حالهم معهم في الاستقامة و النفرة و كانوا ملجأ النازعين عن الطاعة من عرب جشم و مأوى للثائرين منهم
ثم استقاموا و أذعنوا لأداء الضرايب و المغارم و جبايتها من قومهم و الخفوف إلى العسكرة مع السلطان متى دعوا إليها شأن غيرهم من سائر المصامدة
و أما انتيفت فكانت رياستهم في أولاد هنوا و كان يوسف بن كنون منهم اتخذ لنفسه حصن تاقيوت و امتنع به و لم يزل ولده علي و مخلوف يشيد أنه من بعده و هلك يوسف و قام بأمره ابنه مخلوف و جاهر بالنفاق سنة اثنتين و سبعمائة ثم راجع الطاعة و هو الذي تقبض على يوسف بن أبي عياد المتعدي على مراكش أيام أبي ثابت سنة سبع و سبعمائة كما نذكر في أخباره لما أحيط به فتقبض عليه مخلوف و أمكن منه و كانت وسيلته من الطاعة و كان من بعده ابنه هلال بن مخلوف و الرياسة فيهم متصلة لهذا العهد
و أما بنو نفال فكانت رياستهم لأولاد تروميت و كان منهم لعهد السلطان أبي سعيد و ابنه أبي الحسن كبيرهم علي بن محمد و كان له في الخلاف و الامتناع ذكر و استنزله السلطان أبو الحسن من محله لأول ولايته بعد حصاره بمكانه و أصاره في جملته تحت عنايته و إمرائه إلى أن هلك بتونس بعد واقعة القيروان في الطاعون الجارف و ولي بنوه من بعده أمر قومهم إلى أن انقرضوا و الرياسة لهذا العهد في أهل بيتهم و لأهل عمومتهم
و أما فطواكة و هم أوسع بطونهم و أعظمهم رياسة فيهم و أقربهم اختصاصا بصاحب الملك و استعمالا في خدمته و كان بنو خطاب منذ انقراض أمر الموحدين قد جنحوا إلى بني عبد الحق و أعطوهم المقادة و اختصوا شيوخهم في بني خطاب بالولاية عليهم و كان شيخهم لعهد السلطان يوسف بن يعقوب محمد بن مسعود و ابنه عمر من بعده و هلك عمر سنة أربع و سبعمائة بمكانه من محله و ولي بعده عمه موسى بن مسعود و سخطه السلطان لتوقع خلافه فاعتقله و كان خلاصه من الاعتقال سنة ست و سبعمائة و قام بأمر هسكورة من بعده محمد بن عمر بن محمد بن مسعود
و لما استفحل ملك بني مرين و ذهب أثر الملك من المصامدة و بعد عهدهم صار بنو مرين إلى استعمال رؤسائهم في جباية مغارمهم لكونهم من جلدتهم ولم يكن فيهم أكبر رياسة من أولاد تونس في هنتاتة و بني خطاب هؤلاء في هسكورة فداولوا بينهم ولاية الأعمال المراكشية وليها محمد بن عمر هذا من بعد موسى بن علي و أخيه محمد شيوخ هنتاتة
فلم يزل واليا منها إلى أن هلك قبيل نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان و لحق ابنه ابراهيم بتلمسان ذاهبا إلى السلطان أبي الحسن فلما دعا أبو عنان إلى نفسه رجع عنه إلى محله و تمسك بما كان عليه من طاعة أبيه و رعاه أبو عنان لعمه عبد الحق و قلده الأعمال المراكشية فلم يغن في منازعه إلى أن لحق السلطان أبو الحسن بمراكش فكان من أعظم دعاته و أبلى في مظاهرته فلما هلك السلطان أبو الحسن اعتقله أبو عنان و أودعه السجن ثم قتله بين يدي نهوضه إلى تلمسان سنة ثلاث و خمسين و سبعمائة و قام بأمره من بعده أخوه منصور بن محمد إلى أن هلك الأمير عبد الرحمن بن أبي يغلوسن مراكش سنة ست و سبعين و سبعمائة فاستقدمه و تقبض عليه و اعتقله بدار ابن عمه نحوا من العام ابن مسعود بن خطاب كان في جملته و كان هو و أبوه نازعا إلى بني مرين خوفا على أنفسهم من أولاد محمد بن عمر لترشحهم للأمر فلما استمكن منه بداره معتقلا وثب عليه فقتله و استلحم بنيه معه و سخطه السلطان لها فاعتقله قليلا ثم أطلقه و استقل برياسة هسكورة لهذا العهد و الله قادر على ما يشاء (6/270)
الطبقة الثالثة من صنهاجة
و هذه الطبقة ليس فيها ملك و هم لهذا العهد أوفر قبائل المغرب فمنهم المواطنون بالجانب الشرقي من جبال درن ما بين تازى و تادلا و معدن بني فازان حيث الثنية المفضية إلى آكرسلوين من بلاد النخل و مقصد تلك الثنية من بلادهم و بلاد المصامدة في المغرب من جبال درن
ثم اعتمروا قنن تلك الجبال و شواهقها و تنعطف مواطنهم في تلك الثنية إلى ناحية القبلة إلى أن تنتهي إلى آكرسلوين ثم ترجع مغربا من آكرسلوين إلى درعة إلى ضواحي السوس الأقصى و أمصاره من تارودانت و أيفري الى فوتان و غيرها و يعرف هؤلاء كلهم بإسم صناكة حرفت إليها من اسم صنهاجة و أسموا صاده زايا و أبدلوا الجيم بالكاف المتوسطة المخرج عند العرب لهذا العهد بين الكاف و القاف أو بين الكاف و الجيم و هي معربة النطق
و لصنهاجة هؤلاء بين قبائل المغرب أوفر عدد و شدة بأس و منعة و أعزهم جانبا أهل الجبال المطلة على تادلا و رياستهم لهذا العهد في ولد عمران الصناكي و لهم اعتزاز على الدولة و منعة عن الهضمية و الانقياد للمغرم و تتصل بهم قبائل خباتة منهم ظواعن يسكنون الخص و ينتجعون مواقع القطر في نواحي بلادهم بتيغانيمين من قبيلة مكناسة إلى وادي أم ربيع من تامسنا في الجانب الشمالي من جانبي جبل درن و رياستهم في ولد هيدي من مشاهيرهم و لهم اعتياد بالمغرم و روم على الذل
و تتصل بهم قبائل دكالة في وسط المغرب من عدوة أم ربيع إلى مراكش و يتصل بهم من جهة المغرب على ساحل البحر قبيلة بناحية آزمور و أخرى وافرة العدد مندرجة في عداد المصامدة وطنا و نحلة و جباية و عمالة و رياستهم لهذا العهد في دولة عزيز بن يبروك و رئيسهم لأول دولة زناتة و يأتي ذكره و يعرف عقبه الآن ببني بطال و من قبائل صنهاجة بطون أخرى بجبال تازى و ما والاها مثل بطوية و بخاصة و بني وارتين إلى جبل لكائي من جبال المغرب معروف ببني الكائي إحدى قبائلهم يعطون المغرم عن عزة و بطوية منهم ثلاثة بطون : بطوية على تازى وبني ورياغل على ولد المزمة و أولاد علي بتافرسيت و كان لأولاد علي ذمة مع بني عبد الحق ملوك بني مرين و كانت أم يعقوب بن عبد الحق منهم فاستوزرهم و كان منهم طلحة بن علي و أخوه عمر على ما يأتي ذكره في دولتهم
و يتصل ببسيط بالمغرب ما بين جبال درن و جبال الريف من ساحل البحر الرومي حيث مساكن حماد الآتي ذكرهم قبائل أخرى من صنهاجة موطنون في عضاب و أودية و بسائط يسكنون بيوت الحجارة و الطين مثل قشتالة وسطه و بنو ورياكل و بنو حميد و بنو جلدة و بنو عمران و بنو دركول و ورتزر و ملواتة و بني وامرد و مواطن هؤلاء كلهم بوزعة و أمركو يحترفون بالحياكة و الحراثة و يعرفون لذلك صنهاجة البز و هم في عداد القبائل المغارمة و لغتهم في الأكثر عربية لهذا العهد و هم مجاورون بجبال غمارة
و يتصل بجبال غمارة من ناحيتهم جبل سريف موطن بني زروال من صنهاجة و بني مغالة لا يحترفون بمعاش و يسمون صنهاجة العز لما اقتضته منعة جبالهم و يقولون لصنهاجة آزمور الذين قدمنا ذكرهم صنهاجة الذل لما هم عليه من الذل و المغرم
و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين و قد يقال في بعض مزاعم البربر أن بني وديد من صنهاجة و بنو يزناسن و باطويه هم أخوال واصل بن ياسن أجناس و معناه بلغة الغرب الجالس على الأرض (6/273)
الخبر عن المصامدة من قبائل البربر و ما كان لهم من الدولة و السلطان بالمغرب و مبدأ ذلك و تصاريفه
و أما المصامدة و هم من ولد مصمود بن يونس بربر فهم أكثر قبائل البربر و أوفرهم من بطونهم : برغواطة و غمارة و أهل جبل درن و لم تزل مواطنهم بالمغرب الأقصى منذ الأحقاب المتطاولة و كان المتقدم فيهم قبيل الإسلام و صدره برغواطة ثم صار التقدم بعد ذلك لمصامدة جبال درن إلى هذا العهد و كان لبرغواطة في عصرهم دولة و لأهل درن منهم دولة أخرى و دول حسبما نذكر فلنذكر هذه الشعوب و ما كان فيها من الدول بحسب ما بدا إلينا من ذلك (6/275)
الخبر عن برغواطة من بطون المصامدة و دولتهم و مبدأ أمرهم و تصاريف أحوالهم
و هم الجيل الأول منهم كان لهم في صدر الإسلام التقدم و الكثرة و كانوا شعوبا كثيرة مفترقين و كانت مواطنهم خصوصا من بين المصامدة في بسائط تامسنا و ريف البحر المحيط من سلا و أزمور و أنقى و أسقى و كان كبيرهم لأول المائة الثانية من الهجرة طريف أبو صبيح و كان من قواد ميسرة الخفير طريف المضفري القائم بدعوة الصفرية و معها معزوز بن طالوت ثم انقرض أمر ميسرة و الصفرية وبقي طريف قائما بأمرهم بتامسنا و يقال أيضا إنه تنبأ و شرع لهم الشرائع ثم هلك و ولي مكانه ابنه صالح و قد كان حضر مع أبيه حروب ميسرة و كان من أهل العلم و الخير فيهم
ثم انسلخ من آيات الله و انتحل دعوى النبوة و شرع لهم الديانة التي كانوا عليها من بعده و هي معروفة في كتب المؤرخين و أدعى أنه نزل عليه قرآن كان يتلو عليهم سورا منه يسمى منها سورة الديل و سورة الجمل و سورة الفيل و سورة آدم و سورة نوح و كثير من الأنبياء و سورة هاروت و ماروت و إبليس وسورة غرائب الدنيا و فيها العلم العظيم بزعمهم حرم فيها و حلل و شرع قص و كانوا يقرؤنه في صلواتهم و كانوا يسمونه صالح المؤمنين كما حكاه البكري عن زمور بن صالح بن هاشم بن وراد الوافد منهم على الحاكم المستنصر الخليفة بقرطبة من قبل ملكهم أبي عيسى بن أبي الأنصارى سنة اثنتين و خمسين وثلثمائة
و كان يترجم عنه بجميع خبره داود بن عمر المسطاسي قال :
و كان ظهور صالح هذا في خلافة هشام بن عبد الملك من سنة سبع و عشرين من المائة الثانية من الهجرة و قد قيل إن ظهوره كان لأول الهجرة و أنه إنما انتحل ذلك عنادا و محاكاة لما بلغه شأن النبي صلى الله عليه و سلم و الأول أصح ثم زعم أنه المهدي الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان و أن عيسى يكون صاحبه و يصلي خلفه و أن إسمه في العرب صالح و في السريان مالك و في الأعجمي عالم و في العبراني روبيا و في البربري وربا و معناه الذي ليس نبي و خرج إلى المشرق بعد أن ملك أمرهم سبعا و أربعين سنة و وعدهم أنه يرجع إليهم في دولة السابع منهم و أوصى بدينه إلى إبنه إلياس و عهد إليه بموالاة صاحب الأندلس من بني أمية و بإظهار دينه إذا قوي أمرهم
و قام بأمره بعده إبنه إلياس و لم يزل مظهرا للإسلام مسرا لما أوصاه به أبوه من كلمة كفرهم و كان ظاهرا عفيفا زاهدا لخمسين سنة من ملكه و ولي أمرهم من بعده ابنه يونس فأظهر دينهم و دعا إلى كفرهم و قتل من لم يدخل في أمره حتى حرق مدائن تامسنا و ما والاها يقال إنه حرق ثلثمائة و ثمانين مدينة و استلحم أهلها بالسيف لمخالفتهم إياه و قتل منهم بموضع يقال له تاملوكاف و هم حجر عال نابت وسط الطريق فقتل سبعة آلاف وسبعمائة و سبعين
قال زمور : و رحل يونس إلى المشرق و حج و لم يحج أحد من أهل بيته قبله و لا بعده و هلك لأربع و أربعين سنة من ملكه و انتقل الأمر عن بنيه و ولي أمرهم أبو غفير محمد بن معاد بن إليسع بن صالح بن طريف فاستولى على ملك برغواطة و أخذ بدين آبائه و اشتدت شوكته و عظم أمره و كانت له في البربر وقائع مشهورة و أيام مذكورة أشار إليها سعيد بن هشام المصمودي في قوله :
( قفي قبل اتفرق و اخبرينا ... و قولي و اخبري خبرا يقينا )
( و هذي أمة هلكوا و ضلوا ... و غاروا لا سقوا ماء معينا )
( يقولون : النبي أبو غفير ... فأخزى الله أم الكاذبينا )
( ألم تسمع و لم تر لؤم بيت ... على آثار خيلهم ربينا )
( و هن الباكيات فبين ثكلى ... و عادمة و مسقطة جنينا )
( ستعلم أهل تامسنا إذا ما ... أتوا يوم القيامة مقطعينا )
( هنالك يونس و بنو أبيه ... يقودون البرابر حائرينا )
( إذا زر ياور طافت عليهم ... جبهتهم بأيدي المنكرينا )
( فليس اليوم يومكم و لكن ... ليالي كنتم متيسرينا )
و اتخذ أبو غفير من الزوجات أربعا و أربعين و كان له من الولد مثلها و أكثر و هلك أخريات المائة الثالثة لتسع و عشرين سنة من ملكه و ولي بعده ابنه أبو الأنصار عبد الله فاقتفى سننه و كان كثير الدعة مهابا عند ملوك عصره يهادونه و يدافعونه بالمواصلة و كان يلبس الملحفة و السراويل و يلبس المخيط و لا يعتم أحد في بلاده إلا الغرباء و كان حافظا للجار و فيا بالعهد و توفي سنة إحدى و أربعين من المائة الرابعة لأربع و أربعين سنة من ملكه و دفن بأمسلاخت و بها قبره و ولي بعده ابنه أبو منصور عيسى ابن اثنتين و عشرين سنة فسار سير آبائه و ادعى النبوة و الكهانة و اشتد أمره و علا سلطانه و دانت له قبائل المغرب
قال زمور : و كان فيحا أوصاه به أبوه : يا بني ! أنت سابع الأمراء من أهل بيتك و أرجو أن يأتيك صالح بن طريف قال زمور : و كان عسكره يناهز الثلاثة آلاف من برغواطة و عشرة آلاف من سواهم مثل جراوة و زواغة و البرانس و مجاصة و مضغرة و دمر مطماطة و بنو وارزكيت و كان أيضا بنو يفرن وآحدة و ركامة و ايزمن و رصافة و رغصرارة على دينهم و لم تسجد ملوكهم إلا له منذ كانوا كلام زمور و كان لملوك العدوتين في غزوبر غواطة هؤلاء و جهادهم أثناء هذه و بعده آثار عظيمة من الأدراسة و الأموية و الشيعة
و لما أجاز جعفر بن علي من الأندلس إلى المغرب و قلده المنصور بن أبي عامر عمله سنة ست و ستين و ثلثمائة فنزل البصرة ثم اختلف ذات بينه و بين أخيه يحيى و استمال عليه أخوه الجند و أمراء زناتة فتتجافى له جعفر عن العمل و صرف وجهه إلى الجهاد برغواطة معتدة من صالح عمله و زحف إليهم في أهل المغرب و كافة الجند الأندلسيين فلقوه ببسيط بلادهم و كانت عليه الدبرة و نجا بنفسه في فل من جنده ولحق بأخيه بالبصرة ثم أجاز بعدها إلى المنصور باستدعائه و ترك أخاه يحيى على عمل المغرب ثم حاربتهم أيضا صنهاجة لما غزا بلكين بن زيري المغرب سنة ثمان و ستين و ثلثمائة بعدها و أجفلت زناتة أمامه و انزووا إلى حائط سبتة و امتنعوا منه بأعوادها فانصرف عنهم إلى جهاد برغواطة و زحف إليهم فلقيه أبو منصور عيسى بن أبي الأنصار في قومه و كانت عليهم الهزيمة
و قتل أبو منصور و أثخن فيهم بلكين بالقتل و بعث سبيهم إلى القيروان و أقام بالمغرب يردد الغزو فيهم إلى سنة اثنتين و سبعين و ثلثمائة و انصرف من المغرب فهلك في طريقه إلى القيروان و لم أقف على من ملك أمرهم بعد أبي منصور ثم حاربتهم أيضا جنود المنصور بن أبي عامر لما عقد عبد الملك بن المنصور لمولاه واضح إمرة برغواطة هؤلاء فيمن قبله من الأجناد و أمراء النواحي و أهل الولاية فعظم الأثر فيهم بالقتل و السبي ثم حاربهم أيضا بنو يفرن لما استقل أبو يعلى بن محمد اليفرني من بعد ذلك بناحية سلا من بلاد المغرب و اقتطعوهم من عمل زيري بن عطية المغراوي بعدما كان بينهما من الحروب
و انتساب أولاد يعلى هؤلاء إلى تميم بن زيري بن يعلى في أول المائة الخامسة وكان موطنا بمدينة سلا و مجاورا لبرغواطة فكان له أثر كبير في جهادهم و ذلك في سني عشرين و أربعمائة فغلبهم على تامسنا و ولى عليها من قبله بعد أن أثخن فيهم سبيا و قتلا ثم تراجعوا من بعده إلى أن جاءت دولة لمتونة و خرجوا من مواطنهم بالصحراء إلى بلاد المغرب و افتتحوا الكثير من معاقل السوس الأقصى و جبال المصامدة ثم بدا لهم جهاد برغواطة بتامسنا و ما إليها من الريف الغربي فزحف إليهم أبو بكر بن عمر أمير لمتونة في المرابطين من قومه و كانت له فيهم وقائع استشهد في بعضها صاحب الدعوة عبد الله ابن ياسين الكبروي سنة خمسين و أربعمائة و استمر أبو بكر و قومه من بعده على جهادهم حتى استأصلوا شأفتهم و محوا من الأرض آثارهم و كان صاحب أمرهم لعهد انقراض دولتهم أبو حفص عبد الله من أعقاب أبي منصور عيسى بن أبي الأنصار عبد بن أبي غفير محمد بن معاد بن إليسع بن صالح بن طريف فهلك في حروبهم و عليه كان انقراض أمرهم و قطع دابرهم على يد هؤلاء المرابطين و الحمد لله رب العالمين و قد نقل بعض الناس في نسب برغواطة فبعضهم يعده في قبائل زناتة و آخرون يقولون في صالح إنه يهودي من ولد شمعون بن يعقوب نشأ ببرباط و رحل إلى المشرق و قرأ على عبد الله المغربي و اشتغل بالسحر و جمع فنونا و قدم المغرب و نزل تامسنا فوجد بها قبائل جهالا من البربر فأظهر لهم الزهد و سحرهم بلسانه و موه عليهم فقصدوه و اتبعوه فادعى النبوة و قيل له برباطي نسبة إلى الموطن الذي نشأ به و هو برباط واد بحصن شريش من بلاد الأندلس فعربت العرب هذا الاسم و قالوا برغواط ذكر ذلك كله صاحب كتاب الجوهر و غيره من النسابين للبربر و هو الأغاليط البينة
و ليس القوم من زناتة و يشهد لذلك موطنهم و جوارهم لإخوانهم المصامدة و أما صالح بن طريف فمعروف منهم و ليس من غيرهم و لا يتم الملك و التغلب على النواحي و القبائل لمنقطع جذمة دخيل في نسبه سنة الله في عباده و إنما نسب الرجل برغواطة و هم شعب من شعوب المصامدة شعب معروف كما ذكرناه و الله ولي المتقين (6/276)
الخبر عن غمارة من بطون المصامدة و ما كان فيهم من الدول و تصاريف أحوالهم
هذا القبيل من بطون المصامدة من ولد غمار بن مصمود و قيل غمار بن مسطاف ابن مليل بن مصمود و قيل غمار بن أصاد بن مصمود
و يقول بعض العامة أنهم عرب غمروا في تلك الجبال فسموا غمارة و هو مذهب عامي و هم شعوب و قبائل أكثر من أن تحصر و البطون المشهورة منهم بنو حميد و مثيوه و بنو فال و أغصاوه و بنو وزروال و مجكسة و هم آخر مواطنهم يعتمرون رحاب الريف بساحل بحر الدر من عن يمين بسائط المغرب من لدن غساسة فتكرر فبادس فتبكيساس فتيطاوين فسبتة فالقصر الى طنجة خمس مراحل أو أزيد أوطنوا منها جبالا شاهقة اتصل بعضها ببعض سياجا بعد سياج خمس مراحل أخرى في العرض إلى أن يتخطى بسائط قصر كتامة و وادي ورغة من بسائط المغرب ترتد عنها الأبصار و تنزل في حافاتها الطيور لا بل الهوام و ينفسح في رؤوسها و بين قننها الفجاج سبل السفر و مراتع السائمة و فدن الزراعة و أدواح الرياض
و يتبين لك أنهم من المصامدة بقاء هذا النسب المحيط سمة لبعض شعوبهم يعرفون بمصمودة ساكنين ما بين سبتة و طنجة و إليهم ينسب قصر المجاز الذي يعبر منه الخليج البحري إلى بلد طريف و يعضده أيضا اتصال مواطنهم بمواطن برغواطة من شعوب المصامدة بريف البحر الغربي و هو المحيط إذ كان بنو حسان منهم موطنين بذلك الساحل من لدن آزغر و أصيلا إلى أنفى من هنالك تتصل بهم مواطن برغواطة و دوكالة إلى قبائل درن من المصامدة فما وراءها من بلاد القبلة فالمصامدة هم أهل الجبال بالمغرب الأقصى إلا قليلا منها و غيرهم في البسائط و لم تزل غمارة هؤلاء بمواطنهم هذه من لدن الفتح ولم يعلم ما قبل ذلك
و للمسلمين فيهم أزمان الفتح وقائع الملاحم و أعظمها لموسى بن نصير و هو الذي حملهم على الإسلام و استرهن أبناءهم و أنزل منهم عسكرا مع طارق بطنجة و كان أميرهم لذلك العهد يليان و هو الذي وفد عليه موسى بن نصير و أعانه في غزو الأندلس و كان منزله سبتة كما نذكره و ذلك قبل استحواء تاتكور و كانت في جميع غمارة هؤلاء بعد الإسلام دول قاموا بها لغيرهم و كان فيهم متنبئوون و لم تزل الخوارج تقصد جبالهم للمنعة فيها كما نذكره إن شاء الله تعالى (6/280)
الخبر عن سبتة و دولة بني عصام بها
كانت سبتة هذه من الأمصار القديمة قبل الإسلام و كانت يومئذ منزل يليان ملك ارة و لما زحف إليه موسى بن نصير صانعه بالهدايا و أذعن للجزية فأقره عليها سترهن ابنه و أبناء قومه و أنزل طارق بن زياد بطنجة للجزية و ضرب عليهم العسكر للنزول معه
ثم كانت إجازة طارق إلى الأندلس فضرب عليهم البعوث كان الفتح
لا كفاء له كما مر في موضعه و لما هلك يليان استولى العرب على مدينة سبتة صلحا من أيدي قومه فعمروها ثم كانت فتنة ميسرة الحقير و ما دعا إليه من سلالة الخارجية و أخذ بها الكثير من البرابرة من غمارة و غيرهم فزحف من برابرة طنجة إلى سبتة و أخرجوا العرب منها و سبوها و خربوها فبقيت خلاء
و أنزل بها ماجكس من رجالاتهم و وجوه قبائلهم و به سميت مجكسة فبناها و رجع فيها الناس و أسلم و سمع من أهل زمانه إلى أن مات فقام بأمره ابنه عصام و وليها هرا و لما هلك قام بأمره ابنه مجير فلم يزل واليا عليها إلى أن هلك و وليها أخوه رضي و يقال إنه ابنه و كانوا يعطون لبني إدريس طاعة مضعفة كما نذكره و لما سما الناصر أمل في ملك المغرب و تناول حبله من أيدي بني إدريس المالكين ببلاد لهبط و غمارة حين أجهضتهم كتامة و زناتة عن ملكهم بفاس و قاموا بدعوة الناصر و بثوها في أعمالهم نزلوا حينئذ للناصر عن سبتة و أشاروا له إلى تناولها من بني عاصم فسرح إليها عساكره و أساطيله مع قائده نجاح بن غفير فكان فتحها سنة تسع عشرة و ثلثمائة ونزل له الرضي بن عصام عنها و آتاه طاعته و انقرض أمر بني عصام و صارت سبتة إلى الناصر حتى استولى عليها بعد حين بنو حماد و استحدثوا بعدها دولة أخرى كما نذكره (6/282)
الخبر عن يني صالح بن منصور ملوك نكور و دولتهم في غمارة و تصاريف أحوالهم
لما استولى المسلمون أيام الفتح على بلاد المغرب و عمالاتها و اقتسموا و أمدهم الخلفاء بالبعوث إلى جهاد البربر و كان فيهم من كل القبائل من العرب و كان صالح بن منصور الحميري من عرب اليمن في البعث الأول و كان يعرف بالعبد الصالح فاستخلص نكور لنفسه و أقطعه إياها الوليد بن عبد الملك في أعوام إحدى و تسعين من الهجرة قاله صاحب المقياس وبلد نكور ينتهي من المشرق إلى زواغة و جراوة ابن أبي الحفيظ مسافة خمسة أيام و تجاوره من هنالك مطماطة و أهل كدالة و مرنيسة و غساسة أهل جبل مزك و قلوع جاره التي لبني ورتندي و لميد و زناتة و ينتهي من المغرب إلى مروان من غمارة و بني حميد إلى مسطاسة و صنهاجة و من ورائهم أوربة حزب فرحون و بني و لميد و زناتة و بني يرنيان و بني واسن حزب قاسم صاحب صا و البحر جوفي نكور على خمسة أميال فأقام صالح هنالك لما اقتطع أرضها و كثر نسله و اجتمع إليه قبائل غمارة و صنهاجة مفتاح و أسلموا على يده و قاموا بأمره و ملك تكسامان و انتشر الإسلام فيهم ثم ثقلت عليهم الشرائع و التكاليف و ارتدوا و أخرجوا صالحا و ولوا عليهم رجلا من نفزة يعرف بالرندي
ثم تابوا و راجعوا الإسلام و راجعوا صالحا فأقام فيهم إلى أن هلك بتلمسان سنة إثنتين و ثلاثين و مائة و ولي أمره من بعده إبنه المعتصم بن صالح و كان شهما شريف النفس كثير العبادة
و كان يلي الصلاة و الخطبة لهم بنفسه ثم هلك لأيام يسيرة و ولي من بعده أخوه إدريس فاختط مدينة نكور في عدوة الوادي و لم يكملها و هلك سني ثلاث و أربعين و مائة و ولي من بعده إبنه سعيد و استفحل أمره و كان ينزل مدينة تكسامان ثم اختط مدينة نكور لأول ولايته و نزلها و هي التي تسمى لهذا العهد المزمة بين نهرين أحدهما نكور مخرجه من بلاد كزنارية و مخرجه من مخرج وادي ورغة واحد و الثاني غيس و مخرجه من بلد بني ورياغيل يجتمع النهران في آكال ثم يفترقان إلى البحر و يقال نكور من عدوة الأندلس بزليانة
و غزا المجوس نكور هذه في أساطيلهم سنة أربع و أربعين و مائة فغلبوا عليها و استباحوها ثمانيا ثم اجتمع إلى سعيد البرانس و أخرجوهم عنها و انتقضت غمارة بعدها على سعيد فخلعوه و ولوا عليهم رجلا منهم اسمه مسكن و تزحفوا فأظهره الله عليهم و فرق جماعتهم و قتل مقدمهم و استوسق أمره إلى أن هلك سنة ثمان و ثمانين و مائة لسبع و ثلاثين من أيامه و قام بأمره ابنه صالح بن سعيد فتقبل مذهب سلفه في الاستقامة و الاقتداء و كان له مع البربر حروب و وقائع إلى أن هلك سنة خمسين و مائتين لاثنتين و سبعين سنة من ملكه
و قام من بعده ابنه سعيد بن صالح و كان أصغر ولده فخرج إليه أخوه عبد الله و عمه الرضي و ظفر بهما بعد حروب كثيرة فغرب أخاه إلى المشرق و مات بمكة و أبقى على عمه الرضي لذمة صهر بينهما و قتل سائر من ظفر به من عمومته و قرابته و أنهض لهما سعادة الله بن هرون منهم و لحق ببني يصليتن أهل جبل أبي الحسن و دلهم على عورته
و بيتوا معسكره و استولوا عليه و أخذوا الآلة و قتل منهم خلقا و نجا سعادة الله بتلسمان و تقبض على أخيه ميمون فضرب عنقه
ثم سار سعادة الله إلى طلب الصلح فأسعفه و أنزله معه مدينة نكور ثم غزا سعيد بقومه و أهل إيالته من غمارة بلاد بطوية و مرنيسة و قلوع جاره و رتندي و أصهر بأخيه إلى أحمد بن إدريس بن محمد بن سليمان صاحبه و أنزله مدينة نكور معه و توطأ الأمر لسعيد في تلك النواحي إلى أن خاطبه عبد الله المهدي يدعوه إلى أمره و في أسفل كتابه لهم :
( و إن تستقيموا أستقم بصلاحكم ... و إن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا )
( و أعلوا بسيفي قاهرا لسيوفكم ... و أدخلها عفوا و أملوها قتلا )
فكتب إليه شاعره الأحمس الطليطلي بأمر يوسف بن صالح أخي الأمير سعيد :
( كذبت و بيت الله ما تحسن العدلا ... و لا علم الرحمن من قولك الفضلا )
( و ما أنت إلا جاهل و منافق ... تمثل للجهال في السنة المثلى )
( و همتنا العليا لدين محمد ... و قد جعل الرحمن همتك السفلى )
فكتب عبد الله إلى مصالة بن حبوس صاحب تاهرت و أغزى إليه فغزاه سنة أربع و ثلثمائة لأربع و خمسين من دولته فغلبهم سعيد و قومه أياما ثم غلبهم مصالة و قتلهم و بعث برؤسهم إلى رقادة طيف بها و ركب بقيتهم البحر إلى مالقة فتوسع الناصر في إنزالهم إجارتهم و استبلغ في تكريمهم و أقام مصالة بمدينة نكور ستة أشهر ثم قفل إلى تاهرت و ولى عليها دلول من كتامة فانفض العسكر من حوله و بلغ الخبر إلى بني سعيد بن صالح و قومهم بمالقة و هم إدريس و المعتصم و صالح فركبوا السفن إليها و سبق صالح إليها منهم فاجتمع البربر بمرسى تكسامان و بايعوه سنة خمس و ثلثمائة و لقبوه القيم لصغره و زحفوا إلى دلول فظفروا به و بمن معه و قتلوهم و كتب صالح بالفتح إلى الناصر و أقام دعوته بأعماله و بعث إليه الناصر بالهدايا و التحف و الآلة و وصل إليه إخوته و سائر قومه و أتوا طاعة
و لم يزل على هدى أوليه من الاقتداء إلى أن هلك سنة خمس عشرة و ثلاثمائة و ولي بعده ابنه عبد البديع ولقب المؤيد و زحف إليه موسى بن أبي العافية القائم بدعوة العبيديين بالمغرب فحاصره و تغلب عليه فقتله و استباح المدينة و خربها سنة سبع عشرة و ثلثمائة ثم راجع إليها و قام بأمرهم أبو نور اسمعيل بن عبد الملك بن عبد الرحمن بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور و أعاد المدينة التي بناها صالح بن منصور و عمرها و سكنها ثلاثا
ثم أغزى ميسور مولى أبي القاسم بن عبد الله صندلا مولاه عندما أناخ على فاس فبعث عسكرا مع صندل هذا فحاصر جراوة ثم عطف على نكور و تحصن منه إسمعيل بن عبد الملك بقلعة اكدى و بعث إليه صندل رسله من طريقه فقتلهم فأغذ السير و قاتله ثمانية أيام
ثم ظفر به فقتله و استباح القلعة و سباها و استخلف عليها من كتامة رجلا اسمه مرمازو و وصل صندل إلى فاس فترافع أهل نكور و بايعوا الموسى بن المعتصم بن محمد بن قرة بن المعتصم بن صالح بن منصور و كان عند أبي الحسن عند يصليتن و كان يعرف بابن رومي
و قال صاحب المقياس : هو موسى بن رومي بن عبد السميع بن رومي بن إدريس بن صالح بن إدريس بن صالح بن منصور و أخذ مرمازو معه و ضرب أعناقهم و بعث برؤوسهم إلى الناصر ثم ثار عليه من أعياص بيته عبد السميع بن جرثم بن إدريس بن صالح بن منصور فخلعه و أخرجه عن نكور سنة تسع و عشرين و ثلثمائة و لحق موسى بالأندلس و معه أهله و ولده و أخوه هارون بن رومي و كثير من عمومته و أهل بيته فمنهم من نزل معه المرية و منهم من نزل مالقة ثم انتقض أهل نكور على عبد السميع و قتلوه و استدعوا من مالقة جريح بن أحمد بن زيادة الله بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور فبادر إليهم و بايعوه سنة ست و ثلاثين و ثلثمائة فاستقامت له الأمور و كان على مذهب سلفه في الاقتداء و العمل بمذهب مالك إلى أن مات آخر سنة ستين و ثلثمائة لخمس و عشرين سنة من ملكه و اتصلت الولاية في بنيه إلى أن غلب عليهم أزداجة المتغلبون على وهران و زحف أميرهم يعلى بن أبي الفتوح الأزداجي سنة ست و أربعمائة و قتل سنة عشر فغلبهم على نكور و خربها و انقرض ملكهم بعد ثلثمائة سنة و أربعة عشر سنة من لدن ولاية صالح و بقيت في بني يعلى بن أبي الفتوح و أزداجة إلى أعوام ستين و أربعمائة و الله مالك الأمور لا إله إلا هو (6/283)
الخبر عن حاميم المتنبي من غمارة
كان غمارة هؤلاء عريقين في الجاهلية بل الجهالة و البعد عن الشرائع بالبداوة و الانتباذ عن مواطن الخير و تنبأ فيهم من مجكسة حاميم بن من الله بن جرير بن عمر بن رحفو بن آزوال بن مجكسة يكنى أبا محمد و أبوه خلف تنبأ سنة ثلاث عشرة و ثلثمائة بجبل حاميم المشتهر به قريبا من تطوان و اجتمع إليه كثير منهم و أقروا بنبوته و شرع لهم الشرائع و الديانات من العبادات و الأحكام و صنع لهم قرآنا كان يتلوه عليهم بلسانه فمن كلامه :
يا من يخلى البصر ينظر في الدنيا خلني من الذنوب يا من أخرج موسى من البحر آمنت بحاميم و بأبيه أبي خلف من الله و آمن رأسي و عقلي و ما يكنه صدري و ما أحاط به دمي و لحمي و آمنت تبانعنت عمة حاميم أخت أبي خلف من الله و كانت كاهنة ساحرة إلى غير هذا و كان يلقب المفتري و كانت أخته دبو ساحرة كاهنة و كانوا يستغيثون بها في الحروب و القحوط و قتل في حروب مصمودة بأحواز طنجة سنة خمسة عشر و ثلثمائة و كان لابنه عيسى من بعده قدر جليل في غمارة و وفد على الناصر
و رهطهم بنو زحفوا مواطنون وادي لاو و وادي راس قرب تطوان و كذلك تنبأ منهم بعد ذلك عاصم بن جميل اليزدجومي و له أخبار مأثورة و ما زالوا يفعلون السحر لهذا العهد
و أخبرني المشيخة من أهل المغرب أن أكثر منتحلي السحر منهم النساء العواتق
قال : و لهم علم استجلاب روحانية ما يشاؤنه من الكواكب فاذا استولوا عليه و تكنفوا بتلك الروحانية تصرفوا منها في الأكوان بما شاؤا و الله أعلم (6/288)
الخبر عن دولة الادارسة و هي غمارة و تصاريف أحوالهم
كان عمر بن إدريس عندما قسم محمد بن إدريس أعمال المغرب بين إخوته برأي جدته كثيرة أم إدريس اختص منها بتكيباس و ترغه و بلاد صنهاجة و غمارة و اختص القاسم بطنجة و سبتة و البصرة و ما إلى ذلك من بلاد غمارة ثم غلب عمر عليها عندما تنكر له أخوه محمد و استضافها إلى عمله كما ذكرنا في أخبارهم
ثم تراجع بنو محمد بن القاسم من بعد ذلك إلى عملهم الأول فملكوه و اختص منهم محمد بن ابراهيم بن محمد ين القاسم قلعة حجر النسر الدانية و سبتة معقلا لهم و ثغرا لعملهم و بقيت الإمارة بفاس و أعمال المغرب في ولد محمد بن إدريس ثم أدالوا منهم بولد عمر بن إدريس و كان آخرهم يحيى بن إدريس بن عمر و هو الذي بايع لعبيد الله الشيعي على يده مصالة بن حبوس قائده و عقد له على فاس ثم نكبه سنة تسع و ثلثمائة
و خرج عليها سنة ثلاث عشرة و ثلثمائة من بني القاسم الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس و تلقب الحجام لطعنه في المحاجم و كان مقداما شجاعا و ثار أهل فاس بريحان و ملكوا الحسن و زحف إليه موسى ففله و مات
و استولى ابن أبي العافية على فاس و أعمال المغرب و أجلى الأدارسة و أحجرهم بحصنهم حجر النسر و تحيزوا إلى جبال غمارة و بلاد الريف و كان لغمارة في التمسك بدعوتهم آثار و مقامات و استجدوا بتلك الناحية ملكا توزعوه قطعا كان أعظمها لبني محمد هؤلاء و لبني عمر بتيكيسان و نكور و بلاد الريف
ثم سما الناصر عبد الرحمن إلى ملك العدوة و مدافعة الشيعة فنزل له بنو محمد عن سبتة سنة تسع و ثلثمائة و تناولها من يد الرضي بن عصام رئيس محكسة و كان يقيم فيها دعوة الأدارسة فأفرجوا له عنها و دانوا بطاعته و أخذها من يده
ولما أغزا أبو القاسم ميسورا إلى المغرب لمحاربة ابن أبي العافية حين نقض طاعتهم و دعا للمروانية وجد بنو محمد السبيل إلى الانتصار و الانتقام منه بمظاهرة ميسور عليه و مالأهم على ذلك بنو عمر صاحب نكور
و لما استقل ابن أبي العافية من نكسته و رجع من الصحراء سنة خمس و عشرين و ثلثمائة منصرف ميسور من المغرب نازل بني محمد و بني عمرو هلك بعد ذلك و أجاز الناصر وزيره قاسم بن محمد بن طملس سنة ثلاث و ثلاثين لحربهم و كتب إلى ملوك مغراوة محمد بن خزر و ابنه الخير بمظاهرة عساكره مع ابن أبي العيش عليهم فتسارع أبو العيش بن إدريس بن عمر المعروف بابن وصالة إلى الطاعة و أوفد رسله إلى الناصر فعقد له الأمان و أوفد ابنه محمد بن أبي العيش مؤكدا للطاعة فاحتفل لقدومه و أكد له العقد و تقبل سائر الادارسة من بني محمد مذهبهم
و سألوا مثل سؤالهم فعقد لجميع بني محمد أيضا و كان وفد منهم محمد بن عيسى ابن أحمد بن محمد و الحسن بن القاسم بن ابراهيم بن محمد و كان بنو إدريس يرجعون في رياستهم إلى بني محمد هؤلاء منذ استبد بها آخرهم الحسن بن محمد الملقب بالحجام في ثورته على ابن أبي العافية فقدموا على أنفسهم القاسم بن محمد الملقب بكنون بعد فرار موسى بن أبي العافية و ملك بلاد المغرب ما عدا فاس مقيما لدعوة الشيعة إلى أن هلك بقلعة حجر النسر سنة سبع و ثلاثين و ثلثمائة و قام بأمرهم من بعده أبو العيش أحمد بن القاسم كنون و كان فقيها عالما بالأيام و الأخبار شجاعا و يعرف بأحمد الفاضل و كان منه ميل للمروانية فدعا للناصر و خطب له على منابر عمله و نقض طاعة الشيعة و بايعه أهل المغرب كافة إلى سجلماسة
و لما بايعه أهل فاس استعمل عليهم محمد بن الحسن و وفد محمد بن أبي العيش بن إدريس بن عمر بن مصالة على الناصر عن أبيه سنة ثمان و ثلاثين و ثلثمائة فاتصل به وفاة أبيه و هو بالحضرة فعقد له الناصر على عمله و سرحه و هجم عيسى ابن عمه أبي العيش أحمد بن القاسم كنون على عمله بتيكيسان في غيبة محمد فملكها و احتوى على مال ابن مصالة و لما أقبل محمد من الحضرة زحف برابرة غمارة إلى عيسى المذكور ابن كنون ففظعوا به و أثخنوه جراحة و قتلوا أصحابه ببلاد غمارة
و أجاز الناصر قواده إلى المغرب و كان أول من أجاز إلى بني محمد هؤلاء سنة ثمان و ثلاثين و ثلثمائة أحمد بن يعلى من طبقة القواد أجازه إليهم في العساكر و دعاهم إلى هدم تطوان فامتنعوا ثم انقادوا و تنصلوا و أجابوا إلى هدمها
و رجع عنهم فانتقضوا فسرح إليهم حميد بن يصل المكناسي في العساكر سنة تسع و ثلاثين و ثلثمائة و زحفوا إليه بوادي لاو فأوقع بهم فأذعنوا من بعدها و تغلب الناصر على طنجة من يد أبي العيش أمير بني محمد و بقي يصل على بيعة الناصر
ثم تخطت عساكر الناصر إلى بسائط المغرب فأذعن له أهله و أخذ بدعوته فيه أمراء زناتة من مغراوة و بني يفرن و مكناسة كما ذكرناه فضعف أمر بني محمد و استأذنه أميرهم أبو العيش في الجهاد فأذن له و أمر ببناء القصور له في كل مرحلة من الجزيرة إلى الثغر فكانت ثلاثين مرحلة فأجاز أبو العيش و استخلف على عمله أخاه الحسن بن كنون و تلقاه الناصر بالمبرة و أجرى له ألف دينار في كل يوم و هلك شهيدا في مواقف الجهاد سنة ثلاث و أربعين و ثلثمائة و لما أغزا معد قائده جوهرا الكاتب إلى المغرب و استنزل عماله و تحصن الحسن بن كنون منه بقلعة النسر معقلهم و بعث إليه بطاعته فلم يعرض له جوهر و لما قفل من المغرب راجع الحسن الطاعة للناصر إلى أن هلك سنة خمسين و ثلثمائة فأشحذ الحكم عزمه في سد ثغور المغرب و إحكام دعوتهم فيه
و شحذ لها عزائم أوليائهم من ملوك زناتة فكان بينهم و بين زيري و بلكين ما ذكرناه ثم أغزى معد بلكين بن زيري المغرب سنة إثنتين و ستين و ثلثمائة أولى غزواته فأثخن في زناتة و أوغل في ديار المغرب و قام الحسن بن كنون بدعوة الشيعة و نقض طاعة المروانية فلما انصرف بلكين أجاز الحكم عساكره إلى العدوة مع وزيره محمد بن قاسم بن طلمس سنة اثنتين و ستين و ثلثمائة لقتال الحسن بن كنون و بني محمد فكان الظهور و الفلاح للحسن على عسكر الحكم
و قتل قائده محمد بن طملس و خلقا كثيرا من عسكره و أوليائه و دخل فلهم إلى سبتة و استصرخوا الحكم فبعث غالبا مولاه البعيد الصيت المعروف بالشهامة و أمده بما يعينه على ذلك من الأموال و الجنود و أمره باستنزال الأدارسة و أجاز بهم إليه و قال سريا غالب مسير من لا إذن له في الرجوع إلا حيا منصورا أو ميتا معذورا و اتصل خبره بالحسن بن كنون فأفرج عن مدينة البصرة و احتمل منها أمواله و حرمه و ذخيرته إلى حجر النسر معقلهم القريب من سبتة و نازله غالب بقصر مصمودة فاتصلت الحرب بينهم أياما
ثم بث غالب المال في رؤساء البربر من غمارة و من معه من الجنود و فروا و أسلموه و انحجز بقلعة جبل النسر و نازله غالب و أمده الحكم بعرب الدولة و رجال الثغور و أجازهم مع وزيره صاحب الثغر الأعلى يحيى بن محمد بن ابراهيم التجيبي فيمن معه من أهل بيته و حشمه سنة ثلاث و ستين وثلثمائة فاجتمع مع غالب على القلعة و اشتد الحصار على الحسن و طلب من غالب الأمان فعقد له و تسلم الحصن من يده
ثم عطف على من بقي من الأدارسة ببلاد الريف فأزعجهم و سيرهم شردا و استنزل جميع الأدارسة من معاقلهم و سار إلى فاس فملكها و استعمل عليها محمد بن علي بن قشوش في عدوة القرويين و عبد الكريم بن ثعلبة الجذامي في عدوة الأندلس
و انصرف غالب إلى قرطبة و معه الحسن بن كنون و سائر ملوك الأدارسة و قد مهد المغرب و فرق عماله في جهاته و قطع دعوة الشيعة و ذلك سنة أربع و ستين و ثلثمائة و تلقاهم الحكم و أركب الناس للقائهم و كان يوم دخولهم إلى قرطبة أحفل أيام الدولة
و عفا عن الحسن بن كنون و وفى له بالعهد و أجزل له و لرجاله العطاء و الخلع و الجعالات و أوسع عليه الجراية و أسنى لهم الأرزاق و رتب من حاشيتهم في الديوان سبعمائة من أنجاد المغاربة
و نجنى عليه بعد ثلاث سنين بسؤاله من الحسن قطعة عنبر عظيمة تأدت إليه من بعض سواحل عمله بالمغرب أيام ملكه فاتخذ منها أريكة يرتفقها و يتوسدها فسأله حملها إليه على أن يحكمه في رضاه فأبى عليه مع سعاية بني عمه فيه عند الخليفة و سوء خلق الحسن و لجاجته فنكبه و استصفى ما لديه من قطعة العنبر و سواها
و استقام المغرب للحكم و تظافر أمراؤه على مدافعة بلكين و عقد الوزير المنصوري لجعفر بن علي على المغرب و استرجع يحيى بن محمد بن هاشم و غرب الحسن بن كنون الأدراسة جميعا إلى المشرق استثقالا لنفقاتهم و شرط عليهم أن لا يعودوا فعبروا البحر من المرية سنة خمس و ستين و ثلثمائة و نزلوا من جوار العزيز معد بالقاهرة خير نزل و بالغ في الكرامة و وعد بالنصرة و الترة ثم بعث الحسن بن كنون إلى المغرب و كتب له آل زيري بن مناد بالقيروان بالمظاهرة فلحق بالمغرب و دعا لنفسه و بعث المنصور بن أبي عامر العساكر لمدافعته فغلبوه و تقبضوا عليه و أشخصوه إلى الأندلس فقتل في طريقه كما ذكرناه في أخبارهم
و انقرض ملك الأدراسة من المغرب أجمع إلى أن كان رجوع الأمر لبني حمود منهم غمارة و سبتة و طنجة كما نذكره إن شاء الله تعالى (6/288)
الخبر عن دولة حمود و مواليهم بسبتة وطنجة و تصاريف أحوالهم و أحوال غمارة من بعدهم
كانت الأدارسة لما أجلاهم الحكم عن العدوة إلى المشرق و محا آثارهم من سائر بلاد المغرب و استقامت غمارة على طاعة المروانية و أذعنوا لجند الأندلسيين و رجع الحسن بن كنون لطلب أمرهم فهلك على يد المنصور بن أبي عامر فانقرض أمرهم و افترقت الأدارسة في القبائل و لاذوا بالاختفاء إلى أن خلعوا شارة ذلك النسب و استحالت صبغتهم منه إلى البداوة و لحق بالأندلس في جملة البرابرة من ولد عمر بن إدريس رجلان منهم و هم علي و القاسم ابنا حمود بن ميمون بن أحمد ابن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس فطارلهما ذكر في الشجاعة و الإقدام و لما كانت الفتنة البربرية بالأندلس بعد انقراض الدولة العامرية و نصب البرابرة سليمان ابن الحكم و لقبوه المستعين و اختص به أبناء حمود هذان و أحسنوا العناء في ولايته حتى إذا استولى على ملكه بقرطبة و عقد للمغاربة الولايات عقد لعلي بن حمود هذا على طنجة و أعمال غمارة فنزلها و راجع عهده معهم فيها
ثم انتق و دعا لنفسه و أجاز إلى الأندلس و ولي الخلافة بقرطبة كما ذكرناه فعقد على عمله بطنجة لابنه يحيى ثم أجاز يحيى إلى الأندلس بعد مهلك أبيه علي منازعا لعمه القاسم و استقل أخوه إدريس من بعده بولاية طنجة و سائر أعمال أبيه بالعدوة من مواطن غمارة
ثم أجاز بعد مهلك أخيه يحيى بمالقة فاستدعى رجال دولتهم و عقد لحسن ابن أخيه يحيى على عملهم بسبتة و طنجة و أنفذ نجا الخادم معه ليكون تحت تظره و استبداده و لما هلك إدريس و اعتزم ابن بقية على الاستبداد بمالقة أجاز نجا الخادم لحسن بن يحيى من طنجة فملك مالقة و رتب أمره في خلافته و رجع إلى سبتة و عقد لحسن على عملهم في مواطن غمارة حتى إذا هلك حسن أجاز نجا إلى الأندلس يروم الاستبداد و استخلف على العمل من وثق به من الموالي الصقلبية فلم يزل إلى نظرهم واحدا بعد آخر إلى أن استقل بسبتة و طنجة من موالي بني حمود هؤلاء الحاجب سكوت البرغواطي كان عبدا للشيخ حداد من مواليهم اشتراه من سبي برغواطه في بعض أيام جهادهم ثم صار إلى علي بن حمود فأخذ النجابة بطبعه إلى أن استقل بأمرهم و اقتعد كرسي عملهم بطنجة و سبتة و أطاعته قبائل غمارة
و اتصلت أيام ولايته إلى أن كانت دولة المرابطين و تغلب ابن تاشفين على مغراوة بفاس و نجا فلهم إلى بلاد الدمنة من آخر بسيط المغرب مما يلي بلاد غمارة و نازلهم يوسف بن تاشفين سنة إحدى و تسعين و أربعمائة و دعا الحاجب سكوت إلى مظاهرته عليهم فهم بالانحياش و مظاهرته على عدوه ثم ثناه عن ذلك ابنه القائل الرأي
فلما فرغ يوسف بن تاشفين من أهل الدمنة و أوقع بهم و افتتح حصن علودان من حصون غمارة من ورائه و انقاد المغرب لحكمه صرف وجهه إلى سكوت فجهز إليه العساكر و عقد عليها للقائد صالح بن عمران من رجال لمتونة فتباشرت الرعايا بمقدمهم و انثالوا عليهم و بلغ الخبر إلى الحاجب سكوت فأقسم أن لا يسمع أحدا من رعيته هدير طبولهم ولحق هو بمدينة طنجة ثغر عمله و قد كان عليه من قبله ابنه ضياء الدولة المعز و برز للقائهم فالتقى الجمعان بظاهر طنجة و انكشفت عساكر سكوت و طحنت رحى المرابطين و سالت نفسه على ظباهم و دخلوا طنجة و استولوا عليها و لحق ضياء الدولة بسبتة و لما تكالب الطاغية على بلاد الأندلس و بعث ابن عباد صريخه إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين مستنجرا وعده في جهاد الطاغية و الذب عن المسلمين و كاتبه أهل الأندلس كافة بالتحريض إلى الجهاد و بعث ابنه المعز سنة ست و سبعين و أربعمائة في عسكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز فنازلها برا و أحاطت بها أساطيل ابن عباد بحرا و اقتحموها عنوة و تقبض على ضياء الدولة و اقتيد إلى المعز فطالبه بالمال لانحائه فأساء إيجابه فقتله لوقته و عثر على ذخائره و فيها خاتم يحيى بن علي بن حمود و كتب إلى أبيه بالفتح و انقرضت دولة بني حمود و انمحى آثارهم و سلطانهم من بني غمارة و أقاموا في طاعة لمتونة سائر أيامهم
و لما نجم المهدي بالمغرب و استفحل أمر الموحدين بعد مهلكه تنقل خليفته عبد المؤمن في بلادهم في غزاته الكبرى ففتح المغرب سنة سبع و ثلاثين و ما بعدها قبل استيلائه على مراكش كما نذكره في أخبارهم و اتبعوا أثره و نازلوا سبتة في عساكره
و امتنعت عليهم و تولى كبر امتناعها قائدهم عياض الطائر الذكر رئيسهم لذلك العهد بدينه و أبوته و علمه و منصبه ثم افتتحت بعد فتح مراكش سنة إحدى و أربعين فكانت لغمارة هؤلاء السابقة التي رعيت لهم سائر أيام الدولة
و لما فشل أمر بني عبد المؤمن و ذهبت ريحهم و كثر الثوار بالقاصية ثار فيهم ابن محمد الكتامي سنة خمس و عشرين كان أبوه من قصر كتامة منقبضا عن الناس و كان ينتحل الكيميا و تلقنه عنه ابنه محمد هذا و كان يلقب أبا الطواحن فارتحل إلى سبتة و نزل على بني سعيد و ادعى صناعة الكيميا فاتبعه الغوغاء ثم ادعى النبوة و شرع شرائع و أظهر أنواعا من الشعوذة فكثر تابعه ثم اطلعوا على خبثه و نبذوا إليه عهده و زحفت عساكر سبتة إليه ففر عنها و قتله بعض البرابرة غيلة
ثم غلب بنو مرين على بسائط المغرب و أمصاره سنة أربعين و ستمائة و استولوا على كرسي الأمر بمراكش سنة ثمان و ستين و ستمائة فامتنع قبائل غمارة من طاعتهم و استعصوا عليهم و أقاموا بمنجاة من الطاعة و على ثبج من الخلاف و امتنعت سبتة من ورائهم على ملوك بني مرين بسبب امتناعهم و صار أمرها إلى الشورى و استبد بها الفقيه أبو القاسم العزفي من مشيختهم كما سنذكر ذلك كله إلى أن وقع بين قبائل غمارة و رؤسائهم فتن و حروب ونزعت إحدى الطائفتين إلى طاعة السلطان بالمغرب من بني مرين فأتوها طواعية
و أدخل الآخرون في الطاعة تلوهم طوعا أو كرها فملك بنو مرين أمرهم و استعملوا عليهم و تخطوا إلى سبتة من ورائهم فملكوا أمر العزفيين سنة سبع و عشرين و سبعمائة علىما نذكره بعد عند ذكر دولتهم و هم الآن على أحسن أحوالهم من الاعتزاز و الكثرة يؤتون طاعتهم و جبايتهم عند استقلال الدولة و يمرضون فيها عند التياثها بفشل و اشتغال بمحاربها فتجهز البعوث إليهم من الحضرة حتى يستقيموا على الطاعة و لهم بوعورة جبالهم عز و منعة و جوار لمن لحق بهم من أعياص الملك و مستأمني الخوارج إلى هذا العهد و لبني يكم من بينهم الحظ الوافر من ذلك لإشراف جبلهم على سائرها و سموه بقلاعه إلى مجاري السحب دونها و توعر مسالكه بهبوب الرياح فيها و هذا الجبل مطل على سبتة من غربيها و رئيسه منهم و صاحب أمره يوسف بن عمر و بنوه و لهم فيه عزة و ثروة و قد اتخذوا به المصانع و الغروس و فرض لهم السلطان بديوان سبتة العطاء و أقطعهم ببسيط طنجة الضياع استئلافا لهم و حسما لزبون سائر غمارة بإيناس طاعتهم و لله الخلق و الأمر بيده ملكوت السموات و الأرض (6/295)
الخبر عن أهل جبال درن بالمغرب الأقصى من بطون المصامدة و ما كان لهم من الظهور و الأحوال و مبادىء أمورهم و تصاريفها
هذه الجبال بقاصية المغرب من أعظم جبال المعمور ربما أعرق في الثرى أصلها و ذهبت في السماء فروعها و مدت في الجو هياكلها و مثلت سياجا على ريف المغرب سطورها تبتدىء من ساحل البحر المحيط عند أسفى و ما إليها و تذهب في المشرق إلى غير نهاية
و يقال إنها تنتهي إلى قبلة برنيق من أرض برقة و هي في الجانب مما يلي مراكش قد ركب بعضها بعضا متتالية على نسق من الصحراء إلى التل يسير الراكب فيه متعرضا من تامسنا و سواحل مراكش إلى بلاد السوس و درعه من القبلة ثمان مراحل و أزيد تفجرت فيها الأنهار و جلل الأرض حمراء الشعراء و تطابقت بينها ظلال الأدواح وزكت فيها الزرع و الضرع و انفسحت مسارح الحيوان و مراقع الصيد و طابت منابت الشجر و درت أفاويق الجباية يعمرها من قبائل المصامدة أمم لا يحصيهم إلا خالقهم قد اتخذوا المعاقل و الحصون و شيدوا المباني و القصور و استغنوا بقطرهم عن سائر أقطار العالم فرحل إليهم التجر من الآفاق و اختلفت إليهم أهل النواحي و الأمصار و لم يزالوا مذ أول الإسلام و ما قبله معتمرين بتلك الجبال قد أوطنوا منها أقاليم تعددت فيها الممالك و العمالات بتعدد شعوبهم و قبائلهم وافترقت أسماؤها بافتراق أجيالهم
تنتهي ديارهم من هذه الجبال إلى ثنية المعدن المعروفة ببني فازان حيث تبتدىء مواطن صنهاجة و يحفون بهم كذلك من ناحية القبلة إلى بلاد السوس و قبائل هؤلاء المصامدة بهذه المواطن كثيرة فمنهم :
هرغة و هنتاتة و تينملل و كدموية و كنفيسة ووريكة و ركراكة و هزميرة و دكالة و حاحة و أمادين و ازكيت و بنو ماكر و إيلانة و يقال صيلانة و يقال أيضا أن إيلان هو ابن بر أصهر المصامدة فكانوا حلفاء لهم
و من بطون أمادين مصفاوة و ماغوس ومن مصفاوة دغاغة و بوطنان و يقال إن غمارة ورهون و أمل من أمادين و الله أعلم
و يقال إن من بطون حاحة زكن و ولخصن الظواعن الآن بأرض السوس أحلافا لذوي حسان المتغلبين عليها من عرب المعقل و من بطون كنفيسة أيضا قبيلة سكسباوة الموطنون بأمنع المعاقل بهذه الجبال المطل جبلهم على بسيط السوس من القبلة و على ساحل البحر المحيط من المغرب و لهم بمنعة معقلهم ذلك اعتزاز على أهل جلدتهم نذكره بعد و كان لهؤلاء المصامدة صدر الإسلام بهذه الجبال عدد و قوة و طاعة للدين و مخالفة لإخوانهم برغواطة في نحلة كفرهم و كان من مشاهيرهم كثير بن و سلاس بن شملال بن أمادة و هو يحيى بن يحيى راوي الموطأ عن مالك
دخل الأندلس و شهد الفتح مع طارق في آخرين من مشاهيرهم استقروا بالأندلس و كان لأعقابهم بها ذكر في الدولة الأموية كان منهم قبل الإسلام ملوك و أمراء و لهم مع لمتونة ملوك المغرب حروب و فتن سائر أيامهم حتى كان اجتماعهم على المهدي و قيامهم بدعوته فكانت لهم دولة عظيمة أدالت من لمتونة بالعدوتين و من صنهاجة بأفريقية حسبما هو مشهور و نأتي الآن بذكره إن شاء الله و بالله التوفيق لا رب سواه و لا معبود إلا إياه (6/298)
الخبر عن مبدأ أمر المهدي و دعوته و ما كان للموحدين القائمين بها على يد بني عبد المؤمن من السلطان و الدولة و بالعدوتين و أفريقية و بداية ذلك و تصاريفه
لم يزل أمر هؤلاء المصامدة بجبال درن عظيما و جماعتهم موفورة و بأسهم قويا و في أخبار الفتح من حروبهم عقبة بن نافع و موسى بن نصير حتى استقاموا على الإسلام ما هو معروف مذكور إلى أن أظللتهم دولة لمتونة فكان أمرهم فيها مستفحلا و شأنهم على أهل السلطان و الدولة مهما حتى لما اختطوا مدينة مراكش لنزلهم جوار مواطنهم من درن ليتميزوا عمن سواهم و يذللوا من صعابهم و في عنفوان تلك الدولة على عهد علي بن يوسف منها نجم إمامهم العالم الشهير محمد بن تومرت صاحب دولة الموحدين المشتهر بالمهدي أصله من هزيمة من بطون المصامدة الذين عددناهم يسمى أبوه عبد الله و تومرت و كان يلقب في صغره أيضا أمغار و هو محمد ابن عبد الله بن وجليد ابن بامصال بن حمزة بن عيسى فيما ذكر ابن رشيق و حققه ابن القطان و ذكر بعض مؤرخي المغرب أنه محمد بن تومرت بن نيطاوس بن ساولا ابن سفيون بن الكلديس بن خالد
و زعم كثير من المؤرخين أن نسبه في أهل البيت و أنه محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان ابن سفيان بن صفوان بن جابر بن عطاء بن رباح بن محمد من ولد سليمان بن عبد الله ابن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخي إدريس الأكبر
الواقع نسب الكثير من بيته في المصامدة و أهل السوس كذا ذكر ابن نحيل في سليمان هذا و أنه لحق بالمغرب إثر أخيه ادريس و نزل تلمسان و افترق ولده في المغرب قال : فمن ولده كل طالبي بالسوس و قيل بل هو من قرابة إدريس اللاحقين به إلى المغرب و أن رباحا الذي في عمود هذا النسب إنما هو ابن يسار العباس بن محمد بن الحسن و على الأمرين فإن نسبة الطالبي وقع في هرغة من قبائل المصامدة و رسخت عروقه فيهم و التحم بعصبيتهم فلبس جلدتهم و انتسب بنسبتهم و صار في عدادهم
و كان أهل بيته أهل نسك و رباط و شب محمد هذا قارئا محبا للعلم و كان يسمى أسافو و معناه الضياء لكثرة ما كان يسرج القناديل بالمساجد لملازمتها و ارتحل في طلب العلم إلى المشرق على رأس المائة الخامسة و مر بالأندلس و دخل قرطبة و هي إذ ذاك دار علم ثم أجاز إلى الإسكندرية و حج و دخل العراق و لقي جملة من العلماء يومئذ و فحول النظار و أفاد علما واسعا و كان يحدث نفسه بالدولة لقومة على يده لما كان الكهان و الحزاء يتحينون ظهور دولة يومئذ بالمغرب و لقي فيما زعموا أبا حامد الغزالي و فاوضه بذات صدره بذلك فأراده عليه لما كان فيه الإسلام يومئذ بأقطار المغرب من اختلال الدولة و تقويض أركان السلطان الجامع الأمة المقيم للملة بعد أن ساء له عمن له من العصابة و القبائل التي يكون بها الاعتزاز و المنعة و نشأ بها يتم أمر الله في درك البغية و ظهور الدعوة و انطوى هذا الإمام راجعا إلى المغرب بحرا متفجرا من العلم و شهابا واريا من الدين و كان قد لقي بالمشرق أئمة الأشعرية من أهل السنة و أخذ منهم و استحسن طريقهم في الانتصار للعقائد السلفية و الذب عنها بالحجج العقلية الدافعة في صدر أهل البدعة و ذهب إلى رأيهم في تأويل المتشابه من الآي و الأحاديث بعد أن كان أهل المغرب بمعزل عن أتباعهم في التأويل و الأخذ برأيهم فيه اقتداء بالسلف في ترك التأويل و إقرار التشابهات كما جاءت ففطن أهل المغرب في ذلك و حملهم على القوم بالتأويل و الأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد و أعلن بإمامتهم و وجوب تقليدهم و ألف العقائد على رأيهم مثل المرشدة في التوحيد
و كان من رأيه القول بعصمة الإمام على رأي الإمامية من الشيعة و ألف في ذلك كتابه في الإمامية الذي افتتحه بقوله : أعز ما يطلب و صار هذا المفتتح لقبا على ذلك الكتاب و أحل بطرابلس أول بلاد المغرب معنيا بمذهبه ذلك مظهرا النكير على علماء المغرب في عدولهم عنه آخذا نفسه بتدريس العلم و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ما استطاع حتى لقى بسبب ذلك أذيات في نفسه احتسبها من صالح عمله و لما دخل بجاية و بها يومئذ العزيز بم المنصور بن الناصر بن علناس ابن حماد من أمراء صنهاجة
و كان من المترفين فأغلظ له و لأتباعه بالنكير و تعرض يوما لتغيير بعض المنكرات في الطرق فوقعت بسببها هيعة نكرها السلطان و الخاصة و ائتمروا به فخرج منها خائفا و لحق بملالة على فرسخ منها و بها يومئذ بنو ورياكل من قبائل صنهاجة
و كان لهم اعتزاز و منعة فآووه و أجاروه و طلبهم السلطان صاحب بجاية بإسلامه إليه فأبوا و أسخطوه و أقام بينهم يدرس العلم أياما
و كان يجلس إذا فرغ على صخرة بقارعة الطريق قريبا من ديار ملاله و هي لهذا العهد معروفة
و هناك لقيه كبير صحابته عبد المؤمن بن علي حاجا مع عمه فأعجب بعلمه و انتهى عومه عن وجهه ذلك و اختص به و تشمر للأخذ عنه و ارتحل المهدي إلى المغرب و هو في جملته و لحق بوانشرس و صحبه منها البشير من جملة أصحابه
ثم لحق بتلمسان و قد تسامع الناس بخبره فأحضره القاضي بها ابن صاحب الصلاة و وبخه على منتحله ذلك و خلافه لأهل قطره و ظن أن من العدل نزعه عن ذلك فصم عن قبوله و استمر على طريقه إلى فاس ثم إلى مكناسة و نهى بها عن بعض المناكير فأوقع به الشرار من الغوغاء فأوجعوه ضربا و لحق بمراكش و أقام بها آخذا في شأنه و لقي علي بن يوسف في المسجد الجامع في صلاة الجمعة فوعظه و أغلظ له القول
و لقي ذات يوم الصورة أخت علي بن يوسف حاسرة قناعها على عادة قومها الملثمين في زي نسائهم فوبخها و دخلت على أخيها باكية لما نالها من تقريعه ففاوض الفقهاء في شأنه بما وصل إليه من شهرته و كانوا ملئوا منه حسدا و حفيظة لما كان ينتحل مذهب الأشعرية في تأوي المتشابه و ينكر عليهم جمودهم على مذهب السلف في إقراره كما جاء و يرى أن الجمهور لقنوه تجسيما و يذهب إلى تكفيرهم بذلك أحد قولي الأشعرية في التكفير فمال الرأي فأغروا الأمير به فأحضره للمناظرة معهم فكان له الفتح و الظهور عليهم و خرج من مجلسه و نذر بالشر منهم فلحق من يومه بأغمات و غير المناكير على عادته و أغرى به أهلها علي بن يوسف و طيروا إليه بخبره فخرج عنها هو و تلميذه الذين كانوا في صحابته و دعا اسمعيل بن أيكيك من أصحابه و هو من أنجاد قومه و خرج به إلى منجاة من جبال المصامدة لحق أولا بمسفيوه ثم بهنتاتة و لقيه من أشياخهم عمر بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي و هو أبو حفص و يعرف بيته ابن لهنتاتة ببني فاصكات و تقول نسابتهم إن فاصكات هو جد وانودين و يقال لهنتاتة بلسانهم هنني فلذلك كان يعرف عمر بهنتي و سيأتي الكلام في تحقيق نسبهم عند ذكر دولتهم ثم ارتحل المهدي عنهم إلى إيكيلين من بلاد هرغة فنزل على قومه و ذلك سنة خمس عشرة و خمسمائة و بنى رابطة للعبادة اجتمعت إليه الطلبة و القبائل يعلمهم المرشدة في التوحيد باللسان البربري وشاع أمره في صحبته و استدرك فقيه العلمية بمجلس الأمير علي بن يوسف و هو مالك بن وهيب أغراه به و كان حزاء ينظر في النجوم و كان الكهان يتحدثون بأن ملكا كائن بالمغرب لأمة من البربر و يتغير فيه شكل السكة لقران بين الكوكبين العلويين من السيارة يقتضي ذلك في أحكامهم و كان الأمير يتوقعها فقال : احتفظوا بالدولة من الرجل فإنه صاحب القران
و الدرهم المربع في كلام سفساف بسجع سوقي يتناقلها الناس نصه و هو : أجعل على رجله كبلا لئلا يسمعك طبلا و أظنه صاحب الدرهم المربع فطلبه علي بن يوسف ففقده و سرح الخيالة في طلبه ففاتهم وداخل عامل السوس و هو أبو بكر ابن محمد اللمتوني بعض هرغة في قتله و نذر بهم إخوانهم فنقلوا الإمام إلى معقل أشياعهم و قتلوا من داخل في أمره ثم دعا المصامدة إلى بيعته على التوحيد و قتال المجسمين دونه سنة خمسة عشر و خمسمائة فتقدم إليها رجالاتهم من العشرة و غيرها
و كان فيهم من هنتاتة أبو حفص عمر بن يحيى و أبو يحيى بن يكيبت و يونس بن وانودين و ابن يغمور و من تينملل أبوحفص عمر بن علي الصناكي و محمد بن سليمان و عمرو بن تافراتكين و عبد الله بن ملويات و أهب قبيلة هرغة فدخلوا في أمره كلهم ثم دخل معهم كيدموية و كنفيسة و لما كملت بيعته لقبوه بالمهدي و كان لقبه قبلها الإمام و كان يسمى أصحابه الطلبة و أهل دعوته الموحدين و لما تم له خمسون من أصحابه سماهم ايت الخمسين و زحف إليهم عامل السوس أبو بكر بن محمد اللمتوني بمكانهم من هرغة فاستجاشوا بإخوانهم من هنتاتة و تينملل فاجتمعوا إليهم و أوقعوا بعسكر لمتونة فكانت مقدمة الفتح و كان الإمام يعدهم بذلك فاستبصروا في أمره و تسابق كافتهم إلى الدخول في دعوته و ترددت عساكر لمتونة إليهم مرة بعد أخرى ففضوهم و انتقل لثلاث سنين من بيعته إلى جبل تينملل فأوطنه و بنى داره و مسجده بينهم حوالي منبع وادي نفيس
و قاتل من تخلف عن بيعته من المصامدة حتى استقاموا فقاتل أولا هزرجة و أوقع بهم مرارا و دانوا بالطاعة ثم قاتل هسكورة و معهم أبو دوقة اللمتوني فغلبهم و قفل فاتبعه بنو واسكيت فأوقع بهم الموحدون و أثخنوا فيهم قتلا و أسرا ثم غزا بلد غجرامة و كان قد افتتحه و ترك فيه الشيخ أبا محمد عطية من أصحابه فغدروا به و قتلوه فغزاهم و استباحهم و رجع إلى تينملل و أقام بها إلى أن كان شأن البشير و ميز الموحد من المنافق و كانوا يسمون لمتونة الحشم فاعتزم على غزوهم و جمع كافة أهل دعوته من المصامدة و زحف إليهم فلقوه بكيك و هزمهم الموحدون و اتبعوهم الى أغمات فلقيهم هنالك زحوف لمتونة مع بكر بن علي بن يوسف و ابراهيم بن تاعباشت فهزمهم الموحدون و قتل إبراهيم و اتبعوهم إلى مراكش فنزلوا البحيرة في زهاء أربعين ألفا كلهم راجلين إلا أربعمائة فارس
و احتفل علي بن يوسف الاحتشاد و برز إليهم لأربعين من نزولهم خرج عليهم من باب إيلان فهزمهم و أثخن فيهم قتلا و سبيا و فقد البشير من أصحابه و استحر القتل في هيلانة و أبلى عبد المؤمن في ذلك اليوم أحسن البلاء و كانت وفاة المهدي لأربعة أشهر بعدها و كان يسمى أصحابه بالموحدين تعريضا بلمتونة في أخذهم بالعدول عن التأويل و ميلهم إلى التجسيم و كان حصورا لا يأتي النساء و كان يلبس العباءة المرقعة و له قدم في التقشف و العبادة و لم تحفظ عنه فلتة في البدعة إلا ما كان من وفاقه الإمامية من الشيعة في القول بالإمام المعصوم و الله تعالى أعلم (6/300)
الخبر عن دولة عبد المؤمن خليفة المهدي و الخلفاء الأربعة من بنيه و وصف أحوالهم و مصاير أمورهم
لما هلك المهدي سنة إثنتين و عشرين و خمسمائة كما ذكرناه و قد عهد بأمره من بعده لكبير صحابته عبد المؤمن بن علي الكومي المتقدم ذكره و نسبه عند ذكر قومه فقبره بمسجده لصق داره من تينملل و خشي أصحابه من افتراق الكلمة و ما يتوقع من سخط المصامدة ولاية عبد المؤمن بن علي لكونه من غير جلدتهم فأرجأوا الأمر إلى أن تخالط بشاش الدعوة قلوبهم و كتموا موته زعموا ثلاث سنين يموهون بمرضه و يقيمون سنته في الصلاة و الحزب الراتب يدخل أصحابه إلى البيت كأنه اختصهم بعبادته فيجلسون حوالي قبره و يتفاوضون في شؤونهم بمحضر أخته زينب ثم يخرجون لإنفاذ ما أبرموه و يتولاه عبد المؤمن بتلقينهم حتى إذا استحكم أمرهم و تمكنت الدعوة من نفوس كافتهم كشفوا حينئذ القناع عن حالهم و تملأ من بقي من العشرة على تقديم عبد المؤمن و تولى كبر ذلك الشيخ أبو حفص و أراد هنتاتة و سائر غلبه فأظهروا للناس موت المهدي و عهده لصاحبه و انقياد بقية أصحابه لذلك
و روى يحيى بن يغمور أنه كان يقول في دعائه إثر صلواته : اللهم بارك في الصاحب الأفضل فرضي الكافة و انقادوا و أجمعوا على بيعته بمدينة تينملل سنة أربع و عشرين و خمسمائة فقام بأمر الموحدين و أبعد في الغزوات فصبح تادلا و أقام بها و أصاب منهم ثم غزا درعة و استولى عليها سنة ست و عشرين و خمسمائة ثم غزا تاسعون و افتتحها و قتل واليها أبا بكر بن مازرو و من كان معه من قومه غمارة بني وزار و بني مزردع ثم تسابق إلى دعوتهم أفواجا و انتقض البرابر في سائر أقطار المغرب على لمتونة فسرح علي بن يوسف ابنه تاشفين لقتالهم سنة ثلاث و ستين و خمسمائة فجاءهم من ناحية أرض السوس و أحشد معه قبائل كزولة و جعلهم في مقدمته فلقيهم الموحدون بأوائل جبلهم و هزموهم و رجع تاشفين و لم يلق حربا و دخل كزولة من بعدها في دولة الموحدين و أجمع عبد المؤمن على غزو بلاد المغرب فغزا غزاته الطويلة منذ سنة أربع و ثلاثين و خمسمائة إلى سنة إحدى و أربعين و خمسمائة و لم يراجع فيها تينملل حتى إذا انقضت بالفتح و الاستيلاء على المغربين خرج إليها من تينملل و خرج تاشفين بعساكره يحاذيه في البسائط و الناس يفرون منه إلى عبد المؤمن و هو يتنقل في الجبال في سعة من الفواكه وللأكل و الحطب للدفء إلى أن وصل إلى جبل غمارة و اشتعلت نار الفتنة و الغلاء بالمغرب و امتنعت الرعايا من المغرم و ألح الطاغية على المسلمين بالعدوة
و هلك خلال ذلك علي بن يوسف أمير لمتونة ملك العدوتين سنة سبع و ثلاثين و خمسمائة و ولى أمرهم تاشفين ابنه و هو في غزاته هذه و قد أحيط به و حزن بعد أبيه على فتنة لمتونة و مسوقة ففزع أمراء مسوقة مثل بدران بن محمد و يحيى بن تاكصتن و يحيى بن إسحق المعروف بأنكار و كان والي تلمسان و لحقوا بعبد المؤمن فيمن إليهم من الجملة و دخلوا في دعوته و نبذ إليهم لمتونة العهد و إلى سائر مسوقة و استمر عبد المؤمن على حاله فنازل سبتة و امتنعت عليه و تولى كبر دفاعه عنها القاضي عياض الشهير الذكر كان رئيسها يومئذ بدينه و أبوته و منصبه و لذلك سخطته الدولة آخر الأيام حتى مات مغربا عن سبتة بتادلا مستعملا في خطة القضاء بالبادية و تمادى عبد المؤمن في غزاته إلى جبال غياثه و بطوية فافتتحها ثم نزل ملوية فافتتح حصونها ثم تخطى إلى بلاد زناتة فأطاعته قبائل مديونة و كان بعث إليهم عساكر من الموحدين إلى نظر يوسف بن وانودين و ابن يرمور فخرج إليهم محمد بن يحيى بن فانو عامل تلمسان فيمن معه من عساكر لمتونة و زناتة فهزمهم الموحدون و قتل ابن فانو و انقض عسكر زناتة و رجعوا إلى بلادهم
و ولى ابن تاشفين أبا بكر بن مزدلي و وصل إلى عبد المؤمن بمكانه من الريف أبو بكر بن ماخوخ و يوسف بن بدر أمراء بني مانو فبعث معهم ابن يغمور و ابن وانودين في عسكر من الموحدين فأثخنوا في بلاد بني عبد الواد و بني باجدي سبيا و أسرا و أمدتهم عساكر لمتونة و معهم الزبرتير قائد الروم و نزلوا منداماس و اجتمعت عليهم زناتة في بني يلومي و بني عبد الواد و شيخهم حمامة ابن مطهر و بني نيكاس و بني ورسفان و بني توجين فأوقعوا في بني مانو و استنقذوا غنائمهم و قتل أبو بكر بن ماخوخ في ستمائة من قومه و تحصن الموحدون وابن وانودين بجبال سيرات و لحق تاشفين بن ماخوخ بعبد المؤمن صريخا على لمتونة و زناتة فارتحل معه إلى تلمسان ثم أجاز إلى سيرات و قصد محلة ملتونة و زناتة فأوقع بهم و رجع إلى تلمسان فنزل ما بين الصخرتين من جبل ورتيك و نزل تاشفين بأصطفصف و وصل مدد صنهاجة من قبل يحيى بن عبد العزيز صاحب بجاية لنظر طاهر بن كباب من قواده أمدوا به تاشفين و قومه لعصبية الصنهاجية و في يوم وصوله أشرف على معسكر الموحدين و كان يدل بإقدام و بأس فزارى بلمتونة و أميرهم لقعودهم عن مناجزة الموحدين و قال : إنما جئتكم أؤمنكم من صاحبكم عبد المؤمن هذا و أرجع إلى قومي فامتعض تاشفين لكلمته و أذن له في المناجزة فحمل على القوم فركبوا و صمموا للقائه فكان آخر العهد و بعسكره و كان تاشفين بعث من قبل ذلك قائده على الروم الزبرتير في عسكر ضخم كما قلناه فأغار على بني سندم و زناتة الذين كانوا في بسيطهم و رجع بالغنائم فاعترضه الموحدون من عسكر عبد المؤمن فقتلوهم و قتل الزبرتير و صلب ثم بعث بعثا آخر إلى بلاد بني مانو فلقيهم تاشفين بن ماخوخ و من كان معه من الموحدين و أوقعوا بهم و اعترضوا عسكر بجاية عند رجوعهم فنالوا منهم أعظم النيل
و توالت هذه الوقائع على تاشفين فأجمع الرحلة إلى وهران و بعث ابنه إبراهيم ولي عهده إلى مراكش في جماعة من لمتونة و بعث كاتبا معه أحمد بن عطية و حل هو إلى وهران سنة تسع و ثلاثين و خمسمائة فأقام عليها شهرا ينتظر قائد إسطوله محمد بن ميمون إلى أن وصله من المرية بعشرة أساطيل فأرسى قريبا من معسكره و زحف عبد المؤمن من تلمسان و بعث في مقدمته الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى وبني توجين و أثخنوا فيهم حتى دخلوا في دعوتهم
و وفد على عبد المؤمن برؤسائهم و كان منهم سيد الناس ابن أمير الناس شيخ بني يلومي فتلقاهم بالقبول و يار بهم في جموع الموحدين إلى وهران ففجعوا لمتونة بمعسكرهم ففضوهم و لجأ تاشفين إلى رابية هناك فأحد قرابها و أضرموا النيران حولها حتى غشيهم الليل فخرج تاشفين من الحصن راكبا على فرسه فتردى من بعض حافات الجبل و هلك لسبع و عشرين من رمضان سنة تسع و ثلاثين و خمسمائة و بعث برأسه إلى تينملل و نجا فل العسكر إلى وهران فانحصروا مع أهلها حتى جهدهم العطش و نزلوا جميعا على حكم عبد المؤمن يوم الفطر من تلك السنة و بلغ خبر مقتل تاشفين إلى تلمسان مع فل لمتونة و فيهم أبو بكر بن ولحف و سير بن الحاج و علي بن فيلو في آخرين من أعيانهم ففر معهم من كان بها من لمتونة و قدم عبد المؤمن فقتل من وجد بتاكرارت بعد أن كانوا بعثوا ستين من وجوههم فلقيهم يصليتن من مشيخة بني عبد الواد فقتلهم أجمعين
و لما وصل عبد المؤمن إلى تلمسان استباح أهل تاكرارت لما كان أكثرهم من الحشم و عفا عن أهل تلمسان و رحل عنها لسبعة أشهر من فتحها بعد أن ولى عليها سليمان ابن محمد بن وانودين و قيل يوسف بن وانودين و فيما نقل بعض المؤرخين أنه لم يزل محاصرا تلمسان و الفتوح ترد عليه و هنالك وصلته بيعة سجلماسة ثم اعتزم على الرحيل إلى المغرب و ترك ابراهيم بن جامع محاصرا لتلمسان فقصد فاس سنة إحدى و أربعين و خمسمائة و قد تحصن بها يحيى الصحراوي و لحق بها من فل تاشفين من تلمسان فنازلها عبد المؤمن و بعث عسكرا لحصار مكناسة ثم رحل في اتباعه و ترك عسكرا من الموحدين على فاس و عليهم الشيخ أبو حفص و أبو إبراهيم و صحابة المهدي العشرة فحاصروه سبعة أشهر
ثم داخلهم ابن الجياني مشرف البلد و أدخل الموحدين ليلا و فر الصحراوي إلى طنجة و أجاز منها إلى ابن غانية بالأندلس و بلغ خبر فاس إلى عبد المؤمن و هو بمكانه من حصار مكناسة فرجع إليها و ولى عليها ابراهيم بن جامع و ولى على مكناسة يحيى بن يغمور و رحل إلى مراكش وكان ابراهيم بن جامع لما افتتح تلمسان ارتحل إلى عبد المؤمن و هو محاصر لفاس فاعترضه في طريقه المخضب بن عسكر أمير بني مرين و نالوا منه و من رفقته فكتب عبد المؤمن إلى يوسف بن وانودين عامل تلمسان أن يجهز إليهم العساكر فبعثها صحبة عبد الحق بن منقاد شيخ بني عبد الواد فأوقعوا ببني مرين و قتل المخضب أميرهم
و لما ارتحل عبد المؤمن من فاس إلى مراكش وصلته بيعة أهل سبتة فولى عليهم يوسف بن مخلوف من مشيخة هنتاتة و مر على سلا فافتتحها بعد مواقعة قليلة و نزل منها بدار ابن عشرة ثم تمادى إلى مراكش و سرح الشيخ أبا حفص لغزو برغواطة فأثخن فيهم و رجع و لقيه في طريقه و وصلوا جميعا إلى مراكش و قد ضموا إليها جموع لمطة فأوقع بهم الموحدون و أثخنوا فيهم قتلا و اكتسحوا أموالهم و ظعائنهم و أقاموا على مراكش تسعة أشهر و أميرهم اسحق بن علي بن يوسف بايعوه صبيا صغيرا عند بلوغ خبر أبيه و لما طال عليهم الحصار و جهدهم الجوع برزوا إلى مدافعة الموحدين فانهزموا و تتبعهم الموحدون بالقتل و اقتحموا عليهم المدينة في أخريات شوال سنة إحدى و أربعين و خمسمائة و قتل عامة الملثمين و نجا إسحق في جملته و أعيان قومه إلى القصبة حتى نزلوا على حكم الموحدبن و أحضر إسحق بين يدي عبد المؤمن فقتله الموحدون بأيديهم و تولى كبر ذلك أبو حفص بن واكاك منهم و أمحى أثر الملثمين و استولى الموحدون على جميع البلاد
ثم خرج عليهم بناحية السوس ثائر من سوقة سلا يعرف محمد بن عبد الله بن هود و تلقب بالهادي و ظهر في رباط ماسة فأقبل إليه الشراد من كل جانب و انصرفت إليه وجوه الأغمار من أهل الآفاق و أخذ بدعوته أهل سجلماسة و درعة و قبائل دكالة و ركراكة و قبائل تامسنا و هوارة و فشت ضلالته في جميع العرب فسرح إليه عبد المؤمن عسكرا من الموحدين لنظر يحيى أنكمار اللمتوني النازع إليه من إيالة تاشفين بن علي و لقي هذا الثائر المآسي و رجع مهزوما إلى عبد المؤمن فسرح الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى و أشياخ الموحدين و احتفل في الاستعداد فنهضوا إلى رابطة ماسة و برز إليهم الثائر في نحو ستين ألفا من الرجال و سبعمائة من الفرسان فهزمهم الموحدون و قتل داعيتهم في المعركة مع كثرة أتباعه و ذلك في ذي الحجة سنة إحدى و أربعين و خمسمائة و كتب الشيخ أبو حفص بالفتح إلى عبد المؤمن من إنشاء أبي حفص بن عطية الشهير الذكر كان أبوه أبو أحمد كاتبا لعلي بن يوسف و ابنه تاشفين و تحصل في قبضة الموحدين فعفا عنه عبد المؤمن
و لما نزل على فاس اعتزم أبو حفص هذا على الفرار فتقبض عليه في طريقه و اعتذر فلم يقبل عذره و قتل و كان ابنه أحمد كاتبا لإسحق بن علي بمراكش فشمله عفو السلطان فيمن شمله من ذلك الفل و خرج في جملة الشيخ أبي حفص في وجتهه هذه و طلبه للكتاب في ذلك فأجابه و استحسن كتابه عبد المؤمن لما وقف عليه فاستكتبه أولا ثم ارتفع عنده مكانه فاستوزره و بعد في الدولة صيته و قاد العساكر و جمع الأموال و بذلها و نال من الرتبة عند السلطان مالم ينله أحد في دولته إلى أن دبت السعاية إلى مهادة الوثير فكان فيها حتفه و نكبه الخليفة سنة ثلاث و خمسين و خمسمائة و قتله بمحبسه حسبما هو مشهور
و لما انصرف الشيخ أبو حفص من غزاة ماسة أراح بمراكش أياما ثم خرج غازيا إلى القائمين بدعوة الماسي بجبال درن فأوقع بأهل نفيس و هيلانة و أثخن فيهم بالقتل و السبي حتى أذعنوا بالطاعة و رجع ثم خرج إلى هسكورة و أوقع بهم و افتتح معاقلهم و حصونهم ثم نهض إلى سجلماسة فاستولى عليها و رجع إلى مراكش ثم خرج ثالثة إلى برغواطة فحاربوه مدة ثم هزموه و اضطرمت نار الفتنة بالمغرب و انتقض أهل سبتة و أخرجوا يوسف بن مخلوف التينمللي و قتلوه و من كان معه من الموحدين و أجاز القاضي عياض البحر إلى يحيى بن علي بن غانية المسوقي الوالي بالأندلس فلقيه بالخضراء و طلب منه واليا على سبتة فبعث معه يحيى بن أبي بكر الصحراوي الذي كان بفاس منذ منازلة عبد المؤمن لها و ذكر أنه لحق بطنجة فأجاز البحر إلى الأندلس و لحق بابن غانية بقرطبة و صار في جملته
و بعثه ابن غانية إلى سبتة مع القاضي عياض كما ذكرناه و قام بأمرها و وصل يده بالقبائل الناكثة لطاعة الموحدين من برغواطة و دكالة على حين هزيمتهم للموحدين كما ذكرناه و لحق بهم من مكانه بسبتة و خرج إليهم عبد المؤمن بن علي سنة اثنتين و أربعين و خمسمائة فدوخ بلادهم و استأصل شأفتهم حتى انقادوا للطاعة و تبرأوا من يحيى الصحراوي و لمتونة و رجع إلى مراكش لستة أشهر من خروجه و وصلته المرعبة من مشيخة القبائل في يحيى الصحراوي فعفا عنه و صلحت أحوال المغرب و راجع أهل سبتة طاعتهم فتقبل منهم و كذلك أهل سلا فصفح لهم و أمر بهدم سورهم و الله أعلم (6/305)
فتح الأندلس و شؤونها
ثم صرف عبد المؤمن من قصره إلى الأندلس و كان من خبرها أنه اتصل بالملثمين مقتل تاشفين بن علي و منازلة الموحدين مدينة فاس و كان علي بن عيسى ميمون قائد أسطولهم قد نزع طاعة لمتونة و انتزى بجزيرة قادس فلحق بعبد المؤمن بمكانه من حصار فاس و دخل في دعوته و خطب له بجامع فاس أول خطبة خطبت لهم بالأندلس عام أربعين و خمسمائة و بعث أحمد بن قيسي صاحب مرتلة و مقيم الدعوة بالأندلس أبا بكر بن حبيس رسولا إلى عبد المؤمن فلقيه على تلمسان و أدى كتاب صاحبه فأنكر ما تضمنه من النعت بالمهدي و لم يجاوب و كان سدراتي بن وزير صاحب بطليوس و باجة و غرب الأندلس قد تغلب على أحمد ابن قيسي هذا و غلبه على مرتلة فأجاز أحمد بن قيسي البحر إلى عبد المؤمن من بعد فتح مراكش لمداخلة علي بن عيسى بن ميمون و نزل بسبتة فجهزه يوسف بن مخلوف و لحق بعبد المؤمن و رغبه في ملك الأندلس و أغراه بالملثمين فبعث معه عساكر الموحدين لنظر براز بن محمد المسوقي الناظر إلى عبد المؤمن من جملة تاشفين و عقد له على حروب من بها من لمتونة و الثوار و أمده بعسكر آخر لنظر موسى بن سعيد و بعده بعسكر آخر لنظر عمر بن صالح الصنهاجي و لما أجازوا إلى الأندلس نازلوا بالغمر بن عزرون من الثوار بشريش و كانت له مع ولده ثم قصدوا لبلة و بها من الثوار يوسف بن أحمد البطروجي فأعطاهم الطاعة ثم قصدوا مرتلة و هي تحت الطاعة لتوحيد صاحبها أحمد بن قيسي ثم قصدوا شلب فافتتحوها و أمكنوا منها ابن قيسي ثم نهضوا إلى باجة و بطليوس فأطاعهم صاحب سدراتي بن وزير
ثم براز في عسكر الموحدين إلى مرتلة حتى انصرم فصل الشتاء فخرج إلى منازلة أشبيلية فأطاعه أهل طليطلة و حصن القصر و اجتمع إليه سائر الثوار و حاصروا أشبيلية برا و بحرا إلى أن افتتحوها في شعبان من سنة إحدى و أربعين و خمسمائة و فر الملثمون بها إلى قرمونة و قتل من أدرك منهم و أتى القتل على عبد الله بن القاضي أبي بكر بن العربي في هيعة تلك الدخلة من غير قصد و كتبوا بالفتح إلى عبد المؤمن بن علي
و قدم عليه وفودهم بمراكش يقدمهم القاضي أبو بكر فتقبل طاعتهم و انصرفوا بالجوائز و الأقطاعات لجميع الوفد سنة إثنتين و أربعين و خمسمائة
و هلك القاضي أبو بكر في طريقه و دفن بمقبرة فاس و كان عبد العزيز و عيسى أخوا المهدي من مشيخة العسكر بأشبيلية ساء أثرهما بالبلد و استطالت أيديهما على أهله و استباحوا الدماء و الأموال ثم اعتزما على الفتك بيوسف البطروجي صاحب لبلة فلحق ببلده و أخرج الموحدين الذين بها و حول الدعوة عنهم و بعث إلى طليطلة و حصن القصر و وصل يده بالملثمين الذين كانوا بالعدوة و ارتد ابن قيسي في مدينة شلف و علي بن عيسى بن ميمون بجزيرة قادس و محمد بن الحجام بمدينة بطليوس و ثبت أبو الغمر بن عزرون على طاعة الموحدين بشريش و رندة و جهاتهما و تغلب ابن غانية على الجزيرة الخضراء و انتقض أهل سبتة كما ذكرناه و ضاقت أحوال الموحدين بأشبيلية فخرج منها عيسى و عبد العزيز أخوا المهدي و ابن عمهما يصليتن بمن كان معهم و لحقوا بجبال بستر و جاءهم أبو الغمر بن عزرون و اتصلت أيديهم على حصار الجزيرة حتى افتتحوها و قتلوا من كان بها من لمتونة و لحق أخو المهدي بمراكش و بعث عبد المؤمن على أشبيلية يوسف بن سليمان في عسكر من الموحدين و أبقى براز بن محمد على الجباية فخرج يوسف و دوخ أعمال البطروجي بلبلة و طليطلة و عمل ابن قيسي بشلب ثم أغار على جبيرة و أطاعه عيسى بن ميمون صاحب شنتمرية و غزا معهم و أرسل محمد بن علي بن الحاج صاحب بطليوس بهداياه فتقبلت و رعيت له و رجع يوسف إلى أشبيلية و في أثناء ذلك استغلظ الطاغية على يحيى بن علي غانية بقرطبة و ألح على جهاته حتى نزل له عن بياسة و رندة و تغلب على الاشبونة و طرطوشة و لاردة و افراغة و شنتمرية و غيرها من حصون الأندلس و طالب ابن غانية بالزيادة في بيته أو الإفراج له عن قرطبة فراسل ابن غانية براز بن محمد و اجتمعا باستجة و ضمن له براز إمداد الخليفة على أن يتخلى عن قرطبة و قرمونة و يدال منها بجيان فرضي بذلك و تم العقد و وصل حطاب عبد المؤمن بإمضائه فارتحل ابن غانية إلى جيان و نازله الطاغية بها فغدر بأقماطه و اقتلعهم بقلعة ابن سعيد و أفرج الطاغية عن جيان و لحق هذا بغرناطة و بها ميمون بن بدر اللمتوني في جماعة من المرابطين قصده ابن غانية ليحمله على مثل حاله مع الموحدين كان مهلكه بها في شعبان سنة ثلاث و أربعين و خمسمائة و قبره بها معروف لهذا العهد و انتهز الطاغية فرصته في قرطبة فزحف إليها و دفع الموحدون بأشبيلية أبا الغمر بن عزرون لحمايتها و وصل إليه مدد يوسف البطروجي من لبلة و بلغ الخبر عبد المؤمن فبعث إليها عسكرا من الموحدين لنظر يحيى بن يغمور في طلب الأمان من عبد المؤمن ثم تلاحقوا به بمراكش فتقبلهم و صفح لهم و نهض إلى مدينة سلاسنة خمس و أربعين و خمسمائة و استدعى منها أهل الأندلس فوفدوا عليه و بايعوه جميعا و بايعه الرؤساء من الثوار على الانخلاع من الأمر مثل سدراتي بن وزير صاحب باجة و باثورة و البطروجي صاحب لبلة و ابن عزرون صاحب شريش و رندة و ابن الحجام صاحب بطليوس و عامل بن مهيب صاحب طلبيرة و تخلف ابن قيسي و أهل شلب عن هذا الجمع فكان سببا لقتله من بعد و رجع عبد المؤمن إلى مراكش و انصرف أهل الأندلس إلى بلادهم و استصحب الثوار فلم يزالوا بحضرته و الله تعالى أعلم (6/312)
فتح إفريقية و شؤونها
ثم بلغ عبد المؤمن ما هي عليه أفريقية من اختلاف الأمراء و استطالة العرب عليها بالعيث و الفساد و أنهم حاصروا مدينة القيروان و أن موسى بن يحيى الرياحي المرداسي دخل مدينة باجة و ملكها فأجمع الرحلة إلى غزو أفريقية بعد أن شاور الشيخ أبا حفص و أبا إبراهيم و غيرهما من المشيخة فوافقوه و خرج من مراكش في أواخر سنة ست و أربعين و خمسمائة موريا بالجهاد حتى انتهى إلى سبتة و استوضح أحوال أهل الأندلس ثم رحل عن سبتة موريا بمراكش و أغذ السير إلى باجة فدخل الجزائر على حين غفلة و خرج إليه الحسن بن علي صاحب المهدية فصحبه و اعترضه جيوش صنهاجة بأم العلو فهزمهم و صبح بجاية من الغد فدخلها و ركب يحيى بن العزيز البحر في أسطولين كان أعدهما لذلك و احتمل فيهما ذخائره و أمواله و ألحق بقسنطينة إلى أن نزل بعد ذلك منها على أمان عبد المؤمن و استقر بمراكش تحت الجراية و العناية إلى أن هلك رحمه الله
ثم سرح عبد المؤمن عساكر الموحدين و عليهم ابنه عبد الله إلى القلعة و بها جوش بن عبد العزيز في جموع صنهاجة فاقتحمها و استلحم من كان بها منهم وأضرم النار في مساكنها و قتل جوش و يقال إن القتلى بها كانوا ثمانية عشر ألفا و امتلأت أيدي الموحدين من الغنائم و السبي و بلغ الخبر إلى العرب بأفريقية من الأثبج و زغبة و رياح و قسرة فعسكروا بظاهر باجة و تآمروا على الدفاع عن ملكهم يحيى بن العزيز و ارتحلوا إلى سطيف و زحف إليه عبد الله بن عبد المؤمن في الموحدين الذين معه و كان عبد المؤمن قد قفل إلى المغرب و نزل متيجة فلما بلغه الخبر بعث المدد لابنه عبد الله و التقى الفريقان بسطيف و اقتتلوا ثلاثا ثم انفضت جموع العرب و استلحموا و سبيت نساؤهم و اكتسحت أموالهم و أسر أبناؤهم
و رجع عبد المؤمن إلى مراكش سنة سبع و أربعين و خمسمائة و وفد عليه كبراء العرب من أهل أفريقية طائعين فوصلهم و رجعوا إلى قومهم و عقد على فاس لابنه السيد أبي الحسن و استوزر له يوسف بن سليمان و عقد على تلمسان لابنه السيد أبي حفص و استوزر له أبا محمد بن وانودين و على سبتة لابنه السيد أبي سعيد و استوزر له محمد بن سليمان و على بجاية للسيد أبي محمد عبد الله و استوزر له يخلف بن الحسين و اختص ابنه أبا عبد الله بولاية عهده و تغير بذلك كله ضمائر عبد العزيز و عيسى أخوي المهدي فلحقا بمراكش مضمرين الغدر و أدخلوا بعض الأوغاد في شأنهم فوثبوا بعمر بن تافراكين و قتلوه بمكانه من القصبة و وصل على أثرهما الوزير أبو حفص بن عطية و عبد المؤمن على أثره فأطفآ نار تلك الثورة و قتل أخو المهدي و من داخلهم فيها و الله أعلم (6/315)
فتح بقية الأندلس
و بلغه بمراكش سنة تسع و أربعين و خمسمائة أن يحيى بن يغمور صاحب أشبيلية قتل أهل لبلة بما كان من غدر الوهبي لها و تقبل معذرتهم في ذلك فسخط يحيى بن يغمور و عزله عن أشبيلية بأبي محمد عبد الله بن أبي حفص بن علي التينمللي و عن قرطبة بأبي زيد بن بكيت و بعث عبد الله بن سليمان فجاء بابن يغمور معتقلا إلى الحضرة و ألزمه منزله إلى أن بعثه مع ابنه السيد أبي حفص إلى تلمسان و استقام أمر الأندلس
و خرج ميمون بن بدر اللمتوني عن غرناطة للموحدين فملكوها و أجاز إليها السيد أبا سعيد صاحب سبتة بعهد أبيه عبد المؤمن إليه بذلك و لحق الملثمون بمراكش و نازل السيد أبو سعيد مدينة المرية حتى نزل من كان بها من النصارى على الأمان و حضر لذلك الوزير أبو حفص بن عطية بعد أن أمدهم ابن مودهشي الثائر بشرق الأندلس و الطاغية معه و عجزوا جميعا عن المدافعة ثم وفد أشياخ أشبيلية سنة إحدى و خمسين و خمسمائة و رغبوا من عبد المؤمن ولاية بعض أبنائه عليهم فعقد لابنه السيد أبي يعقوب عليها و افتتح أمره بمنازلة علي الوسيني الثائر بطبيرة و معه الوزير أبو حفص بن عطية حتى استقام على الطاعة ثم استولى على عمل ابن وزير و ابن قيسي و استنزل تاشفين اللمتوني من مرتلة سنة اثنتين و خمسين و خمسمائة و كان و الذي أمكن الملثمين منها ابن قيسي و استتم الفتح و رجع السيد إلى أشبيلية و انصرف أبو حفص بن عطية إلى مراكش فكانت فيها نكبته و مقتله و استوزر عبد المؤمن من بعده عبد السلام الكومي كان يمت إليه بذمة صهر لم يزل على وزارته و الله أعلم (6/316)
بقية فتح أفريقية
لما بلغ عبد المؤمن سنة ثلاث و خمسين و خمسمائة ما كان من إيقاع الطاغية بإبنه السيد أبي يعقوب بظاهر أشبيلية و من استشهد من أشياخ الموحدين و حفاظهم ومن الثوار مثل ابن عزرون و ابن الحجام نهض يريد الجهاد و احتلى سلا فبلغه انتقاض أفريقية و أهمه شأن النصارى بالمهدية فلما توافت العساكر بسلا استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب و عقد ليوسف بن سليمان على مدينة فاس و نهض يغذ السير حتى نزل المهدية و بها من نصارى أهل صقلية فافتتحها صلحا سنة خمس و خمسين و خمسمائة و استنقذ جميع البلاد الساحلية مثل صفاقس و طرابلس من أيدي العدو
و بعث بنه عبد الله من مكان حصاره للمهدية إلى قابس فاستخلصها من يد بني كامل المتغلبين عليها من دهمان بعض بطون رياح و استخلص قفصة من يد بني الورد و ورغة من يد بني بروكسن و طبرقة من يد ابن علال و جبل زغوان من يد بني حماد بن خلفة و شقبنارية من يد بني عباد بن نصر الله و مدينة الأربص من يد من ملكها من العرب حسبما ذلك مذكور في أخبار هؤلاء الثوار في دولة صنهاجة
و لما استكمل الفتح و ثنى عنانه إلى المغرب سنة ست و خمسين و خمسمائة بلغه أن الأعراب بأفريقية انتقضوا عليه فرجع إليهم عسكرا من الموحدين فنهضوا إلى القيروان و أوقعوا بالعرب و قتل كبيرهم محرز بن زياد الفارغي من بني علي إحدى بطون رياح و الله تعالى أعلم (6/317)
أخبار ابن مردنيش الثائر بشرق الأندلس
كان بلغ عبد المؤمن و هو بأفريقية أن محمد بن مردنيش الثائر بشرق الأندلس خرج من مرسية و نازل جيان و أطاعه واليها محمد بن علي الكومي ثم نازل بعدها قرطبة و رحل عنها و غدر بقرمونة و ملكها ثم رجع إلى قرطبة و خرج ابن بكيت لحربه فهزمه و قتله فكتب إلى عماله بالأندلس بفتح أفريقية و أنه واصل إليهم و عبر إلى جبل الفتح و اجتمع إليه أهل الأندلس و من بها من الموحدين ثم رجع إلى مراكش و بعث عساكره إلى الجهاد و لقيهم الطاغية فهزموه و تغلب السيد أبو يعقوب على قرمونة من يد ابن همشك صهر ابن مردنيش و كان السيدان أبو يعقوب صاحب أشبيلية و أبو سعيد صاحب غرناطة ارتحلا لزيارة الخليفة بمراكش فخالف ابن همشك إلى مدينة غرناطة و علا ليلا بمداخلة من بعض أهلها
و استولى عليها و انحصر الموحدون بقصبتها و خرج عبد المؤمن من مراكش لاستنقاذها فوصل إلى سلا
و قدم السيد أبا سعيد فأجاز البحر و لقيه عامل أشبيلية عبد الله بن أبي حفص بن علي و نهضوا جميعا إلى غرناطة فنهض إليهم ابن همشك و هزمهم ورجع السيد أبو سعيد إلى مالقة و ردفه عبد المؤمن بأخيه السيد أبي يعقوب في عساكر الموحدين و نهضوا إلى غرناطة و كان قد وصلها ابن مردنيش في جموع من النصارى مددا لابن همشك فلقيهم الموحدون بفحص غرناطة و هزموهم و فر ابن مردنيش إلى مكان في المشرق و لحق ابن همشك بجيان فنازله الموحدون و أقبل السيدان إلى قرطبة فأقاما بها إلى أن استدعي السيد أبو يعقوب بمراكش سنة ثمان و خمسين و خمسمائة لولاية العهد و الادالة به من أخيه محمد فلحق بمراكش و خرج في ركاب أخيه الخليفة عبد المؤمن لما نهض للجهاد و أدركته المنية بسلا في جمادى الأخيرة من هذه السنة و دفن بتينملل إلى جانب المهدي و الله أعلم (6/318)
دولة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن
لما هلك عبد المؤمن أخذ البيعة على الناس السيد أبو حفص لأخيه أبي يعقوب بانفاق من الموحدين كافة و رضا من الشيخ أبي حفص خاصة و استقل في رتبة وزارته و رجعوا إلى مراكش و كان السيد أبو حفص هذا وزيرا لأخيه عبد المؤمن و استوزره عند نكبة عبد السلام الكومي فرجعه من أفريقية سنة خمس و خمسين و خمسمائة
و كان أبو علي بن جامع متصرفا بين يديه في رسم الوزارة إلى أن هلك عبد المؤمن فأخذ أبو حفص البيعة لأخيه أبي يعقوب ثم هلك إثر وفاة عبد المؤمن ابنه السيد أبو الحسن صاحب فاس و السيد أبو محمد صاحب بجاية في طريقه إلى الحضرة ثم استقدم أبو يعقوب السيد أبا سعيد من غرناطة سنة ستين و خمسمائة فقدم و لقيه السيد أبو حفص بسبتة
ثم صرح الخليفة أبو يعقوب معه أخاه السيد أبا حفص إلى الأندلس في عسكر الموحدين لما بلغه أن إلحاح ابن مردنيش على قرطبة بعد أن احتشد معه قبائل العرب زغبة و رياح و الأثبج فأجاز البحر و قصد ابن مردنيش و قد جمع جموعه و أولياءه من النصارى و لقيتهم عساكر الموحدين بفحص مرسية فانهزم ابن مردنيش و أصحابه و فر إلى مرسية من سبتة و نازله الموحدون بها و دوخوا نواحيه و انصرف السيد أبو حفص و أخوه أبو سعيد سنة إحدى و ستين و خمسمائة إلى مراكش و خمدت نار الفتنة من ابن مردنيش و عقد الخليفة على بجاية لأخيه السيد أبي زكريا و على أشبيلية للشيخ أبي عبد الله بن ابراهيم
ثم أدال عنه بأخيه السيد أبي ابراهيم و أقر الشيخ أبا عبد الله على وزارته و عقد على قرطبة لأخيه السيد أبي إسحق و أثر السيد أبا سعيد على غرناطة ثم نظر الموحدون في وضع العلامة في الكتوبات بخط الخليفة فاختاروا الحمد لله وحده لما وقفوا عليها بخط الإمام المهدي في بعض مخاطباته فكانت علامتهم إلى آخر دولتهم و الله تعالى أعلم (6/319)
فتنة غمارة
و في سنة اثنتين و ستين و خمسمائة تحرك الأمير أبو يعقوب إلى جبال غمارة لما كان ظهر بها من الفتنة التي تولى كبرها سبع بن منغفاد و نازعهم في الفتنة صنهاجة جيرانهم فبعث الأمير أبو يعقوب عساكر الموحدين لنظر الشيخ أبي حفص ثم تعاظمت فتنة غمارة و صنهاجة فخرج إليهم بنفسه و أوقع بهم و استأصلهم و قتل سبع بن منغفاد و انحسم داؤهم و عقد لأخيه السيد أبي علي بن الحسن على سبتة و سائر بلادهم
و في سنة ثلاث و ستين و خمسمائة اجتمع الموحدون على تجديد البيعة و اللقب بأمير المؤمنين و خاطب العرب بأفريقية يستدعيهم إلى الغزو و يحرضهم و كتب إليهم في ذلك قصيدة و رسالة مشهورة بين الناس وكان من إجابتهم و وفودهم عليه ما هو معروف (6/320)
أخبار الأندلس
لما استوسق الأمر للخليفة أبي يعقوب بالعدوة و صرف نظره إلى الأندلس و الجهاد و اتصل به ما كان من غدر العدو دمره الله بمدينة ترجالة ثم مدينة يابرة ثم حصن شبرمة ثم حصن جلمانيه ازاء بطليوس ثم مدينة بطليوس فسرح الشيخ أبا حفص في عساكر من الموحدين احتفل في انتقائهم و خرج سنة أربع و ستين و خمسمائة لاستنقاذ بطليوس من هوة الحصار فلما وصل إلى أشبيلية بلغه أن الموحدين و بطليوس هزموا ابن الرنك الذي كان يحاصرهم بإعانة ابن ادفونش و أن ابن الرنك تحصل في قبضتهم أسيرا و فرجوا ندة الجليقي إلى حصنه فقصد الشيخ أبو حفص مدينة قرطبة و بعث إليهم ابراهيم بن هشمك من جيان بطاعته و توحيده و مفارقته صاحبه ابن مردنيش لما حدث بينهما من الشحناء و الفتنة فألح عليه ابن مردنيش بالحرب و ردد إليه الغزو فبعث إلى الشيخ أبي حفص بطاعته
و كان الشيخ أبو حفص في عساكر الموحدين فنهض من مراكش سنة خمس و ستين و خمسمائة و في جملته السيد أبو سعيد أخوه فوصل إلى أشبيلية و بعث أخاه أبا سعيد إلى بطليوس فعقد الصلح مع الطاغية و انصرف و نهضوا جميعا إلى مرسية و معهم ابن هشمك فحاصروا ابن مردنيش وثار أهل لورقة بدعوة الموحدين فملكها السيد أبو حفص ثم افتتح مدينة بسطة و أطاع ابن عمه محمد بن مردنيش صاحب المرية فحص بذلك جناحه
و اتصل الخبر بالخليفة بمراكش و قد توافت عنده جموع العرب من أفريقية صحبة أبي زكريا صاحب بجاية و السيد أبي عمران صاحب تلمسان و كان يوم قدومهم عليه يوما مشهودا فاعترضهم و سائر عساكره و نهض إلى الأندلس و استخلف على مراكش السيد أبا عمران أخاه فاحتل بقرطبة سنة سبع و ستين و خمسمائة ثم ارتحل بعدها إلى أشبيلية و لقيه السيد أبو حفص هنالك منصرفا من غزاته و كان ابن مردنيش لما طال عليه الحصار ارتاب ففتك بهم و باد أخوه أبو الحجاج و هلك هو في رجب من هذه السنة
و دخل ابنه هلال في الطاعة و بادر السيد أبو حفص إلى مرسية فدخلها و خرج هلال في جملته و بعثه إلى الخليفة بأشبيلية
ثم ارتحل الخليفة غازيا إلى بلاد العدو فنازل رندة أياما و ارتحل عنها إلى مرسية ثم رجع إلى أشبيلية سنة ثمان و ستين و خمسمائة و استصحب هلال بن مردنيش و أصهر له في ابنته و ولى عمه يوسف على بلنسية و عقد لأخيه السيد أبي سعيد على غرناطة
ثم بلغه خروج العدو إلى أرض المسلمين مع القومس الأحدب فخرج للقائهم و أوقع بهم بناحية قلعة رياح و أثخن فيهم و رجع إلى أشبيلية و أمر ببناء حصن القلعة ليحصن جهاتها و قد كان خرابا منذ فتنة أبي حجاج فيه مع كريب بن خلدون بمدة أزمان المنذر بن محمد و أخيه عبد الله من أمراء بني أمية
ثم انتقض ابن أذفونيش و أغار على بلاد المسلمين فاحتشد الخليفة و سرح السيد أبا حفص إليه فغزاه بعقر داره و افتتح قنطرة بالسيف و هزم جموعه في كل جهة
ثم ارتحل الخليفة من أشبيلية راجعا إلى مراكش سنة إحدى و سبعين و خمسمائة لخمس سنين من إجازته إلى الأندلس و عقد على قرطبة لأخيه الحسن وعلى أشبيلية لأخيه علي و أصاب مراكش الطاعون فهلك من السادات أبو عمران و أبو سعيد و أبو زكريا و قدم الشيخ أبو حفص من قرطبة فهلك في طريقه و دفن بسلا
و استدعى الخليفة أخويه السيدين أبا علي و أبا الحسن فعقد لأبي علي على سجلماسة و رجع أبو الحسن إلى قرطبة وعقد لابني أخيه السيد أبي حفص : لأبي زيد منهما على غرناطة و لأبي محمد عبد الله على مالقة و في سنة ثلاث و سبعين و خمسمائة سطا بذرية بني جامع و غربهم إلى ماردة و في سنة خمس و سبعين و خمسمائة عقد لقائم بن محمد ين مردنيش على أسطوله و أغزاه مدينة الأشبونة فغنم و رجع و فيه كانت وفاة أخيه السيد الوزير أبي حفص بعدما أبلى في الجهاد و بالغ في نكاية العدو
و قدم ابناه من الأندلس و أخبر الخليفة بنتقاض الطاغية و اعتزم على الجهاد و أخذ في استدعاء العرب من أفريقية و الله تعالى أعلم (6/321)
الخبر عن انتقاض قفوصة و استرجاعها
كان علي بن المعزو يعرف بالطويل من أعقاب بني الرند ملوك قفصة قد ثار سنة خمس و سبعين و خمسمائة كما ذكرناه في أخبارهم و بلغ الخليفة خبره فنهض إليها من مراكش و سار إلى بجاية و بقي عنده يعلى بن المنتصر الذي كان عبد المؤمن استنزله من قفصة أنه يواصل قريبه الثائر بها و يخاطب العرب فتقبض عليه و وجدت المخاطبات عنده شاهدة بتلك السعاية و استصفى ما كان بيده و ارتحل إلى قفصة و نزلها
و وفدت عليه مشيخة العرب من رياح بالطاعة فقتلهم و لم يزل محاصرا لقفصة إلى أن نزل على ابن المعز و انكفأ راحعا إلى تونس و أنفذ عساكر العرب إلى المغرب و عقد على أفريقية و الزاب للسيد أبي علي أخيه و على بجاية للسيد أبي موسى و قفل إلى الحضرة و الله تعالى أعلم (6/323)
معاودة الجهاد
لما قفل من فتح قفصة سنة سبع و سبعين و خمسمائة وفد عليه أخوه السيد أبو اسحق من أشبيلية والسيد أبو عبد الرحمن يعقوب من مرسية وكافة الموحدين و رؤساء الأندلس يهنونه بالإياب فأكرم موصلهم و انصرفوا إلى بلادهم و اتصل به أن محمد ابن يوسف بن وانودين غزا بالموحدين من أشبيلية إلى أرض العدو فنازل مدينة يابرة و غنم ما حولها و افتتح بعض حصونها و رجع إلى أشبيلية و أن عبد الله بن اسحق بن جامع قائد الاسطول بأشبيلية التقى بأسطول أهل أشبونه في البحر فهزموهم و أخذوا عشرين من قطائعهم مع السبي و الغنائم
ثم بلغ الخبر بأن أدفونش بن شانجة نازل قرطبة وشن الغارات على جهات مالقة و رندة و غرناطة ثم نزل أستجة و تغلب على حصن شنغيلة
و أسكن بها النصارى و انصرف فاستنفز السيد أبو إسحق سائر الناس للغزو و نازل الحصن نحوا من أربعين يوما ثم بلغه خروج أذفونش من طليطلة بمدده فانكفأ راجعا و خرج محمد بن يوسف بن وانودين من أشبيلية في جموع الموحدين و نازل طلبيرة و برز إليه أهلها فأوقع هم وانصرف بالغنائم فاعتزم الخليفة أبو يعقوب على معاودة الجهاد و ولى على الأندلس أبناءه و قدمهم للاحتشاد فعقد لابنه أبي اسحق على أشبيلية كما كان و لابنه السيد أبي يحيى على قرطبة و لابنه السيد أبي الحصرصاني على غرناطة و لابنه السيد أبي عبد الله على مرسية
و نهض سنة تسع و سبعين و خمسمائة إلى سلا و وافاه بها أبو محمد بن أبي اسحق بن جامع من أفريقية بحشود العرب وسار إلى فاس و بعث في مقدمته هنتاتة و تينملل و حشود العرب
و أجاز البحر من سبتة في صفر من سنة ثمانين و خمسمائة فاحتل جبل الفتح وسار إلى أشبيلية فوافته بها حشود الأندلس و سخط محمد بن وانودين و غربه إلى حصن غافق و رحل غازيا إلى شنترين فحاصرها أياما ثم أقلع عنها و استمر الناس يوم إقلاعه و خرج النصارى من الحصن فوجدوا الخليفة في غير أهبة و لا استعداد فأبلى في الجهاد هو و من حضره و انصرفوا بعد جولة شديدة و هلك في ذلك اليوم الخليفة يقال من منهم أصابه في حومة القتال و قيل من مرض طرقه عفا الله عنه (6/324)
دولة ابنه يعقوب المنصور
و لما هلك الخليفة أبو يعقوب على حصن شنترين سنة ثمانين و خمسمائة بويع ابنه يعقوب و رجع الناس إلى أشبيلية فاستكمل البيعة
و استوزر الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص و استنفر الناس للغزو مع أخيه السيد أبي يحيى فأخذ بعض الحصون و أثخن في بلاد الكفار ثم أجاز البحر إلى الحضرة و لقيه بقصر مصمودة السيد أبو زكريا ابن السيد أبي حفص قادما من تلمسان مع مشيخة زغبة و مضى إلى مراكش فغير المناكير و بسط العدل و نشر الأحكام و كان من أول الأحداث في دولة شأن ابن غانية (6/325)
الخبر عن شأن ابن غانية
كان علي بن يوسف بن تاشفين لما تغلب العدو على جزيرة ميورقة و هلك واليها من موالي مجاهد و هو مبشر و بقي أهلها فوضى و كان مبشر بعث إليه بالصريخ و العدو محاصر له فلما أخذها العدو و غنم و أحرق و أقلع و بعث علي بن يوسف واليا عليها وأنور بن أبي بكر من رجالات لمتونة و بعث معه خمسمائة فارس من معسكره فأرهب لهم حدة و أرادهم على بناء مدينة أخرى بعيدة من البحر فامتنعوا و قتل مقدمهم فثاروا به وحبسوه و مضوا إلى علي بن يوسف فأعفاهم منه و ولى عليهم محمد بن علي بن يحيى المسوقي المعروف بابن غانية و كان أخوه يحيى على غرب الأندلس و كان نزله بأشبيلية و استعمل أخاه على قرطبة فكتب إليه علي بن يوسف يأمره بصرف محمد أخيه إلى ولاية ميورقة فارتحل إليها من قرطبة و معه أولاده عبد الله و اسحق و علي و الزبير و إبراهيم و طلحة و كان عبد الله و اسحق في تربية عمهما يحيى و كفالته فتبناهما و لما وصل محمد بن علي بن غانية إلى ميورقة قبض على وانور و بعثه مصفدا إلى مراكش وأقام على ذلك عشرا و هلك يحيى بن غانية و قد ولى عبد الله ابن أخيه محمد على غرناطة و أخاه اسحق بن محمد على قرمونة ثم هلك علي و ضعف أمر لمتونة و ظهر عليهم الموحدون فبعث محمد عن ابنيه عبد الله و اسحق فوصلا إليه في الأسطول و انقضى ملك لمتونة
ثم عهد محمد إلى ابنه عبد الله فنافسه أخوه إسحق و داخل جماعة من لمتونة في قتله فقتلوه و قتلوا أباه محمدا ثم أجمعوا الفتك به فارتاب بهم و داخل لب بن ميمون قائد البحر في أمرهم فكبسهم في منازلهم و قتلهم سنة ست و أربعين و خمسمائة و بقي أميرا لميورقة و اشتغل أول أمره بالبناء و الغراسة و ضجر منه الناس لسوء ملكته و فر عنه لب ميمون إلى الموحدين ثم رجع أخيرا إلى الغزو و كان يبعث بالأسرى و العلوج للخليفة أبي يعقوب إلى أن هلك قبيل مهلكة سنة ثمانين و خمسمائة و خلف من الولد : محمدا و عليا و يحيى و عبد الله و سير و المنصور و جبارة و تاشفين و طلحة و عمر و يوسف و الحسن فولى ابنه محمد و بعث إلى الخليفة أبي يعقوب بطاعته فبعث هو علي بن الزبرتير لاختبار ذلك منه و أحسن بذلك إخوته فنكروه و تقبضوا عليه
و قدموا عليا منهم و بلغهم مهلك الخليفة و ولاية ابنه المنصور فاعتقلوا ابن الزبرتير و ركبوا البحر في أسطولهم إلى بجاية و ولى على ميورقة أخاه طلحة و طرق بجاية في أسطوله على حين غفلة و عليها السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن و كان خارجها في بعض مذاهبه فاستولوا عليه سنة إحدى و ثمانين و خمسمائة و تقبضوا على السيد أبي الربيع و السيد أبي موسى عمران بن عبد المؤمن صاحب أفريقية و كان بها مجتازا و استعمل أخاه يحيى على بجاية ومضى إلى الجزائر فافتتحها و ولى عليها يحيى ابن أخيه طلحة ثم إلى مليانة فولى عليها بدر بن عائشة و نهض إلى القلعة ثم إلى قسنطينة فنازلها و اتصل الخبر بالمنصور و هو بسبته مرجعه من الغزو فسرح السيد أبا زيد ابن عمه السيد أبي حفص و عقد له على حرب ابن غانية و عقد لمحمد بن أبي إسحق بن جامع على الأساطيل و إلى نظره أبو محمد بن عطوش و أحمد الصقلي
و انتهى السيد أبو زيد إلى تلمسان و أخوه يومئذ السيد أبو الحسن كان واليا و قد أمعن النظر في تحصينها ثم ارتحل بعساكره من تلمسان و نادى بالعفو في الرعية فثار أهل مليانة على ابن غانية فأخرجوه و سبقت الأساطيل إلى الجزائر فملكوها و قبضوا على يحيى بن طلحة و سيق بدر بن عائشة من أم العلو فقتلوا جميعا بشلف و تقدم القائد أحمد الصقلي بأسطوله إلى بجاية فملكها و لحق يحيى بن غانية بأخيه علي بمكانه من حصار قسنطينة فأقلع عنها و نزل السيد أبو زيد الهكلان و خرج السيد أبو موسى من اعتقاله فلقيه هنالك ثم ارتحل في طلب العدو فأفرج عن قسنطينة و خرج إلى الصحراء و اتبعه الموحدون إلى مقره بفاس ثم قفلوا إلى بجاية و استقر السيد أبو زيد بها و قصد علي بن غانية قفصة فملكها ونازل توزر فامتنعت عليه و لحق بطرابلس و خرج غزي الصنهاجي من جموع ابن غانية في بعض أحياء العرب فتغلب على أشير و سرح إليهم السيد أبو زيد ابنه أبا حفص عمر و معه غانم بن مردنيش فأوقعوا بهم واستولى على حللهم و قتل غزي و سيق رأسه إلى بجاية و نصب بها و ألحق به عبد الله أخوه و غرب بنو حمدون من بجاية إلى سلا لاتهامهم بالدخول في أمر ابن غانية و استقدم الخليفة السيد أبا زيد من مكانه ببجاية و قدم مكانه أخاه السيد أبا عبد الله و انصرف إلى الحضرة و بلغ الخبر أثناء ذلك باستيلاء علي بن الزبرتير على ميورقة و كان من خبره أن الأمير يوسف بن عبد المؤمن بعثه إلى ميورقة لدعاء بني غانية إلى أمره لما كان أخوهم محمد خاطبه بذلك فلما وصل ابن الزبرتير إليهم نكروا شأنه على أخيهم محمد و اجتمعوا دونه و تقبضوا عليه و على ابن الزبرتير في أمره و داخل مواليهم من العلوج في تخلية سبيله من معتقله على أن يخلى سبيلهم بأهليهم و ولدهم إلى أرضهم فتم له مراده منهم و صار بالقصبة و استنفذ محمد بن أبي إسحق من مكان اعتقاله و لحقوا جميعا بالحضرة و بلغ الخبر علي ابن غانية بمكانة من طرابلس فبعث أخاه عبد الله إلى صقلية و ركب منها إلى ميورقة و نزل في بعض قراها و أعمل الحيلة في تملك البلد فاستولى عليه و أضرم نار الفتنة بأفريقية
و نازل علي بن غانية بلاد الجريد و تغلب على الكثير منها و بلغ الخبر باستيلائه على قفصة فخرج المنصور إليه من مراكش سنة اثنتين و ثمانين و خمسمائة و وصل فاس فأراح بها و سار إلى رباط تازى ثم سار على التعبية إلى تونس و جمع ابن غانية من إليه من الملثمين و الأعراب و جاء معه قراقش الغزي صاحب طرابلس فسرح إليهم المنصور عساكره لنظر السيد أبي يوسف ابن السيد أبي حفص و لقيهم بغمرة فانقض جموع الموحدين و انجلت المعركة عن قتل علي بن الزبرتير و أبي علي بن يغمور و فقد الوزير عمر بن أبي زيد و لحق فلهم بقفصة فأثخنوا فيهم قتلا و نجا الباقون إلى تونس و خرج المنصور متلافيا خبر الواقع في هذا الحال و نزل القيروان و أغد السير إلى الحامة فتشاور الفريقان و تزاحموا فكانت الدبرة على ابن غانية و أحزابه و أفلت من المعركة بذماء نفسه و معه خليلة قراقش و أتى القتل على كثيرهم فصبح المنصور قابس فافتتحها و نقل من كان بها من حرك ابن غانية و ذويه في البحر إلى تونس و ثنى العنان إلى تونس فافتتحها و قتل من وجد بها ثم إلى قفصة فنازلها أياما حتى نزلوا على حكمه و أمن أهل البلد و الأغراب أصحاب قراقش و قتل سائر الملثمين و من كان معهم من الحشود و هدم أسوارها و انكفأ راجعا إلى تونس فعقد على أفريقية للسيد أبي زيد و قفل إلى المغرب سنة أربع و ثمانين و خمسمائة و مر بالمهدية و استجر على طريق تاهرت و العباس بن عطية أمير بني توجين دليله إلى تلمسان فنكب بها عمه السيد أبا إسحق لشيء بلغه عنه و أحفظه
ثم ارتحل إلى مراكش و رفع إليه أن أخاه السيد أبا حفص والي مرسية الملقب بالرشيد و عمه السيد أبا الربيع والي تادلا عندما بلغهم خبر الوقيعة بغمرة حدثوا أنفسهم بالتوثب على الخلافة فلما قدموا عليه للتهنئة أمر باعتقالهما برباط الفتح خلال ما استجلى أمرهما ثم قتلهما و عقد للسيد أبي الحسن ابن السيد أبي حفص على بجاية و قصد يحيى بن غانية قسنطينة فزحف إليه السيد أبو الحسن من بجاية فهزمه و دخل قسنطينة ابن غانية إلى بسكرة فقطع نخلها و افتتحها عنوة
ثم حاصر قسنطينة فامتنعت عليه فارتحل إلى بجاية و حاصرها و كثر عيثه بأفريقية إلى أن كان من خبره ما يذكر إن شاء الله تعالى و الله أعلم (6/325)
أخباره في الجهاد
لما بلغه تغلب العدو على قائده شلب و أنه أوقع بعسكر أشبيلية و ترددت سراياهم على نواحيها و اقتحم كثيرا من حصونها و خاطبه السيد أبو يوسف بن أبي حفص صاحب اشبيلية بذلك استنفر الناس للجاد و خرج سنة ست و ثمانين و خمسمائة إلى قصر مصمودة فأراح به ثم أجاز إلى طريف و أغذ السير منها إلى شلب و وافته بها حشود الأندلس فتركهم لحصارها و زحف إلى حصن طرش فافتتحه و رجع إلى أشبيلية ثم رجع إلى منازلة شلب سنة سبع و ثمانين فافتتحه
و قدم عليه ابن وزير بعد أن كان افتتح في طريقه إليه حصونا أخرى ثم قفل إلى حضرته بعد استكماله غزاتة و كتب بعهده لابنه الناصر
و قدم عليه سنة ثمان و ثمانين و خمسمائة السيد أبو زيد صاحب أفريقية و معه مشيخة العرب من هلال و سليم فتلقاهم مبرة و تكريما و انقلب وفدهم إلى بلادهم ثم بلغه سنة تسعين و خمسمائة استفحال ابن غانية بأفريقية و كثرة العيث و الفساد بها فاعتزم على النهوض إليها و وصل إلى مكناسة فبلغه من أمر الأندلس ما أهمه فصرف وجهه إليها و وصل قرطبة سنة إحدى و تسعين و خمسمائة فأراح بها ثلاثا و إمداد الحشود تتلاحق به من كل ناحية ثم ارتحل للقاء العدو و نزل بالأرك مننواحي بطليوس و زحف إليه العدو من النصارى و أمراؤهم يومئذ ثلاثة :
ابن أذفونش و ابن الرند و البيوح و كان اللقاء يوم كذا سنة إحدى و تسعين و خمسمائة و أبو محمد بن أبي حفص يومئذ على المطوعة و أخوه أبو يحيى على العساكر و الموحدين فكانت الهزيمة المشهورة على النصارى و استلحم منهم ثلاثون ألفا بالسيف
و اعتصم فلهم بحصن الأرك و كانوا خمسة آلاف من زعمائهم استنزلهم المنصور على حكمه و فودي بهم عددهم من المسلمين و استشهد في هذا اليوم أبو يحيى ابن الشيخ أبي حفص بعد أن أبلى بلاء حسنا و عرف بنوه بعدها ببني الشهيد
و انكفأ المنصور راجعا إلى أشبيلية ثم خرج منها سنة إثنتين و تسعين و خمسمائة غازيا إلى بلاد الجوف فافتتح حصونا و مدنا و خربها
كان منها ترجالة و طلبيرة و أطل على نواحي طليطلة فخرب بسائطها و اكتسح مسارحها و قفل إلى أشبيلية سنة ثلاث و تسعين و خمسمائة فرفع إليه في القاضي أبي الوليد بن رشد مقالات نسب فيها إلى المرض في دينه و عقله و ربما ألف بعضها بخطه فحبس ثم أطلق و إشخص إلى الحضرة و بها كانت وفاته
ثم خرج المنصور من أشبيلية غازيا إلى بلاد ابن أذفونش حتى احتل بساحة طليطلة و بلغه أن صاحب برشلونة أمد ابن أدفونش بعساكره و أنهم جميعا بحصن مجريط فنهض إليهم و لما أطل عليهم انفضت جموع ابن أذفونش من قبل القتال ثم انكفأ راجعا إلى أشبيلية ثم رغب إليه ملوك النصرانية في السلم فبذله لهم
و عقد على أشبيلية للسيد أبي زيد ابن الخليفة و على مدينة بطليوس للسيد أبي الربيع ابن السيد أبي حفص و على المغرب للسيد أبي عبد الله ابن السيد أبي حفص
و أجاز إلى حضرته سنة أربع و تسعين و خمسمائة فطرقه المرض الذي كان منه حتفه و أوصى وصيته التي تناقلها الناس و حضر لوصيته عيسى ابن الشيخ أبي حفص و هلك رحمه الله سنة خمس و تسعين و خمسمائة في آخر ربيعها و الله تعالى أعلم (6/329)
الخبر عن وصول ابن منقذ بالهدية من قبل صاحب الديار المصرية
كان الفرنج قد ملكوا سواحل الشام في آخر الدولة العبيدية منذ تسعين سنة و ملكوا بيت المقدس فلما استولى صلاح الدين بن أيوب على ديار مصر و الشام اعتزم على جهادهم و صار يفتح حصونها واحدا بعد واحد حتى أتى على جميعها و افتتح بيت المقدس سنة ثلاث و ثمانين و خمسمائة و هدم الكنيسة التي بنواحيها و انفضت أمم النصرانية من كل جهة و اعترضوا أسطول صلاح الدين في البحر فبعث صريخه إلى المنصور سنة خمس و ثمانين و خمسمائة يطلب إعانته بالأساطيل لمنازلة عكا و صور و طرابلس و وفد عليه أبو الحرث عبد الرحمن بن منقذ بقية أمراء شيزر من حصون الشام كانوا أشروا به عند اختلال الدولة العبيدية فلما استقام الأمر على يد صلاح الدين و انتظم ملك مصر و الشام و استنزل بني منقذ هؤلاء و رعى لهم سابقتهم و بعثه في هذه إلى المنصور بالمغرب بهدية تشتمل على مصحفين كريمين منسوبين و مائة درهم من دهن البلسان و عشرين رطلا من العود و ستمائة مثقال من المسك و العنبر و خمسين قوسا عربية بأوتارها و عشرين من النصول الهندية و سروج عدة ثقيلة و وصل إلى المغرب و وجد المنصور بالأندلس فانتظره بفاس إلى حين وصلوله فلقيه و أدى الرسالة فاعتذر له عن الأسطول و انصرف و يقال إنه جهز له بعد ذلك مائة و ثمانين أسطولا و منع النصارى من سواحل الشام و الله تعالى أعلم (6/330)
دولة الناصر بن المنصور
و لما هلك المنصور و أمر ابنه محمد ولي عهده و تلقب الناصر لدين الله و استوزر أبا زيد بن يوجان و هو ابن أخي الشيخ أبي حفص ثم استوزر أبا محمد ابن الشيخ أبي حفص و عقد للسيد أبي الحسن ابن السيد أبي حفص على بجاية و فوض إليه في شؤونها و بلغه سنة ست و تسعين و خمسمائة إجحاف العدو بأفريقية و فساد الأعراب في نواحيها و رجوع السيد أبي الحسن من قسنطينة منهزما أمام ابن غانية فأنفذ السيد أبا زيد بن أبي حفص إلى تونس في عسكر من الموحدين لسد ثغورها
و أنفذ أبا سعيد ابن الشيخ أبي حفص فتغلب ابن غانية خلال ذلك على حصن المهدية و ثار بالسوس سنة ثمان و تسعين و خمسمائة ثائر من كزولة يعرف بأبي قفصة فسرح الناصر إليه عساكر الموحدين فقصدوا جموعه و قتل و في أيامه كان فتح ميورقة على ما نقلوا من خبرها (6/331)
فتح إفريقية
و كان من خبرها أن محمد بن إسحق لما فصل إخوته علي و يحيى إلى إفريقية و ولى على ميورقة أخاهم طلحة داخل محمد بعض الحاشية و خرج من الاعتقال هو و ابن الزبرتير و قام بدعوة المنصور و بعث بها مع ابن الزبرتير فبعث المنصور أسطوله مع أبي العلا بن جامع لتملك ميورقة فأبى محمد عن ذلك راسل طاغية برشلونة في المدد بجند من النصارى يستخدمهم فأجابه و انتقض عليه أهل ميورقة لذلك و خشوا عادية المنصور فطردوا محمد بن اسحق و ولو عليهم أخاه تاشفين
و بلغ ذلك عليا و هو على قسنطينة فبعث إخوته عبد الله الغازي فداخلوا بعض أهل البلد و عزلوا تاشفين و ولوا عبد الله و بعث المنصور أسطوله مرارا مع أبي العلا بن جامع
ثم مع يحيى ابن الشيخ إبراهيم الهزرجي فامتنعوا عليهم و قتلوا منهم خلقا كثيرا و قوي أمره و ذلك سنة ثلاث و ثمانين و خمسمائة ثم لما هلك المنصور بعث الناصر أسطوله مع عمه السيد أبي العلا و الشيخ أبي سعيد بن أبي حفص فنازلوه و انخذل عنه أخوه تاشفين بالناس و دخل البلد عنوة و استفتحت و قتل و انصرف السيد إلى مراكش و ولى عليها عبد الله بن طاع الكومي ثم ولى الناصر عليها عمه السيد أبا زيد و جعل ابن طاع الله على قيادة البحر و بعد السيد أبي زيد وليها السيد أبو عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن ثم أبو يحيى علي بن أبي عمران التينمللي و من يده أخذها النصارى سنة سبع و عشرين و ستمائة و الله تعالى أعلم (6/332)
خبر أفريقية و تغلب ابن غانية عليها ولاية أبي محمد بن أبي الشيخ أبي حفص
و لما هلك المنصور قوي أمر ابن غانية بأفريقية و ولى الناصر السيد أبا زيد و الشيخ أبا سعيد بن أبي حفص و يقال إن المنصور ولاهما و كثر الهرج بأفريقية و ثار بالمهدية محمد بن عبد الكريم الرجراجي و دعا لنفسه و نازع ابن غانية الموحدين الأمر و تسمى صاحب قبة الأديم محمد بن عبد الكريم الركراكي و نزل تونس و عاث في قراها سنة ست و تسعين و خمسمائة و نازل ابن غانية بفاس فامتنع عليه و كان محمد ابن مسعود البلطي شيخ رياح من أشياعه فانتقض عليه و راجع ابن غانية فأتيح له الظهور على محمد بن عبد الكريم و قصده و هو على قفصة فهزمه و اتبعه إلى المهدية فنازله بها و بعث إلى صاحب تونس في المدد بأسطوله فأمده فضاقت حال ابن عبد الكريم فسأل الأمان من ابن غانية فأمنه و خرج إليه فتقبض عليه و استولى على المهدية سنة تسع و تسعين و خمسمائة و قتله
و بعث الناصر أسطوله في البحر مع عمه أبي العلا و عساكر الموحدين مع السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن و نازلوا ابن عبد الكريم قبل استيلاء ابن غانية عليها فأدعى ابن عبد الكريم بأنه حافظ للحصن من العدو و لا يمكنه إلا لثقة الخليفة و انصرف السيد أبو الحسن إلى بجاية موضع عمله و قسم العسكر بينه و بين أخيه السيد أبي زيد صاحب تونس و صلحت الأحوال ثم أن ابن غانية لما تغلب على المهدية و على قراقش الغزي صاحب طرابلس و قد مرت أخباره في ابن غانية ثم تغلب على بلاد الجريد ثم نزل تونس سنة تسع و تسعين و خمسمائة و افتتحها عنوة و تقبض على السيد أبي زيد و طالب أهل تونس بالنفقة التي أنفق و بسط عليهم العذاب و تولى ذلك فيهم كاتبه ابن عصفور حتى هلك في الامتحان كثير من بيوتاتهم ثم دخل في دعوته أهل بونه و بنزرت و شقبنارية و الاربص و القيروان و سبتة و صفاقس و قابس و طرابلس و انتظمت له أعمال أفريقية و فرق العمال و خطب للعباسي كما ذكرناه في أخباره ثم ولى على تونس أخاه الغازي و نهض إلى جبال طرابلس فأغرمهم ألف ألف دينار مكررة مرتين و رجع إلى تونس و اتصل بالناصر كثرة الهرج بأفريقية و استيلاء ابن غانية عليها و حصول السيد أبي زيد في قبضته فشاور الموحدين في أمره فأشاروا بمسالمة ابن غانية و أشار أبو محمد بن الشيخ أبي حفص بالنهوض إليها و المدافعة عنها فعمل على رأيه و نهض من مراكش سنة إحدى و ستمائة و بعث الأسطول في البحر لنظر أبي يحيى بن أبي زكريا الهزرجي فبعث ابن غانية ذخيرته و حرمه إلى المهدية مع علي بن الغازي بن محمد بن علي و انتقض أهل طرابلس على ابن غانية و أخرجوا عاملهم تاشفين بن الغازي بن محمد بن علي ابن غانية و قصدهم ابن غانية فافتتحها و خربها
و وصل أسطول الناصر إلى تونس فدخلوها و قتلوا من كان بها من أتباع ابن غانية و نهض الناصر في أتباع ابن غانية فأعجزه و نازل المهدية و بعث أبا محمد بن الشيخ أبي حفص للقاء ابن غانية فلقيه بتاجرا فأوقع به و قتل أخاه جبارة و كاتبه ابن اللمطي و عامله الفتح بن محمد قال ابن نخيل : و كانت الغنائم من عسكره يومئذ ثمانية عشر ألفا من أحمال المال و المتاع و الخرثى و الآلة
و نجا بأهله و ولده فأطلق السيد أبا زيد من الاعتقال بعد أن هم حرسه بقتله عند الهزيمة ثم تسلم الناصر المهدية من يد علي بن الغازي المعروف بالحاج الكافي على أن يلحق بابن عمه فقبل شرطه و مضى لوجهه ثم رجع من طريقه و اختار التوحيد فناله من الكرامة و التقريب ما لا فوقه
و هلك في يوم العقاب الآتي ذكره ثم فرض الناصر على المهدية و استعمل عليها محمد بن يغمور الهرغي و على طرابلس عبد الله بن إبراهيم بن جامع و رجع إلى تونس فأقام إلى سنة ثلاث و ستمائة وسرح أخاه السيد أبا إسحق في عسكر من الموحدين لاتباع العدو فدوخوا ما وراء طرابلس و استأصلوا بني دمر و مطماطة و جبال نفوسة و تجاوزوها إلى سويقة بني مذكور و قفل السيد أبو إسحق بهم إلى أخيه الناصر بتونس و قد كمل الفتح ثم اعتزم على الرحيل إلى المغرب و أجمع رأيه على تولية أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص و كان شيخ دولته و صاحب رأيه فامتنع إلى أن بعث إليه الناصر في ذلك بابنه يوسف فأكبر مجيئه و أناب لذلك على أن يقيم بأفريقية ثلاث سنين خاصة خلاف ما يستحكم صلاحها و أن يحكم فيمن يقيم معه من العسكر فتقبل شرطه
و رجع الناصر إلى مراكش فدخلها في ربيع سنة أربع و ستمائة و قدم عبد العزيز بن أبي زيد الهنتاتي على الأشغال بالعدوتين و كان على الوزارة أبو سعيد بن جامع و كان صديقا لابن عبد العزيز و عند مرجعه من أفريقية توفي السيد أبو الربيع بن عبد الله ابن عبد المؤمن صاحب بجاية و قد كان أبو الربيع هذا ولي بجاية من قبل و هو الذي جدد للربيع و كان بنو حماد شيدوها من قبل فأصابها الحريق و جددها السيد أبو الربيع
و في سنة خمس و ستمائة بعدها عقد للسيد أبي عمران بن يوسف ابن عبد المؤمن على تلمسان أدال به من السيد أبي الحسن فوصل إلى تلمسان في عساكر الموحدين و تطوف أقطارها و زحف إليه ابن غانية هنالك فانفض الموحدون و قتل السيد أبو عمران و ارتاع أهل تلمسان و أسرع السيد أبو زكريا من فاس إليها فسكن نفوسهم خلال ما عقد الناصر لأبي زيد بن يوجان على تلمسان و سرحه في العساكر فنزل بها و فر ابن غانية إلى مكانه من قاصية أفريقية و معه محمد بن مسعود البلط شيخ الزواودة من رياح و غيره من أعراب رياح و سليم
و اعترضهم أبو محمد بن أبي حفص فانكشفوا و استولى الموحدون على محلاتهم و ما بأيديهم و لحقوا بجهات طرابلس و رجع عنهم سير بن اسحق آخذا بدعوة الموحدين و في هذه السنة عقد الناصر على جزيرة ميورقة لأبي يحيى بن أبي الحسن بن أبي عمران أدال به من السيد أبي عبد الله بن أبي حفص وعقد على بلنسية و على مرسية لأبي عمران بن ياسين الهنتاتي أدال به من أبي الحسن بن زاكاك و عقد للسيد أبي زيد على كورة جيان أدال به من أبي موسى بن أبي حفص و عقد للسيد أبي ابراهيم بن يوسف على أشبيلية و لأبي عبد الله بن أبي يحيى بن الشيخ حفص على غرناطة إلى أن كان ما يذكر إن شاء الله تعالى (6/332)
أخباره في الجهاد
لما بلغ الناصر تغلب العدو على كثير من حصون بلنسية أهمه ذلك و أقلقه و كتب إلى الشيخ أبي محمد بن أبي حفص يستشيره في الغزو فأبى عليه فخالفه و خرج من مراكش سنة تسع و ستمائة و وصل أشبيلية و استقر بها و استعد للغزو ثم رجع من أشبيلية و قصد بلاد ابن أذفونش فافتتح قلعة شلبطرة و البخ في طريقه و نازل الطاغية قلعة رياح و بها يوسف بن قادس و أخذ بمخنقه فصالحه على النزول و وصل إلى الناصر فقتله و صار على التعبية إلى الموضع المعروف بالعقاب و قد استعد له الطاغية و جاءه برشلونة مددا بنفسه فكانت الدبرة على المسلمين
فانكشفوا في يوم بلاء و تمحيص أواخر صفر سنة تسع و ستمائة و انكفأ راجعا إلى مراكش فهلك في شعبان من السنة بعدها و كان ابن أذفونش قد ناظر ابن عمه اليهوج صاحب ليون في أن يوالي الناصر و يجر الهزيمة على المسلمين ففعل ذلك
ثم رجعوا إلى الأندلس بعد الكائنة للإغارة على بلاد المسلمين فلقيهم السيد أبو زكريا ابن أبي حفص بن عبد المؤمن قريبا من أشبيلية فهزمهم و انتعش المسلمون بها و اتصلت الحال على ذلك و الله أعلم (6/335)
ثورة ابن الفرس
كان عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الفرس من طبقة العلماء بالأندلس و يعرف بالمهر و حضر مجلس المنصور في بعض الأيام و تكلم بما خشي عاقبته في عقده و خرج من المجلس فاختفى مدة ثم بعد مهلك المنصور ظهر في بلاد كزولة و انتحل الإمامة و ادعى أنه القحطاني المراد في قوله صلى الله عليه و سلم :
[ لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يقود الناس بعصاه يملأها عدلا كما ملئت جورا إلى آخر الحديث ]
و كان مما ينسب إليه من الشعر :
( قولوا لأبناء عبد المؤمن بن علي ... تأهبوا لوقوع الحادث الجلل )
( قد جاء سيد قحطان و عالمها ... و منتهى القول و الغلاب للدول )
( و الناس طوعا عصاه و هو سائقهم ... بالأمر و النهي بحر العلم و العمل )
( و بادروا أمره فالله ناصره ... و الله خاذل أهل الزيغ و الميل )
فبعث الناصر إليه الجيوش فهزموه و قتل و سيق رأسه الى مراكش فنصب بها و الله أعلم (6/336)
دولة المستنصر بن الناصر
لما هلك محمد الناصر بن المنصور بويع ابنه يوسف سنة إحدى عشرة و ستمائة و هو ابن ست عشرة سنة و لقب المستنصر بالله و غلب عليه ابن جامع و مشيخة الموحدين فقاموا بأمره
و تأخرت بيعة أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص من أفريقية لصغر سن المستنصر ثم وقعت المحاولة من الوزير ابن جامع صاحب الأشغال عبد العزيز بن أبي زيد فوصلت بيعته و اشتغل المستنصر عن التدبير بما يقتضيه الشباب و عقد للسادة على عمالات ملكه فعقد للسيد أبي إبراهيم أخي المنصور و تلقب بالظاهر على فاس و هو أبو المرتضى و عقد أشبيلية لعمه السيد أبي إسحق الأحول و استولى ألفنش على المعاقل التي أخذها الموحدون و هزم حامية الأندلس و وفد رسوله ابن الفخار فحاوله ابن جامع في السلم فعقده ثم صرف ابن جامع عن الوزارة بعد مهلك ابن أبي زيد بسعاية أبي زيد بن يوجان و استوزر أبا يحيى الهزرجي و ولى على الأشغال أبا علي بن أشرفي ثم رضي عن ابن جامع و أعاده و عزل أبا زيد ابن يوجان من ولاية تلمسان بأبي سعيد بن المنصور و بعثه إلى مرسية فاعتقل بها
و استمرت أيام المنصور في هدنة و موادعه إلى أن ظهر بنو مرين بجهات فاس سنة ثلاث عشرة و ستمائة فخرج إليهم واليها السيد أبو إبراهيم في جموع الموحدين فهزموه و أسروه ثم عرفوه و أطلقوه ثم وصل الخبر بمهلك أبي محمد بن أبي حفص صاحب أفريقية فولى عليها أبا العلى أخا المنصور و كان واليا بأشبيلية فعزل و ولى على أفريقية سعاية بن مثنى خاصة السلطان فتوجه إليها كما يذكر في أخبار بني أبي حفص
و خرج بناحية فاس رجل من العبيديين انتسب للعاضد و يسمى بالمهدي فبعث السيد أبو إبراهيم أخو المنصور والي فاس إلى شيعته و بذل لهم المال فتقبضوا عليه و ساقوه إليه فقتل و في سنة تسع عشرة و ستمائة عقد المستنصر لعمه أبي محمد المعروف بالعادل على مرسية و عزله عن غرناطة و هلك سنة عشرين و ستمائة و قد التاثت الأمور فكان ما نذكر و الله تعالى أعلم (6/337)
الخبر عن دولة المخلوع أخي المنصور
لما هلك المستنصر في الأضحى من سنة عشرين و ستمائة اجتمع ابن جامع و الموحدون و بايعوا للسيد أبي محمد عبد الواحد أخي المنصور فقام بالأمر و أمر بمطالبة ابن أشرفي بالمال و كتب أخوه لأبي العلا بتجديد الولاية على أفريقية بعد أن كان المستنصر أوعز بعزله فأدركته الولاية ميتا فاستبد بها ابنه أبو زيد المشمر كما نذكره في أخبار أفريقية و أنفذ المخلوع أمره بإطلاق ابن يوجان فأطلق ثم صده ابن جامع عن ذلك و أنفذ أخاه أبا إسحق في الأسطول ليغربه إلى ميورقة كما كان المستنصر أنفذه قبل وفاته و كان الوالي بمرسية أبو محمد عبد الله بن المنصور و أغراه ابن يوجان بالتوثب على الأمر و شهد له أنه سمع من المنصور العهد له بالخلافة من بعد الناصر و كان الناس على كره ابن جامع و ولاة الأندلس كلهم بنو منصور فأصغى إليه و كان مترددا في بيعة عمه فدعا لنفسه و تسمى بالعادل وكان إخوته أبو العلى صاحب قرطبة و أبو الحسن صاحب غرناطة و أبو موسى صاحب مالقة فبايعوه سرا
و كان أبو محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن المعروف بالبياسي صاحب جيان و عزله المخلوع بعمه أبي الربيع بن أبي حفص فانتقض و بايع للعادل و زحف مع أبي العلى صاحب قرطبة و هو أخو العادل إلى أشبيلية و بها عبد العزيز أخو المنصور و المخلوع فدخل في دعوتهم و امتنع السيد أبو زيد بن عبد الله أخي البياسي عن بيعة العادل و تمسك بطاعة المخلوع و خرج العادل من مرسية إلى أشبيلية فدخلها مع أبي زيد بن يوجان و بلغ الخبر إلى مراكش فاختلف الموحدون على المخلوع
و بادروا بعزل ابن جامع و تغريبه إلى هسكورة و قام بأمر هنتاتة أبو زكريا يحيى بن أبي يحى السيد ابن أبي حفص و بأمر تينملل يوسف بن علي و بعث على إسطول البحر أبا إسحق بن جامع و أنفذه لمنع الجواز من الزقاق و كان أسر إلى ابن جامع حين خرج إلى هسكورة أن يحاول عليه من هنالك فلم يتم أمره و قتل بمكان خفي في ربيع سنة إحدى و عشرين و ستمائة و بعث الموحدون ببيعتهم إلى العادل و الله أعلم (6/338)
الخبر عن دولة العادل بن المنصور
لما بلغت بيعة الموحدين للعادل و كتاب ابن زكريا بن الشهيد بقصة المخلوع قارن ذلك تغييره للبياسي فانتقض عليه و دعا لنفسه ببياسة و تلقب الظافر و شغل بشأنه و بعث أخاه أبا العلى لحصاره فامتنع عليه و بعث بعده ابنه أبا سعيد ابن الشيخ أبي حفص فامتنع عليه أيضا و اختلت الأحوال بالأندلس على العادل و كثرت غارة النصارى على أشبيلية و مرسية و هو مقيم بها و انهزمت جيوش الموحدين على طليطلة و أغراه خاصته بابن يوجان فأخذ إلى سبتة و عظم أمر البياسي بالأندلس و ظاهر النصارى على شأنه فأجاز العادل إلى العدوة و ولى أخاه أبا العلى على الأندلس و لما كان بقصر الحجاز دخل عليه عبو بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص فقال له كيف حالك فأنشده :
( حال متى علم ابن منصور بها ... جاء الزمان إليه منها تائبا )
فاستحسن ذلك و ولاه أفريقية و كتب للسيد أبي زيد ابن عمه بالقدوم و وصل إلى سلا فأقام بها و بعث عن شيوخ جشم و كان لابن يوجان عناية و اختصاص يهلال بن حمدان بن مقدم أمير الخلط فتثافل ابن جرمون أمير سفيان عن الوصول و أقبل الخلط و سفيان و بادر العادل إلى مراكش فدخلها و استوزر أبا زيد بن أبي محمد بن الشيخ أبي حفص و تغير لابن يوجان ففسد باطنه و تغلب على الدولة ابن الشهيد و يوسف بن علي شيخا هنتاتة و تينملل ثم خالفت هسكورة و الخلط و عاثوا نواحي مراكش و خرج إليهم ابن يوجان فلم يغن شيئا فخربوا بلاد دكالة فأنفذ إليهم العادل عسكرا من الموحدين لنظر إبراهيم بن إسمعيل بن الشيخ أبي حفص و هو الذي كان نازع أولاد الشيخ أبي محمد بأفريقية كما نذكره فانهزم و قتل و خرج ابن الشهيد و يوسف بن علي إلى قبائلها للحشد و مدافعة هسكورة فاتفقا على خلع العادل و البيعة ليحيى بن الناصر و قصدوا مراكش فاقتحموا عليه القصر و نهبوه و قتل العادل خنقا أيام الفطر من سنة أربع و عشرين و ستمائة و الله تعالى أعلم (6/339)
الخبر عن دولة المأمون بن المنصور و مزاحمة يحيى بن الناصر له
كان المأمون لما بلغه انتقاض الموحدين و العرب على أخيه و تلاشى أمره لنفسه بأشبيلية فبويع و أجابه أكثر الأندلس و بايع السيد أبو زيد صاحب بلنسية و شرق الأندلس ثم كان ما قدمناه من انتقاض الموحدين على العادل و قتله بالقصر و بيعتهم ليحيى ابن أخيه الناصر فكاتب ابن يوجان سرا و عمل على إفساد الدولة فداخلهم هسكورة و العرب في الغارة على مراكش و هزم عساكر الموحدين و فطن ابن الشهيد لتدبير ابن يوجان فقتله بداره و خرج يحيى بن الناصر إلى معتصمه كما ذكرناه فخلع الموحدون العادل و بعثوا بيعتهم إلى المأمون و تولى كبر ذلك الحسن أبو عبد الله العريقي و السيد أبو حفص بن أبي حفص فبلغ خبرهم إلى يحيى بن الناصر و ابن الشهيد فنزلوا إلى مراكش سنة ست و عشرين و ستمائة و قتلوهم و بايع للمأمون صاحب فاس و صاحب تلمسان محمد بن أبي زيد بن يوجان و صاحب سبتة أبو موسى بن المنصور و صاحب بجاية ابن أخته ابن الأطامي و امتنع صاحب أفريقية و كان ذلك سببا لاستبداد الأمير أبي زكريا على ما يذكر و لم يبق على دعوة يحيى بن الناصر إلا أفريقية و سجلماسة
و زحف البياسي إلى قرطبة فملكها ثم زحف إلى أشبيلية فنازل بها المأمون و الطاغية معه بعد أن نزل له عن مخاطة و غيرها من حصون المسلمين فهزمهم المأمون بنواحي أشبيلية و لحق البياسي بقرطبة فثاروا به إلى حصن المدور فغدر به وزيره ميورك و جاء برأسه إلى المأمون بأشبيلية ثم ثار محمد بن يوسف بن هود و ملك مرسية و استولى على الكثير من شرق الأندلس كما ذكرناه في أخباره و زحف إليه المأمون و حاصره و امتنع عليه فرجع إلى أشبيلية ثم خرج سنة ست و عشرين و ستمائة إلى مراكش لما استدعاه أهل المغرب و بعثوا إليه ببيعاتهم و بعث إليه هلال بن حميد أن أمير الخلط يستدعيه و استمد الطاغية عسكرا من النصارى و أمره على شروط تقبلها منه المأمون و أجاز إلى العدوة و بادر أهل أشبيلية بالبيعة لابن هود و اعترضه يحيى بن الناصر فهزمه المأمون و استلحم من كان معه من الموحدين و العرب و لحق يحيى بجبل هنتاتة ثم دخل المأمون الحضرة و أحضر مشيخة الموحدين و عدد عليهم فعلاتهم و تقبض على مائة من أعيانهم فقتلهم و أصدر كتابه إلى البلدان بمحو اسم النهدي من السكة و الخطبة و النعي عليه في النداء للصلاة باللغة البربرية و زيادة النداء لطلوع الفجر و هو : أصبح و لله الحمد و غير ذلك من السنن التي اختص بها المهدي و عبد المؤمن و جرى على سننها أبناؤه فأوعز بالنهي عن ذلك كله و شنع عليهم في وصفهم الإمام المهدي بالمعصوم و أعاد في ذلك و أبدى
و أذن للنصارى القادمين معه في بناء الكنيسة بمراكش على شرطهم فضربوا بها نواقيسهم و استولى ابن هود بعده على الأندلس و أخرج منها سائر الموحدين و قتلهم العامة في كل محل و قتل السيد أبو الربيع ابن أخي المنصور و كان المأمون تركه واليا بقرطبة و استبد الأمير أبو زكريا بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص بأفريقية و خلع طاعته سنة سبع و عشرين و ستمائة للسيد أبي عمران ابن عمه محمد الخرصان على بجاية مع أبي عبد الله اللحياني أخي الأمير أبي زكريا و زحف إليه يحيى بن الناصر فانهزم ثم ثانية كذلك و استلحم من كان معه و نصبت رؤوسهم بأسوار الحضرة و لحق يحيى بن الناصر ببلاد درعة و سجلماسة
ثم انتقض على المأمون أخوه أبو موسى و دعا لنفسه بسبتة و تسمى بالمؤيد فخرج المأمون من مراكش و بلغه في طريقه أن قبائل بني فازان و مكلاتة حاصروا مكناسة و عاثوا في نواحيها فسار إليها و حسم عاملها و استمر إلى سبتة فحاصرها ثلاثة أشهر و استمد أخوه أبو موسى صاحب الأندلس لابن هود فأمده بأساطيله
و خالف يحيى بن الناصر المأمون إلى الحضرة فاقتحمها مع عرب سفيان و شيخهم جرمون بن عيسى و معهم أبو سعيد بن وانودين شيخ هنتاتة و عاثوا فيها فأقلع المأمون عن سبتة يريد الحضرة و هلك في طريقه بوادي أم الربيع مفتتح سنة ثلاثين و ستمائة و حين إقلاعه دخل أخوه السيد أبو موسى في طاعة ابن هود و أمكنه من سبتة فأداله منها و الله تعالى أعلم (6/340)
الخبر عن دولة الرشيد بن المأمون
لما هلك المأمون بويع ابنه عبد الواحد و لقب الرشيد و كتموا موت أبيه و أغذوا السير إلى مراكش و لقيهم يحيى بن الناصر في طريقهم بعد أن استخلف بمراكش أبا سعيد بن وانودين فهزموه و قتل أكثر من معه و صبح الرشيد مراكش فامتنعوا عليه بأشياعهم ثم خرجوا إليه و استقاموا على بيعته و كان وصل في صحبته عمه السيد أبو محمد سعد فحل من الدولة بمكان و كان إليه التدبير و الحل و العقد و بعد استقرار الرشيد بالحضرة وصل إليه عمر بن وقاريط كبير الهساكرة بمن كان عنده من أولاد المأمون السيد و إخوته جاؤا من أشبيلية عند ثورة أهلها بهم و استقروا بسبتة عند عمهم أبي موسى و منها إلى الحضرة عند استيلاء ابن هود على سبتة و مروا بهسكورة و كان ابن وقاريط حذرا من المأمون و معتقدا أن لا يعود إليه فتذمم بصحبة هؤلاء الأولاد و قدم على الرشيد فتقبله و اعتلق بوصله من السيد أبي محمد سعد و صحبه لمسعود بن حمدان كبير الخلط
و لما هلك السيد أبو محمد لحق ابن و قاريط بقومه و معتصمه و كشف وجه الخلاف و أخذ بدعوة يحيى بن الناصر و استنفر له قبائل الموحدين و نهض إليهم الرشيد سنة إحدى و ثلاثين و ستمائة و استخلف على الحضرة صهره أبا العلى إدريس و صعد إليهم الجبل فأوقع بيحيى و جموعه بمكانهم من هزرجة و استولى على معسكرهم ولحق يحيى ببلاد سجلماسة و انكفأ الرشيد راجعا إلى حضرته و استأمن له كثير من الموحدين الذين كانوا مع يحيى بن الناصر فأمنهم و لحقوا بحضرته
و كان كبيرهم أبو عثمان سعيد بن زكريا الكدميوي و جاء الباقون على أثره بسعيه بعد أن شرطوا عليه إعادة ما كان أزال المأمون من رسوم المهدي فأعيدت و قدم فيهم أبو بكر بن يعزى التينمللي رسولا عن يوسف بن علي بن يوسف شيخ تينملل و محمد بن يوزيكن الهنتاني رسولا عن أبي علي بن عزوز و رجعا إلى مرسليهما بالقبول فقدما على الحضرة و قدم معهم موسى بن الناصر أخو يحيى و كبيره و جاء على أثرهم أبو محمد ابن أبي زكريا و أنسوا لإعادة رسوم الدعوة المهدية
و كان مسعود بن حمدان الخلطي قد أغراه عمر بن وقاريط بالخلاف لصحبة بينهما و كان مدلا ببأسه و كثرة جموعه يقال : إن الخلط كانوا يومئذ يناهزون إثني عشر ألفا سوى الرجل و الأتباع و الحشود فمرض في الطاعة و تثاقل عن الوفادة و لما علم بمقام الموحدين أجمع اعتراضهم و قتلهم تمكينا للفرقة و الشتات في الدولة فأعمل الرشيد الحيلة في استدعائه و صرف عساكره إلى باجة لنظر وزيره السيد أبي محمد حتى خلا لابن حمدان الحو و ذهب عنه الريب و استقدمه فأسرع اللحاق بالحضرة و قدم معه معاوية عم عمر بن وقاريط فتقبض عليه و قتل لحينه و استدعى مسعود بن حمدان إلى المجلس الخلافي للحديث فتقبض عليه و على أصحابه و قتلوا ساعتئذ بعد جولة وهيعة و قضى الرشيد حاجة نفسه فيهم و استقدم وزيره و عساكره من باجة فقدموا و لما بلغ خبر مقتلهم إلى قومهم قدموا عليهم يحيى ابن هلال بن حمدان و أجلبوا على سائر النواحي و أخذوا بدعوة يحيى و استقدموه من مكانه بقاصية الصحراء
و داخلهم في ذلك عمرو بن وقاريط و زحفوا لحصار الحضرة و خرجت العساكر لقتالهم و معهم عبد الصمد بن يلولان فدفع ابن وقاريط في جموعه من العساكر فانهزموا و أحيط بجند النصارى فقتلوا و تفاقم الأمر بالحضرة و عدمت الأقوات
و اعتزم الرشيد على الخروج إلى جبال الموحدين فخرج إليها و سار منها إلى سجلماسة فملكها و اشتد الحصار على مراكش و افتتحها يحيى بن الناصر و قومه من هسكورة و الخلط و سار أمرهم فيها و تغيرت أحوال الخلافة و تغلب على السلطان السيد أبو إبراهيم بن أبي حفص الملقب بأبي حاقة و في سنة ثلاث و ثلاثين و ستمائة خرج الرشيد من سجلماسة بقصد مراكش و خاطب جرمون بن عيسى و قومه من سفيان فأجازوا وادي أم الربيع و برز إليه يحيى في جموعه و التقى الفريقان فانهزمت جموع يحيى و استحر القتل فيهم و دخل الرشيد إلى الحضرة ظافرا
و أشار يحيى بن وقاريط على الخلط بالاستصراخ بابن هود صاحب الأندلس و الأخذ بدعوته فنكثوا بيعة يحيى و بعثوا وفدهم إلى ابن هود صحبة عمر بن وقاريط على الخلط بالاستصراخ فاستقر هنالك و خرج الرشيد من مراكش و فر الخلط أمامه و سار إلى فاس و سرح وزيره السيد أبا محمد إلى غمارة و فازاز لجباية أموالها و كان يحيى بن الناصر لما نكث الخلط بيعته لحق بعرب المعقل فأجاروه و وعدوه النصرة و اشتطوا عليه في المطالب و أسف بعضهم بالمنع فاغتاله في جهة تازى و سيق رأسه إلى الرشيد بفاس فبعثه إلى مراكش و أوعز إلى نائبه بها أبي علي ابن عبد العزيز بقتل العرب الذين كانوا في اعتقاله و هم : حسن بن زيد شيخ العاصم و قائد و قائد إبنا شيخا بني جابر فقتلهم و انكفأ الرشيد راجعا إلى حضرته سنة أربع و ثلاثين و ستمائة و بلغه استيلاء صاحب درعة أبي محمد بن وانودين على سجلماسة و ذلك أن الرشيد لما فصل من سجلماسة استخلف عليها يوسف بن علي التينمللي فاستعمل ابن خالته من بني مردنيش و هو يحيى بن أرقم بن محمد بن مردنيش فثار عليه من صنهاجة و قتله في خبائه قام إبنه أرقم يطلب الثأر و بلغ منه ما أراد ثم حدثته نفسه بالانتقاض خوفا من عزل الرشيد إياه فانتقض
و نهض إليه الرشيد سنة اثنتين و ثلاثين و ستمائة فلم يزل أبو محمد بن وانودين يعمل الحيلة في استخلاصها حتى تمكن منها و عفا عن أرقم و كان ابن وقاريط لما فصل إلى ابن هود سنة أربع و ثلاثين و ستمائة ركب البحر في أسطول ابن هود و قصد لسلا و بها السيد أبو العلى صهر الرشيد فكاد أن يغلب عليها و في سنة خمس و ثلاثين و ستمائة بايع أهل أشبيلية للرشيد و نقضوا طاعة ابن هود و تولى كبر ذلك أبو عمر بن الجد و استخف بنو حجاج إلى سبتة و وصل وفدهم إلى الحضرة و مروا في طريقهم بسبتة فاقتدى أهلها بهم في بيعة الرشيد و خلعوا أميرهم اليانشي الثائر بها على بن هود و قدموا الحضرة و ولى عليهم الرشيد أبا علي بن خلاص منهم و لأيام من مقدمهم وصل عمر بن وقاريط معتقلا من أشبيلية أغراهم بالقبض عليه القاضي أبو عبد الله المؤمناني كان توجه رسولا إلى ابن هود عن الرشيد فأمكنهم من ابن وقاريط و بعث إلى الرشيد في وفد من رسله فاعتقله بأزمور و قتل و صلب برباط هسكورة بعد أن طيف به على جمل و انصرف وفد أشبيلية و سبتة و استقدم الرشيد رؤساء الخلط فتقبض عليهم و بعث عساكره فاستباحوا حللهم و أحياءهم ثم أمر بقتل مشيختهم و قتل معهم ابن وقاريط و قطع دابرهم و في سنة ست و ثلاثين و ستمائة وصلت بيعة محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر الثائر بالأندلس على ابن هود و في سنة سبع و ثلاثين و ستمائة اشتدت الفتنة بالمغرب و انتشر بنو مرين و قتلوهم قتلا ذريعا و كان الرشيد استقدم أبا محمد بن وانودين من سجلماسة سنة خمس و ثلاثين و ستمائة و عقد له على فاس و سجلماسة و غمارة و نواحيها من أرض المغرب فكان هنالك و لما انتشر بنو مرين بالمغرب زحف إليهم فهزموه ثم زحف ثانية و ثالثة فهزموه و أقام في محاربتهم سنتين و رجع إلى الحضرة و اشتد عدوان بني مرين بالمغرب و ألحوا على مكناسة حتى أعطوا الأتاوة لبني حمامة منهم فأسفوا بني عسكر بذلك و اتصل عيثهم في نواحيها و في سنة سبع و ثلاثين و خمسمائة قتل الرشيد كاتبه ابن المؤمناني لمداخلة له مع بعض السادة و هو عمر بن عبد العزيز أخي المنصور و قف على كتابه إليه بخطه و غلط الرسول بها فدفعها بدار الخليفة
و في سنة أربعين و ستمائة بعدها كانت وفاة الرشيد غريقا زعموا في بعض حوائز القصر ويقال إنه أخرج من الماء و حم لوقته و كان فيها مهلكه و الله تعالى أعلم (6/342)
الخبر عن دولة السعيد بن المأمون
لما هلك الرشيد بويع أخوه أبو الحسن السعيد بتعيين أبي محمد بن وانودين و تلقب المقتدر بالله و استوزر السيد أبا اسحق بن السيد أبي إبراهيم و يحيى بن عطوش
و تقبض على جملة من مشيخة الموحدين و استصفى أموالهم و استخلف لنفسه رؤساء العرب من جشم و استظهر بجموعهم على أمره و كان شيخ سفيان كانون بن جرمون كبير مجكسة و لأول بيعته انتقض عليه أبو علي بن الخلاص البلنسي صاحب سبتة و كذلك أهل أشبيلية و بايعوه جميعا للأمير أبي زكريا صاحب أفريقية
ثم انتقض عليه بسلجماسة عبد الله بن زكريا الهزرجي لمقالة كانت منه يوم بيعة الرشيد اسرها له فبايع للأمير أبي زكريا ثم وصلته في هذه السنة هدية يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان فنهض الأمير أبو زكريا صاحب أفريقية بسبب ذلك إلى تلمسان و استولى عليها ثم عقد عليها ليغمراسن حسبما نذكر في أخباره و خرج السعيد من مراكش لتمهيد بلاد المغرب سنة اثنتين و أربعين و تغير لسعيد بن زكريا الكدميوي فتقبض عليه من معسكره بتانسفت و فر أخوه أبو زيد و معه أبو سعيد العود الرطب و لحقوا بسلجماسة أموالهم بمراكش و ارتحل بقصد سجلماسة و أخذ واليها عبد الله الهزرجي في أسباب الامتناع فغدر به أبو زيد بن زكريا الكدميوي و داخل أهل سجلماسة في الثورة عليه و ملك البلد و استدعى السيد لها فوصل و قتل الهزرجي و فر أبو سعيد العود الرطب إلى تونس ثم رجع السعيد إلى المغرب و قتل سعيد بن زكريا و نزل المقرمدة من أحواز فاس و عقد المهادنة مع بني مرين و قفل إلى مراكش فتقبض على أبي محمد بن وانودين و اعتقله بأزمور و اعتقل معه يحيى بن مزاحم و يحيى بن عطوش لنظر ابن ماكسن فأعمل الحيلة في الفرار من معتقله
و خلص ليلا إلى كانون بن جرمون فأركبه و بعث معه من عرب سفيان من أوصله إلى قومه هنتاتة و راسله السعيد على أثرها و سكنه و اعتذر له و أسعفه بسكنى تافيوت من حصون عمله بأهله و ولده
ثم انتقض على السعيد كانون بن جرمون و سفيان و خالفهم إليه بنو جابر و الخلط و خرج من مراكش و استوزر السيد أبا اسحق ابن السيد أبي ابراهيم إسحق أخي المنصور و استخلف أخاه أبا زيد على مراكش و أخاهما أبا حفص عمر على سلا و فصل من مراكش سنة و جمع له أبو يحيى بن عبد الحق جموع بني راشد و بني وراو سفيان حتى إذا تراءى الفريقان للقاء خالف كانون بن جرمون الموحدين إلى أزمور و استولى عليها و رجع السعيد أدراجه في أتباعه ففر كانون و اعترضه السعيد فأوقع به و استلحم كثيرا من سفيان قومه و استولى على ماله من مال و ماشية و لحق كانون في فل بني مرين و رجع السعيد إلى الحضرة
و في ثلاث و أربعين من سطوته فحولوا الدعوة إلى الأمير أبي زكريا بن أبي حفص صاحب أفريقية و بعثوا إليه ببيعتهم و كانت من إنشاء أبي مطرف بن عميرة و ذلك بمداخلة أبي يحيى بن عبد الحق أمير بني مرين و وفاقه لهم على ذلك و شارطوا أبا يحيى بن عبد الحق بمال دفعوه إليه على الحماية
ثم راجعوا أمرهم و أوفدوا صلحاءهم ببيعتهم فرضي عنهم السعيد و رضوا عنه و في هذه السنة بعث أهل أشبيلية و أهل سبتة بطاعتهم للأمير أبي زكريا صاحب أفريقية
و بعث ابن خلاص بهديته مع ابنه في أسطول أنشأه لذلك فغرق عند إقلاعه من المرسى و في سنة ست و أربعين كان استيلاء الطاغية على أشبيلية لسبع و عشرين من رمضان و لما بلغ السيد بيعة أهل أشبيلية و سبتة للأمير أبي زكريا إلى ما كان من تغلبه على تلمسان و أخذ يغمراسن بدعوته ثم ما كان من بيعة أهل مكناسة و أهل سجلماسة أعمل نظره في الحركة إلى تلمسان ثم إلى أفريقية و خرج إلى مراكش في ذي الحجة من سنة خمس و أربعين و ستمائة و وافاه كانون بن جرمون فعاوده الطاعة و استحشد سفيان و جاء في جملة السعيد مع سائر القبائل من جشم
و لما احتل السعيد بتازي وافاه وفد بني مرين عن أميرهم أبي يحيى بن عبد الحق فاعطوه الطاعة و بعثوا معه عسكرا من قومهم مددا له
ثم ثار السعيد إلى تلمسان فكان مهلكه بتامزردكت على يد بني عبد الواد في صفر سنة ست و أربعين و ستمائة حسبما يشرح في أخبارهم
و يقال إن ذلك كان بمداخلة من الخلط فاستولوا على المحلة و قتلوا عدوهم كانون و انفض العسكر إلى المغرب و قد اجتمعوا إلى عبد الله بن السعيد و اعترضهم بنو مرين بجهات تازي فقتلوا عبد الله بن السعيد و لحق الفل بمراكش فبايعوا المرتضى كما نذكر إن شاء الله تعالى (6/345)
الخبر عن دولة المرتضى ابن أخي المنصور
لما لحق فل العسكر بعد مهلك السعيد بمراكش اجتمع الموحدون على بيعة السيد أبي حفص عمر بن السيد أبي إبراهيم اسحق أخي المنصور و استقدموه لها من سلا فلقيه وافدهم بتامسنا من طريقه و معه أشياخ العرب فبايعوه و تلقب المرتضى و عقد ليعقوب بن كانون على بني جابر و لعمه يعقوب بن جرمون على عرب سفيان بعد أن كان قومه قدموه عليهم و دخل الحضرة فاستوزر أبا محمد بن يونس و تقبض على حاشية السعيد ثم وصل أخوه السيد أيو اسحق من الفل آخذا على طريق سجلماسة فاستوزره و استبد عليه و استولى أبو يحيى بن عبد الحق و بنو مرين إثر مهلك السعيد على رباط تازي من يد السيد أبي علي أخي أبي دبوس و أخرجوه فلحق بمراكش
ثم استولوا بعدها على مدينة فاس سنة سبع و أربعين و ستمائة كما يذكر في أخبارهم بعد
و في هذه السنة ثار بسبتة أبو القاسم العزفي و أخرج ابن الشهيد الوالي على سبتة من قرابة الأمير أبي زكريا صاحب أفريقية و حول الدعوة للمرتضى حسبما يذكر في أخبار الدولة الحفصية و أخبار بني العزفي و في سنة تسع و أربعين و ستمائة وفد على المرتضى موسى بن زيان الونكاسي و أخوه علي من قبائل بني مرين و أغروه بقتال بني عبد الحق فخرج إليهم و لما انتهى إلى أمان إيملولي أشاع يعقوب بن جرمون قضية الصلح بينهما فأصبحوا راحلين و قد استولى الجزع على قلوبهم فانفضوا و وقعت الهزيمة من غير قتال و وصل المرتضى إلى الحضرة فعزل أبا محمد بن يونس عن الوزارة لشيء بلغه عنه و أسكنه بحملته مع حاشيته و فر من حملته علي بن بدر إلى السوس سنة إحدى و خمسين و ستمائة و جاهر بالعناد وسرح إليه السلطان عسكرا من الجند فرجعوا عنه و لم يظفروا به و تفاقم أمره سنة اثنتين و خمسين و ستمائة و جمع أعراب الشبانات و بني حسان و حمل أموال و نازل تارودانت فحاصر من كان بها و سرح المرتضى إليه عسكرا من الموحدين فأفرج عنها ثم رجع بعد قفولهم إلى حاله و عثر المرتضى على خطابه لقريبة ابن يونس و كتاب ابن يونس إليه بخطه فاعتقل هو و أولاده ثم قتل
و في هذه السنة استدعى مشيخة الخلط إلى الحضرة و قتلوا لما كان منهم في مهلك السعيد و فيها خرج أبو الحسن بن يعلو في عسكر من الموحدين إلى تامسنا ليكشف أحوال العرب و معه يعقوب بن جرمون و عهد إليه المرتضى بالقبض على يعقوب ابن محمد بن قيطون شيخ بني جابر فتقبض عليه و على وزيره ابن مسلم و طير بهما إلى الحضرة معتقلين
و في سنة ثلاث و خمسين و ستمائة خرج المرتضى من مراكش لاسترجاع فاس و نواحيها من يد بني مرين المتغلبين عليها فوصل إلى بني بهلول وزحف إليه بنو مرين و أميرهم أبو يحيى فكانت الهزيمة على الموحدين بذلك الموضع و رجع المرتضى مفلولا إلى مراكش و رعى بني مرين من بعد ذلك سائر أيامه و استبد العزفي بسبتة و ابن الأمير بطنجة كما نذكره في أخبارهم
و في سنة خمس و خمسين و ستمائة بعث المرتضى إلى السوس عسكرا من الموحدين لنظر أبي محمد بن أصناك فلقيهم علي بن بدر و هزمهم و استبد بأمره في السوس
و في هذه السنة استولى أبو يحيى بن عبد الحق على سجلماسة و تقبض على واليها عبد الحق بن أصكو بمداخلة من خديم له يعرف بمحمد القطراني بنواحي سلا فصرف عبد الحق ابنه محمدا هذا في مهمة و قربه من بين أهل خدمته و حدثته نفسه بالثورة فاستمال عرب المعقل أولا بالمشاركة في حاجاتهم عند مخدومه و الإحسان إليهم حتى اشتملوا عليه
ثم داخل أبا يحيى بن عبد الحق في تمكينه من البلد فجاء بجملته و قدم وفده إلى البلد رسلا في بعض الحديث فتقبض محمد القطراني على عبد الحق بن أصكو و أخرجه إلى أبي يحيى بن عبد الحق فقاده و سرحه إلى مراكش
و كان القطراني شرط على أبي يحيى أن يكون والي سجلماسة فأمضى له شرطه و أنزل معه بها من رجالات بني مرين حتى إذا هلك أبو يحيى بن عبد الحق أخرجهم محمد القطراني و استبد بأمر سجلماسة و راجع دعوة المرتضى و اعتذر إليه و اشترط عليه الاستبداد فأمضى له شرطه إلا في أحكام الشريعة
و بعث أبا عمر بن حجاج قاضيا من الحضرة و بعض السادات للنظر في القضية و قائدا من النصارى بعسكر للحماية فأعمل ابن الحجاج الحيلة في قتل القطراني و تولاه قائد النصارى و استبد السيد بأمر سجلماسة بدعوة المرتضى و استفحل أمر بني مرين أثناء ذلك و نزل يعقوب بن عبد الحق بسائط تامسنا فسرح إليهم المرتضى عساكر الموحدين لنظر يحيى بن وانودين فأجفلوا إلى وادي أم ربيع فأتبعهم الموحدون فرجعوا إليهم و غدر بهم بنو جابر فانهزم الموحدون بأمر الرجلين و لحق شيخ الخلط عيسى بن علي ببني مرين و ارتحلوا إلى أوطانهم
و كان المرتضى قدم يعقوب بن جرمون على قبائل سفيان و كان محمد ابن أخيه كانون يناهضه في رياسة قومه و غص به فقتله و ثأر به أخواه مسعود و علي بفدفد فقتلاه و ولى المرتضى مكانه ابنه عبد الرحمن فاستوزر يوسف بن وازرك و يعقوب ابن علوان
و شغل بلذاته و تصدى لقطع السابلة ثم نكث الطاعة و لحق ببني كرين فولى مكانه عمه عبد الله بن جرمون و يكنى بأبي زمام و عقد له المرتضى ثم أدال منه بأخيه مسعود عجزه و وفد على المرتضى عواج بن هلال من أمراء الخلط نازعا إلى طاعته و مفارقا لبني مرين فأنزل معه أصحابه بمراكش و جاء على أثره عبد الرحمن بن يعقوب بن جرمون فتقبض على عواج و دفعه إلى علي بن أبي علي فقتله وكان تقبض معه على عبد الرحمن بن يعقوب و وزيره فقتلوا جميعا و استبد برياسة سفيان مسعود بن كانون و برياسة بني جابر اسمعيل بن يعقوب بن قيطون
و في سنة ستين و ستمائة عند رجوع يحيى بن وانودين من واقعة أم الرجلين خرج عسكر من الموحدين إلى السوس لنظر محمد بن علي الزلماط و لقيه علي بن بدر فهزم جموعه و قتله و عقد المرتضى من بعده على حرب علي بن بدر للوزير أبي زيد بن بكيت و سرح معه عسكرا من الجند و كان فيهم دنلب من زعماء النصرانية فدارت الحرب بين الفريقين و لم يكن للموحدين فيها ظهور على كثرتهم و قوة جلدهم و حسن بلائهم فسلبهم عن ذلك تكاسل دنلب و خروجه عن طاعة الوزير و كتب بذلك للمرتضى فاستقدمه و أمر أبو زيد بن يحيى الكدميوي باعتراضه في طريقه و قتله و في سنة اثنتين و ستين و ستمائة أقبل يعقوب بن عبد الحق في جموع بني مرين فنازلوا مراكش و اتصلت الحرب بينهم و بين الموحدين بظاهرها أياما هلك فيها عبد الله أنعجوب بن يعقوب فبعث المرتضى إلى أبيه بالتعزية و لاطف و ضرب له أتاوة يبعث بها إليه في كل عام فرضي و ارتحل عنهم و الله أعلم (6/348)
الخبر عن انتقاض أبي دبوس و تغلبه على مراكش و مهلك المرتضى و ما كان في دولته من الأحداث
لما ارتحل بنو مرين عن مراكش بعد مهلك أنعجوب فر من الحضرة قائد حروبه السيد أبو العلى الملقب بأبي دبوس ابن السيد أبي عبد الله محمد بن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن لسعاية تمكنت فيه عند المرتضى و صحبه ابن عمه السيد أبو موسى عمران بن عبد الله بن الخليفة فلحقا بمسعود بن كلداسن كبير هسكورة فأجازه
ثم لحق بيعقوب بن عبد الحق بفاس صريخا به على شأنه و اشتراط له المقاسمة في العمالة و الذخيرة فأمده بالمال يقال خمسة آلاف دينار عشرية و أوعز إلى ابن أبي علي الخلطي بمظاهرته و إعطائه الآلات و رجع إلى علي بن أبي علي الخلطي فأمده بقومه ثم سار إلى هسكورة و نزل على صاحبه مسعود بن كلداسن فأطاعه قبائل هسكورة و هزوجة
و بعثوا إليه عزوز بن ببورك كبير صنهاجة في ناحية أزمور و كان منحرفا عن طاعة المرتضى إلى جملة يعقوب بن عبد الحق و وفد عليه جماعة من السادة الموحدين و الجند و النصارى و ارتاب المرتضى بمسعود بن كانون شيخ سفيان و باسمعيل بن قيطون شيخ بني جابر فتقبض عليهما و اعتقلهما و صار الكثير من قومهما إلى أبي دبوس
و قتل اسمعيل بن قيطون في معتقله فانتفض أخوه ثائرا و لحق بهم و حذر علوش بن كانون مثلها على أخيه فاتبعهم و زحف أبو العلى إلى مراكش و لما بلغ أغمات وجد بها الوزير أبا يزيد بكيت في عساكر لحمايتها فناجزه الحرب فانهزم ابن بكيت و قتل عامة أصحابه و سار أبو دبوس إلى مراكش و أغار علوش بن كانون على باب الشريعة و الناس في صلاة الجمعة و ركز رمحه بمصراعه و دخلت سنة خمس و ستين و ستمائة و المرتضى بمراكش غافل عن شأن أبي دبوس باب اغمات فتسور البلد من هنالك و دخلها على حين غفلة و قصد القصبة فدخلها من باب الطبول و فر المرتضى معه الوزير أبو زيد بن يعلو الكومي و أبو موسى بن عزوز الهنتاتي فلحقوا بهنتاتة و ألفوهم قد بعثوا بطاعتهم فرحل إلى كدميوة و مر في طريقه بعلي بن زكدان الونكاسي كان نزع إليه عن قومه و لم يفد عليه بعد فنزل به المرتضى و رحل معه علي بمن معه إلى كدميوة و كان فيها وزيره أبو زيد عبد الرحمن بن عبد الكريم فأراد النزول عليه فمنعه ابن سعد الله و سار إلى شفشاوة و وجد بها عددا من الظهر فمنحها علي بن زكدان و كتب إلى ابن وانودين بمعسكره حاحة و إلى ابن عطوش بمعسكره من ركراكة باللحاق به فأقلعا إلى الحضرة
و خاطب أبو دبوس علي بن زكدان يرغبه في القدوم عليه فارتاب المرتضى لذلك و لحق بأزمور فتقبض عليه واليها ابن عطوش و كذا صهره و اعتقله و طير بالخبر إلى ابن دبوس فأمر وزيره السيد أبا موسى أن يكاتبه في كشف أماكن الذخيرة فأجابه بإنكار أن يكون ذخر شيئا عندهم الحلف على ذلك و سألهم بالرحم فعطف أبو دبوس عليه و جنح إلى الإبقاء و بعث وزيره السيد أبا موسى و مسعود بن كانون في إزعاجه إليه ثم بدا له في استحيائه بإشارة بعض السادة فكتب خطه إلى السيد أبي موسى بقتله فقتله و استقل أبو دبوس بالأمر و تلقب الواثق بالله و المعتمد على الله و استوزر السيد أبا موسى و أخاه السيد أبا زيد و بذل العطاء و نظر في الولايات و رفع المكوس عن الرعية و حدث بينه و بين مسعود بن كداسن وحشة فارتحل إليه لإزالتها و قدم عبد العزيز بن عطوش سفيرا إليه في ذلك و بلغه أن يعقوب بن عبد الحق نزل تامسنا فأوفد عليه حميد بن مخلوف الهسكوري بهدية فقبلها و أكد بينهما العهد و انكفأ راجعا إلى وطنه و رجع حميد إلى الواثق و وافق وصول عبد العزيز بن عطوش بطاعة مسعود بن كلداسن فرجع أبو دبوس إلى مراكش بعد أن عقد لأبي موسى بن عزوز على بلاد حاحة و بلغه في طريقه عن عبد العزيز بن السعيد أنه حدث نفسه بالملك و أن ابن بكيت و ابن كلداسن داخلوه في ذلك و ساءل عن ذلك السيد أبا زيد بن السيد أبي عمران خليفته و أخبره بما سمع و أمره بالقبض عليه و قتله فأنفذ ذلك
ثم ارتحل إلى السوس لتمهيده و حسم علل ابن بدر فيه و قدم يحيى بن وانودين لاستنفار قبائل السوس من كزولة و لمطة و كنفيسة و صناكة و غيرهم و سار يتقرى المنازل و يستنفر القبائل و مر بتارودنت فوجدها قفرا خلاء إلا قلائل من الدور بخارجها و نزل على حميدي صهر علي بن بدر و قريبه بحصن تيسخت على وادي السوس كان لصنهاجة فغلبهم عليه ابن بدر و ملكه منازله أبو دبوس و حاصره أياما و هزم فيها جموعه و داخل حميدي علي بن زكداز في إفراج أبي دبوس على سبعين ألف دينار يؤديها إليه فأعجله الفتح عن ذلك و نجا بدمائه إلى بيته و طولب بالمال و بقي معتقلا عند ابن زكداز و امتنع ابن بدر بحصنه ثم أطاع و وصلت رسله بطاعته فانصرف الواثق إلى حضرته و دخلها سنة خمس و ستين و ستمائة و بلغه الخبر بانتقاض يعقوب بن عبد الحق و أنه زاحف إلى فبعث بهديته إلى تلمسان صحبة أبي الحسن بن قطرال و ابن أبي عثمان رسول يغمراسن و خرج بهم من مراكش ابن أبي مديون السكاسني دليلا و سلك بهم على القفر إلى سجلماسة و بها يحيى بن يغمراسن فبعثهم مع بعض المعقل إلى أبيه فألفوه بجهة مليانة فأقام ابن قطرال بتلمسان ينتظره و كان يعقوب بن عبد الحق لما بلغه ذلك نهض إلى مراكش بجيوش بني مرين و عسكر المغرب و نزل بضواحي مراكش و أطاعه أهل النواحي و نهض إليه أبو دبوس في عساكر الموحدين فاستجره يعقوب إلى وادي اغفو ثم ناجزه الحرب فاختل مصافه و فر عسكره و انهزم يريد مراكش و القوم في اتباعه فأدرك و قتل و بادر يعقوب بن عبد الحق فدخل مراكش في المحرم فاتح سنة ثمان و ستين و ستمائة و فر بقية المشيخة من الموحدين إلى معاقلهم بعد أن كانوا بايعوا عبد الواحد بن أبي دبوس و سموه المعتصم مدة خمسة أيام و خرج في جملتهم و انقرض أمر بني عبد المؤمن و البقاء لله وحده (6/351)
و أما هسكورة
و هم أكثر قبائل المصامدة و فيهم بطون كثيرة أوسعها بطن هسكورة و أما سواهم منبطون كنفيسة فأنفقتهم الدولة بما تولوا من مشايعتها و إبرام عقدتها فهلك رجالاتهم في إنفاقها سبل الأمم قبلهم في دولهم و أما هسكورة فكان لهم بين الموحدين مكان و اعتزاز بكثرتهم و غلبهم إلا أنهم كانوا أهل بدو و لم يخالطوهم في ترفهم و لا انغمسوا في نعيمهم
و كان جبلهم الذي أوطنوه من حاله دون القنة منها و الذروة و اعتصموا منه بالآفاق الفدد و اليفاع الأشم و الطود الشاهق قد لمس الأفلاك بيده و نظم النجوم مفرقه و تلفع بالحساب في مروطه و آوى الرياح العواصف الدجعة و ألقى إلى خبر السماء باذنه و أظل على البحر الأخضر بشماريخه و استدبر القفر من بلاد السوس بظهره و أقام سائر جبال درن في حجره و لما انقرض أمر الموحدين و تغلب بنو مرين على المصامدة أجمع و ساموهم خطة الخسف في وضع الضرائب و المغارم عليهم فاستكانوا لعزهم و أعطوهم يد الطواعية و اعتصم هسكورة هؤلاء بمعقلهم و اعتزوا فيه بمنعتهم فلم يغمسوا في خدمتهم يدا و لا أعطرهم مقادا و لا رفعوا بدعوتهم راية إنما هي منابذة لأمرهم و امتناع عليهم سائر الأيام فاذا زحفت الحشود و تمرست بهم العساكر دافعوهم بطاعة معروفة و أتاوة غير ملتزمة و رئيسهم مع ذلك يستخلص جبايتهم لنفسه و يدفعهم في المضايق لحمايته و رما تخطاهم إلى بعض قبائل الجبل و من قاربه من أهل بسائط السوس يعسكر بذلك للرجل من قومه هسكورة و كنفيسة و بالحشد من العرب الموطنين بأرض السوس
و سفيان و هم بطن الحارث و من المعقل و هم بطن الثبانات و كان رئيسهم في ذكرنا بعد انقراض عبد المؤمن بن يوسف و حرروا لسان الأعجمين هو عبد الواحد و كان له في الاستبداد و الصرامة ذكر و هلك سنة ثمانين و ستمائة و كان منتحلا للعلم واعية له جماعة لكتبه و دواوينه حافظا لفروع الفقه يقال إن المدونة كانت من محفوظاته محبا في الفلسفة مطالعا لكتبها حريصا على نتائجها من علم الكيمياء و السيمياء و السحر و الشعوذة مطلعا على الشرائع القديمة و الكتب المنزلة بكتب التوراة
و يجالس أحبار اليهود حتى لقداتهم في عقيدته و رمي بالرغبة عن دينه ثم ولي من بعده ابنه عبد الله و كان مقتفيا سنن أبيه في ذلك خصوصا في انتحال السحر و الاستشراف إلى صنعة الكيمياء
و لما فرغ السلطان أبو الحسن من شأن أخيه عمر و سكن فتنة المغرب و دوخ أقطاره و حل معتصمه بالعساكر و أوطأ ساحاته لكتائب رجاله دون من يمده من أعراب السوس من ورائه بما كان من تغلبه على بلادهم و اقتضائه بطاعتهم و انزال عماله بالعساكر بينهم فلاذ منه عبد الله السكسيوي بطاعة معروفة رهن فيها ابنه و اشترط للسلطان الهدية و الضيافة فتقبل منه و منحه جانب الرضى
و لما كانت نكبة السلطان بالقيروان و اضطراب المغرب فتنة و خلا جو البلاد المراكشية من المشايخ اجتمع رأي الملأ من المصامدة على النزول إلى مراكش و أحكموا عقد الاتفاق بينهم و أجمعوا تخريبها بما كانت دارا للمرة و لمقام الكتائب المجمرة و زعم عبد الله السكسيوي هذا بانفاذ ذلك فيها و ضمن هو تخريب المساجد لتجافيهم عنها فكانت مذكورة على الأيام ثم انحل عزمهم و افترقت جماعتهم و كلمتهم بما كانت من استقامة الدولة بفاس و اجتماع بني مرين على السلطان أبي عنان كما يذكر بعد فانحجر كل منهم بوجاره
و لما فرغ أبو عنان من شأن أبيه و استولى على المغرب الأوسط و غلب عليه بنو عبد الواد و لحق أخوه أبو الفضل بن مطرح اغترابه في الأندلس بالطاعة يروم الإجازة إلى المغرب لطلب حقه فأركبه السفير إلى مراحل السوس فنزل به و لحق بعبد الله السكسيوي فآواه و ظاهر على أمره فجرد أبو عنان العزائم إليهم و عقد لوزيره فارس ابن ميمون بن وادرار على حربهم
و استخرج جيوش المرغب و أناخ بساحته سنة أربع و خمسين و ستمائة و اختط بسفح الجبل مدينة لحصاره سماها القاهرة و أخذت بمخنقة و زاحمت بمناكبها أركان معقله حتى لاذت للسلم و اشترط أن ينبذ العهد إلى أبي الفضل المصري عنده يذهب حيث يشاء فتقبل منه و عقد له سلما على عادته و أفرج عنه
وخرج على عبد الله السكسيوي لأيام السلطان أبي سالم ابنه محمد المعروف في لغتهم ايزم و معناه الأسد فغلبه على أمره و لحق عبد الله بعامر بن محمد الهنتاتي كبير المصامدة لعهده و عامل السلطان عليهم فاستجاش به و وعده عامر النصرة و أمهله عاما و نصفه حتى وفد على السلطان و استوهب في ذلك ثم أجمع على نصره من عدوه فجمع له الناس و خاطب أهل ولايته أن يكون معه يدا و زحف عبد الله حتى نزل بالقاهرة و أخذ بمخنق أبيه و أشياعه
ثم داخله بعض بطانته و دله على بعض العورات اقتحم منها الجبل و ثاروا بابنه ايزم فصاح به عبد الله و قومه و فر محمد أمامهم فأدرك بتلاسف من نواحي الجبل و قتل و استرجع عبد الله ملكه و استقلت قدمه إلى أن مكر به ابن عمه يحيى بن سليمان حين بلغ استبداد الوزير عمر ابن عبد الله على سلطان المغرب و استبداد عامر بن محمد بولاية مراكش و ثأر منه يحيى هذا بأبيه سليمان و هو عم عبد الله كان قتله أيام إمارته الأولى و أقام مملكا على سكسيوة إلى سني خمس و سبعين و ستمائة فثار عليه أبو بكر بن عمر بن خرو فقتله بأخيه عبد الله و استقل بأمر سكسيوة و من إليهم ثم خرج عليهم لأعوام من استقلاله ابن عم له من أهل بيته لم ينقل لي من تعريفه إلا أن إسمه عبد الرحمن لأن ثورته كانت بعد رحلتي الثانية من المغرب سنة ست و سبعين و ستمائة فأخبرني الثقة بأمره و أنه ظفر بأبي بكر بن عمر و قتله و استبد بأمر الجبل إلى هذا العهد فيما زعم و هو سنة تسع و سبعين و ستمائة ثم بلغني سنة ثمان و ثمانين و ستمائة أن عبد الرحمن هذا و يعرف بأبي زيد بن مخلوف بن عمر آجليد قتله يحيى بن عبد الله بن عمر و استبد بأمر هذا الجبل و هو الآن مالكه وهو أخو ايزم بن عبد الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين
و أما بقية قبائل المصامدة من سوى هؤلاء السبع مثل هيلانة و حاحة و دكالة و غيرهم ممن أوطن هضاب الجبل أو ساحته فهم أمم لا تنحصر و دكالة منهم في ساحة الجبل من جانب الجوف مما يلي مراكش إلى البحر من جانب الغرب وهناك رباط آسفي المعروف ببني ماكر من بطونهم و بين الناس اختلاف في انتسابهم في المصامدة أو صنهاجة و مجاورهم من جانب المغرب في بسيط ينعطف ما بين ساحل البحر و جبل درن في بسيط هناك يقضي إلى السوس يعمره من حاحة هؤلاء خلق أكثرهم في خمر الشعراء من الشجر المعروف بأرجان يتحصنون بملتقها و أدواحها و يعتصرون الزيت لادامهم من ثمارها و هو زيت شريف طيب اللون و الرائحة و الطعن يبعث منه العمال إلى دار الملك في هداياهم فيطرفون به
و بآخر مواطنهم مما يلي أرض السوس و في القبلة عن جبل درن بلدة دنست و بها معظم هذه الشعراء ينزلها رؤساؤهم و رياستهم في بطن منهم يعرفون بمغراوة و كان شيخهم لعهد السلطان أبي عنان إبراهيم بن حسين بن حماد بن حسين و بعده ابنه محمد بن إبراهيم بن حسين و بعده ابن عمهم خالد بن عيسى بن حماد و استمرت رياسته عليهم إلى أعوام ست و سبعين و سبعمائة أيام استيلاء السلطان عبد الرحمن بن بطوسن على مراكش فقتله شيخ بن مرين على بن عمر الورتاجي من بني ويغلان منهم و ما أدري لمن صارت رياستهم من بعده و هم دكالة جميعا أهل مغرم واسع و جباية موفورة فيما علمناه و الله الخلق و الأمر و هو خير الوارثين
كان الواثق جهز لحرب أحد أمراء المصامدة فكان وزيره داخله في ذلك وسائل من ذلك السيد أبا زيد ابن السيد أبي عمران خليفته و أخبره بما سمع و أمره بالقبض عليه و قتله فأنفذ ذلك ثم ارتحل إلى السوس لتمهيده و حسم هلال بن بدر فيه و قدم يحيى بن وانودين لاستنفار قبائل السوس من كزولة و لمطة و كنفيسة و صناكة و غيرهم و سار يتعدى المنازل و يستنفر القبائل و هو بتارودنت فوجدها قفرا خلاء إلا قليلا من الدور بخارجها و نزل على حميدين صهر علي بن بدر و قريبه بحصن تيسخت على وادي السوس كان لصنهاجة فغلبهم عليه ابن بدر و ملكه فنازله أبو دبوس و حاصره أياما و هزم فيها جموعه
و داخل محمد بن علي بن زكدان في إفراج أبي دبوس على سبعين ألف دينار يؤديها إليه فأعجله الفتح من ذلك و نجا بدمائه إلى بيته و طولب بالمال و بقي معتقلا عند ابن زكدان و امتنع على ابن بدر بحصنه ثم أطاع و وصلت رسله بطاعته فانصرف الواثق إلى حضرته و دخلها سنة خمس و ستين و ستمائة و بلغه الخبر بانتقاض يعقوب بن عبد الحق و أنهى إليه فبعث بمرتبه إلى تلمسان صحبة أبي الحسن بن قطرال و ابن أبي عثمان رسول يغمراسن و خرج إليهم من مراكش ابن أبي مديون الونكاسي دليلا و سلك بهم على الثغر إلى سجلماسة و بها يحيى بن يغمراسن فبعثهم مع بعض المعقل إلى أبيه و ألفوه بجهة مليانة فأقام ابن قطرال بتلمسان ينتظره و كان يعقوب بن عبد لحق لما بلغه ذلك نهض إلى مراكش بجيوش بني مرين و نزل بضواحي مراكش و أطاعه أهل النواحي و نهض إليه أبو دبوس بعساكر الموحدين فاستجره يعقوب إلى وادي أعفر ثم ناجزه الحرب فاختل مصافه و فر عسكره و انهزم يريد مراكش و القوم في اتباعه فأدرك و قتل و بادر يعقوب بن عبد الحق فدخل مراكش في المحرم فاتح سنة ثمان و ستين و ستمائة و فر بقية المشيخة من الموحدين إلى معاقلهم بعد أن كانوا بايعوا عبد الحق أحد بني أبي دبوس و سموه المعتصم مدة من خمسة أيام و خرج في جملتهم و انقرض أمر بني عبد المؤمن و البقاء لله وحده (6/354)
الخبر عن بقايا قبائل الموحدين من المصامدة بجبال درن بعد انقراض دولتهم بمراكش و تصاريف أحوالهم
هذا العهد لما دعا المهدي إلى أمره في قومه من المصامدة بجبال درن و كان أصل دعوته نفي التجسيم الذي آل إليه مذهب أهل المغرب باعتمادهم ترك التآويل في المتشابه من الشريعة و صرح بتكفير من أبى ذلك آخذا بمذهب التكفير بالمثال فسمى لذلك دعوته بدعوة التوحيد و أتباعه بالموحدين نعيا على الملثمين مثال مذاهبهم إلى اعتقاد الجسمية و خص بالمزية من دخل في دعوته قبل تمكنها و جعل علامة تمكنها فتح مراكش فكان إنما اختص بهذا اللقب أهل السابقة قبل ذلك الفتح و كان أهل تلك السابقة قبل فتح مراكش ثماني قبائل سبعة من المصامدة : هرغة و هم قبيلة الإمام المهدي و هنتاتة و تينملل و هم الذين بايعوه مع هرغة على الإجارة و الحماية و كنفيسة و هزرجة و كدميوة و وريكة و ثمانية قبائل الموحدين : كومية قبيلة عبد المؤمن كبير صحابته دخلوا في دعوته قبل الفتح فكانت لهم المزية بسابقة عبد المؤمن و سابقتهم فاختص هؤلاء القبائل بمزية هذه السابقة و إسمها و قاموا بالأمر و حملوا سريره و أنفقوا في مذاهبه و ممالكه في سائر الأقطار على نسبة قربهم من صاحب الأمر و بعدهم و بقي من بقي منهم بمحالهم و معاقلهم بقية حتوف و جرت عليهم ذيل زناتة من بعد الملك أذيال الغلب و القهر حتى أبقوهم بالأتاوات و انتظموا في عدد الغارمين من الرعايا و صاروا يولون عليهم من زناتة تارة و من رجالاتهم أخرى و في ذلك عبرة و ذكرى لأولي الألباب و الملك لله يورثه من يشاء (6/359)
هرغة
فأما هرغة و هم قبيل الإمام المهدي قد دثروا و تلاشوا و انتفقوا في القاصية من كل وجه لما كانوا أشد القوم بلاء في القيام بالدعوة و أصلاهم لنارها بقرابتهم من صاحبها و تعصبهم على أمره و لم يبق منهم إلا أخلاط و أوشاب أمرهم إلى غيرهم من رجالات المصامدة لا يملكون عليهم منه شيئا (6/359)
تينملل
و كذا تينملل إخوتهم في التعصب على دعوة المهدي و الاشتمال عليه و القيام بأمره حتى تحيز إليهم و بنى داره و مسجده بينهم فكان يعطيهم من الفيء بقدر عظمهم من الابتلاء و أبعدوا في ممالك الدولة و عمالاتها فانقرض رجالاتهم و ملك غيرهم من المصامدة أمرهم عليهم و قبر الإمام بينهم بهذا العهد على حاله من التجلة و التعظيم و قراءة القرآن عليه أحزابا بالغدو و العشي و تعاهده بالزيارة و قيام الحجاب دون الزائرين من الغرباء لتسهيل الإذن و استشعار الأبهة و تقديم الصدقات بين يدي زناتة على الرسم المعروف في احتفال الدولة و هم مصممون مع كافة المصامدة أن الأمر سيعود و أن الدولة ستظهر على أهل المشرق و المغرب و تملأ الأرض كما وعدهم المهدي لا يشكون في ذلك و لا يستريبون فيه (6/360)
هنتاتة
و أما هنتاتة و هم تلو القبيلتين في الأمر و كل من بعدهم فإنما جاؤوا على أثرهم و تبعا لهم لما كانوا عليه من الكثرة و البأس و مكان شيخهم أبي حفص عمر بن يحيى من صحابة الإمام و الاعتزاز على المصامدة و كانت لهم بأفريقية دولة كما نذكرهم فاتفقت الدولتان منهم عوالم في سبيل الاستظهار بهم و بقي بموطنهم المعروف بهم من جبال درن و هو الجبل المتاخم لمراكش على توسط من الاستبداد و الخضوع و لهم في قومهم مكان بامتناع معقلهم و إطلاله على مراكش و لما تغلب بنو مرين على المصامدة و قطعوا عنهم أسباب الدعوة كان لرؤسائهم أولاد يونس انحياش إليهم بما كانوا مسخوطين في آخر دولة بني عبد المؤمن فاختصوهم بالإثرة و المخالصة
وكان علي بن محمد كبيرهم لعهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عد الحق خالصة له من بين قومه و هلك سنة سبعين و ستمائة على يد ابن الملياني الكاتب بكتاب لبس فيه و أنفذه على السلطان لابنه أمير مراكش فقتل رهط من مشيخة المصامدة في اعتقاله كان منهم :
علي بن محمد فقام السلطان لها في ركائبه وندم على ما فرط من أمره في إفلات ابن الملياني على ما يذكر من أمر هذه الواقعة في أخبار السلطان يوسف بن يعقوب و لما ولي السلطان أبو سعيد و انقطع عن المصامدة ما كان لهم من أثر الملك و السلطان و انقادوا للدولة رجع بنو مرين إلى التولية عليهم من رجالاتهم و دالوا بينهم في ذلك و أخبار السلطان بعد صدر من دولة موسى بن علي بن محمد للولاية على المصامدة و جبايتهم فعقد له و أنزله مراكش فاضطلع بهذه الولاية سنين و رسخت فيها قدمه و أورثها أهل بيته و صار لهم بها في الدولة مكان انتظموا له في الولاية و ترشحوا للوزارة و لما هلك موسى عقد السلطان من بعده لأخيه محمد و أجراه على سننه إلى أن هلك فاستعمل السلطان بنيه في وجوه خدمته و عقد لعامر منهم على قومه و لما ارتحل السلطان أبو الحسن إلى أفريقية صحبه عامر فيمن صحبه من أمراء المصامدة و كافة الوجوه حتى إذا كانت نكبة القيروان سنة تسع و أربعين و سبعمائة عقد له على الشرطة بتونس على رسم الموحدين من بيوت الخطة و سعة الرزق و أسام إليه فيها فكفاه همها و لما فصل من تونس ركب الكثير من حرمه و خطاياه السفن لنظر عامر هذا حتى إذا غرق الأسطول بالسلطان أبي الحسن بما أصابهم من عاصف الريح رمى الموج بالسفينة التي كانوا بها إلى المرية من ثغور الأندلس فأنزل بها كرائم السلطان لنظره و بعث عنهن ابنه أبو عنان المستبد على أبيه بملك المغرب فامتنع من إسلامهن إليه وفاء بأمانته في خدمتهم
و خلص السلطان أبو الحسن بعد النكبة البحرية إلى الجزيرة سنة خمسين و سبعمائة و زحف إلى بني عبد الواد ففلوه و نهض إلى المغرب وسلك إليه القفر حتى نزل سجلماسة فقصده أبو عنان فخرج منها إلى مراكش و قام بدعوته المصامدة و عرب جشم فاحتشد و لقي ابنه بأغمات بجهات أم ربيع فكانت الدبرة عليه و نجا إلى جبل هنتاتة و كان عبد العزيز بن محمد شيخا عليهم منذ مغيب عامر و كان في جملته و خلص معه فأنزله عبد العزيز بداره و تآمر هو و قومه على إجارته و الموت دونه فاعتصم بمعقلهم و جاء السلطان أبو عنان في كافة بني مرين إلى مراكش فخيم بظاهرها و احتشد لحصارهم أشهرا حتى هلك السلطان أبو الحسن كما نذكره بعد فحملوه على الأعواد و نزلوا على حكم أبي عنان فأكرمهم و رعى لهم وسيلة هذا الوفاء و عقد لعبد العزيز على إمارته و استقدم عامرا كبيرهم من مكانه بالمرية فقام بهن لأمانته من خطايا السلطان و حرمه فلقاه السلطان مبرة و تكريما و أناله من اعتنائه حظا
و تخلى له أخوه عبد العزيز عن الأمر فأقره نائبا ثم عقد السلطان لعامر سنة أربع و خمسين و سبعمائة على سائر المصامدة و استعمله لجبايتهم فقام بها مضطلعا و كفاه هم الأعمال المراكشية حتى عرف عناءه فيها و شكر له كفايته و هلك السلطان أبو عنان و استبد على ابنه السعيد و وزيره الحسن بن عمر المودودي و كان ينفس عليه ما كان له من الترشيح للرتبة و بينهما في ذلك شحناء فخشي بادرته و خرج من مراكش إلى معقله في جبل هنتاتة و حمل معه ابن السلطان أبي عنان الملقب بالمعتمد و كان أبوه عقد له يافعا قبيل وفاته على مراكش لنظر عامر فخلص به إلى الجبل حتى إذا استوت قدم السلطان أبي سالم في الأمر و استقل بملك المغرب سنة ستين و سبعمائة وفد عليه عامر بن محمد مع رسله إليه و أوفد ابن أخيه محمد المعتمد فتقبل السلطان وفادته و شكر وفاءه و أقام ببابه مدة ثم عقد له على قومه ثم استنفره معه إلى تلمسان و لم يزل مقيما ببابه إلى قبيل وفاته فأنفذه لمكان إمارته
و لما هلك السلطان أبو سالم و استبد بالمغرب بعده عمر بن عبد الله بن عمر على ما نذكره و كانت بينه و بين عامر بباب السلطان صداقة و ملاطفة وصل يده بيده و أكد العهد معه على سد تلك الفرجة و حول عليه في حوط البلاد المراكشية و أن لا يؤتى من قبله و كان زعيما بذلك و عقد له على الأعمال المراكشية و ما إليها إلى وادي أم ربيع و فوض إليه أمر تلك الناحية و اقتسما المغرب شق الأبلمة و خلص إليه الأعياص من ولد السلطان أبي سعيد أبو الفضل بن السلطان أبي سالم و عبد المؤمن بن السلطان أبي علي فاعتقل عبد المؤمن و أمكن أبا الفضل من إمارته على ما نذكر بعد و ساءت الحال بينه و بين عمر و نهض إليه من فاس بجموع بني مرين و كافة العساكر و اعتصم بجبله و قومه و استبد على الأمر من بعده و وصل عبد المؤمن من معتقله يجأجيء به بنو مرين لما كانوا يؤملون من ولايته و استبداده لما آسفهم من حجر الوزراء لملوكهم فلما رأوا استبداد عامر عليه أعرضوا عنه و انعقد السلم بينه و بين عمر بن عبد الله على ما كان عليه من مقاسمته إياه في أعمال المغرب و رجع و استقل عامر بناحية مراكش و أعمالها حتى إذ هلك عمر بن عبد الله بيد عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن كما نذكره حدثت أبا الفضل بن السلطان أبي سالم نفسه بالفتك بعامر بن محمد كما فتك عمه بعمر بن عبد الله و نذر بذلك فاحتمل كرائمه و صعد إلى داره بالجبل ففتك أبو الفضل بعبد المؤمن ابن عمه لأنه كان معتقلا بمراكش و استحكمت لذلك النقرة بينه و بين عامر بن محمد و بعث إلى السلطان عبد العزيز فنهض من فاس في جموعه سنة تسع و ستين و سبعمائة
و فر أبو الفضل فلحق بتادلا و تقبض عليه عمه السلطان عبد العزيز و قتله كما نذكر في أخباره و طلب عامرا في الوفادة فخشيه على نفسه و اعتصم بمعقله فرجع إلى حضرته و استجمع عزائمه و عقد على مراكش و أعمالها لعلي بن أجانا من صنائع دولتهم و أوعز إليه بمنازلة عامر فدافعه عامر و قومه عن معتصمه و أوقع به و تقبض على طائفة من بني مرين و صنائع السلطان في المعركة أودعهم سجنه فحرك بها عزائم السلطان و نهض إليه في قومه من بني مرين و عساكر المغرب و أحاط به و نازله حولا كريتا ثم تغلب عليه سنة إحدى و سبعين و سبعمائة و انفضت جموعه و تقبض عليه عند اقتحام الجبل فسيق أسيرا إلى السلطان فقيده و قفل به إلى الحضرة و لما قضى نسك الفطر من سنته أحضره و وبخه ثم أمر به فتل إلى مصرعه و أثخن جلدا بالسياط و ضربا بالمقارع حتى فاض عفا الله عنه و عقد السلطان على قومه لفارس ابن أخيه عبد العزيز كان نزع إليه بين يدي مهلك عمه و عفا عن ابنه أبي يحيى بسابقته إلى الطاعة قبيل اقتحام الجبل عليهم أشار عليه بذلك أبوه نظرا له فظفر بالسلامة و الحظ و أصاره السلطان في جملته ثم هلك بعد ذلك فارس بن عبد العزيز و اضطرم المغرب فتنة بعد مهلك السلطان عبد العزيز سنة أربع و سبعين و سبعمائة و صارت أعمال مراكش في إيالة السلطان عبد الرحمن بن علي الملقب بأبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي و نزع إليه أبو يحيى بن عامر فعقد له على قومه ثم اتهمه باحتمال الأموال منذ عهد أبيه و شره إلى اسطفائه و نذر به ابن عامر فلحق ببعض قبائل المصامدة جيرانهم بأطراف السوس و نزل عليهم و كان مهلكه فيهم أعوام ثمانين و سبعمائة و الله وارث الأرض و من عليها (6/360)
كدميوة
و أما كدميوة و كانوا تبعا لهنتاتة و تينملل في الأمر و جبلهم بصدف جبل هنتاتة و كان رؤساءهم لعهد الموحدين بنو سعد الله و لما تغلب بنو مرين على المصامدة و وضعوا عليهم الضرائب امتنع يحيى بن سعد الله بعض الشيء بحصن تافرجا و تيسخنت من جبلهم و خالفه عبد الكريم بن عيسى و قومه إلى طاعة بني مرين و اختلفت إليهم العساكر إلى أن هلك يحيى بن سعد الله سنة أربع و تسعين و ستمائة و عساكر يوسف بن يعقوب مجمرة على حصاره فهدموا حصونه و أذلوا من قومه
استخلص السلطان يوسف بن يعقوب عبد الكريم بن عيسى منذ عهد أبيه فعقد له عليهم ثم تقبض على أمراء المصامدة و اعتقله فيمن اعتقل منهم حتى اذا فعل ابن الملياني فعلته في استهلاكهم لعداوة عمه بمالبس الكتاب على لسان السلطان لإبنه على أمير مراكش فقتل عبد الكريم فيمن قتل منهم و قتل معه بنوه عيسى و علي و منصور و ابن أخيه عبد العزيز بن محمد و امتعض السلطان لذلك و أفلت ابن الملياني من معسكره لحصار تلمسان فدخلها
ثم قام بأمر كدميوة عبد الحق بن الملياني سعد الله أيام السلطان أبي الحسن و ابنه أبي عنان و كانت بينه و بين عامر بن محمد فتنة جرها منصب العمالة شأن المجاورين من القبائل و قديم العداوة بين السلف فلما استفحل أمر عامر بالولاية على مراكش و سائر المصامدة نبذ إلى عبد الحق العهد و نحلة الخلاف و المداخلة للسكسيوي شيخ الفتنة المستعصي منذ أول الدولة فصمد إليه سنة سبع و خمسين و سبعمائة في قومه و مشايخ السلطان التي كانت بمراكش لنظره فاقتحم عليه معقله عنوة و قتله و استولى على كدميوة و لحق بنو سعد الله بفاس فأقاموا بها حتى إذا خاض السلطان أبو سالم البحر إلى ملكه بعد أخيه أبي عنان و نزل بغمارة نزل إليه يوسف بن سعد الله و اعتقد منه ذمة سابقيته تلك فلما استولى على البلد الجديد و استقل سلطانه عقد له على قومه رعيا لوسيلته فأقام في ولايته مدة السلطان أبي سالم و كان عامل مراكش محمد بن أبي العلى من حاشية السلطان و بيوت الولاة بالمغرب معولا فيها مظاهرته
و لما هلك السلطان أبو سالم و استبد عمر بن عبد الله على الملوك بعده بادر لحين ثورته بالعقد لعمر على أعمال ليستظهر به وطير إليه الكتاب بذلك و نزل إلى مراكش و قتل بها يوسف بن سعد الله و نكث ابن أبي العلى ثم قتله و ألحقه بابنه عبد الحق و ذهبت الرياسة من كدميوة برهة من الدهر ثم رجعت إليهم في بني سعد الله و الله تعالى قادر على ما يشاء و بيده تصاريف الأمور لا رب سواه و لا معبود إلا إياه (6/364)
وريكه
فهم مجاورون لهنتاتة و بينهم فتنة قديمة و حروب متصلة و دماء مطلولة كانت بينهم سجالا و هلك فيها من الفريقين أمم إلى أن غلبهم هنتاتة باعتزازهم بالولاية فخضدوا منهم الشوكة و أصاروهم في الجملة و الله وارث الأرض و من عليها و الله تعالى أعلم بغيبه و هو على كل شيء قدير (6/365)
الخبر عن بني يدر أمراء السوس من الموحدين بعد انقراض بني عبد المؤمن و تصاريف أحوالهم
كان أبو محمد بن يونس من جملة وزراء الموحدين من هنتاتة و كان المرتضى قد استوزره ثم سخطه و عزله سنة خمسين و ستمائة و ألزمه داره بتاء مصلحت و فر عنه قومه و حاشيته و قرابته و كان من أهل قرابته علي بن يدر من بني باداسن ففر إلى السوس و جاهر بالخلاف سنة إحدى و خمسين و ستمائة و نزل بحصن تانصاحت بسفح الجبل حيث يدفع وادي السوس من درن و شيده و حصنه و تغلب على حصن تيسخت من أيدي صنهاجة و شيده و أنزل فيه ابن عمه بوحمدين ثم تغلب علي بسيط السوس و جأجأ بني حسان من أعراب المعقل من مواطنهم بنواحي ملوية إلى بلاد الريف فارتحلوا إليه و عاث بهم في نواحي السوس و أطاع له كثير من قبائله فاستوفى جبايتهم و أجلب على عامل الموحدين بتار و دانت و ضيق عليه المسالك و تفاقم أمره و اتهم الوزير أبو محمد بن يونس بمداخلته و عثر على كتابه إلى علي بن يدر فأمر المرتضى باعتقاله و قتله سنة اثنتين و خمسين و ستمائة و أغزى أبا محمد ابن أصال إلى بلاد السوس في عسكر الموحدين و الجند و عقد له عليها فنزل تارودانت و تحصن علي بن يدر في تيونودين و زحف إليه ابن أصناك في عسكره فهزمه ابن يدر و قتل كثيرا منهم و رجع إلى مراكش مفلولا و أقام علي بن يدر على حاله من الخلاف و أغزاه المرتضى محمد بن علي أزلماط في عسكر من الموحدين سنة ستين و ستمائة فهزمهم و قتل ابن أزلماط فعقد المرتضى من بعده على السوس لوزيره أبي زيد بن بكيت فزحف إليه ودارت الحرب بينهما مليا و انقلب من غير ظفر و استفحل ابن يدر ببلاد السوس و استخدم الأعراب من الشبانات و ذوي حسان و أطاعته القبائل من كزولة و لمطة و زكن و لخس من شعوب لمطة و صناكة و جبى الأموال و استخدم الرجال يقال كان جنده ألف فارس و كان بينه و بين كزولة فتن و حروب يستظهر في أكثرها بدوي حسان
و لما استولى أبو دبوس على مراكش سنة خمس و ستين و ستمائة و فرغ من تمهيد ملكه بها اعتزم على الحركة إلى السوس و رحل من مراكش و قدم بين يديه يحيى بن وانودين لاحتشاد القبائل و من بالجبل ثم أسهل من تامسكروط إلى بسيط السوس و نزل علي بني باداسن و قبيلة ابن يدر على فرسخين من تيونودين و قصد تيزخت و مر بتارودنت و عاين آثار الخراب الذي بها من عيث ابن يدر و لما بلغ حصن تيزخت خيم بساحته و حشد أمما من القبائل لحصاره و كان بوحمدين ابن عم علي بن يدر فحاصره أياما و لما اشتد عليه الحصار داخل علي بن زكدان من مشيخة بني مرين كان في جملة أبي دبوس فداخله في الطاعة و تقبل السلطان طاعته على النزول عن حصنه
ثم أعجله الحرب و اقتحم عليهم الجلب و لجؤوا إلى الحصن و فر حمدين إلى بيت علي بن زكدان فأمره السلطان باعتقاله و استولى السلطان على الحصن و أنزل به بعض السادة لولايته و ارتحل أبو دبوس إلى محاصرة علي بن يدر فحاصره أياما و نصب عليه المجانيق و لما اشتد عليه الحصار رغب في الإقالة و معاودة الطاعة فتقبل و أقلع السلطان عن حصاره و قفل إلى حضرته و لما استولى بنو مرين على مراكش سنة ثمان و ستين و ستمائة استبد علي بن يدر و تملك سوس و استولى على تارودنت ايغري و سائر أمصاره و قواعده و معاقله و أرهف حده للأعراب فزحفوا إليه و كانت عليه الدبرة و قتل سنة ثمان و ستين و ستمائة وقام بأمره علي ابن أخيه عبد الرحمن بن الحسن مدة ثم هلك و قام بأمرهم علي بن الحسن بن بدر و لما صار أبو علي بن السلطان أبي سعيد إلى ملك سجلماسة يصلح عقده مع أبيه كما يذكر في أخبارهم فنزلها و شيد ملكه بها و استخدم كافة عرب المعقل فرغبوه في ملك السوس و أطعموه في أموال ابن يدر فغزاه من سجلماسة و فر ابن يدر أمامه إلى جبال نكيسة و استولى السلطان أبو علي على حصنه نانصاصت و سائر أمصار السوس و استصفى ذخيرته و أمواله و رجع إلى سجلماسة
ثم استولى السلطان أبو الحسن من بعد ذلك عليه و انقرض ملك بني يدر و لحق به عبد الرحمن بن علي بن الحسن وصار في جملته و أنزل السلطان بأرض السوس مسعود بن ابراهيم بن عيسى البريتاني من طبقة وزرائه و عقد له على تلك العمالة إلى أن هلك و عقد لأخيه حسون من بعده إلى أن كانت نكبة القيروان و هلك حسون و انقض العسكر من هنالك و تغلب عليه العرب من بني حسان و الشبانات و وضعوا على قبائله الأتاوات و الضرائب و لما استبد أبو عنان بملك المغرب من بعد أبيه أغزى عساكره السوس لنظر وزيره فارس بن ودرار سنة ست و خمسين و ستمائة فملكه و استخدم القبائل و العرب من أهله و رتب المشايخ بأمصاره و قفل إلى مكان وزارته فانفضت المشايخ و لحقت به
و بقي عمل السوس ضاحيا من ظل الملك لهذا العهد و هو وطن كبير في مثل عرض البلاد الجريدية و هوائها المتصل من لدن البحر المحيط إلى نيل مصر الهابط من وراء خط الاستواء في القبلة إلى الاسكندرية
و هذا الوطن قبلة جبال درن و عمائر و قرى و مزارع و مدن و أمصار و جبال و حصون و يحدق به وادي السوس ينصب من باطن الجبل إلى ما بين كلاوة و سيكسيوة و يدفع إلى بسيطه ثم يمر مغربا إلى أن ينصب في البحر المحيط و العمائر متصلة حفافي هذا الوادي ذات المدن و المزارع و أهلها يتخذون فيها قصب السكر و عند مصب هذا الوادي من الجبل في البسيط مدينة تارودنت و بين مصب هذا الوادي في البحر و مصب وادي آش مرحلتان إلى ناحية الجنوب على ساحل البحر و هناك رباط ماسة الشهير المعروف بتردد الأولياء و عبادتهم و تزعم العامة أن خروج الفاطمة منه
و منه أيضا إلى زوايا أولاد بو نعمان مرحلتان في الجنوب كذلك على ساحل البحر و بعدها على مراحل عصب الساقية الحمراء و هي منتهى مجالات المعقل في مشايتهم و في رأس وادي السوس جبل زكنون قبلة جبل الكلاوي و في قبلة جبال درن جبال نكيسة تنتهي إلى جبال درعه و يعرف الآخر منها في الشرق بابن حميدي و يصب من جبال نكيسة وادي نول و يمر مغربا إلى أن يصب في البحر و على هذا الوادي بلدتا كاوصت محط الرفاق و البضائع بالقبلة و بها سوق في يوم واحد يقصده التجار من الآفاق و هو من الشهرة لهذا العهد بمكان و بلد إيفري بسفح جبال نكيسة بينها و بين تاكاوصت مرحلتان و أرض السوس مجالات لنزول لمطة فلمطه منهم مما يلي درن و كزولة مما يلي الرمل و القفر و لما تغلب المعقل على بسائطه اقتسموها مواطن فكان الشبانات أقرب إلى جبال درن و صارت قبائل لمطة من أحلافهم و صارت كزولة من أحلاف ذوي حسان و الأمر على ذلك لهذا العهد و بيد الله تصاريف الأمور لا رب سواه و معبود إلا إياه
علي
عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الرحمن بن بدر من بني باداسن (6/367)
الخبر عن دولة بن حفص ملوك أفريقية من الموحدين و مبدأ أمرهم و تصاريف أحوالهم
قد قدمنا أن قبائل المصامدة بجبل درن و ما حوله كثير مثل : هنتاتة و تينملل و هرغة و كنفيسة و سكسيوة و كدميوة و هزرجة و وريكة و هزميرة و ركراكة و حاحة و بني ماغوس و كلاوة و غيرهم ممن لا يحصى و كان منهم قبل الإسلام و بعده رؤساء و ملوك و هنتاتة هؤلاء من أعظم قبائلهم و أكثرها جمعا و أشدها قوة و هم السابقون للقيام بدعوة المهدي و الممهدون لأمره و أمر عبد المؤمن من بعده كما ذكرنا في أخباره و اسم هنتات جدهم بلسان المصامدة حتى كان كبيرهم لعهد الإمام المهدي الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى و نقل البيذق أن اسمه بلسانهم فارصكات
و هنتاتة لهذا العهد تقول إنه اسم جدهم و كان عظيما فيهم متبوع غير مدافع وهو أول من بايع الإمام المهدي من قومه فجاء يوسف بن وانودين و أبو يحيى بن بكيت و ابن يغمور و غيرهم منهم على أثره و اختص بصحابة المهدي فانتظم في العشرة السابقين إلى دعوته و كان تلو عبد المؤمن فيهم و لم تكن مزية عبد المؤمن عليه إلا من حيث صحابة المهدي
و أما من المصامدة فكان كبيرهم غير مدافع و كان يسمى بين الموحدين بالشيخ كما كان المهدي يسمى بالإمام و عبد المؤمن بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي بن أحمد بن والال بن إدريس بن خالد بن إليسع بن إلياس بن عمر بن وافتن بن محمد ابن نجية بن كعب بن محمد بن سالم بن عبد الله بن الخطاب هكذا نسبه ابن نخيل و غيره من الموحدين و يظهر منه أن هذا النسب القرشي وقع في المصامدة و التحم بهم و اشتملت عليه عصبيته شأن الأنساب التي تقع من قوم إلى قوم و تلتحم بهم كما قلناه أول الكتاب و لما هلك الإمام و عهد بأمره الى عبد المؤمن و كان بعيدا عن عصبية المصامدة إلا ما كان له من إثرة المهدي و اختصاصه فكتم موت المهدي و عهد عبد المؤمن ابتلاء لطاعة المصامدة و وتوقف عبد المؤمن عن ذلك ثلاث سنين ثم قال له أبو حفص نقدمك كما كان الإمام يقدمك فعلم أن أمره منعقد ثم أعلن ببيعته و أمضى عهد الإمام بتقديمه و حمل المصامدة على طاعته فلم يختلف عليه إثنان و كان الحل و العقد في المهمات إليه سائر أيام عبد المؤمن و ابنه يوسف و استكفوا به نوائب الدعوة فكفاهم همها و كان عبد المؤمن يقدمه في المواقف فبلى فيها و بعثه على مقدمته حين زحف إلى المغرب الأوسط قبل فتح مراكش سنة سبع و ثلاثين و خمسمائة و زناتة كلهم مجتمعون بمنداس لحرب الموحدين مثل بني ومانو و بني عبد الواد و بني ورسيغان و بني توجين و غيرهم فحمل زناتة على الدعوة بعد أن أثخن فيهم و لأول دخول عبد المؤمن لمراكش خرج عليه الثائر بماسة و انصرفت إليه وجود الغوغاء و انتشرت ضلالته في النواحي و تفاقم أمره فدفع لحربه الشيخ أبا حفص فحسم داءه و محا أثر غوايته
و لما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى أفريقية حركته الأولى لم يقدم شيئا على استشارة أبي حفص و لما رجع منها و عهد إلى ابنه محمد خالفه الموحدون و نكروا ولاية ابنه فاستدعى أبا حفص من مكانه بالأندلس و حمل الموحدين على البيعة له و أشار بقتل يصلاتي الهرغي رأس المخالفين في شأنه فقتله و تم أمر العهد لإبنه محمد و لما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى أفريقية سنة أربع و خمسين و خمسمائة و حركة الثانية لفتح المهدية استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب و ينقل من وصاة عبد المؤمن على الرحلة إلى أفريقية لبنيه أنه لم يبق من أصحاب الإمام إلا عمر بن يحيى و يوسف بن سليمان فأما عمر فإنه من أوليائكم و أما يوسف فجهزه بعسكره إلى الأندلس تستريح منه و كذلك فافعل بكل من تكرهه من المصامدة و أما ابن مردنيش فاتركه ما تركك و تربص به ريب المنون و أخل أفريقية من العرب و أجلهم إلى بلاد المغرب و أدخرهم لحرب ابن مردنيش إن احتجت إلى ذلك
و لما ولي يوسف بن عبد المؤمن تخلف الشيخ أبو حفص عن بيعته ووجم الموحدون لتخلفه حتى استنبل غرضه في حكم أمضاه بمقعد سلطانه و أعجب بفضله و أعطاه صفقة يمينه و أعلن بالرضا بخلافته فكانت عند يوسف و قومه من أعظم البشائر و تسمى بأمير المؤمنين سنة ثلاث و ستين و خمسمائة و لما ولي يوسف بن عبد المؤمن و تحركت الفتنة بجبال غمارة و صنهاجة التي تولى كبرها سبع بن منقفاد سنة اثنتين و ستين و خمسمائة عقد للشيخ أبي حفص على حربهم فجلى في ذلك ثم خرج بنفسه فأثخن فيهم و كمل الفتح كما ذكرناه و لما بلغه سنة أربع و ستين و خمسمائة تكالب الطاغية على الأندلس و غدره بمدينة بطليوس و اعتزم على الإجازة لحمايتها قدم عساكر الموحدين إليها لنظر الشيخ أبي حفص ونزل قرطبة و أمر من كان بالأندلس من السادة أن يرجعوا إلى رأيه فاستنفذ بطليوس من هذا الحصار وكانت له في الجهاد هنالك مقامات مشهورة و لما انصرف من قرطبة إلى الحضرة سنة إحدى و سبعين و خمسمائة هلك عفا الله عنه في طريقه بسلا و دفن بها و كان أبناؤه من بعده يتداولون الإمارة بالأندلس و المغرب و أفريقية مع السادة من بني عبد المؤمن فولى المنصور ابنه سعيد على أفريقية لأول ولايته و كان من خبره مع عبد الكريم المنتزي بالمهدية ما ذكرناه في أخباره و استوزر أبا يحيى بن أبي محمد بن عبد الواحد و كان في مقدمته يوم المعركة سنة إحدى و تسعين و خمسمائة فجلى عن المسلمين و كان له في ذلك الموقف من النصرة و الثبات ما طار له به ذكر و استشهد في ذلك الموقف و عرف أعقابه ببني الشهيد آخر الدهر و هم لهذا العهد بتونس و لما نهض الناصر إلى أفريقية سنة إحدى و ستمائة لما بلغه من تغلب ابن غانية على تونس فاسترجعها ثم نازل المهدية فتعاونت عليه ذئاب الأعراب و جمعهم ابن غانية و نزل قابس فسرح الناصر إليهم أبا محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص في عسكر من الموحدين فأوقع بابن غانية بتاجرا من نواحي قابس سنة إثنتين و ستمائة و قتل جبارة أخو ابن غانية و أثخن فيهم قتلا و سبيا و استبعد منهم السيد أبا زيد بن يوسف بن عبد المؤمن الوالي كان بتونس و أسره ابن غانية و رجع إلى الناصر بمكانه من حصار المهدية فكان سببا في فتحها و كان ذلك مما حمل الناصر على ولاية الشيخ أبي محمد بأفريقية حسبما يذكر إن شاء الله تعالى (6/370)
الخبر عن إمارة أبي محمد بن الشيخ أبي حفص بأفريقية و هي أولية أمرهم بها
لما تكالب ابن غانية و أتباعه على أفريقية و استولى على أمصارها و حاصر تونس و ملكها و أسر السيد أبا زيد أميرها و نهض الناصر من المغرب سنة إحدى و ستمائة كما ذكرناه فاسترجعها من أيديهم و شردهم عن نواحيها و خيم على المهدية يحاصرها و قد أنزل ابن غانية ذخيرته و ولده بها و أجلب في جموعه خلال ذلك على قابس فسرح الناصر إليه الشيخ أبا محمد هذا في عساكر الموحدين و زحف إليهم بتاجرا من جهات قابس فهزمهم و استولى على معسكرهم و ما كان بأيديهم و أثخن فيهم بالقتل و السبي و استنفذ السيد أبا زيد من أسرهم و رجع إلى الناصر بمعسكره من حصار المهدية ظافرا ظاهرا و عاين أهل المدينة يوم هزمه بالغنائم و الأسرى فبهتوا و سقط في أيديهم و سألوا النزول على الأمان و كمل فتح المهدية و رجع الناصر إلى تونس فأقام بها حولا إلى منتصف سنة ثلاث و ستمائة و سرح أثناء ذلك أخاه السيد أبا إسحق ليتتبع المفسدين و يمحو مواقع عيثهم فدوخ ما وراء طرابلس و أثخن في بني دمر و مطماطة و نفوسه و شارف أرض سرت و برقة و انتهى إلى سويقة ابن مذكور و فر ابن غانية إلى صحراء برقة و انقطع خبره وانكفأ السيد راجعا إلى تونس و اعتزم الناصر على الرحلة إلى المغرب و قد أفاء على أفريقية ظل الرضى و ضرب عليهم سرادق الحماية و بدا له أن ابن غانية سيخالفه إليها و أن مراكش بعيدة عن الصريخ و أنه لابد من رجل يسد فيها مسد الخلافة و يقيم بها شؤون الملك فوقع اختياره على أبي محمد بن الشيخ أبي حفص و لم يكن ليعدوه لما كان عليه هو و أبوه في دولتهم من الجلالة و أن أمر بني عبد المؤمن إنما تم بوفاق الشيخ أبي حفص و مظاهرته و أن أباه المنصور كان قد أوصى الشيخ أبا محمد به و بإخوته و كان يوليه صلاة الصبح إذا حضره شغل و أمثال ذلك
و سار الخبر إلى أبي محمد فامتنع و شافهه الناصر به فاعتذر فبعث إليه ابنه يوسف فأكرم موصله و أجاب على شريطة اللحاق بالمغرب بعد قضاء مهمات أفريقية في ثلاث سنين و أن يختار عليهم من رجالات الموحدين و أن لا يتعقب عليه في تولية و لا عزل فقبل شرطه و نودي في الناس بولايته و رفعت بين الموحدين رايته و ارتحل الناصر إلى المغرب و رجع عنه الشيخ أبو محمد من بجاية فقعد مقعد الإمارة بقصبة تونس في السبت العاشر من شوال سنة ثلاث و ستمائة و أنفذ أوامره و استكتب أبا عبد الله محمد بن أحمد بن نخيل و رجع ابن غانية إلى نواحي طرابلس فجمع أحزابه و أتباعه من العرب من سليم و هلال
و كان فيهم محمد بن مسعود في قومه من الزواودة و عاودوا عيثهم و خرج إليهم أبو محمد سنة أربع و ستمائة في عساكر الموحدين و تحيز إليه بنو عوف من سلم و هم مرداس و علاق فلقيهم بشير فتواقعوا و احتربوا عامة يومهم و نزل الصبر ثم انفض عسكر ابن غانية آخر النهار و اتبعهم الموحدون و العرب و اكتسحوا أموالهم و أفلت ابن غانية جريحا إلى أقصى مفرة و رجع أبو محمد إلى تونس بالظفر و الغنيمة و خاطب الناصر بالفتح و استنجاز وعده في التحول عن الولاية فخاطبه بالشكر و العذر بمهمات المغرب عن إدالته و أنه يستأنف النظر في ذلك و بعث إليه بالمال و الخيل و الكسى للإنفاق و العطاء كان مبلغها مائة ألف ألف دينار اثنتان و ألف و ثمانمائة كسوة و ثلثمائة سيف و مائة فرس غير ما كان أنفذ إليه من سبتة و بجاية و وعده بالزيادة و كان تاريخ الكتب سنة خمس و ستمائة فاستمر أبو محمد على شأنه و ترادفت الوقائع بينه و بين يحيى الميورقي كما نذكره إن شاء الله تعالى (6/373)
وقيعة تاهرت و ما كان من أبي محمد في تلافيها و استنفاذ غنائمها
كان يحيى بن غانية لما أفلت من وقيعة أشير بداله ليقصدن بلاد زناتة بنواحي تلمسان و قارن ذلك وصول الشيخ أبي عمران بن موسى بن يوسف بن عبد المؤمن واليا عليها من مراكش و خروجه إلى بلاد زناتة لتمهيد أنحائهم و جباية مغارمهم
و كتب إليه الشيخ أبو محمد نذيرا بشأنه و أن لا يعرض له و أنه في اتباعه فأبى من ذلك و ارتحل إلى تاهرت و صحبه بها ابن غانية فانفض معسكره و فرت زناتة إلى حصن بها و قتل السيد أبو عمران و استبيحت تاهرت فكان آخر العهد بعمرانها و امتلأت أيديهم من الغنائم و السبي و انقلبوا إلى أفريقية فاعترضه الشيخ أبو محمد في موضع فأوقع بهم و استنفذ الأسرى من أيديهم و اكتسح سائر مغانمهم و قتل فيها كثير من الملثمين و لحق فلهم بناحية طرابلس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/375)
واقعة نفوسة و مهلك العرب و الملثمين بها
كان ابن غانية بعد واقعة أشير و استنفاذ أبي محمد تاهرت من يده خلص إلى جهة طرابلس و تلاحق به فل الملثمين و أولياؤه من العرب و كان المجلي معه في مواقف الزواودة من رياح و كبيرهم محمد بن مسعود فتدامروا و اعتزموا على معاودة الحرب و تعاقدوا على الثبات و الصبر انطلقوا يستألفون الأعراب من كل ناحية حتى اجتمع إليهم من ذلك أمم كان فيهم رياح و رغب و الشريد و عوف و دباب و نغات
و احتفلوا في الاحتشاد و أجمعوا دخول أفريقية فبادرهم أبو محمد قبل وصولهم إليه و خرج من تونس سنة ست و ستمائة و أغذ السير إليهم و تزاحفوا عند جبل نفوسة و اشتدت الحرب و لما حمي الوطيس ضرب أبو محمد أبنيته و فسطاطه و تحيزا إليه بعض الفرق من بني عوف بن سليم و اختل مصاف ابن غانية و اتبعه الموحدون إلى أن دخل في غيابات الليل و امتلأت أيديهم بالأسرى و الغنائم و سيقت ظعائن العرب و قد كانوا قدموها بين أيديهم للحفيظة أفذاذا في الكر و الفر فأصبحت مغنما للموحدين و ربات خدورها سبيا
و هلك في المعركة خلق من الملثمين و زناتة و العرب و كان فيهم عبد الله بن محمد بن مسعود البليط بن سلطان شيخ الزواودة و ابن عمه حركات بن الشيخ بن عساكر ابن السلطان و شيخ بني قرة و جرار بن ويفرن كبير مغزاوة و محمد بن الغازي بن غانية في آخرين من أمثالهم و انصرف ابن غانية مهيض الجناح مفلول الحد عفوفا باليأس من جميع جهاته و انقلب أبو محمد و الموحدون أعزة ظاهرين و استفحل أمر أبي محمد بأفريقية و حسم علل الفساد و استوفى جبايتها و طالت مواقف حروبه و لم تهزم له راية و هلك الناصر و ولي ابنه يوسف المستنصر و استبد عليه المشيخة لمكان صغره و شغلوا بفتنة بني مرين و ظهورهم بالمغرب فاستكفى بالشيخ أبي محمد في أفريقية و عول على غنائه فيها و ضبطه لأحوالها و قيامه بملكها فأبقاه على أعمالها و سرب إليه الأموال لنفقاتها و أعطياتها و لم يزل إلى أن هلك سنة ثمان عشرة و ستمائة و الله أعلم (6/375)
الخبر عن مهلك الشيخ أبي محمد بن الشيخ أبي حفص و ولاية عبد الرحمن ابنه
كانت وفاة الشيخ أبي محمد فاتح سنة ثمان عشرة و ستمائة و لما هلك ارتاع الناس لمهلكه و افترق أمر الموحدين في الشورى فريقين بين عبد الرحمن بن الشيخ أبي محمد و ابراهيم ابن عمه اسمعيل بن الشيخ أبي حفص فترددوا مليا ثم اتفقوا على الأمير أبي زيد عبد الرحمن ابنه و أعطوه صفقة إيمانهم و أقعدوه بمجلس أبيه في الإمارة فسكن الثائرة و شمر للقيام بالأمر عزائمه و أفاض العطاء و أجاز الشعراء و استكتب أبا عبد الله ابن أبي الحسن و خاطب المستنصر بالشأن و خرج في عساكره لتمهيد النواحي و حماية الجوانب إلى أن وصل كتاب المستنصر بعزله لثلاثة أشهر من ولايته حسبما نذكره فارتحل إلى المغرب و معه إخوانه و كاتبه ابن أبي الحسين و لحق بالحضرة (6/376)
الخبر عن ولاية السيد أبي العلا على أفريقية و ابنه أبي زيد من بعده و أخبارهم فيها و اعتراضهم في الدولة الحفصية
لما بلغ الخبر إلى مراكش بمهلك أبي محمد بن أبي حفص و قارن ذلك عزله السيد أبي العلا من أشبيلية و وصوله إلى الحضرة مسخوطا : و هو أبو العلا إدريس بن يوسف عبد المؤمن أخو يعقوب المنصور و عبد الواحد المخلوع المبايع له بعد ذلك و عول على الوزير ابن المثنى في جبر حاله فسعى له عند الخليفة و عقد له على أفريقية و وصل الخطاب بولايته و نيابة إبراهيم بن إسمعيل بن الشيخ أبي حفص عنه خلال ما يصل و استقدام أبناء الشيخ أبي محمد إلى الحضرة و قرىء الكتاب شهر ربيع الأول من سنة ثماني عشرة و ستمائة فقام الشيخ بالنيابة في أمره و استعمل أحمد المشطب في وزارته و غلب بطانته و أساء في الموالاة لقرابته و اختص أبناء الشيخ أبا محمد بقبيحة و ظن امتداد الدولة له و وصل السيد أبو العلا شهر ذي القعدة من السنة فنزل بالقصبة و نزل ابنه السيد أبا زيد بقصر ابن فاخر من البلد و رتب الأمور و نهج السنن
و لشهر من وصوله تقبض علي محمد بن نخيل كاتب الشيخ أبي محمد و على أخويه أبي بكر و يحيى و استصفى أموالهم و احتاز عقارهم و ضياعهم و كان المستنصر عهد إليه بذلك لما كان أسفه بفلتات من القول و الكتاب تنمى إليه أيام رياسته في خدمة أبي محمد فاعتقلهم السيد أبو العلا ثم قتله و أخاه يحيى لشهر من اعتقالهما بعد أن فر من سجنه و تقبض فقتل و نقل أبو بكر إلى مطبق المهدية فأردع به
و خرج السيد أبو العلا من تونس سنة تسع عشرة و ستمائة في عساكر الموحدين إلى نواحي قابس لقطع أسباب ابن غانية منها فنزل قصر العروسيين و سرح ولده السيد أبا زيد في عسكر من الموحدين إلى درج و غدامس من بلاد الصحراء لتمهيدها و جبايتها و قدم بين يده عسكرا آخرا لمنازلة ابن غانية بودان و واعدهم هناك منصرفة من غدامس فأرجف بهم العرب في طريقهم بمداخلة ابن غانية و مال بذله في ذلك فانفض العسكر و زحفوا إلى قابس و أهمل السيد أبو زيد في غدامس إليهم فلقيه خبر مفرهم فلحق بأبيه و أخبره بالجلى في أمرهم فسخط قائد العسكر و هم بقتله و طرق السيد أبا العلا المرض فرجع إلى تونس و بلغه أن ابن غانية نهض من ودان إلى الزاب و أن أهل بسكرة أطاعوه فسرح السيد أبا زيد في عساكر الموحدين إليه و دخل ابن غانية الرمل فأعجزهم
و رجع السيد أبو زيد إلى بسكرة فأنزل بهم عقابه من النهب و التخريب و رجع إلى تونس ثم بلغه أن ابن غانية قد رجع إلى جوانب أفريقية و اجتمع إليه أخلاط من العرب و البربر فسرح السيد أبا زيد إليه في العساكر و نزل بالقيروان و خالفه ابن غانية إلى تونس فقصده السيد أبو زيد و معه العرب و هوارة بظعائنهم و مواشيهم
و تزاحفوا بمجدول فاتح إحدى و عشرين و ستمائة و اشتد القتال و عضت الموحدون الحرب و أبلى هوارة و شيخهم بعرة بن حناش بلاء جميلا و ضرب ابنتيه و تناغوا في الثبات و الصبر فانهزم الملثمون و انجلت المعركة عن حصيد من القتلى من أصحاب ابن غانية و استولى الموحدون على معسكرهم
و كان بلغ السيد أبا زيد خبر مهلك أبيه السيد أبي العلا بتونس في شعبان سنة عشرين و ستمائة فلما فرغ من مواقعة ابن غانية رجع إلى تونس و أقصر عن متابعته و خاطب المستنصر بمهلك أبيه و واقعة الملثمين و كان المستنصر قد عزله و استبدل منه بأبي يحيى بن أبي عمران التينمللي صاحب ميورقة و لم يصل إليه الخبر بعزله بعد و هلك الملك المستنصر إثر ذلك سنة عشرين و ستمائة و ولي عبد الواحد المخلوع بن يوسف بن عبد المؤمن فنقض تلك العقدة و كتب إلى السيد أبي زيد بالإبقاء على عمله و نقض ما أصدر المستنصر من عزله فأرسل عنانه في الولاية و بسط يده في الناس بمكروهه و تنكرت له الوجوه و انحرف عنه الناس بما كانوا عليه من الصاغية لأبي محمد بن أبي حفص و ولده الى أن عزل و استبدل بهم كما نذكره و ركب البحر بذخائره و أهله فلحق بالحضرة (6/377)
الخبر عن ولاية أبي محمد عبد الله بن أبي محمد بن الشيخ أبي حفص و ما كان فيها من الأحداث
لما هلك المخلوع و ولي العادل ولى علي أفريقية أبا محمد عبد الله بن أبي محمد عبد الواحد و ولى على بجاية يحيى بن الأطاس التينمللي و عزل عنها ابن يغمور و كتب إلى السيد أبي زيد بالقدوم و كتب أبو محمد عبد الله إلى ابن عمه موسى بن ابراهيم بن الشيخ أبي حفص بالنيابة عنه خلال ما يصل فخرج السيد أبو زيد في ربيع الآخر سنة ثلاث و عشرين وستمائة و استقل أبو عمران موسى بأمر أفريقية و استمرت نيابته عليها زهاء ثمانية أشهر و خرج أبو محمد عبد الله من مراكش إلى أفريقية
و لما انتهى إلى بجاية قدم بين يديه أخاه الأمير أبا زكريا ليعترضه طبقات الناس للقائه فوصل إلى تونس في شعبان من هذه السنة بعد أن أوقع في طريقه بولهاصة و كان أولاد شداد رؤساؤهم قد جمعوا لاعتراضه بناحية بونة فسرح أخاه الأمير أبا زكريا لحسم دائهم و لخروج الطبقات من أهل الحضرة للقائه فكان ذلك و خرج في رمضان من سنته و خرج معه الناس على طبقاتهم فلقوه بسطيف و وصل إلى الحضرة في ذي القعدة من آخر السنة و تزحزح أبو عمران عن النيابة ثم لحقه من المغرب أخوه أبو إبراهيم في صفر سنة أربع و عشرين و ستمائة فعقد له على بلاد قسطيلية و عقد لأخيه الأمير أبي زكريا على قابس و ما إليها و ذلك في جمادي من هذه السنة
و بعد استقرار بتونس بلغه أن ابن غانية دخل بجاية عنوة ثم تخطى كذلك إلى تدلس و أنه عاث في تلك الجهات فرحل من تونس و عقد لأخويه كما ذكرناه و أغذ السير إلى فحص أبة فصبح به هوارة وقد كان بلغه عنهم السعي في الفساد فأطلق فيهم أيدي عسكره و اعتقل مشايخهم و أنفذهم إلى المهدية ثم مر في اتباع ابن غانية فانتهى إلى بجاية و سكن أحوالها ثم إلى متيجة و مليانة فأدركه الخبر أن ابن غانية قصد سجلماسة فانكفأ راجعا إلى تونس و دخلها في رمضان سنة أربع و عشرين و ستمائة و لم يزل مستبدا بإمارته إلى أن ثار عليه الأمير أبو زكريا و غلبه على الأمر كما نذكر (6/379)
الخبر عن ولاية الأمير أبي زكريا ممهد الدولة لآل أبي حفص بأفريقية و رافع الراية لهم بالملك و أولية ذلك و بدايته
لما قتل العادل بمراكش سنة أربع و عشرين و ستمائة و بويع المأمون بالأندلس بعث إلى أبي محمد عبد الله بتونس ليأخذ له البيعة على من بها من الموحدين و كان المأمون قد فتح أمره بالخلاف و دعا لنفسه قبل موت أخيه العادل بأيام فامتنع أبو محمد و رد رسله إليه فكتب بذلك لأخيه الأمير أبي زكريا و هو بمكانه من ولاية قابس و عقد له على أفريقية فأخذ له البيعة على من إليه و داخله في شأنها ابن مكي كبير المشيخة بقابس و اتصل ذلك بأبي محمد فخرج من تونس إليهم و لما انتهى إلى القيروان نكر عليه الموحدون نهوضه إلى حرب أخيه و انتقضوا عليه و عزلوه و طير بالخبر إلى أخيه في وفد منهم فألفوه معملا في اللحاق برحاب بن محمد و أعراب طرابلس فبايعوه و وصلوا به إلى معسكرهم و خلع أبو محمد نفسه ثم ارتحل الأمير أبو زكريا إلى تونس فدخلها في رجب من سنة خمس و عشرين و ستمائة و أنزل أخاه أبا محمد بقصر ابن فاخر و تقبض على كاتبه أبي عمرو طرا من الأندلس و استكتبه أبو محمد فغلب على هواه و كان يغريه بأخيه فبسط الأمير أبو زكريا عليه العذاب إلى أن هلك ثم بعث أخاه محمد في البحر إلى المغرب فاستبد بملكه و استوزر ميمون بن موسى الهنتاتي و استقامت أموره (6/380)
الخبر عن استبداد الامير أبي زكريا بالأمر لبني عبد المؤمن
لما اتصل به ما أتاه المأمون من قتل الموحدين بمراكش و خصوصا هنتاتة و تينملل و كان منهم أخواه أبو محمد عبد الله المخلوع و إبراهيم و أنه أشاع النكير على المهدي في العصمة و في وضع العقائد و النداء للصلوات باللسان البربري و إحداث النداء للصبح و تربيع شكل الدرهم و غير ذلك من سننه و أنه غير رسوم الدعوة و بدل أصول الدولة و أسقط اسم الإمام من الخطبة و السكة و أعلن بلعنه و وافق بلوغ الخبر بذلك وصول بعض العمال إلى تونس بتولية المأمون فصرفهم و أعلن بخلعه سنة ست و عشرين و ستمائة و حول الدعوة إلى يحيى ابن أخيه الناصر المنتزي عليه بجبال الهساكرة ثم اتصل به بعد ذلك عجز يحيى و استقلاله فأغفله و اقتصر على ذكر الإمام المهدي و تلقب بالأمير و رسم علامته به في صدور مكتوباته ثم جدد البيعة لنفسه سنة أربع و ثلاثين و ستمائة و ثبت ذكره في الخطبة بعد ذكر الإمام مقتصرا على لفظ الأمير لم يجاوزه إلى أمير المؤمنين و خاض أولياء دولته في ذلك حتى رفع إليه بعض شعرائه في مفتتح كلمة مدحه بها :
( الأصل بالأمير المؤمنينا ... فأنت بها أحق العالمينا )
فزحزحهم عن ذلك و أبي عنه و لم يزل على ذلك إلى آخر دولته (6/381)
الخبر عن فتح بجاية و قسنطينة
لما استقل الأمير أبو زكريا بالأمر بتونس و خلع بني عبد المؤمن و نهض إلى قسنطينة سنة ست و عشرين و ستمائة فنزل بساحتها و حاصرها أياما ثم داخله ابن علناس في شأنها و أمكنه من غرتها فدخلها و تقبض على واليها السيد ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني بن يوسف العشري و ولى عليها ابن النعمان و رحل إلى بجاية فافتتحها و تقبض على واليها السيد أبي عمران ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني و صيرهما معتقلين في البحر إلى المهدية و أجريت عليهما هنالك الأرزاق و بعث بأهلهما و ولدهما مع ابن أوماز إلى الأندلس فنزلوا بأشبيلية و بعث معهما إلى المهدية في الاعتقال محمد بن جامع و ابنه و ابن أخيه جابر بن عون بن جامع من شيوخ مرداس عوف و ابن أبي الشيخ بن عساكر من شيوخ الدواودة فاعتقلوا بمطبق المهدية و كان أخوه أبو عبد الله اللحياني صاحب أشغال بجاية فصار في جملته و ولاه بعدها الولايات الجليلة و كان يستخلفه بتونس في مغيبه و في هذه السنة تقبض على وزيره ميمون بن موسى و استصفى أمواله و أشخصه إلى قابس فاعتقل بها مدة ثم غربه إلى الإسكندرية و استوزر مكانه أبا يحيى بن أبي العلا بن جامع إلى أن هلك فاستوزر بعده أبا زيد ابن أخيه الآخر محمد إلى أن هلك (6/381)
الخبر عن مهلك ابن غانية و حركة السلطان الى بجاية و ولاية ابنه الأمير أبي يحيى زكريا عليها
لما استقل الأمير أبو زكريا بأفريقية و خلع طاعة بني عبد المؤمن صرف عزمه أولا إلى مدافعة يحيى بن غانية عن نواحي أعماله فكانت له في ذلك مقامات مذكورة وشرده عن جهات طرابلس و الزاب و واركلا و اختط بواركلا المسجد لما نزلها في أتباعه و أنزل بالأطراف عساكره و عماله لمنعها دونه و لم يزل ابن غانية و أتباعه من العرب من أفاريق سليم و هلال و غيرهم على حالهم من التشريد و الجلاء إلى أن هلك سنة إحدى و ثلاثين و ستمائة و انقطع عقبه فانقطع ذكره و محا الله آثار فتنته من الأرض و استقام أمر الدولة و نبضت منها عروق الاستيلاء و اتساع نطاق الملك
و نهضت عزائمه إلى تدويخ أرض المغرب فخرج من تونس سنة اثنتين و ثلاثين و ستمائة يوم بلاد زناتة بالمغرب الأوسط و أغذ السير إلى بجاية فتلوم بها ثم ارتحل إلى الجزائر فافتتحها و ولى عليها ثم نهض منها إلى بلاد مغراوة فأطاعه بنو منديل بن عبد الرحمن و جاهر بنو توجين بخلافه فنزل البطحاء و أوقع بهم و تقبض على رئيسهم عبد القوي بن العباس فاعتقله و بعث به إلى تونس و دوخ المغرب الأوسط و قفل راجعا إلى حضرته و عقد مرجعه من المغرب لابنه الأمير أبي يحيى زكريا على بجاية و أنزله بها و استوزر له يحيى بن صالح بن ابراهيم الهنتاتي و جعل شواره لعبد الله بن أبي تهدى و جبايته لعبد الحق بن ياسين و كلهم من هنتاتة و كتب إليه بوصيته مشتملة على جوامع الخلال في الدين و الملك و السياسة يجب إثباتها لشرف مغزاها و غرابة معناها و يأتي نصها فيما بعد (6/382)
الخبر عن سطوة السلطان بهوارة
كان لهوارة هؤلاء بأفريقية ظهور و عدد منذ عهد الفتح و كانت دولة العبيديين قد جرت عليهم بكلكلها لما كان منهم في فتنة أبي يزيد كما نذكره في أخبارهم و بقي منهم فل بجبل أوراس و ما بعده من بلاد أفريقية و بسائطها إلى أبة و مرماجنة و سبيبة و تبرسق و لما انقرض ملك صنهاجة بالموحدين و تغلب الأعراب من هلال و سليم على سائر النواحي بأفريقية و كثروا ساكنها و تغلبوا عليهم أخذ هذا الفل بمذهب العرب و شعارهم و شارتهم في اللبوس و الزي و الظعون و سائر العوائد و هجروا لغتهم العجمية إلى لغتهم ثم نسوها كأن لم تكن لهم شأن المغلوب في الاقتداء بغالبه ثم كان لهم انحياش أولد الدولة إلى الطاعة بغلب عبد المؤمن و قومه فلما استبد الأمير أبو زكريا و انقلبت الدولة إلى بني أبي حفص ظهر منهم التياث في الطاعة و امتناع عن المعزم و أضرار بالسابلة فاعتمل السلطان في أمرهم و خرج من تونس سنة ست و ثلاثين و ستمائة موريا بالغزو إلى أهل أوراس و بعث في احتشادهم فتوافدوا في معسكره ثم صبحهم في عسكره من الموحدين و العرب ففتك بهم قتلا و سبيا و اكتسح أموالهم و قتل كبيرهم أبو الطيب بعرة بن حناش و أفلت من أفلت منهم ناجيا بنفسه عاريا من كسبه فألانت هذه البطشة من حدهم و خضدت من شوكتهم و استقاموا على الطاعة بعد (6/383)
الخبر عن ثورة الهزعي بطرابلس و منال أمره
كان هذا الرجل من مشيخة الموحدين و هو يعقوب بن يوسف بن محمد الهرغي و يكنى بأبي عبد الرحمن و كان الأمير أبو زكرياء و قد عقد له على طرابلس و جهاتها و سرح معه عسكرا من الموحدين من أعراب دباب من بني سليم فقام بأمرها و اضطلع بجباية رعاياها و استخدم العرب و البربر الذين بساحتها و كان بينه و بين الجواهري مصدوقة ود فلما قتل الجواهري سنة تسع و ثلاثين و ستمائة كما قدمناه استوحش لها يعقوب الهرغي و استقدمه السلطان فتلكأ و بعث عنه أخاه ابن أبي يعقوب فازداد نفاره و حدثته نفسه بالاستبداد لما كان أثرى من الجباية و شعر لها أهل البلد فانطلقوا و هم يتخافون أن يعاجلوه قبل مداخلته العرب في أمره فتقبضوا عليه و على أخيه و على أتباعهما ليلة أجمعوا الثورة في صباحها و طيروا بالخبر إلى الحضرة فنفذ الأمر بقتلهم فقتلوا و بعث برؤوسهم إلى باب السلطان و نصبت أشلاؤهم بأسوار طرابلس و أصبحوا عبرة للمعتبرين و أنشد الشعراء في التهنية بهم و قامت للبشائر سوق لكائنتهم
و كان ممن قتل معه محمد ابن قاضي القضاة بمراكش أبي عمران بن عمران وصل علقا إلى تونس و قصد طرابلس فاتصل بهذا الهرغي و نمي عنه أنه أنشأ خطبة ليوم البيعة فكانت سائقة حتفه و كان بالمهدية رجل من الدعاة يعرف بأبي حمراء اشتهر بالنجدة في غزو البحر و قدم على الأسطول فردد الغزو حتى هابه الغزى من أمم الكفر و أمنت سواحل المسلمين من طروقهم و طار له فيها ذكر و نمي أنه كان مداخلا للجواهري و الهرغي و أن القاضي بالمهدية أبا زكرياء البرقي اطلع على دسيستهم في ذلك فنفذ الأمر السلطاني للوالي بها أبي علي بن أبي موسى بن أبي حفص بقتل ابن أبي الأحمر و إشخاص القاضي إلى الحضرة معتقلا فأمضى عهده و لما وصل البرقي إلى تونس فحص السلطان عن شأنه فبرىء من مداخلتهم فسرحه و أعاده إلى بلده و قتل بالحضرة رجل آخر من الجند أتهم بمداخلتهم و سعايته في قيامهم و كان له تعلق برحاب بن محمود أمير دباب فأوعز السلطان إلى بعض الدعار من زناتة فقتله غيلة ثم أهدر دمه و تتبع أهل هذه الخائنة بالقتل حتى حسم الداء و محا شوائب الفتنة (6/384)
الخبر عن بيعة بلنسية و مرسية و أهل شرق الأندلس و وفدهم
لما استقل أبو جميل زيان بن أبي الحملات مدافع بن أبي الحجاج بن سعد بن مردنيش بملك بلنسية و غلب عليها السيد أبا زيد بن السيد أبي حفص و ذلك عند خمود ريح بني عبد المؤمن بالأندلس و خروج ابن هود على المأمون ثم فتنته هو مع ابن هود و ثورة ابن الأحمر بأرجونة و اضطراب الأندلس بالفتنة و أسف الطاغية إلى ثغور الأندلس من كل جانب و زحف ملك أرغون إلى بلنسية فحاصرها و كانت للعدو سنة ثلاث و ثلاثين و ستمائة سبع محلات لحصار المسلمين :
اثنتان منها على بلنسية و جزيرة شقر و شاطبة و محلة بجيان و محلة بطبيرة و محلة بمرسية و محلة بلبلة و أهل جنوة من وراء ذلك على سبتة
ثم تملك طاغية قشتالة مدينة قرطبة و ظفر طاغية أرغون بالكثير من حصون بلنسية و الجزيرة و بنى حصن أنيشة لحصار بلنسية و أنزل بها عسكره و انصرف فاعتزم زيان بن مردنيش على غزو من بقي بها من عسكره و استنفر أهل شاطبة و شقر و زحف إليهم فانكشف المسلمون و أصيب كثير منهم و استشهد أبو الربيع بن سالم شخ المحدثين بالأندلس و كان يوما عظيما و عنوانا على أخذ بلنسية ظاهرا ثم ترددت عليها سرايا العدو ثم زحف إليها طاغية أرغون في رمضان سنة خمس و ثلاثين و ستمائة فحاصرها و استبلغ في نكايتها و كان بنو عبد المؤمن بمراكش قد فشل ريحهم و ظهر أمر بني أبي حفص بأفريقية فأمل ابن مردنيش و أهل شرق الأندلس الأمير أبا زكرياء للكرة و بعثوا إليه بيعتهم و أوفد عليه ابن مردنيش كاتبه الفقيه أبا عبد الله بن الأبار صريخا فوفد و أدى بيعتهم في يوم مشهود بالحضرة و أنشد في ذلك المحفل قصيدته على روي السين يستصرخه فيها للمسلمين و هي هذه :
( أدراك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا )
( و هب لها من عزيز النصر ما التمست ... فلم يزل منك عز النصر ملتمسا )
( عاش مما تعاينه حشاشتها ... فطالما ذاقت البلوى صباح مسا )
( يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا ... للنائبات و أمسى جدها تعسا )
( في كل شارقة إلمام بائقة ... يعود ماتمها عند العدا عرسا )
( و كل غاربة إجحاف نائبة ... تثني الأمان حذارا و السرور أسا )
( نقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ... إلا عقائلها المحجوبة الأنسا )
( و في بلنسية منها و قرطبة ... ما يذهب النفس أو ما ينزف النفسا )
( مدائن حلها الإشراك مبتسما ... جذلان و ارتحل الإيمان منبئسا )
( و صيرتها العوادي عائثات بها ... يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا )
( ما للمساجد عادت للعدى بيعا ... و للنداء يرى أثناءها جرسا )
( لهفا عليها إلى استرجاع فائتها ... مدارسا للمثاني أصبحت درسا )
( و أربعا غنمت أيدي الربيع بها ... ما شئت من خلع موشية و كسا )
( كانت حدائق للأحداق مونقة ... فصوح النصر من أدواحها و عسا )
( و حال ما حولها من منظر عجب ... يستوقف الركب أو يستركب الجلسا )
( سرعان ما عاث جيش الكفر و احربا ... عيث الدبا في مغانيها التي كبسا )
( و ابتز بزتها مما تحيفها ... تحيف الأسد الضاري لما افترسا )
( فأين عيش جنيناه بها خضرا ... و أين غصن جنيناه بها سلسا )
( محا محاسنها طاغ أتيح لها ... ما نام عن هضمها حينا و ما نعسا )
( و رج أرجاءها لما أحاط بها ... فغادر الشم من أعلامها خنسا )
( خلا له الجو و امتدت يداه إلى ... إدراك ما لم تنل رجلاه مختلسا )
( و أكثر الزعم بالتثليث منفردا ... و لو رأى راية التوحيد ما نبسا )
( صل حبلها أيها المولى الرحيم فما ... أبقى المراس لها حبلا و لا مرسا )
( و أحي ما طمست منها العداة كما ... أحييت من دعوة المهدي ما طمسا )
( أيام صرت لنصر الحق مستبقا ... و بت من نور ذاك الهدي مقتبسا )
( و قمت فيها لأمر الله منتصرا ... كالصارم اهتز أو كالعارض انبجسا )
( تمحو الذي كتب التجسيم من ظلم ... و الصبح ماحية أنواره الغلسا )
( هذي رسائلها تدعوك من كتب ... و أنت أفضل مرجو لمن يئسا )
( و افتك جارية بالنجح راجية ... منك الأمير الرضى و السيد الندسا )
( خاضت خضارة يعلوها و يخفضها ... عبابه فتعاني اللين و الشرسا )
( و ربما سبحت و الريح عاتية ... كما طلبت بأقصى شدة الفرسا )
( تؤم يحيى بن عبد الواحد بن أبي ... حفص مقبلة من تربه القدسا )
( ملك تقلدت الأملاك طاعته ... دينا و دنيا فغشاها الرضى لبسا )
( من كل غاد على يمناه مستلما ... و كل صاد إلى نغماه ملتمسا )
( مؤيد لو رمى نجما لأثبته ... و لو دعا أفقا لبى و ما احتسبا )
( إمارة تحمل المقدار رايتها ... و دولة عزها يستصحب القعسا )
( يبدي النهار بها من ضوئه شنبا ... و يطلع الليل من ظلمائه لعسا )
( كأنه البدر و العلياء هالته ... تحف من حوله شهب القنا حرسا )
( له الثرى و الثريا خطتان فلا ... أعز من خطتيه ما سما و رسا )
( يا أيها الملك المنصور أنت لها ... علياء توسع أعداء الهدى تعسا )
( و قد تواترت الأنباء أنك من ... يحيى بقتل ملوك الصفر أندلسا )
( طهر بلادك منهم إنهم نجس ... و لا طهارة ما لم تغسل النجسا )
( و أوطىء الفيلق الجرار أرضهم ... حتى يطأطىء رأس كل من رأسا )
( و انصر عبيدا بأقصى شرقها شرقت ... عيونهم أدمعا تهمي زكاء و خسا )
( هم شيعة الأمر و هي الدار قد نهكت ... داء متى لم تباشر حسمه انتكسا )
( املأ هنئيا لك التمكين ساحتها ... جردا سلاهب أو خطية دعسا )
( و اضرب لها موعدا بالفتح ترقبه ... لعل يوم الأعادي قد أتى و عسا )
فأجاب الأمير أبو زكريا داعيتهم و بعث إليهم أسطوله مشحونا بمدد الطعام و الأسلحة و المال مع أبي يحيى بن يحيى بن الشهيد أبي إسحاق بن أبي حفص و كانت قيمة ذلك مائة ألف دينار و جاءهم الأسطول بالمدد و هم في هذا الحصار فنزل بمرسى دانية و استفرغ المدد بها و رجع بالناض إذا لم يخلص إليه من قبل ابن مردنيش من يتسلمه
و اشتد الحصار على أهل بلنسية و عدمت الأقوات و كثر الهلاك من الجوع فوقعت المراودة على إسلام البلد فتسلمها جاقمة ملك أرغون في صفر سنة ست و ثلاثين و ستمائة و خرج عنها ابن مردنيش إلى جزيرة شقر فأخذ البيعة على أهلها للأمير أبي زكريا و رجع ابن الأبار إلى تونس فنزل على السلطان و صار في جملته و ألح العدو على حصار ابن مردنيش بجزيرة شقر و أزعجه عنها إلى دانية فدخلها في رجب من سنته و أخذ عليهم البيعة للأمير أبي زكريا
ثم داخل أهل مرسية و قد كان بويع بها أبو بكر عزيز بن عبد الملك ابن خطاب في مفتتح السنة فافتتحها عليه في رمضان من سنته و قتله و بعث ببيعتهم إلى الأمير أبي زكريا و انتظمت البلاد الشرقية في طاعته و انقلب وفد ابن مردنيش إليه من تونس بولايته على عمله سنة سبع و ثلاثين و ستمائة و لم يزل بها إلى أن غلبه ابن هود على مرسية و خرج عنها إلى لقنت الحصون سنة ثمان و ثلاثين و ستمائة إلى أن أخذها طاغية برشلونة من يده سنة أربع و أربعين و ستمائة و أجاز إلى تونس و البقاء لله (6/385)
الخبر عن الجوهري و أوليته و مال أمره
إسم هذا الرجل : محمد بن محمد الجوهري و كان مشتهرا بخدمة ابن أكمازير الهنتاتي والي سبتة و غمارة من أعمال المغرب و كان حسن الضبط متراميا إلى الرياسة و لما ورد على تونس و تعلق بأعمال السلطان نظر فيما يزلفه و يرفع من شأنه فوجد جباية أهل الخيام بأفريقية من البرابرة الموطنين مع الأعراب غير منضبطة و لا محصلة في ديوان فنبه على أنها مأكلة للعمال و نهبة للولاة فدفع إليها فأنمى جبايتها و قرر ديوانها و صارت عملا منفردا يسمى عمل العمود وطار له بذلك بين العمال ذكر جذب له السلطان أبو زكرياء بضبعه و عول على نصيحته و آثره باختصاصه و وافق ذلك موت أبي الربيع الكنفيتي المعروف بابن الغريغر صاحب الأشغال بالحضرة فاستعمل مكانه و كان لا يلي تلك الخطة إلا كبير من مشيخة الموحدين فرشحه السلطان لها لكفايته و غنائه فظفر منها بحاجة نفسه و اعتدها ذريعة إلى أمنيته فاتخذ شارة أرباب السيوف و ارتبط الخيل و اتخذ الآلة في حروبه مع أهل البادية إذا احتاج إليها
و أسف أثناء ذلك أبا علي بن النعمان و أبا عبيد الله بن أبي الحسن بعدم الخضوع لهما فنصبا له و أغريا به السلطان و حذراه غائلة عصيانه و كان فيه إقدام أوجد به السبيل على نفسه و يحكى أن السلطان استشاره ذات يوم في تقويم بعض أهل الخلاف و العصيان فقال له :
عندي ببابك ألف من الجنود أرم بها من تشاء من أمثالهم فأعرض عنه السلطان و اعتدها عليه و جعلها مصداقا لما نمي عنه و لما قدم عنه عبد الحق بن يوسف بن ياسين على الأشغال ببجاية مع زكريا بن السلطان أظهر له الجوهري أن ذلك بسعايته و عهد إليه بالوقوف عند أمره و العمل بكتابه فألقى عبد الحق ذلك إلى الأمير أبي زكريا فقام لها و قعد و أنف من استبداد الجوهري عليه و لم تزل هذه و أمثالها تعد عليه حتى حق عليه القول فسطا به الأمير أبو زكريا و تقبض عليه سنة تسع و ثمانين و ستمائة و وكل امتحانه إلى أعدائه ابن لمان و الندرومي فتجلد على العذاب و أصبح في بعض أيامه ميتا بمحبسه و يقال خنق نفسه و ألقي شلوه بقارعة الطريق فتفنن أهل الشمات في العبث به و إلى الله المصير (6/389)
الخبر عن فتح تلمسان و دخول بني عبد الواد في الدعوة الحفصية
كان الأمير أبو زكريا منذ استقل بأمر أفريقية و اقتطعها عن بني عبد المؤمن كما ذكرناه متطاولا إلى ملك الحضرة بمراكش و الاستيلاء على كرسي الدعوة و كان يرى أن بمظاهرة زناتة له على شأنه يتم له ما يسمو إليه من ذلك فكان يداخل أمراء زناتة فيه و يرغبهم و يراسلهم بذلك على الأحياء من بني مرين و بني عبد الواد و توجين و مغراوة
و كان يغمراسن منذ تقلد طاعة آل عبد المؤمن أقام دعوتهم بعمله متحيزا إليهم سلما لوليهم و حربا على عدوهم و كان الرشيد منهم قد ضاعف له البر و الخلوص و خطب منه مزيد الولاية و المصافاة و عاوده الاتحاف بأنواع الألطاف و الهدايا تيمما لمسراته و ميلا إليه عن جانب أقتاله بني مرين المجبلين على المغرب و الدولة فاستكبر السلطان أبو زكريا اتصال الرشيد هذا بيغمراسن و ألزمهم من جواره بالمحل القريب
و بينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القوي أمير بني توجين و بعض ولد منديل بن عبد الرحمن أمراء مغراوة صريخا على يغمراسن فسهلوا له أمره و سولوا له الاستبداد على تلمسان و جمع كلمة زناتة و اغداد ذلك ركابا لما يرومه من امتطاء ملك الموحدين بمراكش و انتظامه في أمره و سلما لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه و بابا لولوج المغرب على أهله فحركه إملاؤهم و هزه إلى النعرة صريخهم و أهاب بالموحدين و سائر الأولياء و العساكر إلى الحركة على تلمسان و استنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في طاعته من بني سليم و رياح بظعنهم فاهطعوا لداعيه
و نهض سنة تسع و ثلاثين و ستمائة في عساكر ضخمة و جيوش وافرة و سرح إمام حركته عبد القوي بن العباس و أولاد منديل بن محمد لحشد من وافى بأوطانهم من أحياء زناتة و ذؤبان قبائلهم و أحياء زغبة أحلافهم من العرب و ضرب معهم موعدا لموافاتهم في في تخوم بلادهم و لما نزل صحراء زاغر قبلة تيطري منتهى مجالات رياح و بني سليم من المغرب تثاقل العرب عن الرحلة بظعنهم في ركاب السلطان و تولوا بالمعاذير فألطف الأمير أبو زكريا الحيلة و زعموا في استنهاضهم و تنبيه عزائمهم فارتحلوا معه حتى نازل تلمسان بجميع عساكر الموحدين و حشود زناتة و ظعن العرب بعد أن كان قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة بالأعذار و الدعاء إلى الطاعة فرجعهم بالخيبة و لما حلت عساكر الموحدين بساحة البلد و برز يغمراسن و جموعه للقاء بصحبتهم ناشية السلطان بالنبل فانكشفوا ولاذوا بالجدران و عجزوا عن حماية الأسوار فاستمكنت المقاتلة من الصعود و رأى يغمراسن أن قد أحيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتفا في زويه و خاصته و اعتراضه عساكر الموحدين فصمم نحوهم و جندل بعض أبطالهم فأفرجوا له و لحقوا بالصحراء و تسللت الجيوش إلى البلد من كل حدب فاقتحموه و عاثوا فيه بقتل النساء و الصبيان و اكتساح الأموال
و لما تجلى غشي تلك الهيعة و خسر تيار الصدمة و خمدت نار الحرب راجع الموحدون بصائرهم و أنعم الأمير أبو زكريا نظره فيمن يقلده أمر تلمسان و المغرب الأوسط و ينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة بني عبد المؤمن و المدافعة عنها و استكبر ذلك أشرافهم و تدافعوه و تبرأ أمراء زناتة ضعفا عن مقاومة يغمراسن علما بأنه الفحل الذي لا يقرع أنفه و لا يطرق غيله و لا يصد عن فريسته
و سرح يغمراسن الغارات في نواحي المعسكر فاختطف الناس من حوله و اطلعوا من المراقب عليه ثم بعث وفده متطارحين على السلطان في الملامة و الاتفاق و اتصال اليد على صاحب مراكش طالب الوتر في تلمسان و أفريقية و أن يفرده بالدعوة الموحدية فأجابه إلى ذلك و وفدت أمه سوط النساء للاشتراط و القبول فأكرم موصلها و أسنى جائزتها و أحسن و فادتها و منقلبها و سوغ ليغمراسن في شرطه بعض الأعمال بأفريقية و أطلق أيدي عماله على جبايته و ارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله
و في أثناء طريقه و سوس إليه الموحدون باستبداد يغمراسن و أشاروا بإقامة منافسية من زناتة و أمراء المغرب الأوسط شجى في صدره و معترضا عن مرامه و إلباسهم ما لبس من شارة السلطان و زيه فأجابهم و قلد كلا من عبد القوي بن عطية التوجيني و العباس بن منديل المغراوي و منصور المليكشي أمر قومه و وطنه و عهد إليهم بذلك و أذن لهم في اتخاذ الآلة و المراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم فاتخذوه بحضرته و بمشهد من ملأ الموحدين و أقاموا مراسمها ببابه و أغذ السير إلى تونس قرير العين بامتداد ملكه و بلوغ وطره و الإشراف على أذعان المغرب لطاعته و انقياده لحكمه و إدالة دعوة بني عبد المؤمن فيه بدعوته فدخل الحضرة و اقتعد أريكته و أنشده الشعراء في الفتح و أسنى جوائزهم و تطاولت أعناق الآفاق تذكره الله أعلم (6/390)
الخبر عن دول أهل الأندلس في الدعوة الحفصية و وصول بيعة إشبيلية و كثير من أمصارها
كان بأشبيلية أبو مروان أحمد الباجي من أعقاب أبي الوليد و أبو عمرو بن الجد من أعقاب الحافظ أبي بكر الطائر الذكر و رثا التجلة عن جدهما و أجراهما الخلفاء على سننهم و كانا مسمتين و قورين متبوعين من أهل بلدهما مطاعين في أفقهما و كان السادة من بني عبد المؤمن يعولون على شوراهما في مصرها و كان بعدوة الأندلس التياث في الملك منذ وفاة المستنصر و انتزى بها السادة و افترقوا و ثار بشرق الأندلس ابن هود و زيان بن مردنيش و بغربها ابن الأحمر و غلب ابن هود الموحدين و أخرجهم عنها و ملك ابن هود أشبيلية سنة ست و عشرين و ستمائة و اعتقل من كان بها من الموحدين ثم انتقضوا عليه سنة تسع و عشرين و ستمائة بعدها و أخرجوا أخاه أبا النجاة سالما و بايعوا الباجي و تسمى بالمعتضد و استوزر أبا بكر بن صاحب الرد و دخلت بيعته قرمونة و حاصره ابن هود فوصل الباجي يده بمحمد بن الأحمر الثائر بأرجونة و جيان بعد أن ملك قرطبة
و زحف ابن هود إليهم فلقوه و هزموه و رجعوا ظافرين فدخل الباجي إلى أشبيلية و عسكر بخارجها ثم انتهز فرصته في أشبيلية و بعث قريبه ابن اشقيلولة مع أهل أرجونة و النصارى إلى فسطاط الباجي فتقبضوا عليه و على وزيره و قتلوهما سنة إحدى و ثلاثين و ستمائة و دخل ابن الأحمر أشبيلية و لشهر من دخوله إليها ثار عليه أهلها و رجعوا إلى طاعة ابن هود و ولى عليهم أخاه أبا النجاة سالما و لما هلك محمد بن هود سنة خمس و ثلاثين و ستمائة صرف أهل أشبيلية طاعتهم إلى الرشيد بمراكش و ولوا على أنفسهم محمد بن السيد أبي عمران الذي قدمنا أنه كان واليا بقسنطينة و أن الأمير أبا زكريا غلبه عليها و اعتقله و بعث ولده إلى الأندلس فربي محمد هذا في كفالة أمه بأشبيلية و لما سار أهل أشبيلية للرشيد قدموه على أنفسهم و تولى كبر ذلك أبو عمرو بن الجد و بعثوا وفدهم إلى الحضرة فأقر السيد أبا عبد الله على ولايتهم و استمرت في دعوة الرشيد إلى أن هلك سنة أربعين و ستمائة و قد ملك الأمير أبو زكريا تلمسان و أشرف على أعمال المغرب فاقتدوا بمن تقدم إلى بيعته من أهل شرق الأندلس ببلنسية و مرسية و بايعوا للأمير أبي زكريا بن أبي محمد بن أبي حفص و اقتدى بهم أهل شريش و طريف و بعثوا إليه وفدهم ببيعته سنة إحدى و أربعين و ستمائة و سألوا منه ولاية بعض أهل قرابته فولى عليهم أبا فارس ابن عمه يونس بن الشيخ أبي حفص فقدم أشبيلية و قام بأمرها و سلم له ابن الجد في نقضها و إبرامها
ثم انتقض عليه سنة ثلاث و أربعين و ستمائة و طرده من البلد إلى سبتة و استبد بأمر أشبيلية و وصل يده بالطاغية و عقد له السلم و ضرب على أيدي أهل المغاورة من الجند و أسقطهم من ديوانه فقتلوه بإملاء قائدهم شفاف و استقبل بأمر أشبيلية و رجع أبا فارس بن أبي حفص و ولاه بدعوة الأمير أبي زكريا فسخطهم الطاغية لذلك و انتقض عليهم و ملك قرمونة و مرشانة ثم زحف إلى حصرهم و سألوه الصلح فامتنع
و صار أمر البلد شورى بين القائد شفاف و ابن شعيب و يحيى بن خلدون و مسعود بن خيار و أبي بكر بن شريح و يرجعون في أمرهم آخرا إلى الشيخ أبي فارس بن أبي حفص
و أقاموا في هذا الحصار سنتين و نازلهم ابن الأحمر في جملة الطاغية و بعث إليهم الأمير أبو زكريا المدد و جهز له الأسطول نظر أبي الربيع بن الغريغر التينمللي و أوعز له إلى سبتة بتجهيز أسطولهم معه فوصل إلى وادي أشبيلية و غلبهم أسطول الطاغية على مرسية فرجع و استولى العدو عليها صلحا سنة ست و أربعين و ستمائة بعد أن أعانهم ابن الأحمر بمدده و ميرته و قدم الطاغية على أهل الدخن بها عبد الحق بن أبي محمد البياسي من آل عبد المؤمن و الأمر لله (6/392)
الخبر عن بيعة أهل سبتة و طنجة و قصر ابن عبد الكريم و تصاريف أحوالهم و مال أمرهم
كان أهل سبتة بعد إقلاع المأمون عنهم و نزول أخيه موسى عنها لابن هود قد انتقضوا و أخرجوا عنهم القشتيني والي ابن هود و قدموا عليهم أحمد الينشتي و تسمى بالموفق ثم رجعوا إلى طاعة الرشيد عندما بايعه أهل أشبيلية سنة خمس و ثلاثين و ستمائة و تقبضوا على الينشتي و ابنه و أدخلوا السيد أبا العباس ابن السيد أبي سعيد كان واليا بغمرة فولوه عليهم ثم عقد الرشيد على ديوان سبتة لأبي علي بن خلاص كان من أهل بلنسية و اتصل بخدمة الرشيد فجلى فيها و دفعه إلى الأعمال فضبطها فولاه سبتة فاستقل بها و ولى على طنجة يوسف ابن الأمير قائدا على الرحل الأندلسي و ضابطا لقصبتها حتى إذا هلك الرشيد سنة أربعين و ستمائة و قد استفحل أمر الأمير أبي زكريا بأفريقية و استولى على تلمسان و بايعه الكثير من أمصار الأندلس فصرف ابن خلاص وجهه إليه
و كان قد اقتنى الأموال و اصطنع الرجال فدخل في دعوته و بعث الوفد ببيعته و اقتدى به في ذلك أهل قصر ابن عبد الكريم فبعثوا بيعتهم للأمير أبي زكريا و عقد لابن خلاص على سبتة و ما إليها فبعث بالهدية إليه في أسطول أنشأه لذلك سماه الميمون و أركب ابنه أبا القاسم فيه وافدا على السلطان و معه الأديب إبراهيم بن سهل فعطب عند إقلاعه و لما رجع الأسطول من أشبيلية كما قدمناه على بقية هذا العطب و حزن أبي علي بن خلاص على ابنه رغب من قائده أبي الربيع بن الغريغر أن يحمله بجملته إلى الحضرة فانتقل بأهله و احتمل ذخيرته و لما مر الأسطول بمرسي وهران نزل بساحلها فأراح و أحضر له تين فأكله فأصابه مغص في معاه هلك منه فجأة سنة ست و أربعين و ستمائة و عقد السلطان على سبتة لأبي يحيى ابن زكريا ابن عمه أبي يحيى الشهيد بن الشيخ أبي حفص و بعث معه على الجباية أبا عمر بن أبي خالد الأشبيلي كان صديقا لشفاف و عدوا لابن الجد و لما قتل شفاف لحق بالحضرة فولاه الأمير أبو زكريا أشغال سبتة استمرت الحال إلى أن كان من استبداد العزفي بسبتة ما نذكره (6/394)
الخبر عن بيعة المرية
لما هلك محمد بن هود بالمرية سنة خمس و ثلاثين و ستمائة كما ذكرناه و استبد وزيره أبو عبد الله محمد بن الرميمي بها و ضبطها لنفسه و ضايقه ابن الأحمر فبعث ببيعته سنة أربعين إلى الأمير أبي زكريا حين أخذ أهل شرق الأندلس بطاعته و لم يزل ابن الأحمر يحاصره إلى أن تغلب عليه سنة ثلاث و أربعين و ستمائة كما ذكرناه في أخباره و خرج منها إلى سبتة بأهله و ذخيرته و أحله أبو علي ابن خلاص محل البر و التكرمة و أنزله خارج المدينة في بساتين بنيوش و أجمع الثورة بأبي خلاص فنذر به و تغير له فلما رجع الأسطول من أشبيلية ركبه الرميمي و لحق بتونس فنزل على الأمير أبي زكريا و حل من حضرته محل التكرمة و استوطن تونس وتملك بها الضياع و القرى و شيد القصور إلى أن هلك و البقاء لله وحده (6/395)
الخبر عن بيعة ابن الأحمر
كان محمد بن الأحمر قد انتزى على ابن هود ببلده أرجونة و تملك جيان و قرطبة و أشبيلية و غرب الأندلس و طالت فتنته مع ابن هود و راجع طاعته ثم انتقض عليه و بايع للرشيد سنة ست و ثلاثين و ستمائة عندما بايعه أهل أشبيلية و سبتة فلم يزل على ذلك إلى أن هلك الرشيد على حين استفحال ملك الأمير أبي زكريا بأفريقية و تأميله للنصرة و الكرة فحول ابن الأحمر إليه الدعوة و أوفد بها أبا بكر بن عياش من مشيخة مالقة فرجعهم الأمير أبو زكريا بالأموال للنفقات الجهادية و لم يزل يواصلها لهم من بعد ذلك إلى أن هلك سنة سبع و أربعين و ستمائة فأطلق ابن الأحمر نفسه من عقال الطاعة و استبد بسلطانه (6/395)
الخبر عن بيعة سجلماسة و انتقاضها
كان عبد الله بن زكريا الهزرجي من مشيخة الموحدين واليا بسجلماسة لبني عبد المؤمن و لما هلك الرشيد و بويع أخوه السعيد سنة أربعين و ستمائة و نميت إليه عن الهزرجي عظيمة من القول خشن بها صدره و بعث إليه مستعتبا فلم يعتبه و مزق كتابه فخشيه الهزرجي على نفسه و اتصل به ما كان من استيلاء الأمير أبي زكريا على تلمسان و نواحيها فخاطبه بطاعته و أوفد عليه بيعته فعقد له الأمير أبو زكريا على سجلماسة و أنحائها و فوض إليه في أمرها و وعده بالمدد من المال و العسكر لحمايتها و خطب له عبد الله بسجلماسة و فر إليه من مراكش أبو زيد الكدميوي بن واكاك و أبو سعيد العود الرطب فلحق بتونس و أقام أبو زيد معه بسجلماسة و زحف إليه السعيد سنة إحدى و أربعين و ستمائة و قيل سنة أربعين ومن معسكره كان مفر أولئك المشيخة و خاطب السعيد أهل سجلماسة و داخلهم أبو زيد الكدميوي فغدروا بالهزرجي و ثاروا به فخرج من سجلماسة و أسلمها و قام بأمرها أبو زيد الكدميوي و طير بالخبر إلى السعيد فشكر له فعلته و غفر له سالفته و تقبض على عبد الله الهزرجي بعض الأعراب و أمكن منه السعيد فقتله و بعث برأسه إلى سجلماسة فنصب بها و رجع من طريقه إلى مراكش و أقامت سجلماسة على دعوة عبد المؤمن إلى أن كان من خبرها ما نذكره في موضعه (6/396)
الخبر عن بيعة مكناسة و ما تقدمها من طاعة بني مرين
كان بين بني عبد الواد و بين بني مرين منذ أوليتهم و تقبهم في القفار فتن و حروب و لكل منهما أحلاف في المناصرة و أشياع فلما التاثت دولة بني عبد المؤمن غلب كل منهما على موطنه و كانت السابقة في ذلك لبني عبد الواد ليعدهم عن حضرة مراكش حيث محشر العساكر و يعسوب القبائل و لما استبد الأمر أبو زكريا بأمر أفريقية و دوخ المغرب الأوسط و افتتح تلمسان و أطاعه بنو عبد الواد حذر بنو مرين حينئذ غائلتهم و خافوا أن يظاهرهم الأمير أبو زكريا عليهم فألانوا له في القول و لاطفوه على البعد بالطاعة و خاطبوه بالتمويل و أوجبوا له حق الخلافة و وعدوه أن يكونوا أنصارا لدعوته و أعوانا في أمره و مقدمة في عسكره إلى مراكش و زحفه و حملوا من تحت أيديهم من قبائل المغرب و أمصاره على طاعتهم و الاعتصام ببيعتهم و لم تزل المخاطبات بينهم و بين الأمير أبي زكريا في ذلك من أميرهم عثمان بن عبد الحق و أخيه محمد من بعده و رسلهم تفد عليه بذلك مرة بعد أخرى إلى أن هلك الرشيد و قد استولى الأمير أبو زكريا على تلمسان و دخل في دعوته قبائل زناتة بالمغرب الأوسط و استشرف أهل الأمصار من العدوتين إلى إيالته و كان أهل مكناسة قد اعتصموا بوصلة الأمير أبي يحيى بن عبد الحق و جاءهم وال من مراكش و أساء فيهم السيرة فتوثبوا به و قتلوه و بعثوا إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق فحملهم على بيعة الأمير أبي زكريا فأنفذوها من إنشاء قاضيهم أبي المطرف بن عميرة سنة ثلاث و أربعين و ستمائة و ضمن أبو يحيى بن عبد الحق حمايتهم خلال ما يأتيهم أمر السلطان من تونس و مدده و بلغ الخبر إلى السعيد فأرهف حده و اعتزم على النهوض إليهم فخامهم الرعب و راجعوا طاعته و أوفدوا صلحاءهم و علماءهم في الإقالة و اغتفار الجريدة فتقبل ذلك إلى أن كان من حركته بعد ذلك و مهلكه ما هو معروف (6/397)
الخبر عن مهلك الأمير أبي يحيى زكريا ولي العهد بمكان إمارته من بجاية و تصيير العهد الى أخيه محمد
كان الأمير أبو زكريا قد عقد لابنه أبي يحيى زكريا على ثغر بجاية قاعدة ملك بني حماد و جعل إليه النظر في سائر أعمالها من الجزائر و قسنطينة و بونة و الزاب سنة ثلاث و ثلاثين و ستمائة كما ذكرناه فاستقل بذلك و كان بمكان من الترشيح للخلافة بنفسه و جلاله و انتظامه في سلك أهل العلم و الدين و إيناس العدل فولاه الأمير أبو زكريا عهده سنة ثمان و ثلاثين و ستمائة و أحضر الملأ لذلك و أشهدهم في كتابه و أوعز بذكره في الخطبة على المنابر مع ذكره و كتب إليه بالوصية التي تداولها الناس من كلامه و نصها :
اعلم سددك الله و أرشدك و هداك لما يرضيه و أسعدك و جعلك محمود السيرة مأمون السريرة إن أول ما يجب على من استرعاه الله في خلقه و جعله مسؤولا عن رعيته في جل أمرهم و دقه أن يقدم رضى الله عز و جل في كل أمر يحاوله و أن يكل أمره و حوله و قوته لله و يكون عمله و سعيه و ذبه عن المسلمين و حربه و جهاده للمؤمنين بعد التوكل عليه و البراءة من الحول و القوة إليه و متى فاجأك أمر مقلق أو ورد عليك نبأ مرهق فريض لبك و سكن جأشك و ارع عواقب أمر تأتيه و حاوله قبل أن ترد عليه و تغشيه و لا تقدم إقدام الجاهل و لا تحجم إحجام الأخرق المتكاسل و أعلم أن الأمر إذا ضاق مجاله و قصر عن مقاومته رجاله فمتاحه الصبر و الحزامة و الأخذ مع عقلاء الجيش و رؤسائهم و ذي التجارب من نبهائهم ثم الإقدام عليه و التوكل على الله فيما لديه و الإحسان لكبير جيشك و صغيره الكثير على قدره و الصغير على قدره و لا تلحق الحقير بالكبير فتجري الحقير على نفسك و تغلطه في نفسه و تفسد نية الكبير و تؤثره عليك فيكون إحسانك إليه مفسدة في كلا الوجهين و يضيع إحسانك و تشتت نفوس من معك
و اتخذ كبيرهم أبا و صغيرهم ابنا و اخفض لهم جناح الذل من الرحمة و شاورهم في الأمر فاذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين و اتخذ نفسك صغيرة و ذاتك حقيرة و حقر أمورك و لا تستمع أقوال الغالطين المغلطين بأنك أعظم الناس قدرا و أكثرهم بذلا و أحسنهم سيرة و أجملهم صبرا فذاك غرور و بهتان و زور
و اعلم من تواضع لله رفعه الله و عليك بتفقد أحوال رعيتك و البحث عن عمالهم و السؤال عن سير قضاتهم فيهم و لا تنم عن مصالحهم و لا تسامح أحدا فيهم و مهما دعت لكشف ملمة فاكشفها عنهم و لا تراع فيهم كبيرا و لا صغيرا إذا عدل عن الحق و لا تراع في فاجر متصرف إلا و لا ذمة و لا تقتصر على شخص واحد في رفع مسائل الرعية و المتظلمين و لا تقف عند مراده في أحوالهم
و اتخذ لنفسك ثقاة صادقين مصدقين لهم في جانب الله أوفر نصيب و في مسائل خلقه إليك أسرع مجيب و ليكن سؤالك لهم أفذاذ فأنك متى اقتصرت على شخص واحد في نقله و نصحه حمله الهوى على الميل و دعته الحمية إلى تجنب الحق و ترك قول الصدق و إذا رفع إليك أحد مظلمة و أنت على طريق فادعه إليك و سله حتى يوضح قصته لك و جاوبه جواب مشفق مصغ إلى قوله مصيخ إلى نازلته و نقله ففي إصاختك له و حنوك عليه أكبر تأنيس و للسياسة و الرئاسة في نفوس الخاصة و العامة و الجمهور أعظم تأسيس
و أعلم أن دماء المسلمين و أموالهم حرام على كل مؤمن بالله و اليوم الآخر إلا في حق أوجبه الكتاب و السنة و عضدته أقاويل الشرعية و الحجة أو في مفسد عاثت في طرقات المسلمين و أموالهم جار على غيه في فساد صلاتهم و أحوالهم فليس إلا السيف فإن أثره عفاء و وقعه لداء الأدمغة الفاسدة دواء و لا تقل عثرة حسود على النعم عاجز عن السعي فإن إقالته تحمله على القول و القول يحمله على الفعل و وبال عمله عائد عليك فاحسم داءه قبل انتشاره و تدارك أمره قبل إظهاره و اجعل الموت نصب عينيك و لا تغتر بالدنيا و إن كانت في يديك لا تنقلب إلى ربك إلا بما قدمته من عمل صالح و متجر في مرضاته رابح
و اعلم أن الإيثار أربح المكاسب و أنجح المطالب و القناعة مال لا ينفد و قد قال بعض المفسرين في قوله عز من قائل : { و تركنا عليه في الآخرين } إنه النبأ الحسن في الدنيا على ما خلد فيها من الأعمال المشكورة و الفعلات الصالحة المذكورة فليكفك من دنياك ثوب تلبسه و فرس تذب به عن عباده و أرجو بك متى جعلت و صيتي هذه نصب عينيك لم تعدم من ربك فتحا ييسره على يديك و تأييدا ملازما لا يبرح عنك إلا إليك بمن الله و حوله و طوله و الله يجعلك ممن سمع فوعى و لبى داعي الرشد إذ دعا إنه على كل شيء قدير و بالإجابة جدير و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم و حسبنا الله و نعم الوكيل
تمت الوصية المباركة فعظم ترشيح الأمير أبي يحيى لذلك و علا في الدولة كعبه و قوي عند الكافة تأميله و هو بحاله من النظر في العلم و الجنوح للدين إلى أن هلك سنة ست و أربعين و ستمائة فأسى له السلطان و احتفل الشعراء في رثائه و تأبينه فكانوا يثيرون بذلك شجو السلطان و يبعثون حزنه و عقد العهد من بعده لأخيه الأمير أبي عبد الله محمد بحضور الملأ و إيداع الخاصة كتابهم بذلك في السجل إلى أن كان من خلافته ما نذكره بعده (6/398)
الخبر عن مهلك السلطان أبي زكريا و ما كان عقبه من الاحداث
كان السلطان أبو زكريا قد خرج من تونس إلى جهة قسنطينة للإشراف على أحوالها و وصل إلى باغاية فعرض العساكر بها و وافته هنالك الدواودة و شيخهم موسى بن محمد و كان منه اضطراب في الطاعة فاستقام و أصاب السلطان هنالك المرض فرجع إلى قسنطينة ثم أبل من مرضه و وصل منها إلى بونة فراجعه المرض و لما نزل بظاهر بونة اشتد به مرضه و هلك لسبع بقين من جمادي الآخرة سنة سبع و أربعين و ستمائة لاثنتين و عشرين سنة من ولايته و دفن بجامع بونة ثم نقل شلوه بعد ذلك إلى قسنطينة سنة ست و ستين و ستمائة بين يدي حصار النصارى تونس و بويع إثر مهلكه إبنه ولي عهده أبو عبد الله محمد كما نذكره و طار خبر مهلكه في الآفاق فانتقض كثير من أهل القاصية و نبذوا الدعوة الحفصية و عطل ابن الأحمر منابره من الدعوة الحفصية و تمسك بها يغمراسن بن زيان صاحب المغرب الأوسط فلم يزالوا عليها حينا من الدهر إلى أن انقطعت في حصار تلمسان كما نذكره و لما بلغ الخبر بمهلكه إلى سبتة و كان بها أبو يحيى بن الشهيد من قبل الأمير أبي زكريا كما نذكره و أبو عمرو بن أبي خالد و القائد شفاف فثارت العامة و قتل ابن أبي خالد و شفاف و طردوا ابن الشهيد فلحق بتونس و تولى كبر هذه الثورة حجبون الرنداحي بمداخلة أبي القاسم العزفي
و اتفق الملأ على ولاية العزفي و حولوا الدعوة للمرتضى و ذلك سنة سبع و أربعين و ستمائة و تبعهم أهل طنجة في الدعوة و استبد بها ابن الأمير و هو يوسف بن محمد بن عبد الله أحمد الهمداني و كان واليا عليها من قبل أبي علي بن خلاص فلما صار الأمر للعزفي و القائد حجبون الرنداحي خالفهم هو إلى الدعوة الحفصية و استبد عليهم ثم خطب للعباسي و أشرك نفسه معه في الدعاء إلى أن قتله بنو مرين غدرا كما نذكره و انتقل بنوه الى تونس و معهم صهرهم القاضي أبو الغنم عبد الرحمن بن يعقوب من جالية شاطبة انتقل هو و قومه إلى طنجة أيام الجلاء فنزلوا بها و أصهر إليهم بنو الأمير و ارتحلوا معهم إلى تونس و عرف دين القاضي أبي القاسم و فضله و معرفته بالأحكام و الوثائق و استعمل في خطة القضاء بالحضرة أيام السلطان و كان له فيها ذكر
و لما بلغ الخبر بمهلك الأمير أبي زكريا إلى صقلية أيضا و كان المسلمون بها في مدينة بلرم قد عقد لهم السلطان مع صاحب الجزيرة على الاشراك في البلد و الضاحية فتساكنوا حتى إذ بلغهم مهلك السلطان بادر النصارى إلى العيث فيهم فلجأوا إلى الحصون و الأوعار و نصبوا عليهم ثائرا من بني عبس و حاصرهم طاغية صقلية بمعقلهم من الجبل و أحاط بهم حتى استنزلهم و أجازهم البحر إلى عدوته و أنزلهم بوجاره من عمائرها ثم تعدى إلى جزيرة مالطة فأخرج المسلمين الذين كانوا بها و ألحقهم بإخوانهم و استولى الطاغية على صقلية و جزائرها و محا منها كلمة الإسلام بكلمة كفره و الله غالب على أمره (6/400)
الخبر عن بيعة السلطان أبي عبد الله المستنصر و ما كان في أيامه من الحوادث
لما هلك الأمير أبو زكريا بظاهر بونة سنة سبع و أربعين و ستمائة كما قدمناه اجتمع الناس على ابنه الأمير أبي عبد الله و أخذ له البيعة عمه محمد اللحياني على الخاصة و سائر أهل المعسكر و ارتحل إلى تونس فدخل الحضرة ثالث رجب من السنة فجدد بيعته يوم وصوله و تلقب المستنصر بالله ثم جدد البيعة بعد حين و اختار لوضع علامته : الحمد لله و الشكر لله و قام بأعباء ملكه و تقبض على خاصة أبيه الخصي كافور كان قهرمان داره فأشخصه إلى المهدية و أوعز إلى الجهات المهدية و أوعز إلى الجهات بأخذ البيعة على أهل العمالات فترادفت من كل جانب و استوزر أبو عبد الله بن أبي مهدي و استعمل على القضاء أبا زيد التوزري و كان يعلم ولد عمه اللحياني الثائر عليه كما نذكره و الله تعالى أعلم (6/402)
البخر عن ثورة ابن عمه محمد اللحياني و مقتله و مقتل أبيه
كان للأمير أبي زكريا من الإخوة إثنان : محمد و كان أسن منه و يعرف باللحياني لطول لحيته و الآخر أبو إبراهيم و كان بينهم من المخالصة و المصافاة ما لا يعبر عنه
و لما هلك الأمير أبو زكريا و قام بالأمر ابنه أبو عبد الله المستنصر و استوزر محمد بن أبي مهدي الهنتاتي و كان عظيما في قومه فأمل أن يستبد عليه لمكان صغره إذ كان في سن العشرين و نحوها و استصعب عليه حجر السلطان بما كان له من الموالي العلوجيين والصنائع من بيوت فقد كان أبوه اصطنع منهم رجالا و رتب جندا كثروا الموحدين و زاحموهم في مراكزهم من الدولة
فداخل ابن أبي مهدي السلطان و بعث عندهما الأسف على ما فاتهما من الأمر فلم يجد عندهما ما أمل من ذلك فرجع إلى ابن محمد اللحياني فأجابه إلى ذلك و بايعه ابن أبي مهدي سرا و وعده المظاهرة و نمي الخبر بذلك إلى السلطان من عمه محمد اللحياني و حذره من غائلة ابنه و أبلغه ذلك أيضا القاضي أبو زيد التوزري منتصحا
و باكر ابن أبي مهدي مقعده للوزارة بباب السلطان لعشرين من جمادى سنة ثمان و أربعين و ستمائة و تقبض على الوزير أبي زيد بن جامع و خرج و مشيخة الموحدين معه فبايعوا لابن محمد اللحياني بداره و استركب السلطان أولياءه و عقد للقائد ظافر على حربهم فخرج في الجند و الأولياء و لقي الموحدين بالمصلى خارج البلد ففض جميعهم و قتل ابن أبي مهدي و ابن وازكلدن و سار ظافر مولى السلطان إلى دار اللحياني عم السلطان فقتله و ابنه صاحب البيعة و حمل رؤوسهما إلى السلطان
و قتل في طريقه أخاه أبا إبراهيم و ابنه و انتهب منازل الموحدين وخربت ثم سكنت الهيعة و هدأت الثورة و عطف السلطان على الجند و الأولياء و أهل الاصطناع فأدر أرزاقهم و وصل تفقدهم و أعاد عبد الله بن أبي الحسين إلى مكانه بعد أن كان هجرة أول الدولة و تزحزح لابن مهدي عن رتبته و تضاءل لاستطالته فرجع إلى حاله و استقامت الأمور على ذلك ثم سعى عند السلطان بمولاه الظافر وقبحوا عنده ما أتاه من الأفتيات في قتل عميه من غير جرم و نذر بذلك فخشي البادرة و لحق بالدواودة و كان المتولي لكبر هذه السعاية هلال مولاه فعقد له مكانه و استنفر ظافر في جوار العرب طريدا إلى أن كان من أمره ما كان (6/402)
الخبر عن الآثار التي أظهرها السلطان في أيامه
فمنها شروعه في اختطاط المصانع الملوكية و أولها المصيد بناحية بنزرت اتخذه للصيد سنة خمسين و ستمائة فأدار سياجا على بسيط من الأرض قد خرج نطاقه عن التحديد بحيث لا يراع فيه سرب الوحش فإذا ركب للصيد تخطى ذلك السياج إلى قوراء في لمة من مواليه المتخصين و أصحاب بيزرته بما معهم من جوارح بزاة و صقورا و كلابا سلوقية و فهودا فيرسلونها على الوحش في تلك القوراء و قد وثقوا باعتراض البناء لها من أمام فيقضي وطرا من ذلك القنيص سائر يومه فكان ذلك من أفخم ما عمل في مثلها ثم وصل ما بين قصوره و رياض رأس الطائبة بحائطين ممتدين يجوزان عرض العشرة أذرع أو نحوها طريقا سالكا ما بينهما و على ارتفاع عشرة أذرع يحتجب به الحرم في خروجهن إلى تلك البساتين عن ارتفاع العيون عليهن فكان ذلك مصنعا فخما و أثرا على أيام الدولة خالدا
ثم بنى بعد ذلك الصرح العالي بفناء داره و يعرف بقبة أساراك و أساراك باللسان المصمودي هو القوراء الفسيحة و هذا الصرح هو إيوان مرتفع السماك متباعد الأقطار متسع الأرجاء يشرع منه إلى الغرب و جانبيه ثلاثة أبواب لكل باب منها مصرعان من خشب مؤلف الصنعة ينوء كل مصراع منها في فتحه و غلقه بالعصبة أولي القوة
و يفضي بابها الأعظم المقابل لسمت الغرب الى معارج قد نصبت للظهور عليها عريضة ما بين الجوف إلى القبلة بعرض الأيوان يناهز عددها الخمسين أو نحوها و يفضي البابان عن جانبيه إلى طريقين ينتهيان إلى حائط القوراء ثم ينعطفان إلى ساحة القوراء يجلس السلطان فيها على أريكته مقابل الداخل أيام العرض و الفود و مشاهد الأعياد فجاءت من أضخم الأواوين و أحفل المصانع التي تشهد بأبهة الملك و جلالة الدولة
و اتخذ أيضا بخارج حضرته البستان الطائر الذكر المعروف بأبي فهر يشتمل على جنات معروشات و غير معروشات اغترس فيها من شجرة كل فاكهة من أصناف التين و الزيتون و الرمان و النخيل و الأعناب و سائر الفواكه و أصناف الشجر و نضد كل صنف منها في دوحة حتى لقد اغترس من السدر و الطلح و الشجر البري و سمى دوح هذه بالشعراء و اتخذ وسطها البساتين و الرياض بالمصانع و الحوائز و شجر النور و النزه من الليم و النارنج و السرو و الريحان و شجر الياسمين و الخيري و النيلوفر و أمثاله و جعل وسط هذه الرياض روضا فسيح الساحة و صنع فيه للماء حائزا من عداد البحور جلب إليه الماء في القناة القديمة كانت ما بين عيون زغوان و قرطاجنة تسلك بطن الأرض في أماكن و تركب البناء العادي ذا الهياكل الماثلة و القسي القائمة على الأرجل الضخمة في أخرى فعطف هذه القناة من أقرب السموات إلى هذا البستان و أمطاها حائطا وصل ما بينهما حتى ينبعث من فوهة عظيمة إلى جب عميق المهوى زصيف البناء متباعد الأقطار مربع القنا مجلل بالكلس إلى أن يغمره الماء فيرسله في قناة أخرى قريبة الغاية فينبعث في الصهريج إلى أن يعبق حوضه و تضطرب أمواجه يترفه الحظايا عن السعي بشاطئه لبعد مداه فيركبن في الجواري المنشئات ثبجه فيتبارى بهن تباري الفتح و مثلت بطرفي هذا الصهريج قبتان متقابلتان كبرا و صغرا على أعمدة المرمر مشيدة جوانبها بالرخام المنجد و رفعت سقفها من الخشب المقدر بالصنائع المحكمة و الأشكال المنقمة إلى ما اشتملت عليه هذه الرياض من المقاصير و الأواوين و الحوائز و القصور و غرفا من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار و تأنق في مبانيه هذه و استبلغ و عدل عن مصانع سلفه و رياضهم إلى متنزهاته من هذه فبلغ فيها الغاية في الاحتفال و طار لها ذكر في الآفاق (6/403)
الخبر عن فرار أخيه أبي إسحاق و بيعة رياح له و ما قارن ذلك من الأحداث
كان الأمير أبو إسحاق في إيالة أخيه المستنصر و كان يعاني من خلقه و ملكته عليه شدة و كان السلطان يخافه على أمره و خرج سنة إحدى و خمسين و ستمائة لبعض الوجوه السلطانية ففر الأمير أبو إسحاق من معسكره و لحق بالدواودة من رياح فبايعوه بروايا من نواحي نقاوس و اجتمعوا على أمره و بايع له ظافر مولى أبيه النازع إليهم و اعتقد منه الذمة و الرتبة و قصدوا بسكرة و حاصروها و نادى بشعار طاعتهم فضل بن علي ابن الحسن بن مزني من مشيختها و ائتمر به الملأ ليقتلوه ففر إليه و صار في جملته ثم بايع له أهل بسكرة و دخلوا في طاعته ثم ارتحلوا إلى قابس فنازلوها و اجتمعت عليه الأعراب من كل أوب و أهم السلطان شأنه و تقبض على ولده فحبسهم بالقصبة جميعا و وكل بهم من يحوطهم و ألطف ابن أبي الحسين الحيلة في فساد ما بين الأمير أبي إسحاق و مولاه ظافر بتحذير ألقاه إلى أخته بالحضرة تنصحا فبعث به إلى أخيها فتنكر لظافر و فارقه و سار إلى المغرب ثم لحق بالأندلس و افترق جموع الأمير أبي إسحاق فلحق بتلمسان و أجاز منها إلى الأندلس
و نزل على السلطان محمد بن الأحمر فرعى له عهد أبيه و أسنى له الجراية و شهد هنالك الوقائع و أبلى في الجهاد و لم يزل السلطان المستنصر يتاحف ابن الأحمر و يهاديه و يوفد عله مشيخة الموحدين مصانعة في شأن أخيه و استجلاء لحاله إلى أن هلك و كان من ولاية أخيه أبي إسحاق ما نذكر لحين مهلكه أجاز ظافر من الأندلس إلى بجاية و أوفد ولده على الواثق مستعتبا و راغيا في السبيل إلى الحج
و قلق المستولي على الدولة بمكانه و راسل شيخ الموحدين أبا هلال عياد بن محمد الهنتاتي صاحب بجاية في اغتياله من قصده فذهب دمه هدرا و بقي ولده عند بني توجين حتى جاءوا في جملة السلطان أبي إسحاق و بيد الله تصاريف الأمور (6/405)
الخبر عن بني النعمان و نكبتهم و الخروج أثرها إلى الزاب
كان بنو النعمان هؤلاء من مشيخة هنتاتة و رؤسائهم و كان لهم في دولة الأمير أبي زكريا ظهور و مكان و خلصت ولاية قسنطينة لهم يستعملون عليها من قرابتهم
و اتصل لهم ذلك أول دولة المستنصر و كان كبيرهم أبو علي و تلوه ميمون و عبد الواحد و كان لهم في مداخلة اللحياني أثر فلما استوسق للسلطان أمره و تمهدت دولته نكبهم و تقبض عليهم سنة إحدى و خمسين و ستمائة فأشخص أبا علي إلى الإسكندرية و قتل ميمون و انقرض أمرهم و ظهر أثر ذلك بالزاب خارج تسمى بأبي حمارة فخرج السلطان من تونس و قصده بالزاب فأوقع به و بجموعه عليه و سيق إلى السلطان فقتله و بعث برأسه إلى تونس فنصب بها
و قفل السلطان إلى مقره فنزل بها و سخط و جوها من سليم : من مرداس و دباب كان فيهم رحاب بن محمود و ابنه فاعتقلهم و اشخصهم إلى المهدية فأودعهم بمطبقها و رجع إلى تونس ظافرا غانما (6/406)
الخبر عن دعوة مكة و دخول أهلها في الدعوة الحفصية
كان صاحب مكة و متولي أمرها من سادة الخلق و شرفائهم ولد فاطمة ثم من ولد ابنها الحسن صلوات الله عليهم أجمعين أبو نمى و أخوه إدريس و كانوا قائمين بالدعوة العباسية منذ حولها إليهم بمصر و الشام و الحجاز صلاح الدين يوسف بن أيوب الكردي و أمر الموسم و ولايته راجعة إليه و إلى بنيه و مواليه من بعده إلى هذا العهد
و جرت بينهم و بين الشريف صاحب مكة مغاضبة وافقها استيلاء الططر على بغداد و محوهم رسم الخلافة بها و ظهور الدعوة الحفصية بأفريقية و تأميل أهل الآفاق فيها و امتداد الأيدي إليها بالطاعة و كان أبو محمد بن سبعين الصوفي نزيلا بمكة بعد أن رحل من بلده مرسية إلى تونس و كان حافظا للعلوم الشرعية و العقلية و سالكا مرتاضا بزعمه على طريقة الصوفية و يتكلم بمذاهب غريبة منها و يقول برأي الوحدة كما ذكرناه في ذكر المتصوفة الغلاة و يزعم بالتصوف في الأكوان على الجملة فأرهق في عقيدته و رمي بالكفر أو الفسق في كلماته و أعلن بالنكير عليه و المطالبة له شيخ المتكلمين بأشبيلية ثم بتونس أبو بكر بن خليل السكوني فتنمر له المشيخة من أهل الفتيا و حملة السنة و سخطوا حالته
و خشي أن تأسره البينات فلحق بالمشرق و نزل مكة و تذمم بجوار الحرم الأمين و وصل يده بالشريف صاحبها فلما أجمع الشريف أمره على البيعة للمستنصر صاحب أفريقية داخله في ذلك عبد الحق بن سبعين و حرضه عليه و أملى رسالة بيعتهم و كتبها بخطه تنويها بذكره عند السلطان و الكافة و تأميلا للكرة و نصها :
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على الإسوة المختار سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم تسليما
إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما و ينصرك الله نصرا عزيزا هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم و لله جنود السماوات و الأرض و كان الله عليما حكيما
هذا النوع من الفتح أعني المبين هو من كل الجهات داخل الذهن و خارجه و هو الذي خصت به مكة و هو أعظم فتح نذر في أيام الدهر و الزمان الفرد منه خير من أيام الشهر و به تتم النعمة و يستقيم صراط الهداية و تحفظ النهاية و تغفر ذنوب البداية و يحصل النصر العزيز و نور السكينة و تتمكن قواعد مكة و المدينة
و كلمة الله عاملة في الموجودات بحسب قسمة الزمان ثم لا يقال إنها متوقفة على شيء و لا في مكان دون مكان
و هذا الفتح قد كان بالقصد الأول و القدر الأكمل للمتبوع الذي أفاد الكمال الثاني كالسبع المثاني فإنه هو الإسوة صلى الله عليه و سلم و كل نعمة تظهر على سعيد ترجع إليه مثل التي ظهرت على خليقته و على يديه و إن كانت نصبة مولده صلى الله عليه و سلم و رسالته تقتضي ختم الأنبياء بهذا القرن الذي نحن فيه و أمامنا فيه هو ختم الأولياء
فمن فتح عليه بفتح مكة تمت له النعمة و رفعت له الدرجة و ضفت عليه الرحمة و من وصل سلطانه إليها فقد هدي الرشد و سار على صراطه و رجح ميزان ترجيحه على أقرانه و أرهاطه و من حرم هذا فقد حرم من ذلك و الأمر هكذا
و سنة الله كذلك و صلى الله على رسوله الذي طلع المجد من مدينته بعدما أطلعه من بلده و رضي الله عن خليفته المنتخب من عنصر خليفة عمر صاحب نبيه ثم من عمر صاحبه و وليه و الحمد لله على نعمه
بسم الله الرحمن الرحيم و صلى الله على سيد ولد آدم محمد { حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم * أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين * رحمة من ربك إنه هو السميع العليم }
قد صح أن هذه الليلة فيها تنزيل الآيات و ترتقب البينات و فيها تخصيص القضايا الممكنة و أحكام الأكوان و يفرق الأمر و يفسر الملك الموكل بقيض الأرواح بحمل الآجال في الأزمان و فيها تقرر خطة الإمامة و الملك و تقبض الإمامة بالهلك و هي في القول الأظهر في أفضل الشهور و في السابع و العشرين منه كما ورد في الحديث المشهور ثم هي في أم القرى و في حرمها تقدر بقدر زائد و يعم فضلها إلا للحائد عن الفائد و إنما قلت هذا و رسمته ليعلم من وقف على الخطبة التي اقتضبتها و الليلة التي فيها قرأتها أنها من أفضل المطالب التي قصدت و أن القرائن التي اجتمعت فيها و لها زادت على الفضائل التي لأجلها رصدت و أيضا تأخر فيها مجد إمام عن إمام و بعد مجد إمامه هو وراء الإمام و رحمت فيها نفس خليفة عبرت و تلقب و عظمت فيها ذات خليفة تحيي التي سلفت فهذه نعمة بركة ينبغي أن يقرر حدها و يتحقق مجدها و لا يقدر قدرها فإنها ليلة قدر ليلة قدرها
و الحمد لله حمدا واصلا : بسم الله الرحمن الرحيم و صلى الله على واحد الله في عنايته سيدنا محمد { طسم * تلك آيات الكتاب المبين } إلى قوله { منهم ما كانوا يحذرون }
الحق الشاهد لنفسه المتفق من جميع جهاته و في سنة الله التي لا تحول و لا تبدل و المتعارف من عادته التي ربطها بحكمته التي تعدل و لا تعدل أن لكل هداية نبوية ضلالة فرعونية و كذا الحال في الأولياء و مع كل مصيبة فرج و لا ينعكس الأمر في الأتقياء و لكل ظلم ظالم متجبر قهر قاهر متكبر و عند ظهور ظفر المبطل يظهر قصد المحق المفضل
و في عقب كل فترة أو فيها كلمة قائم بحق يغلب لا يغلب و في كل دور أو قرن أمامة تطلب بشخصها و لا تطلب و كواكب الكفر إذا طلعت على أفق الإيمان فيه نكب آفله و كلمة الله إذا عورضت تكر معارضتها قافلة و إنما ذكرت ذلك بعد الذكر المحفوظ ليتذكر بالآيات الظاهرة إلى الآيات القاهرة و ليعلم كل مؤمن أن كل كلمة الله متصلة الاستصحاب و السبب و عاملة في الأشياء مع الأزمان و الحقب و أن رجال المللة و الحنفية أعلى المنازل و الرتب و لذلك يقول في نوع فرعون الأذل و نوع موسى الأجل : أشخاصها متعددة و أكوانها متحدة و الله غالب على أمره و قد قيل إن الملة الحنفية المضرية تنصرها السيرة العمرية المحمدية المستنصرية
و لعل الذي أقام الدين و أطلعه من المشرق و أتلفه منه و يجيره من المغرب و لا ينقله عنه فينبغي لمن آمن بالله و ملائكه و كتبه و رسوله و بما يجب أن لا يتغير قصده و لا يتوقف عند سماع المهلكات حمده قد قيدت أقدام قوم بشرك الشرك و حملهم الضجر إلى الهلك بطاعة الترك وكع كيد الكنود هلك كنعان و كل بصر بصيرته و لبس لهم الذل بالعرض و جعل مصيبة الدين تفئته مع حجوده لسلطان السنة و الفرض و أما هامان المرتدين فليس هم بالمؤمنين و علا فرعون الشرقي الأرض و الله يمن على المستضعفين في الأرض بنصر من عنده و يهلك المفسدين بجند من رفده و ينبغي أو يجب أن نضرب عن ذكر كائنة مدينة السلام فإنها تزلزل الطبع و تحمل الروح إلى ساحة الشام أو تفزع في صلاة كسوف شمس سرورها إلى التسليم بالاستسلام و تكبر أربع تكبيرات على الأنس و يودع بعد ذلك وعد و سلام و ينتظر قيامه بقيام أمر محيي الدين و الإسلام و الحمد لله على كل حال
بسم الله الرحمن الرحيم و صلى الله على الذي أعجزت خصاله العد و الحد مسلم و الطبقة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حيثا لا يعده عدا ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال و لا يعد ] زاد أبو العباس الهمداني و أشار بيده إلى المغرب و ذكر بهاء الدين التبريزي في ملحمته التي زعم أنه لا يثبت فيها من الأخبار إلا ما صححته روايته و لا يذكر من الأحكام المنسوبة إلى الصنائع العملية إلا ما أبرزته درايته و لا يعتبر من الأعلام الدينية إلى ما أدركته هدايته قال في الترجمة الأولى : إذا خرجت نار الحجاز يقتل خليفة بغداد و يستقيم ملك المغرب و تبسط كلمته في الأقطار و يخطب له على منابر خلفاء بني العباس و يكثر الدر بالمعبر من بلاد الهند
ذكرت هذا ليعلم المقام أيده الله أنه هو المشار إليه و أنه الذي يعول في إصلاح ما فسد بحول الله عليه و من تأمل قوله صلى الله عليه و سلم :
[ يكون في آخر الزمان الحديث ] تبين له ما أردناه و ذلك يظهر من وجوه منها : أن الخليفة المذكور لم يسمع به فيما تقدم و لا ذكر في الدول الماضية و لو ذكر لرددنا القول به و أهملناه لأجل تقييده بآخر الزمان و الثاني : أن آخر الزمان الذي يراد به ظهور الشروط المتوسطة و أكثر العلامات المنذرة بالساعة هو هذا بعينه الثالث : لا خليفة لأهل المللة في وقتنا غير الذي قصدناه
و هذه أقطار المللة منحصرة و معلومة لنا من كل الجهات و الذي يشاركه في الاسم و يقاسمه في إطلاقه فقط لا يصدق عليه إذ هو أضعف من ذرة في كرة و من نملة في رملة و أقفر من قصد طالب السراب و يده مع أيبس من التراب فصح سبر و التقسيم و بتصفح الموجودات و الأزمان و الدول و المراتب و النعوت إنه هو لا شريك له فيها و المصحح لذلك كله و الذي يصدق و ينطبق عليه مدلول الحديث كرمه الذي يعجز عنه الحد و لا يتوقف فيه العد و هذا خليفة المللة كذلك و هذه دلائله هي أوضح من نار على علم و هذه خصاله شاهدة له بفضائل السيف و القلم و هذه خزائنه تغلب الطالب و تعجز عن الدافع و هذه سعوده في صعوده و هذه متاجر تعويله على الله رابحة و هذه أخواله بالكلية صالحة و هذه سعايته ناجحة
ثم هذه موازين ترجيحه راجحة و الحمد لله كما يجب
و ما النصر إلا من عند الله و صلى الله على عبده محمد بن عبد الله إنه من بكة و إنه للحق و إنه بسم الله الرحمن الرحيم و إنه إلى خضر لا تحصر و يحدر فيها الندر و يحافظ على سنة الرؤوف الرحيم صلى الله عليه و سلم أما بعد فبهداهم اقتداه الحمد لله الذي أحسن بمقام الإحسان و تمم النعمة و بين لمن تبين علم البيان و حكم لمن أحكم الحكمة و سبقت في صفات أفعاله صفة الرحمة و ذكر الهداية في كتابه بعد ذكر النعمة هو الرؤوف بالبرية و هو الرحيم و الحفي بالحنفية و هو القاهر الماضي المشيئة الذي يقبض و يبسط المشيئة شهد له بالكمال الممكن الذي أبرزه و خصصه و عرفه بالجلال من يسره لذلك و خلصه هو الذي استعمل عليها من اختاره لإقامة النافلة و الفرض و أعمى من أهلها من توسل له بنية العرض و أعتق العقاب و سر العقاب بطاعة من يستعمر به الربع المعمور وأنعم على المستضعفين في الأرض بإمام نجر المجد في بحر خصاله يعد بعض البعض
سنته محمدية و سيرته بكرية و سريرته علوية و سلالته عمرية فهذه ذرية و أنواع مجد بعضها من بعض بل هذه خطوط فصل الطول فيها مثل العرض عرف بالرياسة العالية و وصف بالنفاسة السالية و شهد له بذلك الخاص و العام و نزه من النقائض النزيه النفس و من نزهه في سلطانه علمه العام
صلى الله على الإسوة الرؤوف بالمؤمنين سيدنا محمد الذي أنزل عليه التنزيل و كتب اسمه في صحيح القصص و النصوص و بني الله و بائمة أمته الذين شبههم بالبنيان المرصوص و على آله و صحبه الكرام البررة الذين اصطفاهم و طهرهم ثم أيدهم فطهروا الأرض من الكفرة الفجرة و أخرج من ظهورهم ذرياتهم بالدين أظهرهم و يسر بهم السبيل ثم السبيل يسرهم
و منهم الخليفة المستنجد بالله المفضل على الناس و لكن أكثرهم و رضي الله عنهم و عنه و ضاعف للمحب الثواب الدائم منهم و منه و بعد خدمة يتقدم فيها بعد الحمد و التصلية و الدعاء للدولة على قبول الدعوة أصلية تحية بعضها مكية و كلها ملكوتية و روضة ريحها حضرة القدس و نشرها يدرك فيه صحبة النفث روح القدس
و تكبر عن أن تشبيه بالعنبر و الند و الورد و أزهار الربى و الرياض لأن المفارق للمادة لغير المفارق لها مفارقة السواد للبياض ثم هي هذا واجبة القصد عذبة الورد تذكر الذاكر بعرفها الذكي لمدركات جنة الخلد و النعيم و في مثل هذه فليتنافس المتنافسون
و تدرك النفس النفسية لذة النعيم لأنها ظاهرة طيبة كريمة صبية واقفة على حضرة الملك و السلطان و مدار فلك النسك و مستقر الإمامة و الجلالة و معقل الهداية و الدلالة و أصل الأصالة و دار المتقين و بيت العدالة و حزب اليقين و إنسانها الأعظم معلي الموحدي على الملحدين و قائم الدين و قيمه و مقر الإسلام و مقدمه القائم بالدعوة العامة بعد أبيه إمام المجد و الفخر ثم الأمة الذي إذا عزم أوهم بتخصيص مهمل اتخذ في خلده ما هو بالفعل مع ما هو بالقوة و أن يعرض له في طريق إعراضه الممكن العسير يسره سعده و ساعده ساعد القوة و إن سمع بالحمد في جهة حدبه بخاصة خصاله بعد مجد الأبوة و فخر النبوة لا يذكر معه و لا عنده صعب الأمور إلا بالضد فإنه مظهر العناية الإلهية و مرآة المجد و الجد
هو علم العلم ثم هو محل الحلم اسمه متوحد في مدلوله كالإسم العلم و عهده لا يتوقف على اللسان و لا على رسوم القلم
كتب في السماء و سمع به في الكرسي و كذلك العرش و ما هنا إنما هو مما هنالك فهو الأعلى و إن كان في الفرش هو شامخ القدر ظاهر الفضل شديد البطش ثم هو مما ظهر عليه علم أن الشجاعة لم تنتقل من الانسان إلى الأسد و لا يقال هذا بحر العلم فينتقل من الطبيعة إلى بحر الخلد لأن ذلك كله فيه بوجه أكمل و به و عليه و في يديه بنوع أفضل بلغ ذروة النهاية المخصوصة بالمطالب العالية و حصل في الزمان الفرد ما حصله الفرد في الأيام الخالية و يلغ في تبليغ حمده بصفاته ما بلغ الأشد عمره و نال غاية الإنسان و يتعجب منه في القيامة عمره و يسره أمره طلعت سعوده على مولده و مطالعه كلمة مجده لأحكام الفلك و طالعه إن حرر القول فيه و فهم شأنه قيل هو فوق الأطلس و المكوكب و إن قيس سعده بالكمالات الثلاثة كان كالبسيط مع المركب
أي غاية تطلب بعد طاعته و أي تجارة تنظر مع بضاعته له الحمد بيده الملك و الأمانة بل له الكل بفضل الله و فيه المقصد و السلامة لا بل له الفتح المبين و تتميم النعمة و الهداية و نور السكينة و فيه الإمارة و العلامة منير مكة بإزاء بيت بكة خطب بخطبته و الذي ذهب بالمدينة يطلب فلعله يسعفه في خطبته أفئدة السر تطير إذا سمعت بذكره و المهندات البتر تلين لباس ساعده و يقول طباع أربابها بشكره دولة التوحيد توحدت له إذ هو واحدها الأوحد و سياسة التسديد تحكمت له فهو مدبرها الأرشد و مع هذا كتابته أهملت صيت الصادين و كورت شمس الفتح ثم الفتح و الصادين
و كذلك الثلاثة الذين من قبلهم لا نذكر معه الأديب حبيب في رد الأعجاز على الصدور فإنه الذي يعتبر في ذلك و الذي يصدر عنه واقع في الصدور و أفعل في طباع المهرة و في نفوس الصدور يتأخر عن شعره شعر الرجلين و بعده نذكر الطبقة ثم شعراء نجد و الخيب و الجبلي و الولد بعده و الهذلي و المؤكد هو تقديمه في المغرب من ذلك و الهندلي علوم الأدب الخمسة تممها و سادسها و سابعها زاده من عند نفسه و خليل النحو لو حضر عنده كان خليله في تحصيل نوعه و جنسه و الفارسي تلميذه ثم الآخر بعده و الأخفش الكبير ثم الصغير ما ضرب لهم من قبل في مثله بنصيب و أقام أئمة النحو تنحو نحوه بنحو ينحوه نحو نحوه ثم لا يكون كالمصيب و كل كوفي بل كل بصري يحب الظهور إذا سمع به اختفى و المنصف منهم هو الذي بنحوه اكتفى أقيسة الفقه الثلاثة هذبها و حصلها و أصوله كما يجب علمها و فصلها و المسائل الطبولية تكلم على مفصلها و مجملها و سهل الصعب من مخصصها و مهملها
و إن فسر كتاب الله المعجز أرباب البلاغة بإعجاز بعد إعجازه و إن تعرض لعوارض ألفاظه أظهر العجب في اختصاره و إيجازه و إن شرع في شرح قصصه و جدله و في تفسير ترغيبه و ترهيبه و مثله يبصر الناظر فيه و المستمع لما لم يسمع و ما لم يبصر فإنه سلك بقدم كماله على قنطرة بعد لم تعبر و يضطر الزعيم به بتحصيله إلى تجديد قنطرة أخرى و بعد هذا يفتقر في بيانه إليه في الأولى و إلى الله في الأخرى و إن تكلم على متشابهه و محكمه علم الإصطلاح ثم بيان النوع للخبير به و بمحكمه و كذلك القول على الناسخ و المنسوخ و الوعد و الوعيد و إن يشاء طول في مطولاتهم و اختصر من مختصراتهم فبيده الزيادة و ضد المزيد و أما تحرير أمره و نهيه و أسراره و رقائقه و فواتح سوره و حقائقه و الذي يقال إنه لا من جنس الذي يكتسب و الذي هو أعظم من الذي يرد و إليه الأحوال تنتسب فهو الشارح لها و الخبير بها و إن تأخر و ينوع في ذلك و يزيد غير الأول و إن تكرر و أما علوم الحديث و أنواعها السبعة فهو بعلمها و صناعته بجملتها للعلماء يعلمها و الوراقة و الضبط و الخط وقفت عليه مهنة غايتها و حمله المر علوم الشريعة كلها عرفها و وعاها و رعاها حق رعايتها و كل العلوم العقلية و النفلية و رجالها على ذهنه الطاهر من دنس النسيان و المقامات السنية المستنزلات العلوية أدركها بعد التبيان فمن أراد أن يمدحه و يعدل عن إطلاق القول فقد اقترف أعظم الذنب و من ذكره و لم يتلذذ بذلك فق جاء بما ينضح حمله الخبب و نعوت جمالها يمنع عن إدراكها نور المتصل و حضرة جلاله محفوظة بجدها و جدها و قاطعها المنفصل
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء قل اللهم مالك الملك الله أعلم حيث يجعل رسالاته
هذه كلها آياته و الرابعة : و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها فإنها هباته إن حدث المحدث بكرمه يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال و لا يعده و نصر الله جاء لا يرده و فتحه من ذا الذي عن السعيد يصده ] و المؤرخ يتذكر بتذكره الكلمات الهذلي من حيث المطالب إذ قال : و قد سئل عن الإمام علي بن أبي طالب و هو الإمام و فيه أربعة و هو واحدها حتى في رفع التشبيه و قطع السبب العلم و الحلم و الشجاعة و فضل الحسب يسر بحكمته و يغتبط بها متى يتبع جملته الباحث الحكيم و لا يشعر بشعره إذا تصفح نعوته الشاعر العليم و ينشد طبعه في الحين و الوقت و الحزة و يخرج الحروف من مخارج الهمزة
( شهدت لقد أوتيت جامع فضله ... و أنت على علمي بذاك شهيد )
( و لو طلبت في الغيب منك سجية ... لقد فر موجود و عز وجود )
أدام الله له المجد الذي يسلك به على النجدين و حفظ عليه مقامه الذي لا يحتقر فيه إلا جوهر النقدين و بسط له في العلم و القدرة و بارك له في نصيب النصرة و جهز به العسرة و رد ه على الشرك و الفتن الكرة و عرفه في كل ما يعتزمه صعا جميلا و لطفا خفيا جليلا و كفاه الشر المحض و خير الشرين كما كشف له عن الخير المحض و علم السرين و أيده بروح منه في السر و السريرة و حفظه في حركاته و سكناته من الصغيرة و الكبيرة و جعل كلمته غالبة للضد و الجند و بلغ صيته الجزائر و البربر ثم إلى السند و الهند
و خلد ملكه و سلم فلكه و رفعه على أوج المجد بحده الطويل العريض و أهبط عدوه من الشرف الأعلى إلى الحضيض
و فتح الله به باب الفتح في المشرق و المغرب بعد فتح الثغور و شرح بنصره و فتحه أوسائط الصدور و ما استنبطته الضمائر من نفثات الصدور و جبر به كسر الظفر و وصل به ما انقطع من الأسباب و عصم جنده من ضد الدنف الأنف و ردهم إلى ردم الأبواب و قدس كلمته بعد الحرمين في البيت المقدس و سلك به مسالك السبل في المقبل و المعرس و بعد هذا فهذه أدعيتنا بل هذه أوديتنا و هذه مسائلنا بل هذه وسائلنا و هذه تحية حياها ذو الفطرة السليمة و هذه خدمة يفتخر بها طبيعة النفس العلمية
و استنبت فيها الكتاب و استثبت فيها الجواب و الموجب لإصدارها محبة أصلها ثابت و فرعها في العلى و حفز عليها حافزان :
شوق قديم و رعاية الآخرة و الأولى بل الأمر الذي هو في خير الأمور من أوسطها و إذا نظم في عقد الأسباب الموجبة لهذه الخطابة يكون في وسطها فإنه يحكي أحكام الشأن و القصة و يعلم المقام أيده الله الذي حصل له في حرم الله و حرم نبيه من النصيب و الحصة و فيه ينبغي أن تذهب الألفاظ و تلحظ عيون الأغراض و يفتح المقاصد و يحمل على جواهر الكمالات كالأعراض فمن ذلك ذكر المللة التي كملت و كبرت و الأخرى التي كانت ثم غمرت و صغرت و المنبر الذي صعد خطب خطبته على الخطيب و عرج إلى سماء السمو و هو على درجه و الآخر الذي درج عنه خطيبه و ضاق صدره الأمر حرجه و قرئت سورة الإمام بحرف المستنجد المستبصر لا بحرف المستعصم بن المستنصر
بسط القول و أطلق ترجمة عبد الله بعدما قبضه الذي أمات و أحيا و قبض على مقامه و دفع للإمام محمد بن يحيى و كان ذلك في يوم وصول الخبر بمصيبة الاختبار ثم في ليلة الآيات و الاعتبار و من ذلك أيضا بعمة الحمد و الدعاء الظاهر القول و المقبول في الحرم الشريف و انقياد الذي ظهر على طائفة الحق و السيد و الشريف و من ذلك صعود علم الأعلام على جبل معظم الحج و مقر و فوق الحاج و وقف به المتكلم في مقام من كانت له سقاية الحاج و ذكر ما يجب بما يجب في موقف الإمام مالك و عرف هنالك أنه الإمام و المالك لكل مالك و تعرف نكرة دعوة التوحيد بتخصيص خصوصية المخصوص بعرفة و تعارف بها من تعارف معه هناك و نعم التعارف و المعرفة
ثم ذكر عند المشعر الحرام و في جهات حدود حرم المسجد الحرام و عظم اسمه بعد ذكر الله و ذكر الوالدين و طلع الذاكر بالتركيب إلى الجدين الساكنين في الخلد و الخالدين فلما وصل الحجيج إلى عقبة الجمرات ذكر مع السبع الأولى سبع مرات
و كذلك عند الركوع في مسجد الخيف و كل كلمات تمجيده بالكم و الكيف و عند التوجه من هناك و يوم النفر قررت آياته المذكورة في كتاب الجفر
ثم جدد الذكر حول البيت العتيق بالحمد و الشكر فلما وصل العلم بانتقال بيت الملك و السلطان من بغداد في شهر رمضان أظهر الخفي المكنون فكان ذلك مع التسبيح و القرآن و كان الخادم في الزمان الأول و في الذاهب ينتظر الخطفة من نحو عراق و المغرب و الآن وجد نفسها من نحو اليمن إقليم الأعراب و العرب
و الذي حمل على هذا كله طاعة كاملة و غبطة عاملة و الله تعالى بفضله يعصمه من كيد المعاند فإنه في إظهار دعوة التوحيد كالمجاهد و المكابد و معاد التحية على المقام الأرفع و المقر الأنفع و على خدام حضرته العلية و أرباب دعوته الجلية و أنواع رحمته تعالى و بركاته و الحمد لله كما يجب و صلى الله على نبيه محمد و على آله و سلم
كتب تجاه الكعبة المعظمة في الجانب الغربي من الحرم الشريف و الحمد لله رب العالمين و لما وصلت هذه البيعة استحضر لها السلطان الملأ و الكافة و قرئت بمجمعهم و قام خطيبهم القاضي أبو البراء في ذلك المحفل فاسحنفر في تعظيمها و الإشادة بحسن موقعها و إظهار رفعة السلطان و دولته بطاعة أهل البيت و الحرم و دخولهم في دعوته ثم جار بالدعاء للسلطان و انفض الجمع فكان من الأيام المشهودة في الدولة (6/407)
الخبر عن الوفود من بني مرين و السودان و غيرهم
كان بنو مرين كما قدمناه قد تمسكوا بطاعة الأمير أبي زكريا و دخلوا في الدعوة الحفصية و حملوا عليها من تحت أيديهم من الرعايا مثل : أهل مكناسة و تازى و القصر و خاطبوا السلطان بالتمويل و الخضوع
و لما هلك السلطان و ولي ابنه المستنصر و قارن ذلك ولاية المرتضى بمراكش ثم كان بينهم و بين المرتضى من الفتنة و الحرب ما ذكرناه و نذكره فاتصل ذلك بينهم و بعث الأمير أبو يحيى بن عبد الحق بيعة أهل فاس و أوفد بها مشيخة بني مرين على السلطان و ذلك سنة اثنتين و خمسين و ستمائة فكان لها موقع من السلطان و الدولة و قابلهم من الكرامة كل على قدره و انصرفوا محبورين إلى مرسلهم و لما هلك أبو يحيى بن عبد الحق و استقل أخوه يعقوب بالأمر أوفد إليه ثانية رسله و هديته و طلب الإعانة من السلطان على المرتضى و أمر أهل مراكش على أن يقيموا بها الدعوة له عند فتحها و لم يزل دأبهم إلى أن كان الفتح
و في سنة خمس و خمسين و ستمائة وصلت هدية ملك كانم من ملوك السودان و هو صاحب برنو مواطنه قبلة طرابلس و كان فيها الزرافة و هو الحيوان الغريب الخلق المنافر الحلى و الشيات فكان لها بتونس مشهد عظيم برز إليها الجفلى من أهل البلد حتى غص بها الفضاء و طال إعجابهم بشكل هذا الحيوان و تباين نعوته و أخذها من كل حيوان بشبه و في سنة ثمان و خمسين و ستمائة وصل دون الرنك أخو ملك قشتالة مغاضبا لأخيه و وفد على السلطان بتونس فتلقاه من المبرة و الحباء بما يلقى به كرام القوم و عظماء الملوك و نزل من دولته بأعز مكان و كان تتابع هذه الوافدات مما شاد بذكر الدولة و رفع من قدرها (6/417)
الخبر عن مقتل ابن الابار و سياقة أوليته
كان هذا الحافظ أبو عبد الله بن الأبار من مشيخة أهل بلنسية و كان علامة في الحديث و لسان العرب و بليغا في الترسيل و الشعر و كتب عن السيد أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن ببلنسية ثم عن ابنه السيد أبي زيد ثم دخل معه دار الحرب حين نزع إلى دين النصرانية و رجع عنه قبل أن يأخذ به ثم كتب عن ابن مردنيش و لما دلف الطاغية إلى بلنسية و نازلها بعث زيان بوفد بلنسية و بيعتهم إلى الأمير أبي زكريا و كان فيهم ابن الأبار هذا الحافظ فحضر مجلس السلطان و أنشد قصيدته على روي السين يستصرخه فبادر السلطان بإغاثتهم وشحن الأساطيل بالمدد إليهم من المال و الأقوات و الكسى فوجدهم في هوة الحصار إلى أن تغلب الطاغية على بلنسية و رجع ابن الأبار بأهله إلى تونس غبطة بإقبال السلطان عليه فنزل منه بخير مكان و رشحه لكتب علامته في صدور رسائله و مكتوباته فكتبها مدة ثم إن السلطان أراد صرفها لأبي العباس الغساني لما كان يحسن كتابتها بالخط المشرقي و كان آثر عنده من الخط المغربي فسخط ابن الابار إنفة من إيثار غيره عليه و افتأت على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه و أن يبقى مكان العلامة منه لواضعها فجاهر بالرد و وضعها استبدادا و إنفة و عوتب على ذلك فاستشاط غضبا و رمى بالقلم و أنشد متمثلا
( و اطلب العز في لظى و ذر الذل ... و لو كان في جنان الخلود )
فنمى ذلك إلى السلطان فأمر بلزومه بيته ثم استعتب السلطان بتأليف رفعه إليه عد فيه من عوتب من الكتاب و اعتب و سماه أعتاب الكتاب و استشفع فيه بإبنه المستنصر فغفر السلطان له و أقال عثرته و أعاده إلى الكتابة
و لما هلك الأمير أبو زكريا رفعه المستنصر إلى حضور مجلسه مع الطبقة الذين كانوا يحضرونه من أهل الأندلس و أهل تونس و كان في ابن الأبار أنفة و بأو و ضيق خلق فكان يزري على المستنصر في مباحثه و يستقصره في مداركه فخشن له صدره مع ما كان يسخط به السلطان من تفضيل الأندلس و ولايتها عليه
و كانت لابن أبي الحسين فيه سعاية لحقد قديم سببه أن ابن الآبار لما قدم في الأسطول من بلنسية نزل ببنزرت و خاطب ابن أبي الحسن بغرض رسالته و وصف أباه في عنوان مكتوبة بالمرحوم و نبه على ذلك فاستضحك و قال : إن أبا لا تعرف حياته من موته لأب خامل و نميت إلى ابن أبي الحسين فأسرها في نفسه و نصب له إلى أن حمل السلطان على إشخاصه من بجاية ثم رضي عنه و استقدمه و رجعه إلى مكانه من المجلس و عاد هو إلى مساءة السلطان بنزعاته إلى أن جرى في بعض الأيام ذكر مولد الواثق و ساءل عنه السلطان فاستبهم فعدا عليه ابن الأبار بتاريخ الولادة و طالعها فأتهم بتوقع المكروه للدولة و التربص بها كما كان أعداؤه يشنعون عليه لما كان يتظر في النجوم فتقبض عليه و بعث السلطان إلى داره فرفعت إليه كتبه أجمع و ألقى أثناءها فيما زعموا رقعة بأبيات أولها :
( طغى بتونس حلف سموه ظلما خليفة )
فاستشاط لها السلطان و أمر بامتحانه ثم بقتله قعصا بالرماح وسط محرم من سنة ثمان و خمسين و ستمائة ثم أحرق شلوه و سيقت مجلدات كتبه و أوراق سماعه و دواوينه فأحرقت معه (6/418)
الخبر عن مقتل اللياني و أوليته و تصاريف أحواله
أصل هذا الرجل من لليانة قرية من قرى المهدية مضمومة اللام مكسورة الثانية و كان أبوه عاملا بالمهدية و بها نشأ ابنه أبو العباس و كان يتنحل القراءة و الكتاب حتى حذق في علوم اللسان و تفقه على أبي زكريا البرقي ثم طالع مذاهب الفلاسفة ثم صار إلى طلب المعاش من الإمارة فولي أعمال الجباية ثم صودر في ولايته على مال أعطاه و تخلص من نكبته فنهض في الولايات حتى شارك كل عامل في عمله بما أظهر من كفايته و تنميته للأموال حتى قصر بهم و أديل منهم
و كان الكثير منهم متعلقا من ابن أبي الحسين رئيس الدولة بذمة خدمة فأسفه بذلك و أغرى به بطانة السلطان ومواليه حتى سعوا به عند السلطان و أنه يروم الثورة بالمهدية حتى خشن له باطن السلطان فدخل عليه ذات يوم أبو العباس الغساني فاستجازه السلطان في قوله :
اليوم يوم المطر فقال الغساني : و ويوم رفع الضرر فتنبه السلطان و استزاده فأنشد : و العام تسعة كمثل عام الجوهري فكانت إغراء باللياني فأمر أن يتقبض عليه و على عدوه ابن العطار و كان عاملا و أمر أبا زيد بن يغمور بامتحانهما فعذبهما حتى استصفى أموالهما و الميل في ذلك على اللياني و كان في أيام امتحانه يباكر موضع عمله ثم نمي عنه أنه يروم الفرار إلى صقلية و بوحث بعض من داخله في ذلك فأقر عليه فدفع إلى هلال كبير الموالي من العلوج فضربه إلى أن قتله و رمى بشلوه إلى الغوغاء فعبثوا به و قطعوا رأسه ثم تتبع أقاربه و ذووه بالنكال إلى أن استنفذوا (6/419)
الخبر عن انتقاض أبي علي الملياني بمليانة على يد الأمير أبي حفص
كان المغرب الأوسط من تلمسان و أعمالها إلى بجاية في طاعة السلطان منذ تغلب أبوه الأمير زكريا عليه و فتح تلمسان و أطاعه يغمراسن و كان بين زناتة بتلك الجهات فتن و حروب شأن القبائل اليعاسيب و كانت مليانة من قسمة مغراوة بني ورسيفان و كانوا أهل بادية
و تقلص ظل الدولة عن تلك الجهات بعض الشيء و كان أبو العباس الملياني من مشيخة مليانة صاحب فقه و رواية و سمت و دين رحل إليه الأعلام و أخذ عنه العلماء و انتهت إلى رئاسة الشورى ببلده و نشأ ابنه أبو عليه علي من الخلال متهالكا في الرياسة متبعا غواية الشبيبة فلما رأى تقلص ظل الدولة و فتن مغراوة مع يغمراسن و مزاحمته لهم حدثته نفسه بالاستبداد فخلع طاعة آل أبي حفص و نبذ دعوتهم و انبرى بها داعيا لنفسه و بلغ الخبر إلى السلطان فسرح إليه أخاه الأمير أبا حفص و معه الأمير أبو زيد بن جامع ودن الرنك أخو الفنش و طبقات الجند فخرج من تونس سنة تسع و خمسين و ستمائة و أغذ السير إلى مليانة فنازلها مدة و شد حصارها حتى اقتحموها غلابا و فر أبو علي الملياني و لحق ببني يعقوب من آل العطاف أحد شعوب زغبة فأجاروه و أجازوه الى المغرب الأقصى إلى أن كان من خبره ما نذكره بعد
و دخل الأمير أبو حفص مليانة و مهد نواحيها و عقد عليها إلى ابن منديل أمير مغراوة فملكها مقيما فيها لدعوة السلطان شأن غيرها من عمالات مغراوة و قفل الأمير أبو حفص إلى تونس و لقيه بطريقه كتاب السلطان بالعقد له على بجاية و إمارتها فكره ذلك غبطة بجوار السلطان و ترددت في ذلك رغبته فأديل منها بالشيخ أبي هلال عياد بن سعيد الهنتاتي و عقد له على بجاية و لحق الأمير أبو حفص بالحضرة إلى أن كان من خلافته ما نذكر بعد و هلك شقيقه أبو بكر بن الأمير أبي زكريا ثانية مقدمه إلى تونس سنة إحدى و ستين و ستمائة فتفجع له الخليفة و القرابة و الناس و شهد السلطان جنازته و البقاء لله وحده (6/420)
الخبر عن فرار أبي القاسم بن أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد و خروجه في رياح
كان أبو القاسم بن أبي زيد هذا في جملة ابن عمه الخليفة و تحت جرايته و أبوه أبو زيد هو القائم بالأمر بعد أبيه الشيخ أبي محمد و لحق بالمغرب و جاء أبو القاسم في جملة الأمير أبي زكريا و أوصى به ابنه إلى أن حدثته نفسه بالتوثب و الخروج
و خامره الرعب من إشاعة تناقلها الدهماء سببها أن السلطان استحدث سكة من النحاس مقدرة على قيمته من الفضة حاكى بها سكة الفلوس بالمشرق تسهيلا على الناس في المعاملات باسرافها و تيسيرا لاقتضاء حاجاتهم و لما كان لحق سكة الفضة من غش اليهود المتناولين لصرفها و صوغها و سمى سكته التي استحدثها بالحندوس
ثم أفسدها الناس بالتدليس و ضربها أهل الريب ناقصة عن الوزن و فشا فيها الفساد و اشتد السلطان في العقوبة عليها فقطع و قتل و صارت ريبة لمن تناولها
و أعلن الناس بالنكير في شأنها و تنادوا بالسلطان في قطعها و كثر الخوض في ذلك و توقعت الفتنة و أشيع من طريق الحدثان الذي تكلف به العامة أن الخارج الذي يثير الفتنة هو أبو قاسم بن أبي زيد فأزال السلطان تلك السكة و عفا عليه و أهمه شأن أبي القاسم ابن عمه و بلغه الخبر فخامره الرعب إلى ما كان يحدث نفسه من الخروج ففر من الحضرة سنة إحدى و ستين و ستمائة و لحق برياح و نزل على أميرهم شبل بن موسى بن محمد رئيس الدواودة فبايع له و قام بأمره ثم بلغه اعتزام السلطان على النهوض إليه فخشي بادرته و اضطرب أمر العرب من قبيله و لما أحس أبو القاسم باضطرابهم و خشي أن يسلموه إذا أزادهم السلطان عليها تحول عنهم و لحق بتلمسان و أجاز البحر منها إلى الأندلس و صحبت الأمير أبا إسحاق ابن عمه في مثوى اغترابهما بالأندلس ثم ساءت أفعاله و عظم استهتاره و فشا النكير عليه من الدولة فلحق بالمغرب و أقام بتينملل مدة ثم رجع إلى تلمسان و بها مات و قام الأمير أبو إسحاق بمكانه من جوار ابن الأحمر إلى أن كان من أمره ما نذكره (6/421)
الخبر عن خروج السلطان إلى المسيلة
لما اتصل بالسلطان شأن أبي قاسم ابن عمه أبي زيد و فصاله عن رياح إلى المغرب بعد عقدهم معه خرج من تونس سنة أربع و ستين في عساكر الموحدين و طبقات الجند لتمهيد الوطن و محو آثار الفساد منه و تقويم العرب على الطاعة و تنقل في الجهات إلى أن وصل بلاد رياح فدوخها و مهد أرجاءها و فر شبل بن موسى و قومه الدواودة إلى القفر و احتل السلطان بالمسيلة أخر وطن رياح و وافاه هنالك محمد من عبد القوي أمير بني توجين من زناتة مجددا لطاعته و متبركا بزيارته فتلقاه من البرور تلقي أمثاله و أثقل كاهله بالحباء و الجوائز و جنب له الجياد المقربات بالمراكب المثقلة بالذهب و اللجم المحلات
و ضرب له الفساطيط الفسيحة الأرجاء من ثياب الكتان و جدل القطن إلى ما يتبع ذلك من المال و الظهر و الكراع و الأسلحة و اقطع له مدينة مقرة و بلد أوماش من عمل الزاب و انقلب عنه الى وطنه
و رجع السلطان إلى تونس و في نفسه من رياح ضغن إلى أن صرف إليهم وجه تدبيره كما نذكره و لثانية احتلاله في الحضرة كان مهلك مولاه هلال و يعرف بالقائد و كان له في الدولة مكان بمكان تلادا للسلطان و كان شجاعا جوادا خيرا محببا سهلا مقبلا على أهل العلم و ذوي الحاجات و له في سبل الخير آثار منقولة صار له بها ذكر فارتمض السلطان لمهلكه و الله أعلم (6/422)
الخبر عن مقتل مشيخة الدواودة
كان شبل بن موسى و قومه من الزواودة فعلوا الأفاعيل في اضطراب الطاغية ونصب من لحق بهم من أهل هذا البيت للملك فبايعوا أولا للأمير أبي إسحق كما ذكرناه ثم بعده لأبي القاسم ابن عمه أبي زيد و خرج إليهم السلطان سنة أربع و ستين و ستمائة و دوخ أوطانهم و لحقوا بالصحراء و دافعوه على البعد بطاعة ممرضة فتقبلها و طوى لهم على البت و رجع إلى تونس فأوعز إلى أبي هلال عباد عامل بجاية من مشيخة الموحدين باصطناعهم و استئلافهم لتكون وفادتهم عليه من غير عهد و جمع السلطان أحلافه من كعوب بني سليم و دباب و أفاريق بني هلال و خرج من تونس سنة ست و ستين و ستمائة في عساكر الموحدين و طبقات الجند و وافاه ابن عساكر ابن السلطان إخوة بني مسعود ابن السلطان من الزواودة فعقد لمهدي ابن عساكر عن إمارته قومه و غيرهم من رياح و فر بنو مسعود ابن السلطان مصحرين و السلطان في أثرهم حتى نزل نقاوس و عسكروا بثنايا الزاب و رسلهم تختلف إلى أبي هلال إيناسا للمراجعة على يده للدخلة في الساحة فأشار عليهم بالوفادة على السلطان وفاء بقصده من ذلك فثقبلوا إشارته و وفد أميرهم شبل بن موسى بن محمد بن مسعود و أخوه يحيى و بنو عمهما أولاد زيد بن مسعود : سباع بن يحيى بن دريد و ابنه و طلحة بن ميمون بن دريد و حداد بن مولاهم بن خنفر بن مسعود و أخوه فتقبض عليهم لحينهم و على دريد ابن تازير من شيوخ كرفة و انتهبت أسلابهم و ضربت أعناقهم و نصبت أشلاؤهم بزوايا من جهات نقاوس حيث كانت بيعتهم لأبي القاسم بن أبي زيد و بعث برؤسهم إلى بسكرة فنصبها بها و أغذ السير غازيا إلى أحيائهم و أحلهم بمكانها من ثنايا الزاب
و صحبهم هنالك فأجفلوا و تركوا الظهر و الكراع و الأبنية فامتلأت أيدي و سدويكش منها و نجوا بالعيال و الولد على الأقتاب و العساكر في أتباعهم إلى أن أجازوا وادي شدى قبلة الزاب و هو الوادي الذي يخرج أصله من جبل راشد قبلة المغرب الأوسط و يمر إلى ناحية الشرق مجتازا بالزاب إلى أن يصب في سبخة نفراوة من بلاد الجريد
فلما جاز فلهم الوادي أصحروا إلى المفازاة المعطشة و الأرض الحرة السوداء المستحجرة المسماة بالحمادة فرجعت العساكر عنهم و انقلب السلطان من غزاته ظافرا ظاهرا و أنشده الشعراء في التهنئة و لحق فل الزواودة بملوك زناتة فنزل بنو يحيى بن دريد على يغمراسن بن زيان و بنو محمد بن مسعود على يعقوب بن عبد الحق فأجازوهم و أوسعوهم حباء و ملؤا أيديهم بالصلات و مرابطهم بالخيل و أحياءهم بالأبل و رجعوا إلى مواطنهم فتغلبوا على واركلة و قصور ريغة و اقتطعوها من إيالة السلطان ثم انحرفوا إلى الزاب فجمع لهم عامله ابن عتو و كان موطنا بمقرة و لقيهم على حدود أرض الزاب فهزموه و اتبعوه إلى بطاوة فقتلوه عندها و استطالوا على الزاب و جبل أوراس و بلاد الحصنة إلى أن اقتطعهم الدول إياها من بعد ذلك فصارت ملكا لهم و الله تعالى أعلم (6/423)
الخبر عن طاغية الافرنجة و منازلته تونس في أهل نصرانيته
هذه الأمة المعروفة بالإفرنجة و تسميها العامة بالإفرانسيس نسبة إلى بلد من أمهات أعمالهم تسمى إفرانسة و نسبهم إلى يافث بن نوح و هم بالعدوة الشمالية من عدوتي هذا البحر الرومي الغربي ما بين جزيرة الأندلس و خليج القسنطينة مجاورون الروم من جانب الشرق و الجلالقة من جانب الغرب و كانوا قد أخذوا بدين النصرانية مع الروم و منهم لقنوا دينها و استفحل ملكهم عند تراجع ملك الروم و أجازوا البحر إلى أفريقية مع الروم فملكوها و نزلوا أمصارها العظيمة مثل سبيطلة و جلولا و قرطاجنة و مرناق و باغاية و لمس و غيرها من الأمصار و غلبوا على من كان بها من البربر حتى اتبعوهم في دينهم و أعطوهم طاعة الانقياد ثم جاء الإسلام و كان الفتح بانتزاع الأعراب من أيديهم سائر أمصار أفريقية العدوة الشرقية و الجزر البحرية مثل أقريطش و مالطة و صقلية و ميورقة و رجوعهم إلى عدوتهم
ثم أجازوا خليج طنجة و غلبوا القوط و الجلالقة و البشكتس و ملكوا جزيرة الأندلس و خرجوا من ثناياها و دورها إلى بسائط هؤلاء الإفرنجة فدوخها و عاثوا فيها
و لم تزل الصوائف تتردد إليها صدرا من دولة بني أمية بالأندلس و كان ولاة أفريقية من الأغالبة و من قبلهم أيضا يرددون عساكر المسلمين و أساطيلهم من العدوة حتى غلبوهم على الجزر البحرية و نازلوهم في بسائط عدوتهم فلم تزل في نفوسهم من ذلك ضغائن فكان يخالجها الطمع في ارتجاع ما غلبوا عليه منها
و كان الربع أقرب إلى سواحل الشام و طمع فيها فلما وصل أمر الروم بالقسنطينة و رومة و استفحل ملك الفرنجة هؤلاء و كان ذلك على هيئة سمو الخلافة بالمشرق
فسموا حينئذ إلى التغلب على معاقل الشام و ثغوره و زحفوا إليها و ملكوا الكثير منهم و استولوا على المسجد الأقصى و بنوا فيه الكنيسة العظمى بدل المسجد و نازلوا مصر و القاهرة مرارا حتى جاد الله للإسلام من صلاح الدين أبي أيوب الكردي صاحب مصر و الشام في أواسط المائة السادسة جنة واقية و عذابا على أهل الكفر مصبوبا فأبلى في جهادهم و ارتجع ما ملكوه و طهر المسجد الأقصى من أفكهم و كفرهم و هلك على حين غرة من الغزو و الجهاد ثم عاودوا الكرة و نازعوا مصر في المائة السابعة على عهد الملك الصالح صاحب مصر و الشام و أيام الأمير أبي زكريا بتونس فضربوا أبنيتهم بدمياط و افتتحوها و تغلبوا في قرى مصر و هلك الملك الصالح خلال ذلك ولي ابنه المعظم و أمكنت المسلمين في الغزو فرصة أيام فيض النيل ففتحوا الغياض و أزالوا مدد الماء فأحاط بمعسكرهم و هلك منهم عالم و قيد سلطانهم أسيرا من المعركة إلى السلطان فاعتقله بالإسكندرية حتى مر عليه بعد حين من الدهر و أطلقه على أن يمكنوا المسلمين من دمياط فوفوا له ثم على شرط المسالمة فيما بعد فنقضه لمدة قريبة و اعتزم على الحركة إلى تونس متجنيا عليهم فيما زعموا بمال أدعياء تجار أرضهم و أنهم أقرضوا اللياني فلما نكبه السلطان طالبوه بذلك المال و هو نحو ثلثمائة دينار بغير موجب يستندون إليه فغضبوا لذلك و اشتكوه إلى طاغيتهم فامتعض لهم و رغبوه في غزو تونس لما كان فيها من المجاعة و الموتان
فأرسل الفرنسيس طاغية الإفرنج و اسمه سنلويس بن لويس و تلقب بلغة الإفرنج روا فرنس و معناه ملك إفرنس فأرسل إلى ملوك النصارى يستنفرهم إلى غزوها و أرسل إلى القائد خليفة المسيح بزعمهم فأوعز إلى ملوك النصرانية مظاهرته و أطلق يده في أموال الكنائس مددا له و شاع خبر استعداد النصارى للغزو في سائر بلادهم و كان الذين أجابوه للغزو ببلاد المسلمين من ملوك النصرانية ملك الإنكثار و ملك اسكوسيا و ملك نزول و ملك برشلونة و اسمه ريدراكون و جماعة آخرون من ملوك الإفرنج هكذا ذكر ابن الأثير و أهم المسلمين بكل ثغر شأنهم و أمر السلطان في سائر عمالاته بالاستكثار من العدة و أرسل في الثغور لذلك بإصلاح الأسوار و اختزان الحبوب و انقبض تجار النصارى عن تعاهد بلاد المسلمين و أوفد السلطان رسله إلى الفرنسيس لاختبار رحاله و مشارطته على ما يكف عزمه و حملوا ثمانين ألفا من الذهب لاستتمام شروطهم فيما زعموا فأخذ المال من أيديهم و أخبرهم أن غزوه إلى أرضهم فم طلبوا المال اعتل عليهم بأنه لم يباشر قبضه و وافق شأنهم معه وصول رسول عن مصاحب مصر فأحضر عند الفرنسيس و استجلس فأبى و أنشده قائلا من قول أبي مطروح شاعر السلطان بمصر :
( قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق من وزير نصيح )
( آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد نصارى المسيح )
( أتيت مصرا تبتغي ملكها ... تحسب أن الزمر بالطبل ريح )
( فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظريك الفسيح )
( و كل أصحابك أودعتهم ... بسوء تدبيرك بطن الضريح )
( سبعون ألفا لا يرى منهم ... إلا قتيل أو أسير جريح )
( ألهمك الله إلى مثلها ... لعل عيسى منكم يستريح )
( إن كان باباكم بذا راضيا ... فرب غش قد أتى من نصيح )
( فاتخذوه كاهنا إنه ... أنصح من شق لكم أو سطيح )
( و قل لهم إن أزمعوا عودة ... لأخذ ثار أو لشغل قبيح )
( دار ابن لقمان على حالها ... و القيد باق و الطواشي صبيح )
يعني بدار ابن لقمان موضع اعتقاله بالإسكندرية و الطواشي في عرف أهل مصر هو الخصي فلما استكمل إنشاده لم يزد ذلك الطاغية إلا عتوا و استكبارا و اعتذر عن نقض العهد في غزو تونس بما يسمع عنهم من المخالفات عذرا دافعهم به و صرف الرسل من سائر الآفاق ليومه فوصل رسل السلطان منذرين بشأنهم و جمع الطاغية حشده و ركب أساطيله إلى تونس آخر ذي القعدة سنة ثمان و ستين و ستمائة فاجتمعوا بسردانية و قيل بصقلية ثم واعدهم بمرسى تونس و أقلعوا و نادى السلطان في الناس بالنذير بالعدو و الاستعداد له النفير إلى أقرب المدائن و بعث الشواني لاستطلاع الخبر و استفهم أياما
ثم توالت الأساطيل بمرسى قرطاجنة و تفاوض السلطان مع أهل الشورى من الأندلس و الموحدين في تخليتهم و شأنهم من النزول بالساحل أو صدهم عنه فأشار بعضهم بصدهم حتى تنفد ذخيرتهم من الزاد و الماء فيضطرون إلى الأقلاع و قال آخرون إذا أقلعوا من مرسى الحضرة ذات الحامية و العدد صبحوا بعض الثغور سواها فملكوه و استباحوه و استصعبت مغالبتهم عليه فوافق السلطان على هذا و خلوا و شأنهم من النزول فنزلوا بساحل قرطاجنة بعد أن ملئت سواحل رودس بالمرابطة بجند الأندلس و المطوعة زهاء أربع آلاف فارس لنظر محمد بن الحسين رئيس الدولة
و لما نزل النصارى بالساحل و كانوا زهاء ستة آلاف فارس و ثلاثين ألفا من الرجالة فيما حدثني أبي عن أبيه رحمهما الله قال : و كانت أساطيلهم ثلثمائة بين كبار و صغار و كانوا سبعة يعاسيب كان فيهم الفرنسيس و إخوة جرون صاحب صقلية و صاحب الجزر و العلجة زوج الطاغية تسمى الرينة و صاحب البر الكبير و تسميهم العامة من أهل الأخبار ملوكا و يعنون أنهم متباينون ظاهروا على غزو تونس و ليس كذلك
و إنما كان واحدا و هو طاغية الفرنجة و إخوته و بطارقته عد كل واحد منهم ما ملكا لفضل قوته و شدة بأسه فأنزلوا عساكرهم في المدينة القديمة من قرطاجنة و كانت مائلة الجدران اضطرام المعسكر بداخلها و وصلوا ما فصله الخراب من أسوارها بألواح الخشب و نضدوا شرفاتها و أداروا على السور خندقا بعيد المهوى و تحصنوا و ندم السلطان على إضاعة الحزم في تخريبها أو دفاعهم عن نزلها و أقام ملك الفرنجة و قومه متمرسين بتونس ستة أشهر و المدد يأتيه في أساطيله في البحر من صقلية و العدوة بالرجل و الأصلحة و الأقوات
و سلك بعض المسلمين طريقا في البحيرة و اتبعهم العرب فأصابوا غرة في العدو فظفروا و غنموا و شعروا بمكانهم فكفلوا بحراسة البحيرة و بعثوا فيها الشواني بالرماة و منعوا الطريق إليهم و بعث السلطان في ممالكه حاشدا فوافته الأمداد من كل ناحية و وصل أبو هلال صاحب بجاية و جاءت جموع العرب و سدويكش و ولهاصة و هوارة حتى أمده ملوك المغرب من زناتة و سرح إليه محمد بن عبد القوي عسكر بني توجين لنظر ابنه زيان و أخرج السلطان أبنيته و عقد لسبعة من الموحدين على سائر الجند من المرتزقة و المطوعة و هم : إسمعيل بن أبي كلداسن و عيسى بن داود و يحيى بن أبي بكر و يحيى بن صالح و أبو هلال عياد بجاية و محمد بن عبو و أمرهم كلهم راجع ليحيى بن صالح و يحيى بن أبي بكر منهم
و اجتمع من المسلمين عدد لا يحصى و خرج الصلحاء و الفقهاء و المرابطون لمباشرة الجهاد بأنفسهم و التزم السلطان القعود بإيوائه مع بطانته و أهل اختصاصه و هم :
الشيخ أبو سعيد المعروف بالعود و ابن أبي الحسين و قاضيه أبو القاسم بن البراء و أخو العيش و اتصلت الحرب و التقوا في منتصف محرم سنة تسع بالمنصف فرحف يومئذ يحيى بن صالح و جرون فمات من الفريقين خلق و هجموا على المعسكر بعد العشاء و تدامر المسلمون عنده ثم غلبوا بعد أن قتل من النصارى زهاء خمسمائة فأصبحت أبنيته مضروبة كما كانت و أمر بالخندق على المعسكر فتعاورته الأيدي و احتفر فيه الشيخ أبو سعيد بنفسه و ابتلي المسلمون بتونس و ظنوا الظنون و اتهم السلطان بالتحول عن تونس إلى القيروان
ثم إن الله أهلك عدوهم و أصبح ملك الفرنجة ميتا يقال حتف أنفه و يقال أصابه سهم غرب في بعض المواقف فأبته و يقال أصابه مرض الوباء و يقال و هو بعيد أن السلطان بعث إليه مع ابن جرام الدلاصي بسيف مسموم و كان فيه مهلكه و لما هلك اجتمع النصارى على ابنه دمياط سمي بذلك لميلاده بها فبايعوه و اعتزموا على الإقلاع و كان أمرهم راجعا إلى العلجة فراسلت المستنصر أن يبذل لها ما خسروه في مؤنة حركتهم و ترجع بقومها فأسعفها السلطان لما كان العرب اعتزموا على الإنصراف إلى مشايتهم
و بعث مشيخة الفقهاء لعقد الصلح في ربيع الأول سنة تسع و ستين و ستمائة فتولى عقده و كتابه القاضي ابن زيتون لخمسة عشر عاما و حضر أبو الحسن علي بن عمرو و أحمد بن الغماز و زيان بن محمد بن عبد القوى أمير بني توجين و اختص جرون صاحب صقلية بسلم عقده على جزيرته و أقلع النصارى بأساطيلهم و أصابهم عاصف من الريح أشرفوا منه على العطب و هلك الكثير منهم و أغرم السلطان الرعايا ما أعطى العدو من المال فأعطوه طواعية يقال إنه عشرة أحمال من المال و ترك النصارى بقرطاجنة تسعين منجنيقا و خاطب السلطان صاحب المغرب و ملوك النواحي بالخبر و دفاعه عن المسلمين و ما عقده من الصلح و أمر بتخريب قرطاجنة و أن يؤتي بنيانها من القواعد فصير أبنيتها طامسة و رجع الفرتجة إلى دعوتهم فكان آخر عهدهم بالظهور و الاستفحال و لم يزالوا في تناقص و ضعف إلى أن افترق ملكهم عمالات
و استبد صاحب صقلية لنفسه و كذا صاحب نايل و جنوده و سردانية و بقى بيت ملكهم الأقدام لهذا العهد على غاية من الفشل و الوهن و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (6/424)
الخبر عن مهلك رئيس الدولة أبي عبد الله بن أبي الحسين و أبي سعيد العود الرطب
أصل هذا الرجل من بني سعيد رؤسا القلعة المجاورة لغرناطة و كان كثير منهم قد استعملوا أيام الموحدين بالعدوتين و كان جده أبو الحسن سعيد صاحب الأشغال بالقيروان و نشأ حافده محمد هذا في كفالته و لما عزل و قفل إلى المغرب هلك ببونة سنة أربع و ستمائة و رجع حافده محمد إلى تونس و الشيخ أبو محمد بن أبي حفص صاحب أفريقية لذلك العهد فاغتلق بخدمة ابنه أبي زيده و لما ولي المر بعد وفاة أبيه غلب محمد هذا على هواه ثم جاء السيد أبو علي من مراكش و على أفريقية محمد ابن أبي الحسين في جملته إلى أن هلك في حصار هسكورة بمراكش كما قدمناه و رجع ابن أبي الحسين إلى تونس و اتصل بالأمير أبي زكريا لأول استبداده فغلب على هواه و كان مبختا في صحابة الملوك و لما ولي المستنصر أجراه على سنته برهة
ثم تنكر له إثر كائنة اللحياني و عظمت سعاية أعدائه من الباطنية و أشاعوا مداخلته لأبي القاسم بن عزومة أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد فنكبه السلطان و اعتقله بدارة تسعة أشهر ثم سرحه و أعاده إلى مكانه و ثأر من أعدائه و استولى على أمور السلطان إلى أن هلك سنة إحدى و سبعين و ستمائة و كلف ابن عمه سعيد بن يوسف بن أبي الحسن أشغال الحضرة و كان قد اقتنى مالا جسيما و نال من الحضرة منالا عظيما و كان الرئيس أبو عبد الله متفننا في العلوم مجيدا في اللغة و الشعر ينظم فيجيد و ينثر فيحسن و له من التآليف :
كتاب ترتيب المحكم لابن سيده على نسق الصحاح للجوهري و اختصاره و سماه الخلاصة و كان في رياسته صليب الرأي قوى الشكيمة عالي المهمة شديد المراقبة و الحزم في الخدمة و له شعر نقل منه التيجاني و غيره و من أشهره ما نقل له يخاطب عنان بن جابر عن الأمير أبي زكريا لما خالف و اتبع ابن غانية و هي على روي الراء و كان قبلها أخرى على روي الدال و كان له ولد إسمه سعيد و ترقى في حياة أبيه في المراتب السلطانية
ثم اغتبط دون غايته و في ثالث مهلكه كان مهلك الشيخ أبي سعيد عثمان بن محمد الهنتاتي المعروف بالعود الرطب و يعرف أهل بيته بالمغرب ببني أبي زيد و كان منهم عبد العزيز المعروف بصاحب الأشغال كان فر من المغرب أيام السعيد لجفوة نالته و لحق بسجلماسة سنة إحدى و أربعين و قد كان انتزى بها عبد الله الهزرجي و بايع للأمير أبي زكريا فأجازه عبد الله إلى تونس و نزل على الأمير أبي زكريا و نظمه في طبقات مشيخة الموحدين و أهل مجلسه ثم حظي عند إبنه المستنصر بعد نكبة بني النعمان حظوة لا كفاء لها و استولى على الرأي و التدبير إلى أن هلك سنة ثلاث و سبعين و ستمائة فشيع طيب الذكر ملحقا بالرضوان من الخاصة و العامة و الله مالك الأمور (6/430)
الخبر عن انتقاض أهل الجزائر و فتحها
كان أهل الجزائر لما رأوا تقلص ظل الدولة عن زناتة و أهل المغرب الأوسط حدثوا أنفسهم بالاستبداد و القيام على أمرهم و خلع ربقة الطاعة من أعناقهم فجاهروا بالخلعان و سرح السلطان إليهم العساكر سنة تسع و ستين و ستمائة و أوعز إلى صاحب القفر صاحبه و هو أبو هلال عياد بن سعيد الهنتاتي فقدم إليها في عساكر الموحدين سنة إحدى و سبعين و ستمائة و نازلها مدة حول و إمتنعت عليه فأقلع عنها و رجع إلى بجاية و هلك بمعسكر ببني ورا سنة ثلاث و سبعين و ستمائة
ثم إن السلطان صرف عزمه إلى منازلتهم سنة أربع و سبعين و ستمائة و سرح إليهم العساكر في البر و أنفذ الأساطيل في البحر و عقد على عسكر تونس لأبي الحسن بن ياسين و أوعز إلى عامل بجاية بإنفاذ عسكر آخر فانفذه لنظر أبي العباس بن أبي الأعلام و نهضت هذه العساكر برا و بحرا إلى أن نازلتها و أحاطت بها من كل جانب و اشتد حصارها
ثم افتتحها عنوة و أثخن فيهم القتل و انتهبت المنازل و افتضح الكرائم في أبكارهن و تقبض على مشيخة البلد فنقلوا إلى تونس و صفدين و اعتقلوا بالقصبة أن سرحهم الواثق بعد مهلك السلطان و الله تعالى أعلم (6/431)
الخبر عن مهلك السلطان المستنصر و وصف شيء من أحواله
كان السلطان بعد فتح الجزائر قد خرج من تونس للصيد و تفقد العمالات فأصابه في سفره مرض و رجع إلى داره و اشتدت علته و كثر الارجاف بموته و خرج يوم الأضحى سنة خمس و خمسين و ستمائة يتهادى بين رجلين و رجالاه تخطان في الأرض و جلس للناس على منبر متجلدا ثم دخل بيته و هلك لليلته تلك رضوان الله عليه و كان شأن هذا السلطان في ملوك آل حفص عظيما و شهرته طائرة الذكر بما انفسح من أمر سلطانه و مدت إليه ثغور القاصية من العدوتين يد الاعتصام به و ما اجتمع بحضرته من أعلام الناس الوافدين على إبنه و خصوصا الأندلس من شاعر مفلق و كاتب بليغ و عالم نحرير و ملك أورع و شجاع أهيش متفيئين ظل ملكة متناغين في اللياذبه لطموس معالم الخلافة شرقا و غربا على عهده و خفوت صوت الملك إلا في إيوانه
فقد كان الطاغية التهم قواعد الملك بشرق الأندلس وغربها فأخذت قرطبة سنة ثلاث و ثلاثين وستمائة بعدها و أشبيلية سنة ست و أربعين و ستمائة و استولى التتر على بغداد دار خلافة العرب بالمشرق و حاضرة الإسلام سنة ست و خمسين و ستمائة و انتزع بنو مرين ملك بني عبد المؤمن و اشتملوا على حضرة مراكش دار خلافة الموحدين سنة ثمان و ستين و ستمائة كل ذلك على عهده و عهد أبيه و دولتهم أشد ما كانت قوة و أعظم رفاهية و جباية و أوفر قبيلا و عصاية و أكثر عساكر و جندا فأمله أهل العلم للكرة و أجفلوا إلى الإمساك بحقونه و كان له في الأبهة و الجلال أخبار و في الحروب و الفتوح آثار مشهودة و في أيامه عظمت حضارة تونس و كثر ترف ساكنها و تأنق الناس في المراكب و الملابس و المباني و الماعون و الآنية فاستجادوها و تناغوا في اتخاذها و انتقائها إلى أن بلغت غايتها رجعت من بعده أدراجها و الله مالك الأمور و مصرفها كيف يشاء (6/432)
الخبر عن بيعة الواثق يحيى بن المستنصر و هو المشهور بالمخلوع و ذكر أحواله
لما هلك السلطان المستنصر سنة خمس و سبعين و ستمائة كما قدمناه اجتمع الموحدون و سائر الناس على طبقاتهم إلى ابنه يحيى فبايعوه ليله مهلك أبيه و في غدها و تلقب الواثق و افتتح أمره برفع المظالم و تسريح أهل السجون و افاضة العطاء في الجند و أهل الديوان و إصلاح المساجد و إزالة كثير من الوظائف عن الناس و امتدحه الشعراء فأسنى جوائزهم و أطلق عيسى بن داود من اعتقاله و رده إلى حاله و كان المتولي لأخذ البيعة عن الناس و القائم بأمره سعيد بن يوسف بن أبي الحسين لمكانه من الدولة و رسوخه في الشهرة فقام بالأمر و لم يزل على ذلك إلى أن نكبه و أدال منه بالجبر و الله أعلم (6/433)
الخبر عن نكبة ابن أبي الحسين و استبداد ابن الجبر على الدولة
هذا الرجل اسمه يحيى بن عبد الملك الغافقي و كنيته أبو الحسن أندلسيا من أعمال مرسية وفد مع الجالية من شرق الأندلس أيام استيلاء العدو و كان يحسن الكتابة و لم يكن له من الخلال سواها فصرف في الأعمال ثم ارتقى إلى خدمة أبي الحسين فاستكتبه ثم رقاه إلى ولاية الديوان فعظمت حالته و كانت له أثناء ذلك مداخلة للواثق ابن السلطان و اعتدها له سابقة فلما استوثق الأمر رفع منزلته و اختصه بالشورى و قلده كتاب علامته و كان سعيد بن أبي الحسين مزاحما له منافسا لما كان أسف من تقديمه فأغرى به السلطان و رغبه في ماله فتقبض على أبي سعيد بن أبي الحسين لستة أشهر من الدولة سنة ست و سبعين و ستمائة و اعتقل بالقصبة
و استقل على معلة ابن ياسين و ابن صياد الرجالة و غيرهم و قدم على الأشغال مدافعا في الموالي المعلوجين و وكل أبا زيد بن أبي الأعلام من الموحدين بمصادرة ابن أبي الحسين على المال و امتحانه
و لم يزل يستخرج منه حتى ادعى الاملاق و استخلف فخلف ثم ضرب فادعى مؤتمنا من ماله عند قوم استكشفوا عنه فأدوه ثم دل بعض مواليه على ذخيرة بداره دفينة فاستخرج منه زهاء ستمائة ألف من الدنانير فلم يقبل بعدها مقاله و بسط عليه العذاب إلى أن هلك في ذي الحجة من سنته و دفن شلوه بحيث لم يعرف مدفنه
و استبد أبو الحسن الجبر على الدولة و السلطان و بعث أخاه أبا العلاء واليا على بجاية و أسف المشيخة و البطانة بعتوه و استبداده و ما يتجشمونه من مكابرة بابه إلى أن عاد و بال ذلك على الدولة كما نذكره إن شاء الله تعالى (6/433)
الخبر عن إجازة السلطان أبي إسحق من الأندلس و دخول أهل بجاية في طاعته
كان السلطان المستنصر قد عقد على بجاية سنة ستين و ستمائة لأبي هلال عياد بن سعيد الهنتاتي و أدال به من أخيه الأمير أبي حفص فأقام واليا عليها إلى أن هلك ببني ورا سنة ثلاث و سبعين و ستمائة كما قدمنا و عقد عليها من بعده لإبنه محمد و كان له غناء في ولايته و اضطلع بأمره إلى أن هلك المستنصر و ولي ابنه الواثق فبادر إلى انقياد طاعته و بعث وفد بجاية ببيعتهم ثم قلد أبو الحسن القائم بالدولة أخاه إدريس ولاية الأشغال ببجاية فقام بها و أفنى الأموال و تحكم في المشيخة و أنف محمد بن أبي هلال من استبداده عليه فهم إدريس بنكبته فخشي محمد بن أبي هلال بادرته و داخل بعض بطانته في قتله و فاوض الملأ فيه فعدوا عليه لأول ذي القعدة سنة سبع و سبعين و ستمائة بمقعده من باب السلطان فقتلوه و رموا برأسه إلى الغوغاء و الزعانف فبعثوا به
و وافق ذلك حلول السلطان أبي إسحاق بتلمسان و كان عند بلوغ الخبر إليه بمهلك أخيه المستنصر أجمع أمره على الإجازة لطلب حقه بعدما تردد برهة ثم اعتزم و عاد إلى تلمسان و نزل على يغمراسن بن زيان فقام لمورده و احتفل في مبرته و فعل أهل بجاية و ابن أبي هلال فعلتهم و خشوا بوادر السلطان بالحضرة فخاطب السلطان أبا إسحق و أتوه ببيعتهم و بعثوا وفدهم يستحثونه للملك فأجابهم و دخل إليها آخر ذي القعدة من سنته فبايعه الموحدون و الملأ من أهل بجاية و قام بأمره محمد بن هلال ثم زحف في عساكره إلى قسنطينة فنازلها و بها عبد العزيز بن عيسى بن داود فامتنعت عليه فأقلع عنها إلى أن كان من أمره ما نذكره (6/434)
الخبر عن خروج الأمير أبي حفص بالعساكر للقاء السلطان أبي إسحاق ثم دخوله في طاعته و خلع الواثق
لما بلغ الخبر إلى الواثق و وزيره المستبد عليه ابن الحببر بدخول السلطان أبي إسحق بجاية شيع العساكر إلى حربه و عقد عليها لعمه أبي حفص و استوزر له أبا زيد بن جامع فخرج من تونس و اضطرب معسكره بجباية
و عقد الواثق على قسنطينة لعبد العزيز بن عيسى بن داود لذمة صهر كانت له من ابن الجببر فتقدم إلى قسنطينة و مانع عنها الأمير أبا إسحق كما ذكرناه ثم اضطرب رأي ابن الجيد في خروج الأمير أبي حفص و أراد انفضاض عسكره فكتب الواثق إلى أبي حفص و وزيره ابن جامع يغري كل واحد منهما بصاحبه فتفاوضا و اتفقا على الدعاء للأمير أبي إسحق و بعثوا إليه بذلك و اتصل الخبر بالواثق و هو بتونس منتبذا عن الحامية و البطانة فاستيقن ذهاب ملكه و أشهد الملأ و انخلع عن الأمر لعمه السلطان أبي إسحق غرة ربيع الأول من سنة ثمان و سبعين و ستمائة و تحول عن قصور الملك بالقصبة إلى دار الأقورى و انقرضت دولته و أمره و البقاء لله وحده (6/435)
الخبر عن استيلاء السلطان أبي اسحق على الحضرة
لما بلغ السلطان أبا إسحق كتاب أخيه الأمير أبي حفص و ابن جامع من بجاية بادر مغذا إليهم ثم وافاه خبر انخلاع الواثق ابن أخيه بتونس فارتحلوا جميعا و سائر أهل الحضرة على طبقاتهم إلى لقائه و آتوا طاعتهم و دخل الحضرة منتصف الحجة آخر سنة ثمان و سبعين و ستمائة و محمد بن هلال شيخ دولته و عقد على حجابته لأبي القاسم بن الشيخ كاتب أبي الحسين و على خطة الأشغال لابن أبي بكر بن الحسن ابن خلدون كان وفد مع أبيه الحسن على الأمير أبي زكريا من أشيلية لذمة رعاها لهم لما كانت أم ولده أم الخلائف من هدايا ابن المحتسب أبي زكريا محلهم
و رحل الحسن إلى المشرق و مات هنالك و بقي ابنه أبو بكر بالحضرة فاستعمله الأمير أبو اسحق لأول دخوله في خطة الأشغال و لم يكن يليها إلا الموحدون كما قلناه
و عقد لفضل بن علي بن مزني على الزاب و لم يكن أيضا يليها إلا الموحدون لكن رعى لفضل بن مزني ذمة اغترابه معه إلى الأندلس فعقد له على الزاب و لأخيه عبد الواحد على بلاد قسطيلية ثم تقبض على أبي الحببر و أمر باعتقاله و دفعه إلى موسى بن محمد بن ياسين للمصاردة و الامتحان و وجد مكان التمائم عليه طوابع و طلسمات مختلفة الأشكال و الصور و تسحر بها فيما زعموا مخدومه فحاق به و بالها
و كان شأنه في الامتحان و الاستحلاف و الهلاك بالعذاب شأن سعيد بن أبي الحسين أيام صولته إلى أن هلك في شهر جمادي الأولى من سنته و الله لا يظلم مثقال ذرة
و لما اعتقد السلطان أبو إسحق كرسي ملكه و استوثق عرى خلافته تقبض على محمد بن أبي هلال و قتله بجر نكبته سنة ست و سبعين و ستمائة لما كان يتوقع منه من المكروه في الدولة و ما عرف به من المساعي في الفتنة و الله أعلم (6/436)
الخبر عن مقتل الواثق و ولده
لما انخلع الواثق عن الأمر و تحول إلى دار الأقوري فأقام بها أياما و كان له ثلاثة من الولد أصاغر : الفضل و الطاهر و الطيب فكانوا معه ثم نمي عنه السلطان أبي اسحق أنه يروم الثورة و أنه داخل في ذلك بعض رؤساء النصارى من الجند فأقلق مكان ترشيحه و اعتقله بمكان اعتقال بنيه و هو من القصبة أيام أخيه المستنصر ثم بعث إليهم ليلتهم فذبحوا جميعا في شهر صفر سنة تسع و سبعين و ستمائة واستوثق له الأمر و أطلق من عنان الأمارة لولده إلى أن كان من شأنهم ما يذكر إن شاء الله تعالى (6/437)
الخبر عن ولاية الأمير أبي فارس ابن السلطان أبي إسحق على بجاية بعهد أبيه و السبب في ذلك
كان للسلطان أبي إسحق من الأبناء خمسة : أبو فارس و عبد العزيز و كان أكبرهم و أبو محمد عبد الواحد و أبو زكريا يحيى و خالد و عمر و كان السلطان المستنصر قد حبسهم عند فرار أبيهم إلى رياح في أيامه ببعض حجر القصر و أجرى عليهم رزقا فنشؤا في ظل كفالته و جميم رزقه إلى أن استولى أبوهم السلطان أبو إسحق على الملك فطلعوا بآفاقه
و طالت فروعهم في دوحه و اشتملوا على العز و اصطنعوا أهل السوابق من الرجال و أرخى السلطان لهم ظلهم في ذلك و كان المجلي فيها كبيرهم أبو فارس لما كان مرشحا لولاية العهد و كان ممن اصطنعه و ألقى عليه رداء محبته في الناس و عنايته أحمد بن أبي بكر بن سيد الناس اليعمري و أخوه أبو الحسين لسابقة رعاها لهما و ذلك أن أباهما أبا بكر بن سيد الناس كان من بيوت أشبيلية حافظا للحديث رواية له ظاهريا في فقهه على مذهب داود و أصحابه و كانت لأهل أشبيلية خصوصا من بين الأندلس وصلة بالأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص و بنيه منذ ولايته غرب الأندلس
فلما تكالب الطاغية على الدولة والتهم ثغورها و اكتسح بسائطها و أشف إلى قواعدها و أمصارها أجاز الأعلام و أهل البيوت إلى أرض المغربين و أفريقية و كان قصدهم إلى تونس أكثر لاستفحال الدولة الحفصية بها فلما رأى الحافظ أبو بكر اختلال أحوال الأندلس و قبح مصايرها و خفة ساكنها أجمع الرحلة عنها إلى ما كان بتونس من سابقته عند هؤلاء الخلفاء فأجاز البحر و نزل بتونس فلقاه السلطان تكرمه و جعل إليه تدريس العلم بالمدرسة عند حمام الهواء التي أنشائها أمه أم الخلائف
و نشأ بنوه أحمد و أبو الحسين في جو الدولة و حجر كفالتها للاختصاص الذي كان لأبيهم بها و عدلوا عن طلب العلم إلى طلب الدنيا و تشوقوا إلى مراتب السلطان و اتصلوا بأبناء السلطان أبي إسحق بمكانهم من حجر القصر حيث أنزلهم عمهم بعد ذهاب أبيهم فخالطوهم و استخدموا لهم و لما استولى السلطان على الأمر و رشح ابنه أبا فارس للعهد و أجراه على سنن الوزارة فاصطنع أحمد بن سيد الناس و نوه باسمه و خلع عليه ملبوس كرامته و اختصه بلقب حجابته و أخوه أبو الحسين يناهضه في ذلك عنوة و نفس ذلك عليهما البطانة فأغروا السلطان أبا اسحق بابنه و خوفوه شأنه و أن أحمد بن سيد الناس داخله في التوثب بالدولة و تولى كبر هذه السعاية عبد الوهاب بن قلائد الكلاعي من علية الكتاب و وجوههم كان يكتب للعامة يومئذ فسطا السلطان بابن سيد الناس سنة تسع و ستين و ستمائة آخر ربيع استدعى إلى باب القصر فتعاورته السيوف هبرا و وري شلوه ببعض الحفر و بلغ الخبر إلى الأمير أبي فارس فركب إلى أبيه في لبوس الحزن فعزاه أبوه عن ذلك بأنه ظهر لابن سيد الناس على المكر و الخديعة بالدولة و أماط سواده بيده و نجا أبو الحسين من هذه المهلكة و اعتقل في لمة من رجال الأمير أبي فارس بعد أن توارى أياما إلى أن أطلق من محبسه و كان من أمره ما نذكره بعد و استبلغ السلطان في تأنيس ابنه و مسح الضغينة عن صدره فعقد له على بجاية و أعمالها و أنفذه إليها أميرا مستقلا و أنفذ معه في رسم الحجابة جدي محمد ابن صاحب أشغاله أبي بكر بن الحسن بن خلدون فخرج إليها سنة تسع و ستين و ستمائة و قام بأمرها و لم يزل أميرا بها إلى آخر دولته كما نذكر و الله أعلم (6/437)
الخبر عن ثورة ابن الوزير بقسنطينة و مقتله
اسم هذا الرجل أبو بكر بن موسى بن عيسى و نسبته في كوميه من بيوت الموحدين كان مستخدما لابن كلداسن الوالي بقسنطينة بعد ابن النعمان من مشيخة الموحدين أيام المستنصر و وفد ابن كلداسن على الحضرة و أقام ابن وزير نائبا عنه بقسنطينة فكان له غناء و صداقة و ولاه السلطان أبو إسحق حافظا على قسنطينة و اتصلت ولايته و هلك المستنصر و اضطربت الأحوال ثم ولاه الواثق ثم السلطان أبو إسحق و كان ابن وزير هذا طموحا لأموال الناس لا يمل
و علم أن قسنطينة معقل ذلك القطر و حصنه فحدثته نفسه بالإمتناع بها و الاستبداد على الدولة و ساء أثره في أهلها فرفعوا أمرهم إلى السلطان أبي اسحق و استعدوه فلم يعدهم لما رأى من مخايل الحرابة من الطاغية و كتب هو بالاعتذار و النكير لما جاء به فتقبله و أغضى له عن هناته و لما مر به الأمير أبو فارس إلى محل إمارته من بجاية سنة تسع و سبعين و ستمائة قعد عن لقائه و أوفد إليه جمعا من الصلحاء بالمعاذير و الاستعطاف فمنحه من ذلك كفاء مرضاته حتى اذا أبعد الأمير أبو فارس إلى بجاية اعتزم على الانتزاء و كاتب ملك أرغون في جيش من النصارى يكون معهم في ثغره يردد بهم الغزو على أن يكون فيما زعموا داعية له فأجابه و وعده ببعث الأسطول إليه فجاهر بالخلعان و انتزى بثغر قسنطينة داعيا لنفسه آخر سنة ثمانين و ستمائة
و زحف إليه الأمير أبو فارس من بجاية في عساكره و احتشد الأعراب و فرسان القبائل إلى أن احتل بميلة و وفد عليه من أهل قسنطينة جمع من الرعية بعثهم ابن وزير فأعرض عنهم و قصد قسنطينة في أول ربيع سنة إحدى و ثمانين و ستمائة فثار بها و جمع الأيدي على حصارها
و نصب المجانيق و قرب قواعد الرماة و قاتلها يوما أو بعض يوم و تسور عليهم المعقل من بعض جهاته و كان المتولي لتسوره صاحبه محمد ابن أبي بكر بن خلدون و أبلى بن وزير عند الصدمة حتى أحيط به و قتل هو و أخوه و أشياعهما و نصبت رؤسهم بسور البلد و تمشى الأمير في سكك البلد مسكنا و مؤنسا و أمر برم ما تثلم من الأسوار و بإصلاح القناطر و دخل إلى القصر و بعث بالفتح إلى أبيه بالحضرة وجاء أسطول النصارى إلى مرسى القل في مواعدة ابن وزير فأخفق مسعاهم و ارتحل الأمير أبو فارس ثالثة الفتح إلى بجاية فدخلها آخر ربيع من سنته و الله أعلم (6/439)
الخبر عن قيادة ابن السلطان العساكر إلى الجهاد
كان السلطان يؤثر أبناءه بمراتب ملكه و يوليهم خطط سلطانه شفعا بهم و ترشيحا لهم فعقد في رجب سنة إحدى و ثمانين لابنه الأمير زكريا على عسكر من الموحدين و الجند و بعثه إلى قفصة للإشراف على جهاتها و ضم جبايتها فخرج إليها و قضى شأنه من حركته و انصرف إلى تونس في رمضان من سنته ثم عقد لابنه الآخر أبي محمد عبد الواحد على عسكره و أنفذه إلى وطن هوارة لانقضاء مغارمهم و جباية ضرائبهم و فرائضهم و بعث معه عبد الوهاب بن قلائد الكلاعي مباشرا لذلك و واسطة بينه و بين الناس فانتهى إلى القيروان و بلغه شأن الدعي و ظهوره في دباب بنواحي طرابلس فطير بالخبر إلى السلطان و أقبل على شأنه ثم انتشر أمر الدعي و انكفأ راجعا إلى تونس و الله تعالى أعلم (6/440)
الخبر عن صهر السلطان مع عثمان بن يغمراسن
كان السلطان لما أجاز البحر من الأندلس لطلب ملكه و نزل على يغمراسن بن زيان بتلمسان فاحتفل لقدومه و أركب الناس للقائه و أتاه ببيعته على عادته من سلفه لما علم أنه أحق بالأمر و وعده النصرة من عدوه و المؤازرة على أمره و أصهر إليه في إحدى بناته المقصورات في خيام الخلافة بابنه عثمان تشريفا خطبه منه فأولاه اسعافا به ولما استولى السلطان على حضرته و استبد بأحوال ملكه بعث يغمراسن ابنه إبراهيم المكنى بأبي عامر في وفد من قومه لإتمام ذلك العقد فاعتمد السلطان مبرتهم و أسعف طلبتهم و أقاموا بالحضرة أياما و ظهر من إقدامهم في فتن الدعي مقامات و انصرفوا بظعينتهم سنة إحدى و ثمانين و ستمائة مجبورين محبورين و ابتغى بها عثمان لحين وصولها فكانت من عقائل قصورهم و مفاخر دولتهم و ذكرا لهم و لقومهم إلى آخر الأيام (6/441)
الخبر عن ظهور الدعي أبي عمارة و ما وقع من الغريب في أمره
كان أحمد بن مرزوق أبو عمارة من بيوتات بجاية الطارئين عليهما من المسيلة نشأ ببجاية و سيما محترفا بصناعة الخياطة غرا غمرا
و كان يحدث نفسه بالملك لما كان يزعم أن العارفين يخبرونه بذلك و كان هو يخط فيريه خطه ذلك ثم اغترب عن بلده و لحق بصحراء سجلماسة و اختلط بعرب المعقل و انتمى إلى أهل البيت و ادعى أنه الفاطمي المنتظر عند الأغمار و أنه يحيل المعادن إلى الذهب بالصناعة فاشتملوا عليه و حدثوا بشأنه أياما أخبرني طلحة بن مظفر من شيوخ العمارية إحدى بطون المعقل أنه رآه أيام ظهوره بالمعقل ملتبسا بتلك الدعوى حتى فضحه العجز ثم لما زهدوا فيه لعجز مدعاه ذهب يتقلب في الأرض حتى وصل إلى جهات طرابلس و نزل على دباب و صحب منهم الفتى نصيرا مولى الواثق بن المستنصر و يلقب برى و لما رآه تبين فيه شبها من الفضل ابن مولاه فطفق يبكي و يقبل قدميه فقال له ابن أبي عمارة : ما شأنك ؟ فقص عليه الخبر فقال : صدقتني في هذه الدعوى و أنا أثئرك من قاتلهم
و أقبل نصير على أمراء العرب مناديا بالسرور بابن مولاه حتى خيل عليهم ثم نزل بادس إلى ابن أبي عمارة من محاورات وقعت بين العرب و بين الواثق قصها عليهم ابن أبي عمارة نفيا للريب بأمره فصدقوا و اطمأنوا و أتوه ببيعتهم و قام بأمره صرغم بن صابر بن عسكر أمير دياب و جمع له العرب و نازلوا طرابلس و بها يومئذ محمد بن عيسى الهنتاتي و شهر بعنق الفضة فامتنعت عليهم و رحلوا إلى بحر بين الموطنين بزيزور و جهاتها من هوارة فأوقعوا بهم ثم سار في تلك النواحي و استوفى جباية لماية و زواورة و زواغة و أغرم نفوسة و غريان و نفزة من بطون هوارة و ضائع ألزمهم إياها و استوفاها ثم زحف إلى قابس فبايع له عبد الملك بن مكي في رجب سنة إحدى و ثمانين و ستمائة و أعطاه صفقته طواعية وفاه بحق آبائه فيما طوقوه و ذريعة إلى الاستقلال الذي كان يؤمله و أعلن بخلافته و نادى بقومه و استخدم له بني كعب بن سليم و رياستهم في بني شيخة لعبد الرحمن بن شيخة فأجابوا داعيه و أنابوا إلى خدمته و توافت إليه بيعة أهل حزبه و الحامية و قرى نفزاوة ثم زحف إلى توزر و بلاد قسطيلية فأطاعوه ثم رجع إلى قفصة فبايع له أهلها و عظم أمره و علاصيته فجهز إليه السلطان أبو إسحق العساكر من تونس كما نذكره و الله تعالى أعلم (6/441)
الخبر عن انفضاض عساكر السلطان و تقويضه عن تونس
لما تفاقم أمر الدعي بنواحي طرابلس و دخل الكثير من أهل الأنصار في طاعته جهز السلطان عساكره و عقد لابنه الأمير أبي زكريا على حربه فخرج من تونس و نزل القيروان و اقتضى منها غرائم و وضائع استأثر منها بأموال ثم ارتحل إلى لقاء الدعي و انتهي إلى تموده و بلغه هنالك ما كان من استيلاء الدعي على قفصة فأرجف به العسكر و انفضوا من حوله و رجع إلى تونس فدخلها آخر يوم من رمضان من سنته و ارتحل الدعي على أثره من قفصة و احتل بالقيروان فبايع له أهلها و اقتدى به أهل المهدية و صفاقس و سوسة فبايعوا له و كثر الإرجاف بتونس فاضطرب السلطان و أخرج معسكره بظاهر البلد في وسط شوال و ضرب الغزو على الناس و استكثر من العدد و خرج إلى معسكره بالمهدية و تلوم بها لإزاحة العلل و ارتحل الدعي من القيروان زاحفا إليه فتسربت إليه طبقات الجنود و مشيخة الموحدين رضي الله عنهم بمكاته و طاغية بني المستنصر خليفتهم الطويل أمد الولاية عليهم و رحمة لما نال الواثق و أبناءه من عملهم ثم انفض عن السلطان كبير الدولة موسى بن ياسين في معظم الموحدين و لحق الدعي بطريقة فاحتل أمر السلطان و انتقضت عرى ملكه و فر إلى بجاية كما نذكره إن شاء الله تعالى (6/442)
الخبر عن لحاق السلطان أبي اسحق بجاية و دخول الدعي بن أبي عمارة الى تونس و ما كان من أمره بها
لما انفض معسكر السلطان أبي إسحق آخر شوال من سنة إحدى و ثمانين و ستمائة ركب في خاصته و بعض جنوده ذاهبا إلى بجاية و مر بتونس فوقف عندها ثم احتمل أهله و ولده و سار في كلب البرد فكان يعاني من قلة الأقوات و تعاور المطر و الثلج شدة و كان يصانع القبائل في طريقه سلما له ثم مر بقسنطينة فمنعه عاملها عبد الله بن توفيان الهرغي من دخولها و قرب إليه بعض القرى من الأقوات و ارتحل إلى بجاية و كان أمره ما يذكر و دخل الدعي بن أبي عمارة إلى الحضرة و قلد موسى بن ياسين وزارته و أبا القاسم أحمد بن الشيخ حجابته و تقبض على صاحب الأشغال أبي بكر بن الحسن بن خلدون فاستصفاه و صادره على مال امتحنه عليه ثم قتله خنقا و صرف خطة الجباية إلى عبد الملك بن مكي رئيس قابس و استكمل ألقاب الملك و قسم الحطط بين رجال الدولة و صرف همه إلى غزو بجاية و الله تعالى أعلم (6/443)
الخبر عن استبداد الأمير أبي فارس بالأمر عند وصول أبيه إليه
لما وصل السلطان أبو إسحق إلى بجاية في شهر ذي القعدة من سنته طريدا عن ملكه غافلا عن كرسي سلطانه انتقض عليه ابنه الأمير أبو فارس و منعه من الدخول إلى قصره فنزل بروض الرفيع و أراده على الخلع فانخلع له و أشهد الملأ من الموحدين و مشيخة بجاية بذلك و أنزله قصر الكوكب و دعا الناس إلى بيعته آخر ذي القعدة فبايعوه و تلقب المعتمد على الله و نادى في أوليائه من رياح و سدويكش
و خرج من بجاية زاحفا إلى الدعي و استخلف عليها أخاه الأمير أبا زكريا و خرج معه الأمير أبو حفص و أخواه فكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/444)
الخبر عن زحف الأمير أبي فارس للقاء الدعي ثم انهزامه أمامه و استلحامه و أخوته في المعركة و ما كان أثر ذلك من مهلك أبيهم السلطان أبي إسحق و فرار أخيهم الأمير أبي زكريا الى تلمسان
لما بلغ الخبر إلى الدعي باستبداد الأمير أبي فارس على أبيه و استعداده للقائه تقبض على أهل البيت الحفصي فاعتقلهم بعد أن هم بقتلهم و خرج من تونس في عساكر من الموحدين و طبقاتهم الجند في صفر سنة اثنتين و ثمانين و ستمائة فانتهى إلى مرما جنة و تراءى الجمعان ثالث ربيع الأول فاقتتلوا عامة يومهم ثم اختل مصاف الأمير أبي فارس و تخاذل أنصاره فقتل في المعركة و انتهب معسكره و قتل إخوته صبرا :
عبد الواحد قتله الدعي بيده و عمر و خالد و أبو محمد بن عبد الواحد و بعث برؤوسهم إلى تونس فطيف بها الرماح و نصبت بأسوار البلد و تخلص عمه الأمير أبو حفص من الواقعة إلى أن كان من أمره ما نذكر
و بلغ خبر الواقعة إلى بجاية فاضطرب أهلها و ماج بعضهم في بعض و خرج السلطان أبو إسحق و ابنه الأمير أبو زكريا إلى تلمسان فقدم أهل بجاية عليهم محمد بن السيد قائما فيهم بطاعة الدعي و خرج في أتباع السلطان فأدركه بجبل بني غبرين من زواوة فتقبض عليه و نجا الأمير أبو زكريا إلى تلمسان و بقي السلطان أبو إسحق ببجاية معتقلا ريثما بلغ الخبر إلى تونس أرسل الدعي محمد بن عيسى بن داود فقتله آخر ربيع الأول سنة اثنتين و ثمانين و ستمائة و انقضى أمره و لله عاقبة الأمور لا رب غيره و لا معبود سواه (6/444)
الخبر عن ظهور الأمير أبي حفص و بيعته و ما كان على أثر ذلك من الأحداث
قد ذكرنا أن الأمير أبا حفص حضر واقعة بني أخيه مع الدعي بمرما جنة فخلص من المعركة راجلا و نجا إلى قلعة سنان معقل هوارة القريب من مكان الملحمة و لاذ به في ذهابه إلى منجاته ثلاثة من صنائعهم : أبو الحسين بن أبي بكر بن سيد الناس و محمد بن القاسم بن إدريس الفازازي و محمد بن أبي بكر بن خلدون و هو جد المؤلف الأقرب و ربما كانوا يتناقلونه على ظهورهم إذا أصابه الكلال و لما نجا إلى قلعة سنان تحدث به الناس و شاع خبر منجاته إليها و كان الدعي قد أشف العرب و ثقلت وطأته عليهم بما كان يسيء الملكة فيهم فليوم دخوله شكا إليه الناس عيثهم فتقبض على ثلاثة منهم و قتلهم و صلبهم ثم سرح شيخ الموحدين عبد الحق تافراكين لحسم عللهم و أوعز إليه بالإثخان فيهم فاستلحم من لقي منهم ثم تقبض على مشايخ بني علاق و أودع سجونه منهم نحوا من الثمانين فساء أثره فيهم و تطلبوا أعياص البيت و تسامعوا بخبر الأمير أبي حفص بمكانه من قلعة سنان فرحلوا إليه و أتوه ببيعتهم في ربيع سنة ثلاث و ثمانين و ستمائة و جمعوا له شيئا من الآلة و الأخبية و قام بأمره أبو ليل بن أحمد أميرهم و بلغ الخبر إلى الدعي فداخلته الظنة في أهل دولته و تقبض على أبي عمران بن ياسين شيخ دولته و على أبي الحسن بن ياسين و ابن وانودين و على الحسين بن عبد الرحمن يعسوب زناتة فامتحنهم و استصفى أموالهم ثم قتلهم آخرا و توجع لهم الناس و اضطرب أمر الدعي إلى أن كان ما نذكره انتهى (6/445)
الخبر عن خروج الدعي و رجوعه و استيلاء السلطان أبي حفص على ملكه و غلبه و مهلكه
لما ظهر السلطان أبو حفص و بايعه العرب تسامح به أهل الحضرة و اجتمع إليه الناس و أوقع الدعي بأهل الدولة فمقتوه و خرج من تونس يريد قتاله فأرجف به أهل العسكر و رجع منهزما و دخلت البلاد في طاعة السلطان أبي حفص و نهض إلى تونس فنزل بسحوم قريبا منها و عسكر الدعي بظاهر البلد تجاهه و طالت بينهما الحرب أياما و الناس كل يوم يستوضحون خبء الدعي و مكره إلى أن تبرؤا منه و أسلموه و رحل من مكان معسكره ولاذ بالاختفاء و دخل السلطان البلد في ربيع الآخر سنة ثلاث و ثمانين و ستمائة و استولى على سرير ملكه و طهر من الدنس قاصية و دانية و اختفى الدعي بتونس و غاص في لجة ساكنيها و أحاط به البحث فعثر عليه لليال من مدخل السلطان بدور بعض السوقة يعرف بأبي قاسم القرمادي فهدمت لحينها و ثل إلى السلطان فأحضر له الملأ و وبخه و ساءله فاعترف بادعائه في نسبهم فأمر بامتحانه و قتله و ذهب في غير سبيل مرحمة و طيف بشلوه و نصب رأسه و كان عبد الله بن يغمور المباشر لقتله و كان خبره من المئلات و استبد السلطان بملكه و تلقب المستنصر بالله و بادر الناس إلى الدخول في طاعته و بعث أهل القاصية ببيعتهم من طرابلس و تلمسان و ما بينهما و عقد للشيخ أبي عبد الله الفازازي على عساكره على الحروب و الضاحية و أقطع البلاد و المغارم للعرب رعيا لذمة قيامهم بأمره و لم يكن لهم قبلها أقطاع و كان الخلفاء قبله يتحامون عن ذلك لا يفتحون فيه على أنفسهم بابا و أقام متمتعا في ماله و في حضرته إلى أن كان ما نذكر إن شاء الله تعالى (6/446)
الخبر عن استيلاء العدو على جزيرة جربة و ميورقة و منازلته المهدية و إجلابه على السواحل
كان من أعظم الحوادث تكالب العدو في أيام هذا السلطان على الجزر البحرية فاستولت أساطيلهم على جزيرة جربة في رجب من سنة ثمان و ثمانين وستمائة و رياستها يومئذ من محمد بن مهو بن شيخ الوهبية و يخلف ابن امغار شيخ النكازة و هما فرقتا الخوارج و زحف إليها المراكيا صاحب صقلية نائبا عن الغدريك بن الريداكون ملك برشلونة في أساطيله البحرية و كانوا فيما قيل سبعين أسطولا من غربان وشواني و ضايقهم مرارا ثم تغلبوا عليها فانتهبوا أموالها و حملوا أهلها أسرا و سبيا فقيل إنهم بلغوا ثمانية آلاف بعد أن رموا بالرضع في الجبوب فكانت هذه الواقعة من أشجى الوقائع للمسلمين ثم بنوا بساحلها حصنا و اعتمروه و شحنوه حامية و سلاحا و فرض عليهم المغرم مائة ألف دينار كل سنة و أقام على ذلك المراكيا إلى رأس المائة و بقيت الجزيرة في ملك النصارى إلى أن عادوا إلى مالقة أواخر الأربعين و السبعمائة كما نذكره
و في سنة خمس و ثمانين و ستمائة ظفر العدو بجزيرة ميورقة ركب إليها طاغية برشلونة أساطيله في عشرين ألفا من الرجال المقاتلة و مروا بميورقة كأنهم سفر من التجار و طلبوا من أبي عمر بن حكم و رئيسها النزول للاستسقاء فأذن لهم فلما تساحلوا آذنوا أهلها بالحرب فتزاحموا ثلاثا يثخن فيهم المسلمون في كلها قتلا و جراحة بما يناهز آلافا و الطاغية في بطارقته قاعد عن الزحف فلما كان اليوم الثالث و استولت الهزيمة على قومه زحف الطاغية في العسكر فانهزم المسلمون و لجوءا إلى قلعتهم فانحصروا بكعابها و عقدوا لابن حكم ذمة في أهده و حاشيته فخرجوا إلى سبتة و نزل الباقون على حكم العدو و سار إلى ميورقة و استولى على ما فيها من الذخيرة و العدة و الأمر بيد الله وحده
و في سنة ست و ثمانين و ستمائة بعدها غدر النصارى بمرسى الخزور فاقتحموها بعد أن ثلموا أسوارها و اكتسحوا ما فيها و احتملوا أهلها أسرى و أضرموا بيوتها نارا ثم مروا بمرسى تونس و انصرفوا إلى بلادهم و فيها أو في سنة تسع و ثمانين و ستمائة بعدها نازل أسطول العدو مدينة المهدية و كان فيها الفرسان لقتالها فزحفوا إليها ثلاثا ظفر بهم المسلمون في كلها ثم جاء مدد أهل الأجم فانهزم العدو حتى اقتحموا عليهم الأسطول و انقلبوا خائبين و تمت النعمة (6/447)
الخبر عن استيلاء الأمير أبي بكر زكريا على الثغر المغربي بجاية و الجزائر و قسنطينة و أولية ذلك و مصايره
كان للأمير أبي بكر زكريا ابن السلطان من الترشيح للأمل بهديه و شرف همته و حسن ملكته و مخالطته أهلا لعلم ما يشهد له بحسن حاله و هو الذي اختط المدرسة للعلم بأزاء دار الأقوري حيث كان سكناه بتونس و لما لحق بتلمسان بعد منجاته من مهلك أبيه ببجاية نزل على صهره عثمان بن يغمراسن بتلمسان و جاء في أثره أبو الحسن بن أبي بكر بن سيد الناس صنيعة أبيه و أخيه بعد أن خلص مع السلطان أبي حفص من الواقعة إلى مرماجنة فلما بايع له العرب و بدت مخايل الملك رأى أبو الحسن إيثار السلطان للفازازي عليهم فنكب عنه و لحق بالأمير أبي زكريا بتلمسان و استحثه لطلب ملكه و استقرض من تجار بجاية مالا أنفقه في إقامة أبهة الملك له و جمع الرجال و اصطنع الأولياء
و فشا الخبر بما يرومه من ذلك فصده عثمان بن يغمراسن عنه بما كان تقلد من طاعة السلطان أبي حفص على سننهم من الخلفاء بالحضرة قبله فاعتزم الأمير أبو زكريا على شأنه و خرج من تلمسان موريا بالصيد الذي كان ينتحله أيام قيامه بينهم و لحق بداود بن هلال بن عطاف أمير بني يعقوب و كافة بني عامر من زغبة أوعز عثمان بن يغمراسن إلى داود برده إليه فأبي من إخفار ذمته و ارتحل معه بقومه إلى آخر بلاد زغبة ونزلوا على عطية بن سليمان بن سباع من رؤساء الزواودة فتلقاه بالطاعة و ارتحلوا جميعا إلى ضواحي قسنطينة فدخل العرب سدويكش في طاعته
و نزل البلد سنة ثلاث و ثمانين و ستمائة و عاملها يومئذ أبو نوفيان من مشيخة الموحدين و كان صاحب بجاية بها أبو الحسن بن طفيل كان له من العامل صهر فداخل الأمير أبا زكريا في شأن البلد و شرط لنفسه و صهره فأمضى السلطان شرطهم و أمكنوه من البلد و أقاموا به دعوته و ارتحل إلى بجاية و كان قد حدث فيها اضطراب بين أهلها أدى إلى الخلاف و التباين و استحثوا الأمير أبا زكريا فأغذ السير إليهم و دخلها سنة أربع و ثمانين و ستمائة و يقال إن ملكه ببجاية كان سابقا على ملكه بقسنطينة و هو الأصح فيما سمعناه من شيوخنا و بعث إليهم أهل الجزائر بطاعتهم فاستولى على هذه الثغور القريبة و تلقب المنتخب لإحياء دين الله و أغفل ذكر أمير المؤمنين أدبا مع عمه الخليفة بالحضرة حيث مالأ الموحدين أهل الحل و العقد من الجماعة و نصب للحجابة أبا الحسين بن سيد الناس فقام بها و رسخ ملكه و ملك بنيه بهذه الناحية الغربية و انقسمت به الدولة إلى أن خلص الأمر للملوك من عقبه و استولوا على الحضرة كما نذكره إن شاء الله تعالى و الله ولي التوفيق (6/448)
الخبر عن حركة الأمير أبي زكريا الى ناحية طرابلس و منازلة عثمان بن يغمراسن بجاية في مغيبه
لما استولى الأمير أبو زكريا على الناحية الغربية و اقتطعا من أعمال الحضرة اعتمد في الحركة على تونس فنهض إليها في عساكره سنة خمس و ثمانين و ستمائة و وفد عليه عبد الله بن رحاب بن محمود من مشيخة ذباب و مانعه الفزازي عن أحواز تونس فنازل قابس و حاصرها و كان له في قتالها أثر و استولت الهزيمة على مقاتلتها ذات يوم فأثخن فيهم قتلا و أسرا و هدم ربضها و أحرق المنازل و النخل و ارتحل إلى مسراته و انتهى إلى الأبيض و أطاعه الجواري و المحاميد و آل سالم و عرب برقة و بلغه بمكانه من مسراته أن عثمان بن يغمراسن أسف الى منازلة بجاية و كان من خبره أن الأمير أبا زكريا لما فصل من تلمسان لطلب ملكه على كره منه و امتنع جاره داود بن عطاف من رده و امتلأ له عداوة و حقدا و جدد البيعة لصاحب تونس و أوفد بها علي ابن محمد الخراساني من صنائعه و كان له أثناء ذلك ظهور على بني توجين و مغراوة بالمغرب الأوسط و ضاق ذرع أهل الحضرة بمكان الأمير أبي زكريا من مطالبتهم و تدويخه لقاصيتهم فداخلوا عثمان بن يغمراسن في منازلة معقلة بعد بجاية ليردوه على عقبه عنهم فزحف إلى بجاية سنة ست و ثمانين و ستمائة و نازلها أياما و امتنع عليه سائر ضواحيها فلم يظفر بأكثر من الأطلال عليها و انكفأ الأمير أبو زكريا راجعا إلى بجاية سنة ست و ثمانين و ستمائة إلى أن كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى (6/450)
الخبر عن فاتحة استبداد أهل الجزيرة
كان في بعض الأيام بين سدادة و كثومة من عمل تقيوس فتنة قتل فيها ابن شيخ سدادة و أقسم ليثأرن فيه بشيخ كثومة نفسه و كان عامل توزر محمد بن يحيى بن أبي بكر التينمللي من مشيخة الموحدين فتذمم شيخ كثومة به و بذل له مالا على نصره من عدوه فكاتب الحضرة و أعلن بخلاف أهل سداده و احتشد لهم أهل نفطة و تقيوس و خرج في حشد أهل توزر و غزاهم في بلدهم و لاذ بإعطاء الرهن و بذل المال فلم يقبل فأمدهم أهل نفزاوة و زحفوا إليه فانهزمت جموعه و أثخنوا فيهم قتلا و أسرا إلى توزر و ذلك سنة ست و ثمانين و ستمائة ثم عاود غزوهم عقب ذلك ففتحوا عليه ثم عقد لهم سلما على الوفاء بمغارمهم و اشترطوا أن لا حكم عليهم في سواها و أن رؤساء نفزاوة منهم فأمضى شرطهم و كان أول استبداد أهل الجريد كما نذكره إن شاء الله تعالى (6/450)
الخبر عن خروج عثمان ابن السلطان أبي دبوس داعيا لنفسه بجهات طرابلس
كان أبو دبوس آخر خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش لما قتل سنة ثمان و خمسين و ستمائة و افترق بنوه و تقلبوا في الأرض لحق منهم عثمان بشرق الأندلس ونزل على طاغية برشلونة فأحسن تكريمه و وجد هنالك أعقاب عمه السيد أبي زيد المتنصر أخي أبي دبوس في مثواهم من إيالة العدو و كان لهم هنالك مكان و جاه لنزوع أبيهم السيد أبي زيد عن دينه إلى دينهم فاستبلغوه في مساهمة قريبهم هذا الوافد و خطبوا له عن الطاعة خطبا و وافق ذلك حصول مرغم بن صابر بن عسكر شيخ الجزاري من بني دياب في قبضة أسره و كان قد أسره الغزى من أهل صقلية بنواحي طرابلس سنة اثنتين و ثمانين و ستمائة و باعوه من أهل برشلونة فاشتراه الطاغية و قام عنده أسيرا إلى أن نزع إليه عثمان بن أبي دبوس هذا كما ذكرناه و شهر بطلب حق الدعوة الموحدية و أمل الظفر في القاصية لبعدها عن الحامية فعبر البحر إلى طرابلس و كان من حظوظ كرامته عند الطاغية أن أطلق له مرغم بن صابر و عقد له حلفا معه على مظاهرته و جهز له أساطيل و شحنها بالمدد من المقاتلة و الأقوات على مال شرطوه فنزلوا على طرابلس سنة ثمان و ثمانين و ستمائة و احتشد مرغم قومه و حملهم على طاعة ابن أبي دبوس و نازلوا البلد معه و مع جنده من النصرانية فحاصروها ثلاثا و ساء أثرهم فيها ثم رحل النصارى بأسطولهم و سروا بأقرب السواحل إلى البلد و تنقل ابن أبي دبوس و مرغم في نواحي طرابلس بعد أن أنزلوا عليها عسكرا للحصار فاستوفوا جباية المغارم و الوضائع مالا دفعوه للنصارى في شرطهم و انقلبوا في أسطولهم و أقام ابن أبي دبوس يتقلب مع العرب و استدعاه ابن مكي من بعد ذلك لأن يشتد به في استبداده فلم يتم أمره إلى أن هلك بجربة و الله وارث الأرض و من عليها (6/451)
الخبر عن مهلك أبي الحسين بن سيد الناس حاجب بجاية و ولاية ابن أبي حي مكانه
قد قدمنا سلف هذا الرجل و أوليته و أنه لحق بالأمير أبي زكريا بتلمسان و أبلى في خدمته فلما استولى الأمير أبو زكريا على الثغر الغربي و اقتطعه عن أعمال الحضرة و نزل بجاية و ظاهر بها تونس عقد لأبي الحسين بن سيد الناس على حجابته و فوض إليه فيما وراء بابه و أجراه في رياسته على سنن أبي الحسين الرئيس قبله في دولة المستنصر الذي كانوا يتلقنون طرفه و ينزعون إلى مراميه بل كانت رياسة هذا في حجابته أبلغ من رياسة ابن أبي الحسين لجلاء جو الدولة ببجاية من مشيخة الموحدين الذين يزاحمونه كما كان ابن أبي الحسين مزاحما بهم فاستولى أبو الحسين بن سيد الناس على الدولة ببجاية و قام بأمر مخدومه أحسن قيام و صار إلى الحل و العقد و انصرفت إليه الوجوه و تمكن في يده الزمام إلى أن هلك سنة تسعين و ستمائة أعظم ما كان رياسة و أقرب من صاحبه مكانا و شرفا فأقام الأمير أبو زكريا مكانه كاتبه أبا القاسم بن أبي حي ولا أدري من أوليته أكثر من أنه من جالية الأندلس ورد على الدولة و تصرف في أعمالها و اتصل بأبي الحسين بن سيد الناس فاستكتبه ثم رقاه و استخلصه لنفسه و أجره رسنه و تناول زمام الدولة من يد سيد الناس فقادها في يد مظفر خدمته حتى اجتمعت عليه الوجوه و أمله الخاصة و أطلع السلطان على اضطلاعه و كفايته في أمور مخدومه و هلك أبو الحسين ابن سيد الناس فرشحه السلطان بخطته فقام بها سائر أيامه و صدرا من أيام ابنه الأمير أبي البقاء حتى كان من أمره ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى من أمره (6/452)
الخبر عن خروج الزاب عن طاعة الأمير أبي حفص الى طاعة الأمير أبي زكريا و انتظام بسكرة في جماعته
كان السلطان أبو إسحق قد عقد على الزاب لفضل بن علي بن مزني من مشيخة بسكرة كما قدمناه فقام بأمره و لما هلك السلطان عدا عليه بعض أفاريق العرب الموطنين قرى الزاب بمداخلة قوم من أعدائه و قتلوه سنة ثلاث و ثمانين و ستمائة كما نذكره و أملوا الاستبداد بالبلد فدفعهم عنها المشيخة من بني زيان و استقلوا بأمر بلدهم و بايعوا للأمير أبي حفص صاحب الحضرة و دانوا بطاعته على السنن و توقعوا عادية منصور بن فضل بن مزني و كان لحق بالحضرة عند مهلك أبيه فخاطبوا فيه السلطان أبا حفص و رموه بالدواهي فأمر باعتقاله و أودع السجن سبع سنين إلى أن فر منه و لحق بكرفة من أحياء هلال بن عامر و هم العرب المتولون أمر جبل أوراس و نزل على الشبه بأفاريقهم فأركبوه و كسبوه و لحق ببجاية سنة إثنتين و تسعين و ستمائة فنزل بباب السلطان و رغبه في ملك الزاب و صانع الحاجب ابن أبي حي بأنواع التحف و ضمن له تحويل الدعوة بالزاب للسلطان الأمير أبو زكريا و تسريب جبايته إليه فاستماله بذلك و عقد له على الزاب و أمده بالعسكر و نازل بسكرة فامتنعت عليه و رأى مشيختها بنو رمان بعدهم عن صريخ تونس و إلحاح عدوهم منصور بن فضل عليهم فأعلنوا بطاعة الأمير أبي زكريا و بعثوا إليه ببيعتهم و وفدهم و دفع عادية بن مزني عنهم فأرجعهم بما أملوه من القبول و أن تكون أحكامهم إلى قائد عسكره و نظر ابن مزني مصروفا إلى بجاية و لما وصل الوفد إلى بسكرة خرجوا إلى القائد و منصور بن مزني فأدخلوه البلد و دانوا بالطاعة و تصرفت الأمر على ذلك إلى أن كان من أمر منصور بن مزني ما نذكره في أخباره و لم يزل الزاب في دعوة الأمير أبي زكريا و بنيه إلى أن استولى على الحضرة بعده بنوة لهذا العهد كما تراه في الأخبار بعد إن شاء الله تعالى (6/453)
الخبر عن مهلك عبد الله الفازازي شيخ الموحدين و الحاجب أبي القاسم بن الشيخ رؤساء الدولة
كان أبو عبد الله الفازازي من مشيخة الموحدين و كان خالصة للسلطان أبي حفص و عقد له على العساكر كما قدمناه و دفعه إلى الحروب و تمهيد النواحي فقام في ذلك المقام المحمود و دوخ الجهات و استنزل الثوار و دفعهم و جبى الخراج و كانت له في ذلك آثار مذكورة و في بلاد الجريد و مشيختها تصاريف و أحوال و هو الذي امتحن أحمد بن بهلول بسعاية المشيخة من أهل توزر و كبح عنانه من مراميه إلى الرياسة عليهم و هلك آخر حركاته إلى بلاد الجريد على مرحلتين من تونس سنة ثلاث و تسعين وستمائة و لسنة منها كان مهلك الحاجب أبي القاسم بن الشيخ و كان من خبر أوليته أنه قدم من بلده دانية إلى بجاية سنة ست و عشرين و ستمائة و اتصل بعاملها محمد بن ياسين فاستكتبه و غلب عليه
و استدعى ابن ياسين إلى الحضرة و ابن الشيخ في جملته و التمس السلطان من يرشحه لكتابته و يخف عليه فأطنب ابن ياسين في وصف كاتبه أبي القاسم بن الشيخ و حلاه وابتلاه السلطان فلم يرضه و صرفه ثم راجع رأيه فيه و استحسنه و رسمه في خدمته و أمر ابن أبي الحسين بتلقينه الآداب و تصريفه في وجوه الخدمة و مذاهبها فكان له في ذلك غناء و خفة على مخدومه إلى أن هلك ابن أبي الحسين و كان الخراج بدار السلطان موقوفا على نظره من جملة ما إليه و كان قلمه عاملا فيه فأفرد ابن الشيخ بذلك بعد مهلكه إلى آخر أيام السلطان المنتصر و لما ولي السلطان الواثق استبد ابن أبي الحسين عليه كما قلناه فأبقاه على خطته و اختصه لنفسه و درجه في جملته ثم جاءت دولة السلطان أبي إسحق فأقامه في رسمه و زاحمه بأبي بكر بن خلدون صاحب أشغاله
و كانت الرياسة الكبرى على عهده لبنيه أبي فارس ثم أبي زكريا عبد المؤمن من بعده ثم كانت قضية الدعي فاستولى على ملكهم فاستخلص أبا القاسم بن الشيخ و استضاف له إلى خطة التنفيذ كتاب العلامة في فواتح السجلات فلما ارتجع للسلطان أبي حفص ملكه و قتل الدعي خافه ابن الشيخ لما كان من رتبته عند الدعي فلاذ بالصلحاء لإثارة من الخير و العبادة وصلت بينهم و بينه فشفعوا له و تقبلها السلطان و أظهر لهم ذات نفسه في الحاجة إلى استعماله و قلده حجابته مجموعة الى تنفيذ كتاب العلامة في فواتح السجلات فلما ارتجع السلطان أبو حفص ملكه و قتل الخارج و صرف العلامة إلى غيره من طبقة الدولة فلم يزل ذلك إلى أن هلك سنة أربع و تسعين و ستمائة و بقي اسم الحجابة من بعده في هذه الخطط الثلاث و أمر التدبير و الحرب و رياستهما راجع إلى مشيخة الموحدين إلى أن تصرفت الأحوال و أديل بعضها من بعض كما يأتيك أثناء الأخبار وقلد السلطان من بعد ابن الشيخ حجابته لأبي عبد الله المحبي من طبقة الجند فقام بها إلى آخر الدولة و الله وارث الأرض و من عليها (6/454)
الخبر عن مهلك السلطان أبي حفص و عهده بالأمر من بعده
لم يزل السلطان أبو حفص على أكمل حالات الظهور و الدعة إلى أن استوفى مدته و أصابه وجع أول ذي الحجة من سنة أربع و تسعين و ستمائة ثم اشتد به الوجع و أهمه أمر المسلمين و ما قلده من عدتهم فعهد لابنه عبد الله بالخلافة ثاني أيام التشريق و نكره الموحدون لتخلفه عن المراتب لصغره و أنه لم يحتلم و تحدثوا في ذلك و أفضى الخبر إلى السلطان فأسخطه و عدل عنهم إلى الشورى مع الولي أبي محمد المرجاني و كان رأيه فيه جميلا و ظنه به صالحا و كان الواثق بن المستنصر لما قتل هو وبنوه بمحبسهم فرت إحدى جواريه و قد اشتملت على حمل منه إلى رباط هذا الولي فوضعته في بيته فسماه الشيخ محمدا و عق عليه و أطعم الفقراء يومئذ عصيدة الحنطة فلقب بأبي عصيدة إلى آخر الدهر ثم صار بعد الاختفاء و دواعيه إلى قصورهم و نشأ في ظل الخلفاء من قومه حيث شب و بقيت له مع الولي أبي محمد ذمة يثابر كل منهما على الوفاء بها فلما فاوضه السلطان أبو حفص في شأن العهد و قص نكير الموحدين لولده أشار عليه الشيخ بصرف العهد إلى محمد بن الواثق فتقبل إشارته و علم ترشيحه و أنفذ بذلك عهده بمحضر الملأ و مشيخة الموحدين و هلك آخر ذي الحجة سنة أربع و تسعين و ستمائة و إلى الله المصير (6/455)
الخبر عن دولة السلطان أبي عصيدة و ما كان على أثرها من الأحوال
لما هلك السلطان أبو حفص اجتمع الملأ من الموحدين و الأولياء و الجند و الكافة إلى القصبة فبايعوا بيعة عامة لولي عهده السلطان أبي عبد الله محمد و يلقب كما ذكرناه بأبي عصيدة ابن السلطان الواثق في الرابع و العشرين لذي الحجة سنة أربع و تسعين و ستمائة فانشرحت ببيعته الصدور و رضيته الكافة و تلقب المستنصر بالله و افتتح أمره بقتل عبد الله ابن السلطان أبي حفص لمكان ترشيحه و قلد وزارته محمد ابن يرزيكن من مشيخة الموحدين و أبقى محمد الشخشي على خطة الحجابة و صرف التدبير و العساكر و رياسة الموحدين إلى أبي يحيى زكريا بن أحمد بن محمد اللحياني قتيل السلطان المستنصر عند تعرض ابنه للبيعة و استنامة الخلافة فقام بما دفع إليه من ذلك و ضايقه فيه عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين قبله حتى إذا نكب و هلك استبد هو على الدولة و استقل الشخشي بحجابته و كان محمد بن إبراهيم بن الدباغ رديفا له فيها
و كان من خبر ابن الدباغ هذا أن إبراهيم أباه وفد على تونس في جالية أشبيلية سنة ست و أربعين و ستمائة فولد هو بتونس و نشأ بها و أفاد صناعة الديوان و حسباته من المبرزين كان فيه أبي الحسن و أبي الحكم ابني مجاهد و أصهر إليهما في ابنة أبي الحسن فأنكحاه و رشحاه للأمانة على ديوان الأعمال و لما استقل أبو عبد الله الفازازي بالرياسة استكتبه و كان طياشا مستعصيا على الخليفة فكان كاتبه محمد بن الدباغ يروضه لأغراض الخليفة إذا دسها إليه الحاجب ابن الشيخ فيقع ذلك من الخليفة أحسن الموقع و لما ولي السلطان أبو عصيدة و كانت له عنوة سابقة رعاها وكان حاجبه الشخشي بهمة غفلا عن أدوات الكتاب فاستكتب السلطان ابن الدباغ ثم رقاه إلى كتابة علامته سنة خمس و تسعين و ستمائة و كان يتصرف فيها فأصبح رديفا للشخشي في حجابته و جرت أمور الدولة على ذلك إلى أن هلك الشخشي سنة تسع و تسعين و ستمائة فقلده السلطان حجابته فاستقل بها على ما قدمناه من أن التدبير و الحرب مصروف إلى مشيخة الموحدين (6/456)
الخبر عن نكبة عبد الحق بن سليمان و خبر بنيه من بعده
كان أبو محمد عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين لعهد السلطان أبي حفص و أصله من تينملل الموطنين بتبرسق مذ أول الدولة كانت له و لسلفه الرياسة عليهم و صارت إليه رياسة الموحدين كافة بالحضرة أيام هذا السلطان و كان له خالصة و شيعة و كان حريصا على ولاية ابنه عبد الله للعهد و كان يدافع نكير الموحدين في ذلك فأسر هاله السلطان أبو عصيدة و لما استوثق له الأمر و قتل عبد الله بمحبسه تقبض على أبي محمد بن سليمان و اعتقله في صفر سنة خمس و تسعين و ستمائة و لم يزل معتقلا إلى أن قتل بمحبسه على رأس المائة و فر عند نكبته ابناه محمد و عبد الله فأما عبد الله فلحق بالأمير أبي زكريا و صار في جملته إلى أن دخل تونس مع ابنه السلطان أبي البقاء خالد
و أما محمد فأبعد المفر و لحق بالمغرب الأقصى و نزل على يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين بمعسكره من حصار تلمسان فاستبلغ في تكريمه و أقام عنده مدة ثم عاود وطنه و نزل عن طريقه إلى النسك و لبس الصوف و صحب الصالحين و قضى فريضة الحج و امتد عمره و حسنت فيه ظنون الكافة و اعتقدوا فيه و في دعائه و كثرت غاشيته لالتماس البركة منه و أوجب الخلفاء أزاء ذلك تجلة أخرى و أوفدوه على ملوك زناتة مرة بعد مرة في مذاهب الود و قصود الخير و حضر في بعض الجهاد بجبل الفتح عندما نازلته عساكر السلطان أبي الحسن ولم يزل هذا دأبه إلى أن هلك في الطاعون الجارف في منتصف المائة الثامنة و الله تعالى أعلم (6/457)
الخبر عن مراسلة يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين و مهاداته
كان السلطان أبو عصيدة لما استفحل أمره و استوسق ملكه حدث نفسه بغزو الناحية الغربية و ارتجاع ثغورها من يد الأمير أبي زكريا و كان الأمير أبو زكريا قد انتقض عليه أهل الجزائر بعد مهلك عاملها عليها من الموحدين من بني الكمازير انبرى بها بعده محمد بن علان من مشيختها و استفحل أمر عثمان بن يغمراسن و بني عبد الواد من ورائه و تغلبوا على توجين و مغراوة و بلكين و كان شيعة لصاحب الحضرة بما كان متمسكا بدعوتهم و متقبلا مذهب أبيه في بيعتهم فقويت عزائم السلطان أبي عصيدة لذلك و نهض من الحضرة سنة خمس و تسعين و ستمائة و تجاوز تخوم عمله إلى أعمال قسنطينة و أجفلت أمامه الرعايا و القبائل و انتهى إلى ميلة و فيها كان منقلبة إلى حضرته في رمضان من سنته
و لما ضايق عمل بجاية بغزوه أعمل الأمير أبو زكريا نظره في تسكين الناحية الغربية ليتفرغ عنها إلى مدافعة السلطان صاحب الحضرة فوصل يده بعثمان بن يغمراسن و أكد معه قديم الصهر بحادث الود و المواصلة و في خلال ذلك زحف يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين إلى تلمسان و ألقى عليها بكلكله و استجاش عثمان بن يغمراسن بالأمير أبي زكريا فأمده بعسكر من الموحدين لقيهم عسكر من بني مرين بناحية تدلس فهزموهم و أثخنوا فيهم قتلا و رجع فلهم إلى بجاية و سرح يوسف بن يعقوب عساكر بني مرين إلى بجاية و عقد عليها لأخيه أبي يحيى بعد أن كان عثمان بن سباع وفد عليها نازعا عن صاحب بجاية إليه و مرغبا له في ملكها فأوسع له في الحباء و الكرامة ما شاء و بعث معه هذا العسكر فانتهوا إلى بجاية و ضايقوها ثم جاوزوها إلى تاكرارت و بلاد سدويكش و عاثوا في تلك الجهات و دوخوها و انقلبوا راجعين إلى السلطان يوسف بن يعقوب بمعسكره من تلمسان
و كان السلطان أبي عصيدة صاحب الحضرة لما علم بإمداد الأمير أبي زكريا لعثمان بن يغمراسن بعث إلى يوسف بن يعقوب عدوهم و حرضه على بجاية و نواحيها و سفر له في ذلك رئيس الموحدين أبا عبد الله بن الكجار أولى سفارته ثم سفر ثانية سنة ثلاث و سبعمائة بهدية ضخمة فأغرب فيها بسرج و سيف و مهماز من الذهب من صنعة الحلي الفاخر من حصى الياقوت و الجوهر و رافقه في هذه السفارة الثانية وزير الدولة أبو عبد الله بن يرزيكن و رجعا بهدية ضخمة من يوسف بن يعقوب كان من جملتها ثلثمائة من البغال و اتصلت المخاطبات و السفارات و الهدايا و الملاطفات و كان يوسف بن يعقوب يكاتب السلطان في تلك الشؤون تعريضا و يكاتب رئيس الموحدين أبا يحيى اللحياني و تردد عساكر بني مرين إلى نواحي بجاية إلى أن هلك يوسف بن يعقوب كما يأتي في أخباره إن شاء الله تعالى (6/458)
الخبر عن مقتل هداج و فتنة الكعوب و بيعتهم لابن أبي دبوس و ما كان بعد ذلك من نكبتهم
كان هؤلاء الكعوب قد عظمت ثروتهم و اصطناعهم منذ قيامهم بأمر الأمير أبي حفص فعمروا و نموا و بطروا النعمة و كثر عيثهم و فسادهم و طال إضرارهم بالسابلة و حطمهم للجنات و انتهابهم للزرع فاضطغن لهم العامة و حقدوا عليهم سوء آثارهم و دخل رئيسهم هداج بن عبيد سنة خمس و سبعمائة إلى البلد فحضرته العيون و همت به العامة و حضر المسجد لصلاة الجمعة فتجنوا عليه بأنه وطىء المسجد بخفيه و قال لم أنكر عليه ذلك : إني أدخل مجلس السلطان بهما فثاروا به عقب الصلاة و قتلوه و جروا شلوه في سكك المدينة فزاد عيثهم و أجلابهم على السلطان و استقدم أحمد بن أبي الليل شيخ الكعوب لذلك العهد عثمان بن أبي دبوس من مكانه بنواحي طرابلس و نصبه للأمر و أجلب به على الحضرة و نازلها
و خرج إليهم الوزير أبو عبد الله بن برزيكن في العساكر فهزمهم و سار بالعساكر لتمهيد الجهات و تسكين ثائرة العرب فوفد عليه أحمد بن أبي الليل و معه سليمان بن جامع من رجالات هوارة بعد أن راجع الطاعة و صرف ابن أبي دبوس إلى مكانه فتقبض عليهما و بعث بهما إلى الحضرة فلم يزالا معتقلين إلى أن هلك أحمد بمحبسه سنة ثمان و سبعمائة و قام بأمر الكعوب محمد بن أبي الليل و معه حمزة و مولاهم ابنا أخيه عمر رديفين له ثم خرج الوزير بعساكره سنة سبع و سبعمائة و استوفد مولاهم ابن عمر و تقبض عليه و بعث به إلى الحضرة فاعتقل مع عمه أحمد و جاهر أخوه حمزة بالخلاف و أتبعه عليه قومه فكثر عيثهم و أضروا بالرعايا و كثرت الشكاية من العامة و لغطوا بها في الأسواق و تصايحوا ثم نفروا إلى باب القصبة يريدون الثورة فسد الباب دونهم فرموا بالحجارة و هم في تلك يعتدون ما نزل بهم من الحاجب ابن الدباغ و يطلبون شفاء صدورهم بقتله و رفع أمرهم الحاجب و استلحمهم جميعا فأبى من ذلك السلطان و أمره بملاطفتهم إلى أن مكنت بيعتهم ثم تتبع بالعقاب من تولى كبر ذلك منهم و انحسم الداء و كان ذلك في رمضان من سنة ثمان و سبعمائة و استمر العرب في غلوائهم إلى أن هلك السلطان فكان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى و الله أعلم (6/459)
الخبر عن انتقاض أهل الجزائر و استبداد ابن علان بها
قد قدمنا ما كان من انتقاض الجزائر أيام المستنصر و دخول عساكر الموحدين عليهم عنوة و اعتقال مشيختهم بتونس حتى أطلقوا بتونس بعد مهلكه و لما استقل الأمير أبو زكريا الأوسط بملك الثغور الغربية من بجاية و قسنطينة و كان الوالي على الجزائر ابن الحكم زمن الموحدين فبادر إلى طاعته باتفاق من مشيخة الجزائر و وفد عليه و كتب إبن أكمار بولايتها فلم يزل واليا عليهم إلة أن نشأت بنو مرين و زحفوا إلى بجاية و كان ابن أكمار قد أسن و هرم فأدركته الوفاة خلال ذلك
و كان ابن علان من مشيخة الجزائر مختصا به متصرفا بأوامره و نواهيه و مصدرا لإمارته
حصلت له بذلك الرياسة على أهل الجزائر سائر أيامه و يقال كان له معه صهر فلما وصل ابن اكمار حدثته نفسه بالاستبداد و الانتزاء بالجزائر فبعث عن أهل الشوكة من نظرائه ليلة هلاك أميره و ضرب أعناقهم و أصبح مناديا بالاستبداد و شغل الأمير أبو زكريا عنه بما كان من منازلة بني مرين ببجاية إلى أن هلك و بقيت في انتقاضها على الموحدين آخر الدهر إلى أن تملكها بنو عبد الواد كما يذكر إن شاء الله تعالى (6/460)
الخبر عن مهلك الأمير أبي زكريا و بيعة ابنه الأمير أبي البقاء خالد
كان الأمير أبو زكريا قد استولى على الثغور الغربية كما قلنا و اقتطعها من أعمال الحضرة و قسم الدعوة الحفصية بدولتين و كان على غاية من الحزم و التيقظ و الصرامة لم يبلغها سواه و كان كثير الإشراف على وطنه و المباشرة لأعماله بنفسه و سد خلله و لم يزل على ذلك إلى أن هلك على رأس المائة السابعة و كان قد عهد بالأمر لإبنه الأمير أبي البقاء خالد سنة ثمان و تسعين و ستمائة و عقد له على قسنطينة و أنزله بها فلما هلك الأمير أبو زكريا جمع الحاجب أبو القاسم بن أبي حي مشيخة الموحدين و طبقات الجند و أخذ بيعتهم للأمير أبي البقاء و طير له بالخير و استقدمه فقدم و بويع البيعة العامة و ابقى ابن أبي حي على حجابته و استوزر يحيى بن أبي الأعلام و قدم على صنهاجة أبا عبد الرحمن بن يعقوب بن حلوب منهم و يسمى المزدار و قلد رياسة الموحدين أبا زكريا يحيى بن زكريا من أهل البيت الحفصي و استمر الأمر على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/461)
الخبر عن سفارة القاضي الغبريني و مقتله
قد قدمنا ما كان من زحف بني مرين إلى بجاية بمداخلة صاحب تونس و لما ولي السلطان أبو البقاء اعتزم على المواصلة مع صاحب تونس قطعا للزبون عنه و عين للسفارة في ذلك شيخ القرابة ببابه أبا زكريا يحيى بن زكريا الحفصي ليحكم شأن المواصلة بينهما و بعث معه القاضي أبا العباس الغبريني كبير بجاية و صاحب شوارها فأدوا رسالتهم و انقلبوا إلى بجاية و وجد بطانة السلطان السبيل في الغبريني فأغروه به و أشاعوا أنه داخل صاحب الحضرة في التوثب بالسلطان و تولى كبر ذلك ظافر الكبير و ذكره بحديثه و ما كان منه في شأن السلطان أبي إسحق و أنه الذي أغرى بني غبرين به فاستوحش منه السلطان و تقبض عليه سنة أربع و سبعمائة ثم أغروه بقتله فقتل بمحبسه في سنته تلك و تولى قتله منصور التركي و الله غالب على أمره (6/462)
الخبر عن سفارة الحاجب بن أبي حي إلى تونس و تنكر السلطان له بعدها و عزله
و لما ولي السلطان أبو البقاء كانت عساكر بني مرين مترددة إلى أعمال بجاية بمداخلة صاحب تونس كما ذكرناه فدوخوا نواحيها و كان ابن أبي حي مستبدا على الدولة في حجابته فضاق ذرعه بشأنهم و أهمته حال الدولة معهم و رأى أن اتصال اليد بصاحب الحضرة مما يكف عن عزمهم فعزم على مباشرة ذلك بنفسه لوثوقه من سلطانه
فخرج من بجاية سنة خمس و سبعمائة و قدم على الحضرة رسولا عن سلطانه فاهتزت له الدولة و لقي بما يجب له و لمرسله من البر و أنزله شيخ الموحدين و مدبر الدولة أبو يحيى زكريا بن اللحياني بداره استبلاغا في تكريمه و قضى من أمر تلك الرسالة حاجة صدره و كانت بطانة الأمير أبي البقاء خلالهم وجه سلطانهم منه تهافتوا على النصح إليه و السعاية بابن أبي حي عنده
و شمر لذلك يعقوب بن عمر و جلى فيه و تابعه عليه عبد الله الرخامي من كاتب ابن أبي حي و صديقه بما كان ابن طفيل قريبه يسخط عليه الناس و يوغر له صدورهم ببأوه و تحقيره بهم فالح له العداوة في كل جانحة و أسخطه على عبد الله الرخامي
و كان صديقه و مداخله فتولى من السعاية فيه مع يعقوب بن عمر كبرها و ألقى إلى السلطان أن ابن أبي حي داخل صاحب الحضرة في تمكينه من ثغور قسنطينة و بجاية بما كان على الأمير العامل بقسنطينة صهرا لابن أبي حي و هو الذي ولاه عليها فاستراب السلطان به و تنكر له بعد عوده من تونس و خشي كل منهما بادرة صاحبه ثم رغب ابن أبي حي في قضاء فرضه و تخلية سبيله إليه فأسعف و خرج من بجاية ذاهبا إلى الحج ولحق بالقبائل من ضواحي قسنطينة و بجاية فنزل عليهم و أقام بينهم مدة ثم لحق بتونس و أقام بها إلى حين مهلك السلطان أبي عصيدة و بيعة أبي بكر الشهيد و حضر دخول الأمير أبي البقاء عليه بتونس و خلص من تيار تلك الصدمة فلحق بالمشرق و قضى فرضه ثم عاد إلى المغرب و مر بأفريقية و لحق بتلمسان و أغرى أبا حمو بالحركة على بجاية فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/462)
الخبر عن حجابة أبي عبد الرحمن بن عمر و مصاير أمره
هو يعقوب بن أبي بكر بن محمد بن عمر السلمي و كنيته أبو عبد الرحمن كان جده محمد فيما حدثني أهل بيتهم قاضيا بشاطبة و خرج مع الجالية أيام العدو إلى تونس و نزل بالربع الجوفي أيام السلطان أبي عصيدة و انتقل ابناه أبو بكر و محمد إلى قسنطينة و نزلا على ابن أوقيان العامل عليها من مشيخة الموحدين لعهد الأمير أبي زكريا الأوسط فأوسعهما عناية و تكريما و ولى أبا بكر على الديوان و استخلصه لنفسه
و كان يتردد إلى الحضرة ببجاية في شؤونه فإتصل بمرجان الخصي من موالي الأمير أبي زكريا و خواص داره و استخدم على يد الأمير خالد و أمه من كرائم السلطان فحظى عندهم و تزوج إبنه يعقوب من بنات القصر و خوله و نشأ في جو تلك العناية و أعلقوا بصحبة الحاج فضل قهرمان دار السلطان و خاصته فاستخدم له سائر أيامه إلى أن هلك و كان الحاج فضل كثيرا ما يتردد إلى الأندلس لاستجلاب الثياب الحريرية من هنالك و انتقاء أصنافها و كذلك إلى تونس و هلك الحاج فضل هنالك و بعثه السلطان آخر أمره إلى الأندلس فاستصحب ابن عمر و هلك الحاج فضل هنالك فعدل السلطان عن خطاب ابنه محمد إلى خطاب ابن عمر فأمره بإتمام ذلك العمل و القدوم به فقدم هو و ابنه محمد إلى خطاب ابن عمر فأمره بإتمام ذلك العمل و القدوم به فقدم هو و ابن الحاج فضل و ساء لهما السلطان عن عملهما فكان ابن عمر أوعى من صاحبه فحلي بعينه و خف عليه و اعتلق بذمة من خدمته أحظته عند السلطان ورقته فاستعمل في الجباية ثم قلد أعمال الأشغال و زاحم ابن أبي حي و عبد الله الرخامي و غصوا به فأغروا السلطان بنكبته فنكبه و أشخصه إلى الأندلس فأقام هنالك و استعطف السلطان أبا البقاء بعد مهلك أبيه و تشفع بوسائل خدمته فاستقدمه و قدم مع علي و حسين ابني الرنداحي و ركب معهما البحر إلى بجاية في مغيب ابن أبي حي عن الحضرة فصادف من السلطان قبولا و شمر في السعاية بابن أبي حي مع مرجان إلى أن تم له ما أراد من ذلك و صرف ابن أبي حي كما ذكرناه فقلد السلطان حجابته ليعقوب بن عمر و قدم على الأشغال عبد الله الرخامي وكان ناهضا في أمور الحجابة لمباشرتها مع مخدومه فأصبح رديفا لابن عمر و غص بمكانه فأغرى به السلطان و دله على مكامن ثورته و على عداوته فنكب و صودر و امتحن و غرب إلى ميورقة حتى افتداه يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين من أسره و استقدمه ليقلده أشغاله عند تنكره لعبد الله ابن أبي مدين كما نذكره في أخباره فهلك يوسف بن يعقوب دون ما أمل من ذلك و أقام الرخامي بتلمسان و بها كان مهلكه و استقل يعقوب بن عمر بأعباء خطته و اضطلع بها و قوض إليه السلطان في الإبرام و النقض فحول المراتب بنظره و أجرى الأمور على غرضه و كان أول ما أتاه صرعته لمرجان مصطنعه ملأ صدر السلطان عليه و حذره مغبته فتقبض عليه و ألقي في البحر فالتقمه الحوت فخلا وجه السلطان لإبن عمر و تفرد بالعقد و الحل إلى أن استولى السلطان أبو البقاء على الحضرة و كان من أمره ما يذكر إن شاء الله تعالى (6/463)
الخبر عن ثورة ابن الأمير بقسنطينة وبيعة السلطان أبي عصيدة ثم فتح السلطان أبي البقاء خالد لها و قتله
كان يوسف بن الأمير الهمداني بعد أن قتله بطنجة أبناء أبي يحيى من بني مرين كما يأتي في أخبارهم انتقل بنوه إلى تونس أيام المستنصر و رعى لهم السلطان وسيلة قيامهم بالدعوة الحفصية أيام أبي علي بن خلاص بسبتة و بعدها إلى أن غلبهم عليها العز في كما نذكره في أخباره فلقاهم مبرة و تكريما و نزلوا من الحضرة خير نزل تحت جراية و نعمة و عناية و كان كبيرهم متحمقا متعاظما فربما لقي في الدولة لذلك عسفا إلا أن الإبقاء عليهم كان مانعا من اضطهادهم و نشأ بنوهم في ظل ذلك النعيم
ثم هلك السلطان و اضطربت الأمور و ضرب الدهر ضرباته و لحق علي منهم بالثغر الغربي وتأكدت له مع ابن أبي حي لحمة نسب و ذمة صهر و وشجت بينهما عروقها فلما استقل ابن أبي حي بحجابة الأمير أبي زكريا لم يأل جهدا في مشاركة علي بن الأمير و ترقيته المنازل إلى أن ولاه ثغر قسنطينة مستقلا بها و حاجبا للسلطان أبي بكر بن الأمير أبي زكريا و أنزله معه فقام بحجابته و أظهر فيها غناءه و حزمه حتى إذا سخط السلطان ابن أبي حي و صرفه عن حجابته تنكر أبو الحسن بن الأمير و خشي بوادر السلطان فحول الدعوة إلى صاحب الحضرة و طير إليه بالبيعة و استدعى المدد و النائب فوصله رئيس الموحدين و الدولة أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد اللحياني و عقد البيعة لسلطانه سنة أربع و سبعمائة
و بلغ الخبر إلى السلطان أبي البقاء ببجاية فنهض إليه بالعساكر آخر سنة أربع و سبعمائة و نازله أياما فامتنع عليه و هم بالإفراج عنه ثم داخل رجل من بطانة ابن الأمير يعرف بابن موزة أبا الحسن بن عثمان من مشيخة الموحدين و كان معسكره بباب الوادي فناجزهم الحرب من هنالك حتى انتهى إلى السور فتسنمه المقاتلة بأغضاء ابن موزة لهم عنه و ركب السلطان في العساكر عند الصدمة و وقف على باب البلد و قد استكمن أولياؤه منه فخرج إليه بنو المعتمد و بنو باديس و مشيخة البلد فاقتحم البلد عنوة و مضى أبو محمد الرخامي و استنزله ثم حمله في رجال السلطان إلى دار ابن الأمير فغشيه بها و قد انفض عنه الناس و استخفى بغرفة من غرف داره و استمات فلاطفه الرخامي و استنزله ثم حمله على برذون مستدبرا و أحضره بين يدي السلطان فقتل ونصب شلوه و أصبح آية للمعتبرين و الله أعلم (6/465)
الخبر عن حركة السلطان أبي البقاء إلى الجزائر
قد قدمنا ما كان من خبر انتقاض الجزائر على الأمير أبي زكريا و استبداد ابن علان بها فلما استولى السلطان أبو البقاء على الأمر و تمهدت له الأحوال و أقلع بنو مرين بعد مهلك يوسف بن يعقوب عن تلمسان أعمل السلطان نظره في الحركة إليها فخرج إليهم سنة سبع و سبعمائة أو ست و سبعمائة و انتهى إلى متيجه و دخل في طاعته منصور بن محمد شيخ ملكين و جمع قومه و لجأ إليه راشد بن محمد بن ثابت بن منديل أمير مغراوة هاربا أمام بني عبد الواد فآواه إلى ظله و ألقى عليه جناح حمايته و احتشد جميع من في تلك النواحي من القبائل و زحف إلى الجزائر و أقام عليها أياما فامتنعت عليه و انكفأ راجعا إلى حضرته ببجاية و أقام ملكين على طاعته و مطاولته الجزائر بالقتال إلى أن كان من أمرها و تغلب بنو عبد الواد عليها كما نذكره في أخبارهم
و جاء معه راشد بن محمد إلى بجاية متذمما لخدمته إلى أن قتله عبد الرحمن بن خلوف كما يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى (6/466)
الخبر عن السلف و شروطه بين صاحب تونس و صاحب بجاية
لما افتتح السلطان أبو البقاء خالد قسنطينة و قتل ابن الأمير و فرغ من ذلك الشأن أدرك أهل الحضرة الندم على ما استدبروا من مهادنة صاحب الثغر و قارن ذلك مهلك يوسف بن يعقوب الذي كانوا يرجونه شاغلا له فجنحوا إلى السلم و بعثوا وفدهم في ذلك إليه فأسدوا و ألحموا
و شرط عليهم السلطان أبو البقاء أن من هلك منهما قبل صاحبه فالأمر من بعده للآخر و البيعة له فتقرر الشرط و حضر الملأ و المشيخة من الموحدين ببجاية ثم بتونس فأشهدوا به على أنفسهم وربط ذلك العهد و أحكمت أو أخيه إلى أن نقضها أهل الحضرة عند مهلك السلطان أبي عصيدة كما نذكره إن شاء الله تعالى (6/467)
الخبر عن سفر شيخ الدولة بتونس ابن اللحياني لحصار جربة و مضيه منها إلى الحج
لما انعقد أمر هذا الصلح و استتم راجع رئيس الدولة أبو يحيى زكريا بن اللحياني نظره لنفسه و أعمل فكره في الخلاص ممن استوطنه و كان يؤمل رجوع الوفد المقربين بالمهدية من أمراء الديار المصرية إلى يوسف بن يعقوب فيصحبهم لقضاء فرضه و أبطأ عليه شأنهم فاعتزم على قصده و ورى بحركته إلى جزيرة جربة لاسترجاعها من أيدي النصارى و الرجوع عنها من بعد ذلك إلى الجريد لتمهيد أحواله
و تناول الرأي في الظاهر من أمره مع السلطان فأذن له و سرح معه العساكر فخرج من تونس في جمادى سنة ست و سبعمائة غازيا إلى جربة و لم يزل يغذ السير حتى انتهى إلى مجازها ثم عبر منه إلى الجزيرة و كان النصارى لما تغلبوا عليها سنة ثمان و ثمانين و ستمائة شيدوا بها حصنا لاعتصام الحامية سموه بالقشتيل فنزلت العساكر عليه
و أنفذ الشيخ أبو يحيى عماله للجباية و أقام في منازلته شهرين ثم انقطعت الأقوات و استعصى الحصن إلا بالمطاولة فرجع إلى قابس ثم ارتحل إلا بلاد الجريد و انتهى إلى توزر و نزلها و أعمل في خدمته أحمد بن محمد بن بهلول من مشيختها فاستوفى جباية الجريد و عاد إلى قابس
و أنزله عبد الملك بن عثمان بن مكي بداره و صرح بما روى عنه من حجه وصرف العساكر إلى الحضرة و ولي بعده رياسة الموحدين و تدبير الدولة أبو يعقوب بن يزدوتن و تحول عن قابس إلى بعض جبالها تجافيا عن هوائها الوخم و أقام في انتظار الركب الحجازي و كان مريضا فتحول إلى طرابلس فأقام بها عاما و نصفه إلى أن وصل وفد الترك من المغرب الأقصى آخر سنة ثمان و سبعمائة فخرج معهم حاجا ثم قضى فرضه و عاد فكان من شأنه و استيلائه على منصب الخلافة ما يأتي ذكره و وصل مدد النصرانية إلى قشتيل سنة ثمان و سبعمائة بعد منصرف العساكر عنهم و فيهم فردريك ابن الطاغية صاحب صقلية فقاتلهم أهل الجزيرة من المكارية لنظر أبي عبد الله ابن الحسين من مشيخة الموحدين و معه ابن أومغار في قومه من أهل جربة فأظفرهم الله بهم و لم يزل شأن هذه الجزيرة من المكان مع العدو كذلك منذ نشأت دولة صنهاجة و ربما وقعت الفتنة بين المكارية فتصل إحدى الطائفتين يدها بالنصارى إلى أن كان ارتجاعها في هذه النوبة سنة و أربعين لعهد مولانا السلطان أبي يحيى كما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى (6/467)
الخبر عن مهلك السلطان أبي عصيدة و خبر أبي بكر الشهيد
كان السلطان أبو عصيدة بعد تهيؤ سلطانه و تمهيد ملكه طرقه مرض الاستسقاء فأزمن به ثم مات على فراشه في ربيع الآخر سنة تسع و سبعمائة و لم يخلف ابنا و كان بقصرهم سبط من أعقاب الأمير زكريا جدهم من ولد أبي بكر ابنه الذي ذكرنا وفاته في خبر شقيقه أبي حفص في فتح مليانة أيام السلطان المستنصر فلم يزل بنوه في قصورهم و في ظل ملكهم و نشأ منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر في إيالة السلطان أبي عصيدة و ربى في جميم نعمته فلما هلك السلطان أبو عصيدة و لم يعقب و كان السلطان أبو البقاء خالد قد نزع إليه حمزة بن عمر عند إياسه من خروج أخيه من محبسه فرغبه في ملك الحضرة و استحثه عليها ثم وصل أبو عبد الله بن يزريكن السلطان أبا عصيدة و استنهض السلطان أبا البقاء لملك تونس فنهض كما نذكر و استراب الموحدون بتونس في شأن حركته فخافوه على أنفسهم فبايعوا لهذا الأمير أبي بكر الذي عرف بالشهيد بما كان من قبلة لسبع عشرة ليلة من بيعته و أبقى أبا عبد الله بن يرزيكن على وزارته و زحزح محمد بن الدباغ عن رتبة الحجابة فتوعده لما كان يحقد عليه من التقصير به أيام سلطانه فكان عونا عليه إلى أن هلك عند استيلاء السلطان أبي البقاء كما نذكره إن شاء الله تعالى (6/468)
الخبر عن استيلاء السلطان أبي البقاء على الحضرة و انفراده بالدعوة الحفصية
لما بلغ السلطان أبا البقاء بمكانه من بجاية و أعمالها الخبر بمرض السلطان أبي عصيدة مع ما كان من العقد بينهما بأن من مات قبل صاحبه جمع الأمر بعده للآخر داخلته الظنة أن ينتقض أهل الحضرة في هذا الشرط و اعتزم على النهوض لمشارفة الحضرة و وصل إليه حمزة بن عمر نازعا عنهم فرغبه و استحثه و خرج من بجاية في عساكره و ورى بالحركة إلى الجزائر لما كان من انتقاضهم على أبيه و استبداد ابن علان بها ثم ارتحل إلى قصر جابر و عند بلوغه إليه ورد الخبر بمهلك السلطان أبي عصيدة و بيعة الموحدين بعده لأبي بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر ابن الأمير أبي زكريا فاضطغنها على الموحدين
و أغذ السير و انحاش إليه كافة أولاد أبي الليل و اجتمع أمثالهم أولاد مهلهل إلى صاحب تونس وخرج معهم شيخ الدولة أبو يعقوب بن يزدوتن و الوزير أبو عبد الله ابن يرزيكن في العساكر للقاء و وقوا سلطانهم بأنفسهم فلما زحف إليهم السلطان أبو البقاء اختل مصافهم و انهزموا و انتهب المعسكر و قتل الوزير ابن يرزيكن و أجفلت أحياء العرب إلى القفر و دخل العسكر إلى البلد و اضطرب الأمر و خرج الأمير أبو بكر بن عبد الرحمن فوقف بساحة البلد قليلا ثم تفرق عنه العسكر و تسايلوا إلى السلطان أبي البقاء و فر أبو بكر ثم أدرك ببعض الجهات فثل إلى السلطان فاعتقله في بعض الفازات و غدا على السلطان أهل الحضرة من المشيخة و الموحدين و الفقهاء و الكافة فعقدوا بيعته و قتل الأمير فسمي الشهيد آخر الدهر و باشر قتله ابن عمه أبو زكريا يحيى بن زكريا شيخ الموحدين
و دخل السلطان من الغد إلى الحضرة و استقل بالخلافة و تلقب بالناصر لدين الله المنصور ثم استضاف إلى لقبه المتوكل و أبقى أبا يعقوب بن يزدوتن في رياسته على الموحدين مشاركا لأبي زكريا يحيى بن أبي الأعلام الذي كان رئيسا عنده قبلها و استمر على خطة الحجابة أبو عبد الرحمن يعقوب بن عمر و ولى على الأشغال بالحضرة منصور بن فضل بن مزني و جرت الحال على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/469)
الخبر عن بيعة ابن مزني يحيى بن خالد و مصاير أموره
كان يحيى بن خالد ابن السلطان أبي إسحق في جملة السلطان أبي البقاء خالد و تنكرت له الدولة لبعض النزعات فخشى البادرة و فر فلحق بمنصور بن مزني و كان منصور قد استوحش من ابن عمر فدعاه إلى القيام بأمره فأجاب و عقد له على حجابته و جمع له العرب و أجمع على قسنطينة أياما و بها يومئذ ابن طفيل و كانت قد اجتمعت ليحيى بن خالد زعنفة من الأوغاد اشتملوا عليه و اشتمل عليهم و أغروه بابن مزني فوعدهم إلى حين ظفره و اطلع ابن مزني على سوء دغلته فنفض يده من طاعته و انصرف عنه إلى بلده فانفضت جموعه ابن مزني على سوء دغلته فنفض يده من طاعته و انصرف عنه إلى بلده فانفضت جموعه و راجع ابن مزني طاعة السلطان أبي البقاء و مخالصة بطانته و حاجبه فتقبلوه و لحق يحيى بن خالد بتلمسان مستجيشا و نزل على أميرها أبي زيان محمد بن عثمان بن يغمراسن فهلك لأيام من قدومه و ولي بعده أخوه أبو حمو موسى بن عثمان فأمده و زحف إلى محاربة قسنطينة فامتنعت عليه ثم استدعاه ابن مزني إلى بسكرة فأقام عنده و أسنى له الجراية و رتب عليه الحرس و كان السلطان ابن اللحياني يبعث إليه من تونس بالجائزة مصانعة له في شأنه حتى لقد أقطع له بتونس من قرى الضاحية ما كان للسلطان و ابنه فلم يزل في إسهامه و إسهام بنيه من بعده إلى أن هلك يحيى ابن خالد بمكانه عنده سنة إحدى و عشرين و سبعمائة و الله تعالى أعلم (6/470)
الخبر عن بيعة السلطان أبي بكر بقسنطينة على يد الحاجب ابن عمر و أولية ذلك
لما نهض السلطان أبو البقاء إلى الحضرة عقد على بجاية لعبد الرحمن بن يعقوب بن مخلوف مضافا إلى رياسته في قومه كما كانوا يستخلفون أباه عليها عند سفرهم عنها و كان يلقب المزوار و جعله حاجبا لأخيه الأمير أبي بكر على قسنطينة فانتقل إليها و عكف السلطان أبو البقاء في تونس على لذاته و أرهف حده و عظم بطشه فقتل عدوان بن المهدي من رجالات سدويكش و دعار بن حريز من رجالات الأثابج فتفاوض رجال الدولة في شأنه و خشوا غدرته و أعمل الحاجب ابن غمر و صاحبه منصور بن فضل عامل الزاب الحيلة في التخلص من إيالته واستعصب راشد بن محمد أمير مغراوة كان نزع إليهم عند استيلاء بني عبد الواد على وطنه فتلقوه من الكرامة بما يناسبه و استقر في جملتهم و عليه و على قومه كانت تدور رحى حروبهم
و استصحبه السلطان أبو البقاء خالد إلى الحضرة أميرا على زناتة فدفع بعضهم حشمه إلى الحاجب في مقعد حكمه و قد استعدى عليه بعض الخدم فأمر بقتله لحينه
و احفظ ذلك الأمير راشد بن محمد فرتب لها عزائمه وقوض خيامه لحينه مغاضبا فوجد الحاجب بذلك سبيلا إلى قصده و تمت حيلته صاحبه و أهم السلطان شأن بجاية و نواحيها و خشي عليها من راشد بما كان صديقا ملاطفا لعبد الرحمن بن مخلوف و فاوضهما فيمن يدفعه إليها فأشار عليه الحاجب بمنصور بن مزني و أشار منصور بالحاجب و تدافعاها أياما حتى دفعاها جميعا إليه و طلب ابن غمر من السلطان العقد لأخيه أبي بكر على قسنطينة فعقد له و ولى عليا ابن عمه الحجابة بتونس نائبا عنه و فصل من الحضرة و لحق بقسنطينة و صرف منصور بن فضل إلى عمله بالزاب فكان من خلافه ما يذكر و قام ابن عمر بخدمة السلطان أبي بكر فتصرف في حجابته ثم داخله في الانتقاض على أخيه و بدت مخايل ذلك عليهم فإرتاب لهم السلطان أبو البقاء و أحسن علي بن الغمر بارتيابه فلحق بقسنطينة و جهز السلطان أبو البقاء عسكرا و عقد لظافر مولاه المعروف بالكبير و سرحه إلى قسنطينة فانتهى إلى باجة و أناخ بها إلى أن كان من أمره ما يذكر
و بادر ابن غمر إلى المجاهرة بالخلعان و دعا مولانا السلطان أبا بكر إليه فأجابه و أخذ له البيعة على الناس فتمت سنة إحدى عشرة و سبعمائة و تلقب بالمتوكل و عسكر بظاهر قسنطينة إلى أن بلغه مجاهرة ابن مخلوف بخلافهم فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/471)
الخبر عن استيلاء السلطان على بجاية و مقتل ابن مخلوف و ما كان من الادارة في ذلك
كان يعقوب بن مخلوف و يكني أبا عبد الرحمن كبير صنهاجة من جند السلطان الموطنين بنواحي بجاية و كان له مكان في الدولة و غناء في حروبهم و دفاع عدوهم و لما نزلت عساكر بني مرين على بجاية مع أبي يحيى بن يعقوب بن عبد الحق سنة ثلاث و سبعمائة كان له في حروبهم مقامات مذكورة و آثار معروفة و كان الأمير أبو زكريا و ابنه يستخلفونه ببجاية أزمان سفرهم عنها و كان يلقب بالمزوار و لما هلك خلفه في سبيله تلك ابنه عبد الرحمن و استخلفه السلطان أبو البقاء خالد على بجاية عندما نهض إلى تونس سنة تسع و سبعمائة و أنزله بها و كان طموحا لجوجا مدلا ببأسه و قدمه و مكانه من الدولة فلما دعا السلطان أبو بكر لنفسه و خلع طاعة أخيه وأخذ له أبو عبد الرحمن بن غمر البيعة على الناس و خاطبوه بأخذ البيعة له على من يليه ببجاية و أعمالها فأبى منها و تمسك بدعوة صاحبه و نفس على ابن عمر ما تحصل له من ذلك من الحظ فجاهر بخلافهم
و جمع و احتشد و تقبض على صاحب الأشغال عبد الواحد ابن القاضي أبي العباس الغماري و على صاحب الديوان محمد بن يحيى القالون مصطنع الحاجب ابن غمر من أهل المرية كان أسدى إليه عند إجتيازه به معروفا و رحل إليه عندما استولى على الرتبة ببجاية فكافأة عن معروفه و اصطنعه و ألقى عليه محبته و رقاه إلى الرتب و صرفه في أعمال الجباية و قلده ديوان بجاية فتقبض عبد الرحمن بن مخلوف عليه و على صاحبه و جمع الناس و أعلن بالدعوة للسلطان أبي البقاء خالد
و ارتحل السلطان أبو بكر من معسكر بظاهر قسنطينة و أغذ السير إلى بجاية و نزل مطلا عليها و أمهل الناس عامة يومهم و شرط ابن مخلوف على السلطان عزل ابن غمر و ترددت الرسل بينهم في ذلك و كان الوزير أبو زكريا بن أبي الأعلام من الساعين في هذا الإصلاح بما كان له من الصهر مع ابن مخلوف و حين رجع إليه بامتناع السلطان عن شرطه منعه من الرجوع إليهم و حبسه عنده و زحف أهل المعسكر بالسلطان و خاموا عن لقاء صنهاجة و من معهم من مغراوة أهل الشوكة و العصبية و العدد و القوة
و أجفل السلطان من معسكره فانتهب و أخذت آلته و سلب من كان في المعسكر من أخلاط الناس و دخل السلطان إلى قسنطينة في فل من عسكره و بعث ابن مخلوف عسكرا في اتباعه فوصلوا إلى ميلة فدخلوها عنوة ثم وصلوا إلى قسنطينة فقاتلوها أياما ثم رجعوا إلى بجاية و أقام السلطان و اضطرب أمره و توقع زحف ظافر إليه من باجة و اتصل به أن أبا يحيى زكريا بن أحمد اللحياني قفل من المشرق و أنه لما انتهى إلى طرابلس دعا لنفسه لما وجد أفريقية من الاضطراب فبويع و توافت إليه العرب من كل جهة فرأى السلطان من مذاهب الحزم أن يبعث إليه بالحاجب ابن أبي عبد الرحمن بن غمر ليشيد من سلطانه و يشتغل أهل الحضرة عنه فورى بالفرار عن السلطان و تواطأ معه على المكر بابن مخلوف في ذلك
و لحق ابن عمر باللحياني و استحثه لملك تونس و هون عليه الأمر و غدا السلطان عند فصول ابن غمر على منازله فكبسها وسطا بحاشيته و ولى حجابته حسن بن إبراهيم ابن أبي بكر بن ثابت رئيس أهل الجبل المطل على قسنطينة و الفل من كتامة يعرف قومه ببني نهلان و كان قد اصطنعه من قبل و ارتحل بالعساكر إلى بجاية سنة اثنتي عشرة وسبعمائة و استخلف على قسنطينة عبد الله بن ثابت أخا الحاجب
و أشيع بالجهات أن السلطان تنكر لإبن غمر و سخطه و أنه ذهب إلى ابن اللحياني و استجاشة على الحضرة و بلغ ذلك ابن مخلوف و استيقن اضطراب حال السلطان خالد بتونس فطمع في حجابة السلطان أبي بكر و توثق لنفسه منه بالعهد بمداخلة عثمان بن شبل بن عثمان بن سباع بن يحيى من رجالات الزواودة و الولي يعقوب الملاذي من نواحي قسنطينة
و أغذ السير من بجاية و لقي السلطان بغرجيوه من بلاد سدويكش فلقاه مبرة و رحبا ثم استدعاه من جوف الليل إلى رواقه في سرب من مواليه فعاقرهم الخمر إلى أن ثمل و استغضبوه بعض النزعات فغضب و أقزع فتناولوه طعنا بالخناجر إلى أن قتلوه و جروا شلوه فطرحوه بين الفساطيط و تقبض على سائر قومه و حاشيته و فر كاتبه عبد الله بن هلال فلحق بالمغرب و ارتحل السلطان مغذا إلى بجاية فدخلها و ظفر بها و تملك بها حتى ربا ملكه و علا و كان دخوله إلى بجاية على حين غفلة من أهلها و استولى السلطان على سائر المملكة التي كانت تحت إيالة أبيه بالجهة المعروفة بالناجية الغربية و تكمل و استوثق له أمرها و أقام في انتظار صاحبه ابن غمر إلى أن كان من الأمر ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/472)
الخبر عن مهلك السلطان أبي البقاء خالد و استيلاء السلطان أبي يحيى بن اللحياني على الحضرة
كان السلطان أبو البقاء خالد بعد بيعة السلطان أبي بكر بقسنطينة قد اضطربت أحواله و جهز إليه العساكر لمنازلة قسنطينة و عقد عليها لمولاه ظافر المعروف بالكبير فعسكر ببجاية و أراح ينتظر أمر السلطان و كان أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد ابن اللحياني ابن أبي محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص قد بويع بطرابلس لما قفل من المشرق و رأى اضطراب الأحوال و وفد عليه هنالك الحاجب أبو عبد الرحمن بن عمر بهدية من السلطان أبي بكر و أنه يمده و يظاهره على شأنه فأحكم ذلك من عقدته و شد من أمره و توافت إليه رجالات الكعوب أولاد أبي الليل و معهم شيخ دولته أبو عبد الله محمد بن محمد المزدوري فأغذوا السير إلى الحضرة و بعث السلطان إلى مولاه ظافر بمكانه من باجة مستجيشا به فاعترضوه قبل وصوله و أوقعوا به و اعتقلوا ظافرا و صبحوا تونس ثامن جمادي سنة إحدى عشرة و سبعمائة و وقفوا بساحتها فكانت هيعة بالبلد قتل فيها شيخ الدولة أبو زكريا الحفصي و غدا القاضي أبو اسحق بن عبد الرفيع على السلطان و كان متبوعا صارما قوي الشكيمة فأغراه بمدافعة العدو فخام عن لقائه و اعتذر بالمرض و أشهد بالانخلاع عن الأمر و حل البيعة و دخل أبو عبد الله المزدوري القصر فاستمكن من اعتقاله
ثم جاء السلطان أبو يحيى زكريا بن اللحياني على أثره بلا تأخر رجب فبويع البيعة العامة بظاهرها و دخل إلى البلد و استولى عليها و ولى على حجابته كاتبه أبا زكريا يحيى بن يعقوب و على الأشغال بالحضرة ابن عمه محمد بن يعقوب و بنو يعقوب هؤلاء أهل بيت بشاطبة من بيوت العلم و القضاء و قدموا إلى الحضرة مع الجالية و كان منهم أبو القاسم عبد الرحمن بن يعقوب وفد مع ابن الأمين صاحب طنجة كما قدمناه و تصرف في القضاء بأفريقية و ولاه السلطان المستنصر قضاء الحضرة و سافر عنه إلى ملوك مصر و كان بنو علي هؤلاء عبد الواحد و يحيى و محمد من أقاربه فكان لهم ظهور في دولة السلطان أبي حفص و بعدها و كان عبد الواحد منهم صاحب جباية الجريد و هلك بتوزر سنة اثنتين و سبعمائة و كان السلطان أبو يحيى بن اللحياني قد استكتب أخاه أبا زكريا يحيى أيام رياسته على الموحدين فحظي عنده و اختصه و لازمه و حج معه فلما ولي الخلافة أحظاه و ولاه حجابته و لما استقر بتونس استوثق له الأمر أعاد الحاجب أبا عبد الرحمن بن غمر إلى مرسلة السلطان ابن بكر بعد أن وثق معه العهد إلى أبي يحيى على المعاهدة و ضمن له ابن غمر من ذلك مارضيه و تمسك بابن عمه على ابن غمر فأقام عنده مكرما متسع الجراية و الإسهام إلى أن كان من الأمر ما نذكره إن شاء الله تعالى و الله أعلم (6/475)
الخبر عن قدوم ابن عمر على السلطان ببجاية و نكبة ابن ثابت و ظافر الكبير
لما قدم ابن غمر على بجاية استبد بحجابته و كفالته كما كان و ليوم وصوله فر عبد الله ابن هلال كاتبه ابن مخلوف و لحق بتلمسان و شمر ابن غمر عزائمه للإطلاع بأمره و دفع حسن بن إبراهيم بن ثابت عن الرتبة فلم يتزحزح يوما و خرج لجباية الوطن ثم أغرى به السلطان و حذره من استبداده بقسنطينة لمكان معقلة المجاور لها و سعايات تنضج بها حتى صادفت القبول لمكانه و الوثوق بنصائحه
و خرج السلطان في العساكر من بجاية إلى قسنطينة سنة ثلاث عشرة و سبعمائة للنظر في أحوالها فلما انتهى إلى فرجيوه لقيه عبد الله بن ثابت فتقبض عليه و على أخيه حسن بن الحاجب سنة ثلاث عشرة و سبعمائة بعد أن استصفى أموالهما و يقال إنه بعد خروج حسن بن ثابت إلى عمل قسنطينة بعث في أثره بعض مواليه و أوعز معهم إلى عمل عبد الكريم بن منديل و رجالات سدويكش فقتلوه بوادي القطن و أن السلطان لم يباشر نكبته و كان ظافر الكبير بعد إنهزامه و حصوله في أسر العرب كما قدمناه انعموا عليه و أطلقوه و لحق بالسلطان أبي بكر فآثره و استخلصه كما كان لأخيه و ولاه على قسنطينة عند نكبة ابن ثابت و استكتب أبا القاسم بن عبد العزيز لخلوه من الولايات فأقام ظافرا واليا بقسنطينة ثم استقدمه السلطان إلى بجاية و قد غص ابن غمر بمكانه فأغرى به السلطان فتقبض عليه و أشخصه في السعية إلى الأندلس و الله أعلم (6/476)
الخبر عن منازلة عساكر بني عبد الواد ببجاية و ما كان في أثر ذلك من الأحداث
كان السلطان أبو يحيى بعد إنهزام جنده عن بجاية سنة عشر و سبعمائة بعث سعيد بن بشر بن يخلف عن مواليه إلى أبي حمو موسى بن عثمان بن يغمراسن و كان قد أتيح له في زناتة المغرب الأوسط ظفر و اعتزاز فملك أمصارهم من أيدي بني مرين من بعد مهلك يوسف بن يعقوب على تلمسان و دوخ جهاته و استولى على أعمال مغراوة و توجين و ملك الجزائر و استنزل منها ابن علان الثائر بها و ملك تدلس من يد ابن مخلوف فبعث إليه السلطان في المواصلة و المظافرة و أن تكون يدهما على ابن مخلوف واحدة فطمع لذلك موسى بن عثمان في ملك بجاية ثم بلغه مهلك ابن مخلوف فبعث إليه السلطان في المواصلة و استيلاء السلطان على ثغره فاستمر على المطالبة
و ادعى أن بجاية له في شرطه و قارن ذلك لحاق صنهاجة إليه عند مهلك صاحبهم فرغبوه في ملك بجاية و ضمنوا له أمرها ثم قدم عثمان بن سباع بن يحيى مغاضبا للسلطان بما كان من إساءته عليه في ابن مخلوف و إخفار ذمته و عهده فيه و استقر عنده ابن أبي يحيى بعد منصرفه عن الحجابة و رجوعه من الحج فرغبوه في ذلك و اسحثوه لطلب بجاية فسرح العساكر إليها لنظر محمد ابن عمه و يوسف بن يغمراسن و مسعود ابن عمه أبي عامر إبراهيم و مولاه مسامح و بعث معهما أبا القاسم ابن أبي يحيى الحاجب ففصلوا عنه بدار مقامه بشلف فأغذوا السير و هلك ابن أبي يحيى في طريقه بجبل الزاب و نازلوا البلد ثم جاوزوها إلى الجهات الشرقية فأثخنوا فيها و دخلوا جبل ابن ثابت و استولوا عليه و استباحوه سنة ثلاث عشرة و سبعمائة
و نالت منهم الحامية في المدافعة بالقتل و الجراحات أعظم النيل و قفلوا راجعين فشيدوا حصنا بأصفون و شحنوه بالأقوات و لما و صل محمد بن يوسف و مسامح وبخهما و طوفهما ذنب القصور و العجز و عزلهما و بعث السلطان عسكرا في البر و أسطولا في البحر بعد رجوعه من قسنطينة سنة أربع عشرة و سبعمائة لهدم حصن بني عبد الواد بأصفون فخرب و انتهبت أقواته و عدده و سرح أبو حمو عسكرا آخر لحصار بجاية عقد عليه لمسعود ابن عمه ابن أبي عامر بن إبراهيم بن يغمراسن فنازلوها سنة خمس عشرة و سبعمائة و اتصل بهم خروج محمد بن يوسف بن يغمراسن بني توجين معه على أبي حمو و أنهم أوقعوا به و هزموه و استولوا على معسكره فأجفل مسعود بن أبي عامر و عسكره و أفرجوا عن بجاية و وصل على أثرها خطاب محمد بن يوسف بالطاعة و الانحياش فبعث السلطان إليه صنيعته محمد ابن الحاج فضل بالهدية و الآلة و وعده بالمظاهر و تسويغ السهام التي كانت ليغمراسن بأفريقية و شغل ابن عبد الواد عن بجاية و خرج السلطان في عساكره للإشراف على وطنه إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/477)
الخبر عن استبداد ابن غمر ببجاية
لم يزل ابن غمر مستبدا على السلطان في حجابته يرى أن زمامه بيده و أمره متوقف على إنفاذه و صار يغريه ببطانته فيقتلهم و يغرمهم و ربما كان السلطان يأنف من استبداده عليه و داخله بعض أهل قسنطينة سنة ثلاث عشرة و تسعمائة في اغتياله ابن غمر فهموا بذلك و لم يتم ففطن لها ابن غمر فأوقع بهم و قسمهم بين النكال و العذاب فرقا ثم رجع السلطان إلى بجاية سنة ثلاث عشرة و سبعمائة لما أهمهم من حصاره اتصلت حاله معه على ذلك النحو من الاستبداد إلى أن بلغ السلطان أشده و أرهف حده وسطا محمد بن فضل فقتلهم في خلوة معاقرته من غير مؤامرة الحاجب و باكر ابن غمر مقعدة بباب دار السلطان فوجد شلوه ملقى في الطريق مضرجا في ثيابه و أخبر أن السلطان سطا به فداخله الريب من استبداد السلطان و إرهاف حده و خشي بوادره و توقع سعاية البطانة و أهل الخلوة فتحيل في بعده عنه و استبداده بالثغر دونه فأغراه بطلب أفريقية من يد ابن اللحياني و جهزه بما يصلح من الآلة و الفساطيط و العساكر و الخدام و رتب له المراتب و ارتحل السلطان إلى قسنطينة سنة خمس عشرة و سبعمائة ثم تقدم غازيا إلى بلاد هوارة و أجفل عنها ظافرا بهم و كان قائدها من مواليهم فاستوفى جباية هوارة و قفل إلى قسنطينة سنة ست عشرة و سبعمائة و استبد ابن غمر ببجاية و مدافعة العدو من زناتة عنها
و استخلف على حجابة السلطان محمد بن قالون و قرت عينه بما كان يؤمل من استبداده إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/478)
الخبر عن سفر السلطان أبي يحيى اللحياني إلى قابس و تجافيه عن الخلافة
كان هذا السلطان أبو يحيى اللحياني قد طعن في السن و كان بصيرا بالسياسة مجربا للأمور و كان يرى من نفسه العجز عن حمل الخلافة و استحقاقها مع أبناء الأمير أبي زكريا الأكبر و علم مع ذلك استفحال صاحب الثغور الغربية الأمير أبي بكر و استغلاظ أمره بمن انتظم في ملكه و ارتسم في ديوان جنده من أعياص زناتة و فحول شولهم من توجين و مغراوة و بني عبد الواد و بني مرين
كانوا يفزعون إليه مع الأيام عن ملوكهم خشية على أنفسهم و لما قاسموهم في النسب و ساهموهم في يعسوبية القبيل و فحولية الشول و منهم من غلبوا على مواطنهم فملكوها عليهم مثل مغراوة و بني نوجين و ملكيش فاستكشف بذلك جند السلطان و كثرت جموعه و هابه الملوك
و نهض سنة ست عشرة و سبعمائة إلى أفريقية وجال في بلاد هوارة و أخذ جبايتها كما ذكرنا فتوقع السلطان ابن اللحياني زحفه إليه بتونس و كانت أفريقية مضطربة عليه و كان تعويله في الحامية و المدافعة على أوليائه من العرب تولى منهم حمزة بن علي بن عمر بن أبي الليل فحكمه في أمره و أشركه في سلطانه و أفرده برياسة العرب و أجره الرسن و سرب إليه الأموال و كثر بذلك زبون العرب و اختلافهم عليه فاجتمع على التقويض عن أفريقية و نفض اليد من الخلافة فجمع الأموال و الذخيرة و باع ما كان بمودعاتهم من الآنية و الفرش و الخرثي و الماعون و المتاع حتى الكتب التي كان الأمير أبو زكريا الأكبر جمعها و استجاد أصولها و دواوينها أخرجت للوارقين فبيعت بدكاكين سوقهم فجمع من ذلك زعموا قناطير من الذهب تجاوز العشرين قنطارا و جوالقين من حصى الدر و الياقوت و خرج من تونس إلى قابس موريا بمشارفة عملها فاتح سنة سبع عشرة و سبعمائة بعد أن رتب الحامية بالحضرة و باجة و الحمامات و استخلف بالحضرة أبا الحسن بن وانودين و انتهى إلى قابس فأقام بها و صرف القمال في جهاتها إلى أن كان من بيعة ولده بتونس كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى (6/479)
الخبر عن نهوض السلطان أبي بكر إلى الحضرة و رجوعه إلى قسنطينة
لما رجع السلطان من هوارة إلى قسنطينة سنة ست عشرة و سبعمائة كما قدمناه استبلغ في جهاد حركة أخرى إلى تونس فاحتشد و قسم العطاء و أزاح العلل و اعترض الجنود على طبقاتهم من زناتة و العرب و سدويكش و استخلف على قسنطينة الحاجب محمد بن القالون و بعث إلى حاجبه الأعظم أبي عبد الرحمن بن عمر بمكانه من إمارة بجاية في مدد المال للنفقات و الأعطيات فبعث إليه المنصور بن فضل بن مزني عامل الزاب و كان ابن عمر لما رأى من كفايته و أنه جماعة للمال استضاف له عمل جبل أوراس و الحصنة و سدويكش و عياض و سائر أعمال الضاحية فكانت أعمال الجباية كلها لنظره و أموالها في حساب دخله و خرجه فبعثه ابن عمر ليقيم إنفاق السلطان و استخلفه على خطة حجابته و ارتحل السلطان من قسنطينة في جمادي سنة سبع عشرة و سبعمائة يطوي المراحل و لقيه في طريقه وفود العرب و انتهى إلى باجة مستغيثا حاميتها إلى تونس
و كان السلطان أبو يحيى اللحياني قد خرج عنها إلى قابس كما قدمناه و استخلف عليها أبا الحسن بن وانودين و بعث إليه بنهوض السلطان أبي بكر إلى تونس و أنه محتاج إلى المدافعة فاعتذر لهم اللحياني بما قبله من الأموال و أطلق يدهم في الجيش و المال فأركبوا و استحلقوا و رتبوا الديوان و أخرجوا ابنه محمدا و يكنى أبا ضربة فأطلقوه من اعتقاله
و لقيهم الخبر بإشراف السلطان أبي بكر على باجة فخرجوا جميعا من تونس و خالفهم إلى السلطان مولاهم ابن عمر بن أبي الليل كان مضطغنا على الدولة متربصا بها لما كان اللحياني يؤثر عليه أخاه حمزة فلقي السلطان في دوين باجة فأعطاه صفقته و استحثه و وصل إلى تونس فنزل روض السنافرة من رياض السلطان في شعبان من سنة سبع عشرة و سبعمائة و خرج إليه الملأ و ترددوا في البيعة بعض الشيء انتظارا لشأن أبي ضربة و أصحابه و كان من خبرهم أن السلطان لما أغذ السير من باجة بادر حمزة بن عمر إلى بطانة اللحياني و أوليائه بتونس فلقيهم و قد خرجوا عنها فأشار عليهم ببيعة أبي ضربة ابن السلطان اللحياني و مزاحفة القوم به فبايعوه و زحفوا إلى لقاء السلطان
و دس حمزة إلى أخيه مولاهم أن يزحف بالمعسكر فأجفل السلطان عن مقامته بروض السنافرة لسبعة أيام من احتلاله قبل أن يستكمل البيعة و ارتحل إلى قسنطينة و رجع عنه مولاهم من تخوم وطنه و سرح منصور بن مزني إلى ابن عمر بباجة و دخل أبو ضربة بن اللحياني و الموحدون إلى تونس منتصف شعبان من سنته و بويع بالحضرة البيعة العامة و تلقب المستنصر و أراد أهل تونس على إدارة سور بالأرباض فيكون سياجا عليها فأجابوه إلى ذلك و شرع فيه و أوهنه العرب في مطالبهم و اشتطوا عليه في شروطهم إلى أن عاود مولانا السلطان حركته كما نذكر إن شاء الله تعالى (6/480)
الخبر عن استيلاء السلطان أبي بكر على الحضرة و إيقاعه بأبي ضربة و فرار أبيه من طرابلس إلى المشرق
لما قفل السلطان من تونس إلى قسنطينة بعث قائد محمد بن سيد الناس بين يديه إلى بجاية فإرتاب لذلك ابن عمر بوصول أمره و تنكر له و شعر السلطان بذلك و أغضى له و طالبه في المدد فاحتفل في الحشد و الآلة و الأبنية و بعث إليه سبعة من رجال الدولة بسبعة عساكر و هم : محمد بن سيد الناس و محمد بن الحكم و ظافر السنان و أخوه من موالي الأمير أبي زكريا الأوسط و محمد المديوني و محمد المجرسي و محمد البطوي و بعث له من فحول زناتة و عظمائهم عبد الحق بن عثمان من أعباص بني مرين كان ارتحل إليه من الأندلس كما نذكر في خبره و أبا رشيد بن محمد بن يوسف من أعياص بني عبد الواد فيمن كان معهم من قومهم و حاشيتهم
توافوا بعساكرهم عند السلطان بقسطينة فاعتزم على معاودة الزحف إلى تونس و كان قد اختبر أحوال أفريقية و أحسن في ارتيادها فخرج في صفر من سنة ثماني عشرة و سبعمائة و استعمل على حجابته أبا عبد الله بن القالون و يرادفه أبو الحسن بن عمر و وافاه بالأندلس وفد هوارة و كبيرهم سليمان بن جامع و أخبروه بأن ضربة بن اللحياني انتقل من باجة بعد أن نازلها معتزما على اللقاء فارتحل مولانا السلطان مغذا و لقيه مولاهم بن عمر فراجع الطاعة و ارتحلوا في أتباع أبي ضربة و جموعه حتى شارفوا على القيروان فخرج إليه عاملها و مشيختها فألقوا إليه باليد و أعطوا الطاعة
و ارتحل السلطان راجعا عن اتباع عدوه إلى الحضرة و قد نزل بها أبو ضربة بن اللحياني من بطانة محمد بن الغلاق ليمانع دونها أخرج الرماة إلى ساحتها و قفل العساكر ساعة من النهار ثم اقتحموها عليه و استبيح عامة أرباضها و قتل ابن الغلاق و دخل السلطان إلى الحضرة في ربيع من سنته فأقام خلالا انعقدت بين العامة و قدم على الشرطة ميمون بن أبي زيد و استخلفه على البلد و رحل في أتباع أبي ضربة بن اللحياني و جموعه فأوقع بهم بمصبوح من جهات بلاد هوارة
و قتل من مشيخة الموحدين أبو عبد الله بن الشهيد من أهل البيت الحفصي و أبو عبد الله بن ياسين و من طبقات الكتاب أبو الفضل البجائي و تقبض على شيخ الدولة أبي محمد عبد الله بن يغمور و قيد إلى السلطان فعفا عنه و قومه ليومه ثم أعاده إلى خطته بعد ذلك و رجع السلطان إلى تونس من سنته و كان السلطان أبو عيسى بن اللحياني لما بلغه الخبر بنهوض السلطان إلى تونس حركته الثانية سنة سبع عشرة و سبعمائة وما كان من بيعة الموحدين و العرب لابنه أبي ضربة و ارتحل من مقامه بقابس إلى نواحي طرابلس ثم بلغه رجوع السلطان إلى قسنطينة فأوطن طرابلس فبنى مقعدا لملكه بسور البلد مما يلي البحر سماه الطارمة و بعث العمال في الجهات لجباية الأموال وبعث على جبال طرابلس أبا عبد الله بن يعقوب قريب حاجبه و معه هجرس بن مرغم كبير الجواري من ذئاب فدوخ البلاد و فتح المعاقل و جبى الأموال و انتهى إلى برقة و استخدم آل سالم و آل سليمان من عرب ذئاب و رجع إلى سلطانه بطرابلس و وافاه الجند بانهزام أبي ضربة ابنه فبعث حاجبه أبا زكريا بن يعقوب و وزيره أبا عبد الله بن ياسين بالأموال لاحتشاد العرب ففرقوها في علاق و ذئاب و زحف أبو ضربة إلى القيروان و بلغ خبره إلى السلطان أبي بكر فخرج من تونس آخر شعبان من سنة ثمان عشرة و سبعمائة فأجفلوا عن القيروان ثم تذامروا و عقلوا رواحلهم مستميتين بزعمهم حتى أطلت عليهم العساكر بمكان فج النعام فانقضت جموعهم و شردت رواحلهم و ارتحلوا منهزمين و القتل و النهب يأخذ منهم مأخذه و لجأ أبو ضربة في فله إلى المهدية و كانوا مقيمين على دعوة أبيه فامتنع منها إلى أن كان من شأنه ما نذكره
و بلغ خبره إلى أبيه بمكانه من طرابلس فاضطرب معسكره و بعث إلى النصارى في أسطول يحمله إلى الإسكندرية فوافوه بستة أساطيل فاحتمل أهله و ولده و ركب البحر و معه حاجبه أبو زكريا بن يعقوب إلى الإسكندرية و استخلف على طرابلس أبا عبد الله بن أبي عمران من ذوي قرابته و صهره فلم يزل بها إلى أن استدعاه الكعوب و نصبوه للأمر و أجلبوا به على السلطان مرارا كما نذكره بعد و ركب السلطان أبو يحيى بن اللحياني البحر إلى الإسكندرية فنزل بها على السلطان محمد بن قلاون من ملوك الترك بمصر و الشام و استقدمه إلى مصر فعظم من مقدمه و اهتز للقائه و نوه من مجلسه و أسنى من جرايته و أقطاعه إلى أن هلك سنة ثمان و عشرين و سبعمائة و رجع السلطان أبو بكر إلى تونس بعد الواقعة على أبي ضربة و قومه بفج النعام فدخلها في شوال من سنته و استقامت أفريقية على طاعته و انتظمت أمصارها و ثغورها في دعوته إلى المهدية و طرابلس كما ذكرناه إلى أن كان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى (6/482)
الخبر عن مهلك الحاجب ابن عمر ببجاية و ولاية الحاجب محمد بن القالون عليها ثم الادالة منه بابن سيد الناس
كان الحاجب بن عمر لما استبد بجاية سنة خمس عشرة و سبعمائة انتقل السلطان إلى قسنطينة و لم يراجعها بعد ثم لما رجع من تونس ثانية حركته سنة سبع عشرة و سبعمائة صرف إليه منصور بن فضل و بعث في أثره قائده أبا عبد الله محمد ابن حاجب أبيه محمد بن سيد الناس يهيىء له قصوره ببجاية للتحول إليها فرده ابن عمر و تنكر له و طالبه السلطان في المدد فبادر به فأقطعه جانب الرضا و عقد له على بجاية و قسنطينة كما ذكرنا ذلك كله قبل فاستبد ابن عمر بالثغر و ما إليه من الأعمال مقتصرا على ذكر السلطان في الخطبة و اسمه في السكة و أقام على ذلك إلى أن ملك السلطان تونس و استولى على جهاتها و بعث إليه بان عمه علي بن محمد بن عمر فعقد له أبو عبد الرحمن الحاجب على قسنطينة فمضى إليها و هو في خلال ذلك كله يدافع عساكر زناتة عن بجاية
و قد كان أبو حمو صاحب تلمسان بعد ظهوره على محمد بن يوسف و استرجاعه بلاد مغراوة و توجين من يده كما قدمناه يسرب لحصارها و ابتنى بالوادي على مرحلتين منها قلعة بكر يجهز بها الكتائب لحصارها ثم هلك أبو حمود و ولي ابنه أبو تاشفين من بعده سنة ثمان عشرة و سبعمائة فتنفس مخنق الحصار عن بجاية ريثما كانت حركة السلطان إلى تونس و فتحها ثم خرج أبو تاشفين من تلمسان لتمهيد أعماله و قتل محمد بن يوسف بمعقله من جبل وانشريس كما نذكره في أخبارهم فارتحل من هنالك غازيا إلى بجاية فاطل عليه في سنة تسع عشر و سبعمائة و بدا له من حصنها و كثرة مقاتلتها و امتناعها ما لم يحتسب فانكفأ راجعا إلى تلمسان و أصاب ابن عمر المرض فبعث عن علي ابن عمه بمكان عمله بقسنطينة و عهد إليه بأمره و القيام بولاية بجاية إلى أن يصل أمر السلطان
و هلك لأيام على فراشه في شوال من سنة تسع عشرة و سبعمائة و قام علي بن عمر بأمر بجاية و اتصل الخبر بالسلطان فأهمه شأن الثغر و طير ابن سيد الناس إليه مع قهرمانة داره لتحصيل تراثه و البحث عن ذخيرته فاستوفى من ذلك فوق الكثرة من الصامت و الذخيرة و قدم معه علي بن غمر فأولاه السلطان من رضاه ما أحتسب أمله و أقام بالحضرة إلى أن كان منه خلاف مع ابن أبي عمران ثم راجع الطاعة و قد أحفظ السلطان بولاية عدوه فلما عاد إلى تونس أوعز إلى مولاه نجاح هلال بقتله فاغتالوه خارجا من بستانه فأشووه و هلك من جراحته و الله أعلم (6/484)
الخبر عن إمارة الأمير أبي عبد الله على قسنطينة و أخيه الأمير أبي زكريا على بجاية و تولية ابن القالون على حجابتها
لما هلك ابن عمر أهم السلطان شأن بجاية لما كانت عليه من حال الحصار و مطالبة بني عبد الواد لها فرأى أي يكشف الحامية بالثغور الغربية و ينزل بها أبناءه للمدافعة والحماية و عقد على قسنطينة لابنه الأمير أبي عبد الله و عقد على بجاية لابنه الآخر الأمير أبي زكريا و جعل حجابتها لأبي عبد الله بن القالون مستبدا عليها لمكان صغرهما و أكثف له الجند و أمره بالمقام ببجاية للممانعة من العد و الملح على حصارها و ارتحلوا من تونس فاتح سنة عشرين و سبعمائة في احتفال من العسكر و الأصحاب و الأبهة و أبقى خطة الحجابة خلوا ممن يقوم بها و أبقى على ابن القالون و بقي للتصرف في الأمور من رجالات السلطان أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الكردي الملقب بالمزوار و كان مقدما على بطانة السلطان المعروف بالدخلة و على الأشغال الكاتب أبو القاسم بن عبد العزيز و سنذكر أوليتهما بعد و انصرف إلى بجاية رافلا في حلل العز و التنويه إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى و الله أعلم (6/485)
الخبر عن استقدام ابن القالون و الادالة منه بابن سيد الناس في بجاية و بظافر الكبير في قسنطينة
لما انصرف أبو عبد الله بن يحيى بن قالون إلى بجاية و خلا وجه السلطان فيه لبطانته عند ولايته ببجاية بثوا فيه السعايات و نصبوا الغوائل و تولى كبر ذلك المزوار بن عبد العزيز بمداخلة أبي القاسم بن عبد العزيز صاحب الأشغال و عظمت السعاية فيه عند السلطان حتى داخلته فيه الظنة و عقد لمحمد بن سيد الناس على بجاية و قام بأمر حصارها و حجابة أميرها إلى أن استقدم للحجابة و كان من أمره ما نذكره و مر ابن قالون بقسطينة في طريقه إلى الحضرة فحدثته نفسه بالامتناع بها و داخل مشيختها في ذلك فأبوا عليه فأشخصهم إلى الحضرة نكالا بهم و نمي الخبر بذلك إلى السلطان فأسرها لابن القالون و عزم على استضافة الحجابة بقسنطينة لابن سيد الناس فأستعفى مشيختها من ذلك وأروه أن ابن الأمين قريبه و ابن أخيه و ذكروه ثروة أبيه فأقصر عن ذلك و صرف اعتزامه إلى مولاه ظافر الكبير و ذلك عند قدومه من المغرب و كان من خبره انه كان من موالي الأمير أبي زكريا و كان له في دولة ابنه السلطان أبي البقاء ظهور و زحف هو بالعساكر عندما استراب السلطان أبو البقاء بأخيه السلطان أبي بكر فأقام بباجة و جاء المزدوري و العرب إلى تونس في مقدمة ابن اللحياني فزحف إليهم ففضوه و تقبضوا عليه كما ذكرنا ذلك كله ثم لحق بعدها بمولانا السلطان أبي يحيى و أعاده إلى مكانه من الدولة و ولاه قسنطينة عند مهلك ابن ثابت سنة ثلاث عشرة و سبعمائة
ثم غص به ابن عمر و أغرى به السلطان فأشخصه في السفين إلى الأندلس و جاز إلى المغرب و نزل على السلطان أبي سعيد إلى أن بلغه الخبر بمهلك ابن عمر فكر راجعا إلى تونس و لقاه السلطان مبرة و تكريما و وافق ذلك وصول الحاجب ابن قالون من بجاية فعقد السلطان لظافر هذا على حجابة ابنه بقسنطينة الأمير أبي عبد الله فقدمها و قام بأمرها و استعمل ذويه و حاشيته في وجوه خدمتها و صرف من كان هنالك من الخدام أهل الحضرة إلى بلدهم و كان بها أبو العباس بن ياسين متصرفا بين يدي الأمير أبي عيد الله و الكاتب أبو زكريا بن الدباغ على أشغال الجباية و كانا قدما من الحضرة في ركاب الأمير أبي عبد الله فصرفهما القائد ظافر لحين وصوله و استقل بأمره إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/486)
الخبر عن ظهور ابن أبي عمران و فرار ابن قالون إليه على عينه
كان محمد بن أبي عمران هذا من أعقاب أبي عمران موسى بن ابراهيم ابن الشيخ أبي حفص و هو الذي ولي أفريقية نائبا عن أبي محمد عبد الله ابن عمه الشيخ أبي محمد عبد الواحد كتب له بها من مراكش لأول ولايته فأقام واليا عليها ثمانية أشهر إلى أن قدم آخر سنة ثلاث و عشرين و ستمائة و أقام أبو عمران هذا في جملتهم إلى أن هلك و نشأ بنوه في ظل دولتهم إلى أن كان من عقبه أبو بكر والد محمد هذا فكان له صيت و ذكر و كان السلطان أبو يحيى زكريا بن اللحياني قد رعى له ذمة قرابته و وصله بصهر عقده لابنه محمد على ابنته و استخلفه على تونس عند خروجه عنها
ثم استخلفه على طرابلس عند ركوبه السفينة إلى الإسكندرية و كان أبو ضربة بعد انهزامه و افتراق جموعه اعتصم بالمهدية و نازله بها السلطان أبو بكر فامتنعت عليه و أقلع عنها على سلم عقده لأبي ضربة و أقام حمزة بن عمر في سبيل خلافه على السلطان يتقلب في نواحي أفريقية حتى عظم زنوبه على السلطان و نزع إليه الكثير من الأعراب و كثرت جموعه فاستقدم محمد بن أبي عمران من مكان ولايته لثغر طرابلس
و زحف إلى تونس معارضا للسلطان قبل اجتماع عساكره و كمال تعبيته فخرج السلطان أبو بكر عن تونس في رمضان من سنة إحدى و عشرين و سبعمائة و لحق بقسنطينة و صحبه إليها مولاهم ابن عمر و كان الحاجب محمد بن يحيى بن القالون قد غصته البطانة و الحاشية بالمعاية فيه عند السلطان و تبين له انحرافه عنه و كان معن ابن مطاع الفزاري وزير حمزة بن عمرو صاحب شواره صديقا لابن القالون و مخالصا فداخله في الاجلاب بابن أبي عمران فلما خرج السلطان أمام زحفهم تخلف ابن القالون بتونس و ركب من الغد في البلد مناديا بدعوة ابن أبي عمران و دخل محمد بن أبي عمران ثانية خروج السلطان و استولى على الحضرة و أقام بها بقية سنته و صدرا من أخرى ولحق السلطان بقسنطينة فجمع عساكره و احتشد جموعه و أزاح العلل و استكمل التعبية و زحف منها في صفر سنة اثنتين و عشرين و سبعمائة و خرج ابن أبي عمران للقائه مع حمزة بن عمر في جموع العرب و لقيهم السلطان أولى و ثانية بالرجلة و أوقع بهم و قتل شيخ الموحدين أبا عبد الله بن أبي بكر و كان على مقدمتهم محمد بن أبي منصور بن مزني و غيره اثخنت العساكر فيهم قتلا و أسرا و كان للسلطان فيها ظهور لا كفاء له ثم تقبض على مولاهم ابن عمر فكان من خبره ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/487)
الخبر عن مقتل مولاهم بن عمر و أصحابه من الكعوب
لما أتيح للسلطان من الظهور على ابن أبي عمران و أتباعه و الظفر بهم ما أتيح و صنع لهم فيه رغم أنف مولاهم ابن عمر و ظهرت مع أصحابه كلمات أنبات بفاسد دخلتهم ثم نمي للسلطان أن مولاهم داخل في الفتك به ابنه منصور و ربيبه جعدان و معدان ابني عبد الله بن أحمد بن كعب و سليمان بن جامع من شيوخ هوارة و شى بذلك عنهم ابن عمهم عون ابن عبد الله بن أحمد بعد أن داخلوه فيها فتنصح بها للسلطان فلما عدوا على السلطان تقبض عليهم و بعثهم إلى تونس فاعتقلوا بها و رجع هو إلى الحضرة فدخلها في جمادي من سنته و جدد البيعة على الناس وزحفت العرب في اتباعه حتى نزلوا بظاهر البلد و شرطوا عليه إطلاق مولاهم و أصحابه فأنفذ السلطان قتلهم بمحبسهم و بعث بأشلائهم إلى حمزة فعظم عنده موقع هذا الحزن و صرخ في قومه و تآمروا أن يثأروا بصاحبهم
و أغذ السير إلى الحضرة و ابن أبي عمران معهم على حين افتراق وازاحة السلطان و ظنوا أنهم ينتهزون الفرصة و خرج السلطان عن تونس لأربعين يوما من دخوله و لحق بقسنطينة و دخل ابن أبي عمران إلى تونس فأقام بها ستة أشهر خلال ما احتشد السلطان جموعه و استكمل تعبيته و نهض من قسنطينة و زحف إليه ابن أبي عمران و هزمه ابن عمر في جموعه فأوقع السلطان بهم و أثخن فيهم و شردهم في النواحي و عاد إلى تونس فدخلها في صفر سنة ثلاث و عشرين و سبعمائة و مضى حمزة لوجهه إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/488)
الخبر عن واقعة رغيس مع ابن اللحياني و زناتة و واقعة الشقة مع ابن أبي عمران
لما انهزم حمزة بن عمرو ابن أبي عمران عن تونس مرة بعد أخرى و رأى حمزة إبن أبي عمران غير مغن عنه فصرفه إلى مكان عمله بطرابلس و بعث إلى أبي ضرية ابن السلطان اللحياني بمكانه من المهدية فداخله في الصريخ بزناتة و الوفود على سلطان بني عبد الواد فرحل معه أبو ضربة و وفدوا على أبي تاشفين صاحب تلمسان و رغبوه في الظفر ببجاية و أن يشغل صاحب تونس عن مددها بترديد البعوث و تجهيز العساكر إليه فسرح معهم السلطان آلافا من العسكر و عقد عليها لموسى بن علي الكردي صاحب الثغر بتيمز زدكت وكثير من الحاشية و الرجالات و ارتحلوا من تلمسان يغذون السير و بلغ السلطان خبر فصولهم بتلمسان فبرز للقائهم من تونس في عساكره حتى انتهى إلى رغيس بين بونة و قسنطينة
و لما أطلت عساكر زناتة و العرب اختل مصاف السلطان و انهزمت المجنبات و ثبت في القلب و صدق العزيمة و اللقاء فاختل مصافهم و انهزموا في شعبان سنة ثلاث و عشرين و سبعمائة و امتلأت أيدي العساكر من أسلابهم و السبايا من نساء زناتة و من عليهن السلطان و أطلقهن و رجع أبو ضربة و موسى بن علي الكردي في فلهم إلى تلمسان و عاد السلطان إلى حضرته لأيام من هزيمتهم و لقيه الخبر في طريقه باجتماع العرب بنواحي القيروان فتخطى الحضرة إليهم و لقيهم بالشقة و أوقع بهم و رجع إلى تونس في شوال من سنة أربع و عشرين فاتبعه حمزة و من معه إلى تونس عندما افترقت العساكر و معه إبراهيم بن الشهيد الحفصي
و سبق إليه بخبرهم عامر أبو علي ابن كثير و سحيم بن فخرج للقائهم من يومه في خف من الجنود بعد أن بعث عن عسكر باجة و قائدها عبد الله العاقل مولاه فصبحه العرب بنواحي شاذلة فقاتلوه صدرها و حمى الوطيس و وصل عبد الله العاقل و الناس متوافقون و اشتدت الحر ثم كانت الهزيمة على العرب و استبيحت حرماتهم و افترقت جموعهم ورجع السلطان إلى البلد و استقر بالحضرة و الله تعالى أعلم (6/489)
الخبر عن إجلاب حمزة بإبراهيم بن الشهيد و تغلبه على الحضرة
لما انهزم أبو ضربة بن اللحياني و حمزة بن عمر و عساكر بني عبد الواد لحق أبو ضربة بتلمسان فهلك بها و لقي حمزة بعده من الحروب مع السلطان ما لقي و يئس الكعوب من غلابه و تذامر و الفتنة و الإجلاب عليه فوفد حمزة بن عمر على ابن تاشفين صريحا و معه طالب بن مهلهل قرنه في قومه و محمد بن مسكين شيخ بني حكيم من أولاد القوس و كلهم من سليم و معهم الحاجب ابن القالون فاستحثوا عساكره لصريخهم فكتب لهم السلطان كتيبة عقد عليها لموسى بن علي الكردي و أعاده معهم و نصب لهم لملك تونس من أعياص أبي حفص إبراهيم بن الشهيد منهم و أبوه الشهيد هو أبو بكر بن أبي الخطاب عبد الرحمن الذي نصب للأمر عند مهلك السلطان أبي عصيدة و قتله السلطان أبو البقاء خالد كما ذكرناه و كان أبوهم هذا قد لحق بالعرب و نصبوه للأمر و أجلبوا به على تونس أثر واقعة رغيس و برزت إليهم العساكر فانهزموا كما ذكرناه ولحق بتلمسان و جاء هذا الوفد على أثره فنصبه السلطان أبو تاشفين لهم و استعمل على حجابته محمد بن يحيى بن القالون و بعث معهم العساكر لنظر موسى بن علي الكردي و زحفوا إلى أفريقية و خرج السلطان أبو بكر من تونس لمدافعتهم في ذي القعدة من سنة أربع و عشرين و سبعمائة و انتهى إلى قسنطينة و عاجلوه قبل استكمال التعبية فنزل بساحتها و أقام موسى بن علي على منازلتها بعساكر بني عبد الواد و تقدم ابراهيم بن الشهيد و حمزة بن عمر إلى تونس فدخلها في رجب سنة خمس و عشرين و سبعمائة و استمكن منها و عقد على باجة لمحمد بن داود من مشيخة الموحدين و ثار عليه في بعض ليالي رمضان بعض بطانة السلطان كانوا بالبلد في غيابات الاختفاء و كان منهم يوسف بن عامر بن عثمان و هو ابن أخي عبد الحق بن عثمان من أعياص بني مرين و فيهم القائد بلاط من وجوه الترك المرتزقة بالحضرة و ابن حسان نقيب الشرفاء فاعتدوا و اجتمعوا من جوف الليل و هتفوا بدعوة السلطان و طافوا بالقصبة فامتنعت عليهم فعمدوا إلى دار كشلي من الترك المرتزقة و كان بطانة لابن القالون فقاتلوها و امتنعت عليهم ثم أعجلهم الصباح عن مرامهم و تتبعوا بالقتل و فرغ من شأنهم و كان موسى بن علي و من معه من العساكر لما تخلف عن ابن الشهيد لحصار قسنطينة أقام عليها أياما ثم أقلع عنها لخمس عشرة ليلة من منازلته و رجع إلى صاحبه بتلمسان و خرج السلطان من قسنطينة فاستكمل الحشد و التعبية و نهض إلى تونس فأجفل منها ابن الشهيد و ابن القالون و دخلها السلطان في شوال سنة خمس و عشرين و سبعمائة و استولى على دار ملكه و أقام بها إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/490)
الخبر عن حصار بجاية و بناء تيمرزدكت و انهزام عساكر السلطان عنها
كان أبو تاشفين منذ خلاله الجو و تمكن في الأمر من القوم يلح على بجاية بترديد البعوث و مطاولة الحصار و السلطان أبو بكر دفع لحمايتها و الممانعة دونها من رجالات دولته و عظماء وزرائه الأول فالأول من أهل الكفاية و الاضطلاع بما يدفع إليه من ذلك و سرب إليهم المدد من الأموال و الأسلحة و الجنود و تعهد إليهم بالصبر و الثبات في المواطن و نظراؤه من وراء ذلك و كان أبو تاشفين كلما أحس من السلطان أبي بكر بنهوضه إلى المدافعة عنها أو عزم على غزو كتائبه المجمرة عليها رماه بشاغل يوهن من عزمه و يسكن عنان بطشه و كان فتنة ابن عمر من أدهى الشواغل في ذلك بما كان يجنب العرب عن الطاعة و يجمع الأعراب للإجلاب على الحضرة و ينصب الأعياص يطمعهم فيما ليس لهم من نيل الخلافة و كان ذلك ديدنا متصلا أزمان تلك المدة
و لما سرح أبو تاشفين العساكر سنة خمس و عشرين و سبعمائة إلى إبراهيم بن الشهيد و حمزة بن عمر و أوليائهم من أهل أفريقية و عقد عليها لموسى بن علي من رجالاته فنازل قسنطينة ثم أقلع عنها و عاود حصارها سنة ثمان وعشرين و سبعمائة و شن الغارة في نواحيها و اكتسح الأموال و رجع إلى وادي بجاية فاختط مدينة بثيكلات على مرحلة منها و على قارعة الطريق الشارع من الغرب إلى الشرق بما كانت بجاية زائغة عنه إلى البحر فاختطوا تلك المدينة و شيدوها و جمعوا الأيدي عليها و قسموها مسافات على جيوشهم فاستتمت لأربعين يوما سموها تيمرزدكت باسم حصنهم الأقدم بالجبل قبالة وجدة حيث امتنع يغمراسن على السعيد و نازله و هلك عليه كما ذكرناه في أخباره و شحنوا هذه المدينة بالأقوات و العدد و عمروها بالمقاتلة من الرجل و الفرسان و القبائل وأخذت بمخنق البلد
و قلق السلطان بمكانها فأوعز إلى قواد عساكره و أصحاب عمالاته من مواليه و صنائعه أن يفروا بعساكرهم إلى صاحب الثغر محمد بن سيد الناس و يزحفوا معه إلى هذا البلد المخروب و يستميتوا دون تخريبه فنهض ظافر الكبير من قسنطينة و عبد الله العاقل من هوارة و ظافر السنان من بونة و توافر ببجاية سنة سبع و عشرين و سبعمائة و بلغ موسى بن علي خبرهم فاستنفر من عساكر بني الواد و خرجت العساكر جميعا من بجاية تحت لواء ابن سيد الناس و زحف إلى العدو بمحلهم من تيكلات فكانت الدبرة عليه و على أصحابه و قتل ظافر الكبير و رجع فلهم إلى بجاية و داخلت ابن سيد الناس فيهم الظنة كما تداخل موسى بن علي ابن زبون كل واحد منهما بصاحبه على سلطانه فمنعهم من دخول البلد ليلتئذ و أسحروا قافلين إلى أعمالهم و عقد السلطان على قسنطينة لأبي القاسم بن عبد العزيز أياما ثم استقدمه إلى الحضرة ليستعين به محمد بن عبد العزيز المزوار في خطة حجابته بما كان غفلا من الأدوات التي تحتاج إليها الحجابة و عقد على حجابة الأمير أبي عبد الله بقسنطينة لمولاه ظافر السنان إلى أن كان من تحول شأنه ما نذكره (6/491)
الخبر عن مهلك الحاجب المزوار و ولاية ابن سيد الناس مكانه و مقتل ابن القالون
هذا الرجل محمد بن القالون المعروف بالمزوار لا أدري من أوليته أكثر من أنه كردي من الأكراد الذين وفد رؤسائهم على ملوك المغرب أيام أجلاهم التتر عن أوطانهم بشهر زور عند تغلبهم على بغداد سنة ست و خمسين و ستمائة فمنهم من أقام بتونس و منهم من تقدم إلى المغرب فنزلوا على المرتضى بمراكش فأحسن جوارهم و صار قوم منهم إلى بني مرين و آخرون إلى بني عبد الواد حسبما يذكر في أخبارهم
و من المقيمين بالحضرة كان سلف ابن عبد العزيز هذا إلى أن نشأ هو في دولة الأمير أبي زكريا الأوسط صاحب الثغور الغربية و تحت كنف من اصطناعه و اختلط بأبنائه و قدم في جملة ابنه السلطان أبي بكر إلى تونس مقدما في بطانته و رئيسا على الحاشية المتسمين بالدخلة و كان يعرف لذلك بالمزوار و كان شهما و قورا متدينا و له في الدولة حظ م الظهور و هو الذي تولى كبر السعاية في الحاجب بن القالون حتى إرتاب بمكانه و وفد إلى أبي عمران سنة إحدى و عشرين و سبعمائة كما قدمناه و ولاه السلطان الحجابة مكانه فقام بها مستعينا بالكاتب أبي القاسم بن عبد العزيز لخلوة هو من الأدوات و إنما كان شجاعا ذا همة و لم يزل على ذلك إلى أن هلك في شعبان سنة سبع و عشرين و سبعمائة و أراد السلطان على الحجابة محمد بن خلدون جدنا الأقرب فأبى و رغب في الإقالة فأجيب جنوحا لما كان بسبيله منذ سنين من الصاغية في السكون و الفرار من الرتب و أشار على السلطان بصاحب الثغر محمد بن أبي الحسين بن سيد الناس لتقدمة سلفه مع سلف السلطان و كثرة تابعه و خاشيته و قوة شكيمته في الاضطلاع بما يدفع إليه أخبرني بهذا الخبر أبي رحمه الله و صاحبنا محمد بن منصور بن مزني قال لي : حضرت لاستدعاء جدكم إلى معسكر السلطان بباجة يوم مهلك المزوار و أدخله السلطان إلى رواقه و غاب مليا ثم خرج و قد استفاض بين البطانة و الحاشية أنه دعي إلى الخطة فاستنكرها و أقام السلطان يومئذ في خطة الحجابة الكاتب أبا القاسم بن عبد العزيز يقيم الرسم و استقدم خالصته محمد ابن حاجب أبيه أبي الحسين ابن سيد الناس فقدم في محرم فاتح ثمان و عشرين وسبعمائة و ولاه حجابته فاضطلع بها و جدد له على بجاية و حجابة ابنه بها فدفع إليها للنيابة عنه في الحجابة صنيعته محمد بن فرحون و معه كاتبه أبو القاسم بن المريد و جرى الحال على ذلك ببجاية و عساكر زناتة تجوس خلالها و معاقلهم تأخذ بمخنقها و قدم ابن القالون دوين مقدم ابن سيد الناس بشفاعة من نزيله علي بن أحمد سيد الزواودة و طمع في عوده إلى الخطة
و كان من خبره أنه لما تخلف عن السلطان بتونس في خدمة ابن أبي عمران رأى ركوب السفن إلى الأندلس فأعجلهم السلطان عن ذلك و خرج ابن أبي عمران فأجلب معه على الحضرة مرارا و لحق بتلمسان ثم جاء مع ابن الشهيد و فعل الأفاعيل ثم انحل أمر ابن الشهيد و لحق هو بالزواودة من رياح و نزل على علي ابن أحمد رئيسهم لذلك العهد فأجاره و أنزله بطولقة من بلاد الزاب و خاطب السلطان في شأنه و اقتضى له الأمان حتى أسعف و وفد على الحضرة مع أخيه موسى بن أحمد و في نفس ابن القالون طمع في الخطة و سبقه ابن سيد الناس إلى السلطان فأشغل بها و جاء ابن القالون من بعده فأوصله السلطان إلى نفسه و اعتذر إليه و وعده و عقد له على قفصة فسار إليها و صحب موالي السلطان من المعلوجين بشهير و فارح و أوعز ابن سيد الناس إلى مشيخة قفصة يتقبضون على حاميته ليتمكن الموالي منه فلما نزل بساحة البلد كشلي من جند الترك المرتزقة كان في جملته منذ أيام حجابته و كان يستظهر بمكانه فلما دخل إلى البلد قتل في سككها فكانت لقتله هيعة تسامع الناس بعظمها من خارج البلد و برز ابن القالون من فسطاطه و قد كر فتقدم إليه الموالي الذين جاؤا معه و تناولوه طعنا بالخناجر إلى أن هلك و الله وارث الأرض و من عليها (6/493)
الخبر عن ولاية الفضل على بونة
كان السلطان عقد على بونة منذ أول دولته لمولاه مسرور المعلوجي فقام بأمرها فاضطلع بولايتها و كان من الغلطة و مراس الحروب بمكان و كان مع ذلك غشوما جبارا و خرج إلى و لهاصة سنة فاضطرهم و نهضوا إلى مدافعته عن أموالهم فحاربهم و بلغ خبر مهلكه إلى السلطان فعقد على بونة لإبنه أبي العباس الفضل و بعثه إليها و ولى على حجابته و قيادة عسكره ظافر السنان من مواليه المعلوجين فقام بما دفع إليه من ذلك أحسن قيام إلى أن كان من أمرهم ما نذكره (6/494)
الخبر عن واقعة الرياس و ما كان قبلها من مقتل الأمير أبي فارس أخي السلطان
كان السلطان أبو بكر لما قدم إلى تونس قدم معه إخوته الثلاثة محمد و عبد العزيز و عبد الرحمن و هلك عبد الرحمن منهم و بقي الآخران و كانا في ظل ظليل من النعمة و حظ كبير من المساهمة في الجاه و كان في نفس الأمير أبي فارس تشوق إلى نبل الرتبة و تربص بالدولة و كان عبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من فحول بني مرين و أعياص ملكهم قدم على الحضرة نازعا إليها من الأندلس فنزل على ابن عمر ببجاية قبيل مهلكه سنة ثمان عشر و سبعمائة ثم لحق بالسلطان فلقاه مبرة و رحبا و وفر حظه و حظ حاشيته من الجرايات و الاقطاع و جعل له أن يستركب و يستلحق و كان يستظهر به في مواقف حروبه و يتجمل في المشاهد بحركاته بما كان سيدا في قومه و كان قد انعقدت له بيعة على أهل وطنه و كانت فيه غلظة و أنفة و إباء و غدا في بعض أيامه على الحاجب بن سيد الناس فتلقاه الإذن بالعذر فذهب مغاضبا و مر بدار الأمير أبي فارس فحمله على ذات صدره من الخروج و الثورة و خرجا من يومهما في ربيع سنة سبع و عشرين و سبعمائة و مرا بعض أحياء العرب فاعترضهما أمير الحي فعرض عليهما النزول فأما عبد الحق فأبى و ذهب لوجهه إلى أن لحق بتلمسان و أما الأمير أبو فارس فأجاب و نزل و طيروا بالخبر إلى السلطان فسرح لوقته محمد بن الحكيم من صنائعه و قواد دولته في طائفة من العسكر و النصارى فصبحوه في الحي و أحاطوا ببيت نزله فامتنع من الإلقاء باليد و دافع عن نفسه مستميتا فقتلوه قعصا بالرماح و جاؤا بشلوه إلى الحضرة فدفن بها
و نزل عبد الحق بن عثمان على أبي تاشفين حين نزل و رغبه فيما كان بسبيله من مطالبة الدولة الحفصية و تدويخ ممالكها و وفد على أثر حمزة بن عمر و رجالات سليم صريحا على عادتهم فأجاب أبو تاشفين صريخهم و نصب لهم محمد بن أبي عمران و كان من خبره أنه تركه السلطان اللحياني عاملا على طرابلس فلما انهزم أبو ضربة و انحل أمره استقدمه العرب و أجلبوا به على الحضرة سنة إحدى و عشرين و سبعمائة فملكها ستة أشهر ثم أجفل عنها عند رجوع السلطان إليها و لحق بطرابلس إلى أن انتقض عليه أهلها سنة أربع و عشرين و سبعمائة و ثاروا به و أخرجوه فلحق بالعرب و أجلبوا به على السلطان مرارا ينهزمون عنه في كلها
ثم لحق بتلمسان و استقر بها عند أبي تاشفين في خير جوار وكرامة وجراية إلى أن وصل هذا الوفد إليه سنة تسع وعشرين وسبعمائة فنصبه للأمر بأفريقية و أمدهم بالعساكر من زناته عقد عليهم ليحيى بن موسى من بطانته وصنائع أبيه ورجع معهم عبد الحق بن عثمان بمن في جملته في بنيه وعشيرته ومواليه وحاشيته وكانوا أحلاس حرب وفتيان كريهة فنهضوا جميعا إلى تونس فزحف السلطان للقائهم و تراءى الجمعان بالرياس من نواحي هوارة آخر سنة تسع و عشرين و سبعمائة فدارت الحرب و اختل مصاف السلطان و أفلت جموعه و أحيط به فأفلت بعد عصب الريق و أصابته في حومة الحرب جراحة وهن لها و قتل كثير من بطانته و حاشيته كان من أشهرهم محمد المديوني و انتهب المعسكر و تقبض على أحمد و عمر ابني السلطان فاحتملا إلى تونس حتى أطلقهما أبو تاشفين بعد ذلك في مراسلة وقعت بينه و بين السلطان فاتحه فيها أبو تاشفين و جنح إلى السلم و أطلق الإبنين و لم يتم شأن الصلح من بعد ذلك و تقدم ابن أبي عمران بعد الواقعة إلى تونس فدخلها في صفر سنة ثلاثين و سبعمائة و استبد عليه يحيى بن موسى قائد بني عبد الواد و حجب التصرف في شيء من أمره ثم عاد يحيى بن موسى إلى سلطانه و نهض السلطان أبو بكر من قسنطينة إلى تونس بعد أن استكمل الحشد و التعبية فأجفل ابن أبي عمران عنها و دخل إليها السلطان في رجب من سنته إلى أن كان ما نذكره (6/495)
الخبر عن مراسلة ملك المغرب في الاستجاشة على بني عبد الواد و ما يتبع ذلك من المصاهرة
كان السلطان أبو بكر لما خلص من واقعة الرياس نجا إلى بونة و ركب منها البحر إلى بجاية و قد ضاق ذرعه بالحاح بني عبد الواد على ممالكه و تجهيز الكتائب على ثغره و ترديد البعوث إلى وطنه فأعمل نظره في الوفادة على ملك المغرب السلطان أبي سعيد ليذكره ما بين سلفه و سلفهم من السابقة و ما لهم عند بني عبد الواد من الأوتار و الإحف ليبعث بذلك دواعيهم علة مطالبة بني عبد الواد : فيأخذ بحجزتهم عنه
ثم عين للوفادة عليه ابنه الأمير زكريا و بعث معه أبا محمد عبد الله بن تافراكين من مشيخة الموحدين لسانا لخطابه و نجيا لشواره و ركبوا البحر من بجاية فنزلوا بمرسى غساسة و اهتز صاحب المغرب لقدومه و أكرم و فادته و استبلغ في القرى و الاجارة و أجاب دعاءهم إلى محاربة عدوهم و عدوه على شريطة اجتماع اليد عليها و موافاة السلطان أبي سعيد و السلطان أبي يحيى بعساكرهما تلمسان لموعد ضربوه لذلك
و كان السلطان أبو سعيد بعث سنة إحدى و عشرين و سبعمائة يحيى الرنداحي قائد الأسطول بسبتة إلى مولانا السلطان أبي بكر في الإصهار على إحدى كرائمه و شغل عن ذلك بما وقع من شأن ابن أبي عمران فلما وفد عليه ابن السلطان و أولياؤه أعاد الحديث في ذلك و عين للنيابة عنه في الخطبة من السلطان إبراهيم بن أبي حاتم العزفي و صرفه مع الوفد فوافوا السلطان بتونس آخر سنة ثلاثين و سبعمائة و قد طرد عدوه و شفى نفسه فجاؤه بأمنيته من حركة صاحب المغرب على تلمسان و خطب منه إبراهيم للأمير أبي الحسن ابن السلطان أبي سعيد فعقد على ابنته فاطمة شقيقة الأمير أبي زكريا السفير إليهم و زفها إليه في أساطيله سنة إحدى و ثلاثين و سبعمائة و أنفذ بزفافها من مشيخة الموحدين أبا القاسم بن عتو و محمد بن سليمان الناسك و قد مر ذكره فنزلت على وثير من الغبطة و العز و كان الشأن في مهرها و زفافها و مشاهد أعراسها و ولائمها و جهازها كله من المفاخر للدولتين و لم يزل مذكورا على الأيام (6/497)
الخبر عن حركة السلطان إلى المغرب و فرار بني عبد الواد و تخريب تيمرزدكت
مات السلطان أبو سعيد على تفئية ما قدمناه من الأخبار آخر سنة إحدى و ثلاثين و سبعمائة و ولي السلطان أبو الحسن من بعده فبعث إلى أبي تاشفين يخاطبه في الغض عن عنان عيثه ببلاد الموحدين و طغيانه عليها فلج و استكبر و أساء الرد فنهض إليه على سبيل الصريخ لهم سنة اثنتين و ثلاثين و سبعمائة و طوى البلاد طيا إلى تلمسان و أفرجت عساكرهم عن بجاية إلى سلطانهم و تقدم السلطان أبو الحسن عن تلمسان لمشارفة أحوال بجاية و الأخذ بحجزة العدو لمحاصرتها و بعث عسكرا من قومه مددا لهم عقد عليهم لمحمد البطوي و أركبهم أساطيله من سواحل وهران فدخلوا إليها و قوبلوا بما يناسبهم من الكرامة و الجراية و استنهض السلطان أبو الحسن أبا بكر لحصار تلمسان معه كما كان الشرط بين أبيه و بين ابنه الأمير زكريا فشرع السلطان في جهاز حركته و إزاحة علله و أقام السلطان أبو الحسن في تاسالة في انتظاره شهرا حتى انصرف فصل الشتاء و بلغه بمعسكره من تاسالة أن أخاه السلطان أبا علي صاحب سجلماسة انتقض عليه و خرج إلى درعة فقتل عامله عليها بعد أن كان داخله و عقد له على المهادنة و التجافي عنه بمكانه من سجلماسة فلما بلغه هذا الخبر كر راجعا إلى المغرب لإصلاح شأنه
و كان السلطان أبو بكر قد خرج من تونس و احتفل في الحشد و التعبية فانتهى إلى بجاية و بعث مقدماته إلى ثغور بني عبد الواد المحيطة ببجاية فهزموا كتائبها ثم زحف بجملته إلى تيمرزدكت و فرت عنها الكتائب المجهزة بها فأناخ عليها حتى خربها و انتهب أموالها و أسلحتها و نسف آثارها و قفل عنها إلى بلد المسيلة أختها في الغي و موطن أولاد سباع بن يحيى من الزواودة كانت مشيختهم سليمان و يحيى ابنا علي بن سباع و عثمان بن سباع عمهم و ابنه سعيد قد تمسكوا بطاعة أبي تاشفين و حملوا عليها قومهم و نهجوا لعساكره السبيل إلى وطء بلاد الموحدين و العيث فيها و مجاذبة حبلها و أقطعهم أبو تاشفين بلاد المسيلة و جبال مشنان و وانوغة و جبل عياض فأصاروها من أعمالها فلما شرد السلطان عساكرهم عن بجاية و هدم ثغرهم عليها و استرجع أعمال بجاية إليها سار بجموعه إلى هذا الوطن ليسترجع أعماله و يجدد به دعوته و زاد في إغرائه بذلك علي بن أحمد كبير أولاد محمد لقتال أولاد سباع هؤلاء و نظراتهم و أهل أوتارهم و دخولهم فارتحل غازيا إلى المسيلة حتى نزلها و اصطلم نعمها و خرب أسوارها وبلغه بمكانه منها شأن عبد الواحد ابن السلطان اللحياني و اجلابه على تونس و كان من خبره أنه قدم من المشرق بعد مهلك أبيه السلطان أبي يحيى زكريا سنة تسع و عشرين و سبعمائة فنزل على دباب و بايع له عبد الملك بن مكي رئيس المشيخة بقابس و تسامح به الناس و أفريقية شاغرة من الحامية و العساكر لنهوضهم مع السلطان فاغتنم حمزة بن عمر الفرصة و استقدمه فبايع له و رحل به إلى الحضرة فنزل بساحتها و دخل عبد الواحد بن اللحياني بصحابة ابن مكي إلى البلد فأقاموا بها ريثما بلغ الخبر إلى السلطان فقفل من الحضرة و بعث في مقدمته محمد بن البطوي من بطانته في عسكر اختارهم لذلك فأجفل ابن اللحياني و جموعه عن تونس لخمس عشرة ليلة من نزولهم و دخل البطوي إليها و جاء السلطان على أثره أيام عيد الفطر سنة اثنتين و ثلاثين و سبعمائة (6/498)
الخبر عن نكبة الحاجب ابن سيد الناس و ولاية ابن عبد العزيز و ابن عبد الحكم من بعده
قد قدمنا أولية هذا الرجل و أن أباه الحسن كان حاجبا للأمير أبي زكريا ببجاية و لما هلك سنة تسعين و ستمائة خلف ابنه محمدا هذا في كفالة السلطان و مرعى نعمته فاشتمل كرسيهم عليه و آواه إلى حجره و أرضهم مع الكثير من بنيه و نشأ في كنفه و كان الحجاب للدولة من بعد أبيه مثل ابن أبي حي و الرخامي صنائع لأبيه فكانوا يعرفون حقه و يؤثرونه على أنفسهم في التجلة و لم يدرأ في سن الرجولية و السعي في المجد إلا أيام ابن عمر آخرهم فكان له منه مكان حتى إذا ارتحل السلطان أبو يحيى إلى قسنطينة لطلب تونس و جهز له ابن عمر الآلات و العساكر و أقام له الحجاب و الوزراء و القواد كان فيمن سرح معه محمد بن سيد الناس قائدا على عسكر من عساكره و كان سفيرا للسلطان فكانت له عنده أثره و اختصاص و عقد له من بعد مهلك ابن عمر على بجاية لما عزل عنها ابن القالون كما قدمناه فاستبد بها على السلطان و حماها دون عساكر زناتة و دفع في صدورهم عنها و كان له في ذلك كله مقامات مذكورة و كانت بينه و بين قائد زناتة موسى بن علي بن زبون مداخلة كل واحد منهما في مكان صاحبه على سلطانه و فطن لأمرهما فأما أبو تاشفين فنكب موسى بن علي كما نذكره في أخباره و أما السلطان أبو بكر فأغضى لابن سيد الناس عنها ثم استدعاه و قلده حجابته سنة سبع و عشرين و سبعمائة كما قدمناه و استخلف على مكانه ببجاية صنيعته محمد بن فرحون و أحمد بن مزيد للقيام بما كان يتولاه من مدافعة العدو و كفالة الأمير أبي زكريا ابن السلطان و قدم هو على السلطان و أسكنه بقصور ملكه و فوض إليه أمور سلطانه تفويض الاستقلال فجرى في طلق الاستبداد عليه و أرخى له السلطان حبل الإمهال و اعتد عليه فلتات الدالة على ما كانت الظنون ترجم فيه بالمداهنة في شأن العدو و الزبون على مولاه باستغلاظهم و أمهله السلطان لمكانه من حماية ثغر بجاية و الاشتغال به دونه حتى إذا تجلت غمامتهم و أطل أبو الحسن عليهم من مرقبه و نهض السلطان أبو بكر إلى بجاية و خرب تيمرزدكت فأغراه البطانة حينئذ بالحاجب محمد بن سيد الناس و تنبه له السلطان فأحفظ له استبداده و تقبض عليه مرجعه من هذه الحركة في ربيع سنة ثلاث و ثلاثين و سبعمائة و اعتقله ثم امتحنه بأنواع العذاب لإستخراج المال منه فلم ينبس بقطرة و ما زال يستغيث و يتوسل بسوابقه من الرضاع و المربى و سوابق أبيه عند سلفه حتى لدغه العذاب فأفحش و نال من السلطان و أقذع فقتل شدخا بالعصي و جرشلوه فأحرق خارج الحضرة و عفا رسمه كأن لم يكن و إلى الله عاقبة الأمور
و لما تقبض السلطان على ابن سيد الناس و محا أثر استبداده قلد حجابته الكاتب أبا القاسم بن عبد العزيز و قد كان قدم الحج عند مبايعة ابن مكي لعبد الواحد بن اللحياني فلحق بالسلطان في طريقه إلى تيمرزدكت فلم يزل معه إلى أن دخل حضرته و تقبض على ابن سيد الناس فولاه الحجابة و كان مضعفا لا يقوم بالحرب فعقد السلطان على الحرب و التدبير لصنيعته و كبير بطانته يومئذ محمد بن الحكيم و فوض له فيما وراء الحضرة و هو محمد بن علي بن محمد بن حمزة بن إبراهيم بن أحمد اللخمي و نسبه في بني العز في الرؤساء بسبتة و جده أحمد هو أبو العباس المذكور بالعلم و الدين و الرأي ابن القاسم المستقل برياسة سبتة من بعد الموحدين و كان من خبر أوليته فيما حدثني به محمد بن يحيى بن أبي طالب العزفي آخر رؤساء العزفيين بسبتة و المنقضي أمرهم بها بانقضاء رياسته و حدثني أيضا بها حسين ابن عمه عبد الرحمن بن أبي طالب و حدثني بها أيضا الثقة عن إبراهيم ابن عمهما أبي حاتم قالوا جميعا :
إن أبا القاسم العزفي كان له أخ يسمى إبراهيم و كان مسرفا على نفسه و أصاب دما في سبتة و حلف أخوه أبو القاسم ليقتادن منه ففر و لحق بديار المشرق هذا آخر خبرهم و أن محمدا هذا من بنيه و بقية الخبر عن أهل هذا البيت من سراتهم أن إبراهيم أنجب محمدا و أنجب محمد حمزة ثم أنجب حمزة عليا فكلف بالقراءة و استظهر علم الطب في إيالة السلطان أبي بكر بالثغور الغربية و أصاب السلطان وجع في بعض أزمانه و أعياه دواؤه فجمع له الأطباء و كان منهم علي هذا فحدس على المرض و أحسن المداواة فوقع من السلطان أحسن المواقع و استخلصه لنفسه و خلطه بخاصيته و أهل خلوته و صار له من الدولة مكان لا يجاريه أحد فيه و كان يدعى في الدولة بالحكيم و به عرف ابنه من بعده و أصهر إلى أحد بيوت قسنطينة فزوجوه و خلط أهله بحرم السلطان و ولد له محمد ابنه بقصره و رضع مع الأمير أبي بكر ابنه و نشأ في حجر الدولة و كفالتها على أحسن الوجوه من تربيتها
و لم بلغ الحد و صرف إلي رئيس الدولة يعقوب بن عمر وجه إقباله و اختصاصه فكان له منه مكان أكسبه ترشيحا للرياسة فيما بعد من بين خواص السلطان و خلصائه
و لما نهض السلطان إلى أفريقية قلده قيادة بعض العساكر ثم عقد له بعد مهلك ابن عمر على عمل باجة حين رقى ابن سيد الناس عنها إلى بجاية و كان عمل باجة من أعظم الولايات في الدولة فأضطلع به ثم لما آمر السلطان بطانته في نكبة ابن سيد الناس دفعه لذلك فولي القبض عليه كمن له في عصبة من البطانة في بعض الحجر من رياض رأس الطابية و استدعى ابن سيد الناس إلى السلطان و مر بمكانهم فلما انتهى إليهم توثبوا به و شدوه كتافا و تلوه إلى محبسه بالبرج المعد لعقاب أمثاله بالقصبة
و تولى ابن الحكيم من امتحانه و عذابه ما ذكرناه إلى أن هلك و عقد له السلطان مكانه على الحرب و التدبير من خططه و فوض إليه فيما وراء الحضرة كما قلناه
و جعل تنفيذ الأموال و الكتب على الأوامر لإبن عبد العزيز فكان عدله في حمل الدولة إلا أن ابن عبد الحكيم كان أشف فيه لما كان إليه من التدبير في الحرب و الرياسة على الكتابة لرياسة السيف على القلم فاضطلع برياسته و أحسن الغناء و الولاية إلى أن كان من خبره و خبر الدولة ما نذكر (6/499)
الخبر عن فتح قفصة و ولاية الأمير أبي العباس عليها
كان أهل الجريد منذ تقلص عنهم ظل الدولة عند إنقسام الملك بين الثغور الغربية و الحضرة و ما إليها و صار أمرهم إلى الشورى من المشيخة إلا في الأحايين يؤملون الاستبداد كما كانوا عليه من قبل الموحدين فقدم عبد المؤمن إلى أفريقية و بنو الرند على قفصة و قسنطينة و ابن واطاس على توزر و ابن مطروح على طرابلس فأملوا فتكها و شغل مولانا السلطان أبو بكر عنهم بعد استقلاله بالأمر و انفراده بالدعوة الحفصية شأن الفتنة مع آل يغمراسن بن زيان و اجلاب عساكرهم مع حمزة ابن عمر على أوطانه حتى إذا أخذ السلطان أبو الحسن بحجزتهم و أطل عليهم من مراقبه فعادوا إلى أوكارهم بعد أن استبدوا و تنفس مختق الثغور الغربية من حصارهم و زال عن كاهل الدولة إصر معاناتهم و سكن اضطراب الخوارج على الدولة خفتت أصوات المرجفين في ممالكها و صرف السلطان نظره في أعطاف ملكه و محو الشقاق من سائر أعماله و سمت همته إلى تدويخ القاصية من بلاد الجريد و استنقاذ أهلها من أيدي الذئاب الغاوية و الكلاب الغاوية رغماء أمصارها و أعراب فلاتها فنهض إلى قفصة سنة خمس و ثلاثين و سبعمائة و قد كان استبد بشوراها يحيى ابن محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد الشريدي من بيوتاتها فنازلها أياما و العساكر تلج عليها بأنواع القتال و نصب عليها المجانيق فامتنعوا ثم جمع الأيدي حتى قطع تحيلهم و امتناع صرائحهم فنادوا بالأمان فأمنهم و خرج إليه ابن عبد الجليل رئيسهم الآخر من سنته فأشخصه إلى الحضرة و أنزله بها و رجالات من قومه بني العابد
و فر سائرهم إلى قابس فنزل في جوار ابن مكي و دخل أهل البلد في حكمه و تفيؤا بعد أن كانوا ضاحين من الملك كله فأحسن التجاوز عنهم و بسط المعدلة فيهم و أحسن أمل ذوي الحاجات منهم بالإسهام و الأقطاع و تجديد ما بأيديهم من المكتوبات السلطانية ثم آثرهم بسكنى بلده المخصوص بعديد لعهد الأمير أبي العباس و أنزله بين ظهرانيهم و أوصاه بهم و عقد له على قسنطينة و ما إليها و جعل معه على حجابته أبا القاسم ابن عتو من مشيخة الموحدين و قفل إلى حضرته فدخلها في رمضان من سنته و الله أعلم (6/502)
الخبر عن ولاية الأميرين أبي فارس عزوز و أبي البقاء خالد سوسة ثم إضافة المهدية إليهما
لما نكب السلطان حاجبه ابن سيد الناس و ولى محمد بن فرحون على حجابة ابنه الأمير أبي زكريا و قرب ذلك ما نزل بآل يغمراسن من عدوهم و تفرغ السلطان للنظر في ملكه و تمهيد أحواله و أن يرسي قواعد أعماله بنجباء أبنائه فعقد على سوسة و البلاد الساحلية لولديه الأميرين عزوز و خالد شريكين في الأمر و أنزلهما بسوسة و أنزل معهما محمد بن طاهر من صنائع الدولة و من بيوت أهل الأندلس القادمين في الجالية و رياسة سلفهم بمرسية معروفة في أخبار الطوائف و كان أخوه أبو القاسم صاحب الأشغال بالحضرة فأقاما كذلك ثم هلك محمد بن طاهر فاستقدم السلطان محمد بن فرحون من بجاية معه باستبداد ابنه و أن يولي من شاء على حجابته و أنزل ابن فرحون مع هذين الأميرين لصغرهما سنة خمس و ثلاثين و سبعمائة ثم استدعاه الأمير أبو زكريا فرجع إليه و أقام هذان الأميران بسوسة حتى إذا نكب السلطان قائده محمد بن الحكيم و استنزل قريبه محمد بن الزكزاك من المهدية كان أنزله بها ابن الحكيم لما افتتحها من يد المتغلب عليها من أهل رجيس و يعرف بابن عبد الغفار سنة و اتخذها حسنا لنفسه و أنزل بها قريبه هذا و شحنها بالعدد و الأقوات فلم يغن عنه و لما هلك استنزل ابن الزكزاك و بعث السلطان عليهما ابنه الأمير أبا البقاء و أفرد الأمير أبا فارس بولاية سوسة فأقاما كذلك إلى أن كان من خبر مهلكهما ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/503)
الخبر عن ولاية الأمير أبي عبد الله صاحب قسنطينة من الأبناء و ولاية بنيه من بعده
كان الأمير أبو عبد الله مخصوصا من أبيه من بين ولده بالأثرة و العناية قد صرف إليه إقباله و أوقع عليه محبته لما كان يتوسم في شواهده من الترشيح و ما تحلى به من خلال الملك و كان الناس يعرفون له حق ذلك أن ابن عمر كان مستبدا بالثغور الغربية ببجاية و قسنطينة و مدافعا عنها العدو من زناتة المطالبين لها فلما هلك ابن عمر سنة تسع عشرة و سبعمائة كما قدمناه صرف السلطان نظره إلى ثغوره فعقد على بجاية لابنه الأمير أبي زكريا و عقد على حجابته لابن القالون و سرحه معه لمدافعة العدو و عقد على قسنطينة للأمير أبي عبد الله و معه أحمد بن ياسين و خرجوا جميعا من تونس سنة عشرين و سبعمائة و نزل كل بعمله و قدم ظافر الكبير من الغرب فولاه السلطان حجابة ابنه بقسنطينة و أنزله بها إلى أن هلك سنة سبع و عشرين و سبعمائة على تيمرزدكت كما ذكرناه فجاء لحجابته من تونس أبو القاسم بن عبد العزيز الكاتب فأقام أربعين يوما ثم رجع إلى الحضرة و أضاف السلطان حجابة قسنطينة لابن سيد الناس إلى حجابة بجاية و بعث إليها نائبا عنه مولاه هلالا النازع إليه عن موسى بن علي قائد بني الواد فقام بخدمة الأمير أبي عبد الله إلى أن كانت نكبة ابن سيد الناس عندما بلغ الأمير أبا عبد الله أثره و جرى في طلق استبداده ففوض له في عمله السلطان و أطلق من عنانه و كان يؤامره في شأنه و يناجيه في خلوته
و أنزل معه بقسنطينة نبيلا من المعلوجين يقيم له رسم الحجابة ثم استدعى ظافر السنان من تونس سنة أربع و ثلاثين و سبعمائة لقيادة الأعنة و الحرب فقدم لذلك و أقام سنة و نصفها ثم رجع و قام نبيل لحجابته كما كان و دفع يعيش بن من صنائع الدولة لقيادة العساكر و حماية الأوطان فقاسمه لذلك مراسم الخدمة و رتب الدولة و استمرت حال الأمير أبي عبد الله على ذلك و الأيام تزيده ظهورا و مساعيه الملوكية تكسبه جلالا و ترشيحا إلى أن أسقط دون غايته و اغتاله الأجل عن مداه فهلك رضوان الله عليه آخر سبع و ثلاثين و سبعمائة و قام بأمره من بعده كبير بنيه الأمير أبو زيد عبد الرحمن فعقد له السلطان أبو بكر على عمل أبيه لنظر نبيل مولاهم لمكان صغره و استمرت حالهم على ذلك إلى آخر الدولة و كان من أمره ما نذكر بعد و الله تعالى أعلم (6/504)
الخبر عن شأن العرب و مهلك حمزة ثم إجلاب بنيه على الحضرة و انهزامهم و مقتل معزوز بن همر و ما قارن ذلك من الأحداث
لما ملك السلطان أبو الحسن تلمسان و أعمالها و قطع دابر آل زيان و اجتث أصلهم و جمع كلمة زناتة على طاعته و استتبعهم عصابة تحت لوائه و دانت القبائل بالانقياد له و رجفت القلوب لرعبه و وفد عليه حمزة بن عمر يرغبه في ممالك أفريقية و يستحثه لها ديدنه مع أبي تاشفين من قبله فكف بالبأس من غلوائه و زجره عن خلافه على السلطان و شقاقه و نهج له بالشفاعة سبيلا إلى معاودة طاعته و العمل بمرضاته فرجع حمزة إلى السلطان عائذا بحلمه متوسلا بشفاعة صاحبه راغبا بإذعانه و قلعه مواد الخلاف من العرب باستقامته فتلقاه السلطان بالقبول و أسعاف الرغبة و الجزاء على المناصحة و المخالصة و لم يزل حمزة بن عمر من لدن رضى مولانا السلطان عنه و إقباله عليه صحيح الطاعة خالص الطوية مناديا بمظاهرة محمد بن الحكيم قائد عسكره و شهاب دولته على تدويخ أفريقية و تدويخ أعمالها و حسم أدواء الفساد منها
و أخذ الصدقة من جميع ظاعن البدو الناجعة في أقطارها و جمع الطوائف المتعاصين بالثغور على إلقاء اليد للطاعة و الكف عن أموال الجباية فكانت لهذا القائد آثار لذلك مهدت من الدولة و أرغمت أنوف المتعاصين بالاستبداد في القاصية حتى استقام الأمر و انمحت آثار الشقاق فاستولى على المهدية سنة سبع و ثلاثين و سبعمائة و غلب عليها ابن عبد الغفار المنتزي عليها من أهل رحيش و استولى على تبسة و تقبض على صاحبها محمد بن عبدون من مشيختها و أودعه سجن المهدية إلى أن أطلق بعد نكبته و نازل توزر من بعد ذلك حتى استقام ابن بهلول على طاعته للعصبية و استرهن ولده و نازل بسكرة غير مرة يدافعه يوسف بن منصور من بني مزني بذمة يدعيها من السلطان أبي بكر و سلفه و يعطيه الجباية بدفع ما كان من الاعتلاق بخدمة السلطان أبي الحس فتجافى عنه ابن الحكيم لذلك بعد استيفاء مغارمه و زحف إلى بلاد ريغة فافتتح قاعدتها تغرت و استولى على أموالها و ذخيرتها و سار إلى جبل أوراس فافتتح الكثير من معاقله و عصفت ريح الدولة بأهل الخلاف من كل جانب و جاست عساكر السلطان خلال كل أرض و في أثناء ذلك هلك حمزة بن عمر سنة اثنتين و أربعين و سبعمائة على يد ابن عون بن أبي علي من بني كثير أحد بطون بني كعب بطعنة طعنه غيلة فأشواه و قام بأمره من بعده بنوه و كبيرهم يومئذ عمر و داخلتهم الظنة بأن قتله باملاء الدولة فاعصوصبوا و تآمروا و استجاشوا بأقتالهم أولاد مهلهل فجيشوا معهم وزحف إليهم ابن الحكيم في عساكر السلطان من زناتة و الجند ففلوه و استلحموا كثيرا من وجوههم و رجع إلى الحضرة فتحصن بها و اتبعوه فنزل بساحتها ثلاثين و سبعمائة و قاتلوا العساكر سبع ليال ثم اختلفوا و نزل طالب بن مهلهل إلى طاعة السلطان فأجفلوا و خرج السلطان في جمادي من سنته في عساكره و أحزابه من عرب هوارة فأوقع بهم برقادة من ضواحي القيروان و رجع إلى حضرته آخر رمضان من سنته و ذهبوا مفلولين إلى القفر و مروا في طريقهم بالأمير أبي العباس بقفصة فرغبوه بالخلاف على أبيه و أن يجلبوا به على الحضرة فأملى لهم في ذلك حتى ظفر بالمعز بن مطاع وزير حمزة و كان رأس النفاق و الغواية فتقبض عليه و قتله و بعث بعدها على الحضرة و نصب بها و وقع ذلك من مولانا السلطان أحسن المواقع و وفد بعدها على الحضرة فبايع لها بالعهد في آخر سنته في محفل أشهده الملأ من الخاصة و الكافة بايوان ملكه و كان يوما مشهودا قرىء فيه سجل العهد على الكافة و انفصلوا منه داعين للسلطان و راجع بنو حمزة الطاعة بعدها و استقاموا عليها إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/506)
الخبر عن مهلك الحاجب ابن عبد العزيز و ولاية أبي محمد بن تافراكين من بعد و ما كان على تفيئة ذلك من نكبة ابن الحكيم
هذا الرجل اسمه أحمد بن اسمعيل بن عبد العزيز الغساني و كنيته أبو القاسم و أوصل سلفه من الأندلس انتقلوا إلى مراكش و استخدموا بها للموحدين و استقر أبوه إسمعيل بتونس و نشأ أبو القاسم بها و استكتبه الحاجب ابن الدباغ و لما دخل السلطان أبو البقاء خالد إلى تونس و نكب ابن الدباغ لجأ ابن عبد العزيز إلى الحاجب ابن عمر و خرج من تونس إلى قسنطينة و استقر ظافر الكبير هنالك فاستخدمه إلى أن غرب إلى الأندلس كما قدمناه و استعمله ابن عمر على الأشغال بقسنطينة سنة ثلاث عشرة و سبعمائة فقام بها و تعلق بخدمة ابن القالون بعد استبداد ابن عمر ببجاية فلما وصل السلطان أبو بكر إلى تونس سنة ثمان عشرة و سبعمائة استقدمه ابن القالون و استعمله على أشغال تونس ثم كانت سعايته في ابن القالون مع المزوار بن عبد العزيز إلى أن فر ابن القالون سنة إحدى و عشرين و سبعمائة و ولي الحجابة المزاور بن عبد العزيز و كان أبو القاسم بن عبد العزيز هذا رديفة لضعف أدواته
و لما هلك ابن عبد العزيز المزوار بقي أبو القاسم بن عبد العزيز يقيم الرسم إلى أن قدم ابن سيد الناس من بجاية و تقلد الحجابة كما قدمناه فغص بمكان ابن عبد العزيز هذا و أشخصه عن الحضرة و ولاه أعمال الحامة ثم استقدم منها عندما ظهر عبد الواحد اللحياني بجهات قابس فلحق بالسلطان في حركته إلى تيمرزدكت و أقام في جملة السلطان إلى أن نكب ابن سيد الناس و ولي الحجابة بالحضرة كما ذكرت ذلك كله من قبل إلى أن هلك فاتح سنة أربع و أربعين و سبعمائة فعقد السلطان على حجابته لشيخ الموحدين أبي محمد بن عبد الله بن تافراكين
و كان بنو تافراكين هؤلاء من بيوت الموحدين في تينملل و من آيت الخميس و ولي عبد المؤمن كبيرهم عمر بن تافراكين على قابس أول ما ملكها الموحدون سنة أربعين و خمسمائة إلى أن فتحوا مراكش فكان عبد المؤمن يستخلفه عليها أيام مغيبه عنها على الإمارة و الصلاة و لما ثار بمراكش عبد العزيز و عيسى ابنا أومغار أخو الإمام المهدي سنة إحدى و خمسين كان مغيبه عنها على أول ثورتهم أن اعترضوا عمر بن تافراكين عند ندائه بالصلاة فقتلوه و فضحهم الصبح فاستلحمهم العامة ثم كان ابنه عبد الله بن عمر من بعده من رجالات الموحدين و مشيختهم و لما عقد الخليفة يوسف بن عبد المؤمن على قرطبة لأخيه السيد أبي إسحق أنزله معه عبد الله بن عمر ابن تافراكين للمشورة مع جماعة من الموحدين كان منهم يوسف بن وانودين و كان عبد الله المقدم فيهم و جاء ابنه عمر من بعده مشتغلا بمذهبه مرموقا بتجلته و لما ولي السيد أبو سعيد بن عمر بن عبد المؤمن على أفريقية ولاه قابس و أعمالها إلى أن استنزله عنها يحيى بن غانية سنة اثنتين و تسعين و خمسمائة
ثم كان منهم بعد ذلك عظماء في الدولة و كبراء من المشيخة آخرهم عبد العزيز بن تافراكين خالف الموحدين بمراكش لما نقضوا بيعة المأمون فاغتالوه في طريقه إلى المسجد عند الآذان للصبح بما كان محافظا على شهود الجماعات و رعاها له المأمون في أخيه عبد الحق و بنيه أحمد و محمد و عمر فلما استلحم الموحدون و عمهم الجزع ارتحل عبد الحق موريا بالحج و نزل على السلطان المستنصر فأنزله بمكانه من الحضرة و سرحه بعض الأحايين إلى الحامة لحسم الداء فيها و قد كان توقع الخلاف من مشيختها فحسن غناؤه فيها و قتل أهل الخلاف و حسم العلل و ولاه السلطان أبو إسحق على بجاية بعد مقتل محمد بن أبي هلال فاضطلع بها و لما ولي الدعي ابن عمارة أنه سرحه في عسكر من الموحدين لقهر العرب و كف عداوتهم فأثخن فيهم ما شاء و لم يزل معروفا بالرياسة مرموقا بالتجلة إلى أن هلك و كان بنو أخيه عبد العزيز و هم :
أحمد و محمد و عمر جاؤا على أثره من المغرب فنزلوا بالحضرة خير منزل و غذوا بلبان النعمة و الجاه فيها و كان أحمد كبيرهم و ولاه السلطان أبو حفص على قفصة ثم على المهدية ثم استعفى من الولاية فعوفي
و كان السلطان أبو عصيدة يستخلفه على الحضرة إذا أخرج منها على ما كان لأوله إلى أن هلك الأول المائة الثامنة سنة ثلاث و نشأ ابناه أبو محمد عبد الله و أبو العباس مد في حجر الدولة و جو عنايتها و أصهر عبد الله منهما إلى أبي يعقوب بن زذوتين شيخ الدولة في ابنته فعقد عليها و أصهر من بعده أخوه أحمد بن أبي محمد بن يعمور في ابنته فعقد له أيضا عليها و استخلص أبو ضربة بن اللحياني كبيرها أبا محمد عبد الله و آثره بصحبته فلم يزل معه إلى أن كانت الواقعة عليه بمصوح و تقبض على كثير من الموحدين فكان في جملتهم ومن عليه السلطان أبو بكر و رقاه في رتب عنايته إلى أن ولاه الوزارة بعد الشيخ أبي محمد بن القاسم ثم قدمه شيخا على الموحدين بعد مهلك شيخهم أبو عمر بن عثمان سنة اثنتين و أربعين و بعثه إلى ملك المغرب مع ابنه الأمير أبي زكريا صاحب بجاية صريخا على بني عبد الواد فجلى في خدمة السلطان و عرض سفارته و توجه للإثيار بعدها إليه و اختص بالسفارة إلى ملك المغرب سائر أيامه و غص الحاجب ابن سيد الناس بمكانه و هم بمكروهه فكبح السلطان عنانة عنه و يقال إنه أفضى إليه بذات صدره من نكبته و لما انقسمت خطط الدولة من الحرب و التدبير و مخالصة السلطان و تنفيذ أوامره بين ابن عبد العزيز الحاجب و ابن الحكيم القائد كان له هو القدح المعلي في المشورة و التدبير و كانوا يرجعون إليه و يعولون على رأيه و كان ثالث أثافيهم و مصقلة آرائهم
و لما هلك ابن عبد العزيز و كان السلطان قد أضمر نكبة ابن الحكيم لما كان يتعاطاه من الاستبداد و يحتجنه من أموال السلطان و أسر الحاجب ابن عبد العزيز إلى السلطان زعموا بين يدي مهلكه بالتحذير من ابن الحكيم و سوء دخلته و أنه فاوضه أيام نزول العرب عليه بساح تونس سنة اثنتين و أربعين كما قدمناه في الادالة من السلطان ببعض الأعياص من بني أبي دبوس كانوا معتقلين بالحضرة ألقاها الغدر على لسانه ضجرا من قعود السلطان عن الخروج بنفسه إلى العرب و سآمة ما هو فيه من الحصار و اعتدها عليه ابن عبد العزيز حتى ألقاها إلى السلطان عند موته و برىء منها إليه فأودعها إذنا واعية و كان حتف ابن الحكيم فيها و لما هلك و ولي شيخ الموحدين أبو محمد بن تافراكين فاوضه في نكبة ابن الحكيم و كان يتربص به لما كان بينهما من المنافسة
و كان ابن الحكيم غائبا عن الحضرة في تدويخ القاصية و قد نزل جبل أوراس فاقتحمه و اقتضى مغارمه و توغل في أرض الزاب و استوفى جباية من عامله يوسف بن منصور و تقدم إلى ريغة و نازل تغرت و افتتحها و امتلأت أيدي العساكر من سكاسبهم و خيلهم و اتصل به خبر مهلك ابن عبد العزيز و ولاية أبي محمد بن تافراكين الحجابة فنكر ذلك لما كان يظن أن السلطان لا يعدل بها عنه و كان يرشح له كاتبه أبا القاسم وازار و يرى أن ابن عبد العزيز قبله لم يتميز بها إيثارا عليه فبدا له ما لم يحتسبه فظن الظنون و جمع أصحابه و أغذ السير إلى الحضرة و قد آمر السلطان أبا محمد بن تافراكين في نكبته و أعد البطانة للقبض عليه و قدم على الحضرة منتصف ربيع من سنة أربع و أربعين و جلس له السلطان جلوسا فخما فعرض عليه هديته من المقربات و الرقيق و الأنعام حتى إذا انفض المجلس و شيع السلطان وزراؤه و انتهى إلى بابه أشار إلى البطانة فلحقوا به إلى محبسه و بسط عليه العذاب لاستخراج الأموال فأخرجها من مكان احتجانها و حصل منها في مودع السلطان أربعمائة ألف من الذهب العين أو مثالها أو ما يقاربها قيمة من الجوهر و العقار إلى أن استصفى و لما افتك عظمه و نفذ ماله خنق بمحبسه في رجب من سنته و ذهب مثلا في الأيام و غرب ولده مع أمه إلى المشرق و طوح بهم الاغتراب إلى أن هلك منهم من هلك و راجع الحضرة علي و عبيد منهم في آخرين من أصاغرهم بعد أيام و أحوال و الله يحكم لا معقب لحكمه (6/508)
الخبر عن شان الجريد و استكمال فتحه و ولاية أحمد بن مكي على جزيرة جربة
كان أمر الجريد قد صار إلى الشورى منذ شغلت الدولة بمطالبة زناتة بني عبد الواد و ما نالها لذلك من الاضطراب و استبد مشيخة كل بلد بأمره ثم انفرد واحد منهم بالرياسة و كان محمد بن بهلول من مشيخة توزر هو القائم فيها و المستبد بأمرها كما سنذكره و لما نزعت الدولة إلى الاستبداد و أرهف السلطان حده للثوار و عفى على آثار المشيخة بقفصة و عقد لابنه الأمير أبي العباس على قسطيلية و نزل بقفصة فأقام بها ممهدا لإمارته و مرددا بعوثه إلى البلاد اختبارا لما يظهرون من طاعته و زحف حاجبه أبو القاسم بن عتو سنة بالعساكر إلى نفطة ابتلاء لطاعة رؤسائها بني مدافع المعروفين ببني الخلف و كانوا إخوة أربعة استبدوا برياستها في شغل الدولة عنهم فسامهم سوء العذاب و لاذوا منه بجدران الحصون التي ظنوا أنها مانعتهم و تبرأت منهم الرعايا فأدركهم الدهش و سألوا النزول على حكم السلطان فجذبوا إلى مصارعهم و صلبوا على جذوعهم آية للمعتبرين و أفلت السيف عليا صغيرهم لنزوعه إلى العسكر قبل الحادثة فكانت له ذمة واقية من الهالكة فانتظم الأمير أبو العباس بلد نفطة في مملكته و جدد له العقد عليها أبوه و تملك الكثير من نفزاوة
و لما استبيحت نفطة و نفزاوة سمت همته إلى ملك توزر جرثومة الشقاق و عش الخلاف و النفاق و خشى مقدمها محمد بن بهلول عيث حاله فذهب إلى مصانعة قائد الدولة محمد بن الحكيم بذات صدره فتجافى عنه إلى أن كان مهلكهما في سنة واحدة و اضطرب أمر توزر و توائب بنوه و إخوته و قتل بعضهم بعضا و كان أخوه أبو بكر معتقلا بالحضرة فأطلقه السلطان من محبسه بعد أن أخذ عليه المواثيق بالطاعة و الجباية و مضى إلى توزر فملكها و طالبه الأمير أبو العباس صاحب قفصة و بلاد قسطيلية بالانقياد الذي عاهد عليه فنازعه ما كان في نفسه من الاستبداد و صارت لذلك شجا معترضا في صدر إمارته فخاطب أباه السلطان أبا بكر و أغراه به فنهض إليه سنة خمس و أربعين و التقى به ففر عنه و انتهى إلى قفصة و صار الخبر إلى أبي بكر ابن بهلول رئيسها يومئذ فأدركه الدهش و انفض من حوله الأولياء و جاهر بطاعة السلطان و لقائه ففر عنه كاتبه و كاتب أبيه المستولي على أمره علي بن محمد المعمودي المعروف الشهرة و لحق ببسكرة في جوار يوسف بن مزني و أغذ السلطان السير إلى توزر فخرج إليه أبو بكر بهلول و ألقى إليه يده و خلط نفسه بجملته
ثم ندم على ما فرط من أمره و أحس بالنكير من الدولة و أنذر بالهلكة فلحق بالزاب و نزل على يوسف بن منصور ببسكرة فتلقاه من الترحيب و القرى بما تحدث به الناس و لما استولى السلطان على توزر و انتظمها في أعماله عقد عليها لابنه الأمير أبي العباس و أنزله بها و أمكنه من رمتها و رجع السلطان إلى الحضرة ظافرا عزيزا و اتصلت أيام ملكه إلى أن هلك على فراشه كما نذكر و اتصلت ممالك الأمير أبي العباس في بلاد الجريد و ساور أبو بكر بن بهلول توزر مرارا يفلت في كلها من الهلكة إلى أن مات ببسكرة سنة سبع و أربعين قبيل مهلك الناس كما نذكر و أقام أبو العباس بمحل إمارته و لم يزل يمهد الأحوال و يستنزل الثوار و كان أبو مكي قد امتنع عليه بقابس و كان من خبره أنه لما رجع عبد الملك من تونس مع عبد الواحد بن اللحياني الذي كان حاجبا له و ذهب ابن اللحياني إلى المغرب و أقام هو بقابس ثم استراب بمكان أمره مع السلطان حين ذهب ملك آل زيان فأوفد أخاه أحمد بن مكي على السلطان أبي الحسن متنصلا من ذنوبه متذمما بشفاعته منه إلى السلطان أبي بكر فشفع له و أعاده السلطان إلى مكان رياسته و استقام هو على الطاعة و نكب عن سنن العصيان و الفتنة
و كان لأحمد بن مكي حظ من المال و الأدوات و نفس مشغوفة بالرياسة و الشرف و كان يقرض الشعر فكان يجيد و يرسل فيحسن و كان خط كتابته أنيقا ينحو به منحى الخط الشرقي شأن أهل الجريد فيمتع ما شاء فكانت لذلك كله في نفس الأمير أبي العباس صاغية إليه و كان هو مستريبا بالمخالطة لما شاء من آثاره السالفة و لم يزل الأمير أبو العباس يفتل له في الذروة و الغارب إلى أن جلبه إلى مجلس السيدة أمه الواحدة أخت مولانا السلطان قافلة من حجها فمسح ما كان بصدره و أحكم له عقد مخالصته و اصطنعه لنفسه فحل من إمارته بمكان غبطة و اعتزاز و عقد له السلطان على جزيرة جربة و استضافها إلى عمله و أنزل عنها مخلوف بن الكماد من صنائعه كان افتتحها سنة ثمان و ثمانين و عقد له السلطان عليها فنزلها أحمد بن مكي و استقل عبد الملك أخوه برياسة قابس فقاما على ذلك و جردا عزائمهما في ولاية أبي العباس صاحب أعمال الجريد فلم يزالوا كذلك إلى أن كان من أمر الجميع ما نذكر إن شاء الله تعالى (6/511)
الخبر عن مهلك الوزير أبي العباس بن تافراكين
كان السلطان أبو بكر عند نكبة القائد ابن الحكيم استعمل على حجابته شيخ الموحدين أبا محمد بن تافراكين كما ذكرناه و فوض إليه فيما وراء بابه و عقد على الوزارة لأخيه أبي العباس أحمد و كان أبو محمد جليس الباب لمكان الحجابة فرفع إلى الحرب وقود العساكر و إمارة الضاحية أخاه أبا العباس فقام بما دفع إليه من ذلك و كان بنو سليم بعد مهلك حمزة بن عمر نقموا ما كان عليه من الأذعان و سموا إلى الخلاف و العناد فكان من أبناء حمزة في ذلك من الاجلاب على الحضرة ما ذكرناه و كان سحيم بن من أولاد القوس بن حكيم بينه و بينهم غدر و خلاف و عناد و كان السلطان قد ولى على حجابة ابنه الأمير أبي العباس في أعمال الجريد أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين و كان يناهض بني تافراكين بزعمه في الشرف و ينفس عليهم ما آتاهم الله من الرتبة و الحظ فلما ولي أبو محمد الحجابة ملىء منه حسدا و حقدا و داخل فيما زعموا سحيما هذا الغوي في النيل من أبي العباس بن تافراكين صاحب العساكر و شارطه على ذلك بما أداه إليه و تكاتموا أمرهم و خرج أبو العباس بن تافراكين فاتح سنة سبع في العساكر لجباية هوارة فوفد عليه سحيم هذا و قومه و ضايقوه في الطلب ثم انتهزوا الفرصة بعض الأيام و أجلبوا عليه فانفض معسكره و كبابه فرسه فقتل و حمل شلوه إلى الحضرة فدفن بها و جاهر سحيم بالخلاف و خرج إلى الرمال فلم يزل كذلك إلى مهلك السلطان كما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى (6/514)
الخبر عن مهلك الامير أبي زكريا صاحب بجاية من الأنباء و ما كان بعد ذلك من ثورة أهل بجاية بأخيه الأمير أبي حفص و ولاية ابنه الأمير عبد الله
كان السلطان أبو بكر لما هلك الحاجب بن عمر عقد على بجاية لابنه الأمير أبي زكريا كبير ولده و أنفذه إليها مع حاجبه محمد بن القالون كما ذكرناه و جعل أموره تحت نظره ثم رجع القالون إلى تونس فأنزل معه ابن سيد الناس كذلك فلما استبد سيد الناس بحجابة الحضرة جعل على حجابته أبا عبد الله بن فرحون ثم لما تقبض على ابن سيد الناس و علي ابن فرحون و قد استبد الأمير أبو زكريا بأمره و قام على نفسه فوض إليه السلطان الأمر في بجاية و بعث إليه ظافرا السنان مولى أبيه الأمير أبي زكريا الأوسط قائدا على عسكره و الكاتب أبا إسحق بن علاق متصرفا في حجابته فأقاما ببابه مدة ثم صرفهما إلى الحضرة و قدم بحجابته أبا العباس أحمد بن أبي زكريا الرندي كان أبوه من أهل العلم و كان ينتحل مذهب الصوفية الغلاة و يطالع كتب عبد الحق بن سبعين و نشأ أحمد هذا ببجاية و اتصل بخدمة السلطان و ترقى في الرتب إلى أن استعمله الأمير أبي زكريا كما قلناه ثم هلك و قد أنف السلطان أبو بكر من الأمراء هؤلاء على حجابة ابنه فأنفذ لها من حضرته كبير الموحدين يومئذ و صاحب السفارة أبا محمد بن تافراكين سني أربعين و سبعمائة فأقام أحوال ملكه و عظم أبهة سلطانه و جهز العساكر لسفره و أخرجه إلى أعماله فطاف عليها و تفقدها وانتهى إلى تخومها من المسيلة و مقرة و لم يستكمل الحول حتى سخطه المشيخة من أهل بجاية لما نكروا من الأبهة و الحجاب حتى استغلظ عليهم باب السلطان و تولى كبر ذلك القاضي ابن يوسف تعنتا و ملالا و استعفى هو من ذلك فأعفي و عاد إلى مكانه بالحضرة
ثم استقدم الأمير أبو زكريا حاجبه الأول بعهد ابن سيد الناس و هو أبو عبد الله محمد ابن فرحون و قد كان السلطان بعثه في غرض الرسالة إلى ملك المغرب في الأسطول الذي بعثه مددا للمسلمين عند إجازة السلطان أبي الحسن إلى طريف و كان أخوه زيد بن فرحون قائد ذلك الأسطول بما كان قائده ببحر بجاية فلما رجع أبو عبد الله ابن فرحون من سفارته تلك أذن له في المقام عند الأمير أبي زكريا و استعمله على حجابته إلى أن هلك فولي من بعده في تلك الخطة ابن القشاش من صنائع دولته ثم عزله و ولى عليها أبا القاسم بن علناس من طبقة الكتاب و اتصل بدار هذا الأمير و ترقى في ديوانه إلى أن ولاه خطة الحجابة ثم عزله و ولى يحيى بن محمد بن المنت الحضرمي كان أبوه و عمه قدما على جالية الأندلس و كانا ينتحلان القراآت
و أخذ أهل بجاية عن عمه أبي الحسن علم القراآت و كان خطيبا بجامع السلطان و نشأ علي ابن أخيه و استعمل في الديوان و كان طموحا للرياسة و اتصل بحظية كانت للمولى أبي زكريا تسمى أم الحكم قد غلبت على هواه فرسمت على ابن المنت هذا بخطة الحجابة و استعمله فيها فقام بها و أصلح معونات السلطان و أحوال مقاماته في سفره و جهز له العساكر و جال في نواحي أعماله
و هلك هذا الأمير في إحدى سفراته و هو على حجابته بتاكرارت من أعمال بجاية من مرض كان أزمن به في ربيع الأول سنة سبع و أربعين و سبعمائة و كان ابنه الأمير أبو عبد الله في حجر مولاه فارح بن معلوجي ابن سيد الناس و كان اصطنعه فألفاه قابلا للترشيح فأقام مع ابن مولاه ينتظر أمر الخليفة و بادر حاجبه الأول أبو القاسم بن علناس إلى الحضرة و أنهى الخبر إلى الخليفة فعقد على بجاية لابنه الأمير أبي حفص كان معه بالحضرة و هو من أصاغر ولده و أنفذه إليها مع رجاله و أولى اختصاصه
و خرج معه أبو القاسم بن علناس فوصل إلى بجاية و دخلها على حين غفلة و حمله الأوغاد من البطانة على إرهاف الحد و إظهار السطو فخشي الناس البوادر و ائتمروا ثم كانت في بعض الأيام هيعة تمالأ فيها الكافة على التوثب بالأمير القادم فطافوا بالقصبة في سلاحتهم و نادوا بإمارة ابن مولاهم ثم تسوروا جدرانها و اقتحموا داره و ملكوا أمره و أخرجوا برمته بعد أن انتهبوا جميع موجوده و تسايلوا إلى دار الأمير أبي عبد الله محمد ابن أميرهم و مولاهم بعد أن كان معتزما على التقويض عنهم و اللحاق بالخليفة جده و أذن له في ذلك عمه القادم فبايعوه بداره من البلد ثم نقلوه من الغد إلى قصره بالقصبة و ملكوه أمرهم و قام بأمره مولاه فارح ولقبه باسم الحجابة و استمر حالهم على ذلك و لحق الأمير أبو حفص بالحضرة آخر جمادي الأولى من سنته لشهر يوم ولايته إلى أن كان من شأنه بعد مهلك مولانا السلطان ما نذكره و تدارك السلطان أمر بجاية و بعث إليهم أبا عبد الله بن سليمان من كبار الصالحين و مشيخة الموحدين يسكنهم و يؤنسهم و بعث معه كتاب العقد عليها لحافده الأمير أبي زكريا طابا مرضاتهم فسكنت نفوسهم و أنسوا بولاية ابن مولاهم و جاءت الأمور إلى مصايرها كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى و الله ولي التوفيق (6/515)
الخبر عن مهلك مولانا السلطان أبي بكر و ولاية ابنه الأمير أبي حفص
بينما الناس في غفلة من الدهر و ظل ظليل من العيش و أمن من الخطوب تحت سرادق من العز و ذمة وافية من العدل إذيع بالسرف و تكدر الشرق و تقلصت ظلال العز و الأمن و تعطل فناء الملك و نعي السلطان أبو بكر بتونس فجأة من جوف الليل ليلة الأربعاء ثاني رجب من سنة سبع و أربعين و سبعمائة فهب الناس من مضاجعهم متسايلين إلى القصر يستمعون نبأ النعي و أطافوا به سائر ليلتهم تراهم سكارى و ما هم بسكارى و بادر الأمير أبو حفص عمر من داره إلى القصر فملكه و ضبط أبوابه و استدعى الحاجب أبا محمد بن تافراكين من داره و دعوا المشيخة من الموحدين و الموالي و طبقات الجند و أخذ الحاجب عليهم البيعة للأمير أبي حفص ثم جلس من الغد جلوسا فخما على الترتيب المعروف في الدولة أحكمه الحاجب أبو محمد لمعرفته لعوائدها و قوانين ترتيبها تلقنه عن أشياخه أهل الدولة من الموحدين و غدا عليه الكافة في طبقاتهم فبايعوا له و أعطوه صفقة إيمانهم وانفض المجلس و قد انعقدت بيعته و أحكمت خلافته
و كان الأمير خالد ابن مولانا السلطان مقيما بالحضرة قدمها رائدا منذ أشهر و أقام متهنا من الزيارة فلما سمع النعي فر من ليلته تقبض عليه أولاد منديل من الكعوب و ردوه إلى الحضرة فاعتقل بها و قام أبوه محمد تافراكين بخطة الحجابة كما كان و زيادة تفويض و استبداد إلا أن بطانة السلطان كانوا يكثرون السعاية فيه و يوغرون صدره عليه يذكرون منافساته و مناقشة سابقة بين الحاجب و الأمير أيام أبيه و اتصل ذلك منهم غصا لمكانه و أنذر الحاجب بذلك منهم فأعمل الحيلة في الخلاص من صحابتهم كما يذكر بعد و الله تعالى أعلم (6/517)
الخبر عن زحف الأمير أبي العباس ولي العهد من مكان إمارته بالجريد إلى الحضرة و ما كان من مقتله و مقتل أخويه الأميرين أبي فارس عزوز و أبي البقاء خالد
كان السلطان أبو بكر قد عهد إلى ابنه الأمير أبي العباس صاحب أعمال الجريد كما ذكرناه سنة ثلاث و أربعين و سبعمائة فلما بلغه خبر مهلك أبيه و ما كان من بيعة أخيه حقد على أهل الحضرة ما جاؤا به من نقض عهده و دعا العرب إلى مظاهرة أمره فأجابوه و نزعوا جميعا إلى طاعته عن طاعة أخيه بما كان مرهفا لحده في الاستبداد و الضرب على أيدي أهل الدولة من العرب و سواهم و زحف إلى الحضرة و لقيه أخوه أبو فارس صاحب عمل سوسة لقيه بالقيروان فآتاه طاعته و صار في جملته و جمع السلطان أبو حفص عمر جموعه و استركب و استلحق و أزاح العلل و خرج غرة شعبان و ارتحل عن تونس و حاجبه أبو محمد بن تافراكين قد أنذر منه بالهلكة و اعتمل في أسباب النجاة حتى إذا تراءى الجمعان رجع الحاجب إلى تونس في بعض الشغل و ركب الليل ناجيا إلى المغرب و بلغ خبر مفرة إلى السلطان فأجفل و اختل مصادفه و تحيز إلى باجة فتلوم بها و تخلف عنه أهل المعسكر فلحقوا بالأمير أبي العباس و ملك الحضرة ثامن رمضان و نزل برياض رأس الطابية و أطلق أخاه أبا البقاء من معتقله
ثم دخل إلى قصره لسبع ليال من ملكه و صبحه الأمير أبو حفص في ثامنها فاقتحم عليه البلد لضاغنة كانت له في قلوب الغوغاء من غشيانه نساءهم و طروقه منازلهم أيام جنون الشباب و قضاء لذاته في مرباه و فتك بأخيه الأمير أبي العباس و لسرعان ما نصب رأسه على القناة و داست شلوه هنالك سنابك العسكر و أصبح آية للمعتبرين و ثارت العامة بمن كان بالبلد من وجوه العرب و رجالاتهم فقتلوا في تلك الهيعة من كتب عليه القتل و تلوا كثيرا منهم إلى السلطان فاعتقلهم و قتل أبا الهون بن حمزة بن عمر بن بينهم و تقبض على أخويه خالد و عزوز فأمر بقطعهم من خلاف فقطعوا و كان فيه مهلكهم و استوسق ملكه بالحضرة و استعمل على حجابتها أبا العباس أحمد بن علي بن زين من طبقة الكتاب و كان كاتبا للضحشى الحاجب و بعده للقائد ظافر الكبير و اتصل السلطان أبو بكر لأول ملكه بالحضرة فأسف علي بن عمر بولاية ابن القالون الحاجب فخاطب السلطان فيه و نكبه
ثم أطلق من محبسه و مضى إلى المغرب و نزل على السلطان ابن سعيد فأجمل نزله ثم رجع إلى الحضرة و لم يزل مشردا أيام السلطان كلها و استكتب الأمير أبو حفص ولده محمدا و كانت له به وصلة فلما استوسق له الملك بعد مفر أبي محمد بن تافراكين كما ذكرناه و ولى أباه أبا العباس هذا على حجابته و عقد على حربه و عساكره لظافر مولى أبيه و جده المعروف بالسنان و استخلص لنجواه و سره كاتبه أبا عبد الله محمد بن الفضل ابن نوار من طبقة الفقهاء و القضاة و من أهل البيوت النابهة بتونس كان له بها سلف مذكور و اتصل بدار السلطان و ارتسم بها مكتبا لولده و قرأ عليه هذا الأمير أبو حفص فيمن قرأ عليه منهم فكانت له من أجل ذلك يد و مزيد عناية عنده و لما استبد بأمره كان هو مستبدا بشواره و جرت الحال على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى و الله تعالى أعلم (6/518)
الخبر عن استيلاء السلطان أبي الحسن على إفريقية و مهلك الأمير أبي حفص و انتقال الأبناء من بجاية و قسنطينة إلى المغرب و ما تخلل ذلك من الأحداث
كان السلطان أبو الحسن يحدث نفسه منذ ملك تلمسان و قبلها بملك أفريقية و يتربص بالسلطان أبي بكر و يسر له حسدا في ارتقاء فلما لحق به حاجبه أبو محمد بن تافراكين بعد مهلكه رغبه في سلطانها و استحثه بالقدوم عليها و جدد له الجوار فتنبهت لذلك عزائمه ثم وصل الخبر بمهلك ولي العهد و أخويه و خبر الواقعة فأحفظه لذلك بما كان من رضاه بعهده و خطه بالوفاق على ذلك بيده في سجله و ذلك أن حاجب الأمير أبي العباس و هو أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين كان سفر عن السلطان لآخر أيامه إلى السلطان أبي الحسن بهدية و حمل سجل العهد فوقف عليه السلطان أبو الحسن و سأل منه إمضاء لمولاه و كتب ذلك بخطه في سجله فخطه بيمينه و أحكم له عقده فلما بلغه مهلك ولي العهد تعلل بأن النقض أتى على ما أحكمه فأجمع غزو أفريقية و من بها فعسكر بظاهر تلمسان و فرق الأعطيات و أزاح العلل ثم رحل في صفر من سنة ثمان و أربعين و سبعمائة يجر الدنيا بما حملت و أوفد عليه أبناء حمزة بن عمر أمراء البدو بأفريقية و رجالات الكعوب أخاهم خالدا يستصرخه لثأر أخيهم أبي الهول الهالك يوم الواقعة فأجابهم
و نزع إليهم أيضا أهل القاصية من أفريقية بطاعتهم فجاؤا في وفد واحد مع ابن مكي صاحب قابس و ابن يملول صاحب توزر و ابن العابد صاحب قفصة و مولاهم ابن أبي عنان صاحب الحامة و ابن الخلف صاحب نفطة فلقوه بوهران و آتوه بيعتهم رغبة و رهبة و أدوا بيعة ابن ثابت صاحب طرابلس و لم يتخلف عنهم إلا من بعد داره ثم جاء من بعدهم و على أثرهم صاحب الزاب يوسف بن منصور بن مزني و معه مشيخة الموحدين الزواودة و كبيرهم يعقوب بن علي فلقيه بنو حسن من أعمال بجاية فأوسع الكل حبا و تكرمة و أسنى الصلات و الجوائز و عقد لكل منهم على بلده و عمله و بعث مع أهل الجزائر الولاة للجباية لنظر مسعود بن إبراهيم اليرنياوي من طبقة وزرائه و أغذ السير إلى بجاية فلما أطلت عساكره عليها توافر أهلها في الامتناع ثم أنابوا و خرج أميرها أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا فآتاه طاعته و صرفه إلى المغرب مع إخوانه و أنزله ببلد ندرومة و أقطع له الكفاية من جبايتها و بعث على جباية عماله و خلفائه و سار إلى قسنطينة فخرج إليه أبناء الأمير أبي عبد الله يقدمهم كبيرهم الأمير أبو زيد و آتوه طاعتهم و أقبل عليهم و صرفهم إلى المغرب و أنزلهم بوجدة و أقطعهم جبايتها و أنزل بقسنطينة خلفاء و عماله و أطلق القرابة من مكان اعتقالهم بها و فيهم أبو عبد الله محمد أخو السلطان أبي بكر و بنوه و محمد ابن الأمير خالد و إخوانه و بنوه و أصارهم في جملته حتى صرفهم إلى المغرب من الحضرة من بعد ذلك
و وفد عليه هنالك بنو حمزة بن عمرو مشايخ قومهم الكعوب فأخبروه باجفال المولى أبي حفص من تونس مع ظواعن أولاد مهلهل و استحثوه باعتراضهم قبل لحاقهم بالقفر و سرح معهم العساكر في طلبه لنظر حمو العشري من مواليه و سرح عسكرا آخر إلى تونس لنظر يحيى بن سليمان من بني عسكر و معه أبو العباس بن مكي و سارت العساكر لطلب الأمير أبي حفص فأدركوه بأرض الحامة من جهات قابس وصبحوهم فدافعوا عن أنفسهم بعض الشيء ثم انفضوا و كباب لأمير أبي حفص جواده في بعض نافقاء اليرابيع و انجلت الغيابات عنه و عن مولاه ظافر راجلين فتقبض عليهما و أوثقهما قائد الكتائب بيده حتى إذا جن الليل و توقع أن يفلتهما العرب من أساره قبل أن يصل بهما إلى مولاه فذبحهما و بعث برؤسهما إلى السلطان أبي الحسن فوصلا إليه بباجة
و خلص الفل من الواقعة إلى قابس فتقبض عبد الملك بن مكي على رجالات من أهل الدولة كان فيهم أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين و صخر بن موسى من رجالات سدويكش و غيرهما من أعيان الدولة فبعث بهم ابن مكي إلى السلطان فأما ابن عتو و صخر بن موسى و علي بن منصور فقطعهم من خلاف و اعتقل الباقي و سيقت العساكر إلى تونس ثم جاء السلطان على أثرهم و دخل الحضرة في الزي و الاحتفال في جمادي الآخرة من سنته و خفت الأصوات و سكنت الدهماء و انقبضت أيدي أهل الفساد و انقرض أمر الموحدين إلا أذيالا في بونة فإنه عقد عليها للمولى الفضل ابن مولانا أبي بكر لمكان صهره و وفادته عليه بين يدي مهلك أبيه ثم ارتحل السلطان إلى القيروان ثم إلى سوسة و المهدية و تطوف على المعالم التي بها و وقف على آثار ملوك الشيعة و صنهاجة في مصانعها و مبانيها و التمس البركة في زيارة القبور التي تذكر للصحابة و السلف من التابعين و الأولياء في ساحتها و قفل إلى تونس فدخلها آخر شعبان و الله تعالى أعلم (6/520)
الخبر عن ولاية الأمير أبي العباس الفضل على بونة و أولية ذلك و مصايره
كان السلطان أبو الحسن قد أصهر إلى السلطان أبي بكر قبيل مهلكه في إحدى كرائمه و أوفد عليه في ذلك عريف بن يحيى كبير بني سويد من زغبة و صاحب شواره و خالصة سره وفد من رجالات دولته من طبقات الفقهاء و الكتاب و الموالي كان فيهم صاحب الفتيا بمجلسه أبو عبد الله السطي و كاتب دولته أبو الفضل عبد الله بن أبي مدين و أمير الحرم عنبر الخصي فاسعفه السلطان و عقد له على حظيته عزونة شقة ابنه الفضل و زفها إليه بين يدي مهلكه مع أخيها الفضل و معه أبو محمد عبد الواحد ابن الجماز من مشيخة الموحدين و أدركهم الخبر بمهلك السلطان في طريقهم فلما قدموا على السلطان أبي الحسن تقبلهم بقبول حسن و رفع مجلس الفضل و استتب له ملكها فأعرض عن ذكر ذلك إلا أنه رعى له ذمة الصهر و سابقة الوعد فأسعفه بالعقد على بونة مكان عملة منذ أيام أبيه و أنزله بها عندما رحل عنها إلى تونس و انقمع المولى الفضل من ذلك حقدا لما يرجوه من تجافيهم له عن ملك آبائه و لحق وفادته و صهره و أقام بمكان عمله منها يؤمل الكر إلى أن كان من أمر ما نذكره و الله أعلم (6/522)
الخبر عن بيعة العرب لابن دبوس و واقعتهم مع السلطان أبي الحسن بالقيروان و ما قارن ذلك كله من الأحداث
كان السلطان أبو الحسن لما استوسق له ملك أفريقية أسف العرب بمنعهم من الأمصار التي ملكوها بالأقطاعات و الضرب على أيديهم في الأتاوات فوجموا لذلك و استكانوا لغلبته و تربصوا الدوائر و ربما كان بعض البادية يشن الغارات في الأطراف فيعتدها السلطان على كبارهم و أغاروا بعض الأيام في ضواحي تونس فاستاقوا الظهر الذي كان في مرعاها و أظلم الجو بينهم و بينه و خشوا عاديته و توقعوا بأسه و وفدوا عليه أيام الفطر من رجالاتهم خالد بن حمزة و أخوه أحمد من بني كعب و خليفة بن عبد الله من بني مسكين و خليفة بن بو زيد من رجالات حكيم
و ساءت طنونهم في السلطان لسوء أفعالهم فدخلوا عبد الواحد بن اللحياني في الخروج على السلطان و كان من خبر عبد الواحد هذا أنه بعد إجفاله من تونس سنة اثنتين و ثلاثين و سبعمائة كما ذكرناه لحق بأبي تاشفين فأقام عنده في مبرة و تكرمة و لما أخذ السلطان أبو الحسن بمخنق تلمسان و اشتد حصارها سأل عبد الواحد بن أبي تاشفين تخليته للخروج فودعه و خرج إلى السلطان أبي الحسن فنزل عليه و لم يزل في جملته إلى أن احتل بأفريقية فلما اخشن ما بينه و بين الكعوب و التمسوا الأعياص من بني أبي حفص فيصطفونهم للأمر رجوا أن يظفروا من عبد المؤمن هذا بالبغية فدخلوا و إرتاب لذلك و خشي بادرة السلطان فرفع إليه الخبر فتقبض السلطان عليهم و أحضرهم معه فأنكروا و بهتوا
ثم وبخهم و اعتقلهم و عسكر بساحة الحضرة لغزوهم و تلوم لبعث الأعطيات و أزاح العلل و بلغ الخبر إلى أحيائهم فقطع اليأس أسباب رجائهم و انطلقوا يخربون الأحزاب و يلمون للملك الأعياص و كان أولاد مهلهل أقيالهم و عديلة حملهم قد أيأسهم السلطان من القبول و الرضا بما بالغوا في نصيحة المولى أبي حفص و مظاهرته فلحقوا بالقفر و دخلوا الرمال فركب إليهم قتيبة بن حمزة و أمه و معهم ظعائن أبنائهما متذممين لأولاد مهلهل بالعصبية و القرابة فأجابهم و اجتمعوا بقسطيلية و تحاثوا التراب و الدماء و تذامروا بما شملهم من رهب السلطان و توقع بأسه و تفقدوا من أعياص الموحدين من ينصبونه للأمر و كان بتوزر أحمد بن عثمان ابن أبي دبوس آخر خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش و قد ذكرنا خبره و خروجه بجهات طرابلس و إجلابه مع العرب على تونس أيام السلطان أبي عصيدة ثم انفضوا و بقي عثمان بجهات قابس و طرابلس إلى أن هلك بجريرة جربة و استقر بنو ابنه عبد السلام بالحضرة بعد حين فاعتقلوا بها أيام السلطان أبي بكر ثم غربهم إلى الإسكندرية مع أولاد ابن الحكيم عند نكبته كما ذكرنا ذلك كله فنزلوا بالإسكندرية و أقبلوا على الحرف لمعاشهم و رجع أحمد هذا من بينهم إلى المغرب و استقر بتوزر و احترف بالخياطة و لما تفقد العرب الأعياص دلهم على نكرته بعض أهل عرفانه فانطلقوا إليه و جاؤا به و جمعوا إليه الآلة و نصبوه للأمر و تبايعوا على الاستماتة و رجع إليهم السلطان في عساكره من تونس أيام الحج من سنة ثمان و لقيهم بالثنية دون القيروان فغلبهم و أجفلوا أمامه إلى القيروان ثم تذامروا و رجعوا مستميتين ثاني محرم سنة تسع فاختل مصافه و دخل القيروان و انتهبوا معسكره بما اشتمل عليه و أخذوا بمخنقة إلى أن اختلفوا فأفرجوا عنه و خلص إلى تونس كما نذكر و الله تعالى أعلم (6/523)
الخبر عن حصار القصبة بتونس ثم الافراج عن القيروان و عنها و ما تخلل ذلك
كان الشيخ أبو محمد بن تافراكين أيام حجابة السلطان أبي بكر مستبدا بأمره مفوضا إليه في سائر شؤونه فلما استوزره السلطان أبو الحسن لم يجره على مألوفه لما كان قائما على أمره و ليس التفويض للوزراء من شأنه و كان يظن أن السلطان أبا الحسن سيكل إليه أمر أفريقية و ينصب معه الفضل للملك و ربما زعموا أنه عاهده على ذلك فكان في قلبه من الدولة مرض و كان العرب يفاوضونه بذات صدروهم من الخلاف و الإجلاب فلما حصلوا على البغية من الظهور على السلطان أبي الحسن و عساكره و أحاطوا به في القيروان تحيل ابن تافراكين في الخروج على السلطان لما تبين فيه من النكر منه و من قومه و بعث العرب في لقائه و أن يحملوه حديث بيعتهم إلى الطاعة فأذن له و خرج إليهم و قلدوه حجابة سلطانهم ثم سرحوه إلى حصار القصبة و كان عند رحيله من تونس خلف بها الكثير من أبنائه وجوه قومه فلما كانت واقعة القيروان و اتصل الخبر بتونس كانت لبناته هيعة خشي عليها عسكر السلطان على أنفسهم فلجأ من كان معهم من تونس إلى قصبتها و أحاط بهم الغوغاء فامتنعت عليهم و اتخذوا الآلة للحصار و فرقوا الأموال في الرجال و عظم فيها غناء بشير من المعلوجين الموالي فطار له ذكر وكان الأمير أبو سالم ابن السلطان أبي الحسن قد جاء من المغرب فوافاه الخبر دوين القيروان فانفض معسكره و رجع إلى تونس معهم بالقصبة
و لما فرج عن ابن تافراكين من هوة الحصار بالقيروان طمعوا في الاستيلاء على قصبة تونس و فض ختامها فدفعوه إلى ذلك ثم لحق به سلطانه ابن أبي دبوس و عانى من ذلك ابن تافراكين صعبا لكثرة الرجال الذين كانوا بها و نصب المجانيق عليها فلم يغن شيئا و هو أثناء ذلك يحاول النجاء بنفسه لاضطراب الأمور و اختلال الرسوم إلى أن بلغه خلوص السلطان من القيروان إلى سوسة
و كان من خبره أن العرب بعد إيقاعهم بعساكره أحاطوا بالقيروان و اشتدوا في حصارها و داخل السلطان و أولاد مهلهل من الكعوب و حكيما من بني سليم في الإفراج عنه و اشترط لهم على ذلك الأموال و اختلف رأي العرب لذلك و دخل عليه قنيبة بن حمزة بمكانه من القيروان زعما بالطاعة فتقبله و أطلق أخويه خالدا و أحمد و لم يثق إليهم
ثم جاء إليه محمد بن طالب من أولاد مهلهل و خليفة ابن أبي زيد و أبو الهول بن يعقوب من أولاد القوس و اسرى معهم بعسكره إلى سوسة فصبحها و ركب منها في أساطيله إلى تونس و سبق الخبر إلى ابن تافراكين بتونس فتسلل من أصحابه و ركب السفينة إلى الإسكندرية في ربيع سنة تسع و أربعين و سبعمائة
و أصبحوا و قد فقدوه فاضطربوا و أجفلوا عن تونس و خرج أهل القصبة من أولياء السلطان فملكوها و خربوا منازل الحاشية فيها و نزل السلطان بها من أسطوله في ربيع الآخر فاستقلت قدمه من العثار و رجا الكرة لولا ما قطع أسبابها عنه مما كان من انتراء أبنائه بالمغرب على ما نذكره في أخبارهم و أجلب العرب و ابن أبي دبوس معهم على الحضرة و نازلوا بها السلطان فامتنعت عليهم فرجعوا إلى مهادنته فعقد لهم السلم و دخل حمزة بن عمر إليه وافدا فحبسه إلى أن تقبض على ابن أبي دبوس و أمكنه منه فلم يزل في محبسه إلى أن رحل إلى المغرب و لحق هو بالأندلس كما نذكره في أخباره و أقام السلطان بتونس و وفد عليه أحمد بن مكي فعقد لعبد الواحد بن اللحياني على الثغور الشرقية طرابلس و قابس و صفاقس و جربة و سرحه مع ابن مكي فهلك عند وصوله إليها في الطاعون الجارف و عقد لأبي القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين و هو الذي كان قطعه بإغراء أبي محمد بن تافراكين فلما ظهر خلافه أعاد ابن عتو إلى مكانه و عقد له على بلاد قسطيلية و سرحه إليها و أقام هو بتونس إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/524)
الخبر عن استيلاء الأمير الفضل على قسنطينة و بجاية ثم استيلاء أمرائهما بتمهيد الملك
كان سنن السلطان أبي الحسن في دولته بالمغرب وفود العمال عليه آخر كل سنة لإيراد جبايتهم و المحاسبة على أعمالهم فوفدوا عليه عامهم ذلك من قاصية المغرب و وافاهم خبر الواقعة بقسنطينة و كان معهم ابن مزني عامل الزاب وفد أيضا بجبايته و هديته و كان معهم ابن عمه تاشفين ابن السلطان أبي الحسن كان أسيرا من يوم واقعة طريف و وقعت المهادنة بين الطاغية و بين أبيه فأطلقه و أوفد معه جمعا من بطارقته و قدموا معه على أبيه و وفد معه أخوه عبد الله من المغرب و كان أيضا معهم وفد السودان من أهل مالي في غرض السفارة و اجتمعوا كلهم بقسنطينة فلما اتصل بهم خبر الواقعة على السلطان كثر الاضطراب و تطلبت السفهاء من الغوغاء إلى ما بأيديهم و خشي الملأ من أهل البلد على أنفسهم فاستدعوا أبا العباس الفضل من عمله ببونة و لما أطل على قسنطينة ثارت العامة بمن كان هنالك من الوفد و العمال و انتهبوا أموالهم و استحملوا منهم و خلص أبناء السلطان مع وفود السلطان و الجلالقة إلى بسكرة مع ابن مزني و في حفارة يعقوب بن علي أمير الزواودة فأوسع ابن مزني قرى و تكرمة إلى أن لحقوا بالسلطان أبي الحسن بتونس في رجب من سنة تسع
و دخل المولى الفضل إلى قسنطينة و أعاد ما ذهب من سلطانه قومه و شمل الناس بعدله و إحسانه و سوغ الأقطاع و الجوائز و رحل إلى بجاية لما آنس من صاغية أهلها إلى الدعوة الحفصية فلما أطل عليها ثار أهلها بالعمال الذين كان السلطان أنزلهم بها و استباحوهم و أفلتوا من أيدي نكبتهم بحريفة الرفل و دخل الفضل إلى بجاية و استولى علىكرسي ملكها و نظمها مع قسنطينة و بونة في ملكها و أعاد ألقاب الخلافة و رسومها و شتاتها كما كانت و اعتزم على الرحيل إلى الحضرة و بينما هو يحدث نفسه بذلك إذ وصل الخبر بقدوم أمراء بجاية و قسنطينة من المغرب و كان من خبرها أن الأمير أبا عنان لما بلغه خبر الواقعة بأبيه و انتزاء منصور ابن أخيه إلى ملكه بالبلد الجديد دار ملكهم و أحس بخلاص أبيه من هوة الحصار بالقيروان وثب على الأمر و دعا لنفسه و رحل إلى المغرب كما نذكره في أخباره و سرح الأمير أبا عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا صاحب بجاية و الأنباء إلى عمله و أمده بالأموال و أخذ عليه المواثيق ليكونن له ردأ دون أبيه و ليحولن بينه و بين الخلوص متى مر به
و انطلق أبو عبد الله إلى بجاية و قد سبقه إليها عمه الفضل و استولى عليها فنازله بها و طال حصارها و لحق بمكانه من منازلتها نبيل المولى ابن المعلوجي مولى الأمير أبي عبد الله و كافل بنيه من بعده و تقدم إلى قسنطينة و بها عامل من قبل الفضل فثار به الناس لحينه و دخل نبيل و ملك البلد و أقام فيها دعوة الأمير أبي زيد ابن الأمير أبي عبد الله و كان الأمير أبو عنان استصحبه و إخوانه إلى المغرب و بعد احتلاله بفاس سرحهم إلى مكان إمارتهم بقسنطينة بعد أن أخذ عليهم الموثق في شأن أبيه بمثل موثق ابن عمهم فجاؤا عل أثر نبيل مولاهم و دخلوا البلد و احتل أبو زيد منها بمكان إمارته و سلطان قدمه كما قبل رحلتهم إلى المغرب
و لم يزل الأمير أبو عبد الله ينازل بجاية إلى أن بيتها بعض ليالي رمضان من سنته بمداخلة بعض الأشياع من رجالها داخلهم مولاه و كافله فارح في ذلك فسرب فيهم الأموال و واعدوه للبيات و فتحوا له باب البر من أبوابها و اقتحمه و فاجأهم هدير الطبول فهب السلطان من نومه و خرج من قصره فتسنم الجبل المطل عليها و تسرب في شعابه إلى أن وضح الصباح و ظهر عليه فجيء به إلى ابن أخيه فمن عليه و استبقاه و أركبه السفينة إلى بلد بونة في شوال من سنة تسع و أربعين و سبعمائة و وجد بعض الأعياص من قرابته قد ثاروا بها و هو محمد بن عبد الواحد من ولد أبي بكر ابن الأمير أبي زكريا الأكبر كان هو و أخوه عمر بالحضرة و كان لعمر منها النظر على القرابة فلما كان هذا الاضطراب لحقوا بالفضل و تركهم ببونة عند سفره إلى بجاية فحدثتهم أنفسهم بالانتراء فلم يتم لهم أمر و ثارت بهم الحاشية و العامة فقتلوا لوقتهم و وافى الفضل إلى بونة و قد انجلت غيمتهم و محيت آثارهم فدخل إلى قصره و ألقى عصا تسياره و استقل الأمير أبو عبد الله ابن الأمير أبي زكريا ببجاية محل إمارة أبيه الأمير أبي زيد ابن الأمير أبي عبد الله بقسنطينة محل إمارة أبيه و الأمير أبو العباس الفضل ببونة محل إمارته منذ عهد الأمر و السلطان أبو الحسن بتونس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/526)
الخبر عن حركة الفضل الى تونس بعد رحيل السلطان أبي الحسن إلى المغرب
كان العرب بعدما قدمنا من طاعتهم و إسلامهم سلطانهم إلى أبي دبوس قد انفضوا عن السلطان أبي الحسن و أجلبوا عليه ثانية و تولى كبر ذلك قتيبة بن حمزة و خالف إلى السلطان أخوه خالد مع أولاد مهلهل و افترق أمرهم و خرج كبيرهم عمر ابن حمزة حاجا فاستقدم قتيبة و أصحابه الأمير الفضل من مكان إمارته ببونة لطلب حقه و استرجاع ملك آبائه فأجابهم و وصل إلى أحيائهم آخر سنة تسع و أربعين و سبعمائة فنازلوا تونس و أجلبوا عليها ثم أفرجوا عن منازلتها أول سنة خمسين و سبعمائة و أفرجوا عنها آخر المصيف و استدعاهم أبو القاسم بن عتو صاحب الجريد من مكان عمله بتوزر فدخل في طاعة الفضل و حمل أهل الجريد كلهم عليها و اتبعه في ذلك بنو مكي و انتقضت أفريقية عن السلطان أبي الحسن من أطرافها فركب أساطيله إلى المغرب أيام الفطر من سنة خمسين و سبعمائة و مضى المولى الفضل إلى تونس و بها أبو الفضل ابن السلطان أبي الحسن كان أبوه قد عقد له عليها عند رحيله إلى المغرب تفاديا عن ثورات الغوغاء و مضرة هيعتهم و أمن عليه بما كان عقد له من الصهر مع عمر بن حمزة في ابنته فلما أطلت رايات المولى الفضل على تونس أيام الحج نبضت عروق التشيع للدعوة الحفصية و أحاطت الغوغاء بالقصر و رجموه بالحجارة و أرسل أبو الفضل إلى بني حمزة متذمما بصهرهم فدخل عليه أبو الليل و أخرجه و من معه إلى الحسن و استركب له من رجالات بني كعب من أبلغه مأمنه و هداه السبيل إلى وطنه و دخل الفضل إلى الحضرة و قعد بمجلس آبائه من الخلافة و جدد ما طمسته بنو مرين من معالم الدولة و استمر أمره على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى (6/528)
الخبر عن مهلك الفضل و بيعة أخيه المولى أبي إسحق في كفالة أبي محمد بن تافراكين و تحت استبداده
لما دخل أبو العباس الفضل إلى الحضرة و استبد بملكها عقد على حجابته لأحمد بن محمد بن عتو نائبا عن عمه أبي القاسم ريثما يفيء من الجريد و عقد على جيشه و حربه لمحمد بن الشواش من بطانته و كان وليه المطارد به أبو الليل قتيبة بن حمزة مستبدا عليه في سائر أحواله مشتطا في طلباته و أنف له بطانته من ذلك فحملوه على التنكر له و أن يديل منه بولاية خالد أخيه و بعث عن أبي القاسم بن عتو و قد قلده في حجابته و فوض إليه أمره و جعل مقاد الدولة بيده فركب إليه البحر من سوسة و استألف له خالد بن حمزة ظهيرا على أخيه بعد أن نبذ إليه عهده و فاوضهم أبو الليل ابن حمزة قبل استحكام أمورهم فغلب على السلطان و حمله على عزله قائده محمد بن الشواش فدفعه إلى بونة على عساكرها و اضطربت نار الفتنة بين أبي الليل بن حمزة و بين أخيه خالد و كاد شملهم أن يتصدع و بينما هم يجيشون نار الحرب و يجمعون الجموع و الأحزاب إذ قدم كبيرهم عمر و أبو محمد عبد الله بن تافراكين من حجهم و كان ابن تافراكين لما احتل بالإسكندرية بعث السلطان فيه إلى أهل المشرق و خاطبه ملوك مصر في التحكيم فيه فأجاره عليه الأمير المستبد على الدولة يومئذ بيقاروس و خرج من مصر لقضاء فرضه و خرج عمر بن حمزة لقضاء فرضه أيضا فاجتمعا في مشاهد الحاج آخر سنة خمسين و سبعمائة تعاقدا على الرجوع إلى أفريقية و التظاهر على أمرها و قفلا فألقيا خالدا و قتيبة على الصفين فأشار عمر بن داية فاجتمعا و توافقا و مسح الاحن من صدورهما و تواطؤا جميعا على المكر بالسلطان و بعث إليه وليه قتيبة بالمراجعة فقبله و اتفقوا على أن يقلد حجابته أبا محمد ابن تافراكين صاحب أبيه و كبير دولته و يديل به من ابن عتو فأبى
ثم أصبحت و نزلت أحياؤهم ظاهر البلد و استحثوا السلطان للخروج إليهم ليكملوا عقد ذلك و وقف بساحة البلد إلى أن أحاطوا به ثم اقتادوه إلى بيوتهم و أذنوا لابن تافراكين في دخول البلد فدخلها لإحدى عشرة من جمادي الأولى سنة إحدى و خمسين و سبعمائة و عمد إلى دار المولى أبي إسحق إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي بكر فاستخرجه بعد أن بذل من العهد لأمه و المواثيق مارضيتها و جاء به إلى القصر و أقعده على كرسي الخلافة و بايع له الناس خاصة و عامة و هو يومئذ غلام مناهز فانعقدت بيعته و دخل بنو كعب فآتوه طاعتهم و سيق إليه أخوه الفضل ليلتئذ فاعتقل و غط من جوف الليل بمحبسه حتى فاض ولاذ حاجبه أبو القاسم بن عتو بالاختفاء في غيابات البلد و عثر عليه لليال فاعتقل و امتحن و هلك في امتحانه و خوطب العمال في الجهات بأخذ البيعة على من قبلهم فبعثوا بها و استقام ابن بهلول صاحب توزر على الطاعة و بعث بالجباية و الهدية و اتبعه صاحب نفطة و صاحب قفصة و خالفهم ابن مكي و ذهب إلى الاجلاب على ابن تافراكين لما كان قد كفل السلطان و حجزه عن التصرف في أمره و استبد عليه إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى و الله تعالى أعلم (6/529)
الخبر عن حركة صاحب قسنطينة و ما كان من حجابة أبي العباس بن مكي و تصاريف ذلك
لما استولى أبو محمد بن تافراكين على تونس و بايع للمولى أبي إسحق بالخلافة و استبد عليه نقم عليه الأمراء شأن استبداده و نقمه ابن مكي للسعي عليه لمنافسة كانت بهما قديمة من لدن أيام السلطان أبي بكر و استعان على ذلك بأولاد مهلهل مقاسمي أولاد أبي الليل في رياسة الكعوب و مجاذبيهم حبل الإمارة فلما رأوا صاغية ابن تافراكين إلى أولاد أبي الليل أقتالهم أجمعوا له و لهم و حالفوا بني حكيم من قبائل علان و أجلبوا على الضواحي و شنوا الغارات ثم وفد على الأمير أبي زيد صاحب قسنطينة و أعمالها يستحثهم للنهوض إلى أفريقية و استخلاص ملك آبائه من استبد عليه و احتازه دونهم فسرح معهم عسكرين لنظر ميمون و منصور الجاهل من مواليه و موالي أبيه و ارتحلوا من قسنطينة و ارتحل معهم يعقوب بن علي كبير الزواودة بمن معه من قومه و سرح أبو محمد بن تافراكين من الحضرة للقاسم عسكرا مع بني الليل بن حمزة لنظر مقاتل من موالي السلطان و التقى الجمعان ببلاد هوارة سنة اثنتين و خمسين و سبعمائة فكانت الدبرة على أولاد أبي الليل
و قتل يومئذ أبو الليل قتيبة بن حمزة بيد يعقوب بن سحيم من أولاد القوس شيوخ بني حكيم و رجع فلهم إلى تونس و امتدت أيدي أولاد مهلهل و عساكر قسنطينة في البلاد و جبوا الأموال من أوطان هوارة و انتهوا إلى ابدة ثم قفلوا راحلين إلى قسنطينة و ولي على أولاد أبي الليل مكان قتيبة أخوه خالد بن حمزة و قام بأمرهم و كان أبو العباس بن مكي أثناء ذلك يكاتب المولى أبا زيد صاحب قسنطينة من مكان ولايته بقابس و يعده من نفسه الوفادة و المدد بالمال و الأحزاب و القيام بأعطيات العرب حتى إذا انصرم فصل الشتاء و وفد عليه مع أولاد مهلهل لقاه مبرة و تكريما و عقد له على حجابته و جمع عساكره و جهز آلاته و أزاح علل تابعه و رحل من قسنطينة سنة ثلاث و خمسين و سبعمائة في صفر و جهز أبو محمد بن فراكين سلطانه أبا إسحق لما يحتاج إليه من العساكر و الآلة و جعل على حربه ابنه أبا عبد الله محمد بن نزار من طبقة الفقهاء و مشيخة الكتاب كان يعلم أبناء السلطان الكتاب و يقرئهم القرآن كما قدمناه و فصل من تونس في التعبية حتى اذا تراءى الجمعان كر محمد و تزاحفوا فاختل مصاف السلطان أبي إسحق و افترقت جموعه و ولوا منهزمين و اتبعهم القوم عشية يومهم و لحق السلطان بصاحبه أبو محمد بن تافراكين بتونس و جاؤا على أثره فنزلوا تونس أياما و طالت عليهم الحرب ثم امتنعت عليهم و ارتحلوا إلى القيروان ثم إلى قفصة و بلغهم أن ملك المغرب الأقصى السلطان أبا عبد الله قد خالفهم إلى قسنطينة بمداخلة أبي محمد بن تافراكين و استجاشته و نازل جهات قسنطينة و انتهب زروعها و شن الغارات عليها و في بسائطها فبلغهم أنه رجع إلى بجاية منكمشا من زحف بني مرين و اعتزم الأمير أبو زيد على مبادرة ثغره و دار إمارته يعني قسنطينة و رغب إليه أبو العباس بن مكي و أولاد مهلهل أن يخلف بينهم من إخوانه من يجتمعون إليه و يزاحفون به فولى عليهم أخاه العباس فبايعوه و أقام فيهم هو وشقيقه أبو يحيى زكريا إلى أن كان من شأنه ما نذكر و انصرف الأمير أبو زيد عند ذلك من قفصة يغذ السير إلى قسنطينة و احتل بها في جمادى من سنته و الله تعالى أعلم (6/531)
الخبر عن وفادة صاحب بجاية على أبي عنان و استيلائه عليه و على بلده و مطلبه قسنطينة
كان بين الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية و بين الأمير أبي عنان أيام إمارته بتلمسان و نزول الأعياص الحفصيين بندرومة و وجدة أيام أبيه كما ذكرناه اتصال و مخالصة أحكمها بينهما نسب للشباب و الملك و سابقة الصهر فكان الأمير أبو عبد الله من أجل ذلك صاغية إلى بني مرين أوجد بها السبيل على ملكه و لما مر السلطان أبو الحسن في أسطوله عند ارتحاله من تونس كما قدمناه أمر أهل سواحله بمنعه الماء و الأقوات من سائر جهاتها رعيا للذمة التي اعتقدها مع الأمير أبي عنان في شأنه و جنوحا إلى تشييع سلطانه و لما أوقع السلطان أبو عنان ببني عبد الواد سنة ثلاث و خمسين و سبعمائة و استولى على المغرب الأوسط و نجا فلهم إلى بجاية أوعز إلى الأمير أبي عبد الله باعتراضهم في جهاته و التقبض عليهم فأجابه إلى ذلك و بعث العيون بالمراصد فعثروا في ضواحي بجاية على محمد ابن سلطانهم أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن و على أخيه أبي ثابت الزعيم بن عبد الرحمن و على وزيرهم يحيى بن داود بن سليمان فأوثقوهم اعتقالا و بعث بهم إلى السلطان أبي عنان ثم جاء على أثرهم فتلقاه بالقبول و التكرمة و أنزله بأحسن نزل ثم دس إليه من أغراه بالنزول له عن بجاية رغبة فيما عند السلطان إزاء ذلك من التجلة و الادالة عنها بمكناسة المغرب الراحة من زبون الجند و البطانة و أخفافا مما سواه إن لم يعتمده فأجاب إليه على اليأس و الكره و شهد مجلس السلطان و الملا من بني مرين بالرغبة في ذلك فأسعف و انيفت جائزته و اقتطعت له مكناسة من أعمال المغرب ثم انتزعها لأيام قلائل و نقله في جملته إلى المغرب و بعث الأمير أبو عنان مولاه فارحا المستبد عليه ليأتيه بأهله و ولده و عقد أبو عنان على بجاية لعمر بن علي ابن الوزير من بني واطاس و هم ينتسبون بزعمهم إلى علي بن يوسف أمير لمتونة فاختصه أبو عنان بولايتها لمتانة هذا النسب الصنهاجي بينه و بين أهل وطنها منهم و انصرفوا جميعا من المرية و لما احتلوا بجاية تآمر أولياء الدعوة الحفصية و من صنهاجة و الموالي و هجست رجالاتهم في قتل عمر بن علي الوزير و أشياع بني مرين و تصدى لذلك زعيم صنهاجة منصور بن ابراهيم بن الحاج في رجالات من قومه باملاء فارح كما زعموا
و غدوا عليه في داره من القصبة فأكب عليه منصور يناجيه فطعنه و طعن آخر منهم القاضي ابن مركان بما كان شيعة لبني مرين ثم أجهزوا على عمر بن علي و مضى القاضي إلى داره فمات
و اتصلت الهيعة بفارح فركب إليه و هتف الهاتف بدعوة صاحب قسنطينة المولى أبي زيد و طيروا إليه بالخبر و استحثوه للقدوم و أقاموا على ذلك أياما ثم تآمر الملأ من أهل بجاية في التمسك بدعوة صاحب المغرب خوفا من بوادره فثاروا بفارح و قتلوه أيام التشريق من سنة ثلاث و خمسين و سبعمائة و بعثوا برأسه إلى السلطان بتلمسان و تولى كبر ذلك هلال صاحبه من موالي ابن سيد الناس و محمد بن الحاجب أبي عبد الله بن سيد الناس و مشيخة البلد و استقدموا العامل حواس من بني مرين و هو يحيى بن عمر بن عبد المؤمن من بني و نكاس فبادر إليهم و سرح السلطان أبو عنان إليها حاجبه أبا عبد الله محمد بن أبي عمر في الكتائب فدخلها فاتح أربع و خمسين و سبعمائة و ذهبت صنهاجة في كل وجه و لحق كبارهم و ذوو الفعلة منه بتونس و تقبض على هلال مولى ابن سيد الناس لما داخلته فيه من الظنة و على القاضي محمد بن عمر لما كان شيعة لفارح و على زعماء الغوغاء من أهل المدينة و أشخصهم معتقلين إلى المغرب و صرف نظره إلى تمهيد الوطن و استدعى كبراء العرب و أهل النواحي من أعمال بجاية و قسنطينة
و وفد عليه يوسف بن مزني صاحب الزاب و مشيخة الزواودة فاسترهن أبناءهم على الطاعة و قفل بهم إلى المغرب و استعمل أبو عنان على بجاية موسى بن إبراهيم اليرنياني من طبقة الوزراء و بعثه إليها و لما وفدوا على السلطان جلس جلوسا فخما و وصلوا إليه و لقاهم تكرمة و مبرمة و أوسعهم حباء و اقطاعا و أنفذ لهم الصكوك و السجلات و أخذ على طاعتهم العهود و المواثيق و الرهن و انقلبوا إلى أهلهم و عقد لحاجبه ابن أبي عمر و على بجاية و أعمالها و على حرب قسنطينة من ورائها و رجعه إليها فدخلها في رجب من سنته
و أوعز السلطان إلى موسى بن ابراهيم بالولاية على سدويكش و النزول ببني ياورار في كتيبة جهزها هنالك لمضايقة قسنطينة و جباية وطنها و كل ذلك لنظر الحاجب ببجاية و كان بقسنطينة أبو عمر تاشفين ابن السلطان أبي الحسن معتقلا من لدن واقعة بني مرين بها و كان موسوسا في عقله معروفا بالجنون عند قومه و كان الأمراء بقسنطينة قد أسنوا جرايته في اعتقاله و أولوه من المبرة و الكفاية كفاء نسبه فلما زحف كتائب بني مرين إلى بني ياورار آخر عمل بجاية و دانوا قسنطينة و من بها من الحروب و الحصار نصب المولى أبو زيد هذا الموسوس أبا عمر ليجأجيء به رجالات بني مرين أهل العسكر ببجاية و بني ياورار و جهز له الآلة و تسامعوا بذلك ففزع إليهم الكثير منهم و خرج نبيل حاجب الأمير أبي زيد إلى أهل صنهاجة من بونة و من كان على دعوته من سدويكش و الزواودة فجمعهم و زحفوا جميعا الى وطن بجاية و اتصل الخبر بالحاجب ببجاية فبعث في الزواودة من مشاتيهم بالصحراء فأقبلوا إليه حتى نزلوا التلول و وفد عليه أبو دينار بن علي بن أحمد و استحثه للحركة على قسنطينة فاعترض عساكره و أزاح عللهم و خرج من بجاية في ربيع من سنة خمسين و سبعمائة فكر أبو عمر و من معه راجعين إلى قسنطينة و زحف الحاجب فيمن معه من بني مرين و الزواودة و سدريكش و لقيهم نبيل الحاجب بمن معه فكانت عليه الدبرة و اكتسحت أموال بونة و رجع ابن أبي عمر بعساكره إلى قسنطينة فأناخ عليها سبعا ثم ارتحل عنها إلى ميلة و عقد يعقوب بن علي بين الفريقين صلحا على أن يمكنوه من أبي عمر الموسوس فبعثوا به إلى أخيه السلطان أبي عنان فأنزله ببعض الحجر ورتب عليه الحرس و سار الحاجب في نواحي أعماله و انتهى إلى المسيلة و اقتضى مغارمها ثم انكفأ راجعا إلى بجاية و هلك فاتح سنة ست و خمسين و سبعمائة و عقد السلطان على بجاية و أعمالها بعده لوزيره عبد الله بن علي بن سعيد من بني بابان و سرحه إليها فدخلها و زحف إلى قسنطينة فحاصرها و امتنعت عليه فرجع إلى بجاية ثم زحف من العام المقبل سنة سبع و خمسين و سبعمائة كذلك و نصب عليها المجانيق فامتنعت عليه و أرجف في عسكره بموت السلطان فانفضوا و أحرق مجانيقه
و رجع الى بجاية جمر الكتائب ببني ياورار لنظر موسى بن إبراهيم اليرنياني عامل سدويكش إلى أن كان من الإيقاع به و بعسكره ما نذكره إن شاء الله تعالى و الله أعلم (6/532)
الخبر عن حادثة طرابلس و استيلاء النصارى عليها ثم رجوعها إلى ابن مكي
كانت طرابلس هذه ثغرا منذ الدول القديمة و كانت لهم عناية بحمايتها لما كان وضعها في البسيط و كانت ضواحيها قفرا من القبائل فكان النصارى أهل صقلية كثيرا ما يحدثون أنفسهم بملكها و كان ميخائيل الأنطاكي صاحب أسطول رجار قد تملكها من أيدي بني حزروق من مغراوة آخر دولتهم و دولة صنهاجة كما ذكرنا ثم رجعها ابن مطروح و دخلت في دعوة الموحدين و مرت عليها الأيام إلى أن استبد بها ابن ثابت و وليها من بعده ابنه في أعوام خمسين و سبعمائة منقطعا عن الحضرة و مقيما رسم الدعوة و كان تجار الجنوبيين يترددون إليها فاطلعوا على عوراتها و ائتمروا في غزوها و اتعدوا لمرساها فوافوه سنة خمس و خمسين و انتشروا بالبلد في حاجاتهم ثم بيتوها ذات ليلة فصعدوا أسوارها و ملكوها عليهم و هتف هاتفهم بالحرب و قد لبسوا السلاح فارتاعوا و هبوا من مضاجعهم فلما رأوهم بالأسوار لم يكن همهم إلا النجاة بأنفسهم و نجا ثابت بن محمد مقدمهم إلى حلة الجوار في أعراب وطنها من دباب إحدى بطون بني سليم فقتل لدم كان أصابه منهم و لحق أخويه بالإسكندرية و استباحها النصارى و احتملوا في سفنهم ما وجدوا بها من الخرثي و المتاع و العقائل و الأسرى و أقاموا بها و داخلهم أبو العباس بن مكي صاحب قابس في فدائها فاشترطوا عليه خمسين ألفا من الذهب العين فبعث فيها لملك المغرب السلطان أبي عنان يطرفه بمثوبتها ثم تعجلوا عليه فجمع ما عنده و استوهب ما بقي من أهل قابس و الحامة و بلاد الجريد فجمعوها له حسبة و رغبة في الخبر و أمكنه النصارى من طرابلس فملكها و استولى عليها و أزال ما دنسها من وضر الكفر و بعث السلطان أبو عنان بالمال إليه و أن يرد على الناس ما أعطوه و ينفرد بمثوبتها و ذكرها فامتنعوها إلا قليلا منهم و وضع المال عند ابن مكي لذلك و لم يزل ابن مكي أميرا عليها إلى أن هلك كما نذكره في أخبارهم إن شاء الله تعالى (6/535)
الخبر عن بيعة السلطان أبي العباس أمير المؤمنين و مفتتح أمره السعيدة بقسنطينة
كان الأمير أبو زيد قد ولي الأمر من بعد أبيه الأمير أبي عبد الله بولاية جده الخليفة أبي بكر و كان إخوته جميعا في جملته و منهم السلطان أبو العباس أمير المؤمنين لهذا العهد و المنفرد بالدعوة الحفصية من لدن مهلك أبيهم يرون الوراثة لهم و إن الأمر فيهم حتى لقد يحكى عن شيخ وقته الولي أبي هادي المشهور الذكر و كان من أهل المكاشفة أنه قال ذات يوم و قد جاؤا لزيارته بأجمعهم على طريقهم و سنن أسلافهم في التبرك بالأولياء فدعا لهم الشيخ ما شاء الله ثم قال : البركة إن شاء الله في هذا العش و أشار إلى الإخوة مجتمعين و كان الحذاق و المنجمون أيضا يخبرون بمثلها و يحومون بوطنهم على أبي العباس منهم لما يتفرسون فيه من الشواهد و المخايل فلما كان من منازلة أخيه أبي زيد بتونس سنة ثلاث و خمسين و سبعمائة ما قدمناه ثم ارتحل عنها إلى نفطة و أراد الرجوع إلى قسنطينة للارجاف يسائل السلطان أبا عثمان و أنه زحف إلى آخر عمله من تخوم بجاية رغب إليه حينئذ أولاد مهلهل أولياؤه من العرب و شيعته حاجبه أبو العباس بن مكي صاحب عمل قابس و جربة أن يستعمل عليهم من إخوته من يقيم معهم لمعاودة تونس بالحصار فسرح أخاه مولانا أبا العباس فتخلف معهم لذلك و في جملته شقيقه أبو يحيى فأقاما بقابس
و كان صاحب طرابلس محمد بن ثابت قد بعث أسطوله لحصار جربة فدخل الأمير أبو العباس بمن معه الجزيرة و خاضوا إليها البحر فأجفل عسكر ابن ثابت و أفرجوا عن الحصن ثم رجع السلطان إلى قابس و زحف العرب أولاد مهلهل إلى تونس و حاصروها أياما فامتنعت عليهم و رجع إلى أعمال الجريد و أوفد أخاه أبا يحيى زكريا على السلطان صريخا سنة خمس و خمسين و سبعمائة فلقاه مبرة و رحبا و أسنى جائزته و أحسن وعده و انكفأ راجعا عنه إلى وطنه و مر بالحاجب أبي عمر عند إفراجه عن قسنطينة و لحق بأخيه بمكانه من قاصية أفريقية و اتصلت أيديهما على طالب حقهما
و في خلال ذلك فسد ما بين أبي محمد بن تافراكين صاحب الأمر بتونس و بين خالد ابن حمزة كبير أولاد أبي الليل فعدل عنه إلى أقتاله و أولاد مهلهل و استدعاهم لمظاهرة فأقبلوا عليه و تحيز خالد إلى السلطان أبي العباس و زحفوا معه إلى تونس فنازلوها سنة ست و خمسين و سبعمائة و امتنعت عليهم و أفرجوا عنها و استقدمه أخوه أبو زيد إثر ذلك لينصره من عساكر بني مرين عند ما تكاثفوا عليه و ضاق به الحصار و استخلف على قسنطينة أخاه أبا العباس فدخلها و نزل بقصور الملك منها و أقام بها مدة و عساكر بني مرين قد ملأت عليه الضاحية فدعاه الأولياء إلى الاستبداد و أنه أبلغ في المدافعة و الحماية لما كانوا يتوقعون من زحف العساكر إليهم من بجاية فأجاب و بويع شهر من سنة ست و خمسين و انعقد أمره و زحف عبد الله بن علي صاحب بجاية إلى قسنطينة من سنته و في سنة سبع بعدها فحاصرها و نصب المجانيق ثم أجفل آخر الأرجاف كما ذكرناه و تنفس مخنق الحصار عن قسنطينة و كان الأمير أبو زيد أخوه لما ذهب مع خالد إلى تونس و نازلها امتنعت عليه و رجع و قد استبد أخوه بأمر قسنطينة فعدل إلى بونة و راسل أبا محمد بن تافراكين في سكنى الحضرة و النزول لهم عن بونة فأجابه و نزل عنها الأمير أبو زيد لعمه السلطان أبي اسحق و تحول إلى تونس فأوسعوا له المنازل و أسنوا الجرايات و الجوائز و أقام في كفالة عمه إلى أن كان من أمره ما نذكره و الله أعلم (6/536)
الخبر عن واقعة موسى بن إبراهيم و استيلاء أبي عنان بعد على قسنطينة و ما تخلل ذلك من الأحداث
لما استبد السلطان أبو العباس بالأمر و زحفت إليه عساكر بجاية و بني مرين فأحسن دفاعها عن بلده و تبين لأهل الضاحية مخايل الظهور فيه فداخله رجالات من سدويكش من أولاد المهدي بن يوسف في غزو موسى بن إبراهيم و كتائبه المجمرة ببني ياورار و دغوا إلى ذلك ميمون بن علي بن أحمد و كان منحرفا عن أخيه يعقوب ظهير بني مرين و مناصحهم فأجاب و سرح السلطان أخاه أبا يحيى زكريا بينهم بمن في جملته من العساكر و صبحوهم في غارة شعواء فلما شارفوهم ركبوا إليهم فتقدموا ثم أحجموا و اختل مصافهم و أحيط بهم و أثخن قائد العسكر موسى بن إبراهيم بالجراحة و استحلم بنوه زيان و أبو القاسم و من إليهم و كانوا أسود هياج و فرسان ملحمة في آخرين من أمثالهم و تتبعوا بالقتل و النهب إلى أن استبيحوا و نجا فلهم إلى بجاية و لحقوا بالسلطان أبي عنان و لما بلغه الخبر قام في ركائبه و قعد و فتح ديوان العطاء و بعث وزراءه للحشد في الجهات
و أعد من الجنود و أزاح العلل و شكا له موسى بن إبراهيم قعود عبد الله بن علي صاحب بجاية عن نصره فسخطه و نكبه و عقد مكانه ليحيى بن ميمون بن مصمود و تلوم بعده أشهرا في تجهيز العساكر و بعث السلطان أبو العباس أخاه أبا يحيى إلى تونس صريخا لعمه السلطان أبي إسحق فأعجله الأمر عن الإياب إليه ارتحل أبو عنان في عساكره ثم بعث في مقدمته وزيره فارس بن ميمون بن ودرار و زجف على أثره في ربيع سنة ثمان و خمسين و سبعمائة و أغذ السير إلى قسنطينة و قد نازلها وزيره ابن ودرار قبله فلما نزل بساحتها وقد طبقوا الأرض الفضاء بجيوشه و عساكره و جم أهل البلد و أدركهم الدهش فانفضوا و تسللوا إليه و تحيز السلطان أبو العباس إلى القصبة فامتنع بها حتى توثق لنفسه بالعهد ثم نزل إليه فلقاه تكرمة و رحبا و اسنى له الفساطيط في جواره ثم بدا له لأيام قلائل فنقض عهده و أركبه السفن إلى المغرب و أنزله بسبتة و رتب عليه الحرس و بعث خلال ذلك إلى بونة فدخلت في طاعته و فر عنها عمال الحضرة و لما استولى عقد على قسنطينة لمنصور بن مخلوف شيخ بني بابان من قبيل بني مرين ثم بعث رسله إلى أبي محمد بن تافراكين في الأخذ بطاعته و النزول عن تونس فردهم و أخرج سلطانه المولى أبا إسحق مع أولاد أبي الليل و من إليهم من العرب بعد أن جهز له العساكر و ما يصلح من الآلة و الجند و أقام هو بتونس و أجمع أبو عنان النهوض إليه و وفد عليه أولاد مهلهل يستحثونه لذلك فسرح معهم عسكرا في البر لنظر يحيى بن رحو بن تاشفين معطى حشود بني تيربيعين من قبائل بني مرين و صاحب الشورى في مجلسه و سرح عسكرا آخر في الأسطول لنظر محمد بن يسوف المعروف بالأبكم من بني الأحمر من الملوك بالأندلس لهذا العهد فسبق الأسطول و صبحوا تونس و قاتلوها يوما أو بعض يوم و أتيح لهم الظهور فخرج عنها أبو محمد بن تافراكين و لحق بالمهدية و استولت عساكر بن مرين على تونس في رمضان سنة ثمان و خمسين و سبعمائة و حق لهم الظهور فخرج عنها أبو محمد بن تافراكين و لحق يحيى بن رحو بعسكره فدخل البلد و أمضى فيها أوامر السلطان ثم دعاه أولاد مهلهل إلى الخروج لمباغتة أولاد أبي الليل و سلطانهم فخرج معهم لذلك و أقام ابن الأحمر و أهل الأسطول بالبلد في خلال ذلك جاهر يعقوب بن علي بالخلاف لما تبين من نكر السلطان أبي عنان و إرهاف حده للعرب و مطالبتهم بالرهن و قبض أيديهم عن الأتاوات و مسح أعطافه بالمدارة فلم يقبلها فلحق يعقوب بالرمل و اتبعه السلطان فأعجزه فعدا على قصوره و منازلته بالبلد و الصحراء فخربها و انتسفها
ثم رجع إلى قسنطينة و ارتحل منها يريد أفريقية و قد نهض المولى أبو اسحق بمن معه من العرب للقائه و انتهوا إلى حصن سبتة ثم تمشت رجالات بني مرين و ائتمروا في الرجوع عنه حذرا أن يصيبهم بأفريقية ما أصابهم من قبل فأنفضوا متسللين إلى المغرب و لما خف المعسكر من أهله أقصر عن القدوم إلى أفريقية فرجع إلى المغرب بمن بقي معه و ابتع العرب آثاره وبلغ الخبر إلى أبي محمد بن تافراكين بمكان منجاته من المهدية فسار إلى تونس و لما أطل عليها ثار أهل البلد بمن كان عندهم من عسكر بني مرين و عمالهم فنجوا إلى الأسطول و دخل أبو محمد بن تافراكين إلى الحضرة و أعاد ماطمس من الدولة و لحق به السلطان أبو إسحق بعد أن تقدم الأمير أبو زيد في عسكر الجنود و العرب لاتباع آثار بني مرين و منازلة قسنطينة فاتبعهم إلى تخوم عملهم و رجع أبو زيد إلى قسنطينة و قاتلها أياما فامتنعت عليه فانكفأ راجعا إلى الحضرة و لم يزل مقيما بها إلى أن هلك عفا الله عنه و عنا آمين سنة
و كان أخوه يحيى بن زكريا قد لحق بتونس من قبل صريخا كما قلناه فلما بلغهم أن قسنطينة قد أحيط بها تمسكوا به فلحق به الفل من مواليهم و صنائعهم فكانوا معه إلى أن يسر الله أسباب الخير و السعادة للمسلمين و أعاد السلطان أبا العباس إلى الأمر من بعد مهلك أبي عنان كما يذكر و مد إيالته على الخلق فطلع على الرعايا بالعدل و الأمان و شمول العافية و الإحسان و كف أيدي العدوان و رفع الناس و الدولة في ظل ظليل و مرعى جميل كما نذكر إن شاء الله (6/538)
الخبر عن انتقاض الأمير أبي يحيى زكريا بالمهدية و دخوله في دولة أبي عنان ثم نزوله عنها الى الطاعة و تصاريف ذلك
كان الحاجب أبو محمد عند رجوعه إلى الحضرة صرف عنايته إلى تحصين المهدية يعدها للدولة وزرا من حادث ما يتوقعه من المغرب و أهله فشيد من أسوارها و شحن بالأقوات و الأسلحة مخازنها و مستودعاتها و كان أحمد بن خلف من أوليائه و ذويه مستبدا عليه فأقام على ذلك حولا أو بعضه ثم ضجر الأمير أبو يحيى زكريا من الاستبداد عليه و استنكف من حجره في سلطانه فوثب به أحمد بن خلف فقتله و بعث عن أبي العباس أحمد بن مكي صاحب جربة و قابس ليقيم له رسم الحجابة لما كان مناؤئا لأبي محمد بن تافراكين كافله فوصل إليه و طيروا بالخبر إلى السلطان أبي عنان صاحب المغرب و بعثوا إليه ببيعتهم و استحثوه لصريخهم و أضطراب أمرهم و سرح أبو محمد بن تافراكين إليها العسكر فأجفلوا أمامه و لحق المولى أبو يحيى زكريا بقابس و استولى عليها العسكر و استعمل عليها أبو محمد بن تافراكين محمد بن الحكجاك من قرابة ابن ثابت اصطنعه عندما وقعت الحادثة على طرابلس و لحق به فاستعمله على المهدية و لما وصل الخبر إلى أبي عنان بشأن المهدية جهز إليها الأسطول و شحنه بالمقاتلة و الرجال و عين الموالي و الخاصة فألفوها و قد رجعت إلى إيالة الحضرة و وصل إليها ابن الحكجاك و أقام بها و حسن غناؤه فيها إلى أن كان من أمره ما نذكر
و أقام الأمير زكريا بقابس و أجلب به أبو العباس بن مكي على تونس ثم بعثوه بالزواودة و نزل على يعقوب بن علي و أصهر إليه في ابنة أخيه سعيد فعقد له عليها
و لما استولى أخوه أبو اسحق على بجاية استعمله على سدويكش بعض الأعوام و لم يزل بين الزواودة إلى أن هلك سنة ست و سبعين و سبعمائة كما نذكره بعد و الله تعالى أعلم (6/541)
الخبر عن استيلاء السلطان أبي اسحق على بجاية و إعادة الدعوة الحفصية إليها
لما رجع السلطان أبو عنان من قسنطينة إلى المغرب أراح بسبتة و سرح عساكره من العام المقبل إلى أفريقية لنظر وزيره سليمان بن داود فسار في نواحي قسنطينة و معه ميمون بن علي بن أحمد اديل من يعقوب على قومه من الزواودة و عثمان بن يوسف ابن سليمان شيخ أولاد سباع منهم و حضر معهم يوسف بن مزني عامل الزاب أوعز إليه السلطان بذلك فدوخ الجهات و انتهى إلى آخر وطن بونة و اقتضى المغارم ثم انكفأ راجعا إلى المغرب و هلك السلطان أبو عنان إثر قفوله سنة تسع و خمسين و سبعمائة و اضطرب المغرب ثم استقام على طاعة أخيه السلطان أبي سالم كما نذكره و كان أهل بجاية قد نقموا على عاملهم يحيى بن ميمون من بطانة السلطان أبي عنان سوء ملكته و شدة سطوته و عسفه فداخلوا أبا محمد بن تافراكين على البعد في التوثب به فجهز إليهم السلطان أبو اسحق ما يحتاج إليه من العساكر و الآلة و نهض من تونس و معه ابنه أبو عبد الله على العساكر و تلقاهم يعقوب بن علي و ظاهرهم على أمرهم و سار أخوه أبو دينار في جملتهم و لما أطلق على بجاية ثارت الغوغاء بيحيى بن ميمون العامل كان عليهم منذ عهد السلطان أبي عنان فألقى بيده و تقبض عليه و على من كان من قومه و أركبوا السفين إلى الحضرة و أودعهم أبو محمد بن تافراكين سجونه تحت كرامة و جراية إلى أن من عليهم من بعد ذلك و أطلقهم إلى المغرب
و دخل السلطان أبو اسحق إلى بجاية سنة إحدى و ستين و سبعمائة و استبد بها بعض الاستبداد و حاجبه و كافله أبو محمد يدبر أمره من الحضرة ثم استقدم ابنه و نصب لوزارة السلطان أبي محمد عبد الواحد بن محمد بن أكمازير من مشيخة الموحدين فكان يقيم له رسم الحجابة و قام بأمر الرجل بالبلد من الغوغاء علي بن صالح من زعانفة بجاية و أوغادها التفت عليه الثوار و الدعار و أصبحت له بهم شوكة كان له بها تغلب على الدولة إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى و الله أعلم (6/542)
الخبر عن فتح جربة و دخولها في دعوة السلطان أبي إسحق صاحب الحضرة
هذه الجزيرة من جزر هذا البحر الذي هو قريب من قابس إلى الشرق عنها قليلا طولها من المغرب إلى المشرق ستون ميلا و عرضها من ناحية الغرب عشرون ميلا و من ناحية الشرق خمسة عشر ميلا و بين فرضتيها في ناحية الغرب ستون ميلا
و شجرها التين و النخل و الزيتون و العنب و اختصت بالنسيج و عمل الصوف للباسهم فيتخذون منه الأكسية المعلمة للاشتمال و غير المعلمة للباس و يجلب منها إلى الأقطار فينتقيه الناس للباسهم و أهلها من البربر من كتامة و فيهم إلى الآن سدويكش و صدغيان من بطونهم و فيهم أيضا من نغزة و هوارة و سائر شعوب البربر و كانوا قديما على رأي الخوارج و بقي بها إلى الآن فريقان منهم الوهبية و هم بالناحية الغربية و رياستهم لبني سمر من و النكارة و هم بالناحية الشرقية و جربة فاصلة بينهما
و الظهور و الرياسة على الكل لبني النجار من الأنصار من جند مصر ولاه معاوية على طرابلس سنة ست و أربعين فغزا أفريقية وفتح جربة سنة سبع و أربعين بعدها و شهد الفتح حسين بن عبد الله الصنعاني و رجع إلى برقة فمات بها و لم تزل في ملكة المسلمين إلى أن دخل دين الخوارج إلى البربر فأخذوا به و لما كان شأن أبي زيد سنة إحدى و ثلاثين و ثلثمائة فأخذوا بدعوته بعد أن دخلها عنوة و قتل مقدمها يومئذ ابن كلوس و صلبه
ثم استردها المنصور بن اسمعيل و قتل أصحاب أبي زيد و لما غلبت العرب صنهاجة على الضواحي و صارت لهم أخذ أهل جربة في إنشاء الأساطيل و غزوا الساحل ثم غزاهم علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس سنة تسع و خمسمائة بأساطيله إلى أن انقادوا و ضمنوا قطع الفساد و صلح الحال ثم تغلب النصارى عليها سنة تسع و عشرين و خمسمائة عند تغلبهم على سواحل أفريقية ثم ثار أهلها عليهم و أخرجوهم سنة ثمان و أربعين و خمسمائة ثم غلبوا عليها ثانية و سبوا أهلها و استعملوا على الرعية و أهل العلم ثم عادت للمسلمين و لم تزل مترددة بين المسلمين و النصارى إلى أن غلب عليها الموحدون أيام عبد المؤمن بن علي و استقام أمرها إلى أن استبد أمراء بني حفص بأفريقية ثم افترق أمرهم بعد حين و استبد المولى أبو زكريا ابن السلطان أبي إسحق بالناحية الغربية و شغل صاحب الحضرة بشأنه كما قدمناه فتعلب على هذه الجزيرة أهل صقلية سنة ثمان و ثمانين و ستمائة و بنوا بها حصن القشتيل مربع الشكل في كل ركن منه برج و بين كل ركنين برج و يجاوره حفير و سوران و أهم المسلمين شأنها و لم تزل عساكر الحضرة تتردد إليها كما تقدم إلى أن كان فتحها أيام السلطان أبي بكر على يد مخلوف بن الكماد من بطانته سنة ثمان و ثلاثين و سبعمائة و استضافها ابن مكي صاحب قابس إلى عمله فأضافها إليه و عقد له عليها فصارت من عمله سائر أيام السلطان و من بعده
و اتصلت الفتنة بين أبي محمد بن تافراكين و بين ابن مكي و بعث الحاجب أبو محمد ابن تافراكين عن أبيه أبي عبد الله و كان في جملة السلطان ببجاية كما قلناه
و لما وصل إليه سرحه في العساكر لحصار جربة و كان أهلها قد نقموا على ابن مكي سيرته فيهم و دسوا إلى أبي محمد بن تافراكين بذلك فسرح إليه ابنه في العساكر سنة ثلاث و ستين و سبعمائة و كان أحمد بن مكي غائبا بطرابلس قد نزلها منذ ملكها من أيدي النصارى و جعلها دارا لإمارته فنهض العسكر من الحضرة لنظر أبي عبد الله ابن الحاجب أبي محمد و نزلوا في الأسطول فطلعوا بالجزيرة و ضايقوا القشتيل بالحصار إلى أن غلبوا عليه و ملكوه و أقاموا به دعوة صاحب الحضرة و استعمل عليه أبو عبد الله ابن تافراكين كاتبه محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون كان من صنائع الدولة منذ العهد الأول و كانت لأبيه قرابة من أبي عبد العزيز الحاجب ترقى بها إلى ولاية الأشغال بتونس مناهضا لأبي القاسم بن طاهر الذي كان تولاه يومئذ فكان رديفه عليها إلى أن هلك ابن طاهر فاستبد هو بها منذ أيام الحاجب أبي محمد و اتصل ابنه محمد هذا بخدمة ابن الحاجب و اختص بكاتبه إلى أن استعمله على جربة عند استيلائه عليها هذه السنة و انكفأ راجعا إلى الحضرة فلم يزل محمد بن أبي العيون واليا عليها ثم استبد بها على السلطان بعد مهلك الحاجب و قرار يده على السلطان إلى أن غلبه عليها السلطان أبو العباس سنة أربع و سبعين و سبعمائة كما نذكره إن شاء الله (6/543)
الخبر عن دعوة الأمراء من المغرب استيلاء السلطان أبي العباس على قسنطينة
لما هلك السلطان أبو عنان قام بأمره من بعده وزيره الحسن بن عمر و نصب ابنه محمد السعيد للأمر كما نذكره في أخباره و كان يضطغن للأمير أبي عبد الله صاحب بجاية فقبض عليه لأول أمره اعتقله حذرا من وثوبه على حمله فيما زعموا و كان السلطان أبو العباس بسبتة منذ أنزله السلطان أبو عنان بها و رتب عليه الحرس كما ذكرنا فلما انتزى على الملك المنصور بن سليمان من أعياص ملكهم و نازل البلد الجديد دار الملك و دخل في طاعته سائر الممالك و الأعمال بعث في السلطان أبي العباس و استدعاه من سبتة فنهض إليه و انتهى في طريقه إلى طنجة و وافق في ذلك إجازة السلطان أبي سالم من الأندلس لطلب ملكه و كان أول ما استولى عليه من أعمال المغرب طنجة و سبتة فاتصل به السلطان أبو العباس و ظاهره على أمره إلى أن نزع إليه قبيلة بني مرين عن منصور بن سليمان المنتزي على ملكهم فاستوسق أمره و استثبت سلطانه به و دخل فاس و سرح الأمير أبا عبد الله من اعتقال الحسن بن عمر كما قدمناه و رعى للسلطان أبي العباس ذمة سوابقه القديمة و الحادثة فرفع مجلسه و أسنى جرايته و وعده بالمظاهرة على أمره و استقروا جميعا إلى إيالته إلى أن كان من تغلب السلطان أبي سالم على تلمسان و المغرب الأوسط ما نذكره في أخبارهم
و اتصل به ثورة أهل بجاية بعاملهم يحيى بن ميمون و رجالات قبيلتهم فامتعض لذلك و حين قفل إلى المغرب نفض يده من الأعمال الشرقية و نزل للسلطان أبي العباس عن قسنطينة دار إمارته و مثوى عزه و منبت ملكه فأوعز إلى عاملها منصور ابن مخلوف بالنزول له عنها و سرحه إليها و سرح معه الأمير أبا عبد الله ابن عمه لطلب حقه في بجاية و الاجلاب على عمه السلطان عبد الحق جزاء بما نال من بني مرين عند افتتاحها من المعرة و ارتحلوا إلى تلمسان في جمادي من سنة إحدى و ستين و سبعمائة و أغذوا السير إلى مواطنهم فأما السلطان أبو العباس فوقف منصور بن مخلوف عامل البلد على خطاب سلطانه بالنزول في قسنطينة فنزل و أسلمها إليه و أمكنه منها فدخلها شهر رمضان سنة إحدى و ستين و سبعمائة و اقتعد سرير ملكه منها و تباشرت بعودته مقاصر قصورها فكانت مبدأ سلطانه و مظهرا لسعادته و مطلعا لدولته على ما نذكر بعد و أما الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية فلحق بأول وطنها و اجتمع إليه أولاد سباع أهل ضاحيتها و قفرها من الزواودة ثم رحف إليها فنازلها أياما و امتنعت عليه فرحل عنها إلى بني ياورار و استخدم أولاد محمد بن يوسف و العزيز بين أهل ضاحيتها من سدويكش ثم نزعوا عنه إلى خدمة عمه ببجاية فخرج إلى القفر مع الزواودة إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/545)
الخبر عن وصول الأمير أبي العباس يحيى بن زكريا من تونس و افتتاحه بونة و استيلائه عليها
كان الأمير أبو يحيى زكريا منذ بعثه أخوه العباس إلى عمهما السلطان أبي إسحق صريخا لم يزل مقيما بتونس و بلغه استيلاء السلطان أبي عنان على قسنطينة و هو بتونس ثم لما كانت عودة مولانا أبي العباس من المغرب و استيلاؤه على قسنطينة فخشي الحاجب أبو محمد بن تافراكين بادرته و توقع زحفه إليها و غلبه إياه على الأمر و رأى أن يخفض جناحه في أخيه و يتوثق به فاعتقله بالقصبة تحت كرامه و رعي و بعث فيه السلطان أبو الحسن بعد مراوضة في السلم فأطلقه و انعقد بينهما السلم و لما وصل الأمير أبو يحيى ابن أخيه بقسنطينة عقد له عن العساكر و أصاروها نجما لعمله و استمرت حالها على ذلك إلى أن كان من أمرها ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/546)
الخبر عن استيلاء الأمير أبي عبد الله على بجاية ثم على تدلس بعدها
لما قدم السلطان أبو عبد الله من المغرب و نازل بجاية فامتنعت عليه خرج إلى أحياء العرب كما قدمناه و لزم صحابته أولاد يحيى بن علي بن سباع بعد توالي الوفاد بها و أقام بين ظهرانيهم و في حللهم و متعهدا في طلب بجاية برحلة الشتاء و الصيف و تكفلوا نفقة عياله و مؤنة حشمه و أنزلوه بتلك المسيلة من أوطانهم و تجافوا له عن جبايتها و أقام على ذلك سنين خمسا ينازل بجاية في كل سنة منها مرارا و تحول في السنة الخامسة عنهم إلى أولاد علي بن أحمد و نزل على يعقوب بن علي فأسكنه بمقره من بلاده إلى أن بدا لعمه المولى أبي اسحق رأيه في اللحاق بتونس لما توقع من مهلك حاجبه و كافله أبي محمد بن تافراكين أسره إليه بعض الجند فحذره مغبته و وقع من ذلك في نفوس أهل بجاية انحراف عنه و حرج أمره و راسلوا أميرهم الأقدام أبا عبد الله من مكانه بمقرة و ظاهره على ذلك يعقوب بن علي و أخذ له العهد على رجالات سدويكش أهل الضاحية و ارتحلوا معه إلى بجاية و نازلها أياما ثم استيقن الغوغاء اعتزم سلطانهم على التقويض عنهم و سئموا ملكة علي بن صالح الذي كان عريفا عليهم فثاروا به و نبذوا عهده و انفضوا من حوله إلى الأمير أبي عبد الله بالحرسة من ساحة البلد ثم قاد إليه عمه أبا إسحق فمر عليه و خلى سبيله إلى حضرته فلحق بها و استولى أبو عبد الله على بجاية محل إمارته في رمضان سنة خمس و ستين و سبعمائة و تقبض على علي بن أبي صالح و من معه من عرفاء الغوغاء أهل الفتنة فاستصفى أموالهم ثم أمضى حكم الله في قتلهم ثم نهض إلى تدلس لشهرين من مملكة بجاية فغلب عليها عمر بن موسى عامل بني عبد الواد و من أعياص قبيلهم و تملكها في آخر سنة خمس و ستين و سبعمائة و بعث عني من الأندلس و كنت مقيما بها نزيلا عند السلطان أبي عبد الله بن أبي الحاج بن الأحمر في سبيل اغتراب و مطاوعة تغلب منذ مهلك السلطان أبي سالم الجاذب بضبعي إلى تقويمه و الترقي في خطط كتابته من ترسيل و توقيع و نظر في المظالم و غيرها فلما استدعاني هذا الأمير أبو عبد الله بادرت إلى امتثاله و لو شاء ربك ما فعلوه و لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير فاجزت البحر شهر جمادى من سنة ست و خمسين و سبعمائة و قلدني حجابته و دفع إلي أمور مملكته و قمت في ذلك المقام المحمود إلى أن بأذن الله بانقراض أمره و انقطاع دولته و الله الخلق و الأمر و بيده تصاريف الأمور (6/547)
الخبر عن مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين و استبداد سلطانه من بعده
كان السلطان أبو اسحق آخر دولته بجاية قد تحين مهلك حاجبه المستبد عليه أبي محمد بن تافراكين لما كان أهل صنهاجة أهل التنجيم يحدثونه بذلك فأجمع الرحلة إليها و انفض عنه أهل بجاية إلى ابن أخيه كما قدمناه و استولى عليه ثم أطلقه إلى حضرته فلحق بها في رمضان سنة خمس و ستين و سبعمائة و تلقاه أبو محمد بن تافراكين و رآه مرهف الحد للاستبداد الذي لفه ببجاية فكايله بصاع الوفاق و صارفه نقد المصانعة و ازدلف بأنواع القربات و قاد إليه النجائب و منحه الذخائر و الأموال و تجافى له عن النظر في الجباية ثم أصهر إليه السلطان في كريمته فعقد له عليها و أعرس السلطان بها ثم كان مهلكه عقب ذلك فاتح ست و ستين و سبعمائة فوجم السلطان لنعيه و شهد جنازته حتى وضع في لحده من المدرسة التي اختطها لقراءة العلم ازاء داره جوفي المدينة و قام على قبره باكيا و حاشيته يتناولون التراب حثيا على جدثه فقرن في الوفاء معه ما تحدث به الناس و استبد من بعده بأمره و أقام سلطانه لنفسه
و كان أبو عبد الله الحاجب غائبا عن الحضرة و خرج منها بالعسكر للجباية و التمهيد فلما بلغه خبر مهلك أبيه داخلته الظنة و أوجس الخيفة فصرف العسكر إلى الحضرة و ارتفع مع حكيم من بني سليم و عرض نفسه على معاقل أفريقية التي كان يظن أنها خالصة لهم فصده محمد بن أبي العيون كاتبه عن عزمه فحمد الحكيم صنيعه و طاف بهم على المهدية و بعث إليه السلطان بمارضيه من الأمان فاستصحب بعد النفور و بادر إلى الحضرة فتلقاه السلطان بالبر و الترحيب و قلده حجابته و أنزله على مراتب العز و التنويه و الشرف و نكر هو مباشرة السلطان للناس من رفعه للحجاب و لم يزل يريضه لما ألف من الاستبداد منذ عهد أبيه فأظلم الجو بينه و بين السلطان و دبت عقارب السعاية لمهاده الوثير فتنكر و خرج من تونس و لحق بقسنطينة و نزل بها على السلطان أبي العباس مرغبا له في ملك تونس و مستحثا فأنزله خير نزل و وعده بالنهوض معه إلى أفريقية بعد الفراغ من أمر بجاية لما كان بينه و بين ابن عمه صاحبها من الفتنة كما نذكرها بعد و استبد السلطان أبو اسحق بعد مفر ابن تافراكين عنه و نظر في أعطاف ملكه و عقد على حجابته لأحمد بن إبراهيم المالقي مصطنع الحاجب أبي محمد من طبقة العمال و على العساكر و الحرب لمولاه منصور سريحة من المعلوجي و ورفع الحجاب بينه و بين رجال دولته و صنائع ملكه حتى باشر جبايات الخراج و عرفاء الحشم و أوصلهم إلى نفسه و ألغى الوسايط بينهم و بينه إلى حين مهلكه كما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى و الله تعالى أعلم (6/548)
الخبر عن استيلاء السلطان أبي العباس على بجاية و ملك صاحبها ابن عمه
لما ملك الأمير أبو عبد الله بجاية و استقل بإمارتها تنكر للرعية و ساءت سيرته فيهم بإرهاف الحد للكافة و إسخاط الخاصة فغلت الصدور و مرضت القلوب و استحكمت النفرة و توجهت الضاغية إلى ابن عمه السلطان أبي العباس بقسنطينة لما كان استفسد منه و أعلن بلذاته و أقوم على سلطانه و كانت بينهما فتنة وحروب جرتها المنافسة في تخوم العمالتين منذ عهد الآباء و كان السلطان أبو العباس أيام نزوله على السلطان أتي سالم محمود السيرة و الخلال مستقيم الطريقة في مثوى اغترابه و ربما كان ينقم على ابن عمه هذا بعض النزعات المعرضة لصاحبها للملامة و ستثقل نصيحته و شغل بذلك ضميره فلما استولى على بجاية عاد إلى الفتنة فتنبه و شمر عزائمه لها فكان مغلبا فيها و اعتلق منه يعقوب بن علي بذمه في المظاهرة على السلطان أبي العباس فلم يغن عنه و راجع يعقوب سلطانه ثم جهز هو العساكر من بجاية لمزاحمة تخوم قسنطينة و فيها مولانا أبو العباس فنهض إليه ثانية بنفسه في العساكر و تراجع العرب من أولاد سبع و يحيى و جمع هو أولاد محمد و زحف فيهم و في عسكر من زناتة و التقى الفريقان بناحية سطيف فاحتل مصاف أهل بجاية و انهزموا و اتبعهم السلطان أبو العباس إلى تاكرارت و جال في عمله و وطىء نواحي وطنه و قفل إلى بلده و دخل الأمير أبو عبد الله إلى بجاية و قد استحكمت النفرة بينه و بين أهل بلده فدسوا إلى السلطان أبي العباس بقسنطينة بالقدوم عليهم فوعدهم من العام القابل و زحف سنة سبع و ستين و سبعمائة في عساكره و شيعته من الزواودة أولاد محمد و انضوى إليه أولاد سباع بشيعة بجاية بالجوار و السابقة القديمة لما نكروا من أحوال سلطانهم و عسكر الأمير أبو عبد الله بلبزو في جمع قليل من الأولياء و أقام بها يرجو مدافعة عمه بالصلح فبيته السلطان بمعسكره من لبزو و صحبه في غارة شعواء فانفض جمعه و أحيط به و انتهب المعسكر و فر إلى بجاية فأدرك في بعض الطريق و تقبض عليه و قتل قعصا بالرماح و أغذ السلطان أبو العباس السير إلى بجاية فأدرك بها صلاة الجمعة تاسع عشر شعبان من سنة سبع و ستين و سبعمائة و كنت بالبلد مقيما فخرجت في الملأ و تلقاني بالمبرة و التنويه و أشار إلي بالاصطناع و استوسق له ملك جده الأمير أبي زكريا الأوسط في الثغور الغربية و أقمت في خدمته بعض شهر ثم توخمت الحنقة في نفسي و أذنته في الانطلاق فأذن لي تكرما و فضلا و سعة صدر و رحمة و نزلت على يعقوب بن علي ثم تحولت عنه إلى بسكرة و نزلت إلى ابن موسى إلى أن صفا الجو و استقبلت من أمري ما استدبرت و استأذنته لثلاث عشرة سنة من انطلاقي عنه في خبر طويل نقصه من شأني فأذن لي و قدمت عليه فقابلني وجوه عنايته و أشرقت علي أشعة نجعته كما نذكر ذلك من بعد إن شاء الله تعالى (6/549)
الخبر عن زحف حمو و بني عبد الواد إلى بجاية و نكبتهم عليها و فتح تدلس من أيديهم بعدها
كان الأمير أبو عبد صاحب بجاية لما اشتدت الفتنة بينه و بين عمه السلطان أبي العباس مع ما كان بينه و بين بني عبد الواد من الفتنة عند إياهم على تدلس يكابد حمل العداوة من الجانبين و صغا إلى مهادنة بني عبد الواد فنزل لهم عن تدلس و أمكن منها قائد العسكر المحاصر لها و أوفد رسله على سلطانهم أبي حمو بتلمسان و أصهر إليه أبو حمو في ابنته فعقد له عليها و زفها إليه بجهاز أمثالها فلما غلبه السلطان أبو العباس على بجاية و هلك في مجال حربه أشاع أبو حمو الامتعاض له المكان الصهر و جعلها ذريعة إلى الحركة على بجاية و زحف من تلمسان يجر الشوك و المدر في آلاف من قومه و طبقات العساكر و الجند و تراجع العرب حتى انتهى إلى وطن حمزة فأجفل أمامه أبو الليل موسى بن زغلي في قومه بني يزيد و تحصنوا في جبال زواوة المطلة على وطن حمزة و بعث إليه رسله لاقتضاء طاعته فاوثقهم كتافا و كان فيهم يحيى حافد أبي محمد صالح نزع عن السلطان أبي العباس إلى أبي حمو و كان عينا على غزاة أبي الليل هذا لما بينهما من الولاء و الجوار و الوطن و جاء في وفد الوفادة عن أبي حمو فتقبض عليهم و عليه فقتله و بعث برأسه إلى بجاية و امتنع على أبي حمو و عساكره فأجلبوا إلى بجاية و نزل معسكره بساحتها و قاتلها أياما و جمع الفعلة على الآلات في الحصار و كان السلطان أبو العباس بالبلد و عسكره مع مولاه بشير بتكرارت و معهم أبو زيان بن عثمان بن عبد الرحمن و هو عم أبي حمو من أعياص بيتهم و كان من خبره أنه كان خرج من المغرب كما نذكره في أخباره و نزل على السلطان أبي إسحق بالحضرة و رعى له أبو محمد الحاجب حق بعثه فأوسع في كرامته و لما غلب الأمير أبو عبد الله على تدلس بعث إليه من تونس ليوليه عليها و تكون ردأ بينه و بين حمو و يتفرغ هو للإجلاب على وطن قسنطينة فبادر إلى الإجابة و خرج من تونس و مر السلطان أبو العباس بمكانه من قسنطينة فصدر على سبيله و اعتقله عنده مكرما فلما غلب على بجاية و بلغه الخبر بزحف أبي حمو أطلقه من اعتقاله ذلك و استبلغ في تكرمته و حبائه و نصبه للملك و جهز له بعض الآلة و خرج في معسكره مولاه بشير ليجأجىء به بني عبد الواد عن ابن عمه أبي حمو لما سئموا من ملكه و عنفه
و كان زغبة عرب المغرب الأوسط في معسكر أبي حمو و كان على حذر من مغبة أمره معهم فراسلوا أبا زيان و ائتمروا بينهم في الارجاف بالمعسكر ثم تحينوا لذلك أن يشب الحرب بين أهل البلد و أهل المعسكر فأجفلوا خامس ذي الحجة و انفض بالمعسكر و انتحوا إلى مضايق الطرقات بساح البلد فكفت بزحامهم و تركموا عليها فهلك الكثير منهم و خلفوا من الأثقال و العيال و السلاح و الكراع ما لا يحيط به الوصف و أسلم أبو حمو عياله و أمواله فصارت نهبا و اجتلبت حظاياه إلى السلطان فوهبها لابن عمه و نجا أبو حمو بنفسه بعد أن طاح في كظيظ الزحام عن جواده فنزل له وزيره عمران بن موسى عن مركوبة فكان نجاؤه عليه و نزل بالجزائر في الفل و لحق منها بتلمسان و اتبع أبو زيان أثره و اضطرب المغرب الأوسط كما نذكره في أخباره و خرج السلطان أبو العباس من بجاية على أثر هذه الواقعة فنازل تدلس و افتتحها و غلب عليها من كان بها من عمال بني عبد الواد و انتظمت الثغور الغربية كلها في ملكه كما كانت في ملك جده الأمير أبي زكريا الأوسط حين قسم الدعوة الحفصية بها إلى أن كان ما نذكره بعده إن شاء الله تعالى (6/551)
الخبر عن زحف العساكر إلى تونس
كان أبو عبد الله ابن الحاجب أبي محمد بن تافراكين لما نزع عن السلطان أبي إسحق صاحب الحضرة لحق بحلل أولاد مهلهل من العرب و وفدوا جميعا على السلطان أبي العباس فاتح سنة سبع و ستين و سبعمائة يستحثونه إلى الحضرة و يرغبونه في ملكها فاعتذر لهم لما كان عليه من الفتنة مع ابن عمه صاحب بجاية و زحف إليها في حركة الفتح و صاروا في جملته فلما استكمل فتح بجاية سرح معهم أخاه المولى أبا يحيى زكريا في العساكر فساروا معه إلى الحضرة و ابن تافراكين في جملته فنازلوها أياما و امتنعت عليهم و أقلعوا على سلم و مهادنة انعقدت بين صاحب الحضرة و بينهم و قفل المولى أبو يحيى بعسكره إلى مكان عمله و لحق ابن تافراكين بالسلطان فلم يزل في جملته إلى أن كان من فتح تونس ما نذكره و الله تعالى أعلم (6/552)
الخبر عن مهلك السلطان أبي إسحق صاحب الحضرة و ولاية إبنه خالد من بعده
لما نزل السلطان أبو إسحق بالحضرة على ما ذكرناه وتخلف عن المهادنة مع السلطان أبي العباس طورا بطور و استخلص لدولتهم منصور بن حمزة أمير بني كعب يستظهر به على أمره و يستدفع برأيه و شوكته فخلص له سائر أيامه و عقد سنة تسع و ستين و سبعمائة لابنه خالد على عسكر لنظر محمد بن رافع من طبقات الجنود من مغراوة مستبدا على ابنه و سرحه مع منصور بن حمزة و قومه و أوعز إليهم بتدويخ ضواحي بونة و اكتساح نعمها و جباية ضواحيها فساروا إليها و سرح الأمير أبو يحيى زكريا صاحب بونة عسكره مع أهل الضاحية فأغنوا في مدافعتهم و انقلبوا على أعقابهم فكان آخر العهد بظهورهم و لما رجعوا إلى الحضرة تنكر السلطان لمحمد بن رافع قائد العسكر فخرج من الحضرة و لحق بقومه بمكانهم من لحفه من أعمال تونس و استقدمه السلطان بعد أن استعتب له فلما قدم تقبض عليه و أودعه السجن و على أثر ذلك كان مهلك السلطان فجأة ليلة من سنة سبعين و سبعمائة بعد أن قضى وطرا من محادثة السمر و غلبه النوم آخر ليله فنام و لما أيقظه الخادم وجده ميتا فاستحال السرور و عظم الأسف و غلب على البطانة الدهش ثم راجعوا بصائرهم و رفعوا الدهش عن أنفسهم و تلافوا أمرهم بالبيعة لابنه الأمير أبي البقاء خالد فأخذها له على الناس مولاه منصور سريحة من المعلوجين و حاجبه أحمد بن ابراهيم اليالقي و حضر لها الموحدون و الفقهاء و الكافة و انفض المجلس و قد انعقد أمره إلى جنازة أبيه حتى واروه التراب و استبد منصور و ابن الباقي على هذا الأمير المنصوب للأمر فلم يكن له تحكم عليها و كان أول ما افتتحا به أمرهما أن تقبضا على القاضي محمد بن خلف الله من طبقة الفقهاء كان نزع إلى السلطان من بلده نفطة مغاضبا لمقدمها عبد الله بن علي بن خلف فرعى له نزوعه إليه و استعمله بخطة القضاء بتونس عند مهلك أبي علي عمر ابن عبد الرفيع ثم ولاه قود العساكر إلى بلاد الجرد و حربهم فكان له منها عناء و استدفعوه مرات بجايتهم يبعثون بها إلى السلطان و مرات بمصانعة العرب على الإرجاف بمعسكره و كان ابن اليالقي يغض بمكانه عند السلطان فلما اشتد على ابنه أعظم فيه السعاية و تقبض عليه و أودعه السجن مع محمد بن علي بن رافع ثم بعث عليهما من داخلهما في الفرار من الاعتقال حتى دبروه معه و ظهر على أمرهما فقتلهما في محبسهما خنقا و الله متولي الجزاء منه و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ثم أظهر ابن اليالقي من سوء سيرته في الناس و جوره عليهم و عسفه بهم و انتزاع أموالهم و إهانة سبال الأشراف ببابه منهم ما نقموه و ضرعوا إلى الله في إنقاذهم من ملكته فكان ذلك على يد مولانا السلطان أبي العباس كما نذكر إن شاء الله تعالى (6/553)
فتح تونس و بقية عمالات أفريقية ـ الخبر عن فتح تونس و استيلاء السلطان عليها و استبداده بالدعوة الحفصية في سائر عمالات أفريقية و ممالكها
لما هلك السلطان أبو اسحق صاحب الحضرة سنة سبعين و سبعمائة كما قدمنا و قام بالأمر مولاه منصور سريحة و صاحبه اليالقي و نصبوا ابنه الأمير خالدا للأمر صبيا لم يناهز الحلم غرا فلم يحسنوا تدبير أمره و لا سياسة سلطانه و استخلصوا لوقتهم منصور بن حمزة أمير بني كعب المتغلبين على الضاحية ثم أطمعوه بسوء تدبيرهم في شركته لهم في الأمر ثم قلبوا له ظهر المجن فسخطهم و لحق بالسلطان أبي العباس و هو مطل عليهم بمرقبة من الثغور الغربية مستجمع للتوثب بهم فاستحثه لملكهم و حرضه على تلافي أمرهم و رم ما تثلم من سياج دولتهم و كان الأحق بالأمر لشرف نفسه و جلالته و استفحال ملكه و سلطانه و شياع الحديث على عدله و رفعته و جميل سيرته و لما أن أهل مملكته نظروا لعقب نظره فيهم و استبداد سواه عليهم فأجاب صريخه و شمر للنهوض عزمه و كان أهل قسنطينة قد بعثوا بمثل ذلك فسرح إليهم أبا عبد الله بن الحاجب أبي محمد بن تافراكين لاستخبار طاعتهم و ابتلاء دخلتهم فسار إليهم و اقتضى سمعهم و طاعتهم و سارع إليها يحيى بن يملول مقدم توزر و الخلف بن الخلف مقدم نفطة فآتوها طواعية و انقلب عنهم و قد أخذوا بدعوة السلطان و أقاموا في أمصارهم
ثم خرج السلطان من بجاية في العساكر و أغذ السير إلى المسيلة و كان بها إبراهيم ابن الأمير أبي زكريا الأخير فأجابه أولاد سليمان بن على من الزواودة من مثوى اغترابه بتلمسان و نصبوه لطلب حقه في بجاية من بعد أخيه الأمير أبي عبد الله و كان ذلك بمداخلة من أبي حمو صاحب تلمسان و مواعيد بالمظاهرة مختلفة فلما انتهى السلطان إلى المسيلة نبذوا إلى ابراهيم عهده و تبرؤا منه و رجعوا من حيث جاءوا و انكفأ السلطان راجعا إلى بجاية ثم نهض منها إلى الحضرة و تلقته وفود أفريقية جميعا بالطاعة و انتهى إلى البلد فخيم بساحتها أياما يغاديها القتال و يراوحها ثم كشف عن مصدوقته و زحف إلى أسوارها و قد ترجل أخوه و الكثير من بطانته و أوليائه فلم يقم لهم حتى تسنموا الأسوار برياض رأس الطابية فنزل الطابية فنزل عنها المقاتلة و فروا إلى داخل البلد و خامر الناس الدهش و تبرأ بعضهم من بعض و أهل الدولة في مركبهم وقوف بباب الغدر من أبواب القصبة فلما رأوا أنهم أحيط بهم ولوا الأعقاب و قصدوا باب الجزيرة فكبروا قباله و ثار أهل البلد جميعا بهم فحاصروا بساحتهم من البلد بعد عصب الريق و مضى الجند في اتباعهم فأدرك أحمد بن اليالقي فقتل و سيق رأسه إلى السلطان و تقبض على الأمير خالد و اعتقل و نجا العلج منصور سريحه برأس طمرة و خام و ذهل عن القتال دون الأحبة و دخل السلطان القصر و اقتعد أريكته و انطلقت أيدي العيث في ديار أهل الدولة فاكتسحت ما كان الناس يضطغنون عليهم تحاملهم على الرعية و اغتصاب أموالهم و اضطرمت نار العيث في دورهم و مخلفهم فلم تكد أن تنطفىء و لحق بعض أهل العافية معرات من ذلك لعموم النهب و شموله حتى أطفأه الله ببركات السلطان و جميل نيته و سعادة أمره و لاذ الناس منه بالملك الرحيم و السلطان العادل و تهافتوا عليه تهافت الفراش على الذبال يلثمون أطرافه و يجدون بالدعاء له و يتنافسون في انتقاس مجيده الى أن غشيهم الليل و دخل السلطان قصوره و خلا بما ظفر من ملك آبائه و بعث بالأمير خالد في الأسطول إلى قسنطينة فعصفت به الريح و انخرقت السفينة و ترادفت الأمواج إلى أن هلك و استبد السلطان بأمره و عقد لأخيه الأمير أبي يحيى زكريا على حجابته و رعى لابن تافراكين حق انحياشه إليه و نزوعه فجعله رديفا لأخيه و استمر الأمر على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى (6/554)
الخبر عن انتقاض منصور بن حمزة و إجلابه بالعم أبي يحيى زكريا على الحضرة و ما كان عقب ذلك من نكبة ابن تافراكين
كان منصور بن حمزة هذا أمير البلد من بني سليم بما كان سيد بني كعب و كان السلطان أبو يحيى يؤثره بمزيد العناية و يجعل له على قومه المزية و كان بنو حمزة هؤلاء منذ غلبوا على السلطان أبي الحسن على أفريقية و أزعجوه منها قد استطالت أيديهم عليها و تقسموها أوزاعا و أقطعهم أمراء الحضرة السهمان في جبايتها زيادة لما غلبوا عليه من ضواحيها و أمصارها استئلافا لهم على المصاهرة و إقامة الدعوة و الحماية من أهل الثغور الغربية فملكوا الأكثر منها و ضعف سهمان السلطان بينهم فيها فلما استولى هذا السلطان أبو العباس على الحضرة و استبد بالدعوة الحفصية كبح أعنتهم عن التغلب و الاستبداد و انتزع ما بأيديهم من الأمصار و العمالات التي كانت من قبل خالصة السلطان و بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبونه فأحفظهم ذلك و أهمهم شأنه و تنكر منصور بن حمزة و قلب ظهر المجن و نزع يده من الطاعة و غمسها في الخلاف و تابعه على خروجه على السلطان أبو معنونة أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسكين شيخ حكيم و ارتحل بأحيائه إلى الزواودة صريخا مستجيشا بالأمير أبي يحيى بن السلطان أبي بكر المقيم بين ظهرانيهم من لدن قفلته من المهدية و انتزائه بها على أخيه المولى أبي إسحق كما ذكرناه فنصبوه للأمر و بايعوه و ارتحل معهم و أغذوا السير إلى تونس و لقيهم منصور بن حمزة في أحياء بيته فبايعوا له و أوفدوا مشيختهم على يحيى ابن يملول شيطي الغواية المراد على الخلاف يستحثونه للطاعة و المدد بمداخلة كانت بينهم في ذلك سول لهم فيها بالمواعيد و أملى لهم حتى إذا غمسوا أيديهم في النفاق و الاختلاف سوفهم عن مواعيد حمايته بماله فأسرها منصور في نفسه و اعتزم من يومئذ على الرجوع إلى الطاعة
ثم رحلوا للإجلاب على الحضرة وسرح السلطان أبو العباس أخاه الأمير أبا يحيى زكريا للقيهم في العساكر و تزاحفوا فأتيح لمنصور و قومه ظهور على عساكر السلطان و أوليائه لم يستكمله و أجلوا على البلاد أياما و نمي إلى السلطان أن حاجبه أبا عبد الله ابن تافراكين داخلهم في تبييت البلد فتقبض عليه و أشخصه في البحر إلى قسنطينة فلم يزل بها معتقلا إلى أن هلك سنة ثمان و سبعين وسبعمائة ثم سرب السلطان أمواله في العرب فانتقض على المنصور قومه و خشي مغبة حاله و سوغه السلطان جائزته فعاود الطاعة و رهن ابنه و نبذ إلى السلطان زكريا العم عهده و رجعه على عقبه إلى الزواودة و التزم طاعة السلطان و الاستقامة على المظاهرة إلى أن هلك سنة ست و تسعين و سبعمائة فقتله محمد ابن أخيه قتيبة في مشاجرة كانت بينهما طعنه بها فأشواه و رجع جريحا إلى بيته و هلك دونها أواخر يومه و قام بأمر بني كعب بعده صولة ابن أخيه خالد و عقد له مولانا السلطان على أمرهم و استمرت الحال إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى (6/556)
الخبر عن فتح سوسة و المهدية
كانت سوسة منذ واقعة بني مرين بالقيروان و تغلب العرب على العمالات فأقطعها السلطان أبو الحسن لخليفة بن عبد الله بن مسكين فيما سوغ للعرب من الأمصار و الاقطاعات مما لم يكن لهم فاستولى عليها خليفة هذا و نزلها و استقل بجبايتها و أحكامها و استبد بها على السلطان و لم يزل كذلك إلى أن هلك و قام بأمره في قومه عامر بن عمه محمد بن مسكين أيام استبداد أبي محمد بن تافراكين فسوغها له كذلك مفضلا مرهبا من قتله ثم قتله بنو كعب و أقام بأمر حكيم من بعده أحمد الملقب أبو صعنونة بن محمد أخي خليفة بن عبد الله بن مسكين فاستبد بسوسة على السلطان و اقتعدها دار إمارته و ربما كان ينتقض على صاحب الحضرة فيجلب عليها من سوسة و يسن الغارات في نواحيها حتى لقد أوقع في بعض أيامه بمنصور سريحه مولى السلطان أبي إسحق و قائد عسكره فتقبض عليه و اعتقله بسوسة أياما ثم من عليه و أطلقه و عاود الطاعة معه و لم يزل هذا دأبهم و كانت لهم في الرعايا آثار قبيحة و ملكات سيئة و لم يزالوا يضرعون إلى الله في إنقاذهم من أيدي جورهم و عسفهم إلى أن تأذن الله لأهل أفريقية باقتبال الخير وفيء ظلال الأمر و استبد مولانا السلطان أبو العباس بالحضرة و سائر عمالات أفريقية و هبت ريح العز على المغرب في جميع النواحي فتنكر أهل سوسة لعاملهم أبي صعنونة هذا و أحس بتنكراتهم فخرج عنهم و تجافى للسلطان عن البلد و ثارت عامتها بعماله و أجهضوهم و نزل عمال السلطان
ثم كانت من بعد ذلك حركة المولى أبي يحيى إلى نواحي طرابلس و دوخ جهاتها و استوفى جباية أعمالها و كان بالمهدية محمد بن الجكجاك استعمله عليها الحاجب أبو محمد بن تافراكين أيام ارتجاعه إياها من أيدي أبي العباس بن مكي و الأمير أبي يحيى زكريا المنتزي بها ابن مولانا السلطان أبي بكر كما مر و أقام ابن الجكجاك أميرا عليها بعد موت الحاجب فلما وخزته شوكة الاستطالة من الدولة و طلع نحوه قتام العساكر فرق من الاستيلاء عليه و ركب أسطوله إلى طرابلس و نزل على صاحبها أبي بكر بن ثابت لذمة صهر قديم كان بينهما و بادر مولانا السلطان إلى تسليم المهدية و بعث عليها عماله و انتظمت في ملكيته و اطردت أحوال الظهور و النجح و كان بعد ذلك ما نذكر إن شاء الله تعالى (6/558)
الخبر عن فتح جربة و انتظامها في ملك السلطان
كان محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون منذ ولاه أبو عبد الله محمد بن تافراكين على هذه الجزيرة قد تقبل مذاهب جيرانها من أهل قابس و طرابلس و سائر الجريد في الامتناع على السلطان و مصارفة الاستبداد و انتحاله مذاهب الإمارة و طرقها و لبوس شارتها و قد ذكرنا سلفه من قبل و أن والده كان صاحب الأشغال بالحضرة أيام الحاجب أبي محمد بن تافراكين و أنه اعتلق بكتابة ابنه أبي عبد الله مولاه على جربة عند افتتاحه إياها سنة و أنه قصده عند مفره عن المولى أبي اسحق لينزل جربة معولا على قديم اصطناعه إياه فمنعه ثم داخل شيوخ الجزيرة من بني سمو من في الامتناع على السلطان و الاستبداد بأمرهم فأجابوه و أقام ممتنعا سائر دولة مولانا السلطان و ابنه من بعده
و لما استولى مولانا السلطان أبو العباس على تونس داخله الروع و الوحشة و صار إلى مكاثرة رؤساء الجريد في التظافر على المدافعة بزعمهم فأجرى في ذلك شأوا بعيدا مع تخلفه في مضمار بقديمه و حديثه و صارف السلطان سوء الامتثال و إتيان الطاعة و منع الحباية فأحفظ ذلك و لما افتتح أمصار الساحل و ثغوره سرح ابنه الأمير أبا بكر في العساكر إلى جربة و معه خالصة الدولة محمد بن علي بن إبراهيم من ولد أبي هلال شيخ الموحدين و صاحب بجاية لعهد المستنصر وقد تقدم ذكره و أمده في الأسطول في البحر لحصارها و نزل الأمير بعسكره على مجازها و وصل الأسطول إلى مرساتها فأطاف بحصن القشتيل و قد لاذ ابن أبي العيون بجدرانه و افترق عنه شيوخ الجزيرة من البربر و انحاش معه بطانته من الجند المستخدمين معه بها و لما رأوا ما لا طاقة لهم به و أن عساكر السلطان قد أحاطت بهم برا و بحرا نزلوا إلى قائد الأسطول و أمكنوه من الحصن و بادروا إلى معسكر الأمير فأقبل معهم الخاصة أبو عبد الله بن أبي هلال فيمن معه من بطانة الأمير و حاشيته فاقتحموا الحصن و تقبضوا على محمد بن أبي العيون و نقلوه من حينه إلى الأسطول و استولوا على داره و ولوا على الجزيرة و ارتحلوا قافلين إلى السلطان و وصل محمد بن أبي العيون إلى الحضرة و نزل بالديوان فأركب القصبة على جمل و طيف به على أسواق البلد إظهارا لعقوبة الله النازلة به و أحضره السلطان فوبخه على مرتكبه في العناد و مداخلته أهل الغواية من أمراء الجريد في الانحراف عنه ثم تجافى عن دمه و أودعه السجن إلى أن هلك سنة تسع و سبعين (6/559)
الخبر عن استقلال الأمراء من الأبناء بولاية الثغور الغربية
كان السلطان عندما استجمع الرحلة إلى أفريقية باستحثاث أهلها لذلك و وفادة منصور بن حمزة شيخ الكعوب مرغبا فأهمه لذلك شأن الثغور الغربية و أحال اختياره في بنيه بسير أحوالهم و يعيش على الأكفاء لهذه الثغور منهم فوقع نظره أولا على كبير ولده المخصوص بعناية الله في إلقاء محبته عليه الأمير أبي عبد الله فعقد له على بجاية و أعمالها و أنزله بقصور الملك منها و أطلق يده في مال الجباية و ديوان الجند و استعمل على قسنطينة و ضواحيها مولاه القائد بشير سيف دولته و عنان حربه و ناشىء قصده و تلاد مرباه و كانت لهذا الرجل نخوة من الصرامة و البأس و دالة بالقديم و الحادث و خلال لقيها أيام التغلب في أواوين الملك و كان ملازما ركاب مولاه في مطارح اغترابه و أيام تمحيصه و ربما لقي عند الورود على قسنطينة من المحنة و الاعتقال الطويل ما أعاضه الله عنه بجميل السرور و عود العز و الملك إلى مولاه على أحسن الأحوال فظفر من ذلك بالبغية و حصل من الرتبة على الأمنية و كان السلطان يثق بنظره في العسكر و يبعثه في مقدمة الحروب و كان عند استيلائه على بجاية و صرف العناية إليها ولاه أمر قسنطينة و أنزله بها و أنزل معه ابنه الأمير أبا اسحق و جعل إليه كفالته لصغره ثم استنفره بالعساكر عند النهوض إلى أفريقية فنهض في جملته و شهد معه الفتح ثم رجعه إلى عمله بقسنطينة بمزيد التفويض و الاستقلال فلم يزل قائما بما دفع إليه من ذلك إلى أن هلك
و كان السلطان قد أوفد ابنه أبا إسحق على ملك بن مقرب و السلطان عبد العزيز عندما استولى على تلمسان مهنئا بالظفر ملفحا غراس الود و أنفذ معه شيخ الموحدين ساسة أبا إسحق بن أبي هلال و قد مر من قبل ذكر أخيه فتلقاهما ملك بن مقرب بوجوه المبرة و الاحتفاء و رجعهما بالحديث الجميل عنه سنة ثلاث و سبعين و سبعمائة و نزل الأمير أبو اسحق بقسنطينة دار إمارته و عقد له السلطان عليها و ألقاب الملك و رسومه مصروفة إليه و القائد بشير مولى أبيه مستبد عليه لمكان صغره إلى أن هلك بشير ثمان و سبعين و سبعمائة عندما استكمل الأمير أبو إسحق الحال و استجمع الإمارة فجدد له السلطان عهده عليها و فوض إليه في إمارتها فقام بما دفع إليه من ذلك أحسن قيام و أحواله تصدق الظنون و تومي إليه و شهادة المخايل التي دلت عليه فاستقل هذان الأميران بعهد بجاية و قسنطينة و أعمالها مفوضا إليهما الإمارة مأذونا لهما في اتخاذ الآلة و إقامة الرسوم الملوكية و الشارة و كان الأمير أبو يحيى زكريا الأخ الكريم مستقلا أيضا ببونة و عملها منذ استيلائه عليها سنة قد أضافها السلطان و أصارها في سهمانه فلما ارتحلوا إلى أفريقية عام الفتح و تيقن الأخ أبو يحيى طول مغيبه و اغتباط السلطان أخيه لكونه معه عقد عليها لابنه الأمير أبي عبد الله محمد و أنزله بقصره منها فوض إليه في إمارته لما استجمع من خلال التشريع و الذكر الصالح في الدين و استمر الحال على ذلك لهذا العهد و هو سنة ثلاث و ثمانين و سبعمائة و الله مدبر الأمور سبحانه (6/560)
الخبر عن فتح قفصة و توزر و انتظام أعمال قسنطينة في طاعة السلطان
كان أمر هذا الجريد قد صار شورى بين رؤساء أمصاره فيما قبل دولة السلطان أبي بكر لاعتقال الدولة حينئذ بإنقسامها كما مر فلما استبد السلطان أبو بكر بالدعوة الحفصية و فرغ عن الشواغل صرف إليهم نظره و أوطأهم عساكره ثم نهض فجاء إثر الشورى منها و عقد لابنه أبي العباس عليها كما قلناه فلما كان بعد مهلكه من اضطراب أفريقية و تغلب الأعراب على نواحيها ما كان منذ هزيمة السلطان أبي الحسن و تنازع رؤسائهم بعد أن كانوا سوقة في انتحال مذاهب الملك و مساريه يقتعدون الأرائك و يتفقدون في المشي بين السكك المراكب و يهيئون في إيوانهم سبال الأشراف و يتخذون الآلة أيام المشاهد آية للمعتبرين في تقلب الأيام و ضحكة الأهل الشمات حتى لقد حدثتهم أنفسهم بألقاب الخلافة و أقاموا على ذلك أحوالا و الدولة في التياثها فلما استبد السلطان أبو العباس بأفريقية و عمالاتها و أتيح منه بالحضرة البازي المطل من مرقبه و الأسد الخادر في عرينه و أصبحوا فرائس له يتوقعون انصبابه إليهم و توثبه بهم داخلوا حينئذ الاعراب في مدافعته عنهم بإضرام نار الفتنة و اقتعاد مطية الخلاف و النفاق يفتلون بذلك في عزائمه و أرخى هو لهم حبل الإمهال و فسح لهم مجال الإيناس بالمعاونة و الوعد رجاء الفيئة إلى الطاعة المعروفة و الاستقامة على الجادة فأصروا و ازدادوا عنادا و نفاقا فشمر لهم عن عزائمه و نبذ إليهم عهدهم على سواء و نهض من الحضرة سنة سبع و سبعين و سبعمائة في عساكره من الموحدين و طبقات الجند و الموالي و قبائل زناتة من استألف إليه من العرب أولاد مهلهل و حكيم و أصهار أولاد أبي الليل على المدافعة عن أهل الجريد و وافقوا السلطان أياما ثم أجفلوا أمامه و غلبهم السلطان على رعاياهم من تحيزه و كانوا من بقايا بني يفرن عمروا ضواحي أفريقية مع ظواعن هوارة و نفوسة و مغراوة و كانت للسلطان عليهم مغارم و جبايات وافرة فلما تغلب المغرب على بسائط أفريقية و تنافسوا في الاقطاعات كانت ظواعن مر نجيزة هؤلاء في إقطاع أولاد حمزة فكانت جبايتهم موفورة و مالهم دثرا بما صاروا مددا لهم بالمال و الكراع و الدروع و الأدم و بالفرسان منهم يستظهرون بهم في حروبهم مع السلطان و مع قومهم فاستولى السلطان عليهم في هذه السنة و اكتسح أموالهم و بعث رجالهم أسرى إلى سجون الحضرة و قطع بها عنهم أعظم مادة كانت تمدهم فخمد ذلك من عتوهم و قص من جناحهم إلى آخر الدهر و وهنوا له ثم عاد السلطان إلى حضرته و افترق أشياعه و نزع عنهم أبو صعنونة فتألف على أولاد أبي الليل و زحفوا إلى الحضرة فاحتلوا بساحتها أياما و شنوا الغارات عليها ثم انفضوا عنها و خرج على أثرهم لأول فصل الشتاء و تساحل إلى سوسة و المهدية فاقتضى مغارم الأوطان التي كانت لأبي صعنونة ثم رجع إلى القيروان و ارتحل منها يريد قفصة و جمع أولاد أبي الليل لمدافعة عنها وسرب فيهم صاحب توزر الأموال فلم تغن عنه و زحف السلطان إلى قفصة فنازلها ثلاثا و لجوا في عصيانهم و قاتلوه بجمع الأيدي على قطع نخيلهم و تسايلت إليه الرعية من أماكنهم و أسلموا أحمد بن القائد مقدمهم و إبنه محمد المستبد عليه لكبره و ذهوله فخرج إلى السلطان و اشترط ما شاء من الطاعة و الخراج و رجع إلى البلد و قد ماج أهلها بعضهم في بعض و هموا بالخروج فسابقهم ابنه أحمد المستبد على أبيه و كان السلطان سرح أخاه أبا يحيى في الخاصة و الأولياء إلى البلد فلقيه محمد بنواحي ساحتها فبعث به إلى السلطان و دخل هو إلى القصبة و تملك البلد و تقبض السلطان على محمد بن القائد لوقته و سيق إليه أبوه أحمد من البلد فجعل معه و استولى معه على داره و ذخائره
و اجتمع المدد و الكافة من أهل البلد عند السلطان و آتوه بيعتهم و عقد عليها لابنه أبي بكر و ارتحل يغذ السير إلى توزر و قد طار الخبر بفتح قفصة إلى ابن يملول فركب لحينه و احتمل أهله و ما خف من ذخائره و لحق بالزاب و طير أهل توزر بالخبر إلى السلطان فلقيه أثناء طريقه و تقدم إلى البلد فملكها و استولى على ذخيرتها ابن يملول و نزل بقصوره فوجد بها من الماعون و المتاع و السلاح و آنية الذهب و الفضة ما لا يعد لأعظم ملك من ملوك الأرض و أحضر بعض الناس ودائع كانت لهم عنده من نفيس الجواهر و الحلى و الثياب و برؤوا منها إلى السلطان
و عقد السلطان على توزر لإبنه المنتصر و أنزله قصور ابن يملول و جعل إليه إمارتها و استقدم السلطان الخلف بن الخلف صاحب نفطة فقدم عليه و آتاه طاعته و عقد له على بلده و ولاية حجابة إبنه بتوزر و أنزله معه و قفل إلى حضرته و قد كان أهل الخلاف من العرب عند تغلبه على أمصار الجريد إلى التلول فلما قصد حضرته اعترضوه دونها فأوقع بهم و فل من عزمهم و أجفلوا إلى الجهات الغربية يؤملون منها ظفرا لما كان ابن يملول قد منهم و نصر ابن عمه منصور صريخين به على عادة صريخهم بأبي تاشفين سلفه فدافعهم بالمواعدة وتبينوا منها عجزه و أنكفوا راجعين و وفد صولة على السلطان بعد أن توثق لنفسه فاشترط له على قومه ما شاء و رجع إليهم فلم يرضوا بشرطه و نهض السلطان من الحضرة في العساكر الأولياء من العرب و أجفلوا أمامهم فأتبعهم و أوقع بهم ثلاث مرات و وافقوه فيها ثم أجفلوا و لحقوا بالقيروان و قدم وفدهم على السلطان و الاشتراط له كما يشاء فتقبل و وسعهم عفوه و صاروا إلى الانقياد و الاعتمال في مذاهب السلطان و مرضاته و هم على ذلك لهذا العهد (6/562)
الخبر عن ثورة أهل قفصة و مهلك ابن الخلف
لما استقل الخلف بن علي بن الخلف بحجابة المنتصر ابن السلطان و عقد له مع ذلك على عمله بنفطة فاستخلف عليها عامله و نزل بتوزر مع المنتصر ثم سعى به أنه يداخل ابن يملول و يراسله فبث عليه العيون و الأرصاد و عثر على كتابه بخط كاتبه المعروف إلى ابن يملول و إلى يعقوب بن علي أمير الزواودة يحرضهما على الفتنة فتقبض عليه و أودعه السجن و بعث عماله إلى نفطة و استولى على أمواله و ذخائره و خاطب أباه في شأنه فأمهله بعد أن تبين نقضه للطاعة و سعيه في الخلاف و كان السلطان قبل فتح نفطة قد نزع إليه من بيوتاتها أحمد بن أبي يزيد و سار في ركابه إليها فلما استولى على البلد رعى له ذمة نزوعه إليه و أوصى به ابنه أبا بكر فاستولى على مشورته و حله و عقده و طوى على البيت ثم حدثته نفسه بالاستبداد و تحين له المواقيت و اتفق أن سار الأمير أبو بكر من نفطة لزيارة أخيه المنتصر بتوزر و خلف بالبلد عبد الله الترمكي من مواليهم و كان السلطان أنزله معه و ولاه حجابته فلما توارى الأمير عن البلد داخل ابن أبي يزيد من الأوغاد و طاف في سكك المدينة و المهاتفة معه ينادي بالثورة و نقض الطاعة و تقدم إلى القصبة فأغلقها القائد عبد الله دونه و حاربها فامتنعت عليه و قرع عبد الله الطبل و اجتمع إليه أهل القرى فأدخلهم من باب كان بالقصبة يفضي إلى النهاية فكثروا و منع ابن أبي يزيد و تسلل عنه الناس فلاذ بالاختفاء و خرج القائد من القصبة فتقبض على كثير من أهل الثورة و أودعهم السجن و استولى على البلد و سكن الهيعة و طار الخبر إلى المولى أبي بكر فأغذ السير منقلبا إلى قفصة و لحين دخوله ضرب أعناق المعتقلين من أهل الثورة و أمر الهاتف فنادى في الناس بالبراءة من ابن أبي يزيد و أخيه و لأيام من دخوله عثر بهما الحرس في مقاعدهم بالباب مستترين بزي النساء فتقبضوا عليهما و تلوهما إلى الأمير فضرب أعناقهما و صلبهما في جذوع النخل و كانا من المترفين فأصبحا مثلا في الأيام و قد خسرا دينهم و دنياهما و ذلك هو الخسران المبين و ارتاب المنتصر صاحب توزر حينئذ بابن الخلف و حذر مغبة حاله فقتله بمحبسه و ذهب في غير سبيل مرحمة و انتظم السلطان أمصار الجريد كلها في طاعته و اتصل ظهوره إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (6/564)
الخبر عن فتح قابس و انتظامها في ملكة السلطان
هذه البلد لم تزل في هذه الدولة الحفصية لبني مكي المشهور ذكره في هذه العصور و ما إليها و سيأتي ذكر أخبارهم و نسبهم و أوليتهم في فصل نفرده لهم فيما بعد و كان أصل رياستهم فيها اتصالهم بخدمة الأمير أبي زكريا لأول أيام ولاية قابس سنة ثلاث و عشرين و ستمائة فاختصوا به و داخلهم في الانتقاض على أخينا أبي محمد عبد الله عندما استجمع لذلك فأجابوه و بايعوه فرعى لهم هذه الوسائل عندما استبد بأفريقية و أفردهم برياسة الشورى في بلدهم ثم سموا إلى الاستبداد عندما فشل ريح الدولة عن القاصية بما حدث من الفتن و انفراد الثغور الغربية بالملك
و لم يزالوا جانحين إلى هذا الاستبداد و رامقين إليه بنظر العين و الانتقاض على السلطان و مداخلة الثوار و الإجلاب بهم على الحضرة و الدولة أثناء ذلك في شغل عنهم و عن سواهم من أهل الجريد منذ أحقاب متطاولة بما كان من انقسام الدولة و إلحاح صاحب الثغور الغربية على مطالبة الحضرة
ثم استبد مولانا السلطان أبو بكر بالدعوة الحفصية في سائر عمالات أفريقية و شغله عنهم شاغل الفتنة مع صاحب تلمسان في الإجلاب على الحضرة مع جيوشه و منازلتهم ثغر بجاية و تسريبه جيوش بني عبد الواد مرة بعد أخرى مع الأعياص من بني أبي حفص و العرب إلى أفريقية و كان المتولى الرياسة بقابس يومئذ عبد الملك بن مكي بن أحمد ابن عبد الملك رديفه فيها أخوه أحمد و كانا يداخلان أبا تاشفين صاحب تلمسان في الاجلاب على الحضرة مع جيوشه و الثوار القادمين معهم و ربما خالفوا السلطان إلى الحضرة أزمان مغيبه عنها كما وقع لهم مع عبد الواحد بن اللحياني و قد مر ذكر ذلك
فلما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان و انمحى أثر بني زيان فزع السلطان أبو بكر لهؤلاء الثوار الرؤساء بالجريد الدائنين بالانتقاض سائر أيامهم و زحف إلى قفصة فملكها فذعروا و لحق أحمد بن مكي بالسلطان أبي الحسن متذمما بشفاعته بعد أن كان الركب الحجازي من المغرب مر بقابس و به بعض كرائم السلطان فأوسعوا حباءهم و سائر الركب قرى و حباء و قدموا ذلك وسيلة بين يدي وفادنه فقبل السلطان وسيلتهم و كتب إلى مولانا السلطان أبي بكر شافعا فيهم لذمة السلطان و الصهر فتقبل شفاعته و تجاوز عن الانتقام منهم بما اكتسبوه
ثم هلك مولانا السلطان أبو بكر و ماج بحر الفتنة و عادت الدولة إلى حالها من الانقسام و انسدت على صاحب الحضرة وجوه الانتصاف منهم فعاد بنو مكي و سواهم من رؤساء الجريد إلى حالهم من الاستبداد على الدولة و قطع أسباب الطاعة و منع المغارم و الجباية و مشايعة صاحب الغربية ركونا على صاحب الحضرة فلما استبد مولانا السلطان أبو العباس بالدعوة الحفصية و جمع الكلمة و استولى على كثير من الثغور المنتقضة تراسل أهل هذه العصور الجريدية و تحدثوا بما دهمهم و طلبوا وجه الخلاص منه و الامتناع عليه
و كان عبد الملك بن مكي أقعدهم بذلك لطول مراسلة الفتن و انحياشه إلى الثوار و كان أحمد أخوه و رديفه قد هلك سنة خمس و ستين و سبعمائة و انفرد هو برياسة قابس فراسلوه و راسلهم في الشأن و أجمعوا جميعا على تجييش العرب على السلطان و تسريب الأموال و مشايعة صاحب تلمسان بالترغيب في ملك أفريقية فانتدبوا لذلك من كل ناحية و بعثوا البريد إلى صاحب تلمسان فأطمعهم من نفسه و عللهم بالمواعيد الكاذبة و السلطان أبو العباس مقبل على شأنه يقتل لهم في الذروة و الغارات حتى غلب أولاد أبي الليل الذين كانوا يغزونهم بالمدافعة عنهم و افتتح قفصة و توزر و نفطة و تبين لهم عجز صاحب تلمسان عن صريخهم فحينئذ بادر عبد الملك إلى مراسلة السلطان يعده من نفسه الطاعة و الوفاء بالجباية و يستدعي لاقتضاء ذلك منه بعض حاشيته فأجابه إلى ذلك و بعث أمره إليه و رجع إلى الحضرة في انتظاره فطاوله ابن مكي في العرض و رده بالوعد
ثم اضطرب أمره و انتقض عليه أهل ضاحيته بنو أحمد إحدى بطون دباب و ركبوا إليه فحاصروه و ضيقوا عليه و استدعوا المدد لذلك من الأمير أبي بكر صاحب قفصة فأمدهم بعسكر و قائد فنازلوه و اشتد الحصار و اتهم ابن مكي بعض أهل البلد بمداخلتهم فكسبهم في منازلهم و قتلهم و تنكرت له الرعية و ساءت حاله و دس إلى بعض المفسدين من العرب من بني علي في تبييت العسكر المحاصرين له و اشترط لهم على ذلك مارضوه من المال فجمعوا لهم و بيتوهم فانفضوا و نالوا منهم منهم و بلغ السلطان خبرهم فأحفظه و أجمع الحركة على قابس و عسكر بظاهر الحضرة في رجب سنة إحدى و ثمانين و سبعمائة و تلوم أياما حتى استوفى العطاء و اعترض العساكر و توافت أحياء أوليائه من أولاد مهلهل و حلفائهم من سائر سليم ثم ارتحل إلى القيروان و ارتحل منها يريد قابس و قد استكمل التعبية و بادر إلى لقائه الأخذ بطاعته مشيخة ذباب أعراب من بني سليم و وفد منهم خالد بن سباع بن يعقوب شيخ المحاميد و ابن عمه علي بن راشد فيمن إليهم يستحثونه إلى منازلة قابس فأخذ السير إليها و قدم رسله بين يديه بالإنذار لابن مكي و انتهوا إليه فرجعهم بالإنابة و الانقياد إلى الطاعة ثم احتمل رواحله و عبى ذخائره و خرج من البلد و نزل على أحياء دباب هو و ابنه يحيى و حافده عبد الوهاب ابن ابنه مكي مالك لها منذ سنين من قبل
و اتصل الخبر بالسلطان فبادر إلى البلد و دخلها في ذي القعدة من سنته و استولى على منازل ابن مكي و قصوره و لاذ أهل البلد بطاعته و ولى عليها من حاشيته و كان أبو بكر بن ثابت صاحب طرابلس قد بعث إلى السلطان بالطاعة و الانحياش و وافته رسله دون قابس فلما استكمل فتحها بعث إليه من حاشيته لاقتضاء ذلك فرجعهم بالطاعة و أقام عبد الملك بن مكي بعد خروجه من قابس بين أحياء العرب ليالي قلائل ثم يغته الموت فهلك و لحق ابنه و حافده بطرابلس فمنعهم ابن ثابت الدخول إليها فنزلوا بزنزور من قراها في كفالة الجواري من بطون ذباب و لما استكمل السلطان الفتح و شؤنه انكفأ راجعا إلى الحضرة فدخلها فاتح اثنتين و ثمانين و سبعمائة و لحق إليه رسوله من طرابلس بهدية ابن ثابت من الرقيق و المتاع بما فيه الوفاء بمغارمه بزعمه
و وفد عليه بعد استقراره بالحضرة رسل أولاد أبي الليل متطارحين في العفو عنهم و القبول عليهم فأجابهم إلى ذلك و وفد صولة بن خالد شيخهم و قبله أبو صعنونة شيخ حكيم و رهنوا أبناءهم على الوفاء و استقاموا على الطاعة و اتصل النجح و الظهور و الأمر على ذلك لهذا العهد و هو فاتح ثلاث و ثمانين و سبعمائة و الله مالك الأمور لا رب غيره (6/565)
الخبر عن استقامة ابن مزني و انقياده و ما اكتنف ذلك من الأحوال
كان هؤلاء الرؤساء المستبدون بالجريد بالزاب منذ فرغ السلطان لهم من الشواغل و استرابوا المغبة حالهم معه و مراوغتهم له بالطاعة يرومون استحداث الشواغل و يؤملون لها سلطان تلمسان لعهدهم أبا حمو الأخير و أنه يأخذ بحجزته عنهم إن وصلوا به أيديهم و استحثوه لذلك لإيلافهم مثلها من سلف قومه و أبي حمو بن تاشفين من قبله قياسا متورطا في الغلط بعيدا من الإصابة لما نزل بسلطان بني عبد الواد في هذه العصور من الضعف و الزمانة و ما أصاب قومهم من الشتات بأيديهم و أيدي عدوهم و تقدمهم في هذا الشأن أحمد بن مزني صاحب بسكرة لقرب جواره و اشتهار مثلها من سلفه فاتبعوه و قلدوه و غطى هواهم جميعا على بصيرتهم و قارن ذلك نزول الأمير أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عم أبي حمو على ابن يملول بتوزر عند منابذة سالم بن إبراهيم الثعالبي إياه و كان طارد به أياما ثم راجع أبو حمو و صرفه سنة ثمان و سبعين و سبعمائة فخرج من أعمال تلمسان و أبعد المذهب عنهم و نزل على ابن يملول بتوزر
و طير الخبر إلى إمامه في تلك الفتنة أحمد بن مزني و اغتبطوا بمكان أبي زيان و أن تمسكهم به ذريعة إلى اعتمال أبي حمو في مرضاتهم و إجابته إلى داعيهم و ركض بريدهم إلى تلمسان في ذلك ذاهبا و جائيا حتى أعيت الرسل و اشتبهت المذاهب و لم يحصلوا على غير المقاربة و الوعد لكن على شرط التوثق من أبي زيان و بينما هم في ذلك إذ هجم السلطان على الجريد و شرد عنه أولاد أبي الليل الذين تكفل الرؤساء به بالمدافعة و افتتح قفصة و توزر و نفطة و لحق يحيى بن يملول ببسكرة و استصحب الأمير أبا زيان فنزل علي شيخ رياح بأمره مع السلطان لما سلف منه من مداخلة هؤلاء الرهط و تمسكهم بحقويه و المبالغة في العذر عنهم ثم غدرته أنصاره من مشيخة الزواودة و انحاشوا إلى السلطان فأفاض عليهم عطاءه و اختصهم بولايته فحدث لذلك منه نفرة و اضطراب و ارتحل إلى السلطان أبي حمو صاحب تلمسان فاتح اثنتين و ثمانين و سبعمائة يستحثيه لهؤلاء الرهط و يهزه بها إلى البدار بصريخهم
و نزل على أولاد عريف أوليائه من سويد و أوفد عليه ابنه فتعلل لهم بمنافرة حدثت في الوقت بينه و بين صاحب المغرب و أنه لهم بالمرصاد متى رابهم ريب من نهوض السلطان أبي العباس ليتمسك بذلك طرق التوثب من أبي زيان و ربما دس لهم بمشارطة اعتقاله و إلقائه في غيابات السجون و في مغيب يعقوب هذا طرق السلطان طائف من المرض أرجف له المفسدون بالجريد و دس لشيع ابن يملول بتحيزه إلى صبي من أبناء يحيى مخلف ببسكرة فذهل ابن مزني عن لتثبت لها ذهابا مع صاغية الولد و أوليائه و جهزهم لانتهاز الفرصة في توزر مع العرب المشارطين في مثلها بالمال و أغذوا السير توزر على حين غفلتهم من الدهر و خف من الجند فجلى المنتصر و أولياؤه في الامتناع وصدق الدفاع و تمحضت بهذه الانالة طاعة أهل توزر و مخالصتهم و انصرف ابن يملول بإخفاق من السعي و اليم من الندم و توقع للمكاره
و وافق ببسكرة قدوم يعقوب بن علي فرجعه من المغرب فبالغ في تغييبهم بالملامة على ما أحدثوا بعده من هذا الخرق المتسع الغني عن الواقع
و كان السلطان لأول بلوغ الخبر بإجلابهم على توزر وممالأة ابن مزني على ابنه و أوليائه أجمع النهوض إلى بسكرة و عسكر بظاهر الحضرة و فتح ديوان العطاء و جهز آلات الحصار وسرى الخبر بذلك إليهم فخلصوا نجيا و نقضوا عنه آراءهم فتمحض لهم اعتقال أبي زيان الكفيل لهم بصريخ أبي حمو على زعمه فتعللوا عليه ببعض النزعات و تورطوا في اخفار ذمته و طيروا بالصريخ إلى أبي حمو و انتظروا فما راعهم إلا وافده بالعذر عن صريخهم و الإعاضة بالمال فتبينوا عجزه و نبذوا عهده و بادروا عليه السبيل لأبي زيان العذر له لما كان السلطان نكر عليهم من أمرهم فارتحل عنهم و لحق بقسنطينة و حملهم يعقوب بن علي على اللياذ بالطاعة و أوفد ابن عمه متطارحا و شافعا فتقبل السلطان منه و سيلته و أغضى لابن مزني عن هناته و أسعفهم بكبير دولته و خالصة سره أبي عبد الله ابن أبي هلال ليتناول منه المخالصة و يمكن له الإلفة و يمسح عنه هو أجس الارتياب و المخافة
و كان قد انتهى إليهم من الحياة ففصل عن الحضرة و ارتحل السلطان في ذي القعدة آخر سنة اثنتين و ثمانين و سبعمائة لتفقد عماله و ابتلاء الطاعة من أهل أوطانه و لما وصل وافد السلطان إلى أبي مزني ألقى زمامه إليه و حكمه في ذات يده و قبله و محا أثره المراوغه و استجد لبؤس الانحياش و الطاعة وبادر إلى استجادة المقربات و انتقاء صنوف التحف و بعث بذلك في ركاب الوافد فدفع الذي عليه من الضريبة المعروفة محملا أكباد جياده و ظهور مطاياه و وصلوا إلى معسكر السلطان بساح تبسة فاتح سنة ثلاث و ثمانين و سبعمائة فجلس لهم السلطان جلوسا فخما و لقاهم قبولا و كرامة فعرضوا الهدية و أعربوا عن الانحياش و الطاعة و حسن موقع ذلك من السلطان و شملهم إحسان السلطان في مقامتهم و جوائزه على الطبقات في انصرافهم و انقلبوا بما ملأ صدورهم إحسانا و نعمة و ظفروا برضا السلطان و غبطته و حسبهم بها أمنية و بيد الله تصاريف الأمور و مظاهر الغيوب (6/568)
الخبر عن انتقاض أولاد أبي الليل ثم مراجعتهم الطاعة
قد ذكرنا ما كان من رجوع أولاد أبي الليل هؤلاء إلى طاعة السلطان إثر منصرفه من فتح قابس و أنهم وفدوا عليه بالحضرة فتقبلهم و عفا عن كبائرهم و استرهن على الطاعة أبناءهم و اقتضى بالوفاء على ذلك أيمانهم و خرج الأخ الكريم أبو يحيى زكريا في العساكر لاقتضاء المغارم من هوارة التي استأثروا بها في مدة هذه الفتن
و ارتحل معه أولاد أبي الليل و أحلافهم من حكيم حتى استوفى جبايته و جال في أقطار عمله ثم انكفأ راجعا إلى الحضرة و وفدوا معه على السلطان يتوسلون به في أفعالهم بالعسكر إلى بلاد الجريد لاقتضاء مغارمهم على العادة و استيفاء اقطاعاتهم فسرح السلطان معهم لذلك ابنه أبا فارس و ارتحلوا معه بأحيائهم و كان ابن مزني و ابن يملول من قبله و يعقوب بن علي كثيرا ما يراسلونهم و يستدعونهم لمثل ما كانوا فيه من الإنحراف و مشايعة صاحب تلمسان
و لما اعتقلوا أبا زيان ببسكرة كما ذكرناه و توفي بصريخ أبي حمو و مظاهرته فنبضت عروق الخلاف في أولاد أبي الليل و فزعوا إلى العلاق بيعقوب بن علي رجاء فيما توهموه من استغلاظ أمرهم بصاحب تلمسان و يأسا من معاودة التغلب الذي كان لهم على ضواحي أفريقية ففارقوا الأمير أبا فارس بعد أن بلغوه مأمنه من قفصة و ساروا بأحيائهم إلى الزاب فلم يقعوا على الغرض و لا ظفروا بالبغية و وافوا يعقوب و ابن مزني و قد جاءهم وافد أبي حمو بالقعود عن نصرتهم و الأمير أبو زيان قد انطلق لسبيله عنهم فسقط في أيديهم و عاودهم الندم على ما استدبروا من أمرهم و حملهم يعقوب على مراجعة السلطان و أوفد ابنه محمدا في ذلك مع وافد العزيز أبي عبد الله محمد بن أبي جلال فتقلبهم و أحسن التجاوز عنهم و بعث أبا يحيى أخاه لاستقدام أمانا لهم و تأنيسا و بذل لهم فوق ما أملوه من مذاهب الرضا و القبول و اتصل النجح و الظهور و الحمد لله وحده (6/571)
تغلب ابن يملول على توزر و ارتجاعها منه
قد كان تقدم لنا أن يحيى بن يملول لما هلك ببسكرة خلف صبيا اسمه أبو يحيى و ذكرنا كيف أجلب على توزر سنة اثنتين و ثمانين و سبعمائة مع لفيف أعراب رياح و مرادس فلما كان سنة ثلاث و ثمانين و سبعمائة بعدها وقعت مغاضبة بين السلطان و بين أولاد مهلهل من الكعوب و انحدروا إلى مشايتهم بالصحراء فبعث أميرهم يحيى بن طالب عن هذا الصبي أبي يحيى من بسكرة فنزل بأحيائه بساح توزر و دفع الصبي إلى حصارها و اجتمع عليه شيعته من نواحي البلد و أشراف من أعراب الصحراء و أجلبوا على البلد و ناوشوا أهلها القتال و كان بها المنتصر ابن السلطان فقاتلهم أياما ثم تداعى شيعهم من جوانب المدينة و غلبوا عساكرهم و أحجروهم بالبلد ثم دخلوا عليهم و خرج المنتصر ناجيا بنفسه إلى بيت يحيى بن طالب و استذم به فأجاره و أبلغه إلى مأمنه بقفصة و بها عاملها عبد الله التريكي
و استولى ابن يملول على توزر و استنفذ ما معه و ما استخرجه من ذخائر توزر في أعطيات العرب و زادهم جباية السنة من البلد بكمالها و لم يحصل على رضاهم و بلغ الخبر إلى السلطان بتونس فشمر عزائمه و عسكر بظاهر البلد و اعترض الجند و أزاح عللهم و ارتحل إلى ناحية الأربض و هو يستألف الأعراب و يجمع لقتال أولاد مهلهل أقتالهم و أعداءهم أولاد أبي الليل و أولياءهم و أحلافهم ليستكثر بهم حتى نزل على فحص تبسة فأراح بهم أياما حتى توافت أمداده من كل ناحية و نهض يريد توزر و لما احتل بقفصة قدم أخاه الأمير أبا يحيى و ابنه الأمير المنتصر في العساكر و معهما صولة بن خالد بقومه أولاد أبي الليل و سار على أثرهم في التعبية و لما انتهى أخوه و ابنه إلى توزر حاصروها و ضيقوا عليها أياما ثم وصل السلطان فزحف إليها العساكر من جوانبها و قاتلوها يوما إلى المساء ثم باكروها بالقتال فخذل ابن ابن يملول أصحابه و أفردوه فذهب ناجيا بنفسه إلى حلل العرب و دخل السلطان البلد و استولى عليه و أعاد ابنه إلى محل إمارته منه و انكفأ راجعا إلى قفصة ثم إلى تونس منتصف أربع و ثمانين و سبعمائة (6/572)
ولاية الأمير زكريا ابن السلطان على توزر
ثم عاد ابن يملول إلى الاجلاب على توزر من السنة القابلة و خرج السلطان في عساكره فكر راجعا إلى الزاب و نزل السلطان قفصة و وافاه هنالك ابنه المنتصر و تظلم أهل توزر من أبي القاسم الشهرزوري الذي كان حاجبا للمنتصر فسمع شكواهم و أبلغ إليه الخاصة سوء دخلته و قبيح أفعاله فتقبض عليه بقفصة و احتمله مقيدا إلى تونس و غضب لذلك المنتصر و أقسم لا يلي على توزر و سار مع السلطان إلى تونس و ولى السلطان على توزر الأمير زكريا من ولده الأصاغر لما كان يتوسم فيه من النجابة فصدقت فراسته فيه و قام بأمرها و أحسن المدافعة عنها و قام ياستئلاف الشارد من أحياء العرب و أمرائهم حتى تم أمره و حسنت ولايته و الله متولي الأمور بحكمته لا إله إلا هو (6/573)
وفاة الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية
كان السلطان لما سار إلى فتح تونس و ولى على بجاية ابنه محمدا كما مر و أقام له حاجبا و أوصاه بالرجوع إلى محمد بن أبي مهدي زعيم البلد و قائد الأسطول المتقدم على أهل الشطارة و الرجولة من رجل البلد و رماتهم فقام هذا الأمير أبو عبد الله في منصب الملك ببجاية أحسن قيام و اصطنع أبي مهدي أحسن اصطناع فكان يجري في قصوره و أغراضه و يكفيه مهمه في سلطانه و يراقب مرضاة السلطان في أحواله و الأمير يعرف له ذلك و يوفيه حقه إلى أن أدركته المنية أوائل خمس و ثمانين و سبعمائة فتوفي على فراشه آنس ما كان سربا و آمن روعا مشيعا من رضى أبيه و رعيته بما يفتح له أبواب الرضى من ربه و بلغ نعيه إلى أبيه بتونس فبادر بانفاذ العهد لابنه أبي العباس أحمد بولاية بجاية مكان أبيه و جعل كفالة أمره لابن أبي مهدي مستبدا عليه و استقامت الأمور على ذلك (6/573)
حركة السلطان إلى الزاب
كنت أنهيت بتأليف الكتاب إلى ارتجاع توزر من أيدي ابن يملول و أنا يومئذ مقيم بتونس ثم ركبت البحر منتصف أربع و ثمانين و سبعمائة إلى بلاد المشرق لقضاء الفرض و نزلت بالاسكندرية ثم بمصر ثم صارت أخبار المغرب تبلغنا على ألسنة الواردين فمن أول ما بلغنا بعدها حركة السلطان إلى الزاب سنة ست و ثمانين و سبعمائة و ذلك أن أحمد بن مزني صاحب بسكرة و الزاب لعهده كان مضطرب الطاعة متحيزا على السلطان و كان يمنع في أكثر السنين المغارم معولا على مدافعة العرب الذين هلكوا بضواحي الزاب و التلول دونه و أكثر وثوقه في ذلك بيعقوب بن علي و قومه الزواودة و قد مر طرف من أخباره مثبوتا في أخبار الدولة و كان ابن يملول قد أوى إلى بلده و اتخذ وكرا في جوه و أجلب على توزر مرارا برأيه و معونته فاحفظ على ذلك السلطان و نبه له عزائمه
ثم نهض سنة ست و ثمانين و سبعمائة يريد الزاب بعد أن جمع الجموع و احتشد الجنود و استألف العرب من بني سليم فساروا معه وأوعبوا و مر على فحص تبسه ثم خرج من طرف جبل أوراس إلى بلد تهودا من أعمال الزاب اعصوصب الزواودة و من معهم من قبائل رياح على المدافعة دون بسكرة و الزاب غيرة من بني سليم أن يطرقوا أوطانهم أو يردوا مراعيهم إلا بني سباع بن شبل من الزواودة فإنهم تحيزوا إلى السلطان استنفر ابن مزني حماة وطنه و رجالة قومه من الأثبج فغصت بسكرة بجموعهم و تواقف الفريقان و أنالهم السلطان القتال أياما و هو يراسل يعقوب بن علي و يستحثه لما كان يطعمه به من المظاهرة على ابن مزني و يعقوب يخادعه بانحراف قومه عنه و ائتلافهم على ابن مزني و يرغبه في قبول طاعته و وضع أوزار الحرب مع رياح حتى تتمكن له فرصة أخرى فتقبل السلطان نصيحته في ذلك و أغضى لابن مزني و لرياح عنها و قبل طاعته و ضريبته المعلومة و انكفأ راجعا و مر بجبل أوراس ثم إلى قسنطينة فأراح بها ثم ارتحل إلى تونس فوصل إليها منتصف سنة ثمانين و سبعمائة (6/574)
حركة السلطان إلى قابس
كان السلطان قد فتح مدينة قابس سنة إحدى و ثمانين و سبعمائة و انتظمها في أعماله و شرد عنها بني مكي فذهبوا إلى نواحي طرابلس و هلك كبيرهم عبد الملك و عبد الرحمن ابن أخيه أحمد و ذهب ابنه يحيى إلى الحج و أقام عبد الوهاب بزنزور ثم رجع إلى جبال قابس يحاول على ملكها و استتب له ذلك بوثوب جماعة من أهل البلد بعاملها يوسف بن الآبار من صنائع السلطان بقبح إيالته و سوء سيرته فداخلوا جماعة من شيعة ابن مكي في ضواحي قابس و قراها و واعدوهم فجاؤا لميعادهم و عبد الوهاب معهم و اقتحموا باب البلد و قتلوا البواب و قصدوا ابن الآبار فقتلوه في مسكنه سنة اثنتين و ثمانين و سبعمائة و ملك عبد الوهاب البلد و استقل بها كما كان سلفه
و جاء أخوه يحيى من المشرق فأجلب عليه مرارا يروم ملك البلد منه فلم يتهيأ له ذلك و نزل على صاحب الحامة و أقام عنده يحاول أمر البلد منها فبعث عبد الوهاب إلى صاحب الحامة و بذل له المال على أن يمكنه منه فبعث به إليه فاعتقله بعض العروسيين و أقام يراوغ السلطان على الطاعة و يبذل ماله في أعراب الضاحية من دباب و غيرهم للمدافعة عنه و منع الضريبة التي كانوا يؤدونها للسلطان أيام طاعتهم و السلطان مشغول عنهم بهمه فلما فرغ من شواغله بأفريقية و الزاب نهض إليه سنة تسع و ثمانين و سبعمائة بعد أن اعترض عساكره و استألف من العرب أولياءه و سرب فيهم عطاءه
و نزل على قابس و قد استعد لها و جمع الآلات لحصارها فاكتسح نواحيها وجثم عليها بعساكره يقاتلها و يقطع نخيلها حتى أعاد الكثير من ألفافها براحا و موج الهواء في ساحتها فصح إذ كانوا يستوخمونه لاختفائه بين الشجر في مكائف الطلال و ما يلحقه في ذلك من التعفن فذهب عنها ما كان يعهد فيها من ذلك الوخم رحمة من الله أصابتهم من عذاب هذا السلطان و ربما صحت الأجسام بالعلل و لما اشتد بهم الحصار و ضاق المخنق و ظن ابن مكي أنه قد أحيط به استعتب للسلطان و استأمن فأعتبه و أمنه و رهن ابنه على الطاعة أداء الضريبة و أفرج عنه السلطان و انكفأ راجعا إلى تونس و استقام ابن مكي حتى كان من تغلب عمه يحيى عليه ما نذكره (6/575)
رجوع المنتصر إلى ولايته بتوزر و ولاية أخيه زكريا على نفطة و نفزاوة
كان العرب أيام ولاية المنتصر بتوزر قد حمدوا سيرته و اصفقوا على محبته و التشيع له فلما رجع السلطان عن قابس وقفوا إليه في طريقه إلى أن تولى المنتصر على بلاد الجريد كما كان ورده إلى عمله بتوزر و تولى ذلك بنو مهلهل و أركبوا نساءهم الظعن في الهوادج و اعترضوا بهن السلطان سافرات مولولات دخلاء عليه في إعادة المنتصر إلى توزر لما لهم فيه من المصالح فقبل السلطان و سيلتهن و أعاده إلى توزر و نقل ابنه زكريا إلى نفطة وأضاف إليها عمل نفزاوة فسار إليها و استعمل بعمله و أظهر من الكفاية و الاضطلاع ما تحدث به الناس عنه و كانت ولايته أول سنة تسعين و سبعمائة (6/576)
فتنة المير إبراهيم صاحب قسنطينة مع الزواودة و وفاة يعقوب بن علي ثم وفاة الأمير إبراهيم أثرها
كان للزواودة بقسنطينة عطاء معلوم مرتب على مراتبهم زيادة لما بأيديهم من البلاد في التلول و الزاب بأقطاع السلطان و ضاق نطاق الدولة لهذه العصور فضاقت الجباية و صارت العرب يزرعون الأراضي في بلادهم بالمسيل و لا يحتسبون بمغارمها فضيق الدخل يمنعهم العطاء من أجل ذلك فتفسد طاعتهم و تنطلق بالعيث و النهب أيديهم و لما رجع الأمير إبراهيم من حركته في ركاب أبيه إلى قابس و كان منذ أعوام ينقص من عطائهم لذلك و يعللهم بالمواعيد فلما قفل من قابس اجتمعوا إليه و طلبوا منه عطاءهم فتعالى و جاءه يعقوب بن علي مرجعه من الحج و أشار عليه بإنصاف العرب من مطالبهم فأعرض عنه و ارتحل لبعض مذاهبه و تركه و نادي في العرب بالفتنة معه يروم استئلاف أعدائه فأجابه الكثير من أولاد سباع بن شبل و أولاد سباع بن يحيى و باديتهم من ذؤبان و رياح و خرج يعقوب من التل فنزل على نفاوس فأقام بها و انطلقت أيدي قومه على تلول قسنطينة بالنهب و انتساف الزرع حتى اكتحسوا عامتها و لحقوا به مالئي اليد مثقلي الظهر
ثم طرقه المرض فهلك سنة تسعين و سبعمائة و نقلوا شلوه إلى بسكرة فدفنوه بها و قام مكانه في قومه ابنه محمد و استمر على العصيان و صعد إلى التل في منتصف إحدى و تسعين و سبعمائة و استألف الأمير إبراهيم أعداءه من الزواودة و أحلافهم من البادية جنح إليه أبو ستة بن عمر أخو يعقوب بن علي بما معه من أولاد عائشة أم عمر و خالفه أخوه صميت إلى محمد بن يعقوب و تحاربوا مع الأمير إبراهيم فهزموه و قتل أبو ستة ثم جمع السلطان لحربهم و دفع عن التلول و منعهم من المصيف عامهم ذلك
و انحدروا إلى مشاتيهم و عجزوا بعدها عن الصعود إلى التلول و قضوا مصيفهم عامهم ذلك بالزاب و انحدروا منه إلى المشاتي فلما رجعوا من مشايتهم و قد فقدوا الميرة انطلقت أيديهم على نواحي الزاب فانتسفوا زروعه و كان أن يفسد ما بينهم و بين ابن مزني مظاهرهم على تلك الفتنة ثم ارتحلوا صاعدين إلى التلول و قد جمع الأمير إبراهيم لدفاعهم عنه و بينما هو في ذلك ألم به طائف من المرض فتوفي سنة اثنتين و تسعين و سبعمائة و افترقت جموعه و أغذ محمد بن يعقوب السير إلى نواحي قسنطينة فاحتل بها مظهرا للطاعة متبرئا من الخلاف و نادى في أهل البلاد بالأمان العمارة فصلحت أحوال الرعايا و السابلة و بعثوا إلى السلطان بتونس مستأمنين مستعتبين فأمنهم و أعتبهم و أقام بقسنطينة مكان إبراهيم ابنه و بعث من حضرته محمد ابن مولاه بشير لكفايته و القيام بدولته فقام بأمرها و صلحت الأحوال و الله بيده تصاريف الأمور (6/576)
منازلة نصارى الإفرنج المهدية
كانت أمة الفرنج وراء البحر الرومي في الشمال قد صار لهم تغلب و دولة بعد انقراض دولة الروم فملكوا جزائره و مثل : سردانية و ميورقة و صقلية و ملأت أساطيلهم فضاءه و تخطوا إلى سواحل الشآم و بيت المقدس فملكوها و عادت لهم سورة الغلب في هذا البحر بعد أن كانت سورة المسلمين فيه لا تقاوم إلى آخر دولة الموحدين بكثرة أساطيله و مراكبه فغلبهم الفرنج و عادت السورة لهم و زاحمتهم أساطيل المغرب لعهد بني مرين أياما ثم فشل ريح الفرنجة و اختل مركز دولتهم بإفرنسة و افترقت طوائف في أهل برشلونة و جنوة و البنادقة و غيرهم من أمم الفرنجة النصرانية و أصبحوا دولا متعددة فتنبهت عزائم كثيرة من المسلمين بسواحل أفريقية لغزو بلادهم و شرع في ذلك أهل بجاية منذ ثلاثين سنة فيجتمع النفير و الطائفة من غزاة البحر يضعون الأسطول و يتخيرون له أبطال الرجال ثم يركبونه إلى سواحل الفرنجة و جزائرهم على حين غفلة فيتخطفون منها ما قدروا عليه و يصادمون ما يلقون من أساطيل الكفرة فيظفرون بها غالبا و يعودون بالغنائم و السبي و الأسرى حتى امتلأت سواحل الثغور الغربية من بجاية بأسراهم تضج طرق البلاد بضجة السلاسل و الأغلال عندما ينتشرون في حاجاتهم و يغالون في فدائهم بما يتعذر منه أو يكاد فشق ذلك على أمم الفرنجة و ملأ قلوبهم ذلا و حسرة و عجزوا عن الثأر به و صرخوا على البعد بالشكوى إلى السلطان بأفريقية فصم عن سماعها و تطارحوا سهمهم و نكلهم فيما بينهم و تداعوا النزول المسلمين و الأخذ بالثأر منهم
و بلغ خبر استعدادهم إلى السلطان فسرح ابنه الأمير أبا فارس يستنفر أهل النواحي و يكون رصدا للأسطول هنالك و اجتمعت أساطيل جنوة و برشلونة و من وراءهم و يجاورهم من أمم النصرانية وأقلعوا من جنوة فحطوا بمرسى المهدية منتصف اثنتين و تسعين و سبعمائة و طرقوها على حين غفلة و هو على طرف البر داخل في البحر كأنه لسان دالع فأرسوا عندها و ضربوا عند أول الطرق سورا من الخشب بينه و بين البر حتى صار المعقل في حكمهم و عالوا عليه بالأبراج و شحنوها بالمقاتلة ليتمكنوا من قتال البلد و من يأتيهم من مدد المسلمين و صنعوا برجا من الخشب من جهة البحر يشرف على أسوارها المعقل لتعظم نكايتهم و تحصن أهل البلد و قاتلوهم صابرين محتسبين و توافت إليهم الأمداد من نواحي البلد فحال دونهم الفرنجة
و بلغ الخبر إلى السلطان فأهمه أمرها و سرح العساكر تترى إلى مظاهرتهم ثم خرج أخوه الأمير أبو يحيى زكريا و سائر بنيه فيمن حضره من العساكر فانطلقوا لجهاد هذا العدو و استنفر المقاتلة من الأعراب و غيرهم فاجتمعت بساحتها أمم و ألحوا على الفرنجة بالقتال و نضح السهام حتى أحجروهم في سورهم و برز الفرنجة للقتال فكان بينهم و بين المسلمين جولة جلى فيها أبناء السلطان و كاد الأمير أبو فارس منهم أن يتورط لولا حماية الله التي وقته ثم تداركت عليهم الحجارة و السهام و النفط من أسوار البلد فاحترق البرج المطل عليها من جهة البحر فوجموا لحريقه ثم ركبوا من الغد أسطولهم و أقلعوا إلى بلادهم و خرج أهل المهدية يتباشرون بالنجاة و يتنادون بشكر الأمراء على ما اعتمدوه في نصرهم { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال }
و أمر الأمير أبو يحيى برم ما تثلم من أسوارها و لم ما تشعث منها و قفل إلى تونس و قد أنجح الله قصدهم وأظهرهم على عدوه و عدوهم و الله تعالى ينصر من يشاء و هو القوي العزيز (6/578)
انتقاض قفصة و حصارها
كان السلطان أبو العباس قد ولى على قفصة عندما ملكها ابنه الأمير أبا بكر و أقام خدمته من رجال دولتهم عبد الله التريكي من موالي جدهم السلطان أبي يحيى فانتظم به أمره و أقام بها حولا ثم تجافى عن إمارتها و لحق بأبيه بتونس سنة اثنتين و ثمانين و سبعمائة فجعل السلطان أمر قفصة لعبد الله التريكي و ولاه عليها ثقة بغنائه و اضطلاعه و لم يزل بها واليا إلى أن هلك سنة أربع و تسعين و سبعمائة و ولى السلطان مكانه محمدا ابنه و كان له إخوة أصاغر أبنا علات فنافسوه في تلك الرتبة و حسدوه عليها و أغراهم به محمد الدنيدون من قرابة أحمد بن العابد كان ينظر في قسمة الماء بالبلد و كان فيها عدلا معقلا فلم تطرقه النكبة كما طرقت قومه و أبقاه السلطان بالبلد فأغرى هؤلاء الأخوة بأخيهم و وثبوا به فاعتقلوه و أظهروا العصيان ثم حمله أعيان البلد على البراءة من بني عبد الله التريكي استرابة بهم أن يراجعوا طاعة السلطان فتوثب بهم و أخرجهم و استضافهم و استقل برياسة البلد كما كان قومه و السلطان في خلال ذلك يرعد و يبرق و يواصل الأعذار و الإنذار و هم قد لجوا في طغيانهم ثم جمع جنوده و احتشد و استألف الأعراب و وفر لهم الأعطيات و نهض إليها حتى نزل بساحتها منتصف خمس و تسعين و سبعمائة و قد استعدوا و تحصنوا فألح عليهم القتال و أذاقهم النكال و قطع الميرة فضيق محنقهم ثم عدا على نخلهم يقطعها حتى صرع جذوعها و فسح المجال بين لفافها
و لما اشتد بهم الحصار و ضاق عليهم المخنق فخرج شيخهم الدنيدن إلى السلطان يعقد معه صلحا على بلده و قومه فغدر به و حبسه رجاء أن يملك بذلك البلد و كان بعض بني العابد و اسمه عمرو بن الحسن قد انتبذ عن قفصة أيام نكبتهم و أبعد في المغرب ثم رجع و نزل بأطراف الزاب و لما استقل الدنيدن بقفصة قدم عليه فأقام معه أياما ثم استراب به و تقبض عليه و حبسه فلما غدر به السلطان اجتمعت عليه المشيخة و عقدوا له الإمرة و بعثوا إلى العرب يسترحمونهم و يعطفونهم على ذخيرتهم فيهم و سربوا إليهم الأموال فتصدى إلى الدفاع عنهم صولة بن خالد بن حمزة أمير أولاد أبي الليل وزحف إلى السلطان بمعسكره من ظاهر البلد و كان أولياؤه من العرب قد أبعدوا عنه في الجهات لانتجاع إبلهم فما راعه إلا إطلاق صولة برايته في قومه فأجفل و اتبعوه و ما زال بكر عليهم في بنيه و خواصه حتى ردهم على أعقابهم
و أغذ السير إلى تونس و هو في اتباعه و لم يظفروا منه بعقال إلا ما كان من طعن القنا و وقع السيوف حتى وصل إلى حضرته ثم ندم صولة على ما كان منه و راسل السلطان بطاعته فلم يقبله و انحدر إلى مشاتيه سنة ست و تسعين و سبعمائة
و استدعى ابن يملول إلى صولة فأغراه بحصار توزر و أنزل معه عليها قومه فجلى الأمير المنتصر ابن السلطان في دفاعهم و الامتناع عليهم حتى يئسوا و اضطربت آراؤهم و أفرجوا عنها مفترقين وصعد صولة إلى التلال للمصيف به و عاود الرغبة من السلطان في قبول طاعته و كان محمد الدنيدن لما أجفل السلطان عن قفصة تركه بتلك الناحية فلما وصل إلى تونس أرسل أهل قفصة في الرجوع إليهم فأجابه أشياعه و دخل البلد فبدر به عمر بن العابد و كبسه بمكانه الذي نزل به و قتله و استبد بمشيخة قفصة و خشي أهل قفصة من غائلة السلطان و سوء مغبة العصيان فبعثوا إلى السلطان بطاعتهم و شرط عليهم نزول عامله عندهم و هذا ما بلغنا عنهم و الله مصرف الأمور بحكمته (6/579)
ولاية ابن السلطان على صفاقس و استيلاؤه منها على قابس و جزيرة جربة
هذا الأمير عمر ابن السلطان هو شقيق إبراهيم الذي كان أميرا بقسنطينة و كان في كفالة أخيه إبراهيم فلما توفي كما مر لحق بالسلطان أبيه و أقام عنده و لما كان من وفاة أبي بكر بن ثابت شيخ طرابلس ما قدمناه و اضطرب قومه من بعده و نزع قائدهم و رئيسهم ابن خلف إلى السلطان فبعث معه ابنه عمر هذا سنة اثنتين و تسعين و سبعمائة لحصار طرابلس و أقام عليها حولا كريتا يحاصرها و يمنع الأقوات عنها حتى ضجروا و ضجر من طول المقامة فدافعوه بالضريبة و انكفأ راجعا إلى أبيه سنة خمس و تسعين و سبعمائة و وافاه جاثما على قفصة عندما انتقضوا عليه و قد مر في طريقه على جربة و أراد الدخول إليها فمنعه عامل أبيه بها من الموالي المعلوجين فأنف من ذلك و شكاه إلى أبيه فولاه على صفاقس و وعده بولاية جربة فسار هو إلى صفاقس و أجاز البحر إلى جزيرة جربة و انضم إليه جميع من بها من القبائل و امتنع العلج منصور العامل بحصنها المسمى بالقشتيل بلسان الفرنج حتى كاتب السلطان فأمره بتمكين ابنه من الحصن و الإفراج له عن الجزيزة أجمع فأستبد بها ثم إن الأمير عمر سما إلى ملك قابس فداخل أهل الحامة في ذلك فأجابوه و ساروا معه بجموعهم سنة ست و تسعين و سبعمائة فبينها و ملكها و قبض على رئيسها يحيى بن عبد الملك بن مكي فضرب عنقه و انقرض أمر بني مكي من قابس و استقل بها الأمير عمر مضافة إلى ما كان بيده و الله وارث الأمور (6/581)
وفاة السلطان أبي العباس و ولاية ابنه فارس عزوز
كان السلطان أبو العباس أزمن به وجع النقرس حتى كان في غالب أسفاره يحمل على البغال في المحفة ثم اشتد به آخر عمره و أشرف في سنة ست و تسعين و سبعمائة على الهلكة
و كان أخوه زكريا رديفه في الملك و المرشح بعده للأمر و ابنه محمد واليا على بونة موضع إمارته من قبل و كان للسلطان أولاد كثيرون يتطاولون على أبيهم و يغصون بعمهم زكريا و يخشون غائلته بعد أبيهم فلما قارب السلطان منيته اشتد جزعهم و اشفاقهم من عمهم و بعث السلطان كبيرهم أبا بكر بعهده على قسنطينة فسار إليها بين يدي موته و اعصوصب الباقون على كبيرهم بعده إلى أبي فارس عزوز فقبضوا على عمهم زكريا و قد دخل يعود أخاه و أودعوه في بعض الحجر و وكلوا به و هلك السلطان لثلاث بعدها فبايعوا أخاهم أبا فارس رابع شعبان سنة ست و تسعين و جاء أهل البلد إلى بيعته أفواجا من الأعيان و الكافة تمت بيعته و أمر بنقل ما في بيوت عمه من الأموال و الذخيرة إلى قصره حتى استوعبها و ضيق عليه في محبسه و قام بتدبير ملكه و سياسة سلطانه و ولى بعض إخوته على منابر عمله بأفريقية فبعث أحدهم على سوسة و الثاني على المهدية و ردف أخاه اسمعيل في ملكه بتونس و أحل الباقين محل الشورى و المفاوضة
و بلغ الخبر إلى أخيه المنتصر بتوزر فاضطرب أمره و لحق بالحامة فأقام بها و كذلك أخوه زكريا بنفطة فلحق بالجبال بنفزاوة و كان أخوه أبو بكر لما سار إلى قسنطينة لولاية أبيه قبيل وفاته و مر ببونة فلقيه صاحبها الأمير محمد ابن عمه زكريا بما شاء من أنواع الكرامة و المبرة و وافى قسنطينة فطلب منه القائمون بها كتاب السلطان بعهده عليها فأقرأهم إياه و فتحوا له الأبواب فدخل و استولى على أمرها و كان خالصة السلطان أبي فارس عبد العزيز المتولي بالمغرب بعد وفاة أبيه السلطان أبي العباس بن سالم في صفر من شهور السنة و حمله من الهدايا و التحف ما يليق بأمثالها فسار فلما انتهى إلى ميلة بلغه الخبر بوفاة السلطان مرسله و أوعز إليه الأمير أبو بكر من قسنطينة بالرجوع إليه فرجع بهديته و استقر عنده هنالك
هذا آخر ما بلغنا من الأخبار الصحيحة عنهم لهذه السنين و حالهم على ذلك لهذا العهد و الملك بيد الله يؤتيه من يشاء لا رب سواه و لا معبود إلا إياه و هو على كل شيء قدير (6/582)
الخبر عن بني مزني أمراء بسكرة و ما إليها من الزاب
هذا البلد بسكرة هو قاعدة وطن الزاب لهذا العهد و حده من لدن قصر الدوسن بالمغرب إلى قصور هولة و باديس في المشرق يفصل بينه و بين البسيط الذي يسمونه الحضنة جبل جاتم من المغرب إلى المشرق ذو ثنايا تفضي إليه من تلك الحضنة و هو جبل درن المتصل من أقصى المغرب إلى قبلة برقة
و يعتمر بعض ذلك الجبل في محاذاة الزاب من غربيه بقايا عمرت من زناتة و يتصل من شرقيه بجبل أوراس المطل على بسكرة المعترض في ذلك البسيط من القبلة إلى الجوف
و هو جبل مشهور الذكر يأتي الخبر عن بعض ساكنيه وهذا الزاب وطن كبير يشتمل على قرى متعددة متجاورة جمعا يعرف كل واحد منها بالزاب و أولها زاب الدوسن ثم زاب طولقة ثم زاب مليلة و زاب بسكرة و زاب تهودا و زاب بادس
و بسكرة أم هذه القرى كلها و كانت مشيختها في القديم بعد الأغالبة و الشيعة لعهد صنهاجة ملوك القلعة من بني رمان من أهلها بما كثروا بساكنها و ملكوا عامة ضياعها كان لجعفر بن أبي رمان منهم له صيت و شهرة
و ربما نقضوا الطاعة لعهد بلكين بن محمد بن حماد صاحب القلعة في سني خمسين و أربعمائة و ضبطوا البلد و امتنعوا و تولى كبر ذلك جعفر بن أبي رمانة و نازلهم جيوش صنهاجة إلى نظر الوزير خلف بن أبي حديدة من صنائع الدولة فاقتحمها عليهم و احتملهم إلى القلعة فقتلهم بلكين جميعا و جعلهم عظة لمن بعدهم
و أصار الشوري لبني سندي من أهلها و كان لعروس منهم بعد ذلك خلوص في الطاعة و انحياش إلى الدولة على حين تقلص ظلها و فشل ريحها و ألوى الهرم بشبابها و هو الذي فتك بالمنتصر بن خزرون الزناتي بعد وصوله من المشرق و اجتلابه على السلطان بقومه من مغراوة أغرى بالأثبج و بني عدي و بني هلال فمكر به السلطان و أقطعه ضواحي الزاب و ريغه طعمه و دس إلى عروس في الفتك به ففعل كما قدمنا ذكره في أخبار آل حماد و انقرضت رياسة بني سندي بانقراض أمراء صنهاجة من أفريقية و جاءت دوة الموحدين و الذكرة و البيت لبني زيان
و كان بنو مزني لفقا من لفائق الأعراب و صلوا إلى أفريقية أحلافا لطوالع بني هلال بن عامر في المائة الخامسة كما قدمنا
و نسبهم بزعمهم في مازن من فزارة و الصحيح أنهم لطيف من الأثبج ثم من بني جرى بن علوان بن محمد بن لقمان بن خليفة بن لطيف و اسم أبيهم مزنة بن ديفل بن محيا بن جرى هكذا تلقيته من بعض الهلاليين و شهد لذلك الموطىء فإن أهل الزاب كلهم من أفاريق الأثبج عجزوا عن الظعن و نزلوا قراه على من كان بها قبلهم من زناتة و طوالع الفتح و إنما ينزعون عن هذا النسب إلى فزارة لما صار إليه أهل الأثبج بالزاب من المغرم و الوضائع فيستنكفون لذلك و ينتسبون إلى غرائب الأنساب
و كان أول نزولهم بقرية من قرى بسكرة و كانت تعرف بقرية حياس ثم كثروا و تسايلوا و أخذوا مع أهل بسكرة بحظ وافر من تملك العقار و المياه
ثم انتقلوا إلى البلد و استمتعوا منها بالمنزل و الظلال و قاسموا أهلها في الحلو و المر و انتظم كبارهم في أرباب الشورى من المشيخة ثم استنكف بنو زيان من انتظامهم معهم و حسدوهم على ما آتاهم الله من فضله و حذروهم من أنفسهم فاضطرمت بينهم نار العداوة و الاحن و كان أولها الكلام و الترافع إلى سدة السلطان بتونس على حين استقلال أبي حفص بأفريقية و لعهد الأمير أبي زكريا و ابنه السلطان مستنصر
ثم تناجزوا الحرب و تواقعوا بسكك المدينة و كانت صاغية الدولة مع بني زيان لقدمهم في البلد و لما خرج الأمير أبو اسحق على أخيه محمد المستنصر لأول بيعته و لحق بالزواودة من العرب و بايع له موسى بن محمد بن مسعود البلط أمير البدو يومئذ و اعتمر به بسكرة و بلاد الزاب و أناخ عليها بكلكله كما قدمناه قام يومئذ فضل بن علي بن أحمد بن الحسن بن علي بن مزني بدعوته و أعلن بين أهل البلد بطاعته و اتبعوه على كره
ثم عاجلتهم عساكر السلطان و أجهضتهم عن الزاب فاعتلق فضل بن علي به و استمسك بذيله و صحبه في طريقه إلى الأندلس و بدا غربته منها إلى أن هلك المستنصر أخوه هيأ الله له من أمر الخلافة ما هيأ حسبما ذكرناه و لما تم أمره و اقتعد بتونس كرسي خلافته عقد لفضل بن علي على الزاب و لأخيه عبد الواحد على بلاد الجريد رعيا لذمة خدمتها و ذكرا لإيلافهما في المنزل الخشن و صحبتهما فقدم واليا على الزاب و دخل بسكرة و استكان بنو زيان لصولته و انقادوا في مرضاة الدولة إلى أمره فلم ينبسوا بكلمة في شأنه و اضطلع بتلك الولاية ما شاء الله
ثم كان شأن الداعي بن أبي عمارة و تلبسه و مهلك السلطان أبو اسحق على يده ثم ثأر منه السلطان أبو حفص بأخيه و استرجع ما ضاع من ملكهم و كان يثق بعنايته و يعول في أمر الزاب على كفايته و سيم أعداؤه بنو زيان أيام ولايته فداخلوا أولاد حريز من لطيف إحدى بطون الأثابج كانوا نزلوا بقربة باشاش لضيق المدينة حين عجزوا عن الظعن و خالطوا أهل البلد في أحوالهم و امتزجوا معهم بالنسب و الصهر فأغروهم بفضل بن علي أن يكون التقدم لهم في الفتك به و تناول الأمر من يده و أن يخربوا بيوتهم من قرية باشاش بأيديهم ليسكنوا إليهم و يطمئنوا إلى ولايتهم حلفا عقدوه على المكر بهم و لما أوقعوا به بظاهر البلد في بعض أيام ركوبه سنة ثلاث ثمانين و ستمائة وتولوا من أمر الزاب ما كان يتولاه تنكر لهم بنو زيان لحولين من ذلك الحلف و نابذوهم العهد فخرجوا عن البلد و فقدوا ما لهم بها من قريب و تفرقوا في بلاد ريغة و استبد بنو زيان بشورى بسكرة و الزاب منتقضين عليهم و على السلطان و الزواودة قد تغلبوا عليه و على بلاد الحضنة من ورائه نقاوس و مقرة و الميلة و كان منصور بن فضل بن علي عند مهلك أبيه بالحضرة في بعض شؤونه فلما هلك أبوه و استبد بنو زيان بعده بثوا السعايات فيه إلى السلطان بالحضرة فأنجحت و تقبض عليه و اعتقل أيام السلطان أبي حفص
و لما تغلب المولى أبو زكريا يحيى ابن الأمير أبي إسحق على بجاية و قسنطينة و بونة و استقل بأمرها و انقسمت دولة آل أبي حفص بملكه ذلك منها تمسك أهل الزاب بدعوة صاحب الحضرة المولى أبي حفص و فر منصور بن فضل بن علي من محبسه بتونس و لحق ببجاية بعد مهلك الحاجب القائم بالأمر أبي الحسين بن سيد الناس و تولية السلطان أبي زكريا مكانه كاتبه أبو القاسم بن أبي يحيى سنة إحدى و تسعين و ستمائة فلازم خدمته و خف عليه و صانعه بوجوه التخف و تضمن له تحويل الدعوة بالزاب لسلطانه و شريف أمواله و جبايته إليه و استماله بذلك فعقد له على الزاب و أمده بالعسكر فنازل بسكرة و وفد أهلها بنو زيان على السلطان ببجاية ببيعتهم فرجعهم على الأعقاب إلى عاملهم منصور و كتب إليه بقبول بيعتهم و دخل البلد سنة ثلاث و تسعين و ستمائة و كادهم في بناء القصر لشيعته و تحصن العسكر بسوره
ثم نابذهم العهد و ثار بهم فأجلاهم عن البلد و استمكن فيها و رسخت قدم إمارته فيها و استدر جباية السلطان و اتسع له نطاق العمالة فاستضاف إلى عمل الزاب جبل أوراس و قرى ريغه و بلد واركلي و قرى الحصنة :
مقرة و نقاوس و المسيلة فعقد له السلطان على جميعها و دفعه إلى مزاحمة العرب في جبايتها و انتهاش لحومها إذ كانوا قد غلبوا على سائر الضواحي فساهمهم في جبايتها حتى كاد يغليهم عليها و وفر أموال الدولة و أنهى الخراج و صانع رجال السلطان فألقوا عليه بالمحبة و جذبوا بضبعه إلى أقصى مراتب الاصطناع فأثرى و احتجز الأموال و رسخت عروق رياسته ببسكرة و رسخت منابت عزه و هلك المولى أبو زكريا الأوسط على رأس المائة السابعة و ولوا مكانه ابنه الأمير أبا البقاء خالدا كما قدمناه وقام صاحبه أبو عبد الرحمن بن عمر
و كان لمنصور بن فضل هذا اختصاص به و اعتلاق بيد حاجبه فاستنام إليه وعول في سائر الضواحي من ممالك السلطان على نظره و عقد له على بلاد التل من أرض سدويكش و عياض فاستضافها إلى عمله و جرد عن ساعد كفايته في جبايتها فلقح عقيمها و تفجرت ينابيعها ثم حدثت بينه و بين الدولة منافرة و أجلب على قسنطينة بيحيى بن خالد ابن السلطان أبي اسحق حاجبه من تلمسان و بايع له و استألف الزواودة لمشايعته و نازل به قسنطينة ثم اطلع على مكامن صدره فيه و ما طوى عليه من التربص به فحل عقدته ولحق بعسكره ببسكرة و راجع الطاعة و لحق يحيى بن خالد و اعتقله إلى أن هلك سنة عشرين و سبعمائة و كانت بينه و بين المرابطين أهل السنة من العرب أتباع سعادة المشهور الذكر فتن و حروب و طالبوه بترك المغارم و المكوس تخفيفا عن الرعية و عملا بالسنة التي كانوا ملتزمين لطريقها و نازلوه من أجل ذلك ببسكرة مرارا ثم هلك سعادة في بعض حروبه على مليلى كما مر في ذكره سنة خمس و سبعمائة و جمع منصور بن مزني للمرابطين و بعث عسكره يقوده ابنه علي بن منصور مع علي بن أحمد شيخ الزواودة و على المرابط أبو يحيى بن أحمد أخوه و معه رجالات المرابطين مثل :
عيسى بن يحيى بن إدريس شيخ أولاد عساكر و عطية بن سليمان بن سباع و حسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة فهزموا عسكر ابن مزني و قتلوا ابنه عليا و تقبوضوا على علي بن أحمد ثم منوا عليه و أطلقوه
و رجعوا إلى بسكرة فنازلوها و قطعوا نخيلها ثم عاودوه ثانية و ثالثة و لم يزل بينه و بين هؤلاء المرابطين فتن سائر أيامه و كان الحاجب ابن عمر قد استخلصه لنفسه و أحله محل الثقة بحلته و استقامه إلى صنائعه و لما نهض السلطان أبو البقاء إلى تونس صحبه الحاجب في جملته حتى إذا أعمل المكيدة في الإنصراف عن السلطان شاركه في تدبيرها إلى أن تمت كما قدمناه و رجع الحاجب إلى قسنطينة ورده إلى مكان عمله من الزاب و كان يتردد إليه ببجاية للزيارة و المطالعة في أعماله إلى أن غدر به العرب في بعض طرقه إليها و تقبض عليه من أمراء الزواودة علي بن أحمد بن عمر ابن محمد بن مسعود و سليمان بن علي بن سباع بن يحيى بن مسعود على حين اجتذبا حبل الإمارة من يد عثمان بن سباع بن شبل بن موسى بن محمد و اقتسما رياسة الزواودة قومهما فاستمكنا من هذا العامل منصور بن فضل في مرجعه من عمله بلاد سدويكش و أوثقوه اعتقالا و هموا بقتله فافتدى منهم بخمسة قناطير من الذهب و ارتاشوا بمسكوبهم وصرفوا في وجوه رياستهم ألفا منها و قبض منصور بن فضل عنانه عن السفر بعدما إلا في الأحايين و بعد أخذ الرهن من العرب إلى أن كانت حركة مولانا السلطان أبي يحيى إلى تونس سنة سبع عشرة و سبعمائة أول حركاتها إليها و طالب صاحبه يعقوب بن عمر و هو بثغر بجاية بالأموال للنفقات و الأعطيات فبعث إليه بمنصور بن فضل و أشار بعقده له على حجابته ليقوم بأمره و يكفيه مهمات شؤونه و اعتدها منصور على ابن عمر فساء ظنه و تنكر له ابن عمر و حالت صبغة وده و انكفأ السلطان من حركته تلك مخفق السعي بعد أن نزل ظاهر تونس بعساكره كما قدمناه و لما احتل بقسنطينة بدت له من يعقوب بن عمر صاحب الثغر مخايل الامتناع فأقصر عن اللحاق به و ترددت بينهما الرسل و بعث ابن عمر في منصور بن فضل و نذر منه بالشر فأجاب داعيه و صحب قائد السلطان يومئذ محمد ابن أبي الحسن بن سيد الناس إليه حتى إذا كان ببعض الطريق عدل إلى بلده و هم به القائد فأجاره أولياؤه من العرب : عثمان بن الناصر شيخ أولاد حربي و يعقوب بن إدريس شيخ أولاد خنفر و من معهم من ذويهم و لحق ببسكرة و بلغ الخبر إلى ابن عمر فقرع سن الندم عليه و شايع منصور بن مزني عدوهم صاحب تلمسان أبا تاشفين و دخل في دعوته و أوفد ابنه يوسف عليه بالطاعة و الهدية و ملك السلطان خلال ذلك تونس و سائر بلاد أفريقية و هلك ابن عمر سنة تسع عشرة و سبعمائة و لم يزل منصور بن مزني ممتنعا سائر أيامه على الدولة و العساكر من بجاية تتردد لمنازلته إلى أن هلك سنة خمس و عشرين و سبعمائة و قام بأمره من بعده ابنه عبد الواحد فعقد له السلطان على عمل أبيه بالزاب و استضاف إليه ما وراءه من البلاد الصحراوية قرى : ريغة و واركلي و كان السلطان قد عقد على الثغر بعد مهلك ابن عمر لمحمد بن أبي الحسين بن سيد الناس و جعل له كفالة ابنه يحيى و دفعه إليه فتجددت الوحشة بين عبد الواحد هذا و بين صاحب الثغر في سبيل المنافسة في المرتبة عند السلطان بما كانوا جميعا صنائع و بطانة للحاجب ابن عمر و بعث العساكر لحربه و منازلة حصنه و ناول عبد الواحد هذا لآل زيان الخائفين الدولة طرفا من حبل طاعته فقبل فيها مذهب أبيه آخر عمره و طال تمرس الجيوش به إلى أن استجن منه عبد الواحد بصهر عقده له على ابنته و اشترط المهادنة و تسليم الجباية و تودع أمره إلى أن اغتاله أخوه يوسف سنة تسع و عشرين و سبعمائة بمداخلة بطانتهم من بني سماط و بني أبي كواية و لما أحكم مداخلتهم في شأنه آذنه عشاء الشورى معه في بعض المهمات و طعنه بخنجره فأشواه و هلك لحينه و استقل يوسف بن منصور بإمارة الزاب و وصله مرسوم السلطان بالتقليد و الخلع على العادة و أجرى الرسم في الدعاء له على منابر عمله و كان السلطان قد استدعى محمد بن سيد الناس من الثغر ببجاية و فوض له أمور ملكه فهاجت نار العداوة و الإحن القديمة بما بينه و بين يوسف بن منصور عامل الزاب و هم لولا ما أخذ بحجزته من الشغل الشاغل للدولة بتحيف آل زيان و هلك الحاجب سنة اثنتين و ثلاثين و سبعمائة في نكبة السلطان إياه كما ذكرناه و عقد لمحمد بن الحكيم على القيادة و جعل بيده زمام العساكر و فوض له سائر القرى والضواحي فأجرى رياسته و حكمه في دولته و تغلب على أمره على حين فرغ السلطان من الشغل بمدافعة عدوه و حط ما كان من أمرهم على كاهل دولته و نهض السلطان أبو الحسن إلى آل يغمراسن فقلم أظفار اعتدائهم و فل شبا عزائمهم كما شرحنا قبل فأذكى القائد محمد بن الحكيم مع يوسف بن منصور نار العداوة و أثار له من السلطان كأمن الحفيظة و صرف وجوه العزائم إلى حمله على الجادة و تقويمه عن المراوغة في الطاعة ناهضه بالعساكر مرات ثلاثا يدافعه في كلها بتسليم الجباية إليه ثم كانت بينه و بين علي بن أحمد كبير الزواودة فتن و حروب دعا إليها منافسة علي في استئثاره بمال الجباية دونه فواضعه الحرب و دعا العرب إلى منازلته مموها بالدعاء إلى السنة و حشد أهل ريغة لذلك و نازله و إنحرف عنه ابنه يعقوب و دخل إلى بسكرة فأصهر له ابن مزني في أخته بنت منصور بن فضل و عقد له عليها فحسن دفاعه عنه و بعث ابن مزني عن سليمان بن علي كبير أولاد سباع و قريع علي بن أحمد في شؤونه فكان عنده ببسكرة يغاديه القتال و يراوحه إلى أن امتنع ابن مزني
و رحل علي بن أحمد عن بسكرة و صار مع ابن مزني إلى الاتفاق و المهادنة أعوام الأربعين من المائة الثامنة ثم كانت غزاة القائد بن الحكيم إليه نهض من أفريقية بعد أن نازل بلاد الجريد و اقتضى طاعتهم و مغارمهم و استرهن ولد ابن يملول ثم ارتحل إلى الزاب في جنوده و معه العرب من سليم فأجفل بالزاب و نزل بلد أوماش من قراه و فرت العرب من الزواودة و سائر رياح أمامه و دافعه يوسف بن مزني بهدية دفعها إليه و هو بكانه من أوماش و ارتحل عنه إلى بلاد ريغة فافتتح تقرت معقلهم و استباحها و دوخ سائر أعمالها و رجع إلى تونس و نكب السلطان قائده محمد ابن الحكيم هذا سنة أربع و أربعين و سبعمائة و ولى ابنه أبا حفص عمر و خشي الحاجب أبو محمد بن تافراكين بادرته و سعاية بطانته فلحق بملك المغرب المرهوب الشبا المطل على الممالك يعسوب القبائل و العشائر الحسن و أغراه بملك أفريقية و استجراه إليها فنهض في الأمم العريضة سنة ثمان و أربعين و سبعمائة كما ذكرنا ذلك كله من قبل و وفد عليه يوسف بن منصور أمير الزاب بمعسكره من بني حسن فلقاه برا و ترحيبا و استتبعه في جملته إلى قسنطينة ثم عقد له على الزاب و ما وراءه من قرى ريغة و وراكلي و صرفه إلى عمالته و استقبل تونس و أمره برفع الجباية إليه مع العمال القادمين من أقصى المغرب على رأس الحول فاستعد لذلك حتى إذا سمع بوصولهم من المغرب لحقهم بقسنطينة و فجأهم هنالك جميعا الخبر بنكبة السلطان على القيروان كما ذكرناه و نذكره فاعتزم على اللحاق ببلده
و اعصوصب عليه يعقوب بن علي بن أحمد أمير البدو بالناحية الغربية من أفريقية لأذمة صهر كانت بينهما و مخالصة و تحيز إليهم من كان بقسنطينة من أولياء السلطان و حاشيته و عماله و رسل الطاغية و السودان الوافدين مع ابنه عبد الله من أصاغر بنيه و آواهم يوسف بن منصور جميعا إليه و أنزلهم ببلده و كفاهم مهماتهم شهورا من الدهر حتى خلص السلطان من القيروان إلى تونس و لحقوا به مع يعقوب بن علي فكانت تلك يدا اتخذها يوسف بن منصور عند السلطان أبي الحسن و بنيه باقي الأيام ثم اتبع ذلك بمخالفة رؤساء النواحي من أفريقية جميعا في الانتقاض عليه و أقام مستمسكا بطاعته يسرب الأموال إليه بتونس و بالجزائر عند خلوصه إليها من النكبة البحرية كما سنذكره و يدعو له على منابره بعد تفويضه على الجزائر إلى المغرب الأقصى لاسترجاع ملكه إلى أن هلك السلطان أبو الحسن بجبل هنتاتة من أقصى المغرب سنة اثنتين و خمسين و سبعمائة و استقام أمر الدولة المرينية لابنه السلطان أبي عنان الحية الذكر و لما استضاف إلى ملكه تلمسان و محاما جدده بنو عبد الواد بها من رسوم ملكهم و جمع كلمة زناتة و أطل على البلاد الشرقية سنة ثلاث و خمسين و سبعمائة بادر يوسف بن منصور بطاعته فآتاها طواعية و أوفد على السلطان رسله بكتاب بيعته
ثم وفد عليه ثانيا مع حاجبه الكاتب أبي عبد الله محمد بن أبي عمر و بعثه بالعساكر لتدويخ أفريقية و تمهيد ملكه ببجاية كما سنذكره
و وفد عليه أمراء القبائل و البدو و رؤساء النواحي سنة أربع و خمسين و سبعمائة و وفد في جملتهم يوسف بن منصور أمير الزاب و يعقوب بن علي أمير البدو و سائر الزواودة فلقاهم السلطان تكرمة و رعيا لأذمة خلوصهم لأبيه و قومه من بين أهل أفريقية و أسنى جوائزهم و عقد ليوسف بن مزني على الزاب و ما وراءه من بلاد ريغه و واركلي على عادتهم و انقلب محبوا محبورا و قد ثبت له من ولاية السلطان و مخالصته حظ و رفع له ببساطه مجلس و لما نهض السلطان إلى أفريقية لافتتاح قسنطينة سنة ثمان و خمسين و سبعمائة كما سنذكره تلقاه يوسف بن منصور على قسنطينة فخلطه بأوليائه و نظمه في طبقات وزرائه و استوحش يعقوب بن علي يومئذ من مطالبته بالرهن له و لقومه و انتقض فأجفلت أحياؤه إلى بلاد الزاب و ما وراءها من الصحراء و ارتحل السلطان بعساكره في طلبهم إلى أن احتل بلاد الزاب و خرب بلاد يعقوب بن علي بالزاب و التل بقطع أشجارها و تغوير مياهها و هدم بنائها و نسف آثارها و دخل يعقوب بأحيائه الرمل و أعجزوا السلطان فانكفأ راجعا و احتل بظاهر بسكرة فتلوم بها ثلاثا لإراحة العساكر و إزاحة عللهم من وعثاء السفر و شعث الصحراء ففرق يوسف بن منصور في قرى عساكره أيام مقامه يشملهم فيها من العلوفة و الحنطة و اللحمان و الأدم بما أرغد عيشهم و كفاهم همهم و تحدثت بها الناس دهرا و رفع إليه جبايته لعامه قناطير من الذهب بعثه بين المال فقبضه القهارمة من ثقاته و أجزل السلطان مثوبته و أسنى عطيته و اختصه بكسوة ثيابه و عياله من كسا حرمه و ثياب قصره و انكفأ راجعا إلى حضرته ثم أوفد موسى بن منصور ابنه أحمد على السلطان سدته من فاس عند منصرف وزيره سليمان بن داود من حركة أفريقية سنة تسع خمسين و سبعمائة و أصحبه هدية من عتاق الخيل و فاره الرقيق و أقام أياما في نزل كريم و محل من المجلس رفيع إلى أن هلك السلطان خاتمة تسع و خمسين و سبعمائة فأوغد القائم بالدولة من بعده جائزته و أسنى صلته و صرفه إلى عمله و استوصى به أمراء النواحي و الثغور في طريقه و لم ينشب أن شبت نار الفتنة و انتزى الخوارج بالجهات بعد مهلك السلطان فخلص إلى أبيه بعد عنائه و على يأس من النجاة بعد أن حصل في قبضة أبي حمو سلطان بني عبد الواد عند استيلائه على تلمسان و هو بها مع بني مرين و قد مر بهم مجتازا إلى وطنه فأجاره عليه صغير بن عامر من زغبة رعيا لأذمة ابنه يوسف صاحب الزاب و تأميلأ للعرب فيه و في أعماله و بعد أن بذل له من ذات يده و من طرف ما وصله به بنو مرين من ذخائرهم بعث معه صغير وفادا من قومه أبلغوه مأمنه فكانت إحدى الغرائب في نجاته
و استرجع الموحدون ثغورهم :
بجاية و قسنطينة من يد بني مرين و أزعجوا عنها العساكر المجمرة بها من قبائلهم كما قدمناه فراجع يوسف بن منصور طاعته المعروفة لهم إلى أن هلك سنة سبع و ستين و سبعمائة يوم عاشوراء و قام بأمره ابنه أحمد و جرى على سننه و هو لهذا العهد أمير على الزاب بمحل أبيه من إمارته متقبل في مذهبه و طريقه إلا أن خلق أبيه كان سجية و خلق هذا التقليد لما فيه من التحذلق و ربك يخلق ما يشاء و يختار
و له أولاد كبيرهم أبو يحيى من بنت محمد بن يملول أخت يحيى و هو لهذا العهد مرشح لمكانه و لما حلت بأهل الجريد الفاقرة و نزل به يحيى بن يملول الشؤم على وطنه توجس الخيفة من السلطان و توقع المطالبة بطاعة غير طاعته المعروة فسرب الأموال في العرب و مد يده إلى حبل صاحب تلمسان ليستمسك به فوجده قاصرا عنه و أقام يقدم في أمره رجلا و يؤخر أخرى
ثم قذف الله نور الهداية في قلبه و أراه سنن رشده وبادر إلى الاستقامة في الطاعة و العدول عن المراوغة و وصله فأوقد السلطان أبو العباس شيخ الموحدين أبا العباس بن أبي هلال و كشف له قناع المخالصة و الانحياش و بعث معه وفده بهديته و استقامته و تقبله السلطان و أعاده إلى أحسن الأحوال و رضي عنه الله متولي الأمور سبحانه لا رب سواه و لا معبود إلا إياه (6/585)
الخبر عن رياسة بني يملول بتوزر و بني الخلف بنفطة و بني أبي المنيع بالحامة
زعيم هؤلاء الرؤساء ابن يملول صاحب توزر لإتساع بلده و تمدن مصره و احتلاله منها بأم القرى من قطره و هو يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول و نسبهم بزعمهم في طوالع العرب من تنوخ استقرار ولده بهذا الصقع كان منذ أول الفتح فعفوا و تأثلوا و وشجت به عروقهم نسبا و صهرا حتى انتظموا في بيوتات الشورى المتقدمين للوفادة على الملوك و تلقي العمال القادمين من دار الخلافة و النظر في مصالح الكافة أيام آل حماد بالقلعة و آل عبد المؤمن بمراكش و آل أبي حفص بتونس مثل بني واطاس و بني فرقان و بني ماردة و بني عوض
و كان التقدم فيهم أيام عبد الله الشيعي لابن فرقان و هو الذي أخرج أبا يزيد حين شعر به أنه يريد القيام على أبي القاسم القائم و أيام آل حماد ليحيى بن واطاس و هو النازع بطاعة أهل قسنطينة إليهم عن آل بلكين ملوك القيروان حين انقسمت دولة آل زيري و افترق أمرهم
ثم عادت الرياسة لبني مروان لأول دولة الموحدين و منهم كان الذي لقي عبد المؤمن و آتاه الطاعة عن نفسه و عن أهل بلده توزر فتقبله و وصله
و صار الأمر للموحدين فمحوا منها آثار المشيخة و الاستبداد و نشأ أحمد هذا الجد متراميا إلى الرياسة بهذا القطر يدافع عنه بالراح و يزاحم بالمناكب من وجوه البلد و أشراف الوطن و سعى به إلى شيخ الموحدين و قائد العسكر أيام السلطان أبي حفص محمد الفازاري فنكبه و صادره على مال امتحنه عليه كانت أول نكباته التي أورت من زناده و أوقدت من جمره و تخلص إلى الحضرة يؤمل اعتقال مطيته و ثبوت مركزه من دار الخلافة فأوطنها أياما يباكر أبواب الوزراء و الخاصة و يلثم أطراف الأولياء و الحاشية و ينزل كرائم ماله فيما يزلفه لديهم و يؤثره بعنايتهم حتى استعمل بديوان البحر مقعد العمال بمرفأ السفن لجباية الأعشار من تجار دار الحرب ثم استضاف بما كان من عنائه فيها و اضطلاعه سائر أعمال الحضرة فتلقدها زعيما بامضاء الجرابات و أدرار الجباية و استمرت على ذلك حاله و تضاعف فائدته فأثرى و احتجن المال و استخرج الذخيرة قاطعا لألسنة السعاية بالمصانعة و الاتحاف بطرف ما يجلبه الروم من بضائعهم حتى أبطره الغنى و دلت على مكانته الثورة و رفع أمره إلى الحاجب فخرج التوقيع بالقبض عليه و استصفاء ماله لعهد السلطان أبي يحيى اللحياني فنكب الثانية و صودر على مئين من آلاف الدنانير و امتحن لها و باع فيها كسوته حين قرأ الكتاب و خلص من النكبة مسلوب الأمانة ممزق الأديم فقيد الرياش أحوج ما كان إلى ما يعوز من الكن و الدفء و بلالة العيش و لحق ببلده ناجيا بالرمق ضارعا للدهر
و دفعه الملأ إلى ما يستنكفون عنه من خدمة العمال و مباكرة أبوابهم و الامتحان في ضروراتهم و أنجده في ذلك بخت جذب بضبعه و كان في خلال ذلك شغل الحضرة شأن الثغور الغربية و أمرائها فتقلص ظل الدولة عن هؤلاء بعض الشيء و حملت الرعايا بالبلاد الجريدية و صار أمرها إلى الشورى التي كانت عليها قبل
فلما أدرك أحمد هذه الشورى التي كان يسمو لها سمو حباب الماء ثلج صدره و أنجح سعيه و استبد بمشيخة توزر و هلك في أعوام ثماني عشرة فخلفه من بعده في سبيله تلك ولده يحيى طموحا إلى المرتبة منافسا في الاستقلال و مزاحما بيوتات المصر بمناكب استوطأها بسائر عمره من الدعار و الأوغاد بمعاقرة الخمر و المجاراة في فنون الشباب لسير أمره و الاستعلاء على نظائره حتى تطارحوا في هوة الهلاك بين قتيل و مغرب و نجيب العمران لم يعطفه عليهم الرحم و لا زجره وازع التقوى و السلطان حتى خلا له الجو و استوسق الأمر و استقل من أمر البلد و الحل و العقد بأوفى من استبداده أبيه كان مهلكه قريبا من استبداده لخمس سنين متقليا الكرة من يده أخوه محمد تربه في الرياسة و محاربه في مضمارها فأجرى إلى الغاية و اقتعد كرسي الرياسة و عفى على آثار المشيخة و استظهر على أمره بمصانعه أمراء البدو و أولاد أبي الليل و المتات إليهم بصهر كان عقده أبوه أحمد لأبي الليل جدهم على أخته أو عمته
فكانوا ردأ له من الدولة فنفذ صيته و عظم استيلاؤه و امتدت أيامه و عني الملوك بخطابه و إسناد الأمور في تلك البلاد إليه خلال ما تعود الكرة و تهب ريح الدولة و زحف إليه القائد محمد بن الحكيم سنى أربعين فلاذ منه بالطاعة و المصانعة بالمال و رهنه ولده يحيى فرجعه إليه ابن الحكيم و تقبل طاعته من غير رهن استقامة لما ابتلاه من خلوصه و أقام على ذلك إلى أن هلك لعام أربع و أربعين من المائة الثامنة
و تصدى ولده عبد الله للقيام بالأمر فوثب عليه عمه أبو زيد بن أحمد فقتله على جدث أبيه صبح مواراته بعد أن كان أظهر الرضا به و التسليم له فثارت به العامة لحينه وكان مصرعهما واحدا و قام بالأمر أخوه يملول بن أحمد أربعة أشهر كانت شر مدة و أسوأ ولاية لما أصاب الناس بسوء ملكته من سفك الدماء و استباحة الحرم و اغتصاب الأموال حتى كان ينسب إلى الجنون مرة و إلى الكفر أخرى فمرج أمرهم و استولى الضجر على نفوسهم و كان أخوه أبو بكر معتقلا بالحضرة فراسله أهل توزر سرا و أطلقه السلطان من محبسه بعد أن أخذت عليه المواثيق بالطاعة و الوفاء بالجباية فصمد إليها بمن في لفه من الأعراب و حشد نفزاوة و المجاورين لها في القرى الظاهرة المقدرة السير و أجلب عليهم ثم بيتها فاقتحهما و بادر الناس إلى القبض على يملول أخيه و أمكنوه منه فاعتقله بداره و تبرأ من دمه و أصبح لثالثة اعتقاله ميتا بمحبسه
و كانت قفصة من قبل ذلك لما صار أمر الجريد إلى الشورى قد استبد بها يحيى بن محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد من بيوتها و نسبهم بزعمهم في بلى و لهم خلف بزعمهم في الشريد من بطون سليم
و الله أعلم بأولية نزولهم بقفصة حتى التحمو بأهلها و انتظموا أمر بيوتاتها و كانت البيوت بها بيت بني عبد الصمد و بيت بني أبي زيد و كانت رياسته لبعض بني أبي زيد لعهد الأمير أبي زكريا الأعلى كان يستعمله على حجابة أموال الجريد ثم سعى به أنه أصاب منها فنكبه و صودر على آلاف من المال فأعطاها و أقامت رياستهم متفرقة في هذه البيوتات
و لما حدثت العصبية بالبلد أيام صار أمر الجريد إلى الشورى كان بنو عبد العابد هؤلاء أقوى عصبية من سائرهم و استبد بها كبيرهم يحيى بن علي فلما فرغ السلطان من شغله بزناتة و خيم السلطان أبو الحسن على تلمسان فحاصرها و أقبل السلطان على النظر في تمهيد ملكه و إصلاح ثغوره و افتتح أمره بغزو قفصة و نهض إليها سنة خمس و ثلاثين و سبعمائة في عساكر من الموحدين و طبقات الجند و الأولياء من العرب فحاصرها شهرا أو نحوه و قطع نخيلها فضاق مخنقهم بالحصار و تلاوموا في الطاعة و استبقوا بها إلى السلطان و فر الكثير من بني العابد فلحقوا بقابس في جوار ابن مكي و نزل أهل البلد على حكم السلطان فتقبل طاعتهم و أحسن التجاوز عنهم و بسط المعدلة فيهم و أحسن أمل ذوي الحاجات منهم و انكفأ راجعا إلى حضرته بعد أن آثرهم بسكنى الجريد و احتمل مقدم روضة يحيى بن علي إلى الحضرة فلم يزل بها إلى أن هلك سنة أربع و أربعين و سبعمائة و استبد الأمير أبو العباس بأمر الجريد و استولى على نفطة كما قدمناه و قيل لبني الخلف و هم : مدافع و أبو بكر عبد الله و محمد و ابنه أحمد بن محمد إخوة أربعة و ابن أخيهم بنو الخلف من مدافع و نسبهم في غسان من طوالع العرب
انتقل جدهم من بعض قرى نفزاوة إلى نفطة و تأثل بها و كان لبنيه بها بيت و استبد هؤلاء الإخوة الأربعة أزمان الشورى كما قدمناه و لما استولى السلطان أبو بكر على الجريد و أنزل ابنه أبا العباس بقفصة و عقد له على سائر أمصارها و أمضى طاعتهم و امتنعوا فسرح إليهم وزيره أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين و جهزت له العساكر من الحضرة و نازلها و قطع نخلها ولاذ أهلها بالطاعة و أسلموا بني مدافع المتغلبين فضرب أعناقهم و صلبهم في جذوع النخل آية للمعتبرين و أفلت السيف منهم عليا صغيرهم لذمة اعتدها له أبو القاسم بن عتو لنزوعه إليه قبل الحادثة فكانت واقيته من الهلكة و استولى الأمير أبو العباس على نفطة و استضافها إلى عمله ثم مرض أبو بكر بن يملول في طاعته فنهض إليه السلطان أبو بكر من تونس سنة خمس و أربعين و سبعمائة و كان الفتح كما قدمناه و لحق أبو بكر بن يملول ببسكرة فلم يزل بها إلى أن أجلب على توزر فنبذ إليه يوسف بن مزني عهده و انتقل إلى حصون وادي ابن يملول المجاورة لتوزر و هلك سنة ست و أربعين ثم كان مهلك السلطان و ابنه أبو العباس صاحب الأعمال الجريدية إثر ذلك سنة سبع و أربعين و سبعمائة و رجع إلى كل مصر من الجريد مقدموه فرجع أحمد بن عمر بن العابد إلى قفصة من مكانه في جوار ابن مكي و استولى على بلده في مكان ابن عمه يحيى بن علي و رجع علي بن الخلف إلى نفطة و استبد بها و رجع يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول إلى توزر من مثوى اغترابه ببسكرة ارتحل إليها مع عمه أبي بكر طفلا فلما خلا الجريد من الإمارة و درج يحيى هذا من عشه في جوار يوسف بن منصور بن مزني و أطلقه مع أولاد مهلهل من الكعوب بعد أن وصلهم و شاركهم و استرهن فيه أبناءهم فأوصلوه إلى محل رياسته بتوزر و نصبه شيعته و أولياء أبيه و قاموا بأمره و رجع أمر الجريد كله إلى رياسة مقدمه كما كان
ثم وفدوا على السلطان أبي الحسن عند رجعته إلى أفريقية و لقوه بوهران فلقاهم مبرة و تكرمة و رجع كلا إلى بلده ومحل رياسته بعد أن أسنى الجائزة و وفر الاسهام و الأقطاع و أنفذ الصكوك و الكتب فرجع إلى توزر يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول صبيا مغتلما و إلى نفطة علي بن الخلف و إلى قفصة أحمد بن عمر بن العابد و نزل كل واحد من هذه الأمصار عاملا و حامية و عقد على الجريد كله لمسعود بن إبراهيم بن عيسى اليرنياني من طبقة وزرائه و استوصى بهؤلاء الرؤساء خيرا في جواره حتى إذا كانت نكبة السلطان بالقيروان سنة تسع و أربعين و سبعمائة و ارتحل عامل الجريد مسعود بن إبراهيم و نزل المغرب بمن معه من العمال و الحامية و نمي خبره إلى الأعراب من كرفة فصبحوه في بعض مراحل سفره دون أرض الزاب فاستحملوه و من كان معه من الحامية و استولوا على أفنيتهم و ذخيرتهم و كراعهم و استبد رؤساء تلك البلاد بأمصارهم و عادوا إلى ديدنهم من التمريض و آذانوا بالدعاء لصاحب الحضرة بمنابرهم و استمروا على ذلك فأما يحيى بن محمد بن يملول فنزع إلى مناغاة الملوك في الشارة و الحجاب و اتخاذ الآلة و البيت المقصور للصلاة و اقتعاد الأريكة و خطاب السمر بل و فسح للمجون و العكوف على اللذات مجالا يرى أن جماع السياسة و الملك في إدارة الكأس و افتراش الآس و الحجبة عن الناس و التأله على الندمان و الجلاس و فتح مع ذلك على رعيته و أهل إيالته باب العسف و الجور و رعى بيت المشاهير منهم غيلة فأتلفت نفوسهم و امتد أمره في ذلك إلى أن استولى السلطان أبو العباس على أفريقية و كان من أمره ما نذكره
و أما جاره الجنب على بن الخلف فلم يلبث لما استبد برياسته أن حج سنة أربع و ستين و سبعمائة و التزم مذاهب الخير و طرق الرضا و العدالة و هلك سنة خمس و ستين و سبعمائة بعدها و ولي مكانه ابنه محمد جاريا على سننه ثم هلك لسنة من ولايته و قام بأمره أخوه عبد الله بن علي فأذكى سياسته و أوقع حزمه و أرهف للناس حده فنقموا عليه سيرته و سيموا عسفه و استمكن مناهضهم في الشرف و محاذبهم في رياسة البلد القاضي محمد بن خلف الله من صاحب الحضرة بذمة كانت له في خدمته قديما و استعمله لرعيها في خطة القضاء بحضرته و آثره بالمكان منه و الصحبة فسعى بعبد الله هذا عنه الخليفة و دله على مكامن هلكته و بصره بعورات بلده و اقتياد عساكر السلطان إليه في زمامه
و لما احتل بظاهر البلد و عبد الله رئيسها أشد ما كان قوة و أكثر جمعا و أمضى عزما استألف أخوه الخلف بن علي بن الخلف جماعة المشيخة دونه و حرضهم عليه و داخل القاضي بتبييتها و أنه بالمرصاد في اقتحامها حتى إذا كانت البيعة دس إلى بعض الأوغاد في قتل أخيه عبد الله و مكر بالقاضي و العسكر و امتنع عليهم و اعتصم دونهم و استقل برياسة بلده و أقام على ذلك يناغي ابن يملول في سيره و يطارحه الكثير من مذاهبه و يجري في الثناء الذي بلغ إلى غايته و أولى على بنيته
و أما أحمد بن عمر بن العابد فلم يزل من لدن استبداده ببلده قفصة سالكا مسالك الخمول منحطا عن رتبة التكبر منتحلا مذاهب أهل الخير و العدالة في شارته وزيه و مركبه جانحا إلى التقلل
فلما أوفى على شرف من العمر استبد عليه ابنه محمد و ترفع عن حال أبيه بعض الشيء إلى مناغاة هؤلاء الرؤساء المترفين فبينما هؤلاء المتقدمون في هذه الحالة من الاستبداد على السلطان و التخلف بأخلاق الملوك و التثاقل عن الرعايا بالعسف و الجور و استحداث المكوس و الضرائب إذ طالما خصهم السلطان أبو العباس بالحضرة مستبدا بدعوته صارفا سهم عزائمه فوجموا و توجسوا الخيفة منه و ائتمروا في المظاهرة و اتصال اليد بعد أن كانوا يستحثونه إلى الحضرة و يبعثون إليه بالانحياش على البعد زبونا على صاحب الحضرة و نزوعا على مصدوقية الطاعة فلم استبد السلطان أبو العباس بالدعوة استرابوا في أمرهم و سربوا أموالهم في الأعراب المخالفين على السلطان من الكعوب يؤملون مدافعتهم عنهم فشمر لها أولاد أبي الليل بما كان وقع بينهم و بين السلطان من النفرة
و نهض إليهم السلطان فغلبهم على ضواحي أفريقية على الظواعن التي كانت جبايتها لهم من مرنجيزة كما قلناه و استلحمهم فأوهن ذلك من قوتهم
ثم زحف الثانية إلى أمصار الجريد فلاذوا بالامتناع فأناخ السلطان بعساكره و أوليائه من العرب أولاد مهلهل على قفصة فقاتلوها يوما أو بعض يوم و عدا في ثانية على السلطان و نزل على حكمه فتقبض عليه و على ابنه شهر ذي القعدة من سنة ثمانين و سبعمائة و تملك البلد و استولى على ديار ابن العابد بما فيها و كان استيلاء لا يعبر عنه لطول أيامه في الولاية و كثرة احتجاته للأموال و عقد السلطان على قفصة لابنه أبي بكر و ارتحل يريد توزر وطار الخبر لابن يملول في توزر فقوض عنها بأهله و نزل على أحياء مرداس و سرب فيهم المال فرحلوا معه إلى الزاب و لحق ببسكرة مأوى نكباته و منتهى مقره فنزل بها على أحمد بن يوسف بن مزني و أقام هنالك على بلغة من توقع مطالبة السلطان له و لجاره ابن مزني من خسارة أموالهم في لفوف العرب و سوء المغبة إلى أن هلك لسنة أو نحوها و ائتمر أهل توزر بعد تقويضه عنهم بعثوا إلى السلطان ببيعتهم فلقيه في أثناء طريقه و تقدم إلى البلد فنزل بقصور ابن يملول و استولى على ذخيرته و تبرأ إليه أهل البلد من ودائع كانت له عندهم من خالص الذخيرة فدفعوها إلى السلطان
و عقد لابنه المنتصر على توزر و استقدم الخلف بن الخلف من نفطة و كان يخالف أصحابه إلى الطاعة حتى نقضوها زبونا على ابن يملول و سالفه من العداوة ينقلها فلما أحيط بهم أدركه الدهش و بادر إلى السلطان بطاعته فأتاها و قدم عليه فتقبل السلطان ظاهره و أعطى له عن غيرها طمعا في استصلاحه و عقد له على حجابة ابنه المنتصر و أنزله معه بتوزر و أمره باستخلافه بلده و رأى أنه قد تورط في الهلكة فراسل ابن يملول بمكانه من توزر و عثر أولياء السلطان على كتابه إلى يعقوب بن علي شيخ رياح و مدره حروبهم يحرضه على صريخ ابن يملول و معونته فعلموا نكثه و مداجاته و بادروا إلى القبض عليه و ولوا على نفطة من قبلهم و خاطبوا السلطان بالشأن و أقام في ارتحاله إلى أن كانت حادثة قفصة فبادر الأمير المنتصر إلى قتله
و كان خبر قفصة الله ابن أبي يزيد من مشيختها كان ينزع إلى السلطان قبل فتحها هو و أخوه لمنافسة بينهما و بين ابني العابد و هما : محمد و أحمد ابنا عبد العزيز بن عبد الله ابن أحمد بن علي بن عمر بن أبي زيد
و قد ذكر أوليتهم و استعمال سلفهم أيام الأمير زكريا الأعلى في جبايته الجريد فلما استولى السلطان على البلاد رعى لهما تشيعهما و بدارهما إلى طاعته مع قومهما فأمر لهما مع ابنه بقفصة و كبيرها رديف لحاجبه عبد الله من الموالي الأتراك و مدبر لأمور البلد في طاعة السلطان ثم نزع الشيطان في صدره و حدثته نفسه بالاستبداد و أقام يتحين له الفرض و ذهب الأمير أبو بكر إلى زيارة أخيه بتوزر فكاده بالتخلف عنه و جمع أوباشا من الغوغاء و الزعانف و تقدم بهم إلى القصبة و بعث بالصريخ للفتك بعبد الله التركي و نذر بذلك فأغلق أبواب القصبة و بعث الصريخ في أهل القرى و قاتلهم ساعة من نهار حتى وافى إليه المدد فلما استغلظ بمدده أدركهم الدهش و انفض الأشرار من حوله و نجوا إلى الاختفاء في بيوت البلد و تقبضوا على الكثير ممن داخلهم في الثورة و وصل الخبر إلى الأمير أبي بكر بتوزر فبادر إلى مكانه و قد سكن جأشه و استلحم جميع من تقبض عليه حاجبه و نادى في الناس بالبراءة من ابن أبي زيد فتبرؤا منه و عثر الحرس عليه و على أخيه خارجين من أبواب البلد في زي النساء فقادوهما إليه فقتلهما بعد أن مثل بهما
و استبد السلطان بالجريد و محامنه آثار المساءة و عفا عليهما و انتظمه في عمالات السلطان و أما بلد الحامة و هي من عمالة قسطيلية و تعرف بحامة قابس و حامة مطماطة نسبة إلى أهلها الموطنين كانوا بها من البربر و هم فيما يقال الذين اختطوها ففيها الآن ثلاث قبائل من توجر و بني ورتاجن و هم في العصبية فرقتان : أولاد يوسف و رياستهم في أولاد أبي منيع و أولاد حجاف و رياستهم في أولاد وشاح و لا أدري كيف نسب الفرقتين فأما أبو منيع فالحديث في رياستهم في قومهم أن جدهم رجاء بن يوسف كان له ثلاثة من الولد و هم بو شباك و أبو محمد و ملالة و أن رياسته بعده كانت لابنه بو شباك ثم ابنه أبي منيع من بعده ثم لابنه حسن بن أبي منيع ثم لابنه محمد بن حسن ثم لأخيه موسى بن حسن ثم لأخيهما أبي عنان إلى أن كان ما نذكر و أما أولاد حجاف فكانت أول رياستهم لمحمد بن أحمد بن وشاح وقبله حاله القاضي عمر بن كلى و كان العمال من الحضرة يتعاقبون فيهم إلى أن أسقط السلطان عنهم الخراج و المغارم بأسرها و كان مقدمهم لأول دولة السلطان أبي بكر من أولاد أبي منبع و هو موسى بن حسن و كان المديوني قائد السلطان واليا عليهم و ارتاب بهم بعض الأيام و أحبو الثورة به فدس بها إلى السلطان في بعض حركاته و غزاهم بنفسه ففروا و أدرك سبعة من أولاد يوسف هؤلاء و تقبض عليهم فقتلوا ثم رجع الأمير و ولى موسى بن حسن و لما هلك تولى بعده أخوه أبو عنان و طال أمد ولايته عليهم و كان منسوبا إلى الخير و العفاف و هلك سنة اثنتين و أربعين و سبعمائة و ولي بعده ابنه الآخر أبو زيان ثم ولي بعدهما ابن عمهما مولاهم ابن محمد و وفد على السلطان أبي الحسن مع وفد أهل الجريد كما مر ثم هلك فولي بعده من بني عمهم حسان بن هجرس و ثار به محمد بن أحمد بن وشاح من أولاد حجاف المذكور فعزله و أقام في ولايته إلى سنة ثمان و سبعين و سبعمائة فثار به على الحامة و قتلوا عمر بن كلبى القاضي و ولوا عليهم حسان بن هجرس واليهم
و ثار به يوسف و اعتقله و هو يوسف بن عبد الملك بن حجاج بن يوسف بن وشاح و هو الآن مقدمها يعطي طاعة معروفة و يستدعي العامل في الجباية و يراوغ عن المصدوقية و الغلب و الاستيلاء قد أحاط به من كل جهة و أملي علي بعض نسابتهم أن مشيخة أهل الحامة في بني بو شباك ثم في بني تامل بن بو شباك و أن تأمل رأس عليهم و أن وشاحا من ولد تأمل و أن بني وشاح على فرقتين : بنو حسن و بنو يوسف و حسان ابن هجرس و مولاهم و عمر أبو علان كلهم من بني حسن و محمد بن أحمد بن وشاح من بني يوسف و هذا مخالف للأول و الله أعلم بالصحيح في أمرهم و أما نفزاوة و أعمال قسطيلية فتنسب لهذا العهد إلى توزر و هي قرى العديدية المعروفة السير يعترض بينها و بين توزر إلى القبلة عنها السبخة المشهورة المانعة في الاعتساف و لها معالم قائمة من الخشب يهتدي بها السالك و ربما يضل خائضها فتبتلعه و يسكن هذه القرى قوم من بقايا نفزاوة من البرابرة البتر الذين بقوا هنالك بعد إنقراض جمهورهم و لحق العرب بسائر بطون البربر و معهم معاهدون من الفرنجة ينسبون إلى سردانية نزلوا على الذمة و الجزية و بها الآن أعقابهم ثم نزل عليهم من أعراب الشريد و زغب من بني سليم كل من عجز عن الظعن و ملكوا بها العقار و المياه و كثرت نفزاوة و هم لهذا العهد عامة أهلها و ليس في نفزاوة هذه رياسة لصغرها و رجوعها في الغالب إلى أعمال توزر و رياستها هذا حال المتقدمين ببلاد الجريد في الدولة الحفصية أوردنا أخبارهم فيها لأنهم من صنائعها و في عداد ولاتها و مواليها و الله متولي الأمور (6/595)
الخبر عن بني مكي رؤساء قابس و أعمالها
كانت قابس هذه من ثغور أفريقية و منتظمة في عمالتها وكان ولاتها من القيروان أيام الأغالبة و العبيديين و صنهاجة من لدن الفتح و لما دخل الهلاليون أفريقية و اضطربت أمورها و اقتسمت دولة صنهاجة الطوائف انتزى بقابس و صنهاجة المعز ابن محمد الصنهاجي و أدال منه مونس بن يحيى الصنبري من مرداس رياح بأخيه إبراهيم إلى أن هلك
و ولي أخوه القاضي ابن إبراهيم ثم نازله أهل قابس فقتلوه أيام تميم بن المعز بن باديس فبايعوا لعمر بن المعز بن باديس كان مخالفا على أخيه و ذلك سنة تسع و ثمانين و أربعمائة ثم غلبه عليها أخوه تميم و كان معتلقا للعرب و كانت قابس و ضواحيها في قسم زغبة من عرب هلال ثم غلبتهم رياح عليها و نزل مكن بن كامل بن جامع من بني دهمان و أخوه مادع و هما معا من بني علي إحدى بطون رياح فاستحدث بها ملكا لقومه بني جامع و أورثه بنيه إلى أن استولى الموحدون على أفريقية و بعث عبد المؤمن عساكره إلى قابس ففر عنها مدافع بن رشيد آخرهم و انتظمها كما ذكرناه في أخبارهم و ملكها و انقراض ملك بني جامع و صارت قابس و أعمالها للموحدين و كان ولاة أفريقة من السادة يولون عليها من الموحدين إلى أن تغلب بنو غالية و قراقش على طرابلس و قابس و أعمالها و كان ما ذكرناه في أخبارهم ثم غلب الموحدون يحيى بن غانية عليها و أنزلوا بها عمالهم و لما دعا بنو أبي حفص إلى أفريقية المرة الثانية بعد مهلك الشيخ أبي محمد عبد الواحد و عقد العاقل على أفريقية لابنه أبي محمد عبد الله عقد معه على قابس للأمير أبي زكريا أخيه فنزلها أميرا
ثم كان من شأن استبداده و خلعه لأخيه و لطاعة بني عبد المؤمن ما ذكرناه و كان مشيخة قابس لذلك العهد في بيت من بيوتاتها و هم بنو مسلم و لم يحضرني ممن نسبهم و بنو مكي و نسبهم في لواتة و هو مكي بن فرح بن زيادة الله ابن أبي الحسن بن محمد بن زيادة الله بن أبي الحسين اللواتي و كان بنو مكي هؤلاء خالصة للأمير أبي زكريا و لما اعتزم على الاستبداد دخل أبو القاسم عثمان بن أبي القاسم بن مكي و تولى له أخذ البيعة على الناس و كان له و لقومه بذلك مكان من المولى أبي زكريا رعى لهم ذمتها و رفع من شأنهم بسببها و رموا بني سليم نظراءهم في رياسة البلد بضغائنهم إلى ابن غانية فأخمدوا مالهم بماله و محوا آثارهم و استقلوا بشورى بلدهم و أقاموا على ذلك أيام المولى أبي زكريا الأول و ابنه المستنصر ثم كان ما قدمناه من مهلك الواثق بن المستنصر و بنيه على يد عمهم السلطان أبي إسحق و كان من أمر الداعي بن أبي عمارة و كيف شبه على الناس بالفضل بن المخلوع بحيلة من مولاه نصير رام أن يثأر بها من قاتلهم فتمت مكيدته في ذلك لما أرداه الله و لما أظهر نصير أمره و تسايلت العرب إلى بيعته خطب لأول أمره رئيس قابس لذلك العهد من بني مكي عبد الملك بن عثمان بن مكي فسارع إلى طاعته و حمل الناس عليها و كانت له بذلك قدم في الدولة معروف رسوخها
و لما ألقى الداعي بن أبي عمارة جسدا على كرسي الخلافة سنة إحدى و ثمانين و ستمائة قلده خطة الجباية بالحضرة مستقلا فيها بالولاية و العزل و الفرض و التقدير و الحسبان بعد أن أجزل من بيت المال عطاءه و جرايته و أسنى رزقه و أهدى الجواري من القصر إليه و لما هلك الداعي و استقلت قدم الخلافة من عثارها كما قدمناه سنة ثلاث و ثمانين و ستمائة لحث عبد الحق بن مكي ببلده و امتنع بها على حين ركود ريح الدولة و فشلها و مرض في طاعته و دافع أهل الدولة بالدعاء للخليفة على منابره ثم جاهر بالخلعان سنة ثلاث و تسعين و ستمائة و بعث بطاعته إلى صاحب الثغور المولى أبي زكريا الأوسط و هلك ابنه أحمد ولي عهده سنة سبع و تسعين و ستمائة ثم هلك هو من بعده على رأس المائة السابعة و تخلف حافده مكيا فنصبوه يفعة و كفله ابن عمه يوسف بن حسن و قام بالأمر مستبدا عليه إلى أن هلك و خلفه في كفالة أحمد بن ليدان من بيوت أهل قابس أصهار بني مكي التاث أمرهم بمهلك يوسف فنقلهم السلطان ابن اللحياني إلى الحضرة و أقاموا بها أياما ثم ردهم إلى بلدهم أيام مجافاته عن تونس و خروجه إلى ناحية قابس
ثم هلك خلال ذلك مكي و خلف صبيين يافعين عبد الملك و أحمد فكفلهما ابن ليدان إلى أن شبا و اكتهلا و لهما من الامتناع على الدولة و الاستبداد بأمر القطر و الاقتصار على الدعاء للخليفة مثل ما كان لأبيهما و أكثر لتقلص ظل الملك عن قطرهم و شغل السلطان بمدافعة يغمراسن و عساكرهم عن الثغور الغربية اجلابهم بالأعياص من أهل البيت على الحضرة و لما هلك السلطان أبو يحيى اللحياني بمصر قفل ابنه عبد الواحد إلى المغرب يحاول أسباب الملك و نزل بساحتهم على ما كان من صنائع أبيه إليهم فذكروا العهد و أوجبوا الحق و آتوا بيعتهم
و قام كبيرهم عبد الملك بأمره و دعا الناس إلى طاعته و خالف السلطان أبا يحيى عند نهوضه إلى الثغر ببجاية سنة ثلاث و ثلاثين و سبعمائة كما قدمناه فدخل الحضرة و لبث بها أياما لم تبلغ نصف شهر و بلغ خبرهم إلى السلطان فانكفأ راجعا و فروا إلى مكانهم من قابس و الدولة تنظر إليهم الشزر و تتربص بهم الدوائر إلى أن غلب السلطان أبو الحسن على تلمسان و محا دولة آل يغمراسن و فرغت الدولة من شأنهم إلى تمهيد أعمالهم و تقويم المنحرفين عن الطاعة من ولاتها
و قفل حمزة بن عمر بشفاعة السلطان أبي الحسن إلى السلطان أبي يحيى في شأنه فتقبل وسيلته و استخلصه لنفسه من بعدها و استقام هو على الطاعة التي لم تجد وليجة عنها وسلك سبيله تلك أقتاله من الدولة الطائحين في هوة الشقاق فأوفده عبد الملك هذا شقيقه أحمد على السلطان أبي الحسن متنصلا من ذنوبه لائذا بشفاعته متوسلا بما قدمناه من خدمته حظاياه في طريقهن إلى الحج ذاهبا و جائيا فخاطب السلطان أبا يحيى في شأنه و أعاده إلى مكانه من اصطناع سلفه و استقام على طاعته
و لما انتظم السلطان أبو يحيى سائر البلاد الجريدية في ملكه و عقد عليها لابنه أبي العباس ولي عهده و أنزله دار إمارتها مترددا ما بين توزر و قفصة إلى أن قفل عمته من الحج سنة ست و أربعين و سبعمائة و خرج للقائها مختنقا بين الظعائن فجمعه مجلسها بأحمد بن مكي كان قد اعتمد تلقيها و القيام بصحابتها في مراحل سفرها من بلده إلى آخر عمله فمسح الأمير أبو العباس الإحف عن صدره و أدال له الأمن و الرضى من توحشه و استخلصه لدولته و نجوى أسراره و اصطفاه لنفسه و حمله رديفا لحاجبه فحل من دولته بمكان غبطة فيه إمتيازه من أمراء تلك الطوائف
و عقد له السلطان أبو يحيى على جزيرة جربة بوسيلة أبي العباس إبنه و قد كان افتتحها مخلوف بن الكماد من صنائعهم من يد العدو أهل صقلية كما ذكرناه فضمها إليه و صيرها في أعماله
و لم يزل هذا شأنه معه إلى أن هلك أبو العباس ولي العهد بتونس على يد أخيه أبي حفص عمر عندما دخلها بعد مهلك أبيهما كما ذكرناه و لحق أحمد بن مكي ببلده ثم سار في وفد رؤساء الجريد إلى تلقي السلطان أبي الحسن عند نهوضه إلى أفريقية سنة ثمان و أربعين و سبعمائة و لقبه معهم بوحران من أعمال تلمسان و كان قدمه عنده فوق قدمهم
و رجع الوفد على أعقابم محبورين و تمسك بأحمد بن مكي في جملته إلى الحضرة و وفد عليه أخوه عبد الملك مؤديا طاعة السلطان فكرم موصله و أحسن متقلبها جميعا إلى بلدهما على ما كان بيدهما من عمل قابس و جربة
ثم كانت نكبة السلطان أبي الحسن على القيروان مجددا لعهد طاعته فأرادهم السلطان على الإمتنان لعبد الواحد اللحياني سلطانهم الأقدم و عقد له على تلك الثغور الشرقية و أنزله جربة و أمرها بالطاعة له ما دام في طاعته و عقد لأبي القاسم بن عتو شيخ الموحدين على توزر وقسطيلية بعد أن كان قطعه عندما تقبض عليه في واقعة السلطان أبي حفص عمر ثم استقبل رأيه في استخلاصه عندما انتقض عليه أبو محمد بن تافراكين و لما رجع من القيروان إلى تونس عقد له على توزر كما ذكرناه و لعبد الواحد بن اللحياني على قابس و جربة فأسف بذلك بني مكي هؤلاء
و هلك ابن اللحياني لحين نزوله بجربة بما أصابه من علة الطاعون الجارف سنة تسع و أربعين و سبعمائة فانتقض بنو مكي على السلطان أبي الحسن و دعوا إلى الخروج عليه و بايعوا الأفضل ابن السلطان أبي يحيى عندما أفرج عن حصار تونس سنة خمسين و سبعمائة و داخلوا أبا القاسم بن عتو و هو إذ ذاك لم يتوزر فأجابهم و كانت من دواعي رحلة السلطان أبي الحسن من أفريقية و تقويضه عنها كما قدمناه و لما رجع الحاجب أبو محمد بن تافراكين من المشرق و استقل بأمر تونس و نصب الإمام أبا إسحق ابن السلطان أبي يحيى للخلافة بها في كفالته غصوا بمكانه من التغلب و أنفوا من استبداده و انحرفوا إلى دعوة الأمير أبي زيد صاحب ثغر قسنطينة و وفد عليه أحمد بن مكي مع محمد بن طالب بن مهلهل كبير البدو بأفريقية فيمن إليه فاستنهضوه و قلده الأمير أبو زيد حجابته و جعل إليه و أبرز الحاجب أبو محمد تافراكين سلطانه أبا إسحق في عساكره مع خالد بن حمزة وقومه فالتقى الجمع بمرمجنة و كانت الدبرة على السلطان أبي إسحق سنة ثلاث و خمسين و سبعمائة و جاؤوا على أثرهم فنازلوا تونس أياما و ما أفرجوا إلا للصائح يخبرهم باحتلا عساكر بني مرين بالمرية من آخر أعمال تلمسان و أن السلطان أبا عنان قد استلحم بني عبد الواد و جمع كلمة زناتة و استقام له أمر المغربين
و أطل على الثغور الشرقية فافترق جمعهم و لحق الأمير أبو زيد بقسنطينة وأحمد بن مكي بقابس و سأل من الأمير أبي زيد أن يقسم رسم الإمارة بينهم في قابس و جربة بأخيه السلطان أبي العباس فأذن له في ذلك فكانت أول ولايته السعيدة و مضى إلى قابس فنزلها ثم أجاز البحر إلى جربة و دفع عنها العسكر الذي كان محاصر للقشتيل من قبل ابن ثابت صاحب طرابلس و رجع إلى قابس حتى كان من أمره ما ذكرناه
و أوفد السلطان أبو العباس أخاه أبا يحيى زكريا على أبي عنان ملك المغرب صريخا على شأنه و أوفد ابن مكي رسله متذمما و مذكرا يوسائله فتقبل و أغضى
ثم كانت واقعة العو دمره الله بطرابلس سنة أربع و خمسين و سبعمائة كما قدمناه فبعث إلى السلطان أبي عنان يسأله فديتها و النظر لها من بين ثغور المسلمين فحمل إليه خمسة أحمال من الذهب العين من بيت المال أوفد بها من أعيان مجلسه : الخطيب أبا عبد الله بن المرزوق و أبا عبد الله محمد حافد المولى أبي علي عمر بن سيد الناس و عقد لأحمد بن مكي على طرابلس فاستقل بها و عقد لأخيه عبد الملك على قابس و جربة و أقاموا على دعوته و مد أحمد يده إلى صفاقس فتناولها و تغلب عليها سنة سبع و خمسين و سبعمائة و هلك السلطان أبو عنان و قد شرق صدر ابن تافراكين الغالب على الحضرة بعدا و تهما فردد عليهما برا و بحرا إلى أن استخلص جزيرة جربة من أيديهما أعوام أربعة و ستين و سبعمائة و عقد عليها لولده محمد فاستخلف بها كاتبه محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون من صنائع الدولة كما ذكرناه و هلك أحمد بن مكي سنة ست و ستين و سبعمائة على تفيئة مهلك الحاجب بن تافراكين بالحضرة فكأنهما ضربا موعدا للهلكة و توافياه و تخلف ابنه عبد الرحمن بطرابلس في كفالة مولاه ظافر العلج و هلك ظافر إثر مهلكه فاستبد عبد الرحمن بطرابلس و ساءت سيرته فيها إلى أن نازله أبو بكر بن محمد بن ثابت في أسطوله كما نذكر سنة اثنتين و سبعين و سبعمائة و أجلب عليه بالبرابرة و العرب من أهل الوطن فانتقض عليه أهل البلد و ثاروا به و بادر أبو بكر بن ثابت لاقتحامها عليه و أسلموه إلى أمير من أمراء دباب فأجاره إلى أن أبلغه مأمنه من محلة قومه و إيالة عمه عبد الملك بقابس إلى أن هلك سنة تسع و سبعين و سبعمائة و لم يزل عبد الملك لهذا العهد و هو سنة إحدى و ثمانين و سبعمائة واليا على عمله بقابس و ابنه يحيى مستبد بوزارته و حافده عبد الوهاب لابنه مكي رديف له و قد تراجعت أحوالهم عما كانت و خرجت من أيديهم الأعمال التي كانت في عمالتهم لعهد أخيه أحمد مثل طرابلس و جزيرة جربة و صفاقس و ما إلى ذلك من العمالات حتى كان التخت إنما كان لأخيه و اليمن إنما اقترن بحياته و سيرتهما جميعا من العدالة و تحري مذاهب الخير و السمت و الاتسام بسمات أهل الدين حملة الفقه معروفة حتى كان كل واحد منهم إنما يدعى بالفقيه علما بين أهل عصره حرصا على الانغماس في مذاهب الخير و طرقه و كان لأحمد حظ من الأدب و كان يقرض الأبيات من الشعر فيجيد عفا الله عنه و له في الترسيل حظ و وساع بلاغة رسومها و ينحو في كتابه منحى أهل المشرق في أوضاع حروفهم و أشكال رسومها و لأخيه عبد الملك حظ من ذلك شارك به جهابذة أهل عصره و أفقه و لما انتظم السلطان أبو العباس أمصار أفريقية في ملكه و استبد بالدعوة الحفصية على قومه داخل أهل الجريد منه الروع و فزعوا إليه للمعارضة في الامتناع فداخلهم في ذلك و أشاروا إلى صاحب تلمسان بالترغيب في أفريقية فعجز عنهم و ألحوا عليه فخام عن العداوة و زحف مولانا السلطان خلال ذلك إلى الجريد فملك قفصة و توزر و نفطة فبادر ابن مكي إلى التلبس بالاستقامة و بعث إليه بالطاعة ثم رجع السلطان إلى الحضرة فرجع هو عن المصدوقة و اتهم أهل البلد بالميل إلى السلطان فتقبض على بعضهم و فر آخرون و انتقض عليه بنو أحمد أهل ضواحيه من دباب فنازلوه و بعثوا إلى الأمير الأكبر بقفصة في العسكر لمنازلته فبعثه إليهم و أحاطوا به ثم انتهز الفرصة و دخل بعض العرب من بني علي في تبييت المعسكر وبذل لهم في ذلك المال فبيتوه وانفض و بلغ الخبر إلى السلطان فخرج من حضرته سنة إحدى وثمانين وسبعمائة و نزل القيروان و توافت الفئتان و بعث رسله للأعذار بين يديه فردهم ابن مكي بالطاعة ثم احتمل رواحله و نزل بأحياء العرب و أغذ السلطان السير إلى البلد فدخلها و استولى على قصورها و لاذ أهل البلد بالبيعة فآتوها و استعمل عليهم من بطانته و انكفأ راجعا إلى تونس و هلك عبد الملك لأيام قلائل بين أحياء العرب و هلك بعده إبنه عبد الرحمن و ابن أخيه أحمد الذي كان صاحب طرابلس بعد أبيه و لحق إبنه يحيى و حفيده عبد الوهاب بطرابلس فمنعهم ابن ثابت من النزول ببلده لما كان متمسكا بطاعة السلطان فنزلوا بزنزور من بلاد دباب التي بضواحيها و أقاموا هنالك و استقامت النواحي الشرقية على طاعة السلطان و انتظمت في دعوته و الله مالك الملك
ثم ذهب يحيى بن عبد الملك إلى الشرق لقضاء فرضه و أقام عبد الوهاب بين أحياء البرانس بالجبال هنالك و كان الوالي الذي تركه السلطان بقابس قد ساء أثره في أهلها فدس شيعتهم إلى عبد الوهاب بذلك و جاء إلى البلد فبيتها و ثاروا بالوالي فقتلوه سنة ثلاث و ثمانين و سبعمائة و ملك عبد الوهاب قابس و جاء أخوه يحيى من المشرق بعد قضاء فرضه فأجلب عليه مرارا يروم ملكها منه و لم يتهيأ له و نزل على صاحب الحمة فداخله عبد الوهاب في أن يمكنه منه و يشرط ما شاء
و تم ذلك بينهما و أوثقه كتافا و بعث به إليه و اعتقله بقصر العروسيين فمكث في السجن أعواما ثم فر من محبسه و لحق بالحامة على مرحلة من قابس مستنجدا بابن وشاح صاحبها فأنجده و ما زال يجلب على نواحي قابس إلى أن ملكها و تقبض على عبد الوهاب ابن أخيه مكي فقتله أعوام تسعين و سبعمائة و لم يزل مستبدا ببلده إلى سنة ست و تسعين و سبعمائة و كان عمر ابن السلطان أبي العباس قد بعثه أبوه لحصار طرابلس فحاصرها حولا كما نذكره حتى استقام أهلها على الطاعة و أعطوا الضريبة فأفرج عنها و رجع إلى أبيه فولاه على صفاقس و أعمالها فاستقل بها ثم دخل أهل الحامة في ملك قابس فأجابوه و ساروا معه فبيتها و دخلها و قبض على يحيى بن عبد الملك فضرب عنقه و انقرض أمر بني مكي من قابس و لله الأمر من قبل و من بعد و هو خير الوارثين (6/606)
الخبر عن بني ثابت رؤساء مدينة طرابلس و اعمالها
قد تقدم لنا شأن هذا البلد لأول الفتح الإسلامي و أن عمرو بن العاص هو الذي تولى فتحه و بقي بعد ذلك من جملة أعمال أفريقية تنسحب عليه ولاية صاحبها فلم يزل ثغرا لهذه الأعمال من لدن إمارة عقبة و من بعده و في دول الأغالبة و كان المعز لدين الله من خلفاء الشيعة لما ارتحل إلى القاهرة و عقد على أفريقية لبلكين ابن زيري بن مناد أمير صنهاجة عقد عل طرابلس لعبد الله بن يخلف من رجالات كتامة ثم لما ولي نزار الخلافة سنة سبع و ستين و ثلثمائة طلب منه بلكين أن يضيف عمل طرابلس إلى عمله فأجاب و عهد له بها و ولى عليها بلكين من رجالات صنهاجة ثم عقد عليها الحاكم بعد مهلك المنصور بن بلكين ليأنس الصقليي سنة تسعين و ثلاثمائة بمداخلة عاملها يمصول من صنهاجة و أعانه على ذلك برجوان الصقليي المتغلب على الدولة يومئذ لمنافسته ليأنس فوصل إليها في ألف و خمسمائة فارس فملكها فسرح باديس جعفر بن حبيب لحربه في عسكر من صنهاجة و تزاحفا يومين بساحة زنزور ثم انفض عسكر يأنس في الثالث و قتل و لحق فله بطرابلس فاعتصموا بها و نازلهم جعفر بن حبيب القائد و زحف فلفول بن سعيد ابن خرزون الثائر على باديس و ابنه بأفريقية إلى قابس فحاصرها
ثم قصد جعفر بن حبيب بمكانه من حصار طرابلس فأفرج عنها جعفر و لحق بنفوسة و أميرهم يحيى بن محمد فامتنع عليهم ثم لحق بالقيروان و مضى فلفول بن سعيد إلى طرابلس فخرج إليه فتوح بن علي و من معه من أصحاب يأنس فملكوه و قام فيها بدعوة الحاكم من خلفاء الشيعة و أوطنها و عقد الحاكم عليها ليحيى بن علي بن حمدون أخي جعفر صاحب المسيلة النازع إليه من الأندلس فوصل إليها و استظهر بفلفول على بجاية و نازل قابس فامتنعت عليه ثم عجز عن الولاية و رأى استبداد فلفول عليه بعصبته فرجع إلى مصر و استبد فلفول بطرابلس و تداولها بنوه مع ملوك صنهاجة إلى أن استبدوا بها آخرا و دخل العرب الهلاليون إلى أفريقية فخربوا أوطانها و طمسوا معالمها و لما تزل بأيدي بني خزرون هؤلاء إلى أن غلبهم عليها جرجي بن ميخائيل صاحب أسطول رجار ملك صقلية من الإفرنج سنة أربعين و خمسمائة و أبقى المسلمين بها و استعمل عليهم كما فعل في سواحل أفريقية فأقاموا في ملكة النصارى أياما ثم ثار بهم المسلمون بمداخلة أبي يحيى بن مطروح من أعيانهم و فتكوا بهم و لما افتتح عبد المؤمن المهدية سنة خمسة و خمسين و خمسمائة وفد عليه ابن مطروح و وجوه أهل طرابلس فأوسعهم تكرمة و ردهم إلى بلدهم و ولى عليهم ابن مطروح إلى أن كبر سنه وعجز و ارتحل إلى المشرق سنة ست و ثمانين و خمسمائة بإذن السيد زيد بن عمر بن عبد المؤمن عامل أفريقية من قبل عمه يوسف و استقر بالإسكندرية
و تعاقبت عليها ولاة الموحدين ثم كان من أمر ابن غانية و قراقش مل قدمناه و صارت طرابلس لقراقش ثم استبد بنو أبي حفص بأفريقية على بني عبد المؤمن و هلك قراقش و ابن غانية و انتظم عمل طرابلس في أعمال الأمير أبي زكريا و بنيه إلى أن انقسمت دولتهم و اقتطعت الثغور الغربية عن الحضرة و فشل ريح الدولة بعض الشيء و تقلص ظلها عن القاصية فصارت رياسة طرابلس إلى الشورى و لم يزل العامل من الموحدين يجيء إليها من الحضرة إلا أن رئيسها من أهلها مستبد عليها و حدثت العصبية في البلد لحدوث الشورى و المنافسة فيها ثم نزلها السلطان أبو يحيى بن اللحياني سنة سبع عشرة و سبعمائة حين تجافى عن ملك الحضرة و أحس بزحف السلطان أبي يحيى صاحب بجاية إليها فأبعد عن تونس إلى ثغر طرابلس و أقام بها و أقام أحمد بن عربي من مشيختها بخدمته و لما فارق ابن اللحياني تونس و يئس الموحدون من عوده أخرجوا ابنه محمد المكنى بأبي ضربة من الاعتقال و بايعوا له و خرج للقاء السلطان أبي بكر و مدافعته فهزمه السلطان أبو بكر و حمله الأعراب الذين معه على قصد طرابلس لانتزاع الأموال و الذخائر الملوكية من يد أبيه و لما أحس بذلك أبوه ركب البحر من طرابلس إلى الإسكندرية كما هو مذكور في خبره و استخلف على طرابلس صهره محمد بن أبي عمر بن إبراهيم بن أبي حفص فقام بأمرها و ولى حجابته رجلا من أهله يشهر بالبطيسي فساء أثره في أهل طرابلس و حجب عنهم وجه الرضى من سلطانه و حمله على مصادرتهم و استخلاص أموالهم حتى أجمعوا الثورة بالسلطان فركب السفين ناجيا منهم بعد أن تعرض بعضهم لوداعه فأطلعه على سعايات البطيسي بهم فقتلوه لوقته و قتلوا قاضيا بطرابلس من أهل تونس كان يمالىء على ذلك و تولى كبر ذلك أحمد بن عربي ثم هلك و قام بأمر طرابلس محمد بن كعبور فقتله سعيد ابن طاهر المزوغي و ملك أمر البلد و كان معه أبو البركات بن أبي الدنيا فمات حتف أنفه و استقل ابن طاهر بأمر طرابلس اثنتي عشرة سنة ثم هلك و قام بأمرها ثابت ابن عمار الزكوجي من قبائل هوارة و ثار به لستة أشهر من ولايته أحمد بن سعيد بن طاهر فقتله و استبد به ثم ثار به جماعة زكوجة و قتلوه في مغتسله عند الآذان بالصبح و ولوا محمدا ابن شيخهم ثابت بن عما أعوام سبعة و عشرين فاستبد بأمر طرابلس نحوا من عشرين سنة و ظل الدولة متقلص عنه و هو يغالط عن الإمارة بالتجارة و الاحتراف بها و لبوس شارتها و السهي راجلا في سكك المدينة يتناول حاجاته و ما عونه بيده و يخالط السوقة في معاملاته يذهب في ذلك مذهب التخلق و التواضع يسر منه حسوا في ارتغاء و يطلب العامل من تونس فيبعثه السلطان على طرابلس يقيم معتملا في تصريفه و هو يبرأ إليه ظاهرا من الأحكام و النقض و الإبرام إلى أن كان تغلب بني مرين على أفريقية و وصل السلطان أبو الحسن إلى الحضرة على ما نذكره فداوله طرف الحبل و هو ممسك بطرفه و نقل إلى الإسكندرية ماله و ذخيرته ثم اغتاله أثناء ذلك جماعة من مجريش عند داره فقتلوه و ثار منهم للحين بطانته و شيعته و ولي بعده ابنه ثابت فتزيا بزي الإمارة في اللبوس و الركوب بحلية الذهب و اتخاذ الحجاب و البطانة
و أقام على ذلك إلى أن اجتمع بها أسطول من تجار النصارى أغفلوا أمرهم لكثرة طروقهم و ترددهم في سبيل التجارة و كثرة ما يغشاها من سفنهم فغدروا ليلا و ثاروا فيها و كثروا أهلها فأسلم الحامية إليهم باليد و فر مقدمهم ثابت إلى حلة أولاد مرغم أمراء الجواري في انحائها فقتلوه صبرا لدم كان أصابه منهم في رياسته فكانت مدته ست سنين و قتلوا معه أخاه عمارا و اكتسح النصارى جميع ما كان بالبلد من الذخيرة و المتاع و الخرثي و الماعون و شحنوا السفن بها و بالأسرى من العقائل و الحامية مصفدين و أقاموا بالبلد أياما على قلقة و رهب من الكرة لو كان لها رجال ثم تحدثوا مع من جاورها من المسلمين في فدائها فتصدى لذلك صاحب قابس أبو العباس أحمد بن مكي و بذل لهم فيها خمسين ألفا من الذهب استوهب أكثرها من جماعة المسلمين بالبلاد الجريدية تزلفا إلى الله باستخلاص الثغر من يد الكفر و ذلك سنة و خمسين و لحق ولد ابن ثابت بثغر الإسكندرية فأقاموا به يحترفون بالتجارة إلى أن هلك أحمد بن مكي سنة ست و ستين و سبعمائة و قام بأمره ولده عبد الرحمن
فسما أبو بكر بن محمد بن ثابت إلى رياسة أبيه و ذكر عهود الصبا في معاهد قومه فاكترى من النصارى سفنا شحنها بصنائعه و موالي أبيه و نازلها سنة إحدى و سبعين و سبعمائة في أسطول من أساطيلهم و اجتمع إليه ذؤبان العرب ففرق فيهم الأموال و أجلب عليها بمن في قراها و أريافها من الرجل فاقتحمها على عبد الرحمن بن أحمد بن مكي عنوة و أجاره العرب من أولاد مرغم بن صابر و تولى ذلك منهم إلى أن أبلغوه مأمنه في إيالة عمه عبد الملك بمكان إمارتهم بقابس
و استوسق أمر طرابلس لأبي بكر هذا و استقل بولايتها و دخل في طاعة السلطان أبي العباس بتونس و خطب له على منابرة و قام يصانعه بما للسلطان من الضريبة و يتحفه حينا بعد حين بالهدايا و الطرف إلى أن هلك سنة اثنتين و تسعين و سبعمائة و ولي مكانه علي ابن أخيه عمار و قام بكفالته عمه و كان قائده قاسم ابن خلف الله متهما بالتشيع للصبي المخلف عن أبي يحيى فارتاب و دفعوه لاقتضاء المغارم من مسرتة فتوحش الخليفة من علي و انتقض ثم بعث إليه بأمانه فرجع إلى طرابلس ثم استوحش و طلب الحج فخلوا سبيله و ركب البحر إلى الإسكندرية و لقي بها خالصة السلطان محمد بن أبي هلال عام حج فأخذ منه ذمة و كر راجعا في السفينة إلى تونس يستحث السلطان لملك طرابلس فلما مر بهم راسلوه و لاطفوه و استعادوه إلى مكانه فعاد إليهم ثم جاءته النذر بالهلكة ففر و لحق السلطان بتونس و استحثه لملك طرابلس و بلغ الخبر إلى السلطان فبعث معه إبنه الأمير أبا حفص عمر لحصار طرابلس فنزل بساحتها و افترق عرب دباب عليه و على ابن ثابت و قام ابن خلف الله في خدمته المقام المحمود و وفر له جباية الوطن و مغارمه و نقل العرب إلى طاعته و يستألفهم به و أقام عليها حولا كريتا يمنع عنهم الأقوات و يبرزون إليه فيقاتلهم بعض الأحيان ثم دفعوه بالضريبة التي عليهم لعدة أعوام نائطة و كان قد ضجر من طول فرضي بطاعتهم و انكفأ راجعا إلى أبيه سنة خمس و تسعين و سبعمائة فولاه على صفاقس و افتتح منها قابس كما قدمناه
و أقام علي بن عمار على إمارته بطرابلس إلى هذا العهد و الله مدبر الأمور بحكمته هذا آخر الكلام في الدولة الحفصية من الموحدين و ما تبعها من أخبار المقدمين المستبدين بأمصار الجريد و الزاب و الثغور الشرقية فلنرجع إلى أخبار زناتة و دولهم و بكمالها يكمل الكتاب إن شاء الله تعالى
تم طبع الجزء السادس و يليه الجزء السابع (6/613)
بسم الله الرحمن الرحيم ـ الخبر عن زناتة من قبائل البربر و ما كان بين أجيالهم من العز و الظهور و ما تعاقب فيهم من الدول القديمة و الحديثة
هذا الجيل في المغرب جيل قديم العهد معروف العين و الأثر و هم لهذا العهد آخذون من شعائر العرب في سكنى الخيام و اتخاذ الإبل و ركوب الخيل و التغلب في الأرض و إيلاف الرحلتين و تخطف الناس من العمران و الإباية عن الانقياد للنصفة و شعارهم بين البربر اللغة التي يتراطنون بها و هي مشتهرة بنوعها عن سائر رطانة البربر و مواطنهم في سائر مواطن البربر بأفريقية و المغرب فمنهم ببلاد النخيل ما بين غدامس و السوس الأقصى حتى أن عامة تلك القرى الجريدية بالصحراء منهم كما نذكره و منهم قوم بالتلول بجبال طرابلس و ضواحي أفريقية و بجبل أوراس بقايا منهم سكنوا مع العرب الهلاليين لهذا العهد و أذعنوا لحكهم و الأكثر منهم بالمغرب الأوسط حتى أنه ينسب إليهم و يعرف بهم فيقال : و طن زناتة و منهم بالمغرب الأقصى أمم أخرى و هم لهذا العهد أهل دول و ملك بالمغربين و كانت لهم فيه دول أخرى في القديم و لم يزل الملك يتداول في شعوبهم حسبما نذكره بعد لكل شعب منهم إن شاء الله تعالى (7/3)
الخبر عن نسبة زناتة و ذكر الخلاف الواقع فيه و تعديد شعوبهم
أما نسبهم بين البربر فلا خلاف بين نسابتهم أنهم من ولد شانا و إليه نسبهم و أما شانا فقال أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة قال بعضهم : هو جانا بن يحيى بن صولات بن ورماك بن ضري بن رحيك بن مادغيس بن بربر و قال أيضا في كتاب الجمهرة ذكر لي يوسف الوراق عن أيوب بن أبي يزيد يعني حين وفد على قرطبة عن أبيه الثائر بأفريقية أيام الناصر قال : هو جانا بن يحيى بن صولات بن ورساك بن ضري بن مقبو بن قروال بن يملا بن مادغيس بن رحيك بن همرحق بن كراد بن مازيغ بن هراك بن هرك بن برا بن بربر بن كنعان بن حام هذا ما ذكره ابن حزم و يظهر منه أن مادغيس ليس نسبة إلى البربر و قد قدمنا ما في ذلك من الخلاف و هو أصح ما ينقل في هذا الآن ابن حزم موثوق و لا يعدل به غيره
و نقل عن ابن أبي ريد و هو كبير زناتة و يكون البربر على هذا من نسل برنس فقط و البتر الذين هم بنو مادغيس الأبتر ليسوا من البربر و منهم زناتة و غيرهم كما قدمنا لكنهم إخوة البربر لرجوعهم كلهم إلى كنعان بن حام كما يظهر من هذا النسب
و نقل عن أبي محمد بن قتيبة في نسب زناتة هؤلاء أنهم من ولد جالوت في رواية أن زناتة هو جانا بن يحيى بن ضريس بن جالوت و جالوت هو ونور بن جرييل ابن جديلان بن جاد بن رديلان بن حصي بن باد بن رحيك بن مادغيس الأبتر بن قيس بن عيلان
و في رواية أخرى عنه أن جالوت بن جالود بن بردنال بن قحطان بن فارس و فارس مشهور
و في رواية أخرى عنه أنه ابن هربال بن بالود بن ديال بن برنس بن سفك و سفك أبو البربر كلهم و نسابة الجيل نفسه من زناتة يزعمون أنهم من حمير ثم من التبابعة منهم و بعضهم يقول أنهم من العمالقة و يزعمون أن جالوت جدهم من العمالقة و الحق فيهم ما ذكره أبو محمد بن حزم أولا و ما بعد ذلك فليس شيء منه بصحيح فأما الرواية الأولى عن أبي محمد بن قتيبة فمختلطة و فيها أنساب متداخلة و أما نسب مادغيس إلى قيس عيلان فقد تقدم في أول كتاب البربر عند ذكر أنسابهم و أن أبناء قيس معروفون عند النسابة و أما نسب جالوت إلى قيس فأمر بعيد عن القياس و يشهد لذلك أن معذ بن عدنان الخامس من آباء قيس إنما كان معاصرا لبختنصر كما ذكرناه أول الكتاب و أنه لما سلط على العرب أوحى الله إلى أرمياء نبي بنى إسرائيل أن يخلص معدا و بسير به إلى أرضه و بختنصر كان بعد داود بما يناهز أربعمائة و خمسين من السنين فإنه خرب بيت المقدس بعد بناء داود و سليمان له بمثل هذه المدة
فمعد متأخر عن داود بمثلها سواء فقيس الخامس من أبنائه متأخر عن داود بأكثر من ذلك فجالوت على ما ذكر أنه من أبناء قيس متأخر عن داود بأضعاف ذلك الزمن و كيف يكون ذلك مع أن داود هو الذي قتل جالوت بنص القرآن ؟
و أما إدخاله جالوت في نسب البربر و أنه من ولد مادغيس أو سفك فخطأ و كذلك من نسبه إلى العمالقة و الحق أن جالوت من بني فلسطين بن كسلوحيم بن مصرايم بن حام أحد شعوب حام بن نوح و هم أخوة القبط و البربر و الحبشة و النوبة كما ذكرناه في نسب أبناء حام و كان بين بنى فلسطين هؤلاء و بين بنى إسرائيل حروب كثيرة و كان بالشام كثير من البربر إخوانهم و من سائر أولاد كنعان يضاهونهم فيها و دثرت أمة فلسطين و كنعان و شعوبهما لهذا العهد و لم يبق إلا البربر و اختص اسم فلسطين بالوطن الذي كان لهم فاعتقد سامع اسم البربر مع ذكر جالوت أنه منهم و ليس كذلك
و أما ما رأي نسابة زناتة أنهم من حمير فقد أنكره الحافظان أبو عمر بن عبد البر و أبو محمد بن حزم و قالا ما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في أكاذيب مؤرخي اليمن و إنما حمل نسابة زناتة على الانتساب في حمير الترفع عن النسب البربري لما يرونهم في هذا العهد خولا و عبيدا للجباية و عوامل الخراج و هذا وهم فقد كان في شعوب البربر من هم مكافؤن لزناتة في العصبية أو أشد منهم مثل هوارة و مكناسة و كان فيهم من غلب العرب على ملكهم مثل كتامة و صنهاجة و من تلقف الملك من يد صنهاجة مثل المصامدة كل هؤلاء كانوا أشذ قوة و أكثر جمعا من زناتة فلما فنيت أجيالهم أصبحوا مغلبين فنالهم ضر المغرم و صار اسم البربر مختصا لهذا العهد بأهل المغرم فأنف زناتة منه فرارا من الهضيمة
و أعجبوا بالدخول في النسب العربي لصراحته و ما فيه من المزية بتعدد الأنبياء و لا سيما نسب مضر و أنهم من ولد إسماعيل بن إبراهبم بن نوح بن شيث بن آدم خمسة من الأنبياء ليس للبربر إذا نسبوا إلى حام مثلها مع خروجهم عن نسب إبراهيم الذي هو الأب الثالث للخليقة إذ الأكثر من أجيال العالم لهذا العهد من نسله و لم يخرج عنه لهذا العهد إلا الأقل مع ما في العربية أيضا من عز التوحش و السلامة من مذمومات الخلق بانفرادهم في البيداء فأعجب زناتة نسبهم و زينه لهم نسابتهم و الحق بمعزل عنه و كونهم من البربر بعموم النسب لا ينافي شعارهم من الغلب و العز فقد كان الكثير من شعوب البربر مثل ذلك و أعظم منه و أيضا فقد تميزت الخليقة و تباينوا بغير واحد من الأوصاف و الكل بنو آدم و نوح من بعده و كذلك تميزت العرب و تباينت شعوبها و الكل لسام و لإسماعيل بعده
و أما تعدد الأنبياء في النسب فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و لا يضرك الاشتراك مع الجيل في النسب العام إذا وقعت المباينة لهم في الأحوال التي ترفع عنهم مع أن المذلة للبربر إنما هي حادثة بالقلة و دثور أجيال بالملك حصل لهم و نفقوا في سبله و ترفه كما تقدم لكل في الكتاب الأول من تأليفنا و إلا فقد تقدم لهم من الكثرة و العز و الملك و الدولة ما هو معروف
و أما أن جيل زناتة من العمالقة الذين كانوا بالشام فقول مرجوح و بعيد عن الصواب لأن العمالقة الذين كانوا بالشام صنفان عمالقة من ولد عيصو بن إسحاق و لم تكن لهم كثرة و لا ملك و لا نقل أن أحدا منهم انتقل إلى المغرب بل كانوا لقلتهم و دثور أجيالهم أخفى من الخفاء و العمالقة الأخرى كانوا من أهل الملك و الدولة بالشام قبل بني إسرائيل و كانت أريحاء دار ملكهم و غلب عليهم بنو إسرائيل و ابتزوهم ملكهم بالشام و الحجاز و أصبحوا حصائد سيوفهم فكيف يكون هذا الجيل من أولئك العمالقة الذين دثرت أجيالهم ؟ و هذا لو نقل لواقع به الاسترابة فكيف و هو لم ينقل ؟ هذا بعيد في العبادة و الله أعلم بخلقه
و أما شعوب زناتة و بطونهم فكثير و لنذكر المشاهير منها فنقول : اتفق نساب زناتة على أن بطونهم كلها ترجع إلى ثلاثة من ولد جانا و هم : ورسيك و فرني و الديرت هكذا في كتب أنساب زناتة و ذكر أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة له من ولد ورسيك عند نيابتهم مسارت و رغاي و واشروجن و من واشروجن وارايغن بن واشروجن و قال أبو محمد بن حزم ولد ورسيك أنهم مسارت و ناجرت و واسين
و أما فرني بن جانا فمن ولد عند نسابه زناتة يزمرتن و مرنجيصة و وركلة و نمالة و سبرترة و لم يذكر أبو محمد بن حزم سبرتره و ذكر الأربعة الباقية و أما الديرت ابن جانا فمن ولده عند نسابة زناتة جداو بن الديرت و لم بذكره ابن حزم و إنما قال عند ذكر الديرت و من شعوبه : نبوورسيك بن الديرت و هم بطنان دمر بن ورسيك و زاكيا بن ورسيك قال : و دمر لقب و اسمه الغانا قال : فمن ولد زاكيا بنو مغراو و بنو يفرن و بنو واسين قال : و أمهم واسين مملوكة لأم مغراو و هم ثلاثتهم بنو يصلتن بن مسرا بن زاكيا و يزيد نسابة زناتة في هؤلاء يرنيات بن يصلتن أخا لمغراو و يفرن و واسين و لم يذكره ابن حزم
قال : و من و لد دمر بنو ورنيد بن وانتن بن وارديرن بن دمر و ذكر لبني دمر أفخاذا سبعة و هم عرازول و لفورة و زناتين و هؤلاء الثلاثة مختصون بنسب دمر و برزال و بصدرين و صغمان و يطوفت هكذا ذكر أبو محمد بن حزم و زعم أنه من إملاء أبي بكر بن يكنى البرزالي الأباضي و قال فيه : كان ناسكا عالما بأنسابهم و ذكر أن بني واسين و بني برزال كانوا أباضية و أن بني يفرن و مغراوة كانوا سنية و عند نسابة البربر مثل سابق بن سليمان المطماطي و هانئ بن يصدور و الكومي و كهلان بن أبي لوا و هو مسطر في كتبهم أن بني ورسيك بن الديرت بن جانا ثلاثة بطون و هم بنو زاكيا و بنو دمر و آنشة بنو آنش و كلهم بنو وارديرن بن ورسيك فمن زاكيا بن وارديرن أربعة بطون : مغراوة و بنو يفرن و بنو يرنيان وبنو واسين كلهم بنو يصلتن ابن مسرا بن زاكا و من آنش بن وارديرن أربعة بطون : بنو برنال و بنو صقمات و بنو يصدورين و بنو يطوفت كلهم بنو آنش بن وارديرن و من دمر بن وارديرن ثلاثة بطون : بنو تقورت و بنو عزرول و بنو ورتاتين كلهم بنو وتيد بن دمر هذا الذى ذكره نسابة البربر و هو خلاف ما ذكره ابن حزم و يذكر نسابة زناتة آخرين من شعوبهم و لا ينسبونهم مثل يجفش و هم أهل جبل قازاز قريب مكناسة و سنجاسن و ورسيغان و تحليلة و تيسات و واغمرت و تيفراض و وجديجن و بنو بلومو و بنو و ماني و بنو توجين على أن بني توجين ينتسبون في بني واسين نسبا ظاهر صيحيحا بلا شك على ما يذكر في أخبارهم و بعضهم يقول في وجديحن و واغمرت بنو ورتنيص أنهم من البرانس من بطون البربر على ما قدمناه و ذكر ابن عبد الحكم في كتابه فتح مصر خالد بن حميد الزناتي و قال فيه هو من شورة إحدى بطون زناتة و لم نره لغيره هذا ملخص الكلام في شعوب زناتة و أنسابهم بما لا يوجد في كتاب و الله الهادي إلى مسالك التحقيق لا رب غيره (7/4)
فصل في تسمية زناتة و مبنى هذه الكلمة
أعلم أن كثيرا من الناس يبحثون عن مبنى هذه الكلمة و اشتقاقها على ما ليس معروفا للعرب و لا لأهل الجيل أنفسهم فيقال : هو اسم وضعته العرب على هذا الجيل و يقال بل الجيل وضعوه لأنفسهم أو اصطلحوا عليه و يقال : هو زانا بن جانا فيزيدون في النسب شيئا لم تذكره النسابة و قد يقال إنه مشتق و لا يعلم في لسان العرب أصل مستعمل من الأسماء يشتمل على حروفه المادية و ربما يحاول بعض الجهلة اشتقاقه من لفظ الزنا و يعضده بحكاية خسيسة يدفعها الحق و هذه الأقوال كلها ذهاب إلى أن العرب وضعت لكل شيء اسما و أن استعمالها إنما هو لأوضاعها التي من لغتها ارتجالا و اشتقاقا و هذا إنما هو في الأكثر و إلا فالعرب قد استعملت كثيرا من غير لغتها في مسماه إما لكونه علما فلا يغير مثل إبراهيم و يوسف و إسحاق من اللغة العبرانية و إما استعانة و تخفيفا لتداوله بين الألسنة كاللجام و الديباج و الزنجبيل و النيروز و الياسمين و الآجر فتصير باستعمال العرب كأنها من أوضاعهم و يسمونها المعربة و قد يغيرونها بعض التغيير في الحركات أو في الحروف و هو شائع لهم لأنه بمنزلة وضع جديد
و قد يكون الحرف من الكلمة ليس من حروف لغتهم فيبذلونه بما يقرب منه في المخرج فإن مخارج الحروف كثيرة منضبطة و إنما نطقت العرب منها بالثمانية و العشرين حروف أبجد و بين كل مخرجين منها حروف أكثر من واحد فمنها ما نطقت به الأمم و منها ما لم تنطق به و منها ما نطق به بعض العرب كما هو مذكور في كتب أهل اللسان و إذا تقرر ذلك فاعلم أن أصل هذه اللفظة التي هي زناتة من صيغة جانا التي هي اسم أبي الجيل كله و هو جانا بن يحيى المذكور في نسبهم و هم إذا أرادوا الجنس في التعميم الحقوا بالاسم المفرد تاء فقالوا جانات و اذا أرادوا التعميم زادوا مع التاء نونا فصار جاناتن و نطقهم بهذه الجيم ليس من مخرج الجيم عند العرب بل ينطقون بها بين الجيم و الشين و أميل إلى السين و يقرب للسمع منها بعض الصفير فأبدلوها زايا محضة لاتصال مخرج الزاي بالسين فصارت زانات لفظا مفردا دالا على الجنس
ثم الحقوا به هاء النسبة و حذفوا الألف التي بعد الزاي تخفيفا لكثرة دورانه على الألسنة و الله أعلم (7/10)
فصل في أولية هذا الجيل و طبقاته
أما أولية هذا الجيل بأفريقية و المغرب فهي مساوية لأولية البربر منذ أحقاب متطاولة لا يعلم مبدأها إلا الله تعالى و لهم شعوب أكثر من أن تحصى مثل مغراوة و بني يفرن و جراوة و بني يرنيان و وجديجن و غمرة و بني ويجفش و واسين و بنى تيغرست و بني مرين و توجين و بنى عبد الواد و بني راشد و بنى برزال و بني ورنيد و بني زنداك و غيرهم و في كل واحد من هذه الشعوب بطون متعددة و كانت مواطن هذا الجيل من لدن جهات طرابلس إلى جبل أوراس و الزاب إلى قبلة تلمسان ثم إلى وادي ملوية و كانت الكثرة و الرياسة فيهم قبل الإسلام لجراوة لهم لمغراوة و بني يفرن
و لما ملك الإفرنجة بلاد البربر في ضواحيهم صاروا يؤدون لهم طاعة معروفة و خراجا معروفا مؤقتا و يعسكرون معهم في حروبهم و يمتنعون عليهم فيما سوى ذلك حتى جاء الله بالإسلام و زحف المسلمون إلى أفريقية و ملك الإفرنجة بها يومئذ جرجير فظاهره زناتة و البربر على شأنه مع المسلمين و انفضوا جميعا و قتل جرجير و أصبحت أموالهم مغانم و نساؤهم سبايا و افتتحت سبيطلة ثم عاود المسلمون غزو أفريقية و افتتحوا جلولاء و غيرها من الأمصار و رجع الإفرنجة الذين كانوا يملكونهم على أعقابهم إلى مواطنهم وراء البحر و ظن البربر بأنفسهم مقاومة العرب فاجتمعوا و تمسكوا بحصون الجبال و اجتمعت زناتة إلى الكاهنة و قومها جراوة بجبل أوراس حسبما نذكره فأثخن العرب فيهم و اتبعوهم في الضواحي و الجبال و القفار حتى دخلوا في دين الإسلام طوعا و كرها و انقادوا إلى إيالة مصر و تولوا من أمرهم ما كان الإفرنجة يتولونه حتى إذا انحلت بالمغرب عرى الملك العربي و أخرجهم من أفريقية البربر من كتامة و غيرهم قدح هذا الجيل الزناتي زناد الملك فأورى لهم و تداول فيهم الملك جيلا بعد جيل في طبقتين حسبما نقصه عليك إن شاء الله تعالى (7/11)
الخبر عن الكاهنة و قومها جراوة من زناتة و شأنهم مع المسلمين عند الفتح
كانت هذه الأمة من البربر بأفريقية و المغرب في قوة و كثرة و عديد و جموع و كانوا يعطون الإفرنجة بأمصارهم طاعة معروفة ملك الضواحي كلها لهم و عليهم مظاهرة الإفرنجة مما احتاجوا إليهم و لما أطل المسلمون في عساكرهم على أفريقية للفتح ظاهروا جرجير في زحفه إليهم حتى قتله المسلمون و انفضت جموعهم و افترقت رياستهم و لم بكن بعدها بأفريقية موضع للقاء المسلمين يجمعهم لما كانت غزواتهم لكل أمة من البربر في ناحيتها و موطنا مع من تحيز إليهم من قبل الإفرنجة
و لما اشتغل المسلمون في حرب علي و معاوية أغفلوا أمر أفريقية ثم ولاها معاوية بعد عام الجامعة عقبة بن نافع الفهري فأثخن في المغرب في ولايته الثانية و بلغ إلى السوس و قتل بالزاب في مرجعه و اجتمعت البربر على كسيلة كبير أوربة و زحف إليه بعد ذلك زهير بن قيس البلوي أيام عبد الملك بن مروان فهزمه و ملك القيروان و أخرج المسلمين من أفريقية
و بعث عبد الملك حسان بن النعمان في عساكر المسلمين فهزموا البربر و قتلوا كسيلة و استرجعوا القيروان و قرطاجنة و أفريقية و الإفرنجة و الروم إلى صقلية و الأندلس و افترقت رياسة البربر في شعوبهم و كانت زناتة أعظم قبائل البربر و أكثرها جموعا و بطونا و كان موطن جراوة منهم بجبل أوراس و هم ولد كراو بن الديرت بن جانا و كانت رياستهم للكاهنة دهبا بنت بن نيعان بن بارو بن مصكسرى بن أفرد بن وصيلا بن جراو و كان لها بنون ثلاثة ورثوا رياسة قومهم عن سلفهم و ربوا في حجرها فاستبدت عليهم و على قومهم بهم و بما كان لها من الكهانة و المعرفة بغيب أحوالهم و عواقب أمورهم فانتهت إليها رياستهم
قال هاني بن بكور الضريسي : ملكت عليهم خمسا و ثلاثين سنة و عاشت مائة و سبعا و عشرين سنة و كان قتل عقبة بن نافع في البسيط قبلة جبر أوراس بإغرائها برابرة تهودا عليه و كان المسلمون يعرفون ذلك منها فلما انقضى جمع البربر و قتل كسيلة رجعوا إلى هذه الكاهنة بمعتصمها من جبل أوراس و قد ضوى إليها بنو يفرن و من كان بأفريقية من قبائل زناتة و سائر البتر فلقيتهم بالبسيط أمام جبلها و انهزم المسلمون و اتبعت آثارهم في جموعها حتى أخرجتهم من أفريقية و انتهى حسان إلى برقة فأقام بها حتى جاءه المدد من عبد الملك فزحف إليهم سنة أربع و سبعين و فض جموعهم و أوقع بهم و قتل الكاهنة و اقتحم جبل أوراس عنوة و استلحم فيه زهاء مائة ألف
و كان للكاهنة ابنان قد لحقا بحسان و حسن إسلامهما و استقامت طاعتهما و عقد لهما على قومها جراوة و من انضوى إليهم بجبل أوراس ثم افترق فلهم من بعد ذلك و انقرض أمرهم و افترق جراوة أوزاعا بين قبائل البربر و كان منهم قوم بسواحل مليلة و كان لهم آثار بين جيرانهم هناك واليهم نزع بن أبي العيش لما غلبه موسى بن أبي العافية على سلطانه بتلمسان أول المائة الرابعة حسبما نذكره فنزل عليهم و بنى القلعة بينهم إلى أن خربت من بعد ذلك و الفل منهم بذلك الوطن إلى الآن لهذا العهد مندرجون في بطونه و من إليهم من قبائل غمارة و الله وارث الأرض و من عليها (7/12)
الخبر عن مبتدأ دول زناتة في الإسلام و مصير الملك إليهم بالمغرب و أفريقية
لما فرغ شأن الردة من أفريقية و المغرب و أذعن البربر لحكم الإسلام و ملكت العرب و استقل بالخلافة و رياسة العرب بنو أمية اقتعدوا كرسي الملك بدمشق و استولوا على سائر الأمم و الأقطار و أثخنوا في القاصية من لدن الهند و الصين في المشرق و فرغانة في الشمال و الحبشة في الجنوب و البربر في المغرب و بلاد الجلالقة و الإفرنجة في الأندلس و ضرب الإسلام بجرانه و ألقت دولة العرب بكلكلها على الأمم ثم جدع بنو أمية أنوف بني هاشم مقاسميهم في نسب عبد مناف و المدعين استحقاق الأمر بالوصية و تكرر خروجهم عليهم فأثخنوا فيهم بالقتل و الأسر حتى توغرت الصدور و استحكمت الأوتار و تعددت فرق الشيعة باختلافهم في مساق الخلافة من علي إلى من بعده من بني هاشم فقوم ساقوها إلى آل العباس و قوم إلى آل الحسن و آخرون إلى آل الحسين فدعت شيعة آل العباس بخراسان و قام بها اليمنية فكانت الدولة العظيمة الحائزة للخلافة و نزلوا بغداد و استباحوا الأمويين قتلا و سبيا و خلص من جاليتهم إلى الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام فجدد بها دعوة الأمويين و اقتطع ما وراء البحر عن ملك الهاشميين فلم تخفق لهم به راية ثم نفس آل أبي طالب على آل العباس ما أكرمهم الله به من الخلافة و الملك فخرج المهدي محمد بن عبد الله المدعو بالنفس الزكية في بنى أبي طالب على أبي جعفر المنصور و كان من أمرهم ما هو مذكور و استلحمتهم جيوش بنى العباس في وقائع عديدة و فر إدريس بن عبد الله أخو المهدي من بعض وقائعهم إلى المغرب الأقصى فأجاره البرابرة من أوربة و مقيلة و صدينة و قاموا بدعوته و دعوة بنيه من بعده و نالوا به الملك و غلبوا على المغرب الأقصى و الأوسط و بثوا دعوة إدريس و بنيه من أهله بعده في أهله من زناتة مثل بني يفرن و مغراوة و قطعوه من ممالك بنى العباس و استمرت دولتهم إلى حين انقراضها على يد العبيديين
و لم يزل الطالبيون أثناء ذلك بالمشرق ينزعون إلى الخلافة و يبثون دعاتهم بالقاصية إلى أن دعا أبو عبد الله المحتسب بأفريقية إلى المهدي ولد إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق فقام برابرة كتامة و من إليهم من صنهاجة و ملكوا أفريقية من يد الأغالبة و رجع العرب إلى مركز ملكهم بالمشرق و لم يبق لهم في نواحي المغرب دولة و وضع العرب ما كان على كاهلهم من أمر المغرب و وطأة فضر بعد أن رسخت الملة فيهم و خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم و استيقنوا بوعد الصادق أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده فلم تنسلخ الملة بانسلاخ الدولة و لا تقوضت مباني الدين بتقويض معالم الملك و عدا من الله لن يخلفه في تمام أمره و إظهار دينه على الدين كله فتناغى حينئذ البربر في طلب الملك و القيام بدعوة الأعياص من بنى عبد مناف يسدون منها حسدا في ارتقاء إلى أن ظفروا من ذلك بحظ مثل كتامة بأفريقية و مكناسة بالمغرب و نافسهم في ذلك زناتة و كانوا من أكثرهم جمعا و أشدهم قوة فشمروا له حتى ضربوا معهم بسهم فكان لبنى يفرن بالمغرب و أفريقية على يد صاحب الحمار ثم على يد يعلى بن محمد و بنيه ملك ضخم ثم كان لمغراوة على يد بنى خزر دولة أخرى تنازعوها مع بني يفرن و صنهاجة ثم انقرضت تلك الأجيال و تجرد الملك بالمغرب بعدهم في جيل آخر منهم فكان لبنى مرين بالمغرب الأقصى ملك و لبي عبد الواد بالمغرب الأوسط ملك آخر تقاسم فيه بنو توجين و الفل من مغراوة حسبما نذكر و نستوفي شرحه و نجلب أيامهم و بطونهم على الطريقة التي سلكناها في أخبار البربر و الله المعين سبحانه لا رب سواه و لا معبود إلا إياه (7/13)
الطبقة الأولى من زناتة و نبدأ منها بالخبر عن بني يفرن و أنسابهم و شعوبهم و ما كان لهم من الدول بأفريقية و المغرب
و بنو يفرن هؤلاء من شعوب زناتة و أوسع بطونهم و هم عند نسابة زناتة بنو يفرن بن يصلتين بن مسرا بن زاكيا بن ورسيك بن الديرت بني جانا أخوته مغراوة و بنو يرنيان و بنو واسين و الكل بنو يصلتين و يفرن في لغة البربر هو القار و بعض نسابتهم يقولون : إن يفرن هو ابن ورتنيذ بن جانا و أخوته مغراوة و غمرت و وجديحن و بعضهم يقول يفرن بن مرة بن ورسيك بن جانا و بعضهم يقول هو ابن جانا لصلبه و الصحيح ما نقلناه عن أبي محمد بن حزم
و أما شعوبهم فكثير و من أشهرهم بنو واركوا و مر نجيصة و كان بنو يفرن هؤلاء لعهد الفتح أكبر قبائل زناتة و أشدها شوكة و كان منهم بأفريقية و جبل أوراس و المغرب الأوسط بطون و شعوب فلما كان الفتح غشى أفريقية و من بها من البربر جنود الله المسلمون من العرب فتطامنوا لبأسهم حتى ضرب الدين بجرانه و حسن إسلامهم و لما فشا دين الخارجية في العرب و غلبهم الخلفاء بالمشرق و استلحموهم نزعوا إلى القاصية و صاروا يبثون بها دينهم في البربر فتلقته رؤساؤهم على اختلاف مذاهبه باختلاف رؤوس الخارجية في أحكامهم من أباضية و صفرية و غيرهما كما ذكرناه في بابه ففشا في البربر و ضرب فيه يفرن هؤلاء بسهم و انتحلوه و قاتلوا عليه و كان أول من جمع لذلك منهم أبو قرة من أهل المغرب الأوسط ثم من بعده أبو يزيد صاحب الحمار و قومه بنو واركوا و مر نجيصة ثم كان لهم بالمغرب الأقصى من بعد الانسلاخ من الخارجية دولتان على يد يعلى بن محمد صالح و بنيه حسبما نذكر ذلك مفسرا إن شاء الله تعالى (7/15)
الخبر عن أبي قرة و ما كان لقومه من الملك بتلمسان و مبدأ ذلك و مصائره
كان من بني يزن بالمغرب الأوسط بطون كثيرة بنواحي تلمسان إلى جبل بنى راشد المعروف بهم لهذا العهد و هم الذين اختطوا تلمسان كما نذكره في أخبارها و كان رئيسهم لعهد انتقال الخلافة من بني أمية إلى بنى العباس أبو قرة و لا نعرف من نسبه أكثر من أنه منهم و لما انتقض البرابرة بالمغرب الأقصى و قام ميسرة و قومه بدعوة الخارجية و قتله البرابرة قدموا على أنفسهم مكانه خالد بن حميد من زناتة فكان من حروبه مع كلثوم بن عياض و قتله إياه ما هو معروف و رأس على زناتة من بعده أبو قرة هذا
و لما استأثلت دولة بني أمية كثرت الخارجية في البربر و ملك ورفجومة القيروان و هوارة و زناتة طرابلس و مكناسة سجلماسة و ابن رستم تاهرت و قدم ابن الأشعث أفريقية من قبل أبي جعفر المنصور و خافه البربر فحسم العلل و سكن الحروب ثم انتقض بنو يفرن بنواحي تلمسان و دعوا إلى الخارجية و بايعوا أبا قرة كبيرهم بالخلافة سنة ثمان و أربعين و مائة و سرح إليهم ابن الأشعث الأغلب بن سوادة التميمي فانتهى إلى الزاب و فر أبو قرة إلى المغرب الأقصى ثم راجع موطنه بعد رجوع الأغلب
و لما انتقض البرابرة على غمر بن حفص بن أبي صفرة الملقب هزار مرد عام خمسين و مائة و حاصروه بطبنة كان فيمن حاصره أبو قرة اليفرني في أربعين ألفا صفرية من قومه و غيرهم حتى اشتد عليه الحصار و داخل أبا قرة في الإفراج عنه على يد ابنه على أن يعطيه أربعين ألفا و لابنه أربعة آلاف فارتحل بقومه و انفض البرابرة عن طبنة ثم حاصروه بعد ذلك بالقيروان و اجتمعوا عليه و أبو قرة معهم بثلاثة و خمسين ألفا الخيالة منها خمسة و ثمانون ألفا و هلك عمر بن حفص في ذلك الحصار
و قدم زيد بن حاتم واليا على أفريقية ففض جموعهم و فرق كلمتهم و لحق أبو قرة و بنو يفرن أصحابه بمواطنهم من تلمسان بعد أن قتل صاحبه أبو حاتم الكندي رأس الخوارج و استلحم بني يفرن و توغل يزيد بن حاتم في المغرب و نواحيه و أثخن في أهله إلى أن استكانوا و استقاموا و لم يكن لبني يفرن من بعدها انتقاض حتى كان شأن أبي يزيد بأفريقية في بني واركوا و مر نجيصة منهم حسبما نذكره إن شاه الله تعالى الكريم و بعض المؤرخين ينسب أبا قرة هذا إلى مغيلة و لم أظفر بصحيح في ذلك و الطرائق متساوية في الجانبين فإن نواحي تلمسان إن كانت موطنا لبنى يفرن فهي أيضا موطن لمغيلة و القبيلتان متجاورتان لكن بنو يفرن كانوا أشد قوة و أكثر جمعا و مغيلة أيضا كانوا أشهر بالخارجية من بي يفرن لأنهم كانوا صفرية و كثير من الناس يقولون : إن بني يفرن كانوا على مذهب أهل السنة كما ذكره ابن حزم و غيره و الله أعلم (7/17)
الخبر عن أبي يزيد الخارجي صاحب الحمار من بني يفرن و مبدأ أمره مع الشيعة و مصائره
هذا الرجل من بني واركوا أخوة مر نجيصة و كلم من بطون بني يفرن و كنيته أبو يزيد و اسمه مخلد بن كيداد لا يعلم من نسبه فيهم غير هذا و قال أبو محمد بن حزم : ذكر لي أبو يوسف الوزاق عن أيوب بن أبي يزيد أن اسمه مخلد بن كيداد بن سعد الله بن مغيث بن كرمان بن مخلد بن عثمان بن ورنمت بن حونيفر بن سميران بن يفرن بن جانا و هو زناتة قال : و قد أخبر في بعض البربر بأسماء زائدة بين يفرن و جانا 1هـ كلام ابن حزم و نسبه ابن الرقيق أيضا في بني واسين بن ورسيك بن جانا و قد تقدم نسبهم أول الفصل و كان كيداد أبوه يختلف إلى بلاد السودان في التجارة فولد له أبو يزيد بكركوا من بلادهم و أمه أم ولد اسمها سيكة و رجع به إلى قيطون زناتة ببلاد قصطيلة و نزل توزر مترددا بينها و بين تقيوس و تعلم القرآن و تأدب و خالط النكارية فمال إلى مذاهبهم و أخذها عنهم و رأس فيها و رحل إلى مشيختهم بتهيرت و أخذ عن أبي عبيدة منهم أيام اعتقال عبيد الله المهدي بسجلماسة
و مات أبوه كيداد و تركه على حال الخصاصة و الفقر فكان أهل القيطون يصلونه بفضل أموالهم و كان يعلم صبيانهم القرآن و مذاهب النكارية و اشتهر عنه تكفير أهل الملة و سب علي فخاف و انتقل إلى تقيوس و كان يختلف بينها و بين توزر و أخذ نفسه بالتغيير على الولاة و نمي عنه اعتقاد الخروج عن السلطان فنذر الولاة بقصطيلة دمه فخرج إلى الحج سنة عشرون ثلثمائة و أرهقه الطلب فرجع من نواحي طرابلس إلى تقيوس و لما هلك عبد الله أوعز القائم إلى أهل قصطيلة في القبض عليه فلحق بالمشرق و قضى الفرض و انصرف إلى موطنه و دخل توزر سنة خمس و عشرين و ثلثمائة مستترا و سعى به ابن فرقان عند والي البلد فتقتض عليه و اعتقله و أقبل سرعان زناتة إلى البلد و معهم أبو عمار الأعمى رأس النكارية و اسمه كما سبق عبد الحميد و كان ممن أخذ عنه أبو يزيد فتعرضوا للوالي في إطلاقه فتعلل عليهم بطلبه في الخراج فاجتمعوا إلى فضل و يزيد ابني أبي يزيد و عمدوا إلى السجن فقتلوا الحرس و أخرجوه فلحق ببلد بني واركلا و أقام بها سنة يختلف إلى جبل أوراس و إلى بني برزال في مواطنهم بالجبال قبلة المسيلة و إلى بني زنداك من مغراوة إلى أن أجابوه فوصل إلى أوراس و معه أبو عمار الأعمى في اثني عشر من الراحلة و نزلوا على النكارية بالنوالات و اجتمع إليه القرابة و سائر الخوارج و أخذ له البيعة عليهم أبو عمار صاحبه على قتال الشيعة و على استباحة الغنائم و السبي و على أنهم إن ظفروا بالمهدية و القيروان صار الأمر شورى و ذلك سنة إحدى و ثلاثين و ثلثمائة
و ترصدوا غيبة صاحب باغاية في بعض وجوهه فضربوا على بسيطها و استباح بعض القصور بها سنة اثنتين و ثلاثين و ثلثمائة و غمس بذلك أيدي البربر في الفتنة ثم زحف بهم إلى باغاية و استولت عليه و على أصحابه الهزيمة فلحقوا بالجبل و زحف إليهم صاحب باغية فانهزم و رجع إلى بلده فحاصره أبو يزيد و أوعز أبو القاسم القائم إلى كتامة في إمداد كنون صاحب باغاية فتلاحقت به العساكر فبيتهم أبو يزيد و أصحابه ففلوهم و امتنعت عليه باغاية و كاتب أبو يزيد البربر الذين حول قصطيلة من بني واسين و غيرهم فحاصروا توزر سنة ثلاث و ستين و ثلثمائة و رحل إلى تبسة فدخلها صلحا ثم إلى بجاية كذلك ثم إلى مرماجنة كذلك و أهدوا له حمارا أشهب فلزم ركوبه حتى اشتهر به و بلغ خبره عساكر كتامة بالأربص فانفضوا و ملك الأربص و قتل إمام الصلاة بها و بعث عسكرا إلى تبسة فملكوها و قتلوا عاملها و بلغ الخبر القائم و هو بالمهدية فهاله و سرح العساكر لضبط المدن و الثغور و سرح مولاه بشرى الصقلي إلى باجة و عقد لميسور على الجيوش فعسكر بناحية المهدية و سرح خليل بن إسحاق إلى القيروان فعسكر بها و زحف أبو يزيد إلى بشرى بباجة و اشتدت الحرب بينهم و ركب أبو يزيد حماره و أمسك عصاه فاستمالت النكاربة و خالفوا بشرى إلى معسكره فانهزم إلى تونس و اقتحم أبو يزيد باجة و استباحها و دخل بشرى إلى تونس و ارتدت البرابر من كل ناحية فأسلم تونس و لحق بسوسة و استأمن أهل تونس إلى أبي بزيد فأمنهم و ولى عليهم و انتهى إلى وادي مجدرة فعسكر بها و وافته الحشود هنالك و رعب الناس منه فأجفلوا إلى القيروان و كثرت الأراجيف و سرب أبو يزيد جيوشه في نواحي أفريقية فشنوا الغارات و أكثروا السبي و القتل و الأسر ثم زحف إلى رقادة فانفض كتامة الذين كانوا بها و لحقوا بالمهدية و نزل أب ويزيد رقادة في مائة ألف
ثم زحف إلى القيروان فانحصر بها خليل بن إسحاق ثم أخذه بعد مراوضة في الصلح و هم بقتله فأشار عليه أبو عمار باستبقائه فلم يطعه و قتله و دخلوا القيروان فاستباحوها و لقيه مشيخة الفقهاء فأمنهم بعد التقريع و العتب و على أن يقتلوا أولياء الشيعة و بعث رسله في وفد من أهل القيروان إلى الناصر الأموي صاحب قرطبة ملتزما لطاعته و القيام لدعوته و طالبا لمدده فرجعوا إليه بالقبول و الوعد و لم يزل يردد ذلك سائر أيام الفتنة حتى أوفد ابنه أيوب في آخرها سنة خمس و ثلاثين و ثلثمائة فكان له اتصال بالناصر سائر أيامه و زحف ميسور من المهدية بالعساكر و فر عنه بنو كملان من هوارة و لحقوا بأبي يزيد و حرضوه على لقاء ميسور فزحف إليه و استوى اللقاء و استمات أبو يزيد و النكاربة فانهزم ميسور و قتله أبو كملان و بعث برأسه إلى القيروان ثم إلى المغرب و استبيح معسكره
و سرح أبو يزيد عساكره إلى مدينة سوسة فاقتحموها عنوة و أكثروا من القتل و المثلة و عظم القتل بضواحي أفريقية و خلت القرى و المنازل و من أفلته السيف أهلكه الجوع و استخف أبو يزيد بالناس بعد قتل ميسور فلبس الحرير و ركب الفاره و نكر عليه أصحابه ذلك و كاتبه به رؤساؤهم من البلاد و القائم خلال ذلك بالمهدية يخندق على نفسه و يستنفر كتامة و صنهاجة للحصار معه و زحف أبو زيد حتى نزل المهدية و ناوش عساكرها الحرب فلم يزل الظهور عليهم و ملك زويله و لما وقف بالمصلى قال القائم لأصحابه من ههنا يرجع و اتصل حصاره للمهدية و اجتمع إليه البربر من قابس و طرابلس و نفوسة
و زحف إليهم ثلاث مرات فانهزم في الثالثة و لم يقلع و كذلك في الرابعة و اشتد الحصار على المهدية و نزل الجوع بهم و اجتمعت كتامة بقسنطينة و عسكروا بها لامداد القائم فسرح إليهم أبو يزيد يكموس المزاتي من ورفجومة فانفض معسكر كتامة من قسنطينة و يئس القائم من مددهم و تفرقت عساكر أبي زيد في الغارات و النهب فخف المعسكر و لم يبق به إلا هوارة و رأس بنى كملان و كثرت مراسلات القائم للبربر
و استراب بهم أبو يزيد و هرب بعضهم إلى المهدية و رحل آخرون إلى مواطنهم فأشار عليه أصحابه بالإفرنج عن المهدية فأسلموا معسكرهم و لحقوا بالقيروان سنة أربع و ثلاثين و ثلثمائة و دبر أهل القيروان في القبض عليه فلم يتهيأ لهم و عذله أبو عمار فيما أتاه من الاستكثار من الدنيا فتاب و أقلع و عاود لبس الصوف و التقشف و شاع خبر إجفاله عن المهدية فقتل النكارية في كل بلد و بعث عساكره فعاثوا في النواحي و أوقعوا بأهل الأمصار و خربوا كثيرا منها و بعث ابنه أيوب إلى باجة فعسكر بها ينتظر وصول المدد من البربر و سائر النواحي فلم يفجأه إلا وصول علي بن حمدون الأندلسي صاحب المسيلة في حشد كتامة و زواودة و قد مر بقسنطينة و الأربص و شقنبارية و استصحب منها العساكر فبيته أيوب و انفض معسكره و تردى به فرسه في بعض الأوعار فهلك
ثم زحف أيوب في عسكره إلى تونس و قائدها حسن بن علي من دعاة الشيعة فانهزم ثم أتيحت له الكرة و لحق حسن بن علي بلد كتامة فعسكر بهم على قسنطينة و سرح أبو يزيد جموع البربر لحربه ثم اجتمعت لأبي يزيد حشود البربر من كل ناحية و ثابت إليه قوته و ارتحل إلى سوسة فحاصرها و نصب علها المجانيق و هلك الغائم سنة أربع و ثلاثين و ثلثمائة في شوال و صارت الخلافة لابنه إسماعيل المنصور فبعث بالمدد إلى سوسة بعد أن اعتزم على الخروج إليها بنفسه فمنعه أصحابه و وصل المدد إلى سوسة فقاتلوا أبا يزيد فانهزم و لحق بالقيروان فامتنعت عليه فاستخلص صاحبه أبا عمار من أيديهم و ارتحل عنهم
و خرج المنصور من المهدية إلى سوسة ثم إلى القيروان فملكها و عفا عن أهلها و أمنهم و أحسن في مخلف أبي يزيد و عياله و توافى المدد إلى أبي يزيد ثالثة فاعتزم كل حصار القيروان و زحف إلى عسكر المنصور بساحتها فبيتهم و اشتد الحرب و استمات الأولياء و افترقوا آخر نهارهم و عاودوا الزحف مرات و وصل المدد إلى المنصور من الجهات حتى إذا كان منتصف المحرم كان الفتح و انهزم أبو يزيد و عظم القتل في البربر و رحل المنصور في أتباعه فمر ثم تبسة في انتهى إلى باغاية و وافاه بها كتاب محمد بن خزر بالطاعة و الولاية و الاستعداد للمظاهر فكتب إليه بترصد أبي يزيد و القبض عليه و وعده في ذلك بعشرين حملا من المال ثم رحل إلى طبنة فوافاه بها جعفر بن علي عامل المسيلة بالهدايا و الأموال و بلغه أن أبا يزيد نزل بسكرة و أنه كاتب محمد بن خزر يسأله النصرة فلم يجد عنده ما يرضيه فارتحل المنصور إلى بسكرة فتلقاه أهلها و فر أبو يزيد إلى بنى برزال بجبل سالات ثم إلى جبل كتامة و هو جبل عياض لهذا العهد و ارتحل المنصور في أثره إلى ومرة و بيته أبو يزيد هنالك فانهزم و لم يظفر و انحاز إلى جبل سالات ثم لحق بالرمال و رجع عنه بنو كملان و أمنهم المنصور على يد محمد بن خزر
و سار المنصور في التعبية حتى نزل جبل سالات و ارتحل وراءه إلى الرمال ثم رجع و دخل بلاد صنهاجة و بلغه رجوع أبي يزيد إلى جبل كتامة فرجع إليه و نزل عليه المنصور في كتامة و عجيسة و زواوة و حشد بنى زنداك و مزاته و مكناسة و مكلاته و تقدم المنصور إليه فقاتلوا أبا يزيد و جموع النكارية فهزموهم و اعتصموا بجبل كتامة و رحل المنصور إلى المسيلة و انحصر أبو يزيد في قلعة الجبل و عسكر المنصور إزاءها و اشتد الحصار و زحف إليها مرات ثم اقتحمها عليهم فاعتصم أبو يزيد بقصر في ذروة القلعة فأحيط به و اقتحم و قتل أبو عمار الأعمى و يكموس المزاتي و نجا أبو يزيد مثخنا بالجراحة محمولا بين ثلاثة من أصحابه فسقط في مهواة من الأوعار فوهن و سيق من الغداة إلى المنصور فأمر بمداواته ثم أحضره و وبخه و أقام الحجة عليه و تجافى عن دمه و بعثه إلى المهدية و فرض له بها الجراية فجزاه خيرا و حمل في القفص فمات من جراحته سنة خمس و ثلاثين و ثلثمائة و أمر به فسلخ و حشي جلده بالتبن و طيف به في القيروان و هرب الفل من أصحابه إلى ابنه فضل و كان مع معبد بن خزر فأغاروا على ساقة المنصور و كمن لهم زيري بن مناد أمير صنهاجة فأوقع بهم و لم يزل المنصور في اتباعه إلى أن نزل المسيلة و انقطع أثر معبد و وافاه بمعسكره هنالك انتقاض حميد بن يصل عامل تيهرت من أوليائهم و أنه ركب البحر من تنس إلى العدوة فارتحل إلى تيهرت و ولى عليها و على تنس ثم قصد لواتة فهربوا إلى الرمال و رجع إلى أفريقية سنة خمس و ثلاثين و ثلثمائة ثم بلغه أن فضل بن أبي يزيد أغار على جهات قصطيلة فرحل من سنته في طلبه و انتهى إلى قفصة ثم ارتحل إلى من أعمال الزاب و فتح حصن ماداس مما يليه و هرب فضل في الرمال فأعجزه و رجع إلى القيروان سنة ست و ثلاثين و مضى فضل إلى جبل أوراس ثم سار منه إلى باغاية فحاصرها و غدر به ماطيط بن يعلى من أصحابه و جاء برأسه إلى المنصور و انقرض أمر أبي يزيد و بنيه و افترقت جموعهم و اغتال عبد الله ابن بكار من رؤساء مغراوة بعد ذلك أيوب بن أبي يزيد و جاء برأسه إلى المنصور متقربا إليه و تتبع المنصور قبائل بنى يفرن بعدها إلى أن انقطع أثر الدعوة و البقاء لله تع إلى وحده (7/18)
الخبر عن الدولة الأولى لبني يفرن بالمغرب الأوسط و الأقصى و مبادىء أمورهم و مصايرها
كان لبني يفرن من زناتة بطون كثيرة و كانوا متفرقين بالمواطن فكان منهم بأفريقية بنو واركوا و مر نجيصة و غيرهم كما قدمناه و كان منهم بنواحي تلمسان ما بينها و بين تاهرت أمم كثير عددهم و هم الذين اختطوا مدينة تلمسان كما نذكره بعد و منهم أبو قرة المنتزي بتلك الناحية لأول الدولة العباسية و هو الذي حاصر عمر بن حفص بطبنة كما تقدم و لما انقرض أمر أبي يزيد و أثخن المنصور فيمن كان بأفريقية من بنى يفرن أقام هؤلاء الذين كانوا بنواحي تلمسان على وفودهم و كان رئيسهم لعهد أبي يزيد محمد بن صالح و لما تولى المنصور محمد بن خزر و قومه مغراوة و كان بينه و بين بني يفرن هؤلاء فتنة هلك فيها محمد بن صالح على يد عبد الله بن بكار من بني يفرن كان متحيزا إلى مغراوة و ولي أمره في بني بفرن من بعده ابنه يعلى فعظم صيته و اختط مدينة إفكان
و لما خطب عبد الرحمن الناصر طاعة الأموية من زناتة أهل العدوة و استألف ملوكهم سارع يعلى لإجابته و اجتمع عليها مع الخير بن محمد بن خزر و قومه مغراوة و أجلب على وهران فملكها سنة ثلاث و أربعين و ثلثمائة من يد محمد بن عون و كان ولاه عليها صولات اللميطي أحد رجالات كتامة سنة ثمان و تسعين و مائتين فدخلها يعلى عنوة على بنيه و خربها و كان يعلى قد زحف مع الخير بن محمد إلى تاهرت و برز الله ميسور الخصي في شيعته من لماية فهزموهم و ملكوا تاهرت و تقبض على ميسور و عبد الله بن بكار فبعث به الخير إلى يعلى بن محمد ليثأر به فلم يرضه كفؤا لدمه و دفعه إلى من ثأر به من بنى يفرن و استفحل سلطان يعلى في ناحية المغرب و خطب على منابرها لعبد الرحمن الناصر ما بين تاهرت إلى طنجة
و استدعى من الناصر تولية رجال بينه على أمصار المغرب فعقد على فاس لمحمد بن الخير بن محمد بن عشيرة ونسك محمد لسنة من ولايته و استأذن في الجهاد و الرباط بالأندلس فأجاز لذلك و استخلف على عمله ابن عمه أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن عثمان بن سعيد و هو الذي اختط مأذنة القرويين سنة أربع و أربعين و ثلثمائة كما ذكرناه و لم يزل سلطان يعلى بن محمد بالمغرب عظيما إلى أن أغزى بعد المعز لدين الله كاتبه جوهر الصقلي من القيروان إلى المغرب سنة سبع و أربعين و ثلثمائة فلما فصل جوهر بالجنود بادر أمير زناتة بالمغرب يعلى بن محمد اليفرني إلى لقائه و الإذعان لطاعته و الانحياش إليه و نبذ عهد الأموية و أعمل إلى لقيه الرحلة من بلده إيفكان و أعطاه يد الانقياد و عهد البيعة عن قومه بنى يفرن و زناتة فتقبلها جوهر و أضمر الفتك به و تخير لذلك يوم فصوله من بلده و أسر إلى بعض مستخلصيه من الاتباع فأوقعوا نفرة في أعقاب العسكر طار إليها الزعماء من كتامة و صنهاجة و زناتة و تقبض على يعلى فهلك في وطيس تلك الهيعة فغض بالرماح على أيدي رجالات كتامة و صنهاجة و ذهب دمه هدرا في القبائل و خرب جوهر مدينة إيفكان و فرت زناتة أمامه و كشف القناع في مطالبتهم
و قد ذكر بعض المؤرخين أن يعلى إنما لقي جوهرا عند منصرفه من الغزاة بمدينة تاهرت و هنالك كان فتكه به بناحية شلف فتفرقت بعدها جماعة بنى يفرن و ذهب ملكهم فلم يجتمعوا إلا بعد حين على ابنه بدوي بالمغرب كما نذكر و لحق الكثير منهم بالأندلس كما يأتي خبرهم في موضعه و انقرضت دولة بنى يفرن هؤلاء إلى أن عادت بعد مدة على يد يعلى بفاس ثم استقرت آخرا بسلا و تعاقب فيهم هنالك إلى آخرها كما نذكره إن شاء الله تع إلى (7/24)
الخبر عن الدولة الثانية لبي يفرن بسلا من المغرب الأقصى و أولية ذلك و تصاريفه
لما أوقع جوهر الكاتب قائد المعز بيعلى بن محمد أمير بنى يفرن و ملك المغرب سنة سبع و أربعين و ثلثمائة كما ذكرنا و تفرقت جموع بنى يفرن لحق ابنه بدوي بن يعلى بالمغرب الأقصى و أحس بجوهر من ورائه فأبعد المفر و أصحر إلى أن رجع جوهر من المغرب و يقال إن جوهرا تقبض عليه و احتمله أسيرا فاعتقل إلى أن في من معتقله بعد حين و اجتمع عليه قومه من بني يفرن و كان جوهر عند منصرفه من المغرب ولى على الأدارسة المتحيزين إلى الريف و بلاد غمارة الحسن بن كنون شيخ بني محمد منهم فنزل و أجاز الحكم المستنصر لأول ولايته سنة خمس و ثلثمائة وزيره محمد بن قاسم بن طملس في العساكر لتدويخ المغرب و اقتلاع جرثومة الأدارسة فأجاز في العساكر و غلبهم على بلادهم و أزعجهم جميعا عن المغرب إلى الأندلس سنة خمس و ستين و ثلثمائة كما ذكرناه و مهد دعوة الأموية بالمغرب و أقفل الحكم مولاه غالبا و رده إلى الثغر لسده و عقد على المغرب ليحيى بن محمد بن هاشم التجيبي صاحب الثغر الأعلى و كان أجازه مددا لغالب في رجال العرب و جند الثغور حتى إذا انغمس الحكم في علة الفالج و ركدت ريح المروانية بالمغرب و احتاجت الدولة إلى رجالها لسد الثغور و دفاع العدو استدعى يحيى بن محمد بن هاشم من العدوة و اداله الحاجب المصحغي بجعفر بن علي بن حمدون أمير الزاب و المسيلة النازع إليهم من دعوة الشيعة و جمعوا بين الانتفاع به في العدوة و الراحة مما يتوقع منه على الدولة و من البرابرة في التياث الخلافة لما كانوا أصاروا إليه من النكبة و طوقوه من المحنة و لما كان اجتمع بقرطبة من جموع البرابرة فعقدوا له و لأخيه يحيى على المغرب و خلعوا عليهما و أمكنوهما من مال دثروكسي فاخرة للخلع على ملوك العدوة فنهض جعفر إلى المغرب سنة خمس و ستين و ثلثمائة و ضبطه
و اجتمع إليه ملوك زناتة مثل بدوي بن يعلى أمير بني يفرن و ابن عمه نوبخت بن عبد الله بن بكار و محمد بن الخير بن خزر و ابن عمه بكساس بن سيد الناس و زيري بن خزر و زيري و مقاتل ابنا عطية بن تبادها و خزرون بن محمد و فلفول بن سعيد أمير مغراوة و إسماعيل بن البوري أمير مكناسة و محمد ابن عمه عبد الله بن مدين و خزرون بن محمد الازداجي و كان بدوي بن يعلى من أشدهم قوة و أحسنهم طاعة و لما هلك الحكم و ولي مكانه هشام المؤيد و انفرد محمد بن أبى عامر بحجابته اقتصر من العدوة لأول قيامه على مدينة سبتة فضبطها بجند السلطان و رجال الدولة و قلدها الصنائع من أرباب السيوف و الأقلام و عول في ضبط ما وراء ذلك على ملوك زناتة و تعهدهم بالجوائز و الخلع و صار إلى إكرام وفودهم و إثبات من رغب في الإثبات في ديوان السلطان منهم فجددوا في ولاية الدولة و بث الدعوة
و فسد ما بين أمير العدوة جعفر بن على و أخيه يحيى و اقتطع يحيى مدينة البصرة لنفسه و ذهب بأكثر الرجال ثم كانت على جعفر النكبة التي نكبه برغواطة في غزاتة إياهم و استدعاه محمد بن أبي عامر لأول أمره لما رآه من استقامته إليه و شد أزره و تلوى عليه كراهية لما يلقى بالأندلس من الحكم ثم أصلحه و تخلى لأخيه عن عمل المغرب و أجاز البحر إلى ابن أبي عامر فحل منه بالمكان الأثير و تنازعت زناتة في التزلف إلى الدولة بقرب الطاعات فزحف خزرون بن فلفول سنة ست و ستين و ثلثمائة إلى مدينة سجلماسة فاقتحمها و محى دولة آل مدرار منها و عقد له المنصور عليها كما ذكرنا ذلك قبل
و زحف عقب هذا الفتح بلكين بن زيري قائد أفريقية للشيعة إلى المغرب سنة تسع و ستين و ثلثمائة زحفه المشهور و خرج محمد بن أبي عامر من قرطبة إلى الجزيرة لمدافعته بنفسه و احتمل من بيت المال مائة حمل و من العساكر ما لا يحص عده و أجاز جعفر بن علي بن حمدون إلى سبتة و انضمت إليه ملوك زناتة و رجع بلكين عنهم إلى غزو برغواطة إلى أن هلك سنة ثلاث و سبعين و ثلثمائة كما ذكرناه
و رجع جعفر إلى مكانه من ابن أبي عامر لم يسمح بمقامه عنه و وصل حسن بن كنون خلال ذلك من القاهرة بكتاب العزيز نزار بن معد إلى بلكين صاحب أفريقية في إعانته إلى ملك المغرب و إمداده بالمال و العساكر فأمضاه بلكين لسبيله و أعطاه مالا و وعده بإضعافه و نهض إلى المغرب فوجد طاعة المروانية قد استحكت فيه و هلك بلكين أثر ذلك و شغل ابنه المنصور عن شأنه فدعا لحسن بن كنون إلى نفسه و أنفذ أبو محمد بن أبي عامر ابن عمه محمد بن عبد الله و يلقب عسكلاجة لحربه سنة خمس و سبعين و ثلثمائة و جاء أثره إلى الجزيرة كيما يشارف القصة و أحيط بالحسن بن كنون فسأل الأمان و عقد له مقارعه عمر و عسكلاجة و أشخصه إلى الحضرة فلم يمض ابن أبي عامر أمامه و رأى أن لا ذمة له لكثرة نكثة فبعث من ثقاته من أتاه برأسه و انقرض أمر الأدارسة و انمحى أثرهم فأغضب عمر و عسكلاجة لذلك
و استراح إلى الجند بأقوال نميت عنه إلى المنصور فاستدعاه من العدوة و ألحقه بمقتوله ابن كنون
و عقد على العدوة للوزير حسن بن أحمد بن عبد الودود السلمي و اكثف عدده و أطلق في المال يده و نفذ إلى عمله سنة ست و سبعين و ثلثمائة فضبط المغرب أحسن ضبط و هابته البرابرة و نزل فاس من العدوة فعز سلطانه و كثر جمعه و انضم إليه ملوك النواحي حتى حذر ابن أبي عامر مغبة استقلاله و استدعاه ليبلو صحة طاعته فأسرع اللحاق به فضاعف تكرمته و أعاده إلى عمله و كان بدوي بن يعلى هذا من بين ملوك زناتة كثير الاضطراب على الأموية و المراوغة لهم بالطاعة و كان لمنصور بن أبي عامر يضرب بينه و بين قرينه زيري بن عطية و يقرن كلا منهما بمناغاة صاحبه في الاستقامة و كان إلى زيري أميل و بطاعته أوثق لخلوصه و صدق طويته و انحياشه فكان يرجو أن يتمكن من قياد بدوي بن يعلى بمناغاته فاستدعى بزيري بن عطية إلى الحضرة سنة سبع و سبعين و ثلثمائة فبادر إلى القدوم عليه و تلقاه و أكبر موصله و أحسن مقامه و منقلبه و أعظم جائزته و سام بدوي مثلها فامتنع و قال لرسوله : قل لابن أبي عامر متى عهد حمر الوحش تنقاد للبيطارة و أرسل عنانه في العيث و الفساد و نهض إليه صاحب المغرب الوزير حسن بن عبد الودود في عساكره و جموعه من جند الأندلس و ملوك العدوة مظاهرا عليه لعدوة زيري بن عطية و جمع لهم بدوي و لقيهم سنة إحدى و ثمانين و ثلثمائة فكان الظهور له
و انهزم عسكر السلطان و جموع مغراوة و استلحموا و جرح الوزير حسن بن عبد الودود جراحات كان فيها لليال مهلكه و طار الخبر إلى ابن أبي عامر فاغتنم لذلك و كتب إلى زيري بضبط فاس و مكاتبة أصحاب حسن و عقد له على المغرب كما نستوفي ذكره عند ذكر دولتهم و غالبه بدوي عليها مرة بعد أخرى و نزع أبو البهار بن زيري بن مناد الصنهاجي عن قومه و لحق بسواحل تلمسان ناقضا لطاعة الشيعة و خارجا على أخيه المنصور بن بلكين صاحب القيروان و خاطب ابن أبي عامر من وراء البحر و أوفد عليه ابن أخيه و وجوه قومه فسرب إليه الأموال و الصلاة بفاس مع زيري حسبما نذكره و جمع أيديهما على مدافعة بدوي فساء أمره فيهما جميعا إلى أن راجع أبو البهار ولاية منصور ابن أخيه كما نذكر بعد و حاربه زيري فكان له الظهور عليه و لحق أبو البهار بسبتة ثم عاد إلى قومه
و استفحل زيري من بعد ذلك و كانت بينه و بين بدوي وقعة اكتسح زيري من ماله و معسكر مالا كفؤ له و سبى حرمه و استلحم من قومه زهاء ثلاثة آلاف فارس و خرج إلى الصحراء شريدا سنة ثلاث و ثمانين و ثلثمائة و هلك هناك فولي أمره في قومه حبوس ابن أخيه زيري بن يعلى و وثب به ابن عمه أبو يداس بن دوتاس فقتله طمعا في الرياسة من بعده و اختلف عليه قومه فأخفق أمله و عبر البحر إلى الأندلس في جمع عظيم من قومه و ولي أمر بنى يفرن من بعده حمامة بن زوي بن يعلى أخو حبوس المذكور فاستقام عليه أمر بنى يفرن و قد مر ذكره في خبر بدوي غير مرة و أنه كانت الحرب بينه و بين زيري بن عطية سجالا و كانا يتعاقبان ملك فاس بتناول الغلب و أنه لما وفد زيري على المنصور خالفه بدوي إلى فاس فملكها و قتل بها خلقا من مغراوة و أنه لما رجع زيري اعتصم بدوي بفاس فنازله زيري و هلك من مغراوة بني يفرن في ذلك الحصار خلق ثم اقتحمها زيري عليهم عنوة فقتله و بعث برأسه إلى سدة الخلافة بقرطبة سنة ثلاث و ثمانين و ثلثمائة و الله أعلم
و لما اجتمع بنو يفرن على حمامة تحيز بهم إلى ناحية شالة من المغرب فملكها و ما إليها من تادلا و اقتطعها من زيري و لم يزل عميد بنى يفرن في تلك العمالة و الحرب بينه و بين زيري و مغراوة متصلة و كانت يبنه و بين المنصور صاحب القيروان مهاداة فأهدى إليه و هو محاصر لعمه حهاد بالقلعة سنة ست و أربعمائة و أوفد بهديته أخاه زاوي بن زيري فلقيه بالطبول و البنود و لما هلك حمامة قام بأمر بنى يفرن من بعده أخوه الأمير أبو الكمال تميم بن زيري بن يعلى فاستبد بملكهم و كان مستقيما في دينه مولعا بالجهاد فانصرف إلى جهاد برغواطة و سالم مغراوة و أعرض عن فتنتهم
و لما كانت سنة أربع و عشرين و أربعمائة تجددت العداوة بين هذين الحيين بنى يفرن و مغراوة و ثارت الإحن القديمة و زحف أبو الكمل صاحب شالة و تادلا و ما إلى ذلك في جموع يفرن و برز إليه حمامة بن المعز في قبائل مغراوة و دارت بينهم حروب شديدة و انكشفت مغراوة و فر حمامة إلى وجدة و استولى الأمير أبو الكمال تميم و قومه على فاس و غلبوا مغراوة على عمل المغرب و اكتسح تميم اليهود بمدينة فاس و اصطلم نعمهم و استباح حرمهم ثم احتشد حمامة من وجدة سائر قبائل مغراوة و زناتة و بعث الحاشدين في قياطينهم لجميع بلاد المغرب الأوسط و وصل إلى تنس صريخا لزعمائهم و كاتب من بعد عنه من رجالاتهم و زحف إلى فاس سنة تسع و عشرين و أربعمائة فأفرج عنها أبو الكمال تميم و لحق ببلده و مقر ملكه من شالة و أقام بمكان عمله و موطن إمارته منها إلى أن هلك سنة ست و أربعين و أربعمائة و ولي ابنه حماد إلى أن هلك سنة تسع و أربعين و أربعمائة و ولي بعده ابنه يوسف إلى أن توفي سنة ثمان و خمسين و أربعمائة فولى بعده عمه محمد ابن الأمير أبي تميم إلى أن هلك في حروب لمتونه حين غلبوهم على المغرب أجمع حسبما نذكره و الملك لله يؤتيه من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين
و أما أبو يداس بن دوناس قاتل حبوس بن زيري بن يعلى بن محمد فإنه لما اختلف عليه بنو يفرن و أخفق أمله في اجتماعهم له أجاز البحر إلى الأندلس سنة اثنتين و ثمانين و ثلثمائة فرفعه إخوانه أبو قرة و أبو زيد و عطاف فحل كلهم من المنصور محل التكرمة و الإيثار و نظمه في جملة الرؤساء و الأمراء و أسنى له الجراية و الأقطاع و أثبت رجاله في الديوان و من أجاز من قومه فبعد صيته و علا في الدولة كعبه
و لما افترقت الجماعة و انتثر سلك الخلافة كان له في حروب البربر مع جند الأندلس آثار بعيدة و أخبار غريبة و لما ملك المستعين قرطبة سنة أربعمائة و اجتمع إليه من كان بالأندلس من البرابرة لحق المهدي بالثغور و استجاش طاغية الجلالقة فزحف معه إلى غرناطة و خرج المستعين في جموعه من البرابرة إلى الساحل و اتبعهم المهدي في جموعه فتواقعوا بوادي أيرة فكانت بين الفريقين جولة عظم بلاء البرابرة و طار لأبي يداس فيما ذكر و انهزم المهدي و الطاغية و جموعهم بعد أن تضايقت المعركة و أصابت أبا يداس بن دوناس جراحة كان فيها مهلكه و دفن هناك و كان لابنه خلوف و حافده تميم بن خلوف من رجالات زناتة بالأندلس شجاعة و رياسة و كان يحيى بن عبد الرحمن ابن أخيه عطاف من رجالاتهم و كان له اختصاص ببني حمود ثم بالقاسم منهم ولاه كل قرطبة أيام خلافته و البقاء لله وحده (7/25)
الخبر عن أبي نور بن أبي قرة و ما كان له من الملك بالأندلس أيام الطوائف
هذا الرجل اسمه أبو نور بن أبي قرة بن أبى يفرن من رجالات البربر الذين استظهر بهم قومهم أيام الفتنة تغلب على رندة أزمان تلك الفتنة و أخرج منها عامر بن فتوح من موالي الأموية سنة خمس و أربعمائة فملكها واستحدث بها لنفسه سلطانا و لما استفحل أمر ابن عباد بأشبيلية و أسف إلى تملك ما جاوره من الأعمال و الثغور نشأت الفتنة بينه و بين أبي نور هذا و اختلف حاله معه في الولاية و الانحراف و سجل له سنة ثلاث و أربعين و أربعمائة برنده و أعمالها فيمن سجل له من البرير و استدعاه بعدها سنة خمسين و أربعمائة لبعض و لائمه و كاده بكتاب أوقفه عليه على لسان جارية بقصره تشكو إليه ما نال منها ابنه من المحرم فانطلق إلى بلده و قتل ابنه و شعر بالمكيدة فمات أسفا و ولي ابنه الآخر أبو نصر إلى سنة سبع و خمسين و أربعمائة فغدر به بعض جنده و خرج هاربا فسقط من السور و مات و تسلم المعتمد رنده من بعد ذلك و يقال إن ذلك كان عند كائنة الحمام سنة خمس و أربعين و أربعمائة و أن أبا نور هلك فيها و لما بلغ الخبر ابنه أبا نصر وقع ما وقع و الله أعلم (7/32)
الخبر عن مرنجيصة من بطون بني يفرن و شرح أحوالهم
كان هذا البطن من بني يفرن بضواحي أفريقية و كانت لهم كثرة و قوة و لما خرج أبو يزيد على الشيعة و كان من أخوالهم بنو واركوا ظاهروه على أمره بما كان له معهم من العصبية ثم انقرض أمره و أخذتهم دولة الشيعة و أولياؤهم صنهاجة و ولاتهم على أفريقية بالسطوة و القهر و انزال العقولات بالأنفس و الأموال إلى أن تلاشوا و أصبحوا في عداد القبائل الغارمة و بقيت منم أحياء نزلوا ما بين القيروان و تونس أهل شاء و بقر و خيام يظعنون في نواحيها و ينتحلون الفلح في معاشهم و ملك الموحدون أفريقية و هم بهذا الحال و ضربت عليهم المغارم و الضرائب و العسكرة مع السلطان في غزواته بعدة مفروضة يحضرون بها متى استقروا
و لما تغلب الكعوب من بني سليم على ضواحي أفريقية و أخرجوا منها الزواودة من الرياح أعداء الدولة لذلك العهد و استظهر بهم السلطان عليهم اتخذوا أفريقية وطنا من قابس إلى باجة ثم اشتدت ولايتهم للدولة و عظم الاستظهار بهم و أقطعهم ملك الدولة ما شاؤوه من الأعمال و الخراج فكان في أقطاعهم خراج مرنجيصة هؤلاء و لما كانت وقعة بنو مزين على القيروان و كان بعدها في الفترة ما كان من طغيان الفتنة التى اعتز فيها العرب على السلطان و الدولة كان لهؤلاء الكعوب المتغلبين مدد قوي من أحياء مرنجيصة هؤلاه من الخيل للحملان و الخيالة للاستظهار بأعدادهم في الحروب فصاروا لهم لحمة و خولا و تملكوهم تملك العبيد حتى إذا أذهب الله بحمى الفتنة و أقام مائل الخلافة و الدولة و صار تراث هذا الملك الحفصي إلى الأحق به مولانا السلطان أبي العباس أحمد فانقشع الجو و أضاء الأفق و دفع المتغلبين من العرب عن أعماله و قبض أيديهم عن رعاياه و أصار مرنجيصة هؤلاه من صفاياه بعد إنزال العقوبة بهم على لياذهم بالعرب و طعنم معهم فراجعوا الحق و أخلصوا في الانحياش و رجعوا إلى ما ألفوه من الغرامة و قوانين الخراج و هم على ذلك لهذا العهد و الله وارث الأرض و من عليها (7/32)
الخبر عن مغراوة من أهل الطبقة الأولى من زناتة و ما كان لهم من الدول بالمغرب و مبدأ ذلك و تصاريفه
هؤلاه قبائل من مغراوة كانوا أوسع بطون زناتة و أهل الباس و الغلب منهم و نسبهم إلى مغراو بن يصلتين بن مسر بن زاكيا بن ورسيك بن ألديرت بن جانا أخوة بنى يفرن و بنى يرنبان و قد تقدم الخلاف في نسبهم عند ذكر بنى يفرن و أما شعوبهم و بطونهم فكثير مثل بنى يلث و بنى زنداك و بنى رواو و رتزمير و بني أبي سعيد و بني و رميغان و الأغواط و بني ريغة و غيرهم ممن لم يحضرني أسماؤهم و كانت محلاتهم بأرض المغرب الأوسط من شلف إلى تلمسان إلى جبل مدبولة و ما إليها و لهم مع أخوانهم بنى يفرن اجتماع و افتراق و مناغاة في أحوال البدو و كان لمغراوة هؤلاء في بدوهم ملك كبير أدركهم عليه الإسلام فأقره لهم و حسن إسلامهم
و هاجر أميرهم صولات بن وزمار إلى المدينة و وفد على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فلقاه برا و قبولا لهجرته و عقد له على قومه و وطنه و انصرف إلى بلاده محبوا محبورا مغتبطا بالدين مظاهرا لقبائل مضر فلم يزل هذا دأبه و قيل إنه تقبض عليه أسيرا لأول الفتح في بعض حروب العرب مع البربر قبل أن يدينوا بالدين فأشخصوه إلى عثمان لمكانه من قومه فمن عليه و أسلم فحسن إسلامه و عقد له على عمله فاختص صولات هذا و سائر الأحياء من مغراوة بولاء عثمان و أهل بيته من بني أمية و كانوا خاصة لهم دون قريش و ظاهروا دعوة المروانية بالأندلس رعيا لهذا الولاء على ما تراه بعد في أخبارهم
و لما هلك صولات قام بأمره في مغراوة و سائر زناتة من بعده ابنه حفص و كان من أعظم ملوكهم ثم لما هلك قام بأمره ابنه خزر و عندما تقلص ظل الخلافة عن المغرب الأقصى بعض الشيء و أظلت فتنة ميسرة الحقير و مظفره فاعتز خزر و قومه على أمر المضرية بالقيروان و استفحل ملكهم و عظم شأن سلطانهم على البدو من زناتة بالمغرب الأوسط ثم انتقض أمر بني أمية بالمشرق فكانت الفتنة بالمغرب فازدادوا اعتزازا و عتوا و هلك خلال ذلك خزر و قام بملكه ابنه محمد و خلص إلى المغرب إدريس الأكبر بن عبد الله بن حسن بن الحسن سنة سبعين و مائة في خلافة الهادي و قام برابرة المغرب من أوربة و مدينة و مغيلة بأمره و استوثق له الملك و اقتطع المغرب عن طاعة بني العباس سائر الأيام
ثم نهض إلى المغرب الأوسط سنة أربع و سبعين و مائة فتلقاه محمد بن خزر هذا و ألقى إليه المقادة و بايع له عن قومه و أمكنه من تلمسان بعد أن غلب عليها بني يفرن أهلها و انتظم لإدريس بن إدريس الأمر و غلب على جميع أعمال أبيه و ملك تلمسان و قام بنو خزر هؤلاء بدعوته كما كانوا لأبيه و كان قد نزل تلمسان لعهد إدريس الأكبر أخوه سليمان بن عبد الله بن حسن بن الحسن القادم إليه من المشرق و سجل له بولاية تلمسان من سجل ابنه إدريس لمحمد ابن عمه سليمان من بعده فكانت ولاية تلمسان و أمصارها في عقبه و اقتسموا ولاية ثغورها الساحلية فكانت تلمسان لولد إدريس بن محمد بن سليمان و أرشكول لولد عيسى بن محمد و تنس لولد إبراهيم بن محمد و سائر الضواحي من أعمال تلمسان لبنى يفرن و مغراوة و لم يزل الملك بضواحي المغرب الأوسط لمحمد بن خزر كما قلناه إلى أن كانت دولة الشيعة و استوثق لهم ملك أفريقية و سرح عبيد الله المهدي إلى المغرب عروبة بن يوسف الكتامي في عساكر كتامة سنة ثمان و تسعين و مائتين فدوخ المغرب الأدنى و رجع ثم سرح بعده مصالة بن حبوس إلى المغرب في عساكر كتامة فاستولى على أعمال الأدارسة و اقتضى طاعتهم لعبيد الله و عقد على فاس ليحيى بن إدريس بن عمر آخر ملوك الأدارسة و جلع نفسه و دان بطاعتهم و عقد له مصالة على فاس و عقد لموسى بن أبي العالية أمير مكناسة و صاحب تازة و استولى على ضواحي المغرب و قفل إلى القيروان و انتقض عمر بن خزر من أعقاب محمد بن خزر الداعية لإدريس الأكبر و حمل زناتة و أهل المغرب الأوسط على البرابرة من الشيعة و سرح عبيد الله المهدي مصالة قائد المغرب في عساكر كتامة سنة سبع و ثلثمائة و لقيه محمد بن خزر في جموع مغراوة و سائر زناتة ففل عساكر مصالة و خلص إليه فقتله و سرح عبيد إليه ابنه أبا القاسم في العساكر إلى المغرب سنة عشر و ثلثمائة و عقد له على حرب محمد بن خزر و قومه فأجفلوا إلى الصحراء و اتبع آثارهم إلى ملوية فلحقوا بسجلماسة و عطف أبو القاسم على المغرب فدوخ أقطاره و جال في نواحيه و جدد لابن أبي العافية على عمله و رجع و لم يلق كيدا
ثم إن الناصر صاحب قرطبة سماله أمل في ملك العدوة فخاطب ملوك الأدارسة و زناتة و بعث إليهم خالصته محمد بن عبيد الله بن أبي عيسى سنة ستة عشر و ثلثمائة فبادر محمد بن خزر إلى إجابته و طرد أولياء الشيعة من الزاب و ملك شلب و تنس من أيديهم و ملك وهران و ولى عليها ابنه المنير و بث دعوة الأموية في أعمال المغرب الأوسط ما عدا تاهرت و بدأ في القيام بدعوة الأموية إدريس بن إبراهيم بن عيسى بن محمد بن سليمان صاحب أرشكول ثم فتح الناصر سبتة سنة سبع عشرة و ثلثمائة من يد الأدارسة و أجار موسى بن أبي المالية على طاعته و اتصلت يده بمحمد بن خزر و تظاهروا على الشيعة و خالف فلفول بن خزر أخاه محمد إلى طاعة الشيعة و عقد له عبد الله على مغراوة
و زحف إلى المغرب حميد بن يصل سنة إحدى و عشرين و ثلاثماثة في عساكر كتامة إلى عبد الله على تاهرت فانتهى إلى فاس و أجفلت أمامه ظواعن زناتة و مكناسة و دوخ المغرب و زحف من بعده ميسور الخصي سنة اثنتين و عشرين و ثلثمائة فحاصر فاس و امتنعت عليه و رجع ثم انتقض حميد بن يصل سنة ثمان و عشرين و ثلثمائة و تحيز إلى محمد بن خزر ثم أجاز إلى الناصر و ولاه على المغرب الأوسط ثم شغل الشيعة بفتنة أبي يزيد و عظمت آثار محمد بن خزر و قومه من مغراوة و زحفوا إلى تاهرت مع حميد بن يصل قائد الأموية سنة ثلاث و ثلاثين و ثلثمائة و زحف معه الخيربن محمد و أخوه حمزة و عمه عبد الله بن خزر و معهم يعلى بن محمد في قومه بني يفرن و أخذوا تاهرت عنوة و قتلوا عبد الله بن بكار و أسروا قائدها ميسور الخصي بعد أن قتل حمزة بن محمد بن خزر في حروبها
و كان محمد بن خزر و قومه زحفوا قبل ذلك إلى بسكرة ففتحوا و قتلوا زيدان الخصي و لما خرج إسماعيل من حصار أبي يزيد و زحف إلى المغرب في اتباعه خشية محمد بن خزر على نفسه لما سلف منه في نقض دعوتهم و قتل أتباعهم فبعث إليه بطاعة معروفة و أوعز إليه إسماعيل بطلب أبي يزيد و وعده في ذلك بعشرين حملا من المال و كان أخوه معبد بن خزر في موالاة أبي يزيد إلى أن هلك و تقبض إسماعيل بعد ذلك على معبد سنة أربعين و ثلثمائة و قتله و نصب رأسه بالقيروان و لم يزل محمد بن خزر و ابنه الخير متغلبا على المغرب الأوسط و مقاسما فيها ليعلى بن محمد و وفد فتوح بن الخير سنة أربعين و ثلثمائة على الناصر مع مشيخة تاهرت و وهران فأجازهم و صرفهم إلى أعمالهم
ثم حدثت الفتنة بين مغراوة و صنهاجة و شغل محمد بن الخير و ابنه خزر بحروبهم و تغلب يعلى بن محمد على وهران و خربها و عقد الناصر لمحمد بن يصل على تلمسان و أعمالها و ليعلى بن محمد على المغرب و أعماله فراجع محمد بن خزر طاعة الشيعة من أجل قريعة يعلى بن محمد و وفد على المعز بعد مهلك أبيه إسماعيل سنة اثنتين و أربعين و ثلثمائة فأولاه تكرمة و تم على طاعهتم إلى أن حضر مع جوهر في غزاته إلى المغرب بأعوام سبع أو ثمان و أربعين و ثلثمائة ثم وفد على المعز بعد ذلك سنة خمسين و ثلثمائة و هلك بالقيروان و قد نيف على المائة من السنين و هلك الناصر المرواني عامئذ على حين انتشرت دعوة الشيعة بالمغرب و انقبض أولياء الأموية إلى أعمال سبتة و طنجة فقام بعده ابنه الحكم المستنصر و استأنف مخاطبة ملوك العدوة فأجابه محمد بن الخير بن محمد بن خزر بما كان من أبيه الخير و جده محمد في ولاية الناصر و الولاية التي لبني أمية على آل خزر بوصية عثمان بن عفان لصولات بن وزمار جدهم كما ذكرناه فاثخن في الشيعة و دوخ بلادهم و رماه معد بقرينه زيري بن مناد أمير صنهاجة فعقد له على حرب زناتة و سوغه ما غلب عليه من أعمالهم و جمعوا للحرب سنة ستبن و مائتين فلقي بلكين بن زيري جموعهم بدسيسة من بعض أولياء محمد بن الخير قبل أن يستكمل تعبيتهم فأبلى منهم ثباتا و صبرا و اشتدت الحرب بينهم و انهزمت زناتة حتى إذا رأى محمد بن الخير أن قد أحيط به انتبذ إلى ناحية من العسكر و ذبح نفسه و استمرت الهزيمة على قومه و وجد منهم في المعركة سبعة عشر أميرا سوى الأتباع و تحيز كل إلى فريقه
و ولى بعد محمد في مغراوة ابنه الخير و أغرى بلكين بن زيري الخليفة معد و جندل بن جعفر بن على بن حمدون صاحب المسيلة و الزاب بموالاة محمد بن الخير فاستراب جعفر و بعث عنه معد لولاية أفريقية حتى اعتزم على الرحيل إلى القاهرة فاشتدت استرابته و لحق بالخير بن محمد و قومه و زحفوا إلى صنهاجة فأتيحت لهم الكرة و أصيب زيري بن مناد كبير العصابة و بعثوا برأسه إلى قرطبة في وفد من وجوه بني خزر مع يحيى بن علي أخي جعفر ثم استراب بعدها جعفر من زناتة و لحق بأخيه يحيى و نزلوا على الحكم و عقد معه لبلكين بن زيري على حرب زناتة و أمده بالأموال و العساكر و سوغه ما تغلب عليه من أعمالهم فنهض إلى المغرب سنة إحدى و ستين و مائتين و أوغر بالبرابرة منهم و تقرى أعمال طبنة و باغاية و المسيلة و بسكرة و أجفلت زناتة أمامه و تقدم إلى تاهرت فمحا من المغرب الأوسط آثار زناتة و لحق بالمغرب الأقصى
و اتبع بلكين آثار الخير بن محمد و قومه إلى سجلماسة فأوقع بهم و تقتض عليهم فقتله صبرا و فض جموعهم و دوخ المغرب و انكف راجعا و مر بالمغرب الأوسط فالتحم بوادى زناتة و من إليهم من المصاصين و رفع الأمان على كل من ركب فرسا أو أنتج خيلا من سائر البربر و نذر دماءهم فأقفر المغرب الأوسط من زناتة و صار إلى ما وراء ملوية من بلاد المغرب الأقصى إلى أن كان من رجوع بني يعلى بن محمد إلى تلمسان و ملكهم إياها ثم هلك بنو خزر بسجلماسه و طرابلس و ملك بني زيري ابن عطية بفاس ما نحن ذاكروه إن شاء الله تعالى (7/33)
الخبرعن آل زيري بن عطية ملوك فاس و أعمالها من الطبقة الأولى من مغراوة و ما كان لهم بالمغرب الأقصى من الملك و الدولة و مبادىء ذلك و تصاريفه
كان زيري هذا أمير آل خزر في وقته و وارث ملكهم البدوي و هو الذي مهد الدولة بفاس و المغرب الأقصى و أورثها بنيه إلى عهد لمتونة حسبما نستوفي في شرحه و اسمه زيري بن عطية بن عبد الرحمن بن خزر و جده عبد الله أخو محمد داعية الناصر الذي هلك بالقيروان كما ذكرناه و كانوا أربعة أخوة محمد و معبد الذي قتله إسماعيل و فلفول الذي خالف محمدا إلى ولاية الشيعة و عبد الله هذا و كان يعرف بأمه اسمها تبادلت و قد قيل إن عبد الله هذا هو ابن محمد بن خزر و أخوه حمزة بن محمد الهالك في حربه مع ميسور عند فتح تاهرت و لما هلك الخير بن محمد كما قلناه بيد بلكين سنة إحدى و ستين و ثلثمائة و ارتحلت زناتة إلى ما وراء ملوية من المغرب الأقصى و صار المغرب الأوسط كله لصنهاجة و اجتمع مغراوة إلى بقية آل خزر و أمرؤهم يومئذ محمد بن خير المذكور و مقاتل و زيري ابنا مقاتل بن عطية بن عبد الله و خزرون بن فلفول
ثم كان ما ذكرناه من ولاية بلكين بن زيري على أفريقية و زحف إلى المغرب الأقصى زحفه المشهور سنة تسع و ستين و ثلثمائة و أجفلت أمامه ملوك زناتة من بنى خزر و بني محمد بن صالح و انحازوا جميعا إلى سبتة و أجاز محمد بن الخير البحر إلى المنصور بن أبي عامر صريخا فخرج المنصور في عساكره إلى الجزيرة ممدا لهم بنفسه و عقد لجعفر بن علي على حرب بلكين و أجازه البحر و أمده بمائة حمل من المال فاجتمعت إليه ملوك زناتة و ضربوا مصافهم بساحة سبتة و أطل عليهم بلكين من جبل تطاون فرأى ما لا قبل له به فارتحل عنهم و أشغل نفسه بجهاد برغواطة إلى أن هلك منصرفا من المغرب سنة اثنتين و سبعين و ثلاثة كما ذكرناه
و عاد جعفر بن علي إلى مكانه من الحضرة و ساهمه المنصور في حمل الرياسة و بقي المغرب غفلا من الولاية و اقتصر المنصور على ضبط سبتة و وكل إلى ملوك زناتة دفاع صنهاجة و سائر أولياء الشيعة و قام يبلو طاعنتهم إلى أن قام بالمغرب الحسن بن كنون من الأدارسة بعثه العزيز نزار من مصر لاسترجاع ملكه بالمغرب و أمده بلكين بعسكر من صنهاجة و هلك على تفيئة ذلك بلكين و دعا الحسن إلى أمره بالمغرب و انضم إليه بدوي ابن يعلى بن محمد اليفرني و أخوه زيري و ابن عمه أبو يداس فيمن إليهم من بني يفرن فسرح المنصور لحربه ابن عمه أبا الحكبم عمرو بن عبد الله بن أبي عامر الملقب عسكلاجه و بعثه بالعساكر و الأموال فأجاز البحر انحاش إليه ملوك آل خزر محمد بن الخير و مقاتل و زيري ابناء عطية و خزرون بن فلفول في جميع مغراوة و ظاهروه على شأنه
و زحف بهم أبو الحكم بن أبي عامر إلى الحسن بن كنون حتى الجؤه إلى الطاعة و سأل الأمان على نفسه فعقد له عمرو بن أبي عامر ما رضيه من ذلك و أمكن به من قياده و أشخصه إلى الحضرة فكان من قتله و إخفار ذمة أبي الحكم بن أبي عامر و قتله بعده ما تقدم حسبما ذكرنا ذلك من قبل
و كان مقاتل و زيري ابنا عطية من بين ملوك زناتة أشد الناس انحياشا للمنصور قياما بطاعة المروانية و كان بدوي بن يعلى و قومه بنو يفرن منحرفين عن طاعتهم و لما انصرف أبو الحكم بن أبي عامر من المغرب عقد المنصور عليه للوزير حسن بن أحمد بن عبد الودود السلمي و أطلق يده في انتقاء الرجال و الأموال فأنفذه إلى عمله سنة ست و سبعين و ثلثمائة و أوصاه بملوك مغراوة من زناتة و استبلغ بمقاتل و زيري من بينهم لحسن انحياشهم و طاعتهم و أغراه ببدوي بن يعلى المضطرب الطاعة الشديد المراوغة فنفذ لعمله و نزل بفاس و ضبط أعمال المغرب و اجتمعت إليه ملوك زناتة
و هلك مقاتل بن عطية سنة ثمان و سبعين و ثلثمائة و استقل برياسة الظواعن البدو من مغراوة أخوة زيري بن عطية و حسنت مخاللته لابن عبد الودود صاحب المغرب و انحياشه بقومه إليه و استدعاه المنصور من محله بفاس سنة إحدى و ثمانين و ثلثمائة إشادة بتكريمه و أغراه ببدوي بن يعلى بمنافسته في الحظ و إيثار الطاعة فبادر إلى إجابته بعد أن استخلف على المغرب ابنه المعز و أنزله بتلمسان ثغر المغرب و ولى على عدوة القرويين من فاس علي بن محمود بن أبي علي قشوش و على عدوة الأندلسيين عبد الرحمن بن عبد الكريم بن ثعلبة و قدم بين يديه هدية إلى المنصور و وفد عليه فاستقبله بالجيوش و العدة و احتفل للقائه و أوسع نزله و جرايته و نوه باسمه في الوزارة و أقطعه رزقها و أثبت رجاله في الديوان و وصله بقيمة هديته و أسنى فيها و أعظم جائزته و جائزة وفده و عجل تسريحه إلى عمله فقفل إلى إمارته من المغرب و نمي عنه خلاف ما احتسب فيه من غمط المعروف إنكار الصنيع و الاستنكاف من لقب الوزارة الذي نوه به حتى أنه قال لبعض حشمه و قد دعاه بالوزير : وزير من يالكيع فما و الله إلا أمير ابن أمير واعجبا من ابن أبي عامر و مخرقته و الله لو كان بالأندلس رجل ما تركه على حاله إن له منا ليوما و الله لقد تأجرني فما أهديت إليه حطا للقيم ثم غالطني بما بذله تنبيتا للكرم إلا أن يحتسب بثمن الوزارة التي حطني بها عن رتبتي
و نمي ذلك إلى ابن أبى عامر فصر عليها أذنه و زاد في اصطناعه و بعث بدوي بن يعلى اليفرني قريعه في ملك زناتة يدعوه إلى الوفادة فأساء إجابته و قال : متى عهد المنصور حمر الوحش تنقاد للبياطرة و أخذ في إفساد السابلة و الاجلاب على الأحياء و العيث في العمالة فأوعز المنصور إلى عامله بالمغرب الوزير حسن بن عبد الودود بنبذ العهد إليه و مظاهرة عدوه زيري بن عطية عليه فجمعوا له سنة إحدى و ثمانين و ثلثمائة و لقوه فكانت الدائرة عليهم و تحزم العسكر و أثبت الوزير ابن عبد الودود جراحة كان فيها حتفه و بلغ الخبر إلى المنصور فشق عليه و أمه شأن المغرب و عقد عليه لوقته لزيري بن عطية و كتب إليه بعهده و أمر بضبط المغرب و مكانفة جند السلطان و أصحاب حسن بن عبد الودود فاطلع بأعبائه و أحسن الغناء في عمله
و استفحل شأن بدوي بن يعلى و بني يفرن و استغلظوا على زيري بن عطية و أصلوه نار الفتنة و كانت حروبهم سجالا و سئمت الرعايا بفاس كثرة تعاتهبم عليها و انتزاؤهم على عملها و بعث إليه لزيري بن عطية و مغراوة مددا من أبي البهار بن زيري بن مناد بما كان انتقض على ابن أخيه منصور بن بلكين صاحب القيروان و أفريقية و نزع عن دعوة الشيعة إلى المروانية و اقتفى أثره في ذلك خلوف بن أبي بكر صاحب تاهرت و أخوه عطية لصهر كان بينهما و بين زبري فاقتسموا أعمال المرب الأوسط ما بين الزاب و أنشريس و وهران و خطبوا في سائر منابرها باسم هشام المؤيد و خاطب أبو البهار من وراء البحر محمد بن أبي عامر و أوفد عليه أبا بكر بن أخيه خبوس بن زيري في طائفة من أهل بيته و وجوه قومه فاستقبلوا بالجيش و لقاه رحبا و تسهيلا و أعظم موصله و أسنى جوائز وفده و صلاتهم و أنفذ معه إلى عمه أبي البهار بخمسمائة قطعة من صنوف الثياب الخز و العبيد و ما قيمته عشرة آلاف درهم من الآنية و الحلى و بخمسة و عشرين ألفا من الدنانير و دعاه إلى مظاهرة زيرى بن عطية على بدوي بن يعلى و قسم بينهما أعمال المغرب شق الأبلمة حتى لقد اقتسما مدينة فاس عدوة بعد عدوة فلم يرع ذلك بدوي و لا وزعه عن شأنه من الفتنة و الاجلاب على البدو و الحاضرة و شق عصا الجماعة و انتقض خلوف بن أبي بكر على المنصور لوقته و راجع ولاية المنصور بن بلكين
و مرض أبو البهار في المظاهرة عليه للوصلة التي بينهما و قعد عما قام له زيري بن عطية من حرب خلوف بن أبي بكر و أوقع به زيري في رمضان سنة إحدى و ثمانين و ثلثمائة و استلحمه و كثيرا من أوليائه و استولى على عسكره و انجاش إليه عامة أصحابه و فر عطية شريدا إلى الصحراء ثم نهض على أثرها لبدوي بن يعلى و قومه فكانت بينهم لقاءات انكشف فيها أصحاب بدوى و استلحم منهم زهاء ثلاثة آلاف و اكتسح معسكره و سبيت حرمه التي كانت منهن أمه و أخته و تحيز سائر أصحابه إلى فئة زيري و خرج شريدا إلى الصحراء إلى أن اغتاله ابن عمه أبو يداس بن دوناس كما ذكرناه و ورد خبر الفتحين متعاقبين على المنصور فعظم موقعهما لديه و قد قيل إن مقتل بدوي إنما كان عند إياب زيري من الوفادة و ذلك أنه لما استقدمه المنصور و وفد عليه كما ذكرناه خالفه بدوي إلى فاس فملكها و قتل من مغراوة خلقا و استمكن بها أمره فلما رجع زيري من وفادته امتنع بها بدوي فنازله زيري و طال الحصار و هلك من الفريقين خلق ثم اقتحمها عليه عنوة و بعث برأسه إلى سدة الخلافة بقرطبة إلا أن راوي هذا الخبر يحعل وفادة زيري على المنصور و قتله لبدوي سنة ثلاث و ثمانين و ثلثمائة فالله أعلم أي ذلك كان
ثم إن زيري فسد ما بينه و بين أبي البهار الصنهاجي و تزاحفا فأوقع به زيري و انهزم أبو البهار إلى سبتة موريا بالعبور إلى المنصور فبادر بكاتبه عيسى بن سعيد بن القطاع في قطعة من الجند إلى تلقيه فحاد عن لقائه و صاعد إلى قلعة جراوة و قد قدم الرسل إلى ابن أخيه المنصور صاحب القيروان مستميلا إلى أن التحم ذات بينهما ثم تحيز إليه و عاد إلى مكانه من عمله و خلع ما تمسك به من طاعة الأموية و راجع طاعة الشيعة فجمع المنصور لزيري بن عطية أعمال المغرب و استكفى به في سد الثغر و عول عليه من بين ملوك المغرب في الذب عن الدعوة و عهد إليه بمناجزة أبي البهار و زحف إليه زيري في أمم عديدة من قبائل زناتة و حشود البربر و فر أمامه و لحق بالقيروان و استولى زيري على تلمسان و سائر أعمال أبي البهار و ملك ما بين السوس الأقصى و الزاب فاتسع ملكه و انبسط سلطانه و اشتدت شوكته و كتب بالفتح إلى المنصور بمائتين من الخيل و خمسين جملا من المهاري السبق و ألف درقة من جلود اللمط و أحمال من قسي الزان و قطوط الغالية و الزرافة و أصناف الوحوش الصحراوية كاللمط و غيره و ألف حمل من التمر و أحمال من ثياب الصوف الرفيعة كثيرة فجدد له عهده على المغرب سنة إحدى و ثمانين و ثلثمائة و أنزل أحياءه بأنحاء فاس في قياطينهم
و استفحل أمر زيري بالمغرب و دفع بني يفرن عن فاس إلى نواحي سلا و اختط مدينة وجدة سنة أربع و ثمانين و ثلثمائة و أنزلها عساكره و حشمه و استعمل عليها ذويه و نقل إليه ذخيرته و أعدها معتصما و كانت ثغرا للعمالتين المغرب الأقصى و الأوسط
ثم فسد ما بينه و بين المنصور بما نمي عنه من التألف لهشام باستبداد المنصور عليه فسامه المنصور الهضيمة و أبى منها و بعث كاتبه ابن القطاع في العساكر فاستعصى عليه و أمكنه صاحب قلعة حجر النسر منها فأشخصه إلى الحضرة و أحسن إليه المنصور و سماه الناصح و كشف زيري وجهه في عداوة ابن أبي عامر و الإغراء به و التشيع لهشام المؤيد و الامتعاض له من هضيمته و حجره فسخطه عند ابن أبي عامر و قطع عنه رزق الوزارة و محى اسمه من ديوانه و نادى بالبراءة منه و عقد لواضح مولاه على المغرب و على حرب زيري بن عطية و انتقى له الحماة من سائر الطبقات و أزاح عللهم و أمكنه من الأموال للنفقات و أحمال السلاح و الكسي و أصحبه طائفة من ملوك العدوة كانوا بالحضرة منهم : محمد بن الخير ابن محمد بن الخير و زيري بن خرر و ابن عمهما بكساس بن سيد الناس و من بني بفرن أبو بخت بن عبد الله بن بكار و من مكناسة إسماعيل بن البوري و محمد بن عبد الله بن مدين و من أزداجة خزرون بن محمد و أمده بوجوه الجند و فصل من الحضرة سنة سبع و ثمانين و ثلثمائة و سار في التعبية و أجاز البحر إلى طنجة فعسكر بوادي ردات و زحف زيري بن عطية في قومه فعسكر إزاءه و تواقفا ثلاثة أشهر و اتهم واضح رجالات بني مرزال بالادهان فأشخصهم إلى الحضرة و أغرى بهم المنصور فوبخهم و تنصلوا فصفح عنهم و بعثهم في غير ذلك الوجه ثم تناول واضح حصن أصيلا و نكور فضبطهما و اتصلت الوقائع بينه و بين زيري و بيت واضح معسكر زيري بنواحي أصيلا و هم غازون فأوقع بهم و خرج ابن أبي عامر من الحضرة لاستشراف أحوال واضح و إمداده فسار في التعبية و احتل بالجزيرة عند فرضة المجاز ثم بعث عن ابنه المظفر من مكان استخلافه بالزاهرة و أجاز إلى العدوة و استكمل معه أكابر أهل الخدمة و جلة القواد و قفل المنصور إلى قرطبة و استراع خبر عبد الملك بالمغرب و رجع إليه عامة أصحاب زيري من ملوك البربر و تناولهم من إحسانه و بره ما لم يعهدوا مثله
و زحف عبد الملك إلى طنجة و اجتمع مع واضح و تلوم هناك مزيحا لعلل العسكر فلما استتم تدببره زحف في جمع لا كفاء له فلقيه زيري بوادي منى من أحواز طنجة في شوال سنة ثمان و ثمانين و ثلثمائة فدارت بينهم حروب شديدة و هم فيها أصحاب عبد الملك و ثبت هو و بينما هم في حومة الحرب إذ طعن زيري بعض الموثورين من أتباعه اهتبل الغرة في ذلك الموقف فطعنه ثلاثا في نحره أشواه بها و مر يشتد نحو المظفر و بشره فاستكذبه لثبوت رايته تم سقط إليه الصحيح فشد عليهم فاستوت الهزيمة و أثخن فيه بالقتل و استولى على ما كان في عسكرهم مما يذهب فيه الوصف و لحق زيري بفاس جريحا في قلة فامتنع عليه أهلها و دافعوه بحرمه فاحتملهن و فر أمام العساكر إلى الصحراء و أسلم جميع أعماله و طير عبد الملك بالفتح إلى أبيه فعظم موقعه عنده و أعلن بالشكر لله و الدعاء و بث الصدقات و أعتق الموالي و كتب إلى ابنه عبد الملك بعهده على المغرب فأصلح نواحيه و سد ثغوره و بعث العمال في جهاته : فأنفذ محمد بن الحسن بن عبد الودود في جند كثيف إلى تادلا و استعمل حميد بن يصل المكناسي على سجلماسة فخرج كل لوجهه و اقتضوا الطاعة و حملوا إليه الخراج و أقفل المنصور ابنه عبد الملك في جمادى من سنة سبع و ثمانين و ثلثمائة و عقد على المغرب لواضح فضبطه و استقام على تدبيره ثم عزله في رمضان من سنته بعبيد الله ابن أخيه يحيى ثم ولى عليه من بعده إسماعيل بن البوري ثم من بعده أبا الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبي إلى أن هلك المنصور و أعاد المظفر بن المعز بن زيري من منتبذه بالمغرب الأوسط لولاية أبيه بالمغرب فنزل فاس و كان من خبر زيري أنه لما استقل من نكبته و هزيمة عبد الملك إياه و اجتمع إليه بالصحراء فل مغراوة و بلغه اضطراب صنهاجة و اختلافهم على باديس بن المنصور بعد مهلك أبيه و أنه خرج عليه بعد عمومته مع ماكسن بن زيري فصرف وجهه حينئذ إلى أعمال صنهاجة يتنهز فيها الفرصة و اقتحم المغرب الأوسط و نازل تاهرت و حاصر بها يطوفت بن بلكين و خرج باديس من القيروان صريخا له فلما مر بطبنة امتنع عليه فلفول بن خزرون و خالفه إلى أفريقية فشغل بحربه و كان أبو سعيد بن خزرون لحق بأفريقية و ولاه المنصور على طبنة كما نذكره فلما انتقض سار إليه باديس و دفع حماد بن بلكين في عساكر صنهاجة إلى مدافعة زيري بن عطية فالتقيا بوادي ميناس قرب تاهرت فكانت الدبرة على صنهاجة و احتوى زيري على معسكرهم و استلحم ألوفا مهنم و فتح مدينة تاهرت و تلمسان و شلف و تنس و المسيلة و أقام الدعوة فيها كلها للمؤيد هثام و لحاجبه المنصور من بعده
ثم اتبع آثار صنهاجة إلى أشير قاعدة ملكهم فأناخ عليها و استأمن إليه زاوي بن زيري و من معه من أكابر أهل بيته المنازعين لباديس فأعطاه منه ما سأل و كتب إلى المنصور بذلك يسترضيه و يشترط على نفسه الرهن و الاستقامة إن أعيد إلى الولاية و يسنأذنه في قدوم زاوي و أخيه خلال فأذن لهما و قدما سنة تسعين و ثلثمائة و سأل أخوهما أبو البهار مثل ذلك و أنفذ رسله يذكر تقديمه فسوفه المنصور لما سبق من نكنه و اعتل زيري بن عطية و هو بمكانه من حصار أشير فأفرج عنها و هلك في منصرفه سنة إحدى و تسعين و ثلثمائة و اجتمع آل خزر و كافة مغراوة من بعده على ابنه المعز بن زيري فبايعوه و ضبط أمرهم و أقصر عن محاربة صنهاجة ثم استجدى للمنصور و اعتلق بالدعوة العامرية و صلحت حاله عندهم و هلك المنصور خلال ذلك و رغب المعز من ابنه عبد الملك المظفر أن يعيده إلى عمله على مال يحمله إليه و على أن يكون ولده معنصر رهينة بقرطبة فأجابه إلى ذلك و كتب له عهد و أنفذ به وزيره أبا علي بن خديم و نسخته : بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد و آله من الحاجب المظفر سيف الدولة دولة الامام الخليفة هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين أطال الله بقاءه عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر إلى كافة مدنيي فاس و كافة أهل المغرب سلمهم الله أما بعد أصلح الله شأنكم و سلم أنفسكم و أديانكم فالحمد لله عللم الغيوب و غفار الذنوب و مقلب القلوب ذي البطش الشديد المبديء المعبد الفعال لما يريد لا راد لأمره و لا معقب لحكمه بل له الملك و الأمر و بيده الخير و الشر إياه نعبد و إياه نستعين و إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون و صلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين و على آله الطيبين و جميع الأنبياء و المرسلين و السلام عليكم أجمعين
و إن المعز بن زيري بن عطية أكرمه الله تابع رسله لدينا و كتبه متنصلا من هنات دفعته إليها ضروارت و مستغفرا من سيئات حطتها من توبته حسنات و التوبة محاء الذنب و الاستغفار منقذ من العيب و إذا أذن الله بشيء يسره و عسى أن تكرهوا شيئا و لكم فيه خير و قد وعد من نفسه استشعار الطاعة و لزوم الجادة و اعتقاد الاستقامة و حسن المعونة و خفة المؤنة فوليناه ما قبلكم و عهدنا إليه أن يعمل بالعدل فيكم و أن يرفع أعمال الجور عنكم و أن يعمر سبلكم و أن يقبل من محسنكم و يتجاوز عن مسيئكم إلا في حدود الله تبارك و تعالى و أشهدنا الله عليه بذلك و كفي بالله شهيدا و قد وجهنا الوزير أبا علي بن خديم أكرمه الله و هو من ثقاتنا و وجوه رجالنا ليأخذ بشأنه و يؤكد العهد فيه عليه بذلك و أمرناه بإشراككم فيه و نحن بأمركم معتنون و أحوالكم مطالعون و أن يقضي على الأعلى للأدنى و لا يرتضي فيكم بشيء من الأدنى فثقوا بذلك و أسكنوا إليه و ليمض القاضي أبو عبد الله أحكامه مشدودا ظهره بنا معقودا سلطانه بسلطاننا و لا تأخذه في الله لومة لائم فذلك طبنا به إذ وليناه و أملنا فيه اذ قلدناه و الله المستعان و عليه التكلان لا إله إلا هو و تبلغوا منا سلاما طيبا جزيلا و رحمة الله و بركاته كتب في ذي القعدة من سنة ست و تسعين و ثلاثمائة
و لما وصل إلى المعز بن زيري عهد المظفر بولايته على المغرب ماعدا كورة سجلماسة فإن واضحا مولى المنصور عهد في ولايته على المغرب بها لواندين بن خزرون بن فلفول حسبما نذكره فلم تدخل في ولاية المعز هذه فلما وصله عهد المظفر ضم نشره و ثاب إليه نشاطه و بث عماله في جميع كور المغرب و جبي خراجها و لم تزل ولايته متسقة و طاعة رعاياه منتظمة
و لما افترق أمر الجماعة بالأندلس و اختل رسم الخلافة و صار الأمر فيها طوائف استحدث المعز في التغلب على سجلماسة و انتراعها من أيدي بنى واندين بن خزرون فأجمع لذلك و نهض إليه سنة سبع و أربعمائة و برزوا إليه في جموعهم فهزموه و رجع إلى فاس في فل من قومه و أقام على الاضطراب من أمره إلى أن هلك سنة سبع عشرة و أربعمائة و ولي من بعده ابن عمه حمامة بن المعز بن عطية و ليس كما يزعم بعض المؤرخين أنه ابنه و إنما هو اتفاق في الأسماء أوجب هذا الغلط فاستولى حمامة هذا على عملهم و استفحل ملكه و قصده الأمراء و العلماء و أتته الوفود و مدحه الشعراء ثم نازعه الأمر أبو الكمال تميم بن زيري بن يعلى اليفرني سنة أربع و عشرين و أربعمائة من بني يدوي بن يعلى المتغلبين على نواحي سلا و زحف إلى فاس في قبائل بني يفرن و من انضاف إليهم من زناتة
و برز إليه حمامة في جموع مغراوة و من إليهم فكانت بينهم حروب شديدة اجلت عن هزيمة حمامة و مات من مغراوة أمم و استولى تميم على فاس و أمال المغرب و لما دخل فاس استباح يهود و سبى حرمهم و اصطلم نعمتهم و لحق حمامة بوجدة فامتد من هنالك من قبائل مغراوة من أنجاد مديونة و ملوية و زحف إلى فاس فدخلها سنة سبع و عشرين و أربعمائة و تحيز تميم إلى موضع إمارته من سلا و أقام حمامة في سلطان المغرب و زحف إليه سنة ثلاثين و أربعمائة القائد ابن حماد صاحب القلعة في جموع صنهاجة و خرج إليه مجمعا حربه و بث القائد عطاءه في زناتة و أستعبدهم على صاحبهم حمامة فأقصر عن لقائه و لاذ منه بالسلم و الطاعة رجع القائد عنه و رجع هو إلى فاس و هلك سنة إحدى و ثلاثين و أربعمائة فولي بعده ابنه دوناس و يكنى أبا العطاف و استولى على فاس و سائر عمل أبيه و خرج عليه لأول أمره حماد ابن عمه معنصر بن المعز فكانت له معه حروب و وقائع و كثرت جموع حماد فغلب دوناس على الضواحي و أحجره بمدينة فاس و خندق دوناس على نفسه الخندق المعروف بسياج حماد و قطع حماد جرية الوادي عن عدوة القرويين إلى أن هلك محاصرا لها سنة خمس و ثلاثين و أريعمائة فاستقامت دولة دوناس و انفسحت أيامه و كثر العمران ببلده و احتفل في تشييد المصانع و أدار السور على أرباضها و بنى بها الحمامات و الفنادق فاستبحر عمرانها و رحل التجار إليها بالبضائع و هلك دوناس سنة إحدى و خمسين و أربعمائة و ولي بعده ابنه الفتوح و نزل بعدوة الأندلس و نازعه الأمر أخوه الأصغر عجيسة و امتنع بعدوة القرويين و افترق أمره بافتراقهما و كانت الحرب بينهما سجالا و مجالها بين المدينتين حيث يفضي باب النقبة بعدوة القرويين لهذا العهد و شيد الفتوح باب عدوة الأندلس و هو مسمى به إلى الآن و اختط عجيسة باب الجيسة و هو أيضا مسمى به و إنما حذفت عينه لكثرة الاستعمال و أقاموا على ذلك إلى أن غدر الفتوح بعجيسة أخيه سنة ثلاث و خمسين و أربعمائة و بيته فظفر به و قتله و دهم المغرب أثر ذلك على ما دهمه من أمر المرابطين من لمتونة و خشي الفتوح مغبة أحوالهم فأفرج عن فاس
و زحف صاحب القلعة بلكين بن محمد بن حماد إلى المغرب سنة أربع و خمسين و أربعمائة على عادتهم في غزوه و دخل فاس و احتمل من أكابرهم و أسرافهم رهنا على الطاعة و قفل إلى قلعته ر ولى على المغرب بعد الفتوح معنصر بن حماد بن معنصر و شغل بحروب لمتونة و كانت له عليهم الوقعة المشهورة سنة خمس و خمسين و أربعمائة و لحق بضرية و ملك يوسف بن تاشفين و المرابطون فاس و خلف عليها عامله و ارتحل إلى غمارة فخالفه معنصر إلى فاس و ملكها و قتل العامل و من معه من لمتونة و مثل بهم بالحرق و الصلب ثم زحف إلى مهدي ابن يوسف الكترنائي صاحب مدينة مكناسة و قد كان دخل في دعوة المرابطين فهزمه و قتله و بعث برأسه إلى سكوت البرغواطي الحاجب صاحب سبتة و قد بلغ الخبر إلى يوسف بن تاشفين فسرح عساكر المرابطين لحصار فاس فأخذوا بمخنقها و قطعوا المرافق عنها حتى اشتد بأهلها الحصار و مسهم الجهد و برز معنصر لإحدى الراحتين فكانت الدبرة عليه و فقد في الملحمة ذلك اليوم سنة ستين و أربعمائة و بايع أهل فاس من بعده لابنه تميم بن معنصر فكانت أيامه أيام حصار و فتنة و جهد و غلاء و شغل يوسف بن تاشفين عنهم بفتح بلاد غمارة حتى اذا كان سنة اثنين و ستين و أربعمائة و فرغ من فتح غمارة صمد إلى فاس فحاصرها أياما ثم اقتحمها عنوة و قتل بها زهاء ثلاثة آلاف من مغراوة و بني يفرن و مكناسة و قبائل زنانة و هلك تميم في جملتهم حتى أعوزت مواراتهم فرادى فاتخذت لهم الأخاديد و قبروا جماعات و خلص من نجا من القتل منهم إلى تلمسان و أمر يوسف بن تاشفين بهدم الأسوار التي كانت فاصلة ببن العدوتين و صيرهما مصرا و أدار عليهما سورا واحدا و انقرض أمر مغراوة من فاس و البقاء لله سبحانه و تعالى (7/39)
الخبر عن بني خزرون ملوك سجلماسة من الطبقة الأولى من مغراوة و أولية ملكهم و مصائره
كان خزرون بن فلفول من أمراء مغراوة و أعيان بني خزر و لما غلبهم بلكين بن زيري على المغرب الأوسط تحيزوا إلى المغرب الأقصى وراء ملوبة و كان بنو خزر يدينون بالدعوة المروانية كما ذكرناه و كان المنصور بن أبي عامر القائم بدولة المؤيد قد اقتصر لأول حجابته من أحوال العدوة على ضبط سبتة برجال الدولة و وجوه القواد و طبقات العسكر و دفع ما وراءها إلى أمراء زناتة من مغراوة و بني يفرن و مكناسة و عول في ضبط كوره و سداد ثغوره عليهم و تعهدهم بالعطاء و أفاض فيهم الإحسان فازدلفوا إليه بوجوه التقربات و أسباب الوصائل و كان خزرون بن فلفول هذا زحف يومئذ إلى سجلماسة و بها المعتز من أعقاب آل مدرار فانتزى بها أخوه المنتصر بعد قفول جوهر إلى المغرب و ظفر بأميرهم الشاكر لله محمد بن الفتح فوثب المنتصر من أعقابهم بعده على سجلماسة و تملكها ثم وثب به أخوه أبو محمد سنة اثنتين و خمسين و ثلثمائة فقتله و قام بأمر سجلماسة و أعاد بها ملك بني مدرار و تلقب المعز بالله فزحف إليه خزرون بن فلفول سنة سبع و ستين و ثلثمائة في جموع مغراوة و برز إليه المعتز فهزمه خزرون و استولى على مدينة سجلماسة و محا دولة آل مدرار و الخوارج منها آخر الدهر و أقام الدعوة بها للمؤيد هشام فكانت أول دولة أقيمت للمروانيين بذلك الصقع و وجد للمعتز مالا و سلاحا فاحتقنها و كتب بالفتح إلى هشام و أنفذ رأس المعتز فنصب بباب سدته و نسب الأثر في ذلك الفتح لصحابة محمد بن أبي عامر و يمن طائره و عقد لخزرون على سجلماسة و أعمالها و جاءه عهد الخليفة بذلك فضبطها و قام بأمرها إلى أن هلك فولي أمر سجماسة من بعده ابنه وانودين
ثم كان زحف زيري بن مناد إلى المغرب الأقصى سنة تسع و ستين و ثلثمائة و فرت زناتة أمامه إلى سبتة و ملك أعمال المغرب و ولى عليها من قبله و حاصر سبتة ثم أفرج عنها و شغل بجهاد برغواطة و بلغه أن وانودين بن خزرون أغار على نواحي سجلماسة و أنه دخلها عنوة و أخذ عامله و ما كان معه من الأموال و الذخيرة فدخل إليها سنة ثلاث و تسعين و أربعمائة و فصل عنها فهلك في طريقه و رجع وانودين بن خزرون إلى سجلماسة و في أثناء ذلك كان استيلاء زيري بن عطية بن عبد الله بن خزر على المغرب و ملك فاس بعهد هشام ثم انتقض على المنصور آخرا و أجاز ابنه عبد الملك في العساكر إلى العدوة سنة ثمان و ثمانين و أربعمائة فغلب عليها بني خزر و نزل فاس و بث العمال في سائر نواحي المغرب لسد الثغور و جباية الخراج و عقد فيما عقد على سجلماسة لحميد بن يصل المكناسي النازع إليهم من أولياء الشيعة فعقد له على سجلماسة حين فر عنها بنو خزرون فملكها و أقام فيها الدعوة و لما تفل عبد الملك إلى العدوة و أعاد واضحا إلى عمله بفاس استأمن إليه كثير من بني خزر كان منهم وانودين بن خزرون صاحب سجلماسة و ابن عمه فلفول بن سعيد فأمنهم ثم رجع وانودين إلى علمه بسجلماسة بعد أن تضامن أمرها وانودين و فلفول بن سعيد على مال مفروض و عدة من الخيل و الدرق يحملان إليه ذلك كل سنة و أعطيا في ذلك أبناءهما رهنا فعقد لهما واضح بذلك و استقل وانودين بعد ذلك بملك سجلماسة منذ أول سنة تسعين و أربعمائة مقيما فيها للدعوة المروانية و رجع المعز بن زيري إلى ولاية المغرب بعهد المظفر بن أبي عامر سنة ست و تستعين و أربعمائة و استثنى عليه فيها أمر سجلماسة لمكان وانودين بها و لما انتثر سلك الخلافة بقرطبة و كان أمر الجماعة و الطوائف و استبد أمراء الأمصار و الثغور و ولاة الأعمال بما في أيديهم استبد وانودين هذا بأعمال سجلماسة و تغلب على عمل درعة و استضافه إليه
و نهض المعز بن زيري صاحب فاس سنة سبع و أربعمائة مع جموع من مغراوة يحاول انتزاع هذه الأعمال من يد وانودين فبرز إليه في جموعه و هزمه و كان ذلك سببا في اضطراب أمر المعز إلى أن هلك و استفحل ملك وانودين و استولى على صبرون من أعمال فاس و على جميع قصور ملوية و ولى عليها من أهل بيته ثم هلك و ولي أمره من بعده ابنه مسعود بن وانودين و لم أقف على تاريخ ولايته و مهلك أبيه
و لما ظهر عبد الله بن ياسين و اجتمع إليه المرابطون من لمتونة و مسوفة و سائر المتلثمين و افتتحوا أمرهم بغزو درعة سنة خمس و أربعين و أربعمائة فأغاروا على إبل كانت هناك في حمى لمسعود بن وانودين و قتل كما ذكرناه في أخبار لمتونة ثم عاودوا الغزو إلى سجلماسة فدخلوها من العام المقبل مدخلوها و قتلوا من كان بها من فل مغراوة ثم تتبعوا من بعد ذلك أعمال المغرب و بلاد سوس و جبال المصامدة و افتتحوا صفروي سنة خمس و خمسين و أربعمائة و قتلوا من كان بها من أولاد وانودين و بقية مغراوة ثم افتتحوا حصون ملولة سنة ثلاث و ستين و أربعمائة و انقرض أمر بني وانودين كأن لم يكن و البقاء لله وحده و كل شيء هالك إلا وجهه سبحانه و تعالى لا رب سواه و لا معبود إلا إياه و هو على كل شيء قدير (7/50)
الخبر عن ملوك طرابلس من بني خزرون بن فلفول من الطبقة الأولى و أولية أمرهم و تصاريف أحوالهم
كان مغراوة و بنو خزر ملوكهم قد تحيزوا إلى المغرب الأقصى أمام بلكين ثم اتبعهم سنة تسع و ستين و ثلثمائة في زحفه المشهور و أحجرهم بساحل سبتة حتى بعثوا صريخهم إلى المنصور و جاءهم إلى الجزيرة مشارفا لأحوالهم و أمدهم بجعفر بن يحيى و من كان معه من ملوك البربر و زناتة فامتنعوا على بلكين و رجع عنهم فتقرى أعمال المغرب و هلك في منصرفه سنة اثنتين و سبعين و ثلثمائة و رجع أحياء مغراوة و بنو يفرن إلى مكانهم منه و بعث المنصور الوزير حسن بن عبد الودود عاملا على المغرب و قدم سنة ست و سبعين و ثلثمائة و اختص مقاتلا و زيري ابني عطية بن عبد الله بن خزر بمزيد التكرمة و لحق نظراؤهما من أهل بيتهما الغيرة من ذلك فنزع سعيد بن خزرون بن فلفول بن خزر إلى صنهاجة سنة سبع و سبعين و ثلثمائه منحرفا عن طاعة الأموية و وافى المنصور بن بلكين بأشير منصرفه من إحدى غزواته خلفاه بالقبول و المساهمة و بالغ في تكرمته و عقد له على عمل طبنة سنة إحدى و ثمانين و ثلثمائة و خرج للقائه و احتفل في تكرمته و عقد له و أدركه الموت بالقيروان فهلك لسنته و وفد ابنه فلفول من مكان عمله فعقد له على عمل أبيه و خلع عليه و زف إليه ابنته و سوغه ثلاثين حملا من المال و ثلاثين تختا من الثياب و قرب إليه مراكب بسروج مثقلة و أعطاه عشرة من البنود مذهبة و انصرف إلى عمله
و هلك المنصور بن بلكين سنة خمس و ثمانين و ثلثمائة و ولي ابنه باديس فعقد لفلفول على عمله بطبنة و لما انتقض زيري بن عطية على المنصور بن أبي عامر و سرح إليه ابنه المظفر كما قلناه فغلبه على أعمال المغرب و لحق زيري بالقفر ثم عاج على المغرب الأوسط و نازل ثغور صنهاجة و حاصر تيهرت و بها يطوفت بن بلكين و زحف إليه حماد بن بلكين من أشير في العساكر من تلكانة و معه محمد بن أبي العرب قائد باديس بعثه في عساكر صنهاجة من القيروان مددا ليطوفت و أوغر إلى فلفول و هو بأشير أن يكون معهم و لقهم زيري بن عطية ففض جموعهم و استولى على معسكرهم و اضطربت أفريقية فتنة و تنكرت صنهاجة لمن كان بجهاتها من قبائل زناتة و خرج باديس بن المنصور من رقادة في العساكر إلى المغرب و لما مر بطبنة استقدم فلفول بن سعيد بن خزرون ليستظهر به على حربه فاستراب و اعتذر عن الوصول و سأل تجديد العهد إلى مقدم السلطان فأسعف ثم اشتدت استرابته و من كان معه من مغراوة فارتحلوا عن طبنة و تركوها و لما أبعد باديس رجع فلفول إلى طبنة فعاث في نواحها ثم فعل في تيجس كذلك ثم حاصر باغاية و انتهي باديس إلى أشير وفر زيري بن عطية إلى صحراء المغرب و رجع على باديس بعد أن ولى على تاهرت و أشير عمه يطوفت بن بلكين و انتهى إلى المسيلة فبلغه خروج عمومته ماكسن و زاوى و غرم و مغنين فخاف أبو البهار إحن زيرى و لحق بهم من معسكره و بعث ياديس في أثرهم عمه حماد بن بلكين و رحل هو إلى فلفول بن سعيد بعد أن كان سرح عساكره إليه و هو محاصر باغاية فهزمهم و قتل قائدهم أبارعبل ثم بلغه وصول باديس فأفرج عنها و اتبعه باديس إلى مرماجنة فتزاحفوا و قد اجتمع لفلفول من قبائل زناتة و البربر أمم فلم يثبتوا للقاء و انكشفوا عنه و انهزم إلى جبل الحناش و نزل القيطون بما فيه و كتب باديس بالفتح إلى القيروان و قد كان الارجاق أخذ منهم المأخذ و فر كثر منهم إلى المهدية و شرعوا في عمل الدروب بما كانوا يتوقعون من فلفول بن سعيد حين قتل أبا رعبل و هزم جيوش صنهاجة و كانت الواقعة آخر سنة سبع و ثمانين و ثلثمائة و انصرف باديس إلى القيروان ثم بلغه أن أولاد زيري اجتمعوا مع فلفول بن سعيد و عاقدوه و نزلوا جميعا فحصروا تبسة فخرج باديس من القيروان إليهم فافترقوا و لحق العمومة بزيري بن عطية ما خلا ماكسن و ابنه حسنا فإنهما أقاما مع فلفول و رجع باديس في أثره سنة إحدى و تسعين و ثلثمائة و انتهى إلى بسكرة ففر فلفول إلى الرمال و كان زيري بن عطية محاصرا لأشير أثناء هذه الفتنة فأفرج عنها و رجع عنها أبو البهار إلى باديس و قفل معه إلى القيروان و تقدم فلفول بن سعيد إلى نواحي قابس و طرابلس قاجتمع إليه من هنالك من زناتة و ملك طرابلس على ما نذكره
و ذلك أن طرابلس كانت من أعمال مصر و كان العامل عليها بعد رحيل معد إلى القاهرة عبد الله بن يخلف الكتامي و لما هلك معد رغب بلكين من نزال العزيز إضافتها إلى عمله فأسعفه بها و ولى عليها تمصولة بن بكار من خواص مواليه نقله إليها من ولاية بونة فلم يزل عليها إلى أن أرسل إلى الحاكم بمصر يرغب الكون في حضرته و أن يتسلم منه عمل طرابلس و كان برجوان الصقلي يستبد على الدولة و كان يغص بمكان يأنس الصقلي منها فأبعده عن الحضرة لولاية برقة ثم لما تتابعت رغبة تمصولة صاحب طرابلس أشار برجوان ببعث يأنس إليها فعقد له الحاكم عليها و أمره بالنهوض إلى عملها فوصلها سنة تسعين و ثلثمائة و لحق تمصولة بمصر و بلغ الخبر إلى باديس فسرح القائد جعفر بن حبيب في العساكر ليصده عنها و زحف إليه يأنس فكانت عليه الهزيمة و قتل و لحق فتوح بن على من قواده بطرابلس فامتنع بها و نازله جعفر بن حبيب و أقام عليها مدة و بينما هو محاصر له إذ وصله كتاب يوسف بن عامر عامل قابس يذكر أن فلفول بن سعيد نزل على قابس و أنه قاصد إلى طرابلس فرحل جعفر عن البلد إلى ناحية الجبل و جاء فلفول ين سعيد فنزل بمكانه و ضاقت الحال بجعفر و أصحابه فارتحلوا مصممين على المناجزة و قاصدين قابس فتخلى فلفول عن طريقهم و انصرفوا إلى قابس و قدم فلفول مدينة طرابلس فتلقاه أهلها و نزل له فتوح بن علي عن إمارتها فملكها و أوطنها من يومئذ و ذلك سنة إحدى و تسعين و ثلثمائة و بعث بطاعته إلى الحاكم فسرح الحاكم يحيى بن على بن حمدون و عقد له على أعمال طرابلس و قابس فوصل إلى طرابلس و ارتحل معه فلفول و فتوح بن على بن غفيانان في عساكر زناتة إلى حصار قابس فحاصروها مدة و رجعوا إلى طرابلس ثم رجع يحيى بن علي إلى مصر و استبد فلفول بعمل طرابلس و طالت الفتنة بينه و بين باديس و يئس من صريخ مصر فبعث بطاعته إلى المهدي محمد بن عبد الجبار بقرطبة و أوفد إليه رسله قي الصريخ و المدد و هلك فلفول قبل رجوعهم إليه سنة أربعمائة و اجتمعت زناتة إلى أخيه وروا بن سعيد
و زحف باديس إلى طرابلس و أجفل وروا و من معه من زناتة عنها و لحق بباديس من كان بها من الجند فلقوه في طريقه و تمادى إلى طرابلس فدخلها و نزل قصر فلفول و بعث إليه وروا بن سعيد يسأل الأمان له و لقومه فبعث إليه محمد بن حسن من صنائعه فاستقدم وفدهم بأمانه فوصلهم و ولى وروا على نفزاوة و النعيم بن كنون على قسطيلية و شرط عليهم أن يرحلوا بقومهم عن أعمال طرابلس فرجعوا إلى أصحابهم و ارتحل باديس إلى القيروان و ولى على طرابلس محمد بن الحسن و نزل وروا بنفزاوة و النعيم بقسطيلية
ثم انتقض وروا سنة إحدى و أربعمائة و لحق بجبال ايدمر فتعاقدوا على الخلاف و استضاف النعيم بن كنون نفزاوة إلى عمله و رجع خزرون بن سعيد عن أخيه وروا إلى السلطان باديس و قدم عليه بالقيروان سنة اثنتين و أربعمائة فتقتله و وصله و ولاه عمل أخيه نفزاوة و ولى بني مجلية من قومه على قفصه و صارت مدن الماء كلها لزناتة و زحف وروا بن سعيد فيمن معه من زناتة إلى طرابلس و برز إليه عاملها محمد بن حسن فتواقعوا و دارت بينم حروب شديدة انهزم فيها وروا و هلك الكثير من قومه ثم راجع حصارها و ضيق على أهلها فبعث باديس إلى خزرون و أخيه و إلى النعيم بن كنون و أمراء الجريد من زناتة بأن يخرجوا لحرب صاحبهم فخرجوا إليه و تواقعوا بعبرة ما بين قابس و طرابلس ثم اتفقوا و لحق أصحاب خزرون بأخيه وروا و رجع خزرون إلى عمله و اتهمه السلطان بالمداهنة في شأن أخيه وروا فاستقدمه من نفزاوة فاستراب و أظهر الخلاف و سرح السلطان إليه فتوح بن أحمد في العساكر فأجفل عن عمله و اتبعه النعيم و سائر زناتة و لحقوا جميعا بوروا بن سعيد سنة أربع و أربعمائة و تظاهروا على الخلاف و نصبوا الحرب على مدينة طرابلس
و اشتد فساد زناتة فقتل السلطان من كان عنده من رهن زناتة و اتفق وصول مقاتل ابن سعيد نازعا عن أخيه وروا في طائفة من أبنائه و أخواله فقتلوا معهم جميعا و شغل السلطان بحرب عمه حماد و لما غلبه بشلب سنته و انصرف إلى القيروان بعث إليه وروا بطاعته ثم كان مهلك وروا سنة خمس و أربعمائة و انقسم قومه على ابنه خليفة و أخيه خزرون بن سعيد و اختلفت كلمتهم و دس حسن بن محمد عامل طرابلس في التصريف بينهم ثم صار أكثر زناتة إلى خليفة و ناجز عمه خزرون الحرب فغلبه على القيطون و ضبط زناتة و قام فيهم بأمر أبيه و بعث بطاعته إلى السلطان باديس بمكانه من حصار القلعة فتقبلها ثم هلك باديس و ولي ابنه المعز سنة ست و أربعمائة و انتقض خليفة بن وروا عليه و كان أخوه حماد بن وروا بضرب على أعمال طرابلس و قابس و يواصل عليه الغارة و النهب إلى سنة ثلاث عشرة و أربعمائة فانتقض عبد الله بن حسن صاحب طرابلس على السلطان و أمكنه من طرابلس و كان سبب ذلك أن المعز بن باديس لأول ولايته استقدم مجمد بن حسن من عمله و استخلف عليه أخاه عبد الله بن حسن و قدم على المعز و فوض إليه أمر مملكته و أقام على ذلك سبعا و تمكنت حاله عند السلطان و كثرت السعاية فيه فنكبه و قتله و بلغ الخبر إلى أخيه فانتقض كما قلناه و أمكن خليفة بن وروا و قومه من مدينة طرابلس فقتلوا الصنهاجيين و استولوا عليها و نزل خليفة بقصر عبد الله و أخرجه عنه و استصفى أمواله و حرمه و اتصل ملك خليفة بن وروا و قومه بنى خزرون بطرابلس و خاطب الخليفة بالقاهرة الظاهر بن الحكم سنة سبع عشر و أربعمائة بالطاعة و ضمان السابلة و تشييع الرفاق و يحفظ عهده على طرابلس فأجابه إلى ذلك و انتظم في عمله و أوفد في هذه السنة أخاه حمادا على المعز بهديته فتقبلها و كافأه عليها
هذا آخر ما حدث به ابن الرقيق من أخبارهم و نقل ابن حماد و غيره أن المعز زحف أعوام ثلاثين و أربعمائة إلى زناتة بجهات طرابلس فبرزوا إليه و هزموه و قتلوا عبد الله بن حماد و سبوا أخته أم العلو بنت باديس و منوا عليها بعد حين و أطلقوها إلى أخيها ثم زحف إليهم ثانية فهزموه ثم أتيحت له الكرة عليهم فغلبهم و أذعنوا لسلطانه و اتقوه بالمهادنة فاستقام أمرهم على ذلك و كان خزرون بن سعيد لما غلبه خليفة بن وروا على إمارة زناتة لحق بمصر فأقام فيها بدار الخلافة و نشأ بنوه بها و كان منهم المنتصر بن خزرون و أخوه سعيد و لما وقعت الفتنة بين الترك و المغاربة بمصر و غلبهم الترك و أجلوهم عنها لحق المنتصر و سعيد بطرابلس و أقاما في نواحها ثم ولي سعيد أمر طرابلس و لم يزل واليا عليها إلى أن هلك سنة سبع و عشرين و أربعمائة و قال أبو محمد التيجاني في رحلته عند ذكر طرابلس : و لما قتلت زغبة سعيد بن خزرون سنة تسع و عشرين و أربعمائة قدم خليفة بن خزرون من القيطون بقومه إلى ولايتها فأمكنه منها رئيس الشورى و بها يومئذ من الفقهاء أبو الحسن بن المنتصر المشتهر بعلم الفرائض و بايع له و قام بها خزرون إلى سنة ثلاثين و أربعمائة بعدها فقام المنتصر بن خزرون في ربيع الأول منها و معه عساكر زناتة ففر خزرون بن خليفة من طرابلس مختفيا و ملكها المنتصر بن خزرون و أوقع بابن المنتصر و نفاه و اتصلت بها إمارته انتهى ما نقله التيجاني
و هذا الخبر مشكل من جهة أن زغبة من العرب الهلاليين و إنما جاؤوا إلى أفريقية من مصر بعد الأربعين من تلك المائة فلا يكون وجودهم بطرابلس سنة تسع و عشرين و أربعمائة إلأ إن كان تقدم بعض أحيائهم إلى أفريقية من قبل ذلك
فقد كان بنو مرة ببرقة بعثهم الحاكم مع يحيى بن علي بن حمدون إلا أن ذلك لم ينقله أحد
و لم تزل طرابلس بأيدي بني خزرون الزناتيين و لما وصل العرب الهلاليون و غلبوا المعز بن باديس على أعمال أفريقية و اقتسموها كانت قابس و طرابلس في قسمة زغبة و البلد لبني خزرون ثم استولى بنو سليم على الضاحية و غلبوا عليها زغبة و رحلوهم عن تلك المواطن و لم تزل البلد لبني خزرون و زحف المنتصر بن خزرون مع بني عدي من قبائل هلال مجلبا على بني حماد حتى نزل المسيلة و نزل أشير ثم خرج إليهم الناصر ففر أمامه إلى الصحراء و رجع إلى القلعة فرجعوا إلى الاحلاف على أعماله فراسله الناصر على الصلح و أقطعه ضواحي الزاب و زيغة و أوعز إلى عروس بن سندي رئيس بسكرة لعهده أن يمكر به فلما وصل المنتصر إلى بسكرة أنزله عروس ثم قتله غيلة أعوام ستين و أربعمائة و ولي طرابلس آخر من بني خزرون لم يحضرني اسمه و اختل ملك صنهاجة و اتصل فيهم ملك تلك الأعمال إلى سنة أربعين و خمسمائة ثم نزل بطرابلس و نواحيها في هذا العام مجاعة و أصابهم منه شدة هلك فيها الناس و فروا عنها و ظهر اختلال أحوالها و فناء حاميتها فوجه إليها رجار طاغية صقلية أسطولا لحاصارها بعد استيلائه على المهدية و صفاقس و استقرار ولايته فيهما و وقع بين أهل طرابلس الخلاف فغلب عليهم جرجي بن ميخايل قائد الأسطول و ملكها و أخرج منها بني خزرون و ولى على البلد شيخهم أبا يحيى بن مطروح التميمي فانقرض أمر بني خزرون منها و بقي منهم من بقي بالضاحية إلى أن افتتح الموحدون أفريقية آخر الدولة الصنهاجية و الملك لله وحده يؤتيه من يشاء من عباده سبحانه لا إله غيره (7/53)
الخبر عن بني يعلى ملوك تلمسان من آل خزر من أهل الطبقة الاولى و الالمام ببعض دولهم و مصائرها
قد ذكرنا في أخبار محمد بن خزر و بنيه أن محمد بن الخير الذي قتل نفسه في معركة بلكين كان من ولده الخير و يعلى و أنهما اللذان ثأرا منه بأبيهما زيري فقتلوه و اتبعهم بلكين من بعد ذلك و أجلاهم إلى المغرب الأقصى حتى قتل منهم محمد صبرا أعوام ستين و ثلثمائة بنواحي سجلماسة قبل وصول معد إلى القاهرة و ولاية بلكين على أفريقية و قام بأمر زناتة بعد الخير ابنه محمد و عمه يعلى بن محمد و تكررت إجازة محمد بن الخير هذا و عمه يعلى إلى المنصور بن أبي عامر كما ذكرنا ذلك من قبل و غلبهم ابنا عطية بن عبد الله بن خزر و هما مقاتل و زيري على رياسة مغراوة و هلك مقاتل و اختص المنصور زيري بن عطية باثرته و ولاه على المغرب كما ذكرناه و قارن ذلك مهلك بلكين و انتقاض أبي البهار بن زيري صاحب المغرب الأوسط على باديس فكان من شأنه مع زيري و يدوي بن يعلى ما قدمناه ثم استقل زيري و غلبهم جميعا على المغرب ثم انتقض على المنصور فأجاز إليه ابنه المظفر و أخرج زناتة من المغرب الأوسط فتوغل زيري في المغرب الأوسط و نازل أمصاره و انتهى إلى المسيلة و أشير و كان سعيد بن خزرون قد نزع إلى زناتة و ملك طبنة و اجتع زناتة بأفريقية عليه و على ابنه فلفول من بعده و انتقض فلفول على باديس عند زحف زيري إلى المسيلة و أشير و شغل باديس ثم ابنه المنصور على المغرب الأوسط بحروب فلفول و قومه و دفعوا إليه حماد بن بلكين فكانت بينه و بين زناتة حروب سجال و هلك زيري بن عطية و استقل المعز و ابنه بملك المغرب سنة ثلاث و تسعين و ثلثمائة و غلب صنهاجة على تلمسان و ما إليها و اختط مدينة وجدة كما ذكرنا ذلك كله من قبل و نزل يعلى بن محمد مدينة تلمسان فكانت خالصة له و بقي ملكها و سائر ضواحيها في عقبه ثم هلك حماد بعد استبداده ببلاد صنهاجة على آل بلكين و شغل بنوه بحرب بنى باديس فاستوسق ملك بني يعلى خلال ذلك بتلمسان و اختلفت أيامهم مع آل حماد سلما و حربا و لما دخل العرب الهلاليون أفريقية و غلبوا المعز و قومه عليها و اقتسموا سائر أعمالها ثم تخطوا إلى أعمال بي حماد فأحجروهم بالقلعة و غلبوهم على الضواحي فرجعوا إلى استئلافهم و استخلصوا الأثبج منهم و زغبة فاستظهروا بهم على زناتة المغرب الأوسط و أنزلوهم بالزاب و أقطعوهم الكثير من أعماله فكانت بينهم و بين بني يعلى أمراء تلمسان حروب و وقائع و كان زغب أقرب إليهم بالمواطن و كان أمير تلمسان لعهدهم بختى من ولد يعلى و كان وزيره و قائد حروبه أبو سعيد ابن خليفة بن اليفرني فكان كثيرا ما يخرج بالعساكر من تلمسان لقتال عرب الأثبج و زغبة و يحتشد من إليها من زناتة من أهل المغرب الأوسط مثل مغراوة و بني يفرن و بني يلومو و بني عبد الواد و توجين و بني مرين و هلك في بعض تلك الملاحم هذا الوزير أبو سعيد أعوام خمسين و أربعمائة
ثم ملك المرابطون أعمال المغرب الأقصى بعد مهلك يحيى و ولاية ابنه العباس بن يحيى بتلمسان و سرح يوسف بن تاشفين قائده مزدلي بن في عساكر لمتونة لحرب من بقي بتلمسان من مغراوة و من لحق بهم من فل بني زيري و قومهم فدوخ المغرب الأوسط و ظفر بمعلى بن العباس بن بختي و برز لمدافعتهم فهزمه و قتله و انكف راجعا إلى المغرب ثم نهض يوسف بن تاشفين بنفسه في جموع المرابطين سنة ثلاث و سبعين و أربعمائة فافتتح تلمسان و استلحم بي يعلى و من كان بها من مغراوة و قتل العباس بن بختى أميرها من بني يعلى ثم افتتح وهران و تنس و ملك جبل وانشريس و شلف إلى الجزائر و انكف ر راجعا و قد محى أثر مغراوة من المغرب الأوسط و أنزل محمد بن تينعمر المسوفي في عسكر من المرابطين بتلمسان و اختط مدينة تاكرارت بمكان معكسره و هو اسم المحلة بلسان البربر و هي التي صارت اليوم مع تلمسان القديمة التي تسمى أكادير بلدا واحدا و انقرض أمر مغراوة من جميع المغرب كأن لم يكن و البقاء لله وحده سبحانه
( معلي بن العباس بن بختي بن ... بن يعلى بن محمد بن الخير بن محمد بن خزر ) (7/60)
الخبر عن أمراء اغمات من مغراوة
لم أقف على أسماء هؤلاء إلا أنهم أمراء بأغمات آخر دولة بي زيري بفاس و بني يعلى اليفرني بسلا و تادلا في جوار المصامدة و برغواطة و كان لقوط بن يوسف بن علي آخرهم في سني الخمسين و أربعمائة و كانت امرأته زينب بنت إسحاق النفزاوية من إحدى نساه العالم المشهورات بالجمال و الرياسة و لما غلب المرابطون على أغمات سنة تسع و أربعين و أربعمائة فر لقوط هذا إلى تادلا سنة إحدى و خمسين و أربعمائة و قتل الأمير محمد و استلحم بني يفرن فكمان فيمن استلحم و خلفه أبو بكر بن عمر أمير المرابطين كل زبنب بنت إسحاق حتى إذا ارتحل إلى الصحراء سنة ثلاث و خمسين و أربعمائة و استعمل ابن عمه يوسف بن تاشفين على المغرب نزل له عن زوجه زينب هذه فكان لها رياسة أمره و سلطانه و ما أشارت إليه عند مرجع أبي بكر من الصحراء في إظهار الاستبداد حتى تجافى عن منازعته و خلص ليوسف بن تاشفين ملكه كما ذكرناه في أخبارهم ولم نقف من لقوط بن يوسف وتومه على غير هذا الذي كتبناه و الله ولي العون سبحانه (7/62)
الخبر عن بني سنجاس و ريغة و الاغواط و بني ورا من قبائل مغراوة من أهل الطبقة الأولى و تصاريف أحوالهم
هذه البطون الأربعة من بطون مغراوة و قد زعم بعض الناس أنهم من بطون زناتة غير مغراوة أخبرني بذلك الثقة عن إبراهيم بن عبد الله التمر و غني قال و هو نسابه زناتة لعهده : ولم تزل هذه البطون الأربعة من أوسع بطون مغراوة فأما بنو سنجاس فلهم مواطن في كل عمل من إفريقية والمغربين فمنهم قبلة المغرب الأوسط بحبل راشد و جبل كريكرة و بعمل الزاب وبعمل شلف و من بطونهم بنو عيار ببلاد شلف أيضا و بنو عيار بأعمال قسنطينة و كان بني سنجاس هؤلاء من أوسع القبائل و أكثرهم عددا و كان لهم في فتنة زناتة و صنهاجة آثار بإفريقية و المغرب و أكثرها في إفساد السبيل و العيث في المدن و نازلوا قفصة سنة أربع عشرة و خمسمائة بعد أن عاثوا بجهات القصر و قتلوا من وجدوا هنالك من عسكر تلكاتة و خرجت إليهم حامية قفصة فأثخنوا فيهم ثم كثر فسادهم و سرح السلطان قائده محمد بن أبي العرب في العساكر إلى بلاد الجريد فشردهم عنها و أصلح السابلة ثم عادوا إلى مثلها سنة خمس عشر و خمسمائة فأوقع بهم قائد بلاد الجريد و أثخن فيهم بالقتل و حمل رؤوسهم إلى القيروان فعظم الفتح فيهم و لم تزل الدولة تتبعهم بالقتل و الاثخان إلى أن كسروا من شوكتهم
و جاء العرب الهلاليون و غلبوا على الضواحي كل من كان بها من صنهاجة و زناتة و تحيز فلهم إلى الحصون و المعاقل و ضربت عليهم المغارم إلا ما كان ببلاد المغرب القفر مثل جبل راشد فإنهم لبعدهم عن منازل الملك لا يعطون مغرما إلا أنه غلب عليهم هنالك العمور من بطون الهلاليين و نزلوا معهم و ملكوا عليهم أمرهم و صاروا لهم فيئه و من بني سنجاس من نزل الزاب و هم لهذا العهد أهل مغارم لمن غلب على ثغورهم من مشايخهم و أما من نزل منهم ببلاد شلف و نواحي قسنطينة فهم لهذا العهد أهل مغارم للدول و كان دينهم جميعا الخارجية على سنن زناتة في الطبقة الأولى و من بقي منهم اليوم بالزاب فعلى ذلك و من بني سنجاس هؤلاء بأرض المشيل من جبل بني راشد وطنوا جبلا في جوار غمرة و صاروا عند تغلب الهلاليين في ملكهم يقبضون الأتاوة منهم و نزل منهم لهذا العهد الصحاري من بطون عروة من زغبة و غلبوهم على أمرهم و أصاروهم خولا
و أما بنو ريغة فكانوا أحياء متعددة و لما افترق أمر زناتة تحيز منهم إلى جبل عياض و ما إليه من البسيط إلى نقاوس و أقاموا في قياطينهم فمن كان بجبل عياض منهم أهل مغارم لأمراء عياض يقبضونها للدولة الغالبة ببجاية و أما من كان ببسيط نقاوس فهم في أقطاع العرب لهذا العهد و نزل أيضا الكثير منهم ما بين قصور الزاب و واركلا فاختطوا قصورا كثيرة في عدوة واد ينحدر من المغرب إلى المشرق يشتمل على المصر الكبير و القرية المتوسطة والأطم قد زف عليها الشجر و نضدت حفافيها النخيل وانساحت خلالها المياه و زهت بينابيعها الصحراء وكثر في قصورها العمران من ريغه هؤلاء وبهم تعرف لهذا العهد وهم أكثرها و من بني سنجاس و بنى يفرن و غيرهم من قبائل زناتة و تفرقت جماعتهم للتنازع في الرياسة فاستقلت كل طائفة منهم بقصور منها أو بواحد و كانت فيما يقال أكثر من هذا العدد أضعاف و ان ابن غانية المسوفي حين كان يجلب على بلاد إفريقية و المغرب في فتنة مع الموحدين خرب عمرانها و اجتث شجرها و غور مياهها و يشهد لذلك آثار العمران بها في أطلال الديار و رسوم البناء و أعجاز النخل المنقعر و كان هذا العمل يرجع في أ ول الدولة الحفصية لعامل الزاب و كان من الموحدين ونزل بسكرة ما بينها و بين مغرة و كان من أعماله قصور واركلا أيضا و لما فتك المنتصر بمشيخة الزواودة كما قلناه في أخباره و قتلوا بعد ذلك عامل الزاب ابن عتوا من مشيخة الموحدين و غلبوا على ضواحي الزاب و واركلا و أقطعتهم إياها الدول بعد ذلك فصارت في أقطاعهم ثم عقد صاحب بجاية بعد ذلك على العمل لمنصور بن مزني و استقر في عقبه فربما يسيمون بعض الأحيان أهل تلك القصور المغرم للسلطان بما كان من الأمر القديم و يعسكر عليهم في ذلك كتائب من رجالة الزاب و خيالة العرب و يبهون عليها بأمر الزواودة ثم يقاسمهم فيما يمتريه منهم و أكبر هذه الأمصار يسمى تقرت مصر مستبحر العمران بدوي الأحوال كثير المياه و النخل ورياسته في بني يوسف بن عبد الله كانت لعبيد الله بن يوسف ثم لابنه داود ثم لأخيه يوسف بن عبيد الله وتغلب على واركلا من يد أبي بكر بن موسى أزمان حداثته وأضافها إلى عمله ثم هلك و صار أمر تقرت لأخيه مسعود بن عبيد الله ثم لابنه حسن بن مسعود ثم لابنه أحمد بن حسن شيخها لهذا العهد و بنو يوسف بن عبد الله هؤلاء من ريغة و يقال إنهم من سنجاس و في أهل تلك الأمصار من مذاهب الخوارج و فرقهم كثير و أكثرهم على دين العزابية و منهم النكارية و أقاموا على انتحال هذه الخارجية لبعدهم عن منال الأحكام ثم بعد مدينة تقرت بلد تماسين و هي دونها في العمران و الخطة و رياسته لبني إبراهيم بن من ريغة و سائر أمصارهم كذلك كل مصر منها مستبد بأمره و حرب لجاره و أما لقواط و هم فخذ من مغراوة أيضا فهم في نواحي الصحراء ما بين الزاب و جبل راشد و لهم هنالك قصر مشهور بهم فيه فريق من أعقابهم على سغب من العيش لتوغله في القفر و هم مشهورون بالنجدة و الامتناع من العرب و بينهم و بين الدوسن أقصى عمل الزاب مرحلتان و تختلف قصودهم إليهم لتحصيل المرافق منهم والله يخلق ما يشاء و يختار
وأما بنو ورا فهم فخذ من مغراوة أيضا و يقال من زناتة و هم متشعبون ومفترقون بنواحي المغرب : منهم بناحية مراكش و السوس و منهم ببلاد شلف ومنهم بناحية قسنطينة ولم يزالوا على حالهم منذ انقراض زناتة الأولين و هم لهذا العهد أهل مغارم و عسكرة مع الدول و أكثر الذين كانوا بمراكش قد انتقل رؤساؤهم إلى ناحية شلف قتلهم يوسف بن يعقوب سلطان بنى مرين في أول هذه المائة الثامنة لما ارتاب بأمرهم في تلك الناحية و خشي من إفسادهم و عيثهم فقتلهم في عسكر إلى موطن شلف لحمايته فزلوا به ولما ارتحل بنو مرين من بعد مهلك يوسف بن يعقوب أقاموا ببلاد شلف فأعقابهم بها لهذا العهد و أحوالهم جميعا في كل قطر متقاربة في المغرم و العسكرة مع السلطان ولله الخلق و الأمر جميعا سبحانه لا إله إلا هو الملك العظيم (7/63)
الخبر عن بني يرنيان اخوة مغراوة و تصاريف أحوالهم
قد ذكرنا بني يرنيان هؤلاء و أنهم إخوة مغراوة وبني يفرن و الكل ولد يصلتين و نسبهم جميعا إلى جانا مذكور هنالك و هم مبثوثون كثيرا بين زناتة في المواطن وأما الجمهور منهم فوطنهم بملوية من المغرب الأقصى ما بين سجلماسة وكرسيف كانوا هناك مجاورين لمكناسة في مواطنم واختطوا حفافي وادي ملوية قصورا كثيرة متقاربة الخطة و نزلوها و تعددت بطونهم و أفخاذهم في تلك الجهات ومنهم بنو وطاط متوطنون لهذا العهد بالجبال المطلة على وادي ملوية من جهة القبلة ما بينه وبيتن تازى و فاس وكم نعرف تلك القصور لهذا العهد وكان لبني يرنيان هؤلاء صولة و اعزاز و أجاز الحكم بن المستنصر منهم و المنصور بن أبي عامر من بعده فيمن أجازوه من زناتة في المائة الرابعة و كانوا من أفحل جند الأندلس و أشدهم شركة وبقي أهل المواطن منهم في مواطنهم مكناسة أيام ملكهم ويجمعهم عصبية يحيى ثم كانوا مع مغراوة أيضا أيام ملكهم المغرب الاقصى و لما ملك لتنونة و الموحدون من بعدهم لحق الظواعن منم بالقفر فاختلطوا بأحياء بنى مرين الموالين لتلول المغرب من زناتة أقاموا معهم في أحيائهم وبقي من عجز عن الظعن منهم بمواطنهم : مثل بني وطاط و غيرهم ففرضت عليهم المغارم و الجبايات و لما دخل بنو مرين للمغرب ساموهم في اقتسام أموالهم و أقطعوهم البلد الطيب من ضواحي سلا و المعمورة زيادة إلى وطهنم الأول بملوية و أنزلوهم بنواحي سلا بعد أن كان منهم انحراف عنهم في سبيل المدافعة عن أوطانهم الأولى ثم اصطلحوا و رعى لهم بنو عبد الحق سابقتهم معهم فاصطفوهم للوزارة و التقدم في الحرب و دفعوهم إلى الممات و خلطوهم بأنفسهم و كان من أكابر رجالاتهم لعهد السلطان أبي يعقوب و أخيه أبي سعيد الوزير إبراهيم بن عيسى استخلصوه للوزارة مرة بعد أخرى و استعمله السلطان أبو سعيد على وزارة ابنه أبي علي ثم لوزارته و استعمل ابنه السلطان أبو الحسن أبناء إبراهيم هذا في أكابر الخدام فعقد لمسعود بن إبراهيم على أعمال السوس عندما فتحها أعوام الثلاثين و السبعمائة ثم عزله بأخيه حسون و عقد لحسون على بلاد الجريد من إفريقية عند فتحه إياها سنة ثمان و أربعين و سبعمائة و كان فيها مهلكه و نظم أخاهما موسى في طبقة الوزارة ثم أفرده بها أيام نكبته و إلحاقه بجبل هنتاتة و استعمله السلطان أبو عنان بعد في العظيمات و عقد له على أعمال سدويكش بنواحي قسنطينة ورشح ابنه محمد السبيع لوزارته إلى أن هلك و تقلبت بهم الأيام بعده وقلد عبد الحميد المعروف بحلى ابن السلطان أبي علي وزارته محمد بن السبيع بعد هذا أيام حصاره لدار ملكهم سنة اثنتين و ستين و سبعمائة كما نذكره في أخبارهم فلم يقدر لهم الظفر ثم رجع السبيع بعدها إلى محله من دار السلطان و طبقة الوزارة و ما زال يتصرف في الخدم الجليلة و الأعمال الواسعة ما بين سجلماسة و مراكش و أعمال تازى و تادلا و غمارة و هو على ذلك لهذا العهد و الله وارث الأرض و من عليها سبحانه لا إله غيره (7/66)
الخبر عن وجديجن و أوغمرت من قبائل زناتة ومبادىء أحوالهم وتصاريفهم
قد تقدم أن هذين البطنين من بطون زناتة من ولد ورتنيص بن جانا وكان لهم عدد وقوة ومواطنهم مفترقة في بلاد زناتة فأما وجديجن فكان جمهورهم بالمغرب الأوسط ومواطنهم منه منداس ما بين بني يفرن من جانب المغرب ولواتة من جانب القبلة في السرسو و مطماطة في جانب الشرق في وانشريس و كان أميرهم لعهد يحيى بن محمد اليفرفي رجلا مهنم اسمه عنان و كان بينهم و بين لواتة الموطنين بالسرسو فتنة متصلة بذكر أنها بسبب امرأة من و جديحن نكحت في لواتة و تلا جامعها نساء قيطونهم فعيرنها بالفقر فكتبت بذلك إذ عنان تذمره فغضب واستجاش بأهل عصبته من زناتة و جيرانه فزحف معه يعلى في بني يفرن و كلمام بن حياتي في مغيلة و غرابة في مطماطة و دارت الحرب بينهم و بين لواتة مليا ثم غلبوا لواتة على بلاد السرسو و اتهوا بهم إلى كدية العابد من آخرها و هلك عنان شيخ وجديجن في بعض تلك الوقائع بملاكوا من جهات السرسو ثم لجأت زناتة إلى جبل كريكرة قبلة السرسو و كان يسكنه أحياء من مغراوة يعرف شيخهم لذلك العهد علاهم ربيب لشيخهم عمر بن تامصا الهالك قبله و معنى تامصا بلسان البربر الغول و لما لجأت لواتة إليه غدر بهم و أغزى قومه فوضعوا أيديهم فيهم قتلا و سلبا فلاذوا بالفرار و لحقوا بجبل معود و جبل دراك فاستقروا هناك آخر الدهر و ورثت وجديحن مواطنهم بمنداس إلى أن غلبهم عليها بنو يلومين و بنو ومانوكل من جهته ثم غلب الآخرين عليها بنو عبد الواد و بنو توجين إلى هذا العهد و الله وارث الأرض و من عليها
و أما أوغمرت و يسمى لهذا العهد غمرت و هم إخوة وجديجن من ولد ورتنيص بن جانا كما قلناه فكانوا من أوفر القبائل عددا و مواطنم متفرقة و جمهورهم بالجبال إلى قبلة بلاد صنهاجة من المشنتل إلى اللوسن و كان لهم مع أبي يزيد صاحب الحمار في الشيعة آثار و أوقع بهم اسمعيل القائم عند ظهوره على أبي يزيد و أثخن فيهم و كذلك بلكين و صنهاجة من بعده و لما افترق أمر صنهاجة لحماد و بنيه كانوا شيعا لهم على بني بلكين و نزع عن حماد أيام فتنته ابن أبي جلى من مشيختهم و كان مختصا بهم إلى باديس فوصله و حمل أصحابه و عقد له على طبنة و أعمالها حتى إذا جاء العرب الهلاليون و غلبوهم على الضواحي اعتصموا بتلك الجبال قبلة المسيلة و بلاد صنهاجة و قعدوا بها عن الظعن و تركوا القيطون إلى سكنى المدن ولما تغلب الزواودة على ضواحي الزاب وما إليها أقتطعتهم الدولة مغارم هذه الجبال التي لغمرت وهم لهذا العهد في سهمان أولاد يحيى بن علي بن سباع من بطونهم وكان في القديم من غمرت هؤلاه كاهن زناتة موسى بن صالح مشهور عندهم حتى الآن ويتناقلون بينهم كلماته برطانتهم على طريق الرجز فيها أخبار بالحدثان فيما يكون لهذا الجيل الزناتي من الملك والدولة والتغلب على الأحياء والقبائل والبلدان شهد كثير من الواقعات على وفقها بصحتها حتى لقد نقلوا من بعض كلماته ما معناه باللسان العربي أن تلمسان مآلها الخراب وتصير دورها فدنا حتى يثير أرضها حراث أسود بثور أسود أعور وذكر الثقات أنهم عاينوا ذلك بعد انتشار كلماته هذه أيام لحقها الخراب في دولة بنى مرين الثانية سنة ستين وسبعمانة وأفرط الخلاف بين هذا الجيل الزناتي في التشيع له والحمل عليه فمنهم من يزعم أنه نبي أو ولي وآخرون يقولون كاهن شيطان ولم تقفنا الأخبار الصحيحة على الجلي من أمره والله سبحانه وتعالى أعلم لا رب غيره (7/67)
الخبر عن بني واركلا من بطون زناتة و المصر المنسوب إليهم بصحراء إفريقية و تصاربف أحوالهم
بنو واركلا هؤلاء إحدى بطون زناتة كما تقدم من ولد فرني بن جانا وقد مر ذكرهم وأن أخوتهم الديرت و مرنجيصة و سبرترة و نمالة و المعروفون لهذا العهد منهم بنو واركلا و كانت فئتهم قليلة و كانت مواطنهم قبلة الزاب و اختطوا المصر المعروف بهم لهذا العهد على ثمان مراحل من بسكرة في القبلة عنها ميامنة إلى المغرب بنوها قصورا متقابلة متقاربة الخطة ثم استبحر عمرانها فأتلفت و صارت مصرا واحدا و كان معهم هناك جماعة من بني زنداك من مغراوة و إليهم كان هرب أبي زيد النكارى عند فراره من الاعتقال سنة خمس و عشرين و ثلثمائة و كان مقامه بينهم سنة يختلف إلى بني برزال قبلة المسيلة بسالات و إلى قبائل البربر بجبل أوراس يدعوهم جميعا إلى مذهب النكارية إلى أن ارتحل إلى أوراس و استبحر عمران هذا المصر و اعتصم به بنو واركلا هؤلاء و الكثير من ظواعن زناتة عند غلب الهلاليين إياهم على الضواحي و اختصاص الأثبج بضواحي القلعة و الزاب و ما إليها و لما استبد الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بملك إفريقية وجال في نواحيها في اتباع بن غانية مر بهذا المصر فأعجبه وكلف بالزيادة في تمصيره فاختط مسجد العتيق و مأذنته المرتفعة وكتب اسمه و تاريخ و ضعه نقشا في الحجر و هذا البلد لهذا العهد باب لولوج السفر من الزاب إلى المفازة الصحراوية المفضية إلى بلاد السودان يسكنها التجار الداخلون لها بالبضائع و سكانه لهذا العهد من بنى واركلا و أعتاب إخوانهم من بنى يفرن و مغراوة ويعرف رئيسه باسم السلطان شهرة غير نكيرة بينهم و رياسته لهذه الأمصار مخصوصه ببني أبي عبدل و يزعمون أنهم من بنى واكين إحدى بيوت بنى واركلا و هو لهذا العهد أبو بكر بن موسى بن سلان من بنى أبي عبدل و رياستهم متصلة في عمود هذا النسب و على عشرين مرحلة من هذا في القبلة منحرفأ إلى المغرب بيسير بلد تكرت قاعدة وطن الملثمين و ركاب الحجاج من السودان اختطه الملثمون من صنهاجة و هم سكانه لهذا العهد و صاحبه أمير من بيوتاتهم يعرفونه باسم السلطان و بينه و بين أمير الزاب مراسلة و مهاداة و لقد قدمت على بسكرة سنة أربع و خمسين أيام السلطان أبي عنان في بعض الأغراض السلطانية و لقيت رسول صاحب تكرت عند يوسف بن مزني أمير بسكرة و أخرني عن استبحار هذا المصر في العمارة و مرور السابلة وقال لي : اجتاز بنا هذا العام سفر من تجار المشرق إلى بلد مالي كانت ركابهم إثنى عشر ألف راحلة و ذكر لي غيره أن ذلك هو الشأن في كل سنة و هذا البلد في طاعة سلطان مالي من السودان كما في سائر تلك البلاد الصحراوية المعروفة بالملثمين لهذا العهد والله غالب على أمره سبحانه (7/69)
الخبر عن دمر من بطون زناتة و من ولي منهم بالأندلس و أولية ذلك و مصائره
بنو دمر هؤلاء من زناتة وقد تقدم أنهم من ولد ورسيك بن الديرت بن جانا و شعوبهم كثيرة و كانت مواطنهم بإفريقية في نواحي طرابلس و جبالها وكان منهم آخرون ظواعن من عرب إفريقية و من بطون بني دمر هؤلاء بنو ورغمة و هم لهذا العهد مع قومهم بجبال طرابلس و من بطونهم أيضا بطن متسع كثير الشعوب و هم : بنو ورنيدين بن وانتن بن وارديرن بن دمر و أن من شعوبهم بني ورتاتين وبني عزرول وبني تغورت و ربما يقال إن هؤلاء الشعوب لا ينتسبون إلى بني ورنيدين كما تقدم و بقايا بني ورنيدين لهذا العهد بالجبل المطل على تلمسان بعد أن كانوا في البسيط قبلته فزاحمهم بنو راشد حين أجلوهم من بلادهم بالصحراء إلى التل و غلبوهم على تلك البسائط فإنزاحوا إلى الجبل المعروف بهم لهذا العهد و هو المطل على تلمسان و كان قد أجاز إلى الأندلس من بنى دمر هؤلاء أعيان و رجالات حرب فيمن أجاز إليها من زناتة و سائر البربر أيام أخذهم بدعوة المنتصر فضمهم السلطان إلى عسكره و استظهر بهم المنصور بن أبي عامر من بعد ذلك على شأنه وقوى بهم المستعين أديم دولته و لما اعصوصب البربر على المستعين و بني حمود من بعده و غالبوا جنود الأندلس من العرب و كانت الفتنة الطويلة بينهم التي نثرت سلك الخلافة وفرقت شمل الجماعة و اقتسموا خطط الملك و ولايات الأعمال و كان من رجالاتهم نوح الدمري و كان من عظماء أصحاب المنصور و ولاه المستعين أعمال مورور و أركش فاستبد بها سنة أربع في غمار الفتنة و أقام بها سلطانا لنفسه إلى أن هلك سنة ثلاث و ثلاثين فولي ابنه أبا مناد محمد بن نوح و تلقب بالحاجب عز الدولة لقبين في قرن شأن ملوك الطوائف و كانت بينه و بين ابن عباد شأن في الأندلس خطوب ومر المعتضد في بعض أسفاره بحصن أركش و تطوف به مختفيا فقبض عليه بعض أصحاب ابن نوح وساقه إليه فخلى سبيله و أولاه كرامة احتسبا عنده أبدا و ذلك سنة ثلاث و أربعين و ثلثمائة فانطلق إلى دار ملكه و رجع بعدها إلى ولاية الملوك الذين حوله من البربر و أسجل لابن نوح هذا على عملي أركش و مورور فيمن أسجل له منهم فصاروا إلى مخالصته إلى أن استدعاهم سنة خمس و أربعين و ثلثمائة بعدها إلى صنع ودعا إليه الجفلى من أهل أعماله و اختصه بدخول حمام أعده لهم استبلاغا في تكريمهم وتخلف ابن نوح عنده من بينهم فما حصلوا داخل الحمام أطبقه عليهم وسد المنافس للهوى دونهم إلى أن هلكوا و نجا منهم ابن نوح لسالفة يده وطير في الحين من تسلم معاقلهم و حصونهم فانتظمهم في أعماله و كان منها رندة وشريش و سائر أعمالها و هلك من بعد ذلك الحاجب أبو مناد بن نوح سنة ( لم نستطيع تحديدها ) و ولي ابنه أبو عبد الله ولم يزل المعتضد يضايقه إلى أن انخلع سنة ثمان و خمسين و ثلثمائة فانتظمها في أعماله و سار إليه محمد بن أبي مناد إلى أن هلك سنة ثمان و ستين و انقرض ملك بني نوح و البقاء لله وحده سبحانه
أبو عبد الله بن الحاجب أبي مناد بن نوح الدمري (7/71)
الخبر عن بني برزال إحدى بطون دمر و ما كان لهم من الحال بقرمونة و أعمالها من الأندلس أيام الطوائف و أولية ذلك ومصائره
قد تقدم لنا أن بنى برزال هؤلاء من ولد ورنيدين بن وانتن بن وارديرن بن دمر كما ذكره ابن حزم و أن إخوتهم بنو يصدرين و بنو صمغان و بنو يطوفت و كان بنو برزال هؤلاء بإفريقية و كانت مواطنهم منها جبل سالات و ما إليها من أعمال المسيلة و كان لهم ظهور و وفور عدد و كانوا نكارية من فرق الخوارج و لما مر أبو زيد أمام اسمعيل المنصور و بلغه أن محمد بن خزر يترصد له أجمع الاعتصام بسالات و صعد إليه و أرهقته عساكر المنصور فانتقل عنه إلى كتمامة و كان من أمره ما قدمناه ثم استقام بنو برزال على طاعة الشيعة و موالاة جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة و الزاب حتى صاروا له شيعا و لما انتقض جعفر بن معد سنة ستين و ثلثمائة كان بنو برزال هؤلاء في جملته من أهل خصوصيته فأجازوا معه البحر إلى الأندلس أيام الحكم المستنصر فاستخدمهم و نظمهم في طبقات جنده إلى من كان به من قبائل زناتة و سائر البربر أيام أخذهم بالدعوة الأولة و محاربتهم عليها للادارسة فاستقروا جميعا بالأندلس و كان لبني برزال من بينهم ظهور و غنى مشهور و لما أراد المنصور بن أبي عامر الاستبداد على خليفته هشام وتوقع النكير من رجالات الدولة و موالي الحكم استكثر أبي برزال غيرهم من البربر وأفاض فيهم الإحسان فاعز أمره و اشتد أزره حتى أسقط رجال الدولة ومحى رسومها وأثبت أركان سلطانه ثم قتل صاحبهم جعفر بن يحيى كما ذكرناه خشية عصبيته بهم و استمالهم من بعده فأصبحوا له عصبة و كان يستعملهم في الولايات النبهة و الأعمال الرفيعة و كان من أعيان أبي برزال هؤلاء اسحق بن فولاه في قرمونة و أعمالها فلم يزل عليها أيام بني عامر و جدد له العقد عليها المستعين في فتنة البرابرة و ولها من بعده ابنه عبد الله
و لما انقرض ملك بني حمود من قرطبة ودفع أهلها القاسم المأمون عنهم سنة أربع عشرة وأربعمائة أراد اللحاق بأشبيلية و بها نائبه محمد بن أبي زيري من وجوه البربر بقرمونة عبد الله بن اسحق البرزالي فداخلهما القاضي ابن عتاد في خلع طاعة القاسم وصده عن العملين فأجابا إلى ذلك لهم دس للقاسم بالتحذير من عبد الله ابن إ سحق فعدل القاسم عنهما جميعا إلى شريش و استبد كل منهم بعمله ثم هلك عبد الله من بعد ذلك لولى ابنه محمد سنة وكانت بينه و بين المعتمد بن عباد حرب و ظاهر عليه يحيى بن على بن حمود في منازلة أشبيلية سنة ثمان عشرة و أربعمائة ثم اتفق مع ابن عتاد بعدها و ظاهره على عبد الله الأفطس وكانت بينهما حرب كانت الدائرة فيها على ابن الأفطس و حصل ابنه المظفر قائد العسكر في قبضة محمد بن عبد الله بن اسحق إلى أن من عليه ذلك وأطلقه ثم كانت الفتنة بين محمد ابن اسحق و بين المعتضد و أغار اسمعيل بن المعتضد على قرمونة في بعض الأيام بعد أن كمن الكمائن من الخيالة و الرجال و ركب إليه محمد في قومه فأستطرد له اسمعيل إلى أن بلغوا الكمائن فثاروا بهم و قتلوا محمد البرزالي و ذلك سنة أربع و ثلاثين و أربعمائة و ولي ابنه العزيز بن محمد و تلقب بالمستظهر مناغيا لملوك الطوائف لعهده ولم يزل المعتضد يستولي على غرب الأندلس شيئا فشيئا إلى أن ضايقه في عمل قرمونة و اقتطع منه أسجه و المورو ثم انخلع له العزيز عن قرمونة سنة تسع و خمسين و أربعمائة و نظمها المعتضد في ممالكه و انقرض ملك بني برزال من الأندلس ثم انقرض من بعد ذلك حيهم من جبل سالات و أصبحوا في الغابرين و البقاء لله وحده سبحانه
العزيز محمد بن عبد الله بن اسحق البرزالي (7/72)
الخبر عن بني وماتوا و بني يلومي من الطبقة الأولى من زناتة و ما كان لهم من الملك و الدولة بأعمال المغرب الأوسط و مبدأ ذلك و تصاريفه
هاتان القبيلتان من قبائل زناتة و من توابعهم الطبقة الأولى ولم نقف على نسبهما إلى جانا إلا أن نسابتهم متفقون على أن يلومي و ورتاجن الذي هو أبو مرين أخوان و أن مديون أخوهما للأم ذكر ذلك غير واحد من نسابتهم و بنو مرين لهذا العهد يعرفون لهم هذا النسب و يوجبون لهم العصبية له
و كانت هاتان القبيلتان من أوفر بطون زناتة و أشدهم شوكة و مواطنم جميعا بالمغرب الأوسط و بنو وماتوا منهم إلى جهة المشرق عن وادي ميناس و مرات و ما إليهما من أسافل شلف و ينو يلومي بالعدوة الغربية منه بالجعبات و البطحاء وسيد و سيرات و جبل هوارة و بني راشد
وكان لمغراوة و بني يفرن التقدم عليهم في الكثرة و القوة و لما غلب بلكين بن زيري مغراوة و بني يفرن على المغرب الأوسط و أزاحهم إلى المغرب الأقصى بقيت هاتان القبيلتان بمواطنهما و استعملهم صنهاجه في حروبهم حتى إذا تقلص ملك صنهاجة عن المغرب الأوسط و اعتزوا عليهم واختص الناصر بن علناس صاحب القلعة ومختط بجاية بني وماتوا هؤلاء بالولاية فكانوا شيعا لقومه دون يلومي و كانت رياسة أبي وماتوا في بيت منهم يعرفون ببني ماخوخ و أصهر المنصور بن الناصر إلى ماخوخ منهم في أخته فزوجها إليه فكان لهم بذلك مزيد ولاية في الدولة
ولما ملك المرابطون تلمسان أعوام سبعين و أربعمائة و أنزل يوسف بن تاشفين بها عامله محمد بن تينعمر المسوفي و دوخ المنصور و ملك أمصارها إلى أن نازل الجزائر و هلك فولى أخوه تاشفين على عمله فغزا أشير وافتتحها و خربها و كان لهذين الحيين في مظاهرته و إمداده أحقد عليهم المنصور بعدها وأغرى بنى وماتوا في عساكر صنهاجة وخلع لماخوخ فهزمه و أتبعه منهزما إلى بجاية و قتل لمدخله إلى قصره قتلته زوجه أخت ماخوخ تشفيا و ضغنا ثم نهض إلى تلمسان في العساكر و احتشد العرب من الأثبج و رياح و زغبة و من لحق به من زناتة و كانت النزلة المشهورة سنة ست و ثمانين و أربعمائة أبقى فيها ابن تينعمر المسوفي بعد استمكانه من البلد كما ذكرناه في أخبار صنهاجة ثم هلك المنصور و ولي إبنه العزيز و راجع ماخوخ ولايته و أ صهر إليه العزيز أيضا في ابنته فزوجها إياه و اعز البدو في نواحي المغرب الأوسط و اشتعلت نار الفتنة بين هذين الحيين من بني وماتوا و بني يلومي فكانت بيهنم حروب و مشاهد و هلك ماخوخ و قام بأمره في قومه بنوه تاشفين و علي و أبو بكر و كان أحياء زناتة الثانية من بني عبد الواد و توجين و بني راشد بني ورشفان من مغراوة مددا للفريقين و ربما ماد بنو مرين إخوانهم بني يلومي لقرب مواطنهم منهم إلا أن زناتة الثانية لذلك العهد مغلوبون لهذين الحين و أمرهم تبع لهم إلى أن ظهر أمر الموحدين و زحف عبد المؤمن إلى المغرب الأوسط في اتباع تاشفين بن علي وتقدم أبو بكر بن ماخوخ و يوسف بن زيد من بني وماتوا إلى طاعته و لحقوه بمكانه من أرض الريف فسرح معهم عسكر الموحدين لنظر يوسف بن واندين و ابن يغمور فأثخنوا في بلاد بني يلومي و بني عبد الواد و لحق صريخهم بتاشفين بن علي بن يغمور فأثخنوا في بلاد بني يلومي و بنى عبد الواد و لحق صريخهم بناشفين بن على ابن يوسف فأمدهم بالعساكر و نزلوا منداس و اجتمع لبني يلومي بنو ورسفان من مغراوة و بني توجين من بني بادين و بنو عبد الواد منهم أيضا و شيخهم حمامة بن مظهر و بنو يكناسن من بني مرين و أوقعوا ببني وماتوا و قتلوا أبا بكر في ستمائة منهم و استنفذوا غنائمهم و تحصن الموحدون وفل بني وماتوا بجبل سيرات و لحق تاشفين بن ماخوخ صريخا بعبد المؤمن و جاء في جملته حتى نزل تاشفين بن علي بتلمسان و لما ارتحل في أثره إلى وهران كما قدمناه سرح الشيخ أبو حفص في عساكر الموحدين إلى بلاد زناتة فنزلوا منداس وسط بلادهم و أثخنوا فيهم حتى أذعنوا لطاعته و دخلوا في الدعوة و وفد على عبد المؤمن بمكانه من حصار وهران مقدمهم سيد الناس بن أمير الناس شيخ بني يلومي و حمامة بن مظهر شيخ بني عبد الواد و عطية الخير شيخ بني توجين و غيرهم فتلقاهم بالقبول
ثم انتقضت زناتة بعدها و امتنع بنو يلومي بحصنهم الجعبات و معهم شيخهم سيد الناس و مدرج ابنا سيد الناس فحاصرتهم عساكر الموحدين و غلبوهم عليها و أشخصوهم إلى المغرب و نزل سيد الناس بمراكش و بها كان مهلكه أيام عبد المؤمن و هلك بعد ذلك بنو ماخوخ
و لما أخذ أمير هذين الحيين في الانتقاض جاذب بنو يلومي في تلك الأعمال بنو توجين و شاجروهم في أحواله ثم واقعوهم الحرب في جوانبه و تولى ذلك فيهم عطية الخير شيخ بني توجين و صلى بنارها معه منهم بنو منكوش من قومه حتى غلبوهم على مواطنهم و أذلوهم و أصاروهم جيرانا لهم في قياطينهم و استعلى بنو عبد الواد و توجين على هذين الحيين و غيرهم بولايتهم للموحدين و مخالطتهم إياهم فذهب شأنهم وافترق قيطونهم أوزاعا في زناتة الوارثين أوطانهم من عبد الواد و توجين و البقاء لله سبحانه و من بطون بني وماتوا هؤلاء بنو يامدس و قد يزعم زاعمون أنهم من مغراوة و مواطنهم متصلة قبلة المغرب الأقصى و الأوسط وراء العرق المحيط بعمرانها المذكور قبل و اختطوا في المواطن القصور و الأعلام و اتخذوا بها الجنات من النخيل و الأعناب و سائر الفواكه فمنها على ثلاثة مراحل قبلة سجلماسة و يسمى وطن توات و فيه قصور متعددة تناهز المائتين آخذة من المشرق إلى المغرب و آخرها من جانب المشرق يسمى تمنطيت و هو بلد مستجر في العمران و هو محط ركاب التجار المترددين من المغرب إلى بلد مالي من السودان لهذا العهد و من بلد مالي إليه و بينه و بين ثغر بلاد مالي المسمى غار المفازة المجهلة لا يهتدي بها للسبيل و لا يمر الوارد إلا بالدليل الخبير من الملثمين الظواعن بذلك القفز يستأجره التجار على الدربة بهم فيها بأوفر الشروط و كانت بلد بودي و هي أعلى تلك القصور بناحية المغرب من بادية السوس هي الركاب إلى والاتن الثغر الآخر من أعمال مالي ثم أهملت لما صارت الأعراب بادية السوس ينيرون على سابلتها و يعترضون رفاقها فتركوا تلك و نهجوا الطريق إلى بلد السودان من أعلى تمنطيت
و من هذه القصور قبلة تلمسان و على عشر مراحل منها قصور تيكارين و هي كثيرة تقارب المائة في بسيط واد منحدر من المغرب إلى المشرق و استبحرت في العمران و غصت بالساكن و أكثر سكان هذه القصور الغريبة في الصحراء بنو يامدس هؤلاء و معهم من سائر قبائل البربر مثل ورتطغير و مصاب و بني عبد الواد و بني مرين و هم أهل عدد و عدة و بعد عن هضمة الأحكام وذل المغارم وفيهم الرجالة والخيالة و أكثر معاشهم من بلح النخل و فيهم افتخار إلى بلاد السودان و ضواحيهم كلها مشتاة للعرب و مختصه بعبيد الله من المعقل عينها لهم قسمة الرحلة و ربما شاركهم بنو عاهر بن زغبة في تيكرارين فتصل إليها ناجعتهم بعض السنين
و أما عبيد الله فلا بد لهم في كل سنة من رحلة الشتاء إلى قصور توات و بلد تمنطيت و مع ناجعتهم تخرج قفول التجار من الأمصار و التلول حتى يحطوا بتمنطيت ثم يبذرقون منها إلى بلاد السودان و في هذه البلاد الصحراوية غريبة في استنباط المياه الجارية لا توجد في تلول المغرب و ذلك أن البئر تحفر عميقة بعيدة المهوى و تطوى جوانبها إلى أن يوصل بالحفر إلى حجارة صلدة فتنحت بالمعاول و الفؤوس إلى أن يرقجرمها ثم تصعد الفعلة و يقذفون عليها زبرة من الحديد تكسر طبقها على الماء فينبعث صاعدا فيعم البئر ثم يجري على الأرض واديا ويزعمون أن الماء ربما أعجل في بسرعة عن كل شيء وهذه الغريبة موجودة في قصور توات وتيكرارين و واركلا و ريغ والعالم أبو العجائب والله الخلاق والعليم وهذا آخر الكلام في الطبقة الأولى من زناتة فلنرجع إلى أخبار الطبقة الثانية وهم الذين اتصلت دولتهم إلى هذا العهد (7/74)
أخبار الطبقة الثانية من زناتة وذكر أنسابهم و شعوبهم و أوليتهم و مصائر ذلك
قد تقدم لنا في أضعاف الكلام قبل انقراض الملك من الطبقة من زناتة ما كان كل يد صنهاجة و المرابطين من بعدهم و أن عصبية أجيالهم افترقت بانقراض ملكهم ودولهم و بقي منهم بطون لم يمارسوا الملك و لا أخلقهم ترفه فأقاموا في قياطينهم بأطراف المغربين ينتجعون جانبي القفر و التل و يعطون الدول حق الطاعة و غلبوا على بقايا الأجيال الأولى من زناتة بعد أن كانوا مغلولين لهم فأصبحت لهم السورة و العزة و صارت الحاجة من الدول إلى مظاهرتهم و مسالمتهم حتى انقرضت دولة الموحدين فتطاولوا إلى الملك و ضربوا فنيه مع أهلهم بسهم و كانت لهم دول نذكرها إن شاء الله تعالى و كان أكثر هذه الطبقة من بني واسين بن يصلتن إخوة مغراوة و بني يفرن و يقال إنهم من بني وانتن بنو ورسيك بن جانا إخوة مسارة و تاجرت و قد تقدم ذكر هذه الأنساب و كان من بني واسين هؤلاء ببلد قسطيلية و ذكر ابن الرقيق أن أبا يزيد النكاري لما ظهر بجبل أوراس كتب إليهم بمكانهم حول توزر يأمرهم بحصارها فحاصروها سنة ثلاث و ثلاثين و ثلثمائة و ربما كان منهم ببلد الحامة لهذا العهد و يعرفون ببي ورتاجن إحدى بطونهم و أما جمهورهم فلم يزالوا بالمغرب القتصى بين ملوية إلى جبل راشد
و ذكر موسى بن أبي العافية في كتابه إلى الناصر الأموي يعرفه بحربه مع ميسور مولى أبي القاسم الشيعي و من صار إليه من قبائل زناتة فذكر فيمن ذكر ملوية و سار من قبائل بني واسين و بني يفرن و بني يرناتن و بني ورنمت و مطماطة فذكر منهم بني واسين لأن تلك المواطن من مواطنهم قبل الملك
و في هذه الطبقة منهم بطون : فمنهم بنو مرين و هم أكثرهم عددا و أقواهم سلطانا وملكا و أعظمهم دولة ومنهم : بنو عبد الواد تلوهم في الكثرة والقوة و بنو توجين من بعدهم كذلك هؤلاء أهل الملك من هذه الطبقة و فيها غير أهل الملك بنو راشد إخوة بني يادين كما نذكره و فيها أهل الملك أيضا من غير نسبهم بقية مغراوة بمواطنهم الأولى من وادي شلف نبضت فيهم عروق الملك بعد انقراض جيلهم الأول فتجاذبوا جبله مع أهل هذا الجيل و كانت لهم في مواطنهم دولة كما نذكره
ومن أهل هذه الطبقة كثير من بطونهم ليس لهم ملك نذكرهم الآن عند تفصيل شعوبهم و ذلك أن أحياءهم جميعا تشعبت من زرجيك بن واسين فكان منهم بنو يادين بن محمد و بنو مرين بن ورتاجن فاما بنو ورتاجن فمنهم من ولد ورتاجن بن ماخوخ بن جريح بن فاتن بن بدر بن يخفت بن عبد الله و رتنيد بن المعز بن ابراهيم بن زحيك وأما بنو مرين بن ورتاجن فتعددت أفخاذهم و بطونهم كما نذكر بعد حتى كثروا سائر شعوب بنى ورتاجن و صار بنو ورتاجن معدودين في جملة أفخاذهم و شعوبهم و أما بنو يادين بن محمد فمن ولد زرجيك و لا أذكر الآن كيف يتصل نسبهم به وتشعبوا إلى شعوب كثيرة فكان منهم : بنو عبد الواد و بنو توجين و بنو مصاب و بنو زردال يحمعهم كلهم نسب يادين بن محمد و في محمد هذا يجتمع يادين و بنو راشد ثم يحتمع محمد مع ورتاجن في زرجيك بن واسين و كانوا كلهم معروفين بين زناتة الأولى بني واسين قبل أن تعظم هذه البطون والأفخاذ و تتشعب مع الأيام و بأرض إفريقية و صحراء برقة و بلاد الزاب منهم طوائف من بقايا زناتة الأولى قبل انسياحهم إلى المغرب فمنهم بقصور غدامس على عشرة مراحل قبلة سرت وكانت مختطة منذ عهد الإسلام و هي خطة مشتملة على قصور وآطام عديدة و بعضها لبني ورتاجن و بعضها لبي واطاس من أحياء بني مرين يزعمون أن أوليتم اختطوها و هي لهذا العهد قد استبحرت في العمارة و اتسعت في التمدن بما صارت محطا لركاب الحاج من السودان وقفل التجار إلى مصر و الاسكندرية عند إراحتهم من قطع المفازة ذات الرمال المعرضة أمام طريقهم دون الأرياف و التلول وبابا لولوج تلك المفازة و الحاج و التجر في مرجعهم و منهم ببلد الحامة غربي بابس أمة عظيمة من بني ورتاجن و فرت منهم حاميتها واشتدت شوكتها و رحل إليها التجار بالبضائع لنفاق أسواقها وتبخر عمرانها وامتنعت لهذا العهد على من يرومها ممن يحاورها فهم لا يؤذون خراجا و لا يسامون بمغرم حتى كأنهم لا يعرفونه عزة جناب و فضل بأس و منعة و يزعمون أن سلفهم من بني ورتاجن اختطوها و رياستهم في بيت منهم يعرفون ببنبي وشاح ولربما طال على رؤسائهم عهد الخلافة و وطأة الدولة فيتطاولون إلى التي تنكر على السوقة من اتخاذ الآلة ويرزون في زي السلطان أيام الزينة تهاونا بشعار الملك ونسيانا لمألوف الانقياد شأن جيرانهم رؤساء توزر و نفطة و سابق الغاية في هذه الضحكة هو يملول مقدم توزر
و من بني واسين هؤلاء بقصور مصاب على خمس مراحل من جبل تيطري في القبلة لما دون الرمال على ثلاث مراحل من قصور بني ربغة في المغرب و هذا الاسم للقوم الذين اختطوها و نزلوها من شعوب بني يادين حسبا ذكرناهم الآن و وضعوها في أرض حرة على أحكام و ضراب ممتنعة قي قننها و بينها و بين الأرض المحجرة المعروفة بالجمادة في سمت العرق متوسطة فيه قبالة تلك البلاد على فراسخ في ناحية القبلة و سكانها لهذا العهد شعوب بني يادين من بني عبد الواد وبني توجين و مصاب و بني زردال فيمن انفض إلى إليهم من شعوب زناتة و إن كانت شهرتها مختصة بمصاب وحالها في المباني و الأغراس و تفرق الجماعات بتفرق الرياسة شبيهة بحال بني ريغة و الزاب و منهم بجبل أوراس بإفريقية طائفة من بني عبد الواد موطنوه منذ العهد القديم لأول الفتح معروفون بين ساكنيه
وقد ذكر بعض الأخبار بين أن بني عبد الواد حضروا مع عقبة بن نافع في فتح المغرب عند ايغاله في ديار المغرب وانتهائه إلى البحر المحيط بالسوس في ولايته الثانية و هي الغزاة إلى هلك فيها في منصرفه منها و أنهم أبلوا البلاء الحسن فدعا لهم و أذن في رجوعهم قبل استفهام الغزاة و لما تحيزت زناتة أمام كتمامة و صنهاجة اجتمع شعوب بني واسين هؤلاء كلهم ما بين ملوية كما ذكرناه و تشعبت أحياؤهم و بطونهم و انبسطوا في صحراء المغرب الأقصى و الأوسط إلى بلاد الزاب و ما إليها من صحارى إفريقية إذ لم يكن للعرب في تلك المجالات كلها مذهب و لا مسلك إلى المائة الخامسة كما سبق ذكره ولم يزالوا بتلك البلاد مشتملين لبوس العز مشيرين للانفة و كانت مكاسبهم الأنعام و الماشية و ابتغاؤهم الرزق من تحيف السابلة و في ظل الرماح المشرعة و كانت لهم في محاربة الأحياء و القبائل و منافسة الأمم و الدول ومغالبة الملوك أيام ووقائع نلم بها ولم تعظم العناية باستيعابها فنأتي به والسبب في ذلك أن اللسان العربي كان غالبا لغلبة دولة العرب و ظهور المئة العربية فالكتاب والخط بلغة الدولة ولسان الملك و اللسان العجمي منشتر بجناحه مندرج في غماده ولم يكن لهذا الجيل من زناتة في الأحقاب القديمة ملك يحمل أهل الكتاب على العناية بتقييد أيامهم و تدوين أخبارهم و لم تكن مخالطة بينهم و بين أهل الأرياف و الحضر حتى يشهدوا آثارهم لإبعادهم في القفار كما رأيت في مواطنهم وتوحشهم عن الانقياد فبقوا غفلا إلى أن درس منها الكثير ولم يصل إلينا بعد ملكهم إلا الشارد القليل يتبعه المؤرخ المضطلع في مسالكه و يتقراه في شعابه و يثيره من مكامنه وأقاموا بتلك القفار إلى أن تسنموا منها هضبات الملك على ما تصفه (7/78)
الخبر عن أحوال هذه الطبقة قبل الملك وكيف كانت تصاريف أحوالهم إلى أن غلبوا على الملك والدول
و ذلك أن أهل هذه الطبقة من بني واسين و شعوبهم التي سميناها كانوا تبعا لزناتة الأولى و لما انزاحت زناتة إلى المغرب الأقصى أمام كتمامة و صنهاجة خرج بنو واسين لا هؤلاء إلى الفقر ما بين ملوية و صا فكانوا يرجعون إلى ملك المغرب لذلك العهد مكناسة أولا ثم مغراوة من بعدهم ثم حسر تيار بني صنهاجة عن المغرب و تقتص ملكهم بعض الشيء و صاروا إلى الاستجاشة على القاصية بقبائل زناتة فأومضت بروقهم و رفت في ممالك زناتة منابتهم كما قدمناه و اقتسم أعمالها بنو ومانو و بنو يلومي ناحيتين و كانت ملوك صنهاجة أهل القلعة اذا عسكروا للغرب يستنفرونهم لغزوه و يجمعون حشدهم للتوغل فيه و كان بنو واسين هؤلاء و من تشتبه مهم من القبائل الشهيرة الذكر مثل بني مرين و بني عبد الواد و بني توجين و مصاب قد ملكوا القفر ما بين ملوية و أرض الزاب و امتنعت عليهم المغربان ممن ملكها من زناتة الذين ذكرناهم
و كان أهل الرياسة بتلك الأرياف و الضواحي من زناتة مثل بني ومانوا و بني يلومي بالمغرب الأوسط و بني يفرن و مغراوة بتلمسان يستجيشون بني واسين هؤلاء و شعوبهم و يستظهرون بجموعهم على من زاحمهم أو نازعهم من ملوك صهناجة و زناتة و غيرهم يحاجون بهم عن مواطنهم لذلك و يقرضونهم القرض الحسن من المال و السلاح و الحبوب المعوزة لديهم بالقفار فيتأثلون منهم و يرتاشون و عظمت حاجة بني حماد إليه في ذلك عندما عصفت بهم ريح العرب الضوالع من بني بلال بن غابر و صرعوا دولة المعز و صنهاجة بالقيروان و المهدية و الايواء عن مذهبم و زحفوا إلى المغرب الأوسط فدعوا بني حماد عن حوزته و أوعزوا إلى زناتة بمدافعتهم أيضا فاجتمع لذلك بنو يعلى ملوك تلمسان من مغراوة و جمعوا من كان إليهم من بني واسين هؤلاء من بني مرين و عبد الواد و توجين وبني راشد و عقدوا على حرب الهلاليين لوزيرهم أبي سعدي خليفة بن اليفرني فكان له مقامات في حروبهم و دفاعهم عن ضواحي الزاب و ما إليه من بلاد إفريقية و المغرب الأوسط إلى أن هلك في بعض أيامه معهم و غلب الهلاليون قبائل زناتة على جميع الضواحي و أزاحوهم عن الزاب و ما إليها من بلاد إفريقية و انشمر بنو واسين هؤلاء من بنى مرين و عبد الواد و توجن عن الزاب إلى مواطنهم من بصحراء المغرب الأوسط من مصاب و جبل راشد إلى ملوية فيكيك لهم إلى سجلماسة ولاذوا ببني ومانوا و بني يلومي ملوك الضواحي بالمشرق الأوسط وتفيئوا ظلهم و اقتسموا ذلك القفر بالمواطن فكان لبنى مرين الناحية الغربية منا قبلة المغرب الأقصى بتيكورارين و دبروا إلى ملوية و سجلماسة و بعدوا عن بني يلومي إلا في الأحايين و عند الصريخ و كان لبني يادين منهما الناحية الشرقية قبلة المغرب الأوسط ما بين فيكيك و مديونة إلى جبل راشد و مصاب وكان بينهم و بين بنى مرين فتن متصلة باتصال أيامهم في تلك المواضع بسيل القبائل الجيران في مواطنهم وكان الغلب في حروبهم أكثر ما يكون لبني يادين لما كانت شعوبهم أكثر و عددهم أوفر فإنهم كانوا أربعة : شعوب بني عبد الواد و بني توجين وبني زردال و بني مصاب كان معهم شعب آخر و هم إخوانهم بنو راشد لأنا قدمنا أن راشد أخو يادين وكان موطن بني راشد الجبل المشهور بهم بالصحراء ولم يزالوا على هذه الحال إلى أن ظهر أمر الموحدين فكان لبني عبد الواد و توجين و مغراوة من المظاهرة لبني يلومي على الموحدين ما هو مذكور في أخبارهم
ثم غلب الموحدون على المغرب الأوسط و قبائله من زناتة فأطاعوا و انقادوا و تحيز بنو عبد الواد و بنو توجين إلى الموحدين و ازدلفوا إليهم بامحاض النصيحة و مشايعة الدعوة وكان التقدم لبني عبد الواد دون الشعوب الآخر و أمحضوا النصيحة للموحدين فاصطنعوهم دون بني مرين كما نذكر في أخبارهم و ترك الموحدون ضواحي المغرب الأوسط كما كانت لبني يلومي و بني ومانوا فملكوها وتفرد بنو مرين بعد دخول بني يادين إلى المغرب الأوسط بتلك الصحراء لما اختار الله لهم من وفور قسمهم في الملك و استيلاءهم على سلطان المغرب الذي غلبوا به الدول و اشتملوا الأقطار و نظموا المشارق إلى المغارب و اقتعدوا كراس الدول المسامته لهم بأجمعها ما بين السوس الأقصى إلى إفربقية و الملك يؤتيه من يشاء من عباده فأخذ بنو مرين و بنو عبد الواد من شعوب بنى واسين بحظ من الملك أعادوا فيه لرناتة دولة و سلطانا في الأرض و اقتادوا الأمم برسن الغلب و ناغاهم في ذلك الملك البدوي إخوانهم بنو توجين و كان في هذه الطبقة الثانية بقية أخرى مما ترك آل خزر من قبائل مغراوة الأولى كانوا موطنين بقرارش هم و منشأ جيلهم بوادي شلف فجاذبوا هؤلاء القبائل حبل الملك و ناغوهم في أطوار الرياسة و استطالوا بمن و صل جناحهم من هذه العشائر فتطاولوا إلى مقاسمتهم في الماء و مساهمتهم في الأمر و ما زال بنو عبد الواد في النفر من عنانهم وجدع أنوف عصبيتهم حتى أوهنوا من بأسهم و خصت الدولة العبد الوادية ثم المرينية بسمة الملك المخلفة من جناح تطاولهم و تمحض ذلك كله عن استبداد بنى مرين و استتباعهم لجميع هؤلاء العصائب كما نذكر لك الآن دولهم واحدة بعد أخرى و مصائر هؤلاء القبائل الأربعة التي هي رؤوس هذه الطبقة الثانية من زناتة و الملك لله يؤتيه من يشاء و العاقبة للمتقين
( ولنبدأ منها بذكر مغراوة ) بقية الطبقة الأولى و ما كان لرؤسائهم أولاد منديل من الملك في هذه الطبقة الثانية كما ستراه إن شاه الله تعالى (7/83)
الخبر عن أولاد منديل من الطبقة الثانية و ما أعادوا لقومهم مغراوة من الملك بموطنهم الأول من شلب و ما إليه من نواحي المغرب الأوسط
لما ذهب الملك من مغراوة بانقراض ملوكهم آل خزر و اضمحلت دولتهم بتلمسان و سجلماسة و فاس و طرابلس و بقيت قبائل مغراوة متفرقة في مواطنها الأولى لنواحي المغربين و إفريقية بالصحراء و التلول و الكثير منهم بعنصرهم و مركزهم الأول بوطن شلف وما إليه فكان به بنو ورسيفان و بنو يرنا و بنو ينلت ويقال إنهم من وترمار و بنو سعيد و بنو زحاك و بنو سنجاس و ربما يقال إنهم من زناتة و ليسوا من مغراوة و كان بنو خزرون الملوك بطرابلس لما انقرض أمرهم و افترقوا في البلاد و لحق منهم عبد الصمد بن محمد بن خزرون بجبل أوراس فرارا من أهل بيته هنالك الذين استولوا علي الأمر وجده خزرون بن خليفة السادس من ملوكهم بطرابلس فأقام بينهم أعواما ثم ارتحل عنهم فنزل على بقايا قومه مغراوة بشلف من بني ورسيفان وبني ورتزمين و بني بو سعيد و غيرهم فتلفوهم بالمبرة و الكرامة و أوجبوا له حق البيت الذي ينسب إليه فيهم و أصهر إليهم فأنكحوه وكثر ولده و عرفوا بينهم ببني محمد ثم بالخزرية نسبة إلى سلفه الأول و كان من ولده الملقب أبو ناس بن عبد الصمد بن ورجيع بن عبد الصمد وكان منتحلا للعبادة و الخيربة و أصهر إليه بعض ولد ماخوخ ملوك بنى وماتوا بابنته فأنكحه إياها فعظم أمره عندهم بقومه و نسبه و صهره وجاء دولة الموحدين على أثر ذلك فرمقوه بعين التجلة لما كان عليه من طرق الخير فأقطعوه بوادي شلف و أقام على ذلك و كان له من الولد ورجيع و هو كبيرهم و غربي و لغريات وماكور و من بنت ماخوخ عبد الرحمن وكان أجلهم شأنا عنده و عند قومه عبد الرحمن هذا لما يوجبون له بولادة ماخوخ لأمه و يتفرسون فيه أن له و لعقبه ملكا
و زعموا أنه لما ولد خرجت به أمه إلى الصحراء فألقته إلى شجرة و ذهبت في بعض حاجاتها فأطاف به يعسوب من النحل متواقعين عليه و بصرت به على البعد فجاءت تعدو لما أدبهها من الشفقة فقال لها بعض العارفين : خففي عنك فو الله ليكونن لهذا شأن و نشأ عبد الرحمن هذا في جو هذه التجلة مدلا بنسبه و بأسه و كثرت عشيرته من بنى أبيه و اعصوصب عليه قبائل مغراوة فكان له بذلك شوكة وفي دولة الموحدين تقدمة لما كان يوجب لهم على نفسه من الانحياش و المخالطة و التقدم في مذاهب الطاعة و كان السادة منم يمرون به غزواتهم إلى إفريقية ذاهبين و جائين فينزلون منه خير نزل و ينقلبون بحمده و الشكر لمذهبه فيزيد خلفاؤهم اغتباطا به وأدرك بعض السادة و هو بأرض قومه الخبر بمهلك الخليفة بمراكش فخلف الذخيرة و الظهر و أسلمها لعبد الرحمن هذا ونجا بدمائه بعد أن صحبه إلى تخوم وطنه فكانت له بها ثروة أكسبته قوة وكثرة فاستركب من قومه و استكثر من عصابته و عشيرته و هلك خلال ذلك وقد فشل ريح بني عبد المؤمن و ضعف أمر الخليفة بمراكش
و كان له من الولد منديل و تميم و كان أكبرهما منديل فقام بأمر قومه على حين عصفت رياح الفتنة و لهما لمنديل أمل في التغلب على ما يليه فاستأسد في عرينه و حامى عن أشباله ثم فسح خطوته إلى ما جاوره من البلاد فملك جبل وانشريس و المرية و ما إلى ذلك و اختط قصبة مرات و كان بسيط متيجة لهذا العهد في العمران آهلا بالقرى و الأمصار
و نقل الأخباريون أن أهل متيجة لذلك العهد يجمعون في ثلاثين مصرا فجاس خلالها وأوطأ الغارات ساحتها و خرب عمرانها حتى تركها خاوية على عروشها و هو في ذلك يوهم التمسك بطاعة الموحدين و أنه سلم لمن سالمهم حرب لمن عاداهم وكان ابن غانية منذ غلبه الموحدون عن إفريقية قد أزاحوه إلى قابس و ما إليها فنزل الشيخ أبو عمد بن أبي حفص بتونس و دفعه إلى إفريقية إلى أن هلك سنة ثمان عشرة و ستمائة فطمع يحيى بن غانية في استرجاع أمره و سبق إلى الثغور و الأمصار يعبث فيها و يخربها ثم تجاوز إفريقية إلى بلاد زناتة وشن عليها الغارات و اكتسح البسائط و تكررت الوقائع بينه و بينهم فجمع له منديل بن عبد الرحمن و لقيه بمتيجة و كانت الدائرة عليه و انفضت عنه مغراوة فقتله ابن غانية صبرا سنة اثنتين أو ثلاث و عشرين و ستمائة و تغلب على الجزائز أثر نكبته فصلب شلوه بها و صيره مثلا للآخرين وقام بأمره في قومه بنوه و كان منجبا فكان لهم العدد و الشرف وكانوا يرجعون في أمرهم إلى كبيرهم العباس فتقلد مذاهب أبيه و اقتصر على بلاد متيجة ثم غلبهم بنو توجين على جبل وانشريس و ضواحي المرية و ما إلى ذلك و انقبضوا إلى مركزهم الأول شلف و أقاموا فيها ملكا بدويا لم يفارقوا فيه الظعن و الخيام و الضواحي و البسائط و استولى على مدينة مليانة و تنس وبرشك وشرشال مقيمين فيها للدعوة الحفصية و اختطوا قرية مازونة
و لما استوسق الملك بتلمسان ليغمراسن بن زيان و استفحل سلطانه بها و عقد له و لأخيه من قبله عبد المؤمن على التغلب على أعمال المغرب الأوسط و زاحم بني توجين و بني منديل هؤلاء بمكناسة فلفتوا و جوههم جميعا إلى الأمير أبي زكريا بن أبي حفص مديل الدولة بأفريقية من بني عبد المؤمن و بعثوا إليه الصريخ على يغمراسن فاحتشد لهم جميع الموحدين و العرب وغزا تلمسان وافتتحها كما ذكرناه
و لما قفل إلى الحضرة عقد في مرجعه لأمراء زناتة كل على قومه و وطنه فعقد للعباس ابن منديل على مغراوة و لعبد القوي على توجين و لاولاد حورة على ملكيش وسوغ لهم اتخاذ الآلة فاتخذوها بمشهد منه و عقد العباس السلم مع يغمراسن و وفد عليه بتلمسان فلقاه مبرة وتكريما و ذهب عنه بعدها مغاصبا يقال إنه تحدث بمجلسه يوما فزعم أنه رأى فارسا واحدا يقاتل مائتين من الفرسان فنكر ذلك من معه من بنى عبد الواد ومضوا بتكذيبه فخرج العباس لها مغاضبا حتى أتى بقومه وأتى يغمراسن مصداق قوله فإنه كان يعني بذلك الفارس نفسه
و هلك العباس لخمس و عشرين سنة بعد أبيه سنة سبع و أربعين و ستمائة وقام بالأمر بعده أخوه محمد بن منديل و صلحت الحال بينه و بين يغمراسن و صاروا إلى الاتفاق و المهادنة و نفر معه بقومه مغراوة إلى غزو المغرب سنة كلومان و هي سنة سبع و أربعين و ستمائة هزمهم فيها يعقوب بن عبد الحق فرجعوا إلى أوطانهم و عاودوا شأنهم في العداوة و انتقض عليهم أهل مليانة و خلعوا الطاعة الحفصية
وكان من خبر هذا الانتقاض أن أبا العباس أحمد الملياني كان كبير وقته علما ودينا و رواية و كان عالي السند في الحديث فرحل إليه الأعلام و أخذ عنه الأئمة و أوفت به الشهرة على ثنايا السيادة فانتهت إليه رياسة بلده على عهد يعقوب المنصور و بنيه و نشأ ابنه أبو علي في جو هذه العناية و كان جموحا للرياسة طامحا للاستبداد و هو مع ذلك خلو من المغارم فلما هلك أبوه جرى في شأو رياسته طلقا لما رأى ما بين مغراوة و بنى عبد الواد من الفتنة فحدثته نفسه بالاستبداد ببلده فجمع لها جراميزه و قطع الدعاء للخليفة المستنصر سنة تسع و خمسين و ستماثة و بلغ الخبر إلى تونس فسرح الخليفة أخاه في عسكر من الموحدين في جملته دون الديك بن هرنزة من آل أدفونش ملوك الجلالقة كان نازعا إليه عن أبيه في طائفة من قومه فنازلوا مليانة أياما و داخل السلطان طائفة من مشيخة البلد المنحرفين عن ابن المليلاني فسرب إليهم جنودا بالليل واقتحموها من بعض المداخل و فر أبو المليلاني تحت الليل و خرج من بعض قنوات البلد فلحق بأحياء العرب و نزل على يعقوب بن موسى بن العطاف من بطون زغبة فأجاره إلى أن لحق بعدها بيعقوب بن عبد الحق فكان من أمره ما ذكرناه في أخبارهم و انصرف عسكر الموحدين و الأمير أبو حفص إلى الحضرة و عقد لمحمد بن منديل على مليانة فأقام بها الدعوة الحفصية على سنن قومه ثم هلك محمد بن منديل سنة اثنتين و ستين و ستمائة لخمس عشرة من ولايته قتله أخواه ثابت و عابد بمنزل ظواعنهم بالخيس من بسيط بلادهم وقتل معه عطية ابن أخيه منيف وقد عابد و شاركه ثابت في الأمر و اجتمع إليه قومه و تقطع ما بين أولاد منديل و خشنت صدورهم و استغلظ يغمراسن بن زيان عليهم و داخله عمر بن منديل في أن يمكنه من مليانة وبشد عضده على رياسة قومه فشارطه على ذلك و أمكنه من أزمة البلد سنة ثمان و ستين و ستمائة و نادى بعزل ثابت و مؤازرة عمر على الأمر فتم لهما ما أحكماه من أمرهما في مغراوة و استمكن بها يغمراسن من قيادة قومه ثم تناغى أولاد منديل في الازدلاف إلى يغمراسن بمثلها نكاية لعمر فاتفق ثابت و عابد أولاد منديل أن يحكماه من تونس فأمكناه منها سنة اثنتين و سبعين و ستمائة على اثني عشر ألفا من الذهب
و استمرت ولاية عمر إلى أن هلك سنة ست و سبعين و ستمائة فاستقل ثابت بن منديل برياسة مغراوة و أجاز عابد أخوه إلى الأندلس للرباط و الجهاد مع صاحبيه زيان بن عمد بن عبد القوي و عبد الملك بن يغمراسن فحول زناتة و استرجع ثابت بلاد تونس و مليانة من يد يغمراسن و نبذ إليه العهد ثم استغلظ يغمراسن عليهم و استرد تونس سنة إحدى و ثمانين و ستمائة بين يدي مهلكه
و لما هلك يغمراسن وقام بالأمر بعده ابنه عثمان انتقضت عليه تونس ثم ردد الغزو إلى بلاد توجين و مغراوة حتى غلبهم آخرا على ما بأيديهم و ملك المرية بمداخلة بني لمدية أهلها سنة سبع و ثمانين و ستمائة و غلب ثابت بن منديل على مازونة فاستولى عليها ثم نزل له عن تونس أيضا فملكها ولم يزل عثمان مراغما لهم إلى أن زحف إليهم سنة ثلاث و تسعين و ستمائة فاستولى على أمصارهم و ضواحيهم و أخرجهم عنها و ألجأهم إلى الجبال و دخل ثابت بن منديل إلى برشك ممانعا دونها فزحف إليهم عثمان و حاصره بها حتى إذا استيقن أنه محاط به ركب البحر إلى المغرب و نزل على يوسف بن يعقوب سلطان مرين صريخا سنة أربع و تسعين و ستمائة فأكرمه و وعده بالنصرة من عدوه و أقام بفاس و كانت بينه و بين ابن أشهب من رجالات بني عسكر صحبة و مداخلة فجاءه بعض الأيام إلى منزله و دخل عليه من غير اسثئذان وكان ابن الاشهب ثملا فسطا به و قتله و ثأر السلطان به منه و انفجع لموته و كان ثابت بن منديل قد أقام ابنه محمد الأمير في قومه و ولاه عليهم لعهده و استبد بملك مغراوة دونه
و لما انصرف أبوه ثابت إلى قومه أقام هو في إمارته على مغراوة و هلك قريبا من مهلك أبيه فقام بأمرهم من بعده شقيقه علي و نازعه الأمر أخواه رحمون و منيف فقتله منيف و نكر ذلك قومها و أبوا من إمارتهما عليهم ظنا بعثمان بن يغميراسن فأجازهما إلى الأندلس
و كان أخوهما معمر بن ثابت قائدا على الغزاة بالعزة فنزل لمنيف عنها فكانت أول ولاية وليها بالأندلس و لحق بهم أخوهم عبد المؤمن فكانوا جميعا هنالك و من أعقاب عبد المؤمن يعقوب بن زيان بن عبد المؤمن و من أعقاب منيف بن عمر بن منيف و جماعة منهم لهذا العهد بالأندلس
و لما هلك ثابت بن منديل سنة أربع و تسعين و ستمائة كما قلناه كفل السلطان ولده و أهله و كان فيهم حافده راشد بن محمد فأصهر إليه في أخته فأنكحه إياها و نهض إلى تلمسان سنة ثمان و تسعين و ستمائة فأناخ عليها و اختط مدينته لحصارها و سرح عساكره في نواحيها و عقد على مغراوة و شلف لعمر بن يعزن بن منديل و بعث معه جيشا ففتح مليانة و تونس و مازونة سنة تسع و تسعين و ستمائة و وجد راشد في نفسه إذ لم يوله على قومه و كان يرى أنه الأحق لنسبه و ظهره فنزع عن السلطان و لحق بجبال متيجة ودس إلى أوليائه من مغراوة حتى وجد فيهم الدخلة فأجد السير و لحق بهم فافترق أمر مغراوة و داخل أهل مازونة فانتقضوا على السلطان وبعت عمر بن يعزن بأزمور من ضواحي بلادهم فقتله و اجتمع عليه قومه و سرح السلطان إليه الكتائب من بني عسكر لنظر الحسن بن علي بن أبي الطلاق و من بني و رتاجن لنظر علف بن محمد الخير و من بني توجين لنظر أبي بكر بن إبراهيم بن عبد القوي و من الجند لنظر علي بن حسان الصبحي من صنائعه و عقد على مغراوة لمحمد بن عمر بن منديل و زحفوا إلى مازونة و قد ضبطها راشد و خلف عليها عليا و حمو إبني عمه يحيى بن ثابت و لحق هو ببني بو سعيد مطلا عليهم و أناخت العساكر على مازونة و والوا عليها الحصار سنين حتى أجهدوهم و بعث بن يحيى أخاه حمو إلى السلطان من غير عهد فتقبض عليه ثم اضطره الجهد إلى مركب الغرور فخرج إليهم ملقيا بيده سنة ثلاث و سبعمائة و أشخصوه إلى السلطان فعفا عنه و استبقاه و احتسبها تأنيسا و استمالة لراشد ثم سرح العساكر إلى قاصية الشرق لنظر أخيه أبي يحيى بن يعقوب فنازل راشد بن محمد في معقل بني بو سعيد و طال حصاره إياه و أمكنته الغرة بعض الأيام في العساكر وقد تعلقوا بأوعار البلد زاحفين إليه فهزمهم و هلك في تلك الواقعة خلق من بني مرين و عساكر السلطان و ذلك سنة أربع و سبعمائة و بلغ الخبر إلى السلطان فأحفظه ذلك عليهم و أمر بابن عمه علي بن يحيى و أخيه حمو و من معهم من قومهم فقتلوا رشقا بالسهام و استلحمهم
ثم سرح أخاه أبا يحيى بن يعقوب ثانية سنة أربع و سبعمائة فاستولى على بلاد مغراوة و لحق راشد بجبال صنهاجة من متيجة و معه عمه منيف بن ثابت و من اجتمع إليهم من قومهم فنازلهم أبو يحيى بن يعقوب و راسل راشد يوسف بن يعقوب فانعقدت بينهما السلم و رجعت العساكر عنهم و أجاز منيف بن ثابت معه بنيه و عشيرته إلى الأندلس فاستقروا هنالك آخر الأيام
و لما هلك يوسف بن يعقوب بمناخه على تلمسان آخر سنة ست و سبعمائة انعقدت السلم بين حافده أبي ثابت و بين أبي زيان بن عثمان سلطان بني عبد الواد على أن يخلي له بنو مرين عن جميع ما ملكوه من أمصارهم و أعمالهم و ثغورهم و بعثوا في حاميتهم و عمالهم و أسلموها لعمال أبي زيان و كان راشد قد طمع في استرجاع بلاده و زحف إلى مليانة فأحاط بها فلما نزل عنها بنو مرين لأبي زيان و صارت مليانة و تونس له أخفق سعي راشد وأفرج عن البلد ثم كان مهلك أبي زيان قريبا و ولى أخوه أبو حمو موسى بن عثمان و استولى على المغرب الأوسط فهلك تافريكت سنة سبع و سبعمائة و ملك بعدها مليانة و المرية ثم ملك تونس و عقد عليها لمولاه مسامح و قارن ذلك حركة صاحب بجاية السلطان أبي البقاء خالد ابن مولانا الأمير أبي زكريا ابن السلطان أبي اسحق إلى متيجة لاسترجاع الجزائر من يد ابن علان الثاثر بها عليهم فلقيه هنالك راشد بن محمد و صار في جملته و ظاهره على شأنه ولقاه السلطان تكرمة وبرا و عقد له و لقومه حلفا مع صنهاجة أولياء الدولة و المتغلبين على ضاحية بجاية و جبال زواوة فاتصلت يد راشد بيد زعيمهم يعقوب بن خلوف أحد زعماء الدولة
و لما نهض السلطان للاستيثار بملك الحضرة بتونس استعمل يعقوب بن خلوف على بجاية و عسكر معه راشد بقومه و أبلى في الحروب بين يديه وأغنى في مظاهرة أوليائه حتى إذا ملك حضرتهم و استولى على تراث سلفهم أسف حاجب الدولة راشد هذا و قومه بامضاء الحكم في بعض حشمه و تعرض للحرابة في السابلة فتفبض عليه و رفع إلى سدة السلطان فأمضى فيه حكم الله و ذهب راشد مغاضبا و لحق بوليه ابن خلوف و مضطر به من زواوة و كان يعقوب بن خلوف قد هلك و ولى السلطان مكانه ابنه عبد الرحمن فلم يرع حق أبيه في إكرام صديقه راشد و تشاجر معه في بعض الأيام مشاجرة نكر عبد الرحمن فيها ملاحاة راشد له و أنف منها و أدل فيها راشد بمكانه من الدولة و ببأس عمه فلدغه بالقول و تناوله عبد الرحمن و حشمه وخزا بالرماح إلى أن أقعصوه و انذعر جمع مغراوة و لحقوا بالثغور القاصية و أقفر منهم شلف و ما إليه كأن لم يكونوا به فأجاز منهم بنو منيف و بنو يعزن إلى الأندلس للمرابطة بثغور المسلمين فكانت منهم عصابة موطنة هناك أعقابهم لهذا العهد وأقام في جوار الموحدين فل آخر من أوساط قومهم كانوا شوكة في عساكر الدولة إلى أن انقرضوا و لحق على بن راشد بعمته في قصر بني يعقوب بن عبد الحق فكفلته و صار أولاد منديل غضبا إلى وطن بني مرين فتولوهم و أحسنوا جوارهم و أصهروا إليهم سائر الدولة إلى أن تغلب السلطان أبو الحسن على المغرب الأوسط ومحا دولة آل زيان و جمع كلمة زناتة و انتظم مع بلادهم بلاد إفريقية و عمل الموحدين و كانت نكبته على القيروان سنة تسع و أربعين و سبعمائة كما شرحناه قبل فانتقضت العمالات و الأطراف وافترى أعياض الملك بمواطنهم الأولى فتوثب علي بن راشد بن محمد بن ثابت بن منديل على بلاد شلف وتملكها وتغلب على أمصارها مليانة و تنس و برشك و شرشال و أعاد ما كان لسلفه بها من الملك على طريقتهم البدوية و أرهفوا حدهم لمن طالبهم من القبائل
و خلص السلطان أبو الحسن من ورطته إلى إفريقية ثم من ورطة البحر من مرسى الجزائر إلى بجاية يحاول استرجاع ملكه المفرق فبعث إلى علي بن راشد وذكره ذمتهم فتذكر وحن و اشترط لنفسه التجافي له عن ملك قومه بشلف على أن يظاهره على بني عبد الواد فأبى السلطان أبو الحسن من اشتراط ذلك له فتحيز عنه إلى فينة بني عبد الواد الناجمين بتلمسان كما ذكرناه قبل و ظاهرهم عليه و برز إليهم السلطان أبو الحسن من الجزائر و التقى الجمعان بشربونة سنة إحدى و خمسين و سبعمائة فاختلف مصاف السلطان أبي الحسن و انهزم جمعه و هلك ابنه الناصر و طاح دمه في مغراوة و هؤلاء و خرج إلى الصحراء و لحق منها بالمغرب الأقصى كما نذكره بعد و تطاول الناجون بتلمسان من آل يغمراسن إلى انتظام بلاد مغراوة في ملكهم كما كان لسلفهم فنهض إليهم بعساكر بني عبد الواد رديف سلطانهم و أخوه أبو ثابت الزعيم ابن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن فأوطأ قومه بلاد مغراوة سنة إثنتين و خمسين و سبعمائة وفل جموعهم و غلبهم على الضاحية و الأمصار و أحجر علي بن راشد بتنس في شرذمة من قومه و أناخ بعساكره عليه و طال الحصار ووقع الغلب و لما رأى على بن رشد أن قد أحيط به دخل إلى زاوية من زوايا قصره انتبذ فيها عن الناس و ذبح نفسه بحد حسامه و صار مثلا و حديثا للآخرين واقتحم البلد لحينه و استلحم من عز عليه من مغراوة و نجا الآخرون إلى أطراف الأرض و لحقوا بأهل الدول فاستركبوا و استلحقوا و صاروا جندا للدول و أتباعا و انقرض أمرهم من بلاد شلف ثم كانت لبني مرين الكرة الثانية إلى تلمسان و غلبوا آل زيان و محوا آثارهم ثم فاء ظنهم بملك السلطان أبي عثمان و حسر تيارهم وجدد الناجون من آل يغمراسن دولة ثانية بمكان عملهم على يد أبي حمو الأخير ابن موسى بن يوسف كما نذكره في أخبارهم ثم كانت لبني مرين الكرة الثالثة إلى بلاد تلمسان و نهض السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن إليها فدخلها فاتح سنة اثنتين و سبعين و سبعمائة و سرح عساكره في اتباع أبي حمو الناجم بها من آل يغمراسن حين فر أمامه في قومه و أشياعه من العرب كما يأتي ذلك كله و لما انتهت العساكر إلى البطحاء تلوموا هنالك أياما لإزاحة عللهم و كان في جملتهم صبي من ولد بن راشد الذبيح إسمه حمزة يتيما في حجر دولتهم لذمام الصهر الذي لقومه فيهم فكفلته نعمهم و كنفه جوهم حتى شب و استوى و سخط رزقه في ديوانهم و حاله بين و لدانهم و اعترض بعض الأيام قائد الجيوش الوزير أبا بكر بن غازي شاكيا فجبهه و أساء رده فركب الليل و لحق بمعقل بني بوسعيد من بلاد شلف فأجاروه و منعوه و نادى بدعوة قومه فأجابوه وسرح إليه السلطان وزيره عبد العزيز عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة كبير يتريعن في جيش كثيف من بني مرين و الجند فنزل بساحة ذلك الجبل حولا كريتا فحاصرهم ينال منهم و ينالون منه و امتنعوا عليه و اتهم السلطان وزيره بالمداهنة و سعى به منافسوه فتقبض عليه و سر وزيره الآخر أبا بكر بن غازي فنهض يجر العساكر الضخمة و الجيوش الكثيفة إلى أن أنزل بهم و صبحهم القتال فقذف الله في قلوبهم الرعب و أنزلهم من معقلهم و فر حمزة بن علي في فل من قومه فنزل ببلاد حصين المنتقضين كانوا على الدولة مع أبي زيان بن أبي سعيد الناجم من آل يغمراسن حسبما نذكره و أتى بنو أبي سعيد طاعتهم و أخلصوا الضمائر في مغبتها فحسن موقعهم و بدأ حمزة في الرجوع إليهم فأغذ السير في لمة من قومه حتى إذا ألم بهم نكروه لمكان ما اعتقلوا به من حبل الطاعة فتساهل إلى البسائط وقصد تيمروغت يظن بها غرة ينتهزها فبرز إليه حاميتها ففلوا حدة و ردوه على عقبه وتسابقوا في اتباعه إلى أن تقبضوا عليه و قادوه إلى الوزير ابن غازي بن الكاس فأوعز إليه السلطان بقتله مع جملة أصحابه فضربت أعناقهم و بعث بها إلى سدة السلطان و صلب أشلاؤهم على خشب مسندة نصبها لهم ظاهر مليانة ومحى أثر مغراوة وانقرض أمرهم وأصبحوا خولا للأمراء وجندا في الدول وأوزاعا في الأقطار كما كانوا قبل هذه الدولة الأخيرة لهم والبقاء لله وحده و كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم و إليه ترجعون لا رب غيره و لا معبود سواه و هو على كل شيء قدير (7/85)
الخبر عن بني عبد الواد من هذه الطبقة الثانية و ما كان لهم بتلمسان و بلاد المغرب الأوسط من الملك و السلطان و كيف كان مبدأ أمرهم و مصائر أحوالهم
قد تقدم لنا في أول هذه الطبقة الثانية من زناتة ذكر بني عبد الواد هؤلاء و أنهم من ولد يادين بن محمد أخوة توجين و مصاب وزردال و بنى راشد و أن نسبهم يرتفع إلى رزجيك بن واسين بن ورسيك بن جانا و ذكرنا كيف كانت حالهم قبل الملك في مواطنهم تلك و كان إخوانهم بمصاب و جبل راشد و فيكيك و ملوية و وصفنا من حال فتنتهم مع بني مرين إخوانهم المجتمعين معهم بالنسب في رزجيك بن واسين و لم يزل بنو عبد الواد هؤلاء بمواطنهم تلك و بنو راشد بنو زردال و مصاب منجدين إليهم بالنسب والحلف و بنو توجين منابذين لهم أكثر أزمانهم و لم يزالوا جميعا متغلبين على ضاحية المغرب الأوسط عامة الأزمان و كانوا تبعا فيه لبني ومانوا و بني يلومي حين كان لهم التغلب فيهم و ربما يقال : كان شيخهم لذلك العهد يعرف بيوسف بن تكفا حتى إذا نزل عبد المؤمن و الموحدون نواحي تلمسان و سارت عساكرهم إلى بلاد زناتة تحت راية الشيخ أبي خفص فأوقعوا بهم كما ذكرناه و حسنت بعد ذلك طاعة بني عبد الواد و انحياشهم إلى الموحدين و كانت بطونهم و شعوبهم كثيرة أظهرها فيما يذكرون ستة : بنو ياتكين و بنو وللوا و بنو ورصطف و مصوصة و بنو تومرت و بنو القاسم و يقولون بلسانهم أيت القاسم وايت حرف الإضافة النسبية عندهم و يزعم بنو القاسم هؤلاء أنهم من أولاد القاسم بن إدريس و ربما قالوا في هذا القاسم إنه ابن محمد بن إدريس أو ابن محمد بن عبد الله أو ابن محمد بن القاسم و كلهم من أعقاب إدريس زعما لا مستند له إلا اتفاق بنى القاسم هؤلاء عليه مع أن البادية بعداه عن معرفة هذه الأنساب و الله أعلم بصحة ذلك
و قد قال يغمراسن بن زيان أبو ملوكهم لهذا العهد لما رفع نسبه إلى إدريس كما يذكرون فقال برطانتم ما معناه : إن كان هذا صحيحا فينفعنا عند الله و أما الدنيا فإنما نلناها بسيوفنا و لم تزل رياسة بني عبد الواد في بنى القاسم لشدة شوكتهم واعتراز عصبيتهم وكانوا بطونا كثيرة فمنهم : بنو يكمثين بن القاسبم و كان منهم ويعزن بن مسعود بن يكمثين و أخواه يكمثين و عمر و كان أيضا منهم أغدوي بن يكمثين الأكبر و يقال الأصغر و منهم أيضا عبد الحق بن منغفاد من ولد ويعزن و كانت الرياسة عليهم لعهد عبد المؤمن لعبد الحق بن منغفاد و أغدوي بن يكمثين و عبد الحق ابن منغفاد هو الذي استنقذ الغنائم من يدي بني مرين و قتل المخضب المسوف حين بعثه عبد المؤمن مع الموحدين لذلك و المؤرخون يقولون : عبد الحق بن معاد بميم و عين مهملة مفتوحتين و ألف بعدها دال و هو غلط و ليس هذا اللفظ بهذا الضبط من لغة زناتة و إنما هو تصحيف منغفاد بميم و نون مفتوحتين و غين بعدهما معجمة ساكنة و فاء مفتوحة و الله أعلم
و من بطون بني القاسم أيضا : بنو مطهر بن يمل بن يزكين بن القاسم و كان حمامة بن مطهر من شيوخهم لعهد عبد المؤمن و أبلى في حروب زناتة مع الموحدين ثم حسنت طاعته و انحياشه و من بطون بني القاسم أيضا : بنو علي و إليهم انتهت رياستهم و هم أشد عصبية و أكثر جمعا و هم أربعة أفخاذ : بنو طاع الله و بنو دلول و بنو كمين و بنو معطي بن جوهر و الأربعة بنو علي و نصاب الرياسة في بني طاع الله لبني محمد بن زكراز بن تيدكسن بن طاع الله هذا ملخص الكلام في نسبهم
و لما ملك الموحدون بلاد المغرب الأوسط و أبلوا من طاعتهم و انحياشهم ما كان سببا لاستخلاصهم فأقطعوهم عامة بلاد بني ومانوا و أقاموا بتلك المواطن و حدثت الفتنة بين بني طاع الله و بني كمين إلى أن قتل كندوز بن من بني كمين زيان بن ثابت كبير بني محمد بن زكراز و شيخهم و قام بأمرهم بعده جابر ابن عمه يوسف بن محمد فثار كندوز بزيان ابن عمه و قتله في بعض أيامهم و حروبهم
و يقال قتله غيلة و بعث برأسه و رؤوس أصحابه إلى يغمراسن بن زيان بن ثابت فنصبت عليها القدور أثا في شفاية لنفوسهم من شأن أبيه زيان
و افترق بنو كمين و فر بهم كبيرهم عبد الله بن كندوز فلحقوا بتونس و نزل على الأمير أبي زكريا كما نذكره بعد و استبد جابر بن يوسف بن محمد برياسة بني عبد الواد وأقام هذا الحي من بني عبد الواد بضواحي المغرب الأوسط حتى إذا فشل ريح بني عبد المؤمن و انتزى يحيى بن غانية على جهات قابس و طرابلس و ردد الغزو و الغارات على بسائط أفريقية و المغرب الأوسط فاكتسحها و عاث فيها و كبس الأمصار فأقتحمها بالغارة و إفساد السابلة وانتساف الزرع و حطم النعم إلى أن خربت و عفا رسمها لسني الثلاثين من المائة السابعة و كانت تلمسان نزلا للحامية و مناخا للسيد من القرابة الذي يضم نشرها ويذب عن أنحائها و كان المأمون قد استعمل على تلمسان أخاه السيد أبا سعيد و كان مغفلا ضعيف التدبير و غلب عليه الحسن بن حبون من مشيخة قومه كومية و كان عاملا على الوطن و كانت في نفسه ضغائن من بني عبد الواد جرها ما كان حدث لهم من التغلب على الضاحية و أهلها فأغرى السيد أبا سعيد بجماعة مشيخة منهم وفدوا عليه فتقبض عليهم و اعتقلهم و كان في حامية تلمسان لمة من بقايا لمتونة تجافت الدولة عنهم و أثبتهم عبد المؤمن في الديوان و جعلهم مع الحامية و كان زعيمهم لذلك العهد إبراهيم بن إسماعيل بن علان فشفع عندهم في المشيخة المعتقلين من بني عبد الواد فردوه فغضب و حمى أنفه و أجمع الانتقاض و القيام بدعوة ابن غانية فجدد ملك المرابطين من قومه بقاصية المشرق فاغتال الحسن بن حبون لحينه و تقبض على السيد أبي سعيد و أطلق المشيخة من بني عبد الواد و نقض طاعة المأمون و ذلك سنة أربع و عشرين و سبعمائة فطير الخبر إلى ابن غانية فأجد إليه السير ثم بدا له في أمر بني عبد الواد و رأى أن ملاك أمره في خضد شكوتهم و قص جناحهم فحدث نفسه بالفتك بمشيختهم و مكر بهم في دعوة و أعدهم لها و فطن لتدبيره ذلك جابر بن يوسف شيخ بني عبد الواد فواعده اللقاء و المؤازرة و طوى له على النث و خرج إبراهيم بن علان إلى لقائه ففتك به جابر و بادر إلى البلد فنادى بدعوة المأمون و طاعته و كشف لأهلها القناع عن مكر ابن علان بهم و ما أوقعهم فيه من ورطة ابن غانية فحمدوا رأيه و شكروا جابرا على صنيعه و جددوا البيعة للمأمون و اجتمع إلى جابر في أمره هنا كافة بني عبد الواد و أحلافهم من بني راشد و بعث إلى المأمون بطاعته و اعتماله في القيام بدعوته فخاطبه بالشكر و كتب له بالعهد على تلمسان و سائر بلاد زناتة على رسم السادات الذين كانوا يلون ذلك من القرابة فاضطلع بأمر المغرب الأوسط
و كانت هذه الولاية ركوبا إلى صهوة الملك الذي اقتعدوه من بعد ثم انتقض عليه أهل اربونة بعد ذلك فنازلهم و هلك في حصارها بسهم غرب سنة تسع و عشرين و سبعمائة
و قام بالأمر بعده ابنه الحسن و جدد له المأمون عهده بالولاية ثم ضعف عن الأمر و تخلى عنه لستة أشهر من ولايته و دفع إليه عمه عثمان بن يوسف و كان سيء الملكة كثير العسف و الجور فثارت به الرعايا بتلمسان و أخرجوه سنة إحدى و ثلاثين و سبعمائة و ارتضوا لمكانه ابن عمه زكراز بن زيان بن ثابت الملقب بأبي عزة فاستدعوه لها و ولوه على أنفسهم و بلدهم و سلموا له أمرهم و كان مضطلعا بأمر زناتة و مستبدا برياستهم و مستوليا على سائر الضواحي فنفس بنو مطهر عليه و على قومه بني علي إخوانهم ما آتاهم الله من الملك و أكرمهم الله به من السلطان و حسدوا زكراز و سلفه فيما صار لهم من الملك فشاقوه و دعوا إلى الخروج عليه و اتبعهم بنو راشد أحلافهم منذ عهد الصحراء و جمع لهم أبو عزة سائر قبائل بني عبد الواد فكانت بينه و بينهم حرب سجال هلك في بعض أيامها سنة ثلاث و ثلاثين و سبعمائة و قام بالأمر بعده أخوه يغمراسن بن زيان فوقع التسليم و الرضى به و سائر القبائل و دان له بالطاعة جميع الأمصار و كتب له الخليفة الرشيد بالعهد على عمله و كان له ذلك سلما إلى الملك الذي أورثه بنيه سائر الأيام و الملك لله يؤتيه من يشاء (7/97)
الخبر عن تلمسان و ما تآدى إلينا من أحوالها من الفتح إلى أن تأثل بها سلطان بني عبد الواد و دولتهم
هذه المدينة قاعدة المغرب الأوسط و أم بلاد زناتة اختطها بنو يفرن بما كانت في مواطنهم و لم نقف على أخبارها فيما قبل ذلك و ما يزعم بعض العامة من ساكنها أنها أزلية البناء و أن الجدار الذي ذكر في القرآن في قصة الخضر و موسى عليهما السلام هو بناحية أكادير منها فأمر بعيد عن التحصيل لأن موسى عليه السلام لم يفارق المشرق إلى المغرب و بنو إسرائيل لم يبلغ ملكهم لأفريقية فضلا عما وراءها و إنما هي من مقالات التشيع المجبول عليه أهل العالم في تفضيل ما ينسب إليهم أو ينسبون إليه من بلد أو أرض أو أعلم أو صناعة و لم أقف لها على خبر أقدم من خبر ابن الرقيق بأن أبا المهاجر الذي ولي أفريقية بين ولايتي عقبة بن نافع الأولى و الثانية توغل في ديار المغرب و وصل إلى تلمسان و به سميت عيون أبي المهاجر قريبا منها و ذكرها الطبري عند ذكر أبي قرة و إجلائه مع أبي حاتم و الخوارج على عمر بن حفص ثم قال : فأفرجوا عنه و انصرف أبو قرة إلى مواطنه بنواحي تلمسان و ذكرها ابن الرقيق أيضا في أخبار إبراهيم بن الأغلب قبل استبداده بأفريقية و أنه توغل في غزوه إلى المغرب و نزلها و اسمها في لغة زناتة مركب من كلمتين : تلم سان و معناهما تجمع اثنين يعنون البر و البحر
و لما خلص إدريس الأكبر بن عبد الله بن الحسن إلى المغرب الأقصى و استولى عليه نهض إلى المغرب الأوسط سنة أربع و سبعين و مائة فتلقاه محمد بن خزر بن صولات أمير زناتة و تلمسان فدخل في طاعته و حمل عليها مغراوة و بني يفرن و أمكنه من تلمسان فملكها و اختظ مسجدها و صعد منبره و أقام بها أشهرا و انكفأ راجعا إلى المغرب و جاء على أثره من المشرق أخوه سليمان بن عبد الله فنزلها و ولاه أمرها ثم هلك إدريس و ضعف أمرهم و لما بويع لابنه إدريس من بعده و اجتمع إليه برابرة المغرب نهض إلى تلمسان سنة تسع و تسعين و مائة فجدد مسجدها و أصلح منبرها و أقام بها ثلاث سنين دوخ فيها بلاد زناتة و استوسقت له طاعتهم و عقد عليها لبني محمد ابن عمه سليمان
و لما هلك إدريس الأصغر و اقتسم بنوه أعمال المغربين بإشارة أمه كنزة كانت تلمسان في سهمان عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان و أعمالها لبني أبيه محمد بن سليمان فلما انقرضت دولة الأدارسة من المغرب و ولي أمره موسى بن أبي العافية بدعوة الشيعة نهض إلى تلمسان سنة تسع عشرة و مائتين و غلب عليها أميرها لذلك العهد الحسن بن أبي العيش بن عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان ففر عنها إلى مليلة و بنى حصنا لامتناعه بناحية نكور فحاصره مدة ثم عقد له سلما على حصنه
و لما تغلب الشيعة على المغرب الأوسط أخرجوا أعقاب محمد بن سليمان من سائر أعمال تلمسان فأخذوا بدعوة بني أمية من وراء البحر و أجازوا إليهم و تغلب يعلى بن محمد اليفرني على بلاد زناتة و المغرب الأوسط فعقد له الناصر الأموي عليها و على تلمسان أعوام أربعين و ثلثمائة و لما هلك يعلى و أقام بأمر زناتة بعده محمد بن الخير بن محمد بن خزر داعية الحكم المستنصر فملك تلمسان أعوام ستين و ثلثمائة و هلك في حروب صنهاجة و غلبوهم على بلادهم و انجلوا إلى المغرب الأقصى و دخلت تلمسان في عمالة صنهاجة إلى أن انقسمت دولتهم و افترق أمرهم و استقل بإمارة زناتة و ولاية المغرب زيري بن عطية و طرده المنصور عن المغرب أعوام فصار إلى بلاد صنهاجة و أجلب عليها و نازل معاقلهم و أمصارهم مثل تلمسان و هراة و تنس و أشير و المسيلة ثم عقد المظفر بعد حين لابنه المعز بن زيري على أعمال المغرب سنة ست و تسعين و ثلثمائة فاستعمل على تلمسان ابنه يعلى بن زيري و استقرت ولايتها في عقبه إلى أن انقرض أمرهم على يد لمتونة و عقد يوسف بن تاشفين عليها لمحمد بن تينعمر المسوفي و أخيه تاشفين من بعده و استحكت الفتنة بينه و بين المنصور بن الناصر صاحب القلعة من ملوك بني حماد و نهض إلى تلمسان و أخذ بمخنقها و كاد أن يغلب عليها كما ذكرنا ذلك كله في مواضعه
و لما غلب عبد المؤمن لمتونة و قتل تاشفين بن علي بوهران خربها و خرب تلمسان بعد أن قتل الموحدون عامة أهلها و ذلك أربعين من المائة السادسة ثم راجع رأيه فيها و ندب الناس إلى عمرانها و جمع الأيدي على رم ما تثلم من أسوارها و عقد عليها لسليمان بن واندين من مشايخ هنتاتة و آخر بين الموحدين بين هذا الحي من بني عبد الواد بما أبلى من طاعتهم و انحياشهم ثم عقد عليها لابنه السيد أبي حفص و لم يزل آل عبد المؤمن بعد ذلك يستعملون عليها من قرابتهم و أهل بيتهم و يرجعون إليه أمر المغرب كله و زناتة أجمع إهتماما بأمرها و استعظاما لعملها
و كان هؤلاء الأحياء من زناتة بنو عبد الواد و بنو توجين و بنو راشد غلبوا على ضواحي تلمسان والمغرب الأوسط و ملكوها و تقلبوا في بسائطها و احتازوا باقطاع الدولة الكثير من أرضها و الطيب من بلادها و الوافر للجباية من قبائلها فإذا خرجوا إلى مشاتيهم بالصحراء خلفوا أتباعهم و حاشيتهم بالتلول لاعتمار أرضهم و ازدراع فدنهم و جباية الخراج من رعاياهم و كان بنو عبد الواد من ذلك فيها بين البطحاء و ملوية ساحله و ريفه و صحراءه و صرف ولاة الموحدين بتلمسان من السادة نظرهم و اهتمامهم بشأنها إلى تحصينها و تشييد أسوارها و حشد الناس إلى عمرانها و التناغي في تمصيرها و اتخاذ الصروح و القصور بها و الاحتفال في مقاصر الملك و اتساع خطة الدور و كان من أعظمهم اهتماما بذلك و أوسعهم فيه نظرا السيد أبو عمران موسى ابن أمير المؤمنين يوسف العشري و وليها سنة ست و خمسين و ستمائة على عهد أبيه يوسف بن عبد المؤمن و اتصلت أيام ولايته فيها فشيد بناءها و أوسع خطتها و أدار سياج الأسوار عليها و وليها من بعد السيد أبو الحسن ابن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن و تقبل فيها مذهبه
و لما كان من أمر بني غانية و خروجهم من ميورقة سنة إحدى و ثمانين ما قدمناه و كبسوا بجاية فملكوها و تخظوا إلى الجزائر و مليانة فغلبوا عليها تلافى السيد أبو الحسن أمره بانعام النظر في تشييد أسوارها و الاستبلاغ في تحصينها و سد فروجها و اعماق الحفائر نطاقا عليها حتى صيرها من أعز معاقل المغرب و أحصن أمصاره و تقبل ولاتها هذا المذهب من بعده في المعتصم بها و اتفق من الغرائب أن أخاه السيد أبا زيد هو الذي دفع لحرب بني غانية فكان لها في رفع الخرق و المدافعة عن الدولة آثار و كان ابن غانية قد اجتمع إليه ذؤبان العرب من الهلاليين بأفريقية و خالفتهم زغبة إحدى بطونهم إلى الموحدين و تحيزوا إلى زناتة المغرب الأوسط و كان مفزعهم جميعا و مرجع نقضهم و ابرامهم إلى العامل بتلمسان من السادة في مثواهم و حامي حقيقتهم و كان ابن غانية كثيرا ما يجلب على ضواحي تلمسان و بلاد زناتة و يطرقها معه من ناعق الفتنة إلى أن خرب كثيرا من أمصارها مثل تاهرت و غيرها فأصبحت تلمسان قاعدة المغرب الأوسط و أم هؤلاء الأحياء من زناتة و المغرب الكافية لهم المهيئة في حجرها مهادنومهم لما خربت المدينتان اللتان كانتا من قبل قواعد في الدول السالفة و العصور الماضية و هما أرشكول بسيف البحر و تاهرت فيما بين الريف و الصحراء من قبلة البطحاء و كان خراب هاتين المدينتين فيما خرب من أمصار المغرب الأوسط فتنة ابن غانية و باجلاب هؤلاء الأحياء من زناتة و طلوعهم على أهلها بسوم الخسف و العيث و النهب و تخطف الناس من السابلة و تخريب العمران و مغالبتهم حاميتها من عساكر الموحدين مثل : قصر عجيسة و زرفة و الخضراء و شلف و متيجة و حمزة و مرسى الدجاج و الجعبات و لم يزل عمران تلمسان يزايد و خطتها تتسع الصروح بها بالآجر و الفهر تعلى و تشاد إلى أن نزلها آل زيان و اتخذوها دارا لملكهم و كرسيا لسلطانهم فاختطوا بها القصور المؤنقة و المنازل الحافلة و اغترسوا الرياض و البساتين و أجروا خلالها المياه فأصبحت أعظم أمصار المغرب و رحل إليها الناس من القاصية و نفقت بها أسواق العلوم و الصنائع فنشأ بها العلماء و اشتهر فيها الأعلام و ضاهت أمصار الدول الإسلامية و القواعد الخلافية و الله وارث الأرض و من عليها (7/102)
الخبر عن استقلال يغمراسن بن زيان بالملك و الدولة بتلمسان و ما إليها و كيف مهد الأمر لقومه و أصاره تراثا لبنيه
كان يغمراسن بن زيان بن ثابت بن محمد من أشد هذا الحي بأسا و أعظمهم في النفوس مهابة إجلالا و أعرفهم بمصالح قبيله و أقواهم كاهلا على حمل الملك واضطلاعا بالتدبير و الرياسة شهدت له بذلك آثاره قبل الملك و بعده و كان مرموقا بعين التجلة مؤملا للأمر عند المشيخة و تعظمه من أمره عند الخاصة و يفزع إليه في نوائبها العامة فلما ولي هذا الأمر بعد أخيه أبي عزة زكراز بن زيان سنة ثلاث و ثلاثين قام به أحسن قيام و اضطلع بأعبائه و ظهر على بني مطهر و بني راشد الخارجين على أخيه و أصارهم في جملته و تحت سلطانه و أحسن السيرة في الرعية و استمال عشيرته و قومه و أحلافهم من زغبة بحسن السياسة و الاصطناع و كرم الجوار و اتخذ الآلة و رتب الجنود و المسالح و استلحق العساكر من الروم و الغز رامحة و ناشبة و فرض العطاء و اتخذ الوزراء و الكتاب و بعث في الأعمال و لبس شارة الملك و السلطان و اقتعد الكرسي و محا آثار الدولة المؤمنية و عطل من الأمر و النهي دستها و لم يترك من رسوم دولتهم و ألقاب ملكهم إلا الدعاء على منابره للخليفة بمراكش و تقلد العهد من يده تأنيسا للكافة و مرضاة للأكفاء من قومه و وفد عليه لأول دولته ابن وضاح إثر الموحدين أجاز البحر مع جالية المسلمين من شرق الأندلس فآثره و قرب مجلسه و أكرم نزله و أحله من الخلة و الشورى بمكان اصطفاه له و وفد في جملته أبو بكر بن خطاب المبايع لأخيه بمرسية و كان مرسلا بليغا و كاتبا مجيدا وشاعرا محسنا فاستكتبه و صدر عنه من الرسائل في خطاب خلفاء الموحدين بمراكش و تونس في عهود بيعاتهم ما تنوقل و حفظ و لم يزل يغمراسن محاميا عن غيله محاربا لعدوه و كانت له مع ملوك الموحدين من آل عبد المؤمن و مديلهم آل أبي حفص مواطن في التمرس به و منازلة بلده نحن ذاكروها كذلك و بينه وبين أقتاله بني مرين قبل ملكهم المغرب و بعد ملكه وقائع متعددة و له على زناتة الشرف من توجين و مغراوة في فل جموعهم و انتساف بلادهم و تخريب أوطانهم أيام مذكورة و آثار معروفة نشير إلى جميعها إن شاء الله تعالى (7/105)
الخبر عن استيلاء الأمير أبي زكريا على تلمسان و دخول يغمراسن في دعوته
لما استقل يغمراسن بن زيان بأمر تلمسان و المغرب الأوسط و ظفر بالسلطان و علا كعبه على سائر أحياء زناتة نفسوا عليه ما آتاه الله من العز و كرمه به من الملك فنابذوه العهد و شاقوه الطاعة و ركبوا له ظهر الخلاف و العداوة فشمر لحربهم و نازلهم في ديارهم و أحجرهم في أمصارهم و معتصماتهم من شواهق الجبال و متمنع الأمصار و كانت له عليهم أيام مشهورة و وقائع معروفة و كان متولي كبر هذه المشاقة عبد القوي بن عباس شيخ بني توجين أقتالهم من بني يادين و العباس بن منديل بن عبد الرحمن أخوته أمراء مغراوة و كان المولى الأمير أبو زكريا بن أبى حفص منذ استقل بأمر أفريقية و اقتطعها من الإيالة المؤمنية سنة خمس و عشربن و ستمائة كما ذكرناه متطاولا إلى احتياز المغرب و الاستيلاء على كرسي الدعوة بمراكش و كان يرى أن بمظاهرة زناتة له على شأنه يتم له ما يسمو إليه من ذلك فكان يداخل أمراء زناتة فيرغبهم و يراسلهم بذلك على الأحيان من بني مرين و بني عبد الواد و توجين و مغراوة و كان يغمراسن منذ تقلد طاعة بني عبد المؤمن أقام دعوتهم بعمله متحيزا إليهم سلما لوليهم و حربا على عدوهم و كان الرشيد منهم قد ضاعف له البر و الخلوص و خطب منه مزيد الولاية و المصافاة و عاوده الاتحاف بأنواع الألطاف و الهدايا عام سبع و ثلاثين و ستمائة تقمنا لمسراته و ميلا إليه عن جانب أقنال بني مرين المجلبين على المغرب و الدولة و أحفظ الأمير أبا زكريا بن عبد الواحد صاحب أفريقية ما كان من اتصال يغمراسن بالرشيد و هو من جواره بالمحل القريب و استكره ذلك و بينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القوي بن عباس و ولد منديل بن محمد صريخين على يغمراسن و سفلوا له أمره و سولوا له الاستيلاء على تلمسان و جمع كلمة زناتة و اعتدا ذلك ركابا لما يرومه من امتطاء ملك الموحدين و انتظامه في أمره و سلما لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه و بابا للولوج على أهله فحركه املاؤهم و هزه إلى النعرة صريخهم و أهب بالموحدين و سائر الأولياء و العساكر إلى الحركة على تلمسان و استنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في عمله من بني سليم و رياح بظعنهم فأهطعوا لداعيه و نهض سنة تسع و ثلاثين و ستمائة في عساكر ضخمة و جيوش وافرة و سرح أمام حركته عبد القوي بن العباس و أولاد منديل بن محمد لحشد من بأوطانهم من أحياء زناتة و أتباعهم و ذؤبان قبائلهم و أحياء زغبة أحلافهم من العرب و ضرب لهم موعدا لموافاتهم في تخوم بلادهم و لما نزل زاغر قبلة تيطري منتهى مجالات رياح و بني سليم في المغرب وافته هنالك أحياء زغبة من بني عامر و سويد و ارتحلوا معه حتى نازل تلمسان فجمع عساكر الموحدين و حشد زناتة و ظعن المغرب بعد أن قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة و الأعذار و البراءة و الدعاء و الطاعة فرجعهم بالخيبة
و لما حلت عساكر الموحدين بساحة البلد و برز يغمراسن و جموعه نضحتهم ناشبة السلطان بالنبل فانكشفوا و لاذوا بالجدران و عجزوا عن حماية الأسوار فاستمكنت المقاتلة من الصعود و رأى يغمراسن أن قد أحيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتفا على ذويه و خاصته و اعترضه عساكر الموحدين فصمد نحوهم و جندل بعض أبطالهم فأفرجوا له و لحق بالصحراء و انسلت الجيوش إلى البلد من كل حدب فاقتحموه و عاثوا فيه بقتل النساء و الصبيان و اكتساح الأموال و لما تجلى عشاء تلك الهيعة و حسر تيار الصدمة و خمدت نار الحرب راجع الموحدون بصائرهم و أمعن الأمير نظره فيمن يقلده أمر تلمسان و المغرب الأوسط و ينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة المؤمن و المدافعة عنها و استكبر ذلك أشرافهم و تدافعوه و تبرأ أمراء زناتة منه ضعفا عن مقاومة يغمراسن و علما بأنه الفحل الذي لا يجدع أنفه و لا يطرق غيله و لا يصد عن فريسته و سرح يغمراسن الغارات في نواحي العسكر فاختطفوا الناس من حوله و أطلوا من المراقب عليه و خاطب يغمراسن خلال ذلك الأمير أبا زكريا راغبا في القيام بدعوته بتلمسان فراجعه بالإسعاف و اتصال اليد على صاحب مراكش و سوغه على ذلك جباية اقتطعها له و أطلق أيدي العمال ليغمراسن على جبايتها و وفدت أمه سوط النساء للاشتراط و القبول فأكرم وصلها و أسنى جائزتها و أحسن وفادتها و منقلبها و ارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله و في أثناء طريقه وسوس إليه بعض الحاشية باستبداد يغمراسن عليه و أشاروا بإقامة منافسيه من زناتة فأجابهم و قلد عبد القوي بن عطية التوجيني و العباس بن منديل المغراوي و علي بن منصور الملكيشي على قومهم و وطنهم و عهد إليهم بذلك و أذن لهم في اتخاذ الآلة و المراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم فاتخذوها بحضرته و بمشهد من ملك الموحدين و أقاموا مراسمها ببابه و أغذ السير لتونس قرير العين بامتداد ملكه و بلوغ وطره و الإشراف على أذعان المغرب لطاعته و انقياده و حكمه و إدالة عبد المؤمن فيه بدعوته و دخل يغمراسن بن زيان و وفى للأمير أبي زكريا بعهده و أقام بها الدعوة له على سائر منابره و صرف إلى مشاقيه من زناتة وجوه عزائمه فأذاق عبد القوي و أولاد عباس و أولاد منديل نكال الحرب و سامهم سوء العذاب و الفتنة و جاس خلال ديارهم و توغل في بلادهم و غلبهم على الكثير من ممالكهم و شرد عن الأمصار و القواعد ولاتهم و أشياعهم و دعاتهم و رفع عن الرعية ما نالهم من عدوانهم و سوء ملكتهم و ثقيل عسفهم و جورهم و لم يزل على تلك الحال إلى أن كان من حركة صاحب مراكش بسبب أخذ يغمراسن بالدعوة الحفصية ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/106)
الخبر عن نهوض السعيد صاحب مراكش و منازلته يغمراسن بجبل تامزردكت و مهلكه هنالك
لما انقضت دولة بني عبد المؤمن و انتزى الثوار و الدعاة بقاصية أعمالهم و قطعوها عن ممالكهم فاقتطع ابن هود ما وراء البحر من جزيرة الأندلس و استبد بها و ورى بالدعاء للمستنصر بن الظاهر خليفة بغداد من العباسيين لعهده و دعا الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بأفريقية لنفسه و سما إلى جمع كلمة زناتة والتغلب على كرسي الدعوة بمراكش فنازل تلمسان و غلب سنة أربعين و ستمائة و قارن ذلك ولاية السعيد علي بن المأمون إدريس بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن و كان شهما حازما يقظا بعيد الهمة فنظر في أعطاف دولته و فاوض الملأ في تثقيف أطرافها و تقويم مائلها و أثار حفائظهم ما وقع من بني مرين في ضواحي المغرب ثم في أمصاره و أستيلائهم على مكناسة و إقامتهم الدعوة الحفصية فيها كما نذكره فجهز الملوك و العساكر و أزاح عليهم و استنفر عرب المغرب و ما يليه و احتشد كافة المصامدة و نهض من مراكش آخر سنة خمس و أربعين و ستمائة يريد القاصية و يشرد بني مرين عن الأمصار الدانية و اعترض العساكر و الحشود بوادي بهت و أغذ السير إلى تازي فوصلته هناك طاعة بي مرين كما نذكره و نفر معه عسكر منهم و نهض إلى تلمسان و ما وراء و نجا يغمراسن بن زيان و بنو عبد الواد بأهليهم و أولادهم إلى قلعة تامز و ردكت قبلة وجدة فاعتصموا بها
و وفد على السعيد الفقيه عبدون وزير يغمراسن مؤديا للطاعة ثابتا في مذاهب الخدمة و متوليا من حاجات الخليفة بتلمسان ما يدعوه إليه و يصرفه في سبيله و معتذرا عن وصول يغمراسن فلج الخليفة في شأنه و لم يعذره و أبى إلا مباشرة طاعته بنفسه و ساعده فى ذلك كانون بن جرمون السفياني صاحب الشورى بمجلسه و من حضر من الملأ و رجعوا عبدونا لإستقدامه فتثاقل خشية على نفسه و اعتمد السعيد الجبل في عساكره و أناخ بها في ساحة و أخذ بمخنقهم ثلاثا و لرابعها ركب مهجرا على حين غفلة من الناس في قائلة ليتطوف على المعتصم و يتقرى مكامنه فبصر به فارس من القوم يعرف بيوسف بن عبد المؤمن الشيطان كان أسفل الجبل للاحتراس و قريبا منه يغمراسن بن زيان و ابن عمه يعقوب بن جابر فانقضوا عليه من بعض الشعاب و طعنه يوسف فأكبه عن فرسه و قتل يعقوب بن جابر وزيره يحيى بن عطوش ثم استلحموا لوقتهم مواليه ناصحا من العلوج و عنبرا من الخصيان و قائد جند النصارى أخو القمط و وليدا يافعا من ولد السعيد
و يقال إنما كان ذلك يوم عبى العساكر و صعد الجبل للقتال و تقدم أمام الناس فأقتطعه بعض الشعاب المتوعرة في طريقه فتواثب به هؤلاء الفرسان و كان ما ذكرناه و ذلك في صفر سنة ست و أربعين و ستمائة و وقعت النفرة في العساكر لطائر الخبر فأنجلوا و بادر يغمراسن إلى السعيد و هو صريع بالأرض فنزل إليه و حياه و فداه و أقسم له على البراءة من هلكته و الخليفة واجم بمصرعه يجود بنفسه إلى أن فاض و انتهب المعسكر بجملته و أخذ بنو عبد الواد ما كان به من الأخبية و الغازات و اختص غمراسن بفسطاط السلطان فكان له خالصة دون قومه و استولى على الذخيرة التي كانت فيه منها مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه يزعمون أنه أخذ المصاحف إلى انتسخت لعهد خلافته و أنه كان في خزائن قرطبة عند ولد عبد الرحمن الداخل ثم صار في ذخائر لمتونة فيما صار إليهم من ذخائر ملوك الطوائف بالأندلس ثم إلى خزائن الموحدين من خزائن لمتونة و هو لهذا العهد في خزائن بني مرين فيما استولوا عليه من ذخيرة آل زيان حين غلبهم إياهم على تلمسان و اقتحامها عنوة على ملكها منهم عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمراسن فريسة السلطان أبي الحسن مقتحمها غلابا سنة سبع و ثلاثين و سبعمائة كما نذكره و منها العقد المنتظم من خرزات الياقوت الفاخرة و الدرر المشتمل على مئين متعددة من حصبائه يسمى بالثعبان و صار في خزائن بني مرين بعد ذلك الغلاب فيا اشتملوا عليه من ذخيرتهم إلى أن تلف في البحر عند غزو الأسطول بالسلطان أبي الحسن بمرسى بجاية مرجعه من تونس حسبما نذكره بعد إلى ذخائر من أمثاله و طرف من أشباهه مما يستخلصه الملوك لخزائنهم و بعنون به من ذخائرهم و لما سكنت النفرة و ركد عاصف تلك الهيعة نظر يغمراسن في شأن مواراة الخليفة فجهز و رفع على الأعواد إلى مدفنه بالعباد بمقبرة الشيخ أبي مدين عفا الله عنه ثم نظر في شأن حرمه و أخته تاعزونت الشهيرة الذكر بعد أن جاءها و اعتذر إليها مما وقع و أصحبهن جملة من مشيخة بنى عبد الواد إلى مأمنهن و ألحقوهن بدرعة من تخوم طاعتهم فكان له بذلك حديث جميل في الإبقاء على الحرم و رعى حقوق الملك و رجع إلى تلمسان و قد خضدت شوكة بنى عبد المؤمن و أمنهم على سلطانه و الله أعلم (7/109)
الخبر عما كان بينه و بين بني مرين من الأحداث سائر أيامه
قد ذكرنا ما كان بين هذين الحيين من المناغاة و المنافسة منذ الآماد المتطاولة بما كانت مجالات الفريقين بالصحراء متجاورة و كان التخم بين الفريقين واديا إلى فيكيك و كان بنو عبد المؤمن عند فشل الدولة و تغلب بنى مرين على ضاحية المغرب يستجيشون بنى عبد الواد مع عساكر الموحدين على بنى مرين فيجوسون خلال المغرب ما بين تازى إلى فاس إلى القصر في سييل المظاهرة للموحدين و الطاعة لهم و سنذكر أخبار بنى مرين كثيرا من ذلك فلما هلك السعيد و أسف بنو مرين إلى ملك المغرب ليغمراسن أمل في مزاحمتهم و كان أهل فاس بعد تغلب أبو يحيى بن عبد الحق عليهم قد نقموا على قومه سوء السيرة و تمشت رجالاتهم في اللياذ بطاعة الخليفة المرتضى ففعلوا فعلتهم في الفتك بعامل أبي يحيى بن عبد الحق و الرجوع إلى طاعة الخليفة و أغذ أبو يحيى المسير إلى منازلتهم فحاصرهم شهورا و في أثناء هذا الحصار اتصلت المخاطبة بين الخليفة المرتضى و يغمراسن بن زيان في الأخذ بحجزة أبي يحيى بن عبد الحق بفاس فأجاب يغمراسن داعيه و استنفر لها إخوانه من زناتة فنفر معه عبد القوي بن عطية بقومه من توجين و كافة القبائل من زناتة و المغرب و نهضوا جميعا إلى المغرب و بلغ خبرهم إلى أبي يحيى بن عبد الحق بمكانه من حصار فاس فجهز كتائبه عليها و نهض للقائهم في بقية العساكر و التقى الجمعان بايسلي من ناحية وجدة و كانت هناك الواقعة المشهورة بذلك المكان انكشف فيها جموع يغمراسن و هلك منهم يغمراسن و غيره و رجعوا في فلهم إلى تلمسان و اتصلت بعد ذلك بينهم الحروب و الفتنات سائر أيامه و ربما تخللتها المهادنات قليلا و كان بينه و بين يعقوب بن عبد الحق ذمة مواصلة أوجب له رعيها و كثيرا ما كان يثني عليه أخوه أبو يحيى من أجلها و نهض أبو يحيى بن عبد الحق سنة خمس و خمسين و ستمائة إلى قتاله و برز إليه يغمراسن و تزاحف جموعهم بأبي سليط فانهرم يغمراسن و اعتزم أبو يحيى على اتباعه فرده أخوه يعقوب بن عبد الحق
و لما قفل إلى المغرب صمد يغمراسن إلى سجلماسة لمداخلة كانت بينه و بين المنبات من عرب المعقل أهل مجالاتها و ذئاب فلاتها حدثته نفسه باهتبال الغرة في سجلماسة من أجلها و كانت قد صارت إلى إيالة أبي يحيى بن عبد الحق منذ ثلاث كما ذكرناه في أخبارهم و نذر بذلك أبو يحيى فسابق إليها يغمراسن بمن حضره من قومه فثقفها و سد فرجها و وصل يغمراسن عقيب ذلك بعساكره و أناخ بها و امتنعت عليه فأفرج عنها قافلا إلى تلمسان و هلك أبو يحيى بن عبد الحق إثر ذلك منقلبه إلى فاس فاستنفر يغمراسن أولياءه من زناتة و أحياء زغبة و نهض إلى المغرب سنة سبع و خمسين و ستمائة و انتهى إلى كلدامان و لقيه يعقوب بن عبد الحق في قومه فأوقع به و ولى يغمراسن منهزما و مر في طريقه بتافرسيت فانتسفها و عاث في نواحيها ثم تداعوا للسلم و وضع أوزار الحرب و بعث يعقوب بن عبد الحق ابنه أبا مالك بذلك فتولى عقده و إبرامه ثم كان التقاؤهما سنة تسع و خمسين و ستمائة بواجر قبالة بني يزناسن و استحكم عقد الوفاق بينهما لذلك و اتصلت المهادنة إلى أن كان بينهما ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/111)
الخبر عن كائنة النصارى و إيقاع يغمراسن بهم
كان يغمراسن بن زيان بعد مهلك السعيد و انفضاض عساكر الموحدين قد استخدم طائفة من جند النصارى الذين كانوا في جملته مستكثرا بهم معتدا بمكانهم مباهيا بهم في المواقف و المشاهد و ناولهم طرفا من حبل عنايته فاعتزوا به و استفحل أمرهم بتلمسان حتى إذا كان سنة اثنتين و خمسين و ستمائة بعد مرجعه من بلاد توجين في إحدى حركاته إليها كانت قصة غدرهم الشنعاء التي أحسن الله فى دفاعها عن المسلمين و ذلك أنه ركب في بعض أيامه لاعتراض الجنود بباب القرمادين من أبواب تلمسان و بينما هو واقف في موكبه عند قائلة الضحا عدا عليه قائدهم و بادر النصارى إلى محمد بن زيان أخي يغمراسن فقتلوه و أشار له بالنجوى فبرز من الصف لاسراره و أمكنه من أذنه فتنكبه النصراني و قد خالطه روعة أحس منها يغمراسن بمكره فانحاص منه و ركض النصراني أمامه يطلب النجاة و تبين الغدر و ثارت بهم الدماء من الحامية و الرعايا فأحيط بهم من كل جانب و تناولتهم أيدي الهلاك بكل مهلك قعصا بالرماح و هبرا بالسيوف و شدخا بالعصي و الحجارة حتى استلحموا و كان يوما مشهودا و لم يستخدم من بعدها جند النصارى بتلمسان حذرا من غائلهتم و يقال إن محمد بن زيان هو الذي داخل القائد في الفتك بأخيه يغمراسن و أنه إنما قتله عندما لم يتم لهم الأمر تبرءا من مداخلته فلم يمهله غاشي الهيعة للتثبت في شأنها و الله أعلم (7/113)
الخبر عن تغلب يغمراسن على سجلماسة ثم مصيرها بعد الى إيالة بني مرين
كان عرب المعقل منذ دخول العرب الهلاليين إلى صحراء المغرب الأقصى أحلافا و شيعا لزناتة و أكثر انحياشهم إلى بني مرين إلا ذوي عبيد الله منهم لما كانت مجالاتهم لصق مجالات بني عبد الواد و مشاركة لها و لما استفحل شأن نيى عبد الواد بين يدي ملكهم زاحموهم عنها بالمناكب و نبذوا إليهم العهد و استخلصوا دونهم المنبات من ذوي منصور أقتالهم فكانوا حلفاء و شيعة ليغمراسن و لقومه و كانت سجلماسة في مجالاتهم و منقلب رحلتهم و كانت قد صارت إلى ملك بني مرين ثم استبد بها القطراني ثم ثاروا به و رجعوا إلى طاعة المرتضى و تولى كبر ذلك على بن عمر كما ذكرناه في أخبار بني مرين ثم تغلب المنبات على سجلماسة و قتلوا عاملها على بن عمر سنة اثنتين و ستين و ستمائة و آثروا يغمراسن بملكها و دخل أهل البلد فى القيام بدعوته و حملوهم عليها فجأجأوا بيغمراسن فنهض إليها في قومه و أمكنوه من قيادها فضبطها و عقد عليها لولده يحيى و أنزل معه ابن أخته حنينة واسمه عبد الملك بن محمد بن على بن قاسم بن درم من ولد محمد و أنزل معهما يغمراسن بن حمامة فيمن معهم من عشائرهم و حشمهم فأقام ابنه يحيى أميرا عليها إلى أن غلب يعقوب ابن عبد الحق الموحدين على دار خلافتهم و إطاعته طنجة و عامة بلاد المغرب فوجه عزمه إلى انتزاع سجلماسة من طاعة يغمراسن و زحف إليها فى العساكر و الحشود من زناتة و العرب و البربر و نصب عليها آلات الحصار إلى أن سقط جانب من سورها فاقتحموها منه عنوة في صفر سنة ثلاث و سبعين و ستمائة و استباحوها و قتل القائدان عبد الملك بن حنينة و يغمراسن بن حمامة و من معهم من بني عبد الواد أمراء المنبات و صارت إلى طاعة بني مرين آخر الأيام : و الملك بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده (7/114)
الخبر عن حروب يغمراسن مع يعقوب بن عبد الحق
قد ذكرنا ما كان من شأن بني عبد المؤمن عند فشل دولتهم و استطالة بني مرين عليهم في الاستظهار ببني عبد الواد و اتصال اليد بهم في الأخذ بحجزة عدوهم من بني مرين عليهم و لما هلك المرتضى و ولى أبو دبوس سنة خمس و ستين و ستمائة و حمي وطيس فتنته مع يعقوب بن عبد الحق فراسل يغمراسن في مدافعته و أكد العهد و أسنى الهدية و أجلب إليه يغمراسن و شن الغارات على ثغور المغرب و أضرمها نارا و كان يعقوب بن عبد الحق محاصرا لمراكش فأفرج عنها و رجع إلى المغرب و احتشد جموعه و نهض إلى لقائه و تزاحف الفريقان بوادي تلاغ و قد استكمل كل تعبيته و كانت الوقيعة على يغمراسن استبيحت فيها حرمه و استلحم قومه و هلك ابنه أبو حفص عمر أعز ولده عليه في أتراب له من عشيرته مثل : ابن أخته عبد الملك بن حنينة و ابن يحيى بن مكي و عمر بن إبراهيم بن هشام و رجع عنه يعقوب بن عبد الحق إلى مراكش حتى انقضى شأنه في التغلب عليها و محى أثر بني عبد المؤمن منها و نزع لمحاربة بني عبد الواد و حشد كافة أهل المغرب من المصامدة و الجموع و القبائل و نهض إلى بني عبد الواد سنة سبعين و ستمائة فبرز إليه يغمراسن في قومه و أوليائه من مغراوة و العرب و تزاحفوا بايسلى من نواحي وجدة فكانت الدبرة على يغمراسن انكشفت جموعه و قتل ابنه فارس و نجا بأهله بعد أن أضرم معسكره نارا تفاديا من معرة اكتساحه و نجا إلى تلمسان فانحجر بها و هدم يعقوب بن عبد الحق وجدة ثم نازله بتلمسان و اجتمع إليه هنالك بنو توجين مع أميرهم محمد ابن عبد القوي وصل يده بيد السلطان على يغمراسن و قومه و حاصروا تلمسان أياما فامتنعت عليهم و أفرجوا عنها و ولى كل إلى عمله و مكان ملكه حسبما نذكره في أخبارهم و انعقدت بينهما المهادنة من بعد ذلك و فرغ يعقوب بن عبد الحق للجهاد و يغمراسن لمغالبة توجين و مغراوة على بلادهم إلى أن كان من شأنهم ما نذكره و الله أعلم (7/115)
الخبر عن شأن يغمراسن مع مغراوة و بني توجين و ما كان بينهم من الأحداث
كانت مغراوة في مواطنهم الأولى من نواحي شلف قد سالمتهم الدول عند تلاشي ملكهم و ساموهم الجباية فرضوا بها مثل : بني ورسفين و بني يلنث و بني ورتزمير و كان فيهم سلطان لبني منديل بن عبد الرحمن من أعقاب آل خزر ملوكهم الأولى منذ عهد الفتح و ما بعده على ما ذكرناه في خبرهم فلما انتثر عقد الخلافة بمراكش و تشظت عصاها و كثر الثوار و الخوارج بالجهات استقل منديل بن عبد الرحمن و بنوه بتلك الناحية و ملكوا مليانة و تنس و شرشال و ما إليها و تطاولوا إلى متيجة فتغلبوا عليها ثم مدوا أيديهم إلى جبل وانشريش و ما إليه فتناولوا الكثير من بلاده ثم أزاحهم عنها بنو عطية الحيو و قومه من بني توجين المجاورون لهم في مواطنهم بأعالي شلف شرقي أرض السوس و كان ذلك لأول دخول أحياء زناتة الناجعة بأرض القبلة إلى التلول فتغلب بنو عبد الواد على نواحي تلمسان إلى وادي صا و تغلب بنو توجين على ما بين الصحراء و التل من بلد المرية إلى جبل وانشريس إلى مرات الجعبات و صار التخم لملك بني عبد الواد سبك و البطحاء فمن قبليها مواطن بني توجين و من شرقها مواطن مغراوة و كانت الفتنة بين بني عبد الواد و بين هذين الحيين من أول دخولهم إلى التلول
و كان المولى الأمير أبو زكريا بن أبي حفص يستظهر بهذين الحيين على بني عبد الواد و يراغمهم بهم حتى كان من فتح تلمسان ما قدمناه و ألبس جميعهم شارة الملك على ما ذكرناه و نذكره في أخبارهم فزاحموا يغمراسن بعدها بالمناكب و صرف هو إليهم وجه النقمة و الحروب و لم يزل الشأن ذلك حتى انقرض ملك هذين الحيين لعهد ابنه عثمان بن يغمراسن و على يده ثم على يد بني مرين من بعدهم كما يأتي ذكره
و لما رجع يغمراسن بن زيان من لقاء بني مرين بايسلي من نواحي وجدة التي كانت سنة سبع و أربعين و ستمائة و كان معه فيها عبد القوي بن عطية بقومه من بني توجبن و هلك مرجعه منها أنفذ يغمراسن العهد لابنه محمد الأمير بعده و زحف إلى بلاده فجاس خلالها و نازل حصونها فامتنعت عليه و أحسن محمد بن عبد القوي في دفاعه ثم زحف ثانية سنة خمسين و ستمائة إليهم فنازل حصن تافركينت من حصونهم و كان به على بن أبي زيان حافد محمد بن عبد القوي فامتنع به في طائفة من قومه و رحل يغمراسن كظيما و لم يزل يغمراسن بعدها يثير الغارات على بلادهم و يجمع الكتائب على حصونهم و كان بتافركينت صنيعة من صنائع بني عبد القوى و نسبه في صنهاجة أهل ضاحية بجاية اختص بهذا الحصن و رسخت قدمه فيه و اعتز بكثرة ماله و ولده فأحسن الدفاع عنه و كان له مع يغمراسن في الامتناع عليه أخبار مذكورة حتى سطا به بنو محمد بن عبد القوي حين شرهوا إلى نعمته و أنفوا من استبداده فأتلفوا نفسه و تخطفوا نعمته فكان حتف ذلك الحصن في حتفه كما يأتي ذكره
و عندما شبت نار الفتنة بين يغمراسن و محمد بن عبد القوي وصل محمد يده بيعقوب بن عبد الحق فلما نازل يعقوب تلمسان سنة سبعين و ستمائة بعد أن هدم وجدة و هزم بغمراسن بايسلي جاءه محمد بن عبد القوي بقومه من بنى توجين و أقام معه على حصارها و رحلوا بعد الامتناع عليهم فرجع محمد إلى مكانه ثم عاود يعقوب بن عبد الحق منازلة تلمسان سنة ثمانين و ستمائة بعد إيقاعه بيغمراسن في خرزوزة فلقيه محمد بن عبد القوي بالقصبات و اتصلت أيديهم على تخريب بلاد يغمراسن مليا و نازلوا تلمسان أياما ثم افترقوا و رجع كل إلى بلده و لما خلص يغمراسن بن زيان من حصاره زحف إلى بلادهم وأوطأ عسكره أرضهم فغلب على الضاحية و خرب عمرانها إلى أن تملكها بعده ابنه عثمان كما نذكره
و أما خبره مع مغراوة فكان عماد رأيه فيهم التغريب بين بني منديل بن عبد الرحمن للمنافسة التي كانت بينهم في رياسة قومهم و لما رجع من واقعة تلاغ سنة ست و ستين و ستمائة و هي الواقعة التي هلك فيها ولده عمر زحف بعدها إلى بلاد مغراوة فتوغل فيها و تجاوزها إلى من وراءهم من مليكش و الثعالبة وأمكن عمر من مليانة سنة ثمان و ستين و ستمائة على شرط المؤازرة و المظاهرة على إخوته فملكها يغمراسن يومئذ و صار الكثير من مغراوة إلى ولايته و زحفوا معه إلى المغرب سنة سبعين و ستمائة ثم زحف بعدها إلى بلادهم سنة اثنتين و سبعين و ستمائة فتجافى له ثابت بن منديل عن تنس بعد أن أثخن في بلادهم و رجع عنها فاسترجعها ثابت ثم نزل له عنها ثانيا سنة إحدى و ثمانين و ستمائة بين يدي مهلكه عندما تتم له الغلب عليهم و الإثخان في بلادهم إلى أن كان الاستيلاء عليها لابنه عثمان على ما نذكره إن شاء الله (7/116)
الخبر عن انتزاء الزعيم بن مكن بيلد مستغانم
كان بنو مكن هؤلاه من علية القرابة من بني زيان يشاركونهم في نسب محمد بن زكراز بن تيدوكس بن طاع الله و كان لمحمد هذا أربعة من الولد كبيرهم يوسف و من ولده جابر بن يوسف أول ملوكهم و ثابت بن محمد و من ولده زيان بن ثابت أبو الملوك من بني عبد الواد و درع بن محمد و من ولده عبد الملك بن محمد بن على بن قاسم بن درع المشتهر بأمه حنينة أخت يغمراسن بن زيان و مكن بن محمد و كان له من الولد يحيى و عمرس و كان من ولد يحيى الزعيم و علي و كان يغمراسن بن زيان كثيرا ما يستعمل قرابته في الممالك و يوليهم على العمالات و كان قد استوحش من يحيى بن مكن و ابنه الزعيم و غربهما إلى الأندلس فأجازا من هنالك إلى يعقوب بن عبد الحق سنة ثمانين و ستمائة و لقياه بطنجة في إحدى حركات جهاده و زحف يعقوب بن عبد الحق إلى تلمسان عامئذ و هما في جملته فأدركهما النغرة على قومها و آثرا مفارقة السلطان إليهم فأذن لهم في الانطلاق و لحقا بيغمراسن بن زيان حتى إذا كانت الواقعة عليه بخرزوزة سنة ثمانين كما قدمناه و زحف بعدها إلى بلاد مغراوة و تجافى له ثابت بن منديل عن مليانة و انكف راجعا إلى تلمسان استعمل على ثغر مستغانم الزعيم بن يحيى بن مكن فمتا وصل إلى تلمسان انتقض عليه و دعا إلى الخلاف و مالأ عدوه من مغراوة على المظاهرة عليه فصمد إليه يغمراسن و حجزه بها حتى لاذ منه بالسلم على شرط الإجازة إلى العدوة فعقد له و أجازه ثم أثره أباه يحيى و استقر بالأندلس إلى أن هلك يحيى سنة اثنتين و تسعين و ستمائة و وفد الزعيم بعد ذلك على يوسف بن يعقوب و سخطه لبعض النزعات فاعتقله و فر من محبسه و لم يزل الاغتراب مطوحا به إلى أن هلك و البقاء لله وحده و نشأ ابنه الناصر بالأندلس فكانت مثواه و موقف جهاده إلى أن هلك
و أما أخوه علي بن يحيى فأقام بتلمسان و كان من ولده داود بن علي كبير مشيخة بني عبد الواد صاحب شوراهم و كان منهم أيضا إبراهيم بن علي عقد له أبو حمو الأوسط على ابنته فكان منها ولد ذكر و كان لداود ابن اسمه يحيى بن داود استعمله أبو سعيد بن عبد الرحمن في دولتهم الثانية على وزارته فكان من شأنه ما نذكره في أخبارهم و الأمر لله (7/118)
الخبر عن شأن يغمراسن في معاقدته مع ابن الاحمر و الطاغية على فتنة يعقوب بن عبد الحق و الأخذ بحجزته
كان يعقوب بن عبد الحق لما أجاز إلى الجهاد و أوقع بالعدو و خرب حصونهم و نازل أشبيلية و قرطبة و زلزل قواعد كفرهم ثم أجاز ثانية و توغل في دار الحرب و أثخن فيها و تخلى له ابن أشقيلولة عن مالقة فملكها و كان سلطان الأندلس يومئذ الأمير محمد المدعو بالفقيه ثاني ملوك بني الأحمر ملكهم هو الذي استدعى يعقوب بن عبد الحق للجهاد بما عهد له أبو الشيخ بذلك فلما استفحل أمر يعقوب بالأندلس و تعاقب الثوار إلى اللياذ به خشيه ابن الأحمر على نفسه و توقع منه مثل فعل يوسف بن تاشفين بابن عباد فاعتمل في أسباب الخلاص مما توهم و داخل الطاغية في اتصال اليد و المظاهرة عليه و كانت عالقة لعمر يحيى بن علي استعمله عليها يعقوب بن عبد الحق حين ملكها من يد أشقيلولة فاستماله ابن الأحمر و خاطبه مقارنة وعدا و أداله بشلوبانية من مالقة طعمة خالصة له فتخلى عن مالقة إليها و أرسل الطاغية أساطيله في البحر لمنع الزقاق من إجازة السلطان و عساكره و راسلوا يغمراسن من وراء البحر في الأخذ بحجزة يعقوب و شن الغارات على ثغوره ليكون ذلك شاغلا له عنهم فبادر يغمراسن بإجابتهم و ترددت الرسل إليه من الطاغية و منه إلى الطاغية كما نذكره و بث السرايا و البعوث في نواحي المغرب فشغل يعقوب عن شأن الجهاد حتى لقد سأله المهادنة و أن يفرغ لجهاد العدو فأبى عليه و كان ذلك مما دعا يعقوب إلى الصمود إليه و مواقعته بخرزوزة كما ذكرناه و لم يزل شأنهم ذلك مع يعقوب بن عبد الحق و أيديهم متصلة عليه من كل جهة و هو ينتهز الفرص في كل واحد منم متى أمكنه حتى هلك و هلكوا و الله وارث الأرض و من عليها سبحانه (7/119)
الخبر عن شأن يغمراسن مع الخلفاء من بني أبي حفص الذي كان يقيم بتلمسان دعوتهم و يأخذ قومه بطاعتهم
كان زناتة يدينون بطاعة خلفاء الموحدين من بني عبد المؤمن أيام كونهم بالقفار و بعد دخولهم إلى التلول فلما فشل أمر بني عبد المؤمن و دعا الأمر أبو زكريا بن أبي حفص بأفريقية لنفسه و نصب كرسي الخلاف للموحدين بتونس انصرفت إليه الوجوه من سائر الآفاق بالعدوتين و أملوه الكرة و أوفد زناتة عليه رسلهم من كل حي بالطاعة و لاذ مغراوة و بنو توجين بظل دعوته و دخلوا في طاعته و استنهضوه لتلمسان فنهض إليها و افتتحها سنة أربعين و ستمائة و رجع إليها يغمراسن و استعمله عليها و على سائر ممالكها فلم يزل مقيما لدعوته و اتبع أثره بنو مرين في إقامة الدعوة له فيما غلبوا عليه من بلاد المغرب و بعثوا إليه ببيعة مكناسة و تازى و القصر كما نذكره في أخبارهم إلى ما دانوا به و لابنه المستنصر من بعده من خطاب التمويل و الإشارة بالطاعة و الانقياد حتى غلبوا على مراكش و خطبوا باسم المستنصر على منابرها حينا من الدهر ثم تبين لهم بعد تناول تلك القاصية عليه فعطلوا منابرهم من أسماء أولئك و أقطعوهم جانب الوداد و الموالاة ثم سموا إلى اللقب و التفنن في الشارة الملوكية كما تقتضيه طبيعة الدول و أما يغمراسن و بنوه فلم يزالوا آخذين بدعوتهم واحدا بعد واحد متجافين عن اللقب أدبا معهم مجددين البيعة لكل من يتجدد قيامه بالخلافة منهم يوفدون بها كبار أبنائهم وأولى الرأي من قومهم و لم يزل الشأن ذلك و لما هلك الأمير أبو زكريا و قام ابنه محمد المستنصر بالأمر من بعده و خرج عليه أخوه الأمير أبو إسحاق في أحياء الزواودة من رياح ثم غلبهم المستنصر جميعا و لحق الأمير أبو إسحاق بتلمسان في أهله فأكرم يغمراسن نزلهم و أجاز إلى الأندلس للمرابطة بها و الجهاد حتى إذا هلك المستنصر سنة سبع و سبعين و ستمائة و اتصل به خبر مهلكه و رأى أنه أحق بالأمر فأجاز البحر من حينه و نزل بمرسى هني سنة سبع و سبعين و ستمائة و لقاه يغمراسن مبرة و توقيرا و احتفل لقدومه و أركب الناس لتلقيه و أتاه ببيعته على عادته مع سلفه و وعده النصرة على عدوه و المؤازرة على أمره و أصهر إليه يغمراسن في إحدى بناته المقصورات في خيام الخلافة بابنه عثمان ولي عهده و أسعفه و أجمل في ذلك وعده و انتقض محمد بن أبي هلال عامل بجاية على الواثق و خلع طاعته و دعا للأمير أبي إسحاق و استحثه للقدوم فأغذ إليه السير من تلمسان و كان من شأنه ما قدمناه في أخباره فما كانت سنة إحدى و ثمانين و ستمائة و زحف يغمراسن إلى بلاد مغراوة و غلبهم على الضواحي و الأمصار بعث من هنالك ابنه إبراهيم و تسميه زناتة برهوم و يكنى أبا عامر أوفده في رجال من قومه على الخليفة أبي إسحاق لإحكام الصهر بينهما فنزلوا منه على خير نزل من اسناء الجراية و مضاعفة الكرامة و المبرة و ظهر من آثاره في حروب ابن أبي عمارة ما مد الأعناق إليه و قصر الشيم الزناتية على بيته ثم انقلب آخرا بظعينته محبوا محبورا و ابتنى بها عثمان لحين وصولها و أصبحت عقيلة قصره فكان ذلك مفخرا لدولته و ذكرا له و لقومه و لحق الأمير أبو زكريا ابن الأمير أبي إسحاق بتلمسان بعد خلوصه من مهلك قومه في واقعة الدعي ابن أبي عمارة عليهم بمرما جنة سنة اثنتين و ثمانين و ستمائة فنزل من عثمان بن يغمراسن صهره خير نزل برا و احتفاء و تكريما و ملاطفة و سربت إليه أخته من القصر أنواع التحف و الإنس و لحق به أولياؤهم من صنائع دولتهم و كبيرهم أبو الحسن محمد بن الفقيه المحدث أبي بكر بن سيد الناس اليعمري فتفيؤا من كرامة الدولة بهم ظلا وارفا و استنهضوه إلى ثرات ملكه و فاوض أبا مثواه عثمان بن يغمراسن في ذلك فنكره لما كان قد أخذه بدعوة الحضرة أوفد عليه رجال دولته بالبيعة على العادة في ذلك فحدث الأمير أبو زكريا نفسه بالفرار عنه و لحق بداود ابن هلال بن عطاف أمير البدو من بني عامر إحدى بطون زغبة فأجاره و أبلغه مأمنه بحي الزواودة أمراء البدو بعمل الموحدين و نزل منهم على عطية بن سليمان بن سباع كما قدمناه و استولى على بجاية سنة أربع و ثمانين و ستمائة بعد خطوب ذكرناها و اقتطعها عن ملك عمه صاحب الدولة بتونس أبي حفص و وفى لداود بن عطاف و أقطعه بوطن بجاية عملا كبيرا أفرده لجبايته كان فيه ايقداران بالخميس من وادي بجاية و اشتغل الأمير أبو زكريا بمملكة بونة و قسنطينة و بجاية و الجزائر و الزاب و ما وراءها و كان هذا الصهر وصلة له مع عثمان بن يغمراسن و بنيه
و لما نازل يوسف بن يعقوب تلمسان سنة ثمان و تسعين و ستمائة و بعث الأمير أبو زكريا المدد من جيوشه إلى عثمان بن يغمراسن و بلغ الخبر بذلك إلى يوسف بن يعقوب فبعث أخاه أبا يحيى في العساكر لاعتراضهم و التقوا بجبل الزاب فكانت الدبرة على عسكر الموحدين و استلحموا هناك و تسمى المعركة لهذا العهد بمرسى الرؤوس و استحكت من أجل ذلك صاغية الخليفة بتونس إلى بني مرين و أوفد عليهم مشيخة من الموحدين يدعوهم إلى حصار بجاية و بعث معهم الهدية الفاخرة و بلغ خبرهم إلى عثمان بن يغمراسن من وراء جدرانه فتنكر لها و أسقط ذكر الخليفة من منابره و محاه من عمله فنسي لهذا العهد و الله مالك الأمر سبحانه (7/120)
الخبر عن مهلك يغمراسن بن زيان و ولاية ابنه عثمان و ما كان في دولته من الأحداث
كان السلطان يغمراسن قد خرج من تلمسان سنة إحدى و ثمانين و ستمائة و استعمل عليها ابنه عثمان و توغل في بلاد مغراوة و ملك ضواحيهم و نزل له ثابت بن منديل عن مدينة تنس فتناولها من يده ثم بلغه الخبر بإقبال ابنه أبي عامر برهوم من تونس بابنة السلطان أبي إسحاق عرس ابنه عثمان فتلوم هنالك إلى أن لحقه بظاهر مليانة فارتحل إلى تلمسان و أصابه الوجع في طريقه و عندما أحل سريره اشتد به وجعه فهلك هنالك آخر ذي القعدة من سنته و البقاء لله وحده فحمله ابنه أبو عامر على أعواد و واراه في خدر موريا لمرضه إلى أن تجاوز بلاد مغراوة إلى سيك ثم أغذ السير إلى تلمسان فلقيه أخوه عثمان بن يغمراسن ولي عهد أبيه فى قومه فبايعه الناس و أعطوه صفقة أيمانهم ثم دخل تلمسان فبايعه العامة و الخاصة و خاطب لحينه الخليفة بتونس أبا إسحاق و بعث إليه ببيعته فراجعه بالقبول و عقد له على عمله على الرسم ثم خاطب يعقوب بن عبد الحق يخطب منه السلم لما كان أبوه يغمراسن أوصاه به
حدثنا شيخنا العلامة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآيلي قال : سمعت من السلطان أبي حمو موسى بن عثمان و كان قهرمانا بداره قال : أوصى دادا يغمراسن لدادا عثمان و دادا حرف كنايه عن غاية التعظيم بلغتهم فقال له : يا بني إن بني مرين بعد استفحال ملكهم و استيلائهم على الأعمال الغربية و على حضرة الخلافة بمراكش لا طاقة لنا بلقائهم إذا جمعوا الوفور مددهم و لا يمكنني أنا القعود عن لقائهم لمعرة النكوص عن القرن التي أنت بعيد عنها فإياك و اعتماد لقائهم و عليك باللياذ بالجدران متى دلفوا إليك و حاول ما استطعت الاستيلاء على ما جاورك من عمالات الموحدين و ممالكهم يستفحل به ملكك و تكافيء حشد العدو بحشدك و لعلك تصير بعض الثغور الشرقية معقلا لذخيرتك فعلقت وصية الشيخ بقلبه و عقدا عليها ضمائره و جنح إلى السلم مع بني مرين ليفرغ عزمه لذلك و أوفد أخاه محمد بن يغمراسن على يعقوب بن عبد الحق بمكانه من العدوة الأندلسية في إجازته الرابعة إليها فخاض إليه البحر و وصله بأركش فلقاه برا و كرامة و عقد له على السلم ما أحب و انكف راجعا إلى أخيه فطابت نفسه و فرغ لافتتاح البلاد الشرقية كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/122)
الخبر عن شأن عثمان بن يغمراسن مع مغراوة و بني توجين و غلبه على معاقلهم و الكثير من أعمالهم
لما عقد عثمان بن يغمراسن السلم مع يعقوب بن عبد الحق صرف وجهه إلى الأعمال الشرقية من بلاد توجين و مغراوة و ما وراءها من أعمال الموحدين فتغلب أولا على ضواحي بني توجين و مغراوة و ما وراءها ودوخ قاصيتها و سار إلى بلاد مغراوة كذلك ثم إلى متيجة فانتسب نعمها و خطم زرعها ثم تجاوزها إلى بجاية فحاصرها كما نذكره بعد و امتنعت عليه فانكف راجعا و مر في طريقه بمازونة فحاصرها و أطاعته و ذلك سنة ست و ثمانين و ستمائة و نزل له ثابت بن منديل أمير مغراوة عن تنس فاستولى عليها و انتظم سائر بلاد مغراوة فى إيالته ثم عطف في سنته على بلاد توجين فاكتسح حبوبها و احتكرها بمازونة استعدادا لما يتوقع من حصار مغراوة إياها ثم دلف إلى تافركنيت فحاصرها و أخذ بمخنقها و داخل قائدها غالبا الخصي من موالى بني محمد بن عبد القوى كان مولى سيد الناس منهم فنزل له غالب عنها و استولى عليها و انكفأ إلى تلمسان ثم نهض إلى بني توجين سنة سبع و ثمانين و ستمائة فغلبهم على وانشريس مثوى ملكهم و منبت عزهم و فر أمامه أميرهم مولى بني زرارة من ولد محمد بن عبد القوي و أخذ الحلف منهم فلحق بضواحي المرية فى الأعشار و أولاد عزيز من قومه و اتبع عثمان بن يغمراسن آثارهم و شردهم من تلك القاصية و هلك مولى زرارة في مغرة و كان عثمان قبل ذلك قد دوخ بلاد بني يدللتين من بني توجين و نازل رؤساءهم أولاد سلامة بالقلعة المنسوبة إليهم مرات فامتنعوا عليه ثم أعطوه أيديهم على الطاعة و مفارقة قومهم بني توجين إلى سلطان بني يغمراسن فنبذوا العهد إلى بني محمد بن عبد القوي أمرائهم منذ العهد الأؤل و وصلوا أيديهم بعثمان و ألزموا رعاياهم و عمالهم المغارم له إلى أن ملك وانشريس من بعدها كما نذكر ذلك في أخبارهم و صارت بلاد توجين كلها من عمله و استعمل الحشم بجبل وانشريس ثم نهض بعدها إلى المرية و بها أولاد عزيز من توجين فنازلها و قام بدعوته فيها قبائل من صنهاجة يعرفون بلمدية و إليهم ينسب فأمكنوه منها سنة ثمان و ثمانين و ستمائة و بقيت في إيالته سبعة أشهر ثم انتقضت عليه و رجعت إلى ولاية أولاد عزيز و صالحوه عليها و أعطوه من الطاعة ما كانوا يعطونه محمد بن عبد القوي و بنيه فاستقام أمره في بني توجين و دانت له سائر أعمالهم ثم خرج سنة تسع و ثمانين و ستمائة إلى بلاد مغراوة لما كانوا عليه لبني مرين في إحدى حركاتهم على تلمسان فدوخها و أنزل ابنه أبا حمو بشلف مركز عملهم فأقام به و قفل هو إلى الحضرة و تحيز فل مغراوة إلى نواحي متيجة و عليهم ثابت بن منديل أميرهم فلم يزالوا به و نهض عثمان إليهم سنة ثلاث و تسعين و ستمائة بعدها فانحجزوا بمدينة برشك و حاصرهم بها أربعين يوما ثم افتتحها و خاض ثابت البحر إلى المغرب فنزل على يوسف بن يعقوب كما ذكرناه و نذكره و استولى عثمان على سائر عمل مغراوة كما استولى على عمل بني توجين فانتظم بلاد المغرب الأوسط كلها و بلاد زناتة الأولى ثم أشغل بفتنة بني مرين كما نذكر بعد إن شاء الله تعالى (7/123)
الخبر عن منازلة بجاية و ما دعا إليها
قد ذكرنا أن المولى أبا زكريا الأوسط ابن المولى أبي إسحاق بن أبي حفص لحق بتلمسان عند فراره من بجاية أمام شيعة الدعي ابن أبي عمارة و نزل على عثمان بن يغمراسن خير نزل ثم هلك الدعى ابن أبي عمارة و استقل عمه الأمير أبو حفص بالخلافة و بعث إليه عثمان بن يغمراسن بطاعته على العادة و أوفد عليه وجوه قومه و دس الكثير من أهل بجاية إلى الأمير أبي زكريا يستحثونه للقدوم و يعدونه إسلام البلد إليه و فاوض عثمان بن يغمراسن في ذلك فأبي عليه وفاء بحق البيعة لعمه الخليفة بالحضرة فطوى عنه الخبر و تردد في النقض أياما ثم لحق بأحياء زغبة في مجالاتهم بالقفر و نزل على داود بن هلال بن عطاف و طلب عثمان بن يغمراسن إسلامه فأبى عليه و ارتحل معه إلى أعمال بجاية و نزلوا على أحياء الزواودة كما قدمناه ثم استولى المولى أبو زكريا بعد ذلك على بجاية في خبر طويل ذكرناه فى أخباره و استحكمت القطيعة بينه و بين عثمان و كانت سببا لاستحكام الموالاة بين عثمان و بين الخليفة بتونس فلما زحف إليه عثمان سنة ست و ثمانين و ستمائة و توغل في قاصية المشرق أعمل الرحلة إلى عمل بجاية و دوخ سائر أقطارها ثم نازلها بعد ذلك يروم كيدها بالاعتمال في مرضاة خليفته بتونس و يسر بذلك حسوا في ارتقاء فأناخ عليها بعساكره سبعا ثم أفرج عنها منقلبا إلى المغرب الأوسط فكان من فتح تافركنيت و مازونة ما قدمناه (7/125)
الخبر عن معاودة الفتنة مع بني مرين و شأن تلمسان في الحصار الطويل
لما هلك يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين على السلم المنعقد بينه و بين بنى عبد الواد لشغله بالجهاد و قام بالأمر من بعده في قومه ابنه يوسف كبير ولده على حين اتبعهم أنفسهم شأن الجهاد و اسفهم يغمراسن و ابنه بممالأة الطاغبة و ابن الأحمر فعقد يوسف بن يعقوب السلم مع الطاغية لحينه و نزل لابن الأحمر عن ثغور الأندلس التي كانت لهم و فرغ لحرب بني عبد الواد و استتب له ذلك لأربع من مهلك أبيه دلف إلى تلمسان سنة تسع و ثمانين و ستمائة و لاذ منه عثمان بالأسوار فنازلها صباحا و قطع شجرها و نصب عليها المجانيق و الآلات ثم أحس بامتناعها فأفرج عنها و انكفأ راجعا و تقبل شأن بن يغمراسن مذهب أبيه في مداخلة ابن الأحمر و الطاغية و أوفد رسله عليها فلم يغن ذلك عنه شيئا و كان مغراوة قد لحقوا بيوسف بن يعقوب بتلمسان فنالوا منه أعظم النيل فلما أفرجوا عن تلمسان نهض عثمان إلى بلادهم فدوخها و غلبهم عليها و أنزل ابنه أبا حمو بها كما قدمناه فلما كانت سنة خمس و تسعين و ستمائة نهض يوسف بن يعقوب إلى حركته الثانية فنازل ندرومة ثم ارتحل عنها إلى ناحية وهران و أطاعه جبل كيدره و تاسكدلت رباط عبد الحميد بن الفقيه أبى زيد اليرناسي ثم كر راجعا إلى المغرب و خرج عثمان بن يغمراسن فأثخن فى تلك الجبال لطاعتهم عدوه و اعتراضهم جنده و استباح رباط تاسكدلت ثم أغزاه يعقوب بن يوسف ثالثة سنة ست و تسعين و ستمائة ثم رجع إلى المغرب ثم أغزاه رابعة سنة سبع و تسعين و ستمائة فتأثل تلمسان و أحاط بها معسكره و شرعوا فى البناء ثم أفرج عنها لثلاثة أشهر و مر في طريقه بوجدة فأمر بتجديد بنائها و جمع الفعلة عليها و استعمل أخاه أبا يحيى بن يعقوب على ذلك و أقام لشأنه و لحق يوسف بالمغرب و كان بنو توجين قد نازلوا تلمسان مع يوسف بن يعقوب و تولى كبر ذلك منهم أولاد سلامة أمراء بنى يد للتين و أصحاب القلعة المنسوبة إليهم فلما أفرج عنها خرج إليهم عثمان بن يغمراسن فدوخ بلادهم و حاصرهم بالقلعة و نال منهم أضعاف ما نالوا منه و طال مغيبه في بلادهم فخالفه أبو يحيى بن يعقوب إلى ندرومة فاقتحمها عنوة بعسكره بمداخلة من قائدها زكريا بن يخلف بن المطغرى صاحب توقت فاستولى بنو مرين على ندرومة و توقت و جاء يوسف بن يعقوب على أثرها فوافاهم و دلفوا جميعا إلى تلمسان و بلغ الخبر إلى عثمان بمكانه من حصار القلعة فطوى المراحل إلى تلمسان فسبق إليها يوسف بن يعقوب بعض يوم ثم أشرفت طلائع بني مرين عشي ذلك اليوم فأناخوا بها في شعبان سنة ثمان و تسعين و ستمائة و أحاط العسكر بها من جميع جهاتها و ضرب يوسف بن يعقوب عليها سياجا من الأسوار محيطا بها و فتح فيه أبوابا مداخل لحربها و اختط لنزله إلى جانب الأسوار مدينة سماها المنصورة و أقام على ذلك سنين يغاديها القتال و يراوحها و سرح عسكره لافتتاح المغرب الأوسط و ثغوره فملك بلاد مغراوة و بلاد توجين كما ذكرناه في أخباره و جثم هو بمكانه من حصار تلمسان لا يعدوها كالأسد الضاري على فريسته إلى أن هلك عثمان و هلك هو من بعده كما نذكره و إلى الله المصير سبحانه و تعالى لا رب غيره (7/125)
الخبر عن مهلك عثمان بن يغمراسن و ولاية ابنه أبي زيان و انتهاء الحصار من بعده إلى غايته
لما أناخ يوسف بن يعقوب بعساكره على تلمسان انحجز بها عثمان و قومه و استسلموا و الحصار آخذ بمخنقهم و هلك عثمان لخامسة السنين من حصارهم سنة ثلاث و سبعمائة و قام بالأمر من بعده ابنه أبو زيان محمد
أخبرني شيخنا العلامة محمد بن إبراهيم الايلي و كان في صباه قهرمان دارهم قال : هلك عثمان بن يغمراسن بالديماس و كان قد أعد لشربه لبنا فما أخذ منه الديماس و عطش دعا بالقدح فشرب اللبن و نام فلم يكن بأوشك أن فاضت نفسه و كنا نرى معشر الصنائع أنه داف فيه السم تفاديا من معرة غلب عدوهم إياهم قال : و جاء الخادم إلى قعيدة بيته زوجه بنت السلطان أبي اسحق ابن الأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب تونس و خبرها الخبر فجاءت و وقعت عليه و استرجعت و خيمت على الأبواب بسدادها ثم بعثت إلى أبيه محمد أبي زيان و موسى أبي حمو فعزتهما عن أبيهما و أحضرا مشيخة بني عبد الواد و عرضوا لهم بمرض السلطان فقال أحدهم مستفهما عن الشأن و مترجما عن القوم : السلطان معنا آنفا ولم يمتد الزمن لوقوع المرض فإن يكن هلك فخبرونا فقال له أبو حمو : و إذا هلك فما أنت صانع ؟ فقال : إنما نخشى من مخالفتك و إلا فسلطاننا أخوك الأكبر أبو زيان فقام أبو حمو من مكانه و أكب على يد أخيه يقبلها و أعطاه صفقة يمينه و اقتدى به المشيخة فانعقدت بيعته لوقته و اشتمل بنو عبد الواد على سلطانهم و اجتمعوا إليه و برزوا إلى قتال عدوهم على العادة فكأن عثمان لم يمت
و بلغ الخير إلى يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارهم فتفجع له و عجب من صرامة قومه من بعده و استمر حصاره إياهم إلى ثمانية سنين و ثلاثة أشهر من يوم نزوله نالهم فيها من الجهد ما لم ينله أمة من الأمم و اضطروا إلى أكل الجيف و القطوط و الفيران حتى أنهم زعموا أنهم أكلوا فيها أشلاء الموتى من الناس و خربوا السقف للوقود و غلت أسعار الأقوات و الحبوب و سائر المرافق بما تجاوز حدود العوائد و عجز وجدهم عنه فكان ثمن مكيال القمح الذي يسمونه البرشالة و بتبايعون به مقداره إثنا عشر رطلا و نصف مثقالين و نصفا من الذهب العين و ثمن الشخص الواحد من البقر ستين مثقالا و من الضان سبعة مثاقيل و نصفا و أثمان اللحم من الجيف الرطل من لحم البغال و الحمير بثمن المثقال و من الخيل بعشرة دراهم صغار من سكتهم تكون عشر المثقال و الرطل من الجلد البقري ميتة أو مذكى بثلاثين درهما و الهر الداجن بمثقال و نصف و الكلب بمثله و الفار بعشرة دراهم و الحية بمثله و الدجاجة بثلاثين درهما و البيض واحدة بستة دراهم و العصافير كذلك
و الأوقية من الزيت بإثني عشر درهما و من السمن بمثلها و من الشحم بعشرين و من الفول بمثلها و من الملح بعشرة و من الحطب كذلك و الأصل الواحد من الكرنب بثلاثة أثمان المثقال و من الخس بعشرين درهما و من اللفت بخمسة عشر درهما و الواحدة من القثاء و الفقوس بأربعين درهما و الخيار بثلاثة أثمان الدينار و البطيخ بثلاثين درهما و الحبة من التين و الإجاص بدرهمين و استهلك الناس أموالهم و موجودهم و ضاقت أحوالهم
و استفحل ملك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارها و اتسعت خطة مدينة المنصور المشتدة عليها و رحل إليها التجار بالبضائع من الآفاق و استبحرت في العمران بما لم تبلغه مدينة و خطب الملوك سلمه و وده و وفدت عليه رسل الموحدين و هداياهم من تونس و بجاية و كذلك رسل صاحب مصر و الشام و هديتهم و اعتز اعتزازا لا كفاء له كما يأتي في أخباره و هلك الجند حامية بني يغمراسن و قبيلتهم و أشرفوا على الهلاك فاعتزموا على الإلقاء باليد و الخروج بهم للاستماتة فكيف الله لهم الصنيع الغريب و نفس عن مخنقهم بمهلك السلطان يوسف بن يعقوب على يد خصي من العبيد فأسخطته بعض النزعات الملوكية فاعتمده في كسر بيته و مخدع نومه و طعنه بخنجر قطع أمعاءه و أدرك فسيق إلى وزرائه فمزقوه أشلاء و لم يبق شي من بقايا عهدهم كما ذكرناه و الأمر لله وحده و أذهب الله العناء عن آل زيان و قومهم و ساكني مدينتهم كأنما نشروا من الأجداث و كتبوا لها في سكتهم ما أقرب فرج الله استغرابا لحادثتها
و حدثني شيخنا محمد بن ابراهيم الآيلي قال : جلس السلطان أبو زيان صبيحة يوم الفرج و هو يوم الأربعاء في خلوة زوايا قصره و استدعى ابن حجاف خازن الزرع فسأله كم بقي من الأهراء و المطامير المختومة ؟ فقال له : إنما بقي عولة اليوم و غد فاستوصاه بكتمانها و بينما هم في ذلك دخل عليه أخوه أبو حمو فأخبروه فوجم لها و جلسوا سكوتا لا ينطقون و إذا بالخادم دعد قهرمانة القصر من وصائف بنت السلطان أبي اسحق و حظية أبيهم خرجت من القصر إليهم فوقفت وحيتهم تحيتها و قالت : تقول لكم حظايا قصركم و بنات زيان حرمكم ما لنا و للبقاء و قد أحيط بكم و أسف عدوكم لاتهامكم و لم يبق إلا فواق بكيئة لمصارعكم فأريحونا من معرة السبي و أريحوا فينا أنفسكم و قربوا إلى مهالكنا فالحياة في الذل عذاب و الوجود بعدكم عدم فالتفت أبو حمو إلى أخيه و كان من الشفقة بمكان و قال : قد صدقتك الخبر فما تنظر بهن ؟ فقال : يا موسى أرجئني ثلاثا لعل الله يجعل بعد عسر يسرا و لا تشاورني بعدها فيهن بل سرح اليهود و النصارى إلى قتلهن و تعال إلي نخرج مع قومنا إلى عدونا فنستميت و يقضي الله ما يشاء فغضب أبو حمو و أنكر الأرجاء في ذلك و قال : إنما نحن و الله نتربص المعرة بهن و بأنفسنا و قام عنه مغضبا و جهش السلطان أبو زيان بالبكاء قال ابن حجاف : و أنا بمكاني بين يديه لا أملك متأخرا و لا متقدما إلى أن غلب عليه النوم فما راعني إلا حرسي الباب يشير إلي أن اذن السلطان بمكان رسول من معسكر بني مرين لسيدة القصر فلم أطق رجع جوابه إلا بإشارة و انتبه السلطان من خفيف إشارتنا فزعا فأذنته و استدعاه
فلما وقف بين يديه قال له : إن يوسف بن يعقوب هلك الساعة و أنا رسول حافده أبي ثابت إليكم فاستبشر السلطان و استدعى أخاه و قومه حتى أبلغ الرسول رسالته بمسمع منهم و كانت إحدى المغربات في الأيام
و كان من خبر هذه الرسالة إلى يعقوب بن يوسف لما هلك تطاول للأمر الأعياص من إخوته و ولده و حفدته و تحيز أبو ثابت حافده إلى بني ورتاجن لخؤلة كانت له فيهم فاستجاش بهم و اعصوصبوا عليه و بعث إلى أولاد عثمان بن يغمراسن أن يعطوه الآلة و يكونوا مفزعا له و مأمنا إن أخفق مسعاه على أنه إن تم أمره قوض عنهم معسكر بني مرين فعاقدوه عليها و وفي لهم لما تم أمره و نزل لهم عن جميع الأعمال التي كان يوسف بن يعقوب استولى عليها من بلادهم و جاء بجميع الكتائب التي أنزلها في ثغورهم و قفلوا إلى أعمالهم بالمغرب الأوسط كلها إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/127)
الخبر عن شأن السلطان أبي زيان من بعد الحصار إلى حين مهلكه
كان من أول ما افتتح به السلطان أبو زيان أمره بعد الخروج من هون الحصار و تناوله الأعمال من يد بني مرين أن نهض من تلمسان و معه أخوه أبو حمو آخر ذي الحجة من سنة ست و سبعمائة فقصد بلاد مغراوة و شرد من كان هنالك منهم في طاعة بني مرين و احتاز الثغور من يد عمالهم و دوخ قاصيتها ثم عقد عليها المسامح مولاه و رجع عنها فنهض إلى السرسو و كان العرب قد تملكوه أيام الحصار و غلبوا زناتة عليه من سويد و الديالم و من إليهم من بني يعقوب بن عامر فأجفلوا أمامه و اتبعوا آثارهم إلى أن أوقع بهم و انكفأ راجعا و مر ببلاد بني توجين فاقتضى طاعة من كان بقي بالجبل من بني عبد القوى و الحشم فأطاعوه و رياسهتم يومئذ لمحمد بن عطية الأصم من بني عبد القوي و قفل إلى تلمسان لتسعة أشهر من خروجه و قد ثقف أطراف ملكه و مسح أعطاف دولته فنظر في إصلاح قصوره و رياضه و رم ما تثلم من بلده و أصابه المرض خلال ذلك فاشتد وجعه سبعا ثم هلك أخريات شوال من سنة سبع و سبعمائة و البقاء لله وحده (7/130)
الخبر عن محو الدعوة الحفصية من منابر تلمسان
كانت الدعوة الحفصية بإفريقية قد انقسمت بين أعياصهم في تونس و بجاية و أعمالها و كان التخم بينهما بلد عجيسة و وشتاتة وكان الخليفة بتونس الأمير أبو حفص ابن الأمير أبي زكريا الأول منهم و له الشفوف على صاحب بجاية و الثغور الغربية بالحضرة فكانت بيعة بني زيان له و الدعاء على منابرهم باسمه و كانت لهم مع المولى الأمير أبي زكريا الأوسط صاحب بجاية وصلة لمكان الصهر بينهم و بينه و كانت الوحشة قد اعترضت ذلك عندما نزل عثمان بجاية كما قدمناه ثم تراجعوا إلى وصلتهم و استمروا عليها إلى أن نازل يوسف بن يعقوب تلمسان و البيعة يومئذ للخليفة بتونس السلطان أبي عصيدة بن الواثق و الدعوة على منابر تلمسان باسمه و هو حاقد عليهم ولايتهم للأمير أبي زكريا الأوسط صاحب الثغر فلما نزل يوسف بن يعقوب بأعلى تلمسان و بعث عساكره في قاصية الشرق استجاش عثمان بن يغمراسن بصاحب بجاية فسرح عسكرا من الموحدين لمدافعتهم عن تلك القاصية و التقوا معهم بجبل الزاب فانكشف الموحدون بعد معترك صعب و استلحمهم بنو مرين و يسمى المعترك لهذا العهد بمرسى الرؤوس لكثرة ما تساقط في ذلك المجال من الرؤوس و استحكمت المنافرة بين يوسف بن يعقوب و صاحب بجاية فأوفد الخليفة بتونس على يوسف بن يعقوب مشيخة من الموحدين تجديدا لوصلة سلفهم مع سلفه و اغراء بصاحب بجاية و عمله فجاء موقع ذلك من عثمان بن يغمراسن و أحفظه ممالأة خليفته لعدوه فعطل منابره من ذكره و أخرج قومه و إيالته عن دعوته و كان ذلك آخر المائة السابعة و الله تعالى أعلم (7/131)
الخبر عن دولة أبي حمو الاوسط و ما كان فيها من الأحداث
لما هلك الأمير أبو زيان قام بالأمر بعده أخوه أبو حمو في أخريات سنة سبع كما قدمناه و كان صارما يقظا حازما داهية قوي الشكيمة صعب العريكة شرس الاخلاق مفرط الدهاء و الحدة و هو أول ملوك زناتة رتب مراسم الملك و هذب قواعده و أرهف في ذلك لأهل ملكه حده و قلب لهم مجن بأسه حتى ذلوا لعز ملكه و تأدبوا بآداب السلطان
سمعت عريف بن يحيى أمير سوبد من زغبة و شيخ المجالس الملوكية يقول و يعنيه : موسى بن عثمان هو معلم السياسة الملوكية لزناتة و إنما كانوا رؤساء بادية حتى قام فيهم موسى بن عثمان فحد حدودها و هذب مراسمها و نقل عنه ذلك أمثاله و أنظاره فتقبلوا مذهبه و اقتدوا بتعليمه انتهى كلامه
و لما استقل بالأمر افتتح شأنه بعقد السلم مع سلطان بني مرين لأول دولته فأوفد كبراء دولته على السلطان أبي ثابت و عقد له السلم كما رضي ثم صرف وجهه إلى بني توجين و مغراوة فردد إليهم العساكر حتى دوخ بلادهم و ذلل صعابهم و شرد محمد بن عطية الأصم عن نواحي وانشريس و راشد بن محمد عن نواحي شلف و كان قد لحق بها بعد مهلك يوسف بن يعقوب فأزاحه عنها و استولى على العملين و استعمل عليهما و قفل إلى تلمسان ثم خرج سنة عشر و سبعمائة في عساكره إلى بلاد بني توجين و نزل تافركينت وسط بلادهم فشرد الفل من أعقاب محمد بن عبد القوي عن وانشريس و احتاز رياستهم في بني توجين دونهم وأدام منهم بالحشم و بني تيغزين و عقد لكبيرهم يحيى بن عطية على رياسة قومه في جبل وانشريس و عقد ليوسف بن حسن من أولاد عزيز على المدية و أعمالها و عقد لسعد من بني سلامة على قومه من بنى يد لتين إحدى بطون بني توجين و أهل الناحية الغربية من عملهم و أخذ من سائر بطون بني توجين الرهن على الطاعة و الجباية و استعمال عليهم جميعا من صنائعه قائده يوسف بن حيون الهواري و أذن له في اتخاذ الآلة و عقد لمولاه مسامح على بلاد مغراوة و أذن له أيضا في اتخاذ الآلة و عقد لمحمد بن عمه يوسف على مليانة و أنزله بها و قفل إلى تلمسان و الله أعلم (7/131)
الخبر عن استنزال زيرم بن حماد من ثغر برشك و ما كان قبله
كان هذا الغمر من مشيخة هذا القصر لوفور عشيرته من مكلاته داخله و خارجه و اسمه زيري بالياء فتصرفت فيه العامة و صار زيرم بالميم و لما غلب يغمراسن على بلاد مغراوة دخل أهل هذا القصر في طاعته حتى إذا هلك حدثت هذا الغمر نفسه بالانتزاء و الاستبداد بملك برشك ما بين مغراوة و بني عبد الواد و مدافعة بعضهم ببعض فاعتزم على ذلك و أمضاه و ضبط يرشك لنفسه سنة ثلاث و ثمانين و ستمائة و نهض إليه عثمان بن يغمراسن سنة أربع و ثمانين و ستمائة بعدها و نازله فامتنع ثم زحف سنة ثلاث و تسعين إلى مغراوة فلجأ ثابت ين منديل إلى برشك و حاصره عثمان بها أربعين يوما ثم ركب البحر إلى المغرب كما قلناه و أخذ زيرى بعدها بطاعة عثمان بن يغمراسن دافعه بها و انتقض عليه مرجعه إلى تلمسان و شغل بنو زيان بعدها بما دهمهم من شأن الحصار فاستبد زيري هذا ببرشك و استفحل شأنه بها و اتقى بني مرين عند غلبهم كل بلاد مغراوة و تردد عساكرهم فيها بإخلاص الطاعة و الانقياد فلما انقشع إيالة بني مرين بمهلك يوسف بن يعقوب و خرج بنو يغمراسن من الحصار رجع إلى ديدنه من التمريض في الطاعة و مناولة طرفها على البعد حتى إذا غلب أبو حمو على بلاد مغراوة و تجاوزت طاعته هذا المصر إلى ما وراءه خشيه زيري على نفسه و خطب منه الأمان على أن ينزل له عن المصر فبعث إليه رئيس الفتيا بدولته أبا زيد عبد الرحمن بن محمد الإمام كان أبوه من أهل برشك و كان زيري قد قتله لأول ثورته غيلة و فر ابنه عيد الرحمن هذا و أخوه عيسى و لحقا بتونس فقرا بها و رجعا إلى الجزائر فأوطناها ثم انتقلا إلى مليانة و استعملهما بنو مرين في خطة القضاء بمليانة ثم وفدا بعد مهلك يوسف بن يعقوب على أبي زيان و أبي حمو مع عمال بني مرين و قوادهم بمليانة و كان فيهم منديل بن محمد الكناني صاحب أشغالهم المذكور في أخبارهم و كانا يقرآن ولده محمدا فأشادا عند أبي زيان و أبي حمو بمكانهما من العلم و وقع ذلك من أبي حمو أبلغ المواقع حتى إذا استقل بالأمر ابتنى المدرسة بناحية المطهر من تلمسان لطلبة العلم و ابتنى لهما دارين على جانبيها و جعل لهما التدريس فيها في إيوانين معدين لذلك و اختصهما بالفتيا و الشورى فكانت لهما في دولته قدم علية فلما خطب زيري هذا الأمان من أبي حمو و أن يبعث إليه من يأمن معه في الوصول إلى بابه بعث إليه أبا زيد عبد الرحمن الأكبر منهما فنهض لذلك بعد أن استأذنه في أن يثأر منه بأبيه إن قدر عليه فأذن له فلما احتل ببرشك أقام بها أياما يغاديه فيها زيري و يراوحه بمكان نزله و هو يعمل الحيلة في اغتياله حتى إذا أمكنته فقتله في بعض تلك الأيام سنة ثمان و سبعمائة و صار أمر برشك إلى السلطان أبي حمو و انمحى منه أثر المشيخة و الاستبداد و الأمور بيد الله سبحانه (7/133)
الخبر عن طاعة الجزائر و استنزال ابن علان منها و ذكر أوليته
كانت مدينة الجزائر هذه من أعمال صنهاجة و مختطها بلكين بن زيري و نزلها بنوه من بعده ثم صارت للموحدين و انتظمها بنو عبد المؤمن في أمصار المغربين و أفريقية و لما استبد بنو أبي حفص بأمر الموحدين و بلغت دولتهم بلاد زناتة و كانت تلمسان ثغرا لهم و استعملوا عليها يغمراسن و بنيه من بعده و على ضواحي مغراوة بني منديل بن عبد الرحمن و على وانشريس و ما إليها من عمل توجين محمد بن عبد القوى و بنيه و بقي ما وراء هذه الأعمال إلى الحضرة لولاية الموحدين أهل دولته فكان العامل على الجزائر من الموحدين أهل الحضرة
و في سنة أربع و ستين و ستمائة انتقضوا على المستنصر و مكثوا في ذلك الانتقاض سبعا ثم أوعز إلى أبي هلال صاحب بجاية بالنهوض إليها في سنة إحدى و سبعين و ستمائة فحاصرها أشهرا و أفرج عنها ثم عاودها بالحصار سنة أربع و سبعين و ستمائة أبو الحسن ابن ياسين بعساكر الموحدين فاقتحمها عليهم عنوة و استباحها و تقبض على مشيختها فلم يزالوا معتقلين إلى أن هلك المستنصر و لما انقسم أمر بني أبي حفص و استقل الأمير أو زكريا الأوسط بالثغور الغربية و أبوه بعثوا إليه بالبيعة و ولى عليهم ابن أكمازير و كانت ولايتها من قبل فلم يزل هو واليا عليها إلى أن أسن و هرم كان ابن علان من مشيخة الجزائر مختصا به و منتصبا في أوامره و نواهيه و مصدرا لإمارته و حصل له بذلك الرياسة على أهل الجزائر سائر أيامه فلما هلك ابن أكمازير حدثته نفسه بالاستبداد و الانتزاء بمدينته فبعث عن أهل الشوكة من نظائره ليله هلاك أميره و ضرب أعناقهم و أصبح مناديا بالاستبداد و اتخذ الآلة و استركب و استلحق من الغرباء و الثعالبه عرب متيجة و استكثر من الرجال و الرماة ونازلته عساكر بجاية مرارا فامتنع عليهم و غلب مليكش على جباية الكثير من بلاد متيجة و نازله أبو يحيى بن يعقوب بعساكر بني مرين عند استيلائهم على البلاد الشرقية و توغلهم في القاصية فأخذ بمخنقها و ضيق عليها و مر بابن علان القاضي أبو العباس الغماري رسول الأمير خالد إلى يوسف بن يعقوب فأودعه الطاعة للسلطان و الضراعة إليه في الإبقاء فأبلغ ذلك عنه و شفع له فأوعز إلى أبيه يحيى بمسالمته ثم نازله الأمير خالد بعد ذلك فامتنع عليه و أقام على ذلك أربع عشرة سنة و عيون الخطوب تحدده و الأيام تستجمع لحربه فلما غلب السلطان أبو حمو على بلاد توجين و استعمل يوسف بن حبون الهواري على وانشريس و مولاه مسامحا على بلاد مغراوة و رجع إلى تلمسان ثم نهض سنة اثنتي عشرة و سبعمائة إلى بلاد شلف فنزل بها و قدم مولاه مسامحا في العساكر فدوخ متيجة من سائر نواحيها و ترس بالجزائر و ضيق حصارها حتى مسهم الجهد و سأل ابن علان النزول على أن يشترط لنفسه فتقبل السلطان اشتراطه و ملك السلطان أبو حمو الجزائر و انتظمها في أعماله و ارتحل ابن علان في جملة مسامح و لحقوا بالسلطان بمكانه من شلف فانكفأ إلى تلمسان و ابن علان في ركابه فأسكنه هنالك و وفي له بشرطه إلى أن هلك و البقاء لله سبحانه (7/134)
الخبر عن حركة صاحب المغرب إلى تلمسان و أولية ذلك
لما خرج عبد الحق بن عثمان من أعياص الملك على السلطان أبي الربيع بفاس و بايع له الحسن بن علي بن أبي الطلاق صاحب بني مرين بمداخلة الوزير رحوا بن يعقوب كما قدمناه في أخبارهم و ملكوا تازى زحف إليهم السلطان أبو الربيع فبعثوا وفدهم إلى السلطان أبي حمو صريخا ثم أعجلهم أبو الربيع و أجهضهم على تازى فلحقوا بالسلطان أبي حمو و دعوه إلى المظاهرة على المغرب ليكونوا رداء له دون قومهم و هلك السلطان أبو الربيع خلال ذلك و استقل بملك المغرب أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق فطالب السلطان أبا حمو باسلام أولئك النازعين إليه فأبى من إسلامهم و إخفار زمته فيهم و أجازهم البحر إلى العدوة فأغضى له السلطان أبو سعيد عنها و عقد له السلم ثم استراب يعيش بن يعقوب بن عبد الحق بمكانه عند أخيه السلطان أبي سعيد لما سعى فيه عنده فنزع عنه إلى تلمسان و أجاره السلطان أبو حمو على أخيه فأحفظه ذلك و نهض إلى تلمسان سنة أربع عشرة و سبعمائة و عقد لابنه الأمير أبي علي و بعثه في مقدمته و سار هو في الساقة و دخل أعمال تلمسان على هذه التعبية فاكتسح بسائطها و نازل و جده فقاتلها و ضيق عليها
ثم تخطاها إلى تلمسان فنزل بساحتها و انحجر موسى بن عثمان من وراء أسوارها و غلب على ضواحيها و رعاياها و سار السلطان أبو سعيد في عساكره يتقرى شعارها و يلادها بالحطم و الانتساف و العيث فلما أحيط به و ثقلت وطأة السلطان عليه و حذر المغبة منه ألطف الحيلة في خطاب الوزراء الذين كان يسرب أمواله فيهم و يخادعهم من نصائح سلطانهم حتى اقتضى مراجعهتم في جاره يعيش بن يعقوب و إدالته من أخته ثم بعث خطوطهم بذلك إلى السلطان أبي سعيد فامتلاء قلبه منها خشية و رهبة و استراب بالخاصة و الأولياء و نهض إلى المغرب على تعبيته ثم كان خروج ابنه عمر عليه بعد مرجعه و شغلوا عن تلمسان و أهلها برهة من الدهر حتى جاء أمر الله في ذلك عند وقته و الله تعالى أعلم (7/135)
الخبر عن مبدأ حصار بجاية و شرح الداعية إليه
لما رجع السلطان أبو سعيد إلى المغرب و شغل عن تلمسان فزع أبو حمو لأهل القاصية من عمله و كان راشد بن محمد بن ثابت بن منديل قد جاء من بلاد زواوة أثناء هذه الغمرة فاحتل بوطن شلف و اجتمع إليه أوشاب قومه و حين تجلت الغمرة عن السلطان أبي حمو نهض إليه بعد أن استعمل ابنه أبا تاشفين على تلمسان و جمع له الجموع ففر أمامه ناجيا إلى مثوى اغترابه ببجاية و أقام بنو سعيد بمعاقلهم من جبال شلف على دعوته فاحتل السلطان أبو حمو بوادي تمل فخيم به و جمع أهل أعماله لحصار بني أبي سعيد شيعة راشد بن محمد و اتخذ هنالك قصره المعروف باسمه و سرح العساكر لتدويخ القاصية و لحق به هنالك الحاجب ابن أبي حين مرجعه من الحج سنة إحدى عشرة و سبعمائة فأغراه بملك بجاية و رغبه فيه و كان قد ثاب له طمع منذ رسالة السلطان مولانا أبي يحيى إليه
و ذلك أنه لما انتقض على أخيه خالد و دعا لنفسه بقسنطينة و نهض إلى بجاية فانهزم عنها كما قدمنا في أخباره و أوفد على السلطان أبي حمو بعض رجال دولته مغريا له بابن خلوف و بجاية ثم بعث إليه ابن خلوف أيضا يسأله المظاهرة و المدد فأطمعه ذلك في ملك بجاية
و لما هلك ابن خلوف كما قدمناه لحق به كاتبه عبد الله بن هلال فأغراه و استحثه و شغله عن ذلك شأن الجزائر فلما استولى على الجزائر بعث مولاه مسامحا في عسكر مع ابن أبي حي فبلغوا إلى جبل الزاب و هلك ابن أبي حي و رجع مسامح ثم شغله عن شأنها زحف و فرغ من أمر عدوه و نزل بلد شلف كما ذكرناه آنفا و لحق به عثمان بن سباع بن يحيى بن سباع بن سهل أمير الزواودة يستحثه لملك الثغور الغربية من عمل الموحدين فاهتز لذلك و جمع له الجموع و عقد لمسعود ابن عمه أبي عامر برهوم على عسكر و أمره بحصار بجاية وعقد لمحمد ابن عمه يوسف قائد مليانة على عسكر و لمولاه مسامح على عسكر آخر و سرحهم إلى بجاية و ما وراءها لتدويخ البلاد و عقد لموسى بن علي الكردي على عسكر ضخم و سرحه مع العرب من الزواودة و زغبة على طريق الصحراء فانطلقوا إلى وجههم ذلك و فعلوا الأفاعيل كل فيما يليه و توغلوا في البلاد الشرقية حتى انتهوا إلى بلاد بونة ثم انقلبوا من هنالك و مروا في طريقهم بقسنطينة و نازلوها أياما
و صعدوا جبل ابن ثابت المطل عليها فاستباحوه ثم مروا ببني باورار فاستباحوها و أضرموها و اكتسحوا سائر ما مروا عليه و حدثت بينهم المناكرة حسدا و منافسة فافترقوا و لحقوا بالسلطان و لحق مسعود بن برهوم محاصرا لبجاية و بنى حصنا بأصفون لمقامه و كان يسرح الجيوش لقتالها فتجول في ساحتها ثم تراجع إلى الحصن و لم يزل كذلك حتى بلغه خبر خروج محمد بن يوسف فأجفل عنها على ما نذكره الآن فلم يرجعوا لحصارها إلا بعد مدة و الله تعالى أعلم (7/136)
الخبر عن خروج محمد بن يوسف ببلاد بني توجين و حروب السلطان معه
لما رجع محمد بن يوسف من قاصية الشرق كما قدمناه و سابقه إلى السلطان موسى بن علي الكردي و جوانحه تلتهب غيظا و حقدا عليه و سعى به عند السلطان فعزله عن مليانة فوجم لها و سأله زيارة ابنه الأمير أبي تاشفين بتلمسان و هو ابن أخته فأذن له و أوعز إلى ابنه بالقبض عليه فأبى من ذلك و أراد هو الرجوع إلى معسكر السلطان فخلى سبيله و لما وصل إليه تنكر له و حجبه فاستراب و ملاء قلبه الرعب و فر من المعسكر و لحق بالمرية و نزل على يوسف بن حسن بن عزيز عاملها للسلطان من بني توجين فيقال أنه أوثقه اعتقالا حتى غلبه قومه على بغيته من الخروج معه لما كان السلطان أبو حمو يوسقهم به من نزاعته فأخذ له البيعة على قومه و من إليهم من العرب و زحفوا إلى السلطان بمعسكره من نهل فلقيهم في عساكره فكانت الدبرة على السلطان و لحق بتلمسان و غلب محمد بن يوسف على بني توجين و مغراوة و نزل مليانة و خرج السلطان من تلمسان لأيام من دخولها و قد جمع الجموع و أزاح العلل و أوعز إلى مسعود بن برهوم بمكانه من حصار بجاية بالوصول إليه بالعساكر ليأخذ بحجزتهم من ورائهم و خرج محمد بن يوسف على مليانة لاعتراضه و استعمل على مليانة يوسف بن حسن بن عزيز فلقيه ببلاد مليكش و انهزم محمد بن يوسف و لجأ إلى جبل مرصالة و حاصره بها مسعود بن برهوم أياما ثم أفرج عنه و لحق بالسلطان فنازلوا جميعا مليانة و افتتحها السلطان عنوة و جيء بيوسف بن حسن أسيرا من مكمنه ببعض المسارب فعفا عنه و أطلقه ثم زحف إلى المرية فملكها و أخذ الرهن من أهل تلك النواحي و قفل إلى تلمسان و استطال محمد بن يوسف على النواحي ففشت دعوته في تلك القاصية و خاطب مولانا السلطان أبا يحيى بالطاعة فبعث إليه بالهدية و الآلة و سوغه سهام يغمراسن ابن زيان بإفريقية و وعده بالمظاهرة و غلب ساق سائر بلاد بني توجين و بايع له بنو تيغرين أهل جبل وانشريس فاستولى عليه ثم نهض السلطان إلى الشرق سنة سبع عشرة و سبعمائة و ملك المرية و استعمل عليها يوسف بن حسن لمدافعة محمد بن يوسف و استبلغ في أخذ الرهن منه و من أهل العمالات و قبائل زناتة و العرب حتى من قومه بني عبد الواد و رجع إلى تلمسان و أنزله بالقصبة و هي الغور الفسيح الخطة تماثل بعض الأمصار العظيمة اتخذها للرهن و كان يبالغ في ذلك حتى يأخذ الرهن المتعددة من البطن الواحد و الفخذ الواحد و الرهط و تجاوز ذلك إلى أهل الأمصار و الثغور و المشيخة و السوقة فملاء تلك القصبة من أبنائهم و إخوانهم و شحنها بالأمم بعد الأمم و أذن لهم في ابتناء المنازل و اتخاذ النساء و اختط لهم المساجد فجمعوا بها لصلاة الجمعة و نفقت بها الأسواق و الصنائع و كان حال هذه البنية من أغرب ما حكي في العصور عن سجن و لم يزل محمد بن يوسف بمكان خروجه من بلاد توجين إلى أن هلك السلطان و البقاء لله (7/138)
الخبر عن مقتل السلطان أبي حمو و ولاية ابنه أبي تاشفين من بعده
كان السلطان أبو حمو قد اصطفى ابن عمه برهوم و تبناه من بين عشيرته و أولي قرباه لمكان صرامته و دهائه و اختصاص أبيه برهوم المكنى أبا عامر بعثمان بن يغمراسن شقيقه من بين إخوته فكان يؤثره على بنيه و يفاوضه في شؤونه و يصله إلى خلواته و كان دفع إلى ابنه عبد الرحمن أبا تاشفين أترابا له من العلوجين يقومون بخدمته في مرباه و منتشئه كان منهم : هلال المعروف بالقطاني و مسامح المسمى بالصغير و فرج بن عبد الله و ظافر و مهدي و علي بن تاكررت و فرج الملقب شقورة و كان ألصقهم و أعلقهم بنفسه تلاد له منهم يسمى هلالا و كان أبو حمو أبوه كثيرا ما يقرعه و يوبخه إرهاقا في اكتساب الخلال و ربما يقذع في تقريعه لما كان عفا الله عنه فحاشا فيحفظه لذلك و كان مع ذلك شديد السطوة متجاوزا بالعقاب و حدوده في الزجر و الأدب فكان أولئك العلوجين تحت رهب منه و كانوا يغرون لذلك مولاهم أبا تاشفين بأبيه و يبعثون غيرته لما يذكرون له من اصطفاء ابن أبي عامر دونه و قارن ذلك إلى مسعود بن أبي عامر أبلى في لقاء محمد ابن يوسف الخارج على أبي حمو البلاء الحسن عندما رجع من حصار بجاية فاستحمد له السلطان ذلك و عير ابنه عبد الرحمن بمكان ابن عمه هذا من النجابة و الصرامة يستجد له بذلك خلالا و يغرية بالكمال و كان عمه أبو عامر إبراهيم بن يغمراسن ثري بما نال من جوائز الملوك في وفاداته و ما أقطع له أبوه و أخوه سائر أيامهما
و لما هلك سنة ست و تسعين و ستمائة أوصى أخاه عثمان بولده فضمهم إليه و وضع تراثهم بموضع ماله حتى يأنس منهم الرشد في أحوالهم حتى إذا كانت غزاة ابنه أبي سرحان هذه و علا فيها ذكره و بعد صيته رأى السلطان أبو حمو أن يدفع إليه تراث أبيه لاستجماع خلاله فاحتمل إليه من المودع و نمي الخبر إلى ولده أبي تاشفين و باطنته السوء من العلوجين فحسبوه مال الدولة قد حمل إليه لبعد عهدهم بما وقع في تراث أبي عامر أبيه و اتهموا السلطان بايثاره بولاية العهد دون ابنه فأغروا أبا تاشفين بالتوثب على الأمر و حملوه على الفتك بمشتويه مسعود بن أبي عامر و اعتقال السلطان أبي حمو ليتم له الاستبداد و تحينوا لذلك قائلة الهاجرة عند منصرف السلطان من مجلسه و قد اجتمع إليه ببعض حجر القصر خاصته من البطانة و فيهم مسعود بن أبي عامر و الوزراء من بني الملاح و كان بنو الملاح هؤلاء قد استخصهم السلطان بحجابته سائر أيامه و كان مسمى الحجابة عنده قهرمة الدار و النظر في الدخل و الخرج و هم أهل بيت من قرطبة كانوا يحترفون فيها بسكة الدنانير و الدراهم و ربما دفعوا إلى النظر في ذلك ثقة بأماناتهم نزل أولهم بتلمسان مع جالية قرطبة فاحترفوا بحرفتهم الأولى و زادوا إليه الفلاحة و تحلوا بخدمة عثمان بن يغمراسن و ابنه و كان لهم في دولة أبي حمو مزيد حظوة و عناية فولى على حجابته منهم لأول دولته محمد بن ميمون بن الملاح ثم ابنه محمد الأشقر من بعده ثم ابنه إبراهيم بن محمد من بعدهما و اشترك معه من قرابته على بن عبد الله بن الملاح فكانا يتوليان مهمه بداره و يحضران خلوته مع خاصته فحضروا يومئذ مع السلطان بعد انفضاض مجلسه كما قلناه و معه من القرابة مسعود القتيل و حماموش بن عبد الملك بن حنينة و من الموالي معروف الكبير ابن أبي الفتوح بن عنتر من ولد نصر بن يني أمير بني يزيد بن توجين و كان السلطان قد استوزره
فلما علم أبو تاشفين باجتماعهم هجم ببطانته عليهم و غلبوا الحاجب على بابه حتى ولجوه متسايلين بعد أن استمسكوا من اغلاقه حتى إذا توسطوا الدار اعتوروا السلطان بأسيافهم فقتلوه و حام أبو تاشفين عنها فلم يفرجوا عليه ولاذ أبو سرحان منهم ببعض زوايا الدار و استمكن من غلقها دونهم فكسروا الباب و قتلوه و استلحموا من كان هنالك من البطانة فلم يفلت إلا الأقل و هلك الوزراء بنو الملاح و استبيحت منازلهم و طاف الهاتف بسكك المدينة بأن أبا سرحان غدر بالسلطان و أن ابنه أبا تاشفين ثأر منه فلم يخف على الناس الشأن و كان موسى ابن علي الكردي قائد العساكر قد سمع الصيحة فركب إلى القصر فوجده مغلقا دونه فظن الظنون فخشي استيلاء مسعود على الأمر فبعث إلى العباس بن يغمراسن كبير القرابة فأحضره عند باب القصر حتى إذا مر بهم الهاتف و استيقن مهلك أبي سرحان رد العباس على عقبه إلى منزله و دخل إلى السلطان أبي تاشفين و قد أدركه الدهش من المواقعة فثبته و نشطه فحفه و أجلسه بمجلس أبيه و تولى له عقد البيعة على قومه خاصة و على الناس عامة و ذلك آخر جمادى الأولى من تلك السنة
و جهز السلطان إلى مدفنه بمقبرة سلفه من القصر القديم و أصبح مثلا في الآخرين و البقاء لله
و أشخص السلطان لأول ولايته سائر القرابة الذين كانوا بتلمسان من ولد يغمراسن و أجازهم إلى العدوة حذرا من مغبة ترشيحهم و ما يتوقع من الفتن على الدولة من قبلهم و قلد حجابته مولاه هلالا فاضطلع بأعبائها و استبد بالعقد و الحل و الابرام و النقض صدرا من دولته إلى أن نكبه حسبما نذكره و عقد ليحيى بن موسى السنوسي من صنائع دولتهم على شلف و سائر أعمال مغراوة و عقد لمحمد بن سلامة بن علي على عمله من بلاد بني يدللتن من توجين و عزل أخاه سعدا فلحق بالمغرب و عقد لموسى بن علي الكردي على قاصية المشرق و جعل إليه حصار بجاية و أغرى دولته بتشييد القصور و اتخاذ الرياض و البساتين فاستكمل ما شرع فيه أبوه من ذلك أربى عليه فاحتفلت القصور و المصانع في الحسن ما شاءت و اتسعت أخباره على ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/139)
الخبر عن نهوض السلطان أبي تاشفين لمحمد بن يوسف بجبل وانشيرس و استيلاؤه عليه
كان محمد بن يوسف بعد مرجع السلطان أبي حمو كما ذكرناه قد تغلب على جبل وانشريس و نواحيه و اجتمع إليه الفل من مغراوة فاستفحل أمره و اشتدت في تلك النواحي شوكته و أهم أبا تاشفين أمره فاعتزم على النهوض إليه و جمع لذلك و أزاح العلل و خرج من تلمسان سنة تسع عشرة و سبعمائة و احتشد سائر القبائل من زناتة و العرب و أناخ على وانشريس و قد اجتمع به بنو توجين و مغراوة مع محمد بن يوسف و كان تيغرين من بني توجين بطانة ابن عبد القوي يرجعون في رياستهم إلى عمر بن عثمان بن عطية حسبما نذكره و كان قد استخلص سواه من بني توجين دونه فأسفه بذلك و داخل السلطان أبا تاشفين و واعده أن يتحرك عنه فاقتحم السلطان عليهم الجبل و انحجزوا جميعا إلى حصن توكال فخالفهم عمر بن عثمان في قومه إلى السلطان بعد أن حاصرهم ثمانيا فتخرم الجمع و اختل الأمر و انفض الناس فاقتحم الحصن و تقبض على محمد بن يوسف و جيء به إلى السلطان أسيرا و هو في مركبه فعدد عليه ثم وخزه برمحه و تناوله الموالي برماحهم فأقعصوه و حمل رأسه على القناة إلى تلمسان فنصب بشرفات البلد و عقد لعمر بن عثمان على جبل وانشريس و أعمال بني عبد القوي و لسعيد العربي من مواليه على عمل المرية و زحف إلى الشرق فأغار على أحياء رباح و هم بوادي الجنان حيث الثنية المفضية من بلاد حمزة إلى القبلة و صبح أحياءهم فاكتسح أموالهم و مضى في وجهه إلى بجاية فعرس بساحتها ثلاثا و بها يومئذ الحاجب يعقوب بن عمر فامتنعت عليه فظهر له وجه المعذرة لأوليائهم في استحصانها لهم و قفل إلى تلمسان إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/142)
الخبر عن حصار بجاية و الفتنة الطويلة مع الموحدين التي كان فيها حتفه و ذهاب سلطانه و انقراض الأمر عن قومه برهة من الدهر
لما رجع السلطان أبو تاشفين من حصار بجاية سنة تسع عشرة و سبعمائة اعتمل في ترديد البعوث إلى قاصية الشرق و الإلحاح بالغزو إلى بلاد الموحدين فأغزاها جيوشه سنة عشرين و سبعمائة فدوخوا ضواحي بجاية و قفلوا ثم غزاهم ثانية سنة إحدى و عشرين و سبعمائة و عليهم موسى بن علي الكردي فانتهى إلى قسنطينة و حاصرها فامتنعت عليه فأفرج عنها و ابتنى حصن بكر لأول مضيق الوادي وادي بجاية و أنزل به العساكر لنظر يحيى بن موسى قائد شلف و قفل إلى تلمسان ثم نهض موسى بن علي ثالثة سنة اثنتين و عشرين و سبعمائة فدوخ نواحي بجاية و نازلها أياما و امتنعت عليه فأفرج عنها و وفد سنة ثلاث و عشرين و سبعمائة على السلطان حمزة بن عمر بن أبي الليل كبير البدو بإفريقية صريخا على صاحب إفريقية مولانا السلطان أبي يحيى فبعث معهم العساكر من زناتة و عامتهم من بني توجين و بني راشد و أمر عليهم القواد و جعلهم لنظر قائده موسى بن علي الكردي ففصلوا إلى إفريقية و خرج السلطان للقائهم فانهزموا بنواحي مرماجنة و تخطفتهم الأيدي فاستلحموا و قتل مسامح مولاه و رجع موسى بن علي فاتهمه السلطان بالادهان و كان من نكبته ما نذكره في أخباره و سرح العساكر سنة أربع و عشرين و سبعمائة فدوخت نواحي بجاية و لقيهم ابن سيد الناس فهزموهم و نجا إلى البلد
و وفد على السلطان سنة خمس و عشرين و سبعمائة مشيخة سليم حمزة بن عمر بن أبي الليل و طالب بن مهلهل الغملان المتزاحمان في رياسة الكعوب و محمد بن مسكين من بني القوس كبراء حكيم فاستحثوه للحركة و استصرخوه على إفريقية و بعث معهم العساكر لنظر قائده موسى بن علي و نصب لهم إبراهيم بن أبي بكر الشهيد من أعياص الحفصيين و خرج مولانا السلطان أبو يحيى من تونس للقائهم و خشيهم على قسنطينة فسابقهم إليها فأقام موسى بن علي بعساكره على قسنطينة و تقدم إبراهيم بن أبي بكر الشهيد في أحياء سليم إلى تونس فملكها كما ذكرناه في أخبارهم و امتنعت قسنطينة على موسى بن علي فأقلع عنها لخمس عشرة ليلة من حصارها و عاد إلى تلمسان ثم أتاه السلطان سنة ست و عشرين و سبعمائة في الجيوش و عهد إليه بتدويخ الضاحية و محاصرة الثغور فنازل قسنطينة و أفسد نواحيها : ثم رجع إلى بجاية فحاصرها ثم عزم على الإقلاع و رأى أن حصن بكر غير صالح لتجهيز الكتائب إليها لبعده و ارتاد للبناء عليها ما هو أقرب منه فاختط بمكان سوق الخميس بوادي بجاية مدينة لتجهيز الكتائب إليها على بجاية و جمع الأيدي على بنائها من الفعلة و العساكر فتمت لأربعين يوما و سموها تامزيزدكت باسم الحصن القديم الذي كان لبني عبد الواد قبل الملك بالجبل قبلة وجدة و أنزل بها عساكر تناهز ثلاثة آلاف و أوعز السلطان إلى جميع عماله ببلاد المغرب الأوسط بنقل الحبوب إليها حيث كانت و الأدم و سائر المرافق حتى الملح و أخذ الرهن من سائر القبائل على الطاعة و استوفوا جبايتهم فثقلت وطأتهم على بجاية و اشتد حصارها و غلت أسعارها
و بعث مولانا السلطان أبو يحيى جيوشه و قواده سنة سبع و عشرين و سبعمائة فسلكوا إلى بجاية على جبل بني عبد الجبار و خرج بهم قائدها أبو عبد الله بن سيد الناس إلى ذلك الحصن و قد كان موسى بن علي عند بلوغ خبرهم إليه استنفر الجنود من ورائه و بعث إلى القواد قبله بالبراز فالتقى الجمعان بضاحية تامزيزدكت فانكشف ابن سيد الناس و مات ظافر الكبير مقدم الموالي من العلوجين بباب السلطان و استبيح معسكرهم و لما سخط السلطان قائده موسى بن علي و نكبه كما نذكره في أخباره أغزى يحيى بن موسى السنوسي في العساكر إلى إفريقية و معه القواد فعاثوا في نواحي قسنطينة و انتهوا إلى بلد بونة و رجعوا و في سنة تسع و عشرين و سبعمائة بعدها وفد حمزة بن عمر على السلطان أبي تاشفين صريخا و وفد معه أو بعده عبد الحق ابن عثمان فحل الشول من بني مرين و كان قد نزل على مولانا السلطان أبي يحيى منذ سنين فسخط بعض أحواله و لحق بتلمسان فبعث السلطان معهم جميع قواده بجيوشه لنظر يحيى بن موسى و نصب عليهم محمد بن أبي بكر بن عمران من أعياص الحفصيين و لقيهم مولانا السلطان أبو يحيى بالدياس من نواحي بلاد هوارة و انخزل عنه أحياء العرب من أولاد مهلهل الذين كانوا معه و انكشفت جموعه و استولى على ظعائنه بما فيها من الحرم و على ولديه أحمد و عمر فبعثوا بهم إلى تلمسان و لحق مولانا المنصور أبو يحيى بقسنطينة و قد أصابه بعض الجراحة في حومة الحرب و سار يحيى بن موسى و ابن أبي عمران إلى تونس و استولوا عليها و رجع يحيى بن موسى عنهم بجموع زناتة لأربعين يوما من دخولها فقفل إلى تلمسان و بلغ الخبر إلى مولانا السلطان أبي يحيى بقفول زناتة عنهم فنهض إلى تونس و أجهض عنها ابن أبي عمران بعد أن كان أوفد من بجاية ابنه أبا زكريا يحيى و معه محمد بن تافراكين من مشيخة الموحدين صريخا على أبي تاشفين فكان ذلك داعية إلى انتقاض ملكه كما نذكره بعد و داخل السلطان أبا تاشفين بعض أهل بجاية و دلوه على عورتها و استقدموه فنهض إليها و حذر بذلك الحاجب ابن سيد الناس فسابقه إليها و دخل يوم نزوله عليها و قتل من اتهمه بالمداخلة فانحسم الداء و أقلع السلطان أبو تاشفين عنها و ولى عيسى بن مزروع من مشيخة بني عبد الواد على الجيش الذي بتامزيزدكت و أوعز إليه ببناء حصن أقرب إلى بجاية من تامزيزدكت فبناه بالياقونه من أعلى واد قبالة بجاية فأخذ بمخنقها و اشتد الحصار إلى أن أخذ السلطان أبو الحسن بحجزتهم فأجفلوا جميعا إلى تلمسان و نفس مخنق الحصار عن بجاية و نهض مولانا السلطان أبو يحيى بجيوشه من تونس إلى تامزيزدكت سنة اثنتين و ثلاثين و سبعمائة فخربها في ساعة من نهار كأن لم تغن بالأمس حسبما ذكرنا ذلك في أخباره و الله تعالى أعلم (7/143)
الخبر عن معاودة الفتنة بين بني مرين و حصارهم تلمسان و مقتل السلطان أبي تاشفين و مصائر ذلك
كان السلطان أبو تاشفين قد عقد السلم لأول دولته مع السلطان أبي سعيد ملك المغرب فلما انتقض عليه ابنه أبو علي في سنة اثنتين و عشرين و سبعمائة بعد المهادنة الطويلة من لدن استبداده بسجلماسة بعث ابنه القعقاع إلى أبي تاشفين في الأخذ بحجزة أبيه عنه و نهض هو إلى مراكش فدخلها و زحف إليه السلطان أبو سعيد فبعث أبو تاشفين قائده موسى بن علي في العساكر إلى نواحي تازى فاستباح عمل كارث و اكتسح زروعه و قفل و اعتدها عليه السلطان أبو سعيد و بعث أبو تاشفين وزيره داود بن علي بن مكن رسولا إلى السلطان أبي علي بسجلماسة فرجع عنه مغاضبا و جنح أبو تاشفين بعدها إلى التمسك بسلم السلطان أبي سعيد فعقد لهم ذلك و أقاموا عليها مدة فلما نفر ابن مولانا السلطان أبي يحيى على السلطان أبي سعيد ملك المغرب و انعقد الصهر بينهم كما ذكرناه في أخبارهم و هلك السلطان أبو سعيد نهض السلطان أبو الحسن إلى تلمسان بعد أن قدم رسله إلى السلطان أبي تاشفين في أن يقلع بجيوشه عن حصار بجاية و يتجافى للموحدين عن عمل تنس فأبى و أساء الرد و أسمع الرسل بمجلسه هجر القول و أفزع لهم الموالي في الشتم لمرسلهم بمسمع من أبي تاشفين فأحفظ ذلك السلطان أبو الحسن و نهض في جيوشه سنة اثنتين و ثلاثين إلى تلمسان فتخطاها إلى تاسالت و ضرب بها معسكره و أطال المقام و بعث المدد إلى بجاية مع الحسن البطوي من صنائعه و ركبوا في أساطيله من سواحل وفران و ووافاهم مولانا السلطان أبو يحيى ببجاية و قد جمع لحرب بني عبد الواد و هدم تامزيزدكت و جاء لموعد السلطان أبي الحسن معه أن يجتمعا بعساكرهما لحصار تلمسان فنهض من بجاية إلى تامزيزدكت و قد أجفل منها عساكر بني عبد الواد و تركوها قفرا و لحقت بها عساكر الموحدين فعاثوا فيها تخريبا و نهبا و ألصقت جدرانها بالأرض و تنفس مخنق بجاية من الحصار و انكمش بنو عبد الواد إلى ما وراء نحومهم
و في خلال ذلك انتقض أبو علي ابن السلطان أبي سعيد على أخيه و صمد من مقره بسجلماسة إلى درعة و فتك بالعامل و أقام فيها دعوته كما نذكر ذلك بعد و طار الخبر إلى السلطان أبي الحسن بمحلته بتاسالت فنهض راجعا إلى المغرب لحسم دائه و راجع السلطان أبو تاشفين عزه و انبسطت عساكره في ضواحي عمله و كتب الكتائب و بعث بها مددا للسلطان أبي علي ثم استنفر قبائل زناتة و زحف إلى تخوم المغرب سنة ثلاث و ثلاثين و سبعمائة ليأخذ بحجزة السلطان أبي الحسن عن أخيه و انتهى إلى الثغر من تاوريرت و لقيه هناك تاشفين ابن السلطان أبي الحسن في كتيبة جهزها أبوه معه هنالك لسد الثغور و معه منديل بن حمامة شيخ بني تيريفين من بني مرين في قومه فلما برزوا إليه انكشف و رجع إلى تلمسان و لما تغلب السلطان أبو الحسن على أخيه و قتله سنة أربع و ثلاثين و سبعمائة جمع لغزو تلمسان و حصارها و نهض إليها سنة خمس و ثلاثين و سبعمائة و قد استنفذ وسعه في الاحتفال لذلك و اضطربت بها عساكره و ضرب عليها سياج الأسوار و سرادقات الحفائر أطيفت عليهم حتى لا يكاد الطيف يخلص منهم و لا إليهم و سرح كتائبه إلى القاصية من كل جهة فتغلب على الضواحي و افتتح الأمصار جميعا و خرب وجدة كما يأتي ذكر ذلك كله و ألح عليها بالقتال يغاديها و يراوحها و نصب المجانيق و انحجز بها مع السلطان أبي تاشفين زعماء زناتة من بني توجين و بني عبد الواد و كان عليهم في بعض أيامها اليوم المشهور الذي استلحمت فيه أبطالهم و هلك أمراؤهم و ذلك إلى السلطان أبا الحسن كان يباكرهم في الاسحار فيطوف من وراء أسواره التي ضربها عليهم شوطا يرتب المقاتلة و يثقف الأطر إلى و يسد الفروج و يصلح الخلل و أبو تاشفين يبعث العيون في ارتصاد فرصه فيه و أطاف في بعض الأيام منتبذا عن الجملة فكمنوا له حتى إذا سلك ما بين الجبل و البلد انقضوا عليه يحسبونها فرصة قد وجدوها و ضايقوه حتى كاد السرعان من الناس أن يصلوا إليه و أحس أهل المعسكر بذلك فركبوا زرافات و وحدانا و ركب ابناه الأميران أبو عبد الرحمن و أبو مالك جناحا عسكره و عقابا جحافله و تهاوت إليهم صقور بني مرين من كل جو فانكشفت عساكر البلد و رجعوا القهقرى ثم ولوا الأدبار منهزمين لا يلوي أحد منهم على أحد و اعترضهم مهوى الخندق فتطارحوا فيه و تهافتوا على ردمه فكان الهالك يومئذ بالردم أكثر من الهالك بالقتل و هلك من بني توجين يومئذ كبير الحشم و عامل جبل وانشريس و محمد بن سلامة بن علي أمير بني يدللتن و صاحب قلعة تاوغزوت و ما إليها من عملهم و هما ما هما في زناتة إلى أشباه لهما و أمثال استلحموا في هذه الوقعة فحط هذا اليوم جناح الدولة و حطم منها و استمرت منازلة السلطان أبي الحسن إياها إلى آخر رمضان من سنة سبع و ثلاثين و سبعمائة فاقتحمها يوم السابع و العشرين منه غلابا و لجأ السلطان أبو تاشفين إلى باب قصره في لمة من أصحابه و معه ولداه عثمان و مسعود و وزيره موسى بن علي و عبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من أعياص بني مرين و هو الذي لحق بهم من تونس كما ذكرناه و سيأتي ذكره و خبره و معه يومئذ ابنا أخيه أبو زيان و أبو ثابت فمانعوا دون القصر مستميتين إلى أن استلحموا و رفعت رؤسهم على عصي الرماح فطيف بها وغصت سكك الجلد من خارجها و داخلها بالعساكر و كظت أبوابها بالزحام حتى لقد كب الناس على أذقانهم و تواقعوا فوطئوا بالحوافر و تراكمت أشلاؤهم ما بين البابين حتى ضاق المذهب ما بين السقف و مسلك الباب و انطلقت الأيدي على المنازل نهبا و اكتساحا و خلص السلطان إلى المسجد الجامع و استدعى رؤساء الفتيا و الشورى أبا زيد عبد الرحمن و أبا موسى عيسى ابني الإمام قدمهما من أعماله لمكان معتقده في أهل العلم فحضروه و رفعوا إليه أمر الناس و ما نالهم من معرة العسكر و وعظوه فأناب و نادى مناديه برفع الأيدي عن ذلك فسكن الاضطراب و أقصر العيث و انتظم السلطان أبو الحسن أمصار المغرب الأوسط و عمله إلى سائر أعماله و تاخم الموحدين بثغوره و طمس رسم الملك لآل زيان و معالمه و استتبع زناتة عصبا تحت لوائه من بني عبد الواد و توجين و مغراوة و أقطعهم ببلاد المغرب سهاما أدالهم بها من تراثهم من أعمال تلمسان فانقرض ملك آل يغمراسن برهة من الدهر إلى أن أعاده منهم أعياص سموا إليه بعد حين عند نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان كما نذكره فأومض بارقه و هبت ريحه و الله يؤتي ملكه من يشاء (7/146)
الخبر عن رجال دولته و هم موسى بن علي و يحيى بن موسى و مولاه هلال و أوليتهم و مصاير أمورهم و اختصاصهم بالذكر لما صار من شهرتهم و ارتفاع صيتهم
فأما موسى بن علي الحاجب الهالك مع السلطان فأصله من قبيلة الكرد من أعاجم المشرق و قد أشرنا إلى الخلاف في نسبهم بين الأم و ذكر المسعودي منهم أصنافا سماهم في كتابه من الشاهجان و البرسان و الكيكان إلى آخرين منهم و أن مواطنهم ببلاد أذربيجان و الشام و الموصل و أن منهم نصارى على رأي اليعقوبية و خوارج على رأي البراءة من عثمان و علي انتهى كلامه
و كان منهم طوائف بجبل شهرزور من عراق العجم و عامتهم يتقلبون في الرحلة و بنتجعون لسائمتهم مواقع الغيث و يتخذون الخيام لسكناهم من اللبود و جل مكاسبهم الشاء و البقر من الأنعام و كانت لهم عزة و امتناع بالكثرة و رياسات ببغداد أيام تغلب الأعاجم على الدولة و استبدادهم بالرياسة و لما طمس ملك بني العباس و غلب التتر على بغداد سنة ست و خمسين و ستمائة و قتل ملكهم هلاون آخر خلفاء العباسيين و هو المستعصم ثم ساروا في ممالك العراق و أعماله فاستولوا عليها و عبر الكثير من الكرد نهر الفرات فرارا أمام التتر لما كانوا يدينون بدين المجوسية و صاروا في إيالة الترك فاستنكف أشرافهم و بيوتاتهم من المقام تحت سلطانهم و جاز منهم إلى المغرب عشيرتان تعرفان ببني لوين و بني بابير فيمن إليهم من الأتباع و دخلوا المغرب لآخر دولة الموحدين و نزلوا على المرتضى بمراكش فأحسن تلقيهم و أكرم مثواهم و أسنى لهم الجراية و الأقطاع و أحلهم بالمحل الرفيع من الدولة
و لما انتقض أمر الموحدين بحدثان وصولهم صاروا إلى ملكة بني مرين و لحق بعضهم بيغمراسن بن زيان و نزع المستنصر إلى إفريقية يومئذ بيت من بني بابير لا أعرفهم كان منهم محمد بن عبد العزيز المعروف بالمزوار صاحب مولانا السلطان أبي يحيى و آخرون غيره منهم ركان من أشهر من بقي في إيالة بني مرين منهم ثم من بني بابير علي بن حسن بن صاف و أخوه سلمان و من بني لوين الصهر بن محمد ثم بنو حمور ثم بنو بوصة و كانت رياسة بني بابير لسلمان و علي و رباسة لوين لخضر بن محمد و كادت تكون الفتنة بينهم كما كانت في مواطنهم الأولى فإذا اتعدوا للحرب توافت إليهم أشياعهم من تلمسان و كان نضالهم بالسهام و كانت القسي سلاحهم و كان من أشهر الوقائع بينهم وقيعة بفاس سنة أربع و سبعين و ستمائة جمع لها خضر رئيس بني لوين و سلمان و علي رئيسا بني بابير و اقتتلوا خارج باب الفتوح و تركهم يعقوب بن عبد الحق لشأنهم من الفتنة حياء منهم فلم يعرض لهم و كان مهلك سلمان منهم بعد ذلك مرابطا بثغر طريف عام تسعين و ستمائة و كان لعلي بن حسن ابنه موسى اصطفاه السلطان يوسف بن يعقوب و كشف له الحجاب عن داره و ربى بين حرمه فتمكنت له دالة سخط بسببها بعض الأحوال مما لم يرضه فذهب مغاضبا و دخل إلى تلمسان أيام كان يوسف بن يعقوب محاصرا لها فتلقاه عثمان بن يغمراسن من التكرمة و الترحيب بما يناسب محله من قومه و منزلته من اصطناع السلطان و أشار يوسف بن يعقوب على أبيه باستمالته فلقيه في حومة القتال و حادثه و اعتذر له بكرامة القوم إياه فحضه على الوفاء لهم و رجع إلى السلطان فخبره الخبر فلم ينكر عليه و أقام هو بتلمسان و هلك أبوه علي بالمغرب سنة سبع و سبعمائة
و لما هلك عثمان بن يغمراسن بن زيان زاده بنوه اصطناعا و مداخلة و خلطوه بأنفسهم و عقدوا له على العساكر لمحاربة أعدائهم و ولوه الأعمال الجليلة و الرتب الرفيعة من الوزارة و الحجابة و لما هلك السلطان أبو حمو و قام بأمره ابنه أبو تاشفين و كان هو الذي تولى له أخذ البيعة على الناس و غص بمكانه مولاه هلال فما استبد عليه و كان كثيرا ما ينافس موسى بن علي و يناقشه فخشيه على نفسه و أجمع على إجازة البحر للمرابطة بالأندلس فبادره هلال و تقبض عليه و غربه إلى العدوة و نزل بغرناطة و انتظم في الغزاة المجاهدين و أمسك عن جراية السلطان فلم يمد إليها يدا أيام مقامه و كانت من أنزه ما جاء به و تحدث به الناس فأغربوا و اتقدت لها جوانح هلال حسدا و عداوة فأغري سلطانه فخاطب ابن الأحمر في استقدامه فأسلمه إليه و استعمله السلطان في حروبه على قاصيته حتى كان من نهوضه بالعساكر إلى إفريقية للقاء مولانا السلطان أبي يحيى سنة سبع و عشرين و سبعمائة و كانت الدبرة عليه و استلحمت زناتة و رجع في الفل فأغرى هلال السلطان و ألقى في نفسه التهمة به و نمي ذلك إليه فلحق بالعرب الزواودة و عقد مكانه على محاصرة بجاية ليحيى بن موسى صاحب شلف و نزل هو على سليمان و يحيى بن علي بن سباع بن يحيى من أمراء الزواودة في أحيائهم فلقوه مبرة و تعظيما و أقام بين أحيائهم مدة ثم استقدمه السلطان و رجع إلى محله من مجلسه ثم تقبض عليه لأشهر و أشخصه إلى الجزائر فاعتقله بها و ضيق عليه محبسه ذهابا مع أغراض منافسة هلال حتى إذا أسخط هلالا استدعاه من محبسه أضيق ما كان فانطلق إليه فلما تقبض على هلال قلد موسى بن علي حجابته فلم يزل مقيما لرسمها إلى يوم اقتحم السلطان أبو الحسن تلمسان فهلك مع أبي تاشفين و بنيه في ساحة قصرهم كما قلناه و انقضى أمره و البقاء لله
و انتظم بنوه بعد مهلكه في جملة السلطان أبي حسن و كان كبيرهم سعيد قد خلص من بين القتلى في تلك الملحمة بباب القصر بعد هدو من الليل مثخنا بالجراح و كانت حياته بعدها تعد من الغرائب و دخل في عفو السلطان إلى أن عادت دولة بني عبد الواد فكان له في سوقها نفاق حسبما نذكره و الله غالب على أمره
و أما يحيى بن موسى فأصله من بني سنوس إحدى بطون كومية و لهم ولاء في بني كمين بالاصطناع و التربية و لما فصل بنو كمين إلى المغرب قعدوا عنهم و اتصلوا ببني يغمراسن و اصطنعوهم و نشأ يحيى بن موسى في خدمة عثمان و بنيه و اصطناعهم و لما كان الحصار ولاه أبو حمو مهمة من التطواف بالليل على الحرس بمقاعدهم من الأسوار و قسم القوت على المقاتلة بالمقدار و ضبط الأبواب و التقدم في حومة الميدان و كان له أعوان على ذلك من خدامه قد لزموا الكون معه في البكر و الآصال و الليل و النهار و كان يحيى هذا منهم فعرفوا له خدمته و ذهبوا إلى اصطناعه و كان من أول ترشيحه ترديد أبي يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارهم : فيما يدور بينهم من المضاربة فكان يجلي في ذلك و يوفي من عرض مرسله و لما خرجوا من الحصار أربوا به على رتب الاصطناع و التنويه
و لما ملك أبو تاشفين استعمله بشلف مستبدا بها و أذن له في اتخاذ الآلة ثم لما عزل موسى بن علي عن حرب الموحدين و قاصية الشرق عزله به و كانت المرية و تنس من عمله فلما نازل السلطان أبو الحسن تلمسان راسله بالطاعة و الكون معه فتقبله و جاء به من مكان عمله فقدم عليه بمخيمه على تلمسان فاختصه بإقباله و رفع مجلسه من بساط و لم يزل عنده بتلك الحال إلى أن هلك بعد افتتاح تلمسان و الله مصرف الأقدار
و أما هلال فأصله من سبي النصارى القطلونيين أهداه السلطان ابن الأحمر إلى عثمان بن يغراسن و صار إلى السلطان أبي حمو فأعطاه إلى ولده أبي تاشفين فيما أعطاه من الموالي المعلوجين و نشأ عنده و تربى و كان مختصا عنده بالراحلة و الدالة و تولى كبر تلك الفعلة التي فعلوا بالسلطان أبي حمو و لما ولي بعده ابنه أبو تاشفين ولاه على حجابته و كان مهيبا فظا غليظا فقعد مقعد الفصل ببابه و أرف للناس سطوه و زحزح المرشحين عن رتب المماثلة إلى التعلق بأهدابه فاستولى على الأمر و استبد على السلطان ثم حذر مغبة الملك و سوء العواقب فاستأذن السلطان في الحج و ركب إليه من هنين بعض السفن اشتراها بماله و شحنها بالعديد و العدة و الأقوات و المقاتلة و أقام كاتبه الحاج محمد بن حواتة بباب السلطان على رسم النيابة عنه و أقلع سنة أربع و عشرين و سبعمائة فنزل بالإسكندرية و صحب الحاج من مصر في جملة الأمير عليهم و لقي في طريقه سلطان السودان من آل منسى موسى و استحكمت بينهما المودة ثم رجع بعد قضاء فرضه إلى تلمسان فلم يجد مكانه من السلطان و لم يزل من بعد ذلك يتنكر له و هو يسايسه بالمداراة و الاستجداء إلى أن سخطه فتقبض عليه سنة تسع و عشرين و سبعمائة و أودعه سجنه فلم يزل معتقلا إلى أن هلك من وجع أصابه قبيل فتح تلمسان و مهلك السلطان بأيام فكانت آية عجبا في تقارب مهلكهما و اقتران سعادتهما و نحوسهما و قد كان السلطان أبو الحسن يتبع الموالي الذين شهدوا مقتل السلطان أبي حمو و أفلت هلال هذا من عقابه بموته و الله بالغ حكمه (7/149)
الخبر عن انتزاء عثمان بن جرار على ملك تلمسان بعد نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان و عود الملك بذلك لبني زيان
كان بنو جرار هؤلاء من فضائل نيدوكسن بن طاع الله و هم بنو جرار بن يعلى بن نيدوكسن و كان بنو محمد بن زكراز يفضون إليهم من أول الأمر حتى صار الملك إليهم و استبدوا به فجروا على جميع الفصائل من عشائرهم ذيل الاحتقار و نشأ عثمان بن يحيى بن محمد بن جرار هذا من بينهم مرموقا بعين التجلة و الرياسة و سعى عند السلطان أبي تاشفين بأن في نفسه تطاولا للرياسة فاعتقله مدة و فر من محبسه فلحق بملك المغرب السلطان سعيد فآثر محله و أكرم منزله و استقر بمثواه فنسك و زهد و استأذن السلطان عند تغلبه على تلمسان في الحج بالناس فأذن له وكان قائد الركب من المغرب إلى مكة سائر أيامه حتى استولى السلطان أبو الحسن على أعمال الموحدين و حشد أهل المغرب من زناتة و العرب لدخول إفريقية اندرج عثمان هذا في جملته و استأذنه قبيل القيروان في الرجوع إلى المغرب فأذن له و لحق بتلمسان فنزل على أميرها من ولد الأمير أبي عنان كان قد عقد له على عملها و رشحه لولاية العهد بولايتها فازدلف إليه بما بثه من الخبر عن أحوال أبيه و تلطف فيما أودع سمعه من تورط أبيه في مهالك إفريقية و إياسه من خلاصه و وعده بمصير الأمر إليه على ألسنة الخبراء و الكهان و كان يظن فيه أن لديه من ذلك علما و على تفيئة ذلك كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان و ظهر مصداق ظنه و إصابة قياسه فأغراه بالتوثب على ملك أبيه بتلمسان و البدار إلى فاس لغلب منصور ابن أخيه أبي مالك عيها كان استعمله جده أبو الحسن هنالك و أراه آية سلطانه و شواهد ملكه و تحيل عليه في إشاعة مهلك السلطان أبي الحسن و القائه على الألسنة حتى أوهم صدقه و تصدى الأمير أبو عنان للأمر و تسايل إليه الفل من عساكر بني مرين فاستلحق و بث العطاء و أعلن بابا لدعاء نفسه في ربيع سنة تسع و أربعين و سبعمائة و عسكر خارج تلمسان للنهوض إلى المغرب كما نذكره في أخبارهم و لما فصل دعا عثمان لنفسه و انتزى على كرسيه و اتخذ الآلة و أعاد من ملك بني عبد الواد رسما لم يكن لآل جرار و استبد أشهرا قلائل إلى أن خلص إليه من آل زيان من ولد عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن من طمس معالمه و خسف به و بداره و أعاد أمر بني عبد الواد في نصابه حسبما نذكره إن شاء الله تعالى و الله أعلم (7/153)
الخبر عن دولة أبي سعيد و أبي ثابت من آل يغمراسن و ما فيها من الأحداث
كان الأمير أبو يحيى جدهما من أكبر ولد يغمراسن بن زيان و كان ولى عهده بعد مهلك أخيه عمر الأكبر و لما تغلب يغمراسن على سجلماسة سنة إحدى و ستين و ستمائة استعمله عليها فأقام بها حولا و ولد له هناك ابنه عبد الرحمن ثم رجع إلى تلمسان فهلك بها و نشأ عبد الرحمن بسجلماسة و لحق بتلمسان بعد أمه فأقام مع بني أبيه إلى أن غص السلطان بمكانه و غربه إلى الأندلس فمكث بها حينا و هلك في مرابطته بثغر قرمونة في بعض أيام الجهاد و كان له بنون أربعة يوسف و عثمان و الزعيم و إبراهيم فرجعوا إلى تلمسان و أوطنوها أعواما حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن على ملكهم و أضاف إلى دولته دولتهم نقلهم من تلمسان إلى المغرب في جملة أعياصهم ثم سألوا إذنه في المرابطة بثغور الأندلس التي في عمله فأذن لهم و فرض لهم العطاء و أنزلهم بالجزيرة فكانت لهم بالجهاد مواقف مذكورة و مواطن معروفة و لما استنفر السلطان أبو الحسن زناتة لغزو إفريقية سنة ثمان و أربعين و سبعمائة كانوا في جملته مع قومهم بني عبد الواد و في رايتهم و مكانهم معلوم بينهم فما اضطرب أمر السلطان أبي الحسن و تألب عليه الكعوب من بني سليم أعراب إفريقية و واضعوه الحرب بالقيروان كان بنو عبد الواد أول النازعين عنه إليهم فكانت النكبة و انحجز بالقيروان و انطلقت أيدي الأعراب على الضواحي و انتقض المغرب من سائر أعماله أذنوا لبني عبد الواد في اللحاق بقطرهم و مكان عملهم فمروا بتونس و أقاموا بها أياما و خلص الملاء منهم نجيا في شأن أمرهم و من يقدمون عليهم فأصفقوا بعد الشورى على عثمان بن عبد الرحمن و اجتمعوا الله لعهده بهم يومئذ و قد خرجوا به إلى الصحراء و أجلسوه بباب مصلى العيد من تونس على درقة ثم ازدحموا عليه بحيث توارى شخصه عن الناس يسلمون عليه بالإمارة و يعطونه الصفقة على الطاعة و البيعة حتى استهلوا جميعا ثم انطلقوا به إلى رحالهم و اجتمع مغراوة أيضا إلى أميرهم علي بن راشد بن محمد بن ثابت بن منديل الذي ذكرناه من قبل و تعاهدوا على الصحابة إلى أعمالهم و المهادنة آخر الأيام و استئثار كل بسلطانه و تراث سلفه و ارتحلوا على تفيئة ذلك إلى المغرب و شنت البوادي عليهم الغارات في كل وجه فلم يظفروا منهم بقلامة ظفر : مثل ونيفن و نونة و أهل جبل بني ثابت و لما مروا ببجاية و كان بها فل من مغراوة و توجين نزلوا بها منذ غلبوا على أعمالهم و صاروا في جند السلطان فارتحلوا معهم و اعترضهم بجبل الزاب برابرة زواوة فأوقعوا بهم و ظهر من نجدتهم و بلائهم في الحروب ما هو معروف لأولهم ثم لحقوا بشلف فتلقتهم قبائل مغراوة و بايعوا لسلطانهم علي بن راشد فاستوسق ملكه
و انصرف بنو عبد الواد و الأميران أبو سعيد و أبو ثابت بعد أن أحكموا العقد و أبرموا الوثاق مع علي بن راشد و قومه و كان في طريقهم بالبطحاء أحياء سويد و من معهم من أحلافهم قد نزلوا هناك مع شيخهم وترمار بن عريف منهزمهم من تاسالت أمام جيوش السلطان أبي عنان فأجفلوا من هنالك و نزل بنو عبد الواد مكانهم و كان في جملتهم جماعة من بني جرار بن نيدوكسن كبيرهم عمران بن موسى ففر ابن عثمان بن يحيى بن جرار إلى تلمسان فعقد له على حرب أبي سعيد و أصحابه فنزل الجند الذين خرجوا معه إلى السلطان أبي سعيد و انقلب هو إلى تلمسان و القوم في أثره فأدرك بطريقه و قتل و مر السلطان إلى البلد فثارت العامة بعثمان بن جرار فاستأمن لنفسه من السلطان فأمنه و دخل إلى قصر الملك آخر جمادى الأخيرة من سنة تسع و أربعين و ستمائة فاقتعد أريكته و أصدر أوامره و استوزر و استكتب و عقد لأخيه أبي ثابت الزعيم على ما وراء بابه من متون ملكهما و على القبيل و الحروب و اقتصر هو على ألقاب الملك و أسمائه و لزم الدعة و تقبض لأزل دخوله على عثمان بن يحيى بن جرار فأودعه المطبق إلى أن مات في رمضان من سنته و يقال قتيلا و كان من أول غزوات السلطان أبي ثابت غزاته إلى كومية و ذلك إلى كبيرهم إبراهيم بن عبد الملك كان شيخا عليهم منذ حين من الدهر و كان ينتسب في بني عابد و هم قوم عبد المؤمن بن علي من بطون كومية فلما وقع الهرج بتلمسان حسب أنه لا ينجلي غمامه و حدثته نفسه بالانتزاء فدعا لنفسه و أضرم بلاد كومية و ما إليها من السواحل نارا و فتنة فجمع له السلطان أبو ثابت و نهض إلى كومية فاستباحهم قتلا و سبيا و اقتحم هنين ثم ندرومة بعدها و تقبض على إبراهيم بن عبد الملك الخارج فجاء به معتقلا إلى تلمسان و أودعه السجن فلم يزل به إلى أن قتل بعد أشهر و كانت أمصار المغرب الأوسط و ثغوره لم تزل على طاعة السلطان أبي الحسن و القيام بدعوته و بها حاميته و عماله و أقر بها إلى تلمسان مدينة وهران كان بها القائد عبد بن سعيد بن جانا من صنائع بني مرين و قد ضبطها و ثقفها و ملأها أقواتا و رجلا و سلاحا و ملأ مرساها أساطيل فكان أول ما قدموه من أعمالهم النهوض إليه فنهض السلطان أبو ثابت بعد أن جمع قبائل زناتة و العرب و نزل على وهران و حاصرها أياما و كان في قلوب بني راشد أحلافهم مرض فداخلوا قائد البلد في الانقضاض على السلطان أبي ثابت و وعدوه الوفاء بذلك عند المناجزة فبرز و ناجزهم الحرب فانهزم بنو راشد و جروا الهزيمة على من معهم و قتل محمد بن يوسف بن عنان بن فارس أخي يغمراسن بن زيان من أكابر القرابة و انتهب المعسكر و نجا السلطان أبو ثابت إلى تلمسان إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/154)
الخبر عن لقاء أبي ثابت مع الناصر ابن السلطان أبي الحسن و فتح وهران بعدها
كان السلطان أبو الحسن بعد وقعة القيروان قد لحق بتونس فأقام بها و العرب محاصرون له ينصبون الأعياص من الموحدين لطلب تونس واحدا بعد آخر كما ذكرناه في أخبارهم و بينما هو مؤمل الكرة و وصول المدد من المغرب الأقصى إذ بلغه الخبر بانتثار السكك أجمع و بانتقاض ابنه و حافده ثم استيلاء بني عنان على المغرب كله و رجوع بني عبد الواد و مغراوة و توجين إلى ملكهم بالمغرب الأوسط و وفد عليه يعقوب بن علي أمير الزواودة فاتفق مع عريف بن يحيى أمير سويد كبير مجلس السلطان على أن يغرياه ببعث ابنه الناصر إلى المغرب الأوسط للدعوة التي كانت قائمة بأمصاره في الجزائر و وهران و جبل وانشريس و كان به نصر بن عمر بن عثمان بن عطية قائما بدعوته و أن يكون عريف بن يحيى في جملة الناصر لمكانه من السلطان و مكان قومه من الولاية و كان ذلك من عريف تفاديا من المقام بتونس فأجاب إليه السلطان و بعثهم جميعا و لحق الناصر ببلاد حصين فأعطوه الطاعة و ارتحلوا معه و لقيه العطاف و الديالم و سويد فاجتمعوا إليه و تألبوا معه و ارتحلوا يريدون منداس و بينما الأمير أبو ثابت يريد معاودة الغزو إلى وهران إذ فجأه الخبر بذلك فطير به إلى السلطان أبي عنان و جاءه العسكر من بني مرين مددا صحبة أبي زيان ابن أخيه أبي سعيد كان مستقرا بالمغرب منذ نهوضهم إلى القيروان و بعث عنه أبوه فجاء مع المدد من العساكر و المال و نهض أبو ثابت من تلمسان أول المحرم سنة خمسين و سبعمائة و بعث إلى مغراوة بالخبر فقعدوا عن مناصرته و لحق ببلاد العطاف فلقيه الناصر هنالك في جموعه بوادي ورك آخر شهر ربيع الأول فانكشفت جموع العرب و انهزموا و لحق الناصر بالزاب فنزل على أبي مزني ببسكرة إلى أن أصحبه من رجالات سيلم من أوصله إلى أبيه بتونس و لحق عريف بن يحيى بالمغرب الأقصى و احتل عند السلطان أبي عنان بمكانه من مجلسهم فحصل على البغية و رجع العرب كلهم إلى طاعة أبي ثابت و خدمته و استراب بصغير بن عامر بن إبراهيم فتقبض عليه و أشخصه معتقلا مع البريد إلى تلمسان فاعتقل بها إلى أن أطلق بعد حين و قفل أبو ثابت إلى تلمسان فتلوم بها أياما ثم نهض إلى وهران في جمادى من سنته فحاصرها أياما ثم افتتحها عنوة و عفا عن علي بن جانا القائم بعد مهلك أخيه عبوا و على من معه و أطلق سبيلهم و استولى على ضواحي وهران و ما إليها و رجع إلى تلمسان و قد استحكمت العداوة بينه و بين مغراوة و كان قد استجرها ما قدمناه من قعودهم عن نصره فنهض بهم في شوال من سنته و التقوا في عدوة وادي زهير فاقتتلوا مليا ثم انكشفت مغراوة و لحقوا بمعاقلهم و استولى أبو ثابت على معسكرهم و ملك مازونة و بعث ببيعتها إلى أخيه السلطان أبي سعيد و كان على أثر ذلك وصول السلطان أبي الحسن من تونس كما نذكره إن شاء الله تعالى و الله أعلم (7/156)
الخبر عن وصول السلطان أبي الحسن من تونس و نزوله بالجزائر و ما دار بينه و بين أبي ثابت من الحروب و لحوقه بعد الهزيمة بالمغرب
كان السلطان أبو الحسن بعد واقعة القيروان طال مقامه بتونس و حصار العرب إياه و استدعاه أهل المغرب الأقصى و انتقض عليه أهل الجريد و يايعوا للفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى فأجمع الرحلة إلى المغرب و ركب السفن من تونس أيام الفطر من سنة خمسين و سبعمائة فعصفت به الريح و أدركه الغرق فغرق أسطوله على ساحل بجاية و نجا بدمائه إلى بعض الجزائر هنالك حتى لحقه أسطول من أساطيله فنجا فيه إلى الجزائر و بها حمو بمن يحيى بن العسري قائده و صنيعة أبيه فنزل عليه و بادر إليه أهل ضاحيتها من مليكش و الثعالبة فاستخدمهم و بث فيهم العطاء و اتصل خبره بونزمار بن عريف و هو في أحياء سويد فوفد عليه في مشيخة من قومه و وفد معه نصر بن عمر بن عثمان صاحب جبل وانشريس من بني تيغرين و عدي بن يوسف بن زيان بن محمد بن عبد القوي الثائر بنواحي المرية من ولد عبد القوي فأعطوه الطاعة و استحثوه للخروج معهم فردهم للحشد فجمعوا من إليهم من قبائل العرب و زناتة و بينما الأمير أبو ثابت ببلاد مغراوة محاصرا لهم في معاقلهم إذ بلغه الخبر بذلك في ربيع سنة إحدى و خمسين و سبعمائة فعقد السلم معهم و رجع إلى قتال هؤلاء فأخذ على منداس و خرج إلى السرسو قبلة وانشريس و أجفل أمامه ونزمار و جموع العرب الذين معه و لحق به هنالك مدد السلطان أبي عنان قائدهم يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطى فاتبع آثار العرب و شردهم و لحقت أحياء حصين بمعاقلهم من جبل تيطرى ثم عطف على المرية ففتحها و عقد عليها لعمر بن موسى الجلولي من صنائعهم ثم نهض إلى حصين فاقتحم عليهم الجبل فلاذوا بالطاعة و أعطوا أبناءهم رهنا عليها فتجاوزهم إلى وطاء حمزة فدوخها و استخدم قبائلها من العرب و البربر و السلطان أثناء ذلك مقيم بالجزائر ثم قفل أبو ثابت إلى تلمسان و قد كان استراب بيحيى بن رحو و عسكره من بني مرين و أنهم داخلوا السلطان أبا الحسن و بعث فيه إلى السلطان أبي عنان فأداله بعيسى بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب فبعثه قائدا على الحصة المرينية فتقبض على يحيى بن رحو و لحقوا مع أبي ثابت بتلمسان ثم أجاز إلى المغرب و أوعز السلطان أبو الحسن إلى ابنه الناصر مع أوليائه من زناتة و العرب فاستولى على المرية و قتل عثمان بن موسى الجلولي ثم تقدم إلى مليانة فملكها و إلى تيمزوغت كذلك و جاء على أثره السلطان أبو الحسن أبوه و قد اجتمعت إليه الجموع من زغبة و من زناتة و من عرب إفريقية سليم و رياح مثل : محمد بن طالب بن مهلهل و رجال من عشيرته و عمر بن علي بن أحمد الزواودي و أخيه أبي دينار و رجالات من قومهما و زحف على هذه التعبية و ابنه الناصر أمامه فأجفل عليه بن راشد و قومه مغراوة عن بلادهم إلى البطحاء و طير الخبر إلى أبي ثابت فوافاه في قومه و حشوده و زحفوا جميعا إلى السلطان أبي الحسن و قومه فالتقى الجمعان بتيمغزين من شلف و صابروا مليا ثم انكشف السلطان أبو الحسن و قومه و طعن ولده الناصر بعض فرسان مغراوة و هلك آخر يومه و قتل محمد بن علي بن العربي قائد أساطيله و ابن البواق و القبائلي كاتباه و استبيح معسكره و ما فيه من متاع و حرم و خلص بناته إلى وانشريس و بعث بهن أبو ثابت إلى السلطان أبي عنان بعد استيلاء كل الجبل و خلص السلطان أبو الحسن إلى أحياء سويد بالصحراء فنجا به وزمار بن عريف إلى سجلماسة كما يأتي ذكره في أخباره و دوخ أبو ثابت بلاد بني توجين و قفل إلى تلمسان و الله تعالى أعلم (7/158)
الخبر عن حروبهم مع مغراوة و استيلاء أبي ثابت على بلادهم ثم على الجزائر و مقتل علي بن راشد بتنس على أثر ذلك
كان بين هذين الحيين من عبد الواد و معراوة فتن قديمة سائر أيامهم قد ذكرنا الكثير منها في أخبارهم و كان بنو عبد الواد قد غلبوهم على أوطانهم حتى قتل راشد بن محمد في جلائه أمامهم بين زواوة و لما اجتمعوا بعد نكبة القيروان على أميرهم علي بن راشد و جاؤه من إفريقية إلى أوطانهم مع بني عبد الواد و لم يطيعوهم حينئذ أن يغلبوهم رجعوا حينئذ إلى توثيق العهد و تأكيد العقد فأبرموه و قاموا على الموادعة و التظاهر على عدوهم و عروق الفتنة تنبسط من كل منهم و لما جاء الناصر من إفريقية و زحف إليه أبو ثابت قعد عنه علي بن راشد و قومه فاعتدها عليهم و أسرها في نفسه ثم اجتمع بعد ذلك للقاء السلطان أبي الحسن حتى انهزم و مضى إلى المغرب فلما رأى أبو ثابت أنه قد كفى عدوه الأكبر و فرغ إلى عدوه الأصغر نظر في الانتقاض عليهم فبينما هو يروم أسباب ذلك إذ بلغه الخبر أن بعض رجالات بني كمين من مغراوة جاء إلى تلمسان فاغتالوه فحمى له أنفه و أجمع لحربهم و خرج من تلمسان فاتحة اثنتين و خمسين و سبعمائة و بعث في أحياء زغبة من بني عامر و سويد فجاؤه بفارسهم و راجلهم و ظعائنهم و زحف إلى مغراوة فخافوا من لقائه و تحصنوا بالجبل المطل على تنس فحاصرهم فيه أياما اتصلت فيهما الحروب و تعددت الوقائع ثم ارتحل عنهم فجال في نواحي البلد و دوخ أقطارها و أطاعته مليانة و المرية و برشك و شرشال ثم تقدم بجموعه إلى الجزائر فأحاط بها و فيها فل بني مرين و عبد الله بن السلطان أبي الحسن تركه هناك صغيرا في كفالة علي بن سعيد ابن جانا فغلبهم على البلد و أشخصهم في البحر إلى المغرب و أطاعته الثعالبة و مليكش و قبائل حصين و عقد على الجزائر لسعيد بن موسى بن علي الكردي و رجع إلى مغراوة فحاصرهم بمعقلهم الأول بعد أن انصرفت العرب إلى مشاتيها فاشتد الحصار على مغراوة و أصاب مواشيهم العطش فانحطت دفعة واحدة من الجبل تطلب المورد فأصابهم الدهش و نجا ساعتئذ علي بن راشد إلى تنس فأحاط به أبو ثابت أياما ثم اقتحمها عليه غلابا منتصف شعبان من سنته فاستعجل المنية و تحامل على نفسه فذبح نفسه و افترقت مغراوة من بعده و صارت أوزاعا في القبائل و قفل أبو ثابت إلى تلمسان إلى أن كان من حركة السلطان أبي عنان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/159)
الخبر عن استيلاء السلطان أبي عنان على تلمسان و انقراض أمر بني عبد الواد ثانية
لما لحق السلطان أبو الحسن بالمغرب و كان من شأنه مع ابنه أبي عنان إلى أن هلك بجبل هنتاتة على ما نذكره في أخبارهم فاستوسق ملك المغرب للسلطان أبي عنان و فرغ لعدوه و سما لاسترجاع الممالك التي ابتزها أبوه و انتزعها ممن توثب عليه و كان قد بعث إليه علي بن راشد من مكان امتناعه من جبل تنس يسأل منه الشفاعة و نذر بذلك أبو سعيد و أخوه فخرج أبو ثابت و حشد القبائل من زناتة و العرب منتصف ذي القعدة و نزل بوادي شلف و اجتمع الناس إليه و واصلته هناك بيعة تدلس في ربيع من سنة ثلاث و خمسين و سبعمائة غلب عليها الموحدون جانا الخراساني من صنائعه و بلغه من مكانه ذلك زحف السلطان أبي عنان فرجع إلى تلمسان ثم خرج إلى المغرب و جاء على أثره أخوه السلطان أبو سعيد في العساكر من زناتة و معه بنو عامر من زغبة و الفل من سويد إذ كان جمهورهم قد لحقوا بالمغرب لمكان عريف بن يحيى و ابنه من ولاية بني مرين فزحفوا على هذه التعبية و زحف السلطان أبو عنان في أمم المغرب من زناتة و العرب المعقل و المصامدة و سائر طبقات الجنود و الحشد و انتهوا جميعا إلى انكاد من بسيط وجدة فكان اللقاء هنالك آخر ربيع الثاني من سنة ثلاث و خمسين و سبعمائة و اجتمع بنو عبد الواد على صدمة العساكر وقت القائلة و بعد ضرب الأبنية و سقاء الركاب و افتراق أهل المعسكر في حاجاتهم فأعجلوهم عن ترتيب المصاف و ركب السلطان أبو الحسن لتلافي الأمر فاجتمع إليه أوشاب من الناس و انفض سائر المعسكر ثم زحف إليهم فيمن حضره و صدقوهم القتال فاختل مصافهم و منحوا أكتافهم و خاضوا بحر الظلماء و اتبع بنو مرين آثارهم و تقبض على أبي سعيد ليلتئذ مقيدا أسيرا إلى السلطان أبي عنان فأحضره بمشهد الملأ و وبخه ثم نقل إلى محبسه و قتل لتاسعة من ليالي اعتقاله و ارتحل السلطان أبو عنان إلى تلمسان و نجا الزعيم أبو ثابت بمن معه من فل بني عبد الواد و من خلص إليه منهم ذاهبا إلى بجاية ليجد في إيالة الموحدين وليجة من عدوه فبيته زواوة في طريقه و ألد عن أصحابه و أرجل عن فرسه و ذهب راجلا عاريا و معه رفقاء من قومه منهم أبو زيان محمد ابن أخيه السلطان أبي سعيد و أبو حمو و موسى ابن أخيهم يوسف ابن أخيه و وزيرهم يحيى بن داود بن فكن و كان السلطان أبو عنان أوعز إلى صاحب بجاية يومئذ المولى أبي عبيد الله حافد مولانا السلطان أبي بكر بأن يأخذ عليهم الطرق و يذكي في طلبهم العيون فعثر عليهم بساحة البلد و تقبض على الأمير أبي ثابت الزعيم و ابن أخيه محمد بن أبي سعيد و وزيرهم يحيى بن داود و أدخلوا إلى يجاية ثم خرج صاحبها الأمير أبو عبد الله إلى لقاء السلطان أبي عنان و اقتادهم في قبضة أسره فلقيه بمعسكره من ظاهر المرية فأكرم وفادته و شكر صنيعه و انكفأ راجعا إلى تلمسان فدخلها في يوم مشهود و حمل يومئذ أبو ثابت و وزيره يحيى على جملين يتهاديان بهما بين سماطي ذلك المحمل فكان شأنهما عجبا ثم سيقا ثاني يومهما إلى مصرعهما بصحراء البلد فقتلا قعصا بالرماح و انقرض ملك آل زيان و ذهب ما أعاده لهم بنو عبد الرحمن هؤلاء من الدولة بتلمسان إلى أن كانت لهم الكرة الثالثة على يد أبي حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن المتوليها لهذا العهد على ما سنذكره و نستوفي من أخباره إن شاء الله تعالى (7/161)
الخبر عن دولة السلطان أبي حمو الأخير مديل الدولة بتلمسان في الكرة الثالثة لقومه و شرح ما كان فيها من الأحداث لهذا العهد
كان يوسف بن عبد الرحمن هذا في إيالة أخيه السلطان أبي سعيد بتلمسان هو أخوه أبو حمو موسى و كان متكاسلا عن طلب الظهور متجافيا عن التهالك في طلب العز جانحا إلى السكون و مذاهب أهل الخير حتى إذا عصفت بدولتهم رياح بني مرين و تغلب السلطان أبو عنان عليهم و ابتزهم ما كان بيدهم من الملك و خلص ابنه أبو حمو موسى مع عمه أبي ثابت إلى الشرق و قذفت النوى بيوسف مع أشراف قومه إلى المغرب فاستقر به و لما تقبض على أبي ثابت بوطن بجاية أغفل أمر أبي حمو من بينهم و نبت عنه العيون فنجا إلى تونس و نزل بها على الحاجب أبي محمد بن تافراكين فأكرم نزله و أحله بمكان أعياص الملك من مجلس سلطانه و وفر جرايته و نظم معه آخرين من فل قومه و أوعز السلطان أبو عنان إليه بإزعاجهم عن قرارهم في دولته فحمى لها أنفه و أبى عن الهضيمة لسلطانه فأغرى ذلك أبا عنان بمطالبته و كانت حركته إلى بلاد إفريقية و منابذة العرب من رياح و سليم لعهده و نقضهم لطاعته كما نستوفي أخباره
و لما كانت سنة تسع و خمسين و سبعمائة قبل مهلكه اجتمع أمر الزواودة من رياح إلى الحاجب أبي محمد بن تافراكين و رغبوه في لحاق أبي حمو موسى بن يوسف بالعرب من زغبة و أنهم ركابه لذلك ليجلب على نواحي تلمسان و يجعل السلطان أبي عنان شغلا عنهم و سألوه أن يجهز عليه بعض آلة السلطان و وافق ذلك رغبة صغير بن عامر أمير زغبة في هذا الشأن و كان يومئذ في أحياء يعقوب بن علي و جواره فأصلح الموحدون شأنه بما قدروا عليه و دفعوه إلى مصاحبة صغير و قومه من بني عامر و ارتحل معهم من الزواودة عثمان بن سباع و من أحلافهم بنو سعيد دعار بن عيسى بن رحاب و قومه و نهضوا بجموعهم يريدون تلمسان و أخذوا على القفر و لقيهم أثناء طريقهم الخبر عن مهلك السلطان أبي عنان فقويت عزائمهم على ارتجاع ملكهم و رجع عنهم صولة بن يعقوب و أغذ السير إلى تلمسان و بها الكتائب المجمهرة من بني مرين و اتصل خبر أبي حمو بالوزير الحسن بن عمر الغانم بالدولة من بعد مهلك السلطان أبي عنان و المتغلب على ولده السعيد من بعده فجهز المدد إلى تلمسان من الحامية و الأموال و نهض أولياء الدولة من أولاد عريف بن يحيى أمراء البدو من المغرب في قومهم من سويد و من إليهم من العرب لموافقة السلطان أبي حمو و أشياعه فانفض جمعهم و غلبوا على تلك المواطن و احتل السلطان أبو حمو و جموعه بساحة تلمسان و أناخوا ركابهم عليها و نازلوها ثلاثا ثم اقتحموها في صبيحة الرابع و خرج ابن السلطان أبي عنان الذي كان أميرا عليها في لمة من قومه فنزل على صغير بن عامر أمير القوم فأحسن تجلته و أصحبه من عشيرته إلى حضرة أخيه و دخل السلطان أبو حمو تلمسان لثمان خلون من الربيع الأول سنة ستين و سبعمائة و احتل منها بقصر ملكه و اقتعد أريكته و بويع بيعة الخلافة و رجع إلى النظر في تمهيد قواعد ملكه و إخراج بني مرين من أمصار مملكته و الله أعلم (7/162)
الخبر عن اجفال أبي حمو عن تلمسان أمام عساكر المغرب ثم عوده إليها
كان القائم بأمر المغرب بعد السلطان أبي عنان وزيره الحسن بن عمر كافل ابنه السعيد الذي أخذ له البيعة على الناس فاستبد عليه و ملك أمره و جرى على سياسة السلطان الهالك و اقتفى أثره في الممالك الدانية و القاصية في الحماية و النظر لهم و عليهم و لما اتصل به خبر تلمسان و تغلب أبي حمو عليها قام في ركائبه و شاور الملأ في النهوض إليه فأشاروا عليه بالقعود و تسريح الجنود و العساكر فسرح لها ابن عمه مسعود بن رحو بن علي بن عيسى بن ماساي بن فودود و حكمه في اختيار الرجال و استجادة السلاح و بذل الأموال و اتخاذ الآلة فزحف إلى تلمسان و اتصل الخبر بالسلطان أبي حمو و أشياعه من بني عامر فأفرج عنها و لحق بالصحراء و دخل الوزير مسعود بن رحو تلمسان و خالفه السلطان أبي حمو إلى المغرب فنزل بسيط أنكاد و سرح إليهم الوزير مسعود بن رحو ابن عمه عامر بن عبد بن ماساي في عسكر من كتائبه و وجوه قومه فأوقع بهم العرب و أبو حمو و من معهم و استباحوهم و طار الخبر إلى تلمسان و اختلفت أهواء من كان بها من بني مرين و بدا ما كان في قلوبهم من المرض لتغلب الحسن بن عمر على سلطانهم و دولتهم فتحيزوا زرافات لمبايعة بعض الأعياص من آل عبد الحق و فطن الوزير مسعود بن رحو لما دبروه و كان في قلبه مرض من ذلك فاغتنمها و بايع لمنصور بن سلمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق كبير الأعياص المنفرد بالتجلة و ارتحل به و بقومه من بني مرين إلى المغرب و تجافى عن تلمسان و شأنها و اعترضه عرب المعقل في طريقهم إلى المغرب فأوقع بهم بنو مرين و صمموا لصليهم و رجع السلطان أبو حمو إلى تلمسان و استقر بحضرته و دار ملكه و لحق به عبد الله بن مسلم فاستوزره و أسام إليه فاشتد به أزره و غلب على دولته كما نذكره إلى أن هلك و البقاء لله وحده (7/164)
الخبر عن مقدم عبد الله بن مسلم من مكان عمله بدرعة و نزوله من ايالة بني مرين إلى أبي حمو و تقليده إياه الوزارة و ذكر أوليته و مصاير أموره
كان عبد الله بن مسلم من وجوه بني زردال من بني بادين إخوة بني عبد الواد و توجين و مصاب إلا أن بني زردال أندرجوا في بني عبد الواد لقلتهم و اختلطوا بنسبهم و نشأ عبد الله بن مسلم في كفالة موسى بن علي لعهد السلطان أبي تاشفين مشهورا بالبسالة و الإقدام طار له بها ذكر و حسن بلاؤه في حصار تلمسان و لما تغلب السلطان أبو الحسن على بني عبد الواد و ابتزهم ملكهم استخدمهم و كان ينتقي أولي الشجاعة و الإقدام منهم فيرمي بهم ثغور المغرب و لما اعترض بنو عبد الواد و مر به عبد الله هذا ذكر له شأنه و نعت ببأسه فبعثه إلى درعة و استوصى عامله به فكان له عنه غناء في مواقفه مع خوارج العرب و بلاء حسن جذب ذلك بضبعه و رقى عند السلطان منزلته و عرفه على قومه
و لما كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان و مرج أمر المغرب و توثب أبو عنان على الأمر و بويع بتلمسان و استجمع حافده منصور بن أبي مالك عبد الواحد لمدافعته و حشد حامية الثغور للقائه و انفضت جموعه بتازى و خلص إلى البلد الجديد و نازله و كان عبد الله بن مسلم في جملته و لما نازله السلطان أبو عنان و اتصلت الحرب بينهم أياما كان له فيها ذكر و لما رأى أنه أحيط بهم سابق الناس إلى السلطان أبي عنان فرأى سابقيته و قلده عمل درعة فاضطلع بها مدة خلافته و تأكدت له أيام ولايته مع عرب المعقل و صلة و عهد ضرب بهما في مواخاتهم بسهم و كان السلطان أبو عنان عند خروج أخيه أبي الفضل عليه لحقه بجبل ابن حميدي من معاقل درعة أوعز إليه بأن يعمل الحيلة في القبض عليه فداخل ابن حميدي و وعده و بذل له فأجاب و أسلمه و قاده عبد الله بن مسلم أسيرا إلى أخيه السلطان أبي عنان فقتله و لما استولى السلطان أبو سالم رفيق أبي الفضل في منوى اغترابهما بالأندلس على بلاد المغرب من بعد مهلك السلطان أبي عنان و ما كان أثره من الخطوب و ذلك آخر سنة ستين و سبعمائة خشيه ابن مسلم على نفسه ففارق ولايته و مكان عمله و داخل أولاد حسين أمراء المعقل في النجاة به إلى تلمسان فأجابوه و لحق بالسلطان أبي حمو في ثروة من المال و عصبة من العشيرة و أولياء من العرب فسر بمقدمه و قلده لحينه وزارته و شد به أواخي سلطانه و فوض إليه تدبير ملكه فاستقام أمره و جمع القلوب على طاعته و جاء بالمعقل من مواطنهم الغريبة فأقبلوا عليه و عكفوا على خدمته و أقطعهم مواطن تلمسان و آخى بينهم و بين زغبة فعلا كعبه و استفحل أمره و استقامت رياسته إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى و الله تعالى أعلم (7/165)
الخبر عن استيلاء السلطان أبي سالم على تلمسان و رجوعه إلى المغرب بعد أن ولى عليها أبو زيان حافد السلطان أبي تاشفين و ما آل أمره
لما استوسق للسلطان أبي سالم ملك المغرب و محا أثر الخوارج على الدولة سما إلى امتداد ظله إلى أقصى تخوم زناتة كما كان لأبيه و أخيه و حركه إلى ذلك ما كان من فرار عبد الله بن مسلم إلى تلمسان بحيالة عمله فأجمع أمره على النهوض إلى تلمسان و عسكر بظاهر فاس منتصف إحدى و ستين و سبعمائة و بعث في الحشود فتوافت ببابه و اكتملت ثم ارتحل إليها و بلغ الخبر إلى السلطان أبي حمو و وزيره عبد الله ابن مسلم فنادوا في العرب من زغبة و المعقل كافة فأجابوهم إلا شرذمة قليلة من الأحلاف و خرجوا بهم إلى الصحراء و نازل حللهم بعسكره و لما دخل السلطان أبو سالم و بنو مرين تلمسان خالفوهم إلى المغرب فنازلوا وطاط و بلاد ملوية و كرسف و حطموا زروعها و انتسفوا أقواتها و خربوا عمرانها و بلغ السلطان أبا سالم ما كان من صنيعهم فأهمه أمر المغرب و أجلاب المفسدين عليه و كان في جملته من آل يغمراسن محمد بن عثمان بن السلطان أبي تاشفين و يكنى بأبي زيان و يعرف بالفنز و معناه العظيم الرأس فدفعه للأمر و أعطاه الآلة و كتب له كتيبة من توجين و مغراوة كانوا في جملته و دفع إليه أعطياتهم و أنزله بقصر أبيه بتلمسان و انكفأ راجعا إلى حضرته فأجفلت العرب و السلطان أبو حمو أمامه و خالفوه إلى تلمسان فأجفل عنها أبو زيان و تحيز إلى بني مرين بأمصار الشرق من البطحاء و مليانة و وهران و أوليائهم من بني توجين و سويد من قبائل زغبة و دخل السلطان أبو حمو و وزيره عبد الله بن مسلم إلى تلمسان و كان مقير بن عامر هلك في مذهبهم ذلك ثم خرجوا فيمن إليهم من كافة عرب المعقل و زغبة في أتباع أبي زيان و نازلوه بجبل وانشريس فيمن معه إلى أن غلبوا عليه و انفض جمعه و لحق بمكانه من إيالة بني مرين بفاس و رجع السلطان أبو حمو إلى معاقل وطنه يستنقذها من ملكة بني مرين فافتتح كثيرها و غلب على مليانة و البطحاء ثم نهض إلى وهران و نازلها أياما و اقتحمها غلابا و استلحم بها من بني مرين عددا ثم غلب على المرية و الجزائر و أزعج عنها بني مرين فلحقوا بأوطانهم و بعث رسله إلى السلطان أبي سالم فعقد معه المهادنة و وضعوا أوزار الحرب ثم كان مهلك السلطان أبي سالم سنة اثنتين و ستين و سبعمائة و قام بالأمر من بعده عمر بن عبد الله بن علي من أبناء وزرائهم مبايعا لولد السلطان أبي الحسن واحدا بعد آخر كما نذكره عند ذكر أخبارهم إن شاء الله تعالى (7/166)
الخبر عن قدوم أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد من المغرب لطلب ملكه و ما كان من أحواله
كان أبو زيان هذا و هو محمد بن السلطان أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن لما تقبض عليه مع عمه أبي ثابت و وزيرهم يحيى بن داود بجاية من أعمال الموحدين و سيقوا إلى السلطان أبي عنان فقتل أبا ثابت و وزيره و استبقى محمدا هذا و أودعه السجن سائر أيامه حتى إذا هلك و استوسق أمر المغرب لأخيه أبي سالم من بعد خطوب و أهوال يأتي ذكرها امتن عليه السلطان أبو سالم و أطلقه من الاعتقال و نظمه بمجلى ملكه في مراتب الأعياص و أعده لمزاحمة ابن عمه و جرت بينه و بين السلطان أبي حمو سنة اثنتين و ستين و سبعمائة بين يدي مهلكه نكراء بعد مرجعه من تلمسان و مرجع أبي زيان حافد السلطان أبي تاشفين من بعده تحقق السعي فيما نصبه له فسما له أمل في أبي زيان هذا أن يستأثر بملك أبيه و رأى أن يحسن الصنيع فيه فيكون فيئة له فأعطاه الآلة و نصبه للملك و بعثه إلى وطن تلمسان و أتى إلى تازى و لحقه هنالك الخبر بمهلك السلطان أبي سالم ثم كانت فتن و أحداث نذكرها في محلها و أجلب عبد الحليم بن السلطان أبي علي بن السلطان أبي سعيد بن يعقوب بن عبد الحق على فاس و اجتمع إليه بنو مرين و نازلوا البلد الجديد ثم انفض جمعهم و لحق عبد الحليم بنازى كما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى و رجا من السلطان أبي حمو المظاهرة على أمره فراسله في ذلك و اشترط عليه كبح ابن عمه أبي زيان فاعتقله مرضاة له ثم ارتحل إلى سجلماسة كما نذكره بعد و نازله في طريقه أولاد حسين من المعقل بحللهم و أحيائهم فاستغفل أبو زيان ذات يوم الموكلين به و وثب على فرس قائم حذاءه و ركضه من معسكر عبد الحليم إلى حلة أولاد حسين مستجيرا بهم فأجاروه و لحق بني عامر على حين غفلة و جفوة كانت بين السلطان أبي حمو و بين خالد بن عامر أميرهم ذهب لها مغاضبا فأجلب به على تلمسان و سرح إليهم السلطان أبو حمو عسكرا فشردهم عن تلمسان ثم بذل المال لخالد بن عامر على أن يقصيه إلى بلاد رياح ففعل و أوصله إلى الزواودة فأقام فيهم ثم دعاه أبو الليل بن موسى شيخ بني يزيد و صاحب وطن حمزة و بني حسن و ما إليه و نصبه للأمر مشاقة و عنادا للسلطان أبي حمو و نهض إليه الوزير عبد الله بن مسلم في عساكر بني عبد الواد و حشود العرب و زناتة فأيقن أبو الليل بالغلب و بذل له الوزير المال و شرط له التجافي عن وطنه على أن يرجع عن طاعة أبي زيان ففعل و انصرف إلى بجاية و نزل بها على المولى أبي اسحق ابن مولانا السلطان أبي يحيى أكرم نزل ثم وقعت المراسلة بينه و بين السلطان أبي حمو و تمت المهادنة و انعقد السلم على إقصاء أبي زيان عن بجاية المتاخمة لوطنه فارتحل إلى حضرة تونس و تلقاه الحاجب أبو محمد بن تافراكين قيوم دولة الحفصيين لذلك العهد من المبرة و الترحيب و اسناء الجراية له و ترفيع المنزلة بما لم يعهد لمثله من الأعياص ثم لم تزل حاله على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/167)
الخبر عن قدوم أبي زيان حافد السلطان أبي تاشفين ثانية من المغرب إلى تلمسان لطلب ملكها و ما كان من أحواله
كان العرب من سويد إحدى بطون زغبة فيئة لبني مرين و شيعة من عهد عريف بن يحيى مع السلطان أبي الحسن و ابنه أبي عنان فكانوا عند بني عبد الواد في عداد عدوهم من بني مرين طاغية الدولة لبني عامر أقتالهم فكانوا منابذين لبني عبد الواد آخر الأيام و كان كبيرهم ونزمار بن عريف أوطن كرسف في جوار بني مرين مذ مهلك السلطان أبي عنان و كان مرموقا بعين التجلة يرجعون إلى رأيه و يستمعون إلى قوله و أهمه شأن إخوانه في موطنهم و مع أقتالهم بني عامر فاعتزم على نقض الدولة من قواعدها و حمل صاحب المغرب عمر بن عبد الله على أن يسرح محمد بن عثمان حافد أبي تاشفين لمعاودة الطلب لملكه و وافق ذلك نفرة استحكمت بين السلطان أبي حمو و أحمد بن رحو بن غانم كبير أولاد حسن من المعقل بعد أن كانوا فيئة له و لوزيره عبد الله بن مسلم فاغتنمها عمر بن عبد الله و خرج أبو زيان محمد بن عثمان سنة خمس و ستين و سبعمائة فنزل في حلل المعقل بملوية ثم نهضوا به إلى وطن تلمسان و ارتاب السلطان أبو حمو بخالد بن عمر أمير بني عامر فتقبض عليه و أودعه المطبق ثم سرح وزيره عبد الله بن مسلم في عسا كر بني عبد الواد و العرب فأحسن دفاعهم و انفضت جموعهم و رحلهم إلى ناحية الشرق و هو في اتباعهم إلى أن نزلوا المسيلة من وطن رياح و صاروا في جوار الزواودة ثم نزل بالوزير عبد الله بن مسلم داء الطاعون الذي عاود أهل العمران عامئذ من بعدما أهلكهم سنة تسع و أربعين و سبعمائة قبلها فانكفأ به ولده و عشيرته راجعين و هلك في طريقه و أرسلوا شلوه إلى تلمسان فدفن بها و خرج السلطان أبو حمو إلى مدافعة عدوه و قد فت مهلك عبد الله في عضده و لما انتهى إلى البطحاء و عسكر بها ناجزته جموع السلطان أبي زيان الحرب و أطلت راياته على المعسكر فداخلهم الرعب و انفضوا و أعجلهم الأمر عن أبنيتهم و أزوادهم فتركوها و انفضوا و تسلل أبو حمو يبغي النجاة إلى تلمسان و اضطرب أبو زيان فسطاطه بمكان معسكره و سابقه أحمد بن رحو أمير المعقل إلى منجاته فلحقه بسيك و كر إليه السلطان أبو حمو فيمن معه من خاصته و صدقوه الدفاع فكبا به فرسه و قطع رأسه و لحق السلطان أبو حمو بحضرته و ارتحل أبو زيان و العرب في اتباعه إلى أن نازلوه بتلمسان أياما و حدثت المنافسة بين أهل المعقل و زغبة و اسف زغبة استبداد المعقل عليهم و انفراد أولاد حسين برأي السلطان دونهم فاغتنمها أبو حمو و أطلق أميرهم عامر بن خالد من محبسه و أخذ عليه الموثق من الله ليخذلن الناس عنه ما استطاع و ليرجعن بقومه عن طاعة أبي زيان و ليفرقن جموعه فوفى له بذلك العهد و نفس عليه المخنق و تفرقت أحزابهم و رجع أبو زيان إلى مكانه من إيالة بنى مرين و استقام أمر السلطان أبي حمو و صلحت دولته بعد الالتياث إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/169)
الخبر عن حركة السلطان أبي حمو على ثغور المغرب
كان ونزمار بن عريف متولي كبر هذه الفتن على أبي حمو و بعث الأعياص عليه واحدا بعد واحد لما كان بينهم من العداوة المتصلة كما قدمناه و كان منزله كرسيف من ثغور المغرب و كان جاره محمد بن زكراز كبير بني علي من بني ونكاسن الموطنين بجبل دبدو و كانت أيديهما عليه واحدة فلما سكن غرب الثوار عنه و أزاحهم عن وطنه إلى المغرب و انعقد سلمه معهم رأى أن يعتور هذين الأميرين في ثغورهما فاعتمل الحركة إلى المغرب فاتح سنة ست و ستين و سبعمائة و انتهى إلى دبدو و كرسيف و أجفل ونزمار و امتنع بمعاقل الجبال فانتهب أبو حمو الزروع و شمل بالتخريب و العيث سائر النواحي و قصد محمد بن زكراز أيضا في معقل دبدو فامتنع بحصنه الذي اتخذه هناك و عاج عليه أبو حمو بركابه و جاس خلال وطنه و شمل بالتخريب و العيث نواحي بلده و انكفأ راجعا إلى حضرته و قد عظمت في تخوم بني مرين و ثغورهم نكايته و ثقلت عليهم وطأته و انعقدت بينهما بعد بدء المهادنة و السلم فانصرفت عزائمه إلى بلاد إفريقية فكانت حركته إلى بجاية من العام المقبل و نكبته عليها كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/170)
الخبر عن حركة السلطان أبي حمو إلى بجاية و نكبته عليها
كان صاحب بجاية المولى الأمير أبو عبد الله لما استولى عليها و عادت إليها العودة الثانية سنة خمس و ستين و سبعمائة كما ذكرناه في أخباره زحف إلى تدلس فغلب عليها بني عبد الواد و أنزل بها عامله و حاميته ثم أظلم الجو بينه و بين صاحب قسنطينة السلطان أبي العباس بن عمه الأمير أبي عبد الله لما جرته بينهما المتاخمة في العمالات فنشأت بينهما فتن و حروب شغل بها عن حماية تدلس و ألحت عليها عسكر بني عبد الواد بالحصار و أحيط بها فأوفد رسله على السلطان أبي حمو صاحب تلمسان في المهادنة على النزول له عن تدلس فتسلمها أبو حمو و أنزل بها حاميته و عقد معه السلم و أصهر إليه في ابنته فأجابه و زفها إليه فتلقاها قبلة زواوة بآخر عملهم من حدود بجاية و فرغ صاحب بجاية لشأنه و كان أثناء الفتنة معه قد بعث إلى تونس عن أبي زيان ابن عمه السلطان أبي سعيد لينزله بتدلس و يشغل به السلطان أبا حمو عن فتنته
و كان من خبر أبي زيان هذا أنه أقام بتونس بعد مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين كما ذكرناه إلى أن دس إليه مرضى القلوب من مشيخة بني عبد الواد بتلمسان بالإجلاب على السلطان أبي حمو و وعدوه عن أنفسهم الجنوح معه فصغى إليها و اعتدها و ارتحل يريد تخوم تلمسان و عمل بجاية و مر بقسنطينة فتجافى عن الدخول إليها و تنكر لصاحبها و بلغ خبره السلطان أبا العباس صاحبها يومئذ فأجمع أمره على صده عن وجهه و حبسه بقسنطينة و اتصلت الفتنة بينه و بين بن عمه صاحب بجاية و كان شديد الوطأة على أهل بلده مرهف الحد لهم بالعقاب الشديد حتى لقد ضرب أعناق خمسين منهم قبل أن يبلغ سنتين في ملكه فاستحكمت النفرة و ساءت الملكة و عضل الداء و فزع أهل البلد إلى مداخلة السلطان أبي العباس باستنفاذهم من ملكة العسف و الهلاك بما كان أتيح له من الظهور على أميرهم فنهض إليها آخر سنة سبع و ستين و سبعمائة و برز الأمير أبو عبد الله للقائه و عسكر بنامروا الجبل المطل على تاكردت و صبحه السلطان أبو العباس بمعسكره هنالك فاستولى عليه و ركض هو فرسه ناجيا بنفسه و مرت الخيل تعادي في أثره حتى أدركوه فأحاطوا به و قتلوا قعصا بالرماح عفا الله عنه و أجاز السلطان أبو العباس إلى البلد فدخلها منتصف يوم العشرين من شعبان ولاذ الناس به من دهش الواقعة و تمسكوا بدعوته و آتوه طاعتهم فانجلت القيامة و استقام الأمر و بلغ الخبر إلى السلطان أبي حمو فأظهر الامتعاض لمهلكه و القيام بثأره و سير من ذلك حشوده في ارتقاء و نهض يجر الأمم إلى بجاية من العرب و زناتة و الحشد حتى أناخ بها و ملأت مخيماته الجهات بساحتها و جنح السلطان إلى مبارزته فتمهد به أهل البلد ولاذوا بمقامه فأسعفهم و طير البريد إلى قسنطينة فأطلق أبا زيان من الاعتقال و سوغه الملابس و المراكب و الآلة و زحف به مولاه بشير في عسكر إلى أن نزل حذاء معسكر أبي حمو و اضطربوا محلهم بسفح جبل بني عبد الجبار و شنوا الغارات على معسكر أبي حمو صباحا و مساء لما كان نمي إليهم من مرض قلوب جنده و العرب الذين معه و بدا للسلطان أبي حمو ما لم يحتسب من امتناعها و كان تقدم إليه بعض سماسرة الفتن بوعد على لسان المشيخة من أهل البلد أطمعه فيها و وثق بأن ذلك يغنيه عن الاستعداد فاستبق إليها و أغفل الحزم فبما دونها فلما امتنعت عليه انطبق الجو على معسكره و فسدت السابلة على العير للميرة و استجم الزبون في احياء معسكره بظهور العدو المساهم في الملك و تفادت رجالات العرب من سوء المغبة و سطوة السلطان فتمشوا بينهم في الانفضاض و تحينوا لذلك وقت المناوشة و كان السلطان لما كذبه وعد المشيخة أجمع قتالهم و اضطرب الفساطيط مضايقة للأسوار متسنمة وعرا من الجبل لم يرضه أهل الرأي و خرج رجل الجبل على حين غفلة فجاولوا من كان بتلك الأخبية من المقاتلة فانهزموا أمامهم و تركوها بأيديهم فمزقوها بالسيوف و عاين العرب على البعد انتهاب الفساطيط فأجفلوا و انفض المعسكر بأجمعه و حمل السلطان أبو حمو أثقاله للرحلة فأجهضوه عنها فتركها و انتهب مخلفه أجمع و تصايح الناس بهم من كل حدب و ضاقت المسالك من ورائهم و أمامهم و كظت بزحامهم و تواقعوا لجنوبهم فهلك الكثير منهم و كانت من غرائب الواقعات تحدث الناس بها زمانا و سيقت حظاياه إلى بجاية و استأثر الأمير أبو زيان منهن بحظيته الشهيرة ابنة يحيى الزابي ينسب إلى عبد المؤمن بن علي و كان أصهر فيها إلى أبيها أيام تقلبه في سبيل الاغتراب ببلاد الموحدين كما سبق و كانت أعلق بقلبه من سواها فخرجت في مغانم الأمير أبي زيان و تحرج عن مواقعتها حتى أوجده أهل الفتيا السبيل إلى ذلك لحنث زعموا وقع من السلطان أبي حمو في نسائه و خلص السلطان أبو حمو من هوة ذلك العصب بعد غصة الريق و نجا إلى الجزائر لا يكاد يرد النفس من شناعة ذلك الهول ثم خرج منها و لحق بتلمسان و اقتعد سرير ملكه و اشتدت شوكة أبي زيان ابن عمه و تغلب على القاصية و اجتمعت إليه العرب و كثر تابعه و زاحم السلطان أبا حمو بتلك الناحية الشرقية سنين تباعا نذكر الآن أخبارها إن شاء الله تعالى (7/171)
الخبر عن خروج أبي زيان بالقاصية الشرقية من بلاد حصين و تغلبه على المرية و الجزائر و مليانة و ما كان من الحروب معه
لما انهزم السلطان أبو حمو بساحة بجاية عشي يومه من أوائل ذي الحجة خاتم سنة سبع و ستين و سبعمائة قرع الأمير أبو زيان طبوله و اتبع أثره و انتهى إلى بلاد حصين من زغبة و كانوا سائمين من الهضيمة و العسف إذا كانت الدول تجريهم مجرى الرعايا المعتدة في المغرم و تعدل بهم عن سبيل إخوانهم من زغبة أمامهم و وراءهم لبغية الغزو فبايعوه على الموت الأحمر و وقفوا بمعتصم من جبل تيطري إلى أن دهمتهم عساكر السلطان ثم أجلبوا على المرية و كان بها عسكر ضخم للسلطان أبي حمو لنظر وزرائه : عمران بن موسى بن يوسف و موسى بن برغوث و وادفل بن عبو بن حماد و نازلوهم أياما لهم غلبوهم على البلد و ملكها الأمير أبو زيان و من على الوزراء و مشيخة بني عبد الواد و ترك سبيلهم إلى سلطانهم و سلك سبيلهم الثعالبة في التجافي عن ذل المغرم فأعطوه يد الطاعة و الانقياد للأمير أبي زيان و كانت في نفوس أهل الجزائر نفرة من جور العمال عليهم فاستمالهم بها سالم بن إبراهيم بن نصر أمين الثعالبة إلى طاعة الأمير أبي زيان ثم دعا أبو زيان أهل مليانة إلى مثلها فأجابوه و اعتمل السلطان أبو حمو نظره في الحركة الحاسمة لدائهم فبعث في العرب و بذل المال و أقطع البلاد على أشطاط منهم في الطلب و تحرك إلى بلاد توجين و نزل قلعة بني سلامة سنة ثمان و ستين و سبعمائة يحاول طاعة أبي بكر بن عريف أمير سويد فلم يلبث عنه خالد بن عامر و لحق بأبي بكر بن عريف و اجتمعا على الخلاف عليه و نقض طاعته و شنوا الغارة على معسكره فاضطرب و أجفلوا و انتهبت محلاته و أثقاله و رجع إلى تلمسان ثم نهض إلى مليانة فافتتحها و بعث إلى رياح على حين صاغية إليه من يعقوب بن علي بن أحمد و عثمان بن يوسف بن سليمان بن علي أميري الزواودة لما كان وقع بينهما و بين السلطان مولانا أبي العباس من النفرة فاستنظره للحركة على الأمير أبي زيان و بعدها إلى بجاية و ضمنوا له طاعة البدو من رياح و بعثوا إليه رهنهم على ذلك فردها وثوقا بهم و نهض من تلمسان و قد اجتمع إليه الكثير من عرب زغبة و لم يزل أولاد عريف بن يحيى و خالد بن عامر في أحيائهما منحرفين عنه بالصحراء و صمم إليهم فأجفلوا أمامه و قصد المخالفين من حصين و الأمير أبا زيان إلى معتصمهم بجبل تيطري و أغذ إليه السير يعقوب بن علي و عثمان بن يوسف بمن معهم من جموع رياح حتى نزلوا بالقلعة حذاءهم و بدر أولاد عريف و خالد بن عامر إلى الزواودة ليشردوهم عن البلاد قبل أن تتصل يد السلطان بيدهم فصبحوهم يوم الخميس أخريات ذي القعدة من سنة تسع و ستين و سبعمائة و دارت بينهم حرب شديدة و أجفلت الزواودة أولا ثم كان الظهور لهم آخرا و قتل في المعركة من زغبة عدد و يئسوا من صدهم عما جاؤا إليه فانعطفوا إلى حصين و الأمير أبي زيان و صعدوا إليهم بناجعتهم و صاروا لهم مددا على السلطان أبي حمو و شنوا الغارة على معسكره فصمدوا نحوه و صدقوه القتال فاختل مصافه و انهزمت عساكره و نجا بنفسه إلى تلمسان على طريق الصحراء و أجفل الزواودة إلى وطنهم و تحيز كافة العرب من زغبة إلى الأمير أبي زيان و اتبع آثار المنهزمين و نزل بسيرات و خرج السلطان أبو حمو في قومه و من بقي معه من بني عامر و تقدم خالد إلى مصادمته ففله السلطان و أجفل القوم من ورائه ثم تلطف في مراسلته و بذل المال له و أوسع له في الاشتراط فنزع إليه و التبس بخدمته و رجع الأمير أبو زيان إلى أوليائه من حصين متمسكا بولاية أولاد عريف ثم نزع محمد بن عريف إلى طاعة السلطان و ضمن له العدول بأخيه عن مذاهب الخلاف عليه و طال سعيه في ذلك فاتهمه السلطان و حمله خالد بن عامر عدوه على نكبته فتقبض عليه و أودعه السجن و استحكمت نفرة أخيه أبي بكر و نهض السلطان بقومه و كافة بني عامر إليه سنة سبعين و سبعمائة و استغلظ أمر أبي بكر فجمع الحرث بن أبي مالك و من وراءهم من حصين و اعتصموا بالجبال من دراك و تيطري و نزل السلطان بجموعه لعود بلاد الديالمة من الحرث فانتسفها و التعمها و حطم زروعها و نهب مداثرها و امتنع عليه أبو بكر و من معه من الحرث و حصين و الأمير أبي زيان بينهم فارتحل عنهم و عطف على بلاد أولاد عريف و قومهم من سويد فملأها عيثا و خرب قلعة ابن سلامة لما كانت أحسن أوطانهم و رجع عليهم إلى تلمسان و هو يرى إن كان قد شفا نفسه في أولاد عريف و غلبهم على أوطانهم و رجع عليهم منزلة عدوهم فكان من لحاق أبي بكر بالمغرب و حركة بني مرين ما نذكره (7/173)
الخبر عن حركة السلطان عبد العزيز على تلمسان و استيلائه عليها ونكبة أبي حمو و بني عامر بالدوس من بلاد الزاب و خروج أبي زيان من تيطري إلى أحياء رياح
لما تقبض أبو حمو على محمد بن عريف و فرق شمل قومه سويد وعاث في بلادهم أجمع رأي أخيه الأكبر الصريخ بملك المغرب فارتحل إليه بناجعته من بني مالك أجمع من أحياء سويد و الديلم و العطاف حتى احتل بسائط ملوية من تخوم المغرب و سار إلى أخيه الأكبر ونزمار بمقره من شرمرادة الذي اختصه بارجاع وادي ملوية في ظل دولة بني مرين وتحت جوارهم لما كان ملاك أمرهم بيده ومصادرهم عن آرائه خطة ورثها عن أبيه عريف بن يحيى مع السلطان أبي سعيد و ابنه أبي الحسن و ابنه أبي عناق فتقتل ملوك المغرب مذاهب سلفهم فيه وتيمنوا برأيه و استأمنوا إلى نصيحته فلما قدم عليه أخوه أبو بكر مستحفيا بملك المغرب وأخبر باعتقال أخيه الآخر محمد قدح عزائمه وأوفد أخاه أبا بكر و مشيخة قومهم من بني مالك على السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن منصرفه من افتتاح جبل هنتاتة وظفر بعامر بن محمد بن علي النازع إلى الشقاق في معتصمه فلقوه في طريقه ولقاهم مبرة و تكرمة و استصرخوه لاستنقاذ أخيهم فأجاب صريخهم ورغبوه في ملك تلمسان و ما وراءها فوافق صاغيته لذلك بما كان في نفسه من الموجدة على السلطان أبي حمو لقبوله كل من ينزع إليه من عربان المعقل أشياع الدولة وبدوها وما كان بعث إليه في ذلك وصرف عن استماعه فاعتزم على الحركة إلى تلمسان وألقى زمامه بيد ونزمار و عسكر بساحة فاس وبعث الحاشدين في الثغور و النواحي من المغرب فتواقف الحاشدون ببابه وارتحل بعد قضاء النسك من الأضحى سنة إحدى و سبعين و سبعمائة و اتصل الخبر بالسلطان أبي حمو و كان معسكرا بالبطحاء فانكفأ راجعا إلى تلمسان و بعث في أوليائه عبيد الله و الأحلاف من عرب المعقل فصمتوا عن إجابته و نزعوا إلى ملك المغرب فأجمع رأيه إلى التحيز إلى بنى عامر و أجفل غرة المحرم سنة اثنتين و سبعين و سبعمائة و احتل السلطان عبد العزيز تلمسان في يوم عاشوراء بعدها
وأشار ونزمار بن عريف بتسريح العساكر في اتباعه فسرح السلطان وزيره أبا بكر بن غازي بن السكاء حتى انتهى إلى البطحاء ثم لحق به هنالك ونزمار و قد حشد العرب كافة وأغذ السير في اتباع السلطان أبي حمو و أبي عامر وكانوا قد أبعدوا المذهب ونزلوا على الزواودة و سرح إليه السلطان يومئذ عبد العزيز يحملهم على طاعته و العدول بهم عن صحابة بني عامر و سلطانهم وسرح فرج بن عيسى بن عريف إلى حصين لاقتضاء طاعتهم واستدعاء أبي زيان إلى حضرته ونبذهم عهده و انتهيا جميعا إلى أبي زيان مقدمة أوليائه ولحق بأولاد يحيى بن علي ابن سباع من الزواودة وانتهيت أنا إليهم فخفظت عليهم الشأن في جواره لما كانت مرضاة السلطان وحذرتهم شأن أبي حمو و بني عامر و أوفدت مشيختهم على ونزمار و الوزير أبي بكر بن غازي فدلوهما على طريقه فأغذوا السير و بيتوهم بمنزلهم على الدوس آخر عمل الزاب من جانب المغرب ففضوا جموعهم و انتهبوا جميع معسكر السلطان أبي حمو بأموالهم و أمتعته و ظهره ولحق فلهم بمصاب و رجعت العساكر من هنالك فسلكت على قصور بني عامر بالصحراء قبلة جبل راشد التي منها ربا ولون ساعون إليها فانتهبوها و خربوها و عاثوا فيها و انكفؤا راجعين إلى تلمسان وفرق السلطان عماله في بلاد المغرب الأوسط من وهران و مليانة و الجزائر و المرية و جبل وانشريس واستوثق به ملكه و نزع عنه عدوه ولم يبق به يومئذ إلا ضرمة من نار الفتنة ببلاد مغراوة بوعد من ولد علي بن راشد سخط خالد في الديوان و لحق بجبل بني سعيد و اعتصم به فجهز السلطان الكتائب لحصاره وسرح وزيره عمر بن مسعود لذلك كما ذكرناه في أخبار مغراوة واحتقر شأنه وأوفدت أنا عليه يومئذ مشيخة الزواودة فأوسعهم حباء و كرامة وصدروا مملؤة حقائبهم خالصة قلوبهم منطلقة بالشكر ألسنتهم واستمر الحال إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى و الله تعالى أعلم (7/176)
الخبر عن اضطراب المغرب الأوسط و رجوع أبي زيان إلى تيطري و اجلاب أبي حمو على تلمسان ثم انهزامهما و تشريدهما على سائر النواحي
كان بنو عامر من زغبة شيعة خالصة لبني عبد الواد من أول أمرهم وخلص سويد لبني مرين كما قدمناه فكان من شأن عريف و بنيه عند السلطان أبي الحسن و بنيه ما هو معروف فلما استبيحت أحياؤهم بالدوس مع أبي حمو ذهبوا في القفر إشفاقا و يأسا من تجول بني مرين عليم لما كان ونزمار بن عريف و إخوانه من الدولة فحدبوا على سلطانهم أبي حمو يتقلبون معه في القفار ثم نزع إليهم رحو بن منصور فيمن أطاعه من قومه عبيد الله من المعقل وأجلبوا على وجدة فاضطرم النفاق على الدولة نارا وخشي حصين مغبة أمرهم من السلطان بما تسموا به من الشقاق والعناد فمدوا أيديهم إلى سلطانهم أبي زيان وأوفد مشيختهم لاستدعائه من حلة أولاد يحيى بن علي فاحتل بينهم وأجلبوا به على المرية فملكوا نواحيها وامتنع عليهم مصرها واستمر الحال على ذلك واضطرب المغرب الأوسط على السلطان وانتقضت به طاعته وسرح الجيوش والعساكر إلى قتال مغراوة وحصين فأجمع أبو حمو وبنو عامر على قصده بتلمسان حتى إذا احتلوا قريبا منها دس السلطان عبد العزيز بعض شيعته إلى خالد بن عامر و زغبة في المال والحظ منه وكان أبو حمو قد أسفه بمخالطة بعض عشيره وتعقب رأيه برأي من لم يسلم إلى خطته ولم يرتض كفاءته فجنح إلى ملك المغرب ونزع يده من عهد أبي حمو وسرح السلطان عبد العزيز عسكره إلى خالد فأوقع بأبي حمو و من كان من العرب عبيد الله و بني عامر وانتهب معسكره وأمواله و احتقبت حرمه و حظاياه إلى قصر السلطان و تقبض على مولاه عطية فمن عليه السلطان و أصاره في حاشيته و وزرائه وأصفقت زغبة على خدمة ملك المغرب وافق هذا الفتح عند السلطان فتح بلاد مغراوة وتغلب وزيره أبو بكر بن غازي على جبل بني سعيد وتقبض على حمزة بن علي بن راشد في لمة من أصحابه فضرب أعناقهم وبعث بها إلى سدة السلطان وصلب أشلاءهم بساحة مليانة معظم الفتح و اكتمل الظهور وأوعز السلطان إلى وزيره أبي بكر بن غازي بالنهوض إلى حصين فنهض إليهم وخاطبني وأنا مقيم ببسكرة قي في دعايته بأن أحتشد أولياءه من الزواودة ورياح والتقى الوزير والعساكر على حصن تيطري فنازلناه أشهرا ثم انفض جمعهم وفروا من حصنهم وتمزقوا كل ممزق وذهب أبوزيان على وجهه فلحق ببلد واركلا قبلة الزاب لبعدها عن منال الجيوش والعساكر فأجاروه وأكرموا نزله وضرب الوزير على قبائل حصين والثعالبة المغارم الثقيلة فأعطوها عن يد وجهضهم باقتضائها ودوخ قاصية الثغور ورجع إلى تلمسان عالي الكعب عزيز
السلطان ظاهر اليد وقعد له السلظان بمجلسه يوم وصوله قعودا فخما وصل فيه إليه وأوصل من صحبه من وفود العرب والقبائل فقسم فيهم بره وعنايته وقبوله على شاكلته واقتضى من أمراء العرب زغبة أبناءهم الأعزة رهنا على الطاعة وسرحهم لغزو أبي حمو بمنتبذه من تيكورارين فانطلقوا لذلك وهلك السلطان عبد العزيز لليال قلائل من مقدم وزيره وعساكره أواخر شهر ربيع الآخر من سنة أربع وسبعين وسبعمائة لمرض مزمن كان يتفادى بالكتمان والصبر من ظهوره وانكفأ بنو مرين راجعين إلى ممالكهم بالمغرب بعد أن بايعوا لولده دراجا حماسيا ولقبوه بالسعيد وجعلوا أمره إلى الوزير أبي بكر بن غازي فملك أمرهم عليهم واستمرت حاله كما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى (7/178)
الخبر عن عود السلطان أبي حمو الأخير إلى تلمسان الكرة الثالثة لبني عبد الواد في الملك
لما هلك السلطان عبد العزيز ورجع بنو مرين إلى المغرب نصبوا من آعياص بني يغمراسن لمدافعة أبي حمو من بعدهم عن تلمسان إبراهيم بن السلطان أبي تاشفين كان ناشئا بدولتهم مذهلك أبوه وتسلل من جملتهم عطية بن موسى مولى السلطان أبي حمو وخالفهم إن البلد غداة رحيلهم فقام بدعوة مولاه ودافع إبراهيم بن تاشفنن عن مرامه وبلغ الخبر أولياء السلطان أبي حمو من عرب المعقل أولاد يغمور بن عبيد الله فطيروا إليه النحيب على حين غلب عليه اليأس وأجمع الرحلة إلى بلاد السودان لما بلغه من اجتماع العرب للحركة عليه كما قلناه فأغذ السير من مطرح اغترابه وسابقه ابنه ولي عهده في قومه عبد الرحمن أبو تاشفين مع ظهيرهم عبد الله بن صغير فدخلوا البلد وتلاهم السلطان لرابعة دخولهم وعاود سلطانه واقتعد أريكته وكانت إحدى الغرائب و تقبض ساعتئذ على وزرائه و اتهمهم بمداخلة خالد بن عامر فما نقض من عهده وظاهر عليه عدوه فأودعهم السجن و ذبحهم ليومهم حنقا عليهم و استحكم لها نفرة خالد و عشيرته و حصلت ولاية أولاد عريف بن يحيى لمنافرة بنى عامر إياه وإقبال السلطان عبد العزيز عليه و وثق بمكان ونزمار كبيرهم في تسكين عادية ملوك المغرب عليه ورجع إلى تمهيد و طنه و كان بنو مرين عند انفضاضهم إلى مغربهم قد نصبوا من اقتتال مغراوة ثم بني منديل علي بن هرونبن ثابت بن منديل وبعثوه إلى شلف مزاحمة للسلطان أبي حمو ونقضا لأطراف ملكه وأجلب أبو زيان ابن عمه على بلاد حصين فكان من خبره معهما ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/179)
الخبر عن رجوع أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد إلى بلاد حصين ثم خروجه عنها
كان الأمير أبو زيان ابن السلطان أبي سعيد لما هلك السلطان عبد العزيز وبلغه الخبر بمنجاته من واركلا نهض منها إلى التلول واسف إلى الناحية التي كان منتزيا بها مساهما لأبي حمو فيها فاقتطعت لدعوته كما كانت ورجع أهلها إلى ما عرفوا من طاعته فنهض السلطان أبو حمو لتمهيد نواحيه وتثقيف أطراف ملكه ودفع الخوارج عن ممالكه وظاهره على ذلك أمير البدو من زغبة أبو بكر ومحمد ابنا عريف بن يحيى دس إليهما بذلك كبيرهما ونزمار وأخذهما بمناصحة السلطان ومخالصته فركبا من ذلك أوضح طريق وأسهل مركب ونبذ السلطان العهد إلى خالد وعشيره فضاقت عليهم الأرض ولحقوا بالمغرب لسابقة نزوعهم إلى السلطان عبد العزيز وابتدأ السلطان بما يليه فأزعج بمظاهرتهما علي بن هرون عن أرض شلف سنة خمس وسبعين وسبعماثة بعد حروب هلك في بعضها أخوه رحمون بن هرون وخلص إلى بجاية فركب منها السفن إلى المغرب ثم تخطى السلطان أبو حمو إلى ما وراء شلف وسفرمحمد بن عريف بينه وبين ابن عمه بعد أن نزع إليه الكثير من أوليائه حصين والثعالبة بما بذل لهم من الأموال وبما سئموا من طول الفتنة فشارطه على الخروج من وطنه إلى جيرانهم من رباح على أتاوة وتحمل إليه فقبل ووضع أوزار الحرب وفارق مكان ثورته وكان لمحمد بن عريف فيها أثر محمود واستألف سالم بن إبراهيم كبير الثعالبة المتغلب على بسيط متيجة وبلد الجزائر بعد أن كان خب في الفتنة وأوضع فاقتضى له من السلطان عهده من الأمان والولاية على قومه وعمله وقلد السلطان أبناءه ثغور أعماله فأنزل ابنه بالجزائر لنظر سالم بن إبراهيم من تحت استبداده وابنه أبا زبان بالمدية وانقلب السلطان إلى حضرته بتلمسان بعد أن دوخ قاصيته وثقف أطراف عمله وأصلح قلوب أوليائه واستألف شيعة عدوه فكان فتحا لاكفاء له من بعد ما خلع من ريقة الملك و نزع من شرع السلطان وانتبذ من قومه وممالكه إلى قاصية الأرض ونزل في جوار من لاينفذ أمره ولا يقوم بطاعته و الله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء ويعز من يشاء و يذل من يشاء (7/180)
الخبرعن اجلاب عبد الله بن صغير وانتقاض أبي بكر بن عريف وبيعتهما للأمير أبي زيان ورجوع أبي بكر إلى الطاعة
كانت خالد بن عامر وابن أخيه عبد الله بن صغير وسائر إخوانهم من ولد عامر بن إبراهيم قد لحقوا بالمغرب صرخى ببني مرين لما وقع بينهم وبين أبي حمو من الفعلة التي فعل خالد معه ويئس عبد الله بن صغير من صريخهم بما عقد ونزمار بن عريف من السلم بين صاحب المغرب وصاحب تلمسان فخاض القفر بمن معه من قومه ولحق بوطن زغبة وأجلب على جبل راشد وبه العمور أحلاف سويد من بني هلأل
فاعترضتهم سويد ودارت بينهم حرب شديدة كان الظهور فيها لسويد عليهم وفي خلال ذلك فسد ما بين السلطان و بين أبي بكر بن عريف بسبب صاحب جبل وانشريس يوسف بن عمر بن عثمان أراده السلطان على النزول عن عمله فغضب له أبو بكر لقديم الصداقة بين سلفهما و وصل يده بعبد الله بن صغير بعد الواقعة و دعاه إلى بيعة أبي زيان فأجابه و أوفدوا رجالاتهم عليه بمكانه من مجالات رياح فوصلوه معهم و نصبوه للأمر وتحيز محمد بن عريف إلى السلطان في جموع سويد ونهض السلطان من تلمسان سنة سبع و سبعين و سبعمائة فيمن معه من قبائل بنى عبد الواد و عرب المعقل و زغبة و دس إلى أولياء أبي زيان يرغبهم في المواعيد وحكم أبا بكر في الاشتراط عليه ففاء إلى الطاعة و المخالصه و رجع أبو زيان إلى مكانه من حلل الزواودة وأغذ السلطان السير إلى حضرته فتملى أريكته وحدث بعد ذلك ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/181)
الخبر عن وصول خالد بن عامر من المغرب و الحرب التي دارت بينة و بين سويد و أبي تاشفين هلك فيها عبد الله بن صغير و إخوانه
لما بلغ خالد بن عامر بمكانه من المغرب خبر عبد الله ابن أخيه صغير قفل من المغرب يئسا من مظاهرة بني مرين فخفق السعي في صريخه بهم لما كانوا عليه من افتراق الأمر كما ذكرناه قبل و وصل معه ساسي بن سليم في قومه بني يعقوب و تظاهر الحيان على العيث في بلاد أبي حمو و اجتمع إليهم أبناء الفتنة من كل أوب فأجلبوا على الأطراف و شنوا الغارة في البلاد و جمع أولاد عريف لحربهم قومهم من سويد و أحلافهم من العطاف وبعثوا الصريخ إلى السلطان فستر لحرب عدوه و عدوهم ابنه أبا تاشفين ولي عهده في قومه وبرز لذلك في العساكر و الجنود و لما انتهى إلى بلاد هوارة واضطرب عسكره بها أعجله صريخ أوليائه عن مناخ الركاب فاستعجل الرحلة و لحق بأوليائه أولاد عريف و من معهم من أشياع الدولة من زغبة و أغذوا السير إلى واد هناك طرفي القلعة فتلاقى الجمعان و تواقفوا للقاء سائر يومهم و استضاؤا بإضرام النيران مخافة البيات وأصبحوا على التعبية وتمشت الرجالات في مواضعة الحرب فأعجبهم مناشبة القوم وتزاحفت الصفوف و أعلم الكماة و كشفت الحرب عن ساقها وحمي الوطيس و هبت الريح المبشرة فخفقت لها رايات الأمير و هدرت طبوله و دارت رحى الحرب و صمدت إليها كتائب العرب فبرئ فيها الأبطال منهم و انكشفوا و أجلت المعركة عن عبد الله ابن صغير صريعا فأمر أبو تاشفين فاحتز رأسه وطير به البريد إلى أبيه ثم عثرت المواكب بأخيه ملوك بن صغير مع العباس ابن عمه موسى بن عامر ومحمد بن زيان من وجوه عشيرتهم متواقعين بجنودهم متضاجعين في مراقدهم كأنما أقعدوا للردى فوطأتهم سنابك الخيل و غشيهم قتام المراكب وأطلقت العساكر أعنتها في اتباع القوم فاستاقوا نعمهم و أموالهم و كثرت يومئذ الأنفال وغشيهم الليل فتستروا بجناحه ولحقهم فلهم بجبل راشد وأطرب أبو تاشفين أباه بمشتهى ظهوره و أملاه السرور بما صنع إليه على يده و ما كان له و لقومه من الأثر في مظاهرة أوليائه وطار له بها ذكر على الأيام ورجع إلى أبيه بالحضرة مملوء الحقائب بالأنفال و الجوانح و السرور و الأيام بالذكر عنه و عن قومه ومضى خالد لوجهه في فل من قومه ولحق بجبل راشد إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء إليه و الله تعالى أعلم (7/182)
الخبر عن انتقاض سالم بن إبراهيم و مظاهرته خالد بن عامر على الخلاف و بيعتهما للأمير أبي زيان ثم مهلك خالد و مراجعة سالم الطاعة و خروج أبي زيان إلى بلاد الجريد
كان سالم بن إبراهيم هذا كبير الثعالبة المتغلبين على حصن متيجة منذ انقراض مليكش و كانت الرياسة فيهم لأهل بيته حسبما ذكرناه في أخبارهم عند ذكر المعقل و لما كانت فتنة أبي زيان بعد نكبة أبي حمو على بجاية وهبت ريح العرب و استغلظ أمرهم وكان سالم هذا أول من غمس يده في تلك الفتنة و مكر بعلي بن غالب من بيوتات الجزائر كان مغربا عنها منذ تغلب بني مرين على المغرب الأوسط أيام بني عثمان ولحق بها عندما أظلم الجو بالفتنة و استحكمت نفرة أهل الجزائر عن أبي حمو فأظهر بها الاستبداد و اجتمع بها إليه الأوشاب و الطغام ونكره سالم أمير الضاحية أطمعه في الاستيلاء على الجزائر فداخل فى شأنه الملأ من أهل المدينة وحذرهم منه أنه يروم الدعوة للسلطان أبي حمو فاستشاطوا نفرة و ثاروا به حتى إذا رأى سالم أنه قد أحيط به خلصه من أيديهم و أخرجه إلى حيه وأبلغه إلى هنالك وحول دعوة الجزائر إلى الأمير أبى زيان تحت استبداده حتى إذا كان من أمر بني مرين و حلول السلطان عبد العزيز بتلمسان كما قدمناه أقام دعوتهم في الجزائر إلى حين ملكه و رجوع أبي حمو إلى تلمسان وأقبل جيش أبي زيان إلى تيطري فأقام سالم هذا دعوته في أحيائه و في بلد الجزائر خشية على نفسه من السلطان أبي حمو لما كان يعتمد عليه في الادالة من أمره بالجزائر بأمر ابن عمه ولما كان من خروج أبي زيان إلى أحياء رياح على يد محمد بن عريف ما قدمناه واقتضى سالم عهده من السلطان و ولي سالم على الجزائر أقام سالم على أمره من الاستبداد بتلك الأعمال و استضافة جبايتها لنفسه و أوعز السلطان إلى سائر عماله باستيفاء جبايتها فاستراب وبقي في أمره على المداهنة
وحدثت إثر ذلك فتنة خالد بن عامر فتربص دوائرها رجاء أن يكون الغلب له فيشغل السلطان عنه ثم بدا له ما لم يحتسب وكان الغلب للسلطان و لأوليائه وكان قد حدثت بينه و بين بني عريف عداوة خشي أن يحمل السلطان على النهوض إليه فبادر إلى الإنتقاض على أبي حمو واستقدم الأمير أبو زيان فقدم عليه وجأجأ بخالد بن عامر من المخالفين معه من العرب فوصلوا إليه أول سنة ثمان و سبعين و سبعمائة و عقد بينهم حلفا مؤكدا و أقام الدعوة للأمير أبي زيان بالجزائر ثم زحفوا إلى حصار مليانة و بها حامية السلطان فامتنعت عليهم و رجعوا إلى الجزائر فهلك خالد بن عامر على فراشه و دفن بها و ولي أمر قومه من بعده المسعود ابن أخيه صغير و نهض إليهم السلطان أبو حمو من تلمسان في قومه و أوليائه من العرب فامتنعوا بجبال حصين و ناوشتهم جيوش السلطان القتال بأسافل الجبل فغلبوهم عليها وانفضت الناجعة عنهم من الديلم و العطاف و بني عامر فلحقوا بالقفر و رأى سالم أصحابه أن قد أحيط بهم فلاذ بالطاعة و حمل عيها أصحابه و عقد
لهم السلطان من ذلك ما أرادوه على أن يفارقوا الأمير أبا زيان ففعلوا و ارتحل عنهم فلحق ببلاد المغرب ريغ ثم أجازها إلى نفطة من بلاد الجريد ثم إلى توزر فنزل على مقدمها يحيى بن يملول فأكرم نزله و أوسع قراره إلى أن كان من أمره ما نذكر
و رجع السلطان أبو حمو إلى تلمسان و في نفسه من سالم حرارة لكثرة اضطرابه ومراجعته الفتن حتى توسط فصل الشتاء و أبعدت العرب في مشاتيها فنهض من تلمسان في جيوش زناتة وأغذ السير فصبح بحصن منيجة بالغارة الشعواء وأجفلت الثعالبة فلحقوا برؤوس الجبال و امتنع سالم بجبل بني خليل وبعثوا ابنه و أولياءه إلى الجزائر فامتنعوا بها و حاصروه أياما ثم غلبوه على مكامنه فانتقل إلى بني ميسرة من جبال صنهاجة و خلف أهله و متاعه وصار الكثير من الثعالبة إلى الطاعة وابتهلوا بأمان السلطان و عهده إلى فحص متيجة و بعث هو أخاه ثانيا إلى السلطان بانتقاضه العهد و نزل من رأس ذلك الشاهق إلى ابنه أبي تاشفين فأوصله إلى السلطان إحدى ليالي العشر الأواخر من رمضان فأخفر عهده وذمة ابنه و تقبض عليه صبيحة ليلته و بعث قائده إلى الجزائر فاستولى عليها وأقام دعوته بها و أوفد عليه مشيختها فتقبض عليهم و عقد على الجزائر لوزيره موسى بن مرعوت و رجع إلى تلمسان فقضى بها عيد النحر ثم أخرج سالم بن ابراهيم من محبسه إلى خارج البلد و قتل قعصا بالرماح ونصب شلوه و أصبح مثلا للآخرين ولله البقاء
وعقد السلطان لابنه المنتصر على مليانة و أعمالها ولابنه أبي زيان على وفران وراسله ابن يملول صاحب توزر و صقره ابن قرى صاحب بسكرة و أولياؤهما من الكعوب و الزواودة لما أهمهم أمر السلطان أبي العباس وخافوه على أمصارهم فراسلوا أبا حمو يضمنون له مسالمة أبي زيان على أن يوفي لهم بما اشترط له من المال و على أن يشب نار الفتنة من قبله على بلاد الموحدين ليشغل السلطان أبا العباس عنهم على حين عجزه و ضعف الدولة عنه فأوهمهم من نفسه القدرة و أطمعهم في ذلك و ما زال يراجعهم و يراجعونه بالمقاربة و الوعد إلى أن أحيط بابن يملول و استولى السلطان على بلده فلحق ببسكرة و هلك بها لسنة من خروجه آخر سنة إحدى و ثمانين و سبعمائة و بقي ابن مزني من بعده متعللا بتلك الأماني الكاذبة إلى أن ظهر أمره و تبين عجزه فراجع طاعة السلطان أبي العباس و استقام على الموادعة و لحق الأمير أبو زيان بحضرة السلطان بتونس فنزل بها أكرم نزل مؤملا منه المظاهرة على عدوه و الحال بالمغرب الأوسط لهذا العهد على ما شرحناه مرارا من تغلب العرب على الضواحي و الكثير من الأمصار وتقلص ظل الدولة عن القاصية و ارتدادها على عقبها إلى مراكزها بسيف البحر و تضاؤل قدرتها على قدرتهم و إعطاء اليد فى مغالبتهم ببذل رغائب الأموال و إقطاع البلاد و النزول عن الكثير من الأمصار و القنوع بالتغريب بينهم إغراء بعضهم ببعض و الله ولي الأمور (7/183)
قسمة السلطان للأعمال بين ولده و ما حدث بينهم من التنافس
كان لهذا السلطان أبي حمو جماعة من الولد كبيرهم أبو تاشفين عبد الرحمن ثم بعده أربعة لأم واحدة كان لزوجها بميلة من أعمال قسنطينه أيام جولته في بلاد الموحدين كبيرهم المنتصر ثم أبو زيان محمد عمر و يلقب عميرا ثم بعد ولد كثيرون أبناء علات وكان أبو تاشفين ولي عهده وقد رفعه على الباقين و أشركه في رأيه و أوجب له الحق على وزراء دولته فكان لذلك رديفه في ملكه و مظهر سلطانه و كان مع ذلك يتعاهد أولئك الإخوة الأشقاء بحنوه و يقسم لهم من ترشيحه و النجاء في خلوته فتنغص أبو تاشفين منهم فلما استفحل أمر السلطان وانمحت من دولته آثار الخوارج أعمل نظره في قسمة الأعمال بين ولده و ترشيحهم للإمارة و البعد بهم عن أخيهم أبي تاشفين أن يصيبهم بمكروه عند إيناس الغيرة منهم فولى المنتصر كبيرهم على مليانة و أعمالها وأنفذه إليها و معه أخوه عمر الأصغر في كفالته و ولى أخاهما الأوسط أبا زيان على المرية و ما إليها من بلاد حصين و ولى ابنه يوسف ابن الزابية على تدلس و ما إليها من آخر أعماله و استقر أمرهم على ذلك ثم كان من انتفاض سالم الثعلبي بالجزائر ما قدمناه فنمي إلى السلطان أن ابنه أبا زيان داخله في الخلاف فلما فرغ من أمر سالم كما مر و طرد أبا زيان ابن عمه عن أعماله إلى الجريد أعمل نظره في نقل ابنه أبي زيان من المرية إلى ولاية وهران و أعمالها بعدا له عن العرب المجلبين في الفتن و أنزل معه بعض وزرائه عينا عليه و أقام واليا عليها و الله أعلم (7/186)
وثبة أبي تاشفين بيحيى بن خلدون كاتب أبيه
كان أول شيء حدث من منافسة أبي تاشفين لإخوته أن السلطان لما ولى ابنه أبا زيان على وهران و أعمالها طلبه أبو تاشفين في ولايتها لنفسه فأسعفه ظاهرا و عهد إلى كاتبه يحيى بن خلدون بمماطلته في كتابها حتى يرى المخلص من ذلك فأقام الكاتب يطاوله و كان في الدولة لئيم من سفلة الشرط يدعى بموسى بن يخلف صحبم أيام الاغتراب بتيكورارين أيام ملك تلمسان عليهم السلطان عبد العزيز بن السلطان أبي الحسن كما مر و خلاله وجه السلطان أبي حمو و ابنه فتقرب إليه بخدمته و رعاها له فما رجع السلطان إلى تلمسان بعد مهلك عبد العزيز قدمه و أثره و استخلصه فكان من أخلص بطانته و كان أبو تاشفين أيضا استخلصه و جعله عينا على أبيه و كان هو أيضا يغص بابن خلدون كاتب السلطان و يغار من تقدمه عنده و يغري به أبا تاشفين جهده فدس إليه أثناء هذه المطاولة أن الكاتب ابن خلدون إنما مطله بالكتاب خدمة لأبي زيان أخيه و ايثارا له عليه فاستشاط له أبو تاشفين وترصد له منصرفه من القصر إلى بيته بعد التراويح في إحدى ليالي رمضان سنة ثمانين و سبعمائة في رهط من الأوغاد كان يطوف بهم في سكك المدينة و بطرق معهم بيوت أهل السر والحشمة في سبيل الفساد فعرضوا له و طعنوه بالخناجر حتى سقط عن دابته ميتا و غدا الخبر على السلطان صبيحة تلك الليلة فقام في ركائبه و بعث الطلب عن
أولئك الرهط في جوانب المدينة ثم بلغه أن ابنه أبا تاشفين صاحب الفعلة فأغضى و طوى عليها جونحة و أقطع أبا تاشفين مدينة وهران كما وعده وبعث ابنه أبا زيان على بلاد حصين و المرية كما كان ثم طلب أبو تاشفين من أبيه أن تكون الجزائر خالصة له فأقطعه إياها و أنزل بها من إخوته يوسف ابن الزابية بما كان شيعة له من بينهم و فيئة في صحبته و مخالصته فأقام واليا عليها و الله أعلم (7/187)
حركة أبي حمو على ثغور المغرب الأوسط و دخول ابنه أبي تاشفين إلى جهات مكناسة
كان أبو العباس بن السلطان أبي سالم ملك بني مرين بالمغرب الأقصى قد نهض في عساكره سنة ثلاث و ثمانين و سبعمائة إلى مراكش و بها الأمير عبد الرحمن بن يفلوس ابن السلطان أبي علي مقاسمه في نسبه و ملكه وكان قد سوغ له مراكش و أعمالها عندما أجلب معه على البلد الجريد سنة خمس و سبعين و سبعمائة كما في أخبارهم واستقر الأمير عبد الرحمن بمراكش ثم حدثت الفتنة بينه و بين السلطان أحمد و نهض إليه من فاس فحاصره أولا و ثانيا يفرج فيهما عنه ثم نهض إليه سنة أربع و ثمانين و سبعمائة فحاصره و أخذ بمخنقه و أطال حصاره و كان يوسف بن على بن غانم أمير المعقل من العرب منتقضا على السلطان و قد بعث السلطان العساكر إلى أحيائه فهزموه و خربوا بيوته و بساتينه بسجلماسة و رجعوا و أقام هو بصحرائه منتقضا فلما جهد الحصار الأمير عبد الرحمن بمراكش بعث أبا العشائر ابن عمه منصور بن السلطان أبي علي إلى يوسف بن علي بن غانم ليجلب به على فاس و بلاد المغرب فيأخذ بحجزة السلطان عنه و ينفس من مخنقه فسار يوسف بن علي مع أبي العشائر إلى السلطان أبي حمو بتلمسان يستنجده على هذا الغرض لقدرته عليه دون العرب بما له من العساكر و الأبهة فأنجده على ذلك و قدم ابنه أبا تاشفين معهم و خرج هو في أثرهم فساروا إلى المغرب و نزل يوسف بن على بقومه مريبا من مكناسة و معه الأميران أبو العشائر و أبو تاشفين وجاء أبو حمو من خلفهم و حصر تازى سبعا و خرب قصر تازروت المعد هنالك لنزل السلطان
و كان السلطان قد استخلف على فاس في مغيبه علي بن مهدي العسكري من عمال دولته و وجوه قبيلته و كان هنالك عرب المنبأة من المعقل قد أخذوا الميرة فأهاب بهم و نزمار بن عريف ولي الدولة من عرب سويد و هو نازل بقصر مرادة من جوار تازى فاستألفهم لمدافعة أبي حمو ابنه و خرج بهم على بن مهدي ثم وصل الخبر باستيلاء السلطان على مراكش منتصف خمس و ثمانين و سبعمائة فأجفل أبو تاشفين و أبو العشائر و من معها من العرب واتبعهم على بن مهدي بمن معه من المنباة وأجفل أبو حمو على تازى و مر بمرادة على قصر ونزمار فهدمه وعاث فيه وانكفأ راجعا إلى تلمسان وفارق ابنه أبو تاشفين أصحابه أبا العشائر و العرب و لحق بأبيه إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/188)
نهوض السلطان أبي العباس صاحب المغرب إلى تلمسان و استيلاؤه عليها و اعتصام أبي حمو بجبل تاحجموت
لما استولى السلطان أبو العباس على مراكش كما قلناه رجع إلى دار ملكه بفاس وقد آسفه السلطان أبو حمو باجلائه على وطنه هو و ابنه أبو تاشفين مع العرب أيام مغيبه بمراكش فأجمع الرحلة إلى تلمسان و خرج في عساكره و راجع يوسف بن علي الطاعة و رحل معه في جموعه و بلغ الخبر إلى السلطان أبي حمو فتردد بين الحصار بتلمسان أو مفارقتها و كان بينه و بين ابن الأحمر صاحب الأندلس مواصلة و لابن الأحمر دالة على السلطان أبي العباس كما مر فكان يحفظ له الشأن في قصد تلمسان ويلبثه عنها فيعطيه المقادة في ذلك فيعلل هو السلطان أبا حمو بأن السلطان أبا العباس لا يصل إليه ثم أجمع السلطان أبو العباس أمره و نهض على حين غفلة مغذا إلى تلمسان وتقدم الخبر إلى أبي حمو فأجمع مفارقة تلمسان بعد أن أظهر لأوليه أنه و أهل دولته أنه على الحصار ثم خرج حين غشية الليل إلى معسكره بالصفيف و افتقده أهل بلده من صبيحتهم فتبادر أكثرهم إليه متعلقين بأذياله خوفا من معرة العدو ثم ارتحل يطوي المراحل إلى البطحاء و دخل السلطان أبو العباس تلمسان و استولى عليها وجهز العساكر لإتباع أبي حمو و قومه فأجفل من البطحاء و لحق بتاحجموت فاعتصم بمعقلها و لحق به ابنه المنتصر من مليانة بما كان معه من الذخيرة فاستمد بها وأقام هناك عازما على الامتناع و الله تعالى أعلم (7/189)
رجوع السلطان أبي العباس إلى المغرب و اختلال دولته و رجوع السلطان أبي حمو إلى ملكه بتلمسان
كان السلطان أبو العباس لما استولى على مملكة تلمسان طير كتبه و رسله بفتحها إلى ابن الأحمر صاحب الأندلس ويعتذر إليه من مخالفة رأيه في الحركة إليها و قد كان ابن الأحمر آسفه ذلك إلى ما انتظم إليه من النزعات الملوكية إلى يوسف بها بعضهم بعضا و هو يطوي جوانحه عليها و اطلع على فساد طاعة السلطان أبي العباس في أهل دولته و فقد ضمائرهم له فأزعج لوقته موسى ابن السلطان أبي عنان من أعياض ملكهم كان عنده بالأندلس و جهزه بما يحتاج إليه و بعث في خدمته مسعود بن رخو بن ماس إلى وزيرهم المشهور و أركبه السفن إلى سبتة فنزلوا بساحتها أول ربيع سنة ست و ثمانين و سبعمائة و استولوا عليها ثم تقدموا إلى فاس فنازلوا دار الملك أياما و بها محمد بن حسن كاتب محمد بن عنان القائم بدولة السلطان أبي العباس و المستبد عليه و اشتدوا في حصارها وتوافت إليهم الأمداد و الحشود فداخله الخور و ألقي بيده و داخل السلطان موسى إلى دار الملك تاسع عشر ربيع الأول من السنة و جلس على أريكته و آتاه الناس طاعتهم وطار الخبر إلى السلطان أبي العباس بتلمسان و قد تجهز لاتباع أبي حمو و نزل على مرحلة من تلمسان بعد أن أغراه و نزمار بن عريف أمير سويد بتخريب قصور الملك بتلمسان و كانت لا يعبر عن حسنها اختطها السلطان أبو حمو الأول و ابنه أبو تاشفين و استدعى لها الصناع و الفعلة من الأندلس لحضارتها و بداوة دولتهم يومئذ بتلمسان فبعث إليها السلطان أبو الوليد صاحب الأندلس بالمهرة و الحذاق من أهل صناعة البناء بالأندلس فاستجادوا لهم القصور و المنازل و البساتين بما أعيا على الناس بعدهم أن يأتوا بمثله فأشار ونزمار على السلطان أبي العباس بتخريب هذه القصور و أسوار تلمسان انتقاما بزعمه من أبي حمو و أخذا بالثأر منه فيما اعتمده من تخريب قصر الملك بتازى و تخريب قصره هو بمرادة فأتى عليها الخراب أسرع من لمح البصر و بينما هو في ذلك و هو يروم السفر لاتباع أبي حمو إذ جاءه الخبر بأن السلطان موسى ابن عمه السلطان أبي عنان قد استولى على دار ملكهم بفاس و اقتعد أريكتهم فكر راجعا إلى المغرب لا يلوي على شيء و ترك تلمسان لشأنها و كان من أمره ما يأتي ذكره في أخبارهم و طار الخبر إلى السلطان أبي حمو بمكانه من تاحجموت فأغذ السير إلى تلمسان و دخلها و عاد إلى ملكه بها و تفجع لتلك القصور بما ذهب من رونق حسنه و راجع بيته بني عبد الواد و سلطانهم بتلمسان و الله سبحانه و تعالى أعلم (7/190)
تجدد المنافسة بين أولاد السلطان أبي حمو و مجاهرة أبي تاشفين بذلك لهم و لأبيه
كان التنافس بين هؤلاء الأولاد خفيا على الناس بما كان السلطان أبوهم يؤامل بينهم و يداري بعضهم عن بعض فلما خرجوا أمام بني مرين و عادوا إلى تلمسان صار تنافسهم إلى العداوة واتهم أبو تاشفين أباه بممالأة إخوته عليه فشمر لعقوقه وعداوته و شعر السلطان بذلك فأعمل الحركة إلى ناحية البطحاء موريا بإصلاح العرب و معزما على لقاء ابنه المنتصر بمليانة جناحه و يتخطى إلى الجزائر فيجعلها دار ملكه بعد أن استخلف بتلمسان ابنه أبا تاشفين و حالفه على المناصحة و اطلع وموسى بن يخلف على خبيئة السلطان بذلك فدس بها إلى أبي تاشفين على عادته فطار به الأسف كل مطار وأغذ السير من تلمسان فيمن معه من العسكر وصبح أباه بأسافل البطحاء قبل أن يتصل بالمنتصر و كشف القناع عن التكبر و التسخط على ما بلغه فحلف له السلطان على ذلك و أرضاه بالرجوع معه إلى تلمسان فرجعا جميعا (7/191)
خلع السلطان أبي حمو و استبداد ابنه أبي تاشفين بالملك و اعتقاله إياه
ولما رجع السلطان من البطحاء و بطل ما كان يؤفله من الاتصال بالمنتصر دس إليه مع خالصة من أهل حولته يعرف بعلي بن عبد الرحمن بن الكليب بأحمال من المال و يودعها إلى أن يجد السبيل لحاجة نفسه وكتب له بولاية الجزائر ليقيم بها حتى يخلص إليه واطلع موصى على ذلك طلع أبا تاشفين على الخبر فبعث في أثره من خاشيته من اغتال ابن الكليب وجاء أبيه بالمال و الكتب فاطلع منها على حقيقة أمرهم و أنهم متربصون به فاستشاط و جاهر أباه و غدا عليه بالقصر فأوقفه على الكتاب و وتحيز موسى بن يخلف إلى أبي تاشفين وهجر باب السلطان وأغرى به ابنه فغدا على أييه بالقصر يعد أيام و خلعه و أسكنه بعض حجر القصر و وكل به واستخلص من معه من الأموال و الذخيرة ثم بعث به إلى قصبة وهران فاعتقله بها و اعتقل من حضر بتلمسان من إخوته و ذلك آخر ثمان و ثمانين و سبعمائة و بلغ الخبر إلى المنتصر بمليانة و أبي زيان و عمير فلحقوا بقبائل حصنين و استذموا بهم و أنزلوهم عندهم بجبل تيطري و جمع أبو تاشفين العساكر و استألف العرب من سويد و بنى عامر و خرج في طلب المنتصر و إخوته ومر بمليانة فملكها ثم تقدم إلى جبل تيطري و أقام في حصارهم به و هم ممتنعون عليه و الله تعالى أعلم (7/191)
خروج السلطان أبي حمو من الاعتقال ثم القبض عليه و تغريبه إلى المشرق
لما طال مقام أبي تاشفين على تيطري لحصار إخوته ارتاب بأمر أبيه و طول مغيبه عنه فشاور أصابه في شأنه فأشاروا بقتله و اتفقوا على ذلك فبعث أبو تاشفين ابنه أبا زيان لمة من حاشيته فيهم ابن الوزير عمران بن موسى و عبد الله ابن الخراساني فقتلوا من كان معتقلا بتلمسان من أبناء السلطان و تقدموا إلى وهران و سمع أبو حمو بقدومهم فأوجس إلى الخيفة منهم و اطلع من جدران القصبة ينادي بالصريخ في أهل البلد فتبادروا إليه من كل جهة وتدلى لهم بحبل وصله من عمامته كان متعمما بها فشالوه حتى استقر بالأرض و اجتمعوا إليه و كان الرهط الذين جاؤوا والقتلة بباب القصر وقد أغلقه دونهم فلما سمعوا الهيعة و استيقنوا الأمر طلبوا النجاة بدمائهم و اجتمع أهل البلد على السلطان وتولى كبر ذلك خطيبهم وجددوا له البيعة و ارتحل من حينه إلى تلمسان فدخلها أوائل تسع و ثمانين و سبعمائة وهي يومئذ عورة بما كان بنو مرين هدموا من أسوارها و أزالوا حصنها و بعث فيمن كان مخلفا بأحياء بني عامر من أكابرهم و وجوههم فقدموا عليه و طار الخبر إلى أبي تاشفين بمكانه من حصار تيطرى فانكفأ راجعا إلى تلمسان فيمن معه من العساكر و العرب وبادره قبل أن يستكمل أمره فأحيط به ونجا إلى مأذنة الجامع فاعتصم بها و دخل أبو تاشفين القصر و بعث فى طلبه وأخبر بمكانه فجاء إليه بنفسه واستنزله من المأذنة و أدركته الرقة فجهش بالبكاء و قبل يده و غدا به إلى القصر و اعتقله ببعض الحجر هنالك و رغب الله أبوه في تسريحه إلى المشرق لقضاء فرضه فشارط بعض تجار النصارى المترددبن إلى تلمسان من القيطلان على حمله إلى الإسكندرية و أركبه السفن معهم بأهله من فرضة وهران ذاهبا لطيبة موكلا به و أقبل أبو تاشفين على القيام بدولته و الله تعالى أعلم (7/192)
نزول السلطان أبي حمو ببجاية من السفين و استيلاؤه على تلمسان و لحاق أبي تاشفين بالمغرب
لما ركب السلطان أبو حمو السفين ذاهبا إلى الإسكندرية و فارق أعمال تلمسان و حاذى بجاية داخل صاحب السفينة في أن ينزله ببجاية فأسعفه بذلك فخرج من الطارمة التي كان بها معتقلا و صار الموكلون به في طاعته و بعث إلى محمد بن أبي مهدي قائم الأسطول ببجاية المستبد على أميرها من و لد السلطان أبي العباس بن أبي حفص و كان محمد خالصة المستنصر بن أبي حمو من ناحية دولهتم قد خلص إلى بجاية من تيطري بعدما تنفس لحصار عنهم فبعثه ابن أبي مهدي إلى السلطان أبي حمو بالإجابة إلى ما سأل و أنزله ببجاية آخر تسع و ثمانين و سبعمائة و أسكنه بستان الملك المسمى بالرفيع و طير بالخبر إلى السلطان بتونس فشكر له ما آتاه من ذلك و أمره بالاستبلاغ في تكريمه و أن يخرج عساكر بجاية في خدمته إلى حدود عمله متى احتاج إليها ثم خرج السلطان أبو حمو من بجاية و نزل متيجة و استنفر طوائف العرب من كل ناحية فاجتمعوا إليه و نهض يريد تلمسان و اعصوصب بنو عبد الواد على أبي تاشفين بما بذل فيهم من العطاء و قسم من الأموال فنابذوا السلطان أبا حمو و استصعب عليه أمرهم و خرج إلى الصحراء و خلف ابنه أبا زيان في جبال شلف مقيما لدعوته و بلغ إلى تاسة من ناحية المغرب و بلغ الخبر إلى أبي تاشفين فبعث عسكرا إلى شلف مع ابنه أبي زيان و و زيره محمد بن عبد الله ابن مسلم فتواقفوا مع أبي زيان ابن السلطان أبي حمو فهزمهم و قتل أبو زيان بن أبي تاشفين و و زيره ابن مسلم و جماعة من بني عبد الواد و كان أبو تاشفين لما بلغه و صول أبيه إلى تاسة سار إليه من تلمسان في جموعه فأجفل أبو حمو إلى و ادي صا و استجاش بالأحلاف من عرب المعقل هنالك فجاؤا لنصره و رعوا زمامه فنزلها و أقام أبو تاشفين قبالته و بلغه هنالك هزيمة ابنه و مقتله فولى منهزما إلى تلمسان و أبو حمو في اتباعه ثم سرح أبو تاشفين مولاه سعادة في طائفة من العسكر لمحاولة العرب في التخلي عن أبي حمو فانتهز فيه الفرصة و هزمه و قبض عليه و بلغ الخبر إلى أبي تاشفين بتلمسان و كان يؤمل النجاح عند سعادة فيما توجه فيه فأخفق سعيه و انفض عنه بنو عبد الواد و العرب الذين معه و خرج هاربا من تلمسان مع أوليائه من سويد إلى مشاتيهم بالصحراء و دخل السلطان أبو حمو تلمسان في رجب سنة تسعين و سبعمائة و قدم عليه أبناؤه فأقاموا معه بتلمسان فطرق المنتصر ابنه المرض فهلك بها لأيام من دخوله تلمسان و استقر الأمر على ذلك والله أعلم (7/193)
نهوض أبي تاشفين بعساكر بني مرين و مقتل السلطان أبي حمو
لما خرج أبو تاشفين من تلمسان أمام أبيه و اتصل بأحياء سويد أجمعوا رأيهم على الاستنجاد بصاحب المغرب فوفد أبو تاشفين و معه محمد بن عريف شيخ سويد على السلطان أبي العباس صاحب فاس و سلطان بني مرين صريخين على شأنهما فقبل وفادتهما و وعدهما بالنصر من عدوهما و أقام أبو تاشفين عنده ينتظر إنجاز وعده و كان بين أبي حمو و ابن الأحمر صاحب الأندلس وشيجة ود و عقيدة و صلة و لا بن الأحمر دالة و تحكم في دولة أبي العباس صاحب المغرب بما سلف من مظاهرته على أمره منذ أول دولته فبعث أبو حمو في الدفاع عنه من إجازة أبي تاشفين من المغرب إليه فلم يجبه صاحب المغرب و فاء بذمته و علله بالقعود عن نصره و ألح عليه ابن الأحمر في ذلك فتعلل بالمعاذير و كان أبو تاشفين قد عقد لأول قدومه مع وزير الدولة محمد بن يوسف بن علال حلفا اعتقد الوفاء به فكان هواه فى إنجاده و نصره من عدوه فلم يزل يفتل لسلطانه في الذروة و الغارب و يلوي عن ابن الأحمر المواعيد حتى أجابه السلطان إلى غرضه
و سرح ابنه الأمير أبا فارس و الوزير محمد بن يوسف بن علال في العساكر لمصارخة أبي تاشفين و فصلوا عن فاس أواخر إحدى و تسعين و سبعمائة و انتهوا إلى تازى و بلغ خبرهم إلى السلطان أبي حمو فخرج من تلمسان و جمع أشياعه من بني عامر والخراج بن عبيد الله و قطع جبل بني ورنيد المطل على تلمسان و أقام بالغيران من جهاته و بلغ الخبر إلى أبي تاشفين فقدم إلى تلمسان فجدد المكر و الخديعة و شيطان الفتنة و الشر موسى بن يخلف فاستولى عليها و أقام دعوة أبي تاشفين فيها فطير الخبر إلى أبي حمو ابنه عمير فصبحه بها لليلة من مسيرة فأسلمه أهل البلد
وتقبض عليه و جاء به أسيرا إلى أبيه بمكانه من الغيران فوبخه أبو حمو على فعاله ثم أذاقه أليم عقابه و نكاله و أمر به فقتل أشنع قتلة و جاءت العيون إلى أبي فارس ابن صاحب المغرب و وزيره ابن علال بمكان أبي حمو و اغرابه بالغيران فنهض الوزير ابن علال في عساكر بني مرين لغزوه و سار أمامهم سليمان بن ناجي من الأحلاف إحدى بطون المعقل يدل بهم طريق القفر حتى صبحوه و من معه من أحياء الخراج في مكان مقامتهم بالغيران و ناوشوهم القتال فلم يطيقوهم لكثرتهم و ولوا منهزمين و كبا بالسلطان أبي حمو فرسه فسقط و أدركه بعض فرسانهم و عرفه فقتله قعصا بالرماح و جاؤا برأسه إلى الوزير ابن علال و أبي تاشفين و جيء بابنه عمير أسيرا و هم أبو تاشفين أخوه بقتله فمنعوه أياما ثم أمكنوه منه فقتله و دخل أبو تاشفين تلمسان أواخر إحدى و تسعين و سبعمائة و خيم الوزير و عساكر بني مرين بظاهر البلد حتى دفع إليهم ما شارطهم عليه من المال ثم قفلوا إلى المغرب و أقام هو بتلمسان يقيم دعوة السلطان أبي العباس صاحب المغرب و يخطب له على منابره ويبعث الله بالضريبة كل سنة كما اشترط على نفسه إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/194)
مسير أبي زيان بن أبي حمو لحصار تلمسان ثم اجفاله عنها و لحاقه بصاحب المغرب
كان السلطان أبو حمو قد ولى على الجزائر ابنه أبا زيان لما عاد إلى ملكه بتلمسان و أخرج منها أبا تاشفين فلما قتل أبو حمو بالغيران كما قلناه و خرج أبو زيان من الجزائر ناجيا إلى أحياء حصين يؤمل الكرة بهم و الأخذ بثأر أبيه و أخيه فاشتملوا عليه و أجابوا صريخه ثم و فد عليه أمراء بني عامر من زغبة يدعونه لملكه فسار إليهم وقام بدعوته و طاعته شيخهم المسعود بن صغير و نهضوا جميعا إلى تلمسان في رجب سنة اثنتين و تسعين وسبعمائة فحاصروها أياما و سرب أبو تاشفين المال في العرب فافترقوا على أبي زيان و خرج إليه أبو تاشفين فهزمه في شعبان من السنة و لحق بالصحراء و استألف أحياء المعقل و عاود حصار تلمسان في شوال و بعث أبو تاشفين ابنه صريخا إلى المغرب فجاءه بمدد من العسكر و لما انتهى إلى تاوريرت أفرج أبو زيان عن تلمسان و أجفل إلى الصحراء ثم أجمع رأيه على الوفادة إلى صاحب المغرب فوفد عليه صريخا فتلقاه و بر مقدمه و وعده النصر من عدوه وأقام عنده إلى حين مهلك أبي تاشفين و الله تعالى أعلم (7/196)
و فاة أبي تاشفين و استيلاء صاحب المغرب على تلمسان
لم يزل هذا الأمير أبو تاشفين مملكا على تلمسان و مقيما فيها لدعوة صاحب المغرب أبي العباس ابن السلطان أبي سالم و مؤديا للضريبة التي فرضها عليه منذ أول ملكه و أخوه الأمير أبو زيان مقيم عند صاحب المغرب ينتظر وعده في النصر عليه حق تغير السلطان أبو العباس على أبي تاشفين في بعض النزعات الملوكية فأجاب داعي أبي زيان و جهزه بالعساكر لملك تلمسان فسار لذلك منتصف سنة خمس و تسعين و سبعمائة و انتهى إلى تازى و كان أبو تاشفين قد طرقه مرض أزمن به ثم هلك منه في رمضان من السنة و كان القائم بدولته أحمد بن العز من صنائعهم و كان يمت إليه بخؤلة فولى بعده مكانه صبيا من أبنائه و قام بكفالته و كان يوسف بن أبي حمو و هو ابن الزابية و اليا على الجزائر من قبل أبي تاشفين فلما بلغه الخبر أغذ السير مع العرب و دخل تلمسان فقتل أحمد بن العز و الصبي المكفول ابن أخيه تاشفين فلما بلغ الخبر إلى السلطان أبي العباس صاحب المغرب خرج إلى تازى و بعث من هناك ابنه أبا فارس في العساكر و رد أبا زيان بن أبي حمو إلى فاس و وكل به و سار ابنه أبو فارس إلى تلمسان فملكها و أقام فيها دعوة أبيه و تقدم وزير أبيه صالح بن حمو إلى مليانة فملكها و ما بعدها من الجزائر و تدلس إلى حدود بجاية و اعتصم يوسف ابن الزابية بحصن تاحجموت و أقام الوزير صالح يحاصره وانقرضت دعوة بني عبد الواد من المغرب الأوسط و الله غالب على أمره (7/196)
وفاة أبي العباس صاحب المغرب و استيلاء أبي زيان بن أبي حمو على تلمسان و المغرب الأوسط
كان السلطان أبو العباس بن أبي سالم لما و صل إلى تازى و بعث ابنه أبا فارس إلى تلمسان فملكها و أقام هو بتازى يشارف أحوال ابنه و وزيره صالح الذي تقدم لفتح البلاد الشرقية و كان يوسف بن على بن غانم أمير أولاد حسين من المعقل قد حج سنة ثلاث و تسعين و سبعمائة و اتصل بملك مصر من الترك الملك الظاهر برقوق وتقدمت إلى السلطان فئة و أخبرته بمحله من قومه فأكرم تلقيه و حمله بعد قضاء
حجة هدية إلى صاحب المغرب يطوقه فيها بتحف من بضائع بلده عادة الملوك
فلما قدم بها يوسف على السلطان أبي العباس عظم موقعها و جلس في مجلس جعله لعرضها و المباهاة بها و شرع في المكافأة عنها بتخير الجياد و البضائع و الثياب حتى استكمل من ذلك مارضيه و اعتزم على انفاذها مع يوسف بن علي حاملها الأول
و أنه يرسله من تازى أيام مقامته هناك فطرته هنالك مرض كان فيه حتفه في محرم سنة ست و تسعين و سبعمائة و استدعوا ابنه أبا فارس من تلمسان فبايعوه بتازى و ولوه مكانه و رجعوا به إلى فاس و أطلقوا أبا زيان بن أبي حمو من الاعتقال و بعثوا به إلى تلمسان أميرا عليها و قائما بعد السلطان أبي فارس فما فسار إليها و ملكها و كان أخوه يوسف بن الزابية قد اتصل بأحياء بني عامر يروم ملك تلمسان و الاجلاب عليها فبعث إليهم أبو زيان عندما بلغه ذلك و بذل لهم عطاء جزيلا على أن يبعثوا به إليه فأجابوه إلى ذلك و أسلموه إلى ثقات أبي زيان و ساروا به فاعترضهم بعض أحياء العرب ليستنقذوه منهم فبادروا بقتله و حملوا رأسه إلى أخيه أبي زيان فسكنت أحواله و ذهبت الفتنة بذهابه و استقامت أمور دولته و هم على ذلك لهذا العهد و الله غالب على أمره
و قد انتهى بنا القول في دولة بني عبد الواد من زناتة الثانية و بقي علينا خبر الرهط الذين تحيزوا منهم إلى بني مرين منذ أول الدولة و هم بنو كمي من فصائل علي بن القاسم إخوة طاع الله بن على و خبر بني كندور أمرائهم بمراكش فلنرجع إلى ذكر أخبارهم و بها نستوفي الكلام في أخبار بني عبد الواد و الله و ارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (7/197)
الخبر عن بني كمي احد بطون بني القاسم بن عبد الواد و كيف نزعوا إلى بني مرين و ما صار إليهم بنواحي مراكش و أرض السوس من الرياسة
قد تقدم لنا أول الكلام في بني عبد الواد أن بني كمي هؤلاء من شعوب القاسم و أنهم بنو كمي بن يمل بن يزكن بن القاسم إخوة طاع الله و بني دلول و بني معطي دلول و بني معطي بن جوهر بن علي و ذكرنا ما كان بين طاع الله و بين إخوانهم بني كمي من الفتنة و كيف قتل كندوز بن عبد الله كبير بني كمي زيان بن ثابت بن محمد كبير بني طاع الله و أن جابر بن يوسف بن محمد القاسم بالأمر من بعده ثار منهم بزيان و قتل كندوزا غيلة أو حربا و بعث برأسه إلى يغمراسن بن زيان فنصب عليها أهل بيته القدور شفاية لنفوسهم و استمر الغلب بعدها على بني كمي فلحقوا بحضرة تونس و كبيرهم إذ ذاك عبد الله بن كندوز و نزلوا على الأمير أبي زكريا حتى كان من استيلائه على تلمسان ما قدمنا ذكره و طمع عبد الله في الاستبداد بتلمسان فلم يتفق ذلك و لما هلك مولانا الأمير أبو زكريا و ولي ابنه المنتصر أقام عبد الله صدرا من دولته ثم ارتحل هو و قومه إلى المغرب و نزل على يعقوب بن عبد الحق قبل فتح مراكش فاهتز يعقوب لقدومه و أحله بالمكان الرفيع من دولته و أنزل قومه بجهات مراكش و أقطعهم البلاد التي كفتهم مهماتهم
وجعل السلطان انتجاع إبله و راحلته في أحيائهم و قدم على رعايتها حسان بن أبي سعيد الصبيحي و أخاه موسى و صلا في لفيفه من بلاد المشرق و كانا عارفين برعاية الإبل و القيام عليها و أقاموا يتقلبون في تلك البلاد و يتعدون في نجعتها إلى أرض السوس و أوفد يعقوب بن عبد الحق عبد الله بن كندوز هذا على المنتصر صاحب إفريقية سنة خمس و ستين و ستمائة مع عامر ابن أخيه إدريس كما قدمناه و التحم بنو كمي ببني مربن و أصبحوا إحدى بطونهم و هلك عبد الله بن كندوز و صارت رياستهم من بعده لابنه عمر بن عبد الله فلما نهض بوسف بن يعقوب بن عبد الحق إلى المغرب الأوسط و شغل بحصار تلمسان و تحدث الناس بما نزل بعبد الواد من بني مرين أخذت بني كمي الحمية و امتعضوا لقومهم و أجمعوا الخلاف و الخروج على السلطان و لحقوا بحاجة سنة ثلاث و سبعمائة و استولوا على بلاد السوس فخرج إليهم أخو السلطان الأمير بمراكش يعيش بن يعقوب فناجزوه الحرب بتادارت و غلبوه و استمروا على خلافهم ثم عاود محاربتهم بتامطولت سنة أربع وسبعمائة بعدها فهزمهم الهزيمة الكبرى التي قصت جناحهم و قتل عمر بن عبد الله و جماعة من كبرائهم و فروا أمامه إلى الصحراء و لحقوا بتلمسان و هدم يعيش بن يعقوب تارودنت قاعدة أرض السوس و أقام بنو كندوز بعدها بتلمسان نحوا من ستة أشهر ثم توجسوا الغدر من ولد عثمان بن يغمراسن فرجعوا إلى مراكش و اتبعهم عساكر السلطان و أبلى منهم في القتال عنهم محمد بن أبي بكر بن حمامة بن كندوز و خلصو إلى منجاتهم مشردين بصحراء السوس إلى أن هلك السلطان يوسف بن يعقوب و راجعوا طاعة الملوك بالمغرب فعفوا لهم عما سلف من هذه الجزيرة و أعادوهم إلى مكانهم من الولاية فأمحضوا النصيحة و المخالصة و كان أميرهم من بعد عمر ابنه محمد و أقام في إمارتهم سنين ثم ابنه موسى بن محمد من بعده كذلك
و استخلصه السلطان أبو الحسن أيام الفتنة بينه و بين أخيه أبي علي لعهد أبيهما السلطان أبي سعيد و من بعده فكانت له في المدافعة عن نواحي مراكش آثار و أيام ثم هلك موسى بن محمد فولى السلطان أبو الحسن مكانه ابنه يعقوب بن موسى و لما غلب على تلمسان و أصار بني عبد الواد في خوله و جنوده تمشت رجالاتهم و ساموا أشجانهم حتى إذا كانت واقعة القيروان و تواقف السلطان و بني سليم داخلهم يعقوب بن موسى في أن ينخذل عن السلطان إليهم ببني عبد الواد ومن إليهم من مغراوة و توجين و أوعدهم لذلك ثم مشى في قومه و كافة بني عبد الواد فأجابوه إلى ذلك و لحقوا جميعا ببني سليم فجروا بذلك الهزيمة على السلطان و كانت نكبة القيروان المشهورة و لحقوا بعدها بتلمسان و ولوا أمرهم في بني يغمراسن و هلك يعقوب بن موسى بإفريقية و لحق أخوه رحو بالمغرب و كان السلطان أبو عنان قد استعمل على جماعتهم و عملهم عبو بن يوسف بن عمد و هو ابن عمهم دنيا فأقام فيهم كذلك حتى هلك فولي من بعده ابنه محمد بن عبو و هم على ذلك لهذا العهد يعسكرون للأمير بمراكش و يتولون من خدمة السلطان هنالك ما لهم فيه الغناء و الكفاية فكأنهم بمعزل عن بني عبد الواد لاستحكمام العداوة بمقتل زيان بن ثابت و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين لا رب غيره و لا معبود سواه (7/200)
الخبر عن بني راشد بن محمد بن يادين و ذكر أوليتهم وتصاريف أحوالهم
و إنما قدمنا ذكرهم قبل استتمام بطون بني يادين لأنهم لم يزالوا أحلافا لبني عبد الواد ومن جملتهم فكانت أخبارهم من أخبارهم و أما راشد أبوهم فهو أخو يادين
و اختص بنوه كما قلنا ببني عبد الواد و كانت مواطنهم بالصحراء بالجبل المعروف براشد اسم أيبهم و كانت مواطن مديونة من قبائل البربر قبلة تاسالت و بنو ورنيد من بطون دمر قبلة تلمسان إلى قصر سعيد و كان جبل هوارة موطنا لبني يلوما الذين كان لهم الملك كما قدمنا ولما اضمحل أمر بني يلوما و ذهبت دولتهم زحف بنو راشد هؤلاء من بطونهم بجبل راشد إلى بسائط مديونة و بني ورنيد فشنوا عليهم الغارات و طالت بينهم الحرب إلى أن غلبوهم على مواطنهم و ألجؤهم إلى الأوعار فاستوطن بنو ورنيد الجبل المطل على تلمسان و استوطن مديونة جبل تاسالت و ملك بنو راشد بسائطهم القبلية ثم استوطنوا جبلهم المعروف بهم لهذا العهد و هو بلد بني يفرن الذين كانوا ملوك تلمسان لأول الإسلام و كان منهم أبو قرة الصفري كما قدمناه
وكان منهم بعد ذلك يعلى بن محمد الأمير الذي قتله جوهر الصقل قائد الشيعة كما ذكرناه في أخبارهم و يعلى هذا هو الذي اختط بهذا الجبل مدينة ايفكان التي هدمها جوهر يوم قتله فلما ملك بنو راشد هذا الجبل استوطنوه و صار حصنا لهم و مجالاتهم في ساحة القبلة إلى أن غلبهم العرب عليها لهذا العهد و ألجؤهم إلى الجبل
و كان غلب بني راشد على هذه الأوطان بين دخول بني عبد الواد إلى المغرب الأوسط و كانوا شيعة لهم و أحلافا في فتنتهم مع بني توجين و بني مرين وكانت رياستهم في بيت منهم يعرفون ببني عمران و كان القائم بها لأول دخولهم إبراهيم بن عمران و استبد عليه إخوه وترمار و قام بأمرهم إلى أن هلك فولى ابنه مقاتل بن وترمار و قتل عمه إبراهيم و افترقت رياسة بني عمران من يومئذ بين بني إبراهيم و بني وترمار إلا أن رياسة بني ابراهيم أظهر فولي بعد إبراهيم بن عمران ابنه وترمار و كان معاصرا ليغمراسن بن زيان و طال عمره و لما هلك لتسعين من المائة السابعة و لي أمرهم غانم ابن أخيه محمد بن إبراهيم ثم كان فيهم من بعده موسى بن يحيى بن وترمار لا أدري معاقبا لغانم أو توسطهما أحد و لما زحف بنو مرين إلى تلمسان آخر زحفهم صار بنو راشد هؤلاء إلى طاعة السلطان أبي الحسن و شيخهم لذلك العهد أبو يحيى موسى بن عبد الرحمن بن و ترمار بن إبراهيم و انحصر بتلمسان بنو عمه كرجون بن وترمار و انقرض أمر بني عبد الواد و أشياعهم و نقل بنو مرين رؤوس زناتة أجمع إلى المغرب الأقصى فكان بنو وترمار هؤلاء ممن صار إلى المغرب و أوطنوه إلى أن صار الأمر لبني عبد الواد الكرة الثالثة على يد أبي حمو الأخير موسى بن يوسف و كان شيخ بني راشد لعهده ابن أبي يحيى بن موسى المذكور أقبل إليهم من المغرب من إيالة بني مرين فاتهمه أبوحمو بمداخلتهم فتقبض عليه و اعتقله مدة بوهران و فر من معتقله فلحق بالمغرب و ارتحل بين أحيائهم مدة ثم رجع إلى الطاعة و اقتضى العهد من السلطان أبي حمو و ولاه على قومه ثم تقبض عليه و اعتقله إلى أن قتله بمحبسه سنة ثمان و ستين و سبعمائة و انقرض أمر بني وترمار بن إبراهيم و أما بنو وترمار بن عمران فقام بأمرهم بعد مقاتل بن وترمار أخوه أبو زركن بن وترمار ثم ابنه يوسف بن أبي زركن ثم آخرون من بعدهم لم تحضرني أسماؤهم إلى أن غلب عليهم بنو وترمار بن إبراهيم و قد ذهبت لهذا العهد رياسة أولاد عمران جميعا و صار بنو راشد هؤلاء خولا للسلطان و جباية و بقيتهم بجبلهم على الحال التي ذكرناها و الله و ارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (7/203)
الخبر عن بني توجين من شعوب بني يادين من أهل هذه الطبقة الثالثة من زناتة و ما كان لهم من الدولة و السلطان بالمغرب الأوسط و أولية ذلك و مصايره
كان هذا الحي من أعظم أحياء بني يادين و أوفرهم عددا و كانت مواطنهم حفافي وادي شلف قبلة جبل وانشريس من أرض السرسو و هو المسمى لهذا العهد نهر صا و كان بأرض السرسو بجهه الغرب منه بطون من لواتة و غلبهم علها بنو وجديجن و مطماطة ثم صارت أرض السرسو لبني توجين هؤلاء و استضافوها إلى مواطنهم الأولى و صارت مواطنهم ما بين موطن بني راشد و جبل دراك في جانب القبلة و كانت لهم رياسة أيام صنهاجة لعطية بن دافلتن و ابن عمه لقمان بن المعتز كما ذكره ابن الرقيق و لما كانت فتنة حماد بن بلكين مع عمه باديس و نهض إليهم باديس من القيروان حتى احتل بوادي شلف تحيز إليهم بنو توجين هؤلاء و كان لهم في حروب حماد آثار مذكورة و كان لقمان بن المعتز أظهر من عطية بن دافلتن و كان قومهم يومئذ زهاء ثلاثة آلاف و أوفد لقمان ابنه بدرا على باديس قبل اللقاء طاعة له وانحياشا فلما انهزم حماد رعى لهم باديس انحياشهم إليه و سوغ لهم ما غنموه وعقد للقمان على قومه و مواطنه و على ما يفتحه من البلاد بدعوته ثم أنفرد برياستهم بعد حين بنو دافلتن و يقال إنه دافلتن بن أبي بكر بن الغلب و كانت رياستهم لعهد الموحدين لعطية بن مناد بن العباس بن دافلتن و كان يلقب عطية الحيو
و كانت بينهم لهده و بين بني عبد الواد حروب كان متولي كبرها من بني عبد الواد شيخهم لذلك العهد عدوى بن يكنيجن بن القاسم فلم تزل تلك الفتنة بينهم إلى أن غلبهم بنو عبد الواد أخرا على مواطنهم كما نذكره
و لما هلك عطية الحيو قام بأمرهم أبو العباس و كانت له آثار في الإجلاب على ضواحي المغرب الأوسط و نقض طاعة الموحدين إلى أن هلك سنة سبع و ستمائة دس عامل تلمسان يومئذ أبو زيد بن لوحان من اغتاله فقتله و قام بأمرهم من بعده ابنه عبد القوي فانفرد برياستهم و توارثها عقبه من بعده كما نذكره و كان من أشهر بطون بني توجين هؤلاء يومئذ بنو يدللتن و بنو قمري و بنو مادون و بنو زنداك و بنو وسيل و بنو قاضي و بنو مامت و يجمع هؤلاء الستة بنو مدن ثم بنو تيغرين و بنو يرناتن و بنو منكوش و يجمع هؤلاء الثلاثة بنو سرغين و نسب بني زنداك دخيل فيهم و إنما هم من بطون مغراوة و بنو منكوش هؤلاء منهم عبد القوي بن العباس ابن عطية الحيو هكذا رأيت نسبه لبعض مؤرخي زناتة المنكوشي و كانت رياسة بني توجين جميعا عند انقراض أمر بني عبد المؤمن لعبد القوي بن العباس بن عطية الحيو و أحياؤهم جميعا بتلك المجالات القبلية
فلما و هن أمر بني عبد المؤمن و تغلب مغراوة على بسائط متيجة ثم على جبل وانشريس نازعهم عبد القوي هذا و قومه أمر و انشريس و غالبوهم إلى أن غلبوهم عليه و استقر في ملكهم و أوطنه بنو تيغرين و بنو منكوش من أحيائهم ثم تغلبوا على منداس و أوطنها أحياء بني مدن جميعا و كان الظهور منهم لبني يدللتن و رياسة بني يدللتن لبني سلامة و بقي بنو يرناتن من بطونهم بمواطنهم الأولى قبلة و انشريس و كان من أحلاف بني عطية الحيو بنو تيغرين منهم خاصة و أولاد عزيز بن يعقوب ويعرفون جميعا بالوزراء و لما تغلبوا على الأوطان و التلول و أزاحوا مغراوة عن المدية و وانشريس و تافركينت و استأثروا بملكها و ملك الأوطان عن غربيها مثل :
منداس و الجعبات و تاوغزوت و رئيسهم لذلك العهد عبد القوي بن العباس و الكل لأمره فصار له ملك بدوي و لم يفارق فيه سكنى الخيام و لا أبعاد النجعة و لا ائتلاف الرحلتين ينتابون في مشاتيهم إلى مصاب و الزاب و ينزلون في المصايف بلادهم هذه من التل و لم يزل هذا شأن عبد القوي و ابنه محمدا إلى أن تنازع بنوه الأمر من بعده و قتل بعضهم بعضا و تغلب بنو عبد الواد على عامة أوطانهم و أحيائهم و استبد عليهم بنو يرناتن و بنو يدللتن فصاروا إلى بنى عبد الواد و بقي أعقابهم بجبل و انشريس إلى أن انقرضوا على ما نذكره بعد
و كان عبد القوي لما غلب مغراوة على جبل و انشريس اختط حصن مرات بعد أن كان منديل المغراوي شرع في اختطاطه فبنى منه القصبة و لم يكلمه فأكمله محمد بن عبد القوي من بعده و لما استبد بنو أبي حفص بأمر إفريقية و صارت لهم خلافة الموحدين نهض الأمير أبو زكريا إلى المغرب الأوسط و دخلت في طاعته قبائل صنهاجة و فرت زناتة أمامه و ردد إليهم الغزو فأصاب منهم و تقبض في بعض غزواته على عبد القوي بن العباس أمير بني توجين فاعتقله بالحضرة ثم من عليه وأطلقه على أن يستألف له قومه فصاروا شيعة له و لقومه آخر الدهر و نهض الأمير أبو زكريا بعدها إلى تلمسان فكان عبد القوي و قومه في جملته حتى إذا ملك تلمسان و رجع إلى الحضرة عقد لعبد القوي هذا على قومه و وطنه و أذن له في اتخاذ الآلة فكانت أول مراسم الملك لبني توجين هؤلاء و كانت حالهم مع بني عبد الواد تختلف في السلم و الحروب و لما هلك السعيد عل يد يغمراسن و قومه كما ذكرناه استنفر يغمراسن سائر أحياء زناتة لغزو المغرب و مسابقة بني مرين إليه فنفر معه عبد القوي في قومه سنة سبع و أربعين و ستمائة و انتهوا إلى تازى و اعترضهم أبو يحيى ين عيد الحق أمير بني مرين في قومه فنكصوا و اتبعهم إلى انكاد فكان اللقاء و انكشفت جموع بني يادين و كانت الهزيمة التي ذكرناها في أخبار بني عبد الواد و هلك عبد القوي مرجعه منها في سنته بالموضع المعروف باحمون من مواطنهم و تصدي للقيام بعده بأمرهم ابنه يوسف فمكث في تلك الإمارة أسبوعا ثم قتله على جدث أبيه أخوه محمد بن عبد القوى و ولي عهد أبيه سابع مواراته و فر ابنه صالح بن يوسف إلى بلاد صنهاجة بجبال المدية فأقام بها هو و بنوه و استقل محمد برياسة بني توجين و استغلظ ملكه و كان الفحل الذي لا يقرع أنفه و نازعه يغمراسن أمره و نهض إلى حربه سنة تسع و أربعين و ستمائة و عمد إلى حصن تافركينت فنازله يه يومئذ حاقده علي بن زيان بن محمد في عصابة من قومه فحاصره أياما و امتنعت عليه فارتحل عنها ثم تواضعوا أوزار الحرب و دعاه يغمراسن إلى مثل ما دعا إليه أباه من غزو بني مرين في بلادهم فأجاب و نهضوا سنة سبع و خمسين و ستمائة و معهم مغراوة فانتهوا إلى كلدمان ما بين تازى و أرض الريف و لقيهم يعقوب بن عبد الحق في جموعه فانكشفوا و رجعوا منهزمين إلى بلادهم كما ذكرناه و كانت بينه و بين يغمراسن بعد ذلك فتن و حروب فنازله فما بجبل و انشريس مرات و جاس خلال وطنه و لم يقع بعدها بينهما مراجعة لاستبداد يغمراسن بالملك و سموه إلى التغلب على زناتة أجمع و بلادهم و كانوا جميعا منحاشين إلى الدولة الحفصية و كان عمد بن عبد القوي كثير الطاعة للسلطان المستنصر
و لما نزل النصارى الإفرنجة بساحل تونس سنة ثمان و ستين و ستمائة و طمعوا في ملك الحضرة بعث المستنصر إلى ملوك زناتة بالصريخ فصرفوا و جوههم إليه و خف من بينهم محمد بن عيد القوي في قومه و من احتشد من أهل وطنه و نزل على السلطان بتونس و أبلى في جهاد العدو أحسن البلاء و كانت له في أيامه معهم مقام مذكورة و مواقف مشهورة و عند الله محتسبة معدودة و لما ارتحل العدو عن الحضرة وأخذ محمد بن عبد القوي في الانصراف إلى وطنه أسنى السلطان جائزته و عم بالإحسان وجوه قومه و عساكره و أقطعه بلاد مغراوة و أوماش من وطن الزاب و أحسن منقلبه و لم يزل بعد ذلك معتقلا بطاعته مستظهرا على عدوه بالانحياش إليه و لما استغلظ بنو مرين على يغمراسن بعد استيلائهم على أمصار المغرب واستبدادهم بملكه و صل محمد يده بهم في الاستظهار على يغمراسن و أوفد ابنه زيان بن محمد عليهم
و لما نهض يعقوب بن عبد الحق إلى تلمسان سنة سبعين و ستمائة و أوقع بيغمراسن في الوقيعة التي هلك فيها ابنه فارس نهض محمد بن عبد القوي للقائه و مر في طريقه بالبطحاء و هي يومئذ ثغر لأعمال يغمراسن فهدمها و لقي يعقوب بن عبد الحق في ساحة تلمسان مباهيا بآلته فأكرم يعقوب وفادته و بر مقدمه و نازلوها أياما فامتنعت عليهم و أجمعوا على الإفراج و تأذن لهم يعقوب بن عبد الحق متلوما عليها إلى أن يلحق محمد و قومه ببلادهم حذرا عليهم من غائلة يغمراسن ففعل و ملأ حقائبهم باتحافه و جنب لهم مائة من الجياد العتاق بالمراكب الثقيلة و أراح عليهم ألف ناقة حلوب و عمهم بالصلات و الخلع الفاخرة و استكثر لهم من السلاح و الفازات والأخبية و الحملان و ارتحلوا و لحق محمد بن عبد القوي بمكانه من جبل و انشريس و اتصلت حروبه مع يغمراسن و كثر اجلابه على وطنه و عيثه في بلاده و هو مع ذلك مقيم كل موالاة يعقوب و اتحافه بالعتاق من الخيل و المستجاد من الطرف حتى أن يعقوب إذا اشترط على يغمراسن في مهادنته جعل سلمهم من سلمه و حربهم من حربه و بسببهم كان نهوض يعقوب بن عبد الحق سنة ثمانين و ستمائة لما اشترط عليه ذلك ولج في قبوله فنهض إليه و أوقع به بخرزوزة ثم أناخ عليه بتلمسان و وافاه هنالك محمد بن عبد القوي فلقيه بالقصاب و عاثوا في نواحي تلمسان نهبا وتخريبا لمم أذن يعقوب لمحمد و قومه في الانطلاق إلى بلادهم و تلوم هو بمكانه من ضواحي تلمسان مدة منجاتهم إلى مكانهم من وانشريس حذرا عليهم من اعتراض يغمراسن و لم يزل شأنهما ذلك أن هلك يغمراسن بسد لونة من بلاد مغراوة خاتمة إحدى و ثمانين و ستمائة و في خلال ذلك استغاظ بنو مرين على بني عبد الواد واستوسق لمحمد هذا ملكه فتغلب على أوطان صنهاجة بجبال المدية و أخرج الثعالبة من جبل تيطري بعد أن غدر بمشيختهم و قتلهم فانزاحوا عنه إلى بسائط متيجة و أوطنوها و استولى عمد على حصن المدية و هو المسمى بأهله لمدية ( بفتح اللام و الميم و كسر الدال و تشديد الياء بعدها و هاء النسب في آخرها ) و هم بطن من بطون صنهاجة و كان المختط لها بلكين بن زيري و لما استولى محمد عليها و على ضواحيها انزل أولاد عزيز بن يعقوب من حشمه بها و جعلها لهم موطنا و ولاية و فر بنو صالح ابن أخيه يوسف بن عبد القوي من مكانهم بين صنهاجة منذ مقتل أبيه يوسف كما ذكرناه و لحقوا ببلاد الموحدين بأفريقية فلقوهم مبرة و تكريما و أقطعوا لهم بضواحي قسنطينة و كانوا يقولون عليهم أيام حروبهم و في مواطن قتالهم وكان من أظهرهم عمر بن صالح و ابناه صالح و يحيى بن عمر و حافده يحيى بن صالح بن عمر في آخرين مشاهير
و أعقابهم لهذا العهد بنواحي قسنطينة و في إيالة الملوك من آل أبي حفص يعسكرون معهم في غزواتهم و يبلون في حروبهم و يقومون بوظائف خدمتهم و كان الوالي من أولاد عزيز على المدية حسن بن يعقوب و بنوه من بعده يوسف و علي و كانت مواطنهم ما بين المدية و موطنهم الأول ماخنون و كان بنو يدللتن أيضا من بني توجين قد استولوا على حصن الجعبات و قلعة تاوغزوت و نزل القلعة كبيرهم سلامة بن علي
مقيما على طاعة محمد بن عبد القوي و قومه فاتصل ملك محمد بن عبد القوى في ضواحي المغرب الأوسط ما بين مواطن بني راشد إلى جبال صنهاجة بنواحي المدية وما في قبلة ذلك من بلاد السرسو و جباله إلى أرض الزاب و كان يبعد الرحلة في مشتاه فينزل الروسن و مغرة و المسيلة و لم يزل دأبه ذلك و لما هلك يغمراسن سنة إحدى و ثمانين و ستمائة كما ذكرناه استجدت الفتنة بين عثمان ابنه و بين محمد بن عبد القوي على أثر ذلك سنة أربع و ثمانين و ستمائة و ولي من بعده ابنه سيد الناس فلم تطل مدة ملكه و قتله أخوه موسى لسنة أو نحوها من بعده مهلك أبيه و قام موسى بن محمد في إمارة بني توجين نحوا من عامين و كان أهل مرات من أشد أهل وطنه شوكة وأقواهم غائلة فحدثته نفسه أن يستلحم مشيختهم و يريح نفسه من محاذرتم فأجمع لذلك و نزلها و نذروا بشأنه و رأيه فهم فاستماتوا جميعا و ثاروا به فقاتلهم ثم انهزم مثخنا بالجراحة و ألجأوه إلى مهاوي الحصن فتردى منها و هلك و ولي من بعده عمر ابن أخيه اسمعيل بن محمد مدة أربعة أعوام ثم غدر به أولاد عمه زيان بن محمد فقتلوه و ولوا كبيرهم إبراهيم بن زيان و كان حسن الولاية عليهم يقال : ما ولي بعد محمد فيهم مثله و في خلال هذه الولايات استغلظ عليهم بنو عبد الواد و اشتدت وطأة عثمان بن يغمراسن عليهم بعد مهلك أبيهم محمد فنهض إليهم سنة ست و ثمانين
وستمائة و حاصرهم بجبل و انشريس و عاث في أوطانهم و نقل زروعها إلى مازونة حين غلب عليها مغراوة ثم نازل حصن تافركينت و ملكها بمداخلة القائد بها غالب الخصي مولى سيد الناس بن محمد و قفل إلى تلمسان ثم نهض إلى أولاد سلامة بقلعة تاوغزوت و امتنعوا عليه مرارا ثم أعطوه اليد على الطاعة و مفارقة بني محمد بن عبد القوي فنبذوا لهم العهد و صاروا إلى إيالة عثمان بن يغمراسن و فرضوا لهم المغارم على بني يدللتن و سلك عثمان بن يغمراسن مسلك التضريب بين قبائل بني توجين و تحريضهم على إبراهيم بن زيان أميرهم فعدا عليه زكرار بن أعجمي شيخ بنى مادون و قتله بالبطحاء في إحدى غزواته لسبعة أشهر من ملكه و ولي بعده موسى بن زرارة بن محمد بن عبد القوي بايع له بنو تيغرين و اختلف سائر بني توجين فأقام بعض سنة و عثمان بن يغمراسن في خلال هذا يستألف بني توجين شعبا فشعبا إلى أن نهض إلى جبل و انشريس فملكه و فر أمامه موسى بن زرارة إلى نواحي المدية و هلك في مفره ذلك ثم نهض عثمان إلى المدية سنة ثمان و ثمانين و ستمائة بعدها فملكها بمداخلة المدية من قبائل صنهاجة غدروا بأولاد عزيز و أمكنوه منها ثم انتقضوا عليه لسبعة أشهر و رجعوا إلى إيالة أولاد عزيز فصالحوا عثمان بن يوسف على الأتاوة و الطاعة كما كانوا مع محمد بن عبد القوي و بنيه فملك عثمان بن يغمراسن عامة بلاد توجين ثم شغل بما دهمه من مطالبة بنى مرين أيام يوسف بن يعقوب فولى على بني توجين من بني محمد بن عبد القوي أبو بكر بن إبراهيم بن محمد مدة عامين أخاف فيها الناس و أساء السيرة ثم هلك فنصب بنو تيغرين بعده أخاه عطية المعروف بالأصم و خالفهم أولاد عزيز و جميع قبائل توجين فبايعوا ليوسف ابن زيان بن محمد و زحفوا إلى جبل و انشريس فحاصروا به عطية و بني تيغرين عاما أو يزيد و كان يحيى بن عطية كبير بني تيغرين هو الذي تولى البيعة لعطية الأصم
فلما اشتد بهم الحصار و استفحل ملك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان ورغبه في ملك جبل و انشريس فبعث معه الجيوش لنظر أخيه أبي سرحان ثم أخيه أبي يحيى و كان نهوض أبي يحيى سنة إحدى و سبعمائة فتوغل في ناحية الشرق و لما رجع صمد إلى جبل و انشريس فهدم حصونه و قفل و نهض ثانية إلى بلاد بني توجين فشردهم عنها و أطاعه أهل تافركينت ثم انتهى إلى المدية فافتتحها صلحا و اختط قصبتها و رجع إلى أخيه يوسف بن يعقوب فانتقض أهل تافركينت بعد صدوره عنهم ثم راجع بنو عبد القوي بصائرهم فى التمسك بالطاعة و وفدوا على يوسف بن يعقوب فتقبل طاعتهم و أعادهم إلى بلادهم و أقطعهم و ولى عليهم علي بن الناصر بن عبد القوي و جعل و زارته ليحيى بن عطية فغلبه على دولته و استقام ملكه و هلك خلال ذلك فعقد يوسف بن بن يعقوب مكانه لمحمد بن عطية الأصم و استقام على طاعته و قتا ثم انتقض بين يدي مهلكه سنة ست و سبعمائة وحمل قومه على الخلاف و لما هلك يوسف بن يعقوب و تجافى بنو مرين من بعدها لبني يغمراسن عن جميع الأمصار التي تملكوها بالمغرب الأوسط استمكن بنو يغمراسن منها و دفعوا المتغلبين عنها و لحق الفل من أولاد عبد القوي ببلاد الموحدين فحلوا من دولتهم محل الإيثار والتكرمة و كان للعباس بن محمد بن عبد القوي مع الملوك من آل أبي حفص مقام الخلة و المصافاة إلى أن هلك و بقي عقبه في جند السلطان و لما خلا الجو من هؤلاء المرشحين تغلب على جبل و انشريس من بعدهم كبير بني تيغرين أحمد بن محمد من أعقاب يعلى بن محمد سلطان بني يفرن
فأقام يحيى بن عطية هذا في رياستهم أياما ثم هلك و قام بأمره من بعده أخوه عثمان بن عطية ثم هلك و ولي من بعده ابنه عمر بن عثمان و استقل مع قومه بجبل وانشريس و استقل أولاد عزيز بالمدية و نواحيها و رياستهم ليوسف و علي ابني حسن ابن يعقوب و الكل في طاعة أبي حمو سلطان بني عبد الواد لما غلبهم على أمرهم و انتزع الرياسة من بني عبد القوي أمرائهم إلى أن خرج على السلطان أبي حمو ابن عمه يوسف بن يغمراسن و لحق بأولاد عزيز فبايعوه و داخلوا في كشانة عمر بن عثمان كبير بني تيغرين و صاحب جبل و انشريس فأجابهم و أصفق معهم سائر الأعشار ويكوشة و بنو يرناتن و زحفوا مع محمد بن يوسف إلى السلطان أبي حمو في عسكره بتهل ففضوه و كان من شأن فتنته معهم ما ذكرناه في أخبار بني عبد الواد إلى أن هلك السلطان أبو حمو و ولي ابنه أبو تاشفين فنهض إليهم في العساكر و كان عمر بن عثمان قد لحقته الغيرة من مخالصة محمد بن يوسف لأولاد عزيز دون قومه فداخل السلطان أبا تاشفين في الإنحراف عنه فلما نزل بالجبل و لحق محمد بن يوسف بحصن توكال ليمتنع له نزع عنه عمر بن عثمان و لحق يأبي تاشفين و دله على مكامن الحصن فدلف إليه أبو تاشفين و أخذ بمخنقه و افترق عن محمد بن يوسف أولياؤه و أشياعه فتقبض عليه و قيد أسيرا إلى السلطان أبي تاشفين فقتل يين يديه قعصا بالرماح سنة تسع عشرة و سبعمائة و بعث برأسه إلى تلمسان و صلب شلوه بالحصن الذي امتنع فيه أيام انتزائه و رجع أمر وانشريس إلى عمر بن عثمان هذا وحصلت ولايته لأبي تاشفين إلى أن هلك بتلمسان قي بعض أيامهم مع بني مرين أعوام نازلها السلطان أبو الحسن كما ذكرنا في أخبار الحصار
ثم لما تغلب بنو مرين على المغرب الأوسط استعمل السلطان أبو الحسن ابنه نصر بن عمر على الجبل و كان خير و ال و فاء بالذمة و الطاعة و خلوصا في الولاية وصدقا في الانحياش إحسانا للمملكة و توفيرا للجباية و لما كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان و تطاول الأعياص من زناتة إلى استرجاع ملكهم انتزى بضواحي المدية من آل عبد القوي عدي بن يوسف بن زيان ين محمد بن عبد القوي و ناغى الخوارج في دعوتهم و اشتمل عليه ينو عزيز هؤلاء و بنو يرناتن جيرانهم و زحف إلى جبل و انشريس لينال مع الحشم من يلي أمرهم و المداخلين لعدوهم في قطع دابرهم و كبيرهم يومئذ نصر بن عمر بن عثمان و بايع نصر المسعود ابن أبي زبد بن خالد بن محمد بن عبد القوي من أعقابهم ثم خلص إليهم من جملة عدي بن يوسف حذرا على نفسه من أصحابه و قاتلهم عدي و قومه فامتنعوا عليه و دارت بينهم حروب كانت العاقبة فيها و الظهور لنصر بن عمر وقومه ثم دخل عدي في جملة السلطان أبي الحسن لما خلص من تونس إلى الجزائر و بقي مسعود بينهم و ملكه أبو سعيد بن عبد الرحمن لما ملك تلمسان هو وقومه فلم يزل هنالك إلى أن غلبهم السلطان أبو عنان فسار في جملته بعد أن فر إلى زواوة و استنزله منها و نقله إلى فاس و انقضى ملكهم و دولتهم و انقطع أثر بني محمد بن عبد القوي و أقام نصر بن عمر في ولاية جبل وانشريس و عقد له السلطان أبو عنان عليه سائر دولته و لم يزل قائما بدعوة بني مرين من بعده إلى أن غلبهم السلطان أبو حمو الأخير و هو ابن موسى بن يوسف على الأمر فأعطاه نصر الطاعة ثم اضطرمت نار الفتنة بين العرب وبين بني عبد الواد أعوام سبعين و سبعمائة و قاموا بدعوة أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عم أبي حمو فانحاش نصر بن عمر إليهم و أخذ بدعوة الأمير أبي زيان حينا ثم هلك أيام تلك الفتنة و قام بأمرهم من بعده أخوه يوسف بن عمر متقبلا مذاهبه و هو لهذا العهد و هو سنة ثلاث و ثمانين و سبعمائة صاحب جبل وانشريس وحاله مع أبي حمو مختلف في الطاعة و الخلاف و الله مالك الأمور لا رب غيره ولا معبود سواه (7/205)
الخبر عن بني سلامة أصحاب قلعة تاوغزوت رؤساء بني يدللتن من بطون توجين من هذه الطبقة الثانية وأوليتهم و مصايرهم
كان بنو يدللتن هؤلاء من شعوب بنى توجين و أشدهم شوكة و أوفرهم عددا و كان لهم ظهور من بين سائر تلك البطون و كان بنو عبد القوي ملوك بني توجين يعرفون لهم ذلك و يوجبون لهم حقه و لما دخلوا إلى التلول بعد انقراض بني يلومي و بني و مانوا نزل بنو قاض و بنو مادون بأرض منداس فأوطنوها و جاء بنو يدللتن على أثرهم فأوطنوا الجعبات و تاوغزوت و رياستهم يومئذ لنصر بن سلطان بن عيسى ثم هلك فقام بأمرهم ابنه مناد بن نصر ثم أخوه علي بن نصر من بعده ثم ابنه إبراهيم بن علي من بعده ثم هلك و قام بأمرهم أخوه سلامة بن علي على حين استفحل ملك عبد القوي و بنيه فاستفحل أمره هو في قومه و اختط القلعة بتاوغزوت المنسوبة إليه و إلى بنيه و كانت من قبل رباطا لبعض المنقطعين من عرب سويد و يزعم بنو سلامة هؤلاء أنهم دخلاء في نسب توجين و أنهم من العرب من بني سليم بن منصور و جاء جدهم عيسى أو سلطان نازعا عن قومه لدم أصابه فيهم فخلطه شيخ بني يدللتن من بني توجين بنسبه و كفل بنيه من بعده فكانت له سببا في رياسته على بني يدللتن و بنيه من بعده
و لما هلك سلامة بن علي قام بأمرهم من بعده ابنه يغمراسن بن سلامة على حين استغلظ بنو عبد الواد على بني توجين من بعد مهلك محمد بن عبد القوي سلطانهم الأكبر فكان عثمان بن يغمراسن يتردد إلى بلادهم بالغزو و يطيل فيها العيث و نازل في بعض غزواته قلعتهم هذه و بها يغمراسن فامتنع عليه و خالفه يوسف بن يعقوب و بنو مرين إلى تلمسان فأجفل على القلعة و سابق بني مرين إلى دار ملكه و اتبعه يغمراسن بن سلامة مغيرا في أعقابه فكر عليه بالمكان المعروف بتليوان
و دارت بينهم هناك حروب هلك فها يغمراسن بن سلامة و قام بالأمر من بعده أخو محمد بن سلامة فأذعن لطاعة عثمان بن يغمراسن و خالف بنو عبد القوي و جعل الأتاوة على قومه و وطنه لملوك بني عبد الواد فلم تزل عليهم لملوك تلمسان و لحق أخوه سعد بالمغرب و جاء في جملة السلطان يوسف بن يعقوب في غزوته التي حاصر فيها تلمسان حصاره الطويل فرعى لسعد بن سلامة هجرته إليه و ولاه على بني يدللتن و القلعة و فر أخوه محمد بن سلامة فلحق بجبل راشد و أقام هنالك إلى أن هلك يوسف بن يعقوب و رجع أمر المغرب الأوسط لبني عبد الواد فوضعوا الأتاوة على بني توجين و أصاروهم إلى الجباية و لم يزل سعد على ولايته إلى أن هلك أبو حمو وولي تاشفين فسخط سعدا و بعث عن أخيه محمد من جبل راشد فولاه مكانه
و لحق سعد بالمغرب و جاء في جملة السلطان أبي الحسن و دخل أخوه محمد مع أبي تاشفين فانحصر بتلمسان و ولي سعد بن سلامة مكانه ثم هلك محمد في بعض أيام الحصار وحروبه و لما انقرض أمر بني عبد الواد رغب سعد من السلطان تخلية سبيله لقضاء فرضه فحج و هلك مرجعه من الحج في طريقه و عهد إلى السلطان أبي الحسن و استوصاه ببنيه على لسان و ليه عريف بن يحيى كبير بني سويد فولى السلطان أبو الحسن ابنه سليمان بن سعد على بني يدللتن و القلعة و انتقض أمر السلطان أبي الحسن و عاد الأمر إلى أبي سعيد و أبي ثابت ابني عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن فكانت بينه و بينهم ولاية انحراف و كان أولياؤهم من العرب بني سويد من زغبة لما كانوا جيرانهم في مواطنهم من ناحية القبلة فطمع وترمار بن عريف شيخهم في التغلب على و طن بني يدللتن و مانعه دونه سليمان هذا و بالغ في دفاعه إلى أن ملك السلطان أبو عنان بلاد المغرب الأوسط و رعى لوترما و ابنه عريف حق انحياشهم إليه و هجرتهم إلى قومه فأقطع وترمار بن عريف القلعة و ما إليها و جباية بني يدللتن أجمع و ألحق سليمان بن سعد بن سلامة في جنده و وجوه عسكره إلى أن هلك السلطان و عاد الأمر لبني عبد الواد على يد أبي حمو الأخير فولي سليمان على القلعة و على قومه و استغلظ أمر العرب عليه فاستراب سليمان هذا و نذر بالشر منه فلحق بأولاد عريف ثم راجع الطاعة فتقبض عليه و اغتاله و ذهب دمه هدرا ثم غلبه العرب على عامة المغرب الأوسط و أقطع القلعة و بني يدللتن لأولاد عريف استئلافا لهم ثم أقطعهم بني مادون ثم منداس فأصبحت بطون بني توجين كلها خولا لسويد و عبدا لجبايتهم إلا جبل و انشريس فإنه لم يزل لبني تيغرين و الوالي عليهم يوسف بن عمر منهم كما قلناه و نظم أبو حمو أولاد سلامة في جنده و أثبتم في ديوانه و أقطعهم القصبات من نواحي تلمسان في عطائهم
و هم على ذلك لهذا العهد و لله الخلق و الأمر لا رب سواه و لا معبود إلا إياه له الحكم إليه ترجعون و هو نعم المولى و نعم النصير و هو على كل شيء قدير و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم (7/216)
الخبر عن بني يرناتن إحدى بطون توجين من هذه الطبقة الثانية و ما كان لهم من التقلب و الامارة و ذكر أوليتهم و مصايره
كان بنو يرناتن هؤلاء من أوفر قبائل بني توجين و أعزهم جانبا و أكبرهم صيتا و لما دخل بنو توجين إلى تلول المغرب الأوسط أقاموا بمواطنم الأولى ما بين واضون وزمتة ثم يعودون من القبلة يجولون جانبي نهر واصل من أعلى وادي شلف
و كانت رياستهم في نصر بن علي بن تميم بن يوسف بن بو نوال و كان شيخهم مهيب ابن نصر منهم و كان عبد القوي بن العباس و ابنه محمد أمراء بي توجين يختصونهم بالإثرة و التجلة لمكانهم من قومهم و ما يؤنسون من عظيم عنائهم و كان محمد بن عبد القوي في سلطانه يؤثر عليهم من الحشم أولاد عزيز و كان و اليهم لعهده و عهد بنيه عبو بن حسن بن عزيز و قد كان أصهر مهيب بن نصر إلى عبد القوى في ابنته فأنكحه إياها و ولدت له نصر بن مهيب فشرفت خؤلته لمحمد بن عبد القوي و علا كعبه في إمارته ثم ولي بعده ابنه على بن نصر و كان له من الولد نصر و عنتر وآخرون يعرفون بأمهم و اسمها تاسرغينت و ولي بعده ابنه نصر بن علي فطال أمد إمارته في قومه و اختلف بنو عبد القوي و غلبهم بنو عبد الواد على ما بأيديهم فصرفت ملوك زناتة وجه العناية إليه فبعد صيته و عرف بنوه من بعده بشهرته و كان ولودا فيقال : إنه خلف ثلاثة عشر من البنين ما منهم إلا صاحب حرب أو مقنب و من مشاهيرهم عمر الذي قتله السلطان أبو الحسن بمرات حين سعى به أنه داخل في اغتياله ففر و أدرك فقتل بمرات و منهم منديل الذي قتله بنو تيغرين أيام ولوا علي ابن الناصر و قتلوا معه عبو بن حسن بن عزيز و منهم عنان و مات قتيلا في حصار تلمسان أيام أبي تاشفين و منهم مسعود و مهيب و سعدو و داود و موسى و يعقوب و العباس و يوسف في آخرين معروفين عندهم هذا شأن أولاد نصر بن علي بن نصر ابن مهيب
و أما و لد عنتر أخيه فكان منم أبو الفتوح بن عنتر ثم من و لده عيسى بن أبي الفتوح فكان رئيسا على بني أبيه و كانت إحدى و صائفهم سقطت بدار عثمان بن يغمراسن و ادعت الحمل من سيدها أبي الفتوح و جاءت بأخ لعيسى يسمى معروفا ربي بدارهم و استوزره أبو حمو و ابنه من بعده و بلغ المبالغ في دولتهم و كان يدعى معروفا الكبير و لحق به أيام رياسته في دولة أبي حمو الأول أخوه عيسى ابن أبي الفتوح مغاضبا لقومه فسعى له في الولاية على بني راشد و جباية أوطانهم وأنزله بلد سعيدة فكانت له بها إمارة و كان له من الولد أبو بكر و عبو و طاهر و وترمار و عندما غلب بنو مرين على بني عبد الواد ولاهم السلطان أبو الحسن على بني يرناتن متداولين و أما ولد تاسرغينت من بني علي بن نصر بن مهيب فلم يكن لهم ذكر في رياسة قومهم إلا أن بعض وصائفهم سقطت أيضا إلى دار أبي تاشفين فولدت غلاما يعرف بعطية بن موسى نشأ في دارهم ينسب إلى بني تاسرغينت هؤلاء
و تناولته النجابة في خدمتهم فولوه الأعمال النبيهة و هو لهذا العهد عامل أبي حمو الأخير على شلف و ما إليها و قد غلب العرب لهذا العهد على وطن بني يرناتن وملكوا عليهم يعود ماحنون و بقيت صبابتهم بجبل ورنيد و عليهم لهذا العهد سعيد بن عمر من و لد نصر بن علي بن نصر بن مهيب يعطون المغرم للسلطان ويصانعون العرب بالأتاوة و بيد الله تصاريف الأمور سبحانه لا رب غيره (7/218)
الخبر عن بني مرين و أنسابهم و شعوبهم و ما تأثلوا بالمغرب من السلطان و الدولة التي استعملت سائر زناتة و انتظمت كراسي الملك بالعدوتين و أولية ذلك و مصايره
قد ذكرنا أن بني مرين هؤلاء من شعوب بني واسين و ذكرنا نسب واسين في زناتة و ذكرنا أنهم بنو مرين بن ورتاجن بن ماخوخ بن جديج بن فاتن بن يدر بن يخفت ابن عبد الله بن ورتنيص بن المعز بن إبراهيم بن سجيك بن واسين و أنهم إخوة بني يلومي و مديونة و ربما يشهد بذلك جوار مواطنهم قبل الملك ما بين صا و ملوية و ذكرنا كيف اقتسموا الضاحية و القفر مع إخوانهم بني بادين بن محمد و كيف اتصلت فتنتهم معهم سائر أيامهم و كان الغلب أولا لبني بادين بن محمد لكثرة عددهم فإنهم كما ذكرنا خمسة بطون : بنو عبد الواد و توجين و مصاب و بنو زردال و إخوانهم بنو راشد بن محمد و كانوا أهل تلول المغرب الأوسط دونهم و بقي هذا الحي من بني مرين بمجالات القفر من فيكيك إلى سجلماسة إلى ملوية و ربما يتخطون في ظعنهم إلى بلاد الزاب و يذكر نسابتهم أن الرياسة فيهم قبل تلك العصور كانت لمحمد بن ورزين بن فكوس بن كوماط بن مرين و أنه كان لمحمد إخوة آخرون يعرفون بأمهم تنالفت و كان بنو عمه ونكاسن بن فكوس و كان لمحمد من الولد سبعة : شقيقان و هما حمامة و عسكر و أبناء علات أمهات أولاد و هم سنكمان و سكميان و سكم و وراغ و قزونت و تسمى هذه الخمسة في لسانهم تيريغين و معناه عندهم الجماعة
يزعمون أن محمدا لما هلك قام بأمره في قومه ابنه حمامة و كان الأكبر ثم من بعده أخوه عسكر و كان له من الولد ثلاثة : نكوم و أبو يكنى و يلقب المخضب و علي و يلقب لاعدر و لما هلك قام برياسته فيهم ابنه المخضب فلم يزل أميرا عليهم إلى أن كان أمر الموحدين و زحف عبد المؤمن إلى تاشفين بن علي بن يوسف فحاصره بتلمسان و سرخ الشيخ أبا حفص في العساكر لحرب زناتة بالمغرب الأوسط و جمع له بنو بادين كلهم و بنو يلومي و بنو مرين و مغراوة ففض الموحدون جموعهم و استلحموا أكثرهم ثم راجع بنو يلومي و بنو بادين طاعتهم و أخلص بنو عبد الواد في خدمتهم و لنصيحتهم و لحق بنو مرين بالقفر فلما غلب عبد المؤمن على وهران و استولى على أموال لمتونة و بعث ذخيرتهم بتلك الغنائم إلى جبل تينملل حيث داره و من أين كان منبعث الدعوة و بلغ الخبر إلى بني مرين بمكانهم من الزاب و شيخهم يومئذ المخضب بن عسكر فأجمع إعراضهما بقومه و لحق العير بوادي تلاغ فاحتازها من أيدي الموحدين و استنفر عبد المؤمن لاستنقاذها أولياءه من زناتة و سرحهم مع الموحدين لذلك فأبلى بنو عبد الواد فيها بلاء حسنا و كان اللقاء في فحص مسون و انكشف بنو مرين و قتل المخضب بن عسكر و اكتسح بنو عبد الواد حللهم و ذلك سنة أربعين وخمسماية فلحق بنو مرين بعدها بصحرائهم و مجالات قفرهم و قام بأمرهم من بعد المخضب أبو بكر ابن عمه حمامة ابن محمد إلى أن هلك فقام بأمره ابنه محيو و لم يزل مطاعا فيهم إلى أن استنفرهم المنصور لغزاة الأركة فشهدوها و أبلوا البلاء الحسن و أصابت محيو يومئذ جراحة انتقضت عليه مرجعه منها فهلك بصحراء الزاب سنة إحدى و تسعين و خمسماية
و كان من رياسة عبد الحق ابنه من بعده وبقائها في عقبه ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/221)
الخبر عن إمارة عبد الحق بن محيو المستقرة في بنيه و إمارة ابنه عثمان من بعده ثم أخيه محمد بن عبد الحق بعدهما و ما كان فيها من الأحداث
لما هلك محيو بن أبي بكر بن حمامة من جراحته كما قلناه و كان له من الولد عبد الحق و وسناف و يحياتن و كان عبد الحق أكبرهم فقام بأمر بني مرين و كان خير أمير عليهم قياما بمصالحهم وتعففا عما في أيديهم و تقويما لهم على الجادة و نظرا في العواقب و استمرت أيامهم و لما هلك الناصر رابع خلفاء الموحدين بالمغرب سنة عشر و ستماية مرجعه من غزاة العقاب و قام بأمر الموحدين من بعده ابنه يوسف المستنصر نصبه الموحدون للأمر غلاما لم يبلغ الحلم و شغلته أحوال الصبا و جنونه عن القيام بالسياسة و تدبير الملك فأضاع الحزم و أغفل الأمور و تواكل الموحدون بما أرخى لهم من طيل الدالة عليه و نفس عن مخنقهم من قبضة الاستبداد و القهر فضاعت الثغور و ضعفت الحامية و تهاونوا بأمرهم و فشلت ريحهم و كان هذا الحي لذلك العهد بمجالات القفار من فيكيك إلى صا و ملوية كما قدمناه من شأنهم و كانوا يطرقون في صعودهم إلى التلول و الأرياف منذ أول دولة الموحدين و ما قبلها جهات كرسيف إلى وطاط و يأنسون بمن هنالك من بقايا زناتة الأول : مثل مكناسة بجبال تازى و بني يرنيان من مغراوة الموطنين قصور و طاط من أعالي ملوية فيتقلبون بتلك الجهات عام المربع و المصيف وينحدرون إلى مشاتيهم بما امتاروه من الحبوب لأقواتهم فما رأوا من اختلال بلاد المغرب ما رأوا انتهزوا فيها الفرصة و تخطوا إليها القفر و دخلوا ثناياه و تفرقوا في جهاته و أرجفوا بخيلهم و ركابهم على ساكنه و اكتسحوا بالغارة و النهب عامة بسائطهم و لجأت الرعايا إلى معتصماتهم و معاقلهم و كثر شاكيهم و أظلم الجو بينهم و بين السلطان و الدولة فآذنوهم بالحرب و أجمعوا لغزوهم و قطع دابرهم و أغرى الخليفة المستنصر عظيم الموحدين أبا علي بن وانودين بجميع العساكر و الحشود من مراكش و سرحه إلى السيد أبي إبراهيم ابن أمير الموحدين يوسف بن عبد المؤمن بمكانه من إمارة فارس و أوعز إليه أن يخرج لغزو بني مرين و أمره أن يثخن و لا يستبقي و اتصل الخبر ببني مرين و هم في جهات الريف و بلاد بطوبة فتركوا أثقاهلهم بحصن تازوطا و صمدوا إليهم و التقى الجمعان بوادى نكور فكان الظهور لبني مرين و الدبرة على الموحدين و امتلأت الأيدي من أسلابهم و أمتعتهم و رجعوا إلى تازى و فاس عراة يخصفون عليهم من ورق النبات المعروف عند أهل المغرب بالمشغلة يوارون به سؤاتهم لكثرة الخصب عامئذ و اعتمار الفدن بالزرع وأصناف الباقلا حتى لقد سميت الواقعة يومئذ بعام المشغلة
و صمد بنو مرين بعدها إلى تازى ففلوا حاميتها أخرى ثم اختلفت بنو محمد رؤساءهم و انتبذ عنهم من عشائرهم بنو عسكر بن محمد لمنافسة وجدوها في أنفسهم من استقلال بني عمهم حمامة بن محمد بالرياسة دونهم بعد أن كان أومض عندهم منها في عسكر و ابنه المخضب إيماض من أخلف بارقه فحالفوا عبد الحق أميرهم و قومه إلى مظاهرة أولياء الموحدين و حامية المغرب من قبائل رياح الموطنين بالهبط و ازغار لحديث عهدهم بالتوحش و العز منذ إنزال المنصور إياهم بذلك القطر من أفريقية فتحيزوا إليهم و كاثروهم على قومهم
و صمدوا جميعا للقاء بني مرين سنة أربع عشرة و ستمائة و دارت بينهم حرب تولى الصبر مقامها و هلك فيها أميرهم عبد الحق و كبير بنيه إدريس و تذامر لمهلكها بنو مرين و جلى تلك الحومة حمامة بن يصليتن من بني عسكر و الأمير ابن محيو السكمي فانكشفت رياح آخرا و قتل منهم أبطال و ولى بنو مرين عليهم بعد مهلك عبد الحق ابنه عثمان تلو إدريس و شهرته بينهم أدرغال و معناه برطانتهم الأعور و كان لعبد الحق من الولد عشرة تسعة ذكور و أختهم و رتطليم : فإدريس و عبد الله ورحو لامرأة من بني علي اسمها سوط النساء و عثمان ومحمد لامرأة من بني و نكاسن إسمها النوار بنت تصاليت و أبو بكر لامرأة من بني تنالفت و هي تاغزونت بنت أبي بكر بن حفص و زيان لامرأة من بني ورتاجن و أبو عياد لامرأة من بني وللوى إحدى بطون عبد الواد اسمها أم الفرج و يعقوب لأم المجن بنت محلى من بطوية و كان أكبرهم إدريس الهالك مع أبيه عبد الحق فقام بأمر بني مرين من بعد عبد الحق ابنه عثمان بايعه لوقته حمامة بن يصليتن ولمير بن محيو و من إليهما من مشيخة قومها و اتبعوا منهزمة رياح و أثخنوا فيهم و ثار عثمان بأبيه و أخيه حتى شفا نفسه منهم ولاذوا بالسلم فسالمهم على أتاوة يؤدونها إليه و إلى قومه كل سنة ثم استشرى من بعد ذلك داء بني مرين و اعضل خطبهم وكثر الثوار بالمغرب و امتنع عامة الرعايا عن المغرم و فسدت السابلة و اعتصم الأمراء و العمال من السلطان فن دونه بالأمصار و المدن و غلبوا أولئك على الضاحية و تقلص ظل الحكام عن البدو جملة و افتقد بنو مرين الحامية دون الوطن و الدفاع فمدوا إلى البلاد يدا و سار بهم أميرهم أبو سعيد عثمان بن عبد الحق في نواحي المغرب يتقرى مسالكه و شعوبه و يضع المغارم على أهله حتى دخل أكثرهم في أمره فبايعه من الظواعن الشاوية و القبائل الآهلة : هوارة و زكارة ثم تسول و مكناسة ثم بطوبة و قشتالة ثم سدراتة و بهلولة و مديونة ففرض عليهم الخراج و ألزمهم المغارم و فرق فيهم العمال ثم فرض على أمصار المغرب مثل فاس و تازى و مكناسة و قصر كتامة ضريبة معلومة يؤدونها إليه على رأس كل حول على أن يكف الغارة عنهم و يصلح سابلتهم ثم غزا ظواعن زناتة سنة عشرين و ستمائة و أثخن فيهم حتى اذعنوا و قبض أيديهم عما امتدت إليه من الفساد و النهب و عطف بعدها على رياح أهل أزغار و الهبط و أثار به بأبيه فأثخن فيهم و أبادهم و لم يزل دأبه ذلك إلى أن هلك باغتيال علجة سنة سبع و ثلاثين و ستمائة
و قام بأمر بني مرين من بعده أخوه محمد بن عبد الحق فتقبل سنن أخيه في تدويخ بلاد المغرب و أخذ الضريبة من أمصاره و جباية المغارم و الوضائع من ظواعنه و بدوه و سائر رعاياه و بعث الرشيد أبا محمد بن وانودين لحربهم و عقد له على مكناسة فدخلها وأجحف بأهلها فى المغارم ثم نزل بنو مرين بمتيجة و غيرها من ضواحيها فنادى في عساكره و خرج إليهم فدارت بينهم حرب شديدة هلك فيها خلق من الجانبين و بارز محمد بن إدريس بن عبد الحق قائدا من الروم واختلفا ضربتين هلك العلج بإحداهما و انجرح محمد في وجهه بالأخرى و اندمل جرحه فصار أثر في وجهه لقب من أجله أبا ضربة ثم شد بنو مرين كل الموحدين فانكشفوا و رجع ابن وانودين إلى مكناسة مفلولا و بقي بنو عبد المؤمن أثناء ذلك في مرض من الأيام و تثاقل عن الحماية ثم أومضت دولتهم آخرا إيماض الخمود و ذلك أنه لما هلك الرشيد بن المأمون سنة أربعين و ستماية و ولي أخوه علي و تلقب بالسعيد و بايعه أهل المغرب انصرفت عزائمه إلى غزو بني مرين و قطع أطماعهم عما سمت إليه من تملك الوطن فأغزى عسكر الموحدين لقتالهم و منهم قبائل العرب و المصامدة و جموع الروم فنهضوا سنة اثنتين و أربعين و ستمائة في جيش كثيف يناهز عشرين ألفا فيما زعموا و زحف إليهم بنو مرين بوادي ياباش و صبر الفريقان و هلك الأمير محمد بن عبد الحق في الجولة بيد زعيم من زعماء الروم و انكشفت بنو مرين و اتبعهم الموحدون و دخلوا تحت الليل فلحقوا بجبال غياثة من نواحي تازى و اعتصموا بها أياما ثم خرجوا إلى بلاد الصحراء و ولوا عليهم أبا يحيى بن عبد الحق فقام بأمرهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/224)
الخبر عن دولة الأمير أبي يحيى بن عبد الحق مديل الأمر لقومه بني مرين و فاتح الأمصار و مقيم الرسوم الملوكية من الآلة و غيرها لمن بعده من أمرائهم
لما ولي أبو يحيى بن عبد الحق أمر بني مرين سنة اثنتين و أربعين و ستمائة كان من أول ما ذهب إليه ورآه من النظر لقومه أن قسم بلاد المغرب وقبائل جبايته بين عشائر بني مرين و أنزل كلا منهم في ناحية تسوغها سائر الأيام طعمة فاستركبوا الرجل أتباعهم و استلحقوا من غاشيتهم و توفرت عساكرهم ثم نبضت نار المنافسة بين أحيائهم و خالف بنو عسكر جماعتهم و صاروا إلى الموحدين فحرضوهم على أبي يحيى بن عبد الحق و بني حمامة و أغروهم بهم و بعثوا الصريخ إلى يغمراسن بن زيان فوصل في قومه إلى فاس و اجتمعوا جميعا إلى قائد الموحدين و أعطوا الرهن على صدق البلاء في الأمير أبي يحيى و أتباعه وصمدوا إليه حتى انتهوا إلى ورغة ثم إلى كرت و أعجزهم فانكفوا راجعين إلى فاس و نذر يغمراسن بغدر الموحدين فخرج في قومه مع أوليائه بني عسكر و عارضهم الأمير أبو يحيى بوادي سبو فلم يطق حربهم و رجع عنهم عسكر الموحدين بما صرخ في معسكرهم من موت الخليفة السعيد ثم بعثوا إليه لملاطفتهم في الفيئة إلى الطاعة و مذاهب الخدمة القائد عنبر الخصي مولى الخليفة في حصة من الروم و الناشبة فتقبض عليهم بنو عسكر و تمسكوا بهم في رهنهم و قتلوا كافة النصارى فأطلق أبناءهم و لحق يغمراسن و قومه بتلمسان ثم رجع بنو عسكر إلى ولاية أميرهم أبي يحيى و اجتمع بنو مرين لشأنهم و تملكوا الأعمال ثم مدوا عينهم إلى تملك الأمصار فنزل أبو يحيى بجملته جبل زرهون و دعا أهل مكناسة إلى بيعة الأمير أبي زكرياء بن أبي حفص صاحب أفريقية لما كان يومئذ على دعوته و في ولايته فحاصرها و ضيق عليها بقطع المرافق و ترديد الغارات و معاودة الحرب إلى أن أذعنوا لطاعته فافتتحها صلحا بمداخلة أخيه يعقوب بن عبد الحق لزعيمها أبي الحسن بن أبي العافية
و بعثوا بيعتهم إلى الأمير أبي زكرياء و كانت من إنشاء أبي المطرف بن عميرة كان قاضيا فيهم يومئذ فأقطع السلطان ليعقوب ثلث جبايتها ثم أحس الأمير أبو يحيى بن عبد الحق من نفسه الاستبداد و من قبيله الاستيلاء فاتخذ الآلة و بلغ الخبر إلى السعيد بتغلبه على مكناسة و صرفها إلى دعوة ابن أبي حفص فوجم لها و فاوض الملأ من أهل دولته في أمره و أراهم كيف اقتطع الأمر عنهم شيئا فشيئا : فابن أبي حفص اقتطع أفريقية ثم يغمراسن بن زيان و بنو عبد الواد اقتطعوا تلمسان و المغرب الأوسط و أقاموا فيها دعوة ابن أبي حفص و أطمعوه في الحركة إلى مراكش بمظاهرتهم و ابن هود اقتطع عدوة الأندلس و أقام فيها دعوة بني العباس و ابن الأحمر في الجانب الآخر مقيم لدعوة ابن أبي حفص و هؤلاء بنو مرين تغلبوا على ضواحي المغرب ثم سموا إلى تملك الأمصار ثم افتتح أميرهم أبو يحيى مكناسة و أظهر فيها دعوة ابن أبي حفص و جاهر بالاستبداد و يوشك إن رضينا هذه الدنية و أغضينا عن هذه الواقعات أن يختل الأمر أو تنقرض الدعوة فتذامروا و امتعضوا و تداعوا للصمود إليه فجهز السعيد عساكره و احتشد عرب المغرب و قبائله و استنفر الموحدين و المصامدة و نهض من مراكش سنة خمس و أربعين و ستمائة يريد مكناسة : و بني مرين أولا ثم تلمسان و يغمراسن ثانيا ثم أفريقية و ابن أبي حفص آخرا و اعترض العساكر و الحشود بوادي بهت و وصل الأمير أبو يحيى إلى معسكره متواريا عنهم عينا لقومه حتى صدقهم كنه الخبر و علم أن لا طاقة له بهم فأفرج عن البلاد و تناذر بنو مرين بذلك من أماكنهم فتلاحقوا به و اجتمعوا إليه بتازوطا من بلاد الريف و نزل سعيد مكناسة و لاذ أهلها بالطاعة و سألوا العفو عن الجريرة و استشفعوا بالمصاحف برز بها الأولاد على رؤوسهم و انتظموا مع النساء في صعيد حاسرات منكسرات الطرف من الخشوع و وجوم الذنب و التوسل فعفا عنهم و تقبل فيئهم و ارتحل إلى تازى في اتباع بني مرين و أجمع بنو أوطاس الفتك بأبي يحيى بن عبد الحق غيرة و مناسفة و دس إليه بذلك مهيب من مشيختهم فترحل عنهم إلى بلاد بني يزناسن و نزل بعين الصفا
ثم راجع نظره في مسالمة الموحدين و الفيئة إلى أمرهم و مظاهرتهم على عدوهم يغمراسن و قومه من بني عبد الواد ليكون فيها شفاء نفسه منهم فأوفد مشيخة قومه عليه بتازى فأدوا طاعته و فيئته فتقبلها و صفح لهم عن الجرائر التي أتوها و سألوه أن يستكفي بالأمير أبي يحيى في أمر تلمسان و يغمراسن على أن يمده بالعساكر رامحة و ناشبة فاتهمهم الموحدون و حذروا منهم غائلة العصبية فأمرهم السعيد بالعسكرة معه فأمده الأمير أبو يحيى بخمسماية من قبائل بني مرين و عقد عليهم لابن عمه أبي عياد بن يحيى بن أبي بكر بن حمامة و خرجوا تحت رايات السلطان و نهض من تازى يريد تلمسان و ما وراءها و كان من خبر مهلكه على جبل تامزدكت بيد بني عبد الواد ما ذكرناه في أخبارهم
و لما هلك و انفضت عساكره متسابقين إلى مراكش و جمهورهم مجتمعون إلى عبد الله بن الخليفة السعيد ولي عهده و تحت رايات أبيه و طار الخبر بذلك إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق و هو بجهات بني يزناسن و قد خلص إليه هنالك ابن عمه أبو عياد و بعث بني مرين من تيار تلك الصدمة فانتهز الفرصة و أرصد لعسكر الموحدين و فلهم بكرسيف فأوقع بهم و امتلأت أيدي بني مرين من أسلابهم و انتزعوا الآلة من أيديهم و أصار إليه كتيبة الروم و الناشبة من الغزو و اتخذ الموكب الملوكي و هلك الأمير عبد الله بن السعيد في جوانب تلك الملحمة و يئسوا للموحدين بعدها من الكرة و نهض الأمير أبو يحيى و قومه إلى بلاد المغرب مسابقين إليه يغمراسن بن زيان بما كان ملوك الموحدين أوجدوهم السبيل إلى ذلك باستجاشة على بني مرين أيام فتنتهم معهم فكانوا يبيحونه حرم المغرب و يوطئونه عساكر قومه ما بين تازى إلى فاس إلى القصر مع عساكر الموحدين فكان ليغمراسن و قومه بذلك طمع فيها لولا ما كبحهم فأس بني مرين و جدع من أنوفهم
و كان أول ما بدأ به أبو يحيى بن عبد الحق أعمال وطاط فافتتح حصونهم بملوية و دوخ جبلهم ثم رحل إلى فاس و قد أجمع أمره على انتزاعها من ملكة بنى عبد المؤمن و إقامه الدعوة لابن أبي حفص بها و بسائر نواحيها و العامل بها يومئذ السيد أبو العباس فأناخ عليها بركابه و تلطف في مداخلة أهلها و ضمن لهم جميل النظر و حميد السياسة و كف الأيدي عنهم و الحماية لهم بحسن المغبة و صالح العائدة فأجابوه و وثقوا بعهده وعنائه و آووا إلى ظله و ركنوا إلى طاعته و انتحال الدعوة الحفصية بأمره و نبذوا طاعة بني عبد المؤمن يأسا من صريخهم و كثرتهم و حضر أبو محمد القشتالي و أشهده الله على الوفاء بما اشترط على نفسه من النظر لهم والذب عنهم و حسن الملكة و الكفالة و تقبل مذاهب العدل فيهم فكان حضوره ملاك تلك العقدة و البركة التي يعرف أثرها خلفهم في تلك البيعة و كانت البيعة بالرابطة خارج باب الفتوح و دخل إلى قصبة فاس لشهرين اثنين من مهلك السعيد فاتح ست و أربعين و ستماية و أخرج السيد أبا العباس من القصبة و بعث معه خمسين فارسا أجازوه أم ربيع ورجعوا ثم نهض إلى منازلة تازى و بها السيد أبو علي فنازلها أربعة أشهر ثم نزلوا على حكمه فقتلهم و من على آخرين منهم و سد ثغرها و ثقف أطرافها و أقطع رباط تازى و حصون ملوية لأخيه يعقوب بن عبد الحق و رجع إلى فاس فوفد عليه بها مشيخة أهل مكناسة و جددوا بيعتهم و عاودوا طاعتهم و لحق بهم على أثرهم أهل سلا و رباط الفتح فتملك الأمير أبو يحيى هذه البلاد الأربعة أمهات أمصار المغرب و استولى على نواحيها إلى وادي أم ربيع فأقام فيها دعوة ابن أبي حفص و بعث بها إليه و استبد بنو مرين بملك المغرب الأقصى و بنو عبد الواد بملك المغرب الأوسط و بنو أبي حفص بأفريقية و خمد ذبال آل عبد المؤمن و ركدت ريحهم و آذنت بالانقراض دولتهم و أشرف على الفناء أمرهم و إلى الله عاقبة الأمور (7/227)
الخبر عن انتقاض أهل فاس على أبي يحيى بن عبد الحق و ظفره بهم بعد إيقاعه بيغمراسن و قومه بايسلى
لما ملك الأمر أبو يحيى بن عبد الحق بمدينة فاس سنة ست و أربعين و ستمائة استولى على بلاد المغرب بعد مهلك السعيد و قام بأمر الموحدين بمراكش أبو حفص عمر لمرتضى ابن السيد أبي إبراهيم إسحاق الذي كان قائد عسكر الموحدين في حربهم مع بني مرين عام المشغلة ابن أمير المؤمنين أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن كان السعيد تركه واليا بقصبة رباط الفتح من سلا فاستدعاه الموحدون و بايعوه بيعة الخلافة و قام بأمرهم فلما تغلب الأمير أبو يحيى على بلاد المغرب و ملك مدينة فاس كما ذكرناه خرج إلى بلاد فازاز و المعدن لفتح بلاد زناتة و تدويخ نواحيها
و استعمل على فاس مولاه السعود بن خرباش من جماعة الحشم أخلاف بني مرين و صنائعهم و كان الأمير أبي يحيى استبقى بها من كان فيها من عسكر الموحدين من غير عيصهم في السبيل التي كانوا عليها من الخدمة و كان فيهم طائفة من الروم استخدمهم إلى نظر قائدهم شأنه و كانوا من حصة السعود هنالك و وقعت بينهم و بين شيع الموحدين من أهل البلد مداخلة و فتكوا بالسعود عاملهم و قلبوا الدعوة للمرتضى الخليفة بمراكش سكيت الحلبة و مخلف المضمار و كان المتولي لكبر تلك الثورة ابن حشار المشرف و أخوه و ابن أبي طاهر و ابنه اجتمعوا إلى القاضي أبي عبد الرحمن المغيلي زعيم فئة الشورى بيهنم يومئذ و توامروا فيها و أغروا قائد الروم بقتل السعود و عدوا عليه بمقعد حكمه من القصبة و هاجوه ببعض المحاورات فغضب و وثب عليه الرومي فقتله و طاف برأسه الهاتف بسكك المدينة في شوال سنة سبع و أربعين و ستمائة و انتهبت داره و استبيحت حرمه و نصبوا قائد الروم لضبط البلد و بعثوا بيعتهم إلى المرتضى و اتصل الخبر بالأمير أبي يحيى و هو منازل بلد فازاز فأفرج عنها و أغذ السير إلى فاس فأناخ بعساكره عليها و شمر لحصارها و قطع السابلة عنها و بعثوا إلى المرتضى بالصريخ فلم يرجع إليهم قولا و لا ملك لهم ضرا ولا نفعا و لا وجه لما نزل بهم وجها حاشا إنه استجاش بالأمير أبي يحيى يغمراسن بن زيان على أمره و أغراه بعدوه و أمله لكشف هذه النازلة عمن انحاش إلى طاعته و تعلقت أطماع يغمراسن بطروق بلاد المغرب فاحتشد لحركته و نهض من تلمسان للأخذ بحجزة الأمير أبي يحيى عن فاس و إجابة صريخ الخليفة لذلك و بلغ الأمير أبا يحيى خبر نهوضه إليه لتسعة أشهر من منازلته البلد فجمر الكتائب عليها صمد إليه قبل وصوله من تخوم بلاده و التقى الجمعان بايسلى من بسائط وجدة فتزاحف القوم و أبلوا و كانوا ملحمة عظيمة هلك فيها عبد الحق بن محمد بن عبد الحق بيد ابراهيم بن هشام من بني عبد الواد ثم انكشف بنو عبد الواد و هلك يغمراسن بن تاشفين من أكابر مشيختهم و نجا يغمراسن بن زيان إلى تلمسان و انكفأ الأمير أبو يحيى إلى معسكره للأخذ بمخنق فاس فسقط في أيدي أهلها و لم يجدوا وليجة من دون طاعته فسألوا الأمان و بذله لهم على غرم ما تلف له من المال بداره يوم الثورة و قدره ماية ألف دينار فتحملوها و أمكنوه من قياد البلد فدخلها في جمادى من سنة ثمان و أربعين و ستمائة و طالبهم بالمال فعجزوا و نقضوا شرطه فحق عليهم القول و تقبض على القاضي أبي عبد الرحمن و ابن أبي طاطو و ابنه و ابن حشار و أخيه المتولين كبر الفعلة فقتلهم و رفع على الشرفات رؤوسهم
و أخذ الباقين بغرم المال طوعا أو كرها فكان ذلك مما عبد رعية فاس و قادهم لأحكام بني مرين و ضرب الرهب على قلوبهم لهذا العهد فخشعت منهم الأصوات و انقادت الهمم و لم يحدثوا بعدها أنفسهم بغمس يد في فتنة و الله مالك الأرض و من عليها (7/230)
الخبر عن تغلب الأمير أبي يحيى على مدينة سلا و ارتجاعها من يده و هزيمة المرتضى بعدها
لما كمل للأمير أبي يحيى فتح مدينة فاس و استوسق أمر بني مرين بها رجع إلى ما كان فيه من منازلة بلاد فازاز فافتتحها و دوخ أوطان زناتة و اقتضى مغارمهم و حسم علل الثائرين فيها ثم تخطى إلى مدينة سلا و رباط الفتح سنة تسع و أربعين و ستمائة فملكها و تاخم الموحدين بثغرها و استعمل عليها ابن أخيه يعقوب بن عبد الله ابن عبد الحق و عقد له على ذلك الثغر و ضم إليه الأعمال و بلغ الخبر بذلك إلى المرتضى فأهمه الشأن و أحضر الملأ من الموحدين و فاوضهم و اعتزم على حرب بني مرين و سرح العساكر سنة خمسين و ستمائة فأحاطت بسلا فافتتحوها و عادت إلى طاعة المرتضى و عقد عليها لأبي عبد الله بن أبي يعلو من مشيخة الموحدين و كان المرتضى قد صمد بنفسه سنة تسع و أربعين و ستمائة إلى محاربة بني مرين في جموع الموحدين و عساكر الدولة صمد بنو مرين للقائه و التقى الجمعان بايملولين ففضوا جموعه و كانت الدبرة عليه و الظهور لهم ثم كان بعدها فتح سلا و غلب الموحدين عليها و أجمع المرتضى بعدها على احتشاد أهل سلطانه و معاودة الخروج بنفسه إلى غزوهم لما خشي من امتداد أمرهم و تقلص ملك الموحدين فعسكر خارج حضرته سنة ثلاث و خمسين و ستمائة و بعث الحاشرين في الجهات فاجتمع إليه أمم الموحدين و العرب و المصامدة و أغذ السير تلقاءهم حتى إذا انتهى إلى جبال بهلولة من نواحي فاس وصمد إليه الأمير أبو يحيى في عساكر بني مرين و من اجتمع إليهم من دونهم و التقى الجمعان هنالك و صدقهم بنو مرين القتال فاختل مصاف السلطان و انهزمت عساكره و أسلمه قومه و رجع إلى مراكش مفلولا و استولى القوم على معسكره و استباحوا سرادقه و فساطيطه و انتهبوا جميع ما وجدوا بها من المال و الذخيرة و استاقوا سائر الكراع و الظهر و امتلأت أيديهم من الغنائم و اعتز أمرهم و انبسط سلطانهم و كان يوما له ما بعده و أغرى أثر هذه الحركة عساكر بني مرين تادلا و استباح بني جابر حاميتها من جشم ببلد أبي نفيس و استلحم أبطالهم و ألان من حدهم و خضد من شوكتهم و في أثناء هذه الحروب كان مقتل علي بن عثمان بن عبد الحق و هو ابن أخي الأمير أبي يحيى شعر منه بفساد الدخلة و الاجتماع للتوثب به فدس لابنه أبي حديد مفتاح بقتله بجهات مكناسة سنة إحدى و خمسين و ستمائة و الله تعالى أعلم (7/232)
الخبر عن فتح سجلماسة و بلاد القبلة و ما كان في ذلك من الأحداث
لما يئس بنو عبد المؤمن من غلبهم بني مرين على ما صار في أيديهم من بلاد المغرب و عادوا إلى مدافعتهم عن صمامة الدولة التي تحملت إياها شفافهم لو أطاقوا المدافعة عنها و ملك بنو مرين عامة بلاد التلول اعترم الأمير أبو يحيى بعدها على الحركة إلى بلاد القبلة ففتح سجلماسة و درعة و ما إليها سنة ثلاث و خمسين و ستمائة و افتتحها بمداخلة من ابن القطراني غدر بعامل الموحدين فتقبض عليه و أمكن منها الأمير أبا يحيى فملكها و ما إليها من درعة سائر بلاد القبلة و عقد لابنه أبي حديد و بلغ الخبر إلى المرتضى فسرح العساكر سنة أربع و خمسين و ستمائة لاستنقاذها و عقد عليهم لابن عطوش ففر راجعا إلى مراكش ثم نهض سنة خمس و خمسين و ستمائة إلى محاربة يغمراسن و بنيه بأبي سليط فأوقع بهم و اعتزم على اتباعه فثناه عن رأيه في ذلك أخوه يعقوب بن عبد الحق لعهد تأكد بينه و بين يغمراسن فرجع و لما انتهى إلى المقرمدة هذه بلغه أن يغمراسن قصد سجلماسة و درعة لمداخلة من بعض أهلها أطمعته في ملكها فأغذ السير إليها بجموعه و دخلها و لصبيحة دخوله وصل يغمراسن لشأنه فلما علم بمكان أبي يحيى من البلد سقط في يده ويئس من غلابه و دارت بينهم حرب تكافؤ فيها و هلك سليمان بن عثمان بن عبد الحق ابن أخي الأمير أبي يحيى و انقلب يغمراسن إلى بلده و عقد الأمير أبو يحيى على سجلماسة و درعة و سائر بلاد القبلة ليوسف بن يزكاسن و استعمل على الجباية عبد السلام الأوربي و داود بن يوسف وانكفأ راجعا إلى فاس و الله تعالى أعلم (7/233)
الخبر عن مهلك أبي يحيى و ما كان أثر ذلك من الأحداث التي تمحضت عن استبداد أخيه يعقوب بن عبد الحق بالأمر
لما رجع الأمير أبو يحيى من حرب يغمراسن بسجلماسة أقام أياما بفاس ثم نهض إلى سجلماسة متفقدا لثغورها فانقلب منها عليلا و هلك حتف أنفه على سرير ملكه في رجب سنة ست و خمسين و ستمائة أمضى ما كان عزما و أطول إلى تناول الملك يدا اختطفته المنون عن شأنه و دفن بمقبرة باب الفتوح من فاس ضجيعا للمولى أبي محمد الفشتالي كما عهد لأهل بيته و تصدى للقيام بأمره ابنه عمر و اشتمل عليه عامة قومه و مالت المشيخة و أهل الحل و العقد إلى عمه يعقوب بن عبد الحق و كان غائبا عن مهلك أخيه بتازى فلما بلغه الخبر أسرع اللحاق بفاس و توجهت إليه وجوه الأكابر و أحس عمر بصاغية الناس إليه و حرضه أتباعه على الفتك بعمه فاعتصم بالقصبة و سعى الناس في إصلاح ذات بينهما فتفادى يعقوب عن الأمر و دفعه لابن أخيه على أن تكون له بلاد تازى و بطوة و ملوية و لما لحق بتازى و اجتمع إليه كافة بني مرين عذلوه فيما كان منه فاستلأم و حملوه على العودة في الأمر و وعدوه من أنفسهم المظاهرة والمؤازرة فأجاب و بايعوه و صمد إلى فاس و برز عمر للقائه فانتهى إلى المسجدين و لما تراءى الجمعان خذله جنوده و أسلموه فرجع إلى فاس مغلولا و وجه الرغبة إلى عمه أن يقطعه مكناسة و ينزل له عن الأمر فأجابه إلى ذلك و دخل السلطان أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق مدينة فاس فملكها سنة سبع و خمسين و ستمائة و تمشت طاعته في بلاد المغرب ما بين ملوية و أم الربيع و سجلماسة و قصر كتامة و اقتصر عمر على إمارة مكناسة فتولاها أياما ثم اغتاله من عشيره عمر و إبراهيم ابنا عمه عثمان بن عبد الحق و العباس ابن عمه محمد بن عبد الحق فقتلوه و ثأروا منه بدم كانوا يعتدونه عليه و هلك لعام أو بعد عام من إمارته فكفى يعقوب شأنه و استقام سلطانه و ذهب التنازع و المشاق عن أمره و كان يغمراسن بعد مهلك قرنه الأمير أبي يحيى سماله أمل في الاجلاب على المغرب فجمع لذلك قومه و استجاش بني توجين و مغراوة و أظمعهم في غيل الأسود و نهضوا إلى المغرب حتى انتهوا إلى كلدامان و صمد السلطان يعقوب بن عبد الحق إلى لقائهم فغلبهم و رجعوا إلى تفيئته و مر يغمراسن ببلاد بطوية فأحرق و انتسف و استباح و أعظم فيها النكاية و رجع السلطان إلى فاس و تقبل مذاهب أخيه الأمير أبي يحيى في فتح أمصارالمغرب و تدويخ أقطاره و كان مما أكرمه الله به أن فتح أمره باستنقاذ مدينة سلا من أيدي النصارى فكان له بها أثر جميل و ذكر خالد على ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/234)
الخبر عن فجأة العدو مدينة سلا و استنقاذها من أيديهم
كان يعقوب بن عبد الله قد استعمله عمه الأمير أبو يحيى على مدينة سلا لما ملكها كما ذكرناه و لما استرجعها الموحدون من يده أقام يتغلب في جهاتها مراصدا لأهلها و حاميتها و لما بويع عمه يعقوب بن عبد الحق اسقته بعض الأحوال فذهب مغاضبا حتى نزل غبولة و ألطف الحيلة في تملك رباط الفتح و سلا ليعتدها ذريعة لما أسر في نفسه فتمت له الحيلة و ركب عاملها ابن يعلو البحر فارا إلى أزمور
و خلف أمواله و حرمه فتملك يعقوب بن عبد الله البلد و جاهر بالخلع و صرف إلى منازعة عمه السلطان أبي يوسف وجوه العزم و داخل تجار الحرب في الإمداد بالسلاح فتماروا في ذلك و كثر سفر المترددين بينهم حتى كثروا أهلها و أسملوا فيها غرة عيد الفطر من سنة ثمان و خمسين و ستمائة عند شغل الناس بعيدهم و ثاروا بسلا و سبوا الحرم و انتهبوا الأموال و ضبطوا البلد و امتنع يعقوب بن عبد الله برباط الفتح و طار الصريخ إلى السلطان أبي يوسف و كان بتازى مستشرفا لأحوال يغمراسن فنادى في قومه و طار بأجنحة الخيول و وصلها ليوم و ليلة و تلاحقت به أمداد المسلمين من أهل الديوان و المطوعة و نازلها أربع عشرة ليلة ثم افتتحها عليهم عنوة و أثخن فيهم بالقتل ثم رم بالبناء ما كان متثلما بسورها الغربي حيث أمكنت منه الفرصة في البلد و تناول البناء فيه بيده و الله لا يضيع عمل عامل
و خشي يعقوب بن عبد الله بادرة السلطان فخرج من رباط الفتح و أسلمه فضبطه السلطان و ثقفه ثم نهض إلى بلاد تامسنا و أنفى فملكها و ضبطها و لحق يعقوب بن عبد الله بحصن علودان من جبال غمارة فامتنع به و سرح السلطان ابنه أبا مالك عبد الواحد و في بن زيان لمنازلته و سار إلى لقاء يغمراسن لقاء المهادنة فلقيه بجو حرمان و افترقا على السلم و وضع أوزار الحرب و رجع السلطان إلى المغرب فخرج عليه أبناء أخيه أولاد إدريس و لحقوا بقصر كتامة شايعوا يعقوب ابن عمهم عبد الله على رأيه و اجتمعوا إلى أكبرهم محمد بن ادريس فيمن إليهم من العشير و الصنائع فنهض إليهم و اعتصموا بجبال غمارة ثم استزلهم و استرضاهم و عقد لعامر ابن ادريس سنة ستين و ستمائة على عسكر من ثلاثة آلاف فارس أو يزيدون من المطوعة من بني مرين وأغزاهم إلى العدوة لجهاد العدو و حملهم و فرض لهم و شفع بها عمله في واقعة سلا و هو أول جيش أجاز من بني مرين فكان لهم في الجهاد و المرابطة مقامات محمودة و ذكر خالد تقبل سلفهم فيها خلفهم من بعدهم حسبما نذكره
و أقام يعقوب بن عبد الله خارجا بالنواحي مثقلا في الجهات إلى أن قتله طلحة بن علي بساقيه غبولة من ناحية سلا سنة ثمان و ستين وستمائة فكفى السلطان شأنه و كان المرتضى مذ توالت عليهم الوقائع و استمر الظهور لبني مرين انحجر في جدرانه و توارى بالأسوار عن عدوه فلم يسم إلى لقاء زحف و لا حدث نفسه بشهود حرب و استأسد بنو مرين على الدولة و شرهوا إلى التهام البقية و أسفوا إلى منازلة مراكش دار الخلافة كما نذكره إن شاء الله تعالى و الله أعلم (7/235)
الخبر عن منازلة السلطان أبي يوسف حضرة مراكش دار الخلافة و عنصر الدولة و ما كان أثر ذلك من نزوع أبي دبوس إليه و كيف نصبه للأمر و كان مهلك المرتضى على يده ثم انتقض عليه
لما فرغ السلطان من شأن الخوارج عليه من عشيره استجمع لمنازلة المرتضى و الموحدين في دارهم و رأى أنه أوهن لدولتهم وأقوى لأمره عليهم و بعث قومه و احتشد أهل ممالكه و استكمل تعبيته و سار حتى انتهى إلى ايكليز و اعتزم على ذلك سنة ستين و ستمائة و شارف دار الخلافة ثم نزل بقعرها و أخذ بمخنقها و عقد المرتضى لحربهم للسيد أبي العلاء إدريس المكنى بأبي دبوس ابن السيد أبي عبد الله ابن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن فعبى كتائبه و رتب مصافه و برز لمدافعتهم ظاهر الحضرة فكانت بينهم حروب بعد العهد بمثلها استشهد فيها الأمير عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق و كانوا يسمونه برطانتهم المعجوب ففت مهلكه في عضدهم و ارتحلوا عنها إلى أعمالهم و اعترضهم عساكر الموحدين بوادي أم الربيع وعليهم يحيى بن عبد الله بن وانودين فاقتتلوا في بطن الوادي و انهزمت عساكر الموحدين و كان في مسيل الوادي كدي تحسر عنها غمر الماء تبدو كأنها أرجل فسميت الواقعة بها أم الرجلين ثم سعى سماسرة الفتن عند الخليفة المرتضى في ابن عمه و قائد حربه السيد أبي دبوس بطلبه الأمر لنفسه و شعر بالسعاية فخش بادرة المرتضى و لحق بالسلطان أبي يوسف مدخله إلى فاس من منازلته آخر سنة إحدى و ستين و ستمائة نازعا إليه فأقام عنده مليا ثم سأل منه الإعانة على أمره بعسكر يمده و آلة يتخذها لملكه و مال يصرفه في ضروراته على أن يشركه في القسمة و الفتح و السلطان فأمده بخمسة آلاف من بني مرين و بالكفاية من المال و المستجاد من الآلة و أهاب له بالعرب و القبائل من أهل مملكته و من سواهم أن يكونوا يدا معه و سار في الكتائب حتى شارف الحضرة و دس إلى أشياعه و من يداخله من الموحدين في أمره فثاروا بالمرتضى و أخفضوه عنها فلحق بأزمور مستجيشا بصهره ابن عطوش و دخل أبو دبوس الحضرة في المحرم فاتح خمس و ستين و ستمائة و تقبض ابن عطوش عامل أزمور على المرتضى و اقتاده أسيرا إلى أبي دبوس فبعث مولاه مزاحما فاحتز رأسه في طريقه و استقل بالخلافة صبابه آل عبد المؤمن ثم بعث إليه السطان في الوفاء بالمشارطة فاستنكف و عثا و نقض العهد و أساء الخطاب فنهض إليه في جموع بني مرين و عساكر المغرب فخام عن اللقاء و انحجز بمراكش ونازله السلطان أياما تباعا ثم سار في الجهات و النواحي يحطم الزرع و ينسف الأقوات و عجز أبو دبوس عن دفاعه فاستجاش عليه بيغمراسن بن زيان ليفت فى عضده و يشغله عما وراءه و يأخذ بحجزته عن التهامه على ما نذكر لو أمهلته الأيام و انفسح له الأجل (7/337)
الخبر عن وقيعة تلاغ بين السلطان يعقوب بن عبد الحق و يغمراسن بن زيان بإغراء أبي دبوس و تضريبه
لما نازل السلطان أبو يوسف حضرة مراكش و قعد على ترائبه للتوثب علما لم يجد أبو دبوس وليجة من دون قصده إلا استجاشته بيغمراسن و قومه عليه ليأخذوا بحجزته عنه و يشغلوه من ورائه فبعث إليه الصريخ في كشف بلواه ومدافعة عدوه و أكد العهد و أسنى الهدية فشمر يغمراسن لاستنقاذه و جذب عدوه من ورائه و شن الغارات عل ثغور المغرب و أضرم نارا فأهاج عليه و على قومه من السلطان يعقوب ليثا عاديا و أرهف منه عزما ماضيا وأفرج يعقوب على مراكش بعزم النهوض إلى تلمسان و نزل بفاس فتلوم بها أياما حتى أخذ أهبة الحرب و أكمل استعدادها و رحل فاتح ست و ستين و ستمائة و سلك على كرسيف ثم على تافرطا و تزاحف الفريقان بوادي تلاغ و عبى كل منهم كتائبه و رتب مصافه و برز النساء سافرات الوجوه على سبيل التحريض لحسن و سعد بن وبرغين و لما فاء الفيىء و مال النهار و كثرت حشود المغرب و جموع بني عبد الواد و من إليهم انكشفوا و منحوا العدو أكتافهم و هلك أبو حفص عمر كبير ولد يغراسن و ولى عهده في جماعة من عشيرة ذكرناهم في أخباره و أخذ يغمراسن بأعقاب قومه فكان لهم ردءا إلى أن خلصوا من المعترك و وصلوا إلى بلادهم في جمادى من سنتهم و عاد السلطان أبو يوسف إلى مكانه من حصار مراكش و الله أعلم (7/338)
الخبر عن السفارة و المهاداة التي وقعت بين السلطان يعقوب ابن عبد الحق و بين المستنصر الخليفة بتونس لن آل أبي حفص
كان الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص منذ دعا لنفسه بتونس سنة خمس و عشرين و ستمائة طموحا إلى ملك مراكش مقر الدعوة و منبعث الدولة و أصل الخلافة و كان يؤمل لذلك زناتة وإلا فمادونه من خضد شوكة آل عبد المؤمن و تقليم أظافر بأسهم و ردهم على أعقابهم أن يخلصوا إليه و تغلب على تلمسان سنة أربعين و ستمائة و دخل يغمراسن بن زيان في دعوته و صار فيئة له و تبعه على عدوه كما ذكرناه فوصل به جناحة للمدافعة و ناغاه بنو مرين في مراسلة ابن أبي فحص و مخاطبة و التخفيض عليه فيما يهمه من شأن عدوه و حمل ما يفتحون من بلاد المغرب على البيعة له و الطاعة مثل : فاس و مكناسة و القصر و كان هويلاطفهم بالتحف و الهدايا ويريهم البر في الكتاب و الخطاب و المعاملة و التكريم للوفد غير سبيل آل عبد المؤمن فكانوا يجنحون بذلك إلى مراسلته و إيفاد قرابتم عليه
و ولي ابنه المستنصر بعده سنة سبع و أربعين و ستمائة فتقبل مذاهب أبيه و أوفي عليه بالإيعاز إليهم بمنازلة مراكش و ضمان الانفاق عليهم فيها فكان يبث لذلك أحمالا من المال و السلاح و أعدادا وافرة من الخيل بمراكبا للحملان و لم يزل ذلك دأب معهم و لما فعل أبو دبوس فعلته في نقض العهد و استجمع السلطان لمنازلته قدم بين يدي عمله مراسلة الخليفة المستنصر يخبره الخبر و يتلطف له في استنزال المدد فأوفد عليه ابن أخيه عامر بن إدريس بن عبد الحق و أصحبه عبد الله بن كندوز لعبد الواد كبير بني كمي و قريغ يغمراسن الذي ثأر يغمراسن من أبيه كندوز بأبيه زيان كما ذكرناه في أخبارهم و كان خلص إليه من حضرة المستنصر فلقاه مبرة و تكريما و أوفد معهم الكاتب أبا عبد الله محمد الكناني من صنائع دولة آل عبد المؤمن كان نزع إلى أخيه الأمير أبي يحيى لما رأى من اختلال الدولة و أنزله مكناسة و آثره بالصحبة و الخلة فجمع له يعقوب بن عبد الحق في هذا الوفد من الأشراف من يحسن الرياسة و يعرب عما في ضمائر الناس و يدله على شرف مرسله فوفدوا على المستنصر سنة خمس و ستين و ستمائة و أدوا رسالتهم و حركوا له جوار المظاهرة على صاحب مراكش و كبح عنانه فحن و اهتز سرورا من أعواده و لقاهم مبرة التكريم و إحسان النزل ورد الأمير عامر بن إدريس و عبد الله بن كندوز لوقتهما و تمسك بالكناني من بينهم لمصاحبة وفده فطال مقامه عنده إلى أن كان من فتح مراكش ما نذكره
ثم أوفد المستنصر على السلطان يعقوب بن عبد الحق آخر سنة تسع و ستين و ستمائة بعدها شيخ الجماعة من الموحدين لعهده أبا زكريا يحيى بن صالح الهنتاني مع جماعة من مشيخة الموحدين في مرافقة محمد الكناني و بعث معهم إلى السلطان هدية سنية يلاطفه بها و يتاحفه انتخب فيها من الجياد و السلاح و أصناف الثياب الغريبة العمل ما انتقاه و وفق رضاه و همته على الاستكثار منه فحسن موقعها و تحدث و انقلب وفده أحسن منقلب بعد أن تلطف محمد الكناني في ذكر الخليفة المستنصر على منبر مراكش فتم له و شهد له وفد الموحدين فعظم سرورهم و انقلبوا محبورين مسرورين و اتصلت بعد ذلك مهاداة المستنصر ليعقوب بن عبد الحق إلى أن هلك و حذا ابنه الواثق من بعده على سننه فبعث الله سنة سبع و سبعين و ستمائة هدية حافلة بعث بها القاضي أبا العباس الغماري قاضي بجاية فعظم موقعها و كان لأبي العباس الغماري بالمغرب ذكر تحدث به الناس و الله أعلم (7/239)
الخبر عن فتح مراكش و مهلك أبي دبوس و انقراض دولة الموحدين من المغرب
لما رجع السلطان أبو يوسف من حرب يغمراسن و رأى أن قد كفى عدوه و كف غربه و رد من كيده و كيد أبي دبوس صريخه صرف حينئذ عزائمه إلى غزو مراكش و العودة إلى مضايقتها كما كان لأول أمره و نهض لغزاته من فاس في شعبان من سنته و لما جاوزوا أم الربيع بث السرايا و سرح الغارات و أطلق الأيدي و الأعنة للنهب و العيث فحطموا زروعها و انتسفوا آثارها و تقرى نواحيها كذلك بقية عامة
ثم غزا عرب الخلط من جشم بتادلا فأثخن فيهم و استباحهم ثم نزل وادي العبيد ثم غزا بلاد صنهاجة و لم يزل ينقل ركابه بأنحاء البلاد المراكشية و أحوازها حتى حضرت صدور بني عبد المؤمن و قومه و أغزاهم أولياء الدولة من عرب جشم بنهوض الخليفة لمدافعة عدوه فجمع لذلك و برز في جيوش ضخمة و جموع وافرة و استجره أبو يوسف بالفرار أمامه ليبعد عن مدد الصريخ فيستمكن منه حتى نزل عفو ثم كر إليه و التحم القتال فاختل مصافه و فرت عساكره و انهزم يريد مراكش فأدركوه دون أمله و أعتاقه أجله فطعن في مفره و خر صريعا لليدين و للفم و اجتز رأسه و هلك بمهلكه وزيره عمران و كاتبه علي بن عبد الله المغيلي و ارتحل السلطان أبو يوسف إلى مراكش و فر من كان بها من الموحدين فلحقوا بجبل تينملل و بايعوا اسحق أخا المرتضى فبقي ذبالة هنالك سنين ثم تقبض عليه سنة أربع و سبعين و ستمائة و سيق إلى السلطان هو و أبو سعيد ابن عمه السيد أبي الربيع و القبائلي و أولاده فقتلوا جميعا و انقرض أمر بني عبد المؤمن و الله وارث الأرض و من عليها
و خرج الملاء و أهل الشورى من الحضرة إلى السلطان فأمنهم و وصلهم و دخل مراكش في بروز فخم فاتح سنة ثمان و ستين و ستمائة و ورث ملك آل عبد المؤمن و تولاه و استوسق أمره بالمغرب و تطامن الناس لبأسه و سكنوا الظل سلطانه و أقام بمراكش إلى رمضان من سنته و أغزى ابنه الأمير أبا مالك إلى بلاد السوس فافتتحها و أوغل في ديارها ودوخ أقطارها ثم خرج بنفسه إلى بلاد درعة فأوقع بهم الوقيعة المشهورة التي خضدت من شوكتهم و رجع لشهرين من غزاته ثم أجمع الرحلة إلى داره بفاس فعقد على مراكش و أعمالها لمحمد بن علي بن يحيى من كبار أوليائهم و من أهل خؤلته و كان من طبقة الوزراء حسبما يأتي التعريف به و بعشيرته و أنزله بقصبة مراكش و جعل المسالح في أعمالها لنظره و عهد الله بتدويخ الأقطار و محو آثار بني عبد المؤمن و فصل إلى حضرته في شوال و أراح بسلا فكان من خبر عهده لابنه ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/241)
الخبر عن عهد السلطان لابنه أبي مالك و ما كان عقب ذلك من خروج القرابة عليه أولاد أخيه إدريس و إجازتهم إلى الأندلس
لما تلوم السلطان بسلا منصرفه من رباط الفتح و أراح بها ركائبه عرض له طائف من المرض و وعك و عكا شديدا فلما أبل جمع قومه و عهد لابنه فيهم أبي مالك عبد الواحد كبير ولده لما علم من أهليته لذلك و أخذ له البيعة عليهم فأعطوها طواعية و أسف القرابة من ولد أخويه عبد الله و إدريس لأمهما سوط النساء و وجدوا في أنفسهم لما يرون أن عبد الله و إدريس أكابر ولد عبد الحق و لهما التقدم على من بعدهما من ولده و أنهما أحق بالأمر فرجعت هنت إلى أذنابها و نفسوا عن ابن السلطان لما أخذ له من البيعة و العهد و نزعوا عنه إلى جبل علودان من جبال غمارة عش خلافهم و مدرج فتنتهم و ذلك سنة تسع و ستين وستمائة و رياستم يومئذ لمحمد بن إدريس و موسى بن رحو بن عبد الله و خرج معهم ولد أبي عياد بن عبد الحق وأغزاهم السلطان ولده أبا يعقوب يوسف في خمسة آلاف من عسكره فأحاط بهم و أخذ بمخنقم و لحق به أخوه أبو مالك في عسكره و معه مسعود بن كانون شيخ سفيان ثم خرج في أثرهم السلطان أبو يوسف و اجتمع معسكرهم بتافكا و نازلوهم ثلاثا و هلك في حروبهم منديل بن ورتطليم و لما رأوا أن أحيط بهم سألوا الأمان فبذله و أنزلهم و استل سخائمهم و مسح ما في صدورهم و وصل بهم إلى حضرته و سألوا منه الأذن في اللحاق بتلمسان حياء من كبر ما ارتكبوه فأذن لهم و أجازوا البحر إلى الأندلس و خالفهم عامر بن إدريس لما أنس من صاغية السلطان إليه فتخلف عنهم بتلمسان حتى توثق لنفسه بالعهد وعاد إلى قومه بعد منازلة السلطان بتلمسان كما نذكره الآن
و احتل بنو إدريس و عبد الله و ابن عمهم أبو عياد باندلس على حين أقفر من الحامية جوها و استأسد العدو على ثغرها و غلبت شفاههم فاحتلوها أسودا ضارية و سيوفا ماضية معودين لقاء الأبطال و قراع الحتوف و النزال مستغلظين بخشونة البداوة و صرامة العز و بسالة التوحش فعظمت نكايتهم في العدو و اعترضوا شجي في صدره دون الوطن الذي كان طعمه له في ظنه و ارتدوه على عقبه و نشطوا من همم المسلمين المستضعفين وراء البحر و بسطوا من آمالهم لمدافعة طاغيتهم وزاحموا أمير الأندلس في رياستها بمنكب فتجافى لهم عن خطة الحرب و رياسة الغزاة من أهل العدوة من أعياصهم و قبائلهم و من سواهم من أمم البرابرة و تناقلوه و ساهموه في الجباية لفرط العطاء و الديوان فبذله لهم و استمدوا على العدو و حسن أثرهم فيها كما نذكره بعد في أخبار القرابة ثم أعمل السلطان نطره في غزو تلمسان على ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/242)
الخبر عن حركة السلطان أبي يوسف إلى تلمسان و واقعيته على يغمراسن و قومه بايسيلى
لما غلب السلطان أبو يوسف على بني عبد المؤمن و فتح مراكش و استولى على ملكهم سنة ثمان و ستين و ستمائة و عاد إلى فاس كما ذكرناه تحرك ما كان في نفسه من ضغائن يغمراسن و بني عبد الواد و ما أسفوا به من تخذيل عزائمه و مجادلته عن قصده
و رأى أن واقعة تلاغ لم تشف صدره و لا أطفأت نار موجدته فأجمع أمره على غزوهم و اقتدر بما صار إليه من الملك و السلطان على حشد أهل المغرب لحربهم و قطع دابرهم فعسكر بفاس و سرح ولده و ولي عهده أبا مالك إلى مراكش في خواصه و وزرائه حاشدين في مدائنها و ضواحيها و قبائل العرب و المصامدة و بني ورا و غمرة و صنهاجة و بقايا عساكر الموحدين بالحضرة و حامية الأمصار من جند الروم و ناشبة الغزو فاستكثر من أعدادهم و استوفى حشدهم و احتفل السلطان بحركته و ارتحل عن فاس سنة سبعين و ستمائة و تلوم بملولة إلى أن لحقته الحشود وتوالت إليه أمداد العرب من قبائل جشم أهل تامسنا الذبن هم سفيان و الخلط و العاصم و بنو جابر و من معهم من الأثبج و قبائل ذوي حسان و الشبانات من المعقل أهل السوس الأقصى و قبائل رياح أهل أزغار و الهبط فاعترض هنالك عساكر و عبى مواكبه فيقال بلغت ثلاثين ألفا و ارتحل يريد تلمسان و لما انتهى إلى أنكاد وافته رسل ابن الأحمر هنالك و وفد المسلمين بالأندلس صريخا على العدو يستجيشون بأخوانهم المسلمين و يسألونهم الإعانة فتحركت همته للجهاد و نصر المسلمين من عدوهم و نظر في صرف الشواغل عن ذلك و جنح إلى السلم مع يغمراسن و صوب الملاء في ذلك رأيه لما كانوا عليه من إيثار الجهاد وانتدب جماعة من المشيخة إلى السعي في صلاح ذات بينهما و انكفأ من غرب عدوتهما
و ساروا إلى يغمراسن فوافوه بظاهر تلمسان وقد أخذ أهبته و استعد للقاء و احتشد زناتة أهل ممالكه بالشرق من بني عبد الواد و بني راشد و مغراوة و أحلافهم من العرب زغبة فلج في ذلك و استكبر و صم عن إسعافهم و زحف في جموعه و التقى الجمعان بوادي ايسيلي من بسائط وجدة و السلطان أبو يوسف قد عبى كتائبه و رتب مصافه و جعل ولديه الأميرين أبا مالك و أبا يعقوب في الجناحين و سار في القلب فدارت بينهم حرب شديدة أنجلت عن هلاك فارس بن يغمراسن و جماعة من بني عبد الواد و كاثرهم حشود المغرب الأقصى و قبائله و عساكر الموحدين و البلاد المراكشية فولوا الأدبار و هلك عامة عسكر الروم لثباتهم بثبات السلطان فطحنتهم رحى الحرب و تقبض على قائدهم بيرنيس و نجا يغمراسن بن زيان في فله مدافعا دون أهله إلى تلمسان و مر بفساطيطه فأضرمها نارا و انتهب معسكره و استبيحت حرمه و أقام السلطان أبو يوسف على وجدة حتى خربها و أصرع بالتراب أسوارها و ألصق بالرغام جدرانها ثم نهض إلى تلمسان فحاصرها أياما و أطلق الأيدي في ساحتها بالنهب و العيث و شن الغارات على البسائط فاكتسحها سبيا و نسفها نسفا
و هلك في طريقه إلى تلمسان وزيره عيسى بن ماساي و كان من علية وزرائه و حماة ميدانه له في ذلك أخبار مذكورة و كان مهلكه في شوال من هذه السنة و وصله بمثواه من حصارها محمد بن عبد القوي أمير بني توجين و مستصرخه على بني عبد الواد لما نال منه يغمراسن من طبخ القهر و ذل الغلب و التحيف في كافة قبيلة مباهيا بآلته فأكرم السلطان أبو يوسف و فادته و استركب الناس للقائه و برور مقدمه و اتخاذ رتبة السلاح لمباهاته و أقام محاصرا لتلمسان معه أياما حتى وقع اليأس و امتنع البلد و اشتد شوكة حاميته ثم أجمع السلطان أبو يوسف على الإفراج عنها و أشار على الأمير محمد بن عبد القوي و قومه بالقفول قبل قفوله و أن يغذوا السير إلى بلادهم
و ملاء حقائبهم باتحافه و جنب لهم من المائة من المقربات بمراكبها و أراح عليهم ألف ناقة حلوب و عمهم بالخلع مع الصلات و الخلع الفاخرة و استكثر لهم من السلاح و الفازات و الفساطيط و حملهم على الظهر و ارتحلوا وتلوم السلطان أياما لمنجاتهم إلى مقرهم من جبل وانشريس حذرا من غائلة يغمراسن من انتهاز الفرصة فيهم
ثم دخل إلى فاس و دخلها مفتتح إحدى و سبعين و ستمائة و هلك ولده الأمير أبو مالك ولي عهده لأيام من مقدمه فأسف لمهلكه ثم تعزى بالصبر الجميل عن فقده و رجع إلى حاله في افتتاح بلاد المغرب و كان في غزوته هذه ملك حصن تاونت و هو معقل مطغرة و شحنه بالأقوات لما رآه ثغرا مجاورا لعدوه و أسلمه لنظر هرون ابن شيخ مطغرة ثم ملك حصن مليلة بساحل الريف مرجعه من غزاته هذه و أقام هرون بحصن تاونت و دعا لنفسه و لم يزل يغمراسن يردد الغزو إليه حتى فر من الحصن و استلمه سنة خمس و سبعين و ستمائة و لحق بالسلطان أبي يوسف كما ذكرناه في أخباره عند ذكر قبيلة مطغرة و كان من شأنه ما ذكرناه (7/243)
الخبر عن افتتاح مدينة طنجة و طاعة أهل سبتة و فرض الأتاوة عليهم و ما قارن ذلك من الأحداث
كانت هاتان المدينتان سبتة و طنجة من أول دولة الموحدين من أعظم عمالاتهم و أكبر ممالكهم بما كانت ثغر العدوة و مرفأ الأساطيل و دارا لإنشاء الآلات التجرية و فرضة الجواز إلى الجهاد فكانت ولايتها مختصة بالقرابة من السادة بني عبد المؤمن و قد ذكرنا أن الرشيد كان عقد على أعمالها لأبي علي بن خلاص من أهل بلنسية و أنه بعد استفحال الأمير أبي زكريا بأفريقية و مهلك الرشيد صرف الدعوة إليه سنة أربعين و ستمائة و بعث إليه بالمال و البيعة مع ابنه أبي القاسم و ولى على طنجة يوسف ابن محمد بن عبد الله بن أحمد الهمداني المعروف بابن الأمير قائدا على الرجل الأندلسيين و ضابطا للقصبة و عقد الأمير أبو زكريا على سبتة لأبي يحيى بن أبي زكريا ابن عمه أبي يحيى الشهيد ابن الشيخ أبي حفص فنزل بها و استراب أبو علي ابن خلاص من العواقب عند مهلك ابنه الوافد على السلطان غريقا في البحر فرحل بجملته إلى تونس في السفن و أراح ببجاية فكان فيها هلاكه سنة ست و أربعين و ستمائة و يقال هلك في سفينته و دفن بجاية و لما هلك الأمير أبو زكريا سنة سبع و أربعين و ستمائة بعدها انتقض أهل سبتة على ابنه المستنصر و طردوا ابن الشهيد و قتلوا العمال الذين كانوا معه و صرفوا الدعوة للمرتضى و تولى ذلك حجفون الرنداحي بمداخلة أبي القاسم العزفي كبير المشيخة بسبتة و أعظمهم تجلة نشأ في حجر أبيه الفقيه الصالح أبي العباس أحمد مكنوفا بالجلالة مغذوا بالعلم و الدين لما كان له فيها قدم إلى أن هلك فأوجب أهل البلد لابنه ما عرفوه من حقه و حق أبيه من قبله و كانوا يفزعون إليه في المهمات و يسلمون له في الشورى فأغرى الرنداحي بهذه الفعلة ففعلها و عقد المرتضى لأبي القاسم العزفي على سبتة مستقلا من غير إشراف أحد من السادة و لا من الموحدين و اكتفى بغنائه في ذلك الثغر و عقد لحجفون الرنداحي على قيادة الأساطيل بالمغرب فورثها عنه بنوه إلى أن زاحمهم العزفي بمناكب رياسته فقوضوا عن سبتة فمنهم من نزل بمالقة على ابن الأحمر و منهم من نزل بجاية على أبي حفص و لهم في الدولتين آثار تشهد برياستهم و استقل الفقيه أبو القاسم العزفي برياسة سبتة و أورثها بنيه من بعده على ما نذكره بعد
و كانت طنجة تالية سبتة في سائر الأحوال و تبعا لها فاتبع ابن الأمير صاحبها إمارة الفقيه أبي القاسم ثم انتقض عليه لسنة و استبد و خطب لابن أبي حفص ثم للعباسي ثم لنفسه و سلك فيها مسلك العزفي في سبتة و لبثوا كذلك ما شاء الله حتى إذا ملك بنو مرين المغرب و انبثوا في شعابه و مدوا اليد في ممالكه فتناولوها و نزلوا معاقله و حصونه فافتتحوها و هلك الأمير أبو يحيى عبد الحق و ابنه عمر من بعده و تحيز بنوه في ذويهم و أتباعهم و حشمهم إلى ناحية طنجة و أصيلا فأوطنوا ضاحيتها و أفسدوا سابلتها و ضيقوا على ساكنها و اكتسحوا ما حواليها و شارطهم ابن الأمير على إخراج معلوم على أن يكفوا الأذية و يحموا الحوزة و يصلحوا السابلة
فاتصلت يده بيدهم و ترددوا إلى البلد لاقتضاء حاجاتهم ثم مكروا و أضمروا الغدر و دخلوا في بعض أيامهم متأبطين السلاح و فتكوا بابن الأمير غيلة فثارت بهم العامة لحينهم و استلحموا في مصرع واحد سنة خمس و ستين و ستمائة و اجتمعوا إلى ولده و بقيت في ملكته خمسة أشهر ثم استولى عليها العزفي فنهض إليه بعساكره من الرجل برا و بحرا و استولى عليها و فر ابن الأمير و لحق بتونس و نزل على المستنصر و استقرت طنجة في إيالة العزفي فضبطها و قام بأمرها و ولى عليها من قبله و أشرك الملاء من أشرافها في الشورى و نازلها الأمير أبو مالك سنة ست و ستين و ستمائة فامتنعت عليه و أقامت على ذلك ستا حتى إذا انتظم السلطان أبو يوسف ببلاد المغرب في ملكته و استولى على حضرة مراكش ومحا دولة بني عبد المؤمن و فرغ من أمر عدوه يغمراسن و هم بتلك الناحية و استضافة عملها فأجمع الحركة إليها و نازل طنجة مفتتح سنة اثنتين و سبعين بما كانت في البسيط من دون سبتة و أقام عليها أياما ثم اعتزم على الإفراج عنها فقذف الله في قلوبهم الرعب و افترق بينهم و تنادى في بعض الناشية من السور بشعاب بني مرين فبادر سرعان أناس إلى تسور حيطانها فملكوها عليهم و قاتلوا أهل البلد ظلام ليلتهم ثم دخلوا البلد من صبيحتها عنوة و نادى منادي السلطان في الناس بالأمان و العفو عن أهل البلد فسكن روعهم و مهد و فرغ من شأن طنجة ثم بعث ولده الأمير أبا يعقوب في عساكر ضخمة لمنازلة العزفي في سبتة و ارغامه على الطاعة فنازلها أياما ثم لاذ بالطاعة على المنعة و اشترط على نفسه خراجا يؤديه كل سنة فتقبل السلطان منه و أفرجت عساكره عنهم و قفل إلى حضرته و صرف نظره إلى فتح سجلماسة و إزعاج بني عبد الواد المتغلبين عليها كما نذكره إن شاء الله تعالى (7/245)
الخبر عن فتح سجلماسة الثاني و دخولها عنوة على بني عبد الواد و المنبات من عرب المعقل
قد ذكرنا ما كان من تغلب الأمير أبي يحيى بن عبد الحق على سجلماسة و بلاد درعة و أنه عقد عليها و على سائر بلاد القبلة ليوسف بن يزكاسن و أنزل معه ابنه مفتاحا المكنى بأبي حديد في مشيخته لحياطتها و أن المرتضى سرح وزيره ابن عطوش سنة أربع و خمسين و ستمائة في العساكر لارتجاعها فنهض الأمير أبو يحيى إليه و شرده عنها و رجعه على عقبه و أن يغمراسن بن زيان من بعد واقعة أبي سليط سنة خمس و خمسين و ستمائة قصدها لعورة دل عليها و غرة أمل إصابتها فسابقه إليها الأمير أبو يحيى و مالقه من دونها و رجع عنها خائب المسعى مفلول الحامية و كان الأمير أبو يحيى من بعد أن عقد عليها ليوسف بن يزكاسن عقد عليها من بعده لسنة و نصف من ولايته ليحيى بن أبي منديل كبير بني عسكرا قتالهم و مقاسميهم نسب محمد بن وطيص ثم عقد عليها لشهرين لمحمد بن عمران ابن عبلة من بني يرنيان صنائع دولتهم و استعمل معه على الجباية أبا طالب الحبشي و جعل مسلحة الجند بها لنظر أبي يحيى القطراني و ملكه قيادتهم و أقاموا على ذلك سنتين اثننين
و لما هلك الأمير أبو يحيى وشغل السلطان أبو يوسف بحرب بغمراسن و منازلة مراكش سما للقطراني أمل في الاستبداد بها و داخل في ذلك بعض أهل الفتن و ظاهره يوسف بن الغزي و فتكوا بعمار الورند غزاني شيخ الجماعة بالبلد و ائتمروا بمحمد بن عمران بن عبلة فخرج و لحق بالسلطان و استبد القطراني بها ثم ثار به أهل البلد سنة ثمان و خمسين وستمائة لسنة و نصف من لدن استبداده و قتلوه و صرفوا بيعتهم إلى الخليفة المرتضى بمراكش و تولى كبر ذلك القاضي ابن حجاج و علي بن عمر فعقد له المرتضى عليها و أقام بها أميرا و نازلتهم عساكر بني مرين و السلطان أبو يوسف سنة ستين و ستمائة و نصب عليها آلات الحصار فأحرقوها و امتنعوا أفرج عنهم و أقام علي بن عمر في سلطانه ذلك ثلاث سنين ثم هلك و كان الأمير يغمراسن بن زيان منذ غلب الموحدين على تلمسان و المغرب الأوسط و صار في ملكته تحيز إليه من عرب المعقل قبيل المنبات من ذوي منصور بما كانت مجالات المعقل مجاورة لمجالات بني يادين في القفر و إنما ارتحلوا عنها بعدما جأجأ يغمراسن من بني عامر بمجالاتهم من مصاب ببلاد بني يزيد فزاحموا المعقل بالمناكب عن مجالاتهم ببلاد فيكيك وصا و رحلوهم إلى ملوية و ما وراءها من بلاد سجلماسة فملكوا تلك المجالات
و نبذ يغمراسن العهد إلى ذوى عبيد الله منهم و استخلص المنبات هؤلاء فكانوا له حلفاء و شيعة و لقومه و دعوته خالصة و كانت سجلماسة في مجالاتهم منقلب ظعنهم و ناجعتهم و لهم فيها طاعة معروفة فلما هلك علي بن عمر آثروا يغمراسن بملكها فحملوا أهل البلد على القيام بطاعته و خاطبوه و جأجؤا به فخشيها بعساكره و ملكها و ضبطها وعقد عليها لعبد الملك بن محمد بن علي بن قاسم بن درع من ولد محمد بن زكراز بن يندوكس و يعرف بابن حنينة نسبه إلى أم أبيه أخت يغمراسن و معه يغمراسن بن حمامة و أنزل معهما ولده الأمير يحيى لإقامة الرسم الملوكي ثم أداله بأخيه من السنة الأخرى و كذا كان شأنه في كل سنة و لما فتح السلطان أبو يوسف بلاد المغرب و انتظم أمصاره و معاقله في طاعته و غلب بنى عبد المؤمن على دار خلافتهم و محا رسمهم و افتتح طنجة و طوع سبتة مرفأ الجواز إلى العدوة و ثغر المغرب سما أمله إلى بلاد القبلة فوجه عزمه إلى افتتاح سجلماسة من أيدي عبد الواد المتغلبين عليها و أدالة دعوته فيها من دعوتهم فنهض إليها في العساكر و الحشود في رجب من سنة اثنتين وسبعين و ستمائة فنازلها و قد حشد إليها أهل المغرب أجمع من زناتة و العرب و البربر و كافة الجنود و العساكر و نصب عليها آلات الحصار من المجانيق و العرادات و هندام النفط القاذف بحصى الحديد ينبعث من خزانه أمام النار الموقدة في البارود بطبيعة غريبة ترد الأفعال إلى قدرة باريها فأقام عليها حولا كريتا يغاديها القتال و يراوحها إلى أن سقطت ذات يوم على حين غفلة طائفة من سورها بإلحاح الحجارة من المنجنيق عليها فبادروا إلى اقتحام البلد فدخلوها عنوة من تلك الفرجة في صفر من سنة ثلاث و سبعين و ستمائة فقتلوا المقاتلة و الحامية و سبوا الذرية و قتل القائدان عبد الملك بن حنينة و يغمراسن بن حمامة و من كان معهم من بنى عبد الواد و أمراء المنبات و كمل فتح بلاد المغرب للسلطان أبي يوسف و تمشت طاعته في أقطاره فلم يبق فيه معقل يدين بغير دعوته و لا جماعة تتحيز إلى غير فيئته و لا أمل ينصرف إلى سواه و لما كملت له نعم الله في استيساق ملكه و تمهيد أمره انصرف أمله إلى الغزو وإيثار طاعة الله بجهاد أعدائه و استنقاذ المستضعفين من وراء البحر من عباده على ما نذكره إن شاء الله تعالى و لما انكفأ راجعا من سجلماسة قصد مراكش من حيث جاء ثم وقف إلى سلا فأراح بها أياما و نظر في شؤونها و سد ثغورها و بلغه الخبر بوفادة أبي طالب صاحب سبتة الفقيه أبي القاسم العزفي على فاس فأغذ السير إلى حضرته و أكرم و فادته و أحسن منقلبه إلى أبيه مملوء الحقائب ببره رطب اللسان بشكره ثم شرع في إجازة ولده كما نذكره الآن إن شاء الله تعالى (7/248)
الخبر عن شأن الجهاد و ظهور السلطان أبي يوسف على النصارى و قتل زعيمهم ذننة و ما قارن ذلك
كانت عدوة الأندلس منذ أول الفتح ثغرا للمسلمين فيه جهادهم و رباطهم و مدارج شهادتهم و سبيل سعادتهم و كانت مواطنهم فيه على مثل الرضف و بين الظفر و الناب من أسود الكفر لتوقر أممهم جوارها و إحاطتهم بها من جميع جهاتها و حجز البحر بينهم و بين إخوانهم المسلمين و قد كان عمر بن عبد العزيز رأى أن يخرج المسلمين منها لانقطاعهم عن قومهم و أهل دينهم و بعدهم عن الصريخ و شاور في ذلك كبار التابعين و أشراف العرب فرأوه رأيا و اعتزم عليه لولا ما عاقه من المنية و على ذلك فكان للإسلام فيه اعتزاز على من جاورهم من أهل الكفر بطول دولة العرب من قريش و مضر و اليمن و كانت نهاية عزهم و سورة غلبهم أيام بني أمية بها الطائرة الذكر الباسطة جناحها على العدوتين منذ ثلاث مئات من السنين أو ما يقاربها
حتى انتثر سلكها بعد المائة الرابعة من الهجرة و افترقت الجماعة طوائف و فشلت ريح المسلمين وراء البحر بفناء دولة العرب و اعتز البربر بالمغرب و استفحل شأنهم و جاءت دولة المرابطين فجمعت ما كان مفترقا بالمغرب من كلمة الإسلام و تمسكوا بالسنة و تشوقوا إلى الجهاد و استدعاهم إخوانهم من وراء البحر للمدافعة عنهم فأجازوا إليهم و أبلوا في جهاد العدو أحسن البلاء و أوقعوا بالطاغية ابن أدفوش يوم الزلاقة و غيرها و فتحوا حصونا و استرجعوا أخرى و استنزلوا الثوار ملوك الطوائف و جمعوا الكلمة بالعدوتين و جاء على أثرهم الموحدون سالكين أحسن مذاهبهم فكان لهم في الجهاد آثار على الطاغية أيام منها يوم الأرك ليعقوب بن المنصور و غيره من الأيام حتى إذا فشلت ريح الموحدين و افترقت كلمتهم و تنازع الأمر سادة بني عبد المؤمن الأمراء بالأندلس و تحاربوا على الخلافة و استجاشوا بالطاغية و أمكنوه من كثير من حصون المسلمين طعمه على الاستظهار فخشي أهل الأندلس على أنفسهم و ثاروا بالموحدين و أخرجوهم و تولى ذلك ابن هود بمرسية و شرق الأندلس و عم بدعوته سائر أقطارها و أقام الدعوة فيها للعباسيين و خاطبهم ببغداد كما ذكرناه في أخبارهم و استوفينا كلا بما وضعناه في مكانه ثم انحجز ابن هود على الغريبة لبعدها عنه و فقده للعصابة المتناولة لها و أنه لم تكن صنعته في الملك مستحكمة و تكالب الطاغية على الأندلس من كل جهة و كثر اختلاف المسلمين بينهم و شغل بنو عبد المؤمن بما دهمهم من المغرب من شأن بني مرين و زناتة فتلافى محمد بن يوسف بن الأحمر أمر الغربية و ثار بحصنه أرجونة و كان شجاعا قدما ثبتا في الحروب فتلقف الكرة من يد ابن هود خلع الدعوة العباسية و دعا للأمير أبي ذكريا بن أبي حفص سنة تسع و عشرين و ستمائة فلم يزل قي فتنة ابن هود يجاذبه الحبل و يقارعه على عمالات الأندلس واحدة بعد أخرى إلى أن هلك ابن هود سنة خمس و ثلاثين و ستمائة
و تكالب العدو خلال ذلك على جزيرة الأندلس من كل جانب و وفر له ابن هود الجزية وبلغ بها أربعمائة ألف من الدنانير في كل سنة و نزل له على اثنتين من حصون المسلمين و خشي ابن الأحمر أن يستغلظ عليه بالطاغية فجنح هو إليه و تمسك بعروته و نفر في جملته إلى منازلة أشبيلية نكاية لأهلها و لما هلك الأمير أبو زكريا نبذ الدعوة الحفصية و استبد لنفسه و تسمى بأمير المسلمين و نازعه بالشرق أعقاب ابن هود و بني مردنيش و دعاه الأمر إلى النزول للطاغية من بلاد الفرنتيرة فنزل عليها بأسرها و كانت هذه المدة من سنة اثنتين و عشرين إلى سنة سبعين فترة ضاعت فيها ثغور المسلمين و استبيح حماهم و التهم العدو بلادهم و أموالهم نهبا في الحروب و وضيعة و مداراة في السلم و استولى طواغيت الكفر على أمصارها و قواعدها فملك ابن أدفوش قرطبة سنة ست و ثلاثين و جيان سنة أربع و أربعين و أشبيلية سنة ست و أربعين
و تملك قمط برشلونة مدينة بلنسية سنة سبع و ثلاثين إلى ما بينهما من الحصون و المعاقل التي لا تعد و لا تحص و انقرض أمر الثوار بالشرق و تفرد ابن الأحمر بغرب الأندلس و ضاق نطاقه على الممانعة دون البسائط الفيح من الفرنتيرة و ما قاربها و رأى أن التمسك بها مع قلة العدد و ضعف الشوكة مما يوهن أمره و يطمع فيه عدوه فعقد السلم مع الطاغية على النزول عنها أجمع و لجأ بالمسلمين إلى سيف البحر معتصمين بأوعاره من عدوهم و اختار لنزله مدينة غرناطة و ابتنى بها لسكناه حصن الحمراء حسبما شرحنا ذلك كله في مواضعه و في أثناء هذا كله لم يزل صريخه ينادي بالمسلمين من وراء البحر و الملأ من أهل الأندلس يفدون على أمير المسلمين أبي يوسف للإعانة و نصر الملة و استنقاذ الحرم و الولدان من أنياب العدو فلا يجد مفزعا إلى ذلك بما كان فيه من مجاذبة الحبل مع الموحدين ثم مع يغمراسن ثم شغله بفتح بلاد المغرب و تدويخ أقطاره إلى أن هلك السلطان أبوعبد الله محمد بن يوسف ابن الأحمر المعروف بالشيخ وأبي دبوس لقبين كانا له على حين استكمال أمير المسلمين فتح المغرب و فراغه من شأن عدوه سنة إحدى وسبعين و ستمائة على أن بني مرين كانوا يؤثرون الجهاد و يسمون إليه و في نفوسهم جنوح إليه و صاغية
و لما استوحش بنو إدريس بن عبد الحق و خرجوا سنة إحدى و ستين و ستمائة على السلطان يعقوب بن عبد الحق و استرضاهم و استصلحهم انتدب الكثير منهم للغزو و إجازة البحر لصريخ المسلمين بالأندلس و اجتمع إليهم من مطوعة بني مرين عسكر ضخم من الغزاة ثلاثة آلاف أو يزيدون و عقد السلطان على ذلك العسكر لعامر بن إدريس فوصلوا إلى الأندلس فكان لهم فيها ذكر و نكاية في العدو و كان الشيخ ابن الأحمر عهد إلى ولده القائم بالأمر بعده محمد الشهير بالفقيه لانتحاله طلب العلم أيام أبيه و أوصاه أن يتمسك بعروة أمير المسلمين و يخطب نصره و يدرأ به و يقدمه عن نفسه و عن المسلمين تكالب الطاغية فبادر لذلك لحين مواراة أبيه و أوفد مشيخة الأندلس كافة عليه و لقيه و فدهم منصرفا من فتح سجلماسة خاتم الفتوح بالثغور المغربية و ملاذ العز و مقاد الملك و تبادروا للإسلام و ألقوا إليه كنه الخبر عن كلب العدو على المسلمين و ثقل وطأته فحيا وفدهم و رؤسائهم و بادر لإجابة داعي الله و استئثار الجنة و كان أمير المسلمين منذ أول أمره مؤثرا أعمال الجهاد كلفا به مختارا له حتى أعطي الخيار سائر آماله حتى لقد كان اعتزم على الغزو إلى الأندلس أيام أخيه الأمير أبي يحيى و طلب إذنه في ذلك عندما ملكوا مكناسة سنة ثلاث و أربعين و ستمائة فلم يأذن له و فصل إلى الغزو في حشمه و ذويه و من أطاعه من عشيرته و أوعز الأمير أبو يحبى لصاحب الأمر بسبتة لذلك العهد أبي على بن خلاص بأن يمنعه الإجازة ويقطع عنه أسبابها و لما انتهى إلى قصر الجواز ثنى عزمه عن ذلك الوالي يعقوب بن هرون الخبري و وعده بالجهاد أميرا مستنفرا للمسلمين ظاهرا على العدو فكان في نفسه من ذلك شغل و إليه صاغية
فلما قدم عليه هذا الوفد نبهوا عزائمه و ذكروا همته فأعمل في الاحتشاد و بعث في النفير و نهض من فاس شهر شوال من سنة ثلاث و سبعين و ستمائة إلى فرضة المجاز من طنجة و جهز خمسة آلاف من قومه أزاح عللهم و استوفى أعطياتهم و عقد عليهم لابنه منديل و أعطاه الراية و استدعى من الغد صاحب سبتة في السفن لإجازتهم فوفاه بقصر الجواز عشرون من الأساطيل فأجاز العسكر و نزل بطريف و أراح ثلاثا و دخل دار الحرب و توغل فيها و أجلب على ثغورها و بسائطها و امتلأت أيديهم من المغانم و أثخنوا بالقتل و الأسر و تخريب العمران و نسف الآثار حتى نزل بساحة شريس فخام حاميتها عن اللقاء و انحجروا في البلد و قفل عنها إلى الجزيرة و قد امتلأت أيديهم من الأموال وحقائبهم من السبي و ركائبهم من الكراع و السلاح
و رأى أهل الأندلس قد ثاروا بعام العقاب حتى جاءت بعدها الطاعة الكبرى على أهل الكفر و اتصل الخبر بأمير المسلمين فاعتزم على الغزو بنفسه و خشي على ثغور بلاده من عادية يغمراسن في الفتنة فبعث حافده تاشفين بن عبد الواحد في وفد من بني مرين لعقد السلم مع يغمراسن و الرجوع للاتفاق و الموادعة و وضع أوزار الحرب بين المسلمين للقيام بوظيفة الجهاد فأكرم موصله و موصل قومه و بادر إلى الإجابة و الألفة و أوفد مشيخة بني عبد الواد على السلطان لعقد السلم و بعث معهم الرسل و أسنى الهدية و جمع الله كلمة الإسلام و عظم موقع هذا السلم من أمير المسلمين لما كان في نفسه من الصاغية إلى الجهاد و إيثاره مبرورات الأعمال و بث الصدقات يشكر الله على ما منحه من التفزغ لذلك ثم استنفر الكافة و احتشد القبائل و الجموع و دعا المسلمين إلى الجهاد و خاطب في ذلك كافة أهل المغرب من زناتة و العرب و الموحدين و المصامدة و صنهاجة و غمارة و أوربة و مكناسه و جميع قبائل البرابرة و أهل المغرب من المرتزقة و المطوعة و أهاب بهم و شرع في إجازة البحر فأجازه من فرضة طنجة لصفر من سنة أربع و سبعين و ستمائة و احتل بسماحة طريف و كان لما استصرخه السلطان ابن الأحمر و أوفد عليه مشايخ الأندلس اشرط عليه النزول عن بعض الثغور بساحل الفرضة لاحتلال عساكره فتجافى له عن رندة و طريف و لما احتل بطنجة بادر إليه ابن هشام الثائر بالجزيرة الخضراء و أجاز البحر إليه و لقيه بظاهر طنجة فأدى له طاعته و أمكنه من قياد بلده و كان الرئيس أبو محمد بن أشقيلولة و أخوه أبو اسحق صهر السلطان ابن الأحمر تبعا له في أمره و مؤازرا له على شأنه كله و أبوهما أبو الحسن هو الذي تولى كبر الثورة على ابن هود و مداخلة أهل أشبيلية في الفتك بابن الباجي فلما استوت قدمه في ملكه و غلب الثوار على أمره فسد ما بينهما بعد أن كان ولي أبا محمد على مقاله و أبا اسحق على وادي آش فامتنع أبو محمد بن أشقيلولة بمالقة و استأثر بها و بغربيتها دونه و مع ذلك فكانوا على الصاغية فيئة و لحمة و لما أحس أبو محمد بإجازة السلطان يعقوب بن عبد الحق قدم إليه الوفد من أهل مالقة ببيعتهم و صريخهم و انحاش إلى جانب السلطان و ولايته و أمحضه المخالصة و النصيحة فلما احتل السلطان بناحية طريف ملأت كتائبه ساحة الأرض ما بينهما و بين الجزيرة و تسابق السلطان ابن الأحمر و هو الفقيه أبو محمد ابن الشيخ أبي دبوس صاحب غرناطة و الرئيس أبو محمد بن أشقيلولة صاحب مالقة و الغربية و أخوه أبو اسحق صاحب وادي آش إلى لقاء السلطان و تناغوا في برور مقدمه و الإذعان له ففاوضهما في أمور الجهاد و أرجعهما لحينه إلى بلديهما و انصرف ابن الأحمر مغاضبا لبعض النزعات أحفظته و أغذ السير إلى الفرنتيرة و عقد لولده الأمير أبي يعقوب على خمسة آلاف من عسكره و سرح كتائبه في البسائط و خلال المعاقل تنسف الزرع و تحطم الغروس و تخرب العمران و تنتهب الأموال و تكتسح السرح و تقتل المقاتلة و تسبي النساء و الذرية حتى انتهى إلى المدور و تالسة و أبدة و اقتحم حصن بلمة عنوة و أتى على سائر الحصون في طريقه فطمس معالمها و اكتسح أموالها و قفل و الأرض تموج سبيا إلى أن عرس بأستجة من تخوم دار الحرب و جاء النذير باتباع العدو و أثارهم لاستنقاذ أسراهم و ارتجاع أموالهم و أن زعيم الروم و عظيمهم ذنته خرج في طلبهم بأمم بلاد النصرانية من المحتلم فما فوقه فقدم السلطان الغنائم بين يديه و سرح ألفا من الفرسان أمامها و سار يقتفيها حتى إذا طلت رايات العدو من ورائهم كان الزحف و رتب المصاف و حرض و ذكر و راجعت زناتة بصائرها و عزائمها و تحركت هممها و أبلت في طاعة ربها و الذب عن دينها و جاءت بما يعرف من بأسها و بلائها في مقاماتها و مواقفها و لم يكن إلا كلا و لا حتى هبت ريح النصر و ظهر أمر الله و انكشفت جموع النصرانية و قتل الزعيم ذننه و الكثير من جموع الكفر و منح الله المسلمين أكتافهم و استمر القتل فيهم و أحصي القتلى في المعركة فكانوا ستة آلاف و استشهد من المسلمين ما يناهز الثلاثين أكرمهم الله بالشهادة و آثرهم بما عنده و نصر الله حزبه و أعز أولياءه و نصر دينه و بدا للعدو ما لم يحتسبه بمحاماة هذه العصابة عن الملة و قيامها بنصر الكلمة و بعث أمير المسلمين برأس الزعيم ذننه إلى ابن الأحمر فرده زعموا سرا إلى قومه بعد أن طيبه و أكرمه ولاية أخلصها لهم مداراة و انحرافا عن أمير المسلمين ظهرت شواهده عليه بعد حين كما نذكره و قفل أمير المسلمين من عزاته إلى الجزيرة منتصف ربيع من سنته فقسم في المجاهدين الغنائم و ما نفلوه من أموال عدوهم و سباياهم و أسراهم و كراعهم بعد الاستئثار بالخمس لبيت المال على موجب الكتاب و السنة ليصرفه في مصارفه و يقال : كان مبلغ الغنائم في هذه الغزاة مائة ألف من البقر و أربعة و عشرين ألفا و من الأسارى سبعة آلاف و ثمان مائة و ثلاثين و من الكراع أربعة عشر ألفا و ستمائة و أما الغنم فاتسعت عن الحصر كثرة حتى لقد زعموا بيعت الشاة في الجزيرة بدرهم واحد و كذلك السلاح و أقام أمير المسلمين بالجزيرة أياما ثم خرج لجمادى غازيا إلى أشبيلية فجاس خلالها و تقرى نواحيها و أقطارها و أثخن بالقتل و النهب في جهاتها و عمرنها و ارتحل إلى شريش فأذاقها وبال العيث و الاكتساح و رجع إلى الجزيرة لشهرين من غزاته و نظر في اختطاط مدينة بفرضة المجاز من العدوة لنزل عسكره منتبذا عن الرعية لما يلحقهم من ضرر العسكر و جفائهم و تحيز لها مكانا لصق الجزيرة فأوعز ببناء المدينة المشهورة بالبنية و جعل ذلك لنظر من يثق به من ذويه ثم أجاز البحر إلى المغرب في رجب من سنة أربع و سبعين و ستمائة فكان مغيبه وراء البحر ستة أشهر و احتل بقصر مصمودة و أمر ببناء السور على بادس مرفأ الجواز ببلاد غمارة و تولى ذلك إبراهيم بن عيسى كبير بني وسناف بن محيو ثم رحل إلى فاس فدخلها في شعبان و صرف النظر إلى أحوال دولته و اختطاط البلد الجديد لنزله و نزل حاشيته و استزال الثوار عليه بالمغربب على ما نذكره إن شاء الله تعالى (7/250)
الخبر عن اختطاط البلد الجديد بفاس و ما كان على بقية ذلك من الأحداث
لما قفل السلطان أمير المسلمين من غزاته الجهادية و تم صنع الله لديه في ظهور الإسلام على يده و اعتزاز أهل الأندلس بفيئته راح بالمغرب إلى نعمة أخرى من ظهور أوليائه و حسم أدواء الفساد في دولته شفعت مواهب السعادة و أجملت عوائد الصنع و ذلك أن صبابة بني عبد المؤمن و فلهم لما فروا من مراكش عند الفتح لحقوا بجبل تينملل جرثومة أمرهم و منبعث دعوتهم و ملاحد خلفائهم و حضرة سلفهم و دار إمامهم و مسجد مهديهم كانوا يعكفون عليه متيمنين بطيره ملتمسين بركة زيارته و يقدمون ذلك أمام غزواتهم قرية بين يدي أعمالهم يعتمدونها من صالح مساعيهم فلما خلص الفل إليه اعتصموا بمعقله و آووا إلى ركونه و نصبوا للقيام بأمرهم عيصا من أعياص خلفاء بني عبد المؤمن ضعيف المنبه خاسر الصفقة من مواهب الحظ و هو اسحق أخو المرتضى و بايعوه سنة تسع و ستين و ستمائة يرجون منه رجع الكرة و أدالة الدولة و كان المتولى لكبر ذلك وزير دولتهم ابن عطوش
و لما عقد السلطان يعقوب بن عبد الحق لمحمد بن علي بن محلى على أعمال مراكش لم يقدم عملا على محاربتهم و تخذيل الناس عنهم و استمالة أشياعهم و جمعوا له سنة أربع و سبعين و ستمائة على غزة ظنوها فأوقع بهم و فل من غربهم ثم صمد إلى الجبل لشهر ربيع من سنته فافتض عذرته و فض ختامه و اقتحمه عليهم عنوة بعد مطاولة النزال و الحرب و هلك الوزير ابن عطوش في جوانب الملحمة و تقبض على خليفته المتستضعف و ابن عمه أبي سعيد ابن السيد أبي الربيع و من معهما من الأولياء و جنبوا إلى مصارعهم بباب الشريعة بمراكش فضربت أعناقهم و صلبت أشلاؤهم و كان فيمن قتل منهم كاتبه القبائلي و أولاده و عاثت العساكر في جبل تنما و اكتسحت أمواله و بعثرت قبور خلفاء بني عبد المؤمن و استخرج شلو يوسف و ابنه يعقوب المنصور فقطعت رؤوسهم و تولى كبر ذلك أبو علي الملياني النازع إلى السلطان أبي يوسف من مليانة عش غوايته و مواطن انتزائه كما قدمناه و كان السلطان أقطعه بلاد أغوات إكراما لوفادته فحضر هذه الغزاة في جملة العساكر و رأى أن قد شفى نفسه بإخراج هؤلاء الخلائق من أرماسهم و العيث بأشلائهم لما نقم منه الموحدون و أزعجوه من قراره فنكرها السلطان لجلاله و تجاوز عنها للملياني تأنيسا لقربته و جواره و عدها من هناته
و لما وصل أمير المسلمين إلى حضرته من غزاة الجهاد ترادفت عليه أخبار هذه الملحمة و قطع دابر بني عبد المؤمن فتظاهر السرور لديه و ارتفعت إلى الله كلمات الشكر طيبة منه و لما سكن غرب الثوار و تمهد أمر المغرب و رأى أمير المسلمين أن أمره قد استفحل و ملكه قد استوسق و اتسع نطاق دولته و عظمت غاشيته و كثر وافده رأى أن يختط بلدا يتميز بسكناه في حاشيته و أهل خدمته و أوليائه الحاملين سرير ملكه فأمر ببناء البلد الجديد لصق فاس بساحة الوادي المخترق وسطها من أعلاه و شرع في تأسيسها لثالث من شوال في سنة أربع و سبعين و ستمائة هذه
و جمع الأيدي عليها و حشد الصناع و الفعلة لبنائها و أحضر لها الحزى و المعدلين لحركات الكواكب فاعتاموا في الطولع النجومية مما يرضون أثره و رصدوا أوانه و كان فيهم الإمامان أبو الحسن بن القطان و أبو عبد الله بن الحباك المقدمان في الصناعة فكمل تشييد هذه المدينة على ما رسم و كما رضي و نزلها بحاشيته و ذويه سنة أربع و سبعين و ستمائة كما ذكرناه و اختطوا بها الدور والمنازل و أجرى فيها المياه إلى قصوره و كانت من أعظم آثار هذه الدولة و أبقاها على الأيام ثم أوعز بعد ذلك ببناء قصبة مدينة مكناسة فشرع في بنائها من سنته و كان لحين إجازته البحر قافلا من غزاته لحق طلحة بن محلى بجبل أزرو نازعا إلى قبائل زناتة من صنهاجة فأغذ إليه السلطان بعساكره و أناخ عليه و استنزله لشهر على ما سأل من الأمان و الرتبة و حسم الداء من خروجه و استوزر صنيعته فتح الله السدراتي و أجرى له رزق الوزارة على عوائدهم ثم بعث إلى يغمراسن كفاء هديته التي اتحفه بها بين يدي غزاته و كان شغله عنها أمر الجهاد فبعث له فسطاطا رائقا كان صنع له بمراكش و حكمات مموهة بالذهب و الفضة و ثلاثين من البغال الفارهة ذكورا و إناثا بمراكبها الفارسية من السروج و النسوانية من الولايا و أحمالا من الأديم المعروف دباغة بالشركسي إلى غير ذلك مما يباهي به ملوك المغرب و ينافسون فيه و في سنة خمس و سبعين و ستمائة من بعدها أهدى له محمد بن عبد القوي أمير بني توجين و صاحب جبل وانشريش أربعة من الجياد انتقاها من خيل المغرب كافة و رأى أنها على قلة عددها أحفل هدية و في نفسه أثناء هذا كله من الجهاد شغل شاغل يتخطى إليه سائر أعماله حسبما نذكر (7/256)
الخبر على إجازة أمير المسلمين ثانية و ما كان فيها من الغزوات
لما قفل أمير المسلمين من غزاته الأولى و استنزل الخوارج و ثقف الثغور و هادى الملوك و اختط المدينة لنزله كما ذكرنا ذلك كله ثم خرج فاتح سنة ست و سبعين و ستمائة إلى جهة مراكش لسد ثغوره و تثقيف أطرافه و توغل في أرض السوس و بعث وزيره فتح الله السدراتي بالعساكر فجاس خلاله ثم انكفأ راجعا و خاطب قبائل المغرب كافة بالنفير إلى الجهاد فتباطؤا و استمر على تحريضهم و نهض إلى رباط الفتح و تلوم بها في انتظار الغزاة فثبطوا فخف هو و احتل بطريف آخر محرم ثم ارتحل إلى الجزيرة ثم إلى رندة و وافاه هنالك الرئيسان أبو اسحق بن أشقيلولة صاحب قمارش و أبو محمد صاحب مالقة للغزو معه و ارتحلوا إلى منازلة أشبيلية فعرسوا عليها يوم المولد النبوي و كان بها ملك الجلالقة ابن أدفونش فخام عن اللقاء و برز إلى ساحة البلد محاميا عن أهلها و رتب أمير المسلمين مصافه و جعل ولده الأمير أبا يعقوب في المقدمة و زحف في التعبية فأحجروا العدو في البلد و اقتحموا أثرهم الوادي و أثخنوا فيهم و باتت العساكر ليلتهم يجادون في متون الخيل و قد أضرموا النيران بساحتها و ارتحل من الغد إلى أرض الشرط و بث السرايا و الغوازي في سائر النواحي و أناخ بجمهور العسكر عليها فلم يزل يتقرى تلك الجهات حتى أباد عمرانها و طمس معالمها و دخل حصن قطيانة و حصن جليانة و حصن القليعة عنوة و أثخن في القتل و السبي ثم ارتحل بالغنائم و الأثقال إلى الجزيرة لسرار شهره فأراح و قسم الغنائم في المجاهدين ثم خرج غازيا إلى شريش منتصف ربيع الآخر فنازلها و أذاقها نكال الحرب و أقفر نواحيها و قطع أشجارها و أباد خضراءها و حرق ديارها و نسف آثارها و أثخن فيها بالقتل و الأسر و بعث ولده الأمير أبي يعقوب في سرية من مسعكره للغوار على أشبيلية و حصون الواد فبالغ في النكاية و اكتسح حصن روطة و شلوقة و غليانة و القناطير ثم صبح إشبيلية بمقاره فاكتسحها و انكفأ إلى أمير المسلمين فقفلوا جميعا إلى الجزيرة و أراح و قسم في المجاهدين غنائمهم ثم ندب إلى غزو قرطبة و رغبهم في عمرانها و ثروة مساكنها و خطب بلادها فانعطفوا إلى إجابته و خاطب ابن الأحمر يستنفره و خرج لأول جمادى من الجزيرة و وافاهم ابن الأحمر بناحية أرشدونة فأكرم وصوله و شكر حفوفه إلى الجهاد و بداره و نازلوا حصن بني بشير فدخلته عنوة و قتلت المقاتلة و سبيت النساء و نفلت الأموال و خرب الحصن ثم بث السرايا و الغارات في البسائط فاكتسحها و امتلأت الأيدي و أثرى العسكر و تقروا المنازل و العمران في طريقهم حتى احتلوا بساحة قرطبة فنازلوها و انحجرت حامية العدو من وراء الأسوار و انبثت بعوث المسلمين و سراياهم في نواحيها فنسفوا آثارها و خربوا عمرانها و اكتسحوا قراها و ضياعها و ترددوا على جهاتها و دخل حصن بركونة عنوة ثم أرجونة كذلك و قدم بعثا إلى حيانة قاسمها حظها من الخسف و الدمار و خام الطاغية عن اللقاء و أيقن بخراب عمرانها و إتلاف بلده فجنح إلى السلم و خطبه من أمير المسلمين فدفعه إلى ابن الأحمر و جعل الأمر في ذلك إليه تكرمة لمشهده و وفاء بحقه و أجابهم ابن الأحمر إليه بعد عرضه على أمير المسلمين و التماس إذنه فيه لما فيه من المصلحة و جنوح أهل الأندلس إليه منذ المدد الطويلة فانعقد السلم و قفل أمير المسلمين من غزاته و جعل طريقه على غرناطة احتفاء بالسلطان ابن الأحمر و خرج له عن الغنائم كلها فاحتوى عليها و دخل أمير المسلمين إلى الجزيرة في أول رجب من عامئذ فأراح و نظر في ترتيب المسالح على الثغور و تملك مالقة كما نذكره (7/259)